حمل المصحف وورد وبي دي اف.

 حمل المصحف وورد وPDF.
القرآن الكريم وورد word doc icon||| تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

الجمعة، 23 سبتمبر 2022

ج21.و22.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

 ج21.و22.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

 

ج21.و22.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني


ج21. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
والثَّاني قاله الكلبيُّ . وبعضهم : ما فصَّلَ من الشَّرائع ، وبعضهم أمر دينكم ، وهي متقاربة ، ويجوز في الآية وجه آخر [ حَسَنٌ ] ؛ وهو أن تكون المسألَةُ من باب الإعمال تنازع : « يبيِّن » و « يَهدي » في « سنن الذين من قبلكم » ، لأنَّ كلاَّ منهما يطلبه من جهة المعنى ، وتكونُ المسألة من إعمال الثَّاني ، وحذف الضَّمير من الأوَّلِ تقديره : ليبينها لكم ويهديكم سُننَ الَّذين من قبلكم .
والسُّنَّةُ : الطَّريقَةُ؛ لأنَّ المفسّرين نقلوا أن كلَّ ما بَيَّن لنا تحريمه وتحليله من النساء في الآيات المتقدمة فقد كان الحكم كذلك أيضاً في الأمم السَّالفةِ ، أو أنه بين لَكُمْ المصالح؛ لأنَّ الشَّرَائِعَ ، وإن كانت مختلفة في نفسها إلا أنَّها متَّفِقَةٌ في المصلحة .
فصل
قال بعضُ المفسَّرينَ { لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ } معناهما واحد وقال آخرون هذا ضعيفٌ .
والحقُّ أنَّ قوله : { لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } أي : يميِّزَ الحلالَ من الحرامِ ، والحسن من القبيح .
وقوله تعالى : { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ } أي : أن الذي بيَّن تحريمه ، وتحليله لنا في الآيات المتقدّمة وقد كان كذلك في شرائع [ الإسلام ] من قبلنا ، أو يكون المراد منه { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ } [ في ] بيان ما لكم فيه من المصلحة [ فإنَّ الشَّرائعَ ، وإن اختلفت في نفسها إلاَّ أنَّهَا متفقة في المصالح ] .
قوله : { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } قال القاضي : معناه أنَّهُ تعالى كما أراد منّا نفس الطّاعة ، فلا جَر\ضمَ بيَّنَها وأزال الشُّبْهَةَ عنها وإذا وقع التَّقصيرُ والتَّفريط منَّا؛ فيريد أن يتوبَ علينا؛ لأنَّ المكلف قد يطيع فيستحق الثَّوابَ ، وقد يطيع فيستحقّ الثَّوابَ ، وقد يعصي فيحْتَاج إلى التلافي في التَّوبَةِ وفي التَّوْبَةِ وفي الآية إشكالٌ ، وهو أنَّ الحَقَّ إمَّا أن يكون قول أهل السُّنَّةِ [ من أنَّ فعل العبدِ ] مخلوقٌ للهِ [ وَإمَّا أن الحقَّ قولُ المعتزلة : من أنَّ فعلَ العبدِ ليسَ مخلوق اللهِ تعالى؛ والآيةُ مُشْكَلَةٌ على القَوْلَيْنِ ] أمَّا على الأوَّلِ [ فلانّ ] كلِّ مَا يريده الله تعالى [ فَإنَّهُ ] يحصلُ ، فإذا أرَاد أن يتوبَ علينا وأحبَّ أن تحصل التَّوْبَةَ لكلنا ، ومعلومٌ أنَّهُ ليس لذلك ، وأمَّا على القول الثَّاني : فهو تعالى يريدُ مِنَّا أن نتُوبَ باختيارنا ، وفعلنا وقوله { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } [ ظاهره ] مشعر بأنَّهُ تعالى هو الَّذي يخلق التَّوْبَةَ فينا .
فالجوابُ أن قوله { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } صريحٌ في أنَّهُ تعالى هو الذي يقبلُ التَّوْبَةَ فينا والعقل يؤكِّدُهُ؛ لأنَّ التَّوْبَةَ عبارةٌ عن النَّدمِ في الماضي ، والعزم على التَّرْكِ في المستقبل ، والنَّدم والعزم من باب الإراداتِ ، والإرادةُ لا يمكن إرادتها وإلا لزم التَّسلسل؛ فإذن الإرادةُ يمتنع أن تكونَ فعل الإنسان فعلمنا أن هذا النَّدم والعزم لا يحصلان إلا بتخليق اللهِ تعالى فَدَلَّ البرهانُ العقليُّ على صحَّةِ ما أشعر به القرآن ، وهو أنَّهُ تعالى [ هو ] الذي يتوبُ علينا .
وإن قالوا : لو تاب عليْنَا لحصلتْ هذه التَّوْبَةُ [ لهم فزاد هذا الإشكال واللهُ أعلم ] .
فنقولُ : قوله تعالى : { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } خطابٌ مع الأمَّةِ ، وقد تابَ عليهم في نكاح الأمهات والبنات وسائر المنهيَّات المذكورة في هذه الآيات وحصلت هذه التَّوْبَةِ لهم فَزَالَ الإشكالُ واللهُ أعلم .
] ثم قال { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي : [ عليم ] بمصالح عبادة حكيم في أمر دينهم ودنياهم وحكيم فيما دبَّرَ من أمورهم .
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)
قوله تعالى : { والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } زعم بعضهم أنَّ [ في ] قوله { والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } تكريراً لقوله { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } المعطوف على التّبيين .
قال عطيَّةُ : وتكرار إرادة الله تعالى التَّوبة على عباده تقوية للإخبار الأوَّل وليس القصد في الآية إلا الإخبار عن إرادة الذين يتبعون الشَّهوات فقدمت إرادة الله تَوْطِئة مُظْهِرَةً لفسادِ إرادة مُبتغي الشَّهَوَاتِ ، وهذا الذي قاله إنَّمَا يتمشّى على أنَّ المجرور باللامِ في قوله { لِيُبَيِّنَ } مفعول به للإرادة لا على كونه علّةً ، وقد تقدَّمَ أنَّ ذلك قول الكوفيِّين ، وهو ضعيفٌ ، وقد ضعَّفه هو أيضاً ، إذا تقرر هذا فنقول : لا تكرار في الآية؛ لأن تعلّق الإرادة بالتَّوبة في الأَّولِ على جهة العِلِّيَّة ، وفي الثَّاني على جهة المفعوليَّة ، فقد اختلف المتعلقان .
وقوله { عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الذين } بالرَّفع عطفاً على { والله يُرِيدُ } عطف جملة على جملة اسميّة ، ولا يجوز أن ينصب لفساد المعنى؛ إذ يصير التَّقدير : واللهُ يريدُ أن يتوب ، ويريد أن يريد الذين ، واختار الرَّاغِبُ : أنَّ الواو للحال تنبيهاً على أنَّهُ يريدُ التَّوْبَةَ عليكم في حال ما تريدون أن تميلوا فخالف بَيْنَ الإخبارين في تقديم المخبر عنه في الجملة الأولى ، وتأخيره في الثَّانية؛ ليبيّن أنَّ الثَّاني ليس على العطف ، وقد رُدَّ عليه بأنَّ إرادة اللهِ بالجملة الأولى اسميّة دلالة على الثَّبوت ، وبالثَّانية فعلية دلالة على الحدوث .
فصل في تحليل المجوس لما حرم الله تعالى
قيل : إنَّ المجوسَ كانوا يحلُّون الأخوات ، وبنات الإخوة والأخوات ، فلما حرمهنَّ اللهُ تعالى قالوا إنَّك تحلُّون بنت الخالة والعمَّةِ ، والخالةُ والعمةُ حرام عليكم فانكحوا بنات الأخ والأخت فنزلتْ هذه الآية .
وقال السُّدِّيُّ : المرادُ بالَّذينَ يتبعونَ الشَّهوات هم اليهودُ والنَّصارى .
وقال مجاهدٌ هم الزُّناةُ يريدون أن يميلوا عن الحقِّ فيزنون كما يزنون .
وقيل : هم جميع أهل الباطل .
فصل
قالت المعتزلة قوله { والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } يدلّ على أنه تعالى يريد التوبة من الكلِّ والطَّاعة من الكُلِّ .
وقال أهل السُّنَّةِ ، هذا محال؛ لأنَّهُ تعالى علم من الفاسق أنَّهُ لا يتوب ، وعلمه بأنَّهُ لا يتوب مع توبته ضدان ، وذلك العلم ممتنعٌ الزَّوال مع وجود أحدِ الضِّدَّين ، وكانت إرادة ضدّ الآخر إرادة لما علم كونه محالاً ، وذلك محالٌ ، وأيضاً فإنَّهُ إذَا كان يريدُ التَّوْبَةَ من الكُلِّ ، ويريد الشَّيْطَانُ أن تميلوا ميلاً عظيماً ، ثم يحصلُ مراد الشَّيطان لا مراد الرحمن ، فحينئذٍ نفاذ الشيطان في ملك الرحمن أتمُّ من نفاذ الرحمنِ في ملك نَفْسِهِ ، وذلك مُحالٌ؛ فثبت أن قوله { والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } خطاب مع قوم معنيين حصلت هذه التَّوبة لهم .
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
في هذه الجملة احتمالان :
أصحُّهما : أنَّها حال من قوله { والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } العامل فيها يريد أي : واللهُ يريد أن يتوبَ عليكم يريد أن يخفف عنكم ، وفي هذا الإعراب نَظَرٌ من وجهين :
أحدهما : أنَّهُ يؤدِّي إلى الفصل بين الحال ، وبين عاملها بجملة معطوفة على جملة العامل في الحال ضمير تلك الجملة المعطوف عليها ، والجملةُ المعطوفة وهي { وَيُرِيدُ الذين يَتَّبِعُونَ } جملة أجنبية من الحال وعاملها .
والثَّاني : أنَّ الفعل الذي وقع حالاً رفع الاسم الظَّاهر فوقع الرَّبط بالظاهرِ؛ لأن { يُرِيدُ } رفع اسم الله ، وكان من حقِّه أن يرفع ضميره ، والرَّبْطُ بالظَّاهِرِ إنَّمَا وقع بالجملة الواقعة خبراً أو وصلة ، أمَّا الواقعة حالاً وصفة فلا ، إلا أن يَردَ به سماع ، ويصير هذا الإعراب نظير : « بكر يخرج يضربُ بكر خالداً » ولم يذكر مفعول التخفيف فهو محذوف ، فقيل تقديره : يخفف عنكم تكليف النظر ، وإزال الحيرة ، وقيل : إثم ما يرتكبون ، وقيل : عام في جميع أحكام الشرع وقد سهل علينا كما قال تعالى { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ [ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } ] [ الأعراف : 157 ] وقال عليه السلام : « بعثت بالحنفية السمحة » وقال { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } [ البقرة : 185 ] وقال { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] وقال مجاهد ومقاتل : المراد به [ إباحة ] نكاح الأمة عند الضرورة .
قوله تعالى : { وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً } والمعنى أنه بضعفه خفف تكليف ، والأقرب أن يحمل هذا الضعف على كثرة الدواعي إلى اتباع الشهوة واللذة لا على ضعيف الخلقة [ لأن ضعيف الخلقة ] لو قوى الله داعيته إلى الطاعة كان في حكم القوي والقوي في الخلقة إذا كان ضعيف الدواعي إلى الطاعة صار في حكم الضعيف ، فالتأثير في هذا الباب لضعف الداعية وقوتها لا لضعف البدن .
قال طاوس والكلبي وغيرهما : في أمر النساء لا يصبر عنهن .
وقال ابن كيسان : خلق الله الإنسان ضعيفاً أي بأن تستميله شهوته .
وقال الحسن : المراد ضعيف الخلقة وهو أنه [ خلقه ] من ماء مهين . وقال تعالى { الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ } [ الروم : 54 ] . فصل
وفي نصب ضعيفاً أربعة أوجه :
أظهرها : أنه حال من الإنسان وهي حال مؤكدة .
والثاني : - كأنه تمييز قالوا : لأنه يصلح لدخول « مِنْ » وهذا غلط .
الثالث : أنه على حذف حرف الجرِ ، والأصل : خلق من شيء ضعيف ، أي : من ماء مهين ، أو من نطفة ، فلما حُذِفَ الموصوف وحرف الجر وَصَلَ الفعل إليه بنفسه فنصبه .
الرابع : - وإليه أشار ابن عطية ، أنه منصوب على أنه مفعول ثانٍ ب « خلق » قالوا : ويصح أن يكون خلق بمعنى « جُعِلَ » فيكسبها ذلك قوة التعدي إلى المفعولين فيكون قوله « ضعيفاً » مفعولاً ثانياً ، وهذا الذي ذكره غريب لم نرهم نَصُّوا على أن خلق يكون ك « جعل » فيتعدى لاثنين مع حصرهم الأفعال المتعدية للاثنين ، ورأيناها يقولون : إن « جَعَلَ » إذا كان بمعنى « خَلَقَ » تعدت لواحد .
فصل
روي عن ابن عباس أنه قال : ثماني آيات في سورة النساء خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت قوله تعالى { يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } [ النساء : 26 ] { والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } { يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } و { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } [ النساء : 31 ] { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } [ النساء : 48 ] { إِنَّ [ الله لاَ يَظْلِمُ ] مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } النساء : 40 ] ، { وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } [ النساء : 110 ] و { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ } [ النساء : 147 ] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)
في كيفية النظم وجهان :
أحدهما : أنه تعالى لما ذكر كيفية التصرف في النفوس بسبب النكاح ذكر كيفية التصرف في الأموال .
الثاني : لما ذكر ابتغاء النكاح بالأموال وأمر بإبقاء المهور بيَّن بعد ذلك كيفية التصرف في الأموال ، وخص الأكل بالذكر دون غيره من التصرفات لأنه المقصود الأعظم من الأموال؛ لقوله تعالى { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً } [ النساء : 10 ] ، واختلفوا في تفسير الباطل فقيل هو الربا والغضب والقمار والسرقة والخيانة وشهادة الزور وأخذ المال باليمين الكاذبة ، وعلى هذا تكون الآية مجملة لأنه يصير التقدير : لا تأكلوا أموالكم التي حصلتموها بطريق غير مشروع ، ولم يذكر ههنا الطريقة المشروعة على التفصيل فصارت الآية مجملة .
وروي عن ابن عباس والحسن أن الباطل هو ما يؤخذ من الإنسان بغير عوض وعلى هذا لا تكون الآية مجملة لكن قال بعضهم : إنها منسوخة : قال لما نزلت هذه الآية تحرّج الناس من أن يأكلوا عند أحد شيئاً وشق ذلك على الخلق . فنسخ الله تعالى ذلك بقوله في سورة النور { لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ } [ النور : 61 ] وأيضاً إنما هو تخصيص ولهذا روى الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : هذه الآية محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة .
وقيل : المراد بالباطل [ هو ] العقود الفاسدة ، وقوله { لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل } [ يدخل فيه أكل مال الغير بالباطل ] وأكل مال نفسه بالباطل فيدخل فيه القسمان معاً كقوله : { وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُم } يدل على النهي عن قتل غيره وقتل نفسه أما أكل مال نفسه بالباطل فهو إنفاقه في معاصي الله تعالى ، وأما أكل مال غيره بالباطل فقد عددناه .
قوله : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً } في هذا الاستثناء قولان :
أصحهما : أنه استثناء منقطع لوجهين :
أحدهما : أن التجارة لم تندرج في الأموال المأكولة بالباطل حتى يستثنى عنها سواء فسرنا الباطل بغير عوض ، أو بغير طريق شرعيّ .
والثاني : أن المستثنى كون ، والكون ليس مالاً من الأموال .
الثالث : أنه متصل قيل : لأن المعنى لا تأكلوها بسبب إلا أن تكون تجارة .
قال أبو البقاء : وهو ضعيف؛ لأنه قال : بالباطل ، والتجارة ليست من جنس الباطل ، وفي الكلام حذف مضاف تقديره؛ إلا في حال كونها تجارة ، أو في وقت كونها تجارة انتهى . ف « أن » تكون في محل نصب على الاستثناء وقد تقدم تحقيقه .
وقرا الكوفيون تجارة نصباً على أن كان ناقصة ، واسمها مستتر فيها يعود على الأموال ، ولا بد من حذف مضاف من « تجارة » تقديره : إلا أن تكون الأموال أموال تجارة ، ويجوز أن يفسر الضمير بالتجارة بعدها أي : إلا أن تكون التجارةُ تجارةً كقوله : [ الطويل ]
1790- . ... إذَا كَانَ يَوْمَاً ذَا كَواكِبَ أشْنَعَا
أي إذا كان اليوم يوماً ، واختار أبو عبيدةَ قراءة الكوفيين ، وقرأ الباقون « تجارةٌ » رفعاً على أنها « كان » التامة قال مكي « وأكثر كلام العرب أن قولهم » إلا أن تكون « في هذا الاستثناء بغير ضمير فيها يعود على معنى : يحدث ويقع ، وقد تقدم الكلام على ذلك في البقرة .
وقوله : { عَن تَرَاضٍ } متعلق بمحذوف لأنه صفة ل » تجارة « فموضعه رفع أو نصب على حسب القراءتين ، وأصل » تراض « » تراضِوٌ « بالواو؛ [ لأنه مصدر تراضي تَفَاعَلَ من رَضِيَ ، ورَضِيَ من ذوات الواو بدليل الرُّضوان ، وإنما تطرفت الواو بعد كسرة ] فقلبت ياء فقلت : تراضياً ، و » منكم « صفة لتراضٍ ، فهو محل جر و » من « لابتداء الغاية .
فصل
والتجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة ومنه الجر الذي يعطيه الله تعالى للعبد عوضاً من الأعمال الصالحة .
قال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الصف : 10 ] وقال { يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ } [ فاطر : 29 ] وقال { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } [ التوبة : 111 ] ، فسمَّى ذلك كُلَّهُ بيعاً وشراءً على وَجْهِ المَجَازِ ، تشبيهاً بِعُقُود المبيعَاتِ الّتي تحصلُ بها الأغْرارُ .
فصل : كل معاوضة تجارة
اعلم أنَّ كُلَّ مُعَاوَضَةٍ تجارةٌ على أيّ وجْهٍ كان العوض ، إلا أنَّ قوله تعالى { بالباطل } أخرج منها كُلَّ عوضٍ لا يجوزُ شَرْعَاً من رباً وغيره أو عوض فَاسِدٍ كالخمرِ ، والخَنْزِيرِ ، وغير ذلِكَ ، ويخرج أيضاً كُلُّ عقدٍ جائزٍ لا عوض فيه كالقرض والصَّدَقَةِ ، والهِبَةِ ، لا للثَّوابِ ، وجازت عُقُودُ التَّبرُّعاتِ بأدلَّةٍ أخَر ، وخَرَجَ منها دٌعاءُ أخيك إيَّاكَ إلى طَعَامِهِ ، بآيةِ النُّورِ ، على ما سيأتي إن شاء الله - تعالى- .
فصل
قال القرطبيُّ : لَوِ اشْتَرَيْتَ فِي السُّوقِ شَيْئاً فقالَ لَكَ صًاحِبُهُ قبل الشِّرَاءِ ذُقْهُ ، وأنت في حلٍّ ، فلا تَأكُلْ منه؛ لأن إذْنهُ في الأكْلِ لأجْلِ الشِّراءِ ، فربما لا يقعُ بيعٌ ، فيكونُ ذلك شُبْهَة ، لكن لو وصف لَكَ فاشْتَرَيْتَ ، فلم تجده على تلك الصفة فأنت بالخيَار .
فصل
قوله { عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } أي : بطيبة نَفْسِ كلِّ وَاحدٍ على الوَجْه المَشْرُوعِ .
وقيل هو أن يخير كُلُّ وَاحدٍ من المُتابِعيْنَ صاحِبَهُ بَعْدَ الْبَيْع ، فيلزمُ وإلا فلهما الخِيَارُ ما لم يَتَفَرَّقَا لقوله عليه السلامُ : » الْبَيْعانِ بالخيارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا « أو يخير كُلّ واحد منهما صاحبَهُ متبايعاً على ذلك ، فَقَدْ وَجَبَ البَيْعُ ، واعلم : أنَّهُ كَمَا يحلُّ المستفاد منَ التِّجارَة ، فقد يَحِلُّ أيضاً المالُ المستفاد مِنَ الهِبَةِ ، والوصيَّةِ والإرث ، والصَّدَقَةِ ، والمهر ، ِ وأرُوشِ الجنايَاتِ ، فإنَّ أسْباب المالِ كثيرةٌ سوى التِّجارة .
فإن قُلْنَا : الاستثناءُ مُنقطِعٌ ، فلا إشْكالٌ؛ لأنَّهُ تعالى ذَكَرَ هَاهُنا شيئاً واحداً ، من أسْبَابِ المِلْكِ ، ولم يذكره غيرهُ بنفي ، ولا إثْبَاتٍ .
وإن قلنا : الاسْتثناء مُتَّصِلٌ كان ذلك حكماً بأنَّ غيرَ التِّجَارةِ لا يفيد الحلّ ، وعلى هذا لا بُدّ مِنَ النَّسْخِ ، والتَّخْصيصِ .
فصل
ذهب بعضُ الْعُلَمَاءِ إلى أنَّ النَّهْيَ في المعاملات يَقْتَضِي البُطْلاَنَ ، وقال أبُو حنيفَةَ : لا يَدُلُّ عليه واحتجّ الأوَّلُونَ بوجوهٍ :
أحدُهَا : أنَّ جميعَ الأمْوالِ مملوكةٌ للهِ تعالى ، فإذا أذن لبعض عبيده في بعض التَّصَرُّفَاتِ ، ثم إنَّ الوكِيلَ تَصَرّفَ على خِلافِ قَولِ الموكل ، فذلك غير مُنعقدٍ ، فإذا كان التَّصرفُ الواقع على خلاف قول المِالِكِ المجازي لا يَنْعَقدُ ، فالتصرفُ الواقِعُ على خِلاَفِ قَوْلِ المالِكِ الحقيقيّ غير مُنْعَقِدٍ بِطَرِيقِ الأوْلَى .
وثانيها : أنَّ التصرُّفات الفَاسِدَة؛ إمَّا أن تكُونَ مُسْتَلْزَمَةً لِدُخُولِ المُحرَّم المنهيّ في الوُجُودِ أو لا ، فإن كان الأول وجب القول ببطلانها قياساً على التصرفات الفاسدة ، والجامِعُ السعي في ألا يَدخُلَ منشأ النَّهي في الوُجُودِ ، وإنْ كانَ الثَّانِي؛ وَجَبَ القَوْلُ بصحَّتها قياساً على التصرُّفَاتِ الصَّحيحةِ ، والجامعُ كونُهَا تَصرُّفَاتٍ خالية عن المفْسَدَة ، فثبت أنَّهُ لا بُدَّ من وُقُوعِ التَّصرُّفِ على هذين الوجْهَيْنِ ، فأمَّا القَوْلُ بتصرف لا يكُونُ صحيحاً ، ولا باطلاً ، فهو محال .
وثالثها : أنَّ قوله : « لا تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بالدِّرْهَمَيْن » كقوله : « لا تبيعوا الحر بالعبد » فكما أن هذا نهي في اللفْظِ ، لكنَّهُ نَسْخٌ للشَّرعيةِ [ فكذا الأوَّلُ ، وإذا كان نَسْخاً للشَّرْعيَّةِ ] ، بطل كونُهُ مُفيداً للحكم .
قوله { وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ } قرأ عَلِي -رضي اللهُ عنه- : « تُقْتَّلُوا » بالتَّشْديدِ على التكثير ، والمعنى لا يَقْتلُ بَعضُكُم بعضاً ، وإنَّما قَالَ { أَنْفُسَكُمْ } لقوله عليه الصَّلاةُ والسَّلام : « المُؤْمِنُونَ كنَفْسٍ وَاحِدَةٍ » ولأن العَرَبَ يَقُولُونَ « قُلْنَا وَرَبِّ الكَعْبَةِ » إذا قتل بعضهم؛ لأنَّ قتل بعضِهِم ، يجري مَجْرَى قَتْلِهِمْ .
فإن قيل : المُؤمِنُ مع إيمانِهِ لا يجُوزُ أن ينهى عَنْ قَتْلِ نَفْسِهِ ، لأنه ملجأ إلى ألاَّ يَقْتُلَ نَفْسَهُ ، لأنَّ الصَّارِفَ عنه قائمٌ ، وهو الألَمُ الشَّديدُ ، والذَّمُّ العَظِيم ، والصَّارف عنه في الآخرة قَائِمٌ وهو استحقاقُ العَذَابِ العَظِيمِ .
إذا كان كذلك ، لم يَكُنْ للنَّهْيِ عَنْهُ فائدة ، وإنَّمَا يُمْكِنُ هَذَا النهي ، فِيمَنْ يَعْتَقِدُ في قَتْلِ نَفْسِهِ ما يعتقدُهُ أهْلُ الهِنْدِ ، وذَلِكَ لا يَتَأتَّى مِنَ المُؤْمِنِ .
فَالجَوَابُ : أنَّ المُؤْمِنَ مع إيمانِهِ ، قد يَلْحَقُهُ مِنَ الغَمِّ ، والأذِيَّةِ ما يكُونُ القَتْلُ عليه أسْهَل مِنْ ذلك ، ولذلك نَرَى كَثيراً مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْتَلُونَ أنْفُسَهُم ، بمثل السَّبَبِ الذي ذَكَرْنَاهُ ، ويحتمل أنَّ مَعْنَاهُ لا تَفْعَلُوا ما تَسْتَحِقُّونَ به القتل كالزِّنَا بعد الإحْصَانِ والرِّدَّةِ ، وقتلِ النَّفْسِ المعصومة ، ثمَّ بيَّنَ تعالى أنَّهُ رحيمٌ بعباده ، ولأجْلِ رحمته نهاهم هم كُلِّ ما يستوجبون به مَشَقَّة ، أو مِحْنَة حَيْثُ لم يأمرهم بقتلهم أنفسَهُم كما أمَرَ به بني إسرائيل ليَكُونَ تَوْبَةُ لهم وكان بكُم يَا أمَّة محمَّد رحيماً ، حيث لم يكلفكم تلك التَّكاليف الصَّعْبَة .
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
قوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } « مَنْ » شرطيَّة [ مبتدأ ] ، والخبر « فَسَوْفَ » والفاءُ هنا واجبة لِعَدَمِ صلاحيَّةِ الجَوَابِ للشَّرْطِ ، و « ذَلٍكَ » إشارةٌ إلى قتل الأنفُسِ قال الزَّجَّاجُ : يَعُودُ إلى قَتْلِ الأنْفُسِ ، وأكل المالِ بالبَاطِلِ؛ لأنَّهُمَا مذكوران في آية واحدة .
وقال ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّهُ يعودُ على كُلِّ ما نهى اللهُ عنه من أوَّلِ السُّورةِ إلى هذا المَوْضعِ ، وقال الطَّبريُّ : « ذلك » عائد على ما نهي عنه من آخر وعيد وذلك قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } [ النساء : 19 ] ؛ لأنَّ كل ما ينهى عنه من أوَّلِ السُّورةِ قرن به وعيد ، إلا مِنْ قوله : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } [ النساء : 19 ] فإنَّهُ لا وعيدَ بَعْدَهُ إلا قوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك عُدْوَاناً } [ النساء : 30 ] الآية . وقيل الوعيد بذكر العُدْوَانِ والظُّلْمِ ، ليخرج منه فعل السَّهْوِ والغلط ، وذكر العًُدْوَانِ ، والظُّلْمِ مع تقارب معناهما لاختلافِ ألفاظِهِما كقوله : « بُعْداً » و « سُحْقاً » وقوله يعقوب عليه السلام : { إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله } [ يوسف : 86 ] وقوله : [ الوافر ]
1791 أ- .. وألْفَى قَوْلَهَا كَذِباً وَمَيْنَا
و « عدواناً وظلماً » حالان أي : متعدياً ظالماً أو مفعول من أجلها وشروط النصب متوفرة وقُرِئَ : « عِدْواناً » بكسر العين . و « العدوان » : مُجاوَرَةُ الحَدّ ، والظُّلْمُ : وضع الشَّيْءِِ في غير مَحَلِّه ، ومعنى { نُصْلِيهِ نَاراً } ، أي : يمسُّه حَرُّهَا . وقرأ الجمهور : { نُصْلِيهِ } من أصْلَى ، والنون للتعظيم . وقرأ الأعْمَشُ : « نُصْلِّيه » مُشَدّداً .
وقرئ : « نَصْليه » بفتح النُّونِ من صَلَيْتُه النَّار . ومنه : « شاة مصلية » .
و « يصليه » بياء الغَيْبَةِ . وفي الفاعِلِ احتمالان :
أحدهُمَا : أنَّهُ ضميرُ الباري تعالى .
والثًَّاني : أنَّهُ ضميرٌ عائدٌ على ما أُشير به إلَيْهِ مِنَ الْقَتْلِ؛ لأنَّهُ سَبَبٌ في ذلك ونكر « ناراً » تعظيماً .
{ وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً } أي : هيناً .
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)
قرأ ابْن جُبَيْرٍ ، وابنُ مَسْعُود : « كَبِيرَ » بالإفراد والمرادُ به الكُفْرُ وقرأ المفضّلُ : « يُكَفِّر » ، « ويدخلكم » بياء الغَيْبَةِ للهِ تعالى .
وقرأ ابْنُ عَبَّاسٍ : « من سيئاتكم » بزيادة « من » . وقَرَأَ نَافِعٌ وحده هنا وفي الحج : « مَدْخَلاً » بفتح الميم ، والباقُونَ بضمها ، ولم يَخْتَلِفُوا في ضَمِّ التي في الإسراء . فأمَّا مَضْمُومُ الميم ، فإنَّهُ يحتملُ وجهين :
أحدهُمَا : أنَّهُ مَصْدرٌ وقد تَقَرَّر أنَّ اسْمَ المصْدَرِ من الرُّبَاعِيّ فما فَوْقَهُ كاسْمِ المفعُولِ ، والمدخول فيه على هذا مَحْذُوفٌ أي : « ويدخلكم الجنة إدخالاً » .
والثَّانِي : أنَّهُ اسمُ مَكَانِ الدُّخُولِ ، وفي نصبه حينئذٍ احتِمَالاَنِ «
أحدهُمَا : أنَّهُ منصوبٌ على الظَّرْفِ ، وهو مَذْهَبُ سيبوَيْهِ .
والثَّاني : أنَّه مفعولٌ به ، وهو مَذْهَبُ الأخْفَشِ ، وهكذا كُلُّ مكان مختص بعد » دخل « فإنَّ فيه هذين المذْهَبَيْنِ ، وهذه القِرَاءَةُ واضحةٌ ، لأنَّ اسم المصْدَرِ ، والمكان جَارِيَانِ على فعليهما .
وَأمَّا قِرَاءةُ نافِع ، فتحتاجُ إلى تأويل ، وذلك لأنَّ الميمَ المفتوحة إنَّما هو من الثُّلاثِيُّ ، والفعل السَّابقُ لهذا رُباعِيّ فقيل : إنَّهُ منصوبٌ بفعل مقدّر مطاوع لهاذ الفِعْلِ ، والتقدِيرُ : يدخلكم ، فتدخلون مدخلاً .
و » مَدْخَلاً « مَنْصُوبٌ على ما تقدَّمَ : إمَّا المصدريّة ، وإما المَكَانِيَّة بوجهيها .
وقيل : هُوَ مصْدَرٌ عَلَى حَذْفِ الزَّوائِدِ نحو : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] على أحد القَوْلَيْنِ .
فصل
روى ابْنُ عمرو عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال : » الكَبَائِرُ الإشْرَاكُ باللهِ عزَّ وجلَّ وعقوقُ الوالِدَيْنِ ، وقَتْلُ النَّفْسِ ، واليَمِينُ الغَمُوسُ « .
وقال عليه السَّلام : » ألاَ أنبِئُكُمْ بأكْبَرِ الكَبَائِر؟ « ثلاثاً . فقالوا : بَلَى يا رسُولَ اللَّهِ . قال : » الإشْرَاكُ باللَّهِ ، وَعُقُوقُ الوَالِديْنِ -وَكَانَ مُتّكئاً فَجَلَسَ- وَقَالَ : ألاَ وَقَوْلُ الزُّورِ « فما زال يُكَرِّرُهَا ، حَتَّى قُلْنا لَيْتَهُ سَكَتَ .
وعن عُمَرَ بْنِ شراحيل عن عَبْدِ اللَّهِ قال : قُلْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ : أيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ . قال : » أنْ تَجْعَلَ للَّهِ نِدَّاً وَهُوَ خَالِقُكَ « قال : ثُمَّ أي . قال : » لأنْ تَقْتَلُ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أنْ يَأكُلَ مَعَكَ « . قُلْتُ : ثمَّ أيْ . قال » أنْ تُزَانِيَ حَليلَةَ جَارِك « فأنزلَ اللَّهُ -تعالى- تَصديقَ قَوْلِ النَّبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ } [ الفرقان : 68 ] وعن أبي هريرةَ عنِ النَّبِي صلى اله عليه وسلم قال : » اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبقَاتِ قالُوا يا رَسُول اللَّهِ ، وما هُنَّ؟ قال : الشِّرْكُ باللَّهِ ، والسِّحْرُ ، وقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بالحقِّ وأكْلُ الرَِّبَا ، وأكْلُ مَالِ اليتيمِ ، والتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَقَذْف المُحصنَاتِ الغَافِلاَتِ « .
وقال عبدُ الله بْنُ مسعودِ : أكْبَرُ الكَبَائِرِ الشِّرْكُ باللَّهِ ، والأمن من مَكْرِ اللَّه والقنوط من رحمة اللَّه ، واليأسُ من روح اللَّهِ .
وعن النَّبَيِّ صلى الله عليه وسلم قال : « مِنْ أكْبَر الكبَائِر يسبُّ الرَّجُلِ وَالديْهِ : قالَ وَكَيْفَ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالدَيْهِ قال : [ يَسُبُّ الرجُل أبَا الرجل وَأمه ] فَيَسُب أباهُ وَيسُبُّ أمَّهُ » .
وعن سعيد بْنِ جُبَيْرٍ أنَّ رَجُلاً سألَ ابْنَ عباس عن الكبائِرِ أسَبْعٌ هي قال : هي إلى السبعمائة أقرب [ غير ] أنه لاَ كبيرَةَ مع الاستغْفَارِ ، ولا صغيرَةَ معَ الإصْرَارِ ، وقال : كُلُّ شيْءٍ عصي اللَّه به ، فهو كبيرة ، فمن عمل شيئاً منها ، فَلْيَسْتَغْفِر اللَّهَ فإنَّ اللَّه لا يخلد في النَّارِ من هذه الأمَّةِ إلاَّ من كان راجعاً عن الإسلامِ ، أو جاحداً فريضته ، أو مكذباً بقدره . قال ابْنُ الخطيبِ : وهذا القول ضعيف؛ لأنَّهُ لا فرقَ بينهما كقولهِ : يكفر ، وما لا يكفرون في الحديث : تعيين أشيَاء من الكبائرِ منها : الشركُ ، واليمينَ الغَمُوسُ [ والرِّبا ] وعُقوقُ الوالدين ، والقَتْلُ ، وغيرهما ولقوله تعالى : { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان } [ الحجرات : 7 ] فالكبائِرُ هي الفُسُوقُ والصغائر هي العصيان حتى يصحّ العطف . احتجّ ابنُ عبَّاس ما إذا اعتبر المعاصي بالنِّسْبَةِ إلى جلال اللَّه تعالى ، وعظمته كانت كبائر بالنِّسْبَةِ لِكثَةِ نعمه تعالى ، فذلك لعدم تناهيها ، فَكُلُّ ذنبٍ كبيرة .
والجوابُ كما أنَّهُ سبحانه وتعالى أجلُّ الموجودات ، وأشرفهم ، وهو أرحمُ الراحِمينَ ، وأغنى الأغنياءِ عن الطَّاعات وذلك يوجبُ خفة الذنب ثم إنَّهَا وإن كان كبيرة فبعضها أكبر مِنْ بعض .
فصل
قال بعضهم : لتمييز الكبيرةِ عن الصَّغيرة بذاتها ، وقيل : إنَّما تتميزُ بحسب [ حال فاعليها ] فالأولون لهم أقوال ، أوَّلُهَا : قال ابْنُ عبَّاسٍ : كلُّ ما قرن بذكر الوعيد ، فهو كبيرةٌ كالقَتْلِ ، والقذف .
الثَّاني : عن ابْنِ مسعُودٍ : كلّ ما نهي عنه من أوَّلِ النِّسَاءِ إلى ثلاثة وثلاثين آية فهو كبيرة لقوله : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } .
الثالث : قتل كل عمد فهو كبيرةٌ على الأوَّل لأنَّ كل ذنٍ لا بُدّ أن يكون متعلّق الذَّم عاجلاً ، والعقاب آجلاً وهذا يقتضي أنَّ كُلَّ ذنْبٍ كبيرة ، وعلى الثَّانِي أنَّ الكبائِرَ مذكورة في سائر السور ، فلا معنى لتخصيصها بهذه السُّورة ، وعن الثَّالث إنْ أرادَ بالعَمْدِ أنَّهُ ليس بساهٍ فهذا هو الذي نهي عنه ، فيكونُ كُل ذنب كبيرة ، وإنْ أرَاد انه يَفْعَلُهُ مع العِلْمِ به ، فإنَّهُ معصيةٌ فمعلومٌ أنَّ اليَهُودَ والنَّصَارَى يكفُرُونَ بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ولا يعلمون أنه معصيةٌ ، وذلك كفرٌ وكبيرةٌ ، فبطلت هذه الوجوه الثلاثةُ .
وأما القولُ الثَّاني أنَّ الكبائر تمتزُ عن الصّغَائِرِ باعْتِبَارِ فاعلها ، فهو قَوْلُ مَنْ يقولُ للطَّاعَةِ قدر من الثواب وللمعصية قدر من العقاب فالقِسْمَةُ العقْلِيَّةُ تقتضي أقْسَامَ التَّساوي والتعادل ، ورُجْحَان الثَّوابِ ، ورجحان العِقَابِ فالأوَّلُ ممكنٌ عقلاً إلا أن الدليل السمعي دلل على أنه لا يوجد لقوله تعالى : { فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير } [ الشورى : 7 ] ولو وجد ذلك لم يكن في الجنَّةِ ، ولا في السَّعيرِ .
والثَّاني : ينحبط العقابُ بما يُساويه مِنَ الثَّوابِ ، والمعصية هي الصَّغيرة تسمى الانحباط بالتَّكفير .
والثَّالثُ : ينحبطُ الثَّوابُ بما يساويه من العقاب ، ويسمى الكبيرة ، وسمي الانحبَاط بالإحباط ، فَظَهَرَ الفرقُ بين الكبيرةِ والصغيرةِ ، وهذا قول جمهور المُعتزِلَةِ ، وهو مَبْنِيٌّ على أصولٍ باطلةٍ :
الأول : أنَّ الطَّاعةَ توجبُ ثواباً والمعصية توجب عقاباً ، وهو بَاطِلٌ لما تقدَّم من أنَّ الفعل يتوقَّفُ على دَاعِيَةٍ مِن اللَّه تعالى ، وذلك يَمْنَعُ الإيجاب .
ولأنَّ من اشْتَغَلَ بالعِبَادَةِ والتَّوحيدِ ثمانين سنة ، ثم شَرِبَ قطرة خمر ، فإنْ قالوا بالإحْبَاطِ خالف الضرورة والإجماع ، وإن خالف وقالوا بترجيح الثَّوابِ نقضوا أصْلَهُم مِنَ التحسين والتقبيح العَقْلِيَّيْن فتبطل قواعدهم .
ولأنَّه سمى الله تعالى كبيرة لسابقه [ على الطاعة ] وموجبة لها [ فأوَّلُ واجب ] لا يستحقّ ثواباً ، فيكون عِقَاب كُلّ معصية أن لا بد مِنْ ثَوَاب فاعلها ، فتكون جميع المعاصي كبائر ، وهو بَاطِلٌ ، وقد تقدَّم القول بإبطال القَوْلِ بالإحْبَاط .
فصل
قال ابنُ الخطيبِ : الأكثرُونَ على أنَّ اللَّه تعالى لم يُميِّز الكبائِرَ ، ولم يُعَيِّنْهَا ، قالوا : لأنَّ تمييزها وتعيينها مع إخباره بأن اجتنابها يكفِّر الصَّغَائِرَ إغراء بالإقدام على الصغائر ، وذلك قَبيحٌ لا يليقُ بالحكمة ، أمَّا إذَا لم يميِّزْهَا ، كتحرير كَوْنِ المعْصيَةِ كبيرة زاجراً غن الإقدام عليها كإخفاء ليلة القدر وساعة الجمعة والصلاة الوسطى ووقت الموت مع تجوز تعيين بعض الكبائر كما ورد في الحديث والآيات كما ذكر عن ابن عباس أنها سَبْعَةٌ فقال هي إلى السّبعمائة أقرب .
فصل
احتج الكعبيُّ بهذه الآية على القَطْعِ بوعيد أصْحَابِ الكبائرِ قال : لأنَّهُ تعالى بَيَّن أنَّ من اجتنب الكبَائِرَ يكفر عنه سيئاته ، فَدَلَّ على أنَّ مَنْ لَمْ يَجْتنبها لم تكفَّرْ عَنْهُ ، ولو جَازَ أنْ يغفرَ الكبائِرَ ، والصَّغائِرَ ، لم يَصِحَّ هذا الكلامُ .
والجوابُ مِنْ وُجُوهٍ :
الأوَّلُ : إنكم إما أن تستدلوا بأن تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه ، فذلك باطل عِندْ المُعتزِلَةِ ، وعِنْدَنَا دلالتُهُ ظَنيَّةٌ ضعيفةٌ .
وإما أن تستدلوا به من حيث أنَّ المعلق على الشيء بكلمة « إن » عدم عند عدم ذلكَ ، فهذا أيضاً ضعيفٌ لقوله تعالى : { واشكروا نِعْمَةَ الله إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ النحل : 114 ] والشكر واجب مطلقاً ولقوله تعالى { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ } [ البقرة : 283 ] وأداء الأمانة واجب مطلقاً ولقوله تعالى { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان } [ البقرة : 282 ] يجوزُ شهادَتُهُم مع وُجُودِ الرِّجَالِ وقوله : { وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ } [ البقرة : 283 ] ، { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } [ النور : 33 ] ، { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] .
وقوله { أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا إِنَّ الكافرين } [ النساء : 101 ] .
{ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } [ النساء : 11 ] { إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ } [ النساء : 35 ] ، { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ } [ النساء : 130 ] .
وهذا كُلُّهُ يَدُلُّ على العدمِ بهذا الكلامِ ، والعَجَبُ أنَّ القَاضِي عَبْدَ الجبَّارِ لا يرى أنَّ المعلّق على الشَّيءِ كلمة « إنْ » عدمٌ عنه العدمِ ، واسْتَحْسنَ في التَّفْسير استدلاله على الكفر بهذه الآية .
الجوابُ الثَّاني : قال أبُو مُسْلِمِ : جَاءَت هذه الآيةُ عقيبَ نِكَاحِ المحرَّمات ، وعضل النِّسَاء ، وأخذ أمْوالِ اليتامى [ وأكل المال بالباطل و ] غير ذلك فالمُرادُ إن تجتنبوا هذه الكبائرِ التي نهيناكم عنها ، كَفرنَا عنكم سَيِّئاتِكُمْ [ أي : ما سلف ] من ارتكابها وإذا احْتملَ هذَا؛ لم يَتَعيَّن ما ذكرهُ المعتزِلَةُ ، واعترضه القاضي بوجهين :
أحدهُمَا : أنَّ الآية عامَّة ، فلا تخْصيصَ بِذَلِكَ .
الثَّانِي : أن اجتنابهم إمّا أنْ يكُونَ مع التَّوْبَة ، والتَّوْبَةُ قد أزالت العقاب أو بدونها ، فمن أيْنَ أنَّ اجتنابَ هذه الكبائِر ، تُوجِبُ تكفيرَ تلك السَّيّئَاتِ .
والجواب عن الأوَّلِ : أنّا لا نَدْفَعُ القَطْعَ بذلك ، بل نَقُولُ : هو يحتمل ، فلا يَتعيَّن ما ذكرتموه .
وعن الثَّاني : أنَّ ما ذكروه لا يَقْدَحُ في الاحتمال المذكور [ هنا ] .
الجوابُ الثَّانِي : أنَّ المَعَاصِي : قد تكُونُ كبيرَة بالنِّسْبَةِ إلى شيء ، صغيرة بالنسبة إلى شَيْءٍ آخر ، وكذلك العكسُ ، فليس ثمّة ما يكونُ كبيرةً مطلقاً ، إلا الكُفْر ، وأنواعه [ كثيرة ] ، فلمَّا لم يكن المراد إن تجتنبوا الكُفْرَ بأنواعِهِ ، يغفر لكم ما وَرَاءَهُ ، وهذا احْتِمَالٌ ظاهرٌ مُطابقٌ لقوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] ، سقط استدلالهم بذلك .
فصل
قال القرطبِيُّ : قال الأصولِيُّونَ : لا يَجِبُ القَطْعُ بِتكْفيرِ الصَّغائِرِ باجتناب الكبائر ، وإنَّمَا محمل ذلك على غلبَةٍ الظَّنِّ ، وقوَّةِ الرَّجَاءِ ، والمشيئة ثابتةٌ ، ودلَّ على ذلك : أنا لو قَطَعْنَا لمجتنب الكبائِرِ ، وممتثلِ الفرائِضِ ، تكفيرَ صَغَائِرهِ قطعاً؛ لكانت لَهُ في حُكْمِ المُبَاحِ الذي يقطع بأن أتباعه عليه ، وذلك نَقْضٌ لعُرَى الشَّريعة ، ولا صغيرةَ عِنْدَنَا .
قال القُشَيْرِيُّ : والصَّحيحُ أنها كَبَائِر ولكن بعضُهَا أعْظُم وقعاً من بعضٍ ، والحكمة في عدم التمييز أن يجتنب العبد جميع المعاصي .
قال القرطبي : وأيضاً مَنْ نظر إلى بعض المُخالفَةِ كما قالَ بعضهُمُ : لا تنظر إلى صغر الذَّنْبِ ، ولكن انظُرْ مَنْ عَصيتَ [ فإن كان الأمْرُ كذلِكَ ] كانت الذنوب بهذه النِّسْبَةِ كُلِّها كبائر ، وعلى هذا النَّحْوِ يُخَرَّجُ كلامُ القُشَيْريّ ، وأبي إسْحَاقَ الإسفراييني والقاضي أبي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّب قالوا : وإنَّما يقالُ لبعضها صغيرة بالإضَافَةِ إلى ما هو أكْبرُ منها كما يقالُ : الزنا صغيرة بإضافته إلى الكفر ، والقُبْلَةُ المحرَّمَةُ صغيرَةٌ بالنِّسْبَة إلى الزِّنَا ، ولا ذنبَ عِنْدَنَا يُغْفَرُ باجْتِنَابِ ذنبٍ آخر ، بل كُلُّ ذنْبٍ كبيرةٌ ومرتكبُهُ في المشيئةِ ، غير الكُفْرِ لقوله تعالى { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] قالوا : هذه الآية يردُّ إليها جميع الآيات المُطلقةُ ، يزيدُ عليها قوله عليه السلام : « من اقْتطعَ حَقَّ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ بيمينه فقدْ أوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وحرَّمَ عَلَيْهِ الجَنَّةَ فقال رَجُلٌ : يا رسُولَ الله ، وإنْ كَانَ شيئاً يَسِيراً فقَالَ : وَإنْ كَانَ قَضِيباً مِنَ أراك »
، فقد جاء الوَعِيدُ الشَّديدُ على اليَسيرِ ، كما جَاءَ على الكثير .
وقال عبدُ اللَّهِ بْنُ [ مسعود : « ما نَهَى اللَّه عنْهُ في تلكَ السُّورَةِ إلى قوله : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } فهو كبيرة .
وقال [ علي ] بن ] أبي طلحة : الكبيرة : كلُّ ذنب ختمه اللَّهُ بِنَارٍ ، أو غضَبٍ ، أو لَعْنَةٍ ، أو عَذابٍ [ أو آثامٍ » .
وقال الضحاك : « البيرة ما أوعد الله عليه حَدَّا في الدُّنْيَا ، وعَذَاباً في الآخرة » .
وقال الحُسَيْنُ [ بنُ الفضل ] : ما سمّاه اللَّهُ في القرآن كَبيراً ، أو عظيماً نحو قوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } [ النساء : 2 ] ، { إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً } [ الإسراء : 31 ] ، { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] ، { سُبْحَانَكَ هذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [ النور : 16 ] ، { إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً } [ الأحزاب : 53 ] .
وقال سُفْيانُ الثَّورِيُّ : « الكَبَائِرُ هي المظالِمُ بَيْنكَ وبَيْنَ العِبادِ ، والصَّغَائِرُ : ما كان بَيْنَكَ وبَيْنَ اللَّهِ ، إن اللَّه كَريمٌ يَعْفُو [ ويصفح ] » .
وقال مالك بن مغول : « الكبَائِرُ » ذُنُوبُ أهْلِ البِدَعِ ، والسّيئات : ذُنُوبُ أهْلِ السّنة [ الصَّغَائِر ] « .
وقيل : » الكَبَائِرُ ذُنُوب العَمْدِ ، والسيئات الخَطأ والنِّسيان ، وما أكْره عَلَيْهِ ، وحديث النَّفْسِ المرفوعة عَنْ هذه الأمَّةِ « .
وقال السُّدِّيُّ : الكَبَائِرُ ما نهى اللَّه عنه من [ الذُّنُوب ] الكبائر والسَّيِّئات مقدّماتُها وتوابعها ، وما يَجْتَمِعُ فيه الصَّالحُ والفاسقُ مثل النَّظْرَةِ ، واللَّمْسَةِ ، والقُبْلَةِ ، وأشباهها . قال عليه السلامُ : » الْعَيْنَانِ تَزْنيانِ ، واليَدَانِ تَزْنيانِ ، والرِّجْلانِ تَزْنيانِ ، وَيُصدِّقُ ذلك الفَرْجُ ، أو يُكذِّبُهُ « .
وقيل : الكَبَائِرُ الشِّرْكُ ، وما يؤدِّي إليْهِ ، وما دُونَ الشِّرْكِ ، فهو من السَّيِّئاتِ . قال تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] .
قوله : { نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } .
قال المفسِّرُون : أي من الصَّلاة إلى الصَّلاةِ ، ومن الجُمْعَةِ إلى الجُمْعَةِ ، ومن رَمضَان إلى رمضَان ، لقوله عليه السلامُ : » [ الصَّلَوَاتُ ] الخمسُ والجمعةُ إلى الجُمعةِ ورَمضَانُ إلى رَمضَان مُكَفِّراتٌ لِّمَا بَيْنهُنَّ إذَا اجْتُنِبَتِ الكَبَائِرِ « .
{ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } أي حسناً وهو الجنة .
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
في كيفية النظم وجهان :
أحدهما : قال القفَّالُ : « لما نَهاهُم في الآية المُتقدِّمَةَ عن أكل الأمْوَالِ بالباطل ، وعن قتْلِ النُّفُوسِ ، أمرهم في هذه الآيةِ بما سهَّلَ عليهم تَرْكَ هذه المنهيَّاتِ ، وهو أن يَرْضَى كُلُّ واحد بِمَا قسَمَ اللَّهُ ، فإنَّهُ إذا لم يَرْض ، وَقَعَ في الحَسَدِ ، وإذا وقع في الحَسَدِ وَقعَ لا مَحَالَة في أخْذِ الأمْوَالِ بالبَاطلِ ، وفي قتل النُّفُوسِ » .
الثَّانِي : أنَّ أخْذ الأمْوَالِ بالبَاطلِ ، وقتلَ النُّفُوسِ من أعمال الجَوَارِحِ ، فأمر أوَّلاً بتركها ليصيرَ الظَّاهِرُ طاهراً عن الأفعال القبيحة ، ثُمَّ أمَرَهُ بعْدَهَا بترك التَّعَرُّضِ لِنُفُوسِ النَّاسِ ، وأموالهم بالقَلْب على سَبيلِ الحَسَدِ ، ليصيرَ البَاطِنُ أيضاً طاهراً عن الأخلاق الذَّمِيمَةِ .
فصل في سبب نزول الآية
قال مُجاهِدٌ : « قالت أمُّ سلمةَ : يا رسُولَ اللَّهِ ، إنَّ الرِّجَالَ يَغْزُونَ ولا نَغْزُو ، ولهم ضِعْفُ مَا لَنَا مِنَ المِيراثِ ، فلو كُنَّا رجالاً غَزَوْنَا كما غَزَوا ، وأخذْنَا مِنَ المِيراثِ مثلما أخذُوا؟ فنزلت هذه الآية » .
وقيل : لمّا جَعَلَ اللَّهُ للذَّكر مِثْلُ حَظِّ الانثيين في الميراثِ ، قالتِ النِّسَاءُ : نَحْنُ أحْوجُ إلى الزِّيَادةِ مِنَ الرِّجَالِ؛ لأنا ضعفاء ، وهم أقْويَاء ، وأقدر منا على المَعَاشِ فنزلت الآية .
وقال قتَادَةُ والسُّدِّيُّ : لما نزل قوله تعالى : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } [ النساء : 11 ] ؛ قال الرِّجالُ : إنَّ لنرجو أن نُفَضَّل على النِّسَاءِ بحسناتنا في الآخرة ، فيكون أجرنا على الضّعف من أجر النِّسَاءِ كما فُضِّلْنَا عليهنَّ في الميراثِ في الدُّنْيَا ، فقال اللَّهُ تعالى : { لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبوا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبن } [ النساء : 32 ] .
وقيل : أتَتِ امْرَأةٌ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقالت : رَبُّ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ واحِدٌ ، وأنتَ الرَّسُول إليْنَا ، وإليهم ، وأبونا آدَمُ ، وأمُّنا حَوَّاءُ ، فما السَّبَبُ في أنَّ اللَّه يَذكُرُ الرِّجَالَ ، ولا يَذْكُرُنَا؛ فنزلت الآية ، فقالَتْ : وقد سَبَقَنَا الرِّجَالُ بالجهادِ فمَا لَنَا؟ فقال صلى الله عليه وسلم : « إنَّ لِلْحَامِلِ مِنْكُنَّ أجْرُ الصَّائِمِ القَائِم ، فإذَا ضَرَبَهَا الطَّلْقُ لم يدْر أحدٌ مَا لَهَا مِنَ الأجْرِ ، فَإذَا أرْضَعَتْ كَانَ لَهَا بِكُلِّ مَصَّة أَجر إحيَاء نَفْسٍ » .
قوله : { مَا فَضَّلَ الله } « ما » موصولة ، أو نكرة موصوفة ، والعائدُ الهاء في « بِهِ » ، و « بعضكُم » مفعول ب « فَضَّلَ » ، و « عَلَى بَعْضٍ » متعلّق به .
فصل
قال القرطبِيُّ : التَّمني نوع من الإرادَةِ يَتَعلَّقُ بالمستقبلِ ، واعْلَم أنَّ الإنسان إذَا شَاهَدَ أنواع الفَضَائِلِ حاصلة لإنسان ، ووجد نَفْسَهُ خالياً عن جملتها ، أو عن أكثرها ، فحينئذٍ يتألَّمُ قلبه ، ثُمَّ يعرض ها هنا حالتان :
إحداهما : [ أن يتمنى ] زوال تِلْكَ السعادات عن ذلك الإنْسَانِ .
والأخرى : لا يَتمَنَّى ذلك ، بَلْ يَتَمنَّى حصول مثلها له .
فالأوَّلُ هو الحَسَدُ المذْمُومُ ، والثَّانِي هو الغِبْطَةُ ، فأمّا كون الحسد مذموماً؛ فلأن اللَّه تعالى لمّا دَبَّر هذا العَالَم ، وأفاض أنواع الكَرَمِ عليهم ، فمن تمنى زوال ذلك؛ فكأنه اعْتَرَضَ على اللَّه في فعله ، وفي حِكْمَتِهِ ، وَرُبَّمَا اعْتَقَدَ في نفسه ، أنَّهُ أحَقُّ بتلك النِّعَمِ من ذلِكَ الإنْسَانِ ، وهذا اعْتِرَاضٌ على اللَّهِ ، فيما يلقيه من الكُفْرِ ، وفساد الدِّين ، وقطعَ المَوَدَّةِ ، والمَحَبَّةِ ، وَيَنْقَلِبُ ذلك إلى أضداده .
وأما سبب المنع من الحَسَدِ ، فعلى مذهَبِ أهْلِ السُّنَّة ، فلأنه تعالى { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ البروج : 16 ] ، { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] ، ولا اعْتراضَ علَيْه في فعله ، وعلى مذْهَبِ المُعتزِلَةِ ، فلأنه تعالى علاَّم الغيوب ، فهو أعرف من خَلْقِهِ بوجوهِ المَصَالِح ، ولهذا [ المعنى ] قال تعالى : { وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ } [ الشورى : 27 ] ، فلا بد لِكُلِّ عاقل من الرِّضَا بقضاء اللَّهِ ، وممَّا يؤكِّدُ ذلك ، قوله عليه السلامُ : « لاَ يَخْطبُ الرَّجُلُ علَى خِطبَةِ أخيه ، ولا يَسُومُ عَلى سَوْمِ أخيهِ ، ولا تَسْألِ المرأةُ طلاقَ أخْتِهَا لتلقي مَا فِي إنَائِهَا ، فإنَّ الله -تعالى- هُو رَازِقُهَا » والمقصودُ من كُلِّ ذلِكَ المُبَالَغة في المَنْعِ مِنَ الحَسَدِ .
وَأمَّا الثَّاني ، وهو الغِبْطَةُ ، فَمِنَ النَّاسِ من جَوَّزَهُ ، ومنعه آخرون قالوا : لأنَّهُ رُبَّمَا كانت تلك النِّعْمَةُ مفسدة في دينِهِ ، ومضرّة عليه في الدُّنْيَا ، ولذلك لا يجُوزُ للإنْسَانِ أنْ يَقُولَ : « اللَّهُمَّ أعطني دَاراً مثلَ دَارِ فُلانٍ ، وزوجةً مِثْلَ زوْجَةِ فُلانٍ ، بل ينبغِي أنْ يقُولَ : اللَّهُمَّ أعْطِنِي ما يَكُون صَلاَحاً في دِيني ودنياي ، وَمَعادي ومَعَاشي » وإذا تأمَّلَ الإنْسَانُ لم يجد دُعَاءً أحْسَنَ مِمَّا ذكرهُ اللَّهُ في القُرآنِ تعْلِيماً لِعبَادِهِ ، وهو قوله تعالى : { رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار } [ البقرة : 201 ] ، ولهذا قال : { واسألوا الله مِن فَضْلِهِ } [ النساء : 32 ] .
وأمّا من جوّزه فاسْتَدَلَّ بقوله عليه السلامُ : « لاَ حَسَد إلاَّ في اثْنَتَيْن ، رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرآنَ ، فَهُو يقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ ، وأطرافَ النَّهَارِ ، وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً ، فهُوَ يَنُفِقُ مِنْهُ آنَاءَ اللَّيْلِ ، وأطرافَ النَّهَارِ » فمعنى قوله : « لا حسد » ، أي : لا غبطة أعظم وأفضل مِنَ الغبْطَةِ في هذين الأمْرَين .
قال بعضُ العُلَمَاءِ : « النَّهي [ عن ] التَّمنِّي المذكورِ في هذهِ الآية ، هو ما لا يجوزُ تمنِّيه من عَرَضِ الدُّنْيَا ، وأشباهها ، وأما التَّمني في الأعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، فحَسَنٌ قال عليه السَّلامُ : » اللَّهُمَّ وَددْتُ أنِّي أحْيَى ، ثُمَّ أقتَلُ [ ثم أحيي ثم أقتل « ] ، وذلك يَدُلُّ على فَضْلِ الشَّهَادةِ على سَائِر أعْمَالِ البِرّ؛ لأنَّهُ -عليه السلامُ- تمنَّاهَا دون غيرها فرزقه اللَّهُ إيَّاهَا لقوله عليه السلامُ : » مَا زَالَتْ أكْلةَ خيبرٍ تعاودني [ كُل عامٍ ، حتى كان هذا ] أوان انقطاع أبْهري « .
وفي الصَّحِيح : » إنَّ الشَّهيد يُقالُ لَهُ : تَمَنَّ ، فَيقُولُ : أتَمَنَّى أنْ أرجعَ إلى الدُّنْيَا ، فأقتَل في سَبيلكَ مَرَّة أخْرَى « وكان عليه السَّلامُ يتمنى إيمانَ أبي طالب وأبي لهب ، وصَنَادِيد قُرَيْشٍ ، مع علمه بأنَّهُ لا يكونُ .
قوله : { بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ } قيل : مِنَ الجِهَادِ .
{ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبن } ، أي : من طَاعَةِ أزواجهن [ وحفظ فُرُوجهِنَّ ] .
وقيل : ما قدر لهن من الميراث ، يجبُ أن يرضوا به ، ويتركوا الاعتراض نهى اللَّهُ -عزَّ وجلَّ- عن التَّمنِّي على هذا الوجه لما فيه من دَوَاعِي الحَسَدِ ، ولأنَّ اللَّه -عزّ وجلّ- أعلم بمصالحهم منهم؛ فوضَعَ القِسْمَةَ بينهم مُتَفَاوِتَةً على حَسْبِ ما علم مِنْ مصالِحِهمْ ويكونُ الاكتساب بمعنى : الإصَابَةِ .
وقيل : ما يَسْتَحِقُّوهُ من الثَّواب في الآخِرَةِ .
وقيل : [ المرادُ ] الكلُّ؛ لأنَّ اللَّفْظَةَ محتملة ولا منافاة .
فصل : إثبات الهمزة في الأمر من السؤال
الجمهورُ على إثْباتِ الهمْزَةِ في الأمرِ من السُّؤالِ الموجه نحو المخاطب ، إذا تَقدَّمَهُ واو ، أو فاء نحو : { فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ } [ يونس : 94 ] ، { واسألوا الله مِن فَضْلِهِ } [ النساء : 32 ] ، وابن كثير ، والكسَائِي بنقل حركة الهمْزَة إلى السِّين تخفيفاً لكثرة استعماله . فإن لم تتقدَّمه واو ، ولا فاء ، فالكًُلُّ على النقل نحو : { سَلْ بني إِسْرَائِيلَ } [ البقرة : 211 ] ، وإن كان لغائب ، فالكُلُّ على الهمز نحو : { وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ } [ الممتحنة : 10 ] .
وَوَهِمَ ابْنُ عَطيَّة ، فنقل اتِّفَاقَ القُرَّاءِ على الهَمْزِ في نحو : { وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ } [ الممتحنة : 10 ] ، وليس اتفاقهم في هذا ، بل في « وليسألوا ما أنفقوا » كما تقدَّم .
وتخفيف الهَمْزَةِ لغةُ الحِجَازِ ، ويحتملُ أن يكونُ ذلك من لغة من يقُولُ « سَالَ يَسَالُ » بألف مَحْضَةٍ ، وقد تقدَّمَ تحقيق ذلك ، وهذا إنَّمَا يتأتى في « سَلْ » ، و « فَسَلْ » وأمّا « وسَألوا » ، فلا يَتَأتَّى فيه ذلك؛ لأنَّهُ كان ينبغي أنْ يُقَالَ : سالوا كَخَافُوا ، وقد يُقَالُ : إنَّهُ التزم الحذف لكثرة الورود ، وقد تقدّم في البَقَرة عند { سَلْ بني إِسْرَائِيلَ } [ البقرة : 211 ] .
وهو يَتعَدَّى لاثْنَيْنِ ، والجلالة مفعول أوّل ، وفي الثَّاني قولان :
أحدهما : أنَّهُ محْذُوفٌ ، فقدَّره ابْنُ عطيَّة : « أمانيَّكم » وقدّره أبُو عليِّ الفارسِيُّ وغيره : شيئاً مِنْ فَضْلِه ، فحذفَ المَوْصُوف ، وأبْقَى صِفَتَهُ نحو : « أطعمته من اللحم » ، أي : شيئاً منه ، و « مِنْ » تبعيضيَّة .
والثَّاني : أن « مِنْ » زائدة ، والتَّقديرُ : « واسألوا الله فَضْلَهُ » ، وهذا إنَّما يَتَمَشَّى على رَأي الأخْفَشِ لفقدان الشَّرْطَيْنِ ، وهما تنكيرُ المجْرُورِ ، وكون الكلام [ غير موجب ] .
فصل
قال عليه السلامُ : « سَلوا اللَّه مِنْ فَضْلِه ، فإنَّهُ يحِبُ أنْ يُسْألَ ، وأفْضَلُ العِبَادَةِ انْتِظَارُ الفَرَج » ، وقال -عليه السلامُ- : « مَنْ لَمْ يَسْألِ اللَّهَ يَغْضَبْ عليْهِ » .
وقال القُرْطُبِيُّ : « وهذا يَدُلُّ على أنَّ الأمْرَ بالسُّؤالِ للَّهِ تعالى واجبٌ ، وهذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الإنسَانَ لا يجوزُ له أنْ يعيِّن شيئاً في الدُّعَاءِ ، والطَّلب ، ولكن يَطْلُبُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ -تعالى- ما يكُونُ سبباً لصلاحِ دينهِ ودُنْيَاهُ » . ثُمَّ قَالَ { إِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } ومعناه : أنَّهُ العالم بما يكونُ صلاحاً للسَّائِلينَ .
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
« جعلنا » فيه سِتَّةُ أوْجُهٍ ، وذلك يَسْتَدْعِي مقدِّمَةً قبله ، وَهُوَ أنّ « كُلّ » لا بدَّ لَهَا مِنْ شَيْءٍ تُضَافُ إليْهِ .
قال القُرْطُبِيُّ : « كُلّ » في كلام العربِ مَعْناهَا : الإحَاطَةُ والعموم ، فإذا جَاءَتْ مُفْرَدَة ، فلا بدَّ وأن يكُونَ في الكَلاَمِ حَذْفٌ عند جميع النحويين « .
واختلفوا في تقديرهِ : فقيل تقدِيرُهُ : ولكلِّ إنسان .
وقيل : لِكُلِّ مال ، وقيل : لِكُلِّ قوم ، فإنْ كانَ التَّقْديرُ : لكل إنسان ، ففيه ثلاثة أوجه :
أحدُهَا : وَلِكُلِّ إنسانٍ موروثٍ جعلنا موالي ، أي : وُرَّاثاً مِمَّا تَرَكَ ، ففي » تَرَكَ « ضميرٌ عائد على » كُلّ « ، وهنا تمّ الكلام .
وقيل : تَقْدِيرُهُ : ويتعلق » مِمَّا تَرَك « ب » مَوَالي « لما فيه من معنى الوراثة ، و » موالي « : مَفْعُولٌ أوَّ ل » جَعَلَ « ، و » جَعَلَ « بمعنى : » صَيَّر « ، و » لِكُلّ « جار ومجرور هو المفعول الثَّاني ، قُدِّم على عامِلِهِ ، ويرتفع » الوِلْدَان « على خبر مبتدأ محذوف ، أو بفعل مقدّر ، أي : يرثون مما [ ترك ] ، كأنه قيل : ومَنْ الوارثُ؟ فقيل : هم الوَالِدَان والأقْرَبُون ، والأصل : » وجعلنا لكل ميت وراثاً يرثون مما تركه هم الوالدان والأقربون « .
والثَّانِي : أنَّ التَّقديرَ : ولكلِّ إنْسَانٍ موروث ، جعلنا وراثاً مما ترك ذلك الإنسان . ثُمَّ بين الإنْسَان المضاف إليه » كُلّ « بقوله : { الوالدان } ، كأنه قيل : ومن هو هَذَا الإنسان الموروث؟ فقيل : الوالدان والأقربُونَ ، والإعراب كما تقدَّمَ في الوَجْهِ قَبْلَهُ ، إنَّمَا الفرقُ بينهما أنَّ الوالِدَيْنِ في الأوَّلِ وارثون ، وفي الثانِي مورثون ، وعلى هذيْنِ الوجْهَيْنِ فالكلامُ جُمْلَتَانِ ، ولا ضميرَ ، محذُوف في » جعلنا « ، و » موالي « مفعول أول ، و » لكل « مفعول ثان .
الثَّالِثُ : أن يكُونَ التَّقدِيرُ : ولكل إنسان وارِث ممَّن تركُ الولِدَانِ والأقْرَبُون جعلنا موالي ، أي : موروثين ، فَيُراد بالمَولى : الموْرُوثُ ، ويرتفع » الوالدان « ب : » ترك « ، وتكون » مَا « بمعنى » مَنْ « ، والجارّ ، والمجرورُ صِفَةٌ للمضاف إليه » كُلّ « ، والكلامُ على هذا جُمْلَةٌ واحِدَةٌ ، وفي هذا بُعْدٌ كبير .
الرَّابعُ : إذا كان التَّقديرُ وَلِكلِّ قوْمٍ ، فالمعنى : ولكل قوم جعلنهم مَوَالي نصيبٌ مِمَّا تَرَكَهُ والدُهم وأقربوهم ، ف » لكل « خبر مقدّم ، و » نَصِيب « مُبْتَدَأٌ مُؤخَّرٌ ، و » جعلناهم « صفة لقوم ، والضَّمِيرُ العَائِدُ عليهم مفعولُ : » جعل « ، و » موالي « : إما ثانٍ وإمّا حالٌ ، على أنَّهَا بمعنى » خلقنا « ، و » مما ترك « صفةٌ للمبتدأ ، ثم حُذف المُبْتَدَأ ، وبقيت صفته ، [ وحُذِفَ المُضَافُ إليه » كُلّ « وبقيت صفته أيضاً ] ، وحُذف العَائِدُ على المَوْصُوفِ .
ونظيره : لِكُلِّ خَلَقَهُ اللَّه إنْسَاناً مِنْ رِزْقِ اللَّه ، أي : لِكُلِّ أحدٍ خلقه اللَّه إنْسَاناً نَصِيبٌ من رزقِ اللَّهِ .
الخَامِسُ : إنْ كَانَ التَّقدِيرُ : ولكلِّ مالٍ ، فقالوا : يكون المعنى : ولكلِّ مال مِمَّا تركه الوالدانِ والأقربون جعلنا موالي ، أي : وُرَّاثاً يلونه ، ويحوزونه ، وجعلوا « لِكُلّ » متعلقة : ب « جَعَلَ » ، و « مِمَّا ترك » صفة ل « كُلّ » ، والوالدان فَلعِلٌ ب « تَرَكَ » ، فيكونُ الكلامُ على هذا ، وعلى الوجهين قبله كلاماً واحداً ، وهذا وإنْ كَانَ حَسَناً ، إلاّ أنَّ فيه الفَصْلَ بين الصِّفَةِ والموْصُوفِ بجملةٍ عامِلَةٍ في الموْصُوفِ .
قاتل أبُو حَيَّان : « وهو نظير قولك : بكلِّ رَجُلٍ مَرَرْتُ تميميٍّ وفي جواز ذلك نَظَرٌ » .
قال شهَابُ الدِّينِ : « ولا يحتاجُ إلى نَظَرٍ؛ لأنَّهُ قد وُجِدَ الفصلُ بَيْنَ الموْصُوفِ والصِّفَةِ بالجملةِ العَامِلَةِ في المُضَافِ إلى المَوصُوفِ ، كقوله تعالى : { قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السماوات والأرض } [ الأنعام : 14 ] ف { فَاطِرِ } صفة ل { الله } ، وقد فُصِلَ [ بينهما ] ب { أَتَّخِذُ } العامل في { أَغَيْرَ } فهذا أولى » .
السَّادسُ : أنْ يكُونَ لكلِّ [ مال ] مفعولاً ثانياً ل « جعَلَ » على أنَّها تصييرية ، و « مَوَالي » مفعول أوَّل ، والإعرابُ على ما تقدَّمَ .
فصل
« المَولى » لفظ مُشْتَرَكٌ بيْنَ مَعَانٍ :
أحدها : المعتِقُ؛ لأنَّهُ ولي نعمة من أعتقه ، ولذلك سمي مولى النعمة . ثانيها : الْعَبْدُ المُعْتَقُ لاتِّصَالِ ولايَةِ مَوْلاَهُ به في إنْعَامِه عليه ، وهذا كما سُمِّيَ الطَّالِبُ غرِيماً؛ لأنَّ له اللُّزُوم والمطالبة بحقِّه ، ويسمَّى المطلوب غريماً ، لِكونِ الدِّينِ لازِماً له .
وثالثها : الحليفُ؛ لأنَّ المحالف يلي أمْرَهُ بِعَقْدِ اليَمينِ .
ورابعُهَا : ابْنُ العَمِّ؛ لأنَّهُ يليه بالنُّصْرَةِ .
وخامسها : المولى لأنَّ يليه بالنُّصْرَةِ ، قال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين آمَنُواْ وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ } [ محمد : 11 ] .
سادسُهَا : العَصَبَةُ ، وهو المُرادُ بهذه الآية؛ لقوله عليه السلامُ : « أنا أوْلَى بالمؤمنينَ ، مَنْ مَات وتَرَكَ مالاً ، فَمَالُهُ لمَوَالِي الْعَصَبَةِ ، ومَنْ ترك ديناً؛ فأنَا وَلِيُّه » .
وقال عليه السلامُ : « ألْحِقُوا الفَرَائِضَ بأهْلِهَا ، فَمَا بَقِيَ فللأوْلَى عصبَةٍ ذكر » .
قوله { والذين عَقَدَتْ } في محلّهِ أربعة أوجهٍ :
أحدُهَا : أنَّهُ مُبْتدأ والخبر قوله : « فآتوهم » [ ودخلت الفاء في الحيز لتضمن الذي معنى الشرط ] .
الثَّاني : أنَّهُ منصوبٌ على الاشْتِغالِ بإضمار فعلٍ ، وهذا أرجحُ مِنْ حَيْثُ إنَّ بَعْدَهُ طلباً .
والثَّالِثُ : أنَّهُ مرفوعٌ عطفاً على { الوالدان والأقربون } ، فإن أريدَ بالوالدين أنَّهُم موروثون ، عادَ الضَّميرُ من « فآتوهم » على « موالي » وإن أُريد أنَّهُم وَارِثُون جازَ عودُه على « موالي » وعلى الوالدَيْنِ وما عُطِفَ عليهم .
الرَّابِعُ : أنَّهُ منصوب عطفاً على « موالي » .
قال أبُو البَقَاءِ : [ أي : ] « وجعلنا الذين عاقدتْ وُرّاثاً؛ وكان ذلك ونسخ » ، وردّ عليه أبُو حَيَّان بِفَسَادِ العطْفِ ، قال : فإن جُعِل من عطْفِ الجُمَل ، وحُذِفَ المفعولُ الثَّاني لدلالة المعنى عليه أمكن ذلك أيْ : جعلنا وُرَّاثاً لكلِّ شَيْءٍ من المال ، أو لِكُلِّ إنسان ، وجَعلنَا الذِينَ عاقَدَتْ أيمانكم وراثاً وفيه بعد ذلِكَ تَكَلُّفٌ .
انتهى .
وقرأ عاصمٌ وحمْزَةُ والكسَائِيُّ : « عقدت » والباقون : « عاقدت » بألف وروي عن حمزة التَّشديد في « عقدت » ، والمفاعلة هنا ظَاهِرَةٌ؛ لأنَّ المَرَادَ المخالفة .
والمفعولُ محذوفٌ على كُلٍّ من القِرَاءاتِ ، أي : عاقدْتَهم أو عَقَدْتَ حِلْفهم ، ونسبة المُعاقَدَةِ ، أو العَقْدِ إلى الأيمان مجاز ، سوَاءٌ أُريد بالأيْمَانِ الجَارِحَة ، أم القَسمُ .
وقيل : ثمَّ مُضافٌ محذوفٌ ، أي : عقدت ذَوُو أيْمَانِكُم .
فصل في : « معنى المعاقدة والأيمان »
المُعَاقَدَةُ المُحالَفَةُ ، والأيْمَانُ جمع يَمينٍ من اليد والقسَمِ ، وذلك أنَّهُم كانُوا عند المُحالَفَةُ يأخذُ بعضهُمُ يدَ بَعْضٍ ، على الوفَاءِ [ والتمسك ] بالعهد .
فصل الخلاف في نسخ الآية
قال بعضهم : إنَّ هذه الآية مَنْسُوخَةٌ ، واسْتدلُّوا على ذلك بوجوه :
أحدها : أنَّ الرَّجُلَ كان في الجاهلِيَّةِ يُعَاقِدُ غيْرَهُ ، فيقُولُ : « دَميَ دمُكَ وسِلْمِي سِلْمُك ، وَحَرْبِي حَرْبُكَ ، وترثُنِي وَأرِثُك ، وَتَعْقِلُ عَنِّي ، وأعْقِلُ عنك » ، فيَكُونُ لهذا الحليف السّدس [ من ] الميراثِ ، فذلك قوله : « فآتوهم نصيبهم » ، فنُسِخ ذلك بقوله : { وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله } [ الأنفال : 75 ] ، وبقوله : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } [ النساء : 11 ] .
وثانيها : أنَّ الرَّجُلَ كانَ يتَّخِذُ أجنبياً فيجعله ابْناً له ، وَهُمُ المُسَمُّوْنَ بالأدْعِيَاء في قوله تعالى : { أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } ، وكانوا يتوارثون بذلك ، ثم نُسِخَ .
وثالِثُهَا : أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُثْبِتُ المؤاخاة بيْنَ الرَّجلين مِنْ أصحابِهِ ، وكان ذلك سَبَباً للِتَّوَارُثِ ، ثم نسخ .
وقال آخرُونَ : الآيةُ غير مَنْسُوخَةٍ .
وقال إبْراهيمُ ومُجاهِدٌ : أرادَ : « فآتوهم نصيبهم من النصر والرفادة ولا ميراث » .
وقال الجبَّائِيُّ : تقدير الآية : « ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون » ، « والذين عاقدت أيمانكم » معطوف على قوله : « الوالدان والأقربون » ، وسمى اللَّهُ تعالى الوارث مولى ، والمعنى : لا تَدفعُوا المالَ إلى الحليفِ ، بل للمولى ، والْوَارِثِ .
وقال آخرون : المُرادُ ب « الذين عاقدت أيمانكم » الزَّوْجُ ، والزَّوْجَةُ ، فأراد عقد النِّكاح قال تعالى { وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح } [ البقرة : 235 ] وهو قول أبِي مُسْلِم الأصفهانيَّ قال : ونظيره آية المواريث ، لما بَيَّنَ آية ميراث الوالدَيْنِ ، ذكر معهم ميراثَ الزَّوْجِ ، والزَّوْجَةِ .
وقيل : أراد بقوله : « الذين عاقدت أيمانكم » : الميراث بِسَبَبِ [ الوَلاَء ] وقيل : « نزَلَتِ الآيةُ في أبِي بكرٍ الصِّدِّيق ، وابنه عبد الرَّحْمن ، أمره اللَّه أن يؤتيه نَصِيبَهُ » .
وقال الأصمُّ : المُرادُ بهذا النَّصِيب على سبيل الهِبَةِ ، والهديَّة بالشيءِ القَلِيلِ كأمره تعالى لمن حَضَرَ القِسمَةَ أن يجعل لَهُ نصيباً كما تقدّم .
فصل الخلاف في إرث المولى الأسفل من الأعلى
قال جمهور الفُقَهَاءِ : « لا يَرثُ المَولى الأسْفَل من الأعلى » .
وحكى الطَّحَاوِيُّ عن الحسن بنِ زيادٍ أنَّهُ قال : « يَرِثُ » ، لما روى ابن عباس -رضي الله عنه- أنَّ رجُلاً أعتق عبداً له؛ فَمَاتَ المُعْتِق ، ولم يترك إلا المُعتَق ، فجعل رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم ميراثه للغلام المعتق ولأنَّهُ داخلٌ في عموم قوله : « والذين عاقدت أيمانهم فآتوهم نصيبهم » .
وأجيب بأنه لَعَلّ ذلك لما صار لبيت المال دفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغُلامِ لحاجته ، وفقره؛ لأنه كانَ مالاً لا وارث لَهُ ، فَسَبيلُهُ أن يُصرف إلى الفُقَرَاءِ .
ثم قال تعالى [ { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } [ النساء : 48 ] ثم قال ] { إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً } ، وهذه كلمة وعد للمطيعين ، ووعيد لِلْعُصَاةِ ، والشَّهِيدُ الشَّاهد ، والمرادُ إمّا علمه تعالى بجميع المَعْلُومَاتِ ، فيكونُ المُرَادُ بالشَّهيدِ العالم ، وإمّا شهادته على الخلق يَوْمَ القِيامَةِ ، فالمُرَادُ بالشَّهيدِ المخبر .
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
وجه النَّظْم : أنَّ النِّسَاءَ لمّا تَكلَّمْنَ في تَفْضيل [ الله ] الرِّجال عليهن في الميراثِ؛ بيَّن في هذه الآيَةِ أنَّهُ إنَّمَا فضَّل الرِّجَال على النِّسَاءِ في الميراث؛ لأنَّ الرِّجالَ قوَّامون على النساء؛ فهم وإن اشْترَكُوا في اسْتِمْتَاعِ كُلّ واحدٍ منهم بالآخر ، فاللَّهُ أمَرَ الرِّجَالَ بالْقِيَامِ عليهنَّ والنفقة ، ودفع المَهْرِ إليهنَّ .
وَالْقَوَّامُ ، والقَيِّمُ بمعنى واحد ، والقوام أبْلَغُ ، وهو القيم بالمصالح ، والتَّدْبِيرِ ، والتَّأدِيبِ ، والاهتمام بالْحِفْظِ .
قال مُقَاتِلٌ : « نزلت في سَعْد بْنِ الرَّبيعِ ، وكان من النقباء وفي امرأته حبيبةَ بِنْتِ [ زَيْدِ ابْنِ خارجة بن أبي زهير ] .
وقال ابْنُ عَبَّاس ، والكلْبِيُّ : » امرأته عَميرَةُ بِنْتُ محمد بْن مَسْلَمةَ ، وذلك أنَّها نَشَزَتْ عليه ، فَلَطَمَهَا فانْطلقَ أبُوها معها إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال : أفَرْشْتُهُ كريمَتِي فلطمَهَا ، وإنَّ أثَرَ اللَّطْمَةِ بَاقٍ في وَجْهِهَا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اقتصِّي منه ثم قال : اصبري حتى أنظر ، فنزلت هذه الآية ، فقال النبي عليه السلام : أردْنَا أمراً ، وأرَادَ اللَّهُ أمْراً ، والَّذِي أرَادَ اللَّهُ خَيْر ، ورَفَعَ الْقِصَاصَ « .
قوله : { عَلَى النسآء } متعلق ب { قَوَّامُونَ } وكذا » بما « والباء للسَّبَبيَّةِ ، ويجوز أن تكُونَ لِلْحَالِ ، فتتَعلَّق بِمحذُوفٍ؛ لأنَّهَا حَالٌ من الضَّميرِ في { قَوَّامُونَ } تقديره : مُسْتَحِقِّينَ بتفضيل اللِّهِ إيَّاهُمْ ، و » مَا « مَصْدَريَّةٌ ، وقيل : بمعنى الَّذِي ، وهو ضعيفٌ لحذف العائِدِ من غَيْرِ مُسَوِّغ .
والبعضُ الأوَّلُ لمُرادُ به الرِّجالُ ، والبَعْضُ الثَّاني : النسَاءُ ، وعَدلَ عَنِ الضَّميريْن فلم يَقُل : بما فَضَّلَهم اللَّهُ عَلَيْهِنَّ ، للإبهام الذي في بَعْض .
فصل في دلالة الآية على تأديب النساء
دَلَّت الآيةُ عَلَى تأديبِ الرِّجَالِ على النِّسَاءِ من وُجُوهٍ كثيرةٍ؛ بعضها صفات حقيقيَّة ، وبعضها أحْكَامٌ شرْعيَّةٌ ، فالصِّفَاتُ الحقيقيَّة [ أن ] عُقُولَ الرِّجَالِ وعُلُومَهُم أكْثَر ، وقُدْرَتهم على الأعْمَالِ الشَّاقَّة أكْمَل ، وفيهم كذَلِكَ من الْعَقْلِ والْقُوَّةِ والكِتَابَةِ في الغالب والفُرُوسيَّةِ ، والرَّمْي ، وفيهمُ العُلَمَاءُ ، والإمَامَةُ الكُبْرَى [ والصغرى ] ، والجهادُ والأذانُ ، والخطبةُ ، والجمعةُ ، والاعْتِكَافُ ، والشَّهَادَةُ على الحدود والقِصَاص ، وفي الأنْكِحَةِ عند بعضِهِم ، وزيادة نصيب الميراث ، والتَّعْصيب ، وتحمل الدِّية في قتل الخَطَأ ، وفي القَسَامَةِ ، وفي ولايةِ النِّكَاحِ ، والطَّلاقِ ، والرَّجْعَةِ ، وعَدَدِ الأزْوَاجِ ، وإليهم الانتساب .
وأمّا الصِّفَاتُ الشَّرعيَّةُ فقوله تعالى : { وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } والمرادُ : عطية المَهْرِ ، والنَّفَقَة عليها ، وكُلُّ ذلك يَدُلُّ على فَضْل الرِّجَالِ على النِّسَاءِ .
قوله تعالى : { وَبِمَآ أَنْفَقُواْ } يَتَعَلَّقُ بما تَعَلَّق به الأوَّلُ ، و » مَا « يَجُوزُ أنْ تكُونَ بمعنى » الّذِي « من غير ضَعْفٍ؛ لأنَّ للحذف مسوِّغاً ، أي : » وبما أنفقوه من أموالهم « .
{ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } متعلّق ب { أَنْفَقُواْ } ، أو بمحذوف على أنَّهُ حال من الضَّمير المحذُوف .
فصل
قال القُرْطبِيُّ : قوله : { وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } يدلُّ على أنَّهُ متى عجز عن نَفَقَتِهَا ، لم يَكُن قوَّاماً عليها [ وإذا لم يكن قوّاماً ] كان لها فَسْخُ العَقْدِ؛ لزوال المَقْصُودِ الَّذي شُرع لأجْلِهِ النِّكَاحُ ، فدلَّ ذلك على ثبوت فَسْخِ النِّكَاحِ عند الإعسار بالنَّفَقَةِ ، والكِسْوَةِ ، وهذا مَذْهَبُ مَالِكٍ والشَّافعيّ ، وأحْمدَ .
وقال أبو حنيفة : لا يُفْسَخُ لقوله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } [ البقرة : 280 ] .
قوله : { فالصالحات قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ الله } ] « الصَّالحات » مبتدأ ، وما يَعْدَهُ خبران لَهُ ، و « للغيب » مُتعلِّق ب « حَافظاتٌ » و « أل » في « الغيب » عوض من الضَّميرِ عند الكُوفييِّنَ كقوله : { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 4 ] ، أي : رأسي وقوله : [ البسيط ]
1791- ب- لميَاءُ في شَفَتَيْهَا حُوَّةٌ لَعَسٌ ... وَفِي اللِّثَاتِ وفِي أنْيَابِهَا شَنَبُ
أي : لثاتها .
والجمهور على رفع الجلالةَ من { حَفِظَ الله } وفي « مَا » على هذه القراءة ثلاثَةُ أوْجُه :
أحدُهَا أنَّهَا مَصْدَريَّةٌ ، والمعنى : بحظ اللَّه إيَّاهُنَّ أي : بتوفيقه لهن ، أو بالوصيَّةِ منه تعالى عليهنَّ .
والثاني : أن تكُونَ بمعنى الذي ، والعَائِدُ محذوفٌ ، أي : بالَّذي حفظه اللَّهُ لَهُنَّ مِنْ مُهُورِ أزواجهِنَّ ، والنّفقة عليهن ، قاله الزَّجَّاجُ .
والثَّالِثُ : أن تكُونَ « مَا » نكرة موصوفة ، والعَائِدُ محذوفٌ أيضاً ، كما تقرَّرَ في المَوْصُولَةِ ، بمعنى الَّذِي .
وقرأ أبُو جَعْفَرٍ بنصب الجَلاَلَةِ . وفي « مَا » ثلاثة أوجه أيضاً :
أحدُهَا : أنَّها بمعنى الَّذِي .
والثَّانِي : [ أنها ] نكرةٌ موصُوفَةٌ ، وفي { حَفِظَ } ضمير يعُودُ على [ « ما » ] أي : بما حفظ من البرِّ والطَّاعَةِ ، ولا بدّ من حَذْفِ مضافٍ تقديره : بما حَفِظَ دين اللَّه ، أو أمر اللَّه؛ لأنَّ الذَّات المقدَّسة لا يحفظها أحَدٌ .
والثَّالِثُ : أنْ تكُونَ « مَا » مَصْدريَّة ، والمعنى : بما حفظن اللَّه في امتثال أمره ، وَسَاغَ عَوْدُ الضَِّميرِ مُفْرَداً على جَمْعِ الإنَاثِ؛ لأنَّهُنَّ في معنى الجنس كأنه قيل : « فمن صلح » فَعَاد الضَّميرِ مُفْرداً بهذا الاعتبارِ ، ورُدَّ هذا الوجه بِعَدَمِ مُطَابَقَةِ الضَّميرِ لما يعودُ عليه وهذا جوابه ، وجعله ابْنُ جِنّي مثل قول الشَّاعِرِ : [ المتقارب ]
1792- .. فإنَّ الحَوَادِثِ اوْدَى بِهَا
أي : أوْدَيْنَ ، وَيَنْبَغِي أن يُقَالَ : الأصْلُ بما حفظت الله ، والحوادث أوْدَتْ ، لأنَّهَا يَجُوزُ انْ يَعُودَ الضَّميرُ عَلَى [ جمع ] الإنَاثِ كَعَوْدِهِ عَلَى الوَاحِدَةِ مِنْهُنَّ ، تقول : النِّسَاءُ قَامَتْ ، إلاَّ أنَّهُ شَذَّ حذفُ تَاءِ التَّأنيثِ مِنَ الْفِعْلِ المُسْندِ إلى ضَميرِ المُؤنَّثِ .
وقرأ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودِ -وهي في مُصْحَفِهِ كَذَلِكَ- « فالصالح قوانت حوافظ » بالتكسير .
قال ابْن جني : وهي أشْبَهُ بالمَعْنَى لإعطائِهَا الكَثْرَة ، وَهِيَ المَقْصُودَةُ هُنَا ، يعني : أن « فَوَاعِل » من جُمُوعِ الكَثْرَةِ ، وجمع التَّصحيح جمع قلَّةٍ ، ما لم تَقْتَرِنْ بالألف واللاَّمِ . وظاهِرُ عِبَارَةَ أبِي البَقَاءِ أنه لِلقِلَّةِ ، وَإنْ اقْتَرَنَ ب « أل » فإنَّهُ قال : وجمع التَّصحيح لا يدلّ على الكثرة بوضعِهِ ، وقد استعمل فيها كقوله تعالى : { وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ } [ سبأ : 37 ] .
وفيما قالهُ [ أبُو الفتح ] وأبُو البقاءِ نَظَرٌ ، فإنَّ « الصَّالِحات » في القراءةِ المَشْهُورَةِ مُعَرَّفَةٌ بِأل ، وقَد تَقَدَّمَ أنَّه تكُونُ لِلْعُمُومِ ، إلاَّ انَّ العموم المفيد للكثرة ، ليس مِنْ صيغَةِ الجَمْعِ ، بل مِنْ « ألْ » ، وإذا ثَبَتَ أن « الصَّالِحَاتِ » جمع كَثْرَةٍ ، لَزِمَ أنْ يكُونَ « قَانِتَات » و « حَافِظَات » للكثرة؛ لأنَّهُ خبرٌ عن الجميعِ ، فَيُفِييدُ الكَثْرَةَ ، ألا تَرَى أنَّكَ إذا قلت : الرِّجَالُ قَائِمُونَ ، لَزِمَ أنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الرِّجَالِ قَائِماً ، ولا يجوز أن يكُونَ بعضُهم قاعداً ، فإذاً القراءةُ الشَّهيرةُ وافيةٌ بالْمعنى [ المقصود ] .
فصل
قال الواحديُّ : لفظ القنُوتِ يُفيدُ : الطَّاعَةَ ، وَهُوَ عَامٌّ في طَاعَةِ اللهِ ، وطاعة الأزْوَاجِ ، وما حَالُ المرأةِ عِنْدَ غَيْبَةِ الزَّوْجِ فقد وصفها اللهُ بقوله : { قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ } ، واعْلَمْ أنَّ الغيب ، خلاف الشَّهَادَةِ ، والمعنى : كَوْنُهنَّ حافِظَاتٌ بموجب الغَيْب ، وهو أنْ تَحْفَظَ نَفْسَهَا عن الزِّنَا؛ لئلا يلحق الزَِّوْج الغَائب عار الزِّنَا ، ويلحق به الوَلَد المتكون من نُطْفَةِ غيرِهِ ، وتحفظ ماله لئلا يضيع ، وتحفظ مَنْزِلَهُ عَمَّا لا يَنْبَغِي ، قال عليه السَّلامُ : « خَيْرُ النِّسَاءِ امرأةٌ إن نَظَرَتْ إلَيْهَا سَرَّتْكَ ، وَإنْ أمرتها أطاعَتْكَ ، وإنْ غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ في مَالِكَ ونفسها » وتلا هذه الآية .
قوله : { واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } لما ذكر الصالحات ذكر بعده غير الصّالحات فقال : « واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهنّ » والخَوْفُ عِبَارَةٌ عَن حَالَةٍ تَحْصُلُ في القَلْبِ ، عند حُدُوثِ أمر مَكْرُوهٍ في المُسْتَقْبل .
قال الشَّافِعيُّ -رضي الله عنه- : دَلالَةُ النُّشوُزِ قَدْ تكُونُ قَوْلاً ، وقد تكُونُ فِعْلاً ، فالقول مثل أن تلبيه إذا دَعَاهَا ، وتخْضَعُ لَهُ بالقَوْلِ إذَا خَاطَبَهَا ثُم تغيَّرتْ ، والفِعْلُ إن كَانَتْ تَقومُ إلَيْهِ إذَا دَخَلَ عَلَيْهَا ، أوْ تُسارعُ إلى أمره وتبادر إلى فراشه باستبشار إذا التمسها ، ثم [ إنها ] تغيرت عَنْ كل ذلك ، فهذه إمارَاتٌ دالةٌ على النُّشوزِ ، فحينئذٍ ظنَّ نُشُوزهَا ، فهذه المقدمَاتُ تُوجِبُ خَوْفَ النُّشُوزِ ، وأمّا النشوز فهو مغصية الزَّوْج ، وُخَالَفَتَهُ ، وأصْلُهُ مِنْ قولهم : نَشَزَ الشَّيْئُ إذا ارتفع ، ومنه يُقالُ للأرضِ المرتفعة : « نَشَزٌ » ، يُقَالُ : نَشَزَ الرَّجُلُ ينشِز [ وينشُز ] إذا كان قاعداً فَنَهض قَائِماً ، ومنه قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ يَرْفَعِ الله } [ المجادلة : 11 ] ارتفعوا أو انهضوا إلى حرب أو أمر من أمور اللهِ تعالى .
وقال أبُو منْصُورٍ اللُّغَويُّ : « النُّشُوزُ كرَاهِيَةُ كُل واحد من الزَّوْجَيْنِ صاحِبَهُ ، يقال : نَشَزَتْ تَنْشَزُ ، فهي نَاشِزٌ بغير هاء ، وهي السَّيِّئَةُ العِشْرَةِ » .
وقال ابْنُ دُرَيْدٍ : « نَشَزَتْ المرْأةُ ، وَنَشَسَتْ ، ونَشَصَتْ بمعنى واحد » .
قوله : « فعظوهنّ » ، أي : بالتخويف من الله تعالى ، فَيُقَالُ : اتَّقي الله فإنَّ عليك حقًّا لي ، وارجعي عمّا أنت عليه ، واعْلَمِِي أنَّ طاعتي فرضٌ عليك ، فإن أصرَّت على النُّشوزِ ، فيهجرها في المَضْجَعِ .
قال ابْنُ عَبَّاسٍ « يوليها ظَهْرَهُ في الفِرَاشِ ، ولا يُكَلِّمُها » .
وقال غيره : « يَعْتَزِلُ عَنْهَا إلى فِرَاشٍ آخر » .
قال الشَّافعيُّ : « ولا يزيد في هجره في الكلام على ثَلاثٍ ، فإذَا هجرها في المَضْجَع ، فإن كانت تَبْغَضُه ، وافقها ذلك الهجران ، فيكونُ ذلك دليلاً على كمال النُّشوزِ » .
ومنهم من حَمَلَ الهِجْرَانَ في المَضَاجِعِ على تَرْكِ المُبَاشَرَةِ .
وقال القرطبي : وقيل : اهْجرُوهُنَّ مِنَ الهُجْرِ ، وهو القَبيحُ من الكَلاَمِ ، أي : غلظُوا عليْهِنَّ فِي القَوْلِ ، ضاجعوهن للجماع وغيره و [ قال ] معناه سفيان [ الثَّوْرِي ] ، وروي عن ابْن عَبَّاسٍ .
وقيل : شدّوهن [ وثاقاً ] في بيوتهن ، من قولهم : هجر البعيرَ ، أي : ربطه بالهجار ، وهو حَبْلٌ يُشَدُّ به البعيرُ ، وهذا اختِيارُ الطَّبري ، وقدح في سائر الأقْوالِ ، ورَدَّ عليه القاضِي أبُو بَكْرٍ بْن العَرَبِيّ وقال : « يا لها من هَفْوَة عالمٍ بالقرآن والسُّنَّةِ ، والَّذي حملَهُ على [ هذا ] التأويلِ حديثٌ غريبٌ ، رواه ابْنُ وهب عن مالكٍ : أنَّ أسْمَاءَ بنتَ أبي بكر الصّديق امرأةَ الزُّبَيْرِ بنِ العَوّامِ كانت قد نَشَرَتْ على زوجها فقد شعر واحدة بالأخْرَى ثم ضَرَبَهَا » الحديث .
فرأى الرَّبط والعقد ، مع احْتِمَالِ اللَّفْظِ ، مع فعل الزُّبَيْرِ ، فأقدم على هذا التَّفْسيرِ « .
قال القرطبيُّ : وهذا الهَجْرُ غَايَتُهُ عِنْدَ العُلَمَاءِ شهر ، كما فعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم حين أسَرَّ إلى حَفْصَة حديثاً ، فأفشته إلى عَائِشَةَ -رضي الله عنها- .
قوله : { فِي المضاجع } فيه وجهان :
أحدها : أنَّ » في « على بابها من الظرفيَّةِ متعلّق ب { اهجروهن } أي : اتركوا مضاجعتهن ، أي : النَّوْمَ مَعَهُنَّ دون كلامِهِنَّ ومؤاكلتهنَّ .
والثَّاني : أنها للِسَّبَبِ . قال أبُو البقاءِ : { واهجروهن } بسبب المضاجع ، كما تَقُولُ : في هذه الجِنَايَةِ عُقُوبَةٌ ، وجعل مكي هذا الوجه مُتَعَيِّناً ، ومنع الأول ، قال : ليس { فِي المضاجع } ظرفاً للهجران ، وإنَّمَا هو سَبَبٌ لِهِجْرَانِ التَّخَلُّفِ ، ومعناه : فاهجروهنّ من أجل تخلفهن عن المُضاجَعَةِ معكم ، وفيه نَظَرٌ لا يخفى .
وكلام الوحِدِي يُفْهِم أنَّهُ يجوزُ تعلُّقه ب { نُشُوزَهُنَّ } ، فإنه قال -بعدما حكى عن ابْنِ عَبَّاسٍ كلاماً- : والمعنى على هذا : » واللاتي تخافون نشوزهن في المضاجع « ، والكلامُ الذي حَكاهُ عن ابن عباس هو قوله : هذا كُلُّهُ في المَضْجَعِ ، إذا هي عَصَتْ أن تَضْطَجِعَ مَعَهُ ، ولكن لا يجوزُ ذلك؛ لئلاّ يلزمَ الفَصْلُ بين المَصْدَرِ ومعموله بأجنبيّ .
وقدّر بعضهم مَعْطُوفاً بعد قوله : » واللاتي تخافون « ، أي : واللاتي تخافون نشوزهن ، ونَشَزْنَ ، كأنَّهُ يريد أنَّهُ لا يجوُز . ُ الإقدام على الوَعْظِ ، وما بعده بِمُجَرَّدِ الخَوْفِ .
وقيل : لا حَاجَةَ إلى ذلك؛ لأنَّ الخَوْفَ بمعنى اليقين [ قال تعالى { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً } [ البقرة : 182 ] ، قال ابن عباسٍ : تخافون بمعنى تتيقّنون ] ، وقيل : غلبة الظنِّ في ذلك كافِيَةٌ .
قوله : { واضربوهن } يعني : أنَّهُنّ [ إن ] لم ينزعن مع الهجران فاضربُوهُنَّ ، يعني ضرباً غَيْرَ مُبَرَّحٍ ، ولا شَائِنٍ .
قال عَطَاءٌ : » [ هو ] ضَرْب بالسِّواكِ « .
وقال عليه السَّلامُ في حقّ المرْأةِ :
« أنْ تُطْعِمَهَا إذَا طَعِمَتْ ، وتكسوها إذا اكْتَسَيت ، ولا تضرب الوَجْهُ ، ولا تهجر إلاَّ في البَيْتِ » .
قال الشَّافِعيُّ : يكُونُ دون الأرْبَعينَ .
وقال بعضُهُم : لا يَبْلغُ به عِشْرِينَ ، لأنَّهُ حدٌّ كامِلٌ في حَقّش العبد ، ويكونُ بحيث لا يُفْضي إلى الهَلاَكِ ، ويَكُونُ مفرقاً على بدنها ، ولا تجوزُ الموالاة في مَوْضِعٍ واحدٍ ، ويتقي الوجه .
قال بعضُ العُلَمَاءِ : يكُونُ الضَّرْبُ بمنديلٍ مَلْفُوفٍ ، أو بِيَدِهِ ، ولا يَضْرِبُهَا بالسِّياطِ ، ولا بالعَصَا ، وبالجملة فالتَّخفيفُ مراعى في هَذَا البَابِ .
قال الشَّافعيُّ : « الضَّرْبُ مُبَاحٌ وتركُهُ أفْضَلُ » .
واختلفوا : هل هذا الحُكْمُ على الترتيبِ ، أم لا؟ قال عَلِيُّ بْنُ أبي طالبٍ -رضي الله عنه- : يَعِظُهَا بِلِسَانِهِ ، فإنْ أبَتْ هَجَرَهَا فِي المَضْجَعِ [ فإن أبتْ ضَرَبَهَا ] ، فإن لم تَتَّعِظْ بالضَّرْبِ بَعَثَ الحكم [ مِنْ أهْلِهِ ] .
وقال آخرون : هذا الترتيب مراعى عند خَوْف النُّشُوزِ أمّا عند تحقق النشوز ، فلا بأس بالجمع بين الكُلِّ .
قوله : « [ فإن أطعنكم ] فلا تبغوا عليهن سبيلاً » في نَصْبِ « سبيلاً » وجْهَانٍ :
أحدهما : أنه مفعول به .
والثَّانِي : أنَّهُ على إسْقَاطِ الخَافِضِ ، وهذان الوَجْهَانِ مبنيان على تفسِير البَغْي هنا ما هو؟ فقيل : هو الظٌّلْمُ من قوله : { فبغى عَلَيْهِمْ } [ القصص : 76 ] ، فعلى هذا يَكُونُ لازِماً ، و « سبيلاً » منصوب بإسْقَاطِ الخَافِضِ أي : كسبيل .
وقيل : هو الطَّلب ، من قولهم : بَغَيْتُه ، أي : طلبته ، وفي { عَلَيْهِنَّ } وجهان :
أحدهما : أنه متعلّق ب { تَبْغُواْ } .
والثَّاني : أنَّهُ مُتَعَلِّق بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من { سَبِيلاً } ، لأنه في الأصلِ صفة النكرة قُدِّم عليها .
فصل
قال بعضُهُم : معناه : لا تتجنّوا عليهنَّ بقولٍ ، أو فِعْلٍ . قال ابْنُ عيينَةَ لا تكِّفوهُنَّ محبتكم ، فإنَّ القلب ليس بأيديهن ، ثم قال تعالى : { إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً } مُتعلياً عن أنْ يكلّف العبادَ ما لا يُطيقُونَهُ ، فلذلك لا تُكلفوهنّ محِبَتَكُم ، فإنهن لا يطقنَ ذِلكَ .
وقيل : إنَّهُ مع عُلُوِّهِ ، وكبريائه لا يُؤاخِذُ العَاصي إذَا تَابَ ، فأنتم أولى إذا تابت المرأةُ من نُشُوزِهَا بأن تقبلوا تَوْبَتَهَا ، وقيل : إنَّهُنَّ إن وضعن عن دَفْعِ ظلمكم فاللهُ سبحانه كبيرٌ عليٌّ قاهر يَنْتَصِفُ لَهُنَّ مِنْكُمْ .
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
لما ذكر الضربَ ذَكَرَ هذه المحاكمة؛ لأنَّ بها يتبينّ المظلومُ من الظَّالِمِ .
قال ابْنُ عَبَّاسٍ : { خِفْتُمْ } أي : علمتم قال : وَهَذَا بِخِلافِ قوله تعالى : { واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } ، فإنَّ ذلك محمول على الظَّنِّ ، والفرق بَيْنَ الموضِعَيْنِ في الابْتِدَاءِ يظهرُ له أمارات النُّشُوزِ ، فعند ذلِك يحصل الخَوْفُ ، وأمّا بَعْدَ الوعْظِ ، والهجر والضَّرْبِ إن أصرّت على النُّشُوزِ ، فقد حَصَلَ العِلْمُ بالنُّشُوزِ ، فَوَجَبَ حملُ الخَوْفِ ههنا على العِلْمِ .
وقال لزَّجَّاجُ : القول بأن الخَوْفَ ها هنا بمعنى اليَقِيِنِ خطأ ، فإنّا لو عِلِمْنَا الشقاق عَلَى الحَقيقَةِ لم يحتج إلى الحُكمِ ، وأُجيبَ بأن وجود الشقاق وإن كانَ مَعْلُوماً ، إلاَّ أنا لا نَعْلم أن ذلك الشِّقاق صدر عَنْ هَذَا ، أو عَنْ ، ذلك ، فالحَاجَة إلى الحَكَمِيْنِ لمَعْرِفَةِ هذا المَعْنَى .
قال ابْنُ الخَطيبِ : ويمكنُ أن يُقالَ : وُجود الشِّقَاقِ ف بالحَالِ مَعْلُومٌ ، ومثل هذا لا يَحْصُلُ منهُ خَوْفٌ ، إنَّمَا الخَوْفُ في أنَّهُ هل يَبْقَى ذلك الشِّقَاقُ أم لا ، فالفَائِدَةُ في بعث الحكمين لِيْسَتْ إزالة الشِّقَاقِ الثَّابِت ، فإنَّ ذلك مُحَالٌ ، بل الفائِدَةُ إزالة ذلك الشِّقاق في المُسْتَقْبَلِ .
