حمل المصحف وورد وبي دي اف.

 حمل المصحف وورد وPDF.
القرآن الكريم وورد word doc icon||| تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

الخميس، 22 سبتمبر 2022

ج9.وج10 كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

 

 

ج9.وج10 كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

أولا ج9.

ج9. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني{ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان } [ المجادلة : 22 ] أي : جَعَل ، وقوله تعالى : { فاكتبنا مَعَ الشاهدين } [ آل عمران : 53 ] ، وقوله سبحانه { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } [ الأعراف : 156 ] .
الثاني : معناه قضى الله لكم؛ كقوله عزَّ وجلَّ : { قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا } [ التوبة : 51 ] ، أي : قضاه .
الثالث : ما كتب الله في اللَّوح المحفوظ ممَّا هو كائنٌ .
الرابع : ما كتب الله في القرآن ما إباحة هذه الأفعال .
قوله : { وَكُلُواْ واشربوا } الفائدةُ في ذكرهما : أنَّه لو اقتصر على قوله : « فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ » لم يعلم بذلك زوال تحريم الأكل والشُّرْب ، فذكرهما لتتمَّ الدلالةُ على إباحتهما وهذا جوابُ نازلةِ قيسٍ ، والأول جواب نازلةِ عمر ، وبدأ بجواب نازلَةِ عُمر لأنه المُهِمُّ .
قوله : « حَتَّى يَتَبَيَنَّ » « حَتَّى » هنا غايةٌ لقوله : { وَكُلُواْ واشربوا } بمعنى « إلى » ، ويقال : تَبَيَّنَ الشَّيْءُ ، وَأَبَانَ ، واسْتَبَانَ ، وَبَانَ كُلُّه بمعنّى ، وكلُّها تكون متعديةً ولازمةً ، إلاَّ « بَانَ » فلازمٌ ليس إلاَّ ، و « مِنَ الخَيْطِ » لابتداء الغاية ، وهي ومجرورها في محلِّ نصبٍ ب « يَتَبَيَّنَ » ؛ لأنَّ المعنى : حتى يُبَايِنَ الخَيْطُ الأبيضُ الأسود .
و { مِنَ الفجر } يجوزُ فيه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن تكون تبعيضيةً؛ فتتعلَّق أيضاً ب « يَتَبيَّنَ » ؛ لأنَّ الخيطَ الأبيضَ هو بعضُ الفجر وأوله ، ولا يَضُرُّ تعلُّق حرفين بلفظٍ واحدٍ؛ لاختلاف معناهما .
والثاني : أن تتعلَّق بمحذوفٍ؛ على أنها حال من الضمير في الأبيض ، أي : الخيط الذي هو أبيض كائناً من الفجر ، وعلى هذا يجوز أن تكون « مِنْ » لبيان الجنس؛ كأنه قيل الخيطُ الأبيضُ الَّذي هو الفجرُ .
والثالثك أن يكون تمييزاً ، وهو ليس بشيء ، وإنما بَيَّن قوله { الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود } بقوله : { مِنَ الفجر } ولم يُبَيِّنِ الخيطَ الأسود؛ فيقول : مِنَ اللَّيْلِ؛ اكتفاءً بذلك ، وإنما ذَكَرَ هذا دونَ ذاكَ؛ لأنَّه هو المَنُوطُ به الأحكام المذكورة في المباشرة والأكْلِ والشُّرْبِ .
وهذا من أحسن التَّشْبيهات ، حيث شبَّه بياضَ النَّهار بخيطٍ أبيضَ ، وسوادَ الليل بخيطٍ أسودَ ، حتى إنه لما ذكر عَدِيُّ بن حاتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فهم من الآية الكريمة حقيقة الخيط ، تعجَّب منه ، وقال : « إِنَّ وِسَادَكَ لَعَرِيضٌ » ويُروى : « إنَّكَ لَعَرِيضُ القَفَا »
وقد رُوِيَ أنَّ بعض الصحابة فَعَلَ كَفِعْلِ عَدِيٍّ ، ويروى أن بين قوله { الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود } وبين قوله : { مِنَ الفجر } عاماً كاملاً في النزول .
روي عن سَهْل بْنِ سَعْدٍ ، قال : أُنْزِلَتْ { وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود } ولم ينزل قوله : { مِنَ الفجر } وكان رجالٌ إذا أرادوا الصَّوم ، ربط أحدهم في رجليه الخَيْطَ الأبْيَض ، والخَيْط الأَسْود ، ولا يزال يأكل حتى يتبيَّن له رؤيتهما ، فأنزل الله تعالى { مِنَ الفجر } ، فعلموا أنَّه إنما عني اللَّيل والنَّهار ، وسُمِّي الفجر خَيطاً؛ لأن ما يبدو من البياض يرى ممتدّاً؛ كالخيط .
قال الشَّاعر : [ البسيط ]
959 - أَلْخَيْطُ الأَبْيَضُ ضَوْءُ الصُّبْحِ مُنْفَلِقٌ ... وَالخَيْطُ الأسْوَدُ جُنَحُ اللَّيْلِ مَكْتُومُ
والخَيطُ في كلامهم عبارةٌ عن اللون ، قاله القرطبيُّ ، وأنشد لأبي دؤاد الإياديِّ في ذلك فقال : [ المتقارب ]
960 - فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَهُ سُدْفَةٌ ... وَلاَحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا
وقد تُسمِّيه العرب أيضاً الصَّديع ، ومنه قولهم : انْصَدَعَ الفجْرُ؛ قال بِشْرُ بْنْ أبي خازمٍ ، أو عَمْرُوا بن مَعْدِيكرِبَ : [ الوافر ]
961 - تَرَى السِّرْحَانَ مُفْتَرِشاً ... يَدَيْهِ كَأَنَّ بَيَاضَ لَبَّتِهِ صَدِيعُ
وهذا النوع من باب التشبيه لا من الاستعارة؛ لأنَّ الاستعارة هي أن يُطْوَى فيها ذكر المشبَّه ، وهنا قد ذكر وهو قوله : { مِنَ الفجر } ، ونظيره قولك : « رَأَيْتُ أَسَداً مِنْ زَيْد » ، لو لم تَذْكُر : « مِنْ زَيْدٍ » لكان استعارةٌ ، ولكنَّ التشبيه هنا أبلغُ؛ لأنَّ الاستعارة لا بُدَّ فيها من دلالةٍ حاليةٍ ، وهنا ليس ثمَّ دلالةٌ ، ولذلك مَكَثَ بعضُ الصحابة يَحْمِلَ ذلك على الحقيقة مدةً ، حتَّى نزل « مِنَ الفَجْرِ » فتركت الاستعارة ، وإن كانت أبلغ لما ذكرنا .
فإن قيل : إنَّ بياضَ الصُّبح المشبه بالخيط الأسود هو بياض الصبح الكاذبُ؛ لأنَّ مستطيلٌ كشبه الخيط ، وأما الصُّبْحُ الصادق ، فهو بياضٌ مستديرٌ مستطيلٌ في الأفق ، فلزم على مقتضى الآية كون أوَّل النهار من طلوع الصُّبحِ الكاذب ، وليس كذلك بالإجماع .
فالجواب : أنَّ قوله { مِنَ الفجر } بيَّن أن المراد به الصُّبح الصادق ، لا يكون منتشراً ، بل يكون صغيراً دقيقاً ، فالصادق أيضاً يبدو دقيقاً ، ويرفع مستطيلاً . والفجر مصرد قولك فَجَرْتُ المَاءَ أَفْجُرُه فَجْراً وفجَّرْتُهُ تَفْجِيراً ، قال الأزهريُّ : الفَجْرُ أصله الشَّقُّ ، فعلى هذا هو انشقاقُ ظُلْمَة اللَّيل بنُورِ الصُّبح .
فصل
زعم أبو مسلم الأصفهاني : أنه لا شيء من المفطِّرات إلاَّ أحد هذه الثَّلاث ، وما ذكره الفقهاء من تكلُّف القيءِ والحقنة والسَّعوط ، فلا يفطر شيءٌ منها .
قال : لأنَّ كلَّ هذه الأشياء كانت مباحةً ثم دلَّت هذه الآية الكريمة على حرمة هذه الثلاثة على الصَّائم بعد الفجر ، وبقي ما سواها عل الإباحة الأصليَّة ، والفقهاء قالوا : خصوا هؤلاء بالذِّكْر؛ لأنَّ النَّفس تميل إليها .
فصل في صوم الجنب
مذهب أبي هريرة والحسن بن صالح؛ أنَّ الجنب إذا أصبح قبل الاغتسال ، لم يكن له صوم ، وهذه الآية تبطل قولهم؛ لأنَّ المباشرة ، إذا أبيحت إلى انفجار الصُّبح ، لم يمكنه الاغتسال إلاَّ بعد الصُّبح .
ويؤيِّده ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم ، أنه كان يدركه الفجر ، وهو جنبٌ من أهله ، ثم يغتسل ويصوم ، والله أعلم .
فصل
زعم الأعمش أنه يحل الأكل والشُّرب والجماع بعد الفجر ، وقبل طلوع الشمس؛ قياساً لأوَّل النهار على آخره؛ فكما أن آخره بغروب الشَّمس ، وجب أن يكون أوله بطلوع الشَّمس ، قال : إن المراد بالخيط الأبيض ، والخيط الأسود في الآية الكريمة هو اللَّيلُ والنَّهار ، قال : ووجْه التشبيه ليس إلاَّ في البياض والسَّوَاد؛ لأن ظلمة الأفق حال طلوع الصُّبح لا يمكن تشبيهها الأسود في الشَّكل ألبتة؛ فثبت أنَّ المراد بالخيط الأسود في الآية هو اللَّيل والنهار .
ثم لو بحثنا عن حقيقة اللَّيل في قوله : { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل } لوجدناها عبارةً عن زمن غيبة الشَّمس؛ بدليل أنَّ الله تعالى سمَّاها بعد المغرب ليلاً مع بقاء الضَّوء فيه؛ فثبت أنه يكون الأمر في الطَّرف الأوَّل من النهار كذلك؛ فيكون قبل طلوع الشمس أيضاً ليلاً ، وألا يوجد النَّهار إلاَّ عند طلوع الشمس ، وإلاَّ يلزم أن يكون آخر النَّهار على زعمهم غياب الشَّفق الأحمر؛ لأنَّه آخر آثر الشمس؛ كما أن طلوع الفجر هو أوَّل طلوع آثار الشَّمس ، وإذا بطل هذا ، بَطَل ذاك ، ومن النَّاس من قال : آخر النهار غيابُ الشَّفَق ، ولا يجوز الإفطار إلاَّ عند طلوع الكواكب ، وكلُّها مذاهب باطلةٌ .
قوله « إلى اللَّيلِ » في هذا الجارِّ وجهان :
أحدهما : أنه متعلِّق بالإتما ، فهو غايةٌ له .
والثاني : أنه في محلِّ نصب على الحال من الصيام ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي : كائناً إلى اللَّيل ، و « إلَى » إذا كان ما بعدها من غير جنس ما قبلها ، لم يدخل فيه ، والآية من هذا القبيل .
فصل في اختلافهم في ماهيَّة اللِّيل
اختلفوا في اللِّيل ما هو؟ فمنهم : من قاس آخر النهار على أوله ، فاعتبروا في حصول الليل زوال آثار الشَّمس؛ كما حصل اعتبار زوال الليل عند ظهور النهار بظهور آثار الشَّمس .
ثم هؤلاء منهم من اكتفى بزوال الحمرة ، ومنهم من اعتبر ظهور الظَّلام التَّامْ وظهور الكواكب والحديث يبطل كلَّ ذلك ، وهو قوله - عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام - : « إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا ، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ » وهذا الحديث مع الآية يدلُّ على المنع من الوصال .
فصل
الحنفيَّة تمسَّكوا بهذه الآية الكريمة في أنَّ صوم النَّفل يجب إتمامه بقوله تعالى { أَتِمُّواْ الصيام } والأمر للوجوب فيتناول كُلَّ صيام .
وأجيبوا بأنَّ هذا إنما ورد في بيان أحكام صوم الفرض؛ بدليل أنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - قال : « الصائم المتطوِّع أمير نفسه ، إن شاء صام ، وإن شاء أفطر »
وعن أمِّ هانىء : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا فَدَعَا بِشَرَابِ فَشَرِبَ ، ثُمَّ نَاوَلَهَا ، فَشَرِبَتْ ، فقالت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَمَا إنِّي كُنْتُ صَائِمَةً ، وَلَكِنْ كَرِهْتُ أن أرُدَّ سُؤْرَكَ ، فقال : « إنْ كَانَ قَضَاءً مِنْ رَمَضَانَ ، فاقْضي مَكَانَهَُ ، وإنْ كَانَ تَطَوُّعاً ، فإن شِئْتِ فاقْضي ، وإنْ شِئْتِ فَلاَ تَقْضِي »
قوله : { وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد } جملةٌ حاليةٌ من فاعل « تُبَاشِرُوهُنَّ » ، والمعنى : « لاَ تُبَاشِرُوهُنَّ » ، وقد نَوَيْتُم الاعتكافَ في المسجد ، وليس المراد النهي عن مباشرتهنَّ في المسجد بقيد الاعتكاف؛ لأنَّ ذلك ممنوعٌ منه في غير الاعتكاف أيضاً .
والعُكُوفُ : الإقامة والملازمة له وهو في الشَّرع : لزوم المَسْجِد لطَاعَةِ الله تعالى فيه ، يقال : عَكَفَ بالفتح يَعْكِفُ بالضم والكسر ، وقد قرئ : { يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ } [ الأعراف : 138 ] بالوجهين ، وقال الفَرَزْدَقُ : [ الطويل ]
962 - تَرَى حَوْلَهُنَّ المُعْتَفِينَ كَأَنَّهُمْ ... عَلَى صَنَمٍ في الجَاهِلِيَّةِ عُكَّفُ
وقال الطِّرمَّاحُ : [ الطويل ]
963 - فَبَاتَتْ بَنَاتُ اللَّيْلِ حَوْلِيَ عُكَّفاً ... عُكُوفُ البَوَاكِي بَيْنَهُنَّ صَرِيعُ
ويقال : الافتعال منه في الخير ، والانفعال في الشَّرِّ ، وأمَّا الاعتكاف في الشرع . فهو إقامة مخصوصةٌ بشرائط ، والكلام فيه بالنسبة إلى الحقيقة الشرعية كالكلام في الصلاة ، وقرأ قتادة : « عَكِفُونَ » كأنه يقال : عَاكِفٌ وعَكِفٌ؛ نحو : « بَارٌّ وَبَرٌّ ورَابٌّ وَرَبٌّ » ، وقرأ الأعمش : « في المَسْجِدِ » بالإفراد؛ كأنه يريد الجنس .
فصل
لما بين حكم تحريم المباشرة في الصيام ، كان يجوز أن يظن بأنَّ الاعتكاف حاله كحال الصَّوم في أنَّ الجماع يحرم فيه نهاراً أو ليلاً .
فصل
لو لمس المعتكف المرأة بغير شهوة ، جاز؛ لحديث عائشة ، وإن لمسها بشهوة ، أو قبَّلها أو باشرها فيما دون الفرج ، فهو حرام ، وهل يبطل به اعتكافه؛ فيه خلافٌ .
فصل
اتفقوا على أنَّ شرط الاعتكاف الجلوس في المسجد ، ثم اختلفوا ، فنقل عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنَّه قال : لا يجوز إلاَّ في المسجد الحرام ومسجد المدينة .
قال حُذَيْفَةُ : يجوز في هذين المسجدين ، وفي مسجد بيت المقدس؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إلاَّ إلى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ »
وقال الزُّهْرِيُّ : لا يصحُّ إلاَّ في الجامِعِ .
وقال أبو حنيفة : لا يصحُّ إلاَّ في مسجدٍ له إمامٌ راتبٌ ، ومؤذِّن راتب .
وقال الشفعيُّ وأحمد : يصحُّ في جميع المساجد إلاَّ أن المسجد الجامع أفضل؛ حتى لا يحتاج إلى الخروج إلى الجمعة ، فإن اعتكف في مسجد غير الجامع ، لاحتاج إلى الخروج إلى الجمعة ، فيشهدها ويرجع مكانه ، ويصحُّ اعتكافه؛ لأنه خرج إلى فرض ، وهو من الشَّرائع القديمة .
فصل في الاعتكاف بدون الصوم
يجوز الاعتكاف بغير صومٍ ، وبالصَّوم أفضل؛ وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه - لا يجوز إلاَّ بالصَّوم .
واحتجَّ الأوَّلون : بأنَّ الاعتكاف لو أوجب الصَّوم ، لما صحَّ في رمضان؛ لأنَّ الصَّوم الذي أوجبه الاعتكاف ، إمَّا صومٌ آخر غير صوم رمضان ، وهو باطلٌ؛ لأن رمضان لا يصحُّ فيه غيره ، وأيضاً ما روي عن عمر - رضي الله عنه - قال : يا رسول الله ، إنِّي نَذَرْتُ في الجاهِلِيَّةِ أن أَعْتَكِفَ لَيْلَةً ، فَقَالَ - عليه الصَّلاَة والسَّلام- : « أَوْفِ بِنَذْرِكَ » والصَّوم لا يجوز في اللَّيل .
فصل
روى مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلَّى الفجر ثم دخل معتكفه .
وقال مالك والشافعيُّ وأبو حنيفة - رضي الله عنهم - إذا نذر اعتكاف شهرٍ دخل المسجد قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم .
فصل في أقل مدة الاعتكاف
لا تقدير لزمان الاعتكاف فلو نذر اعتكاف ساعة ، انعقد ، ولو نذر الاعتكاف مطلقاً ، لخرج من نذره باعتكاف ساعة؛ كما لو نذر أن يتصدَّق مطلقاً ، فإنه يتصدق بما شاء من قليلٍ أو كثيرٍ ، والأفضل أن يعتكف يوماً للخروج من الخلاف ، فإنَّ أبا حنيفة لا يجوِّز اعتكاف أقلَّ من يومٍ ، بشرط أن يدخل قبل طلوع الفجر ، ويخرج بعد غروب الشمس .
فصل
قال القرطبيُّ - رحمه الله تعالى - : إذا أتى المعتكف كبيرةً ، بطل اعتكافه؛ لأنَّ الكبيرة ضدَّ العبادة ، كما أنَّ الحدث ضدَّ الطهارة والصَّلاة .
قوله : { تِلْكَ حُدُودُ الله } مبتدأٌ وخبرٌ ، واسمُ الإشارة أخبر عنه بجمع ، فلا جائز أن يشار به إلى ما نهي عنه في الاعتكاف ، لأنه شيءٌ واحدٌ ، بل هو إشارةٌ إلى ما تضمَّنته آية الصيام من أوَّلها إلى هنا ، وآية الصيام قد تضمَّنت عدة أوامر ، والأمر بالشَّيءِ نَهِيٌّ عن ضدِّه ، فبهذا الاعتبار كانت عدَّة مناهٍ ، ثم جاء آخرها صريح النهي ، وهو : « وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ » فأطلق على الكل « حُدُوداً » ؛ تغليباً للمنطوق به ، واعتباراً بتلك المناهي الَّتي تضمَّنتها الأوامر ، فقيل فيها حدودٌ ، وإنما اضطررنا إلى هذا التأويل؛ لأنَّ المأمور به لا يقال فيه « فَلاَ تَقْرَبُوهَا » .
وقال أبو مسلم الأصفهانيُّ : « لاَ تَقْرَبُوهَا » أي : لاَ تَتَعَرَّضُوا لها بالتغيير؛ لقوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ الإسراء : 34 ] .
قال أبو البقاء : دُخُولُ الفاء هنا عاطفةٌ على شيء محذوفٍ ، تقديره : « تَنَبَّهُوا فَلاَ تَقْرَبُوهَا » ، ولا يجوز في هذه الفاء أن تكون زائدةً كالتي في قوله تعالى : { وَإِيَّايَ فارهبون } [ البقرة : 40 ] على أحد القولين؛ لأنه كان ينبغي أن ينتصب « حُدُودُ اللَّهِ » على الاشتغال؛ لأنه الفصيح فيما وقع قبل أمر أو نهيٍ ، نحو : « زَيْداً فَاضْرِبْهُ ، وعَمْراً فَلاَ تُهنْهُ » فلمَّا أجمعت القرَّاء هنا على الرفع ، علمنا أنَّ هذه الجملة التي هي « فَلاَ تَقْرَبُوهَا » منقطعةٌ عمَّا قبلها ، وإلا يلزم وجود غير الفصيح في القرآن .
والحُدُودُ : جمع حدٍّ ، وهو المنع ، ومنه قيل للبوَّابِ : حدَّاد ، لأنَّه يمنع من العبور قال اللَّيثُ - رحمه الله تعالى - : وحَدُّ الشَيْءِ منتهاه ومنقطعه ، ولهذا يقال : الحَدُّ مانعٌ جامِعٌ ، أي : يمنع غير المحدودِ الدُّخُول في المَحْدُودِ .
وقال الأزهريُّ ومنه يقال للمحروم ، محدودٌ؛ لأنَّه ممنوعٌ عن ارِّزق ، وحدود الله ما يمنع مخالفتها ، وسمِّي الحديد حديداً؛ لما فيه من المنع ، وكذلك : إحداد المرأة؛ لأنَّها تمتنع من الزينة .
والنَّهيُّ عن القُرْبَانِ أَبْلَغُ من النَّهْيِ عن الالتباس بالشيء؛ فلذلك جاءت الآية الكريمة .
وقال هنا : « فَلاَ تَقْرَبُوهَا » وفي مواضع أُخر : { فَلاَ تَعْتَدُوهَا } [ البقرة : 229 ] ومثله { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله } [ البقرة : 229 ] { وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ } [ النساء : 14 ] لأنه غلَّب هنا جهة النهي؛ إذ هو المعقَّب بقوله : { تِلْكَ حُدُودُ الله } وما كان منهيّاً عن فعله ، كان النهيُّ عن قُرْبِانِهِ أبلغ ، وأمَّا الآياتُ الأُخَرُ ، فجاء « فَلاَ تَعْتَدُوهَا » عَقِيبَ بيان أحكام ذُكِرَتْ قبلُ؛ كالطلاق ، والعدَّة ، والإيلاء ، والحيض ، والمواريث؛ فناسب أن ينهى عن التعدِّي فيها ، وهو مجاوزة الحدِّ الذي حدَّه الله تعالى فيها .
قال السُّدِّيُّ : المراد بحدود الله شروط الله وقال شَهْرُ بن حَوْشَبٍ : فرائضُ الله .
قوله : { كذلك يُبَيِّنُ الله } الكاف في محلِّ نصبٍ : إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ : أي : بياناً مثل هذا البيان .
فإنَّه لما بيَّن أحكام الصَّوم على الاستقصاء في هذه الآية بالألفاظ القليلة بياناً شافياً وافياً - قال بعده : { كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ } أي مثل هذا البيان الوافي الواضح .
أو حالاً من المصدر المحذوف؛ كما هو مذهب سيبويه .
قال أبو مُسْلِم : أراد بالآيات الفرائض الَّتي بيَّنها؛ كما قال سبحانه { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } [ النور : 1 ] ثم فسَّر الآيات بقوله : { الزانية والزاني } [ النور : 2 ] إلى سائر ما بيَّنه من أحكام الزِّنا ، فكأنه تعالى قال : كذلك يبيِّن اللَّهُ آياتِهِ للنَّاس ما شَرَعَه لَهُمْح ليتَّقُوه ، فَيَنْجُوا مِنْ عَذَاب الله .
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) قوله : { بَيْنَكُ } : في هذا الظرف وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق ب « تَأْكُلُوا » بمعنى : لا تَتَنَاقَلُوهَا فيما بينكم بالأكل .
والثاني : أنه متعلِّق بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من « أمْوَالِكُمْ » أي : لا تأْكُلُوهَا كائنةً بينكم ، وقدَّره أبو البقاء أيضاً بكائنةٍ بينكم ، أو دائرةً بينكم؛ وهو في المعنى كقوله : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } [ البقرة : 282 ] ، وفي تقدير « دَائِرَةً » - وهو كونٌ مقيَّدٌ - نظرٌ ، إلاَّ أن يقال : دلَّت الحال عليه .
قوله : « بالبَاطِلِ » فيه وجهان :
أحدهما : تعلُّقه بالفعل ، أي : لا تأخذوها بالسبب الباطل .
الثاني : أن يكون حالاً؛ فيتعلَّق بمحذوفٍ ، ولكن في صاحبها احتمالان .
وأحدهما : أه المال؛ كأنَّ المعنى : لا تَأْكُلُوهَا ملتبسَةً بالباطِل .
والثاني : أن يكون الضمير في « تَأْكُلُوا » كأنَّ المعنى : لا تَأْكُلُوها مُبْطِلِينَ ، أي : مُلْتَبِسينَ بالبَاطِلِ .
فصل في سبب نزول الآية
قيل : نزلت هذه الآية في امرئ القيس بن عابس الكندي ، ادعي عليه ربيعة بن عَبْدَان الحَضْرَميُّ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضاً ، فقال : إنه غلبني عليها ، فقال النَّبيُّ - صلوات الله وسلامه عليه دائماً أبداً - للحضرميِّ : « أَلَكَ بَيِّنَةٌ » ؟ قال : لا؛ قال : « فَلَكَ يَمِينُهُ » فانطلق ليحلف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أَمَا إنْ يَحْلِفْ عَلَى مَالِهِ ، ليَأْكُلَهُ ظُلْماً ، ليَلْقَيَنَّ اللَّهَ ، وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ » فأنزل الله { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل } أي : لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل ، أي : من غير الوجه الذي أباحه الله ، و « البَاطِلُ » في اللغة الذَّاهِبُ الزائل ، يقال : بَطَل الشَّيْءُ بُطُولاً وبُطْلاناً ، فهو باطلٌ ، وجمع الباطل : بَوَاطِلُ ، وأَبَاطِيلُ جمع أُبْطُولَة ، يقال : بَطَل الأجير يَبْطُل بطالةً ، إذا تعطَّل ، وتَبَطَّل : اتَّبع اللَّهو ، وأبْطَلَ فلانٌ ، إذا جاء بالبَاطِل ، وقوله تعالى : { لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن } [ فصلت : 42 ] قال قتادة : هو إبليسُ؛ لا يزيد في القرآن ، ولا ينقص ، وقوله عزَّ وجلَّ { وَيَمْحُ الله الباطل } [ الشورى : 24 ] يعني : الشِّرك ، والبَطَلَةُ ، والبَطَلَةُ : السَّحَرةُ .
قوله : « لاَ تَأْكُلُوا » ليس المراد منه الأكل خاصَّة؛ لأنَّ غير الأكل من التصرّفات؛ كالأكل في هذا الباب ، لكنَّه لمَّا كان المقصود الأعظم من المال ، إنَّما هو الأكل ، وصار العرف فيمن أنفق ماله ، أن يقالك أكله؛ فلهذا عبَّر عنه بالأكل .
فصل فيما يحل ويحرم من الأموال
قال الغزاليُّ - رحمه الله تعالى - في كتاب « الإحياء » : المال إنَّما يحرم إما لمعنًى في عينه ، أو لخللٍ في جهة اكتسابه .
فالقسم الأول : الحرام لمعنىً في عينه .
اعلم أنَ الأموال : إمَّا أن تكون من المعادن ، أو من النبات ، أو من الحيوانات .
أما المعادن وهي أجزاء الأرض فلا يحرم شيءٌ منها ، إلاَّ من حيث يضر بالأكل وبعضها ما يجري مجرى السَّمِّ .
وأما النباتُ : فلا يحرم منه إلاَّ ما يزيل الحياة ، أو الصِّحَّة ، أو العقل .
فمزيل الحياة : كالسُّموم ، ومزيل الصِّحَّة : الأدوية في غير وقتها ، ومزيل العقل : الخمر ، والبنج ، وسائر المسكرات .
وأما الحيوانات : فتقسم إلى ما يؤكل ، وإلى ما لا يؤكل .
وما يؤكل : إنَّما يحلُّ ، إذا ذكِّي ذكاته الشَّرعيَّة ، ثم إذا ذُكِّيت ، فلا تحلُّ جميع أجزائها ، بل يحرمُ منها الدَّم ، والفَرْثُ .
القسم الثاني : ما يحرم لخللٍ في جهة إثبات اليد عليه ، فنقول :
أخذ المال : إما أن يكون باختيار المالك أو بغير اختياره؛ كالإرث ، والذي باخيتاره : إما أن يكون مأخوذاً بأمر مالكه ، وإمَّا أن يكون قهراً ، أو بالتَّراضي .
والمأخوذ قهراً : إما أن يكون لسقوط عصمة المالك؛ كالغنائم ، أو باستحقاق الأخذ؛ كزكاة الممتنعين ، والنفقات الواجبة عليهم .
والمأخوذ تراضياً : إما أن يؤخذ بعوضٍن كالبيع ، والصَّداق ، والأُجرة ، وإما أن يؤخذ بغير عوض؛ كالهبة ، والوصيَّة .
فحصل من هذا التَّقسيم أقسامٌ ستةٌ :
الأول : ما يؤخذ من غير ملكٍ؛ كنيل المعادن ، وإحياء الموات ، والاصطياد ، والاحتطاب ، والاستقاء من الأنهار ، والاحتشاش؛ فهذا حلالٌ ، لا يكون المأخوذ مختصَّاً بذي حرمة من الآدميِّين .
الثانيك المأخوذ قهراً ممَّن لا حرمة له ، وهو الفيءُن والغنيمة وسائر أموال الكُفَّار والمحاربين ، فذلك حلالٌ للمسلمين ، إذا أخرجوا منه الخمس ، وقسّموه بين المستحقِّين بالعدل ، ولم يأخذوه ممَّن كان له حرمةٌ بأمانٍ ، أو عهدٍ .
الثالث : ما يؤخذ قهراً باستحقاق عند امتناع من هو عليه فيؤخذ دون عطائه؛ وذلك حلالٌ؛ إذا تَمَّ سبب الاستحقاق ، وتَمَّ وصف المستحقِّ ، واقتصر على قدر المستحقِّ .
الرابع : ما يؤخذ تراضياً بمعاوضة ، فهو حلالٌ ، إذا روعِيَ شرط العوضين ، وشرط العاقدين ، وشرط اللَّفظين ، أعني : الإيجاب والقبول عند من يشترطهما ، مع ما قيَّد الشَّرع به من اجتناب الشُّروط المفسدة .
الخامس : ما يؤخذ بالرِّضَا من غير عوضٍ؛ كما في الهبة ، والوصيَّة ، والصَّدقة ، إذا روعيَ شرط المعفود عليه ، وشرط العاقدين ، ولم يؤدِّ إلى ضرر .
السادس : ما يحصل بغير اختياره؛ كالميراث ، وهو حلالٌ ، إذا كان المورِّث قد اكتسب المال من بعض الجهات الخمس على وجه الحلال ، ثم كان ذلك بعد قضاء الدِّين ، وتنفيذ الوصايا ، وتعديل القسمة من الورثة ، وإخراج الزَّكاة ، والحجِّ والكفَّارة الواجبة ، فهذه مجامع مداخل الحلال ، وكُلُّ ما كان بخلاف ذلك كان حراماً .
إذا عرفت ذلك ، فنقول : المال : إما أن يكون له ، أو لغيره .
فإن كان لغيره : كان حرمته لأجل الوجوه السِّتَّة المذكورة ، وإن كان له ، فأكله بالحرام : إما بأن يصرفه في شرب الخمر ، أو الزِّنا ، أو اللِّواط ، أو القمار ، أو الشُّرب المحرَّم؛ وكلُّ هذه الأقسام داخلةٌ تحت قوله { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل وَتُدْلُواْ بِهَا } .
قوله : وَتُدْلُوا بِهَا « في » تُدْلُوا « ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مجزومٌ عطفاً على ما قبله؛ ويؤيِّدجه قراءة أُبيٍّ : » وَلاَ تُدْلُوا « بإعادة لا الناهية .
والثاني : أنه منصوبٌ على الصَّرف ، وقد تقدَّم معنى ذلك ، وأنه مذهب الكوفِيِّين ، وأنه لم يثبت بدليل .
والثالث : أنه منصوبٌ بإضمار « أنْ » في جواب النهي ، وهذا مذهب الأخفش ، وجوَّزه ابن عطيَّة والزَّمخشريُّ ، ومَكِّيٌّ ، وأبو البقاء ، قال أبو حيَّان : « وأمَّا إعراب الأَخْفَشِ ، وتجويزُ الزمخشريِّ ذلك هنا ، فتلك مسألة : » لاَ تَأْكُلِ السَّمَكَ ، وتَشْرَب اللَّبَنَ « قال النحويُّون : إذا نصب ، كان الكلام نهياً عن الجمع بينهما ، وهذا المعنى : لا يصحُّ في الآية لوجهين :
أحدهما : أنَّ النهي عن الجمع لا يستلزم النَّهي عن كلِّ واحدٍ منهما على انفراده ، والنَّهي عن كلِّ واحدٍ منهما يستلزم النَّهي عن الجمع بينهما؛ لأن الجمع بينهما حصول كلِّ واحدٍ منهما ، وكلُّ واحدٍ منهما منهيٌّ عنه ضرورةً؛ إلا ترى أنَّ أكل المال بالباطل حرامٌ سواءٌ أفرد أم جمع مغ غيره من المحرَّمات؟
والثاني - وهو أقوى- : أنَّ قوله » لِتَأْكُلُوا « علَّةٌ لما قبلها ، فلو كان النهيُ عن الجمع ، لم تيصحَّ العلّةُ له؛ لأنَّه مركَّبٌ من شيئين ، لا تصحُّ العلَّة أن تترتَّب على وجودهما ، بل إنما تترتَّب على وجود أحدهما : وهو الإدلالء بالأموال إلى الحكام » .
والإدلاء مأخوذٌ من إدلاء الدَّلو ، وهو إرساله إلى البئر؛ للاستقاء؛ يقال : « أدْلَى دَلْوَهُ » إذا أرسلها ، ودَلاَهَا : إذا أخْرَجَها ، ثم جُعِلَ كُلُّ إلقاء قول أو فعل إدلاء؛ ومنه يقال للمحتجِّ أدْلَى بِحُجَّتِهِ ، كأنه يرسلها ، ليصل إلى مراده؛ كإدلاء المستقي الدلو؛ ليصل إلى مطلوبه من الماء ، وفلانٌ يدلي إلى الميِّت بقرابة ، أو رحم؛ إذا كان منتسباً ، فيطلب الميراث بتلك النِّسبة .
و « بِهَا » متعلِّقٌ ب « تُدْلُوا » وفي الباء قولان :
أحدهما : أنها للتعدية ، أي لترسلوا بها إلى الحكَّام .
والثاني : أنَّها للسبب؛ بمعنى أن المراد بالإدلاء الإسراع بالخصومة في الأموال؛ إمَّ لعدم بيِّنةٍ عليها ، أو بكونها أمانةً؛ كمال الأيتام ، والضمير في « بِهَا » : الظاهر أنه للأموال : وقيل : إنه لشهادة الزُّور؛ لدلالة السِّياق عليها ، وليس بشيء .
و « مِنْ أَمْوَال » في محلّ نصبٍ صفةً ل « فَرِيقاً » أي : فريقاً كائناً من أمْوَالِ النَّاس .
قوله : « بالإِثْم » تحتمل هذه الباء : أن تكون للسَّبب ، فتتعلَّق بقوله : « لِتَأْكُلُوا » وأن تكون للمصاحبة ، فتكون حالاً من الفاعل في « لتَأْكُلُوا وتتعلق بمحذوفٍ أي : لِتَأْكُلُوا ملتبسين بالإثم .
فصل في سبب تسمية الرشوة بالإدلاء
في تسمية الرَّشوة بالإدلاء وجهان :
أحدهما : أن الرَّشوة تقرِّب البعيد من الحاجة؛ كما أنَّ الدَّلو المملوء يصل من البعيد إلى القريب بواسطة الرِّشاء ، فالمقصود البعيد يصير قريباً ، بسبب الرَّشوة .
والثاني : أن الحاكم بسبب أخذ الرّشوة يمضي في ذلك الحكم من غير تثبُّت؛ كمضيِّ الدَّلو في الرِّشاء ، ثم المفسِّرون ذكروا وجوهاً؟
أحدها : قال ابن عبَّاس ، والحسن - رضي الله عنهما - وقتادة : المراد منه الودائعُ ، وما لا يقوم عليه البيِّنة .
وثانيها : أن المراد هو مال اليتيم في يد الأوصياء يدفعون بعضه إلى الحاكم ، ليبقى لهم بعضه .
وثالثها : قال الكلبيُّ : المراد بالإدلاء إلى الحكَّام : هو شهادة الزُّور
ورابعها : قال الحسن : هو أن يحلف؛ ليذهب حقَّه؛ كما تقدَّم في سبب النُّزول .
وخامسها : وهو أن يدفع إلى الحاكم رشوة ، وهذا أقرب إلى الظاهر ، ولا يبعد حمل اللفظ على الكُلِّ؛ لأنها بأسرها أكلٌ للمال بالباطل .
وقوله « فَريقاً » أي : طائفةً من أموال النَّاس ، والمراد « بالإثْمِ » الظلمُ ، وقال ابن عبَّاس - رضي الله عهنما - « الإثْمُ » هنا هو اليمين الكاذبة
فصل في الفسق بأخذ ما يطلق عليه اسم مال
قال الرقطبيُّ : اتَّفق أهل السُّنَّة على أنَّ من أخذ ما وقع عليه اسم مالٍ ، قلَّ أو كثر ، فإنَّه يفسَّق بذلك ، وأنه يحرم عليه أخذه؛ خلافاً لبشر من المعتمر ، ومن تابعه من المعتزلة؛ حيث قالوا : إنَّ المكلَّف لا يفسَّق إلاَّ بأخذ مائتي درهمٍ ، ولا يفسَّق بدون ذلك . وقال ابن الجُبَّائيِّ : لا يفسَّق إلاَّ بأخذ عشرة دراهم ، ولا يفسَّق بما دونهم .
وقال أبو الهُذَيْلِ : يفسَّق بأخذ خمسة دراهم ، فما فوقه ، ولا يفسَّق بما دونها ، وهذا كلّه مردودٌ بالقرآن ، اولسُّنَّة ، وباتفاق علماء الأمَّة بقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « إنَّ دمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ »
وقوله تعالى : « وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ » جملةٌ في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل « لِتَأْكُلُوا » وذلك على رأي من يجيز تعدُّد الحال ، وأمَّا من لا يجيز ذلك ، فيجعل « بالإثْمِ » غير حالٍ .
والمعنى : وأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّكُمْ مُبْطِلُون ، ولا شكَّ أن الإقدامَ على القبيح ، مع العلم بقبحه أقبح ، وصاحبه بالتَّوبيخ أحقُّ ، وروي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال : اختصَمَ رَجُلاَن إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، عالمٌ بالخُصُومة ، وجاهلٌ بها ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم للعالم ، فقال مَنْ قَضِيَ عليه : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، والَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ ، إنِّي مُحِقٌّ بحَقٍّ فقال : إن شِئْتَ أُعَاوِدُهُ ، فَعَاوَدَهُ ، فَقَضَى لِلعَالِم ، فقال المَقْضِيُّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا قَالَ أَوَّلاً ، ثُمَ عَاوَدَهُ ثَالِثاً ، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : « مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امرئ مُسْلِم بخصومته ، فإنَّما اقتطع قطعةً من النَّارِ » فقال العالمُ المقضِيُّ له : يا رَسُولَ الله ، إنَّ الحقَّ حقُّه ، فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « مَنِ اقْتَطَعَ بِخُصُومَتِهِ وجَدَلِهِ حَقَّ غَيْرِهِ ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ »
وعن أمِّ سلمة زوج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وشرَّف ، وكرَّم ، وبجَّل ، ومجَّد ، وعظَّم : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إنَّما أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إليَّ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْو مَا أَسْمَع مِنْهُ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ ، فَلاَ يَأْخُذَنَّهُ؛ فإنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ »
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) نقل عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال : مَا كَانَ قَوْمٌ أَقَلَّ سُؤَالاً مِنْ أُمَّةِ محمَّدٍ - صلوات الله وسلامه عليه - دائماً وأبداً - سأَلُوهُ عَنْ أَرْبَعةَ عَشَرَ حَرْفاً ، فَأْجِيبُوا .
قال ابن الخَطِيبِ : ثمانيةٌ منها في سورة البقرة أولُها : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } [ البقرة : 186 ] . وثانيها : هذه الآية ، ثم الباقية بعد في سورة البقرة . فالمجموع ثمانية في هذه السُّورة ، والتَّاسع : في المائدة ، قوله تبارك وتعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ } [ المائدة : 4 ] والعاشر : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } [ الأنفال : 1 ] والحادي عشر : في بني إسرائيل { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح } [ الإسراء : 85 ] والثاني عشر في الكهف { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين } [ الكهف : 83 ] والثالث عشر في طه { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال } [ طه : 105 ] والرابع عشر في النَّازعات { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة } [ النازعات : 42 ] .
ولهذه الأسئلة ترتيبٌ عجيبٌ : آيتان :
الأول : منها في شرح المبدأ ، وهو قول تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } وهذا سؤالٌ عن الذَّاتِ .
والثاني : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة } وهذا سؤالٌ عن حقيقة الخلاَّقيَّة ، والحكمة في جعل الهلال على هذا الوجه .
والآيتان الأخيرتان في شرح المعاد ، وهو قوله { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال } [ طه : 105 ] و { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة } [ النازعات : 42 ] .
ونظير هذا أنَّه ورد في القرآن الكريم سورتان : أوّلهما « يَا أَيَهَا النَّاسُ » فالأولى : هي السُّورة الرابعة من النِّصْف الأوَّل؛ فإن الأولى هي « الفَاتِحَةُ » ثم « البَقَرَةُ » ثم « آلُ عِمْرَانَ » ثم « النِّسَاءُ » وهي مشتملةٌ على شرح المبدأ { اأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ النساء : 1 ] والسُّورة الثَّانية : هي الرابعة أيضاً من النِّصف الثاني : فإن أوله « مَرْيَم » ثم « طَه » ثم « الأَنْبيَاء » ثم « الحَجُّ » وهذه مشتملةٌ على شرح الميعاد { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ } [ الحج : 1 ] فسبحان من له في هذا القرآن أسرار خفيَّةٌ ، وحِكَمٌ مطويَّة [ لا يَعْرِفُها إلاَّ الخواصُّ مِن عَبِيدِه ] .
فصل في اختلافهم في السائل عن الأهلَّة
روي عن معاذ بن جبلٍ ، وثعلبة بن غنمٍ الأنصاريين قالا : يا رسول الله ، ما بالُ الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيطِ ، ثُمَّ يزيد؛ حتَّى يمتلىءَ ويَسْتَوِي ، ثُمَّ لا يَزَالُ يَنْقُصُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا بَدَأَ ، لاَ يَكُونُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ؛ كالشَّمْسِ ، فَنَزِلَتْ هذه الآية .
وروي أنَّ معاذ بن جبلٍ قال : إنَّ اليَهُودَ سَأَلُوهُ عَنِ الأهَلَّةِ .
واعلم أنَّ قوله تعالى { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة } ليْسَ فيه بيان أنَّهم عن أيِّ شيءٍ سأَلُوا ، إلاَّ أنَّ الجواب كالدَّالِّ على موضع السُّؤال؛ لأنَّه قوله : { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } يدلُّ على أنَّ سؤالهم كان على وجه الفائدة والحكمة في تغيُّر حال الأهلَّة في الزيادة والنُّقصان .
قوله تعالى : { عَنِ الأهلة } : متعلِّقٌ بالسؤال قبله ، يقال : « سَأَلَ بِهِ وَعَنْهُ » بمعنّى ، والضمير في « يَسْأَلُونَكَ » ضمير جماعة .
فإن كانت القصَّة كما روي عن معاذٍ : أنَّ اليهودَ سألُوهُ ، فلا كلام ، وإن كانت القصَّة أنَّ السائل اثنان؛ كما روي أن معاذ بن جبل ، وثعلبة بن غنمٍ ، سألوا ، فيحتمل ذلك وجهين :
أحدهما : أن يقال : إن أقلّ الجمع اثنان .
والثاني : من نسبة الشيء إلى جمعٍ ، وإن لم يصدر إلاَّ من واحدٍ منهم أو اثنين ، وهو كثيرٌ في كلامهم .
فصل
قال الزَّجَّاج - رحمه الله- : « هلال » يُجمع في أقلِّ العدد على « أَفْعِلَةٍ » نحو : مثالٍ وأَمْثِلَةٍ ، وحِمَارِ وأَحْمِرَةٍ ، وفي أكثر العدد يجمع على « فُعُلٍ » نحو حُمُرٍ ، لأنهم كرهوا في التضعيف « فُعُلٍ » ، نحو هُلُل وخُلُل ، فاتصروا على جمع أدنى العدد .
والجمهور على إظهار نون « عَنْ » قبل لام « الأَهِلَّة » وورشٌ على أصله من نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها ، وقرئ شاذَاً : « عَلَّ هِلَّةِ » ؛ وتوجيهها : أنه نقل حركة همزة « أَهِلَّة » إلى لام التَّعريف ، وأدغم نون « عَنْ » في لام التعريف؛ لسقوط همزة الوصل في الدَّرج ، وفي ذلك اعتدادٌ بحركة الهمزة المنقولة ، وهي لغة من يقول : « لَحْمَرُ » من غير همزة وصلٍ .
وإنما جُمِعَ الهلالُ ، وإن كان مفرداً؛ اعتباراً باختلاف أَزمانه؛ قالوا من حيث كونه هلالاً في شهر غير كونه هلالً في آخر ، والهل : هذا الكوكبُ المعروف .
واختلف اللُّغَوِيُّون : إلى متى يُسَمَّى هِلاَلاً؟
فقال الجمهور : يُقَالُ له « هِلاَلٌ » لِلَيْلَتَيْنِ ، وقيل : لِثَلاَثٍ ، ثم يكون « قَمَراً » وقال أبو الهيثم : يُقال له : « هِلاَلٌ » لِلَيْلَتَيْن من أوَّل الشهر ، ولَيْلَتَيْنِ من آخره ، وما بينهما « قَمَرٌ » . وقال الأصمعيُّ : يُقَالُ له « هِلاَلٌ » إلى أن يُحَجِّرُ ، وتحجيره : أن يستدير له؛ كالخيط الرقيق « ، ويقال له : » بَدْرٌ « من الثانية عشرة إلى الرابعة عشرة ، وقيل : يُسَمَّى » هِلالاً « إلى أن يَبْهَرَ ضَوءُهُ سَوادَ اللَّيْلِ ، وذلك إنما يكونُ في سَبْعِ لَيَالٍ » .
واعلم أنَّ الشَّهر ينقسم عشرة أقسامٍ ، كلُّ قسمٍ : ثلاثُ ليالٍ ، ولكلِّ ثلاثِ ليالٍ اسمٌ ، فالثلاثة الأولى : تسمَّى غرر ، والثانية نقل ، والثالثة تسع ، والرابعة عشر ، والخامسة بيض والسادسة درع ، والسابعة ظلم ، والثامنة مسادس والتاسعة فرادى والعاشر محاق .
والهلا : يكون اسماً لهذا الكوكب ، ويكون مصدراً؛ يقال : هلَّ الشَّهر هلالاً ، ويقال : أُهِلَّ الهلالُ ، واسْتُهِلَّ مبنيّاً للمفعول وأهْلَلْنَاه اسْتَهْلَلْنَاهُ ، وقيل : يقال : أَهَلَّ واسْتَهَلَّ للفاعل؛ وأنْشَدَ : [ الوافر ]
964 - وَشَهْرٌ مُسْتَهِلٌّ بَعْدَ شَهْرٍ ... وَحَوْلٌ بَعْدَةُ حَوْلٌ جَدِيدٌ
وسُمِّي هذا الكوكب هلالاً؛ لارتفاع الأصوات عن رؤيته ، وقيل : لأنه من البيان ، والظهور ، أي : لظهوره وقت رؤيته بعد خفائه ، ولذلك يقال : تهلَّل وجهه : ظهر فيه بشرٌ وسُرُورٌ ، وأنْ لم يكُنْ رفع صَوْتَهُ ، ومنه قول تَأَبَّطَ شَرّاً : [ الكامل ]
965 - وَإِذَا نَظَرْتَ إلى أَسِرَّةِ وَجْهِهِ ... بَرَقَتْ كَبَرْقِ العَارِضِ المُتَهَلِّلِ
وقد تقدم أنَّ الإهْلاَلَ : الصُّرَاخُ عند قوله { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } [ البقرة : 172 ] . « وفِعَالٌ » المضعَّف يطَّرد في تكسيره « أَفْعِلَة » كأَهِلَّةٍ ، وشذَّ فيه فِعَلٌّ؛ كقوله : عِنَنٌ ، وحِجَجٌ ، في عِنَان ، وحِجَاج .
وقدَّر بعضهم مضافاً قبل « الأَهِلَّة » أي : عن حكم اختلاف الأهلَّة ، لأنَّ السؤال عن ذاتها غير مفيدٍ؛ ولذلك أُجيبوا بقوله : { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } وقيلك إنهم لمَّا سألُوا عن شيء قليل الجدوى ، أُجيبوا بما فيه فائدةٌ ، وعدل عن سؤالهم ، إذ لا فائدة فيه ، وعلى هذا ، فلا يحتاج إلى تقدير مضافٍ .
و « لِلنَّاسِ » متعلِّقٌ بمحذوف؛ لأنه صفةٌ ل « مَوَاقِيتُ » أي : مواقيتُ كائنةٌ للنَّاسِ . ولا يجوزُ تعلُّقُه بنَفْس المواقيتِ؛ لما فيها من معنى النقل؛ إذ لا معنى لذلك . والمَوَاقِيتُ : جمع ميقَاتٍ؛ رَجَعَتِ الواوُ إلى أصلها؛ إذ الأصل : موقاتٌ من الوَقْتِ ، وإنَّما قلبت ياءً؛ لكسر ما قبلها ، فلمَّا زال موجبه في الجمع ، رُدَّت واواً ، ولا ينصرف؛ لأنه بزنة منتهى الجموع .
فإن قيل : لم صرفت قوارير؟ قيل لأنَّها فاصلةٌ وقعت في رأس الآية الكريمة فنوِّن ، ليجري على طريقة الآيات كام تنوَّن القوافي في مثل قوله : [ الوافر ]
966 - أَقِلِّي اللَّوْمَ ، عَاذِلَ ، والعتَابَنْ .. .
و « المِيقَات » : منتهى الوقت؛ قال تبارك وتعالى : { فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ } [ الأعراف : 142 ] والهلال : ميقات الشَّهر؛ أي : منتهاه ، ومواضع الإحرام : مواقيت الحجِّ؛ لأنَّها مواضع ينتهى إليها ، وقيل : الميقات : الوقت؛ كالميعاد بمعنى الوعد .
فصل في تخصيص المواقيت بالهلال دون الشمس
فإن قيل : لم خصَّ المواقيت بالأهلَّة وأشهرها دون الشمس وأشهرها؟
فالجواب : أنَّ الأهلَّة وأشهرها ، إنَّما جعلت مواقيت للنَّاس ، دون الشمس وأشهرها؛ لأنَّ الأشهر الهلاليَّة يعرفها كُلُّ أحدٍ من الخاصِّ والعامِّ برؤية الهلال ومحاقه؛ ولذلك عُلِّقت الأحكام الشَّرعيَّة بالشُّهور العربيَّة ، كصوم رمضان ، وأشهر الحجِّ ، وهي شوَّال ، وذُو القعدة وذو الحجَّة . والأشهر المنذورة ، والكفَّارات ، وحول الزَّكاة وأشهر الإجارات والمداينات والسل ، وأشهر الإيلاء ، وأشهر العدد ، ومدَّة الرَّضاع وما تتحمَّله العاقلة في ثلاث سنين ، وغير ذلك؛ بخلاف الشَّمس ، وأشهرها؛ فإن الشَّمس لا يتغيَّر شكلها بزيادةٍٍ ، ولا نقصٍ ، ولا يعرف أوَّله وآخره ، ولا تختلِفُ رؤيتها ، وكذلك أشهرها لا يعرف أوَّلها وآخرها ، إلاَّ الخواصُّ من الحُسَّاب ، وليس لها مواقيت غير الفصول الأربعة؛ وهي الصَّيف ، والشِّتاء ، والرَّبيع ، والخريف؛ ولذلك لا يتعلَّق به حكم شرعيٌّ؛ فلذلك جعلت الأهلَّة وأشهرها مواقيت للنَّاس ، دون الشَّمس .
فصل
اعلم أنَّ الله سبحانه ذكر وجه الحكمة في خلق الأهلَّة؛ فقال تعالى : { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } وذكر هذا المعنى في آية أخرى ، وهي قوله تعالى : { وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب } [ يونس : 5 ] واعلم أنَّ تقدير الزمان بالشُّهور فيه منافع دينيةٌ ، ودنيويةٌ .
فالدينية : كالصَّوم ، والحَجِّ ، وعدَّة المتوفَّى عنها زوجها ، والنذور المتعلِّقة بالأوقات ، وقضاء الصَّوم في أيامٍ لا تُعْلَمُ إلاَّ بالأهلَّة .
والدنيويَّة : كالمداينات ، والإجارات ، والمواعيد ، ولمدَّة الحمل والرَّضاع .
قوله : « والحَجِّ » عطفٌ على « النَّاس » قوالوا : تقديره : ومواقيتُ الحَجِّ ، فحذف الثاني؛ اكتفاءً بالأوَّل .
وقيل : فيه إضمارٌ ، تقديره : وللحَجَّ كقوله { وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ } [ البقرة : 233 ] أي : لأولادكم .
ولمَّا كان الحجُّ من أعظم ما تُطْلَبُ مواقيته وأشهره بالأهلَّة ، أُفْرِدَ بالذِّكْرِ .
قال تعالى : { الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } [ البقرة : 197 ] .
فإن قيل : الصَّوم أيضاً يطلب هلاله؛ قال عليه الصَّلاة والسَّلام - : « صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ ، وأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ »
قلنا : نعم ، ولكنَّ الصوم قد يسقط فعله عن الحائض ، والنُّفَسَاء ، والمُسَافر ، ويوقعون قضاءه في غيره من الأشهر؛ بخلاف الحجِّح فإنَّه إذا لم يصحَّ فعله في وقته ، لا يقضى في غيره من الأشهر .
واحتجَّ مالك - رحمه الله تعالى - وأبو حنيفة بهذا الآية على أنَّ الإحرام بالحجِّ في غير أشهر يصحُّ ، فإن الله تعالى جعل الأهلَّة كلها ظرفاً لذلك .
قال القَفَّال : إفراد الحجِّ بالذِّكر إنَّما كان لبيان أن الحجَّ مقصورٌ على الأشهر التي عيَّنها الله تعالى لفرضه؛ وأنه لا يجوز نقل الحجِّ من تلك الأشهر إلى شهر آخر؛ كما كانت العربُ تفعلُ ذلك في النسيء؛ فأفرد بالذِّكر ، وكأنه تخصيص بعد تعميم؛ إذ قوله تعالى : مَوَاقِيتُ لِلنَّاس « ليس المعنى لذوات الناس ، بل لا بُدَّ من مضافٍ ، أي : مواقيتُ لمقاصد النَّاس المحتاج فيها للتأقيت ، ففي الحقيقة ليس معطوفاً على الناس ، بل على المضاف المحذوف الذي ناب » النَّاسِ « منابه في الإعراب .
وقرأ الجمهور » الحَج « بالفتح في جميع القرآن الكريم إلا حمزة والكسائيَّ وحفصاً عن عاصم ، فقرءوا { حِجُّ البيت } [ آل عمران : 97 ] بالكسر ، وقرأ الحسن ، وابن أبي إسحاق بالكسر في جميع القرآن ، وهل هما بمعنىً واحدٍ ، أو مختلفان؟ قال سيبويه : » هما مَصْدَرَانِ « ؛ فالمفتوح كالرَّدِّ والشَّدِّ ، والمكسورُ كالذِّكر ، وقيل : بالفتح : مصدرٌ ، وبالكسر : اسمٌ .
فصل في الرد على أهل الظَّاهر
قال القرطبيُّ : هذه الآية الكريمة تَرُدُّ على أهل الظَّاهر ، ومن وافقهم في أنَّ المساقاة تجوز إلى الأجل المجهول سنين غيرِ معلومة؛ واحتجُّوا بأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرَّف ، وكرَّم ، ومجَّد ، وبجَّل ، وعظَّم ، عَامَلَ أَهْلُ خَيْبَرَ عَلَى شَطْرِ الزَّرْعِ والنَّخْل بما بَدَا لرسُول الله - صلى الله عليه وسلم ، وشرَّف ، وكَرَّم ، ومجَّد ، وبَجَّل ، وعَظَّم - من غير توقيت ، وقال : وهذا لا دليل فيه؛ لأنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - قال لليهود : » أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ «
وهذا يدلُّ على أنَّ ذلك مخصوصٌ به ، وأنَّه كان في ذلك ينتظر القضاء من رِّبه ، وليس كذلك غيره .
قوله : { وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ } كقوله : { لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ } [ البقرة : 177 ] وقد تقدم؛ إلا أنه لم يختلف هنا في رفع » البِ { ِّ « ؛ لأنَّ زيادة الباء في الثاني عيَّنت كونه خبراً ، وقد تقدَّم لان أنَّها قد تزاد في الاسم .
وقرأ أبو عمرو ، وحفصٌ ، وورشٌ « البُيُوت » و « بَيُوت » و « الغُيُوب » و « شُيَوخاً » بضمِّ أوَّلها؛ وهو الأصل ، وقرأ الباقون بالكسر؛ لأجل الياء ، وكذلك في تصغيره ، ولا يبالى بالخروج من كسر إلى ضم؛ لأنَّ الضمة في الياء ، والياء بمنزلة كسرتين؛ فكانت الكسرة التي في الباء كأنها وليت كسرةً ، قاله أبو البقاء - رحمه الله - .
و « مِنْ » قوله : « مِنْ ظُهُورِهَا » و « مِنْ أَبْوَابِهَا » متعلقةٌ بالإتيان ، ومعناها ابتداءُ الغاية ، والضميرُ في « ظُهُورِهَا » و « أَبْوَابِهَا » للبُيُوت ، وجيء به كضمير المؤنثة الواحدة؛ لأنه يجوز فيه ذلك .
وقوله : { ولكن البر مَنِ اتقى } كقوله - تبارك وتعالى - : { ولكن البر مَنْ آمَنَ } [ البقرة : 177 ] يعني : تقديره : بِرُّ مَنْ آمَنَ كَمَا مَضَى؛ ولمَّا تقدَّم جملتان خبريتان ، وهما : « وَلَيْسَ البِرُّ » « وَلَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقَى » عطف عليهما جملتان أمريتان ، الأولى للأولى ، والثانية للثانية ، وهما : « وَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا » « واتَّقُوا اللَّهَ » وفي التصريح بالمفعول في قوله : « وَاتَّقُوا اللَّهَ » دلالةٌ على أنه محذوفٌ من اتَّقَى ، أي اتَّقَى الله .
فصل في سبب نزول الآية
قال الحسن ، والصمُّ : كان الرَّجُلُ في الجاهليَّة ، إذا همَّ بشيءٍ ، فتعسَّر عليه مطلوبه ، لم يدخل بيته من بابه ، بل يأتيه من خلفه ، ويبقى على هذه الحالة حولاً كاملاً فنهاهم الله؛ لأنَّهم كانوا يفعلونه تطيُّراً ، وعلى هذا : تأويل الآية الكريمة { وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا } على وجه التطيُّر ولَكِنَّ البِرَّ من يتَّقِي اللَّهَ ، ولَمْ يَتَّقِ غيْرَهُ ، ولم يَخَفْ شَيْئاً مِمَّا كان يتطيَّر به ، بل توكَّل على الله تعالى ، واتَّقَاه « ثمَّ قال : { واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : لِتَفُوزُوا بالخَيْر في الدِّين والدُّنيا؛ لقوله تعالى : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2 - 3 ] { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } [ الطلاق : 4 ] وتحقيقه : أن من رجع خائباً يقال : ما أفلح ، فيجوز أن يكون الفلاح المذكور في الآية هو أنَّ الواجب عليكم أن تتَّقوا الله؛ حتَّى تصيروا مفلحين ، وقد وردت الأخبار بالنَّهي عن التَّطَيُّر ، قال : » لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ « وقال : » مَنْ رَدَّهُ عَنْ سَفَرٍ تَطَيُّرٌ ، فَقَدَ أَشْرَكَ « و » كَانَ يَكْرَهُ الطِّيَرَةَ ، ويُحِبُّ الفَأْلَ الحَسَنَ « وقَدْ عَابَ الله قوماً تطيَّروا بموسى ومن معه ، فقالوا : { قَالُواْ اطيرنا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ الله } [ النمل : 47 ] .
وقال المفسِّرون : سَبَبُ نُزُول الآية الكريمة : كان الناس في أوَّل الإسلام ، إذا أحرم الرَّجُلُ منهم ، فإن كان من أهل المدن ، نقب نقباً في ظهر بيته يدخل منه ، ويخرج ، أو يتَّخِذ سُلَّماً يصعد منه إلى سطح داره ، ثم ينحدر ، وإن كان من أهل الوبر ، خرج من خلف الخيمة والفسطاط ، ولا يخرج ولا يدخل من الباب؛ حتى يحلَّ من إحرامه ، ويرون ذلك برّاً إلا أن يكون من الحمس ، وهم قريشٌ ، وكنانة ، وخزاعة ، وخيثمٌ ، وبنوا عامر بْنِ صَعْصَعَةَ ، وبنو نَصْر بنِ معاويةَ ، وهؤلاء سُمُّوا حمساً؛ لتشديدهم في دينهم ، والحماسة الشِّدَّة .
قال العجَّاجُ : [ الرجز ]
967 - وَكَمْ قَطَعْنَا مِنْ قِفَافٍ حُمْسِ ... وهؤلاء متى أحرموا ، لم يدخلوا بيوتهم ألأبتَّة ، ولا يستظلُّون الوبر ، ولا يأكلون السمن ، والأقط ، ثم إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرَّف ، وكرَّم ، ومجَّد ، وبجَّل ، وعظَّم ، دخل ، وهو محرمٌ ، بيتاً لبعض الأنصار ، فاتَّبَعَهُ رَجلٌ مُحْرِمٌ مِنَ الأَنْصَارِ ، يقال له رفاعةُ ابن تابُوتَ ، فدخل على أثره من الباب ، فقال - عليه الصلاة والسلام دائماً وابداً - : « تَنَحَّ عَنَّي » فقال : ولمَ ، يا رسول الله؟ قال : « دخلت الباب ، وأنت مُحْرِمٌ » ، فقال : رَأَيْتُكَ دَخَلْتَ ، فدَخَلْتُ على أُثَرِكَ ، فقال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ، شرَّف ، وكرَّم ، ومجَّد ، وبجَّل ، وعظَّم : « إنِّي أحْمَسُ » فقال الرَّجُلُ : « إن كنت أحمسياً ، فإني أحمسي ، رضيت بهديك ، وسمتك ، ودينك » ، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة .
قال الزُّهريُّ : كان ناسٌ من الأنصار ، فإذا أهلُّوا بالعمرةِ ، لم يحل بينهم وبين السَّمَاء شيءٌ ، وكان الرَّجُل يخرجُ مُهِلاًّ بالعمرة ، فتبدوا له الحاجة بعد ام يخرج من بيته؛ فيرجع ، ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت أن يحول بينه وبين السَّماء ، فيفتح الجدار من ورائه ، ثُمَّ يقوم في حجرته فيأمر بحاجته؛ حتى بلغنا أنَّ رسول الله صلى الله علنه وسلم ، وشرَّف ، وكرَّم ، ومجَّد ، وبجَّل ، وعظَّم ، أهلَّ زمن الحديبية بالعمرة ، فدخل حجرة ، فدخل رجل على أثره من الأنصار من بني سلمة ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم وشرَّف ، وكرَّم ، ومجَّد ، وبجَّلأ ، وعظَّم : « لِمَ فَعلْتَ ذَلِكَ؟ » قال : « لأنِّي رَأَيْتُكَ دَخَلْتَ ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وشرَّف ، وكرَّم ، ومجَّد ، وبجَّل ، وعظَّم : » إني أحمسي « فقال الأنصاريُّ : وأنا أحمسي ، وأنا على دينك ، فأنزل الله تعالى الآية الكريمة .
فصل في اخلافهم في تفسير الآية
ذكروا في تفسير الآية ثلاثة أوجه :
أحدها : - وهو قول أكثر المفسرين - وهو حمل الآية الكريمة على ما قدَّمناه في سبب النُّزول ، ويصعب نظم الآية الكريمة عليه؛ فإنَّ القوم سألوا عن الحكمة في تغيير لون القمر ، فذكر الله تعالى الحكمة في ذلك ، وهي قوله : { مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } فأيُّ تعلُّق بي بيان الحكمة في اختلاف نور القمر ، وبين هذه القصَّة ، فذكروا وجوهاً :
أحدها : أنَّ الله - تبارك وتعالى - لمَّا ذكر أنَّ الحكمة في اختلاف أحوال الأهلَّة جَعْلُها مواقِيتَ للنَّاسِ والحَجِّ ، وكان هذا الأمر من الأشياء التي اعتبرها في الحجِّ ، لا جَرَمَ ذكرها الله تعالى .
وثانيها : أنه تعالى إنَّما وصل قوله : { وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا } بقوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة } ؛ لأنَّه إنما اتَّفَقَ وقوع القصَّتين في وقت واحدٍ ، فنزلت الآية الكريمة فيهما معاً في وقت واحدٍ ، ووصل أحد الأمرين بالآخر .
وثالثها : كأنَّهم لمَّا سألوا عن الحكمة في اختلاف حال الأهلَّة ، فقيل لهم : اتركوا السُّؤال عن هذا الأمر الذي لا يعنيكم ، وارجعوا إلى البحث ، عمَّا هو أهمُّ لكم ، فإنَّكم تظنُّون أنَّ إتيان البيوت من ظُهُورها بِرٌّ؛ وليس الأمر كذلك .
الوجه الثاني من تفسير الآية : أنَّ قوله تعالى : { وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا } مثل ضربه الله تعالى ، ولَيْسَ المرادُ ظاهره وتفسيرُ أنّ الطريقَ المستقيم هو الطريق المعلومُ ، وهو أنْ يُستدلَّ بالمعلوم على المظنون ، ولا ينعكس .
وإذا عرف هذا ، فنقولُ : ثبت بالدلائل أن للعالم صانعاً ، مختاراً ، حكيماً ، وثبت أنَّ الحكيمَ لا يفعلُ إلاَّ الصَّواب البريء عن البعث والسَّفه .
وإذا عرفنا ذلك ، وعرفنا أنَّ اختلاف أحوال القَمَر في النُّور مِنْ فعله علمنا أنَّ فيه حكمةً ومصلحةً ، لأنَّا علمنا أنَّ الحكيم لا يفعلُ إلاَّ الحكمة ، واستدلَّلْنَا بالمَعلُوم على المجهول ، فأمَّا أن يُستدلَّ بعدم علمنا بالحكمة فيه على أنَّ فاعلهُ ليس بحكيم ، فهو استدلالٌ باطلٌ؛ لأنَّه استدلالٌ بِالمجهول على القدح في المعلوم ، وإذا عُرف هذا ، فالمرادُ من قوله تعالى : { لَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا } يعني : أنَّكم لَمَّا لم تعلمُوا الحكمةَ في اختلاف نُورِ القمرِ ، صِرْتُم شاكِّينَ في حِكمة الخالِقِ ، وقدأَتَيْتُمُ الشيءَ مِنْ غير طريقه « إنَّما البرُّ بأنْ تأتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا » وتستدلُّوا بالمعلوم المتيقَّن ، لا تعلمونَها ، فجعل إتيانَ البُيُوت من ظُهُورها كنايةً عن العُدُول عن الطَّريق الصحيح؛ وإتيانَها من أبوابِها كنايةً عن التَّمَسُّك بالطَّريق المُستقيم ، وهذا طريقٌ مشهورٌ في الكناية؛ فإنَّ مَنْ أرشد غيرهُ إلى الصَّواب ، يقولُ له : ينبغِي أنْ تأتي الأمر مِنْ بابه ، وفي ضِدَّه قالُوا : ذهبإل لاشيءِ من غير بابه ، قال تعالى : { فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } [ آل عمراان : 187 ] وقال عزَّ مِنْ قَائل : { واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً } [ هود : 92 ] وهذا تأويل المتكلِّمين .
قال ابن الخطيب : ولا يصحُّ تفسير هذه الآية؛ لأنَّ الوجه الأوَّلَ يغيِّر نسقَ الترتيب ، وكلام الله تعالى منزَّهٌ عن ذلك .
الوجه الثالث : قال أبو مسلم : إن المراد مِنْ هذه الآية ما كَانُوا يعملونه من النسيء؛ فإنهم كانُوا يخرجون الحجَّ عن وقته الَّذي عينه الله تعالى لهم ، فيحرِّمون الحلال ، ويحلُّون الحرام ، فذَكَرَ إتيانَ البُيُوت من ظُهُورها مثلاً لمخالفة الواجب في الحجِّ وشهوره .
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) قوله تعالى : { فِي سَبِيلِ الله } متعلَّقٌ ب « قاتلوا » على أحد معنيين : إمَّا أن تقدِّر مضافاً ، أي : في نصرةِ سبيلِ الله تعالى ، والمرادُ بالسبيلِ : دينُ الله ، لأنَّ السبيلَ في الأصل هو الطريقُ ، فُتُجوِّزَ به عن الدِّين ، لمَّا كان طريقاً إلى الله تعالى روى أبو موسى : أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف ، ومجَّد ، وكَرَّم ، وبَجَّل ، وعَظَّم - سُئِلَ عمَّن يُقاتِلُ في سبيل الله تعالى ، فقال : « مَنْ قاتل؛ لتكون كلمةُ الله هي العُليا ، ولا يُقاتل رياءً ولا سمعةً؛ وهو في سبيل الله »
وإمَّا أن تُضَمِّن « قَاتِلُوا » معنى بالِغوا في القتالِ في نصرةِ دِينِ اللِه تعالى ، « والَّذِيِنَ يُقَاتِلُونَكُم » مفعول « قاتلوا » .
فصل في سياق الآيات
اعلم ، أنَّه لمَّا أمر بالتقوى في الآية المتقدِّمة أمر في هذه الآية الكريمة بأشدِّ أقسامِ التقوى ، وأشقها على النَّفس ، وهو قتلُ أعداء الله تعالى .
قال الربيع بن أنس : هذه أوَّل آية نزلت في القتال ، وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وشرَّف ، وكَرَّم ، ومَجَّد ، وبَجَّل ، وعظَّم - يُقاتلُ مَنْ قاتلهُ ، ويَكُفُّ عن قتال منْ لمْ يقاتله إلى أن نزل قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] قاتلوا ، أو لم يقاتلوا فصارت الآية منسوخةً بها .
وقيل : نُسخَ بقوله : { اقتلوا المشركين } قريبٌ من سبعين آيةً ، وعلى هذا ، فقوله : « وَلاَ تَعْتَدُوا » أي : لا تَبْدُءوهم بالقتال ، وروي عن أبي بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنه - أنَّ أوَّل آيةٍ نزلت في القتال قوله تعالى : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ } الحج : 39 ] والأوَّل أكثر .
وقال ابن عبَّاس وعمر بن عبد العزيز ، ومجاهدٌ - رضي الله عنهم - هذه الآية محكمةٌ غير منسوخة؛ أُمِر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف ، وكَرَّم ، وبَجَّل ، ومَجَّد ، وعَظَّم - بقتال المُقاتلين .
ومعنى قوله : « وَلاَ تَعْتَدُوا » أي : لا تقتُلُوا النِّسَاء والصِّبيانَ ، والشيخَ الكبير والرُّهبان ، ولا من ألقى إليكم السَّلَمَ؛ قاله ابن عبَّاس ومجاهد وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبَّاس : نزلت هذه الآية في صلح الحديبية؛ وذلك أنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - خرج مع أصحابه - رضي الله عنهم - إلى العُمرة وكانوا ألفاً وأربعمائة ، فنزَلُوا الحُديبة ، وهو موضعٌ كثيرُ الشَّجر ، والماء ، فصدَّهم المُشركون عن دخول البيت الحرام ، فأقامَ شهراً ، لا يقدرعلى ذلك ، ثم صالَحُوهُ على أنْ يَرجع ذلك العام ، ويرجع إليهم في العام الثَّاني ، ويَتْرُكون له مكَّة ثلاثَ أيامٍ ، حتَّى يَطوفَ ، وَيْحَرَ الهَدْي ، ويَفْعَل مَا يَشَاءُ ، فرضي الرَّسُولُ - صلواتُ الله وسلامُهُ عليه دائماً أبداً - بذلك ، فلمَّا كان العامُ المقبل ، تجهَّز رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف ، وكَرَّم ، وبَجَّل ، ومَجَّد ، وعَظَّم - وأصحابه لُعْمرة القضاء وخافوا ألاَّ تَفِي قريشٌ بما قالوا ، وأن يَصُدُّوهم عن البيت ، وكره أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتالَهُمْ في الشهر الحرام ، وفي الحرَم ، فأنزل الله تعالى : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله } يعنى محرمين { الذين يُقَاتِلُونَكُمْ } يعني قُرَيْشاً « وَلاَ تَعْتَدُوا » فتَبْدَءوا بالقتالِ في الحَرَمِ محرمين .
فصل في اختلافهم في المراد من قوله { الذين يُقَاتِلُونَكُمْ }
اختلفُوا في المراد بقوله : { الذين يُقَاتِلُونَكُمْ } : إمَّا على وجه الدَّفع عن الحجِّ ، أو على وجه المقاتلة ابتداءً .
وقيل : قاتلوا كُلَّ مَنْ فيه أهليةٌ للقتالِ سوى جُنحٍ للسَّلم؛ قال تعالى : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا } [ الأنفال : 61 ] .
فإن قيل : هب أنه لا نسخ في الآية؛ فما السَّبب في أنَّ الله تبارك وتعالى أمر أوَّلاً بقتال من يقاتل ، ثُمَّ في آخر الأمر ، أذن في قتالهم ، سواءٌ قاتلوا ، أو لم يقاتلوا؟
فالجواب : أنَّ في أوَّل الأمر كان المسلمون قليلين ، وكانت المصحلة تقتضي استعمال الرِّفق ، والمجاملة ، فلمَّا قوي الإسلام ، وكَثُر الجمع ، وأقام مَنْ أقام منهم على الشِّرك بعد ظهور المعجزات ، وتكرُّرها عليهم ، وحصل اليأس من إسلامهم ، فلا جرم أمر الله تعالى بقتالهم على الإطلاق .
قوله تعالى : { حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم } [ البقرة : 191 ] « حيث » منصوبٌ بقوله : « اقْتُلُوهُم » و « ثِقِفْتُمُوهُم » في محلِّ خفضٍ بالظرف ، و « ثَقِفْتُمُوهُمْ » أي : ظَفِرْتُمْ بهم ، ومنه : « رَجُلٌ ثَقِيفٌ » : أي سريعُ الأخذ لأقرانه ، قال [ الوافر ]
968 - فَإِمَّا تَثْقَفُونِي فَاقْتُلُونِي ... فَمَنْ أَثْقَفْ فَلَيْسَ إِلَى خُلُودِ
وثَقِفَ الشَّيْء ثقافةً ، إذا حذقهُ ، ومنه الثَّقافةُ بالسَّيف ، وثَقِفْتُ الشَّيْء قومَّتُه ، ومنه الرماحُ المثقَّفة؛ قال القائلُ : [ الطويل ]
969 - ذَكَرْتُكِ وَالْخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا ... وَقَدْ نَهِلَتْ مِنَّا الْمُثَقَّفَةُ السُّمْرُ
ويقالُ : ثَقِف يَثْقَفُ ثَقْفاً وثَقَفاً ورجلٌ ثَقِف لَقفٌ ، إذا كان محكِماً لما يتناوله من الأمور .
قال القرطبي : وفي هذا دليلٌ على قتل الأسير .
قوله : « مِنْ حَيْثُ » متعلِّقٌ بما قبله ، وقد تُصُرِّفَ في « حَيْثُ » بجَرِّها ب « مِنْ » كما جُرَّت ب « اليَاءِ » و « في » وبإضافة « لَدَى » إليها ، و « أَخْرَجُوكُمْ » في محلِّ جرٍّ بإضافتها إليه ، ولم يذكر « لِلْفِتْنَة » ولا « لِلْقَتْلِ » - وهُما مصدران - فاعلاً ولا مفعولاً؛ إذ المرادُ إذا وُجِدَ هذان ، من أيِّ شخص كان بأَيِّ شخصٍ كان ، وقد تقدَّم أنه يجوز حذف الفاعل مع المصدر .
فصل فيما قيل في النسخ بهذه الآية
هذا الخطابُ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم وشرَّف ، وكَرَّم ، ومَجَّد ، وبَجَّل ، وعَظَّم - وأصحابه يعني اقتلوهم ، حيثُ أبصَرْتُم مقاتِلَتَهُمْ وتمكَّنْتُم منْ قتلهم ، حيث كانوا في الحلِّ ، أو الحرم ، وفي الشَّهر الحرام { وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } وذلك أنَّهم أخرجوا المسلمين من مكّة؛ فقال : أخروجهم مِنْ ديارهم كما أخرجوكم من دياركم ، ويحتمل أنَّه أراد كما أخرجوكم مِنْ مَنَازِلكُم ، ففي الآية الأولى : أمرٌ بقتالهم؛ بشرط إقادامهم على المقاتلة ، وفي هذه الآية .
زاد في التكليف ، وأَمَرَ بقتالهم ، سواءٌ قاتَلُوا ، أو لم يُقَاتِلُوا ، واستثنى [ عنه ] المقاتلة عند المَسْجد الحَرَام ، ونقل عن مقاتل أنه قال : إنَّ قولهُ { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ } منسوخ بقوله { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } [ البقرة : 193 ] قال ابن الخطيب وهذا ضعيفٌ ، فإنَّ الآية الأولى دالَّةٌ على الأمر بقتال مَنْ يقاتلنا ، وهذا الحُكمُ لم ينسخ ، وأمَّا أنَّها دالَّةٌ على المَنْع من قتال مَنْ لم يقاتل ، فهذا غير مسلَّم ، مع ما نقل عن الرَّبيع بن أنس . وأما قوله : إنَّ هذه الآية ، هي قوله تبارك وتعالى { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام } منسوخة بقوله تعالى { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } فهو خطأ أيضاً؛ لأنَّه لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم ، وهذا الحكمُ غير منسوخ .
قوله { والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل } فيه وجوه :
أحدها : نقل ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أنّ الفتنة هي الكُفر .
وروي أنَّ بعض الصحابة قتل رجُلاً من الكُفَّار في الشَّهر الحَرَام ، فعابه المؤمِنُون على ذكل ، فنزلت هذه الآية الكريمة ، والمعنى : أنَّ كفرهم أشدُّ من قتلهم في الحرم والإحرام .
وثانيها : أن الفتنة أصلها عرض الذَّهب على النَّار؛ لاستخلاصه من الغِشِّ ، ثُمَّ صار اسماً لكُلِّ ما كان سبَباً للامتحان؛ تشبيهاً بهذا الأصل ، والمعنى : أنَّ إقْدَامَ الكُفَّار على الكُفْر ، وعلى تخويف المؤمنين ، وإلجائهم إلى ترك الأهلِ ، والوَطن؛ هرباً من إضلال الكُفَّار ، فإنَّ هذه الفتنة الَّتي جُعِلت للمؤمنين أشَدُّ من القتل الذي يقتضي التَّخليص من غموم الدُّنيا وآفاتها .
وثالثها : أنَّ الفتنة هي العذاب الدَّائم الذي يلزمهم بسبب كفرهم ، فكأنه قيل : اقتُلُوهُم حيثُ ثَقِفْتُمُوهم ، واعلَمُوا أن وراءَ ذلك مِنَ العذابِ ما هو أشدُّ منه وإطلاقُ اسم الفتنة على العذاب جائزٌ؛ وذلك من باب إطلاق اسم السَّبب على المُسَبَّب ، قال تبارك وتعالى : { يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ } [ الذاريات : 13 ] ثم قال عقبيه { ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ } [ الذاريات : 14 ] أي عذابكم { إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات } [ البروج : 10 ] أي عذّبوهم وقال { فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله } [ العنكبوت : 10 ] أي : عذابهم كعذابه .
ورابعها : أنَّ المراد : « فتنتهم إيَّاكُمْ بَصدِّكُمْ عن المسجد الحرام أشدُّ من قتلِكُمْ إيَّاهُمْ في الحرم » .
وخامسها : أن الردَّة أشدُ من يُقْتَلُوا بحقٍّ ، والمعنى : أخروجهم منْ حيثُ أخرجوكُمْ ، ولَو قُتِلْتُمْ ، فإنَّكم إن قُتِلْتُم ، وأنتم على الحقِّ ، كان ذلك أسهل عليكُم من أنْ ترتدُّوا عن دِينكُمْ ، أو تتكاسلوا عن طاعة ربِّكم .
قوله : « وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ » قرأ الجمهورُ الأفعالَ الثلاثة : « ولا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ ، فإنْ قَاتَلُوكُمْ » بالألف من القتال ، وقرأها حمزة ، والكسائيُّ من غير ألف من القَتل وهو المُصحف بغير ألف ، وإنما كُتِبَت كذلك؛ للإيجاز؛ كما كَتَبُوا الرَّحمن بغير ألف ، وما أشبه ذلك مِنْ حروف المَدِّ واللِّين .
فأما قراءة الجمْهُور فواضحةٌ؛ لأنها نَهْيٌ عن مقدِّمات القتل؛ فدلالتها على النَّهي عن القَتْل بطريقِ الأَولى ، وأمَّا قراءةُ الأخوين ، ففيها تأويلان :
أحدهما : أن يكون المجازُ في الفعل ، أي : ولا تَقْتلُوا بَعْضَهُمْ؛ حَتَّى يَقْتُلُوا بَعْضَكُمْ؛ ومن { قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ } [ آل عمران : 146 ] ثم قال « فَمَا وَهَنُوا » أي ما وَهَن مَنْ بَقِيَ منْهُمْ ، وقال الشاعر : [ المتقارب ]
970 - فَإِنْ تَقْتُلُونَا نُقَتِّلْكُمُ ... وإن تَقْصِدُوا لِدَمٍ نَقْصِدِ
أي : فإنْ تَقْتُلُوا بعضنا . يروى أن الأعمش قال لحمزة ، أرأيت قراءتك ، إذا صار الرجُلُ مَقْتُولاً ، فبعد ذلك كيف يصير قاتلاً لغيره؟!
قال حمزة : إنَّ العَرَبَ ، إذا قُتِلَ منهُم رجلٌ قالوا : قتلنا ، وإذا ضَرِبَ منهُم رجلٌ ، قالُوا ضُرِبنا وأجمعوا على « فَاقْتُلُوهُمْ » أنَّه من القتل ، وفيه بشارةٌ بأنَّهم ، إذا فعلوا ذلك ، فإنهم مُتَمَكِّنون منهُمْ بحيثُ إنكم أُمِرْتُم بقتلهم ، لا بقتالهم؛ لنُصْرتِكُمْ عليهم ، وخذْلانِهِمْ؛ وهي تؤيِّدُ قراءةَ الأخوينِ ، ويؤيِّدُ قراءة الجمهور : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله } .
و « عِنْدَ » منصوبٌ بالفعل قبله ، و « حَتَّى » متعلقةٌ به أيضاً غايةٌ له ، بمعنى « إلى » والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار « أَنْ » والضميرُ في « فِيهِ » يعودُ على « عِنْدَ » إذ ضميرُ الظرفِ لا يتعدَّى غليه الفعلُ إلاَّ ب « فِي » ؛ لأنَّ الضميرَ يَرُدُّ الأشياءَ إلى أصولها ، وأصلُ الظرفِ على إضمار « في » اللهم إلا أَنْ يُتَوَسَّعُ في الظرفِ ، فيتعدَّى الفعلُ غلى ضميره مِنْ غير « في » ولا يُقالُ : « الظَّرْف غيْرُ المُتَصرِّف لا يتوسَّع فيه » ، فيتعدَّى إليه الفعلُ ، فضميرُهُ بطريق الأولى؛ لأنَّ ضمير الظَّرف ليس حكمه حكمَ ظاهره؛ ألا ترى أنَّ ضميره يُجَرُّ ب « في » وإن كان ظاهرُه لا يجوزُ ذلك فيه ، ولا بدَّ مِنْ حذفٍ في قوله : { فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم } أي : فإنْ قاتلُوكُم فيه ، فاقتلوهم فيه ، فَحَذَفَ لدلالةِ السِّيَاق عليه .
فصل
وهذا بيان بشرط كيفيَّة قتالهم في هذه البقعة خاصَّة ، وكان مِنْ قبلُ شرطاً في كلِّ قتالٍ وفي الأشهر الحرم؛ وقد تمسَّك به الحنفيَّةُ في قتل الملتجيئ إلى الحرم ، وقالوا : لمَّا لم يجز القتل عند المسجد الحرام؛ بسبب جناية الكفر فبأن لا يجوز القتلُ في المسجد الحرام بسبب الذَّنب الذي هو دون الكُفر أولى .
قوله : « كَذَلِكَ جَزَاءُ » فيه وجهان :
أحدهما : أنَّ الكافر في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، و « جَزَاءُ الكَافِرِينَ » خبرُه ، أي : مِثْلُ ذَلِكَ الجَزَاءِ جَزَاؤُهُمْ ، وهذا عند مَنْ يرى أن الكاف اسمٌ مطلقاً ، وهو مذهبُ الأخفش .
والثاني : أن يكونَ « كَذَلَكَ » خبراً مقدَّماً ، و « جَزَاءٌ » مبتدأً مؤخَّراً ، والمعنى : جزاءُ الكافرين مثلُ ذلك الجَزَاءِ ، وهو القتلُ ، و « جَزَاءُ » مصدرٌ مضافٌ لمفعوله ، أي : جزاءُ اللَّهِ الكافرين ، وأجاز أبو البقاء أان يكونَ « الكَافِرِينَ » مرفوع المحلِّ على أن المصدر مقدَّرٌ من فِعْل مبنيٍّ للمفعول ، تقديرُه : كذلك يُجْزَى الكافِرُون ، وقد تقدَّم لنا الخلافُ في ذلك .
قوله تعالى : { فَإِنِ انتهوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : لهم . ومتعلق الانتهاء محذوفٌ أي : عن القتال ، و « انْتَهَى » « افْتَعَلَ » من النَّهي ، وأصلُ « انْتَهَوا » « انْتَهَيُوا » فاسْتُثْقَلَت الضَّمةُ على الياء؛ فحُذِفَتْ فالتقى ساكنان؛ فَحُذِفت الياءُ؛ لالتقاء الساكنين ، أو تقول : تَحَرَّكَتِ الياء ، وانفتحَ ما قبلها؛ فَقُلِبَتْ ألفاً؛ فالتقى ساكنان؛ فَحُذِفَتِ الألفُ ، وبقِيت الفتحة تَدُلُّ عليها .
فصل في اختلافهم في متعلِّق الانتهاء
هذا البيانُ لبقاء هذا الشَّرط في قتالهم قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - فإن انتهوا عن القتال؛ لأنَّ المقصُود من الإذان في القتال منعُ الكُفّار عن المُقاتلة .
وقال الحسنُ : فإن انتهوا عن الشِّرك؛ لأنَّ الكَافِرَ لا يَنَالُ المغفرة والرِّحمة بترك القتال ، بل بترك الكُفرِ .
فصل في دلالة الآية على قبول التَّوبة من كلِّ ذنب
دلَّت الآية على أنَّ التوبة مِنْ كُلِّ ذنبٍ مقبولةٌ ومَنْ قال : إنَّ التوبة عن قتل العَمْد غيرُ مقبولةٍ ، فقد أخطأ؛ لأنَّ الشرك أشدُّ من القتل ، فإذا قَبِلَ الله تبوة الكافِرِ ، فقبُولُ توبة القاتل أولى ، وأيضاً فقد يكُونُ الكافِرُ قاتلاً ، فقد انضمَّ إلى كُفره قَتْلُ العَمْد والآيَةُ دلَّت على قبُول توبة كلِّ كافِرِ ، فدلَّ على أنَّ توبتَهُ ، إذا كان قاتِلاً مقبولةٌ؛ قال تعالى : { قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] .
قوله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } يجوزُ في « حَتَّى » أن تكونَ بمعنى « كَيْ » وهو الظاهرُ ، وأن تكونَ بمعنى « إِلَى » و « أَنْ » مضمرةٌ بعدَها في الحالين ، و « تَكُونَ » هنا تامةٌ ، و « فِتْنَةٌ » فاعلٌ بها ، وأمَّا { وَيَكُونَ الدين للَّهِ } فيجوزُ أن تكون تامَّةً أيضاً ، وهو الظاهرُ ، ويتعلَّقُ « اللَّهِ » بها ، وأن تكونَ ناقصةً و « لِلَّهِ » الخبَر؛ فيتعلَّق بمحذوف أي : كائناً لله تعالى
فصل في المراد بالفتنة
قيل : المراد بالتفنة الشِّرك والكُفر؛ قالوا : كانت فتنتهُم أنَّهُم كانوا يُرهِبُون أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف ، وكَرَّم ، ومَجَّد ، وبَجَّل ، وعَظَّم - بمكة ، حتى ذهبوا إلى الحبشة ، ثم واظبوا على ذلك الإيذاء؛ حتى ذهبوا إلى المدينة ، وكان غرضَهُمُ من إثارة تلك الفتنة أن يتركوا دينهُم ، ويرجِعُوا كُفَّاراً ، فإنزل الله - تبارك وتعالى - هذه الآية ، والمعنى :
قاتِلُوهُم حتَّى تَظهروا عليهم؛ فلا يفتِنُوكُم عن دِينِكُمْ ، ولا تَقَعوا في الشِّركَ { وَيَكُونَ الدين للَّهِ } أي : الطَّاعة ، والعبادةُ للَّه وحده؛ لا يُعبدُ شيءٌ دونه ونظيره قوله تعالى :
{ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } [ الفتح : 16 ] قال نافع : جاء رجلٌ إلى ابن عُمَرَ في فتنةِ ابن الزُّبير فقال ما يمنعُكَ أنْ تخرج؟ فقال : يَمنعُني أنَّ اللَّهَ حرَّمَ دم أخِي؛ ألاَّ تَسْمَعُ ما ذكر اللَّهُ تعالى : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] قال : يا ابن أخي ولأن أعتبر بهذه الآية ، ولا أقاتل أحبُّ لي من أن أعتبر بالآية الأخرى الَّتي يقُولُ الله - عزَّ وجلَّ - فيها { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً } [ النساء : 93 ] قال ألم يقُل الله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } ؟ قال : قَدْ فعلنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف ، وكَرَّم ، وبَجَّل ، ومَجَّد ، وعَظَّم - إذْ كان الإسلامُ قليلاً ، وكان الرَّجُلُ يُفْتَنُ عن دينه ، إما يقتُلُونه ، أو يُعَذِّبونه ، حى كثُر الإسلام ، فلن تكُن فتنة وكان الدِّينُ للَّه ، وأنُتُم تُرِيدُون أنْ تُقَاتِلُوهم ، حتَّى تكُون فتنَة ، ويَكُونُ الدِّين لغيْرِ الله .
وعن سعيد بن جبير ، قال : قال رجلٌ لابن عمر كيف ترى في قتال الفتنة؟ فقال : هل تدري ما الفتنة؟! كان محمَّدٌ صلواتُ الله وسلامُهُ عَلْيهِ يُقاتل المُشرِكين ، وكانَ الدُّخُولُ عليهم فِتْنَةً ، وليس قتالكُم كقتالهم على المُلكِ .
فصل في معاني الفتنة في القرآن
قال أبو العبَّاس المُقِري : ورد لفظ الفتنَة في القرآن بإزاء سبعة معانٍ :
الأول : الفتنة : الكُفر؛ قال تعالى : { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة } [ آل عمران : 7 ] يعني : طلب الكُفْر .
الثاني : الفتنة الصرف قال تعالى : { واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ } [ المائدة : 49 ] .
الثالث : الفتنة : البلاء؛ قال تعالى { وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ } [ العنكبوت : 3 ] .
الرابع : الفتنةُ : الإحْرَاقُ؛ قال تعالى { إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين } [ البروج : 10 ] ، أي : حَرَّقُوهم؛ ومثله { يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ } [ الذاريات : 13 ] .
الخامس : الفتنة الاعتذارُ قال تعالى : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ } [ الأنعام : 23 ] .
السادس : الفتنة : القَتل ، قال تعالى : { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا } [ النساء : 101 ] ، أي : يَقْتُلُوكم .
السابع : الفتنَة : العذَابُ؛ قال تعالى : { جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله } [ العنكبوت : 10 ] .
قوله « فَإِن انْتَهوا » ، أي : عن الكُفر وأسلَمُوا ، « فَلاَ عُدوَانَ » أي : فلا سبيل { إِلاَّ عَلَى الظالمين } قاله ابن عبَّاس ، ويدلُّ عليه قوله تعالى : { قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } [ القصص : 28 ] ، أي : فلا سبيل عليَّ ، وقال أهلُ المعاني العدوان : الظُّلم ، أي : فإنْ أسْلَمُوا ، فلا نهب ، ولا أسر ، ولا قتْل إلاَّ على الظالمين الَّذين بَقُوا على الشِّرك؛ قال تعالى : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] وسَمَّى قتل الكُفَّار عُدواناً ، وهو في نفسه حقٌّ ، لأنَّه جزاءٌ عن العُدْوان؛ على طريق المجاز ، والمقابلة؛ لقوله { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ } [ البقرة : 194 ] ، و { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله } [ آل عمران : 54 ] { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ الله مِنْهُمْ } [ التوبة : 79 ] .
وقيل : معنى الآية الكريمة إن تَعَرَّضْتم لهُمْ بعد انتهائهم عن الشِّرك والقتال ، كنتم أنْتُم ظالمينَ ، فنسلِّط عليكم مَنْ يَعتِدي عليْكُم .
قوله : { إِلاَّ عَلَى الظالمين } في محلِّ رفع خبر « لا » التبرئة ، ويجوزُ أن يكون خبرُها محذوفاً ، تقديرُه : لا عُدْوَانَ على أحد؛ فيكونُ { إِلاَّ عَلَى الظالمين } بدلاً على إعادةِ العامل ، وهذا الجملةُ ، وإنْ كانَت بصورة النَّفي ، فهي في معنى النَّهي؛ لئلا يلزَم الخُلْفَ في خبره تعالى والعربُ إذا بالَغَتْ في النهي عن الشيء ، أبْرَزَتْهُ في صورةٍ النفي المَحْضِ؛ كأنه ينبغي ألاَّ يوجدَ البتة؛ فَدَلُّوا على هذا المعنى بما ذكرْتُ لك ، وعكسُه في الإِثبات ، إذا بَالَغُوا في الأمرِ بالشَّيْء ، أبرزُوهُ في صُورة الخَبَر؛ نحو : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ } [ البقرة : 233 ] على ما سيأتي - إن شاء الله تعالى - .
الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) قوله تعالى : { الشهر الحرام بالشهر الحرام } مبتدأ ، خبرُه الجارُّ بعده ، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ ، تقديرُه : انتهاكُ حُرْمة الشَّهْر الحرامِ بانتهاكِ حرمةِ الشهرِ ، والألفُ واللامُ في الشَّهْر الأوَّل والثَّاني لِلْعهَد؛ أنَّهما معلومان عند المخاطبين؛ فإنَّ الأولَ ذُو القَعْدَةِ من سنة سَبْع ، والثاني من سنة سَتٍّ .
وقرئ . « والحُرْمَات » بسكون الراء ، ويُعْزَى للحسن وقد تقدَّم عند قوله { فِي ظُلُمَاتٍ } [ البقرة : 17 ] أنَّ جمعَ « فُعْلَةٍ » بشروطِها يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجه : هذان الاثنانِ ، وفَتْحُ العين .
فصل في بيان سبب النُّزول
في سبب نزول الآية ثلاثة أوجه :
أحدها : قال ابنُ عبَّاس ومجاهدٌ ، والضَّحَّاك - رضي الله عنهم - أنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم ، وشَرَّف ، وكَرَّم ، ومَجَّد ، وبَجَّل ، وعَظَّم - خرج عام الحُديبية لِلْعُمرة ، وذلك في ذي القعدة سنة ستٍّ مِنَ الهجرة ، فصدَّه أهلُ مكة عَنْ ذلك ثُمَّ صالحُوه أنْ ينصرف ، ويعودَ في العام القابل؛ ويتركُوا له « مكَّةَ » ثلاثة أيَّام؛ حتَّى يقضي عُمْرَتَهُ فانصرَفَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف ، وكَرَّم ، ومَجَّد ، وبَجَّل ، وعَظَّم - عامهُ ذلك ، ورجع في العام القابل في ذي القعدة سنَة سبعٍ ، ودَخَل مَكَّة ، واعتَمر؛ فأنزل اللَّهُ تعالى هذه الآية الكريمة يعني إنَّك دخلت مكَّة في الشهر الحرام ، والقومُ كانُوا صَدُّوكَ في السنةِ الماضية في هذا الشَّهر؛ فهذا الشهر الحرامُ؛ بذلك الشهرِ الحرامِ .
وثانيها : قال الحسن : إنَّ الكُفَّار سَمِعُوا أنَّ الله تعلاى نهى الرسُولَ - عليه الصَّلاة والسَّلأم - عن المقاتلة في الأشهر الحُرُم؛ وهو قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله } [ البقرة : 217 ] فأرادوا مقاتلته ، وظنُّوا أنَّهُ لا يُقاتلهم في الأشهر الحُرُم؛ فأنزل اللَّهُ تعالى في هذه الآية؛ لبيان الحُكم في هذه الواقعة فقال : { الشهر الحرام بالشهر الحرام } أي من استحلَّ قتالكم من المشركين من الشَّهر الحرام ، فاستحلّوه أنتم فيه .
وثالثها : قال بعضُ المتكلِّمين : هو أنَّ الشهر الحرام لما لم يمنعكم عن الكفر بالله ، فكيف يمنعنا عن قتالكم؟ فالشهر الحرام من جانبنا مقابل الشهر الحرام جانبكم؛ والحاصل في هذه الوجوه : أنَّ رحمة الشَّهر الحرام لما لم تمنعهُم عن الكفر ، والأفعالِ القبيحة ، فكيف جعلوه سبباً في منع القتالِ على الكفر والفساد؟!
قوله : « والحرمات قصاصٌ » الحرماتُ : جمع حرمة؛ كظلمات جمع ظلمة ، وحجرات جمع حجرة ، الحرمة ما منع من انتهاكه ، وجمعها؛ لأنَّه أراد حُرمة الشَّهر الحرامِ والبلد الحرام ، وحرمة الإحرام . و « القصاص » : المُساوَاةُ والمُمَاثلة .
والمعنى على الوجه الأوَّل في النُّزول لمَّا أضاعوا هذه الحُرمات في سنة ستٍّ ، فقد قضيتموها على زعمكم في سنة سبع .
وأما على الثَّاني : فالمراد إن أقدمُوا على مقاتلتكم في الشَّهر الحرام ، فقاتلوهم أنتم أيضاً فيه .
قال الزَّجَاج : وعلم الله بهذه الآية : أنه ليس على المسلمين : أن ينتهكوا هذه الحرمات على سبيل الابتداء ، بل على سبيل القصاص والمماثلة ، وهذا القول أشبه بما قبل هذه الآية الكريمة ، وهو قوله تعالى : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ } [ البقرة : 191 ] وبما بعدها؛ وهو قوله تعالى : { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ } .
وأما على القول الثالث : فقوله « والحُرُمَاتُ قِصَاصٌ » يعني : حُرمَةُ كلِّ واحدٍ من الشهرين كحرْمة الآخر ، وهما مثلان ، والقِصاصُ هو المثلُ ، ولَمَّا لم يمنعكُم حرمةُ الشَّهر من الكُفْر ، والفِتنة ، والقِتال ، فكيف يمنعُنا عن القتال؛ فعلى هذا ، فقوله : « والحُرُمَاتُ قِصَاصٌ » متَّصلٌ بما قبله .
وقيل : هو مقطوعٌ منه ، وهو ابتداء أمرٍ كان في أوَّل الإسلام : أن من انتهك حُرمتك ، نِلتَ منه بمثل ما اعتدى عليك ، ثم نُسِخً ذلك بالقتال .
وقالت طائفةٌ : ما تناولت الآية الكريمة من التعدِّي بين أمة محمَّد - عليه الصَّلاة والسَّلام - والجنايات ونحوها - لم يُنسَخْ ، وجاز لمن تُعُدِّيَ عليه من مال ، أو جرح أن يتعدَّى بمثل ما تُعُدِّي به عليه .
وقوله { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ } يجوزُ في « مَنْ » وجهان :
أحدهما : أن تكون شرطيةً ، وهو الظاهرُ؛ فتكونَ الفاء جواباً .
والثاني : أن تكونَ موصولةً؛ فتكونَ الفاءُ زائدةً في الخبر ، وقد تقدَّم نظيره .
قوله : { بِمِثْلِ مَا اعتدى } في الباء قولان :
أحدهما : أن تكون غير زائدةٍ ، بل تكون معلِّقةً ب « اعْتَدُوا » والمعنى : بعقوبةٍ مثْل جنايةٍ اعتدائه .
والثاني : أنها زائدةٌ ، أي : مثل ما اعَْدى به؛ فتكون : إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوف ، أي : اعتداءً مماثلاً لاعتدائه ، وإمَّا حالاً من المصدر المحذوف ، كما هو مذهبُ سيبويه - رحمه الله تعالى - أي : فاعتدوا الاعتداء مُشبِهاً اعتداءُه ، و « مَا » يجوزُ أن تكوَ مصدريةً ، فلا تفتقر إلى عائدٍ ، وأن تكون موصولةً؛ فيكون العائدُ محذوفاً ، أي : بمثل ما اعتدى عليكُم به ، وجاز حذفه؛ لأنَّ المُضاف إلى الموصول قد جُرَّ بحرفٍ قد جرَّ به العائدُ ، واتَّحد المتعلِّقان وقد تقدَّم معنى تسمية المجازاة بالاعتداء .
فصل في اختلافهم في تسيمة المكافأة عدواناً
قال القرطبيُّ : اختلف النَّاس في المكافأة ، هل تُسمَّى عدواناً ، أم لا؟ فمن قال : ليس في القرآن مجازٌ ، قال : المقابلة عدوانٌ ، وهو عدوانٌ مباحٌ ، كما أنَّ المجاز في كلام العرب كذبٌ مباحٌ؛ لأن قوله : [ الطويل ]
719 - فَقَالَتْ لَهُ الْعَيْنَانِ سَمْعاً وَطَاعَةً .. . .
