حمل المصحف وورد وبي دي اف.

 حمل المصحف وورد وPDF.
القرآن الكريم وورد word doc icon||| تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

الخميس، 22 سبتمبر 2022

ج1.وج2.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب

 ج1.وج2.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب

ج1. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
قولُه تعالى : { الحمد للَّهِ } .
الحمدُ : الثناءُ على الجَمِيل سواءٌ كانت نِعمةً مُبْتدأة إلّى أَحَدٍ أَمْ لاَ .
يُقال : حَمَدْتُ الرجلَ على ما أَنْعَمَ به ، وحمدتُه على شَجَاعته ، ويكون باللسانِ وَحْدَهُ ، دون عمل الجَوَارح ، إذ لا يُقالُ : حمدت زيداً أيْ : عملت له بيدي عملاً حسناً ، بخلاف الشكر؛ فإنه لا يكونُ إلاّ على نعمةٍ مُبْتَدأةٍ إلى الغير .
يُقال : شَكَرْتُه على ما أعطاني ، ولا يُقالُ : شكرتُه على شَجَاعَتِه ، ويكون بالقلبِ ، واللِّسانِ ، والجَوَارح؛ قال الله تعالى : { اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً } [ سبأ : 13 ] وقال الشاعرُ : [ الطويل ] .
37-
أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلاثَةً ... يَدِي وَلِسانِي وَالضَّمِيرَ الْمُحَبَّبَا
فيكونُ بين الحَمْدِ والشُّكْرِ عُمُومٌ وخُصُوصٌ من وجه .
وقيل : الحمدُ هو الشكر؛ بدليلِ قولِهم : « الحمدُ لِلَّهِ شُكراً » .
وقيل : بينهما عُمومٌ وخصوص مُطْلق .
والحمدُ أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ .
وقيلَ : الحمدُ : الثناءُ عليه تعالى [ بأوصافِه ، والشكرُ : الثناءُ عليهِ بِأَفْعاله ] فالحامدُ قِسْمَانِ : شاكِرٌ ومُثْنٍ بالصفاتِ الجَمِيلة .
وقيل : الحمدُ مَقْلُوبٌ من المَدْحِ ، وليس بِسَدِيدٍ -وإِن كان منقولاً عن ثَعْلَب؛ لأنَّ المقلوبَ اقلُّ استِعمالاً من المقلوب منه ، وهذان مُسْتَوِيانِ في الاستعمالِ ، فليس ادعاءُ قلبِ أَحَدِهَما مِنَ الآخر أَوْلَى من العَكْسِ ، فكانا مادّتين مُسْتَقِلَّتَيِن .
وأيضاَ فإنه يمتنعُ إطلاقُ المَدْحِ حيثُ يَجُوزُ إطلاقُ الحَمْدِ ، فإنه يُقالُ : حمدتُ الله -تعالى- ولا يقال : مَدَحْتُه ، ولو كانَ مَقْلُوباً لما امتنع ذلك .
ولقائلٍ : أَنْ يقولَ : منع من ذلك مانِعٌ ، وهو عَدَمُ الإِذْنِ في ذلك .
وقال الرَّاغِبُ : « الحَمْدُ لله » : الثناءُ بالفَضِيلَةِ ، وهو أخصُّ من المدحِ ، وأَعَمُّ من الشُّكْرِ ، فإنَّ المدْحَ يقال فيما يكونُ من الإنسانِ باختيارِه ، وما يكونُ منه بغَيْرِ اختيار ، فقد يُمْدَح الإنسانِ بطولِ قَامَتِهِ ، وصَبَاحةِ وجهه ، كما يمدح ببذل ماله وشجاعته وعلمه ، والحمدُ يكونُ في الثَّاني دُونَ الأوّلِ .
قال ابنُ الخَطِيبِ -رحمه الله تعالى- : الفَرْقُ بين الحَمْدِ والمَدْحِ من وجوه :
أحدها : أن المَدْحَ قد يحصلُ لِلحَيِّ ، ولغيرِ الحَيِّ ، أَلاَ تَرَى أَنَّ من رَأَى لُؤْلُؤَةً في غايةِ الحُسْنِ ، فإنه يَمْدَحُها؟ فثبتَ أنَّ المدحَ أَعمُّ من الحمدِ .
الثَّاني : أن المدحَ قد يكونُ قَبْلَ الإِحْسَانِ ، وقد يكونُ بعدَه ، أما الحمدُ فإنه لا يكونُ إلاَّ بعد الإحسان .
الثالث : أنَّا المدحَ قَدْ يكونُ مَنْهِياً عنه؛ قال عليه الصلاةُ والسلامُ : « احْثُوا التُّرَابَ في وُجُوهُ المَدَّاحينَ » . أما الحمدُ فإنه مأمورٌ به مُطْلَقاً؛ قال -عليه الصلاة والسلام- : « مَنْ لَمْ يَحْمَدِ النَّاسَ لَمْ يَحْمَدِ اللهَ »
الرابعُ : أنَّ المدحَ عبارةٌ عنِ القولِ الدَّالُّ على كونه مُخْتَصاً بنوع من أنواع الفَضَائل .
وأمّا الحمدُ فهو القولُ الدَّالُّ على كونه مختصَّا بِفَضيلة مُعَيَّنَةٍ ، وهي فضيلةُ الإنعامِ والإحسان ، فثبت أنَّ المدحَ أعمُّ من الحمدِ .
وأمَّا الفرقُ بين الحمدِ والشُّكرِ ، فهو أنَّ الحمدَ يَعَمُّ إذا وَصَلَذلك الإنْعَامُ إليك أَوْ إلَى غَيْرِك ، وأما الشُّكْرُ ، فهو مُخْتَصٌّ بالإنعامِ الواصلِ إليك .
وقال الرَّاغِبُ -رحمه الله- : والشكرُ لا يُقالُ إلاَّ في مُقَابلة نعمة ، فكلُّ شُكْرٍ حَمْدٌ ، وليس كُلُّ حمدٍ شُكْراً ، وكل حمد مَدْحٌ ، وليس كُلُّ مَدْحٍ حَمداً .
ويقال : فُلانٌ مَحْمُودٌ إذَا حُمِد ، ومُحَمَّدٌ وُجِدَ مَحْمُوداً ، ومحمد كثرت خصالُه المحمودَةُ .
واحمدُ أَيْ : أَنَّهُ يَفُوقُ غَيْرَه في الحَمْدِ .
والألفُ : واللام في « الحَمْد » قِيل : للاستغراقِ .
وقيل : لتعريفِ الجِنْس ، واختاره الزَّمَخْشَرِيُّ؛ وقال الشاعر : [ الطويل ]
38- . . ...
إلَى الْمَاجِدِ الْقَرْمِ الْجَوَادِ الْمُحَمَّدِ
وقيل : للعَهْدِ ، ومنع الزمخشريُّ كونَها للاستغراقِ ، ولم يُبَيِّنْ وجهةَ ذلك ، ويشبه أن يُقالَ : إنَّ المطلوبَ من العبدِ إنشاء الحَمْدِ ، لا الإخبار به ، وحينئذٍ يَسْتَحيلُ كونها للاستغراقِ ، إذْ لا يمكنُ العَبْد أن ينشىءَ جميعَ المَحَامِدِ منه ومن غيرِه ، بخلاف كونها للجِنسِ .
والصلُ في « الحَمْدِ » المصدريّة؛ فلذلك لا يُثَنَّى ، ولا يُجْمَعُ .
وحكى ابنُ الأَعْرَابِيُّ جَمْعَهُ على « أَفْعُل » ؛ وأنشد : [ الطويل ]
39-
وَأَبْيَضَ مَحْمُودِ الثَّنضاءِ خَصَصْتُهُ ... بأَفْضَلِ أَقْوَالِي وَأَفْضَلِ أَحْمُدِي
وقرأ الجُمْهُورُ : « الحَمْدُ للهِ » برفْعِ وكسرِ لاَمِ الجَرِّ ، ورفعُهُ على الابتداءِ ، والخبرُ الجارُّ والمجرورُ بعده يَتَعَلَّقُ بمحذوفٍ وهو الخَبَرُ في الحقيقة .
ثم ذلك المحذوفُ إن شئتَ قدَّرْتَهُ [ اسْماً ، وهو المُخْتارُ ، وإن شِئْتَ قَدَّرْتَهُ ] فِعْلاً أَي : الحمدُ مُسْتَقِرٌّ لله ، واسْتَقَرَّ لله .
والدليلُ على اختيارِ القَوْلِ الأَوَّلِ : أَنَّ ذَلك يَتَعَيَّنُ في بَعضِ الصورِ ، فلا أَقَلُّ مِنْ ترجيحِه في غَيْرِها ، وذلك أنّك إذا قُلْتَ : « خَرجتُ فإِذَا في الدَّارِ زَيْدٌ » وأمَّا في الدَّارِ فَزَيْدٌ « يتعيّنُ في هاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ [ أن يقدر بالاسم ] ؛ لأنَّ » إذا « الفُجائية وأَمَّا الفُجائية وأَمَّا التَّفصِيليَّةُ لا يَلِيهِمَا إلاَّ المبتدأ . وقد عُورِضَ هذا اللَّفظُ بأنه يَتَعيَّنُ تقدير الفِعْلِ في بعضِ الصُّورِ ، وهو ما إِذا وَقَعَ الجَارُّ والمجرورُ صِلَةً لموصولٍ ، نحو : الَّذي في الدارِ فليكن رَاجِحاً في غيره؟ والجوابُ : أَنَّ ما رجحنا به من باب المبتدإِ ، أَو الخبر ، وليس أَجْنَبِيَّا ، فكان اعتباره أوْلَى ، بخلاف وقوعه صِلةً ، [ والأول غيرُ أَجْنَبِيٍّ ] .
ولا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ قاعدةٍ -ها هنا- لعُمُومِ فائدتها ، وهي أَنَّ الجار والمجرور والظرف إذا وَقَعا صلةً أو صِفَةً ، أو حالاً ، أو خبراً تَعلقا بمحذوفٍ ، وذلك أن المحذوف لا يجوز ظهوره إذا كان كَوْناً مُطلقاً : فأمّا قول الشاعر : [ الطويل ]
40 ... -
لَكَ الْعِزُّ إِنْ مَوْلاكَ عَزَّ ، وَإِنْ يَهُنْ
فَأَنْتَ لَدَى بُحْبُوحَةِ الْهُونِ كائِنُ ... وأما قولُه تبارك وتَعَالى : { فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ } [ النمل : 40 ] فلم يقصدْ جعلِ الظَّرفِ كائناً فلذلك ذكر المتعلِّقَ به ، ثم ذلك المحذوفُ يجوزُ تقديرهُ باسمٍ أَوْ فعلٍ إلاّ في الصلَةِ ، فإنه يتعيّنُ أن يكونَ فِعلاً . واختلفُوا : أَيُّ التقديرَيْنِ أَوْلَى فيما عدا الصور المستثناة؟
فقومٌ رجّحُوا تقديرَ الفِعْلِ ، [ وقومٌ رجَّحُوا تقدير الاسمِ ] ، وقد تقدمَ دليلُ الفريقين . وقُرِىءَ شَاذَّاً بنصب الدالِ من » الحَمْد « ، وفيه وجهان :
أظهرُهُما : انه منصوبٌ على المصدريَّةِ ، ثم حُذِف العاملُ ، ونابَ المصدرُ مَنَابه؛ كقولِهِم في الأخبار : » حمداً ، وشكراً لا كُفْراً « والتقدير : » أَحمد الله حمداً « ، فهو مصدرٌ نَابَ عن جملةٍ خبريَّةٍ .
وقال الطَّبريُّ -رحمه الله تعالى- : « إنَّ في ضمنِهِ أَمْرَ عبادِه أَنْ يُثْنُوا به عليه ، فكأَنَّهُ قال : » قولوا : الحَمْد للهِ « وعلى هذا يَجِيءُ قُولُوا : إيَّاكَ » .
فعلى هذه العبارة يكونُ من المصادِر النائبَةِ عن الطَّلبِ لا الخبرِ ، وهو محتملٌ للوجْهَيْنِ ، ولكنْ كونُهُ خَبَرِيَّا أَوْلَى من كونه طَلَبياً ، ولا يجوزُ إظهار الناصب ، لئلاَّ يجمعَ بين البدلِ والمُبْدَلِ مِنْه .
والثاني : أنه منصوبٌ على المَفْعُولِ بهِ ، أَي : اجْمَعْ ضَبُعاً ، والأوّلُ أَحْسَنُ؛ للدَّلالَةِ اللفظيةِ . وقراءَةُ الرفْعِ أمكنُ ، وأَبْلَغُ مِنْ قراءَةِ النَّصب ، لأنَّ الرفعَ في باب المَصَادِر التي أَصْلُها النِّيَابَةُ عَنْ أَفْعَالِها يدل على الثُّبُوتِ والاستقرَارِ ، بخلافِ النَّصبِ ، فإنه يدلُّ على التجددِ والحُدوثِ ، ولذلك قال العلماء -رحمهم الله- : إن جوابَ إِبْرَاهيمَ -عليه الصلاة والسّلام- في قوله تَعَالَى حكايةً عنه : { قَالَ سَلاَمٌ } [ هود : 69 ] أَحْسَنُ من قولِ الملائكة : { قَالُواْ سَلاَماً } [ هود : 69 ] امتثالاً لقولِه تعالى : { فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ } [ النساء : 86 ] .
و « لله » على قراءةِ النصبِ يتعّقُ بمحذوفٍ لا بالمصدرِ ، لأنَّها للبيانِ ، تقديرهُ : أَعْنِي لله ، كقولِهم : « سُقْياً له ورَعياً لك » تقديرُه : « أَعْنِي له ولك » ، ويدلُّ على أنَّ اللام تتعلّقُ في هذا النوع بمحذوف لا بنفس المصدر ، أنَّهم لم يُعْمِلُوا المصدر المتعدِّي في المجرور باللام ، فينصبوه به فيقُولُوا : سُقْياً زيداً ، ولا رَعْياً عمراً ، فدلَّ على أنه ليس مَعْمولاً للمصدرِ ، ولذلك غَلِطَ من جعل قولَه تَعَالَى : { والذين كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ } [ محمد : 8 ] ، مِنْ بَابِ الاشْتِغَالِ؛ لأنَّ « لَهُمْ » لا يتعلَّقُ ب « تَعْساً » كما مَرَّ .
ويحتملُ أَنْ يُقالُ : إن اللام في « سُقياً لك » ونحوِهِ مقويةٌ لتعدِيَةِ العامل؛ لكونِهِ فَرْعاً فيكون عاملاً فيما بعده .
وقُرىءَ : -أَيْضاً- بِكَسْرِ الدَّال ، وجهُهُ : أَنَّها حركةُ إِتباعٍ لكسرَةِ لاَمِ الجَرِّ بعده ، وهي لُغَةُ « تَمِيم » ، وبَعْضِ « غَطَفَان » ، يُتْبِعُونَ الأوّل للثَّاني؛ للتَّجانسِ . ومنه : [ الطويل ]
41- ..
اضْرِبِ السَّاقَيْنُ أُمُّكَ هَابِلُ
بضمِ نُونِ التّثنِيَةِ لأجل ضمّةِ الهَمْزَةِ ، ومثلُه ، [ البسيط ]
42 ... -
وَيْلِمِّهَا فِي هَوَاءِ الْجَوِّ طَالِبَةً
وَلاَ كَهَذَا الَّذِي في الأَرْضِ مَطْلُوبُ ... الأصل : وَيْلٌ لأُمِّهَا ، فحذفَ اللَّامَ الأُولَى ، واستثقَلَ ضَمَّةَ الهمزةِ بعد الكَسْرَةِ ، فنقلَها إلى اللام بعد سَلْبِ حَرَكَتِها ، وحذَفَ الهَمْزَةَ ، ثم أَتْبَعَ اللاَّمَ المِيمَ ، فصار اللفظ : « وَيْلِمِّهَا » .
ومِنْهم مَنْ لا يُتْبِعُ ، فيقول : « وَيْلُمِّهَا » بِضَمِّ اللاَّمِ ، قال : [ البسيط ]
43-
وَيْلُمِّهَا خُلَّةً قَدْ سِيْطَ مِنْ دَمِهَا ... فَجْعٌ وَوَلْعٌ وَإِخْلافٌ وتَبْديلُ
ويحتملُ أَنْ تَكُونَ هذه القراءةُ مِنْ رَفْعٍ ، وأَنْ تَكُونَ مِنْ نَصْبٍ ، لأنَّ الإعرابَ نُقَدَّرٌ مَنَعَ من ظُهُورِهِ حَرَكَةُ الإتباعِ .
قرىء أيضاً : « لُلَّهِ » بضم لاَمِ الجَرِّ ، قَالُوا : وهي إتباعٌ لحركةِ الدَّالِ وفضّلها الزمخشريُّ على قراءة كَسْرِ الدَّالِ ، مُعَلِّلاً لذلك بِأَنَّ إتباعَ حركَةِ الإعرابِ أَحْسَنُ مِنَ العَكْسِ ، وهي لغةُ بَعْضِ « قَيْس » ، يُتْبِعُون الثانِي نحو : « مُنْحَدُر ومُقُبِلِينَ » بضم الدَّال والقاف لأجل الميم ، وعليه قرىء :
{
مُرُدفين } [ الأنفال : 9 ] بِضَمِّ الراءِ ، إِتْباعاً لِلْمِيمِ .
فهذه أَرْبَعُ قِرَاءَاتٍ في « الحَمْدِ للهِ » .
ومعنى لام الجَرِّ -هنا- الاستحقاقُ أَيْ : الحمدُ مستحقٌّ لله -تعالى- ولها معانٍ أخر نَذْكُرُها وهي :
المُلْكُ : المالُ لِزَيْدٍ . والاستحقاقُ : الجُل لِلْفَرَسِ . والتَّمْليكُ : نحو : وهبتُ لَكَ وَشِبْهُهُ نحو : { جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } [ الشورى : 11 ] لتسكنوا إليها .
والنسب : نحو : لِزَيْدٍ عَمٌّ .
والتعليلُ : نحو : { لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس } [ النساء : 105 ] ، والتبليغُ : نحو : قُلْتُ لَكَ .
والتبليغُ : نحو قلتُ لك .
وللتعجُّبِ في القَسَمِ خاصَّةً؛ كقوله : [ البسيط ]
44-
للهِ يَبْقَى عَلَى الأَيَّامِ ذُو حِيَدٍ ... بِمُشْمَخِرٍّ بِهِ الظَّيَّانُ وَالآسُ
والتَّبيِينُ نحو قولِه تَعَالَى : { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] .
والصيرورةُ : نحو قولِهِ تَعَالَى : { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] .
والظرفية إِمَّا بِمَعْنَى « فِي » : كقوله تعالى : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة } [ الأنبياء : 47 ] ، أَوْ بِمَعْنَى « عِنْدَ » : كقولِهم : « كَتَبُتُهُ لِخَمْسٍ » ، أيْ : عِنْدَ خَمْسٍ ، أَوْ بِمَعْنَى « بَعْدَ » : كقوله تعالى : { أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس } [ الإسراء : 78 ] أيْ : بَعْدَ دُلُوكها .
والانتهاءُ : كقوله تعالى : { كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى } [ الرعد : 2 ] .
والاستعلاءُ : نحو قوله تعالى : { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ } [ الإسراء : 109 ] .
وقد تُزَادُ باطّرادِ في معمول الفعلِ مُقدَّماً عليه؛ كقولِه تَعَالى : { إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] [ وإذا ] كان العامِلُ فرعاً ، نحو قوله تعالى : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107 ] .
وَبِغَيْرِ اطرادٍ؛ نحو قوله في ذلك البيت : [ الوافر ]
45-
فَلَمَّا أَنْ تَوَاقَفْنَا قَليلاً ... أَنَخْنَا لِلكَلاَكِلِ فَارتَمَيْنَا
وأما قولُه تَعَالَى : { عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] فقِيل : على التَّضْمِينِ ، وقِيلَ : هي زَائِدَةٌ .
ومن الناسِ مَنْ قال : تقديرُ الكَلام : قُولُوا : الحمد لله .
قال ابنُ الخَطِيب : -رحمه الله تعالى- : وهذا عندي ضعيفٌ؛ لأنْ الإضمارَ إنما يُصارُ إليه ليصحّ الكلامُ ، وهذا الإضمار يُوجِبُ فسادَ الكلامِ ، والدليل عليه : أن قوله -تعالى- « الحَمْدُ للهِ » إخبارٌ عن كونِ الحَمْدِ حقَّا [ لله تعالى ] وملكاً له ، وهذا كَلاَمٌ تام في نفسه ، فلا حاجةَ إلى الإضمار .
وأيضاً فإن قولَه : « الحمد لله » يدلُّ على كونِهِ مُسْتَحقاً للحمدِ بحسب ذاته ، وبحسبِ أَفْعَالِه ، سواءٌ حَمَدُوه أَوْ لَمْ يَحْمِدُوه .
قال ابنُ الخَطِيب : رحمه الله تعالى- : « الحَمْدُ للهِ ثمانيةُ أَحْرُفٍ ، وأبوابُ الجَنَّةِ ثمانية [ أبواب ] ، فمن قال : » الحمد لله « بصفاءِ قَلْبِهِ استحقَّ أَبْوابَ الجَنَّةِ الثمانية » والله أعلم .
فَصْلٌ
تمسَّكَ الجَبْرِيَّةُ والقدريَّةُ بقوله تعالى : « الحمدُ للهِ » أما الجبريةُ فقد تمسَّكوا به من وجوه : الأولُ : اَنَّ كُلَّ مَنْ كَان فِعْلهُ اشْرَفَ وأَكْمَل ، وكانت النعمةُ الصادِرةُ عنه أَعْلَى وأفضل ، كان استحقاقُه للحمدِ أكثرَ ، ولا شك أنَّ أَشْرَفَ المخلُوقَاتِ هو الإيمانُ ، فلو كان الإيمانُ فِعلاً للعبد ، لكان استحقاقُ العبدِ للحمدِ أَوْلَى وأجلَّ مِنِ اسْتِحْقاقِ الله له ، ولما لم يكنْ كذلك ، علمنا أنَّ الإيمانَ حَصَلَ بخلقِ الله -تعالى- لا بِخَلْقِ العَبْدِ .
الثاني : أجمعتِ الأمّةُ على قولِهم : : الحمدُ للهِ على نعمةِ الإيمانِ « ؛ باطلاً ، فإنَّ حمد الفاعِل على ما لاَ يَكُون فِعْلاً له باطلٌ قَبِيحٌ؛ لقوله تعالى : { وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } [ آل عمران : 188 ] .
الثالثُ : أّن قوله تعالى : » الحمدُ للهِ « يدلُّ ظاهِرُهُ على أنَّ كُلَّ الحمدِ لله ، وانه لَيْسَ لِغَيْرِ الله -تعالى- حَمْدٌ أَصْلاً ، وإنما يكونُ كلُّ الحمدِ لله تعالى إذا كان كُلُّ النِّعمِ من اللهِ تعالى ، والإيمانُ أَفْضَلُ النعم ، فوجب أَنْ يكونَ الإيمانُ من الله تعالى .
الرابعُ : أَن قولَه : » الحَمد لله « مَدْحٌ مِنْهُ لِنَفْسِهِ ، ومدحُ النَّفْسِ قَبيحٌ فيما بينَ الخَلْقِ ، فلما بدأ كتابَهُ بمدح النفْسِ ، دلَّ ذلك على أَنَّ حالَهُ بخلافِ حَالِ الخلقِ ، وأَنَّه يَحْسُن منه ما يقبحُ من الخَلْقِ ، وذلك يدلُّ على أنه -تبارك وتعالى- مقدَّسٌ عن أن تُقَاس أفعالُه على أَفعالِ العِبَادِ .
الخامسُ : عند المعتزلةِ أفعالُه -تعالى- يجبُ أَنْ تكونَ حَسَنةً ، ويجبُ أَنْ تكونَ لها صفةٌ زائِدَةٌ على الحُسْنِ ، وإلا كان عبثاً ، وذلك في حقه تعالى محالٌ ، والزائدةُ على الحُسْنِ إمَّا [ أن تَكُونَ ] واجِبةً ، وإما أن تكونَ من باب التَّفَضُّلِ .
أما الواجبُ فهو مثلُ إِيصالِ الثواب ، والعوض إلى المُكَلَّفِين .
وأما الذي يكونُ من باب التفضل ، فهو مثلُ أنَّه يزيدُ على قَدْرِ الواجِبِ على سبيلِ الإحْسَانِ .
فنقولُ : هذا يَقْدّحُ في كونه -تعالى- مستحقاً للحمد ، ويُبْطِلُ صحَّةَ قولنا : الحمدُ لله .
وتقريرهُ أن نقولَ : أما أداةُ الواجِباتِ ، فإنه لا يفيد استحقاقَ الحَمْدِ ، ألا ترى أنَّ مَنْ كان له على غيره دَيْنُ دِينارِ ، فادّاه ، فإنه لا يَسْتَحِقُّ الحمدَ ، فلو أوجبنا على الله تعالى فعلاً ، لكان ذلك الفعلُ مخلصاً [ له ] عن الذَّمِّ ، ولا يُوجِبُ استحقاقه للحمد .
وأما فِعْلُ التفضُّلِ فعند الخصم أنه يستفيد بذلكَ مزيدَ حَمْدٍ ولو لم يصدرْ عنه ذلك الفعلُ ، لما حَصَل له الحمدُ ، فإذا كان كذلك كان ناقصاً لذاته مستكملاً بغيره ، وذلك يمنع مِنْ كونه -تعالى- مُسْتحقاً للحمدِ والمدح .
السَّادسُ : قولُه : الحمدُ لله يدلُّ على أنه -تعالى- محمودٌ ، فنقولُ : استحقاقُه للحمد والمدحِ إما أن يكونَ أَمْرا ثابتاً لذاتِه ، فإن كان الأوّل ، امتنَع ثُبوتُه لغيره ، فامتنع -أيضاً- أن يكون شَيْءٌ من الأفعالِ موجباً له استحقاق الذم؛ لأن ما ثبت لِذَاتِهِ امتنع ارتفاعه ، فوجب ألاَّ يجبَ للعباد عليه شيءٌ مِنَ الأعْواضِ والثَّوابِ ، وذلك يَهْدِمُ أصولَ المعتزلة .
وأمّا القسم الثَّاني -وهو أن يكون استحقاق الحمد لله ليس ثابتاً لذاتِهِ- فنقول : فيلزم منه أن يكونَ ناقِصاً لذاته مُستكملاً بغيره ، وذلك على الله -تعالى- محالٌ .
أما قول المعتزلة : إنَّ قَوْلَهُ : » الحَمْدُ لله « لا يتم إلاَّ على قولِنَا؛ لأن المستحقَّ للحمدِ على الإطلاقِ هو الذي لا قَبِيحَ في فِعْلِهِ ، ولا جَورَ في قَضِيَّتِهِ ، ولا ظُلمَ في أحكامِهِ ، وعندنا أنَ الله -تعالى- كذلك؛ فكان مُسْتَحِقَّاً لأعظمِ المَحَامِدِ والمدائح .
أمّا على مذهب الجَبْرِ لا قَبِيحَ إلا وهو فِعْلُه ، ولا جَوْرَ إلا وهو حُكْمُه ، ولاَ عَبَثَ إلا وهو صُنْعُه؛ لأنه يخلقُ الكُفْرَ في الكافر ، ثم يعذبُه عليه ، ويؤلم الحيواناتِ مِنْ غَيْرِ أن يُعَوِّضَهَا ، فكيف يُعْقلُ على هذا التقدِيرِ كونُه مُسْتحقاً للحمد؟
وأيضاً ذلك الحمد الذي يستحقه الله -تعالى- بسب الإلهيَّة؛ إِمَّا أن يستحِقُّهُ على العبدِ ، أَوْ عَلَى نفسه ، فغن كان الأول وجب كونُ العبدِ قادراً على الفِعْلِ؛ وذلك يُبْطِلُ القول بالجَبْرِ .
وإنْ كان الثاني كان معناه أن الله تعالى يجب عليه أن يحمد نَفْسَهُ؛ وذلكَ بَاطِلٌ ، قالوا : فثبت أَنَّ القولَ لا يصحُّ إلا على قولنا .
فَصْل هل وجب الشكر يثبت بالعقل أو الشرع؟
اختلفوا في أَنَّ وُجُوبَ الشُّكْرِ ثابِتٌ بالعَقْلِ أَوْ بالسَّمْعِ .
مِنَ الناس مَنْ قال : إنه ثابِتٌ بالسَّمْعِ ، لقوله تبارك وتعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] ، ولقوله تبارك وتعالى : { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل } [ النساء : 165 ] .
ومِنْهم من قال : إنه ثَابِتٌ قبلَ مَجيء الشرع ، وبعد مجيئه على الإطلاقِ؛ والدليلُ عليه قولُه تبارك وتعالى : « الحَمدُ للهِ » وبيانه من وجوه :
الأولُ : أَن قولَه تعالى : « الحمدُ لله » يدلُّ على أن هذا الحمدَ حَقُّهُ ، وملكُه على الإطْلاَقِ ، وذلك يدل على أنّ ثبوت هذا الاستحقاقِ كان قبل مَجِيء الشرْع .
الثاني : أنه تعالى قال : { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } [ الفاتحة : 2 ] ؛ وقد ثَبَتَ في [ أصُول ] الفِقْهِ أَنَّ تَرْتِيبَ الحُكْمِ على الوَصْفِ المناسِبِ ، يَدُلُّ على كونِ الحُكْمِ مُعَلِّلاً بذلك الوصف ، فها هنا أثبتَ الحَمْدَ لنفسه ، ووصف نَفْسَهُ بكونِه رَبَّ العالَمينِ رَحْماناً رَحِيماً بِهِم ، مالكاً لعاقبةِ أمْرِهم في القيامَةِ ، فهذا يدلُّ على أن استحقاقَ الحمدِ ثابتٌ -لله تعالى- في كل الأوقات ، سواءٌ كان قَبْلَ مَجِيء النَّبي ، أو بعده .
فصل
قال ابنُ الخَطيب -رحمه الله تعالى- : تَحميدُ اللهِ -تعالى- ليس عبارةً عن قَوْلِنا : الحمدُ للهِ ، إخبارٌ عن كُلِّ فِعْلٍ عن كُلِّ فِعلٍ يُشْعِرُ بتعظيم المنعم بسبب كَوْنِهِ مُنْعِماً ، وذلك الفعل : إما أن يكونَ فِعْلَ القلبِ ، أو فعل اللِّسان ، أوْ فِعلِ الجوارح .
أمَّا فعلُ القلبِ : فهو أنْ يَعْتَقِدَ فيه كونَهُ مَوْصُفاً بصفات الكمالِ والإجْلاَل .
وأما فعل اللِّسان فهو أنْ يذكر ألفاظاً دالَّةً على كونه مَوْصُوفاً بصفات الكمال [ والإجلال ] .
[
وأما فعل الجوارح؛ فهو أنْ يأتي بأفعالٍ دالّةٍ على كَوْنِ المنعمِ مَوصُوفاً بصفات الكمال والإجلال ] .
واعلم أن أهل العلم -رحمهم الله- افترقوا في هذا المقام فِرقاً كثيرةً :
فمنهم مَنْ قال : إنه لا يجوزُ عقلاً أن يأمرَ الله عَبِيدَه بان يَحْمَدُوه ، واحتجوا عليه بوجوه :
الأولُ : أن ذلك التحميدَ ، إما أن يكونَ بناءً على إنْعَام وَصَل إليهم ، أَوْ لا بِنَاءَ عليه ، فالأول باطِلٌ؛ لأن هذا يقتضي أنه -تعالى- طلبَ منهم على إنعامِهِ جَزَاء ومُكافَأةً ، وذلك يقدحُ في كَمَال الكرم ، فإنّ الكريم إذا أنعم لم يُطالِبْ بالمُكَافأة .
وأما الثاني : فهو إِتْعَابٌ لِلْغَيْرِ ابتِداءً ، وذلك يُوجِبُ الظُّلْمَ .
الثاني : قالُوا : إنَّ الاشتغالَ بهذا الحمدِ مُتْعِبٌ للحامدِ ، وغيرُ نَافِعٍ للمحمُودِ ، لأنه كامِلٌ لذاتِهِ ، والكامل [ لذاته ] يستحيل أن يستكملَ بِغَيْره ، فثبت أنَّ الاشتغال بهذا التحميدِ عَبَثٌ وضَرَرٌ ، فوجب ألا يكونَ مَشروعاً .
الثالثُ : أنَّ مَعْنَى الإِيجَابِ : أنه لَوْ لم يفعل لاسْتَحَقَّ العذابَ ، فإيجابُ حَمْدِ الله تعالى معناه : أنه لو لم تشتغلْ بهذا الحمدِ ، لَعَاقَبْتُكَ ، وهذا الحمدُ لا نفعَ لَهُ في حَقِّ اللهِ تبارك وتعالى ، فكان معناه أن هذا الفعلَ لا فَائِدَة فِيه لأحدٍ ، ولو تركته [ لعاقبتك ] أَبَدَ الآبادِ ، وهذا لا يليقُ بالحَلِيم الكريم .
والفريقُ الثاني : قَالُوا : الاشتغالُ بِحَمْدِ الله -تعالى- سُوءُ أَدَبٍ من وجوه :
الأولُ : أنه يَجْرِي مَجْرَى مقابَلَةِ إحْسَانِ اللهِ بذلك الشُّكر القَلِيلِ .
والثاني : أنَّ الاشتغالَ بالشُّكْرِ لا يتأتى مع استحضارِ تلك النِّعَمِ في القلْبِ ، واشتغالُ القلبِ بالنعم يمنعه من الاسْتِغْرَاق في مَعْرِفَة المُنْعِمِ .
والثالثُ : أنَّ الثناءَ على الله -تعالى- عند وُجْدَانِ النِّعْمَةِ يدلُّ على أنه إنَّما أَثْنَى عليه؛ لأجْلِ الفوز بتلك النعم ، وهذا الرَّجُلُ في الحَقِيقَةِ مَعْبُوده ، ومَطْلُوبُه إنما هو تلك النِّعَمِ ، وحظُّ النَّفسِ ، وذلك مقامٌ نَازِلٌ .
وهذانِ مَرْدُودانِ بما تَقَدَّمَ وبأنَّ أفعالَهُ وأقوالَه وأسماءَهُ لا مدخل للعَقْلِ فيها ، فقد سَمَّى رُوحَه مَاكِراً بقوله تعالى : { وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين } [ آل عمران : 54 ] ، ومتكبراً وغيرَ ذلك ممَّا تقدّم في أسمائه من قوله تعالى : { الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } [ البقرة : 15 ] وغَيْرِه .
فإن قِيل : إنما ورد ذلك مِنْ حيثُ المُقَابلة ، قُلْنَا : نُسلِّمُ ، ولكنه قد سمى نفسه به ، ونحن لا يجوزُ لنا تسميتُهُ به .
وأما مِنْ حَيْثُ ورودُه في الشرع ، فقال اللهُ تعالى : { فاذكرونيا أَذْكُرْكُمْ واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } [ البقرة : 152 ] .
قولُه تَعَالَى : { رَبِّ العالمين } .
الرَّبُّ : لُغَةً : السيدُ ، والمَالِكُ ، والثَّابِتُ والمَعْبُودُ؛ ومنه قولُه : [ الطويل ]
46-
أرَبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبَانُ بِرَأْسِهِ ... لَقَدْ هَانَ مَنْ بَالَتْ عَلَيْهِ الثَّعَالِبُ
والمُصْلِحُ ، وزاد بعضُهم أنه بمعنى : الصّاحبِ؛ وأنشد القائل : [ الكامل ]
47-
قَدْ نَالَهُ رَبُّ الكِلاَبِ بِكَفِّهِ ... بِيضٌ رِهَابٌ ريشُهُنَّ مُقزَّعُ
والظاهِرُ أَنَّهُ -هنا- بمعنى المَالِك ، فليس هو معنى زائداً .
وقيل : يكون بمعنى الخَالِقِ .
واختُلِفَ فيه : هل هو في الأصلِ وَصْفٌ أو مصدر؟
فمنهم من قال : [ هو وَصْفٌ أي صِفَة مشبهة بمعنى « مُرَبٍّ » ] ، ثم اختلف هَؤلاءِ في وزنه . [ فمنهم من قال ] : هو على « فَعِل » كقولك : « نَمَّ- يَنِمُّ- فهو نَمٌّ » من النّمام ، بمعنى غَمَّاز .
وقيل : وزنه « فَاعِل » ، وأصلُه : « رَابٌّ » ، ثم حُذِفت الألفُ؛ لكثرةِ الاستعمالِ؛ لقولِهم : رَجُلٌ بَارٌّ وَبَرٌّ .
ولقائلٍ أن يقولَ : لا نسلم أن « بَرَّ » مأخوذ من « بَارّ » بل هما صِفتان مُسْتقلتَانِ ، فَلاَ يَنْبَغِي أنْ يُدّعَى أنّ « ربَّا » أصله « رابٌّ » .
ومنهم مَنْ : قال إنه مَصْدرٌ « رَبَّهُ -يَرُبُّهُ -رَبَّاً » أي : مَلَكَهُ .
قال : « لأنْ يَرُبَّنِي رَجَلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ من أن يَرُبَّنِي رَجَلٌ من هَوَازِنَ » .
فهو مصدر في معنى الفاعل نحو : « رجل عَدْل وصَوْم » .
ولا يُطْلقُ على غَيْرِ الباري -تعالى- إلاّ بقيد إضافةٍ ، نحو قوله تعالى : { ارجع إلى رَبِّكَ } [ يوسف : 50 ] ، ويقولون : « هو رَبُّ الدَّارِ ، ورَبُّ البَعِير » ، وقد قالته الجاهليةُ لِلْمَلِكِ من الناس مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ؛ قال الحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ : [ الخفيف ]
48-
وَهُوَ الرَّبُّ وَالشَّهِيدُ عَلَى يَوْ ... مِ الحِيَارَيْنِ وَالبَلاءُ بَلاَءُ
وهذا مِنْ كُفْرِهِمْ .
وقرأ الجمهورُ : « رَبِّ » مجروراً على النعتِ « لله » ، أو البَدَلِ منه .
وقرِئَ مَنْصوباً ، وفيه ثلاثةُ أَوْجُهٍ :
إمَّا بِمَا دَلَّ عليه الحمدُ ، تقدِيرُه : « أحمد ربُّ العالمين » .
أو على القطع من التبعية ، أو على النِّداءِ وهذا أضعفُهَا ، لأنه يُؤَدِّي إلى الفَصْلِ بين الصفة والموصوف .
وقُرِىءَ مَرْفُوعاً على القَطْعِ من التبعية ، فيكونُ خبراً لمبتدإٍ مَحْذّوفٍ ، أيْ : « هُوَ رَبُّ » وإذْ قد عرض ذِكْرُ القَطْعِ في التَبعيَّةِ ، فلنستطردْ ذِكْرَهُ ، لِعُمُومِ فَائِدَتِهِ فنقول :
اعلم أنَّ الموصوفَ إذا كان معلوماً بدون صفته ، وكان الوصفُ مَدْحَاً ، أو ذماً ، أو ترحُّما- جاز في الوَصْفِ الإتباعُ والقطعُ .
والقطعُ : إما على النصْبِ بإضمار فعل لائقٍ ، وإمَّا على الرَّفعِ على خَبَرٍ لمبتدإ مَحْذُوفٍ ، ولا يجوزُ إظهارُ هذا الناصِبِ ، ولا هذا المبتدإ ، نحو قولِهم : « الحَمْدُ لله أَهْلُ الحَمْدِ » رُوِيَ بنصبِ « أهْل » ورفعِه ، أيْ : أعني أَهْلَ ، أو هو أَهلُ الحمدِ .
وإِذا تكررتِ النُّعوتُ ، والحالةُ هذه ، كُنْتَ مُخَيَّراً بين ثلاثة أوجه :
إما إتباعُ الجَميعِ ، أو قَطْعُ الجَميع ، أوْ قَطْعُ البَعْضِ ، وإتباعُ البَعْضِ .
إلاّ أنك إذا أَتْبَعْتَ البعضَ ، وقطعتَ البعضَ وجب أَنْ تَبْدَأ بالإتباعِ ، ثُمَّ تأتي بالقَطْعِ من غير عَكْسٍ ، نحو : « مررتُ بزيدٍ الفَاضِلِ الكَرِيمُ » ؛ لِئَلاَّ يلزمَ الفصلُ بين الصفَةِ والموصُوفِ بالجملةِ المَقْطُوعَةِ .
و « العَالَمِينَ » خَفْضٌ بالإضافَةِ ، عَلاَمةُ خفضِه الياءُ؛ لجريانه مَجْرى جمع المذكرِ السَّالِمِ ، وهم اسْمُ جَمْعٍ؛ لأنَّ واحِدَهُ مِنْ غَيْرِ لفظه ، ولا يَجوزُ أن يكونَ جمعاً ل « عَالَم » مُرَاداً به العاقل دُونَ غَيْره ، فيزولَ المحذْورُ المذكور؟
وأُجِيبَ عنه : بأنه لَوْ جاز ذلك ، لَجَازَ أَنْ يُقالَ : « شَيْئُون » جَمْعُ « شَيءٍ » مُرَاداً به العاقل دون غيره ، فدل عَدَمُ جَوَازِه على عدم ادّعاءِ ذلك .
وفي الجواب نَظَرٌ ، إذْ لِقائل أنْ يقول : شيئون « منع منه مانِعٌ آخرُ ، وهو كونهُ لَيْسَ صِفَةً ولا علماً ، فلا يلزَمُ مِنْ مَنْعِ ذلك منعُ » عَالَمِين « مراداً به العاقل .
ويُؤَيِّدُ هذا ما نَقَلَ الراغِبُ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ -رضى الله تعالى عنهما- أنَّ « عَالَمِين » إنما جمع هذا الجمع؛ لأن المراد به الملائكةُ والجنُّ والإنْسُ .
وقال الراغِبُ أيضاً : « إنَّ العَالَم في الأصلِ اسم لما يُعْلَمُ به كالطَّابَعِ اسم لما يُطْبَعُ » وجُعِلَ بناؤُه على هذه الصيغَةِ ، لكونه كالآلةِ ، فالعالَمُ آلة في الدلالةِ على صَانعه .
وقال الرَّاغبُ أيضاً : « إنَّ العَالَم في الأصل لما يُعْلَمُ به كالطَّابَعِ اسم لما يُطْبَعُ » وجُعِلَ بناؤه على هذه الصيغَةِ ، لكونه كالآلةِ ، فالعالَمُ آلة في الدلالةِ على صَانِعه .
وقال الرَّاغِبُ : أيضاً : « وأما جمعُه جَمْعُ السَّلامةِ ، فلكون الناس في جُمْلَتِهِم ، والإنسانُ إذا شَارَك غيرَهُ في اللَّفظِ غَلَبَ حُكْمُ » ، فظاهر هذا أَنَّ « العَالَمِين » يطلق على العُقَلاء وغَيْرِه ، وهو مُخالِفٌ لما تقدّم من اختصاصِهِ بالعقلاء ، كما زعم بعضُهم ، وكلام الراغِبِ هو الأصَحُّ الظّاهرُ .
فصل في وجوه تربية الله لعبده
قال ابنُ الخَطِيبِ -رحمه الله تعالى- : « وجوه تَرْبِيَةِ الله لِلْعَبْدِ كثيرةٌ غيرُ مُتَنَاهِيَةٍ ، ونحن نذكر منها أمثله :
الأولُ : لما وَقَعَتِ النّطفةُ مِنْ صُلْبِ الأَبِ إلى رَحِمِ الأُمِّ ، فَرَبَّاهَا حتى صارت عَلَقَةً أَولاً ، ثم مُضْغَةً ثانيةً ، ثم تولّدت منه أعضاء مُختلفةٌ ، مثلُ العِظَامِ ، والغَضَارِيفِ ، والرّبَاطَاتِ ، والأَوْتَارِ ، والأوردَةِ ، والشرايِين ، ثم اتصل البعضُ بالبعضِ ، ثمَّ حَصَلَ في كُلِّ واحِدٍ منها نَوْعٌ خَاصٌّ من أنواع القُوَى ، فحصلت القوّةُ الباصرة في العَيْنِ ، والسَّامِعَةُ في الأُذُنِ ، والنَّاطِقَةُ في اللِّسانِ ، فسُبْحَانَ مَنْ بَصَّرَ بِشَحْمٍ ، وأَسْمَعَ بِعَظْمٍ ، وأَنْطَقَ بِلَحْمٍ »! .
والثَّاني : أن الحَبَّةَ الواحِدَةَ إذا وقعت في الأرض ، فإذا وصلت نَدَاوةُ الأرضِ إليها ، انتفَخَتْ ولا تنشق من شيء من الجوانِبِ إلاّ مِنْ أَعْلاَها وأسفلها ، مَعَ أنَّ الانتفاخَ حاصلٌ من جميع الجوانب .
أما الشق الأعلى ، فيخرجُ منه الجزءُ الصاعِدُ ، فبعد صعودِهِ يحصُلُ له سَاقٌ ، ثم ينفصِلُ من ذلك الساقِ أَغْصَانٌ كثيرةٌ ، ثم يظهر على تلك الأغصانِ الأَنْوَارُ أوَّلاً ، ثُمَّ الثِّمَار ثانياً ، ويحصل لتلك الثمار أجزاء مختلفة بالكَثَافَةِ ، واللطافة ، وهي القُشُور ، واللّبوبُ ، ثم الأدهان .