قوله : { شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } فيه وجهان :
أحدهما : أنَّ الشِّقَاقَ مضاف إلى « بَيْنَ » ومعناها الظَّرْفِيَّةُ ، والأصْلُ : « شقاقاً بينهما » ، ولكنَّهُ اتَّسع فيه ، فأضيف الحَدَثُ إلى ظَرْفِهِ وإضافة المصدر إلى الظرف جائزة لحصوله فيه ، وظرفيته باقية نحو : سَرَّنِي مسير اللَّيْلَةِ ، ويعجبني صَوْمُ يَوْم عَرَفَةَ ، ومنه : { بَلْ مَكْرُ الليل والنهار } [ سبأ : 33 ] .
والثَّاني : أنه خَرَجَ عن الظَّرفيَّةِ ، وبقي كَسَائِرِ الأسْمَاءِ ، كأنه أُريد به المُعَاشرة ، والمصاحبة بين الزَّوْجَيْنِ ، وإلى مَيْلِ أبي البقاء قال : والبَيْنُ هنا الوَصْلُ الكائنُ بين الزوجين « وللشقاق تأويلان :
أحدهما : أن كل واحد منهما يفعل ما يَشُقُّ على صاحبه .
والثاني : أن كل واحد منهما صار في شق بالعداوة والمباينة .
فصل [ معاني الشقاق ]
وقد ورد الشِّقاقُ على أربعة أوْجُهٍ :
الأوَّلُ : بمعنى الخِلاَفِ كهذه الآية ، أي : خلاف بينهما .
الثَّاني : الضَّلالُ ، قال تعالى : { وَإِنَّ الظالمين لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } [ الحج : 53 ] أي : في ضلال .
الثَّالث : أن الشِّقَاقَ : العداوة قال تعالى : { وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شقاقي } هود : 89 ] أي : عداوتي ، و [ العداوة ] وممّا يشق على صاحبه .
الرابع : أنّ كُلَّ واحدٍ منها صار في شقّ بالعداوة ، والمباينة .
فصل [ هل البعث خطاب للإمام أم لآحاد الناس ]
قوله { فابعثوا } قال بعضهم : هذا خِطَابٌ للإمام ، أو نائبة وقال آخرون : هَذَا خطابٌ عامٌّ للجميع ، وليس حمله على البَعْضِ أولى من حَمْلِهِ على البَقِيَّةِ ، فَوَجَبَ حملُهُ على الكُلِّ ، فعلى هذا يكونُ أمراً لآحاد الأمة سواء وجد الإمام ، أم لم يُوجَدْ ، فللصَّالحين أنْ يَبْعَثُوا حكماً من أهلِهِ ، وحكماً من أهْلِهَا للإصلاح ، ولأنَّ هذا يَجْرِي مَجْرَى دَفْع الضَّرَر ، ولكل أحد أنْ يَقُومَ به .
قوله : { مِّنْ أَهْلِهِ } فيه وجهان :
أحدُهُمَا : أنه متعلِّق ب { فابعثوا } فهي لابتداء الغاية .
والثَّاني : أن يتعلَّق بمحذُوف؛ لأنَّهَا صفة للنكِرَةِ ، أي : كائناً من أهله فهي للتَّبْغيضِ .
فصل
شَرْطُ الحَكَمَيْنِ أن يكونَا عَدْلَيْنِ ، ويجعلهما الحَاكِمُ حَكَمَيْنِ ، والأولى أنْ يكُونَ [ واحد من أهْلِهِ ، وواحد من أهْلِهَا ، لأنَّ أقاربهما أعرف بحالهما من الأجَانِبِ ، وأشدّ طلباً للصلاح ، فإن كانا ] أجنبيّين [ جَازَ ] .
وفائدة الحكمين أن يخلو كُلّ واحد منهما بِصَاحِبِه ، ويستكشف منه حقيقةَ الحَالِ ، ليعرفَ رَغْبَتَهُ في الإقَامَةِ معه على النِّكَاحِ ، أو المُفَارَقِةِ ، ثمَّ يَجتمعُ الحكمان ، فَيَفْعَلاَنِ ما هو المَصْلَحَةُ من طلاقٍ ، أو خَلْع .
وهل للحكمين تَنْفِيذُ أمْرٍ يُلْزِمُ الزَّوِجَيْنِ دون إذْنِهِمَا ، مثل : أن يطلق حَكَمُ الرَّجل ، أو يفتدي حَكَمُ المرْأةِ بشيءٍ من مالِهَا؟
قال أبُو حَنِيفَةَ : لاَ يَجُوزُ .
وقال غيره : يَجُوزُ .
قوله : { إِن يُرِيدَآ } يَجُوزُ أن يَعُودَ الضميران في { إِن يُرِيدَآ } و { بَيْنَهُمَآ } على الزَّوْجَيْنِ ، أي : إن يُرد الزَّوجان إصلاحاً يُوفِّق اللهُ بَيْنَ الزوجين ، وأنْ يَعُودا على الحَكَمَيْنِ ، وأن يُعودَ الأوَّلُ على الحَكَمَيْنِ ، والثَّانِي على الزَّوْجَيْنِ ، وأنْ يَكُونَ بالعكس وأُضْمِرَ الزَّوجان وإن لم يجر لهما ذكرٌ لدلاَلَةِ ذِكرِ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ عليهما . وجعل أبُو البقاءِ الضَّميرَ في { بَيْنَهُمَآ } عائداً على الزَّوْجَينِ فقط ، سَوَاءٌ قيل بأن ضمير { يُرِيدُ الله } عائداً على الحكمين ، او الزوجين .
فصل
قال القُرْطُبِيُّ : ويجزي إرسالُ الوَاحِدِ قال : لأن الله - تعالى - حكم في الزنا بأربعة شهود ، ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المرأة الزَّانية أنَيْساً وحده ، وقالَ له : « إن اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا » قال : وإذا جَازَ إرسال الواحد فلو حَكَّمَ الزوجان واحداً أجْزَأ إذَا رَضِيَا بذلك ، وإنما خاطب الله الحكام دون الزوجين ، فإن أرسل الزوجان حَكَمَيْنِ وحَكما نفذ حكمهما؛ لأن التحكيم عندنا جائز ، وينفذ فعلُ الحكم في كل مسألة ، إذا كان كل واحد منهما عدلاً .
وأصل التوفيق المُوافَقَةَ ، وهي المُسَاوَاة في أمْرِ من الأمور ، فالتَّوْفِيق اللُّطف الذي يتفق عنده فعل الطاعة . ثم قال : { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً خَبِيراً } والمراد : الوعيد للزَّوْجَيْنِ والحَكَمَيْنِ في طريق سُلُوك المُخَالفِ الحق .
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
لمَّا أرشد كُلَّ وَاحِدٍ من الزَّوْجَيْنِ إلى المُعَاملة الحسنة [ مع الآخر ، أرشد في هَذهِ الآية إلى سَائِرِ الأخْلاَق الحَسَنة ] وذكر منها [ هَهُنا ] عَشْرَة أنْوَاع :
الأول : قوله - تعالى - { واعبدوا الله } قال ابن عبَّاس : وَحِّدوُهُ ، واعلم أن العِبَادة عبارةٌ عن كل عَمَل يُؤْتَى به لمجَرَّد أمْر الله - تعالى - بذلك ، ولما أمَر بالعبَادَةِ ، أمر بالإخلاصِ فيها : فقال { وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } .
قال القرطُبي : ذكر العُلَمَاء أن من تطهَّر [ تَبَرُّداً ] أو صام [ حميَّة ] لِمعدَتِهِ ، ويرى مع ذَلِكَ التَّقرُّب لم يُجْزِه؛ لأنه مَزَج [ نية ] التَّقرُّب بنيَّة دُنْيَويَّة ، ولذا إذا أحسَّ الإمام بداخِلٍ وهو رَاكِعٌ لم يَنْتَظِرْه ، لأنه يُخْرِج ذكر [ الله ] بانتظاره عن كَوْنِه خالصاً - لله - تعالى .
ثم قال { وبالوالدين إِحْسَاناً } وتقدم الكلام على نظير هذا في البَقَرَةِ ، واتَّفقوا على أن ههنا مَحْذوفاً ، والتَّقْدير : « وأحسنوا بالوالدين إحساناً » ؛ كقوله : « فضرب الرقاب » أي : فاضْربُوها ، وقرأ ابن أبي عَبْلَة : « إحسان » بالرَّفع على أنَّه مُبْتَدأ ، وخبره الجَارّ [ والمجرور ] قَبْلَهُ .
والمراد بهذه الجُملَةِ : الأمر بالإحسان وإن كانت خبريةً؛ كقوله- تعالى- { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } [ يوسف : 18 ] .
قوله : { وَبِذِي القربى } فأعاد الباء ، وذلك لأنها في حق هذه الأمَّة ، فالاعتناء بها أكثر ، وإعادة الباء تدل على زيادة تأكيد فنتسب ذلك هنا ، بخلاف آية البَقَرَة ، فإنَّها في حقِّ بني إسْرائيل ، والمراد الأمْر بصلَة الرَّحم ، كما ذكر في أول السُّورة بقوله : { والأرحام } [ النساء : 1 ] .
واعلم أن الوَالِدَيْنِ من القَرَابة أيضاً ، إلا أنَّهما لمّا تَخَصَّصَت قرابتهما بكَوْنِهمَا أقرب القَرَابات ، لا جرم خصّهما بالذِّكْر .
{ واليتامى } فاليتيم مَخْصُوص بنوعِيْن من العَجْز :
أحدهما : الصِّغر .
والثاني : عَدَم المُنْفِق ، ومن هذا حَالهُ كان في غَايَة العَجْزِ واستِحْقَاقِ الرحمة .
قوله { والمساكين } فالمسْكين وإن كان عدِيم المالِ ، إلا أنَّه لكبره يمكنه أن يَعْرض حالَ نَفْسَه على الغَيْرِ؛ فيجتلب به نَفْعَاً أو يدفعَ به ضرراً ، وأما اليتيمُ ، فلا قُدرة له؛ فلهذا المعنى قدَّم الله اليتيم في الذِّكر على المِسْكِين ، والإحْسَان إلى المِسْكِين إما بالإجْمَالِ إلَيْهِ ، وإمّا بالرَّدِّ الجميل ، لقوله : { وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ } [ الضحى : 10 ] .
وقوله : { والجار ذِي القربى } الجمهور على خفض الجارّ ، والمراد به القَرِيب النَّسِيب ، وبالجار الجُنُب : لبعيد النَّسِيب .
وعن مَيْمُون بن مَهْرَان : والجار ذِي القُرْبَى ، أُريد به الجارِ القريب ، قال ابن عطيَّة : وهذا خطأ؛ لأنَّه على تأويله جمع بين ألَ والإضافة ، إذ كان وَجْه الكَلاَمِ : وجار ذي القُرْبَى [ الجار القريب ] ، ويمكن جوابُه على ان ذِي القُرْبَى ، بدل من الجارِّ على حَذْفِ مُضَافٍ ، أي : والجار ذِي القُرْبَى؛ كقوله : [ الخفيف ] .
1793- نَصَرَ اللهُ أعْظُماً دَفَنُوهَا ... بسجِسْتَانَ طَلحة الطَّلحَاتِ
أي : أعْظُم طَلْحَة ، [ ومن كلامهم ] : لو يعلمُون العِلْم الكبيرة سنة ، أي : علم الكبيرة سنّه ، فحذف البَدل لدلالة الكلام عليه .
وقرأ بعضهم : « والجار ذا القربى : نصباً ، وخرجه الزَمَخْشَرِي على الاخْتِصَاص لقوله - تعالى - : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى } [ البقرة : 238 ] والجُنُب صِفَة على فُعُل ، نحو : » ناقة سُرُح « ، ويَسْتَوي فيه المُفْرَدَ والمثّنَّى والجُمُوع ، مذكراً أو مؤنثاً ، نحو : » رجال جنب « وقال - تعالى- : { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً } [ المائدة : 6 ] ، وبعضهم يثنيه ويجمعه ، ومثله : شُلُل ، وعن عَاصِم : والجَار الجَنْبِ ، بفتح الجيم وسُكُون النون وهو وَصْفٌ أيضاً بمعنى المُجَانِب ، كقولهم : رجل عَدْل ، وألفُ الجَار عن واو؛ لقولهم : تجاورُوا ، وجَاوَرْتُه ، ويُجْمَع على جيرة وجِيَران ، والجَنَابَةِ البُعْد؛ قال [ الطويل ]
1794- فَلاَ تَحْرمَنِّي نَائلاً عَنْ جَنَابَةٍ ... فَإنِّي امْرُؤٌ وَسْطَ القبابِ غَريبُ
لأن الإنْسَان يُتركُ جَانباً ، ومنه { واجنبني وَبَنِيَّ أَن [ نَّعْبُدَ الأصنام } ] [ إبراهيم : 35 ] ، وأصله من الجَنَابَة ، ضِدّها القَرَابَة ، وهو البُعْدُ ، يقال : رَجُلٌ جُنُبٌ ، إذا كان غريباً مُتَبَاعِداً عن أهله ، ورَجُل أجْنَبِيٌّ ، وهو البَعيد منك في القَرَابة ، ومنه الجَنَابَة من الجِمَاع؛ لتباعده عن الطَّهَارَةِ وعن الصَّلاة حَتَّى يَغْتَسِل ، وهذان الجنبانِ؛ لبُعْد كلِّ واحدٍ منهما عن الآخر .
فصل : في الإحسان إلى الجار
قالت عَائِشَة - رضي الله عنها- : » يا رسولُ الله ، إن لي جارَيْن ، فإلى يهما أُهْدِي ، قال : إلى أقربِهِمَا منكِ باباً « ، وعن ابْن عُمر؛ قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : » ما زال جِبْريلُ يُوصِيني بالجَارِ ، حَتَّى ظَنَنْتُ أنَّهُ سَيُورِّثُهُ « ، وقال - عليه السلام - : » لا يَدْخُلُ الجَنَّة من لا يَأمَنْ جَارَهُ بَوائِقَهُ ، ألاَ وَإنَّ الجَوارَ أرْبَعُون « وكان الزهري يقول : أرْبَعُون يَمْنَة ، وأربعون يَسْرَة ، وأربعون أمَامَه ، وأرْبَعُون خَلْفه .
وعن بي هُرَيْرَة - رضي الله عنه - : » قيل : يا رسولُ الله ، إن فُلانَة تَصُوم النَّهار وتصلي بالَّيْلِ ، وفي لِسَانِها شَيءٌ يؤذي جِيرانَهَا ، [ فقال : « لا يَحْفَظُ ] حق الجَارَ إلا مَنْ رَحم الله ، وقليل ما هُم ، أتدرون ما حَقَّ الجَارِ : إن افْتَقَر أغْنَيْتَه ، وإن استقْرَضَ أقْرَضْتَه ، وإن أصابه خير هَنَّيْتَه ، وإن أصَابه ضَرٌّ عَزَّيته ، وإن مَرِضَ عُدْتَه ، وإن ماتَ شَيَّعْت جَنَازته » .
وقال نَوف الشَّامِي : { والجار ذِي القربى } المُسْلِم ، [ والجار ] الجُنُب : اليَهُودي والنَّصرَاني .
قال القرطبي : وعلى هذه فالوصاية بالجارِ ، مأمورٌ بها مَنْدُوب إليها ، مسلِماً كان أو كَافِراً ، وهو الصَّحيح ، والإحْسَان قد يكون بِمَعْنَى المُواسَاة ، وقد يكون بِمَعْنَى حُسْن العِشْرَةِ ، وكَفّ الأذَى ، والمُحَامَاة دُونَه .
وقال - عليه الصلاة والسلام- : « الجيرَان [ ثلاثة : ] فجارٌ له ثلاثة حُقُوقٍ ، وجار له حَقَّان وجارٌ له حَقٌّ واحد » .
فأما الجار الَّذِي له ثلاَثَةُ حُقُوقٍ : فالجار القَريب المُسْلِم ، له حقُّ الجِوار ، وحق القَرَابَة ، وحَقّ الإسْلام .
والجارُ الذي له حَقَّان : فهو الجَار المُسْلِم فله حق الإسلام ، وحق الجِوارِ .
والجار الذي له حَقٌّ واحد : هو الكَافِر ، له حق الجِوَار .
وقال بَعْضُ العُلَمَاءِ : { والجار ذِي القربى } هو القريب المَسْكَن منك ، { والجار الجنب } هو البعيد المَسْكَن منك .
قال القَرْطُبِي : وأحَاديثُ إكرامِ الجَارِ جاءت مُطْلَقَةٌ غير مُقَيَّدة ، حتى الكَافِر وفي الخبر « قالُوا : يا رسولُ الله ، أنطعمهم من لُحُوم النُّسُك؟
قال : » لا تطعم المشركين من نسك المسلمين « فنهيه - عليه السلام - عن إطْعَام المُشْرِكين من نُسُك المُسْلِمِ ، يحتمل النُّسُك لوَاجب الذي لا يجُوزُ للنَّاسِك أن يَأكُل مِنْهُ ، ولا أن يُطْعِمَهُ الأغْنِيَاء ، فأما غير الوَاجِبِ الذي يُجْزِيه إطعام الأغنياء ، فيجوز أن يُطعِمَهُ أهْل الذِّمَّة » قال - عليه الصلاة والسلام - لِعَائِشَةَ - رضي الله عنها - عند تفريقِ لَحْمِ الأضحِيَة : « أهْدِي جَارَنَا اليَهُودِيّ » .
قوله : { والصاحب بالجنب } قال مُجاهد ، وابن عبَّاس ، وعِكرمة ، وقتادة : يعني : الرفيق في السَّفَر ، وقال عَلِيّ وعبد الله ، والنَّخعِي : وهو المرْأة تكون إلى جِنْبِهِ .
وقال ابن جُرَيْج ، وابن زِيْد : هو الذي يَصْحَبُك رجاء نَفعِك ، وقيل : هو الَّذِي صحبك إما رفيقاً في سَفَرٍ ، وإما جًاراً مُلاصِقاً ، وإما شريكاً في تَعَلُّم أو حرْفَة ، وإما قاعداً إلى جَنْبِك في مَجْلس وَاحِدٍ أو مَسْجِد أو غير ذلك ، من أدنى صُحْبَة التأمَت بينك وبَيْنَهُ .
وقوله : { بالجنب } في الباء وجْهَان :
أحدهما : أن تكون بمعنى « في » .
والثاني : أن تكون على بَابِها وهو الأوْلَى ، وعلى كلا التَّقْدِيرَيْن تتعلّق بمحذُوف؛ لأنها حَالٌ من الصَّاحِبِ .
قوله : { وابن السبيل } قيل : هو المُسافِرِ الذي انْقَطع عن بلده ، وقيل : هو الضَّيْف ، قال - عليه السَّلام- : « من كان يُؤمِن بالله واليَوْمِ الآخر فليُكْرِم ضَيْفَهُ » .
وقوله : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْْ } [ النساء : 3 ] يجوز أن يُرَاد ب « ما » غير العَبِيد والإمَاء حَمْلاً على الأنْوَاع؛ لقوله - تعالى - { مَا طَابَ لَكُمْ } [ النساء : 3 ] وأن يكون أُريد جميع ما مَلَكَهُ [ الإنسان ] من الحَيَوانات ، فاختلط العَاقِلُ بغيره ، فأتى ب « ما » .
فصل
روت أمّ سَلَمة - رضي الله عنها - : « قالت : كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يقولُ في مَرَضِه : » الصَّلاة وما ملكت أيمانكم « ، وقال - عليه السلام - : » هم إخْوَانكُم جَعَلهم الله تَحْتَ أيْديكم ، فمن جعل الله أخَاه تحت يَده ، فَلْيُطْعِمْه ممّا يأكُل ، وليلبسه مما يَلْبِس ، ولا يُكَلِّفْه من العَمَل ما يغلبه [ فإن كَلَّفَهُ مَن العَمَل مَا يغلبه ] فَلْيُعِنْهُ عليه « .
ثم قال : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } : المُخْتَال هو ذُو الخُيَلاَء والكِبْر .
قال أهل اللغة : هو التيَّاه ، والمُخْتَال اسم فاعِلٍ من اخْتَال يَخْتَال ، أي : تَكَبَّر وأعْجِب بنَفْسِهِ ، وألفهُ عن ياءٍ؛ كقولهم : الخُيَلاَءُ والمَخِيلَة ، وسُمِع أيضاً : خَالَ الرَّجُل يخال خَوْلاً بالمعنى الأوَّل ، فيكون لهذا المَعْنَى مَادَّتَان خَيْلَ وَخَوَلَ .
قال ابن عبَّاس : » يريد المُخْتَال العَظِيم في نَفْسِهِ ، الذي لا يَقُوم بحقُوقُ أحَد « .
والفَخُور صيغة المُبَالَغَة ، وهو الَّذِي يعد مَنَاقِبَ نَفْسِه ومحاسنه ، وقال ابن عبَّاس : الفَخُور الذي يَفْخَر على عِبَاد الله بما أعْطَاه من أنْواع نِعَمِهِ .
وقال - عليه السلام - : » بينما رجل يتبختر في بردين ، وفد أعْجِبَتْه نَفْسُه ، خسف الله به الأرْض ، فهو يتجْلجَل فيها إلى يَوْم القِيِامَةِ « .
وقال -عليه السلام- : » لا يَنْظُر الله إلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيْلاَء يوم القِيامَة « .
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)
في : { الذين يَبْخَلُونَ } سَبْعَة أوجه :
أحدها : أن يكُون مَنْصُوباً بدلاً مِنْ « مَنْ » ، وجُمِعَ حَمْلاً على المَعْنَى .
الثاني : أنه نَصْب على البَدَل من { مُخْتَالاً } وجُمِعَ أيضاً لما تقَدَّم .
الثالث : أنه نُصِبَ على الذَّمِّ .
قال القرطبِي : ويجوز أن يكُون مَنْصوباً بإضْمَار « أعْنِي » ، وقالَ : ولا يجوز أن يكون صِفَة؛ لأن « مَنْ » و « ما » لا يوصفان ولا يُوصَفُ بهما .
الرابع : أنه مُبْتَدأ وفي خَبَره قولان :
أحدُهُما : محذوف فَقَدَّرهُ بعضُهم : « مبغضون » لدلالة « إن الله لا يحب » [ وبعضهم : ] « معذبون » ؛ لقوله : « وأعتدنا للكافرين عذاباً » .
وقدَّره الزمخشري « أحقَّاء بكل مَلاَمَة » ، وقدره أبو البَقَاء : أُولَئِكَ أوْلِيَاؤُهُم الشَّيْطَان .
والثاني : أن قوله : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [ النساء : 40 ] ويكون قوله : [ { والذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ الناس } ] [ النساء : 38 ] عطفاً على المُبْتدأ والعَائِد مَحْذُوفٌ ، والتقدير : الذين يَبْخَلُون ، والَّذين يُنْفِقُون أموالهم ، [ رئاء النَّاسِ ] { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [ النساء : 40 ] ، [ أو مثقال ذرة ] لَهُم ، وإليه ذَهَب الزَّجَّاج وهذا متكَلَّف جدًّا؛ لكثرة الفَواصِل ولقَلَقِ المَعْنَى أيضاً .
الخامس : أنه خبر مُبْتَدَ مُضْمَر ، أي : هم الذين .
السادس : أنه بَدَلٌ من الضَّميرِ المستكن في { فَخُوراً } ذكره أبو البَقَاء ، وهو قلق .
السابع : أنه صِفَة ل « مَنْ » ؛ كأنه قيل : لا يُحِبُّ المختالَ الفَخْور البَخِيل .
وفي البخل أرْبَع لُغاتٍ :
فتح الخَاءِ والبَاء مثل الكَرَم ، وبها قرأ حَمْزَةُ والكسائي ، وبِضمِّهَا ذكره المُبرِّد ، وبها قرأ الحَسَنُ وعِيسَى بن عُمَر ، وبفتح البَاءِ وسُكُون الخَاء ، وبها قرأ قتادةُ وابن الزبير ، وبضم الباء وسكون الخاء ، وبها قرأ الجمهور . والبُخْلُ والبَخَلُ؛ كالحُزْنِ والحَزَن ، والعُرْبِ والعَرَبِ .
قوله : { بالبخل } فيه وجْهَان :
أحدهما : أنه متَعلِّق ب « يَأمُرُونَ » ، فالبَاء للتَّعْدِية على حَدّ أمرتك بِكَذَا .
والثَّاني : أنها باء الحاليّة والمأمور مَحْذُوف ، والتَّقْدير : ويأمرون النَّاسَ بشكرهم مع التباسِهِم بالبُخل ، فيكون في المعنَى؛ لقولا الشَّاعر : [ البسيط ]
1795- أجْمَعْتَ أمْرَيْنِ ضَاعَ الحَزْمُ بَيْنَهُمَا ... تِيهَ المُلُوكِ وأفْعَالَ المَمَالِيكِ
فصل
قال الواحدي : البُخْلُ في كلامِ العَرَب عبارة عن مَنْع الإحْسَان ، وفي الشَّرِيعَةِ عبارة عن مَنْعِ الوَاجِبِ .
قال ابن عبَّاس : نزلت في اليَهُود ، بخلوا بِبَيَان صِفَة محمَّد صلى الله عليه وسلم وكَتمُوها . وقال سعيد بن جبير : هَذَا في كِتْمَان العِلْمِ .
وقال ابن عبَّاسٍ وابن زيد : نَزَلَتْ في كردم بن يزيد ، وحُيَيٍّ بن أخْطَب ، ورِفَاعة بن التَّابُوت وأسَامة بن حَبِيبٍ ، ونَافِع بن أبِي نافع ، وبحري بن عمرو ، وكانُوا يأتُون رجالاً من النْصَارِ يُخَالِطُونَهُم ، فيقولون : لا تُنْفِقُوا أموالكُم ، فإنّا نَخْشَى عليكم الفَقْرَ ولا تَدْرُون مَا يَكُون ، فأنزل هذه الآية .
وقيل : إنها عَامَّة في البُخْلِ بالعِلْم والدِّين والمَالِ : لأن البخل مَذْمُومٌ واللفظ عامٌّ .
قال القرطبي : والمراد بهذه الآيَةِ في قَوْل ابن عبَّاس وغيره : اليَهُود؛ لأنهم جمَعُوا بين الاختيال والتَّفاخر ، والبخل بالمَالِ ، وكِتْمَان ما أنْزَل الله في التَّوْرَأة من صِفَةِ محمَّد صلى الله عليه وسلم ، وقيل المراد : المُنَافقُون الذي كان إنْفاقهم وإيمانهم تقية .
قوله : { وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } يعني المال ، وقيل : يَبْخَلُون بالصَّدَقَة ، وقوله : { مِن فَضْلِهِ } ، يجوز أن يتعلَّق ب { آتَاهُمُ } أو بمَحْذُوف على أنه حالٌ من « مَا » ، أو من العَائِد عَلَيْها .
قال تعالى { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } فصَّل الله -تعالى- تَوعُّدَ المؤمنين البَاخِلين من تَوَعُّد الكَافِرِين ، بأن جعل الأوَّل عدم المَحبَّة ، والثّضاني عذاباً مُهِيناً .
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)
قوله : { والذين يُنْفِقُونَ } فيه ثلاثة أوْجُه :
أحدها : أن يكون مَرْفُوعاً عطفاً على { الذين يَبْخَلُونَ } ، والخبر : أن الله لا يَظْلِم كما تقدم وصفه .
والثاني : مجرور عَطْفاً على { االكافرين } أي : أعْتَدْنا للكافِرِين ، والذين يُنْفِقُون أموالهم رئاء النَّاسِ ، قاله ابن جَرِير .
الثالث : أنه مُبْتَدأ ، وخبره مَحْذُوف ، أي : معذَّبُون أو قَرِينُهم الشَّيْطَان ، فعلى الأوَّلَيْن يكون من عَطْف المُفردات ، وعلى الثالث من عَطْفِ الجُمَل .
قوله : { رِئَآءَ الناس } فيه ثلاثة أوْجُه :
أحدُها : أنه مَفْعُول من أجْلِه ، وشُرُوط النَّصْبِ متوفِّرة .
الثاني : أنه حَالٌ من فَاعل « ينفقون » يعني : مصْدراً واقعاً مَوْقع الحالِ ، أي : مرائين .
والثالث : أنه حَالٌ من نَفْس المَوْصُول ، ذكره المَهْدَوي ، و « رئاء » مصدر مُضَافٌ إلى المَفْعُول .
فصل
قال الوَاحِدِي : نزلت في المُنَافِقِين وهو الوَجْه لذكر الرِّيَاء ، وهو ضرْب من الإنْفَاقِ ، وهو قول السدي ، وقيل : نزلتْ في اليَهُود وقيل : نزلَتْ في مُشْرِكِي مكَّة المُنْفِقِين على عَداوَة الرَّسُول -عليه السلام- .
قال ابن الخَطِيب : والأوْلَى أن يُقَال : إنه -تعالى- لمَّا أمر بالإحْسَان إلى المُحْتَاجِين ، بين أن المُمْتَنِعِ من ذَلِكَ قِسْمَان :
إما بألاّ يُعْطي شيئاً ، وهو البُخْل فَذَكَرَهُ .
وإما بأن يُعْطِي رياءً وسُمْعَةً؛ فهذا أيضاً مذمومٌ ، فلم يَبْقَ إلا الإنْفَاق للإحْسَان .
وقوله : { وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مُسْتأنف .
والثاني : أنه عَطْف على الصِّلة ، وعلى هذين الوَجْهَيْن ، فلا مَحَلَّ له من الإعْرَابِ .
والثالث : أنه حالٌ من فاعل يُنْفِقُون ، إلا أن هذين الوَجْهَيْن الأخيريْن ، أعني : العطف على الصِّلة ، والحالية مُمْتَنعان على الوجْه المَحْكِيّ عن المَهْدَوي ، وهو كون « رئاء » حالاً من نَفْسِ المَوْصُول؛ لئلا يَلْزَم الفَصْل بين أبعاض الصِّلة ، أو بين الصِّلة ومعمولها بأجْنَبِيّ ، وهو « رِئَاءَ » ؛ لأنه حَالٌ من المَوْصُول لا تعلُّق له بالصِّلَة ، بخلاف ماع إذا جَعَلْنَاه مَفْعُولاً [ له ] أو حَالاً من فَاعِل { يُنْفِقُونَ } فإنَّه على الوَجْهَين معمول ل { يُنْفِقُونَ } فليس أجْنَبِيّاً ، فلم يُبَالَ بالفَصْل به ، وفي جَعْلِ { وَلاَ يُؤْمِنُونَ } حالاً نَظرٌ؛ من حَيْث أن بَعْضهم نَصَّ على أنَّ المُضَارع المُنفِيّ ب « لا » كالمُثبت؛ في أنَّه لا يَدْخل عَليْه واو الحَال ، وهو مَحَلُّ تَوَقُّف ، وكرِّرت لا في قوله -تعالى- : { وَلاَ يُؤْمِنُونَ [ بالله وَلاَ ] باليوم الآخر } ؛ وكذا الباء إشعاراً بأنَّ الإيمان مُنتفٍ عن كلِّ على حدته [ كما ] لو قُلت : لا أضرب زيداً أو عَمْرًا ، احْتمل في الضَّرْب عن المَجْمُوع ، ولا يَلْزَم منه نَفْي الضَّرْب عن كل وَاحِدٍ على انْفِرَادِه ، [ واحتمل نَفْيه عن كُلِّ واحِدٍ بالقرآنِ ] .
وإذا قُلْت ولا عَمْراً ، تعيَّن هذا الثَّاني .
قوله -تعالى- : { وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً } :
قوله : { وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً } أي : صاحِباً وخَليلاً ، والمَعْنى : أن الشَّيْطَان قَرين لأصْحَاب هذه الأفْعَالِ .
قال القرطبي : في الكلام إضْمَار ، تقديره : { وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر } فَقَرينُهُم الشَّيْطَان { وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً } .
قوله : { فَسَآءَ قِرِيناً } وفي « فساء » هذه احتمالان :
أحدهما : أنَّها نقلت إلى الذَّمِّ ، فجرت مُجْرى « بِئْسَ » ، ففيها ضَميرٌ فاعلٌ لها مُفَسِّر بالنكِرَة بعده ، وهو { قِرِيناً } والمخصُوص بالذَّمِّ مَحْذُوف ، أي : فَسَاءَ قريناً هُوَ ، وهو عائد [ إما ] على الشَّيْطَان ، وهو الظَّاهِر ، وإمَّا على « مَنْ » ، وقد تَقَدَّم كم نِعْم وبِئْس .
الثاني : على بابها ، فهي مُتَعَدِّية ، ومَفْعُولها مَحْذُوف ، و « قريناً » على هذا مَنْصُوب على الحَالِ أو على القَطْعِ ، والتَّقدير : فساءَهُ ، أي : فساء الشَّيْطَان مُصَاحَبَة؟
قال القُرْطُبِي : { قِرِيناً } مَنْصوب على التَّمييز ، واحتجُّوا للوجْه الأوَّل بأنَّه كان يَنْبَغِي أن يحذف الفَاءَ من « فَسَاءَ » ، أو تَقْتَرِن به « قَدْ » ، لأنه حينئذٍ فِعْل مُتَصرِّف ماض ، وما كان كذلِك ووقع جواباً للشَّرْط ، تَجَرَّد من الفَاءِ أو اقْتَرَن ب « قد » ، هذا معنى كَلاَم أبِي حيَّان .
قال شهاب الدين : وفيه نَظَر؛ لقوله -تعالى- : { وَمَن جَآءَ بالسيئة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ النمل : 90 ] { وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ } [ يوسف : 27 ] مما يُؤوّل به هذا ونحوه يَتَأوّل به هذا ، وممَّن ذَهَب إلى أن { قِرِيناً } منصوب على الحالِ ابن عَطِيَّة ، ولكن يُحْتَمل أن يكُون قَائِلاً بأن « سَاءَ » متعدِّيَة ، وأن يكون قَائِلاً برأي الكُوفيِّين ، فإنَّهم يَنْصُبُون ما بَعْدَ [ نِعْمَ ] و « بِئْسَ » على الحَالِ .
والقَرِين : المُصَاحِب [ الملازِم ] وهو فعيل بِمَعْنَى مُفَاعِل : كالخَليطِ والجَليسِ ، والقَرَنُ : الحَبْل؛ لأنه يُقْرَنَ به بَيْنَ البعيريْن قال : [ البسيط ]
1796- . ... وَابْنُ اللَّبَون إذَا مَا لُزَّ فِي قَرَنٍ
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)
قوله : « وماذا عليهم » .
قد تقدم الكلام على نَظِيرتِها ، و « ماذا عليهم » استفهام بمعنى الإنكار .
قال القرطبي : « ما » : في موضع رفع بالابتداء ، و « ذا » خبره ، و « ذا » خبره ، و « ذا » بمعنى الَّذِي ، وهذا يحتمل أن يكُون الكلام قد تَمَّ هنا ، ويجوز أن يكونُ « وماذا » اسماً واحداً ، ويكون المَعنى أي : وأيُّ شيء عليهم في الإيمانِ باللهِ ، أو ماذا عَلَيْهم من الوَبَال والعَذَابِ يَوْم القِيَامَة .
ثم استأنف بقوله : { لَوْ آمَنُواْ } ويكُون جَوَابُهَا مَحْذُوفاً ، أي : حصلت لهم السَّعَادة ، ويحتمل أن يَكُون [ تمام ] الكَلاَمب « لو » ومَا بَعْدَها ، وذلك على جَعْل « لو » مصدريَّة عند من يُثْبِتُ لها ذلك ، أي : وماذا عليهم في الإيمان ، ولا جَواب لها حينئذٍ ، وأجاز ابن عطيَّة أن يَكُون { وَمَاذَا عَلَيْهِمْ } جواباُ ل « لَوْ » ، فإن أراد من جهة المَعْنَى فمُسلَّمٌ وإن أرادَ من جهة الصِّنَاعة فَفَاسِدٌ؛ لأن الجواب الصِّنَاعي لا يتقدّم عند البَصْرِيِّين ، وأيضاً فالاستفهام لا يُجَاب ب « لو » ، وأجاز أبُو البَقَاء في « لو » أن تكُون بمعنى « إن » الشَّرطيّة؛ كما جاء في قوله : { وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } [ البقرة : 221 ] أي : وأيُّ شيءٍ عليهم إن آمَنُوا .
قال الجبائي : ولو كانوا غَيْرَ قَادِرين ، لم يجز أن يقُول الله ذلِك؛ كما لا يُقالُ لمن هُو في النَّار مُعَذِّب : ماذا عليهم لَوْ خَرَجُوا مِنْها ، وصَارُوا إلى الجَنَّة ، وكما لا يُقال للجَائِع الذي لا يَقْدِر على الطَّعام : ماذا عَلَيْه لو أكَل . [ وقال الكعبي ] لا يجوز أن يَمْنَعه القُدْرة ، ثم يَقُول : ماذا عَلَيْه لو آمَنَ ، كما [ لا ] يقال لمن بِه مَرَضٌ : ماذا عليه لَوْ كَانَ صَحِيحاً ، ولا يُقَال للمرأة : ماذا عليها لو كَانَت رَجُلاً ، وللقَبيح : ماذا عَلَيْه لو كان جميلاً كما لا يَحْسُن هذا القَوْل من العَاقِل ، كذلك لا يَحْسُن من الله - تعالى- .
وقال القَاضِي عبد الجَبَّار : لا يُجوز أن يأمر العاقل وكيله بالتَّصرُّف في الصَّفَقَة ، ويَحْبِسهُ بحيث لا يتمكَّنُ من مُفارقة الحَبْس ، ثم يقولُ لَهُ : مَاذَا عليك لو تصَرَّفْت ، وإذا كان من يَذكر مثل هذا الكلام [ سفيهاً ] دل ذلك على أنَّه على الله - تعالى - غير جَائِزٍ واعلم أن مِمَّا تمسَّك به المُعْتَزِلة من المَدْح والذَّمِّ والثَّواب والعِقَاب ، معارضتهم بمسْألة العِلْم والدَّاعِي .
قال ابن الخَطِيب : قد يَحْسُن منه ما من غيره؛ لأن المُلْك مُلْكُه .
ثم قال : { وَكَانَ الله بِهِم عَلِيماً } أي : عليم ببواطنِ الأمُور كما هو عَليمٌ بِظَاهِرِها ، وهذا كالرَّدْع للمكلَّف عن القَبَائح من أفْعال القُلُوبِ؛ مثل النِّفاق والرِّيَاء والسُّمْعَة .
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)
لمّا بيَّن أنه عَلِيم ببَواطِنِهم وظَواهِرِهم ، بيَّن أنَّه كما علمها ، لا يَظْلِم مثقال ذرَّة منها .
قوله : { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } فيها وَجْهَان :
أحدهما : أنه مَنْصُوب على أنه نَعءت لمصْدر مَحْذُوف ، أي : لا يَظْلِم أحَداً ظُلْمَاً وَزْن ذَرَّة ، فحذف المفْعُول والمَصْدر ، وأقام نَعْتَه مَقَامه ، ولمّا ذكر أبو البقاء هذا الوَجْه ، قَدَّر قبله مُضَافاً مَحْذُوفَاً ، قال تقْدِيره : ظلماً قَدْر مِثْقال ذرَّة ، فحذفَ المَصْدر وصِفَتَه ، وأقَام المُضَاف إلَيْه مَقَامَه ، ولا حاجة إلى ذلك؛ لأن المثْقال نفسه هو قَدَرٌ من الأقْدَار ، جُعِل مِعْيَاراً لهذا القَدَر المَخْصُوص .
والثاني : أنه مَنْصُوب على أنه مفعول ثانٍ ل « يظلم » ، والأوّل ، مَحْذُوف؛ كأنهم ضَمَّنُوا « يظلم » معنى « يغضب » أو « ينقص » فعَدُّوهُ لاثنين ، والأصْل أن الله لا يَظْلِمُ أحَدَاً مِثْقَالَ ذَرَّة .
والمِثْقَال مِفْعَال من الثِّقَل ، يُقال : هذا على مثال هَذَا ، أي : وَزْنه ، ومعنى الآيَةِ : أنه - تعالى - لا يَظْلَمِ أحداً لا قَلِيلاً ولا كَثِيراً ، وإنما أخْرَجَهُ على أصْغَر ما يتعارَفَه النَّاس ، ويُؤيِّده قوله - تعالى - : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً } [ يونس : 44 ] والذَّرَّة ، قال أهل اللُّغَة : هي النَّمْلَة الحمراء ، وقيل : رَأْسُها ، وقيل : الذَّرَّة جُزْء من أجْزَاء الهَبَاء في الكوة ، ولا يَكُون لها وَزْن .
وروي أن ابْن عبَّاس أدْخَل يَدَه في التُّرَاب ، ثم رَفَعَها ، ثم نَفَخَ فيها ، ثم قال : كل وَاحِدٍ من هَذِه الأشْيَاء .
والأول هو المَشْهُور : لأن النَّمْلَةَ يُضْرب بها المثل في القِلَّة ، وأصغر ما يَكُون إذا مرّ عليها حَوْل ، وقالوا : لأنَّها حينئذٍ تَصْغُرُ جِدَّاً .
قال حَسّان : [ الخفيف ]
1797- لَوْ يَدِبُّ الحَوْليُّ مِنْ وَلَدِ الذَّرْ ... رِ عَلَيْهَا لأندَبَتْها الكُلُومُ
وقال امْرُؤُ القَيْس : [ الطويل ]
1789- مِنَ القَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مُحْوِلٌ ... مِنَ الذَّرِّ فَوْقَ الإتْبِ مِنْهَا لأثَّرَا
فصل
روي مُسْلِم عن أنس؛ قال : قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يَظْلِمُ اللهُ مُؤْمِناً حَسَنَة ، يُعْطَى بها [ في الدُّنْيَا ] ويُجْزَى بها في الآخِرَة ، وأما الكَافِر فَيُعْطى حسناتٍ ما عامل الله بِهَا في الدُّنْيَا ، حتى إذا مَضَى إلى الآخِرَةِ ، لم يَكُن له حَسَنَة يُجْزَى عَلَيْهَا » .
فصل : دليل أهل السنة على خروج المؤمنين من النار
واحتج أهْل السُّنَّة بهذه الآية ، على أنَّ المُؤمنين يَخْرجُون من النَّار إلى الجَنَّة؛ قالوا : لأن ثَوَاب الإيمان والمُداوَمَة على التَّوْحيد ، والإقْرَار بالعُبُودِيَّة مائة سَنَة ، أعْظَم ثواباً من عِقَابِ شُرْب جَرْعَة من الخَمْر ، فإذا حضر هذا الشَّارِبُ القيامَة وأسْقِط [ عنه ] قدر عِقَاب هذه المَعْصِية من ذلك الثَّواب العَظيم ، فَضُل له من الثَّواب قَدْر عَظيم ، فإذا دخل النار بسبب القَدْر من العِقَابِ ، فلو بَقي هُنَاك ، لكان ذَلِكَ ظُلْمَاً ، فوجب القَطْع بأنه يَخْرُج إلى الجَنَّة .
وقوله : { وَإِن تَكُ حَسَنَةً } حذفت النَّون تَخْفِيفاً ، لكثرة الاستعمَال ، وهذه قَاعِدَةٌ كُلِّية ، وهو أنه يجوز حذْف نُون « تكُون » مجْزوُمة ، بشرط ألاَّ يلِيهَا ضميرٌ متَّصل؛ نحو لم يَكُنْه ، وألاَّ تُحرِّك النٌّون لالتقاء الساكنَين ، نحو :
{ لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ } [ البينة : 1 ] خلافاً ليُونُس؛ فإنه أجَازَ ذلك مستدلاً بقوله : [ الطويل ]
1799- فَإنْ لَمْ تَكُ المِرْآةِ أبْدَتْ وَسَامَةً ... فَقَدْ أبْدَتْ [ المِرْآةُ ] جَبْهَةَ ضَيْغَمِ
وهذا عند سيبويه ضرُورةٌ ، وإنما حُذِفَت النَّون لغُنّتها وسُكُونِها ، فأشْبهت الواو ، وهذا بِخلاف سَائِرِ الأفْعال ، نحو : لم يَضِنَّ ، ولم يَهِنَّ؛ لكثرة اسْتِعْمال « كَانَ » ، وكان ينبغي أن تَعُودَ الواو عند حذف هذه النُّون؛ لأنها إنَّما حُذِفَت لالتقاء الساكنين ، وقد زالَ ثانيهما وهو النُّونُ؛ إلاَّ أنَّها كالملفوظ بِهَا .
واعلم أن النُّون السَّاكِنَة ، إذا وقعت طرفاً تشبه حُرُوف اللِّين ، وحُرُوف اللِّين إذا وقعت طرفاً سَقَطت للجزم ، وقد جاء القُرْآن بالحَذْف والاثبات :
أما الحَذْف : فهذه الآية .
[ وأما الإثبات ] فكقوله : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً } [ النساء : 135 ] .
وقرأ الجمهور { حَسَنَةً } نصباً على خَبَر كان النَّاقِصة ، واسْمُهَا مستَتِرٌ فيها يَعْود على مِثْقَال ، وإنَّما أنْت ضميره حَمْلاً على المَعْنَى؛ لأنه بمعْنَى : وإن تَكُن زِنة ذَرَّة حَسَنة ، أو لإضافته إلى مُؤنَّثِ ، فاكتَسبَ منه التَّأنِيث .
وقرأ ابن كثير ونافع : « حَسَنَةٌ » رفعاً على أنَّها التَّامَّة ، أي : وإن تقع أو تُوجد حَسَنةٌ وقرأ ابن كثير وابن عامرٍ « يضعفها » بالتضعيف ، والباقون : « يضاعفها » قال أبو عبيدة ضاعَفَهُ يقتضي مِرَاراً كثيرة ، وضَعَّفَ يقتضي مَرَّتَيْن ، وهذا عكس كَلاَم العَرب ، لأن المُضَاعَفَة تقتَضِي زيادة المِثْل ، فإذا شُدِّدت ، دَلَّت البنية على التكثير ، فيقْتَضي ذلك تَكْرِيرُ المُضاعفة ، بحسبِ ما يكون من العَدَدِ .
وقال الفَارِسِيّ : فيها لغتان بمعنى يدُلُّ عليه قوله : { يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ } [ الأحزاب : 30 ] { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] وقد تقدَّم ذلك ، وقرأ ابن هُرْمُز : « نضاعفها » [ بالنون ، وقُرئ « يضعفها » ] بالتَّخْفيف من أضْعَفَه مثل أكْرَمَ .
فصل
قال أبو عُثْمَان لنَّهْدي : بلغني عن أبي هُرَيْرَة؛ أنه قال : إن الله بعطِي عبده المُؤمِن فقلت : بَلَغَني أنك تقول إن الله يُعْطِي عبده المُؤمِن بالحسنة ألف ألف حسنَة ، قال أبو هريرة : لم أقُلْ ذلك ، ولَكِن قُلْتُ : إن الحَسَنَة تُضاعف بألفي ضِعْف ، ثم تلا هذه الآية؛ وقال : قال الله - تعالى : { وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } لمن يَقْدر قَدْرَه .
قوله : { مِن لَّدُنْهُ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه مُتَعَلِّق ب « يؤت » و « من » للابْتِدَاءِ مَجَازاً .
والثاني : متعلّقٌ بمْذُوف على أنه حَالٌ من « أجراً » ، فإنه صِفَة نكرة في الأصْلِ ، قُدِّم عليها فانْتَصَب حالاً .
و « لدن » بمعنى عِنْد ، إلا أن « لدن » أكثر تمكيناً ، يقول الرَّجُل : عندي مَالٌ ، إذا كان [ مَالهِ ] ببلَدٍ آخر ، ولا يُقَال : لَدَيّ مالٌ في حالٍ ، ولا لَدَيّ إلاَّ لما كان حَاضَراً .
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)
« فكيف » فيها ثلاثة أقْوَال :
أحدها : أنَّها في مَحَلِّ رفْع خَبَراً لمبْتَدأ مَحْذُوف ، أي : فكيف [ تكُون ] حالهم أو صُنْعُهم ، والعَامِل في « إذَا » هو هَذَا المُقَدَّر .
والثاني : أنها في مَحَلِّ نَصْب بِفِعْلٍ مَحْذُوف ، أي : فكيف تكُونونُ أو تَصْنَعُون ، ويَجْزِي فيها الوَجْهَان النَّصْب على التَّشْبِيه بالحَالِ؛ كما هو مَذْهَب سَيبويْه ، أو على التَّشْبِيه بالظَّرفيّة؛ كما هو مذهب الأخْفَش ، وهو العَامِل في « إذَا » أيْضَاً .
والثالث : حكاه ابن عَطيّة عن مَكِّي أنها معمولة ل { جِئْنَا } ، وهذا غَلَطٌ فاحِشٌ .
قوله { مِن كُلِّ } فيه وجْهَان :
أحدهما : أنه مُتعلِّق ب { جِئْنَا } .
والثاني : [ أنه متعلِّقٌ ] بمحذوفٍ على أنَّه حَالٌ من { شَهِيداً } ، وذلك على رَأي من يُجَوِّزُ تقديم حالِ المجرُور بالحَرْفِ عليْهِ ، كما تقدَّم ، والمشهود مَحْذُوف ، أي : شهيد على أمَّتِه .
فصل : معنى { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا }
من عَادَى العرب أنَّهم يقُولُون في الشَّيء الذي يتوقَّعُونَهُ : كيف بك إذا كان كَذَا وكَذَا ، ومعنى الكلام : كَيْفَ يرون [ يَوْمَ ] القيامة : إذا اسْتَشْهَد الله على كُلِّ أمَّة برسُولِهَا يشهد عليهم بما عَمِلُوا ، { وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء } أي : شاهداً على جميع الأمَم .
روى أبو مَسْعُود؛ « قال : قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : » اقْرَأ عَلَيَّ « . فقلت : يا رسُول الله ، اَقْرَأ عَلَيْكَ ، وعَلَيْكَ أنْزِلَ؟ قال : » نَعَم ، أحِبُّ أن أسْمَعَهُ من غَيْرِي « ، فقرأت سُورة النِّسَاء حتى أتيْتُ إلى هذه الآيةِ ، قال : حَسْبُك الآن ، فالتَفَتُّ إلَيْه فإذا عَيْنَاهُ تَذْرِفان » .
قوله { وَجِئْنَا بِكَ } في هذه الجُمْلَة ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنها في مَحَلِّ جرِّ عطفاً على { وَجِئْنَا } الأولى ، أي : فكيف تصنعون في وَقْتِ المجيئين .
والثاني : أنها في مَحَلِّ نصب على الحَالِ و « قَدْ » مُرَادةٌ معها ، والعَامِلُ فيها { وَجِئْنَا } [ الأولى ، أي : جئنا ] من كُلِّ أمَّة بشهيدٍ وقد جِئْنَا؛ وفيه نَظَر .
الثالث : أنها مُسْتأنَفَة فلا مَحَل لها قال أُو البَقَاء ويجوز أن تكون مُسْتأنَفَة ، ويكون المَاضِي بمعنى المُسْتَقْبَل انتهى .
وإنما احْتَاج [ إلى ذلك ] ؛ لأن المَجِيءَ بعد لَمْ يَقَع فادّعى ذلك ، والله أعْلَم .
قوله : { على هؤلاء } متعلِّق ب { شَهِيداً } و « عَلَى » على بابها ، وقيل : بمعْنَى اللام ، وفيه بُعْدٌ [ وأجيز أن يكُونَ « عَلَى » متعلِّقَة بمحذُوفٍ على أنَّها حالٌ من { شَهِيداً } وفيه بُعْدٌ ] ، و { شَهِيداً } حالٌ من الكَافِ في « بِكَ » .
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
قوله : { يَوْمَئِذٍ } فيه ثلاثة أوجُه :
أحدها : أنه مَعْمُولٌ ل { يَوَدُّ } أي : يَوَدُّ الذين كَفَروا يَوْمَ إذ جِئْنَا .
والثاني : أنه مَعْمُول ل { شَهِيداً } ، قاله أبو البَقَاء؛ قال وعلى هذا يكُون « يود » صفة ل « يوم » ، والعائد مَحْذُوفٌ ، تقديره : فيه ، وقد ذكر ذلك في قوله : { واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي } [ البقرة : 48 ] ، وفيما قاله نظر .
والثَّالث : أن « يوم » مَبْنِيٌّ ، لإضافته إلى « إذْ » قاله الحُوفيّ ، قال : لأنَّ الظرف إذا ضيفَ إلى غير مُتَمكِّنٍ ، جَازَ بناؤهُ معه ، و « إذْ » هنا اسْمٌ؛ لأن الظروف إذا أُضِيفَ إليها ، خَرَجَتْ إلى مَعْنَى الاسميَّة ، من أجل تَخْصِيص المُضَافِ إليْها ، كما تخَصّص الأسْمَاء مع استحقَاقِها الجرّ ، والجرُّ ليس من علامَاتِ الظُّروف ، والتَّنْويِن في « إذْ » تنوين عوض على الصَّحيح ، فقيل : عِوضٌ من الجُمْلَة الأولى ، في قوله : { جِئْنَا مِن كُلِّ } أي : يومئذٍ جِئْنَا من كُلِّ أمَّة بشهيدٍ ، وجئنا بِكَ على هؤلاء شهيداً ، و « الرسول » على هذا اسْم جِنْسٍ ، وقيل : عِوَضٌ عن الجُمْلَة الأخيرةَ وهي { وَجِئْنَا بِكَ } ، ويكون المُراد ب « الرسول » : محمد صلى الله عليه وسلم ، وكأن النَّظْم وعَصَوْك ، ولكن أبرز ظاهراً بضفة الرِّسَالة تَنْوِيهاً بقدره وشرفِه .
وقوله : { وَعَصَوُاْ } فيه ثلاثة أوْجُه :
أحدها : أنها جُمْلَة معطوفة على { كَفَرُواْ } فتكون صِلَةً ، فيكونون جَامِعِين بين كُفْرٍ ومَعْصِيَة؛ لأن العَطْفَ يقتضي المُغَايَرَة ، وإذا كان ذَلِكَ ، فَيُجْمل عصيان الرَّسُول على المعَاصِي المغايرة للكُفْر ، وإذا ثبت ذلك ، فالآيَةُ دالَّة على أنَّ الكُفَّار مخاطبُون بفُرُوع الإسلام .
وقيل : هي صِلَةٌ لموصول أخَر ، فيكون طَائِفَتَيْن ، وقيل : إنها في مَحَلِّ نصبٍ على الحال من { كَفَرُواْ } ، و « قد » مُرَادَة ، أي : وقد عَصَوا .
قوله : { لَوْ تسوى } إن قيل إن « لو » على بابها كما هو قَوْل الجُمْهُور ، فَمَفْعُول { يَوَدُّ } محذوفٌ ، أي : يودُّ الَّذِين كَفَرُوا تَسْوية الأرْض بهم ، ويدل عليه { لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض } ، وجوابها حينئذٍ مَحْذُوف ، أي : لسُرُّوا بذلك .
وإن قيل : إنها مصدريَّة ، كانت وهي وما بَعْدَها في محلّ مَفْعُول { يَوَدُّ } ، ولا جواب لها حينئذ ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك في { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } [ البقرة : 96 ] .
قال أبو البقاءِ : « وعصوا الرسول » في موضع الحالِ ، و « قد » مًُرَادةٌ ، وهي معْتَرِضَة بين « يود » وبين مَفْعُولها ، وهي « لو تسوى » و « لو » بمعنى المصدريَّة انتهى .
وفي جَعْلِ الجنلة الحَاليَّة معترضة بين المَفْعُول وعامِله نَظَرٌ لا يَخْفَى؛ لأنها من جُمْلَة متعلِّقات العامِل الذي هو صِلَة للمَوْصُول؛ وهذا نظير قولك : ضَرَب الذين جَاءُوا مُسْرِعين زَيْداً ، فكما لا يُقال : إن مُسْرِعين مُعْتَرض به ، فكذلك هذه الجملة .
وقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم : تُسَوَّى [ بضم التَّاءِ ، وتخفيف السّين مبنياً للمفعُول ، وقرأ حمزة والكِسائي : « تَسَوَّى » ] بفتح التَّاء والتخفيف ، ونافع وابن عامر : بالتَّثْقِيل .
فأما القراءة الأولَى ، فمعناها : أنَّهم يودُّون أن الله -سبحانه وتعالى- يُسَوِّي بهم الأرض : إمّا على أن الأرْض تَنْشَقُّ وتبتلِعُهم ، وتكون البَاءُ بمعنى « عَلَى » ، وإما على أنَّهم يودُّون أن لو صارُوا تُرَاباً كالبَهَائِمِ ، والأصْل يودُّون أن الله -تعالى- يُسَوِّي بهم الأرض ، فَقٌلِبَت إلى هَذَا؛ كقولهم : أدْخَلْتُ القََلُنْسُوَة في رَأسِي ، وإمذا على أنَّهم يودُّون لو يُدْفَنُون فيها ، وهو كالقَوْلِ الأوَّل . وقيل : لو تُعْدَلُ بهم الأرْضُ ، أي : يُؤْخَذ ما عَلَيْها منهم فِدْيَة .
وأما القِرَاءة الثانية : فأصلها « تتسوى » [ بتاءَيْن ] ، فحذفت إحداهما ، وأدغمت في السّين لقربها منها .
وفي الثَّالِثَة حذفت إحداهما ، ومعنى القراءتين ظاهرٌ ممَّا تقدَّم؛ فإن الأقوال الجاريةَ في القراءة الأولى ، جاريةٌ في القراءتين الأخيرتَيْن غاية ما في البَابِ أنه نَسَب الفِعْل إلى الأرْض ظاهراً .
قوله : { وَلاَ يَكْتُمُونَ الله } : وذلك أن هذه الواو تَحْتَمِل أن تكون لِلْعَطْف ، وأن تكون للحالِ .
فإن كانت للعَطْف ، احْتمل أن تكُون من عطف المفرداتِ ، [ وأن تكون من عطف الجُمَلِ ، إذا تقرر هذا ] ، فقوله : { وَلاَ يَكْتُمُونَ الله } يجوزُ أن يكون عَطْفاً على مَفْعُول { يَوَد } أي : يودذُون تسوية الأرْضِ بهم ، وانتفاء كتمان الحديُ ، و « لو » على هذا مَصدريَّة ، ويبعد جَعْلُها حرفاً لما سيَقَع لوُقُوع غَيْرِه ، ويكون و « لا يكتمون » عطفاً على مَفعُول « يود » المحذُوف ، فهذان وَجْهَان على تقدِير كَوِنِه من عطف المفردات .
ويجوز أن سكون عَطْفاً على جُمْلة « يود » أخبر -تعالى- عنهم بخبرين :
أحدهما : الودادةُ لِكَذَا .
والثاني : أنهم لا يقدرُون على الكضتْمِ في مواطِنِ دون [ مَوَاطِن ] ، و « لو » على هذا مَصدريَّة ، ويجوز أن تكون [ لو ] حرْفاً لما سيقع لوقُوع غيره ، وجوابُهَا مَحْذوف ، ومفعول « يود » أيضاً مَحْذُوف ، ويكون « ولا يكتمون » عطفاً على « يود » وما في حيزها ، ويكون -تعالى- قد أخبر عَنْهُم بثلاثِ [ جمل ] : الوَدَادَة ، وجُمْلَة الشرط ب « لو » ، وانتفاء الكِتْمَان ، فهذان أيضاً وَجْهَان على تقدير كونِه من عطفة الجُمَل ، وإن كانت للحالِ ، جاز أن تكُون حالاً من الضمير في « بهم » ، والعامِل فيها « تسوى » ، ويجوز في « لو » حينئذٍ ان تكون مصدريَّة ، وأن تكون امتناعيَّة ، والتقدير : يُريدُون تَسْوِيَة الأرْض بهم غير كَاتِمين ، أو لَوْ تُسَوَّى بهم غير كَاتِمين لكان ذلك بُغْيَتهم ، ويجوز أن تكون حالاً من « الذين كفروا » ، والعامل فيها « يود » ويكون الحالُ قيداً في الوَدَادَةِ ، و « لو » على هذا مصدريَّة في [ محل ] مفعُول الوَدَادَة ، والمعْنَى [ يومئذٍ ] يَودُّ الذين كفرُوا تسوية الأرْض بهم غّير كاتمين الله حَديثاً ، ويَبْعد أن تكون « لو » على هذا الوجه امتناعِيَّة ، للزوم الفَصْل بين الحَالِ وعامِلِها بالجُمْلَة ، و « يكتمون » يتعدى لاثْنَيْن ، والظَّاهِر أنه يَصِل إلى أحدهما بالحَرْف ، والأصل : ولا يكتُمون من الله حديثاً .
فصل
قال عَطَاء : وَدُّوا لَوْ تُسوَّى بهم الأرْضُ ، وأنهم لم يكُونوا امر مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ولا نعته ، وقال آخرُون : بل هو كلامٌ مُسْتأنفٌ ، يعني : ولا يكتثمون الله حديثاً؛ لن جضوَارحَهُم تَشْهَد عليهم .
قال سعيد بن جُبَيْر : قال رَجُل لابن عبَّاس : إني أجد في القُرْآن أشياء تختلفُ عليّ ، قال : هَاتِ ما اخْتَلَفَ عليك ، قال : قال تعالى : { فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } [ الصافات : 27 ] وقال : { وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } ، و { قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] فقد كتمُوا ، وقال : { أَمِ السمآء بَنَاهَا } [ النازعات : 27 ] إلى قوله : { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [ النازعات : 30 ] ، فذكر خَلْق السَّماء قبل خلق الأرْضِ ، ثم قال { أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ } [ فصلت : 9 ] إلى « طائِعين » . فذكر في هذه الآية خَلْق الأرض قبل خَلْق السَّماء ، وقال : « وكان الله غفوراً رحيماً » و « عزيزا حكيماً » فكأنه كان ثم مَضَى .
فقال ابن عباس : فلا أنْسَابَ بَيْنَهم في النَّفْخَة الأولى ، وقال -تعالى- : « ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض [ إلا أن شاء الله ] » فلا أنساب عند ذلك ولا يتساءَلُون ، ثم في النَّفْخَة الأخيرَة أقْبَل بعضهم على بَعْض يتساءَلُون .
وأما في قوله : ما كنا مشركين و « لا يكتمون الله حديثا » فإن الله يَغْفِر لأهْل الإخْلاَص ذُنُوبهم فيقول المُشْرِكُون : تعَالَوْا نقل : ما كُنا مُشركين ، فيختم على أفواههم ، وتنطقُ أيديهم وأرْجُلهم ، فَعِنْدَ ذلك عَرَفُوا أنَّ الله لا يَكْتُم حَديثاً ، وعنده « يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض » .
وخلق الله الأرْضَ في يومين ثم خلق السَّماء ، ثم اسْتَوَى إلى السَّمَاء فَسَوَّاهُن في يَوْمَيْن آخرَيْن ، ثم دَحَى الأرض ، وَدَحْيُها أن أخْرَج منها المَاءَ والمَرْعَى ، وخلق الجِبَال والآكَامَ ، وما بينهُمَا في يومين آخريْن؛ فقال « خلق الأرض في يومين [ ثم دَحَى الأرض في يومين؛ فخلقت الأرْضُ وما فيها من شيء في أربعةِ أيام ، وخلقت السماوات في يومين ] » وكان الله غفوراً رحيماً « أي : لم يَزَلْ كَذَلِك ، فلا يختلف عليك القُرْآن؛ فإن كُلاًّ من عَِنْد الله » .
وقال الحسن : إنها مواطِنٌ : ففي مَوْطن لا يتكلَّمُون ، ولا تَسْمَ إلا هَمْساً ، وفي موطنٍ [ يعترفون على أنفسهم فهو قوله : { فاعترفوا بِذَنبِهِمْ } [ الملك : 11 ] ، و [ في موطن يتكلّمون ويكذبون ، ويقولون : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] ، و { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء } ] [ النحل : 28 ] ، وفي مواطن لا يُتساءَلُون الرَّجعة ، [ وفي مَوْطِن يتساءلُون الرجْعَة ] وآخر تلك المَوَاطِن ، أن يُخْتَمَ على أفْوَاهِهم ، وتتكلَّم جوارحُهم ، وهو قوله : « ولا يكتمون حديثاً » .
وقال آخرون : [ قولهم ] : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] أي : على حَسْبِ ما توهَّمنا في أنْفُسِنَا ، بل كُنَّا مُصيبين في ظُنُونِنَا حتى تَحقَّقْنا الآن .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
وجه اتِّصال هذه الآية بما قَبْلَها : أنه -تعالى- لما قال : « واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً » ذكر بعض الإيمان الصَّلاة التي هِيَ رأسُ العِبَادات ، ولذلك يُقْتَل تارِكُها ، ولا يَسْقُط فرضُهَا .
قال ابن عباس : نزلت في جَمَاعةٍ من أكابر الصَّحَابَة ، قبل تَحْرِيم الخَمْرِ ، كانوا يَشْرَبُونَها ثم يأتُون المَسْجِد للصَّلاة مع النَّبي صلى الله عليه وسلم فنهوا لهذه الآية .
وقال جماعة من المفسرين : إن عبد الرَّحْمن بن عَوْف صنع طَعَاماً وشراباً -حين كانت الخَمْر مُبَاحة - ودَعَا من أكَابِرِ الصَّحَابة ، فأكَلُوا وشَرِبُوا ، فلما ثَمِلُوا ، جاء وقت صَلاَة المَغْرِب ، فقدموا أحدهم لِيُصَلِّي بهم ، فقرأ : « قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون » وحذف « لاَ » هكذا ، إلى أخر السُّورة ، فأنزل الله -تعالى- هذه الآية ، فكَانُوا يَجْتَنِبُونَ السُّكْر أوْقات الصَّلوات ، فإذا صَلُّوا العشاء ، [ شربوها ] ، فلا يُصْبِحُون إلا وقدْ ذَهَب عنهم السُّكْر ، حتى نَزَل تَحْرِيم الخَمْرِ على الإطْلاَقِ في سورة المَائِدة .
وعن عمر [ بن الخطاب : رضي الله عنه- ] ؛ أنه لما بلغَهُ ذلك قال : « اللهم إنَّ الخَمْر تضر بالعُقُولِ والأمْوَال ، فأنزل فيها أمْرَكَ » قال : فَصَبَّحهم الوَحْي بآيَةِ المائِدَةِ .
قوله : « لا تقربوا الصلاة » فيه وجهان :
أحدهما : أن في الكَلاَمِ حذف مُضافٍ ، تقديره : مواضع الصَّلاةِ والمراد بمواضعها المَسَاجد ، ويؤيِّدُه قوله بعد ذلك : « إلا عابري سبيل » في أحد التَّأويلَيْن .
والثاني : أنه لا حَذْف ، والنَّهْي عن قُرْبَان نفس الصَّلاةِ في هذه الحالةِ .
فصل
قال بَعْضُهم : إن هذا يكون من باب إطْلاَق اسم الحَالِ على المَحَلِّ ، وعلى الأوَّل : لمنع السَّكْرَان [ والجُنْب ] من المسْجِد إلا عابري سبيل ، فيجوز للجُنُب العُبُور في المسْجِد .
وعلى الثاني : أنه نَهْي للجنب عن الصَّلاة ، إلا إذا كان عَابِر سبيلٍ وهو المُسَافِر عند العَجْزِ عن المَاءِ .
ورجح أصْحَاب الشَّافعي الأول؛ بأن القُرْب والبعد حقيقةٌ في المسْجِد ، مجَازٌ في الصَّلاة ، والحقيقة أوْلَى من المجَاز؛ لأن الاسْتِثْنَاء يَصِحُّ عليه ، ولا يَصِحُّ على الثَّاني؛ لأن غير العَابِري سبيل والعَاجِزَ عن المَاءِ ، والتَّيَمُّم عقبيها ، وقد استحب القُرَّاءُ الوقُوفَ عند قوله -تعالى- : « حتى تغتسلوا » ثم يسْتأنف « وإن كنتم مرضى » لأنه حُكم آخر .
ورُجِّح ليس فيه قَوْل مَشْرُوع يمنع الشكْر ، وأيْضاً سبب النُّزُول يرجِّحُه .
قوله : « وأنتم سكارى » مُبْتَدأ وخبر في مَحَلِّ نصب على الحَالِ من فاعل « تقربوا » ، وقرأ الجُمْهُور « سُكارى » بضم السّين وألف بعد الكَافِ ، وفيه قولان :
أصحهما : أنه جَمْع تكسير نَصَّ عليه سيبويْه : قال : وقد يُكَسِّرُونَ بَعْضَ هذا « فُعَلَى » ؛ وذَلِك كقول بعضهم سُكَارَى وعُجَالَى .
والثاني : أنه اسم جَمْع ، وزعم ابن البَاذش أنه مذْهب سيبويْه؛ قال : وهو القياس؛ لأنه لم يَأتِ من أبْنِيَة الجمع شَيْءٌ على هذا الوَزْنِ ، وذكر السَِّيرَافِي الخِلاف ، ورجَّحَ كونه تَكْسِيراً .
وقرأ الأعْمَش : « سُكْرَى » بضم السِّين وسكُون الكَافِ ، وتَوْجِيهها أنَّها صِفَة على « فُعْلَى » ؛ كحبلى ، وقعت صِفَة لجماعةِ ، أي : وأنتُم جماعَةٌ سُكْرى ، وحكى جناح بن حبيش كُسْلَى وكَسْلَى ، بضم الكَافِ ، وتَوْجِيهها أنَّها صِفَة على
فُعْلَى « ؛ كحبلى ، وقعت صِفَة لجماعة ، أي : وأنتُم جماعَةٌ سُكْرى ، وحكى جناح بن حبيش كُسْلى وكَسْلَى ، بضم الكَافِ وفتحها؛ قاله الزمخشري .
وقرأ النَّخْعي » سَكْرَى « بفتح السِّين وسكون الكَافِ ، وهذه تَحْتَمِل وَجْهَيْن :
أحدهما : ما تقدَّم في القراءة قبلها ، وهو أنَّهَ صِفَة مُفْرَدة على » فَعْلَى « ؛ كامرأة سَكْرَى ، وصف بها الجمَاعة .
والثَّاني : أنَّها جَمْع تكسير؛ كجَرْحى ، ومَوْتى ، وهَلْكى ، وإنما جمع سَكْرَان على » فَعْلَى « حملاً على هذه؛ لما فيه من الآفَةِ اللاَّحِقَة للفِعْل ، وقد تقدَّم شَيْء من هَذَا في قوله : { وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى } [ البقرة : 85 ] .
وقرئ : » سَكارى « بفتح السين والألف ، وهذا جمع تكسير ، نحو : نَدْمَان ونَدَامى ، وعَطْشَان ، وعَطَاشَى ، والسُّكْرُ : لُغَة السَّدِّ ، ومنه قيل لما يَعرض للمرءِ من شُرْبِ المُسْكِر ، لأنَّه يسد ما بين المَرْء وعَقْلِه ، وأكثر ما يُقَال ذلك لإزالَتِه بغضب ونحوه ، من عشق وغيره قال : [ الكامل ]
1800- سُكْرَانِ سُكْرُ هَوَى وسُكْرُ مُدَامَةٍ ... أنَّى يُفيقُ فَتًى به سُكْرَانِ
و » السكر « بالفتح وسكون اكَافِ : حبس الماءِ ، وبكسر السِّين : نفس الموضع السْدُود ، وأما » السَّكَر « بفتحيهما فما يسكر به من المشروب ، ومنه : { سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } [ النحل : 67 ] وقيل السُّكْر : بضم السين وسكون الكاف [ السّدّ ] أي : الحَاجِز بين الشَّيْئَيْن ، قال : [ الهزج ]
1801- فمَا زِلنَا عَلَى السُّكْرِ ... نُدَاوِي السُّكْر بالسُّكْرِ
والحاصل : أنَّ أصل المادة الدَّلالة على الانْسداد ، ومنه : سَكرت عين البَازِي ، إذا خَالَطَهَا نوم ، وسكر النَّهر؛ إذا لم يَجْرِ ، وسَكَرْتُه أنا ، وقال -تعالى- : { إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا } [ الحجر : 15 ] ، أي : غُشيت ، والسُّكْر من الشراب ، وهو أن يَنْقَطِع عما عَلَيْه من النَّفَاذ حال الصَّحْو ، فلا ينفذ رأيه كنَفَاذَه حَال الصَّحْو ، وقال الضحَّاك : أراد به سُكْر النّوم نهى عن الصَّلاة عند غَلَبَة النَّوْم ، قال -عليه الصلاة والسلام- : » إذا نَعسَ أحدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي ، فَلْيَرْقُد حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ؛ فإنَّ أحَدَكُم إذا صَلَّى وهو يَنْعَسُ ، لَعَلهُ يَذْهَبُ يستَغْفِرُ فَيَسب نَفْسَه « .
والصحيح الأوَّل؛ لأن السكر حَقيقةً هو من شُرْب الخَمْرِ ، فأمّا السّكر من الغَضَبِ أو العِشْقِ أو النَّوْمِ فَمَجَازٌ ، إنما اسْتُعِْمِل مقيَداً؛ قال -تعالى- : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ } [ ق : 9 ] ، { وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى } الحج : 2 ] قال الفرزْدَق : [ الطويل ]
1802- مِنَ السَّيْرِ وَالإسْآدِ حَتَّى كَأنَّمَا ... سَقَاهُ الَرَى فِي مَنْزِلَةٍ خَمْراً
ولأن عند النَّوْم تمتلئ مَجَاري الرُّوح من الأبخرة الغليظَة ، فلا ينفذ الروح للبَاصِر .
قوله -تعالى- : » حتى تعلموا « » حتى « جارَّة بمعنى إلى ، فهي مُتعلِّقَةٌ بفعل النَّهْي ، والفعل بَعْدَها مَنْصوب بإضمار » أن « وتقدّم تَحْقِيقُه ، وقال بَعْضُهم : إن حَتَّى هنا بمعنى [ » كَيْ « ] فهي » تَعْلِيلِيَّة « ، والمَعْنَى : كي تَعْلَمُوا ما تَقُولُون .
و « ما » يجوز فيها ثَلاَثَة أوْجُه : أن تكون بِمَعْنَى الَّذِي ، أو نكرة مَوْصُوفة ، والعَائِد على هَذَيْن القَوْلَيْن مَحْذُوف ، أي : يَقُولُونَهُ ، أو مصدرية ، فلا حَذْف إلا عَلَى رأي ابن السَّرَّاج ومن تَبِعَهُ .
فصل قول البعض بنسخ الآية
قال بَعْضهم : هذه الآية مَنْسُوخة بآية المائدة .
قال ابن الخَطِيب : والَّذي يمكن النَّسْخُ فيه ، أنَّه -تعالى- نَهَى عن قُرْبَان الصَّلاةِ حَالَ السُّكْر مَمْدُوداً إلى غَايَة أن يَصير بِحَيْث يَعْلَم ما يَقُول ، والحكم المَمْدُود إلى غاية ، يَقْتَضِي انتهاء ذَلِك الحُكْم عند تلك الغَايَةِ ، وهذا يَقْتَضِي جواز قُرْبَان الصَّلاة مع السُّكْر الذي يَعْلَمُ مِنْهُ ما يَقُول ، ومعلوم أنَّ الله -تعالى- لما حرَّم الخَمْر بآية المائدَة ، فقد رَفَع هذا الجوازَ ، فثبت أن آية المائِدَة ناسِخَةٌ مَدْلُولات هذه الآية .
والجواب : أن هَذَا نَهْي عن قُرْبَان الصَّلاة حَال السُّكْرِ ، وتخصيصُ الشيء بالذِّكْرِ لا يَدُلُّ على نَفي الْحُكم عما عداه ، إلا على سبيل الظَّنِّ الضَّعيف ، ومثل هَذَا لا يَكُون نَسْخاً .
فصل : التكليف بما لا يطاق
قال بَعْضُهم : هذه الآية تَدُلُّ على جواز التَّكْليف بما لا يُطَاق؛ لأنه -تعالى- قال : « ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى » ، وهذه جملة حاليَّة ، فكأنه -تعالى- قَالَ للسَّكْرَان : لا تُصَلِّ وأنْت سَكْرَان ، وهذا خطاب للسكران .
والجواب عنه : بأن هذا لَيْس خِطَاباً للسَّكْرَان ، بَلْ هو خِطَاب للَّذِين آمَنُوا؛ فكأنه قال : يأيُّهَا الذين آمَنُوا لا تَسْكَرُوا ، فقد نهى عن السُّكْر؛ ونظيره قوله -تعالى- : { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } [ آل عمران : 102 ] وهو ليس نَهْياً عن المَوْت ، وإنما هو أمْر بالمُدَاوَمَةِ على الإسْلامِ ، حتى يَأتيهُ المَوْت وهو في تلك الحَالِ .
قوله : « ولا جنباً » نصب على أنه مَعْطُوف على الحَالِ قبله ، وهو قوله : « وأنتم سكارى » عطف المُفْرَد على الجُمْلَة لمّا كَانَتْ في تأويله ، وأعاد معها « لا » تَنْبيهاً على أنَّ النَّهْي عن قُرْبَان الصَّلاة مع كل واحدٍ من هَذَيْن الحَالَيْن على انْفِدَادَهَما ، فالنَّهي عنها مع اجْتِمَاعِ الحَالَيْنِ آكَدَ وأوْلى ، والجُنُبُ مشتقٌّ من الجَنَابَة وهو البُعْدُ؛ قال : [ الطويل ]
1803- فَلا تَحْرِمَنِّي نَائِلاً عَنْ جَنَابَةٍ ... فَإنِّي امْرُؤٌ وَسْطَ القِبَابِ غَريبُ
وسمي الرَّجُل جُنُباً : لبعده عن الطَّهَارةِ؛ أو لأنهَّ ضَاجَع بِجَنْبِه وَمسَّ به ، والمشْهُور أنه يستعمل بِلَفْظٍ واحدٍ كالمُفْرد والمُثَنَّى والمَجْمُوع ، والمُضكَّر والمُؤنَّث ، ومنه الآية الكَرِيمة .
قال الزمخشري : لجريانه مَجْرَى المصدَرِ الذي هو الإجْنَابُ ، ومن العَرَب من يُثَنِّيه فيَقول جُنُبَان ويجمعه جمع سَلاَمة فيقول : جُنُبُون ، وتكْسِيراً فيقول : أجْنَاب ، ومثله في ذلك شُلُل ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك .
قوله : « إلا عابري سبيل » فيه وجهان :
أحدهما : أنه مَنْصُوب على الحَالِ فهو استثْناء مُفَرَّغ ، والعامِل فيها فِعْل النَّهْي ، والتَّقْدير : « لا تقربوا الصلاة في حالة [ الجنابة إلا في حال السفر ] أو عُبُور المَسْجِد على حَسَب القَوْلَيْن .
وقال الزَّمَخْشَريّ : « إلا عابري سبيل » استثنَاء من عامَّة أحوال المُخَاطبين ، وانتصَابه على الحال .
فإن قُلْت « كيف جَمَع بين هذه الحَال ، والحَالِ التي قَبْلَها .
قلت : كأنه قيل : لا تَقْرَبُوا الصَّلاة في حال الجَنابة : إلا ومَعَكُم حالٌ أخْرَى تَعْتَذِرون فيها : السَّفَر وعُبُور السًّبِيل عبارة عَنْه .
والثَّاني : أنه مَنْصُوب على أنه صِفَةٌ لقوله » جنباً « ب » إلاَّ « بمعنى » غبر « ، فظهر الإعْرَاب فيما بَعْدَهَا ، وسيأتي لهذا مزيد بَيَانٍ عند قوله -تعالى- : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] كأن قيل : » لا تقربوها جنباً غير عابري سبيل « ، أي : جُنُباً مُقِيمين غير مَعْذُورين ، وهذا معنى وَاضِحٌ على تَفْسير العُبُور بالسَّفر ، وهذا قَوْل عَلِيّ وابن عبَّاس ، وسَعيد بن جُبَيْرٍ ، ومُجَاهِد قالوا : مَعْنَاه إلاَّ أن تكُونُوا مُسَافرين ولا تَجدُون المَاءَ فَتَيَمَّمُوا؛ مَنَع الجُنُب من الصَّلاة [ حتى يَغْتَسِل ، إلا أن يَكُونَ في سَفَر ولا يجدهَا فيصلّي بالتيمم وأمَّا من قدَّر مَوَاضِعَ الصَّلاة ] فالمعنى عنده : لا تَقْرَبُوا المَساجِد جُنُباً إلا مُجْتَازين؛ لكونه لا مَمَرَّ سواه ، وهو قول عبد الله بن مَسْعُود ، وسعيد بن المسيَّب ، والحسن ، وعِكْرِمَة ، والنَّخعِي ، والزُّهري ، وذلك أن قَوْماً من النْصار ، كانت أبوابُهم في المَسْجِد ، فتُصيبهم الجَنَابة ، ولا مَاء عندهم ، ولا مَمَرَّ لهم إلا في المَسْجِد ، فَرُخِّصَ لهم في العُبُور ، قالوا : والمُراد من الصَّلاةِ؛ لقوله -تعالى- : { وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ } [ الحج : 40 ] والمعنى : لا تَقْرَبُوا المسجد وأنتم جُنُب ، إلا مُجْتازين فيه للخُرُوجِ منه ، مثل أن يَنَام في المَسْجِد ، فَيَجْنُبُ أو تُصِيبُه جَنَابة والماءُ في المَسْجِد ، والعُبُور الجَوَاز؛ ومنه : » نَاقَةٌ عُبْرُ الهَوَاجِر « قال : [ الكامل ]
1804- عَيْرَانَةُ سُبُحُ اليَدَيْنِ شِمِلَّةٌ ... عُبْرُ الهَوَاجِرِ كالهِزَفِّ الخَاضِبِ
وقوله : » حتى تغتسلوا « ؛ كقوله : » حتى تعلموا « فهي مُتعلَّقة بفعل النَّهِي .
فصل : حكم عبور المسجد للجنب
اختلفوا في عُبُور المَسْجِد للجُنُب ، فأبَاح الحَسَنُ ومَالِكٌ والشَّافِعِيُّ المُرور فيه على الأطلاقِ ، وهو قَوْل أصْحَاب الرأي ، وقال بَعْضُهم : يَتَيَمَّمُ للمرور فيه ، وأما المُكْثُ فلا يجوز عند أكْثرِ العُلَمَاء؛ لقول النَّبِي صلى الله عليه وسلم » وَجَّهُوا [ هذه البُيُوت عن المَسْجِد ] فَإنِّي لا أُحِلُّ المَسْجِدَ لحائضٍ ولا جُنُبٍ « وجوّز أحْمَدُ المُكْثَ فيه ، وضعَّف الحديث؛ لأن رَاويه مَجْهُول .
قوله : » وإن كنتم مرضى « جمع مَريض ، وأراد به مَرَضاً يَضُرُّه أساس الماء كالجُدَرِي والقُرُوح العَظيمَة ، أو كان على مَوْضِع طَهَارته جِرَاح يخاف من اسْتِعْمَال الماء التَّلف ، أو زيادة المَرَضِ ، فإنه يُصَلِّي بالتَّيَمُّمِ وإن كان مَوْجُوداً ، وإن كان بَعْض أعضاء طهارته صحيحاً والبَعْض جَريحاً ، غسل الصَّحيحَ ، وتيَمَّم عن الجَرِيح؛ لما رَوَى جَابر؛ قال : خَرَجْنَا في سَفَرٍ ، فأصَابَ رَجُلاً منا حَجَرٌ ، فَشَجَّهُ في رَأسِهِ فاحْتَلَم ، فسَال أصْحَابَهُ هلْ تجدُون رُخْصَة في التَّيَمُّم؟ قَالُوا : ما نَجِدُ لك رُخْصَة في التَّيَمُّم ، وأنت قَتَلَهُم اللهُ إلا سَألُوا إذ لَمْ يَعْلَمُوا ، فإنما شِفَاء العيِّ السُّؤالُ ، إنما كان يكفيه أن يتيمم ، ويعْصِر أو يَعْصِب -شك الراوي- على جُرْحِهِ خِرْقَة ، ثم يَمْسَح عليها ويَغْسِل سَائِر جَسَده .
ولم يجوِّز أصْحَاب الرَّأي الجمع بين التَّيَممُّم والغُسْل ، وقالوا : إن كَانَ أكْثَر أعْضَائه وصَحِيحاً ، غسل الصَّحيحَ وكَفَاهُ ، وإن كان الأكْثَر جَريحاً ، اقْتَصر على التَّيَمُّم ، والحديث حُجَّةٌ عليهم .
قوله : « أو على سفر » في محلِّ نصبٍ عطفاً على خَبَر كان ، وهو المَرْضَى؛ وكذلك قَولُه : « أو جاء أحد منكم » « أو لامستم النساء » ، وفيه دليلٌ على مجيء [ خبر ] كان فِعْلاً مَاضياً من غَيْر « قَدْ » ، وادِّعاء حَذْفها تكلُّفٌ لا حَاجَة إلَيْه؛ كذا اسْتَدَلَّ به أبو حيان ، ولا دليل فيه؛ لاحْتِمَال أن يَكُون « أو جاء » عَطْفاً على « كنتم » تَقْديره : وإن جَاءَ أحَدٌ ، وإليه ذهَب أبُو البَقِاء ، وهو أظْهَر من الأوَّل والله أعلم .
فصل
أراد مُطْلق السَّفَر طويلاً كان أو قَصيراً ، إذا عَدِمَ المَاءَ فإنه يُصَلِّي بالتَّيَمُّم ، ولا إعادة عَلَيه؛ لما روي عن أبِي ذرٍّ؛ قال : قال النَّبي صلى الله عليه وسلم : « إنَّ الصَّعيد الطَّيِّبَ وضُوء المسْلِمِ ، وإن لم يَجد المَاءَ عَشْرَ سِنِين ، فإذا وَجَد المَاءَ ، فَلْيَمُسَّهُ بَشَرتهُ فإن لم يَكُن مَرِيضاً ولا في سَفَرِ ، ولكنه عَدِم المَاءَ في مَوْضِع لا يُعْدَم فيه المَاءُ غَالِباً : كقرية انقطع مَاؤُهَا فقال بَعْضُهم يصلِّي بالتَّيَمُّم ، ويُعيدُ إذا قدر على المَاءِ » ، وقال آخَرُون : لا إعَادة [ عَلَيْه ] وهو قول الأوْزَاعِي ومَالِكٍ ، وقال أبو حَنيفَة : يؤخِّر الصَّلاة حتى يجد المَاءَ . وقوله : « أو جاء أحد منكم من الغائط » أراد به : إذا أحْدَث ، وقوله : « أو جاء أحد » يدل على الانتقال من مَكَان الغائِط والانتقَال عنه .
و « منكم » في مَحَلِّ رفع؛ لأنه صِفَة لأحد فَيَتعلَّق بمحذوف ، و « من الغائط » متعلِّق ب « جَاءَ » فهو مَفْعُوله ، وقرأ الجُمْهُور : « الغائط » بزنة « فَاعِل » وهو المكان المُطَمْئِن من الأرْضِ [ وجَمْعُه الغيطان ثم عَبَّر عَن الحَدَثِ كِناية؛ للاستحْيَاء من ذِكْره ، وفرَّقت ] العرب بين الفِعْلَيْن منه ، فقالت : غَاطَ في الأرض ، أي : ذَهَب وأبْعَد إلى مَكَانِ لا يَراهُ فيه إلا من وَقَف عليه ، وتَغَوَّط : إذا أحْدَث .
وقرأ ابن مَسْعُود : « من الغيط » وفيه قَوْلاَن :
أحدهما : وإليه ذهب ابن جني : أنه مُخَفَّف من « فَيْعِل » ؛ كهَيْن ، ومَيْت [ في هَيِّن ومَيِّت ] .
والثاني : أنه مَصْدر على وَزْن « فَعَل » قالوا : غَاطَ يَغيطُ غَيْطاً ، وغَاطَ يَغُوطُ غَوْطاً .
وقال أبو البَقَاء : هو مَصْدرَ « يغوط » فكان القياس « غوطاً » فقلبت الوَاوُ ياءً ، و [ إن ] سُكِّنت وانْفتح ما قبلها لِخفَّتِها كأنه لم يطَّلِع على أنَّ فيه لُغَة أخْرَى من ذَوَات اليَاءِ حتى ادّعى ذَلِك .
قوله : « أو لامستم المساء » قرأ الأخوان هنا ، وفي المَائِدَة : « لمستم » ، والباقون : « لامستم » [ فقيل ] فَاعَلَ بمعنى فَعَل ، وقيل لمس : جامع ، ولامَس « لِما دُون الجِمَاع .
قال ابن عباس والحسن ومُجَاهِد وقتَادَة : كُنِّي باللَّمْس عن الجِماع؛ لأن اللَّمْسَ يُوصِل إلى الجِمَاع ، ولأن اللَّمْس والمَسَّ وردَا في القُرْآن كِناية عن الجَماع [ في ] قوله : { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } [ المجادلة : 3 ] ، و { مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } [ البقرة : 237 ] ولأن الحَدَثَ الأصْغر مَذْكُور في قوله : » أو جاء أحد منكم من الغائط « فلو حُمَل اللمس على الأصْغر ، لم يَبْق للحدث الأكْبر ذِكْرٌ ، وقال ابن مَسْعُود ، وابن عُمَر ، والشعبي ، والنَّخعِي ، هما التقاء البَشَرتَيْن سواءٌ كان بِجِماع أو غير جِمَاع؛ لأن حُكْم الجَنَابَة تقدَّم في قوله : » ولا جنباً « فلو حَمَلْنَا اللَّمس على الجَنَابةِ ، لزم التّكْرَارُ .
قوله : » فلم تجدوا « الفَاء عَطَفت ما بَعْدَها على الشَّرْط ، وقال أبُو البَقَاءِ : على » جَاء « لأنه جَعَل » جَاء « عطفاً على » كنتم « ، فهو شرْط عنده ، والفاءُ في قَوْله : » فتيمموا « هي جَوَاب الشَّرط ، والضَّمِير في » تيمموا « لِكُلِّ من تَقَدَّم؛ من مريض ومُسَافرٍ ومُتغوِّط ومُلامِس أوْ لامسِ ، وفيه تَغْليبٌ للخطاب على الغَيْبَة؛ وذلك أنَّهُ تقدَّم غَيْبَة في قوله : » أو جاء أحد « وخطاب في » كنتم « ، و » لمستم « فغلَّب الخطاب ، في قوله : » كنتم « وما بَعْده عليه ، وما أحْسَن ما أتي هُنا بالغَيْبَة ، لأنه كِنَاية عما يُسْتَحْيَا منه فَلَم يُخَاطِبْهم به ، وهذا من مَحَاسِنِ الكَلامِ؛ ونحوه قوله : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [ الشعراء : 80 ] [ و » وجَد « هنا بمعنى » لقِيَ « ] فتعدت لِوَاحِدٍ و » صعيداً « مفعول به لقوله » تيمموا « أي : اقْصدُوا .
وقيل : هو على إسْقَاطِ حَرْفٍ ، اي : بصعيدٍ ، وليس بشيءٍ لعدم اقْتِيَاسه ، والصَّعيد » فَعِيلٌ « بمعنى الصَّاعد ، [ قيل : الصَّعيد ] : وَجْه الأرْضِ تراباً كَانَ أوْ غيره .
فصل : الخلاف في وجوب تكرار طلب الماء في الصلاة الثانية
قَال الشَّافِعِي : إذا دخل وَقْتُ الصلاة فَطَلَب المَاءَ ولم يجد النَاءَ ، وتيمم وصلَّى ، ثم دَخَل وقْتُ الصَّلاةِ الثَّانية ، يجب عليه الطلب ثانياً؛ لقوله » فلم تجدوا « وهذا يشعر بسَبْق الطَّلَب .
وقال أبو حنيفَة : لا يجب ، واعْتَرض على الآيةِ بأن قوله : » فلم تجدوا « لا يُشْعر بسبق الطلب؛ قال -تعالى- : { وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ } [ الأعراف : 102 ] { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى وَوَجَدَكَ عَآئِلاً } [ الضحى : 7 ، 8 ] ، { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً }
[ طه : 115 ] وهذا لا يَسْبِقُه طَلَبٌ؛ لاستِحَالَتِه على الله -تعالى- .
فصل
قال أبو حنيفَة : التيمم هو القَصْد ، والصَّعيد وهو ما يَصْعَد من الأرْض؛ فقوله « فتيمموا صعيداً طيِّباً » أي : اقْصُدوا أرْضاً ، وقال الشَّافعي : هذه الآيةُ مطْلَقَة ، وآية المائدة مُقيَّدة بقَوْله : { مِّنْهُ } [ المائدة : 6 ] وكلمة « مِنْ » للتَّبعيض ، وهذا لا يَتَأتَّى في الصَّخْر الذي لا تُرَابَ علَيْه ، فوجب حمل المُطْلَقِ على المُقَيَّد .
فإن قيل : إن كَلِمَة « مِنْ » لابْتداء الغَايَة ، قال صَاحِب الكَشَّاف لا يَفْهَم أحدٌ من العرب من قَوْل القائِل : مَسَحْتُ برأسِهِ من الدُّهْن ومن المَاءِ ومن التُّرَاب ، إلا مَعْنى التَّبْعيض .
ثم قال : والإذْعَان للحَقِّ أحقُّ من المِرَاء .
وقال الوَاحِدي : إنه -تعالى- قال : « صعيداً طيباً » والأرْض الطَّيِّبَة التي تُنْبِتُ؛ لقوله -تعالى- : { والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ } [ الأعراف : 58 ] ، وقال -عليه الصلاة والسلام- : « التُّرابُ طَهُور المُسْلمِ إذَا لَمْ يجدِ المَاءَ » .
قوله : « فامحسوا بوجوهكم » هذا الجَارُّ متعلِّق ب « امسحوا » وهذه الباء يُحْتَمَل أن تكون زَائِدة ، وبه قال أبُو البَقِاء ، ويحتمل أن تكُون مُتعدِّية؛ لأن سيبويْه حكى : مَسَحْتُ رَاسه وبِرأسه ، فيكون من بَابِ نَصَحْتُه ونَصَحْتُ له ، وحذف المَسْمُوح به ، وقد ظَهَر في آية المَائِدة ، في قوله : { مِّنْهُ } [ المائدة : 6 ] فحُمِلَ عَلَيْه هذا .
ثم قال -تعالى- : « إن الله كان غفوراً رحيماً » وهو كِناية عن التَّرخيص والتَّيْسِير لأن من غَفَر للمذْنِبين ، فبِأن يُرَخّص للعَاجِزين أوْلَى .
فصل
قال القرطبي : أجْمَع العلماءُ على أن التَّيَمُّم لا يَرْفعَ الجَنَابَة ، ولا الحَدَث ، وأن المُتَيِّمم لَهُما إذا وجد المَاءَ ، عاد جُنُباً أو مُحْدِثاً كما كان؛ لقوله عليه السلام لأبي ذر : « إذَا وَجَدْت المَاءَ ، فأمِسَّهُ جِلْدَكَ » .
فصل
قال القرطبي : والمَسْحُ لفظ مُشْتَرَك يكون بمعنى الجماع ، يقال : مَسَح الرَّجُل المَرْأة ، إذا جَامَعهَا ، والمَسْحُ : مسْح الشيء بالسَّيْف وقَطْعه به ، ومَسَحَت الإبل يَوْمَها إذا سَارَت ، والمسْحَاءُ المرأة الرسماء التي لا أسْت لها ، ولِفُلان مَسْحَة من جمالٍ ، والمُرادُ هُنا بالمَسْحِ : عبارة عن مَرِّ اليد على المَمْسُوح .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)
لما ذكر -تعالى- أنْوَاع التَّكَالِيف من أوَّل السُّورة إلى هنا ، ذكر أقَاصيص المُتقدِّمين؛ لأن الانْتَقال من نَوْع من العُلُومِ إلى نَوع آخر كأنه يُنَشِّط الخَاطِر ، وقد تقدَّم الكلام في قوله -تعالى- { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ } [ البقرة : 258 ] والمراد ب « الذين أوتوا نصيباً من الكتاب » هم اليَهُود « .
وقال ابن عبَّاس : نزلت هذه الآيةُ في حَبْرٍ من أحْبار اليَهُود ، كانا يأتِيَان رَأس المُنَافِقِين عبد الله أبيّ [ ابن سَلُول ] ورَهْطه ، يُثَبِّطُونهُم عن الإسْلاَم .
وعن ابن عباس أيضاً؛ قال : نزلَتْ في رفاعة بن زَيْدٍ ، ومالك بن دخشم ، كَانَا إذا تَكَلم رسُول الله صلى الله عليه وسلم لوياً لِسَانَهُمَا ، وعَابَاه ، فأنزل الله -تعالى- هذه الآية .
قوله : » من الكتاب « فيه وَجْهَان :
أحدهما : أنه مُتَعِّق بمحْذُوفٍ ، إذ هو صِفَة ل » نصيباً « فهو في مَحَلِّ نصبٍ .
والثاني : متعلَِّق ب » أوتوا « أي أُوتوا من الكِتاب نصيباَ ، و » يشترون « : حالٌ ، وفي صاحبها وَجْهَان :
أحدهما : أنه واو » [ أوتوا ] « .
والثاني : أنه المَوْصُول وهي على هذا حَالٌ مُقَدرة ، والمُشْتَري به مَحْذُوف ، أي : بالهُدَى ، كما صرح به في مَوَاضِع ، ومعنى » يشترون « : يستبدِلون الضَّلالة بالهُدَى .
قوله : » ويريدون « عطف على » يشترون « .
وقال النَّخْعِي : » وتريدون أن تضلوا « بتاء الخطاب ، والمَعْنَى : تُرِيدُون أيها المؤمنون أن تدَّعو الصَّواب ، وقرأ الحسن : » أن تَضِلُّوا « من أضل . وقرئ » أن تُضَلُّوا السبيل « بضم التَّاءِ وفتح الضَّادِ على ما لَمْ يُسَمّ فَاعِلُه ، والسَّبيل مفعول به؛ كقولك : أخطأ الطَّريقَ ، وليس بِظَرْف ، وقيل : يتعدى ب » عن « ؛ تقول : ضلَلْت السَّبيل ، وعن السَّبيل ، ثم قال : » والله أعلم بأعدائكم « أي : أعْلَم بما في قُلُوبهم وصدورهم من العَدَاوة والبَغْضاء .
قوله : » وكفى بالله ولياً « تقدم الكلام عليه أوّل السُّورة ، وكذا الكلام في المَنْصُوب بَعْده ، والمعنى : أنه -تعالى- لما بيَّن شِدَّة عداوتِهم للمسْلِمين ، بين أنه -تعالى- وليُّ المؤمِنين ونَاصِرُّهُم .
فإن قيل : ولاية الله لعبده عِبَارةَ عن نُصْرَته ، فَذَكْر النَّصِير بعد ذِكر الوَلِي تكْرَارٌ .
فالجواب : أن الوَلِيَّ هو المُتَصرِّف في الشَّيْء ، والمتصرِّف في الشَّيء يجب أن يكُونَ نَاصِراً .
فإن قيل : ما الفَائِدة من تكْرار قوله : » وكفى بالله « .
فالجواب : أن التِّكْرَا في مِثْل هذا المقَام يكون أشَد تَأثِيراً في القَلِب ، وأكْثَر مُبَالَغَة .
فإن قيل : ما فائدة تكرار الباء في قوله : » بالله « فذكروا وجوهاً :
أحدها : لَوْ قيل : كفى الله ، يتصل الفِعْل بالفَاعِل ثم ههُنا زيدَت البَاء إيذَاناً بأن الكفاية منالله لَيْسَت كالكِفَايَة من غَيْره .
وثانيها : قال ابن السَّرَّاج : تقديره : كفى اكْتِفَاؤُه بالله وَليًّا ، ولما ذكرت » كفى « دلَّ على الاكتفاءِ؛ كما تقول : من كذب كان شَرّاً له ، أي : كان الكَذِبُ شرًّا له ، فأضمرته لدلالة الفِعْل عليه .
وثالثها : قال ابنُ الخَطيب : البَاءُ في الأصْل للإلْصَاقِ ، وإنما يَحْسُن في المؤثِّر لذي لا وَاسِطَة بَيْنَهُ وبين التَّأثِير ، فلو قيل : كَفَى اللهُ ، دلَّ ذلك على كَوْنَهَ فاعلاً لهذه الكِفَايَةِ ، ولكن لا يَدُلُّ [ ذَلِك على أنَّهُ فعل ] بِواسِطَة أو غير وَاسِطَة ، فإذا ذَكَرْت البَاء ، دلَّ على أنه -تعالى- يَفْعَل بغير واسِطَة ، بل هو -تعالى- يتكفَّل به ابتداء من غير واسطَة؛ كقوله : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد } [ ق : 16 ] .
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
قوله تعالى : [ { مِّنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ } ] الآية .
لما حكَى عنهم أنَّهم يَشْترون الضلالة ، بيَّن تلك الضَّلالَةَ ما هي .
قوله : « من الذين هادوا » فيه سَبْعَةُ أوْجُه :
أحدها : أن يكُون « من الذين » خبر مُقدم ، و « يحرفون » جُمْلَة في محلِّ رفع صِفَة لموصُوف مَحْذوف هو مُبْتَدأ ، تقديره : مِنَ الذين هَادُوا قومٌ يُحَرِّفون ، وحَذْف الموْصُوف بَعْد « مِنَ » التَّبِعِيضيَّة جَائِزٌ ، وإنْ كانت الصِّفَة فِعْلاً؛ كقولهم « مّنَّا ظَعَنَ ، ومَنَّا أقَامَ » ، أي : فريقٌ أقام ، وهذا مَذْهَب سيبويه والفارسِي؛ ومثله : [ الطويل ]
1805- وَمَا الدَّهْرُ إلا تارتانِ فَمِنْهُمَا ... أمُوتُ وأخرى أبْتَغِي العَيْشَ أكدحُ
أي : فمنهما تَارةٌ أمُوت فِيها .
الثاني : قول الفرَّاء ، وهو أن الجَارَّ والمجرور خَبَر مقدَّم أيضاً ، ولكن المُبْتدأ المحذُوف يقدره مَوصولاً ، تقديره : « من الذين هادوا من يحرفون » ، ويكون قد حمل على المَعنى في « يحرفون » قال الفرَّاء : ومِثْله [ قول ذي الرِّمَّة ] [ الطويل ]
1806- فَظَلُّوا وَمِنْهُمْ دَمْعُهُ سَابِقٌ لَهُ ... وآخَرُ يَثْنِي دَمْعه العَيْنِ بِاليَدِ
قال : تقديره ، ومنهم [ مَنْ ] دَمْعه سَابِقٌ لَهُ ، والبَصْرِيُّون لا يُجَوِّزُونَ حذف الموصُولِ؛ لأنه جُزْءُ كلمة ، وهذا عِنْدَهم مؤولٌ على حَذْفِ موصوفٍ كما تَقَدَّمَ ، وتأويلُهُم أولى لعطفِ النكرة عليه ، وهو : آخر وأخْرَى في البَيْت قَبْلَه ، فيكون في ذلك دلالةٌ على المَحْذُوفِ ، والتقدير : فمنهم عَاشِقٌ سَابِقٌ دَمْعه لَهُ وآخَر .
الثالث : أن « من الذين » خَبَر مُبْتَدأ مَحْذُوف ، أي : « هم الذين هادوا » ، و « يحرفون » على هذا حَالٌ من ضمير « هادوا » وعلى هذه الأوْجُه الثَّلاثة يكون الكلام قم تَمَّ عند قوله : « نصيراً » .
الرابع : أن يكون « من الذين » حَالاً [ من فاعل « يريدون » قاله أبو البقاء ، ومنع أن يكُون حالاً ] من الضَّمير في « أوتوا » ومن « الذين » أعنِي : في قوله -تعالى- : « ألم تر إلى الذين أوتوا : قال : لأنَّ الحال لا تكُون لِشَيْءٍ واحِدٍ ، إلا بعطف بَعْضِها على بَعْضٍ .
قال شهاب الدين : في هذه المسْألة خلافٌ بين النحويين : منهم من مَنَعَ ، وَمِنْهم من جَوَّزَ ، وهو الصَّحيح .
الخامس : أن { مِّنَ الذين } بيان للموصول في قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ } لأنهم يهُود ونَصَارَى ، فَبَيْنَهُم باليهُودِ ، قاله الزمخشري ، وفيه نظر من حَيْث إنَّه قد فُصِلَ بينهما بثلاثة جمل هي : { والله أَعْلَمُ } ، { وكفى بالله } ، { وكفى بالله } .
وإذا كان الفَارِسيّ قد منع الاعتراض بجُمْلَتيْن ، فما بالك بِثلاثٍ ، قاله أبو حيان ، وفيه نَظَرٌ؛ فإن الجُمَل هنا مُتَعَاطِفَة ، والعَطْفُ يصير الشَّيْئيْن شيئاً واحِداً .
السادس : أنه بَيَانٌ لأعْدَائِكُم ، وما بَيْنَهما اعْتراض أيضاً ، وقد عُرِف ما فيه .
السابع : أنه متعلِّق ب { نَصِيراً } وهذه المادَّة تتعَدَّى ب » مِن « ؛ قال -تعالى- :
{ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم } [ الأنبياء : 77 ] { فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله } [ غافر : 29 ] على أحد تأويلَيْن :
إمَّا على تَضْمِين النَّصْر معنى المَنْع ، أي : مَنَعْنَاهُ من القَوْم ، وكذلك : كَفَى بالله مَانِعاً بِنصْره من الذين هَادُوا .
وإمَّا : على جعل « مِنْ » بمعنى « عَلَى » ، والأوَّل مَذْهَب البَصْريين ، فإذا جَعَلْنَا { مِّنَ الذين } بياناً لما قَبْلَهُ ، فبِمَ يتعلَّق والظاهر [ أنَّه يتعلَّقُ بمحذُوفٍ؛ ويدل على ذَلِك أنَّهُم قالوا في سقيا لك ] ، إنه مُتعلِّق بمحذوف لأنه بَيَانٌ له ، وقال أبو البقاء : [ وقيل ] وهو حَالٌ من أعْدَائِكُم ، أي : [ والله أعلم بأعْدَائِكُم ] كائنين من الذين هادُوا ، والفَصْل بينهما مُسَدَّد ، فلم يمنع من الحَالِ ، فقوله هذا يُعْطي أنه بَيَانٌ لأعْدَائِكُم مع إعْرَابه له حالاً ، فيتعَلَّق أيضاً بمحذُوفٍ ، لكن لا على ذلك الحَذْف المَقْصُود في البَيَان ، وقد ظهر مِمَّا تقدم أن { يُحَرِّفُونَ } ، إما لا مَحَلَّ له ، أو لَهُ مَحَلُّ رَفْع أو نَصْبٍ على حَسَب ما تقدَّم وقال أبو رَجَاءٍ والنَّخْعي : « الكَلاَم » وقُرئ : « الكِلْم » بكسر الكاف وسكون اللام ، جمع « كَلِم » مخففة من كلمة ، ومعانيها مُتَقَارِبَة .