وقولَهُ : [ الرجز ]
972 - إِمْتَلأَ الحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي ... وقوله : [ الرجز ]
973 - شَكَا إِلَيَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى ... ومعلوم أنَّ هذه الأشياء لا تنطق ، وحدُ الكَذِب الإخبارُ عن الشَّيء بخلاف ما هو به .
ومن قال : في القُرآن مجازٌ : سمَّى هذا عُدواناً مجازاً على طريق المُقابلة كقوله عمرو بن كلثومٍ : [ الوافر ]
974 - أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَا
وقول الآخر : [ الطويل ]
975 - ولِي فَرَسٌ لِلْحِلْمِ بِالْحِلْمِ مُلْجَمٌ ... وَلِي فَرَسٌ لِلْجَهْلِ بِالجَهْلِ مُسْرَجُ
وَمَنْ رَامَ تَقْوِيمي فَإِنِّي مُقَوَّمٌ وَمَنْ رَامَ تَعْوِيجي فَإِنِّي مُعَوَّجُ
يريد أُكافىءُ الجاهل والمُعوجَّ لا أنَّه امتدح بالجهل والاعوجاج .
قولُهُ « وَاتَّقُوا » قد تقدَّم معنى « التَّقْوَى » .
وقولُهُ : { واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } ، أي : بالمعونَةِ ، والنُّصرة ، والحِفظ ، وهذا من أقوى الدَّلائل على أنَّه ليس بجسمٍ ، ولا في مكانٍ ، إذ لو كان جسماً ، لكان في مكانٍ معيَّن؛ فكان إمَّا أن يكون مع أحدٍ منهم ، ولم يكن مع الآخر ، أو يكون مع كُلِّ واحدٍ من المُتَّقين جزءُ من أجزائهِ ، تعالى الله عن ذلك عُلُوّاً كبيراً .
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) اعلم أنَّ تعلُّق هذه الآية الكريمة بما قبلها من وجهين :
الأول : أنَّه تعالى ، لمَّا أمرهُ بالقتالِ وهو لا يتيسَّر إلاَّ بآلاتٍ وأدواتٍ يحتاجُ فيها إلى المال ، وربَّما كان ذو المالِ عاجزاً عن القتال ، وكان الشُّجاع القادرُ على القتال عديم المال فقيراً ، فلهذا أمر اللَّهُ تعالى الأغنياء بأن ينفقوا على الفُقراء الَّذين يقدرون على القتال .
والثاني : يروى أنَّه لمَّا نزَلَ قولُهُ تعالى : { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات } [ البقرة : 194 ] قال رجلٌ من الحاضرين : واللَّهِ ، يا رسول الله ما لَنَا زادٌ ، وليس أحدُ يُطْعمنَا؛ فأمر رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف ، وكَرَّم ، وبَجَّل ، وعَظَّم - أن ينفقوا في سبيل الله ، وأن يتصدَّقوا وألاَّ يكفُّوا أيديهم عن الصَّدقة ، ولو بشقِّ تمرةٍ تُحملُ في سبيل الله فيهلكوا ، فنزلت الآية الكريمة على وفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف ، وكَرَّم ، وبَجَّل ، وعَظَّم - .
والعلم : أنَّ الإنفاقَ هو صرفُ المالِ إلى وجوه المصالح؛ فلذلك لا يُقالُ في المُضَيِّع : إنَّه مُنفقٌ ، وإذا قُيِّد الإنفاقُ بذكر « سَبِيلِ اللَّهِ » ، فالمرادُ به في طريق الدِّين؛ لأنَّ السَّبيل هو الطريقُ ، وسبيلُ الله هو دينُهُ ، فكلُّ ما أمر الله تعالى به من الإنفاق في دينِهِ ، فهُوَ داخِلٌ في الآية الكريمة ، سواءٌ كان في حجٍّ ، أو عُمرةٍ ، أو كان جهاداً بالنَّفس أو تجهيزاً للغير أو كان إنفاقاً في صلة الرَّحم ، أو في الصَّدقات ، أو على القتالِ ، أو في الزَّكاةِ ، أو الكَفَّارة ، أو في عمارة السَّبيل ، وغير ذلك ، إلاَّ أنَّ الأقربَ في هذه الآية الكريمة ذكرُ الجهاد ، فالمرادُ هاهنا الإنفاقُ في الجهاد؛ لأنَّ هذه الآية الكريمة ، إنَّما نزلت وقت ذهاب رسُول الله - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف ، وكَرَّم ، وبَجَّل ، وعَظَّم - لعُمرة القضاء ، وكانت تلك العُمرةُ لا بُدَّ مِنْ أن تُفضي إلى القتالِ ، إنْ منَعَهم المُشركُونَ ، فكانَتْ عمرةً وجهاداً ، فاجتمعَ فيها المعنيانِ؛ فلا جَرَم ، قال تعالى { وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله } .
قوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } .
في هذه الباء ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها زائدةٌ في المفعول به؛ لأن « أَلْقَى » يتعدَّى بنفسه؛ قال تبارك وتعالى { فألقى موسى عَصَاهُ } [ الشعراء : 45 ] ، وقال القائل : [ الكامل ]
976 - حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَداً فِي كَافِرٍ ... وَأَجَنَّ عَوْرَاتٍ الثُّغُورِ ظَلاَمُهَا
فزيدت الباءُ في المفعول ، كما زيدَت في قوله : [ الطويل ]
977 - وَأَلْقَى بِكَفَّيْهِ الْفَتَى اسْتِكَانَةً ... مِنَ الْجُوعِ وَهْنَاً مَا يُمِرُّ وَمَا يَحْلُو
وهذا قولُ أبي عبيدة ، وإليه ميلُ الزمخشري ، قال : « والمعنى : ولا تُقْبِضُوا التهلُكَةَ أيدِيكُمْ ، أي لا تَجْعَلُوها آخِذَةً بأيديكُمْ مالكةً لكُمْ » ، إلا أنه مردودٌ بأنَّ زيادة الباء في المفعول به لا تَنقاسُ ، إنما جاءت في الضَّرورة؛ كقوله : [ البسيط ]
978 - . ... سُودُ المَحَجِرِ لا يَقْرأْنَ بالسُّوَرِ
الثاني : أنها متعلقةٌ بالفعل غيرُ زائدةٍ ، والفعولُ محذوفٌ ، تقديرُه : ولا تُلْقُوا أنْفُسَكُمْ بأيديكُم ، ويكُونُ معناها السَّبَبَ؛ كقولك : لا تُفْسِد حالك برأيك .
الثالث : أن يُضمَّن « أَلْقَى » معنى ما يتعدَّى بالباء؛ فيُعدَّى تعديته ، فيكون المفعولُ به في الحقيقة هو المجرور بالباء ، تقديره : ولا تُفْضُوا بأيديكُم إلى التَّهْلُكة؛ كقولك : أَفْضَيْتُ بِجَنْبِي إلى الأرض ، أي : طرحتُهُ على الأرض ، ويكونُ قد عَبَّرَ بالأيدي عن الأنفس كقوله : { بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } [ الحج : 10 ] { فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الشورى : 30 ] لأنَّ بها البَطشَ والحركة ، وظاهرُ كلام أبي البقاء فيما حكاهُ عن المُبرِّد : أن « ألْقَى » يتعدَّى بالباء أصلاً ك « مَرَرْتُ بزيدٍ » ، والأولى حملُهُ على ما ذكرناه .
والهمزة في « أَلْقَى » لِلْجعل على صفةٍ ، نحو : أطْرَدْتُهُ ، أي : جعلتُهُ طريداً ، الهمزة فيه : ليست للتعدية؛ لأنَّ الفعل متعدٍّ قبلها ، فمعنى « ألقَيْتُ الشيْءَ » : جَعَلْتُه لُقى ، فهو « فُعَلٌ » بمعنى « مَفْعُول » ؛ كما أن الطريد « فَعِيلٌ » بمعنى « مَفْعُول » ؛ كأنه قيل : لا تَجْعَلُوا أنفسَكُم لُقى إلى التَّهْلُكَة . والتَّهْلُكَةُ : مصدرٌ بمعنى « الهلاكِ ، يُقَالُ : هَلَكَ يَهْلِكُ هُلْكاً ، وهَلاكاً ، وهَلْكَاءَ ، على وزن فعلاء ، ومَهْلِكاً ومَهْلُكَةً ، مثلَّث العين ، وتَهْلُكَةً ، وقال الزمخشري : » ويجوزُ أن يقال : أصلُها التَّهْلِكَةُ؛ بكسر اللام ، كالتَّجْرِبة؛ على أنه مصدرٌ من هلَّك - يعني بتشديد اللامِ - فَأُبْدلتِ الكسرةُ ضَمَّةً؛ كالجِوار والجُوار « ، وردَّ أبو حيَّان بأنَّ فيه حَمْلاً على شاذٍّ ودَعوى إبدال ، لا دليلَ عليها؛ وذلك أنه انه جعلَهُ تَفعلةً بالكسر ، مصدرَ » فَعَّلَ « بالتشديد ، ومصدرُه ، إذا كان صحيحاً غيرَ مهموزٍ على » تَفْعِيل « و » تَفْعِلَةٌ « فيه شاذٌّ ، وأمَّا تنظيره له بالجِوَار والجُوَار ، فليس بشيء ، لأنَّ الضمَّ فيه شاذٌّ ، فالأولى أنْ يُقال : إنَّ الضَّمَّ أصلٌ غيرُ مبدلٍ من كسرٍ ، وقد حكى سيبويه ممَّا جاء من المصادر على ذلك التَّضُرَّة والتَّسُرَّة .
قال ابن عطيَّة : » وقرأ الخليلُ التَّهْلِكَةَ ، بكسر اللام ، وهي تَفْعِلَةٌ ، من هَلَّكَ بتشديد اللام « وهذا يُقَوِّي قول الزمشخري .
وزعم ثعلبٌ والجارزنجي أنَّ » تَهْلُكَةً « لا نظير لها ، وليس كثيراً من تكلُّفات هؤلاء النُّحاة في أمثال هذه المواضع ، وذلك أنَّهُم وجدوا نَقلاً عن أعرابيٍّ مجهولٍ يكونُ حجتَّهُم فيه ، ففرحثوا به ، واتّخَذُوه حجَّةً قويَّةً ، ودليلاً قاطِعاً ، وقالُوا : قد نُقِلَ هذا عن العرب؛ فكيف ، وقد وَرَدَ هذا في كَلاَمِ الله تعالى المشهُور له مِنْ كُلِّ واحدٍ من المُوافِق والمُخَالف بالفصاحة ، وأعجز البُلَغَاء والفُصَحاء ، وتحدَّاهم » بِأَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ « و » بِعَشْرِ سُوَرٍ « و » بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ « [ فقال تعالى : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً }
[ الإسراء : 88 ] وقال : { قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } [ هود : 13 ] وقال في موضع آخر : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } [ البقرة : 23 ] كيف لا يدلُّ ذلك على صحَّة هذه اللَّفظة ، وفصاحتها ، واستقامتها .
والمشهور : أنه لا فرق بين التَّهْلُكَة ، والهلاك ، وقال قومٌ : التَّهْلُكَةُ : ما أمكن التحرُّز منه ، والهلاكُ : ما لا يمكن التحرُّز منه ، وقيل : هي نفسُ الشَّيْءِ المُهْلِكِ ، وقيل : هي ما تضضُرُّ عاقبته .
فصل في اختلافهم في تفسير الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة
اختلفوا في تفسير الإلقاء بالأيدي إلى التَّهلكة .
فقال قومٌ : إنَّه راجعٌ إلى نفس النَّفقة .
وقال آخرون : إنَّه راجعٌ إلى غيرها ، فالأوَّلون ذكروا وجوهاً :
أحدها : قال ابن عبَّاس ، وحذيفة ، وعطاءٌ ، وعكرمةٌ ، ومجاهدٌ ، والجمهور ، وإليه ذهب البُخَارِيُّ - رضي الله عنهم - ولم يذْكُروا غيره : ألاَّ ينفقوا في مهمَّات الجهاد أموالهم؛ فستولي العَدُوُّ عليهم ، ويهلكهم؛ فكأنَّه قيل : إن كنت من رجال الدِّين فأنفق مالك في سبيل الله ، وفي طلب مرضاته ، وإن كانت من رجالِ الدُّنيا ، فأنفق مالك في دفع الهلاكِ ، والضَّرَر عن نفسِكَ .
وثانيها : أنه تبارك وتعالى لمَّا أمر بالإنفاق نهى عن نفقة جمع المال؛ لأنَّ إنفاق الجميع يفضي إلى التَّهلكة عند الحاجة الشديدة إلى المأكول ، والمشروب ، والملبوسِ ، فيكون المراد منه ما ذكره في قوله سبحانه : { والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] ، وقوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } [ الإسراء : 29 ] .
وقيل : الإلقاءُ في التَّهْلُكَة : هو السَّفر إلى الجهاد بغَيْر زادٍ ، نقله القُرْطُبيُّ عن زَيْد ابْنِ أَسْلَمَ ، وقد فعل ذلك قومٌ ، فانقطعوا في الطَّريق .
وأما القائلون : بأنَّ المراد منه غير النَّفقة ، فذكروا وجوهاً :
أحدها : أن يخلُّوا بالجهاد ، فيتعرَّضوا للهَلاَكِ الذي هو عذابُ النار .
ثانيها : لا تقتحموا في الحَرْبِ بحَيْثُ لا تَرْجُونَ إلاَّ قَتْلَ أنْفُسِكُمْ ، فإنَّ قَتْلَ الإنْسانِ نَفْسَه لا يَحِلُّ ، وإنما يجب الاقتحام إذا طمع في النكاية وإن خاف القتل ، فأمَّا إذا كان آيساً من النِّكاية ، وكان الأغلب أنَّه مقتولٌ ، فليس له الإقدام عليه ، وهذا منقولٌ عن البَرَاءِ ابن عازب ، ونقل عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّه قال في هذا : هو رجُلٌ ينتقّل بين الصفينِ . وطعن بعضهم في هذا التَّأوِيل؛ وقال : هذا القتلُ غير محرمٍ ، واحتجَّ بأَحَادِيثَ .
الول : روي أنَّ رجلاً من المهاجرين حمل على صَفِّ العدوِّ؛ فصاح به الناس؛ فألقى بيده إلى التَّهلكة؛ فقال أبو أيُّوبٍ الأنصاريّ : نحنُ أعلم بهذه الآية الكريمة ، وإنما نزلت فينا : صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصرناه وشهدنا المشاهد ، فلما قويَ الإسلام؛ وكثر أهله؛ رجعنا إلى إهالينا ، وأموالنا ، ومصالحنا؛ فنزلت الآية ، فكانت التهلكة الإقامة في الأهل ، والمال ، وترك الجهاد . فما زال أبو أيوبٍ مجاهداً في سبيل الله؛ حتَّى كان آخر غزاة غزاها بقسطنطينيّة في زمن معاوية ، فتوفِّي هناك ، ودُفن في أصل سور القسطنطينية ، وهم يُسْتَسْقَوْنَ به .
ورُوِيَ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الجنَّة؛ فقال له رجل من الأنصار : أرأيت يا رسول الله ، إن قتلت صابراً محتسباً؟ فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - « لك الجنة » ؛ فانغمس في العدوِّ؛ فقتلوه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأنَّ رجلاً من الأنصار ألقى درعاً كان عليه ، حين ذكر رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه دائماً أبداً - الجنة .
ورُوِيَ أنَّ رجلاً من الأنصار تخلَّف عن بني معاوية ، فرأى الطير عكوفاً على من قتل من أصحابه؛ فقال لبعض من معه : سأتقدم إلى العدوِّح فيقتلونني ، ولا أتخلف عن مشهد قتل فيه أصحابي ، ففعل ذلك؛ فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه قولاً حسناً .
وروي أنَّ قوماً حاصروا حصناً؛ فقاتل رجلٌ حتى قتل؛ فقيل : ألقى بيده إلى التَّهلكة ، فبلغ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ذلك؛ فقال : كذبوا قال الله تعالى : { مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله } [ البقرة : 207 ] .
ولقائلٍ أن يجيب عن هذه الآية؛ فيقول : إنَّما حرمنا إلقاء النفس في صفِّ العدوِّ ، إذا لم يتوقع إيقاع النكاية فيهم ، فأما إذا توقع ، فنحن نجوز ذلك ، فلم قلتم إنَّه يوجد هذا المعنى في هذه الوقائع؟
الوجه الثالث من تأويل الآية : أن يكون هذا متَّصلاً بقوله سبحانه : { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ } [ البقرة : 194 ] أي : فلا تحملنَّكم حرمة الشهر على أن تستسلموا لمن قاتلكم ، فتهلكوا بترككم القتال ، فإنَّكم بذلك تكونون ملقين بأيديكم إلى التهلكة .
الوجه الرابع : أنَّ المعنى : أنفقوا في سبيل الله ، ولا تقولوا : إنَّا نخاف الفقر ، فنهلك إن أنفقنا ، ولا يبقى معنا شيءٌ ، فنهوا أن يجعلوا أنفسهم هالكين بالإنفاق ، والمراد من هذا الفعل والإلقاء الحكم بذلك؛ كما يقال جعل فلانٌ فلاناً هلاكاً ، وألقاه في الهلاك؛ إذا حكم عليه بذلك .
الوجه الخامس : قال محمد بن سيرين ، وعبيدة السَّلمانيُّ : هو أنَّ الرجل يصيب الذنب الذي يرى أنه لا ينفعه معه عمل؛ فيستهلك في المعاصي ، فذلك هو إلقاء النفس إلى التهلكة؛ فحاصله أنَّ معناه النَّهيُ عن القنوط من رحمة الله تعالى؛ لأن ذلك يحمل الإنسان على ترك العبودية ، والإصرار على الذنب .
الوجه السادس : يحتمل أن يكون المراد { وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله } ولا تلقوا ذلك الإنفاق في التهلكة ، والإحباط؛ وذلك بأن تفعلوا بعد ذلك الإنفاق فعلاً يحبط ثوابه ، إما بذكر المنَّة ، أو بذكر وجوه الرياء ، والسُّمعة؛ ونظيره قوله تعالى : { وَلاَ تبطلوا أَعْمَالَكُمْ } [ محمد : 33 ] .
وروي عن عكرمة : الإلقاء في التهلكة ، قال تبارك وتعالى : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ } [ البقرة : 267 ] .
وقال الطَّبَرِيُّ : هو عامٌّ في جميع ما ذُكر ، لأن اللفظ يحتمله .
قوله « وَأَحْسِنُوا » اختلفوا في اشتقاق « المحْسِنِ » ، فقيل : مشتقٍّ من فعل الحسن ، وإنما كثر استعماله في من نفع غيره بنفع حسنٍ ، من حيث إنَّ الإحسان حسنٍ في نفسه ، وعلى هذا [ التَّقْدِير ] فالضربُ ، والقتلُ إذاً حَسُنَا ، كان فاعلهما محسناً .
وقيلك مشتقٌّ من الإحسان؛ ففاعل الحسن لا يوصف بكونه محسناً؛ إلاَّ إذا كان فعله حسناً ، وإحساناً معاً؛ فهذا الاشتقاق إنَّما يحصل من مجموع الأمرين .
قال الأصَمُّ : أَحْسِنُوا في فَرَائضِ اللَّهِ .
وقيل : أسحنوا في الإنفاق على من يلزمكم نفقته ، والمقصود منه أن يكن ، ذلك الإنفاق وسطاً من غير إسراف ، ولا تقتير ، وهذا أقرب لاتصاله بما قبله ، ويمكن حمل الآية على الجميع .
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الحجُّ : في اللغة عبارةُ عن القصد ، وإنما يقال حجَّ فلانٌ الشيء ، إذا قصده مرَّةً بعد أخرى ، وأدام الاختلاف إليه ، و « الحِجَّةُ » بكسر الحاء : السَّنة ، وإنما قيل لها حِجَّةٌ؛ لأن الناس يحجُّون في كل سنةٍ ، وفي الشرع : هو اسمٌ لأفعال مخصوصة يشتمل على أركانٍ ، وواجباتٍ ، وسُننٍ .
فالركن : ما لا يحصل التحلُّل إلاَّ بالإتيان به ، والواجب هو الذي إذا تركه يجبر بالدم ، والسُّنن : ما لا يجب بتركها شيءٌ ، وكذلك أفعال العمرة .
وقرأ نافعٌ ، وأبو عَمْرٍو ، وابنُ كثير ، وأبو بكر ، عن عاصمٍ رحمة الله تعالى عليهم : « الحَجُّ » بفتحِ الحاءِ في كلِّ القرآن الكريم ، وهي لغة أهل الحجاز ، وقرأ حمزة ، والكسائيُّ ، وحفصٌ ، عن عاصمٍ : بالكسر في كلِّ القرآن .
قال الكسائيُّ : وهما لغتان بمعنى واحدٍ؛ كرِطلٍ ورَطلٍ ، وكِسر البيت ، وكَسره ، وقيل : بالفتح المصدر ، وبالكسر الاسم .
وقرأ علقمة ، وإبراهيم النَّخعيُّ : « وأقِيمُوا الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ » وفي مصحف ابن مسعودٍ : « وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ إلى البَيت » وروي عنه : وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت ، وفائدة التخصيص بقوله : « لِلَّهِ » - هنا - أنَّ العرب كانت تقصد الحج للاجتماع ، والتظاهر ، وحضور الأسواق؛ وكلُّ ذلك ليس لِلَه فيه طاعةٌ ، ولا قربةٌ؛ فأمر الله تعالى بالقصد إليه لأداء فرضه ، وقضاء حقِّه .
والجمهور على نصب « العُمْرَةَ » على العطف على ما قبلها ، و « لِلَّهِ » متعلقٌ بأتِمُّوا ، واللام لام المفعول من أجله . ويجوز أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها حالٌ من الحجِّ والعمرة ، تقديره : أتمُّوها كائنين لله . وقرأ عليٌّ وابن مسعودٍ ، وزيد بن ثابت ، والشعبيّ : « والعُمْرَةُ » بالرفع عل الابتداء . و « لله » الخبر ، على أنها جملة مستأنفةٌ .
قال ابن عباسٍ ، وعلقمة ، وإبراهيم ، والنخعي : إتمام الحجِّ والعمرة : أن يتمَّهما بمناسكهما وحدودهما وسننهما .
وقال سعيدُ بن جبيرٍ ، وطاوس : تمام الحجِّ والعمرة : أن تحرم بهما مفردين مستأنفين من دويرية أهلك .
ويروى عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً .
وقال عليُّ بن أبي طالبٍ ، وابن مسعودٍ - رضي الله عنهما - : تمام الحجِّ والعمرة : أن تحرم بهما من دويرية أهلك . فإن فعلها في أشهر الحج ، ثم أقام حتى حجَّ؛ فهي متعة ، وعليه فيها الهدي إن وجده ، أو الصيام إن لم يجد الهدي ، وتمام الحج أن يأتي بمناسكه كلِّها بحيث لا يلزمه دمٌ ، بسبب قرنٍ ، ولا متعةٍ .
وقال الضحاك : إتمامها : أن تكون النفقة حلالاً ، وينتهي عما نهى الله عنه .
وقال سفيان الثوري : إتمامها : أن تخرج من أهلك لهما؛ لا لتجارةٍ ، ولا لحاجةٍ أخرى .
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الوفد كثيرٌ ، والحاجُ قليلٌ .
فصل في اختلافهم في وجوب العمرة
اتَّفقت الأُمَّة على وجوب الحج ، على من استطاع إليه سبيلاً ، واختلفوا في وجوب العمرة؛ فذهب أكثر العلماء إلى وجوبها؛ وهو قول عمر ، وعليّ ، وابن عمر ، ورواه عكرمة عن ابن عباسٍ ، قال : والله إنَّ العمرة لقرينة الحجِّ في كتاب الله تعالى : { وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ } وبه قال عطاءٌ ، وطاوس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة وسعيد بن جبير ، وإليه ذهب الثوريُّ ، وأحمد ، والشافعيُّ ، في أصحِّ قوليه .
وذهب قومٌ إلى أنها سُنَّةٌ ، وهو قول جابرٍن وبه قال الشعبيُّ ، وإليه ذهب مالكٌ ، وأبو حنيفة ، رضي الله عنهم أجميعن .
حجةُ القولٍ الأوَّلِ أدلةٌ منها : قوله تعالى : { وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ } والإتمام قد يراد به فعل الشيء كاملً تاماً؛ بدليل قوله سبحانه وتعالى : { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } [ البقرة : 124 ] أي : فعلهنَّ على التمام ، والكمال ، وقوله : { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل } [ البقرة : 187 ] ، أي : فافعلوا لاصيام تاماً إلى الليل .
فإن قيل يحتمل أن يكون المراد أنكم إذا شرعتم فيهما ، فأتموهما؛ لأنَّها تدلُّ على أصل الوجوب؛ لأنَّا إنما استفدنا الوجوب من قوله تعالى : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } [ آل عمران : 97 ] ، لا من هذه الآية ، وكذا قوله : { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل } [ البقرة : 187 ] إنَّما استفدنا وجوب الصوم من قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } [ البقرة : 183 ] لا من قوله : ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيَامَ إلى اللَّيْلِ « والحجُّ والعمرةُ يجب إتمامهما بالشروع فيهما ، سواءٌ أكانا فرضاً ، أو تطوُّعاً ، وتقول : الصوم خرج بدليلٍ ، أو تقول : وجب إتمامه بالشروع ، فيكون الأمر بالإتمام ، مشروطاً بالشروع فيهما .
فالجواب : أنَّ ما ذكرناه أولى؛ لأن على تقديركم يحتاج إلى إضمارٍ ، وعلى ما قلناه لا يحتاج إلى إضمار؛ فكان الاحتمال الذي ذكرناه أولى ، ويدلُّ عليه : أنَّ أهل التفسير ذكروا أنَّ هذه الآية أول آيةٍ نزلت في الحجِّ ، فحملها على إيجاب الحجِّ ، أولى من حملها على وجوب الإتمام بشرط الشُّروع .
وأيضاً يؤيّده ما ذكرناه من قراءة من قرأ » وأقِيمُوا الحَجَّ والْعُمْرَةَ لِلَّهِ « وإن كانت شاذَّةً ، لكنَّها تجري مجرى خبر الواحد .
فإن قيل : قراءة عليٍّ ، وابن مسعودٍ ، والشَّعبي : » والعُمْرَةُ لِلَّهِ « بالرفع يدلُ على أنهم قصدوا إفراد العمرة عن حكم الحجِّ ، في الوجوب؛ فالجواب من وجوه :
أحدها : أنها شاذَّةٌح فلا تعارض المتواترة .
فإن قيل : قد استدللتم أنتم بالشاذَّة أيضاً؟
قلنا : استدللنا بها حيث هي موافقةٌ؛ فتكون تقويةً للاستدلال ، لا أنها نفس الدَّلِيل ، واستدلالكم بالشاذَّة؛ نفس الدليل ، وهو معارضٌ بها؛ فتساقط الاستدلالان ، وسلمت المتواترة عن المعارض .
وثانيها : أن قوله : » وَالعُمْرَةَ لِلَّهِ « معناها : أنَّ العمرة عبادةٌ الله ، وذلك لا ينافي وجوبها .
وثالثها : أنَّ في هذه القراءة ضعفاً في العربية؛ لأنَّها تقتضي عطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية .
الدليل الثاني : قوله تعالى : { يَوْمَ الحج الأكبر } [ التوبة : 3 ] ، يدلُّ على وجود حجٌّ أصغر ، وهو العمرة بالاتفاق .
وإذا ثبت أن العمرة حجٌّ ، فتكون واجبةٌ؛ لقوله تعالى :
{ عَلَى الناس حِجُّ البيت } [ آل عمران : 97 ] .
الدليل الثالث : ما ورد في الصَّحيح : أنَّ جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام - سأل النبيَّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - عن الإسلام ، فقال : « أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وأَنَّ مُحمداً رَسُولُ اللَّهِ ، وأَنْ تٌقِيمَ الصَّلاَةَ ، وتُؤْتِي الزكاةَن وتَصُومَ رَمَضَانَ ، وَتَحُجَّ وَتَعْتَمِرَ »
وقوله - صلى الله عليه وسلم وشرَّف وكرَّم ومجَّد وبجلَّ وعظَّم - لأبي رزين ، لمَّا سأله ، فقال : إنَّ أبي شيخٌ كبيرٌ أدرك الإسلام ، ولا يستطيع الحجَّ والعمرة ، ولا الظَّعْنَة ، فقال عليه الصَّلاة والسَّلام : « حُجَّ عن أبِيكَ وَاعْتَمْرْ » وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - « إنَّ الحجَّ والعُمْرَةَ فَرِيضَتَانِ ، لا يَضُرُّكَ بأيهما بَدَأْت »
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَلْ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - « عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لاَ قِتَالَ فِيهِ : الحَجُّ وَالعُمْرَةُ »
وقال ابن عمر - رضي الله عنه - : ليس أحد من خلق الله إلاَّ وعليه حجةٌ وعمرة واجبتان إن استطاع إلى ذلك سبيلاً .
وقال الشافعيُّ - رضي الله عنه - : اعتمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم وشرَّف وكرَّم ومجَّد وبجَّل وعظَّم قبل الحجِّ ، ولو لم تكن العمرة واجبةً ، لكان الأشبه أن يبادر إلى الحجِّ الواجب .
القول الثالث : في قصة الأعرابِّي حين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أركان الإسلام ، فعلَّمه الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحجَّ ، فقال الأعرابيُّ : هل عليَّ غيرها؟ قال : « لا إلاَّ أن تطَّوع » ، فقال : والله لا أزيد على هذا ، ولا أنقض ، فقال عليه الصلاة والسلام : « أفلح إن صدق »
وقال عليه الصَّلاة والسَّلام : « بُنِيَ الإسلامُ عَلَى خَمْسٍ : شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ ، وحَجِّ الْبَيْتِ »
وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « صَلُّوا خَمْسَكُمْ ، وزَكُّوا أَمْوَالَكُمْ ، وَحُجُّا بَيْنَكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّة رَبِّكُمْ »
وعن محمد المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه سئل عن العمرة ، واجبةٌ هي أم لا؟ فقال : « لاَ ، وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ »
وعن معاوية الضَّرير ، عن أبي صالحٍ الحنفي عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم وشرَّف وكرَّم ومجَّد وبجَّل وعظَّم - قال : « الحَجُّ جِهَادٌ ، وَالعُمْرَةُ تَطَوَّعٌ »
والجوابُ من وجوهٍ :
أحدها : أن هذه أخبارُ آحادٍ؛ فلا تعارض القرآن .
وثانيها : أنَّ هذه الآية الكريمة نزلت في السَّنة السابعة من الهجرة ، فيحتمل أنَّ هذه الأحاديث حيث وردت ، لم تكن العمرة واجبةً ، ثم نزل بعدها : { وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ } ، وهذا هو الأقرب لما ذكرناه .
وثالثها : أن قصة الأعرابي ، والحديثين اللذين بعده ، ذكر فيهم الحجَّ ، وليس فيها بيان تفصيل الحج ، وقد بينَّا أن العمرة حجٌّ ، فلا تنافي وجوب العمرة ، وأمَّا حديث ابن المنكدر ، فرواه الحجاج بن أرطاة؛ وهو ضعيفٌ .
فصل
واتفقت الأمة على أنَّه يجوز أداء الحجِّ والعمرة على ثلاثة أوجهٍ : الإفراد ، والتمتع ، والقران .
فالإفراد : أن يُحرم بالحجِّ منفرداً ، ثم بعد الفراغ منه ، يعتمر من أدنى الحلِّ .
والتمتع : أن يعتمر في أشهر الحجِّ ، فإذا فرغ من العمرة ، يحرم بالحجِّ من مكة المشرقة في عامه .
والقران : أن يحرم بالحج والمرة معاً ، أو يحرم بالعمرة ، ثم يدخل عليها الحجَّ قبل أن يفتتح الطواف؛ فيصير قارناً ، ولو أحرم بالحج ، ثم أدخل عليه العمرة ، لم ينعقد غحرامه بالعمرة .
واختلفوا في أيِّ هذه الثَّلاثة أفضل؟ وتفاصيل هذه الأقوال مذكورةٌ في كتب الفقه .
قوله : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } [ البقرة : 196 ] قال أحمد بن يحيى : أصل الحصر ، والإحصار : المنع والحبس .
ومنه قيل للملك : الحصير؛ لأنه ممنوع من الناس .
قال لبيدٌ : [ الكامل ]
979 - . ... جِنٌّ لَدَى بَابِ الْحَصِيرِ قِيَامُ
وهل حُصِر وأُحْصِر بمعنى ، أو بينهما فرقٌ؟ خلافٌ . فقال الفراء ، والزجاج ، والشيباني؛ إنهما بمعنى ، يقالان في المرض ، والعدوِّ جميعاً؛ وأنشدوا على ذلك [ الطويل ]
980 - وَمَا هَجْرُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ تَبَاعَدَتْ ... عَلَيْكَ وَلاَ أَنْ أَحْصَرَتْكَ شُغُولُ
وهو قولٌ أبي عُبَيْدَة ، وابن السِّكِّيتِ ، وابن قتيبة . وفرقَّ بعضهم ، فقال الزمخشري ، وثعلبٌ : في فصيح الكلام : يقال : أُحْصِر فلانٌ : إذا منعه أمرٌ من خوفٍ ، أو مرض ، أو عجز؛ قال تعالى : { الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله } [ البقرة : 273 ] ، وحُصِر : إذا حبسه عدوٌّ ، أو سجنٌّ ، هذا هو الأكثر في كلامهم ، وهما بمعنى في كل شيءٍ ، مثل : صدَّه وأصدَّه ، وكذلك الفراء والشيباني ، ووافقه ابن عطية أيضاً؛ فإنه قال : والمشهورُ مِنَ اللُّغَةِ : أُحْصِر بالمرضِ ، وحُصِر بالعَدُوِّ . وعكس أبن فارسٍ في « مُجْمَلِه » ، فقال : « حُصِر بالمرضِ ، وأُحْصِر بالعَدُوّ » وقال ثعلب : « حُصِر في الحَبْسِ ، أَقْوى مِنْ أُحْصِر » ، ويقال : حَصِرَ صَدْرُه ، أي : ضاق؛ ورجلٌ حَصِرٌ : لاَ يُبُوحُ بسرِّه ، قال جرير في ذلك المعنى [ الطويل ]
981 - وَلَقَدْ تَكَنَّفَنِي الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا ... حَصِراً بِسِرِّكِ يَا أُمَيْمَ حَصُوراً
والحَصِيرُ : معروفٌ؛ لامتناعِ بعضه ببعض ، وانضمامُ بعضه غلى بعضٍ ، تشبيهاً باحتباس الشَّيء مع غيره ، والحصر : احتباس البول ، والغائط .
وقيل : إنَّ الحَصْرَ مختصٌّ بالمنع الحال من جهة العدوِّ؛ وهو مرويٌّ عن ابن عبَّاس ، وابن عمر ، وابن الزُّبير ، قالوا : لا حصر إلاَّ حصر العدوِّ ، وهو قول سعيد بن جبير ، وسعيد بن المسيِّب ، وإليه ذهب إسحاق ، وأحمد ، والشافعيُّ - رحمهم الله تعالى؛ وأكثر أهل اللغة يردُّون هذا القول .
وفائدة هذا الخلاف في أنَّه : هل يثبت للمحصر بالمرض ويغره من الموانع حكم المحصر بالعدوِّ؟
فقال الشافعيُّ : لا يثبت ، وقال غيره : يثبت ، والقائلون بأنه يثبت ، قال بعضهم : أنَّه ثابتٌ بالنصِّ ، وقال آخرون : بالقياس الجلي .
حجَّة القائلين بالثبوت : مذهب أهل اللغة؛ لأن أهل اللغة قائلان :
أحدهما : القائلون بأن الإحصار مختصٌّ بالحبس الحاصل بسبب المرض ، فتكون الآية الكريمة نصاً صريحاً فيه .
والثاني : القائلون بأن الإحصار المطلق الحبس ، سواءٌ كان مرضٌ أو عدوٌّ؛ فقال صلى الله عليه وسلم : « مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرجَ ، فَقَدْ حَلَّ ، وعليه الحَجُّ مِنْ قَابِل »
قال عكرمة : فسألتُ ابن عباسٍ ، وأبا هريرة - رضي الله عنهما - عن ذلك؛ فقالا : صَدَق . فدلَّ ظاهر الآية ، والحديث عليه أيضاً .
وعلى القول الثَّالث : فهو أنَّ الإحصار اسمٌ لمنع العدوِّ ، فنقول : هذا باطلٌ باتفاق أهل اللغة ، وبتقدير ثبوته ، يقيس المرض على العدوِّ بجامع دفع الحرج ، وهو قياسٌ جَلِيٌّ ظاهرٌ .
وأمّا بتقدير مذهب ابن عباس ، وابن عمر ، وابن الزبير ، فلا شكَّ أنَّ قولهم أقوى؛ لتقدمهم على هؤلاء الأدباء ، في معرفة اللغة ، ومعرفة تفسير القرآن . والحديث ضعيف ، ويمكن تأويله بأنَّه إنّما يحل بالكسر ، والعرج ، إذا كان مشروطاً في عقد الإحرام .
كما روي : أنَّ ضباعة بنت الزبير كانت وجعةً؛ فقال لها النبيُّ صلى الله عليه وسلم وشرَّف ، وكرَّم ، وبجَّل ، وعظَّم : « حِجّي واشْتَرِطي ، وَقُولي اللَّهُمَّ مَحَلِّي حَيْثُ حَبَسْتَني » ويؤكد هذا القول وجوهٌ :
أحدها : أنَّ الإحصار : إفعالٌ من الحصر ، والإفعال تارةً يجيء بمعنى التعدية ، نحو : ذهب زَيْدٌ ، وأذْهَبْتُه انا ، ويجيءُ بمعنى : صار ذا كذا؛ نحو : أَغَدَّ البعيرُ ، أي : صار ذا غُدَّةٍ ، وأجبر الرجل ، إذا صار ذا إبل جربى ، ويجيء بمعنى : وجدته بصفة كذا؛ نوحو : أَحْمدْتُ الرجل ، أي وجدته محموداً .
والغحصار لا يمكن أن يكون للتعدية؛ فوجب إمَّا حمله على الصيرورة ، أو على الوجدان ، والمعنى أنَّهم صاروا محصورين ووجدوا محصورين .
واتفق أهل اللُّغة على أنَّ المحصور هو الممنوع بالعدو ، لا بالمرض ، فوجب أن يكون معنى الإحصار : هو أنهم صاروا ممنوعين بالعدوِّ ، وذلك يؤكِّد ما قاله الشافعيُّ .
وثانيها : أنَّ الحصر عبارة عن المنع ، وإنما يقال للإنسان : أنَّه ممنوعٌ من فعله ، ومحبوسٌ عن مراده؛ غذا كان الغي هو فاعل ذلك المنع والحبس .
فالحصر : عبارة عن الكيفية الحاصلة عند اعتدال المزاج ، وسلامة الأعضاء ، وذلك مفقودٌ في حقّ المريض؛ لأنَّه غير قادر على الفعل ألبتة؛ فلا يحكم عليه بأنه ممنوع ، لأن إحالة الحكم على المانع تستدعي حصول المقتضي .
أمَّا إذا كان ممنوعاً بالعدو ، - فها هنا - القدرة حاصلة إلاَّ أنه تعذْر الفعل؛ لأجل مدافعة العدوِّن فصح ها هنا أن يقال : إنه ممنوعٌ من الفعل؛ فوجب أن يكون الإحصار حقيقة في العدو ، لا في المرض .
وثالثها : أن قوله : « أُحْصِرْتُمْ » أي : حبستم ومنعتم ، والحبس لا بدَّ له من حابسٍ ، والمنع لا بدَّ له من مانعٍ؛ لأنَّ الحبس ، والمنع فعلٌ ، وإضافة الفعل إلى المرض محالٌ عقلاً ، لأن المرض عرضٌ لا يبقى زمانين ، فكيف يكون فاعلاً ، وحابساً ، ومانعاً .
وأمَّا وصف العدوِّ بأنه حابسٌ ، ومانعٌ؛ فهو وصفٌ حقيقيٌّ ، وحمل الكلام على الحقيقة ، أولى من حمله على المجاز .
ورابعها : أنَّ الإحصار مشتقٌ من الحصر ، ولفظ الحصر لا إشعار فيه بالمرض؛ فوجب أن يكون خالياً عن المرض قياساً على جميع الألفاظ المشتقة .
وخامسها : أنَّه تعالى قال بعده : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ } فعطل عليه المرض ، فلو كان المحصر ، هو المرض ، أو من يكون المرض داخلاً فيه ، لكان عطفاً للشيء على نفسه .
فإن قيل : إنما خصَّ المريض بالذكر؛ لأنَّ له حكماً خاصاً ، وهو حلق الرأس ، فصار تقدير الآية الكريمة : إن منعتم بمرض ، تحللتم بدمٍ ، وإن تأذَّى رأسكم بمرض ، حلقتم ، وكفَّرتم .
قلنا : هذا وإن كان حسناً لهذا الغرض ، إلاَّ أنه مع ذلك يلزم منه عطف الشيء على نفسه ، وحمل المحصر على غير المريض يوجب خلوَّ الكلام عن هذا الاستدلال ، فكان أولى .
وسادسها : قوله تعالى : { فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج } ولفظ الأمن إنما يستعمل في الخوف من العدوِّ ، لا في المرض ، فإنَّه يقال في المرض : شُفِي ، وعُفِيَ ولا يقال أمِنَ .
فإن قيل : لا نسلِّم أنَّ لفظ الأمن لا يستعمل إلاَّ في الخوف ، فإنه يقال : أمن المرض من الهلاك ، وأيضاً خصوص آخر الآية لا يقدح في عموم أوَّلها .
قلنا : لفظ الأمن إذا كان مطلقاً غير مقيَّد ، فإنَّه لا يفيد إلاَّ الأمن من العدوِّ .
وقوله : خصوص آخر الآية الكريمة لا يقدح في عموم أوَّلها .
قلنا : بل يوجب؛ لأن قوله : { فَإِذَآ أَمِنتُمْ } ليس فيه بيان أنَّه حصل الأمن عن ماذا ، فلا بدَّ وأن يكون المراد حصول الأمن عن شيءٍ تقدَّم ذكره ، وليس إلاَّ الإحصار ، فكان التقدير : فإذا أمنتم من ذلك الإحصار .
وإذا ثبت أنَّ لفظ الأمن لا يطلق إلاَّ في العدوّ ، وجب أن يكون المراد من هذا الإحصار ، منع العدوِّ .
وسابعها : إجماع المفسرين على أن سبب نزول هذه الآية الكريمة ، أن الكفَّار أحصروا النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية ، واختلف العلماء في الآية النازلة في سببه؛ هل تتناول غير ذلك السبب؟ إلاّ أنهم اتفقوا على أنَّه لا يجوز أن يكون ذلك السبب خارجاً عنه ، فكان الإحصار في هذه الآية الكريمة عبارة عن العدوِّ ، وأمّا قياس منع المرض عليه ، فلا يمكن لوجهين :
الاول : أنَّ كلمة « إِنْ » شرطٌ ، وحكم الشرط انتفاء المشروط عند انتفائه ظاهراً ، فيقتضي ألاَّ يثبت الحكم إلاَّ في الإحصار الذي دلَّت الآية عليه ، فلو أثبتنا هذا الحكم في غيره قياساً ، كان ذلك نسخاً للنصِّ بالقياس ، وهو غير جائز .
الثاني : أنَّ الإحرام شرعٌ الزمٌن لا يحتمل النسخ قصداً؛ ألا ترى أنَّه لو جامع ، فسد حجُّه ولم يخرج من الإحرام؛ وكذا لو فاته الحجُّ حتى لزمه القضاء ، والمريض ليس كالعدوّ؛ لأن المريض لا يستفيد بتحلّله ورجوعه أمناً من مرضه ، وأمَّا المحصر بالعدو ، فإنّه خائفٌ من القتل إذا أقام ، فإذا رجع ، فقد أمن ، وتخلص من خوف القتل ، والله أعلم .
فصل
قال القرطبيُّ : « الحَاصِرُ لاَ يَخْلُوا مِنْ أَنْ يكونَ كَافِراً أَوْ مُسْلِمَاً ، فإن كان كافراً ، لم يَجُزْ قِتَالُه ، ولو وثق بالظهور عليه ، ويتحلل بموْضِعه؛ قوله تعالى : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام } [ البقرة : 191 ] ولو سأل الكافر جعلاً ، لم يجز؛ لأن ذلك وهن في الإسلام ، وإن كان مسلماً لم يجز قتاله بحال ، ووجب التحلل ، فإن طلب جعلاً ويتخلّى عن الطريق ، جاز دفعه ، ولم يجز القتال؛ لما فيه من إتلاف المهج ، وذلك لا يلزم في أداء العبادات ، فإنّ الدِّين أسمح ، وأمّا بذل الجعل ، فلما فيه من دفع أعظم الضَّررين بالأسهل منهما : ولأن الحجَّ ممَّا ينفق فيه المال ، فيعدُّ هذا من النَّفقة » .
فصل
العدوُّ الحاصر : لا يخلو إمّا أن يتيقَّن بقاؤه ، واستيطانه ، لقوته وكثرته ، أولا ، فإن كان الأول ، حلَّ المحصر مكانه من ساعته ، وإن كان الثاني ، فهو مما يرجى زواله ، فهذا لا يكون محصوراً؛ حتى يبقى بينه وبين الحج مقدار ما يعلم أنَّه إن زال العدو ، لا يدرك الحج؛ فيحلّ حينئذٍ .
وقال أشهب : من حصر عن الحج بعدو ، فلا يقطع التَّلبية ، حتى يروح الناس إلى عرفة .
فصل في الإحصار
الإحصار : إنما يكون عن البيت ، أو عن عرفة . فأمَّا عن الواجبات التي تجبر بالدم كالرَّمي والمبيت بمزدلفة ، ، ونحوها ، فلا إحصار فيها؛ لأن المحرم يتمكن من إتمام حجَّه بجبرها بالدَّم ، وإذا إحصر عن طريق ، وله طريق غيرها ، يتمكَّن في الوصل إلى مكَّة ، ويدرك الحجَّ من غير زيادةٍ في النفقة ، أو ميرة لا تجحف بهن فليس بمحصر ، إذا كانت تلك الطُّرق أمناً ، [ فإن لم تكن أمناً ] ، أو كانت زيادة النَّفقة تجحف بماله . فهو محصر
فصل في قضاء المحصر
إذا أُحصر ، فلا قضاء عليه بالإحصار؛ لأنه إن كان محرماً بحجّ الفرض ، أو النَّذر ، وكان ذلك في العام الذي وجب عليه الحجُّ فيه ، لم يجب القضاء؛ لأن شروط وجوب الحجِّ لم تكمل؛ لوجود الإحصار ، وإن كان ذلك في العام الثاني : وجب عليه الحجُّ للوجوب السَّابق ، لا للإحصار؛ وإن كان الحجُّ تطوُّعا ، فلا قضاء؛ لأنَّه لم يجب عليه ابتداءً .
قوله : { فَمَا استيسر } ، « مَا » موصولة ، بمعنى : الذي ، ويضعف جعلها نكرة موصوفة ، وفيها ثلاثة أقوال :
أحدها : أنَّها في محل نصب ، أي : فليُهدِ ، أو فلينحر ، وهذا مذهب ثعلب .
والثاني : ويعزى للأخفش : أنه مبتدأ والخبر محذوف تقديره : فعليه ما استيسر .
والثالث : أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : فالواجب ما استيسر ، واستيسر هنا بمعنى يسر المجرّد كصعب ، واستصعب ، وغني واستغنى ، ويجوز أن يكون بمعنى : تفعَّل نحو : تَكَبَّر واسْتَكْبَرَ ، وتعظَّم واسْتَعْظَمَ ، وقد تقدَّم ذلك .
قوله : « مِنَ الهَدْي » فيه وجهان :
أحدهما : أن تكون « مِنْ » تبعيضية ، ويكون محلها النَّصب على الحال من الضَّمير المستتر في « اسْتَيْسَر » العائد على « مَا » ، أي : حال كونه بعض الهدي .
والثاني : أن تكون « مِنْ » لبيان الجنس ، فتتعلق بمحذوف أيضا .
وَفي الهَدْي قولان :
أحدهما : أنه . جَمْعَ هَدْيَةَ كَجَدْي جمع جَدْيَةِ السَّرْج .
والثاني : أن يكُون مصدراً واقعاً موقع المَفْعُول ، أي : المُهْدَى ، ولذلك يقعُ للأفرادِ والجَمْعِ . قال أبو عَمْر بنُ العلاء : لا أعْرف لهذه اللَّفْظَةِ نَظِيراً .
وقرأ مُجاهد والزُّهريُّ : « الهَديُّ » بتشديد اليَاء ، وفيها وجهان :
أحدهما : أن يَكُون جمع هَدِيَّة كمطيَّة ومطايا وركيَّة ورَكايا .
قال أحمدُ بنُ يحيى : أهلُ الحِجَاز يُخَفِفُون « الهَدْي » ، وتميم يثقِّلُونَهُ؛ قال الشَّاعر : [ الوافر ]
982 - حَلَفْتُ بِرَبِّ مَكَّةَ وَالْمُصَلَّى ... وَأَعْنَاقِ الهَدِيِّ مُقَلَّدَاتِ
وَيُقالُ في جمع الهَدْي : « أَهْدَاءُ » .
والثاني : أنْ يكون فعيلاً بمعنى مَفْعُولٍ ، نحو : قتيلٍ بمعنى : مَقْتُول .
فصل
قال القَفَّال : في الآية الكريمة إِضْمَارٌ ، والتَّقدير : فَتَحَلَّلْتُم فما استيسر ، وهو كقوله { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ } [ البقرة : 184 ] أي : فَأَفْطَرَ فِعِدَّة ، وفيها إضمارٌ آخر ، هو ما تَقَدَّم ، أي : فَلْيَهْدِ أو فلينحر ما اسْتَيْسَرَ ، فالواجِبُ ما استيسر ، ومعنى الهَدي : ما يهدى إلى بيت الله ، عزَّ وجلَّ ، تقرباً إليه بمنزلة الهَديَّة .
قال عليٌّ وابنُ عباس - رضي الله عنهما - والحسنُ وقتادة : أعلاه بدنه ، وأوسطه بقرةٌ ، وأخسه شاةٌ ، فعليه ما تيسر من هذه الأجناس .
فصل
إذا عدم المُحْصَرَ الهَدْي ، هل ينتقل إلى البَدَل؟ فيه خلافٌ قال أبو حنيفة : لا بَدَلَ لَهُ ، ويكونُ الهَدْيُ في ذمِته أبداً؛ لأنه تعالى أوجَبَ على المحصرِ الهَدْيَ على التَّعْيين ، ولم يثبت له بَدَلاً .
وقال أحمدُ : له بدلٌ؛ فعلى الأوَّل : هل له أنْ يَتَحلَّلَ في الحالِ ، أو يقيم على إحرامه؟
فقال أبو حنيفة : يقيمُ على إحرامه؛ حتى يجدهُ للآية .
وقال غيرهُ : له أَنْ يَتَحلَّل في الحال للمشقَّة ، وهؤلاء قالُوا يقوِّم الهدي بالدَّرَاهِمِ ، ويشتري بها طعاماً ، ويُؤدِّي؛ لأنَّهُ أقربُ إلى الهَدْي ، وفيه اختلافاتٌ كثيرةٌ ، ثم المُحْصَرُ إِنْ كانَ إجرامه بفرضٍ ، قد استقرَّ عليه ، فذلك الفَرْضُ في ذِمَّتِه ، وإن كان حَجّ تَطَوُّعٍ ، هل عليه القَضَاءُ؟! فيه خلاف : فذهب جماعةٌ إلى أَّنَّه لا قَضَاء عليه ، وهو قَوْلُ مالكٍ ، والشَّافعي ، وقال مجاهدٌ والشَّعبي والنَّخعيُّ ، وأصحابُ الرَّأي : عليه القَضَاءُ .
قال القُرطبيُّ : قال مالكٌ وأصحابُهُ : لا يَمْنَعُ المُحرم الاشتراطُ في الحَجِّ ، إذا خاف الحَصْر بمرضٍ ، أو عَدُوٍّ ، وهو قول الثَّورِيِّ ، وأبي حنيفة ، وأصحابه - رحمه الله - والاشتراط أنْ يَقُولَ في إحرامه ، إنْ حَبَسَنِي حابِسٌ فمحَلِّي حيثُ حَبَسَني .
وقال أَحمدُ وإسحاقُ وأبو ثور لا بأس أنْ يَشْتَرِطَ ، وله شَرْطُهُ ، وهو قولُ جماعةً من الصَّحَابة والتابعين ، واحتجُّوا بقوله عليه السَّلام لِضُباعَة حين سألتهُ عن كيفيَّة الإحرام فقال :
« قُولِي : محلِّي حَيْث حَبَسْتَنِي »
فصل
اختلَفُوا في العُمْرة ، فأكثر الفُقَهاءِ قالوا : حُكْمُهَا في الإحْصار كَحُكُم الحَجِّ ، وعن ابن سيرين أَنَّهُ لا إحصار فيها؛ لأَنَّهَا غير مؤقّتة ، ويرده قوله تعالى : { فإِنْ أُحْصِرْتُمْ } عَقِيبَ ذكر الحَجِّ والعُمْرَةِ ، فيكونُ عَائِداً إليهما .
فصل
إذا أراد المحصر التحلّل وذبح ، وجب أن يَنْوِيَ التَّحلل عند الذَّبْحِ ، ولا يَتَحَلَّل أَلْبَتَّةَ قبل الذَّبْحِ .
قوله : { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ } في الآية حَذْفٌ؛ لأنَّ الرَّجُلَ لا يَتَحَلَّلُ ببلوغ الهَدْي مَحِلَّه ، حتى يَنْحَر؛ فتقدير الآية الكريمة : حتَّى يَبْلُغَ الهَدْي مَحِلَّه ، فينحر فإذا نَحَرض فاحلقوا و « مَحِلَّه » يجوز أَنْ يكونَ ظرفَ مَكَانٍ ، أو زمانٍ ، ولم يُقْرأ إلاَّ بِكَسر الحاءِ فيما علمنا إلاَّ أّنَّهُ يَجُوزُ لغةً فتحُ حائِه ، إذا كانَ مكاناً . وفَرَّق الكسائيّ بينهما ، فقال : « المَكْسُورُ هو الإحْلاَلُ من الإحْرَامِ ، والمفتوحُ هو مَكَانُ الحُلُولِ من الإِحصار » .
فصل
قال أبو حنيفة : لا يَجُوزُ إِراقَهُ دم الإحصار إلاَّ في الحرم وقال أحمدُ والشَّافعيُّ - رحمهما اللَّهُ - حيث حبس والخلافُ مبنيٌّ على البَحْثِ في المَحَلِّ؛ فقال أبو حنيفة : هو اسمٌ للمكان . وقال غيره : هو اسمٌ للزَّمانِ الذي حصل فيه الحل . وحجّتهم وجوه .
منها : أنَّه - عليه السَّلامُ - أحصر بالحُديبيةِ ونحر فيها ، وليست من الحَرَمِ .
قال أصحابُ أبى حنيفة : إِنَّما أحصر فى طرف الحثدَيبية ، الّذى أسفل مَكَّةَ ، وهو من الحَرَمِ .
قال الوَاقِدِيُّ : الحديبيةُ على طرف مكَّةَ على تِسْعَةِ أَمْيِالِ من مكَّةَ .
قال القَفَّال - رحمه الله - : الدَّليل على [ أنَّ نحر ذلك الهدي ما وقع فى الحرم قوله تعالى : { هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } [ الفتح : 25 ] .
ومنها : أَّنَّ المحصَر سواء كان فى المحلّ ، أو الحرم ، فهو مأمورٌ بنحر الهدي بقوله : { فَمَا استيسر مِنَ الهدي } ، فأوجب على المُحْصَرِ ، سواء كان فى الحلّ أو الحرمِ ، وإذا ثَبَتَ ذلك؛ وَجَبَ أن يجوز له الذَّبحُ ، حيث كَانَ قادراً على إراقة الدَّمِ .
ومنها : أنَّه تعالى إنَّما مكن المحصر من التَّحلل بالذَّبح؛ ليتمكن من تخليص نفسه فى الحال عند خَوْفِ العدوِّ ، فلم يَجُزِ النَّحْرُ إلاَّ فى الحرم وَمَا لم يحصلُ النَّحر لا يحصل له التَّحلل فى الحالِ ، وذلك يُنَاقِضُ المَقْصُودَ من مشروعيّة هذا الحكم؛ لأن الموصل ، للنَّحر إلى الحرم ، إن كان هو فالْخَوْفُ ، باقٍ ، وكيفَ يؤمر بهذا الفعل مع قيام الخَوْفِ ، وإن كَانَ غيره ، فقد لا يَجِدُ ذلك الغَيْرَ ، فماذا يفعل؟ حجَّةُ أبى حنيفة وجوه :
الأَوَّل : أَنَّ المحِلَّ - بكسر الحاء - عبارة عن المكان كالمسجدِ والمَجْلِس ، فقوله { حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ } يَدُلُّ على أَنَّهُ غير بالغٍ فى الحَالِ إلى مكان الحِلِّ ، وهو عندكم بَالِغٌ مَحَلَّهُ فى الحال .
وجوابه : أنَّ المحلَّ عبارة عن الزَّمان كمحل الدّين .
الثَّاني : أن لفظ « المَحِلّ » يحتمل الزَّمانَ والمَكَانَ إلاَّ أن الله - تعالى - أَزَلَ هذا الاحتمال بقوله : { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق } [ الحج : 23 ] .
وجوابه بأَنَّ كُلَّ ما وجب على المحرم فى ماله من بَدنَةٍ ، وجزاء هَدْي ، فَلاَ يُجْزِي إلاَّ فى الحَرَمِ لمساكين أهْلِهِ إلاَّ فى مَوْضعَين :
أحدهما : مَنْ سَاقَ هَدْياً ، فعطب فى طريقه ذبحه ، وخلَّى بين المَسَاكِين وَبَيْنَه .
والثَّاني : دم المُحْصَرِ بالعَدُوِّ فينحر حيثُ حبس ، فالأَدِلَّةُ المذكورةُ فى باقي الدّماءِ فلم قلتم إِنَّها تَتَنَاوَلُ هذه الصَّورَةَ؟
الثَّالث : قالوا إِنَّما سُمِّيَ هَدْياً؛ لأنه جارٍ مَجْرَى الهَدِيَّةِ التى يَبْعَثُهَا العَبْدُ إلى رَبِّهِ والهديّةُ لا تكونُ هَدِيَّةً إلاَّ إذا بَعَثَها المهَدي إلى دَارِ المهدى إليه ، وهذا المعنى لا يُتَصَّورُ إلاَّ بجعلِ موضعِ الهَدْي هو الحَرَمُ .
وجوابه : هذا تَمَسُّكٌ بالاسم ، ثم هُوَ مَحْمُولٌ على الأصلِ عند القُدْرَة .
الرابع : أَنَّ سَائِر دماء الحَجّ سواء كانت قربة ، أو كَفَّارة ، لا تَصِحُ إلاَّ فى الحرم ، فكذا هذا .
وجوابُهُ أنَّ هذا الدَّم إِنَّما وَجَبَ لإزالة الخَوْفِ ، وزوال الخوف إِنْما يَحْصُلُ إذا قدر عليه حَيْثُ أُحصر ، فلو وَجَبَ إِرْسَالَه إلى الحرم ، لم يحصل هذا المَقْصُود ، وهذا المَعْنَى غير موجود فى سائِرِ الدِّمَاءِ ، فَظَهَر الفَرْقُ .
والقَائِلُونَ بأَنَّ مَحلَّه الحَرَم قالوا : إن كان المُحْصَر حَاجّاً ، فمحله يوم النَّحْرِ ، وإِنْ كَانَ معتمراً ، فمحله يَوم يبلغ هديه الحرم .
قوله { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً } [ البقرة : 196 ] .
فى « مِنْكُمْ » وجهان :
أحدهُما : أن يَكُونَ فى مَحَلِّ نَصْبٍ على الحال من « مَرِيضاً » ؛ لأنه فى الأصل صفةٌ لهن فلمَّا قُدِّم عليه انتَصَبَ حالاً . وتَكُونَ « مِنْ » تبعيضيةٌ ، أي : فَمَنْ كانَ مريضاً منكم .
والثَّاني : أجازه أبو البقاء أن يكونَ متعلِّقاً بمريضاً .
قال أبو حيان : « وهو لا يَكَادُ يُعْقَلُ » . و « مَنْ » يَجُوزُ أنْ تكونَ شرطيةً ، وأَنْ تكونَ موصولةً .
قوله : { أَوْ بِهِ أَذًى } يجوزُ أَنْ يكُونَ هذا مِنْ بابِ عَطْفِ المُفْرَدَاتِ ، وأن يَكُونَ من باب عَطْفِ الجُمَلِ . أما الأولُ ، فيكونُ الجَارُّ وَالمجرورُ فى قوله : « به » معطوفاً على « مريضاً » الّذي هو خبرُ كانَن فَيَكُونُ فى مَحَلِّ نَصْبٍ . ويكونُ « أذىً » مرفوعاً به على سبيل الفَاعِلِيِّة؛ لأَنَّ إِذَا اعْتمد رَفَع الفاعل عند الكُلَ فيصيرُ التقديرُ : فَمَنْ كان كائناً به أَذىً من رَأْسِهِ . وأما الثاَّاني فَيَكُونُ « به » خبراً مقدَّماً ، ومحلُّه على هذا رَفْعٌ ، وفى الوجهِ الأَوَّلِ كان نصباً ، و « أذىً » مبتدأٌ مؤخَّر ، وَتَكُونُ هذه فى مَحَلِّ نَصْبٍ؛ لأنَّها عَطفٌ على « مَريضاً » الواقع خبراً لكَان ، فهى وإنْ كانَتْ جُمْلَةً لفظاً ، فهي فى مَحَلِّ مُفْرَدٍ؛ إذ المَعْطُوفُ على المَفْرَدِ مفردٌ ، لا يُقَالُ : إنه عَادَ إلى عَطْفٍ المُفْرَدَاتِ ، فيتَّحِدُ الوجهانِ لوضوحِ الفَرق .
وأجازوا أن يَكُونَ « أَذىً » مَعْطُوفاً على إِضْمارِ « كان » لدلالةِ « كانَ » الأولى عليها ، وفى اسْمِ « كَانَ » المَحْذُوفَةِ حينئذٍ احْتِمَالانَ .
أحدهما : أن يَكُونَ ضميرَ « مَنْ » المتقدِّمَةِ ، فيَكُونُ « به » خبراً مقدماً ، و « أذى » مبتدأ مؤخراً ، والجُمْلَةُ فى مَحَلِّ نَصْبٍ خبراً لكان المضمرةِ .
والثَّاني : أن يكونَ « أَذىً » اسمها و « به » خبرَها ، قُدِّم على اسمها .
وأجَازَ أَبُوا البَقَاءِ أن يَكُونَ « أَوْ بِهِ أَذَىً » معطوفاً على « كَانَ » ، وأَعْرَب « به » خبراً مقدّماً متعلِّقاً بالاستقرار ، و « أَذىً » مبتدأ مُوَخَراً ، والهاءُ فى « بِهِ » عائدةٌ على « مَنْ » . وخَطَّأَهُ أبو حيان فيه ، قال : لأَنَّهُ كَانَ قد قَدَّمَ أن « مَنْ » شَرْطيةٌ ، وعلى هذا التَّقْدِيرِ يَكُونُ خطأن لأَنَّ المَعْطُوف على جُمْلةِ الشَّرْطِ شَرْطٌ ، والجُمْلَةُ الشَّرْطيةُ لا تَكُونُ إلا فِعْلِيَّةً ، وهذه كما ترى جملةٌ اسْميّةٌ على ما قَرَّرَهُ . فَكَيْفَ تَكُونُ معطوفة على جملةٍ الشَّرطِ التِي يَجِبُ أن تكونَ فعليةً؟ فإنْ قيل : فإذا جَعَلْنَا « مَنْ » موصولةٌ ، فهل يَصِحُّ ما قاله من كَوْنِ « بِهِ أَذىً » معطوفاً على « كَانَ » ؟ فالجَوَابُ أنه لا يَصِحُّ أيضاً؛ لأنَّ « مَنْ » الموصولةَ إذا ضُمِّنَتْ معنى اسْم الشَّرْطِ لزِمَ أن تكونَ صلتُها جُمْلَةً فِعْليةً ، أو ما هي فى قُوَّتِهَا ، وَالبَاءُ فى « به » يجوزُ فيها وجهَان .
أحدُهما : أن تَكُونَ للإلصاق .
والثاني : ان تكونَ ظرفيةً .
والأذى مَصدر بمعنى الإيذاءِ ، وهو الأَلَمُ يُقالُ آذاه يُؤْذِيه إيذَاءً وأذى ، فكان الأَذَى مصدر على حذف الزَّوائد ، أو اسم مصدر كالعَطَاءِ اسم للإِعْطاءِ ، والنَّبَاتِ للإِنْبَاتِ . قال ابنُ عَبَّاسِ - رضي اللَّهُ عنهما « فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رأْسِهِ » أي برأسه قروح ، { أَوْ بِهِ أَذًى } ، أي : قَمْلٌ « .
قولُهُ : » مِنْ رَأْسِهِ « فى وجهان .
أحدهما : أنَّه فى مَحَلِّ رَفْع؛ لأنَّهُ صِفَةٌ لأَذَى ، أي : أذى كَائنٌ من رَأْسِهِ .
واثَّاني : أَنْ يَتَعَلَّق بما يَتَعلَّقُ » بِهِ « من الاستقرارِ ، وعلى كلا التَّقْدِيرَين تكُونُ » مِنْ « لابتداءِ الغَايَةِ .
قوله : » فَفِدْيَةٌ « فى رفعها ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدُها : أن تكُونُ مُبْتَدَأً والخبرُ مَحْذُوفٌ ، أي : فعليه فِدْيَةٌ .
والثَّاني : أن تَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدأ محذوف ، أي : فالواجبُ عليه فِدْيَةٌ .
والثَّالث : أن تكُونَ فاعل فعلٍ مقدَّر ، أي فَتَجِبُ عليه فديةٌ . وقُرئ شَاذَاً : » فَفِدْيَةً « نصباً ، وهي على إضْمَار فعل ، أي : فَلْيَفْدِ فديةً . و » مِنْ صِيَام « فى مَحَلِّ رفعٍ ، أو نَصْبٍ على حسب القِرَاءَتَيْن صفةً ل » فِدْيَة « ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، و » أو « للتَّخيير ، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ فعلٍ قبلَ الفَاءِ تقديرهُ : فَحَلَقَ فَفِدْيَة .
وقرأ الحَسَنُ والزُّهريُّ « نُسْك » بسكون السِّينِ ، وهو تخفيفُ المضموم . وفى النَّسُك قولان .
أحدهما : أَنَّهُ مَصْدَرٌ يُقَالُ : نَسَكَ ينسُك نُسْكاً ونُسُكاً بالضَّمِّ والإِسكان ، كما قرأهُ الحَسَنُ .
والثَّاني : أنه جَمْعُ نَسِيكة ، قال ابنُ الأَعْرَابيّ : « النَّسيكَةُ فى الأَصْلِ سَبيكة الفِضَّةِ ، وتُسَمَى العبادةُ بها؛ لأَنَّ العِبَادَة مُشْبهةٌ سبيكة الفِضَّة فى صَفَائِهَا وخُلوصِها من الآثام ويُقَالُ للمتعبد » نَاسِكٌ « ، لأَنَّهُ يُخلص نفسه من الآثام وصغارِها كالسَّبِيكةِ المخلَصة من الخَبَثِ وقيل للذَّبيحة » نَسيكة « لذلك لأنها أشرف العبادات التى يُتَقرَّبُ بها إلى اللَّهِ تعالى .
فصل في سبب نزول الآية
قال ابنُ عبَّاس : نزلت هذه الآية الكريمة فى كَعْب بنِ عجزة ، » قال كعبٌ : مَرّبي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحُدَيْبَةِ ، وكان شعر رأسي كثير القَمْلِ والصَّئبان ، وهو يتناثرُ وَأنَا أطيح ، فرآني فَقَال - عليه السَّلامُ - : « أَتُؤْذِيك هَوَامٌّ رَأْسِكَ » قُلْتُ : نعم يا رَسُول اللَّهِ ، قال : « احْلِقْ رَأْسَكَ » ، فأنزل اللَّهُ تعالى هذه الآية الكريمة .
والمقصود منها أَنَّ المحرم إِذَا تَأَذَّى بالمرض ، أو بهوامّ رأسه؛ أُبيح له المُدَاوَةُ في الحَلْقِ بِشَرْطِ الفِدْيَةِ ، وهو على التَّخْيير بينَ أن يذبح ، أو يَصُومَ ، أو يَتَصَدَّق ، فَأَقَلّ النُّسُكِ شَاةٌ ، وَأَوْسَطُهُ بَقَرَةٌ ، وأعلاه بَدَنَةٌ . وأمَّا الصِّيامُ ، فليس فى الآية كمِّيته ، وفيه قولان :
أحدهما : أنَّه ثَلاَثَةُ أَيَّام؛ لما رَوَى أَبو دَاودَ أنَّه - عليه السَّلامُ - « لمّا مرَّ بكعب بنِ عجْرة ، وَرَأَى كثرةَ هَوَامّ رَأْسِهِ ، فَقَالَ لَهُ : احْلِقْ ، ثُمَّ اذْبَحْ شَاةٌ نُسُكاً ، أَو صُم ثَلاَثَةَ أَيَّامِ أَوِ أَطْعِم ثَلاَثَة آصعِ مِنْ تَمْرٍ على سِتَّة مساكِينَ »
والثَّاني : قال ابنُ عبّاس - رضي الله عنهما - والحَسَنُ : الصِّيام كصيام المتمع عَشْرَة أَيَّامٍ ، والإطعام مِثْلُ ذلك فى العَدَدِ؛ لأَنَّ الصِّيَامَ والإطعام لمّا كان مُجْمَلَيْنِ فى هَذَا المَوْضِعِ؛ وَجب حَمْلُهُ على المبيَّنِ فيما جاء بعد ذلك ، وهو الَّذي يلزمُ المتمتِّعَ إذا لم يجد الهدي .
فصل
اختلفوا : هَلْ يقدّم الفدية ثمّ يترخّص ، أو يُؤَخِّر الفدِية عن الترخّص ، والّضي يقتضيه ظاهر الآية الكريمة؛ أنَّهُ يؤخر الفِدْيَةَ عن الترخص ، لأن الإقْدَامَ على التّرخص كالعِلَّة فى وُجُوبِ الفِدْيَة ، فكان مُقَدَّماً عليه ، وأيضاً فقد بينَّا أنَّ تقدير الآية الكريمة : فَحَلَقَ فعليه فِدْيةٌ .
فصل
قال بَعْضُهُم هذه الآية الكريمة مختصّة بالحَصْرِ؛ وذلك إِنْ قيل أي بلوغ الهَدْي محلَّه ، ربما لحقه مرض ، وأذى فى رأْسِهِ ، فأذن الله تعالى له فى إِزَالَة ذلك المُؤْذِي بشرط أن يَفْدِي .
وقال آخرون : بل الكَلاَمُ مستأنفٌ فى كُلِّ محرم لحقه مرض ، أو أذى فى رَأْسِهِ ، فاحْتَاج إلى العلاج والحلق ، فبيَّن اللَّهُ تعالى أّنَّ لهُ ذلك ، وبين ما يجبُ عليه من الفِدْية ، وقد يَكُونُ المَرَضُ محوجاً إلى اللِّبَاسِ ، من شدَّة البَرْدِ أو غيره ، وقد يحتاج فى الأَمْرَاضِ إلى استِعْمَالِ الطّيب كثيراً ، وبالجملة فهذا الحُكمُ عامٌّ فى جميع مَحظورات الإِحْرامِ .
فصل
فَأَمّا من حق رأسه عامِداً من غير عُذْرٍ ، فقال أبو حنيفة والشَّافعيُّ يجب عليه الدَّمُ .
وقال مالكٌ : حكمه حكم من فعل ذلك بعذر؛ لأَنَّ وجوبه على المَعْذُور تنبيه على وجوبه على غير المَعْذُورِ .
وقال ابنُ الخطيب : هذا ضَعيفٌ؛ لأَنَّ قوله : « فَمَنْ كَانَ منْكُمْ مَريضاً أَوْ بِهِ أَذَى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ » يدل على اشْتِراط هذا الحُكْم بهذه الأَعذارِ ، والمَشْرُوط بالشيء عدم عند عدم الشَّرْط .
قوله : « » الفاءُ عَاطفةٌ على ما تَقَدَّم ، و « إِذَا » مَنْصُوبَةٌ بالاستقرار المحذوفِ؛ لأنَّ التَّقْدِير : فعليه ما اسْتَيْسَرَ ، أي : فاستقرَّ عليه ما اسْتَيْسَرَ « .
وقوله : » فَمَنْ تَمَتَّعَ « الفاءُ جوابُ الشَّرْطِ بإذا ، والفَاءُ فى قوله : { فَمَا استيسر } جوابُ الشَّرط والثاني . ولا نَعْلَمُ خلافاً أَنَّهُ يَقَعُ الشَّرْطكُ وجوابُهُ جواباً لشرطٍ آخرَ مع الفاءِ . وقد تَقَدَّم الكَلاَمُ على { فَمَا اسْتَيْسَرَ } .
فصل
تقدير الكَلاَمِ ، فإذا أمنتم الإحصار الخَوْفِ أو المرض ، { فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج } واختلفوا فى هذه المُتْعَةِ : فقال عَبدُ اللَّهِ بنُ الزُّبير : معناه فمن أُحْصِرَ حَتّى فَاتَهُ الحَجُّ ، ولم يَتَحَلَّل ، فَقَدِمَّ مَكَّةَ ، فخرج من إِحرامهِ بعَمَلِ عُمرة ، أَو اسْتَمْتَعَ بإِحْلاَلِهِ ذلك بتلك العمرة إلى السَّنَةِ المقبلة ، ثم حَجَّ فيَكُونُ متمتعاً بذلك الإحلال إلى إِحْرَامِهِ الثَّانِي فى العَام القَابِلِ ، وقيل معناه : فإذا أمنتم ، وقد حَلَلْتُم من إحرامِكُم بعد الإحصارِ ، ولم تقضوا عمرتكم ، وأخرتم العُمرَةَ إلى السَّنَةِ القَابِلة ، فاعْتَمَرتُم فى ما اسْتَيْسَرَ من الهَدْي ، وهو قول علْقَمَة ، وإبراهيم النَّخعيِّ ، وسعيد بن جبير .
ومعنى التَّمَتُّع : التَّلَذُّذ ، يقالُ تمتَّعَ بالشَّيءِ ، أي : تَلَذَّذَ به ، والمتاع : كُلُّ شَيءٍ يُتمتع به ، وأصلُهُ من قولهم : » حَبْلٌ ماتِعٌ « أي : طويلٌ ، وكل ما طالت صحبته بالشَّيء ، فهو مُتَمتِّعٌ به ، والتمتع بالعمرة إلى الحَجّ هو أن يَقدُم مكَّة مُعْتمِراً فى أشهرِ الحجِّ وينزع منها ، ثم يقيمُ بمكَّةَ حلالاً ، حتَّى يُنشىء منها الحَجَّ من عَامِهِ ذلك ، وإنَّما سُمِّي متمتعاً لأنَّهُ يكُونُ مستمتعاً بمحظورات الحج فيما بين تحلله من العمرة إلى إحرامِهِ بالحَجِّ ، وهذا التمتع الَّذي ليس بمكروهٍ ، بل هو الأفضلُ عند أحمد ، وإتمامِ التَّمتُّع المكروه ، وهو الَّذي خطب به عمر - رضي الله عنه - وقال : » مُتْعَتَانِ كَانَتَا على عهد رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أنهى عنهما ، وأُعاقِبُ عليهما ، مُتْعَةُ النِّسَاءِ ، ومتعة الحَجِّ « ، والمراد بهذه المتعة أن يجمع بين الإحرامين ، ثُمَّ يفسخ الحجَّ إلى العمرة ، ويتمتَّعُ بها إلى الحَجِّ ، روي أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَذن لأصحابه فى ذلك ثُمَّ نسخ .
روي عن أبي ذَرِّ أنَّه قال : ما كانت متعة الحج إلاّ لي خاصة ، وكان السَّبَبُ فيه أنَّهم كانُوا لا يَرَونَ العُمرةَ فى أشهر الحَجِّ ، ويعدُّونَهَا مِنْ أَفْجَرِ الفجُور ، فلما أراد - عليه السَّلام - إبطال ذلك الاعتقاد عليهم بالغ فيه ، بأنْ نقلهم فى أشهرِ الحَجِّ من الحَجِّ إلى العُمرَةِ ، وهذا سَبَبٌ لا يشاركهم فيه غيرهم ، فلهذا المعنى كان فسخ الحَجِّ خاصّاً بهم .
قال القُرطبيُّ : وزعَمَ مَنْ صَحَّحَ نَهي عُمر عن التَّمَتُّعِ : أنّما نهى لينتجع إلى البيت مرَّتَيْنِ أو أكثر فى العام حتى يُكْثر عمارته بكثرة الزِّيارة فى غير المَوْسِمِ ، وأراد إدخال الرّفق على أهل الحَرَمِ بدخول النَّاس ، تحقيقاً لِدَعوة إبراهيم - عليه السَّلامُ - { فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ } [ إبراهيم : 37 ] .
وقيل : إنَّما نهى عنهما؛ لأَنَّهُ رأى النَّاسَ مالوا إلى التَّمتُّع ليسارته ، وخفِّتِهِ؛ فخشي أن يضيع الإفراد والقران ، وهما مسنُونانِ .
فصل
التَّمتُّع لا يحصُلُ إلاَّ بمحظورات الإحرامِ لكِنَّهُ لما كان بسبب إتيانِهِ بالعُمْرَة سَمَّاهُ تمتعاً بالعُمرة إلى الحَجِّ . ؟
فصل في شروط وجوب دم التَمتُّع
يشترط لوجوب دم التَّمَتُّع خمسة شروطٍ :
أحدها : أن يُقَدم العُمرة على الحَجِّ .
والثاني : أن يُحرم بالعُمرة في أشهر الحَجِّ ، فلو أحرمَ لها قبل أشهر الحَجِّ ، وأتى بشيء من الطَّوَافِ ، ولو شوطاً واحِداً ، ثم أكمل بقيه في أشهر الحَجِّ فى هذه السَّنة ، لم يلزمه الدَّمُ؛ لأنَّهُ لم يجمع بينَ النُّسُكَيْنِ فى أشهر الحَجِّ .
وقال أبو حنيفة : إذا أتى بأكثر الطَّوَافِ فى أشهر الحَجِّ ، فهو مُتَمَتِّعٌ ، وإذا أتى بالأكثر قبل أشهر الحَجِّ فلا .
الثالث : أن يَحِجُّ فى هذه السَّنَة ، فإن حَجَّ فى سَنَةٍ أخرى لم يَلْزَمْهُ دَمٌ؛ لأَنَّه لم يوجد مُزَاحمة الحَجُّ والعمرة فى عامٍ واحدٍ ، ولم يحصل الترفُّه بترك أحد السّفرين ، إلاَّ على قول ابن الزُّبير فيما قَدَّمناه .
الرابع : ألا يكُون من حاضري المسجد الحرام لقوله تعالى : { ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام } ، وهومَنْ كان أهلُهُ على أقلّ منمسافة القَصْرِ ، وهل تُعْتَبَرُ هذه المَسَافَةُ من مَكَّة ، أو من الحرمِ فيه وجهان .
الخامس : أن يُحْرِم بالحَجِّ من مَكَّةَ بعد الفَرَاغ من العُمرة ، فلو رجع إلى الميقاتِ ، وأحرمَ بالحَجِّ منه ، لا يلزمُهُ دَمُ التَّمَتُّعِ .
فصل
قال القُرطبيُّ : التَّمَتُّع بالعمرة إلى الحَجِّ على أربعةِ أوجهٍ :
أحدها مجمع عليه ، والثَّلاثةُ مختلفٌ فيها فالمجمعُ عليه هو المراد بقوله تبارك وتعالى : { فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدي } ، وذلك أَنْ يُحْرَمُ بالعُمْرَةِ في أشهر الحَجِّ ، ويكون آفاقيّاً ، ويفرغ منها ، ويقيم حلالاً بمكَّة إلى أن يحرم بالحجِّ من عامِهِ قبل رجوعه إلى بلدِهِ .
ولها ثَمَانيةٌ شروطٍ :
الأول : أن يجمع بين الحجّ والعمرة .
الثاني : فى عامٍ واحدٍ .
الثالث : فى سفر واحد .
الرابع : فى أشهر الحَجِّ .
الخامس : مقدِّماً الحج .
السادس : غير مخلط لها بالحَجِّ .
السابع : وأن تكُونَ العُمرةُ والحج عن شخصٍ واحدٍ .
الثامن : ويكون آفاقيّاً .
الوجه الثَّاني من وجوه التَّمتُّع بالعُمْرَة : هو القِرَانُ ، وهو أنْ يَجْمَعَ بينهما فى إحرامٍ واحدٍ ، قيُهِلّ بهما جميعاً فى أشهر الحَجِّ ، يتمتع القارن بترك السّفر إلى العُمْرَةِ ، مرَّة ، وإلى الحَجِّ أخرى ، ولا يحرم لكلِّ واحد من ميقاتِهِ ، فيدخل تحت قوله تعالى : { فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج } .
الوجه الثالث الَّذي نهى عنه عمر - رضي اللَّهُ عنه - : وهو أنْ يُحْرِمَ بالحَجِّ فإذا دخل مَكَّةَ فسخ حجّه إلى عمرة ، ثم يحلّ إلى أن يُهِلَّ بالحج يَوْم التَّرْوية ، فاختلف فى ذلك ، فالجمْهُورُ على تَرْكِ العَمَل بها .
قال أبو ذرِّ كانت المتعة لنا فى الحَجِّ خاصّة .
الوجهُ الرَّابع من التمتع : متعة المُحصر ، ومن صُدَّ عن البيت .
فصل
دم التمتع دم جبران ، فلا يجوزُ له الأكل منه .
وقال أبو حنيفة دم نسك ، ويأكُلُ منه .
حُجَّةُ الأَوَّلِ وجوهٌ :
أحدهما : أنَّ التمتع حصل فيه خَلَلٌ فيكون دم جبران .
وبيان الخَلَلِ أنَّ عُمَرَ كان ينهى عن المتعةِ ، فقال له عثمانُ - رضي اللَّهُ عنهما - عَمَدْتُ إلى رُخْصَةٍ بسبب الحاجة؛ فَدلّ على حُصُولِ نقص فيها .
وأيضاً سمَّاها تَمَتُّعاً ، والتمتع التَّلَذُّذ ، وبمنى العبادة على المَشَقَّةِ .
وأيضاً ففي التَّمَتُّع صار السَّفَرُ للعمرة ، وكان من حَقِّه أن يكُون للحج؛ لأَنَّهُ الحج الأكبر ، وأيضاً حصل التَّرفه بالإحلال بينهما ، وأيضاً كان من حَقّه جعل الميقات للحجِّ ، فإنَّه الأَكبَرُ ، وكل هذه أنواع خَلَلٍ ، فوجب أن يَكُونَ الدَّم دم جبران .
وثانيها : أنَّ الدّم ليس بنسك أصلي من مناسك الحَجّ ، أو العمرة ، كما لو أفردها وكما في حقّ المَكِّي ، والجمعُ بين العبادَتين لا يوجب الدَّم ، بدليل أنَّ من جمع الصَّلاة ، والصّوم ، والاعتكاف لا يَلْزَمُهُ دم ، وإذا ثبت ذلك فليس الدَّم دم نسك ، بل دم جبران .
وثالثهما : أنَّ هدي التمتع ليس مُؤَقّتاً ، والمناسِكُ كلّها مؤقتة ، فيكُونُ دم جُبرانٍ .
ورابعها : أنَّه يُبَدَّلُ بالصَّوم ، ودم النُّسك لا النُّسُك لا يُبَدَّلُ بالصَّوم .
فصل
والمجزي فيها جذعة من الضأن ، أو ثنية من المَعْزِ ، أو شركُ ستَّةٍ فى بدنةٍ ، أو بقرةٍ ، ووقت وجوبه بعد الإحرام بالحجِّ؛ لأنَّ قوله : { فَمَا استيسر مِنَ الهدي } يدلُّ على أنَّه عقيب التَّمَتع ، ويستحب ذبحه يوم النَّحرِ فلو ذبح بعد الإحرام بالحجِّ جاز؛ لأَنَّ التمتع قد تَحَقَّقَ . وعن أبى حنيفة لا يجوز إلاَّ يوم النَّحر؛ لأَنَّهُ نسك عنده .
قوله : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ } ؛ يعنى : أنَّ المتمتع إذا لم يجد الهَدْيَ ، فعليه أنْ يصُومَ ، وهل الهدي أفضلُ أم الصِّيَامُ؟ قال ابنُ الخطيب : الظَّاهِرُ أنَّ المبدل أفْضَلُ من البدل؛ لكنَّهُ تعالى بيَّن فى هذا البدل أنَّه فى الكمال والثَّوابِ كالهَدْي وهو كقوله « تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ » .
قوله : « فَصِيَامُ » فى رفعه الأَوجه الثَّلاَثَة المّذكُورةُ فى قولِهِ : « فَفِدْيَةٌ » وقرئ نصباً ، على تقدير فَلْيَصُمْ ، وأُضيف المَصْدَرُ إلى ظَرْفِهِ معنىً ، وهو فى اللَّفظِ مَفْعُولٌ به على السَّعَةِ . و « فِي الحَجِّ » مُتَعَلّقٌ بِصِيَامٍ وقَدَّر بعضهم مُضافاً ، أي : في وقتِ الحَجِّ ، ومنهم مَنْ قَدَّر مُضَافَيْن ، أي : وقتَ أفعالِ الحَجِّ ، ومنهم مَنْ قَدَّره ظَرْفَ مكانٍ ، أي : صَوْمُهُ ، بعد إحرام العُمرة ، وقبل إحرام الحَجِّ .
وقال أبو حنيفة : يصحُّ .
حجَّةُ الأَوَّل وجوه :
أحدها : أنَّه صيامٌ قبل وقته؛ فلا يجُوزُ كمن صَامَ رَمَضانَ قبلهُ ، وكما لو صام السَّبعة قبل الرُّجوع ، وذلك لأَنَّ الله تعالى قال : { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج } ، والمراد إحرام الحج ، لأنَّ سَائِرَ أفعال الحجِّ لا تصلح ظرفاً للصَّومِ ، والإحرامُ يَصلُحُ ، فوجب حمله عليه .
وثانيها : أنَّ ما قبل الإحرام بالحجِّ ليس بوقت لِلْهَدي الذى هو أصلٌ ، ولا يكُونُ وقتاً لبدله ، كسائر الأُصُول فى الأبدال .
وإذا ثبتَ ذلك ، فَنَقُولُ : اتَّفَقُوا على أَنَّه يجُوز بعد الشُّرُوع فى الحَجِّ إلى يوم النَّحْرِ ، وثبت أنَّهُ لا يجوز يوم النحر ولا أيّام التَّشريق لقوله عليه السَّلام : « لا تَصُوْمُوْا فى هَذِهِ الأَيَّامِ » ، والمستحبُّ أنْ يَصُومَ فى أيّام الحج حيثُ يكُونُ يوم عرفة مفطراً .
وقال بعضهم : يصوم ثَلاَثة أيّام آخرها يومُ عرَفَةَ والثَّامِن ، والتَّاسع ، ولو صَامَ ثَلاَثَة أيَّامٍ آخرها يومُ التَّرْوِية ، ويكُونُ قد أحرمَ بالحجِّ قبله جاز ، ولا يجُوزُ يوم النحر ، ولا أيام التَّشْريق . وهو قول مالكٍ والأوزاعيّ ، وأحمد ، وإسحاق .
فصل
اختلفوا فيمن اعْتَمرَ فى أشهر الحَجِّ ، ثُمَّ رجع إلى بَلَدِه ، ثمَّ رجَعَ في عامه فقال الجمهورُ : ليس بمتمتع ، ولا هدي عليه ، ولا صِيَام . وقال الحسن : هو مُتَمَتِّعٌ .
وأحمعوا على أَنَّ الآفاقي إذا قدم معتمراً فى أشهر الحج عازِماً على الإقامة ، ثم أنشأ الحج من عامه فحج ، آنّه متمتع عليه ما على المُتَمَتِّع .
قوله : « وَسَبْعَةٍ » الجمهورُ على جَرِّ « سَبْعَةٍ » عطفاً على ثلاثة . وقرأ زيدُ بنُ عَليٍّ ، وابن أبي عَبْلَة : « وَسَبْعَةً » بالنَّصب . وفيها تخريجان :
أحدهما : قاله الزَّمخشَرِيُّ ، وهو : أن يكُونَ عطفاً على مَحَلِّ « ثَلاَثَة » كأنه قيل : فصيامُ ثلاثةٍ ، كقوله : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14 ، 15 ] ، يعني : أنَّ المُضاف إليه المصدرُ مَنْصُوب معنى بدليل ظُهُورِ النَّصب فى « يَتيماً » .
والثاني : أنْ يَنْتَصِبَ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه : « فَلْيَصُومُوا » ، قال أبو حيان « وهذا مُتَعَيِّنٌ؛ لأنَّ العَطْفَ على المَوضع يُشْتَرَطُ فيه وجُودُ المُحْرِزِ » يني : على مذهب سيبويه .
قوله : « إِذَا رَجَعْتُمْ » : مَنْصُوبٌ بِصيام أيضاً ، وهي هُنَا لِمَحضِ الظَّرفِ ، وليس فيها مَعْنَى الشَّرْط . لا يُقَالُ : يَلْزَمُ أن يَعْمَلَ عامِلٌ واحدٌ فى ظَرْفَي زَمان ، لأنَّ ذلك جائزٌ مع العطف والبَدلِ ، وهنا يكُونُ عَطَفَ شيئين على شيئين ، فَعَطَفَ « سَبْعَةٍ » على « ثَلاَثَةٍ » ، وعطف « إذ رَجَعْتُم » على « فِي الحَجّ » .
وفي قوله : « رَجَعْتُمْ » شيئان :
أحدهما التفاتٌ ، والآخَرُ الحَمْلُ على المعنى ، أمَّا الالتفاتُ : فإنَّ قبله { فَمَنْ تَمَتَّعَ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ } ، فجاء بضمير الغَيْبَة عائداً على « مَنْ » ، فلو سيق هذا على نَظْمِ الأَوَّل لقيل : « إِذَا رَجَعَ » بضمير الغَيْبَةِ . وأمَّا الحَمْلُ فلأَنَّهُ أتى بضمير جمعٍ؛ اعتباراً بمعنى « منْ » ، ولو رَاعى اللَّفظ لأفردَ ، فقال : « رَجَعَ » .
فصل
اختلفوا فى المراد من الرُّجوع ، فقيل : هو الرُّجوع إلى الأهلِ والوَطَنِ وقال أبو حينفة المرادُ من الرُّجوع : هو الفراغُ من أعمال الحَجّ ، والأخذ فى الرُّجوع ، ويتفرّعُ عليه أنَّهُ لو صام السَّبْعَةَ بعدَ الفراغ من الحَجِّ ، وقبل الوصول إلى بيته ، لا تُجزيه على الأوَّل . وعن أبى حنيفة : تجزيه .
حجّةُ الأَوَّل : أَنَّهُ تعالى جعل الرُّجُوعُ إلى الوَطَنِ شَرْطاً ، وما لم يُوجَدِ الشَّرْطُ لم يوجد المَشْرُوط ، ويُؤَكِّدُ ذلك أَنَّه لو ماتَ قَبْلَ وصُوله إلى الوَطَنِ ، لم يلزمه شيءٌ . وروَى ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - قال : « لَمّا قَدِمْنَا مَكَّةَ المشرفة قال النَّبيُّ - عليه السَّلام - اجْعَلُوا إِهْلاَلَكم بِالحَجِّ عُمْرَةً إِلاَّ مَنْ قَلَّدَ الهَدْي . فطُفْنَا بالبَيْتِ ، وبالصَّفَا ، والمروة ، وأَتَيْنَا النِّسَاءَ ، ولبسنا الثِّيَابَ ، ثُمّ أمرنا عشية التَّرْوية أنْ نُهِلّ بالحجّ فإذا فرغنا قال - عليه الصلاة والسَّلام - عَلَيْكُمْ الْهَديَ ، فإِنْ لَمْ تَجِدُوا؛ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فى الحَجِّ ، وسَبْعَة إِذَا رَجْعَتُم إِلَى أَمْصَارِكُمْ » ، وأيضاً فإنَّ الله - تعالى - أسقطَ صَوْمَ رَمَضَانَ عَن المُسَافِرِ ، فصوم التَّمَتُّع أخفّ شأناً منه .
وقوله : « تِلْكَ عَشَرَةٌ » مبتدأ وخبرٌ ، والمشار إليه هي السَّبعة والثَّلاثة ، ومُمَيِّزُ السَّبعة والعشرة محذوف للعلم به . وقد أثبت تاء التأنيث فى العدد مع حذف التَّميز ، وهو أحسن الاستعمالين ، ويجوز إسقاط التَّاء حينئذٍ ، وفي الحديث : « وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ » ، وحكى الكسائيُّ : « ثُمْنَا من الشَّهْرِ خَمْساً » .
وفي قوله : « تِلْكَ عَشَرَةٌ » - مع أنَّ المعلوم أنَّ الثَّلاثة والسَّبعة عشرة - أقوال كثيرة لأهل المعاني ، منها قول ابن عرفة : « إن العَرَبَ إذا ذكرت عددين ، فمذهبهم أن يُجْمِلُوهُمَا » ، وحسَّن هذا القول الزَّمخشري بأن قال : « فائدةُ الفَذْلَكَةِ فى كُلِّ حساب : أن يُعْلَمَ العَدَدُ جُمْلَةً كما يُعْلَمُ تَفْصِيلاً ، لِيُحْتَاط به من جِهَتَيْنِ ، فيتأكَّد العِلمُ » ، وفي أمثالهم « عَلَمَانِ خَيْرٌ مِنْ عَلَمِ » . قال ابن عرفة : « وإنما تَفْعَلُ العَرَبُ ذلك؛ لأنَّها قليلةُ المَعْرِفَةِ بِالحِسَابِ » ، وقد جاء : « لا نَحْسُب ، وَلاَ نَكْتُب » ، وورد ذلك في أشعارهم ، قال النَّابغة : [ الطويل ]
983 - تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا ... لِسِتَّةِ أَيَّامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ
وقال الفرزدق : [ الوافر ]
984 - ثَلاَثٌ واثْنَتَانِ فَهُنَّ خَمْسٌ ... وَسَادِسَةٌ تَمِيلُ إِلَى شَمَامِ
وقال الأعشى : [ الوافر ]
985 - ثَلاَثٌ بِالْغَدَاةِ فَهُنَّ حَسْبِي ... وَسِتٌّ حِينَ يُدْرِكُنِي العِشَاءُ
فَذَلِكَ تِسْعَةٌ فِي الْيَوْمِ رِيِّي ... وَشُرْبُ الْمَرْءِ فَوْقَ الرِّيِّ دَاءُ
وقال آخرك [ الوافر ]
968 - فَسِرْتُ إِلَيْهِمُ عِشْرِينَ شَهْراً ... وَأَرْبَعَةً فَذَلِكَ حِجَّتَانِ
وقال عليه السَّلام : « الشهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وهَكَذَا » ، ثمَّ أَشَارَ بِيَديه ثَلاَثاً ، وأمسك إبهامه فى الثالثة ، منبهاً بالإشارة الأولى على الثلاثين ، وبالأخرى على تسعة وعشرين .
ومنها قال المبرد : طفتلك عشَرَةٌ : ثلاثةٌ فى الحَجّ وسبعةٌ إذا رَجَعْتُمْ فَقَدَّمَ وأخَّر « ، ومنها قال ابن الباذش : جيء بعشرة توطئةً للخبرِ بعدها ، لا أنَّها هي الخَبَرُ المستقلُّ بفائدةِ الإسناد كما تقول : زيدٌ رَجُلٌ صَالِحٌ » يعني أن المقصود الإخبار بالصَّلاح ، وجيء برجلٍ توطئةً ، إذ معلومٌ أنه رجلٌ . ومنها قال الزَّجاج : « جَمَعَ العدَدَيْنِ لجوازٍ أن يُظَنَّ أنَّ عليه ثَلاَثَةً أو سبعةً » ؛ لأنَّ الواو قد تقوم مقام أو ، ومنه : { مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } [ النساء : 3 ] فأزال احتمال التَّخيير ، وهذا إنَّما يتمشَّى عند الكوفيِّين؛ فإنَّهم يقيمون الواو مقام أو . وقال الزمخشريُّ : « الواو قد تجيءُ للإباحة فى قولك : » جَالِسِ الحَسَنَ وابْنَ سِيرينَ « ألا ترى أنَّه لو جالسهما معاً ، أو أحدهما كان ممتثلاُ فجمع نفياً لتوهُّمِ الإبَاحَة » قال أبو حيان : « وفيه نَظَرٌ ، لأنَّهُ لا تُتَوَهَّمُ الإِبَاحَة؛ فإنَّ السِّيَاقَ سياقُ إيجَاب ، فهو يُنَافِي الإبَاحَةَ ، ولا يُنَافي التَّخْيِيرَ ، فإنَّ التَّخيِيرَ يَكُونُ فى الوَاجِبَاتِ ، وقد ذكر النَّحْوِيُّونَ الفَرْقَ بينَ التَّخْيِير ، والإباحَةِ » .
وقد ذكر ابن الخطيب قول الزَّمخشري هذا المقتدّم ، وذكر وجوهاً أخُر :
منها : أن المعتاد أن يكون البدل أضعف حالاً من المبدّل ، فبيَّن الله تعالى أنَّ هذا البدل ليس كذلك ، بل هو كامل فى كونه قائماً مقام المبدّل ، فيكون الصائم ساكن النَّفس إلى حصول الأجر الكامل من عند الله ، وذكر العشرة ليتوصل به إلى قوله « كَامِلَة » ؛ لأنَّه لو قال : « تِلْكَ كَامِلَةٌ » ؛ لجاز أن يراد به الثَّلاثة المفردة عن السَّبعة والسّبعة المفردة عن الثَّلاثة ، فلا بدّ من ذكر العشرة .
وقوله : « كَامِلَةٌ » يحتمل بيان الكمال من ثلاثة أوجهٍ : إمَّا أن تكون كاملة فى البدل عن الهدي قائمة مقامه لا تنقص عنه ، أو أنَّ ثوابها مثل ثواب القادر على الهدي ، أو أنّ حجّ المتمتع الصّائم كاملاً كحج من لم يتمتَّع .
ومنها أنّ الله تبارك وتعالى لو قال أوجب عليكم صيام عشرة أيّام ، لم يبعد أن يكون دليل يقتضي خروج بعض هذه الأيّام ، فإنّ تخصيص العام كثير في الشَّرع ، فلما قال « تِلْكَ عشرة » كانَ ذلك تنصيصاً على أنَّ المخصص لم يوجد البتَّة ، فيكون أقوى دلالة ، وأبعد من احتمال التَّخصيص والنَّسخ .
ومنها أنَّ التَّوكيد طريقة مشهورة فى كلام العرب كقوله { ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور } [ الحج : 46 ] ، وقوله : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] وفائدة التوكيد أنَّ الكلام المعبَّر عنه بالعبارات الكثيرة الشّريفة وبالصِّفات الكثيرة ، أبعد عن السَّهو والنّسيان من الكلام المعبَّر عنه بعبارة واحدة ، وكونه معبراً عنه بعبارات كثيرة يدلُّ على كونه مشتملاً على مصالح عظيمة ، لا يجوز الإخلال بها ، فإذا كان التّوكيد مشتملاً على هذه الحكمة كان ذكره هنا دالاًّ على رعاية هذا العدد فى هذا الصَّوم ، فإنَّه من المهمّات التي لا يجوز إهمالها ألبتَّة .
ومنها أنَّ هذا الكلام يزيل الإبهام الذي في تصحيف الخطّ ، فإنَّ سبعة ، وتسعة متشابهان فى الخطِّ ، فلمَّا قال بعده : « تِلْكَ عِشَرَةٌ كَامِلَةٌ » ؛ أزال هذا الاشتباه .
ومنها : أنَّ قوله { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } يحتمل أن يكون المراد ، أن يكون الواجب بعد الرُّجوع أن يكمل صيام سبعة أيّام ، على أنَّه يحسب الثَّلاثة المتقدِّمة منها ، ويكمل عيلها أربعةً ، فلما قال « تِلْكَ عَشَرَة » ؛ أزال هذا الاحتمال .
ومنها : أن هذا خبر ، ومعناه الأمر ، أي : تلك عشرة فأكملوها ولا تنقصوها .
ومنها : أنَّه تعالى لما أمر بصيام ثلاثة أيَّام فى الحجِّ وسبعة بعد الرُّجوع ، فليس فيه بيان أنَّه طاعةٌ عظيمة كاملة ، فلمَّا قال بعده : { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } دلَّ ذلك على أنَّ هذه الطَّاعة فى غاية الكمال؛ وذلك لأنَّ الصَّوم مضافٌ إلى الله تعالى بلام الاختصاص كما قال : « الصَّوْمُ لي » ، والحجُّ أيضاً مضاف إلى الله تعالى بلام الاختصاص كما قال « الصَّوْمُ لي » ، فَكَمَا دَلَّ النَّصُّ على مَزِيدِ اختصاص هاتين العبادتين بالله - سبحانه وتعالى - ، فالفعل دلَّ أيضاً على ذلك .
أمّا فى الصَّوم فلأنَّه عبادة لا يطّلع العقل على وجه الحكمة فيها ألبتَّة ، وهو مع ذلك شاقٌّ على النَّفس جدّاً ، فلا جرم لا يؤتى به إلاَّ لمحص مرضاة الله - تعالى - ثمَّ إنَّ صوم هذه تعني الانقياد له .
وكذا الحجّ عبادة لا يطَّلع العقل على وجه الحكمة في ألبتَّة ، وهو مع ذلك شاقٌ جداً؛ لأنَّه يوجب مفارقة الأهل ، والولد والتَّباعد عن أكثر اللَّذَّات ، فلا جرم لا يؤتى به إلاّ لمحض مرضاة الله تعالى ، ثمَّ إنَّ صوم هذه الأيّام العشرة بعضه واقعٌ في زمن الحج ، فيكون جمعاً بين شيئين شاقَّين جدّاً ، وبعضه واقعٌ بعد الفراغ من الحجِّ ، وهو انتقالٌ من شاقِّ إلى شاقٍّ ، ومعلوم أنَّ ذلك سبب لكثرة الثَّواب ، وعلوِّ الدَّرجة ، فلا جرم لمَّا أوجب الله - تعالى - صيام هذه الأيَّام العشرة ، شهد سبحانه على أنَّها عبادة كاملة فى غاية الكمال والعلوّ ، فقال تعالى : { تِلْكَ عَشَرةٌ كَامِلَةٌ } ، أي : وإنها كاملة .