وأما الجُزْءُ الغائِصُ من الشجرة ، فإن تلك العروق تنتهي إلى أطرافها ، وتلك الأطراف تكون في اللطافة كأنها مياع منعقدة ، ومع غايةِ لُطْفِها ، فإنها تغوص في الأرض الصّلبة اليابسة ، وأودع فيها قُوى جاذبةً تجذِبُ اللّطيفةَ من الطين إلى نفسها ، والحكمةُ في كلِّ هذه التدبِيرَاتِ تحصيلُ ما يحتاج العبد إليه من الغِذَاءِ ، والإدام ، والفواكه ، والأشربةِ ، والأدْوِيَةِ؛ كما قال تعالى : { أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً } [ عبس : 25 ، 26 ] .
فَصْلٌ
اختلفوا في { العالمين } .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : « هُمُ الجنُّ والإِنْسُ؛ لأنهم المكلّفون بالخِطَابِ » ؛ قال الله تعالى :
{
لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان : 1 ] .
وقال قتادةُ : والحَسَنُ ، ومُجَاهِدٌ -رضي الله تعالى عنهم- : « جميعُ المخلوقينَ » ؛ قال تبارك وتعالى : { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين قَالَ رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ } [ الشعراء : 23-24 ] .
واشْتِقَاقُه من العَلمِ والعَلاَمَةِ ، سُمُّوا بذلك؛ لظُهورِ أَثَرِ الصنعة فيهم .
قال أَبُو عُبَيد -رحمه الله تعالى- : هم أرْبَعُ أُمَم : والإنسُ ، والجِنُّ ، والشَّيَاطِينُ ، مُشْتَقٌّ من العلم ، ولا يُقَال للبهائِمِ؛ لأنها لا تَعْقِلُ .
واخْتَلَفُوا في مبلغِهِم .
قال سَعِيدُ بنُ المُسَيَّب -رضي الله عنه- : « للهِ ألْفُ عَالَمٍ : سِتُّمائةٍ في البَحْرِ ، وأربعمائة في البرِ » .
وقال مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّان -رضي الله عنه- : « ثَمانُونَ أَلْفاً ، أَرْبَعُون ألفا في البَحْرِ ، وأربعونَ ألفا في البَرِّ » .
وقال وَهْبٌ -رضي الله عنه- : « لله ثَمَانِيَةَ عَشرَ ألفَ عَالَمٍ ، الدّنيا منها ، وما العمران في الخَرَابِ إلا كفُسطاطٍ في صَحْراء » .
وقال كَعْبُ الحبارِ -رضي الله عنه- : « لا يُحْصي عَدَدَ العَالَمِين إلاّ اللهُ -عز وجل- » ؛ قال تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [ المدثر : 31 ] .
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
قوله تعالى : { الرحمن الرحيم }
نَعْتٌ أوْ بَدَلٌ -وقرئا منصوبين ، ومَرْفُوعَيْنِ ، وتَوْجِيهُ ذلك ما ذكر في : { رَبِّ العالمين } ، وتقدم الكلام على اشْتِقاقِهما في « البَسْمَلَةِ » فَأَغْنَى عن إِعَادَتِه .
قوله تعالى : { مالك يَوْمِ الدين }
يجوزُ أنْ يكونَ صِفَةً أيضاً ، أوْ بَدَلاًَ ، وإن كان البدلُ بالمشتقِّ قليلاً ، وهو مُشْتَقٌّ من « المُلْك » -بفتح الميم- وهو : الشَّدُّ والرَّبْطُ ، قال الشاعرُ في ذلك : [ الطويل ]
49-
مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا ... يَرَى قَائِمٌ مِنْ دُونِهَا مَا وَرَاءَهَا
ومنه : إِمْلاَكُ العَرُوسِ؛ لأنّه عَقْدٌ ، ورَبْطٌ ، للِّنِكاحِ .
وقُرِىءَ : « مَالِك » بالألَفِ .
قال الأَخْفَش -رحمه الله تعالى- يُقال : مَلِك بَيَّنُ المُلْكِ -بضم الميم ، و « مَالِك » من « المَلِكِ » بفتح الميم وكسرها .
ورُويَ ضمُّها -أيضاً- بهذا المعنى .
وروي عن العربِ : « لِي في هَذَا الوَادي مَلْكٌ ومُلْكٌ ومِلْكٌ » مُثَلَّثُ الفاء ، ولكن المعروفَ الفرقُ بَيْنَ الأَلْفَاظِ الثَّلاثَةِ :
فالمفْتُوح : الشَّدُّ والرَّبْطُ .
والمضْمُومُ : هو القَهْرُ والتسلُّطَ على من يتأتّى منه الطَاعَةُ ، ويكون باسْتِحْقَاقٍ وغَيْرِه ، والمقصور : هو التَّسَلُّطَ عَلَى مَنْ يتأتّى منه الطاعة ومَنْ لا يتأتى منه ، ولا يكونُ إلاَّ باستحقاقٍ؛ فيكونُ بَيْنَ المقصورِ والمضمُُومِ عمومٌ وخُصوصٌ من وجه .
وقال الرَّاغِبُ : المِلْكُ أي « بالكَسْرِ » كالجِنْسُ للملك ، أي « بالضَّم » فكُلُّ مِلْكٍ « بالكسر » ملك ، وليس كُلُّ ملكٍ مِلْكاً ، فعلى هذا يكُونُ بينما عُمُومٌ وخُصُوصٌ مُطْلَقٌ ، وبهذا يُعْرَفُ الفرقُ بين ملك ومالك ، فَإِنَّ ملكاً مأْخُوذَةٌ مِنَ المُلْكِ بالضمِ ومالِكا مأخوذ من المِلك « بالكَسْرِ » وقيل : إنَّ الفرقَ بينهما : أنَّ المَلِكَ : اسْمُ كُلِّ مَنْ يَمْلِكُ السياسة ، إِمَّا في نَفْسِه ، بِالتمكُّنِ مِنْ زمام ِ قواه وصرفها عَنْ هَوَاهَا .
وإِمَّا في نَفْسِهِ وفي غَيْرِهِ ، سَوَاءٌ تولى ذلك أَوْ لَمْ يتولّ .
وقد رَجَّحَ كُلُّ فَرِيقٍ إِحْدَى القِرَائَتَيْنِ على الأُخْرَى تَرْجِيحاً يكادُ يسقط القِرَاءَاتِ الأُخْرَى ، وهذا غَيْرُ مَرْضيٍّ؛ لأنَّ كِلْتَيْهِما مُتَوَاتِرةٌ ، ويدلُّ على ذلك ما رُوِيَ عن ثَعْلَب -رحمه الله تعالى- أنه قال : إِذَا اخْتَلَفَ الإِعْرَابُ في القرآن عن السَّبعةِ ، لم أُفَضِّلُ إِعْرَابَاً على إعراب في القرآنِ ، فإذا خرجتُ إلى كلامِ الناسِ ، فصَّلْتُ الأَقْوَى . نقله أَبُو عَمْرو الزّاهد في « اليَوَاقيت » .
قال أَبُو شَامَة -رحمه الله : - قَدْ أَكْثَر المُصَنِّفُونَ في القراءَات والتفاسِيرِ مِنَ التّرْجِيحِ بَيْنَ هَاتَيْنِ القِرَاءَتَيْنِ ، حتى أن بعضهم يبالغ في ذلك إلى حد يكاد يسقط وجه القراءة الأخرى ، ولَيْسَ هذا بِمَحْمُودٍ بعد ثُبُوتِ القِرَاءَتَيْنِ ، وصحَّةِ اتصافِ الربِّ -سبحانه وتعالى- بهما حتى إني أُصَلِّي بهذه في رَكْعَةٍ ، وبهذه في رَكْعةٍ ، ذكر ذلك عند قَوْلِهِ تعالى : مَالِك يَوْمِ الدِّين . وَرَوى الحُسَيْنُ بنُ عَليٍّ الجعفي ، وعبدُ الوَارِثِ بنُ سَعِيدٍ ، عَنْ اَبِي عَمْروٍ : « مَلْكِ » بِجَزْمِ اللاَّمِ على النَّعْتِ أيضاً .
وقرأ الأَعْمَشُ ، ومحمدُ بنُ السّمفيع ، واَبُو عَبْد الملك قاضي الجُنْد : « مَالِكَ » بنصب الكاف على النِّداءِ . روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بعض غزواته : يا مالك يوم الدين ، وقُرىء بنصبِ الكَافِ من غير ألف النداء أيضاً ، وهي قراءةُ عَطِيَّةَ بن قَيْس ، وقرأ عَوْن العُقَيْلِيُّ بالأَلَف وَرَفْعِ الكَاف ، على مَعْنَى : « هُوَ مَالِك » .
وقرأَ يَحْيَى بنُ يَعْمُر « مالك » بالإمالة والإضجاع البليغ . وقرأ أيُّوبُ السَّخْتيَانِيّ : بَيْنَ الإمَالةِ والتّفْخِيم ، ورواها قُتَيْبَةُ عنِ الكِسَائي .
وقرأ الحَسَنُ « مَلَك يَوْمَ الدِّين » على الفِعْلِ ، وهو اختيارُ أبِي حَنِيفَة -رضي الله تعالى عنه- ورُويتْ أيضاً عَنْ أَبِي حَيْوَة ، ويَحيَى بن يعمر فمما رجحت به قراءة « مَالِكِ » أَنَّها أمْدَحُ؛ لعُمُوم إضافَتِه ، إذ يُقالُ : « مَالِكُ الجِنِّ ، والإِنْسِ ، والطَّيْرِ » ولا يُقالُ : « مَلِك الطّيْرِ » ، وأنشدوا على ذلك : [ الكامل ]
50-
سُبْحَانَ مَنْ عَنَتِ [ الوُجُوهُ ] لِوَجْهِهِ ... مَلِكِ المُلُوكِ وَمَالِكِ العَفْوِ
وقالُوا : فُلاَنُ مَالِك كَذَا ، لِمَنْ يَمْلِكُه ، بخلافِ مَلِك فَإِنَّهُ يُضَافُ إلى غَيرِ المُلُوكِ نحو : « مَلِكِ العَرَب ، والعَجَمِ » ، ولأَنَّ الزيادةَ في البناءِ تَدُّلُّ على الزيادةِ في المعنى ، كما تقدم في « الرحمن » ولأنَّ ثواب تالِيها أَكثرُ من ثوابِ تَالِي « مَلِك » .
ومما رُجِّحَتْ به قراءَةُ « مَلِكِ » ما حكاه الفَارسيّ ، عن ابن السّرَّاجِ ، عَنْ بَعْضِهِم : أنه وصف [ نَفْسَه ] بِأنه مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ ، بقوله : « رَبِّ العَالَمينَ » ، فَلا فَائِدَةَ في قراءَةِ مَنْ قَرَأَ « مَالِكِ » ؛ لأنها تَكْرَارٌ .
قال أَبُو عَليٍّ : ولا حُجَّةَ فِيه؛ لأنَّ في التَّنْزِيلِ مِثْلهُ كَثِيرٌ ، يَذْكُرُ العَامَُّ ، ثُمَّ الخَاصُّ؛ نحو : { هُوَ الله الخالق البارىء المصور } [ الحشر : 24 ] .
وقال حَاتم : « مَالِكِ » أَبْلَغُ في مَدْحِ الخَالِقِ ، و « مَلِكِ » أَبْلَغ في مَدْحِ المَخْلُوقِ ، والفرق بَيْنَهُمَا : اَنَّ المَالِكَ مِنَ المخلوقين قد يَكُونُ غيرَ مَلِكٍ ، وإذا كَانَ اللهُ -تعالى- مَلِكاً كان مالكاً [ أيضاً ] واختاره ابنُ العَرَبيِّ .
ومِنْهَا : أَنَّها أَعَمُّ إذ تُضَافُ للملوكِ وغَيْرِ المَمْلوكِ ، بخلاف « مَالِكِ » فإنه لا يُضَاف إلاَّ لِلْمملوكِ كما تقدم ، ولإشْعَارِه بالكثرةِ ، ولأنه تَمَدَّحَ تعالى -بقوله تعالى- « مَالِكِ المُلْكِ » ، وبقوله تعالى : { قُلِ اللهم مَالِكَ الملك } [ آل عمران : 26 ] ، ومَلِكق مأخوذٌ منه [ كما تقدّم ، ولم يمتدح ب « مالك المِلْك » بكسر الميم الذي « مالك » مأخوذ منه ] .
وقال قَوْمٌ : « مَعْنَاهُمَا : واحِدٌ؛ مثلُ : فَرِهين وفَارِهِين ، وحَذِرِين وحَاذِرِين » .
ويُقالُ : المَلِكِ والمالِكِ : هو القَادِرُ على اختراع الأعيان من العَدَمِ إلى الوجود ، ولا يَقْدِرُ عليه أحد غير الله تعالى . وجمع « مَالِكِ » : مُلاَّك ومُلَّك ، وجَمْعُ « مَلِك » : أَمْلاَك ومُلُوك .
وقُرِىء : « مَلْك » بسكون اللاّم ، ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
51 ... -
وَأَيَّامٍ لَنَا غُرٍ طوَالٍ عَصَيْنَا المَلْكَ فِيهَا أَنْ نَدِينَا
كما يُقالُ : فَخِذٌ وفَخْذٌ ، وجَمْعُه على هذا : أَمْلُك ومُلُوك ، قاله مَكِّيٌّ رحمه الله .
و « مَلِيك » ، ومنه : الكامل
52-
فَاقْنَعْ بِمَا قَسَمَ المَلِيكُ فَإِنَّمَا ... قَسَمَ الخَلاَئِقَ بَيْنَنَا عَلاَّمُهَا
و « مَلَكي » بالإشْبَاعِ ، وتُرْوَى عن نَافِع -رحمه الله- .
إذا عُرِفَ هذا فيكونُ « مَلِك » نعتاً لله -تعالى- ظاهراً ، فإنه معرفة بالإضافة .
وأما « مَالِك » فإِنْ أُرِيدَ به مَعْنَى المُضّيِ ، فجعلُه نَعْتاً واضِحٌ أيضاً؛ لأن إضافَتَه مَحْضَة فيتعرَّفُ بها ، ويُؤيّد كونَهُ ماضِيَ المَعْنَى قِراءةُ من قرأ : « مضلَكَ يَوْمَ الدِّينِ » فجعل « مَلَكَ » فِعْلاً مَاضِياً ، وإن أُرِيد به الحالُ ، أو الاستقبالُ [ فَيُشَكِلُ؛ لأنه : إِمَّا أنْ يُجْعَلَ نعتاً لله ، ولا يجوزُ؛ لأنَّ إضافَةَ اسمِ الفاعلِ بمعنى الحالِ ، أو الاستقبال ] غَيْرُ محضةٍ ، فلا يُعْرَف ، وإذا لم يتعرَّفْ ، فلا يكون نعتاً لمعرفةٍ؛ لما عرفت فيه تقدم من اشتراط الموافقة تَعْرِيفاً وتنكيراً .
وإِمَّا أنْ يُجْعَلَ بَدَلاً ، وهو ضَعيفٌ ، لأن البدل بالمشتقاتِ نادِرٌ كما تقدم .
والذي يَنْبَغِي أنْ يُقالَ : إنه نعت على مَعْنَى أنَّ تَقْييدَهُ بالزمانِ غَيْرُ مُعْتَبِرٍ؛ لأَنَّ الموصوفَ إِذَا عُرِّفَ بِوَصْفٍ كان تقييدُه بزمانٍ غير معتبرٍ ، فكان المعنى -والله أعلم- أنه متَّصِفٌ بمالك يوم الدِّين مطلقاً من غير نظر إِلَى مُضِيٍّ وَلاَ حَالٍ ، ولاَ اسْتِقْبالٍ ، وهذا مَالَ إلَيهِ الزمخشريُّ رحمة الله تعالى .
وإضافَةُ « مَالِكِ » و « مَلِكِ » إلى « يَوْمِ الدِّينِ » مِنْ بَابِ الاتِّساعِ؛ إذْ متعلّقهما غيرُ اليومِ ، والتقديرُ : مَالِكِ الأَمْرِ كُلِّهِ يَوْم الدِّينِ .
ونظيرُ إِضَافَةِ « مَالِكٍ » إلى الظَّرْفِ -هُنَا- نَظِيرُ إِضَافَةِ « طَبَّاخٍ » إلى « ساعات » في قول الشاعر : [ الرجز ]
53-
رُبَّ ابْنِ عَمِّ لِسُلَيْمَى مُشْمَعِلْ ... طَبَّاخِ سَاعَاتِ الكَرَى زَادَ الكَسَلْ
إِلاَّ أَنَّ المَفْعُولَ في البيت مَذْكُورٌ -وهو « زادَ الكَسِلْ » ، وف الآية الكريمةِ غيرُ مذكورٍ؛ للدلاَلةِ علَيه .
ويجوزُ أَنْ يكونَ الكَلاَمُ [ على ظاهِرِه ] من غيرَ تَقْدِيرِ حَذْفٍ .
ونسْبَةُ « المِلك » والمُلْك « إلى الزمان في حَقِّ اللهِ -تعالى- غَيْرُ مُشْكِلِةٍ ، ويُؤيِّدُه ظاهرُ قِرِاءَةِ مَنْ قَرأ : » مَلَكَ يَوْمَ الدّين « فِعْلاً ماضياً ، فإن ظاهِرَهَا كونُ » يَوْمَ « مَفْعُولاً به والإضافةُ على مَعْنَى » اللامِ « ، لأنَّها الأصل .
ومِنْهم مضنْ جَعلها في هذا النحو على معنى » في « مُسْتَنِداً إلَى ظاهِرِ قَولِهِ تبارك وتعالى : { بَلْ مَكْرُ الليل والنهار } [ سبأ : 33 ] قال : المعنى » مَكْرٌ في اللَّيْلِ « إذ اللَّيلُ لاَ يُوصَفُ بالمكرِ ، إنما يُوصَفُ بِه العُقَلاَءُ ، فالمَكْرُ واقِعٌ فيه .
والمشهورُ أَنَّ الإضافَةَ : إِمَّا على معنى » اللامِ « وإما على مَعْنى [ مِنْ ] ، وكونٌُها بمعنى » في « غَيْرُ صَحِيحٍ .
وأَمَّا قولُه تعالى : » مَكْرُ اللَّيْلِ « فلا دَلاَلَةَ فِيه؛ لأنَّ هذا من بَابِ البَلاَغَةِ ، وهو التَّجوزُ في أَنْ جَعَلَ ليلهم ونهارهم ماكِرَيْنِ مبالغةً في كَثْرة وقوعه منهم فيهما؛ فهو نَظيرُ قَوْلِهِمْ : نَهَارُهُ صَائِم ، ولَيْلُهُ قَائِم؛ وقول الشاعر في ذلك البيت : [ البسيط ]
54-
أَمَّا النَّهَارُ فَفِي قَيْد وَسِلْسِلَةٍ ... وَاللَّيْلِ فِي بَطْنِ مَنْحُوتٍ مِنَ السَّاجِ
لما كانت هذه الأشياءُ يكْثُر وقُوعها في هذه الظروفِ ، وَصَفُوهَا بها مُبَالغةً في ذلك ، وهو مَذْهَبٌ مَشْهُورٌ في كَلاَمِهِمْ .
و « اليَوْمُ » لُغَةً : القِطْعَةُ مِنَ الزَّمَانِ ، أيَِّ زَمَنٍ كَانَ مِنْ لَيْلٍ وَنَهار؛ قال الله تبارك وتعالى : { والتفت الساق بالساق إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق } [ القيامة : 29 و 30 ] وذلك كنايةٌ عن احتضار الموتى ، وهو لا يختَصُّ بِلَيْلٍ ولا نَهَار . وأما في العُرْف : فهو من طُلُوعِ الفَجْرِ إلى غُرُوبِ الشمس .
وقال الرَّاغِبُ : « اليوم » يُعَبَّرُ به عن وَقْتِ طُلُوعِ الشمسِ إلى [ غُرُوبِها ] .
وهذا إنَّما ذكرُوهُ في النَّهارِ لا في اليَوم ، وجعلوا الفرقَ بينهما ما ذكرتُ ، وقد يُطْلَقُ اليوم على السَّاعةِ ، قال تبارك وتعالى : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [ المائدة : 3 ] ، وربما عُبِّرَ عَنِ الشِّدَّةِ باليومِ ، يُقالُ يَوْمٌ أَيَوْمٌ؛ كما يُقالُ : لَيْلَةٌ لَيْلاَءُ . ذكره القُرْطُبِيُّ رحمه الله تعالى . و « الدِّينِ » مضافٌ إِلَيْه أَيْضاً ، والمرادُ به -هنا- الجَزَاءُ؛ ومنهُ قولُ الشاعر : [ الهزج ]
55-
وَلَمْ يَبْقَ سِوَى العُدْوَا ... نِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا
أي : جَازيْنَاهُمْ كما جَازَوْنَا .
وقال آخَرُ في ذلك : [ الكامل ]
56-
وَاعْلَمْ يَقِيناً أَنَّ مُلْكَكَ زَائلٌ ... وَاعْلَمْ بَأَنَّ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ
ومثله : [ المتقارب ]
57-
إِذَا مَا رَمَوْنَا رَمَيْنَاهُمُ ... وَدِنَّاهُمْ مِثْلَ مَا يَقْرِضُونا
ومثله [ الطويل ]
58-
حَصَادَكَ يَوْمَاً مَا زَرَعْتَ وإِنَّمَا ... يُدانُ [ الفَتَى ] يَوْماً كَمَا هُوَ دَائِنُ
وقال ابنُ عباسٍ -رضي الله تَعَالَى عنهما- ومُقاتِلٌ والسُُّدَّيِّ : « مَالِكِ يَوْمِ لدِّينِ » : قَاضِي يَوْمِ الحِسَابِ؛ قال تعالى : { ذلك الدين القيم } [ التوبة : 36 ] . أي الحسابُ المستقيمُ .
وقال قَتَادَةُ : « الدِّين : الجَزَاءُ ويقعُ على الجزاءِ في الخَيْرِ والشَّرِّ جمِيعاً » .
وقال مُحَمَّدُ بنُ كَعْبٍ القُرَظِي : « مَالِكِ يَوْمِ الدِّين ، يوم لا ينفعُ فيه إلاََّ الدِّين » .
وقيل : الدين القَهْرُ : يُقالُ : دِنْتُهُ فَدَانَ أي : قَهَرْتُهُ فذلّ .
وقيل : الدينُ الطاعَةُ؛ ومنه : « وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً » ، أيْ : طَاعَةٌ ، وله مَعَاٍ أُخَرُ : العادَةُ؛ كقولِهِ هذا البيت : [ الطويل ]
59-
كَدِينِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلِهَا ... وَجَارَتِهَا أُمِّ الرِّبابِ بمَأْسَلِ
أَيْ : كَعَادَتِكِ . ومثله : [ الوافر ]
60-
تَقُولُ وَقَدْ دَرَأْتُ لَهَا وَضِينِي ... أَهَذَا دِينُهُ أَبَداً وَدينِي
ودَانَ : عَصَى وأطاعَ : وذَلَّ وعَزَّ ، فهو من الأضدَادِ [ قاله ثعلب ] .
والقضاءُ؛ ومنه قولُه تبارك وتعالى : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله } [ النور : 2 ] ، أَيْ : في قَضَائِهِ وحُكْمِهِ .
والحَالُ؛ سُئِلَ بعضُ الأعرابِ فقال : « لو كنتُ على دِينٍ غير هذه ، لأَجَبْتُكَ » ، أَيْ : على حَالَةٍ .
والدَّاءُ؛ ومنه قولُ الشاعرِ في ذلك : [ البسيط ]
61-
يَا دِينَ قَلبِكَ مِنْ سَلْمَى وَقَدْ دِينَا ... ويُقالُ : جِنْتُهُ بفعله أَدِينُه دَيْناً أَدِينُه دَيْناً وَدِيناً -بفتح الدَّال وكَسْرِها في المصدر- أيْ : جَازَيْتُه .
{
وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 85 ] .
ويُقَالُ : دِينُ فُلاَنٌ يُدَانُ إذا حُمِلَ على مَكْروهٍ ، ومنه قِيل للعبدِ : مَدِين ، ولِلأَمَةِ : مَدِينَة . وقِيل : هو من دِنْتُهُ : إذا جازيته بطاعته ، وجعل بعضُهم « المَدِينَة » مِنْ هذا البابِ قاله الرَّاغِبُ ، وسيأتي تحقيقُ هذه اللفظةِ عند ذكرها إِن شاء الله تعالى .
وإنما خُصَّ « يوم الدين » بالذكر مع كونِه مالِكا للأيّام كُلِّها؛ لأنَّ الأَمْلاَكَ يومئذَ زائِلة ، فلا مُلْكَ ولاَ أَمْرَ إِلاَّ لَه؛ قال الله تعالى : { الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن } [ الفرقان : 26 ] ، وقال : { لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] ، وقال تعالى : { والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفطار : 19 ] .
فصل فيمن قرأ بالإدغام هنا
قرأ أَبُو عَمْرو -رحمه الله تعالى : - « الرَّحِيم ملك » بإدغام الميمِ في الميمِ ، وكذلك يُدْغِمُ كُلُّ حَرْفَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، أَوْ مَخْرج واحد ، أو [ كانا ] قرِيبَي المَخْرج ، سواءٌ كانَ الحرفُ سَاكِناً أَوْ مُتَحَرِّكاً ، إلاُّ أَنْ يَكُونَ الحرفُ الأوَّلُ مُشَدَّداً ، أَوْ مُنَوَّناً ، أَوْ مَنْقُوصاً أَوْ مَفْتُوحاً ، أوْ تَاءَ الخِطَابِ قبلَه ساكِن في غَيْرِ المِثْلَين ، فإنه لا يدغمها وإدغامُ المتحرك يَكُونُ في الإدغَامِ الكَبيرِ ، وافَقه حَمْزَة من إدغام المتحركِ في قوله تعالى : { بَيَّتَ طَآئِفَةٌ } [ النساء : 81 ] [ الصافات : 1 و 2 و 3 ] ، { والذاريات ذَرْواً } [ الذاريات : 1 ] .
وأَدْغَمَ التاءَ فيما بعدَها من الحُرُوف وافَقَهُ حَمْزَةُ بروايةَ رَجَاء ، وخَلَف ، والكِسَائِي [ في إدغام الساكن في المتحرك ] إِلاَّ في الراءِ عند اللام ، والدال عند الجيم ، وكذلك لا يُدْغِمُ حَمْزَةُ الدَّالَ عند السين والصاد والزاي ، ولا إدغام لسائر القراء إلاّ في أحرف معدودة .
فصل في كلام القدرية والجبرية
قال ابنُ الخَطِيب : قالتِ القدريَّةُ : إن كان خَالِقَ أَفْعالِ العبادِ ، هو الله -تعالى- امتنع القول بالثواب ، والعقاب ، والجزاءِ ، لأن الثوابَ للرّجل على ما لم يعملْ عَبَث ، وعقابه على ما لم يعمل ظُلْمٌ وعلى هَذا التقديرِ ، فيبطل كونه مَالِكاً ليوم الدين .
وقالت الجبريةُ : لو لم تَكُنْ أعمالُ العبادِ بتقدير الله وترجيحه ، لم يكن مالكاً لها ، ولما أَجْمَعَ المسلِمُون على كونه مَالِكاً للعباد ، ولأعمالِهم ، عَلِمْنَا أَنَّهُ حالقٌ لها مقدرٌ لَهَا .
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
إِيَّاكَ : كلمة ضمير خُصَّت بالإضافةِ إلى المُضْمَر ، ويُسْتَعْمل مقدماً على الفعل ، وإيَّاكَ أَسْأَلُ؛ ولا يُسْتَعْمَلُ مؤخراً إلاّ منفصلاً؛ فيُقال ، ما عنيتُ إلاَّ إِيَّاكَ .
وهو مفعولٌ مُقَدَّمٌ على « نعبد » قدِّم للاختصاصِ ، وهوَ واجِبُ الانفصالِ .
واخْتَلَفُوا فيه : هَلْ هو مِنْ قَبِيل الأسماءِ الظاهرة أو المضمرة؟ فالجمهورُ : على أنه مُضْمَرٌ .
وقال الزَّجَّاجُ رحمه الله تعالى : هو اسمٌُ ظاهر .
والقَائِلُون بأَنَّهُ ضميرٌ اخْتَلَفُوا فيه على أربَعةِ أقوالٍ :
احدُهما : أنه كلمةُ ضَمِيرٍ .
والثاني : عَلَى أَنَّ « إِيَّا » وَحْدَهُ ضَمِيرٌ ، وما بَعْدَهُ اسمٌ مُضَافٌ إليه يبيّن ما يُرادُ به [ من تكلّم وغيبة وخطاب ] .
وثَالِثُها : أَنَّ « إِيَّا » وحده ضميرٌ ، وما بعده حُرُوفٌ تبين ما يُرادُ به [ من تكلم وغيبة وخطاب ] .
ورابعُها : أَنَّ « إيَّا » عمادٌ وما بعده هو الضميرُ ، وشذّت إضافته إلى الظاهِرِ في قولِهِم : « إذا بلغ الرَّجُلُ السِّتِّينَ ، فإياه وإيَّايَ الشَّواب » بِإضَافَةِ « إيَّا » إلى « الشواب » ، وهذا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ جَعَلَ الكَافَ ، والهاء ، والياء في محلّ جر ، إِذا قُلْتَ : « إِيَّاكَ إِيَّاه إِيَّايَ » وقد اَبْعَدَ بعضُ النَّحوِيِّينَ ، فجعل له اشْتِقَاقَا ، ثمَّ قال : هَلْ هو مشتقٌّ من « أَوَّ » ؛ كقول الشاعر في ذلك : [ الطويل ]
62-
فَأوِّ لِذِكْرَاهَا إِذَا ما ذَكَرْتُهَا .. . . .
أَوْ منْ « آيَة » ؛ كقوله [ الرجز ]
63-
لَمْ يُبْقِ هَذَا الدَّهْرُ مِنْ آيَائِهِ ... وهل وَزْنُه : « إفْعَل ، أو فَعِيل ، أو فَعُول » ثم صَيَّره التصريفُ إلى صِيغةِ « إيَّا؟ وهذا الذي ذكره لا يُجْدِي فائدةً ، مع أنَّ التصريفَ والاشتقاق لاَ يَدْخُلان في المتوغِّل في البناءِ وفيه لُغاتٌ : أَشْهَرُها : كَسْرُ الهمزةِ ، وتَشْدِيدُ اليَاءِ ، ومنها ، فَتْحُ الهمزةِ وإبدالها هاء مع تشديدِ الياءِ وتَخْفِيفها؛ قال الشَّاعر : [ الطويل ]
64-
فَهِيَّاكَ وَالأَمْرَ الَّذي إِن الَّذِي إِنْ تَرَاحَبَتْ ... مَوَارِدُهُ ضَاقَتْ عَلِيْكَ مَصَادِرُهْ
وقال بعضُهم : » إيَّاكَ « بالتَخْفِيفِ مرغوبٌ عنه؛ لأنه بَصيرُ : » شَمْسَك نعبد « ؛ فإِنَّ إِيَاةَ الشمسِ : ضَوْؤُها -بكسر الهَمْزةِ ، وقد تُفْتَحُ . وقيل : هي لها بمنزلةِ الهَالةِ للقمر ، فإذا حذفت التاءَ ، مَدَدْتَ؛ قال : [ الطويل ]
65-
سَقَتْهُ إِيَاءُ الشَّمسِ إِلاَّ لِثَاتِه ... أُسِفَّ فَلَمْ تَكْدِمْ عَلَيْهِ بإثْمِدِ
وقد قٌرِىءَ ببعضِهَا شَاذَّاً .
وللضَّمائِرِ تَقسيمٌ مُتَّسِعٌ لا يحتمله هذا الكتاب ، وإنما يأتي في غُضُونِه ما يليقُ به .
و » نَعْبُدُ « فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ؛ لتجردِه من الناصبِ والجازِم ، وقيل : لوقوعِه موقعَ الاسمِ ، وهذا رأيُ البصريين .
ومعنى المضارع المشابه ، يعني : أنه أشبه الاسمَ في حركاتِهِ ، وسكناتِهِ ، وعدَدَ حُرُوفِهِ ، ألاَ تَرَى أَنَّ » ضَارِباً « يُشْبِهُ » يَضْرِب « فيما ذكرت ، وأنه يشيع ويختصُّ في الأزمانِ كما يشيعُ الاسمُ ، ويختص في الأَشْخاصِ ، وفَاعِلُهُ مستترٌ وُجُوباً لما مرَّ في الاستعاذة .
والعبادَةُ : غايةُ التذللِ ، ولا يستحقُّها إلا مَنْ له غاية الإفْضَالِ ، وهو الباري -تعالى- وهو أبلغ من العُبُودِيَِّة إظهار التذلُّلِ ، ويُقالُ : طريقٌ مُعَبَّدٌ ، أَيْ : مُذَلَّلٌ بالوطْء فيه . وقال طَرَفة في ذلك : [ الطويل ]
66-
تُبَاري عِتَاقاً نَاجِيَاتٍ وَأُتْبِعَتْ ... وَظِيفاً فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ
ومنه : العَبْدُ؛ لِذلَّتِهِ ، وبَعيرٌ معبَّدٌ : أَيْ مُذلَّلٌ بِالقَطْرَان .
وقيل : العبادةُ التَّجَرُّدُ ، ويُقالُ : عَبَدْتُ اللهَ -بالتخفيف فقط- وعَبَّدْتُ الرجل- بالتشديدِ فقط ، أَيْ : ذللتُه ، واتخذتُه عبداً .
وفي قوله تعالى : « إيَّاكَ نَعْبُد » التفاتٌ مِنَ الغَيْبَةِ إلى الخِطَابِ ، إِذْ لو جرى الكلامُ على اصله ، لَقِل : الحمد لله ، ثم قيل : إيَّاهُ نَعبدُ ، والالتفاتُ : نوعٌ مِن البلاغَةِ .
قال ابنُ الخَطيب -رحمه الله- : والفائدةُ في هذا الالتفاتِ وجوه :
أحدُها : أن المصلِّي كان أَجْنَبِيَّاً عند الشروعِ في الصَّلاةِ ، فلا جَرَمَ أَثْنَى على الله -تعالى- بألفاظ الغيبة ، إلى قوله : « يَوْمِ الدِّينِ » ، ثم إنه تعالى كأنه قال له : حَمَدْتَنِي وأَقْرَرْتَ بكونِي إلهاً ، ربَّا ، رحماناً ، رحيماً ، مالكاً ليوم الدين ، فَنَعْمَ العبْدُ أنت ، فرفعنا الحجابَ ، وأبدلنا البُعْدَ بالقُرْبِ ، فتكلّم بالمخاطبة وقل : إياك نعبد .
الثاني : أنّ أحسنَ السؤالِ ما وقع على سبيلِ المُشَافَهَةِ ، [ والسبب فيه أن الردَّ مِنَ الكريمِ إذا سُئِلَ ] على سبيل المشَافهة والمخاطبة بَعِيدٌ .
ومن الالتفاتِ -إلاّ كونه عَكْسَ هذا- قولُه تبارك وتعالى : { حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] ولم يَقُلْ : « بكم » ؛ وقد التفتَ امرؤ القَيْسِ ثَلاثَ التفاتاتٍ في قوله : [ المتقارب ] .
67-
تَطَاوَلَ لَيْلُكَ بَالأَثْمُدِ ... وَنَامَ الخَلِيليُّ وَلَمْ تَرْقُدِ
وَبَاتَ وبَاتَتْ لَهُ لَيْلَةٌ ... كَلَيْلَةٍ دِي العَائِرِ الأرْمَدِ
وَذَلِكَ مِنْ نَبَأٍ جَاءنِي ... وَخُبِّرْتُهُ عَن أَبِي الأَسْوَدِ
وقد خطَّأَ بعضُهم الزمخشريَّ -رحمه الله تعالى- في جَعْلِهِ هذا ثَلاثةَ التفاتَاتٍ ، وقال : بل هما التفاتان :
أحدُهما : خُروجٌ مِنَ الخِطابِ به في قولِهِ : « لَيْلُك » ، إلى الغَيْبَةِ في قوله : « وبَاتَتْ له لَيْلَةٌ » .
والثاني : الخروجُ من هذه الغيبةِ إلى التكلِّم ، في قولِه : « مِنْ نَبَأ جَاءَنِي وخُبِّرْتُهُ » .
والجوابُ : أَنَّ قولَه أَوّلاً : « تَطَاوَلَ لَيْلُك » فيه التفاتٌ؛ لأنه كان أصل الكلامِ أَنْ يقولَ : « تطاول لَيْلِي » ؛ لأنه هو المقصودُ ، فالتفتَ مِنْ مقامِ التكلُّمِ إلى مقامِ الخِطَابِ ، ومن مقامِ الخِطَابِ إلى الغيبة ، ثمَّ مِنَ الغيبةِ إلى التكلُّمِ الذي هو الأصل .
وقُرِىءَ شاذّاً : « إِيَّاكَ يُعْبَدُ » على بنائِهِ للمفعول الغائب؛ ووجهُها على إشْكَالِها : أن فيها استعارةً والتفاتاً :
أما الاستعارةُ : [ فإنه استُعِير ] فيها ضميرُ النصبِ لضمير الرفْع ، والأصل : أنت تُعْبَدُ ، وهو شائع؛ كقولِهم : « عَسَاكَ ، وعَسَاهُ ، وعَسَانِي » في أحدِ الأقوالِ؛ وقول الآخر : [ الرجز ]
68-
يا ابْنَ الزُّبَيْرِ طَالَمَا عَصَيْكَا ... وَطَالَمَا عَنِّيْتَنَا إِلَيْكَا
فالكافُ في « عَصَيْكَا » نائبةٌ عن التاءِ ، والأصل : « عَصَيْتَ » .
وأما الالتفاتُ : فكان من حقِّ هذا القارئ أَنْ يَقْرَأَ : « إِيَّاكَ تُعْبَدُ » بالخطابِ ، ولكنه التفت من الخطاب في « إِيَّاكَ » إلى الغَيْبَةِ في « يُعْبَدُ » إلاّ أن هاذ الالتفاتَ غَريبٌ؛ لكونِهِ في جُمْلةٍ واحدةٍ ، بخلاف الالتفاتِ المتقدّمِ؛ ونظيرُ هذا الالتفات قولُه : [ الطويل ]
69-
أَأَنْتَ الهِلاَلِيُّ الَّذي كُنْتَ مَرَّةً ... سَمِعْنَا بِهِ وَالأَرْحَبِيُّ المُغَلَّبُ
فقال : « بِهِ » بعد قوله : « أَنْتَ » و « كُنْتَ » .
و « إِيَّاكَ » واجبُ التقديم على عامله؛ لأَنَّ القاعدَةَ أَنَّ المفعولَ به إذا كان ضميراً -لو تأخر عم عامله- وجب اتصالُهُ « ، من نحو : » الدرهم إياه أعطيتك « لأنك لو أخرتَ الضميرَ هنا فقلتَ : » الدِّرْهَمُ أَعْطَيُكَ إِيَّاهُ « لم يَلْزَم الاتصالُ ، لما سيأتي بل يجوزُ : » أعطيتكَهُ « .
فصل في معنى العبادة
قال ابنُ الخَطيب رحمه الله تعالى : العبادةُ عبارةٌ عن الفعل الذي يؤتى به لغرض تَعْظِيم الغَيْرِ ، من قولهم : طريقٌ مُعّبَّدٌ ، أَيْ : مذلَّلٌ ، فقوله : إيَّاكَ نَعْبُدُ ، معناه : لا أعبد أحداً سواك ، ويدلُّ على هذا الحصر وجوه :
فَذّكَر من جملتها : تسميَة الله ، والرب ، والرحمن ، والرحيم ، ومالك يوم الدين ، وكونَهُ قادراً بان يُمسِكَ السّماءَ بلا إعانة ، وأَرْضاً بلا دِعَامة ، ويُسَيِّرُ الشمسَ والقمر ، ويسكن القُطْبَيْن ، ويخرجُ من السَّماء تارة النَّارَ؛ وهو البرق ، وتارة الهواءَ؛ وهو الريح ، وتارة الماء؛ وهو المطر .
وأما في الأرضِ فتارةً يُخْرج الماء من الحَجَرِ؛ وتارةً يُخْرج الحجرَ من الماء؛ وهو الجمد ، ثم جعل في الأرض أجساماً مُقيمةً لا تسافر؛ [ وهي الجبال ] ، وأجساماً مسافرة لا تقيم؛ وهي الأنهار ، وخسف بقارون فجعل الأَرضَ فَوْقَهُ ، ودفع محمداً -عليه الصلاة والسلام- إلى قَاب قَوْسَيْن ، وجعل الماء ناراً لى قوم فرعون؛ لقوله : { أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } [ نوح : 25 ] ، وجعل النارَ بَرْدَا وسلاماً على إِبْرَاهِيمَ -عليه السلام- ورفع مُوسَى- عليه السلام- فوق الطُّورِ ، وغرق الدنيا من التّنُّورِ ، وجعل البحر يبساً لموسى -عليه الصلاة والسلام- فهذا من أداة الحَصْرِ .
والكلام في » إِيِّاكَ نَسْتَعِينُ « كالكَلاَمِ في » إِيَّاكَ نَعْبُدُ « .
والواو : عاطِفَةٌ ، وهي من المشتركةِ في الإعرابِ والمعنَى ، ولا تقتضي تَرْتِيباً على قول الجمهور ، خلافاً لطائفةٍ من الكوفيينَ ولها أحكام تختص بها تأتي إن شاء الله تعالى .
وأصل » نَسْتَعِين « : » نَسْتَعْوِنُ « ؛ مَثْلُ : » نَسْتَخْرِجُ « في الصحيح؛ لأنه من العَوْنِ ، فاسْتُثْقِلَتِ الكسرةُ على الوَاوِ ، فنقلت إلى السّاكنِ قَبْلَها ، فسكنت الواوُ بعد النَّقلِ وانكَسَر ما قبلها؛ فَقُلِبَتْ ياءً .
وهذه قاَعِدةٌ مطّردَةٌ؛ نَحْوَ : » مِيزَان ، وميِقَات « ، وهما من : الوَزْنِ ، والوَقْتِ .
والسِّينُ فيه معناها : الطلبُ ، أَيْ نَطْلُبُ منك العونَ على العِبَادَةِ ، وهو أحد المعاني التي ل » استفعل « وله معََانٍ أُخَرٌ :
الاتخاذُ : نحو : » اسْتَحْجَرَ الطِّينُ « ، أَيْ : نَطْلُبُ منك العونَ على العِبَادَةِ ، وهو أحد المعاني التي ل » استفعل « ، وله مَعَانٍ أُخَرٌ :
الاتخاذُ : نحو : » اسْتَعْبِدْهُ « أي : اتخذْهُ عبداً .
والتحولُ؛ نحو : « اسْتَحْجَرَ الطِّينُ » أَيْ : صار حجراً ، ومنه قوله : « إنَّ البُغَاثَ بأَرْضِنَا يَسْتَنْسِرُ » أي : تتحولُ إلى صفة النُّسور .
ووجودُ الشَّيْءِ بمعنى ما صِيغَ منه؛ نحو : « اسْتَعْظَمَهُ » أَيْ : وجده عظيماً .
وعَدُّ الشَّيْ كذلك ، وإِن لم يكُنْ؛ نحو : « اسْتَحْسَنَهُ » .
ومطاوعةُ « أَفْعَل » ؛ نحو : أَشْلاَه فَاسْتَشْلَى « .
وموافقتُه له أيضاً؛ نحو : » أَبَلَّ الْمَرِيضُ وَاسْتَبَلَّ « .
وموافقةُ » تَفَعَّلَ « ؛ نحو : » اسْتَكْبَرَ « بمعنى » تكبر « .
وموافقةُ » افْتَعَلَ « ؛ نحو : » اسْتَعْصَمَ « بمعنى » اعْتَصَمَ « .
والإِغْنَاءُ عن المجرد؛ نحو : » اسْتَكَفّ « و » اسْتَحْيَا « ، لم يتلفظ لهما بمجردِ استغناء بهما عنه .
والإغْنَاءُ بهما عن » فَعَلَ « أي المجرد الملفوظ به نحو : » اسْتَرْجَعَ « و » استعان « ، أيْ : رجع وحَلَق عانته .
وقُرِىءَ : » نِسْتَعِينُ « بكسرِ حرف المضارعة؛ وهي لُغَةٌ مطردةٌ في حروف المُضَارعة . وذلك بشرط ألا يكن حرفُ المضَارعة ياءً؛ لثقل ذلك ، على أنَّ بعضَهُم قال : » ييجَلُ « ، مضارع » وَجَلَ « ، وكأنه قصد إلى تَخْفِيفِ الواو إلى الياء ، فكسر ما قبلها لتنقلب؛ وقد قُرِىءَ : { فإنَهم ييلَمُون } [ النساء : 104 ] ، وهي هادمةٌ لهذا الاستثناءِ ، وسيأتي تحقيقُ ذلك في موضعه إنْ شاء الله تعالى .
وأن يكونَ المُضَارع من ماضٍ مكسورِ العَيْنِ؛ نحو : » تِعْلَمْ « من » عَلِمَ « ، أو في أوله همزةُ وصلٍ ، نحو » نِسْتَعِينُ « من » اسْتِعَانَ « ، أو تاءُ مُطَاوَعةٍ؛ نحو : » نِتَعَلَّمُ « من » تَعَلَّمَ « ، فلا يجوزُ في » يضْربُ « و » يقتلُ « كشر حرف المُضَارعة؛ لعدم الشرُّوط المذكورة .
والاستعانَةُ : طلبُ العَوْنَ : وهو المُظَاهرة والنصرة ، وقدم العِبَادَةَ على الاسْتِعَانَةِ؛ لأنها وصلةٌ لطلب الحاجة .
وقال ابنُ الخَطيبِ : كأنه يقولُ : شَرَعْتُ في العِبَادَةِ : فأستعين بك في إتمامها ، فلا تمنعني من إتمامها بالمَْوتِ ، ولا بالمرضِ ، ولا بقلب الدَّواعي وتَغَيُّرِها .