قوله : { عَن مَّوَاضِعِهِ } متعلِّق ب { يُحَرِّفُونَ } وذكر الضمير في { مَّوَاضِعِهِ } حملاً على { الكلم } ، لأنَّها جِنْس .
وقال الوَاحِدِي : هذا جمع حُرُوفه أقَلُّ من حُروف واحِده ، وكل جَمْع يكون كذلِك ، فإنه يجوز تَذْكِيرُه .
وقال غيره : يمكن أن يُقال : كون هذا الجَمْعِ مؤنَّثاً ليس أمْراً حقيقيَّا ، بل هو أمر لَفْظِيٌّ ، فكان التَّذكير والتَّأنِيث فيه جَائِزاً . وجاء هُنَا « عن مواضعه » وفي المائدة : { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } [ المائدة : 41 ] .
قال الزَّمَخْشَرِي : أما { عَن مَّوَاضِعِهِ } فعلى ما فَسَّرْناه من إزالَتِه عن مواضِعِه ، التي أوْجَبَت حِكْمَة الله وَضْعُه فِيهَا بما اقْتَضَت شَهَوَاتُهم من إبْدّال غيره مَكَانَه ، وأما « من بعد مواضعه » ، فالمَعْنَى : أنه كَانَت له مواضعُ هو فمِنٌ بأن يكُون فيها فحين حَرَّفوه ، تركُوهُ كالغَرِيب الذي لا مَوْضِع له بَعْد مَوَاضِعِه ومَقَارّه والمعنيان مُتَقَارِبَان .
قال أبو حيَّان : وقد يُقَال : إنهما سِيَّان لكنه حذف هُنَا وفي أول المائدة [ الآية 13 ] من بعد مواضعه؛ لأن قوله { عَن مَّوَاضِعِهِ } يدل على استِقْرَار مواضِع له ، وحذف في ثَانِي المَائِدة « من مواضعه » ؛ لأن التَّحْرِيف « من بعد مواضعه » يدل على أنَّه تحريفٌ عن مَوَاضِعِه ، فالأصل : يُحَرِّفون الكَلِم من بعد مَواضِعِه عنها . فحذف هنا البَعْدِيَّة ، وهناك تَوَسُّعاً في العِبَارة ، وكانت البَدْأة هنا بِقَوْله : « عن مواضعه » ؛ لأنه أخصر ، وفيه تَنْصِيصٌ باللَّفْظ على « عَنْ » وعلى المَوَاضِع ، وإشارة إلى البَعْدِيّة .
وقال أيْضاً : والظَّاهِر أنهم حَيْثُ وُصِفُوا بشدة التَّمَرُّد والطُّغْيَان ، وإظْهَار العَدَاوة ، واشْتراء الضَّلالة ، ونقص المِيثَاقِ ، جاء « يحرفون الكلم عن مواضعه » كأنَّهم حَرَّفُوها من أوَّل وهْلَة قبل اسْتَقْرَارِها في مَوَاضِعِها ، وبادَرُوا إلى ذلك ، ولذلك جاء أوّل المَائِدة كهذه الآية؛ حَيث وَصَفَهمُ بِنَقْض المِيثَاقِ ، وقسْوة القُلُوب ، وحيث وُصِفوا باللّين وترديد الحُكْم إلى الرَّسُول ، جاء « من بعد مواضعه » كأنهم لم يُبَادِرُوا إلى التَّحرِيف ، بل عَرَضَ لهم بَعْد استِقْرَار الكَلِمِ في مواضِعِهَا ، فهما سِيَاقان مُخْتَلِفَان .
[ وقوله : ] { وَيَقُولُونَ } عَطْفٌ على { يُحَرِّفُونَ } وقد تَقَدَّم ، وما بعده في محلِّ نَصْب به .
فصل : الخلاف في كيفية التحريف
اخْتَلَفُوا في كيْفِيَّة التَّحريف ، فقيل : كانوا يُبْدِّلُون اللَّفْظَ بلفظ آخَرَ؛ كتحريفهم الرَّجْم [ ووضعُوا ] موضِعَهُ الجَلْدَ؛ ونظيره { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله } [ البقرة : 79 ] .
فإن قيل : كيف يُمْكن هَذَا في الكتاب الَّذي بَلَغَتْ آحَادُ حُرُوفه ، وكلماته مَبْلَغَ التَّوَاتُر ، واشتهر في الشَّرْق والغَرْب .
فالجواب : لعل القَوْم كانوا قليلين ، والعُلَمَاء بالكِتَاب كانوا في غَايَةِ من القِلَّة فَقَدَرُوا على ذَلِك .
وقيل : المُرَاد بالتَّحْرِيفِ : إلْقاء الشُّبَه والتَّأويلاَتِ الفاسدَةِ لتلك النُّصًوصِ ، وأما الآيَةُ التي في المَائِدة : فهي دالَّة على الجَمْع بين الأمْرَيْنِ ، فكانوا يَذْكُرُون التَّأوِيلاَت الفاسِدَةِ ، وكانوا يُحَرِّفُون اللَّفْظَ أيضاً من الكِتَابِ .
فقوله : { يُحَرِّفُونَ الكلم } إشارة إلى التَّأويل الباطل .
وقوله : « من بعد مواضعه » إشارة إلى إخراجه عن هذا الكِتَابِ .
وقيل : المراد بالتَّحْرِيف : تغيير صفة محمد صلى الله عليه وسلم .
قال ابن عبَّاس : كانت اليَهُود يأتون رسُول الله صلى الله عليه وسلم ويسْألُونه عن الأمْر ، فيُخْبِرهم ، فيرى أنَّهُم يأخُذُون بِقَوْلِهِ ، فإذا انصرفوا من عِِنْدِه ، حرِّفوا كلامه { وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا } منك قولك { وَعَصَيْنَا } أمْرَك ، وهو المُرَادُ بقوله : { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } .
قوله : { واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ } ، في نصبِ « غَير » وجْهَان :
أحدهما : أنه حَالٌ .
والثاني : أنه مَفْعُول به ، والمعنى ، اسْمَع غير مُسْمَعٍ كلاماً ترضاه ، فَسَمْعُك عنه نَابٍ .
قال الزَّمَخْشَريّ ، بعد حكايته نَصْبه على الحَالِ ، وذكرهُ المعنى المتقدّم : ويجوزُ على هَذَا أن يكون « غير مسمع » مفعول اسْمَع ، أي : اسْمَع كلاماً غير مُسْمَع إيَّاك؛ لأن أذُنَك لا تعيه نبُوّاً عنه ، وهذا الكلام ذُو مُسْمَع مكْرُوهاً ، فيكون قد حَذَفَ المَفْعُول الثَّاني؛ لأن الأوّل قَامَ مَقَام الفَاعِل .
وبإرادة الذَّمِّ تقدّر « غير مسمع خيراً » وحذف المفعول الثاني : أيضاً [ والمعنى : كانوا يَقُولُون للنَّبِي صلى الله عليه وسلم اسْمع ، ويقُولون في أنْفُسِهم : لا سَمِعْتَ ] .
وقال أبو البقاء : وقيل : أرادُوا غير مَسْمُوع مِنْكَ ، وهذا القَوْل نقله ابن عطيّة عن الطَّبَرِي ، وقال : إنه حِكَايةٌ عن الحَسَن ومُجَاهِد .
وقال ابن عطيَّة : ولا يُسَاعِده التَّصْريف ، يَعْني : أنّ العَرَب لا تقُولُ أسْمَعْتُكَ بمعنى قَبِلْتُ منك ، [ وإنما تقول أسْمَعْتُه بمعنى : سَبَبْتُه ، وسمعت منه بمعنى قَبِلْتُ ويعبرون بالسماع لا بالإسماع عن القبول مجازاً ، وتقدم القولُ في { رَاعِنَا } [ البقرة : 104 ] ، وفيها وجوه :
أحدُها : أن هذه كلمةٌ كانت تجري بينهم على جهة الهزء والسخريةِ ، وقيل معناها : أرِعْنَا سمْعَك ، أيْ : اصرف سمْعَك إلى كلامنَا ، وقيل : كانوا يقولُونَ : راعِناً ، ويُوهِمُونَهُ في ظاهر الأمْر أنهم يُرِيدُونَ رَاعِنَا سَمْعَك ، ومرادُهم التشبيهُ بالرعُونةِ في لُغَتِهم .
وقيل : كانوا يَلْوُون ألْسِنَتهم ، حتى يصيرَ قولُهم : { وَرَاعِنَا } : رَاعِينَا ، ويُريدُون : أنَّك كُنْتَ تَرْعَى أغْنَاماً لَنَا .
قال الفراءُ : كانوا يَقُولُونَ : رَاعِنَا [ ويُهِمُونَهُ في ظاهر الأمْر أنهم يُرِيدُونَ سَمْعَك ، ومرادُهم التشبيهُ بالرعُونة ] ويريدون الشَّتْمَ ، فذاك هو اللَّيُّ ، وكذلك قولهم : { غَيْرَ مُسْمَعٍ } أرَادوا به ، لا سَمِعْتَ فهذا هو اللَّيُّ .
فإنْ قيلَ : كَيْفَ جاءُوا بقولٍ يحتملُ الوجهيْنِ بعد تَصْريحهم بقولهم : سَمِعْنَا وعَصَيْنَا؟ فالجوابُ : أنه قال بعضُ المفسَّرين : إنهم كانوا يقولون « وعصينا » سراً في نفوسهم . وقيل : كان بعضُهم يقولُه سِرًّا ، وبعضهم يقول جَهْراً .
قوله « لَيًّا بألسنتهم وطعناً » فيهما وجهانِ :
أحدهما : أنَّهُمَا مفعول مِنْ أجْلهِ ناصبُهما « ويقولونَ » .
والثَّاني : أنَّهُمَا مَصْدَرَانِ في موضع الحَالِ ، أيْ : لاوين وطاعنينَ ، وأصْلُ لَيًّا [ « لَوْيٌ ] » من لَوَى يلْوي ، فأدغِمَتِ الواوُ في الياءِ بعد قلبها ياءً ، فهو مِثْلُ « طَيٍّ » مصدر طَوَى ، يَطْوِي .
و « بألسنتهم » ، و « في الدين » متعلّقان بالمَصْدَرَيْنِ قبلهما ، وتقدَّم في البَقَرة على قَوْله : « ولو أنهم قالوا » .
قوله : « لكان خيراً لهم » فيه قَوْلاَن :
أظهرهما : أن يكُون بمعنى أفْعَل ، ويكون المُفَضَّل عَلَيْه « محذوفاً ، أي : لو قالُوا هذا الكلام ، لكان خَيْراً من ذَلِك الكَلاَمِ .
والثاني : أنه لا تَفْضِيل فيه ] بل يَكُون بمعنى جيّد وفَاضِل ، فلا حَذْف حينئذٍ ، والباءُ في » بكفرهم « للسَّبَبية .
قوله : » إلا قليلاً « فيه ثلاثة أوجُه :
أحدها : أنه مَنْصُوب على الاستثنَاء من { لَّعَنَهُمُ } ، أي : لعنهم الله إلا قليلاً منهم ، فإنَّهم آمنُوا فلم يَلْعَنْهُم .
والثاني : أنه مستثْنى من الضَّمِير في » فلا يؤمنون « ، والمراد بالقَلِيلِ عبد الله بن سَلاَم وأضرابه ، ولم يَسْتَحسن مَكِّي هذيْن الوَجْهَيْن :
أما الأوّل : قال : لأنَّ مَنْ كَفَرَ مَلْعُونٌ لا يُسْتَثْنَى منهم أحد .
وأما الثاني : فلأن الوجْه الرَّفع على البَدَل؛ لأن الكَلامَ غير مُوجِبٍ .
والثالث : أنَّه صِفَةٌ لمصدر محذُوف ، أي : إلا إيماناً قَلِيلاً؛ وتعليله هو أنَّهُم آمنوا بالتَّوحيد وكَفَرُوا بمحمَّد صلى الله عليه وسلم وشَرِيعَته .
وعبَّر الزَّمَخْشَري وابن عطيّة عن هذا التَّقليل بالعَدَم ، يعني : أنَّهُم لا يؤمِنُون ألْبَتَّةَ كقوله : [ الطويل ]
1807- قَلِيلُ التَّشَكِّي للمُهِمِّ يُصِيبُهُ ... كَثيرُ الهَوَى شَتَّى النَّوَى والمَسَالِك
قال أبو حيان : وما ذكراهُ من أنَّ التقْليل يُرادُ به العَدَم صَحِيحٌ ، غير أن هَذَا التَّرْكيب الاستثنائي يأباه ، فإذا قُلت : لم أقُمْ إلاَّ قَلِيلاً ، فالمعنى انْتفَاء القِيَامِ إلا القَلِيل ، فيوجد منك إلا أنَّه دالٌّ على انْتِقَاءِ القِيَام ألْبَتَّةَ ] ، بخلاف : قلَّما يقُول ذلك أحَدٌّ إلا زَيْد ، وقَلَّ رَجُلٌ يفعل ذلك ، فإنه يَحْتَمِل التَّقْليل المُقَابل للتكثيرِ ، ويحتمل النَّفْي المَحْض ، أما أنك تَنْفِي ثم تُوجِب ، ثم تُريد بالإجَابِ بعد النَّفْي نَفْياً فلا؛ لأنه يَلْزَم أن تَجيء » إلاَّ « وما بَعْدَهَا لَغْواً من غير فائدةٍ؛ لأن انْتِفَاء القِيَام قد فُهِمَ من َوْلِكَ : لَمْ أقُمْ ، فأيُّ فَائِدةٍ في استِثْنَاءٍ مُثْبَتٍ يرادُ به انْتِفَاء مَفْهُوم من الجُمْلَة السَّابِقة ، وأيْضاً فإنَّه يُؤدِّي إلى ان يكُون ما بَعْدَ » إلاَّ « مُوافقاً لما قبلها في المَعْنَى ، والاستِثْنَاء يَلْزَم أن يكُون ما بعد إلا مُخالفاً لما قبلها فيهِ .
فصل : الخلاف في القليل الوارد في الآية
معنى الكَلاَم « فلا يُؤمِن إلاَّ أقْوامٌ قَلِيلُون ، واخْتَلَفُوا في ذلك القليل :
فقال بعضُهم : هو عَبْد الله بن سَلاَم ، ومن أسْلَم معه مِنْهُم .
وقليل : القَلِيل صفة للإيمان ، والتَّقدير : فلا يؤمِنوُن إلا إيماناً قليلاً ، فإنَّهم كَانُوا يرمِنُون بالله والتَّوْرَاة [ موسى ] ، والتَّقْدِير : فلا يُؤمِنُون إلا بِمُوسَى ، ولكنَّهم كانوا يَكْفُرون بسائِر الأنبياءِ ، وَرَجَّحَ أبو عَلِيٍّ الفَارِسِيّ هذا القَوْل؛ قال : لأن { قَلِيلاً } لفظ مُفْرَد ، والمُرَادُ به الجَمْع ، قال - تعالى - : { وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً } [ النساء : 69 ] ، وقال : { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ } [ المعارج : 10 ، 11 ] فدلَّ عَوْد الذكر مَجْمُوعاً إلى الآيتيْن على أنَّه أريد بهما الكَثْرة .
فصل : الاستدلال بالآية على جواز تكليف ما لا يطاق
استدل بَعْضُ العُلماء بهذه الآيةِ مع الآيةِ التي بَعْدَهَا ، على جَوازِ تكْلِيفِ ما لا يُطَاق؛ لأنه - تعالى - أخْبَرَ عَنْهُم في هذه الآية بأنَّهُم لا يُؤمِنُون ، وخبرُهُ - تعالى - صِدْق وحَقٌّ ، ثم أمرهم في الآيةِ التي بَعْدَها بالإيمانِ ، فقال : { يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب آمِنُواْ } [ النساء : 47 ] فأمرهم بالإيمان مع إخْبَارِه بأنَّهمُ لا يُؤمِنُون .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
« وذلك أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كَلَّم أحْبَارَ اليَهُود : عِبْد اللهِ بن صوريا ، وكَعْب بن الأشْرَف ، فقال : يا مَعْشَر اليَهُود ، اتَّقُوا الله وأسْلِمُوا ، والله إنكُم تَعْلَمُون أن الَّذِي جِئْتُم به الحَقّ ، قالوا : ما نَعْرِفُ ذلك ، وأصَرُّوا على الكُفْرِ؛ » فَنَزَلَت هذه الآية .
فإن قيل : كان يَجِبُ أن يأمُرهُم بالنَّظَرِ والتفكُّر في الدَّلاَئِل ، حتى يكُون إيمانُهُم استِدْلاليّاً ، فلما أمرهُم بالإيمان ابْتِداءً؛ فكأنه - تعالى - أمَرَهُم باٌيمَان على سَبِيل التَّقْليد .
فالجوابُ : أن هذا خِطابٌ مع أهْلِ الكتاب ، وكانُوا عَالِمين بِهَا في التَّوْراة؛ ولهذا قال : { مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ } أي : من الآيَاتِ الموْجُودَة فِي التَّوْرَاة الدَّالة على نُبُوَّة محمد - عليه الصلاة والسلام- .
قوله : { مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ } متعلِّق بالأمْرِ في قوله : { آمِنُواْ } ونطمِسُ يكون متعدِّياً ومنه هذه الآية؛ ومثلها : { فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ } [ المرسلات : 8 ] لبنائه للمَفْعُول من غير [ حَرْف ] جَرٍّ ، ويكُون لازِماً ، يقال : طَمَسَ المَطَرُ الأعلامَ ، وطَمَسَت الأعْلامُ .
قال كعب : [ البسيط ]
1808- مِنْ كُلِّ نَضَّاخَةِ الذَّفْرَى إذَا عَرِقَتْ ... عُرْضَتُهَا طَامِسُ الأعلامِ مَجْهُولُ
وقرأ الجُمْهُور : { نَّطْمِسَ } بكسر الميم ، وأبو رَجَاء بِضَمِّها ، وهما لُغَتَان في المُضَارِع ، وقدَّر بعضهم مُضافاً أي : « عيون وجوه » ويقوَّيه أن الطَّمْس للأعْيُن؛ قال - تعالى - : { لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ } [ يس : 66 ] .
فصل في معنى الطمس والخلاف فيه
الطَمْسُ : المَحْوُ؛ تقول العرب في وصف المفَازَةِ : إنها طَامِسَةُ الأعلامِ ، وطَمس الطَّرِيق إذا دَرَسَ ، وقد طَمَسَ الله على بَصَرِه؛ إذا أزَالَهُ ، وَطَمَست الرِّيحُ الأثَر : إذا مَحَتْهُ ، وطَمَسْت الكِتَاب : إذا مَحَوْتَه ، واخْتَلَفُوا في المراد بالطَّمْسِ هُنَا .
فقال ابن عباس : نَجْعَلُهَا البَعِير .
وقال قتادة والضَّحَّاك « نُعْميها .
وقيل : نمحو آثارَهَا وما فيها من أعْيُن ، وأنفُ ، وَفَم ، وحَاجِب .
وقيل : نجعل الوُجُوه منابِتَ الشَّعَر ، كوُجُوهِ القِرَدَةِ ، وقيل : يجعلُ عَيْنَيْهِ في القَفَا؛ فَيَمْشِي القَهْقَرِى ، وقيلَ : المرادُ ب » الوجوهِ « : الوجَهَاءُ ، والرؤسَاءُ .
ورُوِيَ : أنَّ عبد الله بْنَ سلامٍ ، ولمّا سَمِعَ هذه الآية؛ جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أنْ يأتِيَ أهْلُهُ ، ويدَهُ على وَجْهِهِ ، وأسْلَم ، وقال : يا رسُولَ الله ، ما كنتُ أرَى أنْ أصِلَ إليْك؛ حَتَّى يتحولَ وَجْهِي إلى قَفَايَ؛ وكذلك كعبُ الأحْبَارِ ، لَمَّا سَمِعَ هذه الآيةَ ، أسْلَمَ في زَمَنِ عُمَرَ ، فقال : يا رَبِّ ، آمَنْتُ ، يا رَبِّ ، أسلمتُ؛ مخافَةَ أنْ يُصِيبَه- وعيدُ هذه- الآية .
فإن قيلَ : قد أوعدهم بالطمْسِ إنْ لم يُؤمِنُوا ، ولَمْ يَفْعَلْ ذلك بِهم؟
فالجوابُ : أنَّ الوَعِيدَ باقٍ ، ويكونُ طَمْسٌ ، ومَسخٌ في اليهود ، قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ ، وقيل : إنَّه جَعَل الوِعيدَ : إمَّا الطمسَ ، وإمَّا اللَّعْنَ ، وقد فَعَلَ أحَدَهُمَا ، وهو اللَّعْنُ .
وقيل : كان هذا وَعيداً بشرطٍ فلما أسْلَمَ عبد الله بن سلام ، وأصحابُه ، رفع ذلك عن الباقينَ ، وقيل : أرَادَ بِهِ في القيامةِ .
وقال مُجَاهِدٌ : أراد بقوله { نَّطْمِسَ وُجُوهاً } ، أيْ : يترُكهُم في الضَّلاَلَة ، فيكون المرادُ طَمْسَ وَجْهِ القَلْبِ ، والردَّ عن الهُدَى .
وقال ابنُ زَيْدٍ : نَمْحُو آثَارَهُمْ مِنْ وجُوهِهِم ، ونَوَاصيهم التي هم بها وقد لحقَ اليهودَ ، ومضى ، وتأويل ذلك في إجْلاءِ قُُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ إلى الشَّام ، فردَّ اللهُ وُجُوهَهُم على أدْبَارِهم ، حين عادوا إلى أذْرِعَاتٍ ، وأريحاء من الشامِ .
قوله : { على أَدْبَارِهَآ } فيه وَجْهَانِ :
أظهرهُمَا : أنَّهُ متعلقٌ ب { فَنَرُدَّهَا } .
والثَّاني : أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من المفعولِ في « نلعنهم » يَعُودُ على الوُجُوهِ ، على حَذْفِ مُضَاف إلَيْهِ : أيْ : وُجُوم قَوْم ، أوْ عَلَى أن يُرادَ بِهمُ : الوُجَهَاءَ والرؤساءَ ، أو يعودَ على الَّذين أوتُوا الكِتَابَ ، ويطونُ ذلك التِفاتاً مِنْ خَطَابٍ إلى غَيْبَةٍ ، وفيه اسْتِدْعاؤهُم للإيمانِ؛ حيثُ لم يُوَاجِهْهُمْ باللَّعْنَةِ بَعْدَ أن شَرَّفَهُم بكوْنِهم مِنْ أهْل الكتابِ .
فصل في المراد باللعن
قال مُقَاتِلٌ ، وغَيْرهُ : المرادُ باللَّعْنِ : مَسْخُهُمْ قِرَدَةً ، وخَنَازِير ، فإنْ قيل : قد كان اللَّعْنُ حَاصِلاً قبل هذا الوعيد . فالجوابُ : إنَّ اللَّعْنَةَ بعد الوعيد ، أزْيَدُ تأثيراً في الخِزْيِ ، وقيل : المرادُ بهذا اللَّعْن ، الطَّرْدُ ، والإبْعَادُ [ و ] قولهُ { وَكَانَ أَمْرُ الله } : أمرٌ واحدٌ أُريدَ به الأمُورُ ، وقيل : هو مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعولِ به ، أيْ : مَأمُوره ، أي : ما أوْجَدَه كائِنٌ لا مَحَالَة .
قال ابنُ عبَّاس : يريدُ لا رَادَّ لِحُكْمَه ، ولا ناقِضَ لأمْرِه ، وعلى [ مَعْنَى ] أنه لا يَبْعُدُ عليه شَيءٌ [ يُريدُ ] أن يَفْعَلهُ ، وإنَّما قال : { وَكَانَ } إخباراً عن جريان عادةِ اللهِ في الأنْبِياءِ المتقدَّمِينَ ، أنَّه مَتَى أخْبَرَهم بإنْزَال العَذَابِ عليْهم فعل ذلك لا مَحَالة .
فصل : دفع شبهة الجبائي
احتجَّ الجُبَّائِيُّ بهذه الآيةِ على أنَّ كلامَ اللهِ مُحْدَثٌ؛ لأنَّ المفعولَ مَخْلُوقٌ .
فالجوابُ : أنَّ الأمْرَ في اللُّغَةِ ، جاءَ بمعنى الشَّأنِ ، والطَّريقَةِ ، والفِعْلِ؛ قال تعالى : { وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } [ هود : 97 ] .
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
لما توعَّدَ الكُفْرُ ، وبين أنَّ ذلك التقديرَ لا بُدَّ من وُقُوعِهِ ، يَعْنِي : أنَّ ذلك إنَّما هو مِنْ خَواص الكُفْرِ ، أمَّا سَائِرُ الذُّنُوبِ غيرَ الشِّرْكِ ، فإنه يَغْفِرُها ، إن شاءَ .
قال الكَلْبِيُّ : نزلتْ في وَحْشِيّ بن حَرْبٍ ، وأصحابه؛ وذلك أنَّه لما قُتِل حَمْزَةُ ، كان قد جُعِلَ له على قَتْلِه أنْ يُعْتَقَ ، فلم يُوفَّ له بذلك ، فلما قَدمَ مَكَّةَ ، نَدِمَ على صُنْعِهِ ، هُوَ ، وأصحابُهُ؛ فكَتَبُوا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم : إنَّا قَدْ نَدِمْنَا على الذي صَنَعْنَا ، وإنَّه لَيْسَ يَمْنَعُنَا عن الإسلامِ إلاَّ أنَّا سَمعناكَ تَقُولُ بِمَكَّةَ : { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ } [ الفرقان : 68 ] الآياتِ ، وقد دعونا مع الله إلهاً أخر ، وقتلنا النفس التي حرم الله قتلها وزنينا ، فلوْلا هذه الآياتُ ، لاتَّبَعْنَاك؛ فنزلت : { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً } [ الفرقان : 70 ] ، الآيتين ، فبعثَ بهما [ رسول الله صلى الله عليه وسلم ] إليهم فلما قرءُوا ، كتبوا إليْهِ : إنَّ هذا شَرْطٌ شَدِيدٌ نَخَافُ إلاَّ نَعْمَلَ عَمَلاً صالحاً فنزلَ : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } ، فَبَعَثَ بها إليهمْ ، فبَعَثُوا إليه : إنَّا نَخَافُ ألاَّ نكون مِنْ أهْلِ المشيئةِ؛ فنزلتْ : { ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله } [ الزمر : 53 ] فبعث بها إليهم؛ فَدَخَلُوا في الإسلامِ ، ورجعُوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فَقَبِل مِنْهم ، ثم قال [ عليه الصلاة والسلام ] لِوَحْشِي : « أخْبِرْنِي : كَيْفَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ » ؟ فلَمَّا أخْبَرَهُ ، قال : « وَيْحَكَ! غَيِّبْ وَجْهَكَ عَنِّي » ، فَلَحِقَ وَحْشِيٌّ بالشَّامِ ، وكانَ بِهَا إلى أنْ ماتَ .
وروى أبُو مِجْلَز ، عن ابْنِ عُمَر : « لمَّا نزلت : » يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم « الآية ، قام رَجُلٌ ، فقال : والشِّرْك يا رسُولَ الله ، فَسَكَتَ ، ثم قام إلَيْهِ مَرَّتَيْنِ ، أو ثلاثاً؛ فنزلتْ : » إن الله لا يغفر أن يشرك به « الآية ، قال مُطْرِّفُ بنُ الشَّخِّير : قال ابنُ عُمَرَ : كُنَّا على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذَا مَاتَ الرجلُ على كَبِيرَةٍ ، شَهِدًنَا أنَّه مِنْ أهْلِ النَّارِ ، حتى نزلتْ هذه الآيةُ ، فأمْسَكٍنَا عن الشَّهَادَاتِ .
حُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - أنَّ هذه الآيةَ أَرْجَى آيةٍ في القُرْآنٍ .
قوله : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } ، كلامٌ مُسْتأنفٌ ، ولَيْسَ عَطْفاً على { َيَغْفِرُ } الأوَّلِ؛ لفسادِ المعنى ، والفَاعِلُ في { يَشَآءُ } ضميرٌ عَائِدٌ على الله تعالى ، ويُفْهَمُ مِنْ كلام الزَمخْشريّ : أنَّهُ ضميرٌ عائِدٌ على مَنْ في » لمنْ « لأنَّ المعنى عِنْدَه : إنَّ الله لا يغفرُ الشِّرْكَ لمن لا يشاء أن يغفر له؛ لِكَوْنِه مَاتَ على الشِّرْكِ ، غَيْر تائِب مِنْه ، ويغفرُ ما دُونَ ذَلِك لِمَنْ يشاءُ أنْ يغفرَ له ، بكونه ماتَ تَائباً مِنَ الشِّرْكِ ، و { لِمَن يَشَآءُ } متعلِّقٌ ب { َيَغْفِرُ } .
قوله : { وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً } أيْ : اختلق ذَنْبتً غيرَ مَغْفُورٍ .
يُقالُ : افْتَرَى فُلانٌ الكَذِبَ ، إذا اعْتَمَلَهُ ، واخْتَلَقَهُ ، وأصْلُه : من الفَرْي ، بمعنى القَطْعِ .
رَوَى جَابرٌ قال : « أتى النبيِّ صلى الله عليه وسلم رَجَلٌ ، فقال : يا رسولُ الله ، ما المُوجِبتان؟ قال مَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بالله شيئاً ، دَخَلَ الجَنَّة ، ومَنْ مَاتَ يُشْرِكُ باللهِ شَيْئاً ، دَخَلَ النَّارَ » .
وقال ابنُ عبَّاسٍ : إنَّي لأرْجُو ، كَمَا لا يَنْفَعُ مَعَ الشِّرْكِ عَمَلٌ؛ كَذلِكَ لا يَضُرُّ مَعَ التَّوحِيد ذَنْبٌ ، ذَكَرَ ذلك عِنْدَ عُمَر بْنَ الخطَّابِ؛ فَسَكَتَ عُمَرُ .
وروى أبُو ذَرٍّ ، « قالَ : أتَيْتُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم ، وعليه ثَوْبٌ أبْيَض ، وهو نَائِمٌ ، ثُمَّ أتَيْتُهُ ، وقد استَيْقَظَ؛ فقال : » مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ لا إله إلا اللهُ ، ثُمَّ مَاتَ على ذَلِكَ؛ إلاَّ دَخَلَ الجنَّة
« . قُلْتُ : وَإنْ زَنا ، وإنْ سَرَقَ! قَال : » وإنْ زَنَا ، وإنْ سَرَقَ « .
[ قُلْتُ : وَإنْ زَنَا ، وإنْ سَرَقَ! قَال : » وإنْ زَنَا ، وإنْ سَرَقَ « ، قُلْتُ : وَإنْ زَنا ، وإنْ سَرَقَ! قَال : » وإنْ زَنَا ، وإنْ سَرَقَ ] ، عَلَى [ أنْفِ ] أبِي ذَرٍّ « ، وكانَ أبُو ذَرٍّ إذا حدث بهذا ، وإنْ رَغم أنْفُ أبِي ذَرٍّ .
فصل
قال القُرطُبِيُّ : قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } من المُحْكَمِ المتفقِ عليه ، الذي لا خلاف فيه بَيْنَ الأمةِ ، وقوله : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } ، من المُتَشَابَهِ ، الَّذي قد تَكَلَّمَ العلماءُ فيه .
فقال مُحَمدُ بن جَريرٍ الطَّبريّ : قد أبَانَتْ هذه الآيةُ كُلَّ صاحِبِ كَبيرةٍ ، فَفِي مَشِيئةِ الله عز وجل إن شاء [ عفَا لَهُ ، وَإنْ شَاءَ ] ، عاقَبَه ، مَا لَمْ تَكُنْ كَبِيرتُهُ شِرْكاً ، وقالَ بعضُهُم : قد بين الله تعالى ، بقوله عز وجل : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } [ النساء : 31 ] .
فأعْلَمَ أنَّهُ : يُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ لمن اجْتَنَبَ الكَبَائِرَ ، لمنْ يشاءُ ، ولا يَغْفِرُ الصغَائِرَ لمنْ أتَى الكَبَائِرَ .
وقال بعضُهم : هذه الآيةُ ناسِخَةٌ للتي في آخرِ الفُرْقَانِ .
قال زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ : نزلتْ سُورةُ النِّسَاءِ بَعْدَ سُورَةِ الفُرقَانِ بِسِتَّةِ أشْهُرٍ .
قال القُرِطُبِيُّ : والصحيح أنَّهُ لا نَسْخَ ، لأنَّ النَّسْخَ فِي الأخْبَارِ مُسْتَحِيلٌ ، وسيأتي الجمعُ بَيْنَ الآي ، في هذه السُّورةِ؛ وَفِي الفُرْقَانِ ، إنْ شَاءَ اللهُ تعالى .
فصل هل يسمى اليهودي مشركاً في الشرع؟
قال ابنُ الخطيب : دلتْ هذه الآيةُ على أنَّ اليَهُودِيِّ يُسَمَّى مُشْرِكاً في الشَّرْعِ؛ لأنها دالَّةٌ على أنَّ مَا سِوَى الشركِ من الكَبَائِرِ يُغْفَرُ ، فَلَوْ كَانَتِ اليهوديَّةُ مُغَايِرة للشِّرْكِ ، كَانَتْ ] مَغْفُورَةً بحكم الآية ، وهو خِلاَفُ الإجْمَاعِ ، ولأنَّ هذه الآيةَ مُتَّصِلَةٌ بوعِيِدِ اليَهُودِ ، فَلَوْلاَ دُخُوُل اليهوديةِ تحتَ اسْمِ الشِّرْكِ ، لم يحْصُل الالتئامُ .
فإنْ قيلَ : عَطْفُ » الذين أشركوا « على » الذين هادوا « في قوله : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ }
[ الحج : 17 ] ثُمَّ قَالَ [ بعده ] : « والذين أشركوا » يَقْتَضِي المُغَايَرَةَ .
قُلْنَا : المغايرةُ في المفهومِ اللُّغَويِّ ، والاتِّحاد في الشرعي؛ دَفْعَاً للتَّنَاقُضِ ، ويتفرَّعُ عليه أنَّ المسلمَ لا يُقْتَلُ بالذِّمي؛ لأنَّ المشركَ مُبَاحُ الدَّكِ؛ لقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] ، ومُبَاحُ الدَّمِ لا يُقْتَصُّ مِنْ قَاتِلِهِ ، ولا يتوجَّهُ النَّهْيُ عن قَتْلِه ، ترك العَمَلِ بهذا الدليلِ في حقِّ النهي فَبَقِيَ مَعْمُولاً به في سُقُوطِ القِصَاصِ عَنْ قَاتله .
فصل في دلالة الآية على العفو عن أصحاب الكبائر
هذه الآيةُ أقْوَى الدلائلِ على صِحَّة العَفْوِ عن أصْحَابِ الكَبَائِرِ ، من وجوه :
الأوَّلُ : أنَّ قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } أيْ لا يغفرُهُ فَضْلاً معَ عدمِ التوبةِ؛ لأنَّهُ يُغْفَرُ وُجُوباً عند التوبةِ بالإجماع؛ فيكون قوله : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } على سَبِيلِ الفَضْلِ ، حَتَّى يتواردَ النَّفْيُ والإثباتُ على مَعْنَى واحدٍ؛ كما لو قال : إنَّ فُلاناً شَاءَ لا يُعْطِي على سبيلِ فَضْلِ الوُجُوبِ ، كان رَكِيكاً ، وحينئذٍ : يَجِبُ أنْ يكُونَ المرادُ أصْحابَ الكَبَائِرِ ، قَبْلَ التَّوْبَةِ؛ لأنَّ عند المعتزِلَةِ ، غُفْرَانَ الصَّغائِرِ ، والكبائِرِ بَعْدَ التَّوْبَةِ- وَاجِبٌ عَقْلاً ، فلا يُمْكن حَمْلُ الآيةِ عَلَيْهِ ، فلم يَبْقَ إلاَّ الكَبَائِرُ قَبْلَ التَّوْبَةِ .
الثّاني : أنَّ ما سِوَى الشِّرْكِ ، يَدْخُلُ فيه الكبائرُ قَبْلَ التوبةِ ، وبعدَهَا ، ثُمَّ حَكَمَ على الشِّرْكِ بأنَّهُ غيرُ مَغْفُورٍ ، وَعَلَى غَيْرِ الشِّرْكِ بأنَّهُ مَغْفورٌ لمنْ يشاءُ ، فَوَجَبَ أنْ تكونَ الكبيرةُ قَبْلَ التوبةِ مَغْفُورةٌ .
الثالثُ : أنَّه علَّقَ الغُفْرَان بالمشيئَةِ ، وغُفْرَانُ الكَبِيرةِ بعد التوبةِ والصَّغِيرَةِ مَقْطُوعٌ به ، فوجب أنْ يكونَ المعلَّق الكبيرة قبلَ التوبةِ .
فإن قيلَ : إنَّ تَعْلِقَهُ على المشِيئَةِ ، لا يُنَافِي وُجُوبَهُ ، كقوله تعالى : { بَلِ الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ } ، ثُمَّ إنَّا نَعْلَمُ أنَّه لا يُزَكِّي إلاّ مَنْ يكونُ أهْلاً للتَّزكِية ، وإلاَّ فكانَتْ كَذِباً .
واعلمْ : أنه ليس للمعتزلةِ في مُقَابلة هذه الوُجُوهِ كلامٌ يُلْتفتُ إليه ، [ إلا المعَارَضَة بآياتِ الوعِيدِ ] .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)
قد تقدَّمَ الكلامُ على مِثْل قوله : « ألم تر » ، وقوله : « بل » ، إضْرَابٌ عَنْ تزكيتهم أنفُسَهُم ، وقدّر أبُو البقاء قبل هذا الإضراب جُمْلَةً؛ قال : تقديرهُ : أخْطؤوا ، { بَلِ الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ } .
[ وقوله : « ولا يظلمون » ، يجوزُ أنْ يكونَ حَالاً ممَّا تقدَّم ، وانْ يكون مُسْتَأنفاً ، والضميرُ في « يظلمون » يجوزُ أنْ يعود على « من يشاء » ] أيْ : لا يُنْقِصُ مِنْ تزكيتهم شيئاً ، وإنَّما جَمَعَ الضميرَ؛ حَمْلاً على مَعْنَى « من » وأنْ يَعُودَ على الذين يُزَكونَ ، وأنْ يعُودَ على القَبِيليْن مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ ، وَمَنْ زَكَّاهُ الله ، فَذَاكَ لاَ يُنْقِصُ من عقابه شَيْئاً ، وهذا لا يُنْقِصُ مِنْ ثَوَابِهِ شَيْئاً ، والأوَّلُ أظْهَرُ؛ لأن « من » أقَرْبُ مَذْكُورٍ ، ولأنَّ « بل » إضرابٌ مُنْقطعٌ ما بَعْدَهَا عمَّا قَبْلَهَا .
وقال أبُو البَقَاءِ : ويجوزُ أن يكُونَ مُسْتأنَفاً ، أيْ : منْ زَكَّى نَفْسَه ، ومَنْ زَكَّاهُ اللهُ . انتهى .
فجعل عودَ الضميرِ على الفَريقَيْنِ؛ بِناءً على وَجْهِ الاسْتِئْنافِ ، وهذا غيرُ لازِمٍ [ بل ] يجوزُ عودهُ عَلَيْهِمَا ، والجملةُ حَالِيَّةٌ .
و { فَتِيلاً } مَفعُولٌ ثانٍ؛ لأن الأولَ قامَ مَقَامَ الفاعِلِ ، ويجوزُ أنْ يكونَ نَعْت مَصْدرٍ مَحْذُوفٍ ، كما تقدَّمَ تقديره في : { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [ النساء : 40 ] ، والفَتِيلُ : خَيْطٌ رَقيقٌ في شِقِّ النَّواة [ يَضْرَبُ به المَثلُ في القِلَّةِ ، قالَهُ ابنُ السّكيتِ ، وغيرُهُ .
وقيل : هو مَا خَرَجَ مِنْ بيْن إصْبَعَيْكَ ، أو كَفَّيْكَ مِنَ الوَسَخ ] حين تَفْتُلُهُمَا ، فهو فَعِيلٌ بمعنى مَفْعُولٍ ، وقد ضرب العَرَبُ المثلَ في القِلّةِ التافِهَةِ بأربَعةِ أشْيَاء ، اجتمعْتَ في النواةِ ، وهي : الفَتِيلُ ، والنَّقِيرُ : وهو النُّقْرَةُ التي في ظهر النَّواةِ ، والقِطْميرُ : هو القِشْرُ [ الرقيقُ ] فوقها [ وهذه الثلاثةُ واردَةٌ في الكتابِ العزيز ، والثُّفْروق : وهو ما بيْنَ النواةِ والقِمْع ] الَّذِي يكوُنُ في رَأسِ التَّمرة كالعلاقَةِ بَيْنَهُمَا .
فصل
لما هَدّد اليهود بأنه تعالى لا يغفرُ أنْ يشركَ به ، قالوا : لَسْنَا منَ المشركينَ ، بل نحنُ مَنْ خَوَّاصِّ اللهِ .
قال الكَلْبيُّ : « نزلت هذه الآيةُ في رِجَالٍ مِنْ اليهود : منهم » بَحْرى بنُ عُمَرَ « ، و » النُّعْمانُ بنُ أوْفَى « ، و » مَرْحَبُ بنُ زَيْدٍ « أتَوْا بأطْفالهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقَالُوا : يا محمدُ [ هَلْ ] على هَؤلاءِ مِنْ ذنْبٍ؟ فقال : لاَ ، قالوا : ما نَحْنُ إلاَّ كَهَيْئتهم ، ما عَمِلْنَا بالنهار ، يُكَفِّر عنّا بالليل ، وما علمنا بالليل ، يكفرُ عنَّا بالنهار ، يُكَفِّر عنّا بالليل ، وما علّمنا بالليل ، يكفرُ عنَّا بالنهارِ » ، فنزلت هذه الآيةُ .
وقال مُجاهِدٌ ، وعكْرمة : كانُوا يُقدِّمُونَ أطْفَالَهُم في الصلاةِ ، يَزْعمُوَن أنَّهم لا ذُنُوبَ لَهُم ، فتِلْكَ التزكيةُ .
وقال الحَسنُ ، والضحاكُ ، وقتادةُ ، ومقاتلٌ : نزلت في اليهود ، والنصارى ، حينَ قَالُوا : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى } [ البقرة : 111 ] .
قال عبدُ الله بنُ مسعودٍ : هو تزكيةُ بعضِهم لبَعضٍ .
فصل
التَّزْكِيَةُ - ها هنا - عِبارةٌ عنْ مَدْح الإنْسَانِ نَفْسَهُ .
قال تعالى : { فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى } [ النجم : 32 ] والتَّقْوَى : لا يَعْلَمُ حقيقتَها إلاَّ الله تعالى .
فإن قيل : ألَيْسَ قد قال - عليه الصلاة والسلام- : « واللهِ ، إنّي لأمِينٌ في السَّماءِ ، وأمِينٌ في الأرْضِ » .
فالجوابُ : إنَّما قال ذلك حين قال المنافِقُون له : اعدِلْ في القِسْمَة؛ ولأنَّ الله تعالى لمَّا زكَّاه أوَّلاً بِقِيامِ المعْجزةِ ، جاز له ذَلِكَ ، خلافِ غيرِه .
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)
{ كَيفَ } منصوبٌ ب { يَفْتَرُونَ } وتقدم الخِلافُ فيه ، والجملةُ في محلِّ نَصْبِ ، بعد إسقاط الخَافِضِ؛ لأنَّها مُعلقةٌ ل « انظر » يتعدى ب « في » ؛ لأنها - هنا- ليستْ بَصريَّةً ، و « على الله » مُتعلِّقٌ ب { يَفْتَرُونَ } ، وأجاز أبُو البَقَاءِ : أنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ ، على أنه حالٌ من الكذبِ ، قُدِّمَ عليه ، قال : « ولا يجوز أن يتعلق بالكذب؛ لأن معمولَ المصْدَرِ لا يتقدَّمُ عليه ، فإن جعل على التَّبيين جَازَ » ، وجوّز ابن عطيةَ : أن يكون « كيف » مُبْتدأ ، والجملةُ مِنْ قوله { يَفْتَرُونَ } الخَبَرُ ، وهذا فاسدٌ ، لأن « كَيْفَ » لا تُرْفَعُ بالابتداءِ ، وعلى تقدير ذلك ، فأيْن الرَّابِطُ بينها وبَيْنَ الجملةِ الوَاقعَةِ خبراً عنها ولم تكن نفس المُبْتدأ ، حتى تِسْتغْنِي عَنْ رَابِطٍ ، و { إِثْماً } تمييزٌ ، والضميرُ في « به » عائدٌ على الكذبِ ، وقِيلَ : على الافْتِرَاءِ وجعلهُ الزمخشريُّ عَائِداً على زَعمهمْ ، يعْنِي : من حَيْثُ التقديرُ .
فصل في تعجيب النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود
هذا تَعْجيبٌ للنبيّ صلى الله عليه وسلم مِنْ فرْيتهم على الله ، وهو تَزْكيتهُم أنْفسَهُمِ وافْتراؤهم ، وهو قولهم : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] .
فصل في معنى الكذب
الكَذِبُ : هو الإخْبَارُ عَنِ الشيء على خلافِ المُخبرِ عَنْهُ ، سَواءٌ عَلِمَ قَائِلُه كَوْنَهُ كذلك ، أوْ لا يَعْلَمُ ، وقال الجَاحِظُ : شَرْطُ كَوْنِهِ كَذِباً ، أنْ يعلمَ القائِلُ كَوْنَه بِخلافِ ذلكِ ، وهذه الآيةُ دليلٌ عليه؛ لأنَّهم كانُوا يَعْتَقدٌون في أنْفسهم الزِّكاءَ ، والطَّهَارَةَ : وكذبهم الله فيه .
وقوله : { وكفى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً } يقالُ في المدْحِ ، وفي الذَّمِّ ، أمَّا فِي المدْحِ ، فكقوله { والله أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وكفى بالله وَلِيّاً وكفى بالله نَصِيراً } [ النساء : 45 ] وأمَّا في الذَّمِّ ، فكما في هذا الموضع .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)
قال المُفسِّرون : خرج كَعْبُ بنُ الأشْرَفِ ، وحُيَيّ بن أخْطَبَ ، فِي سَبْعِينَ رَاكِباً من اليَهُودِ إلى مَكَّةَ بعد وَقْعَةِ أحُد؛ ليُحالفُوا قُرَيْشَاً ، على مُحَارَبَةِ الرَّسُول -عليه الصَّلاة والسلام- ويَنقُضُوا العهدَ الذي كان بينَهُم وبين النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فنزل كَعْبٌ علَى أبي سُفْيانَ؛ فأحْسَن مَثْوَاه ، ونزلت اليهودُ في دُورِ قُرَيْشٍ ، فقال أهْلُ « مكةَ » : إنكم أهل كتاب ، ومُحَمَّدٌ صاحب كِتابٍ ، ولا نأمَنُ أن يكُونَ هذا مَكراً مِنكم ، فإن أرَدْتَ أن نخرجَ مَعَكَ ، فاسْجُدْ لهذين الصَّنَمَيْنِ وآمنوا بهما ، فَفَعلُوا ذلك؛ فذلك قوله تعالى : { يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت } .
ثم قال كَعْبٌ لأهْلِ مَكَّةِ : ليجيء منكم [ الآن ] ثلاثُونَ ومِنَّا ثلاثُونَ فنلْزق أكْبَادنا بالكعبةِ؛ فنعاهد رَبَّ هذا البيتِ ، لنجهدنَّ على قِتَالِ مُحَمَّدٍ؛ فَفَعلُوا ، ثُمَّ قال أبُو سُفْيانَ لِكَعْبٍ : إنَّك امرؤٌ تَقْرَأُ الكِتَابَ ، وتَعْلَمُ ، ونحنُ أُمُّيُّون ، ولا نَعْلَمُ ، فَأُّنَا أهْدَى طَريقاً : نَحْنُ أم مُحَمَّدٌ؟
فقال كَعْبٌ لأبي سُفْيان : اعرضُوا عليَ دينكم ، فقال أبُو سُفْيَانَ : نحن نَنْحَرُ للحَجِيج الكُومَاء ، ونَسْقيهمُ [ الماء ] ونَقْري الضَّيْفَ ، ونُقِلُّ العَانِ ، ونَصِلُ الرَّحِمَ ، ونعَمِّرُ بين رَبِّنَا ، ونطوفُ به ، ونحنُ أهْلُ الحَرَم ، ومحمدٌ فارق دينَ آبَائِهِ ، وقطعَ الرَّحمَ ، وفارقَ الحَرَمُ ، ودينُنَا القَديمُ ، ودينُ محمدٍ الحديثُ ، فقال كَعْبٌ : أنْتُمْ واللهِ أهْدَى سَبِيلاً مَمَّا عليه محمدٌ؛ فنزلتْ هذه الآيةُ .
قوله : { يُؤْمِنُونَ } فيه وجهانِ :
أحدُهُمَا : انه حَالٌ إمَّا من : « الذين » وإمَّا مِنْ واوِ « أوتوا » ، و « بالجبت » مُتعلِّقٌ به ، و « يقولون » عطفٌ عليه ، و « الذين » مُتعلِّقٌ ب « يقولون » ، واللامُ؛ إمَّا للتبيلغِ ، وإمَّا لِلْعِلةِ؛ كنظائرها ، و « هؤلاء أهدى » مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ في محل نَصْبٍ بالقول و « سبيلاً » تَميِيزٌ .
والثَّانِي : أنَّ « يؤمنون » مُسْتأنَفٌ ، وكأنَّه تعجَّبَ مِنْ حَالِهم؛ إذْ كَانَ يَنْبَغِي لِمَنْ أوتِيَ نَصيباً من الكتاب؛ إلاَّ يَفْعَلَ شَيْئاً مِمَّا ذُكِرَ ، فَيكُونُ جواباً لِسُؤالٍ مُقَدَّرٍ؛ كأنَّهُ قيلَ : إلاَ تَعْجَبُ مِنْ حَالِ الذِين أوتُوا نَصِيباً من الكتاب؟ فقيل : وما حالُهم؟ فقالَ : يؤمِنُون [ ويقولونَ ، وهذان ] منافيان لحالهم .
والجِبْتُ : حَكَى القَفّضالُ ، وغيرهُ ، عَن بَعْضِ أهلِ اللُّغَةِ : وهو الجِبْسُُ ، بِالسِّينِ المُهْمَلَةِ ، أُبدلتْ تاءً ، كالنَّات ، والأكْيَاتِ ، وست؛ في النَّاسِ ، والأكياسِ ، وسدس ، قال [ الرجز المشطور ]
1809- .. شِرَارَ النَّاتِ لَيْسُوا بِأجْوَادٍ ولاَ أكْيَاتِ
والجبس : هو الذي لا خير عنده .
يُقالُ رَجِلٌ جِبس ، وجِبتٌ ، أيْ : رَذْلٌ ، قِيلَ : وإنما ادَّعَى قلبَ السِّين تاءً؛ لأنَّ مَادَةَ ( ج ب ت ) مُهْمَلَةٌ . قَالَ قُطْرُبٌ : وغيرهُ يَجْعَلُها مَادَّةً مُسْتَقِلَّةً ، وقِيل : الجِبْتُ : السّضاحِرُ بلُغَةِ الحَبَشَةِ ، والطَّاغُوتُ : الكَاهِنُ ، قالهث سعيدُ بنُ جُبَيْر ، وأبُو العَالِيَةِ ، وقال عِكْرمَةُ : هما صَنَمانِ ، وقال أبُو عُبَيْدَةَ : هُما كُلُّ مَعْبُودٍ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ .
وقال عُمَر : الجِبْتُ : السِّحْرُ ، والطاغُوتُ : الشَّيْطَانُ؛ وهو قَوْلُ الشَّعْبِيِّ ، ومُجاهِدٍ ، وقال مُحمدُ بنُ سيرينََ ، ومَكْحُولٌ : الجِبْتُ : الكاهنُ ، والطَّاغُوتُ : السَّاحِرُ ، ورُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ : الجِبْتُ : -بلسانِ الحبَشَةِ- : شَيْطَانٌ ، وقال الضَّحَّاكُ : الجبتُ : حُيَيُّ بنُ أخْطب ، والطَّاغُوتُ : كَعْبُ بنُ الأشْرَف ، وقِيل : الجبتُ كُلُّ مَا حَرَّمَ اللهُ ، والطاغوتُ : كُلُّ ما يُطْغي الإنْسانَ .
ورَوى قَبيصةُ : أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : العِيَافَةُ : والطَّرْقُ ، والطِّيرةُ : مِنَ الجِبْتِ .
الطَّرْقُ : الزَّجْرُ ، والعِيَافَة : الحط .
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)
بَيَّنَ أنَّ عليهم اللَّعْنَ من الله ، وهو الخِذْلانُ ، والإبْعَادُ ، لقوله : { مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثقفوا } [ الأحزاب : 61 ] وإنَّما استَحقُّوا هذا اللَّعْن ، لتفْضيلهمْ عَبَدَةَ الأوْثَانِ على المؤمِنينَ مبحمدٍ صلى الله عليه وسلم .
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)
لمَّا وصف [ تعالى ] اليهودَ بالجَهْلِ في الآية المتقدمة؛ لتفضيلهم عِبَادَةَ الأوْثَانِ على عبادَةِ الله تعالى ، وصفَهُم في هذه الآية بالبُخْلِ والحَسَدِ ، وهذا على سَبيلِ الإنْكَارِ .
والبخلُ : ألاَّ يدفعَ إلى أحدٍ شَيْئاً مما أوتِيَ مِن النعمةِ ، [ والحَسَدُ : أنْ يتمنَى ألاَّ يُعْطِي اللهُ غيرَهُ شَيْئاً من النِّعَم ] فها يَشْترِكَانِ في إرادةِ مَنْعِ النعمَةِ من الغَيْرِ ، وإنما قدّم وَصْفَ الجَهْلِ علَى وصفِ البُخْلِ ، والحَسَدِ؛ لأن الجهل سَبَبُهَا؛ وذلك لأنَّ البَخِيلَ ، والحَاسِدَ يجهلانِ أنَّ الله تعالى هو الذي أعْطَى هذا ، ومَنَعَ هذا .
واعلمْ أنَّهُ تعَالَى جَعَل بُخْلَهم كالمانع مِنْ حُصُولِ الملْكِ لَهُم ، وهذا يدلُّ على أنَّ الملكَ والبُخْلَ لا يَجْتَمِعَانِ؛ وذلك لأنَّ الانقيادَ [ للغير مكروهٌ لِذَاته ، وإنما يُحْمَلُ الإنْسَانُ على الانقيادِ لِلْغَيْر ] بالإحسانِ الحسن؛ كما قيل : « بالبر يستعبد الحر » ، فمتى لم يُوجد الإحْسانُ ، لَمْ يُوجد الانقيادُ ، ثُمَّ قدْ يكونُ المُلْكُ على الظَّاهِرِ فَقَطْ؛ وهو مُلْكُ المُلُوكِ ، وقد يكونُ الملكُ على البَاطِنِ فقط؛ وهو مُلْكُ العُلَمَاءِ وقد يكون الملكُ عَلَيْهمَا؛ وهو مُلْكُ الأنْبِيَاءِ ، فوجب في الأنبياء أنْ يكُونُوا في غَايَةِ الجُودِ ، والكَرَمِ ، والرَّحْمَةِ ، والشَّفَقَةِ؛ حَتَّى يحصلَ الانقيادُ بالبَاطنِ والظَّاهِرِ ، وكمالُ هذه الصفاتِ كان حَاصِلاً لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم .
و « أم » مُنقطعةٌ؛ لِفواتِ شَرْطِ الاتِّصال ، كما تقدم أوَّل البقرةِ فتُقَدر ب « بَلْ » ، والهمزة التي يُرادُ بها الإنْكار ، وكذلك هُو في قوله : { أَمْ يَحْسُدُونَ الناس } وقال بعضُهم : الميمُ صلة ، وتقديره : ألَهُمْ؛ لأنَّ حَرْفَ « أمْ » إذَا لَمْ يَسْبِقْهُ استفهامٌ ، كانتِ الميمُ صِلَةً فيه ، وقيل : « أمْ » هنا مُتصلةٌ ، وقد سبقه -هاهنا- استفهامٌ على سَبيلِ المعْنَى؛ لأنَِّهُ لمَّا حَكَى قَوْلَهُمْ لِلمشرِكينَ بأنَّهم أهْدَى سَبِيلاً مِنَ المؤمنِينَ عطفَ عليه قوله { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ } فكأنَّهُ قال : أمْنِ ذلك يتعجَّبُ؟ أمْ مِنْ كَوْنِهِم لَهُم نَصِيبٌ من الملك؛ مع أنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُمْ مُلْكٌ ، لَبَخِلُوا بأقلِّ القَلِيلِ؟ . فصل في معنى « الملك »
اختلفوا في هذا { الملك } ، فقيل : إنَّ اليهودَ كانوا يقُولُونَ : نحنُ أوْلَى بالملكِ ، والنُّبوةِ؛ فكَيْفَ نَتْبَعُ العَرَبَ؟ فأبطل اللهُ ذلك ، بهذه الآيةِ .
وقيل : كانوا يَزْعُمُونَ أنَّ الملكَ يعودُ إليهم ، في آخرِ الزمانِ ، فيخرجُ مِنَ اليهودِ مَنْ يُجَدِّدُ مُلْكَهُم؛ فَكَذَّبهم الله [ تعالى ] بهذه الآيةِ .
وقيل [ المرادُ ] بالمُلْكِ -هاهنا- التَّمليكُ : يَعْنِي : أنَّهم إنَّما يَقْدِرُونَ على دفعِ نُبُوَّتِكَ؛ لو كان التمليكُ إليهم ، [ و ] لو كان التمليكُ إلَيْهمْ؛ لبخلوا بالنَّقِير ، والقِطْمِيرِ . فكيفَ يَقْدِرُونَ على النَّفْيِ والإثْبَاتِ .
قال أبُو بَكْرٍ الأصَمّ : كَانُوا أصْحَابَ بَسَاتِينَ وأمْوَالٍ ، وكانوا في عِزَّةٍ ، ومَنَعَةٍ ، وكانوا يَبْخَلُونَ على الفُقَراءِ بأقل القَلِيلِ؛ فنزلت هذه الآيةُ .
قوله : « فإذن » حَرْفُ جَوَاب ، [ وجَزَاء ] ونُونُها أصلية ، قال مَكي [ وحذاق النحويِّين على كتب نونها نوناً ] وأجاز الفرَّاءُ أن تُكْتَبَ ألفاً ، وما قاله الفرَّاءُ هو قِيَاسُ الخَطِّ؛ لأنه مَبْنيٌّ على الوَقْفِ [ والوقف على نُونها بالألف ، وهي حرفٌ يَنْصِبُ المضارع بِشُرُوطٍ تقدَّمَتْ ] ، ولكنْ إذَا وَقَعَتْ بعد عَاطِفٍ ، فالأحْسَنُ الإهمالُ وقد قرأ ابنُ مَسْعُودٍ ، وابنُ عَبَّاسٍ -هنا- بإعْمَالِهَا ، فَحَذَفَ النُّونَ مِنْ قَوْلِه : { لاَّ يُؤْتُونَ } .
وقال أبُو البَقَاءِ : ولَمْ يَعْملْ -هنا- من أجْلِ حَرْفِ العَطْف وهُوَ الفَاء ، ويجوزُ في غَيْرِ القُرْآنِ ، أنْ يَعملَ مع الفَاءِ ، وليس المبطل لا؛ لأنَّ « لا » يتخطَّاهَا العامِلُ ، فظاهِرُ هذه العبارَةِ : أنَّ المانِعَ حَرْفُ العَطْفِ ، وليس كذلك ، بل المانِعُ التلاوةُ ، ولذلك قال آخراً : ويجوزُ في غَيْرِ القُرْآنِ .
قال سِيبَويْهِ : « إذن » في أصل الأفعالِ بمنزِلَةِ « أظن » في عَوَامِلِ الأسْمَاءِ ، وتقريرهُ : أنَّ الظنَّ إذَا وَقَعَ أوَّلَ الكلام -نَصَبَ ، لا غَيْرَ؛ كقولِكَ : أظُنُّ زَيْداً قائماً ، وإنْ تَوَسَّطَ جَازَ إلْغَاؤه ، وإعْمَالهُ تقول : زَيدٌ ظننْتُ مُنْطلِقٌ ، ومنطلقاً ، وإنْ تأخَّر ، ألْغِيَ .
والسببُ في ذلك؛ أن « ظن » وأخواتِهَا ، عَلِمَ ، وحَسِبَ ، ضَعِيفةٌ في العملِ؛ لأنها لا تُؤثِّرُ في مَفْعُولاتِهَا ، فإذا تَقَدَّمَتْ دلَّ تقدمُهَا على شِدَّةِ العِنَايَةِ فلغى ، [ وإنْ توسَّطَتْ ، لا يكون في مَحَلِّ العنايةِ مِنْ كُلِّ الوُجُوهِ ، ولا في مَحَلِّ الإهْمَالِ من كل الوجوه ، فَلاَ جَرَمَ أوْجَبَ توسُّطُها الإعْمالَ ] ، والإعْمالُ في حَالِ التوسطِ أحسنُ والإلغاءُ حَالَ التأخُّرِ ، أحْسَنُ ، وإذا عرفتَ [ ذلك ] فنقول : « إذن » على هذا الترتيبِ ، [ فإن تقدمَّتْ نَصَبَتِ الفعلَ ، وإنْ توسَّطَتْ ، أوْ تأخرتْ جاز الإلْغَاءُ ] .
والنَّقِيرُ : قال أهلُ اللغةِ : النَّقِيرُ : نُقْطَةٌ في ظَهْرِ النواةِ ، ومنها تَنْبُتُ النخلةُ ، وقال أبُو العَالِيَة : هو نَقْدُ الرجلِ الشَّيْئِ بِطَرفِ إصْبَعِهِ ، كما يُنْقِرُ الدِّرْهَمَ ، وأصْلُه : أنَّهُ فِعْلٌ مِنَ النَّقِرِ ، يُقالُ للخشبِ الذي يُنْقَرُ فيه : إنَّهُ نَقِيرٌ؛ لأنه يُنْقَرُ ، والنَّقْرُ : ضَرْبُ الحَجَرِ وغَيْرِه بالمِنْقِارِ ، يُقَالُ : فلانٌ كَرِيمُ النَّقِيرِ ، أي : الأصْلِ ، والمِنْقِارُ : حَدِيدَةٌ كالفأسِ تُقْطَعُ بها الحِجَارَةُ ، ومِنْهُ : مِنْقِارُ الطائِرِ؛ لأنه يَنْقُرُ بِهِ ، وذكْرُ النَّقيرِ هُنَا تَمْثِيلٌ ، والغَرَضُ منه ، أنَّهم يَبْخَلُونَ بأقلِّ القَلِيلِ .
قوله : { أَمْ يَحْسُدُونَ الناس } .
قال قَتَادَة : المرادُ أنَّ اليهودَ يَحْسُدُونَ العَرَبَ على النُّبوةِ ، وما أكْرَمَهُمُ اللهُ تعالى بِمُحَمَّدٍ - عليه الصلاة والسلام- .
وقال ابنُ عَبَّاسٍ ، والحَسَنُ ، ومُجَاهدٌ { وجَمَاعَةٌ ] : المراد ب « الناس » رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم حَسَدُوهُ على ما أحَلَّ اللهُ له من النِّساءِ ، وقالوا : « ما له هم إلا النكاح » وهو المرادُ بقوله : « على ما آتاهم الله من فضله » ، وقيلَ حَسَدوهُ على النُّبوةِ ، والشَّرفِ في الدينِ والدنيا ، وهذا أقْربُ ، وأوْلَى .
وقيل : المرادُ ب { الناس } محمدٌ وأصحابه ، ولمّا بيَّنَ [ اللهُ ] تعالى أنَّ كثرةَ نِعَمِ اللهِ [ عليهِ ] صَارَ سبباً لحَسَدِ هؤلاءِ اليهودِ ، بَيَّنَ ما يدفع ذلك الحَسَدَ ، [ فقال ] { فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الكتاب والحكمة وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً } ، أيْ أنَّهُ جَعَلَ فِي أوْلادِ [ إبراهيم ] جماعةً كثيرين ، جمعُوا بَيْنَ النبوةِ ، والملْكِ والحكمة ، وأنْتُم لا تَعْجَبُونَ من ذلك ، ولا تَحْسُدُونهم ، فَلِمَ تَتَعَجَّبُونَ من حالِ محمد ولِمَ تَحْسُدُونهُ؟ والمرادُ ب { آلَ إِبْرَاهِيمَ } دَاوُدُ ، وسُلَيْمانُ - عليهما السلام - وب { الكتاب } مَا أنْزَلَ عليهم وب { الحكمة } النبوةُ .
فمن فَسَّر { الفضل } : بِكّثْرةِ النساءِ ، والمُلْكِ العَظيمِ ، والمعنى : أنَّ دَاوُدَ وسُلَيْمَانَ أوتيا مُلْكاً عَظِيماً ، وكان لسُليمانَ صلوات الله وسلامه عليه ألفُ امرأةٍ : ثلاثُمائَةٍ مُهْرِيَّة ، وسَبْعُمائة سُرِّيَّة ، وكان لداود - عليه السلام - مائةُ امْرَأةٍ ، ولم يكُنْ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلاَّ تِسْعُ نِسْوةٍ ، فلمَّا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ ، سَكتُوا .
وقوله : « فمنهم من لآمن به » ، الضميرُ في به عَائِدٌ على « إبراهيم » أوْ على « القرآن » أوْ على الرَّسُولِ - عليه الصلاة والسلام - ، أوْ عَلَى ما أُوتيه إبراهيم - عليه السلام - فإنْ عَادَ غلى مُحَمدٍ ، فالمرادُ بالذين آمنُوا به ، الذين أُوتُوا الكتابَ؛ آمن بعضُهم كعبدِ اللهِ بنِ سلام ، وأصْحَابه ، وبَقِيَ بعضهم على الكُفْرِ والإنْكارِ ، وكذلك إنْ عادَ إلَى مَا أُوتِيه إبراهيم - علّيه السلام - قال السديُّ : الهاءُ في « بِهِ » و « عنه » رَاجِعَةٌ إلى إبْرَاهِيم ، وذلك أنَّهُ زَرَعَ ذَاتَ سَنَة ، وزرع الناسُ [ فِي تِلْكَ السَّنَةِ ] فَهَلَكَ زَرْعُ الناسِ ، وَزَكَا زَرْعُ إبْراهيمَ - عليه السلامِ- فاحتاج الناسُ إلَيْه ، فكان يقولُ : « من آمن بي أعطيته » فمن آمَنَ ، أعْطَاهُ مِنْه ، [ وَمَنْ لَمْ يُؤمِنْ ، منعه مِنْه ] ، وإنْ عاد إلى القُرْآنِ ، فالمعنى : أنَّ الأنبياءَ - عليهم الصلاة والسلام - واتْباعَهمُ معهم ، صَدَّقُوا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، وقال آخُرون : المرادُ [ أنَّ ] أولئِكَ الأنبياءَ مع ما خُصُّوا به مِنَ النُّبوةِ ، والمُلْكِ ، جَرَتْ عادَةُ أممِهمْ : أنْ آمَنَ بعضُهم ، وكَفَرَ بعضُهم ، فَلاَ تَتَعَجَّب يا محمدُ ، مِنْ أمتِكَ ، فإنَّ أحْواَلَ جَميعِ الأمَمِ هكذا ، وذلك تَسْلِيةٌ له - عليه السلام- .
قوله : « ومنهم من صد عنه » قَرَأ الجُمْهُورُ « صَدَّ » بفتح الصَّادِ ، وقرأ ابنُ مسعودٍ ، وابنُ عباسٍ ، وعكرمةُ : « صُدًّ » بضمها ، وقرأ أبُو رَجَاء ، وأبو الجَوْزَاءِ : بِكَسْرِهَا ، وكلتا القِرَائتين على البِنَاء للمفعولِ ، إلا أنَّ المضاعَفَ الثُّلاثِيَّ ، كالمعْتَلِّ العَيْنِ منه ، فيجوزُ في أوله ثلاثُ لغاتٍ ، إخْلاَصُ الضَّمِّ ، وإخلاصُ الكَسْرِ ، والإشمامُ .
قوله : { وكفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً } ، أيْ : كَفَى بجهنَّمَ [ في ] عذابِ الكُفَّارِ سعيراً والسَّعيرُ : الوقودُ ، وهو تَميِيزٌ ، فإنْ كان بِمَعْنَى : مُسَعَّرِ ، فلا يَحْتَاجُ إلى حَذْفٍ .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)
قرأ الجمهورُ : « نصليهم » بِضَمِّ النونِ مِنْ أصْلَى ، وحُمَيْدٌ : بِفَتْحِهَا مِنْ صَلَيْتُ ثُلاثِيَّا . قال القَرْطُبِيُّ : ونَصْبُ : « ناراً » على هذه القراءةِ ، بِنَزْعِ الخَافِضِ تقديرهُ : بنارٍ . وقَرأ سَلاَّم ، ويَعْقُوبُ : « نصليهُم » بضَمِّ الهَاءِ ، وَهِيَ لُغَةُ الحِجَازِ ، وقد تَقَدَّمَ تَقْرِيرهُ .
وقال سِيبويْهِ : « سوف » [ كَلِمَةٌ ] تُذكَرُ لِلتَّهديدِ ، والوَعِيدِ : يُقَالُ : سَوْفَ أفْعَلُ ، وَينوبُ عَنْهَا حرفُ السين؛ كقوله : { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } [ المدثر : 26 ] وقد يردُ « سوف » و « السِّينُ » : في الوَعْدِ أيْضاً : قال تعالى : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى } [ الضحى : 5 ] ، وقال : { سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي } [ مريم : 47 ] ، وقال : { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي } [ يوسف : 98 ] ، قِيلَ ، أخَّرَهُ إلى وقْتِ السَّحر؛ تَحْقِيقاً للدعاءِ ، وبالجملةِ ، فالسَّينُ ، وسَوْفَ : مَخْصُوصَتَانِ بالاسْتِقْبَالِ .
فصل في معنى قوله « بآياتنا »
يَدْخُلُ في الآيات كُلُّ مَا يَدُلُّ على ذاتِ اللهِ تعالى وصفته ، وأفْعالِهِ ، [ وأسْمَائِه ] ، والملائكةِ ، والكُتُبِ ، والرسُلِ؛ وكُفْرُهُم قدْ يكونُ بالجَحْدِ ، وقد يكونُ بِعَدَمِ النَّظْرِ فيها ، وقد يكونُ بإلقاءِ الشكُوكِ والشُّبُهَاتِ فيها ، وقَدْ يكونُ بإنْكَارِهَا؛ عِنَاداً ، أو حَسَدَاً .
وقوله : « نَصْلِيهم » أيْ : نُدْخِلُهم النارَ ، لكن قولُه : { نُصْلِيهِمْ } فيه زِيَادَةٌ على ذلك ، فإنَّهُ بمنزلَةِ شَوَيتُهُ بالنارِ ، يُقالُ شَاةٌ مَصْليَّةٌ ، أيْ : مَشْوِيَّةٌ .
قوله : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } ، { كُلَّمَا } : ظَرْفُ زَمَانٍ ، والعَامِلُ فيها { بَدَّلْنَاهُمْ } ، والجملةُ في مَحَلِّ نصبٍ على الحَالِ ، مِنَ الضميرِ المنْصُوبِ في { نُصْلِيهِمْ } ، ويجوزُ أنْ يكونَ صِفَةً ل « ناراً » والعائِدُ محذوفٌ ، ولَيْسَ بالقَوِيِّ ، و « ليذوقوا » مُتعلِّقٌ ب « بدلناهم » .
قال القُرْطُبِيُّ : يُقالُ : نَضِجَ الشَّيْءُ نُضْجاً ونَضجاً ، وفلانٌ نَضِيجُ الرَّأي : أيْ : مُحْكَمُهُ .
فصل في معنى قوله { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ }
{ كُلَّمَا نَضِجَتْ [ جُلُودُهُمْ } أيْ : ] كلما احْترقَتْ جُلودهم ، بَدلنَاهُم جُلُوداً غيْرَ الجلودِ المُحْترقَةِ .
قال ابنُ عَبَّاسٍ : يُبَدِّلُونَ جُلُوداً بِيضاً ، كأمثالِ القَرَاطِيسِ . رُوي أنَّ هذه الآيةَ قُرِئَتْ عند عُمَرَ - رضي الله عنه - فقال عُمرُ للقارئ : أعِدْهَا ، فأعَادَهَا ، وكان عِنْدَهُ مُعَاذُ ابنُ جَبَلٍ ، فقال مُعَاذُ بنُ جَبَل - رضي الله عنه- عِندي تَفْسِيرُها : تُبدَّلُ في الساعَةِ مائةَ مرَّةٍ ، فقال عمرُ : هكذا سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم .
قال الحَسَنُ : تأكُلُهمُ النارُ كُلَّ يومٍ سَبْعِينَ ألْفَ مرَّةٍ ، كُلَّما أكَلَتْهُم ، قِيلَ لَهُمْ : عُودُوا ، فيعُودُونَ كَمَا كَانُوا .
رَوَى أبُو هُرَيرَة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما بَيْنَ مِنْكبي الكافِرِ مَسِيرةُ ثلاثَةِ أيَّامٍ ، للرّاكِبِ المًسْرِعِ » .
وعن أبي هُرَيْرة ، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : « ضِرْسُ الكَافِر ، أو نابُ الكَافر ، مِثْلُ أحُدٍ وغِلَظُ [ جِلْدِه ] مَسِيرةُ ثلاثَةَ أيَّامٍ » .
فَإنْ قِيل : إنَّهُ تعالى قادِرٌ على إبْقَائِهِمْ أحْياء في النَّارِ أبَدَ الآبَادِ فَلِمَ لَمْ يُبْقِ أبْدانهمُ في النَّارِ مَصُونةً عن النضْجِ ، مع إيصالٍ الألم الشديد إليها ، مِنْ غيْرِ تَبْدِيلٍ لَهَا؟ فالجوابُ : أنَّهُ لا يُسْألُ عما يفعلُ ، بل نقولُ : إنَّهُ قَادِرٌ على أنْ يُوصِلَ إلى أبْدانِهم آلاماً عظيمةً ، من غيرِ إدْخَالِ النَّارِ ، مع أنه تعالى أدْخلَهم النَّارِ ، فإنْ قِيلَ : كَيْفَ يُعَذَّبُ جُلُوداً لم تكن في الدنيا ولم تَعْصِهِ؟ فالجوابُ من وُجُوهٍ :
الأوَّلُ : أنه يُعَادُ الأولُ في كُلِّ مَرَّةٍ ، وإنَّما قال غيرَها ، لتبدل صفتها ، كما تقولُ : صَنَعْتُ مِن خَاتَمِي خَاتَماً غيرَهُ ، فالخَاتَمُ الثَّانِي هُوَ الأولُ؛ إلاَّ أنَّ الصناعةَ ، والصِّفَةَ تبدَّلتْ .
الثاني : المعذَّبُ هو الإنسانُ في الجِلْدِ ، لا الْجِلْدُ ، بل الجِلْدُ كالشَّيءِ الملتَصِقِ به ، الزَّائِدِ على ذَاتِهِ ، فإذا جُدِّدَ الجِلْدُ ، صَارَ ذلك الجلدُ سَبَباً لوصولِ العذاب إلَيْهِ ، فالمعذبُ لَيْسَ إلاَّ العَاصِي؛ يدلُّ عليه قولُه تعالى : { لِيَذُوقُواْ العذاب } ولَمْ يَقُلْ : ليَذُوقَ .
الثالثُ : قال السُّدِّيُّ : يُبَدَّلُ الجِلْدُ جِلْداً غَيرَهُ مِنْ لَحْمِ الكَافِرِ .
الرابعُ : قال عَبْدُ الْعَزِيز بنُ يَحْيَى : إنَّ اللهَ - تعالى - يُلبِسُ أهْلَ النَّارِ جُلُوداً لا تألَّمُ ، بل هي تُؤلِمُهُم : وَهِيَ السَّرَابِيلُ فكُلَّمَا [ احترق ] جِلْدٌ بدّلَهُم جِلْدَاً غَيْرَهُ . طعن القَاضِي في هذا فقال : إنه تَرْكٌ للظَّاهِرِ ، وأيضاً السَّرَابِيلُ مِنَ القَطرَانَ لا تُوصَفُ بالنُّضْجِ ، وإنما تُوصَفُ بالاحْتِراقِ .
الخَامِسُ : يمكنُ أنْ يكونَ هذا استعارةً عن الدَّوَامِ ، وعّدّمِ الانْقِطَاعِ؛ يُقالُ للموصوفِ بالدَّوام : كُلَّمَا انْتَهى فقد ابْتَدَأ ، وكُلَّمَا وَصَلَ [ إلى آخره ] فقد ابتدَأ من أوله ، فكذلك قوله : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } يَعْني : أنهم كُلّما ظَنُّوا أنهم نَضِجُوا واحْتَرقُوا وانتهوا إلى الهلاكِ ، أعْطَيناهُم قُوَّةً جَديدةً من الحياة؛ بحيثُ ظنُّوا أنَّهم الآنَ وجدُوا ، فيكونُ المقصودُ بيانَ دَوَام العَذَابِ .
فإن قيل : قوله : « ليذوقوا العذاب » إنما يُقالُ : فلانٌ ذَاقَ الشَّيءَ ، إذَا أدْرَكَ شَيْئاً قَلِيلاً منه ، والله تعالى قَدْ وَصَفَهُمْ بأنهم كانوا في أشدِّ العذابِ ، فكيْفَ يَحْسُنُ أن يذكرَ بعد ذلك أنَّهم ذَاقُوا العذابَ؟
فالجوابُ : المقصودُ مِنْ ذِكْرِ الذَّوْقِ ، الإخبارُ بأنَّ إحساسَهُم بذلك العذابِ ، في كُلِّ حالٍ ، يَكُونُ كإحْسَاسِ الذَّائِقِ بالنذُوق من حيثُ إنه لا يَدْخُلُ فيه نُقْصَانٌ ، ولا زَوَالٌ ، بِسَبَبِ ذلك الاحتراقِ .
ثُمَّ قال تعالى : { إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً } ، فالعزيزُ : القادِرُ الغَالِبُ ، والحَكِيمُ : الذي لا يَفْعَلُ إلاَّ الصَّوابَ ، وما تَقْتَضِيه الحكمةُ؛ لأنَّهُ قد يَقَعُ في القَلْبِ تَعَجُّبٌ مِنْ كَوْنِ الكريمِ الرَّحيمِ يُعَذِّبُ هذا الشخص الضَّعِيفَ إلى هذا الحدِّ العَظيمِ أبَدَ الآبادِ .
فقيل : ليس هذا [ بَعِجب ] ؛ لأنه القادِرُ الغَالِبُ ، فكما أنه رحيمٌ فهو أيضاً حَكِيمٌ ، والحكمةُ تَقْتَضِي ذلك .
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
قوله تعالى : { والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً } .
تعلمْ أنَّ الوعْدَ والوعيدَ مُتلازِمَانِ في الذِّكْرِ غَالِباً ، فإنَّ عَادَة القرآنِ إذا ذَكَرَ الوعِيدَ أنْ يذكر مَعَهُ الوَعْدَ .
قوله : { والذين آمَنُواْ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أظهرُهَا : أنه مبتدأٌ ، وخبرُهُ { سَنُدْخِلُهُمْ } .
والثاني : أنَّه في مَحلِّ نَصْبٍ؛ عَطْفاً على اسْمِ « إنَّ » وهُوَ { الذين كَفَرُواْ } ، والخَبَرُ أيْضاً : { سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ } ويصيرُ هذا نَظِير قولِكَ : إنَّ زَيْدَاً قَائِمٌ وعمراً قَاعِدٌ ، فعطفتَ المنصُوبَ على المنصُوبِ ، والمرفوعَ على المرفوعِ .
والثالث : أنْ يكونَ في محلِّ رَفْع؛ عطفاً على مَوْضِعِ اسْم « إنَّ » ؛ لأن مَحَلَّهُ الرفعُ ، قالهُ أبُو البَقَاءِ؛ وفيه نَظَرٌ ، مِنْ حَيْثُ الصناعةِ اللَّفْظِيَّةِ ، حَيْثُ يُقالُ : { والذين آمَنُواْ } في مَوْضِعِ نَصْبٍ؛ عطفاً على { الذين كَفَرُواْ } ، وأتى بجملةِ الوعيدِ مُؤكِّدةً ب « إن » ؛ تنبيهاً على شِدَّةِ ذلك ، وبجملةِ الوَعْدِ حَاليَّةً مِنْه؛ لتحققها وأنه لا إنْكَارَ لذلك ، وأتَى فيها بحرفِ التَّنْفِيسِ القَريبِ المدَّة تنبيهاً على قُرْبِ الوَعْدِ .
فصل في أن الإيمان غير العمل
دلت هذه الآيةُ ، على أنَّ الإيمانَ غيرُ العَمَلِ؛ لأنه تعالى عَطَفَ العملَ على الإيمانِ ، والمعطوفُ مُغَايِرٌ لِلْمَعطُوفِ عليه .
قال القَاضِي : مَتَى ذُكِرَ لفظُ الإيمانِ وَحْدَهُ ، دخل فيه العَمَلُ ، ومَتى ذُكِرَ مَعَهُ العَمَلُ ، كان الإيمانُ هو التَّصْديقَ ، وهذا بعيدٌ ، لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ الاشتراك ، وعدمُ التغييرِ ولوْلاَ أنَّ الأمْرَ كذلك ، لخرج القرآنُ عن كونِهِ مُفيداً ، فلَعَلَّ هذه الألفاظَ التي تَسْمَعُها في القرآنِ ، يَكُون لِكُلِّ وَاحدٍ منها مَعْنَى سِوَى ما نَعْلَمُ ، ويكونُ مرادُ الله [ تعالى ] ذلِكَ المعْنَى .
قوله : « سندخلهم » قَرَأ النَّخعِيُّ : سَيْدخلُهم ، وكذلك : « ويدخلهم ظلاً » بِيَاءِ الغَيْبَةِ؛ رَدَّا على قوله : « إن الله كان عزيزاً » ، والجمهورُ بالنون رَدَّاً على قوله : « سوف نصليهم » ، وتقدَّم الكلامُ على قوله : « جنات تجري من تحتها الأنهار » .
وقوله : { خَالِدِينَ } يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدُهَا : أنه حالٌ من الضمير المنصُوبِ في { سَنُدْخِلُهُمْ } .
والثَّاني : وأجازَهُ أبُو البَقَاءِ : أنْ يكونَ حالاً من { جَنَّاتٍ } .
[ قال : لأن فيها ضميراً لكُلِّ واحدٍ منهما ، يَعْنِي : أنه يجوزُ أنْ يكونُ حالاً من ] مفعول { سَنُدْخِلُهُمْ } كما تقدَّمَ ، أوْ « من جنات » ؛ لأنَّ في الحَالِ ضميريْنِ :
أحدُهُمَا : مَجْرُورٌ ب « في » العائِدِ على { جَنَّاتٍ } فصح أنْ يُجْعَلَ حالاً مِنْ كُلٍّ واحدٍ؛ لوجودِ الرَّابِطِ ، وهو الضميرُ ، وهذا الذي قالُ فيه نظرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أحدُهُمَا : أنه يَصِيرُ المعنى : أنَّ الجناتِ خالداتٍ في أنفُسِهَا؛ لأنَّ الضَّميرَ في فيها عائذٌ عليْهَا . فكأنه قِيلَ : جناتٍ خَالِدَاتٍ في الجنَّاتِ أنفُسِهَا .
والثَّاني : أنَّ هذا الجمعَ شَرْطُهُ العَقْلُ ، ولد أُرِيد ذلك ، لقيل : خَالِدَاتٍ .
والثالثُ : أنْ يَكُونَ صِفَةً ل { جَنَّاتٍ } أيضاً . قال أبُو البَقَاءِ : على رَأي الكُوفيِّينَ يعْنِي أنَّهُ جَرَتْ الصِّفَةُ على غَيْرِ مِنْ هِيَ لَهُ في المعنى ، ولم يَبْرُزُ الضَّمِيرُ ، وهذا مَذْهَبُ الكوفيِّينَ ، وهو انَّهُ إذَا جَرَتْ عَلَى غَيْرِ مَنْ هي له ، وأمِنَ اللِّبْسُ ، لم يَجبْ بُرُوزُ الضميرِ كهذه الآيةِ .
ومَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ : وُجُوبُ بروزِهِ مُطْلَقَاً ، فكان يَنْبَغِي أنْ يُقَالَ عَلَى مَْهلِهمْ : « خالدين هم فيها » ، ولمّا لَمْ يَقُلْ كذلك ، دَلَّ على فَسَادِ القَوْلِ ، وقد تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ ذلك .
[ فإن قُلْتَ : ] فَلْتَكُنِ المسْألَةُ الأولَى كذلِكَ ، أعني : أنَّكَ إذا جعلت { خَالِدِينَ } حالاً من { جَنَّاتٍ } ، فيكون حَالاً مِنْهَا لفظاً ، وهي لغيرها مَعْنَى ، ولم يَبْرُزْ الضَّميرُ على رَأي الكُوفيِّينَ ، ويَصِحُّ قول أبي البَقَاءِ .
فالجواب : أنَّ هذا ، لو قيلَ به لَكَانَ جيِّداً ، ولكن لا يَدْفَعُ الرَّدَّ عن أبِي البَقَاءِ ، فإنَّهُ خَصَّصَ مَذْهبَ الكُوفيينَ بوجه الصِّفَةِ ، دون الحالِ .
فصل
ذكر الخُلُودِ والتَّأبِيد : فيه ردٌّ على جَهْم بْنِ صفْوَانَ ، حيث يقُولُ : إنَّ نَعِيمَ الجَنَّةِ وعَذَابَ الآخِرَةِ يَنْقَطِعَانِ ، وأيضاً فَذِكْرُهُ الخُلُودَ مع التَّأبيد؛ يَدُلُّ على أنَّ الخُلودَ غَيْر التَّأبْيد وإلا لزم التكرارُ ، وهو غير جَائِزٍ؛ فدَلَّ على أنَّ الخُلُودَ لَيْسَ عِبَارَة عن التَّأبيدِ ، بلِ اسْتِدْلاَلُ المُعْتزِلَةِ بقوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا } [ النساء : 93 ] على أنَّ صاحب الكَبيِرَةِ يبقى في النَّارِ أبَداً ، لأنَّ هذه الآية دَلَّتْ على أنَّ الخُلُودَ طولُ المُكْثِ لا التَّأبيدِ .
قوله : { لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ [ مُّطَهَّرَةٌ } ] مبتدأ وخبر ، وَمَحَلُّ هذه الجُمْلَةِ ، إمَّا النَّصْب أو الرَّفْعُ .
فالنَّصْبُ إمَّا على الحَالِ مِنْ { جَنَّاتٍ } ، أو مِنْ الضَّميرِ في { سَنُدْخِلُهُمْ } وإما على كَوْنِهَا صِفَةً ل { جَنَّاتٍ } بعد صِفَةٍ .
والرَّفْعُ على أنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ .
فصل
المُرَادُ : طَهَارتُهُنَّ من الحَيْضِ والنّفاسِ ، وجميع أقْذَارِ الدُّنْيَا ، كما تَقَدَّمَ في سُورةِ البَقَرَةِ .
وقوله « وندخلهم ظلاَّ ظليلاً » .
قال الوَاحِدِيُّ : الظَّلِيلُ ليس يُنبِئُ عن الفِعْلِ ، حتى يُقالَ : إنَّهُ بمعنى : فاعِلٍ ، أو مَفْعُولٍ ، بل هو مُبَالَغةٌ في نَعْتِ الظِّلِّ ، مثل قولهم : « لَيْلٌ ألْيَلٌ » .
قال المُفَسْرُونَ : الظَّلِيلُ : الكَثيفُ الَّذِي لا تَنْسَخُهُ الشَّمْسُ ، ولا يؤذيهم بَرْدٌ ، ولا حَرٌّ .
قال ابْنُ الخَطِيبِ : واعلَمْ أنَّ بلاد العَرَبِ كانت في غَايَةِ الحَرَارَةِ ، وكانَ الظِّلُّ عندهم مِنْ أعْظَمِ أسْبَابِ الرَّاحَة ، ولها المَعْنَى؛ جَعَلٌوه كِنَايَةً عن الرَّاحَةِ .
قال عليه الصَّلاة والسلامُ : « السُّلْطَانُ ظِلُّ الله فِي الأرْضِ » .
وإذَا كان الظّل عِبَارَةً عن الرَّاحَة؛ كَانَ كِنَايَةً عن المُبَالَغَةِ العَظِيمَةِ في الراحة ، وبهذا يَنْدَفِعُ سُؤالُ مَنْ يَقُولُ : إذا لم يَكُنْ شَمْسٌ تُؤْذِي بحرِّهَا ، فما فائِدَةُ وَصْفِهَا بالظِّلِّ الظَّلِيلِ؟
وأيضاً نرى في الدُّنْيَا أنَّ المَوَاضِعَ الَّتِي يَدُومُ الظِّلُّ فيها ، ولا يَصِلُ نُورُ الشَّمْسِ إليْهَا ، يكُونُ هَوَواؤهَا فَاسِداً مُؤْذِياً فما معنى وَصْفِ الجَنَّةِ بذلك ، فعلى هذا الوَجْهِ الَّذِي لَخَّصْنَاهُ تَنْدَفَعُ هذه الشُّبُهَاتِ .
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
لما شَرَحَ أحوالَ الكُفَّارِ ، وشرحَ وعِيدَهُم؛ عاد إلى التَّكْلِيف ، وأيضاً لمّا حكى عن أهْل الْكِتابِ أنَّهُم كَتَمُوا الحَقَّ ، حيث قالُوا للذين كَفرُوا { هَؤُلاءِ أهدى مِنَ الذين آمَنُواْ سَبِيلاً } [ النساء : 51 ] أمَرَ المُؤمنينَ في هذه الآيةِ بأداء الأمَانَاتِ في جميع الأمور ، سواء كانَتْ دِينيَّةٌ ، أو دُنْيَويَّة .
قوله : { أَن تُؤدُّواْ } مَنْصُوبُ المحلّ ، إمَّا على إسْقَاطِ حَرْفِ الجَرّ؛ لأن حذفه يطَّرِدُ مع « أنْ » ، إذَا أمِنَ اللَّبْس؛ لطولهما بالصِّلَةِ ، وإما لأنَّ « أمر » يتعدى إلى الثَّاني بنفسه ، نحو : أمَرْتُكَ الخَيْرَ ، فعلى الأوَّل يَجْري [ الخلاف في مَحَلَّها ، أهي في مَحَلّ نصب ، أم جر ، وعلى الثَّاني هي في محلِّ نصب فقط ، وقرئ « الأمانة » ] .
فصل : فيمن نزلت الآية؟
نزلت في عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ بْنَ أبِي طَلْحَةَ الحجبي مِنْ بَني عبْدِ الدَّارِ ، وكان سادِنَ الكَعْبَةِ ، فلمَّا دَخَلَ النبي صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ يَوْمَ الفَتْحِ أغْلَقَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ بَابَ الكَعْبَةِ ، وصَعَدَ السَّطْحَ ، فطلبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المفتاح فقيلَ : إنَّه مع عثمان ، فَطَلَبَهُ منه فأبى ، وقال : او عَلِمْتُ أنَّهُ رسولُ اللهِ [ صلى الله عليه وسلم ] لمْ أمْنَعْهُ المِفْتَاحَ ، فَلَوَى عليُّ بن أبي طالب يده ، وأخذ منه المفتاح ، ودخل رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم البيت ، وصلّى فيه ركعتين ، فلمّا خَرَجَ سألَهُ العَبَّاسُ [ المفتاحً ] أن يعطيه ، ويجمع له بين السِّقَايَةِ ، والسِّدَانة ، فأنزل اللهُ - تعالى - هذه الآية ، فأمَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عليّاً أنْ يردَّ المِفْتَاحَ إلى عُثْمَانَ ، وَيَعْتَذِرَ إليه ، ففعل ذلك عليٌّ ، فقال عثمان : أكْرَهْتَ ، وآذَيْتَ ، ثم جئْتَ تَرْفُق ، فقال : لقَدْ أنْزَلَ اللهُ في شأنِكَ ، وَقَرَأ عليه الآية ، فقال عُثْمَانُ : « أشْهَدُ [ ألا إله إلاّ الله و ] أنَّ مُحَمّداً رسُولُ اللهِ ، وأسْلَمَ ، وكانَ المِفْتَاحُ معه ، فلما مَاتَ دفعه إلى أخيه شَيْبَةَ ، فالمِفْتَاحُ والسِّدَانَةُ في أولادهم إلى يَوْمِ القِيَامَةِ .
وقيل : المرادُ من الآية جميعُ الأمَاناتِ .
واعْلمْ أنَّ معاملة الإنْسانِ إما أنْ تكُونَ مع رَبِّه ، أو مع العِبَادِ ، أوْ مع نفسه . فمعاملة الرَّبِّ فهو : فعل المأمُورَات ، وترك المَنْهيَّاتِ .
قال ابْنُ مَسْعُودٍ : الأمَانَةُ في كُلِّ شَيٍْ لازمةٌ؛ في الوُضُوءِ ، والجَنَابَةِ ، والصَّلاةِ ، والزَّكَاةِ ، والصَّوْم .
[ قال أبُو نُعِيْم الحَافِظُ في » الحِلْيَةِ « : ومِمَّنْ قال إنَّ الآية عامّة في الجميع : البَرَاءُ ابْنُ عَازِبٍ ، وابْنُ مَسْعُودٍ ، وابْنُ عَبَّاسٍ ، وأبيُّ بْنُ كَعبٍ .
قالوا : الأمَانَةُ في كُلِّ شَيءٍ لازمةٌ ، في الوُضُوءِ ، والجَنَابَة ، والصّلاة ، والزكاةِ ، والصّوم ، والكيل ، والوزن ، والودائع .
قال ابْنُ عبَّاسٍ : لم يرخص اللهُ لمُعْسِرِ ، ولا لمُؤمِنٍ أن يُمْسِكَ الأمَانَة ] .
وقال ابْنُ عُمَرَ : » إنَّهُ - تعالى - خَلَقَ فَرْجَ الإنسان ، قال : « هذَا أمانةٌ [ خَبَّأتُهَا ] عِنْدَكَ ، فاحْفَظْهَا إلاَّ بِحَقِّهَا » .
فأمانة اللِّسَانِ ألاّ يستعمله في الكذِبِ ، والغيبةِ ، والنَّميمَةِ ، والكُفْرِ ، والبدعةِ ، والفُحْشِ ، وغيرها .
وأمانة العَيْنِ ألاّ يَسْتَعْمَلَهَا في النَّظَرِ الحَرَامِ ، وأمَانَةَ السَّمْعِ ألاّ يَسْتَعْمِلَهُ في سَمَاعِ المَلاَهِي ، والمَنَاهِي ، وسماع الفُحْشِ ، والأكاذيبِ ، وغيرها .
وكذا جميع الأعْضَاءِ ، وأمَّا الأمَانَةُ مع سَائِرِ الخَلْقِ فلردِّ الوَدَائِعِ ، وتركِ التَّطفيفِ في الكَيْلِ ، والوزْنِ ، وعدْلِ الأمرَاءِ في الرَّعِيَّةِ ، وعدلِ العُلَمَاءِ في العَوَامِ : بأن يُرْشِدُوهم إلى الاعتِقَاداتِ ، والأعْمَالِ الَّتي تنفعهم في دُنْيَاهُم وأخْرَاهُم ، ولا يحملوهم عَلَى التَّعصُّبَات البَاطِلَةِ ، وأمَانَةُ الزَّوْجَةِ للزَّوْجِ في حفظ فَرْجِهَا ، وألا تُلْحِقَ به وَلَداً من غَيْرِهِ ، وفي إخبارِها عن انْقِضَاءِ عدَّتها ، ونهي اليهود عن كِتْمَانِ أمر محمد عليه الصَّلاة والسلام - وأما أمَانَته مع نفسه ، فهو ألا يَخْتَارُ [ لِنَفْسِهِ ] إلاّ الأنْفَعَ ، والأصْلَحَ ، في الدِّين والدُّنْيَا ، وألا يقدم بِسَبَبِ الشَّهْوَةِ ، والغَضَبِ على مَا يَضُرُّهُ في الآخِرَةِ قال أنَسٌ -رضي الله عنه- : قلَّ ما خَطَبَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلا قال « لا إيْمَانَ لَمنْ لا أمَانَةَ لَهُ ، وَلاَ دِينَ لمَنْ لا عَهْدَ لَهُ » ، وقال تعالى { لاَ تَخُونُواْ الله والرسول وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ } [ الأنفال : 27 ] ، وقد عظَّم الله أمْرَ الأمَانَةِ فقال : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان } [ الأحزاب : 72 ] .
[ ويروي أنَّ الله - تعالى - خَلَقَ الدُّنْيَا كالبُسْتَانِ ، وزينها بخمسة أشْيَاء :
عِلْمَ العُلَمَاءِ ، وعَدْلِ الأمَرَاءِ ، وعِبَادَةِ العُلَمَاءِ ، ونَصِيحَةِ المُسْتَشَارِ ، ودفع الخيانة ] .
فصل في الخلاف في ضمان الوديعة
الأكْثَرُونَ على أنَّ الوديعةَ غير مضمونةٍ عند عَدَمِ التَّفْرِيطِ ، وعن بعض السَّلَفِ أنَّهَا مَضْمُونَةٌ .
روى الشَّعْبِيُّ عن أنَسٍ قال : اسْتَحْمَلَنِي رَجُلٌ بضاعةً ، فضاعت من بين ثيابي . فضمنني عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- .
وعن أنسٍ قال : كان لإنسان عندي وديعَةٌ سِتَّةُ ألاف درهَمٍ ، فذهبت فقال عُمَرُ : « ذهب لك معها شيء » ؟ [ قلت : لاَ ] فألزمني الضَّمَان .
وحجة الجُمْهُورِ ما رَوَى عمرة بنُ شُعَيْبٍ عن أبيه قال : قالَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم « لا ضَمَانَ عَلَى دَاع ، ولا [ على ] مُؤتَمَنٍ » ، وأما فِعْلُ عمر - رضي الله عنه- [ فهو ] محمولٌ على أنَّ المودع اعترف بفعل يوجب الضمان .
فصل في الخلاف في ضمان العارية
قال الشافعيُّ وأحمد : العاريةُ مَضْمُونَةٌ بعد الهَلاَكِ لقوله تعالى { إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات [ إلى أَهْلِهَا } ] والأمر لِلوُجُوبِ ، وقوله - عليه الصلاة والسلام : « على اليَد مَا أخَذْتْ حَتَّى تُؤديهُ » وخصت منه الوديعَةُ ، فيبقى العامُّ بَعْدَ التَّخْصيصِ حجة ، وأيضاً فإنَّا أجمعْنَا على أنَّ المستام مَضْمُونٌ ، وأنَّ المودع غيره مَضْمونٍ والعَارِيَة وقعت في البين ، ومشابهتها لِلْمُسْتَام أكثر؛ لأنَّ كلاّ منهما أخذه الأجنبي لغرض نفسه ، والوديعة أخذها لِغَرَضِ المالِكِ ، فظهر الفَْقُ بيْنَ العاريةِ والوديعة .
وقال أبُو حنيفةَ : [ العارية ] ليست مضمونة كقوله عليه السلامُ « لاَ ضَمانَ عَلَى مُؤتَمنٍ »
وجوابه مَخصوصٌ بالمستام ، فكذا في العَارِيَةِ ، ودليلنا ظاهِرُ الْقُرآنِ .
قوله : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل } [ فيكون ] قوله { أَن تَحْكُمُواْ } معطوف على { أَن تُؤدُّواْ } أي : يأمرُكُمْ بتَأدِيةِ الأمَانَاتِ والحكم بالعَدْلِ ، فيكونُ قد فصل بَيْنَ حرف العَطْفِ ، والمعطوف بالظَّرْفِ . وهي مسألة خلاف ذَهَبَ الفَارِسِيُّ إلى منعها لإلاّ في الشِّعْرِ .
وذهب غَيرُهُ إلى جَوازِهَا مُطْلَقاً ، ولنصححّ مَحَلّ الخلافِ أولاً : فنقولُ : إن حرف العطف إذا كان على حَرْفٍ واحدٍ كالواو ، والفاء هل يجوزُ أن يفصل بينه ، وبين ما عطفه بالظَّرف وشبهه أم لا؟
فَذَهَبَ الفَارسِيُّ إلى منعه مُسْتَدِلاً بأنَّهُ إذا كانَ على حَرْفٍ واحدٍ ، فقد ضَعُفَ ، فلا يتوسّط بينه ، وبين ما عطفه إلاّ في ضَرُورةٍ كقوله : [ المنسرح ]
1810- يَوْماً تَرَاهَا كَشِبْهِ أرْدِيَةِ الْ ... عَصْبِ وَيَوْماً أديمَهَا نَغِلاَ
تقديره : وترى أديمها نغلاً يوماً ، [ ففَصَل ب « يَوْماً » ] ، وذَهَبَ غَيْرَهُ إلى جَوَازَهُ مُسْتَدِلاّ بقوله : { رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً } [ البقرة : 201 ] ، { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] ، { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً [ ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً ] فَأغْشَيْنَاهُمْ } [ يس : 9 ] { الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ } [ الطلاق : 12 ] . { أَن تُؤدُّواْ الأمانات } [ الآية ] ، وقالَ صَاحِبُ هذا القول : إنَّ المَعْطُوفَ عليه إذَا كانَ مَجْرُوراً بِحَرْفِ ، أُعيدَ ذلك الحَرْفُ المعطوف نحو : امرر بزيدٍ وغداً بِعَمْرو ، وهذه الشَّواهدُ لا دَليلَ فيها .
أمَّا « في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة » ، وقوله { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } [ يس : 9 ] ، فلأنه عطف على شَيْئَيْنِ : عطف الاخرة على الدُّنْيَا بإعَادَةِ الخافض وعطف حسنة الثانية على حَسَنة الأولى ، وكذلك عطف « من خلفهم » على « من بين أيديهم » و « سدَّا » على « سدَّا » ، وكذلك البيت عطف فيه « أديمها » على المفعول الأوَّل ل « تَرَاها » ، و « نَغلاً » على الثاني وهو كشبه و « يوماً » الثَّاني على « يَوْماً » الأوَّلِ ، فلا فصل فيه حينئذٍ ، [ وحينئذ ] يقال : [ ينبغي ] لأبي عَلِيٍّ أنْ يمنعَ مطلقاً ، ولا يستثنى الضَّرُورَةَ ، فإن ما استشهده به مُؤوَّل على ما ذكرناه .
فإن قيل : إنَّما لم يجعله أبُو عَلِيّ من ذلك؛ لأنَّهُ يُؤدِّي إلى تخصيص الظَّرْفِ الثَّاني بما وقع في الأوَّلِ ، وهو أنَّه تراها كشبه أردية العصب في اليوم الأوَّلِ والثاني؛ لأنَّ حُكْمَ [ المعطُوف حكم ] المعطوف عليه ، فهو نَظِيرُ قولك : ضَرَبْتَ زَيْداً يَوْمَ الجُمْعَةِ ، ويوم السَّبْت ، ف « يَوْمَ » السَّبْت مُقيّدٌ بضرب [ زيد كما يُقَيَّدُ به يَوْمَ الجٌمعة ، لكن الغَرَضَ أنَّ اليومَ الثَّانِي في البيت مُقَيَّدٌ بِقَيْدٍ آخر ] وهو رُؤيَةُ أديمها نغلاً .
فالجوابُ : أنه لو تركنا [ و ] الظَّاهر من غير تَقْييدِ الظّرف الثَّاني بمعنى آخر كان الحكم كما ذكرت [ لأن الظاهر كما ذكرت ] في مثالك : ضربت زيداً يوم الجُمعَةِ [ وعَمراً ] يَوْمَ السَّبْتِ [ أما إذا قيَّدته بشيءِ آخر ، فقد تركت ذلِكَ الظَّاهِرَ لهذا النص ، ألا تَرضاكَ تَقُولُ : ضربتُ زيداً يَوْمَ الجُمْعَة ، وعمراً يوم السَّبت ] ، فكذلك هَذَا ، وهو مَوْضِعٌ يحتاجُ لِتَأمُّلِ .
وأما « فبشرناها بإسحاق » ، فيعقوب ليس مجروراً عَطْفاً على إسْحَاق ، بل منصوباً بإضْمَارِ فعل أي : ووهبنا لها يعقوبَ ، وَيَدُلُّ عليه قراءةُ الرَّفِع ، فإنَّهَا مؤذنة بانْقطَاعِهِ من البِشَارَة [ به ] ، كيف وقد تَقدَّم أنَّ هذا القائل يَقُولُ : إنَّهُ متى كان المَعْطُوفُ عليه مجروراً ، أُعيدَ مع المَعْطُوفِ الجار . [ و ] أما « أن يؤدوا الأمانات » ، فلا دلالة فيها أيضاً؛ لأن « إذَا » ظرف لا بُدَّ من عامل ، وعامله إما { أَن تَحْكُمُواْ } وهو الظَّاهِرُ من حيث المعنى ، وإما { يَأْمُرُكُمْ } فالأوَّلُ ممتنع ، وإن كان المعنى عليه؛ لأنَّ ما في حيز الموصول لا يتقدَّمُ عليه عند البصريين ، وأمّا الكُوفِيُّون فيجوِّزونَ ذلك ، ومنه الآية عِنْدَهُم ، واستَدَلُّوا بقوله : [ الرجز ]
1811- ... كَانَ جَزَائِي بالْعَصَا أنْ أجْلَدَا
وقد جاء ذلِكَ في المفعول الصَّريح في قوله : [ الكامل ]
1812- ... وَشِفَاءُ غَيِّكِ خَابِراً أنْ تَسْألِي
فكيف بالظرف وشبهه .
والثاني ممتنعٌ أيضاً؛ لأنَّ الأمْرَ ليس واقعاً وَقْتَ الحكم ، كذا قاله أبُو حَيَّان وفيه نَظَرٌ وإذا بَطَلَ هذا فالعامِلُ فيه مُقَدَّرٌ يُفَسَِرُهُ ما بَعْدَهُ تَقْدِيره : « وأن تحكموا إذا حكمتم » ، و « أن تحكموا » الأخيرة دالة على الأولى .
قوله « بالعدل » يجوزُ فيه وجهان :
أحَدُهُمَا : أنْ يتعلَّقَ ب « تحكموا » ، فتكونُ البَاء للتَّعدية ، والثانية : أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من فاعل تحكموا ، فتكونُ الباء للمصاحبة ، أي : ملتبسين بالعَدْلِ مصاحبين له .
والمعنيان مُتَقَارِبَان .
فصل
اعْلَمْ أن الأمانة عبارة عن أداء ما وَجَبَ عليك لِغَيْرِكَ ، والحكم بالحق عما إذا وجب لإنْسَانٍ على غيره حق ، فأمر من وَجَبَ عليه ذلك الحقّ بأن يدفعه إلى مَنْ له ذلك الحق .