قوله : « ذَلِكَ لِمَنْ » « ذَلِكَ » مبتدأ ، والجارُّ بعده الخبر . وفي اللاَّم قولان :
أحدهما : أنَّها على بابها ، أي : ذلك لازمٌ لمن .
والثاني : أنها بمعنى على ، كقوله : { أولئك لَهُمُ اللعنة } [ الرعد : 25 ] ، وقال عليه السَّلام : « اشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلاَءَ » ، أي : عليهم ، وقوله : { وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الإسراء : 7 ] أي : فعلهيا ، وذلك إشارة إلى التَّمتُّع ، والقران للغريب [ ولا حاجة إلى هذا . و « مَنْ » يجوز أن تكون موصولة ، وموصوفة . و « حَاضِرِي » خبر « يَكُن » ، وحذفت نونه للإضافة ] .
فصل
قوله : « ذلك » إشارة إلى أمرٍ تقدَّم ، وأقرب الأمور المذكورة ، ذكر ما يلزم المتمتع من الهدي وبدله .
وقال بعض العلماء : لزوم الهدي وبدله للمتمتّع مشروطٌ بألاّ يكون من حاضري المسجد الحرام ، فإن كان من أهل الحرم ، فلا يلزمه هدي المتمتّع ، وإنَّما لزم الآفاقي ، لأنه كان يجب عيله أن يحرم بالحجِّ من الميقات ، فلمّا أحرم بالعمرة من الميقات ، ثم أحرم بالحجِّ من غير الميقات ، فقد حصل هناك خللٌ ، فجبر بالدَّم ، بدليل أنّه لو رجع ، فأحرم بالحجِّ أيضاً من الميقات؛ لما يلزمه دمٌ ، والمكيُّ ميقاته موضعه ، فلا يقع فى حجِّه خللٌ من جهة الإحرام ، فلا هدي عليه .
وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : قوله « ذَلِكَ » إشارةٌ إلى الأبعد وهو ذكر التّمتع ، وعنده لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام ، ومن تمتع أو قرن ، كان عليه دم جنايةٍ لا يأكل منه .
حجَّة القول الأوَّل وجوه :
أحدها : قوله تعالى { فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج } عامٌّ يدخل فيه الحرمي ، وغيره .
وثانيهما : أنَّ الإشارة يجب عودها إلى أقرب مذكور ، وهو جوب الهدي ، فإذا خصَّ وجوب الهدي بالمتمتع الآفاقي؛ لزم القطع بأن غير الآفاقي قد يكون أيضاً متمتعاً .
وثالثها : أنَّ الله تعالى شرع القران والمتعة تبييناً لنسخ ما كان عليه أهل الجاهلية في تحريمهم العمرة في أشهر الحجِّ ، والنسخ ثبت فى حقّ النَّاس كافَّةً .
حجَّة أبي حنيفة : أنَّ قوله : « ذَلِكَ » كنايةٌ؛ فوجب عودها إلى كلِّ ما تقدم ، لأنَّه ليس البعض أولى من البعض .
والجواب أنَّ عوده إلى الأقرب أولى ، لأنَّ القرب سببٌ للرُّجحان ، ومذهبكم أن الاستثناء المذكور عقيب الجمل مختصٌّ بالجملة الأخيرة ، وإنَّما تميزت تلك الجملة عن سائر الجمل بسبب القرب ، فكذا ها هنا .
فصل
اختلفوا فى حاضري المسجد الحرام ، فذهب قوم إلى أنَّهم أهل مكَّة ، وهو قول مالك - رحمه الله - .
وقال ابن جريج : أهل عرفة والرجيع وضجنان .
وقال الشَّافعيُّ - رحمه الله - : كلُّ من كان وطنه من مكَّة على أقلّ من مسافة القصر ، فهو من حاضري المسجد الحرام .
وقال عكرمة : من كان دون الميقات .
وقيل هم أهل الميقات فما دونه ، وهو قول أصحاب الرَّأي .
وقال طاوسٌ : الحرم كلُّه ، وهو قول الشَّافعيِّ ، وأحمد لقوله تعالى : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } [ الإسراء : 1 ] وإنما أسرى به من الحرم من بيت أمِّ هانئ لا من المسجد ، وقال { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق } [ الحج : 33 ] ، والمراد الحرم؛ لأن الدماء لا تراق في البيت ، والمسجد الحرام إنَّما وصف بهذا؛ لأن أصل الحرام المنع ، والمحرم : ممنوعٌ من المكاسب ، والمسجد الحرام ممنوعٌ أن يفعل فيه ما منع من فعله .
قال الفرَّاء : يقال حرامٌ ، وحرمٌ مثل : زمانٍ وزمنٍ ، وذكر حضور الأهل ، والمراد حضور المحرم ، لا حضور الأهل ، لأنَّ الغالب على الرَّجل أنّه يسكن حيث أهله ساكنون فلو خرج المكيٌّ إلى الآفاق ، وأهله بمكَّة ، ثمَّ عاد متمتعاً؛ لزمه هدي التمتع ، ولا أثر لحضور أهل فى المسجد الحرام .
وقيل المراد بقوله : { لمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ } ، أي يكون أهلاً لهذه العبادة .
فصل
ودم القرآن كدم التَّمتُّع ، فالمكيُّ إذا قرن ، أو تمتع ، فلا هدي عليه .
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قوله : يريد فيما فرضه عليكم ، { واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب } لمن تهاون بحدوده .
وقال أبو مسلمٍ : العقاب والمعاقبة سيَّان ، وهو مجازاة المسيء على إساءته ، وهو مشتقٌّ من العاقبة ، كأنّه يراد عاقبة فعل المسيء ، كقول القائل : لتذوقن ما ذوّقت ، و « شَدِيدُ العِقَابِ » من باب إضافة الصِّفة المشبَّهة إلى مرفوعها ، وقد تقدَّم أنَّ الإضافة لا تكون إلا من نصب ، والنَّصب والإضافة أبلغ من الرَّفع؛ لأنَّ فيها إسناد الصِّفة للموصوف ، ثم ذكر من هي له حقيقة ، والرَّفع إنَّما فيه إسنادها ، دون إسناد إلى موصوف لمن هي له حقيقة .
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) « الحَجُّ » مبتدأ ، و « أشْهُرٌ » خبره ، والمبتدأ والخبر لا بدّ أن يصدقا على ذاتٍ واحدٍ ، و « الحَجُّ » فعلٌ من الإفعال ، و « أشْهُرٌ » زمانٌ ، فيهما غيران ، فلا بدَّ من تأويل ، وفيه ثلاثة احتمالات :
أحدها : أنَّه على حذف مضافٍ من الأوَّل ، تقديره : أشهر الحج أشهر معلوماتٌ . أي : لا حجَّ إلاَّ في هذه الأشهر ولا يجوز في غيرها ، كما كان يفعله أهل الجاهيلَّة في غيرها ، كقوله البرد شهران ، وقت البرد شهران .
الثاني : الحذف من الثاني تقديره : الحجّ حجّ أشهرٍ ، فيكون حذف من كل واحدٍ ما أثبت نظيره .
الثالث : أن تجعل الحدث نفس الزَّمان مبالغةً ، ووجه المجاز كونه حالاًّ فيه ، فلما اتُّسع في الظَّرف جعل نفس الحدث ، ونظيره : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] وإذا كان ظرف الزمان نكرةً مخبراً به عن حدثٍ ، جاز فيه الرفع والنَّصب مطلقاً ، أي : سواءً كان الحدث مستوعباً للظَّرف ، أم لا ، هذا مذهب البصريين .
وأمَّا الكوفيُّون فقالوا : إن كان الحدث مستوعباً ، فالرَّفع فقط نحو : « الصَّوْمُ يومٌ » وإن لم يكن مستوعباً ، فهشامٌ يلتزم رفعه أيضاً نحو : « مِيَعَادُكَ يَوْمٌ » والفرَّاء يجيز نصبه مثل البصريّين ، وقد نقل عنه أنَّه منع نصب « أشْهُر » ، يعني : في الآية الكريمة ، لأنها نكرةٌ ، فيكون له في المسألة قولان ، وهذه مسألةٌ طويلةٌ .
قال ابن عطيَّ : « ومنْ قَدَّر الكَلاَم : الحج في أشهر ، فيلزَمُهُ مع سقوطِ حَرْفِ الجَرّ نصبُ الأَشْهُر ، ولم يَقْرَأْ بِهِ أَحَدٌ » قال أبَو حيان رحمه الله : ولا يَلْزَمُ ذلك؛ لأنَّ الرَّفْع على جِهة الاتِّساع ، وإن كان أصلُهُ الجرَّ ب « في » .
فصل
أجمع المفسِّرون على أنَّ شوَّالاً ، وذا القعدة ، من أشهر الحج ، واختلفوا فى ذي الحَّجة فقال عروة بن الزُّبير : إنها بكليتها من أشهر الحج وهو قول مالك ، وداود .
وقال أبو حنيفة : العشر الأول من ذي الحجَّة من أشهر الحجِّ؛ وهو قول ابن عبَّاسٍ ، وابن عمر ، والنخعي ، والشعبي ، ومجاهد ، والحسن .
وقال الشافعيُّ - رحمه الله - التسعة الأول ، مع ليلة النَّحر من أشهر الحج .
حجَّة الأوَّل : أن الأشهر جمعٌ ، وأقلُّه ثلاثةٌ ، وأيضاً فإنَّ أيَّام النَّحر يفعل فيها بعض ما يتَّصل بالحج : من رمي الجمار ، والذَّبح ، والحلق ، وطواف الزِّيارة ، والبيتوتة يعني ليالي منى ، وإذا حاضت المرأة ، فقد تؤخِّر الطَّواف الذي لا بدَّ منه إلى انقضاء أيَّامٍ بعد العشرة . ومذهب عروة تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر .
والجواب أنَّ لفظ الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد؛ بدليل قوله : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] . وقال - عليه السَّلام : « الاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ » وأيضاً فإنَّه نزَّل بعض الشَّهر منزلة كلِّه ، فإنّ العرب تسميِّ الوقت تامّاً بقليله ، وكثيره ، يقال زرتك سنة كذا ، وأتيتك يوم الخميس ، وإنما زاره ، وأتاه في بعضه ، وأيضاً فإنَّ الجمع ضمُّ شيءٍ إلى شيءٍ ، فإذا جاز أن يسمَّى الاثنان جماعةً ، جاز أن يسمَّى الاثنان ، وبعض الثَّالث جماعةً ، وأمَّا رمي الجمار ، فإنما يفعله الإنسان ، وقد حلّ بالحلق والطَّواف ، والنَّحر ، فكأنه ليس من أعمال الحجِّ ، والحائضُ إذا طافت بعده ، فكأنه في حكم القضاء ، لا في حكم الأداء .
حجَّة الثاني : أنَّ المفسرين قالوا : أنّ يوم الحجِّ الأكبر ، هو يوم النَّحر ، لأنَّ معظم أفعال الحج يفعل فيه : من طواف الزيارة؛ الذي هو ركنٌ في الحج ، والرَّمي ، والذَّبح ، والحلق ، فدخوله في أيام الحج أولى .
حجَّة الشافعي - رحمه الله تعالى - : أنَّ الحجَّ يفوت بطلوع الفجر يوم النَّحر ، والعبادة لا تفوت مع بقاء وقتها .
فصل
قال بعض العلماء : لا يجوز أن يُهِلَّ بالحج قيل أشهر الحج ، وهو قول ابن عباس ، وجابر ، وبه قال عطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، إليه ذهب الأوزاعي ، والشافعيُّ ، وأحمد فى رواية ، وإسحاقٌ .
وقال مالكٌ ، والثوريُّ وأبو حنيفة - رضي الله عنه - يجوز .
حجَّة الأول : قوله : { الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } .
جمع الأشهر جمع تقليلٍ ، على سبيل التَّنكير؛ لا يتناول الكلَّ ، وأكثر الجمع إلى عشرةٍ ، وأدناه إلى ثلاثةٍ ، وعند التنكير ينصرف إلى الأدنى ، واتفق المفسِّرون على أنّ تلك الثَّلاثة ، شوَّال وذو القعدة ، وبعض ذي الحجَّة .
وإذا تقرَّر ، وجب ألاَّ يجوز الإحرام بالحجِّ قبل الوقت؛ لأنَّ الإحرام بالعبادة قبل وقت أدائها لا يصحّ؛ كالصَّلاة ، وخطبة الجمعة قبل الوقت .
حجَّة الثاني : قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } [ البقرة : 189 ] ، فجعل الأهلَّة كلَّها مواقيت الحجِّ ، وليس مواقيتاً للأداء ، فثبت أنها مواقيت لصحَّة الإحرام ، ويجوز أن يسمَّى الإحرام حجّاً؛ مجازاً ، كما سمّيَ الوقت حجّاً في قوله : « الحَجُّ أَشْهُرٌ » بل هنا أولى؛ لأن الإحرام أقرب إلى الحج من الوقت . وقد اشتهر بين أكابر الصّحابة أنَّهم قالوا : إتمام الحجِّ والعمرة أن يحرم بهما من دويرة أهله ، ومن يكن منزله بعيداً يجب أن يكون في المشرق أو في المغرب ، فلا بدَّ وأن يحرم بالحج قبل أشهرٍ ، وأيضاً فإنَّ الإحرام التزامٌ بالحجِّ ، فجاز تقديمه على الوقت؛ كالنَّذر .
وأجاب الأوَّلون عن قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة } بأنَّ قوله « الحجُّ أَشْهُرٌ » أخصُّ منها ، وفرَّقوا بين النَّذر ، والإحرام : بأنَّ الوقت معتبرٌ للأداء ، ولا اتِّصال للنذر بالأداء ، بدليل أنّ الأداء لا يتصور إلاَّ بعقد مبتدأ ، والإحرام مع كونه التزاماً ، فهو شروعٌ في الأداء ، وعقدٌ عليه؛ فلا جرم افتقر إلى الوقت .
فصل
قوله : « مَعْلُومَاتٌ » أي : معلومات عندهم ، مقررة لبيان الشرع ، بخلاف مرادهم بها . أو معلوماتٌ ببيان الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام وأنها مؤقتةٌ في أوقات معينة ، لا يجوز تقديمها ولا تأخيرها ، كما فعلوه في النَّسيء .
قوله : { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج } .
يجوز في « مَنْ » أن تكون شرطيةً ، وأن تكون موصولةً ، كما تقدَّم في نظايرها ، و « فِيهنَّ » متعلِّقٌ ب « فَرَضَ » . والضَّمير في « فِيهِنَّ » يعود على « أَشْهُر » وجيء به كضمير الإناث ، لما تقدم من أنَّ جمع غير العاقل في القلَّة يعامل معاملة جمع الإناث على الأفصح؛ فلذلك جاء « فِيهِنَّ » دون « فِيهَا » ، وهذا بخلاف قوله : { مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } [ التوبة : 36 ] لأنه هناك جمع كثرة .
وفرض في اللُّغة : ألزم وأوجب ، يقال فرضت عليك كذا ، أي : أوجبته ، وأصل الفرض في اللغة : التَأثير والحزُّ والقطع .
قال ابن الأعرابي - رحمه الله تعالى - : الفرض الحزُّ في القدح ، [ وفي الوتد ، وفي غيره ] ، وفرضة القوس : الحزُّ الذي فيه الوتر ، وفرضه الوتد الحزُّ الذي فيه ، ومنه فرض الصلاة؛ لأنها لازمةٌ للعبد كلزوم الحزّ لقدح ، ففرض ها هنا - بمعنى : أوجب ، وقد جاء في القرآن « فَرَضَ » بمعنى أبان؛ قال تعالى : { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا } [ النور : 1 ] بالتخفيف ، وقوله : { قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } [ التحريم : 2 ] . راجع إلى معنى القطع؛ لأنَّ من قطع شيئاً ، فقد أبانه من غيره ، والله تعالى إذا فرض شيئاً ، أبانه عن غيره ، ففرض بمعنى : أوجب : وفرض : بمعنى أبان؛ كلاهما راجعٌ إلى أصل واحدٍ؛ ومن ها هنا فرَّق بعضهم بين الفرض والواجب ، فقالوا :
الفرضُ ما ثبت بدليل قطعيّ؛ لأن أصله القطع ، وسمَّاه بالركن .
والواجب ما ثبت بدليل ظنِّي ، وجعل الفرض لا يسامح به ، عمداً ولا سهواً ، وليس له جابر ، والواجب ما يجبر ويسامح فيه العباد لسهوة ، قال أبو العباس المقرىء : ورد لفظ « فَرَضَ » في القرآن خمسة معان : الأول : فرض بمعنى أوجب ، كهذه الآية الكريمة ، ومثله : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [ البقرة : 237 ] أي أوجبتم .
الثاني : فرض بمعنى بيَّن ، قال تعالى : { قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } [ التحريم : 2 ] ومثله { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا } [ النور : 1 ] .
الثالث : فرض : بمعنى أنزل؛ قال تعالى : { إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ } [ القصص : 85 ] أي : أنزل .
امس : الفرض : الفريضة في قسمة المواريث؛ كما قال تبارك وتعالى : { فَرِيضَةً مِّنَ الله } [ النساء : 11 ] .
فصل
قوله : { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج } يدلُّ على أنّه لا بدَّ للمحرم من فعل يفعله؛ يصير به محرماً وحاجاً ، واختلفوا في ذلك الفعل .
فقال الشَّافعيُّ ، وأحمد : ينعقد الإحرام بمجرد النِّية ، من غير حاجةٍ إلى التَّلبية .
وقال أبو حنيفة : لا يصحُّ الشُّروع في الإحرام بمجرد النية؛ حتى يضمَّ إليه التَّلبية أو سوق الهدي .
وقال القفَّال في تفسيره : ويروى عن جماعةٍ من العلماء؛ أنّ من أشعر هديه أو قلَّده ، فقد أحرم ، وروى نافع عن ابن عمر أنّه قال : إذا قلَّد أو أشعر ، فقد أحرم ، وعن ابن عباسٍ : إذا قلَّد الهدي وصاحبه يريد العمرة أو الحجَّ ، فقد أحرم .
قوله : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج } إمَّا جواب الشَّرط ، وإمَّا زائدةٌ في الخبر على حسب القولين المتقدِّمين . وقرأ أبو عمرٍ وابن كثير : بتنوين « رَفَثَ » و « فُسُوقَ » ، ورفعهما ، وفتح « جِدَالَ » .
والباقون : بفتح الثَّلاثة .
وأبو جعفر - ويروى عن عاصم - برفع الثلاثة والتنوين .
فأمَّا قراءة الرفع ففيها وجهان :
أظهرهما : أنَّ « لا » ملغاةٌ ، وما بعدها رفع بالابتداء ، وسوَّغ الابتداء بالنكرة؛ تقدُّم النفي عليها ، و « في الحج » خبر الأول ، وحُذِفَ خبرُ الثاني ، والثالث؛ لدلالةِ خبرِ الأولِ عليهما ، ويجوزُ أنْ يكونَ « في الحج » خبرَ الثلاثة ، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ « في الحجِّ » خبرَ الثاني ، وحُذِفَ خبرُ الأولِ ، والثالث؛ لقبح مثل هذا التركيب ، ولتأديته إلى الفصل .
والثاني : أن تكون « لاَ » عاملةً عمل ليس ، ولعملها عمل ليس شروطٌ : تنكير الاسم ، وألاَّ يتقدَّم الخبر ، ولا ينتقض النفيُّ؛ فيكونُ « رَفَثَ » اسمَها ، وما بعده عطْفٌ عليه ، و « في الحجِّ » الخبرُ على حسب ما تقدَّم من التقادير فيما قبله .
وخرَّجه ابن عطية بهذا الوجه ، وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ إعمال « لا » عمل ليس لم يقم عليه دليل صريحٌ ، وإنما أنشدوا أشياء محتملةً ، أنشد سيبويه : [ مجزوء الكامل ]
987 - مَنْ صَدَّ عَنْ نِيرَانِهَا ... فَأَنَّا ابْنُ قَيْسٍ لاَ بَرَاحُ
وأنشد غيره : [ الطويل ]
988 - تَعَزَّ فَلاَ عَلَى الأَرْضِ باقيَا ... وَلاَ وَزَرٌ مِمَّا قَضَى اللَّهُ وَاقِيَا
وقول الآخر : [ البسيط ]
989 - أَنْكَرْتُها بَعْدَ أَعْوَامِ مَضيْنَ لَهَا ... لاَ الدَّارُ دَاراً وَلاَ الجِيرَانُ جَيرَانَا
وأنشد ابن الشَّجري : [ الطويل ]
990 - وحَلَّتْ سَوادَ القَلْبِ لاَ أَنَا بِاغِياً ... سِوَاهَا وَلاَ فِي حُبِّها مُتَرَاخِيَا
وللكلام على الأبيات موضعٌ غير هذا .
وأمَّا من نصب الثلاثة منونةً فتخريجها على أن تكون منصوبةً على المصدر بأفعال مقدرةٍ من لفظها ، تقديره : فلا يَرْفُثُ رَفَثاً ، ولا يَفُسُقُ فُسُوقاً ولا يُجَادِلُ جِدَالاً ، وحينئذٍ فلا عمل ل « لا » فيما بعدها ، وإنَّما هي نافيةٌ للجمل المقدرة ، و « في الحجِّ » متعِّلقٌ بأيِّ المصادر الثَّلاثة شئت ، على أنَّ المسألة من التنازع ، ويكون هذا دليلاً على تنازع أكثر من عاملين ، وقد يمكن أن يقال : إنَّ « لا » هذه هي التي للتَّبرئة على مذهب من يرى أنَّ اسمها معربٌ منصوب ، وإنما حذف تنوينه؛ تخفيفاً ، فرجع الأصل في هذه القراءة الشاذة كما رجع في قوله : [ الوافر ]
991 - أَلاَ رَجُلاً جَزَاهُ اللَّهُ خَيْراً .. . . .
وقد تقدَّم تحريره .
وأمَّا قراءة الفتح فى الثَّلاثة فهي « لا » التي للتَّبرئة . وهل فتحة الاسم فتحة إعراب أم بناءٍ؟ فيه قولان ، الجمهور على أنَّها فتحة بناءٍ ، وإذا بني معها ، فهل المجموع منها ، ومن اسمها في موضع رفع بالابتداء ، وإن كانت عاملة فى الاسم النصب على الموضع وما بعدها ، ولا خبر لها؟ أو ليس المجموع فى موضع مبتدأ ، بل « لاَ » عاملةٌ في الاسم النَّصب على الموضع ، وما بعدها خبرٌ ل « لاَ » ؛ لأنَّها اجريت مجرى « أنَّ » فى نصب الاسم ، ورفع الخبر؛ قولان :
الأول : قول سيبويه .
والثاني : قول الأخفش . وعلى هذين المذهبين ، يترتَّب الخلاف فى قوله : « فِي الحَجِّ » ، فعلى مذهب سيبويه : يكون فى موضع خبر المبتدأ ، وعلى رأي الأخفش : يكون فى موضع خبر « لا » ، وقد تقدَّم شيء من هذا أول الكتاب .
وأمَّا من رفع الأولين ، وفتح الثالث : فالرفع على ما تقدَّم ، وكذلك الفتح ، إلا أنه ينبغي أن ينبَّه على شيءٍ : وهو أنَّا قلنا بمذهب سيبويه من كون « لا » وما بني معها في موضع المبتدأ ، على مذهب الأخفش ، فلا يجوز أن يكون « في الحجِّ » إلا خبراً للمبتدأين ، أو خبراً ل « لاَ » . لا يجوز أن يكون خبراً للكلِّ؛ لاختلاف الطالب؛ لأنَّ المبتدأ يطلبه خبراً له ، ولا يطلبه خبراً لها .
وإنَّما قرئ كذلك ، قال الزمخشري : « لأنَّهما حَمَلا الأوَّلَيْنِ على معنى النَّهي ، كأنه قيلَ : فلا يكوننَّ رَفَثٌ ولا فُسُوقٌ ، والثالثُ على معنى الإخبارِ بانتفاء الجِدالِ ، كأنه قِيلَ : ولا شكَّ ولا خلاف فى الحجِّ » ، واستدلَّ على أنّ المنهيَّ عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال ، بقوله عليه السلام : « مَنْ حَجَّ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ . . . » وأنه لم يذكر الجدال . وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ سبقه إليه صاحب هذه القراءة؛ إلاَّ أنه أفصح عن مراده ، قال أبو عمرو بن العلاء - أحد قارئيها - : الرفع بمعنى فَلاَ يَكُونُ رَفَثٌ وَلاَ فُسُوقٌ ، أي شيء يخرج من الحجِّ ، ثم ابتدأ النفي فقال : « ولا جدال » ، فأبوا عمرو لم يجعل النفيين الأوَّلين نهياً ، بل تركهما على النَّفي الحقيقي .
فمن ثم ، كان فى قوله هذا نظيرٌ؛ فإنَّ جملة النفي بلا التبرئة ، قد يراد بها النهي أيضاً ، وقيل ذلك فى قوله تعالى : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ البقرة : 2 ] . والذي يظهر فى الجواب عن ذلك ، ما نقله أبو عبد الله الفاسي عن بعضهم فقال : « وقيل : الحُجَّةُ لِمَنْ رَفَعَهُمَا أنَّ النفيَ فيهما ليس بعامٍّ؛ إذ قد يقعُ الرفَثُ ، والفُسُوقُ فى الحَجِّ من بعض الناسِ ، بخِلاَفِ نفي الجِدَالِ في أَمْرِ الحجِّ؛ فإنه عامٌّ؛ لاسْتِقْرَارِ قَوَاعِدِهِ » . قال شهاب الدِّين . وهذا يتمشَّى على عُرف النَّحويين ، فإنهم يقولون : « لا » العاملة عمل « لَيْسَ » لنفي الوحدة ، والعاملة عمل « إنَّ » لنفي الجنس ، قالوا : ولذلك يقال : لا رجل فيها ، بل رجلان ، أو رجالٌ؛ إذا رفعت ، ولا يحسن ذلك إذا بنيت اسمها أو نصبت بها .
وتوسَّط بعضهم فقال : التي للتبرئة نصٌّ في العموم ، وتلك ليس نصَّاً .
والظاهر أنَّ النكرة في سياق النفي مطلقاً للعموم ، وقد تقدَّم معنى الرَّفث فى قوله : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ } [ البقرة : 187 ] قال ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن عمر : هو الجماع ، وهو قول الحسن ، ومجاهد ، وعمرو بن دينار ، وقتادة ، وعكرمة ، والنخعي ، والربيع .
وروي عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : الرَّفث : غشيان النساء ، والتَّقبيل ، والغمز ، وأن يعرض لها بالفحش من الكلام .
وقال طاوسٌ : هو التَّعريض للنساء الجماع ، وذكره بين أيديهنَّ .
وقال عطاءٌ : الرَّفث : هو قول الرجل للمرأة فى حال الإحرام : إذا حللت ، أَصَبْتُكِ .
وقيل الرَّفث : الفحش ، والفسق وقد تقدم فى قوله : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين } [ البقرة : 26 ] . وقرأ عبد الله « الرَّفُوث » وهو مصدر بمعنى الرَّفث .
وقوله : « فَلاَ رَفَثَ » وما في حيِّزه فى محلِّ جزمٍ ، إن كانت « مَنْ » شرطيةً ، ورفع ، إن كانت موصولةً ، وعلى كلا التقديرين ، فلا بدَّ من رابطٍ يرجع إلى « مَنْ » ؛ لأنها إن كانت شرطيةً ، فقد تقدَّم أنه لا بدَّ من ضمير يعود على اسم الشرط ، وإن كانت موصولة ، فهي مبتدأ والجملة خبرها ، ولا رابط فى اللَّفظ ، فلا بدَّ من تقديره ، وفيه احتمالان :
أحدهما : أن تقديره : ولا جدال منه ، ويكون « منه » صفَّة ل « جِدَال » ، فيتعلَّق بمحذوف ، فيصير نظيره قولهم : « السَّمْنُ مَنَوانِ بِدِرْهَمٍ » تقديره : منوان منه .
والثانيك أن يقدَّر بعد « الحج » تقديره : ولا جدال في الحجِّ منه ، أو : له . ويكون هذا الجارُّ في محلِّ نصب على الحال من « الحج » .
وللكوفيِّين في هذا تأويل آخر : وهو أنَّ الألف واللام نابت مناب الضمير ، والأصل : في حجِّه ، كقوله : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } [ النازعات : 40 ] ثم قال : { فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى } [ النازعات : 41 ] أي : مأواه .
وكرَّر الحجَّ؛ وضعاً للظاهر موضع المضمر تفخيماً ، كقوله : [ الخفيف ]
992 - لاَ أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ .. . . .
وكأنَّ نظم الكلام يقتضي : « فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحجَّ فَلاَ رَفَث فيه » ، وحسَّن ذلك في الآية الكريمة الفصل بخلاف البيت .
والجدال مصدر « جَادَل » . والجدال : أشدُّ الخصام ، مشتقٌّ من الجدالة ، وهي الأرض؛ كأن كلَّ واحد من المتجادلين يرمي صاحبه بالجدالة .
قال القائل : [ الراجز ]
993 - قَدْ أَرْكَبُ الآلَةَ بَعْدَ الآلهْ ... واتْرُكُ العَاجِزَ بالْجَدَالَهْ
ومنه « الأَجْدَالُ » للصَّقر؛ لشدَّته .
وقال القائل : [ الكامل ]
994 - .. يَهْوِي مُحَارِبُهَا هُوِيَّ الأجْدَلِ
والجدل : فَتْلُ الحبل ، ومنه زمامٌ مجدولٌ ، أي : محكم الفتل .
فصل
قد تقدَّم أنّ الفسق : هو الخروج عن الطَّاعة ، واختلف المفسرون فيه ، فحمله أكثر المحقِّقين على كلِّ المعاصي ، وهذا قول ابن عباس - رضي الله عنهما - ، وطاوس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، والزهري ، والربيع ، والقرظي ، قالوا : لأنَّ اللفظ صالحٌ للكلِّ ، والنَّهي عن الشَّيء يوجب الانتهاء عن جميع أنواعه؛ ويؤكده قوله تعالى
{ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [ الكهف : 50 ] ، وقوله : { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان } [ الحجرات : 7 ] .
وذهب بعضهم إلى أنَّ المراد منه بعض أنواعه ، ثم ذكروا وجوهاً .
أحدها : قال الضحّاك : المراد التنابز بالألقاب؛ لقوله تعالى : { وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان } [ الحجرات : 11 ] . والثاني : قال عطاء ، ومجاهد ، وإبراهيم النخعي : المراد السّباب ، لقوله - عليه السلام - « سِبَابُ المؤْمِن فُسُوقٌ ، وقِتَالُه كُفْرٌ »
الثالث : أنَّ المراد منه الإيذاء ، والإفحاش؛ قال تعالى : { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } [ البقرة : 282 ] .
الرابع : قال ابن زيد : هو الذَّبح للأصنام؛ فإنّهم كانوا فى حجِّهم يذبحون لأجل الأصنام قال تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } [ الأنعام : 121 ] ، وقوله : { أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } [ الأنعام : 145 ] .
الخامس : قال ابن عمر : هو قتل الصَّيد ، وسائر محظورات الإحرام .
وأمّا الجدال : فهو « فِعَالٌ » من المجادلة ، الذي هو الفَتْلُ ، يقال : زمامٌ مجدولٌ وجديلٌ ، أي : مفتولٌ ، والجديل : اسم للزِّمان؛ لأنه لا يكون إلاَّ مفتولاً ، وسميت المخاصمة مجادلة لأنّ كلَّ واحدٍ من الخصمين يروم أن يفتل صاحبه عن رأيه . وذكر المفسرون فيه وجوهاً :
أحدها : قال ابن مسعود ، وابنُ عباس ، والحسنُ : هو الجدالُ الذي يخافُ معه الخروجُ إلى السِّباب ، والتكذيب ، والتجهيل . وهو قولُ عمرو بن دينار ، وسعيد بن جُبَيرٍ ، وعِكْرمة ، والزهريِّ ، وعطاءٍ ، وقتادة .
الثاني : قال محمد بن كعب القُرظيُّ : إِنَّ قُريشاً كانوا إذا اجتمعوا بِمنَى قال بعضهُم : حجُّنا أَتَمُّ . وقال آخرون : بل حَجُّنَا أَتَم ، فَنَهَاهُمَّ اللَّهُ عن ذلك .
الثالثك قال القاسِمُ بن محمد : هو أنْ يقولَ بعضهُم : الحَجُّ اليَوْمَ ، ويقول بعضُهم : الحج غداً ، وذلك بأنهم أُمِرُوا بأن يَجْعَلُوا حِسَابَ الشهور على الأهِلَّةِ ، فكان بعضُهم يجعلُ الشهورَ على الأَهِلّةِ ، وآخرون يجعلونها بالعدد فلهذا السبب؛ كانوا يختلفون .
الرابع : قال مقاتِلٌ ، والقفّال : هو ما جادلُوا فيه النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حين أمرهُم بنسخ الحج إلى العُمْرَة ، إلاَّ مَنْ قَلّدَ الهَدْيَ ، قالُوا : كيف نجعلُها عُمْرَةً ، وقد سمينا الحج؟! فهذا جِدَالُهم .
الخامس : قال مَالِكٌ في « الموطأ » : الجدالُ في الحج أنَّ قريشاً كانوا يقفون عن المشعَرِ الحَرَامِ في المُزْدَلِفة بقزح وغيرها يقفُ بعرفاتٍ ، وكُلٌّ منهم يزعَمُ أنّ موقفهُ موقف إبراهيم ، ويقولُ عليه الصلاة والسلام نحن أصْوَبُ؛ فقال الله تعالى : { لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمر وادع إلى رَبِّكَ إِنَّكَ لعلى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ الحج : 67 - 68 ] قال مالكٌ : هذا هو الجِدالُ فيما يُروى والله أعلم .
السَّادس : قال ابنُ زيْدٍ : كانوا يَقِفُون مَواقِف مختلقة ، فبعضهم يقفُ بعرفة ، وبعضهم بالزدلفة ، وبعضُهم حجَّ في ذي القَعْدة ، وبعضُهم في ذي الحَجَّةِ ، وكُلٌّ يقول : ما فعلتُه هو الصَّوَابُ؛ فقال تعالى : { وَلاَ جِدَالَ فِي الحج } ، أَي : اسْتَقَرَّ أَمرُ الحج على ما فعلهُ الرسولُ - عليه السلام - فلا اختلاف فيه مِنْ بعدِ ذلك ، وذلك معنى قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
« أَلاَ إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوات والأَرْضَ » .
قال مجاهدٌ : معناه : لا شَكَّ في الحجِّ أنّه في ذي الحجةِ ، فأَبْطَلَ اللَّهُ النَّسِيءَ .
قال أهلُ المعاني : ظَاهِرُ الآية الكريمة نفيٌ ومعناه نَهْيٌ ، أي لا ترفُثُوا ، ولا تَفسقوا ولا تُجَادِلُوا؛ كقوله تعالى { لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ البقرة : 3 ] أي : لا ترتابُوا .
قال القاضي : قوله تعالى : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج } يحتملُ أن يكونَ خبراً ، وأنْ يكونَ نَهْياً ، كقوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } ، أي : لا تَرْتَابُوا فيه ، وظاهرُ اللفظِ للخبر ، فإذا حَمَلناهُ على الخبر كان معناه : أنّ الحجة لا تثبتُ مع واحدةٍ من هذه الخِلالِ ، بل تَفْسُدُ؛ كالضدِّ لها وهي مانعةٌ من صحَّته ، وعلى هذا الوجه لا يستقيم المعنى؛ إلاَّ أَنْ يُراد بالرفَثِ ، الجماعُ [ المفسِدُ للحج ، ويُحْملُ الفسوقُ على الزِّنا؛ لأنه يُفسِدُ الحجَّ ، ويُحملُ الجِدالُ على الشَّكِّ في وجوب الحجِّ ] ؛ لأن ذلك يكون كُفْراً ، فلا يَصِحَّ معه الحج ، وإنَّما حَمَلْنَا هذه الألفاظ على هذه المعاني؛ حتَّى يصحَّ خبرُ اللَّهِ بأنَّ هذه الأشياء لا تُوجَدُ مع الحج .
فصل
قال ابنُ العَرَبيِّ : المرادُ بقوله : « فَلاَ رَفَثَ » نَفْيُهُ مَشْرُوعاً لا مَوجُوداً ، فإِنَّا نَجِدُ الرفثَ فيه حِسَاً ، وخبرُ اللَّهِ تعالى لا يجُوزُ أَنْ يَقَعَ بخلاف مخبره ، وإنما يرجعُ النفيُ إلى وجوده مَشْرُوعاً لا إلى وجوده مَحْسُوساً؛ كقوله تعالى : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء } [ البقرة : 228 ] أي : مشروعاً لا حسّاً ، فإنَّ نجدُ المطلقاتِ لا يتربصْنَ؛ فعاد النَّفْيُ إلى الحكم الشَّرعيِّ لا إلى الوجود الحِسّيّ؛ وهو كقوله تعالى : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } [ الواقعة : 79 ] إذا قلنا : إنّه واردٌ فى الآدَمِيِّينٍ؛ وهو الصَّحيحُ ، فإنَّ معناه لا يَمَسُّه أَحَدٌ منهم شَرْعاً ، فإن وجد المَسُّ ، فعلى خلاف حُكْم الشرع ، وهذه الدَّقِيقةً فاتت العُلماء فقالوا : إِنّ الخبرَ يكونُ بمعنى النَّهْي ، وما وجِدَ ذَلك قَطُّ ، ولا يصح أَنْ يُوجَدَ؛ فإنهما مُخْتَلِفَان حقيقةً ، ومُتَضَادان وَصْفاً .
فصل
قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - فإن قيل أليس أن مع هذه الأشياء يصير الحجُّ فَاسِداً ويجبُ على صاحبه المضيّ فيه ، وإذا كان الحجُّ باقِياً معها ، لم يصدق الخبرُ لأَنَّ هذه الأشياء لا توجدُ مع الحجة؟
قلنا المرادُ من الآية الكريمة حصولُ المضادةِ بين هذه الأشياء ، وبَيْن الحجة المأمُورِ بها ابتداءً ، وتلك الحجةُ الصحيحةُ لا تَبْقَى مع هذه الأشياء؛ بدليل أنّه يجبُ قضاؤُهَا ، والحجةُ الفاسِدَةُ التي يجبُ عليه المضِيُّ فيها شيءٌ آخر سوى تلك الحجةِ المأمُورِ بها ابتداءً ، وأَمَّا الجِدَالُ الحَاصِلُ بسبب الشَّكِّ في وجوب الحج ، فظاهره أنَّه لا يبْقَى معه عملُ الحج؛ لأنَّ ذلك كُفْرٌ وعملُ الحج مشروطٌ بالإسلام ، فثبت أَنَّا إِذَا حملنا اللفظ على الخبر ، وجب حَمْلُ الرَّفث والفُسُوق والجِدَالِ على ما ذكرنا ، وأمَّا إِذَا حملناه على النَّهي ، وهو في الحقيقة عُدُولٌ عن الظَّاهِر ، فقد يَصِحُّ أنْ يرادَ بالرفثِ الجماعُ ومقدماتُه ، وقولُ الفُحْشِ ، وأَنْ يرُادَ بالفِسْقِ جميعُ أنْواعه ، وبالجدالِ جميعُ أَنواعه؛ ، لأَنَّ اللفْظَ مُطْلَقٌ ومتناولٌ لكل هذه الأقسامِ ، فيكون النهي عنها نَهْياً عن جميع أقسامها .
فإن قيل : ما الحكمةُ في أنّ الله تعالى ذكر هذه الألفاظ الثلاثة : وهي الرَّفث ، والفُسُوق ، والجدَال في الحج ، مِنْ غير زِيَادَةٍ ولا نَقْصٍ؟
فالجواب : لأنه ثَبَتَ في العلوم العقلية أنّ للإنسان أربَعَ قُوىً : قوّة شَهْوَانيةٌ بهيميَّةٌ ، وقُوَّةٌ غَضَبيَّةٌ سبعيَّةٌ ، وقُوَّةٌ وهمِيَّةٌ شيطانيَّةٌ ، وقُوة عقليةٌ مَلكيَّةٌ ، والمقصود من جميع العبادات قَهْرُ القُوَى الثلاث ، أعْنِي : الشهوانية والغضبية والوهْمية .
فقوله : « فَلاَ رَفَثَ » إشارةٌ إلى قَهْرِ الشهوانية .
وقوله : « ولا فُسُوقَ » إشارةٌ إلى قَهْرِ القُوةِ الغضبيةِ التي توجِبُ المعصية والتمردَ .
وقوله : { وَلاَ جِدَالَ فِي الحج } إشارةٌ إلى قَهْرِ القوةِ الوهْمية ، التي تحملُ الإنسانَ على الجدال في ذاتِ الله ، وصفاتِهِ ، وأفعاله ، وأحكامه ، وأسمائِهِ ، وهي البَاعِثَةُ على مُنَازعِةِ الناسِ ، ومُمَاراتِهِم ، والمخاصَمَةِ مَعَهُم في كل شَيْءٍ ، فلمّا كان سَبَبُ الشَّرِّ مَحْصُوراً في هذه الأمور الثلاثة؛ لا جرم لا يَذْكُرْ معَها غيرَها .
فصل
من الناس مَنْ عاب الاستدلالَ ، والبَحْثَ ، والنَّظر ، والجِدال؛ واحْتَجَّ بقوله تعالى : { وَلاَ جِدَالَ فِي الحج } ، وهذا يَقْتَضِي نَفْيَ جميع أنواعِ الجدال ، ولو كان الجِدَالُ في الدين طَاعَةٌ ، لما نُهِيَ عَنْهُ في الحج ، بل على ذلك التقدير ، يكونُ الاشتغالُ بالجِدَالِ ضَمَّ طاعَةٍ إلى طَاعَةٍ ، فيكون أَوْلَى بالترغيب فيه . وأيضاً قال تبارك وتعالى : { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } [ الزخرف : 58 ] ، عابهم بكونِهم مِنْ أَهْل الجَدَلِ ، فدلّ على الجدل مَذْمُومٌ ، وقال تبارك وتعالى : { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } [ الأنفال : 46 ] فنهى عن المنازعة .
وأمّا جمهور المتكلِّمين فقالوا : الجدَالُ في الدين طاعةٌ عظيمةٌ؛ لقوله تعالى : { ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 ] ، وحكى قول الكفَّار لنوح - عليه السلام - { قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا } [ هود : 32 ] ، ومعلومٌ أَنَّ ذلك الجِدال ، إنما كان لتقريرِ أُصُولِ الدين ، فيُحملُ الجدالُ المذمومُ على الجدل في تقرير الباطل ، وطلب المالِ ، والجَاهِ ، والجدالُ الممدوحُ على الجَدَلِ في تقرير الحقِّ ، ودعوةِ الخَلْقِ إلى سبيل اللِّهِ ، والذَّبِّ عن دين الله .
قولُه : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ } تقدَّمَ الكلامُ على نَظِيرتِهَا ، وهي : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } [ البقرة : 106 ] فَكُلُّ ما قيلَ ثَمَّ ، يُقالُ هُنَا . قال أبو البقاء رحمه الله « وَنَزِيدُ هنا وَجْهاً آخرَ : وهو أَنْ يَكُونَ » مِنْ خَيْر « في مَحلِّ نصبٍ نَعْتاً لمَصْدرٍ مَحْذُوفٍ ، تقديرُه : وَمَا تَفْعَلُوا فِعْلاً كَائِناً مِنْ خَيْرٍ » .
و « يَعْلَمْه » جَزْمٌ على جوابِ الشَّرط ، ولاَ بُدَّ مِنْ مَجَازٍ فِي الكَلامَ : فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَبَّر بالعِلْم عن المُجازاة على فعل الخَيْر ، كأنّهُ قِيل : يُجازِيكم ، وإِمَّا أَنْ تُقَدَّر المُجازاة بعد العِلم ، أي : فيثيبُه عَلَيْه .
وفي قوله : « وَمَا تَفْعَلُوا » التفَاتٌ؛ إذْ هو خُرُوج مِنْ غَيْبَةٍ في قوله : فَمَنْ فَرَضَ « وحُمِلَ على َمَعْنَى » مَنْ « إذ جَمَعَ الضميرَ ولم يُفْرده . وقد خَبَطَ بعضُ المُعْربين ، فقال : » مِنْ خَيْر « مُتعَلِّق بتَفْعلوا ، وهو في مَوضع نصب؛ لمصدّر محذوفٍ ، تقديرُه : » وَمَا تَفْعَلُوا فِعْلاً مِنْ خَيْر « والهاءُ في » يَعْلَمْه « تَعُودُ إلى خير . قال شهابُ الدِّين : وهذا غَلَطٌ فاحِشٌ؛ لأَنَّه مِنْ حَيْثُ عَلَّقه بالفعلِ قبله كيف يَجْعَلُه نَعْتَ مصدرٍ مَحذوفٍ؟ ولأنَّ جَعْلَه الهاءَ تعودُ إلى » خَيْر « يلزمُ منه خلوُّ جملة الجواب مِنْ ضمير يَعُودُ اسم الشَّرْطِ ، وذلك لا يجوزُ ، أَمَّا لَوْ كانَتْ أَداةُ الشَّرْطِ حَرْفاً ، فلا يُشْترطُ فيه ذلك ، فالصَوابُ ما تقدَّم . وإنما ذكرت لك هذا لِئَّلا تراه فَتَتَوهَّمَ صِحَّتَه . والهاءُ عائِدةٌ على » ما « الَّتي هي اسمُ الشَّرْطِ .
فصل
اعلم أنَّ اللَّهَ تعالى يعلمُ كُلَّ شَيْءٍ وإذا خَصَّ هُنا الخير بأنه يعلمُه لفوائِد .
أحدها : إذا علمتُ منك الخير ، ذكرتُه وشَهَرْتُه ، وإذا علمتُ مِنْك الشرَّ ، سترتُه وأخفَيْتُه؛ لِتَعلم أنّه إذا كانت رَحْمَتي بك في الدنيا هكذا فكيف في العُقْبَى؟
وثانيها : قال بعضُ المفسرين في قوله : { إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا } [ طه : 15 ] معناه : لَو أمكَنَنِي أن أُخْفيها عن نفسي ، لَفَعلتُ ، فكذا - هاهنا - كأنَّه قيل لِلْعَبْدِ : ما تَفْعَلْه مِن الشَّرِّ ، فَلَوْ أَمْكنِني أَنْ أُخْفيهُ عن نَفْسي لَفَعلتُ ذلك .
وثالثها : أنّ السُّلطان العظيم إذا قال لعبده المطيع : كُلّ ما تتحمله من المشقَّة والخِدْمة في حَقِّي ، فأنا عالِمٌ به ، ومُطَّلِعٌ عليه ، كان هذا وَعْداً له بالثَّواب العظيم ، ولَو قال ذلك لعبده المذنِبِ ، كان تَوَعُّداً له بالعِقابِ الشَّديد ، ولَمَّا كان سبحانه أكرمَ الأَكرَمِينَ؛ لا جرمَ ذَكرَ ما يَدُلُّ على الثَّوابِ ، ولم يذكرْ ما يدلُّ على العِقَابِ .
ورابعها : أَنَّ جبريل - عليه السلام - لمَّا قال : » ما الإحسان « ؟ فقال : » الإحْسَانُ : أَنْ تَعْبُد اللَّهُ كَأنَّكَ تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ « ، فهاهنا بيَّن للعبدِ أنَّه يَرَاهُ ، ويعلمُ ما يفعلهُ من الخيراتِ لتكون طاعةُ العَبْدِ للربِّ من الإحسانِ ، الذي هُو أَعْلَى دَرَجاتِ العِبَادِةِ ، فإن الخادِمَ مَتَى علم أَنَّ مخدومه مُطَّلِعٌ عليه ، ليس بغافلٍ عن أَحوالِهِ - كان أَحْرصَ على العَمَلِ .
فصل
قال القُرطبيُّ : هذا شرط وجوابه ، والمعنى أنَّ اللَّهَ يُجَازيكُم على أعمالكُم؛ لأنَّ المجازاة إنما تقعُ من العَالِمِ بالشَّيءِ .
وقيل : هو تحريضٌ وحَثٌّ على حُسنِ الكَلاَمِ مَكَانَ الفُحشِ ، وعلى البِرِّ والتَّقْوَى في الأخلاقِ مكان الفُسُوقِ والجِدَالِ .
وقيل : جعل الخير عبارةً عن ضبط أَنفُسِهم؛ حتى لا يوجد ما نهُوا عنه .
قوله : { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى } فيه قولان :
أحدهما : أن المراد تزوّدوا من التَّقْوَى؛ لقولهِ { فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى } فتحقيقٌ [ الكلام فيه : أَنَّ ] الإنسان له سَفَرانِ ، سفرٌ فى الدنيا ، وسَفَرٌ مِنَ الدُّنيا .
فالسَّفَرُ في الدنيا ، لا بُدَّ له مِنْ زَادٍ ، وهو الطَّعامُ ، والشَّرَابُ ، والمركبُ ، والمالُ والإعراضُ عمّا سِوَاهُ ، وهذا الزادُ خيرٌ مِنَ الزَّادِ الأوَّلِ لوجوه :
أحدها : أنّ زادَ الدُّنيا [ يخلصُكَ مِنْ عَذَابِ مُنْقَطِعٍ ، وزادَ الآخرة يُخَلِّصُك مِنْ عذاب دائمٍ ، وزادُ الدُّنيا ] يوصلك إلى لذَّةٍ مَمزُوجةٍ بالآلامِ ، والبلايَا ، وزادَ الآخرةِ يُوصِلكّ إلى لذَّاتِ باقيةٍ خالصةٍ عن شوائب المضَرَّةِ ، وزادُ الدنيَا يُوصِلُك إلى دُنيا مُنقضيةٍ ، وزادُ الآخرة يُوصِلُكَ إلى الآخرة ، وهي كل ساعةٍ من الإِقبالِ ، والقُرْبِ ، والوُصُول غير منقضية وزادُ الدنيا يُوصِلُكُ إلى منصة الشَّهوة والنَّفْس وزادُ الآخرة يُوصِلُكَ إلى حضرة الجلالِ والقُدُس؛ فلهذا قال : { خَيْرَ الزاد التقوى } فَاشْتغلوا بتقواي يا أولي الألباب ، يعني : إِن كُنتُم من أُولي الألباب الَّذين يعلمون حقائق الأمور فاشتغلوا بتحصيل هذا الزادِ؛ لما فيه من كثرةِ المَنافع؛ وفي هذا المعنى قال الأعشى : [ الطويل ]
995 - إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزادٍ مِنَ التُّقَى ... وَلاَقَيْتَ بَعْدَ المَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا
نَدْمِتَ عَلَى أَلاَّ تَكُونَ كَمِثْلِهِ ... وَأَنَّكَ لَمْ تَرْصْدْ كَمَا كَانَ أَرْصَدَا
والقولُ الثَّانِي : أنّ هذه الآية الكريمة نزلت في أُناسٍ مِنْ أهل اليمن ، كانوا يحجُّونَ بغير زادٍ ، ويقُولُونَ إِنّا مُتَوكِّلُونَ وكانوا يَسْأَلُونَ وربما ظَلَمُوا الناس وغصبُوهُم ، فأمرهم اللَّهُ تعالى أَنْ يَتَزوَّدُوا ما يَبْلُغُون به ، فإنّ خير الزادِ ما تكفون به وجوهكم عن السُّؤال ، وأنْفُسَكُم عن الظلم .
وعن ابن زيدٍ ، أنّ بعض قبائِلِ العربِ كانوا يحرّمُون الزادَ على الحج ، والعمرة؛ فنزلت الآية . قال ابنُ الجَوزيّ : قد لَبَسَ إِبْلِيسُ على قومٍ يَدعُون التوكُّل؛ فخرجوا بِلاَ زادٍ ، وظنُّوا أن هذا هو التوكُّلُ وهُم على غاية الخطأَ ، قال رَجلٌ لأحمد بن حَنْبلٍ : أُرِيد أَنْ أَخْرُجَ إلى مكَّةَ المشرفة على التوكُّلِ بِغَير زادٍ ، فقال له أَحْمَدُ : اخرج في غير القَافِلَةِ . فقال : لا إِلاَّ معهُم ، فقال : على جُرُب النَّاسِ تَوكلت .
وروى محمد بنُ جرير الطبري عن ابن عمر قال : كانوا إذا أَحْرَموا ، ومعهم أزودةٌ رَمَوْا به؛ فنهوا عن ذلك بهذه الآية الكريمة .
قال القاضي : فإن أرادنا تصحيح هذا القول ففيه وجهان :
الأوَّل : أنّ القادر على أنْ يستصحِبَ المالَ في السفر إذا لم يستصحبه ، عَصَى اللَّهُ تعالى في ذلك ، فبهذا الطَّرِيق يصحُ دُخُولُه تحتَ الآية الكريمة .
والثاني : أَنْ يكونَ في الكلام حَذْفٌ ، والمرادُ تَزَوَّدوا لعاجل سفركم ، ولآجِلِ ، فإِنَّ خير الزادِ التقوَى . وقيل : المعنى فإنّ خَيْرَ الزادِ ما اتقى به المسافر من الهَلَكة ، والحاجة إلى السؤال ، والتكفُّفِ ، وأَلِفُ « الزَّادِ » مُنقلبَةٌ عَنْ « واوٍ » لقولهم تَزَوَّدَ .
قولهُ : « واتَقُونِي » أَثبتَ أبو عمر « الياءَ » في قوله : « وَاتَّقُونِي » على الأصل ، وحذف الآخرون؛ للتخفيف ، ودلالة الكسرةِ عليه ، وفيه تَنْبيهٌ على كمالِ عظمةِ اللَّهِ وجلالِهِ؛ وهو كقول الشَّاعر : [ الرجز ]
996 - أَنَا أَبُوا النَّجْمِ وَشْعْرِي شِعْرِي ... قولُه { واتقون ياأولي الألباب } اعلم أَنَّ لُبَّ الشيءٍ ولُبَابَهُ هو الخَالِصُ منه .
قال النَّحاسُ : سمعت أبا إسحاق يقول : قال لي أحمدُ بن يحيى ثعلبٌ : أتعرف في كَلام العرب شيْئاً من المُضاعَفِ جاء على فَعُلَ؟ قلت : نعم ، حكى سيبويه عن يونس : لَيُبْتَ تَلُبّ؛ فاسْتَحْسَنُه ، وقال : ما أَعْرفُ له نظيراً .
واختلفوا فيه فقال بعضهم : إنّه للعقلِ؛ لأنه أشرفُ ما في الإنسان ، وبه تميز عن البهائِمِ ، وقَرُبَ مِنْ درجةِ الملائكة .
وقال آخرون : إنّه في الأَصْلِ اسمٌ للقَلْبِ الذي هو محل للعقلِ ، والقَلْبُ قد يُجعل كنايةً عن العَقلِ ، فقوله : { ياأولي الألباب } أي : يا أُولِي العُقُولِ ، وإطلاق اسم المحلِّ على الحال مجازٌ مشهُورٌ .
فإن قيل : إذا كان لا يصِحُّ إِلاَّ خِطَابٌ العقل؛ فما فائدة قوله : { ياأولي الألباب } ؟!
فالجواب : معناهُ أنّكم لمّا كنتُم مِنْ أُولِي الألباب ، تمكنتُم مِنْ معرفة هذه الأشياء ، والعَمَلِ بها ، فَكَانَ وجوبها عليكم أَثبت ، وإعراضُكم عنها أقبحَ؛ ولهذا قال الشاعر : [ الوافر ]
997 - وَلَمْ أَرَ في عُيُوب النَّاسِ شَيْئاً ... كَنَقْص الْقَادِرِيْن عَلَى التَّمَامِ
وقال تبَاركَ وتعالى : { أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [ الأعراف : 179 ] يعني : أَنَّ الأنعامَ مَعْذُورةٌ بسبب العَجزِ ، وأَمَّا هؤلاء فقادِرُون فكان إعراضهم أفحش ، فلا جرم كانُوا أَضَلَّ .
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) قوله { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } « أَنْ » في محلِّ نَصْبٍ في مَوْضعين عند سيبويه والفراء ، وجَرٍّ عند شَيْخَيْهما والأَخْفِشِ؛ لأنَّها على إضمارِ حَرْفِ الجَرِّ ، أي : في أَنْ ، وهذا الجارُّ متعلِّقٌ : إمَّا بجُناح؛ لما فيه مِنْ مَعْنَى الفِعْلِ وهو الميلُ والإِثمُ ، وما كانَ في معناهُمَا ، وإمَّا بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ ل « جُناح » فيكونُ مرفوعَ المحلِّ ، أي : جناحٌ كائنٌ في كذا .
ونقل أبو البقاء رحمه الله تعالى عن بعضهم ، أنه متعلقٌ ب « ليس » ، واسْتضْغَفُه . قال شهاب الدِّين : بل يُحْكَمُ بتخطئته ألبتة .
قوله : « مِنْ رَبِّكُمْ » يجوزُ أَنْ يتعلَّق بتبتغوا فيكون مفعولاً له ، وأَنْ يكون صِفَةٌ ل « فضلاً » ، فيكون منصوب المَحَلِّن مُتَعَلِّقاً ، بمحذوفٍ . و « منْ » في الوجهين لابْتِدَاء الغاية ، لكن فى الوجهِ الثاني تحتاجُ إلى حَذْفِ مُضافٍ أي : كَائناً مِنْ فُضولِ ربكم .
فصل
قوله تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ } يدلُّ على أنّ شُبْهَةً قَامَتْ عندهم في تحريم التجارة من وجوهٍ :
أحدها : أنَّه تبارك وتعالى منع الجِدَال في الحجِّ ، والتِّجَارةُ كثيرةُ الإفضاءِ إلى المُنازعَةِ في قلَّة القِيمَةِ وكثرتِهَا؛ فوجَبَ أَنْ تكونَ التجارة مُحَرَّمةً .
ثانيها : أنّ التجارة كانت مُحرمةً في وقت الحج في الجاهليةِ ، وذلك شيءٌ ، حسَنٌ؛ لأن المشتغل بالحج مشتغلٌ بخدمةِ الله تعالى ، فوجب ألاَّ يَشُوبَ هذا العملَ بالأطماعِ الدُّنيويَّةِ .
وثالثها : أنّ المسلمين عَلِمُوا أنّ كثيراً من المباحاتِ صارت مُحرمةً عليهم في الحج : كاللّبسِ ، والاصْطِيَادِ ، والطِّيبِ ، والمباشرة ، فغلب على ظنِّهم أنَّ الحجَّ لمَّا صار سبباً لحرمةِ اللبسِ مع الحاجَةِ إليه ، فأَوْلَى منه تحريمُ التجارةِ؛ لقلة الاحتياج إليها .
ورابعها : عند الاشتغال بالصلاةِ يَحْرُمُ الاشتغالُ بالتجارةِ؛ قال تعالى : { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع } [ الجمعة : 9 ] فلهذا السبب ، بيّن اللَّهُ تعالى - هاهنا - أنَّ التجارةَ جائزةٌ غير مُحَرَّمةٍ .
فإذا عُرِفَ هذا ، فذكر المفَسِّرُونَ في قوله : { أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } وجهين :
الأوَّل : أَنَّ المراد هو التجارة؛ نظيره قوله تعالى : { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله } [ المزمل : 2 ] وقوله : { جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } [ القصص : 73 ] ويدُلُّ عليه ما رَوَى عَطاءٌ عن ابن مسعودٍ وابن عباسٍ وابن الزُّبير أنّهم قرأوا : « أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَواسِمِ الحَجِّ » .
وقال ابن عباسٍ : كان ناسٌ من العرب يَحْتَرِزُونَ مِنَ التجارةِ في أيَّامِ الحَجِّ ، وإذا دَخَلَ العَشْرُ ، بالغوا في تَرْك البيع والشِّراء بالكية ، وكانوا يُسَمّون التاجر في الحج الدَّاجَّ ، ويقُولون : هؤلاء الدَّاجُّ ، وليسوا بالحاجِّ . ومعنى الدَّاجّ : المُكتسب الملْتَقِط ، وهو مشتقٌّ من الدَّجاجة وبلغُوا في الاحتراز عن الأعمال إلى أن امتَنَعُوا من إِغاثةِ الملهُوفِ والضعيفِ وإِطعام الجائع؛ فأزال اللَّهُ هذا الوَهْمُ وبيّن أنّه لا جُناح في التجارة ، ولما كان ما قَبْل هذه الآية في أحكامِ الحج ، وما بعدها في الحج ، وهو قوله تعالى : { فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ } دَلّ ذلك على أَنَّ هذا الحكمَ واقِعٌ في زمان الحجِّ؛ فلهذا السبب استغني عن ذكره .
وروي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنّ رجلاً قال له : إنَّا قَوْمٌ نكري ، وإنَّ قَوماً يَزْعُمونَ أنّه لا حَجَّ لنا ، فقال : أَلَسْتُم تُحْرِمُونَ كما يُحْرِمون ، وتَطُوفُونَ كما يَطُوفُونَ ، وتَرْمُونَ كما يَرْمُونَ؟ قلتُ : بَلَى ، قال : أنْتُم حُجَّاجٌ؛ وجاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عمَّا سَأَلتني ، فلم يَرُدُّ عليه؛ حَتَّى نزل قوله تعالى { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } فَدَعَاهُ ، وقال : أَنْتُم حُجَّاجٌ .
وبالجملة فهذه الآية الكريمة نزلت رَدّاً على مَنْ يقول : لا حجَّ لِلتَّاجِرِ ، والأَجِيرِ ، والجَمَّالِ .
ورَوَى عمرو بن دِينارٍ ، عن ابن عباسٍ : أنَّ عُكَاظَ ومِجَنَّةَ ، وذا المجاز كانت أسواقاً في الجاهليِّة ، يتَّجرون فيها في أيَّام الموسِم ، وكانت مَعَايشُهم مِنْهَا ، فلمّا جاء الإسلامُ ، كرهوا أنْ يَتّجروا في الحج بغير إذنٍ ، فسألَوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت الآيةُ .
وقال مجاهدٌ : إنهم كانوا لا يتبايعون في الجاهلية بِعَرفة ، ولا مِنَى ، فنزلت هذه الآيةُ ، فلهذا حمل أكثرُ المفسرين الآية على التجارةِ في أيام الحجِّ ، وحَمَلَ أبُو مُسْلم الآية على ما بعد الحج ، قال : والتقديرُ : واتقوني في كل أفعالِ الحج ، وبعد ذلك { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } ونظيره قوله تعالى : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله } [ الجمعة : 10 ] .
قال ابن الخطيب : وهذا القولُ ضعيفٌ من وجوه ، لأَنَّ قوله : { فَإِذَا أَفَضْتُم مِن عَرَفَاتٍ } يدلُّ على أنّ هذه الإفاضة حَصَلَتْ بعد ابتغاء الفَضْلِ؛ لأن الفاءَ للتَّعْقيب ، وذلك يَدُلُّ على وُقُوع التجارة فيى زَمَانِ الحج .
وأيضاً فَحَملُ الآية على موضع الشُبْهَة ، أَوْلَى مِنْ حَمْلِها على مَوْضع لا شُبْهَةَ فيه ، ومَحلُّ الشبهةِ ، هو التجارةُ في زمان الحجِّ ، وأَمَّا بعدَ فراغ الحجِّ ، فكُلُّ أَحَدٍ يعلمُ حلَّ التجارة .
فإن قيل : وكذلك أيضاً كل أَحَدٍ يعلمُ أَنَّ الصلاةَ إذا قُضِيت ، يُبَاحُ البيعُ والشِّرَاء؛ فلماذا قال : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله } .
قلنا لأنه أمَر قبله بالسَّعي ، ونهى عن البيع ، فقال : { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع } فَنَهى عن البيع بعد النِّدَاءِ ، فلمَّا قال بعده : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله } ، كأنّه قال : إِنَّ المانعَ الذي مَنَعَكُمْ من البَيْعِ قد زال؛ فانْتَشِرُوا في الأرض ، وابتغُوا من فضل الله .
وأمَّا قِياسُ الحجِّ على الصلاةِ ، فالفرقُ بينهما : أنّ الصلاة أعمالُها مُتَّصِلَةٌ ، فلا يَحِلُّ في أثنائِهَا التشاغلُ بغيرها ، وأَمّا أعمال الحج ، فهي مُتَفرِّقَةٌ بعضها عن بعضٍ ، ففي خلالها لا يبقى المرءُ على الحكم الأول ، فتصيرُ الصلاةُ عملاً واحداً من أعمالِ الحج ، لا مَجْمُوعَ الأَعْمَالِ ، وأيضاً فقوله : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة } تَصريحٌ بأَنّ الابتغاء بعد انقضاء الحج .
فإن قيل : حُكمْ باقٍ في كل تلك الأَوقاتِ؛ بدليل حُرْمَةِ التطيب واللَّبسِ .
فالجوابُ : هذا قياسٌ في مقابلة النص .
القولُ الثاني : قال أبو جعفرٍ محمد بن علي الباقر : المرادُ بقوله تعالى : { أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } هو أَنْ يبتغي الإنسانُ حال كونه حاجّاً أعمالاً أخَرَ ، تكونُ مُوجِبةً لاستحقاقِ فضْلِ الله ورحمته مِثْلَ إِعانَةِ الضَّعيف ، وإغَاثَةِ الملهوف ، وإطعام الجَائِعِ ، واعترضَ عليه القاضي : بأَنّ هذا واجبٌ ، أو مَنْدُوبٌ ، ولا يُقالُ في مِثله : لا جَنَاحَ عَليكُم فيه ، إِنَّما يُذكر هذا اللفظ في المُبَاحَاتِ .
والجوابُ : لا نُسَلِّمُ أَنَّ هذا اللفظَ لا يُذكرُ إلاّ في المُبَاحَاتِ لقوله تعالى : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة } [ النساء : 101 ] والقصْرُ مندوبٌ وكما قال تعالى : { إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } [ البقرة : 158 ] والطوافُ ركنٌ في الحج ، وإنّما أهلُ الجاهلية كانوا يعتقدون أنّ ضَمَّ سَائِرِ الطاعَاتِ إلى الحجِّ ، يُوقِعُ خَلَلاً في الحج ، ونَقْصاً؛ فبيَّن اللَّهُ تعالى بقوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جَنَاحٌ } أنّ الأمر ليس كذلك .
فصل
اتفقُوا على أنّ التجارة إنْ أوْقعت نَقْصاً في الطاعة ، لم تَكُنْ مباحةً ، وإِنْ لم تُوقِعْ نقصاً في الطاعةِ ، كانت مُبَاحةً ، وتركها أَوْلَى؛ بقوله تعالى : { وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } [ البينة : 5 ] ، والإخلاصُ هو ألاَّ يكونَ له حَامِلٌ على الفِعْل سِوى كونهِ عبادةً ، والحاصِلُ أنّ الإِذْنَ في هذه التجارة جَار مَجْرَى الرُّخَصِ .
قوله : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ } العامُ فيها جَوَابُها ، وهو « فَاذْكُرُوا » قال أبُوا البقاءِ رحمه الله « ولا تمنَعُ الفاءُ مِنْ عَمَل ما بعدَها ، فيما قَبْلَها؛ لأنه شَرْطٌ » .
ومَنَعَ أبُو حَيَّان مِنْ ذلك بما معناه : أنَّ مكانَ إنشاءِ الإِفَاضَةِ غيرُ مكانِ الذكْرِ؛ لأنَّ ذلك عَرَفَاتٌ ، وهذا المَشْعَرِ الحَرَامِ وَاقِعاً عند إِنْشاء الإِفَاضَة .
قوله : « مِنْ عَرَفَاتٍ » مُتَعلِّقٌ ب « أَفَضْتُم » والإِفَاضَةُ في الأَصْلِ : الصبُّ ، يُقالُ ، فَاضَ الإِناءُ ، إذا امْتَلأَ حَتَّى ينصبَّ عن نواحيه . ورجلٌ فيَّاضٌ ، أي : مندفقٌ بالعطاءِ؛ قال زُهيرٌ : [ الطويل ]
998 - وَأَبْيَضَ فَيَّاضٍ يَدَاهُ غَمَامَةٌ ... عَلَى مُعْتَفِيهِ مَا تُغِبُّ فَوَاضِلُهُ
وحديثٌ مستقيضٌ ، أي شائِعٌ .
ويقالُ : فاضَ الماءُ وأَفَضْتُه ، ثم يُستعملُ في الإِحْرامِ مَجَازاً . والهَمْزَةُ في « أَفَضْتُم » فيها وجهان :
أحدُهما : أنها للتعدية ، فيكون مفعولُه مَحْذُوفاً ، تقديره : أَفَضْتُم أنفسكم ، وهذا مَذْهب الزجاج ، وتبعَهُ الزَّمَخْشَريُّ ، وقَدَّره الزجاجُ فقال : معناه : دَفَعَ بعضُكم بَعْضاً والإِفَاضَةُ : الاندفاعُ في السَّيْرِ بكثيرةٍ ، ومنه يُقالُ : أَفَاضَ البَعِيرُ بجرِته ، إذا وقع بها فألقاها منبثة ، وكذلك أَفَاضَ القِداحَ في المَيْسِر ، ومعناه : جمعها ، ثم أَلقاها مُتَفَرِّقَةً ، وإِفَاضَة الماءِ من هذا؛ لأنه إذا صُبَّ ، تَفَرَّق ، والإِفَاضَةُ في الحديث ، إِنَّما هو الاندفاعُ فيه بإكثارٍ ، وتصرُّفٍ في وُجُوهِهِ؛ قال تعالى :
{ إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } [ يونس : 61 ] ، قال بعضُهم : ولَيْسَ كذلك؛ لما يأتي ، ومنه يُقال للناس : فَوْض ، ومثلهم فَوْضَى ، ويُقال : أَفَاضَت العينُ دَمْعَها ، فأصلُ هذه الكلمة : الدفعُ للشيءِ حتى يتفرقَ ، فقوله تعالى : « أَفَضْتُم » ، أي : دَفَعْتُم بكثرة ، وأصلُه : أَفَضْتُم أَنْفُسَكُم ، فتُرِك ذِكْرُ المفعول كما تُركَ في قولهم : دَفَعُوا مِنْ مَوضِعِ كَذَا ، وَصَبُّوا .
والوجه الثاني : أَنّ أَفْعَل هنا ، بمعنى « فَعَلَ » المجردِ فلا مفعول له . قال أبو حيَّان : لأنه لا يحفّظُ : أَفَضْتُ زيداً بهذا المعنى الذي شرحناه آنفاً وأَصلُ أَفَضْتُم : أفْيَضْتُم فأُعلَِّ؛ كنظائره ، بأَنْ نُقِلَتْ حَركَةُ حَرفِ العِلَّةِ على السَّاكِن قبلهُ فتحرَّك حرفُ العِلَّة في الأصل ، وانْفَتَحَ ما قبله؛ فَقُلِب ألفاً ، وهو مِنْ ذواتِ الياءِ من الفَيْض ، كما تقدَّمَ ، وليس مِنْ ذواتِ الواوِ من قولهم : فَوْضَى الناسِ ، وهم أخلاطُ الناسِ بلا سائِسٍِ .
وعَرَفات اسمُ مكانٍ مَخْصُوصٍ ، وهل هو مشقٌّ أو مُرْتَجَلٌ؟ قولان :
أحدهما : أنه مرتجلٌ ، وإليه ذهب الزمخشريُّ ، قال : « لأنَّ العَرَفَةَ لا تُعْرَفُ في أسماءِ الأجناس؛ إلا أنْ تكونَ جمعَ عارفٍ » .
والثَّاني : أنه مُشتقٌّ ، واختُلِف في اشتقاقه ، فقيل : مِنَ المَعْرِفة؛ لأنَّ إبراهيم - عليه السلام - لَمَّا عرَّفه جبريلُ هذه البقعة بالنَّعْتِ ، والصِّفَةِ؛ فَسُمِّيَتْ « عَرَفَاتٍ » قاله عليٌ ، وابنُ عبَّاسٍ وعطاءٌ والسُّدّيُّ .
قال السُّدِّيُّ : لمّا أَذَّنَ إبراهيم في الناس بالحجِّ ، فأجابوه : بالتَّلبية ، وأتاهُ مَنْ أَتَاهُ - أمَرَهُ اللَّهُ أنْ يَخْرُجَ إلى عَرَفاتٍ ، ونعتها له ، فخرج ، فلمَّا بَلَغَ الشجرة عند العقبةِ ، استقبلَهُ الشيطانُ؛ يَرُدُّهُ؛ فرماه بسبع حَصَيَاتٍ ، يُكَبّرُ مع كُلِّ حَصَاة ، فَطَار ، فَوقَعَ على الجمرة الثَّانية؛ فرمَاهُ وكبِّر [ فطار ، فَوقع على الجَمْرة الثالثة؛ فرماه وكبّر ] ، فلمّا رأى الشَّيطانُ أنَّه لا يُطيعُهُ؛ ذهب ، فانطلق إبراهيم حتَّى أتى ذا المجازِ ، فلمّا نظر إليه ، لم يَعْرِفه ، فجاز فسُمِّي ذا المجاز ، ثمَّ انطلق حتَّى وقَفَ بعرفاتٍ فعرفها بالنَّعْت؛ فسُمِّي الموقف « عَرَفَة » والموضعُ « عَرَفَاتٍ » ، حتى إذا أَمْسَى ازْدَلَف أي قَرُبَ إلى جَمع فسُمِّي المُزْدَلَفَة .
وقال عطاء : إنّ جبريل - عليه السلام - علّم إبراهيم - عليه السّلام - المَنَاسِك ، وأوْصَلَه إلى عَرَفاتٍ ، وقال له : أعَرَفْتَ كيف تَطُوفُ ، وفي أي مَوْضعٍ تَقِف؟ قال : نعم .
وقيل : إن إبراهيم - عليه السلام - وضَعَ ابنهُ إسماعيل وأمَّه هاجر بمكَّة ، ورجع إلى الشَّام ولم يَلْتَقِيا سِنين ، ثم الْتَقَيَا يوم عَرَفَة بِعَرَفَات .
وقال الضَّحَّاكِ : إنّ آدم وحَوَّاء - عليهما السلام - التَقَيَا بعرَفة ، فعرَفَ كلُّ وَاحِدٍ مِنْهُما صاحِبُه؛ فسُمِّي اليوم عَرَفَة والمَوْضِع بعَرَفَاتٍ؛ وذلك أنَّهما لمّا أُهْبِطا من الجَنَّة ، وقع آدم بسَرَنْدِيب ، وحوّاء بجَدَّة ، وإبليس ببيسان والحية ب « أصْفهان » فلمّا أَمَر الله - تعالى - آدم - عليه السّلام - بالحجِّ ، لقي حواء بعَرَفَاتٍ فتعارفا ، قاله ابن عبَّاس .
وقيل : إنّ آدم - عليه السّلام - علّمهُ جبريل مَنَاسِك الحَجِّ ، فلمّا وقَفَ بعَرَفَاتٍ قال له : أَعَرفتَ؟ قال : نعم ، فسُمِّي عَرَفَاتٍ .
وقيل : إن الحجاج يتعارَفُون بعَرَفَاتٍ إذا وَقَفُوا .
وقيل : إنّه - تبارك وتعالى - يتعرّف فيه إلى الحُجَّاجِ بالمَغْفِرة والرَّحْمة .
وروى أبو صالحٍ عن ابن عبَّاسٍ؛ أنّ إبراهيم - عليه السّلام - رأى ليلة التَّروية في منامه ، أنَّه يؤمر بذبح ولده ، فلما أصبح روَّى يومه أجمع ، أي : فكّر أمنَ الله هذه الرُّؤيا أم من الشَّيطان؟ فسمِّي اليوم يوم التَّروية . ثم رأى ذلك ليلة عرفة ثانياً ، فلمّا أصبح عرف أنّ ذلك من الله ، فسمي اليوم عرفة .
[ وقيل : مشتقَّة من العرف ، وهو الرائحة الطيبة ] .
قال تعالى : { وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ } [ محمد : 6 ] أي طيَّبها لهم ، فيكون المعنى : أن المذنبين لمّا تابوا في عرفات ، فقد تخلَّصوا من نجاسات الذُّنوب ، واكتسبوا عند الله رائحةً طيِّبة .
وقيل : أصله من الصَّبر : يقال : رجل عارفٌ؛ إذا كان صابراً خاشعاً؛ قال ذو الرُّمَّة في ذلك : [ الطويل ]
999 - . ... عَرُوفٌ لَمَا خَطَّتْ عَلَيْهِ عَلَيْهِ المَقَادِرُ
أي : صبورٌ على قضاء الله - تعالى - فسمِّي بهذا الاسم؛ لخضوع الحاجِّ وتذللِّهم وصبرهم على الدُّعاء ، واحتمال الشَّدائد لإقامة هذه العبادة .
وقيل : مشتقَّة من الاعتراف؛ لأن الحاجَّ إذا وقف اعترف للحقِّ بالربوبيَّة والجلال والاستغناء ، ولنفسه بالفقر والذِّلَّة والمسْكَنَة والحاجة .
وقيل : إنّ آدم وحوّاء - عليهما السّلام - لمّا وقفا بعرفاتٍ ، قالا : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } [ الأعراف : 23 ] قال الله - سبحانه وتعالى - : « الآن عَرَفْتُمَا أَنْفُسَكُما »
وقيل : من العرف ، وهو الارتفاع ، ومنه عرف الدّيك ، وعرفات جمع عرفة في الأصل .
ثم سمّي به بقعة واحدة كقولهم : ثوبٌ أخلاقٌ ، وبرمةٌ أعشار ، وأرضٌ سباسب ، والتَّقدير ، كان كلُّ قطعة من تلك الأرض عرفة ، فسمِّي مجموع تلك القطع بعرفاتٍ .
والمشهورُ : أنَّ عرفات وعرفة واحدٌ ، وقيل : عرفة اسم اليوم ، وعرفات اسم مكان ، وعرفة هي نعمان الأراك؛ قال الشَّاعر : [ الطويل ]
1000 - تَزَوَّدْتُ مِنْ نَعْمَانَ عُودِ أَرَاكَةٍ ... لِهِنْدٍ وَلَكِنْ مَنْ يُبْلِّغُهُ هِنْدَا
والتنوين في عرفاتٍ وبابه فيه ثلاثة أقوال :
أظهرها : أنه تنوين مقابلةٍ ، يعنون بهذا أنَّ تنوين هذا الجمع مقابلٌ لنون جمع الذكور ، فتنوين مسلماتٍ مقابلٌ لنون مسلمين ، ثم جعل كلُّ تنوين في جمع الإناث - وإن لم يكن لهنّ جمعٌ مذكرٌ - طرداً للباب .
والثاني : أنه تنوين صرف ، وهو ظاهر قول الزمخشريِّ؛ فإنه قال : « فإن قلتَ : فَهَلاَّ مُنِعَتِ الصَّرْفَ ، وفيها السببان : التعريف والتأنيث؛ قلت : لا يخلو التأنيث : إما أن يكون بالتاء التي في لفظها ، وإما بتاء مقدَّرة؛ كما هي في » سُعاد « ، فالتي في لفظها ليست للتأنيث ، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنَّث ، ولا يصحُّ تقدير التاء فيها؛ لأنَّ هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعةٌ من تقديرها ، كما لا تقدَّر تاء التأنيث في » بِنْتٍ « ؛ لأنَّ التاء التي هي بدلٌ من الواو؛ سبباً فيها ، فصار التنوين عنده للصَّرف .
وأجاب غيره من عدم امتناع صرفها : فأنَّ هذه اللَّفظة في الأصل اسمٌ لقطع كثيرة من الأرض ، كلُّ واحدة منها تسمى بعرفة ، وعلى هذا التَّقدير لم يكن علماً ، ثم جعلت علماً لمجموع تلك القطع فتركوها بعد ذلك على أصلها في عدم الصرف .
والثالثك أنَّ جمع المؤنث ، إن كان مذكرٌ؛ كمسلمات ومسلمين ، فلتنوين للمقابلة ، وإلاَّ فللصَّرف؛ كعرفاتٍ .
والمشهور - حال التسمية به - إن يُنوَّن ويعرب بالحركتين : الضمة والكسرة؛ كما لو كان جمعاً ، وفيه لغةٌ ثانيةٌ : وهو حذف التنوين تخفيفاً ، وإعرابه بالكسرة نصباً ، والثالثة : أعرابه غير منصرف بالفتحة جرّاً ، وحكاها الكوفيُّون والأخفش ، وأنشد قول امرئ القيس : [ الطويل ]
1001 - تَنَوَّرْتُهَا مِنْ أَذْرَعَاتَ وَأَهْلَهَا ... بِيَثْرِبَ أَدْنَى دَارِهَا نَظَرٌ عَالِي
بالفتح .
فصل
اعلم أنَّ اليوم الثَّامن من ذي الحجَّة يسمَّى يوم التَّروية ، والتَّاسع : يوم عرفة ، وقد تقدَّم تعليل يوم عرفة ، وأمَّا التَّريوة ففيه قولان :
أحدهما : ما تقدَّم من تروِّي إبراهيم - عليه السَّلام - في منامه ، من روَّى يروِّي تروية؛ إذا تفكَّر وأعمل فكره ورؤيَّته .
وقيل : إن آدم - عليه السلام - أمر ببناء البيت ، فلمَّا بناه تفكَّر فقال : رب ، إنَّ لكلِّ عاملٍ أجراً ، فما أجري على هذا العلم؟ قال : إذا طفت به غفرت لك ذنوبك بأول شوط من طوافك . قال : رب زدني ، قال : لأغفرنّ لأولادك إذا طافوا به ، قال : رب زدني ، قال : أغفر لكلِّ من استغفر له الطَّائفون من موحدي أولادك . قال : حسبي يا ربِّ حسبي .
وقيل : إنَّ أهل مَّة يخرجون يوم التَّروية إلى منى فيروُّون في الأدعية التي يريدون أن يذكروها في الغد بعرفات .
الثاني : من رواه بالماء يرويه؛ إذا سقاه من عطشٍ ، فقيل : إن أهل مكَّة كانوا يخفون الماء للحجيج الذين يقصدونهم من الآفاق ، وكان الحاجُّ يستريحون في هذا اليوم من مشاقِّ السَّفر ، ويتسعون في الماء ، ويروون بهائمهم بعد قلَّة الماء في الطَّريق .
وقيل : إنهم يتزوَّدون الماء إلى عرفة .
وقيل : إنَّ المذنبين كالعطاش الَّذين وردوا بحار رحمة الله - تعالى - ، فشربوا منها حتى رووا .
فصل في فضل هذين اليومين
دلّ عليه قوله تعالى : { والشفع والوتر } [ الفجر : 3 ] ، قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : « الشَّفْعُ » ؛ يوم التَّروية وعرفة ، والوتر يوم النَّحر .
وعن عبادة؛ أنه - عليه السّلام - قال : « صِيَامُ عَشْر الأضْحَى كُلُّ يومٍ مِنْها كالشَّهْرِ ، ولِمَن يَصُوم يَوْم التَّروية سَنَة ، وبصَوْم يوم عَرَفَة سَنَتَانِ »
وروى أنس عنه - عليه السلام -؛ قال : « مَنْ صَامَ يَوْمَ التَّرويَةِ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَثْلَ ثَوَابِ عِيسَى ابْنِ مَريمَ »
، وأما يوم عرفة فله عشرة أسماء خمسة منها مختصَّة به ، وخمسة يشترك فيها مع غيره ، فالخمسة الأول :
أحدها : عرفة وتقدَّم اشتقاقه .
الثاني : يوم إياس الكفَّار من دين الإسلام؛ قال - تبارك وتعالى - : { وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً } [ المائدة : 3 ] .
قال عمر ، وابن عبَّاس : نزلت هذه الآية الكريمة عشيَّة عرفة ، والنَّبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة في موقف إبراهيم - عليه السلام - : ، وذلك في حجَّة الوداع وقد اضمحلَّ الكفر وهدم شأن الجاهليَّة ، فقال النبيُّ - عليه السلام - : « لو يَعْلَمُ النَّاسُ ما لَهُم في هذه الآية ، لقَّرَّت أَعْيُنُهُم » فقال يهوديُّ لعمر : لو أنَّ هذه الآية نَزَلَت عَلَيْنَا لاتَّخَذْنَا ذَلِكَ اليَوْم عِيداً ، فقال عُمَر : أمَّا نَحْنُ فَجَعَلْنَاهُ عيدين « ؛ كان يوم عَرَفَة ويَوم الجُمَعَة ، ومعنى إياس المشركين بأنَّهم يئسوا من قوم محمَّد - عليه السَّلام - أن يرتَدّوا [ راجعين ] إلى دينهم .
الثالث : يوم إكمال الدِّين؛ نزل فيه قول تعالى : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [ المائدة : 3 ] فلم يأمرهم بعد ذلك بشيءٍ من الشَّرائع .
الرابع : يوم إتمام النِّعمة؛ لقوله فيه : { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } [ المائدة : 3 ] وأعظم النِّعم نعمة الدِّين .
الخامس : يوم الرِّضوان؛ لقوله تعالى في ذلك اليوم : { وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً } [ المائدة : 3 ] .
أما الخمسة الأُخر .
فأحدها : يوم الحجِّ الأكبر؛ قال تعالى : { وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الأكبر } [ التوبة : 3 ] وهذا الاسم مشترك بينه وبين يوم النَّحر ، واختلف فيه الصَّحابة - رضي الله عنهم - والتابعون .
فمنهم من قالك إنَّه عرفة؛ لأنَّ فيه الوقوف بعرفة » والحَجُّ عَرَفَة « فإنَّه لو أدركه وفاته سائر مناسك الحجِّ ، أجزاء عنها الدَّم ، فلهذا سمِّي بالحَجِّ الأكبر .
وقال الحَسَن : سمِّي به؛ لأنه اجتمع فيه الكفَّار والمسلمون ، ونودي فيه على ألاَّ يحجَّ بعده مشرك .
وقال ابن سيرين : إنما سمِّي به؛ لأنَّه اجتمع فيه أعياد أهل الملل كلِّها؛ من اليهود والنَّصارى وحجِّ المسلمين ، ولم يجتمع قبله ولا بعده .
ومنهم من قالك إِنَّه يوم النَّحر؛ لأن فيه أكثر مناسك الحجِّ ، فأمَّا الوقوف فلا يجب في اليوم بل يجزئ باللَّيل .
وثانيها : الشَّفع .
وثالثهما : الوتر .
ورابعها : الشَّاهد .
وخامسها : المشهود في قوله تعالى : { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } [ البروج : 3 ] .
فصل » في ترتيب أعمال الحج «
من دخل مكَّة محرماً في ذي الحجَّة أو قبله ، فإن كان مفرداً أو قارناً طاف طواف القدوم ، وأقام على إحرامه حتى يخرج إلى عرفات وإن كان متمتِّعاً طاف وسعي وحلق ، وتحلَّل من عمرته ، وأقام إلى وقت خروجه إلى عرفاتٍ ، وحينئذٍ يحرم من مكَّة بالحجِّ ويخرج ، وكذلك من أراد الحجَّ من أهل مكَّة ، والسُّنَّة أن يخطب الإمام بمكَّة يوم السَّابع من ذي الحجَّة ، بعد أن يصلِّي الظُّهر خطبة واحدة ، يأمرهم فيها بالذِّهاب غداً بعد صلاة الصُّبح إلى منى ، ويعلمهم تلك الأعمال ، ثم يذهبون يوم التَّروية وهو اليوم الثَّامن من ذي الحجَّة إلى منى ، بحيث يوافون الظُّهر بها ، ويصلُّون بها الظُّهر والعصر والمغرب والعشاء والصُّبح من يوم عرفة ، فإذا طلعت الشَّمس على ثبيرٍ يتوجَّهون إلى عرفات ، فإذا دنوا منها فالسُّنَّة ألاَّ يدخلوها ، بل يضرب فيه الإمام بنمرة ، وهي قريبة من عرفة ، فينزلون هناك حتَّى نزول الشَّمس ، فيخطب الإمام خطبتين ، يبيِّن لهم مناسك الحجِّ ، ويُحرِّضهم على كثرة الدُّعاء والتَّهليل بالموقف ، فإذا فرغ من الخطبة الاولى ، جلس ثم قال ، وافتتح الخطبة الثَّانية والمؤذِّنون يأخذون في الأذان معه ، ويخفِّف بحيث يكون فراغه من الخطبة ، مع فراغ المؤذِّنين من الأذان ، ثم ينزل فيقيم المؤذِّنون فيصلِّي بهم الظُّهر ، ثم يقيمون في الحال ويصلِّي بهم العصر ، وهذا الجمع متفقٌ عليه ، فإذا فرغوا في الصَّلاة توجَّهوا إلى عرفاتٍ ، فيقفون عند الصَّخرات موقف النَّبي صلى الله عليه وسلم ويستقبلون القبلة ويذكرون الله - تعالى - ويدعونه إلى غروب الشَّمس .
وهنا الوقوف ركنٌ لا يدرك الحجُّ إلاّ به ، فمن فاته في وقته وموضعه ، فقد فاته الحجُّ ، ووقت الوقوف يدخل بزوال الشَّمس من يوم عرفة ، ويمتدُّ إلى طلوع الفجر من ليوم النَّحر ، وذلك نصف يوم وليلة كاملة ، فإذا حضر الحاجُّ هناك في هذا الموقف لحظة واحدة من ليل أو نهار ، كفاه .
قال القرطبيّ - رحمه الله تعالى - : أجمع أهل العلم على أنَّ من وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزَّوال ، ثم أفاض منها قبل الزَّوال أنّه لا يعتدّ بوقوفه ذلك ، وأجمعوا على تمام حجِّ من وقف بعرفة بعد الزَّوال ، وأفاض نهاراً قبل اللِّيل إلاَّ مالك؛ فإنَّه قال : لا بدَّ أن يأخذ من اللَّيل شيئاً ، وأمَّا من وقف بعرفة باللَّيل ، فإنّه لا خلاف بين الأئمَّة في تمام حجِّه ، [ فإذا غربت الشَّمس ، دفع الإمام من عرفات وأخّر صلاة المغرب ] وعند أحمد - رضي الله عنه - وقت الوقوف من طلوع فجر يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر .
فصل
قال القرطبيّ : لا خلاف بين العلماء أنَّ الوقوف بعرفة راكباً لمن قدر عليه أفضل؛ لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، وعرفة كلها موقف إلاّ بطن عُرنَة .
قال : ولا بأس بالتَّعريف في المساجد يوم عرفة؛ تشبيهاً بأهل عرفة .
فصل
فإذا غربت الشَّمس دفع الإمام من عرفات ، وأخَّر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء بالمزدلفة .
وفي تسميتها بالمزدلفة أقوال :
أحدها : أنّهم يقربون فيها من منى ، والأزدلاف : القرب .
والثاني : أنّ النَّاس يجتمعون فيها ، والاجتماع الازدلاف .
والثالث : يزدلفون إلى الله - تعالى - ، أي : يتقربَّبون بالوقوف ، ويقال للمزدلفة : جمع؛ لأنَّه يجمع فيها بين المغرب والعشاء؛ قاله قتادة .
وقيل : إنّ آدم - عليه السلام - اجتمع فيها مع حوَّاء ، وازدلف إليها ، أي : دنى منها ، فإذا أتى الإمام المزدلفة ، جمع المغرب والعشاء بإقامتين ، ثم يبيتون بها ، فإن لم يبت بها فعليه دم [ شاة ] ، فإذا طلع الفجر ، صلُّوا الصُّبح بغلس ، والتَّغليس هنا أشدُّ استحباباً منه في غيره بالاتَّفاق ، فإذا صلُّوا الصبح ، أخذوا منها حصى الرَّمي ، كُلُّ إنسانِ سبعين حصاة ، ثم يذهبون إلى المشعر الحرام ، وهو جبل يقال له : « قزح » ، وسُمِّي مشعراًً؛ لأنَّه من الشِّعار وهو العلامة؛ لأنه معلم الحجِّ ، والصَّلاة والمبيت به ، والدعاء عنده من شعائر الحجِّ ، وسمِّي بالحرام لحرمته وهو أقصى المزدلفة مما يلي منى ، فيرقى عليه إن أمكنه ، أو يقف قريباً منه إن لم يمكنه ، وبحمده الله - تعالى - ويهلِّله ويكبّره إلى أن يسفر جداً ، ثم يدفع قبل طلوع الشَّمس ، ويكفي المرور كام في عرفة ، ثم يذهبون منه إلى وادي محسر ، فإذا بلغوا بطن محسر فمن كان راكباً ، حَرَّك دابته ، ومن كان ماشياً ، أسرع قدر رمية بحجر ، فإذا أتوا منى رموا جمرة العقبة في بطن الوادي بسبع حصيات ، يقطع التَّلبية مع ابتداء الرَّمي ، فإذا ذبح حلق رأسه ، أو قصَّر شعره بأن يقطع طرفه ، ثم يأتي إلى مكَّة بعد الحلق ، فيطوف بالبيت طواف الإفاضة ، ويسمّى طواف الزِّيارة ، ويصلي ركعتي الطَّواف ، ويسعى بين الصَّفا والمروة ، ثم يعود إلى منى في بقيَّة يوم النَّحر ، وعليه المبيت بمنى ليالي التَّشريق لأجل الرَّمي ، وسمِّيت « منى » لأنه يمنى فيه الدَّم ، أي : يراق ، فذا حصل الرَّمي والحلق والطَّواف ، فقد حلّ .
فصل
اعلم أنّ أهل الجاهليَّة كانوا قد غيَّروا مناسك الحجِّ عن سنَّة إبراهيم - عليه السلام - وذلك أنّ قريشاً وقوماً آخرين سمُّوا أنفسهم بالحمس ، وهم أهل الشَّدَّة في دينهم ، والحماسة الشِّدَّة ، يقال : رجل أحمس وقوم حمسٌ ، ثم إن هؤلاء كانوا لا يقفون في عرفاتٍ ، ويقولون : لا نخرج من الحرم ، ولا نتركه وقت الطَّاعة ، وكان غيرهم يقفون بعرفاتٍ والَّذين كانوا يقفون بعرفة يفيضون قبل غروب الشِّمس ، والذين يقفون بالزدلفة يفيضون إذا طلعت الشَّمس ، ويقولون : أشرق ثبير كيما نغير ، ومعناه : أشرق يا ثبير بالشَّمس ، كيما نندفع من مزدلفة ، فيدخلون في غور من الأرض ، فأمر الله - تعالى - محمَّداً - عيله السَّلام - بمخالفة القوم في الدُّفعتين ، فأمره بأن يفيض من عرفة بعد المغرب ، وبأن يفيض من مزدلفة قبل طلوع الشَّمس ، فالسُّنَّة بيَّنت المراد من الآية الكريمة .
فصل
الآية دلَّت على وجوب ذكر الله عند المشعر الحرام ، عند الإفاضة من عرفات ، والإفاضة من عرفة مشروطة بالحصول في عرفة ، ما لا يتمُّ الواجب إلاَّ به وكان مقدوراً للمكلَّف ، فهو واجبٌ ، فدلَّت الآية الكريمة على أنَّ الحصول في عرفاتٍ واجبٌ في الحجِّ ، فإذا لم يأت به لم يكن آتياً بالحجِّ المأمور؛ فوجب ألاَّ يخرج عن العهدة ، وهذا يقتضي أن يكون الوقوف بعرفة شرطاً .
أقصى ما في الباب : أنّ الحجَّ يحصل عند ترك بعض المأمورات بدليل منفصل ، إلاّ أنّ الأصل ما ذكرنا ، وذهب كثير من العلماء إلى أنّ الآية لا دلالة فيها على أنّ الوقوف شرطٌ ، ونقل عن الحسن أن الوقوف بعرفة واجبٌ ، إلاَّ أنه إن فاته ذلك ، قام الوقوف بجميع الحرم مقامه ، واتَّفق الفقهاء على أنّ الحجَّ لا يحصل إلاّ بالوقوف بعرفة .
قوله : { عِندَ المشعر الحرام } فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق ب « اذْكُرُوا » .
والثاني : أن يتعلَّق بمحذوف على أنه حالٌ من فاعل « اذْكُرُوا » أي : اذكروه كائنين عند المشعر .
والمشعر : المعلم من الشِّعار وهو العلامة؛ لأنّه من معالم الحجِّ ، وأصله قولك : شعرت بالشَّيء إذا علمته ، وليت شعري ما فعل فلانٌ ، أي : ليت بلغه وأحاط به ، وشعار الشَّيء علامته ، واختلفوا :
فقال بعضهم : هو المزدلفة ، لأن الصَّلاة والمقام والمبيت بها ، والدُّعاء عنده ، قال الواحدي في البسيط .
وقال الزَّمخشري : الأصحُّ أنه قزح وهو آخر المزدلفة .
وقال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - : والأول أقرب؛ لأنَّ الفاء في قوله : { فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام } تدلُّ على أنّ الذِّكر عند المشعر الحرام يحصل عقيب الإفاضة من عرفات ، وما ذاك إلاّ البيتوتة بالمزدلفة .
فصل
قوله : { فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام } يدلُّ على أن الحصول عند المشعر الحرام واجبٌ ، ويكفي فيه المرور به ، كما في عرفة ، فأمَّا الوقوف هناك فمسنون .
وروي عن علقمة والنَّخعي؛ أنّهما قالا : الوقوف بالمزدلفة ركنٌ بمنزلة الوقوف بعرفة ، لقوله تعالى : { فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام } ، فإذا قلنا : بأن الوقوف بعرفة ركن وليس ذكره صريحاً في الكتاب ، وإنَّما وجب بإشارة الآية الكريمة أو بالسُّنَّة - فالمشعر الحرام فيه أمر جزمٌ .
وقال جمهور الفقهاء : ليس برِكن؛ لقوله - عليه السلام - : « الحَجُّ عَرَفَةُ ، فمن وقف بعرفة ، فقد تم حجُّه » وقوله « مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَة فَقَدْ أَدْرَك الحَجَّ ، ومن فاتَهُ عَرَفَةُ فَقَدْ فَاتَهُ الحَجُّ » ، وأيضاً فقوله تعالى : { فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام } أمر بالذِّكر لا بالوقوف فالوقوف بالمشعر الحرام يقع للذِّكر ، وليس بأصلٍ ، وأمّا الوقوفَ بعرفة فهو أصلٌ؛ لأنه قال : { فإِذَآ أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ } ولم يقل عند الذكر بعرفاتٍ .
فصل
اختلفوا في الذِّكر المأمور به عند المشعر الحرام .
فقال بعضهم : هو الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء ، والصَّلاة تسمَّى ذكراً؛ قال تعالى : { وَأَقِمِ الصلاة لذكريا } [ طه : 14 ] ، وأيضاً فإنه أمر بالذِّكر هناك ، والأمر للوجوب ، ولا ذكر هناك يجب إلاَّ هذا .
وقال الجمهور : هو ذكر الله بالتَّسبيح والتَّحميد والتَّهليل .
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : كان النّاس إذا أدركوا هذه اللَّيلة لا ينامون .
قوله : « كَمَا هَدَاكُمْ » فيه خمسة أقوال :
أحدها : أن تكون « الكَافُ » في محلّ نصبٍ نعتاً لمصدر محذوفٍ .
والثاني : أن تكون في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير المقدَّر ، وهو مذهب سيبويه .
والثالثك أن يكون في محلِّ نصب على الحال من فاعل « اذْكُرثوا » تقديره : مشبهين لكم حين هداكم ، قال أبو البقاء : « ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ؛ لأنَّ الجُثَّة لا تشبه الحدث » .
ومثله : « كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ » الكاف نعت لمصدر محذوف .
قال القرطبيّ : والمعنى : « اذْكُرُوه ذكْراً حسناً كما هَدَاكُمْ هَدَاية حَسنَة » .
الثالث : أن يكون حالاً ، تقديره : فاذكروا الله مبالغين .
والرابع : للتعليل بمعنى اللام ، أي : اذكروه لأجل هدايته إيَّاكم ، حكى سيبويه رحمه الله : « كَمَا أنَّهُ لاَ يَعْلَمُ ، فتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ » . وممَّن قال بكونها للعلِّيَّة الأخفش وجماعةٌ .
و « مَا » في « كَمَا » يجوز فيها وجهان :
أحدهما : أن تكون مصدريةً ، فتكون مع ما بعدها في محلِّ جر بالكاف ، أي : كهدايته .
والثاني - وبه قال الزمخشريُّ وابن عطية - أن تكون كافَّةً للكاف عن العمل ، فلا يكون للجملة التي بعدها محلٌّ من الإعراب ، بل إن وقع بعدها اسم ، رفع على الابتداء كقول القائل : [ الطويل ]
1002 - وَنَنْصًرُ مَوْلاَنَا ونَعْلَمُ أَنَّهُ ... كَمَا النَّاسُ مَجْرُومٌ عَلَيْهِ وَجَارِمُ
وقال آخر : [ الوافر ]
1003 - لَعَمْرُكَش إنَّنِي وَأَبَا حُمَيْدٍ ... كَمَا النَّشْوَانُ والرَّجُلُ الْحَلِيمُ
أُرِيدُ هِجَاءَهُ وَأَخَافُ رَبِّي ... وَأَعْلَمُ أَنَّهُ عَبْدٌ لَئِيمٌ
وقد منع صاحب « المُسْتَوْفى » كون « مَا » كافةً للكاف ، وهو محجوجٌ بما تقدّم .
والخامس : أن تكون الكاف بمعنى « عَلَى » ؛ كقوله : { وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 185 ] .
فإن قيل : قوله تعالى : { واذكروا الله عِندَ المشعر الحرام } ثم قال : « وَاذْكُرُوهُ » فما فائدة هذا التَّكرار؟
فالجواب من وجوهٍ :
أحدها : أنّ أسماء الله - تعالى - توقيفيَّة؛ فقوله أولاً : { واذكروا الله } أمر بالذِّكر ، وقوله تعالى : { واذكروه كَمَا هَدَاكُم } أمر بأن نذكره بالأسماء والصِّفات التي بيَّنها لنا وهدانا إليها ، لا بأسماء تذكر بحسب الرَّأي والقياس .
وقيل : أمر بالذِّكر أولاً ، ثم قال : { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ } ، أي : وافعلوا ما أمركم به من الذِّكر كما هداكم لدين الإسلام ، كأنّه قال : إنَّما أمرتكم بهذا الذِّكر؛ لتكونوا شاكرين لتلك النِّعمة ، ونظيره ما أمرهم به من التكبير عند فراغ رمضان ، فقال : { وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 185 ] ، وقال في الأضاحي : { كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ } [ الحج : 37 ] .