وقال البَغَوِيُِّ : رحمه الله تعالى- فإن قيل : لم قدم ذِكْرُ العِبَادَةِ على الاستعانَةِ ، والاستعانةُ لا تكون إلاَّ قبل العبادة؟
قلنا : هذا يلزمُ من جَعَلَ الاستعانةَ قبلَ الفعل ، ونحن نَجْعلُ التوفيقَ ، والاستعانةَ مع الفعل ، فلا فرق بيت التقديم والتأخير .
وقيل : الاستعانَةُ نوعُ تعبُّدٍ ، فكأنه ذكر جملة العبادَةِ أوّلاً ، ثم ذكر ما هو من تفاصيلها وأطلق كُلاًّ من فِعْلَيْ العبادَةِ والاستعانَةِ فلم يذكر لهما مفعولاً؛ ليتناول كل معبود به ، وكلَّ مُسْتَعان [ عليه ] ، أَوْ يكون المُرادُ وقوعَ الفعلِ من غير نظر إلى مفعول؛ نحو : { كُلُواْ واشربوا } [ البقرة : 60 ] أي أوقعوا هذين الفِعْلَيْنِ .
فصل في نظم الآية
قال ابنُ الخَطِيبِ -رحمه الله تعالى- : قال تعالى : » إيَّاكَ نَعْبُدُ « فقدَّمَ قولَه : » إيَّاكَ « على قوله : » نعبد « ولم يقل : » نعبدك « لوجوه :
أحدُها : أنه -تبارك وتَعَالَى- قدّم ذِكْرَ نَفْسِهِ؛ لينبه العَابِدَ على أن المعبودَ هو اللهُ -تعالى- فلا يتكاسَلُ في التعظيم .
وثانيها : أَنَّه إِنْ ثقلت عليك العبادات والطاعات وصعبت ، فَاذْكُرْ أوَّلاً قولَه : « إياك » ؛ لتذكرني ، وتحضر في قلبك معرفتي ، فإذا ذكرتَ جَلاَلي وعظمتي ، وعلمت أني مولاك ، وأنك عبدي؛ سهلت عليك تلك العبادة .
وثالثها : أن القديمَ الواجبَ لذاتِه متقدمٌ في الوجودِ على لمحدث الممكن لذاته ، فوجب أن يكون ذكره متقدماً على جميع الأذكار .
فصل في نون « نعبد »
قال ابنُ الخَطيب -رحمه الله تعالى- : لقائلٍ أّنْ يقولَ : النُّون في قوله تعالى : « نعبد » إما أن تكون نونَ الجمع ، أو نونَ العظمةِ ، والأول باطِلٌ ، لأن الشخصَ الواحدَ لا يكون جَمْعَاً ، والثاني باطل أيضاً؛ لأن عند أداء العبوديةِ ، اللَّائق بالإنسان أن يذكر نفسه بالعَجْزِ والذّلة لا بالعَظَمَةِ .
واعلم أنه يمكن الجوابُ عنه مِنْ وُجُوه :
أحدها : أنّ المرادَ مِنْ هذه النونِ نونُ الجَمْعِ ، وهو تنبيه على أنَّ الأَوْلَى بالإنسان ، أَنْ يؤدي الصَّلاة بالجماعة .
الثاني : أنَّ الرجلَ إِنْ كان يُصَلِّي في جماعة ، فقوله : « نعبد » ، المُرَاد منه ذلك الجمعُ ، وإن كان يصلّي الصَّلاة بالجماعة .
الثالث : أنَّ المُؤْمِنين إخوةٌ ، فلو قال : « إياك أعبدُ » كان قد ذكر عبادَةَ نفسِه ، ولم يذكر عبادَةَ غَيْرِه ، أما إذا قال : « إياك نعبدُ » كان قد ذكر عبادَة نفسِه ، وعبادة جميع المؤمنين شرقاً وغرباً .
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
اهْدِ : صِيغَةُ أمْرٍ ، ومعناها : الدعاءُ ، فقِيلَ معناه : أَرْشِدْنَا .
وقال عَليٌّ : وأُبَيُّ بن كَعْب -رضي الله عنهما- ثبتنَ؛ كما يُقال للقائِم : قم حتى أعودَ إليك ، أَيْ : دُمْ على ما أنت عليه ، وهذا الدعاء من المؤمنين مع كونهم علَى الهدايَةِ بِمعنى التَّثْبِيتِ ، وبمعنى طلبِ مزيد الهدَاية؛ لأنَّ الأَلْطافَ والهدايات من الله -تعالى- لا تتناهى على مذهب أَهْلِ السُّنة .
قال ابنُ الخَطِيب -رحمه الله تعالى- : المرَادُ من قوله تعالى : « اهِدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ » هو : أنْ يكونَ الإنسانُ مُعْرِضاً عما سوى الله -تعالى- مُقْبِلا بكليةِ قلبه وفِكْرِه وذِكْرِه على الله تعالى .
مثالُه : أنْ يصيرَ بحيثُ لو أُمِرَ بذبح غيرُه ، لأطاعَ؛ كما فعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ولو أُمِرَ بأَنْ ينقادَ ، لأن يذبَحهُ غيرُه ، لأطاعَ؛ كما فعله إسْماعِيلُ عليه الصلاةُ والسَّلام ، ولو أُمِرَ باَنْ يُلْق ] نفسَهُ في البحر ، لأطاعَ؛ كما فعله يُونُس عليه الصلاة والسلام ، ولو أُمِرَ بأن يتلمذَ لمن هو أعلم منه بعد بلوغه في المَنْصب إلى أعلى الغايات ، لأطاع؛ كما فعله موسى -عليه الصَّلاة والسلام- مع الخَضِر [ عليه الصَّلاةُ والسلامُ ] ، ولو أُمِرَ بأنْ يصبرَ في المر بالمَعْرُوف ، والنهي عن المنكر على القتل ، والتفريقِ بنصفين ، لأطاع؛ كما فعله يَحْيَى بنُ زَكَرِيَّا -عليهما الصَّلاة والسلام- فالمراد بقوله تعالى « اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقيمَ » ، هو الاقتداءُ بأنبياء اللهِ في الصَّبرِ على الشدائدِ ، والثبات عند نزُولِ البلاءِ ، ولا شَكّ أن هذا مقامٌ شَدِيدٌ؛ لأن أكثر الخَلْقِ لا طاقة لهم به .
واعلم أن صيغةَ « أَفْعَلْ » تَرُِ لمعانٍ كثيرةٍ ذكرِها الأُصُوليُّونَ .
وقال بعضُهم : إن وردت صيغةُ « افعل » من الأعلى للأدنى ، قيل فيها : أَمرٌ ، وبالعكس دُعاء ، ومن المُساوي التماسٌ ، وفاعله مستتر وُجُوباً ، لِمَا مَرَّ ، أي : اهْدِ أنت ، و « ن » مفعولٌ أَوَّلٌ ، وهو ضميرٌ متصل يكون للمتكلم مع غيره ، أو المعظّم نفسه ، ويستعملُ في موضع : الرّفع ، والنصب ، والجر ، بلفظ واحد؛ نحو : « قُمْنَا » ، و « ضَرَبَنَا زَيْدٌ » ، و « مَرَّ بِنَا » ، ولا يشاركه في هذه الخصوصية غيره من الضَّمائر .
وقد زعم بعضُ النَّاسِ أن الياء كذلك؛ تقولُ : « أكرمني » ، و « مرّ بي » ، و « أنت تقومين يا هند » ، و « الياء » في المثال الأوّل منصوبةُ المحلِّ ، وفي الثاني مجرورته ، وفي الثالث مرفوعتهُ ، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأن الياءَ في حالةِ الرفع ، ليست تلك الياء التي في حالة النَّصبِ والجر؛ لأن الأُولَى للمتكلم ، وهذه المخاطبة المؤنثة .
وقيل : بل يشاركُه لفظُ هُم؛ تقول : « هم نائمون » و « ضربتهم » و « مررت بهم » ، ف « هم » مرفوعُ المحلِّ ، ومنصوبُهُ ، ومجروره بلفظ واحد ، وهو للغائبين في كل حالٍ ، وهذا وإِنْ كان اَقربَ منَ الأولِ ، إلاّ أَنَّهُ في حالة الرفع ضميرٌ منفصل ، وفي حالة النصب والجر ضميرٌ متّصل .
فافترقا ، بخلاف « نَا » فإنَّ معناها لا يختلِفُ ، وهي ضمير متصل في الأحوال الثلاثة .
و « الصِّراطَ » مفعولٌ ثانٍ ، و « المستقيم » صِفَتُه ، وقد تبعه في الأربعةِ من العشرة المذكورة .
وأصلُ « هَدَى » أن يتعدّى إِلَى الأولِ بنفسه وإلى الثاني بحرفِ الجَرِّ ، وهو إما : « إلى » أو « اللام » ؛ كقوله تعالى : { وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] ، { يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء : 9 ] ثم يُتَّسَعُ فيه ، فَيُحْذَفُ الجَرُّ ، فيتعدى بنفسه ، فأصلُ « اهْدِنا الصِّرَاطَ » : إهدنا للصِّراط أو إلى الصّراط ، ثم حذف . والأمرُ عند البصريين مَبْنِيٌّ وعند الكوفين مُعْرَبٌ ، ويَدَّعُونَ في نحو : « اضْرِبْ » ، أنَّ أصله : « لِتَضْرِبْ » بلامِ الأَمْرِ ، ثم حذف الجازم ، وتبعه حرفُ المُضَارعةِ ، وأتي بهمزة الوصل؛ لأجل الابتداء بالسَّاكن ، وهذا مما لا حاجة إليه ، وللرد عليهم موضعٌ يليق به . ووزْنُ « اهْدِ » « افْعِ » ؛ حُذِفَتْ لاَمُه ، وهي الياءُ حملاً [ للأمر على المجزوم ، والمجزوم تُحْذَفُ ] منه لامه إذا كانت حرف علّة .
ومعنى الهِدايَة : الإرشادُ أو الدلاَلَةُ ، أو التقدّم . ومنه هواد الخيل لتقدمها . قال امرؤُ القَيْسِ : [ الطويل ]
70-
فَاَلْحَقَنَا بالهَادِيَاتِ وَدُونَهُ ... جَوَاحِرُهَا في صَرَّةٍ لَمْ تَزَيَّلِ
أي : المتقدّمات الهَادية لغيرها .
أو التَّبيينُ؛ نحو : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } [ فصلت : 17 ] أي : بيّنّا لهم؛ ونحو : { أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } [ طه : 50 ] ، أيْ : أَلْهَمَهُ لمصالحه .
أو الدعاءُ؛ كقوله تعالى { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [ الرعد : 7 ] ، أيْ دَاعٍ .
وقيل : هو المَيْلُ؛ ومنه قوله تعالى : { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] والمعنى : بقلوبِنا إِلَّيْكَ ، وهذا غلط؛ فإن تَيْك مادةٌ أخْرى من « هَادَ- يَهُودُ » .
وقال الرَّاغِبُ : الهِدَايَةُ : دَلاَلَةٌ بِلُطْفٍ ، ومنه الْهَدِيَّةُ ، وخصّ ما كان دلالةً ب ، « هديت » وما كان إعْطَاءً ب « أهديت » .
و « الصِّرَاط » : الطَّريقُ المستسهلُ ، وبعضُهم لا يقيده بالمستسهلِ؛ قال [ الرجز ]
71-
فَضَلَّ عَنْ نَهْجِِ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ ... ومثله : [ الوافر ]
72-
أَمِيرُ الْمُؤْمِنينَ عَلَى صِرَاطٍ ... إِذَا اعْوَجَّ الْمَوَارِدُ مُسْتَقِيمِ
وقال آخَرُ : [ الوافر ]
73-
شَحَّنَا أَرْضَهُمْ بِالْخَيْلِ حَتَّى ... تَرَكْنَاهُم أَذَلَّ مِنَ الصِّرَاطِ
أَي : الطَّريقِ .
وهو مُشْتَقٌّ من « السَّرْطِ » وهو : الابتِلاَع؛ إِمَّا لأنَّ سالكَهُ يَسْتَرِطُه ، أَوْ لأنه يَسْتَرِطُ سَالِكَه؛ ألا ترى إلى قولهم : قَتَلَ أَرْضَاً عَالِمُهَا ، وقَتَلَتْ أَرْضٌ جَاهِلُها؛ وبهذَيْن الاعتباريْن قال أبو تمام : [ الطويل ]
74-
رَعَتْهُ الْفَيَافي بَعْدَ مَا كَانَ حِقْبَةً ... رَعَاهَا وَمَاءُ المُزْنِ يَنْهَلُ سَاكِبُهْ
وعلى هذا سُمِّيَ الطريقُ لَقَماً ومُلْتَقِماً؛ لأنه يلتقِمُ سالِكَه ، أو يلتقمُهُ سالِكُه .
وأصله : السّين : وقد قرأ به قُنْبُل رحمه الله تعالى حيث ورد ، وإنما أُبْدِلَتْ صَاداً؛ لأجلِ حرفِ الاسْتِعْلاَءِ وإبدالها صاداً مُطَّرد عنده؛ نحو : « صَقَر » في « سَقَر » ، و « صَلَخ » في « سَلَخ » ، و « أَصْبغ » في « أَسْبَغ » ، و « مُصَيْطر » في « مُسَيْطر » لما بينهما من التَّقارب .
وقد تُشَمُّ الصادُ في « الصِّرَاطِ » ونحوه زَاياً ، وقرأ به خَلَفٌ ، وحَمْزَةُ حيث ورد ، وخَلاَّد : الأوَّلَ فقط ، وقد تُقْرأُ زاياً مَحْضة ، ولم تُرْسَمْ في المصحَفِ إلا بالصَّاد ، مع اختلافٍ في قراءتِهم فيها كما تقدم .
و « الصِّراطَ » يُذْكَرُ ويُؤَنَّثُ : فالتذكيرُ لُغَة تَميم ، والتَّأنيثُ لغةُ « الحِجَازِ » ، فإِنِ اسْتُعمِلَ مُذكَّراً ، جمع على « أَفْعِلَة » في القلّةِ ، وعلى « فُعُل » في الكَثْرَةِ ، نحو : « حِمَارِ » ، و « أَحْمِرَة » و « حُمُر » ، وإِنِ اسْتُعْمِلَ مُؤَنثاً ، فقياسه أن يجمعَ على « اَفْعُل » : نحو : « ذِرَاع » و « أذْرُع » .
و « المُسْتَقيمَ » اسمُ فَاعِلِ من استقامَ ، بمعنى المُجَرّد ، ومعناه : السَّوِيِّ مِنْ غَيْرِ اعْوِجَاج ، واَصْلُه : « مُسْتَقْوم » ثُم أُعِلّ كإعلالِ « نَسْتَعِيْن » وسيأتي الكلامُ [ مُسْتَوْفى ] على مادتِه إن شاء الله -تعالى- عند قوله تعالى { وَيُقِيمُونَ الصلاة } [ البقرة : 3 ] .
و « الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ » قال ابنُ عَبَّاسٍ ، وجَابِرٌ -رضي الله عنهما- : هو الإسْلام ، وهو قولُ مُقَاتِلٍ ، وقال ابنُ مَسْعودٍ رضي الله تعالى عنهما : هو القرآن الكريم ، وروي عن علي -رضي الله تعالى عنه- مرفوعاً : الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ : كِتَابُ اللهِ تَعَالى .
وقال سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ رضي الله عنه « طَريقُ الجَنَّة » .
وقال سَهْلُ بن عَبْدِ الله رحمه الله تعالى : هو طريقُ السُّنَّةِ والجَمَاعة . وقال بَكْرُ بنُ عبد الله المُزْنِيِّ : هو طريقُ رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال أَبُو العَالِيةِ ، والحَسَنُ : رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وصَاحِبَاه .
قال ابنُ الخَطيب : الحِكْمَةُ في قوله : « اهْدِنَا » ولم يَقُلْ « اهدني » ؛ إما : لأن الدعاءَ مهما كان أعم ، كان إلى الإجابة أَقْربَ .
وإمَّا لقول النبي عليه الصلاة والسلام « ادْعوا الله تعالى بأَلْسِنَةٍ مَا عَصَيْتُمُوه بها » قالُوا : يَا رَسُولِ الله ، فمن لنا بتلك الأَلسِنَةِ؟ قال : « يَدْعُو بَعْضَكُمْ لبعضٍ؛ لأنك ما عصيت بِلِسَانه ، وَهُوَ ما عَصَى بِلِسَانِكَ » .
الثالث : كانّ العبدَ يقولُ : سمعتُ رَسُولَك يقولُ : « الجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ » ، فلما أَرَدْتُ حمدك ، قلتُ : الحَمْدُ لله ، ولما ذكرت العبادة ، ذكرُ عبادةَ الجَمِيع ، ولما ذكرتُ الاستعانةَ ، ذكرتُ استعَانَة الجَمِيع ، فلا جرم لَمَّا طلبتُ الهدايةَ ، طلبتُها للجميع ، ولما طلبتُ الاقتداءَ بالصالحين ، طلبتُ اقتداءَ الجميع؛ فقلتُ : « غَيْرَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّيْنَ » ، فلما لَمْ أُفارِق النبياءَ والصالحين في الدنيا ، فأرجو ألا أفارِقََهم في الآخرة؛ كما قال تعالى : { فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم } [ النساء : 69 ] الآية الكريمةَ .
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
قوله تعالى : { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }
«
صِرَاطَ الذِيْنَ » بدل منه ، بدل كُلِّ مِنْ كُلّ ، وهو بَدَلُ مَعْرِفَةٍ مِنْ مَعْرِفَةٍ .
والبدلُ سبعةُ أَقْسَامٍ على خلاف في بعضها :
بدلُ كُلَ من كُلّ ، ولد بَعْضٍ من كُلّ ، وبدلُ اشتِمَالٍ ، وبدلُ غَلَطٍ ، وبدل نِسْيَان ، وبدل بَدَاء ، وبدل كُلّ من بعض .
أما الأقسامُ الثلاثَةُ الأُوَلُ ، فلا خلاَف فِيها .
وأما بدلُ البدَاء ، فأثبته بعضُهم؛ مستدلاً بقوله عليه الصَّلاة والسَّلام : « وإنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصلاَة ، وما كتب له نِصْفُهَا ثُلُثُهَا رُبعُها إلى العُشُرِ » ولا يَرِدُ هذا القرآن الكريمِ .
وأما الغَلَطُ والنسْيَانُ : فأثبتهما بعضُهم؛ مُسْتَدِلاًّ بقول ذي الرُّمَّةِ : [ البسيط ]
75-
لَمْيَاءُ فِي شَفَتَيْهَا حُوَّةٌ لَعَسٌ ... وَفِي اللِّثاتِ وَفِي أَنْيَابِهَا شَنَبُ
قال : لأنَّ « الحُوّة » السّوادُ الخالِصُ ، و « اللَّعَسُ » سواد يشوبه حُمْرَة ، ولا يرِدُ هذان البدلان في كَلاَمٍ فصيحٍ .
وأما بدل الكُلّ من البعض ، فأثبته بعضهُم ، مُسْتَدِلاَّ بظاهِر قوله : [ الخفيف ]
76-
نَضَرَ اللهُ أَعْظُماً دَفَنُوهَا ... بِسِجِسْتَانَ طَلْحَةَ الطَّلَحَاتِ
في رواية مَنْ نَصَبَ « طَلْحَةَ » ، قال : لأنَّ « الأَعْظُمَ » بعضُ « طَلْحَةَ » ، و « طَلْحَةَ » كُلّ وقد أُبْدِلَ منها؛ واستدلّ -أيضاً- بقول امرئ القيس [ الطويل ]
77-
كَأنِّي غَدَاةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوا ... لَدَى سَمُرَاتِ الحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَلِ
ف « غَدَاةَ » بعضُ « اليوم » ، وقد أُبْدِلَ « اليوم » منها .
ولا حُجَّةَ في البيتَيْنِ ، أما الأولُ : فإنَّ الأَصْلَ « أعظماً دفنوها أَعْظَمَ طلحة » ثم حُذِفَ المضافُ ، وأُقيم المضافُ إليهِ مُقَامه؛ ويدلُّ على ذلك الروايةُ المشهورةُ وهي جَرُّ « طَلْحَةَ » على أن الأصل : « اعظم طلحة » ولم يَقُم المضاف إليه مقامَ المضاف .
وأما الثاني : فإنَّ « اليَوْمَ » يُطلقُ على القطعةِ من الزمان ، كما تقدّم ، وليس هذا موضعَ البَحْثِ عَن دَلائِلِ المذهبيْن .
وقيل : « الصراط » الثاني غير الأول ، والمرادُ به : العلمُ بالله تعالى . قاله جَعْفَرُ بنُ محمد رحمه الله تعالى : وعلى هذا فتخريجته أن يكونَ مَعْطُوفاً حُذِفَ منه حَرْفُ العَطْفِ ، وبالجملة فهو مُشْكلٌ .
والبدلُ ينقسمُ أيضاً إلى :
بدل ظاهِر من ظاهرٍ : ومُضْمَرٍ مِنْ مُضْمَرٍ ، وظاهرٍ مٍنْ مضمر ، ومضمرٍ من ظاهر .
وفائدةُ البَدَلِ : الإيضاحُ بعد الإبْهَامِ؛ لأنهُ يُفِيدُ تأكيداً من حَيْثُ المعنى ، إذ هو على نيّةِ تَكْرَار العامل .
و « الذين » في مَحَلِّ جرٍّ بالإضافة ، وهو اسمُ موصولٍ ، لافتقاره إلى صلةٍ وعائدٍ ، وهو جمع « الذي » في المعنى ، والمشهورُ فيه أن يكونَ بالياءِ ، رفعاً ، ونصباً ، وجرَّاً؛ وبعضُهم يرفعُه بالواوِ؛ جَرْياً له مَجْرَى جَمْعِ المذكَّر السَّالم؛ ومنه : [ الرجز ]
78-
نَحْنُ الَّذُونَ صَبَّحُوا الصَّبَاحا ... يَومَ الفَسَادِ غَارَةً مِلْحَاحَا
وقد تُحْذَفُ نُونُه استِطَالةً بصلته؛ كقوله : [ الطويل ]
79-
وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دمَاؤُهُمْ ... هُمُ الْقَوْمَ كُلُّ القَوْمِ يَا أُمِّ خَالِدِ
ولا يقع إلاّ على أولي العلم ، [ ولا يقع مجرى جمع المذكر السَّالم ، بخلاف مجرده فإنه يقع على أولي العلم ] وغيرهم .
و « أَنْعَمْتَ » : فِعْلٌ ، وفاعلٌ ، صِلَة المَوْصُولِ .
والتاء في « أنعمتَ » ضميرٌ مرفوعٌ مُتَّصل . و « عليهم » جار ومجرور متعلّق ب « أنعمتَ » ، والضميرُ هو العائدُ ، وهو ضمير جمع المذكرين العقلاء ، ويستوي فيه لفظ مُتَّصِلِهِ ومُنْفَصِلِهِ .
والهمزةُ في « أنعمتَ » ؛ لجَعْلِ الشيءِ صَاحِبَ ما صِيَغَ منه ، فحقُّه أن يَتَعَدَّى بِنَفْسِه ، ولكن ضُمِّنَ معنى « تَفَضَّلَ » فَتَعَدَّى تَعْدِيَتُهُ .
وقرأ عمر بنُ الخَطّاب ، وابنُ الزُّبَيْرِ رضي الله -تعالى- « صِرَاطَ مَنْ أَنْعَمْتَ » .
ول « أَفْعَلَ » أربعةٌ وعشرُونَ مَعْنى ، تقدّمَ وَاحِدٌ .
والتعدِيَةُ؛ نحو : « أَخْرَجْتُه » .
والكثرةُ؛ نحو : « أظْبَى المَكَانُ » أَيْ : « كَثُرَ ظِبَاؤُه » .
والصَّيرورة؛ نحو : « اَغَدَّ البَعِيرُ » صار ذا غُدّة .
والإعانةُ؛ نحو : « أَحْلَبْتُ فُلاَناً » أي : أعنتُه على الحَلْبِ .
والتَّشْكِيَةُ؛ نحو : « أَشكيته » أي : أزلتُ شِكَايَتَهُ .
والتَّعرِيضُ؛ نحوك « أبعتُ المبتاعَ » ، أي : عرضتُه للبيع .
وإصابةُ الشيءِ بمعنى ما صيغ منه؛ نحو : « أحمدتُه » أي : وجدتُه محموداً .
وبلوغُ عَدَدٍ؛ نحو : « أعشَرتِ الدَّرَاهِمُ » ، أي : بلغتِ العَشَرَة .
أو بلوغُ زَمانٍ؛ نحو « أصبح » ، أو مَكَانٍ؛ نحو « أَشْأَمَ » .
وموافقَةُ الثّلاثي؛ نحو : « أحزتُ المكانَ » بمعنى : حُزْتُهُ .
أَوْ أَغْنَى عن الثلاثي؛ نحو : « أَرْقَلَ البعيرُ » .
ومطاوعةُ « فَعَلَ » ؛ نحو قَشَعَ الريح ، فَأَقْشَع السّحابُ .
ومطاوعةُ « فَعَّلَ » ؛ نحو : « فَطَّرْتُهُ ، فَأَفْطَرَ » .
ونَفْيُ الغريزَةِ؛ نحو : « أسرع » .
والتَّسميةُ؛ نحو : « أخطأتهُ » ، أَيْ : قلتُ له : سَقَاكَ الله تعالى .
والاستحقاقُ؛ نحو « أَحَصدَ الزرعُ » ، أيْ : استحقَّ الحصادَ .
والوصولُ؛ نحوه : « أَعْلَقْتُهُ » ، أيْ : وصَّلتُ عقلي إليه .
والاستقبالُ نحو : « أَفَفْتُهُ » ، أي : استقبلتُه بقول : أُفٍّ .
والمجيءُ بالشيء؛ نحو : « أكثرتُ » أَيْ : جئت بالكثير .
والفرقُ بين أَفْعَلَ وفَعَلَ ، نحو : أَشْرَقَتِ الشَّمسُ : أضاءتْ ، وشَرَقَتْ : طَلَعَتْ .
والهجومُ؛ نحو : اَطْلَعْتُ على القوم ، أيْ : اطَّلعْتُ عَلَيْهِمْ .
و « على » حرف استعلاء حقيقةً أو مجازاً؛ نحو : عليه دَيْنٌ : ولها معانٍ أُخَرُ ، منها :
المُجَاوزة؛ كقوله : [ الوافر ]
80-
إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ ... لِعَمْرُ اللهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا
أيْ : عَنِّي .
وبمعنى « الباءِ » { حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ } [ الأعراف : 105 ] ، أي : بأَنْ ، وبمعنى « في » ؛ { الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ } [ البقرة : 102 ] أيْ : فِي [ مُلْكٍ ] ، { المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى } [ البقرة : 177 ] .
والتعليلُ : { وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 185 ] ؛ أي لأجلِ هِدَايَتِه إياكم .
وبمعنى « مِن » :
{
حَافِظُونَ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ } [ المؤمنون : 5 ، 6 ] ، أيْ : إلاّ مِنْ أَزواجهم .
والزيادة كقوله : [ الطويل ]
81-
أبَى اللهُ إلاَّ أَنَّ سَرْحَةَ مَالِكٍ ... عَلَى كُلِّ أَفْنَانٍ العِضَاهِ تَرُوقُ
لأنَّ « تُروقُ » يتعدى بنفسِه ، ولكل موضع من هذه المواضع مَجَالٌ للنظر .
وهي مترددةٌ بين الحَرْفِيَّةِ ، والاسْمِيَّةِ؛ فتكونه اسماً في موضعين : أحدهُما : أن يدخلَ عليها حَرْفَ الجَرّ؛ كقول الشاعر : [ الطويل ]
82-
غَدَتْ مِنْ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا تَمَّ ظِمْؤُهَا ... تَصِلُ وَعَنْ قَيْضٍ بِزَيزَاءَ مَجْهَلِ
ومعناها « فَوق » ، أيْ : من فوقه .
والثاني : أنْ يؤدي جعلُه حرفاً ، إلى تعدِّي فعل المضمر المنفصل إلى ضمير المتّصل في غيرِ المَوَاضِع الجَائِز فيها؛ ومن ذلك قوله : [ المتقارب ]
83-
هَوِّنْ عَلَيْكَ فإنَّ الأُمُورَ ... بِكَفِّ الإلهِ مَقَادِيرُهَا
ومثلُها في هذيْن الحُكْمَيَن « عن » ، وستأتي إن شاء الله تعالى .
وزعم بعضُهم أنَّ « على » مترددةٌ بين الاسم ، والفِعْلِ ، والحرفِ .
أما الاسمُ والحرفُ ، فقد تقدما .
وأما الفعلُ : قال : فإنك تقولُ : « عَلاَ زيدٌ » أي : ارتفع . وفي هذا نَظَرٌ؛ لأن « عَلاَ » إذا كان فِعْلاً ، مُشْتَقٌّ من العُلُوِّ ، وإذا كان اسماً أو حرفاً ، فلا اشتقاقَ له ، فليس هو ذَاكَ ، إلاَّ أنَّ هذا القَائِلُ يَرُدَُّ هذا النظرَ ، [ بقولهم : إنَّ « خَلاَ » ، « وَعَدا » مترددانِ بين الفعليَّةِ والحرفيَّةِ ، ولم يلتفتوا إلى هاذ النظر ] .
والأصلُ في هاء الكِناية الضَّمُّ ، فإن تقدمها ياءٌ ساكنة ، أو كسرةٌ ، كَسَرَها غيرُ الحِجازَيين؛ نحو : عَلَيْهِم وفِيهِمْ وبِهِمْ .
والمشهورُ في مِيمِها السكونُ قبل متحرك ، والكسرُ قبل ساكن ، هذا إذا كَسَرْتَ الهاء ، أما إذا ضممتَ ، فالكَسْرُ ممتنع إلاّ في ضَرُورة؛ كقوله : « وفِيهُمِ الحكام » بِكَسْرِ المِيمِ .
وفي « عَلَيْهِمْ » عشرُ لُغاتٍ :
قُرِىءَ بِبَعْضِها : « عَلَيْهُمْ » بكسر الهاء وضمها ، مع سُكُون الميم .
«
عَلَيْهِمي » ، بكسر الهاء ، وزيادة الياء ، وبكسر الميم فقط .
«
عليهُمُو » بضم الميم ، وزيادة واو ، أو الضم فقط .
«
عليهِمُو » بِكَسْرِ الهاءِ ، وضم الميمِ ، بزيادة الواو .
«
عليهُمِي » بِضَمِّ الهاء ، وزيادة ياي بعد الميم .
أو الكسر فقط « عليهِمُ » بكسر الهاء ، وضم الميم ، حكى ذلك ابنُ الأَنْبَاري .
والتفسيرُ ، قال البَغَويُّ -رحمه الله تعالى- : « صراط الذين أنعمت عليهم أي : مَنَنْتَ عليهم بِالهِدَايَةِ والتوفيق ، وقال عِكْرِمة -رضي الله تعالى عنه- : مَنَنْتَ عليهم بالثَّبات على الإيمان والاسْتِقَامَةِ وعلى الأنبياء عليهم السلام .
وقِيل : على كُلِّ مَنْ ثَبَتَهُ الله -تعالى- من النَّبِيين والمُؤْمنين الذي ذكرهم الله -تعالى- في قوله : { فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين } [ النساء : 69 ] وقال ابنُ عباس -رضي الله تعالى عنهما- هُمْ قومُ مُوسَى ، وعِيسَى- عليهما الصلاة والسلام ، قبل أن غيروا دينهم . وقال أَبُو العَالِيَةَ : هم آلُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، وعمر رضي الله عنهما .
وقال شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ -رضي الله عنه- : هم أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم ، وأهل بَيْتِهِ .
وقرأ حَمْزَةُ « عَلَيْهُمْ » ، و « إلَيْهُمْ » ، و « لَدَيْهُمْ » بضم الهاء .
ويضم يَعْقُوب كُلُّ هاءٍ قبلها ياءٌ ساكنة تثنيةً وجمعاً ، إلاّ قوله تعالى : { بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } [ الممتحنة : 12 ] .
والآخَرونَ : بكسرها . فَمَنْ ضَمَّها ردّها إلى الأصل؛ لأنها مضمومة عند الإنفراد .
ومَنْ كسرها ، فالأصل الياءُ السَّاكنة ، والياءُ أختُ الكسرة .
وضم ابنُ كَثِير ، وأَبُو جَعْفَر كلَّ ميم جمع مُشْبِعاً في الوَصلِ ، إذا لم يلقها ساكن ، فإن لقيها ساكِنٌ فلا يُشبِعُ .
ونَافِعٌ يُخَيَّرُ ، ويضمُّ وَرْش عند ألِفِ القطع .
وإذا تلقته ألفُ الوصلِ ، وقبل الهاء كسرٌ ، أو ياءٌ ساكنةٌ ، ضمّ الهاءَ والمِيمَ حَمْزَةُ والكسائي -رحمهما الله- وكَسَرَهُما أبُو عَمْرو ، وكذلك يَعْقُوبُ إذَا انْكَسر ما قبله .
والآخرون : بضمّ الميم ، وكسرِ الهاء؛ لأجل الياء أو لكسر ما قبلها ، وضمّ الميم على الأصل ، وقرأ عمرُ بن الخَطَّاب -رضي الله تعالى عنه- : « صرَاطَ مَنْ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ » .
قال ابنُ الخَطيب -رحمه الله تعالى- : اخْتُلِفَ في حَدِّ النّعْمَةِ :
فقال بعضُهم : إنَّها عِبَارَةٌ عن المَنْفَعَةِ المفعولة على جِهَةِ الإحسان إلَى الغيرِ .
ومنهم مَنْ يقولُ : المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحْسَان إلَى الغير ] . قالوا : وإنما زدْنا على هذا القَيْدِ ، لأن النعمةَ يستحقّ لها الشكر والإحسان [ والحقّ أن هذا القيد غير معتبر؛ لأنه لا يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان ] ، وإنْ كان فعله محظوراً؛ لأن جهةَ استحقاقِ السكر غير جهةِ استحقاق الذَّنْب والعِقاب ، فأيُّ امتناعٍ في اجتماعهما؟ ألاَ ترى أن الفاسِقَ يستحقُّ بإنعامه الشُّكْرَ ، والذَّمِّ بمعصيةِ الله تعالى ، فلا يجوزُ أن يَكُونَ الأمرُ ها هنا كذلك .
ولنرجع إلى تفسير الحَدِ : فنقول : أما قولُنا : « المنفعةُ » ؛ فلأن المَضَرَّةَ المحضةَ لا تكونُ نِعمَةً .
وقولنا : المفعولة على جهة الإحسان؛لأنه لو كان نفعاً وقَصَدَ الفاعلُ به نفعَ نفسه ، نَفْعَ المفعولِ به ، فلا يكونُ نِعْمَةً ، كَمَنْ أحسن إلى جَاِريَتِهِ ، ليربَحَ عليها .
وها هنا فوائدُ :
الفائِدَةُ الأُوْلَى : أنَّ كلّ ما يصل إلى الخلق من النفع ، ودفع الضَّرر ، فهو من الله تعالى على ما قال تبارك وتعالى : { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله } [ النحل : 53 ] ، ثمَّ إنَّ النعمةَ على ثلاثةِ أَقْسَامٍ :
أحدُها : نِعمةٌ تَفَرَّدَ الله -تعالى- بإيجَادِهَا ، نحو : أنْ خَلَق وَرَزَقَ .
وثانيها : نعمةٌ وصلت إلينا من جهةِ غيرِ الله -تعالى- في ظاهرِ الأمْرِ ، وفي الحقيقة فهي -أيضاً- إنّما وصلت إلينا من الله تبارك وتعالى؛ وذلك لأنه -تعالى- هو الخالقُ لتلك النعمةِ ، والخالقُ لذلك المنعِِمِ ، وخالقٌ لداعيةِ الإنْعَام بتلك النعمة في قلب ذلك المنعم ، إلاّ أنه تبارك وتعالى لَمّا أَجْرَى تلك النعمة على يَدِ ذلك العَبْدِ ، كان ذلك العبدُ مشكوراً ، ولكن المشكور في الحقيقة هو الله -تعالى- ولهذا قال تعالى : { أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير }
[
لقمان : 14 ] فبدأ بنفسِه ، تنبيهاً على أن إنعامَ الخلقِ لا يتمّ إلاّ بإنعام الله تعالى .
وثالثها : نِعْمُ وصلت من الله إلينا بسبب طاعتنا ، وهي أيضاً من الله تعالى؛ لأنه لولا أنَّ الله -سبحانه وتعالى- وَفَّقنا للطاعات ، وأعاننا عليها ، وهدانا إليها ، وأَزَاحَ الأعذار عَنا ، وإلاّ لَمَا وصلنا إلى شَيْءٍ منها ، فظهر بها التقرير أنَّ جَمِيعَ النعم في الحقيقة كم الله تَعَالى .
الفائدةُ الثانيةُ : اختلفوا [ في أنه ] هل لله -تعالى- نعمةً على الكافرِ أَم لاَ؟ فقال بعضُ أصحابنا : ليس لله -تعالى- على الكافر نعمة .
وقالت المعتزلةُ : لله -تعالى- على الكافر نعمة دينية ، ونعمة دنيوية . واحتجَّ الأصحابُ على صحّةِ قولهم ، بالقرآن [ الكريم ] ، والمعقول .
أما القرآنُ؛ فقوله تبارك وتعالى : { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ؛ وذلك لأنه لو طلب كان لله على الكافر نعمةٌ ، لكانوا داخِلينَ تحت قوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } فيكون طلباً لصراطِ الكُفَّارِ ، وذلك بَاطِلٌ ، فثبت بهذه الآيةِ أنه ليس لله -تعالى- على الكافر نعمةٌ .
فإن قَالُوا : إنَّ قَوْله : { الصراط المستقيم } يدفعُ ذَلِكَ .
قلنا : { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدل مِنْ قَوْلِهِ : { الصراط المستقيم } ؛ فكان التَّقْدير : « اهدِنا صراطَ الذين أنعمت عليهم » ، وحينئذٍ يَعُودُ المحذوف المذكورُ .
وقوله تبارك وتعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً } [ آل عمران : 178 ] .
وأما المَعْقُولُ : فهو أَنَّ نِعَمَ الدنيا الفانيةَ في مقابلةِ عَذَابِ الآخرة على الدوام ، كالقَطْرةِ في البحر ، ومثل هذا لا يكون نِعْمَةً ، فقد احتجُّوا بقوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً والسماء بِنَآءً } [ البقرة : 21 ، 22 ] ، على أنه يَجِبُ على الكُلِّ طاعةُ الله -تعالى- لأجلِ هذه النعم ، وإلاّ لما كانت هذه النعمُ العظيمةُ معتبرةً؛ وقولِه تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً } [ البقرة : 28 ] ، ذكر ذلك في معرض الامْتِنَانِ ، وشرحِ النعم .
وقولِه تعالى : { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 40 ] .
وقولِه تعالى : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } [ سبأ : 13 ] .
وقول إبليس : { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [ الأعراف : 17 ] .
ولو لم تحصل النعمة ، لم يلزمْ من عَدَمِ إقدامِهم على الشكر محذورٌ؛ لأنّ الشكر لا يمكن إلاّ عند حصول النعمة .
الفائدة الثالثةُ : قال ابنُ الخَطيب -رحمه الله- : قوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يدل على إمامةِ أبي بكر -رضي الله عنه؛ لأنا ذكرنا أن تقديرَ الآية : « اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم » والله -تعالى- قد بيّن في آية أُخْرَى أَنَّ { الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } من هم؛ بقوله تعالى : { فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين } [ النساء : 69 ] ورئيسهم أبو بكر الصّديق -رضي الله تعالى عنه- فكان معنى الآية أن الله -تعالى- أمرنا أن نطلب الهداية [ التي كان عليها أبو بكر الصديق ، وسائر الصّديقين ، ولو كان أبو بَكْرٍ -رضي الله عنه- فكان معنى الآية أن الله -تعالى- امرنا أن نطلب الهداية [ التي كان عليها أبو بكر الصديق ، وسائر الصّديقين ، ولو كان أبو بَكْرٍ -رضي الله تعالى عنه- غيرَ إمام ، لما جَازَ الاقتداء به ] ، وهذه النعمة إما أن يكون المراد منها نعمة الدنيا ، أو نعمة الدين ، والأول باطل فثبت أن المراد منه نعمة الدين .
فنقول : كل نعمة ديِنيَّة سوى الإيمان فهي مشروطة بحصول الإيمان ، وأمّا نعمة الإيمان فيمكن حصولها خالياً عن سائر النعم الدينية ، وهذا يدلّ على أن المراد من قوله تعالى : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } هو نعمة الإيْمَان ، فرجع حاصل القول في قوله تعالى : { 1649;هْدِنَا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } أنه طلب لنعمة الإيمان ، وإذا ثبت هذا الأصل ، فيتفرع عليه أحكام :
الأول : أنه لما ثبت أن المرادَ من هذه النعمة نِعْمَةُ الإيمان ، إذ لفظ الآية الكريمة صريح في أن الله -تعالى- هو المنعم بالنعمة ، ثبت أنّ الخالق للإيمان ، والمعطي للإيمان هو الله تعالى ، وذلك يدل على فساد قول المعتزلة ، وكان الإيمان أعظم النعم ، فلو كان الفاعل للإيمان هو العبد لكان إنعام العبد أشرف وأعلى من إنعام الله تعالى ، ولو كان كذلك لما حسن من الله -تعالى- أن يذكر إنعامه في معرض التعظيم .
الحكم الثاني : يجب ألاَّ يبقى المؤمن مخلداً في النار؛ لأن قوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } مذكور في معرض التَّعظيم بهذا الإنعام ، ولو لم يكن له أثر في دفع العَذَاب المؤبّد لكان قليل الفائدة ، فما كان يحسن من الله -تعالى- ذكره في معرض التعظيم .
الحكم الثالث : دلّت الآية الكريمة على أنه لا يجب على الله -تعالى- رعاية [ الصلاح والأصلح ] في الدين؛ لأنه لو كان الإرشاد على الله -تعالى- واجباً لم يكن ذلك إنعاماً ، وحيث سماه الله -تعالى- إنعاماً علمنا أنه غير واجب .
الحكم الرابع : لا يجوز أن يكون المراد بالإنعام الإقدار على الإيمان؛ لأن الله -تبارك وتعالى- قدر المكلف عليه ، وأرشده إليه ، وأزاح أعْذَارَهُ وعِلَلَهُ عَنْهُ ، لأن كل ذلك حاصل في حقّ الكفار ، فلما خلص -تعالى- بعض المكلفين بهذا الإنعام ، مع أن الإقدار ، وإزاجة العلل حاصل في حَقّ الكل ، علمنا أن المراد ليس هو الإقدار ، وإزاحة الموانع .
قوله تعالى : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين }
«
غير » بدل من « الذين » بدل نكرة من معرفة .
وقيل : نعت ل « الذين » ، وهو مشكل؛ لأن « غير » نكرة و « الذين » معرفة ، وأجابوا عنه بجوابين :
أحدهما : أن « غير » إنما يكن نكرة إذا لم يقع بين ضدّين ، فأما إذا وقع بين ضدين فقد انحصرت الغيرية ، فيتعرف « غير » حينئذ بالإضافة ، تقول : « مررت بالحركة غير السكون » والآية من هذا القبيل ، وهذا إنما يتمشّى على مذهب ابن السّراج ، وهو مرجوح .
والثاني : أن الموصول أَشْبَهَ النكرات في الإبْهَام الذي فيه ، فعومل معاملة النكرات .
وقيل : إن « غير » بدل من المضمر المجرور في « عليهم » ، وهذا يشكل على قول من يرى أن البدل يحل محل المبدل منه ، وينوي بالأول الطّرح؛ إذ يلزم منه خلة الصّلة من العائد ، ألا ترى أن التقدير يصير : « صراط الذين أنعمت على غير المغضوب عليهم » .
و « المغضوب » خفض بالإضافة ، وهو اسم مفعول ، والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور ، ف « عليهم » الأولى منصوبة المَحَلّ ، والثانية مرفوعته ، و « أل » فيه موصولة ، والتقدير : « غير الذين غُضِب عليهم » .
والصحيح في « أل » الموصولة أنها اسم لا حَرْفٌ .
واعلم أن لفظ « غير » مفرد مذكر أبداً ، إلا أنه إن أريد به مؤنث جاز تأنيث فعله المسند إليه ، نقول : « قامت غيرك » ، وأنت تعني امرأة ، وهي في الأصل صفة بمعنى اسم الفاعل ، وهو مغاير ، ولذلك لا تتعرف بالإضافة ، وكذلك أخواتها ، أعني نحو : « مِثْل وشِبْه وشَبِيه وخِذن وتِرب » .
وقد يستثنى بها حملاً على « إلاّ » كما يوصف ب « إلاّ » حملاً عليها ، وقد يراد بها النفي ك « لا » ، فيجوز تقديم معمولها عليها ، كما يجوز في « لا » تقول : « أنا زيداً غَيْرُ ضارب » أي : غير ضارب زيداً؛ ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
84-
إِنَّ امرْءاً خَصَّنِي عَمْداً مَوَدَّتْهُ ... عَلَى التَّنَائِي لَعِندِي غَيْرُ مَكْفُورِ
تقديره : غير مكفور عندي ، ولا يجوز ذلك فيها إذا كانت لغير النَّفي .
لو قلت : « جاء القوم زيداً غير ضارب » ، تزيد : غير ضارب زيداً لم يجز؛ لأنها ليست بمعنى « لا » التي لا يجوز فيها ذلك على الصَّحيح من الأقوال في « لا » .
وفيها قول ثانٍ يمنع ذلك مطلقاً .