ولما كان التَّرْتيب الصَّحيحُ أن يبدأ الإنسان بِنَفْسِهِ في جلب المَنَافِعِ ، ودفع المضار ، ثم يشتغل بغيره ، لا جَرَمَ أمر تعالى بِأدَاءِ الأمَانَةِ أوّلاً ، ثم ذكر بعد الأمر الحكم بالحَقّ ، وهذا من اللَّطَائِف المودعة في ترتيب القرآن .
فصل في وجوب حكم الإمام بالعدل
أجّمعُوا على أنَّهُ يَجِبُ على الحَكِمِ أنْ يَحْكُم بالعَدْلِ ، لهذه الآية ، ولقوله تعالى { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } [ النحل : 90 ] وقوله { وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا } [ الأنعام : 152 ] وقوله { ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق } [ ص : 26 ] ، وقال - عليه الصلاة والسلام : « لا تَزَالُ هذه الأمَّةُ بخَيْرٍ ما إذَا قَالَتْ صَدَقَتْ ، وإذَا حَكَمَتْ عَدَلَتْ وإذَا اسْترْحَمتْ رَحِمَتْ » وقال عليه الصَّلاةُ والسلامُ « المُقْسِطُونَ عِند اللهِ علَى منابر مِنْ نُورٍ عن يمينِ الرَّحمن ، وكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ؛ هُمُ الذين يَعْدِلُونَ في حُكْمِهِمْ وأهْلِيهِمْ ما وُلُّوا » وقال عليه الصَّلاة والسلامُ « إنَّ أحَبَّ النَّاس إلى اللهِ يومَ الْقِيَامَةِ ، وأقْرَبَهَمْ مِنْهُ مَجْلِساً إمامٌ عادِلٌ وإنَّ أبْغَضَ النَّاسِ إلى اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وأشَدّهُمْ عَذَاباً إمامٌ جَائِرٌ »
وقال عليه الصَّلاةُ والسلامُ « يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ القِيَامَةِ أيْنَ الظَّلَمَةُ ، فَيُجْمَعُونَ عَلَيْهِ في النَّارِ » .
يحقق ذلك قوله تعالى { احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ } [ الصافات : 22 ] وقوله { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون } [ إبراهيم : 42 ] .
فصل فيما يجب على القاضي نحو الخصمين
يجب على القاضي أن يسوِّي بَيْنَ الخصمين في الدُّخُول عيه ، والجُلُوس بَيْنَ يَدَيْهِ ، والإقبال عَلَيْهِمَا ، والاستماعِ منهما ، والحكم بَيْنهُمَا ، وينبغي إلا يلقِّنَ أحدهُمَا حُجَّةً ، ولا شاهداً شهادته ، ولا يلقّن المدّعي الدَّعْوَى ، والاستخلافَ ، ولا يلقنَ المُدَّعى عليه الإقْرَارَ ، ولا الإنْكارَ ، ولا يَضِيفَ أحَد الخَصْمَيْنِ دُونَ الأخر ، ولا يُجِيبَ هو إضَافَةَ أحدهِمَا ، ولا إلى إضافتهما مَا دَاما مُتَخَاصِمَيْنِ ، وعليه التَّسْوِيَة بينهما في الأفْعَالِ دون القلب؛ لأنَّهُ لا يمكنُ أنْ يتحرَّز من ميل قلبه .
قوله : { إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ } قد تقدَّمَ الكلامُ على ما المتصلة ب « نعم » ، و « بئس » إلا أنَّ ابْن عَطِيَّة نقل هنا نَقْلاً لا يَبْعُدُ مِنْ وَهْمٍ! . قال : و « ما » المُرْدَفَةُ على نعم ، وبئس إنَّمَا هي المُهيئَةُ لاتّصَالِ الفِعْلِ كما هي في رُبَّمَا ، ومما في قوله : وكان رَسُولُ الله مما يحرك شَفَتَيْه وكقول الشَّاعر : [ الطويل ]
1813- وإنَّا لَمِمَّا نَضْرِبُ الْكَبْشَ ضَرْبَةً ... عَلَى رَأسِهِ تُلْقِي اللِّسَانَ مِنَ الْفَمِ
وفي هذا بمنزِلَةِ رُبَّمَا ، ومنزلتها مخالفة في المَعْنَى؛ لأنَّ رُبَّمَا للتَّعْلِيلِ ، ومما للتَّكْثِيرِ ومع إنما هي موطّئة ، فهي بمعنى الَّذي ، وما وطَّأتْ إلاّ وهي اسمٌ . ولكن المقصد إنما هو لا يليها من المَعْنَى الذي في الفِعْل .
قال أبُو حَيَّان وهذا متهافتٌ؛ لأنه من حَيْثُ جعلها مُوَطِّئَةً مُهَيَّئَةً ، لا تكونُ أسماء ، ومن حَيْثُ جعلها بمعنى الَّذِي يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ اسْماً ، فتدافعا .
فصل : في معنى قوله « نعما يعظكم »
المعنى : نِعْمَ شَيئاً يعظكم به ، أو نِعْمَ الشَّيء الذي يعظكُم بِه .
والمخصوص بالمدح مَحْذُوفٌ ، أي : نِعْمَ ما يَعِظُكُم بِهِ ذلك ، وهو المأمور به : من أدَاءِ الأمَانَاتِ والحُكْمِ بالعَدْلِ ، أي : بالقسط ، ثم قال : { إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً } ، أي : إذا حكمت بالعدل ، فهو يَسْمَعُ ذلِكَ ، لأنَّهُ سميعٌ لِكُلّ المَسْمُوعاتِ ، وإنْ أدَّيْتَ الأمَانَةَ ، فهو بَصِيرٌ بكُلِّ المبصرات يبصر ذلك ، وهذا أعْظَمُ أسْبَابِ الوَعْدِ للمطيع ، وأعظم أسْبَابِ الوعيدِ للعاصي . وإليه الإشارة بقوله - عليه الصَّلاة والسَّلامُ - « اعْبُد اللهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ فإنْ لَمْ تكُنْ تَرَاهُ فإنَّهُ يَرَاكَ » .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
اعلم أنَّهُ تعالى لما أمر الولاة بالعَدْلِ ، أمر الرعية بطاعة الوُلاَةِ .
قال ابْنُ عَبَّاسٍ وجَابِرٌ : أولو الأمْرِ : [ هُمُ ] الفُقَهَاءُ ، والعلماءُ الَّذِينَ يعلِّمُونَ النَّاسَ دينهم .
وهو قَوْلُ الحَسَنِ ، والضَّحاكِ ومُجاهِدٍ . لقوله تعالى « ولو ردوه إلى الرسول [ وإلى ] أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم » .
وقال أبُو هُرَيرَة : هم الأمَرَاءُ والوُلاة ، وقال عليُّ بْنُ أبي طالبٍ : حقٌّ على الإمام أن يَحْكُمَ بما أنْزَلَ اللهُ ، ويُؤَدِّي الأمَانَة ، فإذا فَعَلَ ذلك؛ حَقَّ علي الرَّعِيَّةِ أنْ يَسْمَعُوا ، وَيُطِيعُوا .
وروى أبُو هُرَيْرَة قال : قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم « مَنْ أطَاعَنِي؛ فَقَدْ أطَاعَ اللهَ ، ومَنْ يَعْصِنِي ، فَقَدْ عَصَى الله ، ومَنْ يُطِعِ الأمِيرَ؛ فَقَدْ أطَاعَنِي ومن يعصي الأميرَ ، فَقَدْ عَصَانِي » وقال عليه الصَّلاةُ والسلامُ « السَّمْعُ والطَّاعَةُ على المرءِ المُسْلِمِ فيما أحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤمَرْ بِمَعْصِيَةٍ فَإذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ ، فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ » .
وروى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ قال : بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم على السَّمْعِ والطَّاعَةِ في اليُسْر ، والعُسْر ، والمَنْشَطِ ، والمَكْرَه ، وألاَّ نُنَازعَ الأمْرَ أهْلَهُ ، وأنْ نَقُومَ ، أوْ نَقُولَ بالحَقّ ، حَيْثُ مَا كُنَّا ، لا نَخَافُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لائِمٍ .
وعن أنَسٍ : أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذرّ : « اسْمَعْ ، وأطِعْ وَلَوْ لِعَبْدٍ حَبَشِيّ كأنَّ رَأسَهُ زَبيبة » .
وروى أبُو أمَامَةَ قال : « سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطِبُ في حجة الوَدَاعِ فقالَ : » اتَّقُوا اللهَ ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ ، وأدُّوا زَكَاةَ أمْوالِكُمْ ، وأطِيعوا إذا أمَرَكُم؛ تَدْخُلُوا جَنَّةَ ربِّكُم « .
وقال سعيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عن ابن عبَّاسٍ المُرادُ السَّرَايَا قال : نزلت هذه الآية في عبيد الله بن أبي حُذَافَةَ بْنِ قَيْس بْن عدِيّ السّهميّ إذ بعثه النّبي صلى الله عليه وسلم [ في سرية ، وعن ابن عباس أنَّها نزلت في خَالدِ بْنِ الوَلِيدِ بَعَثَهُ ] النبي صلى الله عليه وسلم على سَرِيَّةٍ ، وفيها عَمَّارُ بْنُ يَاسِر فجرى بَيْنَهُمَا اخْتِلاف في شَيْءٍ ، فَنَزَلَتْ هذه الآية .
[ و ] قال عكْرمَة : أولو الأمْرِ أبُو بَكْر وعُمَر؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - » [ اقتدوا ] باللذيْنِ من بَعْدِي أبِي بكْرٍ وعُمَر « ، وقيلَ : هم الخُلَفَاءُ الرَّاشِدُون .
وقال عَطَاء : هم المُهَاجِرُون والأنْصَار ، والتَّابِعُون لهم بإحْسَانٍ؛ لقوله - تعالى- : { والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار } [ التوبة : 100 ] الآية ، ولقوله- عليه السلام- : » مَثَلُ أصْحَابِي في أمَّتِي كالمِلْحِ في الطَّعَامِ ، ولا يَصْلُح الطَّعَامُ إلا بالمِلْحِ « ، وقال الحسَن : قد [ ذهب ] مِلحُنَا ، فكيف نَصْلُحَ .
ونُقِلَ عن الرَّوافِضِ أنَّ المُرَاد بأولي الأمْرِ : الأئِمُّة المَعْصُومون .
فإن قيل : طَاعَةُ الرَّسُولِ هي طاعَةُ اللهِ ، فالمعنى العَطْفُ .
فالجواب : قال القَاضِي : الفَائِدَةُ في ذَلِكَ بَيَان الدِّلالَتَيْنِ ، فلكتاب يَدُلُّ على أمْرِ الله ، ثم يُعْلَم مِنْهُ أمر الرَّسُولِ لا مُحَالَة ، والسُّنَّة تدلُّ على أمْرِ الرَّسُول ، ثم يُعْلَم مِنْهُ أمر اللهِ لا محالة ، فَدَلّ قوْلُه : » أطيعوا الله وأطيعوا الرسول « على وُجُوب مُتَابَعَة الكِتَابِ والسُّنَّةِ .
فصل في معنى « الطَّاعَة »
قالت المعتزلة : الطَّاعَة موافقَةُ الإرَادة ، وقال أهْل السُّنَّة : الطَّاعَةُ مُوافقَةُ الأمرِ لا مُوافَقَةُ الإرَادَةِ؛ لأنَّ الله قد يَأمُر ولا يُريدُ؛ كما أمر أبَا لَهَبٍ بالإيمَانِ مع انَّه لم يُرِدْهُ منه ، إذ لو أرَادَهُ لا مَحَالَة .
فصل
استدلُّوا بقوله - تعالى- : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } على أن الأمَر للوُجُوب ، [ واعترض عليه المُتَكَلِّمُون؛ فقالوا : هذه الآيةُ لا تَدُلُّ على الوُجُوب إلا إذا ثَبَتَ أن الأمْرَ للوجُوبِ ] ، وهذا يَقْتَضِي افْتَقَار الدَّليل إلى المَدْلُولِ .
وأجيبُ بوَجْهَينِ :
الأوَّل : أن الأمر الوَارِدَ في الوَقَائِع المخصُوصةِ على النَّدْبيَّة ، فقوله : { أَطِيعُواْ الله } لو اقْتَضَى النَّدْبَ ، لم يَبْقَ لِهَذِه الآيَةِ فائِدَةٌ .
الثاني : أنه خَتَمَ الآيَةَ بِقَوْلِهِ : { إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } وهذا وعيد .
قوله : « منكم » في محلِّ نَصْبٍ على الحَالِ من « أولي الأمر » فيتعَلَّقُ بمَحْذُوفٍ ، أي : وأُولِي الأمْرِ كائِنِينِ مِنكُم ، و « مِنْ » تَبْعِيضية .
قوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ } [ اختلَفْتُم ] ، { فِي شَيْءٍ } [ أيْ : ] من أمْرِ دينكُم ، والتَّنَازُع : اخْتِلافَ الآرَاءِ .
قال الزَّجَّاج : اشْتِقَاق المُنَازَعَة من النَّزْعِ الَّذِي هُوَ الجَذْب ، والمُنَازَعَةُ : عبارة عن مُجَاذَبَةِ كُلِّ واحدٍ من الخَصْمَيْن ، يَجْذِب بِحُجَّةٍ صَحِيحَةٍ .
قوله : { فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول } [ أي : إلى الكِتَابِ والسُّنَّةِ ] .
وقيل : الرَّدُّ إلى الله والرَّسُول؛ أن يقُول لما لا يعْلَمُ : « الله ورسوله أعلم » .
فصل في دلالة الآية على حجية القياس
دلت هذه الآيةُ على أنَّ القياس حُجَّة؛ لأن قوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ } إمَّا أن يكُون المُرادُ منه « فإن اختلفتم في شيء » أي : حكم مَنْصُوصٍ عليه [ في الكِتابِ أو السُّنَّةِ أو الإجْمَاعِ ] ، [ أو يكون المُرادُ : « فإن اختلفتم في شيء » حكمه غير مَنْصُوصٍ عليه في شَيء من هذه الثَّلاثة ] .
والأوَّل بَاطِلٌ : لأنَّ الطَّاعَة واجِبَةٌ ، لقوله : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ } فيَصِيرُ قوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول } إعادة لعين ما مَضَى ، وذلك غيْر جَائِزٍ ، فيتَعَيَّن أن يكُون المُرَادُ : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ } حكمه غير مَذْكُورٍ في الكِتَابِ والسُّنَّةِ والإجْمَاعِ ، فيَجِبُ أن يُرَدّ حُكْمُه إلى الأحْكَامِ المَنْصُوصَةِ المُشَابِهَة له ، وذلِك هُوَ القِيَاسُ .
فإن قيل : لِمَ لا يَجُوزُ أن يكُون المرادُ بِقَوْلِهِ : { فَرُدُّوهُ } أي : فَوَّضُوا حُكْمَه إلى اللهِ ولا تَتَعرَّضُوا له ، أو يكون المرادُ : رُدُّوا غيْر المَنْصُوصِ إلى المَنْصُوصِ؛ في أنَّه لا يُحْكَمً فيه إلاَّ بالنَّصِّ ، أو فرُدُّوا هذه الأحْكَام إلى البَراءة الأصْلِيَّة .
والجواب عن الأوَّل والثَّاني : أنه - تعالى - جعل الوَقَائِعَ قِسْمَيْن : منها ما هُو مَنْصُوصٌ علَيْه ، ومِنْهَا ما لا يكُون كذلك ، ثم أمر في القِسْمِ الأوَّلِ بالطَّاعةِ والانْقِيَادِ ، وأمر في الثَّانِي بردِّه إلى الله وإلى الرَّسُول ، ولا يجوزُ أن يكُونَ المُرادُ بِهَذَا الرَّدِّ السكوت؛ لأن الواقِعَةَ رُبَّمَا كانَت لا يَحِلُّ السُّكُوت فيها ، بل لا بُدَّ من قطْعِ الخُصُومَةِ فيها ، إما بِنَفْيٍ أو إثْبَاتٍ ، فامْتَنَعَ حَمْلُ الرَّدِّ إلى اللهِ على السُّكُوتِ .
وأما الثالث : فإنَّ البَرَاءَة الأصْلِيَّة مَعْلُومَةٌ بحكم العَقْلِ ، فارَّدُّ إليها لَيْسَ رَدَّاً إلى الله ، وإذا رَدَدْنا حكْمَ الواقِعَةِ إلى الأحْكامِ المَنْصُوص عليها ، كان ذلك رَدّاً إلى أحْكام الله - تعالى- .
فصل في تقديم الكتاب والسنة على القياس
دَلَّت هذه الآيَةُ على أنَّ الكِتَاب والسُّنَّة مُقدِّمان على القِياسِ مُطْلقاً ، فلا نَتْرُك العَمَل بهما بِسَبَبِ القِياسِ ، ولا يجوزُ تَخْصِيصُهَا ألْبَتَّة ، سَوَاءً كان القِياسُ جَليَّا أو خَفيَّا ، وسواءً كان ذلِكَ النَّصُّ مَخْصُوصَاً قبل ذَلِك أمْ لاَ؛ لأن الله - تعالى - أمَر بطاعَةِ الكِتَابِ والسُّنَّةِ في قوله : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } سواء حَصَلَ قياسٌ يُعَارِضُهمَا أو يُخَصِّصُهُمَا ، أوْ لم يُوجَد؛ ولأن قوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله } صريح بأنه لا يجوزُ العُدولُ إلى القياسِ ، إلاَّ عند فُقْدان الأصُولِ الثلاثةَ ، وأيضاً فإنَّهُ أخّر ذلك القياس عن ذِكْرِ الأصُولِ الثَّلاثَةِ ، وذلك فُقْدان الأصُولِ الثلاثَةِ؛ ولأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَبَرَ هذا التَّرتيبَ في قِصَّةِ مُعَاذٍ ، وأخر الاجتهاد عن الكِتَابِ والسُّنَّةِ ، وعَلَّقَ جَوازَهُ على عدمِ وُجْدَانِهِمَا ، ولمَّا عَارَضَ إبْليسُ عموم الأمْرِ بالسُّجُودِ بِقياسِهِ في قوله : « خلقتني من نار وخلقته من طين » فخصَّ العُمُوم بالقياس ، وقدَّمه على النَّصِّ ، فصَار بهذا السَّبَبِ مَلعُوناً ، وأيضاً فغن القُرْآن مَقْطُوع بِمتْنِهِ ، والقِيَاسُ مَظْنُون من جميع الجهاتِ ، والمَقْطُوع راجحٌ على المَظْنُون ، وأيضاً العَمَلُ بالظَّنِّ من صِفَاتِ الكُفَّارِ في قولهم : { مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } [ الأنعام : 148 ] . ثم قال { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } [ النجم : 23 ] وقال -عليه السلام- : « إذَا رُوِي عَنِّي حَدِيثٌ ، فاعْرِضُوهُ على كِتَابِ اللهِ ، فإن وَافَقَهُ فاقْبَلُوهُ ، وإلا فَرُدُّوهِ » فهذه النٌّصوصُ تَقْتَضِي ، أن لا يجُوزُ العَمَلَ بالقِيَاسِ الْبَتَّةَ ، وإنما عَمِلْنَا بالقِيَاسِ فيما لا نَصَّ فيه ، ولا دلالة دَلَّت على وُجُوبِ العَمَلِ بالقِيَاسِ ، جَمْعاً بَيْنَهَا وبين هذه الأدِلَّةِ . انتهى .
فصل في دلالة الآية على أكثر علم الأصول
دَلَّت هذه الآيةُ على أكْثَرِ أصُولِ الفِقْه؛ لأن أصُول الشَّريعَة هي الكِتَابُ والسُّنَّةُ والإجْماع والقياسُ ، فقوله : [ تعالى ] « أطيعوا الله وأطيعوا الرسول » إشارة للكِتَابِ والسُّنَّةِ ، وقوله : « وأولي الأمر منكم » يدل على الإجماع؛ لأنه -تعالى- أوْجَب طَاعَةَ أولي الأمْر ، وذلِك يَسْتَلْزمُ عِصْمَتَهُم عن الخَطَأ ، وإلاَّ لَوجَبَ طاعَتُهُ عند كَوْنهِ مُخْطِئاً ، واتِّبَاع الخَطَأ مَنْهِيٌّ عَنْه ، فيجتمع الأمْرُ والنَّهْي [ وهو مُحَالٌ ] ؛ فَثَبتت العِصْمَةُ لأولِي الأمْرِ ، إمَّا أن يكُونُوا جَميع الأمَرَاء ، أو بَعْضَهُم ، ولا يُمْكِنُ أنْ يَكُونُوا بعضهُم؛ لأن الأمْرَ بِطَاعَتِهِم مَشْروطٌ بمعْرِفَتِهِم ، والقُدْرَةِ على الاسْتِفَادِةِ مِنْهُم ، ونحن عَاجِزُونَ قَطْعاً عن مَعْرِفَةِ الإمام المَعْصُوم والوُصُول إليْه؛ فوجَبَ أن يكُونَ المُرَادُ من { َأُوْلِي الأمر } أولي الحَلِّ والعَقْدِ من هَذِه [ الأمَّة ] وهو الإجْمَاعُ .
فإن قيلَ : المُرَادُ ب { َأُوْلِي الأمر } الخُلَفاء الرَّاشِدُون ، او أمَرَاءُ السَّرايا أو العُلَماء المُفْتُون في الأحْكَامِ الشَّرعيَّة ، أو الأئمَّةُ المعْصُومون عند الرَّوَافِضِ ، فالقَوْلُ الذي اخْتَرْتُمُوهُ خارجٌ عن أقْوَالِ الأمَّة فيَكُون بَاطِلاً ، أو تُحمَلُ الآيةُ على الأمَرَاءِ والسَّلاطين؛ لنفوذ أمرهم في الخَلْقِ ، بخلاف أهل الإجْمَاع؛ ولقوله -عليه السلام- : « مَنْ أطَاعَنِي فَقَدْ أطَاعَ الله ، [ ومَنْ أطاعَ أمِيرِي فَقَدْ أطَاعَنِي ] ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى الله ، ومَنْ عَصَى أمِيري فَقَدْ عَصَانِي » .
فالجواب عن الأوَّل : أنَّ جماعةً من الصَّحابَة والتَّابعين حَمَلُوا « أولي الأمر » على العلماء ، فليْسَ قولُنَا خَارِجاً عَنْهُم .
وعن الثَّاني : أنَّ الوُجُوه التي ذكرُوهَا ضَعِيفَةً ، لا تعارض بالبُرْهَانِ القَاطِعِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مع أنَّهَا مُعَارَضَة بوجوهٍ :
الأوَّل : أنَّ طاعَة الأمَراءِ إنَّما تَجِبُ فيما عُلِمَ بالدَّلِيلِ أنَّهُ حَقٌّ ، وذلِك الدَّلِيلُ هُو الكِتَابُ والسُّنَّةُ؛ ليكُون هذا داخلاً في طَاعَةِ الله [ ورسُولِهِ ] كما أنَّ الوالِدَيْن والزَّوْج ، والأستاذِ داخِلٌ في ذَلِكَ ، وإذا حَمَلْنَاهُ على الإجْمَاعِ ، لم يَدْخُل في ذلك؛ لأنَّهُ ربما ثبت بالإجْمَاعِ حكم ولا دليل في الكتاب والسُّنَّة عليه فَكَانَ أوْلَى .
الثاني : أنَّ طاعَة المَرَاءِ إنما تَجِبُ إذا كانُوا على الحّقِّ فطاعتهم مَشْرُوعة بالاسْتَقَامَةِ .
الثالث : قوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ } يُشْعِر بإجْمَاعٍ تَقَدَّمَ ، وحدث بَعْدَه التَّنَازُع .
الرابع : أنَّ طاعَةَ [ أهْل ] الإجْمَاعِ واجبَةٌ قَطْعاً ، [ وأمَّا طاعَة ] الأمَرَاء والسَّلاطين فغير وَاجِبَةٍ قَطْعاً ، بل الأكْثَر تكون مُحَرَّمة؛ لأنهم لا يَأمُرون إلاَّ بالظُّلْم ، وفي الأقل تكون وَاجِبَةً [ لهذا كَانَ حَمْل الآيَةِ على الإجْمَاعِ أولى ] .
الخامس : أوامِرُ السَّلاطِين مَوْقُوفَة على فَتَاوى العُلَمَاء؛ فالعُلَمَاءُ في الحَقِيقَةِ أمَرَاء ، فَحَمْلُ أولي الأمْرِ عَلَيْهِم أوْلى ، وأمَّا حَمْل الرَّوَافِض الآية على الإمَامِ المَعْصُوم ، فَيُقَيَّد بما ذُكر من أنَّ طَاعَتَهُم تتوَقَّفُ على مَعْرَفَتهم ، والقُدْرَة على الوُصُولِ إلَيْهِم ، فَوُجُوبُها قَبْل ذلك تَكْلِيفُ ما لا يُطَاقُ ، وأيضاً فَطَاعَتُهُم مَشْرُوطَةٌ وظاهر قوله : { أَطِيعُوا } يقتضي الإطْلاق ، وأيضاً فَقَوْلُه : { فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول } لو كان المُرادُ منه الإمام المَعْصُوم ، لقيل : فردُّوهُ إلى الإمَام .
فصل : من المعتبر في الإجماع؟
إذا ثَبَت أن الإجْماع حُجَّة ، فاعلم : أن المُعْتَبَر إجْمَاعُهم هُمُ الذين يُمْكِنُهُم استِنْبَاط الأحْكَام الشَّرعيَّة من الكِتَابِ والسُّنَّة ، و [ هم ] المُسَمَّون بأهْلِ الحَلِّ والعَقْدِ ، فهم الَّذين يُمْتَثَلُ أمْرُهُم ونَهْيُهُم بِخلاف المُتَكَلِّم ، والمُقْرِئ والمُحْدِّث والعَوَامّ لا يُمْكِنُهم الاسْتِنْبَاط .
فصل : لا عبرة في الإجماع بالفرق الضالة
دَلَّت الآيةُ على أنّ العِبْرَة بإجْمَاع المُؤمِنين ، فأمَّا من يشكُّ في بإيمانِهِ من سائِرِ الفرقِ فلا عِبْرَةِ بِهِم .
فصل : حصر الأدلة أربعة
دَلَّت [ هذه ] الآيةُ على أنَّ ما سِوَى هذه الأصُولِ الأرْبَعَة ، أعني : الكِتَابِ والسُّنَّة والإجْمَاعِ والقياسَ باطِلٌ؛ لأنه -تعالى- جعل الوَقَائِعِ قِسْمَيْن :
أحدهما : مَنْصُوص عليه فأمر فيه بالطَّاعَةِ ، بقوله [ -تعالى- ] : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ } .
والثاني : غير مَنْصُوص عليه [ وأمر فيه بالاجتهاد بقوله -تعالى- : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول } ] ، ولم يزد على ذَلِكَ؛ فدلَّ على أنه لَيْسَ للمكَلَّفِ أن يَتَمَسَّك بشَيْءٍ سِوَى هذه الأرْبَعَة ، فالقَوْلُ بالاسْتِحْسَانِ الذي تَقُولُ به الحَنَفِيَّةُ ، والقول بالاسْتِصْحَابِ الذي تقُولُ به المالِكِيَّة قو بَاطِلٌ لهذه الآية .
فصل : في الاقتداء بقول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله
المنْقُول عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إن كان قَوْلاً ، وَجَبَ طَاعَتُهُ؛ لقوله -تعالى- : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } وإن كان فِعْلاً ، وجب الاقْتِدَاءُ بِهِ إلاّ ما خصَّه الدَّلِيل؛ لقوله -تعالى- : { واتبعوه } [ الأعراف : 158 ] ، والمُتَابَعَةُ عِبارَةٌ عن الإتْيَانِ بمثل فِعْل الغَيْرِ؛ لأجْلِ أنَّ ذلك الغَيْر فَعَلَهُ .
فصل : الأمر في الشرع يدل على التكرار
ظَاهِر الأمْرِ في عُرْفِ الشَّرْع يدل على التِّكْرَارِ لوُجُوه :
الأول : أن قوله : { أَطِيعُواْ الله } يَصِحُّ منه اسْتِثْنَاء أيِّ وقْتٍ كان ، وحُكْمُ الاسْتِثْنَاء إخْرَاج ما لوْلاَهُ لَدَخَل؛ فوجَبَ أن يكُون قوله : { أَطِيعُواْ الله } مُتَنَاوِلاً لكُلِّ الأوْقَاتِ ، وذلِك يَقْتَضِي التَّكْرَار .
والقول الثاني : لو لَمْ يفدْ ذَلِك ، لصارت الآيةُ مُجْمَلة؛ لأن الوَقْتَ المخصُوصَ والكيْفِيَّة المخْصُوصَة غير مَذْكُورة ، فإذا حَمَلَنَاهُ على العُمُوم كانت مُبَيِّنة ، وهو أوْلَى من الإجْمَالِ ، أقصَى ما في البَابِ أنَّه يدخل التَّخْصيص ، والتَّخْصيص خَيْرٌ من الإجْمَال .
الثالث : أنه أضَاف لَفْظَ الطَّاعَةِ إلى لَفْظِ اللهِ ، [ وهذا ] يَقْتَضِي أن مَنْشَأ وجوب الطَّاعَةِ هو العُبُودِيَّةُ والرُّبُوبِيَّةِ ، وذلك يَقْتَضِي دوامَ وُجوبِ الطَّاعَةِ على المكَلَّفين إلى يَوْمِ القِيَامَة .
فصل
قال - [ تعالى ] - : « أطيعوا الله » فأفرَدَهُ بالذِّكْر [ ثم ] قال : « وأطيعوا الرسول وأولِي الأمر » وهذا تَعليمٌ من الله لنا الأدب ، ولذلك « رُوِيَ أن رجلاً قال بِحَضْرَة الرَّسُول -عليه الصلاة والسلام- : » مَنْ أطَاعَ اللهَ والرَّسُولَ فَقَدْ رشَدَ ومَنْ يَعْصِهِمَا فقد غَوَى « ، فقال -عليه السلام- :
» بِئْس الخَطِيبُ أنْتَ هَلا قُلْتَ : مَنْ عَصَى اللهَ وعَصَى رَسُولَهُ « أو لفظ هذا مَعْنَاه؛ وذلك لأنَّ الجَمْعَ بينَهُمَا في اللَّفْظِ يوهِمُ نَوْع مُنَاسَبةٍ ومُجَانَسة ، والله - تعالى - مُنَزَّهٌ عن ذلك .
فصل : في فروع تتعلق بالإجماع
دلَّ قوله - تعالى- : { وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ } على أن الإجْمَاع حُجَّة ، وهَهُنا فروعٌ :
الأوَّل : أن الإجْماع لا يَنْعَقِدُ إلا بقوْل العُلَمِاء ، الذين يمكِنُهُم اسْتِنْبَاطُ أحْكَامِ الله - تعالى - من نُصُوص الكِتَابِ والسُّنَّةِ ، وهؤلاء هم المُسَمَّون بأهْلِ الحَلِّ والعَقْدِ .
الثاني : اخْتَلَفُوا في الإجماعِ الحَاصِلِ عَقِيب الخلافِ ، هل هو حُجَّة أمْ لاَ ، وهذه الآيةُ تَدُلُّ على أنَّه حُجَّة ، لأنَّه قَوْلً جميعِ أهْل الحَلِّ والعَقْدِ من الأمَّةِ ، فيدخُل في الآيةِ سَواءٌ وجد قَبْلَهُ خِلافٌ ، أم لا . الثالث : اختلفُوا في انقِراض أهْل العَصْرِ ، هل هو شَرْطٌ أم لا ، وهذه الآية تَدُلُّ على انَّه لَيْسَ بِشَرْط؛ لأنَّها تَدُلُّ على وُجُوبِ طَاعَةِ المُجْمِعين ، سَوَاء انْقِرض [ أهْل ] العَصْرِ أم لم يَنْقَرِضِ .
الرابع : دَلَّت الآيَةُ على أن العِبْرَةِ بإجْمَاعِ المُؤمِنين؛ لقوله - [ تعالى ] - « يا أيّها [ الذين آمنوا ] ثم قال : » وأولي الأمر منكم « .
قوله : إن كُنتُم » شرط ، جوابُه مَحْذُوفٌ عند جُمْهُور البَصْريَّين ، أي : فَرُدُّوه إلى اللهِ ، وهو مُتقدِّم عند غيرهم .
وهذا الوعِيدُ يحتمل أن يكُون مَخْصُوصاً بقوله : { فَرُدُّوهُ } ، ويُحْتَمل أن يكُون عَائِداً إلى قوله : « أطيعوا الله وأطيعوا الرسول » .
فصل
ظاهر قوله : { إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } يَقْتَضِي أنَّ من لم يُطِع الله والرَّسُول لا يَكُونُ مُؤمِناً ، فيخرج المُذْنِب عن الإيمانِ ، لكِنَّه مَحْمُولٌ على التَّهْديدَ ، وقوله : { ذلك خَيْرٌ } أي : الَّذي أصْدُقُكم في هذه الآيَاتِ من الأحْكَام ، والطَّاعَة ، والردِّ إلى اللهِ والرَّسُول خيرٌ لكم ، « وأحسن تأويلاً » ، أي : مآلاً؛ لأن التَّأوِيل عِبَارةٌ عن الشَّيْء ومرْجِعِه وعاقِبتهِ و { تَأْوِيلاً } نَصْب على التَّمْيِيز .
فصل
قال أبو العبَّاس المُقْرِي : ورَدَ التَّأويل في القُرْآنِ على أرْبَعَةِ أوْجُه :
الأوَّل : بمعنى العَاقِبَة كَهَذِه الآيَة .
الثاني : بمعنى المُنْتَهى؛ قال - تعالى - : { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله } [ آل عمران : 7 ] أي : ما يَعْلَمُ مُنْتَهَى تأويلِهِ إلا الله .
الثالث : بمعنى تَعبير الرُّؤيَا؛ قال - تعالى - : { أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ [ فَأَرْسِلُونِ ] } [ يوسف : 45 ] أي : بعبَارتهِ؛ ومثله : { وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث } [ يوسف : 6 ] أي : تَعْبير الرُّؤيَا .
الرابع : بمعنى التَّحقِيق؛ قال - تعالى- : { هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ } [ يوسف : 100 ] أي : تحقيق رُؤيَايَ؛ ومثل الوجه الأوَّل : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } [ الأعراف : 53 ] أي : عاقبته ، [ ومثله : { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } [ يونس : 39 ] أي : عَاقبته .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)
لما أوْجَبَ الطَّاعَة على جميع المُكَلَّفين في الآيةِ الأولَى ، ذكر في هذه الآيةِ أن المُنَافقين والذين في قُلُوبهم مَرَضٌ لا يُطيعُون الرَّسولَ ، ولا يَرْضُونَ بحُكْمِهِ ، وإنما يُريدُون حُكْمَ غيره ، و « الزَّعم » بفتح الزَّاي وضمها وكسرها مصدر زَعَم ، وإنما يُريدُون به اعتِقادٌ ظَنِّيٌّ؛ قال : [ الطويل ]
1814- فَإنْ تَزْعُمِيني كُنْتُ أجْهَلُ فِيكُمُ ... فَإنِّي شَرَيْتُ الْحِلْمَ بَعْدَكَ بِالجَهْلِ
قال ابنُ دُرَيْد : أكثرُ ما يَقَعُ على البَاطِلِ ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : « بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا » .
وقال الأعْشى : [ المتقارب ]
1815- وَنُبِّئْتُ قِيْساً وَلَمْ أبْلُهُ ... كَمَا زَعَمُوا خَيْرَ أهْلِ الْيَمَنْ
فقال المَمْدُوح : وما هُو إلا الزَّعْم ، وحَرَمَهُ ولم يُعْطِهِ شَيْئاً ، وذكر صَاحِبُ العين أنَّها تَقَع غَالِباً [ على « انَّ » ] وقد تَقَعُ في الشِّعْر على الاسْمِ ، وأنشد بيت أبي ذُؤيْب ، وقول الآخر : [ الخفيف ]
1816- زَعَمَتْنِي شَيْخاً وَلَسْتُ بِشَيْخٍ ... إنَّمَا الشَّيْخُ مَنْ يَدِبُّ دبِيبَا
قيل : ولا يُسْتَعْمَل في الأكْثَرِ إلا في القَوْلِ الذي لا يَتَحَقَّقُ .
قال الليث : أهْل العَرَبيَّةِ يَقُولُون : زَعم فُلانٌ؛ إذَا شَكَّوا فيه فلم يَعْرِفُوا أكذبَ أمْ صَدَق؛ وكذلك تَفْسِير قوله : { هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ } [ الأنعام : 136 ] أي : بقولهم الكَذِب .
قال الأصْمَعِيّ : الزَّعُومُ من الغَنَم الذي لا يُعْرَفُ أبها شحم أم لا وقال ابن الأعْرابِيّ : الزَّعْم قد يُسْتَعْمل في الحَقِّ ، وأنشد لأميَّة بن أبي الصَّلْت : [ المتقارب ]
1817- وإنِّي أدينُ لَكُم أنَّهُ ... سَيَجْزيكُمُ رَبُّكُمُ مَا زَعَمْ
وزعم [ تكُون ] بمعنى : ظَنَّ وأخَوَاتِهَا ، فيعَدَّى لاثْنَيْنِ في هَذِه الآيةِ ، و « أنَّ » سادَّةٌ مَسَدَّ مفْعُوليها ، وتكون بمعْنًى « » كَفَل « فتتعدى لِوَاحِدٍ؛ ومنه : { وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } [ يوسف : 72 ] ، وبمعنى رَأس ، وكذب وسَمُن ، وهَزُلَ ، فلا تتعَدَّى ، وقرأ الجمهور : { أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } مبنياً للمَفْعُول ، وقُرِئا مبنيِّيْن للفاعِلِ ، وهو الله -تعالى- .
فصل : سبب نزول الآية
روي في سبب النُّزُولِ وُجُوه :
أحدُها : قال الشَّعْبِي : كان بَيْنَ رَجُلٍ من المُنَافِقِين خُصُومَة ، فقال اليَهُودِيّ : نتحاكمُ إلى مُحَمَّد؛ لأنه عَرَفَ أنَّهُ عَرَفَ أنَّهُ لا يأخُذ الرَّشْوَة ، ولا يَمِيلُ في الحُكْمِ ، وقال المُنَافِقُ : نتحَاكمُ إلى اليَهُودِِ؛ لِعِلِمه أنَّهم يأخذُون الرَّشْوَة ويميلُون في الحُكْمِ ، فاتَّفَقَا على أن يَأتِيَا كَاهِناً في جُهَيْنَةَ ، فَيَتَحَاكَمَا إلَيْه ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآية .
قال جابر : كَانَتِ الطَّواغِيتُ التي يَتَحَاكَمُون إليها واحدٌ في جُهَيْنَة ، ووَاحِدٌ في أسْلَم ، وفي كُلِّ حَيٍّ واحدٌ كَهَّان .
وروى الكَلْبِي عن أبِي صَالِح عن ابن عبَّاسٍ : نَزَلَتْ في رَجُلٍ من المُنَافِقِين يُقال لَهُ : بشر ، كان بَيْنَهُ وبَيْنَ يَهُودِيّ خُصُومَة ، فقال اليَهُودِيّ : نَنْطَلِقُ إلى مُحَمَّد ، وقال المُنَافِق : بل إلى كَعْبِ بن الأشْرَف ، وهُوَ الذي سَمَّاهُ اللهُ طاغُوتاً ، فأبَى اليَهُودِيُّ أن يُخَاصِمَه إلاَّ إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رَأى المُنَافِق ذَلِك ، أتَى معه إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، فَقَضَى رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لليهُوديِّ ، فلما خَرجَا من عِنْدِه ، قال المُنَافِقُ : لا أرْضَى [ بهذا الحكم ] فانْطلقْ بِنَا إلى أبِي بكْرٍ ، فحكم لليَهُودِيُّ ، فلم يَرْضَ ، ذكره الزَّجَّاج .
فَلَزِمَهُ المُنَافِقِ وقال : انْطلِقْ بَنَا إلى عُمَر ، فَصَار إلى عُمَر ، فقال اليَهُودِيُّ [ لعمر ] اخْتَصَمْتُ أنَا وهَذَا إلى محمَّدٍ ، فقضى [ لي ] عليْهِ ، فلم يَرْض بقَضَائِهِ ، وزَعَم أنه يُخَاصِم إلَيْكَ ، فقال عمر : [ للمُنَافِقِ ] أكذلك؟ قال : نَعَم؛ فقال لهما : رُوَيْدَكُمَا حتى أخْرُجَ إلَيْكَما . فدخَلَ عُمَرُ البَيْتَ وأخذَ السَّيْفَ واشْتَمل عَلَيْه ، ثم خَرَجَ ، فَضَرَبَ بِهِ المُنَافِقَ حَتَّى برد ، وقال : هكذا أقْضِي بَيْن مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَاء الله ورسُولِهِ ، فنَزَلَت هذه الآية .
وقال جِبْريل -عليه السلام- : إن عُمَر فرّق بين الحقِّ والبَاطِلِ ، فَسُمِّي الفَارُوق .
وقال السُّدِّي : كان نَاسٌ من اليَهُود [ قد ] أسْلَمُوا ونَافَقَ بعضُهُم ، وكانَتْ قُرَيْظَةُ والنَّضيرُ في الجَاهِليَّة ، إذا قَتَلَ رَجُلٌ من بَنِي قُرَيْظَة [ رَجُلاً من بني النضير قُتِل بِهِ ، أو أخَذَ ديتهُ مئة وَسْقٍ من تَمْرٍ ، وإذا قتل رَجُلٌ من بني النضير رَجُلاً من قُرَيْظة لم يُقْتَل بِهِ ] وأعْطَى ديتهُ سِتِّين وسْقاً ، وكانت النَّضِير وهم حُلَفَاءُ الأوْسِ أشْرَف وأكْثَر من قُرَيْظَة ، وهم حُلَفَاءُ الخَزْرَج ، فَلَمَّا جَاء الإسْلاَمُ ، وهاجر النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المَدِينَةِ قَتَل رجُلٌ من النَّضِير رَجُلاً من قُرَيْظَة ، فاخْتَصَمُوا في ذَلِكَ ، فقال بَنُو النَّضِير : كُنَّا وأنتم اصْطَلَحْنَا على أن نَقْتُل مِنكم ولا تَقْتُلُون مِنَّا ، وديتُكُم سِتُّون وَسْقاً ، وديَتُنَا مئةُ وَسْقٍ ، فنحن نُعْطِيكُم ذَلِك .
فقالت الخَزْرج : هذا شَيْءٌ كنتم فَعَلْتُمُوه في الجَاهِليَّةِ؛ لكَثْرَتِكُم وقِلَّتِنَا فَقَهَرتُمُونا ، ونحن وأنْتُم اليَوْم إخوةٌ ، ودينُنَا ودِينُكُم وَاحِدٌ ، فلا فَضْلَ لكُم عَلَيْنَا ، فقال المُنَافِقُون مِنْهم : انْطَلِقُوا بِنَا إلى أبِي بردة الكَاهِن الأسْلمِيّ ، وقال المُسْلِمُون من الفَريقَيْن : لا بلْ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فأبى المُنافِقُونَ فانْطَلَقُوا إلى أبِي ليَحْكُمَ بَيْنَهُم ، فقال : أعْطُوا اللُّقْمَة ، يعني : الخطر ، فقالوا : لَكَ عَشْرَة أوْسُق ، فقال : لاَ بَلْ مئة وَسْقٍ ديَتِي ، فأبَوْا أن يعطوهُ فوقَ عَشْرَة أوسْق ، فأبَى أنْ يَحْكُمَ بيْنَهُم ، فأنزَلَ الله - تعالى - آيتي القِصَاص ، فدَعَا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الكَاهِن إلى الإسْلامِ فأسْلَمَ ، وعلى هذه الرِّوَايَة فالطَّاغُوتُ هو الكَاهِن .
وقال الحَسَن : إن رَجُلاً من المُسْلِمِينِ كان لَهُ على رَجُلٍ من المُنَافِقِين حَقٌّ ، فدَعَاهُ المُنَافِقُ إلى وَثَنٍ كان أهْلُ الجَاهِليَّةِ يَتَحَاكَمُون إلَيْهِ ، ورَجُلٌّ قائِمٌ يترجَّم الأبَاطيلَ عن الوثَنِ ، فالمُرادُ بالطَّاغُوتِ؛ هو ذَلِكَ الرَّجُل ، وقيلَ : كانوا يَتَحَاكَمُون إلى الأوْثَانِ ، وكانَ طَريقُهم أنهم ] يَضْرِبُونَ القِدَاحَ بِحَضْرَةِ الوَثَنِ ، فما خَرَجَ على القِدَاحِ حَكَمُوا بِهِ ، وعلى هَذَا فالطَّاغُوتُ الوَثَنِ .
قال أبو مُسْلِم : ظاهر الآيَةِ يَدُلُّ على أنه كان المُخَاصِمُ منافِقاً من أهْلِ الكِتَاب ، كان يُظهر الإسْلامَ عَلَى سبيل النِّفَاقِ ، لأن قوله - تعالى- : { يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } إنما يليقُ بمثل هذا المُنافِقِ .
قوله : { يُرِيدُونَ } حال من فَاعِل [ { يَزْعُمُونَ } أو من { الذين يَزْعُمُونَ } .
وقوله : { وَقَدْ أمروا } حال من فَاعِل ] { يُرِيدُونَ } فهما حالان مُتَدَاخِلان ، { أَن يَكْفُرُواْ } في مَحَلِّ نَصْب فقط إن قدَّرْت تعدية « أمر » إلى الثَّانِي بِنَفْسِه ، وإلا ففيها الخِلاَفُ المَشْهُور ، والضَّمِير في [ بِهِ ] عَائدٌ على الطَّاغُوتِ ، وقد تقدَّم أنه يُذَكَّر ويُؤنَّث ، والكلام عليه في البقرة .
وقرأ عبَّاس بن الفضل : « أن يكفروا بهن » ، بضمير جَمْع التَّأنيث .
فصل
قال القاضي : يَجِبُ أن يَكُونَ التحَاكُم إلى الطَّاغُوتِ كالكُفرِ ، وعدم الرِّضَى [ بِحُكْمِ ] مُحَمَّد - عليه السلام - كُفْرٌ؛ لوجوه :
أحدها : قوله : { يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت وَقَدْ أمروا أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } فجعل التَّحاكم [ إلى لطَّاغُوت ] مقابلاً للكُفْر به ، وهذا يَقْتَضِي أن التَّحَاكُم إلى الطَّاغُوت كُفْر بالله ، كما أن الكُفْرَ بالطَّاغُون إيمانٌ باللهِ .
ثانيها : قوله - [ تعالى ] - : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } [ النساء : 65 ] وهذا نَصٌّ في تكْفِير من لَمْ يَرْضَ بحُكْم الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام- .
وثالثها : قوله -تعالى : { فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ النور : 63 ] وهذه الآياتُ تَدُلُّ على أنَّ من رَدَّ شيئاً من أوَامِرِ الله والرَّسُول فهُو خَارِجٌ عن الإسْلام ، سواءٌ رَدَّهُ من جِهَةِ الشِّرْكِ أو من جِهَةِ الشِّرْكِ أو من جَهَةِ التَّمَرُّد ، وذلك يُوجِبُ صِحَّة ما ذَهَبَتْ إليه الصَّحَابَة- رضي الله عنهم- من الحُكْمِ بارْتِدَادِ مَانِعِي الزَّكاة ، وقَتْلِهم ، وسَبي ذراريهم .
قوله : { أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً } في { ضَلاَلاً } ثلاثة أقوال :
أحدُها : أنه مصْدَرٌ على غير المَصْدَر ، نحو : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] ، والأصْل « إضلالاً » و « إنباتاً » فهو [ اسْم ] مصدر لا مَصْدَر .
والثاني : أنه مَصْدَر لمطَاوع { أَضَلَّ } أي : أضَلَّهُم فَضَلُّوا ضَلاَلاً .
والثالث : أن يَكُون من وَضْعِ أحد المَصْدَرَيْن مَوْضِع الآخَر .
فصل
قالت المعتزِلَةُ : قوله - تعالى - : { وَيُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً } يدُلُّ على أن كُفْر الكَافِرِ ليس بِخَْلق [ الله - تعالى- ] ولا بإرادَته؛ لأنه لو خَلَقَ الكُفْر في الكَافِرِ وأرَادَهُ منه ، فأيُّ تأثيرٍ للشَّيْطَانِ فيه ، وأيضاً فإنَّه ذَمَّ للشيطان؛ بسبب أنَّه يُريد هذه الضَّلالة ، فلو كان - تعالى - مُرِيداً لها ، لَكَانَ هُو بالذَّم أوْلى ، لأن [ كُلَّ ] من عابَ شيئاً ثم فَعلَهُ ، كان بالذَّمِّ أوْلَى به؛ قال - تعالى - : { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 3 ] وأيضاً فإنَّه تعَجُّبٌ من تحاكُمِهِم إلى الطَّاغُوتِ ، مع أنَّهمُ أمِرُوا أن يَكْفُرُوا به ، ولو كَانَ ذلك التَّحاكُم بِخَلْقِ اللهِ ، لما بقي التَّعَجُّب ، فإنه يُقالُ : إنك خَلَقْتَ ذلك الفِعْلَ فيهم ، وأرَدْتَهُ مِنْهُم ، بل التَّعَجُّب من هذا التَّعَجُّب [ هو ] أولى . وجوابُهم المُعارضَة بالعِلْم والدَّاعِي .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)
لما بين - [ تعالى ] - رغبتَهُم في التَّحَاكُم إلى الطَّاغُوتِ [ بين ] نَفْرَتهم عن التَّحَاكُم إلى الرَّسُولِ ، وقد تَقَدَّم الكَلاَمُ على { تَعَالَوْاْ } في آل عمران .
قوله : { رَأَيْتَ } فيها وجهان :
أحدهما : [ أنها من رُؤيَة البَصَرِ ، أي : مُجَاهَرَة وتصْرِيحاً ] .
[ والثاني : ] أنَّها من رُؤيَة القَلْب ، أي عَِلِمْتَ؛ ف { يَصُدُّونَ } في محلِّ نَصْبٍ على الحَالِ على القَوْلِ الأوَّلِ ، وفي مَحَلِّ المَفْعُول الثَّانِي على الثَّانِي .
وقوله : { صُدُوداً } فيه وجهان :
أحدهما : أنه اسْم مَصْدَرٍ ، والمصْدَر إنما هو الصَّدُّ ، وهذا اخْتِيَار ابن عطيَّة ، وعزَاه مكِّي للخَلِيل بن أحمد .
والثَّاني : أنه مَصْدر بِنَفْسِه؛ يقال : صَدَّ صَدَّا وصُدُوداً ، وال بَعْضُهم : الصُّدُود مَصْدَرُ صَدَّ اللازم ، والصَّدُّ مصدرُ صَدَّ المُتَعَدَّي ، نحو : { فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل } [ النمل : 24 ] والفعْل هنا مُتَعَد بالحَرْفِ لا بِنَفْسِه ، فلذلك جاءَ مصدَرُه على « فُعُول » ؛ لأن « فُعُولا » غالباً اللازِم ، وهذا فيه نَظَر؛ إذا لِقَائِل أن يقُول : هو هُنا مُتَعَدٍّ ، غاية ما فيه أنه حَذَفَ المَفْعُول ، أي : يَصُدُّون غيرَهُم ، أو المُتَحاكِمين عنك صُدُوداً ، وأما « فُعُول » فجاء في المُتَعَدِّي ، نحو : لَزِمَهُ لُزُوماً ، وفَتَنَهُ فُتُوناً .
ومعنى الآية : يعرضون عنك ، وذكر المَصْدَر للتَّأكيد والمُبَالَغَةِ؛ كأنه قال : صُدُوداً أيَّ صُدُودٍ .
فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)
في اتَّصال هذه الآيةِ بما قَبْلَهَا وَجْهَان :
الأوَّل أنه اْعْتِرَاضٌ ، وما قَبْلَ الآية مُتَّصلٌ بما بَعْدَهَا ، والتَّقْدير : وإذا قيل لَهمُ : تعالَوْا إلى ما أنْزل اللهُ وإلى الرَّسُول رَأيْتَ المُنَافِقين يَصُدون صُدُوداً ، ثُمَّ جاءُوك يَحْلَفُون باللهِ إن لأردْنَا إلاَّ إحساناً وتوْفِيقاً ، يعني : أنَّهُم في أوَّلِ الأمْر يصُدُّون عنك ، ثم بَعْدَ ذلك يَجيئُونَك ، ويَحْلِفُون باللهِ كَذِباً أنَّهُم ما أرَادُوا بِذَلِكَ إلا الإحْسَانَ والتَّوْفِيق ، وشرط الاعتراضِ أن يَكُونَ لَهُ تَعَلُّق بذلك الكلامِ من بَعْضِ الوُجُوه؛ كقوله : [ السريع ]
1818- إنَّ الثَّمَانِينَ وَبُلِّغْتَهَا ... قَدْ أحْوَجَتْ سَمْعِي إلى تَرْجُمَانْ
فقوله : « وبُلِّغْتَهَا » [ كلامٌ ] أجْنَبِيٌّ اعْتَرِض به ، لكنه دُعَاء للمُخَاطَبِ ، وتَلَطُّفٌ في القَوْلِ مَعَهُ ، وكذلك الآية؛ لأن أوّل الآيةِ وآخِرَهَا في شَرْحِ قبائِح المُنافقِين وكَيْدهم ومَكْرهم ، فإنه -تعالى- حكى عنهم أنَّهُم يَتَحَاكمُون إلى الطَّاغُوتِ ، مع لأنَّهم أمِرُوا بالكُفْرِ به ، ويَصُدُّون عن الرَّسُول ، مع أنَّهم أمِروا بطاعته ، فذكر هُنَا ما يَدُلُّ على شِدَّة الأهْوَالِ عَلَيْهِم؛ بِسَبب هذه الأعْمَال القَبِيحَة في الدُّنْيَا والآخِرَةِ ، فقال : { فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أي : فَكَيْفَ حالُ تِلْك الشِّدَّةِ وحَالُ تِلْك المُصِيبَةِ ، قاله الحسن البَصْرِيّ ، وهو اخْتِيَار الوَاحِدِيّ .
الثاني : لأنه -تعالى- لما حَكَى عنهُم تحاكُمَهُم إلى الطَّاغُوت ، وفِرارِهم من الرَّسُول -عليه الصلاة والسلام- دلَّ ذلك على شِدَّة نَفْرتهم من الحُضُورِ عندَ رسُول اللَّهِ والقُرْبِ مِنْهُ ، فلمَّا ذكر ذَلِكَ ، قال : { فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } يَعْني : إذا كانَت نَفْرتُهُم من الحُضُورِ عند الرسول في أوْقَاتِ السَّلامةِ هكذا ، فكَيْفَ يكُون حَالُهُم في النُّفْرَة في شِدَّة الغمِّ والحُزْن ، إذا أتَوُا بجنَايَةٍ خافُوا بسَبَبِها مِنْك ، ثم جَاءُوك شَاءُوا أم أبَوْا ، ويَحْلِفُونَ باللَّه كَذِباً ما أردْنا بتلك الجِنَايَة إلاَّ الخَيْر والمَصْلَحَة ، والغَرَضُ من هَذا الكلامِ : بَيَانُ أنَّ نَفرتَهُم عن الرَّسُول لا غاية لَهَا سواءٌ غابُوا أم حَضَرُوا ، ثم إنه -تعالى- أكَّدَ هذا المَعْنَى بقوله : { أولئك الذين يَعْلَمُ الله مَا فِي قُلُوبِهِمْ } ومعناه : أنَّ من أرادَ المُبَالَغَة في شَيْءٍ ، قال : هذا شَيْءٌ لا يَعْلَمُهُ إلا اللَّه يعني : لكَثْرَتهِ وقُوَّتِه لا يقْدرِ أحَدٌ على مَعْرَفَتهِ إلا اللَّه - [ تعالى ] - .
قوله : { فَكَيْفَ } يجوز فيها وَجْهَان :
أحدهما : أنَّها في مَحَلِّ نَصْبٍ ، وهو قول الزَّجَّاج؛ قال : تقديره : فكَيْفَ تَرَاهُم؟
والثاني : أنها في مَحَلِّ رفع خبرٍ لمُبْتَدأ مَحْذُوف ، أي : فكيْف صنيعُهُم في وَقتِ إصَابَة المُصِيبَةِ إيَّاهُم؛ وإذا مَعْمُولَةٌ لذلك المُقَدَّر بَعْد كَيْف ، والبَاءُ في « بِهَا » للسَّببيَّة ، و « مَا » يجوز أن تكون مَصْدَرِيَّة أو اسْمِيَّة ، والعَائدُ مَحْذُوف .
فصل في المقصُود بالمُصِيبَة في الآية
قال الزَّجَّاج : [ المراد ] بالمُصِيبَة : قَتْل صَاحِبهم الَّذِي أقَرَّ أنَّه لا يَرْضَى بِحُكْم الرَّسُول -عليه الصلاة والسلام- ، جَاءُوا إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم وطالَبُوا عُمَر بِهِ ، وحَلَفُوا أنَّهُم ما أرَادُوا بالذَّهَاب إلى غير الرَّسُول إلا الخَيْرَ والمَصْلَحة .
وقال الجُبَّائِيُّ : المُراد ب « المصيبة » هُنَا : ما أمر اللَّهُ -تعالى- نَبِيَّهُ من أنَّه لا يَسْتَصحبهُم في الغَزَوات ، وأنَّه يَخُصُّهم بمزيد الإذْلاَل والطَّرْدِ عن حَضْرتِهِ ، وهو قوله -تعالى- : { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } [ الأحزاب : 60 ] ، إلى قوله : { وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً } [ الأحزاب : 61 ] ، وقوله : { لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً } [ التوبة : 83 ] ، وهذا يُوجِب لَهُم الذُّلَّ العَظيم ، وإنما أصَابَهُم ذلك لأجْلِ نفاقهم .
وقوله : « ثم جاءوك » أي : وقْتَ المُصِيبَةِ يحلفون ويعْتَذِرُون ، وأنَّا ما أرَدْنَا بما كان مِنَّا إلا الإصْلاحَ ، وكانوا كَاذِبين؛ لأنَّهُم أضْمَرُوا خِلاف ما أظْهَرُوهُ .
وقال أبو مُسْلِم : إنه -تعالى- لمَّا أخْبَر عن المُنَافِقِين ، ورغبتهم في حُكْمِ الطَّاغُوتِ ، وكَراهتهم في حُكْمِ الرَّسُولِ - عليه الصلاة والسلام - أنه سَيُصيبُهم مَصَائِب تُلْجِئُهم إلَيْه وإلى أَن يُظْهِرُوا الإيمَانَ لَهُ ، ويَحْلِفُون أنَّ مُرَادَهُم الإحْسَان والتَّوفِيق ، قال : ومن عادَةِ العَرَبِ عند التَّبشير والإنْذَارِ أن يقُولُوا : كيف أنت إذا كان كَذَا وكَذا؛ ومثله قولُه - تعالى- : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ } [ النساء : 41 ] وقوله : { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ } [ آل عمران : 25 ] ، ثم أمرهُ - تعالى- إذا كان مِنْهُمُ ذلِك ، أن يُعْرِضَ عَنْهُم ويَعظُهم .
وقال غيره : المراد ب « المصيبة » : كُلُّ مُصِيبةٍ تُصيبُ المُنَافِقِين في الدُّنْيَا والآخِرَةِ .
قال القُرْطُبِيّ : وقيل : إن قوله - تعالى - : { فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } نزل في شَأنِ الذين بَنَوْا مَسْجِد الضِّرار ، فلما أظهر اللهُ - تعالى- نِفَاقَهُم ، وأمرهم بهَدْمِ المَسْجِد- حَلَفُوا للرَّسُول صلى الله عليه وسلم دِفَاعاً عن أنْفُسهم : ما أردنا بِبِنَاء المَسْجِد إلاَّ طاعة الله ومُوافَقَةِ الكِتَابِ .
قوله : « يحلفون : حالٌ من فَاعِل جَاءُوك ، و » إن « نافية ، أي : ما أردْنَا و » إحساناً « مَفْعُول به ، أو اسْتِثْنَاء على حَسَبِ القوْلَيْن في المسْألة .
فصل في تفسير الإحسان
والمراد ب » الإحسان « قيل : ما أرَدْنَا بالتَّحاكُم إلى غَيْرِ الرَّسول إلاَّ الإحْسَان إلى خُصُومِنَا ، واستِدَامة الاتِّفَاق والائتِلاف بَيْنَنَا .
وقيل : ما أرَدْنَا بالتَّحَاكُم إلى عُمَر ، إلا أنَّهُ يُحْسِنُ إلى صَاحِبنَا بالحُكْمِ والعَدْلِ ، والتَّوْفيقِ بينَهُ وبين خَصْمِهِ ، وما خَطَر بِبَالِنَا أنَّه يَحْكُمُ لهُ بِمَا حَكَمِ . وقيلَ : ما أرَدْنَا بالتَّحَاكُم إلى غَيْرك ، إلا انَّك لا تَحْكُمُ إلاَّ بالحقِ ، وغَيْرُك يُوَفَّقُ بين الخَصْمَيْن ، ويأمُرُ كُلَّ واحدٍ بما ذَكَرْنَا ويقرب مراده من مُرَادِ صَاحِبهِ حتى تَحْصُل المُوافَقَة بَيْنَهُمَا .
وقال الكَلْبي : » إلا إحساناً « في القَوْل » وتوفيقاً صواباً .
وقال ابن كَيْسَان : حقَّا وعَدْلاً؛ نظيرُه : { وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى } [ التوبة : 107 ] ، وقيل : هو تَقْرِيبُ الأمْر من الحقِّ ، لا القَضَاءُ على أمْرِ الحُكم .
ثم قال : « أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم » أي : من النِّفَاقِ والغَيْظِ والعَدَاوة .
ثم قال : « فأعرض عنهم » وهذا يُفيدُ أمْرَيِن :
الأوّل : أن لا يَقْبَل مِنْهُم العَذْر ويَصْبِر على سُخْطِهِ ، فإن مَنْ لا يَقْبَلُ العُذْرَ فقد يُوصَفُ بأنه مُعْرِضٌ عَنْه ، غير مُلْتَفِت إليه .
الثاني : أن هذا يَجْرِي مُجْرَى قوله : اكْتَفِ بالإعْرَاضِ ولا تَهْتِك سَتْرَهُم ، ولا تُظْهِر لَهُم علمك بما في بَوَاطِنهم ، فإنَّ من هَتَكَ سَتْر عُدُوِّه وأَظهر عِلْمَه بما في قَلْبِهِ ، فربما يُجَرِّئُهُ ألاَّ يُبَالِي بإظْهَارِ العَدَاوَة ، فَيَزْدَاد الشَّرُّ ، وإذا تركَهُ على حَالِهِ ، بَقِيَ في خَوْف ووجَلٍ فَيَقِلُّ الشَّرُّ .
ثم قال : « وعظهم » أي : ازجرهم عن النِّفَاقِ والمكْرِ والمكيدَة والحَسَد والكَذِبِ ، وخَوِّفْهُم بعقاب الله - تعالى- في الآخِرَةِ ، كما قال- تعالى- : { ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة } [ النحل : 125 ] .
ثم قال- تعالى- : « فقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً » .
قوله تعالى : « في أنفسهم » فيه أوجه :
الأول : أن يتعلّق ب « قل » ، وفيه معنيان :
الأوّل : قُلْ لهم خالياً لا يكُونُ معهم احد؛ لأن ذلك أدعى إلى قبول النصيحة .
الثاني : قل لهم في معنى أنفسهم المنطوية على النفاق قولاً يبلغ بهم ما يزجرهم عن العود إلى النفاق .
الثالث من الأوجه : أن يتعلق ب « بليغاً » ، أي قولاً مؤثراً في قلوبهم يغتمون به اغتماماً ، ويستشعرون به استشعاراً . قال معناه الزمخشري ، ورد عليه أبو حيان بأن هذا مَذْهَبُ الكُوفيين؛ إذ فيه تقدِيم مَعْمُول الصِّفَةِ على المَوْصُوف ، لو قُلْت : « جَاء زَيْداً رجلٌ يَضْرِبُ » ، لم يَجُزْ عند البَصْريين لأنه لا يتقدم المعْمُول إلا حَيْثُ يَجُوزُ تَقْدِيم العَامِل ، والعَامِلُ هُنَا لا يجوزُ تَقْدِيمُه؛ لأن الصِّفَة لا تَتَقَدَّم على المَوْصُوف ، والكُوفِيُّون يُجِيزُون تَقْديم مَعْمُول الصِّفَة على المَوْصُوف ، وأمَّا قَوْل البَصْريَّين : إنه لا يَتَقدَّم المَعْمُول إلا حَيْثُ يَتَقدَّم العَامِل فيه بَحْثٌ؛ وذلك أنَّا وجدْنا هذه القَاعِدَة مُنْخَرمَة في نَحْوِ قوله : { فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ } [ الضحى : 9 ، 10 ] ف « اليتيم » مَعْمُول ل « تقهر » و « السائل » مَعْمُول ل « تنهر » ، وقد تقدَّمَا على « لاَ » النَّاهِيَة والعَامِل فيهما لا يجوزُ تَقْدِيمُه عليهما؛ إذا المجْزُوم لا يتَقَدَّم على جَازِمِه ، فقد تَقَدَّم المَعْمُول حيث لا يَتَقَدَّم العَامِل .
وكذلك قَالُوا في قوله : [ الطويل ]
1819- قنَافِذُ هَدَّاجُونَ حَوْلَ بُيُوتِهِمْ ... بِمَا كَانَ إيَّاهُمْ عَطِيَّةُ عَوَّدَا
خَرَّجوا هذا البَيْتَ على أنَّ في « كان » ضَمِيرَ الشَّأنِ ، و « عَطِيَّة » مبْتَدأ و « عَوَّدَ » خبره حتى لا يلي « كان » معْمُول خَبَرها ، وهو غير ظَرْفٍ ولا شِبْهُه ، فَلَزمَهُم من ذِلك تَقْديم المَعْمُول ، وهو « إيَّاهُم » حيث لا يَتَقَدَّم العَامِل؛ لأن الخَبَر مَتَى كَانَ فِعْلاً رافعاً لضمِيرٍ مُسْتَتِرٍ ، امْتَنَع تَقْدِيمه على المُبْتَدأ ، لئلا يَلْتبس بالفَاعِلِ ، نحو : زَيْد ضَرَب عَمْراً ، وأصل مَنْشَأ هذا البَحْث تَقْدِيم خَبَر « لَيْس » عليها ، أجازه الجُمْهُور؛ لقوله -تعالى- :
{ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } [ هود : 8 ] ووجه الدَّليل أن « يَوْم » مَعْمُولٌ ل « مصروفاً » وقد تَقَدَّم على « لَيْسَ » ، وتقديم المَعْمُول يؤذِنُ بتقديم العَامِلِ ، فعورضوا بما ذَكَرْنَا .
فصل في تفسير القول البليغ
قيل المراد ب « القَوْل البَلِيغ » : التَّخْوِيف باللَّه -عزَّ وجَلَّ- ، وقيل : تَوعَّدَهُم بالقَتْل إن لم يَتُوبُوا .
وقال الحَسَن : القَوْلُ البَلِيغُ أن يَقُول لَهُم : إن أظْهَرْتم ما في قُلُوبكُم من النِّفَاقِ ، قُتِلْتُم؛ لأنه يَبْلُغ في نُفُوسِهِم كُلَّ مَبْلَغٍ .
وقال الضَّحَّاك : « فأعرضْ عَنْهُم وعِظْهُم » في المَلأ [ الأعْلى ] ، « وقل لهم في أنفسهم قولا بليغاً » في السِّرِّ والخَلاَء .
وقيل : هذا مَنْسُوخٌ بآيةِ القِتَالِ .
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)
لما أمر - [ تعالى ] - بطاعَةِ الرَّسُول في الآيةِ الأولَى ، رغَّب في هذه الآيةِ مَرَّة أخْرَى .
قال الزَّجَّاج : كلمة « مِنْ » هَهُنَا صِلَة زَائِدَة ، والتَّقْدِير : وَمَا أرْسلْنَا رَسُولاً .
قوله : « ليطاع » هذه لاَمُ كي ، والفِعْلُ بَعْدَها مَنْصُوب بإضْمَار « أن » ، وهذا استِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ من المَفْعُول لَهُ ، والتَّقْدِير : ومَا أرسَلْنَا من رسُولٍ لشَيْءٍ من الأشْيَاءِ إلاَّ للطَّاعَةِ .
و « بإذن الله » . فيه ثلاثَةَ أوْجُه :
أحدها : أنه يَتَعَلَّق ب { لِيُطَاعَ } والبَاءُ للسَّبَبِيَّة ، وإليه ذَهَب أبُو البَقَاءِ؛ قال : وقيل : مَفْعُولٌ به ، أي : بِسَبَبِ أمْر اللَّه .
الثاني : أن يَتَعَلَّق ب « أرسلنا » أي : وما أرسلنا بأمْرِ اللَّه ، أي : بِشَرِيعَته .
الثالث : أن يتعلَّق بِمحْذُوفٍ على أنه حالٌ من الضَّمِير في « يطاع » وبه بَدأ أبُو البَقَاء .
وقال ابن عَطِيَّة : وعلى التَّعْلِيقَيْنِ؛ أي : تعليقُهُ ب « يطاع » أو ب « أرسلنا » ، فالكلام عَامٌّ واللَّفْظُ خاصٌّ ، المعنى لأنَّا نَقْطَع أن اللَّه قد أرَاد من بَعْضِهِم ألاَّ يُطيعُوه ، ولذلِك تأوَّل بَعْضُهم الإذْن بالعِلْمِ ، وبعضهم بالإرْشَادِ .
قال أبو حَيَّان : ولا يَحْتَاجُ لذلك؛ لأن قَوْلَه عامُّ اللَّفْظِ مَمْنُوع؛ وذلك أن « يطاع » مبني للمَفْعُول فيقدر ذَلِك الفَاعِل المَحْذُوف خَاصاً ، وتقديره : إلاَّ ليُطيعَه من أراد [ الله ] طاعَتَهُ .
فصل
قال الجُبَّائِيّ : معنى الآية : وما أرْسَلْنَا من رسُول إلاّ وأنا مُريدٌ ، أن يُطَاعَ ويُصَدَّق ، ولم أرسِلْهُ لِيُعْصَى ، [ و ] وهذا يَدُلُّ على بُطْلان مَذْهَب المجَبَّرة؛ لأنَّهُم يَقُولون : إنه -تعالى- أرْسَل رُسُلاً لتُعْصَى ، والعَاصي من المَعْلُومِ أنَّهُ يَبْقَى على الكُفْرِ ، وقد نَصَّ الله -تعالى- على كَذبِهِم في هَذِه الآيَة ، وكان يَجِبُ على قَوْلِهِم أن يكُون قَدْ أرْسَل الرُّسُل لِيُطاعُوا وليُعْصُوا جَميعاً ، فدلَّ ذلك على أنَّ مَعْصِيتَهُم للرُّسُل غير مُرَادةٍ لله -تعالى- ، وأنَّه ما أرَادَ إلا أنْ يُطاعَ .
والجواب من وُجُوه :
الأول : أن قوله : « إلا ليطاع » يكفي في تحقيق مَفْهُومه أن يُطيعَهُ مُطِيعٌ واحِدٌ ، لا أن يُطيعَه جميع النَّاسِ في جَمِيع الأوْقَاتِ ، وعلى هذا فَنَحْنُ نَقُولُ بموجبه؛ وهو [ أن ] كُلَّ ما أرْسَلَهُ الله -تعالى ] ، فقد أطَاعَهُ بَعْضُ النَّاسِ في بَعْضِ الأوْقَاتِ ، اللَّهُم إلا أن يُقَالَ : تَخْصِيص الشَّيْء بالذِّكْر يَدُلُّ على نَفْيِ الحُكْمِ همَّا عدا ، والجُبَّائِيّ لا يَقُول بِذَلِك ، فَسَقَطَ هذا الإشْكَال .
الثاني : يجُوز أن يكُون المُرادُ به : أن كُلَّ كافِرٍ لا بُدَّ وأن يُقرّ [ به ] عند مَوْتهِ؛ لقوله -تعالى- : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } [ النساء : 159 ] أو يحمل ذَلِكَ على إيمانِ الكُلِّ بهم يَوْم القِيَامَة ، ومن المَعْلُوم أن الوَصْفَ في جَانِب الثُّبوتِ ، يكْفي في حُصُول مُسَمَّاه في بَعْضِ الصُّوَر وفي بعض الأحْوَالِ .
الثالث : أن العِلْمَ بعدم الطَّاعَةِ مع وُجُودِ الطَّاعَةِ مُتَضَادَّان ، [ والضِّدَّان ] لا يَجْتَمِعَانِ ، وذلك العلْم مُمْتَنِع العَدَم ، فكانت مُمْتَنِعَة الوُجُود ، والعَالِم بكون الشَّيءِ ممتنع الوُجُود لا يكُونُ مُرِيداً له؛ فثبت بهذا البُرْهَانِ القَاطِع أن يَسْتَحيلَ أن يُريدَ اللَّهُ من الكَافِرِ كَوْنَه مُطِيعاً ، فوجَبَ تأويلُ هذه اللَّفْظَة؛ بأن يكون المُرَاد من الكَلاَمِ لَيْس الإرَادَةَ بل الأمْر ، والتَّقْدِير : وما أرسَلْنَا من رسول إلا ليُؤمَر النَّاسَ بِطَاعَتِهِ .
فصل
استَدَلُّوا بهذه الآيةِ على أنَّه لا يُوجَد شَيْءٌ من الخَيْرِ والشَّرِّ؛ والكُفْرِ والإيمانِ ، والطَّاعَةِ والعِصْيَان ، إلا بإرَادَة الله؛ لقوله : « إلا ليطاع بإذن الله » ولا يمكنُ أن يكُون المُرَادُ من هَذَا الإذْنِ : الأمْر والتَّكْليف؛ لأنَّه لا مَعْنَى لكونه رَسُولاً إلا أنَّ الله -تعالى- أمر بِطَاعته ، فلو كان [ المُرَادُ ] من الإذْنِ هذا لصَارَ التَّقْدِير : وما أذِنَّا في طَاعَةِ من أرْسَلْنَاهُ إلا بإذْنِنَا ، وهو تَكْرَاراٌ قَبِيحٌ؛ فوجب حمل الإذْنِ على التَّوْفِيقِ والإعَانَةِ ، فيصير التَّقْدِير : وما أرْسَلْنَا من رسُولٍ إلا ليُطَاع بتَوْفِيقِنَا وإعانَتِنَا ، وهذا تَصْرِيحٌ بأنه -تعالى- ما أرَادَ من الكُلِّ طاعة الرَّسُول ، بل لا يُريدُ ذلك [ إلا منَ الَّذِي وفَّقَهُ اللَّه لذلك وهم المؤمِنُون ، فما من لم يُوَفِّقْهُ ، فللَّهِ -تعالى- ما أرَادَ ذَلِكَ منهم ] .
فصل
دلَّت هذه الآيةُ على أن الأنْبِيَاء - [ عليهم الصلاة والسلام ] - مَعْصُومُون عن الذنُوبِ؛ لأنَّهَا دَلَّت على وُجُوبِ طاعَتِهِم مطلقاً ، فلو أتَوْا بِمَعْصِيةٍ ، لوجَبَ الاقْتدَاء بهم في تِلْكَ المعصِيَة ، فتَصِيرُ وَاجِبةً علينا ، وكَوْنُها معْصِيَةً يجب كوْنُهَا مُحَرَّمَةً عَلَيْنَا ، فيلزم تَوَارُد الإيجَابِ والتَّحْرِيم على الشَّيْءِ الوَاحِدِ ، وهو مُحَال .
فإن قيل : ألَسْتُم في الاعْتِرَاض على الجُبَّائِيّ ذكَرْتُم أن قوله : « إلا ليطاع » لا يفيد العُمُوم ، فَكَيْفَ تَمَسَّكتُم به في هَذِه المَسْألة ، مع أن [ هَذَا ] الاسْتِدْلاَل لا يَتِمُّ إلا مَعَ القَوْلِ بأنَّهَا تفيد العُمُوم .
فالجواب : ظاهر [ هذا ] اللَّفْظِ يُوهِمُ العُمُوم ، وإنما تَرَكْنَاهُ في تلك المَسْألَةِ؛ للدَّلِيلِ القَاطِعِ الَّذِي ذكَرْنَاه ، على أنه يَسْتَحِيلُ منه -تعالى- أن يُريدَ الإيمَان من الكَافِرِ ، فلأجْل ذلك المُعَارِض القَاطِعِ صَرَفْنَا الظَّاهِر عن العُمُوم ، ولَيْس هَهُنَا بُرْهَان قاطِعٌ عَقْلِيٌّ يوجب القَدْحَ في عِصْمَة الأنبياء -عليهم السلام- ، فظهر الفَرْق .
قوله : « ولو أنهم » قد تقدم الكلام على « أنَّ » الوَاقِعَة بعد « لَوْ » ، و « إذْ » ظَرْفٌ معمول لخبرِ « أنَّ » وهُو « جاءك » ، وقال : « واستغفر لهم الرسول » ، ولم يقل : واسْتَغْفَرْت ، خُرُوجاً من الخِطَابِ إلى الغَيْبَة ، لما فِي هذا الاسْمِ الظَّاهِر من التَّشْرِيف بوَصْفِ الرِّسَالة ، إجْلالاً للرَّسُول -عليه السلام- و « وَجَدَ » هنا يُحْتَمِل أن تكُون العِلْمِيَّة ، فتَتَعَدَّى لاثْنَيْن والثاني : « تواباً » ، وأن تكون غير العِلْميَّة ، فتتعدى لِوَاحِدٍ ، ويكون « تواباً » ويحتمل أن يَكُون خَبَراً ثَانياً في الأصْلِ ، بنَاءً على تعَدُّد الخَبَر وهو الصَّحيح ، فلما دَخَل النَّاسِخ ، نَصَب الخَبَر المُتَعَدَّد ، تقول : زَيْد فَاضِلٌ شاعِرٌ فَقِيهٌ عَالِمٌ ، ثم تقول : علمت زَيْداً فَاضِلاً شَاعِراً فَقِيهاً عَالِمَاً ، إلا أنَّهُ لا يَحْسُن أن يُقَال هُنا : شاعراً : مفعول ثالِث ، وفَقِيهاً [ مفعول ] رابع ، وعَالِماً : خامس .
فصل : سبب نزول الآية
في سَببِ النُّزُول وَجْهَان :
الأول : أن مَنْ تقَدَّم ذِكْرُه مع المُنَافِقِين ، عندما ظَلَمُوا أنْفُسَهُم بالتَّحَاكُمِ إلى الطَّاغُوت ، والفِرَار من التَّحَاكُمِ إلى رسُولِ الله - [ صلى الله عليه وسلم ] ، [ لو جَاءُوا ] للرَّسُول ، وأظْهَرُوا النَّدَم على ما فَعَلُوهُ ، وتَابُوا عَنْهُ واسْتَغْفَرُوا عنه ، واسْتَغْفَر لهم الرَّسُول بأن يَسْألَ اللَّه أن يَغْفر لَهُم ، وجَدُوا اللَّه تَوَّاباً رَحِيماً .
الثاني : قال الأصم : « إن قَوْماً من المُنَافِقِين اتَّفَقُوا على كَيْد الرَّسُول -عليه الصلاة والسلام- ، ثمَّ دَخَلُ ا عليه لأجْل [ ذلك الغَرَضِ ، فأتَاهُ جِبْرِيل -عليه السلام- فأخبرهُ بِه ، فقال صلى الله عليه وسلم : إن قوماً ] دَخَلُوا عليه لأجْل يُريدُون أمْراً لا ينَالُونَه ، فليقُومُوا وليَسْتَغْفِرُوا اللَّه حَتَّى أسْتَغْفِر لهم ، فلَمْ يَقُومُوا ، فقال : ألا تَقُومُون؛ فلم يَفْعَلُوا ، فقال صلى الله عليه وسلم : قُمْ يا فُلانُ ، قُمْ يا فُلاَنُ ، حَتَّى عدَّ اثْنَيْ عَشَر رَجُلاً منهم ، فقاموا وقَالُوا : كُنَّا عَزَمْنَا على ما قُلْتَ ، ونَحْنُ نَتُوب إلى اللَّهِ من ظُلْمِنَا أنْفُسِنَا ، فاسْتَغْفِرْ لَنَا .
فقال : الآن اخْرُجُوا ، أنا كُنْتُ في بَدْءِ الأمْرِ أقْرَبُ إلى الاسْتِغْفَارِ ، وكان اللَّهُ أقْرَبُ إلى الإجَابَةِ ، اخْرُجُوا عَنِّي » .
فإن قيل : ألَيْسَ لِوَ اسْتَغْفَرُوا اللَّه وتَابُوا على وَجْهٍ [ صَحِيحٍ ] ، لكَانَت تَوْبَتُهم مَقْبُولة ، فما فَائِدَة ضَمِّ اسْتَغْفَار الرَّسُولِ إلى اسْتِغْفَارِهِم؟
فالجواب من وُجُوهٍ :
أحدُهَا : أن ذلك التَّحَاكُم إلى الطَّاغُوتِ كان مُخَالَفَةً لحُكْمِ اللَّه -تعالى- ، وكانَ إسَاءَةً للرَّسُول -عليه السلام- وإدْخَالاً للغَمِّ في قَلْبِهِ ، ومن كَانَ ذَنْبُهُ كَذَلِك ، وجَبَ عليه الاعْتِذَارُ عن ذَلِك لِغَيْرِه؛ فلهذا المَعْنَى وَجَب عليهم إظهار طَلَب الاسْتِغْفَارِ [ من الرَّسُولِ ] .
ثانيها : أنَّهُم لمَّا لم يَرْضوا بحُكْم الرَّسُول -عليه السلام- ، ظهر مِنْهُم التمَرُّد ، فإذا نَابُوا ، وَجَبَ عليهم أن يَفْعَلُوا ما يُزيلُ عنهم ذلك التَّمَرُّد؛ بأن يَذْهَبُوا إلى الرَّسُول ويَطْلُبُوا مِنْهُ الاسْتِغْفار .
وثالثها : أنهم إذا أتَوا بالتَّوْبَةِ أتوا بها على وجْهِ خَلَلٍ ، فإذا انْضَمَّ إليها اسْتِغْفَارُ الرَّسُولِ ، صارَتْ مُحَقَّقَة القَبُولِ ، وهذه الآيَةُ تَدُلُّ على أن اللَّه -تعالى- يَقْبَلُ التَّوْبَة؛ لقوله : « لوجدوا الله تواباً رحيماً » .
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
في سَبَي النُّزُولِ قَوْلان :
الأوّل : قال عَطَاء ومُجَاهِد والشَّعْبِي : نزلت في قِصَّة المُنَافِقِ واليَهُودِيّ اللَّذين اخْتَصَما إلى عُمر . الثاني : روي عن عُرْوَة بن الزُّبَيْر؛ « أنه رجُلاً من الأنْصَار قد شهد بَدْراً مع رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم في شِرَاجٍ مِنَ الحرَّة ، وكانَا يَسْقِيَانِ به كلاهما ، فقال رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم للزُّبَيْر : اسْقِ يا زُبَيْر ، ثم أرْسِلْ إلى جَارِكَ ، فغَضِب الأنْصَارِيُّ ، وقال : أن كان ابنُ عَمَّتِكَ؟ فتلوّن وَجْهُ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال للزُّبَيْر : اسْقِ ثُمَّ احْبِسِ المَاءَ حَتَّى يَرْجع إلى الجِدْرِ » واعلم [ أن الحكم ] أن مَنْ كَان أرْضُهُ أقْربَ إلى فَمِ الوَادِي ، فهو أوْلَى [ بأَوَّل ] المَاءِ ، وحَقُّهُ تَمَام السَّقْي ، فالرَّسُول عليه الصلاة والسلامِ أَذِن للزُّبَيْر في السَّقْي على وَجْهِ المُسَامَحَةِ [ ابْتدَاء ] ، فلما أسَاءَ خَصْمُهُ الأدَب ، ولم يعرف حَقَّ ما أمَرَهُ به الرَّسُولُ -عليه الصلاة والسلام- من المُسَامَحَةِ لأجْلهِ ، أمَرَهُ النَّبِي -عليه السلام- باسْتِيفَاءِ حَقِّه على التَّمَامِ ، وحَمْل خَصْمِهِ على مُرِّ الحَقِّ .
قال عروة بن الزُّبَيْر : [ أحسبُ هذه الآية نزلَتْ في ذلِك ، وروي أن الأنْصَارِي الذي خاصَمَ الزُّبَيْر ] كان اسْمُهُ حَاطِب بن [ أبِي ] بَلْتعة ، فلما خَرَجَا مَرَّ على المِقْدَاد . فقال : لمن كان القَضَاءُ فقال الأنْصَارِيّ : قَضَى لابْن عَمَّتِهِ ، ولَوَى شِدْقَيْه ، فَفَطِنَ له يَهُودِيٌّ كان مع المِقْدَادِ ، فقال : قَاتَل اللَّه هَؤلاء ، يَشْهَدُون أنَّهُ رسول اللَّهِ ثم يتهمُونَهُ في قَضَاء يَقْضِي بَيْنَهُم ، وأيْمُ اللَّه لقد أذْنَبْنَا ذَنْباً مَرَّة في حَيَاةِ مُوسَى -عليه الصلاة والسلام- فدعانا مُوسَى إلى التَّوْبَةِ مِنْهُ ، فقال : فاقْتُلُوا أنفُسَكُم ففعلنا ، فبلغ قَتْلاَنا سَبْعِين ألْفاً في طَاعَةِ رَبِّنا ، حتىَّ رَضِيَ عَنَّا . فقال ثَابِت بن قَيْس بن شماس : أما واللَّه إنَّ الله لَيَعْلَمُ منّي الصِّدْق ، ولو أمَرَنِي مُحَمَّد ن أقْتُل نَفْسِي ، لَفَعَلْتُ ، فأنزل اللَّه في شَأنِ حَاطِب بن أبِي بَلْتَعَة هَذِه الآية .
قوله : « فلا وربك لا يؤمنون » فيه أربعة أقْوالٍ :
أحدها : وهو قَوْلَ ابن جَرِير : أن « لا » الأولَى ردّ لِكَلاَم تَقَدَّمَها ، تقديرُه : فلا تَعْقِلُون ، أو لَيْس الأمْر كما يَزْعُمُون من أنَّهمُ آمَنُوا بما أنْزِل إلَيْك ، وهُم يُخَالِفُون حُكْمَكَ ، ثم اسْتأنَفَ قَسَماً بعد ذَلِك ، فعلى هذا يَكُون الوَقْفُ على « لاَ » تَامّاً .
الثاني : أن « لا » الأولَى قُدِّمت على القَسَمِ اهْتِمَاماً بالنَّفْي ، ثم [ كُرِّرت ] توكيداً للنَّفْي ، وكان يَصِحُّ إسقاط الأولى ، ويَبْقَى مَعْنَى النَّفْي ، ولكن تَفُوت الدَّلالة على الاهْتِمَامِ المذكور ، [ وَكَان يَصِحُّ إسْقَاطُ الثَّانِية ويبقى مَعْنَى الاهْتِمَامِ ، ولكن ] تفُوت الدَّلالةَ على النَّفْي ، فَجَمَعَ بينهما لذلك .
الثالث : أن الثَّانِية زَائِدةٌ ، والقَسَم معْتَرِضٌ بين حَرْفَي النَّفْي والمَنْفِيّ ، وكان التقدير : فلا يُؤمِنُون وَرَبُّك .
الرابع : أن الأولى زائدةٌ ، والثَّانِيَة غير زائدة ، وهو اخْتِيَار الزَّمَخْشَرِي؛ فإنه قال : « لا » مزيدةٌ لتأكِيد مَعْنَى القَسَمِ؛ كما زِيدَتْ في
{ لِّئَلاَّ يَعْلَمَ } [ الحديد : 29 ] لتأكِيد وُجُوب العِلْم ، و « لا يؤمنون » جواب القَسَم .
فإن قلت : هلاّ زَعَمْتَ أنَّها زَائِدة لتظاهر لا في لا يؤمنون؟ « .
قلت : يَأبَى ذلك اسْتِوَاء النَّفْيِ والإثْبَات فيه؛ [ وذلك لقوله : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } [ الحاقة : 38-40 ] يعني : أنه قد جاءَت » لاَ « قبل القَسَمِ؛ حَيْثُ لم تكُن » لا « موجودة في الجَوَابِ ] ، فالزَّمَخْشَرِي يرى : أن » لاَ « في قَوْلِهِ -تعالى- : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ } [ الحاقة : 38 ] أنها زائدَة أيضاً لتأكيدِ مَعْنَى القَسَم ، وهو أحَدُ القَوْلَيْن .
والقول الآخر : كَقَوْلِ الطَّّبَرِي المتقَدِّم؛ ومثل الآيَةِ في التَّخَارِيج المَذْكُورة قول الآخر : [ الوافر ]
1820- فَلاَ وَاللَّه لا يُلْفى لما بِي ... ولا لِلِمَا بِهِمْ أبَداً دَوَاءُ
قوله : » حتى يحكموك « غاية مُتَعلِّقَةٌ بقوله : » لا يؤمنون « أي : ينْتَفِي عنهم الإيمَانُ إلى هَذِه الغَايَةِ ، وهي تَحْكِيمُك وَعَدم وُجْدَانِهِم الحَرَج ، وتسليمهم لأمْرِك ، والتَفَتَ في قوله : » وربك « من الغَيْبَةِ في قوله : واستغفر لهم [ الرسول ] رجُوعاً إلى قوله : { ثُمَّ جَآءُوكَ } [ النساء : 62 ] .
قوله : { شَجَرَ } قرأ أبو السَّمَّال : » شَجْرَ « بسكون الجيمِ هَرَباً من تَوَالِي الحَرَكَاتِ ، وهي ضَعيفَةٌ؛ لأن الفَتْح أخو السُّكُون ، و » بينهم « ظَرْفٌ مَنْصُوبٌ ب { شَجَرَ } ، هذا هو الصَّحيحُ .
وأجاز أبو البَقَاءِ فيه : أن يكُون حالاً ، وجعلَ في صَاحِب هذه الحَالِ احْتَمَالَيْنِ :
أحدهما : أن يكون حالاً من » مَا « المْصُوَلَة .
والثاني : أنه حَالٌ من فَاعِل { شَجَرَ } وهو نَفْس الموصُول أيضاً في المَعْنَى ، فعلى هَذَا يتعلَّق بمَحْذُوفٍ .
فصل في معنى التشاجر
يقال : شَجَر يَشْجُرُ شُجُوراً وشَجْراً : إذا اخْتَلَف واخْتَلَطَ ، وشَاجَرَهُ : إذا نَازَعَهُ ، وذلك لتداخل [ الكلام بعضه في بعض عند المُنازعةِ ، ومنه يقال لخشبات الهَوْدج : شِجَار ] ، لتَداخُل بعضها في بعض .
قال أبو مُسلم : وهو مأخُوذٌ عندي من التِفَافِ الشَّجَرِ؛ فإن الشَّجَرَ يتداخلُ بَعضُ أغْصَانه في بَعْضٍ .
قوله { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ } عطفُ على ما بَعْدَ » حتى « ، و » يجدوا « يحتمل أن تكُون المُتعدِّية لاثْنَين [ فيكون الأوَّل : » حَرَجاً « ، والثاني : الجار قَبْلَه ، فيتعلَّق بمحذُوفٍ ، وأن تكُون المتعدِّية لوَاحِدٍ ] فيجوز في { في أَنْفُسِهِمْ } وجْهَان :
أحدهما : أنه مُتعلِّق ب { يَجِدُواْ } تعلُّق الفَضَلاتِ .
والثاني : أن يتعلَّق بمَحْذُوفٍ على أنه حَالٌ من { حَرَجاً } ؛ لأن صِفَة النَّكِرَة لما قُدِّمَت عليها انْتَصَبت حَالاً .
قوله { مِّمَّا قَضَيْتَ } فيه وجهان :
أحدهما : نه مُتَعَلِّق بنفس { حَرَجاً } ؛ لأنَّك تقُول : خرجْتُ من كَذَا .
والثاني : أنه متعلِّق بمحْذُوفٍ فهو في مَحَلِّ نَصْبٍ؛ لأنه صِفَةٌ ل { حَرَجاً } ، و » مَا « يجُوزُ أن تكون مصدريَّة [ وأن تكُون بمَعْنى الَّذِي ، أي : حَرَجاً من قَضَائِك ، أو مِن الَّذي قضََيْتَهُ ] ، وأن تكون [ نكرة ] موصُوفة ، فالعَائِدُ على هَذَيْن القَوْلَيْن مَحْذُوفٌ .
فصل
أقْسَم الله -تعالى- على أنَّهُم لا يَصِيرُون مُؤمنين إلا عِنْد شَرِائِط :
أولُها : { حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } ، وهذا يَدُلُّ على أنَّ من لَمْ يَرْض بحُكْم الرَّسُول ، - [ عليه الصلاة والسلام ] - لا يَكُون مؤمناً .
وثانيها : قوله : { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ [ في أَنْفُسِهِمْ ] حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ } .
قال الزجاج : لا تضيقُ صُدورُهُم من أقْضِيَتِك ، وقال مُجاهِد : شكّاً ، وقال الضَّحَّاك : إثْماً ، أي : يأثمُون بإنْكَارِهِم .
وثالثها : قوله : { وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } أي : ينقادوا للأمْرِ كحَالَ الانْقِيَادِ ، واعلم أن قوله : { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ } المراد منه : الانْقِيَاد في البَاطِنِ ، وقوله { وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } المُرَاد منه : الانْقِيَادُ في الظَّاهِرِ ، والحَرَجُ على ثلاثة أوجه :
الأول : بمعنى الشَّكّ؛ كهذه الآية ، [ و ] مثله : { فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ } [ الأعراف : 2 ] أي : شك .
والثاني « بمعنى الضِّيق؛ قال -تعالى- : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] أي ضيقٍ .
الثالث : بمعنى الإثْمِ؛ قال : -تعالى- : { وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ } [ التوبة : 91 ] أي : إثْمٌ .
فصل في عصمة الأنبياء
دلَّت هذه الآيةُ على عِصْمَة الأنْبِيَاء -عليهم السلام- عن الخَطَإ في الفَتَاوى والأحْكَام؛ لأنه -تعالى- أوْجَبَ الانْقِيَاد لحُكْمِهِم ، وبالغ في ذَلِك الإيَجابِ ، وبيَّن أنه لا بُدَّ من حُصُولِ الانْقِيَاد في الظَّاهِرِ والقَلْبِ ، وذلك يَنْفِي صُدُورَ الخَطَإ عَنْهُم ، فَدَلَّ ذلك على أنَّ قَولَه : { عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] ، وفتواه في أسْرَى بَدْرٍ ، وقوله : { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ } [ التحريم : 1 ] ، وقوله : { عَبَسَ وتولى } [ عبس : 1 ] كل ذلِكَ مَحْمُول على التَّأوِيل .
فصل
قالت المعتزلة : لو كانت الطَّاعَاتُ والمَعَاصِي بَقَضَاء الله -تعالى- لَزِم التَّنَاقُضُ؛ لأن الرَّسُول إذا حَكَم على إنْسَانٍ بأنه لا يَفْعلُ كَذَا ، وجب على جَمِيع المكَلَّفين الرِّضَا بذلك؛ لأنه قضاءُ الرّسُول ، والرِّضى بقَضَاءِ الرَّسُولِ وَاجِبٌ [ لهذه الآية ، ثم إن ذلك المكلَّف فعل ذَلِكَ بقَضَاءِ اللَّهِ ، والرِّضَا بقضَاء اللَّه وَاجِبٌ ] فيَلْزَمُ أن يَجِب على جَمِيع المكلَّفِين الرِّضَا بِذلِكَ الفِعْل ، لأنه قضاء اللَّه ، فوجب أن يَلْزَمَهُم الرِّضَا بالفِعْلِ والتَّرْكِ مَعاً ، وذلك مُحَالٌ .
والجوابُ : أن المُرَاد من قَضَاءِ الرَّسُول : الفَتْوى بالإيجَابِ والمُرَاد من قَضَاء الله : التكوِين والإيجَادِ ، وهما مفهومان مُتغايَران ، فالجَمْعُ بينهما لا يفضي إلى التَّنَاقُض .
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)
هذه الآيةِ مُتَّصِلَة بما تقدَّم من المُنَافَقِين ، وترغيب لَهُم في تَرْكِ النِّفَاقِ ، والمَعْنَى : أنَّا لو شَدَّدْنا التكلِيف على النَّاسِ؛ نحو أن نأمُرَهُم بالقَتْلِ ، والخُرُوج عن الأوْطَانِ ، لَصَعُبَ ذلك عليهم ولما فَعَلَهُ إلا قَلِيلٌ ، وحينئذٍ يظهر كُفْرُهُم ، فلم نَفْعَلْ ذلك رَحْمَةً مِنَّا على عِبَادِنا ، بل اكْتَفَيْنَا بتكْلِيفِهِم في الأمُور السَّهْلَة ، فَلْيَقْبَلُوهَا ولْيَترُكُوا التَّمرُّد .
نزلت في ثَابت بن قَيْس بن شِمَاس ، نَاظَر يهُودِيَّا . فقال اليَهُودِيّ : إن مُوسَى أمَرَنا بقَتِْ أنْفُسِنَا فَفَعَلْنَا ذَلِك ، ومحمد يأمرُكُم بالقِتَال فتكْرَهُونَهُ . فقال ثابت بن قَيْس : لو أنَّ مُحَمَّداً أمَرَنِي بقَتْل نفسي ، لفَعَلْت ذلك فنزلت الآيةُ ، وهو من القَِيلِ الَّذِي اسْتَثْنَى اللَّهُ .
وقال الحسن ومُقاتِل : لماّ نَزَلَت هذه الآيةُ ، « قال عُمَر ، وعمَّار بن يَاسِر ، وعبد لله بن مَسْعُود ، وناسٌ من أصْحَاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم القليلُ : واللَّه لَوْ أمَرَنَا لفعلنا ، فالحَمْدُ للَّه الذي عَافَانا اللَّه فبلغ ذَلِك النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال » إنَّ مِنْ أمَّتِي لَرِجَالاً ، الإيمانُ أثْبَتُ في قُلُوبِهِم مِنَ الجِبَالِ الرَّواسِي « .
والضَّمِيرُ في قوله : { كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ } فيه قولان :
الأوّل : قال ابن عبَّاسٍ ومُجَاهِد : إنه عَائِد إلى المُنَافِقين لأنه -تعالى- كَتَبَ على بَنِي إسرائيلَ أن يَقْتُلوا أنْفُسَهم ، وَكَتَب على المُهَاجِرِين أن يَخْرُجُوا من ديارِهم ، فقال : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا } على هؤلاءِ المُنَافِقِين القَتْل والخُرُوجَ ، ما فَعلهُ إلا قَلِيلٌ ريَاءً وسُمْعَة ، وهذا اخْتِيَار الأصَمِّ والقَفَّال .
[ القول ] الثاني : المراد : لو كَتَب اللَّه على النَّاسِ ما ذَكَر ، لم يَفْعَلْه إلا قَلِيلٌ منهم ، فَيَدْخُل فيه المُؤمِنُ والمُنَافِق .
قوله : { أَنِ اقتلوا } » أن « فيها وجهان :
أحدهما : أنها المُفَسِّرة؛ لأنَّها أتت بعد ما هُو بمعنى القَوْلِ لا حَرُوفهِ ، وهو أظْهَر .
الثاني : أنها مَصْدَريَّة ، وما بَعْدَها من فِعْل الأمْرِ صِلَتُها ، وفيه إشْكَالٌ؛ من حيث إنَّه إذا سُبك منها ومِمّا بَعْدَها مَصْدرٌ ، فأتت للدِّلالةَ [ على الأمر ، ألا تَرَى أنَّك إذا قُلْتَ : كتَبْتُ إلَيْه أنْ قُمْ فيه من الدَّلالَةِ ] على طَلَبِ القِيَام بطريق الأمْرِ ، ما لا في قَوْلِك : كَتَبْتُ إليه القِيَام ، ولكنَّهمُ جَوَّزوُا ذلك واسْتَدَلُّوا بقولِهِم : كَتَبْتُ إليه بأن قُمْ . ووجه الدلالة : أن حَرْفَ الجَرِّ لا يُعَلَّق .
وقرأ أبو عمرو : بكسر نُونِ » أن « وضَمّ واو » أو « ، قال الزَّجَّاج : ولست أعرف لِفَصْل أبي عَمْروٍ بين هَذَيْنِ الحَرْفَيْنِ خَاصيَّة إلاّ أن يَكُون رِوَايَةً .
وقال غيره : أمّا كَسْر النُّونِ؛ فلأن الكَسْرَ هُو الأصْلُ في التِقَاء السَّاكِنَيْن ، وأما ضَمُّ الواو فللإتبَاعِ؛ لأن الضَّمَّة في الواوِ أحسن؛ لأنَّها تُشْبِه وَاوَ الضَّمِير ، نحو : { اشتروا الضلالة } [ البقرة : 16 ] { وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل } [ البقرة : 237 ] وكَسَرَهُمَ حَمْزَة وعَاصِم؛ لالْتِقَاء السَّاكِنَيْن ، وضَمَّهُمَا ابن كَثِير ، ونَافِع [ وابن عامر ] والكسائي؛ للاتبَاعِ فيهما .
قوله { مَّا فَعَلُوهُ } .
الهاء يُحْتَمَلُ أن تكُون ضمير مَصْدر { اقتلوا } ، أو { اخرجوا } أي : ما فَعَلُوا القَتْل؛ أو ما فَعَلُوا الخُرُوج .
وقال فَخْر الدِّين الرَّازي : تعود إلى القَتْلِ والخُرُوج معاً؛ لأنه الفِعْل جَنْسٌ وَاحِدٌ وإن اخْتَلَفَت ضُرُوبُه .
قال شهاب الدِّين : وهذا بَعيدٌ لنُبُوّ الصِّنَاعة عَنْهُ ، وأجَازَ أبو البقاء أن يَعُود على المكْتُوب ويَدُلُّ عليه : { كَتَبْنَا } .
قوله : « إلاَّ قليلٌ » رفْعُه من وَجْهَيْن :
أحدهما : أنه بَدَلٌ من فَاعِل { فَعَلُوهُ } وهو المخْتَار على النَّصْبِ؛ لأن الكلام غير مُوجِبٍ .
الثاني : أنه مَعْطُوف على ذَلِكَ الضَّمِير المَرْفُوع ، و « إلاَّ » حَرْف عَطْفٍ ، وهذا رأي الكوفِيِّين .
وقرا ابن عامر وجَماعة : { إلاَّ قَلِيلاً } بالنَّصْب ، وكذا هُو في مَصَاحِفِ لأهْل الشَّامِ ، ومصْحَف أنس بن مَالِكٍ ، وفيه وَجْهَان :
أشهرهما : أنه نَصْبٌ على الاسْتِثْنَاء وإن كان الاخْتِيَار الرَّفع؛ لأن المعنى موجُود [ معه كما هُو مَوْجُود ] مع النَّصْب ، ويزيد عليه بمُوَافَقَة اللَّفْظِ .
والثَّاني : أنه صِفَةٌ لمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ ، تقديره : إلا فِعْلاً قليلاً ، قاله الزَّمَخْشَرِي وفيه نَظَرٌ؛ إذ الظَّاهر أن « منهم » صِفَةٌ ل { قَلِيلاً } ، ومَتَى حمل القَلِيل على غَيْر الأشْخَاصِ ، يقلق هذا الترْكِيب؛ إذ لا فَائِدَة حينئذٍ في ذكر « منهم » .
قال أبو علي الفَارِسي : الرَّفْع أقْيَس ، فإن مَعْنَى ما أتَى أحَدٌ إلا زَيْد ، [ وما أتَانِي إلا زَيْد ] واحِدٌ؛ فكما اتَّفَقُوا في قَوْلِهِم : ما أتَاني إلا زَيْدٌ ، على الرَّفع ، وجب أن يكُون قَوْلهُم : ما أتَانِي أحَدٌ إلا زَيْدُ بِمَنْزِلَتِهِ .
قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ } تقدم الكَلاَم على نَظِيره ، و « ما » في { مَا يُوعَظُونَ } [ موصولة ] اسميَّة .
والباء في : « بِهِ » يُحْتَمل أن تكُون المُعَدِّية دَخَلَتْ على الموعُوظ به [ والموعوظ به ] على هَذَا هو التَّكَالِيفُ من الأوَامِرِ والنَّوَاهِي ، وتُسَمَّى أوَامِر اللَّه [ تعالى ] ونَوَاهِيه مَوَاعِظ؛ لأنها مقْتِرَنَةٌ بالوَعْد والوَعيد ، وأن تكون السَّبَبِيَّة ، والتقدير : ما يُوعَظُون بسببه أي : بسبب تَرْكِهِ ، ودلَّ على التَّرْكِ المحذوف قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ } [ واسم « كان » ضمير عَائِدٌ على الفِعْل المفْهُومَ من قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ } ] أي : لكَان فِعْل ما يُوعظون به ، و « خَيْراً » خبرها ، و « شيئاً » تَمْييز ل « أشَدَّ » ، والمعْنَى : أشَدّ تَحْقِيقاً وتَصْديقً لإيمانهم .
قوله : « وإذن » : حرف جَوَابٍ وجَزَاء ، وهل هَذَان المعْنَيَانِ لازمَان لها ، أو تكُون جَوَابَاً فَقَطْ؟ قولان : الأوّل : قَوْل الشلوبين تَبَعاً لظَاهِر قول سيبَويْه .
والثاني : قول الفَارِسيِّ؛ فإذا قال القَائِلُ : أزُورُك غَدَا ، فقلت : إذْن أكرِمُكَ ، فهي عِنْدَهُ جَوَابٌ وجَزَاء ، وإذا قُلْتَ : إذن جواب مُلْغَاة ، فظاهر هذه العِبَارَةِ موافِقٌ لقَوْل الفَارسِيِّ [ وفيه نَظَر؛ لأن الفارسيّ ] لا يقُول في مِثْل هذه الآية إنَّها جَوابٌ فَقَطْ ، وكَونهَا جَوَاباً يَحْتَاجُ إلى شيء مُقَدَّرٍ .
قال الزَّمَخْشَرِيّ : « وإذن » -جواب لِسُؤالٍ مُقَدَّرٍ؛ كأنه قيل : وماذَا يكُون لَهُمْ بعد التَّثْبِيتِ أيضاً؟ فقيل : لو تَثَبَّتُوا لآتَيْنَاهُم؛ لأن « إذَنْ » جوابٌ وجَزَاءٌ .
و { مِّن لَّدُنَّآ } : فيه وَجْهَان :
أظهرهما : أنه مُتعلِّق [ ب { وَءَاتَيْنَاهُمْ } .