وقيل : أمر أولاً بالذِّكر باللِّسان ، وثانياً بالذِّكر بالقلب ، فإن الذكر في كلام العرب ضربان :
أحدهما : الذِّكر ضد النِّسيان .
والثاني : الذِّكر بالقول .
فالأول : كقوله : { وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ } [ الكهف : 63 ] .
والثاني : كقوله : { فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ } [ البقرة : 200 ] ، و
{ واذكروا الله في أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } [ البقرة : 203 ] فالأول محمول على الذِّكر باللِّسان ، والثاني على الذكر بالقلب .
وقال ابن الأنباري : معنى قوله : { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ } أي : اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته .
وقيل : المراد مواصلة الذكر بالذِّكر؛ كأنه قيل لهم : اذكروا الله واذكروه ، أي : اذكروه ذكراً بعد ذكر؛ كما هداكم هداية بعد هداية ، نظيره قوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً } [ الأحزاب : 41 ] .
وقيل : المراد بالذكر الأول : ذكر الله بأسمائه وصفاته الحسنى ، والمراد بالثاني : الاشتغال بشكر نعمائه والشُّكر مشتمل أيضاً على الذِّكر .
فصل
قال بعضهم : إن هذه الهداية خاصَّة ، والمراد : كما هداكم في مناسك حجِّكم إلى سنَّة إبراهيم - عليه السلام - .
وقال بعضهم : بل هي عامَّة متناولة لكل أنواع الهدايات .
قوله : { وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضآلين } : « إنْ » هذه هي المخفَّفة من الثقيلة ، واللام بعدها للفرق بينهما وبين النافية ، وجاز دخول « إنْ » على الفعل؛ لأنه ناسخٌ ، وهل هذه اللام لام الابتداء التي كانت تصحب « إنَّ » ، أو لامٌ أخرى غيرها؛ اجتلبت للفرق؟ قولان هذا رأيُ البصريِّين .
وأمَّا الكوفيون فعندهم فيها خلاف : فزعم الفرّاء أنها بمعنى « إنْ » النافية ، واللام بمعنى « لاَّ » ، أي : ما كنتم من قبله إلاَّ من الضالِّين ، ومذهب الكسائيِّ التفصيل : بين أن تدخل على جملةٍ فعليَّة ، فتكون « إنْ » بمعنى « قَدْ » ، واللاَّم زائدةً للتوكيد؛ كقوله : { وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين } [ الشعراء : 186 ] ، وبين أن تدخل على جملةٍ ، كقوله : { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } [ الطارق : 4 ] ؛ فتكون كقول الفرَّاء .
و « مِنْ قَبْلِهِ » متعلِّقٌ بمحذوفٍ يدلُّ عليه « لَمِنَ الضَّالِّينَ » ، تقديره : كنتم من قبله ضالِّين لمن الضَّالِّين ، ولا يتعلَّق بالضالِّينَ بعده؛ لأنَّ ما بعد « أَلِ » الموصولةِ ، لا يعمل فيما قبلها ، إلا على رأي من يتوسَّع في الظرف ، والهاء في « قَبْلِهِ » عائدةٌ على « الهُدَى » المفهوم من قوله « كَمَا هَدَاكُمْ » .
وقيل : تعود إلى القرآن ، والتقدير : واذكروه كما هداكم ، بكتابه الذي بيَّن لكم معالم دينه ، وإن كنتم من قبل إنزاله عليكم من الضَّالِّين .
وقيل : إلى الرَّسول .
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) استشكل الناس مجي « ثُمَّ » هنا؛ من حيث إنَّ الإفاضة الثانية هي الإفاضة الأولى؛ لأنَّ قريشاً كانت تقف بمزدلفة ، وسائر الناس بعرفة ، فأمروا أن يفيضوا من عرفة كسائر الناس ، فكيف يجاء ب « ثُمَّ » التي تقتضي الترتيب والتراخي؟ والجواب من وجوهٍ :
أحدها : أنَّ الترتيب في الذِّكر ، لا في الزمان الواقع فيه الأفعال ، وحسَّن ذلك؛ أن الإفاضة الأولى غير مأمور بها ، إنما المأمور به ذكر الله ، إذا فعلت الإفاضة .
ثانيها : أن تكون هذه الجملة معطوفةً على قوله : { واتقون ياأولي الألباب } ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ ، وهو بعيدٌ .
ثالثها : أن تكون « ثُمَّ » بمعنى الواو ، قال بعض النُّحَاةِ : فهي لعطف كلامٍ منقطع من الأول .
قال بعضهم : وهي نظير قوله تعالى : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة فَكُّ رَقَبَةٍ } [ البلد : 12 ، 13 ] إلى قوله : { ثُّمَّ كّانَ } [ البلد : 17 ] ، أي : كان مع هذا من المؤمنين ، وفائدة « ثُمَّ » ههنا : تأخُّر أحد الخبرين عن الآخر ، لا تأخّر المخبر عنه [ عن ذلك المخبر عنه ] .
رابعها : أن الإفاضة الثانية هي من جمع إلى منى ، والمخاطبون بها جميع الناس ، قاله الضَّحَّاك ، ورجَّحه الطبريُّ ، وهو الذي يقتضيه ظاهر القرآن ، فتكون « ثُمَّ » على بابها ، قال الزمخشريُّ : « فإنْ قلتَ : كيف موقعُ » ثُمَّ « ؟ قلتُ : نحو موقِعها في قولك : أَحْسِنْ إلَى النَّاسِ ، ثُمَّ لاَ تُحْسِنْ إلَى غَيْرِ كَريمٍ » تأتي ب « ثُمَّ » ؛ لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم ، والإحسان إلى غيره ، وبُعد ما بينهما ، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات ، قال : { ثُمَّ أَفِيضُواْ } لتفاوت ما بين الإفاضتين ، وأنَّ إحداهما صواب والثانية خطأ « قال أبو حيَّان : » وليستِ الآية نظيرَ المثال الذي مَثَّلَهُ ، وخاصل ما ذكر أن « ثُمَّ » تسلب الترتيب ، وأنَّ لها معنى غيره سمَّاه بالتفاوت ، والبعد لما بعدها عمَّا قبلها ، ولم يذكر في الآية إفاضة الخطأ حتَّى تجيء « ثُمَّ » لتفاوت ما بينهما ، ولا نعلم أحداً سبقه إلى إثبات هذا المعنى ل « ثُمَّ » قال شهاب الدين - رحمه الله تعالى - : وهذا الذي ناقش الزمخشريَّ به تحاملٌ عليه ، فإنه يعني بالتفاوت والبعد التراخي الواقع بين الرتبتين ، وسيأتي له نظائر ، وبمثل هذه الأشياء لا يردُّ بها على مثل هذا الرجل .
و « مِنْ حَيْثُ » متعلِّقٌ ب « أَفِيضُوا » ، و « مِنْ » لابتداء الغاية ، و « حَيْثُ » هنا على بابها من كونها ظرف مكانٍ ، وقال القفَّال : « هي هنا لزمان الإفاضة » وقد تقدَّم أن هذا قول الأخفش ، وتقدَّم دليله ، وكأن القفال رام بذلك التغاير بين الإفاضتين؛ ليقع الجواب عن مجيء « ثُم » هنا ، ولا يفيد ذلك؛ لأن الزَّمان يستلزم مكان الفعل الواقع فيه .
و { أَفَاضَ الناس } في محلِّ جرِّ بإضافة « حَيْثُ » إليها ، والجمهور على رفع السِّين من « النَّاسُ » . وقرأ سعيد بن جبيرٍ : « النَّاسِي » وفيها تأويلان :
أحدهما : أنه يراد به آدم - عليه السَّلام - بقوله : « فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً » .
والثاني : أنيراد به التارك للوقوف بمزدلفة ، وهم جمع النَّاس ، فيكون المراد ب « النَّاسِي » جنس الناسين ، قال ابن عطيَّة : « ويجوز عند بعضهم حذف الياء ، فيقول : » النَّاسِ « بكسر السِّين ، فاكتفى بالكسرة عن الياء ، وبها قرأ الزُّهريُّ؛ كالقاص والهاد؛ قال : أمّا جوازه في العربية ، فذكره سيبويه وأمّا جوازه قراءةً ، فلا أحفظه . قال أَبو حيان : لم يجز سيبويه ذلك إلا في الشِّعر ، وأجازه الفرَّاء في اكلام ، وأمَّا قوله : » لَمْ أَحْفَظْهُ « ، فقد حفظه غيره ، حكاها المهدويُّ قراءةً عن سعيد بن جبير أيضاً .
فصل في المراد بالإفاضة
في الآية الكريمة قولان :
الأول : أنّ المراد بهذه الإفاضة من عرفات .
قال المفسِّرون : كانت قريش وحلفاؤها وهم الحمس يقفون بالمزدلفة ، ويقولون : نحن أهل الله وقطَّان حرمه ، فلا نخرج من الحرم ، ويستعظمون أن يقفوا مع النَّاس بعرفاتٍ ، وسائر العرب كانوا يقفون بعرفاتٍ ، فإذا أفاض النَّاس من عرفات ، أفاض الحمس من المزدلفة ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية الكريمة ، وأمرهم أن يقفوا بعرفات وأن يفيضوا منها كما يفعله سائر النَّاس ، والمراد بالنَّاس : العرب كلُّهم غير الحمس .
وقال الكلبي : هم أهل اليمن وربيعة ، وروي أنَّه - عليه السلام - لمّا جعل أبا بكرٍ أميراً في الحجِّ ، أمره بإخراج النَّاس إلى عرفتٍ ، فلمّا ذهب مرّ على الحمس وتركهم ، فقالوا له : إلى أين وهذا مقام آبائك وقومك فلا تذهب ، فلم يلتفت إليهم ومضى بأمر رسول الله إلى عرافتٍ ، ووقف بها وأمر سائر النَّاس بالوقوف بها ، وقال بعضهم : » أفِيضُوا « أمر عامٌّ لكلِّ النَّاس .
وقوله : { حَيْثُ أَفَاضَ الناس } المراد : إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - كان يقف في الجاهليَّة بعرفة كسائر النَّاس ويخالف الحمس .
وقال الضَّحَّاك : النَّاس ههنا إبراهيم وحده ، وإيقاع اسم الجمع على الواحد جائز إذا كان رئيساً يقتدى به ، وهو كقوله - تبارك وتعالى - : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس } [ آل عمران : 173 ] يعني به : نعيم ابن مسعود ، { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } [ آل عمران : 173 ] يعني أبا سفيان ، وهو مجاز مشهور؛ ومنه قوله : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] .
وقال القفَّال : قوله : { مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس } [ عبارة عن تقادم الإفاضة من عرفاتٍ ، وأنَّه هو الأمر القديم وما سواه فهو مبتدع محدث؛ كما يقال : هذا ممَّا فعله النَّاس قديماً .
وقال الزَّهريّ : إنّ المراد من النَّاس في هذه الآية : آدم - عليه السلام -؛ واحتج بقراءة سعيد بن جبير المتقدِّمة .
القول الثاني - وهو اختيار الضحَّاك ورجَّحه الطَّبري - : أنّ المراد بهذه الإفاضة ، هي الإفاضة من مزدلفة إلى منى يوم النَّحر ، قبل طلوع الشمس للرَّمي والنَّحر .
وقوله : { مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس } ] المراد : إبراهيم وإسماعيل وأتباعهما .
قوله : { واستغفروا الله } اسْتَغْفَرَ « يتعدَّى لاثنين ، ولهما بنفسه ، والثاني ب » مِنْ « ؛ نحو : استغفرت الله من ذنبي ، وقد يحذف حرف الجر؛ كقول القائل : [ البسيط ]
1004 - أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْباً لَسْتُ مُحْصِيَهُ ... رَبَّ العِبَادِ إِلَيْهِ الوَجْهُ والعَمَلُ
هذا مذهب سيبويه - رحمه الله - وجمهور النَّاس .
وقال ابن الطَّراوة : إنه يتعدَّى إليهما بنفسه أصالة ، وإنما يتعدَّى ب » مِنْ « ؛ لتضمنه معنى ما يتعدَّى بها ، فعنده » اسْتَغْفَرْتُ اللَّهُ مِنْ كَذَا « بمعنى تبت إليه من كذا ، ولم يجىء : » اسْتَغْفَرَ « في القرآن الكريم متعدِّياً إلاَّ للأول فقط ، فأمَّا قوله تعالى : { واستغفر لِذَنبِكَ } [ غافر : 55 ] { واستغفر لِذَنبِكَ } [ يوسف : 29 ] { فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ } [ آل عمران : 135 ] فالظاهر أنَّ هذه اللام لام العلَّة ، لا لام التعدية ، ومجرورها مفعول من أجله ، لا مفعول به . وأمَّا » غَفَر « فذكر مفعوله في القرآن تارةً : { وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله } [ آل عمران : 135 ] ، وحذف أخرى : { وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } [ المائدة : 40 ] . والسين في » اسْتَغْفَرَ « للطلب على بابها ، والمفعول الثاني هنا محذوف للعلم به ، أي : من ذنوبكم التي فرطت منكم .
فإن قيل : أمرٌ بالاستْغفارِ مطلقاً ، وربما كان فيهم من لم يُذِنبْ ، فحينذٍ لا يحتاجُ إلى الاسْتِغْفار .
فالجواب : أنّه غن كان مُذْنِباً ، فالاستِغْفار واجِب ، وإم لم يُذْنِب ، فيجوز من نفْسِه صدور التَّقْصِير في أداء الواجِبات ، والحتِراز عن المَحْظُوراتِ؛ فيجب عليه الاسْتِغْفار تَدَارُكاً لذلك لخَلَلِ المُجَوَّز ، وهذا كالمُمْتَنِنِع في حَقِّ البَشَر .
فصل
واختلف العلماء - رضي الله عنهُم - في هذه المَغْفرة الموعُودة .
فقال بعضهم : إنّها عند الدَّفع من عَرَفَاتِ إلى جمع .
وقال آخرون : إنها عند الدَّفْع من جَمْع إلى مِنىً ، وهذا مَبْنِيٌّ على الخِلاَف المُتَقَدِّم في قوله : » ثُمَّ أَفِيضُوا « على أيّ الأَمْرَين يحمل .
قال القفّال - رحمه اللَّهُ - ويتأكَّد الثَّانِي بما رَوَى نَافِعٌ عن ابن عُمَر؛ قال : » خَطَبنا رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - عشِيَّة عَرَفَة؛ فقال : « يا أيُّها النَّاسُ إن يَطَّلعُ الله عَلَيْكُم في مَقَامِكُم هذا ، فَقَبِل من مُحْسِنِكُم ، ووهب مُسِيئَكُم لمُحْسِنِكُم ، والتَّبِعَاتُ عوَّضهَا من عنده ، أفيضُوا على اسْم الله تعالى » قال أصحابُه : يا رسُول الله ، أَفَضْتَ بنا بالأَمْسِ كَئِيباً حزِيناً ، وأَفضتَ بنا اليَوْمَ فَرِحاً مَسْرُوراً ، فقال عليه السَّلام - « إنّي سَأَلْت ربِّي - عزَّ وجل - بالأمْس شَيئاً لم يَجُدْ لي به : سأَلْتُه التَّبِعَات فَأَبَى عَلَيَّ ، فلمّا كَانَ اليَوْم أَتَى جِبْرِيلُ - عليه السّلام - فقال : إنَّ رَبَّكَ يُقْرِئُكَ السَّلام ويقول : التبِعَات ضَمِنْتُ عِوَضَهَا من عِنْدِي » والله أعلم .
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) اعلم أن « قَضَى » إذا عُلِّق بفعل النَّفْس ، فالمرادُ منه الإِتْمَام والفَرَاغ؛ كقوله تعالى : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } [ فصلت : 12 ] { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة } [ الجمعة : 10 ] ، وقوله - عليه السلام - : « وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا » ، ويقال للحَاكِم عند فصل الخُصُومَةِ ، قَضَى بينهما . وإذا عُلِّق على فِعْل الغَيْر ، فالمراد به الإِلْزَام ، كقوله : { وقضى رَبُّكَ } [ الإسراء : 23 ] وإذا اسْتُعْمِل في الإعلامِ ، فالمراد أيضاً كذلك؛ كقوله : { وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الإسراء : 4 ] ، أي : أعْلَمْنَاهُم ، وهذه الآية الكريمة من القِسم الأوَّل .
وقال بعضهم : يحتمل أن يكون المُرَادُ : اذكُرُوا الله عِنْد المَنَاسِك ، ويكون المُرَادُ من هذا الذَّكرِ : ما أُمروا به من الدُّعَاءِ بعَرَفاتٍ والمشعر الحَرَام والطَّواف والسَّعي؛ كقول القائل : إذا حَجَجْتَ فَطُف وقف بعرَفَة ، ولا يُريد الفراغ من الحَجِّ ، بل الدُّخُول فيه ، وحَمَلهُم التَّأْويل صيغة الأَمر .
والمَنَاسِكُ ، جمعُ « مَنْسِكٍ » بفتح السين وكسرِها ، وسيأتي تحقيقُها ، وقد تقدَّم اشتقاقها قريباً ، والقُرَّاء على إظهار هذا ، ورُوِي عن أبي عمرو الإِدغامُ ، قالوا : شَبَّه حركة الإِعرابِ بحركةٍ البناءِ فَحَذَفَها للإِدغام ، وأدغم أيضاً « مَنَاسِككمْ » ولم يُدْغِمْ ما يُشْبِهُهُ من نحو : { جِبَاهُهُمْ } [ التوبة : 35 ] و { وُجُوهُهُمْ } [ آل عمران : 106 ] .
قال بعض المُفسِّرين : إن جعلها جمع « مَنْسَك » الذي هو المَصْدَر بمنزلة النُّسُك ، فالمراد : إذا قضيتم عبادتكُم الَّتِي أُمِرْتُمْ بها في الحَجِّ ، وإن جَعَلْتَها جمع « مَنْسَك » الذي هو مَوْضع العِبادة ، فالتَّقدير : فإذا قَضَيْتُم أعمال مناسِكِكُم ، فيكون من باب حَذْفِ المُضَاف .
إذا عُرِفَ هذا؛ فنقول : قال بعضهم : المراد بالمَنَاسِكِ ما أَمَر الله - تعالى - به في الحَجِّ من العِبَادَاتِ ، وقال مُجاهد : قضاء المَنَاسِكِ : إراقَةُ الدِّمَاء ، يقال : أنسَك الرجل يَنْسُك نُسْكاً ، إذا ذبح نسِيكته بعد رَمْي جمرة العقبة والاستقرار بمِنىً ، والفَاءُ في قوله : { اذكروا الله } تدلُّ على أنَّ الذَّكْر يجب عقيب الفراغ من المَنَاسِك؛ فلذلك اخْتَلَفُوا .
فمنهم من حمله على التكبير بعد الصَّلاَة يَوْم النَّحْر وأَيَّام التَّشْريق - على حسبِ اختِلاَفهم في وقته - أن بعد الفراغ من الحَجَّ لا ذِكْر مَخْصُوص إلاَّ التكبِير .
ومنهم من قال : بل المُراد تحويلُ القَوْم عمّا اعتَادُوهُ بعد الحَجِّ من التَّفَاخُر بالآباء؛ لأنه تعالى لم يم يَنءه عنه بهذه الآية الكريمة ، لم يَعْدلُوا عن هذه الطَّرِيقة .
ومنهم من قال : بل المُراد منه أنّ الفَراغَ من الحَجِّ يوجِبُ الإِقبَال على الدَّعاء والاستغفار؛ كما أن الإِنْسَان بعد الفَراغ من الصَّلاة يُسَنُّ أن يشتغل بالذِّكر والدُّعاء .
قوله : { كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ } الكافُ كالكاف في قوله { كَمَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 198 ] إلاَّ في كونها بمعنى « عَلَى » أو بمعنى اللام ، فَلْيُلتفتْ إليه ، والجمهورُ على نصب « آبَاءَكُمْ » مفعولاً به ، والمصدرُ مضافٌ لفاعِلِه على الأصل ، وقرأ محمدُ بنُ كعبٍ : « آبَاؤكُمْ » رفعاً ، على أنَّ المصدرّ مضافٌ للمفعولِ ، والمعنى : كما يَلْهَجُ الابنُ بذكر أبيه ، ورُوِيَ عنه أيضاً : « أَبَاكُمْ » بالإِفراد على إرادة الجنسِ ، وهي توافِقُ قراةَ الجماعة في كونِ المصدر مضافاً لفاعله ، ويَبْعُدُ أن يقال : هو مرفوعٌ على لغةِ مَنء يُجْرِي « أَبَاكَ » ونحوَهُ مُجْرَى المقْصورِ .
فصل
قال جمهور المُفسِّرين : إن القوم كانوا بعد الفراغ من الحَجِّ يبالِغُوا في الثَّنَاءِ على آبَائِهِم وفي ذكر مَناقِبهم ، فقال تعالى : { فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ } ، أي : فاجهَدُوا في الثَّنَاء على الله وشرح الآية ، كما بذلتم جَهْدَكم في الثَّناء على آبَائِكم .
وقال الضَّحَّاك والرَّبيع : اذكُرُوا الله كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُم وأمَّهَاتكم ، واكتفى بذكر الآباءِ ، كقوله تعالى : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] قالوا : وهو قول الصَّبيِّ أول ما يُفصح للكلام أَبَه أَبَه أُمَّه أُمَّه ، أي : كونوا مُوَاظِبين على ذِكْرِ الله؛ كمواظَبَة الصَّغير على ذِكْر أ [ يه وأمِّه .
وقال أبو ملسم : أجرى ذِكر الآباء مثلاً لدوام الذكْرِ ، أي : كما أنّ الرَّجُل لا يَنْسَى ذكر أبيه ، فكذلك يَجِبُ ألاّ يَغْفَل عن ذِكْر الله - تعالى - .
وقال ابن الأَنْباري : كانت العرب في الجَاهِليَّة تكثِر من القَسَم بالآباءِ والأَجْدَادِ؛ فقال تعالى : عَظِّمُوا الله كَتَعْظِيم آبَائكُم .
وقيل : كما أنّ الطِّفْل يرجع إلى أبِيه في طَلَبِ جميع مُهِمَّاتِه ، ويكون ذَاكِراً له بالتَّعظِيم فكُونُوا أنتم في ذِكْر الله كذلك .
وقيل : يُحْتَمل أنّهم كَانُوا يّذْكُرون آباءَهُم؛ ليتَوسَّلُوا بذكرهم إلى إجابة الدُّعَاء ، فعرَّفَهُم الله - تعالى - أنّ آباءَهُمْ لَيْسَوا في هذه الدَّرَجَة؛ إذ أَفْعَالُهم الحَسَنة مُحْبَطة بشِرْكِهِم .
وسُئِل ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - عن قوله تعالى : { فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } ، فقيل : يأتي على الرَّجُل اليَوْم لا يذكُر فيه أَبَاهُ .
قال ابن عبَّاس : ليس كذلك؛ ولكن هو أن تَغْضَب لله إذا عُصِيَ ، أَشَدَّ من غَضَبِك لوَالِدَيْك إذا ذُكِرا بِسوءٍ .
قوله : { أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } يجوزُ في « أَشَدَّ » أن يكونَ مجروراً ، وأَنْ يكونَ منصوباً : فأمّا جَرُّه ، فذكروا فيه وجهين :
أحدهما : أن يكونَ مجروراً عطفاً على « ذِكْركم » المجرورِ بكافِ التشبيه ، تقديرُهُ : أو كَذِكْر أَشَدَّ ذِكْراً ، فتجعلُ للذكر ذِكْراً مجازاً ، وإليه ذهب الزَّجَّاج ، وتبعه أبو البقاء - رضي الله عنه - وابن عَطيَّة .
والثَّاني : أنه مجرورٌ عطفاً على المخْفُوض بإضافة المَصْدر إليه ، وهو ضميرُ المخاطبين ، قال الزمخشريُّ : أَوْ أَشَدَّ ذكِراً في موضِع جرٍّ عَطْفاً على ما أُضيفَ إليه الذكْرُ في قوله : { كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } ؛ كما تقول : « كَذِكْرِ قُرَيْش آباءَهُمْ أو قَوْم أَشَدَّ منْهُمْ ذِكْراً » وهو حَسَنٌ ، وليس فيه تَجَوُّزٌ بأَنْ يُجْعَلَ لِلذكرِ ذِكْرٌ؛ لأنه جَعَلَ « أَشَدٌّ » من صفات الذَّاكرِينَ ، إلا أن فيه العَطْفَ على الضَّميرِ المجْرُورِ من غير إعادة الجارِّ ، وهو ممنوعٌ عند البَصْريين ، ومَحَلُّ ضرورة .
وأمَّا نصبُه فمن أوجهٍ :
أحدُها : أن يكونَ معطوفاً على « آباءَكُمْ » قال الزمخشريُّ ، فإنه قال : « بمعنى أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً مِنْ آبَائِكُم » ؛ إلى أنَّ « ذِكْراً » من فِعْلِ المذكور هو كلامٌ يَحْتاجُ إلى تفسير ، فقولُه : « هو معطُوفً على آبَاءَكُمْ » : معناه أنك إذا عَطَفْتَ « أَشَدَّ » على « آبَاءَكُمْ » ، كان التقديرُ : أو قوماً أشدَّ ذِكْراً من آبائِكُمْ ، فكان القومُ مذكورِينَ ، والذكرُ الذي هو تمييزٌ بعد « أَشَدَّ » هو من فِعْلهم ، أي : من فعلِ القوم المذكُرِين؛ لأنه جاء بعد « أَفْعَلَ » الذي هو صفةٌ للقوم ، ومعنى « مِنْ آبَائِكُمْ » أي من ذكرِكم لآبائِكُمْ ، وهذا أيضاً ليس فيه تجوزٌّ بأنْ جُعِل الذِّكْرُ ذَاكِراً .
الثاني : أن يكونَ مَعْطُوفاً على محلِّ الكاف في « كَذِكْرِكُم » ؛ لأنها عندهم نعتٌ لمصدر محذوف ، تقديرُه : « ذِكْراً كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ » وجَعَلُوا الذِّكْرَ ذاكراً مجازاً؛ كقولهم : شِعْرٌ شَاعِرٌ ، وهذا تخريج أبي عَلِيٍّ وابن جنِّي .
الثالث : قاله مَكّيٌّ : أن يكونَ منصوباً بإضمار فِعْلٍ ، قال : تقديرُه : « فاذْكرُوهُ ذِكْراً أَشَدَّ من ذِكرِكُمْ لآبائكم » ؛ فيكونَ نعتاً لمصدر في موضع الحالِ ، أي : اذكُرُوهُ بَالِغِينَ في الذِكْرِ .
الرابع : أن يكونَ مَنْصُوباً بإضمار فعْلِ الكَوْن ، قال أبو البقاء : « وعِنْدِي أنَّ الكلاَمَ محمولٌ على المَعْنى ، والتقدير : أو كُونُوا أَشَدَّ لِلَّهِ ذِكْراً منكم لآبائِكُمْ ، ودلَّ على هذا المعنى قولُه : { فاذكروا الله } أي : كونوا ذَاكِريهِ ، وهذا أسهلُ مِنْ حَمْلِه على المَجَاز » يعنى المجازَ الذي تقدَّم ذِكْرُهُ عن الفارسيِّ وتلميذه .
الخامس : أن يكون « أَشَدَّ » نَصْباً على الحال مِنْ « ذِكْراً » ؛ لأنه لو تأخَّرَ عنه ، لكان صفةٌ له؛ كقوله : [ مجزوء الوافر ]
1005 - لِمَيَّةَ مُوحِشاً طَلَلُ ... يَلُوحُ كَأَنَّهُ خِلَلُ
« مُوحِشاً » حالٌ من « طَلَل » ؛ لأنَّه في الأصل صفةٌ ، فلما قُدِّم تعذَّر بقاؤه صفةً ، فَجُعِلَ حالاً ، قاله أبو حيَّانّ - رحمه الله تعالى - ، فإنه قال بعد ذكْره ثلاثةَ أوجه لنصبه ، ووجهين لجَرِّه : « فهذه خمسةُ أوجه كلُّها ضعيفةٌ ، والذي يتبادر إلى الذِّهْنِ في الآية أنهم أُمِرُوا بأَنْ يَذْكُروا الله ذِكْراً يُمَاثِلُ ذِكْرَ آبائِهِم ، أَوْ أَشَدَّ ، وقد ساغ لنا حَمْلُ هذه الآية الكريمة لعيه بوجهٍ ذُهِلُوا عنه » ، فَذَكَر ما تقدَّم ، ثم جَوَّز في « ذِكْراً » - والحالةُ هذه - وجْهَين :
أحدهما : أن يكونَ معطوفاً على مَحَلِّ الكاف في « كِذِكْرِكُمْ » ، ثم اعترضَ على نفسِه في هذا الوجه؛ بأنه يلزم منه الفصلُ بين حرفِ العطف ، وهو « أَوْ » وبين المعطوف وهو « ذِكْراً » بالحال ، وهو « أَشَدَّ » ، وقد نصَّ النحويون على أن الفصْلَ بينهما لا يجوز إلا بشرطَيْن :
أحدهما : أن يكون حرفُ العطفِ أكثرَ من حرفٍ واحد .
والثاني : أن يكونَ الفاصلُ قَسَماً ، أو ظَرْفاً أو جَارّاً ، وأحدُ الشرطَيْنِ موجودٌ ، وهو الزيادةٌ على حرِفٍ ، والآخرُ مفقودٌ ، وهو كونُ الفاصل ليس أحدَ الثلاثةِ المتقدِّمة ، ثم أجابَ بأن الحالَ مقدَّرةٌ بحرفِ الحر وشَبَّهه بالظرفِ ، فَأُجْرِيَت مُجْرَاهُمَا .
والثاني : من الوجْهَيْن في « ذِكْراً » أن يكونَ مصدراً لقوله : « فَاذْكُرُوا » ، ويكون قوله : « كَذِكْرِكُمْ » في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ « ذِكْراً » ؛ لأنها في الأصل صفةٌ له ، فلما قُدِّمتْ ، كانَتْ في محلِّ حالٍ ، ويكون « أَشَدَّ » عطفاً على هذه الحال ، وتقديرُ الكلامَ « » فاذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَذِكْرِكُمْ ، أي : مُشْبِهاً ذِكْرَكُمْ أَو أَشَدَّ « ؛ فيصيرُ نظيرَ : » اضْرِبْ مِثْلَ ضَرْبِ فُلاَنِ أَوْ أَشَد « الأصل : اضْرِبْ ضَرْباً مِثْلَ ضَرْبِ فُلاَنِ أَوْ أَشَدَّ .
و » ذِكْراً « تمييزٌ عند غير الشَّيح كما تقدَّم ، واستشْكَلُوا كونَه تمييزاً منصوباً؛ وذلك أن أفعلَ التفضيل يجب أن تُضَاف إلى ما بعدها ، إذا كان مِنْ جنسِ ما قبلها؛ نحو : » وَجْهُ زَيْدٍ أَحْسَنُ وَجْهٍ « ، » وعِلْمُهُ أَكْثَرُ عِلْم « وإنْ لم يكن مِنْ جنسِ ما قبلها ، وجَبَ نصبُه؛ نحو : » زَيْدٌ أَحْسَنُ وَجْهاً ، وخَالِدٌ أَكْثَرُ عِلْماً « ، إذا تقرَّر ذلك ، فقوله : » ذِكْراً « هو من جنس ما قبلها ، فعلَى ما قُرِّر ، كان يقتضي جَرَّه ، فإنه نظيرُ : » اضْرِبْ بَكْراً كَضَرْبِ عَمْرٍو زَيْداً أَوْ أَشَدَّ ضَرْبٍ « بالجرِّ فقط . والجوابُ عن هذا الإِشكالِ مأَخوذٌ من الأوجه المتقدِّمة في النصب والجر المذكورَيْن في » أَشَدَّ « ؛ من حيث أن يُجْعَلَ الذِّكْرُ ذاكراً مجازاً؛ كقولهم : » شِعْرٌ شَاعِرٌ « ؛ كما قال به الفارسيُّ وصاحبُه ، أو يُجْعَلَ » أَشَدَّ « من صفاتِ الأعيان ، لا من صفاتِ الإِذكار؛ كما قال به الزمخشريُّ ، أو يُجْعَلَ » أَشَدَّ « حالاً من » ذكْراً « أو ننصبّه بفعْلٍ و » أو « هنا قيل للإِباحةِ ، وقيل للتخيير ، وقيل : بمعنى بَلْ ، وهو قول أكثر المفسِّرين .
قوله : { فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا } » مَنْ « مبتدأٌ ، وخبرُه في الجارِّ قبله ، ويجوز أن تكونَ فاعلةً عند الأخفش ، وأن تكونَ نكرةً موصوفةً ، وفي هذا الكلام التفاتٌ؛ إذ لو جَرَى على النسقِ الأولِ ، لقيل : » فَمِنْكُمْ « ، وحَمِل على معنى » مَنْ « ؛ إذ جاء جَمْعاً في قوله : » رَبِّنَا آتِنَا « ، ولو حُمِل على لفظِها ، لقال » رَبِّ آتِني « .
وفي المفعول الثاني ل » آتِنَا « - لأنه يتعدَّى لاثْنَيْنِ ثانيهما غيرُ الأَوَّل - ثلاثةُ أقوال :
أظهرها : أنه محذوفٌ؛ اختصاراً أو اقتصاراً؛ لأنه من باب » أَعْطَى « ، أي : آتِنا ما نُريدُ ، أو مطلوبَنَا .
والثاني : أن « فِي » بمعنى « مِنْ » أي : من الدنيا .
والثالث : أنها زائدٌ ، أي : آتِنا الدنيا ، ولَيْسَا بشيء .
فصل
واعلم أنَّه بيَّن أولاً منَاسِكَ الحَجِّ ، ثم أمر بَعْدَها بالذِّكْرِ ، ثم بيّن بعد الذِّكْرِ كيفيَّة الدَّعَاء ، وهذا من أحسن التَّرْتيب؛ فإنّ تقديم العِبَادة يكسر النَّفْسَ ، وبعد العِبَادة لا بُدَّ من الاشْتِغال بذكْرِ الله ، فإن به يَكْمُل الدُّعَاء؛ كما حُكِيَ عن إبراهيم - عليه السَّلام -؛ أنّه قدَّم الذِّكْر على الدُّعاء ، فقال : { الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 78 ] ثم قال : { رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين } [ الشعراء : 83 ] ثم بيَّن - تبارك وتعالى - أنّ الَّذِين يَدْعُون فَريقان : أحدهما يطلب الدُّنْيَا ، والثَّاني يطلب الدُّنْيَا والآخِرة ، وقد بقي قِسْمٌ ثالثٌ وهو طلب الآخِرَةِ؛ واخْتَلَفُوا في هذا القِسْم : هل هو مَشْرُوعٌ أم لا؟ والأكثرونَ على أنّه غير مشورع؛ لأن الإنسان ضعيف لا طاقة له بآلام الدُّنيا؛ فالأولى أن يستعيذ بربِّه من كل شرِّ في الدُّنيَا والآخِرة .
روى القفَّال في « تَفْسيرِه » عن أنس - رضي الله عنه - « أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ على رَجُلٍ يعُودُ ، قد أنهَكُه المَرَضُ حتَّى صَارَ كالفَرْخ ، فقال : ما كُنتُ تدعُوا الله به قَبْلَ هذا؟ قال : كُنْتُ أقُولُ : اللَّهُمَّ ما كُنتَ تُعاقِبني به في الآخِرة فَعَجِّل بِهِ في الدُّنْيا ، فقال النبيُّ - عليه السلام - : سبحان الله!! إنّك لا تُطِيقُ ذلك؛ هلا قُلْتَ : » ربنا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَة وفي الآخِرَةِ حَسَنَة وقِنَا عَذَابَ النَّارَ « قال : فدَعَا له رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فَشُوفِي »
فصل
اختلفوا في الَّذِين يَقتَصِرُون في الدُّعاء على طلب الدُّنْيَا على قَوْلَيْن .
فقال قوم : هم الكُفَّار؛ رُوِي عن ابن عَبَّاس - رضي الله عنهما -؛ أنّ المُشْركين كانوا إذا وقَفُوا للدُّعاء ، يقولون : اللَّهُمَّ أعطِنا غنماً وإبلاً وبقراً ، وعبيداً ، وإماءً ، وكان الرَّجُل يقوم ويقُول : اللَّهُم إنّ أبي كان عظيم القُبَّة ، كبير الجَفْنَة ، كثير المال؛ فأعطني مثلما أعطيْتَه ، ولم يَطْلُبُوا التَّوْبة والمغفِرة؛ لأنهم كانوا مُنْكِرين البعثَ والمَعَاد .
وعن أنسٍ؛ كانوا يقولون : اسْقِنا المطر ، وأَعْطِنا على عَدُوِّنا الظَّفَر ، فأخبر الله - تعالى - أنَّ من كان هكذا ، فلا خلاق لهُ في الآخِرَة ، أي : لا نَصِيبَ لهُ .
قال القرطبي : فنهُوا عن ذلك الدُّعاء المَخْصُوص بأمرِ الدُّنْيَا ، وجاء النَّهْي بصيغة الخَبَر عَنْهُم .
وقال آخرون : قد يكُونُوا مؤمِنِين ، ويسألون الله - تعالى - لِدُنياهُم لا لآخِرَتِهِم ، ويكون سُؤَالُهم هذا ذَنباً؛ لأنهم سأَلُوا الله في أعظم المواقف حُطام الدُّنْيَا الفَانِي ، وأعْرَضُوا عن سُؤَال نعيم الآخِرة ، ويقال لِمَن فَعَل ذَلِك : أنّه لا خَلاَقَ لَهُ في الآخِرةِ ، وإن كان مُسْلِماً؛ كما رُوِي في قوله - تعالى -
{ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة } [ آل عمران : 77 ] أنها نزلت فيمن أخذ مالاً بيمينٍ فاجرةٍ .
ورُوِي عن النَّبيّ - عليه السَّلام - : إنّ الله يُؤَيِّد هذا الدِّين بأقْوَامٍ لا خَلاَق لَهُم ، ومعنى ذلك على وجوهٍ .
أحدها : أنّه لا خلاق له في الآخرة إلاّ أن يَتُوب .
الثاني : لا خلاق له في الآخرة إلاّ أن يَعْفُوا الله عنهُ .
والثالث : لا خلاق له في الآخرة كخلاق من سأَلَ الله - تعالى - لآخرته ، وكذلك لا خلاق لمن أخذ مالاً بيمِينٍ فاجرةٍ ، كَخلاق من تورَّع عن ذلك؛ ونظير هذه الآيةِ قوله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] .
قوله تعالى : { فِي الآخرة حَسَنَةً } [ البقرة : 201 ] يجوز في الجارِّ وجهان .
أحدهما : أن يتعلَّق ب « آتنا » كالذي قبله .
والثاني : أجازه أبو البقاء أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حالٌ من « حَسَنَةٌ » ؛ لأنه كان في الأصل صفةً لها ، فلما قُدِّم عليها ، انتصَبَ حالاً .
قوله : { وَفِي الآخرة حَسَنَةً } هذه الواوُ عاطفةٌ شيئَيْن على شيئَيْن متقدِّمَيْن ف « في الآخِرةِ » عطفٌ على « في الدُّنْيَا » بإعادةِ العاملِ ، و « حَسَنَةٌ » عطفٌ على « حَسَنَةً » ، والواو تَعْطِفُ شيئين فأكثرَ ، على شيئين فأكثرَ؛ تقول : « أَعْلَمَ اللَّهُ زَيْداً عَمْراً فَاضِلاً ، وَبَكْراً خَالِداً صَالِحاً » ، اللهم إلا أن تنوبَ عن عاملين ، ففيها خلافٌ وتفصيلٌ يأتي في موضعِه - إنْ شاء الله - ، وليس هذا كما زعم بعضُهُم : أنه من بابِ الفصْلِ بين حرفِ العطفِ وهو على حرفٍ واحد ، وبين المعطوفِ بالجارِّ والمجرور ، وجعله دليلاً على أبي عليٍّ الفارسيِّ؛ حيثُ منع ذلك إلا في ضَرَورةٍ؛ لأن هذا من باب عَطْفِ شيئين على شيئين؛ كما ذكرتُ لك ، لا من باب الفصلِ ، ومحلُّ الخلافِ إنما هو نحو : « أَكْرَمْتُ زَيْداً وَعِنْدَك عَمْراً » ، وإنما يُرَدُّ على أبي عَليٍّ بقولِه : { إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل } [ النساء : 58 ] وقوله تعالى : { الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ } [ الطلاق : 12 ] .
فصل
ذكر المفسِّرُون في الحُسْنَيين وجوهاً :
قال عليٌّ بن أبي طالب : في الدُّنيا امرأة صالحة ، وفي الآخِرَة الجنَّة؛ رُوِي عن رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ أنه قال : الدُّنْيَا كُلُّهَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِهَا المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ .
وقال الحسن : في الدُّنيا حَسَنَة العلم والعِبَادةً ، وفي الآخِرَة : الجَنَّة والنظر .
روى الضحّاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ؛ « أنّ رجلاً دَعَا ربَّه فقال : » رَبِنا آتِنَا في الدُّنْيا حَسَنة وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَاَ النَّارِ « فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : » ما أَعْلَمُ أنّ هذا الرَّجُل سأَلَ الله شَيْئاً من أمر الدُّنْيَا « ، فقال بَعْضُ الصحابة : بَلَى يا رسُول الله إنّه قال : » ربَّنّا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة « ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » إنّه يَقُول ربَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا عملاً صَالِحاً «
وقال السُّدِّيُّ وابن حيان : في الدُّنْيَا رِزْقاً حَلاَلاً وعَمَلاً صَالِحاً ، وفي الآخرة المَغْفِرة والثَّوَاب .
وقال عوف : من آتاهُ الله الإِسْلام والقُرْآن وأَهْلاً ومالاً ، فقد أُوتِي في الدُّنْيا حَسَنَة وفي الآخِرة حسَنَة .
وقيل : الحَسَنة في الدُّنْيا الصِّحَة والأَمن ، والكفاية ، والولد الصَّالِح ، والزَّوجَة الصَّالحة ، والنُّصْرة على الأَعْداء؛ لأن اللَّهَ تعالى سمَّى الخَصْب والسَّعَة في الرِّزق حسَنة؛ فقال : { إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ } [ التوبة : 50 ] .
وقيل في قوله تعالى : { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين } [ التوبة : 52 ] أنهما الظَّفَر والنُّصْرة ، وأمّا الحَسَنةُ في الآخِرة فهي الفوز بالثَّواب والخلاص من العِقاب .
وقال قتادة : هو طَلَبُ العافية في الدَّارَيْن .
وبالجُمْلة فهذا الدُّعاء جامِعٌ لجميع مطالب الدُّنْيَا والآخرة؛ روى ثابتٌ؛ أنَّهم قالوا لأَنس : ادع لنا ، فقال : « اللَّهُ آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنة وفي الآخِرَة حَسَنَة وقِنا عَذَاب النَّار » قالوا : زدنا ، فأعادها ، قالوا : دزنا ، قال : ما تُرِيدون؛ قد سأَلتُ لك خير الدُّنيا والآخرة .
وعن أنس؛ قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِر أن يَقُول : « رَبَّنا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنة وفي الآخرة حَسَنةً وقِنا عذاب النَّارِ »
وعن عبد الله بن السَّائِب؛ أنّه سمع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقُول فيما بين رُكْن بني جمح والرُّكن الأَسود « رَبِنا آتِنَا في الدُّنْيا حَسَنَة وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ »
فصل
قال ابن الخطيب : اعلم أن مَنْشأ البَحث في الآية الكريمة أنّه لو قِيلَ : آتِنا في الدنيا الحَسَنَة وفي الآخِرة الحَسَنة ، لكان ذلك مُتَنَاوِلاً لكل الحَسَناتِ ، ولكنه قال : « آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الآخِرَة حَسَنَةً » ، وهذا نَكِرَة في محلِّ الإثبَاتِ ، فلا يتنَاول إلاّ حَسَنةً واحِدَة؛ فلذلك اخْتَلف المُفَسِّرون ، فكل واحد منهم حَمَل اللَّفظ على ما رآه أَحْسَن أَنْوَاع الحَسَنة ، وهذا بناء منه على أنّ الفَرْد المُعَرَّف بالأَلف واللاَّم يَعمُّ ، وقد اختار في « المَحْصُول » خلافه .
ثم قال : فإن قيل : أليس أنّه لو قيل : آتِنَا الحَسَنة في الدُّنيا والحَسَنة في الآخِرَة ، لكان مُتَنَاوِلا لكلِّ الأقْسَام ، فلم تَرَك ذلك وذكره مُنكِّراً؟
وأجاب بأن قال : إنّ بَيَّنَّا أنّه ليس للدَّاعِي أن يَقُول : اللهم أَعْطِني كَذَا وكَذَا ، بل يجب أن يقول : اللَّهُم إن كان كّذَا مَصْلَحَةً لي ، وموافِقاً لقَضَائِك وقَدَرِك ، فأَعْطِني ذَلِك ، فلو قال : اللهم أَعْطِني الحَسَنَة في الدُّنْيَا ، لكان ذلك جَزْماً ، وقد بَيَّنَّا أنّه غير جَائِز ، فلمّا ذكَرَه على سبيل التَّنْكِير ، كان المراد منه حَسَنَة واحدة ، وهي التي تُوَافِقُ قَضَاءَه وقدَرضه ، وكان ذلك أحسن وأقْرَب إلى رعايته الأَدَب .
وقوله : « فِنَا » : ممَّا حُذِفَ منه فأؤُه ولامُه من وَقَى يقي وِقَايةً ، أمَّا حذفُ فائه ، فبالحَمْلِ على المضارع؛ لوقوع الواوِ بين ياءٍ وكسرةٍ كما حُذِفَت يقي ويَشي مثل بعد ، هذا قول البصريِّين ، وقال الكُوفِيُّون : حُذِفت فرقاً اللازم والمُتَعدِّي .
قال محمَّد بن زيد : وهذا خطأ؛ لأن العرب تقول : وَرِمَ يَرِمُ ، فيحذفون الواو وأمَّا حذفُ لامِهِ؛ فلأنَّ الأمر جارٍ مَجْرَى المضارع المجزوم ، وجزمِه بحذفِ حرفِ العلةِ؛ فكذلك الأمرُ منه ، فوزن « قِنَا » حينئذ : عِنَا ، والأصل : اوْقِنَا ، فلمَّا حُذِفَت الفاءُ اسْتُغُنِي عن همزةِ الوصل ، فَحُذِفَتْ ، و « عَذَابَ » مفعولٌ ثانٍ .
قوله تعالى : « أُولَئِكَ » مبتدأ و « لَهُمْ » خبرٌ مقدم ، و « نَصِيب » مبتدأ ، وهذه الجملةُ خَبرُ الأولِ ، ويجوز أن يكونَ « لَهُمْ » خبرَ « أولئك » ، و « نَصِيب » فاعلٌ به؛ لما تضمنَّه من معنى الفعلِ لاعتمادِه ، والمشارُ إليه ب « أُولئكَ » فيه قولان :
أظهرهُما : أنهما الفريقان : طالبُ الدنيا وحدَها وطالبُ الدنيا والآخرة ، وقيل : بَلْ لِطَالب الدنيا والآخرة؛ لأنه - تعالى - ذكر حكم الفريق الأَوَّل؛ حيث قال : { وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ } .
قوله : { مِّمَّا كَسَبُواْ } متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ ل « نَصِيب » ، فهو في محلِّ رفعٍ ، وفي « مِنْ » ثلاثةُ أقوال :
أحدُها : أنها للتبعيض ، أي : نصيب من جِنْس ما كسبوا .
والثاني : أنها للسببيةِ ، أي : مِنْ أَجْلِ ما كَسَبُوا .
والثالث : أنها للبيان .
فصل
قال ابن عَبَّاس في قوله : { أولئك لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ } : هو الرَّجُل يأخُذُ مالاً يَحُجُّ به مِنْ غيره؛ فيكون له ثَوَابٌ .
و « ما » يجوزُ فيها وجهان : أن تكونَ مصدريةً ، أي : مِنْ كَسْبِهِمْ؛ فلا تحتاجُ إلى عائدٍ .
والثاني : أنها بمعنى « الَّذِي » ، فالعائدُ محذوفٌ؛ لاستكمال الشروط ، أي : مِنض الذي كَسَبُوه .
و « الكَسْبُ » : يُطلق على ما يَنَالهُ العَبْد بعمله ، بشرط أن يكُونَ لجرِّ مَنْفَعةٍ ، أو دفع مضرَّة .
قوله : { والله سَرِيعُ الحساب } السَّريع فاعل من السُّرْعة قال ابن السِّكِّيت : سَرُعَ يَسْرُع سَرْعاً وسُرْعَة ، فهو سَرِيعٌ؛ مثل عَظُم يَعْظُم .
و « الحِسَاب » مصدر كالمُحَاسَبَة ، ومَعْنى الحساب في اللُّغةِ : العدُّ؛ قال حَسَب يَحْسُبُ حِساباً وحسبَة وحَسْباً إذا عَدّ ذكره الليث وابن السِّكِّيت ، والحَسْب ما عُدَّ؛ ومنه حَسَبُ الرَّجُل : وهو ما يُعَدُّ من مآثِرِه ومَفَاخِرِه ، والمعنى أنّ الله سريع الحساب ، لا يَحْتَاج إلى عَدٍّ ولا إلى عَقدٍ كما يَفْعَلُه الحسَّابُ ، والاحْتِسَاب : الاعتِدَاد بالشَّيْء .
وقال الزّجَّاج : الحِسَاب في اللُّغة مأخوذٌ من قَوْلهم : « حَسْبُك كذا » ، أي : كَفَاك ، فسُمِّي الحِسَابُ في المُعَامَلات حِسَاباً؛ لأنّه يُعلم به ما فيه كِفَايَة ، وليس فيه زِيَادة على المِقْدَار ولا نُقْصَان .
وقيل : { والله سَرِيعُ الحساب } قال الحَسَن : أسْرَع مِنْ لَمْحِ البَصَر .
وقيل : إتْيَان القِيَامة قريبٌ؛ لأن ما هو أتٍ لا مَحَالَة قَرِيب؛ قال - تعالى - { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ } [ الشورى : 17 ] .
وقيل : سريع الحساب ، أي : سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم؛ لأنّه - تعالى - في الوقت الواحد يسأله السَّائلون ، كلُّ واحدٍ منهم أشياء مختلفة من أمور الدُّنيا والآخرة ، فيعطي كلَّ واحد مطلوبه من غير أن يشتبه عليه شيء من ذلك .
فصل في أن الله هو المحاسب
اختلف الناس في معنى كونه - تعالى - محاسباً للخلق على وجوه :
أحدها : أنّ معنى الحساب : أنّه - تعالى - يعلِّمهم ما لهم و [ ما ] عليهم ، بمعنى أنّه يخلق علوماً ضروريّة في قلوبهم ، بمقادير أعمالهم وكمِّيَّاتها وكيفيَّاتها ، ومقادير ما لهم من الثَّواب والعقاب .
قالوا : ووجه المجاز فيه أنّ الحساب سبب لحصول علم الإنسان بمال له و [ ما ] عليه ، فإطلاق اسم الحساب على هذا الإعلام يكون من باب إطلاق اسم السَّبب على المسبِّب ، وهو مجاز مشهورٌ .
ونقل عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنّه قال : لا حساب على الخلق ، بل يقفون بين يدي الله - تعالى - ، يعطون كتبهم بأيمانهم فيها سيئاتهم ، فيقال لهم : هذه سيِّئاتكم قد تجاوزت عنها ، ثم يعطون حسناتهم ، ويقال لهم : هذه حسناتكم قد ضاعفتها لكم .
الثاني : لأنّ المحاسبة عبارة عن المجازاة؛ قال - تبارك وتعالى - { وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً } [ الطلاق : 8 ] ، ووجه المجاز : أنَّ الحساب سبب للأخذ والعطاء ، وإطلاق اسم السَّبب على المسبّب جائزٌ؛ فحسن إطلاق لفظ الحساب على المجازاة .
الثالث : أنّه تتعالى يكلِّم العباد في أحوال أعمالهم ، وكيفيَّة ما لها من الثّضواب والعقاب ، فمن قال : إن كلامه ليس بحرف ولا صوتٍ ، قال : إنّه تعالى يخلق في أذن المكلَّف سمعاً يسمع به كلامه القديم؛ كما أنّه يخلق في عينيه رؤية يرى بها ذاته القديمة ، ومن قال : إنه صوت ، قال : إنّه - تعالى - يخلق كلاماً يسمعه كلُّ مكلَّف ، إمّا بأن يخلق ذلك الكلام في أذن كلِّ واحدٍ منهم ، أو في جسم يقرب من أذنه ، بحيث لا تبلغ قوَّة ذلك الصوت أن تمنع الغير من فهم ما كلِّف به ، والله أعلم .
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) قوله : { مَعْدُودَاتٍ « : صفة لأيام ، وقد تقدَّم أن صفة ما لا يعقل يطَّرد جمعها بالألف والتاء ، وقد ذكر أبو البقاء هنا سؤالاً؛ فقال : إن قيل » الأيَّام « واحدها » يَوْم « و » المَعْدُودَات « واحدتها » مَعْدُودَةٌ « ، واليوم لا يوصف بمعدودة ، لأنَّ الصفة هنا مؤنثة ، والموصوف مذكَّر ، وإنما الوجه أن يقال : » أَيَامٌ مَعْدُودَةٌ « فتصف الجمع بالمؤنث ، فالجواب أنه أجرى » مَعْدُودَاتٍ « ، على لفظ » أَيَّام « ، وقابل الجمع بالجمع مجازاص ، والأصل » مَعْدُودَة « ؛ كما قال : { لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } [ البقرة : 80 ] ، ولو قيل : إن الإيام تشتمل على السَّاعات ، والساعة مؤنَّثة ، فجاء الجمع على معنى ساعات الأيَّام ، وفيه تنبيه على الأمر بالذِّكر في كلِّ ساعات هذه الأيام ، أو في معظمها ، لكان جواباً سديداً ، ونظير ذلك الشهر والصَّيف والشتاء؛ فإنها يجاب بها عن » كَمْ « ، و » كَمْ « إنما يجاب عنها بالعدد ، وألفاظ هذه الأشياء ليست عدداً ، وإنما هي أسماء المعدودات ، فكانت جواباً من هذا الوجه . قال شهاب الدين وهذا تطويل من غير فائدةٍ ، وقوله » مفرد معدوداتٍ معودةٌ بالتأنيث « ممنوعٌ ، بل مفردها » مَعْدُود « بالتذكير ، ولا يضرُّ جمعه بالألف والتاء ، إذ الجمع بالألف والتاء لا يستدعي تأنيث المفرد؛ ألا ترى إلى قولهم : حمَّمات وسجلاَّات وسرادقات .
قال الكوفيُّون : الألف والتَّاء في » مَعْدُودَاتٍ « لأقلِّ العدد .
وقال البصريُّون : هما للقليل والكثير؛ بدليل قوله تعالى : { وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ } [ سبأ : 37 ] والغرفات كثيرة .
فصل
اعلم أنّ الله - تعالى - لمّا ذكر المشعر الحرام ، لم يذكر الرَّمي لوجهين :
أحدهما : أنّ ذلك كان أمراً مشهوراً عندهم ، وكانوا منكرين لذلك إلاّ أنّه - تعالى - ذكر ما فيه من ذكر الله - تعالى - ؛ لأنهم كانوا لا يفعلونه .
الثاني : لعلَّه إنما لم يذكر الرَّمي؛ لأن في الأمر بذكر الله في هذه الأيَّام دليلاً عليه؛ إذ كان من سنَّته التكبير على كلِّ حصاةٍ .
فصل
قال هنا : ي أيَّام معدوداتٍ ، وفي سورة الحجِّ : { وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ } [ الحج : 28 ] ، فقال أكثر أهل العلم ، الأيَّام المعلومات : عشر ذي الحجَّة ، آخرهن يوم النَّحر .
والمعدودات : هي أيَّام التَّشريق؛ وهي أيَّام منى ، ورمي الجمار ، وسمِّيت معدودات لقلَّتهن؛ كقوله : { دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } [ يوسف : 20 ] ولقوله تعالى بعده : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } ، وأجمعت الأمَّة على أنّ هذا الحكم إنّما يثبت في أيَّام منى؛ وهي أيَّام التَّشريق .
قال الواحديّ - رحمه الله - : أيَّام التَّشريق ثلاثة أيَّام بعد يوم النَّحر :
أولها : يوم النَّفر؛ وهو الحادي عشر من ذي الحجَّة ، يستقرُّ النَّاس فيه بمنًى .
والثاني : يوم النَّفر الأول؛ لأن بعض النَّاس ينفرون في هذا اليوم من منًى .
والثَّالث : يوم النَّفر الثَّاني : وهي الأيّام الثّلاثة مع يوم النَّحر كلُّها أيَّام النَّحر ، وعند أحمد - رحمه الله - : عند آخر وقت النَّحر إلى يومين من أيَّام التَّشريق ، وأيّام التَّشريق مع يوم النَّحر أيام رمي الجمار؛ وأيّام التكبير أدبار الصَّلوات .
واستدلَّ القفَّال على أنّ الأيَّام المعدودات هي أيَّام التَّشريق بما روى عبد الرَّحمن بن يعمر الدئلي؛ أنّ رسول الله صلى الله عيله وسلم أمر منادياً فنادى ، « الحَجُّ عَرَفَةُ ، من جَاء لَيْلَة جمْعٍ قبل طُلُوعِ الفَجْرِ ، فقد أدرك الحجَّ ، وأيّام منىً ثلاثَة أيّام ، فمن تَعَجَّل في يَوْمَيْن فلا إثْمَ عَلَيْه ، ومن تَأَخَّر فلا إثْمَ عَلَيْه ، وهذا يدلُّ على أنّ الأيَّام المعدودات هي أيَّام التَّشريق .
وروي عن ابن عبَّاس : » المَعْلُومَات « يوم النَّحر ويومان بعده ، و » المَعْدُودَات « أيام التَّشريق .
وعن عليه - رضي الله عنه - قال : » المَعْلُومَات يوم النَّحْرِ وثَلاَثَةَ بَعْدَه « .
وروى عطاء عن ابن عباس : » المَعْلُمات يوم عَرَفَة والنَّحْر وأيّام التَّشْرِيق « .
وقال محمد بن كعب : هما شيء واحد ، وهي أيَّام التَّشريق ، وروي عن نبيشة الهذلي؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أيَّام التَّشْرِيق أيّام أَكْلِ وشُرْبٍ وذِكْرِ اللَّهِ ، ومن الذِّكْر في أيَّام التَّشْرِيقِ التكْبِير «
فصل
اعلم أنّ المراد بالذكر في هذه الأيَّام : التكبير عند رمي الجمرات ، وأدبار الصلوات .
وروي عن عمر ، وعبد الله بن عمر؛ أنّهما كانا يكبِّران بمنًى تلك الأيّام خلف الصَّلوات ، وفي المجلس ، وعلى الفراش والفسطاط ، وفي الطَّريق ، ويكبِّر النَّاس بتكبيرهما ، ويتلوان هذه الآية .
وذهب الجمهور إلى أنّ التكبير عقيب الصَّلوات مختصٌّ بعيد الأضحى ، [ في حق الحاجِّ وغيره .
وذهب أحمد - رحمه الله - إلى أنّه يستحبُّ التكبير ليلة العيدين ] . واختلفوا في ابتدائه وانتهائه .
فقال مالك الشَّافعي : يكبِّر المحرم وغيره عقيب الصَّلوات ، من صلاة الظُّهر من يوم النَّحر ، إلى بعد صلاة الصُّبح من آخر أيَّام التَّشريق ، وهو قول ابن عبَّاس ، وابن عمر؛ لأن التكبير إنَّما ورد في حقِّ الحاجِّ والنَّاس تبعٌ لهم ، وذكر الحاجِّ قبل هذا الوقت هو التَّلبية ، وهي تنقطع مع ابتداء الرَّمي .
وقال أحمد - رحمه الله - : يكبّر المحرم من صلاة الظُّهر يوم النَّحر إلى آخر أيَّام التَّشريق ، روي ذلك عن علي وبه قال مكحول وأبو يوسفٌ ، وروي هذا القول عن بعضهم في حقّ المحرم أيضاً ، روي عن علي وعمر وابن مسعود وابن عبَّاس .
وقال أبو حنيفة : يكبر المحرم وغيره من صلاة الصُّبح يوم عرفة ، إلى بعد العصر يوم النَّحر ، روى ذلك عن ابن مسعود وعلقمة والأسود والنَّخعي .
وللشافعي قول آخر : أنّه يبتدئ من صلاة المغرب ليلة النَّحر ، إلى صلاة الصُّبح من آخر أيام التَّشريق ، وله قول ثالث : أنّه يبتدئ من صلاة الصُّبح يوم عرفة إلى العصر من يوم النَّحر؛ وهو كقول أبي حنيفة - رضي الله عنه - .
فإن قيل : التكبير مضاف إلى الأيَّام المعدودات وهي أيّام التَّشريق ، فينبغي ألاَّ تكون مشروعةً يوم عرفة .
فالجواب : أنّ هذا يقتضي ألاَّ يكون يوم النَّحر داخلاً فيها وهو خلاف الإجماع .
وصفة التكبير عند أهل العراق شفعاً : الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد ، روي ذلك عن ابن مسعود - رضي الله عنهما - وهو قول أحمد .
وقال أهل المدينة : صفة التكبير : الله أكبر الله أكبر الله أكبر ثلاثاً نسقاً ، وهو قول سعيد بن جبير والحسن ، وبه قال مالك والشَّافعي وأبو حنيفة ، ويقول بعده : لا إله إلا الله ، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد .
قوله تعالى : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } « مَنْ » يجوز فيها وجهان :
أحدهما : أن تكون شرطيةٌ ، ف « تَعَجَّلَ » في محلِّ جزمٍ ، والفاء في قوله : « فَلاَ » جواب الشرط والفاء وما في حَيِّزها في محلِّ جزم أيضاً على الجواب .
والثاني : أنها موصولة ب « تَعَجَّلَ » فلا محلَّ ل « تَعَجَّلَ » ؛ لوقوعه صلةً ، ولفظه ماضٍ ، ومعناه يحتمل المضيَّ والاستقبال؛ لأنَّ كلَّ ما وقع صلةً ، فهذا حكمه؛ والفاء في « فَلاَ » زائدة في الخبر ، وهي وما بعدها في محلِّ رفع خبراً للمبتدأ .
قال القرطبي : « مَنْ » في قوله : « فَمَنْ تَعَجَّلَ » رفع بالابتداء ، والخبر « فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ » ، ويجوز في غير القرآن ، فلا إثْمَ عَلَيْهِم؛ لأن معنى « مَنْ » جماعة؛ كقوله - تبارك وتعالى - : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } [ يونس : 42 ] ، وكذلك « مَنْ تأَخَّرَ » .
و « في يَوْمَيْنٍ » متعلِّق ب « تَعَجَّلَ » ولا بدَّ من ارتكاب مجازٍ؛ لأن الفعل الواقع في الظرف المعدود يستلزم أن يكون واقعاً في كلٍّ من معدوداته ، تقول : « سِرْتُ يَوْمَيْنِ » لا بد وأن يكون السير وقع في الأول والثاني و بعض الثاني ، وهنا لا يقع التعجيل في اليوم الأول من هذين اليومين بوجهٍ ، ووجه المجاز : إمَّا من حيث إنَّه نسب الواقع في أحدهما واقعاً فيها؛ كقوله : { نَسِيَا حُوتَهُمَا } [ الكهف : 61 ] و { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] ، والنَّاسي أحدهما : وكذلك المخرج من أحدهما ، وإمَّا من حيث حذف مضاف ، أي : في تمام يومين أو كمالهما .
و « تَعَجَّلَ » يجوز أن يكون بمعنى « اسْتَعْجَلَ » ك « تَكَبَّرَ ، واسْتَكْبَرَ » ، أو مطاوعاً ل « عَجَّل » نحو « كَسَّرْتُه فَتَكَسَّرَ » ، أو بمعنى المجرَّد ، وهو « عِجِلَ » ، قال الزمخشريُّ : « والمطاوعة أوفَقُ » ؛ لقوله : « ومَنْ تَأَخَّرَ » ؛ كما هي في قوله : [ البسيط ]
1006 - قَدْ يُدْرِكُ الْمَتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ ... وَقَدْ يَكُونُ مَعَ المُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ
لأجل قوله « المُتَأَنِّي » . و « تَعَجَّلَ واسْتَعْجَلَ » يكونان لازمين ومتعدِّييثن ، ومتعلِّق التعجيل محذوف ، فيجوز أن تقدِّره مفعولاً صريحاً ، أي : من تعجَّل النَّفر ، وأن تقدِّره مجروراً أي : بالنَّفر ، حسب استعماله لازماً ومتعدِّياً .
وفي هذه الآيات من علم البديع : الطباق ، وهو ذكر الشيء وضده في « تَعَجَّل وتَأَخَّرَ » ، فهو كقوله : { أَضْحَكَ وأبكى } [ النجم : 43 ] و { أَمَاتَ وَأَحْيَا } [ النجم : 44 ] ، وهذا طباقٌ غريب ، من حيث جعل ضدَّ « تَعَجَّلَ » : « تَأَخَّرَ » ، وإنما ضدُّ « تَعَجَّلَ » : « تَأَنَّى » ، وضدُّ « تَأَخَّرَ » : « تقدَّم » ، ولكنه في « تَعَجَّلَ » عبرَّ بالملزوم عن اللازم ، وفي « تَأَخَّرَ » باللازم عن الملزوم ، وفيها من علم البيان : المقابلة اللفظيَّة ، وذلك أن المتأخِّر بالنَّفرات آتٍ بزيادة في العبادة ، فله زيادة في الأجر على المتعجِّل ، فقال في حقه أيضاً : « فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ » ؛ ليقابل قوله أولاً : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } ، فهو كقوله : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ } [ البقرة : 194 ] .
وذكر ابن الخطيب هنا سؤالاً؛ فقال : قوله : « وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ » فيه إشكالٌ؛ لأنه إذا كان قد استوفى كلَّ ما يلزمه في تمام الحجِّ ، فما معنى قوله : « فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ » فهذا اللَّفظ إنما يقال في حقِّ المقصِّر ، وأجاب بوجوه :
أحدها : ما تقدَّم من المقابلة ، ونقله عن الواحدي .
وثانيها : أنّه - تعالى - لما أذن في التَّعجيل على سبيل الرُّخصة ، احتمل أن يخطر بالبال أنَّ من لم يترخَّص فإنه يأثم . كما قال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : القصر عزيمة والإتمام غير واجب ، ومذهب أحمد - رحمه الله - : القصر والفطر في السَّفر أفضل ، فأزال الله - تعالى - هذه الشُّبهة ، وبيَّن أنه لا إثم عليه في الأمرين ، فإن شاء تعجَّل وإن شاء تأخَّر .
وثالثها : قال بعض المفسِّرين : إن منهم من كان يتعجَّل ، ومنهم من كان يتأخَّر ، وكل واحد من الفريقين يعيب على الآخر فعله ، ويقول : هو مخالفٌ لسنَّة الحجِّ ، فبيَّن الله - تعالى - أنّه لا عيب على كلِّ واحد من الفريقين .
ورابعها : أنّ المعنى في إزالة الإثم عند المتأخِّر؛ إنما هو لمن زاد على مقام الثَّلاث؛ فكأنّه قيل : أيَّام منى التي ينبغي المقام فيها هي ثلاث ، فمن نقَّص منها وتعجَّل في يومين ، فلا إثم عليه ، ومن زاد عليها فتأخَّر عن الثَّالث إلى الرَّابع؛ فلم ينفر مع النَّاس ، فلا شيء عليه .
وخامسها : أنّه ذكر هذا الكلام؛ مبالغة في أن الحجَّ يكفِّر الذُّوب والآثام؛ كما إذا تناول الإنسان التّرياق فيقول له الطَّبيب : إن تناولت السُّمَّ فلا ضرر وإن لم تتناوله فلا ضرر ، ومقصوده بيان أن التّرياق دواء كامل في دفع المضارِّن لا بيان أن تناول السُّمِّ وعدم تناوله يجريان مجرَى واحداً؛ فكذا ههنا المقصود من هذا الكلام بيان المبالغة في كون الحجِّ مكفرِّراً لكلِّ الذُّنوب؛ لأن التَّعجيل وتركه سيَّان؛ ومما يدلُّ على أن الحجَّ سبب قويٌّ في تكفير الذُّنوب قوله - عليه السّلام -
« مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَومِ وَلَدَتْهُ أُمّهُ » ، وهنا قول عليٍّ وابن مسعود .
فصل
وقرأ الجمهور « فَلاَ إِثْمَ » بقطع الهمزة على الأصل ، وقرأ سالم بن عبد الله : « فَلاَ اثْمَ » بوصلها وحذلف ألف لا ، ووجهه أنه خفَّف الهمزة بين بين فقربت من الساكن ، فحذفها؛ تشبيهاً بالألف ، فالتقى ساكنان : ألف « لاَ » وثاء « إِثْم » ، فحذفت ألف « لاَ » ، لالتقاء الساكنين ، وقال أبو البقاء - رحمه الله تعالى - : « ووجهُها أنَّه لمَّا خَلَطَ الاسْمَ ب » لاَ « حَذَفَ الهمزة؛ تشبيهاً بالألف » يعني أنه لمَّا ركِّبت « لاَ » ن مع اسمها ، صارا كالشيء الواحد ، والهمزة شبيهة الألف ، فكأنه اجتمع ألفان ، فحذفت الثانية لذلك ، ثم حذفت الألف لسكونها وسكون الثَّاء .
فصل
قال القرطبي : روى الثِّقات؛ أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر أمَّ سلمة أن تصبح بمكَّة يوم النَّحر ، وكان يؤمُّها ، وهذا يدلُّ على أنّها رمت الجمرة بمنًى قبل الفجر؛ لأن هذا لا يكون إلاّ وقد رمت الجمرة بمنى ليلاً قبل الفجر .
وروى أبو داود عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة؛ أنّها قالت : « أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمِّ سلمة ليلة يوم النَّحر ، فرمت الجمرة قبل الفجر ، ثم مضت فأفاضت ، وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها » . فإذا ثبت ذلك فالرَّمي باللَّيل جائز لمن فعله ، والاختيار من طلوع الشَّمس إلى زوالها ، وأجمعوا على أن من رماها قبل غروب الشَّمس من يوم النَّحر ، فقد أجزأ ولا شيء عليه ، إلا مالكاً؛ فإنه قال : يستحب له أن يهرقَ دماً .
واختلفوا فيمن لم يرمها حتى غابت الشَّمس ، ورماها من اللَّيل أو من الغد ، هل يلزمه دم أم لا؟
فصل
المبيت بمنى ليلالي منى واجبٌ؛ لرمي الجمار في كلِّ يوم بعد الزَّوال إحدى وعشرين حصاةً ، عند كل جمرة سبع حصيات ، ويرخَّص في ترك المبيت لرعاء الإبل وأهل سقاية الحاجِّ ، ثم من رمى اليوم الثاني من أيام التَّشريق ، وأراد أن ينفر ويدع المبيت في اللَّيلة الثَّالية ، ورمى يومها ، فله ذلك؛ بشرط أن ينفر قبل غروب الشمس ، فإن غربت الشمس وهو بمنى ، لزمه المبيت بها والرَّمي من غد ، هذا مذهب الشَّافعي وأحمدن وهو قول أكثر التَّابعين .
وقال أبو حنيفة : يجوز أن ينفر ما لم يطلع النحر؛ لن وقت الرَّمي لم يدخل .
فصل
إذا ترك الرَّمي ، فذكره بعدما صدر وهو بمكَّة ، بعدما خرج منها ، فعليه الهدي ، وسواء ترك الجمار كلَّها ، أو جمرة منها ، أو حصاةً من جمرة ، حتى خرجت أيَّام منى فعليه دمٌ ، وإن ترك جمرة واحدة ، كان عليه بكل حصاة من الجمرة إطعام مسكين نصف صاعٍ ، إلى أن يبلغ دماً ، إلاَّ جمرة العقبة فعليه دمٌ .
وقال الأوزاعي : يتصدّق إن ترك حصاةً ، وقال الثَّوري : يطعم في الحصاة والحصاتين والثلاث ، فإن ترك أربعاً فعليه دمٌ ، وقال اللَّيث : في الحصاة الواحدة دم ، نقله القرطبي .
فصل
قال القرطبي - رحمه الله تعالى - : من بقي في يده حصاة لا يدري من أيِّ الجمار هي ، جعلها في الأولى ورمى بعدها الوسطى والآخرة ، فإن طال ، استأنف جميعاً .
قوله : « لِمَن اتَّقَى » هذا الجارُّ خبر مبتدأ محذوفٍ ، واختلفوا في ذلك المبتدأ حسب اختلافهم في تعلُّق هذا الجار من جهة المعنى ، لا الصناعة ، فقيل : يتعلَّق من جهة المعنى بقوله : « فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ » فتقدِّر له ما يليق به ، أي : انتفاء الإثم لمن اتَّقى ، وقيل : متعلِّقٌ بقوله : « وَاذْكُرُوا » أي : الذكر لمن اتقى ، وقيل : متعلِّقٌ بقوله : « غَفُورٌ رَحِيمٌ » ، أي المغفرة لمن اتَّقى ، وقيل : التقدير : السلامة لمن اتَّقى ، وقيل : التقدير : ذلك التخيير ونفي الإثم عن المستعجل والمتأخِّر؛ لأجل الحاجِّ المتَّقي؛ لئلاّ يتخالج في قلبه شيءٌ منها ، فيحسب أنَّ أحدهما يرهق صاحبه إثماً في الإقدام عليه؛ لأنَّ ذا التقوى حذر متحرزٌ من كل ما يربيه ، قيل : التقدير : ذلك الذي مرَّ ذكره من أحكام الحج وغيره لمن اتقى؛ لأنه هو المنتفع به دون غيره ، كقوله : { يُرِيدُونَ وَجْهَ الله } [ الروم : 38 ] ، قال هذين التقديرين الزمخشريُّ ، وقال أبو البقاء : « تقديره : جواز التعجيل والتأخير لمن اتقى » ، وكلُّها متقاربةٌ ، ويجوز أن يكون « لِمَن اتَّقَى » في محلِّ نصب على أن اللام لام التعليل ، ويتعلَّق بقوله « فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ » أي : انتفى الإثم؛ لأجل المتَّقي ، ومفعول : « اتَّقى » محذوف ، أي : اتَّقى الله ، وقد جاء مصرَّحاً به في مصحف عبد الله ، وقيل : اتَّقى الصَّيد .
فصل
في هذه التَّقوى وجوه :
أحدهما : قال أبو العالية : ذهب أئمةٌ أن « اتَّقى » فيما بقي من عمره ، ولا يتَّكل على ما سلف من أعمال الحجِّ .
وثانيها : أنّ هذه المغفرة لا تحصل إلاّ لمن كان متَّقياً قبل حجِّح؛ كقوله : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } [ المائدة : 27 ] ؛ لأن المصرَّ على الذَّنب لا ينفعه حجُّه ، وإن كان قد أدَّى الفرض في الظَّاهر .
وثالثها : أنّه المتَّقي عن جميع المحظورات حال اشتغاله بالحجِّ؛ لقوله عليه السّلام :
« مَنْ حَجَّ فَلَم يَرْفثْ وَلَمْ يَفْسُقْ . . . »
ورابعها : روى الكلبي عن ابن عباس : « لِمَن اتَّقَى الصَّيْد ما يلزَمُهُ اجتِنَابُه من محْظُورَاتِ الإِحْرَامِ » .
قال ابن الخطيب : وهذا ضعيفٌ من وجهين :
أحدهما : أنَّه تقييد للَّفظ المطلق بغير دليل .
والثاني : أنّ هذا لا يصحُّ إلاّ إذا حمل على ما قبل هذه الأيَّام؛ لأنه في يوم النَّحر إذا رمى وطاف وحلق ، فقد تحلَّل قبل الجمار ، فلا يلزمه اتِّقاء الصَّيد في هذه الأيَّام .
قوله : « واتَّقُوا الله » فهو أمر في المستقبل ، وهو مخالف لقوله : « لِمَنْ اتَّقَى » الذي أ { يد به الماضين فلا يكون تكراراً ، وقد تقدم أن التَّقوى عبارة عن فعل الواجبات وترك المحظورات .
وقوله : { واعلموآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } .
فهو توكيد للأمر بالتَّقوى؛ لأن مَنْ تصور الحشر والمحاسبة والمساءلة ، وأنّ بعد الموت لا دار إلاّ الجنَّة أو النَّار ، صار ذلك من أقوى الدَّواعي إلى التَّقوى ، وأمَّا الحشر : فهو اسمٌ يقع على ابتداء أوَّل خروجهم من الأجْداث ، يوم لا مالك سواه ولا ملجأ إلاّ إيَّاه .
قوله : { وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ } .
لمّا ذكر الذين قصرت همَّتهم على الدُّنيا في قوله : « ومِنَ النَّاسِ من يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَة » ، والمؤمنين الذين سألوا خير الدَّارين ، ذكر المنافقين؛ لأنَّهم أظهروا الإيمان وأسرُّوا الكفر .
قوله تعالى : « مَنْ يُعْجِبُكَ » : يجوز في « مَنْ » أن تكون موصولة ، وأن تكون نكرةً موصوفةً ، وقد تقدَّم نظيرها ، والإعجاب : استحسان الشيء ، والميل إليه ، والتعظيم له ، والهمزة فيه للتعدِّي .
وقال الراغب : « العَجَبُ حَيْرَةٌ تَعْرَضُ للإنسان عند الجهل بسبب الشَّيء ، وليس هو شيئاً له في ذاته حالةً ، بل هو بحسب الإضافات إلى من يعرف السَّبب ومن لا يعرفه ، وحقيقة : أعجبني كذا : ظهر لي ظهوراً لم أعرف سببه » ، ويقال : عجبت من كذا ، قال القائل : [ الرجز ]
1007 - عَجِبْتُ وَالدَّهْرُ كَثِيرٌ عَجَبُهْ ... مِنْ عَنَزِيَّ سَبَّنِي لَمْ أَضْرِبُهْ
قال بعض المفسِّرين : يقال في الاستحسان : أعجبني كذا ، وفي الإنكار والكراهة : عجبت من كذا .
قوله : « في الحَيَاةِ » فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلق ب « قَوْلُهُ » ، أي : يعجبك ما يقوله في معنى الدنيا ، أنَّ ادِّعاءه المحبة بالباطل يطلب حظّاً من الدنيا .
والثاني : أن يتعلَّق ب « يُعْجِبُكَ » ، أي : قوله حلوٌ فصيحٌ في الدُّنيا ، فهو يعجبك ولا يعجبك في الآخرة ، لما يرهقه في الموقف من الاحتباس واللُّكنة ، أو لأنه لا يؤذن لهم في الكلام ، قال أبو حيان : « والذي يظهر أنه متعلِّق ب » يُعْجِبُكَ « ، لا على المعنى الذي قاله الزمخشري ، بل على معنى أنك تستحسن مقالته دائماً في مدَّة حياته؛ إذ لا يصدر منه من القول إلا ما هو معجبٌ رائقٌ لطيفٌن فمقالته في الظاهر معجبة دائماً ، لا تراه يعدل عن تلك المقالة الحسنة الرائعة إلى مقالةٍ منافيةٍط .
قوله : « وَيُشْهِدُ اللَّهَ » في هذه الجملة وجهان :
أظهرهما : أنها عطف على « يُعْجِبُكَ » ، فهي صلة لا محلَّ لها من الإعراب ، أو صفةٌ ، فتكون في محلِّ رفع على حسب القولين في « مَنْ » .
والثاني : أن تكون حاليةً ، وفي صاحبها حينئذً وجهان :
أحدهما : أنه الضمير المرفوع المستكن في « يُعْجِبُكَ » .
والثاني : أنه الضمير المجرور في « قَوْلُهُ » ، تقديره : يعجبك أن يقول في أمر الدنيا ، مقسماً على ذلك .
وفي جعلها حالاً نظر وجهين :
أحدهما : من جهة المعنى ، فإنه يلزم منه أن يكون الإعجاب والقول مقيدين بحالٍ ، والظاهر خلافه .
والثاني : من جهة الصِّناعة وهو أنَّه مثبتٌ ، فلا يقع حالاً إلا في شذوذٍ؛ نحو : « قُمْتُ وَأَصُكُّ عَيْنَهُ » أو ضرورةً؛ نحو : [ المتقارب ]
1008- . ... نَجَوْتُ وَأَرْهَنُهُمْ مَالِكَا
وتقديره مبتدأً قبله على خلاف الأصل ، أي : وهو يشهد .
والجمهور على ضمِّ حرف المضارعة وكسر الهاء ، مأخوذاً من « أَشْهَدَ » ونصب الجلالة مفعولاً به ، وقرأ أبو حيوة وابن محيصنٍ بفتحهما ورفع الجلالة فاعلاً .
قال القرطبيُّ - رحمه الله تعالى - ويؤيِّده قراءة ابن عباسٍ « واللَّهُ يَشْهَدُ عَلَى مَا في قَلْبِهِ » .
وقرأ أُبَيٌّ : « يَسْتَشْهِدُ اللَّهَ » .
فأمَّا قراءة الجمهور وتفسيرهم ، فإن المعنى : يحلف بالله ويشهده أنّه صادقٌ ، وقد جاءت الشهادة بمعنى القسم في آية اللِّعان ، وقيل : فيكون اسم الله منتصباً على حذف حرف الجر ، أي : يقسم بالله ، قال شهاب الدين : وهذا سهوٌ من قائله؛ لأنَّ المستعمل بمعنى القسم « شَهِدَ » الثلاثيٌّ ، لا « أَشْهَدَ » الرباعيُّ ، لا تقول : أُشْهِدُ بالله ، بل : أَشْهَدُ بالله ، فمعنى قراءة الجمهور : يطَّلع الله على ما في قلبه ، ولا يعلم به أحدٌ ، لشدة تكتُّمه .
وأمَّا تفسير الجمهور : فيحتاج إلى حذف ما يصحُّ به المعنى ، تقديره : ويحلف بالله على خلاف ما في قلبه؛ لأن الذي في قلبه هو الكفر ، وهو لا يحلف عليه ، إنما يحلف على ضدِّه ، وهو الذي يعجب سامعه ، ويقوِّي هذا التأويل قراءة أبي حيوة؛ إذ معناها : ويطَّلع الله على ما قلبه من الكفر . وأمَّا قراءة أُبيًّ : فيحتمل « استَفْعَلَ » وجهين :
أحدهما : أن يكون بمعنى « أَفْعَلَ » ؛ فيوافق قراءة الجمهور .
والثاني : أنه بمعنى المجرَّد وهو « شَهِدَ » ، وتكون الجلالة منصوبةً على إسقاط الخافض .
قوله : { وَهُوَ أَلَدُّ الخصام } الكلام في هذه الجملة كالتي قبلها ، وهنا وجهٌ آخر ، وهو أن تكون حالاً من الضمير في « يُشْهِدُ » ، والألد : الشديد؛ من اللَّدد ، وهو شدة الخصوة؛ قال : [ الخفيف ]
1009 - إنَّ تَحْتَ التُّرَابِ عَزْماً وحَزْماً ... وَخَصِيماً أَلَدَّ ذَا مِغْلاَقِ
ويقال : لَدِدت بكسر العين ألَدُّ بفتحها ، ولدَدته بفتح العين ألُدُّه بضمها أي : غلبته في ذلك ، فيكون متعدياً ، قال الشاعر : [ الرجز ]
1010 - تَلُدُّ أَقْرَانَ الرِّجَالِ اللُّدِّ ... تلدُّ أقران الرِّجال ، معناه أنّه في أي وجه أخذ خصمه من اليمين أو الشمال في أبواب الخصومة غلبه .
ورجل ألدُّ وألنددٌ ويلنددٌ ، وامرأةٌ لدَّاء ، والجمع « لُدٌّ » ك « حُمْرٍ » .
وفي اشتقاقه أقوالٌ : قال الزجَّاج : من لُديدَي العنق ، وهما صفحتاه .
وقيل : من لديدي الوادي ، وهما جانباه ، سمِّيا بذلك؛ لاعوجاجهما .
وقيل : هو من لدَّه إذا حبسه ، فكأنه يحبس خصمه عن مفاوضته .
و « الخِصَامِ » فيه قولان :
أحدهما : قال الزجَّاج : وهو جمع خصمٍ بالفتح؛ نحو : كعبٍ وكعابٍ ، وكلبٍ وكلابٍ ، وبحرٍ وبحارٍ ، وعلى هذا فلا تحتاج غلى تأويل .
والثاني : قال الخليل وأبو عبيد إنه مصدر ، يقال : خاصمَ خصاماً ، نحو قاتلَ قتالاً ، وعلى هذا فلا بد من مصحِّح لوقوعه خبراً عن الجثَّة ، فقيل : في الكلام حذف من الأول ، أي وخصامه أشدُّ الخصام ، وجعل أبو البقاء « هو » ضمير المصدر الذي هو « قوله » فإنه قال : ويجوز أن يكون « هُوَ » ضمير المصدر الذي هو « قَوْلُهُ » وهو خصام ، والتقدير : خصامه ألدُّ الخصام .
وقيل : من الثاني : أي : وهو أشدُّ ذوي الخصام ، وقيل : أريد بالمصدر اسم الفاعل؛ كما يوصف به في قولهم : رجل عدلٌ وخصمٌ ، وقيل : « أَفْعَلُ » هنا ليست للتفضيل ، بل هي بمعني لديد الخصام ، فهو من باب ضافة الصفة المشبهة ، وقال الزمخشريُّ : والخِصَامُ المُخَاصَمَةُ ، وإضافةُ الألدِّ بمعنى « في » ؛ كقولهم : « ثَبْتُ الغَدْرِ » يعني أن « أَفْعَلَ » ليس من باب ما أضيف إلى ما هو بعضه ، بل هي ضافة على معنى « في » ؛ قال أبو حيان : وهذا مخالفٌ لما يَزْعُمُهُ النحاة من أنَّ « أَفْعَلَ » لا تضاف إلا إلى ما هي بعضه ، وفيه إثبات الإضافة بمعنى « في » ، وهو قولٌ مرجوحٌ ، وقيل : « هُوَ » ليس ضمير « مَنْ » بل ضمير الخصومة يفسِّره سياق الكلام ، أي : وخصامه أشدُّ الخصام .
فصل في بيان عموم هذه الآية
قال بعض المفسِّ { ين : هذه الآية الكريمة مختصَّة بأقوام معيَّنين ، وقال بعضهم : إنّها عامة في كلِّ من اتَّصف بهذه الصِّفة ، والأولون اختلفوا على وجوهٍ :
أحدها : أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة ، واسمه : أُبي ، وسمِّي الأخنس؛ لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة من بني زهرة عن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان رجلاً حلو المنظر ، حلو الكلام ، وكان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجالسه ويظهر الإسلام ، ويقول : إنيّ أحبُّك ، ويحلف بالله على ذلك ، وكان منافقاً ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدنيه في مجلسه ، وكان حسن العلانية خبيث الباطن ، فخرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم فمرَّ بزرع لقوم من المسلمين فأحرق الزَّرعن وقيل : المواشي ، وقيل : بيَّت قوماً من ثقيف فلبسهم ، وأهلك مواشيهم ، وأحرق زرعهم .
وقال مُقاتِلٌ : خرج إلى الطَّائف مُقْتَضِياً مالاً لَهُ على غرِيم فَأَحْرَقَ له كدساً ، وعَقَرَ لَهُ أَتاناً ، والنّسلُ : نَسْل كُلّ حيوان من ناطقٍ ، وغيره؛ فنزلت الآية الكريمة .
الثَّاني : أنَّ الأَخْنَس أَشَار على بني زهرة بالرُّجُوع يوم بدرٍ وقال لهُم : إِنَّ مُحَمَّد ابن أخيكم ، فإِنْ يَكُ كَاذِباً كفاكموه سائر النَّاس ، وإن يَكُ صَادِقاً كنتم أَسعَدَ النَّاسِ به ، قالُوا نِعْمَ الرَّأيُ ما رَأَيَتَ قال : فإذا نودي في النَّاس بالرحيل فإنّي أخنس بكم ، فاتَّبِعُوني ، ثمَّ انخنَسَ بثلاثِمائة من بني زُهْرَة عن قِتَال رسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وسُمِّيَ بهذا السَّبب الأَخنس ، فبلغ ذلك رسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فأعجبه .
قال ابنُ الخطيب : وعندي أَنَّ هذا القول ضعيفٌ ، لأَنَّهُ لا يَسْتَوجِبُ الذَّمَّ بهذا العمل ، والآية مذكورة في معرض الذَّمِّ ، فلا يمكن حَمْلُها عليه .
الثالث : روي عن ابن عبَّاس والضحَّاك أنَّ كُفَّار قريش بعثوا إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - « أَنَّا قد أَسلمنا ، فابعثْ إِلَيْنَا نفراً مِنْ عُلَمَاءِ أَصْحَابك ، فبعثَ إليهم جماعَة ، فنزلوا ببطن الرجي ، ووصل الخَبَرُ إلى الكُفَّارِ ، فَرَكِبَ منهم سبعون راكباً ، وأَحَاطُوا بهم ، وَقَتَلُوهم ، وصَلَبُوهُم ، فَنَزَلَتْ هذه الآية الكريمة ، ولذلك عقَّبَهُ بقول » مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتَغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ « فَنَبَّه بذلك على حال هؤُلآءِ الشَّهداء .
القولُ الثَّاني : وهو اختيارُ أكثر المحقِّقين من المُفسِّرين ، أنَّها عامَّة في كُلِّ من اتَّصف بهذه الصِّفَةِ المَذْكُورة ، نقل عن محمَّد بن كعب القُرظِي أنَّه جرَى بَيْنَهُ وبَيْنَ غيره كلام في الآية فقال : إِنَّها وإن نزلت فيمن ذكرتهم ، فلا يَمْتنعُ أن تنزل الآية الكريمة في الرَّجُلِ ، ثم تَكُونُ عامَّة في كُلِّ مَنْ كان موصوفاً بهذه الصِّفات .
وَرَوَتْ عائشة - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم قال : - » إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الخَصِمُ «
قال ابن الخطيب : نُزُول الآية الكريمة على سبب لا يمنعُ من العُمُومِ ، بل في الآية الكريمة ما يَدُلُّ على العُمومِ مِنْ وجوه :
الأول : أَنَّ ترتيب الحُكم على الوصف المُنَاسِبِ مشعراً بالعلِّيَّة .
الثاني : أَنَّ الحَمْلَ على العُموم أكثر فائدة ، لأَنَّهُ زجرٌ لكلِّ مكلَّف عن تِلك الطَّريقةِ المَذْمُومَةِ .
الثالث : أَنَّهُ أَقربٌ إلى الاحتياطِ .
قال قتادةُ ومُجاهدٌ وجماعة من العلماء : نزلت في كُلِّ مُبْطنٍ كُفراً ، أو نِفاقاً ، أو كذباً أو إضراراً ، وهو يظهر بلسانِهِ خلاف ذلك ، فهي عامة .
قال القرطبي رحمه الله : وهي تشبه ما ورد في التِّرمذيّ أَنّ في بعض الكُتُب أَنَّ اللَّهَ تعالى يقُولُ : « إِنَّ مِنْ عِبَادِي قوماً ألسِنَتُهُمْ أَحْلَى من العسَلِ ، وقلوبهم أَمَرّ مِنَ الصَّبْرِ ، يَلْبسون للنَّاس جُلُودَ الضَّأْنِ مِنَ اللِّين ، يشترُون الدُّنيا بالَّدين ، يقُولُ الله - تبارك وتعالى - إِنَّهُم لمُغترُّون ، وعلى اللَّهِ يجترئُونَ فبي حلفت لأُسَلِّطَنَّ عليهم فِتنَةً تدَعُ الحليم منهم حيران . ومعنى : » وَيُشْهِدُ الله « ، أي : يقول : اللَّهُ يعلم أَنَّي أقُولُ حَقّاً .
فصل
اختلفُوا في المَوْصُوف بالصِّفاتِ المذكورة في الآية ، هل هو مُنَافقٌ أمْ لا؟
قال ابنُ الخطيب : إنَّها لا تدلُّ على ذلك ، فإِنَّ قوله : { يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحياة الدنيا } لا دلالة فيه على صِفةٍ مَذْمُومةٍ ، إِلاَّ من جهة الإِيماء الحاصل بقوله { فِي الحياة الدنيا } ، فإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ : فُلاَن حُلْوُ الكَلاَمِ فيما يَتَعَلَّقَ بالدُّنيا أَوْهَم نوعاً من المَذمَّةِ .
وقوله : { وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ } لا دلالة فيه على حالَةٍ مُنْكرةٍ ، وإِن أَضمرنا فيه أَنَّهُ يُشْهِدُ اللَّهَ على ما في قلبه ، مع أنَّ قلبه بخلاف ذلك لأَنَّهُ ليس في الآية أَنَّ القَوْلَ الَّذي أَظْهرهُ هو الإِسلامُ والتَّوحِيدُ حتى يكُون خلافه نِفَاقاً ، بل يَحْتَمِلُ أن يُضْمِر الفساد ، ويظهر ضِدَّهُ ، فَيَكُونُ مُرائِياً
وقوله : { وَهُوَ أَلَدُّ الخصام } أيضاً لا يُوجِبُ النِّفَاقَ .
وقوله : { وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا } فالمفسد قد يكون مُسْلِماً .
وقوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } أيضاً لا يَقْتَضِي النِّفَاق ، إِلاَّ أنَّ المُنَافِقَ داخل في هذه الصِّفَاتِ الخَمْس ، والمرائي أيضاً .
فصل في ما أثر عن السلف في بيان » ألد الخصام «
قال مُجاهدٌ : أَلَدُّ الخِصَام : معناهُ : ظَالِمٌ لا يستقيمُ وقال السُّدُّ - رحمه الله تعالى - أعوجُ الخِصَامِ .
وقال قتادةُ : شديدُ القَسْوة في المعَصية ، جدلٌ بالباطل ، عالم اللِّسان ، جاهل العمل ، يتقلد بالحكمة ، ويعملُ بالخطيئة .
فصل في بيان أمر الاحتياط في الدِّين
قال القُرطبيُّ : قال عُلماؤُنَا : في الآية الكريمة دليلٌ على أَنَّ الاحتياط فيما يتعلق بأُمُور الدِّين والدُّنيا ، واستبراء أحوال الشهود والقضاة ، وأَنَّ الحاكم لا يعملُ على ظاهر أَحوالِ النَّاسِ وما يبدو من إيمانهم ، وصلاحهم؛ حتى يَبْحث عن باطنهم؛ لأَنَّ الله تعالى بَيَّنَ أَحوال النَّاسِ ، وأَنَّ منهم من يظهرُ قولاً جميلاً ، وهو يَنْوي قَبِيحاً .
فإِنْ قِيلَ : هذا يَعارضُ قوله عليه السَّلام : » أُمِرتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لا إِله إِلاَّ اللَّهُ « وقوله : » فَأَقْضِيَ لَهُ بِنَحو ما أَسْمَعُ «
فالجوابُ : هذا كان في صدر الِسلامِ ، حيثُ كان إِسْلاَمُهُم سلامتهم ، وأمَّا الآن ، وقد عَمَّ الفسادُ ، فلا ، قاله ابنُ العَرَبيّ .
والصَّحيحُ : أَنَّ الظَّاهِرَ يَعملُ عليه ، حَتّى يبين خلافه .
قوله تعالى : { وَإِذَا تولى سعى } » سَعَى « جوابُ إذا الشَّرطيَّة ، وهذه الجُملةُ الشَّرطيةُ تحتملُ وجْهَيْنِ .
أحدهما : أن تكُونَ عطفاً على ما قبلها ، وهو « يُعْجِبُكَ » ، فتكون : إمَّا صلةً ، أو صفةً حسب ما تقدَّم في « مَنْ » .
والثاني : أن تكُون مُستأَنفةً لمُجرَّدِ الإخبارِ بحالِهِن وقد تَمَّ الكلامُ عند قوله : « ألدُّ الخصام » .
والتّولِّي والسَّعْيُ يحْتَمِلان الحقيقة ، أي : تولَّى ببدنِهِ عنك وسعَى بِقَدَمَيْهِ ، والمُجازَ بأن يريدُ بالتولِّي الرُّجُوع عن القَوْلِ الأَوَّل ، وبالسَّعي العمَل والكَسْبَ من السَّعاية ، وهو مجازٌ شائعٌ؛ ومنه : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى } [ النجم : 39 ] ، وقال امرؤُ القَيسِ : [ الطويل ]
1011 - لَلَوْ أَنَّ مَا أَسْعَى لأَدْنَى مَعِيشَةٍ ... كَفَانِي - وَلَمْ أَطْلُبْ - قليلٌ مِنَ المَالِ
وَلكِنَّمَا أَسْعَى لِمَجْدٍ مُؤَثَّلٍ وَقَدْ يُدْرِكُ المَجْدَ المُؤَثَّلَ أَمْثَالِي
وقال آخرُ : [ السريع ]
1012 - أَسْعَى عَلَى حَيِّ بَنِي مَالِكٍ ... كُلُّ امْرِىءٍ فِي شَأْنِهِ سَاعِي
والسَّاعيةُ بالقولِ ما يقْتَضِي التَّفْرِيق بينَ الأَخِلاَّءِ؛ قال القائل : [ السريع ]
1013 - مَا قُلْتُ مَا قَالَ وُشَاةٌ سَعَوْا ... سَعْيَ عَدْوٍّ بَيْنَنَا يَرْجُفُ
وقال الضَّحَّاكُ : وإذا تَوَلَّى ، أي : مَلَكَ الأَمْرَ ، وصارَ والياً سَعَى في الأَرض .
وقال مُجاهدٌ : إيضا وُلِّي ، وعمل بالعُدوان ، والظُّلم ، أَمْسَكَ اللَّهُ المطر ، وأهلك الحرث والنَّسل .
قوله : « فِي الأَرْضِ » مُتَعَلِّقٌ ب « سَعَى » ، فإنْ قيل : مَعْلُومٌ أنَّ السَّعْيَ لا يكُونُ إلاَّ فِي الأَرْضِ قيل : لأنَّهُ يُفيدُ العُمُومَ ، كأنه قيل : أيَّ مكانٍ حَلَّ فيه من الأرض أفسدَ فيه ، فَيَدُلَّ لفظُ الأَرْضِ على كَثرةٍ فسادِهِ ، إذ يلزَمُ مِنْ عمومِ الظَّرفِ عمومُ المَظْرُوفِ ، و « ليُفْسِدَ » مُتَعَلّقٌ ب « سَعَى » علَّةً له .
قوله : « وَيُهْلِكَ الحَرْثَ » الجُمْهُورُ على : « يُهْلِكَ » بضمِّ اليَاءِ ، وكسر اللام ونصب الكافِ . « الحَرْثَ » مفعول به ، وهي قراءةٌ واضِحَةٌ من : أَهْلَكَ يُهْلك ، والنَّصبُ عطَفٌ على الفعل قبلُهُ ، وهذا شبيهٌ بقوله تعالى : { وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } [ البقرة : 98 ] فإنَّ قوله : « ليفْسِدَ » يَشْتَمِلُ على أَنَّهُ يُهْلَكُ الحَرْثَ والنَّسْلَ ، فخصَّهُما بالذّكر لذلك . وقرأ أُبيّ : « وليُهْلِكَ » بإظهارِ لام العِلَّةِ ، وهي معنى قراءة الجَمهور ، وقرأ أبو حَيوة - ورُويت عن ابن كثيرٍ وابن عمرو - « وَيَهْلِك الحَرْثُ والنَّسْلُ » بفتح الياءِ ، وكسر اللام من هلك الثَّلاثي ، و « الحَرْث » فاعلٌ ، و « النَّسلُ » عطفٌ عليه . وقرأ قومٌ : « ويُهْلِكُ الحَرْثَ » من أَهْلَكَ ، و « الحَرْث » مفعولٌ به إلا أَنَّهُم رفعُوا الكاف . وخُرِّجت على أربعةِ أوجهٍ : أن تكُونَ عَطْفاً على « يُعْجِبُك » أو على « سَعَى » ؛ لأَنَّهُ في معنى المُستقبل ، أو على خبر مُبْتَدأ للمفعول ، « الْحَرْثُ » رفعاً ، وَقَرَأَ أيضاً : « ويَهَلكُ » بفتح الياءِ واللام ورفعِِ الكَافِ ، « الحَرْثُ » رفعا على الفاعلية ، وفتحُ عين المُضارع هنا شاذٌّ لفَتْحٍ عين ماضِيهِ ، وَليس عينُهُ ولا لامُهُ حرفَ حَلْق ، فهو مثلُ رَكَنَ يَرْكَنُ بالفتح فيهما .
و « الحرث » في اللُّغة : الشَّقُّ ، ومنه المِحراثُ لام يُشقّ به الأرض ، والحرث : كسب المالِ وجمعه ، والحَرْثُ : الزَّرعُ ، والحرَّاث الزرَّاع ، وقد حرث ، واحترثَ مثل : زَرَعَ وازْدَرَعَ .
ويقالُ : احرثِ القرآن؛ أي : ادرسه ، وحَرَثتُ النَّاقة وأحرثْتُها ، أي : سِرْتُ عليها حتَّى هزلت ، وحرثت النَّارَ حرّكتها والمِحراث ما يحرك به نار التَّنور نقله الجوهري . وقد تَقَدَّمَ .
والنَّسْلُ : مصدرُ نَسَلَ ينسُل ، أي : خرج بِسُرعة ، ومنه : نَسَلَ وَبَرُ البَعِير ، ونَسَلَ ريشُ الطَّائر ، أي : خَرَجَ وتطايَرَ وقال القُرطبيُّ : النَّسْلُ ما خرج من كُلِّ أنثى من ولدٍ وأصله الخروج ، والسُّقُوط .
وقيل : النَّسلُ الخروج مُتتابعاً ، ومنه : « نُسَالُ الطَّائِر » ما تتابع سقُوطه من ريشه؛ قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
1014 - وَإِنْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مِنِّ خَلِيقَةٌ ... فَسلِّي ثِيَابي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ
وقوله : { مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ } [ الأنبياء : 96 ] يحتملُ المعنيين . و « الحَرْثَ وَالنَّسْلَ » وإن كانا في الأصلِ مصدَرَيْنِ فإنهما هنا واقعان موقَعَ المفعولِ به .
فصل في المراد ب « التولي »
ذكرُوا في هذا التوَلِّي قولين :
أحدهما : معناه : إذا انْصَرَفَ من عندك سَعَى بالفسَادِ ، وهذا الفَسَادُ يَحتمِلُ وجهَينِ :
أحدهما : إِتْلافُ الأموالِ بالتَّخريب ، والتَّحريق ، والنَّهب كما تقدَّم .