وقول ثالث : يفصل بين أن تكون جَوَاب قَسَمٍ ، فيمتنع فيها ذلك ، وبين ألاّ يكون فيجوز .
وهي من الألفاظ اللاَّزمة للإضافة لفظاً وتقديراً ، فإدخَال الألف واللام عليها خَطَأ .
واختلفوا هل يجوز دخول « أل » على « غير وبعض وكل » والصحيح جوازه .
قال البغوي -رحمه الله تعالى- : « غير » ها هنا بمعنى « لا » و « لا » بمعنى « غير » ، ولذلك جاز العَطْفُ عليها ، كما يقال : « فلان غير مُحسن ولا مجمل » ، فإذا كان « غير » بمعنى « لا » ، فلا يجوز العَطْفُ عليها ب « لا » ؛ لا يجوز في الكلام : « عندي سوى عبد الله ولا زيد » .
وقرىء : « غَيْرَ » نصباً ، فقيل : حال من « الَّذِين » وهو ضعيف؛ لمجيئه من المُضَاف إليه في غير المواضع الجائز فيها ذَلِكَ ، كما ستعرفه إن شَاءَ اللهُ تعالى : وقيل : من الضمير في « عليهم » .
وقيل على الاستثناء المنقطع ، ومنعه الفَرَّاء؛ قال : لأن « لا » لا تُزَادُ إلاّ إذا تقدمها نفي ، كقول الشاعر : [ البسيط ]
85-
مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللهِ فِعْلَهُمَا ... وَالطَّيِّبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلاَ عُمَرُ
وأجابوا بأن « لا » صلة زائدة مثلها في قوله تعالى : { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] ؛ وقول الشَّاعر : [ الرجز ]
86-
فَمَا أَلُومُ البِيضَ ألاّ تَسْخَرَا ... وقول الآخر : [ الطويل ]
87-
وَيَلْحَيْنَني في اللَّهْوِ أَلاَّ أُحِبَّهُ ... ولِلَّهْوِ دَاعٍ دَائِبٌ غَيْرُ غَافِلِ
وقول الآخر : [ الطويل ]
88-
أَبَى جُودُهُ لاَ البُخْلَ واسْتَعْجَلَتْ بِهِ ... نَعَمْ مِنْ فَتًى لا يَمْنَعُ الجُودَ نَائِلُهْ
ف « لا » في هذه المواضع كلها صلةٌ .
وفي هذا الجواب نظر؛ لن الفَرَّاء لم يقل : إنها غير زائدة ، وقولهم : إن « لا » زائدة في الآية ، وتنظيرهم بالمَوَاضِعِ المتقدّمة لا تفيد ، وإنّما تحرير الجواب أن يقولوا : وجدت « لا » زائدةً من غير تقدّم نفي ، كهذه المواضع المتقدمة .
ويحتمل أن تكون « لا » في قوله : « لا البُخْلَ » مفعولاً به ل « أَبَى » ، ويكون نصب « البُخْلَ » على أنه بدل من « لا » أي : أبى جُودُهُ قَوْلَ لا ، وقول : لا هو البخل ، ويؤيد هذا قوله : « واسْتَعْجَلَتْ بِهِ نَعَمْ » فجعل « نَعَمْ » فاعل « اسْتَعْجَلَتْ » ، فهو من الإِسْنَادِ اللّفظي ، أي : إلى وجود هذا اللَّفظ ، واستعجل به هذا اللفظ .
وقيل : إن نصب « غير » بإضمار أعني . ويحكى عن الخليل ، وقدّر بعضهم بعد « غير » محذوفاً قال : التقدير : « صِرَاطِ المَغْضُوب » ، وأطلق هذا التَّقدير ، فلم يقيده بِجَرّ « غير » ، ولا نصبه ولا يتأتى ذلك إلاَّ مع نصبها ، وتكون صفةً لقوله تعالى : { الصراط المستقيم } وهذا ضعيف؛ لأنه متى اجتمع البدل والوصف قدم الوصف ، فالأولى أن تكون صفةً ل « صراط الذين » ، ويجوز أن تكون بدلاً من « الصراط المستقيم » ، أو من « صراط الذين » إلا أنه يلزم منه تكرار البدل ، وفي جوازه نَظَر ، وليس في المَسْألة نقل ، إلاّ انَهم قد ذكروا ذلك في بَدَلِ البَدَاء خَاصّة ، أو حالاً من « الصراط » الأول أو الثاني .
واعلم أنّه حيث جعلنا « غير » صفةً فلا بد من القول بتعريف « غير » ، أو إبهام الموصوف ، وجريانه مجرى النكرة ، كما تقدم تقريره ذلك في القراءة بجرّ « غير » .
و « لا » في قوله تعالى : { وَلاَ الضآلين } زائدة لتأكيد معنى النَّفي المفهوم من « غير » لئلا يتوهّم عطف « الضّالين » على « الذين أنعمت » .
وقال الكوفيون : هي بمعنى « غير » وهذا قريبٌ من كونها زائدةً ، فإنه لو صرح ب « غير » كانت للتأكيد أيضاً ، وقد قرأ بذلك عمر بن الخَطَّاب وأبيُّ رضي الله عنهما .
و « الضَّالين » مجرور عطفاً على « المغضوب » ، وقرىء شاذاً « الضَّأَلِّينَ » ، بهمز الألف؛ وانشدوا : [ الطويل ]
89-
وَلِلأَرْضِ أمَّا سُودُهَا فَتَجَلّلََتْ ... بَيَاضاً ، وأَمَّا بِيضُهَا فَادْهَأَمَّتِ
قال الزَّمَخْشَرِي « : » وفعلوا ذلك ، لِلْجِدِّ في الهَرَبِ من التقاء السَّاكنين « .
وقد فعلوا ذلك حتى لا سَاكِنَانِ؛ قال الشاعر : [ الرجز ]
90-
وَخِنْدِفٌ هَامَةُ هَذّا العَأْلَمِ ... بهمز » العألم « .
وقال آخر : [ البسيط ]
91-
وَلَّى نَعَامُ بَنِي صَفْوَانَ زَوْرَأَةً .. . . .
بهمز ألف » زَوْرَأَة « ، والظَّاهر أنها لغةٌ مطَّردةٌ؛ فإنهم قالوا في القراءة ابن ذَكْوَان : » مِنْسَأَتَهُ « بهمز ساكنة : إنَّ اصلها ألف ، فقلبت همزة ساكنة .
فإن قيل : لم أتى بصلة » الذين « فعلاً ماضياً؟
قيل : ليدلّ ذلك على ثبوت إنعام الله -تبارك وتعالى- عليهم وتحقيقه لهم ، وأتى بصلة » أل « اسماً ليشمل سائر الأزمان ، وجاء مبنيَّاً للمفعول؛ تحسيناً للفظ؛ لأنّ من طلبت منه الهداية ، ونسب الإنعام إليه لا يناسبه نسبة الغضب إليه ، لأنه مقام تلطُّف ، وترفُّق لطلب الإحسان ، فلا يحسن مواجهته بصفة الانتقام .
والإنعام : إيصال الإحسان إلى الغير ، ولا يقال إلا إذا كان الموصل إليه الإحْسَان من العُقَلاء ، فلا يقال : أنعم فلان على فَرَسِهِ ، ولا حماره .
والغضب : ثَوَرَان دم القلب إرادة الانتقام ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : » اتَّقُوا الغَضَبَ فإنه جَمْرَةٌ تُوقَدُ في قَلْبِ ابنِ آدَمِ ، ألم تَرَ إلى انْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ وحُمْرَةِ عينيه « .
وإذا وصف به الباري -تبارك وتعالى- فالمراد به الانتقام لا غيره .
قال ابن الخطيب -رحمه الله تعالى- : هنا قاعدة كليةٌ ، وهي أن جميع الأعراض النَّفْسَانية- أعني الرحمة ، والفرح ، والسُّرور ، والغضب ، والحَيَاء ، والعُتُوّ ، والتكبر ، والاستهزاء -لها أوائل ولها غايات .
ومثاله : الغضب : فإنّ أول غليان دم القلب ، وغايته : إرادة إيصال الضَّرَرِ إلى [ المغضوب عليه ، فلفظ الغضب في حق الله لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب ، بل على غايته الذي هو إرادة الإضرار ، وأيضاً الحَيَاءُ ] له أول وهو انكسار النفس ، وهذه قاعدة شريفة في هذا الباب .
ويقال : فُلاَن غُضبَّة : إذا كان سريع الغَضَب .
ويقال : غضبت لفلان إذا كان حيَّا وغضبت به إذا كان ميتاً .
وقيل : الغضب تغيُّر القلب لمكروه .
وقيل : إن أريد بالغضب العُقُوبة كان صفة فعل ، وإن أريد به إرادة العقوبة كانت صفة ذاتٍ .
والضلال : الخَفَاء والغيبوبة .
وقيل : الهلاك ، فمن الأول قولهم : ضَلَّ الناءُ في اللبن .
[
وقال القائل ] : [ الوافر ]
92-
أَلَم تَسْأَلْ فَتُخْبِرَكَ الدِّيَارُ ... عَن الحَيِّ المُضَلِّلِ أَيْنَ سَارُوا؟
»
والضَّلضلَة « : حجر أملس يَرُده السَّيْل في الوادي .
ومن الثاني : { أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض } [ السجدة : 10 ] ، وقيل : الضّلال : العُدُول عن الطريق المستقيم ، وقد يُعَبَّرُ به عن النِّسيْانِ كقوله تعالى : { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا } [ البقرة : 282 ] بدليل قوله : { فَتُذَكِّرَ } [ البقرة : 282 ] .
التفسير : قيل : « المغضوب عليهم » هم اليهود .
وقيل : « الضالون » هم النصارى؛ لأن الله -تعالى- حكم على اليهود بالغَضَبِ فقال تعالى : { مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ } [ المائدة : 60 ] ، وحكم على النصارى بالضَّلال فقال تعالى : { وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ } [ المائدة : 77 ] .
وقيل : هذا ضعيف؛ لأن منكري الصَّانع والمشركين أَخْبَثُ ديناً من اليهود والنصارى ، فكان الاحتراز من دينهم أولى .
وقيل : « المغضوب عليهم » : هم : الكُفَّار ، و « الضّالون » : هم المنافقون .
وقال سهل بن عبد الله رضي الله عنهما : « غير المغضوب عليهم » بالبِدْعَةِ ، « والضّالين » عن السُّنَّة .
والأَوْلَى أن يحمل « المغضوب عليهم » على كل من أَخْطَأَ في الاعتقاد؛ لأن اللفظ عام ، والتقييد خلاف الأصل .
فَصْلٌ في عصمة الأنبياء والملائكة
قال ابن الخطيب -رحمه الله تعالى- : « غير المغضوب عليهم » يدلُّ على أن أحداً من الملائكةِ ، والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ما أَقْدَمَ على عملٍ مخالف قول الدين ، ولا على اعتقاد مخالف اعتقاد دين الله؛ لأنه لو صدر عنه ذلك لكان قد ضَلَّ عن الحق ، لقوله تعالى : { فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال } [ يونس : 32 ] ، ولو كانوا ضالين لما جاز الاقتداء بهم ، ولا بطريقهم ، ولكانوا خارجين عن قوله تعالى : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، ولما كان ذلك باطلاً علمنا بهذه الآية عِصْمةَ الملائكة ، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
فَضْلٌ في إضافة الغضب لله
قالت المعتزلة : غَضَبُ الله -تعالى- عليهم يدلُّ على كونهم فاعلين للقبائح باختيارهم ، وإلاّ لكان الغضب عليهم ظلماً من الله -تعالى- عليهم .
وقال أصحابنا -رحمهم الله تعالى- : لما ذكر غضب الله عليهم ، وأتبعه بذكر كونهم ضالين دلّ ذلك على أن غضب الله -تعالى- عليهم علّة لكونهم ضالين ، وحينئذ تكون صفة الله -تعالى- مؤثرةً في صفة العبد .
أما لو قلنا : إن كونهم ضالين يوجب غضب الله -تعالى- عليهم لزم أن تكون صفة العبد مؤثرة في صفة الله تعالى ، وذلك مُحَال .
فَصْلٌ
قال ابن الخطيب -رحمه الله تعالى- : دلّت هذه الآية على أن المكلّفين ثلاث فرق : أهل الطاعة ، وإليهم الإشارة بقوله تعالى : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } .
وأهل البغي والعدوان ، وهم المراد بقوله تعالى : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } .
وأهل الجهل في دين الله ، وإليهم الإشارة بقوله تعالى : { وَلاَ الضآلين } .
فإن قيل : لم قدم ذكر العُصَاة على ذكر الكَفَرَةِ؟
قلنا : لأن كل أحد يحترز عن الكفر ، أما قد لا يحترز عن الفِسْق ، فكان أهم فقدم لهذا السّبب ذلك .
قال ابن الخطيب -رحمه الله تعالى- : ها هنا سؤال ، وهو أن غضب الله إنما تولّد عن علمه بصدور القبيح والجناية عنه ، فهذا العلم إما أن يقال : إنه قديم ، أو محدث ، فإن كان قديماً فلم خلقه ، ولم أخرجه من العَدَمِ إلى الوجود ، مع علمه بأنه لا يستفيد من دخوله في الوجود إلا العَذَاب الدَّائم ، ولأنه من كان غضبان على الشَّيء كيف [ يعقل ] إقدامه على إِجَادِهِ وتكوينه؟ فإن كان ذلك العلم حادثاً لكان الباري -تعالى- محلاَّ للحوادث ، إلاَّ أنه يلزم أن يفتقر إحداث ذلك العلم إلى سَبْقِ علمٍ آخر ، وتسلسل ، وهو مُحَال .
والجواب : يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد .
سؤال آخر
وهو من أنعم الله -تعالى- عليه امتنع أن يكون مغضوباً عليه ، وأن يكون من الضَّالين ، فلما ذكر قوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، فما الفائدة في أن ذكر عقبيه : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } ؟
والجواب : الإيمان إنما يكمل بالرَّجاء والخوف ، كما قال عليه الصلاة والسلام : « لَوْ وُزِنَ خَوْفُ المُؤْمِن وَرَجَاؤُهُ لاعتْدَلا » ، فقوله : { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يوجب الرَّجَاء الكامل ، وقوله تعالى : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } يوجب الخوف الكامل ، وحينئذٍ يقوى الإيمان بركنيه وطرفيه ، وينتهي إلى حَدِّ الكمال .
سؤال آخر
ما الحكمة في أنه -تَعَالَى- جعل المقبولين طائفةً واحدةً ، وهم الذين أنعم الله عليهم ، والمردودين فريقين : المغضوب عليهم ، والضَّالين؟ فالجواب : أنّ الذين كلمت نعم الله -تعالى- عليهم هم الذين جمعوا بين معرفة الحَقِّ لذاته ، والخير لأجل العمل به فهؤلاء هم المُرَادون بقوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، فإن اختلّ قيد العمل فهم الفَسَقَةُ ، وهم المغضوب عليهم ، كما قال تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ } [ النساء : 93 ] .
وإن اختلّ قيد العلم فهم الضَّالون لقوله تعالى : { فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال } [ يونس : 32 ] .
فصل في حروف لم ترد في هذه السورة
قالوا : إنّ هذه السورة لم يحصل فيها سبعة من الحروف ، وهو الثاء ، والجيم ، والخاء ، والزاي ، والشين ، والظاء ، والفاء ، والسبب فيه أن هذه الحروف مُشْعرة بالعذاب ، فالثناء أوّل حروف الثبور .
والجيم أوّل حروف جهنم .
والخاء : أول حرف الخِزْيِ .
والزاي والشين أول حروف الزفير والشّهيق ، والزّقوم والشّقاوة .
والظَّاء أول حرف ظلّ ذي ثلاث شعب ، ويدل أيضاً على لَظَى الظاء .
والفاء أول حروف الفراق تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [ الروم : 14 ] .
قلنا : فائدته أنه -تعالى- وصف جهنَّم بأن { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } [ الحجر : 44 ] فلما أسقط هذه الحروف السّبعة الدّالة على العَذّاب من هذه السورة نبّه بذلك على أن من قرأ هذه السورة ، وآمن بها ، وعرف حقائقها أمن من دَرَكَاتِ جهنم السّبعة .
القول في « آمين » : ليست من القرآن إجماعاً ، ومعناها : اللَّهم اسمع واستجب .
وقال ابن عباس وقتادة -رضي الله تعالى عنهما- : معناه كذلك يكون فهي اسم فعل مَبْنِيّ على الفَتْحِ .
وقيل : ليس باسم فعل ، بل هو من أسماء البَارِي تعالى ، والتقدير : يا آمين ، وضعف أبو البقاء هذا بوجهين :
أحدهما : أنه لو كان كذلك لَكَانَ ينبغي أن يبني على الضَّمِّ ، لنه منادى مفرد معرفة .
والثاني : أن أسماء الله -تعالى- توقيفيةٌ .
ووجه الفارسي قول من جعله اسماً لله -تعالى- على معنى : أن فيه ضميراً يعود على الله تعالى؛ لأنه اسم فعل ، وهو توجيه حسن نقله صاحب « المُغْرِب » .
وفي « آمين » لغتان : المَدّ ، والقَصْر ، فمن الأول قول القائل : [ البسيط ]
93-
آمِينَ آمِينَ لاَ أَرْضَى بِوَاحِدةٍ ... حَتَّى اُبَلِّغَهَا أَلْفَيْنِ آمِينَا
وقال الآخر : [ البسيط ]
94-
يَا رَبِّ لاَ تَسْلُبَنِّي حُبَّهَا أَبَدَاً ... ويَرْحَمُ اللهُ عَبْداً قَالَ : آمينَا
ومن الثاني قوله : [ الطويل ]
95-
تَبَاعَدَ عَنِّي فُطْحَلٌ إِذ رَأَيْتُهُ ... أضمِينَ فَزَادَ اللهُ ما بَيْنَنَا بُعْدَا
وقيل : الممدود : اسم أَعْجَمِيّ ، لأنه بِزِنَةِ قَابِيلَ وهَابِيل .
وهل يجوز تشديد الميم؟
المشهور أنه خطأ ، نقله الجَوْهَرِيّ -رحمه الله تعالى- ، ولكنه قد رُوي عن الحسن وجعفر الصّادق -رضي الله تعالى عنهما- التشديد ، وهو قول الحسين بن الفَضْلِ ، من أمِّ : إذا قصد ، أي : نحن قاصدون نحوك .
ومنه : { ولاا آمِّينَ البيت الحرام } [ المائدة : 2 ] .
وقيل : معناه : هو طابع الدعاء .
وقيل : هو خاتم الله على عباده يدفع به الآفات عنهم كخاتم الكتاب يمنعه من الفسادِ ، وظهور ما فيه . وقال النَّووي -رحمه الله تعالى- في « التهذيب » : وقال عطية العرفي : [ « آمين » ] كلمة عبرانية ، أو سُرْيانية ، وليست عربية .
وقال عَبْدُ الرَّحمن بن زيد : « آمِينَ » كَنْزٌ من كنوز العَرْشِ لا يعلم أحد تأويله إلاّ الله تعالى .
وروي فيها الإمَالَة مع المَدّ عن حَمْزَةَ والكِسَائي ، والنون فيها مفتوحة أبداً مثل : أَيْنَ وَكَيْفَ .
وقيل : آمين درجة في الجَنَّة تجب لقائلها .
وقيل : معناه : اللَّهم استجب ، وأعطنا ما سألناك « .
وقالوا : إن مجيء » آمِين « دليلٌ على أنها ليست عربية ] ؛ إذ ليس في كلام العرب » فَاعِيل « .
فأما » آري « فليس ب » فاعِيل « ، بل هو عند جماعة » فَاعُول « .
وعند بعضهم » فَاعلي « .
وعند بعضهم [ » فَاعِي « ] بالنقصان .
وقال بعضهم : إن » أمين « المقصورة لم يجئ عن العرب ، والبيت الذي ينشد مقصوراً لا يصح على هذا الوجه إنما هو : [ الطويل ]
96- . . ...
فآمِينَ زَادَ اللهُ مَا بَيْنَنَا بُعْدَا
روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » إِذّا قَالَ الإمَامُ : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } ، فقولوا : آمِين ، فإنّ المَلائِكَةَ تقول : آمين ، فمن وافق تَأْمِينُهُ تأمينَ الملائكةِ غُفِرَ له ما تقدم من ذَنْبِهِ « .
فصل في وجوب القراءة في الصلاة
قال ابن الخطيب -رحمه الله تعالى- : أجمع الأكثرون على أن القراءة واجبةٌ في الصلاة .
وعن الَصَمِّ والحسن بن صالح -رضي الله تعالى عنهما- أنهما قالا : لا تجب لنا [ أن كلّ دليل نذكره في بيان أن ] قراءة الفاتحة واجبة ، فهو يدلّ على أن أصل القراءة واجب ، ونزيد -ها هنا- وجوهاً :
الأول : فهو قوله تبارك وتعالى :
{
أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ الليل وَقُرْآنَ الفجر } [ الإسراء : 78 ] .
والمراد بالقرآن القراءة ، والتقدير : أقم قراءة الفجر ، وظاهر الأمر الوجوب .
الثاني : عن أبي الدَّرْدَاء -رضي الله تعالى عنه- أن رجلاً سال النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أفي الصَّلاَةِ قِراءةٌ فقال : « نَعَمْ » فقال السائل : وجبت ، فأقر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل على قوله : « وَجَبَتْ » .
الثالث : عن ابن مَسْعُودٍ : رضي الله تعالى عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ : أيقرأ في الصلاة؟ فقال عليه الصلاة والسلام : « أَتَكُونُ صَلاَةً بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ » ، هذان الخبران نقلهما من تعليق الشيخ أبي أحمد الإسفرايني « .
وحجّة الأصم -رحمه الله تعالى- قوله عليه الصلاة والسلام : » صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُوني أُصَلّي « جعل الصلاة من الأشياء المرئية ، والقراءة ليست مرئية ، فوجب كونها خارجةً عن الصلاة ، والجواب : أنّ الرؤية إذا كانت متعديةً إلى مفعولين كانت بمعنى العلم .
فصْلٌ
قال الشافعي -رحمه الله تعالى- : قراءة الفاتحة واجبةٌ في الصلاة ، فإن ترك منها حرفاً واحداً وهو يحسنها لم تصحّ صلاته ، وبه يقال الأكثرون .
وقال أبو حنيفة -رضي الله تعالى عنه- : لا تجب قراءة الفَاتِحَةِ .
لنا وجوه :
الأول : انه -عليه الصّلاة والسلام- وَاظَبَ طول عمره على قراءة الفاتحة في الصَّلاة ، فوجب علينا ذلك ، لقوله تعالى : { واتبعوه } [ الأعراف : 158 ] ، ولقوله : { فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } [ النور : 63 ] ، ولقوله تعالى : { فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله } [ آل عمران : 31 ] .
ويا للعجب من أبي حنيفة -رضي الله تعالى عنه- انه تمسّك في وجوب مسح النّاصية بخبر واحدٍ ، في أنه -عليه الصلاة والسلام- مسح على النّاصية ، فجعل ذلك القَدْرَ من المسح شرطاً لصحة الصلاة ، وها هنا نقل أهل العلم نقلاً متواتراً أنه -عليه الصلاة والسلام- واظب على قراءة الفاتحة ، ثم قال : إن صحّة الصَّلاةِ غير موقوفةٍ عليها ، وهذا من العَجَائب .
الثاني : قوله تعالى : { وَأَقِيمُواْ الصلاة } [ البقرة : 43 ] ، والصلاة لفظ مُحَلّى بالألف واللام ، فيكون المراد منها المعهود السَّابق ، وليس عند المسلمين معهودٌ سابق من لفظ الصَّلاةِ إلى الأعمال التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي بها .
وإذا كان كذلك كان قوله تعالى : { وَأَقِيمُواْ الصلاة } جارياً مجرى أمره بقراءة الفاتحة ، وظاهر الأمر الوجوب ، ثم إنّ هذه اللَّفظة تكررت في القرآن الكريم أكثر من مائة مرة ، فكان ذلك دليلاً قاطعاً على وجوب قراءة الفَاتِحَةِ في الصَّلاةِ .
الثالث : أنّ الخلفاء الراشدين -رضي الله تعالى عنهم- واظبوا على قراءتها طول عمرهم ، ويدلُّ عليه ما روي في » الصّحيحين « أن النَّبي -عليه الصلاة والسلام- وأبا بكر وعمر -رضي الله تعالى عنهما- كانوا يستفتحون القراءة ب { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } ، وإذا ثبت هذا وَجَب علينا ذلك ، لقوله عليه الصلاة والسلام :
«
عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ من بَعْدِي » .
ولقوله عليه الصلاة والسلام : « اقْتَدُوا باللَّذينِ مِنْ بَعْدِي : أَبي بَكْرٍ وَعُمَرَ » رضي الله عنهما .
والعجب من أبي حنيفة -رحمه الله- أنه تمسّك بطلاق الفَارّ بأثر عثمان -رضي الله عنه- مع أن عبد الرحمن ، وعبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- كانا يخالفانه- ونص القرآن أيضا يوجب عدم الإرْث ، فلم يتمسّك بعمل [ كل ] الصحابة -رضي الله عنهم- على سبيل الإطباق ، والاتفاق على وجوب قراءة الفاتحة ، مع أن هذا القول على وَفْقِ القرآن ، والإخبار ، والمعقول!
الرابع : أن الأمّة [ وإن ] اختلفت في أنه هل تجب قراءة الفاتحة أم لا؟ لكنهم اتفقوا عليه في العَمَل فإنك لا ترى أحدا من المسلمين في العرف إلا ويقرأ الفاتحة في الصَّلاة ، وإذا ثَبَتَ هذا فنقول : إنَّ من صَلَّى ولم يقرأ الفاتحة كان تاركاً سبيل المؤمنين ، فيدخل تحت قوله تعالى : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين } [ النساء : 115 ] فإن قالوا : إنَّ الذين اعتقدوا انَّه لا يَجِب قراءتها قَرَءُوهَا لا عن اعتقاد الوجوب ، بل على اعتقاد النّدبية ، فلم يحصل الإجماع على وجوب قرَاءتها .
فنقول : أعمال الجوارح غير أعمال القلوب ، ونحن قد بيَّنَّا إطباق الكُلُّ على الإتيان بالقراءة ، فمن لم يَأْتِ بالقراءة كان تاركاً طريقة المؤمنين في هذا العَمَل فدخل تَحْتَ الوَعِيدِ ، وهذا القدر يكفينا في الدَّليلِ ، ولا حاجة في تقرير هذا الدَّليل إلى ادّعاء الإجماع في اعتقاد الوجوب .
الخامس : قوله عزَّ وجَلَّ : « قسمتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وبَْنَ عَبْدِي نِصْفَيْن ، فإذا قَالَ العَبْدُ : { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } يقول الله تَعَالى : حَمِدَنِي عَبْدِي . . . » ، إلى آخر الحديث .
وجه الاستدلال : أنه -تَعَالى- حكم على كل صلاة بكونها بينه وبين العبد نصفين ، ثم بين أنّ هذا التصنيف لم يحصل إلا بسبب هذه السورة ، ولازم اللازم لازم ، فوجب كون هذه السورة من لوازم الصلاة ، وهذا اللزوم لا يحصل إلا إذا قلنا : قراءة الفاتحة شرط في صحّة الصلاة .
السَّادس : قوله عليه الصلاة والسلام : « لا صَلاَةَ إلاَّ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ » .
قالوا : حرف النفي دخل على الصَّلاة ، وليس صرفه إلى الصِّحة أولى من صرفه إلى الكمال .
والجواب من وجوه :
الأول : أنه جاء في بعض الرِّوَايات : « لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ » ، وعلى هذه الرواية فالنَّفي ما دخل على الصَّلاة ، وإنما دخل على حصولها للرَّجل ، وحصولها للرجل عبارة عن انتفاعه بها ، وخروجه عن عُهْدَةِ التَّكْليف بسببها ، وعلى هذا التَّقدير فإنه يمكن إجراء حرف النَّفي على مُسَمَّى الصلاة إنما يصح لو ثبتَ أن الفَاتحَةَ ليست جزءاً من الصّلاة ، وهذا [ هو ] أول المسألة ، فثبت أن قولنا : يمكن إجراء هذه اللفظة على أنه معنى تعذَّر العمل بالحقيقة ، وحصل للحقيقة مجازان أحدهما : أقرب إلى الحقيقة ، والثاني : أبعد؛ فإنه يجب حمل اللَّفظ على المَجَاز الأقرب .
إذا ثبت هذا فنقول : المُشَابهة بين المعدوم ، وبين الموجود الذي يكون صحيحاً [ أتم من المُشابَهةَ بين المعدوم وبين لموجود الذي لا يكون صحيحا ] ، لكنه لا يكون كاملاً ، فكان حمل هذا اللَّفظ على نفي الصِّحة أولى .
الحُجَّة السَّابعة : عن أ [ ي هريرة -رضي الله تعالى عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « كُلّ صَلاَةٍ لم يقرأ فيها بِأُمِّ القُرْآنِ فهي خِدَاج ، فهي خداج » أي غير تمام ، قالوا : الخِدّاجُ هو النقصان ، وذلك لا يدل على عدم الجواز .
قلنا : بل هذا يدلّ على عدم الجواز؛ لأن التكليف بالصَّلاةِ دائم ، والأصل في الثابت ، البقاء ، خالفنا هذا الأصل عند الإتيان بالصَّلاة على صفة الكَمَالِ ، فعند الإتيان بها على سبل النُّقصان يوجب ألاّ يخرج عن العُهْدَةِ ، والذي يقوي هذا أنَّ عند أبي حنيفة -رضي الله عنه- يصح الصوم يوم العيد إلا أنه قال : لو صام يوم العيدِ قضاء عن رَمَضَان لم يصح؛ لأن الواجب عليه هو الصُّوم الكامل ، والصوم في هذا اليوم ناقص ، فوجب ألا يفيد هذا للقضاء الخروج عن العُهْدَة .
وإذا ثبت هذا فنقول : فلم لم يقل بمثل هذا الكلام ها هنا؟
الحُجَّة الثامنة : نقل الشيخ أبو حامد في « تعليقه » عن ابن المُنْذِرِ أنه روى بإسناده عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا تُجْزِىء صَلاَةٌ لا يُقْرَأ فيها بِفَاتِحَةِ الكِتَاب » .
الحجّة التاسعة : روى رفاعة بن مالك -رضي الله عنه- أن رَجُلاً دخل المَسْجِد فصلّى ، فلما فرغ من صلاته ، ذكر في الخبر أن للرجل قال : علّمني الصَّلاة يا رسول الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : « إذا تَوَجَّهْتُم إلى القِبْلَةِ فَكَبَّرُوا ، واقْرَءُوا بفاتحة الكِتَاب » ، وهذا أمر ، والأمر للوجوب .
الحُجّة العاشرة : روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ألا أخبركم بِسُورَةٍ ليس في التَّوْرَاة ولا في الإِنْجِيل ولا في الزَّبُور مثلها » قالوا : نعم ، قال : « فما تقرءونه في صَلاَتكم » ؟ فقالوا : الحمد لله ربّ العالمين ، قال : « هِيَ هِيَ » .
وجه الدليل : أنه -عليه الصلاة والسلام- لما قال : « ما تَقْرَءُونَهُ في صلاتكم » قالوا : الحمد لله رب العالمين ، وهذا يدل على أنه كان مشهوراً عند الصحابة -رضي الله عنهم- أنه لا يصلي أحد إلاّ بهذه السورة ، فكان هذا إجماعاً معلوماً عندهم .
الحُجَّة الحادية عشرة : التمسُّك بقوله تعالى : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } [ المزمل : 20 ] فهذا أمر ، والأمر للوجوب ، فهذا يقتضي أن قراءة ما تَيَسَّرَ من القرآن واجبةٌ .
فنقول : المراد بما تيسّر من القرآن ، إما أن يكون هو الفاتحة بعينها واجبة ، وهو المطلوب وإمّا يقتضي أن قراءة غير الفاتحة واجبة ، وذلك باطل بالإجماع ، أو يقتضي التخيير بين قراءة الفاتحة ، وبين قراءة غيرها وذلك باطل بالإجماع ، لأن الأمّة مجمعةٌ على أن قراءة الفاتحة أولى من قراءة غيرها .
وسلم أبو حنيفة أن الصلاة بدون قراءة الفاتحة خِدَاجٌ ناقصة ، والتخيير بين النقائص والكامل لا يجوز .
واعلم أنه إنما سمى قراءة الفاتحة لما تيسّر من القرآن؛ لأن هذه السّورة محفوظة لجميع المكلّفين من المسلمين ، فهي متيسّرة للكل ، أما سائر السُّور فقد تكون محفوظة ، وقد لا تكون ، وحينئذٍ لا تكون متيسّرة للكلّ .
الحُجّة الثَّانية عشرة : الأصل بقاءُ التكليف ، فالقولُ بأنَّ الصَّلاةَ بدون قراءة الفاتحة يقتضي الخروج عن العهدة ، إما أنْ يعرف بالنَّص أو بالقياس .
أما الأول فباطل .
[
لأن النص الذي تمسكوا به قوله تعالى : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } وقد بينا أنه دليلنا . وأما القياس ] فباطل؛ لأن التعبدّات غالبة على الصَّلاَة ، وفي مثل هذه الصورة يجب ترك القياس .
الحُجّة الثالثة عشرة : أن النبي -عليه الصلاة والسلام- وَاظَبَ على الصَّلاة بها طول عمره ، فيكون قراءة غير الفاتحة ابتداعاً وتركاً للاتباع ، وذلك حرام لقوله صلى الله عليه وسلم : « اتَّبِعُوا وَلاَ تَبْتَدِعُوا » ، و « أَحْسَن الهَدْي هَدْيُ مُحَمَّدٍ ، وَشَرّ الأمُورِ مثحْدَثَاتُهَا » .
واحتج أبو حنيفة -رضي الله تعالى عنه- بالقرآن والخبر .
أما القرآن الكريم فقوله تبارك وتعالى : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } .
وأما الخبر فما روى أبو عثمان النهدي عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنهما- قال « أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخرج وأنادي : لاَ صَلاَةَ إلا بِقَرَاءَةٍ ، ولو بفاتحة الكِتَاب » .
والجواب عن الأول : أنا بيّنا أنّ هذه الآية من أقوى الدلائل على قولنا .
وعن الثاني : أنه معارض بما نقل عن أبي هريرة ، وأيضاً لا يجوز أن يقال : المراد من قوله : « لا صَلاَةَ إلا بقراءة ، ولو بفاتحة الكتاب » وهو أنه لو اقتصر على الفاتحة لكفى .
فصل في بيان هل التسمية آية من الفاتحة أم لا؟
قال الشافعي -رضي الله عنه- : التّسمية آية من الفاتحة ، ويجب قراءتها مع الفاتحة ، وقال مالك والأوزاعي ، -رضي الله تعالى عنهما- : إنها ليست من القرآن إلاّ في سورة النَّمل ، ولا يجب قراءتها سرّا ولا جهراً ، إلاّ في قيام شهر رمضان ، فإنه يقرؤها .
وأما أبو حنيفة -رحمه الله- فلم ينص عليها ، وإنما قال : يقول : بسم الله الرحمن الرحيم ويُسِرّ بها ، ولم يقل : إنها آية من أول السورة أم لا .
قال : سُئل محمد بن الحسن -رحمه الله- عن « بسم الله الرحمن الرحيم » فقال : ما بين الدّفَّتَيْنِ كلام الله -عز وجل- القرآن .
قلت : فَلِمَ يُسَرُّ بها؟ فلم يجبني .
وقال الكَرْخي -رحمه الله تعالى- : لا أعرف هذه المسألة بعينها لمتقدّمي أصحابنا ، إلا أن أمرهم بإخفائها يدل على أنها ليست من السورة .
وقال بعض الحنفية -رحمهم الله- : تورّع أبو حنيفة وأصحابه -رحمهم الله- عن الوقوع في هذه المسألة؛ لأن الخوض في أن التسمية من القرآن ، أو ليست من القرآن أمر عظيم ، فالأولى السّكوت عنه .
حُجّة من قال : إن التسمية من الفاتحة :
روى الشافعي عن مسلم عن ابن جريج عن ابن أبي مُلَيْكة عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها قالت : « قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب ، فعد بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيم آية منها والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ آية ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آية ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ آية ، إيَّاكِ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ آية ، اهْدِنَا السِّراطَ المُسْتَقِيمَ آية ، صِرَاطَ الَّذِينّ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ آية » ، وهذا نَصّ صريح .
وروى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن أبي بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ألا أُخْبِرُكَ بآية لم تنزل على أَحَدٍ بعد سُلَيْمَانَ بن داود - عليهما السلام- غيري » ؟ فقلت : بلى قال :
«
بأي شيء يُفْتَتَحُ القرآن إذا افتتحت الصَّلاة؟ » قلت : بسم الله الرحمن الرحيم قال : « هِيَ هِي » وهذا يدل على أنَّ التسمية من القرآن .
وروى الثَّعْلبي بإسناده عن جعفر بن مُحِمَّدٍ عن أبيه عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أنّ النبي - عليه الصّلاة والسلام - قال له : « كيف تَقُول إذا قُمْتَ إلى الصَّلاة » ؟ قال : أقول : الحمد لله رب العالمين ، قال : « قل : بسم الله الرحمن الرحيم » .
وروى أيضاً بإسناده عن سعيد بن جُبَيْرٍ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تبارك وتعالى : { آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم } [ الحجر : 87 ] قال : فاتحة الكتاب ، فقيل للنابغة ، أين السَّابعة؟ فقال : « بسم الله الرحمن الرحيم » .
وبإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - فقال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ، والنبي يحدث أصحابه ، إذ دخل رجل يصلّي ، فافتتح الصَّلاة وتعوّذ ، ثم قال : الحمد لله رب العالمين ، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا رجل ، قَطَعْتَ عَلى نَفْسِكَ الصَّلاة ، أما علمت أن بسم الله الرَّحمن الرحيم من الحَمْد؟ من تركها فقد تركها تَرَكَ آيةً منها ، ومن ترك أيةً منها فقد قطع عليه صلاته ، فإنه لا صَلاَةَ إلا بِهَا » .
وروى بإسنادة عن طَلْحَةَ بن عبيد الله - رضي الله تعالى عنهما - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : « مَنْ تَرَكَ بسم الله الرَّحْمَن الرَّحيم ، فقد تَرَكَ آية من كِتاب الله تَعَالى » .
وروي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لأبيّ بن كَعب - رضي الله عنهما- : « مَا أعظم أيَةٍ في كِتَابِ الله تَعَالى » ؟ فقال : بسم الله الرحمن الرحيم ، فصدقة النبي صلى الله عليه وسلم . ومعلوم أنها ليست آيةً تامّة في النمل ، فتعيّن أن تكون آية تامّةً في أوّل الفاتحة .
وروي أن معاوية - رضي الله عنه - لما قدم « المدينة » فصلّى بالناس : « مَنْ تَرَكَ بسم الله الرَّحْمَن الرَّحيم ، فقد تَرَكَ آية من كِتاب الله تَعَالى » .
وروي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لأبيّ بن كَعب - رضي الله عنهما- : « مَا أعظم أيَةٍ في كِتَابِ الله تَعَالى » ؟ فقال : بسم الله الرحمن الرحيم ، فصدقة النبي صلى الله عليه وسلم .
ومعلوم أنها ليست آيةً تامّة في النمل ، فتعيّن أن تكون آية تامّةً في أوّل الفاتحة .
وروي أن معاوية - رضي الله عنه - لما قدم « المدينة » فصلّى بالناس صَلاَةً يجهر فيها ، فقرأ أمّ القرآن ، ولم يقرأ « بسم الله الرحمن الرحيم » ، فلمى قضى صلاته نَادَاهُ المُهَاجرون والأنصار من كل ناحية أنسيت؟ أين بسم الله الرحمن الرحيم حين اسْتَفْتَحْتَ القرآن؟ فأعاده معاوية الصَّلاة؟ وقرأ بسم الله الرحمن الرحيم .
وهذا يدلّ على إجماع الصَّحَابة على أنها من القُرْآن ومن الفاتحة ، وعلى أن الأولى الجَهْرُ بقراءتها .
فصل في بيان عدد آيات الفاتحة
حكى عن الزَّمخشري : الاتفاق على كَوْن الفاتحة سَبْعَ آيات .
وحكى ابن عطية قولين آخرين :
أحدهما : هي ستّ آيات ، فأسقط البَسْمَلَة ، وأسقط « أنعمت عليهم » .
والثاني : أنها ثماني آيات فأثبتهما .
قال ابن الخطيب -رحمه الله تعالى- : رأيت في بعض الروايات الشَّاذة أن الحسن البَصْري -رضي الله تعالى عنه- كان يقول : إنّ هذه السورة ثماني آيات ، فأما الرواية المشهورة التي عليها الأكثرون أنها سبع آيات ، وبه فسّروا قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم } [ الحجر : 87 ] .
إذا ثبت هذا ، فنقول : إنَّ الذين قالوا : إن البَسْمَلَة آية من الفاتحة قالوا : قوله تعالى : { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } [ الفاتحة : 7 ] إلى آخرها آية تامة منها .
وأما أبو حنيفة -رضي الله عنه- فإنه لما أسقط البَسْمَلَة قال : قوله تعالى : { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } آية ، وقوله : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } آية أخرى .
ودليل الشَّافعي -رضي الله تعالى عنه- أن مقطع قوله تعالى : { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } لا يشابه مقطع الآيات المتقدمّة ، ورعاية التشابه في المَقَاطع لازم ، لأنَّا وجدنا مقاطع القرآن على ضربين : مُتَقَاربة ، ومُتَشَاكلة . فالمتقاربة كَسُورَةِ « ق » .
والمُشَاكلَة في سورة « القمر » ، وقوله تعالى : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ليس من القسمين ، فامتنع جعله من المَقَاطع .
وأيضاً إذا جعلنا قوله تعالى : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } ابتداء آية ، فقد جعلنا أول الآية لفظ « غير » ، وهذا اللفظ إمّا أن يكون صفةً لما قبله ، أو استثناء مما قبله ، والصّفة مع الموصوف كالشَّيء الواحد ، وكذلك المستثنى مع المستثنى منه كالشيء الواحد ، وإيقاع الفَصْل [ بينهما ] على خلاف الدليل ، أما إذا جعلنا قوله تعالى : { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } إلى آخر السورة آية واحدة [ كُنّا قَدْ جعلنا الموصوف مع الصّفة ، وكذلك المستثنى مع المستثنى منه كلاماً واحداً ، وآية واحدة ] ، وذلك أقرب إلى الدّليل .
فَصلٌ هل البَسْمَلَةُ آية من أوائل السور أم لا؟
وللشافعي قولان :
قال ابن الخطيب : « والمُحَقّقون من أصحابنا اتفقوا على أن بسم الله قرآن من سائر السّور ، وجعلوا القولين في أنها هل هي آية تامة وحدها من كل سورة ، أو هي مع ما بعدها آية » .
وقال بعض الحنفية : إنّ الشافعي خالف الإجماع في هذه المسألة؛ لأن أحداً ممن قبله لم يقل : إن بسم الله آية من أوائل سائر السُّور .
ودليلنا أن بسم الله مكتوب في أوائل السور بخط القرآن ، فوجب كونه قرآناً ، واحتج المخالف بما روى أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم- قال في سورة « الملك » إنها ثلاثون آية ، وفي سورة « الكوثر » إنها ثلاث آيات ، ثم أجمعوا على أنَ هذا العدد حاصل بدون التسمية ، فوجب ألاّ تمون التسمية آية من هذه السّور .
والجَوَاب أنا إذا قلنا : بسم الله الرحمن الرحيم كع ما بعدها آية واحدة ، فالإشْكَال زائل . فإن قالوا : لما اعترفتم بأنها آية تامةٌ من أول الفاتحة ، فكيف يمكنكم أن تقولوا : إنها بعض آية من سائر السور؟
قلنا : هذا غير بعيدٍ ، ألا ترى أن قوله تعالى : { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } آية تامة؟ ثم صار مجموع قوله تعالى : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } [ يونس : 10 ] آية واحدة ، فكذا ها هنا .
وأيضاً فقوله : سورة « الكوثر » ثلاث آيات يعني ما هو خاصية هذه السورة ثلاث آيات ، وأما التسمية فهي كالشيء المشترك فيه بين جميع السُّور ، فسقط هذا السُّؤال ، والله أعلم .
فصل في الجهر بالتسمية والإسرار بها
يروى عن أحمد بن حَنْبَل -رضي الله تعالى عنه- فإنه قال : ليست آية من الفاتحة ويجهر بها .
وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : ليست آية من الفاتحة ، ولا يجهر بها .
والاستقراء دلّ على أن السورة الواحدة ، إما أن تكون بتمامها سريةً أو جهريةً ، وإما أن يكون بعضها سرياً ، وبعضها جهرياً ، فهذا مفقودٌ في جميع السور ، وإذا ثبت هذا كان الجَهْرُ بالتسمية شروعاً في القراءة الجهرية .
وقالت الشِّيعة : السُّنة هي الجَهْر بالتسمية ، سواء كانت الصلاة [ جهرية أو سرية ] .
والذين قالوا : إن السمية ليست من أوائل السور اختلفوا في سبب إثباتها في المُصْحَف في أول كل سورة ، وفيه قولان :
الأول : أن التسمية ليست من القرآن ، وهؤلاء فريقان :
منهم من قال : كُتِبَتْ لِلْفَصْلِ بين السُّور ، وهذا الفصل قد صار الآن معلوماً ، فلا حاجة إلى إثبات التسمية ، فعلى هذا لو لم تكتب لَجَازَ .
ومنهم من قال : إنه يجب إثباتها في المُصْحف ، ولا يجوز تركها أبداً .