والثاني : أنه مُتَعَلِّق ] بمحْذُوفٍ؛ لأنه حالٌ من « أجْراً » لأنَّه في الأصْلِ صِفَة نكرة قُدِّمَت عليها . و « أجْراً » مَفْعُول ثانٍ ل « ءَاتَيْنَاهُم » ، و { صِرَاطاً } مَفْعول ثانٍ ل { لَهَدَيْنَاهُمْ } .
فصل
قال الجُبَّائِي : دَلَّت هذه الآيَةُ على أنَّه -تعالى- لمَّا لم يُكَلِّفْهُم ما يَثْقُلُ عَلَيْهم ، فبأن لا يَكَلِّفَهُم ما لا يُطِيقُونَ أوْلَى .
والجواب : إنَّما لم يُكَلَّفُهم بهذه الأشْيَاءه الشَّاقَّة؛ لأنَّه لو كَلَّفَهُم بها لما فَعَلُوهَا ، ولو لم يَفْعلُوهَا ، لوقَعُوا في العَذَاب ، ثم إنَّه -تعالى- عَلِم من أبِي جَهْلٍ وأبِي لَهَبٍ عدم الإيمانِ ، وأنهم لا يسْتَفِيدُون من التَّكْلِيفِ إلاَّ العِقَاب الدَّائِم ، ومع ذلِك فإنَّهُ كَلَّفَهُم الإيمَان فلمَّ كان جَوَاباً عن هَذَا ، فهو جوابٌ عما ذكَرْت .
فصل : دلالة الآية على عظم الآجر
دلَّت هذه الآيةُ على عِظَمِ هذا الأجْرِ من وُجُوه :
أحدُها : أنه ذَكَر نَفْسه بصيغة العَظَمَةِ ، وهو قوله : { لآتَيْنَاهُمْ مِّن لَّدُنَّآ } والمُعْطِي الحكيم إذا ذكَر نَفْسَه ( باللَّفْظِ الدَّالِّ على ) العظمة ، وهو قوله : { وَءَاتَيْنَاهُم } عند الوَعْد بالعَطِيَّة -دلَّ على عِظَم تَِلْك العَطِيَّة .
وثانيها : قوله : { مِّن لَّدُنَّآ } هذا التَّخصيص يَدُلُّ على المُبَالَغَةِ ، كما في قوله : { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } [ الكهف : 65 ] .
وثالثها : أنه وَصَفَ الأجْرَ بكَوْنِهِ عَظِيماً ، والذي وَصَفَهُ أعْظَم العُظَمَاء بالعَظَمَةِ ، لا بد وأن يكُون في نِهَاية العِظَم ، قال -عليه الصلاة والسلام- : « [ فيها ] ما لاَ عَيْنٌ رَأتْ ، ولا أذُنٌ سَمِعَتْ ، ولا خَطَر على قَلْبِ بَشَر » .
والمراد ب « الصراط المستقيم » : هو الدِّين الحَقّ؛ لقوله : « وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم » .
وقيل : الصِّرَاط هو الطَّريق من عرصة القيامة إلى الجَنَّة؛ لأنه -تعالى- ذكَرَهُ بعد الثَّوابِ والأجْرِ ، فكان حَمْلُه عليه في هَذَا الموضِع أولى .
==================================
ج22. ج22.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
لما أمر اللَّه بطَاعَةِ اللَّهِ وطاعَةِ رسُولِهِ بقوله : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } [ النساء : 59 ] ثم زيَّف طريقَةَ المُنَافِقِين ، ثم أعَادَ الأمْر بطَاعَةِ الرَّسُول بقوله - [ تعالى ] - : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ أِلاَّ لِيُطَاعَ } ورغَّب في تِلْك الطَّاعَةِ بإيتَاءِ الأجْرِ العَظيمِ ، وهداية الصِّرَاطِ المُسْتَقِيم ، أكد الأمْرَ بالطَّاعَة في هَذِه الآيَةِ مَرَّة أخْرَى ، فقال : { وَمَن يُطِعِ الله والرسول } الآية ، وقال القُرْطبيّ : لما ذكر اللَّه -تعالى- الأمْر الذي لو فَعَلَهُ المُنافِقُون حِين وعظُوا به وأنَابُوا إليه ، لأنْعَمَ عليهم ، ذكر بعد ذَلِك ثَوابَ من يَفْعَلهُ .
فصل : سبب نزول الآية
قال جماعة من المفسِّرِين : « إن ثَوبَان مَوْلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم كانَ شَديد الحُبِّ لرسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قليل الصَّبْر عن فِراقِهِ ، فأتَاهُ يَوماً وقد تَغَيَّر لًوْنُه ، ونحلُ جسمُه ، وعُرف الحُزْن في وَجْهِه ، فقال [ له ] رسُول الله صلى الله عليه وسلم [ ما غيَّر لَوْنَك؟ فقال : يا رسول الله ] مَا بِي من وَجَع غيْرَ أنِّي إذا لمْ أرَكَ ، اسْتَوْحَشْتُ وحْشَةً شَديدةً حَتَّى ألقاك ، فَذَكَرْتُ الآخِرَة فَخِفْتُ إلاَّ أرَاكَ هُنَاكَ؛ لأنك تُرفعَ مع النبييِّن [ والصِّدِّيقين ] ، وإني إن أدخِلْتُ الجَنَّة ، كنت في مَنْزَلةٍ أدْنَى من مَنْزِلَتِك ، وإن لَمْ أدْخُلِ الجَنَّة ، فلا أرَاكَ أبَداً » ، فنزلَتْ [ هذه ] الآيَةَ .
وقال مُقَاتل : نَزَلَتْ في رَجُلٍ من الأنْصِارِ ، قال للنَّبِي صلى الله عليه وسلم يا رسُولَ الله ، إذا خَرَجْنَا من عِنْدِك إلى أهْلِينَا اشْتَقْنَا إليك ، فما يَنْفَعُنَا شيء حتَّى نَرْجع إلَيْك ، ثم ذَكَرْتُ درجَتَكَ في الجَنَّة ، فكيف لَنَا بِرُؤْيَتك إن دَخَلْنَا الجَنَّة ، فنزَلتْ هذه الآيةُ ، فلما تُوُفِّي النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : اللَّهُمَّ أعْمِنِي حّتَّى لا أرَى شَيْئاً بَعْدَهُ إلى أنْ ألقاه؛ فعَمِيَ مَكَانَهُ ، فكان يُجِبُّ النبي حُبّاً شديداً ، فجعله الله مَعَهُ في الجَنَّةِ .
قال المُحَقِّقُون : لا تنكَرُ صحَّة هَذِهِ الرَّوَايَات؛ إلا [ أن ] سَبَب النُّزُّول يجب أن يكون شَيْئاً أعْظَم من ذَلِك ، وهو الحَثُّ على الطَّاعَةِ والتَّرغِيب فيهَا ، فإن خُصُوصَ السَّبَبِ لا يَقْدَحُ في عُمُوم اللَّفَظِ ، فالآيةُ عامَّةٌ في حَقِّ جميع المكلَّفين ، والمَعْنَى : ومَنْ يُطِع الله في أدَاءِ الفَرَائِضِ ، والرَّسُولَ في السُّنَنِ .
فصل
ظاهر قوله : { وَمَن يُطِعِ الله والرسول } يوجب الأكْثَر بالطَّاعَة الوَاحِدَة ، لأنَّ اللَّفْظَ الدالَّ على الصِّفَةِ يكفي فقي جَانِبِ الثُّبُوتِ حُصُول ذَلِكَ المُسَمَّى مَرَّة وَاحِدَة .
قال القَاضي : لا بد من حَمْلِ هَذَا على غير ظاهره ، وأن تُحْمَل الطَّاعَة على فعل المأمُورَاتِ وتَرْك جَمِيع المنْهِيَّات؛ إذ لو حَمَلْنَاهُ على الطَّاعَةِ الوَاحِدَةِ ، لدخل فيه الفُسَّاق والكُفَّار؛ لأنهم قد يأتُونَ الطَّاعَةِ الوَاحِدَةِ ، لدخل فيه الفُسَّاق والكُفَّار؛ لأنهم قد يَأتونَ الطَّاعَةَ الوَاحِدَة .
قال ابن الخَطِيب : وعِنْدِي فيه وَجْهٌ أخَرَ ، وهو أنَّهُ ثَبَتَ في أُصُولِ الفِقْهِ ، أن الحُكْمَ المَذْكُور عَقِيب الصِّفَةِ يُشْعِرُ بِكَوْنِ ذلك الحُكْمِ مُعَلِّلاً بذلك الوَصْفِ ، وإذا ثَبَتَ هذا فَنَقُول : قوله : { وَمَن يُطِعِ الله } [ أي : ومن يُطِع الله ] في كَوْنِهِ إلهاً ، وذَلِكَ هو مَعْرِفَتُه والإقْرَار بِجَلاَلَهِ وعِزَّتِه وكبْرِيَائِه [ وقُدْرَته ] ، ففيها تَنْبِيهٌ على أمْرَيْن عظيمين مِنْ أمُور المَعَاد :
الأوّل : منشأ جَميع السَّعَاداتِ يوم القيامَة وهُو إشْرَاق الروح بأنْوَارِ معْرفته تعالى ، وكل من كانت هذه الأنوار في قلبه أكْثَر ، وصَفَاؤُهَا أقْوَى ، وبُعْدُها عن التكَدُّر بعالم الأجْسَام ، كان إلى الفَوْزِ بالنجاة أقرب .
الثاني : قال ابن الخَطِيب : إنه - تعالى- وعد المُطيعين في الآيةِ المتقدِّمَة بالأجْر العَظِيم والهداية ، ووعَدهُم هنا بِكَوْنِهِم مع النّبِيَّين [ كما ذكر في ] الآية ، وهَذَا الذي خَتَمَ به أشْرُف ممَّا قَبْلَهُ ، فليس المُرادُ مَنْ أطَاعَ الله وأطاعَ الرَّسُول مع النَّبِيِّين والصِّدِّيقين - كَوْن الكل في دَرَجَةٍ واحِدَةٍ؛ لأن هذا يقْتَضِي التسوية في الدَّرجة بين الفَاضِلِ والمَفْضُوُل ، وأنَّه لا يجُوزُ ، بل المُرادُ : كونُهم في الجَنَّةِ بحَيْثُ يتمكَّن كل واحدٍ مِنْهُم من رُؤيَة الأخَرَ ، وإن بَعُد المَكَان؛ لأن الحِجَابِ إذَا زَالَ ، شَاهدَ بَعْضُهم بَعْضَاً ، وإذا أرَادُوا الزِّيَارَة والتَّلاقِي قَدَرُوا عَلَيْهِ ، فهذا هُو المُرادُ من هَذِه المَعيَّة .
قوله : { مِّنَ النبيين } فيه أربعة أوجه :
أظهرها : أنه بَيَان ل « الذين أنعم الله عليهم » .
الثاني : أنه حلٌ من لضمير في « عليهم » .
الثالث : أنه حلٌ من الموصُول ، وهو في المَعْنَى كالأوَّل ، وعلى هَذَيْنِ الوَجْهَيْن فيتعلَّق بمحْذُوف ، لأي : كَائِنين من النَّبِيِّين .
الرابع : أن يَتَعلَّق ب « يُطِع » قال الرَّاغِب : [ أي ] : ومن يُطِع الله والرَّسُول من النَّبِيّين ومَنْ بَعْدَهُم ، ويكون قوله : { فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم } إشارةٌ إلى الملإ الأعْلَى .
ثم قال : { وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً } ويُبيَّين ذلك قوله - عليه السلام - عند المَوْتِ : « اللهم ألحقني بالرفيق الأعلى » وهذا ظاهِر ، وقد أفْسَدَهُ أبو حَيَّتن من جِهَةِ المَعْنَى ، ومن جَهَةِ الصِّنَاعَة :
أمَّا من جِهَة المَعْنَى : فلأن الرَّسُول هُنَا هو مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ، وقد أخْبَر- تعالى- أنَّه من يُطِع الله ورسُولَهُ ، فهو مع مَنْ ذَكَرَهُ ، ولو جَعَلَ « مع النبيين » متَعلِّقاً ب « يُطِع » ، لكان « من النبيين » تَفْسيراً ل « مَنْ » الشَّرطيَّة ، فَيَلْزَم أن يَكُونَ في زَمَانِهِ- عليه الصلاة والسلام - [ أو بَعْدَهُ أنْبياء ] .
وأمَّا من جِهَةِ الصِّنَاعَةِ؛ فلأن ما قَبْلَ الفَاءِ [ يُطيعُونَه ، وهذا غَيْر ممْكِن؛ لقوله تعالى : { وَخَاتَمَ النبيين } وقوله ] - عليه السلام- : « ولا نَبِيّ بَعْدِي » الوَاقِعَة جَوابَاً للشَّرْطِ لا يعمل فيما بَعْدَهَا ، لو قُلْتُ ، إن تَضْرِب يَقُم عَمْرو وزَيْداً لم يَجُزْ : وهل هذه الأوْصَاف الأرْبَعة لِصِنْفٍ واحدٍ أو لأصنَافٍ مختلفة؟ قولان .
فصل في تفسير المراد بالنبي والصديق والشهيد
قيل : المُرَاد بالنَّبِيَّين والصِّدِّيقين والشُّهَداء والصَّالِحِين : صِنْفٌ واحد من النَّاس ، وقيل : المراد أصْنَاف مُخْتَلِفَة؛ لأن المَعْطُوف يَجبُ أن يكُون مُغَايِراً للمعْطُوف عَلَيْهِ ، وقيل : الاخْتِلاَف في الأصْنَافِ الثَّلاثة غير النَّبِيِّين ، فالصِّدِّيقُون هُمْ أصْحَابُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، والصِّدِّيق : هو اسمٌ للمُبَالِغِ في الصِّدْقِ ، ومن عادَته الصِّدْق .
وقيل : الصِّدِّيق : هو اسمٌ لمن سَبَقَ إلى تَصْديق النَّبي صلى الله عليه وسلم ، [ وعلى هذا فأبُو بكر أوْلَى الخَلق بهذا الاسْم؛ لأنَّهُ أول من سَبَقَ إلى تَصْديق النَّبي صلى الله عليه وسلم ] ؛ واشْتَهَرَت الرِّوَاية بذلك ، وكان عَلَيَّ صَغِيراً واتَّفَقُوا على أنَّ أبا بَكْر لمَّا آمَنَ ، جَاءَ بَعْدَ ذلك بِمُدَّة قَلِيلَة بِعُثْمَان بن عَفَّان - رضي الله عنه- ، وطَلْحَة بن الزُّبَيْرِ ، وسَعْد بن أبي وقَّاص ، وعُثْمَان بن مَظْعُون- رضي الله عنهم- حتى أسْلَمُوا ، فكان إسْلامُه سَبَباً لاقْتِدَاء هؤلاء الأكَابِرِ بِهِ؛ فثبت أنَّه - رضوان الله عَلَيْه- كان أسْبَق النَّاس إسلاماً ، وإن كان إسلامُه صَار سَبَباً لاقْتِدَاء الصَّحَابَةِ في ذَلِكَ ، فَكَانَ أحَقَّ الأمَّة بهذا الاسْم أبو بكر ، وإذا كان كَذِلِكَ ، كان أفْضَل الخَلْقِ بعد الرَّسُول [ عليه الصلاة والسلام ] ، وجَاهَدَ في إسْلامِ أعْيَان الصَّحَابةِ - رضي الله عنهم- في أوّل الإسْلام ، حين كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في غَايَةِ الضَّعْفِ ، وَعَلَيَّ - رضي الله عنه- إنما جاهدَ يَوْمَ أحُدٍ ويَوْمَ الأحْزابِ ، وكان الإسْلامُ قَوِيَّاً ، والجهاد وَقْتَ الضَّعْفِ أفْضَلَ من الجِهَادِ وقت القُوَّة؛ لقوله - تعالى- : { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } [ الحديد : 10 ] ، ودلَّ تَفْسِير الصِّدِّيق بما ذَكَرْنَا ، على أنَّهُ لا مَرْتَبَةَ بعْد النُّبُوَّة [ أشْرَف ] في الفَضْلِ إلا الصِّدِّيق ، فإنه أينما ذُكِرَ النَّبِيُّ والصِّدِّيق لَمْ يُجْعَل بينهما وَاسِطَةِ ، قال - تعالى - في صفة اسْماعيل : { إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد } [ مريم : 54 ] ، وفي صِفَةِ إدْرِيس : { إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً } [ مريم : 41 ] ، وقال هُنَا ، { مِّنَ النبيين والصديقين } وقال : { والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ } [ الزمر : 33 ] ، فلم يجْعَل بَيْنَهُمَا وَاسِطَة ، وقد وفَّقَ الله الأمَّة التِي هي خَيْر أمَّةِ ، حتى جَعَلُوا الإمام بعد الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام- أبا بَكْر على سبيل الإجْمَاع ، ولما تُوُفي- رضي الله عنه- دُفِنَ إلى جَنْبِ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا دَليلٌ على أنَّ اللهَ- تعالى- رفع الواسِطَة بين النَّبِيِّين والصِّدِّيقين .
وأمَّا « الشهداء » قيل : الذين استشهدوا يوم أُحُد ، وقيل : الَّذِين استشهدُوا في سَبيل الله .
وقال عكرمة- رضي الله عنه- : النَّبِيُّون هَهُنَا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ، والصِّدِّيقُون أبُو بكر ، والشُّهَدَاء ، عُمَر وعُثْمَان وعَلِبّ ، والصَّالِحُون : سائر الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم [ أجمعين ] .
قال ابن الخطيب : لا يجُوزُ أن تكون الشَّهَادَةُ مُقَيَّدة بكون الإنْسَانِ مَقْتُول الكَافِر؛ [ لأن مَرْتَبَةَ الشَّهَادَةِ مَرْتَبَة عَظيِمة في الدِّين ، وكون الإنْسَان مَقْتُول الكَافِر ] ليس زيَادة شَرَفٍ ، لأنّ هذا القَتْل قد يَحْصُلُ في الفُسَّاق ، وفِيمَن لا مَنْزِلَة له عِنْدَ الله .
وأيضاً فإن المُؤمِن قد يَقُول : اللَّهُم ارْزُقْنِي الشَّهَادَة فلو كانت الشَّهَادَةُ عِبَارَة عن قَتْلِ الكَافِرِ إيَّاه ، لكَان قد طَلَبَ من الله ذَلِكَ القَتْل ، وهو غَيْر جَائِزٍ؛ لأنَّ صُدُور [ ذلك ] القَتْلِ من الكَافِرِ كُفْرٌ ، فَكَيْفَ يَجُوز أن يَطْلُب من الله ما هو كُفْرٌ ، وأيضاً قال- عليه الصلاة والسلام- : « المَبْطُونُ شَهِيدٌ ، والغَرِيقُ شَهِيدٌ » ، فَعَلِمْنَا أن الشَّهَادَةَ لَيْسَت عِبَارَة عن القَتْل ، بل نَقُول : الشَّهيدُ : « فَعِيلٌ » بمعنى « الفاعِل » ، وهو الَّذي يَشْهَدُ بِصِحَّةِ ديِن اللهِ تارةً بالحُجَّة والبَيَان ، وأخْرَى بالسَّيْف والسِّنَان ، فالشُّهَدَاءُ هم القَائِمُون بالقِسْط ، وهم الَّذِين ذَكَرَهُم الله - تعالى- في قوله : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط } [ آل عمران : 18 ] يُقَال للمَقْتُول في سَبِيلِ الله : شَهِيدٌ؛ من حَيْثُ إنَّه بذل نَفْسَهُ في نُصْرَة دِين الله ، وشَهَادَتهِ له بأنَّه هو الحَقُّ ، وما سِوَاهُ هو البَاطِل .
وأمّا الصَّالِحُون : فقد تَقَدَّم قول عِكْرِمَة : إنهم بَقِيَّة الصحابة وقيل : الصَّالِحُ من كان صَالِحاً في اعْتِقَادِه وفي علمه .
قوله : { وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً } في نصب رَفيقاً قَوْلان :
أحدُهُمَا : أنه تَمْيِيزٌ .
والثاني : أنه حَالٌ ، وعلى تَقْدِير كَوْنِهِ تَمْييزاً ، فيه احْتِمَالاَن :
أحدهما : أن يكون مَنْقُولاً من الفَاعِلِيَّة ، وتَقْديره : وَحَسُن رَفيِقُ أولَئِك ، فالرَّفِيقُ على هَذا هذا غير لمُمَيَّز ، ولا يجُوزُ دُخُولُ « مِنْ » عليه .
والثاني : ألاَّّ يكون مَنْقُولاً ، فيكون نَفْسُ المُمَيَّز ، وتدخل عليه « مِنْ » ، وإنَّمَا أتَى به هُنَا مفرداً؛ لأحَد مَعْنَيَيْن :
إما لأن الرَّفِيق كالخَلِيطِ والصَّدِيقِ والرَّسُولِ والبريد ، تذهب به العَرَي إلى الوَاحِدِ والمُثَنَّى والمَجْمُوع؛ قال- تعالى- : { إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين } [ الشعراء : 16 ] وهذا إنَّما يَجُوز في الاسْم الّذي يكُون صِفَةً ، أمَّا إذا كَانَ اسماً مُصَرَّحاً كرَجُلِ وامْرَأة لم يَجْزْ ، وجوَّز الزَّجَّاج ذَلِك في الاسْمِ أيْضاً ، وزعم أنه مَذْهَب سِيبَويْه .
والمعنى الثَّاني : أن يكون اكْتَفَى بالوَاحِدِ عن الجَمْعِ لفهم المَعْنَى ، وحَسَّن ذَلِكَ كَوْنِه فَاضِلة ، ويَجُوز في « أولئك » أن يكون إشَارَة إلى [ النبيين ومن بَعْدَهُم ، وأن يكُون إشارَةً إلى ] مَنْ يُطِع الله وِرسُوله ، وإنما جُمِعَ على مَعْنَاهَا؛ كقوله [ تعالى ] : { نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } [ الحج : 5 ] وعلى هذا فَيُحْتَمَل أن يُقال : إنه رَاعَى لَفْظُ [ « مِنْ » ] فأفْرَد في قوله « رفيقاً » ، ومَعْنَاها فجمع في قوله : « أولئك » إلا أن البَدَاءَة في ذلك بالحَمْل على اللَّفْظِ أحسن ، وعلى هذا فيكون قد جَمَعَ فِيهَا بين الحَمْل على اللَّفْظِ في « يَطِعْ » ثم على المَعْنَى في « أولئك » والجمهُور على فتح الحَاءِ وضمّ السّين من « حَسُنَ » .
وقرأ أبو السَّمَّال : بفتحها وسُكُون السِّين تَخْفِيفَاً ، نحو : عَضْد في : عَضُد ، وهي لُغَةُ تَمِيم ، ويَجُوز « حُسْ » ، بضم الحَاءِ وسُكُون السين ، كأنهم نَقَلُوا حركة العَيْنِ إلى الفَاءِ بعد سَلْبِهَا حَرَكَتِها ، وهذه لُغَة بَعْضِ « قَيْس » ، وجعل الزَّمَخْشَرِيّ هذا من بَابِ التَّعَجُّيَّ؛ فإنه قال : فيه معنى التَّعَجُّب ، كأنه قيل : وما أحْسَنُ أولَئِكَ رَفِيِقَاً ، ولاسْتِقْلاَلَه بمعنى التَّعَجُّب .
وقُرئ : « وحَسْن » بسُكون السِّين؛ يقول المتعجب : حَسْنَ الوَجْهِ وَجْهُك ، وحَسْنُ الوَجْه وجْهك بالفَتْح والضَّمِّ مع التَّسْكِين .
قال أبو حَيَّان : وهو تَخْلِيط وتَرْكِيبُ مذْهب على مَذْهَبٍ ، فنقول اخْتَلَفُوا في فِعْلٍ المراد به المَدْح . فذهب [ الفارسي ] وأكثر النُّحَاةِ : إلى جَوازِ إلْحَاقه ببَابِ « نِعْم » و « بِئْسَ » [ فقط ، فلا يكُون فَاعِلُهِ إلا مَا يكُون فَاعِلاً لَهُمَا ] .
وذهب الأخْفَش والمُبَرِّد إلى جَوازِ إلْحَاقِه بِبَابِ « نَعْمَ » و « بِئْسَ » ] ، فيُجْعَل فَاعِله كَفَاعِلَهمَا ، وذلك إذا [ لم ] يَدْخُلُه مَعْنَى التَّعَجُّب [ وإلى جَوَازَ إلْحَاقِه بَفِعْل التَّعَجُّب ] فلا يجري مُجْرَى « نعم » و « بِئْس » في الفَاعِل ، ولا في بَقِيَّة أحْكَامِهما ، فَتَقُول : لَضَرُبَتْ يدك ولضرُبَت اليَدْ ، فأخذ التَّعَجُّبَ من مَذْهَب الأخْفَش ، والتمثيل من مَذْهَب الفارسيّ ، فلم يَتَّبع مَذْهَباً من المَذْهَبَيْن ، وأما جَعْله [ التَّسكِين ] والنَّقْل دلِيلاً على كَوْنِهِ مُسْتَقِلاً بالتَّعَجُّب ، فغير مُسَلَّم؛ لأن الفَرَّاء حَكَى في ذلك لُغَةً في غير مَا يُرَادُ به التَّعَجُّب .
و « الرَّفِيقُ » في اللُّغَة مأخُوذ من الرِّفْق ، وهو لينُ الجَانِبِ ولطافة الفِعْل ، وصَاحِبه رَفِيقٌ ، ثم الصَّاحِبُ يسمى رَفِيقاً؛ لارْتفَاقِكَ به وبِصُحْبَتِه ، ومن هذا قِيل للجَمَاعة في السَّفَر : رُفْقَة؛ لارتفاق بَعْضِهِم بِبَعْض ، والمَعْنَى : أن هَؤلاَءِ رُفَقَاء في الجَنَّة .
روى أنَس : بن مالِك قال : قال رجُل : يا رسُولَ الله مَتَى السَّاعة؟ قالَ ومَا أعْدَدْتَ لَهَا؛ فلم يَذْكُر كَثيراً إلا أنَّهُ يُحِبُّ الله ورسُوله . قال : فأنْتَ مع مَنْ أحْبَبْت .
قوله : { ذلك الفضل مِنَ الله } « ذَلِكَ » مُبْتَدأ ، وفي الخَبَر وَجْهَان :
أحدهما : أنه « الفضل » والجَار والمَجْرُور في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحَالِ ، والعَامِلُ فيها مَعْنَى الإشَارَة .
والثاني : أنه الجَارُّ ، و « الفضل » صِفَة لاسْم الإشَارَة ، ويجوز أن يكُون « الفضل » والجار بَعْدَه خَبَرَيْن [ ل « ذَلِك » ] على رَأي من يجيزُه .
فصل : في دفع شُبه المعتزلة القائلين بوجوب الثواب
« ذلك » [ اسم ] إشَارَة إلى ما تَقَدَّم ذكْرُه من الثَّوَابِ ، وقد حكم عليه بأنَّه فَضْل من اللهِ ، وهذا يَدُلُّ على أن الثواب غير وَاجِبٍ على الهِ - تعالى- ، وَيَدُلُّ عليه من جِهَة العَقْلِ أيْضاً وُجُوه :
أحدها : أن القٌدْرَة على الطَّاعَةِ إن كَانَت لا تَصْلُح إلا للطَّاعَةِ ، فَخَالِقُ تلك القُدْرَةِ هو الَّذِي أعْطَى الطَّاعَة ، فلا يَكُون فعْلُه مُوجباً شَيْئاً ، وإن كانت صالحة للمَعْصِيَة أيْضاً ، لم يترجَّحْ جَانِب الطَّاعة [ لله ] على جَانِب المَعْصِيَة إلا بِخَلْقِ الدَّلعِي إلى الطَّاعَة ، ويصِيرُ مَجْمُوع القُدْرَةِ والدَّاعِي موجِباً للفِعْل ، فخالق هذا المَجْمُوعِ ، هو الَّذِي أعْطَى الطَّاعة ، فلا يَكُون فِعْلُه مُوجِباً عليه شَيْئاً .
وثانيها : أنَّ نِعم الله على العَبْدِ لا تُحْصَى ، وهي مُوجِبةٌ للطَّاعَة والشُّكْر ، فإذا وَقَعَتْ في مُقَابَلَة النِّعَم السَّالِفَة ، امتنع كَوْنُها مُوجِبَة للثَّوَابِ في المُسْتَقْبَل .
وثالثها : أن الوُجُوب يَسْتَلْزِم [ اسْتِحْقاق ] الذَّمِّ عند التَّرْك ، وهذا الاسْتِحْقَاقُ يُنَافِي الإلَهِيَّة ، فيمتنع حُصُولُه في حَقِّ الإلَه - [ سبحانه وتعالى ] -؛ فَثَبَت أنَّ ظاهر الآيَة كَمَا دَلَّ على أنَّ الثَّواب فَضْل من الله- تعالى- فالبَرَاهيِنُ العقْلِيّة القَاطِعَة دَالَّةٌ على ذَلِكَ أيْضَاً .
فصل
يحتمل أن يكُون معنى الآية : ذَلِكَ الثَّوَاب لِكَمَالِ درجَتِه هو الفَضْلُ من الله ، وأن ما سِوَاهُ ليس بِشَيء ، ويُحْتَمَلُ أن يكوُون ذلك الفَضْلُ المَذْكُور والثَّواب المَذكُور هو من اللهِ لا مِنْ غَيْرِه .
{ وكفى بالله } أي : بثَوابِ الآخِرَة ، وقيل : لمن أطاع الله ورسوله وأحبه وفيه بَيَان أنَّهم لم ينالوا تلك الدَّرَجَة بطَاعَتِهم ، إنَّما نالوها بِفَضْلِ الله - عز وجل- .
روى أبو هُريرة- رضي الله عنه- . قال : قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : « قَارَبُوا وسَدَّدُوا واعْلَمُوا أنَّه لا يَنْجُو أحَدٌ مِنْكُم بِعَمَلِهِ » قالُوا : ولا أنتَ يا رسُول الله؟ قال : « ولا أنا إلاَّ أنْ يَتَغَمَّدَني الله بِرَحْمَةٍ منه وفَضْل » .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)
قال القًرْطُبِي : إنه- تعالى- لمّا ذكر طاعة لله وطَاعَة رسُولِهِ ، أمر أهْل الطَّاعة بالقِيَام بإحْيَاء دينهِ وإعْلاءِ دَعْوَته ، وأمَرَهُم ألاَّ يقْتَحِمُوا على عُدوِّهِم على جَهَالةٍ ، حتى يَتَحَسَّسُوا إلى ما عِنْدَهُم ويَعْلَمُون كيف يَرُدُّون عَلَيْهم ، لأن ذَلِكَ أثْبَت لَهُم .
وقال ابن الخطيب : لما رغَّب في طاعة الهِ وطاعةِ رسُوله ، عَادَ إلى ذِكْرِ الجِهَاد؛ لأنه أشَقُّ الطَّاعَات ، وأعْظَم الأمُور الَّتِي بها يَحْصُل تَقْوِية الدِّين ، والحِذْر بمعنى؛ كالأثر والإثْر؛ والمَثَل والمِثْل ، والشَّبَه والشِّبْه .
قيل : ولم يُسْمَه في هذا التَّرْكِيب إلا خُذْ بالكَسْرِ لا حَذَرَك .
يقال : أخَذَ حِذْرَهُ؛ إذا تَيَقَّظَ واحْتَرَزَ من المَخُوفِ؛ كأنه جَعَلَ الحِذْرَ آلَتَهُ التي يقي بها نَفْسَه ، والمَعْنَى : احْذَرُوا واحْتَذِروا من العَدُّوِّ ، ولا تمكَّنُوه من أنفُسِكم .
وقال الوَاحِدِيُّ : فيه قَوْلاَنِ :
أحدهما : المُرَاد بالحِذْرِ [ ها ] هُنَا السِّلاح ، والمعنى : خُذُوا سِلاَحَكُ ، والسِّلاح يسمى حِذْراً؛ لأنَّه يُتَّقَى ويُحْذَر .
والثاني : « خذوا حذركم » بمعنى : احْذَرُوا عَدُوَّكن ، فعلى الأوَّل : الأمر بأخذ السِّلاح مُصَرَّحٌ به ، وعلى الثَّانِي : أخذ السَّلاح مَدْلُول عليه بِفَحْوَى الكَلامِ .
فإن قيل : إنَّ الَّذِي أمَر الله - تعالى- بالحذْرِ عَنْهُ إن كان يُقْضَى إلى الوُجُودِ ، لم يَنْعَدِم ، وإن كانَ الحذْر يُفْضِي إلى العَدَمِ ، فلا حَاجَة إلى الحذْر ، فعلى التَّقْديرَيْن الأمْر بالحذْر عَبَث ، قال- عليه السلام- : « المَقْدُورُ كَائِنٌ » وقيل : الحذر لا يُغْنِي عن القَدَر .
فالجوابُ : أن هذا الكَلاَم يُبْطِل القَوْل بالشَّرَائِع؛ فإنه يُقَالُ : إن كان الإنْسَان من أهْل السَّعَادة في قَضَاءِ الله وقدرِه ، فلا حَاجَة إلى الإيمَانِ ، وإن كان من أهْل الشَّقَاءِ ، لم ينْفَعْه [ الإيمانُ و ] الطَّاعَة ، فهذا يفضي إلى سُقُوط التَّكْلِيف بالكُلِّيّة .
واعلم أنه لما كَان الكُلُّ بِقَضَاء الله - تعالى- كان الأمْر بالحَذَرِ أيْضاً دَاخلاً بالقَدَر ، وكان قَوْل القَائِل : أي فَائِدة بالحَذَر كَلاَماً مُتَنَقِضاً؛ لأنه لما كان هذا الحَذَر مُقَدَّراً ، فأيُّ فائدة في هَذَا السُّؤال الطَّاعِن في الحَذَرِ .
قوله : « فانفروا [ ثبات ] » يقال : نَفَر القَوْم يَنْفِرُون نَفْراً ونَفِيراً ، إذا نَهَضُوا لِقِتَال عَدُّوِّ ، وخَرَجُوا للحَرْبِ ، واستنْفَر الإمَامُ النَّاس لجِهَاد العَدُوّ ، فَنَفَرُوا يَنْفِرُون : إذا حَثَّهُم على النَّفِير وَدَعَاهُم إلَيْه؛ ومنه قوله - عليه السلام- : « [ و ] إذا اسْتُنْفِرْتُم فانفرُوا » والنَّفِير : اسم للقَوْمِ الَّذِين يَنْفِرُون؛ ومنه يُقال « فلان فِي العِيرِ ولا فِي النَّفِيرِ .
وقال النُّحَاة : أصْلُ هذا الحَرْفِ من النُّفُور والنِّفَارِ؛ وهو الفَزَع ، يقال : [ نَفر ] إليه؛ ونَفَر مِنْهُ؛ إذا فَزع منه وكَرِهَهُ ، وفي مُضَارعه لُغَتَان » ضمُّ العَيْنِ وكَسْرِهَا ، وقيل : يُقَال : نَفر الرَّجُل يَنْفِرُ بالكَسْرِ ، ونَفَرَت الدَّابَّة تَنْفُر بالضَّمِّ [ ففرَّقُوا بَيْنَهُما في المُضَارع ، وهذا الفَرْق يردُّه قِرَاءَة الأعْمَش : « فانفُروا » « أو انفُروا » بالضم ] فيهما ، والمَصْدَر النَّفِير ، والنُّفُور ، والنَّفْر : الجماعة كالقَوْم والرَّهْط .
[ قوله ] : « ثبات » نصب على الحَالِ ، وكذا « جميعاً » والمَعْنَى « انْفِرُوا جَمَاعَاتٍ [ متفرِّقَة ] [ أي ] سَرِيّة بعد سَرِيّة ، أو مُجْتَمِعِين كَوْكَبَةً وَاحِدَة ، وهذا المَعْنَى الَّذي أراد الشَّاعِر في قوله : [ البسيط ]
1821- . ... طَارُوا إلَيْه زَرَافاتٍ وَوُحْدَانَا
ومثله قوله : { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } أي : على أيّ الحَالَتَيْن كُنْتُم فَصَلُّوا .
قال أبُو حَيَّان : ولم يُقْرَأ » ثبات « فيما عَلِمْت إلا بكَسْر التَّاء . انتهى .
وهذه هي اللُّغَةُ الفَصيحَة ، وبَعْض العَرَب يَنْصِب جَمْع المُؤنَّث السَّالم إذا كان مُعْتَلَّ اللام مُعوضاً منها تاء التأنيث بالفَتْحَة ، وأنشد الفرَّاء : [ الطويل ]
1822- فَلَمَّا جَلاَهَا بالأيَّام تَحَيَّزَتْ ... ثُبَاتاً عَلَيْهَا ذُلُّهَا واكْتئابُهَا
وقرئ شاذاً : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات } [ النحل : 57 ] [ بالفتحة ] ، وحكي : سَمِعْتُ لغتَهُم ، وزعم الفَارِسي أن الوَارِدَ مُفْردٌ لامه؛ لأن الأصْل » لُغَوَة « ؛ فلما رُدَّت اللام ، قُلِبَت ألفاً ، وقد رُدَّ على الفَارِسي : بأنه يلْزَمُهُ الجَمع بين العِوَض والمُعَوَّضِ مِنْه ، ويَرُدُّ عليه أيْضاً القِرَاءة المتقَدِّمة في الثبات؛ لأن المُفْرَد منه مكْسُورُ الفَاءِ .
[ » وثبات « جَمْعُ ثُبَة ، ووزنها في الأصْل : فُعَلَة ، كَحُطَمة ، و ] إنما حُذِفَت لامُها وعُوض عنها تاءُ التَّأنِيثِ ، وهل لامها واواً أو يَاء؟ قولان :
حُجَّة القَوْل الأول : أنها مُشتقَّة من [ ثَبَا يُثْبُو؛ كَخَلا يَخْلُو ، أي : اجْتَمع .
وحُجَّةُ القول الثاني : أنها مُشْتَقة من ] ثبيت على الرجل إذا أثْنيت عليه؛ كأنك جمعت مَحاسنه ، وتجمع بالألفِ والتَّاءِ ، وبالوَاوِ والنَّونِ ، ويجوز في فَائِهَا حين تُجْمَع على » ثُبين « الضَّم والكَسْر ، وكذا ما أشبَهَهَا ، نحو : قُلة ، وبُرة ، ما لم يُجْمَع جَمْع تكْسِير .
والثُّبة : الجَمَاعة من الرِّجَال تكُون فَوْقَ العَشرة ، وقيل : الاثْنَانِ والثَّلاثة ، وتُصَغَّر على » ثُبْيَة « ، بردِّ المَحْذُوف ، وأما » ثُبة الحَوْضِ « وهي وَسطُهُ ، فالمحذُوفُ عَيْنُها ، لأنَّها من بابِ المَاء ، أي : يَرْجِع ، تُصَغِّر على » ثُوَيْبَةٍ « ؛ كقولك في تَصْغيرِ سَنَة : سُنَيْهَة .
فصل
قال القرطبي : قيل إن هذه الآية مَنْسُوخة بقوله : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } [ التوبة : 41 ] وبقوله { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ التوبة : 39 ] [ ولأن يكُون { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } [ التوبة : 41 ] مَنْسُوخاً بقوله : { فانفروا ثُبَاتٍ أَوِ انفروا جَمِيعاً } ، وبقوله : { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } [ التوبة : 122 ] اولى؛ لأن فرض الجِهَادِ على الكِفَايَة ، فمتى سَدَّ الثُّغُورَ بَعْضَ المسْلِمِين ، أسْقِطَ الفَرْضُ عن البَاقِينَ .
قال : والصَّحِيحُ أن الآيَتَيْنِ محكْمَتَانِ ، إحَدَاهما : في لوَقْتِ الذي يُحْتَاجُ فيه إلى تعيُّن الجَميع ، والأخْرَى : عند الاكْتِفَاء بِطَائِفَةٍ دُون غَيْرِهَا .
قوله : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ } » منكم « خبر مُقَدَّم ل » إنْ « واسمُها ، و » لمَنْ « دخلت اللام على الاسْم تأكِيداً لما فَصَلَ بَيْنَه وبَيْنَهَا بالخَبَر ، و » من « يجوزُ أن تكُونَ مَوْصُولة ، [ أو نكرة مَوْصُوفة ] واللاّم في » ليبطئن « فيها قَوْلان :
أصحهما : أنها جَوَابُ قَسَم مَحْذُوف ، تقديره أُقْسِمُ بالله لَيُبَطِّئنَّ ، والجُمْلَتَان- أعْنِي- القَسَم وجَوابُه- صِلَة ل » مَنْ « ، أو صِفَةٌ لَهَا على حَسَبِ القَوْلَيْن المُتَقَدِّمَيْن ، والعَائِدُ على كِلاَ التَّقْدِيرَيْن هو الضَّمِير المرفُوع ب » ليبطئن « ، والتَّقْدِير : وإنْ مِنْكُم لِلَّذِي ، أو لَفَرِيقاً والله لَيُبَطِّئَنَّ .
واسْتَدَلَّ بعض النُّحَاة بهذه الآيَةِ على أنَّه يجوز وَصْلُ المَوْصُولِ بجملة القَسَمِ وجوابه [ إذا عَرِيَتْ جُمْلَةُ القَسَم من ضمير عَائِدٍ على الموصول نحو : « جاء الذي أحْلِفُ باللهِ لقد قام أبوه » وجعله ] ردَّا على قدماء النحاة ، حيث زَعَمُوا مَنْعَ ذلك [ ولا دلالة على ذلك ] ، إذ لقائل أن يقُول : ذلك القَسَم المَحْذُوفُ لا أقَدِّرُهُ إلا مُشْتَمِلاً على ضَمِيرٍ يَعُود على المَوْصُول .
والقول الثاني : نقله ابن عَطِيَّة عن بَعْضِهِم : أنَّها لام التَّأكِيد بَعْدَ تأكيد ، وهذا خطَأٌ من قَائله ، والجُمْهُور على « ليبطئن » بتشديد الطَّاءِ .
ومُجَاهد بالتَّخفيف : و [ على ] كلتا القِرَاءَتيْن يُحْتَمل أن يكُون الفِعْل لازماً ومُتَعَدِّياً ، يقال : أبْطَأَ وبَطَّأ أي تَكَاسَلَ وتَثَبَّط ، والتَّبْطِئَة : التَّأخُر عن الأمْرِ ، فهذان لزِمَان ، وإن قُدِّر أنهما مُتَعَدِّيانِ ، فمعُمُولُهُمَا مَحْذُوفٌ ، أي : ليُبَطِّئَنَّ غَيْرَه ، أي : يُثَبِّطُه ويُجِبْنُه عن القَتَالِ ، و « إذ لم أكن » ظرف ، نَاصِبُهُ : « أنعم الله » .
فصل في تفسير « منكم »
قوله : « منكم » اختَلَفُوا فيه :
فقيل : المُرادَ منه : المُنافِقُون وهم عبدُ الله بن أبّيِّ وأصحابه ، كانوا يُثَبِّطُونَ النَّاس عن الجِهَادِ مع رسُولِ اله صلى الله عليه وسلم .
فإن قيل : تَقْدِير الكَلاَمِ يأيُّهَا الَّذِين آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُم وأن مِنْكُم لمن ليُبَطِّئَنَّ ، فإذا كان عَذا المُبَطِّئ مُنَافِقاً ، فكيف يُجْعَلُ قِسْماً من المُؤمِن في قوله « أن منكم » .
فالجواب : أنه جعل المُنافقين من المُؤمنين من حَيْثُ الجِنْسِ والنَّسَبِ والاخْتِلاَطِ ، أو من حيث الظَّاهِر؛ لتشبههم بالمُؤمنين ، أو من حَيث زعمهم ودَعْواهُم ، كقوله : { ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر } [ الحجر : 6 ] .
وقيل : المراد ضَعَفَهُ المؤمنين ، وهو اخْتِيَار جَمَاعَةٍ من المُفَسِّرين ، قالُوا : والتَّبْطِئَةُ بمعنى الإبْطَاء ، وفَائِدَة هذا التِّشْديد تَكَرُّر الفِعْلِ مِنْهُ .
حكى أهْل اللُّغَة أن العَرَبَ تَقُول : ما بَطأ بك يا فُلانُ عَنَّا ، وإدْخَالهم البَاء يَدُلُّ على أنَّه في نَفْسِه غير مُتَعَدٍّ ، فَعَلَى هذا مَعْنَى الآية : أن فيهم من يُبطئُ عن هذا الفَرْضِ ويتثاقل عن الجَهَادِ ، وإذا ظَفِر المسْلِمُون ، تَمنَّوْا أن يكُونُوا مَعَهُم ليَأخُذُوا الغَنِيمَة .
قال : هؤلاء هُمُ الَّذيِن أرادَ الله بقوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ } [ التوبة : 38 ] ، قال : ويَدُلُّ على أنَّ المُرَاد بقوله : « ليبطئن » الإبْطَاء منهم لا تَثْبِيطَ الغَيْرِ ، لم يَكُن لِهَذا الكَلاَمِ مَعْنًى .
وطعن القَاضِي في هذا القَوْلِ : بأنه - تعالى - حَكَى أن هؤلاَء المُبَطِّئِين ، يقولون من الله - تعالى- ، وهذا إنما يَلِيقُ بالمُنَافِقين ، وأيضاً لا يَليق بالمُؤمنين أن يُقال لهم : { ياليتني كُنتُ مَعَهُمْ } ، يعني الرَّسُول « مودة » ، ثم قال : وإن حُمِلَ « ليبطئن » على أنه من الإبْطَاءِ والتَّثَاقُل ، صح في المُنَافِقِين ، لأنهم كانوا يَثَاقَلُون .
قوله : « فإن أصابتكم [ مصيبة ] أي : قَتْل وهَزيمَة » قال قد أنعم الله علي « بالقعود ، و » إذ لم أكن معهم شهيداً « ، أي : شَاهِداً حاضراً في تلك الغَزْوَةِ ، فيُصِيبُنَي ما أصابَهُم ، و » إذا لم أكن « طرف نَاصِبُه : » أنعم الله « ، » ولئن أصابكم فضل من الله « أي : ظَفَرٌ وغَنِيمة ، » ليقولن « هذا المنافق { كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ } [ الآية ] الجمهور على فَتْح لاَمِ » ليقولن « لأنَّه فِعْل مُسْنَد إلى ضَمِير » من « مبني على الفَتْحِ لأجل نُون التَّوكِيد ، وقرأ الحَسن بِضَمِّها ، فأسْند الفِعْل إلى ضَمِير » من « أيضاً [ لكن ] حملاً له على مَعْنَاها؛ لأن قوله : » لمن ليبطئن « في معنى الجماعة والأصْلُ : لَيَقُولُونَنَّ وقد تقدَّم تَصْرِيفُه .
قوله : { كَأَن لَّمْ تَكُنْ } هذه » كأن « المُخَفَّفَةُ [ من الثَّقيلَة ] وعملُها باقٍ عند البَصْرِيّين ، [ وزعم الكُوفيُّون أنها حين تَخْفِيفها لا تَعْمَل كما لا تعملُ » لَكن « مُخَفَّفَة عند الجُمْهُور ، وإعْمَالُها عند البَصْرِيِّين ] غَالباً في ضَمِير الأمْرِ والشَّأن ، وهو وَاجِبُ الحَذْفِ ، ولا تَعْمَل عِنْدَهُم في ضَمِير غَيْرِ؛ ولا فِي اسْم ظَاهِر إلا ضَرُورةً ، كقوله : [ الهزج ]
1823- وَصَدْرٍ مُشْرِقِ النَّحْر ... كَأنَّ ثَدْيَيْه حُقَّانِ
وقول الآخر : [ الطويل ]
1824- وَيَوْمَاً تُوَافِينَا بِوَجْهٍ مُقَسَّمٍ ... كأنْ ظَبْيَةً تَعْطُو إلَى وَارِقِ السُّلَمْ
في إحْدى الرِّوَايات ، وظَاهِرِ كلام سَيَبويْه : أنَّها تَعْمَل في غير ضميرِ الشَّأنِ في غير الضَّرُورَة ، والجُمْلَة المنْفِيَّة بعدها في مَحَلِّ رَفع خَبَراً لَهَا ، والجملة بَعْدَهَا إن كانت فِعليَّة فتكون مُبْدوءَة بِ » قَدْ « ؛ كقوله : [ الخفيف ]
1825- لا يَهُولَنَّكَ اصْطِلاؤُكَ لِلْحَرْ ... بِ فَمَحْذُورُهَا كَأنْ قَدْ ألَمَّا
أو ب » لَمْ « كهذه الآية ، وقوله : { كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس } [ يونس : 24 ] وقد تُلُقِيتْ ب » لَمَّا « في قول عمَّار الكلبي : [ الرمل ]
1826- بَدَّدَتْ مِنْهَا اللَِّيَالِي شَمْلَهُمْ ... فَكَأنْ لَمّض يَكُونُوا قَبْلَ ثَمْ
قال أبو حيَّان : ويحتاج مِثْل هذا إلى سَمَاعِ من العَرَبِ ، وقال ابن عَطِيَّة : » وكأن « مُضَمَّنة مَعْنَى التَّشْبيه ، ولكنها لَيْسَتْ كالثَّقِيلَةَ في الإحْتِيَاج إلى الاسْم والخَبَر ، وإنما تَجيءُ بعدها الجُمَل ، وظَاهِرِ هذه العِبَارَة : أنها لا تَعْمَلُ عند تَخْفِيفها ، وقد تقدَّم أن ذَلِك قَوْل الكُوفيين لا البَصْرِييِّن ، ويُحْتَمَل أنه أراد بذلك أن الجُمْلَة بعدها لا تَتَأثَّر بها لَفْظاً؛ لأن اسْمَهَا مَحْذُوف ، والجُمْلَة خَبَرُها .
وقرأ ابن كثير ، وحفص من عاصم ، ويعقوب : [ يَكُنْ ] بالياء؛ لأن المَوَدَّة في مَعْنَى الوُد [ و ] لأنه قد فُصِلَ بَيْنَها وبَيْن فِعْلِها ، والبَاقُون : بالتَّاء اعْتِبَاراً بلَفْظِها .
قال الواحدي : وكِلْتَا القراءَتَين قد جَاء التَّنْزِيل به؛ قال { قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } [ يونس : 57 ] وقال : { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ } [ البقرة : 275 ] فالتأنيث هو الأصْلُ ، والتَّذْكِير يَحْسُن إذا كان التَّأنِيثُ غير حَقِيقيّ ، لا سيِّما إذا وقع فَاصِل بين الفِعْل والفَاعِل ، و » يكُون « يحتمل أن تكُون تَامَِّةٌ ، فيتعلق الظَّرْفُ بها ، أو بِمَحْذُوفٍ ، لأنَّه حالٌ ممن » مودة « إذ هو في الأصْلِ صِفَة نكرة قُدِّم عليها ، وأن تكُون نَاقِصة ، فيتَعَلَّق الظَّرْف بمحذوفٍ على أنه خَبرَهَا ، واخْتَلَفُوا في هَذِه الجُمْلَة على ثلاثةِ أقْوَالٍ :
الأوّل : أنها اعْتِرَاضيَّة لا مَحَلَّ لها من الإعْرَابِ ، وعلى هَذَا فما المُعْترض بَيْنَهما؟ فيه وجهان :
أحدهما : أنَّهَا مُعْتَرِضَة بين جُمْلَة الشَّرْطِ التي هِيَ { فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ } وبين جُمْلَة القَسَم التي هي » وَلَئِنْ أصَابَكُمْ « ، والتَّقْدير : { فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ } قال { قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً } كأن لم تكن بينكم [ وبينه مودة ، ولئن أصابكُم فَضْل .
فأخرت الجُمْلَة المعترض بها أعني قوله ] { كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ } والنية بها التوسط ، وهذا قول الزجاج وتبعه الماتُريدي ، وردَّ الرَّاغِب الأصْبَهاني هذا القَوْل بأنَّه مستَقْبَحٌ ، لأنه لا يَفْصِل بين بَعْض الجملة [ وبَعْض ] ما يتعلَّق بِجُمْلة أخْرَى .
قال شهاب الدين : وهَذَا من الزَّجَّاج كأنه تَفْسِير مَعْنَى لا إعْرَاب ، على مَا يأتِي ذِكْرُه عَنْهُ في تفسير الإعْرَاب .
الوجه الثاني : أنها مُعْتَرِضَة بين القَوْل ومَفْعُوله ، والأصْل : ليقولنَّ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُم كأن لَمْ يكُن ، وعلى هذا أكثر النَّاسِ ، وقد اخْتَلَفَت عِبَاراتُهم في ذَلِك ، ولا يَظْهَرُ المَعْنَى إلا بِنَقْل نصوصهم فَلْنَنْقُلْهَا .
فقال الزَّمَخْشَري : اعْتِرَاضٌ بين الفِعْلِ الَّذي هو « ليقولن » وبين مَفْعُولِهِ وهو « يا ليتني » والمعنى : كأنَّه لم يتقدم له مَعَكُم مَوَدَّة؛ لأن المُنَافِقِين كانوا يُوادُّون المؤمنين في الظَّاهر أنَّه تَهكُّم؛ لأنهم كَانُوا أعْدَى عَدُوٍّ للمؤمِنِين ، وأشدَّهم حَسَداً لهم ، فكيف يُوصَفُون بالمَوَدَّة إلا على وَجْهِ العَكْسِ والتَّهَكُّم .
وقال الزَّجَّاج : هذه الجُمْلَة اعْتِرَاضٌ ، أخبر -تعالى- بذلك؛ لأنَّهُم كانوا يُوادُّون المؤمنين .
وقال ابن عَطيّة : المنافق يُعَاطِي المؤمنين المَوَدَّة ، ويُعَاهِدُ على الْتِزَامٍ حِلْفِ الإسْلاَمِ ، ثم يَتَحلَّف نِفَاقاً وشَكّاً وكُفْراً بالله ورسُوله ، ثم يَتَمَنَّى عِنْدَما ينكشف الغَيْبُ الظَّفْرُ لَلمُؤْمنينن فعلى هذا يَجِيءُ قَوْلُه : « كأن لم يكن » التفاتة بليغَة ، واعْتِراضاً بين القَوْل والمَقُول بِلَفْظٍ يُظْهِر زيادَةً في قُبْحِ فِعْلِهِم .
وقال الرازي : هو اعْتِراضٌ في غايَةِ الحُسْنِ؛ لأن من أحَبِّ إنْسَاناً فَرح لِفَرَحِه ، وحَزِنَ لحُزْنِهِ ، فإذا قَلَبَ القَضِيَّة فذلك إظْهَارٌ للعَدَاوَة ، فحكى - تعالى- سُرُور المُنَافِقِ عند نَكْبَةِ المُسْلِمِين ، ثم أرَادَ أن يَحْكِي حُزْنه عِنْدَ دَوْلَةِ المسْلِمِينِ بسبب فَواتِهِ الغَنِيمَة فقَبْل أن يَذْكُرَ الكَلاَم بتَمَامِهِ ، ألْقَى قوله : { كَأَن لَّمْ تَكُنْ } والمراد التَّعَجُّب؛ كأنه يَقُول : انْظُرُوا إلى ما يَقُولَه هذا المُنَافِقُ كأن لَمْ تكن بَيْنَكُم وبَيْنَهُ مودَّة ولا مُخَالَطَة أصْلاً ، والذي حَسَّن الاعتراض بهذه الجُمْلَة وإنْ كان محلها التَّأخِير ، كوْنَ ما بَعْدَهَا فَاصِلَة وهيَ لَيْسَت بِفَاصِلَة .
وقال الفَارِسِي : وهذه الجمْلَة من قَوْل المُنَافِقِين الَّذِين أقْعَدُوهُم عن الجِهَادِ؛ وخَرَجُوا هُمْ لم تكُنْ بَيْنَكُم وبَيْنَه أي : وبَيْن الرَّسُول -عليه الصلاة والسلام- مودَّة ، فيخرجكم مَعَهُ لتأخذوا من الغنيمة ليُبَغّضُوا بذلك الرَّسُولَ إليْهم ، فأعاد الضَّمِيرَ في « بَيْنَهُ » على النَّبي- عليه الصلاة والسلام- .
وتبع الفارسي في ذَلِكَ مُقَاتِلاً؛ مَعْنَاه : كأنه لَيْسَ من أهل [ مِلَّتِكم ] ، ولا مودَّة بَيْنَكُم يريد : أن المبطّئ قَالَ لمن تَخَلَّف بإذْنٍ كأن لَمْ تكُنْ بَيْنَكُم وبَيْن مُحَمَّدٍ مودَّة ، فيُخْرِجَكُم إلى الجِهَادِ ، فَتَفُوزُوا بما فَازَ .
[ القول الثاني : إنها في مَحَلّ نَصْبٍ بالقَوْلِ ، فيكون - تعالى- قد حَكَى بالقَوْلِ جملتين : جُمْلة التَّشْبيه ، وجملة التَّمَنِّي ، وهذا ظَاهِرٌ على قَوْلِ مُقاتِل والفَارسيٍّ : حيث زعَمَا أن الضَّمِير في « بَيْنَه » للرَّسُول - عليه الصلاة والسلام- ] .
القول الثالث : أنها في مَحَلّ نَصْبٍ على الحَالِ من الضَّمِير المستَتِر في « ليقولن » كما تقول : مررْتُ بزَيْد وكأن لم يكن بينك وبينه معرفة فضلاً عن مودَّة ، ونقل هذا عن الزَّجَّاج ، وتَبِعَهُ أبو البَقاءِ في ذلك .
و « يا » فيها قَوْلاَن :
أحدهما : وهُوَ قول الفَارسيِّ إنها لمًجَرد ، التَّنْبِيه ، فلا يقدَّر مُنادى مَحْذُوف ، ولذلك بلإشَرَت الحَرْف .
والثاني : أن المُنَادَى مَحْذُوف ، تقديره : يا هؤلاء ، لَيْتَنِي ، وهذا الخلاف جَارٍ فيها إذا باشَرَت حَرْفاً أو فِعلاً؛ كقراء الكسائيّ { أَلاَّ يَسْجُدُواْ } [ النمل : 25 ] وقوله : [ الطويل ]
1827- ألاَ يَا اسْقِيَانِي قَبْلَ غَارَة سِنْجَال .. .
وقوله : [ البسيط ]
1828- يا حَبَّذَا جَبَلُ الرَّيَّانِ من جَبَلٍ .. . .
على القول بفعليّة « حَبَّذَا » ولا يُفعل ذَلِكَ إلاَّ ب « يَا » خَاصَّة ، دون سائر حُرُوف النَّدَاء ، لأنَّها أمُّ البَابِ ، وقد كثرت مُبَاشرَتُها ل « لَيْتَ » دون سَائِرِ الحُرُوف .
قوله : « فأفوز » الجمهور على نَصْبِه في جَوَاب التَّمَنِّي ، والكُوفِيُّون يزْعمون نصبه بالخلافِ ، والجرميّ يزعمُ نصبه بنفس الفَاءِ .
والصحيح الأوَّل ، لأن الفَاء تَعْطِف هذا المَصْدَر المؤوَّل من « أنْ » والفِعْل على مَصْدَر مُتوهِّم ، لأن التَّقْدِير : يا لَيْتَ لي كَوْنَاً معهم- أو مُصَاحَبَتهم- فَفَوْزاً .
وقرأ الحسن : فأفُوزُ رفعاً على [ أحدِ وجهيْن :
إما ] الاستئناف ، أي : فأنا أفوزُ .
أو عَطْفاً على « كُنْتُ » فيكون داخِلاً في حَيِّز التَّمَني أيضاً ، فيكون الكَوْن معهُم ، والفَوْزُ العَظيم مُتَمنين جَميِعاً ، والمُرَاد بالفَوْزِ العظيم : النَّصِيب الوَافِر من الغَنِيمَة .
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)
فقوله : { الذين يَشْرُونَ الحياة } فاعل ، « فليقاتل » و « يشرون » يحتمل وَجهيْن :
أحدهما : أن يكون بمعْنَى : يَشْتَرُون .
فإن قيل : قد تقرّر أن البَاء إنما تَدْخُل على المَتْرُوك ، والظَّاهرُ هنا أنها دخَلَتْ على المأخُوذ : فالجواب :
أن المراد ب « الذين يشترون » المُنَافقون المبطِّئون عن الجِهَادِ أمروا بأنْ يُغَيِّروا ما بهم من النفاقِ ، ويُخْلِصُوا الإيمان بالله ورسُولِهِ ويُجَاهِدُوا في سَبِيل الله ، فلم نَدْخُل إلا على المَتْرُوك؛ لأن المُنَافِقِين تاركون للآخِرَةِ آخِذُون للدُّنْيا ، وتقدير الكَلام : فِلْيُقَاتِل الذين يَخْتَارُون الحياة الدُّنْيَا ، وعلى هذا التقدير فلا ، بل حَذْفٌ تقديره : آمِنُوا ثم قَتِلُوا؛ لاستحالة حُصُول الأمْرِ بشَرَائِعِ الإسْلام قبل حُصُول الإسْلامِ .
الثاني : أن « يشرون » بمعنى : يَبِيعُون .
قال ابْنُ مُفَرِّعٍ : [ مجزوء الكامل ]
1829- وَشَرَيْتُ بُرْداً لَيْتَنِي ... مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَهْ
قالوا : وبَرْد هو غلامه ، وشريتُه بمعنى : بِعْتُه ، وتَمَنَّى الموت بعد [ بَيْعِه ] فيكُون المراد بالذين يَشْرُون : المؤمِنُون المُتَخَلِّفُون عن الجِهَادِ؛ المؤثِرُون الآجِلَة على العَاجِلَة ، وتصير هذه الآية في كَوْنِ شَرَى تحتمل الاشْتِرَاء والبَيْعِ باعْتِبَارَيْن؛ قوله- تعالى : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } [ يوسف : 20 ] على ما سَيَأتِي - إن شاء الله تعالى- وقد تقدم شيء من هذا أوَّل البقرة [ الآية 16 ] والجمهور على سُكُون لام « فليقاتل » لأنها وَقَعَتْ بعد الفَاءِ [ والواو ] فأشبهَت اللفظة اكتفاءً ، وقرئ بكسرها ، وهو الأصل وأجاز إسْكانَها وكَسْرَهَا كهذه الآية ، وقوله - تعالى- : { وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق } [ الحج : 29 ] وقد قرئ بهما . والجمهور على بناء « فيقتل » للمفعُول ، ومحارب بن دثار ببنائه للفاعل .
والأوَّل أظهر؛ لقوله : { أَو يَغْلِبْ } [ « ويقتل » ] « ويغلب » عطف على شَرْط ، والفَاءُ في « فسوف » جوابُهُ لا يجُوزُ حَذْفُهَا والمشهور [ إظهار ] هذه الباء عند الفَاءِ ، وأدْغَمَها أبُو عمرو والكسائي ، وهِشَام وخلاد بخلاف عَنْه .
والجمهور على « نؤتيه » بنون العظمة ، وطَلْحَة بن مصرف والأعمش : بياء الغَيْبَة ، وهما ظَاهِرَتَانِ .
وقدم قوله « فيقتل » لأنها دَرَجَة شهادة وهي أعْظَم من غَيْرِهَا ، وثنَّى بالغَلَبَة ، وهي تَشْمَل نوعين : قتل أعْدَاء الله ، والظَّفَر بالغَنِيمَة ، والأولى أعْظَم من الثَّانِية . انتهى .
فصل
المعنى : أن من قَاتَل في سَبيل الهِ سواءٌ صار مَقْتُولاً لِلكُفَّار ، أو غالباً ، فسوف نُؤتيه أجْراً عظيماً ، ولا واسطة بَيْن هَاتَيْن الحَالَتَيْنِ . [ و ] إذا كان الأجْر حَاصِلاً على كُلِّ تَقدِير ، لم يكُن عملٌ أشْرَف من الجِهَادِ ، وهذا يَدُلُّ على ان المُجاهِد لا بُدَّ وأنْ يُوطِّن نَفْسَهُ على أنَّه لا بُدَّ مِنْ أحد أمْرِيْن : إمَّا أن يَقْتُله العَدُّوُّ ، وإمّا أن يغلبَ ، فإذا غَيْر هذا [ العَزْم ] فما أسْرَعَ فِرَارَهُ .
روى أبو هُرَيْرَة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « تكَفَّل اله لِمَن جَاهَدَ في سبيل الله [ لا يُخرِجُهُ إلا جِهَادٌ في سَبِيلِه ] وتصدِيِق كلمته ، بأن يُدخلَه الجَنَّة ، أو يرجعه إلى مَسْكَنِه الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مع ما نال من أجرٍ أو غَنِيمَةٍ » .
وعن أبي هُرَيْرَة- رضي الله عنه-؛ أن رسُول الله صلى الله عليه وسلم قال : « مثلُ المُجَاهِد في سَبِيل الله؛ كمثل القَانِتِ الصَّائم الَّذي لا يَفْتُر من صلاةٍ ولا صيامٍ ، حتى يُرجِعه الله إلى أهْلِهِ بما يرجعُه من غَنِيمَة وأجْرٍ ، أو يتوفَّاه فَيَدْخُل الجنَّة » .
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)
هذا استفْهام يرادُ به التَّحْرِيض ، والأمر بالجِهَاد على سَبيلِ الوُجُوب ، ومعناه : أنَّه لا عُذْر لَكُمْ في تَرْكِ المُقَاتلةِ ، وقد بَلَغَ حال المُسْتَضْعَفِين من الرِّجَال والنِّسَاءِ والولْدَانِ من المُسْلِمِين إلى ما بلغ في الضَّعْفِ ، فهذا الحَثُّ شديدٌ ، وبيان العِلَّة التي صَار القِتَالُ لِهَا وَاجِباً ، وهو مَا فِي القِتَال من تَخْلِيص هَؤلاء المُؤمِنين من لأيْدِي الكَفَرَة؛ لأنَّ هذا يَجْمَعُ مع الجِهَادِ ما يَجْرِي مُجْرى فكاك الأَسِير .
و « ما » : مبتدأ ، و « لكم » خَبَرُه ، أي : أيّ شَيْءٍ استقرَّ لكم ، وجُمْلَة قوله : « لا تقاتلون » فيها وجْهَان :
أظهرُهُمَا : أنها في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ ، أي : مَا لَكُمْ غير مُقاتِلِين ، أنكر عليهِمْ أن يُكُونُوا على غير هذه الحَالَةِ ، وقد صرَّح بالحَالِ بعد هذا التركيب في قوله : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] وقال في مثل هذه الحال : إنَّها لازمة؛ لأنَّ الكلام لا يتمُّ دونَها ، وفيه نَظَرٌ ، والعَامِل في هذه الحالِ ، الاستقرار المقدَّر؛ كقولك : ما لك ضاحِكاً .
والوجه الثاني : ان الأصل : « وما لكم في ألا تقاتلوا » فَحُذِفَت « في » فبقي « ألا تقاتلوا » فجرى فيها الخِلاف المَشْهُور ، ثم حُذِفَت « أنْ » النَّاصِبَة ، فارْتَفَعَ الفِعْل بَعْدَهَا؛ كقولهم : تَسْمَعُ بالمُعَيْدِيِّ خَيرٌ من أنْ تَرَاهُ ، وقوله : [ الطويل ]
1830- أيُّهَذَا الزَّاجِرِي أحْضُرُ الْوَغَى .. .
في إحدى الروايتين ، وهذا يؤيِّد كَوْنَ الحَالِ ليست بلازِمة .
فصل
قالت المُعتزلة : قوله : { وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله } إنكار عليهم في تَرْكِ القِتَالِ ، وبَيَان أن لا عُذْر ألْبَتَّة في تركه ، ولو كان فِعْل العَبْد ، بخلق الله- تعالى- ، لبطل هذا الكلام؛ لأن من أعْظَم العُذْر أنَّ الله ما خَلَقَهُ وما أرادَهُ ، وما قَضَى به ، وجوابُه مذكورٌ .
قوله : « والمستضعفين » فيه ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنه مَجْرورُ عطفاً [ على اسْمِ الله ، أي : وفي سَبيلِ المُسْتَضْعَفين .
والثاني : وإليه ذَهَبَ الزجاج والمَبرِّد أن يكون مَجْرُوراً عطفاً ] على نَفْسِ « سَبِيل » . قال أبو البَقَاء بعد أن حَكَاهُ عن المُبَرِّد وحده : لأن سَبِيل الله عامٌّ في كل خير؛ وخلاص المُسْتَضْعَفِين من المسْلِمِين من أيدي الكُفَّار من أعْظَم الخيور . والجُمْهُورُ على : « والمستضعفين » بواو العَطْفِ .
وقرأ ابن شهاب : « في سبيل الله المستضعفين » وفيها تخريجان :
أحدهما : أن يكُونَ حَرْفُ العَطْفِ مقدراً؛ كقولهم : « أكلت لَحْمَاً تَمْراً سَمَكاً » .
والثاني : أن يكونَ بَدَلاً من « سبيل الله » أي : في سَبِيل الله سبيلِ المُسْتضْعَفِين؛ لأنَّ سَبِيلَهم سَبِيلُ الله - تعالى- .
قوله : { مِنَ الرجال } فيه وجهان :
أحدهما : أنه حالٌ من المُسْتضْعَفين .
والثاني : أن « مِنْ » لِبَيَان الجنس ، و « الولدان » : قيل : جَمْع « وليد » ؛ وهم المُسْلِمُون الَّذِين بَقُوا بمكَّة لصدِّ المُشْرِكين ، أو ضعفهم عن الهَجْرَة مستنزلين ممتنعين .
انتهى بيضاوي .
فيكون المُرَاد بهم : العَبيد والإماءُ؛ لأن العَبْدَ والأمَةَ يقال لَهُما : الوَلِيدُ والوليدَةُ ، وجمعهما : الوِلْدَان والوَلائِد ، إلا أنَّه ههنا غلَّب الذكور ، ويكون المُرادُ بالرِّجَال والنِّسَاء : الأحْرار ، والحَرَائِر .
وقيل : جَمْع وَلَد؛ كَوَرَل ووِرْلان وحَربٌ وحَرْبَان والمُرَاد بهم : الصِّبْيَان ، [ وقيل : العبيد والأمَاء ، يقال للعبد : « وَليدٌ » ، وللامة : « وليدَةٌ » ، فغلَّب المُذكَّر على المُؤنَّث؛ اندراجه فيه ] .
و « الذين يقولون : فيه وَجْهَان :
أحدهًما : أن يكُونَ مجروراً على انَّه صفةٌ : إمَّا للمستَضعفِين ، وإمَّا للرَّجَال ومن بعدهم ، وغلَّب المُذَكَّرَ على المؤنَّثِ .
وقال أبو البَقَاء : » الذين يقولون : في مَوْضِع جَرِّ صفة لِمَنْ عَقِل من المذكورين « كأنه تَوَهَّم أنَّ الولدَان الصبيانُ ، والصبيانُ لا يعقلُون؛ فَجَعَله نعتاً لِمَنْ عقل من المذْكُورين وهُم الرِّجَال والنِّسَاء دونَ الولدان ، لأنَّ جَمْعَ السَّلامَة في المُذَكَّر يُشْترط فيه العَقْلُ ، و » الذين « جَارٍ مُجْرَاه .
قال شهاب الدين : وهذه غَفْلةً؛ لأنَّ مرادَ النَّحْويين بالعَاقِلِ : ما كان من جنْس العُقَلاَء وإنْ كان مسلوبَ العَقْلِ؛ ويدُلُّ عليه قوله - تعالى- : { أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء } [ النور : 31 ] فالمُرادُ بالطفل هنا : الصِّبْيَان الصِّغار ، ومع ذلك وَصَفهم بالذين .
والثاني : أن يكُونَ منصوباً على الاخْتِصَاصِ .
فصل
المُرَاد بالمُستضعفين من الرِّجال والنِّسَاء والولْدَان : قومٌ من المُسْلِمِين بقُوا بمكَّة ، عَجَزُوا عن الهِجْرَة إلى المَدِينَةِ ، وكانوا يَلْقُون من كُفَّار مكَّة أذى شَديداً .
قال ابن عبَّاس : كنت أنَا وأمِّي من المُستضعفين من النِّسَاء والولدان ، وكانُوا يدعُون ويقولُون في دُعائِهِم : » ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها « وكانوا يُشْرِكُون معهم صِغَارَهمُ في الدُّعَاء؛ لأن الصِّغَار لم يُذْنِبُوا؛ كما وَرَدَت السُّنَّة في إخْرَاجِهِم في الاسْتِسْقَاءِ ، إنما ذكر الولدان؛ مُبَالَغةً في شَرْحِ ظُلْمِهِم . حيث بَلَغَ أذاهُم غير المُكَلَّفِين ، وأجْمَعُوا على أنَّ المراد من هذه القرية الظَّالِمِ أهلها [ مكة ] وكون أهْلِهَا موصُوفِين بالظُّلْمِ : يُحْتَمل أن يكُون لأجْل لأنَّهُم مُشْرِكُون؛ قال -تعالى- : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] ويحتمل أن يكون لأجْل أنَّهم كانوا يُؤذُون المُسْلِمين .
قوله : » الظالم أهلها « » الظالم « : صفةُ للقرية ، و » أهلها « : مرفوعٌ به على الفاعلية . و » أل « في » الظالم « موصولةٌ بمعنى التي ، أي : التي ظَلَمَ أهْلُهَا . فالظلمُ جَازَ على القَرْيَةِ لفظاً ، وهو لِما بَعْدَها معنى ، ومثلهُ : » مررْتُ برجلٍ حَسَنٍ غلامُه « .
قال الزمخشري : فإن قلت : لِمَ ذكَّر » الظالم « وموصُوفُه مؤنث؟ قلت : هو وصْفٌ للقرْية إلا أنَّه مستَنِدٌ إلى أهْلِهَا ، فأعْطِي إعْراب » القرية « لأنها صفتها ، وذُكِرَ لإسناده إلى الأهْل؛ كما تقول : من هذه القرية التي ظلم أهلُها ، ولو أنْتَ فقيل : » الظَّالمةُ أهْلُها « لجَاز ، لا لتأنيث الموصُوف؛ بل لأنَّ الأهلَ يُذَكَّرُ ويؤنَّثُ .
فإن قلت : هل يجُوزُ : مِنْ هذه القريةِ الظَّالِمين أهْلُها؟
قلت : نَعَمْ ، كما تقُول : « التي ظلموا أهلها » على لغة : « أكلوني البراغيث » ومنه : { وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ } [ الأنبياء : 3 ] انتهى .
وهذه قاعدةٌ كُلية : أنَّ الصِّفة إذا جَرَتْ على غيرِ مَنْ هِيَ له سواءً كَانَتْ خبراً ، أم نعتاً ، أم حالاً يُنْعَتُ ما قَبْلَها في اثنين من خَمْسَة : واحدٍ من ألْقَابِ الإعْراب ، وواحدٍ من التَّنْكير والتَّعْرِيف ، وأمَّا بالنِّسْبَةِ إللى التَّذْكير ، والتَّأنيث ، والإفراد ، وضدَّيه فَيُحْسَبُ المرفُوعُ بها كالفِعْلِ ، وقد تقدَّم تحقيقُه ، ويجبُ أيضاً إبرازُ الضَّمير منها مُطْلَقاً -أعني : سواءٌ ألْبس أم لم يُلْبَس -وأمَّا إذا كان المَرْفُوع بها اسْماً ظَاهِراً ، فلا حاجة إلى رَفعها الضَّمِيرَ ، إلا أنه لا بُدَّ من رَاجِع يرْجع إلى الاسْمِ الموْصُوف بها لَفْظاً كهذه الآية ، وه ذا بِخِلافِ الفِعْلِ إذا وُصِف به ، أو أُخْبِر به ، أو وَقَعَ حالاً لِشَيْء لفظاً وهو لغيره مَعْنىً ، فإن الضَّمِيرَ لا يُبْرَزُ منه بل يَسْتَتِرُ ، نحو : « زيدٌ هِنْدٌ يَضْرِبُها » و « هند زيدٌ تَضْرِبُه » من غيرِ ضميرٍ باروٍ ، لقوة الفِعْل وضَعْفِ الاسم في العَمَلِ ، وسواءً لم يُلْبِس -كما تقدَّم تَمْثِيله- أو ألْبَسَ ، نحو : « زيدٌ عَمْرو يضربه » إذا قصدْتَ أن زيداً هو الضَّارِبُ لِعَمْرو ، هذا مُقْتَضَى مذهب البصْريِّين ، نصَّ عليه مَكي وغيره ، إلا أنَّه قال قبل ذَلِكَ : « إلا أنَّ اسْمَ الفَاعِل إذا كان خَبَراً أو صِفَةً لغيره مَنْ هو له ، لم يَسْتَتِرْ فيه ضَمِيرٌ ، ولا بد من إظْهَارِهِ ، وكذلك إنْ عُطِف على غَيْرِ مَنْ هُوَ لَهُ » .
قال شهاب الدين : هذه الزِّيادةُ لمْ يذكُرْها النَّحْويُّون وتمثيلُها عَسِرٌ ، وأمَّا ابنُ مالِكٍ : فإنه سَوَّى بين الفِعْل والوَصْف ، يعني : إن ألْبس ، وجَب الإبْرازُ حتى في الفِعْل ، نحو : زيدٌ عَمْرٌو يَضْرِبُه هو « وإن لم يُلْبس جَاز ، نحو : » زَيْد هِنْدٌ يضْرِبُها « وهذا مقتضى مذهَبِ الكوفيين؛ فإنهم عَلَّلوا باللبس ، وفي الجُمْلَة ففي المَسْألة خِلافٌ .
قوله : { واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً } قال ابن عبَّاسٍ : يريدون : اجهل علينا رجُلاً من المُؤمنين يُوَالينا ، ويقوم بِمَصالِحِنا ، ويحفظ عَلَيْنَا دِيننا وشرْعَنا؛ فأجَابَ اللهُ دعاءَهُم؛ لأن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، لما فَتَح مكَّة ، جعل عتَّاب بن أسَيْد وَالِياً عليهم ، فكان يُنْصِف الضَّعيفَ من القويِّ ، والمَظْلوم مِنَ الظَّالِم .
وقيل : المُرَاد : واجْعَل لَنَا من لدُنْك ولاية ونُصْرة ، أي : كُنْ أنْتَ لنا وليَّاً .
الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
لما بيَّن وجوبَ الجهاد ، بيَّن أنه لا عِبْرة بصُورة الجِهَادِ ، بل العِبْرَة بالقَصْد والدَّاعِي ، فالمُؤمِنُون يقاتلون في سبيل الله ، أي : في طاعَةِ الله ونُصرة دينه ، والَّذين كَفَرُوا يُقَاتِلُون في سَبيلِ الطَّاغُوت ، أي : في طَاعَةِ الشَّيْطَان .
قال أبو عُبَيْدة والكسَائي : الطَّاغُوت يُذَكَّر ويُؤنَّث ، قال أبو عُبَيْد : وإنَّما ذكر وأنث؛ لأنَّهم [ كانوا يُسَمّون الكاهن والكاهِنة طاغُوتاً .
قال جابر بن عبد الله وقد سُئِل عن الطَّاغُوت التي ] كانوا يَتَحَاكَمُون إليْها -قال : كان في جُهَيْنة واحِدةٌ ، وفي أسْلم واحِدَةٌ ، وفي كل حَيٍّ واحدة .
قال أبو إسْحاق : والدَّلِيل على أنَّه الشَّيْطَان ، قوله -تعالى- : { فقاتلوا أَوْلِيَاءَ الشيطان إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً } أي : مَكْرَهُ وَ [ مَكْرَ ] من اتَّبَعَهُ ، وهذه الاية كالدَّالة على أنَّ كلَّ من كان غَرَضُه في فِعْل رضَى [ غير ] الله -تعالى- [ فهو في سبيل الطاغُوت ، لأنه -تعالى- ذكر هذه القِسْمَة؛ وهي أن القِتَال إمَّا أن يكون في سبيل الله ] ، أو في سبيل الطَّاغُوتِ ، وجب أن يكُون ما سِوَى الله طاغُوتاً ، ثم إنَّه -تعالى- أمر المُقَاتِلين في سَبيل الله أن يُقَاتِلُوا أوْلِيَاء الشَّيْطَان؛ فقال : « فقاتلوا أيها المؤمنون أولياء الشيطان » : حزبه وجُنودَهُ؛ وهم الكُفَّار ، ثم بيَّن أن كَيْد الشَّيْطان [ كان ضعيفاً لأن الله ينصر أوْلِيَاءَهُ ، والشَّيْطان ينصر أولياءَه ، ولا شَكَّ أن نُصْرَة الشَّيْطَانِ لأوليائه ] أضعف من نُصْرة الله ، وكيد الشَّيْطَان : مكره ، « كان ضعيفاً » : كما فعل يوم بَدْرٍ لما رأى الملائكِة ، خاف أن يأخذوه فَهَرَب وخَذَلَهُم ، وفائِدَة إدْخَال « كان » في قوله : « كان ضعيفاً » التَّأكيد لِضَعْف كَيْدهن يعني : أنه مُنْذُ كان مَوْصوفاً بالضَّعْف والذِّلَّةِ .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
قال الكَلْبِي : « نزلت في عَبْد الرَّحْمن بن عَوْف الزُّهرِيِّ ، والمقدَادِ بن الأسْود الكندي ، وقدامة بن مَظْعُون الجُمَحِي ، وسَعْد بن أبِي وَقَّاصٍ ، وجَمَاعة كانوا مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَبْض ان يهاجروا إلى المَدِينَةِ ، ويَلْقُون من المُشْرِكِين أذًى شَديداً ، فَيَشْكُون ذلك إلى الرَّسُول ، ويقولون : ائْذَن لَنَا في قِتَالِهِم ، ويقول لَهُم الرَّسُول : كُفُّوا أيْدِيَكُم ، فإني لَمْ أومَر بقتالهِمْ ، واشْتَغِلُوا بإقَامَة دينكُم من الصَّلاة والزَّكَاة ، فلمَّا هَاجَر رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى المدينَةِ ، وأُمِرَ بقتالهم في وَقْعَة بَدْرٍ ، كرهه بَعْضُهم وشقَّ عَلَيْه ، » فأنزل اللَّه -تعالى- هذه الآية . فَذَهَب بَعْضُهم إلى أنَّهَا نَزَلَت في المُؤمَِنين ، واحتجُّوا : بأنَّ الَّذَين يَحْتَاج الرَّسُول إلى أن يَقُولَ لهم كَفُّوا عن القِتَال ، هُم الرَّاغِبُون في القِتَالِ؛ وهم المُؤمِنُون .
ويمكن الجوابُ عنه : بأنَّ المُنَافِقِين كانوا يُظْهِرُون أنَّهم مؤمِنُون ، وأنَّهم يريدُونَ قِتال الكُفَّار ، فلما أمر اللَّهُ بقتالِهم الكُفَّار ، أحجم المُنَافِقُون عَنْه ، وظهر مِنْهُم خِلاف ما كَانُوا يَقُولُونَهُ .
وقيل : نزلت في المُنَافِقِين ، واحتجُّوا بأنَّ الله -تعالى- وَصَفَهم بأنَّهم { يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } ، وهذا الوصف لا يَلِيقُ إلا بالمُنَافِقِ؛ لأن المُؤمِن لا يَخَاف من النَّاسِ اشَدَّ من خوفِهِ من اللَّه ، وأيضاً قولهم : « ربنا لم كتبت علينا القتال » اعتراضٌ على اللَّه -تعالى- ، وذلك من صِفَة الكُفَّار والمُنَافِقِين ، وأيضاً قوله -تعالى- للرَّسُول : { قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ والآخرة خَيْرٌ لِّمَنِ اتقى } وهذا الكلام إنَّما يذكر لمن كانت رَغبتهُ في الدُّنْيَا أكْثَر من رَغْبَته في الآخِرة ، وذلك من صِفَاتِ المُنَافِقِين .
وأجاب القَائِلُون بالقَوْل الأوَّل : بأن حُبَّ الحياة والنَّفرة عن القَتْلِ من لَوَازِمِ الطَّبْع؛ فهذه الخَشْيَة مَحْمُولة على هذا المَعْنَى ، وقولهم : « لِمَ كتبت علينا القتال » محمولة على التمَنِّي بتخفيف التَّكْلِيف ، لا على وَجْه إنْكَار [ لإيجَابِ ] اللَّه -تعالى- .
وقوله [ -تعالى- ] : { قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ } ذكره ليهَوِّن على القَلْبِ أمر هذه الحَيَاةِ؛ لكي تزول عن قَلْبِه نَفْرَة القِتَالِ وحُبُّ الحَيَاة ، ويُقْدِمُون على الجِهَاد بقلب قَوِيٍّ ، لا لأجْل الإنْكَار .
وقيل : قاله جماعة من المؤمنين لم يكونوا رَاسِخين في العِلْم ، قالوه خوفاً وجُبْناً لا اعتقاداً ثم تابوا ، وأهْلُ الإيمان يتفاضَلُون في الإيمَانِ .
وقيل : كانوا مُؤمنين ، فلما كُتِبَ [ عليهم ] ، أي : فرض عليْهِم القِتَال ، تلفقوا من الجُبْنِ ، وتخلَّفُوا عن الجِهَاد ، والأوْلى حَمْل الآية على المُنَافِقِين ، لأنه -تعالى- ذكر بَعْد هذه الآية قوله : { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ } [ النساء : 78 ] ولا شَكَّ أنَّ هذا من كَلاَم المُنَافِقِين .
فصل
دلَّت الآيَة على أن إيجَاب الصَّلاة والزَّكاة ، كان مُقَدَّماً على إيجَاب الجِهَاد .
قوله { إِذَا فَرِيقٌ } : « إذا » هنا فُجَائِيَّة ، وقد تقدَّم أن فيها ثلاثة مَذَاهِب :
أحدُها- وهو الأصَحُّ : أنها ظَرْف مكان .
والثَّاني : أنها زمان .
والثَّالث : أنها حَرفٌ .
قيل في « إذا » هَذِه : إنها فجَائِية مَكَانِيَّة ، وأنها جوابٌ ل « لَمَّا » في قوله : { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ } ، وعلى هَذَا فَفِيها وَجْهَان :
أحدُهُما : أنها خَبَر مقدَّمٌ ، و « فريق » : مبتدأ ، و « منهم » : صفةٌ ل « فَرِيقٌ » ، وكذلك « يَخْشَون » ، ويجُوزُ أن يكونَ « يَخْشَون » حالاً من « فريق » لاختصاصه بالوَصْفِ ، والتَّقْديرُ : « فبالحضرة فريق [ فهو ] كائن منهم خَاشُون أو خَاشِين » .
والثاني : أن يكون « فريقٌ » مُبْتَدأ ، و « منهم » : صفته ، وهو المُسَوِّغُ للابْتِداء به ، و « يَخْشَوْن » : جملة خبريةٌ وهو العَامِلُ في « إذا » ، وعلى القَوْلِ الأوَّلِ : العَامِلُ فيها مَحْذُوفٌ على قَاعِدة الظُّرُوف الوَاقِعة خبراً .
وقيل : إنَّها هنا ظَرْفُ زمانٍ ، وهذا فَاسِدٌ؛ لأنها إذْ ذَاك لا بُدَّ لها من عَامِلٍ ، وعامِلُها إمَّا ما قَبْلَها ، وإمَّا ما بَعْدَها ، لا جائز أن يكُون ما قَبْلَها لأن ما قبلها وهو « كُتب » ماضٍ لفظاً ومعنى ، وهي للاسْتِقْبال ، فاستحال ذلك .
فإن قيل : تُجْعَلُ هنا للمُضِيِّ بمعنى « إذا » .
قيل : لا يجُوز ذلك؛ لأنه يصيرُ التقدير : فلمَّا كُتِب عَلَيْهم القِتَال في وَقْتِ خَشْيةِ فَرِيقٍ مِنْهُم ، وهذا يفتقرُ إلى جَوَابِ « لَمَّا » ولا جَوابَ لها ، ولا جَائزٌ أن يَكُونَ ما بَعْدها؛ لأنَّ العَامِل فيها إذا كان بعدها ، كان جواباً لها ، ولا جَوابَ لها هُنَا ، وكان قد تَقَدَّم أوَّلَ البقرة أنَّ في « لَمَّا » قولين : قولَ سيبويه : أنَّها حَرْف وجوب لوُجُوب ، وقول الفَارِسي : إنها ظَرْفُ زمانٍ بِمَعْنى « حين » وتقدَّم الردُّ عليه ، بأنَّها أُجيبت ب « مَا » النَّافِية وإذا الفُجَائِية ، وأنَّ ما بَعْدَها لا يَعْمَل فيما قَبْلَها ، فأغْنى عن إعادته ، ولا يجُوزُ أن يعمل ما يَلِيها فيها؛ لأنه في مَحَلِّ خَفْض بالإضَافَةِ على زَعْمِه ، والمُضَافُ إليه لا يَعْمَل في المُضَافِ .
وقد أجابَ بعضهم ، بأنَّ العامل فيها هنا مَعْنى « يخشون » ؛ كأنه قيل : جَزِعوا ، قال : « وجزعُوا هو العَامِلُ في » إذا « ، وهذا الآية مُشكلةٌ؛ لأنَّ فيها ظَرْفَيْن : أحدُهما لما مَضَى ، والآخرُ لِما يُسْتَقْبَل » .
قوله : « كخشية الله » فيه ثلاثةُ أوجه :
أحَدُها -وهو المَشْهُور عند المُعْربين : أنها نَعْتُ مصدرٍ مَحْذُوفٍ ، أي : خشيةٌ كخَشْيِة الله .
والثاني : -وهو المُقَرَّر من مذهب سيبويه غيرَ مرة- : أنَّها في مَحَلِّ نصب على الحَالِ من ضَمِير الخَشْيَة المَحذُوف ، أي : يَخْشَوْنها النَّاسَ ، أي : يَخْشون الخَشْيَة الناس مشبهةً خَشْيَة الله .
والثالث : أنَّها في مَحَلِّ نصبٍ على الحال من الضمير في « يخشون » أي : يَخْشَون النَّاسَ مثلَ أهل خَشْيَة الله ، أي : مُشْبهين لأهل خَشْيَة الله أو أشدَّ خشية ، أي : أشدَّ خَشْيَةً من أهل خَشْيَة الله .
و « أشدَّ » مَعْطُوف على الحَالِ؛ قاله الزمخشري ، ثم قال : « فإنْ قُلْتَ : لِمَ عَدَلْتَ عن الظَّاهِر ، وهو كَوْنُه صِفة للمَصْدَر ولم تُقَدِّرْه : يَخْشون خَشْية مثل خَشْيَة الله ، بمعنى : مثل ما يَخْشَى الله .
قلت : أبَى ذلك قوله : » وأشد خشية « ؛ لأنه وما عُطِفَ عليه في حُكْمٍ واحدٍ ، ولو قلت : » يخشون الناس أشد خشية « لم يكن إلا حَالاً من ضَمِير الفريقِ ، ولم ينتَصِب انتِصَابَ المَصْدَر؛ لأنك لا تَقُول : » خَشِي فُلانٌ أشَدَّ خشيةً « فتنْصِبُ » خشية « وأنْتَ تريد المَصدر ، إنَّما تَقَول : » أشدَّ خَشْيةٍ « فتجرُّها ، وإذا نَصَبْتَها لم يكن » أشدَّ خشيةً « إلا عِبَارةً عن الفاعل حالاً منه ، اللَّهم إلا أن تجعل الخَشْيَة خَاشِيةً على حدِّ قولهم : » جَدَّ جَدُّه « فتزعم أنَّ مَعْنَاه : يخشون الناسَ خَشْيَةً مثل خشيةٍ أشدَّ خَشْيَة من خَشْيَة الله ، ويجُوز على هذا أن يكُون مَحَلُّ » أشدَّ « مَجْرُوراً ، عطفاً على » خشية الله « تريد : كَخَشْيَة الله ، أو كَخَشْيَةٍ أشدَّ منها » . انتهى .
ويجوز نصبُ « خشيةً » على وجْه آخَر؛ وهو العَطْف على مَحَلِّ الكَافِ ، وينتصب « أشدَّ » حينئذ على الحَالِ من « خَشْيَة » ؛ لأنه في الأصْلِ نعتُ نكرةٍ قُدِّم عليها ، والأصل : يَخْشَوْن النَّاسَ مثلَ خَشْيَةِ الله أو خَشْيَةً أشدَّ منها ، فلا ينتصب « خَشيَة » تمييزاً ، حتى يَلْزَم منه ما ذكره الزَّمَخْشَرِي ويُعْتذر عنه ، وقد تقدَّم نحو من هذا عِنْد قوله : { أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } [ البقرة : 200 ] . والمصدرُ مُضَاف إلى المَفْعُول والفَاعِل مَحْذُوف ، أي : كَخشيتهم اللَّهَ .
فإن قيل : ظاهر قوله : { أَوْ أَشَدَّ } يوهم الشَّكَّ ، وذلك محالٌ على الله -تعالى- .
فالجواب : يحتمل الأوْجُه المذكورة في قوله { أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } ويجوز أن تكون للتنويع ، يعني : أن منهم من يخشاهم كخشية الله ، ومنهم من يخشاهم أشد خشية من خشية الله .
قال ابْنُ الخَطِيب : وفي تأوِيله وُجُوهٌ :
الأوَّل : المُراد مِنْه : الإبْهَام على المُخَاطَب ، بمعنى أنَّهم على أحَد الصِّفَتَيْن من المُسَاواة والشدّة؛ وذلك لأنَّ كُلَّ خَوْفَيْن فأحدُهُما بالنِّسْبة إلى الآخَر : إمَّا أن يكُون مُسَاوِياً ، أو أنْقَص ، وأزيد ، فَبيَّن -تعالى- بهذه الآية أن خَوْفَهم من النَّاس ليس أنْقَص من خَوْفِهم من الله -تعالى- ، بل إمَّا أن يكون مُسَاوِياً أوْ أزْيَد ، وذلك لا يُوجِب كَوْنه -تعالى- شاكَّا ، بل يُوجِب إبْقاء الإبْهَام في هَذَيْن القِسْمَيْن على المُخَاطَب .
والثاني : أن يكون « أو » بمعنى الوَاوِ ، والتَّقْدِير : يخْشَوْنهم كَخَشْيَة اللَّه وأشَد خشية ، ولَيْس بَيْن هذيْن القِسْمَيْن مُنَافَاة؛ لأنَّ من هُو أشَدّ خَشْية ، فَمَعَه من الخشية مِثْل خَشْية اللَّه [ وزيادة ] .
الثَّالث : أن هذا نظير قوله : { وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ }
[ الصافات : 147 ] يعني : أنَّ من يُبْصِرهم يَقُول هذا الكلام؛ فكذا ههنا .
قوله : { لولاا أَخَّرْتَنَا } أي : هَلاَّ أخرْتَنَا إلى أجَلٍ قَرِيبٍ ، يعني : الموْت أي : هلاّ ترَكْتنا حَتَّى نَمُوت بآجَالِنَا ، وهذا كالعِلَّة لكَرَاهَتِهم إيجَاب القِتَالِ عليْهم ، ثم إنَّه -تعالى- أجَابَهُم بقوله : قلْ يا مُحَمَّد : { مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ } أي : مَنْفعَتُها والاستِمْتَاعُ بها قَلِيلٌ ، « والآخرة » أي : وثواب الآخِرة خَيْر وأفْضَل لمن اتَّقَى الشِّرْك ومَعْصِية الرَّسُول ، وإنَّما كانت الآخِرَة خَيْرٌ؛ لأن نِعَم الدُّنْيَا قليلة [ فَانِيَةٌ ] ونعم الآخِرَة كَثِيرَة بَاقِيَةٌ ونِعَم الدُّنيا مُنْقَطِعة ، ونِعَم الآخِرَة مؤبَّدة ، ونِعَم الدُّنْيَا مشوبَةٌ بالهُمُومِ والمَكَاره ، ونِعَم الآخِرَة صَافية من الكُدُورَات .
روى المستورد بن شَدَّادِ؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَا الدُّنْيَا في الآخِرَة إلاَّ مِثْل مَا يَجْعَل أحَدُكُم أصْبُعَهُ في اليَمِّ ، فَلْيَنْظُرْ بمَ يَرْجِع » .
ثم قال : { وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } .
قرأ ابن كَثيرٍ ، وأبُو جعفَر ، وحمْزَة ، والكسَائِي : باليَاء رُجوعاً إلى قَولِه -تعالى- : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ } والباقُون : بتاء الخِطَاب؛ كقوله : { مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ } والمعنى { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [ النساء : 49 ] ، أي : لا يُنْقَصُون من ثَوَابِ أعْمَالِهِم مثل فَتِيل النَّوَاةِ ، وهو ما تفلته بيدِكَ ثم تُلْقِيه احْتِقَاراً .
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
لما حَكَى عنهم أنَّهم يَخْشَون النَّاسَ عند فَرْضِ القِتَالِ بَكَّتهُم هَهُنَا؛ فقال : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت } أي : لا خلاص لكُم من المَوْت ، والجِهَاد مَوْتٌ يستعقبه سَعَادة أخْرَوِيَّة ، فإذا كان لا بُدَّ من المَوْتِ ، فبأن يَقَع على وَجْهٍ يستَعْقِب السَّعَادة الأبَدِيَّة ، أوْلى من ألاَّ يكُون كَذَلِكَ .
قوله : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ } : « أين » اسْم شَرْك يجزم فِعْلَين ، و « ما » زائدة على سَبِيل الجَوَازِ مؤكِّدة لها ، و « أين » ظَرْف مَكَان ، و « تكونوا » مَجْزومٌ بها ، و « يدرككم » : جوابُه .
والجمهُور على جزمه؛ لأنه جواب الشرط ، وطلحة بن سليمان : « يدركُكم » برفعه ، فخرَّجه المُبَرِّد ، على حَذْفِ الفَاءِ ، أي : فيدرككم المَوْت .
ومثلُه قول الآخر : [ الرجز ]
1831- يَا أقْرَعُ بْنَ حَابِسٍ يَا أقْرَعُ ... إنَّكَ إنْ يُصْرَعْ أخُوكَ تُصْرَعُ
وهذا تَخْرِيج المُبَرِّد ، وسيبويه يَزْعم أنه ليْس بجَوَابٍ ، إنَّما هو دالٌّ على الجَوَاب والنِّيةُ به التقديمُ .
وفي البَيْت تَخْرِيجٌ آخر : وهو أنْ يكُون « يَصْرَعُ » المرفُوعُ خبراً ل « إنك » ، والشَّرطُ معترِضٌ بينهما ، وجَوَابُه ما دَلَّ عليه قوله : « إنك تصرع » ؛ كقوله : { وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ } [ البقرة : 70 ] وخَرَّجه الزَّمخشري على التوهُّم؛ فإنه قال : ويجُوزُ أن يُقال : حُمِل على ما يَقَع مَوْقعَ « أينما تَكُونوا » وهو « أينما كُنْتُم » كما حُمِل على ما يقع موقع « ليسوا مصلحين » وهو « ليسوا بمصلحين » فرفع كما رفع زهير « ولا ناعب » : [ البسيط ]
1832- ... يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرِمُ
وهو قولُ نحويّ سِيبيّ ، يعني منسوب لسيبويه ، فكأنه قال : « أينما كنتم » ، وفعلُ الشرط إذا كان ماضياً لفظاً جازَ في جوابه المضارعِ الرفعُ والجزمُ كقول زهير : [ البسيط ]
1833- وَإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألَةٍ يَقُولُ ..
وفي رَفْعِهِ الوَجْهَان المَذْكُوران عن سيبويه والمُبرِّد . ورَدَّ عليه أبو حَيّان : بأن العطفَ على التوَهُّم لا يَنْقَاس؛ ولأنَّ قوله يؤدِّي إلى حَذْفِ جواب الشَّرْط ، ولا يُحْذَفُ إلاَّ إذا كان فِعْل الشَّرْط ماضياًن لو قُلْت : « أنت ظَالمٌ إنْ تفعل » لم يَجُز . وهذا -كَمَا رَأيتَ- مضارعٌ ، وفي هذا الردِّ نَظَرٌ لا يَخْفَى .
« ولو كنتم » قالوا : هي بِمَعْنى : « إنْ » وجوابُها مَحْذُوف ، أي : لأدْرَكَكُمْ ، وذكر الزَّمَخْشري فيه قَوْلاً غَرِيباً عن عِنْدَ نَفْسِه ، فقال : « ويجوزُ أن يَتَّصِل بقوله : { وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } أي : لا تُنْقَصُون شيئاً مِمَّا كُتِب من آجَالِكُم أيْنَمَا تَكُونوا في مَلاَحمِ حُروبٍ أو غيرها ، ثم ابتدأ بِقَوله : { تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } ، والوَقْفُ على هذا الوَجْه على { أَيْنَمَا تَكُونُواْ } انتهى .
ورَدَّ عليه أبو حيَّان ، فقال : هذا تَخْريجٌ ليس بِمُسْتَقيمٍ ، لا من حيث المعنى ولا من حيث الصِّنَاعةِ النَّحوية :
أمَّا من حَيْثُ المعنى : فإنه لا يُناسِبُ أن يكون مُتَّصلاً بقوله : { لاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } ؛ لأنَّ انتفاءَ الظُّلْم ظاهِراً إنما هو في الآخرة؛ لقوله -تعالى- : { قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ والآخرة خَيْرٌ لِّمَنِ اتقى } .
وأمَّا من حَيْث الصِّنَاعةُ النَّحويّة : فإنَّ ظاهر كلامه يَدُلُّ على أنَّ « أينما تكونوا » متعلِّقٌ بقوله : { وَلاَ تُظْلَمُونَ } بمعنى ما فسّره ، وهذا لا يجُوزُ؛ لأن أسْمَاءَ الشَّرْط لها صَدْرُ الكَلاَم ، فلا يَتَقَدَّم عَامِلُها عليها ، فإنْ وَرَد مثلُ : « اضْربْ زيداً متى جَاءَ » قُدِّر له عَاملٌ يدلُّ عليه « اضرب » لا نفسُ « اضْرِب » المتقدِّم .
فإن قيل : فكذلك يُقَدِّر الزَّمَخْشَرِيّ عاملاً يدلُّ عليه { وَلاَ تُظْلَمُونَ } تقديره : « أينما تكونوا فلا تظلمون » فحذف « فلا تظلمون » ، لدلالةِ ما قبله عليه ، فيخلُصُ من الإشْكَال المَذْكُور .
قيل : لا يُمْكِن ذلك؛ لأنه حينئذ يُحذفُ جَواب الشَّرط وفعلُ الشرط مُضَارعٌ ، وقد تقدم أنَّه لا يَكُون إلا ماضياً « . وفي هذا الردِّ نظرٌ؛ لأنه أرادَ تَفْسِير المَعْنَى . قوله : ولا يناسب أن يكون مُتَّصِلاَ بقوله : { وَلاَ تُظْلَمُونَ } مَمْنُوعٌ ، بل هُو مُنَاسِب ، وقد أوضَحَهُ الزَّمَخْشَرِي بما تقدَّم احْسَنَ إيضَاحٍ .
والجُمْلَة الامتنَاعِيَّة في مَحَلَّ نصبٍ على الحَالِ ، أي : أينما تَكُونوا من الأمكنة ، يدركْكم المَوْت ، ولو كانت حَالُكم أنَّكم في هذه البُرُوج ، فيُفْهَمُ أن إدراكه لهم في غَيْرِها بطريق الأوْلى والأخْرى ، وقريبٌ منه : » أعْطُوا السَّائِل ولو على فَرَسٍ « . والجملةُ الشَّرطِيَّة تحتمل وَجْهَيْن :
أحدهمت : أنها لا مَحَلَّ لها من الإعراب؛ لأنها استِئْنَافُ إخبارٍ؛ اخبر -تعالى- أنَّه لا يفُوتُ الموتَ أحَدٌ ، ومنه قولُ زُهَيْر : [ الطويل ]
1834- وَمَنْ هَابَ أسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ ... ولَوْ رَامَ أسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ
والثَّاني : أنها في مَحَلِّ نَصبٍ بالقَوْل قَبْلَها أي : قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَبِيلٌ ، وقُلْ أيضاً : أينما تَكُونُوا .
والجُمْهُور على » مشيدة « بفتح الياء اسم مَفْعُول . ونعيم بن ميْسَرة بِكَسْرِها ، نسَبَ الفعلَ إليها مَجَارزاً؛ كقولهم : » قَصِيدَةٌ شَاعِرَة « ، والموْصُوفُ بذلك أهْلُها ، وإنما عَدَلَ إلى ذلك مُبَالغةً في الوَصْفِ .
والبُرُوج : الحُصُونُ مَأخُوذةٌ من » التَّبرُّج « وهو الإظْهَارُ ، ومنه : » غير مُتبرِّجَات بزينة « ، والبَرَجُ في العين : سَعَتُها ، ومنه قولُ ذي الرُّمَّة : [ البسيط ]
1835- بَيْضَاءُ فِي بَرَجٍ صَفْرَاءُ فِي غَنَجٍ ... كَأنَّهَا فِضَّةٌ قَدْ مَسَّهَا ذَهَبُ
وقولُهُم : » ثَوْبٌ مُبَرَّجٌ « أي : عليه صُورُ البُرُوج؛ كقولهم : » مِرْطٌ مُرَجَّل « أي : عليه صُورُ الرِّجَال ، يروى بالجيم والحاء ، والمشيَّدة : المَصْنُوعة بالشِّيدِ؛ وهو الجِصُّ ، ويقال : » شَادَ البِنَاء وشيَّدَهُ « كرَّر العَيْن للتَّكْثِير؛ ومن مجيء » شاد « قولُ الأسود : [ الخفيف ]
1836- شَادَهُ مَرْمَراً وجَلَّلَهُ كِلْ ... سَاً فَِلِلطَّيْرِ فِي ذَرَاهُ وُكُورُ
ويقال : » أشاد « أيْضاً ، فيكون فَعَل وأفْعَل بِمَعْنًى .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : شاد القَصْرَ إذا رَفَعَهُ أو طَلاَه بالشِّيد ، وهو الجِصُّ وهذا قَوْل عِكْرمَة ، وقال قتادة [ معناه : ] في قُصُورٍ محصَّنةٍ ، وقال السُّدِّيُّ في بُرُوجِ في سَمَاءِ الدُّنْيَا مَبْنِيَّة ، وهي بُرُوج الفلك الاثْنَي عشر ، وهذا القَوْل مَحْكِيٌّ عن مَالِك ، ومعنى مشيدة ، [ أي ] مادّة من الرَّفْع؛ وهي الكَوَاكِبُ العِظَام .
وقيل : للكَواكِب : بُرُوجٌ ، لظُهُورِها من بَرِجَ يَبْرِج إذا ظَهَر وارْتَفَع ، ومِنْهُ : { } .
وخلقها الله -تعالى- في مَنَازِل للشَّمْس والقَمَر ، وقدّره فِيهَا ، ورتَّب الأزمِنَة عَلَيْهَا .
قوله : { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله } نزلت في المُنَافِقينَ واليَهُود؛ وذلك أنَّهم قَالُوا لما قَدِم رسُول الله صلى الله عليه وسلم المدِينَةَ : ما زلنا نَعْرِف النَّقْصَ في ثِمَارِنَا ومَزَارِعِنَا مذ قِدَم هَذا الرَّجُل وأصْحَابهُ .