والوجه الثاني : أَنَّهُ كان بعد الانصرافِ من حَضْرَةِ النَّبِيِّ - عليه السَّلام - يلقي الشّبه في قلوب المؤمنين ويستخرج الحيل في تقوية الكُفْرِ ، قال تعالى حكاية عن فرعون { إني أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأرض الفساد } [ غافر : 26 ] وسمي هذا المعنى فساداً ، لأَنَّهُ يوقع اختلافاً بين النَّاس ، ويفرّق كلمتهم ، ويتبَّرأُ بعضهم من بعض ، فتنقطعُ الأَرْحام وتُسفَكُ الدماءُ .
القول الثَّاني في التَّوَلِّي والسَّعي؛ أي : رجع عن قوله واجتهد في إيقاع الفساد ، وأصل السَّعي المشي بسرعةٍ ، ولكنَّهُ يستعارُ لإِيقاع الفِتنة بيْنَ النَّاسِ ، ومنه يُقالُ : فلان يَسْعَى بالنَّميمة ، والمراد ب « الحَرْث » الزَّرْعُ وب « النَّسل » : تلك الحمر على التَّفْسِير الأَوَّل ، وهو يَقَعُ على ما يُحْرَثُ ويُزْرَعُ .
وقيل : إِنَّ الحَرثَ هو شَقُّ الأرض ، ويقالُ لما يُشقّ به : محرث .
والنَّسلُ في اللُّغة الوَلَدُ ، ومن قال : إِنَّ الأَخنس بيَّت على قوم ثقيف وقتل منهم جمعاً ، فالمراد بالحرث : الرجال والنساء .
أمَّا النساء فلقوله تعالى : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ } [ البقرة : 223 ] .
وأَمَّا الرجال : فهم الذين يشقون أرض التوليد ، وأَمَّا النسلُ فالمراد منه الصبيان .
قوله : { والله لاَ يُحِبُّ الفساد } .
قال العباس بن الفضل : الفسادُ هو الخرابُ .
وقال سعيد بن المسيب : قطع الدراهم من الفساد في الأرض .
وقال عطاء : كان رجل يقال له عطاء بن منبه أحرم في جُبَّةٍ ، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزعها .
قال قتادة : قلت لعطاء : إِنَّا كنا نسمع أن يشقها ، فقال عطاء : إِنَّ اللَّهَ لا يحب الفساد .
قال القطربي : والآية تَعُمُّ كُلَّ فساد كان في الأرض ، أو مالٍ أو دين ، وهو الصحيح .
==================
ج10. ج10.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب

المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعمانيوقيل : معناه لا يجب الفساد من أهل الصلاح ، أو لا يحبه ديناً ، أو المعنى لا يأمر به .
فصل في بيان فساد قول المعتزلة في معنى المحبة
استدلت المعتزلة به على أَنَّهُ تبارك وتعالى لا يريد القبائح ، قالوا : المحبة عبارة عن الإرادة لقوله تعالى : { إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة فِي الذين آمَنُواْ } [ النور : 19 ] والمرادُ أنهم يُرِيدونَ .
وأيضاً : نُقِل عن النبيِّ - عليه السلامُ - أَنَّهُ قال : « إِنَّ اللَّهَ أَحَبَّ لَكُمْ ثَلاَثاً ، وكره لكُم ثلاثاً : أَحَبَّ لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوه وَلاَ تُشْرِكُوا به شَيْئاً ، وأَنْ تتَنَاصحُوا منْ وَلاّهُ أَمْرَكُم ، ويَكْرَهُ لَكُمْ القيل والقَالَ ، وإضاعَة المال ، وكثرةَ السُّؤالِ » فجعل الكراهةَ ضِدَّ المحبةِ ، وإذا ثبتَ أَنَّ الإرادة نفسُ المحبةِ ، فقوله : { والله لاَ يُحِبُّ الفساد } ، كقوله : لا يُريدُ الفساد ، وكقوله { وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ } [ غافر : 31 ] ، وإذا كان لا يريدُ الفساد ، لا يكون خالقاً له؛ لأنَّ الخلقَ لا يمكن إلاَّ مع الإرادة ، وأُجيبُوا بوجهين :
أحدهما : أَنَّ المحبة غيرُ الإِرادة ، بل المحبَّةُ عبارةٌ عن مَدح الشيء .
والثاني : سَلَّمنا أَنَّ المحبةَ نفسُ الارادة ، لكن قوله تعالى { والله لاَ يُحِبُّ الفساد } [ البقرة : 205 ] لا يُفيد العُموم؛ لأنَّ الألف واللاَّم الداخلتين في اللفظ لا يُفيدان العمومَ ، ثم يهدم كلامهم وجهان :
الأول : أَنَّ قُدرة العبد صالحةٌ للإصلاح ، والفساد؛ فترجُّحُ الفساد على الصلاح إِنْ وقع لا لمُرجح ، لزم نفيُ الصانعِ ، وإنْ وقع لمرجح ، فذلك المرجّح لا بُدَّ وأنْ يكونَ من اللَّهِ؛ وإِلاَّ لَزِمَ التسلسلُ ، فثبت أَنَّ اللَّهَ سُبحانه هو المرجح لجانب الفساد ، فكيف يعقِلُ أَنْ يُقالِ إِنَّهُ لا يريده؟
والثاني : أَنَّهُ عالِمٌ بوقوع الفسادِ ، فإن أراد أَلاَّ يقع الفسادُ ، لزم أَنْ يُقال : إِنَّه أَراد أَنْ يقلب علم نفسه جهلاً ، وذلك مُحَالٌ .
قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله } : هذه الجملةُ الشرطيةُ تحتملُ الوجهين المتقدِّمين في نظيرتها ، أَعْني : كونها مستأنفةً ، أو معطوفة على « يُعجِبُك » ، وقد تقدَّم الخلافُ في الذي قام مقام الفاعل عند قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ } [ البقرة : 11 ] .
قوله : « أخذَتْهُ العزَّةُ » ، أي حملتُه العِزَّةُ وحَمِيَّةُ الجاهلية على الفعل .
قوله : « بالإثم » أي : بالظلم وفي هذه الباءِ ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنْ تكونَ للتعديةِ ، وهو قول الزمخشري فإنه قال : « أَخَذْتُهُ بكذا إذا حَمَلْتهُ عليه ، وأَلْزَمْتهُ إياه ، أي : حَمَلتهُ العِزَّةُ على الإِثْم ، وأَلْزَمَتْهُ ارتكابَه » قال أبو حيان : « وباء التعدية بابُها الفعلُ اللازمُ ، نحو : { ذَهَبَ الله } [ البقرة : 17 ] ، { وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ } [ البقرة : 20 ] ، ونَدَرَتِ التعديةُ بالباءِ في المتعدِّي نحو : » صَكَكْتُ الحجرَ بالحجرِ « أي : جَعَلْتُ أَحدهما يَصُكُّ الآخرَ » .
الثاني : أَنْ تكونَ للسببيةِ ، بمعنى أنَّ إثمّه كان سبباً لأخذِ العِزَّة له؛ كما في قوله : [ الرمل ]
1015 - أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ ... فَتَوَلَّى مُغْضَباً فِعْلَ الضَّجِرْ
فتكونُ الباءُ بمعنى اللام ، فتقول : فعلت هذا بسببك ، ولسببك ، وعاقَبْتُه لجِنَايتهِ ، وبجنايَتهِ .
الثالث : أن تكونَ للمصاحبة؛ فتكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِن وفيها حينئذٍ وجهان :
أحدهما : أَنْ تكون حالاً مِنَ « العِزَّة » أي : مُلْتبسةً بالإِثمِ .
والثاني : أن تكونَ حالاً من المفعولِ ، أي : أَخَذَتْهُ مُلْتبساً بالإِثمِ .
قال القُرطبيُّ : وقيل : « الباءُ » بمعنى « مَعَ » أي : أخذته العِزَّةُ مع الإثم .
وفي قوله : « العِزَّةُ بالإِثْم » من عِلْمِ البديع التتميم وهو عبارةٌ عن إِرْداف الكلمةِ بأُخْرى ، تَرْفَعُ عنها اللَّبسَ ، وتقَرِّبُها مِنَ الفَهْم ، وذلك أنَّ العزَّةَ تكونُ محمودةً ومَذمُومةً .
فَمِنْ مَجِيئها محمودةً : { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ المنافقون : 8 ] { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } [ المائدة : 54 ] فلو أُطلِقَت لَتَوَهَّمَ فيها بعضُ مَنْ لا عنايةَ له المحمُودة؛ فقيل : « بالإِثْمِ » تَتْمِيماً للمرادِ ، فرُفِعَ اللَّبْسُ بها .
فصل
اعلم أَنَّ اللَّهَ سُبحانه وتعالى حكى عن هذا المنافق أفعالاً مَذْمُومةً وهي اشتغاله بالكلام الحسن في طلب الدُّنيا ، واستشهادة باللَّهِ كذباً ولجاجةً في أبطالِ الحقِّ وإثبات الباطلِ ، وسعيُه في الأَرْض بالفَسَادِ ، وإهلاكُ الحربِ والنَّسْلِ ، وكُلُّها أفعالٌ قَبِيحةٌ ، فالظاهِرُ مِنْ قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله } أَنْ يُصْرفَ إلى الكلّ؛ لأنَّ صَرْفَهُ إلى البعض ليس أولى من البعض ، فكأَنَّهُ قيل له : اتَّقِ اللَّهِ في إِهْلاك الحرثِ والنَّسْل ، وفي السَّعي بالفَسَادِ ، وفي الَّجاجِ في إِبطَالِ الحقِّ ونُصْرة الباطلِ ، وفي الاستشهاد باللَّهِ كذباً ، وفي الحرص على طَلَبِ الدُّنْيا .
وقيل : قوله : { أَخَذَتْهُ العزة بالإثم } راجِعٌ إلى أنه قيل له : اتَّقِ اللَّهَ فقط؛ على ما سيأتي ، فيكُون معنى الآية الكريمة أنَّ الموصوف بهذه الصِّفات هو الَّذي إِذَا قيل له : اتَّقِ الله ، أَخَذَتْهُ العِزةُ بالإثم؛ فحَسْبُهُ جَهَنَّم .
و « العِزَّةُ » القوَّةُ والغلبةُ مِنْ : عَزَّهُ يَعُزُّه ، إِذا غلبهُ ، ومنه { وَعَزَّنِي فِي الخطاب } [ ص : 23 ] .
وقيل : العزَّةُ هُنا : الحمِيَّة؛ قال الشَّاعرُ : [ الرَّمل ]
1016 - أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ ... فَتَوَلَّى مُغْضَباً فِعْلَ الضَّجِرْ
وقيل : العِزَّةُ هنا : المَنَعةُ وشِدَّةُ النَّفسِ ، أي : اعتَزَّ في نفسه ، فأَوقعَتْهُ تِلْك العزَّةُ في الإِثمِ ، وألزمتْهُ إيَّاه .
قوله : { فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } ، « حَسْبُهُ » مبتدأٌ ، و « جهنَّمُ » خبرُه أي : كافيهم جهنَّمُ ، وقيل : « جَهَنَّمُ » فاعلٌ ب « حَسْبَ » ، ثُمَّ اختلف القائِلُ بذلك في « حَسْب » فَقِيل : هو بمعنى اسم الفاعلِ ، أي : الكافي ، وهو في الأَصْلِ مصدرٌ أُريد به اسمُ الفاعِل ، والفاعِلُ - وهو جهنَّمُ - سَدَّ مَسَدَّ الخبر ، وقَويَ « حَسْبُ » لاعتمادِهِ على الفاءِ الرابطةِ للجملةِ بما قبلَها ، وهذا كلُّه مَعْنَى كلام أبي البقاء .
وقيل : بل « حَسْبُ » اسمُ فِعْلٍ ، والقائِلُ بذلك اختلَفَ؛ فقيل : اسمُ [ فِعْلٍ ] ماضٍ ، أي : كَفَاهُمْ وقِيل : فعلُ أمرٍ ، أي : لِيَكفِيهم ، إلاَّ أن إعرابَه ودخولَ حُرُوفِ الجَرِّ عليه يَمْنع كونه اسم فعل .
وقد تلخَّصَ أَنَّ « حَسْبِ » هل هو بمعنى اسم الفاعل وأَصْلُه مصدرٌ ، أو اسمُ فعلٍ مَاضٍ ، أو فِعْلُ أَمْر؟ وهو مِنَ الأَسماءِ اللازمةِ للإِضَافةِ ، ولا يَتَعَرَّفُ بإضافته إلى معرفةٍ؛ تقولُ : مَرَرْتُ برجلٍ حَسْبِك ، ويُنْصَبُ عنه التمييزُ ، ويكونُ مبتدأً؛ فيُجَرُّ بباءٍ زائدةٍ ، وخبراً؛ فلا يُجَرُّ بها ، ولا يُثّنَّى ولا يُجْمَعُ ، ولا يؤَنَّثُ ، وإنْ وَقَعَ صفةً لهذه الأشياءِ .
و « جهنَّمُ » اخَتَلَفَ الناسُ فيها فقال يونس وأكثر النُّحاة : هي اسمٌ للنَّار التي يعذَّب بها في الآخِرةِ وهي أعجميةٌ وعُرِّبَتْ ، وأَصْلُها كِهِنَّام ، فمنعُها من الصرَّف لِلعلمية والعُجمةِ .
وقيل : بل هي عربيةُ الأَصْلِ ، والقائلون ، بذلك اختلَفوا في نُونِها : هل هي زائدةٌ ، أمْ أصليةٌ؟ فالصحيحُ أنها زائدةٌ ، ووزنُها « فَعَنَّلُ » مُشتقةٌ من « رَكِيَّةٌ جِهِنَّامٌ » ، أي : بعيدةُ القَعْر ، وهي من الجَهْم ، وهو الكراهةُ ، وقيل : بل نُونُها أصليَّةٌ ، ووزنُها فَعَلَّل؛ ك « عَدَبَّسٍ » ؛ قال : لأن « فَعَنَّلاً » مفقودٌ في كلامِهِم ، وجعل « زَوَنَّكاً » فَعَلَّلاً أيضاً؛ لأنَّ الواوَ أصلٌ في بنات الأربعةِ؛ ك « وَرَنْتَلٍ » ، لكنَّ الصحيحَ إثباتُ هذا البناءِ ، وجاءَتْ منه ألفاظٌ ، قالوا : « ضَغَنَّطٌ » من الضَّغاطةِ ، وهي الضَّخامةُ ، و « سَفَنَّجٌ » و « هَجَنَّفٌ » لِلظّلِيم ، والزَّوَنَّكُ : القصيرُ سُمِّيَ بذلك؛ لأنه يزوكُ في مِشْيَتِهِ ، أي : يَتَبَخْتَرُ؛ قال حَسَّان : [ الكامل ]
1017- أَجْمَعْتُ أَنَّكَ أَنْتَ أَلأَمُ مَنْ مَشَى ... فِي فُحْشِ زَانِيَةٍ وَزَوْكِ غُرَابِ
وهذا كلُّه يدُلُّ على أنَّ النُونَ زائدةٌ في « زَوَنَّكٍ » وعلى هذا فامتِناعُها للتأنيثِ والعلَميةِ .
قوله : { وَلَبِئْسَ المهاد } المخصُوص بالذَّمِّ محذوفٌ ، أي : وَلَبِئْسَ المِهادُ جَهَنَّمُ ، وحَسَّنَ حَذْفَهُ هنا كونُ « المِهَادِ » وقعَ فاصِلةً . وتقدَّمَ الكلامُ على « بِئْسَ » وحُذِفَ هذا المخصُوصُ بذلك على أنه مبتدأٌ ، والجملةُ مِنْ نِعْمَ وبِئْسَ خبرُهُ ، سواءٌ تقدَّمَ أو تأخَّرَ؛ لأنَّا لو جَعَلْنَاهُ خبرَ مبتدأ مَحْذُوفٍ ، أو مُبتَدأٌ محذوفَ الخبرِ ، ثم حذَفْنَاهُ ، كُنَّا قد حَذَفْنَا الجملةَ بأَسْرها من غَيْرَ أنْ يَنُوبَ عنها شَيْءٌ ، وأيضاً فإنَّه يَلْزَمُ مِنْ ذلك أَنْ تكونَ الجملةُ مُفْلَتَةً مِمَّا قبلها؛ إِذْ ليس لها مَوْضِعٌ من الإِعْرابِ ، وليست مُعْترضةً ، ولا مفسِّرةً ، ولا صلةً . والمِهَادُ فيه قولان :
أحدهما : أَنَّهُ جَمْعُ « مَهْدٍ » ، وهو ما يُوطَّأُ للنوم قال تعالى : { فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الماهدون } [ الذاريات : 48 ] .
والثاني : أنه اسمٌ مُفْردٌ ، سُمِّيَ به الفِرَاشُ المُوَطَّأُ للنَّوم وقِيل : « المُسْتَقِر » كقوله تعالى : { جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار } [ إبراهيم : 29 ] وهذا مِنْ باب التَّهَكم والاستهزاءِ ، أي : جُعِلَتْ جَهَنَّمُ لهم بَدَلَ مِهادٍ يَفْترشُونَهُ؛ وهو كقوله : [ الوافر ]
1018 - وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ ... تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
أي : القائمُ لهم مقامَ التحيةِ ، الضربُ الوَجِيع .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) لمَّا وصفَ في الآية المتقدِّمة حال مَنْ يبذلُ دِينَهُ لطلب الدُّنْيَا ذكر في هذه الآيةِ حالَ من يبذلُ دِينَه ونفسَهُ لطلب الدين ، وفي سبب النزول رِوايات .
إحداها : عن ابن عبَّاسٍ ، والضَّحَّاكِ : أَنَّها نزلَتْ فِي سريَّة الرَّجيع ، وذلك أَنَّ كُفّار قريشٍ بعصوا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بالمدينةِ ، أَنَّا قد أَسلمنَا ، فابعَثْ إلينا نَفَراً من علماءِ أَصْحابك؛ يُعَلِّمُوننَا دِينك ، وكان ذلك مَكْراً مِنْهم فبعث إليهم خُبَبْبِ بن عديٍّ الأَنْصَارِيُّ وَمَرثد بن أبي مَرْثدٍ الغَنَويَّ ، وخالد بن بُكَيرٍ ، وعبد اللَّهِ بن طارِق بن شهابٍ البَلويَّ ، وزيدَ بنَ الدَّثِنَّةِ ، وأَمَّرَ عليهم عاصِم بن ثابِت بن أبي الأَقلَحِ الأَنْصَارِيّ .
قال أبو هريرة : بعثَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عشرةٌ عَيْناً ، وأَمَّرَ عليهم عاصِم بن ثابِتِ بنِ أَبي الأَقْلح الأَنصَاريَّ فسَرُوا ، فَنَزلُوا بَطْنَ « الرَّجِيعِ » بين مَكَّةَ والمَدِينةِ ، ومعهم تَمْرُ عَجْوَةٍ ، فأكلوا فمرَّتْ عجوزٌ ، فأبصرت النَّوَى ، فرجعت إلى قومها بمكة ، وقالت : قد سَلَكَ هذا الطريقَ أهلُ يثرِبَ مِنْ أَصْحابِ مُحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فركِبَ سبعُونَ رَجُلاً منهم معهم الرِّماحُ ، حتى أَحَاطُوا بهم .
وقال أبو هريرة : ذكروا الحيَّ من هُذَيل يقالُ لهم بنو لحيان ، فنَفَرُوا لهم بقريب مِنْ مائة راجلٍ رامٍ ، فَاقتَفوا آثارَهُم ، حتَّى وجدوا مآكلهم التمر في منزلٍ نزلُوه؛ فقالوا : تَمْرُ يَثْرِبَ ، فاتَّبعُوا آثارَهم ، فلمَّا أَحَسَّ بهم عاصِمٌ وأصحابُه لجأوا إلى فَدْفَد ، فأحاط بهم القومُ ، فقتلوا مَرْثَداً وخَالِداً وعبد اللَّهِ بن طارقٍ ، ونثر عاصِمُ بنُ ثابتٍ كنانَتَهُ ، وفيها سبعة أَسهُمٍ ، فقتل بكُلِّ سَهْمٍ رَجُلاً مِنْ عُظَماءِ المُشْرِكينَ ، ثُمَّ قال : اللَّهُمَّ ، إِنِّي قد حميتُ دِينك صدْرَ النهارِ فاحْمِ لَحْمِي آخر النهارِ ، ثُمَّ أَحاطَ به المشركُونَ فقتلُوه ، فَلَمَّا قتلوه أَرَادُوا جَزَّ رَأْسِهِ؛ ليبيعُوه من سُلاَفة بنت سعد بن شهيد ، وكانت قد نَذَرتْ حين أصاب ابنها يومَ أُحُد لَئِنْ قدرتْ على رأسِ عاصم لتشربنَّ في قِحْفه الخمرَ ، فأرسل الله رجلاً من الدَّبْرِ ، وهي الزَّنابِيرُ ، فحمتْ عاصِماً ، فلم يقدِرُوا عليه ، فسُمِّي حميَّ الدَّبْرِ ، فقالوا : دعوه حتى نُمْسِيَ ، فتذهب عنه ، فنأْخُذَه ، فجاءت سَحَابَةٌ سوداُ ، وأمطرتْ مطراً كالغزالِ فبعث اللَّهُ الوادي غديراً فاحتمَل عاصِماً به فذهب به إلى الجَنَّة ، وحَمَل خَمسِين من المشركينَ إلى النار .
وكان عاصِمٌ قد أَعْطى اللَّهَ عَهْداً ألاَّ يمسَّهُ مُشْركٌ ولا يَمَسَّ مُشْركاً أبداً ، فمنعه اللَّهُ ، وكان عُمَر بنُ الخطَّاب يقولُ حين بلغه أَنَّ الدَّبْرَ منعتهُ : عجباً لحِفظ اللَّهِ العَبْدَ المؤمِنَ ، كان عاصِمٌ نَذَرَ ألاَّ يَمَسَّهُ مشركٌ ، ولا يسَّ مُشرِكاً أبداً ، فمنعه اللَّهُ بعد وفاتِه ، كما امتنع عاصم في حياته ، وأسر المشركون خُبَيْب بن عديٍّ ، وزيد بنَ الدَّثِنَّةٍ ، فذهبوا بهما إلى مكةَ ، فأمَّا خُبَيْتبٌ فابتاعه بنو الحارث بن عامرٍ بن نَوفل بن عبدَ مُنافٍ؛ ليقتلُوه بأبيهم ، وكان خُبيب هو الذي قتل الحارِثَ يومَ بدرسن فلبث خُبَيبٌ عندهم أسيراً ، حتَّى أجمعوا على قتلِه ، فاستعار مِنْ بعض بنات الحارثِ مُوسى ليستحِدَّ بِهَا ، فأعارتهُ ، فدرج بُنيٌّ لها ، وهي غافِلةٌ ، فما راعَ المرأةَ إلاَّ خبيبٌ قد أَجْلَسَ الصَّبِيَّ على فَخذِهِن والمُوسى بيده ، فصاحت المرأةُ ، فقال خبيبٌ : أَتَخْشِينَ أن أَقْتُلَهُ؟ ما كنت لأفعل ذلك ، إنّ الغدر ليس مِنْ شَأنِنا ، فقالت المرأةُ : واللَّهِ ما رأيْتُ أسيراً خيراً من خُبَيْبٍ؛ واللَّهِ لقد وجدتُه يوماً يأكُلُ قطفاً من عِنَبٍ في يَدِهِ ، وإنه لموثقٌ بالحديدِ ، وما بمكة من ثَمرةٍ ، إن كان إلاَّ رِزْقاً رزقه اللَّهُ خُبَيْباًن ثم إِنَّهم خرجوا به من الحرم ليقتُلُوه في الحِلِّ ، وأَرَادثوا أَنْ يصلبُوهُ ، فقال لهم خبَيبٌ : دعوني أُصَلِّي ركعتَينِ؛ فتركوه ، فكان خُبَيْبٌ هو الذي سَنَّ لكل مُسْلم قُتِلَ صَبْراً الصلاةَ ، فركع ركعتين ، ثُمَّ قال خَبَيْبٌ : لولا أَنْ يَحْسَبُوا أنَّ ما بي من جزعٍ لزّدتُ ، اللهمَّ أَحْصِهم عَدَداً؛ وَاقْتُلهم بَدَداً ، ولا تُبْقِ منهم أَحَداً وأنشأ يقولُ : [ الطويل ]
1019 - وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِماً ... عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ فِي اللَّهِ مَصْرَعِي
وَذلِكَ فِي ذَاتِ الإلهِ وإِنْ يَشَأْ ... يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّع
فصَلبُوه حَيَّاً؛ اللَّهُمَّ إشنَّك تعلمُ أَنَّهُ ليس أَحَدٌ حَوْلِي يبلّغ سَلامِي رسولَك فأبلغهُ سَلامِين ثم قام أبُو سَروعةَ عُتبَةُ بنُ الحارِثِ فَقَتَله ، ويُقَال : كان رجلاً من المشركين يُقالُ له سَلاَمانَ أَبُوا مَيْسَرة ، معه رُمْح فوضعه بي ثَدْيي خُبيبٍ ، فقال له خُبَيْبٌ : اتَّقِ اللَّهَ ، فما زاده ذلك إِلاَّ عُتُوّاً ، فطعنه فأَنفذه ، وذلك قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله } [ البقرة : 206 ] يعني سَلاَمَانَ .
وأَمَّا زيدُ بنُ الدثنة ، فابتاعه صفوانُ بنُ أُميَّة؛ ليقلته بأبيه ، أُمية بن خلفٍ ، فبعثه مع مَوْلى له يُسَمَّى نسطاس إلى التنعيم ، ليقتُلهُ ، واجتمع رهطٌ مِنْ قُريشٍ فيهم أبو سُفيان بن حربٍ ، فقال له أبو سفيان حين قُدِّمَ ليُقْتَل : أَنْشدك اللَّهَ يا زيدُ ، أَتُحِبُّ أَنَّ محمداً عندنا الآن بمكانك ، وتُضْرُب عنقُه وإِنَّك في أَهلك؟ فقال : واللَّهِ ما أحبُّ أَنَّ محمداً الآنَ في مكانِه الذي هو فيه تُصيبُه شوكَةٌ تُؤذيه ، وأَنا جالِسٌ في أَهْلِي ، فقال أَبُو سُفيانَ : ما رأيتُ أحداً من الناس يُحِبُّ أحداً كَحُبِّ أصحاب مُحَمَّدٍ ، ثم قتله نِسْطَاسُ .
فلمَّا بلغ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - هذا الخبرُ ، قال لأَصحابهِ : « أَيُّكُمْ ينزل خُبَيْباً عن خَشَبته وله الجنةُ » فقال الزُّبَيْرُ أنا يا رَسُول اللَّهِ ، وَصَاحِبي المقدادُ بنُ الأَسُودِ ، فخرجا يمشيان في الليلِ ، ويكمُنانِ بالنهار ، حتَّى أََتَيَا التنعيم ليلاً ، وإذا حولَ الخَشَبةِ أربعون رجُلاً من المشركين نائمون نشاوى ، فَأَنْزَلاَهُ ، فإذا هو رَطْبٌ يَنْثَنِي ، لم يتغيّرْ بعد أربعين يوماً ، ويده على جراحتِه ، وهي تَبصُّ دَماً اللونُ لَوْنُ الدّمِ ، والريحُ ريحُ المسْكِ ، فحمله الزبيرُ على فرسِه ، وساروا؛ فانتبه الكفارُ وقد فقدوا خُبَيْباً ، فأخبروا قُرَيْشاً ، فركب منهم سبعُون رجلاً ، فلمَّا لحقوهما قذَفَ الزبيرُ خُبَيْباً؛ فابتلعته الأرضُ فَسُمِّيَ بليعَ الأَرضِ ، وقال الزبيرُ : ما جَرَّأكُمْ علينا يا مَعشَر قريشٍ؛ ثم رفع العمامةً عن رأْسِه ، وقال : أَنَا الزُّبير بنُ العَوَّام ، وأُمِّي صفِيَّةُ بنتُ عبد المطلبِ ، وصاحبي المِقدادُ بنُ الأَسُوَدِ ، أَسَدَانِ رَابضانِ يَدْفعانِ عن شِبْلهما ، فإن شئْتم نازلْتُكم ، وإن شِئْتُم انصَرفْتُم . فانصرفا إلى مَكَّة ، وقدِما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجبريلُ عِنْده ، فقال : يا محمدُ ، إِنَّ الملائكة لَتُبَاهِي بهذين من أصحابك «
، فنزل في الزُّبَيْر والمِقْداد { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله } [ البقرة : 207 ] حين شرِيا أنفسَهُمَا لإِنْزَالِ خُبَيْبٍ عن خَشَبَته .
وقال أكثرُ المفسِّرين : نزلت في صُهَيب بن سِنان ، مَوْلى عبد اللَّهِ بنِ جُدْعانَ الرُّومِيِّ ، وفي عمَّارِ بن ياسِرٍ ، وفي سُمَيَّة أُمَّه ، وفي ياسِرٍ أَبيه ، وفي بلالٍ مَوْلَى أبي بَكرٍ ، وفي خَبَّاب بن الأَرَتّ وفي عابس مَوْلَى حُوَيْطِب؛ أخذَهُم المشرِكُون فَعَذَّبوهم؛ فقال لهم صُهَيبٌ : إِنِّي شيخٌ كَبيرٌ لا يَضُرُّكُمْ أَمِنْكُمْ كُنْتُ أم مِن عَدوِّكم فهل لكم أَنْ تَأْخُذُوا مَالِي ، وتذَرُوني؟ ففعلوا ، وكان شرط عليهم راحلةً ونَفَقَةً ، فأقام بمكةَ ما شاء اللَّهُ ، ثم خرج إلى المدينَةِ ، فتَلَقَّاهُ أَبُو بكرٍ وعُمرُ في رجال فقال له أَبُو بَكْرٍ : رَبَحَ بَيْعُكَ يا أَبَا يَحيى؛ فقال : وبيعُكَ فلا تخسر ما ذاك؟ فقال : أنزل اللَّهُ فيك كذا وقرأ عليه الآية .
وأمَّا خَبَّابُ بنُ الأَرَتِّ وأَبُو ذَرٍّ ففرَّا إلى المدينة ، وأَمَّا سُمَيَّةُ فَرُبطَتْ بين بعيرين ثم قُتلت ، وقُتل ياسِرٌ .
وَأَمَّا البَاقُونَ : فأَعْطوا بسبب العذاب بعض ما أراد المشركُون ، فتُرِكُوا ، وفيهم نزل قوله تعالى : { والذين هَاجَرُواْ فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } [ النحل : 41 ] بتعذيب أهل مكة { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدنيا حَسَنَةً } [ النحل : 41 ] بالنَّصر والغنيمة ، { وَلأَجْرُ الآخرة أَكْبَرُ } ، وفيهم أُنْزِلَ { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدنيا حَسَنَةً } [ النحل : 106 ] .
وقال سعيدُ بن المُسَيِّب ، وعَطَاء : أقبل صُهَيبٌ مهاجراً نحو النبي - صلى الله عليه وسلم - فاتَّبعُه نفرٌ من مُشركِي قريش ، فنزل عن راحِلَته ، ونَثَلَ ما في كِنانته ، ثُمَّ قال : يا معشَرَ قريشٍ ، لقد علمتُمْ أَنِّي لَمِنْ أَرْماكُم رَجُلاً ، واللَّهِ لا أضع سَهْماً من كِنَانتي إِلاَّ في قَلْبِ رجلٍ منكم وَأَيْمُ اللَّهِ ، لا تَصِلُون إِليَّ حتى أَرْمِي بكل سَهْمٍ في كِنَانتي ، ثم أَضْربُ بسيفي ما بَقِيَ في يَدِي ، ثم افعلُوا ما شِئْتم ، وإن شئتم دَلَلْتُكُمْ على مالِي بمكة وخلَّيْتُم سَبِيلي .
قالُوا : نَعَمْ ، ففعل ذلك ، فنزلت الآيةُ وقال الحسنُ : أَتَدْرُونَ فِيمن نزلت هذه الآية؟ نزلَت في المُسْلِم يلْقَى الكافِر فيقولُ له : قُلْ لا إِله إلاَّ اللَّهُ ، فيَأْبَى أَنْ يقولَهَا ، فيقولُ المسلِم : واللَّهِ لأشترينَّ من نفسي لِلَّهِ ، فيتقدَّم فيقاتِلُ حَتَّى يقتل .
ورُوِيَ عن عُمر ، وعَلِيٍّ ، وابنِ عبَّاسِ : أَنَّها نزلت في الأَمر بالمعرُوفِ ، والنَّهي عن المُنْكَرِ .
قال ابنُ عبَّاسٍ : أرى مَنْ يَشْري نفسهُ ابتغاءَ مرضاة الله يقومُ فيأْمُر هذا بتقوى اللَّهِ ، فإذا لم يقبْل ، وأخذته العزَّةُ بالإِثْم ، قال هذا : وأنا أَشْرِي نَفْسي فيقاتله ، وكان إذا قرأ هذه الآيةَ يقولُ : اقتتلا وربِّ الكَعْبةِ ، وسَمِعَ عمرُ بنُ الخطَّابِ إِنساناً يقرأ هذه الآية؛ فقال عُمَرُ : إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إليه راجعون ، قام رجلٌ يأمرُ بالمعرُوفِ وينهى عن المُنْكَرِ فَقُتِلَ .
وقيل : نزلت في عليِّ بن أبي طالبٍ - رضي اللَّهُ عنه - باتَ على فِراشِ رسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ليلةً خُروجهِ لى الغار .
قوله تعالى : « مَنْ يَشْرِي » : في « مَنْ » الوجهانِ المتقدِّمان في « مَن » الأُولَى ، ومعنى يَشْرى : يَبيعُ؛ قال تعالى : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } [ يوسف : 20 ] ، إِنْ أَعَدْنَا الضميرَ المرفوعَ على الآخِرة ، وقال [ مجزوء الكامل ]
1020 - وَشَرَيْتُ بُرْداً لَيْتَنِي ... مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَهْ
قال القُرْطبيُّ : بُرْدٌ هنا اسم غلامٍ . فالمعنى : يَبُذُل نفسَه في اللَّهِ ، وقيل : بل هو على أصلِهِ من الشِّراء .
قوله : « ابتغاءَ » منصوبٌ على أنه مفعولٌ مِنْ أجله ، والشروطُ المقتضيةُ للنصب موجودةٌ ، والصَّحِيحُ أنَّ إضافَة المفعولِ له مَحْضَةٌ ، خلافاً للجرْمِي ، والمُبْرِّد ، والرِّيَاشي ، وجماعةٍ مِنَ المتأخِّرينَ .
و « مَرْضَاةً » مصدرٌ منيٌّ على تَاءِ التأنيثِ كَمَدْعَاة ، والقياسُ تجريدُهُ عنها؛ نحو : مَغْزى ، ومَرْمى . قال القُرطبِيُّ : والمَرْضَاةُ ، الرِّضَا ، تقولُ : رَضِيَ يَرْضى رِضاً وَمَرْضَاة ووقَفَ حمزةُ عليها بالتاءِ ، وذلك لِوَجْهَين :
أحدهما : أَنَّ بعضَ العربِ يقِفُ على تاء التأنيثِ بالتاءِ قال القائل في ذلك : [ الرجز ]
1021 - دَارٌ لسَلْمَى بَعْدَ حَوْلٍ قَدْ عَفَتْ ... بَلْ جَوْزِ تَيْهَاءَ كَظَهْرِ الجَحَفتْ
وقد حكى هذه اللُّغة عن سيبويه .
والثاني : أَنْ يكونَ وَقَفَ على نِيَّة الإِضَافة ، كأَنَّه نوى لفظَ المضافِ إليه؛ لشدةِ اتِّصال المُتَضَايفيْنِ ، فأَقَرَّ التاءَ على حالِها؛ مَنْبَهَةً على ذلك ، وهذا كما أَشمُّوا الحرفَ المضْمُوم؛ ليُعْلِمُوا أنَّ الضَّمَّة كالمنطوق بها ، وقَدْ أَمالَ الكِسَائيُّ ووَرْشٌ « مَرْضَات » .
وفي قوله : « بِالْعِبَادِ » خُرُوجٌ من ضميرِ الغَيْبَةِ إِلَى الاسْم الظَّاهِرِ؛ إذ كان الأَصْلُ « رَؤوفٌ بِهِ » أَوْ « بِهِمْ » وفائدةُ هذا الخُروجِ أنَّ لفظَ « العِبَادِ » يُؤْذِنُ بالتشرِيف ، أو لأنه فاصلةٌ فاختير لذلك .
فصل
إِذَا قُلأنا بأنَّ المراد من هذا الشراءِ البيعُ ، فتحقيقُه أَنَّ المكلَّفَ باعَ نَفسَه بثوابِ الآخرَةِ ، وهذا البيعُ هو أنَّهُ بَذلَها في طاعةِ اللَّهِ تعالى من الصلاةِ ، والصيام ، والحج والجهاد ، ثم يتوصل بذلك إلى وجدان ثَوَابِ الله تعالى فكان ما يبذلُه مِنْ نفْسِه كالسِّلْعةِ ، فكأَنَّهُ كالبائِع ، واللَّهُ كالمشتري؛ كما قال : { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة } [ التوبة : 111 ] وقد سَمَّى اللَّهُ تعالى ذلك تِجَارةً ، فقال : { ياأيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ }
[ الصف : 10 ، 11 } وإِنْ أَجْرَينا الآيةَ على ظاهِرهَا ، وقُلنا : إِنَّ المرادَ هو الشراءُن فإن مَنْ أَقْدَم على الكُفْرِ ، والتوسُّعِ في مَلاذِّ الدنيا ، والإِعْراض عن الآخرة ، وقَعَ في العذاب الدَّائِمِ ، فصار كَأَنَّ نَفْسَهُ كانت له ، فبسبب الكُفْرِ والفِسْقِ خَرجَتْ عن مِلْكه ، وصارت حَقّاً للنار ، فإذا ترك الكفر والفِسْق ، وأقبل على الإِيمان والطاعةِ صار كأنه اشْترى نَفْسَهُ من النار والعذاب .
فإن قيلَ : إن الله تعالى جعل نَفْسَهُ مُشْترياً بقوله : { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } وهذا يمنع كَونَ المؤمنِ مُشْتَرِياً .
فالجوابُ : أنه لا مُنَافَاةَ بين الأَمْرين؛ فهو كمن اشترى ثوْباً بعبدٍ ، فكل واحد منهما بائع ومُشْتَرٍ فكذا هَا هُنَا .
فصل
يدخُلُ تحتَ هذا كُلُّ مَشَقَّةٍ يتحملها الإنسانُ في طلَبِ الدِّين؛ كالجهادِ والصابر على القَتْلِ ، كَقَتْلِ والد عَمَّار وأُمِّه ، والآبق مِنَ الكُفَّارِ إلى المسلمين ، والمُشْترِي نفسَهُ من الكفار بِمَالِه ، كفعل صُهَيبٍ ، وَمَنْ يُظْهِرُ الدين والحقَّ عِنْدَ السلطان الجائِر .
رُوِيَ أَنَّ عُمَر - رضي اللَّهُ عنه - بعثَ جَيْشاً ، فحاصَرُوا قَصْراً ، فتقدَّم منهم وَاحِدٌ فقاتل حتى قُتِلَ ، فقال بعضُ القَوْمِ : أَلْقَى بيده إلى التَّهْلكةِ فقال عمرُ : كَذَبْتُم ، يرحمُ اللَّهُ أَبَا فُلانٍ . وقرأ { وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله } واعلَمْ أَنَّ المشقَّةَ التي يتحملَّلُها الإنسان لا بُدَّ وأَنْ تكونَ على وَفْقِ الشَّرع حتى يدخل بسببه تحت الآية ، أَمَّا لو كانَ على خِلاَفِ الشرع فلا يَدْخُلُ فيها ، بل يَعَدُّ ذلك مِنْ إِلْقَاء النَّفْس إلى التَّهْلَكَة؛ كما لو خاف التَّلَفَ عند الاغتسال مِنَ الجنَابة ففعل .
قوله : { والله رَؤُوفٌ بالعباد } فمن رَأْفَتِهِ أنه جعل النَّعِيمَ الدَّائِمَ جزاءً على العَمَلِ القَلِيلِ المُنْقَطِع ، ومن رَأْفته جَوَّز لهم كلمة الكفرِ إبْقَاء على النفس ، وَمِنْ رَأْفَتِهِ أَنَّهُ لا يكلف نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ، ومِنْ رأْفَتِه ورحمته أن المُصِرَّ على الكُفْرِ مائة سَنَةٍ ، إذا تاب - وَلَوْ في لَحْظةٍ - أسقط عنه عِقَابَ تِلْك السنين ، وأعطاه الثوابَ الدائم .
وَمِنْ أْفتِه أَنَّ النفسَ لَهُ والمَال ، ثم إِنَّهُ يَشْتَرِي ملكه بمكلِه؛ فَضْلاً منه ورحمة وإحْسَاناً وامْتِنَاناً .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) قوله : « السِّلْم » قرأ هنا « السَّلْم » بالفتح نافعٌ ، والكِسائيُّ ، وابنُ كثيرٍ ، والبَاقُونَ بالكَسْر ، وأمَّا التي في الأَنْفال [ آية 61 ] فلم يَقْرَأْها بالكَسْرِ إلاَّ أَبُو بكرٍ وحدَه ، عَنْ عاصِمٍ ، والتي في القِتال [ آية : 35 ] فلم يَقْرَأْها بالكَسْرِ إلاَّ حمزةُ وأَبُو بكرٍ أيضاً ، وسيأتي . فقِيل : هَما بمعنىً ، وهو الصلحُ مثل رَطْل ورِطْل وجَسْر وجِسْر وهو يُذَكَّر ويُؤَنَّث ، قال تعالى : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا } ، وحَكَوْا : « بَنُوا فُلانٍ سِلْمٌ ، وسَلْمٌ » ، وأصلُه من الاسْتِسْلاَمِ ، وهو الانقيادُ ، قال تعالى : { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين } [ البقرة : 131 ] الإسلامُ : إسلامٌ الهدي ، والسِّلْم على الصُّلْح ، وترك الحرب راجع إلى هذا المعنى؛ لأَنَّ كُلَّ واحدٍ كَصَاحِبهِ ، ويُطْلَقُ على الإِسلاَم قاله الكِسَائي وجماعةٌ؛ وأنشدوا : [ الوافر ]
1022 - دَعَوْتُ عَشِيرَتِي لِلسِّلْمِ لَمَّا ... رَأيْتُهُمُ تَوَلَّوا مُدْبِرينَا
يُنْشَدُ بالكَسْرِ ، وقال آخرُ في المفتُوحِ : [ البسيط ]
1023 - شَرَائِعُ السَّلْمِ قَدْ بَانَتْ مَعَلِمُهَا ... فَما يَرَى الكُفْرَ إِلاَّ مَنْ بِه خَبَلُ
فالسِّلْمُ والسَّلْمُ في هذين البيتَيْنِ بمعنى الإِسْلاَم ، إلاَّ أنَّ الفَتْحَ فيما هو بمعنى الإِسلام قليل ، وقرأ الأَعْمشُ بفتح السِّين واللامِ « السَّلَم » .
وقيل : بل هما مختلفا المعنى : فبالكَسْرِ الإِسلامُ ، وبالفتحِ الصلحُ .
قال أبُو عُبَيدة : وفيه ثلاثُ لُغَاتٍ : السَّلْم والسِّلْم والسُّلْم بالفَتْح والكَسْر والضمِّ .
« كافةً » مَنْصُوبٌ على الحالِ ، وفي صَاحِبهَا ثلاثةُ أقوالٍ .
أظهرها : أنه الفاعلُ في « ادْخُلُوا » ، والمعنَى : ادخُلُوا السِّلْم جميعاً ، وهذه حالٌ تُؤَكِّدُ معنى العمومِ ، فإنَّ قولَكَ : « قام القومُ كافةً » بمنزلةِ : قَامُوا كلُّهم .
والثاني : أنه « السِّلْمُ » قالهُ الزَّمخشريُّ ، وأَبُوا البقاءِ ، قال الزمخشريُّ : ويَجُوزُ أن تكونَ « كافةً » حالاً من « السِّلْمِ » ؛ لأنها تُؤَنَّثُ كما تُؤَنَّثُ الحَرْبُ؛ قال الشاعر : [ البسيط ]
1024 - السِّلْمُ تَأْخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِهِ ... والحَرْبُ يَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِها جُرَعُ
على أنَّ المؤمنينَ أُمِرُوا أَنْ يدْخُلُوا في الطاعاتِ كُلِّها ، ولا يَدْخُلوا في طَاعةٍ دونَ طاعةٍ ، قال أَبُوا حيَّان تَعْلِيلُه كونُ « كافةً » حالاً مِنَ « السِّلْم » بقولِه : « لأَنَّها تُؤَنَّثُ كما تُؤَنَّثُ الحرب » ليس بشيءٍ؛ لأنَّ التاءَ في « كَافَّة » ليست للتأنيثِ ، وإن كان أَصْلُها أَنْ تَدُلَّ عليه ، بل صار هذا نقلاً مَحْضاً إِلى مَعْنَى جميعٍ وكُلٍّ ، كما صار قاطبةً وعامَّة ، إذا كانَ حالاً نَقْلاً مَحْضاً .
فإذا قلت : « قامَ الناسُ كَافةً ، وقَاطِبةً » لم يَدُلَّ شيءٌ من ذلك على التأْنِيثِ ، كما لا يَدُلُّ عليه « كُلّ » و « جميع » .
والثالث : أَنْ يكونَ صاحبُ الحالِ هما جَمِيعاً : أضعْنِي فاعلَ « ادْخُلُوا » و « السِّلْم » فتكونُ حالاً مِنْ شَيْئَين .
وهذا ما أجازه ابنُ عطيةَ فإنه قال : وتَسْتَغْرقُ « كافة » حنيئذٍ المؤمِنين ، وجميعَ أجزاءِ الشَّرْع ، فتكونُ الحالُ مِنْ شَيْئَيْن وذلك جائِزٌ نحو قولِهِ :
{ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ } [ مريم : 37 ] . ثم قال بعد كلامٍ : وكافةً معناه جميعاً ، فالمراد بالكافّةِ الجماعةُ التي تَكُفُّ مخالِفيها .
وقوله : « نحو قوله فَأَتَّتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُه » يعني أنَّ « تَحْمِلُهُ » حالٌ مِنْ فاعِل « أَتَتْ » ومِنَ الهاء في « بِهِ » قال أبو حيَّان : « هذا المِثَالُ ليس مُطَابِقاً لِلْحَالِ من شَيئينِ لأنَّ لفظَ » تَحْمِلُهُ « لا يحتمل شيئَيْن ، ولا تقع الحالُ مِنْ شيئينِ إِلاَّ إِذَا كان اللفظُ يحتملهما ، واعتبارُ ذلك بجَعْلِ ذَوِي الحالِ مُبْتدأَيْنِ ، وجعل تلك الحالَ خبراً عنهما ، فمتى صَحَّ ذلك صَحَّتِ الحالُ؛ نحو قوله [ الطويل ]
1025 - وَعُلِّقُتُ سَلْمَى وَهْيَ ذَاتُ مُوَصَّدٍ ... وَلَمْ يَبْدُ للأَتْرَابِ مِنْ ثَدْيِهَا حَجْمُ
صَغِيرَيْنِ تَرْعَى البَهْمَ يَا لَيْتَ أَنَّنَا ... إِلَى اليَوْمِ لَمْ نَكْبَرْ ولَمْ تَكْبَرِ البَهْمُ
فصغيرَين حالٌ من فاعل » عُلِّقْتُ « ومِنْ » سَلْمَى « لأنك لو قُلْت : أنا وسَلْمى صَغِيرانِ لَصَحَّ ومثلُه قولُ امرِئ القَيس : [ الطويل ]
1026 - خَرَجْتُ بِهَا نَمْشِي تَجُرُّ وَرَاءَنَا ... عَلَى أَثَرَيْنَا ذَيْلَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ
فنْمشِي حالُ من فاعل » خَرَجْتُ « ، ومِنْ » هَا « في » بِهَا « ؛ لأنَّك لو قلتَ : » أنا وهي نمشي « لصَحَّ ، ولذلك أَعْرَب المُعْرِبُونَ » نَمْشِي « حَالاً مِنْهُما ، كما تَقَدَّم ، و » تَجُرُّ « حالاً مِنْ » هَا « في » بِهَا « ، فقط؛ لأنه لا يصلُحُ أن تجعل » تَجُرُّ « خبراً عنهما ، لو قلتَ : » أنا وهي تَجرُّ « لم يَصِحَّ؛ فكذلك يتقدَّر بمفردٍ وهو » جارَّة « وأنت لو أَخْبَرْتَ به عن اثْنين ، لم يَصِحَّ؛ فكذلك » تَحْمِلُهُ « لا يَصْلُح أَنْ يكون خَبَراً عن اثنين ، فلا يَصِحُّ أَنْ يكونَ حالاً منهما ، وأمَّا » كَافّة « فإنها بمعنى » جَمِيع « ، و » جمِيع « يَصِحُّ فيها ذلك ، لا يُقالُ : » كَافَّة « لا يَصحُّ وقوعُها خَبَراً ، لو قلتَ : » الزَّيْدُونَ وَالْعَمْرُونَ كَافَّةً « لم يجزْ ، فلذلك لا تقعُ حالاً؛ لا مِنْ مانع معنوي ، بدليلِ أنَّ مرادِفَها وهو » جَمِيع « و » كُلّ « يُخْبَرُ به ، فالعارِضُ المانِعُ ل » كافَّة « من التصرُّفِ لا يَضُرُّ ، وقولُه : » الجماعةُ الَّتِي تَكُفُّ مخالِيفها « يعني : أَنَّها في الأصْلِ كذلك ، ثم صار اسْتِعْمالُها بمعنى جَمِيع وكُلّ » .
واعْلَمْ أنَّ أَصْلَ « كافة » اسمُ فاعلٍ مِنْ كَفَّ يَكُفُّ ، أي : مَنَع ، ومنه « كَفُّ الإِنسان » ؛ لأنها تَمْنَعُ ما يقتضيه ، و « كِفّة المِيزَانِ » لجمعها الموزون ، ويقالُ : كَفَفْتُ فُلاَناً عن السُّوء ، أي : منعتُه ، ورجل مَكْفُوفٌ ، أي : كُفَّ بَصَرُهُ مِنْ أَنْيبصر ، وَالكُفَّةُ - بالضَّمِّ - لكل مستطيلٍ ، وبالكَسْرِ ، لكلِّ مُسْتدِير .
وقيل : « كافة » مصدرٌ كالعاقبة والعافية . وكافة وقاطبة مِمَّا لَزم نصبُها على الحالِ ، فإخراجُهما عن ذلك لَحْنٌ .
فصل
لمَّا بيَّن الله - تعالى - أقسامَ النَّاسِن وأنهم يَنْقَسِمون إلى مُؤْمنٍ ، وكافِرٍ ، ومُنَافِق قال هاهنا : كُونَوا على مِلَّة واحدة ، على الإسلام ، واثْبتُوا عليه .
قال ابنُ الخطيب : حمل أكثرُ المفسرِين السِّلْمَ على الإسلامِ ، وفيه إِشكالٌ؛ لأنه يَصِيرُ التقدِيرُ : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنثوا ادخُلُوا في الإِسْلام ، والإِيمانُ هو الإسلامُ ، ومعلومٌ أَنَّ ذلك لا يَجوزُ ، فلهذا ذكر المفسرون وُجُوهاً .
أحدها : أَنَّ المرادَ بالآيةِ المنافقُونَ ، والتقديرُ : يا أَيُّهَا الذي آمنوا بأَلْسنتِهم ادخلُوا بكُلِّيتِكُمْ في الإسلام ، ولا تَتَّبعُوا خطواتِ الشيطانِ ، أي آثار تَزيينه ، وغروره في الإِقامةِ على النِّفاقِ ، واحتجوا على هذه بالآيةِ ، فهذا التأويلُ على أَنَّ هذه الآيةَ إِنَّما وردت عَقِيبُ مَا مَضَى من ذكر المنافقين وهو قولُه : { وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ } [ البقرة : 204 ] « الآية » فلمَّا وصفهم بما ذكر ، دعاهم في هذه الآيةِ إلى الإيمان بالقلب ، وترك النفاق .
وثانيها : رُوِيَ أَنَّ هذه الآية نزلتُ في طائفةٍ من مُسْلِمي أهل الكتاب : « عَبْد اللَّهِ ابن سَلامٍ » وأصحابِهِ ، وذلك لأنهم كانوا يُعظِّمون السَّبْتَ ، ويكرهون لُحْمَان الإِبِل ، بعدما أَسْلَموا وقالوا : يَا رسُولَ اللَّهِ : إِنَّ التوراةَ كتابُ اللَّهِ ، فدعْنَا فلنقم بها في صَلاتِنا باللَّيْلِ ، فأمرهم اللَّهُ بهذه الآيةِ أَنْ يدخُلُوا في السِّلْم كافَّةً [ أي : في شَرَائِعِ الإِسَلام كافة ] ولا يتمسَّكُوا بشَيْءٍ من أَحْكامِ التوراة ، اعتقاداً له وعملاً به ، ولا تتبعوا خُطُواتِ الشيطانِ في التمسُّكِ بأْحْكامِ التوراة بَعْدَ أَنْ عرفْتُم أنها صارت مَنْسُوخةً ، وقائِلُ هذا القولِ جعل « كَافَّةً » من وصف « السِّلْم » ، كأنه قِيلَ : ادخُلُوا في جميع شَعائِر الإسلام اعتقاداً وعملاً .
وثالثها : أَنَّ هذا الخطابَ لأَهْلِ الكتابِ الَّذِينَ لم يؤمنوا بالنبي - عليه السلام - يَعْنِي : { يَا أَيُّهَا الذين آمنوا } . أي : بالكتاب المتقدم { ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً } ، أي : آمنوا بجميع أنبيائه وكُتُبهم ، وبمحمَّد ، وكتابهِ على التمامِ ، ولا تتبعوا خُطُواتِ الشيطان في تحسينه الاقتصارَ على التوراةِ بسبب أَنَّهُ دِينٌ اتفق الكُلُّ على أنه حَقٌّ ، بسبب أَنَّهُ جاء في التوارةِ : وتمسَّكُوا بالسبت ما دامتِ السمَواتُ والأَرْضُ ، فيكون المرادُ من خُطُواتِ الشيطانِ الشبهات التي يتمسَّكُونَ بها في بَقَاءِ تلك الشريعة .
قال ابنُ عبَّاسٍ : نزلت الآيةُ في أهل الكتابِ ، والمعنى : { ياأيها الذين آمَنُواْ } بِمُوسَى وعِيسَى « ادْخُلُوا » فِي الإِسْلاَمِ بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - كَافَّةً « .
وَروى » مُسْلِمٌ « عن أبي هريرة ، عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال : » والَّذِي نفسُ مُحَمَّدٍ بِيَدهِ ، لا يَسْمَعُ بي أَحَدٌ مِنْ هذه الأمَّةِ يَهُوديٌّ ولا نَصْرَانيٌّ ، ثُمَّ لَمْ يؤمِنْ بالَّذِي أُرْسِلْتُ به إلاَّ كان مِنْ أَصحابِ النَّارِ «
ورابعها : أَنَّ المرادَ بهذا الخطابِ المسلِمُونَ ، والمعنى : { ياأيها الذين آمَنُواْ } دُومُوا على الإسلام فيما بَقِيَ من العُمُرِ ولا تَخْرُجوا عنه { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان } أي : ولا تلتفتوا إلى الشُّبُهاتِ التي يُلْقيها إليكم أصحابُ الضلالةِ والغوايةِ .
قال حُذَيفةُ بنُ اليمانِ في هذه الآيةِ : الإِسْلاَمُ ثمانيةُ أَسْهم : الصلاةُ سهمٌ ، والزكاة سَهْمٌ ، والصدقةُ سَهْمٌ ، والحجُّ سَهْمٌ ، والعمرةُ سَهْمٌ ، والجهادُ سَهْم ، والأمرُ بالمعروفِ سهمٌ ، والنَّهْيُ عن المُنْكر سَهْمٌ ، وقد خاب مَنْ لا سهم له .
فإنْ قيل : المؤمنُ الموصوفُ بالشيء يقُالُ له : دُمْ عَلَيْه ، ولا يقالُ لهُ : ادخُلْ فيه ، والمذكُور في الآيةِ هو قوله : « ادخلُوا » .
فالجوابُ : الكائن في الدار إذا علم أَنَّ له في المستقبل خروجاً عنها ، فلا يمتنع أن يُؤْمَرَ بدخولها في المستقبل ، وإن كان في الحال كائناً فيها؛ لأن حالَ كونهِ فيها غيرُ الحالةِ التي أُمِر أن يدخل فيها ، فإذا كان في الوقْتِ الثاني قد يخرج عنها ، صَحَّ أن يؤمر بدخُلولِها .
وقال آخرُونَ : المراد ب « السِّلْم » في الآية الصُّلح ، وتركُ المحاربةِ والمُنَازَعةِ ، والتقديرُ : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا ادْخُلُوا في السِّلْم كَافَّةً » أي : كُونُوا مُجْتَمِعينَ في نُصْرة الدين واحتمال البَلوَى فيه { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان } بأَنْ يحملَكُم على طلب الدُّنْيَا ، والمنازعةِ مع الناس ، فهو كقوله : { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } [ الأنفال : 46 ] ، وقوله : { واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } [ آل عمران ] .
قوله تعالى : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان } أي : لاَ تُطِعُوهُ فيما يدعُوكُمْ إليه ، وتقدَّم الكلامُ على خطواته .
وقوله : { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } .
قال أبو مسلمٍ : مُبِين مِنْ صفاتِ البليغ الذي يُعرِبُ عن ضميره .
قال ابنُ الخطِيب : ويدلُّ على صحةِ هذا المعنى قوله { حموالكتاب المبين } [ الدخان : 1 - 2 ] ولا يعنى بقوله « مُبين » إلاَّ ذلك . فإن قيلَ : كيف وصفُ الشيطانِ بأَنَّهُ مُبِينٌ مع أَنَّا لا نَرى ذاتَهُ ، ولا نسمعُ كَلامَهُ؟
فالجوابُ أنه تعالى لَمَّا بَيَّنَ عداوتَهُ لآدمَ ونسلِه ، فلذلك الأمرِ صَحَّ أَنْ يُوصَفَ بأَنَّهُ عدوٌّ مبين ، وإِنْ لم يشاهد؛ مثالُه : مَنْ يُظْهر عداوتهُ لرجلٍ في بلد بعيدٍ فقد يصح أن يُقال : إِنَّ فلاناً عدوٌّ مبينٌ لك وإن لم يشاهده في الحال .
قال ابنُ الخطيبِ : وعندي فيه وجهٌ آخرُ ، وهو : أن الأصلَ في الإِبانَةِ القطع ، والبيانُ إِنَّما سُمِّيَ بياناً لهذا المعنى فَإِنَّه يقطع بعضَ الاحتمالاتِ عن بعض ، فوصْفُ الشيطانِ بأنه مبينٌ بيانُه : أنه يقطع الملكف بوسْوسَتِه عن طاعة الله وثوابِه .
فإن قيلَ : كون الشيطان عَدُوّاً لنا ، إِمَّا أَنْ يكونَ بسببِ أنه يقصد إيصالَ الآلمِ والمكارِه إلَيْنَا في الحالِ ، أو بسببِ أَنَّه بوسوستِه يمنعنا عن الدين والثواب ، والأَوَّلُ بَاطِلٌ إِذْ لو كان كذلك لوقعنا في الأَمْراض والآلمِ وليس كذلك .
والثَّانِي - أيضاً - باطِلٌ؛ لأَنَّ مَنء قَبلِ منه تلك الوسْوَسَةَ فإنه أتي من قبل نفسه؛ لقولهِ :
{ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله وَعلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ } [ إبراهيم : 11 ] وإذا كان الحالُ على ما ذكرناهُ ، فكيف يُقالُ إنه عدوٌّ لَنَا؟
فالجوابُ : أَنَّهُ عَدُوٌّ من الوجهَينِ معاً أَمَّا من حيثُ أَنَّهُ يحاولُ إيصالَ البلاءِ إلينا ، فهو كذلك إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ تعالى منعَهُ عن ذلك ، ولا يلْزَمُ مِنْ كونه مُريداً لإيصال الضرِرِ إلينا أَنْ يكونَ قادِراً عليه ، وأَمَّا من حيثُ إنه يقدم على الوسْوسَةِ ، فمعلومٌ أَنَّ تزيينَ المعاصي وإلقاءَ الشبهاتِ ، كُلُّ ذلك لوقوعِ الإنسانِ في الباطل وبه يصيرُ محروماً عن الثَّوابِ .
قوله تعالى : « فَإِنْ زَلَلْتُمْ » الجمهور على « زَلَلْتُمْ » : بفتح العين ، وأبو السَّمَّال قرأها بالكسر ، فهما لغتان؛ كضلَلت ، وضلِلت . و « ما » في « مِنْ بعدِما » مصدريَّةٌ ، « مِنْ » بالبتداء الغاية ، وهي متعلِّقةٌ ب « زَلَلْتُمْ » .
معنى « زَلَلْتُمْ » أي : ضللتم ، وقيل : ملتم ، يقال : زلَّت قدمه تزلُّ زلاًّ وزللاً ، إذا دحضت ، وأصل الزلل في القدم ، واستعماله في الاعتقادات .
فصل
يروى عن ابن عباس : فإن زللتم في تحريم السَّبت ، ولحم الإبل ، { مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات } يعني محمَّداً وشرائعه ، { فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } في كلِّ أفعاله ، فعند هذا قالوا : لئن شئت يا رسول الله ، لنتركنَّ كلَّ كتابٍ غير كتابك ، فأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } [ النساء : 136 ] ومن قال : إن الآية الأولى في المنافقين قال في هذه الآية كذلك .
فإن قيل : إنَّ الحكم المشروط إنما يحسن في حقِّ من لا يكون عالماً بعواقب الأمور ، وأجاب قتادة عن ذلك فقال : قد علم أنَّهم سيزلون ، ولكنه تعالى قدَّم ذلك ، وأوعد فيه؛ ليكون له الحجَّة عليهم .
فصل
قوله : { مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات } يتناول جمع الدلائل العقليَّة والسمعيَّة .
أمَّا العقليَّة ، فالعلم بحدوث العالم ، وافتقاره إلى صانع يكون عالماً بكلِّ المعلومات ، قادراً على كل الممكنات ، غنيّاً عن كل الحاجات .
وأمَّا السمعيَّة : فهي البيان الحاصل بالقرآن والسُّنَّة .
فصل
قال القرطبي : دلت الآية على أنَّ عقوبة العالم بالذنب أعظم من عقوبة الجاهل به ، ومن لم تبلغه دعوة الإسلام لا يكون كافراً بترك الشَّرائع .
فصل
قال القاضي : دلَّت الآية على أنَّ المؤاخذة بالذنب لا تحصل إلاَّ بعد البيان ، وإزاحة العلَّة ، ودلت الية على أنَّ المتبر حصول البيِّنات ، لا حوصل اليقين من المكلف .
وقوله : « عَزِيزٌ » يدلُّ على الزَّجر ، والتهديد ، والوعيد؛ لأن العزيز هو الذي لا يمنع عن مراده ، وذلك إنام يحصل بكمال القدرة ، وهو تعالى قادر على كل الممكنات ، فكأنَّه تعالى قال : « فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتُكُمْ البيّنات » فاعموا أنَّ الله قادرٌ عليكم ، لا يمنعه عنكم مانع ، وهذا نهاية في الوعيد ، لأنه يجمع من ضروب الخوف ما لا يجمعه الوعيد بذكر العقاب؛ كقول السيِّد لعبده : إن عصيتني فأنت عارف بي ، وتعلم قدرتي عليك ، والآية كما أنها تدلُّ على نهاية الوعد بقوله : « حَكِيمٌ » فإنَّ اللائق بالحكمة أن يميز بين المحسن والمسيء ، فكما يحسن من الحكيم إيصال العذاب إلى المسيء يحسن منه إيصال الثواب إلى المحسن ، بل هذا أليق بالحكمة ، وأقرب للرحمة ، وهذه الآية تدلُّ على أنَّه لا وجوب لشيءٍ قبل الشَّرع؛ لأنه تعالى أثبت التهديد بشرط مجيء البينات ، وقبل الشرع لم تحصل كلُّ البيِّنات .
فصل
قال الجبَّائيُّ : المجبرة تقول : إن الله تعالى يريد الكفر من الكفَّار ، والسَّفاهة من السُّفهاء ، والله تعالى وصف نفسه بأنه حكيم ، ومن فعل السَّفه وأراده لا يكون حكيماً ، وأجيب بأن الحكيم هو العالم بعواقب الأمول ، فمعنى كونه تعالى حكيماً أنَّه عالم بجميع المعلومات وذلك لا ينافي كونه خالقاً لكل الأشياء ، ومريداً لها .
فصل
يحكى أنَّ قارئاً قرأ « فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ البَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » فسمعه أعرابيٌّ ، فأنكره؛ وقال : إنَّ هذا كلام الله تعالى فلا يقول كذا؛ الحكيم لا يذكر الغفران عند الزَّلل؛ [ أنه إغراءٌ عليه ] .
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) « هَلْ » لفظه استفهامٌ والمراد به النفي؛ كقوله : [ الطويل ]
1027 - وَهَلْ أَنَا إِلاَّ مِنْ غَزِيَّةَ إنْ غَوَتْ ... غَوَيْتُ ، وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ
أي : ما ينظرون ، وما أنا ، ولذلك وقع بعدها « إلاَّ » كما تقع بعد « ما » . و « هَلْ » تأتي على أربعة أوجهٍ :
الأأول : بمعنى « مَا » كهذه الآية ، وقوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } [ الأعراف : 53 ] .
الثاني : بمعنى « قَدْ » كقوله تعالى : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان } [ الإنسان : 1 ] أي : قد أتى ، وقوله : { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم } [ ص : 21 ] و { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية } [ الغاشية : 1 ] ، أي : قد أتاك .
والثالث : بمعنى « أَلاَ » قال تعالى : { هَلْ أَدُلُّكُمْ } [ طه : 40 ] أي : أَلاَ أدلكم ، ومثله { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين } [ الشعراء : 22 ] أي : ألا أنبئكم .
الرابع : بمعنى الاستفهام ، قال تعالى : { هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ } [ الروم : 40 ] .
و « يَنْظُرون » هنا بمعنى ينتظرون ، وهو معدًّى بنفسه ، قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
1028 - فَإِنَّكُمَا إِنْ تَنْظُرَانِيَ سَاعَةً ... مِنَ الدَّهْرِ يَنْفَعْنِي لَدَى أُمِّ جُنْدَبِ
وليس المراد هنا بالنظر تردد العين؛ لأنَّ المعنى ليس عليه؛ واستدلَّ بعضهم على ذلك بأن النظر بمعنى البصر يتعدَّى ب « لى » ، ويضاف إلى الوجه ، وفي الآية الكريمة متعدٍّ بنفسه ، وليس مضافاً إلى الوجه ، ويعني بإضافته إلى الوجه قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22 ، 23 ] فيكون بمعنى الانتظار ، وهذا ليس بشيء ، أما قوله : إن الذي بمعنى البصر يتعدَّى ب « إلى » فمسلم ، وقوله : « وهو هنا متعدٍّ بنفسه » ممنوعٌ ، إذ يحتمل أن يكون حرف الجر وهو « إلَى » محذوفاً؛ لأنه يطَّرد حذفه مع « أَنْ » و « أَنَّ » ، إذا لم يكن لبسٌ ، وأمَّا قوله : « يُضَافُ إلى الوَجْهِ » ، فممنوعٌ أيضاً ، إذ قد جاء مضافاً للذات؛ قال تعالى : { أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 143 ] { أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل } [ الغاشية : 17 ] . والضمير في « يَنْظُرُونَ » عائدٌ على المخاطبين بقوله : « زَلَلْتُمْ » فهو التفاتٌ .
قوله : { إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ } هذا مفعول « يَنْظُرُونَ » وهو استثناءٌ مفرَّغٌ ، أي : ما ينظرون إلا إتيان الله .
والمعنى ما ينظرون ، يعني التاركون الدخُّول في السِّلم .
قوله تعالى : « في ظُلَلٍ » فيه أربعة أوجهٍ :
أحدها : أن يتعلَّق بيأتيهم ، والمعنى : يأتيهم أمره أو قدرته أو عقابه أو نحو ذلك ، أو يكون كنايةً عن الانتقام ، إذ الإتيان يمتنع إسناده إلى الله تعالى حقيقةً .
والثاني : أن يتعلَّق بمحذوف على أنه حال ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : هو مفعول يتيهم ، أي : في حال كونهم مستقرين في ظلل ، وهذا حقيقة .
والثاني : أنه الله تعالى بالمجاز المتقدِّم ، أي : أمر الله في حال كونه مستقراً في ظلل .
الثالث : أن تكون « في » بمعنى الباء ، وهو متعلقٌ بالإتيان ، أي : إلاَّ أن يأتيهم بظلل؛ ومن مجيء « في » بمعنى الباء قوله : [ الطويل ]
1029 - ... خَبِيرُونَ في طَعْنِ الكُلَى وَالأَبَاهِرِ
لأنَّ « خَبِيرِينَ » إنَّما يتعدَّى بالباء؛ كقوله : [ الطويل ]
1030 - . فَإنَّني ... خَبِيرٌ بأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ
الرابع : أن يكون حالاً من « المَلاَئِكَةِ » مقدَّماً عليها ويحكى عن أبيّ ، والأصل : إلاَّ أن يأتيهم الله والملائكة في ظللٍ ، ويؤيِّد هذا قراءة عبد الله إياه كذلك ، وبهذا - أيضاً - يقلُّ المجاز ، فإنه - والحالة هذه - لم يسند إلى الله تعالى إلاَّ الإتيان فقط بالمجاز المتقدم .
وقرأ أُبيّ وقتادة والضَّحاك : في ظلالٍ ، وفيها وجهان :
أحدهما : أنها جمع ظلّ؛ نحو : صلّ وصلال .
والثاني : أنها جمع ظلَّة؛ كقلَّة وقلال ، وخلَّة وخلال ، إلاَّ أنَّ فعالاً لا ينقاس في فُعلة .
قوله تعالى : « مِنَ الغَمَامِ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلق بمحذوف؛ لأنه صفةٌ ل « ظُلَل » التقدير : ظُلَلٍ كائنةٍ من الغمام . و « مِنْ على هذا للتعبيض .
والثاني : أنه متعلق ب » يَأْتِيهم « ، وهي على هذا لابتداء الغاية ، أي : من ناحية الغمام .
والجمهور على رفع » المَلاَئِكَةُ « ؛ عطفاً على اسم » الله « .
وقرأ الحسن وأبو جعفر : بجرِّ » الملائكةِ « وفيه وجهان :
أحدهما : العطف على » ظُلِلٍ « ، أي : إلاَّ أن يأتيهم في ظللٍ ، وفي الملائكة .
والثاني : العطف على » الغمامِ « أي : من الغمام ومن الملائكة ، فتوصِف الملائكة بكونها ظللاً على التشبيه ، وعلى الحقيقة ، فيكون المعنى يأتيهم أمر الله وآياته ، والملائكة يأتون ليقومون بما أمروا به من الآيات والتعذيب ، أو غيرهما من أحكام يوم القيامة .
قوله : » وقُضِيَ الأمرُ « الجمهور على » قُضِيَ « فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن يكون معطوفاً على » يَأْتيهم « وهو داخل في حيِّز الانتظار ، ويكون ذلك من وضع الماضي موضع المستقبل ، والأصل : ويقضى الأمر وإنما جيء به كذلك؛ لأنه محققٌّ كقوله : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] وقوله : { وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني } [ المائدة : 116 ] والسبب في اختيار هذا المجاز ، إمَّا التنبيه على قرب الآخرة ، وكأنها قد أتت ، أو المبالغة في تأكيد وقوعها ، كأنها قد وقعت .
والثاني : أن يكون جملة مستأنفة برأسها ، أخبر الله تعالى بأنه قد فرغ من أمرهم ، فهو من عطف الجمل ، وليس داخلاً في حيّز الانتظار .
وقرأ معاذ بن جبل : » وَقَضَاء الأَمْرِ « قال الزمخشريُّ : » عَلَى المصْدَرِ المرفوع؛ عطفاً على الملائكة « . وقال غيره : بالمدِّ والخفض؛ عطفاً على » الملائكة « .
قيل : وتكون على هذا » فِي « بمعنى » البَاءِ « أي : بظُللٍ ، وبالملائكة ، وبقضاء الأمر ، فيكون عن معاذ قراءتان ي الملائكة ، الرفع والخفض ، فنشأ عنهما قراءتان له في قوله : » وقُضِيَ الأمر « .
ومعنى قضي الأمر؛ هو فصل القضاء ببين الخلق يوم القيامة ، وإنزال كلِّ واحد منزلته من جنَّةٍ ، أو نارٍ؛ قال تعالى : { وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق } [ إبراهيم : 22 ] .
قوله : { وإلى الله تُرْجَعُ الأمور } هذا الجار متعلق بما بعده ، وإنما قدِّم للاختصاص ، أي : لا ترجع إلاَّ إليه دون غيره . وقرأ الجمهور : « تُرْجَعُ » بالتأنيث لجريان جمع التكسير مجرى المؤنث ، إلاَّ أنَّ حمزِة والكسائي ونافعاً قرؤوا ببنائه للفاعل ، والباقون ببنائه للمفعول ، و « رَجَعَ » يستعمل متعدياً تارةً ، ولازماً أخرى ، وقال تعالى : { فَإِن رَّجَعَكَ الله } [ التوبة : 83 ] فجاءت القراءتان على ذلك ، وقد سمع في المتعدي « أرجع » رباعياً ، وهي لغة ضعيفة ، ولذلك أبت العلماء أن تجعل قراءة من بناه للمفعول مأخوذةً منها . وقرأ خارجة عن نافع : « يُرْجَعُ » بالتذكير ، وببنائه للمفعول؛ لأن تأنيثه مجازي ، والفاعل المحذوف في قراءة من بناه للمفعول : إمَّا الله تعالى ، أي : يرجعها إلى نفسه بإفناء هذه الدار ، وإمَّا ذوو الأمور؛ لأنه لمَّا كانت ذواتهم وأحوالهم شاهدةً عليهم بأنهم مربوبون مجزيُّون بأعمالهم كانوا رادِّين أمورهم إلى خالقها .
قال القفَّال - رحمه الله - : في قوله « تُرْجَعُ الأُمُورُ » بضم التاء ثلاثة معانٍ .
أحدها : ما ذكرناه ، وهو أنه جلَّ جلاله يرجعها إلى نفسه .
والثاني : أنه على مذهب العرب ، من قولهم « فلانٌ يُعْجَبُ بنفسه » ويقول الرجلُ لغيره : « إلى أَيْنَ يُذْهَبُ بِكَ » ، وإن لم يكن أَحَدٌ يَذْهَبُ به .
والثالث : أن ذوات الخلق لما كانت شاهدةً عليهم ، بأنهم مخلوقون محاسبون ، كانوا رادّين أمرهم إلى خالقهم ، فقوله « تُرْجَعُ الأُمُورُ » أي : يردّها العباد إليه ، وإلى حكمه بشهادة أنفسهم ، وهو كقوله { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } [ الجمعة : 1 ] فإن هذا التسبيح بحسب الحال ، لا بحسب النطق ، وقوله : { وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً } [ الرعد : 15 ] قيل : المعنى يسجد له المؤمنون طوعاً ، ويسجد له الكفَّار كرهاً بشهادة أنفسهم بأنَّهم عبيد الله .
فصل في تفسير « الظلل »
« الظُّلَلُ » جمع ظُلَّةٍ ، وهو ما أظَلَّكَ الله به « والغَمَامُ » هو السَّحاب الأبيض الرَّقيق ، سمِّي غماماً؛ لأنه يغمُّ ، أي : يستر .
وقال مجاهدٌ : هو غير السحاب ، ولم يكن إلاَّ لبني إسرائيل في تيههم .
وقال مقاتلٌ : كهيئة الضَّبابة أبيض .
قال الحسن : في سترةٍ من الغمام . والأولى في هذه الآية وما شاكلها أن يؤمن الإنسان بظاهرها ، ويكل علمها إلى الله تعالى؛ على ذلك مضت أئمة السَّلف ، وعلماء السُّنَّة .
قال ابن عباس ، في رواية أبي صالح ، والكلبي : هذا من المكتوم الذي لا يفسَّر ، وكان مكحولٌ ، والزُّهريُّ ، والأوزاعيُّ ، ومالكٌ ، وابن المبارك ، وسفيان الثَّوريُّ ، واللَّيث بن سعد ، وأحمد ، وإسحاق يقولون فيه وفي أمثاله : أَمِرَّها كما جاءت بلا كيف .
قال سفيان بن عيينة : كلّ ما وصف الله به نفسه في كتابه ، فتفسيره : قراءته ، والسكوت عنه؛ ليس لأحدٍ أن يفسِّره إلاَّ الله ورسوله .
وروي عن ابن عبَّاسِ أنه قال : نزل القرآن على أربعة أوجهٍ :
وجه لا يعرفه أحد لجهالته ، ووجه يعرفه العلماء ، ووجه نعرفه من قبل العربيَّة فقط ، ووجه لا يعلمه إلاَّ الله .
وقال جمهور المتكلِّمين : لا بدَّ من التَّأويل ، وفيه وجوهٌ :
أحدها : أنَّ المراد { يَأْتِيَهُمُ الله } آياتُ الله . فجعل مجيء الآيات مجيئاً له؛ على التفخيم لشأن الآيات؛ لأنه قال قبله : « فَإشنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ البَيِّنَاتُ » ثم ذكر هذه الآية في معرض التهديد ، ومعلومٌ أنه بتقدير أن يصح المجيء على الله تعالى لم يكن مجرد حضوره سبباً للتهديد والزَّجر ، وإذا ثبت أنَّ المقصود من الآية إنَّما هو الوعيد والتهديد والزجر ، وجب أن يضمن في الآية مجيء الآيات والقهر والتَّهديد ، ومتى أضمرنا ذلك ، زالت الشُّبهة بالكلية .
الثاني : أن يأتيهم أمر الله ، كقوله : { إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله } [ المائدة : 33 ] والمراد : يحاربون أولياءه . وقوله : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] والمراد : أهل القرية ، فكذا قوله : « يَأتِيهِم اللَّهُ » المراد : يأتيهم أمر الله ، كقوله : { وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً } [ الفجر : 22 ] ، وليس فيه إلاَّ حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه ، وهو مجازٌ مشهورٌ كثيرٌ في كلامهم ، تقول : « ضرب الأمير فلاناً ، وصلبه ، وأعطاه » وهو إنَّما أمر بذلك ، لأنه تولَّى ذلك بنفسه ، ويؤكد هذا قوله في سورة النحل : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } [ النحل : 33 ] فصارت هذه الآية مفسرة لتلك الآية ، لأنَّ هذه الآيات لمَّا وردت في واقعةٍ واحدةٍ ، لم يبعد حمل بعضها على البعض ، ويؤيِّده - أيضاً - قوله بعده : « وَقُضِيَ الأَمْرُ » والألف واللام للمعهود السَّابق ، وهو الأمر الذي أمضرمناه .
فإن قيل : أمر الله صفة قديمة ، فالإتيان عيلها محالٌ .
وعند المعتزلة : أنه أصواتٌ ، فتكون أعراضاً ، فالإتيان عليها - أيضاً - محال .
والجواب : أن الأمر في اللغة له معنيان :
أحدهما : الفعل والشَّأْن والطَّريق؛ قال تعالى : { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر } [ القمر : 50 ] ، { وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } [ هود : 97 ] ، وفي المثل : « لأَمْرِ مَا جَدَعَ قَصِيرٌ أَنْفَهُ » ، و « لأَمْرِ مَا يُسَوَّدُ مَنْ يُسَوَّدُ » ، فيجعل الأمر عبارة عن الفعل ، وهو ما يليق بتلك المواقف من الأهوال ، وهذا هو التَّأويل الأول ، وإن حملنا الأمر على ضدِّ النهي ، ففيه وجهان :
أحدهما : أن منادياً ينادي يوم القيامة ألا أن الله يأمركم بكذا ، وكذا ، فذاك هو إتيان الأمر .
وقوله : « في ظُلَلٍ » ، أي : مع ظللٍ ، والتقدير : أن سماع ذلك النداء ووصول تلك الظلل يكون في زمان واحد .
الثاني : أن يكون المراد من إتيان أمر الله في ظلل حصول أصوات مقطَّعة مخصوصة في تلك الغمامات ، تدلُّ على حكم الله تعالى على كلِّ ما يليق به؛ من السَّعادة ، والشقاوة ، وتكون فائدة الظُّلل من الغمام أنه تعالى جعله مارة لما يريد إنزاله بالقوم ، فعنده يعلمون أنَّ الأمر قد حضر وقرب .
الوجه الثالث : أن يأتيهم الله بما وعد من الحساب ، والعذاب ، فحذف ما يأتي به ، تهويلاً عليهم؛ إذ لو ذكر كان أسهل عليهم في باب الوعيد ، وإذا لم يذكر كان أبلغ؛ لانقسام خواطرهم ، وذهاب فكرهم في كل وجهٍ ، كقوله تعالى : { فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد } [ النحل : 26 ] وقوله : { فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } [ الحشر : 2 ] أو قوله : { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ } [ النحل : 26 ] وآتاهم العذاب ، كالتفسير لقوله : { فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ } [ النحل : 26 ] .
الوجه الرابع : أن تكون « فِي » بمعنى « البَاءِ » ، وتقديره : هل ينظرون إلاَّ أن يأتيهم الله بظللٍ من الغمام ، وحروف الجرِّ يقام بعضها مقام بعضٍ .
الوجه الخامس : قال ابن الخطيب : وهو أوضح عندي من كلِّ ما سلف ، وهو أنَّا ذكرنا أنَّ قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً } نزلت في اليهود ، فعلى هذا قوله : { فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } يكون خطاباً مع اليهود ، [ وحينئذٍ يكون قوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملاائكة } حكاية عن اليهود ] ، والمعنى : أنهم لا يقبلون دينك حتى يأتيهم الله في ظلل من الغمام ، وذلك لأنهم فعلوا مع موسى عليه الصلاة والسلام مثل ذلك ، فقالوا : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً } [ البقرة : 55 ] .
وإذا كان هذا كايةً عن اليهود ، لم يمتنع إجراء الآية على ظاهرها؛ لأن اليهود كانوا مشبِّهةً ، وكانوا يجوِّزون على الله تعالى المجيء والذَّهاب ، وكانوا يقولون : إنَّه تعالى تجلَّى لموسى - عليه السلام - على الطُّور في ظلل من الغمام ، وطلبوا مثل ذلك في زمن محمد - عليه السلام - وعلى هذا فيكون الكلام حكايةً عن معتقد اليهود القائلين بالتشبيه ، فلا يحتاج حينئذٍ إلى تأويلٍ ، ولا إلى حمل اللفظ على المجاز .
وبالجملة فالآية الكريمة تدلُّ على أنَّ قوماً ينتظرون أن يأتيهم الله ، وليس في الآية دلالةٌ على أنهم محقُّون في ذلك الانتظار ، أو مبطلون؛ فزال ذلك الإشكال .
فإن قيل : فعلى هذا التَّأويلن كيف يتعلق قوله تعالى : { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور } ؟
قلنا : الوجه فيه أنَّه تعالى لمَّا حكى عنادهم ، وتوقفهم في قبول الدِّين على هذا الشرط الفاسد ، ذكر بعده ما يجري مجرى التهديد ، فقال : { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور } .
قال ابن تيميَّة : وهذا من أعظم الافتراء على الله ، وعلى كتابه؛ حيث جعل خطاب الله مع المؤمنين خطاباً مع اليهود وهو قوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم } أنَّ الله مع المؤمنين خطاباً مع اليهود ، مع أنَّ الله تعالى دائماً يفصل في كتابه بين الخطابين ، فيقول للمؤمنين : { ياأيها الذين آمَنُواْ } ، ويقول لأولئك : { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ } ، و { ياأهل الكتاب } ، فكيف يجعل خطاب المؤمنين الصريح خطاباً لليهود فقط؟ وهذا من أعظم تدبديل للقرآن .
وأيضاً فقوله بعد ذلك : { فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات } لا يقال : إن زللتم لمن هم مقيمون على الكفر والضلال .
وأما قوله في قوله تعالى : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام } أنه من اعتقاد اليهود الفاسد ، لا من كلام الله تعالى الذي توعَّد به عباده ، فهذا افتراءٌ على الله ، وكذب على اليهود ، وأيضاً فإنه لم ينقل أحد عنهم أنهم كانوا ينتظرون في زمن محمد - عليه السلام - أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام .
وقد ذكر المفسرون وأهل السِّير والمغازي في مخاطبات اليهود الذين كانوا بالحجاز للنبي صلى الله عليه وسلم مع كثرة من كان من اليهود بالحجاز ، وكثرة ما نزل بسببهم من القرآن ، وكذلك ما نقل عنهم أنَّهم كانوا يقولون : إنَّ الله تجلَّى ل « مُوسى » على الطُّور في ظللٍ من الغمام وهو أمر لم يذكره الله تعالى عنهم على هذا الوجه ، فإن كان هذا حقّاً عنهم ، وكانوا ينتظرون مثل ذلك ، فيكونون قد جوَّزوا أن يكون الله تجلَّى لرسول الله كما تجلَّى لموسى ، ومعلوم أنَّ اليهود لم يقولوا ذلك ، وما ذكره الله تعالى عنهم من طلبهم رؤية الله جهرةً ، فهذا حقٌّ ، ولكن أخبر أنَّهم طلبوا الرؤية ولم يخبر أنَّهم انتظروها ، والمطلب للشيء معتقدٌ؛ لأنه يكون لا طالب من غير أن يكون ، وهذا كقوله تعالى : { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ } [ البقرة : 108 ] .
سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) قرأ الجمهور : « سَلْ » وهي تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون من لغة : سال يسال ، مثل : خَافَ يَخَافُ ، وهل هذه الألف مبدلة من همزة ، أو واو ، أو ياء؟ خلاف تقدَّم في قوله : { فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } [ البقرة : 61 ] فحينئذٍ يكون الأمر منها : « سَلْ » مثل « خَفْ » لمَّا سكنت اللام حملاً للأمر على المجزوم ، التقى ساكنان فحذفت العين لذلك ، فوزنه على هذا فَلْ ، وبهذا التقدير قرأ نافعٌ ، وابن عامر « سَالَ سَائِلٌ » على وزن « قال » ، « وكان » .
والثاني : أن تكون من سأل بالهمز .
قال قطربٌ : سأَلَ يَسْأَلُ مثل زَأر الأسد يَزْأَرُ ، والأصل : اسأل ثم ألقيت حركة الهمزة على السِّين ، تخفيفاً ، واعتددنا بحركة النقل ، فاستغنينا عن همزة الوصل فحذفناها ، ووزنه أيضاً فَلْ بحذف العين ، وإن اختلف المأخذ .
وروى عباس عن أبي عمرو : « اسْأَلْ » على الأصل من غير نقلٍ . وقرأ قوم : « اسَلْ » بالنقل وهمزة الوصل ، كأنَّهم لم يعتدُّوا بالحركة المنقولة كقولهم : « الَحْمر » بالهمز .
وقرأ بعضهم « سَلْ بَنِي إسْرَائِيلَ » بغير همزٍ ، وقرأوا { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] { فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب } [ يونس : 94 ] { واسألوا الله مِن فَضْلِهِ } [ النساء : 32 ] بالهمزة ، وقرأ الكسائيُّ الكلَّ بغير همزٍ اتِّباعاً للمصحف ، فإنَّ الألف ساقطةٌ فيها أجمع ، و « بني » مفعولٌ أول عند الجمهور .
وقوله : « كم آتيناهم » في « كَمْ » وجهان :
أحدهما : أنها في محل نصب . واختلف في ذلك فقيل : نصبها على أنها مفعولٌ ثانٍ ل « آتياناهم » على مذهب الجمهور ، وأول على مذهب السُّهيلي ، كما تقدَّم .
وقيل : يجوز أن ينتصب بفعل مقدَّر يفسِّره الفعل بعدها تقديره : كم آتينا آتيناهم ، وإنما قدرنا ناصبها بعدها؛ لأنَّ الاستفهام له صدر الكلام ، ولا يعمل فيه ما قبله ، قاله ابن عطيَّة ، يعني أنه عنده من باب الاشتغال ، قال أبو حيَّان : وهذا غير جائزٍ إنْ كان « مِنْ آيةٍ » تمييزاً؛ لأن الفعل المفسِّر لم يعمل في ضمير « كَمْ » ولا في سبيها ، وإذا لم يكن كذلك ، امتنع أن يكون من ابا سببيِّه .
ونظير ما أجازه أن تقول : « زَيْداً ضربْتُ » ويكون من باب الاشتغال ، وهذا ما لم يجيزه أحد .
فإن قلنا أنَّ تمييزها محذوف ، وأطلقت « كَمْ » على القوم ، جاز ذلك؛ لأنَّ في جملة الاشتغال ضمير الأول؛ لأنَّ التقدير : « كَمْ مِنْ قَوْم آتيناهُمْ » قال شهاب الدِّين : وهذا الذي قاله الشيخ من كونه لا يتمشَّى على كون « مِنْ آية » تمييزاً قد صرَّح به ابن عطيَّة فإنه قال « وقوله : » مِنْ آيةٍ « هو على التقدير الأول ، مفعول ثان لآتيناهم ، وعلى الثاني في موضع التمييز » يعني بالأول نصبها على الاشتغال ، وبالثاني نصبها بما بعدها .
الوجه الثاني : أن تكون « كَمْ » في محلِّ رفع بالابتداء ، والجملة بعدها في محلِّ رفع خبراً لها ، والعائد محذوفٌ تقديره : كم آتيناهموها ، أو آتيناهم إيَّاها ، أجازه ابن عطيَّة وأبو البقاء ، واستضعفه أبو حيَّان من حيث إن حذف عائد المبتدأ المنصوب لا يجوز إلاَّ في ضرورةٍ ، كقوله : [ السريع ]
1031 - وَخَالِدٌ يَحْمَدُ سَادَاتُنَا ... بِالْحَقُ لاَ يُحْمَدُ بالْبَاطِلِ
أي : وخالدٌ يحمده . وهذا نقل بعضهم ، ونقل ابن مالكٍ ، أنَّ المبتدأ إذا كان لفظ « كُلٍّ » ، أو ما أشبهها في الافتقار والعموم جاز حذف عائده المنصوب اتفاقاً من البصريِّين والكوفيِّين ، ومنه : { وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } [ النساء : 95 ] في قراءة نافعٍ ، وإذا كان المبتدأ غير ذلك ، فالكوفيُّون يمنعون ذلك لا في السِّعة ، والبصريُّون يجيزونه بضعفٍ ، ومنه : { أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ } [ المائدة : 50 ] برفع « حُكْم » . فقد حصل أنَّ الذي أجازه ابن عطية ممنوعٌ عند الكوفيين ، ضعيف عند البصريين .
وهل « كَمْ » هذه استفهامية ، أو خبرية؟ الظاهر الأول ، وأجاز الزمخشريُّ فيها الوجهين ، ومنعه أبو حيَّان من حيث إن « كَمْ » الخبرية مستقلة بنفسها ، غير متعلقةٍ بالسؤال ، فتكون مفلتةً ممّا قبلها ، والمعنى يؤدي إلى انصباب السؤال عليها ، وأيضاً فيحتاج إلى حذف المفعول الثاني للسؤال ، تقديره : سل بني إسرائيل عن الآيات التي آتيناهم ، ثم قال : كثيراً من الآيات التي آتيناهم ، والاستفهامية لا تحتاج إلى ذلك .
و « مِنْ آيةٍ » فيه وجهان :
أحدهما : أنها مفعول ثان على القول بأنَّ « كَمْ » منصوبةٌ على الاشتغال؛ كما تقدَّم ، ويكون ممِّيز « كَمْ » محذوفاً ، و « مِن » زائدةٌ في المفعول؛ لأنَّ الكلام غير موجب ، إذ هو استفهامٌ ، وهذا إذا قلنا إنَّ « كَمْ » استفهامية لا خبريةٌ؛ إذ الكلام مع الخبرية إيجابٌ ، و « مِنْ » لا تزاد في الواجب إلاَّ على رأي الأخفش ، والكوفيِّين ، بخلاف ما إذا كانت استفهامية . قال أبو حيَّان : فيمكن أن يجوز ذلك فيه لانسحاب الاستفهام على ما بعده وفيه بعدٌ ، لأنَّ متعلَّق الاستفهام هو المفعول الأول لا الثاني ، فلو قلت : « كَمْ مِنْ دِرْهمٍ أعطيته مِنْ رَجلٍ » على زيادة « مِنْ » في « رَجُلٍ » لكان فيه نظرٌ « انتهى .
والثاني : أنها تمييز ، ويجوز دخول » مِنْ « على مميِّز » كَمْ « استفهامية كانت أو خبرية مطلقاً ، أي : سواء وليها ممِّزها ، أم فصل بينهما بجملةٍ ، أو ظرفٍ أو جارٍّ ومجرورٍ ، على ما قرَّره النحاة ، و » كَمْ « وما في حيِّزها في محلِّ نصب أو خفض ، لأنها في محل المفعول الثاني للسؤال فإنَّه يتعدَّى لاثنين : إلى الأوَّل بنفسه وإلى الثَّاني بحرف جرٍّ : إمَا عن ، وإمَّا الباء؛ نحو : سألته عن كذا وبكذا؛ قال تعالى :
{ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 59 ] ، وقد جمع بينهما في قوله : [ الطويل ]
1032 - ... فَأَصْبَحْنَ لاَ يَسْأَلْنَنِي عَنْ بِمَا بِهِ
. . ... وقد يحذف حرف الجرِّ ، فمن ثمَّ جاز في محلِّ « كَمْ » النصب ، والخفض بحسب التقديرين ، و « كَمْ » هنامعلقة للسؤال ، والسؤال لا يعلَّق إلا بالاستفهام؛ كهذه الآية ، وقوله تعالى : { } [ القلم : 40 ] ، وقوله : [ الطويل ]
1033 - يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ المُزْجِي مَطِيَّتَهُ ... سَائِلْ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ
وقال آخر : [ السبيط ]
1034 - ... وَاسْأَلْ بِمَصْقَلَةَ البَكْرِيِّ مَا فَعَلا
وإنما علَّق السؤال ، وإن لم يكن من أفعال القلوب؛ قالوا : لأنه سببٌ للعلم ، والعلم يعلَّق ، فكذلك سببه ، وإذا كانوا قد أجروا نقيضه في التعليق مجراه في قوله : [ الطويل ]
1034 - وَمَنْ أَنْتُمُ إِنَّا نَسِينَا مَنَ أَنْتُمُ ... وَرِيحُكُمْ مِنْ أَيِّ رِيحِ الأَعَاصِرِ
فإجراؤهم سببه مجراه أولى .
واختلف النحاة في « كَمْ » : هل بسيطةٌ ، أو مركبة من كاف التَّشبيه وما الاستفهامية ، حذفت ألفها؛ لانجرارها ، ثم سكنت ميمها ، كما سكّنت ميم « لِمْ » من « لِمْ فَعَلْتَ كَذَا » في بعض اللغات ، فركِّبتا تركيباً لازماً؟ والصحيح الأول . وأكثر ما تجيء في القرآن خبريَّةً مراداً بها التكثير ، ولم يأت ممِّزها في القرآن إلا مجروراً بمن .
قال أبو مسلمٍ : في الآية حذفٌ ، والتَّقدير : كم آتيناهم من آية بيِّنةٍ ، وكفروا بها ، ويدلُّ على هذا الإضمار قوله : { وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله } .
فصل
اعلم أنَّه ليس المقصود اسأل بني إسرائيل ليخبروك عن تلك الآيات لتعلمها؛ لأنه - عليه السلام - كان علاماً بها بإعلام الله له ، وإنما المقصود المبالغة في الزَّجر عن الإعراض عن دلائل الله تعالى ، فهو سؤالٌ على جهة التَّقريع والتَّوبيخِ؛ لأنه أمر بالإسلام ، ونهى عن الكفر بقوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان } [ البقرة : 208 ] ثم قال : { فَإِن زَلَلْتُمْ } [ البقرة : 209 ] أي : أعرضتم عن هذا التكليف صرتم مستحقين للتهديد ، بقوله : { فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ البقرة : 209 ] ، ثم هدَّدهم بقوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملاائكة } [ البقرة : 210 ] ، ثم ثلَّث التهديد بقوله : { سَلْ بني إِسْرَائِيلَ } يعني هؤلاء الحاضرين كم آتينا أسلافهم آيات بيناتٍ فأنكروها ، فلا جرم استوجبوا العقاب ، وهذا تنبيه لهؤلاء الحاضرين على أنهم لو زلُّوا عن آيات الله ، لوقعوا في العذاب .
وفي المراد ب « الآية البيِّنة » قولان :
أحدهما : معجزات موسى - عليه السلام - كما تقدَّم نحو : فلق البحر ، وتظليل الغمام ، وإنزال المن والسلوى ، ونتق الجبل ، وتكليم الله تعالى موسى - عليه السلام - والعصا ، واليد البيضاء ، وإنزال التوراة ، وبيّن لهم الهدى من الكفر .
وقيل : المراد بالآية الحجَّة ، والدلالة التي آتاهم ، التوراة ، والإنجيل على نبوة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وصدقه ، وصحَّة شريعته .
قوله : { وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله } « مَنْ » شرطية في محلِّ رفع بالابتداء ، وقد تقدَّم الخلاف في خبر اسم الشرط ما هو؟ ولا بدَّ للتبديل من مفعولين : مبدَّل وبدل ، ولم يذكر هنا إلاَّ أحدهما وهو المبدِّل ، وحذف البدل ، وهو المفعول الثاني؛ لفهم المعنى ، وقد صرَّح به في قوله : { بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً } [ إبراهيم : 28 ] فكفراً هو المحذوف هنا . وقد تقدَّم عند قوله تعالى : { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ } [ البقرة : 59 ] أن « بَدَّل » يتعدَّى لاثنين : أحدهما بنفسه ، وهو البدل ، وهو الذي يكون موجوداً ، وغلى الآخر بحرف الجر ، وهو المبدَّل ، وهو الذي يكون متروكا ، وقد يحذف حرف الجرِّ لفهم المعنى ، فالتقدير هنا : « وَمَنْ يُبَدِّلْ بنعمتِهِ كُفْراً » ، فحذف حرف الجر والبدل لفهم المعنى . ولا جائز أن تقدِّر حرف الجر داخلاً على « كُفْراً » فيكون التقدير : « وَمَنْ يُبَدِّلْ بِالكُفْرِ نِعْمَةَ اللَّهِ » ؛ لأنه لا يترتَّب عليه الوعيد في قوله : { فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } . وكذلك قوله تعالى : { فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [ الفرقان : 70 ] تقديره : بسيئاتهم حسناتٍ ، ولا يجوز تقديره : « سَيِّئاتِهِم بحسناتٍ » ؛ لأنه لا يترتَّب على قوله : « إلا مَنْ تَابَ » .
وقرئ : « يُبْدِلُ » مخففاً ، و « مِنْ » لابتداء الغاية و « مَا » مصدرية ، والعائد من جملة الجزاء على اسم الشرط محذوف؛ لفهم المعنى ، أي : شديد العقاب له ، أو لأنَّ « أَلْ » نابت منابه عند الكوفيين .
قال القرطبيُّ : وهذا اللفظ عامٌّ لجميع المكلَّفين ، وإن كان المشار إليه بني إسرائيل لكونهم بدَّلوا ما في كتبهم ، وجحدوا أمر محمد - عليه السلام - ، فاللَّفظ مستحب على كلِّ مبدِّل نعمة الله تعالى .
فصل
فالنِّعمة هاهنا إيتاء الآيات والدلائل؛ لأنها أعظم نعم الله ، لإإنها أسباب الهدى والنَّجاة من الضَّلالة ، وعلى هذا ففي تبديلهم إيَّاها وجهان :
فمن قال : المراد بالآيات ما في التوراة والإنجيل من دلائل معجزات موسى - عليه الصلاة والسلام - قال : تبديلها أنَّ الله تعالى لمَّا أظهرها لتكون أسباباً لضلالهم ، فجعلوها أسباباً لضلالهم ، كقوله : { فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] .
ومن قال : المراد بالآيات ما في التَّوراة والإنجيل من دلائل نبوَّة محمَّد - عليه السلام - قال : تبديلها تحريفها ، وإدخالها الشُّبهة فيها .
والقول الثاني : أنَّ النعمة هي ما أتاهم الله من الصِّحَّة ، والأمن ، والكفاية ، فتركوا القيام بما وجب عليهم من العلم بتلك الآيات .
وقوله : { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ } ، أي : من بعد التمكُّن من معرفتها ، أو من بعدما عرفها؛ كقوله : { ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 75 ] إن فسرنا النعمة بالقول الأول ، وإن فرسنا النعمة بالصحة والأمن ، فلا شك أن عند حصولها يجب الشكر ، ويقبح الكفر ، فلهذا قال : { } .
وقال الطَّبريُّ : النعمة هنا الإسلام .
وقال الواحديُّ - رحمه الله - : وفيه إضمارٌ والمعنى شديد العقاب له .
قالعبد القاهر النَّحويُّ في كتاب « دَلاَئِل الإعْجَازِ » : إنّ ترك هذا الإضمار أولى؛ لأنَّ المقصود من الآية التخويف بكونه في ذاته موصوفاً بأنه شديد العقاب لهذا أو لذاك ، ثم قال الواحديُّ : والعقاب عذابٌ يعقب الجرم .
قال القرطبيُّ : مأخوذٌ من العقب ، كأنَّ المعاقب يمشي بالمجازاة له في آثار عقبه ، ومنه عقبة الراكب [ وعُقْبَة القِدْر ] .
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) قوله تعالى : « زُيِّنَ » : إنَّما لم تلحق الفعل علامة تأنيثٍ لوجوهٍ :
أحدها : قال الفرَّاء : لأنَّ الحياة والإحياء واحدٌ ، فإن أُنِّثَ ، فعلى اللَّفظ ، وبها قرأ ابن أبي عبلة ، وإن ذُكِّر ، فعلى المعنى؛ كقوله : { مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ } [ البقرة : 275 ] { وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة } هود : 67 ] .
وثانيها : قال الزَّجَّاج : إنَّ تأنيث الحياة ليس بحقيقي؛ لأنَّ معنى الحياة والعيشِ والبقاء واحدٌ ، فكأنه قال : « زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا البَقَاءُ » .