والقول الثاني : أنها من لقرآن ، وقد أنزلها الله تعالى ، ولكنها آية مستقلة بنفسها ، وليست بآية من السورة ، وهؤلاء أيضاً فريقان :
منهم من قالك إن الله -تعالى- كان ينزلها في أول كل سورة على حِدَةٍ .
ومنهم من قال : لا ، أنزلها مرة واحدة ، وأمَرَ بإثباتها في [ أول ] كل سورة .
والذي يدلّ على أن الله -تعاىل- أنزلها ، وعلى أنها من القرآن ما روي عن أم سلمة -رضي الله تعالى عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعد « بسم الله الرحمن الرحيم » آية فاصلةً .
وعن إبراهيم بن يزيد قال : قلت لعمرو بن دينا : إنّ الفضل الرقاشي يزعم أن « بسم الله الرحمن الرحيم » ليست من القرآن ، فقال : سبحان الله ما أَجْرَأَ هذا الرجل! سمعت سعيد بن جُبَيْرٍ يقول : سمعت ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول : كان النبي -عليه الصلاة والسلام- إذا أنزل عليه « بسم الله الرحمن الرحيم » على أن تلك السُّورة ختِمَتْ وفُتِحَ غيرها .
وعن عبد الله بن المُبارك أنه قال : من ترك « بسم الله الرحمن الرحيم » فقد ترك مائة وثلاث عشرة آيةً .
فَصْلٌ
قال ابن الخطيب -رحمه الله- : نقل في بعض الكتب القديمة أن ابن مسعود -رضي الله عنه- كان ينكر كَوْنَ سورة الفاتحة من القرآن الكريم ، وكان ينكر كون المُعَوّذتين من القرآن .
واعلم أن هذا في غاية الصعوبة؛ لأنا إن قلنا : إن النقل المتواتر كان حاصلاً في عصر الصحابة بِكَوْنِ سورة الفاتحة من القرآن ، فحينئذٍ كان ابن مسعود -رضي الله عنه- عالماً فإنكاره يوجب الكُفْر أو نقصان العقل .
وإن قلنا : النقل المتواتر ما كان حاصلاً في ذلك الزمان فهذا يقتضي أن يقال : إن نقل القرآن ليس بمتواترٍ في الأصل ، وذلك يخرج القرآن عن كونه حُجَّةً يقينية .
والأغلب على الظن أن يقال : هذا المذهب عن ابن مسعود نَقْلٌ كاذِبٌ باطل ، وبه يحصل الخلاص عن هذه العُقْدَةِ ، والله الهادي إلى الصواب ، إليه يرجع الأمر كله في الأول والمآب .
الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
إن قيل : إن الحروف المقطّعة في أوائل السور أسماء حروف التهجَّي ، بمعنى أن الميم اسم ل « مه » والعين ل « عَه » ، وإن فائدتها إعلامهم بأن هذا القرآن منتظمٌ من جنس ما تنتظمون من كلامهم ، ولكن عجزتم عنه ، فلا محلّ لها حينئذ من الإعراب ، وإنما جيء بها لهذه الفائدة ، فألقيت كأسماء الأعداد ونحو : « واحد اثنان » ، وهذا أصح الأقوال الثلاثة ، أعني أن في الأسماء التي لم يقصد الإخبار عنها ولا بها ثلاثة أقوال :
أحدها : ما تقدم .
والثاني : أنها معربة ، بمعنى أنها صالحة للإعراب ، وإنما فات شرطه وهو التركيب ، وإليه مال الزمخشري رحمه الله .
والثالث : أنها موقوفة أي لا معربة ولا منيبةٌ .
أو إن قيل : إنها أسماء السور المفتتحة بها ، أو إنها بعض أسماء الله -تعالى- حذف بعضها ، وبقي منها هذه الحروف دالّة عليها وهو رأي ابن عبّاس -رضي الله تعالى عنهما- كقوله : الميم من « عليهم » ، والصاد من « صادق » ، فلها حينئذ محلّ من الإعراب ويحتمل الرفع والنصب والجر : فالرفع على أحد وجهين أيضاً : إما بإضمار فعلٍ لائقٍ ، تقديره : اقرءوا : « الم » ، وإما بإسقاط حرف القسم؛ كقول الشاعر : [ الوافر ]
97-
إِذا مَا الْخَبَزُ تَأْدِمُهُ بِلَحْمٍ ... فَذَاكَ أَمَانَةَ اللهِ الثَّريدُ
يريد : وأَمَانَةِ الله .
وكذلك هذه الحروف أقسم الله بها .
وقد رد الزَّمَخْشَرِيّ هذا الوجه بما معناه : أنّ القرآن في : { والقرآن ذِي الذكر } [ ص : 1 ] وللقلم في { ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ } [ القلم : 1 ] محلوف بهما لظهور الجرّ فيهما ، وحينئذ لا يخلو أن تُجْعَل الواو الداخلة عليها للقسم ، أو للعطف ، والأول يلزم منه محذور ، وهو الجمع بين قسمين على مقسم قال : [ وهم يستكرهون ] ذلك .
والثاني ممنوع ، لظهور الجَرِّ فيما بعدها ، والفرض أنك قدرت المعطوف عليه من مَحَلّ نصب ، وهو ردّ واضح ، إلا أن يقال : في محلّ نصب إلا فيما ظهر فيه الجر [ فيما بعده ] كالموضعين المتقدمين؛ { حموالكتاب } [ الزخرف : 1-2 ] ، و { ق والقرآن } [ ق : 1 ] ولكن القائل بذلك لم يفرق بين موضع وموضع ، فالرد لازم كله .
والجَرِّ من وجهٍ واحدٍ ، وهو أنها مقسمٌ بها ، حذف حرف القسم ، وبقي عمله كقولهم : « اللهِ لأفعلنَّ » أجاز ذلك الزمخشري ، وأبو البقاء رحمهما الله ، وهذا ضعيف؛ لأن ذلك من خصائص الجَلاَلَة المعظمة لا يشاركها فيه غيرها .
فتخلص مما تقدم أن في « الم » ونحوها ستة أوجه وهي : أنها لا محل لها من الإعراب ، أوْ لَهَا محل ، وهو الرفع بالابتداء ، أو الخبر .
والنَّصب بإضمار فعل ، أو حذف حرف القسم .
فصل في الحروف المقطعة
سئل الشعبي -رحمه الله تعالى- عن هذه الحروف فقال : سرّ الله ، فلا تطلبوه .
وروى أبو ظِبْيَانَ عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال : عجزت العلماء عن إدْرَاكِهَا ، وقال الشعبي وجماعة رحمهم الله سائر حروف التهجّي في أوائل السور من المتشابهة الذي استأثر الله بعلمه ، وهي سرّ القرآن؛ فنحن نؤمن بظاهرها ، ونَكِلُ العلمَ فيها إلى الله تعالى .
قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه : « في كل كتاب سِرّ » وسرُّ الله -تعالى- في القرآن أوائل السور « .
ونقل ابنُ الخَطِيِبِ رحمه الله أن المتكلمين أنكروا هذا القول ، وقالوا : لا يجوز أن يرد في كتاب الله ما لاَ يَكُونُ مفهوماً للخلق ، واحتجوا عليه بآيات منها :
قوله تبارك وتعالى : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } [ محمد : 24 ] بالتدَّبر في القرآن ، ولو كان غير مفهوم ، فكيف يأمر بالتدبّر فيه .
ولأن القول بأن هذه الفَوَاتح غير معلومة مروي عن أكابر الصَّحابة رضي الله عنهم فوجب أن يكون حقَّاً ، لقوله عليه الصلاة والسلام : » أَصْحَابي كالنُّجُوم بأيّهم اقْتَدَيْتُمْ اهتديتم « .
وأما المعقول فهو أنَّ الأفعال التي كلّفنا الله تعالى بها قسمان : منها ما يعرف وَجْهَ الحكمة فيه على الجُمْلَة بعقولنا كأفعال الحَجِّ في رَمْيِ الجَمَرَات ، والسَّعي بين الصفا والمروة ، والرَّمل ، والاضْطِبَاع .
ثم اتفق المحققون على أنه كما يحسن من الله -تعالى- أن يأمر عباده بالنوع الأول ، فكذا يحسن الأمر بالنوع الثاني؛ لأنّ الطَّاعة في النوع الأول ، تدلُّ على كمال الانقياد والتسليم ، لاحتمال أن المأمور إنما أتى به لما عرف بعقله من وَجْهِ المصلحة فيه .
أما الطاعة في النوع الثاني ، فإِنها تدلّ على كمال الانقياد والتسليم ، فإذا كان الأمر كذلك في الأفعال ، فلم لا يجوز أيضاً أن يكون [ الأمر ] كذلك في الأقوال؟ وهو أن يأمر الله -تعالى- تارةً أن نتكلم بما نقف على معناه ، وتارةً بما لا نقف على معناه ، ويكون المَقْصُود من ذلك ظهور الانقياد والتَّسليم .
القول الثَّاني : قول من زعم أنَّ هذه الفَوَاتح معلومة ، واختلفوا فيه ، وذكروا وجوهاً :
الأوّل : أنها أسماء السّور ، وهو قول أكثر المتكلمين ، واختيار الخليل وسيبويه رحمهما الله تعالى .
قال القفَّال -رحمه الله تعالى- وقد سّمت العرب هذه الحروف أشياء فسموا ب » لام « : والد حارثة بن لام الطَّائي ، وكقولهم للنَّخاس : » صاد « ، وللنقد : » عين « ، وللسحاب : » غين « .
وقالوا : جبل » قاف « ، وسموا الحوت : » نوناً « .
الثاني : أنها أسماء الله تَعَالى ، روي عن علي -رضي الله تَعَالى عنه- أنه كان يقول : يا حم عسق .
الثالث : أنها أبعاض أسماء الله تَعَالى .
قال سعيد بن جبير رحمه الله : قوله : » الر ، حم ، ونون « مجموعها هو اسم الرحمن ، ولكنا لا نقدر على كيفية تركيبها في البَوَاقي .
الرابع : أنها أسماء القرآن ، وهو قول الكَلْبِيّ -رحمه الله تعالى- والسّدي وقتادة رضي الله تعالى عنهم .
الخامس : أن كلّ واحد كمنها دالّ على اسم من أسماء الله -تعالى- وصفة من صفاته .
قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- في « الم » : « الألف إشارة إلى أنه [ أحد ، أول ، آخر ، أزلي ، » واللام « إشارة إلى أنه لطيف ، » والميم « إشارة إلى أنه ] مَلِك مَجِيد مَنَّان » .
وقال في « كهيعص » : إنه ثناء من الله -تعالى- على نفسه ، « والكاف » يدل على كونه كافياً ، « والهاء » على كونه هادياً ، « والعين » على العالم ، « والصاد » على الصادق . وذكر ابن ابن جرير عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنه حمل « الكاف » على الكبير والكريم ، « والياء » على أن الله يجير ، « والعين » على أن الله العزيز والعدل .
والفرق بين هذين الوجهين أنه في الأول خصّص على كل واحد من هذه الحروف باسم معين ، وفي الثاني ليس كذلك .
السادس : بعضها يدلّ على أسماء الذات ، وبعضها على أسماء الصّفات . قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في « الم » أنا الله أعلم ، وفي « المص » أنا الله أفصل ، وفي « الر » أنا الله أرى ، وهذه رواية أبي صالح ، وسعيد بن جبير عنه .
قال الزَّجَّاج : « وهذا أحسن ، فإن العرب تذكر حرفاً من كلمة تريدها كقولهم : [ مشور السريع ]
98-
قُلْنَا لَهَا : قِفِي لَنَا قَالت : قَافْ ... ... ... ... ... ... ... . .
وأنشد سيبويه لغيلان : [ الرجز ]
99-
نَادُوهُمْ أَنَ الْجِمُوا ، أَلاَ تَاَ ... قَالُوا جَمِعاً كُلُّهُمْ أَلاَ فَا
أي : لا تَرْكَبُوا ، قالوا : بَلَى فَارْكَبُوا .
وأنشد قُطْرب : [ الرجز ]
100-
جَارَيَةٌ قَدْ وَعَدَتْنِي أنْ تَا ... تَدْهُنَ رَأْسي وَتُفَلِّيني وَتَا
السّابع : كلّ مها يدلّ على صفات الأفعال ، ف » الألف « آلاؤه ، و » اللاّم « لُطْفه ، و » الميم « مَجْدُه ، قاله محمد بن كَعْبٍ القُرَظي .
الثَّامن : بعضها يدلّ على أسماء الله -تعالى- وبعضها يدلّ على أسماء غير الله تعالى .
قال الضَّحاك : » الألف « من الله ، و » اللم « من جبريل ، و » الميم « من محمد عليه الصلاة والسلام [ أّي أنزل الله الكتاب على لسان جبريل عليه الصَّلاة والسلام ] .
التاسع : ما قاله المبرّد : واختاره جمعٌ عظيم من المحقَّقين -أن الله- تعالى- إنَّما ذكرها احتجاجاً على الكُفَّار ، وذلك أن الرَّسول -عليه الصلاة والسّلام- لما تحدّاهم أن يأتوا بِمِثْلِ القرآن ، أو بِعَشْرِ سُوَرٍ ، أو بسورة ، فعجزوا عنه أنزلت هذه الأحرف تنبيهاً على أن القرآن ليس إلاّ من هذه الأحرف ، وأنتم قادرون عليها ، وعارفون بقوانين الفَصَاحة ، فكان يجب أن تأتوا بِمِثل هذا القرآن ، فلما عجزتم عنه دلّ ذلك على أنه من عِندِ الله لا من البَشَرِ .
العاشر : قول أبي روق وقُطْرب : إن الكفَّار لما قالوا :
{
لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ } [ فصلت : 26 ] وتواصوا بالإعراض عنه أراد الله -تعالى- لما أحب صلاحهم ونفعهم أن يُورِدَ عليهم ما لا يعرفونه ، ليكون ذلك سبباً لإسْكَاتِهم ، واستماعهم لما يرد عليهم من القرآن ، فأنزل الله -تعالى- عليهم هذه الأحرف ، فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين : اسمعوا إلى ما يجيء به محمد عليه الصلاة والسلام ، فإذا أصغوا هجم عليهم القرآن فكان ذلك سبباً لاستماعهم ، وطريقاً إلى انتفاعهم ، فكان كالتنبيه لما يأتي بعده من الكلام كقوله الأول .
الحادي عشر : قول أبي العَالِيَةِ « إنّ كل حرف منها في مُدّة أعوام وآجال آخرين » .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : « سُرّ أبو ياسِر بن أَخْطَب برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يَتْلُو سورة البقرة » الم ذَلِكَ الكِتَابُ « ، ثم أتى أخوه حُيَيُّ بن أَخْطَب ، وكَعْب بن الأَشْرَف ، وسألوه عن » الم « وقالوا : ننشدك الله الذي لا إله إلا هو أحقّ أنها أَتَتْكَ من السماء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » نعم كذلك نزلت « ، فقال حُيَيّ : إن كنت صادقاً إني لأعلم أَجَلَ هذه الأمة من السنين ، ثم قال : كيف ندخل في دين رجل دلّت هذه الحروف بحساب الجمل على أن منتهى أَجَل مُدّته إحدى وسبعون سنةً ، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال حُيَيّ : فهل غير هذا؟ قال : » نعم المص « فقال حُيَيّ : هذا أكثر من الأولى هذه مائة وإحدى وثلاثون سنة ، فهب غير هذا؟ قال : » نعم الر « قال حُيَيّ : هذه أكثر من الأولى والثانية ، فنحن نشهد إن كنت صادقاً ما ملكت أمتك إلا مائتين وإحدى وثلاثين سنةً ، فهل غير هذا؟ قال : » نعم « قال : » المر « قال : فنحن نشهد أنا من الذين لا يؤمنون ، ولا ندري بأي أقوال نأخذ .
فقال أبو ياسر : أما أنا فأشهد على أن أنبياءنا قد أخبرونا عم مُلْكِ هذه الأمّة ، ولم يبينوا أنها كم تكون ، فإن كان محمد صادقاً فيما يقول ، إني لأراه يستجمع له هذا كله فقام اليهود ، وقالوا اشتبه علينا أمرك ، فلا ندري أَبِالْقَلِيْلِ نأخذ أم الكثير؟ فذلك قوله تعالى : { هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب } [ آل عمران : 7 ] الآية الكريمة .
ورُوي عن ابن عَبَّاس -رضي الله تعالى عنهما- أنا أقسام .
وقال الأخفش : أقسم الله -تعالى- لشرفها وفضلها؛ لأنها مبادئ كتله المنزلة ، ومباني أسمائه الحسنى .
وقيل فيها غير ذلك .
واعلم أن الله -تعالى- أورد في هذه الفَوَاتح نصف عدد أَسامي حروف المُعْجَم ، وهي أربعة عشر : الألف ، واللام ، والميم ، والصاد ، والراء ، والكاف ، والهاء ، والعين ، والطاء ، والسين ، والحاء ، والقاف ، والباء ، والنون في تسع وعشرين سورة .
وجاءت أيضاً مختلفة الأعداد ، فوردت » ص ق ن « على حرف .
و » طه وطس ويس وحم « على حرفين .
و « الم والر وطسم » على ثلاثة أحرف .
و « كهيعص وحم عسق » على خمية أحرف ، والسبب فيه أن أبنية كلامهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف ، فكذا هاهنا .
قوله : { ذَلِكَ الكتاب }
يجوز في « ذلك » أن تكون مبتدأ ثانياً ، و « الكتاب » خبره ، والجملة خبر « الم » ، وأغنى الربط باسم الإشَارة ، ويجوز أن يكون « الم » مبتدأ .
و « ذلك » خبره ، و « الكتاب » صفة ل « ذلك » ، أو بدل منه ، أو عطف بيان ، وأن يكون « الم » نبتدأ ، و « ذلك » مبتدأ ثانٍ ، و « الكتاب » : إما صفة له ، أو بدل منه ، أو عطف بيان له .
و « لا ريب فيه » [ خبر ] عن المبتدأ الثاني ، وهو خبره خبر عن الأول .
ويجوز أن يكون « الم » خبر مبتدأه مضمر ، تقديره : « هذا الم » ، فتكون جملة مستقلة بنفسها ، ويكون « ذلك » مبتدأ ثانياً ، و « الكتاب » خبره .
ويجوز أن يكون صفة له ، أو بدلاً ، أو بياناً ، و « لا ريب فيه » هو الخبر عن « ذلك » أو يكون « الكتاب » خبراً ل « ذلك » ، و « لا ريب فيه » خبر ثان ، وفيه نظر من حيث إنه تعدّد الخبر ، وأحدهما جملة ، لكن الظاهر جوازه؛ كقوله تعالى : { فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى } [ طه : 20 ] ، إذا قيل بأن « تسعى » خبر .
وأما إن جُعِلَ صفة فلا .
و « ذلك » اسم إشارة : الاسم منه « ذا » ، و « اللاَّم » للبعد ، و « الكاف » للخطاب ، ولها ثلاث رُتَب :
دُنْيَا : ولها المُجَرّد من اللام والكاف نحو : « ذا وذي » و « هذا وهذي » .
وَوُسْطَى : ولها المتّصل بحرف الخطاب ، نحو « ذاك وذيك وتيك » .
وقُصْوَى : ولها المتّصل ب « اللام » و « الكاف » نحو : « ذلك وتلك » .
ولا يجوز أن تأتي ب « اللام » إلاّ مع « الكاف » ، ويجوز دخول حرف التَّنبيه على سائر أسماء الإشارة إلاّ مع « اللاَّم » ، فيمتنع للطول .
وبعض النحويين لم يذكر إلاّ رتبتين : دُنْيَا وغيرها . واختلف النحويون في « ذا » هل هو ثلاثي الوضع أم أصله حرف واحد؟
الأول قول البصريين ، ثم اختلفوا على عينه ولامه ياء ، فيكون من باب « حيي » ، أو غينه واو ولامه ياء فيكون من باب « غويت » ثم حذفت لامه تخفيفاً ، وقلبت العين ألفاً لتحركها ، وانفتاح ما قبلها ، وهذا كله على سبيل التّمرين .
وأيَّا فهذا مبني ، والمبني لا يدخله تصريف ، وإنما جيء هنا بإشارة البعيد تعظيماً للمُشَار إليه ومنه : [ الطويل ]
101-
أَقُولُ لَهُ والرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنَهُ ... تَأَمَّلْ خُفَافاً إِنَّنِي أنا ذَلِكَا
أو لأنه لما نزل من السَّماء إلى الأرض أشير بإشارة البعيد .
أو لأنه كان موجوداً به بنبيّه عليه الصلاة والسلام .
أو أنه أشير به إلى ما قضاه وقدّره في اللَّوح المحفوظ .
وفي عبارة المفسرين أشير بذلك إلى الغائب يعنون البعيد ، وإلا فالمشار إليه لا يكون إلا حاضراً ذِهْناً أو حِسّاً ، فعبروا عن الحاضر ذِهْناً بالغائب أي حسّا وتحريراً لقول ما ذكرته لك . وقال الأصَمّ وابن كيْسَان : إن الله -تعالى- أنزل قبل سورة « البقرة » سوراً كذب بها المشركون ، ثم أنزل سورة « البقرة » فقال : « ذلك الكتاب » يعني ما تقدّم « البقرة » من السّور لا شك فيه .
قال ابن الخَطِيب رحمه الله تعالى : سلّمنا أن المُشَار إليه حاضر ، لكن لا نسلّم أن لفظة « ذلك » لا يشار بها إلا إلى البعيد .
بيانه : أن « ذلك » و « هذا » حرف إشارة ، وأصلهما « ذا » لأنه حرف الإشارة ، قال تعالى : { مَّن ذَا الذي } لبقرة : 245 ] .
ومعنى « ها » تنبيه ، فإذا قرب الشيء أشير إليه فقيل : هذا ، أي : تَنَبَّهْ أيّها المُخَاطب لما أشرت إليه ، فإنه حاضر معك بحيث تَرَاه ، وقد تدخل « الكاف » على « ذَا » للمخاطبة ، و « اللام » لتأكيد معنى الإشارة ، فقيل : « ذلك » ، فكأن المتكلّم بالغ في التنبيه لتأخّر المُشَار إليه عنه ، فهذا يدلّ على أن لفظة « ذلك » لا تفيد البُعْد في أصل الوَضْع ، بل اختص في العُرْف بالفرس ، وإن كانت في أصل الوضع متناولة لكل ما يدبّ على الأرض .
وإذا ثبت هذا فنقول : إنا نحمله ها هنا على مقتضى الوضع اللّغوي ، لا على مقتضى الوضع العرفي ، وحينئذ لا يفيد البُعْد ، ولأجل هذه المُقَارنة قام كلّ واحد من اللَّفْظَين مقام الآخر .
قال تعالى : { واذكر عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ } [ ص : 45 ] ، إلى قوله : { وَكُلٌّ مِّنَ الأخيار } [ ص : 48 ] ثم قال : { هذا ذِكْرٌ } [ ص : 49 ] وقال : { وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف أَتْرَابٌ هذا مَا تُوعَدُونَ } [ ص : 52- 53 ] .
وقال : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } [ ق : 19 ] .
وقال تعالى : { فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يخشى } [ النازعات : 24-25 ] .
وقال تعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور } [ الأنبياء : 105 ] وقال تعالى : { إِنَّ فِي هذا لَبَلاَغاً } [ الأنبياء : 106 ] .
وقال : { فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى } [ البقرة : 73 ] [ أي هكذا يحيي الموتى ] .
وقال : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى } [ طه : 18 ] أي ما هذه التي بيمينك .
و « الكتاب » في الأصل مصدر؛ قال تعالى : { كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ } [ النساء : 24 ] وقد يراد به المكتوب ، قال الشاعر : [ الطويل ]
102-
بَشَرْتُ عِيَالِي إِذْ رأَيْتُ صَحِيفَةً ... أَتَتْكَ مِنَ الحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا
ومثله [ الوافر ]
103-
تُؤَمِّلُ رَجْعَةً مِنِّي وفِيهاَ ... كِتَابٌ مِثْلُ مَا لَصِقَ الْغِرَاءُ
وأصل هذه المادة الدّلالة على الجَمْعِ ، ومنه كتيبة الجَيْش ، وكَتَبْتُ القربة ، وكَتَبْتُ القربة : خَرَزْتُها ، وَالكُتَبة -بضم « الكاف » الخرزة ، والجمع كَتَب ، قال : [ البسيط ]
104-
وَفْرَاءَ غَرْفِيَّةٍ أَثْأَى خَوَارِزُهَا ... مُشَلْشِلٌ ضَيَّعَتْهُ بَيْنَهَا الْكُتَبُ
وكَتَبْتُ الدَّابة [ إذا جَمَعْتَ بين شُفْرَي رَحِمِها بِحَلْقَةٍ أَو سَيْرٍ ] قال الشاعر : [ البسيط ]
105-
لاَ تَأْمَنَنَّ فَزَارِيَّا حَلَلْتَ بِهِ ... عَلَى قَلُوصِكَ واكتُبْهَا بِإِسْيَارِ
والكتابة عرفاً ضمّ بعض حروف الهجاء إلى بعض .
قال ابن الخطيب : « واتفقوا على أنَّ المراد من الكتاب القرآن ، قال تبارك وتعالى : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ } [ ص : 29 ] .
والكتاب جاء في القرآن جاء في القرآن على وجوه :
أحدها : الفرض { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص } [ البقرة : 178 ] { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } [ البقرة : 183 ] ، { إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً } [ النساء : 103 ] .
ثانيها : الحُجَّة والبُرْهان : { فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ الصافات : 157 ] أي : بِبُرْهانكم وحجّتكم .
ثالثها : الأَجَل : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] أي : أَجَل .
رابعها : بمعي مُكَاتبة السيد عبده : { والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } [ النور : 33 ] وهذا المصدر » فِعَال « بمعنى » المُفَاعلة « كالجِدَال والخَصَام والقِتَال بمعنى : المُجَادلة والمُخَاصمة والمُقَاتلة .
والكتاب -هنا- المُرَاد به القرآن ، وله أسماء :
أحدها : الكِتَاب كما تقدم .
وثانيها : القُرْآن : { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً } [ الزخرف : 3 ] ، { شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن } [ البقرة : 185 ] .
وثالثها : الفُرْقَان : { تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان } [ الفرقان : 1 ] .
ورابعها : الذِّكْر ، والتَّذْكِرَة ، والذِّكْرَى : { وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ } [ الأنبياء : 50 ] ، { وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } [ الحاقة : 48 ] وقوله تعالى : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين } [ الذاريات : 55 ] .
وخامسها : التَّنْزِيل : { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين } [ الشعراء : 192 ] .
وسادسها : الحديث : { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث } [ الزمر : 23 ] .
وسابعها : المَوْعِظَة : { قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } [ يونس : 57 ] .
وثامنها : الحُكْم ، والحِكْمَة ، والحَكِيم ، والمُحْكَم : { وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً } [ الرعد : 37 ] ، { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } [ القمر : 5 ] ، { يس والقرآن الحكيم } [ يس : 1-2 ] ، { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } [ هود : 1 ] .
وتاسعها : الشِّفَاء : { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ } [ الإسراء : 82 ] .
وعاشرها : الهُدَى ، والهَادِي { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] ، { إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء : 9 ] ، { قُرْآناً عَجَباً يهدي إِلَى الرشد } [ الجن : 1-2 ] .
وذكروا له أسماء أُخَر منها :
»
الصِّرَاط المستقيم ، والعِصْمَة ، والرَّحْمَة ، والرُّوح ، والقَصَص ، والبَيَان ، والتِّبْيَان ، والمُبِين ، والبَصَائر ، والفَصْلُ ، والنُّجُوم ، والمَثَاني ، والنّعْمَة ، والبُرْهَان ، والبَشِير ، والنَّذِير ، والقَيِّم ، والمُهَيْمِن ، والنور ، والحق ، والعزيز ، والكريم ، والعظيم ، والمبارك « .
قوله تعالى : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } .
يجوز أن يكون خبراً كما تقدّم بيانه .
قال بعضهم : هو خبر بمعنى النّهي ، أي : لا ترتابوا فيه كقوله تعالى : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ } [ البقرة : 197 ] أي : لا ترفثوا ولا تفسقوا .
قرأ ابن كثير : » فِيهِ « بالإشباع في الوَصْلِ ، وكذلك كل هاء كناية قبلها ساكن يشبعها وصلاً ما لم يَلِهَا ساكن ، ثم إن كان السَّاكن قبل الهاء ياء يشبعها بالكسر ياء ، وإنْ كان غيرها يشبعها بالضم واواً ، ووافقه حفص في قوله : { فِيهِ مُهَاناً } [ الفرقان : 69 ] فأشبعه .
ويجوز أن تكون هذه الجملة في محلّ نصب على الحال ، والعامل فيه معنى الإشارة ، و » لا « نافية للجنس محمولة في العمل على نقيضها .
«
إنَّ » ، واسمها معرب ومبني :
فيبنى إذا كان مفرداً نكرة على ما كان ينصب به ، وسبب بنائه تضمنّه معنى الحرف ، وهو « من » الاسْتِغْرَاقِيَّة يدلّ عليه ظهورها في قول الشاعر : [ الطويل ]
106-
فَقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسَيْفِهِ ... فَقَالَ إلاَ لاَ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى هِنْدِ
وقيل : بني لتركُّبه معها تركيب خمسةَ عَشَرَ ، وهو فاسد وبيانه في غير هذا الكتاب . وزعم الزَّجَّاج أن حركة « لاَ رَجُلَ » ونَحْوِه حركة إعراب ، وإنما حذف التنوين تخفيفاً ، ويدل على ذلك الرجوع إلى هذا الأصل كقوله : [ الوافر ]
107-
ألاَ رَجُلاً جَزَاهُ اللهُ خَيْراً ... يَدُلُّ عَلَى مُحضصِّلَةٍ تَبِيتُ
ولا دليل له لأن التقدير : إَلاَ تَرَونَنِي رَجُلاً؟
فإن لم يكن مفرداً -وأعني به المضاف والشبيه به- أُعْرِبَ نَصْباً نحو : طلا خيراً من زيد « ، ولا عمل لها في المعرفة ألبتة ، وأما نحو قوله : [ الطويل ]
108-
تُبَكِّي عَلَى زَيْدٍ ولاَ زَيْدَ مِثْلُهُ ... بَرِيءٌ مِنَ الحُمَّى سَلِيمُ الجَوَانِحِ
وقول الآخر : [ الوافر ]
109-
أَرَى الْحَاجَاتِ عَنْدَ أَبِي خُبَيْبٍ ... نَكِدْنَ وَلاَ أُمَيَّةَ فِي البِلاَدِ
وقول الآخر : [ الرجز ]
110-
لاَ هَيْثَمَ اللَّيْلَةَ لِلْمَطِيِّ ... وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام : » لا قُرَيْشَ بعد اليَوْمِ ، إذا هلك كِسْرَى ، فلا كسرى بَعْدَه « فمؤوَّل .
و » رَيْبَ « اسمها ، وخبرها يجوز أن يكون الجار والمجرور وهو » فيه « إلاّ أن بني » تميم « لا تكاد تذكر خبرها ، فالأولى أن يكون محذوفاً تقديره : لا ريب كائن ، ويكون الوَقْفُ على » ريب « حينئذ تامَّا ، وقد يحذف اسمها ويبقى خبرها ، قالوا : » لا عليك « أي : لا بأس عليك .
ومذهب سيبويه رحمه الله : أنها واسمها في مَحَلّ رفع بالابتداء ، ولا عمل لها في الخبر .
ومذهب الأخفش : أن اسمها في مَحَلّ رفع ، وهي عاملة في الخبر .
ولها أحكامٌ كثيرة ، وتقسيمات منتشرة مذكورة في كتب النحو .
واعلم أن » لا « لفظ مُشْتَرَك بين النَّفي ، وهي فيه على قسمين :
قسم تنفي فيه الجنس فتعمل عمل إنَّ كما تقدم ، وقسم تنفي فيه الوحدة ، وتعمل حينئذ عمل » ليس « ، ولها قسم آخر ، وهو النهي والدُّعاء فتجزم فعلاً واحداً ، وقد تجيء زيادة كما تقدم في قوله : { وَلاَ الضآلين } [ الفاتحة : 7 ] .
و » الرَّيْب « : الشّك مع تهمة؛ قال في ذلك : [ الخفيف ]
111-
لَيْسَ فِي الْحَقِّ يَا أُمَيْمَةُ رَيْبٌ ... إِنَّمَا الرَّيْبُ مَا يَقُولُ الكَذُوبُ
وحقيقته على ما قال الزَّمخشري : » قلق النفس واضطرابها « .
ومنه الحديث : » دَعْ ما يُرِيبُكَ إلى ما يُرِيبك « .
ومنه أنه مَرّ بظبي خائفٍ فقال : » لاَ يُرِبهُ أَحَدق بشيءٍ « .
فليس قول من قال : » الرَّيب الشك مطلقاً « بجيّد ، بل هو أخصّ من الشَّك كما تقدم .
وقال بعضهم : في » الرّيب « ثلاثة معانٍ :
أحدها : الشّك؛ قال ابن الزِّبَعْرَى : [ الخفيف ]
112-
لَيْسَ فِي الحَقِّ يَا أُمَيْمَةُ رَيْبٌ .. .
وثانيها : التُّهْمَةُ؛ قال جميل بُثَيْنَةَ : [ الطويل ]
113-
بُثَيْنَةُ قَالَتْ يَا جَمِيلُ أَرَيْتَنِي ... فَقُلْتُ : كِلاَنَا يَا بُثَيْنُ مُرِيبُ
وثالثها : الحاجات؛ قال : [ الوافر ]
114-
قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلَّ رَيْبٍ ... وَخَيْبَرَ ثُمَّ أَجْمَعْنَا السُّيُوفَا
قال ابن الخطيب : الريب قريب من الشك ، وفيه زيادة ، كأنه ظن سوء ، كأنه ظن سوء ، تقول : رَابَني أمر فلان إذا ظننت به سوءاً .
فإن قيل : قد يستعمل الريب في قولهم : « ريب الدهر » و « ريب الزمان » أي : حوادثه ، قال تعالى : { نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون } [ الطور : 30 ] ويستعمل أيضاً فيما يختلج في القلب من أسباب الغيظ ، كقول الشاعر : [ الوافر ]
115-
قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلُّ رَيْبٍ .. . . .
قلنا : هذا يرجعان إلى معنى الشك ، لأن من يخاف من ريب المنون محتمل ، فهو كالمشكوك فيه ، وكذلك ما اختلج بالقلب فهو غير متيقن ، فقوله تعالى : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } المراد منه : نفي كونه مَظَنَّةً للريب بوجه من الوجوه ، والمقصود أنه لا شُبْهَة في صحته ، ولا في كونه من عند الله تعالى ولا في كونه معجزاً . ولو قلت : المراد لا ريب في كونه معجزاً على الخصوص كان أقرب لتأكيد هذا التأويل بقوله تعالى : { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا } [ البقرة : 23 ] .
فإن قيل : لم تأت ، قال ها هنا : « لاَ رَيْبَ فِيهِ » وفي موضع آخر : { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } [ الصافات : 47 ] قلنا : لأنهم يقدمون الأهمّ ، وهاهنا الأهم نفي الريب بالكليّة عن الكتاب .
ولو قلت : « لا فيه ريب » لأَوْهَمَ أن هناك كتاباً آخر حصل فيه الريب لا ها هنا ، كما قصد في قوله تعالى { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } تفضيل خمر الجنّة على خمر الدنيا ، بأنها لا تَغْتَال العقول كما تغتالها خمر الدنيا . فإن قيل : من أين يدلّ قوله : « لاَ رَيْبَ فِيهِ » على نفي الريب بالكلية؟ قلنا القراءة المشهورة توجب ارتفاع الريب بالكلية ، والدّليل عليه أن قوله : « لا ريب » نفي لماهيّة الريب؛ ونفي الماهية يقتضي نفي كل فرد من أفراد الماهية؛ لأنه لو ثبت فرد من أفراد الماهيّة لثبتت الماهية ، وذلك مُنَاقض نفي الماهية ، ولهذا السّر كان قولنا : « لا إله إلا الله » نفياً لجميع الآلهة سوى الله تعالى .
وقرأ أبو الشعثاء : « لاَ رَيْبُ فِيهِ » بالرفع ، وهو نقيض لقولنا : « ريب فيه » ، وهذا يفيد ثبوت فرد واحدٍ ، وذلك النفي يوجب انتفاء جميع الأفراد ، فيتحقق التناقض .
والوقف على « فيه » هو المشهور .
وعن نافع وعاصم أنهما وَقَفَا على « ريب » ، ولا بد للواقف من أن ينوي خبراً ، ونظيره قوله : { لاَ ضَيْرَ } [ الشعراء : 50 ] وقول العرب : « لا بأس » .
واعلم أن الملحدة طعنوا فيه وقالوا : إن عني أنه لا شَكّ فيه عندنا ، فنحن قد نشك فيه ، وإن عني أنه لا شكّ فيه عنده فلا فائدة فيه .
الجواب : [ المراد ] أنه بلغ في الوضوح إلى حيث لا ينبغي لمرتاب أن يرتاب فيه ، والأمر كذلك؛ لأن العرب مع بلوغهم في الفَصَاحة إلى النهاية عجزوا عن معارضة أَقْصَرِ سورة من القرآن ، وذلك يشهد بأنه لقيت هذه الحُجَّة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه .
وقيل : في الجواب وجوه أخر :
أحدها : أن النفي كونه متعلقاً للريب ، المعنى : أنه منعه من الدلالة ، ما إن تأمله المُنْصِف المحق لم يرتب فيه ، ولا اعتبار بمن وجد فيه الريب؛ لأنه لم ينظر فيه حَقّ النظر ، فريبه غير معتدّ به .
والثاني : أنه مخصوص ، والمعنى : لا ريب فيه عند المؤمنين .
والثالث : أنه خبر معناه النهي . والأول أحسن .
قوله تعالى : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } . يجوز فيه عدة أوجه :
أحدها : أن يكون مبتدأ ، وخبره فيه متقدماً عليه إذا قلنا : إن خبر « لا » محذوف .
وإن قلنا : « فيه » خبرها ، كان خبره محذوفاً مدلولاً عليه بخبر « لا » ، تقديره : لا ريب فيه ، فيه هدى ، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر تقديره : هو هدى ، وأن يكون خبراً ثانياً ل « ذلك » ، على أن يكون « الكتاب » صفةً أو بدلاً ، أو بياناً ، و « لا ريب » خبر أول ، وأن يكون خبراً ثالثاً ل « ذلك » ، على أن يكون « الكتاب » خبراً أول ، و « لا ريب » ، خبراً ثانياً ، وأن يكون منصوباً على الحل من « ذلك » ، أو من « الكتاب » ، والعامل فيه على كلا التقديرين اسم الإشارة ، وأن يكون حالاً من الضَّمير في « فيه » ، والعامل ما في الجَارِّ والمجرور من معنى الفعْلٍ ، وجعله حالاًَ مما تقدم : إما على المُبَالغة ، كأنه نفس الهُدَى ، أو على حذف مضاف ، أي : ذا هُدَى ، أو على وقوع المصدر موقع اسم الفاعل ، وهكذا كلُّ مصدر وقع خبراً ، أو صفة ، أو حالاً فيه الأقوال الثلاثة ، أرجحها الأول .
وأجازوا أن يكون « فيه » صفةً ل « ريب » ، فيتعلّق بمحذوف ، وأن يكون متعلقاً ب « ريب » ، وفيه إشكال؛ لأنه يصير مطولاً ، واسم « لا » إذا كان مطولاً أعرب إلاّ أن يكون مُرَادهم أنّه معمول لِمَا عليه « ريب » لا لنفس « ريب » .
وقد تقدّم معنى الهدى « عند قوله تبارك وتعالى : { اهدنا الصراط المستقيم } [ الفاتحة : 6 ] .
و » هُدّى « مصدر على وزن » فُعَل « فقالوا : ولم يجىء من هذا الوزن في المَصَادر إلا » سُرّى « و » بُكّى « و » هُدّى « ، وجاء غيرها ، وهو » لَقِيتُهُ لُقًى « ؛ قال الشَّاعر : [ الطويل ]
116-
وَقَدْ زَعَمُوا حُلْماً لُقَاكَ وَلَمْ أَزِدْ ... بحَمْدِ الَّذي أَعْطَاكَ حِلْماً وَلاَ عَقْلا
و « الهدى » فيه لغتان : التذكير ، ولم يذكر اللّحْياني غيره .
وقال الفراء : بعض بني أسد يؤنثه ، فيقولون : هذه هدى .
و « في » معناها الظرفية حقيقةً أو مجازاً ، نحو : « زيد في الدار » ، { وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ } [ البقرة : 179 ] ولها معان آخر :
المصاحبة : نحو : { ادخلوا في أُمَمٍ } [ الأعراف : 38 ] .
والتعليل : « إن امرأة النَّارِ في هِرَّةٍ » وموافقة « على » : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] [ أي : على جذوع ] ، والباء : { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } [ الشورى : 11 ] أي بسببه .
والمقايسة نحو قوله تعالى : { فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة } [ التوبة : 38 ] .
و « الهاء » في « فيه » أصلها الضم كما تقدم من أن « هاء » الكناية أصلها الضم ، فإن تقدمها ياء ساكنة ، أو كسرة كسرها غري الحجازيين ، وقد قرأ حمزة : « لأَهْلِهُ امْكُثُوا » وحفص في : « عَاهَدَ عَلَيهُ الله » [ الفتح : 10 ] ، { وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ } [ الكهف : 63 ] بلغه أهل الحِجَاز ، والمشهور فيها -إذا لم يلها ساكن وسكن ما قبلها نحو : « فيه » و « منه » - الاختلاس ، ويجوز الإشْبَاع ، وبه قرأ ابن كثير ، فإن تحرّك ما قبلها أُشْبِعَتْ ، وقد تختلس وتسكن ، وقرىء ببعض ذلك كما سيأتي مفصلاً إن شاء الله تعالى .
و « للمتقين » جارّ ومجرور متعلّق ب « هدى » .
وقيل : صفة ل « هدى » ، فيتعلّق بمحذوف ، ومحله حينئذ : إما الرفع أو النصب بحسب ما تقدم في موصوفه ، أي هدى كائن أو كائناً للمتقين .
والحسن من هذه الوجوه المتقدمة كلها أن تكون كل جملة مستقلّة بنفسها ، ف « الم » جملة إن قيل : إنها خبر مبتدأ مضمر ، و « ذلك الكتاب » جملة ، و « لا ريب » جملة ، و « فيه هدى » جملة ، وإنما ترك العاطف لشدّة الوصل؛ لأن كلّ جملة متعلّقة بما قبلها آخذة بعنقها تعلقاً لا يجوز معه الفصل بالعطف .
قال الزمخشري : « وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة حيث جيء بها مُتَنَاسقة هكذا من غير حرف نسق . [ وذلك لمجيئها مُتَتَابعة بعضها بعنق ] بعض ، والثانية متحدة بالأولى ، وهلم جَرَّاً إلى الثالثة والرابعة .
بيانه : أنه نبّه أولاً على أنه الكلام المتحدي به ، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المَنْعُوت بنهاية الكَمَال ، فكان تقريراً لجهة التحدي . ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب ، فكان شهادة بكماله .
ثم أخبر عنه بأنه » هدى للمتقين « ، فقرر بذلك كونه يقيناً ، لا يحوم الشّك حوله ، ثم لم تَخْلُ كل واحدة من هذه الأربع بعد أن رتبت هذه الترتيب الأنيق [ من ] نُكْتَةٍ ذات جَزَالة : ففي الأولى الحذف ، والرمز إلى الغرض بألطف وجه .
وفي الثانية ما في التعريف من الفَخَامة .
وفي الثانية ما في تقديم الريب على الظَّرف .
وفي الثالثة ما في تقديم « الريب » على الظرف .
وفي الرابعة الحذف ، ووضع المصدر الذي هو « هدى » موضع الوصف الذي هو « هاد » وإيراده منكراً .
«
المتقين » جمع « مُتَّقٍ » ، وأصله : مُتَّقِيينَ بياءينِ ، الأولى : لام الكلمة ، والثانية علامة الجمع ، فاستثقلت الكسرة على لام الكلمة ، وهي الياء الأولى فحذفت ، فالتقى ساكنان ، فَحذف إحداهما وهي الأولى .
و « متقٍ » من اتقى يتّقي وهو مُفْتَعِل الوِقَايَةِ ، إلا أنه يطرد في الواو والياءلا إذا كانتا فاءين ، ووقعت بعدهما « تاء » الافتعال أن يبدلا « تاء » نحو : « اتَّعَدض » من الوَعْدِ ، و « اتَّسَرَ » من اليُسْرِ . وَفِعْلُ ذلك بالهمزة شاذ ، قالوا : « اتَّزَرَ » و « اتَّكَلَ » من الإِزَارِ ، والأَكْلِ .
و ل « افتعل » اثنا عشر معنى :
الاتِّخَاذ نحو : « اتقى » .
والتسبب نحو : « اعمل » .
وفعل الفاعل بنفسه نحو : « اضطرب » .
والتخير نحو : « انتخب » .
والخطف نحو : « استلب » .
ومطاوعة « أَفْعَلَ » نحو : « انتصف » .
ومطاوعة « فَعَّلَ » نحو « عمّمته فاعتمّ .
وموافقة » تَفَاعَلَ « و » تَفَعَّلَ « و » اسْتَفْعَلَ « نحو : احتور واقتسم واعتصم ، بمعنى تحاور وتقَسَّم واستعصم .
وموافقة المجرد ، نحو » اقتدر « بمعنى : قَدَرَ .
والإغناء عنه نحو : » اسْتَلَم الحجر « ، لم يُلْفَظْ له بمجرد .