قال الله -تعالى- « وإن تصبهم » يعني : اليهود « حسنة » أي : خصب ورُخص في السِّعْر ، « يقولوا هذه من عندنا » لنا { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } يعني : الجَدْب وغَلاَء الأسْعَار ، « يقولوا من عندك » أي : من شُؤْم محمَّدٍ وأصْحَابه ، وكَيْفِيَّة النَّظم : أنَّه -تعالى- لما حَكَى [ عنهم ] كونهم [ متثاقلين عن اجهاد خائفين من الموت راغبين في متاع الدنيا ، حكى عنهم ] في هَذِه الآية خَصْلَة أخْرَى أقبَح من الأولى .
وفي النَّظْم وَْه آخَر؛ وهو أنَّ الخَائِفِين من المَوْت ، المُتَثَاقِلِين في الجِهَادِ من عَادَتِهِم أنَّهم إذا جَاهَدُوا وقَاتَلُوا ، فإن أصَابُوا ظَفَراً أو غَنِيمةً ، قالوا : هَذِه من عِنْد الله ، وإن أصَابَهُم مَكْرُوه ، قالوا : هذه من شُؤْمِ مُصَاحَبة محمَّد صلى الله عليه وسلم .
فعلى هذا يكُون المُرَادُ ب « الحسنة » : الظفر والغَنِيمَة يوم بَدْر ، وب « السيئة » : القَتْل والهَزِيمة يوم أُحُد ، وهذا نَظير قَوله : { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الحسنة قَالُواْ لَنَا هذه وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ } [ الأعراف : 131 ] .
قال القاضي : القول بأن الحَسَنَة هي الخصب ، وأن السَّيِّئَة هي الغلاء ، [ هذا ] هو المعتبر ، لأن إضافة الخصب والغلاء وكثرة النِّعم وقلَّتِها إلى الله جَائِزَةٌ وأمَّا إضافة النَّصْر والهزيمةِ إلى الله -تعالى- ، وهَذَا على مَذْهَبِه ] أمَّا على مَذْهَب أهْل السُّنَّة ، فالكل بِقَضَاءِ الله وقدَرِه .
فصل في تفسير الحسنة والسيئة
اعلم أن السِّيِّئَة تَقَع على البَلِيَّة والمَعْصِيَة ، والحَسَنة على النِّعْمَة والطَّاعَة؛ قال تعالى : { وَبَلَوْنَاهُمْ بالحسنات والسيئات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الأعراف : 168 ] وقال - [ تعالى- : { إِنَّ ] الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } [ هود : 114 ] ، وإذا ثبت هذا؛ فنقو : قَوْله : { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ } ، وقوله : { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } يفيد العُمُوم في كُلِّ الحَسَنَات والسَّيِّئات ، ثم قال بَعْدَه : { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله } .
فهُنَا تصريحٌ بأنَّ جميع الحَسَنات والسَّيِّئات من الله -تعالى- ، ولمَّا ثَبَتَ بما ذكرنا أنَّ الطَّعات والمَعَاصِي دَاخِلَتَانِ تحت اسْم الحَسَنَةِ والسَّيِّئَة ، كانت [ الآية ] دالَّة على [ أنَّ ] جميعَ الطَّاعاتِ والمَعَاصي من الله تعالى ، وهو المَطْلُوبُ .
[ فإن قيل ] : المرادُ من الحَسَنة والسَّيِّئَة هُنا : لَيْس هو الطَّاعَة والمَعْصِيَة؛ لاتِّفَاق الكُلِّ على أنَّ هذه الآية نَزَلت في الخَصب والجَدْب ، فاخْتُصَّتْ بِهِمَا ، وأيضاً فالحَسَنة التَّي يُرَاد بها الخَيْر والطَّاعَة [ لا يقال فيها : أصابَتْنِي ، إنما يُقَال : أصَبْتُها ، وليس في كَلاَم العَرَب أصَابَ فُلان حَسَنَة ] ، [ بمعنى : عَمِلَ خَيْرٍ أو أصَابَتْهُ سيِّئة ] بمعنى : عمل مَعْصِيَةٍ ، فلو كان المُرَاد ما ذَكَرْتُم ، لقَالَ : إن أصَبْتُم حَسَنَةً .
وأيضاً : لفظ الحَسَنَة وَاقِعٌ بالاشْتِرَاك على الطَّاعَةِ وعلى المنفعة ، وهَهُنا أجْمَع المفسِّرون على أنَّ على الطَّاعضةِ وعلى المنفعة ، وهَهُنَا أجْمَع المفسِّرون على أنَّ المَنْفَعَة مُرَادة ، [ فيمتنع كَوْن الطَّاعَة مرادة ] ، لأنَّه لا يجوز اسْتِعْمضال المُشْتَرَك في مَفْهُومَيْه مَعاً .
والجواب عن الأوَّل : [ أن ] خصوصَ السَّبَب لا يَقْدَحُ في عُمُوم اللَّفْظ .
وعن الثَّانِي : أنه يَصِحُّ أن يُقَال : أصَابَنِي تَوْفِيقٌ من الله ، وَعَوْن من الله ، وأصابه خُذْلاَنَ من الله ، ويكون المُراد [ من ذلك التَّوفِيق والعَوْن : تلك الطَّاعة ، ومن الخُذْلان : تلك المَعْصِيَة .
وعن الثَّالث : أن كل ] ما كَانَ مُنْتَفِعاً به فهو حَسَنة ، فإن كان نَفْعه في الآخِرَة ، فهو في الطَّاعةِ ، وإن كان نفعه في الدُّنْيا فهو السَّعَادة الحَاضِرة ، فاسْم الحَسَنَة بالنِّسْبَة إلى هَذَيْنِ القِسْمَيْن مُتَوَاطئُ الاشْتِرَاك ، فزال السُّؤال ، ويؤيد ذَلِك : أن البَدِيهَة قَاطِعَةٌ بأنَّ كل مَوْجُود مُمْكِنٌ لِذَاته ، مستندٌ للحقِّ بذاته وهُوَ الله -تعالى- ، فلو استَغْنَى المُمْكن بذَاتِهِ [ عن الحَقِّ ] ، لزم نَفْيَ الصَّانع ، وهذا الحُكْمُ لا يخْتَلِفُ كَيْف كان المُمْكن؛ حيواناً ، أو جماداً ، أو فعلاً ، أو صِفَةً ، وهذا بُرْهَانٌ كالشَّمْس ، مُصَرِّح بأن الكُلَّ من عِنْد الله؛ كما قال -تعالى- : { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله } .
قوله : { فَمَا لهؤلاء القوم }
وقف أبو عمرو والكسائي -بخلاف عَنْه- على « مَا » في قوله : « فما لهؤلاء » وفي قوله : { مَالِ هذا الرسول } [ الفرقان : 7 ] وفي قوله : { مَا لهذا الكتاب } [ الكهف : 49 ] وفي قوله : { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ } [ المعارج : 36 ] . والبَاقُون : على اللام التي للجرِّ دونن مَجْرُورهخا اتِّباعاً للرَّسم ، وهذا ينبغي إلاّض يَجُوز -أعني : الوَقْفَيْن -لأنَّ الأوَّل يُوقَف فيه على النُبْتَدَأ دونَ خَبرِه ، والثاني يُوقِف فيه على حَرْفِ الجَرِّ دونَ مَجْرُورِه ، وإنما يجُوزُ ذلك؛ لضَرُورةِ قَطْعِ النَّفْسِ أو ابْتِلاَءٍ .
قال الفرَّاء : كثرت في الكَلاَم هذه الكَلِمَة ، حتى تَوهَّمُوا أنَّ اللاَّم متصلة بِهَا ، وأنَّهُمَا حَرْف وَاحِدٌ ، ففصَلُوا اللاَّمَ بما بَعْدَها في بَعْضِه ، وَوَصَلُوها في بَعْضِه ، والقراءة الاتِّصَالُ ، ولا يجُوزُ الوَقْفُ على اللامِ؛ لأنَّها لامٌ خافضة .
لمَّا دلَّ الدَّلِيل على أنَّ كل ما سِوَى الله مستندٌ إلى الله ، وكان ذَلِكَ الدَّليل في غاية الظُّهُور ، قال -تعالى- : { فَمَا لهؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } وهذا يَجْرِي مُجْرَى التَّعَجُّبِ؛ لعدم وُقُوفِهم على صِحَّةِ هَذَا الكَلاَمِ مع ظُهُورِهِ .
قالت المُعْتَزِلَةُ : هذه الآيَة تدلُّ على صِحَّة قَوْلِنا؛ لأنه لو كَان حُصُول الفَهْمِ والمعرفة بِتَخْلِيق الله -تعالى- ، لم يَبْق لِهذا التَّعَجُّب مَعْنًى ألْبَتَّة؛ لأن السَّبَب في عَدَمِ حُصُول هذه المَعْرِفة ، هو أن الله -تعالى- لم يَخْلُق ذلك فِيهم .
وهذا تمسُّكٌ بطريقة المَدْح والذَّمِّ؛ وهي معارَضَةٌ بالعِلْمِ والدَّاعي .
والمراد ب « هؤلاء القوم » : المنافقون واليَهُود ، « لا يكادون يفقهون حديثاً » أي : قَوْلاً .
وقيلأ : الحديث هاهنا : القُرْآن : أي : لا يَفْقَهُون مَعَانِي القُرْآن ، والفِقْه : الفَهْم ، يُقَال : فَقِهَ بكسر القَافِ؛ إذا فَهِم ، وفَقَهَ بِفَتْحِ القَافِ : إذا غَلَب غَيْرَه ، وفَقْه بِضَمِّ القَافِ ، ومنه ما قال عليه السَّلام لابن عبَّاس « اللَّهُمَّ فَقِّههُ في التَّأوِيل » أي : فَهِّمْهُ تأويلَهُ ، فعلى هَذَا التَّأوِيل قالت المُعْتَزِلَةُ : هذه الآية تَقْتَضِي وَصْف القُرْآنِ بأنَّهُ حَادِثٌ ، والحَدِيث : فعيل بِمَعْنَى مَفْعُول مِنْه أن يَكُون القُرْآن مُحْدَثاً .
والجَوَابُ : إن كان مُرادُكم بالقرْآنِ هذه العِبَارات ، فَنَحْنُ نُسَلِّم كَوْنَها مُحْدَثَةً .
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)
في « ما » هذه قَوْلان :
أحدهما : قال أبو البقاء : إنها شَرْطِيةٌ : وضَعَّف أن تكونَ مَوْصُولةً قال : « ولا يَحْسُن أن تكُونَ بِمَعْنَى الذي؛ لأنَّ ذلك يَقْتَضِي أن يكون المُصيبُ لهم مَاضِياً مخصَّصاً ، والمعنى على العُمُومِ والشَّرْطيةُ أشْبَهُ ، والمرادُ بالآيةَ : الخِصْب والجَدْب ، ولذلك لم يَقُلْ : ما أصَبْت » . انتهى ، يَعْنِي أنّض بَعْضَهم يَقُول : إنَّ المرادَ بالحَسَنة الطَّاعةُ ، وبالسَّيِّئةِ المَعْصِيَةُ ، ولو كان هَذَا مُرَاداً ، لقال : « ما أصَبْتُ » ؛ لأنَّه الفَاعِلُ للحَسَنَةِ والسَّيِّئة جَمِيعاً ، فلا تُضَاف إليه إلا بِفعْلِهِ لَهُمَا .
والثاني : أنها مَوْصُولةٌ بمعنى الَّذِي ، وإليه ذَهَب مكِّي ، ومَنَع أن تَكُونَ شَرْطِيَّة ، قال : « وليسَتْ للشرطِ؛ لأنَّها نزلت في شَيْءٍ بِعَيْنِه ، وهو الجَدْب والخِصْب ، والشَّرطُ لا يكون إلا مُبْهَماً ، يجوزُ أنْ يَقَع وألاَّ يقعَ ، وإنَّما دخلت الفَاءُ للإبْهَام الَّذِي في » الَّذِي « مع أن صِلَتهِ فِعْلٌ ، فدلَّ على أنَّ الآية لَيْسَت في المَعَاصِي والطَّاعَات كَمَا قال أهْلُ الزَّيْغ ، وأيْضاً فإنَّ اللَّفْظَ » ما أصابَكَ « ، ولم يَقُل : » ما أصَبْتَ « . انتهى .
والأوَّلُ أظهرُ؛ لأنَّ الشرطيةَ أصْلٌ في الإبْهام كنما ذكره أبُو البَقَاء ، والموصولوُ فبالحَمْل عَلَيْها ، وقولُ مكيّ : » لأنها نَزَلَتْ في شيء بعينه « هذا يقتضي ألاَّ يُشَبَّه الموصولُ بالشرطِ؛ لأنه لا يُشَبَّه بالشَّرْط فلم تَدْخُلِ الفَاءُ في خَبَره ، نَصَّ النَّحْويُّون على ذلك ، وفي المَسْألَةِ خلافٌ : فَعَلَى الأوَّل : » أصابَك « في محلِّ جَزْم بالشَّرْط ، وعلى الثَّاني : لا مَحَلَّ له؛ لأنه صِلَة .
و » من حسنة « الكلامُ فيه كالكَلامِ في قَوْله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } [ البقرة : 106 ] وقد تقدَّم ، والفاءُ في » فمن الله « جَوَابُ الشَّرْط على الأولِ وزائدةٌ على الثَّّاني ، والجارُّ بَعْدَها خبرٌ لمبتدأ مَحْذُوف ، تقديرُه : فَهُو من الله ، والجُمْلَةُ : إمَّا في محلِّ جَزْمٍ أوْ رَفْعٍ على حَسَبِ القَوْلين .
واختلِفَ في كافِ الخِطَابِ : فقيل : المرادُ كلُّ أحدٍ ، وقيل : الرَّسُول والمُرادُ أمتهُ ، وقيل : الفَرِيقُ في قوله : { إِذَا فَرِيقٌ } ، وذلك لأنَّ » فريقاً « اسمُ جَمْعٍ فله لَفْظٌ ومَعْنًى ، فراعَى لفظه فأفْرَدَ؛ كقوله : [ الطويل ]
1837- تَفَرَّقَ أهْلاَنَا بِبَيْنٍ فَمِنْهُمُ ... فَرِيقٌ أقَامَ واسْتَقَلَّ فَرِيقُ
وقيل في قوله : { فَمِن نَّفْسِكَ } : إنَّ همزَة الاسْتفْهَام مَحْذوفة ، تقديره : أفمِنْ نفسِك ، وهو كَثِيرٌ؛ كقوله -تعالى- : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا } [ الشعراء : 22 ] وقوله -تعالى- : { بَازِغاً قَالَ هذا رَبِّي } [ الأنعام : 77 ] . ومنه : [ الطويل ]
1838- رَفَوْنِي وَقَالُوا يَا خُوَيْلدُ لا تُرَع ... فَقُلْتُ وأنْكَرْتُ الْوُجُوه هُمُ هُمُ
وقوله : [ المنسرح ]
1839- أفْرَحُ أنْ أرْزَأ الْكِرَامَ وأنْ ... أورَثَ ذَوْداً شَصَائِصاً نَبْلاً
تقديره : وأتِلْكَ ، وأهَذا رَبِّي ، وأهمُ هُم ، وأفرحُ ، وهذا لم يُجْزءه من النُّحَاةِ إلا الأخفش ، وأمَّا غيره فلك يُجِزْهُ إلا قَبْل » أمْ « ؛ كقوله : [ الطويل ]
1840- لَعَمْرُكَ مَا أدْرِي وَإنْ كُنْتَ دَارِياً ... بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أمْ بِثَمَانِ
وقيل : ثَمَّ قولٌ مقدَّر ، أي : لا يكَادُونَ يَفْقهون حَدِيثاً يَقُولون : ما أصَابَكَ .
وقرأت عائشة : « فَمَنْ نَفْسُكَ » بفتح ميم « من » ورفع السِّين ، على الابتداء والخَبَر ، أيّ شيءٍ نَفْسُك حَتَّى يُنْسَب إليها فِعْلٌ؟ .
قوله : « رسولاً » فيه وَجْهَان :
أحدُهُما : أنه حالٌ مؤكِّدة .
والثاني : أنه مَصْدر مؤكِّدٌ بِمَعْنَى إرسال ، وِمنْ مَجِيء « رَسُول » مَصْدراً قوله : [ الطويل ]
1841- لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا بُحْتُ عِنْدَهُمْ ... بِسِرٍّ وَلاَ أرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ
أي : بإرسال ، بمعنى رِسَالة . و « للناس » يتعلق ب « أرسلناك » ، واللاَّم للعِلَّة ، وأجاز أبو البقاء أن يكونَ حَالاً من « رسولاً » كأنه جَعَله في الأصْلِ صِفَةً للنَّكِرَة ، فقُدِّم عليها ، وفيه نَظَر .
فصل
قال الجُبَّائِيُّ : قد ثَبتَ أنَّ لَفْظَ السِّيِّئَة يقع على البَلِيَّةِ والمِحْنَة ، وتارة يقع على الذَّنْب والمَعْصِيَة ، ثم إنَّه -تعالى- أضَافَ السِّيِّئَة إلى نَفْسِهِ في الآية الأولَى بقوله : { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله } ، وأضَافَها في هذه الآيَةِ إلى العَبْد بِقَوْله : { وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } ولا بُدَّ من التَّوْفِيقِ بين الآيَتَيْنِ؛ فنقول : لمَّا كانت السَّيِّئَةُ بمكعنى البَلاَءِ والشِّدَّة مُضَافَة إلى الله ، وجب أن تَكُون السِّيِّئَةُ بمعْنَى المُصِيبَة مُضَاَفة إلى العَبْدِ؛ ليزُول التَّنَاقُضُ بين هَاتَيْنِ الآيَتَيْن المُتَجَاوِرَتَيْن ، وقد حَمَل المُخَالِفُون أنْفُسَهم على تَغْيِير الآيَةِ ، وقرأوا : « فمن نفسك » فَغَيَّروا القُرْآن ، وسلَكُوا مثل طريقَةِ الرَّافِضَة في ادِّعاءِ التَّغْيير في القُرْآن .
فإن قيل : إن الحسَنَة وإن كَانَت من فِعْل العَبْد ، فإنَّما وَصَل إلَيْهَا بتسْهِيله وألْطَافِه ، فصَحَّت الإضَافَةُ إلَيْه ، وأمَّا السَّيِّئة ، فَهِي غير مُضَافَةٍ إلى الله -تعالى- بأنَّه [ مَا ] فَعَلَها ، ولا أرَادَهَا ، ولا أمَرَ بِهَا ، ولا رَغَّبَ فيهَا . فلا جَرَم انْقَطَعَتْ هذه النِّسْبَة إلى الله تعَالى من جَمِيعِِ الوُجُوهِ .
قال ابن الخَطِيبِ : والجَوابُ : أن هذه الآيَةَ دلَّت على أنَّ الإيمَان حَصَل بتَخْلِيق الله -تعالى- : لأن الإيمَان حَسنَةٌ [ والحَسَنَة ] هي الغِبْطَةَ الخَالِيَةُ عن جَمِيعِ جِهَاتِ القُبْحِ ، والإيمان كَذَلِكَ؛ فوجب أن تكُون حَسَنة؛ لأنَّهم اتَّفَقُوا على أنَّ قوله { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله } [ فصلت : 33 ] أن المُرادَ به : كلمة الشَهَادة ، وقيل في قوله : { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } [ النحل : 90 ] قيل : هو قَوْل لا إلَه إلاَّ الله؛ فَثَبت أنَّ الإيمان حَسَنَة ، وإنما قُلْنَا : إن كل حَسَنَةَ من الله؛ لقوله -تعالى- : { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله } وهذا يفيد العُمُوم في جَميع الحَسَنَاتِ ، وإذا ثَبَت أنَّ الإيمان حَسَنة ، وكُلُّ حسنة من الله ، وجب القَطْع بأنَّ الإيمَان من اللهِ .
فإن قيل : لم لا يجُوز أن يكون المُرَادُ من قوله : « من الله » هو أنَّ الله قدَّرَه عَلَيْه ، وهَدَاه إلى مَعْرَفَة حُسْنهِ ، وإلى مَعْرِفَة قُبْحِ ضِدّه الذي هو الكُفر .
قُلْنَا : جميع الشَّرَائِطِ مُشْتَرَكَةٌ بالنِّسْبَة إلى الإيمَانِ والكفر عندكم ثمَّ إنَّ العَبْد باخْتِيَار نَفْسِه أوْجد الإيمان ، ولا مَدْخل لِقُدْرة الله وإعانَتِه في نَفْس الإيمَانِ ، فكان الإيمَانُ مُنْقَطِعاً عن الله - [ تعالى ] - من كل الوُجُوهِ ، فكذا هَذَا مُنَاقِضاً لقوله : { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله } ؛ فثبت لدلاَلَة هذه الآية أن الإيمان من الله ، والخُصُوم لا يَقُولُون به ، وأمَّا بيان أنَّ الكُفْر من اللهِ فَلوُجُوه :
أحدُهَا : أن كُلَّ من قَالَ : الإيمانُ من الله قال الكُفْر من الله؛ فالقَوْل بأحَدِهِمَا من الله -تعالى- دُون الآخَرِ- مخالِفٌ لإجْمَاع الأمَّةِ .
وثانيها : أن العَبْد لو قَدَر على تَحْصِيل الكُفْرِ ، فالقُدْرَة الصَّالِحة لإيجَادِ الكُفْر : إمَّا أن تكُون صَالِحة لإيجَادِ الإيمان ، أو لا ، فإن كانت صَالِحَةً لإيجَادِ الإيمانِ ، [ فحينئذٍ ] يَعُود القول في أنَّ إيمان العَبْدِ مِنْهُ ، [ وإن لَمْ تَكُنْ صَالِحةٌ لإيجَادِ الإيمَانِ ، فيكُونُ القَادِر على الشَّيْءِ غير قَادِر على ضِدَّه ، وذلك عندهُم مُحَالٌ؛ فثبت أنَّهُ لَمْ يَكُنْ الإيمَان مِنْه ، وجَب ألاّ يكُونَ الكُفْر مِنْهُ ] .
وثالثها : أنَّه لمَّا يكُن العَبْد مُوجداً للإيمَانِ فبأن لا يكون موجداً للكفر أوْلى؛ وذلك لأنَّ المُسْتَقِلَّ بإيجَادِ الشَّيْءِ هو الَّذي يُمْكِنُه تَحْصِيلُ مُرَادِهِ ، ولا نَرَى في الدُّنْيَا عَاقِلاً ، إلاَّ يُريدُ أن يكُون الحَاصِل في قَلْبهِ هو [ الإيمان والمَعْرِفَة والحقّ ، وإن أحداً مِنِ العُقَلاء لا يُرِيدُ أن يكُونَ الحَاصِلُ في قلبه هو ] الجَهْل والضَّلال والاعْتِقاد المُطابق ، وَجَب إلاَّ يتحصَّل في قَلْبه إلاَّ الحَقَّ ، وإذا كَانَ الإيمانُ الَّذي هو مَقْصُوده ومَطْلُوبه ومُرَادُه ، لم يقع بإيجادِه ، فبأن يكُون الجَهْلُ الَّذِي لم يُرده وما قَصَد تَحْصيله ، وهو في غَايَة النَّفْرَة [ عَنْهُ ] غير وَاقِع بإيجَادِه أوْلَى ، وأما الجَوَابُ عن احْتجاجه بقوله : { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } فَمِنْ وَجْهَيْن :
الأوَّل : أنَّه -تعالى- قال حكاية عن إبْراهيم -عليه السلام- : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [ الشعراء : 80 ] ، أضاف المرَض إلى نَفْسِهِ ، والشِّفَاء ، وإنما فصل بَيْنَهُمَا رِعَايةً للأدَبِ ، فكذا يَقْدَح ذَلِك في كونه -تعالى- خَالِقاً للمَرَضِ والشِّفَاء ، وإنما فصل بَيْنَهُمَا رِعَايةً للأدَبِ ، فكذا ههنا؛ فإنه يُقَالُ : يا مُدَبِّر السَمَوات والأرْضِ؛ ولا يُقالُ : « يا مدبِّر القَمْل والصِّبيان والخَنَافِس . . » فكذا ههنا .
الثاني : قال أكثر المُفَسِّرين في قَوْل إبْراهيم -عليه السلام- : « هذا رَبِّي » إنه ذَكَر هذا اسْتِفْهَاماً على سَبِيل الإنْكَارِ؛ كما قدمناه فكذا هَهُنَا؛ كأنَّهُ قِيلَ : الإيمَان الَّذِي وقع على وَفْقِ قَصْدِه ، قد بَيَّنَّا أنَّه ليس وَاقِعاً مِنْهُ ، بل من الله -تعالى- فهذا الكُفْر [ ما ] قَصَدَهُ ، وما أرَادَهُ ، وما رَضِي به ألْبَتَّةَ ، فكيف يَدْخُل في العَقْل أن يُقال إنَّه وقع بِهِ . د
وأما قِرَاءة : « فمن نفسك » فنَقُول : إن صح أنه قرأ بها أحدٌ من الصَّحَابَة والتَّابِعين ، فلا طعن فيه ، وإن لم يَصِحَّ ذلك ، فالمراد أن من حَمَل الآية على أنَّها وردتْ على سَبِيل الاستفهام على وَجْه الإنْكَارِ ، قال : لأنَّه لما أضاف السيئة إلَيْهم في مَعْرض الاسْتِفَهَام على سَبيلِ الإنْكَارِ ، كان المُرادُ أنَّها غير مُضَافةٍ إليهم ، فذكر [ قوله ] : « فمن نفسك » كقولِنَا : إنه استِفْهَامٌ على سَبيلِ الإنْكَارِ .
[ فصل ]
قوله : « ما أصابك من حسنة » أي : من خَيْر ونَعْمَةٍ ، « فمن الله ، وما أصابك من سيئة » أي : بليَّةٍ أو أمر « تكْرَهُهُ » فمن نفسك « أي : بذُنُوبِكَ ، الخِطَاب للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم والمُرَاد غيره ، نظيرُه قوله -تعالى- : { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الشورى : 30 ] .
قال البَغَوِيُّ : وتعلَّق أهْل القَدَر بِظَاهر هذه الآية؛ فقالوا : نَفَى الله -عز وجل- السَّيِّئَة عن نَفْسِه ، ونَسَبَهَا إلى العَبْد؛ فقال : » وما أصابك من سيئة فمن نفسك « ولا مُتَعلِّق لهم فيه؛ لأنَّه ليس المُرادُ من الآيةِ حَسَنات الكَسْبِ ولا سيِّئاتِه ] من الطَّاعَاتِ والمَعَاصِي ، بل المُراد مِنْه : ما يُصيبُهُم من النِّعَم والمِحَنِ ، وذلك ليس من فَعْلِهِم؛ بدليل أنَّه نَسَبَها إلى غَيْرِهم ولم يَنْسِبْهَا إلَيْهِم ، فقال » ما أصابك « ولا يقال في الطَّاعَة والمَعْصِيَة : أصَابَنِي ، إنَّما يقال : أصَبْتُهَا ، ويُقَال في المِحَن : أصَابَنِي؛ بدليل أنه لَمْ يَذْكُر عليه ثَوَاباً ولا عِقَاباً؛ فهو كقوله -تعالى- : { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الحسنة قَالُواْ لَنَا هذه وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ } [ الأعراف : 131 ] ولما ذكر حَسَنَات الكَسْب وسيِّئَاته نسبها إلَيْه ، ووعد عليها الثَّوَابَ والعِقَاب؛ فقال { مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا } [ الأنعام : 160 ] .
وقيل : مَعْنى الآية : » ما أصابك من حسنة « : من النَّصْر والظَّفَرِ يوم بَدْرٍ ، » فمن الله « أي : من فَضْلِ الله ، و » ما أصابك من سيئة « : من القَتْلِ والهَزِيمَةِ يوم أحُدٌ ، » فمن نفسك « أي : يعني : فبذنوب أصْحَابِك وهو مُخَالفتهم لَكَ .
فإن قيل : كَيْف وَجْه الجَمْع بين قوله : » قل كل من عند الله « [ وبين قوله : فمن نفسك » .
قيل : قوله : { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله } أي : الخِصْب والجَدْب ، والنَّصْر والهَزِيمَة كلُّها من عِنْد الله ، وقوله « فمن نفسك » أي : ما أصابك من سيئة فمن الله بذنب نفسك؛ عقوبة لك كما قال : { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ } [ الشورى : 30 ] ؛ يدل عليه مَا روى مُجَاهدٌ عن ابن عبَّاسٍ؛ أنه قرأ : « وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك » .
ثم قال [ -تعالى- ] : « وأرسلناك للناس رسولاً » .
قوله : « رسولاً » فيه وجهان «
أحدهما : أنه حال مؤكدة .
والثاني : أنه مصدر مؤكِّدٌ بمعنى إرسال ، ومن مجيء » رسول « مصدراً قوله : [ الطويل ]
1842 أ- لَقَدْ كَذبَ الْوَاشُونَ مَا بُحْتُ عِنْدَهُمْ ... بِسِرٍّ وَلاَ أرْسَلْتُهمْ بِرَسُولِ
أي بإرسال ، بمعنى رسالة . و » للناس « يتعلق ب » أرسلناك « ، واللام للعلة . وأجاز أبو البقاء أن يكون حالاً من » رسولاً « كأنه جعله في الأصل صفةً للنكرةَ فَقُدِّم عليها ، وفيه نظر .
فصل
وهذا يدلُّ على أن المُرَاد من هَذِه الآيات إسناد جميع الأمُور إلى الله -تعالى-؛ لأنَّ المَعْنَى : ليس لك إلاَّ الرِّسَالة والتَّبْلِيغ ، وقد فَعَلْت وما قصَّرت ، « وكفى بالله شهيداً » على جَدِّك وعَدَم تَقْصِيرك في أدَاء الرِّسَالة وتَبْليغ الوَحْي ، فأمَّا حُصُول الهِدَايَة فليس إلَيْك ، بَلْ إلى الله؛ ونظيره قوله -تعالى- : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } [ آل عمران : 128 ] ، وقوله : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] .
وقيل المَعْنَى : وكفى بالله شهيداً على إرْسالِك وصدْقَك ، وقيل : وكَفَى بالله شهيداً على أنَّ الحسنة والسَّيِّئة كُلَّها من الله .
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)
وذلك أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقُول : « مَنْ أطَاعَنِي فَقَدْ أطاعَ الله ، ومن أحَبَّنِي فقد أحَبَّ الله » فقال بَعْضُ المُنَافِقِين : ما يُريدُ هذا الرَّجُلُ إلا أن نَتَّخِذَهُ ربّاً؛ كما اتَّخَذَتِ النَّصَارى عِيسَى ابن مَرْيمَ ربّاً؛ فأنزل الله -عز وجل- : « من يطع الرسول » فيما أمَرَهُ [ الله ] « فقد أطاع الله » ، « ومن تولى » : عن طاعته « فما أرسلناك » يا محمَّد « عليهم حفيظاً » أي : حَافِظاً ورَقِيباً ، بل كل أمُورهم إلى الله -تعالى- ، ولا تغتم بسبب تولِّيهم ولا تَحْزَن ، والمُرَادُ : تسلِيَة الرَّسُول -عليه الصَّلاة والسلام- .
قيل : نَسَخَ الله -عز وجل- هذه الآية بآية السَّيْف ، وأمره بِقتال من خَالَفَ الله ورسُوله .
قوله : « حفيظاً » : حالٌ من كَافِ « أرسلناك » و « عليهم » مُتعلِّق ب « حفيظاً » ، وأجاز فيه أبُو البَقَاءِ ما تقدَّم في « للنَّاسِ » .
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
في رفع « طاعة » : وجهان :
أحدهما : أنه خبرُ مُبْتَدأ مضمَرٍ ، تقديره : « أمر طاعة » ولا يجُوز إظهارُ هذا المُبْتَدأ؛ لأن الخَبَر مَصْدَر بدلٌ من اللَّفْظِ بفعله .
والثاني : أنه مُبْتَدأ والخَبَر مَحْذُوف ، أي : مِنَّا طَاعَة ، أو : عَنْدنا طَاعَةٌ ، قال مكي : « ويجُوز في الكَكَم النَّصْبُ على المَصْدَر » .
قوله : « فإذا برزوا » [ وأخْرِجُوا ] ، من عندك بيت طائِفَةٌ مِنْهُم غير الَّذي تَقُولُ .
أدغم أبو عَمْرو وحمزة : تاء « بَيَّت » في طَاءِ « طائفة » لتقاربهما ، ولم يَلْحَقِ الفِعْلَ علامةُ تأنيث؛ لكونه مَجَازياً ، و « منهم » : صِفَةٌ ل « طائفة » ، والضَّمِير في « تَقُول » يحتمل أن يكُون ضَمير خِطَاب للرَّسُول -عليه السلام- ، أي « غيرَ الذي تَقُولُه وترسم به يا مُحَمَّد ، ويؤيِّده قِرَاءة عبد الله : » بيَّتَ مُبَيِّتٌ مِنْهُم « ، وأن يكون غَيْبَة للطَّائفة ، أي : تقول هي .
وقرأ يَحْيَى بن يَعْمر : » يقول « بياء الغَيْبَة ، فيحتمل أن يَعُود الضَّمِيرُ على الرَّسُول بالمَعْنَى المُتقدِّم ، وأن يَعُود على الطَّائِفَةِ ، ولم يرنِّث الضَّمِيرَ؛ لأن الطِّائِفَة في معنى الفَرِيق والقوم .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : » بيت طائفة « أي : زوَّرت وسوَّت » غير الذي تقول « : خلاف ما قُلْت ومَا أمَرْت به ، أو خَلاَف ما قَالَتْ ومَا ضَمِنَت من الطَّاعَة؛ لأنَّهم أضْمَرُوا الرَّدَّ لا القَبُول .
قال الزَّجَّاج : كل أمر تفكر فيه وتُؤوِّل في مصالحه ومفاسده كثيراً ، قيل : هذا أمْر مُبَيَّتٌ؛ قال -تعالى- : { إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يرضى مِنَ القول } [ النساء : 108 ] ، وقال قتادَةُ والكَلْبِيُّ : بَيَّت ، أي : غيَّر وبَدَّل الَّذِي عَهِدَ إليهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ، ويكون التَّبْييتُ بمعنى : التَّبْدِيل .
وقال أبُو عُبَيْدَة : والتَّبييتُ معناه : قالُوا وقَدَّرُوا لَيْلاً مَا أعطوك نهاراً ، وكل ما قُدِّر بلَيْل فهو مُبَيَّتٌ .
وقال أبو الحَسَن الأخْفَش : تقول العَرَب للشَّيْءِ إذا قُدِّرَ : بَيْتٌ ، يُشَبِّهُونَهُ بتقدير بُيُوت الشِّعْر ، وفي اشْتِقَاقه وَجْهَان :
أحدهما : أم أصْلح الأوْقَات للفكْر أن يَجْلِس الإنْسَان في بَيْتِهِ باللَّيل ، فهناك تكُون الخَوَاطِر أجْلى والشَّواغل أقَل ، فلما كان الغَالِبُ أنَّ الإنْسَان وقت اللَّيْل يكون في البَيْتِ ، والغَالِبُ أنه إنَّما يَسْتَقْصِي في الأفْكَار في اللَِّيْلِ ، فلا جَرَم سُمِّي ذلك فيس الفِكْر مبيِّتاً .
والثاني : أن التَّبْييتَ والبَيَات : أن يَأتِي العَدُوُّ ليلاً ، وبات يَفْعَل كذا : إذا فَعَلَه لَيْلاً؛ كما يُقَال : ظلَّ بالنَّهار ، وبَيَّتَ بالشيء ، قَدَّره ، وإنما خَصَّ هذه الطَّائِفَة من جُمْلَة المُنَافِقِين لوجهين :
أحدهما : أنه -تعالى- ذكر من عَلِم أنَّه يَبْقى على كُفْرِه ونِفَاقِه ، فأمَّا من عَلِمَ أنَّه يرجع عن ذَلِك فإنَّه لم يَذْكُرْهُم .
والثَّاني : أنَّ هذه الطَّائِفَة كانوا قد سَهِرُوا لَيْلَهُم في التَّبْيِيتِ ، وغيرهم سَمِعُوا وسَكَتُوا ولم يُبَيِّتُوا ، فلا جَرَم لم يُذْكَرُوا .
وفي الآيَة دليل على أن مُجَرَّدَ القَوْل لا يُفيد شيئاً ، فإنَّهُمْ قَالُوا ططائفة « ولَفَظُوا بِهَا ، ولم يحقِّق الله طاعتهم .
ثم قال : { والله يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } ذكر الزَّجَّاج [ فيه ] وجْهَيْن :
أحدهما : [ معناه ] : ينزل إلَيْك في كِتَابِه .
والثَّّاني : يكُتَبُ ذلك في صَحضائِف أعْمَالهم؛ ليجَازوا بهز
وقال الضَّحاك عن ابن عبَّاسٍ ، يعني : ما يُسِرُّون من النِّفَاق .
و » مَا « في » ما يبيتون « يجوز أن تكون مَوْصُولة أو مَوْصُوفة أو مَصْدَرية . » فأعْرِض عَنْهم « يا مَحَمَّد ، ولا تفضحهم ولا تُعَاقِبْهُم ولا تُخْبَر بأسْمَائِهِم؛ فأمر الله -تعالى- بستْر [ أحْوَالِ ] المُنَافِقين إلى أن لمن توكَّلَ عليه .
قال المُفَسِّرون : كان الأمْر بالإعْراض عن المُنَافِقِين في ابْتِداء الإسْلاَم ، ثم نُسِخ ذلك بقوله : { جَاهِدِ الكفار والمنافقين } [ التوبة : 73 ] . وهذا فيه نَظَر؛ لأن الأمْر بالصَّفْح مُطْلَق ، فلا يفيد إلاّض المَرَّة الوَاحِدَة ، فورودُ الأمْر بعد ذَلِك بالجَهِادِ لا يكون نَاسِخاً له .
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)
قرأ ابن محيْصن : « يَدَّبَّرون » : بإدغام التَّاء في الدَّال ، والأصْل : يَتَدبرون ، وهي مخالفةٌ للسَّوَاد والتَّدْبير والتَّدَبُّر عبارة عن النَّظَر في عَوَاقِب الأمُور وأدْبَارِهَا ، ودُبُرُ الشَّيْء آخره ، ومنه قوله : إلامَ تدبَّروا أعْجَاز أمُورٍ قَدْ ولت صُدُورَها ، ويقال في فَصِيح الكَلاَم : لو استَقبلتُ من أمري ما اسْتَدْبَرْت ، أي : لو عَرَفَت في صَدْرِي ما عَرَفْتَ [ من ] عاقِبَتِهِ ، لامْتَنَعْت .
فصل : وجه النظم في الآية
ووجه النظم أنه -تعالى- [ لمَّا ] حكى أنواعَ مكر المُنَافِقِين وكَيْدِهم؛ لأجل عَدَم اعتِقَادِهم صحَّة دَعْوَى النَّبي صلى الله عليه وسلم للرِّسَالَة ، فلا جَرَم أمرهم [ الله ] تعالى بأن يَنْظُروا ويتفكروا في الدَّلائِل [ الدَّالَّة ] على صِحَّة النُّبوَّة؛ فقال [ -تعالى- ] « أفلا يتدبرون القرآن » والعلماء قَالُوا : دلالة القُرْآنِ على صِدْق نُبُوَّةِ محمَّد صلى الله عليه وسلم من ثلاثة أوْجُه :
أحدُها : فصاحَته .
وثانيها : اشْتِمَاله على الإخْبَارِ عن الغُيُوبِ .
والثالث : سلامَتُه عن الاخْتِلاَف ، وهاذ هو المذكُور في هَذِهِ الآية ، وذكروا في تَفْسِير سَلاَمَتِه عن الاخْتِلاَف ثلاثة أوْجُه :
الأول : قال أبو بَكر الأصَم : معناه أنَّ هؤلاء المُنَافِقِين كانوا يَتَواطَئُون في السَِّرِّ على أنْواع كَثِيرةٍ من العُلُوم ، فلو كَان ذَلِك مِنْ عِنْد غَيْر الله ، لوقع فيه أنْواعٌ من الكَلِمَات المُتَنَاقِضَة؛ لأن الكِتَاب الكَبِير لا ينْفَكُّ من ذَلِكَ ، ولمّا لم يثوجد فيه ذلك ، عَلِمْنَا : أنه لَيْس من عِنْد غَيْر الله؛ قاله ابن عبَّاسٍ .
فإن قيل : أليس أنَّ قوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22- 23 ] كالمناقض لقوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار } [ الأنعام : 103 ] ، وآيات الجِبْرِ كالمناقِضَةِ لآيات القَدَرِ ، وقوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 92 ] كالمناقَضِ لقوله : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } [ الرحمن : 39 ] .
فالجواب أنا بَيَنَّا أنه لا مُنَافَاة ولا مُتَنَاقَضَةَ بَيْن شَيْءٍ مِنْهَا .
الثالث : قال [ أبُو ] مسلم الأصْفَهَانِي : المراد منه عدم الاخْتِلاف في رُتب الفَصَاحَةِ فيه من أوَّله إلى آخره على نَهْج وَاحدٍ ، ومن المَعْلُوم أن الإنْسَان وَإنْ كان في غَايَة البَلاغَة ونهاية الفَصَاحَة ، إذا كَتَبَ كِتَاباً طويلاً مُشْتَمِلاً عَلَى المعاني الكثيرة ، فلا بُدَّ وأن يقع التَّفَاوُت في كَلاَمه ، بحيْث يكون بَعْضُه قريباً مُبَيِّناً وبَعْضُه سَخِيفاً نازلاً .
ولما لم يكُن القُرآن كَذلِك ، علمنا أنه مُعْجِزٌ من عِنْد الله -تعالى- .
والضمير في « فِيه » يُحتمل أن يعودَ على القُرْآن ، وهو الظَّاهِر ، وأن يعُود على ما يُخْبره الله -تعالى- به ممَّا يُبَيِّتُون ويُسِرُّون ، يعني : أنه يُخْبِرُهم به عَلَى حَدٍّ ما يَقَع .
فصل في دلالة الآية
دلت الآية على أن القُرْآن معلوم المَعْنَى ، خلافاً لِمَنْ يَقُول : إنَّه لا يَعْلَم مَعْنَاه إلا النَّبي والإمَام المَعْصُوم؛ [ لأنه ] لو كان كَذَلِك ، لما تَهَيَّأ للمنافقين مَعْرِفة ذلِك بالتَّدَبُّر ، ودلت الآية أيْضاً على إثْبات القياسِ ، وعلى وُجُوب النَّظَرِ والاستِدْلال ، وعلى فَسَاد التَّقْليد ، [ و ] لأنه -تعالى- أمر المُنَافقِين بالاستِدْلال بهذا الدَّليل على صِحَّة نُبُوَّته فيه ، فبأن يَحْتَاج إلى مَعْرِفَة ذَاتِ الله -تعالى- وصِفَاته إلى الاستدْلال أوْلى .
فصل
قال أبو علي الجُبَّائي : دلت الآية على أن أفْعَال العِبَاد [ غَيْر ] مَخْلُوقة لله تعالى لأن قوله -تعالى- : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } يقتضي أن فعل العَبْد لا يَنْفَكُّ عن التَّفَاوُت والاختلاف وفِعْل الله -تعالى- لا يوجد فيه التَّفَاوُت؛ لقوله -تعالى- : { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتِ } [ الملك : 3 ] ، فهذا يَقْتَضِي أن فِعْل العَبْد لا يكُون فِعْلاً على الإطْلاقِ .
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
وهذا نوع آخر من أعْمَال المُنَافِقِين الفَاسِدة ، وذَلِك أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَبْعَث السَّرايا فإذا غَلَبُوا أو غَُلبُوا بَادَرَ المُنَافِقون يستَخْبِرونَ عن حَالِهَم ، فَيُفْشُون ويُحَدِّثُون به قَبْل أنْ يُحْدِّثَ به رسُول الله صلى الله عليه وسلم فَيُضْعِفُون به قُلُوبَ المُؤمِنين ، فأنْزَل الله -تعالى- { وَإِذَا جَآءَهُمْ } يعني : المُنَافِقِين « أمر من الأمن » أي : الفَتْح والغَنِيمَة « أو الخوف » أي : القتل والهزيمَة « أذاعوا به » أشاعُوه وأفشوْه ، وذلك سَبَبٌ للضَّرر من وُجُوهٍ :
أحدها : ان مَثْل هذه الإرْجَافَات لا تنفَكُّ عن الكَذِب .
وثانيها : إن كان ذلك الخَبَر من جَانِبِ الأمْن زَادُوا فيه زِيَادات كَثِيرة ، [ فإذا لَمْ تُوجد تلك الزَّيَادات ، أوْرَث ذلك شُبْهَة للضُّعَفَاءِ في صدق الرَّسول -عليه السلام- ] ؛ لأن المنافِقِين كانوا يروون تلك الإرْجَافَات عن الرسُول ، وإن كان ذَلِك الخَبَر خَوْفاً ، تشوَّشَ المر على ضُعَفَاء المُسْلِمين بسبَبِه ، ووقعوا في الحَيْرَة والاضْطراب ، فكان ذلك سَبَباً للفِتْنَة .
وثالثها : أن العَداوَة الشَّدِيدة كانت قَائِمَةً بين المُسْلِمين وبين الكُفَّار ، فكان كلّ وَاحِد من الفريقين مُجدًّا في إعْداد آلات الحَرْب وانْتِهَاز الفُرْصَة ، فكل ما كان [ أمْناً ] لأحد الفَرِيقَيْن ، كان خَوْفاً للفَريقِ الثَّانِي ، وإن [ وقع خَبر الأمْن للمُسْلِمين ، أرجَفَ بذلك المُنَافِقُون ، فوصل الخَبَر في أسْرَع مُدَّة إلى الكُفَّار؛ فاحارزوا وتحصَّنُوا من المُسْلمين ، وإن ] وَقَعَ خبر الخَوْف للمُسْلِمِين بالَغوا في ذلك وزادوا فيه ، وألْقوا الرُّعب في قُلُوب الضَّعْفَة ، فظهر أن الإرْجَافَ مَنْشَأ الفِتَنِ والآفَاتِ .
قوله : { أَذَاعُواْ بِهِ } : جواب إذا ، وعَيْنُ أذَاعَ ياء؛ لقولهم : ذاع الشَّيء يذِيع ، ويُقال : أذاع الشَّيْء ، أيضاً بمعنى المُجَرَّد ، ويكونُ متعدِّياً بنفسه وبالبَاءِ ، وعليه الآيةُ الكريمة ، وقيل : ضَمَّن « أذاع » مَعْنَى « تَحَدَّثَ » فعدَّاه تعديتَه ، أي : تحدَّثوا به مُذيعين له ، والإذاعة : الإشاعةُ ، قال أبو الأسْوَد : [ الطويل ]
1842- ب- أذَاعُوا بِهِ فِي النَّاسِ حَتَّى كَأنَّهُ ... بِعَلْيَاءَ نَارٌ أوقِدَتْ بِثُقُوبِ
والضَّمِيرُ في « به » يجُوزُ أن يعودَ على الأمْر ، وأن يعُودَ على الأمن أو الخَوْفِ؛ لأنَّ العَطْفَ ب « أو » والضَّميرُ في « رَدُّوهُ » للأمْر .
قوله : « لو ردوه » أي الأمْر ، « إلى الرسول » أي : [ لَمْ ] يحدِّثوا به حَتَّى يكُون النَّبي صلى الله عليه وسلم هو الذِي يُحدِّث به ، و « إلى أولي الأمر [ منهم ] » أي : ذَوِي الرأي من الصَّحَابة؛ مثل أبي بكْر وعُمر وعُثْمَان وعلي ، وقيل : أمَرَاء السَّرَايا؛ لأنَّهم الَّذِين لَهُم أمر على النَّاس ، وأهل العِلْم لَيْسوا كذلِك .
وأجيب عن هَذَا : بأن العُلَمَاء يجبُ على غَيْرِهم قُبُول قولِهِم؛ لقوله -تعالى- : { لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [ التوبة : 122 ] فأوجب الحَذَر بإنْذَارِهِم ، وألزَم المُنْذرين قُبُول قولهم ، فجاز لهذا المَعْنَى إطْلاق اسم أولي الأمْرِ عَلَيهم .
قوله : { لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } أي : يستخْرِجُونه ، وهُم العُلَماء عَلِمُوا ما يَنْبَغِي أنْ يُكْتَم ، وما يَنْبَغِي أن يُفْشَى ، والاسْتِنْبَاط في اللُّغَةِ : الاستِخْراج ، وكذا « الإنباط » يقال : استَنْبَطَ الفَقِيهُ : إذا استَخْرَجَ الفِقْهَ البَاطِنَ باجْتِهَادِهِ وفهمه ، وأصله من النّبط وهو الماءُ الذي يَخْرج من البَئْرِ أوّلَ حَفْرها قال : [ الطويل ]
1843- نَعَمْ صَادِقاً والفَاعِلُ القَائِلُ الذي ... إذَا قَالَ قَوْلاً أنْبَطَ المَاءَ في الثَّرَى
ويقال : نَبَطَ المَاءُ يَنْبطُ بفتحِ البَاءِ وضمها .
والنبط أيضاً : جِيلٌ من الناس سُمُّوا بذلك؛ لأنهم يستخرجون المياه والنبات . ويقال في الرَّجُل الذي يكُونَ بعيد العِزِّ والمنعة : « ما يجِدُ عَدُوُّه لَهُ نَبَطاً » . قال كَعْبٌ : [ الطويل ]
1844- قَرِيبٌ ثَرَاهُ مَا يَنَالُ عَدُوُّهُ ... لَهُ نَبَطاً ، آبِي الْهَوَانِ قَطُوبُ
و « منهم » حَالٌ : إمَّا من الَّذِين ، أو من الضَّمير في « يَسْتَنْبِطُونه » فيتعلق بمَحْذُوفٍ .
وقرأ أبو السَّمال : « لَعَلْمه » بسُكُون اللام ، قال ابن عَطِيَّة : هو كتَسْكِين { فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } [ النساء : 65 ] وليس مِثْله؛ لأنَّ تسْكِين فعل بكَسْر العين مَقِيسٌ ، وتسكينَ مَفْتُوحها شاذٌّ؛ ومثلُ تسكين « لَعَلْمَهُ » قوله : [ الطويل ]
1845- فَإنْ تَبْلُهُ يَضْجَرْ كَمَا ضَجْرَ بَازِلٌ ... مِنَ الأدمِ دَبْرَتْ صَفْحَتَاهُ وغَارِبُهْ
أي : دَبِرت ، فِسَكَّن .
فصل معنى « يستنبطونه »
[ قيل المراد ب « يستنبطونه » : يَسْتَخْرِجونَهُ ، وقال عِكْرمة : يَحْرِصُون عليه ويسألون عنه ] ، وقال الضَّحَّاك : يتتبّعونه ، يريد : الذين سَمِعُوا تلك الأخْبَار من المُؤمنين والمُنَافِقين ، لو رَدُّوه إلى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وإلى ذَوِي الرَّأي والعِلْم ، لعلمه الذين يَسْتَنْبِطُونه ، أي : يُحِبون أي يَعْلَمُوه على حَقِيقَتِهِ كما هُو .
وقيل : المُراد ب « الذين يستنبوطه » أولئك المُنَافِقُون المُذِيعُونَ ، والتقدير : ولو أن هؤلاء المُنَافِقِين المُذِيعِينَ رَدُّوا أمر الأمْنِ والخَوْف إلى الرَّسُول وإلى أولي الأمْر ، وطلبوا مَعْرِفَة الحَالِ [ فيه ] من جهتِهم ، لعلمه الَّذين يستَنْبِطُونه مِنْهُم و [ هم ] هؤلاء المُنَافِقُون المُذِيعُون منهم ، أي : من جَانب أولي الأمْر [ منهم ] .
فإن قِيلَ : إذا كَان الَّذين أمَرَهُم الله -تعالى- برد هذه الأخْبَارِ إلى الرَّسُول وإلى أولي [ الأمر مِنْهُم وهم المُنَافِقُون ، فكَيف جَعَل أولي الأمْر منهم في قوله : { وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ } .
الجواب : إنما جَعَل أولي ] الأمْر مِنْهُم على حَسَب الظَّاهِر؛ لأن المُنَافِقين يظْهِرُون من أنفسهم أنَّهم مؤمِنُون ، ونَظِيرُه : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ } [ النساء : 72 ] وقوله : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [ النساء : 66 ] .
قوله : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً }
قال أبو العَباس [ المُقْرِئ ] : وَرَدَت الرَّحْمَة [ في القُرْآن ] عَلَى سَبْعَة أوجه :
الأوّل : القُرْآن ، قال -تعالى- : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } أراد بالفَضْلِ الإسْلام ، وبالرَّحْمَة القُرْآن .
الثاني : بمعنى الإسْلام؛ قال -تعالى- : { يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ } [ الإنسان : 31 ] أي : في الإسلام [ ومثله { ولكن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ } [ الشورى : 8 ] أي : في دين الإسلام ] .
الثالث : [ بمعنى ] : الجنة؛ قال -تعالى- : { أولئك يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي }
[ العنكبوت : 23 ] أي : من جَنَّتِي .
الرَّابع : المَطَر؛ قال -تعالى- : { يُرْسِلُ الرياح بُشْرًى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } [ الأعراف : 57 ، النمل : 63 ] .
الخامس : النِّعمة؛ قال -تعالى- : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } .
السادس : النبوة؛ قال -تعالى- : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } [ الزخرف : 32 ] ، أي : النُّبُوَّة .
السابع : الرِّزْق؛ قال -تعالى- : { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } [ فاطر : 2 ] : من الرِّزْقِ؛ ومثله { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا } [ الإسراء : 28 ] أي : رِزْقاً .
فصل
اعلم : أن ظَاهِر هذا الاسْتِثْنَاء يوهِمُ أنَّ ذلك القليل وَقَع لا بِفَضْل الله ولا بِرَحْمَتِه ، وذلك محال .
قوله : « إلا قليلاً » ذكر المفسَِّرُونَ فيها عشرة أوجه :
الأول : قال بعضهم : إنه مُسْتَثْنَى من فَاعِل « اتبعتم » أي : لاتَّبعتم الشيطان إلا قليلاً منكم ، فإنه لم يتَّبع الشَّيْطَان ، على تقدِير كَوْن فَضْل الله لم يأته ، ويكونُ أرادَ بفضل الله الإسلام وإرسَالَ محمَّد صلى الله عليه وسلم ، ويكون قوله : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان } كلام تامٌّ ، [ وذلك القَلِيلُ؛ كقِسٍّ بن سَاعِدة الإيَادِي ، وزَيْد بن عَمْرو بن نُفَيْل ، وورقة بن نوفل ، وجماعة سِوَاهم مِمَّن كان على دِين المَسِيحِ قَبل بَعْثَةِ الرسول ] .
وقال أبو مُسْلم : المراج بِفَضْل الله ورحمته في هذه الآية : هو نُصْرتهُ ومعُونتهُ اللَّذان تمنَّاهُما المُنَافِقُون؛ بقولهم : { فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً } [ النساء : 73 ] بيَّن -تعالى- أنّضه لولا حُصُول النَّصْر والظّفَرِ على سبيل التَّتَابُع ، لاتَّبَعْتُم الشَّيْطَان وتركتم الدين إلاَّ قليلاً مِنْكُم ، وهم أهْل البَصَائِر النَّافِذة ، والنِّيَّات القويَّة ، والعَزَائم المُتَمكِّنَةِ من أفَاضِل المُؤمِنِين ، الذين يَعْلَمُون أنه لَيْس من شَرْطِ كونه حَقّاً هو الدَّوْلَة في الدُّنْيَا ، فلأجل تَوَاتُر الفَتْح والظَّفر في الدُّنْيَا يدل على كَوْنه حَقاً؛ ولأجل تواتر الهَزِيمَة والانكِسَار يدلُّ على كونه بَاطِلاً ، بل الأمْر في كونه حَقاً وباطلاً على الدَّلِيل ، وهو أحْسَن الوُجُوه .
[ وقيل : المُرَادُ مَنْ مَنْ لم يَبْلغ التكْلِيف ، وعلى ذها التَّأويل قيل : فالاستثْنَاء مُنْقَطِع؛ لأن المُسْتَثْنَى لم يَدْخُل تحت الخِطَاب ، وفيه نظر يظهر في الوَجْهِ العَاشِر .
الثاني : أنه مُسْتَثْنى من فَاعِل « عَلِمه » أي : لعلمه المُسْتَنْبِطُون منهم إلا قَلِيلاً ] .
قال الفرَّاء والمبرد : [ وأما ] القَوْل بأنَّه مستَثْنى من فاعل « أذاعوا » أوْلى من هَذَا؛ لأن ما يُعْلَم بالاسْتِنْبَاطِ؛ فالأقلُّ يعلمُه والأكْثَر يجهله ، وصرف الاسْتشثْنَاء إلى المسْتَنْبِطِين يَقْتَضِي ضِدَّ ذَلِك .
قال الزَّجَّاج : هذا غَلَطٌ؛ لأنه لَيْسَ المراد من هَذَا الاستِثْنَاء شيئاً يَسْتَخْرِجُه بنظر دَقيق وفكْرٍ غَمِضٍ ، إنما هو اسْتِنْبَاط خَبَر ، وإذا كَانَ كَذَلِك فالأكثرون يَعْرِفُونه إنَّما البالغ في البَلاَدة والجَهَالة هُو الَّذي لا يَعْرِفُه ، ويمكن أن يُقَال : كلام الزَّجَّاج إنما يَصِحُّ لو حَمَلْنا الاسْتِنْبَاطَ على مُجَرَّد تعرُّف الأخْبَارِ والأرَاجِيف ، [ أمَّا ] إذا حملناه على الاسْتِنْبَاطِ في جَميع الأحْكَام ، كان الحَقُّ ما ذكره الفَرَّاء والمُبرِّد .
الرابع : أنه مُسْتَثْنَى من فاعل « لوجدوا » أي : لوجدوا فيما هَو من عِنْد غير الله التناقض إلا قليلاً مِنْهُم ، وهو مَنْ لم يُمْعِنِ النَّظَرَ ، فيظنُّ البَاطِلَ حقاً والمتناقضَ مُوَافِقاً .
الخامس : أنه مُسْتَثْنى من الضَّمِير المَجْرُور في « عَلَيْكُم » ، وتأويلُه كتأويل الوَجْه الأول .
السادس : أنه مُسْتَثْنى من فاعل « يستنبطونه » ، وتأويله كتأويل الوجه الثَّالث .
السابع : أنه مُسْتَثْنَى من المَصْدَر الدالّ عليه الفعْلُ ، والتقدير : لاتَّبَعْتُم الشيطانَ إلا اتِّباعاً قليلاً؛ ذكر ذلك الزَّمَخْشَري .
الثَّامن : أنه مُسْتَثْنَى من المتَّبع فيه ، والتقدير : لاتَّبَعْتُم الشيطانَ إلا اتِّباعاً قليلاً؛ ذكر ذلك الزَّمَخْشَري .
الثَّامن : أنه مُسْتَثْنَى من المتَّبع فيه ، والتقدير : لاتبعتم الشَّيْطَان كلكم إلا قليلاً من الأمُور كُنْتم لا تتَّبِعُون الشًّيْطَان فيها ، فالمعنى : لاتبعتم الشَّيْطان في كل شَيْء إلا في قَليلٍ من الأمُور ، فإنكم كُنْتُم لا تتَّبِعُونه فيها ، وعلى هَذَا فهو استِثْناء مفرَّغ؛ ذكر ذلك ابن عَطِيَّة ، إلا أنَّ في كلامه مناقشةً : وهو أنَّه قال « أي : لاتَّبعتُم الشَّيْطَان كلّكم إلا قَلِيلاً من الأمور كنتم لا تتبعون الشيطان فيها » ، فجعله هنا مُسْتَثْنَى من المتَّبعِ فيه المَحْذُوف على ما تَقَدَّم تقريره ، وكان تَقَدَّم أنه مُسْتَثْنى من الاتِّباع ، فتقديره يؤدِّي إلى اسْتِثْنَائِه من المتَّبَع فيه ، وادِّعاؤه أنه استثنَاء من الاتباع ، وهما غيران .
التاسع : أن المُرَاد بالقلة العدمُ ، يريد : لاتَّبعْتُم الشَّيْطان كلكم وعدمَ تخلُّفِ أحَدٍ منكم؛ نقله ابن عطية عن جَمَاعةٍ وعن الطَّبِري ، ورَدَّه بأن اقْتِران القِلَّة بالاسْتِثْنَاء يقتضي دُخُولَها؛ قال : « وهذا كَلاَمٌ قَلِقٌ ولا يشبه ما حَكَى سيبَويْه من قَوْلِهِم : » هذه أرضٌ قَلَّ ما تُنْبِتُ كذا « أي : لا تُنْبِتُ شيئاً » .
وهذا الذي قاله صَحيحٌ ، إلا أنه كان تَقَدَّم له في البَقَرَةِ في قوله -تعالى- : { بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 88 ] أن التَّقْليل هنا بِمَعْنَى العدم ، وتقدَّم الردُّ عليه هُنَاك ، فَتَنَبَّهَ لهذا المَعْنَى هُنَا ولم ينتبه له هناك .
العاشر : أن المُخَاطب بقوله : « لاتبعتم » جميعُ النَّاس على العُمُوم ، والمُرَادُ بالقَلِيل : أمةُ محمَّد صلى الله عليه وسلم خاصةً ، وأيَّد صَاحِبُ هذا القَوْلِ قوله بقوله -عليه السلام- : « ما أنْتُم في سِوَاكُم من الأمَمِ إلاَّ كالرَّقْمَة البَيْضاء في الثَّور الأسود » .
فصل دلالة الآية على حجية القياس
دلت هذه الآية على أنَّ القياس حُجَّة؛ لأن قوله : { الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } صفة لأولي الأمْر ، وقد أوْجَبَ الله على الذين يجيئُهُم أمْرَيْن : الأمن ، أو الخوف أن يَرْجَعُوا في مَعْرِفَتِه إليهم ولا يَخْلُو إمَّا أن يَرْجِعُوا إليهم في مَعْرِفَة هذه الوَقَائِع مع حُصُول النَّصِّ فيها أوْ لا ، والأوَّل باطل؛ لأن من استدلَّ بالنَّصِّ في واقِعَةٍ لا يُقَال : إنه استنبط الحكم؛ فثبت أنه - تعالى- أمَر المكَلَّف بِرَدِّ الوَقِعة إلى من يَسْتَنْبِط الحُكْم فيها ، ولَوْلاَ أن الاسْتِنبَاط حُجَّة ، لما أمَر المُكَلَّف بذلك؛ فَثَبَت أن الاستِنْبَاط حُجَّة ، وإذا ثبت ذلك فَنَقُول : دلت الآيَةُ على أمُورٍ :
منها : أن في الأحْكَام ما لا يُعْرَف بالنَّصِّ ، بل بالاستِنْبَاطِ .
ومنها : أنَّ الاستنباط حُجَّة .
ومنها : أن العَامِيِّ يجِب عليه تَقْلِيد العُلَمَاء في أحْكَام الحَوَادِث .
ومنها : أن النَّبِي- عليه الصلاة والسلام- كان مُكَلَّفاً باستِنْبَاط الأحْكَام؛ لأن الله - تعالى- أمَر بالرَّدِّ إلى أولي الأمْرِ ، ثم قال : { لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } ولم يخصّص أولي الأمْر دون الرَّسُول ، وذلك يُوجِب الرَّسُول وأولي الأمْر كلهم مُكَلَّفُون بالاسْتِنْبَاط .
فإن قيل : لا نُسَلَّم أن المراد ب { الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } أولي الأمْر ، لكن هذه الآيَة إنَّما نزلت في بَيَان الوَقَائِع المُتَعَلِّقة بالحُرُوب والجِهَاد ، فهَبْ أن الرُّجُوع إلى الاستنبَاط جَائِزٌ فيها ، فَلِمَ قُلْتُم بجوازِه في الوَقَائِع الشَّرْعِيَّة؛ فإن قِيْسَ أحد البَابَيْن على الآخَر ، كان ذَلِك إثْبَاتاً للقِيَاس الشَّرْعِيِّ بالقِياس ، وأنَّه لا يجُوز أن الاسْتِنْبَاط في الأحْكَام الشَّرْعِيَّة داخل تحت الآية فلمَّا قُلْتُم يلزم أن يُكون القِيَاس حُجَّة ، فإنَّه يمكنُ أن يكُون المُرادَ بالاسْتِنْبَاط : استخراج الأحْكَام من النُّصُوص الخَفِيَّة ، أو مِنْ تركيبَات النُّصوصِ ، أو المراد منه استخراج الأحكام من البَرَاءة ، الأصليَّة ، أو مما ثَبَت بحكم العَقْلِ ، كما يقول الأكَثُرون إن الأصْل في المَنَافِع الإبَاحَة ، وفي المَضَارِّ الحُرْمَة .
سلمنا أنَّ القِيَاس الشَّرْعِي داخلٌ في الآية ، لكن بِشَرْط أن يكون القياسُ مُفِيداً للعِلْم؛ لقوله - تعالى- : { لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } . فاعتبر حُصُول العِلْم من هذا الاستِنْبَاط ، ونِزَاع في مثل هذا القِيَاس ، إنما النِّزاع في القِياس الَّذِي يفيد الظَّنَّ : هل هو حُجَّة في الشرع ، أمْ لا .
والجواب : أمَّا الأوَّل فلا يصح؛ لأنَّه يَصِيرُ التقدير : أو رَدُّوه إلى الرَّسُول وَإلى أولِي الأمْر مِنْهُم لَعَلِمُوه ، وعَطْف المظهر على المُضْمَر ، وهو قوله : « ولو ردوه » قَبِيح مستكره .
وأما الثَّاني فَمَدْفُوع من وَجْهَيْن :
أحدهما : أن قوله : { وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمن أَوِ الخوف } حاصل في كل ما يتعلَّق بباب التَّكْلِيف ، فَلَيْس في الآيَة ما يوجِبُ تَخْصِيصها بأمر الحُرُوبِ .
وثانيها : هَبْ أن الأمْر كما ذكرْتم ، لكن لمَّا ثَبَت تَعَرُّف أحْكَام الحروب بالقِيَاس الشَّرْعِي ، وجب أن يتمسَّك بالقِيَاس الشَّرْعِيِّ في سَائِر لوَقَائِع ، لأنه لا قائل بالفَرْق .
وأما الثَّالث : وهو حَمْل الاستِنْبَاط على اسْتِخْرَاج النُّصُوص الخَفِيَّة أو على تَرْكيبات النُّصوص الخَفِيَّة أو على تَرْكِيبات النُّصُوص ، فكلُّ ذلك لا يُخْرِجُه عن كونه مَنْصُوصاً ، والتَّمَسُّك بالنَّصِّ لا يُسَمَّى استِنْبَاطاً .
وأما قوله : لا يجوزُ حَملُه على التَّمسُّكِ بالبَرَاءة الأصْلِيَّة .
قلنا : لَيْسَ هذا استِنْبَاطاً ، بل هذا إبقاء لما كان على ما كان ، ومثل هذا لا يُسَمَّى استِنْبَاطاً .
وأما الرابع : وهو أن هذا الاستِنْبَاط إنَّما يجُوز عند حُصُول العِلْم ، والقياس الشَّرْعِيِّ لا يفيد العِلْم .
فنقول : جوابُه من وجهين :
أحدُهُما : أنَّه عندنا يُفِيدُ العِلْم؛ أن ثُبُوت إن القِيَاسَ حجَّة يقطع بأنَّه مهما غَلَب على الظَّنِّ أنَّ حُكْم الله في الأصْل معلَّل بكذا ، ثمَّ غَلَب على الظَّنِّ أنَّ ذلك المَعْنَى قَائِمٌ في الفَرْع ، فهنا يحصل ظنُّ أنَّ حُكم الله في الفَرْعِ مُسَاوٍ لحُكْمِه في الأصْل ، وعند هذا الظَّنِّ يُقْطَع بأنَّه مكَلَّفٌ بأن يعمل على وَفْق هذا الظَّنِّ؛ فالحاصل : أن الظَّنَّ واقع في طَرِيق الحُكْم ، وأما الحُكْمُ فمقطوع به ، وهو يجري مَجْرَى ما إذا قَالَ الله - تعالى- : مهما غَلَب عَلى ظنِّك كذَا ، فاعلم أنَّ حُكْمِي في الوَاقِعَة كذا ، فإذا غَلَب الظَّنُّ قَطَعْنَا بثُبُوت ذلك الحُكْمِ .
وثانيهما : أن العِلْم قد يُطْلَق ويراد به الظَّنَّ؛ وقال - عليه الصلاة والسلام- : « إذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فاشْهَد » شَرَطَ العِلْمَ في جواز الشَّهَادَةِ ، وأجْمَعْنَا على أنَّ عند الظَّنِّ تُجُوزُ الشَّهَادة؛ فثبت أنَّ الظَّنِّ قد يُسَمَّى بالعِلْمِ .
فصل في رد شبهة للمعتزلة
دلَّت [ هذه ] الآية على أنَّ الذين اتَّبعوا الشَّيْطَان ، قد مَنَعَهُم الله فَضْلَه ورحمته وإلا ما كان يتبع ، وهذا يَدُلُّ على فَسَادِ قول المُعْتَزِلَة : في أنَّه يجب على الله رعاية الصْلَحِ في الدِّين . أجابُوا : بأن فَضْلَ اللهِ ورَحْمَتَه [ عامَّات في حق الكُلِّ ، لكن المُؤمِنين انْتَفَعُوا به ، والكَافِرِين لم ينْتَفِعُوا به فَصَحَّ عَلَى سبيل المجاز أنه لم يَحْصًل للكَافِرين فَضْل الله ورَحْمَته ] في الدِّين .
والجواب : أن حَمْل الَّفظ على المَجَاز خِلاف الأصْل .
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)
قوله- تعالى- : « فقاتل » : في هذه الفَاءِ خَمْسَةُ أوجه :
أحدها : أنَّها عاطفةٌ هذه الجُمْلَة على جُمْلة قوله : { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله } [ النساء : 74 ] .
الثاني : أنها عاطفتها على جُمْلَةِ قوله : { فقاتلوا أَوْلِيَاءَ الشيطان } [ النساء : 76 ] .
الثالث : أنَّها عاطِفتُها على جُمْلَة قوله : { وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ } [ النساء : 75 ] .
الرابع : أنها عاطفتها على جملة قوله : { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } [ النساء : 74 ] .
الخامس : أنها جوابُ شرط مُقَدَّر ، أي : إنْ أرَدْت فقاتل ، وأولُ هذه الأقْوَال هو الأظْهَر .
فصل
لما أمر بالجِهَاد في الآيات المُتقدِّمة ورغب فيه ، وذكر قِلَّة رغبة المُنَافِقِين في الجِهَاد ، عاد [ إلى ] الأمْر بالجِهَاد في هَذِه الآية .
قوله : { لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ } في هذه الجُمْلَة قولان :
أحدهما : أنها في محلِّ نَصْب على الحَالِ من فاعل « فقاتِلْ » أي : فقاتِلْ غير مُكّلِّفٍ إلا نَفْسُك وحدها .
والثاني : أنها مُسْتأنفة أخْبَرَه- تعالى- أنه لا يكلِّف غَيْرَ نَفْسِه .
والجمهور على « تُكَلَّفُ » بِتَاء الخِطَاب ورفْع الفعل مبنيّاً للمفعُول ، و « نفسك » هو المفعُول الثاني ، وقرأ عبد الله بن عُمَر : « لا تُكَلِّفْ » كالجَمَاعة إلا أنه جزمه ، فقيل : على جَواب الأمْرِ ، وفيه نظرٌ ، والذي يَنْبَغِي أن يكُون نَهْيَاً ، وهي جملة مُسْتأنفة ، ولا يجُوز أن تكون حَالاً في قراءة عبد الله؛ لأنَّ الطَّلَب لا يكون حالاً ، وقرئ « لا نكلف » بنُون العَظَمَة ورفع الفِعْل ، وهو يَحْتَمِل الحال والاستئنَاف المُتقدِّمَيْن .
فصل في سبب نزول الآية
روي أن رسُول الله صلى الله عليه وسلم واعد أبا سُفيان بعد حَرْب أحد موسم بدر الصُّغْرى في ذِي القَعْدَة ، فلما بلغ المِيعَاد دعَا النَّاس إلى الخُرُوج فكرهه بَعْضُهُم؛ فأنزل الله : { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لاَ تُكَلَّفُ } أي : لا تَدَع جِهَاد العَدُوِّ ولو ودك ، فإن الله قد وعدك بالنُّصْرة ، و { حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال } [ الأنفال : 65 ] أي : حثَّهُم ورغَّبْهم في الثَّواب ، فَخَرَج رسُول الله صلى الله عليه وسلم في سَبْعِين رَاكِباً فَكَفَاهُم الله القِتَالَ .
والتَّحْرِيض : الحَثُّ على الشيءِ ، قال الرَّاغِب : كأنه في الأصْل إزالةُ الحَرَض ، نحو : « قَذَيْتُه » أي : أزَلْت قَذَّاهُ وأحْرَضْتُه : أفسَدْتُه كأقذيته ، أي : جَعَلْتُ فيه القَذَى ، والحَرَضُ في الأصْل : ما لا يُعْتَدُّ به ولا خَيْر فيه ، ولذلك يقال للمُشْرِف على الهَلاكِ؛ « حَرَض » ؛ قال - تعالى- : { حتى تَكُونَ حَرَضاً } [ يوسف : 85 ] وأحرصه كذا ، قال : [ البسيط ]
1846- إنِّي امْرؤٌ هَمٌّ فأحْرَضَنِي ... حَتَّى بلِيتُ وَحَتَّى شَفَّنِي السَّقَمُ
فصل
دلَّت الآية على أنَّه لو لم يُساعده على القِتَالِ غيره ، لم يجز له التَّخَلُّفُ عن الجِهَادِ ألْبَتَّة ، والمعنى : لا تؤاخذ [ إلا ] بفعلك دون فِعْل غَيْرِك ، فإذا أدَّيْت فرضك لا تُكَلِّف بِفَرْض غَيْرِك ، واعْلَم : أنَّ الجِهَاد في حَقِّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم واجِبٌ ، فإنه على ثِقَة من النَّصْر والظَّفْرِ؛ لقوله - [ تعالى ] - :
{ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } [ المائدة : 67 ] ، وقوله هَهُنَا : { والله أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً } وعسى من الله : جَزْمٌ وَاجِبٌ فلزمه الجِهَاد وإن كان وحده بِخِلاف أمَّته ، فإنه فَرْضُ كِفَايَة ، فما لَمْ يَغْلِب على الظَّنِّ أنه يُفيد ، لم يَجِبْ .
وقوله : { عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ } أي : قِتَال المُشْركين والبَأس أصله المكرُوه ، يقال : ما عَلَيْكَ من هذا الأمْر بَأسٌ ، أي : مَكْرُوه ، ويقال : والعَذَاب قد يُسَمَّى بأساً؛ لكونه مَكْرُوهَاً؛ قال - تعالى- : { فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَآءَنَا } [ غافر : 29 ] ، { فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ } [ الأنبياء : 12 ] { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [ غافر : 84 ]
قوله : { والله أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً } « بأساً و » تنكيلاً « : تمييز ، والتَّنْكِيل تفعيل من النَّكْل وهو القَيْد ، ثم اسْتُعْمِل في كُلِّ عذاب يقال : نَكَلْت فُلاناً؛ إذا عَاقَبْتُه عقوبَةً تَنْكِيل غَيْره عن ارتِكَابِ مِثْله ، من قَوْلِهِم : نَكَل الرَّجُل عن الشَّيءِ ، إذا جَبُن عَنْه وامْتَنَع منه؛ يُقَال : نَكَلَ فلان عن اليَمين؛ إذا خَافَه ولم يُقْدِم عَلَيْه ، قال - تعالى- : { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا } [ البقرة : 66 ] وقال في حَدِّ السَّرقَة : { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله } [ المائدة : 38 ] ، فقوله : { والله أَشَدُّ بَأْساً } أي : أشد صَوْلَةً وأعظم سُلْطَاناً ، يَدُوم ، وعذاب الله لا يَقْدِر أحدٌ على التَّخَلُّص مِنْهُ ، وعذاب غَيْره يتخلَّص مِنْه .
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
في تعلُّق هذه الآية بما قَبْلَها وجوه :
أحدها : أنه - تعالى- لمَّا أمَر الرَّسُول - [ عليه الصلاة والسلام ] - بأن يحرَّض الأمَّة على الجِهَاد ، وهو طاعَةٌ حَسَنةٌ ، بيَّن في هذه الآية أنَّ من يَشْفَع شَفَاعَة حَسَنَة يَكُنْ له نَصِيبٌ مِنْهَا ، والغَرَض مِنْه : أنه - عليه الصلاة والسلام- يستَحِقُّ بالتَّحْرِيضِ على الجِهَاد أجْراً عَظِيماً .
وثانيها : أنه - عليه الصلاة والسلام- كان يوصِيهم بالقِتَال ، ويبالِغُ في تَحْرِيضهم عليه ، فكان بَعْضُ المُنَافِقِين يَشْفَع إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم في أن يأذَن لَهُم في التَّخَلُّف عن الغَزْوِ ، مَعْصِيَةٍ ، كانت مُحَرَّمَة .
وثالِثُها : أنَّه يجُوز أن يَكُون بعض المُؤمِنين راغباً في الجِهَاد ، ولا يَجِد أهْبَة الجِهاد ، فصار غَيْرُهُ من المُؤمِنين شَفِيعاً له إلى مُؤمِنٍ آخر؛ ليعيِنه على الجِهَاد ، وهو طاعَةٌ حَسَنةٌ ، بيَّن في هذه الآية انَّ من يَشْفَع شَفَاعة حَسَنَة يَكُنْ له نَصِيبٌ مِنْها ، والغَرَض مِنْه : أنه -عليه الصلاة والسلام- يستَحِقُّ بالتَّحْرِيضِ على الجِهَاد أجْراً عَظِيماً .
وثانيها : أنه -عليه الصلاة والسلام- كان يوصِيهم بالقِتَال ، ويبالِغُ في تَحْرِيضهم عليه ، فكان بَعْضُ المُنَافِقِين يَشْفَع إلى النَّبِي صلى الله عليه وسلم في أن يأذَن لَهُم في التَّخَلُّف عن الغَزْوِ ، فنهى [ الله ] عن مثل هَذِه الشَّفَاعَة ، وبيَّن أن [ هَذِه ] الشَّفاعة إذا كَانَت وَسِيلَة إلى مَعْصِيَةٍ ، كانت مُحَرَّمَة .
وثالِثُها : أنَّه يجُوز أن يَكُون بعض المُؤمنِين راغباً في الجِهَاد ، والشَّفَاعَة مأخُوذَةٌ من الشَّفْع وهو الزَّوْج من العَدَد ، ومنه الشَّفِيع ، [ وهو ] أن يَصِير الإنْسَان [ نفسه ] شَفْعاً لِصَاحب الحَاجَة؛ حتى يجْتَمِع معه على المسألة فِيهَا ، [ ومنه نَاقَةٌ شَفُوعٌ : إذا جمعت بين مِحْلَبَيْن في حَلبةٍ واحدةٍ ، وناقة شَفِيعٌ : إذا اجْتَمع لها حَمْلٌ وولَدٌ يَتْبَعُها ، والشُّفْعَةُ : ضم مِلْكِ الشَّريك إلى ملكك ، والشَّفَاعة إذا ضَمَّ غَيْرك إلى جاهك ، فهي على التَّحقِيق إظهار لمنزلة الشَّفِيع عند المُشْفِّع ، وإيصَال المَنْفَعَة إلى المَشْفُوع له ] فيكون المُرَادُ : تَحْرِيض النَّبِيِّ -عليه الصلاة والسلام- إيَّاهم على الجِهَاد؛ لأنه إذا أمَرهُم بالغدو ، فقد جَعَل نَفْسَهُ شَفْعاً في تَحْصِيل الأغْرَاضِ المتعلِّقةِ بالجِهَادِ ، والتَّحْرِيض على الشَّيءِ عبارة عن الأمر به على وجْه الرِّفْقِ والتَّلَطُّفِ ، وذلك يَجْرِي مُجْرَى الشَّفَاعة .
وقي : المُرَاد ما تَقَدَّم من شفاعة بَعْض المُنَافِقِين النَّبِيَّ -عليه الصلاة والسلام- في أن يَأذن لِبَعْضِهِم في التَّخَلُّف .
ونقل الوَاحِديُّ عن ابن عبَّاس؛ ما معناه : أن الشَّفَاعة الحَسَنَة هَهُنا ، وهي أن يَشْفَع إيمانهُ بالله بقِتَال الكُفَّار ، والشفاعة السَّيِّئَة : أن يَشْفَع كفره بِمُوالاَةِ الكُفَّار ، وقيل : الشَّفَاعة الحَسَنَة : ما تقدَّم في أن يَشْفَع مؤمِنٌ لمؤمِنٍ [ عند مُؤمِنٍ ] آخَرِ؛ في أن يُحَصَّلَ له آلات الجِهَاد ، ورُوي عن ابن عبَّاس؛ أن الشفاعة الحَسَنة [ هي الإصلاح بين النَّاس ، والشَّفَاعة السَّيِّئة ، هي النَّمِيمة بين النَّاسِ .
وقيل ] : هي حُسْنُ القول في النَّاسِ يُنَال به الثَّوَاب والخير ، والسَّيِّئَة هي الغَيْبة والقَوْل السيئ في النَّاسِ يُنَال به الشَّرُّ .
والمراد بالكفل : الوِزْر .
قال الحَسَن مُجَاهِد والكَلْبي وابن زَيْدٍ : المراد شَفَاعة النَّاسِ بَعْضهم لِبَعْض ، فإن كان في ما يَجُوز ، فهو شَفَاعة حَسَنَة ، وإن كان فِيمَا لا يجُوز ، فهو شَفَاعَة سَيِّئَة .
قال ابن الخَطيب : هذه الشَّفَاعة لا بُدَّ وأن يكُون لها تَعَلُّقٌ بالجِهَاد ، وإلاَّ صَارَت الآية مُنْقَطِعَةِ عما قَبْلَهَا ، فإن أرَادُوا دُخُول هذه الوُجُوهِ في اللَّفْظِ العَامِ فيجوز؛ لأن خُصوص السَّبَبِ لا يَقْدَح في عُمُوم اللَّفْظِ .
« والكفل » : النَّصِيب ، إلا أنَّ استعماله في الشَّرِّ أكثرن عكس النصيب ، وأنْ كان قد استُعْمِل الكِفْلُ في الخَيْرِ ، قال تعالى : { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } [ الحديد : 28 ] وأصلُه قالوا : مُسْتَعَارٌ مِنْ كِفْلِ البَعير ، وهو كساء يُدَارُ حَوْلَ سِنَامِهِ ليُرْكَبَ ، سُمِّي بِذَلِك؛ لأنَّه لم يَعُمَّ ظهرهَ كُلَّه بل نَصِيباً منه ، ولغلبةِ استِعْمَالِه في الشَّرِّ ، واستعمال النَّصِيب في الخير ، غاير بَيْنَهُمَا في هذه الآيَة الكَريمة؛ إذ أتى بالكِفْل مع السَّيِّئَة ، والنَّصِيب مع الحَسَنة ، و « منها » الظَّاهِر أن « مِنْ » هنا سَببيَّة ، أي : كِفْلٌ بِسَبِبها [ ونَصِيب بسبِبها ] ، ويجُوز أن تكُون ابتدائِيةٌ ، والمُقِيت : المُقْتَدَر [ قال : ابن عباس : مقتدراً مجازياً ] ، قال : [ الوافر ]
1847- وَذِي ضِغْنٍ كَفَفْتُ الْوُدَّ عَنْهُ ... وَكُنْتُ عَلَى إسَاءَتِهِ مٌقِيتًا
أي : مقتدراًن ومنه : [ الخفيف ]
1848- لَيْتَ شِعْرِي وأشْعُرَنَّ إذَا مَا ... قَرَّبُوهَا مَنْشُورَةً وَدُعِيتُ
ألِيَ الْفَضْلُ أمْ عَلَيَّ إذَا حُو ... سِبْتُ « أنَّي عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ
وأنشد نَضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ : [ الطويل ]
1849- تَجَلَّد ولا تَعْجَزْ وَكُنْ ذَا حَفِيظَةٍ ... فَإنِّي عَلَى مَا سَاءَهُمْ لَمُقِيتُ
قال النَّحَّاس : » هو مُشْتَقٌ من القُوتِ ، وهو مِقْدَارُ ما يَحْفَظ به بَدَنُ الإنْسَانِ من الهَلاَك « فأصل مُقيت : مُقْوِت كَمُقِيم .
[ و ] يقال : قُتُّ الرَّجُلَ؛ إذا حَفِظْتَ عليه نَفْسهُ » وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقيت « وفي رواية من رَوَاه هَكَذَا ، أي : مَن هو تَحْت قُدْرَته وفي قَبْضَتِه من عِيَالٍ وغيره؛ ذكره ابن عَطِيَّة : يقول : [ منه : قُتُّهُ ] أقوته قُوتاً ، وأقَتُّهُ أقِيتُهُ إقَاتَةً ، فأنا قَائِتٌ ومُقِيتٌ .
وأمَّا قول الشَّاعِرِ : [ الخفيف ]
1850- ... ... ... ... ... ... .... إنِّي عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ
فقال الطَّبَرِي : إنه من غَيْر هَذا [ المعنى المتقدِّم ، فإنه بمَعْنَى الموقوفِ ، ] فأصْل مُقِيت : مُقْوِت كمُقِيم .
وقال مُجَاهِدٌ : معنى مُقِيتاً : شاهداً وقال قتادة : حَفِيظاً ، وقيل معناه : على كل حيوان مُقِيتاً ، أي : يُوصِل القُوت إلَيْه .
قال القَفَّال : وأي هَذَيْن المعنيين كان فَالتَّأوِيل صَحِيحٌ ، وهو أنه - تعالى- قادر على إيصَال النَّصِيب والكفيل من الجَزَاءِ إلى الشَّافِع؛ مثل ما يُوصِلُه إلى المَشْفُوع ، إن خيراُ فَخَيْرٌ ، وإن شَرَّاً فَشَرٌّ ، ولا ينتَقِص بسبَب ما يَصِل إلى الشَّافِع [ شيء ] من جَزاء المَشْفُوع ، وعلى الوَجْه الآخر : أنَّه تعالى- حَافِظُ الأشْيَاء شَاهِدٌ عليها ، لا يَخْفَى عليه شَيْءٌ من أحْوَالِهَا ، فهو عَالِمٌ بأن الشَّافِع يَشْفَع في حَقِّ [ أو في ] بَاطِل ، حَفِيظٌ عليهم فَيُجَازِي كلاًّ بما عَلِمَهُ منه .
وقوله : { وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً } وَلَمْ يقتيه بوقتٍ ، والحالُ يدلُّ على أن هذه الصِّفَةِ كانت ثَابِتَة له من الأزَلِ إلى الأبَدِ وليست مُحْدَثة .
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
في النَّظْم وجْهَان :
أحدهما : أنَّه لما أمَرَ المُؤمِنِين بالجهاد ، أمَرَهُمْ أيضاً بأن الأعْدَاء لو رَضُوا بالمُسَالَمَةِ فكونوا أنْتُم [ أيضاً ] رَاضِين بها ، فقوله : { وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ } كقوله- تعالى- : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا } [ الأنفال : 61 ] .
والثَّانِي : أن الرَّجُل [ في الجِهَاد ] كان يلْقَّاهُ الرَّجُل في دَارِ الحَرْبِ أو ما يُقارِبُها ، فَيُسَّلمُ عليه لا يَلْتَفِتُ إلى سلامِهِ [ ويقتله ] ، وربَّمَا ظَهَرض أنَّهُ كان مُسْلِماً ، فأمرهم بأن يُسَلِّم عليهم أو يُكْرِمهم ، فإنهم يقابلونه بمثل ذَلِكَ الإكْرَام أو أزْيَد ، فإن كان كَافِراً ، لم يَضُرَّ المسلم مُقَابَلَة إكْرَام ذلك الكَافِر بنوع من الإكْرَام ، وإن كان مسلماً فَقَتَلَه ، ففيهِ أعْظَم المَضَارِّ والمفَاسِدِ ، ويقال : التحية [ في الأصْلِ ] : البَقَاءِ والمِلْكُ .
قال القُرْطُبِي : قال عبد الله بن صالح العِجْليّ : سألت الكسَائِيُّ عن قوله : « التحيات لله » ما مَعْنَاهَا؟ فقال : التَّحِيَّاتُ مثل البَرَكَاتِ ، قلت : ما معنى « البركات » ؟ فقالك ما سَمِعْت فيها شيئاً ، وسألْت عنها مُحَمَّد بن الحسن [ فقال ] : هو شَيْءٌ تعبدّ الله به عبادَهُ ، فقدِمْتُ الكُوفَة فلقيت عَبْدَ الله بن إدْرِيس : إنه لا عِلْم لهما بالشَّعْرِ وبهذه الأشْيَاءِ ، التَّحِيَّة : المُلك وأنْشَدَهُ : [ الوافر ]
1851- أؤمُّ بِهَا أيَا قَابُوسَ حَتى ... أُنِيحَ عَلَى تَحِيَّتِهِ بجنْدِي
وقال آخَرَ : [ مجزوء الكامل ]
1852- وَلِكُلِ مَا نَالَ الفَتَى ... قَدْ نِلْتُهُ إلاَّ التَّحِيّيهْ
ويقال : التَّحِيَّة : البَقَاء والملك ، ومنه : « التحيات لله » ، ثم استُعملت في السلام مَجَازاً ، ووزنها ، تَفْعِلَ من حَيَّيْت ، وكان في الأصْل : تحيية؛ مثل « : تَوْصية وتَسْمِيَة ، والعرب تؤثر التَّفْعِلة على التَّفْعيلِ [ فيٍ ذَوَاتِ الأرْبَع؛ نحو قوله : { وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } [ الواقعة : 94 ] .
والأصل : تَحْيِيَة فأدغمت ، وهذا الإدغَامُ واجبٌ خِلافاً للمَازِني ، وأصْل الأصْل تَحْيِيُّ؛ لأنه مَصْدَر حَيّا ، وحَيّا : فَعَّل مَصْدره على التَّفْعِيل ، إلا أن يَكُون مُعْتَلَّ اللامِ؛ نحو : زكَّى وغَطَّى ، فإنه تحذف إحْدَى اليَاءَيْن ويعوَّض منها تَاء التَّأنيثِ؛ فيقال : تَزْكِيه وتغْطِيَة ، إلا ما شَذَّ من قوله : [ الرجز ]
1853- بَاتَتْ تُنَزِّي دَلْوَهَا تَنْزِيًّا ... كَمَا تُنَزِّي شَهْلَةٌ صَبِيَّا
إلا أن هذا الشُّذُوذَ لا يجوزُ مثلُه في نحو : » حَيّا « لاعتلالِ عَيْنه ولامه باليَاءِ ، وألحق بعضُهم ما لامُه هَمْزَةٌ بالمُعْتَلِّها ، نحو : » نَبّأ تَنْبئةً « و » خَبَّأ تَخْبِئَةً « ؛ ومثلها : أعيِيَة وأعيَّةٌ ، جمع عَيِيّ .
وقال الرَّاغِب : وأصلُ التَّحِيَّة من الحياة ، ثم جُعِلَ كلُّ دُعَاءٍ تحيَّة؛ لكون جميعه غير خَارجٍ عن حُصُولِ الحياة أو سَبَبِ الحَيَاةِ ، وأصل التحية أن تَقُول : » حياك الله « ثم اسْتُعْمِل في الشَّرْعِ في دُعَاءٍ مَخْصُوصٍ .
وجعل التحيَّة اسْماً للسَّلام؛ قال : -تعالى- : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ } [ الأحزاب : 44 ] ، ومنه قول المُصَلِّي : » التحيات لله « أي : السَّلامة من الآفاتِ لله . قال [ الكامل ]
1854أ- حُيِّيت مِنْ طَلَلٍ تَقَادَمَ عَهْدُهُ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
وقال آخر : [ البسيط ]
1854ب- إنَّا مُحَيُّوك يا سَلْمَى فَحيِّينَا ... ... ... ... .. ... .
فصل في أفضلية « السلام عليكم »
واعلمْ أن قول القائِل لغيْره : السَّلام عليك ، أتم من قوله : « حَيَّاك الله؛ لأن الحَيَّ إذا كان حليماً كان حَيَّا لا محالة ، وليس إذا كان حَيَّا كان سَلِيماً؛ لأنَّه قد تكون حَيَاتُه مقرونَة بالآفاتِ ، وأيضاً فإن السلام اسم من أسْمَاء الله -تعالى- ، فالابْتِدَاء بِذِكْر الله -تعالى- أجْمَل من قوله : حيَّاك الله ، وأيضاً : فَقَوْل الإنْسَان لغيره : السلام عَلَيْكَ ، بشارة لَهُ بالسَّلام ، وقوله حيَّاك الله لا يُفِيد ذَلِكَ ، قالوا : ومَعنى قوله : السلام عليك ، أي : أنْت سَلِيمٌ مِنِّي فاجعلني سَلِيماً مِنْك ، ولهذا كَانَت العَرَبُ إيضا أسَاء بعضهم لم يَردُّوا السلام ، فإن ردُّوا عليهم السلام ، أمِنُوا من شرِّهم ، وإن لم يَرُدُّوا عليهم السلام ، لم يؤمنوا شَرَّهُم .
فصل في الوجوه الدَّالة على أفضلية السّلاَم
ومما يدل على أفْضَلِيَّة السلام : أنَّه من أسْمَاء الله -تعالى ، وقوله - [ تعالى ] - { يانوح اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا } [ هود : 48 ] ، وقوله : { سَلاَمٌ هِيَ } [ القدر : 5 ] ، وقوله : { والسلام على مَنِ اتبع الهدى } [ طه : 47 ] ، وقوله : { قُلِ الحمد لِلَّهِ وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ } [ النمل : 59 ] وقوله : { وَإِذَا جَآءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } [ الأنعام : 54 ] ، وقوله : { الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملاائكة طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ } [ النحل : 32 ] ، وقوله : { وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين } [ الواقعة : 90 ، 91 ] ، [ وقوله ] : { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } [ الزمر : 73 ] ، وقوله : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23 ] وقوله : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ } [ الأحزاب : 44 ] ، وقوله : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ يس : 58 ] .
وأمَّا الأخْبَار : فرُوِي أن عبد الله بن سلام قال : » لمَّا سَمِعْت بقدوم الرَّسُول -عليه الصلاة والسلام- ، دخَلْتُ في غِمَار النَّاسِ ، فأوَّل ما سَمِعْتُ مِنْهُ : « يا أيها الذين آمنوا ، أفْشُوا السَّلاَمَ وأطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصِلُوا الأرْحَامَ وصَلُّوا باللَّيْلِ والنَّاس نِيَامٌ تدخلون الجنة بسلام » .
وأما المَعْقُول : قال القتبي : إنما قال : « التحيات » على الجَمْعِ؛ لأنَّه كان في الأرْضِ ملوك يُحَيُّون بِتَحيِّاتٍ مختَلِفَات ، [ فيقال ] لبعضهم : أبيْت اللَّعْنَ ، ولبعضهم : اسْلَم وانْعَم ، ولبعضهم : عِش ألْفَ سَنَةٍ ، فقيل لَنَا : قولوا : التَّحِيَّات لله ، أي : الألْفَاظ الَّتِي [ تدلُّ ] على امُلْك ، ويكْنَى بها عن الله -تعالى- :
قالوا : تحية النَّصِارى وَضْع اليَدِ على الفَمِ ، وتَحِيّةُ اليهود بعضهم لبعض : الإشارَةُ بالأصَابع ، وتحيةُ المجُوس : الانْحِنَاء ، وتحيَّةُ العرب بعضهم لِبَعْض قَوْلهم حَيَّاك الله ، وللمُلوك أن يَقُولوا : انْعَمْ صَبَاحاً ، وتحيَّةُ المُسْلِمين أن يقولوا : السلام عَلَيْكُم ورَحْمَة الله وبركاته؛ وهذه أشرف التَّحِيَّاتِ ، ولأن السَّلام مشعِرٌ بالسَّلامة من الآفَاتِ ، والسَّعْيُ في تَحْصِيل الصَّون عن الضَّرر أوْلى من السَّعْي في تَحْصِيل النَّفْع .
وأيضاً فإن الوَعْد بالنَّفْع قد يقدر الإنْسَان على الوَفَاءِ به وقَدْ لا يَقْدِر ، وأما الوَعْد بترْك الضَّرَر ، فإنه يكون قَادِراً عليه لا مَحَالة ، والسَّلام يدلُّ عليْهِ .
فصل
من الناس من قال : السلامُ واجبٌ؛ كقوله -تعالى- : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ [ على أَنفُسِكُمْ } ] [ النور : 61 ] ، ولقوله -عليه السلام- :
« أفْشُوا السلام » والأمر للوُجُوب والمَشْهُور أنه سُنَّة . قال بعضهم : السلام سُنَّة على الكِفَايَة .
قوله : « فحيوا » أصل حيُّوا : حَييوا فاستثقلت الضَّمَّةُ على اليَاءِ ، فحُذِفَت الضَّمةُ فالتقى ساكنان : الياءُ والواو ، فحُذِفَتْ اليَاءُ ، وضُمَّ ما قبل الوَاوَ .
وقوله : { بِأَحْسَنَ مِنْهَآ } أي : بتحيَّةٍ أحْسَن من تِلْك التَّحِيَّة الأوْلَى .
وقوله : { أَوْ رُدُّوهَآ } أي رُدُّوا مِثْلَها؛ لأن رَدَّ عينها مُحالٌ فَحذفَ المُضَافُ ، نحو : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] .
فصل في كيفية السلام
مُنْتَهى الأمْر في السَّلام أن يُقَال : السَّلام عليْكُم ورَحْمَة الله وبركاته؛ بدليل أن هَذَا القَدْر هو الوَارِدُ في التَّشَهُّد .
قال العلماء : الأحْسَن أن المُسْلِم إذا قَال : السلام علَيك ، رَدَّ في جوابه بالرَّحْمَة ، وإذا ذكر السلام والرَّحْمة في الابْتِدَاءِ ، زِيدَ في جَوابِه البَرَكَة وإذا ذكر الثلاثة في الابتداء ، أعادها في الجَوَاب .
رُوي : « أن رَجُلاً قال للنَّبي صلى الله عليه وسلم السلام عليك يا رسُول الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : وعَلَيك السلام ورحْمَة الله وبركاته ، وجاء ثَالثٌ وقال : السَّلام عليك وَرحْمَة الله وبركَاتُه : فقال -عليه الصلاة والسلام- : » وعَلَيْك السلام ورَحْمَة الله وبَرَكَاتُه « فقال الرَّجل : نقصتني فأين قول الله : { فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ } فقال : عليه الصلاة والسلام- : » ما تَرَكْتَ لِي فَضْلاً فَرَدَدْنَا عَلَيْكَ مَا ذَكَرْت « .
وقيل : معنى قوله : { فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ } إذا كان الذي يُسَلِّم مُسْلِماً ، » أو ردوها « رُدُّوا مثلها إذا كان غَيْر مُسْلِمٍ .
فصل
يقول المُبْتَدِئ : السلام عليكم ، والمجيب يَقُول : وعليْكُم السلام ، وإن شاء المُبْتَدِئُ قال : سلامٌ عَلَيْكم؛ لأن التَّعْرِيف والتَّنْكير ورد في ألفاظِ القْرآن كما تَقَدَّم ، لكن التَّنْكِير أكْثَر والكل جَائِزٌ ، وأما في التَّحْليل من الصَّلاة ، فلا بُدَّ من الألف واللامِ بالاتِّفَاقِ .
فصل
قال -عليه الصلاة والسلام- : » السُّنَّة أن يُسلِّم الرَّاكِب على المَاشي ، وراكب الفَرَسِ على رَاكِب الحِمَارِ ، والصَّغير على الكَبِير ، والٌلُّ على الأكْثَر ، والقَائِم على القَاعِد « والسُّنَّةُ الجَهْر بالسَّلام؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام- : » أفْشُوا السَّلام « قال أبو يوسف : من قال لأخَرٍ : أقْرئ فلاناً مِنِّي السلام وَجَب عليه أنْ يَفْعَل .
فصل
السُّنة : إذا اسْتَقْبلك رَجَلٌ واحد فقل : سلامٌ عليْكُم ، واقْصِد الرَّجُل والملكَيْن؛ فإنهما يَرُدَّان السلام عليك ، ومن سَلَّم عليه المَلَكُ فقد سَلِمَ من عَذَابِ الله -تعالى- ، وإذا دَخَلت بَيْتاً خَالِياً ، فَسَلَّم على من فيه من مُؤْمِني الجِنِّ ، والسُّنَّة أن يَكون المُبْتَدِئ بالسَّلام على طَهَارَةٍ وكذلك المُجِيبُ .
روي أن رجلاً سلَّم على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وهو على قَضَاء الحَاجَةِ ، فقام وتَيَمَّمَ ثم رَدَّ السلام ، والسُّنَّةُ إذا الْتَقَى الرَّجُلاَن المبادرة بالسَّلام .
فصل : المواضع التي لا يُسلَّم فيها
فأما المواضع التي لا يسَلَّم فيها ثمانيةٌ :
الأوَّل : قال -عليه الصلاة والسلام- : » لا تبدَءُوا اليَهُود بالسَّلام « ، ورخَّصَ بَعْضَ العُلَمَاءِ في ذلك إذا دَعَت إليه حَاجَة ، وأما إذا سَلَّمُوا علينا ، فقال أكْثَر العُلَمَاءِ : ينبغي أن يُقَال : وعليْكَ؛ لأنَّهم كانوا يَقُولون عِنْد الدُّخُولِ على الرسول -عليه الصلاة والسلام- السَّامُ عَلَيْك ، فكان -عليه السلام- يَقُول : وعَلَيْكُم ، فجرت السُّنَّةُ بذلك ، فإذا قُلْنَا : وعليْكُم السَّلام ، فهل يجوز ذِكْر الرَّحْمَة؟ قال الحَسَن : يجُوز أن يُقال للكافِرِ : وعَلَيْكُم السلامَ ، ولكن لا يُقَال : ورَحْمَة اللهِ؛ لأنها اسْتِغْفَارٌ .
وعن الشَّعبيّ؛ أنه قال لِنَصْرانيّ وعليْك السَّلام ورَحمة الله ، فقيل له فيه ، فقال : ألَيْس في رَحْمَة الله [ يَعِيشُ ] .
الثاني : إذا دَخَل الحَمَّام [ فرأى ] النَّاس متَّزرين يُسَلِّم عليهم ، وإن لم يكُونُوا متَّزرين ، لم يُسَلِّم عليهم .
الرابع : ترك السَّلام على القَارِئ؛ لأنه يقطع عليه التِّلاوة؛ وكذلك روايَة الحَدِيث .
الخَامِس : لا يُسَلَّم على المُشْتَغِل بالأذَان والإقَامَةِ .
السادس : لا يسَلَّم [ على ] لاعب النَّرْدِ ، ولا المغَنِّي ، ولا مُطَيِّر الحَمَامِ ، ولا المستغل بِمَعْصِيَة اللهِ .
السَّابِع : لا يُسَلَّم على المُشْتَغِل بقضاء الحَاجَةِ؛ لما تقدَّم من الحَدِيث ، وقال في آخِرِه : « لَولاَ أنِّي خَشِيتُ أنْ يَقُول : سلَّمْت علَيْه فَلَمْ يَرُدَّ الجَوَاب ، وإلا لَمَا أجِبْتُك ، إذا رَأيْتَنِي على هذه الحَالَةِ ، فلا تُسَلِّم ، فإنك إن سلَّمْت لم أرُدَّ عَلَيْك » .
الثَّامن : إذا دخل الرَّجُل بَيْتَه فَيُسَلِّم على امْرأته ، وإن حَضَرت أجْنَبِيَّة ، [ لم ] يسلم عَلَيْهِمَا .
قال القرطبي : ولا يُسَلِّم على النِّسَاء الشَّابات الأجَانِب؛ خوف الفِتْنَة من مُكَالَمَتِهِن بنزعة شَيْطَانٍ أو خائنة عَيْنٍ ، وأما المَحَارِمُ والعجائز فَحَسَنٌ .
فصل
والرَّدُّ فرض كِفَايَة؛ إذا قام به البَعْض سَقَطَ عن البَاقِين ، والأوْلى للكُلِّ أن يحيُّوا؛ إذ الرد وَاجِبٌ [ على الفَوْر ] فإن أخَّر حتى انْقَضى الوَقْت ، وأجابه بعد فَوْت [ الوقت ] ، كان ابْتِداء سَلاَمٍ ولا جَوَاباً ، وإذا وَرَد السلام في كِتَاب ، فجوابه وَاجِبٌ بالكِتَاب أيْضاً للآية ، وإذا سَلَّمت المَرْأة الأجْنَبيَّة عَلَيْه ، وكان في رد الجَوَابِ عليها تُهْمَةٌ أو فِتْنَةٌ ، لم يجب الردّ ، بل الأوْلَى إلا يفعل وحيث قُلْنَا : لا يُسَلِّم ، فلو سَلَّم لم يجب الرَّدُّ؛ لأنه أتَى بِفِعْل منهِيٍّ عَنْه ، فكان وجوده كَعَدَمِه .
قوله : { إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً }
قيل : الحِسيب بمعنى المُحَاسِبِ على العَمَل؛ كالأكيل والشَّرِيب والجَليسِ ، بمعنى : المؤاكِل والمُشَارِب والمُجَالِس ، أي : على كل شَيْءٍ من ردِّ السلام بِمِثلِه وبأحْسن مِنْهُ ، « حسيباً » : أي : مُحَاسِباً ومُجَازِياً ، وقيل : بمعنى الكَافِي من قَوْلهم : حَسْبي كَذَا ، أي : كافياً ، قاله أبُو عُبَيْدَة؛ ومنه قوله تعالى : { حَسْبِيَ الله } [ التوبة : 129 ] ، وقال مُجَاهِد : حَفِيظاً .
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
وجه النَّظْمِ أنه -تعالى- يقول : من سَلَّم عليْكُم وحيَّاكم ، فاقبلوا سَلامَهُ وأكْرِمُوه وعامِلُوه بناءً على الظَّاهِر ، وأما البَوَاطِن فلا يعْلَمُها إلا اللهُ الذي لا إله إلا هُو ، وإنما تَنْكَشِفُ بواطن الخَلْقِ في يَوْم القِيَامَة . قوله : « ليجمعنكم » جواب قَسَم مَحْذُوف .
[ قال القُرْطُبِيُّ : اللامُ في قوله : « ليجمعنكم » ] لام قَسَم ، نزلت في الَّذِين شَكُّوا في البَعْثِ ، فأقْسَمَ الله -تعالى- بنفسه ، وكلُّ لامٍ بعدها نُونٌ مشَدَّدَةٌ فهي لامُ القَسَم وفي جملةِ هذا القَسَمِ مع جوابه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدُها : أنها قي مَحَل رفعٍ خَبَراً ثانياً لقوله : « الله » ، و « لا إله إلا هو » : جُمْلَةُ خَبَر أوّل .