وثالثها : قال ابن الأنباري : إنما لم يقل زيِّنت؛ لأنه فصل بين « زُيِّنَ » وبين الحياة الدنيا بقوله : « للذين كَفَرُوا » ، وإذا فصل بين فعل المؤنث ، وبين الاسم بفاصلٍ حَسُنَ تذكير الفعل؛ لأنَّ الفاصل يغني عن تاء التأنيث ، وقرأ مجاهد وأبو حيوة : « زَيَّنَ » مبنياً للفاعل ، و « الحياةَ » مفعول ، والفاعل هو الله تعالى عند الأكثرين ، وعند الزجاج والمعتزلة يقولون : إنه الشيطان .
وقوله : « يَسْخَرُون » يحتمل أن يكون من باب عطف الجلمة الفعلية على الجملة الفعلية ، لا من باب عطف الفعل وحده على فعل آخر ، فيكون من عطف المفردات؛ لعدم اتِّحاد الزمان .
ويحتمل أن يكون « يَسْخَرُون » خبر مبتدأ محذوفٍ ، أي : وهم يسخرون ، فيكون مستأنفاً ، وهو من عطف الجملة الاسمية على الفعلية . وجيء بقوله : « زُيِّن » ماضياً؛ دلالةً على أنَّ ذلك قد وقع ، وفرغ منه ، وبقوله : « وَيَسْخَرُونَ » مضارعاً؛ دلالة على التَّجَدُّد ، والحدوث .
قوله : { والذين اتقوا فَوْقَهُمْ } مبتدأ وخبر ، و « فَوْقَ » هنا تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون ظرف مكانٍ على حقيقتها؛ لأنَّ المتقين في أعلى علِّيِّين ، والكافرين في أسفل السَّافلين .
والثاني : أن تكون الفوقية مجازاً : إمَّا بالسنبة إلى نعيم المؤمنين في الآخرة ، ونعيم الكافرين في الدنيا . وإمّا أنّ حجة المؤمنين في القيامة فوق حجَّة الكافرين ، وإمَّا أن سخرية الؤمنين لهم في الآخرة ، فوق سخرية الكفار لهم في الدنيا .
و « يوم » منصوبٌ بالاستقرار الذي تعلَّق به « فَوْفَهُمْ » وقوله : { مِنَ الذين آمَنُواْ } ثم قال : { والذين اتقوا } لتبيين أنَّ السعادة الكبرى لا تحصل إلاَّ للمؤمن التَّقيّ .
فصل
قال ابن عبَّاسِ : نزلت في كفَّار قريشٍ ، كانوا يسخرون من فقراء المسلمين كعبد الله بن مسعودٍ ، وعمَّارٍ ، وخبَّابٍ ، وسالمٍ مولى أبي حذيفة ، وعامر بن فهيرة ، وأبي عبيدة بن الجرَّاح ، وصهيبٍ ، وبلالٍ ، بسب ما كانوا فيه من الفقر ، والصَّبر على أنواع البلاء ، مع ما كان الكُفَّار فيه من النَّعيم ، والرَّاحة ، وبسط الرِّزق .
وقال عطاءٌ : نزلت في رؤساء اليهود ، وعلمائهم ، من بني قريظة ، والنَّضير ، وبني قينقاع؛ سخروا من فقر المسلمين المهاجرين حيث أُخرجوا من ديارهم ، وأموالهم ، فوعدهم الله أن يعطيهم أموال بني قريظة والنَّضير بغير قتالٍ .
وقال مقاتلٌ : نزلت في المنافقين كعبد الله بن أُبيٍّ ، وأصحابه؛ كانوا يتنعّمون في الدّنيا ، ويسخرون من ضعفاء المسلمين ، وفقراء المهاجرين ، ويقولون : انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم .
قال ابن الخطيب : ولا مانع من نزلها في جميعهم .
روى أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « وَقَفْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا المَسَاكِينَ ، وَوَقَفْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ ، وَإنَّ أَهْلَ الجَدِّ مَحْبُوسُونُ إِلاَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، فَقَدْ أُمِرَ بِهِ إِلَى النَّارِ »
وروى سهل بن سعدٍ السَّاعديّ ، قال : « مرَّ رجلٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالسٍ : » مَا رَأَيُكَ في هَذَا « فقال هذا رجل من أشراف النَّاس ، هذا والله حريٌّ إن خطب أن ينكح ، وإن شفع أن يشفَّع ، قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مرَّ رجُلٌ ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : » مَا رَأْيُكَ في هَذَا « ؟ فقال : يَا رسولَ الله ، هذا من فقراء المسلمين ، هذا حَرِيٌّ إن خطب ألاّ ينكح وإن شفع ألا يشفَّع ، وإن قال لا يسمع لقوله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » هذا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْل هَذَا «
وروي عن عليٍّ؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : » مَنِ اسْتَدَلَّ مَؤْمِناً أَوْ مُؤْمِنَةً ، أَوْ حَقَّرَهُ لِفَقْرِهِ وَقِلَّةِ ذَات يَدِهِ ، شَهَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ، ثُم فَضَحَهُ ، وَمَنْ بَهَت مُؤْمِناً أَوْ مُؤْمِنَةً ، أَوْ قَالَ فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ أَقَامَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تَلٍّ مِنْ نَارٍ يَوْمَ القِيَامَةِ؛ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ فِيه . . . «
فصل
قال الجُبَّائيُّك المزيِّن هم غواة الجن ، والإنس؛ زينوا للكفار الحرص على الدُّنيا ، وقبَّحوا أمر الآخرة .
قال : وأمَّا قول المجبّرة : إنَّ الله تعالى زيَّن ذلك فهو باطلٌ ، لأنَّ المزيِّن للشيء كالمخبر على حسنه ، فإن كان صادقاً ، فيكون ما زينه حسناً ، ويكون فاعله مصيباً ، وذلك يوجب أنَّ الكافر مصيبٌ في كفره ، وهذا القول كفرٌ ، وإن كان كاذباً في ذلك التزيين ، فيدي إلى أن لا يوثق بخبره ، وهذا - أيضاً - كفرٌ ، فثبت أنَّ المزيِّن هو الشيطان .
قال ابن الخطيب : وهذا ضعيفٌ ، لأنَّ قوله : { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } يتناول جميع الكُفَّار ، وهذا يقتضي أن يكون لجميع الكفار مُزَيِّن ، فلا بدَّ وأن يكون ذلك المزيِّن مغايراً لهم؛ لأنَّ غواة الجنِّ والإنس داخلون في الكفار أيضاً ، إلاَّ أن يقال : إن كلَّ واحدٍ يزيِّن للآخرة فيصير دوراً ، فثبت ضعف هذا التأويل .
وأمَّا قوله : » المُزَيِّنُ للشَّيْءِ كالمخبر عن حُسْنِه « فهذا ممنوع ، بل المزين من يجعل الشيء موصوفاً بالزينة ، ثم لئن سلَّمنا أنَّ المزين للشيء هو المبخر عن حسنه بمعنى أنه أخبر عمَّا فيها من اللَّذَّات والراحات ، وذلك الإخبار ليس بكذبٍ ، وتصديقه ليس بكفرٍ .
وقال أبو مسلمٍ : يحتمل أنهم زيَّنوا لأنفسهم والعرب يقولون لمن يبعد منهم : أين يذهب بك؟ لا يريدون أنَّ ذابهاً ذهب به ، وهو معنى قوله تعالى في الآي الكثيرة : { أنى يُؤْفَكُونَ } [ المائدة : 75 ] ، { أنى يُصْرَفُونَ } [ غافر : 69 ] إلى غير ذلك ، وأكّده بقوله : { لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ } [ المنافقون : 9 ] وأضاف ذلك إليهما؛ لمَّا كان كالسبب ولمَّا كان الشيطان لا يملك أن يحمل الإنسان على الفعل قهراً ، فالإنسان في الحقيقة هو الذي زيَّن لنفسه .
قال ابن الخطيب : وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ قوله : « زُيِّنَ للنَّاس » يقتضي أنَّ مزيِّناً زينه ، والعدول عن الحقيقة إلى المجاز غير ممكن .
التأويل الثالث : أنَّ المزيِّن هو الله تعالى ، ويدلُّ عليه وجهان :
أحدهما : قراءة من قرأ « زَيَّنَ » مبنيّاً للفاعل .
والثاني : قوله تعالى : { جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } [ الكهف : 7 ] والقائلون بهذا ذكروا وجوهاً :
الأول : أنَّ هذا التزيين بما أظهره لهم في الدنيا من الزَّهرة والنضارة ، والطِّيب ، واللَّذَّة؛ ابتلاءً لعباده؛ كقوله : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات } [ آل عمران : 14 ] إلى قوله : { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ } [ آل عمران : 15 ] .
وقال : { المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا } [ الكهف : 46 ] ثم قال : { والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً } [ الكهف : 46 ] فهذه الآيات متوافقة ، والمعنى : أنَّ الله تعالى جعل الدُّنيا دار بلاءٍ وامتحانٍ ، وركَّب في الطِّباع الميل إلى اللذات ، وحبّ الشهوات ، لا على سبيل الإلجاء الذي لا يمكن تركه ، بل على سبيل التحبيب الذي تميل إليه النفس مع إمكان ردِّها عنه؛ ليتمَّ بذلك الامتحان ، وليجاهد المؤمن هواه ، فيقبض نفسه عن المباح ، ويكفّها عن الحرام .
الثاني : أنَّ المراد ب « التَّزَيِينِ » أنه أمهلهم في الدنيا ، ولم يمنعهم عن الإقبال عليها ، والحرص في طلبها ، فهذا الإمهال هو المسمى ب « التزيين » .
الثالث : أنَّه زيَّن لهم المباحات دون المحظورات ، وعلى هذا سقط الإشكال ، إلاّ أنَّ هذا ضعيفٌ؛ لأن الله تعالى خصَّ الكفَّار ، وأيضاً فإنَّ المؤمن إذا تمتع بالمباحات ، وكثرة ماله ، يكون متعته مع الخوف من الحساب في الآخرة فعيشه مكدَّرٌ منغَّصٌ وأكبر غرضه أجر الآخرة ، إنما يعدُّ الدنيا كالوسيلة إليها ، ولا كذلك الكافر ، فإنَّه وإن قلَّت ذات يده ، فسروه ، بها يغلب على قلبه لاعتقاده أنها المقصود دون غيرها .
وأيضاً ، فإنَّه تعالى أتبع الآية بقوله : { وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين آمَنُواْ } وذلك يشعر بأنهم كانوا يسخرون منهم في ترك اللَّذات المحظورة ، وتحملهم المشاقَّ الواجبة ، فدلَّ ذلك على أنَّ التزيين لم يكن في المباحات .
قال ابن الخطيب : ويتوجَّه على المعتزلة سؤال ، وهو أنَّ حصول هذه الزينة في قلوب الكفَّار لا بدَّ له من محدث ، وإلا فقد وقع المحدث ، لا عن مؤثر فهذا محال ، ثم هذا التزيين الحاصل في قلوب الكفار إمَّا أن يكون قد رجَّح جانب الكفر والمعصية على جانب الإيمان والطاعة ، فقد زال الاختيار ، لأنَّ حال الاستواء لمَّا امتنع حصول الرُّجحان ، فحال صيرورة أحد الطرفين مرجوحاً أولى بامتناع الوقوع ، وإذا صار المرجوح ممتنع الوقوع ، صار الراجح واجب الوقوع ضرورة أنَّه لا خروج عن النقيضين ، فهذا توجيه السؤال ، وهو لا يدفع بالوجوه التي ذكرها المعتزلة ، فأمّا أصحابنا فإنهم حملوا التزيين على أنَّ الله تعالى خلق في قلبه إرادة تلك الأشياء ، بل خلق تلك الأفعال ، والأقوال .
قوله تعالى : { والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ } مفعول « يَشَاءُ » محذوف ، أي : من يشاء أن يزرقه ، و « بِغيرِ حِسَابٍ » هذا الجارُّ فيه وجهان :
أحدهما : أنه زائدٌ .
والثاني : أنه غير زائدٍ ، فعلى الأول لا تعلُّق له بشيءٍ ، وعلى الثاني هو متعلِّق بمحذوفٍ ، فأما وجه الزيادة : فهو أنه تقدَّمه ثلاثة أشياء في قوله : { والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ } الفعل والفاعل والمفعول ، وهو صالحٌ لأن يتعلَّق من جهة المعنى بكلِّ واحدٍ منها ، فإذا تعلَّق بالفعل كان من صفات الأفعال ، تقديره : والله يرزق رزقاً غير حساب ، أي : غير ذي حساب ، أي : أنه لا يحسب ولا يحصى لكثرته ، فيكون في محلِّ نصبٍ على أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، والباء زائدةٌ .
وإذا تعلَّق بالفاعل ، كان من صفات الفاعلين ، والتقدير : والله يرزق غير محاسب بل متفضلاً ، أو غير حاسبٍ ، أي : عادٍّ . ف « حساب » واقعٌ موقع اسم فاعل من حاسب ، أو من حَسَبَن ويجوز أن يكون المصدر [ واقعاً موقع اسم مفعولٍ من حاسب ، أي : الله يرزق غير محاسبٍ ] أي : لا يحاسبه أحدٌ على ما يعطي ، فيكون المصدر في محلِّ نصبٍ على الحال من الفاعل ، والباء فيه مزيدةً .
وإذا تعلَّق بالمفعول ، كان من صفاته أيضاً ، والتقدير : والله يرزق من يشاء غير محاسب ، أو غير محسوب عليه ، أي : لا يعدُّ . فيكون المصدر أيضاً واقعاً موقع اسم مفعول من حاسب أو حسب ، أو يكون على حذف مضاف ، أي : غير ذي حساب ، أي : محاسبة ، فالمصدر واقع موقع الحال والباء - أيضاً - زائدة فيه ، ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى أنه يرزق من حيث لا يحتسب ، أي : من حيث لا يظنُّ أن يأتيه الرزق ، والتقدير : يرزقه غير محتسب ذلك ، أي : غير ظانٍّ له ، فهو حال أيضاً ، ومثله في المعنى { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 3 ] . وكون الباء تزاد في الحال ذكروا لذلك شرطاً - على خلافٍ في جواز ذلك في الأصل - وهو أن تكون الحال منفيَّةٌ ، كقوله : [ الوافر ]
1036 - فَمَا رَجَعَتْ بِخَائِبَةٍ رَكَابٌ ... حَكِيمٌ بْنُ المُسَيِّبِ مُنْتَهَاهَا
وهذه الحال - كما رأيت - غير منفيةٍ ، فالمنع من الزيادة فيها أولى .
وأمَّا وجه عدم الزيادة ، فهو أن تجعل الباء للحال والمصاحبة ، وصلاحية وصف الأشياء الثلاثة - إني الفعل ، والفاعل ، والمفعول - بقوله : « بغير حساب » باقية أيضاً ، كما تقدَّم في القول بزيادتها .
والمراد بالمصدر المحاسبة ، أو العدُّ والإحصاء ، أي : يرزق من يشاء ، ولا حساب على لارزق ، أو ولا حساب للرازق ، أو ولا حساب على المرزوق ، وهذا أولى؛ لما فيه من عدم الزيادة ، التي الأصل عدمها ، ولما فيه من تبعيةَّة المصدر على حاله ، غير واقعٍ موقع اسم فاعل ، أو اسم مفعولٍ ، ولما فيه من عدم تقدير مضافٍ بعد « غير » أي : غير ذي حساب . فإذاً هذا الجارُّ ، والمجرور متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لوقوعه حالاً من أيِّ الثلاثة المتقدِّمة شئت؛ كَما تقدَّم تقريره ، أي : ملتبساً بغير حساب .
فصل
يحتمل أن يكون المراد منه : ما يعطي في الدنيا لعبيده المؤمنين والكافرين ، ويحتمل أن يكون المراد منه : رزق الآخرة ، فإن حملناه على رزق الآخرة ، كان مختصاً بالمؤمنين ، وهو من وجوه :
أحدها : أنَّ الله يرزقهم بغير حسابٍ ، أي : رزقاً واسعاً رغداً لا فناء له؛ لأنَّ كلَّ ما دخل تحت الحساب ، فهو متناهٍ .
وثانيها : أن المنافع الواصلة إليهم في الجنة بعضها ثواب ، وبعضها تفضل؛ كام قال : { فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ } [ النساء : 173 ] فالفضل منه بلا حساب .
وثالثها : أنه لا يخاف نفادها عنده؛ فيحتاج إلى حساب ما يخرج منه؛ لأن المعطي إنَّما يحاسب ، ليعلم مقدار ما يعطى وما يبقى كي لا يتجاوز في عطاياه إلى ما لا يجحف به ، والله عالم غني ، لا نهاية لمقدوراته .
ورابعها : « بِغَيْرِ حِسَاب » ، أي : بغير استحقاقٍ؛ يقال : لفلان على فلانٍ حسابٌ؛ إذا كان له عليه حق ، وهذا يدلُّ على أنَّه لا يستحق أحدٌ عليه شيئاً ، وليس لأحدٍ معه حساب ، بل كلُّ ما أعطاه ، فهو مجرّد فضل وإحسانٍ ، لا بسبب استحقاق .
وخامسها : « بِغَيرِ حِسَابٍ » ، أي : يعطي زائداً على الكفاية؛ يقال : فلان ينفق بغير حساب ، أي : يعطي كثيراً؛ لأن ما دخله الحساب فهو قليل .
وهذه الوجوه كلُّها محتملة ، وعطايها الله بها منتظمة ، فيجوز أن يكون الكلُّ مراداً والله أعلم .
فإن قيل : قد قال الله - تعالى - في صفة المتقين ، وما يصل إليهم : { عَطَآءً حِسَاباً } [ النبأ : 36 ] على المستحقِّ بحسب الوعد؛ كما هو قولنا ، وبحسب الاستحقاق ، كما هو قول المعتزلة ، فالسؤال : وهذا كالمناقض لهذه الآية .
فالجواب : من حمل قوله : « بِغَيْرِ حِسَابٍ » على التفضُّل ، وحمل قوله : « عَطَاءً حِسَاباً » على المستحق بحسب الوعد ، كماهو قولنا ، وبحسب الاستحقاق ، كما هو قول المعتمزلة ، فالسؤال زائل ، وَمَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ : « بغير حساب » على سائرِ الوجوه ، فله أنْ يقول : إن ذلك العطاء إذا كان يتشابه في الأوقاتِ ، فَصَحَّ من هذا الوجه أَنْ يُوصَف بكونه : « عَطَاءً حِسَاباً » فلا تناقض ، وإن حملناه على أرزاق الدنيا ، ففيه وجوه :
أحدها ، وهو أَلْيَقُ بِنَظم الآية ، أنَّ الكفارَ كان يَسْخرونَ من فقراء المسلمين؛ لأنهم كانوا يستدلُّون بحصولِ السعاداتِ الدنيوية ، على أنهم على الحقِّ ، وبحرمان فقراء المسلمين على أنهم على الباطل؛ فأَبطل تعالى استدلالهُم بقوله : { والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } يعني : يُعْطِي في الدنيا مَنْ يشاءُ من غير أَنْ يكونَ ذلك مُنْبئاً عن كون المُعْطى مُحِقّاً أَوْ مُبْطِلاً ، بل بِمَحْضِ المَشِيئَةِ؛ كَمَا وَسَّعَ على قَارون وضيَّق على أَيُّوب - عليه السلام - فقد يُوسِّع على الكافر ، ويضيقُ على لامؤمن؛ ابتلاءً وامتحاناً؛ كما قال
{ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ } [ الزخرف : 33 ] .
وثانيها : أَنَّ اللَّهَ يرزقُ مَنْ يشاءُ في الدنيا : مِنْ كافرٍ ، ومُؤْمنٍ بغير حسابٍ يكون لأحدٍ عليه ولا مُطَالبة ، ولا تبعةٍ ، ولا سؤال سائل .
والمقصود منه : أَلاَّ يقولَ الكافِر : إِنَّ المؤمن على الحق فَلِمَ لَمْ يُوَسَّع عليه في الدنيا؟ وألاَّ يقولَ المؤمُن : لو كانَ الكافرُ مُبطلاً ، فلِمَ يُوَسَّعُ عليه في الدنيا؟ بل الاعْتِراضُ ساقطٌ؛ و { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } [ الأنبياء : 23 ] .
وثالثها : بغير حساب أي : مِنْ حيثُ لا يحتسِب؛ كما يقولُ مَنْ جاءه مَا لَمْ يكنْ في قلبه : لَمْ يَكُن هذا حسابي .
قال القفَّال - رحمه الله - : وَقَدْ فعل ذلك بهم ، فَأَغْنَاهُم بما أَفَاءَ عليهم مِنْ أَمْوالِ صَنَادِيدِ قُرَيش ورُؤَساءِ اليهود ، وبما فتح على رسوله ، بعد وفاته على أَيْدِي أصحابه ، حتى ملكوا كُنوز كِسرَى ، وقَيصر .
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) وجه النظْمِ أنه لما بيَّن أن سبب إصرار الكُفَّار على كُفرهم ، هو حُبُّ الدنيا بين في هذه الآية أَن هذا المعنى غير مُختص بهذا الزمان ، بل كان حاصلاً في الأَزْمِنة المُتَقادِمة ، فَإِنَّهم كانوا أُمةً واحدة على الحق ، ثم اختلفُوا ، وما كان اختلافُهم إِلاَّ بسبب البغي ، والتحاسُد ، والتَّنَازُع في طلب الدنيا .
قال القفَّال : « الأُمَّةُ » هم المجتمعون على الشَّيء الواحد ، يَقتدي بعضُهم ببعض؛ مأخوذٌ من الائتمام .
ودَلَّتِ الآيةُ على أَنَّ الناس كانت أُمَّةً واحدةً ، ولم تدلَّ على أَنَّهُم كانوا أُمَّةً وَاحدةً : في الحقِّ ، أم في الباطل .
فصل في معاني كلمة « أمة »
قد جاءت الأمة على خمسة أَوْجُهٍ :
الأوَّل : « الأُمَّةُ » المِلَّة ، كهذه الآية ، أي : مِلَّة واحدة ، ومثله : { وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } [ المؤمنون : 52 ] أي : مِلتكُم .
الثاني : الأُمَّةُ الجماعة؛ قال تعالى : { وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق } [ الأعراف : 181 ] أي : جماعةٌ . :
الثالث : الأُمَّةُ السنين؛ قال تعالى : { وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ } [ هود : 8 ] ، أي : إلى سنين معدودةٍ ، ومثله « وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ » أي : بعد سنين .
الرابع : بمعنى إمامٍ يُعلِّمُ الخير؛ قال تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ } [ النحل : 120 ] .
الخامس : الأُمَّةُ : إحدى الأُمم؛ قال تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] ، وباقي الكلام على ذلك يأتي في آخرِ « النحل » عند قوله تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } [ النحل : 120 ] .
فصل في المراد بالأمة ، وهل كانوا على الحق؟ ومتى اختلفوا؟
واختلف المفسِّرثون على خمسة أقوالٍ :
القول الأول : أنهم كانوا على الحقِّ ، وهو قول أكثر المحققين؛ قال القفَّالُ : لأَنَّهُ تعالى قال بعده : { فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ } ف « الفاء » في قوله : « فَبَعَثَ اللَّهُ » تَقْتَضِي أنْ يكونَ بعثهم بعد الاختلافِ ، فلو كانوا قبل ذلك أمة واحدة في الكفر لكانت بعثة الرسل قبل الاختلاف أولى؛ لأَنَّهُم لما بعثوا ، وبعضُ الأُمَّة محقٌّ وبعضهم مُبطلٌ فلأَنْ يبعثوا عند كون الجميعِ على الكفر أولى .
وأيضاً فإن آدم - عليه السَّلام - لما بُعِث إلى أولاده ، كانوا مُسلمين مطيعين ، ولم يحدث بينهم اختلافٌ في الدِّين ، إلى أَنْ قتلَ قَابيلُ هابيل؛ بسبب الحسدِ والبَغِي ، وهذا ثابتٌ بالتواتر ، فإِنَّ الناس - وهم : آدَمَ وَحَوَّاء ، وأولادهما - كانوا أُمَّةً واحدةٌ على الحق ، ثُم اختلفُوا؛ بسبب البغي ، والحسد ، كما حكى الله تعالى عن ابني آدم بالحق { إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر } [ المائدة : 27 ] وأيضاً قوله - عليه السلام - : « كُلُّ مَوْلُودٍ يولَدُ على الفِطْرة؛ فأَبواهُ يُهَوِّدَانِهِ أَو يُنصرانه أو يُمَجِّسانه » فدلَّ ذلك على أَنَّ المولود لو تُرِك مع فِطْرته الأَصلية ، لما كان على شَيْءٍ من الأَدْيان الباطلة ، وأَنَّه إِنَّما يُقدمُ على الدين الباطل ، لأسبابٍ خارجية .
وقال الكلبيُّ : هُم أهلُ سفينةِ نُوح ، لما غرقت الأرض بالطوفانِ ، لم يَبْقَ إلاَّ أَهْلُ السفينة على الحق ، والدِّين الصَّحيحن ثم اختلفُوا بعد ذلك؛ وهذا مما ثَبَتَ بالتَّواتر .
وقال مُجاهدٌ : أراد آدَمَ وحده ، وكان أُمَّةً واحدة ، وسَمَّى الواحد بلفظ الجمع؛ لأَنَّهُ أَصلُ النّسل ، وأبُو البشر ، وخلق اللَّهُ منه حَوَّاءَ ، ونشر منها الناس .
قال قتادةُ وعكرمةُ : كان الناسُ مِنْ وقت آدمَ إلى مبعث نُوح ، وكان بينهما عشرةُ قرون كُلُّهم على شريعةٍ واحدةٍ من الحق ، والهُدَى ، ثم اختلفُوا في زمن نوح - عليه السلام - فبعث اللَّهُ إليهم نُوحاً ، وكان أَوَّل بني بُعثَ .
وحَكَى القرطبيُّ : قال ابنُ أبي خيثمة : منذ خلق اللَّهُ آدم - عليه السلام - إلى أن بعث اللَّه محمداً - صلى الله عليه وسلم - خمسةُ آلافِ سنة وثمانمائة سنة ، وقيل : أكثر من ذلك ، وكان بينه وبين نُوحٍ ألفُ سنة ومائتا سنة ، وعاش آدم تسعمائة وستين سنة ، وكان الناس في زمانه أمةً واحدة ، على مِلَّةٍ واحدة متمسكين بالدِّين ، تُصافحُهم الملائكة ، ودَامُوا على ذلك إلى أَن رُفِعَ إدريس - عليه السلام - فاختلفُوا .
قال : وهذا فيه نظر؛ لأَنَّ إدريس بعد نُوحٍ على الصحيح .
وقيل : كان العربُ على دين إبراهيم إلى أَنْ غيّره عمرو بن لُحَيٍّ .
وروى أبو العالية ، عن أُبِيٍّ بن كعبٍ قال : « كان النَّاسُ حين عُرِضُوا وأُخرِجُوا مِنْ ظَهْرِ آدَمَ ، وأَقرُّوا أُمَّةً واحدة مُسْلِمين كلهم ، ولم يكُونُوا أُمَّةً وَاحِدَةً قَطّ غيرَ ذلك اليومِ ، ثم اختَلَفُوا آدَمَ .
القول الثاني : أَنَّهُم كانُوا أُمَّةً واحدة في الكُفر ، وهو قولُ ابنِ عَبَّاسٍ ، وعطاء ، والحسن .
وقال الحسن وعطاء : كان الناس من وَقْتِ وَفَاةِ آدمَ إلى مبعثِ نُوحٍ أُمَّةً واحدة على مِلَّةِ الكُفرِ؛ أَمثَال البَهَائِم ، فَبَعثَ اللَّه إبراهيم - عليه السَّلام - وغيرُ من النبيين ، واستدلُّوا بقوله : { فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } وهو لاَ يَليقُ إلا بذلك .
وجوابه ما بينا : أَنَّ هذا لا يليقُ بضده ، ثم اختلف القائلُون بهذا القول : مَتَى كانوا مُتّفقين على الكُفر على ما قَدَّمنا ثُمَّ سأَلُوا أَنفسهم سُؤالاً وقالوا : أليس فيهم مَنْ كان مُسْلماً كهابيل ، وشيث ، وإدريس .
وأجابوا : بِأنَّ الغالب كان هو الكُفْر ، والحُكْمُ للغالب ، ولا يعتدُّ بالقليل في الكثير كما لا يعتدُّ بالشعير القليل في البر الكثير ، فقد يقال : دار الإسلام ، وإِنْ كان فيها غيرُ المسلمين ، ودارُ الحرب وإن كان فيها مُسلمون .
الثالث : قال أبو مُسلمٍ : كانوا أُمَّةً واحدة في التمسُّك بالشرائع العقلية ، وهي الاعترافُ بوجود الصانع ، وصِفاتِهِ ، والاشتغالُ بخدمته ، وشُكْرِ نعمه ، والاجتناب عن القبائح العقليَّة كالظُّلم ، والكذب ، والجهل ، والعبث ، وأمثالها .
واحتجَّ القاضي على صِحَّةِ قوله : بِأَنَّ لفظ النَّبيين يفيدُ العُمُومَ والاستغراقَ ، وحرف » الفاء « يُفيدُ التَّراخي ، فقوله { فَبَعَثَ الله النبيين } يفيد أنَّ بعثةَ الأنبياء كانت مُتأخرة عن كون الناس أُمَّةً واحدة ، فتلك الواحدةُ المتقدمةُ على بعثة جميع الشرائع ، لا بُدَّ وأَنْ تكون واحدة في شرعة غير مُسْتفَادٍ من الأَنبياء فواجب أن تكون في شريعة مستفادة من العقل وذلك ما بَيَّنَّاهُ ، وأيضاً فالعلم بحسن شُكر المُنْعِم ، وطاعة الخالق ، والإحسان إلى الخَلْقِ ، العَدلُ؛ مُشْتَركٌ فيه بين الكُلّ ، والعِلْمُ يُقبح الكذب ، والظِّلم ، والجهْل ، والعبث ، وأمثالها مشترك فيه بين الكل ، فالأظهر أَنَّ الناس كانُوا في أَوَّل الأمر على ذلك ، ثم اختلفُوا بعد ذلك؛ لأَسباب منفصلة ، ثم قال : فإنْ قيل : أليس أوَّل الإسلام آدَم - عليه الصلاة والسلام - مع أولاده كانوا مُجتمعين على التَّمسك بالشرائع العقلية أَوَّلاً ، ثم إِنَّ اللَّهَ تعالى بعثهُ بعد ذلك إلى أولاده ، ويُحْتَملُ أَنْ صار شرعُهُ مندرِساً ، بعد ذلك ، ثم رجع الناسُ إلى الشرائعِ العقلية؟
قال ابنُ الخطيب : وهذا القولُ لا يصحُّ إلاَّ بعد تحسين العقل ، وتقبيحه ، والكلام فيه مشهور .
القول الرابع : أنَّ الآية دلَّت على أَنَّ الناس كانوا أُمَّةً واحدة ، وليس فيها أَنَّهم كانوا على الإيمان ، أو على الكُفر ، فهو موقوفٌ على الدَّليل .
القول الخامس : أَنَّ المراد ب « النَّاسِ » هنا أهْلُ الكتاب مِمَّن آمَنَ بِمُوسَى - عليه السلام - وذلك لأَنَّا بينا أَنَّ هذه الآية متعلقةٌ بما تقدم من قوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً } [ البقرة : 208 ] وذكرنا أَنَّ كثيراً من المفسرين زعمُوا أَنْ تلك الآية نزلت في اليهودِ؛ فقوله تعالى : { كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً } أي : كان الذين آمنوا بموسى أُمَّةً واحدة على دين واحدٍ ، ثم اختلفُوا بسبب البغي ، والحسد؛ فبعثَ الله النبيِّين ، وهم الذين جاءُوا بعد موسى - عليه السلام - وأنزل معهم الكتاب كما بُعِث الزبور إلى دواد ، والإنجيل إلى عيسى ، والفرقانُ إلى محمد - عليه الصلاة والسلام - لتكون تلك الكتب حاكمةً عليهم في تلك الأشياء التي اختلفوا فيها ، وهذا القولُ مطابقٌ لنظم الآية ، وموافقٌ لما قبلها وما بعدها ، وليس فيه إشكالٌ إلاَّ أَنَّ تخصيص لفظ الناس بقومٍ معينين خلاف الظَّاهر ، ويُعتذَرُ عنه بأن األفَ واللاَّمَ كما تكون للاستغراق ، فقد تكونُ أيضاً لِلْعَهد .
فصل في بيان لفظة « كان »
قال القرطبيُّ : لفظة « كَانَ » على هذه الأقوال على بابها من المُضِيّ المنقضي ، وكل من قدّر الناسَ في الآية مُؤمنين قدّر في الكلام : فاختلفُوا ، فبعث اللَّه ، ويدُلُّ على هذا الحذف قوله : { وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ } وكل مَنْ قَدَّرهم كُفَّاراً كانت بعثهُ النبيين إليهم ، ويحتملُ أن تكونَ « كان » لِلثّبُوت ، والمرادُ الإخبارُ عن الناس الذين هم الجِنْس كله : أنهم أمةٌ واحدةٌ من خُلُوِّهم عن الشرائع ، وجهلهم بالحقائق لولا أَنَّ اللَّهَ تعالى مَنَّ عليهم بالرسُل؛ تفضلاً منه؛ فعلَى هذا لا تختصُّ « كان » بالمُضِيِّ فقط ، بل يكونُ مَعناها كقوله تعالى :
{ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 96 ] وقوله : { فَبَعَثَ الله النبيين } قال بعضُ المفسرين : وجملتهم مائةٌ وأربعةُ وعشرون ألفاً ، والرسل منهم ثلاثمائةٍ وثلاثة عشر ، والمَذكُور في القرآنِ بأسمائِهم : ثمانيةَ عشر نَبِيّاً .
قوله تعالى : « مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرينَ » حالان من « النَّبِيِّنَ » . قيل : وهي حالٌ مُقارنةٌ؛ لأنَّ بعثَهُم كان وقت البشارةِ والنِّذار وفيه نظرٌ؛ لأنَّ البِشَارةَ والنِّذَارةَ [ بعدَ البعث . والظاهرُ أنها حالٌ مُقَدِّرَةٌ ، وقد تقدَّمَ معنى البشارة والنذارةِ ] في قوله : { أَنذِرِ الناس وَبَشِّرِ الذين آمنوا } [ يونس : 2 ] .
وقوله : « وَأَنْزَلَ مَعهُمُ » هذا الظرفُ فيه وجهان :
أحدهما : أنه مُتعلِّقٌ بأنزل . وهذا لا بُدَّ فيه مِنْ تأويل؛ وذلك أَنَّه يلزمُ مِنْ تعلُّقِه بأنزل أَنْ يكون النبيون مصاحبين للكتاب في الإِنزال ، وهم لا يُوصَفُون بذلك؛ لعدمه فيهم .
وتأويلُهُ : أنَّ المراد بالإِنزال الإِرسالُ ، لأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عنه ، كأنَّهُ قيل : وأرسل معهم الكتاب فتصحُّ مشاركتهم له في الإِنزالِ بهذا التَّأويل .
والثاني : أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ ، على أنه حالٌ من الكتاب ، وتكونُ حالاً مُقدرةً ، أي : وأنزل مقدِّراً مصاحبته غياهم ، وقدَّره أبو البقاء بقوله : « شَاهِداً لَهُمْ وَمُؤيِّداً » ، وهذا تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ .
والألِفٌ واللامُ في « الكِتَابِ » يَجُوزُ أَنْ تكونَ للعهدِ ، بمعنى أَنَّه كتابٌ معينٌ؛ كالتوراة مثلاً ، فإنها أنزلِت على مُوسى ، وعلى النَّبيِّين بعده؛ بمعنى أنَّهَم حَكَموا بها ، واستدامُوا على ذلك ، وأَنْ تكونَ للجنس ، أي : أنزل مع كلِّ واحدٍ منهم من هذا الجنس .
قال القاضي : ظاهرُ الآيةِ يدلُّ على أَنَّه لا نَبيَّ إِلاَّ ومعه كتابٌ ، أنزل فيه بيانُ الحق : طال ذلك الكتابُ ، أم قصُرَ ، ودُوِّنَ ، أَو لَمْ يُدَوَّن ، وكان ذلك الكتابُ مُعجزاً ، أَمْ لم يكن .
وقيل : هو مفردٌ وُضِعَ موضع الجمع : أي وأَنزلَ معهم الكُتُبَ ، وهو ضعيفٌ .
وهذا الجُملة معطوفةٌ على قوله : « فَبَعَثَ » ولا يُقالُ : البشارةُ والنِّذارةُ ناشئةٌ عن الإِنزال فكيف قُدِّما عليه؟ لأَنَّا لا نُسَلِّم أنَّهما إنما يَكُونان بإنزال كتابٍ ، بل قد يكونان بوحي من اللَّهِ تعالى غير مَتلُوٍّ ولا مكتُوبٍ . ولئن سَلَّمنا ذلك ، فإنَّما قُدِّما ، لأنهما حالان من « النَّبيِّينَ » فالأَوْلَى اتِّصالهم بهم .
قوله : « بالحقِّ » فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أن يكون متعلِّقاً بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الكتاب - أيضاً - عند مَنْ يُجَوِّزُ تعدُّدَ الحال ، وهو الصحيحُ .
والثاني : أَنْ يتعلَّق بنفس الكتاب؛ لما فيه من معنى الفعلِ ، إذ المرادُ به المكتوبُ .
والثالث : أَنْ يتعلَّقَ بأنزلَ ، وهذا أول؛ لأنَّ جعله حالاً لا يَسْتَقِيم إِلاَّ أَنْ يكونَ حالاً مُؤكدةً ، إِذْ كُتُبُ اللَّهِ تعالى لا تكون ملتبسةً بالحقِّ ، الأصلُ فيها أَنْ تكونَ مْستقلَّةً ولا ضرورة بنا إلى الخروج عن الأصل ، ولأنَّ الكتاب جارٍ مَجرى الجوامد .
قوله : « لِيَحْكُمَ » هذا القول متعلقٌ بقوله : « أَنْزَلَ » : واللامُ لِلْعله ، وفي الفاعل المضمر في « لِيَحْكُمْ » ثلاثةُ أقوال :
أحدها : وهو أظهرها ، أنه يعودُ على اللَّهِ تعالى : لتقدُّمه في قوله : « فَبَعَثَ اللَّهُ » ولأنَّ نسبة الحُكْم إليه حقيقةٌ ، ويؤيِّده قراءةُ الجحدري فيما نقله عنه مكّي « لِنَحْكُمَ » بنون العظمة ، وفيه التفاتٌ من الغيبة إلى التكلُّم . وقد ظَنَّ ابنُ عطية أن مكياً غلط في نقل هذه القراءة عنه ، وقال : إنَّ الناسَ رَوَوْا عن الجَحْدَري : « لِيُحْكَمَ » على بناءِ الفعل للمفعول وفي « النُّورِ » موضعين هنا ، وفي « آل عمران » ولا ينبغي أن يُغَلِّطه؛ لاحتمال أَنْ يكون عنه قراءتان .
والثاني : أنه يعودُ على « الكِتاب » أي : ليحْكُم الكتابُ ، ونسبةُ الحُكْم إليه مجازٌ؛ كنسبةِ النُّطق إليه في قوله تعالى : { هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق } [ الجاثية : 29 ] .
وقوله : { إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المؤمنين } [ الإسراء : 9 ] .
ونسبةُ القضاءِ إليه في قوله : [ الكامل ]
1037 - ضَرَبَتْ عَلَيْكَ العَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا ... وَقَضَى عَلَيْكَ بِهِ الْكِتَابُ المُنْزَلُ
ووجهُ المجاز : أنَّ الحُكم فيه؛ فنُسب إليه ، وقيل : إنه يعود على النَّبيِّ ، واستضعفه أبو حيَّان من حيثُ إفرادُ الضمير ، إذ كان ينبغي على هذا أن يجمع؛ ليطابق « النَّبيِّنَ » . ثُمَّ قال : وَمَا قاله جائِزٌ عَلَى أن يَعُودَ الضميرُ على إفراد الجمع ، على معنى : لِيَحْكُمَ كُلُّ نَبِيٍّ بكتابه .
و « بَيْنَ » مُتَعلِّقٌ ب « يَحْكُمْ » . والظَّرفيةُ هنا مجازٌ . وكذلك « فِيما اخْتَلَفُوا » مُتعلقٌ به أيضاً . و « مَا » موصولةٌ ، والمرادُ بها الدِّينُ ، أي : ليحكم اللَّهُ بين الناسِ في الدِّين ، بعد أَنْ كانُوا مُتفقين عيه . ويضعُفُ أَنْ يْرَادَ ب « ما » النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنها لغير العقلاء غالباً . و « فِيهِ » متعلِّقٌ ب « اخْتَلَفُوا » ، والضميرُ عائدٌ على « ما » الموصولة .
قوله : { وَمَا اختلف فِيهِ } الضميرُ في « فِيهِ » أوجهٌ .
أظهرها : أنه عائدٌ على « ما » الموصولةِ أيضاً ، وكذلك الضميرُ في « أُوتُوهُ » وقيل : يعودان على الكتاب ، أي : وما اختلف في الكتابِ إِلاَّ الَّذين أُوتُوا الكتاب . وقيل : يعودان على النبيِّ ، قال الزَّجَّاجُ : أي : وما اختلف في النبيّ إِلاَّ الذين أُوتُوا عِلْمَ نبوَّته . وقيل : يعودُ على عيسى؛ للدلالة عليه .
وقيل : الهاءُ في « فِيهِ » تعود على « الحقِّ » وفي « أوتُوه » تعود على « الكتاب » أي : وما اختلف في الحقِّ إِلاَّ الذين أُوتُوا الكتاب .
فصل
والمراد باختلافهم يحتملُ معنيين :
أحدهما : تكفير بعضهم بعضاً؛ كقول اليهود : { وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَيْءٍ } [ البقرة : 113 ] أو قولهم { نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ }
[ النساء : 150 ] والآخر : تحريفهم وتبديلهم ، وهذا يدُلُّ على أَنَّ الاختلاف في الحقِّ لم يُوجد إِلاَّ بعد بعثة الأنبياء .
وإنزالِ الكتابِ ، وذلك يُوجِبُ أَنَّ قبل البعثة لم يكن الاختلاف في الحقِّ حاصلاً ، بل كان الاتفاق في الحق حاصلاً وهو يدل على أَنَّ قوله تعالى : { كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً } معناه أمه واجدة في دِينِ الحَقِّ .
وقوله : « مِنْ بعدِ » فيه وجهان :
أحدهما وهو الصحيحُ : أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديره : اختلفوا فيه من بعد .
والثاني : أن يتعلّق ب « اخْتَلَفَ » الملفوظ به ، وقال أبو البقاء : ولا تمنعُ « إلاَّ » من ذلك ، كما تقول : « ما قام إلاَّ زيدٌ يومَ الجُمُعَةِ » . وهذا الذي أَجازه أبُوا البقاء ، فيه كَلاَمٌ كثيرٌ للنُّحاة ، وملخَّصُه : أَنَّ « إِلاَّ » لا يُستَثْنَى بها شيئان دُونَ عطفٍ أَوْ بدليةٍ؛ وذلك أنَّ « إلاَّ » معدِّيةٌ للفعل ، ولذلك جاز تعلُّقُ ما بعدها بما قبلها ، فهي كواو مَعَ وهمزة التعدية ، البدليةِ كذلك « إِلاَّ » وهذا هو الصَّحِيحُ ، وإنْ كان بعضهم خالف . فإن وَرَدَ من لسانهم ما يوهم جواز ذلك يُؤَوَّل ، فمنه قوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ } [ يوسف : 109 ] .
ثم قال « بِالْبَيِّناتِ » فظاهر هذا أَنَّ « بالبيناتِ » مُتَعلِّقٌ بأرسلنا ، فقد استُثْنِي ب « إلاَّ » شيئان ، أحدهما « رِجَالا » والآخرُ « بالبينات » .
وتأويلهُ أنَّ « بالبَيِّناتَ » متعلِّقٌ بمحذوفٍ ، لئلا يلزم منه ذلك المحذورُ . وقد منع أبو الحسن ، وأبو عليّ : « مَا أخَذَ أَحَدٌ إِلاَّ زيدٌ دِرْهماً » و « ما ضربَ القومُ إلا بعضُهم بَعْضاً » واختلفا في تصحيحها ، فقال أبو الحسن : طريقُ تَصْحيحِها بأَنْ تُقَدِّم المرفوع الذي بعد « إِلاَّ » عليها ، فيقال : ما أخذَ أحدٌ زيدٌ إلا دِرْهَماً ، فيكونُ « زيدٌ » بدلاً من « أَحَدٌ » و « دِرْهَماً » مستثنى مفرغٌ من ذلك المحذوف ، تقديره : « ما أخذ أَحَدٌ زيدٌ شيئاً إلا دِرْهماً » .
وقال أبو عليٍّ : طريقُ ذلك زيادةُ منصوبةٍ في اللَّفظ فيظهرُ ذلك المقدَّرُ المستثنى منه ، فيقال : « ما أَخَذَ أحدٌ شيئاً إلا زيدٌ درهماً » فيكونُ المرفوع بدلاً من المرفوع ، والمنصوبُ بدلاً من المنصُوب ، وكذلك : ما ضَرَبَ القومُ أحداً إِلاَّ بعضُهم بعضاً .
وقال أبو بكر بن السَّرَّاج : تقولُ « أَعْطَيْتُ الناسَ دِرْهماً إلا عَمْراً » [ جائِزٌ . ولو قُلْتَ : « أعطيتُ الناسَ دِرْهَماً إلا عَمْراً ] الدنانير لم يَجُزْ ، لأنَّ الحرف لا يُسْتثنى به إِلاَّ واحِدٌ . فإنْ قُلْتَ : » ما أَعْطَيْتَ الناسَ دِرْهَماً إِلاَّ عَمْراً دَانِقاً « [ على الاستثناء لم يَجُزْ ، أَوْ على البدلِ جاز فَتُبدل » عمراً « من النَّاسِ ، و » دانِقاً « من » دِرْهماً « . كأنك قُلتَ : » ما أعطيتُ إلاَّ عَمْراً دانقاً ] يعني أنَّ الحصرَ واقعٌ في المفعولين .
قال بعض المُحقِّقين : « وما أجازه ابن السراج من البدل في هذه المسألة ، ضعيفٌ؛ وذلك أنَّ البدلَ في الاستثناء لا بُدَّ مِنْ مُقارنتِهِ ب » إلاَّ « ، فَأَشْبَهَ العطف ، فكما أَنَّهُ لا يقعُ بعد حرف العطف معطوفانِ ، لا يقعُ بعد إلاَّ بَدَلاَنِ » .
فإذا عُرِفَ هذا الأصلُ ، وما قال الناسُ فيه ، كان إعرابُ أَبِي البقاء في هذه الآيةِ الكريمة ، مِنْ هذا الباب؛ وذلك أنه استثناءٌ مفرَّغٌ ، وقد وقع بعدَ « إلاَّ » الفاعلُ ، وهو « الَّذِينَ » ، والجارُّ والمَجرُور ، وهو « مِنْ بعد » ، والمفعولُ مِنْ أَجلِهِ ، وهو « بَغياً » فيكونُ كلٌّ منهما محصوراً . والمعنى : وما اختلفَ فيه إلا الذين أُوتوه إلاَّ منْ بعد ما جَاءَتْهُم البيناتُ إلا بَغياً . وإذا كان التقديرُ كذلك ، فقد استُثْنِي ب « إلاَّ » شيئان دُونَ الأولِ الذي هو فاعلٌ مِنْ غير عطف ولا بدليةٍ وهي مسألةٌ يكثر دورها؟
قوله : « بَغْياً » في نصبه وجهان :
أظهرهما : أنه مفعولٌ من أجله ، لاستكمال الشُّرُوط ، وهو علةٌ باعثةٌ ، والعامِلُ فيه مُضمرٌ على ما اخترناه ، وهو الذي تُعلِّقُ به « فِيهِ » ، و « اخْتَلَفَ » الملفوظُ به عند من يرى أنَّ « إلاَّ » يُستثنى بها شيئان .
والثاني : أنه مصدرٌ في محلِّ حالٍ ، أي : باغين ، والعامِلُ فيها ما تقدَّمَ . و « بينهم » متعلقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه صِفَةٌ ل « بَغْياً » أي : بَغْياً كائناً بينهم .
فصل
قوله : { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات } يقتضي أَن يكون إيتاءُ اللَّهِ تعالى إيَّاهم الكتاب كان بعد مجيء الآيات البَيِّنات ، فتكونُ هذه البينات مُغايرةً - لا محالة - لإِيتاءِ الكتاب؛ وهذه البيناتُ لا يمكن حملها على شيءٍ سوى الدلائل العقليَّة التي نصبها اللَّهُ - تعالى - على إثبات الأُصول التي لا يمكن القول بالنبوة إلاَّ بعد ثُبوتها؛ وذلك لأَنَّ المتكلِّمين يقولون : كلُّ ما لا يصحُّ إثباتُ النبة إلاَّ بثبوته ، فذلك لا يمكن إثباته بالدلائل السَّمعيَّة ، وإلاَّ وقع الدور .
وقال بعض المفسرين : المراد « بالبيناتِ » صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - في كتبهم .
قول فهدى اللَّهُ الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق « لِما » متعلِّقٌ ب « هَدَى » و « ما » موصولةً ومعنى هذا أي : أرشد إلى ما اختلفوا فيه؛ كقوله تعالى : { يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } [ المجادلة : 3 ] ، أي : إلى ما قالوا . ويقال : هديته الطريق وللطريق وإلى الطريق والضمير في « اخْتلفُوا » عائدٌ على « الذين أُوتُوه » وفي « فِيهِ » عائدٌ على « ما » ، وهو متعلِّقٌ ب « اخْتَلَفَ » .
و « مِن الحَقِّ » مُتَعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه في موضعِ الحالِ من « ما » في « لمِا » و « مِنْ » يجوزُ أَنْ تكونَ للتبعيض ، وأَنْ تكونَ للبيانِ عند مَنْ يرى ذلك ، تقديره : الذي هو الحقّ .
وأجاز أبو البقاء أَنْ يكونَ « مِنَ الحقِّ » حالاً من الضمير في « فيه » ، والعامِلُ فيها « اختلفوا » فإن قيل لم قال هداهم فيما اختلفُوا فيه ، وعساهُ أن يكون غير حقٍّ في نفسه قال : « والقَلْبُ في كتابِ اللَّهِ دُونَ ضرُورةٍ تدفعُ إليه عَجْزٌ وسُوءُ فَهْمٍ » انتهى .
قال شهاب الدِّين : وهذا الاحتمالُ الذي جعله ابنُ عطية حاملاً للفرَّاءِ على ادِّعاء القلب ، لا يُتوهَّمُ أصلاً .
قوله « بإذنِهِ » فيه وجهان :
أحدهما : أَن يتعلَّقَ بمحذوفٍ ، لأنه حالٌ من « الَّذِينَ آمَنُوا » ، أي : مأذوناً لهم .
والثاني : أَنْ يكون متعلِّقاً بهدى مفعولاً به ، أي : هداهم بأمره .
قال الزَّجَّاج : المراد من الإذن - هنا - العلم ، أي : بعلمه ، وإرادته فيهم ، وقيل بأمره ، أي : حصلت الهداية بسبب الأمر؛ كما يقال : قطعت بالسِّكِّين .
وقيل : لا بُدَّ فيه مِنْ إضمار ، تقديره : هداهم فاهتدوا بإذنه .
فصل فيما اختلف فيه أهل الكتاب وهدانا الله إليه
قال ابن زيدٍ : هذه الآية في أهل الكتاب ، اختلفوا في القبلة فصلّت اليهود إلى بيت المقدس ، والنصارى إلى المشرق؛ فهدانا اللَّهُ للكعبة ، واختلفوا في الصيام؛ فهدانا الله لشهر رمضان واختلفوا في الأَيام ، فأخذت اليهودُ السَّبت ، والنَّصارى الأحد؛ فهدانا اللَّهُ للجمعة ، واختلفوا في إبراهيم ، فقال اليهود : كان يهوديّاً ، وقالت النصارى : كان نصرانيّاً . فقلنا : إِنَّه كان حنيفاً مسلماً ، واختلفوا في عيسى : فاليهود فرَّطُوا ، والنَّصارى أفرطوا؛ فهدانا اللَّهُ للحقِّ فيه .
فصل في احتاج بعضهم بالآية على أن الإيمان مخلوق والرد عليه .
تمسَّك بعضهم بهذه الآية على أَنَّ الإيمان مخلوقٌ لله تعالى ، وهو ضعيفٌ؛ لأن الهداية غير الاهتداء كما أَنَّ الهداية إلى الإيمان غير الإيمان ، وأيضاً فإنه قال في آخر الآية : « بِإِذْنِهِ » ولا يمكن صرف هذا الإذن إلى قوله : « فَهَدَى اللَّهُ » إذ لا جائز أن يأذن لنفسه ، فلا بُدَّ من إضمار لصرف الإذن إليه ، والتقدير : « فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لمَا اخْتَلَفُوا فيه مِنَ الحَقِّ - فاهتدوا - بِإِذْنِهِ » وإذا كان كذلك ، كانت الهداية مغايرةً للإِهتداء .
فصل
اجحتج الفقهاء بهذه الآية على أَنَّ الله - تعالى - قد يخصُّ المؤمن بهداياتٍ لا يفعلها في حقِّ الكافر .
وأجاب عنه المعتزلة بوجوه :
أحدها : أنهم اختصُّوا بالاهتداء ، فهو كقوله : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] ثم قال { هُدًى لِّلنَّاسِ } [ البقرة : 185 ] .
وثانيها : أن المراد الهداية إلى الثواب وطريق الجنَّة .
وثالثها : هداهم إلى الحقِّ بالأَلطافِ .
قوله : { والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } والكلام فيها مع المعتزلة كالتي في قبلها .
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) « أَمْ » هذه فيها أربعة أقوالٍ :
الأول : أنْ تكون منقطعةً فتتقدَّر ب « بل » والهمزة . ف « بل » لإضراب انتقالٍ من إِخْبَارٍ إلى إِخْبَارٍٍ ، والهمزةُ للتقري . والتقدير بل حسبتم .
والثاني : أنها لمجرد الإضراب مِنْ غير تقدير همزة بعدها ، وهو قول الزَّجَّاج وأنشد : [ الطويل ]
1038 - بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشِّمْسِ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى ... وَصُوَرتِهَا أَمْ أَنْتِ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ
أي : بل أنت .
والثالث : وهو قول الفرَّاء وبعض الكُوفيِّين ، أنها بمعنى الهمزة . فعلى هذا يُبتدأُ بها في أوَّل الكلام ، ولا تحتاجُ إلى الجملة قبلها يضرب عنها .
الرابع : أنها مُتَّصلةٌ ، ولا يستقيم ذلك إلا بتقدير جملةٍ محذوفةٍ قبلها .
قال القفَّال : « أمْ » هنا استفهامٌ متوسطٌ؛ كما أَنَّ « هَلْ » استفهامٌ سابقٌ ، فيجوز أَنْ يقال : هل عندك رجلٌ ، أَمْ عندك امرأَةٌ؟ ولا يجوز أَنْ يقال ابتداءً أَمْ عندك رجل ، فأَمَّا إذا كان متوسطاً ، جاز سواءٌ كان مسبُوقاً باستفهامٍ آخر ، أو لا يكون ، أَمَّا إذا كان مسبوقاً باستفهام آخر فهو كقولك : أنت رجلٌ لا تنصف ، أفعن جهل تفعلُ هذا ، أم لك سلطانٌ؟ وأَمَّا الذي لا يكون مسبوقاً بالاستفهام؛ فكقوله : { الم تَنزِيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين أَمْ يَقُولُونَ افتراه } [ السجدة : 1 - 3 ] فكذا تقدير هذا الآية : فهدى اللَّهُ الذين آمنوا فصبروا على استهزَاءِ قومهم ، أفتسلكُون سبيلهم أم تحسبون أَنْ تدخُلُوا الجنَّةَ مِنْ غيرِ سلوكِ سبيلهم .
« حَسب » هنا من أَخواتِ « ظنَّ » ، تنصبُ مفعولين عند سيبويه ، ومسدَّ الأول والثاني محذوفٌ عند الأخفش ، كما تقدَّم ، ومضارعها فيه الوجهان :
الفتحُ - وهو القياسُ - والكسرُ . ولها نظائرُ من الأفعالِ تأتي إن شاء اللَّهُ تعالى في آخرِ السورةِ ، ومعنها الظَّنُّ ، وقد تستعملُ في اليقين؛ قال : [ الطويل ]
1039 - حَسِبْتُ التُّقَى وَالجُودَ خَيْرَ تِجَارَةٍ ... رَبَاحاً إِذَا مَا المَرْءُ أَصْبَحَ ثَاقِلاَ
ومصدرُها : الحُسْبان . وتكون غير متعديةٍ ، إذا كان معناها الشقرة ، تقول : زيدٌ ، أي : اشْقَرَّ ، فهو أَحْسَبُ ، أي : أَشْقَرُ .
قوله : « وَلَمَّا يَأْتِكمْ » الواو للحال ، والجملة بعدها في محلِّ نصبٍ عليها ، أي : غير آتيكم مثلهم . و « لمَّا » حرف جزمٍ ، معناه النفي؛ ك « لم » ، وهو أبلغ من النفي ب « لم » ؛ لأنَّها لا تنفي إلاَّ الزمان المتصل بزمان الحال . والفرق بينها وبين « لم » من وجوهٍ :
أحدها : أنه قد يحذف الفعل بعدها في فصيح الكلام ، إذ دلَّ عليه دليلٌ .
وهو أحسن ما تخرَّج عليه قراءة « وإِنْ كُلاًّ لَمَّا » كقوله : [ الوافر ]
1040 - فَجئْتُ قُبُرَهُمْ بَدْءاً وَلَمَّا ... فَنَادَيْتُ الْقُبُورَ فَلَمْ تَجِبْنَهْ
أي : ولمَّا أكن بدءاً ، أي : مبتدئاً؛ بخلاف « لَمْ » فإنه لا يجوز ذلك فيها إلا ضرورة؛ كقوله : [ الكامل ]
1041- وَاحْفَظْ وَدِيعَتَكَ الَّتِي أُودِعْتَهَا ... يَوْمَ الأَعَازِب إِنْ وَصَلْتَ وَإِنْ لَمِ
ومنها : أنَّها لنفي الماضي المتصل بزمان الحال ، و « لم » لنفيه مطلقاً أو منقطعاً على ما مرَّ .
ومنها : أنَّ « لَمَّا » لا تدخل على فعل شرطٍ ، ولا جزاءٍ بخلاف « لم » .
ومنها أنّ « لَمْ » قد تلغى بخلاف « لَمَّا ، فإنها لم يأتِ فيها ذلك ، وباقي الكلام على ما يأتي إن شاء الله تعالى في سورة » الحُجُرَاتِ « عند قوله تعالى : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان } [ الحجرات : 14 ] .
واختلف في » لَمَّا « فقيل : مركبة من لم و » ما « زيدت عليها .
وقال سيبويه : بسيطة وليست » ما « زائدة؛ لأنَّ » لما « تقع في مواضع لا تقع فيها » لم « ؛ يقول الرجل لصاحبه : أقدِّم فلاناً ، فيقول » لَمَّا « ، ولا يقال : » لَمْ « مفردةً .
قال المبرّد : إذا قال القائل : لم يأتني زيدٌ ، فهو نفيٌ لقولك أتاك زيدٌ ، وإذا قال لَمَّا يأتني ، فمعناه : أنَّه لم يأتني بعد ، وأنا أتوقَّعه؛ قال النابغة : [ الكامل ]
1042 - أَزِفَ التَّرَحُّلُ غَيْرَ أنَّ رَكَابَنَا ... لَمَّا تَزُلْ بِرِحَالِنَا وَكَأَنْ قَدِ
وفي قوله » مَثَلُ الَّذِينَ « حذف مضافٍ ، وحذفُ موصوفٍ ، تقديره : ولمَّا يأتكم مثل محنة المؤمنين الذين خلوا .
و » مِنْ قَبْلِكُمْ « متعلِّقٌ ب » خَلَوا « وهو كالتأكيد ، فإنَّ الصلة مفهومةٌ من قوله : » خَلَوْا « .
فصل في سبب نزول » أم حسبتم « الآية .
قال ابن عبَّاس ، وعطاء : لمَّا دخل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة اشتدَّ عليهم الضرر؛ لأنَّهم خرجوا بلا مالٍ ، وتركوا ديارهم ، وأموالهم بيدي المشركين ، وآثروا رضا الله ورسوله ، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأسرَّ قوم النفاق ، فأنزل الله تعالى؛ تطيباً لطيوبهم : » أَمْ حَسِبْتُمْ « .
وقال قتادة والسُّديُّ : نزلت في » غَزْوَةِ الخنْدَقِ « أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد ، والحزن ، وشدَّة الخوف ، والبرد ، وضيق العيش ، وأنواع الأذى؛ كما قال تعالى :
{ وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر } [ الأحزاب : 10 ] وقيل : نزلت في » غَزْوَةِ أُحُد « لما قال عبد الله بن أُبيٍّ لأصحاب النبي عليه السلام إلى متى تقتلون أنفسكم ، وترجون الباطل ، ولو كان محمد نبياً ، لمَّا سلَّط الله عليكم الأسر والقتل ، فأنزل الله تعالى هذه الآية » أَمْ حَسِبْتُمْ « ، أي : المؤمنون أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بمجرد الإيمان بي ، وتصديق رسولي ، دون أن تعدبوا الله بكل ما تعبَّدكم به ، وابتلاكم بالصبر عليه ، وأن ينالكم من أذى الكفار ، ومن احتمال الفقر ومكابدة الضر والبؤس ، ومقاساة الأهوال في مجاهدة العدوِّ؛ كما كان ذلك غريبةٍ ، أو قصَّة عجيبةٍ لها شأنٌ؛ ومنه قوله تعالى :
{ وَلِلَّهِ المثل الأعلى } [ النحل : 60 ] أي : الصفة التي لها شأن عظيم .
قوله : « مَسَّتْهم البأْسَاءُ » في هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أن تكون لا محلّ لها من الإعراب؛ لأنها تفسيريةٌ ، أي : فسَّرَتِ المثل وشرحته ، كأنه قيل : ما كان مثلهم؟ فقيل : مسَّتهم البأساء .
والثاني : ان تكون حالاً على إضمار « قَدْ » جوَّز ذلك أبو البقاء ، وهي حالٌ من فاعلٍ « خَلَوا » . وفي جعلها حالاً بَعْدٌ .
و « البَأْسَاءُ » : اسمٌ من البؤْسِ بمعنى الشِّدِّة ، وهو البلاء والفقر .
و « الضَّرَّاءُ » : الأمراض ، والآلام ، وضروب الخوف .
قال أبو العبَّاس المقريُّ : ورد لفظ « الضُّرِّ » في القرآن على أربعة أوجهٍ :
الأول : الضُّرُّ : الفقر؛ كهذه الآية ، ومثله : { وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ } [ يونس : 12 ] ، وقوله تعالى : { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر } [ النحل : 53 ] أي : الفقر .
الثاني : الضّرّ : القحط؛ قال تعالى : { إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بالبأسآء والضرآء } [ الأعراف : 94 ] أي : قحطوا .
أو قوله تعالى : { وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ } [ يونس : 21 ] أي : قحط .
الثالث : الضُّرُّ : المرض؛ قال تعالى : { وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ } [ يونس : 207 ] أي : بمرض .
الرابع : الضر : الأهوال؛ قال تعالى : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر } [ الإسراء : 67 ] .
قوله : « وَزُلْزِلُوا » أي : حرِّكوا بأنواع البلايا والرَّزايا .
قال الزَّجَّاج : أصل الزَّلزلة في اللغة من زلَّ الشيء عن مكانه ، فإذا قلت : زلزلته فتأويله : أنَّك كررت تلك الإزالة فضوعف لفظه بمضاعفة معناه؛ لأن ما فيه تكريرٌ يكرّرُ فيه الفعل نحو : صَرَّ وصَرْصَرَ ، وصَلَّ وصَلْصَلَ؛ وَكَفَّ وَكَفْكَفَ ، وفسر بعضهم « زُلْزِلُوا » أي : خُوِّفُوا؛ وذلك لأنَّ الخائف لا يستقر بل يضطرب قلبه .
قول تعالى : « حَتَّى يَقُولَ » قرأ الجمهور : « يقولَ » نصباً ، وله وجهان :
أحدهما : أنَّ « حَتَّى » بمعنى « إِلَى » ، أي : إلى أن يقول ، فهو غايةٌ لما تقدَّم من المسِّ والزلزال ، و « حَتَّى » إنما ينصب بعدها المضارع المستقبل ، وهذا قد وقع ومضى . فالجواب : أنه على حكاية الحال ، [ حكى تلك الحال ] .
والثاني : أنَّ « حَتَّى » بمعنى « كَيْ » ، فتفيد العلَّة كقوله : أطعتُ الله حَتَّى أدْخَلنِي الجنةَ ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ قول الرسول والمؤمنين ليس علَّة للمسِّ والزلزال ، وإن كان ظاهر كلام أبي البقاء على ذلك ، فإنه قال : « بالرفعِ على أَنْ يكونَ التقديرُ : زُلْزِلُوا فقالوا ، فالزَّلْزَلَةُ سَبَبُ القولِط ، و » أَنْ « بعد » حَتَّى « مُضْمَرةٌ على كِلا التقديرين .
وقرأ نافع برفعه على أنَّه حالٌ ، والحال لا ينصب بعد » حَتَّى « ولا غيرها؛ لأنَّ الناصب يخلِّص للاستقبال؛ فتنافيا .
واعلم أنَّ » حَتَّى « إذا وقع بعدها فعلٌ : فإمَّا أن يكون حالاً أو مستقبلاً أو ماضياً ، إن كان حالً ، رفع؛ نحو : » مَرِضَ حَتَّى لاَ يَرْجُونَهُ « أي : في الحال .
وإن كان مُسْتَقْبلاً نصب ، تقول : سِرْتُ حتَّى أدخل البلد ، وأنت لم تدخل بعد . وإن كان ماضياً فتحكيه ، ثُمَّ حكايتك له : إمَّا أن تكون بحسب كونه مستقبلاً ، فتنصبه على حكاية هذه الحال ، وإمَّا أن يكون بحسب كونه حالاً ، فترفعه على حكاية هذه الحال ، فيصدق أن تقول في قراءة الجماعة : حكاية حالٍ ، وفي قراءة نافعٍ أيضاً : حكاية حال .
قال شهاب الدِّين : إنَّما نبَّهتُ على ذلك؛ لأنَّ عبارة بعضهم تخُصُّ حكاية الحال بقراءة الجمهور ، وعبارةآخرين تخصُّها بقراءة نافع .
قال أبو البقاء في قراءة الجمهور : « والفعلُ هنا مستقبلٌ ، حُكِيت به حَالُهُمْ ، والمعنى على المُضِيِّ » وكان قد تقدَّم أنه وجَّه الرفع بأنَّ « حتى » للتعليل .
قوله : « معه » هذا الظرف يجوز أن يكون منصوباً بيقول ، أي : إنهم صاحبوه في هذا القول وجامعوه فيه ، وأن يكون منصوباً بآمنوا ، أي : صاحبوه في الإيمان .
قوله : { متى نَصْرُ الله } « مَتَى » منصوبٌ على الظرف ، فموضعه رفعٌ؛ خبراً مقدَّماً ، و « نصرٌ » مبتدأٌ مؤخرٌ .
وقال أبو البقاء : « وعلى قولِ الأَخْفَشِ : موضعه نصب على الظرف ، و » نصرُ « مرفوعٌ به » . و « مَتَى » ظرفُ زمانٍ لا يتصرَّف إلا بجرِّه بحرفٍ . وهو مبنيٌّ؛ لتضمُّنه : إما لمعنىهمزة الاستفهام ، وإمَّا معنى « مَنْ » الشرطية ، فإنه يكون اسم استفهام ، ويكون اسم شرطٍ فيجزم فعلين شرطاً وجزاءً .
قال القرطبي : « نَصْرُ اللَّهِ » رفع بالابتداء على قول سيبويه ، وعلى قول أبي العباس؛ رفع بفعلٍ ، أي : متى يقع نصر الله .
و « قَرِيبٌ » خبر « إنَّ » قال النَّحَّاس : ويجوز في غير القرآن « قَرِيباً » أي : مكاناً قريباً و « قَرِيبٌ » لا تثيِّيه العرب ، ولا تجمعه ، ولا تؤنّثه في هذا المعنى؛ قال تعالى : { إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ } [ الأعراف : 56 ] ؛ وقال الشَّاعر : [ الطويل ]
1043 - لَهُ الْوَيْلُ إِنْ أَمْسَى وَلاَ أُمُّ هَاشِمٍ ... قَرِيبٌ وَلاَ بَسْبَاسَةُ ابْنَةُ يَشْكُرَا
فإن قلت : فلانٌ قريبٌ لي ثنيت وجمعت فقلت : قَرِيبُونَ ، وأقْرِباءُ ، وقُرَبَاءُ .
فصل
والظاهر أنَّ جملة { متى نَصْرُ الله } من قول المؤمنين ، وجملة { ألاا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } من قول الرسول ، فنسب القول إلى الجميع؛ إجمالاً ، ودلالة الحال مبيِّنة للتفضيل المذكور . وهذا أولى من قول من زعم أن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، والتقدير : حتَّى يقول الذين آمنوا : « مَتَى نَصْرُ اللَّهِ » ؟ فيقول الرسول « أَلاَ إِنَّ » فقدِّم الرسول؛ لماكنته ، وقدِّم المؤمنون؛ لتقدُّمهم في الزمان . قالوا : لأنه أخبر عن الرسول ، والذين آمنوا بكلامين :
أحدهما : أنهم قالوا : مَتَى نَصْرُ اللَّهِ؟
والثاني : « ألاَّ إنَّ نصرَ اللَّهِ قَرِيبٌ » فوجب إسناد كلِّ واحدٍ من هذين الكلامين إلى ما يليق به من ذينك المذكورين ، قال : الذين آمناو قالوا : « مَتَى نَصْرُ اللَّهِ » والرسلُ قالوا : { ألاا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } قالوا : ولهذا نظيرٌ في القرآن والشِّعر :
أمَّا القرآن : فقوله :
{ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } [ القصص : 73 ] ، والمعنى؛ لتسكنوا في اللَّيل ، ولتبتغوا من فضله في النهار .
وأمَّا الشعر : فقول امرئ القيس : [ الطويل ]
1044 - كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْباً ويَابِساً ... لَدَى وَكْرِهَا العُنَّابُ وَالْحَشَفُ البَالِي
فشبه العنَّاب بالرطب ، والحشف بالبالي باليابس .
قال ابن عطيَّة : « هذا تَحَكُّمٌ وحَمْلٌ لِلْكلامِ على غَيْرِ وَجْهِهِ » .
وقيل : الجملتان من قول الرسول والمؤمنين معاً ، يعني أن الرسول قالهما معاً ، وكذلك أتباعه . فإن قيل : كيف يليق بالرسول القاطع بصحَّةِ وعد الله ووعيده أن يقول مستبعداً : مَتَى نصر الله؟
والجواب من وجوه :
أحدها : التأويل المتقدِّم .
والثاني : أن قول الرسول { متى نَصْرُ الله } ليس على سبيل الشِّكِّ بل على سبيل الدعاء باستعجال النصر .
الثالث : أن كونه رسولاً لا يمنع من أن يتأذَّى من كيد الأعداء؛ قال تعالى : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ } [ الحجر : 97 ] وقال تعالى : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 3 ] وقال تعالى : { حتى إِذَا استيأس الرسل وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا } [ يوسف : 110 ] ، وعلى هذا فإذا ضاق قلبه ، وقلَّت حيلته ، وكان قد تقدم وعبد الله بنصره ، إلاَّ أنه لم يعيِّن له الوقت؛ قال عند ضيق قبله : { متى نَصْرُ الله } حَتَّى إنَّه إذا علم قرب الوقت ، زال غمه وطاب قبله؛ ويؤيد ذلك قوله في الجواب { إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } فلما كان الجواب بذكر القرب؛ دلَّ على أنَّ السؤال كان واقعاً عن القرب ، ولو كان السؤال وقع عن أنَّه هل يوجد النصر ، أم لا؛ لما كان هذا الجواب مطابقاً لذلك السؤال ، هذا على قول من قال إن قوله : { ألاا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } مِن كلام الله تعالى جواباً للرسول ، ومن قال إنه من كلام المؤمنين . قال : إنَّهم لما علموا أنَّ الله تعالى لا يُعلي عدوه عليهم ، قالوا : { ألاا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } ، فنحن على ثقة بوعدك .
وقيل : إنَّ الجملة الأولى من كلام [ الرسول وأتباعه ، والجملة ألخيرة من كلام ] الله تعالى ، على ما تقدم . فالحاصل أنَّ الجملتين في محلِّ نصب بالقول .
فإن قيل : قوله : { إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } يوجب في حق كل من لحقه شدَّةٌ أن يعلم أنه سيظفر بزوالها ، وذلك غير ثابتٍ .
فالجواب : لا يمتنع أن يكون هذا من خواصِّ الأنبياء - عليهم السّلام - وأيضاً فإن كان عامّاً في حق الكل إذ كلُّ من كان في بلاءٍ ، فلا بدَّ له من أحد أمرين :
إمَّ أن يتخلص منه أو يموت ، فإن مات ، فقد وصل إلى من لا يهمل أمره ، ولا يضيع حقه ، وذلك من أعظم النصر ، وإنما جعله قريباً؛ لأن الموت آتٍ؛ وكلَّ آتٍ قريبٌ .
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) قد تقدَّم أنَّ « ماذا » له استعمالات ستَّةٌ عند قوله : { مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } [ البقرة : 26 ] . وهنا يجوز أن تكون « ماذا » بمنزلة اسمٍ واحدٍ ، بمعنى الاستفهام؛ فتكون مفعولاً مقدَّماً ل « يُنْفِقُونَ » ؛ لأنَّ العرب يقولون : « عماذا تَسْأَلُ » بإثبات الألف ، وحذفوها من قولهم : { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ } [ النبأ : 1 ] وقوله { فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا } [ النازعات : 43 ] فلما لم يحذفون الألف من آخر « مَا » ، علمت أنه مع « ذا » بمنزلة اسم واحدٍ ، ولم يحذفون الألف منه ، لمَّا لم يكن آخر الاسم ، والحذف يلحقها إذا كان آخراً ، إلاَّ أن يكون في شعر؛ كقوله : [ الوافر ]
1045 - عَلَى مَا قَامَ يَشْتَمُنِي لَئِيمٌ ... كَخنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رمَادِ
قال القرطبي : إن خفَّفت الهمزة ، قلت : يسلونك ، ومنه : ما « يُنْفِقُون » ويجوز أن تكون « ما » مبتدأ و « ذا » خبره ، وهو موصولٌ . و « ينفقون » صلته ، والعائد محذوفٌ ، و « ماذا » معلِّق للسؤال ، فهو في موضع المفعول الثاني ، وقد تقدَّم تحقيقه في قوله : { سَلْ بني إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم } [ البقرة : 211 ] .
قال القرطبي : متى كانت اسماً مركابً ، فهي في موضع نصب إلاَّ ما جاء في قول الشاعر : [ الطويل ]
1046 - وَمَاذَا عَسَى الوَاشُونَ أَنْ يَتَحَدَّثُوا ... سِوَى أَنْ يَقُولُوا : إِنَّنِي لَكِ عَاشِقُ
فإِنَّ « عَسَى » لا تعمل فيه ، ف « ماذا » في موضع رفعٍ ، وهو مركَّبٌ؛ إذ لا صلة ل « ذا » .
وجاء « ينفقون » بلفظ الغيبة؛ لأنَّ فاعل الفعل قبله ضمير غيبةٍ في « يَسْألونَكَ » ، ويجوز في الكلام « ماذا نُنْفِقُ » كما يجوز : أقسم زيدٌ ليَضْرِبَنَّ ولأضْرِبَنَّ ، وسيأتي لهذا مزيد ببيانٍ في قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ } [ المائدة : 4 ] في المائدة إن شاء الله تعالى .
قوله : { قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ } يجوز في « ما » وجهان :
أظهرهما : أن تكون شرطيّةً؛ لتوافق ما بعدها ، ف « ما » في محلِّ نصبٍ ، مفعولٌ مقدَّمٌ ، واجبُ التقديم؛ لأنَّ له صدر الكلام . و « أَنْفَقْتُمْ » في محلّش جزمٍ بالشرط ، و « مِنْ خَيْرٍ » تقدَّم إعرابه في قوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } [ البقرة : 106 ] .
وقوله : فللوالدين « جواب الشرط ، وهذا الجارُّ خبر لمبتدأ محذوف ، أي : فمصرفه للوالدين ، فيتعلَّق بمحذوفٍ ، إمَّا مفردٌ ، وإمَّا جملةٌ على حسب ما ذكر من الخلاف فيما مضى . وتكون الجملة في محلِّ جزمٍ بجواب الشرط .
والثاني : أن تكون » مَا « موصولة ، و » أَنْفَقْتُمْ « صلتها ، والعائد محذوف ، لاستكمال الشروط ، أي : الذي أنفقتموه . والفاء زائدة في الخبر الذي هو الجارُّ والمجرور .
قال أبو البقاءِ في هذا الوجه : » ومِنْ خيرٍ يكون حالاً من العائد المحذوفٍ « .
فصل ف سبب النزول
اعلم نَّه تعالى لمَّا بيَّن الوجوب على كل مكلّفٍ ، بأن يكون معرضاً عن طلب العاجل مشتغلاً بطلب الآجل ، شرع في بيان الأحكام من هذه الآية إلى قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ } [ البقرة : 243 ] .
قال عطاء ، عن ابن عباسٍ : نزلت الآية في رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « إِن لي دِيناراً ، فقال : أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ ، قال : إنّ لِي آخَرَ ، قال : أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ ، فَقَالَ : إنَّ لِي آخَر ، قال : أَنْفِقْهُ على خَادمِكَ ، قال : إنّ لي آخر ، قال : أَنْفِقْهُ عَلَى وَالِدَيْكَ قال : إنَّ لِي آخَرَ ، قال : أَنْفِقْهُ عَلَى قرابتكِ ، قال : إنَّ لي آخَرَ قال : أَنْفِقْهُ في سَبِيل الله ، وهو أَحْسَنُها »
وروى الكلبيُّ ، عن ابن عباسٍ أنَّ الآية نزلت في عمرو بن الجموح ، وهو الذي قتل يوم أُحُدٍ ، وكان شيخاً كبيراً هرماً ، وعنده مالٌ عظيمٌ ، فقال ماذا ننفق من أموالنا؟ وأين نضعها؟ فنزلت الآيةُ .
فإن قيل إنَّ القوم سألوا عما ينفقون كيف أُجيبوا ببيان المصرف؟
فالجواب من وجوه :
أحدها : أنَّ في الآية حذفاً ، تقديره : ماذا ينفقون ولمن يعطونه ، كما ذكرنا في رواية الكليِّ في سبب النزول ، فجاء الجواب عنهما ، فأجاب عن المنفق بقوله : « مِنْ خَيْرٍ » وعن المنفق عليه بقوله : فَلِلْوَالِدَيْنِ « وما بعده .
ثانيها : أن يكون » ماذا « سؤالاً عن المصرف على حذف مضافٍ ، تقديره : مصرف ماذا ينفقون؟
ثالثها : أن يكون حذف من الأوَّل ذكر المصرف ، ومن الثاني ذكر المنفق ، وكلاهما مرادٌ ، وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك في قوله تعالى : { وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ } [ البقرة : 171 ] .
رابعها : قال الزمخشريُّ : قد تضمَّن قوله : { مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ } بيان ما ينفقونه ، وهو كلُّ خيرٍ؛ وبُني الكلام على ما هو أهمُّ وهو بيان المصرف؛ لأنَّ النفقة لا يعتدُّ بها إلاَّ أن تقع موقعها . قال : [ الكامل ]
1047 - إنَّ الصَّنِيعَةَ لاَ تَكُونُ صَنِيعَةً ... حَتَّى يُصَابَ بِهَا طَرِيقُ الْمَصْنَعِ
خامسها : قال القفَّال : إنه وإن كان السؤال وارداً بلفظ » ما نُنْفِقُ : إلاَّ أن المقصود السؤال عن الكيفية؛ لأنهم كانوا علامين بأن الإنفاق يكون على وجه القربة ، وإذا كان هذا معلوماً عندهم ، لم ينصرف الوهم إلى ذلك ، فتعيَّن أنَّ المراد بالسؤال إنَّما هو طريق المصرف ، وعلى هذا يكون الجواب مطابقاً للسؤال ، ونظيره قوله تعالى : { قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ } [ البقرة : 70 ، 71 ] وإنَّما كان هذا الجواب موافقاً للسؤال ، لأنه كان من المعلوم أنها البقرة التي شأنها وصفتها كذا ، فقوله : « مَا هِيَ » لا يمكن حمله على طلب الماهيَّة؛ فتعين أن يكون المراد منه طلب الصِّفة التي بها تتميز هذه البقرة عن غيرها ، فكذا ها هنا .
وسادسها : يحتمل أنَّهم لما سألوا عن هذا السؤال ، فقيل لهم : هذا سؤالٌ فاسدٌ ، أي : أنفقوا ما أردتم بشرط أن يكون مصروفاً إلى المصرف وهذا كقول الطبيب لمن سأله ماذا يأكل ، فقال الطبيب : كل في اليومين مرَّتين ، ومعناه ، كل ما شئت ، ولكن بهذا الشرط .
فصل
اعلم أنَّه تعالى رتَّب الإِنفاق ، فقدَّم الوالدين ، لأنَّهما كالمخرج للمكلَّف من العدم إلى الوجود ، وذلك لأنَّ الله - تعالى - هو الذي أخرج الإنسان من العدم إلى الوجود؛ قال تعالى : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] فأشار إلى أنه ليس بعد رعاية حقِّ الله - تعالى - من شيءٍ أوجب من رعاية حقِّ الوالدين؛ فلذلك قدمهما ، ثم الأقربين؛ لأنَّ الإنسان أعلم بحال الفقير القريب من غيره؛ ولأنَّه إذا لم يراع قريبه الفقير لاحتاج الفقير إلى الرجوع إلى غيره ، وذلك عار في حقِّ قريبه الغنيّ .
فإن قيل : إنَّه تعالى ذكر « الْوَالِدَيْنِ » ثمَّ عطف عليه « الأَقْرَبِينَ » والعاطف يقتضي المغايرة ، وذلك يدلُّ على أن الوالدين لا يدخلون في مسمَّى الأقربين ، فهو خلاف الإجماع؛ لأنَّه لو وقف على « الأَقْربين » حمل فيه الوالدين بغير خلافٍ .
فالجواب : أنَّ هذا من عطف العامِّ على الخاصِّ؛ كقوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم } [ الحجر : 87 ] فعطف القرآن على السبع المثاني ، وهي من القرآن ، وقال - عليه السّلام - « أفضل ما قتل أنا والنبيُّون من قبلي . . . » فعطف « النَّبِيِّين » على قوله : « أَنَا » وهو من النبيين ، وذلك شائعٌ في لسان العرب ، ثمَّ ذكر بعدهم اليتامى؛ لأنهم لصغرهم لا يقدرون على الاكتساب ، وليس لهم أحدٌ يكتسب لهم ، فالطفل اليتيم : قد عدم الكسب ، والمكاسب ، وأشرف على الضياع ، ثم ذكر بعدهم المساكين؛ لأنَّ حاجتهم أقلُّ من حاجة اليتامى؛ لأنَّ قدرتهم على التحصيل أكثر من قدرة اليتامى ، ثم ذكر ابن السبيل بعدهم؛ لأنه بسبب انقطاعه عن بلده ، قد يحتاج ، ويفتقر ، فهذا أصحُّ تركيبٍ ، وأحسن ترتيبٍ في كيفيَّة الإنفاق ، ثم لمَّا فصَّل هذا التَّفصيل الحسن الكامل ، أردفه بالاجمال ، فقال : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } والعليم مبالغةٌ في كونه عالماً لا يعزب عن علمه مثقال ذرَّةٍ في الأرض ، ولا في السَّماء .
و « ما » هذه شرطيةٌ فقطح لظهور عملها الجزم بخلاف الأولى . وقرأ عليٌّ رضي الله عنه : « وما يفعلوا » بالياء على الغيبة ، فيحتمل أن يكون من باب الالتفات من الخطاب ، وأن يكون من الإضمار لدلالة السياق عليه ، أي : وما يفعل الناس .
فصل في المراد بالخير
قال أكثر العلماء : المراد ب « الخَيْر » هو المال؛ لقوله تعالى : { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ } [ العاديات : 8 ] ، وقال : { إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية }
[ البقرة : 18 ] .
وقيل : المراد بالخير هذا الإنفاق ، وسائر وجوه البرِّ ، والطاعة .
فصل هل الآية منسوخة أم لا؟
قال بعضهم : هذه الآية منسوخة بآية المواريث .
وقال أهل التفسير : إنها منسوخة بالزكاة .
قال بعضهم : وكلاهما ضعيفٌ؛ لأنَّه يمكن حمل الآية على وجوهٍ لا يتطرق النَّسخ إليها .
أحدها : قال أبو مسلم الأصفهاني : الغنفاق على الوالدين ، واجبٌ عند قصورهما عن الكسب والملك ، والمراد ب « الأَقْرَبِينَ » الولد ، وولد الولد ، وقد تلزم نفقتهم عند فقد الملك ، وعلى هذا فلا وجه للقول بالنَّسخ؛ لأنَّ هذه النفقة تلزم في حال الحياة ، والميارث يصل بعد الموت ، وما وصل بعد الموت لا يوصف بأنه نفقةٌ .
وثانيها : أن يكون المراد من أحبَّ التقرب إلى الله تعالى بالنفقة ، فالولى أن ينفقه في هذه الجهات ، فيكون المراد التطوع .
ثالثها : أن يكون المراد االوجوب فيما يتصل بالوالدين والأقربين من حيث الكفاية ، وفيما يتصل بالتيامى والمساكين مما يكون زكاةً .
ورابعهما : يحتمل أن يريد بالإنفاق على الوالدين والأقربين ما يكون بعثاً على صلة الرَّحم ، وفيما يصرفه لليتامى والمساكين ما يخلص للصدقة ، فظاهر الآية محتملٌ لكل هذه الوجوه من غير نسخ .
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) قرئ : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال } : ببناء « كَتَب » للفاعل؛ وهو ضمير الله تعالى ، ونصبِ « القِتَالِ » .
قال القرطبي : وقرأ قومٌ : « كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقَتْلُ » ؛ قال الشاعر : [ الخفيف ]
048 أ - كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقَتَالُ عَلَيْنَا ... وَعَلَى الغَانِيَاتِ جَرُّ الذُيُولِ
قوله تعالى : « وَهُوَ كُرْهٌ » هذه واو الحال ، والجملة بعدها في محلِّ نصبٍ عليها ، والظاهر أنَّ « هو » عائدٌ على القتال . وقيل : يعود على [ المصدر ] المفهوم من كتب ، أي : وكتبه وفرضه . وقرأ الجمهور « كُرْهٌ » بضمِّ الكاف ، وهو الكراهية بدليل قوله : { وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً } ثم فيه وجهان :
أحدهما : أنَّ وضع المصدر موضع الوصف سائغٌ كقول الخنساء : [ البسيط ]
1048ب - . ... فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَادْبَارُ
والثاني : أن يكون فعلاً بمعنى مفعولٍ ، كالخبر بمعنى الخبور وهو مكروهٌ لكم .
وقرأ السُّلميُّ بفتحها . فقيل : هما بمعنًى واحدٍ ، أي : مصدران كالضَّعف والضُّعف ، قاله الزَّجاج وتبعه الزمخشري .
وقيل : المضمومُ اسمُ مفعولٍ ، والمفتوح المصدر .
وقيل : المفتوح بمعنى الإكراه ، قاله الزممخشري في توجيه قراءة السُّلميِّ ، إلاَّ أنَّ هذا من باب مجيء المصدر على حذف الزوائد ، وهو لا ينقاس .
وقيل : المفتوح ما أُكره عليه المرء ، والمضموم ما كرهه هو .
فإن كان « الكَرْهُ » ، و « الكُرْهُ » مصدراً ، فلا بدَّ من تأويل يجوز معه الإخبار به عن « هو » ، وذلك التأويل : إمَّا على حذف مضافٍ ، أي : والقتال ذو كرهٍ ، أو على المبالغة ، أو على وقوعه موقع اسم المفعول . وإن قلنا : إنَّ « كُرْهاً » بالضَّمِّ اسم مفعولٍ ، فلا يحتاج إلى شيء من ذلك . و « لَكُمْ » في محلِّ رفعٍ؛ لأنه صفة لكره ، فيتعلَّق بمحذوفٍ أي : كرهٌ كائنٌ .
فصل في بيان الإذن في القتال
اعلم أنه - عليه الصّلاة والسّلام - كان غير مأذونٍ له في القتال مدة إقامته بمكة ، فلمَّا هاجر أُذن له في قتال من يقاتله من المشركين ، ثمَّ أُذن له في قتال المشركين عامَّةً ، ثم فرض الله الجهاد .
واختلف العلماء في حكم هذه الآية ، فقال عطاء : الجهاد تطوعٌ والمراد بهذه الآية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت دون غيرهم ، وإليه ذهب الثَّوْرِيُّ ، واحتجوا بقوله تعالى : { فَضَّلَ الله المجاهدين بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } [ النساء : 95 ] ولو كان القاعد تاركاً للفرض ، لم يكن يعده الحسنى .
قالوا : وقوله : « كُتِبَ » يقتضي الإيجاب ، ويكفي في العمل به مرَّةً واحداةً .
وقوله : « عَلَيْكُمْ » يقتضي تخصيص هذا الخطاب بالموجودين في ذلك الوقت ، وإنما قلنا إنَّ قوله { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص } [ البقرة : 178 ] { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } [ البقرة : 183 ] حال الموجودين فيه كحال من سيوجد بعد ذلك؛ بدليلٍ منفصلٍ ، وهو الإجماع ، وذلك غير معقولٍ ها هنا؛ فوجب أن يبقى على الأصل ، ويدل على صحة هذا القول قوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } [ التوبة : 122 ] والقول بالنسخ غير جائز على ما بيناه ، والإجماع اليوم منعقدٌ على أنه من فروض الكفايات ، إلاَّ أن يدخل المشركون ديار المسلمين؛ فيتعيّن الجهاد حينئذٍ على الكلِّ .
وقال آخرون : هو فرض عينٍ؛ واحتجُّوا بقوله : « كُتِبَ » وهو يقتضي الوجوب ، وقوله « عَلَيْكُمْ » يقتضيه أيضاً ، والخطاب بالكاف في قوله « عَلَيْكُمْ » لا يمنع من الوجوب على الموجودين وعلى من سيوجد؛ كقوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } [ البقرة : 183 ] .
وقال الجمهور : هو فرضٌ على الكفاية .
فإن قيل هذا الخطاب للمؤمنين ، فكيف قال : { وَهُوَ كُرهٌ لَكُم } ، وهذا يشعر بكون المؤمنين كارهين لحكم الله ، وتكليفه ، وذلك غير جائزٍ؛ لأن المؤمن لا يكون ساخطاً لأوامر الله وتكليفه ، بل يرضى بذلك ، ويحبُّه ، ويعلم أنه صلاحه ، وتركه فساده؟
والجواب من وجهين :
أحدهما : أن المراد من « الكُرْهِ » كونه شَاقّاً على النفس ، لأن التكليف عبارةٌ عن إلزام ما فيه كلفةٌ ، ومشقةٌ ، ومن المعلوم : أن الحياة من أعظم ما يميل الطبع إليها ، فلذلك كان القتال من أشقِّ الأشياء على النفس ، لأنَّ فيه إخراج المال ، والجراحات ، وقطع الأطراف ، وذهاب الأنفس ، وذلك أمرٌ يشق على الأنفس .
والثاني : أن يكون المراد منه كراهتهم للقتال قبل أن يفرض؛ لما فيه من الخوف ، ولكثرة الأعداء فبيَّن تعالى أن الذي تكرهونه من القتال خيرٌ لكم من تركه ، لئلاَّ تكرهونه بعد أن فرض عليكم .
قال عكرمة : نسخها قوله تعالى : { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [ النساء : 46 ] يعني أنهم كرهوه ثم أحبوه .
قوله { وعسى أَن تَكْرَهُوا } ، « عَسَى » فعلٌ ماضٍ ، نُقِل إلى إنشاءِ الترجِّي والإشفاق ، وهو يرفعُ الاسمَ ويَنْصِبُ الخَبر ، ولا يكون خبرُها إلا فِعلاً مضارعاً مقروناً ب « أَنْ » ، وقد يجيءُ اسماً صريحاً؛ كقوله [ الرجز ]
1049 - أَكْثَرْتَ فِي العَذْلِ مُلِحّاً دَائِمَا ... لاَ تُكْثِرَنْ إِنِّي عَسَيْتُ صَائِمَا
وقالت الزَّبَّاءُ : « عَسَى الغُوَيْرُ أَبُؤُسَا » وقد يَتَجَرَّد خبرها مِنْ « أَنْ » ؛ كقوله : [ الطويل ]
1050 - عَسَى فَرَجٌ يأْتِي بهِ اللَّهُ إِنَّهُ ... لَهُ كُلَّ يَوْمٍ في خَلِيقَتِهِ أَمْرُ
وقال آخر : [ الوافر ]
1051 - عَسَى الكَرْبُ الَّذِي أَمْسَيْتَ فِيهِ ... يَكُونُ وَرَاءَه فَرَجٌ قَرِيبٌ
وقال آخر : [ الوافر ]
1052- فَأَمَّا كَيِّسٌ فَنَجَا ولَكِن ... عَسَى يغْتَرُّ بي حَمِقٌ لَئِيمُ
وتكونُ تامّة ، إذا أُسندَتْ إلى « أَنْ » أَوْ « أنَّ » ؛ لأنهما يَسدَّان مَسَدَّ اسمها وخبرها ، والأصحُّ أنها فِعْلٌ ، لا حرفٌ ، لاتصالِ الضمائر البارزةٍ المرفوعةِ بها .
قال تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ } [ محمد : 22 ] ويرتفع الاسم بعده فقوله : « عَسَى زَيْدٌ » معناه : قرب ووزنُها « فَعَل » بفتح العين ، ويجوز كسر عينها ، إذا أسندت لضمير متكلم ، أو مخاطبٍ أو نون إناثٍ وهي قراءةُ نافعٍ ، وستأتي إن شاء الله تعالى ولا تتصرَّفُ بل تلزمُ المضيَّ .
والفرقُ بين الإشفاق والترجِّي بها في المعنى :
أنَّ الترجِّي في المحبوبات ، والإشفاقَ في المَكروهات .
و « عَسَى » من الله تعالى واجبةٌ؛ لأنَّ الترجِّي والإشفاق محالانِ في حقَّه . وقيل : كلُّ « عَسَى » في القرآن للتحقيق ، يعنُون الوقوعَ ، إِلاَّ قوله تعالى : { عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ } [ التحريم : 5 ] وهي في هذه الآية ليسَت ناقصة؛ فتحتاج إلى خبرٍ ، بل تامةٌ ، لأنها أُسْندت إلى « أَنْ » ، وقد تقدَّم أنها تَسُدُّ مَسدَّ الخبرين بعدها . وزعم الحُوفيُّ أَنَّ : « أَنْ تَكْرَهُوا » في محلِّ نصبٍ ، ولا يمكن ذلك إلا بتكلُّفٍ بعيد .
قوله : { وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } في هذه الجملة وجهان :
أظهرهما : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال ، وإنْ كانَتْ من النكرة بغيرِ شرطٍ من الشروط المعروفة قليلةً .
والثاني : أَنْ تكونَ في محلِّ نصبٍ على أنها صفةٌ ل « شَيْئاً » وإنما دخلت الواو على الجملة الواقعة صفة؛ لأنَّ صورتها صورة الحالِ ، فكما تدخل الواو عليها حاليةً ، تدخلُ عليها صفةً ، قاله أبو البقاء ومثلُ ذلك ما أجازه الزمخشريّ في قوله : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] فجعل « وَلَهَا كِتَابٌ » صفةً لقريةٍ ، وقل : وكانَ القياسُ ألاَّ تتوسَّطَ هذا الواو بينهما؛ كقوله : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } [ الشعراء : 208 ] وإنما توسَّطَت؛ لتأكيد لصوقِ الصفةِ بالموصوفِ ، كما يُقالُ في الحالِ : « جاءني زيدٌ عليه ثوبٌ ، وعليه ثوبٌ » . وهذا الذي أجازه أبو البقاء هنا ، والزمخشريُّ هناك ، هو رأيُ ابن جِنّي ، وسائرُ النحاة يُخالفونه .
فصل في بيان الخيرية في الغزو
قوله : { وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } لأنّ في الغزو إحدى الحسنيين : إمَّا الظفرُ والغنيمةُ ، وإِمَّا الشهادة والجنةُ { وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً } يعني القُعُود عن الغزو ، وهو شرٌّ لكم؛ لما فيه من فواتِ الغنيمة ، والأَجرِ ، ومخالفةِ أَمر اللَّهِ تعالى .
قال القُرطبي : قِيْلَ « عَسَى » بمعنى « قَدْ » وقال الأَصمُّ : و « عَسَى » مِنَ اللَّهِ واجبةٌ في جميع القرآن إِلاَّ قولُه تعالى : { عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً } [ التحريم : 5 ]
وقال أبو عبيدة : عَسَى من اللَّهِ إيجابٌ ، والمعنى : عسى أنْ تكرهُوا ما في الجهادِ من المشقَّةِ؛ وهو خيرٌ لكم ، من أَنَّكُمْ تغلبون ، وتظفرون وتغنمون ، وتُؤجرون ، ومَنْ مات ، مات شهيداً . و « الشَّرُّ » هو السُّوء أصله : من شَرَرْتُ الشيء إذا بسطتهُ يقال : شَرَرْتُ اللحم ، والثوب : إذا بسطته ، ليجف؛ ومنه قوله : [ الوافر ]
1053 - وَحَتَّى أُشُرَّتْ بِالأَكُفِّ المَصَاحِفُ ... والشَّررُ : هو اللَّهب لانبساطه . فعلى هذا « الشَّرُّ » انبساطُ الاشياء الضارةِ ، وقوله { والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } فالمقصود الترغيبُ العظيمُ في الجهادِ ، وكأنه تعالى قال يا أيها العبد ، اعلمْ أَنَّ علمي أكملُ من علمك ، فكُنْ مشتغلاً بطاعتي ، ولا تلتفتْ إلى مُقتضى طبعك ، فهي كقوله في جواب الملائكة : { إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 30 ] .
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) قرأ الجمهور : « قِتَالٍ » بالجّرِّ ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه خفضٌ على البدلش من « الشَّهْرِ » بدلِ الاشتمالِ؛ إذ القتالُ واقعٌ ف يه ، فهو مشتملٌ عليه .
والثاني : أنه خفضٌ على التَّكرير ، قال أبو البقاء : « يريدُ أنَّ التقديرَ : عَنْ قِتَالٍ فيه » . وهو معنى قول الفراء إِلاَّ أَنَّهُ قال : هُوَ مَخْفُوضٌ ب « عَنْ » مُضْمرَةً . وهذا ضعيفٌ جدّاً؛ لأنَّ حرف الجرَّ لا يبقى عملهُ بعد حذفه في الاختيار . وهذا لا ينبغي أن يُعَدَّ خلافاً بين البصريين ، والكسائي ، والفراءِ؛ لأنَّ البدل عند جمهور البصريين على نيَّة تكرار العامل ، وهذا هو بعينه قولُ الكسائي .
وقوله : لأنَّ حرف الجرِّ لا يبقى عمله بعد حذفه إِنْ أراد في غير البدل ، فمُسَلَّمٌ ، وإن أراد في البدلِ ، فممنوعٌ ، وهذا هو الذي عناه الكسائي .
الثالث : قال أبو عبيدة : « إِنه خفضٌ على الجِوَارِ » .
قال أبو البقاء : « وهو أَبْعَدُ مِنْ قولهما - يعني الكسائيَّ والفراء - لأنَّ الجوار من مواضع الضَّرورة أو الشذوذِ ، فلا يُحْمَلُ عليه ما وجدت عنه مَندُوحةٌ » وقال ابن عطية : « هُوَ خَطَأٌ » . قال أبو حيَّان إن كان أبو عبيدة عَنَى بالجوار المصطلح عليه فهو خَطَأٌ . وجهةث الخطأِ أنَّ الخفض على الجوار عبارةٌ عن أَنْ يكون الشيءُ تابعاً لمرفوع ، أو منصوب ، من حيثُ اللفظُ والمعنى ، فيُعدل به عن تَبَعيَّته لمتبوعه لفظاً ، ويُخْفَضَ لمجاورته لمخفوض؛ كقولهم : « هذا حُجْرُ ضَبِّ خَرِبٍ » ، وكان مِنْ حقِّه الرفع؛ لأنه مِنْ صفاتِ الجُحْر ، لا من صفاتِ الضبِّ ، ولهذه المسألةِ مزيدُ بيانٍ يأتي في موضعه إِنْ شاءس اللهُ تعالى ، و « قِتَالٍ » هنا ليس تابعاً لمرفوعٍ ، أو منصوبٍ ، وجاوز مَخفوضاً فخُفِض .
وإن كان عنى أنه تابعٌ لمخفوضٍ فخفضُه بكونه جاور مخفوضاً ، أي : فصار تابعاً له ، لم يكنْ خطأً ، إِلاَّ أنه أغمضَ في عبارته؛ فالتبس بالمصطلح عليه .
وقرأ ابن عباس والأَعمش : « عَنْ قِتَالٍ » بإظهارِ « عَنْ » وهي في مُصْحَف عبد الله كذلك . وقرأ عكرمة : « قتْلٍ فِيهِ ، قُلْ قَتْلٌ فِيهِ » بغير ألف .
وقُرئ شاذّاً : « قِتَالٌ فيه » بالرفع وفيه وجهان :
أحدهما : أنه مبتدأٌ ، والجارُّ والمجرورُ بعده خبرٌ ، وسَوَّغ الابتداءُ به وهو نكرةٌ؛ أنه على نيةِ همزةِ الاستفهام ، تقديره : أَقِتَالٌ فيه .