و » الوقاية « : فرط الصيانة ، وشدة الاحتراس من المكروه ، ومنه » فرس وَاقٍ « : إذا كان يقي حافِرهُ أدنى شيء يصيبه .
وقيل : هي في أصل اللَّغة قلّة الكلام .
وفي الحديث : » التَّقِيُّ مُلْجَمٌ « .
ومن الصيانة قوله : [ الكامل ]
117-
سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ ... فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتَا بِاليَدِ
وقال آخر : [ الطويل ]
118-
فَاَلْقَتْ قِنَاعً دُوُنَهُ الشَّمْسَ واتَّقَتْ ... بِأَحْسَنِ مَوْصُولَيْنِ كَفَّ وَمِعْصَمِ
قال أبو العباس المقرىء : ورد لفظ » الهدى « في القرآن بإزاء ثلاثة عشر معنى :
الأول : بمعنى » البَيَان « قال تعالى : { أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } [ البقرة : 5 ] أي : على بيان ، ومثله ، { وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] أي : لتبين ، وقوله تبارك وتعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } [ فصلت : 17 ] أي : بَيَّنَّا لهم .
الثاني : الهُدَى : دين الإسلام ، قال تعالى : { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله } [ آل عمران : 73 ] أي : دين الحق هو دين الله .
وقوله : { إِنَّكَ لعلى هُدًى } [ الحج : 67 ] أي : دين الحق .
الثالث : بمعنى » المَعْرِفَة « قال تعالى : { وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ } [ النحل : 16 ] أي : يعرفون ، وقوله تعالى : { نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أتهتدي أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ } [ النمل : 41 ] أي : أتعرف .
الرابع : بمعنى » الرسول « قال تعالى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } [ البقرة : 38 ] أي : رسول .
الخامس : بمعنى « الرشاد » قال تعالى : { واهدنآ إلى سَوَآءِ الصراط } [ ص : 22 ] أي أرشدنا .
وقوله : { عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السبيل } [ القصص : 22 ] .
وقوله تعالى : { اهدنا الصراط } [ الفاتحة : 6 ] .
السادس : بمعنى : « القرآن » قال تعالى : { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى } [ النجم : 23 ] أي : القرآن .
السابع : بمعنى : بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال تبارك وتعالى : { وَإِنَّكَ لتهدي } [ الشورى : 52 ] .
الثامن : بمعنى « شرح الصدور » قال تعالى : { فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } [ الأنعام : 125 ] .
التاسع : التوراة ، قال تبارك وتعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الهدى } [ غافر : 53 ] يعني : التوراة .
العاشر : « الجنة » قال تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ } [ يونس : 9 ] أي : يدخلهم الجنة .
الحادي عشر : « حج البيت » قال تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 96 ] أي الحج .
الثاني عشر : « التوبة » قال تعالى : { وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين } [ يوسف : 52 ] أي : لا يصلح .
الثالث عشر : « التوبة » قال تعالى : { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] أي : تُبْنَا ورجعنا .
فصل في المقصود بالهدى
قال ابن الخطيب « رضي الله تعالى عنه » : الهُدَى عبارة عن الدلالة .
وقال صاحب « الكشاف » : الهدى هو الدلالة الموصّلة للبغية .
وقال آخرون : الهدى هو الاهتداء والعلم والدليل على صحة الأول أنه لو كان كونه الدلالة موصلة إلى البغية معتبراً في مسمى الهدى لامتنع حصول الهدى عند عدم الاهتداء؛ لأن كون الدلالة موصلة إلى الاهتداء حال عدم الاهتداء مُحَال ، وقد ثبت الهدى على عدم حال الاهتداء قال الله تعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى } [ فصلت : 17 ] أثبت الهدى مع عدم الاهتداء . واحتج صاحب « الكشَّاف » بأمور ثلاثة :
[
أوّلها ] : وقوع الضلالة في مُقَابلة الهدى ، قال تعالى : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } [ البقرة : 16 ] ، وقال تعالى : { قُلِ الله وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ سبأ : 24 ] .
وثانيها : يقال : مهديّ في موضع المدح كالمهتدي ، فلو لم يكن من شرط الهدى كَوْن الدلالة موصلة إلى البغية لم يكن الوصف بكونه مهدياً مدحاً؛ لاحتمال أنه هدي ، فلم يَهْتَدِ .
وثالثها : أن « اهتدى » مطاوع « هَدَى » يقال : هَدَيْتُه فَاهْتَدَى ، كما يقال : كسرته فانكسر ، وقطعته فانقطع ، فكنا أن الانكسار والانقطاع لَزِمَانِ للكسر والقطع ، وجب أن يكون الاهتداء من لوازم « الهدى » .
والجواب عن الأوَّلِ : أن الفرق بين الهدى والاهتداء معلوم بالضرورة ، فمقابل « الهدى » هو « الإضلال » ومقابل « الاهتداء » هو « الضلال » فجعل « الهدى » في مقابلة « الضلال » ممتنع . وعن الثاني : المنتفع بالهدى سمي مهدياً؛ لأن الوسيلة إذا لم تُفْضِ إلى المقصود كانت نازلة منزلة المعدوم .
وعن الثالث : أن الائتمار مُطَاع الأمر يقال : أمرته فائتمر ، ولم يلزم منه أن يكون من شرط كونه أمراً حصول الائتمار ، وكذا لا يلزم من كونه هذه أن يكون مفضياً إلى الاهتداء ، على أنه معارض بقوله : هديته فلم يهتد .
ومما يدل علة فساد قول من قال : الهدى هو العلم خاصة أن الله -تعالى- وصف القرآن بأنه هدى ، ولا شك أنه في نفسه ليس بعلم ، فدلّ على أن الهدى هو الدلالة لا الاهتداء والعلم .
فصل في اشتقاق المتقي
والمتقي في اللغة : اسم فاعل من قولهم : وقاه فاتَّقى ، والوقاية : فرط الصيانة .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : التقيّ : من يتقي الشّرْك والكبائر والفواحش ، وهو مأخوذ من الاتقاء ، وأصله : الحجز بين شيئين .
وفي الحديث : « كان إذا احمَرَّ البأسُ اتَّقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم » .
أي : إذا اشتد الحَرْبُ جعلنا بيننا وبين العدو ، فكأن المتقي جعل الامتثال لأمر الله ، والاجتناب عما نَهَاهُ حاجزاً بينه وبين العذاب ، وقال عمر بن الخَطَّاب لكعب الأحبار : « حدثني عن التقوى ، فقال : هل أخذت طريقاً ذا شَوْكٍ؟ قال : نعم ، قال : فما عملت فيه؟ قال : حذرت وشَمّرت ، قال كعب : ذلك التَّقوى » . وقال عمر بن عبد العزيز : التقوى تَرْكُ ما حَرَّمَ الله ، وأداء ما افترض الله ، فما رزق الله بعد ذلك فهو خير إلى خير .
وقال ابن عمر : التَّقوَى ألا ترى نفسك خيراً من أحد .
إذا عرفت هذا فنقول : إن الله -تعالى- ذكرَ المتقي هاهنا في معرض المدح ، [ ولن يكون ذلك ] بان يكون متقياً فيما يتصل بالدّين ، وذلك بأن يكون آتياً بالعبادات ، محترزاً عن المحظورات . واختلفوا في أنه هل يدخل اجتناب الصَغائر في التقوى؟ فقال بعضهم : يدخل كما تدخل الصّغائر في الوعيد .
وقال آخرون : لا يدخل ، ولا نزاع في وجوب التوبة عن الكُلّ ، إنما النزاع في أنه إذا لم يتوقّ الصغائر هل يستحق هذا الاسم؟
فروي عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال : « لا يَبْلُغُ العَبْدُ درجة المتّقين حتى يَدَعَ ما لا بَأسَ به حَذَراً مما به بَأسُ » . وعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنهم الذين يَحْذَرُون من الله العُقُوبَة في تَرْكِ ما يميل الهَوَى إليهن ويرجعون رحمته بالتَّصديق بما جاء منه .
واعلم أن حقيقة التقوى ، وإن كانت هي التي ذكرناها إلاَّ أنها قد جاءت في القرآن ، والغرض الأصلي منها الإيمان تارة؛ كقوله تعالى : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى } [ الفتح : 26 ] أي : التوحيد { أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى } [ الحجرات : 3 ] ، { قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ } [ الشعراء : 11 ] أي : لا يؤمنون .
وتارة التوبة كقوله تبارك وتعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا } [ الأعراف : 96 ] ، { وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون } [ المؤمنون : 52 ] .
وتارة ترك المعصية كقوله تعالى : { وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا واتقوا الله } [ البقرة : 189 ] أي : فلا تعصوه .
وتارة الإخلاص كقوله : { فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب } [ الحج : 32 ] أي : من إخلاص القلوب .
وهاهنا سؤالات :
السؤال الأول : كون الشَّيء هدى ودليلاً لا يختلف بحسب شخص دون شخص فلماذا جعل القرآن هدى للمتَّقين فقط؟ وأيضاً فالمتقي مهتدي؟ والمهتدي لا يهتدي ثانياً ، والقرآن لا يكون هدى للمتقين؟
والجواب : أن القرآن كما أنه هدى للمتقين ، ودلالة لهم على وجود الصانع ، وعلى صدق رسوله ، فهو أيضاً دلالة للكافرين؛ إلا أن الله تبارك وتعالى ذكر المتقين مدحاً ليبين أنهم هم الذين اهتدوا ، وانتفعوا به كما قال :
{
إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } [ النازعات : 45 ] وقال : { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر } [ يس : 11 ] .
وقد كان عليه الصلاة والسلام منذراً لكلّ الناس ، فذكر هؤلاء الناس لأجل أن هؤلاء هُمُ الذين انتفعوا بإنذاره .
وأما من فسر الهُدَى بالدلالة الموصلة إلى المقصود ، فهذا السؤال زائل عنه؛ لأن كونه القرآن موصلاً إلى المقصود ليس إلاَّ في حق المتقين .
السّؤال الثاني : كيف وصل القرآن كله بأنه هدى ، وفيه مجمل ومتشابه كثير ، ولولا دلالة العقل لما تميز المُحْكم عن المُتَشَابه ، فيكون الهدى في الحقيقة هو الدلالة العقلية لا القرآن؟
ونقل عن علي بن أبي طالب أنه قال لابن عباس حيث بعثه رسولاً إلى الخوارج : لا تَحْتَجَّ عليهم بالقرآن ، فإنه خَصْمٌ ذو وجهين ، ولو كان هدى لما قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ذلك فيه ، ولأنا نرى جميع فرق الإسلام يحتجون به ، ونرى القرآن مملوءاً من آيات بعضها صريح في الجبر ، وبعضها صريح في القدر؛ فلا يمكن التوفيق بينهما إلا بالتعسُّف الشديد ، فكيف يكون هدى؟
الجواب : أن ذلك المُتَشَابه والمُجْمَل لما لم ينفك عما هو المراد على التعيين -وهو إما دلالة العقل ، أو دلالة السمع -صار كله هُدًى .
السؤال الثالث : كل ما يتوقَّف كون القرآن حُجّة على صحته لم يكن القرآن هدى فيه ، فإذا استحال كون القرآن هدى في معرفة ذات الله -تعالى- وصفاته ، وفي معرفة النبوة ، فلا شَكَّ أن هذه المَطَالب أشرفُ المطالب ، فإذا لم يكن القرآن هدى فيها ، فكيف جعله الله هدى على الإطلاق؟
الجواب : ليس من شرط كونه هدى أن يكون هدى في كل شيء ، بل يكفي فيه أن يكون هدى في بعض الأشياء ، وذلك بأن يكون هدى في تعريف الشَّرَائع ، أو يكون هدى في تأكيد ما في العقول ، وهذه الآية من أَقْوَى الدلائل على أن المُطْلق لا يقتضي العموم ، فإن الله -تعالى- وصفة بكونه هُدًى من غير تقييد في اللَّفظ ، مع أنه يستحيل أن يكون هدى في إثبات الصَّانع ، وصفاته ، وإثبات النبوة ، فثبت أنّ المطلق لا يفيد العموم .
السّؤال الرابع : الهُدَى هو الذي بلغ في البيان والوضوح إلى حيث بين غيره ، والقرآن ليس كذلك ، فإن المفسّرين ما ذكروا آية إلاّ وذكروا فيها أقوالاً كثيرة متعارضة ، ويؤيد هذا قوله : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [ النحل : 44 ] .
وما يكون كذلك لا يكون مبيناً في نفسه ، فضلاً عن أن يكون مبيناً لغيره ، فكيف يكون هدى؟ قلنا : من تكلم في التفسير بحيث يورد الأقوال المُتَعَارضة ، ولا يرجح واحداً منها على الباقي يتوجه عليه السؤال ، وأما من رجح واحداً على البواقي فلا يتوجّه عليه السؤال .
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
«
الذين » يحتمل الرفع والنصب والجر ، والظاهر الجر ، وهو من ثلاثة أوجه : أظهرها : أنه نعت ل « المتقين » .
والثاني : بدل .
والثالث : عطف بيان .
وأما الرفع فمن وجهين :
أحدهما : أنه خبر مبتدأ محذوف على معنى القطع ، وقد تقدم .
والثاني : أنه مبتدأ ، وفي خبره قولان : أحدهما : « أولئك » الأولى .
والثاني : « أولئك » الثانية ، والواو زائدة ، وهذان القولان منكران؛ لأنه قوله : « والذين يؤمنون » يمنع كونه « أولئك » الأولى خبراً أيضاً .
وقولهم : الواو زائدة لا يلتفت إليه .
والنصب على القطع .
و « يؤمنون » صلة وعائد .
قال الزمخشري : « فإذا كان موصولاً كان الوقف على » المتقين « حسناً غير تام ، وإذا كان منقطعاً كان واقفاً تاماً » .
وهو مضارع علامة رفعه « النون » ؛ لأنه أحد الأمثلة الخَمْسَةِ وهي عبارة عن كل فعل مضارع اتصل به « ألف » اثنين ، أو « واو » جمع ، أو « ياء » مخاطبة ، نحو : « يؤمنان- تؤمنان- يؤمنون- تؤمنون- تؤمنين » .
والمضارع معرب أبداً ، إلاّ أن يباشر نون توكيد أو إناث ، على تفصيل ياتي إن شاء الله -تعالى- في غُضُون هذا الكتاب .
وهو مضارع « أمن » بمعنى : صدق ، و « آمن » مأخوذ من « أمن » الثلاثي ، فالهمزة في « أمن » للصّيرورة نحو : « أعشب المكان » أي : صار ذا عُشْب .
أو لمطاوعة فعل نحو : « كبه فأكب » ، وإنما تعدى بالباء ، لنه ضمن معنى اعترف ، وقد يتعدّى باللام كقوله تعالى : { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } [ يوسف : 17 ] ، { فَمَآ آمَنَ لموسى } يونس : 83 ] إلاَّ أن في ضمن التعدية باللام التّعدية بالباء ، فهذا فرق ما بين التعديتين . وأصل « يؤمنون » : « يؤأمنون » بهمزتين :
الأولى : همزة « أفْعَل » .
والثاني فاء الكلمة ، حذفت الولى؛ لأن همزة « أفْعَل » تحذف بعد حرف المُضَارعة ، واسم فاعله ، ومفعوله نحو : طأكرم « و » يكرم « و » أنت مُكْرِم ، ومُكْرَم « .
وإنما حذفت؛ لأنه في بعض المواضع تجتمع همزتان ، وذلك إذا كان حرف المُضّارعة همزة نحو : » أنا أكرم « ، الأصل : أأكرم بهمزتين ، الولى : للمضارعة والثانية : همزة أفعل ، فحذفت الثانية؛ لأن بها حصل الثّقل؛ ولأن حرف المضارعة أولى بالمحافظة عليه ، ثم حصل باقي الباب على ذلك طَرْداً للباب .
ولا يجوز ثبوت همزة » أفعل « في شيء من ذلك إلا في ضرورة؛ كقوله : [ الرجز ]
119-
فَإَنَّهُ أَهْلٌ لأَنْ يُؤَكْرَمَا ... وهمزة » يؤمنون « -وكذلك كل همزة ساكنة- يجوز أن تبدل بحركة ما قبلها ، فتبدل حرفاً متجانساً نحو : » راس « و » بير « و » يومن « ، فإن اتفق أن يكون قبلها همزة أخرى وجب البدل نحو : » إيمان « و » آمن « .
فصل
قال بعضهم : { الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } يحتمل أن يكون كالتفسير لكونهم متقين ، وذلك لأن المتقي هو الذي يكون فاعلاً للحسنات وتاركاً للسيئات ، أما الفعل فإما أن يكون فعل القلب وهو قوله : « الذين يؤمنون » .
وإما أن يكون فعل الجوارح ، أساسه الصَّلاة والصدقة؛ لأن العبادة إما أن تكون بدنية ، وأصلها الصَّلاة ، أو مالية وأصلها الزكاة ، ولهذا سمى الرسول عليه الصلاة والسلام : « الصَّلاَة عِمَاد الدِّين ، والزَّكَاة قَنْطَرَة الإسلام » أما التَّرْك فهو داخل في الصَّلاة ، لقوله تعالى : { إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر } [ العنكبوت : 45 ] واختلف الناسي في مسمى الإيمان في عرف الشرع على أربع فرق :
الفرقة الاولى : قالوا : الإيمان اسم لأفعال القلوب ، والجوارح ، والإقرار باللسان ، وهم المعتزلة والخوارج والزيدية ، وأهل الحديث .
أما الخوارج فقد اتفقوا على أن الإيمان بالله يتناول المعرفة بالله ، وبكل ما وضع عليه دليلاً عقلياً ، أو نقلياً من الكتاب والسُّنة ، ويتناول طاعة الله في جميع ما أمر الله به من الأفعال والتروك صغيراً كان أو كبيراً .
فقالوا : مجموع هذه الأشياء هو الإيمان ، وترك كل خصلة من هذه الخصال كفر ، أما المعتزلة فقد اتفقوا على أنَّ الإيمان إذا عدي بالباء ، فالمراد به التصديق؛ إذ الإيمان بمعنى أداء الواجبات لا يمكن فيه هذه التعدية ، فلا يقال : فلان آمن بكذا إذا صلّى وصام ، بل يقال : فلان آمن بالله كما يقال : صام وصلّى لله ، فالإيمان المعدى بالباء يجري على طريقة أهل اللغة .
أما إذا ذكر مطلقاً غير معدى ، فقد اتفقوا على أنه منقولٌ من المُسمَّى اللغوي -الذي هو التصديق- إلى معنى آخر ، ثم اختلفوا فيه على وجوه :
أحدها : أن الإيمان عبارةٌ عن فعل كل الطَّاعات ، سواء كانت واجبة أم مندوبة ، أو من باب الأقوال أو الأفعال ، أو الاعتقادات ، وهو قول واصل بن عَطَاءٍ ، وأبي الهذيل ، والقاضي عبد الجبار بن أحمد .
وثانيها : أنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النوافقل ، وهو قول أبي علي وأبي هاشم .
وثالثها : أن الإيمان عبارة عن [ اجتناب كل ما جاء فيه الوعيد . ثم يحتمل أن يكون من الكبائر ما لم يرد فيه الوعيد ] .
فالمؤمن عند الله كل من اجتنب ] كل الكبائر ، والمؤمن عندنا كل من اجتنب ما ورد فيه الوعيد ، وهو قول النّظام ، ومن أصحابه من قال : شرط كونه مؤمناً عندنا وعند الله اجتناب الكبائر كلها .
وأما أهل الحديث فذكروا وجهين :
الأول : أن المعرفة إيمان كامل وهو الأصل ، ثم بعد ذلك كل طاعة إيمان على حِدَةِ ، وهذه الطاعات لا يكون شيء منها إيماناً إذلا إذا كانت مرتبة على الأصل الذي هو المعرفة .
وزعموا أن الجحود وإنكار القلب كفر ، ثم كل معصية بعد كُفْر على حِدَةٍ ، ولم يجعلوا شيئاً من الطاعات إيماناً ما لم توجد المعرفة والإقرار ، ولا شيئاً من المعاصي كفراً ما لم يوجد الجثحُود والإنكار؛ لأن الفرع لا يحصل بدون ما هو أصله ، وهو قول عبد الله بن سعيد بن كلاب .
والثاني : زعموا أن الإيمان اسم للطاعات كلها ، وهو إيمان واحد ، وجعلوا الفرائض والنوافل كلها من جملة الإيمان ، ومن ترك شيئاً من الفرائض فقد انتقص إيمانه ، ومن ترك النوافل لا ينتقص إيمانه .
ومنهم من قال : الإيمان اسم للفرائض دون النوافل .
الفرقة الثانية الذين قالوا : الإيمان باللِّسان والقَلْب نعاً ، وقد اختلف هؤلاء على مذاهب :
الأول : أن الإيمان إقرار باللسان ، ومعرفة بالقلب ، وهو قول أبي حنيفة وعامّة الفقهاء ، ثم هؤلاء اختلفوا في موضعين :
أحدهما : اختلفوا في حقيقة هذه المعرفة ، فمنهم من فَسَّرها بالاعتقاد الجازم -سواء كان اعتقاداً تقليدياً ، أو كان علماً صادراً عن الدليل- وهم الأكثرون الذين يحكمون بأن المقلّد مسلم .
ومنهم من فسرها بالعلم الصادر من الاستدلال .
وثانيهما : اختلفوا في أن العلم المعتبر في تحقيق الإيمان عِلْمٌ بماذا؟ قال بعض المتكلّمين : هو العلم بالله ، وبصفاته على سبيل الكمال والتمام ، ثم إنه لما كثر اختلاف الخلق في صفات الله تعالى لا جرم أقدم كلّ طائفة على تكفير من عداها من الطوائف .
وقال أهل الإنصاف : المعتبر هو العلم بكل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد عليه الصَّلاة والسلام ، فعلى هذا القول العلم بكونه تعالى عالماً بالعلم ، أو عالماً بذاته ، وبكونه مرئياً أو غير مرئي ، لا يكون داخلاً في مسمى الإيمان .
القول الثاني : أن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان معاً ، وهو قول بشر بن غياث المَرِيسِي ، وأبي الحسن الأشعري ، والمراد من التصديق بالقلب الكَلاَم القائم بالنفس .
الفرقة الثالثة الذين قالوا : الإيمان عبارة عن عمل القلب فقط ، وهؤلاء اختلفوا على قولين :
أحدهما : أن الإيمان معرفة الله بالقَلْبِ ، حتى إن من عرف الله بقلبه ، ثم جحد بلسانه ومات قبل أن يُقرَّ بِهِ فهو مؤمن كامل الإيمان ، وهو قول جهم بن صَفْوَان .
وأما معرفة الكتب والرسل واليوم الآخر فقد زعم أنها غير داخلةٍ في حَدّ الإيمان .
وحكى الكعبي عنه : أنّ الإيمان معرفة الله مع معرفة كلّ ما علم بالضَّرورة كونه من دين محمد .
ثانيهما : أنّ الإيمان مُجَرَّد التصديق بالقَلب ، وهو قول الحسين بن الفَضْلِ البَجَلي .
الفرقة الرابعة الذين قالوا : الإيمان هو الإقرار باللسان فقط ، وهم فريقان :
الأول : أن الإقرار باللسان هو الإيمان فقط ، لكن شرط كونه إيماناً حصول المعرفة في القلب ، فالمعرفة شرط لكونه الإقرار اللساني إيماناً ، لا أنها داخلةٌ في مسمى الإيمان ، وهو قول غيلان بن مسلم الدّمشقي ، والفضل الرقاشي ، وإن كان الكعبي قد أنكر كونه ل « غيلان » .
الثاني : أن الإيمان مجرد الإقرار باللسان ، وهو قول الكرامية ، وزعموا أن المُنَافقمؤمن الظاهر كافر السريرة ، فثبت له حكم المؤمنين في الدنيا ، وحكم الكافرين في الآخرة ، فهذا مجموع أقوال الناس في مسمى الإيمان في عرف الشرع .
و « بالغيب » متعلّق ب « يؤمنون » ، ويكون مصدراً واقعاً موقع اسم الفاعل ، أو اسم المفعول ، وفي هذا الثاني نظر؛ لأنه من « غاب » وهو لازم ، فكيف يبنى منه اسم مفعول من « فَعَّلَ » مضعفاً متعدياً ، أي : المُغَيَّب ، وفيه بعد . وقال الزمخشري : يجوز أن يكون مخففاً من « فَيْعِل » نحو : « هَيِّن » من « هَيْن » ، و « مَيِّت » من « مَيْت » . وفيه نظر؛ لأنه لا ينبغي أن يدعى ذلك فيه حتى يسمع مثقلاً كنظائره ، فإنها سمعت مخفَّفةً ومثقلةً ، ويبعد أن يقال : التزم التخفيف في هذا خاصّة . ويجوز أن تكون « الباء » للحال فيتعلّق بمحذوف أي : يؤمنون متلبسين بالغيب عن المؤمن به ، و « الغيب » حينئذ مصدر على بابه .
فصل في معنى « يؤمنون بالغيب »
في قوله « يؤمنون بالغيب » قولان :
الأول : قول أبي مسلم الأصفهاني أن قوله : « يؤمنون بالغيب » صفة المؤمنين معناه : أنهم يؤمنون بالله حال الغيبة كما يؤمنون به حال الحضور ، لا كالمنافقين الذين « إِذَا لَقُوا الَّذِيْنَ آمَنُوا ، آمَنَّ : وَإذَا خَلوا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا : إِنَّا مَعَكُمْ » .
نظيره قوله : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } [ يوسف : 52 ] ، وذلك مدح للمؤمنين بأن ظاهرهم موافق لباطنهم ومباين لحال المُنَافقين .
الثاني : وهو قول جمهور المُفَسّرين أن الغيب هو الَّذي يكون غائباً عن الحاسّة ، ثم هذا الغيب ينقسم إلى ما هو عليه دليل ، وإلى ما ليس عليه دليل .
فالمراد من هذه الآية مدح المتقين بأنهم يؤمنون بالغَيْبِ الذي دل عليه بأن يتفكروا ، ويستدلوا فيؤمنوا به ، وعلى هذا يدخل فيه العلم بالله -تعالى- وبصفاته والعلم بالآخرة ، والعلم بالنبوة ، والعلم بالأحكام بالشرائع ، فإن في تحصيل هذه العلوم بالاستدلال مشقّة يصلح أن يكون سبباً لاستحقاق الثَّنَاء العظيم .
واحتج أبو مسلم بأمور :
الأول : أن قوله : { والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ } [ البقرة : 4 ] إيمان بالأشياء الغائبة ، فلو كان المراد من قوله : « الَّذِين يُؤْمِنُونَ بالْغَيْبِ » هو الإيمان بالأشياء الغائبة لكان المعطوف نفس المعطوف عليه ، وهو غير جائز .
الثاني : لو حملناه على الإيمان بالغيب يلزم إطلاق القول بأن الإنسان يعلم الغيب ، وهو خلاف قوله تعالى : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } [ الأنعام : 59 ] وكذا سائر الآيات الباقية تدلّ على كون الإنسان عالماً بالغيب . أما على قولنا فلا يلزم هذا المحذور .
الثالث : لفظ « الغيب » إنما يجوز إطلاقه على من يجوز الحُضُور ، فعلى هذا لا يجوز إطلاق لفظ الغيب على ذات الله -تعالى- وصفاته ، فقوله : « الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ » لو كان المراد منه الإيمان بالغيب لما دخل فيه الإيمان بذت الله وصفاته ، ولا ينبغي فيه الإيمان بالآخرة ، وذلك غَيْرُ جائز؛ لأن الركن الأعظم هو الإيمان بذات الله وصفاته ، فكيف يجوز حمل اللّفظ على معنى يقتضي خروج الأصل؟
أما على قولنا فلا يلزم خذا المحذور .
والجواب عن الأول : أن قوله : « يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ » الإيمان بالغائبات على الإجمال ، ثم إن قوله بعد ذلك : « وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ » يتناول الإيمان ببعض الغائبات ، فكان هذا من باب عَطْفِ التَّفصيل على الجملة ، وهو جائز كقوله : { وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } [ البقرة : 98 ] .
وعن الثاني : لا نزاع في أننا نؤمن بالأشياء الغائبة عنَّا ، فكان ذلك التخصيص لازماً على الوجهين جميعاً .
فإن قيل : أفتقولون : العبد يعلم الغيب أم لا؟
قلنا : قد بينا أن الغيب ينقسم إلى ما عليه دليل ، وإلى ما لا دليل عليه .
أما الذي عليه دليل فلا يمتنع أن نقول : نعلم من الغيب ما لنا عليه دليل ، وعلى هذا الوجه قال العلماء : الاستدلال بالشاهد على الغائب أحد أقسام الأدلة .
وعن الثالث : لا نسلّم أن لفظ الغيبة لا يستعمل إلاَّ فيما يجوز عليه الحُضُور ، والدَّليل على ذلك أنّ المتكلمين يقولون هذا من باب إلحاق الغائب بالشَّاهد ، ويريدون بالغائب ذات الله تعالى وصفاته ، والله أعلم .
واختلفوا في المراد ب « الغيب » .
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : « الغيب -ها هنا- كل ما أمرت بالإيمان به فيما غاب عن بصرك مثل : الملائكة والبَعْث والجَنّة والنَّار والصِّراط والمِيزَان » .
وقيل : الغيب هاهنا هو الله تعالى .
وقيل : القرآن .
وقال الحسن : الآخرة .
وقال زرُّ بن حبيش ، وابن جريج : بالوحي .
ونظيره : { أَعِندَهُ عِلْمُ الغيب } [ النجم : 35 ] قال ابن كيسان : بالقدر .
وقال عبد الرحمن بن يزيد : كنا عند عبد الله بن مَسْعُودٍ ، فذكرنا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما سبقوا به ، فقال عبد الله : إن أمر محمدا كان بيناً لمن رآه ، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قطّ أفضل من إيمان الكتب ، ثم قرأ : « الم ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ » إلى قوله « المفلحون » .
وقال بعض الشيعة : المراد بالغيب المَهْدي المنتظر .
قال ابن الخطيب : « وتخصص المطلق من غير دليل باطل » .
قرأ أبو جعفر ، وأبو عمرو وورش : « يُؤمِنُونَ » ، بترك الهمزة .
ولذلك يترك أبو جعفر كل همزة ساكنة إلاّ في { أَنبِئْهُمْ } [ البقرة : 33 ] ، و { يُنَبِّئُهُمُ } [ المائدة : 14 ] ، و { نَبِّئْنَا } [ يوسف : 36 ] .
ويترك أبو عمرو كلها ، إلا أن يكون علامةً للجزم نحو :
{
وَنَبِّئْهُمْ } [ الحجر : 51 ] ، « وأَنبئْهُمْ » ، و { تَسُؤْهُمْ } [ آل عمران : 120 ] ، و { إِن نَّشَأْ } [ الشعراء : 4 ] ونحوها ، أو يكون خروجاً من لُغَةٍ إلى أخرى نحو : { مُّؤْصَدَةُ } [ البلد : 20 ] ، و { وَرِءْياً } [ مريم : 74 ] .
ويترك ورش كلّ همزة ساكنة كانت « فاء » الفعل ، إلا { وتؤويا } [ الأحزاب : 51 ] و { تُؤْوِيهِ } [ المعارج : 13 ] ، ولا يترك من عين الفعل إلا { الرؤيا } [ الإسراء : 60 ] وبابه ، أو ما كان على وزن « فعل » . و « يقيمون » عطف على « يؤمنون » فهو صلةٌ وعائد .
وأصله : يؤقومون حذفت همزة « أفعل » ؛ لوقوعها بعد حرف المُضّارعة كما تقدم فصار : يقومون ، فاستثقلت الكسرة على الواو ، ففعل فيه ما فعل في « مستقيم » ، وقد تقدم في الفاتحة . ومعنى « يقيمون » : يديمون ، أو يظهرون ، قال تعالى : { على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ } [ المعارج : 23 ] وقال الشاعر : [ الوافر ]
120-
أَقْمَنَا لأَهْلِ العِرَاقَيْنِ سُوقَ البطْ ... طِعَانِ فَخَامُوا وَوَلَّوْا جَمِعا
وقال آخر : [ الكامل ]
121-
وَإِذَا يُقَالُ : أَتَيْتُمُ لَمْ يَبْرَحُوا ... حَتَّى تُقِيْمَ الخَيْلُ سُوقُ طِعَانٍ
من قامت السّوق : إذا أنفقت؛ لأنها إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق الذي تتوجّه إليه الرغبات ، وإذا أضيفت كانت كالشّيء الكاسد الذي لا يرغب فيه . أو يكون عبارة عن تعديل أركانها ، وحفظها من أن يقع خَلَل في فرائضها وسُننها ، أو يكون من قام بالأمر ، وقامت الحرب على ساق .
وفي ضده : قعد عن الأمر ، وتقاعد عنه : إذا تقاعس وتثبط ، فعلى هذا يكون عبارة عن التجرُّد لأدائها ، وألاّ يكون في تأديتها فُتُور ، أو يكون عبارةً عن أدائها ، وإنما عبر عن الأداء بالإقامة؛ لأن القيام ببعض أركانها كما عبر عنه بالقنوت . وذكر الصّلاة بلفظ الواحد ، وأن المراد بها الخمس كقوله تعالى : { فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق } [ البقرة : 213 ] يعني : الكتب .
و « الصّلاة » مفعول به ، ووزنها : « فَعضلَة » ، ولامها واو ، لقولهم : صَلَوات ، وإنما تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً ، واشتقاقها من : « الصَّلَوَيْنِ » وهما عِرْقَان في الوِرْكَيْنِ مفترقان من « الصّلاَ » ، وهو عِرْق مُسْتَبْطِنٌ في الظهر منه يتفرق الصَّلَوان عند عَجَبِ الذَّنْبِ ، وذلك أن المصلّي يحرك صَلَوَيْهِ ، ومنه « المُصَلِّي » في حَلَبَةِ السِّباق لمجيئه ثانياً عند « صَلَوَي » السابق . ذكره الزَّمخشري .
قال ابن الخطيب : وهذا يفضي إلى طَعْنٍ عظيم في كون القرآن حُجّة؛ وذلك لأن لفظ « الصلاة » من أشدّ الألفاظ شهرة ، وأكثرها درواناً على ألسنة المسلمين ، واشتقاقه من تحريك الصّلوين من أبعد الأشياء اشتهاراًَ فيما بين أهل النقل ، ولو جوزنا أن [ يقال ] : مسمى الصلاة في الأصل ما ذكره ، ثم إنه خفي واندرس حتى صار بحيث لا يعرفه إلاّ الآحاد لكان مثله في سائر الألفاظ جائزاً ، ولو جوزنا ذلك لما قطعنا بأن مراد الله -تعالى- من هذه الألفاظ ما تتبادر أفهامنا إليه من المَعَاني في زماننا هذا ، لاحتمال أنها كانت في زمن الرسول موضوعة لمعانٍ أخر ، وكان مراد الله -تعالى- تلك المعان ] ، إلاّ أن تلك المعاني خَفِيت في زماننا ، واندرست كما وقع مثله في هذه اللَّفظة ، فلما كان ذلك باطلاً بإجماع المسلمين علمنا أن الاشتقاق الذي ذكره مردود باطل .
وأجيب عن هذا الإشكال بأن بعثة محمد -عليه الصلاة والسلام- بالإسلام ، وتجديد الشريعة أمر طبق الآفاق ، ولا شَكّ أنه وضع عبارات ، فاحتاج إلى وضع ألفاظ ، ونقل ألفاظ عمّا كانت عليه ، والتعبير مشهور .
وأما ما ذكره من احتمال التعبير فلا دليل عليه ، ولا ضرورة إلى تقديره فافترقا .
و « الصَّلاة » لغة : الدّعاءُ : [ ومنه قول الشاعر ] [ البسيط ]
122-
تَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ قَرَّبْتُ مُرْتَحلاً ... يَا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الأَوْصَابَ وَالوَجَعَا
فَعَلَيكِ مِثْلُ الَّذي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي ... يَوماً فَإِنَّ لجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجِعاً
أي : مثل الَّذي دعوت ، ومثله : [ الطويل ]
123-
لَهَا حَارِسٌ لاَ يَبْرَحُ الدَّهْرَ بَيْتَهَا ... وإِن ذُبِحَتْ صَلَّى عَلَيْهَا وَزَمْزَمَا
وفي الشرع : هذه العبادة المعروفة .
وقيل : هي مأخوذة من اللزوم ، ومنه : « صَلِيَ بِالنَّارِ » أي : لزمها ، ومنه قوله تعالى : { تصلى نَاراً حَامِيَةً } [ الغاشية : 4 ] قال : [ الخفيف ]
124-
لَمْ أَكُنْ مِنْ جُنَاتِهَا عَلِمَ اللَّ ... هُ وإِنِّي بِحَرِّهَا الْيَومَ صَالِ
وقيل : من صَلَيْتُ العودَ بالنَّار ، أي : قَوَّمْتُهُ بالصَّلاَء -وهو حَرّ النار ، إذا فَتَحْتَ قَصَرْتَ ، وإن كَسَرْتَ مَدَدْتَ ، كأن المصلِّي يُقَوِّم نفسه؛ قال : [ الوافر ]
125-
فَلاَ تَعْجَلْ بِأَمْرِكَ واسْتَدِمْهُ ... فَمَا صَلَّى عَصَاكَ كَمُسْتَدِيمِ
ذكر ذلك الخَارزنجِيّ ، وجماعة أجلّة ، وهو مشكل ، فإن « الصلاة » من ذوات الواو ، وهذا من الياء . وقيل في قوله تعالى : { إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي } [ الأحزاب : 56 ] الآية : إنّ الصّلاة من الله الرحمة ، ومن الملائكة الاسْتِغْفَار ، ومن المؤمنين الدعاء .
{
وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ } مما : جاء ومَجْرور متعلّق ب « ينفقون » و « ينفقون » معطوف على الصّلة قبله ، و « ما » المجرورة تحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون اسماً بمعنى « الذي » ، و « رزقناهم » صِلَتِهَا ، والعائد محذوف .
قال أبو البقاء : « تقديره رزقناهموه ، أو رزقناهم إياه » .
وعلى كل واحد من هذين التقديرين إشكال؛ لأن تقديره متصلاً يلزم منه اتصال الضَّمير مع اتحاد الرُّتبة ، وهو واجب الانفصال ، وتقديره منفصلاً يمنع حذفه؛ لأنَّ العائد متى كان منفصلاً امتنع حذفه ، نصُّوا عليه ، وعللوا بأنه لم يفصل إلا لغرض ، وإذا حذف فاتت الدلالة على ذلك الغرض .
ويمكن أن يجاب عن الأوّل بأنه لما اختلف الضَّميران جمعاً وإفراداً -وإن اتحدا رتبةً- جاز اتصاله؛ ويكون كقوله : [ الطويل ]
126-
فَقَدْ جَعَلَتْ نَفْسِي تَطِيبُ لِضَغْمَةٍ ... لِضَغْمِهمَاهَا يَقْرَعُ الْعَظْمَ نَابُهَا
وأيضاً فإنه لا يلزم من منع ذلك ملفوظاً به منعه مقدّراً لزوال القُبْحِ اللفظي .
وعن الثَّاني : بأنه إنما يمنع لأجل اللَّبْسِ موصوفةً ، والكلام في عائدها كالكلام في عائدها موصولةً تقديراً واعتراضاً وجواباً .
الثَّالث : أن تكون مصدريةً ، ويكون المصدر واقعاً موقع المفعول أي : مرزوقاً .
وقد منع أبو البقاء هذا الوَجْهَ قال : « لأنَّ الفعل لا يتفق » ، وجوابه ما تقدّم من أنّ المصدر يراد يه المفعول . والرزق لغة : العَطَاء ، وهو مصدر؛ قال تعالى : { وَمَن رزقناه مِنَّا رِزْقاً حَسَناً } [ النحل : 75 ] وقال الشَّاعر : [ البسيط ]
127-
رُزِقْتَ مَلاً وَلَمْ تُرْزَقْ مَنَافِعَهُ ... إِنَّ الشَّقِيَّ هُوَ الْمَحْرُومُ مَا رُزِقَا
وقيل : يجوز أن يكون « فِعْلاً » بمعنى « مفعول » نحو : « ذِبْح » ، و « رِعْي » بمعنى : « مَذْبوح » ، و « مَرْعيّ » .
وقيل : « الرِّزْق » -بالفتح- مصدر ، وبالكسر اسم ، وهو في لغة أزد شنوءة : الشّكر ، ومنه : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [ الواقعة : 82 ] .
وقال بعضهم : ويدخل فيه كل ما ينتفع به حتى الولد والعَبْد .
وقيل : هو نصيب الرجل ، وما هو خاص له دون غيره .
ثم قال بعضهم الرزق كل شيء يؤكل أو يستعمل ، وهو باطل؛ لأن الله -تعالى- أمرنا بأن ننفق مما رزقنا فقال : { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا } [ المنافقون : 10 ] ، فلو كان الرزق هو الذي يؤكل لما أمكن إنفاقه .
وقال آخرون : الرزق هو ما يملك وهو باطل أيضاً؛ لأن الإنسان قد يقول : اللهم ارزقني ولداً صالحاً ، أو زوجة صالحة ، وهو لا يملك الولد ولا الزَّوجة ، ويقول : اللَّهم أرزقني عقلاً أعيش به ، والعقل لي بمملوك ، وأيضاً البهيمة يحصل له رزقٌ ولا يكون لها ملك . وأما في عُرف الشَّرع فقد اختلفوا فيه ، فقال أبو الحَسَنِ البَصْرِي : الرزق تمكين الحَيَوَان من الانتفاعِ بالشيء ، والحظر على غيره أن يمنعه من الانتفاع به .
فإذا قلنا : قد رزقنا الله الأموال ، فمعنى ذلك أنه مَكَّننا بها من الانتفاع بها ، وإذا سألنا -تعالى- أن يرزقنا مالاً فإنا لا نقصد بذلك أن يجعلنا بالمال أخصّ .
واعلم أن المعتزلة لما فسّروا الرزق بذلك لا جَرَمَ قالوا : الحرام لا يكون رزقاً . وقال أصحابنا : الحرام قد يكون رزقاً .
قال ابن الخطيب : حُجّة الأصحاب من وجهين :
الأول : أنّ الرزق في أصل اللغة هو الحظ والنصيب على ما بيناه ، فمن انتفع بالحرام ، فذلك الحرام صار حظَّا ونصيباً ، فوجب أن يكون رزقاً له .
الثَّاني : أنه تعالى قال : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا } [ هود : 6 ] ، وقد يعيش الرجل طول عمره لا يأكل إلا من السّرقة ، فوجب أن يقال : إنه طول عمره لم يأكل من رزق شيئاً .
أما المعتزلة : فقد احتجُّوا بالكتاب ، والسُّنة ، والمعنى :
أما الكتاب فوجوه :
أحدها : قوله تعالى : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] مدحهم على الإنفاق مما رزقهم الله تعالى فلو كان الحرام رزقاً لوجب أن يستحقوا المدح إذا أنفقوا من الحرام ، وذلك باطل بالاتفاق .
ثانياً : لو كان الحرام رزقاً لجاز أن ينفق الغاصب منه ، لقوله تعالى : { مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ } [ المنافقون : 10 ] ، وأجمع المسلمون على أنَّهُ لا يجوز للغاصب أن ينفق [ مما أخذه ] ، بل يجب رَدّه ، فدلّ على أنَّ الحرام لا يكون رزقاً .
ثالثها : قوله تَعَالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ } [ يونس : 59 ] فبين أن من حرم رزق الله ، فهو مُفْتَرٍ على الله ، فثبت أن الحرام لا يكون رزقاً .
وأما السُّنة فما رواه أبو الحسين في كتاب « الفرائض » بإسناده عن صفوان بن أمية قال : « كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذْ جاءه عمرو بن مُرَّةَ فقال له : يا رسول الله إنّ الله كتب عليَّ الشّقْوة ، فلا أُرَانِي أُرْزقَ من دُفِّي بِكَفِّي ، فائذن لي في الغناء من غير فَاحِشَةٍ . فقال عليه الصّلاة والسلام : » لا آذَنَ لَكَ ولا كَرَاهة ولا نعْمة كَذَبت أي عَدُوّ الله لقد رزقك الله [ رزقاً ] طيباً فاخترت ما حَرَّمَ الله عليك من رِزْقِهِ على ما أَحَلّ الله لك من حَلاَلِهِ ، أَمَا لو قُلْتَ بعد هَذِهِ المقدّمة شيئاً ضَرَبْتُكَ ضرباً وجيعاً « .
وأما المعنى فإنَّ الله -تَعَالَى- منع المكلّف من الانتفاع بهن وأمر غيره بمنعه من الانتفاع به ، ومن منع من أخذ الشيء والانتفاع به لا يقال : إنه رزقه إياه ، ألا ترى أنه لا يقال : إن السلطان قد رزق جنده مالاً قد منعهم من أخذه ، وإنما يقال : إنه رزقهم ما مكَّنهم من أخذه ، ولا يمنعهم منه ، ولا أمر بمنعهم منه .
وأجاب أصحابنا عن التمسُّك بالآيات بأنه كان الكلّ من الله ، فإنه لا يُضَاف إليه ذلك؛ لما فيه من سُوءِ الأدب ، كما يقال : يا خالق المحدثات والعرش والكرسي ، ولا يقال : يا خالق الكِلاَب والخَنَازير ، وقال : { يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله } [ الإنسان : 6 ] فخصّ اسم العباد بالمتّقين ، وإن كان الكُفَّار أيضاً من العباد ، وكلك هاهنا خصّ اسم الرزق بالحلال على سبيل التشريف ، وإن كان الحرام رزقاً أيضاً .