والثاني : أنها خَبَر لقوله : « الله » أيضاً ، و « لا إله إلا هو » : جملة اعتراضٍ بين المُبْتَدأ وخبره .
والثالث : أنها مُسْتَأنَفةٍ لا محلَّ لها من الإعْرَاب ، وقد تقدم إعْرَاب { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ } [ البقرة : 255 ] و { لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ البقرة : 2 ] في البقرة .
قوله : { إلى يَوْمِ القيامة } فيه ثلاثةُ أوجه :
أحدُها : أنها على بابها من انتهَاءِ الغَايَة ، قال أبو حيان : ويكونُ الجَمْع في القُبُور ، أو تُضمِّن « ليجمعنكم » معنى « ليحشركم » فيُتَعَدَّى ب « إلى » ، يعني : أنه إذا ضُمِّن الجَمْعُ معنى الحَشْر لم يَحْتج إلى تقدير مَجْمُوع فيه .
وقال أبو البقاءِ -بعد أن جوَّز فيها أن تكون بمَعْنَى « في » - : « وقيل : هي على بابها ، أي : ليجمعَنَّكم في القُبُور؛ فعلى هذا يَجُوز أن يكُون مَفْعُولاً به ، ويجُوز أن يكون حَالاً ، أي : ليجمَعَنَّكم مُفْضين إلى حِسَاب يوم القيامة » يريد بقوله « مفعولاً به » : أنه فَضْلَةٌ كَسَائِر الفضلات ، نحو : « سرتُ إلى الكُوفَةِ » ولكن لا يَصِحُّ ذلك إلا بأنْ يُضَمَّنَ الجمعُ مَعْنَى الحَشْرِ كما تقدَّم ، وأمَّا تقديره الحَالَ ب « مفضين » فغيرُ جَائزٍ؛ لأنَّه كونٌ مقيَّدٌ .
والثاني : أنَّها بمعنى « فِي » أي : في يوم القِيَامَةِ ، ونظيره قولُ النَّابغة : [ الطويل ]
1885- فَلاَ تَتْرُكَنِّي بِالوَعِيدِ كَأنَّنِي ... إلَى النَّاسِ مَطْلِيٌّ بِهِ القَارُ أجْرَبُ
أي : في النَّاسِ .
والثالث : أنها بِمَعْنَى « مَعَ » ، وهذا غيرُ وَاضِح المَعْنَى .
قال القُرْطِبي : وقيل : « إلى » وصلة في الكلام ، والمَعْنَى : « ليجمعنكم » يوم القيامة والقيامة بمعنى القِيام كالطَّلابة والطِّلاب؛ قالوا : ودخلت التاءُ فيه للمُبَالَغَة ، كعلاَّمة ونَسَّابَة؛ لِشِدَّةِ ما يَقَعُ فيه من الهَوْل ، وسُمِّي بذلك لقيام الناس فيه للحساب؛ قال تعالى : { يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين } [ المطففين : 6 ] .
وقال الزَّجَّاج : يجُوز أن يُقال : سمِّيت القِيَامَة قِيَامة؛ لقيام الناس من قبورهم؛ قال -تعالى- : { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث } [ المعارج : 43 ] .
والجُمْلَة من قوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } فيها وجهان :
أحدهما : أنّضها في مَحَلِّ نَصْبٍ نعتاً لمصدرٍ مَحْذُوف دَلَّ عليه « ليجمعنكم » أي : جمعاً لا رَيْبَ فيه ، والضميرُ يعود عليه والأولُ أظهرُ ، « ومن أصدق » ، تقدَّم نظيرُ هذه الجُمْلَة ، و « حديثاً » نصبٌ على التَّمييز .
وقرأ الحُمْهُور : « أصدق » بصاد خَالِصَة ، وحمزة والكسائي : بإشمامها زاياً ، وهكذا كلُّ صَادٍ ساكِنَةٍ بعدها دالٌ ، نحو : « تصدقون » و « تصدية » ، وهذا كما فعل حَمْزَة في { الصراط } [ الفاتحة : 6 ] و { لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ } [ الغاشية : 22 ] ، للمجانسة قصد الخِفَّةِ .
فصل
قوله : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً } أي : قولاً ووَعْداً ، وهذا اسْتِفْهَام على سبيل الإنْكَار ، والنَقْصُود منه : وجُوب كَوْنه -تعالى- صادقاً ، وأن الكَذِب والخُلْفَ في قوله مُحَالٌ .
قال ابن الخَطِيب : ظاهر الآيةِ يدُلُّ على أنَّه -تعالى- أثْبَت أن القِيَامة ستُوجَد لا مَحَالَة ، وجعل الدَّلِيل على ذلك مُجَرَّد إخْبَار الله -تعالى- عنه ، وهذا حَقٌّ؛ لأن المَسَائل الأصُولِيَّة على قِسْمَين : منها ما العلم بِصِحَّة النبُوَّة يَحْتَاج إلى العِلْم بِصِحَّتِه ، ومنها ما لا يكُون كَذَلِك .
فالأوَّل : مثل عِلْمَنا بافتقار العَالِم إلى صَانِعِ عالم بالمَعْلُومَات قادرٍ على كل الممُكِنَات ، فإنَّا ما لم نَعْلَم ذلك ، لا يمكننا العِلْمُ بصدقِ الأنْبِيَاء ، فكل مَسْألة ، هذا شَأنُها ، فإنه يَمْتَنِعُ إثباتُها بالقُرْآن وإخْبار الأنْبِيَاءِ -عليهم الصلاة والسلام- وإلا وقع الدَّوْر .
وأما القسم الثَّاني : وهو جملة المَسَائِل التي لا يَتَوَقَّف العِلْم بِصَحَّة النُّبُوَّة على العِلْم بصحَّتِها ، فكل ذلك مِمَّا يمكن إثْبَاتُه بالقُرْآنِ وبكلام الله -تعالى- ، فثبت أن الاستدلالَ على قِيَامِ القِيَامَةِ بإخْبَار الله -تعالى- عنه اسْتِدلال صَحِيحٌ . انتهى .
فصل
استدلت المُعْتَزِلَة بهذه الآية على أنَّ كلام الله -تعالى- مُحْدَثٌ ، قالوا : لأنَّهُ تعالى وَصَفَهُ بكونه حَدِيثاً في هذه الآيَةِ وفي قَوْله -تعالى- : { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً } [ الزمر : 23 ] ، والحديث : هو الحَادِثُ والمُحْدِث .
والجواب : أنكم تَحْكُمُون بحدُوثِ الكلام الذي هو الحَرْف والصَّوْت ، ونحن لا نُنَازعُ في حُدُوثِهِ ، إنما [ الَّذِي ] نَدَّعِي قدمه شَيْء آخَر غير هذه الحُرُوف والأصْوَات ، والآيَةُ لا تدل على حُدُوث ذلك الشَّيْء ألْبَتَّةَ بالاتِّفَاقِ منَّا ومنْكُم؛ أمَّا مِنَّا : فظاهِر ، وأما منكم : فإنَّكُم تَنْكِرُون وُجُود كلامٍ سوى هذه الحُرُوف والأصْوات ، فكَيْف يُمْكِنكُم أن تَقُولوا بدلالة هذه الآية على حُدُوثه .
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
قوله -تعالى- : « فما لكم » : مبتدأ وخَبَر ، و « في المنافقين » فيه ثلاثة أوجُه :
أحدها : انه متعلِّقٌ بما تعلَّق الخَبَرُ ، وهو « لكم » ، أي : أيُّ شَيْءٍ كائنٌ لكم -أو مُسْتَقِرٌّ لكم- في أمْر المُنَافِقِين .
والثاني : أنه مُتَعَلِّق بمعنى فئتين ، فإنَّه في قُوَّة « مال كم تفترقون في أمور المنافقين » فحُذِف المُضافُ ، وأُقيم المُضَافُ إليه مقامه .
والثالث : أنه مُتَعَلِّقٌ بمَحْذُوفٍ على أنه حالٌ من « فئتين » ؛ لأنه في الأصْل صفةٌ لها ، تقديرُه : فئتين مُفْترِقَتَيْن في المُنَافِقِين ، وصفةُ النكرة إذا قُدِّمت عليها ، انتصبَتْ حَالاً .
وفي « فئتين » وجْهَان :
أحدُهما : أنها حالٌ من الكافِ والميم في « لَكُم » ، والعَامِلُ فيها الاستقرارُ الذي تعلَّق به « لَكُم » ؛ ومثله : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] وقد تقدَّم أنَّ هذه الحَالُ لازمةٌ؛ لأن الكلامَ لا يَتِمُّ دونَها ، وهذا مذهبُ البَصْرِيَِّين في كل ما جَاءَ من هذا التَّرْكِيب .
والثاني -وهو مذهب الكوفيين- : أنه نَصْبٌ على خَبَر « كان » مُضْمَرةً ، والتقدير : ما لَكُم في المُنَافِقِين كنتم فئتين ، وأجَازوا : « ما لك الشاتم » أي : ما لك كُنْتَ الشَّاتِمَ ، والبَصْرِيُّون لا يُجِيزُون ذلك؛ لأنه حالٌ والحالُ لا تتعرَّف ، ويدلُّ على كَوْنِهِ حالاً التزامُ مَجِيئه في هذا التَّركِيب نَكِرةً ، وهذا كما قالُوا في « ضَرْبِي زَيْداً قَائِماً » : إنَّ « قائماً » لا يجُوز نصبُه على خَبَر « كان » المُقَدَّرةِ ، بل على الحَالِ؛ لالتزامِ تَنْكيره . وقد تقدَّم اشتِقَاقُ « الفِئَة » في البقرة .
فصل
قال قوم : نَزَلت في الذين تخَلَّفُوا يَوْمَ أحُد من المُنَافِقِين ، وقالوا : { لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } [ آل عمران : 167 ] . فاختلف أصْحَاب الرَّسُول -عليه الصلاة والسلام- : فقالَتْ مَنْهُم فرقة : كَفَرُوا ، وآخَرُون قالوا : لَمْ يَكْفُرُوا ، فنزلت الآية؛ وهو قول زَيْد بْنِ ثَابِت وطُعِن في هذا الوَجْهِ : بأن في نَسَقِ الآية ما يَقْدَحُ فيه وأنَّهم من أهْل مكَّة؛ وهو قوله : { فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حتى يُهَاجِرُواْ } .
وقال مُجَاهِد : هم قَوْم خَرَجُوا إلى المَدِينَة ، وأسْلَمُوا ثم ارْتَدُّوا ، واسْتَأذَنُوا رسُول الله صلى الله عليه وسلم إلى مَكَّة؛ ليأتوا بِبِضَائِع لَهُم يتَّجِرُون فيها ، فَخَرَجُوا وأقَامُوا بمكَّة ، فاختلف المسلمون فيهم : فقائل يَقُول : هم مُنَافِقُون ، وقائل يَقُول : هُمْ مُؤْمِنُون .
وقيل : نزلت في نَاسٍ من قُرَيْش قَدِمُوا المَدِينَةَ ، وأسْلَمُوا ثم نَدِمُوا على ذلك ، فَخَرَجُوا كهيئة المُتَنَزِّهِين حتى بَعُدوا عن المدينة ، فكتَبُوا إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم : إنَّا عَلَى الَّذِي وافقْنَاك عليه من الإيمَانِ ، ولَكِنَّا اجتوينا المدينة واشْتَقْنَا إلى أرْضِنا ، ثم إنَّهُم خرجوا في تجارةٍ لَهُم نحو الشَّامِ فَبَلَغَ ذَلِك المُسْلِمِين ، فقال بَعْضُهم : نخرج إليْهم فنقتلهم ونأخذ ما مَعَهُم؛ لأنَّهم رَغِبُوا عن دِيننَا ، وقالت طَائِفة : كيف تَقْتُلون قوماً على دينكُم إن لَمْ يَذَرُوا دِيَارَهم ، وكان هَذَا بِعَيْن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وهو سَاكِتٌ لا يَنْهَى واحداً من الفَرِيقَيْن؛ فنزلت الآية .
وقيل : هم العرنيون : وقال ابْن زَيْد : نزلت في أهل الإفكِ ، وقال ابن عبَّاسٍ وقتادة : هم قَوْمٌ أسْلَمُوا بمكَّة ثم لم يُهَاجِرُوا وكانُوا يُظَاهِرُون المُشْرِكين ، فاختلف المُسْلِمُون فيهم وتشاجروا ، فنزلت : « فما بالكم » يا معشر المؤمنين { فِي المنافقين فِئَتَيْنِ } أي : صرتم فيهم فئتين ، { والله أَرْكَسَهُمْ } أي : نكَّسَهُم ورَدَّهم إلى الكُفْرِ وأحْكَامه من الذُّلِّ والصِّغَار والسَّبْي والقَتْل .
قال الحسن : وإنما سَمَّاهم مُنَافِقِين وإن أظْهَرُوا الكُفْر؛ لأنهم وُصِفُوا بالصِّفَةِ التي كَانُوا عَلَيْهَا من قَبْل .
قوله : { والله أَرْكَسَهُمْ } مبتدأ وخبر ، وفيها وجهان :
أظهرهما : أنها حالٌ ، إمَّا من المُنَافِقِين -وهو الظَّاهِرُ- ، وإمَّا من المُخَاطبين ، والرابطُ الواوُ ، كأنه أنكرَ عليهم اختلافهم في هؤلاء ، والحالُ أنَّ الله قد ردَّهم إلى الكُفْر .
والثاني : أنها مُسْتَأنفةٌ أخبر -تعالى- عنهم بذلك . و « بما كسبوا » مُتَعَلِّقٌ ب « أركسهم » والبَاءُ سَبَبِيَّة ، أي : بسبب كَسْبِهِم ، و « ما » مصدريَّةٌ أو بمعنى الَّذِي ، والعائدُ مَحْذُوفٌ على الثَّانِي ، لا على الأوَّلِ على الصَّحِيح .
والإركاس : الردُّ والرَّجْعُ ، ومنه الرِّكْس ، قال -عليه السلام- في الرَّوْثة لمَّا أُتِيَ بها : « إنها ركس » . وقال أمَيَّة بن أبِي الصَّلت : [ البسيط ]
1856- فَأرْكِسُوا في جَحِيمِ النَّارِ إنَّهُمُ ... كَانُوا عُصَاةً وَقَالُوا الإفْكَ وَالزَّورَا
أي : رُدُّوا ، وقال الرَّاغِب : « الرِّكْس والنِّكْس : الرَّذْلُ ، إلا أنَّ الرِّكْس أبلغُ؛ لأن النِّكْسَ : ما جُعِل أعلاه أسْفَله ، والرِّكْسَ : ما صَارَ رَجِيعاً بعد أن كَانَ طعاماً » .
وقال النَّضْر بن شميل والكَسَائي : الرَّكْس والنِّكْس : قلب الشَّيْء على رَأسِه ، أو رَدِّ أوَّلِهِ على آخِره ، والمَرْكُوس والمنكُوسُ وَاحِدٌ .
وقيل : أرْكسه أوْبقَه ، قال : [ المتقارب ]
1857- بِشُؤْمِكَ أرْكَسْتَنِي فِي الخَنَا ... وأرْمَيْتَنِي بِضُرُوبٍ الْعَنَا
وقيل : الإركاس : الإضلال ، ومنه : [ المتقارب ]
1858- وأرْكَسْتَنِي عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى ... وصَيَّرتَنِي مَثَلاً لِلْعِدَى
وقيل : هو التنكيسُ ، ومنه : [ الرمل ]
1859- رُكِّسُوا في فِتْنَةٍ مُظْلِمَةٍ ... كَسَوَادِ اللَّيْلِ يَتْلُوهَا فِتَنْ
وارتكَس فُلانٌ في أمْر كَانَ ، أي : نَجَا مِنْهُ والرُّوكُوسِيَّةُ : قوْمٌ بين النَّصَارى والصَّابِئِين ، والرَّاكِس : الثَّور وسْط البَيْدَر والثيران حوالَيه وقت الدياس .
ويقال : أرْكس ورَكَّس بالتَّشْدِيد ورَكَّس بالتَّخْفِيف : ثلاث لُغَات بمعنى واحد ، وارتكَس هو ، أي : رجع .
وقرأ عبد الله : « ركسهم » ثلاثياً ، وقرئ « ركَّسهم -ركَّسوا » بالتشديد فيهما .
وقال أبو البقاء : « وفيه لُغَةٌ أخرى : » ركسه الله « من غير همز ولا تشديد ، ولا أعلم أحَداً قرأ به » .
قلت : قد تقدَّم أن عبد الله قَرَأ « والله ركسهم » من غير همز ولا تشديد [ ونقل ابن الخطيب أنَّها قراءة أبيِّ أيْضاً ] وكلام أبي البَقَاءِ مُخْلِّصٌ؛ فإنه إنما ادَّعى عَدَمَ العلمِ بأنَّها قِرَاءةٌ ، لا عدمَ القراءة بها .
قال الرَّاغب : : إلا أن « أركسه » أبلغُ من « ركسه » ؛ كما أنَّ أسْفَلَه أبلغُ من سُفْلَه « وفيه نظر .
فصل
قوله : { أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } قالت المُعْتزِلة : المُرَاد من قوله : » أضل الله « ليس أنَّه هو خلق الضَّلال فيه للوُجُوه المَشْهُورة؛ لأنه قال قبل هذه الآية : { والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا } فبيَّن -تعالى- [ أنه ] إنَّمَا رَدَّهُم وطَرَدَهُم بسبب كَسْبِهِم وفِعْلِهِم ، وذلك يَنْفِي القَوْل بأنَّ ضلالَهُم حصل بِخَلْق الله ، وعند هذا حَمَلُوا قوله : » ومن أضل [ الله ] « على وُجُوه :
أحدُها : المُرَاد أنَّ الله حَكَم بضلالهم وكُفْرِهم؛ كما يُقَال : فلان يكفر فُلاناً ويضَلِّلُه ، بمعنى : أنه حَكَم به وأخبر عنه .
وثانيها : أن المَعْنَى : أتُريدون أن تَهْدُوا إلى الجَنَّةِ من أضَلَّه الله عن طريق الجَنَّةِ؛ وذلك لأنَّه -تعالى- يُضِلُّ الكُفَّار يوم القيامَة عن الاهْتِدَاء إلى طريق الجَنَّةِ .
وثالثها : أن يُفَسَّر الإضْلال بمعنى الألْطَاف ، وقد تقدَّم ضَعْفُ هذه الوُجُوه ، ثُمَّ نقول : هَبْ أنَّها صحيحة ، ولكِنَّه -تعالى- أخْبَر عن كُفْرِهِم وضلالِهِم ، وأنَّهم لا يَدْخُلون الجَنَّة ، فقد تَوَجَّه الإشْكَال؛ لأن انْقِلاب علم الله -تعالى- جهلا مُحَالٌ ، والمُفْضِي إلى المُحَالِ مُحَالٌ ، ويدل على أنَّ المُرَاد أنه -تعالى- أضَلَّهُم عن الدِّين -قوله- تعالى- : { وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } والمَعْنى : أنه -تعالى- لمَّا أضلَّهُم عن الإيمَانِ امتنع أن يجد المَخْلُوق سَبِيلاً إلى إدْخَالِه في الإيمَانِ .
قوله -تعالى- : { وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ } الآية .
يجوز في » لو « وجهان :
أحدهما : أن تكون مصدريَّة .
والثاني : أنها على بابها من كونها حرفاً لما كان سيقع لوُقُوعِ غيره .
فعلى الأوَّل : تتقدَّر مع ما بعدها بمصدر ، وذلك المصدرُ في محل المفعول ل » ودوا « وحينئذٍ فلا جَوَابَ لها ، والتقدير : وَدُّوا كُفْرَكُم .
وعلى الثاني : يكون مَفْعُولُ » وَدَّ « مَحْذُوفاً ، وجوابُ » لو « أيْضاً محذوف؛ لدلالة المَعْنَى عليهما ، والتقدير : وَدُّوا كُفْرَكم ، لو تَكْفُرون كما كَفَرُوا لسُرُّوا بذلك .
و » كما كفروا « : نعتٌ لمَصْدِر محذوف ، تقديره : كُفراً مثل كُفْرِهم ، أو حالٌ من ضَمِير ذلك المَصْدر كما هو مَذْهَب سيبويْه .
و » فتكونوا « : عطف على » تكفرون « والتقدير : وَدُّوا كفرَكُم ، وكونكم مُسْتَوين معهم في شَرْعِهم؛ كقوله : { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } [ القلم : 9 ] ، أي : ودُّوا لو تُدْهنون ، والفَاءُ عَاطِفَة .
قال الزَّمَخشَريّ : » ولو نُصِب على جَوَاب التَّمَنِّي؛ لجاز « قال أبو حيَّان : فيه نظر : من حَيْث إن النَّصْبَ في جواب التَّمَنِّي إذا كان التَّمَنِّي بلفظ الفِعْل ، يحتاج إلى سَمَاع من العَرَب ، بل لو جَاءَ ، لم تتحقَّقَ فيه الجَوابِيةُ ، لأنَّ » ودَّ « التي بِمَعْنَى التمني ، متعلِّقُها لا الذَّوَات ، فإذا نُصِب الفِعْل بعد الفَاءِ ، لم يَتَعَيَّنْ أن تكون فَاءَ جواب؛ لاحتمال أن يَكُون من بَابِ عَطْف المَصْدر المقدَّر على المَصْدَر المَلْفُوظ به ، فيكون من بَابِ : [ الوافر ]
1860- لَلًبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقَرَّ عَيْنِي .. . . .
يعني : كَأنَّ المَصْدَر المَفْعُولَ ب « يود » ملْفُوظٌ به ، والمصدرُ المقدَّرُ ب « أن » والفِعْلِ ، وإلاَّ فالمصْدرُ المَحْذُوفُ ليس مَلْفوظاً به ، إلا بِهَذَا التَّأويلِ المذكُورِ ، بل المَنْقُولُ أنَّ الفِعلَ ينْتَصِبُ على جَوَابِ التَّمنِّي ، إذا كان بالحَرْفِ ، نحو : « ليت » ، و « لو » و « ألا » إذا أشْرِبتا مَعْنَى التَّمنِّي .
وفيما قاله أبُو حَيَّان نظر؛ لأن الزَّمَخْشَرِيَّ لم يَعْنِ ب « التمني » المفهوم من فِعْل الودادة ، بل المَفْهُومَ من لفظ « لو » المُشعرةِ بالتمني ، وقد جاء النَّصْب في جوابها؛ كقوله : { فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ } [ الشعراء : 102 ] ، وقد قدَّمْتُ تَحْقِيقَ هذه المَسْألَةِ ، فظهر قول الزَّمَخْشَرِي من غير توقُّفٍ ، و « سواء » : خبر « تكونون » وهو في الأصْل مَصْدرٌ واقعٌ مَوْقعَ اسْمِ الفَاعِلِ ، بمعنى مُستوبن؛ ولذلِك وُحّد ، نحو : « رجال عدل » .
لمَّا اسْتَعْظَم قولهم : { أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله } على سَبِيل الإنْكَارِ عَقب ذِكْر الاسْتبعاد ، بأن قال : إنَّهم بلغُوا في الكُفْر إلى أنَّهم يَتَمنُّون أن تَصِيرُوا أيُّها المُسْلِمُون كُفَّاراً ، فلما بَلَغُوا في تعصُّبهم في الكُفْر إلى هذا الحَدّ ، فكيف تَطْمَعُون في إيمانِهِم .
ثم قال : { فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حتى يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ الله } مَعَكُم .
قال عكرمة : هي هِجْرة أخرى والهِجْرة على ثَلاثَة أوْجُه :
هجرة المُؤمنين في أوَّلِ الإسْلام ، وهي قوله : { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } [ الحشر : 8 ] وقوله : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ } [ النساء : 100 ] ونحوهما .
وهجرة المؤمنين وهي الخُرُوجُ في سَبِيلِ اللهِ مع رسُول الله صَابِراً محتَسِباً ، كما حكى هَهُنَا ، مَنَعَ من مُوالاتهم حَتَّى يُهَاجِرُوا في سَبِيل الله .
وهجرة سَائر المُؤمنين : وهي ما قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : « المُهَاجِر من هجر مَا نَهَى الله عَنْه » .
قال أبو بكر الرَّازِي : التقدير : حتى يُسْلِمُوا ويُهَاجِرُوا؛ لأن الهِجْرَة في سَبِيل الله لا تكون إلا بَعْد الإسْلاَم ، فدلَّت الآيَةُ على إيجَاب الهِجْرة بعد الإسْلام ، وأنَّهم وإن أسلَمُوا لَمْ يكُن بينَنَا وبَيْنَهم موالاةٌ إلا بَعْد الهِجْرَة؛ لقوله - [ تعالى ] - : { مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ } [ الأنفال : 72 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنَا بَرِيءٌ من كل مُسْلِم أقَامَ بَيْن أظْهُر المُشْرِكِين » وهذا التَّكْلِيفُ إنَّما كان لازِماً حَيْث كانَت الهِجْرة وَاجِبَةٌ مَفْروضة ، فلمَّا فتحت مَكَّة ، نُسِخ ذلك ، قال رسُول الله صلى الله يوم فتح مكة : « لا هِجْرَة [ وَاجِبَة مَفْرُوضة ] بعد الفَتْح ، ولَكِنْ جِهَادٌ ونِيَّةٌ » .
ورُوي عن الحَسَن : أن حُكْم الآيَة ثَابِتٌ [ في كُلِّ ] من أقَام في دَارِ الحَرْب . قال ابن الخَطِيب : الهِجْرَة تحصل تارةً بالانْتِقَالِ من جَارِ الكُفْرِ إلى دَارِ الإسْلام ، وأخْرَى تَحْصُل بالانْتِقَال عن أعْمَال الكُفَّار إلى أعْمَال المُسْلِمين ، قال -عليه الصلاة والسلام- :
« المُهَاجِر مَنْ هجر ما نَهَى اللهُ عَنْهُ » وقال المُحَقِّقُون : الهِجْرة في سَبِيل الله عِبَارة عن الهِجْرة عن تَرْك منهيَّاته وفِعْل مأموراته ، والآية عامَّة في الكُلِّ ، وقَيَّدَ الهجرة بِكَوْنِها في سَبِيلِ الله؛ لأنه رُبَّمَا كَانَت الهِجْرَة لِغَرض من أغْرَاض الدُّنْيا فلا تكُونُ مُعْتَبَرة .
قال القُرْطُبِي : والهِجْرة أنْوَاع : منها الهِجْرة إلى المَدِينَة؛ لنُصرة النَّبي صلى الله عليه وسلم في الغَزَوات ، وكانت هذه وَاجِبَة أوَّل الإسْلام ، حتى قال : « لا هِجْرَة بعد الفَتْح » وكذلك هِجْرَة المُنَافِقِين مع النبي صلى الله عليه وسلم [ وهجرة مَنْ أسْلم في دَارِ الحرب فإنها وَاجِبَة ، وهجرة المسلم ما حَرَّم الله عَلَيْه ] كما قال -عليه السلام- : « والمُهَاجِرُ مَنْ هَجَر مَا حَرَّم الله عليه » وهاتان الهِجْرَتان ثابتَتَان الآن ، وهجرة أهل المَعَاصِي؛ ليرجعوا عمَّا هُم عليه تأدِيباً لهم ، فلا يُكَلَّمُون ولا يُخَاطَبُون ولا يُخَالَطون حتى يَتُوبُوا؛ كما فعل النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مع كَعْب وصاحِبَيْه .
قوله : { فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } أي : فإن أعْرَضُوا عن التَّوْحيد والهجْرَة « فخذوهم » إذا قَدَرْتُم عليهم أسَارَى ، ومنه يُقَال للأسِير : أخيذٌُ ، { واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } في الحِلِّ والحَرَم { وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ } في هذه الحَالِ « ولياً » يتولى شَيْئاً من مُهماتكم « ولا نصيراً » لينصركم على أعْدَائِكُم ، ثم استَثْنَى منهم وهو قوله : { إِلاَّ الذين يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَآءَ الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعتزلوكم فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السلم فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } .
قوله : { إِلاَّ الذين يَصِلُونَ } : في هذه الاستثناء قولان :
أظهرهما : أنه استثناء مُتَّصِلٌ ، والمستثنى منه قوله : { فَخُذُوهُمْ واقتلوهم } في الأخذ والقتل لا في المُوالاة؛ لأن موالاة الكُفَّار والمنافقين لا يجوز بحال .
والمُسْتَثْنَوْنَ على هذا قَوْمٌ كُفارٌ ، ومَعْنَى الوَصْلَةِ هنا الوَصْلَةُ بالمُعَاهَدَةِ والمُهَادَنَةِ . وقال أبُو عبيد : « هو اتِّصَالُ النَّسَب » ، وغلَّطه النَّحَّاس بأن النَّسَب كان ثابتاً بين النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم والصَّحابة ، وبين المُشْرِكين ، ومع ذلك لم يمنعهم ذلك من قتالهم .
وقال ابن عبَّاس : يريد : ويلْجَئُون إلى قوم { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ } أي : عهد ، وهم الأسْلَميُّون ، وذلك أنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم وادَعَ هِلال بن عُوَيْمر الأسْلَمِيّ عند خُرُوجه إلى مَكَّة ، على ألاَّ يُعينَهُ ولا يُعين عليْه ، ومن وَصَل إلى هِلالٍ من قَوْمهِ وغيرهم ولجأ إليه ، فلهم من الجواز مثل ما لِهِلالٍ .
وقال الضَّحَّاك عن ابن عبَّاسٍ : أراد بالقَوْم الَّذين بالقَوْم الَّذِين بَيْنكم وبَينهم ميثَاقٌ : بني بَكْرٍ بن زَيْد بن مَنَاة ، وكانوا في الصُّلْح والهُدْنَة ، وقال مُقَاتِل : هم خُزَاعَة .
والقَوْل الثاني : أنه منقطعٌ -وهو قول أبِي مُسْلم الأصْفَهَانِيِّ ، واختيار الرَّاغب- .
قال أبو مُسْلم : « لَمَّا أوجبَ اللهُ الهِجْرَةَ على كُلِّ مَنْ أسلم ، استثنى مَنْ له عُذْرٌ فقال : { إِلاَّ الذين يَصِلُونَ } وهم قوم قَصَدُوا الهِجْرَة إلى الرَّسُول -عليه الصلاة والسلام- ونصرته ، وكان [ بينهم وبَيْنَه في الطَّريق كُفَّار يخافونهم ، فَعَهِدُوا إلى كُفَّارٍ كان ] بينهم وبين المُسْلمين عَهْدٌ ، فأقاموا عَنْدَهُم إلى أنْ يُمْكِنهُمُ الخلاصُ ، واستثنى بعد ذلك مَنْ صَار إلى الرَّسُول وأصْحَابه؛ لأنه يخافُ اللهَ فيه ، ولا يقاتِلُ الكُفَّار أيضاً لأنهم أقاربُه؛ أو لأنه يَخَافُ على أولاده الذين هُمْ في أيديهم » ، فعلى هذا القَوْلِ يكون استثناءً مُنْقَطِعاً؛ لأن هؤلاء المُسْتَثنين لم يَدْخُلوا تحت قوله : { فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ } والمُسْتَثنوْن على هَذَا مُؤمِنُون .
قوله : { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ } يجوز أن يكونَ جملةً من مُبْتَدَأ وخَبر في مَحَلِّ جرِّ صفة ل « قوم » ، ويجوز أن يكُونَ « بينكم » وحْدَه صفةً ل « قوم » ، فيكون في محلِّ جَرٍّ ويتعلَّقُ بِمَحْذُوفٍ ، و « ميثاق » على هذا رفعٌ بالفَاعِليَّة؛ لأنَّ الظَّرف اعتمد على مَوْصُوفٍ ، وهذا الوَجْهُ أقربُ؛ لأنَّ الوَصْفَ بالمُفْرَدِ أصْلٌ للوصف بالجُمْلَة .
قوله : « أو جاءوكم » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه عطف على الصِّلَة؛ كأنه قيل : أو إلا الذين جَاءُوكُم حَصِرَتْ صُدُورُهُم ، فيكون التقدير : « إلا الذين يصلون بالمعاهدين ، أو الذين حصرت صدورهم فليقاتلوكم » فيكون المُسْتَثْنَى صِنْفَيْن من النَّاس : أحدهما : واصلٌ إلى قومٍ مُعاهدين ، والآخر مَنْ جَاءَ غَيْرَ مقاتِلٍ للمسلمين ولا لِقَوْمه .
والثاني : أنه عضطْفٌ على صِفَةِ « قوم » وهي قوله : { فَإِنِ اعتزلوكم فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ } بعد قوله : { فَخُذُوهُمْ واقتلوهم } فقرَّر أنَّ كفَّهُم عن القِتَال أحدُ سَبَبَي اسْتِحقَاقِهم لنفي التعرُّض لهُم ، وتَرْكِ الإيقاع بهم ، فإن قُلْت : كلُّ واحد من الاتِّصالين له تأثيرٌ في صحة الاستِثْنَاء ، واستحقاقِ تَرْكِ التَّعرضِ للاتصال بالمُعَاهدين والاتصال بالْكَافِّين ، فهلا جَوَّزْت أن يَكُونَ العَطْفُ على صفةِ « قوم » ، ويكون قوله : « فإن اعتزلوكم » تقريراً لحكم اتِّصالهم بالكافِّين واختلاطهم بهم ، وجَرْيهم على سُنَنِهم؟ قلت : هو جَائِزٌ ، ولكن الأوَّلَ أظهرُ وأجْرى على أٍلوب الكلام « . انتهى .
وإنما كان أظهر لوجهين :
أحدهما : من جِهَة الصِّنَاعة ، والثاني : من جهة المَعْنَى .
أمَّا الأوَّلُ : فلأنَّ عطفَه على الصِّلة لكون النِّسْبَة فيه إسْنَادِيةً ، وذلك أن المُسْتَثْنَى مُحَدَّثٌ عنه مَحْكُومٌ له ، بخلاف حُكْم المُسْتَثْنَى منه ، فإذا قدَّرْتَ العَطْفَ على الصَِّلَة ، كان مُحَدَّثاً عنه بما عَطَفْتَه ، بِخِلاَف ما إذا عَطَفْتَه على الصِّفَة ، فإنه يكونُ تَقْيِيداً في » قوم « الذين هم قيدٌ في الصِّلَةِ المُحَدَّثِ عن صَاحِبها ، ومتى دار الأمْر بين أن تكُون النِّسْبَة إسْنَاديّة وبين أن تكون تقييدية ، كان جَعْلها إسناديةً أوْلى لاسْتِقلالها .
والثاني من جهة المَعْنَى : وذلك أنَّ العَطْفَ على الصِّلَةَ يؤدِّي أن سَبَبَ تَرْكِ التَّعرُّض لهم تَرْكُهُم القتالَ ونَهْيُهُم عنه ، وهذا سَبَبٌ قريب ، والعَطْفُ على الصِّفَة يؤدي إلى أنَّ سَبَبَ تركِ التعرُّضِ لهم ، وصُولُهم إلى قَوْم كافِّين عن القِتَال ، وهذا سببٌ بعيدٌ ، وإذا دَارَ الأمرُ بين سَبَبٍ قريب وآخر بعيدٍ ، فاعْتِبَارُ القرِيبِ أوْلَى .
والجمهورُ على إثبات « أو » ، وفي مُصْحَفِ أبَيٍّ : « جاءوكم » من غير « أوْ » ، وخَرَّجها الزَّمَخْشَرِيُّ على أحَدِ أرْبَعة أوْجُه : إمَّا البيان ل « يصلون » ، أو البَدَلِ منه ، أو الصِّفة لقَوْم بعد صِفَة ، أو الاستئنافِ .
قال أبو حيان : « وهي وجوهٌ مُحْتَمَلَةٌ وفي بعضها ضعفٌ ، وهو البيانُ والبدلُ؛ لأن البيانَ لا يَكُون في الأفْعَالِ؛ ولأن البدل لا يتأتَّى لكونه ليس إيَّاه ، ولا بعضه ، ولا مُشْتَمِلاً عليه » . انتهى ، ويحتاج الجَوَابُ عنه [ إلى ] تأمُّلٍ ونظرٍ .
قوله : { حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } فيه سبعة أوجُه :
أحدها : أنه لا مَحَلَّ لهذه الجُمْلَة ، بل جِيءَ بها للدُّعاء عليهم بضيق صُدُورهم عن القَتَالِ ، وهذا مَنْقثولٌ عن المُبَرِّد ، إلاَّ أنَّ الفَارسِيَّ رضدَّ عيله بأنا مَأمُورون بأنْ نَدْعُوَ على الكُفَّارِ بإلقاءِ العَدَاوَة بينهم ، فَنَقُولُ : « اللَّهُم أوْقِعِ العَدَاوَةَ بين الكُفَّار » لكن يكُونُ قوله : { أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ } نفياً لما اقْتَضَاهُ دعاءُ المُسْلِمين عليهم .
وقد أجَابَ عن هذا الردِّ بعضُ النَّاس؛ فقال بن عضطِيَّة : « يُخَرَّجُ قولُ المُبَرِّد على أن الدُّعَاء عليهم بألاَّ يقاتلوا المُسْلِمِين تعجيزٌ لَهُم ، والدعاءُ عَلَيْهم بألاَّ يقاتلوا قومهم تَحْقيرٌ لَهُمْ ، أي : هُمْ أقلُّ وأحْقَرُ ومُسْتَغْنى عَنْهُم ، كما تقول إذا أردت هذا المَعْنَى : » لا جعل الله فُلاناً عليَّ ولا مَعِي « بمعنى : أسْتَغْنِي عنه وأستَقِلُّ دونَه » .
وأجاب غيرُه بأنَّه يجُوزَ أن يكونَ سُؤالاً لقومهم ، على أنَّ قوله : « قومهم » قد يُحْتمل أن يُعَبَّر به عَمَّنْ لَيْسُوا منهم ، [ بل عن مُعاديهم « .
الثاني : أنَّ » حصرت « حالٌ من فاعل » جاءوكم « وإذا وَقَعت الحَالُ فعلاً مَاضِياً ففيها ] خلافٌ : هل يَحْتاج إلى اقْتِرانه ب » قَدْ « والراجِحُ عدمُ الاحْتِياج؛ لكثرة ما جاء منه ، فَعَلى هذا لا تُضْمَرُ » قد « قَبْلَ » حصرت « ، ومَنِ اشْتَرَط ذلك ، قَدَّرها هنا .
والثالث : أنَّ » حصرت « صفةٌ لحَالٍ محذوفةٍ ، تقديرُه : أو جاءُوكم قوماً حَصِرَتْ صُدُورُهُم رجالاً حصرت صُدُورهم ، فنصب لأنَّه صفة مَوْصُوف مَنْصُوب على الحال ، إلاَّ أنه حذف المَوْصُوف المنْتَصب على الحَالِ ، وأقيمت صِفته مَقَامَه وسَمَّاها أبو البقاء حالاً مُوَطِّئَة ، وهَذَا الوجُه يُعْزَى للمُبرِّد أيضاً .
الرابع : أن يَكُون في مَحَلِّ جَرِّ صفةً لِقَوْم بعد صِفَة ، و » أو جاءوكم « مُعْتَرِضٌ .
قال أبُو البَقَاءِ : يَدُلُّ عليه قِرَاءةُ مَنْ أسْقَط » أو « وهو أبَيٌّ ، كذا نَقَلَهُ عنه أبو حيَّان والذي في إعْرَابِه إسقاطُ » أو جاءُوكم « جميعه ، وهذا نَصُّه قال : » أحَدُهُما : هو جَرٌّ صِفَةً لقومِ ، وما بَيْنَهُمَا صفة أيضاً ، و « جاءوكم » هذا نَصُّه ، وهو أوفق لهذا الوَجْهِ .
الخامس : أن يكون بدلاً من « جاءوكم » بدلَ اشْتِمَال؛ لأن المَجِيء مشتمِلٌ على الحَصْر وغيره ، نَقَلَه أبو حيان عن أبي البقاء أيضاً .
السادس : أنه حبرٌ بعد خَبَر ، وهذه عِبَارة الزَّجَّاج ، يعني : أنها جملة مُسْتَأنفَة ، أخْبر بها عن ضِيق صُدُورِ هَؤلاَء عن القِتَال بعد الإخْبَار عَنْهُم بما تَقَدَّم .
قال انب عطية بعد حِكَاية قولِ الزَّجَّاج : « يُفَرَّق بين الحَالِ وبين خَبَرٍ مستأنفٍ في قولك : » جاء زَيْد رَكِبَ الفَرَسَ « أنك إذا أرَدْتَ الحَالَ بقولك : » ركب الفَرَس « قدَّرْتَ » قد « ، وإن أرَدْت خَبَراً بعد خَبَر ، لم تَحْتَجْ إلى تقدِيرها » .
السَّابع : أنه جَوَاب شَرْطِ مُقَدَّر ، تقديره : إن جاءُوكُن حصرت [ صدورهم ] ، وهو رأي الجُرجَانِيِّ ، وفيه ضَعْفٌ؛ لعدم لدَّلاَلة على ذَلِك .
وقرأ الجُمْهُور : « حصرت » فعلاً ماضياً ، وقرأ الحَسَن ، وقتادة ، ويعقوب : « حصرة » نَصْباً على الحَالِ بوزن « نبقة » ، وهي تؤيِّد كونَ « حصرت » حالاً ، ونقلها المَهْدَوِي عن عَاصِمٍ في رواية حَفْص ، ورُوي عن الحَسَن أيضاً : « حصرات » و « حاصرات » .
وهاتان القراءتان تَحْتَمِلان أن تكُونَ « حصرات » و « حاصرات » نَصْباً على الحال ، أو جَرّاً على الصِّفَة ل « قوم » ؛ لأنَّ جَمْع المُؤنَّث السَّالمِ يستوي جَرُّه ونَصْبُه ، إلا أنَّ فيهما ضَعْفاً؛ من حيث إنَّ الوَصْفَ الرَّافع لظاهرٍ الفَصيحُ فيه أن يُوَحد كالفِعْلِ ، أو يُجمَعَ جَمْعَ تَكْسِير ويَقِلُّ جمعُه تَصْحِيحاً ، تقول : مررت بِقومٍ ذاهب جَوَاريهم ، أو قيام جواريهم ، ويَقِلُّ : « قائِمَاتٍ جَوَاريهم » .
وقرئ : « حصرةٌ » بالرفع على أنه خَبَر مُقَدَّم ، و « صدورهم » مبتدأ ، والجُمءلَة حال أيضاً . وقال أبو البقاء : « وإن كان قد قُرِئ : » حصرة « بالرَّفْع ، فعلى أنَّه خَبَر ، و » صدورهم « ، مُبْتَدأ ، والجُمْلَةٌُ حال » .
قوله : « أن يقاتلوكم » أصلُه : عن أنْ : فلمَّا حُذِف حَرْف الجَرِّ ، جرى الخِلاف المَشْهُور ، أهي في مَحَلِّ جَرٍّ أو نَصْب؟ والحَصْرُ : الضِّيق ، وأصلُه في المكان ، ثم تُوُسِّع فيه [ فأطْلِق على حَصْر القَوْل : وهو الضيق في الكلام على المُتَكلِّم والحصر : المكتوم ] قال : [ الكامل ]
1861- وَلَقَدْ تَسَقَّطَنِي الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا ... حَصِراً بِسِرَِّكِ يَا أمَيْمُ ضَنينا
فصل
اخْتَلَفُوا في الَّذِين اسْتَثْنَاهُم الله -تعالى- :
فقال الجُمْهُور [ هم ] من الكُفَّار والمَعْنَى : أنه -تعالى- أوجَبَ قتل الكَافِر ، إلاَّ إذا كان مُعَاهِداً أوْ تَارِكاً للقِتَال ، فإنَّه لا يَجُوز قَتْلَهم ، وعلى هذا التَّقْدِير فالقول بالنَّسْخ لازم؛ لأنَّ الكافر وإن تَرَكَ القِتَال؛ فإنه يَجُوز قَتْله .
وقال أبُو مُسْلم الأصْفَهَاني : هم قوم من المُؤمِنين ، وذكر ما تقدَّم عنه في كَوْن الاستِثْنَاءِ مُنْقَطِعاً .
قوله : { وَلَوْ شَآءَ الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ } التَّسْليط في اللغة مأخوذ من السَّلاطة؛ وهي الحدَّة ، والمقصود : أنَّ الله تعالى منَّ على المُسْلِمين بِكَفِّ بَأسِ المُعَاهِدِين .
قال [ بعض ] المفسِّرين : معنى الآية : أن القَوْم الَّذين جَاءوكُم بنو مُدْلج ، كانوا عَاهَدُوا ألاَّ يُقَاتِلُوا المُسْلِمين ، وعاهَدُوا قُرَيْشاً ألاَّ يقاتِلُوهم وحصرَت : ضاقَتَ صُدُورُهُم ، { أَن يُقَاتِلُونَكُمْ } أي : عن قتالِكُم للعَهْد الذي بَيْنَكُم ، { أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ } يعني : مَنْ أمِنَ منهُم ، ويجُوز أن يكُون مَعْنَاه : أنَّهم لا يُقَاتِلُونَكُم مع قَوْمِهِم ، يعني : قُرَيشاً قد ضاقَتَ صُدُورُهم لِذَلِك .
وقال بَعْضُهم : « أو » الوَاوِ؛ كأنه قال : إلى قَومٍ بَيْنَكُم وبَيْنَهُم مِيثَاقٌ ، جاءُوكُم حصرت صُدورُهم عن قَتَالِكُم والقشتَال مَعَكُم وهم -قَومُ هلالٍ- الأسْلميُّون وبنو بكر ، نهى الله -سُبْحَانَهُ- عن قتل هؤلاء المُرْتَدِّين إذا اتَّصَلُوا بأهل عَهْدٍ للمُؤمِنين؛ لأن من انْضَمَّ إلى قَوْمٍ ذَوي عَهْد فله حُكْمهم في حَقْن الدَّمِ .
فصل
المَعْنَى : أن ضيق صدورهم عن قِتَالِكُم؛ إنَّما هو لأن الله -تعالى- قَذَفَ الرُّعْب في قُلُوبِهِم ، ولو أنه -تعالى- قَوَّى قُلُوبَهُم على قِتَال المُسْلِمِين ، لتَسَلَّطُوا عليهم ، وهذا يدُلُّ على أنَّه لا يَصِحُّ من الله تَسْلِيط الكَافِر على المُؤمِن وتَقْويته [ عَلَيْه ] .
وأجاب المُعْتَزِلَةُ بوجهين :
الأول : قال الجُبَّائِي : قد بينَّا أنَّ الَّذِين اسْتَثْنَاهُم الله -تعالى- قومٌ مؤمِنُون لا كَافِرُون ، وعلى هذا فَمَعْنَى الآيَة : ولو شَاءَ الله لَسَلَّطهم عليكم بِتَقْوية [ قُلُوبِهِم ] ليدْفَعُوا عن أنْفُسِهِم ، إن أقدمتم على مُقَاتَلتِهِم على سَبيل الظُّلْمِ .
الثَّاني : قال الكَلْبِي : إنه -تعالى- أخبر أنَّه لو شاء لَفَعَل ، وهذا لا يُفِيدُ إلاَّ أنه -تعالى- قَادِرٌ على الظُّلْم ، وهذا مَذْهَبُنَا ، إلا أنَّا نقول : إنه -تعالى- لا يَفْعَلُ الظُّلْمَ .
قوله : « فلقاتلوكم » اللام جَوَاب « لو » على التَّكْرِيرِ أو البَدَلِيَّة ، تقديره : ولَوْ شَاءَ الله لِسَلَّطَهُم عليكم ، ولو شَاءَ الله لَقَاتَلُوكُم .
وقال ابن عطيّة : هي لامُ المُحَاذَاة والازْدِوَاجِ بِمَثَابَة الأولَى ، لو لم تَكن الأولى كنت تقول : « لقاتلوكم » . وهي تَسْمِيةٌ غريبة ، وقد سَبَقَهُ إليها مَكِّي ، والجُمْهُور على : « فلقاتلوكم » من المُفاعَلة . ومُجَاهِد ، وجماعة : « فلقتَّلوكم » ثُلاثياً ، والحَسَن والجَحْدَري : « فلقتَّلوكم » بالتَّشديد .
قوله : « فإن اعتزلوكم » أي : فإن لم يتعرضوا لكم لقتالكم ، وألْقُوا إليْكُم السَّلَم ، أي : الانقياد والاستسلام وقرأ الجَحْدَرِي : « السَّلْمَ » بفتح السِّين وسُكُون اللام ، وقرأ الحسن بِكَسْر السِّين وسكون اللام { فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } أي : طريقاً بالقَتْل والقِتَالِ .
[ قوله : { لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } « لكم » متعلِّق ب « جعل » ، و « سبيلاً » مَفْعُولُ « جعل » ، و « عليهم » حالٌ من « سبيلا » ؛ لأنه في الأصل صفةُ نكرةٍ قُدِّم عليها ، ويجُوز أن تكونَ « جعل » بمعنى « صير » ، فيكون « سبيلا » مَفْعُولاً أوّلَ ، و « عليهم » مَفْعُولٌ ثانٍ قُدِّم ] .
قال بعضهم : هذه الآية منْسُوخة بآية السَّيْف ، وهي قوله : { فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] ، وقال آخرون : إنَّها غير مَنْسُوخة ، أمَّا الَّذِين حملوا الاسْتِثْنَاء على المُسْلِمين ، فهو ظاهِرٌ على قولهم ، وأمَّا الذين حَمَلُوه على الكَافِرِين؛ فقال الأصَمُّ : إذا حَمَلْنَا الآية على المُعَاهدين ، فَكَيْفَ يمكن أن يُقَال إنها مَنْسُوخَةٌ .
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
السِّين في « ستجدون » للاسْتِقْبَال على أصلها ، قالوا : ولَيْسَت هنا للاسْتِقْبَال ، بل للدَّلالة على الاسْتِمْرَار ، وليس بِظَاهِرٍ .
قال الكَلْبِي عن أبي صَالٍِ ، عن ابن عبَّاس : هم أسَد وغطَفَان كانوا حَاشِرِي المَدِينَة ، تَكَلَّموا بالاسْلام رياءً ، وهم غير مُسْلِمِين ، فكان الرَّجُل مِنْهُم يقول له قَوْمُه : بماذا أسْلمت؟ فيقول : آمَنْتُ بربِّ القِرْدِ ، وبرب العَقْرب والخُنْفُسَاء ، وإذا لقوا أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالوا : إنَّا على دينِكُم ، يريدون بذلك الأمْن في الفَرِيقَيْن ، وقال الضَّحَّاك عن ابن عبَّاس : هم بَنُو عَبْد الدَّار ، كانوا بهذه الصِّفَةِ .
{ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ } فلا تتعرَّضُوا لَهُم ، { وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ } فلا يَتَعرَّضُوا لَهُم ، { كُلَّ مَا ردوا إِلَى الفتنة } دعوا إلى الشِّرْك ، { أُرْكِسُواْ فِيِهَا } أي : رَجَعُوا وعادوا إلى الشِّرْك .
وقرأ عبد الله : « ركسوا فيها » ثلاثيَّا مُخَفَّفاً ، ونقل ابْنُ جنيٍّ عنه : « ركَّسوا » بالتَّشْديد . وقرأ ابن وثابِ والأعْمِشُ : « رِدوا » بِكَسْر الرَّاء؛ لأن الأصْل : « رددوا » فأدْغِم ، وقلبت الكَسْرة على الرَّاء . وقوله : « إلى الفتنة » إلى الكُفْر { أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ } أي : فإن لَمْ يكفُّوا عن قِتَالِكُم حَتَّى تسيروا إلى مَكَّة : { ويلقوا إِلَيْكُمُ السلم } أي : المفاداة والصُّلْح ، « ويكفوا أيديهم » ولم يقبضوا أيديهُم من قتالكم ، « فخذوهم » ، أسرى { واقتلوهم حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ } أي : وجدتموهم ، « وأولئكم » أي : أهل هذه الصِّفة { جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } أي : حُجَّة بيِّنة ظاهرة بالقَتلِْ والقِتَال ، وهذه الآيَة تَدُلُّ على أنَّهُم إذا اعْتزلوا قِتَالَنا وطَلَبُوا الصُّلحِ مَنَّا ، وكفوا أيْديهُم عن إيذائِنا ، لم يَجُزْ لنا قِتَالهم ، ونَظِيرُه قوله تعالى : { لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ } [ الممتحنة : 8 ] ، وقوله : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ } [ البقرة : 190 ] .
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
كما رَغَّب في مُقَاتَلة الكُفَّار ، ذكر بَعْدَهَا ما يتعلَّق بالمُحَارَبَة ، ولا شَكَّ أنَّه قد يَتَّفِقُ أن يرمي الرَّجُلُ رجُلاً يَظُنُّه كافراً حَرْبِيَّا فيقْتُلهُ ، ثم يتبين أنَّه مُسْلِمٌ ، فذكر الله - تعالى- حكْم هَذِهِ الوَاقِعَة .
قوله - تعالى- : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن } .
قد تقدَّم الكلام في نَظِير هذا التَّركيب عند قوله- تعالى- : { مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ } [ البقرة : 114 ] .
وقوله : { إِلاَّ خَطَئاً } فيه أرْبَعة أوجُه :
أحدُها : أنه اسْتثنَاء منقَطِع - وهو قولُ الجُمْهُور- إنْ أُريد بالنَّفِي معناه ، ولا يجُوزُ أن يكُون مُتَّصِلاً ، إذ يصير المَعْنَى : إلا خَطَأ فله قَتْلُه .
والثاني : أنه مُتصلٌ إنْ أُريد بالنَّفْي التحريمُ ، ويَصِير المَعْنَى : إلا خطأ بأن عَرَفَه أنَّه كَافر فَقَتَله ، ثم كَشَف الغيبُ أنه كان مؤمناً .
الثالث : أنه استِثْنَاء مُفَرَّغ ، ثم في نَصْبِه ثلاثة احْتِمَالاتٍ :
الأوَّل : أنه مَفْعُول له ، أي : ما يَنْبَغِي له أن يَقْتُلَه [ لعلَّه من الأحْوَالِ ، إلا في حَالِ الخَطَأَ .
الثالث : أنه نَعْتُ مَصْدَرٍ محذُوف ، أي : إلا قَتْلاً خَطَأ ، ذكر هذه الاحْتِمَالات الزَّمَخْشَرِيُّ .
الرابع : من الأوْجه : أن تكون « إلا » بمعنى « ولا » والتقدير : وما كان لمُؤمِنٍ أن يَقْتُلَ مُؤمِنَاً عَمْداً ولا خَطَا ، ذكره بعضُ أهْلِ العِلمُ ، حكى أبُو عُبَيْدة عن يُونُس قال : سألتُ رُؤبة بن العَجَّاج عن هَذِهِ الآيَةِ ، فقال : « ليس أنْ يَقْتُلَهُ عَمْداً ولا خَطَا » فأقام « إلاَّ » مقامَ الوَاوِ؛ وهو كقول الشَّاعِر : [ الوافر ]
1862- وَكُلُّ أخٍ مُفَارِقُهُ أخُوهُ ... لَعَمْرُ أبِيكَ إلاَّ الْفَرْقَدَانِ
إلا أن الفَرَّاء ردَّ هَذا القَوْلَ؛ بأن مثل ذلك لا يجوزُ ، إلا إذا تقدَّمه استِثْنَاءٌ آخر ، فيكونُ الثَّانِي عطفاً عليه : كقوله : [ البسيط ]
1863- مَا بِالمَدِينَةِ دَارٌ غَيْرُ وَاحِدَةٍ ... دَارُ الْخَلِيفَةِ إلاَّ دَارُ مَرْوَانَا
وهذا رأي الفراء ، وأمَّا غَيْرُه ، فيزعم أنَّ « إلا » تكون عَاطِفَة بمعنى الوَاو من غَيْر شَرْطِ ، وقد تقدَّم تَحْقِيقُ هذا في قوله : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ } [ البقرة : 150 ] .
وقرأ الجُمْهُور : « خطأ » مهموزاً بوزْنِ « نبأ » ، والزهري : « خَطَا » بوزن « عَصَا » ، وفيها تخريجان :
أحدُهُمَا : أنه حَذَفَ لام الكَلِمَة تَخْفِيفاً بإبدالها ألفاً ، فالتقت مع التَّنْوين؛ فَحُذِفَت لالتِقَاء السَّاكِنَيْن ، كما يُفْعَل ذلك بِسَائِر المَقْصُور ، والحسن قرأ : « خَطَاءً » بوزن « سَمَاء » .
فصل
ذكر المُفسِّرون في سَبَبِ النَّزُول وُجُوهاً :
أحدها : روى عُرْوَة بن الزُّبَيْر : أن حُذِيْفَة بن اليَمَان قَاتَل مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُد فأخْطَأ المُسْلِمَون ، وظَنُّوا أن أبَاهُ اليَمَان وَاحداً من الكُفَّار ، فضَرَبُوه بأسْيَافِهم ، وحُذَيْفَة يَقُول : إنَّه أبي ، فلم يَفْهَمُوا قولَه إلا بعد أنْ قَتَلُوه ، فقال حُذَيْفة : يَغْفِر الله لكم وهو أرحم الرَّاحمين ، فلما سَمِعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم ذلك ، أزْدَاد وَقْع حُذَيْفَة عِنْدَه ، فَنَزَلَت هَذِه الآية .
وثانيها : أن أبا الدَّرْدَاءِ كان في سَرِيَّة ، فَعدل إلى شَعْبٍ لحاجة [ فوجد ] رجُلاً في غَنَم لَهُ ، فحمل [ عليه ] بالسَّيْف ، فقال الرَّجُل لا إله إلا الله ، فقتلَه وسَاقَ غَنَمَهُ ، ثم وَجَد في نَفْسِه شَيْئاَ فذكر الوَاقِعة للرَّسُول- عليه الصَّلاة والسلام- فقال النَّبِيُّ -عليه الصلاة والسلام- : « هَلاَّ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِه » وندم أبُو الدَّرْدَاءِ ، فنزلت الآية .
ثالثها : عيَّاش بن أبي رَبِيعَة المَخْزُومِيَّ ، وكان أخَاً أبِي جَهْل من أمّه : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة فأسلم ثم خاف أن يُظهر إسلامَه لأهله فخرج هارباً إلى المدينة ، وتحصّن في أطم من آطامِها ، فجزعت أمه لذلك جزعاً شديداً وقالت لابنها الحارث وأبي جهل بن هشام وهما أخواه لأمه : والله لا يظلني سقف ولا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى تأتوني به ، فخرجا في طلبه وخرج معهما الحارث بن زيد بن أبي أنيسة حتى أتوا المدينة ، فأتوا عياشاَ وهو في الأطم ، قالا له : إنزل فإنّ أمك لم يُؤوها سقف بيت بعدك ، وقد حلفت ألاّ تأكل طعاماً ولا تشرب شراباً حتى ترجع إليها ولك عهد الله علينا أن لا نكرهك على شيء ولا نحول بينك وبين دينك ، فلما ذكروا له جزع أمه وأوثقوا له بالله نزل إليهم فأخرجوه من المدينة ثم أوثقوه بنسعةٍ فجلده كل منهم مائة جلدة ، ثم قدموا به إلى أمّه فلما أتاها قالت : والله لا أُحِلّكَ من وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به ، ثم تركوه موثقاً مطروحاً في الشمس ما شاء الله فأعطاهم الذي أرادوا فأتاه الحارث بن زيد فقال : يا عياش أهذا الذي كنت عليه فوالله لئن كان هُدى لقد تركت الهدى ، ولئن كان ضلالة لقد كنت عليها ، فغضب عياش من مقالته ، وقال : والله لا ألقاك خالياً أبداً إلا قتلتك ، ثم إن عياشاً ألم بعد ذلك وهاجر ثم أسلم الحارث بن زيد بعده وهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله قد كان من أمري وأمر الحارث ما قد علمت ، وإني لم أشعر بإسلامه حتى قتلته فنزلت الآية .
فصل تفسير قوله - تعالى- : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ }
قوله : { وَمَا كَانَ [ لِمُؤْمِنٍ } ] قيل : معناه : ما كانَ لَهُ فيما أتاه من رَبَّه وعهد إلَيْه ، وقيل : ما كَانَ لَهُ في شَيْءٍ من الأزمِنة ذلك ، والمَقْصُود : بَيَان أنّ حُرْمَة القَتْل كانت ثَابِتَة من أوَّل زمان التَّكْلِيف .
وقوله : « إلا خطأ » فعلى القَوْل بأنَّهُ مُتَّصِلٌ؛ ذكروا وُجُوهاً :
أحدها : أن هذا الاستِثْنَاء مَعْنَاه : أن الإنْسَان يُؤاخذ عن القَتْل ، إلا إذا كان القَتْل قتْل خَطَأ ، فإنَّه لا يُؤاخَذُ به .
وثانيها : أنه استْثْنَاء صَحِيحٌ على ظاهر اللِّفْظِ ، والمعنى : ليس لِمُؤمِنٍ أن يَقْتُل مُؤمِناً ألْبَتَّةَ إلا عند الخَطَأ ، وهو ما إذا رأى عليه شِعَار الكُفَّار ، أو وَجَدهُ في عَسْكَرِهِم فظنه مُشْرِكاً .
فَحيِنئذٍ يَجُوز قَتلُه .
ثالثها : أن في الكَلاَم تَقْدِيماً وتأخِيراً ، والتقدير : ومَا كَانَ لِمُؤمِن أن يَقْتُل مُؤمِناً إلا خَطَأ؛ كقوله - تعالى- : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } [ مريم : 35 ] أي : وما كان الله ليتَّخِذَ من وَلَدٍ؛ لأنَّه - تعالى- لا يُحَرِّم عليه شَيْءٌ ، إنَّما يُنْفَى عنه ما لا يَلِيقُ بِهِ .
قال القُرْطُبِي : قوله : { وَمَا كَانَ } لَيْس على النَّفِي ، وإنَّما هو على التَّحْرِيم والنَّهِي؛ كقوله : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله } [ الأحزاب : 53 ] ولو كانت على النَّفِي ، لما وُجِد مُؤمِنٌ قَتل مُؤمِناً [ قط ] ؛ لأن ما نفاه الله لا يجُوز وُجُودهُ؛ كقوله { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } [ النمل : 60 ] ، معناه : ما كُنْتُم لِتُنْبِتُوا؛ لأنه - تعالى- لم يُحرَّم عليهْم أنْ يُنْبِتُوا الشجر ، إنما نَفَى عَنْهُمْ أن يمكنهم إنْبَاتُهَا ، فإنه - تعالى- هو القَادشرُ على إنْبَاتِ الشَّجَرِ .
ورابعها : أن وجْه الإشْكَال في اتِّصَال هذا الاستِثْنَاء أن يُقَال : الاستثناء من النَّفْي إثْبات ، وهذا يَقْتَضِي الإطْلاق في قَتْل المُؤمِن في بَعْضِ الأحْوالِ ، وذلك محَالٌ؛ لأن ذلِكَ الإشْكَال إنَّما يَلْزَمُ إذا سَلَّمْنا أنَّ الاستثناء من النَّفْيِ إثْبَات ، وذلك مُخْتَلف فيه بين الأصُوليِّين ، والصَّحيحُ أنَّهُ لا يَقْتَضِيه؛ لأن الاستِثْنَاء يَقْتَضِي نَفْيَ الحُكْمِ عن المُسْتَثْنَى ، لا صَرْف المحكوم عليه ، لا بالنَّفْيِ ولا بإثْبَات ، وحينئذ يَنْدَفِع الإشْكَال ، وممَّا يَدُلُّ على أنَّ الاستثناء في المَنْفِيِّ ليس بإثْبَاتٍ ، قوله- عليه الصلاة والسلام- : « لا صَلاَةَ إلاَّ بطَهُورٍ ولا نِكَاحَ إلاَّ بولِيِّ » ويقال : لا مُلْكَ إلا بالرِّجَالِ ، ولا رِجَال إلاَّ بالمَالِ ، والاستثناء في هذه الصور لا يُفيد أن يكون الحُكْم المُسْتَثْنَى من النَّفْي إثْبَاتاً .
وخامسها : قال أبُو هَاشِم : وتقدير الآيَة : وما كان لِمُؤمِنٍ أنْ يَقْتُل مُؤمِناً [ إلاَّ ] أن يَكُون خَطَأ ، فإنَّه لا يُخْرِجُه عن كَوْنِه مُؤمناً ، وهذا بِنَاء على أصْلِهِم ، وهو أنَّ الفَاسِق عند المُعْتَزِلةِ لَيْسَ بمُؤمِن ، وهو أصْلٌ [ فاسدٌ ] وباطل .
وإن قُلنا : إنه استِثْنَاء مُنْقطعٌ ، فهو لمعنى لكن ، ونظائره كثيرة ، قال - تعالى- : { لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً } [ النساء : 29 ] . وقال : { الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم } [ النجم : 32 ] وقال : { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً } [ الواقعة : 25 ، 26 ] .
فصل
قال القُرْطُبِي : ذهب دَاوُد إلى وُجُوب القِصَاصَ بين الحُرِّ والعِبْد ، في النَّفْس وفي الأعْضَاءِ ، لقوله - تعالى- : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس } [ المائدة : 45 ] إلى قوله : { والجروح قِصَاصٌ } [ المائدة : 45 ] ولقوله - عليه الصلاة والسلام- : « المُؤمِنُون تتكَافَأ دِمَاؤُهُم » ولم يفرق بَيْنَ حُرٍّ وعَبْدِ .
قال أبُو حنِيفَة [ وأصْحَابُه ] : لا قِصَاص بين الأحْرَار والعَبِيد إلا [ في ] النَّفْسِ ، فيُقتل الحُرُّ بالعَبْدِ كما يقتل العَبْدُ بالْحُرِّ ، ولا قِصَاص بينهما في الجِرَاح والأعْضَاء ، وأجمع العُلَمَاءُ على أنَّ قوله - تعالى- : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً } لأنَّه لم يَدْخُل فيه العَبِيدُ ، وإنما أريد به : الأحْرار؛ فكذلك قوله- عليه السلام : -
« المُؤمِنُون تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُم » أريد به الأحْرَار خَاصَّة ، والجُمْهُور على ذلك ، وإذا لم يَكُن قِصَاصٌ بين العَبيد والأحْرار فيما دُونَ النَّفْسِ ، فالنفس أحْرَى بذلك ، وقد مَضَى هذا في البَقَرَةِ .
قوله : { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } « خطأ » إما مَنْصُوب على المَصْدَر ، أي : قتلاً خطأ ، وإما على [ أنَّه ] مصدرٌ في مَوْضِع [ الحال ] أي ذا خَطَأٍ أو خاطئاً والفَاء في قوله : « فتحرير » جوابُ الشَّرْطِ ، أو زائِدَةٌ في الخَبَر إن كَانَت « من » بمعنى الَّذِي ، وارتِفَاعُ « تحرير » : إمَّا على الفَاعِليَّةِ ، أي : فيجبُ عليْه تَحْرِير ، وإمَّا على الابتدائِيَّة ، والخبر مَحْذُوف أي : فعليه تحرير أو بالعكس ، أي : فالوَاجِبُ تَحْرِيرُ ، والتحرير عبارةٌ عن جَعْلِهِ حُرَّا والحُرُّ هو الخَالِصُ ، ولما كان الإنْسَان في أصْلِ الخلقة خُلِقَ لِيَكُون مالكاً للأشْيَاءِ ، لقوله تعالى : { خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً } [ البقرة : 29 ] فكونه مَمْلُوكاً صفة تُكَدَّر مقتضى الإنْسَانِيَّة ، فسميت إزالة المُلْكِ تَحْرِيراً ، أي : تخليصاً لذلك الإنْسَان عما يُكَدِّر إنْسَانيَّتَهُ ، والرَّقبة عبارَةٌ عن النَّسَمَة في قولهم : « فُلان يَمْلِك كَذَا رَأساً من الرَّقِيق » .
والدِّيَةُ في الأصْلِ مَصْدر ، ثم أطلَقَ على المالِ المَأخُوذ في القتل ، ولذلك قال : { مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ } ، والفعلُ لا يُسَلَّمُ بل الأعٍيَان ، تقول : وَدَى يَدِي دِيَةً ووَدْياً ، كوشَى يَشِي شِيَةٌ ، فحذفت فَاءُ الكَلِمَة ، ونَظِيرُه في الصَّحيح اللام : « زِنة » و « عِدة » ، و « إلى أهله » متعلَّق ب « مسلمة » تقول : سَلَّمت إليه كَذَا ، ويجُوز أن يكون صِفَةً ل « مسلمة » وفيه ضَعْفٌ .
فصل الخلاف في القصاص للقتل العمد
معنى [ الآية ] فِعلية رقبة مُؤمِنَة كَفَّارة وَدِية كَامِلَة { مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ } أي : إلأى أهْل القتيل الذين يَرِثُونه ، « إلا أن [ يصدقوا » . أي : ] يتصدَّقُوا بالدِّيَة فيَعفوا ويَتْرُكُوا الدِّيَة ، واختلفوا في قتل العمد :
فقال أبو حنيفة : لا يُوجِب الكَفَّارة؛ لهذه الآيَة فقال : « ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير [ » رقبة « ] شرط لوجوب الكَفَّارةِ كونه خطأ ، وعند انتفاء الشَّرْط لا يَحْصل المَشْرُوط .
وقال الشَّافِعِيُّ : تجب الكفَّارة؛ لما رَوَى واثِلة بن الأسْقَع ، قال : أتَيا رسُول الله صلى الله عليه وسلم في صَاحِب لَنَا أوجب النَّار بالقَتْلِ ، فقال : أعْتِقُوا عنه يَعْتِقُ الله بِكُلِّ عُضْوٍ منه عَضْواً منه [ من النَّار ] ولأن الكَفَّارة في قَتْل الصَّيْد في الحَرَمِ والإحْرَام ، يستوي فيه العَامِدُ والخَاطِئُ [ إلا ] في الإثْمِ فَكَذَا في قَتْل المُؤمِنِ .
فصل
قال ابن عبَّاس ، والحَسَن ، والشَّعْبي ، والنَّخْعِي : لا تجزئ الدِّيَة إلا إذا صًام وصَلَّى ، لأنه وَصَفَها بالإيمَانِ ، والإيمانً : إمَّا التَّصْديقُ ، وإمَّا العَمَلُ ، وإمَّا المجْمُوع والكل فائِت عن الصَّبي .
وقال الشَّافِعِي ومالك والأوزاعِي وأبُو حنيفة : يُجْزئ الصَّبِي إذا كَانَ أحَد أبويه مُسْلِماً ، لأنَّ قوله : « ومن قتل مؤمناً [ خطأ ] » يَدْخُل فِيه الصَّغير فَكَذَا قوله : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } يدخل فيه الصَّغيرُ .
فصل
قال أبو بَكْر الأصم : وجمهور الخَوَارج : الدِّيَة واجبةٌ على القَاتِلِ لوجُوهٍ :
الأوَّل : لأنَّ قوله : « فتحرير رقبة » والمراد : إيجَابُها على القَاتِل لا عَلَى غَيْره بالإجْمَاعٍ فكذا الدِّيَّة؛ لأن اللَّفْظَ في الموضعَيْن وَاحِدٌ .
الثاني : أن الجِنَايَة إنَّما صَدَرت مِنْهُ ، والضَّمَان لا يَجِبُ إلاَّ على المُتْلِفِ ، أقصى ما في البَاب أنَّ هذا الفِعْل صَدَر عنه على سَبيل الخَطَأ ، والفِعْل الخَطَأ في قِيم المُتْلَفَاتِ وأروش الجنايَاتِ ، قائم مقام العَمْد ، وتلك لا تَجِب إلا على المُتْلِف فكذا هَهُنَا .
الثالث : أن العَاقِلَة لم يصْدر عَنْهم خيانة ، فلا يَجبُ عليْهم شَيْء؛ لقوله - تعالى- : { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا } [ الأنعام : 164 ] وقال : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت } [ البقرة : 286 ] « ورُوِيَ أنَّ أبا رَمْثه دَخَل على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ومَعَهُ ابْنُه ، فقال - عليه الصلاة والسلام- من هذا؟ فقال ابْني ، فقال : » إنَّه لا يَجِنِي عَلَيْك ولا تَجْنِي عليه « ومَعْلُوم أنَّه ليس المَقْصُود الإخْبَار عن نَفْسِ الجِنَايَة ، إنَّما المَقْصُود : بيان [ أن ] أثر جَنَايتكَ [ لا ] يَتَعَدَّى إلى وَلَدِكَ وبالعكس .
الرابع : إن النُّصُوص تدلُّ على أن مالَ الإنْسَان مَعْصُوم [ وأنه ] لا سبيل لأحَدٍ أن يأخُذَه منه ، قال- تعال- : { لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } [ النساء : 29 ] .
وقال عليه الصلاة والسلام : » كُلُّ امْرِئ أحَقُّ بِكَسْبِه « وقال : » حرمة مال المسلم كحرمة دمه « وقال : » لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس « تركنا هذه النُّصُوص في الأشْيَاءِ الَّتِي عرفنا بنصّ القُرْآن كَوْنَها مُوجِبَة لجوازِ الأخذ كالذَّكَوَات ، وأخذ الضَّمَانات ، وأمّا الدِّيَة على العَاقِلَة ، فالمُعْتَمَد فيه عَلَى خَبَرِ الواحِدِ ، وتَخْصِيصُ عُمُوم القُرْآنِ بخير الوَاحِدِ لا يجُوزُ؛ لأن القُرآن مَعْلُوم وخبر الوَاحِدِ مَظْنَون ، ولا يَجُوزُ تقديم المَظْنُونِ على المَعْلُومِ؛ ولأن هذا خَبَر وأحِدٍ وَرَدَ فيما تَعُمُّ به البَلْوَى؛ ولأنَّه خبر وَاحِدٍ ورد على مُخَالَفَةِ أصُولِ الشَّرِعةِ فوجب رَدُّه ، واحتجَّ الفُقَهَاءِ بما » رُوِيَ [ عن ] المُغيرةِ أنَّ امْرَأة ضَرَبَتْ بَطْنَ امْرَأةٍ ، فالقَت جَنباً ميّتاً ، فَقَضَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم على عَاقِلَة الضَّارِبَة بالغِرَّة ، فقام حَمْل بن مَالِك فقال : كَيْفَ نَدِي من لا شَرِبَ ولا أكَل ، ولا صَاحَ ولا اسْتَهَلَّ ، ومثل ذَلِكَ يُطِل ، فقال- عليه الصلاة والسلام- : هذا من سَجْع الجاهلية « .
وعن عمر- رضي الله عنه- فقُضِيَ عَلَى عَليَّ- رضي الله عنه- بأن يعقل عن مَوْلَى صَفية بنت عَبْد المُطَّلِب حين جَنَى موْلاَهَا ، وعَلِيٌّ كان ابْن أخِي صَفِيَّة وقضى للزُّبَيْر بمِيِيراثِهَا ، وهذا يَدلُلُّ على أنَّ الدِّيَة إنَّما تِجِبُ عَلَى العَاقِلَة .
فصل
مذهب الفُقَهَاء أنَّ دِيَة المرأة نِصْف دِيَة الرَّجُل ، وقال الأصَمُّ وابن عَطِيّة : ديتُها مِثْلُ دِيَةِ الرَّجُل ، واحْتَجَّ الفقهاء بأن عَليَّا ، وعُمَر ، وابن مَسْعُود قَضَوْا بذلك؛ ولأن المرأة في المِيراث والشَّهَادَةِ على النِّصْفِ من الرَّجُلِ ، فكذلك في الدِّيَة ، واستدل الأصَمُّ بهذه الآيَة قوله- تعالى- : { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ } وأجْمَعُوا على أنَّ هذه الآية دَخَلَ فيها حُكْم الرَّجُل والمرأة فوجب أن يكون الحُكْم ثَابِتاً فِيَها بالسويّة .
قوله : { إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } فيه قولان :
أحدهما : أنه اسْتِثْنَاء مُنْقَطِع .
والثاني : أنه متصلٌ .
قال الزمخشري : « فإن قُلْتَ : بِمَ تَعَلَّق » أن تصدقوا « وما مَحَلُّه؟ قلت : تَعَلَّق ب » عليه « أو ب » مسلمة « كأنه قِيلَ : وتَجِبُ عليه الديَّة أو يًسَلِّمُهَا إلا حِين يتصدَّقُون عليه ، ومَحَلُّها النَّصْب على الظَّرْف ، بتقدير حذف الزَّمَانِ ، كقولهم : » اجلس ما دام زَيْدٌ جالِساً « ، ويجُوز أن يكُون حَالاً من » أهله « بِمَعْنَى إلا مُتصدِّقين » . وخطَّأه أبو حيَّان في هذين التَّخْرِيجين .
أما الأوّل : فلأنَّ النَّحْويَّين نَصُّوا على مَنْع قِيَام « أنْ » وما بعدها مقامَ الظَّرْف ، وأنَّ ذلك ما تَخْتَصُّ به « ما » المَصْدَرِيّةُ ، لو قلت : « آتيك أن يَصِيحَ الدِّيكُ » أي : وقت صِيَاحه ، لم يَجُز .
وأما الثَّانِي : فنصَّ سِيبوَيْه على مَنْعِه أيضاً ، قال في قَوْلِ العرب : « أنْت الرَّجُل أن تُنَازِلُ ، أو أنْ تُخَاصِم » أي : أنْتَ الرَّجُل نزالاً ومُخَاصَمَة : « إنَّ انْتِصَابِ هذا انْتِصَابُ المَفْعُول من أجْلِه ، لأنَّ المُسْتَقْبَل لا يَكُون حالاً » فكونُه مُنْقَطعاً هو الصَّوابُ .
وقال أبو البَقَاءِ : « وقيل : هو مُتَّصِلٌ ، والمَعْنَى : فعليه دِيَةٌ في كُلِّ حَالٍ ، إلا في حال التَّصَدُّق عَلَيْه بِهَا » .
والجُمْهُور على « يصدقوا » بتشديد الصَّاد ، والأصل : يتصدَّقوا ، فأدْغمت التَّاء في الصَّاد ، ونُقِل عن أبيِّ هذا الأصل قِرَاءةٌ ، وقرأ أبو عمرو في رِوَاية عَبْد الوَارِثِ- وتُعْزى للحَسَن وأبي عَبْد الرَّحْمَن : - « تصدقوا » بِتَاءِ الخِطَاب ، والأصل : تتصَدَّقُوا بتَاءَيْن ، فأدغمت الثَّانِية ، وقُرئ : « تَصْدُقوا » بتاء الخِطَاب وتَخْفِيف الصَّاد ، وهي كالَّتِي قَبْلَها ، إلا أنَّ تَخْفِيفَ هذه بِحَذْفِ إحْدَى التَّاءَيْن : الأولَى أو الثَّانِية على خِلاف في ذلك ، وتَخْفيف الأولَى بالإدْغَام .
قوله [ -تعالى- ] : { فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } لما ذكر أوَّلاً أنَّ قتل المُؤمِن خَطَأ [ فيه ] تحرِيرُ رَقَبَة ، وتَسْلِيم الديَّة ، ذكر هُنَا أنَّ من قَتَل خَطَأ من قَوْم عَدُوٍّ لنا فَعَلَيْه تَحْرِير الرقبة ، وسَكَت عن الدِّيَة ، ثم ذَكَر بعده إنْ كان من قَوْمٍ بَيْنَكُم وبَيْنَهُم ميثَاقٌ ، وجَبت الدِّيَةُ ، فالسُّكُوت عن إيجَاب الدِّيَة ، ثم ذَكَر بعده إنْ كان من قًوْمٍ بَيْنَكُم وبَيْنَهُم ميثاقٌ ، وجَبت الدِّبَةُ ، فالسُّكُوت عن إيجَاب الدِّيَة هنا وإيجَابُها فِيمَا [ قبل هذه الآية ] وفيما بعد يدُلُّ على أنَّ الدِّيَة غير وَاجِبَة في هَذِه الصُّورَة ، وإذا ثبت هذا ، فَنَقُولُ : قوله - تعالى- : { مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ } إمَّا أن يَكُون المُرادُ مِنْهُ كَوْن هذا المَقْتُول من سُكَّان دَارِ الحَرْب ، أو كَوْنه ذا نَسَبٍ منْهُم .
والثاني بَاطِلٌ؛ لانعقاد الإجْمَاع على أن المُسْلِمَ السَّاكن في دَارِ الإسْلام ، وجَميع أقارِبِه كُفَّار ، فإذا قُتِلَ خَطَأ ، وجبت الدِّيَة في قَتْلِه ، فتعيَّن الأوَّل ، وهو كَوْن المَقْتُولِ خَطأ من سُكَّان دَارِ الحَرْبِ وَهُو مُؤمِنٌ ، فتجب [ فيه ] كَفَّارة بلا دِيَة .
قال الشَّافِعِي : كما دَلَّت هذه الآيَةُ على هَذَا المَعْنَى ، فالقياس يُقَوِّيه فأمَّا أنَّه لا تَجِبُ الدِّية ، فلأنَّا لو أوْجَبْنا الدِّيَة في قَتْل المُسْلِم السَّاكِن في دَارِ الحَرْب ، لاحْتَاج مَنْ يريدُ غَزْوَ دَارِ الحَرْب ، إلى أنْ يَبْحَث عَنْ كُلِّ أحدٍ أنه هَلْ هُوَ من المُسْلِمِيِن أمْ لا ، وذَلِكَ مما يَصْعب وَيشقُّ ، فيفضي إلى اْحترازِ النَّاسِ عن الغَزْوِ ، فالأوْلَى سُقُوط الدِّيَة عن قاتِله؛ لأنَّه الذي أهْدَرَ دَمَ نَفْسِه باخْتِيَار السُّكْنَى في دَارِ الحَرْب ، وأمَّا الكَفَّارة فإنَّها حَقُّ الله - تعالى-؛ لأنَّه قَتَل إنْسَاناً مُؤمِناً مُواظِبَاً على عِبَادة الله- تعالى- ، وقيل : المُرادُ منه : إذا كان المَقْتُولُ مُسْلِماً في دَارِ الإسلامِ ، وهو من نَسَبِ قوم كفارٍ ، [ وأقاربه ] في دار الحرب- حرب المسلمين- ففيه الكَفَّارةُ بِلا دِيَة [ لأهله ] ، وكان الحَارِثُ بن زَيْد من قوم كُفَّار حربٍ للمسلمين ، وكان فيه تَحْرِير رَقَبة ، ولم يَكُن فيه دِيّة؛ لأنَّه لم يَكُن بين قَوْمِه وبَيْن المُسْلِمِين عَهْد .
قوله : { وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً } فيه قولان :
أحدهما : أن المُرادَ مِنْه : المُسْلِم؛ لأنَّه - تعالى- ذكر أوّلاً حال المُسْلِم القَاتِل خَطَأ ، ثم ذكر حال المُسْلِم المَقْتُول خَطَأ إذا كان بَيْنَ أهْل الحَرْب ، ثم ذكر حال المُسْلِم [ المَقْتُول خَطَأ ] إذا كان بين أهْلِ العهد وأهْل الذِّمَّة ، ويؤكَّدُه قوله : « وإن كان » فلا بُدَّ من إسْنادِه إلى شَيْء تقدَّم ذِكْرُه وهو المُؤمِنُ المَنْقُول خَطَأ .
الثاني : أن المُرَاد منه : الذمي أو المُعاهد ، وهؤلاء طَعَنُوا في القَوْل الأوَّل من وُجُوه :
أحدها : أن المُسْلِم المَقْتُول خَطَأ سواءٌ كَانَ من أهْل الحَرْب أو من أهل الذِّمَّة ، فهو دَاخِلٌ تحت قوله : « ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة [ مؤمنة ] ودية مسلمة إلى أهله » فلو كان المُراد من هذه الآية هو المُؤمِن المَقْتُول من سُكَّان دَارِ الحَرْبِ ، فإنه - تعالى- إنما أعَادَهُ لبَيَانِ أنَّه لا تَجِبُ الدِّيَة في قَتْلِه ، فأمَّا هَهُنَا فَقَدْ أوْجَبَ الدِّيَة والكَفَّارة ، فلو كان المُرادُ هو المُؤمِن ، لكان تِكْرَاراً من غير فَائِدَةٍ ، وأنه لا يجُوزُ .
ثانيها : لو كان المُرادُ ما ذكَرْتُم لما كانَت الدِّيَة مُسَلَّمَة إلى أهله؛ لأنَّ أهْلَه كُفَّار لا يَرِثُونَهُ .
ثالثها : أن قوله : [ « وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق » ] يقتضي أن يكُونوُا مِنْ ذلك القَوْم في الوَصْفِ الذي وقع التَّنْصيص عليه ، وهو حُصُول المِيثاقِ بَيْنَهُمَا ، فإن كَوْنَه منهم مُجْمَل ، لا يَدْرِي أنَّه مِنْهُم في أيَّ الأمُور ، وإذا حَمَلنَاه على كَوْنِهِ مُعَاهداً ، [ وجب أن يكون مُعَاهداً أو ذمِّيّاً ] مثلهم ، ويمكن أن يُجَابَ عن هَذِه الأوجه :
أمَّا الأوَّل : فلأن الله- تعالى- ذكر حُكْم المُؤمِن المَقْتُول خَطَأ السَّاكِن في دَارِ الحَرْبِ ، وبيَّن أنَّ أهْلَ الذِّمَّة ، وبيَّن وُجُوب الدِّيَة ، وذكر القِسْم الثَّانِي ، وهو المُؤمِنُ المَقْتُول خَطَأ السَّاكن بين أهْلِ الذِّمَّة ، وبيَّن وُجُوب الدِّيَة ، والكَفَّارة في قَتْلِه ، والغَرَضُ منه : إظْهَار الفرق بَيْنَهُ وبين القِسْم الذي قَبْلَه .
والجَوَابُ عن الثَّاني : أن أهْلَه هم المُسْلِمُون الَّذِين تُصْرف الدية إليهم .
وأما الثالث : فإن كَلِمَة « من » صَارَت مُفَسرة في الآيَة السَّابِقة؛ بمعنى « في » ، يعن : في قوم عَدُوٍّ لكم ، فكذا هَهُنَا ، وفائِدَة هذا البَحْث تَظْهَر في مَسْألة شرعِيّة ، وهي أنَّ أبَا حَنِيفَة يرى أنَّ دِيَة الذِّمِّي مثل ديَة المُسْلِم .
وقال الشافعي : دية اليَهُودِيّ والنَّصْرَاني ثُلْث دِيَة المجوسي ، وقال غيره : نِصْف دِيَة المُسْلِم .
واحتج أبُو حَنيفَة بقوله : « وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق » والمرادُ به : الذِّمِّي ، ثم قال : « فدية » فأوْجَبَ فيهم تمام الدِّيَة .
وجَوَابُه : أن نَقُول : هذه الآية نَزَلَت في المُؤمِنِين كما بَيَّنَّا فَسَقط استدلاَلُه ، وبتقدير أن تَكُونَ نَزَلَت في أهْل الذِّمَّة ، فإنما وَجَبَ [ فيها ] مسمَّى دِيَة ، ولكن لم يُبَيِّن مِقْدَارَها ، فلم قُلْتُم بأنَّ الدِّية التي أوجَبَها في حَقِّ المُسْلِمِ ، بل لِكُلِّ دَيةٍ مقدارٌ مُعَيَّن ، فإن الدِّية هي المالُ المأخوذ الَّذي يؤدِّى في مقابَلَةِ النَّفْسِ .
فإن قيل : لِمَ قدَّم تَحْرِير الرَّقَبَة على الدِّيَة في الأولى ، وهَهُنا عَكَسَ؟
الجواب : أن الوَاوَ لا تُفِيد الترْكيب ، فتصيرُ كَقَوْله : { وادخلوا الباب سُجَّداً [ وَقُولُواْ حِطَّةٌ } ] [ البقرة : 58 ] ، وفي آية أخرى ، { وَقُولُواْ حِطَّةٌ وادخلوا الباب سُجَّداً } [ الأعراف : 161 ] .
فصل
والكفَّارة تكُون بإعْتَاق رَقَبَةٍ مؤمِنةٍ سواء كان المَقْتُول مُسْلِماً أو مُعاهِداً ، رجلاً أو امْرأةً ، حرًّا كان أو عَبْداً ، وتكُون في مَالِ القاتِل .
قوله - تعالى- : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ الله وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً } .
قوله : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } مفعولُه مَحْذُوفٌ : أي : فَمَنْ لم يَجِدْ رَقَبة ، وهي بِمَعْنَى وجدان الضَّالِّ ، فلذلك تَعَدَّتْ لِوَاحِدٍ ، وقوله : { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ } ارتفاعه على أحَدِ الأوْجه المذكُورة في قوله : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } وقد مَرَّ ، أي : فعليه صِيَامُ ، أو : فيجبُ عليه صِيَامُ ، أو فواجبه صِيَام .
قال أبُو البَقَاءِ ، ويجُوزُ في غَيْر القُرْآنِ النَّصْبُ على « فليصم صوم شهرين » . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الاسْتِعمَال المعروفَ في ذَلِكَ أنْ يُقَالَ : « صمت شهرين ويومين » ، ولا يَقولون : صُمْتُ صومَ- ولا صِيَامَ - شَهْرَين .
فصل
إذا كان وَاجِداً للرقبة ، أو قادراً على تَحْصِلَها بِثَمَنِها ، فاضِلاً عن نَفَقَتِه ونَفَقَة عِيَاله وحاجته من مَسْكَنٍ ونحوه ، فعليه الإعْتَاق ، ولا يَجُوز له الصَّوْم ، أو نَوَى صَوْماً أخَر ، وجب عليه الاستِئْنَاف ، فإن أفْطَرَ بعُذْرٍ مُرَخَّصٍ ، أو سَفَرٍ ، أو حيض : فقال النَّخْعِيُّ ، والشافعي في أظهر قَوْليه : يَنْقَطِع التَّتابُع ، وعليه الاستِئْنَاف .
وقال سعيد بن المسيَّب ، والحَسَن ، والشَّعْبِي : لا يَنْقَطِع ، ولو حَاضَت المَرْأة ، لم ينقطع التَّتَابُع ، لأنَّه لا يُمْكِنُ الاحتِرَازُ عنه؛ قال مَسْروقُ : فإن الصَّوْم بدلٌ من مَجْمُوع الكَفَّارَةِ والدِّيَة .
فصل : فيما إذا عجز عن الصوم هل يطعم؟
إذا عَجَز عن الصَّوْم هل يُطْعِم ستِّين مِسْكِيناً فيه قولان :
أحدهما : يطعم كالظِّهَار .
والثاني : لا؛ لأن المُشَرِّع لم يذكر له بَدَلاً .
أحدها : أنه مَفْعُول من أجْلِه ، تقديره : شَرَعَ ذلك توبةً منه .
قال أبو البَقَاءِ : ولا يجُوز أن يَكُون العَامِل : « صوم » إلا على حَذْف مُضَافٍ ، أي : لوقوعِ تَوْبَة [ من الله ] أو لحُصُول توبة [ من الله ] . يعني : أنه إنما احْتَاج إلى تَقْدِير ذلك المُضَافِ ، ولم يقل إن العَامِل هو الصِّيَام؛ لأنه اختلَّ شَرْطٌ من شروطِ نَصْبه؛ لأنَّ فاعلَ الصِّيَام غيرُ فاعل التَّوبَة .
الثاني : أنها مَنْصُوبةٌ على المَصْدَر أي : رجُوعاً منه إلى التَّسْهِيل ، حيث نَقَلكم من الأثْقَلِ إلى الأخَفِّ ، أو توبة مِنْه ، أي : قَبُولاً منه ، مِنْ تاب عَلَيْه ، إذا قبل تَوْبَته ، فالتقدير : تابَ عليكم تَوْبَةً [ مِنْه ] .
الثالث : أنها مَنْصُوبةٌ على الحَالِ ، ولكن على حَذْفِ مُضَافٍ ، تقديره : فَعَليه كذا حالَ كَوْنِهِ صَاحِبَ توبةٍ ، ولا يجُوز ذلك من غَيْر تَقْدِير هذا المضاف؛ لأنك لو قُلْتَ : « فعليه صِيَامُ شهريْنِ تَائِباً من الله » لم يَجُزْ ، و « من الله » في مَحَلِّ نَصْب؛ لأنه صِفَةٌ ل « توبة » فيتعلَّقُ بمحْذُوف .
فإن قيل : الخَطَأ لا يَكُون مَعْصِية ، فما مَعْنَى قوله : { تَوْبَةً مِّنَ الله } .
فالجواب من وجوه :
الأول : أنَّ فيه نَوْعاً من التَّقْصِير ، فإنَّ الظَّاهِر أنَّه لو بَالَغ في الاحْتِيَاطِ والاسْتِكْشَافِ لما تعذر عليه الفعل ، ألا تَرَى أن من قَتَل مُسْلِماً يظنه حَرْبيَّا ، فلو بالغ في الاستكشافِ ، فالظَّاهر أنَّه لَمْ يقَعْ فيه ، ومن رمى صَيْداً فأصَاب إنْسَاناً ، فلو احتاطَ ولم يَرْمِ إلاَّ في مَوْضع يَقْطَع بأنه ليس هُناك إنْسَان ، فإنَّه لا يقع في تلك الواقعة؛ فقوله : { تَوْبَةً مِّنَ الله } تنبيه على أنه كَانَ مُقَصِّراً في ترك الاحْتِيَاطِ .
وثانيها : أن قوله : { تَوْبَةً مِّنَ الله } راجعٌ إلى أنَّه - تعالى- أذِن لهُ في إقَامة الصَّوم مقامَ الإعْتَاقِ عند العَجْزِ عنه؛ لأن الله - تعالى- إذا تَابَ على المُذْنِبِ ، فقد خَفَّفَ عَنْه ، فلما كان التَّخْفِيف من لَوَازِم التَّوْبَة ، أطلف لَفْظَ « التوبة » لإرادة التَّخْفِيف؛ إطلاقاً لاسْمِ المَلْزُوم على اللاَّزِم .
وثالثها : أن المُؤمِن إذا اتَّفق له مِثْل هذا الخَطِأ ، فإنه يَنْدَم ويتمنَّى ألاَّ يكون ذلك ممَّا وقَع ، فسمَّى الله ذلك النَّدم والتَّمنِّي تَوْبَة .
ثم قال -تعالى- : { وَكَانَ الله عَلِيماً } بأنَّه لن يقْصِد « خطأ » لما حَكَم بِهِ عَلَيْه ، ولم يؤاخِذُهُ بذلك الفَعْل الخَطَأ ، فإن الحَكْمَة تقتضي ألاّ يُؤاخذ الإنْسَان إلا بما يَتَعَمَّد .
قال أهل السُّنَّة : أفعال الله- تعالى- غير معلَّلَةٍ برعاية المَصَالِحِ ، ومعنى كونه « حكيماً » : كونه عَالِماً بعواقِبِ الأمُور .
قال المعتزلة : هذا باطِلٌ؛ لأنه - تعالى- عطف الحَكيم على العَلِيم ، فَلَو كان الحَكِيم هو العَليم ، لكان عَطْفَاً للشَّيْء على نَفْسِه ، وهو مُحَالٌ .
الجواب : أن كل موضع في القُرْآن [ ورد فيه ] الحكِيم معْطُوفاً على العَلِيم- كان المُراد من الحَكِيم : كونه مُحْكَماً في الفِعْل ، فالإتقان ، والإحْكَام ، عائدٌ إلى كيفيَّة الفعلِ .
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
لما ذكر القتْل الخَطَأ ، ذكر بعده بيان حُكم قتل العَمْدِ ، وله أحكام مِثْل وُجُوب القِصَاص والديَّة ، وقد ذُكر في سُورة البَقَرة عند قوله- [ تعالى ] - { ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى } [ البقرة : 178 ] لا جرم اقْتَصَر هَهُنَا على بَيَان الإثْمِ والوَعِيد .
وقوله : « معتمداً » : حالٌ من فَاعِل « يقتل » ، وروي عن الكَسَائِيّ سكون التَّاء؛ كأنه فَرَّ من تَوالِي الحَرَكات ، و « خالداً نصْبٌ على الحَالِ من محْذُوف ، وفيه تقديران :
أحدهما : » يجزاها خالداً فيها « فإنْ شِئْتَ جَعَلْتَه حالاً من الضَّمِير المَنْصُوب أو المَرْفُوع .
والثاني : » جازاه « ، بدليل { وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ } فعطفَ المَاضِي عليه ، فعلى هذا هي حَالٌ من الضَّمِير المنصوب لا غيرُ ، ولا يجُوزُ أن تكون حالاً من الهَاءِ في » جزاؤه « لوجهين :
أحدهما : أنه مُضَافٌ إليه ، [ ومَجِيْ الحَالِ من المُضَاف إليه ] ضعِيفٌ أو مُمْتَنع .
والثاني : أنه يُؤدِّي إلى الفَصْلِ بين الحَالِ وصاحبها بأجْنَبِيٍّ ، وهو خبرُ المبتدأ الذي هو » جهنم « .
فصل : سبب نزول الآية
نَزَلَت [ هذه الآية ] في مقيس بن ضبابة الكِنْدِي ، وكان قد أسْلَم هو وأخُوه هِشَامٌ ، فوجد أخَاه هِشَاماً قَتِيلاً في بَنِي فهر إلى بَنِي النَّجَّار ، فأتى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له [ ذلك ] ، فأرسل رسُول الله صلى الله عليه وسلم معه رَجُلاً من بَنِي النَّجَّار؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمُرُكم إن عَلِمْتُم قاتل هِشَام بن ضبابة [ أن تدفَعُوه ] إلى مقيس فيقتصَّ منه ، وإن لم تَعْلَمُوه أن تَدْفَعُوا إليْه ديته ، فأبلغهم الفِهري ذلك : فَقَالوا : سمعاً وطاعَةً لله ولرسُولِه ، ما نَعْلَم له قَاتِلاً ولكنَّا نُؤدِّي ديته ، فأعطوه مِائة من الإبل ، ثم انْصَرَفَا راجِعَيْن إلى المّدِينَة ، فأتَى الشَّيْطَان مقيساً فوسْوَس إليه ، فقال : تقبل دِيَّة أخيك فَتَكُون عليك مَسَبَّة ، اقْتُل الذي ركب بَعِيراً منها وسَاقَ بقيَّتِها راجعاً إلى مَكَّة [ كَافِراً ] فنزل فيه : » ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها « بكفره وارتداده ، وهو الَّذِي استثْنَاه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يوم فَتْح مَكَّة عَمَّنْ أمَّنَهُ ، فَقُتِل وهو مُتَعَلِّق بأستار الكَعْبَة ، { وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ } [ أي : طَرَدَهُ عن الرَّحْمَة ] { وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } .
فصل : اختلاف العلماء في شبه العمد
قال القرطبي : ذكر الله- عز وجل- في كتابه العَمْد والخطأ ، ولم يذكر شِبْهَ العَمْد ، وقد اختلف العُلَمَاءِ في القَوْل به :
فقال ابن المُنْذِر : وأنكر ذَلِكَ مَالِك؛ وقال : ليس في كِتاِ الله إلا العِمْدَ والخَطَأ وذكره الخَطَّابي أيضاً عن مَالِك ، وزاد : أما شبه العَمْد فلا نَعْرِفُه .
قال أبو عمرو : أنكر مَالِك واللَّيْث بن سَعْد شبه العَمْد ، فمن قُتِلَ عِنْدَهُمَا بما لا يَقْتُل مثلُه غَالِباً؛ كالعضَّة واللَّطْمة ، وضرب السَّوْط ونحوه؛ فإنه عَمْد وفيه القَوَد ، قال : وهو قول جَمَاعَةٍ من الصَّحَابة والتَّابعين ، وذهب جُمْهُور فقهاءِ الأمْصَار إلى أن هذا كُلّه شبع العًمْد .
قال ابن المُنْذِر : شبْه العمد يُعْمَل به عِنْدَنا ، وممن أثبت شِبْه العَمْ الشَّعْبيُّ ، والحَكَم ، وحمَّاد ، والنَّخعِيُّ ، وقتادَةُ ، وسُفْيَان الثَّوْريُّ ، وأهل العِرَاقِ والشافعي وأحمد ، وذُكِرَ عن مالكٍ ، ورُوِيَ عن عُمَر بن الخَطَّاب ، وعن عَلِيّ بن أبي طَالِبٍ- رضي الله عنهم أجمعين- .
فصل فيمن تلزمه دية شبه العمد
أجَمعُوا على أن دِيَة العَمْد في مالِ الجَانِي ، ودية الخَطَأ على عاقِلَتِه ، واختلفُوا في دية شبه العَمْد :
فقال الحَارِث العُكْلِي ، وابن أبي لَيْلَى ، وابن شُبْرُمة ، وقتادة ، وأبو ثَوْر [ هي ] في مال الجَانِي .
وقال الشَّعْبي ، والنَّخْعِيّ ، والحَكَم ، والشَّافِعِيّ ، والثَّوْرِيّ ، ومحمد ، وأحْمَد ، وإسْحق ، وأصحاب الرَّأي : [ هي ] على العاقلة .
قال ابن المُنْذِر : وهو الصَّحِيحُ : لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الجَنِين على عاقِلة الضَّارِبَة .
فصل
اخْتَلَفُوا في حُكْم هذه الآية :
[ فَرُوِي ] عن ابن عبَّاس أن قاتِل المرمن عَمْداً لا توبةَ لَهُ ، فقيل له : أليْس قد قال الله - تعالى- في سورة الفُرْقَان : { وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق } [ الفرقان : 68 ] إلى قوله { وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ } [ الفرقان : 68- 70 ] فقال : كانت هذه الآيةُ في الجاهِليَّة وذلك أن أناساً من أهْل الشِّرْك [ كانوا ] قد قَتَلُوا وزَنوا ، فأتَوا رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إن الذي تدعُو إليه لَحَسنٌ ، لو تخبرنا أنَّ لما عَلِمْنَا كَفَّارَة ، فنزلت : { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ } [ الفرقان : 68 ] ، إلى قوله { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ } [ الفرقان : 70 ] فهذه لأولَئِك ، وأما الَّتي في النِّسَاء؛ فالرَّجل الذي إذا عرف الإسْلام وشرائِعَه ، ثم قتل مُسْلماً متعمداً فجزاَؤُه جَهَنَّم .
وقال زيْد بن ثابت : لما نزلت الآيةُ التي في الفُرْقَان { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ } [ الفرقان : 68 ] ، عجبنا من لينها ، فلبثْنَا سبْعَة أشْهر ثم نزلت الغَلِيظَة بعد اللَّيِّنَة ، [ فنزلت ] فَنَسَخَتْ الليِّنة ، وأراد بالغَلِيِظَة هذه الآية ، وبالَّيِّنَة أية الفُرقان .
وقال ابن عبَّاسٍ : تلك آية مكِّيَّة ، وهذه مَدَنيِّة نزلت ولم يَنْسَخْهَا شيء .
وذهب أهل السُّنَّة إلى أن قَاتِل المُسْلِم عَمْداً توبته مَقْبُولة؛ لقوله - تعالى- { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً } [ طه : 82 ] ، وقال : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] ، وما رُوي عن ابن عبَّاسٍ؛ فهو تَشديد ومُبَالغَة في الزَّجْرِ عن القَتْلِ ، وليس في الآيَة متعلِّق لمن يَقُول بالتَّخْليد في النَّار بارتكاب الكبائر؛ لأن الآية نزلَتْ في قَاتِل [ وهو ] كَافِرٌ ، وهو مقيس بن صبابة ، وقيل : إنَّه وعيد لمن قَتَل كافراً مُخَلّداً في النَّارِ .
حكي أنَّ عمرو بن عُبَيْد جاء إلى عمرو بن العَلاءِ ، فقال : هل يُخْلِف الله وعده؟ فقال : لا ، فقال : ألَيْسَ قد قال- تعالى- : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا } فقال أبو عَمْرو : من العَجَم أتَيْت يا أبا عُثْمان : إن العرب لا تَعُدُّ الإخلاف في الوعيد خُلْفاً وذمَّا وإنَّما تَعُدُّ إخلاف الوَعْد خُلْفاً ، وأنشد [ شعراً ] : [ الطويل ]
1864- وأنَّي مَتَى أوْعَدْتُهُ أوْ وَعَدْتُهُ ... لَمُخْلِفُ إيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدي
والدَّليل على أن غير الشِّرْك لا يُوجِب التَّخْلِيد في النَّارِ ، قوله عليه الصلاة والسلام « مَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بالله شَيْئاً ، دخل الجنة » وروي [ عن ] عبادة بن الصَّامِتِ - رضي الله عنه-؛ « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لَيْلَة العَقَبَة - وحوله عِصَابة من أصْحَابِه- : » بايِعُوني على ألاَّ تُشْرِكُوا بالله شَيئاً ، ولا تَسْرِقُوا ولا تَزْنُوا ، ولا تَقْتُلُوا أوْلادكم ، ولا تأتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونه بين أيْدِيكُم وأرْجُلِكُم ، ولا تَعْصُوا في مَعْرُوفٍ ، فَمَنْ وفَّى مِنْكُم ، فأجْرُه على الله ، ومن أصابَ من ذَلِكَ [ شيئاً ] فعُوقِبَ في الدُّنْيَا ، فهو كَفَّارة له ، ومن أصَابَ من ذَلِكَ شَيْئاً ثم سَتَرهُ الله عَلَيْه ، فهو إلى الله إن شاء عفا عنه ، وإن شاء عَاقَبَه « فبايَعْنَاه على ذَلِكَ .
وذكر الوَاحِدِي : أن الأصْحَاب سلكوا في الجَوَابِ عن هَذِه الآيَة طُرُقاً كَثِيرة ، قال : وأنَا لا أرْتَضِي شَيْئاً منها؛ لأنّ الذي ذَكَرُوا إما تَخْصِيصٌ ، وإما معَارَضَة ، وإما إضْمار ، واللَّفظ لا يَدُلُّ على شيء من ذَلِك ، قال : والَّذي اعْتَمَدُوه وجهان :
الأول : إجْماع المفسِّرين على أن الآيَة نزلت في كَافِرٍ قتل مُؤْمِناً ، ثم ذكر تِلْك القِصَّة .
والثاني : أن قوله : { فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ } معناه الاسْتِقْبَال ، والتقدير : إنه سيجزى بجهنم ، وهذا وعيد ، قال : وخُلْفُ الوَعِيد كَرَم .