والثاني : أنه مرفوعٌ باسم فاعلٍ تقديرُه : أجائزٌ قتالٌ فيه ، فهو فاعلٌ به . وعَبَّر أبو البقاء في هذا الوجه بأن يكونَ خبرَ محذوفٍ ، فجاءَ رفعُه من ثلاثةِ أوجهٍ : إِمَّا مبتدأٌ ، وإِمَّا فاعلٌ ، وإمَّا خبرُ مبتدأ . قالوا : ويظهرُ هذا مِنْ حَيثُ إِنَّ سؤالهم لم يكن عن كينونةِ القتالِ في الشهرِ أم لا ، وإنَّما كان سؤالهم : هل يجوزُ القتالُ فيه أم لا؟ وعلى كِلا هذين الوجهين ، فهذه الجملةُ المُستفهمُ عنها في محلِّ جرٍّ؛ بدلاً من الشهرِ الحرامِ ، لأنَّ « سَأَلَ » قد أخذ مفعوليه فلا تكونُ هي المفعول ، وإن كانت محَطَّ السؤال .
وقوله : « فِيهِ » على قراءةِ خفضِ « قِتَالٍ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه في محلِّ خفضٍ؛ لأنه صفةٌ ل « قِتَالٍ » .
والثاني : أنه في محلِّ نصبٍ؛ لتعلُّقه بقتال ، لكونه مصدراً .
وقال أبو البقاء : كما يتعلَّقُ ب « قِتَالٍ » ولا حاجة إلى هذا التشبيهِ ، فإنَّ المصدر عاملٌ بالحَمْلِ على الفعل .
فصل
والضميرُ في « يَسْأَلُونك » قيل للمؤمنين لما يأتي في سبب النزول ، ولأن أكثر الحاضرين عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانُوا مسلمين ، فما قبل هذه الآية { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة } [ البقرة : 214 ] { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 215 ] حكاية عن المؤمنين ، وما بعدها كذلك وهو قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر } [ البقرة : 219 ] ، { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى } [ البقرة : 220 ] فوجب أن تكون هذه كذلك .
وروى سعيد بن جبير عن ابن عبَّاسٍ أنه قال : ما رأيتُ قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما سألوه إلاَّ عن ثلاث عشرة مسألةً حتى قُبض ، كلهن في القُرآنِ ، ومنه { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } ولكن الصدّ عن سبيل اللهِ ، وعن المسجدِ الحرام ، والكُفرِ به ، أكبرُ من هذا القتالِ . { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ } فبيَّن تعالى أَنَّ غرضهم من هذا السؤال ، أَنْ يقاتِلُوا المسلمين ، ثم أنزل الله تعالى : { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 194 ] فصرَّح في هذه الآية بأن القتال على سبيل الدفع جائزٌ والألف واللامُ في « الشَّهْرِ الحرام » قيل : للعهد ، وهو رجبٌ ، وقيل : للجنسِ ، فيعمُّ جميع الأشهرِ الُحُرُمِ .
قوله : « قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ » جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ ، محلُّها النصبُ بقُلْ والمعنى : القتال في الشهر الحرام وجازَ الابتداءُ بالنكرةِ لأحدِ وجهينِ :
إمَّا الوصفُ ، إذا جعلنا قوله : « فيه » صفةً له .
وإمَّ التخصيصُ بالعمل ، إذا جعلناه متعلقاً بقتال ، كما تقدَّم في نظيره .
فإِنْ قيل : قد تقدَّم لفظُ نكرة ، وأُعيدت من غير دخول ألفٍ ولام عليها ، وكان حقُّها ذلك ، كقوله تعالى : { كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول } [ المزمل : 15-16 ] لإِنَّه لو لم يكن كذلك ، كان المذكور الثاني غير الأول ، وهذا غيرث واضحٍ؛ لإِنَّ الألف كقوله : { فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } [ الشرح : 5-6 ] .
فقال أبو البقاء : « ليسَ المرادُ تعظيم القتالِ المذكور المسؤولِ عنه ، حتى يُعادَ بالألف واللامِ ، بل المراد تعظيمُ أيِّ قتالٍ كان ، فعلى هذا » قِتَالٌ « الثاني غيرُ الأولِ ، وهذا غيرُ واضحٍ؛ لأنَّ الألف واللامَ في الاسمِ السَّابق المُعادِ أولاً لا تفيدُ تعظيماً ، بل إنما تفيدُ العهدَ في الاسمِ السابقِ .
وأَحسنُ منه قولُ بعضهم : إنَّ الثَّاني غير الأولِ ، وذلك أنَّ سؤالهم عن قتالِ عبد الله جحش ، وكان لنُصرة الإِسلامِ وخُذلان الكفرِ؛ فليس من الكبائرِ ، بل الذي من الكبائرِ قتالٌ غير هذا ، وهو ما كانَ فيه إذلالُ الإِسلامِ ، ونصرةُ الكُفْرِ ، فاختير التنكير في هذين اللفظين؛ لهذه الدقيقة ، ولو جِيءَ بهما معرفتين ، أو بأحدهما مُعرَّفاً ، لَبَطَلَتْ هذه الفائدةُ .
فصل
روى أكثرُ المفسرين عن ابن عباسٍ : سبب نزولِ هذه الآية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث عبدالله بن جحش الأَسديّ ، وهو ابن عمَّته قبل قتال بدرٍ بشهرين على رأس سبعة شهراً من الهجرة وبعث معه ثمانية رهطٍ ، من المهاجرين؛ سعد بن أبي وقَّاص الزهري وعُكاشة بن محصن الأسدي ، وعتبة بن غزوان السَّلَمي ، وأبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وسهيل ابن بيضاء ، وعامر بن ربيعة ، وواقد بن عبدالله الحنظليّ ، وخالد بن بُكَير ، وكتب معهم لأميرهم عبد الله بن جحش كتاباً وعهداً ، ودفعه إليه ، وقال : سِر على اسم الله ، ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين ، فإذا نزلتَ ، فافتح الكتاب واقرأه على أصحابك ، ثُمَّ امْضِ إلى ما أمرتُك ، ولا تستكرِهنَّ أَحَداً مِنْ أصحابك على السَّير معك ، فسار عبد الله يومين ، ثم نزل وفتح الكتاب ، وإذا فيه « بسم اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم » أمَّا بعد : فسر على بركة اللهِ بمنْ معك مِنْ أصحابك؛ حتَّى تنزل بطن نخلة ، فترصُد بها عير قريش؛ لعلك تأتينا منهم بخبرٍ ، فلمَّا نظر في الكتاب ، قال سَمْعاً وطاعة ، ثم قال لأَصحابه ذلك ، وقال : إنَّهُ نَهَاني أَن أَستكره أحداً منكم؛ فمن كان يريد الشهادة ، فلينطلق معي ، ومنْ كرِه ، فليَرْجِع ، ثم مَضَى ، ومَضَى معه أصحابه ، لم يتخلّف عنه منهم أحدٌ ، حتى كان بمعدن فوق الفُرع يقال له نجران ، أضلَّ سعد بن أبي وقَّاصٍ ، وعتبة بن غزوان بعيراً لهما ، كانا يعتقبانه؛ فتخلفا عليه في طلبه ومضى ببقيةِ أصحابِه ، حتى نزل « ببطنِ نَخْلَةَ » بين « مَكَّةَ » و « الطائف » فبينما هم كذلك ، مرت عيرُ لقريشٍ تحملُ زبيباً ، وأدماً ، وتجارة مِنْ تجارات الطائف فيهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان ، وعثمان بن عبدالله بن المغيرة ، ونوفلُ بن عبدالله المخزوميَّان ، فلما رأوْا أصحاب رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - هابوهم ، فقال عبدالله بن جحش إنَّ القومَ قد ذُعِروا منكم ، فاحلققُوا رأس رجُلٍ منكم؛ وليتعرض لهم ، فحلقُوا رأس عُكَاشة ، ثم أَشرفوا عليهم؛ فقالوا : قومٌ عمَّارٌ ، لا بأس عليكم فأمنوهم وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة . فكانوا يرون أنَّه من جمادى ، وهو مِنْ رجبٍ فتشاور القومُ ، وقالوا : لئن تركتموهم الليلة؛ ليدخُلنَّ الحرمَ ، فليمنعُنّ به منكم ، فأجمعوا أمرهم في مواقفة القومِ ، فَرَمَى وقادُ بن عبدالله السَّهمي عمرو بن الحضرميّ بسهمٍ ، فقتله ، فكان أوَّلَ قتيلٍ من المشركين ، واستأْسَرَ الحكم وعثمان ، فكانا أَوَّلَ أَسيرين في الإسلام ، وأفلت نوفلٌ فأعجزهم ، واستاقَ المؤمنين العير والأَسيرين ، حتَّى قَدِمُوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينةِ ، فقالت قريشٌ : لقد استَحَلَّ محمدٌ الشهرَ الحرامَ؛ فسفك فيه الدِّماءَ ، وأخذ الأموال فما شَهْر يأْمَنُ فيه الخَائِنُ ، وغير ذلك ، فقال أهلُ « مكَّةَ » مَنْ كان بها من المسلمين وقالوا : يا معشرَ الصَّبَأة ، استحللتُم الشهر الحرام ، وقاتلتم فيه ، فقال عبدالله بن جحش : يا رسول اللهِ : إنَّا قتلنا ابن الحضرمين ، ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري : أفي رجبٍ أصبناه ، أم في جمادى .
فوقَّف رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - العير ، والأسَارى؛ وأبى أن يأخُذ شيئاً من ذلك ، فعظم ذلك على أصحاب السريَّة ، وظنُّوا أن قد هلكُوا ، وسُقِط في أيديهم ، وأكثر الناس في ذلك ، فأنزل اللهُ هذه الآية ، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العير ، فعزل منه الخمس ، فكان أولَ خُمُسٍ في الإسلام ، وقسَّمَ الباقي بين أصحاب السَّريَّةِ ، وكان أول غنيمةٍ في الإسلام وبعث أهل مكة في فداء أسيرهما فقال : بل نبقيهما حتَّى يقدم سعدٌ وعتبة ، وإنْ لم يَقْدُمَا ، قتلناهُما بهما ، فلمَّا قدما؛ فاداهما ، فأمَّا الحكم بن كيسان ، فأسلَمَ ، وأقام مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينةِ ، فقُتِل يوم بئر معونة شهيداً ، وأَمَّا عثمان بن عبدالله ، فرجع إلى مكة؛ فمات بها كافِراً ، وأَمَّا نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزابِ؛ ليدخل الخندقَ ، فوقع في الخندقِ مع فرسه فتحطّما جميعاً فقتله اللهُ ، فطلب المشركون جيفتهُ بالثمن؛ فقال رسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خذوه فإِنَّهُ خبيثُ الجيفةِ ، خبيثُ الدِّيَةِ .
فصل
اتفق الجمهورُ : على أَنَّ هذه الآية تدلُّ على حُرمَةِ القتال في الشهر الحرام ، ثُمَّ اختلفُوا : هل ذلك الحكمُ باقٍ أو نُسِخ؟
فقال ابن جريج : حلف لي عَطَاءٌ باللهِ أَنَّهُ لا يحلُّ للناس الغزو في الحرم ، ولا في الشَّهرِ الحرامِ ، إِلاَّ على سبيل الدَّفع وروى جابر قال : لم يكن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يغزو في الشهر الحرام إِلاَّ أن يُغْزَى .
وسُئِلَ سعيد بن المسيب : هل يجوزُ للمسلمين أن يقاتلوا الكُفَّار في الشهر الحرام؟ قال : نعم .
قال أبو عبيد : والناس بالثغُور اليومَ جميعاً يرون الغزو على هذا القول مُبَاحاً في الشهور كُلِّها ولم أر أحداً من علماء « الشام » ، و « العراق » ينكرُه عليهم ، وكذلك أحسب قول أهْلِ الحجاز .
وحجته قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] وهذا ناسخةٌ لتحريم القتال في الشهور الحرام .
قال ابن الخطيب : والذي عندي أن قوله تعالى : { قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } نكرة في سياق الإِثبات ، فيتناول فرداً واحداً ، ولا يتناول كُلَّ الأَفراد فهذه الآية لا دلالة فيها على تحريم القتال مُطلقاً في الشهر الحرام ، ولا حاجة إلى النسخ فيه .
قوله : « وَصَدٌّ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه مبتدأ وما بعده عطفٌ عليه ، و « أكبرُ » خبرُ عن الجميع ، قاله الزَّجَّاج ، ويكون المعنى أَنَّ القتال الذي سألتُم عنه ، وإن كان كبيراً ، إلاَّ أن هذه الأشياء أكبرُ منه فإذا لم تمتنعوا عنها في الشهر الحرام فكيف تعيبون عبد الله بن جحش على ذلك القتال مع أنَّ عذره ظاهرٌ؛ لأَنَّهُ كان يجوزُ أَنْ يكون ذلك القتل واقعاً في جمادى الآخرة ، ونظيره في المعنى قوله تعالى لبني إسرائيل { أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة : 44 ] وقوله : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ] .
وجاز الابتداءُ ب « صَدّ » لأحد ثلاثة أوجهٍ :
إِمَّا لتخصيصه بالوصفِ بقوله : « عَنْ سَبِيلِ الله » .
وإِمَّا لتعلُّقِه به .
وإمَّا لكونه معطوفاً والعطفُ من المسوِّغات .
والثاني : أنه عطفٌ على « كبيرٌ » أي : قتالٌ فيه كبيرٌ وصَدٌّ ، قاله الفراء .
قال ابن عطية : وهو خطأٌ؛ لأنَّ المعنى يسوقُ إلى أنَّ قوله : « وكفرٌ به » عطفٌ أيضاً على « كبيرٌ » ويجيءُ من ذلك أنَّ إخراج أهل المسجد منه أكبرُ من الكفرِ ، وهو بَيِّنٌ فسادُه .
وهذا الذي رَدَّ به قول الفراء ، غير لازم له؛ إذ له أَنْ يقولَ : إِنَّ قولَه « وكفرٌ به » مُبْتَدَأٌ ، وما بعده عَطْفٌ عليه ، و « أكبرُ » خبرٌ عنهما ، أي : مجموعُ الأَمرين أكبرُ من القتال والصدِّ ، ولا يلزَمُ من ذلك أن يكونَ إخراجُ أهلِ المسجدِ أكبرَ من الكفر ، بل يلزمُ منه أنه أكبرُ من القتالِ في الشهرِ الحرامِ .
وهو مصدرٌ حُذِفَ فاعلُه ومفعوله؛ إذ التقدير : وصَدُّكم - يا كفارُ - المسلمين عن سبيلِ الله وهو الإِسلامُ .
و « كفرٌ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه عطفٌ [ على « صَدّ » على قولنا بأن « صَدًّا » مُبتدأ لا على ] قولنا : بأنه خبرٌ ثانٍ عن « قِتالٍ » ، لأنه يلزَمُ منه أن يكون القتالُ في الشهرِ الحرامِ كُفْراً ، وليس كذلك ، إِلاَّ أَنْ يرادَ بقتال الثاني ما فيه هَدمُ الإِسلامِ ، وتقويةث الكفرِ؛ كما تقَدَّم ذلك عن بعضهم ، فيكونُ كفراً ، فيصِحُّ عطفه عليه مُطلقاً ، وهو أيضاً مصدرٌ لكنه لازمٌ ، فيكونُ قد حُذِفَ فاعلُه فقط ، أي : وكُفْرُكم .
والثاني : أن يكون مبتدأٌ ، كما يأتي تفصيلُ القولِ فيه . والضميرُ في « به » فيه وجهان :
أحدهما : أنه يعودُ على « سبيل » لأنه المحدَّثُ عنه .
والثاني : أنه يعودُ على اللهِ ، والأولُ أظهرُ . و « به » فيه وجهان ، أعني كونه صفةً لكفر ، أو متعلقاً به ، كما تقدَّم في « فيه » .
قوله : « والمسجدِ » مجروراً ، وقرئ شاذاً مرفوعاً . فأمَّا جرُّه فاختلف فيه النحويون على أربعةِ أوجهٍ .
أحدها : وهو قولُ المبرد وتبعه الزمخشري - وقال ابن عطية « وهو الصحيح » - أنه عطفٌ على « سبيلِ الله » أَي : وصَدٌّ عن سبيلِ الله وعن المسجدِ .
وَرُدَّ هذا بأنَّه يؤدِّي إلى الفصل بين أبعاض الصِّلةِ بأجنبيّ تقريرُه أنَّ « صَدّاً » مصدرٌ مقدَّرٌ بأَنْ ، والفعل ، و « أَنْ » موصولة ، وقد جَعَلْتُم « وَالْمَسْجِدِ » عطفاً على « سَبِيلِ » ، فهو من تمام صلته ، وفُصِل بينهما بأجنبيّ ، وهو « وَكُفْرٌ بِهِ » . ومعنى كونه أجنبياً أنَّهُ لا تعلُّق له بالصِّلةِ . فإنْ قيل : يُتَوَسَّعُ في الظَّرفِ وحرفِ الجّرّ ما لم يتوسع في غيرهما .
قيل : إنَّمَا قيل بذلك في التَّقديم ، لا في الفَصْل .
الثاني : أَنَّه عطفٌ على الهاءِ في « بِهِ » ، أي : وكفرٌ به ، وبالمسجد ، وهذا يتخرَّجُ على قولِ الكُوفيّين . وأمَّا البصريُّون؛ فيشترطُون في العطفِ على الضَّمير المجرور إعادة الخافض إِلاَّ في ضرورة ، فهذا التَّخريجُ عندهم فاسِدٌ ولا بدَّ من التّعرُّض لهذه المسألة ، وما هو الصَّحيحُ فيها؟ فنقول وبالله التوفيق : اختلف النُّحاةُ في العطفِ على الضَّمير المجرورِ على ثلاثةِ مذاهب :
أحدها - وهو مذهبُ البصريِّين- : وجوبُ إعادة الجارِّ إِلاَّ في ضرورةٍ .
الثاني : أَنَّهُ يجوزُ ذلك في السَّعَةِ مُطْلِقاً ، وهو مذهبُ الكُوفيين ، وتبعهم أبو الحسن ويونس والشَّلوبين .
والثالث : التَّفصيلُ ، وهو إِنْ أُكِّد الضَّميرُ؛ جاز العطفُ من غير إعادةِ الخافض نحو : « مَرَرْتُ بِكَ نفسِك ، وزيدٍ » ، وَإِلاّ فلا يجوز إلا ضرورةً ، وهو قول الجَرميّ ، والَّذي ينبغي جوازه مُطلقاً لكثرةِ السَّماع الوارد به ، وضعفِ دليل المانعين واعتضاده بالقياس .
أَمَّا السَّماعُ : ففي النَّثْرِ كقولهم : « مَا فِيهَا غَيْرُه ، وفرسِهِ » بجرِّ « فَرَسِهِ » عطفاً على الهاءِ في « غَيْره » . وقوله : { تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام } [ النساء : 1 ] في قراءة جماعةٍ كثيرة ، منهم حمزةُ كما سيأتي إن شاءَ اللهُ ، ولولا أَنَّ هؤلاء القرَّاء ، رووا هذه اللغة ، لكان مقبولاً بالاتِّفاق ، فإذا قرءُوا بها في كتاب اللهِ تعالى كان أَولَى بالقبُول .
ومنه : { وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ } [ الحجر : 20 ] ف « مَنْ » عطف على « لَكْم » في قوله تعالى : { لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ } [ الحجر : 20 ] . وقوله : { وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ } [ النساء : 127 ] عطف على : « فيهنّ » ، وفيما يُتلى عَلَيْكُم . أما النَّظم فكثيرٌ جدّاً ، فمنه قولُ العبَّاس بن مرداس : [ الوافر ]
1054- أَكُرُّ عَلَى الكَتِيبَةِ لاَ أُبَالِي ... أَفِيهَا كَانَ حَتْفي أَمْ سِوَاهَا
فَ « سِوَاهَا » عطفٌ على « فِيهَا » ؛ وقولُ الآخر : [ الطويل ]
1055- تُعَلَّقُ فِي مِثْلِ السَّوَارِي سُيُوفُنَا ... ومَا بَيْنَهَا وَالأَرْضِ غَوْطٌ نَفَانِفُ
وقول الآخر : [ الكامل ]
1056- هَلاَّ سَأَلْتَ بِذِي الجَمَاجِمِ عَنْهُمُ ... وَأَبِي نُعَيْمٍ ذِي اللِّوَاءِ الْمُحْرِقِ
وقول الآخر : [ الطويل ]
1057- بِنَا أَبَداً لاَ غَيْرِنَا تُدْرَكُ المُنَى ... وتُكْشَفُ غَمَّاءُ الخُطُوبِ الفَوَادِحِ
وقول الآخر : [ البسيط ]
1058- لَوْ كَانَ لِي وَزُهَيْرٍ ثَالِثٌ وَرَدَتْ ... مِنَ الحِمَامِ عِدَانَا شَرَّ مَوْرودِ
وقال الآخر : [ الطويل ]
1059- إِذَا أَوْقَدُوا نَاراً لِحَرْبِ عَدُوِّهِمْ ... فَقَدْ خَابَ مَنْ يَصْلَى بِهَا وَسَعِيرِهَا
وقول الآخر : [ البسيط ]
1060- إِذَا بِنَا بَلْ أُنَيْسَانَ اتَّقَتْ فِئَةٌ ... ظَلَّتْ مُؤَمَّنَةٌ مِمَّنْ يُعَادِيهَا
وقول الآخر : [ الرجز ]
1061- آبَكَ أَيِّهْ بِيَ أَوْ مُصَدَّرِ ... مِنْ حُمُرِ الْجِلَّةِ جَأْبٍ حَشْوَرِ
وأنشد سيبويه : [ البسيط ]
1062- فَاليَوْم قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وَتشْتِمُنَا ... فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ والأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ
فكثرةُ ورودِ هذا ، وتصرُّفُهم في حروفِ العطفِ ، فجاءوا تارةً بالواو ، وأخرى ب « لا » ، وأخرى ب « أَمْ » ، وأخرى ب « بَلْ » دليلٌ على جوازِه ، وأمَّا ضعفُ الدَّليل : فهو أَنَّهم منعُوا ذلك؛ لأنَّ الضَّمير كالتَّنوين ، فكما لا يُعطف على التَّنوين لا يعطفُ عليه إلاَّ بإعادة الجارّ .
ووجه ضعفه أَنَّهُ كان بمقتضى هذه العِلَّةِ ألاَّ يُعْطَفَ على الضَّمير مطلقاً ، أعْنِي سواءٌ كان مرفوع الموضعِ ، أو منصوبه ، أو مجروره ، وسواءً أُعيدَ معه الخافِضُ ، أم لا كالتَّنوين .
وأَمَّا القياسُ ، فلأنه تابعٌ من التَّوابع الخمسة ، فكما يُؤكَّدُ الضَّميرُ المجرورث ، ويُبْدَلُ منه ، فكذلك يُعطفُ عليه .
الثالث : أَنْ يكون معطوفاً على { الشهر الحرام } ثم بعد هذا طريقان :
أحدهما : أنّ قوله : { قِتَالٌ فِيهِ } مبتدأ ، وقوله { كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ } خبر بعد خبر ، والتَّقدير : إن قتالاً فيه محكُوم عليه بأنه كبيرٌ ، وبأنه صدٌّ عن سبيل اللهِ ، وبأنَّهُ كُفرٌ بالله .
والطريق الثانِي : أَنْ يكون قوله : { قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } جملة مبتدأ وخبر وقوله : { وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله } ، فهو مرفوع بالابتداء . وكذا قوله { وكُفْرٌ بِهِ } والخبر محذوفٌ لدلالة ما تقدَّم عليه ، والتَّقدير : قل : قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيلِ اللهِ كبير وكُفرٌ به كبير ونظيره : زَيْدٌ منطلِقٌ وعمرو ، وتقديره : وعمرو منطلق . وطعن البصريُّون في هذا فقالوا : أَمَّا قولكم تقدير الآية : يسألونك عن قتالٍ في الشَّهر الحرام وفي المسجد الحرام؛ فهو ضعيف؛ لأَنَّ السُّؤال كان واقعاً عن القتال في الشَّهر الحرام ، لا عن القِتَال في المسجدِ الحرامِ ، وطعنوا في الوجه الأوَّل بأنَّه يقتضي أَنْ يكون القتال في الشَّهر الحرام كفراً بالله ، وهو خطأ بالإجماع .
الثاني : بأنَّه قال بعد ذلك { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ } أي : أكبر مِنْ كُلّ ما تقدَّم ، فيلزم أَنْ يكون إخراجُ أهل المسجد الحرام أكبر عند اللهِ من الكُفر ، وهو خطأٌ بالإجماع .
قال ابن الخطيب : وللفرَّاءِ أن يجيب عن الأَوَّل بأنَّهُ : من الذي أخبركم بأَنَّه ما وقع السُّؤالُ عن القتال في المسجد الحرام ، بل الظَّاهر أَنَّهُ وقع؛ لأَنَّ القوم كانُوا مستعظمين للقتال في الشَّهر الحرام في البلد الحرام ، وكان أحدهما كالآخر في القبح عند القوم ، فالظَّاهر أَنَّهم جمعوهما في السُّؤال ، وقولهم : على الوجه الأوَّل يلزم أَنْ يكون قتال في الشَّهر الحرام وكُفر ، فنحن نقول به لأَنَّ النَّكرة في سياق الإِثبات لا تفيد العموم .
وعندنا أَنَّ قتالاً واحداً في الشهر الحرام كُفرٌ .
وقولهم على الثَّاني : يلزم أَن يكون إخراجُ أهلِ المسجدِ منه أكبر من الكفر .
قلنا : المُراد أهل المسجد : وهم الرَّسُولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وأصحابه ، وإخراج الرَّسُول من المسجد على سبيل الإذلال لا شكّ أنه كُفرٌ ، وهو مع كونه كُفراً فهو ظُلْمٌ لأَنَّهُ إيذاء للإنسان مِنْ غير جرمِ سابقٍ ، ولا شكّ أن الشيء الَّذشي يكون ظُلماً وكُفراً أكبر ، وأقبح عند اللهِ ممَّا يكون كفراً ، وحده ، ولما ذكر أبو البقاء هذا القول - وهو أن يكون معطوفاً على الشَّهر الحرام - أي يسألُونك عن الشَّهرِ الحرامِ وعن المسجدِ الحرام .
قال أبو البقاء : وضعف هذا بأنَّ القومَ لم يسألوا عن المسجد الحرام إذ لم يشُكُّوا في تعظيمه ، وإنَّما سألوا عن القتال في الشَّهر الحرام .
والثاني : القتال في المسجد الحرام؛ لأَنَّهُم لم يَسْأَلوا عن ذات الشَّهر ولا عن ذات المسجد ، إِنما سألوا عن القتالِ فيهما؛ فأُجيبوا بأنَّ القتال في الشَّهر الحرامِ كبيرٌ ، وصَدٌّ عن سبيلِ الله تعالى ، فيكون [ قتال ] أَخْبر عنه بأنه كبيرٌ ، وبأنه صَدٌّ عن سبيل الله ، وأُجيبوا بأنَّ القتال في المسجد الحرامِ وإِخراجَ أهله أكبرُ من القتالِ فيه . وفي الجملةِ ، فعطفُه على الشَّهر الحَرام متكلَّفٌ جدّاً يبعُدُ عنه نظمُ القُرآنِ ، والتركِيبُ الفصيحُ .
الرابع : أَنْ يتعلَّق بفعلٍ محذوفٍ دَلَّ عليه المصدرُ تقديره : ويصُدُّون عن المسجد ، كما قال تعالى : { هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام } [ الفتح : 25 ] قاله أبو البقاء ، وجعله جيّداً ، وهذا غيرُ جيّد؛ لأنه يلزمُ منه حذفُ حرفِ الجَرّ وإبقاءُ عملهِ ، ولا يجوزُ ذلك إلا في صورٍ ليس هذا منها ، على خلافٍ في بعضها ، ونصَّ النَّحويُّون على أنَّه ضرورةٌ؛ كقوله : [ الطويل : ]
1063- إِذَا قِيلَ : أَيُّ النَّاسِ شَرُّ قَبِيلَةٍ ... أَشَارَتْ كُلَيْبٍ بِالأَكُفِّ الأَصَابِعُ
أي : إلى كُليبٍ فهذه أربعةُ أَوجه ، أجودها الثاني .
ونقل بعضهم أَنَّ الواو في المسجد هي واو القسم فيكون مجروراً .
وأمَّا رفعه فوجهُه أَنَّهُ عطفٌ على « وَكُفْرٌ » على حذف مُضافٍ تقديره « وَكُفْرٌ بالمَسْجِدِ » فحُذِفَت الباءُ ، وأُضِيفَ « كُفْرٌ » إلى المسجد ، ثمَّ حُذِفَ المضافُ وأُقيم المُضَافُ إليه مُقَامَهُ ، ولا يَخْفَى ما فيه من التَّكَلُّفِ .
فصل
وفي الصَّدِّ عن سبيل اللهِ وجوهٌ :
أحدها : أَنَّهُ صدٌّ عن الإِيمان باللهِ ورسوله .
وثانيها : صدُّ المسلمين عن الهجرة للرَّسُول عليه السَّلام .
وثالثها : صدُّ المسلمين عام الحُدَيبية عن العُمرَة .
ولقائل أن يقول : دلّت الرَّوايات على أَنَّ هذه الآية ، نزلت قبل غزوة بدرٍ باعثاً للرَّسُول مستحقّاً للعبادة قادراً على البعث ، وأما « المَسْجِد الحَرَامِ » فإِنْ عطفناه على الضَّمير في « بِهِ » ؛ كان المعنى : وكفر بالمسجد الحرام ومعنى الكفر بالمسجد الحرام هو منعُ النَّاسِ عن الصَّلاَةِ ، والطَّواف به ، فقد كفروا بما هو السَّبَبُ في فضيلته الَّتي بها يتميَّزُ سائر البقاع .
وإن عطفناه على « سَبِيلِ اللهِ » كان المعنى : وصدّ عن المسجد الحرام ، وذلك لأَنَّهم صَدُّوا الطَّائفين ، والعاكِفِين ، والرُّكَّعِ السُّجُود عن المَسْجِدِ الحَرَامِ .
قوله : { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ } عطفٌ على « كُفرٌ » ، أو « صَدٌّ » على حسب الخلافِ المتقدِّم ، وهو مصدرٌ حُذِف فاعله ، وأُضيفَ إلى مفعوله ، تقديرُه : « وَإِخْرَاجُكم أَهْلَهُ » .
والضَّميرُ في « أَهله » و « مِنْهُ » عائدٌ على المَسْجِد وقيل : الضَّمير في « مِنْهُ » عائِدٌ على سبيل الله ، والأَوَّل أظهرُ و « منه » متعلِّقٌ بالمصدر .
قوله : « أَكْبَرُ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه خبرٌ عن الثلاثة ، أعني : صَدّاً وكفراً ، وإخراجاً كما تقدَّم ، وفيه حينئذٍ احتمالان :
أحدهما : أن يكون خبراً عن المجموع ، والاحتمالُ الآخرُ أن يكونض خبراً عنها باعتبار كلِّ واحدٍ ، كما تقول : « زيدٌ وبكرٌ وعمرو أفضلُ من خالدٍ » ، أي : كلُّ واحِدٍ منهم على انفراده أفضلُ من خالدٍ . وهذا هو الظَّاهِرُ . وإِنّما أُفْرِدَ الخبر؛ لأنه أفضلُ من تقديرِه : أكبر من القتال في الشَّهر الحرامِ . وإنَّما حُذِفَ لدلالةِ المعنى .
الثاني من الوجهين في « أَكْبر » : أن يكونَ خبراً عن الأَخير ، ويكونُ خبر « وَصَدّ » و « كُفْر » محذوفاً لدلالة خبر الثَّالث عليه تقديره : وصدّ وكُفر أكبر . قال أبو البقاء في هذا الوجه : ويجب أَنْ يكون المحذوفُ على هذا أَكْبَر لا « كبير » كما قدَّره بعضهم؛ لأَنَّ ذلك يوجب أن يكُون إخراج أهل المسجد منه أكبرَ من الكُفر ، وليس كذلك . وفيما قاله أبو البقاء نظر؛ لأَنَّ هذا القائل يقولُ : حُذِف خبر « وَصَدّ » و « كُفْر » لدلالة خبر « قِتَالٍ » عليه ، أي : القتالُ في الشَّهرِ الحرام كبيرٌ ، والصَّدّ والكفر كبيران أيضاً ، وإخراجُ أهل المسجد أكبرُ من القتالِ في الشَّهْرِ الحرام . ولا يلزمُ من ذلك أَن يكون أكبرَ من مجموعِ ما تقدَّم حتّى يلزمَ ما قاله من المحذور .
و « عِنْدَ اللهِ » متعلِّق ب « أَكْبر » ، والعِنْديةُ هنا مَجَازٌ لِما عُرف .
فصل في المراد بهذا الإخراج
والمرد بهذا الإخراج أنَّهم أخرجوا المسلمين من المسجد ، بل من مكة وإنما جعلهم أهلاً له؛ لأنَّهم القائمون بحقوق البيت كقوله تعالى : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى وكانوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } [ الفتح : 26 ] وقال تعالى : { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام وَمَا كانوا أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ المتقون } [ الأنفال : 34 ] فأخبر تعالى : أنَّ المشركين خرجوا بشركهم عن أن يكونوا أولياء المسجد ثم إنه تعالى ذكر هذه الأشياء ، وحكم عليها بأنها أكبر ، أي : كلُّ واحد منها أكبر من قتال في الشَّهر الحرام ، وهذا تفريعٌ على قول الزَّجَّاج؛ لأن كلّ واحدٍ من هذه الأشياء أكبر من قتالٍ في الشهر الحرام ، فالكفر أعظم من القتل ، أو نقول : كلّ واحدٍ من هذه الأشياء أكبر من قتال في الشَّهر الحرام ، وهو القتال الَّذي صدر عن عبدالله بن جحش؛ لأنه ما كان قاطعاً بوقوع ذلك القتال في الشَّهر الحرام ، وهؤلاء الكفَّار قاطعون بوقوع هذه الأشياء منهم في الشَّهر الحرام؛ فيلزم أن يكون وقوع هذه الأشياء أكبر حجماً .
قوله : { والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل } ذكروا في الفتنة قولين :
أحدهما - وعليه أكثر المفسِّرين - : أنَّها الكفر ، أي : الشّرك الَّذي أنتم عليه أكبر من قتل ابن الحضرميّ في الشَّهر الحرام .
قال ابن الخطيب : وهذا يستقيم على قول الفرَّاء ، وضعيف على قول الزَّجَّاج؛ لأنَّهُ قد تقدَّم ذكر ذلك ، فإنَّه تعالى قال : « وَكُفْر بِهِ أَكْبَرُ » فحمل الفتنة على الكفر يكون تكراراً .
والقول الثاني : أن الفتنة ما كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم تارة بإلقاء الشُّبهات في قلوبهم ، وتارةً بالتَّعذيب كفعلهم ببلال ، وعمَّار ، وصهيب .
قال : محمَّد بن إسحاق : لأن الفتنة عبارة عن الامتحان ، يقال : فتنت الذَّهب بالنَّار : إذا أدخلته فيها لتزيل غشَّه قال تعالى : { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } [ التغابن : 15 ] ، أي : امتحان؛ لأنَّهُ إذا ألزمه إنفاق المال في سبيل الله ، تفكّر في ولده؛ فصار ذلك مانعاً عن الإنفاق وقال تعالى : { الم أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 1-2 ] ، أي : لا يمتحنون في دينهم بأنواع البلاء ، وقال : { وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } [ طه : 40 ] وقال : { فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله } [ العنكبوت : 10 ] وقال : { إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات } [ البروج : 10 ] والمراد أنهم آذوهم ، وعذبوهم لبقائهم على دينهم . وقال : { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا } [ النساء : 101 ] ، وقال : { مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ } [ الصافات : 162 ] وقال : { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة } [ آل عمران : 7 ] أي : ابتغاء المحبَّة في الدِّين . وقال : { واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ } [ المائدة : 49 ] وقال : { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً } [ يونس : 85 ] والمعنى : أن يفتنوا بها عن دينهم ، فيتزين في أعينهم ما هم فيه من الكفر؛ وقال : { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ المفتون } [ القلم : 5-6 ] قيل : المفتون المجنون؛ لأنَّ المجنون والجنون فتنة إذ هو محنةٌ وعدولٌ عن سبيل العقلاء ، وإذا ثبت أنَّ الفتنة هي المحنة ، فالفتنة أكبر من القتل؛ لأنَّ الفتنة عن الدِّين تفضي إلى القتل الكبير في الدُّنيا وإلى استحقاق العذاب الدَّائم في الآخرة ، فصحَّ أنَّ الفتنة أكبر من القتل فضلاً عن ذلك القتل الَّذي وقع السُّؤال عنه ، وهو قتل ابن الحضرميّ .
روي أنَّه لما نزلت هذه الآية كتب عبدالله بن جحش إلى مؤمني مكَّة : إذا عيَّركم المشركون بالقتال في الشَّهر الحرام؛ فعيروهم بالكفر ، وإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتال من مكَّة ومنع المؤمنين عن البيت الحرام .
وصرح هنا بالمفضول في قوله : { والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل } ؛ لأنه لا دلالة عليه لو حذف بخلاف الذي قبله حيث حذف .
قوله : { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ } هذا فعل لا مصدر له ، قال الواحديّ : ما زال يفصل ولا يقال منه : فاعل ، ولا مفعول ، ومثاله في الأفعال كثير نحو « عَسَى » ليس له مصدرٌ ، ولا مضارع ، وكذلك ذو ، وما فتِىءَ ، وهلمّ ، وهاكَ وهات وتعال وتعالوا .
ومعنى { وَلاَ يَزَالُونَ } : نفي : فإذا دخلت عليه « مَا » كان ذلك نفياً للنَّفي ، فيكون دليلاً على الثُّبوت الدَّائم .
قوله تعالى : { حتى يَرُدُّوكُمْ } حتى حرف جرِّ ، ومعناها يحتمل وجهين :
أحدهما : الغاية .
والثاني : التَّعليل بمعنى كي ، والتَّعليل أحسن؛ لأن فيه ذكر الحامل لهم على الفعل ، والغاية ليس فيها ذلك ولذلك لم يذكر الزَّمخشريُّ غير كونها للتَّعليل قال : « وَحَتّى » معناها التَّعليل كقولك : « فُلاَنٌ يُعْبُدُ اللهَ ، حَتَّى يَدْخُلَ الجَنَّة » ، أي يُقَاتِلُونَكُم كي يردُّوكم « . ولم يذكر ابن عطيَّة غير كونها غاية قال : » وَ « يَرُدُّوكُم » نصب ب « حَتّى » ؛ لأنَّها غاية محرّدة . وظاهر قوله : « مَنْصُوبٌ بِحَتّى » أنه لا يضمر « أنْ » لكنَّه لا يريد ذلك ، وإن كان بعضهم يقول بذلك . والفعل بعدها منصوب بإضمار أن وجوباً .
و « يَزَالُونَ » مضارع زال النَّاقصة التي ترفع الاسم ، وتنصب الخبر ، ولا تعمل إلا بشرط أن يتقدَّمها نفيٌ ، أو نهي ، أو دعاء ، وقد يحذف النَّافي باطِّراد إذا كان الفعل مضارعاً في جواب قسم ، وإلاَّ فسماعاً ، وأحكامها في كتب النَّحو ، ووزنها فعل بكسر العين ، وهي من ذوات الياء بدليل ما حكى الكسائيُّ في مضارعها : يزيل ، وإن كان الأكثر يزال ، فأمَّا زال التَّامَّة ، فوزنها فعل بالفتح ، وهي من ذوات الواو لقولهم في مضارعها يزول ، ومعناها التَّحوُّل . و « عَنْ دِينكُمْ » متعلق ب « يردُّوكُم » وقوله : « إِن اسْتَطَاعُوا » شرط جوابه محذوف للدلالة عليه ، أي : إن استطاعوا ذلك ، فلا يزالوا يقاتلونكم ، ومن رأى جواز تقديم الجواب ، جعل « لاَ يَزَالُونَ » جواباً مقدّماً ، وقد تقدَّم الرَّدُّ عليه بأنَّه كان ينبغي أن تجب الفاء في قولهم : « أَنْ ظَالِمٌ إِن فَعَلْتَ » .
قوله : { وَمَن يَرْتَدِدْ } « مَنْ » شرطيّة في محلِّ رفع بالابتداء ، ولم يقرأ أحدٌ هنا بالإدغام ، وفي المائدة [ آية54 ] اختلفوا فيه ، فنؤخِّر الكلام على هذه المسألة إلى هناك إن شاء الله تعالى .
ويرْتَدِدث يَفْتَعِلُ من الرَّدِّ وهو الرُّجوع كقوله : { فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً } [ الكهف : 64 ] . قال أبو حيَّان : « وقد عَدَّها بعضُهم فيما يَتَعَدَّى إلى اثْنَيْنِ إذْ كانت عنده بمعنى صَيَّر ، وجَعَلَ من ذلك قوله : { فارتد بَصِيراً } [ يوسف : 96 ] أي : رجَع » وهذا منه سهوٌ؛ لأنَّ الخلاف إنَّما هو بالنِّسبة إلى كونها بمعنى صار ، أم لا ، ولذلك مثلوا بقوله : « فَارْتدَّ بَصِيراً » فمنهم من جعلها بمعنى : « صَارَ » ، ومنهم من جعل المنصوب بعدها حالاً ، وإلاّ فأين المفعولان هنا؟ وأمَّا الذي عدُّوه يتعدَّى لاثنين بمعنى : « صَيَّر » ، فهو ردَّ لا ارْتَدَّ ، فاشتبه عليه ردَّ ب « ارْتَدَّ » وصيَّر ب « صَارَ » .
وقال الواحديُّ : وأظهر التَّضعيف مع الجزم ، ولسكون الحرف الثاني ، وهو أكثر في اللُّغة من الإدغام .
و « منكم » متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنَّه حالٌ من الضَّمير المستكن في « يَرْتَدِدْ » و « من » للتَّبعيض ، تقديره : ومن يَرْتَدِدْ في حال كونه كائناً منكم ، أي : بعضكم . و « عَنْ دِينِهِ » متعلِّقٌ ب « يَرْتَدد » ، و « فَيَمُتْ » عطفٌ على الشَّرط ، والفاء مؤذنةٌ بالتَّعقيق .
{ وَهُوَ كَافِرٌ } جملةٌ حاليةٌ من ضمير : « يَمُتْ » ، وكأنَّها حالٌ مؤكِّدَةٌ؛ لأنَّها لو حذفت لفهم معناها ، لأنَّ ما قبلها يشعر بالتَّعقيب للارتداد ، وجيءَ بالحال هنا جملةً ، مبالغة في التأكيد من حيث تكرُّر الضَّمير بخلاف ما لو جيء بها اسماً مفرداً .
وقوله : { فأولاائك } جواب الشَّرط .
قال أبو البقاء : و « مَنْ » في موضع مبتدأ ، والخبر هو الجملة التي هي قوله : { فأولاائك حَبِطَتْ } ، وكان قد سلف له عند قوله : { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ } [ البقرة : 38 ] أن خبر اسم الشَّرط هو فعل الشَّرط لا جوابه ، وردَّ على من يدَّعي ذلك بما حكيته عنه ثمَّة ، ويبعد منه توهُّمُ كونها موصولةً لظهور الجزم في الفعل بعدها ، ومثله لا يقع في ذلك .
و « حَبِطَ » فيه لغتان : كسر العين وهي المشهورة وفتحها ، وبها قرأ أبو السَّمَّال في جميع القرآن ، ورويت عن الحسن أيضاً . والحبوط : أصله الفساد .
قال أهل اللُّغة : أصل الحبط أن تأكل الإبل شيئاً يضرّها ، فتعظم بطونها ، فتهلك . وفي الحديث : « وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطاً » ، وذلك أنَّ الإبل تأكل من المرعى إلى أن تنتفخ بطنها؛ فتمون البطن .
ومنه : « حَبِطَ بَطْنُه » ، أي : انتفخ ، ومنه « رَجلٌ حَبَنْطَى » ، أي : منتفخ البطن .
وحمل أوّلاً على لفظ « مَنْ » فأفرد في قوله : « يَرٍْتَدِدْ ، فيمت ، وهو كَافِرٌ » وعلى معناها ثانياً في قوله : « فَأُولَئِكَ » إلى آخره ، فجمع ، وقد تقدَّم أنَّ مثل هذا التَّركيب أحسن الاستعمالين : أعني الحمل أوّلاً على اللَّفظ ، ثمَّ على المعنى . وقوله « في الدُّنْيَا » متعلِّقٌ ب « حَبِطَتْ » .
وقوله : { وأولاائك أَصْحَابُ النار } إلى آخره تقدَّم إعراب نظيرتها . واختلفوا في هذه الجملة : هل هي استئنافيّةٌ ، أي : لمجرَّد الإخبار بأنَّهم أصحاب النَّار ، فلا تكون داخلةً في جزاء الشَّرط ، بل تكون معطوفةً على جملة الشَّرط ، أو هي معطوفة على الجواب؛ فيكون محلُّها الجزم؟ قولان ، رجِّح الأوَّل بالاستقلال وعدم التّقييد ، والثَّاني بأنَّ عطفها على الجزاء أقرب من عطفها على جملة الشَّرط ، والقرب مرجِّحٌ .
فصل فيمن خرج من كفر إلى كفر
قال القرطبيُّ : اختلفوا فيمن خرج من كفر إلى كفر؛ فقال جمهور الفقهاء : لا يتعرَّض له؛ لأنَّه انتقل ما لو كان عليه في الابتداء لأقر عليه وعن الشَّافعيّ : أنَّه يقتل؛ بقوله عليه السَّلام :
« مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ » وقال مالكٌ : معناه : من خرج من الإسلام إلى الكفر ، فأمَّا من خرج من كفر إلى كفر ، فلم يعنه الحديث .
فصل في اقتضاء الآية شرط الوفاة
ظاهر الآية يقتضي أنَّ الوفاة شرطٌ لثبوت الأحكام المذكورة . ويتفرَّع عليه بحثان : بحثٌ أصولي ، وبحثٌ فروعي . فالأصوليُّ : أنَّ جماعةً من المتكلِّمين قالوا : شرط صحَّة الإيمان والكفر حصول الوفاة ، فلا يكون الإيمان إيماناً ، إلاَّ إذا مات المؤمن ، ولا يكون الكفر كفراً ، إلاَّ إذا مات الكافر عليه .
وأما البحث الفروعيُّ : فهو أنَّ المسلم إذا صلَّى ، ثم ارتدّ ، ثمَّ أسلم في الوقت؛ قال الشافعيُّ : لا إعادة عليه .
وقال أبو حنيفة : يلزمه قضاء ما أدى وكذلك الحج ، حجة الشَّافعي قوله تعالى : { فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولاائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } شرطٌ في إحباط العمل أن يموت وهو كافرٌ ، وهذا الشَّخص لم يوجد في حقِّه هذا الشَّرط؛ فوجب ألاَّ يصير عمله محبطاً .
فإن قيل : هذا معارض بقوله تعالى : { وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 88 ] وقوله : { وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ } [ المائدة : 5 ] .
ولا يقال : حمل المطلق على المقيَّد واجبٌ؛ لأنَّا نقول : ليس هذا من باب المطلق والمقيَّد؛ فإنَّهم أجمعوا على أنَّ من علَّق حكماً بشرطين ، وعلقه بشرط ، أنَّ الحكم ينزل عند أيِّهما وجد كمن قال لعبده : أنت حرٌّ؛ إذا جاء يوم الخميس ، ولم يكن في ملكه ، ثم اشتراه ، ثم جاء يوم الخميس؛ عتق ولو كان باعه ، فجاء يوم الخميس وهو في ملكه عتق بالتعليق الأوَّل .
فصل في محل إحباط العمل
ليس المراد من إحباط العمل نفس العمل؛ لأنَّ العمل شيء كما وجد ، فَنِيَ وزَال ، وإعدم المعدوم محال . ثمَّ اختلف المتكلِّمون فيه؛ فقال المثبتون للإحباط والتَّكفير : المراد منه أنَّ عقاب الرِّدَّةِ الحادثة يزيل ثواب الإيمان السَّابق ، إمَّا بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي هاشم وجمهور المتأخرين من المعتزلة ، أو لا بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي علي .
وقال المنكرون للإِحباط : هذا المعنى المراد من الإحباط الوارد في كتاب الله ، هو أنَّ المرتدَّ إذا أتى بالرِّدَّة فتلك الرِّدة عمل محبط؛ لأنَّ الآتي بالرِّدَّة كان يمكنه أن يأتي بدلها بعمل يستحق به ثواباً ، فإذا لم يأت بذلك العمل الجيِّد ، وأى بدله بهذا العمل الرَّدِيءِ ، لا يستفيد منه نفعاً ، بل يستفيد منه أعظم المضارّ ، يقال : إنَّه حبط عمله ، أي : بعملٍ باطلٍ ، ليس فيه فائدة ، بل فيه مضرَّةٌ .
فصل في الإحباط في الدنيا
أمَّا إحباط الأعمال في الدُّنيا ، فهو أنَّه يقتل عند الظَّفر به ، ويقاتل إلى أن يظفر به ، ولا يستحقُّ من المؤمنين موالاةً ولا نصراً ، ولا ثناءً حسناً ، وتبين زوجته منه ، ولا يستحقُّ الميراث من المسلمين .
ويجوز أن يكون المعنى في إحباط أعمالهم في الدُّنيا ، هو أنَّ ما يريدونه بعد الرِّدَّة من الإضرار بالمسلمين ، ومكايدتهم بالانتقال عن دينهم يبطل كله ، فلا يحصلون منه على شيء لإعزاز الله الإسلام بأنصاره؛ فتكون الأعمال على هذا التَّأويل ما يعملونه بعد الرِّدَّة ، وأمَّا إحباط أعمالهم في الآخرة ، فعند القائلين بالإحباط معناه : إنَّ هذه الرَّدَّة تبطل استحقاقهم للثَّواب الذي استحقُّوه بأعمالهم السَّالفة . وعند المنكرين لذلك معناه : أنَّهم لا يستفيدون من تلك الرِّدَّة ثواباً ، ونفعاً في الآخرة ، بل يستفيدون منه أعظم المضارِّ ، ثمَّ بين كيفيَّة تلك المضرَّة فقال : { وأولاائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
فصل
قال القرطبيُّ : قالت طائفةٌ : يستتاب المرتدُّ؛ فإن تاب وإلاَّ قتل .
وقال بعضهم : يُسْتَتَابث ساعةً واحدةً .
وقال آخرون : يُسْتَتَابُ شهراً .
وقال آخرون : يُسْتَتَابُ ثلاثاً ، على ما روي عن عمر وعثمان ، وهو قول مالك في رواية ابن القاسم .
وقال الحسن : يُسْتَتَابث مائة مرَّةٍ ، وروي عنه أنَّه يقتل دون استتابةٍ ، وهو أحد قولي الشَّافعيّ .
واحتجّ من قال بأنّه يقتلُ ولا يستتاب ، بحديث معاذٍ ، وأبي موسى : أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لما بعث أبا موسى إلى اليمن أتبعه معاذ بن جبل ، فلمَّا قدم عليه قال : انزل ، وألقى له وسَادَةٌ ، وإذا رجُلٌ عنده موثقٌ ، قال : مَا هَذَا؟ قال : كَانَ يُهُودِياً ، فأسلم ، ثم راجع دينه ، فتهوَّد ، قال : لا أجلس حتّى يُقتل ، قضاء الله ورسوله ثلاث مرَّات ، وأمر به فقتل . أخرجه « مُسْلِمٌ » وغيره .
وقال مالك : يُقْتَلُ الزِّنْدِيقُ ، ولا يُسْتَتَابُ .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) قوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ } .
إنَّ واسمها و « أُولَئِكَ » مبتدأ ، و « يَرْجُونَ » خبره ، والجملة خبر « إِنَّ » ، وهو أحسنُ من كون « أُولَئشكَ » بدلاً من « الّذِين » ، و « يَرْجُون » خبر « إنَّ » . وجيء بهذ الأوصاف الثَّلاثة مترتِّبةٌ على حسب الواقع ، إذ الإيمان أولُ ، ثم المهاجرة ، ثم الجهاد .
وأفرد الإيمان بموصولٍ وحده؛ لأنَّه أصل الهجرة والجهاد ، وجمع الهجرة ، والجهاد في موصولٍ واحدٍ ، لأنَّهما فرعان عنه ، وأتى بخر « إنَّ » اسم إشارة؛ لأنَّه متضمِّنٌ للأوصاف السَّابقة . وتكرير الموصول بالنِّسبة إلى الصِّفات ، لا الذَّوات ، فإنَّ الذَّوات متَّحدةٌ موصوفةٌ بالأوصاف الثَّلاثة ، فهو من باب عطف بعض الصِّفات على بعض ، والموصوف واحد . ولا نقول : إنَّ تكرير الموصوف يدلُّ على تغير الذَّوات الموصوفة؛ لأنَّ الواقع كان كذلك . وأتى ب « يَرءجُونَ » ؛ ليدَّ على التَّجدُّد وأنهم في كلِّ وقتٍ يحدثون رجاءً .
والمهاجرة : مفاعلةٌ من الهجر ، وهي الانتقال من أرض إلى أرضٍ ، وأصل الهجر التّرك . والمجاهدة مفاعلةٌ من الجهد ، وهو استخراج الوسع وبذل المجهود ، والإجهاد : بذلُ المجهود في طلب المقصود ، والرَّجاء : الطمع .
وقال الرّاغب : هو ظنٌّ يقتضي حصول ما فيه مسرَّةٌ ، وقد يطلقُ على الخوف؛ وأنشد : [ الطويل ] :
1064- إذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ... وَخَالَفَهَا في بَيْتِ نُوبٍ عَوَاسِلِ
أي : لم يَخَفْ ، وقال تعالى : { لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } [ يونس : 7 ] أي : لا يخافون ، وهل إطلاقه عليه بطريق الحقيقة ، أو المجاز؟ فزعم قومٌ أنه حقيقةٌ ، ويكون من الاشتراك اللَّفظي ، وزعم قومٌ أنه من الأضداد ، فهو اشتراكٌ لفظيّ أيضاً . قال ابن عطيَّة : « ولَيْسَ هَذَا بِجيّدٍ » ، يعني : أنَّ الرَّجاء والخوف ليسا بضدَّين إذ يمكن اجتماعهما ، ولذلك قال الرَّاغِبُ بعد إنشاده البيت المتقدّم « ووجْهُ [ ذلك ] : أنَّ الرَّجَاءَ والخوفَ يَتَلاَزَمَانِ » ، وقال ابن عطيَّة : « والرَّجَاءُ أبداً معه خوفٌ ، كما أنَّ الخوف معه رَجَاءٌ » . وزعم قومٌ أنه مجازٌ للتلازم الّذي ذكرناه عن الرَّاغب وابن عطيَّة .
وأجاب الجاحظ عن البيت بأنَّ معناه لم يرج برء لسعها وزواله فالرَّجاء على بابه .
وأمَّا قوله : { لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } [ يونس : 7 ] أي لا يرجون ثواب لقائنا ، فالرَّجاء أيضاً على بابه ، قاله ابن عطيَّة .
وقال الأصمعيُّ : « إذا اقترن الرَّجَاء بحرفِ النَّفي ، كان بمعنى الخَوْفِ » كهذا البيت والآية .
وفيه نظرٌ إذ النَّفي لا يغيِّر مدلولات الألفاظ .
والرَّجاء مقصود ناحية البئر ، وحافَّاته من كل ناحيةٍ ، وجاؤوا بقوام من النَّاس يخطُّون في قولهم بأعظم الرَّجَاء ، فيقصرون ، ولا يمدُّون ، وكتبت « رَحْمَة » هنا بالتَّاء : إمَّا جرياً على لغة مَنْ يَقِفُ على تَاءِ التَّأْنِيث بالتَّاء ، وإما اعتباراً بحالها في الوصل ، وهي في القرآن في سبعة مواضع ، كتبتُ في الجميع تاءً ، هنا وفي الأعراف :
{ إِنَّ رَحْمَةَ الله } [ آية : 56 ] ، وفي هود : { رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ } [ آية : 73 ] ، وفي مريم : { ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ } [ آية : 2 ] ، وفي الرُّوم : { فانظر إلى آثَارِ رَحْمَةِ الله } [ آية : 50 ] ، وفي الزخرف : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ } [ آية : 32 ] .
فصل
في تعلّق هذه الآية بما قبلها ، وجهان :
الأول : أنَّ عبد الله بن جحش قال : يَا رَسُولَ الله ، هَبْ أنَّهُ لاَ عِقَابَ عَلَيْنَا فِيمَا فَعَلْنَا ، فَهَلْ نَطْمَعُ مِنْهَ أُجْراً ، وَثَوَاباً ، فَنَطمع أن يكون سفرُنا هذا غزواً؛ فأنزل الله هذه الآية؛ لأنَّ عبد الله كان مؤمناً ، ومهاجراً ، وسبب هذه المقاتلة ، كان مجاهداً .
الثاني : أنَّه تعالى أوجب الجهاد من قبل بقوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 216 ] وبين أن تركه سبب الوعيد أتبع ذلك بذكر من يقوم به فقال : { إِنَّ الذين آمَنُواْ } ولا يكاد يوجد وعيدٌ إلاَّ ويعقبه وعد .
فصل في المراد بالرجاء
وفي هذا الرجاء قولان :
الأوَّل : عبارة عن ظن المنافع التي يتوقعها وأراد تعالى هنا : أنَّهم يظنُّونَ في ثَوَابِ اللهِ؛ لأن عبد الله بن جحشٍ ما كان قاطعاً بالفوز والثَّواب في عمله ، بل كان يتوقَّعه ، ويرجوه .
فإن قيل : لم جعل الوعد مطلقاً بالرَّجاء ، ولم يقطع به ، كما في سائر الآيات؟
فالجواب من وجوهٍ .
أحدها : أنَّ الثَّوابَ على الإيمان ، والعمل غير واجبٍ عقلاً ، بل بحكم الوعد فلذلك علَّقه بالرَّجاء .
وثانيها : هب أنَّه واجبٌ عقلاً ، ولكنَّه تعلّق بأنه لا يكفر ، وهذا الشَّرط مشكوكٌ لا متيقِّن ، فلا جرم الرَّجاء ، لا القطع .
وثالثها : أنَّ المذكور ها هنا هو الإيمان ، والهجرة ، والجهاد ، ولا بدَّ للإنسان مع ذلك من سائر الأعمال ، وهو أن يرجو أن يوفقه الله لها ، كما وفَّقه لهذه الثَّلاثة ، فلا جرم علقه على الرَّجاء .
ورابعها : ليس المراد من الآية أنَّ الله تعالى شكَّك العبد في هذه المغفرة ، بل المراد وصفهم بأنَّهم يفارقون الدُّنيا مع الهجرة والجهاد ، ومستقصرين أنفسهم في حقّ الله تعالى يرون أنّهم يعبدونه حقّ عبادته ، ولم يقضوا ما يلزمهم في نصرة دينه ، فيقدمون على الله مع الخوف والرَّجاء ، كما قال : { والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } [ المؤمنون : 60 ] .
وأجاب القرطبيُّ عن هذا السُّؤال بوجهين آخرين :
الأول : أنَّ الإنسان لو بلغ في طاعة الله كلَّ مبلغٍ ، لا يدري بماذا يختم له .
الثاني : لئلاّ يتّكل على عمله .
القول الثاني : أنَّ المراد من الرَّجاء القطع في أصل الثَّواب ، والظَّن إنَّما دخل في كميّته وفي وقته ، وفيه وجوه تقدَّمت في قوله تعالى : { الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } [ البقرة : 46 ] .
وقوله : { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، أي : إنَّ الله تعالى يحقِّق لهم رجاءهم ، إذا ماتوا على الإيمان ، والعمل الصَّالح .
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) قوله : { عَنِ الخمر والميسر } لا بدّ فيه من حذف مضاف إذ السُّؤال عن ذاتي الخمر والميسر غير مرادٍ ، والتَّقدير : عن حكم الخمر والميسر .
الخمر : هو المعتصر من العِنَبِ إذا غلى ، وقذف بالزَّبد ، ويطلق على ما غلى ، وقذف بالزَّبد من غير ماء العنب مجازاً .
وفي تسميتها « خَمْراً » أربعة أقوال :
أشهرها : أنَّها سمِّيت بذلك؛ لأنها تخمر العقل ، أي : تستره ، ومنه : خمار المرأة لستره وجهها ، والخمر : ما واراك من شجر ، وغيره من وهدةٍ ، وأكمة ، والخامر هو الذي يكتم شهادته؛ [ و : خَامِري حضَاجِرُ ، أتاك ما تُحَاذِرُ « يُضْرَبُ للأحمق ، وحَضَاجِرُ : علمٌ للضبع ، أي : استتر عن النَّاس ، ودخل في خمار النَّاس ، وغمارهم ] .
قال : [ الوافر ]
1065- أَلاَ يَا زَيْدُ وَالضَّحَّاكَ سِيرا ... فَقَدْ جَاوَزْتُمَا خَمَرَ الطَّرِيقِ
أي : ما يستركما من شجرٍ وغيره ، وقال العجَّاج يصف مسير جيش طاهر بن أبان :
[ الرجز ]
1066-في لاَمِعِ العِقْبَانِ لاَ يَمْشِي الخَمَرْ ... والثاني : لأنَّها تغطَّى حتّى تدرك وتشتدَّ ، فهو من التَّغطية ومنه » خَمَّروا آنيتكم « .
والثالث : - قال ابن الأنباري من المخالطة - لأنَّها تخامر العقل ، أي : تخالطه ، يقال : خامره الدَّاء ، أي : خالطه .
وأنشد لكثير : [ الطويل ]
1067- هَنِيئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ ..
ويقال : خَامَرَ السّقام كبده . فهذه الاشتقاقات دالَّة على أن الخمر ما يكون ساتراً للعقل ، كما سمِّيت مسكراً؛ لأنَّها تسكر العقل أي : تحجزه .
والرابع : لأنَّها تترك حتى تدرك ، ومنه : » اخْتَمَرَ العَجِينُ « أي : بلغ إدراكه ، وخمر الرَّأي ، أي : تركه ، حتَّى ظهر له فيه وجه الصَّواب ، وهي أقوال متقاربةٌ . وعلى هذه الأقوال تكون الخمر في الأصل مصدراً مرارداً به اسم الفاعل واسم المفعول .
فصل
قال أبو حنيفة : الخمرُ : هو ما كان من عصير العنب وغيره .
حجّة أبي حنيفة : قوله تعالى : { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } [ النحل : 67 ] فمنَّ الله تعالى علينا باتخاذ السَّكر ، والرِّزق الحسن؛ فوجب أن يكون مباحاً؛ لأنَّ المنَّة لا تكون إلاَّ بالمباح .
وروى ابن عبَّاس أنَّه - عليه السَّلام - أتى السِّقاية عام حجَّة الوداع ، فاستند إليها وقال : اسقوني ، فقال العبَّاس : لنسقينَّك ممَّا ننبذُهُ في بيوتنا؟ فقال : » مِمّا يُسْقَى النَّاسُ « فجاءه بقدح من نبيذ؛ فشمَّه فقطب وجهه وردَّه ، فقال العبَّاس : يا رسول الله أفسدت على أهل مكَّة شرابهم . فقال : » رَدُّوا عَلَيَّ القَدَحَ « فردُّوه عليه؛ فدعا بماء زمزم؛ فصبّ عليه وشَرِبَ وقال : » إِذَا اغْتَلَمَتْ عَلَيْكُمْ هَذِهِ الأَشْرِبَة فَاقْطَعُوا نتنها بالمَاءِ « .
وجه الاستدلال به : أن التقطيب لا يكون إلاَّ من الشَّديد ، ولأن المزج بالماء كان لقطع الشدَّة بالنَّصِّ ، ولأنَّ اغتلام الشَّراب شدَّته ، كاغتلام البعير سكره .
وأيضاً وردت عند الصَّحابة فيه آثارٌ؛ روي أنَّ عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - كتب إلى بعض عماله أن أرزاق المسلمين من الطِّلاء ما ذهب ثلثاه ، وبقي ثلثه ، ورأى أبو عبيدة ، ومعاذٌ : شرب الطِّلاء على الثُّلث .
وحجَّة القائلين بأنَّ الخمر من عصير العنب وغيره ما روى أبو داود عن عمر - رضي الله عنه - قال : « نَزَلَ تحريمُ الخَمْرِ يَوْمَ نَزَلَ وهي من خمسة من العِنَبِ ، والتَّمْرِ ، والحِنْطَةِ ، والشَّعِيرِ ، والذُّرَةِ » .
والخمر ما خامر العقل .
وفي « الصَّحيحين » عن عمر أنَّه قال على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا إنّ الخرم قد حرِّمت ، وهي من خمسة : من العنب ، والتَّمر ، والعسل ، والحنطة ، والشعير والخمر ما خامر العقل . وروى أبو داود عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ » وفي « الصَّحِيحَيْنِ » أنه عليه السَّلام سُئِلَ عن البِتع ، فقال : « كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ ، فَهُوَ حَرَامٌ » والبِتع شراب يتخذ من العسل .
قال الخطابيُّ : والدَّلالة من وجهين :
أحدهما : أنَّ الآية لما دلَّت على تحريم الخمر ، وكان مسمَّى الخمر مجهولاً من القوم ، حسن من الشَّارع أن يقال : مراد الله تعالى من هذه اللَّفظة هذا ، ويكون على سبيل إحداث لغةٍ ، كما في الصَّلاة والصَّومِ وغيرهما .
والوجه الآخر : أن يكون معناه : أنَّه كالخمر في الحرمة؛ لأن قوله هذا خمر ، فإن كان حقيقةً؛ فحصل المدّعي ، وإن كان مجازاً؛ فيكون حكمه كحكمه؛ لأنَّا بيَّنا أنَّ الشَّارع ليس مقصوده تعليم اللُّغات على تعليم الأحكام ، وحديث البتع يبطل كلَّ تأويلٍ ذكره أصحاب تحليل الأنبذة ، وإفساد قول من قال : إنَّ القليل من المسكر من الأنبذة مباحٌ؛ لأنَّه - عليه السَّلام - سُئِلَ عن نوع واحدٍ من الأنبذة ، وأجاب بتحريم الجنس ، فدخل فيه القليل والكثير ، ولو كان ثمَّ تفصيلٌ في شيءٍ من أنواعه ومقاديره لذكره ولم يهمله ، وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ » ، وقال : « مَا أَسْكَرَ الفرق منه فتمسك الكف منه حرام » .
قال الخطابي : « الفَرقُ » : مِكْيَالٌ يَسَعُ ستَّة عشَرَ رطلاً وروى أبو داود عن أُمِّ سلمة قالت : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلِّ مسكرٍ ومفترٍ .
قال الخطَّابيُّ : « المفترُ » كلّ شرابٍ يورث الفتور ، والخدر في الأعضاء .
واستدلُّوا أيضاً بالاشتقاق المتقدّم وأيضاً بقوله تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة } [ المائدة : 91 ] .
وهذه العلَّة موجودة في الأنبذة؛ لأنَّها مظنّته .
وأيضاً فإنّ عمر ، ومعاذ قالا : يا رسول الله ، إنَّ الخمر مسلبةٌ للعقل مذهبة للمال؛ وهذه العلَّة موجودة في الأنبذة .
والجواب عن دلائل أبي حنيفة : أنَّ قوله { تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً } [ النحل : 67 ] نكرة في سياق الإثبات ، فلم قلتم إنّ ذلك السُّكر هو هذا النَّبيذ .
ثمَّ أجمع المفسِّرون على أنَّ هذه الآية قبل الآيات الدَّالَّة على تحريم الخمر ، فتكون ناسخةً ، أو مخصّصة .
وأمَّا حديث النَّبيذ فلعلَّه كان ماءًا نبذت فيه تمراتٌ؛ لتذهب ملوحته فتغيَّر طعم الماء قليلاً إلى الحموضة ، وطبعه - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان في غاية اللَّطافة ، فلم يحتمل طبعه الكريم ذلك الطَّعم؛ فلذلك قطَّب وجهه ، وإنما صبَّ الماء فيه؛ إزالة لتلك الحموضة ، أو الرائحة . وأمَّا آثارُ الصَّحابة ، فمتدافعة متعارضة .
فصل في عدد الآيات التي نزلت بمكة في تحريم الخمر
قالوا : نزل في الخمر آربع آيات بمكَّة :
قوله : { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً } [ النحل : 67 ] وكان المسلمون يشربونها ، وهي لهم حلالٌ ، ثم إن عمر ومعاذاً ونفراً من الصَّحابة قالوا : يا رسول الله ، أفتنا في الخمر ، فإنَّها مذهبةٌ للعقل مسلبةٌ للمال ، فنزل قول تعالى : { فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [ البقرة : 219 ] ولما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنَّ اللهَ تَقَدَّمَ في الخَمْر » فتركها قومٌ لقوله ( إثْمٌ كبيرٌ ) وشربها قوم لقوله ( ومنافع للناس ) . إلى أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعاماًن فدعا ناساً من أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم وأتاهم بخمرٍ ، فشربوا ، وسكروا ، وحضرت صلاة المغرب؛ فتقدَّم بعضهم ليصلِّي بهم فقرأ : « قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ » هكذا إلى آخر السورة بحذف « لا » ، فأنزل الله تعالى : { لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى } [ النساء : 43 ] فحرَّم السُّكر في أوقات الصلاة ، فلما نزلت هذه الآية ، تركها قومٌ ، وقالوا : لا خير في شيءٍ يحول بيننا وبين الصَّلاة وتركها قوم في أوقات الصَّلاة ، وشربوها في غير وقت الصَّلاة ، حتَّى كان الرَّجل يشرب بعد صلاة العِشاء ، فيصبح ، وقد زال عنه السُّكر ، ويشرب بعد صلاة الصُّبح ، فيصحو إذا جاء وقت الظُّهر ، واتخذ عُتبان بن مالك صِبْغاً ودعا رجالاً من المسلمين ، فيهم سعد بن أبي وقاص وكان قد شوى لهم رأس بعيرٍ ، فأكلوا منه ، وشربوا الخمر ، حتى أخذت منهم ، ثمَّ إنّهم افتخروا عند ذلك ، وانتسبوا ، وتناشدوا ، فأنشد سعد قصيدةً فيها هجاءٌ للأنصار ، وفخر لقومه ، فأخذ رجلٌ من الأنصار لحي بعيرٍ ، فضرب به رأس سعدٍ؛ فشجَّه موضّحةٌ فانطلق سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكى إليه الأنصاريَّ ، فقال عمر : اللَّهُمَّ بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً؛ فأنزل الله تعالى : { إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ } [ المائدة : 90 ] إلى قوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] وذلك بعد غزوة الأحزاب بأَيَّام ، فقال عمر : انتهينا يا ربّ .
قال ابن الخطيب : والحكمة في وقوع التَّحريم على هذا التَّرتيب أنَّ الله تعالى علم أنَّ القوم كانوا قد أَلِفُوا شرب الخمر ، وكان انتفاعهم بذلك كثيراً ، فعلم أنَّه لو منعهم دفعةً واحدةً لشقّ ذلك عليهم ، فلا جرم درَّجهم في التَّحريم رفقاً بهم ، ومن الناس من قال : إن الله حرم الخمر والميسر بهذه الآية ، ثم نزل قوله :
{ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى } [ النساء : 43 ] فاقتضى ذلك تحريم شربها؛ لأنَّ شارب الخمر لا يمكنه أن يصلِّي مع السُّكر ، فكان المنع من ذلك منعاً من الشّرب ضمناً ، ثم نزلت آية المائدة ، فكانت في غاية القوَّة في التَّحريم . وعن الرَّبيع بن أنس أنَّ هذه الآية نزلت بعد تحريم الخمر .
فصل
قال أنسٌ : حُرمت عليهم الخمر ، ولم يكن يومئذ للعرب عيشٌ أعجب منها ، وما حرِّم عليهم شيءٌ أشدّ من الخمر .
وقال أنس بن مالك : ما كان لنا خمر غير فضيخكم فإنّي لقائم أسقي أبا طلحة وفلاناً ، وفلاناً ، إذ جاء رجلٌ فقال : حرمت الخمر . قالوا : أهرق هذه القلال يا أنس؛ قال : فما سألوا عنها ، ولا راجعوها بعد خبر الرَّجل .
واختلف الفقهاء في الخمر على ما تقدَّم؛ فقال قومٌ : هو عصير العنب والرُّطب الَّذي اشتدّ وغلا من غير عمل النَّار فيه ، واتَّفقت الأُمَّة على أنَّ هذا الخمر نجس يحدُّ شاربها ، ويُفَسَّقُ ، ويكفر مستحلها ، وذهب سفيان الثَّوريُّ ، وأبو حنيفة ، وجماعة إلى أنَّ التَّحريم لا يتعدّى هذا ولا يحرم ما يتّخذ من غيرها ، كالحنطة ، والشَّعير ، والذُّرة ، والعسل ، والفانيذِ إلاَّ أن يسكر منه فيحرم ، وقال : إذا طبخ عَصِيرُ العِنَبِ والرُّطب ، حتّى ذهب نصفه ، فهو حلالٌ ، ولكنه يكره ، وإن طبخ ، حتَّى يذهب ثلثاه قالوا : هو حلالٌ مباحٌ شربه إلاَّ أنَّ السُّكر منه حرامٌ .
وقال قومٌ : إذا طُبخَ صار العَصِيرُ أدْنَى طبخ ، صار حَلاَلاً ، وهو قول إسماعيل بن عليه ، وذهب أكثر أهل العلم إلى أنَّ كل شراب أسكر كثيره ، فهو خمر قليله حرام يحدّ شاربه ، وقد تقدَّم ما أجابوا به .
والمَيْسِرُ : القِمَارُ ، مفعل من اليُسْرِ ، يقال : يَسَرَ يَيْسِرُ؛ قال علقمة : [ البسيط ]
1068- لَو يَيْسِرُونَ بِخَيْلٍ قَدْ يَسَرْتُ بِهَا ... وَكُلُّ مَا يَسَرَ الأَقْوَامُ مَغْرُومُ
وقال آخر : [ الطويل ]
1069- أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إذْ يَيْسِرُونَنِي ... أَلَمْ تَيْئَسُوا أَنِّي ابْنُ فَارِس زَهْدَمِ
وفي اشتقاقه أربعة أقوال :
أحدها : من اليُسْر وهو السُّهولة؛ لأنَّ أخذه سهل من غير كدر ولا تعب قاله مقاتل .
والثاني : من اليَسَار ، وهو الغنى؛ لأنَّه يسلبه يساره .
قال ابن عباسٌ : كان الرَّجُلُ في الجاهليَّة يخاطرُ الرَّجُلَ على أهله وماله فأيهما قَمَر صاحبه؛ ذهب بأهله ، وماله ، فنزلت الآية .
الثالث : قال الواحديُّ : إنه من قولهم : يَسُرَ لي هذا الشَّيء يَيْسِرُ يُسْراً وميسراً ، إذا وجب ، واليَاسِرُ الوَاجِبُ بسبب القِدَاحِ . وحكاه الطبريُّ عن مجاهدس ، ورد ابن عطيَّة عليه .
الرابع : من يسر إذا جزر ، واليَاسِرُ الجَازِرُ ، وهو الذي يجزّئ الجَزُور أجزاءً . قال ابن عطيَّة : وسُمِّيت الجَزُور التي يُسْتَهَمُ عليها مَيْسِراً؛ لأنَّها موضع اليُسْرِ ، ثمَّ سُمِّيت السِّهَامُ مَيْسراً للمُجَاوَرَةِ « واليَسَرُ : الذي يدخل في الضَّرْبِ بالقِدَاح ، ويجمع على أيسار ، وقيل : بل » يُسَّر « مع يَاسِر كَحَارِس وحُرَّسٍ وأَحْرَاسٍ .
وللميسر كيفيَّةٌ ، وتُسمّى سِهَامُهُ القِدَاحَ والأزلامَ والأقلامَ . وقيل : هي عَشَرَةُ أقْدَاح ، وقيل : أَحَدَ عَشَرَ ، لسبعةٍ منها حُظُوظٌ ، وعلى كُلِّ منها خُطُوطٌ ، فالخطُّ يقدِّر الحَظَّ ، وتلك القِدَاحُ هي : الفَذُّ وله سهمٌ واحدٌ ، والتَّوءَمُ وله اثنان ، والرَّقيبُ وله ثلاثةٌ ، والحِلْسُ وله أربعةٌ ، والنَّافسُ وله خمسةٌ ، والمُسْبلُ وله ستّةٌ ، والمُعَلَّى وله سبعةٌ ، وثلاثةٌ أغفالٌ لا خُطُوطَ عليها ، وهي المنيحُ ، والسَّفيحُ ، والوغْدُ .
وأنشد فيها بعضهم : [ الرمل ]
1070- لِيَ في الدُّنْيَا سِهَامٌ ... لَيْسَ فِيهِنَّ رَبِيحُ
وَأَسَامِيهِنَّ وَغْدٌ ... وَسَفِيحٌ وَمَنِيحُ
ومن زاد رابعاً سمَّاه المضعَّف ، وإنَّما كثروا بهذه الأغفال ليختلط على الحرضة ، وهو الضَّارب ، فلا يميل مع أحد ، وهو رجلٌ عدلٌ عندهم ، فيجثو ، ويلتحف بثوبٍ ، ويخرج رأسه ، فيجعل تلك القداح في خريطة وتسمى الرِّبابة بكسر الرَّاء مشبَّهة بالكتابة فيها سهامُ المَيْسِرِ ، وربَّما يسمُّون جميع السِّهام ربابة ، ثمَّ يخلخلها ويدخل يده فيها ، ويخرج باسم رجُلٍ رجلٍ قِدحاً فمن خرج على اسمه قدحٌ : فإن كان من ذوات السِّهام؛ فاز بذلك النَّصيب ، وأخذه ، وإن كان من الأغفال غرِّم من الجزور؛ ولا يأخذ شيئاً .
وقال بعضهم : لا يأخذ شيئاً ، ولا يغرم ، ويكون ذلك القدح لغزاً .
وكانوا يفعلون هذا في الشَّتوة ، وضيق العيش ، ويقسِّمونه على الفقراء ولا يأكلون منه شيئاً ، ويفتخرون بذلك ، ويسمُّون من لم يدخل معهم فيه : البَرم ويذمونه ، والجَزورُ تقسم عند الجمهور على عدد القداح ، فتقسم على عشرة أجزاء ، وعند الأصمعي على عدد خطوط القداح ، فتقسّم على ثمانية وعشرين جزءاً . وخطَّأ ابن عطية الأصمعيَّ في ذلك ، وهذا عجيبٌ منه؛ لأنَّه يحتمل أنَّ العرب كانت تقسِّمها مرَّةً على عشرةٍ ، ومرَّةً على ثمانية وعشرينَ .
فهذا أصل القمار التي كانت تفعله العرب .
واختلفوا في الميسر؛ هل هو اسم لذلك القمار المعيَّن أو اسم الجميع أنواع القمار ، فقال بعض العلماء : المراد من الآية جميع أنواع القمار قال عليه الصلاة والسلام : « إيَّاكُم وَهَاتَيْنِ الكَعْبَتَيْنِ المُوسومتين فَإِنَّها مِنَ مَيْسِرِ العَجَمِ » .
وعن ابن سِيرِينَ : ومجاهد ، وعطاءٍ ، وطاوسٍ ، كلُّ شيءٍ فيه قمارٌ فهو الميسر ، حتَّى لعب الصِّبيان بالجوز ، والكعاب .
وروي عن عليّ - رضي الله عنه - في النرد ، والشِّطرنج : أنَّه من المَيْسر . وقال الشَّافعيُّ - رضي الله عنه - : إذا خلا الشِّطرنجُ عن الرهان واللِّسان عن الطُّغيان ، والصَّلاة عن النِّسيان؛ لم يكن حراماً ، وهو خارج عن الميسر؛ لأنَّ الميسر ما يوجب دفع مال ، أو أخذ مالٍ ، وهذا ليس كذلك ، فلا يكون قماراً ولا ميسراً .
وأمّا السَّبقُ في الخفِّ ، والحافر ، والنُّشابِ ، فخصّ بدليلٍ .
قوله : { فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ } الجَارُّ خبر مقدّم ، و « إثْمٌ » مبتدأ مؤخَّرٌ ، وتقديم الخبر هنا ليس بواجبٍ ، وإن كان المبتدأ نكرةً ، لأنَّ هنا مسوغاً آخر ، وهو الوصف ، أو العطف ، ولا بدّ من حذف مضافٍ أيضاً ، أي : في تعاطيهما إثمٌ؛ لأنَّ الإثم ليس في ذاتها .
وقرأ حمزة والكسائيُّ : « كثيرٌ » بالثَّاء المثَّلثة ، والباقون بالباء ثانية الحروف . ووجه قراءة الجمهور واضحٌ ، وهو أنَّ الإثم يوصف بالكبر مبالغة في تعظيم الذَّنب ، ومنه آية { إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } [ النساء : 2 ] . وسمِّيت الموبقات : « الكبَائِر » ، ومنه قوله تعالى : { والذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم } [ الشورى : 37 ] ، و { كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } [ النساء : 31 ] وشرب الخمر ، والقمار من الكبائر ، فناسب وصف إثمهما بالكبر ، وقد أجمعت السَّبعة على قوله : { وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } بالباء الموَّحدة ، وهذه توافقها لفظاً .
وأمَّا وجه قراءة الأخوين : فإمَّا باعتبار الآثمين من الشَّاربين ، والمقامرين ، فلكلِّ واحد إثمٌ ، وإمّا باعتبار ما يترتّب [ على تعاطيهما من توالي العقاب ، وتضعيفه ، وإمّا باعتبار ما يترتَّب ] على شربهما ممَّا يصدر من شربها من الأقوال السَّيئة والأفعال القبيحة .
وإمّا باعتبار ما يترتَّب على تعاطيهما من توالي العقاب ، وتضعيفه .
وإمَّا باعتبار من يزاولها من لدن كانت عنباً إلى أن شربت ، فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمر ، ولعن معها عشرةً : بائعها ، ومبتاعها وغيرهما ، فناسب ذلك أن يوصف إثمها بالكثرة . وأيضاً فإن قوله : « إثْم » ، مقابلٌ ل « مَنَافِع » ، و « منافع » جمعٌ ، فناسب أن توصف مقابلةً بمعنى الجمعيَّة ، وهو الكثرة . وهذا الذي ينبغي أن يفعله الإنسان في القرآن ، وهو أن يذكر لكلِّ قراءةٍ توجيهاً من غير تعرُّضٍ لتضعيف القراءة الأخرى كما فعل بعضهم ، وقد تقدَّم فصلٌ صالحٌ من ذلك في قراءتي : « مَلِك » ، و { مالك } [ الفاتحة : 3 ] .
وقال أبو البقاء : الأَحْسَنُ القِرَاءَةُ بالبَاء ، لأنه يقال : إثمٌ كبيرٌ وصغيرٌ ، ويقال في الفواحش العظام : « الكَبَائِرُ » ، وفيما دون ذلك « الصَّغَائِرُ » وقد قرئ بالثَّاء وهو جيدٌ في المعنى؛ لأنَّ الكثرة كبرٌ ، والكثير كبيرٌ ، كما أنَّ الصَّغير حقيرٌ ويسيرٌ .
وقرأ عبدالله - وكذلك هي في مصحفه - : « وإثمهما أَكْثَرُ » بالمثلَّثة ، وكذلك الأولى في قراءته ، ومصحفه .
فصل
دلَّ قوله تعالى : { فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ } على تحريم الخمر كقوله تعالى : { إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [ الأعراف : 33 ] والإثم يستحق به؛ فدلَّ مجموع الآيتين على التَّحريم ، وأيضاً فإنَّ الإثم قد يراد به العقاب وقد يراد به : ما يستحق به العقاب من الذُّنوب ، وأيُّهما كان ، فلا يصحُّ أن يوصف به إلاَّ المحرّم .
وأيضاً قد قال تعالى : { وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } فَصَرَّحَ بِرُجْحَانِ الإِثْمِ ، وذلك يوجب التَّحْرِيمَ .
فإن قيل : لا تدلُّ الآية على أنَّ شرب الخمر حرامٌ ، بل تدلُّ على أنَّ فيه إثماً ، فهَبْ أنَّ ذلك الإثم حرامٌ ، فلم قلتم إن شرب الخمر لما حصل فيه ذلك الإثم؛ وجب أن يكون حراماً؟
فالجواب أنَّ السُّؤال كان واقعاً عن مطلق الخمر ، فلمَّا بين تعالى أنَّ فيه إثماً ، كان المراد أنَّ ذلك الإثم لازمٌ له على جميع التَّقديرات ، فكان شرب الخمر مستلزماً لهذه الملازمة المحرَّمة ، ومستلزم المحرَّم محرَّمٌ؛ فوجب أن يكون الشُّرب محرّماً .
فإن قيل هذه الآية لا تدلُّ على حرمة الخمر لوجوهٍ :
أحدها : أنَّه تعالى أثبت فيها منافع للنَّاس والمحرّم لا يكون فيه منفعةٌ .
الثاني : لو دلَّت الآية على حرمتها ، فلم لم يقنعوا بها حتّى نزلت آية المائدة وآية تحريم الصّلاة؟
الثالث : أنَّه أخبر أنَّ فيها إثمٌ كبيرٌ ، فمقتضاه أنَّ ذلك الكبير ملازماً لها ما دامت موجودة ، ولو كان ذلك سبباً لحرمتها؛ لوجب القول بثبوت حرمتها في سائر الشَّرائع .
فالجواب عن الأوَّل : أنَّ حصول النَّفع فيها ليس مانعاً من حرمتها؛ لأن صدق الخاصّ يوجب صدق العامّ .
وعلى الثاني : أنّا روينا عن ابن عباس أنَّها نزلت في تحريم الخمر والتّوقف الذي ذكروه ، غير مرويٍّ عنهم ، وقد يجوز بطلب الكبار من الصَّحابة نزول ما هو أكبر من هذه الآية في التَّحريم كما التَمَسَ إبراهيم - صلوات الله عليه - مشاهدة إحياء الموتى ، ليزداد سكوناً ، وطمأنينة .
وعن الثالث : أنَّ قوله { فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ } إخبار عن الحال لا عن الماضي فعلم تعالى أنَّ شُرْبَ الخَمْرِ مفسدةٌ لهم ، وليس مَفْسَدَةٌ للَّذِينَ من قبلهم .
فصل في بيان الإثم الكبير في الآية
الإثم الكبير في الخمر أمورٌ :
أحدها : أنَّه مزيلٌ للعقل الذي هو أشرف صفات الإنسان ، وإذا كان الخمر عَدُوّاً ، لا شرفاً؛ فيلزم أن يكون أخسَّ الأمور؛ وذلك لأن العقل إنَّما سمِّي عقلاً أخذاً من عقال النَّاقة ، فإنَّ الإنسان إذا دعاه طبعه إلى فعل قبيح ، كان عقله مانعاً من الإقدام عليه ، فإذا شرب الخمر بقي طبعه الدَّاعي إلى فعل القبائح خالياً عن العقل له عن فعل القبيح .
ذكر ابن أبي الدنيا : أنَّه مرَّ على سكران ، وهو يبول في يده ، ويمسح به وجهه كهيئة المتوضِّئ ، ويقول : الحمد لله ، الذي جعل الإسلام نوراً ، والماء طهوراً .
وعن العبَّاس بن مرداس أنَّه قيل له في الجاهليَّة : لم لا تشرب الخمر؛ فإنها تزيد في جراءتك؟ فقال : ما أنا بآخذ جهلي بيدي ، فأدخله في جوفي ، ولا أرضى أن أصبح سيِّد قوم ، وأمسي سفيههم .
وثانيها : ما ذكره الله - تعالى - من إيقاع العداوة ، والبغضاء ، والصَّدّ عن ذكر الله ، وعن الصَّلاة .
وثالثها : أنَّ هذه المعصية من خواصّها أنَّ الإنسان إذا اشتغل بها وواظب عليها ، كان ميله ونفسه عليها أقوى ، بخلاف سائر المعاصي ، فإنَّ الزَّاني مثلاً إذ فعل مرَّةً واحدةً فترت رغبته ، وكلمَّا زاد فعله؛ كان فتوره أكثر؛ بخلاف الشّرب فإنَّه كلَّما كان إقدامه عليه أكثر كان نشاطه إليها ورغبته فيه أكثر ، فإذا واظب عليه؛ صار غارقاً في اللَّذَّات البدنيَّة معرضاً عن تذكر الآخرة ، حتّى يدخل في الّذشين نسوا الله ، فأنساهم أنفسهم .
وبالجملة إذا زال العقل؛ حصلت القبائح بأسرها ، وكذلك قال عليه الصلاة والسلام :
« اجْتَنِبُوا الخَمْرَ فَإِنَّها أُمُّ الخَبَائِثِ » . ويصدر عن الشَّارب المخاصمة ، والمشاتمة وقول الفحش والزُّور .
وأما الإثم الكبير في الميسر ، فإنَّه يفضي إلى العداوة أيضاً لما يجري بينهم من الشَّتم ، والمنازعة؛ لأنَّه أكل مال بالباطل ، وذلك يورث العداوة؛ لأنَّ صاحبه إذا أخذ ماله مجَّاناً؛ أبغضه جدّاً ، وهو يشغل عن ذكر الله ، وعن الصَّلاة أيضاً .
وأمَّا المنافع المذكورة فيهما ، فمنافع الخمر أنَّهم كانوا يتغالون بها إذا جلبوها من النَّواحي ، وكان المشتري ، إذا ترك المماكسة في الثَّمن؛ كانوا يعدُّون ذلك فضيلةً ، ومكرمةً ، وكانت تكثر أرباحهم بذلك السَّبب ، ومنها أنَّها تقوِّي الضَّعيف ، وتهضم الطَّعام ، وتعين على الباءة وتسلي المحزون ، وتشجِّع الجبان ، وتُسخي البخيل ، وتصفي اللَّون وتُنعش الحرارة الغريزيَّة ، وتزيد من الهمَّة ، والاستعلاء . ومن منافع الميسر : التَّوسعة على ذوي الحاجات؛ لأنَّ من قمر لم يأكل من الجزور شيئاً وإنما يفرّقه في المحتاجين؛ وذكر الواقديُّ أنَّ الواحد كان ربَّما يحصل له في المجلس الواحد مائة بعيرٍ ، فيحصل له مالٌ من غير كدٍّ ، ولا تعبٍ ، ثم يصرفه إلى المحتاجين ، فيكتسب فيه الثَّناء ، والمدح ، وكانوا يشترون الجزور ، ويضربون سهامهم ، فمن خرج سهمه؛ أخذ نصيبه من اللَّحم ، ولا يكون عليه شيء من الثَّمن ، ومن بقي سهمه آخراً ، كان عليه ثمن الجزور كلِّه ، ولا يكون له من اللَّحم شيءٌ .
قوله تعالى : { وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } قرأ أُبَيّ : « أقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِمَا » .
وإثمهما ونفعهما مصدران مضافان إلى الفاعل ، لأنَّ الخمر والميسر سببان فيهما ، فهما فاعلان ، ويجوز أن تكون الإضافة باعتبار أنهما محلُّهما . وقوله : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 215 ] قد تقدَّم الكلام عليه . وقرأ أبو عمرو : « قُلِ العَفْوُ » رفعاً والباقون نصباً . فالرَّفع على أنَّ « مَا » استفهاميةٌ ، و « ذَا » موصولةٌ ، فوقع جوابها مرفوعاً خبراً لمبتدأ محذوفٍ ، مناسبةً بين الجواب والسُّؤال والتَّقدير : إنفاقكم العفو . والنَّصيب على أنَّهما بمنزلةٍ واحدةٍ ، فيكون مفعولاً مقدّماً ، تقديره : أيَّ شيءٍ ينفقون؟ فوقع جوابها منصوباً بفعل مقدَّرٍ للمناسبة أيضاً ، والتَّقدير : أنفقوا العفو . وهذا هو الأحسن ، أعني أن يعتقد في حال الرَّفع كون « ذا » موصولةً ، وفي حال النَّصب كونها ملغاةٌ . وفي غير الأحسن يجوز أن يقال بكونها ملغاةً مع رفع جوابها ، وموصولةً مع نصبه . وقد تقدم الكلام على مستوفى وإنما اختصرت القول هنا؛ لأني قد استوفيت الكلام عليها عند قوله تعالى : { مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } [ البقرة : 26 ] .
فصل
اعلم أنَّ هذا السُّؤال ، قد تقدَّم ، وأجيب بذكر المصرف ، وهنا أجيب بذكر الكميَّة .
قال الواحدي رحمه الله : أصل العفو في اللُّغة الزِّيادة ، قال الله تعالى : { خُذِ العفو } [ الأعراف : 199 ] ، أي : الزِّيادة وقال : { حتى عَفَوْاْ } [ الأعراف : 95 ] .
وقال القفَّال : العفو ما سهل وتيسّر ممَّا فضل عن الكفاية ، وهو قول قتادة ، وعطاء ، والسُّدِّي ، وكانت الصَّحابة يكتسبون المال ، ويمسكون قدر النَّفقة ، ويتصدَّقون بالفضل .
قال القرطبيُّ : فالجواب خرج على وفق السُّؤال ، فإنَّ السُّؤال الثَّاني في هذه الآية على قدر الإنفاق ، وهو في شأن عمرو بن الجموح فإنَّه لما نزل : { قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ } [ البقرة : 215 ] قال : كم أنفق؛ فنزل « قُل العَفْوَ » .
والعَفْوُ : ما سهل ، وتيسَّر وفضل ، ولم يشقَّ على القلب إخراجه؛ قال الشَّاعر : [ الطويل ]
1071- خُذِي العَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي ... وَلاَ تَنْطقِي في سَوْرَتي حِينَ أَغْضَبُ
وقال طاوس : ما يَسُر ، والعفو اليسر من كل شيءٍ ، ومنه قول تعالى : { خُذِ العفو } [ الأعراف : 199 ] أي الميسور من أخلاق النَّاس .
قال ابن الخطيب : ويشبه أن يكون العفو عن الذَّنب راجع إلى التَّيسير ، والتَّسهيل ، قال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الخَيْلِ ، والرَّقِيقِ ، فَهَاتوا عشْرَ أَمْوَالِكُمْ » معناه : التَّخفيف بإسقاط زكاة الخيل والرَّقيق ، ويُقال : أعفى فلانٌ فلاناً بحقِّه : إذا أوصله إليه من غير إلحالح في المطالبة ، ويقال : أعطاه كذا عفواً صفواً : إذا لم يكدِّره عليه بالأذى ، ويقال : خذ من النَّاس ما عُفِيَ لك ، أي : ما تيسَّر ، ومنه قوله تعالى : { خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف } [ الأعراف : 199 ] وجملة التأويل : أنَّ الله - تعالى - أدَّب النَّاس في الإنفاق ، فقال : { وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين } [ الإسراء : 26 ، 27 ] وقال : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } [ الإسراء : 29 ] وقال : { والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } [ الفرقان : 67 ] وقال عليه الصَّلاة والسَّلام : « خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا أَنْفَقْتَ عَن غِنى ، وَلا تُلاَمُ عَلَى كَفَافٍ » .
وعن جابر بن عبدالله قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجلٌ بمثل البيضة من ذهب فقال : يا رسول الله؛ خذها صدقةً ، فوالله ما أملك غيرها ، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه من بين يديه ، فقال : هاتها مغضباً؛ فأخذها منه ، ثمَّ حذفه بها ، لو أصابته لأوجعته ثم قال : « يَأْتِينِي أَحَدُكُم بِمالِهِ لاَ يَمْلِكُ غَيْرَهُ ، ثُمَّ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ ، إِنَّمَا الصَّدَقَةُ عن ظَهْرِ غِنَى ، خُذْهَا ، فَلاَ حَاجَةَ لَنَا فِيها » . وكان عليه الصَّلاة والسَّلام يحبس لأهله قُوتَ سَنَةٍ .
وقال الحكماء الفضيلةُ بين طرفي الإفراط والتَّفريط .
وقال عمرو بن دينار : الوسط من غير إسراف ولا إقتار .
فصل في ورد العفو في القرآن
قال أبو العباس المقرئ : ورد لفظ « العَفْوِ » في القرآن بإزاء ثلاثة معانٍ :
الأول : العفو : الفضل من الأموال قال تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو } يعني الفضل من المال .
الثاني : « العفو » الترك؛ قال تعالى : { إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } [ البقرة : 237 ] أي يتركوا ، ومثله : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ } [ الشورى : 40 ] ، أي : ترك مظلمته .
الثالث : العفو بعينه ، قال تعالى : { وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ } [ آل عمران : 155 ] .
فصل
واختلفوا في هذا الإنفاق؛ هل المراد به الواجب ، أو التطوُّع على قولين :
الأول : قال أبو مسلم : يجوز أن يكون العفو هو الزَّكوات وذكرها ها هنا على سبيل الإجمال في السَّنة الأولى؛ لأنَّ هذه الآية قبل نزول آية الصَّدقات ، وأنزل تفاصيلها في السَّنة الثَّانية فالنَّاس كانوا مأمورين بأن يأخذوا من مكاسبهم ، ما يكفيهم في عامهم ، ثمَّ ينفقون الباقي ، ثمَّ صار هذا منسوخاً بآية الزَّكاة .
القول الثاني : أنَّ المراد به صدقة التَّطوُّع .
قالوا : لأنَّه لو كان مفروضاً لبين الله مقداره ، فلمَّا لم يبيِّنه ، وفوَّضه إلى رأي المخاطب؛ علمنا أنَّه ليس بفرضٍ .
وأجيب ، بأنه لا يبعد أن يوجب الله - تعالى - شيئاً على سبيل الإجمال ، ثمَّ يذكر تفصيله وبيانه .
قوله تعالى : { كذلك يُبيِّنُ } الكاف في محلِّ نصبٍ : إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : تبييناً مثل ذلك التَّبيين يبيِّن لكم ، وإمَّا حالاً من المصدر المعرفة ، أي : يبيِّن التبيين مماثلاً ذلك التَّبيين . والمشار إليه يبيِّن حال المنفق ، أو يبيِّن حكم الخمر ، والميسر ، والمنفق المذكور بعدهما . وأبعد من خصَّ اسم الإشارة ببيان حكم الخمر ، والميسر ، وأبعد منه من جعله إشارةً إلى جميع ما سبق في السُّورة من الأحكام .
و « لَكُمْ » متعلِّق ب « يُبَيِّن » . وفي اللاَّم وجهان ، أظهرهما أنَّها للتبليغ كالتي في : قلت لك .
والثاني : أنها للتَّعليل وهو بعيدٌ . والكاف في « كَذَلِكَ » تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أو للسامع ، فتكون على أصلها من مخاطبة المفرد .
والثاني : أن تكون خطاباً للجماعة ، فيكون ذلك ممَّا خوطب به الجمع بخطاب المفرد ، ويؤيِّده قوله « لَكُمْ ، و » لَعَلَّكُمْ « ، وهي لغةٌ للعرب ، يخاطبون في اسم الإشارة بالكفا مطلقاً ، وبعضهم يستغني عن الميم بضمَّةِ الكاف؛ قال : [ الرجز ]
1072- وَإِنَّمَا الهَالِكُ ثُمَّ التَّالِكُ ... ذُو حَيْرَةٍ ضَاقَتْ بِهِ المَسَالِكُ
كَيْفَ يَكُونُ النَّوْكُ إِلاَّ ذَلِكُ ... فصل
قوله تعالى : { فِي الدنيا } : فيه خسمة أوجهٍ :
أظهرها : أن يتعلَّق بيتفكّرون على معنى : يتفكَّرون في أمرهما ، فيأخذون ما هو الأصلح ، ويؤثرون ما هو أبقى نفعاً .
والثاني : أن يتعلَّق ب » يبيِّن « ، ويروى معناه عن الحسن ، وحينئذٍ يحتمل أن يقدَّر مضاف ، أي : في أمر الدُّنيا والآخرة ، ويحتمل ألاَّ يقدَّر ، لأنَّ بيان الآيات ، وهي العلامات يظهر فيها . وجعل بعضهم قول الحسن من التَّقديم ، والتأخير ، أي : ليس لذلك يبيِّن الله لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة لعلَّكم تتفكَّرون في الدنيا وزوالها وفنائها ، فتزهدون فيها ، وفي إقبال الآخرة ، ووقوعها ، فترغبون فيها . ثم قال : ولا حَاجَةَ لِذَلِكَ ، لحَمْلِ الكَلاَمِ على ظاهره ، يعني من تعلُّق في الدُّنيا ب » تَتَفَكَّرُونَ « . وهذا ليس من التَّقديم والتَّأخير في شيء؛ لأنَّ جملة التَّرجِّي جاريةٌ مجرى العلَّة فهي متعلِّقةٌ بالفعل معنى ، وتقديم أحد المعمولات على الآخر ، لا يقال فيه تقديم وتأخير ويحتمل أن تكون اعتراضيةً ، فلا تقديم ، ولا تأخير .
والثالث : أن تتعلَّق بنفس « الآيَاتِ » لما فيها من معنى الفعل ، وهو ظاهر قول مكي فيما فهمه عنه ابن عطيَّة . قال مكِّيٌّ : « معنى الآية أنه يبيِّن للمؤمنين آياتٍ في الدُّنيا ، والآخرة يدلُّ عليها ، وعلى منزلتها لعلَّهم يتفكَّرون في تلك الآياتِ » قال ابن عطيَّة : « فقوله : في الدنيا : يتعلَّق على هذا التَّأويل بالآيات » وما قاله عنه ليس بظاهر؛ لأنَّ شرحه الآية لا يقتضي تعلُّق الجار بالآيات . ثمَّ إنْ عَنَى ابن عطية بالتعلّق التعلُّق الاصطلاحي ، فقال أبو حيان « فو فَاسِدٌ ، لأنَّ » الآيَاتِ « لا تَعْمَلُ شيئاً ألْبَتَّةَ ، ولا يَتَعَلَّقُ بها ظَرْفٌ ، ولا مَجْرُورٌ » وقال شِهَابُ الدِّين : وهذا من الشَّيخ فيه نظرٌ ، فإنَّ الظُّروف تتعلَّق بروائح الأفعال ، ولا شكّ أنَّ معنى الآيات العلامات الظَّاهرة ، فيتعلَّق بها الظَّرف على هذا . وإن عنى التَّعلُّق المعنويَّ ، وهو كون الجارِّ من تمام معنى : « الآيَاتِ » ، فذلك لا يكون إلاّ إذا جعلنا الجارَّ حالاً من « الآيَات » ، ولذلك قدَّرها مكِّيٌّ نكرة فقال : « يبيِّن لهم آياتٍ في الدُّنْيَا » ليعلم أنَّها واقعةٌ موقع الصِّفة لآيات ، ولا فرق في المعنى بين الصِّفة والحال ، فيما نحن بصدده ، فعلى هذا تتعلَّق بمحذوفٍ لوقوعها صفةٌ .
الرابع : أن تكون حالاً من « الآيَاتِ » كما تقدَّم تقريره الآن .