وأجابوا عن التمسُّك بالخبر بأنه حُجَّة لنا؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام : » فَاخْتَرْتَ ما حَرَّمَ اللهُ عليك من رِزْقِه « صريح في أن الرزق قد يكون حراماً .
وأجابوا عن المعنى بأن هذه المسألة مَحْضُ اللغة ، وهو أن الحرام هل يسمى رزقاً أم لا؟ ولا مجال للدلائل العقلية في الألفاظ ، والله أعلم .
و » نفقط الشيء : نفد ، وكلّ ما جاء مما فاؤه نون ، وعينه فاء ، فدالّ على معنى ونحو ذلك إذا تأملت ، قاله الزمخشري ، وذلك نحو : نَفِدَ نَفَقَ نَفَرَ « نفذ » « نَفَشَ » « نَفَحَ » « نفخ » « نفض » « نفل » .
و « نفق » الشيء بالبيع نَفَاقاً ونَفَقَتِ الدابة : ماتت نُفُوقاً ، والنفقة : اسم المُنْفَق .
فصل في معاني « من »
و « من » هنا لابتداء الغاية .
وقيل : للتبعيض ، ولها معانٍ أخر :
بيان الجنس :
{
فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] .
والتعليل : { يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق } [ البقرة : 19 ] .
والبدل : { بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة } [ التوبة : 38 ] .
والمُجَاوزة : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ } [ آل عمران : 121 ] .
وانتهاء الغاية : « قربت منه » .
والاستعلاء { وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم } [ الأنبياء : 77 ] .
والفصل : { يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح } [ البقرة : 220 ] .
وموافقة « الباء » { يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ } [ الشورى : 45 ] ، { مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض } [ فاطر : 40 ] .
والزيادة باطّراد ، وذلك بشرطين كون المجرور نكرة والكلام غير موجب . واشترط الكوفيون التنكير فقط ، ولم يشترط الأخفش شيئاً . و « الهمزة » في « أنفق » للتَّعدية ، وحذفت من « ينفقون » لما تقدم في « يؤمنون » .
فصل في قوله تعالى « ومما رزقناهم ينفقون »
قال ابن الخَطِيبْ : في قوله : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } فوائد :
إحداها : أدخل « من » للتبعيض نهياً لهم عن الإسراف والتَّبذير المنهي عنه .
وثانيها : قدم مفعول الفعل دلالة على كونه أهَمّ ، كأنه قال : يخصّون بعض المال بالتصدق به .
وثالثها : يدخل في الإنفاق المذكور في الآية ، الإنفاق الواجب ، والإنفاق المندوب ، والإنفاق الواجب أقسام :
أحدها : الزكاة وهي قوله تعالى : { يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا } [ التوبة : 34 ] .
وثانيها : الإنفاق على النفس ، وعلى من تجب عليه نفقته .
وثالثها : الإنفاق في الجهاد . وأما الإنفاق المندوب فهو أيضاً إنفاق لقوله تعالى : { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ } [ المنافقون : 10 ] ، وأراد به الصدقة؛ لقوله بعد : { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين } [ المنافقون : 10 ] فكل هذه داخلةٌ تحت الآية ، لأن كل ذلك سبب لاستحقاق المدح .
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
«
والَّذِين » عطف على « الذين » قبلها ، ثم لك اعتباران :
أحدهما : أن يكون من باب عطف بعض الصفات على بعض كقوله : [ المتقارب ]
128-
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وابْنِ الْهُمَامِ وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمْ وقوله : [ السريع ]
129-
يَا وَيْحَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ الصْ ... صَابِحِ فَالغَانِمِ فَالآيِبِ
يعني : أنهم جامعون بين هذه الأوصاف إن قيل : إن المراد بها واحد .
والثاني : أن يكونوا غيرهم .
وعلى كلا القولين ، فيحكم على موضعه بما حكم على موضع « الَّذِين » المتقدمة من الإعراب رفعاً ونصباً وجرًّا قطعاً وإتباعاً كما مر تفصيله .
ويجوز أن يكون عطفاً على « المتقين » ، وأن يكون مبتدأ خبره « أولئك » ، وما بعدها إن قيل : إنهم غير « الذين » الأولى . و « يؤمنون » صلة وعائد .
و « بما أنزل » متعلّق به و « ما » موصولة اسمية ، و « أنزل » صلتها ، وهو فعل مبني للمفعول ، لعائد هو الضَّمير القائم مقام الفاعل ، ويضعف أن يكون نكرة موصوفة وقد منع أبو البقاء ذلك قال : لأن النكرة الموصوفة لا عموم فيها ، ولا يكمل الإيمان إلا بجميع ما أنزل .
و « إليك » متعلّق ب « أنزل » ، ومعنى « إلى » انتهاء الغاية ، ولها معان أخر :
المُصَاحبة : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ] .
والتبيين : { رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ } [ يوسف : 33 ] .
وموافقة اللام و « في » و « من » : { والأمر إِلَيْكِ } [ النمل : 33 ] أي : لك .
وقال النابغة : [ الطويل ]
130-
فَلاَ تَتْرُكَنِّي بِالوَعِيدِ كَأَنِّنِي ... إِلى النَّاسِ مَطْلِيٌّ بِهِ الْقَارُ أَجْرَبُ
وقال الآخر : [ الطويل ]
131- . ...
أَيُسْقَى فَلاَ يُرْوَى إِلَيَّ ابْنُ أَحْمَرَا
أي : لا يروى منّي ، وقد تزاد؛ قرىء : « تَهْوَى إليهم » [ إبراهيم : 37 ] بفتح الواو .
و « الكاف » في محل جر ، وهي ضمير المُخَاطب ، ويتّصل بها ما يدل على التثنية والجمع تذكيراً وتأنيثاً ك « تاء » المُخَاطب .
ويترك أبو جعفر ، وابن كثير ، وقالون ، وأبو عمرو ، ويعقوب كل مَدّة تقع بين كلمتين ، والآخرون يمدونها .
و « النزول » الوصول والحلول من غير اشتراط عُلُوّ ، قال تعالى : { فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ } [ الصافات : 177 ] أي حلّ ووصل .
قال ابن الخطيب : والمراد من إنزال الوَحْي ، وكون القرآن منزلاً ، ومنزولاً به -أن جبريل سمع في السماء كلام الله -تعالى- فنزل على الرسول به ، كما يقال : نزلت رسالة الأمير من القَصْر ، والرسالة لا تنزل ولكن المستمع يسمع الرسالة من عُلوّ ، فينزل ويؤدي في سفل ، وقول الأمير لا يُفَارق ذاته ، ولكن السامع يسمع فينزل ، ويؤدي بلفظ نفسه ، ويقال : فلان ينقل الكلام إذا سمع وحدث به في موضع آخر .
فإن قيل : كيف سمع جبريل كلام الله تعالى؛ وكلامه ليس من الحروف والأصوات عندكم؟ قلنا : يحتمل أن يخلق الله -تعالى- له سمعاً لكلامه ، ثم أقدره على عبارة يعبر بها عن ذلك الكلام القديم ، ويجوز أن يكون الله -تعالى- خلق في اللَّوح المحفوظ كتابةً بهذا النظم المخصوص ، فقرأه جبريل -عليه السلام- فحفظه ، ويجوز أن يخلق الله أصواتاً مقطّعة بهذا النظم المخصوص في جسم مخصوص ، فيتلقّفه جبريل -عليه السلام- ويخلق له علماً ضرورياً بأنه هو العبارة المؤدّية لكعنى ذلك الكلام القديم .
فصل في معنى فلان آمن بكذا
قال ابن الخطيب : لا نزاع بين أصحابنا وبين المعتزلة في أن الإيمان إذا عدّى ب « الباء » فالمراد منه التصديق .
فإذا قلنا : فلان آمن بكذا ، فالمراد أنه صدق به ، فلا يكون المراد منه أنه صام وصلى ، فالمراد بالإيمان -هاهنا- التصديق ، لكن لا بُدّ معه من المعرفة؛ لأن الإيمان -هاهنا- خرج مخرج المدح ، والمصدق مع الشّك لا يأمن أن يكون كاذباً ، فهو إلى الذَّم أقرب .
و « ما » الثانية وَصِلَتُهَا عطف « ما » الأولى قبلها ، والكلام عليها وعلى صِلَتِهَا كالكلام على « ما » التي قبلها ، فتأمله .
واعلم أن قوله : « الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ » عام يتناول كل من آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام ، سواء كان قبل ذلك مؤمناً بموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، أو لم يكن مؤمناً بهما ، ثم ذكر بعد ذلك هذه الآية وهي قوله : { والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } [ البقرة : 4 ] يعني : التوراة والإنجيل؛ لأن في هذا التخصيص مزيد تشريف لهم كما في قوله : { وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] ، ثم في تخصيص عبد الله بن سلام ، وأمثاله بهذا التشريف ترغيبٌ لأمثاله في الدِّين ، فهذا هو السبب في ذكر هذا الخاص بعد ذكر العام .
و « من قبلك » متعلّق ب « أنزل » ، و « من » لابتداء الغاية ، و « قبل » ظرف زمان يقتضي التقدم ، وهو نقيض « بعد » ، وكلاهما متى نُكّر ، أو أضيف أعرب ، ومتى قطع عن الإضافة لفظاً ، وأريدت معنى بني على الضم ، فمن الإعراب قوله : [ الوافر ]
132-
فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ وَكُنْتُ قَبْلاً ... أَكَادُ أَغَصُّ بِالمَاءِ الْقَرَاحِ
وقال الآخر : [ الطويل ]
133-
وَنَحْنُ قَتَلْنَا الأُسْدَ أُسْدَ خَفِيَّةٍ ... فَمَا شَرِبُوا بَعْدَاً عَلَى لذَّةٍ خَمْراً
ومن البناء قوله تعالى : { لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } [ الروم : 4 ] وزعم بعضهم أن « قبل » في الأصل وصف نَابَ عن موصوفه لزوماً .
فإذا قلت : « قمت قبل زيد » فالتقدير : قمت [ زماناً قبل زمان قيام زيد ، فحذف هذا كله ، وناب عنه قبل زيد ] ، وفيه نظر لا يخفى على متأمله .
واعلم أن حكم « فوق وتحت وعلى وأول » حكم « قبل وبعد » فيما تقدّم .
وقرىء : « بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ » مينياً للفاعل ، وهو الله -تعالى- أو جبريل ، وقرىء أيضاً : « بِمَا أُنْزِلّ لَيْكَ » بتشديد اللام ، وتوجيهه أن يكون سكن آخر الفعل كما يكنه الأخر في قوله : [ الرمل ]
134-
إِنَّمَا شِعْرِيَ مِلْحٌ قدْ خُلِطَ بِجُلْجُلاَنِ ... بتسكين « خُلط » ثم حذف همزة « إليك » ، فالتقى مِثْلاَن ، فأدغم لامه .
و « بالأخرة » متعلّق ب « يوقنون » ، و « يوقنون
»
خبر عن « هم » ، وقدّم المجرور؛ للاهتمام به كما قدم المنفق في قوله : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] لذلك ، وهذه جملة اسمية عطفت على الجملة الفعلية قبلها فهي صلةٌ أيضاً ، ولكنه جاء بالجملة هنا من مبتدأ وخبر لخلاف : « وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ » ؛ لأن وصفهم بالإيقان بالآخرة أوقع من وصفهم بالإنفاق من الرزق ، فناسب التأكيد بمجيء الجملة الاسمية ، أو لئلا يتكرّر اللفظ لو قيل : « ومما رزقناكم هم ينفقون » .
والمراد من الآخرة : الدَّار الآخرة ، وسميت الآخرة آخرة ، لتأخرها وكونها بعد فناء الدنيا . والآخرة تأنيث آخر مقابل ل « أول » ، وهي صفة في الأصل جرت مجرى الأسماء ، والتقدير : الدار الآخرة ، والنشأة الآخرة ، وقد صرح بهذين الموصوفين ، قال تعالى : { وَلَلدَّارُ الآخرة خَيْرٌ } [ الأنعام : 32 ] وقال : { ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة الآخرة } [ العنكبوت : 20 ] .
و « يوقنون » من أيقن بمعنى : استيقن ، وقد تقدّم أن « أفعل » [ يأتي ] بمعنى : « استفعل » أي : يستيقنون أنها كائنة ، من الإيقان وهو العلم .
وقيل : اليقين هو العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكًّا فيه ، فلذلك لا تقول : تيقّنت وجود نفسي ، وتيقنت أن السماء فوقي ، ويقال ذلك في العلم الحادث ، سواء أكان ذلك العلم ضرورياً أو استدلالياً .
وقيل : الإيقان واليقين علم من استدلال ، ولذلك لا يسمى الله موقناً ولا علمه يقيناً ، إذ ليس علمه عن استدلال .
وقرىء : « يُؤْقِنُون » بهمز الواو ، وكأنهم جعلوا ضمّة الياء على الواو لأن حركة الحرف بين بين ، والواو المضمومة يطرد قبلها همزة بشروط :
منها ألاّ تكون الحركة عارضة ، وألاّ يمكن تخيفها ، وألاّ يكون مدغماً فيها ، وألاّ تكون زائدة؛ على خلاف في هذا الأخير ، وسيأتي أمثلة ذلك في سورة « آل عمران » عند قوله : { وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ } [ آل عمران : 153 ] ، فأجروا الواو السَّاكنة المضموم ما قبلها مُجْرَى المضمومة نفسها؛ لما ذكرت لك ، ومثل هذه القراءة قراءةُ قُنْبُلٍ « بالسُّؤْقِ » [ ص : 33 ] و « على سُؤْقِهِ » [ الفتح : 29 ] وقال الشاعر : [ الوافر ]
135-
أَحَبُّ المُؤْقِدَيْنِ إِلَيَّ مُؤْسَى ... وَجَعْدَةُ إِذْ أَضَاءَهُمَا الْوَقُودُ
بهمز « المؤقدين » .
وجاء بالأفعال الخمسة بصيغة المضارع دلالة على التجدُّد والحدوث ، وأنهم كل وقت يفعلون ذلك .
وجاء ب « أنزل » ماضياً ، وإن كان إيمانهم قبل تمام نزوله تغليباً للحاضر المنزول على ما لم ينزل؛ لأنه لا بُدّ من وقوع ، فكأنه نزل من باب قوله :
{
أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] ، بل أقرب منه؛ لنزول بعضه .
فصل فيما استحق به المؤمنون المدح
قال ابن الخطيب : إنه -تعالى- مدحهم على كونهم متيقنين بالآخرة ، ومعلوم أنه لا يمدح المرء بتيقّن وجود الآخرة فقط ، بل لا يستحق المدح إلاّ إذا تيقن وجود الآخرة مع ما فيها من الحساب ، والسؤال ، وإدخال المؤمنين الجَنّة ، والكافرين النار .
روي عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال : « يا عجباً كل العَجَب من الشَّاك في الله وهو يرى خَلْقَهُ ، وعجباً ممن يعرف النَّشْأَةَ الأولى ثم ينكر النَّشْأَة الآخرة ، وعجباً ممن ينكر البَعْثَ والنشور ، وهو [ في ] كل يوم وليلة يموت ويَحْيَا -يعني النوم واليقظة- وعجباً ممن يؤمن بالجنّة ، ما فيها من النعيم ، ثم يسعى لدار الغرور؛ وعجباً من المتكبر الفخور ، وهو يعلم أن نطفةٌ مَذِرَةٌ ، وآخره جيفة قَذرة » .
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
«
أولئك » مبتدأ ، خبره الجار والمجرور بعده أي : كائنون على هُدًى ، وهذه الجملة : إما مستأنفة ، وإما خبر عن قوله : الذي يؤمنون إما الأولى وإما الثانية ، ويجوز أن يكون « أولئك » وحده خبراً عن « الذين يؤمنون » أيضاً إما الأولى أو الثانية ، ويكون « على هُدًى » في هذا الوجه في محلّ نصب على الحال ، هذا كله إذا أعربنا « الذين يؤمنون » مبتدأ أما إذا جعلناه غير مبتدأ ، فلا يخفى حكمه مما تقدم .
ويجوز أن يكون « الذين يؤمنون » مبتدأ و « أولئك » بدل أو بَيَان ، و « على هدى » الخبر . و « أولئك » : اسم إشارة يشترك فيه جماعة الذُّكور والإناث ، وهو مبني على الكَسْرِ؛ لشبهة بالحرف في الافتقار .
وقيل : « أولاء » كلمة معناها الكناية عن جماعة نحو : « هم » و « الكاف » للخطاب ، كما في حرف « ذلك » ، وفيه لغتان : المد والقصر : ولكن الممدود للبعيد ، وقد يقال : « أولالك » قال : [ الطويل ]
136-
أُولاَلِكَ قَوْمِي لَمْ يَكُونُوا أُشَابَةَ ... وَهَلْ يَعِظُ الضِّلِّيلَ إِلاَّ أُولاَلِكَا
وعند بعضهم : المقصور للقريب والممدود للمتوسّط ، و « أولالك » للبعيد ، وفيه لغات كثيرة ، وكتبوا « أولئكَ » بزيادة « واو » قبل « اللام » .
قيل : للفرق بينها وبين « إليك » .
و « الهدى » الرشد والبيان والبَصِيرة .
و « مِنْ رَبِّهِمْ » في محل جر صفة ل « هدى » و « مِنْ » لابتداء الغاية ، ونكر « هدى » ليفيد إبهامه التَّعظيم كقوله : [ الطويل ]
137-
فَلاَ وَأَبِي الطَّيْرَ الْمُرِبَّةِ بِالضُّحَى ... عَلَى خَالِدٍ لَقَدْ وَقَعْتُ عَلَى لَحْمِ
وروي « من ربهم » بغير غُنّة ، وهو المشهور ، وبغّنَة ، ويروى على أبي عمرو ، و « أولئك » مبتدأ ، و « هم » مبتدأ ثانٍ ، و « المفلحون » خبره ، والجملة خبر الأول ، ويجوز أن يكون « هم » فصلاً أو بدلاً ، و « المفلحون » الخبر .
وفائدة الفصل : الفرق بين الخبر والتابع ، ولهذا سمي فصلاً ، ويفيد -أيضاً- التوكيد .
قال ابن الخطيب : يفيد فائدتين :
إحداهما : الدلالة على أن « الوارد » بعده خبر لا صفة .
والثاني : حصر الخبر في المبتدأ ، فإنك لو قلت لإنسان ضاحك فهذا لا يفيد أن الضاحكية لا تحصل إلاّ في الإنسان .
وقد تقدم أنه يجوز أن يكون « أولئك » الأولى ، أو الثاّنية خبراً عن « الذين يؤمنون » ، وتقدم تضعيف هذين القولين . وكرر « أولئك » تنبيهاً على أنهم كما ثبت لهم الأثرة بالهدى ثبت لهم بالفلاح ، فجعلت كل واحدة من الإُثْرَتَيْنِ في تميزهم بها عن غيرهم بمثابة لو انفردت لكانت مميزة عن حدّها ، وجاء هنا بالواو بين جملة قوله تعالى :
{
أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون } [ الأعراف : 179 ] لأن الخبرين -هنا- متغايران ، فاقتضى ذلك العطف ، وأما تلك الآية الكريمة ، فإن الخبرين فيها شيء واحد؛ لأن لتسجيل عليهم بالغَفْلَةِ ، وتشبيههم بالأنعام معنى واحد ، فكانت عن العَطْف بمعزل .
قال الزمخشري : وفي اسم الإشارة هو « أولئك » إيذانٌ بأن ما يراد عقبه ، والمذكورين قبله أهل لاكتسابه الخَصَال التي عددت لهم ، كقول حاتم : [ الطويل ]
138-
وَللهِ صُعْلُوكٌ .. . . .
ثم عدَّد له فاضلة ، ثم عقَّب تعديدها بقوله : [ الطويل ]
139-
فَذَلِكَ إِنْ يَهْلِكْ فَحُسْنَى ثَنَاؤُهُ ... وَإِنْ عَاشَ لَمْ يَقْعُدْ ضَعِيفاً مُذَمَّمَاً
و « الفلاح » أصله : الشقُّ؛ ومنه قوله : [ الرجز ]
140-
إّنَّ الحَدِيدَ بِالْحَدِيدِ يُفْلِحُ ... ومنه قول بكر النّطاح : [ الكامل ]
141-
لاَ تَبْعَثَنَّ إِلَى رَبِيعةَ غَيْرَهَا ... إِنَّ الْحَدِيدَ بِغَيْرِهِ لا يُفْلَحُ
ويعبر به عن الفوز ، والظفر بالبغية وهو مقصود الآية؛ ويراد به البقاء قال : [ الرجز ]
142-
لَوْ أَنَّ حَيَّا مُدْرِكُ الفَلاَحِ ... أَدْرَكَهُ مُلاَعِبُ الرِّمَاحِ
وقال : [ الطويل ]
143-
نَحُلُّ بِلاَداً كُلُّهَا حُلَّ قَبْلَنَا ... ونَرْجُو الفَلاَحَ بَعْدَ عَادٍ وَحِمْيَرِ
وقال : [ المنسرح ]
144-
لِكُلٍّ هَمٌّ مِنَ الْهُمُومِ سَعَهْ ... والمْمُسْيُ وَالصُّبْحُ لاَ فَلاَحَ مَعَهُ
والمُفْلج -بالجيم- مثله ، ومعنى التعريف في « المُفْلِحون » الدلالة على أن المتقين هم الناي أي : أنهم الذين إذا حصلت صفةُ المفلحين فهم هم كما تقول لصاحبك : هل عرفت السد ، وما جُبِلَ عليه من فرط الإقدام؟ إن زيداً هو هو .
فصل فيمن احتج بالآية على مذهبه
هذه الاية يتمسّك بها الوعيدية والمُرْجِئة .
أما الوعيديّة فمن وجهين :
الأول : أن قوله : « وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ » يقتضي الحصر ، فوجب فيمن أخل بالصلاة والزكاة أن لا يكون مفلحاً ، وذلك يوجب القطع بوعيد تارك الصَّلاةِ والزكاة .
الثاني : أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم ، فيلزم أن تكون علّة الفلاح في فعل الإيمان والصلاة والزكاة ، فمن أخلّ بهذه الأشياء لم تحصل له علّة الفلاح ، فوجب إلا يحصل الفلاح .
وأما المُرْجئة : فقد احتجّوا بأن الله حكم بالفَلاَح على الموصوفين بالصفات المذكورة في هذه الآية ، فوجب أن يكون الموصوف بهذه الأشياء مفلحاً ، وأن زَنَى وشَرِبَ الخَمْرَ وسَرَقَ ، وإذا ثبت تحقق العفو في هذه الطائفة ثبت في غيرهم ضرورة؛ لأنه لا قائل بالفرق .
قال ابن الخطيب : والجواب أن كل واحد من الاحتجاجيين معارض بالآخر ، فيتساقطان .
والجواب عن قول الوعيدية : أن قوله : « أولئك هم المفلحون » يدل على أنهم الكاملون في الفلاح ، فيلزم أن يكون صاحب الكبيرة غير كامل الفلاح ، ونحن نقول بموجبه ، فإنه كيف يكون كاملاً في الفلاح ، وهو غير جازمٍ بالخلاص من العذاب ، بل يجوز له أن يكون خائفاً .
وعن الثاني : أن نفي السبب لا يقتضي نفي المسبب ، فعندنا من أسباب الفلاح عفو الله تَعَالى .
والجواب عن قول المرجئة : أنّ وصفهم بالتقوى يكفي لنَيْلِ الثواب؛ لأنه يتضمّن اتقاء المعاصي ، واتقاء ترك الواجبات ، والله أعلم .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)
اعلم أن الحروف لا أَصْلَ لها في العمل ، لكن الحروف أشبه الفعل صورة ومعنى ، فاقتضى كونه عاملاً .
أما المُشَابهة في اللفظ فلأنه تركّب من ثلاثة أحرف انفتح آخرها ، ولزمت الأسماء كالأفعال ، وتدخل نون الوقاية نحو « إنّني وكأنّني » كما تدخل على الفعل نحو : « أعطاني وأكرمني » ، وأما المعنى فلأنه يفيد معنى في الاسم ، فلما اشبهت الأفعال وجب أن تشبهها في العمل .
روى ابن الأنباري « أن الكِنْدِيّ » المتفلسف ركب إلى المبرد وقال : إني أجد في كلام العرب حشواً ، أجد العرب تقول : « عبد الله قائم » ، ثم يقولون : « إنَّ عبد الله قائم » ثم يقولون : « إنَّ عبد الله لقائم » .
فقال المبرد : بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ : فقولهم : : عبد الله قائم « إخبار عن قيامه ، وقولهم : » إن عبد الله قائم « جواب عن سؤال سائل ، وقولهم : » إن عبد الله لقائم « جواب عن إنكار منكر لقيامه .
واحتج عبد القاهر على صحّة قوله بأنها إنما تذكر جواباً لسؤال سائلٍ بقوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين } [ الكهف : 83 ] إلى أن قال : { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ } [ الكهف : 84 ] ، وقوله : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ } [ الكهف : 13 ] ، وقوله : { فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي برياء } [ الشعراء : 216 ] .
قال عبد القاهر : والتحقيق أنّها للتأكيد ، فإذا كان الخبر ليس يظنّ المخاطب خلافه لم يحتج إلى » أن « ، وإنما يحتاج إليها إذا ظنّ السامع الخلاف ، فأما دخوله اللاّم معها في جواب المنكر ، فلأن الحاجة إلى التأكيد أشد .
فإن قيل : فلم لا دخلت » اللام « في خبرها في قوله تعالى : { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ } [ المؤمنون : 16 ] ، وأدخل » اللام « في خبرها في قوله قبل ذلك : { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ } [ المؤمنون : 15 ] ، وهم كانوا يتيقنون الموت ، فلا حاجة إلى التأكيد ، فكانوا ينكرون البعث فكانت الحاجة لدخول » اللام « على البعث أشد ليفيد التأكيد .
فالجواب : أن التأكيد حصل أولاًَ بقوله : { خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 12- 14 ] .
فكان ذكر هذه السبع مراتب في خلق الإنسان أبلغُ في التأكيد من دخول » اللام « على خبر » إن « ، وهي تنصب الاسم ، وترفع الخبر خلافاً للكوفيين بأن رفعه بما كان قبل دخولها .
وتقرير الأول أنها لما صارت عاملة فإما أن ترفع المبتدأ أو الخبر معاً ، وتنصبهما معاً ، أو ترفع المبتدأ وتنصب الخبر أو بالعكس والأول باطل؛ لأنهما كانا مرفوعين قبل دخولهما ، فلم يظهر للعمل أثر البتة ، ولأنها أعطيت عمل الفعل ، والفعل لا يرفع الاسمين ، فلا معنى للاشتراك ، والفرع لا يكون أقوى من الأصل .
والثاني -أيضاً- باطل ، لأنه مخالف لعمل الفِعْل ، لأن الفعل لا ينصب شيئاً مع خُلوه عما يرفعه .
والثالث -أيضاً- باطل لأنه يؤدي إلى التسوية بين الأصل والفرع؛ لن الفعل يعمل في الفاعل أولاً بالرفع؛ ثم في المفعول بالنصب ، فلو جعل الحرف هاهنا كذلك لحصلت التسوية بين الأصل والفرع .
ولما بطلت الأقسام الثلاثة تعيّن الرابع ، وهي أنها تنصب الاسم ، وترفع الخبر ، وهذا مما ينبّه على أن هذه الحروف لَيْسَتْ أصلية في العمل؛ لأنّ تقديم المنصوب على المرفوع في باب الفعل عدول عن الأصل .
وتخفّف « إن » فتعمل وتهمل ، ويجوز فيها أن تباشر الأفعال ، لكن النواسخ غالباً تختص بدخول « لام » الابتداء في خبرها ، أو معمولة المقدم عليها ، أو اسمها المؤخّر ، ولا يتقدم خبرها إلا ظرفاً أو مجروراً ، وتختص -أيضاً- بالعَطْفِ على محل اسمها ، ولها ولأخواتها أحكام كثيرة .
و « الذين » اسمها و « كفروا » صلة وعائد ، و « لا يؤمنون » خبرها ، وما بينهما اعتراض ، و « سواء » مبتدأ ، و « أنذرتهم » وما بعده في قوة التًَّأويل بمفرد هو الخبر ، والتقدير : سواء عليهم الإنذار وعدمه ، ولم يحتج هنا إلى رَابِطٍ؛ لأنّ الجملة نفس المبتدأ ، ويجوز أن يكون « سواء » خبراً مقدماً ، و « أنذرتهم » بالتأويل المذكور مبتدأ مؤخر تقديره : الإنذار وعدمه سواء .
قال ابنُ الخَطِيبِ : اتفقوا على أنّ الفِعل لا يخبر عنه؛ لأن قوله : « خرج ضرب » ليس بكلام منتظم ، وقد قدحوا فيه بوجوه :
أحدها : أنَّ قوله : « أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ » فعل ، وقد أخبر عنه بقوله :
سَوَاءٌ عَلِيْهِمْ « ، ونظيره » ثُمَ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوا الآيَات لَّيَسْجُنُنَّهُ « فاعل » بَدَا « هو » يسجننه « .
وثانيها : أن المخبر عنه بأنه فعل لا بد وأن يكون فعلاً ، فالفعل قد أخبر عنه بأنه فعل .
فإن قيل : المخبر عنه بأنه فعل لا بد وأن يكن فعلاً ، فالفعل قد أخبر عنه بأنه فعل .
فإن قيل : المخبر عنه بأنه فعل هو تلك الكلمة ، وتلك الكلمة اسم .
قلنا : فعلى هذا المخبر عنه بأنه فعل إذا لم يكن فعلاً بل اسماً كان هذا الخبر كذباً؛ والتحقيق أن المخبر عنه بأنه فعل إما أن يكون اسماً أو لا يكون ، فإن كان الأول كان هذا الخبر كذباً؛ لأن الاسم لا يكون فعلاً ، وإن كان فعلاً فقد صار الفعل مخبراً عنه .
وثالثها : أنا إذا قلنا : الفعل لا يخبر عنه ، فقد أخبرنا عنه بأنه لا يخبر عنه ، والمخبر عنه بهذا الخبر لو كان اسماً لزم أَنَّا قد أخبرنا عن الاسم بأنه لا يخبر عنه ، وهذا خطأ ، وإن كان فعلاً صار الفعل مخبراً عنه .
ثم قال هؤلاء : لما ثبت أه لا امتناع في الإخبار عن الفعل لم يكن بنا حاجةٌ إلى ترك الظاهر .
أما جمهور النحويين فقالوا : لا يجوز الإخبار عن الفعل ، فلا جرم كان التقدير : سواء عليهم إنذارك وعدمه .
وهذه الجملة يجوز أن تكون معترضة بين اسم « إن » وخبرها ، وهو « لا يؤمنون » كما تقدم ، ويجوز أن تكون هي نفسها خبراً ل « إن » ، وجملة « لا يؤمنون » في محل نصب على الحال ، أو مستأنفة ، أو تكون دعاءً عليهم بعد الإيمان -وهو بعيد- أو تكون خبراً بعد خبر على رأي من يجوز ذلك .
ويجوز أن يكون « سواء » وحده خبر « إن » ، و « أأنذرتهم » وما بعده بالتأويل المذكور في محل رفع بأنه فاعل له ، والتقدير : استوى عندهم الإنذار وعدمه .
و « لا يؤمنون » على ما تقدّم من الأوجه0 أعني : الحال والاستئناف والدعاء والخبرية .
والهمزة في « أأنذرتهم » الأصل فيها الاستفهام ، وهو -هنا- غير مراد ، إذ المراد التسوية ، و « أنذرتهم » فعل وفاعل ومفعول .
و « أم » -هنا- عاطفة وتسمى متصلةً ، ولكونها متصلة شرطان :
أحدهما : أن يتقدمها همزة استفهام أو تسوية لفظاً أو تقديراً .
والثاني : أن يكون ما بعدها مفرداً أو مؤولاً بمفرد كهذه الآية ، فإن الجملة فيها بتأويل مفرد كما تقدم ، وجوابها أحد الشِّيئين أو الأشياء ، ولا تجاب ب « نعم » ولا ب « لا » ، فإن فقد الشرط سميت منقطعة ومنفصلة ، وتقدر ب « بل والهمزة » ، وجوابها « نعم » أو « لا » ولها أحكام أخر .
و « لم » حرف جزم معناه نفي الماضي مطلقاً خلافاً لمن خصَّها بالماضي المنقطع ، ويدلّ على ذلك قوله تعالى : { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً } [ مريم : 4 ] { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } [ الإخلاص : 3 ] . وهذا لا يتصور فيه الانقطاع ، وهي من خواصّ صيغ المضارع إلاّ أنها تجعله ماضياً في المعنى كما تقدم . وهل قلبت اللفظ دون المعنى أو المعنى دون اللفظ؟
قولان : أظهرهما الثاني : وقد يحذف مجزومها كقوله : [ الكامل ]
145-
إِحْفَظْ وَدِيعَتَك الَّتِي اسْتُودِعْتَهَا ... يَوْمَ الأَعَازِبِ ، إِنْ وَصَلْتَ ، وإِنْ لَمِ
و « الكفر » أصله : الستر؛ ومنه : « الليل الكَافِرُ » ؛ قال : [ الرجز ]
146-
فَوَرَدَتْ قَبْلَ انْبِلاَجِ الفَجْرِ ... وَابْنُ ذُكَاءٍ كَامِنٌ فِي كَفْرِ
وقال [ الكامل ]
147-
فَتَذَكَّرَا ثَقَلاً رَثِيداً بَعْدَمَا ... أَلْقَتْ ذُكَاءُ يَمِينَهَا فِي كَافِرِ
والكفر -هنا- الجحود . وقال آخر : [ الكامل ]
148- ..
فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا
قال أبو العباس المقرىء : ورد لفظ « الكفر » في القرآن على أربعة أَضْرُبٍ :
الأول : الكُفْر بمعنى ستر التوحيد وتغطيته قال تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ } ؟
الثاني : بمعنى الجُحُود قال تعالى : { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } [ البقرة : 89 ] .
الثالث : بمعنى كفر النّعمة ، قال تعالى : { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ } [ إبراهيم : 7 ] أي : بالنعمة ، ومثله : { واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } [ البقرة : 152 ] وقال تعالى : { أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ } [ النمل : 40 ] .
الرابع : البراءة ، قال تعالى : { إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله كَفَرْنَا بِكُمْ } [ الممتحنة : 4 ] أي : تبرأنا منكم ، وقوله : { ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ } [ العنكبوت : 25 ] .
و « سواء » اسم معنى الاستواء ، فهو اسم مصدر ، ويوصف على أنه بمعنى مستوٍ ، فيحتمل حينئذٍ ضميراً ، ويرفع الظاهر ، ومنه قولهم : « مررت برجل سواء والعدم » برفع « العدم » على أنه معطوفٌ على الضمير المستكنّ في « سواء » ، وشذ عدم بمعنى : « مثل » ، تقول : « هما سِيّان » بمعنى : مِثْلان ، قال : [ البسيط ]
149-
مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا ... وَالشَّرُّ بِالشَّرِّ عِنْدَ اللهِ سِيَّانِ
على أنه قد حكي سواءان . وقال الشاعر : [ الطويل ]
150-
وَلَيْلٌ تَقُولُ النَّاسُ فِي ظُلُماتهِ ... سَوَاءٌ صَحِيحَاتً العُيُونِ وَعُورُهَا
ف « سواء » خبر عن جمع هو « صحيحات » ، وأصله : العدل؛ قال زهير : [ الوافر ]
151-
أَرُونَا سُبَّةً لا عَيْبَ فِيهَا ... يُسَوِّي بِيْنَنَا فِيهَا السَّوَاءُ
أي : يعدل بيننا العدل . وليس هو الظرف الذي يستثنى به في قولك : « قاموا سواء زيد » وإن شاركه لفظاً .
ونقل ابن عطية عن الفارسي فيه اللغات الأربع المشهورة في « سوى » المستثنى به ، وهذا عجيب فإن هذه اللغات في الظرف لا في « سواء » الذي بمعنى الاستواء .
وأكثر ما تجيئ بعده الجملة المصدرية بالهمزة المُعَادلة ب « أم » كهذه الآية ، وقد تحذف للدلالة كقوله تعالى : { فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ } [ الطور : 16 ] أي : أصبرتم أم لم تصبروا ، وقد يليه اسم الاستفهام معمولاً لما بعده كقول علقمة : [ الطويل ]
152-
سَوَاءٌ عَلَيْهِ أَيَّ حِينٍ أَتَيْتَهُ ... أَسَاعَةَ نَحْسٍ تُتَّقَى أَمْ بأَسْعَدِ
ف « أي حين » منصوب ب « أتيته » ، وقد يعرى عن الاستفهام ، وهو الأصل؛ نحو : [ الطويل ]
153- . ...
سَوِاءٌ صَحِيْحاتُ العُيُونِ وَعُورُهَا
فصل في استعمالات « سواء »
وقد ورد لفظ « سواء » على وجوه :
الأول : بمعنى : الاستواء كهذه الآية .
الثاني : بمعنى : العَدْل ، قال تعالى : { إلى كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } [ آل عمران : 64 ] أي : عدل؛ ومثله : { سَوَآءَ السبيل } [ الممتحنة : 1 ] أي : عدل الطريق .
الثالث : بمعنى : وسط ، قال تعالى : { فِي سَوَآءِ الجحيم } [ الصافات : 55 ] أي : وسط الجحيم .
الرابع : بمعنى : البَيَان؛ قال تعالى : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ } [ الأنفال : 58 ] أي : على بيان .
الخامس : بمعنى : شرع ، قال تعالى : { وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً } [ النساء : 89 ] يعني : شرعاً .
السادس : بمعنى : قصد ، قال تعالى : { عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السبيل } [ القصص : 22 ] أي : قصد الطريق . و « الإنذار » : التخويف .
وقال بعضهم : هو الإبلاغ ، ولا يكاد يكون إلاَّ في تخويف يسع زمانه الاحتراز ، فإن لم يسع زمانه الاحتراز ، فهو إشعار لا إنذار؛ قال : [ الكامل ]
154-
أَنْذَرْتُ عَمْراً وَهُوَ فِي مَهَلٍ ... قَبْلَ الصَّبَاحِ فقَدْ عَصَى عَمْرُو
ويتعدّى لاثنين ، قال تعالى : { إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً } [ النبأ : 40 ] ، { أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً } [ فصلت : 13 ] فيكون الثاني في هذه الآية محذوفاً تقديره : أأنذرتهم العذاب أم لم تنذروهم إياه ، والأحسن ألا يقدر له مفعول ، كما تقدم في نظائره .
والهمزة في « أنذر » للتعدية ، وقد تقدّم أن معنى الاستفهام هنا غير مراد؛ لأن التسوية هنا غير مرادة .
فقال ابن عَطيَّةَ : لفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه الخبر ، وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام؛ لأنَّ فيه التسوية التي هي الاسْتِفْهَام ، ألا ترى أنك إذا قلت مخبراً : « سواء علي أَقُمْت أم قعدت » ، وإذا قلت مستفهماً : « أخرج زيد أم قام » ؟ فقد استوى الأمران عندك؟ هذان في الخبر ، وهذان في الاستفهام ، وعدم علم أحدهما بعينه ، فلما عمتهما التسوية جرى على الخبر لفظ الاستفهام؛ لمشاركته إيَّاه في الإبهام ، فكلّ استفهام تسوية وإن لم تكن كل تسوية استفهاماً ، إلاَّ أن بعضهم ناقشه في قوله : « أأنذرتهم أم لم تنذرهم » لفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه « الخبر » بما معناه : أن هذا الذي صورته صورة استفهام ليس معناه الخبر؛ لأنه مقدر بالمفرد كما تقدم ، وعلى هاذ فليس هو وحده في معنى الخبر؛ لأن الخبر جملة ، وهذا تأويل مفرد ، وهي مناقشة لفظية .
وروي الوقف على قوله : « أَمْ لَمْ تُنْذِرْ » والابتداء بقوله : « هُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ » على أنها جملة من مبتدأ وخبر . وهذا ينبغي ألا يلتفت إليه ، وإنْ كان قد نقله الهُذَلِيّ في « الوقف والابتداء » له .
وقرىء « أأنذرتهم » بهمزتين محقّقتين بينهما ألف ، وبهمزتين ، محقّقتين بلا ألف بينهما وهي لغة « بني تميم » ، وأن تكون الأولى قوية ، والألف بينهما ، وتخفيف الثانية بين بين ، وهي لغة « الحجاز » وبتقوية الهمزة الأولى ، وتخفيف الثانية ، وبينهما ألف . فمن إدخال الألف بين الهمزتين تخفيفاً وتحقيقاً قوله : [ الطويل ]
155-
أَيَا ظَبْيَةَ الوَعْسَاءِ بَيْنَ جُلاَجِلٍ ... وَبَيْنَ النَّقَا آأَنْتَ أَمْ أُمُّ سَالِمِ؟
وقال آخر : [ الطويل ]
156-
تَطَالَلْتُ فَاسْتَشْرَفْتُهُ فَعَرَفْتُهُ ... فَقُلْتُ لَهُ آأَنْتَ زَيْدُ الأَرَانِبِ؟
وروي عن وَرْش إبدال الثَّانية ألفاً محضة .
ونسب الزمخشري هذه القراءة لِلَّحْنِ ، قال : إنما هو بَيْنَ بَيْنَ . وهذا منه ليس بصواب ، لثبوت هذه القراءة تواتراً .
وقرأ ابن محيصن بهمزة واحدةٍ على لفظ الخبر ، وهمزة الاستفهام مرتدة ، ولكن حذفها تخفيفاً ، وفي الكلام ما يدلّ عليها ، وهو قوله : « أم لم » ؛ لأن « أم » تُعَادل الهمزة ، وللقراء في مثل هذه الآية تفصيل كثير .
فصل في المراد بالكافرين في الآية
المراد من « الذين كفروا » يعني مشركي العرب كأبي لَهَبٍ؛ وأبي جهل ، والوليد بن المغيرة وأضرابهم .
وقال الكلبي : « هم رؤساء اليَهُودِ والنُعَاندون » وهو قول ابن عباس . والكفر -هنا- الجحود ، وهو على أربعة أضرب :
كفر إنكار ، وكفر جُحُود ، وكفر عِنَادٍ ، وكفر نفاق :
ف « كفر الإنكار » : هو ألا يعرف الله أصلاً ، ولا يعترف به .
وكفر الجُحُود : هو أن يعرف الله بقلبه ، ولا يقر بلسانه ، ككفر إبليس؛ قال تعالى : { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } [ البقرة : 89 ] .
وكفر العناد : هو أن يعرف الله بقلبه ، ويعترف بلسانه ، ولا يدين به؛ ككفر أبي طَالِبٍ؛ حيث يقول : [ الكامل ]
157-
وَلقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ... مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا
لَوْلاَ الْمَلاَمَةُ أَوْ حِذَارِ مَسَبَّةٍ ... لَوَجَدْتَنِي سَمْحاً بِذَاكَ مُبِينَا
وكفر النفاق : هو أن يقر باللسان ، ولا يعتقد بالقلب ، وجميع هذه الأنواع سواء في أن من لقي الله -تعالى- بواحد منها؛ لا يغفر له .
فصل في تحقيق حد الكفر
قال ابن الخطيب : تحقيق القول في حد الكفر أن كل ما نقل عن محمد -عليه الصلاة والسلام- أنه ذهب إليه ، وقال به ، فإما أن يعرف صحة ذلك النقل بالضرورة ، أو بالاستدلال ، أو بخبر الواحد الذي علم بالضرورة ، فمن صدق به جميعه ، فهو مؤمن ، ومن لم يصدق بجميعه ، أو لم يصدق ببعضه ، فهو كافر ، فإذن الكفر عدم تصديق الرسول في شيء مما علم بالضرورة أنه ليس من دين محمد عليه الصلاة والسلام .
ومثاله من أنكر وجود الصّانع ، أو كونه عالماً مختاراً ، أو كونه واحداً ، أو كونه منزهاً عن النَّقَائص والآفات ، أو أنكر نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ كوجوب الصَّلاة والزكاة والصوم والحج وحرمة الربا والخمر ، فذلك يكون كافراً .
فأما الذي يعرف بالدليل أنه من دين محمد مثل كونه عالماً بالعلم أو بذاته ، وأنه مرئي أو غير مرئي ، وأنه خالق أعمال العباد أم لا ، فلم ينقل بالتواتر القاطع للعُذْرِ ، فلا جرم لم يكن إنكاره والإقرار به داخلاً في ماهيّة الإيمان ، فلا يكون موجباً للكفر ، والدليل عليه أنه لو جاء جزءاً من ماهية الإيمان لكان يجب على الرسول ألا يحكم بإيمان أحد إلاّ بعد أن يعرف أنه عرف الحق في تلك المسألة بين جميع الأمّة؛ ولنقل ذلك على سبيل التواتر ، فلمَّا لم ينقل ذلك دلّ على أنه -عليه الصلاة والسلام- ما وقف الإيمان عليها ، ولما لم يكن كذلك وجب ألا تكون معرفتها من الإيمان ، ولا إنكارها موجباً للكفر ، ولأجل هذه القاعدة لا يكفر أحد من الأمة من أرباب التأويل ، وأما الذي لا سبيل إليه إلا برواية الآحاد ، فظاهر أنه لا يمكن توقّف الكفر والإيمان عليه ، والله أعلم .
فصل في الردّ على المعتزلة
احتجت المُعْتَزلة بكل ما أخبر الله عن شيء ماض مثل قوله : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا » ، { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر }
[
الحجر : 9 ] ، { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] ، { إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً } [ نوح : 1 ] على أن كلام الله محدث ، سواء كان الكلام هذه الحروف ، أو الأصوات ، أو كان شيئاً آخر .