قال ابن الخَطِيب : والوَجْه ضعيفٌ؛ لأن العِبْرة بعُمومِ اللَّفْظ لا بخصوص السَّبَبِ ، وأيضاً ثَبَتَ في أصُول الفِقْهِ؛ أن [ ترتيب ] الحُكْم على الوَصْفِ المُنِاسِب ، يدلُّ على كَوْن ذلك الحُكْم علَِّة لذلِك؛ كقوله : { والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا } [ المائدة : 38 ] ، و { الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا } [ النور : 2 ] ، دلَّ ذَلِك على أن المُوجِبَ لهذا الوَعِيد هو الكُفْر دون القَتْلِ العَمْد ، وإن كَان المُوجبُ هو الكُفْر ، وكان الكُفْر حَاصِلاً قبل هذا القَتْل ، فحينئذ لا يَكُون للقَتْل أثراً ألْبَتَّة في هذا الوَعِيد ، ويكُون هذا الكلام جَارياً مُجْرَى قوله من [ يتعمد قَتْل ] نفس فجزاؤه جَهَنم خَالِداً فيها؛ لأن القَتْل العَمْد ما لم يكُن له أثر في الوَعِيد ، وذلك بَاطِل ، وإن كان المُوجِب لهذا الوعيد [ كونه ] قَتْلاً عَمْداً ، فلزم أن يُقَال : أيْنَمَا حصل القَتْل العَمْد ، حصل هذا الوعيد؛ فثبت أن هذا الوَجْه الذش ارتَضَاه الوَاحِدِيّ ليس بِشَيْء .
وأما الوحه الثاني : فهو في غَايَة الفَسَادِ؛ لأن الوعيدَ قَسْمٌ من أقْسَام الخَبَر ، فإذا جَوَّزْنا الخُلْف فيه على الله ، فقد جَوَّزْنا الكَذِب على الله -تعالى- يوصِلُ هذا الجَزَاءَ إلَيْه أم لا ، وقد يقُول الرَّجُل لعَبْدِه : جزاؤُكَ أن أفْعَلَ بك كَذَا وكَذَا ، إلا أنِّي لا أفعَلُ ، وهذا الجوابُ أيضاً ضَعِيفٌ ، لأنَّه ثبت بهذه الآيةِ أن جزاء القَتْل العَمْد هو ما ذُكِر ، وثبت بسَائر الآيَاتِ أنه -تعالى- يوصل الجَزَاء إلى المسَحِقِّين؛ قال -تعالى- :
{ مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ } [ النساء : 123 ] ، وقال : { وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 8 ] .
قال ابن الخطيب : واعلم أنّا نَقُول [ أن ] هذه الآيَة مَخْصُوصة في مَوْضِعَيْن :
أحدهما : أن يكون القَتْل [ العَمْد ] غير عُدْوان؛ كما في القِصَاص ، فإنه لا يَحْصُل فيه هذا الوعِيد ألْبَتَّة .
والثاني : القتل العَمْد العثدْوَان إذا تَاب عنه لا يَحْصُل فيه هذا الوعيد ، وإذا ثبت دُخُول التَّخْصِيص فيه في هاتني الصُّورتَيْن فيدخُلُه التَّخْصيص فيما إذا حَصَل العفو فيه؛ بدليل قوله : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
لما نهى عن قتل المُؤمِن ، أمر المُجَاهِدِين بالتَّثَبُّت في القتل؛ لئلاَّ يسْفَكُوا دماً حَرَاماً بتأويل ضَعِيفٍ ، والَّرْب في الأرْض مَعْنَاه : السَّيْر فيها بالسَّفر للتِّجَارة والجِهَاد ، وأصْله من الضَّرْب باليَدِ ، وهو كِنَايَة عن الإسْرَاع في السَّيْر ، فإن من ضَرَب إنْساناً ، كانت حَرَكة يَدِهِ عند ذلك الضَّرْب سَرِيعَة .
قال الزَّجَّاج : معنى « ضربتم في سبيل الله » : إذا غَزَوْتُم وسِرْتُم إلى الجِهَاد .
قال القُرْطُبي : تقول العَرَب : ضَرَبْتُ في الأرْضِ ، إذا سِرْتَ لِتِجَارَةٍ أو غزوٍ أو غيره مُقْتَرِنَة بفي ، وتقول : ضَرَبْت الأرْض دون « في » إذا قَصَدْت قَضَاء حَاجَة الإنْسَان؛ ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام- : « لا يَخْرُجُ الرَّجُلان يضربان الغَائِطَ يتحدَّثَان ، كَاشِفين عن فَرْجَيْهما ، فإن الله يَمْقُتُ على » ذَلِكَ « وفي » إذا « مَعْنَى الشَّرْط ، فلذلك دَخَلَت الفَاءُ في قوله : » فتبينوا « وقد يُجَازى بها كقوله : [ الكامل ] .
1865أ- ... وإذا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلِ
والجيِّد ألا يُجَازى بها لقول الشَّاعر : [ الكامل ]
1865ب- والنَّفْسُ رَاغِبَةٌ إذَا رَغَّبْتَهَا ... وإذَا تُرَدُّ إلَى قَلِيلٍ تَقْنَعُ
قوله : » فتبينوا « : قرأ الأخوان من التَّثبُّت ، والباقُون من البَيَان ، هما متقاربان؛ لأن مَنْ تَثبت في الشَّيْء تَبَيَّنه ، قاله أبو عبيد ، وصحَّحه ابن عطيَّة .
وقال الفَارِسيّ : » التثبُّت هو خَلاَف الإقْدَام والمُراد التَّأنِّي ، والتَّثَبُّت أشد اخْتِصَاصاً بهذا المَوْضِع؛ بدل عليه قوله : { وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } [ النساء : 66 ] أي : أشدٌّ وَقْعَاً لهم عَمَّا وُعِظُوا به بألاَّ يُقْدِمُوا عليه « فاختار قراءة الأخوين .
وعكس قومٌ فرجَّحوا قراءة الجماعة ، قالوا : لأن المتثبِّت قد لا يَتَبيَّن ، وقال الرَّاغب : لأنه قلَّ ما يكون إلا بَعْدَ تثبُّت ، وقد يَكُون التَّثبُّت ولا تبيُّنَ ، وقد قُوبِل بالعَجَلَة في قوله- عليه الصلاة والسلام- : » التبيُّن من الله والعَجَلُة من الشيطان « وهذا يُقَوِّي قراءة الأخَوَيْن أيضاً ، و » تَفَعَّل : في كلتا القراءتين بمعنى الدال على الطَّلب ، أي : اطلبوا التثّبُّت أو البيان .
وقوله : « لمن ألقى » اللام للتَّبْلِيغ هنا ، و « من » مَوْصُولة أو مَوْصُوفة ، و « ألقى » هنا ماضي اللَّفْظِ ، إلا أنه بمعنى المُسْتقبل ، أي : لمن يُلْقَى ، لأنَّ النهيَ لا يكونُ عمّا وقع وانْقَضَى ، والمَاضِي إذا وقع صِلَة ، صَلح للمُضِيِّ والاسْتِقْبَال .
وقرأ نافع وابن عَامِر وحَمْزة : « السَّلَم » بفتح السِّين واللام من غير ألف ، وباقي السَّبْعَة : « السَّلام » بألف ، ورُوي عن عَاصِمٍ : « السَّلْم » بكسر السِّين وسكون اللام ، فأما « السَّلام » فالظَّاهِر أنه التَّحيّة .
والمعنى : لا تُقُولوا لمن حَيَّاكم بهذه التَّحِيّة إنه إنَّما قَالَها تَعَوُّذَاً فتُقْدِمُوا عليه بالسَّيْف لتأخذوا مَالَه ، ولكن كُفُّوا عَنْهُ ، واقْبَلُوا منه ما أظْهَرَهُ .
وقيل : مَعْنَاه : الاستسْلام والانْقِياد ، والمعنى : لا تَقُولوا لمن اعْتَزَلَكُم ولم يقاتلكم : لَسْتَ مُؤمِناً ، وأصْل هذا من السَّلامة؛ لأن المعتزل عن النَّاس طالبٌ للسَّلامة .
والسّلامةُ والسَّلَمُ - بفتحهما- الانقِيَاد فقط ، وكذا « السَّلْم » بالكسر والسُّكُون ، وقرأ الجَحْدري بفتحها وسُكُون اللام ، وقد تَقَدَّم [ القول فيها ] في البقرة ، والجُمْلَة من قوله : « لست مؤمناً » في محل نَصْب بالقَوْل؛ والجُمْهُور على كَسْر الميم الثَّانِية من « مؤمناً » اسم فاعل ، وأبو جعفر بفتحها اسم مَفْعُول ، أي : لا نُؤمِّنك في نَفْسِك ، وتُرْوَى هذه القِرَاءَة عن عَلِيٍّ وابن عبَّاس ويَحْيَى بن يَعْمُر .
قوله : « تبتغون » في محل نَصْبٍ على الحَالِ من فَاعِل « يقولوا » أي : لا تَقُولوا ذلك مُبْتَعِين .
فصل
ذَكُروا في سَبَب النُّزُول روايتين :
الأولى : أن الآية نزلت في « رجُلٍ من بَنِي مُرَّة بن عَوْف ، يقال له : مرداس بن نهيك رَجُل من أهْل فدك ، أسْلَم ولم يُسْلِم من قومِهِ غيره ، فَسَمِعُوا [ بسرية ] رسول الله صلى الله عليه وسلم تُريدهم ، وكان على السَّريَّة رجُلٌ يقال له : غَالِبُ بن فَضَالَة اللَّيْثي ، فهربوا وأقَام الرَّجُل؛ لأنَّه كان مُسْلِماً ، فلما رأى الخيل خَافَ أن يكُونُوا من غَيْر أصْحَاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [ فألْجأ غَنَمَه إلى عاقُول من الجَبَل وصعد هو الجبل ، فلمَّا تلاحَقُوا وكثروا ، سَمِعَهُم يكَبِّرون ، فلما سمع التكبير ، عَرَف أنهم من أصْحَاب رسُول الله صلى الله عليه وسلم فكَبَّر ونَزَل ] وهو يقول : لا إله إلا الله [ محمد رسُول الله ] ، السلام عليكم ، فتغشّاه أسَامةُ بن زيْدٍ فَقَتَلَهُ واسْتاق غَنَمه ، ثم رَجَعُوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه ، فوجَدَ عليه وَجْداً شديداً ، وقد [ كان ] سَبَقَهُم قبل ذلك الخَبَر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم » قتلتموه إرادة ما معه؟ « ثم قرأ الآية على أُسَامَة بن زَيْد ، فقال : يا رسول الله ، اسْتَغْفِرْ لي ، فقال : فكيف تَصْنَعُ بلا إله إلا الله؟
قال أسامة : فما زال يُعِيدُها حتى وَدِدْت أنِّي لم أكُنْ أسْلَمت إلاّ يَومْئذٍ ، ثم استَغْفَر لي وقال : » أعتق رقبة « .
ورَوَى أبو ظبيان عن أسَامة؛ قال : قلت يا رسُول اللهِ؛ إنما قَالَها خوْفاً من السِّلاح ، قال : » أفَلا شَقَقْتَ عن قَلْبِه ، حَتَّى تَعْلَم أقالَهَا أمْ لا « .
الثانية : روى عِكْرمة عن ابن عبَّاسٍ؛ قال : مرَّ رجلٌ من بَنِي سليم على نَفَرٍ من أصْحَاب رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعه غَنَمٌ له فسلَّم عليهم ، قالوا : ما سلَّم عليكم إلا ليتعوذ مِنْكُم ، فقاموا فقتلُوه وأخَذُوا غَنَمَه ، فأتَوْا بها إلى رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأنزل اللَّهُ هَذِه الآيَة :
الثالثة : » أن المِقْدَاد بن الأسْوَد وقعت له وَاقِعَة مثل وَاقِعَة أُسَامة ، قال : فقلت يا رسول اللَّه ، أرأيت إن لَقِيتُ رجُلاً من الكُفَّار يقاتِلُنِي ، فَضَربَ إحْدَى يَدَيَّ بالسَّيْف ، ثم لازمني بشجرةٍ ، ثم قال : أسْلَمْتُ لله -تعالى- ، أفأقاتِلُه يا رسُول الله بَعْد ذَلِك؟ فقال رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم : لا تَقْتُلْهُ ، فقال : يا رسُول الله إنه قَطَعَ يَدِي ، فقال -عليه الصلاة والسلام- : لا تَقَتْلُه ، فإن قَتَلْتَهُ ، فإنه بمنزِلَتِك بعد أن تَقْتُلَهُ ، وأنت بِمَنْزِلَِتِه قبل أن يَقُول كَلِمَتَهُ التي قَالَها « .
فصل
قال أكثر الفُقَهاء : لو قال اليَهُودِي والنَّصْرَاني : أنا مُؤمِنٌ أو أنا مُسْلِمٌ ، لا يحكم بإسلامهِ بهذا القَدْرِ ، لأن مَذْهَبَه أن الَّذِي هو عليه هو الإسْلام وهو الإيمانِ ، ولو قال : لا إله إلا اللَّه محمَّدٌ رسُول الله ، فعِنْد قوم [ لا يحكَمُ بإسلامهِ ] ؛ لأن فيهم من يَقُول : إنه رسُولُ الله إلى العَرَب لا إلى الكُلِّ ، وفيهم من يَقُول : إنَّ محمَّداً الذي هو الرسُول الحَقُّ لم يجىء بَعْدُ وسيجيء بَعْد ذَلِك؛ بل لا بُد بأن يعْتَرِف بأنَّ الَّذِي كان عَلَيْه بَاطِلٌ ، وأن الدِّين الموْجُود بين المُسْلِمِين هو الحَقُّ والفَرْضُ .
قال أبُو عبيدة جميع متاع الدُّنْيَا عَرَضٌ بفتح الرَّاء ، يقال : إن الدُّنْيَا عَرَضٌ حاضر يأخُذُ منها البَرُّ والفَاجِرُ ، والعَرْض بسُكُون الرَّاءِ ما سِوَى الدَّرَاهِم والدَّنَانِير ، وإنما سُمي مَتَاعُ الدُّنْيا عَرَضاً؛ لقلة لَبْثهِ .
قوله -تعالى- : { فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } يعني : ثواباً كثيراً ، وقيل : مغانم كثيرة لِمَنِ اتَّقى قَتْلَ المُؤمِن ، والمَغَانِم : جمع مَغْنَم ، وهو يصلح للمَصْدَر والزَّمَان والمَكَان ، ثم يُطْلَق على ما يُؤخَذُ من مال العَدُوِّ في الغَزْوِ؛ إطلاقاً للمَصْدَر على اسْمِ المَفْعُول ، نحو : « ضَرْب الأمِير » .
قوله : « كذلك » هذا خبر ل « كان » قُدِّم عليها وعَلَى اسْمِها ، أي : كُنتم من قَبْل الإسْلام مثلَ مَنْ أقْدَمَ ولم يَتَثَبَّتْ ، وهذا يقتضي تشبيه هؤلاء المُخَاطبين بأولَئِك الَّذِين ألْقوا السَّلم ، وليس فيه بَيَانٌ للمُشَبَّه فيما إذا قِيلَ : المُرَادُ أنكم أوَّل ما دَخَلْتُم في الإسْلام ، فبمجرّد ما سُمعَتْ من أفْواهِكم كَلِمة الشَّهَادة ، حقنت دماؤكم وأمْوالُكُم من غير تَوقِيفٍ ذلك على حُصُول العِلْمِ بأن قَلْبكُم موافِقٌ لما في ضمائِركم فعليكُم بأن تَفْعَلُوا بالدَّاخلين في الإسْلامِ كمَا فُعِل بكم ، وأن تَعْتَبروا ظَاهِر القَوْل ، وألاَّ تقولوا إن إقْدامَهُم على الإسلام لأجْلِ الخَوْف من السَّيف ، هذا إخْبَار أكثر المُفسِّرين ، وفيه إشْكَالٌ؛ لأن لهم أن يَقُولوا : ما كان إيمانُنَا مثل إيمان هَؤلاء؛ لأنا آمَنَّا عن الطواعِيَة والاخْتِيَار ، وهؤلاء أظْهَرُوا الإيمَان تحت ظلال السُّيُوف ، فكيف يُمْكِن تشبيه أحَدهما بالآخر! .
قال سعيد بن جُبَيْر : المُرَاد أنكم كُنْتُم تكْتُمون إيمانَكُم عن قَوْمِكم؛ كما أخْفَى هذا الدَّاعِي إيمانَهُ عن قومه ، ثم مَنَّ الله عَلَيْكُم بإعْزَازكم حتى أظْهَرْتُم دينكم ، فأنتُم عامِلُوهم بمثل هذه المُعَامَلَة ، وهذا أيضاً فيه إشْكَالٌ؛ لأن إخْفَاء الإيمَانِ ما كان عامّاً فيهم .
قال مُقاتل : المراد كذلك كُنْتُم من قبل الهِجْرَة حين كُنْتُم فيما بين الكُفَّار ، تأمَنُون من أصْحَاب رسُول الله بكَلِمَة « لا إله إلا الله » فأقْبَلُوا منهم مثل ذلِك .
وهذا يتوجه عليه الإشكال الأول . [ قال ابن الخطيب ] والأقْرَبُ أن يُقَال : إنَّ من يَنْتَقِل من دينٍ إلى دينٍ ، فَفِي أول الأمْر يَحْدُث ميلٌ قليل بسبب ضعيفٍ ، ثم لا يَزَال ذلك المَيْل يتأكد ويتَقَوَّى إلى أن يَكْمُل ويستحكم ويَحْصُل الانْتِقَال؛ فكأنه قيل لهم : كُنْتم في أول الأمْرِ إنما حَدَث فِيكُم ميلٌ ضعيف بأسْبَابٍ ضعيفةٍ إلى الإسْلام ، ثم مَنَّ الله عَلَيْكُم بالإسْلام بتَقْوِيَة ذلك المَيْل وتأكِيد النَّفْرة عن الكُفْر؛ فكذلك منهم هذا الإيمَان ، فإن الله -تعالى- يؤكد حلاوة الإيمَانِ في قُلُوبهم ، ويقوِّي تلك الرَّغْبَة في صُدُورهم .
قوله -تعالى- : { قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ } الظَّاهِر أن هذه الجُمْلَة من تَتِمَّة قوله : « كذلك كنتم من قبل » فهي مَعْطُوفة على الجُمْلَة قَبْلَها ، والمعنى : إيمانُكُم كان مِثْل إيمانِهِم ، في أنَّه إنَّما عرف منكم بِمُجَرَّد القَوْل اللِّسَاني ، دون ما في القلب ، أو [ في ] أنه كان في ابْتِدَاء الأمْرِ حاصلاً بِسَببٍ ضَعِيفٍ ، ثم مَنَّ الله عَلَيْكم : حيث قوى نُورَ الإيمَانِ في قُلُوبِكُم ، وحَبَّبَه لكم وأثابكم عَلَى العَمَل بِهِ .
وقلي : بل هي من تَتِمَّة قوله : « تبتغون » عَرَض الحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ وذلك لأنَّ القَوْم لما قَتَلُوا من تكَلَّم بلا إله إلا الله ، ثم إنَّه -تعالى- نهاهُم عن هذا الفِعْل وبيَّن أنه من العَزَائِم؛ قال بَعْدَه : « فمن الله عليكم » أي : منَّ عليكم بأن قَبِل تَوْبَتَكُم من ذَلِك الفعْلِ المنكَر ، ثم أعَاد الأمْر بالتَّبْيين؛ مبالَغَة في التَّحْذِير ، فقال : « فتبينوا » قُرِئت كالتي قَبْلَها ، فقيل : هي تأكيد لَفْظِي للأولى .
وقيل : ليست للتأكيد؛ لاخْتِلاَف متعلّقهما ، فإنَّ تقدير الأوّل : « فتبيَّنوا في أمْر مَنْ تَقْتُلُونَه » ، وتقدير الثَّانِي : فتبينوا نِعْمَة الله أو تثبَّتوا فيها ، والسِّيَاقُ يدل على ذلك ، ولأنَّ الأصل عدم التأكيد .
قوله : « إن الله كان بما تعملون خبيراً » والجُمْهُور على كَسْرِ هَمْزة « إن الله » ، وقرئ بفَتْحها على أنَّها معمُولة ل « تبينوا » ، أو على حذْف لاَم العِلَّةِ ، وإن كان قد قُرِئ بالفَتْح مع التَثَبُّت ، فيكونُ على لام العِلَّة لا غير .
والمُرادُ منه : الوَعِيد والزَّجْر عن إظْهَار خلافِ ما في الضَّمِير .
فصل : فيما إذا دخل الغزاة بلداً ووجدوا شعار الإسلام
إذا رأى الغُزَاةُ في بلد أو قرية شعارَ الإسلام ، فعليهم أن يَكُفُّوا عنهم ، فإنّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم كان إذا غَزَا قوماً ، فإن سَمِع أذاناً كفّ عنهم ، وإن لم يَسْمَع ، أغار عليهم .
وَروي عن ابن عِصَام عن أبيه؛ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بَعَثَ سرِيّةً قال : « إذا رَأيْتُم مسْجِداً أو سَمِعْتُم أذاناً ، فلا تَقْتُلُوا أحداً » .
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
كما رَغَّبَ في الجِهَادِ ، أتْبَعَ ذلِك ببَيَانِ أحْكَام الجِهَاد ، ومن أحْكَامه : التَّحْذِير عن قَتْل المُسْلِمِين على سبيل العَمْدِ والخَطَأ وعلى تأويل الخَطَأ ، ثم أتْبَعَهَ بحُكْم آخر؛ وهو بَيان فَضْل المُجَاهِد على غَيْرِه .
وقيل : لما عاتبهم على قَتْل المتكَلِّم بالشَّهادة ، فلعَلَّه وَقَعَ في قُلُوبهم أن الأوْلى الاحْتِرَاز عن الجِهَادِ؛ للوقوع في مِثْل هذا المَحْذُورِ فذكر عَقِبه فَضْل المُجَاهد على غَيْره؛ إزالَة لهذه الشُّبْهَة .
قوله « غير أولي الضرر » قرأ ابن كثير وأبو عَمْرو وحَمْزَة وعَاصِم : « غير » بالرفع ، والباقون : بالنَّصْب ، والأعْمَش : بالجرِّ .
والرَّفع على وجهَيْن :
أظهرهما : أنه على البَدَل من « القاعدون » وإنما كان هذا أظْهَر؛ لأن الكَلاَم نفي ، والبدلُ معه أرْجَحُ؛ لما قُرِّر في علم النَّحْو .
والثاني : أنه رَفْعٌ على الصِّفَة ل « القاعدون » ، ولا بد من تأويل ذلك؛ لأن « غير » لا تتعَرَّفُ بالإضَافَة ، ولا يَجُوز اختِلاَفُ النَّعت والمَنْعُوت تعريفاً وتنكيراً ، وتأويله : إمَّا بأن القاعِدِين لَمَّا لم يَكُونوا نَاساً بأعْيَانِهِم ، بل أُرِيد بهم الجَنْسُ ، أشْبَهوا النَّكِرة فَوُصِفوا كما تُوصَف ، وإمَّا بأن « غير » قد تَتَعَرَّف إذا وقَعَت بين ضِدَّين ، وهذا كما تَقَدَّم في إعْرَاب { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } [ الفاتحة : 7 ] في أحَد الأوْجُه ، وهذا كلُّه خُرُوج عن الأصُول المقرَّرة ، فلذلك اخْتِير الأوّل؛ ومثله : [ الرمل ]
1866- وَإذا أقْرِضْتَ قَرْضَاً فَاجْزِهِ ... إنَّمَا يَجْزِي الْفَتَى غَيْرُ الْجَمَلْ
برفع « غير » كذا ذكره أبو عَلِيّ ، والرِّوَاية : « لَيْسَ الجَمَلْ » عند غَيْره .
وقال الزَّجَّاج : ويجُوزُ أن يكُون « غير » رفعاً على جِهَة الاستِثْنَاءِ ، والمعنى : لا يَسْتَوِي القَاعِدُون من المُؤمنين والمُجَاهِدُون ، إلا أولي الضَّرَر فإنَّهم يساوون المُجَاهِدِين ، أي : الذين أقعدهم عن الجِهَاد الضَّرر ، والكَلامُ في رفع المُسْتَثْنَى بعد النفي قد تقدم عِند قوله : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [ النساء : 66 ] .
والنَّصْب على [ أحد ] ثلاثة أوْجُه :
[ الأوّل ] : النَّصْبُ على الاستِثْنَاء من « القاعدون » [ وهو الأظهر؛ لأنه المحدَّثُ عَنْهُ ، والمعنى : لا يَسْتَوِي القَاعِدُون ] إلا أولِي الضَّرَر ، وهو اخْتِيَار الأخْفَش .
والثاني : من « المؤمنين » وليس بِوَاضِح .
والثالث : على الحَالَ من « القاعدون » [ والمعنى : لا يستوي القاعدون ] في حَالِ صِحَّتهم والمُجَاهِدون؛ كما يُقَال : جاءَني زيد غير مَرِيضٍ ، أيك جاءني زَيْد صَحِيحاً ، قاله الزَّجَّاج والفراَّء؛ وهو كقوله : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصيد } [ المائدة : 1 ] .
والجرُّ على الصفَة للمؤمنين وتأويله كما تقدم في وجه الرفع على الصفة .
قال الأخْفَش القراءة بالنَّصْب على الاستثنَاء أوْلَى؛ لأن المَقْصُود منه استِثْنَاء قوم لم يَقْدرُوا على الخُروج؛ كما روي في التَّفْسير أنه لما ذكر الله -تعالى- فضيلة المُجَاهِدِين ، جاء قَوْمٌ من أولي الضرر ، فقالوا للنَّبي صلى الله عليه وسلم : حالتنا كما تَرَى ، ونحن نَشْتَهِي الجَهِاد ، فهل لنا من طَرِيقٍ؟ فنزل { غَيْرُ أُوْلِي الضرر } فاستثناهم الله -تعالى- .
وقال آخرون : القِرَاءة بالرَّفع أولى؛ لأن الأصْل في كلمة « غَيْر » أن تكون صفة ، كانت القراءة بالرَّفْع أوْلَى . فالضَّرر النُّقْصَان ، سواء كان بالعَمَى أو العَرَج أو المَرَض ، أو بسبب عَدَمِ الأهْبَة .
فصل
روى ابن شهاب عن سَهْل بن سعد السَّاعِدِي -رضي الله عنه-؛ أنه قال : « رأيتُ مَرْوَان بن الحكم جَالِساً في المَسْجِد ، فأقَبْلت حَتَّى جلست إلى جَنْبِه ، فأخبرنا أن زَيْد بن ثَابتٍ -رضي الله عنه- أخبره؛ أن رسُول الله صلى الله عليه وسلم أملَى عَلَيه » لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله « ، قال : فجاء ابنُ أمِّ مَكْتُوم وهو يُمْلِيها عليَّ ، فقال : يا رسُول الله ، لو أستطيعُ الجِهَاد لجَاهَدتُ ، وكان رجلاً أعْمَى ، فأنزل الله -تعالى- عليه وفخذُهُ على فَخْذِي ، فثقلتْ عليّ حَتَّى خشفْتُ أن ترضَّ فَخذِي ، ثم سري عنه » ، فأنزل الله : « غير أولي الضرر » في فضل الجهاد والحثِّ عليه .
روى أنس -رضي الله عنه-؛ « أنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم لمّا رَجَع من غَزْوَة تَبُوك ، فَدَنَا من المَدِينَة فقال : » إن في المَدِينَة لأقْوَاماً ما سرتُمْ من مسيرٍ ولا قَطَعْتُم من وَادٍ وإلا كَانُوا مَعَكُم فيه ، قالوا : يَا رسُول الله وَهُم بالمَدِينَة؟ قال : نعم وهم بالمدينة حبَسهم العذر « ، وروى مقسم عن ابْن عبَّاس؛ قال : » لا يستوي القاعدون من المؤمنين « عن بَدْر ، والخَارِجُون إلى بدر .
وقوله : » في سبيل الله بأموالكم « كلا الجارَّيْن متعلِّق ب » المُجَاهِدُون « و » المُجَاهِدُون « عَطْف على القَاعِدُون .
فصل
اخْتَلَفُوا في هذه الآية : هل تَدُلُّ على أن المُؤمنين القَاعِدِين الضْراء ، يُسَاوُون المجاهدين أم لا؟ .
قال بعضهم : لا تدل؛ لأنا إن حملنا لفظ » غَيْر « على الصفَة ، وقلنا : [ إن ] التَّخْصِيص باصِّفَة لا يدل على نَفْي الحُكْم عمّا عَدَاه ، لم يلزم ذلك ، وإن حَمَلْنَاه على الاستِثْنَاء ، وقلنا : [ إن ] الاستثناء من النَّفي ليس بإثْبَات ، لم يلزم ذلك ، أمَّا إذا حَمَلْنَاه على الاستثناء وقلنا : الاستثناء من النَّفْي إثبات ، لزم القَوْل بالمُسَاوَاة .
واعلم أن هذه المُسَاواة في حق الأضْرَاء ، عند من يَقُول بها مَشْرُوطة بشَرْط آخر ذكره الله -تعالى- في سُورة التَّوْبة ، وهو قوله : { لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى } [ التوبة : 91 ] إلى قوله : { إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ } [ التوبة : 91 ] ، ويدل على المُسَاواة ما تقدَّم في حَدِيث غزوة تَبُوكٍ .
وتقرير ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : » إن بالمدِينَةِ قَوْماً ما سلكتُم وادِياً إلاَّ كَانُوا مَعَكُم « ، وقال عليه السلام : » إذا مَرِضًَ العَبْدُ قال الله -تعالى- : اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ « .
وقال المُفَسَِّرون في قوله -تعالى- :
{ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } [ التين : 5 ، 6 ] ؛ أن من صَار هرماً ، كتب له أجْر عمله قبل هرمه غير مَنْقُوص ، وقالوا في تَفْسِير قوله -عليه الصلاة والسلام- « نِيَّة المُؤْمَن خَيْرٌ من أجْر عَمَلِهِ » إن المُؤْمِن يَنْوِي الإيمان والعمل الصَّالح ، لو عاش لهذا لا يحصَّل له ثواب تلك النِّيَّة أبداً .
قوله -تعالى- : { فَضَّلَ الله المجاهدين بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً } لما بيَّن [ تعالى ] أن المُجاهدين والقاعِدين لا يَسْتَويان ، ثم إن عَدَم الاسْتِوَاء يَحْتَمل الزِّيَادة والنُّقْصَان ، لا جرم بَيَّنَه الله -تعالى- .
قوله : « درجةً » في نصبه أربعة [ أوْجُه : ]
أحدها : أنها مَنْصُوبة على المَصْدر؛ لوقوع « درجة » موقع المَرَّة من التَّفْضِيل؛ كأنه قيل : فَضَّلهم تَفْيلة ، نحو : « ضَرَبْتُه سَوْطاً » وفائدة التنكير التَّفْخِيم .
الثاني : أنها حَالٌ من « المُجَاهِدِين » أي : ذوي درجة .
الثالث : مَنْصُوبة انتصابَ الظَّرْف ، أي : في دَرَجَةٍ ومَنْزِلة .
الرابع : انْتِصَابها على إسْقَاط الجَارِّ أي : بِدَرَجة .
فلما حُذِف الجَارُّ ، وَصَل الفِعْل فعَمِل ، وقيل : نُصِب على التَّمْيييز .
قوله : « وكلاًّ وعد الله الحسنى » « كلاًّ » مَفْعُول أول ل « وَعَد » مُقَدماً عليه ، و « الحُسْنَى » مفعول ثان ، وقرئ : « وكُلٌّ » على الرَّفْع بالابتداء ، والجُمْلَة بعده خبره ، وتالعَائشد مَحْذُوف ، أي : وعده؛ وهذه كَقِرَاءة ابن عامر في سورة الحديد : { وَكُلٌّ وَعَدَ الله الحسنى } [ الحديد : 10 ] .
والمعنى : كلاًّ من القاعِدِين والمُجاهِدِين ، فقد وَعَدَه الله الحُسْنَى .
قال الفُقَهِاء : وهذا يَدُلُّ على أن الجِهَاد فرض كِفَايَةٍ ، وليس على كُلِّ واحدٍ بِعَيْنِه؛ لأنه -تعالى- وعد القاعِدِين الحُسْنَى كما وعَد المُجَاهِدِين ، ولو كان الجِهَادُ واجِباً على كلِّ أحدٍ على التَّعْيين ، لما كان القَاعِدُ أهْلاً لوعد الله إيَّاه الحُسْنَى .
وقيل : أراد ب « القَاعِدِين » هنا : أولِي الضَّرَر ، فضَّل الله المُجَاهشدِين عليهم دَرَجَة؛ لأن المُجَاهِد باشَر الجِهَاد مع النِّيَّة ، وأولُوا الضَّرر لهم نِيَّة بلا مُبَاشَرة ، فنزلوا عَنْهُم درجَة وعلى هذا نزول الدَّلالة .
قوله -تعالى- : { وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين أَجْراً عَظِيماً } في انتصاب « أجراً » أربعة أوجُه :
أحدها : النَّصْب على المَصْدَر من مَعْنَى الفِعْل الذي قَبْلَه لا من لَفْظَه؛ لأن مَعْنَى « فَضَّلَ الله » : آجرَ؛ فهو كقوله : أطْرُهُم أجْرٌ ، ثم قوله -تعالى- : { دَرَجَاتٍ مِّنْهُ [ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً } بدل من قوله : « أجْراً » .
الثاني : أنه انْتَصَب على إسْقَاط الخافِضِ ، أي : فضلهم بأجْر .
الثالث : النَّصْب على أنَّه مَفْعُول ثاني؛ لأنه ضَمَّن فضَّل معنى أعْطَى ، أي : أعْطَاهُم أجراً تفضلاً مِنْه .
الرابع : أنه حالٌ من درجات ] .
قال الزمخشري : « وانتصب » أجْراً « على الحَالِ من النّكرة التي هي » دَرَجَاتٍ « مقدَّمةًعليها » وهو غير ظَاهِر؛ لأنه لو تأخَّر عن « دَرَجَاتٍ » لم يَجُز أن يَكُون نعتاً ل « دَرَجَاتٍ » لعدم المطابقة؛ لأنَّ « درجات » جَمْع ، و « أجْراً » مفرد ، كذا ردَّه بعضهم ، وهي غَفْلَة؛ فإنَّ « أجراً » مَصْدرٌ ، والأفْصَح فيه يُوَحَّدَ ويُذَكَّر مكلقاً ، [ وقيل : انتصب على التَّمْيِيز ، و « دَرَجَاتٍ » عَطْف بَيَان ] .
قوله- تعالى- « درجات » فيه سِتَّة أوجه :
الأربعة المذكورة في « دَرَجَة » .
والخامس : أنه بدلٌ من « أجْراً » .
السادس ذكره ابن عَطِيَّة أنه منصوبٌ بإضْمَار فعلٍ ، على أن يكون تَأكِيداً للأجْرِ ، كما تقول : « لك عليَّ ألفُ دِرْهَمٍ عُرْفاً » كأنك قُلْت : أعْرِفُها عُرْفاً ، وفيه نظر ، و « مغفرة ورحمة » عطف على « دَرَجَاتٍ » ، ويجُوز فيهما النَّصْب بإضْمَار فِعْلِهِمَا [ تَعْظِيماً ] ، أي : وغَفَرَ لهم مَغْفِرَةً ، ورحِمَهُم رَحْمَةً .
فأن قيل : إنه - تعالى- لِمَ ذَكَرَ أولاً « دَرَجَة » وهَهُنَا « دَرَجَاتٍ » ؟
فالجواب من وُجوه :
أحدها : ليس المُراد بالًَّدرجة الوَاحِدَةَ بالعَدَدِ ، بل الوَاحِدِ بالجِنْسِ ، فيدْخُل تحته الكَثير بالنَّوْعِ .
وثانيها : أن المُجَاهِد أفضَل [ بالضَّروُرة ] من القَاعِد المَضْرُور [ بدرجَةِ ] ومن القَاعِدِ الصَّحيح [ بدَرَجَات ] وهذا على القَوْل بعدم المُسَاواةِ بينَ المُجَاهِدِين والأضِرَاءِ .
وثالثها : فضَّلَ المُجَاهِدين في الدُّنَيَا بدرجَة واحدة ، وهي الغَنِيمَة ، وفِي الآخِرة بدرجَات كَثيِرة في الجَنَّة .
ورابعها : أن المُراد ب « المُجَاهِدين » في الأولى : المُجَاهِدِين بأمْوَالِهِم وأنفُسِهِم ، وههنا المراد ب « المُجَاهِدين » : من كان مُجَاهِدَاً على الإطْلاق في كُلِّ الأمُور ، وأعنِي : في عمل الظَّاهِرِ؛ كالجهاد بالنفس والمَالِ والحج ، وعلى العباداتِ كُلِّها ، وفي أعْمَال القلُوب وهو أشرف أنْوَاعِ الجِهَاد؛ لأنه صَرْف القَلْبِ من الالْتِفَات إلى غَيْر الله إلى الاستغَراقِ في طَاعَةِ الله .
فصل
ذكر المفسِّرون معنى « الدرجات » .
قال ابن جبير في هذه الآيةِ هي سَبْعُونَ دَرَجَة ، ما بَيْن كل دَرَجَتَيْن عَدْو الفَرَسِ الجَوَادِ المضمر سَبْعين خريفاً . وقيل : الدَّرَجَاتِ هي الإسْلام والهِجْرَةِ والجِهَادِ والشَّهَادَة ، فاز بها المُجَاهدُِون .
فصل : في حكم الجهاد
والجهاد في الجُمْلَةِ فَرضٌ ، غير أنه يَنْقَسِم إلى فَرْضِ العَيْنِ وفَرْضِ الكِفَاية ، ففرض العَيْنِ أن يَدْخُلَ العَدُوُّ دارَ قوم من المُؤمِنِيِن ، فيجب على كُلِّ مكَلَّفِ من الرِّجَالِ ممن لا عُذْرَ له مِنْ أهْلِ تلك البَلْدَةِ الّخُرُوج إلى عَدِّهم ، حراً كان او عبداً ، غنياً كان أو فقيراً ، دفعاً عن أنفسهم وعن جِيِرانِهِم ، وهو في حَقِّ من بَعُد مِنْهُم من المُسْلِمين عَوْنُهم ، وإن وقعت الكِفَايَة بالنَّازِِلين بهم ، فلا فرضَ على الأبْعَدين ، ولا يَدْخُل في هذا القِسْم العَبيد والفُقَراء ، فإذا كان الكُفَّار قَادِرِين في بِلادهم ، فعلى الإمَام ألا يُخَلَّي كلَّ سَنَة عن غَزْوَة يغزوها بِنَفْسِه أو بسَراياه ، حتى لا يكُون الجِهَاد مُعَطلاً .
فصل : رد شبهة الشيعة
قال الشِّيعة : عَلِيُّ كان مِن المُجَاهِدِين ، وأبو بكر من القَاعِدِين ، فيكون عَلِيٌّ أفْضَل ، للآية ، فيُقَالُ لهم : مباشَرَة علي للقِتَالِ أكثر مُبَاشَرَةً من النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فيكون أفْضَل منه ، وهذا لا يَقُولُه عَاقِلٌ ، فإن قالوا : جِهَاد النَّبِي صلى الله عليه وسلم لأنه في إظْهَارِ الدِّين بتَقْرير [ الأدلة ] قُلْنَا : وكذلك أبُو بَكْر ، سعى في إظْهَارِ الدِّين في أوّل الإسْلام وضَعْفِه ، وجِهَاد عَلِيَّ كان وهو في الدِّين بعد ظُهُور الإسْلام وقُوَّتِه ، والأوّل أفضل ، وأيضاً : فجهَاد أبِي بكر كان بالدَّعْوَةِ إلى الدِّين ، وأكثر أفاضل العَشْرَة أسْلَمُوا على يَدِهِ ، وذلك حِرْفَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم وجهاد عَلِيٍّ كان بالقَتْل ، والأوّل أفضل .
فصل : رد شبهة المعتزلة
[ قالت المعتزلة ] لما كان التَّفَاوُت في الثواب بحسب التَّفاوُت في العَمَل ، دَلَّ على أن عِلَّة الثَّوابِ هو العَمَل ، وأيضاً لو لم يكن العَمَل مُوجِباً للثَّوَاب ، لكان الثَّوَاب هِبَةً لا أجراً ، والله - تعالى- سمَّاه أجراً .
فالجواب : أن العملَ عِلَّةُ الثَّوابِ ، بجعل الشَّارع لا بِذَاتِه .
فصل : الاشتغال بالنوافل أفضل من النكاح
قال الشَّافِعِيّة : دَلَّت الآية على أن الاشتغال بالنَّوافِل ، أفْضَل من الاشتغال بالنكاح ، لأن من أقَام بالجِهَادِ ، سقط الفَرْضُ عن البَاقِين ، فلو أُقيموا عليه كان من النَّوافِل ، والآية تَقْتَضِي تَفْضِيل جميع المُجَاهِدين من مُفْتَرَضٍ و [ من ] مُتنَفَّل على القَاعِدِين والمتنقل بالنِّكَاح قاعِد عن الجِهَاد ، فثبت أن الاشتَغال بالمَنْدُوب إليه من الجِهَاد أفْضَل من الاشْتِغَال بالنِّكاح .
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)
لما ذَكَر - [ تعالى ] - ثواب من أقْدَم على الجِهَاد ، أتْبَعَه بِعِقَاب من قَعَدَ عَنْهُ ورضي بالسُّكُون في دَارِ الحَرْبِ .
قوله : « توفَّاهم » يجوز أن يكون مَاضِِياً ، وإنما لم تَلْحَق علامة التَّأنيث للفعل؛ لأن التأنيث مَجَازِيّ؛ ويدلُّ على كونه فعلاً مَاضِياً قِرَاءَةُ « تَوَفتهُم » بتاء التأنيث .
قال الفرَّاء : ويكون مثل قوله : { إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا } [ البقرة : 70 ] فيكون إخْبَاراً عن حَالِ أقْوَام معيَّنين ، انْقَرَضُوا ومضوا ويجوز أن يَكُون مُضَارعاً حُذِفَتْ إحدى التَّاءَيْن تَخفيفاً والأصل : تتوَفَّاهُم ، وعلى هذا تكُون الآيةُ عامَّة في حقِّ كلِّ من كان بهذه الصِّفَة .
و « ظَالِمي » حالٌ من ضَمِير « تَوَفَّاهُم » والإضَافة غير محضة؛ إذ الأصْل ظَالِمين أنفسُهِم؛ إلا أنَّهم لما حَذَفُوا [ النُّون ] طلباً للخَفة ، واسْم الفَاعِل سواء أُرِيد به الحَالُ أو الاستِقْبَال ، فقد يكُون مفصُولاً في المَعْنَى وإن كان مَوْصُولاً في اللَّفْظِ؛ فهو كقوله- تعالى- : { هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } [ الأحقاف : 24 ] ، و { هَدْياً بَالِغَ الكعبة } [ المائدة : 95 ] ، { ثَانِيَ عِطْفِهِ } [ الحج : 9 ] والتقدير : مُمْطِر لَنَا وبَالِغاً للكَعْبَةِ وثانِياً عِطْفه ، والإضافة في هَذِهِ المَوَاضِع لَفْظِيَّة لا مَعْنَوِيَّة .
وفي خبر « إنَّ » هذه ثلاثة أوْجُه : أحدها : أنه مَحْذُوفٌ ، تقديُره : إنَّ الذين توفَّاهُم الملائكةُ هَلَكُوا ، ويكون قوله : « قالوا : فيم كنتم » مبيِّناً لتلك الجُمْلَةِ المَحْذُوفة .
الثاني : أنه « فأولئك مأواهم جهنم » ودخلت الفَاءُ زائدة في الخَبَر؛ تشبيهاً للموصُول باسم الشَّرْط ، ولم تمنع « إنَّ » من ذَلِكَ ، والأخْفَش يَمْنَعُه ، وعلى هذا فَيَكُون قوله : « قالوا : فيم كنتم » إمَّا صفةً ل « ظَالِمِي » ، أو حالاً للملائكة ، و « قد » مَعَه مقدَّرَةٌ عند مَنْ يشتَرِط ذلك ، وعلى القول بالصِّفَة ، فالعَائِد محذوف ، أي : ظالمين أنْفُسَهم قَائِلاً لهم المَلاَئِكَة .
والثالث : أنه « قالوا فيم كنتم » ، ولا بد من تَقْدِيرِ العَائِد أيْضاً ، أي : قالوا لَهُم كذا ، و « فيم » خَبَرَ « كُنْتُم » ، وهي « ما » الاستِفْهَامِيَّة حُذِفَت ألِفُها حين جُرَّتْ ، وقد تقدَّم تَحْقِيق ذلك عند قوله : { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله } [ البقرة : 91 ] ، والجُملة من قوله : « فيم كنتم » في مَحَلِّ نَصْبٍ بالقَوْلِ ، و « في الأرض » متعلقٌ ب « مُسْتَضْعَفِين » ، ولا يجوز أن يكُون « في الأرْضِ » هو الخَبَر ، و « مُسْتَضْعَفِين » حالاً ، كما يَجُوز ذلك في نَحْو : « كان زيدٌ قائَماً في الدَّارِ » لعدمِ الفَائدة في هذا الخَبَر .
فصل في معنى التَّوَفِّي
في هذا التَّوفِّي قولان :
الأول : قول الجُمْهُور ، معناه تُقْبَض أرْوَاحهم عند الموْتِ .
فإن قيل : كيف الجَمْع بَيْنَه وبين قوله- تعالى- : { الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا } [ الزمر : 42 ] ، { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ }
[ البقرة : 28 ] وبين قوله { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ } [ السجدة : 11 ] .
فالجواب : خالق الموت هو الله- تعالى- ، والمُفَوَّض إليه هذا العمل هو مَلك المَوْت وسَائِر الملائكة أعْوانه .
الثاني : توفَّاهم الملائِكة ، يعني : يَحْشُرونهم إلى النَّار ، قاله الحَسَن .
فصل
الظُّلْم قد يُراد به الكُفْر؛ كقوله- تعالى- : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] ، وقد يرادُ به المَعْصِيَة؛ كقوله : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } [ فاطر : 32 ] ، وفي المراد بالظُّلْمِ هَهُنَا قَوْلان :
الأول : قال بَعْضُ المُفَسِّرين : نزلت في نًاسٍ من أهْلِ مَكَّة ، تكلَّمُوا بالإسْلام ولم يُهَاجِرُوا منهم : قَيْس بن الفاكه بن المُغيرَة ، وقَيْس بن الوَليد وأشْبَاهُهُمَا ، فلما خَرَج المُشْرِكُون إلى بَدْر ، خرجوا مَعَهُم ، فقاتَلُوا مع الكُفَّار وعلى هذا أراد بِظُلْمِهِم أنْفُسَهُم : إقامَتَهُم في دَارِ الكُفْرِ ، وقوله - تعالى- : { إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملاائكة } أي : ملك المَوْتِ وأعْوَانِهِ ، أو أراد مَلَك المَوْتِ وَحْدَه؛ لقوله- تعالى- : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ } [ السجدة : 11 ] والعَرَبُ قد تُخَاطِب الوَاحِد بلَفْظ الجَمْع .
الثاني : أنها نَزَلَت في قَوْم من المُنَافِقِين ، كانوا يُظْهِرُون الإيمان للمُؤمِنِين خوفاً ، فإذا رَجَعُوا إلى قَوْمِهِم ، أظْهَرُوا لهم الكُفْر ، ولا يُهَاجِرُون إلى المَدِينَةِ .
وقوله : « قالوا فيم كنتم » من أمْرِ دينكُم ، وقيل : فيم كُنْتُم من حَرْب أعْدَائه ، وقيل : لما تركتم الجِهَادَ ورَضِيتُم بالسُّكُون دَارِ الكُفَّار؛ لأن الله - تعالى- لم يَكُن يَقْبَل الإسلام بعد هِجْرَةَ النَّبي صلى الله عليه وسلم إلا بالهِجْرَة ، ثم نَسَخَ ذلك بَعْدَ فَتْحِ مكَّة بقوله « لا هِجْرَة بَعْدَ الفَتْح » وهؤلاء قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ ، وضربَتَ الملائكةُ وجوهَهم وأدْبَارَهُم ، وقَالُوا لهم : فيم كُنْتُم؟ [ « قالوا كُنَّا » ] أي : في ماذا كُنْتُم أو في أيِّ الفَرِيقَيِن كنتم؟ أفي المُسْلِمين أو في المُشْرِكِين؟ سُؤال توبيخ وتَقْرِيع ، فاعتذروا بالضَّعْف عن مُقَاوَمَة المُشْرِكِين ، « وقالوا كنا مستضعفين » عَاجِزين ، « في الأرْضِ » يعني « أرْض مَكَّة .
فإن قيل : كان حَقُّ الجَوَاب أن يَقُولوا : كنا في كَذَا وكذا ، ولم نكُنْ في شَيْء .
فالجَوَاب : أن مَعْنَى » فِيمَ كُنْتُم « : التَّوْبِيخ ، بأنهم لم يَكُونُوا في شَيْءٍ من الدِّين ، حَيْثُ قَدَرُوا على المُهَاجَرَة ولم يُهَاجِرُوا فقالوا : كُنَّا مستَضْعَفِين اعْتِذاراً عمَّا وبَّخُوا بِه ، واعتِلالاً بأنَّهم ما كَانُوا قادِرِينِ على المُهَاجَرة ، ثم إنّ المَلاَئِكَة لم يَقْبَلُوا منهم هذا العُذْر؛ بل ردُّوه عَلَيْهِم ، فقالوا : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } يعني أنكم كنتم قادرين على الخُرُوجِ من مَكَّة إلى بَعْضِ البِلاَدِ التي لا تُمْنَعُون فيها من إظْهَار دِينكُم ، فبقيتم بين الكُفَّار لا للعجز عن مُفَارَقَتِهِم ، بل مع القُدْرَة على المُفَارَقَة .
فصل
وقد ورد لَفْظُ الأرْض على ثَمَانِية أوْجُه :
الأول : الأرض المَعْرُوفة .
الثاني : أرْضُ المَدِينة ، قال الله - تعالى- : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } .
الثالث : أرض مَكَّة؛ قال - تعالى- [ { قَالُواْ ] كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض } أي : بمكة .
الرابع : أرْض مِصْر؛ قال - تعالى- { فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأرض } [ الإسراء : 103 ] .
الخامس : أرض الجَنَّة؛ قال تعالى { وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ } [ الزمر : 74 ] .
السادس : بُطُون النِّساء؛ قال - تعالى- : { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا } [ الأحزاب : 27 ] يعني : النساء .
السابع : الرحمة؛ قال - تعالى- : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ } [ الزمر : 10 ] ، وقوله - تعالى- : { ياعبادي الذين آمنوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ } [ العنكبوت : 56 ] أي رحْمَتِي .
الثامن : القَلْب؛ قال - تعالى- : { اعلموا أَنَّ الله يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } [ الحديد : 17 ] ، أي : يحيى القُلُوب بعد قَسْوَتِها .
قوله : « فتُهاجِرُوا » مَنْصُوبٌ في جَوَابِ الاسْتِفْهَام .
وقال أبو الببَقَاء : « ألَمْ تَكُنْ » استِفْهام بمعنى التَّوْبِيخ ، « فتُهَاجِرُوا » مَنْصُوبٌ على جواب الاستفهام؛ لأنَّ النَّفْي صار إثْبَاتاً بالاستفهَام « . انتهى .
قوله : » لأنَّ النَّفْي « إلى آخره لا يَظْهَر تَعْلِيلاً لقوله : » مَنْصُوبٌ على جواب الاستِفْهَام « ؛ لأن ذلك لا يَصِحُّ ، وكذا لا يَصِحُّ جَعْلُه عِلّةً لقوله : » بمَعْنَى التَّوْبيخ « ، و [ » ساءت « ] : قد تَقَدَّم القول في » سَاء « ، وأنها تَجْرِي مَجْرى » بِئْس « فيُشْترط في فاعلها ما يُشْتَرَك فَاعِلِ تيك ، و » مصيراً « : تَمْيِيز .
وكما بَيَّن عَدَم عُذْرِهِم ، ذكر وعيدَهُم ، فقال : » فأولئك مأواهم جَهَنَّم ، ثم استَثْنى فقال : « إلا المستضعفين » : في هذا الاستثناءِ قولان :
أحدُهُما : أنه متصلٌ ، والمسْتَثْنَى منه قوله : « فأولئك مأواهم جهنم » ، والضمير يعودُ على المُتوفِّيْن ظَالِمِي أنْفُسِهم ، قال هذا القَائِل : كأنه قيل : فأولئك في جَهَنَّم إلا المُسْتَضْعَفين ، فعلى هذَا يَكُون هذا استِثْنَاء مُتَّصلاً .
والثاني- وهو الصَّحيح : - أنه مُنْقَطِعٌ؛ لأن الضَّمير في « مَأواهُم عائدٌ على قوله : » إن الذين توفاهم « ، وهؤلاء المُتوفَّوْن : إمَّا كُفَّارٌ أو عُصَاة بالتَّخَلُّف ، على ما قال المفَسِّرون ، [ وهم ] قادرون على الهِجْرَة ، فلم يندرجْ فيهم المُسْتَضْعَفُون فكان مُنْقَطِعاً ، و » مِنْ الرِّجَال « حالٌ من المُسْتَضْعَفِين ، أو من الضَّمِير المستتر فيهم ، فيتعلَّقُ بمَحْذُوف .
قوله : » لا يستطيعون حيلة « في هذه الجُمْلَة أرْبَعة أوجه :
أحدها : أنَّها مستأنفةٌ جوابٌ لسؤالٍ مقدَّرٍ ، كأنه قيل : ما وَجْهُ استِضْعَافِهم؟ فقيل : كذا .
والثاني : أنها حالٌ .
قال أبو البَقَاء : » حالٌ مبينَّة عن مَعْنَى الاستِضْعَاف « ، قال شهاب الدين : كأنَّه يُشِير إلى المَعْنَى المتقدِّم في كونها جَوَاباً لسُؤال مُقَدِّر .
الثالث : أنها مفسِّرةٌ لنفسِ المُسْتَضْعَفِين؛ لأنَّ وجوه الاستِضْعَاف كثيرة ، فبيَّن بأحد مُحْتَمَلاته ، كأنه قيل : إلا الذين استُضْعِفُوا بسبب عَجْزِهِم عن كذا وكذا .
الرابع : أنها صِفَة للمُسْتَضْعَفِين أو للرِّجَال ومن بَعْدَهم ، ذكره الزمخشري ، وعبارة البيضاوي أنه صِفَة للمُسْتَضْعَفِين؛ إذ لا تَرْقِية فِيِهِ ، أي : لا تعيُّن فيه ، فكأنه نكِرةٌ ، فَصَحَّ وَصْفُهُ بالجُمْلَة . انتهى ما ذكرنا .
واعتذر عن وصف ما عُرِّف بالألف واللام بالجُمَل التي ي حُكم النَّكِرَات ، بأن المُعَرَّف بِهِمَا لمَّا لم يكن مُعَيَّناً ، جاز ذلك فيه ، كقوله : [ الكامل ]
1867- وَلَقَدْ أمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي .. .
وقد قَدَّمتُ تَقْرير المَسْألةِ .
فصل في معنى الآية
المعنى : لا يقدرون على حِيلَةٍ ولا نَفَقَةٍ ، إذا كان بِهِم مَرَضٌ ، أو كانوا تَحْتَ قَهْر قَاهِرٍ يَمْنَعُهم من المُهَاجَرَة .
وقوله : « [ و ] لا يهتدون سبيلاً » أي : لا يَعْرِفُونَ طريق الحقِّ ، ولا يَجِدُون من يَدُلُهم على الطَّرِيق .
قال مُجَاهد والسُّدِّي وغيرهما : المرادُ بالسَّبيل [ هنا : ] سبيل المَدِينَة .
قال القُرْطُبِيّ : والصَّحِيح إنَّه عامٌّ في جَمِيع السُّبُل .
روى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بهذه الآيَة [ إلى ] مسلمي مَكَّة ، فقال جندب بن ضمرة لِبنيه : احْمِلُونِي فإني لَسْت من المُسْتَضْعَفِين ، ولا أنِّي لا أهْتَدِي الطَّرِيق ، والله لا أبيتُ اللَّيْلَة بمكّة ، فحملُوه على سَرِير مُتَوجِّهاً [ إلى ] المدينة ، وكان شيخاً كبيراً فَمَات في الطَّريق .
فإن قيل : كيفَ أدْخَل الوِلْدَان في جملة المسْتَثْنين من أهْل الوَعِيد ، فإن الاستِثْنَاء إنَّما يَحْسُن لو كانُوا مستحِقِّين للوَعِيد على بَعْضِ الوُجُوه .
قلنا : سُقُوط الوعيدِ إذا كان بِسَبَبِ العَجْزِ ، والعَجْزُ تارة يَحْصُل بسبَبِ عَدَمِ الأهْبَةِ ، وتارةً [ يًحْصُل ] بسبَبِ الصِّبَا ، فلا جرم حَسُن هذا الاستِثْنَاء ، هذا إذَا أريد بالوِلْدَان الأطْفَال ، ويجُوز أن يُرَاد المُرَاهِقُون منهم ، الَّذيِن كَمُلَت عُقُولُهم ، فتوجَّه التَّكْلِيف نَحْوَهُم فيما بَيْنَهُم [ وبين الله ] ، وإن أريد العَبِيدُ والإمَاءُ البَالِغُون ، فلا سُؤال .
قوله : « فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم » وفيه سُؤالان :
أحدهما : أن القَوْمَ [ لما ] كانوا عَاجِزِين عن الهِجْرَة ، والعَاجِز عن الشَّيْء غير مُكَلَّف له ، وإذا لم يَكُن مُكَلَّفاً ، لم يكن عَلَيْهِ في تَرْكِهِ عُقُوبَة ، فلم قال : « عسى الله أن يعفو عنهم » والعفو لا يتصوَّر إلاَّ مع الذَّنْبِ ، وأيضاً : « عَسَى » كلمة إطْمَاع ، وهذا يَقْتَضِي عدم القَطْعِ بحُصُول العَفْوِ .
فالجواب عن الأول : أن المُسْتَضْعَف قد يكُون قَادِراً على ذَلِكَ الشَّيْء مع ضرْبٍ من المَشَقَّة ، وتمييز الضَّعْف الذي يَحْصُل عنده الرُّخْصة عند الحَدِّ الذي لا يَحْصُل عنده الرُّخْصَة شاقٌّ ، فربما ظَنَّ الإنْسَان أنَّه عاجز عن المُهَاجَرة ، ولا يكون كَذَلِكَ ، ولا سِيَّمَا في الهِجْرَة عن الوَطَنِ؛ فإنها شَاقَّة على النَّفْس ، وبسبب شِدَّة النَّفْرَة قد يظن الإنْسَان كونه عَاجِزاً ، مع أنَّه لا يُكون كذلك ، فلهذا المَعْنَى كانت الحَاجَة في العَفْو شَدِيدة في هَذَا المقَامِ .
السؤال الثاني : ما فَائِدة ذكْر لَفْظَة « عَسَى » هَهُنا؟
فالجواب : لأن فيها دَلاَلَة على [ أن ] ترك الهِجْرَة أمر مُضَيّق لا تَوْسِعة فيه ، حتى أن المُضْطَر البَيِّن الاضْطِرَار من حَقِّه أن يقُول : عسى الله أن يَعْفُو عني ، فكيف الحال في غَيْرِه ، ذكره الزَّمَخْشَرِي .
قال ابن الخَطِيب : والأولى أن يكون الجَوَاب ما تَقَدَّم من أن الإنْسَان لشدة نُفْرَته عن مُفارقَة الوَطَن ، رُبًَما ظَنَّ نَفْسَه عَاجِزاً عنها مع أنه لا يَكُون كَذَلِكَ ، فلهذا المَعْنَى ذكر العَفْوَ بكلمة « عَسَى » لا بالكَلِمَة الدَّالَّة على القَطْع .
قال المفَسِّرُون : « وكلمة » عَسَى « من الله وَاجِبٌ؛ لأنه للأطْمَاع ، والله - تعالى- إذا أطْمَعَ عَبْدَه أوْصَلَه إليه .
ثم قال : » وكان الله غفوراً رحيماً « .
ذكر الزَّجَّاج في كان ثلاثة أوجه :
الأول : » كان « قَبْلَ أن خلق الخَلْق مَوْصُوفَاً بِهَذِه الصِّفَةِ .
الثاني : كان مع جَمِيع العِبَاد بِهذه الصِّفَة ، والمقصود بَيَان أن هذا عَادَة الله أجْرَاهَا في حَقِّ خلقه .
الثالث : أنه - تعالى- لو قال : » عفو غفور « كان هذا إخْبَارَاً عن كَوْنِهِ كذلك فقط ، ولمَّا قال : إنَّه كان كَذَلِكَ ، فهذا إخْبَار وقع بِخَبَرِه على وَقْفِهِ ، فكان ذلك أدلَّ على كونه صِدْقاً [ وحَقّاً ] ومُبَرَّأ عن الكَذِب .
وقال ابن عباس : كُنْتُ أنا وأمِّي ممن عَذَرَ اللهُ [ يعني ] : من المستضَعْفَيِن ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدْعُو لهؤلاءِ المسْتَضْعَفين .
روى أبو هُرَيْرَة؛ قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فقال : سَمِع الله لِمَنْ حَمِدَه في الرُّكْعَة الأخيرة [ من صَلاَةِ العِشَاء ] قنت : اللَّهمُ أنْجِ عيَّاش بن أبي رَبِيعَة ، اللَّهُم أنْجِ الوليدَ بن الوليدَ ، اللَّهُمَّ أنْج المستَضْعَفين من المؤمنين ، اللهم اشْدُدْ وطْأتَكَ على مُضَر ، اللهم اجْعَلْهَا عليهم سِنين كسِنِي يُوسُف .
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
لما رَغَّبَ في الهِجْرَةِ ، ذكر السَّبَب الذي يَمْنَع الإنْسَان من الهِجْرَة ثم أجَابَ عَنه ، وذلك المَانِعُ أمْرَان :
الأوّل : أن يكون في وَطَنِه في راحةٍ وَرَفَاهِية فيظن لأنه بِمفَارَقَتِه للوَطَن يقع في الشِّدَّة وضيق العَيْش ، فأجاب الله عن ذلك بقوله : { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً } .
قال القرطبي : قوله : { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } شرط ، وجَوَابُه : { يَجِدْ فِي الأرض } .
واشتِقاق المُرَاغَم من الرغَام وهو التُّرَاب؛ يقولون : رغم أنفه ، ويريدون أنه وَصَل إلى شَيْء يَكْرَهُه؛ لأن الأنْفَ لا يجد ذلك [ البَلَد ] من النِّعْمَة والخَيْر ، ما يكون سَبَباً لرغم أنفِ أعدَائِه الَّذِين كَانُوا معه في بلدته الأصْلِيّة ، فإنه إذا اسْتَقَام حَالُه في تِلْكَ البَلَد الأجْنَبِيَّة ، وَوَصَل خَبَرُه إلى أهْل بَلْدَتِه ، خجلوا من سُوءِ معامَلَتِهم له ، وزعمت أنُوفُهم بذلك وَهَذَا أوْلَى الوُجُوه .
وأمَّا المَانِعِ الثاني عن الهجرة : فهو أن الإنْسَان يَقُول : إن خَرَجْت عن بَلَدِي لطلب هذا الغَرَضِ ، فربما وَصَلْتُ إليه ، وربَّما لم أصِلْ إليه ، فالأولى ألا أُضِيعَ الرَّفَاهِيَة الحَاضَرة بسبب طَلَبِ شَيء قد يَحْصُل ، فأجَابَ الله - تعالى- عن ذَلِك بقوله : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله } .
والمراد ب « السِّعَة » : سعة الرِّزْق ، وقيل : سَعَة من الضَّلال إلى الهُدَى .
قوله - تعالى- : { وَمَن يَخْرُجْ [ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } ] .
روي أنه لما نَزَلَت هذه الآيَةِ ، سَمِعَهَا رجلٌ من بَنِي لَيْث شَيْخٌ كبير مَرِيضٌ يقال له : جُنْدَعُ بن ضَمْة ، فقال : والله ما أنَا ممَّن استَثْنَى الله - عز وجل- ، وإني لأجِدُ حِيلَة ، ولي من المَالِ ما يُبَلِّغُنِي المَدينَةَ وأبعد مِنْهَا ، والله لا أبِيتُ اللَّيلة بمكَّة ، أخرِجُوني ، فخرجوا به يَحْمِلُونَه على سَرير حتى أتَوْا به التَّنْعِيم ، فأدركه المَوْت ، فصفَّق بيمِينِه على شِمَالِه ، فقال : اللَّهُم هذه لك وهذه لِرَسُولِك ، أبَايعُك على ما بَايَعَك عليه رَسُولُك ، فمات فَبَلَغَ خَبَرُه أصْحَابَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : لو وَافَى المَدِينَة لكان أتمَّ أجْراً . وضَحِكَ المُشْرِكُون وقالوا : ما أدْرَك هذا ما طَلَب ، فأنْزَلَ الله تعالى- : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت [ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله } ] أي : قبل بُلُوغه إلى مهاجره ، « فقد وقع أجْرُه على الله » . أي : وجَب بإيجَابِه على نفسه فَضْلاً مِنْه .
فصل
قال بَعْضُهم : إن من قَصَد طاعَةً وعجز عن إتْمَامِهَا ، كتب الله ثَوابَ تِلْكَ الطَّاعَة؛ كالمرِيض يَعْجَزُ عما كان يَعْمَلُه في حال صِحَّتِه من الطَّاعَة ، فيكتب الله [ له ] ثواب ذلك العَمَل؛ هكذا رُوِي عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم .
وقال آخَرُون : يُكْتَب له : أجر قَصْدِه ، وأجْر القَدْرِ الذي أتَى به من ذَلِكَ العَمَل ، أما أجْرُ تَمَام العَمَلِ ، فذلك مُحَالٌ .
والقول الأوَّل أوْلى؛ لأنه - تعالى- ذكر هذه الآيَةِ في مَعْرِض التَّرْغِيب في الهَجْرَة ، وهو أنَّ من خرج للرَّغْبَة في الهِجْرَة ، فقد وجد ثَوَاب الهِجْرَة ، والتَّرْغِيب إنما يَحْصُل بهذا المَعْنَى ، فأما القَوْل بأنّ معنى الآيةِ هو أن يَصِل إليه ثَوَابُ ذَلِكَ القَدْر من العَمَل ، فلا يَصْلُح مرغِّباً؛ لأنه من المَعْلُوم أن كُلَّ من أتَى بِعَمَلٍ فإنه يَجِدُ الثَّوَاب المرتَّبَ على قَدْرِ ذلك العَمَل .
فصل : شبه المعتزلة في وجوب الثواب على الله والرد عليها
قالت المُعْتَزِلَة : هذه الآية تَدُلُّ على أن العمل يُوجِب الثَّواب على الله- تعالى-؛ لقوله : { فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله } ، وذلك يدلُّ على قَوْلِنَا من ثلاثة أوجُه :
الأول : حقيقة الوُجُوب هو الوُقُوع والسُّقُوط؛ قال- تعالى- : { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } [ الحج : 36 ] أي وقعت وسَقَطَت . وثانِيها : أنه ذَكَرهُ بلفظ الأجْر ، والأجر عبارة عن المَنْفَعَة المسْتَحقِّة ، فأمَّا الذي لا يكُون مُسْتَحقاً ، فلا يُسَمَّى أجْراً ، بل يُسمَّى هِبَةً .
وثالثها : قوله : « على الله » وكلمة « عَلَى » للوُجُوب؛ قال -تعالى- : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت [ مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } ] [ آل عمران : 97 ] .
والجواب : أنا لا نُنَازعُ في الوُجُوب ، لكن بِحُكْم الوَعْد والتَّفْضُّل والكرم ، لا بحكم الاسْتِحْقَاق الذي لو لم يفْعَل لخَرَج عن الإلهيَّة .
فصل
نقل القُرْطُبِي عن مالكٍ؛ أنه قال : هذه الآية تدلُّ على أنَّهُ ليس لأحَدٍ لمُقَامُ بأرض يُسَبُّ فيها السَّلَف ويَعْمَلُ فيها بِغَيْر الحَقِّ .
فصل
استدَلُّوا بهذه الآيةِ على أنَّ الغَازِي إذا مَاتَ في الطَّرِيقِ ، وَجَبَ سهْمُهُ في الغَنِيمَةِ ، كما وَجَبَ أجْرُه ، وفيه ضَعْفٌ؛ لأن لَفْظَ الآيَةِ مَخْصُوص بالأجْر ، وأيضاً فاسْتِحْقَاق السَّهم من الغَنِيمَة مُسْتَحقٌّ بحيازَتِها ، إذ لا يُكُون ذلك إلا بَعْدَ حِيَازَتِها .
قوله- تعالى- : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ } قال عِكْرمَة مَوْلَى ابْن عبَّاس : طَلَبْتُ اسم هذا الرَّجُل أرْبَع عَشْرَة سَنَة حتى وَجَدْتُه ، وفي قول عِكْرمة [ هذا ] دَلِيلٌ على شَرَفِ هذا العِلْمِ ، وأنَّ الاعْتِنَاء به حَسَنٌ والمَعْرِفَة به فَضْلٌ؛ ونحوه قول [ ابن عبَّاس ] : مكثت سِنين أريد أن أسْأل عُمَر- رضي الله عنه- عن المَرْأتَيْن اللَّتَيْن تظاهرتا على رسُول الله صلى الله عليه وسلم فما يَمْنَعُنِي إلا مَهَابَتُه ، والذي ذَكَرَه عِكْرِمَة هو قَوْل ضمرة بن العِيص ، أو العيص بن ضمرة بن زِنْبَاع ، حَكَاه الطَّبَري عن سَعِيد بن جُبَيْر ، ويقال فيه ضُمَيْرة أيضاً ، ذَكَرَ أبُو عمرو أنَّه قد قِيلَ فيه : خَالِد بن حزام بن خُوَيْلد ابن أخِي خَدِيجَة [ خرج ] مُهَاجراً إلى لأرْض الحَبَشَة ، فَهَتَفَتْهُ حيَّة في الطَّرِيق ، فمات قبل أن يَبْلُغ أرْض الحَبَشَة؛ فأنزل الله فِيه الآية ، وحكى ابْن الحَوْزِيّ أنه حَبيبُ بن ضَمْرة .
وقال السُّدِّيُّ : ضَمْرة بن جُنْدب الضمريّ .
وحكى المَهْدَويّ أنه ضمرة بن ضمرة بن نُعَيم ، وقيل ضمرة بن خُزاعة .
وروى معمر عن قتادة : لما نَزَل قوله- تعالى- : { إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملاائكة } [ النساء : 97 ] قال رَجُل من المُسْلِمِين وهو مَرِيضٌ : والله - تعالى- ما لي عُذْرٌ : إني لَدَلِيل في الطَّرِيق وإني بمُوسِرٌ ، فاحْمِلُوني فأدْركه المَوْتُ في الطَّرِيق ، فقال أصْحَاب النَّبِي صلى الله عليه وسلم : لو بَلَغَ إلَيْنَا لتَمَّ أجْرُه ، وقد مات بالتَّنْعِيم ، وجاء بَنُوه إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وأخبروه بالقِصَّة ، فنزل قوله : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً [ إِلَى الله وَرَسُولِهِ } ] الآية .
قوله : « ثم يدركه » الجُمْهُور على جَزْم « يدركْه » عَطْفَاً على الشَّرْطِ قبله ، وجوابه : « فقد وقع » وقرأ الحَسَن البصري بالنَّصْب .
قال ابن جِنِّي : « وهذا لَيْسَ بالسَّهْل ، وإنما بَابُه الشَّعْر لا القُرْآنُ ، وأنشد [ الوافر ]
1868- سَأتْرُكُ مَنْزِلِي لِبَنِي تَمِيم ... وَألْحَقُ بِالْحِجَازِ فَأسْتَرِيحَا
والآيةُ أقْوَى من هذا؛ لتقدُّم الشرط قَبْلَ » المَعْطُوف « ، يعني : أن النَّصْب بإضْمَار » أن « في غَير تِلك المَوَاضِع ضَرُورَةٌ؛ كالبيتِ المتقدم؛ وكَقوْل الآخر : [ الطويل ]
1869- . ... وَيَأوِي إلَيْهَا المُسْتَجِيرُ فَيُعْصَمَا
وتبع الزَّمَخْشَرِي أبا الفَتْح في ذلك ، وأنْشَدَ البَيْت الأوَّل . وهذه المَسْألة جَوَّزها الكُوفيُّون لمدركٍ أخرَ ، وهو أن الفِعْلَ الواقِع بين الشَّرْط والجَزَاء ، يجوز فيه الرَّفْع والنَّصْب والجَزْمُ إذا وَقَعَ بعد الواوِ والفَاءِ؛ واستدَلُّوا بقول الشاعر : [ الطويل ]
1870- ومَنْ لا يُقَدِّمْ رِجْلَهً مُطْمَئِنَّةً ... فَيُثْبِتَهَا فِي مُسْتَوى الْقَاعِ يَزْلَقِ
وقول الآخر : [ الطويل ]
1871- ومَنْ يَقْتَرِب مَنِّا ويَخْضَعَ نُؤوِه ... ولا يَخْشَ ظُلْماً مَا أقَامَ وَلاَ هَضْمَا
وإذا ثَبَتَ ذلك في الواوِ والفضاءِ ، فليَجُزْ في » ثُمَّ « ؛ لأنها حَرْف عَطْفٍ .
وقرأ النَّخعيُّ ، وطَلْحَة بن مُصَرِّف برفع الكَاف ، وخَرَّجَها ابن جنِّي على إضْمَار مُبْتَدَأ ، أي : » ثم هو يُدْرِكُه المَوْتُ « فعطَ جُمْلَةً اسمِيّةً على فِعْلِيَّةً ، وهي جُمْلَة الشَّرْطِ : الفعلُ المَجْزُومُ وفاعلُه ، وعلى ذلك حَمَل يُونُس قولَ الأعْشَى : [ البسيط ]
1872- إنْ تَرْكَبُوا فَرُكُوبُ الخَيْلِ عَادَتُنَا ... أوْ تَنْزِلُون فَإنَّا مَعْشَرٌ نُزُلُ
أي : وأنتم تنزلون ، ومقله قول الآخر : [ البسيط ]
1873- إنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ تَأتِيِنِي بَقِيَّتُكُمْ ... فَمَا عَلّيَّ بِذَنْبٍ عِنْدَكُمْ حُوبُ
أي : ثم أنتم تَأتيني ، وهذا أوْجهُ من أن يُحْمَل على أن يَأتِيني . قلتُ : يريدُ أنه لا يُحْمَلُ على إهْمَالِ الجَازِمِ ، فيُرْفَعُ الفعل بعده ، كما رفع في :
1874- ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي ... بِمَا لاَقَتْ لَبُونُ بَنِي زِيَادِ
فلم يَحْذِفِ اليَاء ، وهذا البَيْت أنشده النَّحويُّون على أنَّ عَلاَمَةَ الجَزْم ، حَذْفُ الحَرَكَةِ المُقَدَّرة في حَرْفِ العِلَّة ، وضَمُّوا إليه أبياتاً أخَرَ ، أمَّا أنَّهم يَزْعُمُون : أنَّ حَرْف الجَزْم يُهْمَل ، ويَسْتدلون بهذا البَيْت فَلا . ومنهم مَنْ خَرَّجَهَا على وَجْه أخَر؛ وهو أنه أراد الوَقْفَ على الكلمة ، فنقلَ حَركَة هاءِ الضَّمِير إلى الكَافِ السَّاكِنَة للجَزْمِ ، كقولِ الآخَر : [ الرجز ]
1875- عَجِبْتُ والدَّهْرُ كَثِيرٌ عَجَبُه ... مِنْ عَنَزِيٍّ سَبَّنِي لَمْ أضْرِبُهْ
يريد : « لم أضْرِبْه » بسكون البَاء للجَازِم ، ثم نَقَل إليها حَرَكَة الهاءِ ، فصار اللَّفْظُ « ثم يُدْرِكُهْ » ثم أجْرََى الوصْلَ مُجْرى الوَقْفِ ، التقى ساكنان ، فاحْتاجَ إلى تَح~رِيك الأوَّلِ وهو الهَاءُ ، فَحَرَّكها بالضَّمِّ؛ لأنه الأصلُ ، وللإتباع أيضاً .
ثمَّ قالَ الله - تعالى- : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } أي : ويَغْفِرُ [ الله ] ما كَانَ مِنْهُ [ مِنِ القُعود ] إلَى أنْ خَرَجَ .
فصل
قال ابن العَرَبِيَّ : قَسَّمَ العُلَمَاءُ الذِّهَاب في الأرْض [ إلى ] قسمين : هَرباً ، وطلباً .
والأول ينْقَسِم سِتَّة أقْسَام :
أحدها : الهِجْرَة : وهي الخُروج من دَارِ الحرب إلى دَار الإسْلام ، وكانت فَرْضَاً في أيَّام النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وهذه الهِجْرَةِ باقيةٌ مفروضَةىٌ إلى يَوْمِ القِيَامَة ، والَّتِي انقطعت بالفَتْح : حي القَصْد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حَيْثُ كَانَ ، فإنْ بَقِيَ في دَارِ الحَرْب ، عصى ويختلف في حَالِه .
وثانيها : الخُرُوج من أرْض البِدْعَة؛ كما تقَدَّم نَقْلُه عن مالك؛ فإنه إذا لم يَقْدِر على أزَالة المُنْكَر يَزُولُ عَنْهُ ، قال [ الله ] - تعالى- : { وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } [ الأنعام : 68 ] .
وثالثها : الخُرُوج من أرض غلب عليها الحرامُ؛ لأن طَلَبَ فَرْضٌ على كُلِّ مُسْلِمٍ .
ورابعها : الفِرَار من الأذِيَّة في البَدَن ، وذلك فَضْل من الله ورُخًصَةٌ؛ كما فَعَلَ إبْراهيم - عليه الصلاة والسلام- لمَّا خَاف من قَوْمِه وقال : { إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي } [ العنكبوت : 26 ] ، وقال : { وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الصافات : 99 ] ، وقال - تعالى- حكاية عن موسى- عليه الصلاة والسلام : { فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ } [ القصص : 21 ] .
وخامسها : خَوْف المَرَضِ في البلاد الوَخْمَة ، فيخرج إلى أرْضِ النزهة؛ لأن النِّبي صلى الله عليه وسلم أذن للرُّعاة حين استَوْخَمُوا المدينة ، أن يَخْرُجُوا إلى المَسْرَح فيكونوا فيه؛ حتى ما يَصحُّوا ، وقد استُثْني من ذلك الخُروُج من الطَّاعُون ، بِمَا في الحَدِيث الصَّحيح .
وسادسها : الفِرَار خَوْف الأذِيَّة في المَالِ ، فإن حُرْمة مال المُسْلِم؛ كَحُرْمَة دَمِه .
وأما الطَّلَبُ فينقسم قِسْمَيْن :
طلب دِين وطَلَب دُنْيَا .
فأمَّا طَلَب الدِّين فينقسم إلى تِسْعَةِ أقْسَام :
الأول : سَفَر العِبْرة ، قال تعالى : { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ [ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ } ] [ الروم : 9 ] .
يقال : إنَّ ذا القَرْنَيْنِ إنَّما طَافَ الأرْضَ؛ ليرى عَجَائِبَهَا ، وقيل : ليُنْفِذَ الحَقَّ فيها .
الثاني : سفر الحَجِّ ، فالأوَّل نَدْب ، وهذا فَرْضٌ .
الثالث : الجهاد [ وله أحكامُه ] .
الرابع : سَفَر المعاش؛ إذا تَعَذَّر على الرَّجُل مَعَاشُه مع الإقامة ، فيخرج في طَلَبِه لا يزيد عَلَيْه؛ من صَيْد ، أو احتِطَابٍ ، أو احتشَاسٍ ، فهو فَرْضٌ عَلَيْه .
الخامس : سَفَر التِّجَارة والكَسْب الزَّائِد على القُوتِ ، وذلك جَائزٌ بفضل الله تعالى؛ قال -تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } [ البقرة : 198 ] يعني : التِّجَارة ، وهو نَعْمَة مَنَّ الله بِهَا في سَفَر الحَجِّ ، [ فكيف إذَا انْفَرَدَتْ ] .
السَّادس : طلب العِلْم .
السَّابِع : قصد البِقَاع الشَّرِيفة؛ قال- عليه الصلاة والسلام : « لا تُشَدُّ الرِّحَال إلاَّ إلى ثَلاثَةِ مَسَاجِد » .
الثَّامن : الثُّغُور للر!ِبَاط بها .
التاسع : زيارة الإخْوَان في الله - تعالى-؛ قال - عليه الصلاة والسلام : « زارَ رجُلٌ أخاً لَهُ في قَرْيَة ، [ فأَرْصَدَ الله له مَلَكَاً على مدرجته ، فقال : أيْن تُرِيدُ ، قال : أريد أخاً لِي في هَذِهِ القَرْيَة ] ، فقال : هل له عَلَيْكَ من نِعْمَةٍ تَرُّبُّها عَلَيْه ، قال : إني أحْبَبْتُه في الله ، قال : فإني رسُول الله إلَيْك ، بأنَّ الله قد أحَبَّك كَمَا أحْبَبْتَهُ فيه » [ رواه مسلم ، وغيره ] .
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
لما ذَكَرَ الجِهَاد ذَكَرَ أحد الأمُور التي يَحْتَاج إليها المُجَاهِد ، وهو مَعْرِفَة كَيْفِيَّة أداء الصَّلاةِ في الخَوْف ، والاشْتِغَال بمُحارَبَة العَدوِّ .
« أن تقصروا » : هذا على حَذْفِ الخَافِضِ ، أي : في أن تَقْصُرُوا ، فيكونُ في مَحَلِّ « أنْ » الوَجْهَان المَشْهُوران ، وهذا الجَارُّ يتعلَّقُ بلفظِ « جُنَاح » أي : فََليْسَ عَلَيْكُم جُنَاحٌ في قَصْرِ الصَّلاة .
قال الوَاحِدِيُّ : يُقَال : قَصَرَ فلان صَلاَتهُ ، وأقصرها وقَصَّرَها ، وكُلُّ جَائِزٌ .
والجمهور على « تَقْصُروا » من « قَصَرَ » ثلاثياً ، وقرأ ابن عبَّاس : « تُقْصِروا » من « أقْصر » ، وهما لُغَتَان : قَصَر وأقْصَر ، حكاهما الأزْهَرِيُّ ، وقرأ الضَّبِيُّ عن رجاله بقراءة ابن عبَّاسٍ ، وقرأ الزُّهري : « تُقَصِّروا » مشدِّداً على التَّكْثِيرِ .
قوله : « من الصَّلاة » في « مِنْ » وَجْهَان :
أظهرهُما : إنها تَبْعِيضيَّةٌ ، وهذا مَعْنَى قول أبي البقاء ، وزعم أنه مَذْهَب سيبويه ، وأنَّها صفةٌ لمَحْذُوفٍ ، تقديرُه : شيئاً من الصلاة .
والثاني : أنَّها زائدةٌ ، وهذا رأيُ الأخْفَش فإنه لا يَشْتَرِطُ في زِيَادتها شيئاً ، و « أن يَفْتِنَكم » : مفعُول « خفِْتُم » .
وقرأ عبد الله بن مَسْعُود ، وأبَيُّ : « من الصَّلاة أن يفتنكُم » بإسقاط الجُمْلة الشَّرْطيّة ، و « أن يفتنكُم » على هذه القراءة مَفْعُولٌ من أجْله ، ولغةُ من أجْله ، ولغةُ الحِجَاز : « فَتَنَ » ثُلاثياً ، وتميم وقَيْس : « أفْتَن » رُبَاعياً .
فصل
لفظ القَصْر مُشْعِرٌ بالتَّخْفِيف؛ لأنه لَيْس صريحاً في أنَّ المُرادَ : هو القَصر في عَدَدِ الركَعَات ، أي : في كيْفِيَّة أدائِها ، فلا جَرَم حصل في الآيَة قولان :
الأوّل : قَوْل الجُمْهُور أنَّ المراد مِنْه : القَصْر في عدد الرَّكِعَات والقَائِلُون بهذا القَوْلِ اختلفُوا على قَوْلَين :
الأوَّل : أن المراد مِنْهُ : صلاة المُسَافِر؛ وهو أنَّ كُلَّ صَلاَةٍ تكُونُ في الحَضَر أرْبَع رَكَعَاتٍ ، فإنها تَصِير في السَّفَرِ رَكْعَتِيْنِ ، وعلى هَذَا إنَّما يَدْخُل القَصْر في الرُّبَاعِيَّة خاصَّة .
الثاني : أنَّ المراد : صرةَ الخَوْفِ في السَّفَر ، وهو قَوْل ابن عبَّاسٍ ، وجَابِر بن عبد الله ، وجماعة ، قال ابن عبَّاس : فَرَضَ الله صلاة الحَضَر أرْبَعَاً ، وصلاة [ السَّفر ركعتين ] ، وصلاة الخَوْفِ رَكْعَةً على لسان نَبِيِّكُم صلى الله عليه وسلم .
القول الثاني : أن المُرادَ من القَصْر : التَّخْفِيف في كيفية أداء الرَّكَعَات ، وهو أن يُكتفى في الصَّلاة بالإيمَاءِ والإشَارَة بدل الرُّكُوع والسُّجُود ، وأن يَجُوز المَشْيُ في الصَّلاة ، وأن تجُوز الصلاة عند تلَطُّخ الثَّوْب بالدَّمِ وهو الصَّلاة حال التِحَام القِتَال ، [ وهو مَرْوِيٌّ عن ابْن عَبَّاسِ وطاووس ، واحتَجُّوا : بأنَّ خوف فِتْنَة العَدُوِّ لا تَزُول فيمَا يُؤتَى بِرَكْعَتِيْن على تَمَامِ أوْصَافِهَا ، وإنما عَيَّن ذَلِكَ فيما يَشْتَدُّ فيه الخَوْف حَالَ التِحام القِتَال ] ، وهذا ضَعِيفٌ؛ لأنه يُمْكِنُ أن يُقَال : إن المُسَافر إذا كانَت الصَّلاة قَلِيلَة الرَّكَعَات ، فيمكنه أنْ يَأتِيَ بَهَا على وَجهِ لا يَكُون خَصْمُه عَالِماً بَِكَوْنِهِ مُصَلِّياً أما إذا كثُرت الرَّكَعَات ، طالَت الصَّلاة ، ولا يُمْكِنُه أن يَأتِي بها على حين غَفْلَةٍ مع العَدُوِّ ، وحَمْل لفظِ القصْر على إسْقَاط [ بَعْض ] الرَّكَعَاتِ أوْلَى لوجوه : أحدُها : ما رُوِيَ عن يعلى بن أمّيَّة أنَّه قال :
« قلت لعمر بن الخَطَّاب - رضي الله عنه- : كيف نَقْصُر وقد أمِنَّا ، وقد قال الله- تعالى- : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ } فقال : عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ؛ فَسَأَلْتُ الرَّسُولَ- عليه الصلاة والسلام- فَقَالَ : » صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُم ، فاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ « ، وهذا يدلُّ على أن القَصْر المذكُور في الآية ، وهو القصْرُ في عَدَدِ الركَعَاتِ .
الثاني : أن القَصْر عبارةٌ عن أن يؤتى بِبَعْض الشَّيْء ويقتصر عَلَيْه ، فإمَّا أن يُؤتَى بشَيٍْ آخَرَ ، فذلك لا يُسَمَّى قَصراً ، ومعْلُوم : أن إقامَة الإيماء [ مَقَامَ ] الرُّكُوع والسُّجُود ، وتَجويز المَشِي في الصَّلاة ، وتَجْوِيز الصَّلاة مع الثَوْب المُلَطَّخ بالدَّم ، ليس شيء من ذلك قَصْراً؛ بل كُلُّها إثباتٌ لأحْكَامِ جديدةٍ ، وإقَامَة لشَيْءٍ مَقَامَ شَيْء آخَرَ .
الثالث : أن » مِنْ في قوله : « مِنَ الصّلاة » للتَّبْغيضِ ، وذلك يُوجِبُ جَوازَ الاقْتِصَارِ على بَعْضِ الصَّلاة .
الرابع : أن لَفْظَ القَصْر كان في عُرْفِهِم مَخصُوصاً بتنْقِيصِ عددِ الرَّكَعَاتِ ، ولهذا بمَّا صلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الظُّهر رَكْعِتَيْنِ ، قال ذو اليَدَيْنِ : « اقصُرَتِ الصلاةُ أم نَسِيت؟ » .
الخامس : القَصْر بمعنى : تغير هَيْئَةٍ [ الصَّلاة ] المَذْكُورة في الآيةِ الَّتِي بَعْدَهَا توجب أن يكُون المُراد من هذه الآيَة بَيَان القَصْر ، بمعنى حذف بَعْض الرَّكعَات ، لئلا يَلْزَم التَّكْرار .
فصل هل الأفضل الإتمام أم القصر؟
قصر الصَّلاة في السَّفر جَائِز بالإجْمَاعِ ، واخْتَلَفُوا في جواز الإتْمَام .
فذهب أكْثَرُهُم إلى أن القَصْرَ واجِبٌ ، وهو قَوْل عُمَر وعَلِيِّ ، وابن عُمَر ، وجابر ، وابن عبَّاس ، وبه قال الحَسَن وعُمَر بن عَبْد العَزِيز ، وقتادة ، وهو قول مالِكٍ وأصحاب الرأي بما روت عائِشَة - رضي الله عنها- ، قالت : « الصَّلاةُ أوَّل ما فُرِضَت [ رَكْعَتَيْن في الحَضَر والسَّفَر فأقِرَّتْ ] صَلاَة السَّفَر ، وأتِمَّت صَلاةُ الحَضَر » .
وذهب قَومٌ إلى جواز الإتْمَام ، رُوِيَ ذلك عن عُثْمَان [ وسَعْد ] بن أبِي وَقَّاصٍ ، وبه قال الشَّافِعِيُّ إن شاءَ أتَمَّ ، وإن شاءَ قَصَر ، والقَصْر أفْضَل .
فصل
قال أهل الظَّاهِر : قَلِيلُ السَّفَر وكَثِيرُه سَوَاء؛ بِظَاهِر الآية ، فإن الآيَة مرتَّبةٌ من شَرْطِ وجَزَاء ، فإذا وُجِدَ الشَّرْط وهو الضَّرْب في الأرْض ، ترتَّب عَلَيْه [ الجزاء ] سواء كَانً طَويلاً أوْ قَصِيراً ، وذلك مَرْوِيٌّ عن أنَسٍ ، وقال عَمْرُو بن دِينَار : قال لي جَابر بن زَيد : أقْصِر بعَرَفَة .
فإن قيل : هذا يَقْتَضِي حُصُول الرُّخْصَة عند انْتِقَال الإنْسَان من مَحَلَّة إلى مَحَلَّة . فالجواب : لا نُسَلِّم أنَّ هذا ضَرْب في الأرْضِ ، وإن سُلَّم ، فنقول : الإجْمَاع مُنْعَقِدٌ على أنَّه غير مُعْتَبَر ، فَهَذا تَخْصِيصٌ بالإجْمَاع ، والعامُّ بعد التَّخْصيص حُجَّة .
وقال الجُمْهُور : إن السَّفر مات لم يتقدَّر مَخْصُوصٍ ، لم تَحْصُل فيه الرُّخْصَة ، وقالوا : أجْمَع السَّلَف على أنَّ أقَل السَّفِر مقدَّرٌ ، لأنه رُوِيَ عن عُمَر أنَّه يَقْصِر في يَوْم تامٍّ؛ وبه قَالَ الزُّهرِي والأوْزَاعِيُّ .
وقال ابْن عَبَّاس : يَقْصرُ إذا زَادَ علي يَوْم ولَيْلَة .
قال أنَس : المُعْتَبَر خَمْسَة فَرَاسِخ ، وقال الحَسَن : مَسِيرة لَيْلَتَيْن .
وقال الشَعْبِي ، والنَّخعِي ، وسعيد بن جُبَيْر : من الكُوفَة إلى المَدَائِن مسيرة ثلاثةَ أيّام ، وهو قول أبِي حَنِيفَة ، وروى الحَسَن بن زِيَاد ، عن أبي حنيفة : أنَّهُ إذا سَافَر إلى موضع يكون مَسيرة يَوْمَيْن ، وأكثر اليوم الثَّالِث ، جاز القَصْر ، وهكذا رَوَاهُ ابن سماعة ، عن أبِي يُوسُف ومحمَّد .
وقال مَالِكٌ : أمْيَال هَاشِم جَدَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي قدَّر أمْيَال البَادِية؛ كل ميلٍ اثْنَا ألف قدم ، وهي أرْبَعَةٌ آلاف خطوة ، فإن كل ثَلاثَة أقْدَام خُطْوة ، قالوا : واختِلاَف النَّاس يدل على انْعِقَاد الإجْمَاع ، على أن الحُكْمَ غير مَرْبُوط بِمُطْلَق السَّفَر .
قال أهل الظاهر : اضْطِرابُهم يَدُلُّ على أنَّهم لم يَجِدُوا دَلِيلاً في تَقْدِير المُدَّة ، إذ لو وَجَدُوه لما حَصَل الاضْطِرَاب ، وأما سُكُوت [ سَائِر ] الصَّحَابَة؛ فلعلَّه كان لاعْتِقَادِهم أنّ الآية دَالَّة على ارتِبَاط الحُكْمِ بِمُطْلَقِ السَّفَر ، وإذا كان الحُكْم مَذْكُوراً في نَصِّ القُرْآن ، لم يكن بِهِم حَاجَةٌ إلى الاجْتِهَاد والاستِنْبَاطِ؛ فلهذا سَكَتُوا ثَلاَثَة أيّامٍ « ؛ وهو يدل على أنَّه إذَا لَمْ يَحْصُل المَسْح ثلاثة أيَّام ، لا يسَمَّى مسافِراً .
واستدل الشَّافيَّة بما رَوَى مُجَاهِدٌ وعطاء ، عن ابن عبَّاس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » يا أهْل مَكَّة ، لا تَقْصُروا في أدْنَى من أرْبَعَة بُرُد من مَكَّة إلى عُسْفَان « قال أهل الظَّاهِر : وهذا تَخْصِيص لعُمُوم القُرْآن بخَيْر الوَاحِد ، وهو لا يَجُوز؛ لأن القُرْآن مَقْطُوع به والخَبَر مَظْنُونٌ ، وقال عليه الصلاة والسلام : » إذا رُوِيَ عَنِّي حديثٌ فاعْرِضُوه على كِتَاب الله- [ تعالى ] ، فإن وَافق ، فَاقْبَلُوه ، وإلا فَرُدُّوهُ « وهذا مُخَالِفٌ لعموم الكِتَاب ، وأيْضَاً فإنها أخْبَار وردَتْ في وَاقِعَةٍ تَعُمُّ الحاجَةُ إلى مَعْرفتها؛ لأن الصَّحابة - رضي الله عنهم- كانُوا في أكْثَر الأوْقَات في السَّفَر والغَزْو ، فلو كَانَت الرُّخْصَة مَخْصُوصَة بِسَفَرٍ ، مقدَّر ، لعرفوها ونَقَلُوها نقلاً متواتراً ، لا سِيَّمَا وهو عَلَى القُرْآن ، وأيضاً : فدلائل الشَّافِعيَّة ودلائل الحَنَفِيَّة مُتَدافعة فسقَطَت ووجبَ الرُّجُوع لِظَاهِرِ القُرْآنِ .
فصل
خصَّ أهلُ الظَّاهر جواز القصر بِحَال الخَوْف؛ لقوله - تعالى- : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ } والمَشْرُوط بالشَّيْءِ عدمٌ ، عند عَدَمِ ذلك الشَّيءِ ، ولا يَجُوز دفع هذا الشَّرط بأخْبَار الآحَاد؛ لأن نَسْخَ القُرْآنِ بِخَبر الوَاحِدِ لا يَجُوز .
قوله : { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا } فقيل : إن يَفْتِنُوكم عن إتْمَام الرُّكُوع [ والسُّجُود ] ، وقيل : » أن يفتنكم « أي يغلبكم الَّذين كَفَرُوا في الصَّلاة ، ونَظِيرُه قوله : [ تعالى ] : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ } عن الصلاة؛ لأن كُلَّ مِحْنَة ، وبَلِيّة ، وشِدَّة فهي فِتْنَة ، وجَواب الشَّرْط مَحْذُوف يَدُلُّ عليه ما قَبْلَه .
وقيل : الكَلاَم تَمَّ ] عند قوله : « مِنَ الصَّلاة » ] والجملة الشَّرْطيةُ مُسْتَأنَفةٌ حتى قيلَ : إنها نَزَلَت بعد سَنَةٍ عن نُزُول ما قَبْلَها ، وجوابُه حينئذٍ أيْضاً مَحْذُوف ، ولكن يُقَدَّرُ من جِنْسِ ما بَعْدَه ، وهذا قَوْلٌ ضَعِيفٌ ، وتأخير نُزُولِهَا لا يَقْتَضِي استِئْنَافَهَا .
فصل
اخْتَلَفُوا متى يَقْصُر :
فالجُمْهُور على أنَّ المُسَافِرَ لا يَقْصُر حتَّى يَخْرُج من بُيُوت القَرْيَة [ وحينئذٍ ] هو ضَارِبٌ في الأرْضِ ، وهو قول مَالِكٍ في المُدَوَّنة ، وروي عنه : أنَّه إذا كَانَت قَرْيَة تَجمع أهْلَهَا لا يَقْصُرُ حتى يُجَاوِزَها بثلاثَةِ أمْيَالٍ ، وكذلك في الرُّجُوع ، وعن الحَارِث بن أبي رَبيعة : إذا أرادَ السَّفَر ، يَقْصُرُ في مَنْزِلِه؛ فيكون مَعْنَى قوله - [ تعالى ] - : { إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض } معناه ] : إذا أرَدْتُم السَّفَر . وعن مجاهد : لا يَقْصُر يَوْمَه الأوَّل حتى اللَّيْل ، وهذا شَاذٌّ؛ لأن النَّبِيَ صلى الله عليه وسلم صلى الظُّهْر بالمَدِينَة [ أرْبعاً ] ، وصلَّى العَصْرَ بذي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْن ، وبين المَدِينَة وذي الحُلَيْفَة سِتَّة أمْيالٍ ، أو سَبْعَة .
فصل
وعلى المَسَافِر أن يَنْوِي القَصْرَ حين الإحْرَام ، فإن افْتَتَحَ الصَّلاة بنيَّة القصر ، ثُمَّ عزم على المُقَام في أثناء الصَّلاة ، جعلها نَافِلَةً ، فإن كان ذَلِكَ بَعْدَ أنْ صَلَّى منها رَكْعَةً [ واحِدَة ] ، أضَاف إليها أخْرى [ وسلَّم ] ثم صلى صلاة مُقِيم ، وقال الأبْهَرِيّ ، وابن الجَلاَّب : هذا - والله أعْلم- اسْتِحْبَابٌ ، ولو بَنَى على صَلاَتِه وأتمّها ، أجْزأتْهُ .
قوله : { إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً } [ و ] المعنى : إن العدَاوَةَ بَيْنَكُم وبَيْنَ الكَافِرين قَديمَةٌ ، والآن قد أظْهَرْتُم خلافَهُم في الدِّين فازْدَادَت عَدَاوتُهم لَكُم ، فمن شِدَّة العَدَاوة ، حارَبُوكم وقَصَدُوا إتلافكُم إن قَدَرُوا ، فإن طَالَتْ صَلاتُكُم ، فرُبَّمَا وَجَدُوا الفُرْصَة في قَتْلِكُ؛ فلهذا رَخَّصْتُ لَكُم في قَصْر الصَّلاة .
قوله « لكم » متعلّقٌ بمَحْذُوف : لأنه حالٌ من « عَدُوّاٍ » ، فإنه في الأصْل صِفَةُ نَكِرَةٍ ، ثم قُدِّم عَلَيْها ، وأجاز أبُو البَقَاء أن يتعلَّق ب « كَان » ، [ وفي المِسْألة ] كَلاَمٌ مرٍّ تَفْصِيلُه . وأفْرد « عَدُوّاً : وإن كَانَ المُرَادُ به الجَمْعَ لأنَّ العدُوَّ يسْتَوِي فيه الوَاحِد والجمع؛ قال- تعالى- : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي } [ الشعراء : 77 ] وقد تقدّم تَحْقِيقُه في البَقَرة .
فصل في معنى الآية
قوله : { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا } متَّصِل بما بَعْدَه من صَلاَةِ الخَوْفِ ، منفصل عَمَّا قَبْلَه ، رُوِيَ عن أبي أيُّوبٍ الأنْصَارِي ، أنَّه قال : نَزل قَوْلُه : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة } هذا القَدْر ، ثمَّ بعد حَوْلٍ سألُوا رسُول الله صلى الله عليه وسلم عن صَلاَةِ الخَوْفِ؛ فنزل : » إن خفتم « أي : وإن خِفْتُم » أن يفتنكم الَّذِينَ كَفَرُوا إنَّ الكَافِرِينَ كَانُوا لكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً ، وإذا كنت فيهم « .
ومثله في القُرْآن كَثِيرٌ [ أن ] يجيء الخبر بِتَمَامِه ، ثم يُنسق عَلَيْه خبرٌ آخًر ، وهو في الظَّاهِر كالمُتَّصِل به ، وهو مُنْفَصِلٌ عنه؛ كقوله - تعالى- : { الآن حَصْحَصَ الحق أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين } [ يوسف : 51 ] هذه حكاية عن امْرَأة العَزِيز ، وقوله : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } [ يوسف : 52 ] ، إخبارٌ عن يُوسُف- عليه الصلاة والسلام- .
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
كما بيَّن قَصْر الصَّلاة بحَسبِ الكَمِيَّة في العَدَِ ، بين في هذه الآيَة كِيْفِيَّتَها ، والضَّمِير في « فِيهِم » يعُود كما بيَّن قَصْر الصَّلاة يَحسبِ الكَمِيَّة في العَدَِ ، بين في هذه الآيَة كَيْفِيَّتَها ، والضَّمِير في « فِيهِم » يعُود على الضَّاربين في الأرضِ ، وقيل على الخَائِفَين .
روى الكَلْبِيُّ ، عن أبِي صَالح؛ عن ابن عبَّاس ، وجابر - رضي الله عنهم- : أن المُشْرِكِين لَمَّا رأوْا رسُول الله صلى الله عليه وسلم وأصْحَابَهُ قاموا في الظُّهْر يُصَلُّون جميعاً ، نَدِمُوا ألاّ كَانُوا أكبُّوا عليهم ، فقال بَعْضُهم لبعضٍ : دَعْهم فإنَّ لهم بَعْدَها صَلاةَ هي أحَبُّ إليهم من آبائِهِم وأبْنَائِهِم ، يعني : صَلاَة العَصْر ، فإذا قَامُوا فيها فَشَدُّوا عليهم ، فاقْتُلُوهم؛ فنزل جِبْرِيل فقال : يا محمَّد إنَّها صلاة الخَوْفِ ، وإن الله - عز وجل- يقُول : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة } فعلَّمه صَلاَةَ الخَوْفِ .
فصل : هل صلاة الخوف خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم
قال أبُو يُوسف ، والحَسَن بن زِيَاد : صلاة الخَوْف كانت خَاصَّة للرسول - عليه الصلاة والسلام- ، ولا تجُوز لغيره؛ لقوله- تعالى- : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ } .
وقال المُزَني : كانت ثَابِتَةً ثم نُسِخَتْ ، ومذهب الجُمْهُور : ثُبُوتُها في حقِّ كل الأمَّة؛ لقوله - تعالى- : { واتبعوه } [ الأعراف : 158 ] وأن حكمها باقٍن وقد ورد كيفيَّة صَلاَة الخَوْفِ على سِتَّة أوْجُه مذكُورة في كُتُبِ الفِقْهِ .
قال أحْمد بن حَنْبَل : كُلُّ حَدِيثٍ رُوِيَ في أبًواب صَلاةِ الخَوْفِ ، فالعَمَل به جَائِزٌ ، روي فيه سِتَّةُ أوْجُه مذكورة في كُتُبِ الفِقْهِ .
قوله : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ } أي : شَهِيداً مَعَهُم في غَزَواتهم ، { فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ } أي : فَلْتَقِف؛ كقوله- تعالى- : { وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ } [ البقرة : 20 ] أي : وَقَفُوا ، والمعنى : فاجْعَلْهم طَائِفَتَيْن ، فَلْتَقُم طَائِفة منهم مَعَك ، فَصَلٍّ بهم .
وقرأ الحسن « فَلِتَقُمْ » بِكَسْر لاَمِ الأمْر وهو الأصْل ، « وليأخذوا أسلحتهم » والضَّمير : إمَّا للمُصَلِّين ، أو لغيرهم ، فإنَ كان للمُصَلِّين ، [ فقالوا ] : يأخُذُون من السِّلاح ما لا يَشَعلُهُم عن الصَّلاة؛ كالسَّيْف والخنجَر؛ لأن ذلك أقْرَب إلى الإحْتِيَاط ، وأمْنَع للعدُوِّ من الإقْدَام عَلَيْهِم ، وإن كان لِغَيْر المُصَلِّين ، فلا كَلاَمَ .
واحتار الزَّجَّاج عَوْدَه على الجَميع ، قال : « لأنه أهيْيَب للعَدُوَِّ » . والسِّلاح : ما يُقَاتَل به ، وجمعه أسْلِحَة وهو مُذكَّر ، وقد يُؤنَّث باعْتِبَار الشَّوْكَة ، قال الطِّرمَّاحُ : [ الطويل ]
1876- يَهُزُّ سِلاحاً لَمْ يَرِثْهَا كَلاَلَةً ... يشُكُّ بِهَا مِنْهَا غُمُوضَ المَغَابِنِ
فأعاد الضَّمير عليه كَضَمير المؤنِّثة ، ويقال : سلاح كحِمَار ، وسِلْخٌ كضِلْع ، وسُلَح كصُرَد ، وسُلْحَان كسُلَطَان؛ نقله أبو بكر دُرَيْد . والسَّلِيحُ : نبت إذا رَعَتْه الإبل ، سَمِنَتْ وغَزُرَ لبنُها ، وما يُلْقِيه البَعِيرُ من جَوْفِه ، يقال له : « سُلاحٌ » بزنة غُلام ، ثم عُبِّر عن كُلِّ عَذِرة ، حتى قيل في الحُبَارَى ، « سِلاحُه [ سُلاحُه ] »
ثم قال - تعالى- : { فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ } يعني : غير المُصَلِّين من وَرَائِكُم يَحْرُسُونكم يريد : مكان الَّذِين هم تجاه العَدُو ، ثم قال- [ تعالى ] - : { وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أخرى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ } وهم الَّّذِين كانُوا في تجاه العَدُوِّ ، وقرأ أبو حَيْوة : « وليأتِ » بناء على تذكيرِ الطَّائِفَةِ ، ورُوِيَ عن أبِي عَمْرو : الإظْهَارُ والإدْغَامُ في « ولتأتِ طَائَفَةٌ »

 قلت المدون التالي هو ج23و24..بمشيئة الله

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدجال يستغل ازمات الناس من الجوع ونقص الطعام والمياه في دعوتهم الباطلة لعبادتهم إياه والايمان به

  بياناته الشخصية     المسيح الدجال ليس خوارق إنما هو دجل وكذب قلت المدون ان الأ أزمة الاقتصادية الحادثة الان في كل دول العالم والمجاعة المت...