الخامس : أن تكون صلةً للآيات ، فتتعلَّق بمحذوفٍ أيضاً ، وذلك مذهب الكوفيين ، فإنَّهم يجعلون من الموصولات الاسم المعرَّف بأل؛ وأنشدوا : [ الطويل ]
1073- لَعَمْرِي لأَنْتَ البَيْتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ ... وَأَقْعُدُ في أَفْيَائِهِ بِالأصَائِلِ
ف « البيت » عندهم موصولٌ .
وجوابهم مذكور في غير هذا الكتاب .
والتَّفكُّر : تفعل من الفكر ، والفكر : الذِّهن ، فمعنى تفكَّر في كذا : أجال ذهنه فيه وردَّده .
قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ } .
قال ابن عبَّاس : إنَّ أهل الجاهليَّة كانوا قد اعتادوا الانتفاع بأموال اليتامى ، وربَّما تزوَّجوا باليتيمة طمعاً في مالها أو يزوجها من ابن له لئلاَّ يخرج مالها عن يده ، فلمَّا نزل قوله تعالى : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } [ النساء : 10 ] وقوله : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ الأنعام : 152 و الإسراء : 34 ] ، وقوله : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يَتَامَى النسآء اللاتي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ والمستضعفين مِنَ الولدان وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيماً } [ النساء : 127 ] فعند ذلك ترك القوم مخالطة اليتامى ، تحرُّجاً شديداً ، وعزلوا أموال اليتامى عن أموالهم ، حتَّى كان يصنع لليتيم طعاماً ، فيفضل منه شيءٌ ، فيتركونه ، ولا يأكلونه حتَّى يفسد ، وكان صاحب اليتيم يفرد له منزلاً ، وطعاماً ، وشراباً ، فعظم ذلك على ضعفة المسلمين ، فقال عبدالله بن رواحة : يا رسول الله ما كلُّنا يجد منازل يسكنها الأيتام ، ولا كلُّنا يجد طعاماً ، وشراباً ، يفردهما لليتيم فنزلت هذه الآية .
قوله : { إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ } ، « إصْلاَحٌ » مبتدأ ، وسوَّغ الابتداء به أحد شيئين : إمَّا وصفه بقوله : « لَهُم » ، وإمَّا تخصيصه بعمله فيه ، و « خيرٌ » خبره . و « إصْلاَحٌ » مصدرٌ حذف فاعله ، تقديره : إصلاحكم لهم ، فالخبريَّة للجانبين أعني جانب المصلح ، والمصلح له ، وهذا أولى من تخصيص أحد الجانبين بالإصلاح كما فعل بعضهم .
قال أبو البقاء : « فَيَجُوزُ أن يَكُونَ التَّقْدِيرُ : خيرٌ لكم ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ : خَيْرٌ لَهُم » ، أي : إصلاحهم نافع لكم .
قال بعض العلماء : هذه الكلمة تجمع النَّظر في إصلاح اليتيم بالتَّقويم والتَّأديب وغيرهما لكي ينشأ على علمٍ وأدبٍ وفضلٍ ، والنَّظر في إصلاح حاله ، وتجمع أيضاً النَّظر في حال الولي ، أي : هذا العمل خير له من أن يكون مقصّراً في حقّ اليتيم .
وقال بعضهم : الخير عائد إلى الولي ، يعني إصلاح مالهم من غير عوض ، ولا أجرة ، خير للولي ، وأعظم أجراً .
وقال آخرون : الخير عائدٌ إلى اليتيم ، والمعنى : أنَّ مخالطتهم بالإصلاح خيرٌ لهم من التَّفرُّد عنهم ، والإعراض عن مخالطتهم .
فصل في هل يتصرف في مال اليتيم
قال القرطبيُّ لما أذن الله عزَّ وجلَّ في مخالطة الأيتام مع قصد الإصلاح بالنَّظر إليهم وفيهم ، كان ذلك دليلاً على جواز التَّصرف في مال اليتيم تصرف الوصيّ في البيع ، والقسمة ، وغير ذلك على الإطلاق لهذه الآية ، فإذا كفل الرَّجل اليتيم ، وحازه ، وكان في نظره ، جاز عليه فعله وإن لم يقدّمه والٍ عليه؛ لأنَّ الآية مطلقة والكفالة ولاية عامَّة ، ولم يؤثر عن أحدٍ من الخلفاء أنَّه قدّم أحداً على يتيم مع وجودهم في أزمنتهم ، وإنَّما كانوا يقتصرون على كونهم عندهم .
قوله : { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } المخالطة : الممازجة ، وقيل : جمع يتعذر فيه التّمييز ومنه يقال للجماع : الخلاط ، ويقال : خولط الرجل إذا جُنَّ ، والخلاط : الجنون؛ لاختلاط الأمر على صاحبه بزوال عقله .
قوله : « فَإِخْوَانُكُمْ » الفاء جواب الشّرط ، و « إِخْوَانُكم » خبر مبتدأ محذوف ، أي : فهم إخوانكم . والجملة في محلِّ جزم جواب الشَّرط ، والجمهور على الرَّفع ، وقرأ أبو مجلز : « فَإِخْوَانُكُمْ » نصباً بفعل مقدَّر ، أي : فقد خالطتهم إخوانكم ، والجملة الفعليَّة أيضاً في محلِّ جزمٍ ، وكأن هذه القراءة لم يطَّلع عليها الفراء وأبو البقاء فإن الفراء [ قال ] ولو نصب كان صواباً ، وقال أبو البقاء : « وَيَجُوزُ النَّصْبُ في الكَلاَم ، أي : فقد خالطتُهم إخوانَكم » .
فصل في بيان وجوه المخالطة
في هذه المخالطة وجوه :
أحدها : المراد بالمخالطة في الطَّعام ، والشَّراب ، والسُّكنى ، والخدم؛ لأن القوم ميَّزوا طعامهم ، وشرابهم ، ومسكنهم عن طعام اليتيم ، وشرابه ، وسكنه فأمرهم الله تعالى بخلط الطَّعامين والشَّرابين ، والاجتماع في السَّكن الواحد كما يفعله المرء بمال ولده ، فإنَّ هذا أدخل في حسن العشرة والمؤالفة .
الثاني : المراد بهذه المخالطة أن ينتفعوا بأموالهم بقدر ما يكون أجرة المثل في ذلك العمل . والقائلون بهذا القول ، منهم من جوَّز ذلك سواء كان القيم غنيّاً ، أو فقيراً ، ومنهم من قال إن كان القيم غنياً لم يأكل من ماله؛ لأن ذلك فرض عليك وطلب الأجرة على العمل الواجب لا يجوز ، واحتجوا بقوله : { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } [ النساء : 6 ] وإن كان القيِّم فقيراً قالوا : يأكل بقدر الحاجة ، ويرده إذا أيسر فإن لم يوسر تحلله من اليتيم .
وروي عن عمر أنَّه قال : أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة وليّ اليتيم إن استغنيت استعففت ، وإن افتقرت أكلت قرضاً بالمعروف ثمَّ قضيت .
وعن مجاهد : إذا كان فقيراً ، وأكل بالمعروف ، فلا قضاء عليه .
الثالث : أنَّ المراد بهذه « المُخَالَطَةِ » المصاهرة بالنِّكاح ، وهو اختيار أبي مسلم قال : لقوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] وقوله : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يَتَامَى النسآء } [ النساء : 127 ] وهذا القول راجحٌ على غيره من وجوه :
أحدها : أنَّ هذا خلط لليتيم نفسه ، والشّركة خلط لماله .
وثانيها : أنَّ الشَّركة داخلةٌ في قوله : { قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ } ، والخلط من جهة النّكاح ، وتزويج البَنَات منهم لم يدخل في ذلك فحمل الكلام على هذا الخلط أقرب .
وثالثها : أن قوله تعالى « فَإِخْوَانُكُم » يدلُّ على أنَّ المراد هو هذا النَّوع؛ لأنَّ اليتيم لو لم يكن من أولاد المسلمين لوجب أن يتحرى إصلاح أمواله كما يتحراه إذا كان مسلماً؛ فوجب أن تكون الإشارة بقوله : « فَإِخْوَانُكُم » إلى نوع آخر من المخالطة .
ورابعها : أنَّ المخالطة المندوب إيها هي في اليتامى الذين هم إخوان لكم بالإسلام ، فهم الذين ينبغي أن تناكحوهم ، ليتأكد الاختلاط فإن كان اليتيم من المشركين ، فلا تفعلوا ذلك .
قال القرطبيُّ : ما ينفقه الوصيُّ والكفيل له حالتان :
حالة لا يمكنه الإشهاد عليها ، فقوله مقبولٌ بغير بيِّنة .
وحالة يمكنه الإشهاد عليها ، فمهما اشترى من العقار ، وما جرت العادة بالتَّوثق فيه ، لم يقبل قوله بغير بيّنة .
وفرّق أصحابنا بين أن يكون اليتيم في دار الوصيّ ، وينفق عليه فلا يكلف الإشهاد على نفقته ، وكسوته ، لأنَّه يتعذر عليه الإشهاد على ما يأكله ، ويلبسه في كلِّ وقت ، ولكن إذا قال : انفقت نفقةً لسنةٍ ، قبل منه ، وبين أن يكون عند أُمّه ، أو حاضنته فيدعي الوصي أنَّه كان ينفق عليه ، أو كان يعطي الأمَّ أو الحاضنة فلا يقبل منه إلاَّ بيِّنَةٍ أنَّها كانت تقبض ذلك له مشاهرة أو مساناة .
فصل
قال أبو عبيد : هذه الآية عندي أصل لما يفعله الرُّفقاء في الأسفار ، فإنَّهم يتقاسمون النَّفقات بينهم بالسَّويَّة ، وقد يتفاوتون في قلَّة المطعم ، وكثرته ، وليس كلّ من قلَّ مطعمه تطيب نفسه بالتَّفضُّل على رفيقه ، فلمَّا كان هذا في أموال اليتامى واسعاً؛ كان في غيرهم أوسع ، ولولا ذلك لخفت أن يضيَّق فيه الأمر على النَّاس .
قوله تعالى : { والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح } ؛ أي : المفسد لأموالهم من المصلح لها ، يعني : الذي يقصد بالمخالطة الخيانة ، وإفساد مال اليتيم ، وأكله بغير حقّ من الذي يقصد الإصلاح .
وقيل : « يَعْلَمُ » ضمير من أراد الإفساد ، والطَّمع في مالهم بالنِّكاح من المصلح ، يعني : إنَّكم إذا أظهرتم من أنفسكم إرادة الإصلاح ، فإذا لم تريدوا ذلك بقلوبكم ، بل كان المراد منه عرضاً آخر [ فالله مطَّلع ] على ضمائركم عالمٌ بما في قلوبكم ، وهذا تهديدٌ عظيمٌ؛ وذلك لأنّض اليتيم لا يمكنه رعاية الغبطة لنفسه ، وليس له أحدٌ يراعيها ، فكأنَّه تعالى قال : لما لم يَكُنْ أَحَدٌ يَتَكَفَّلُ بمصالحه ، فَأَنَا مُتَكَفِّلٌ به ، وأنا المُطَالِبُ لوليّه بذلك .
تقدم الكلام في قوله : { يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح } في قوله : { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ } [ البقرة : 143 ] ، والمفسد والمصلح جنسان هنا ، وليس الألف واللام لتعريف المعهود ، وهذا هو الظَّاهر . وقد يجوز أن تكون للعهد أيضاً .
وفي قوله : { تُخَالِطُوهُمْ } التفاتٌ من ضمير الغيبة في قوله : « وَيَسْأَلُونَكَ » إلى الخطاب لينبِّه السَّامع إلى ما يلقى إليه . ووقع جواب السُّؤال بجملتين .
إحداهما من مبتدأ ، وخبر ، وأبرزت ثبوتية منكِّرة المبتدإ لتدلَّ على تناوله كلَّ إصلاح على طريق البدليَّة ، ولو أُضيفت لعمَّ ، أو لكان معهوداً في إصلاح خاص ، وكلاهما غير مرادٍ ، أمَّا العموم ، فلا يمكن ، وأمَّا المعهود فلا يتناول غيره؛ فلذلك أُوثر التَّنكير الدَّالُّ على عموم البدل ، وأُخبر عنه ب « خَيْر » الدَّالِّ على تحصيل الثَّواب ، ليتبادر المسلم إليه . والآخر من شرطٍ ، وجزاءٍ ، دالّ على جواز الوقوع لا على طلبه وندبيَّته .
قوله : { وَلَوْ شَآءَ الله } مفعول « شَاءَ » محذوف ، أي : إعناتكم . وجواب لو : « لأعنَتَكم » .
[ والمشهور قطع همزة « لأَعْنَتَكُم » ] ؛ لأنَّها همزة قطعٍ . وقرأ البزيُّ عن ابن كثير في المشهور بتخفيفها بين بين ، وليس من أصله ذلك ، وروي سقوطها ألبتَّة ، وهي كقراءة : { فلاا إِثْمَ عَلَيْهِ } [ البقرة : 173 ] شذوذاً وتوجيهاً . ونسب بعضهم هذه القراءة إلى وهم الرَّاوي ، باعتبار أنه اعتقد في سماعه التَّخفيف إسقاطاً ، لكنَّ الصَّحيح ثبوتها شاذةً .
و « العنت » : المشَقَّة و « الإعْنَات » الحمل على مشقَّةٍ لا تطاق ، يقال : أعْنَتَ فلانٌ فلاناً ، إذا أوقعه فيما لا يستطيع الخروج منه ، وتعنُّته تعنُّتاً : إذا لبَّس عليه في سؤاله ، وعنت العظم المجبور : إذا انكسر بعد الجبر ، وأكمةٌ عنوتٌ : إذا كانت شاقَّةً كدوداً ، وعنت الدَّابَّة تَعَنَّت عَنَتاً : إذا حدث في قوائمها كسرٌ بعد جبرٍ ، لا يمكنها معه الجري . قال ابن الأنباريّ : أصل العنت الشِّدَّةُ؛ تقول العرب : فلان يتعنت فلاناً ، ويعنته إذا شدّد عليه ، وألزمه ما يصعب عليه أداؤه .
وقال تعالى : { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } [ التوبة : 128 ] ، أي : شديدٌ عليه ما شقّ عليكم .
ويقال : أعنتني في السُّؤال ، أي : شدّد علي وطلب عنتي وهو الإضرارُ .
قال ابن عباس : لو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً لكم .
وقال عطاءٌ : ولو شاء الله لأدخل عليكم المشقَّة كما أدخلتم على أنفسكم ، ولضيَّق الأمر عليكم في مخالطتهم .
وقال الزَّجَّاج : ولو شاء الله لكلفكم ما شقَّ عليكم .
والعزيز الذي يأمر بعزة سهل على العبد ، أو شقَّ .
والحكيم الذي يتصرّف في ملكه بما يريده لا حجَّة عليه ، أو يضيع الأشياء في مواضعها .
فضل في بيان التكليف بما لا يطاق
احتجَّ الجبَّائيُّ بهذه الآية على أنَّه تعالى لم يكلِّف العبد ما لا يقدر عليه؛ لأنَّ قوله : { وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ } يدلُّ على أنَّه لم يفعل الإعنات ، ولا ضيق في التَّكليف ، ولو كلَّف العبد ما لا يقدر عليه؛ لكان قد تجاوز حدّ الإعنات ، والتَّضييق؛ لأنَّ كلمة « لَوْ » تفيد امتناع الشَّيء لامتناع غيره .
فإن قيل : الآية وردت في حقّ اليتيم .
قلنا : الاعتبار بعموم اللَّفظ ، لا بخصوص السَّبب .
واحتجَّ الكعبي بهذه الآية على أنَّه تعالى قادرٌ على خلاف العدل؛ لأنه لو امتنع وصفه بالقدرة على الإعنات ، لم يجز أن يقول : { وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ } ، وللنِّظَّام أن يجيب بأنَّ هذا معلَّق على مشيئة الإعناتِ ، فلم قلتم بأنَّ هذه المشيئة ممكنةٌ الثُّبوت في حقِّه تعالى .
وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) الجمهور على فتح تاء المضارعة ، وقرأ الأعمش بضمِّها من : أنكح الرباعي ، فالهمزة فيه للتَّعدية ، وعلى هذا فأحد المفعولين محذوفٌ ، وهو المفعول الأوَّل؛ لأنه فاعلٌ معنّى تقديره : ولا تنكحوا أنفسكم المشركات .
والنِّكاح في الأصل عند العرب : لزوم الشَّيء ، والإكباب عليه؛ ومنه : « نَكَحَ المَطَرُ الأَرْضَ » ، حكاه ثعلبٌ عن أبي زيد ، وابن الأعرابي .
قال الزَّجَّاجيُّ : « النّكاح في الكلام بمعنى الوطء ، والعقد جميعاً ، موضوع ( ن . ك . ح ) على هذا التَّرتيب في كلامهم للفرد والشَّيء راكباً عليه هذا كلام العرب الصَّحيح » .
أصله المداخلة؛ ومنه : تناكحت الشَّجر : أي : تداخلت أغصانها؛ ويطلق النِّكاح على العقد؛ كقول الأعشى : [ الطويل ]
1074- وَلاَ تَقْرَبَنَّ جَارَةً إِنَّ سِرَّهَا ... حَرَامٌ عَلَيْكَ فَانْكِحَنْ أَوْ تَأَبَّدَا
أي : فاعْقِدْ ، أو توحَّش ، وتجنَّب النِّساء ، ويطلق أيضاً على الوطء؛ كقوله : [ البسيط ]
1075- البَارِكِينَ عَلَى ظُهُورِ نِسْوَتِهِمْ ... والنَّاكِحِينَ بِشَطِّ دَجْلَةَ الْبَقَرَا
وحكى الفرَّاء « نُكُح المَرْأَةِ » بضمِّ النُّون على بناء « القُبُل » ، و « الدُّبُر » ، وهو بضعها ، فمعنى قولهم : « نَكَحَها » أي أصاب ذلك الموضع ، نحو : كَبَدَهُ ، أي أصاب كبده ، وقلَّما يقال : ناكحها ، كما يقال باضعها .
وقال أبو علي : فَرَّقَتِ العَرَبُ بين العَقْدِ والوَطْءِ بِفَرْقِ لَطِيفٍ ، فإذا قالوا : « نَكَحَ فُلاَنٌ فُلاَنَةٌ ، أو ابنةَ فلانٍ » ، أرادوا عقد عليها ، وإذا قالوا : نَكَحَ امرأته ، أو زوجته ، فلا يريدون غير المجامعة ، وهل إطلاقه عليهما بطريق الحقيقة فيكون من باب الاشتراك ، أو بطريق الحقيقة والمجاز؟ الظَّاهر : الثاني : فإنَّ المجاز خيرٌ من الاشتراك ، وإذا قيل بالحقيقة ، والمجاز فأيهما حقيقة؟ ذهب قوم إلى أنَّه حقيقةٌ في العقد واحتجوا بوجوهٍ :
منها : قوله عليه الصَّلاة والسَّلام : « لاَ نِكَاحَ إلاَّ بِوَلِيٍّ وَشُهُودٍ » ، وقَّف النِّكاح على الوليّ ، والشُّهود ، والمراد به العقد ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - : « وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ ، وَلَمْ أَولَدْ مِنْ سِفَاحٍ » فجعل النّكاح ، كالمقابل للسِّفاح .
ومعلومٌ أنَّ السِّفاح مشتملٌ على الوطء ، فلو كان النِّكاح اسماً للوطء ، لا متنع كون النِّكاح مقابلاً للسِّفاح ، وقال تعالى : { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ } [ النور : 32 ] ولا يمكن حمله إلاَّ على العقد .
وأيضاً قول الأعشى في البيت المتقدِّم لا يحتمل إلاَّ الأمر بالعقد؛ لأنه قال : « ولاَ تَقْرَبَنَّ جَارَةً » يعني مقاربتها على الطَّريق الَّذي يحرُمُ فاعقدْ وتزوَّج ، وإلاَّ فتأيَّم ، وتجنَّبِ النِّساء .
وقال الرَّاغب : أصْلُ النِّكَاحِ للعقدِ ، ثم اسْتُعِيرَ للجِمَاعِ ، ومُحَالٌ أن يَكُونَ في الأَصْلِ للجِمَاعِ ، ثم استُعِير لِلْعَقْدِ ، لأنَّ أَسْمَاءَ الجِمَاعِ كلَّها كِنَايَاتٌ لاستقباحِهم ذِكْرَه؛ كاستقباحهم تَعاطِيَهُ ، ومُحالٌ أن يستعيرَ مَنْ لا يَقْصِدُ فُحْشاً اسمَ مَا لاَ يَسْتَفْظِعُونَهُ لِمَا يَسْتَحْسِنُونَهُ؛ قال تعالى : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء }
[ النساء : 3 ] .
وقال آخرون : هو حقيقةٌ في الوطء ، واحتجوا بوجوه :
منها قوله تعالى : { فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } [ البقرة : 230 ] نفي الحل ممتدٌّ إلى غاية النِّكاح ، وليس هو العقد؛ ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : « حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ ، ويَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ » ؛ فوجب أن يكون هو الوطء .
وأجيب بأن امرأة رفاعة ، لم تفهم عند الإطلاق إلاَّ مجرَّد العقد؛ حتى قال لها عليه الصَّلاة والسَّلام : « لاَ حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ » .
ومنه : قوله عليه الصَّلاة والسَّلام : « نَاكِحُ اليَدِ مَلْعُونٌ ، وَنَاكِحُ البَهِيمَةِ مَلْعُونٌ » أثبت النِّكاح [ مع عدم العقدِ .
والنِّكاحُ ] في اللُّغة عبارة عن الضمّ ، والمداخلة كما تقدَّم في المطر ، والأرض ، وتناكح الشَّجر ، ونكح النُّعاس عينه ، وفي المثل :
« نَكَحْنَا الفَرى فَسَتَرَى » والبيت المتقدم ، وقوله : [ البسيط ]
1076- أنكحْتُ صُمَّ حَصَاهَا خُفَّ يَعْمَلةٍ ... تَغَشْمَرَتْ بي إِلَيْكَ السَّهْلَ والجَبَلاَ
والضَّمُّ والوطء في المباشرة أتَمُّ منه في العقد .
وأجيب بأنَّ هذه قرائن صارفةٌ له عن حقيقته .
فصل في هل يتناول المشرك أهل الكتاب؟
لفظ « المُشْرِك » ؛ هل يتناول أهل الكتاب؟
فالأكثرون على أنَّ الكتابة تشمل لفظ المشرك ، ويدلُّ عليه وجوه :
أحدها : قوله تعالى : { وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله } [ التوبة : 30 ] ، ثم قال بعد ذلك : { سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ التوبة : 31 ] وهذا تصريحٌ بأن اليهوديَّ ، والنَّصرانيّ مشركٌ .
وثانيها : قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] ، فدلت هذه الآية على أنَّ ما سوى الشّرك فقد يغفره الله تعالى في الجملة ، فلو كان كفر اليهوديِّ والنَّصرانيّ ليس بشرك ، لوجب أن يغفره الله تعالى في الجملة ، وذلك باطلٌ ، فعلمنا أنَّ كفرهما شركٌ .
وثالثها : قوله تعالى : { لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } [ المائدة : 73 ] فهذا التَّثليث إمَّا أن يكون لاعتقادهم وجود صفاتٍ ثلاثة أو لاعتقادهم وجود ذوات ثلاثة .
والأول باطلٌ؛ لأن المفهوم من كونه تعالى عالماً غير المفهوم من كونه قادراً ، ومن كونه حيّاً ، وإذا كانت هذه المفهومات الثَّلاثة لا بدّ من الاعتراف بها كان القول بإثبات صفاتٍ ثلاثة من ضرورات دين الإسلام ، فكيف يمكن تكفير النَّصارى بسبب ذلك؛ ولمَّا بطل ذلك علمنا أنَّه تعالى إنَّما كفَّرهم؛ لأنَّهم أثبتوا ذواتاً ثلاثةً قديمةً مستقلَّةً؛ وذلك لأنهم جوَّزوا في أُقنُوم الكلمة أن يحلّ في عيسى ، والأُقْنُومُ عندهم عبارةٌ عن حقيقة الشَّيءِ ، وجوَّزوا في أُقْنُومِ الحَيَاةِ أن يحلّ في مريم ، ولولا أنَّ هذه الأشياء المسمَّاة عندهم بالأقانيم ذوات قامة بأنفسَها؛ لمّا جوَّزوا عليه الانتقال من ذوات إلى ذاتٍ ، فثبت أنهم قائلون بإثبات ذوات قائمة بالنَّفْس قديمة أزليَّة ، وهذا شركٌ . وإذا ثبت دخولهم تحت اسم الشِّرك ، فاليهود كذلك إذ لا قائل بالفرق .
ورابعها : أنّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - أمَّر أميراً ، وقال : « إذا لقيت عدوّاً مِنَ المُشْرِكِينَ؛ فَادْعُهُم إلى الإِسْلاَمِ ، فإنْ أَجَابُوكَ ، فَاقْبَلْ مِنْهُم وَكُفَّ عَنْهُم ، وَإِنْ أَبوا ، فادْعُهُم إِلى الجِزْيَةِ ، وَعَقْدِ الذِّمَّةِ » .
وخامسها : قال أبو بكر الأصمُّ : كلُّ من جحد الرِّسالة ، والمعجزة ، فهو مشركٌ؛ لأن تلك المعجزات إنَّما ظهرت عن الله تعالى ، وكانوا يضيفونها إلى الجنِّ والشَّياطين ، ويقولون : إنَّها سحرٌ ، فقد أثبتوا لله شريكاً في خلق هذه الأشياء الخارجة عن قدرة البشر .
وقال أبو الحسن بن فارس : هم المشركون؛ لأنَّهم يقولون : القرآن كلام غير الله ، فقد أشركوا مع الله غير الله .
فإن قيل : إنَّه تعالى فصل بين القسمين ، وعطف أحدهما على الآخر في قوله : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والنصارى والصابئين } [ البقرة : 62 ] وقال : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا } [ الحج : 17 ] وقال : { مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين } [ البقرة : 105 ] وذلك يوجب التَّغاير .
والجواب أنَّ هذا كقوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } [ الأحزاب : 7 ] وكقوله تعالى : { مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] فإن قالوا : إنَّما خصَّ بالذِّكر تنبيهاً على كمال الدَّرجة في ذلك الوصف .
قلنا : وها هنا أيضاً كذلك إنَّما خصَّ عبدة الأوثان في هذه الآيات بهذا الاسم تنبيهاً على كمال درجتهم في الكفر .
فصل في سبب النزول
سبب نزول هذه الآية : أنَّ أبا مرثد بن أبي مرثد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى « مَكَّة » ، ليخرج منها ناساً من المسلمين سرّاً فلما قدمها سمعت به امرأة مشركةٌ يقال لها : « عنَاق » ؛ وكانت خليلته في الجاهليَّة فأتته وقالت : يا أبا مرثد ألا تخلو؟ فقال لها : ويحك يا عَنَاق إنَّ الإسلام قد حال بَيْنَنَا وبَيْنَ ذلك . قالت : هل لك أن تتزوَّج بي؟ قال : نعم ، ولكن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمره . فقالت : أبي تتبرم؟ ثم استغاثت؛ فضربوه ضرباً شديداً ، ثمَّ خلَّوا سبيله ، فلمَّا قضى حاجته بمكَّة ، وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الذي كان من أمره ، وأمر عناق ، وقال : يا رسول الله؛ أيحلُّ لي أن أتزوَّجها؛ فأنزل الله تعالى : { وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ } [ البقرة : 221 ] .
فصل في الآية هل هي ابتداء حكم أو تقرير سابق
واختلف المفسِّرون في هذه الآية : هل هي ابتداء حكم وشرع ، أو هو متعلّقٌ بما تقدَّم؛ فالأكثرون على أنَّه ابتداء شرعٍ في بيان ما يحلُّ ، ويحرم .
وقال أبو مسلم : بل هو متعلِّق بقصَّة اليتامى ، فإنَّ الله تعالى لما قال : { وإنْ تُخَالِطُوهم فَإِخْوَانُكُمْ } وأراد مخالطة النِّكاح عطف عليه بما يبعث على الرَّغبة في اليتامى ، وأنَّ ذلك أولى ممَّا كانوا يتعاطونه من الرَّغبة في المشركات ، وبيَّن أنَّ أمةً مؤمنةً خيرٌ من مشركة ، فإنها بلغت النِّهاية فيما يُفْضي إلى الرَّغبة فيها ليدلَّ بذلك على ما يبعث على التَّزوُّج بالتيامى ، وعلى تزويج الأيتام عند البلوغ ليكون ذلك داعيةً لما أمر به من النَّظر في صلاحهم وصلاح أموالهم .
وعلى الوجهين ، فحكم الآية لا يختلف .
فصل في بيان جواز نكاح الكتابيَّة
الأكثرون من الأُمَّة قالوا : يجوز للرَّجل أن يتزوَّج بالكتابيَّة . وقال ابن عمر ، ومحمَّد بن الحنفيَّة ، والهادي - وهو أحد أئمَّة الزَّيديَّة - إنَّ ذلك حرامٌ ، واستدلَّ الجمهور بقوله تعالى في سورة المائدة : { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } [ المائدة : 5 ] وسورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ منها شيء أصلاً .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من آمن منهنّ بعد الكفر ، ومن كان على الإيمان من أول الأمر؟
قلنا : قوله : { مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } [ آل عمران : 186 و المائدة : 5 و المائدة : 57 ] يفيد حصلو هذا الوصف في حال الإباحة ، ويدلُّ على ذلك فعلُ الصحابة ، فإنهم كانوا يتزَّجون الكتابيَّات ، ولم يظهر من أحد منهم إنكار ذلك وكان إِجماعاً على الجواز ، كما نقل أنَّ حذيفة تزوَّج يهوديَّةٌ ، أو نصرانية ، فكتب إليه : أَتَزْعُمُ أَنَّهَا حَرَامٌ؟ فقال : لا ، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهنَّ .
وتزوج عثمان نائلة بنت فرافصة ، وكانت نصرانيَّة؛ فأسلمت تحته ، وتزوَّج طلحة بن عبيد الله يهوديَّة .
وعن جابر بن عبدالله أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « نَتَزَوَّجُ نِسَاءَ أَهْلِ الكِتَابِ ، وَلاَ يَتَزَوَّجُونَ نِسَاءَنَا » .
وروى عبد الرَّحمن بن عوفٍ أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام قال في المجوس : « سِنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائهم ، وَلاَ آكلي ذَبَائِحِهِمْ » ولو لم يكن نكاح نسائهم جائزاً ، لكان هذا الاستثناء عبثاً .
وقال قتادة وسعيد بن جبير : أراد ب « المُشْرِكَاتِ » في الآية الوَثَنِيَّاتِ .
واحتجَّ القائلون بعدم الجواز بوجوه :
أحدها : أنَّ لفظ « المُشْرِك » يتناول الكتابيَّة على ما بيَّنَّاه ، والتَّخصيص والنَّسخ خلافُ الظَّاهر .
قالوا : ويؤيِّد ذلك قوله في آخر الآية : { أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار } والوصف المناسب إذا ذكر عقيب الحكم أشعر بالعِلِّيَّة ، وكأنه تعالى قال : حَرَّمْتُ عليكم نِكَاح المُشْرِكَاتِ؛ لأنَّهم يدعُونَ إِلَى النَّارِ وهذه العِلَّةُ قَائِمَةٌ في الكِتَابِيَّةِ ، فوجب القطع بتحريمها .
وثانيها : أنَّ ابن عمر لما سئل عن هذه المسألة تلا آية التَّحريم وآية التَّحليل ، ووجه الاستدلال : أنَّ الأصل في الأبضاع الحرمة فلما تعارض دليلُ الحلِّ ، ودليل الحرمة تساقطا؛ فوجب بقاء حكم الأصل ، وبهذا الطريق لما سئل عثمان عن الجمع بين الأختين في ملك اليمين قال : أحلَّتهما آيةٌ ، وحرَّمتهما آية ، فحكم عند ذلك بالتَّحريم للسَّبب الذي ذكرناه ، فكذا ها هنا .
وثالثها : حكى ابن جرير الطَّبريُّ في « تَفْسِيرِهِ » عن ابن عبَّاسٍ تحريم أصناف النِّساء إلاَّ المؤمنات ، واحتجَّ بقوله : { فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } [ المائدة : 5 ] ، وإذا كان كذلك فالكتابيَّة كالمرتدَّة في أنه لا يجوز العقد عليها .
ورابعها : أنَّ طلحة نكح يهوديَّة ، وحذيفة نصرانيَّة ، فغضب عمر عليهما غضباً شديداً ، فقالا : نطلق يا أمير المؤمنين ، فلا تغضب .
فقال : إنَّ من أحلَّ طلاقهنَّ ، فقد أحلَّ نكاحهنَّ ، ولكن أنتزعهنَّ منكما .
وأجيب عن الأوَّل بأنَّ من قال : الكتابيُّ لا يدخل تحت اسم المشرك ، فالإشكال عنه ساقطٌ ، ومن سلَّم ذلك ، قال إنَّ قوله تعالى : { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } [ المائدة : 5 ] أخص من هذه الآية ، فإذا كانت هذه الحرمة ثاتبةً ، ثم زالت كان قوله : « والمُحْصَنَاتُ » ناسخاً ، وإن لم تثبت الحرمة كانت مخصَّصة ، وإن كان النَّسخ والتَّخصيص خلاف الأصل إلاَّ أنَّه إنما لما كان لا سبيل إلى التَّوفيق بين الآيتين إلاَّ بهذا الطَّريق؛ وجب المصير إليه .
وقولهم : إنَّ نكاح الوثنيَّة إنَّما حرِّم؛ لأنَّها تدعو إلى النَّار ، وهذا المعنى موجودٌ في الكتابيَّة .
قلنا : الفرق بينهما أنَّ المشركة متظاهرةٌ بالمخالفة ، فلعلَّ الزَّوجَ يحبُّها ، ثم إنَّها تحمله على مقاتلة المسلمين ، وهذا المعنى غير موجود في الذِّمِّيَّة؛ لأنها مقهورةٌ راضيةٌ بالذِّلَّة ، والمسكنة ، فلا يتضمن نكاحها المقاتلة .
وقولهم : تعارضت آية التَّحريم ، وآية التَّحليل . قلنا : آية التَّحليل خاصَّة ، ومتأخِّرةٌ بالإجماع؛ فوجب تقديمها على آية التَّحريم ، بخلاف الآيتين ، بالجمع بين الأختين في ملك اليمين ، لأنَّ كلَّ واحدةٍ منهما أخصُّ من الأُخرى من وجهٍ ، وأعمُّ من وجهٍ آخر ، فلم يحصل فيه سبب التَّرجيح .
وأمَّا التَّمسُّكُ بقوله : « فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُه » فجوابه : أنَّا لما فرَّقنا بين الكتابيَّة وبين المرتدَّة في أحكامٍ كثيرةٍ ، فلم لا يجوز الفرق بينهما أيضاً في هذا الحكم؟
أمَّا تمسُّكهم بأثر عمر ، فقد نقلنا عنه أنَّه قال : ليس بحرامٍ ، وإذا حصل التَّعارض بينهما؛ سقط الاستدلال بهما ، وسلم باقي الأدلَّة .
فصل في نكاح الكتابيَّات
قال القرطبيُّ : وأمَّا نكاحُ أهل الكتاب إذا كانوا حرباً ، فلا يحلُّ .
وسئل ابن عباس عن ذلك ، فقال : لا تحلُّ ، وتلا قوله تعالى : { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [ التوبة : 29 ] قال الرَّاوي : تحدَّث بذلك إبراهيم النَّخعيُّ ، فأعجبه .
فصل
نقل عن الحسن أنَّه قال : هذه الآية ناسخةٌ لما كانوا عليه من تزويج المشركات .
قال بعض العلماء : إن كان إقدامهم على نكاح المشركات من قبل العادة ، لا من قبل الشَّرع؛ امتنع كون هذه الآية ناسخةً؛ لأنَّه ثبت في الأصول أنَّ النَّاسخَ والمنسوخَ يجب أن يكونا حكمين شرعيين ، وإن كان جواز نكاح المشركات ثابتاً من جهة الشَّرع ، كانت هذه الآية ناسخةٌ .
قوله : { حتى يُؤْمِنَّ } « حَتَّى » بمعنى : « إلى » فقط ، والفعل بعدها منصوب بإضمار « أَنْ » ، أي : إلى أن يؤمنَّ ، وهو مبنيٌّ على المشهور لاتصاله بنون الإناث ، والأصل : يؤمنن ، فأدغمت لام الفعل في نون الإناث .
فصل في بيان قوله تعالى { حتى يُؤْمِنَّ }
اتَّفق الكلُّ على المراد من قوله { حتى يُؤْمِنَّ } الإقرار بالشَّهادة والتزام أحكام الإسلام ، وإذا كان كذلك احتجّت الكرَّاميَّة بهذه الآية على أنَّ الإيمان عبارةٌ عن مجرَّد الإقرار؛ لأنَّه غيّاً التحريم إلى الإيمان ، وهو هنا الإقرار؛ فثبت أنَّ الإيمان في عرف الشَّرع عبارة عن الإقرار ، وأُجيبوا بوجوهً :
منها : قوله تعالى :
{ وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله وباليوم الآخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } [ البقرة : 8 ] .
ومنها : قوله تعالى : { قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا } [ الحجرات : 14 ] ؛ ولو كان الإيمان عبارة عن مجرَّد الإقرار ، لكان قوله « قُلْ لم تُؤْمِنُوا » كذباً . وأُجيبوا عن التَّمسُّك بهذه الآية بأنَّ التَّصديق الذي في القلب لا يمكن الاطِّلاع عليه ، فأقيم الإقرار باللِّسان مقام التَّصديق بالقلب .
قوله : { وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ } . قال أبو مسلمٍ : اللام في قوله : « وَلأَمَةٌ » تشبه لام القسم في إفادة التَّوكيد .
سوَّغ الابتداء ب « أَمَة » شيئان : لام الابتداء والوصف . وَأصْل « أمة » : أمَوٌ ، فحذفت لامها على غير قياسٍ ، وعوَّض منها تاء التَّأنيث ك « قُلَة » ، و « ثُبَة » يدلُّ على أنَّ لامها واوٌ رجوعها في الجمع؛ قال الكلابيُّ : [ البسيط ]
1077- أمَّا الإِمَاءُ فَلاَ يَدْعُونَنِي وَلَداً ... إِذَا تَدَاعَى بَنُو الإِمْوَانِ بالعَارِ
ولظُهُورها في المصدرِ أيضاً ، قالوا : أَمَةٌ بيّنة الأُمُوَّة وأَقَرَّت له بالأُمُوَّة . وهل وزنها « فَعَلة » بتحريكِ العين ، أو « فَعْلة » بسكونها؟ قولان ، أظهرهما الأَوَّلُ ، وكان قياسُها على هذا أن تُقلَبَ لامُها ألفاً لتحرُّكها وانفتاحِ ما قبلَها كفتاة وقَناة ، ولكن حُذِفت على غير قياس .
والثاني : قال به أبو الهيثم ، فإنَّهُ زعم أنَّ جمع الأمة أَمْوٌ ، وأنَّ وزنها فعلة بسكون العين ، فيكون مثل نخلٍ ، ونخلةٍ ، فأصلها أَمْوَة ، فحذفوا لامها إذْ كانت حرف لين ، فلمَّا جمعوها على مثل : نخلةٍ ونَخْلٍ لزمهم أن يقولوا : أَمَة ، وأَم ، فكرهوا أن يجعلُوها حرفين ، وكَرِهُوا أن يَرُدُّوا الواو المحذوفة لمَّا كانت آخر الاسم ، فقدَّموا الواو وجعلُوه ألفاً بين الهمزة والميم ، فقالوا : أام . وما زعمه ليس بشيء إذ كان يلزمُ أن يكون الإعرابُ على الميم ، كما كان على لامِ « نَخْلٍ » ، وراء « تَمْر » ، ولكنه على التَّاءِ المحذوفةِ مقدَّرٌ كما سيأتي بيانُهُ . وجُمِعت على « إِمْوان » كما تقدَّم ، وعلى إماء ، والأصلُ : إمَاؤٌ ، نحو رقبةٍ ، ورِقاب ، فقُلِبَت الواو همزةً لوقوعها طرفاً بعد ألفٍ زائدةٍ ككساء . وفي الحديث : « لاَ تَمْتَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ » وعلى آمٍ ، قال الشَّاعر : [ مجزوء الكامل ]
1078- تَمْشِي بِهَا رُبْدُ النَّعَا ... مِ تَمَاشِيَ الآمِ الزَّوَافِرْ
والأَصْلُ « أَأْمُوٌ » بهمزتين ، الأُولى مفتوحةٌ زائدةٌ ، والثَّانيةُ ساكِنَةٌ هي فاءُ الكلمة نحو : أكمة ، وأَأْكُم ، فوقعت الواو طرفاً مضموماً ما قبلها في اسمٍ مُعربٍ ولا نظيرَ لهُ ، فقُلبت الواو ياءً والضَّمَّة كَسْرةً لتصِحَّ الياءُ ، فصار الاسمُ من قبيلِ المنقوصِ نحو : غازٍ وقاضٍ ، ثمَّ قُلِبَت الهمزةُ الثَّانيةُ ألِفاً ، لسكونها بعد أُخرى مفتوحةٍ ، فتقولُ : جاءَ آمٌ ، ومررت بآمٍ ، ورأيت آمياً ، تقدِّرُ الضَّمَّة والكسرة وتُظْهِرُ الفتحة ، ونظيرُهُ في هذا القلبِ مجموعاً : « أَدْلٍ » و « أَجْرٍ » جمعُ « دَلْوٍ » و « جَرْوٍ » وهذا التَّصريف الذي ذكرناهُ يرُدُّ على أبي الهيثم قوله المتقدّم ، أعني كونه زعمَ أن آمياً جمع أَمْوَة بسكونِ العينِ ، وأَنَّهُ قلب ، إِذ لو كان كذلك لكانَ ينبغي أَنْ يُقالَ جاء آمٌ ، ومررت بآمٍ ، ورأيت آماً ، وجاء الآم ومررتُ بالآم ، فتُعْربَ بالحركات الظاهرة .
والتَّفضيلُ في قوله : { خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ } : إمَّا على سبيل الاعتقاد ، لا على سبيل الوجود ، وإمَّا لأنَّ نكاحَ المؤمنةِ يشتملُ على منافع أُخرويَّة ، ونكاحَ المشركةِ الحُرَّة يشتملُ على منافِعَ دنْيَويّةٍ ، هذا إذا التزَمنا بِأَنَّ « أَفْعَلَ » لا بدّ أن يدُلَّ على زيادةٍ ما ، وإلاَّ فلا حاجة إلى هذا التأويل ، كما هو مذهبُ الفرَّاءِ وجماعةٌ .
وقوله : { مِّن مُّشْرِكَةٍ } يحتمِلُ أن يكُونَ « مُشْرِكَةٍ » صفةً لمحذوفٍ مدلولٍ عليه بمقابِلِهِ ، أي : مِنْ حُرَّةٍ مُشْرِكَةٍ ، أو مدلولٌ عليه بلفظِهِن أي : مِنْ أَمَةٍ مشركةٍ ، على حسب الخلاف في قوله : « وَلأَمَةٌ » هل المُراد المَمْلُوكةُ للآدميين ، أو مطلقُ النِّسَاء ، لأنهنَّ مِلكٌ لله تعالى؛ كما قال - عليه السَّلام - « لاَ تَمْنَعُوا إِمَاء اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ » وكذلك الخلافُ في قوله : { وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ } .
وقال بعضهم وَلأَمَةٌ مؤمنةٌ خيرٌ من حُرَّةٍ مُشْرِكَةٍ ولا حاجة إلى هذا التقدير ، لأن اللَّفظ مطلق . وأيضاً فقوله : { وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } يدُلُّ على صفة الحُرِّيَّة؛ لأَنَّ التَّقدير : ولو أعجبتكم بحسنها ، أو مالها ، أو حرّيتها ، أو نسبها ، فكُلُّ ذلك داخِلٌ تحت قوله : { وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } .
فصل في سبب النُّزُول
نزلت هذه الآية في خنساء ، وهي وليدةٌ سوداءُ ، كانت لحذيفة بن اليمان ، قال حذيفة : يا خنساء قد ذكرت في المَلأ الأَعلى على سوادك ودمامتك؛ فأعتقها وتزوجها .
وقال السُّدِّيُّ : نزلت في عبداللهِ بن رواحة كانت له أَمَةٌ سَوداءُ ، فغضب عليها ، ولطمها ، ثم أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بذلك ، فقال له - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « وَمَا هي » ؟ فقال : تشهدُ ألاَّ إله إلا الله ، وأنَّك رسُولُ اللهِ ، وتُحسن الوضُوء وتُصَلّي فقال : « إنّ هذه مؤمنة » قال عبداللهِ : فوالَّذي بعثك بالحق نبيّاً ، لأعتقها ولأتزوجها ، ففعل ، فطعن عليه ناسٌ من المُسلمين ، وقالوا : تنكح أمة؟! وعرضُوا عليه حُرَّةٌ مشركة . فأَنزلَ اللهُ هذه الآية .
فصل في بيان الخيريَّة في الآية
والخير ها هنا النفع الحسن ، والمعنى : أَنَّ المشركة - وإِنْ كانت ثابتة في المال ، والجمال ، والنَّسَب - فالأَمَةُ المُؤْمِنة خيرٌ منها إِلاَّ أن الإيمان يتعلَّق بالدِّين ، والمال ، والجمال ، والنَّسب متعلّق بالدِّين والدُّنيا ، ولا شكَّ أَنَّ الدِّين خيرٌ مِنَ الدنيا؛ لأنه أشرف الأشياء عند كل أحد ، فإذا اتفق الدين كملت المحبة فتكمل منافع الدنيا من الصحة والطاعة وحفظ الأموال والأولاد ، وعند اختلاف الدين لا يحصل شيء من ذلك .
فصل في تقرير مذهب أبي حنيفة في القادر على التزوّج بأمة مع وجود الحرة
قال الجبائي : دلت الآية على أن القادرعلى طول الحرة يجوز له التزوج بالأمة كمذهب أبي حنيفة؛ لأن الآية دلت على أن الواجد لطول الحرة المشركة يكون - لا محالة - واجداً لطول الحرة المسلمة لأن سبب التفاوت في الإيمان والكفر لا يتفاوت في قدر المال المحتاج إليه في أهبة النكاح فيلزم - قطعاً - أن يكون الواجد لطول الحرة المسلمة يجوز له نكاح الأَمَةِ ، وهو استدلالٌ لطيف .
قوله : { وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } ، وقوله : { وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ } هذه الجُمْلَةُ في مَحَلِّ نصب على الحالِ ، وقد تقدَّم أنَّ « لَوْ » هذه في مثل هذا التَّركيب شرطيّةٌ بمعنى : « إِنْ » نحو : « رُدُّوا السَّائل ، ولو بظَلْفٍ مُحْرَقٍ » ، وأنَّ الواوَ لِلْعَطفِ على حالٍ محذوفةٍ ، التَّقديرُ : خيرٌ من مشركةٍ على كُلِّ حالٍ ، ولو في هذه الحال ، وأنَّ هذا يكون لاستقصاءِ الأَحوالِ ، وأنَّ ما بعد « لَوْ » هذه إِنَّمَا يأتِي وهو مُنافٍ لِمَا قبلَه بوجهٍ ما ، فالإِعجابُ مُنافٍ لحُكْم الخَيْريَّة ، ومُقْتَضٍ جوازِ النِّكَاحِ لرغبةِ النَّاكِح فيها . وقال أبو البقاء : « لَوْ » هنا بمعنى « إِنْ » وكذا كُلُّ موضع وقع بعد « لَوْ » الفعلُ الماضِي ، وكان جوابُها مُتقدِّماً عليها ، وكونها بمعنى « إِنْ » لا يشترط فيه تقدُّمُ جوابها؛ ألا تَرَى أنَّهم قالوا في قوله تعالى : { لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ } [ النساء : 9 ] إنَّها بمعنى : « إنْ » مع أَنَّ جوابها وهو : « خَافُوا » مُتأخِّرٌ عنها ، وَقَدْ نَصَّ هو على ذلك في آيةِ النِّسَاءِ قال في خافُوا : وهو جوابُ « لَوْ » ومعناها « إنْ » .
فصل في نكاح الأَمَةِ الكتابيَّة
قال القُرطبيُّ : اختلفوا في نكاح الأَمَةِ الكتابيَّة؛ فقال مالِكٌ : مَنْ أسلم وتحته أَمَةٌ كتابيَّةٌ أَنَّه لا يُفرَّق بينهما .
وقال أبو حنيفة وأصحابه : يجوزُ نكاحُ إِماءِ أَهلِ الكِتَابِ . قال ابن العربيّ : احتجّ أصحابُ أبي حنيفة على جواز نكاح الأَمَةِ بقوله تعالى : { وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ } ووجهُ الدلالة : أَنَّهُ تعالى خاير بين نكاح الأَمَة المؤْمِنة والمُشركة ، فلولا أَنَّ نكاح الأَمة المشركة جائِزٌ لما خاير بينهما؛ لأَنَّ المخايرة إِنَّما هي بينَ الجائزين ، لا بين جائِزٍ وممتنع ، ولا بينَ متضادين .
والجوابُ : أَنَّ المخايرة بين الضدَّين تجوزث لغةً وقُرْآناً ، قال تعالى : { أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } [ الفرقان : 42 ] .
وقال عمر في رسالته لأبي موسى الأشعري : الرّجوع إلى الحقّ خيرٌ مِنَ التَّمَادِي في الباطل .
وجوابٌ آخرُ : أنَّ قوله : « وَلأَمَةٌ » لم يُرد به الرّقَّ المَمْلُوك وإِنَّما أراد به الآدمِيَّات والآدَميين كقوله عليه الصّلاة والسَّلام :
« لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ » وكذا قوله : { وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ } وقوله : { وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ } هذا بالإِجماع المراد منه الكُلّ ، وأَنَّ المُؤْمِنة لا يحلُّ تزويجها بكافرٍ البَتَّة على اختلاف أنواع الكُفر ، والكلام في قوله : { وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ } على نحو ما تقدَّمَ .
فصل في نكاح المجوسيَّة
قال القرطبيُّ : اختلفوا في نكاح المجوسية؛ فمنع منه مالكٌ والشَّافعيُّ ، وأبو حنيفة ، والأوزاعيُّ وإسحاقُ .
وقال أحمد : لا يعجبني .
وروي أَنَّ حُذيفة بن اليمان تزوَّجَ مجوسية ، وأَنَّ عمر بن الخطَّاب قال له : طلِّقها .
قال ابن القصَّار : من قال كان لهم كتاب جَوَّزَ نكاحهنَّ .
قوله : { أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار } وهي نظير قوله تعالى : { مَا لي أَدْعُوكُمْ إِلَى النجاة وتدعونني إِلَى النار } [ غافر : 41 ] ، وفي تأويلها وجوهٌ :
الأوَّل : أَنَّهم يدعون إلى ما يُؤَدِّي إلى النَّارِ .
فإن قيل : كيف يدعون إلى النَّارِ ، ورُبَّما لم يُؤمِنُوا بالنَّارِ أصلاً ، فكيف يدعون إليها؟!
والجواب : أنَّهم يدعون إلى ما يؤدِّي إلى النَّارِ ، فإنَّ الظَّاهر أن الزَّوجيّة مظنة الأُلفة والمحبة والمَودَّة ، وكُلُّ ذلك يُؤَدِّي إلى انتقال المسلم عن الإِسلام بسبب موافقة حبيبه .
فإن قيل : احتمالُ المحبَّة حاصِلٌ من الجانين ، فكما يحتملُ أَنْ يصير المسلمُ كافراً بسبب الأُلفةِ والمحَبَّةِ يحتمل أيضاً أنْ يصير الكافِرُ مُسْلِماً بسبب الأُلفةِ والمَحبَّة ، وإذا تعارض الاحتمالان ، تساقطا ، وبقي أصل الجوازِ .
فالجواب : أَنَّ العمل إذا دار بين أن يلحقه نفع ، أو بين أن يلحقه ضررٌ؛ وجب الاحترازُ عن الضَّرَرِ ، فلهذا السَّبب رجَّح اللهُ جانب المنعِ .
التَّأويل الثَّاني : أنَّهُم يدعون إلى ترك المحاربة والقتال ، وفي تركهما وجوب استحقاق النَّار والعقاب ، والغَرَضُ منه أَنْ يجعل هذا فرقاً بين الذِّمِّيَّة ، وغيرها ، فإنَّ الذِّمِّيَّة لا تحمل زوجها على المقاتلة .
التَّأويل الثالث : أَنَّ الولد الَّذِي يحدث ، ربَّما دعاهُ الكافِرُ إلى الكُفْرِ ، فيصير الكافر والولد من أهلِ النَّارِ ، فهذا هو الدَّعوة إلى النَّارِ ، { والله يدعوا إِلَى الجنة } حيثُ أمر بالتَّزْويج بالمسلمة ، حتى يكون الولد مسلماً من أهل الجَنَّة .
قوله : { والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة بِإِذْنِهِ } فيه قولان :
الأول : أَنَّ المعنى : وأولياء اللهِ يدعون إلى الجَنَّة ، والمغفرة ، فلا جرم أنه ينبغي للعاقل ألاَّ يقرب من مشركة ، فإِنَّها من أعداء اللهِ ، وأن ينكح المُؤْمنة؛ لأَنَّها تدعُو إلى الجَنَّةِ والمغفرة .
الثاني : أنَّهُ سبحانه وتعالى لمَّا بيَّنَ هذه الأَحكام ، وأباح بعضها ، وحرَّم بعضها قال { والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة } ؛ لأنَّ من تمسَّكَ بهما اسْتَحَقّ الجنَّةَ .
و { والمغفرة } الجمهورث على جَرِّ { والمغفرة } عطفاً على « الجَنَّةِ » و « بِإِذْنِهِ » مُتعلِّقٌ ب « يَدْعُو » أي : بتسهيلهِ ، وتيسيره ، وتوفيقه ، وقيل بقضائه وإرادته .
وفي غير هذه الآيةِ تقدَّمَت « المَغْفِرَة » على الجنة : { سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ } [ الحديد : 21 ] و { وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ } [ آل عمران : 133 ] ، وهذا هو الأصل؛ لأنَّ المغفرة سببٌ في دُخُولِ الجَنَّةِ ، وإنما أُخِّرَت هنا للمقابلة ، فإنَّ قبلَها « يَدْعُو إِلى النَّارِ » ، فقدَّم الجَنَّةَ ليقابِلَ بها النَّارَ لفظاً ، ولتشوُّقِ النُّفوس إليها حين ذكر دعاءَ اللهِ إليها ، فأتى بالأَشْرَفِ .
وقرأ الحسن { والمغفرة بِإِذْنِهِ } على الابتداءِ والخبرِ ، أي : حاصِلةٌ بإذنِهِ .
ويبين آياته للناس لعلَّهم يتذكَّرُون ، أي : أوامره ، ونواهيه .
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) { المحيض } فعل من الحيضِ ، ويُرادُ به المصدرُ ، والزمانُ ، والمكانُ ، تقولُ : حاضِت المرأَةُ تحيضُ ، حَيضاً ومَحِيضاً ، ومَحاضاً ، فَبَنَوْه على مَفْعلٍ ومَفْعَل بالكَسرِ والفتحِ .
واعلم أنَّ في المَفْعَل مِنْ يَفْعِل بكسر العينِ ثلاثة مذاهب :
أحدها : أَنَّهُ كالصَّحيح ، فتُفْتَحُ عينهُ مراداً به المصدرُ ، وتُكسَرُ مراداً به الزَّمانُ والمكانُ .
والثَّاني : أَنْ يُتَخَيَّر بين الفتح والكسر في المصدرِ خاصَّةً ، كما جاء هنا : المَحيضُ والمحَاضُ ، ووجهُ هذا القول : أنَّهُ كثُر هذان الوجهان : أعني ، الكسر ، والفتح فاقْتَاسا .
والثالث : أَنْ يُقْتَصَرَ على السَّماعِ ، فيما سُمِع فيه الكَسرُ ، أو الفتحُ ، لا يَتَعَدَّى . فالمحيضُ المُرادُ به المَصْدَرُ ليس بمقيسِ على المذهبين الأول والثالث ، مقيسٌ على الثاني . ويقال : امرأَةٌ حائِضٌ ولا يقال : « حائِضَةٌ » إلا قليلاً ، أنشد الفرَّاء : [ الطويل ]
1079- ... كَحَائِضَةٍ يُزْنَى بِهَا غَيْر طَاهِرِ
وَالمَعْرُوفُ أَنَّ النَّحويين فَرَّقوا بين حائضٍ ، وحائضةٍ : فالمُجرَّدُ من تاء التَّأنيث بمعنى النَّسَب ، أي : ذاتُ حيضٍ ، وإِنْ لم يكن عليها حَيْضٌ ، والملتبسُ بالتَّاءِ لِمَنْ عليها الحَيْضُ في الحال ، فيُحتمل أن يكونَ مرادُ الشاعر ذلك ، وهكذا كُلُّ صفةٍ مختصةٍ بالمُؤَنّثِ نحو : طَامِث ومُرْضِ وشبههما .
قال القرطبيُّ : ويقال : نساءٌ حيض ، وحوائض ، والحَيضةُ : المرأَةُ الواحدة . والحِيضةُ بالكَسْر ، الاسم والجمع الحيض ، والحيضة أيضاً : الخرقةُ التي تَسْتَثْفِرُ بها المَرْأَةُ ، قالت عَائِشَةُ : لَيْتَنِي كُنُتُ حِيْضَةٌ مُلْقَاةٌ « وكذلك المَحِيضَةُ ، والجمع : المَحائص .
وأصلُ الحَيض السَّيَلانُ ، والانفجِارُ ، يُقالُ : حَاضَ السَّيلُ وَفَاضَ ، قال الفَرَّاءُ : » حَاضَتِ الشَّجَرَةُ ، أي : سال صَمْغُها « ، قال الأَزهرِيُّ : » وَمِنْ هَذَا قيل لِلْحَوضِ : حَيْضٌ؛ لأَنَّ المَاءَ يسيلُ إليه « والعربُ تُدْخِلُ الواو على اليَاءِ ، وَالياءَ على الواوِ؛ لأَنَّهُما من حَيِّز واحدٍ ، وهو الهواءُ .
ويقالُ : حاضت المرأةُ وتحيَّضَتْ ، ودَرَسَتْ ، وعَرَكت ، وطَمِثت فهي حائضٌ ، ودارِسٌ ، وعارِكٌ ، وَطَامِثٌ ، وطَامِسٌ ، وكَابِرٌ ، وَضَاحِكٌ . قال تعالى : { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } [ يوسف : 31 ] أي : حضن ، وقال تعالى : { فَضَحِكَتْ } [ هود : 71 ] .
قال مجاهد : أي : حاضَتْ ونافس أيضاً ، والظَّاهر أن المحيض مصدرٌ كالحيضِ ، ومثله : » المَقِيلُ « مِنْ قال يقِيلُ؛ قال الرَّاعِي : [ الكامل ]
1080- بُنِيَتْ مَرَافِقُهُنَّ فَوْقَ مَزَلَّةٍ ... لاَ يَسْتَطِيعُ بِهَا القُرَادُ مَقِيلاَ
وكذلك قال الطَّبريُّ : » إِنَّ المَحِيضَ اسْم كالمَعِيشِ : اسمُ العَيْشِ « ؛ وأنشد لرؤبة : [ الرجز ]
1081- إِلَيْكَ أَشْكُو شِدَّةَ المَعِيشِ ... وَمَرَّ أَعْوَامٍ نَتَفْنَ رِيشِي
وقيل : المَحيضُ في الآية المُرادُ به : اسمُ موضعِ الدَّم ، وعلى هذا فهو مقيسٌ اتِّفاقاً ، ويؤيِّد الأَوَّل قوله : { قُلْ هُوَ أَذًى } . وقد يُجَابُ عنه بأنَّ ثَمَّ حذف مضافٍ ، أي : هو ذُو أَذى ، ويؤيِّدُ الثَّاني قوله : { فاعتزلوا النسآء فِي المحيض } . ومن حَمَلَه على المَصْدَرِ قَدَّر هنا حَذْفَ مُضَافٍ ، أي : فاعْتَزِلُوا وَطْءَ النِّسَاءِ في زَمَانِ الحَيْضِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المَحِيضُ الأَوَّلُ مَصْدَراً والثَّاني مكاناً .
حكى الواحديُّ في » البَسيط « عن ابن السَّكِّيت : إذا كان الفعلُ من ذوات الثلاثة نحو : كَالَ يكيلُ ، وحاضَ يحيض وأشباهه ، فإِنَّ الاسم منه مكسور والمصدر مفتوح ، مِنْ ذلك مالَ ممالاً ، وهذا مميله يذهب بالكسر إلى الاسم ، وبالفتح إلى المصدر ، ولو فتحهما جميعاً ، أو كسرهما جميعاً في المصدرِ والاسمِ لجازَ ، تقول : المَعَاشُ ، والمَعِيشُ ، والمَغَابُ ، والمَغِيبُ ، والمَسَارُ والمَسِيرُ فثبت أَنَّ لفظ المحيض حقيقةٌ في موضع الحيض ، وأيضاً هو اسمٌ لنفس الحيضِ .
قال ابن الخطيب : وعندي أَنَّهُ ليس كذلك؛ إذ لو كان المُرادُ بالمحيض هنا الحيض ، لكان قوله تعالى { فاعتزلوا النسآء فِي المحيض } معناه : فاعتزلوا النِّساء في الحيض ، ويكونُ المُرادُ : فاعتزلوا النساء في زمن الحيض ، يكون ظاهره مانعاً من الاستمتاع بهنَّ فيما فوق السُّرَّة ، ودون الرّكبة ، ولما كان هذا المنعُ غير ثابت لزم القول بتطرُّق النَّسخ ، والتَّخصيص إلى الآية ، وهو خلاف الأصل ، أما إذا حملنا المحيض على موضع الحيض؛ كان معنى الآية : فاعتزلوا النِّسَاءَ في موضع الحيض من النِّسَاء ، وعلى هذا التَّقدير لا يتطرَّقُ إلى الآية نسخٌ ، ولا تخصِيصٌ .
ومن المعلوم أَنَّ اللَّفْظ إذا كان مشتركاً بين معنيين وكان حمله على أحدهما يوجب محذوراً ، وعلى الآخر لا يوجب ذلك المحذور ، فإِنَّ حمل اللَّفظ على المعنى الَّذِي لا يُوجِبُ المحذورَ ، أولى إذا سلَّمنا أَنَّ لفظ المحيض مشتركٌ بين الموضع ، وبين المصَدرِ .
فإن قيل : الدَّليلُ على أَنَّ المُراد من المحيض الحيضُ قوله : { قُلْ هُوَ أَذًى } ، ولو كانَ المُرَادُ الموضع لما صَحَّ هذا الوَصْفُ .
قلنا : بتقدير أَنْ يكون المحيض عبارة عن الحَيض ، فالحيض نفسُهُ ليس بِأَذى لأن « الحَيْضَ » عبارةٌ عن الدَّمِ المخصوص ، و « الأَذَى » كيفيَّةٌ مخصوصَةٌ وهو عرض ، والجسم لا يكُونُ نفس العرض فَلا بُدَّ أَنْ يقُولُوا : المرادُ منه أَنَّ الحيض موصوف بكونه أذى ، وإذا جاز ذلك فيجُوزُ لنا أيضاً أن نقول : إِنَّ المراد منه أنَّ ذلك المَوْضع ذو أذًى ، وأيضاً لم لا يجوزُ أَنْ يكون المراد بالمحيض الأَوَّل الحيض ، وبالمحيض الثَّاني موضع الحيضِ كَمَا تقدَّمَ وعلى هذا فيزولُ الإِشكالُ .
فصل في بيان مغالاة اليهود وغيرهم في أمر الحيض
عن أنس بن مالك أَنَّ اليهُود ، والمَجُوس كانُوا يبالغون في التَّباعد عن المرأَةِ حال حيضها ، والنَّصارَى كانوا يجامعوهنّ ولا يبالون بالحيض ، وأَنَّ أَهْلَ الجاهِليَّةِ كانُوا يقولُونَ مثل قولِ اليَهُودِ ، والمَجُوسِ ، وكانوا إذا حَاضَتِ المرأَةُ؛ لم يُؤَاكِلُوها ، ولم يُشارِبُوها ، ولم يُجَالِسُوها على فراشٍ ، ولم يساكنوها في بيتٍ كفعل اليهود والمجوس ، فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، فأنزل الله هذه الآية ، فأخذ المُسْلِمُون بظاهر الآية ، فأخرجوهنّ من بيوتهن ، فقال ناسٌ من الأَعْراب : يا رسُول اللهِ البردُ شديدٌ ، والثِّيابُ قَلِيلةٌ ، فإِنْ آثرناهن بالثِّيابِ ، هلك سائِرُ أهل البيت ، وإن اسْتَأْثَرْنَاهَا هلكت الحيض ، فقال عليه الصّلاة والسّلام : « إِنَّمَا أَمَرْتُكُم أَنْ تَعْتَزِلُوا مُجَامَعَتهنَّ إِذَا حِضْن ولَمْ آمُرُكُم بإِخْرَاجِهِنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ كَفِعْلِ الأَعاجِمِ »
فلمَّا سمع اليهُودُ ذلك قالوا : هذا الرَّجُلُ يُرِيدُ أَلاَّ يدع شيئاً من أمرنا ، إلاَّ خالفنا فيه . فَجاء أُسيِّد بن حُضيرٍ وعباد بن بشر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالا : يا رسُول اللهِ إِنَّ اليهُود تقول كذا وكذا ، أفلا ننكحهنّ في المحيض ، فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتَّى ظننا أَنَّه غضب عليهما ، فخرجا؛ فَجَاءَتْهُ هديَّةٌ مِنْ لَبَنِ ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما فسقاهما فعلمنا أنه لم يغضب عليهما .
فصل في مجيء « يسألونك » بحرف الواو
وجاء : { وَيَسْأَلُونَكَ } ثلاثَ مرَّاتٍ بحرفِ العطفِ بعد قوله : « يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر » وهي : « وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ » ، « وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى » « وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض » وجاء « وَيَسْأَلُونَكَ » أربع مراتٍ من غيرِ عطفٍ : « يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة » « يَسْأَلُونَكَ مَذاَا يُنْفِقُونَ » « يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ » « يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ » . فما الفرقُ؟
والجوابُ : أَنَّ السُّؤالات الأَواخر وقعَتْ في وقتٍ واحدٍ ، فجُمِع بينها بحرفِ الجمعِ ، وهو الواوُ ، أَمَّا السّؤالاتُ الأُوَلُ فوقعَتْ في أوقاتٍ متفرقةٍ ، فلذلك استؤْنِفَتْ كلُّ جملةٍ ، وجيء بها وحدها .
وقوله : { هُوَ أَذًى } فيه وجهان :
أحدهما : قاله أبو البقاء : « أَنْ يكُونَ ضمير الوطءِ الممنوع » وكأنه يقول : إِنَّ السِّياق يدلُّ عليه ، وإِنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ .
الثَّاني : أَنْ يعود على المحيض ، قال أبو البقاء : « ويكون التَّقدير : هو سببُ أَذًى » وفيه نظرٌ؛ فإنَّهم فَسَّروا الأَذَى هنا بالشَّيء القَذِر ، فإذا أَرَدْنا بالمَحِيضِ نَفْسَ الدَّمِ ، كان شيئاً مُسْتَقْذَراً ، فلا حاجة إلى تقديرِ حَذْفِ مضافٍ .
فصل في المراد من « الأذى »
قال عطاءٌ ، وقتادةٌ ، والسُّدِّيُّ : هو أَذًى ، أي : قذر واعلم أَنَّ الأَذَى في اللُّغة ما يكره مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، ويحتمل أن يَكُونَ قوله : { هُوَ أَذًى } ، أي : سببُ الأَذَى قالوا : لأَنَّ من جَامَعَ في الحَيْض ، قد يحصُلُ له في ذكره وأنثييه تفتيح وقروح .
وقوله : { فاعتزلوا النسآء فِي المحيض } .
الاعتزالُ : التَّنَحِّي عن الشَّيْءِ ، وأَرَاد به ها هنا : تَرْكَ الوَطءِ ، وقدَّم ذكر العِلَّة ، وهي الأذى ، ثم رَتَّبَ الحُكْم ، وهو وجوب الاعتزال . فإن قيل : المرادُ ب « الأذى » هو الدَّمُ ، وهو حاصِلٌ في وقت الاستحاضة مع أن اعتزال المرأة وقت الاستحاضة ، غير واجب ، فانتقضت هذه العِلَّةُ .
والجواب : أَنَّ دم الحيض دَمٌ فاسِدٌ يتولّد من فضلة تدفعها طبيعة المرأة من عمق الرَّحم ، ولو احْتَبَسَتْ تلك الفضلةُ لمرضت المرأةُ ، فذلك الدَّمُ جارٍ مجرى البَوْلِ ، والغائط ، فكان أَذًى وقذراً ، وأَمَّا دمُ الاستحاضة ، فليس كذلك ، بل هو دَمٌ صالحٌ يسير من عروق تنفجر من عمق الرَّحِمِ ، فلا يكونُ أذى ، قال - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما سئل عن الاستحاضة فقال :
« إِنَّ ذَلكَ دَمُ عِرْق ، ولَيْسَ بِالحَيْضَةِ » .
قال ابن الخطيب : وهذا جوابٌ طبّيٌّ مُخَلِّصٌ ظاهر القرآن مِنَ الطَّعن .
فصل في بيان صفات دم الحيض
اعلم أَنَّ الحيضِ موصوفٌ بصفاتٍ حقيقيةٍ ، ويتفرَّعُ عليه أحكام شرعيّة فالصِّفاتُ نوعان :
الأول : المنبعُ؛ فدم الحيض يخرجُ من الرَّحم ، قال تعالى : { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ } [ البقرة : 228 ] قيل في تفسيره إنَّ المراد منه الحيض والحمل ، وأَمَّا دم الاستحاضة ، فإِنَّهُ لا يخرجُ من الرَّحم ، لكن من عروق تنقطع من فم الرَّحم ، قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في صفة دم الاستحاضة : « إِنَّهُ دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ » ، وهذا يؤيّدُ ما تقدَّمَ في الجواب .
النوع الثاني : من صفات دم الحيضِ التي وصفه بها رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وهي سِتّ :
أحدها : إنه أسود .
الثاني : أنه ثخين .
الثالث : محتدم وهو المحترقُ من شدَّةِ حرارته .
الرَّابع : أنه يخرُجُ برفق لا يسيلُ سيلاناً .
الخامس : أنَّ له رائحة كريهة بخلاف سائر الدماء؛ وذلك لأنه من الفضلات التي تدفعها الطبيعة .
والسادس : أنه بحراني وهو الشَّدِيدُ الحمرة ، وقيل ما تحصُلُ فيه كدورة تشبيهاً له بماء البحر .
فهذه صفاته الحقيقيّة ، ثم مِنَ النَّاسِ من قال : إِنَّ دَمَ الحَيْضِ يتميَّزُ عن دمِ الاستحاضة ، فكلُّ دم موصوف بهذه الصِّفَات ، فهو دَمْ حَيْضِ وما لا فلا ، وما اشتبه الأمرُ فيه فالأَصْلُ بقاء التَّكليف ، ولا يزول إلا بعارض الحيض ، فإذا لم يُعلمْ وجوده؛ بقيت التَّكَاليفُ على ما كانت وقال آخرون : هذه الصِّفَاتُ قد تشتَبِهُ على المُكَلّف ، فإيجاب التأمل من تلك الدِّمَاء يقتضي عسراً ومشقة فقدر الشاعر وقتاً مضبوطاً ، متى حصلت فيه الدِّمَاءُ كان حُكمُها حُكم الحَيْضَ كيفما كانت صفةُ تلك الدِّماء قَصْداً إلى إسقاط العُسْرِ والمَشَقَّةِ .
فصل
اختلف العُلَماءُ في مُدَّةِ الحيضِ ، فقال عليُّ بن أبي طالب - رضي الهُ عنه - : أقلُّه يوم ولَيْلَة ، وأكثرُهُ خمسة عشر يوماً ، وهو قولُ عطاء بن أَبي رباحٍ ، والأوزاعيِّ ، والشَّافِعِيّ ، وأحمد ، وإسحاق .
وقال أبو حنيفة ، والثَّورِيّ : أقلّه ثلاثة أيَّام ولياليهن ، فإِنْ نقص عنه ، فهو دمٌ فاسد؛ وأكثره عشرةُ أيَّامِ .
قال أبو بكر الرَّازِيُّ في « أحكام القُرْآن » : وقد كان أبُو حنيفة يقولُ بقول عطاءِ ، ثم تركه .
وقال مَالِكٌ : لا تقديرَ له في القِلَّةِ ، والكثرة ، فإن وُجِدَ ساعةً ، فهو حيض ، وإن وجد أيّاماً ، فكذلك .
واحتجَّ أبُو بكر الرازيُّ في « أَحْكَامِ القُرْآنِ » على فساد قول مالكٍ بأنه : لو كان التَّقْدير ساقطاً في القليل ، والكثِير ، لوجب أَنْ يكُونَ الحيض هو الدّم الموجود من المرا’ فيلزم ألاَّ يوجد في الدنيا مستحاضة لأن كل ذلك الدم يكون حيضاً على المذهب ، وذلك باطِلٌ بالإجماع ولأنه روي أَنّ فاطمة بنت أبي حبيش قالت للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنِّي أُسْتَحَاضُ فَلا أَطْهُرُ » وروي أَنّ منه ما هو حيضٌ ، ومنه ما هو استحاضةٌ ، فبطل هذا القول ويمكن الجواب عنه بأن نقُولَ : إِنَّما يتميَّزُ دم الحيض عن دم الاستحاضة بالصِّفات التي قدّمناها لدم الحيضِ ، فإذا عدمت؛ حكمنا بدم الحيض ، وإِنْ تَرَدَّدْنا فيهما ، كان طريانُ الحيض مجهولاً ، وبقاء التّكليف الَّذِي هو الأَصلُ معلوم ، والمشكوك لا يارض المعلوم ، فلا جَرَمَ قلنا ببقاء التَّكاليف ، فبهذا الطّريق يميز الحيض عن الاستحاضة وإن لم يجعل للحيض زماناً معيّناً .
واحتجَّ مالكٌ - رضي اللهُ عنه - بوجهين :
الأول : أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بيَّنَ علامة دم الحيض ، وصفته كما قدمنا في قوله : « دَمُ الحَيْضِ هُوَ الأَسْوَدُ المُحْتَدمُ » وإذا كان الدَّمُ موصوفاً بهذه الصِّفَةِ ، كان الحيضُ حاصِلاً ، فيدخلُ تحت قوله : { فاعتزلوا النسآء فِي المحيض } .
الثاني : قوله في دم الحيض « هُو أَذى » ، ذكر كونهُ أَذًى في معرض العِلَّة ، لوجوب الاعتزال ، وإِنَّما كان « أَذًى » للرَّائِحَة المنكرة التي فيه ، واللون الفاسد وللحدةِ القوية الَّتي فيه ، وإذا كان وجُوبُ الاعتزال معللاً بهذه المعاني ، وجب الاحتراز عملاً بالعِلَّةِ المذكورة في كِتابِ الله .
واحتجّ الشَّافعيُّ على أبي حنيفة بوجهين :
الأول : أنه وجد دم الحيض في اليوم بليلته ، وفي الزَّائد عن العشرة لأنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - وصف دم الحيض بأنه أسود محتدم ، فإذا وجد ذلك ، فقد حصل الحيض فيدخل تحت قوله : { فاعتزلوا النسآء فِي المحيض } تركنا العمل بهذا الدّليل في الأقلّ من يوم وليلة وفي الأكثر من خمسة عشر يوماً باتِّفاق بيني وبينك يا أبا حنيفة؛ فوجب أن يبقى معمولاً به في هذه المدَّة .
الثاني : أنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - بيّن نقصان دينها : بأنها تمكث شطر عمرها لا تصلّي ، وهذا يدلُّ على أنَّ الحيضة قد تكون خمسة عشر يوماً؛ لأن على هذا التقدير يكون الطهر خمسة عشر يوماً؛ فيكون الحيض نصف عمرها ، ولو كان أقلّ من ذلك لم تكن تاركة للصَّلاة نصف عمرها .
أجاب أبو بكر الرَّازيُّ عنه بوجهين :
الأوَّل : أن الشَّطر ليس هو النِّصف ، بل هو البعض .
والثاني : أنه لا يوجد في الدُّنيا امرأة تكون حائضاً نصف عمرها ، لأن ما مضى من عمرها قبل البلوغ هو من عمرها .
والجواب عن الأول : أنَّ الشَّطر هو النِّصف ، يقال : شطرت الشَّيء أي جعلته نصفين ، ويقال في المثل : « احْلُبْ حَلْباً لَكَ شَطْرُهُ » أي نصفه .
وعن الثاني : أن قوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « تَمْكُثُ إِحْدَاكُنَّ شَطْرَ عُمْرِهَا لاَ تُصَلِّي » إنّما يتناول زماناً هي تصلّي فيه ، وذلك لا يتناول إلا زمان البلوغ .
واحتجَّ أبو بكر الرازي على قول أبي حنيفة بوجوه :
الأول : ما روى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
« أَقَلّ الحَيْضِ ثَلاثَة أَيَّامٍ ، وَأَكْثَرُهُ عَشْرَةُ أَيَّام » فإن صحَّ هذا الحديث ، فلا معدل عنه لأحد .
الثاني : روي عن أنس بن مالك ، وعثمان بن أبي العاص الثَّقفيّ أنهما قالا : « الحيضُ ثلاثةُ أيَّامٍ ، وأربعة أيَّامٍ إلى عَشَرَةِ أيَّام ، وما زاد فهو اسْتِحَاضَة » وهذا قول صحابي لم يخالفه أحدٌ ، فكان إجماعاً ، ولأنَّه إذا ورد قول عن صحابي فيما لا سبيل للعقل إليه ، فالظَّاهر أنَّه سمع من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم .
الثالث : قوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - لحمنه بنت جحش : « تحيضي في علم الله ستّاً ، أو سَبْعاً ، كما تَحِيضُ النِّسَاء في كُلِّ شَهْرٍ » فقوله : « كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ في كُلِّ شَهْرٍ » مقتضاه أن يكون حيض النِّسَاء في كلِّ شهر هذا القدر ، خالفنا هذا الظَّاهر في الثَّلاثة إلى العشرة ، فيبقى ما عداه على الأصل .
الرابع : قول عليه الصَّلاة والسَّلام : « مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِعُقُولِ ذَوِي الأَلْبَابِ مِنْهُنَّ » فقيل : ما نقصان دينهن؟ قال : « تَمْكُثُ إِحْدَاهُنَّ الأَيَّامَ واللَّيَالِي لاَ تُصَلِّي » .
فهذا يدلُّ على أنَّ مدَّة الحيض ما يقع عليه اسم الأيّام ، واللَّيالي ، وأقلّها ثلاثة أيَّام وأكثرها عشرة؛ لأنَّه لا يقال في الواحد ، والاثنين لفظ الأيَّام ، ولا يقال في الزَّائد على العشرة أيَّام؛ بل يقال أحد عشر يوماً ، أما الثَّلاثة إلى العشرة ، فيقال فيها أيَّامٌ .
وأيضاً قوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - لفاطمة بنت أبي حبيش : « دَعِي الصَّلاةَ أيَّامَ أَقْرَائِك » فلفظ الأيَّام مختصّ بالثَّلاثة إلى العشرة .
وفي حديث أُمِّ سلمة في المرأة التي سألته أنَّها تهرق الدَّم فقال : « لِتَنْظُر عَدَدَ الأَيَّامِ ، واللَّيَالِي الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُ مِنَ الشَّهْرِ ، ثُمَّ لِتَغْتَسِل ولتصلِّ » .
فإن قيل : لعلَّ حيض تلك المرأة كان مقدّراً بذلك المقدار قلنا : إنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - ما سألها عن قدر حيضها ، بل حكم عليه بذلك الحكم مطلقاً ، فدلّ هذا على أنَّ الحيض مطلقاً مقدّر بما ينطلق عليه لفظ الأيَّام .
وأيضاً قال في حديث عديِّ بن ثابتٍ : « المُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلاَةَ أَيَّامَ حَيْضِهَا » وذلك عامٌّ في جميع النِّساء .
الخامس : قال الجبَّائي في « تَفْسِيرِهِ » إنّ فرض الصِّيام والصَّلاة لازم لعموم الأدلَّة ، فعلى الوجوب ترك العمل بها في الثَّلاثَةَ إلى العشرة بالإجماع ، وما دون الثَّلاثة وفوق العشرة حصل فيه اختلاف العلماء ، فأورث شبهة ، فلم نجعله حيضاً ، فوجب بقاء التَّكليف على أصله .
فصل في حرمة جماع الحائض
اتَّفق المسلمون على حرمة الجماع في زمن الحيض ، واختلفوا في وجوب الكفَّارة على من جامع فيه ، فذهب أكثرهم إلى أنَّه لا كفَّارة عليه فليستغفر الله ويتوب ، وذهب قومٌ إلى وجوب الكفَّارة عليه؛ منهم : قتادة والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق ، لما روى ابن عبَّاس أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في رجلٍ جامع امرأته وهي حائضٌ
« إنْ كَانَ الدَّمُ عَبِيطاً؛ فَلْيَتَصَدّق بِدينَار ، وإِنْ كَانَ صُفْرَةٌ ، فَنِصْفُ دِينَارٍ » وروي موقوفاً على ابن عبَّاس . واتَّفقوا على أنَّ جلّ الاستمتاع فيما فوق السُّرَّة ، ودون الرُّكبة [ واختلفوا بأنّه هل يجوز الاستمتاع بها فيما دون السُّرة ، وفوق الرُّكبة؟ ] قال ابن الخطيب : إن فسَّرنا المحيض بموضع الحيض ، كانت الآية دالّة على تحريم الجماع فقط ، فلا يكون فيها دلالة على تحريم غيره ، بل نقول : إنّ تخصيص الشَّيءِ بالذّكر يدلُّ على أنَّ الحُكْمَ فيما عداه بخلافه ، وإن فسَّرنا المحيض بالمحيض ، كان تقدير الآية فاعتزلوا النِّساء في زمان المحيض ، وترك العمل بها فيما فوق السُّرَّة ودون الرُّكبة؛ فوجب أن يبقى الباقي على الحرمة .
قوله : { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ } ، أي : لا تجامعوهنّ .
قال ابن العربيّ : سمعت الشّاشيَّ يقول : إذا قيل « لا تَقْرَب » - بفتح الرَّاء - كان معناه : لا تَتَلَبَّسْ بالفعل ، وإذا كان بضمّ الرَّاء كان معناه : لا تَدْنُ منه ، وهذا كالتأكيد لقوله تعالى : { فاعتزلوا النسآء فِي المحيض } فهذا نهيٌ عن المباشرة في موضع الدَّم ، وقوله : « وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ » نهي عن الالتذاذ بما يقرب من ذلك الموضع .
« حتّى » هنا بمعنى « إلى » والفعل بعدها منصوب بإضمار أنْ ، وهو مبنيٌّ لاتصاله بنون الإناث .
وقرأ حمزة والكسائيُّ ، وأبو بكرٍ بتشديد الطَّاء والهاء ، والأصل :
يتطهَّرن ، فأُدغم .
والباقون : « يَطْهُرْنَ » مضارع طَهُرَ ، قالوا : وقراءة التَّشديد معناها يغتسلن ، وقراءة التَّخفيف معناها ينقطع دمهنَّ . ورجَّح الطَّبري قراءة التَّشديد وقال : « هي بِمَعْنَى يَغْتَسِلْنَ لإجماع الجميع على تَحْرِيم قُرْبَان الرَّجُل امرأته بعد انقطاع الدَّم حتَّى تطهر ، وإ ، ما الخلاف في الطهر ما هو؟ هل هو الغسل أو الوضوء ، أو غسل الفرج فقط؟ » .
قال ابن عطيَّة : « وكلُّ واحدة من القراءتين تحتمل أن يراد بها الاغتسال بالماء ، وأن يراد بها انقطاع الدَّم وزوال أذاه » .
قال : « وَمَا ذَهَبَ إليه الطَّبريُّ مِنْ أنَّ قِرَاءَةَ التَّشْدِيد مُضَمَّنُها الاغتسال ، وقراءة التَّخفيف مُضَمَّنُها انْقِطَاعُ الدَّمِ أمرٌ غيرُ لاَزِم ، وكذلك ادِّعَاؤهُ الإجماع » وفي رد ابن عطيَّة عليه نظرٌ؛ إذ لو حملنا القراءتين على معنى واحدٍ لزم التِّكرار . ورجَّح الفارسيُّ قراءة التَّخفيف؛ لأنها من الثلاثي المضادِّ لطمث وهو ثلاثي .
فصل في ورود لفظ الطهور في القرآن
قال أبو العبَّاس المقري : ورد لفظ « الطُّهُورِ » في القرآن بإزاء تسعة معانٍ :
الأول : انقطاع الدَّم ، قال تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ } [ البقرة : 222 ] ، أي : حتى ينقطع الدَّم .
الثاني : الاستنجاء بالماء؛ قال تعالى : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } [ التوبة : 108 ] ، أي : يستنجون بالماء .
الثالث : الاغتسال ، قال تعالى : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ } [ البقرة : 222 ] أي : اغْتَسَلْنَ .
الرابع : التَّنظيف من الأدناس ، قال تعالى :
{ وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } [ البقرة : 25 ] .
الخامس : التَّطهُّر من الذُّنوب؛ قال تعالى : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } [ الواقعة : 79 ] ، ومثله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ } [ التوبة : 103 ] .
السادس : التَّطهير من الشّرك ، قال تعالى : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ } [ الحج : 26 ] ، أي : طهره من الشرك .
السابع : الطهور الطيب ، قال تعالى : { ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } [ الأحزاب : 53 ] أي أطيب .
الثامن : الطهور الحلّ ، قال تعالى : { هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } [ هود : 78 ] ، أي : أحل .
التاسع : التطهر من الرّجس ، قال تعالى : { وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } [ الأحزاب : 33 ] ، أي : من الآثام والرِّجس .
فصل في بيان النَّهي عن الإتيان هل بعد انقطاع الدم أو الاغتسال .
استدلّ أبو حنيفة - رضي الله عنه - بقوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ } بأنه نهيٌ عن قربانهن إلى غاية ، وهي أن يطهرن ، أي ينقطع حيضهنّ ، وإذا كان انقطاع الحيض غايةً للنَّهي؛ وجب أن يزول النَّهي عند انقطاع الحيض .
وأجيب بأنَّه لو اقتصر على قوله « حتى يَطْهُرْنَ » ، لكان ما ذكرتم لازماً أما إذا انضم إليه قوله : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ } صار المجموع هو الغاية ، وذلك بمنزلة أن يقول الرَّجل : لا تكلِّم زيداً حتى يدخل الدَّار ، فإذا طابت نفسه بعد الدُّخول ، فكلّمه ، فإنّه يجب أن يتعلّق إباحة كلامه بالأمرين جميعاً .
فإن قيل : يحمل قوله : « فَإِذَا تَطَهَّرْنَ » على غسل الموضع ، فإنَّه يجب غسله بإجماع ، فالجواب أنَّ ظاهر قوله : « فَإِذَا تَطَهَّرْنَ » حكم عائد إلى ذات المرأة ، فوجب أن يكون هذا التَّطهير في كلّ بدنها لا في بعض بدنها ، وأيضاً فنحمله على التَّطهير الثَّابت في المستحاضة لثبوته في الحيض ، والمراد به الاغتسال ، إذا أمكن وجود الماء .
فصل في هل تجبر الكتابيَّة على الاغتسال من الحيض
اختلفوا في الكتابيَّة؛ هل تجبر على الغسل؟
فقيل تجبر لقوله تعالى : « فَإِذَا تَطَهَّرْنَ » يعني بالماء ، ولم يخص مسلمة من غيرها .
وقيل : لا تجبر؛ لأنها لا تعتقد ذلك ، وقال تعالى : { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر } [ البقرة : 228 ] وهو الحيض والحمل ، وهذا خطاب للمؤمنات . وقال : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } [ البقرة : 256 ] .
قوله : « فَإِذَا تَطَهَّرْنَ » يعني اغتسلن ، « فَأْتُوهُنَّ » أي : فجامعوهنّ .
قوله : { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } في « مِنْ » قولان :
أحدهما : أنَّها لابتداء الغاية ، أي : من الجهة الَّتي تنتهي إلى موضع الحيض .
والثاني : أن تكون بمعنى « في » ، أي : في المكان الذي نهيتم عنه في الحيض .
قال ابن عبَّاس ، ومجاهد وإبراهيم ، وقتادة وعكرمة : فأتوهنّ في المأْتى؛ فإنَّه هو الذي أمر الله به ولا تأتوهنّ في غير المأْتى؛ لقوله : { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } أي : في حيث أمركم ا لله؛ كقوله : { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة } [ الجمعة : 9 ] ، أي : في يوم الجمعة ، وقوله : { مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض } [ فاطر : 40 ] ، أي : في الأرض . ورجَّح هذا بعضهم ، وفي الكلام حذفٌ ، تقديره : « أَمَرَكُم اللهُ بالإِتيَان منه » يعني : أنَّ المفعول الثَّاني حذف للدلالة عليه .
قال الأصمُّ والزَّجَّاج : فأتوهنَّ بحيث يحلُّ لكم غشيانهنَّ ، وذلك بأن لا يكنَّ صائماتٍ ، ولا معتكفاتٍ ، ولا محرماتٍ .
وقال محمَّد بن الحنفيَّة : فأتوهنّ من قبل الحلال دون الفُجُور . والأقرب : قول ابن عباس ، ومن تابعة؛ لأن لفظة « حَيْثُ » حقيقة في الكلِّ ، مجاز في غيرها .
فصل
قال أبو العبَّاس المقري : ترد « مِنْ » بمعنى « في » كهذه الآية ، وتكون زائدة؛ كقوله تعالى : { يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } [ نوح : 4 ] ، وقوله : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين } [ الشورى : 13 ] أي : الدِّين ، وقوله : { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك } [ يوسف : 101 ] ، أي الملك . وبمعنى « البَاءِ » ؛ قال تعالى : { يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ } [ غافر : 15 ] أي : بأمره ، وقوله : { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله } [ الرعد : 11 ] ، أي : بأمر الله ، وقوله : { وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات } [ النبأ : 14 ] ، أي : بالمعصرات ، وبمعنى « عَلَى » ؛ قال تعالى : { وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم } [ الأنبياء : 77 ] ، أي : على القوم .
قال القرطبيُّ : عبَّر عن الوطء هنا بالإتيان .
قوله : { إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين } التَّوَّاب : هو المكثر من فعل ما يسمَّى توبةً ، وقد يقال : هذا في حقِّ الله تعالى -؛ من حيث إنه يكثر من قبول التَّوبة .
فإن قيل : ظاهر الآية يدلُّ على أنَّه يحبُّ تكثير التَّوبة مطلقاً ، والعقل يدلُّ على أن التَّوبة لا تليق إلاَّ بالمذنب ، فمن لم يكن مذنباً ، لا تجب منه التَّوبة .
فالجواب من وجهين :
الأول : أن المكلَّف لا يأمن البتَّة من التَّقصير .
والثاني : قال أبو مسلمٍ : التَّوبة في اللُّغة عبارة عن الرُّجوع ، ورجوع العبد إلى الله في كلِّ الأحوال محمودٌ .
واعترضه القاضي : بأن التَّوبة - وإن كانت في أصل اللغة الرُّجوع - إلا أنها في عرف الشَّرع عبارةٌ عن النَّدَم على الفعل الماضي ، والتَّرك في الحاضر ، والعزم على ألاَّ يفعل مثله في المستقبل؛ فوجب حمله على المعنى الشَّرعيِّ دون اللُّغويّ .
ولأبي مسلم أن يجيب : بأنّ مرادي من هذا الجواب ، أنّه إن أمكن حمل اللَّفظ على التَّوبة الشَّرعيَّة ، فقد صحَّ اللَّفظ ، وإن تعذَّر ذلك ، حملناه على التَّوبة بحسب اللُّغة الأصليَّة .
قوله : { وَيُحِبُّ المتطهرين } فيه وجوه :
أحدها : المراد منه التَّنزُّه عن الذُّنوب والمعاصي ، قاله مجاهد .
فإن قيل : كيف قدَّم ذكر المذنب على من لم يُذنب؟
فالجواب : قدَّمه لئلا يقنط التَّائب من الرَّحمة ، ولا يعجب المتطهِّر بنفسه؛ كقوله في آيةٍ أخرى : { ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات } [ فاطر : 32 ] ، قاله القرطبي .
الثاني : قال عطاء ومقاتل بن سليمان والكلبيّ : « يُحِبُّ التَّوَّابِينَ من الذُّنُوبِ ، والمتَطَهِّرِين بالمَاءِ من الأَحْدَاثِ والنَّجَاسَاتِ » .
الثالث : قال مقاتل بن حيَّان : يحب التَّوَّابين من الذُّنُوب ، والمتطهِّرين من الشِّرك .
الرابع : قال سعيد بن جبير : التَّوَّابين من الشِّرك ، والمتطهِّرين من الذُّنوب .
الخامس : أن المراد ألا يأتيها في زمان الحيض ، وألاَّ يأتيها في غير المأتى على ما قال : { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } .
قال بعضهم : وهذا أولى؛ لأنه أليق بنظم الآية ، ولأنَّه - تعالى - قال حكاية عن قوم لوطٍ : { أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } [ الأعراف : 82 ] ، فكان قوله : { وَيُحِبُّ المتطهرين } ترك الإتيان في الأدبار .
السادس : أنَّه - تعالى - لمَّا أمرهنّ بالتَّطهير في قوله : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } ، فلا حرم مدح التَّطهير ، فقال : { وَيُحِبُّ المتطهرين } والمراد منه التَّطهير بالماء؛ قال - تعالى - : { رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين } [ التوبة : 108 ] ، قيل في التَّفسير : إنهم كانوا يستنجون بالماء ، وكرَّر قوله « يُحِبُّ » ؛ دلالةً على اختلاف المقتضي للمحبَّة ، فتختلف المحبَّة .
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } : مبتدأٌ وخبرٌ ، ولا بدَّ من تأويلٍ ، ليصحَّ الإخبار عن الجثة بالمصدر ، فقيل : على المبالغة ، جُعلوا نفس الفعل ، وقيل : أراد بالمصدر ، اسم المفعول ، وقيل : على حذف مضافٍ من الأوَّل ، أي : وطء نسائكم حرثٌ ، أي : كحَرْثٍ ، وقيل : من الثاني ، أي : نساؤُكُم ذواتُ حَرْثٍ ، و « لَكُمْ » في موضع رفعٍ؛ لأنه صفةٌ ل « حَرْث » ، فيتعلَّق بمحذوفٍ ، وإنما أفرد الخبر ، والمبتدأ جمعٌ؛ لأنه مصدرٌ والأفصح فيه الإفراد .
قوله : { أنى شِئْتُمْ } ، ظرف مكانٍ ، ويستعمل شرطاً واستفهاماً بمعنى « مَتَى » ، فيكون ظرف زمانٍ ، ويكون بمعنى « كَيْفَ » ، وبمعنى « مِنْ أَيْنَ » ، وقد فسِّرت الآية الكريمة بكلِّ من هذه الوجوهِ ، وقال النحويون : « أَنَّى » لتعميم الأحوال ، وقال بعضهم : إنما تجيءُ سؤالاً وإخباراً عن أمْرٍ له جهاتٌ ، فَهِيَ على هذا أعمُّ مِنْ « كَيْفَ » ، ومِنْ « أَيْنَ » ، ومِنْ « مَتَى » ، وقالوا : إذا كانت شرطيةً ، فهي ظرف مكانٍ فقط ، واعمل أنها مبنيةٌ؛ لتضمُّنها : إمَّا معنى حرف الشرط ، والاستفهام ، وهي لازمة النصبِ على الظرفية ، والعامل فيها هنا قالوا : الفعل قبلها وهو : « فَأْتُوا » قال أبو حيان : وهذا لا يصحُّ؛ لأنَّها إمَّا شرطية أو استفهاميةٌ ، لا جائزٌ أن تكون شرطيةً؛ لوجهين :
أحدهما : من جهة المعنى ، وهو أنَّها إذا كانت شرطاً ، كانت ظرف مكانٍ ، كما تقدَّم؛ وحينئذٍ : يقتضي الكلام الإباحة في غير القبل ، وقد ثبت تحريم ذلك .
والثاني : من جهة الصناعة ، وهو أنَّ اسم الشرط لا يعمل فيه ما قبله؛ لأنَّ له صدر الكلام ، بل يعمل فيه فعل الشرط؛ كما أنه عاملٌ في فعل الشرط الجزم ، ولا جائزٌ أن تكون استفهاماً؛ لأنَّ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله؛ لأنَّ له صدر الكلام ، ولأنَّ « أَنَّى » إذا كانت استفهاميةً ، اكتفت بما بعدها من فعلٍ واسم ، نحو : { أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } [ الأنعام : 101 ] { أنى لَكِ هذا } [ آل عمران : 27 ] وهذه في هذه الآية مفتقرة لما قبلها كما ترى ، وهذا موضع مشكل يحتاج إلى تأملٍ ونظر .
ثم الذي يظهر : أنها هنا شرطيةٌ ، ويكون قد حذف جوابها؛ لدلالة ما قبله عليه ، تقديره : أنَّى شئتم ، فأتوه ، ويكون قد جعلت الأحوال فيها جَعْلَ الظروف ، وأُجريت مجراها ، تشبيهاً للحال بظرف المكان؛ ولذلك تقدَّر ب « في » ، كما أُجريت « كَيْفَ » الاستفهامية مجرى الشرط في قوله : { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } [ المائدة : 64 ] وقالوا : كيف تصنع أصنع ، فالمعنى هنا ليس استفهاماً بل شرطاً؛ فيكون ثمَّ حذفٌ في قوله : « يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ » ، أي : كيف يشاء يُنْفِق ، وهكذا كل موضعٍ يشبهه ، وسيأتي له مزيد بيانٍ ، فإن قلت : قد أخرجت « أنَّى » عن الظرفية الحقيقية ، وجعلتها لتعميم الأحوال مثل « كَيْفَ » وقلت : إنها مقتضيةٌ لجملةٍ أخرى كالشرط ، فهل الفعل بعدها في محلِّ جزم ، اعتباراً بكونها شرطيةً ، أو في محلِّ رفع ، كما تكون كذلك بعد « كَيْفَ » التي تسعمل شرطية؟ قلت : تحتمل الأمرين ، والأرجح الأول؛ لثبوت عمل الجزم؛ لأنَّ غاية ما في الباب تشبيه الأحوال بالظروف ، للعلاقة المذكورة ، وهو تقدير « في » في كلٍّ منهما .
ولم يجزم ب « كَيْفَ » إلا بعضهم قياساً لا سماعاً ، ومعفول « شِئْتُمْ » محذوفٌ ، أي : شِئْتُمْ إتيانه بعد أن يكون في المحلِّ المباح .
فصل في بيان سبب النزول
روى ابن عبَّاسٍ في سبب النزول؛ قال : جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، هلكت . قال : « وَمَا الَّذِي أَهْلَكَكَ؟ » قال : حَوَّلْتُ رَحْلِي البَارِحَةَ ، فلم يَرُدَّ عليه شيئاً ، فَأُوحي إليه : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } ، يقول : أقبل ، وأدبر ، واتَّقِ الحَيْضَة والدُّبُرَ .
وروى جابر بن عبدالله؛ قال : كانت اليهود تقول في الذي يأتي امرأته من دبرها في قبلها : إن الولد يكون أحولاً ، فنزلت هذه الآية .
وروى مجاهد عن ابن عبَّاسٍ؛ قال : كان من شأن أهل الكتاب ألاَّ يأتوا النِّساء إلاَّ على حرفٍ ، وذلك أستر ما تكون المرأة ، وكان هذا الحيُّ من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم ، وكان هذا الحيُّ من قريشٍ يتلذَّذُون منهنَّ مقبلات ، ومدبراتٍ ، ومستلقياتٍ ، فلما قدم المهاجرون المدينة ، تزوَّج رَجُلٌ منهم امرأَةً من الأنصار ، وذهب يصنعُ لها ذلك فَأَنْكَرَت ذلك عليه ، وقالت : إنما كُنَّا نُؤْتَى عَلَى حَرْفٍ ، فَإن شِئْتَ فَاصْنَع ذَلِك وإلا فاجْتَنِبْنِي ، حتى سَرَى أَمْرهَا إلى رَسُولِ الله صلى الله عيه وسلم ، فَأنزلَ الله - عزَّ وجلَّ - : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } يعني : موضع الولد ، { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } مُقْبِلاتٍ ، ومُدْبِرَاتٍ ومُستلقياتٍ .
فصل
قال عكرمة والحسن : « أنى شِئْتُمْ » إنما هو الفَرْجُ .
وقوله : « حَرْثٌ لَكُم » أي : مَزْرَعٌ لكم ، ومنبتٌ للولد بمنزلة الأرض ، وهذا دليلٌ على تحريم الأدبار؛ لأن محلَّ الحرث والزَّرع هو القبل لا الدُّبر ، ؛ وأنشد ثعلبٌ : [ الرمل ]
1082- إِنَّمَا الأَرْحَامَ أَرْضُو ... نَ لَنَا مُحْتَرَثَاتُ
فَعَلَيْنَا الزَّرْعُ فِيهَا ... وَعَلَى اللهِ النَّبَاتُ
وقال سعيد بن المسيَّب : هذا في العزل ، يعني : إن شئتم فاعزلوا ، وإن شئتم فلا تعزلوا ، سئل ابن عبَّاس عن العزل؛ فقال : حرثُكَ ، فإن شئتَ فعطِّش ، وإن شئت فَارْوِ .
ورُوي عنه؛ أنَّه قال : تُسْتَأْمَر الحرَّة في العزل ، ولا تُسْتَأْمَرُ الجارية ، وكره جماعة العزل ، وقالوا : هو الوَأْدُ الخفيّ .
وروى مالك عن نافع؛ قال : كُنْتُ أَمْسِكُ على ابن عمر المُصْحَفَ ، فقرأْتُ هذه الآية : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } فقال : تدْري فيما نزلت؛ في رجلٍ أتى امْرَأَتَهُ في دبرها ، فشقَّ ذلك عليه ، فنزلت هذه الآية .الاتي ج11وج12. 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدجال يستغل ازمات الناس من الجوع ونقص الطعام والمياه في دعوتهم الباطلة لعبادتهم إياه والايمان به

  بياناته الشخصية     المسيح الدجال ليس خوارق إنما هو دجل وكذب قلت المدون ان الأ أزمة الاقتصادية الحادثة الان في كل دول العالم والمجاعة المت...