قالوا : لأن الخبر على هذا الوجه لا يكون صدقاً إلاّ إذا كان مسبوقاً بالمخبر عنه ، والقديم يستحيل أن يكون مسبوقاً بالغير ، فهذا الخبر يستحيل أن يكون قديماً ، فيجب أن يكون محدثاً .
أجاب القائلون بقدم الكلام عنه بوجهين :
الأول : أن الله -تعالى- كان في الأزل عالماً بأن العالم سيوجد ، فلما أوجده انقلب العلم بأنه سيوجد في المستقبل علماً بأنه قد حدث في الماضي ، ولم يلزم حدوث علم الله تَعَالَى ، فلم لا يجوز أيضاً أن يقال : إن حبر الله -تعالى- في الأزل كان خبراً بأنهم سيكفرون ، فلما وجد كفرهم صار ذلك الخبر خبراً عن أنهم قد كفروا ، ولم يلزم حدوث خبر الله تعالى؟ .
الثاني : أن الله -تعالى- قال : { لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام } [ الفتح : 27 ] ، فلما دخلوا المسجد الحرام ، ولا بد أن ينقلب ذلك الخبر إلى انهم قد دخلوا المسجد الحرام من غير أن يتغير الخبر الأول ، فإذا أجاز ذلك فلم لا يجوز في مسألتنا؟ فإن قلت : قوله : « إِنَّ الَّذينَ كَفَرُوا » صيغة جمع مع « لام » التعريف ، وهي للاستغراق بظاهره ، ثم إنه لا نزاع في تكلّم بالعام وأراد الخاص ، إما لأجل أنَّ القرينة الدالّة على أن المراد من ذلك العام ذلك الخصوص كانت ظاهرةً في زمان الرَّسول -عليه الصلاة والسلام- فحسن ذلك لعدم اللّبس ، وظهور المقصود ، وإمّا لأجل أنّ المتكلّم بالعام لإرادة الخاص جائز ، وإن لم يكن البيان مقروناً به عند من يجوز تأخير بَيَان التخصيص عن وقت الخِطَاب ، وإذا ثبت ذلك ظهر أنه لا يمكن التمسُّك بشيء من صيغ العموم على القطع بالاستغراق ، لاحتمال أن المراد منها هو الخاص ، وكانت القرينة الدالة على ذلك ظاهرة في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام ، فلا جَرَمَ حين ذلك ، وعدم العلم بوجود قرينة لا يدلّ على العدم .
وإذا ثبت ذلك ظهر أنّ استدلال المعتزلة بعمومات الوعيد على القطع بالوعيد في نهاية الضعف ، والله أعلم .
فصل في المذهب الحق في « تكليف ما لا يطاق »
قال ابن الخطيب : احتج أهل السُّنة بهذه الآية وما أشبهها على تكليف ما لا يطاق وتقريره : أنه -تعالى- أخبر عن شخص معين أنه لا يؤمن قطّ ، فلو صدر منه الإيمان لزم انقلاب خبر الله -تعالى- الصدق كذباً ، والكذب عند الخصم قبيح ، وفعل القبيح يستلزم إما الجهل وإما الحاجة ، وهما مُحَالان على الله تعالى ، والمفضي إلى المُحَال محال ، فصدور الإيمان منه مُحَال ، فالتكليف به تكليف بالمحال ، وقد يذكر هذا في صورة العلم ، وهو أنه -تعالى- لما علم منه أنه لا يؤمن ، فكان صدور الإيمان منه يستلزم انقلاب علم الله جهلاً ، وذلك محال ، ويستلزم من المُحَال محال ، فالأمر واقع بالمحال .
ونذكر هذا على وجهٍ ثالثٍ : وهو أن وجود الإيمان يستحيل أن يوجد مع العلم بأنه لا يؤمن؛ لأنه إنما يكون علماً لو كان مطابقاً للمعلوم ، والعلم بعدم الإيمان يلزم أن يجتمع في الإيمان كونه موجوداً ومعدوماً معاً ، وهذا مُحَال ، والأمر بالإيمان مع وجود علم الله بعدم الإيمان أمر بالجمع بين الضِّدِّين ، بل أمر بالجمع بين العدم والوجود ، وكل ذلك مُحَال .
ونذكر هذا على وَجْه رابع : وهو أنه -تعالى- كلف هؤلاء الذين أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون البتة [ والإيمان يعتبر فيه تصديق الله -تعالى- في كل ما أخبر عنه أنهم لا يؤمنون قط ] وقد صاروا مكلفين بأن يؤمنون بأنهم لا يؤمنون قط ، وهو مكلف بالجمع بين النفي والإثبات .
ونذكر هذا على وجه خامس : وهو أنه -تعالى- عاب الكُفَّار على أنهم حاولوا فعل شيء على خلاف ما أخبر عنه في قوله : { يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ الله مِن قَبْلُ } [ الفتح : 15 ] ، فثبت أن القصد إلى تكوين ما أخبر الله عن عدم تكوينه قصد لتبديل كلام الله ، وذلك منهي عنه .
ثم هاهنا أخبر الله -تعالى- عنهم أنهم لا يؤمنون ألبتة ، فمحاولة الإيمان منهم تكون قصداً إلى تبديل كلام الله ، وذلك منهي عنه وترك محاولة الإيمان يكون -أيضاً- مخالفة لأمر الله ، فيكون الذم حاصلاً على الترك والفعل . فهذه هي الوجوه المذكورة في هذا الموضع وهي هادمة لأصول الاعتزال ، وكل ما استدلّ به المعتزلة من الآيات الواردة ، فيأتي الجواب عنها عند ذكر كل آية منها إن شاء الله تعالى .
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
اعلم أنه -تعالى- لما بيَّن في الآية الأولى أنَّهُمْ لا يؤمنون أخبر في هذه الآية السَّبب الذي لأجله لم يؤمنوا وهو الختم .
واعلم أن الختم والكَتْم أخوان وهو : الاشتياق بالشَّيء بضرب الخاتم عليه كتماً له وتغطية؛ لئلا يتوصّل إليه ، ومنه : الخَتْم على الباب .
«
على قلوبهم » متعلّقة ب « ختم » ، و « على سمعهم » يحتمل عطفه على « قلوبهم » ، وهو الظاهر ، للتصريح بذلك ، أعني : نسبة الختم إلى السمع في قوله تعالى : { وَخَتَمَ على سَمْعِهِ } [ الجاثية : 23 ] ويحتمل أن يكون خبراً مقدماً ، وما بعده عطف عليه .
و « غشاوة » مبتدأ ، وجاز الابتداء بها لأن النكرة متى كان خَبَرُها ظرفاً ، أو حرف جر تاماً ، وقدم عليها جاز الابتداء بها ، [ ويكون تقديم الخبر حينئذٍ واجباً؛ لتصحيحه الابتداء بالنكرة ] ، والآية من هذا القبيل ، وهذا بخلاف قوله تعالى : { وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ } [ الأنعام : 2 ] ؛ ويبتدأ بما بعده ، وهو « وعلى أبصارهم غشَاوَةٌ » ف « على أبصارهم » خبر مقدم ، و « غِشَاوة » مبتدأ مؤخر .
وعلى الاحتمال الثاني يوقف على « قلوبهم » ، وإنما كرر حرف الجر؛ ليفيد التأكيد ويشعر بذلك بِتَغَايُرِ الختمين ، وهو : أن ختم القلوب غير ختم الأسماع .
وقد فرق النحويون بيم « مررت بزيد وعمرو » وبين « مررت بزيد وبعمرو » فقالوا في الأول هو ممرور واحد ، وفي الثاني هما ممروران ، وهو يؤيد ما قُلْتُهُ ، إلا أن التعليل بالتأكيد يشمل الإعرابين ، أعني : جعل « وعلى سمعهم » معطوفاً على قوله : « على قلوبهم » ، وجعله خبراً مقدماً .
وأما التعليل بتغاير الختمين فلا يجيء إلا على الاحتمال الأول ، وقد يُقَال على الاحتمال الثاني أن تكرير الحرف يُشعر بتغاير الغِشَاوتين ، وهو أنَّ الغشاوة على السَّمع غير الغِشَاوة على البَصَرِ ، كما تقدم ذلك في الختمين .
وقرىء : غِشَاوة بالكسر والنصب ، وبالفتح والنصب وبالضَّم والرفع ، وبالكسر والرفع -و « غشوة » بالفتح والرفع والنصب - و « غشاوة » بالعين المهملة ، والرفع من العَشَا . فأما النصب ففيه ثلاثة أوجه :
الأول : على إضمار فعل لائق ، أي : وجعل على أبصارهم غِشَاوة ، وقد صرح بهذا العامل في قوله تعالى : { وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً } [ الجاثية : 23 ] .
والثاني : الانتصاب على إسقاط حرف الجر ، ويكون « على أَبْصَارهم » معطوفاً على ما قبله ، والتقدير : ختم الله على قلوبهم ، وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم بغشاوة ، ثم حذف الجر ، فانتصب ما بعده؛ كقوله : [ الوافر ]
159-
تَمُرُّونَ الدِّيَارَ فَلَمْ تُعُوجُوا ... كَلاَمُكُم عَلَيَّ إِذَنْ حَرَامُ
أي :
تمرون بالدِّيَار ، ولكنه غير مقيس .
والثالث : أن يكون « غشاوة » اسماً وضع موضع المصدر الملاقي ل « خَتَمَ » في المعنى؛ لأن الخَتْمَ والتغشية يشتركان في معنى السّتر ، فكأنه قيل : « وختم التغشية » على سبيل التأكيد ، فهو من باب « قعدت جلوساً » ، وتكون « قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مختوماً عليها مغشاة » .
وقال الفَارِسِيّ : قراءة الرفع الأولى ، لأن النَّصب إما أن تحمله على فعل يدلّ عليه « ختم » ، تقديره : وجعل على أبصارهم غشاوة ، فهذا الكلام من باب : [ الكامل ]
160-
يَا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا ... مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحاً
وقوله : [ الرجز ]
161-
عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارِداً ... حتَّى شَتَتْ هَمَّالَةٌ عَيْنَاهَا
ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حالة سَعَةٍ ، ولا اختيار .
واستشكل بعضهم هذه العبارة ، وقال : لا أدري ما معنى قوله؛ لأن النصب إما أن تحمله على « خَتَم » الزاهر ، وكيف تحمل « غشاوة » المنصوب على « ختم » الذي هو فعل هذا ما لا حمل فيه؟
قال : اللّهم إلا أن يكون أراد أن قوله تعالى : « ختم الله على قلوبهم » دعاء عليهم لا خَبَر ، ويكون « غشاوة » في معنى المصدرية المَدْعو به عليهم القائم مقام الفعل ، فكأنه قيل :
وغَشَّى الله على أبصارهم ، فيكون إذ ذاك معطوفاً على « ختم » عطف المصدر النائب مناب فعله في الدّعاء ، نحو : « رحم الله زيداً وسُقياً له » فتكون إذ ذاك قد حُلْت بين « غشاوة » المعطوف وبين « خَتَمَ » المعطوف عليه بالجار والمجرور . وهو تأويل حسن ، إلاّ أن فيه مناقشة لفظيةً؛ لأن الفارسي ما ادّعى الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه إنما ادعى الفصل بين حرف العطف والمعطوف عليه أي بالحرف ، فتحرير التأويل أن يقال : فيكون قد حُلْت بين غشاوة وبين حرف العطف بالجار والمجرور .
والقراءة المشهورة بالكسر؛ لأن الأشياء التي تدلّ على الاشتمال تجيء أبداً على هذه الزُّنَة كالعِصَابة والعِمَامَة .
والغِشَاوة فِعَالة : الغطاء من غشاه إذا غطاه ، وهذا البناء لِمَا يشتمل على الشيء ، ومنه غشي عليه ، وَالغِشْيَان كناية عن الجِمَاع .
و « القلب » أصله المصدر ، فسمي به هذا العضو الصَّنَوْبَرِي؛ لسرعة الخواطر إليه وتردُّدها عليه ، ولهذا قال : [ البسيط ]
162-
مَا سُمِّيَ الْقَلْبُ إِلاَّ مِنْ تَقَلُّبِهِ ... فَاحْذَرْ عَلَى القَلْبِ مِنْ قَلْبٍ وَتَحْوِيلِ
ولما سمي به هذا العضو التزموا تفخيمه فرقاً بينه وبين أصله ، وكثيراً ما يراد به العقل ويطلق أيضاً على لُبِّ كل شيء وخالصه .
و « السمع » و « السماع » مصدران ل « سمع » ، وقد يستعمل بمعنى الاستماع؛ قال : [ البسيط ]
163-
وَقَدْ تَوَجَّسَ رِكْزَاً مُقْفِرٌ نَدُسٌ ... بِنَبْأَةِ الصَّوْتِ مَا فِي سَمْعَهَ كَذِبُ
أي : ما في استماعه . و « السِّمْع » -بالكسر- الذِّكْر بالجميل ، وهو -أيضاً- ولد الذئب من الضَّبُع ، ووحد وإن كان المراد به الجمع كالذي قبله وبعده؛ لأنه مصدر حقيقة ، يقال : رَجُلان صَوْم ، ورجال صوم ، ولأنه على حذف مضاف ، أي : مواضع سمعهم ، أو حواس سمعهم ، أو يكون كني به عن الأُذُن ، وإنما لفهم المعنى؛ كقوله [ الوافر ]
164-
كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا ... فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ
أي : بطونكم .
ومثله قال سيبويه : « إنه وإن وُحِّد لفظ السمع إلاَّ أن ذكر ما قبله وما بعجه بلفظ الجمع دليل على إرادة الجمع » .
ومنه أيضاً قال تَعَالى : { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور } [ البقرة : 257 ] ، { عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال } [ ق : 17 ] ؛ قال الراعي .
165-
بِهَا جِيَفُ الحَسْرى فأمّا عِظَامُهَا ... فَبِيضٌ وأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ
أي : جلودها .
وقرأ ابن أبي عَبْلَةَ : « أسماعهم » .
قال الزمخشري : واللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الخَتْم ، وفي حكم التَّغْشِيَةِ ، إلاّ أن الأولى دخولها في حكم الختم؛ لقوله تعالى : { وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً } [ الجاثية : 23 ]
و « الأبصار » : جمع بصر ، وهو نور العين الذي يدرك به المرئيات .
قالوا : وليس بمصدر لجمعه ، ولقائل أن يقول : جمعه لا يمنع كونه مصدراً في الأصل ، وإنما سهل جَمْعَهُ كَوْنُهُ سمي به نور العين ، فَهُجِرَت فيه معنى المصدرية ، كما تقدم في قلوب جمع قَلْب .
وقد قلتم : إنه في الأصل مصدر ثم سمي به ، ويجوز أن يكنى به عن العَيْن ، كما كي بالسمع عن الأذن ، وإن كان السَّمع في الأصل مصدراً كما تقدم .
وقرأ أبو عمرو والكِسَائي : « أبصارهم » بالإِمَالَةِ ، وكذلك كلّ ألف بعدها مجرورة في الأسماء كانت لام الفعل يميلانها .
ويميل حمزة منها ما تكرر فيه الراء « كالقرار » ونحوه ، وزاد الكسائي إمالة { جَبَّارِينَ } [ المائدة : 22 ] ، و { الجوار } [ الشورى : 32 ] ، و { بَارِئِكُمْ } [ البقرة : 54 ] ، و { مَنْ أنصاريا } [ آل عمران : 32 ] ، و { نُسَارِعُ } [ المؤمنون : 56 ] وبابه ، وكذلك يميل كل ألف هي بمنزلة لام الفعْل ، أو كانت علماً للتأنيث مثل : { الكبرى } [ طه : 23 ] ، و { الأخرى } [ الزمر : 42 ] ، ولام الفعل مثل : { يَرَى } [ البقرة : 165 ] ، و { افترى } [ آل عمران : 94 ] يكسرون الراء منها .
و « الغشاوة » : الغطاء . قال : [ الطويل ]
166-
تَبِعْتُكَ إِذْ عَيْنِي عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ ... فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفْسِي أَلُومُهَا
وقال : [ البسيط ]
167-
هَلاَ سَأَلْتِ بَنِي ذُبْيَانَ مَا حَسبِي ... إِذا الدُّخَانُ تَغَشِّى الأَشْمَطَ الْبَرِمَا
وجمعها « غشاءٌ » ، لما حذفت الهاء قلبت الواو همزة .
وقيل : « غشاوي » مثل « أداوي » .
قال الفارسي : لم أسمع من « الغشاوة » فعلاً متصرفاً ب « الواو » ، وإذا لم يوجد ذلك ، وكان معناها معنى ما « اللام » منه « الياء » ، وهو غشي بدليل قولهم : « الغِشْيَان » ، و « الغشاوة » من غشي ك « الجِبَاوة » من جبيت في أن « الواو » كأنها بدل من « الياء » ، إذْ لم يُصَرَّفْ منه فعل كما لم يُصَرَّف منه الجباوة . وظاهر عبارته أن « الواو » بدل من « الياء » ، و « الياء » أصل بدليل تصرف الفعل منها دون مادة « الواو » .
والذي يظهر أن لهذا المعنى مادتين « غ ش و » ، و « غ ش ي » ، ثم تصرفوا في إحدى المادتين ، واستغنوا بذلك عن التصرف في المادة الأخرى ، وهذا أقرب من ادعاء قلب « الواو » « ياء » من غير سبب ، وأيضاً « الياء » أخف من « الواو » ، فكيف يقلبون الأخف للأثقل؟ و « لهم » خبر مقدم فيتعلّق بمحذوف ، و « عذاب » مبتدأ مؤخر و « عظيم » صفة . والخبر -هنا- جائز التقديم؛ لأن للمبتدأ مسوغاً وهو صفة ونظيره : { وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ } [ الأنعام : 2 ] من حيث الجواز .
والعذاب في الأَصْل : الاستمرار ، ثم سمي به كلّ استمرار أَلِمٍ .
وقيل : أصله : المَنْع ، وهذا هو الظَّاهر ، ومنه قيل للماء : عَذَب؛ لأنه يمنع العطش ، والعذاب يمنع من الجريمة .
«
عظيم » اسم فاعل من « عَظُمَ » ، نحو : كريم من « كَرُم » غير مذهوب به مذهب الزمان ، وأصله أن توصف به الأجرام ، ثم قد توصف به المعاني .
وهل هو و « الكبير » بمعنى واحد أو هو فوق « الكبير » ؛ لأن العظيم يقابل الحقير ، والكبير يقابل الصغير ، والحقير دون الصغير؟ قولان .
و « فعيل » له معانٍ كثيرة ، يكون اسماً وصفة ، والاسم مفرد وجمع ، والمفرد اسم معنى ، واسم عين ، نحو : « قميص وظريف وصهيل وكليب جمع كلب » .
والصفة مفرد « فُعْلَة » ك « غَزِب » يجمع على غُزَاة « ومفرد » فَعَلَة « ك » سَرِي « يجمع على » سَرَاة « .
ويكون اسم فاعل من » فَعُلَ « نحو : عظيم من عَظُم كما تقدم .
ومبالغةً في » فَاعِل « ، نحو » عليم من عالم « .
وبمعنى » أَفْعَل « ك » شميط « بمعنى : » أشمط « و » مَفْعُول « ك » جريح « بمعنى : مجروح ، و » مُفْعِل « ك » سَمِيع « بمعنى » « مُسْمِع » ، و « مُفْعَل » ، ك « وَلِيد » بمعنى : مُولَد ، و « مُفَاعِل » ، ك « جَلِيس » بمعنى : مُجَالِس ، و « مُفْعَل » ، ك « بَدِيع » بمعنى : مُبْتَدِع ، و « مُفْتَعِّل » ك : « سَعِير » بمعنى : مُتَسَعِّر « ، و » مُسْتَفْعِل « ك » مَكِين « بمعنى : » مُسْتَمْكن « .
و » فَعْل « ك » رطيب « بمعنى : » رَطْبْ « ، و » فَعَل « ك » عجيب « بمعنى : » عجب « و » فِعَال « ك » صحيح « بمعنى : صِحَاح ، وبمعنى : » الفاعل والمفعول « ك » صريخ « بمعنى : » صاروخ ومصروخ « .
وبمعنى الواحد والجمع نحو : « خليط » ، وجمع فاعل ك « ريب » جمع غارب .
فصل في أيهما أفضل : السمع أو البصر؟
من الناس من قال : السَّمع أفضل منى البَصَرِ؛ لأن الله -تعالى- حيث ذكرهما قد السَّمع على البصر ، والتقديم دليلٌ على التفضيل ، ولأن السمع شرط النبوّة بخلاف البَصَرِ ، ولذلك ما بعث الله رسولاً أَصَمّ ، وقد كان فيهم الأعمى ، ولأنَّ بالسَّمع تصلُ نتائج عقول البعض إلى البعض ، فالسمع كأنه سبب لاستكمال العَقْلِ بالمعارف ، والبَصَر لا يوقفك إلى على المحسوسات ، ولأن السمع متصرف في الجهات السّت بخلاف البَصَرِ ، ولأن السمع متى بطل النُّطق ، والبصر إذا بطل لم يبطل النُّطق .
ومنهم من قدم البصر؛ لأنّ آلة القوة الباصرة أشرف ، ولأن متعلق القوة الباصرة هو النور ، ومتعلّق القوة السَّامعة هو الريح .
فصل في ألفاظ وردت بمعنى الختم
الألفاظ الواردة في القرآن القريبة من معنى الخَتْم هي « الطَّبع » و « الكنان » و « الرين » على القلب ، و « الوقر » في الأذن ، و « الغشاوة » في ابصر .
واختلف الناس في هذا الخَتْم : فالقائلون بأن أفعال العباد مخلوقة لله -تعالى- فهذا الكلام على مذهبهم ظاهر ، ثم لهم قولان :
منهم من قال : الختم هو خلق الكُفْر في قلوب الكفار .
ومنهم من قال هو خلق الدَّاعية التي إذا انضمّت إلى القدرة صار مجموع القدرة معها سبباً موجباً لوقوع الكُفْر .
وأما المعتزلة فأوّلوا هذه الآية ، ولم يرجوها على ظاهرها .
أما قوله تعالى : « لهم عذاب عظيم » أي : في الآخرة .
وقيل : الأَسْر والقَتْل في الدنيا ، والعذاب الدائم في العُقْبى .
و « العذاب » مشتق من « العَذْب » وهو القَطْع ، ومنه سمي الماء الفرات عَذْباً ، لأنه يقطع العطش .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
«
من الناس » خبر مقدم ، و « من يقول » مبتدأ مؤخر ، و « مَنْ » تحتمل أن تكون موصولة ، أو نكرة موصوفة أي : الذي يقول ، أو فريق يقول ، فالجملة على الأول لا محل لها؛ لكونها صلة ، وعلى الثاني محلها الرفع؛ لكونها صفة للمبتدأ .
واستضعف أبو البقاء أن تَكُونَ موصولة ، قال : لأن « الذي » يتناول قوماً بأعيانهم ، والمعنى هنا على الإبهام .
وهذا منه غير مسلم؛ لأنّ المنقول أنّ الآية نزلت في قوم بأعيانهم كعبد الله بن أبي ورهطه .
وقال الزمخشري : إن كانت أل للجنس كانت « منْ » نكرة موصوفة كقوله : { مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله } [ الأحزاب : 23 ] .
وإن كانت للعَهْد كانت موصولة ، وكأن قصد مناسبة الجنس للجنس ، والعهد للعهد ، إلا أن هذا الذي قاله غير لازم ، بل يجوز أن تكون « أل » للجنس ، وتكون « منْ » موصولة ، وللعهد ، و « منْ » نكرة موصوفة .
وزعم الكِسَائِيّ أنها لا تكون نكرة إلاّ في موضع تختص به النكرة؛ كقوله : [ الرمل ]
168-
رُبَّ مَنْ أَنْضَجْتُ غَيْظاً صَدْرَهُ ... لَوْ تَمَنَّى لِيَ مَوْتاً لَمْ يُطِعْ
وهذا الذي قاله هو الأكثر ، إلا أنها قد جاءت في موضع لا تختصّ به النكرة؛ قال : [ الكامل ]
169-
فَكَفَى بِنَا فَضْلاً عَلَى مَنْ غَيْرَنا .. . . .
و « من » تكون موصولة ، ونكرة موصوفة ، أو زائدة؟ فيه خلاف . واستدل الكسَائي على زيادتها بقول عنترة : [ الكامل ]
170-
يَا شَاةَ منْ قَنَصٍ لِمَنْ حَلَّتْ لَهُ ... حَرُمَتْ عَلَيَّ وَلَيْتَهَا لَمْ تَحْرُمِ
ولا دليل فيه ، لجواز أن تكون موصوفة ب « قَنَصٍ » إما على المبالغة ، أو على حذف مضاف ، وتصلح للتثنية والجمع الواحد .
فالواحد كقوله : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } [ الأنعام : 25 ] والجمع كقوله : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } [ يونس : 42 ] ، والسبب فيه أنه موحّد اللفظ مجموع المعنى . و « مِنْ » في « من الناس » للتبعيض ، وقد زعم قومٌ أنها لِلْبَيَانِ وهو غَلَطٌ؛ لعدم تقدم ما يتبين بها . و « النَّاس » اسم جمع لا واحد له من لَفْظِهَ ، ويرادفه « أَنَاسِيّ » جمع إنسان أو إنسي ، وهو حقيقة في الآدميين ، ويطلق على الجِنّ مجازاً .
واختلف النحويون في اشتقاقه : فمذهب سيبويه والفراء أن أصله همزة ونون وسين ، والأصل : أناس اشتقاقاً من الأُنس ، قال : [ الطويل ]
171-
وَمَا سُمِّيَ الإِنْسَانُ إِلاَّ لأُنْسِهِ ... وَلاَ القَلْبُ إِلاَّ أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ
لأنه أنس ب « حواء » .
وقيل : بل أنس بربه ثم حذفت الهمزة تخفيفاً؛ يدلّ على ذلك قوله : [ الكامل ]
172-
إِنَّ الْمَنَايَا يَطَّلِعْ ... نَ عَلَى الأُنَاسِ الآمِنِينَا
وقال آخر : [ الطويل ]
173-
وَكُلُّ أُنَاسٍ قَارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ... وَنَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَهُ فَهُوَ سَارِبُ
وقال آخر : [ الطويل ]
174-
وَكُلُّ أُنَاسٍ سَوْفَ تَدْخُلُ بَيْنَهُمْ ... دُوَيْهِيَةٌ تَصْفَرُّ مِنْهَا الأَنَامِلُ
وذهب الكسائي إلى أنه من « نون وواو وسين » والأصل : « نوس » فقلبت « الواو » « ألفاً » لتحركها ، وانفتاح ما قبلها ، والنَّوسُ : الحركة .
وذهب بعضهم إلى أنه من « نون وسين وياء » ، والأصل « نسي » ، ثم قلبت « اللام » إلى موضع العين ، فصار : « نيس » ثم قلبت « الياء » « ألفاً » لما تقدم في « نوس » ، قال : سموا بذلك لنسيانهم؛ ومنه الإنسان لنسيانه؛ قال : [ البسيط ]
175-
فَإِنْ نَسِيتَ عُهُوداً مِنْكَ سَالِفةً ... فَاغْفِرْ فَأَوَّلُ نَاسٍ أَوَّلُ النَّاسِ
ومثله : [ الكامل ]
176-
لا تَنْسَيَنْ تِلْكَ الْعُهُودَ فَإِنَّمَا ... سُمِّيتَ إِنْسَاناً لإِنَّكَ نَاسِي
فوزنه على القول الأول : « عَال » ، وعلى الثاني : « فَعَلٌ » ، وعلى الثالث : « فَلَعٌ » بالقَلْبِ « . و » يقول « : فعل مضارع ، وفاعله ضمير عائد على : » من « .
والقول حقيقةً : اللفظ الموضوعُ لمعنى ، ويطلق على اللَّفْظِ الدَّال على النسبة الإسنادية ، وعلى الكلام النَّفساني أيضاً ، قال تعالى : { وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ } [ المجادلة : 8 ] . وتراكيبه السّتة وهي : » القول « ، و » اللوق « و » الوقل « ، و » القلو « ، » و « اللّقو » ، و « الولق » تدل على الخفّة والسرعة ، وإن اختصت بعض هذه المواد بمعانٍ أخر .
و « القول » أصل تعديته لواحد نحو : « قُلْتُ خطبة » ، وتحكي بعده الجمل ، وتكون في محل نصب مفعولاً بها ، إلا أن يُضَمَّنَ معنى الظن ، فيعمل عمله بشروط عند غير « بني سُلَيْمٍ » ؛ كقوله : [ الرجز ]
177-
مَتَى تَقُولُ الْقُلُصَ الرَّوَاسِمَا ... يُدْنِينَ أُمَّ قَاسِمٍ وقَاسِمَا
وبغير شرط عندهم ، كقوله : [ الرجز ]
178-
قَالَتْ وَكُنْتُ رَجُلاً فَطِينَا ... هَذَا لَعَمْرُ اللهِ إِسْرَائِينَا
و « آمنا » فعل وفاعل ، و « بالله » متعلّق به ، والجملة في محلّ نصب بالقول ، وكررت « الباء » في قوله : « وباليوم » ، للمعنى المتقدّم في قوله : { وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ } [ البقرة : 7 ]
فإن قيل : الخبر لا بدّ وأن يفيد غير ما أفاد المبتدأ ، ومعلوم أنّ الذي يقول كذا هو من الناس لا من غيرهم؟
فالجواب : أنّ هذا تفصيل معنوي ، لأنه تقدّم ذكر المؤمنين ، ثم ذكر الكَافرين ، ثم عقب بذكر المُنافقين ، فصار نظير التَّفصيل اللَّفظي ، نحو قوله : { وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ } [ البقرة : 204 ] ، { وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي } [ لقمان : 6 ] ، فهو في قوّة تفصيل النَّاس إلى مؤمن ، وكافر ، ومنافق .
وأحسن من هذا أن يقال : إنَّ الخبر أفاد التَّبعيض المقصود؛ لأنَّ النَّاس كلهم لم يقولوا ذلك ، وهم غير مؤمنين ، فصار التقدير : وبعض الناس يقول كَيْتَ وكَيْت .
واعلم أن « مَنْ » وأخواتها لها لفظ ومعنى ، فلفظها مفرد مذكر ، فإن أريد بها غير ذلك ، فَلَكَ أن تراعي لفظها مَرّة ، ومعناها أخرى ، فتقول : جاء مَنْ قام وقعدوا ، والآية الكريمة كذلك روعي اللفظ أولاً فقيل : « من يقول » ، والمعنى ثانياً في « آمنا » .
وقال ابن عطية : جسن ذلك؛ لأن الواحد قبل الجمع في الرتبة ، ولا يجوز أن يرجع متكلّم من لفظ جمع إلى توحيد .
فلو قلت « » ومن الناس من يقومون « وتتكلّم لم يجز .
وفي عبارة ابن عطية نظر ، وذلك لأنّه منه مِنْ مُرَاعاة اللَّفظ بعد مُرَاعاة المعنى ، وذلك جائز ، إلاَّ أن مراعاة اللّفظ أولاً أولى ، يرد عليه قول الشَّاعر : [ الخفيف ]
179-
لَسْتُ مِمَّنْ يَكُعُّ أَوْ يَسْتَكِينُو ... نَ إِذَاَ كَافَحَتْهُ خَيْلُ الأَعَادِي
وقال تعالى : { وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ } [ الطلاق : 11 ] إلى أن قال : » خَالِدين « ، فراعى المعنى ، ثم قال : » فَقَدْ أَحْسَنَ الله له رِزْقاً « ، فراعى اللفظ بعد مُرَاعاة المعنى ، وكذا راعى المعنى في قوله : » أو يستكينون « ، ثم راعى اللفظ في : » إذا كافحته « ، وهذا الحمل جاز فيها من جميع أحوالها ، أعني من كونها موصولة وشرطية ، واستفهامية .
أما إذا كانت موصوفة فقال الشيخ أثير الدين أبو حَيّان : » ليس في محفوظي من كلام العرب مُرَاعاة المعنى يعني فتقول : مررت بمن محسنون لك .
و « الآخر » صفة ل « اليوم » ، وهذا مقابل الأوّل ، ومعنى اليوم الآخر : أي عن الأوقات المحدودة .
ويجوز أن يُرَاد به الوقت الَّذي لا حَدّ له ، وهو الأبد القائم الذي لا انقطاع له ، والمراد بالأخر : يوم القيامة .
«
وما هم بمؤمنين » « ما » : نافية ، ويحتمل أن تكون هي الحِجَازية ، فترفع الاسم وتنصب الخبر ، فيكون « هم » اسمها ، و « بمؤمنين » خبرها ، و « الباء » زائدة تأكيداً .
وأن تكون التَّمِيْمِيّة ، فلا تعمل شيئاً ، فيكون « هم » مبتدأ ، و « بمؤمنين » الخبر ، و « الباء » زائدة أيضاً .
وزعم ابو علي الفَارِسِيّ ، وتبعه الزمخشري أن « الباء » لا تزاد في خبرها إلاّ إذا كانت عاملة ، وهذا مردود بقول الفَرَزْدَقِ ، وهو تميمي : [ الطويل ]
180-
لَعَمْرُكَ مَا مَعْنٌ بِتَارِكِ حَقِّهِ ... وَلاَ مُنْسِىءٌ مَعْنٌ وَلاَ مُتَيَسِّرُ
إلا أنّ المختار في « ما » أن تكون حِجَازية؛ لأنه لما سقطت « الباء » صرح بالنصب قال الله تعالى : { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } [ المجادلة : 2 ] { مَا هذا بَشَراً } [ يوسف : 31 ] ، وأكثر لغة « الحجاز » زيادة الباء في خبرها ، حتى زعم بعضهم أنه لم يحفظه النصب في غير القرآن ، إلاّ قول الشاعر : [ الكامل ]
181-
وَأَنَا النَّذِيرُ بِحَرَّةٍ مُسْوَدَّةٍ ... تَصِلُ الْجُيوشُ إِلَيْكُمُ أَقْوَادَهَا
أَبْنَاؤُهَا مُتَكَنِّفُونَ أَبَاهُمُ ... حَنِقُو الصُّدُورِ وَمَا هُمُ أَوْلاَدَهَا
وأتى الضمير في قوله : « وما هم بمؤمنين » جمعاً اعتباراً للمعنى كما تقدّم في قوله : « آمنا » .
فإن قيل : لم أتي بخبر « ما » اسم فاعل غير مقيّد بزمان ، ولم يؤت بعدها بجملة فعلية حتى يطابق قولهم : آمنّا « : فيقال : وما آمنوا؟
فالجواب : أنه عدل عن ذلك ليفيد أن الإيمان منتف عنهم في جميع الأوقات ، فلو أتى به مطابقاً لقولهم : » أمنا « فقال : وما آمنوا لكان يكون نفياً للإيمان في الزمن الماضي فقط ، والمراد النَّفي مطلقاً أي : أنهم ليسوا ملتبسين بشيء من الإيمان في وقتٍ من الأوقات .
فصل في سبب نزول الآية
قال ابن عباس -رضي الله عنه- إنما نزلت في مُنَافقي أَهْلِ الكتاب ، كعبد الله بن أبي سلول ومعتب بن قُشَيْرٍ ، وجدّ بن قيس وأصحابهم ، كانوا إذا لقوا المؤمنين يظهرون الإيمان والتصديق ، ويقولون : إنا لنجد نَعْتَهُ وصفته في كتابنا ، ولم يكونوا كذلك إذا خَلاَ بعضهم إلى بعض .
فصل في حقيقة النفاق
قال ابن الخَطِيْبِ : الكلام في حقيقة النفاق لا يتخلّص إلا بتقسيم ، وهو أنّ أحوال القلب أربعة :
وهي أن تعتقد مستنداً لدليل وهو العلم ، أو تعتقد لا عن دليل لكن تقليد ، أو تعتقد لا عن دليل ولا تقليدج وهو الجهل ، أو يكون حال القلب عن هذه الأحوال كلها .
وأما أحوال اللسان فثلاثة : الإقرار ، والإنكار ، والسكوت .
فأما الأول : وهو أن يحصل العرفان القلبي ، فإما أن ينضم إليه الإقرار باللسان ، فإن مان الإقرار اختيارياً ، فصاحبه مؤمن حقًّا ، بالاتفاق .
وإن كان اضطراريَّاً فهذا يجب أن يعد منافقاً؛ لأنه بقلبه منكر مكذب لموجب الإقرار .
فإن كان منكراً بلسانه عارفاً بقلبه ، فهذا الإنكار اضطرارياً كان مسلماً؛ لقوله تعالى : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان } [ النحل : 106 ] ، وإن كان اختيارياً كان كافراً معانداً .
وإن كان عارفاً بقلبه ، وكان ساكتاً ، فهذا السكوت إن كان اضطرارياً كما إذا خاف ذكره باللسان ، فهو مسلم حقّاً ، أو كما إذا عرف الله بالدليل ، ثم لما تمّم بالنظر مات فهو مؤمن قطعاً؛ لأنه أتى بما كلف به ، ولم يجد زَمَانَ الإقرار ، فكان معذوراً فيه ، وإن كان السّكوت اختيارياً ، فهذا محل البحث ، فميل الغَزَالي إلى أنه يكون مؤمناً لقوله عليه الصَّلاة والسلام : » يَخْرُجُ من النَّار من كَانَ في قَلْبِهِ ذرّة من الإيمان « وهذا قلبه مملوء من نور الإيمان ، فكيف لا يخرج من النار؟
النوع الثاني : أن يحصل في القلبِ الاعتقاد التقليدي ، فإما أن يوجد معه الإقرار باللسان ، أو الإنكار أو السكوت .
فإن وجد مع التّقليد الإقرار باللسان ، فإن كان اختياراً فهي المسألة المشهورة من أن المقلد هل هو مؤمن أم لا؟
وإن كان اضطرارياً فهذا يفرع على الصورة الأولى ، فإن حكمنا في الصورة الأولى بالكفر ، فهاهنا لا كلام ، وإن حكمنا هُنَاك بالإيمان وجب أن بحكم هاهنا بالنِّفَاق؟ لأن في هذه الصورة لو كان القلب عارفاً لكان هذا الشخص منافقاً ، فمات يكون منافقاً عند التقليد .
فإن حصل الاعتقاد والتقليد مع الإنكار اللساني ، فهذا الإنكار إن كان اختيارياً فلا شَكّ في الكفر ، وإن كان اضطرارياً ، وحكمنا بإيمان المُقَلّد وجب أن نحكم بالإيمان في هذه الصُّورة .
فإن حصل الاعتِقَادُ التقليدي مع السُّكوت اضطرارياً كان أو اختيارياً فحكمه حكم القسم مع النَّوْعِ الأوّل إذا حكمنا بإيمان المُقَلّد .
النوع الثَّالث : اعتقاد الجَاهِل ، فإما أن يوجد معه الإقرار اللِّسَاني ، فذلك الإقرار إن كان اضطرارياً فهو المُنَافق ، وإن كان اختيارياً مثل أن يعتقد بناء على شبهة أن العالم قديم ، ثم بالاختيار أقرّ باللسان أن العالم مُحْدّث ، وهذا غير مستبعدٍ ، فهذا أيضاً من النفاق .
النوع الرابع : القَلْبُ الخالي عن جميع الاعتقادات ، وهذا إما أن يوجد معه الإقرار ، أو الإنكار ، أو السكوت . فإن وجد الإقرار ، فإن كان الإقرار اختيارياً ، فإن كان صاحبه في مُهْلة النظر لم يلزمه الكفر ، لكنه فعل ما لا يجوز حيث أخبر عما لا يدري هل هو صَادق فيه أم لا؟
وإن كان الإقرار اضطرارياً لم يكفر صاحبه؛ لأن توقّفه إذا كان في مُهْلة النظر ، وكان يخاف على نفسه من ترك الإقرار لم يكن عمله قبيحاً .
فإن كان مع القلب الخالي السُّكوت ، فهذا إن كان في مُهْلة النظر ، فذلك هو الواجب ، وإن كان خارجاً عن مُهْلة النظر وجب تكفيره ، ولا يحكم عليه بالنِّفَاق ألبتة .
فصل في بيان أقبح الكفر
اختلفوا في أنّ كفر الكافر الأصلي أقبح أم كفر المُنَافق؟
قال قوم : كفر الأصلي أقبح؛ لأنه جاهل بالقلب كاذب باللسان .
وقال آخرون : بل المنافق أيضاً كاذبٌ باللسان ، فإنه يخبر عن كونه على ذلك الاعتقاد مع أنه ليس عليه ، ولذلك قال تعالى : { قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا } [ الحجرات : 14 ] ، وقال تعالى : { والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] ثم إن المنافق اختص بمزيد أمور منكرة :
أحدها : أنه قصد التَّلبيس ، والكافر الأصلي ما قصد ذلك .
وثانيها : أنّ الكافر على طبع الرجال ، والمُنَافق على طبع الخُثُونة .
وثالثها : أنَّ المنافق ضمّ إلى كفره الاستهزاء ، بخلاف الكافر الأصلي ، ولأجل غلظ كفره قال تعالى : { إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار } [ النساء : 145 ] .
وخامسها : قال كجاهد : إنه -تعالى- ابتداء بذكر المؤمنين في أربع آيات ، ثم ثَنّى بذكر الكفار في آيتين ، ثم ثلث بذكر المنافقين في ثلاثة عشرة آية ، وذلك يدلّ على أنَّ المُنَافق أعظم جرماً ، وفي هذا نظراً [ لأن كثرة الاقتصاص بخبرهم لا توجب كون جرمهم أعظم ] لأنه قد يكون عظم جرمهم لضمهم إلى الكفر وجوهاً من المعاصي ، كالمُخَادعة والاستهزاء ، وطلب الغَوَائل وغير ذلك ، ويمكن أن يُجَاب بأن كثرة الاقتصاص بخبرهم تدلُّ على أنَّ الاهتمام بدفع شرهم أشدُّ من الاهتمام بِدَفْعِ شرّ الكُفار ، وذلك يدلّ على أنهم أعظم جرماً من الكفار ، والله أعلم .
فصل في ادعائهم الإيمان واليوم الآخر
ذكر ابن الخطيب هنا سؤالاً وهو : أنّ المنافقين كانوا مؤمنين بالله ، واليوم الآخر ، ولكنهم كانوا منكرين نبوة محمد -عليه الصلاة والسلام- فلم كذبوا في ادّعائهم الإيمان بالله ، واليوم الآخر؟
وأجاب فقال : إن حملنا على مُنَافقي أهل الكتاب -وهم اليهود- فإنما كذبهم الله -تعالى- لأن إيمان اليَهُود بالله ليس بإيمان؛ لأنّهم يعتقدونه جماً ، وقالوا : عزيرٌ ابن الله ، وكذلك إيمانهم باليوم الآخر ليس بإيمان ، فلما قالوا : آمنّا بالله كان خبثهم فيه مضاعفاً؛ لأنهم كانوا بقلولهم يؤمنون به على ذلك الوجه الباطل ، وباللِّسَان يوهمون المسلمين بقولهم : إنا آمنا بالله مثل إيمانكم ، فلهذا كذبهم الله -تعالى- فيه .
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
قوله : « يخادعون » هذه الجملة الفعلية يحتمل أن يكون مستأنفةً جواباً لسؤال مقدّر هو : ما بالهم قالوا : آمنا وما هم بؤمنين؟
فقيل : يخادعون الله ، ويحتمل أن تكون بدلاً من الجملة الواعقة صلة ل « من » وهي « يقول » ، ويكون هذا من بدل الاشْتِمَالِ؛ لأن قولهم كذا مشتمل على الخداع ، فهو نظير قوله : [ الرجز ]
182-
إِنَّ عَلَيَّ اللهَ أَنْ تُبَايِعَا ... تُؤْخَذَ كَرْهاً أَوْ تَجِيءَ طَائِعَا
وقول الآخر : [ الطويل ]
183-
مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وَنَاراً تَأَجَّجَا
ف « تؤخذ » بدل اشتمال من « تبايع » ، وكذا « تُلْمِم » بدلٌ من « تَأْتِنَا » . وعلى هذين القولين ، فلا مَحَلَّ لهذه الجملة من الإعراب .
والجمل التي لا مَحَلَّ لها من الإعراب أربع لا تزيد على ذلك -وإن توهّم بعضهم ذلك- وهي : المبتدأ والصِّلة والمُعْترضة والمفسّرة ، وسيأتي تفسيرها في مواضعها .
ويحتمل أن تكون هذه الجملة حالاً من الضَّمير المستكن في [ « يقول » تقديره : ومن الناس من يقول حال كونهم مخادعين .
وأجاز أبو البقاء أن يكون حالاً من الضمير المستكن ] في « بمؤمنين » ، والعامل فيها اسم الفاعل .
وقد ردّ عليه بعضهم بما معناه : أن هذه الآية الكريمة نظير : « ما زيد أقبل ضاحكاً » ، قال : وللعرب في مثل هذا التركيب طريقان :
أحدهما : نفي القيد وحده ، وإثبات أصل الفعل ، وهذا هو الأكثر ، والمعنى : أن الإقبال ثابت ، والضحك منتفٍ ، وهذا المعنى لا يتصوّر إرادته في الآية ، أعني : نفي الخِدَاع ، وثبوت الإيمان .
الطريق الثاني : أن ينتفي القَيْدُ ، فينتفي العامل فيه ، فكأنه قيل في المثال السابق : لم يقبل ، ولم يضحك ، وهذا المعنى -أيضاً- غير مراد بالآية الكريمة قطعاً ، أعني : نفي الإيمان والخداع معاً ، بل المعنى على نَفْي الإيمان ، وثبوت الخداع ، ففسد جعلها حالاً من الضمير في « بمؤمنين » .
والعجب من أبي البَقَاءِ كيف استشعر هذا الإشكال ، فمنع من جعل هذه الجملة في محل جر صفة ل « مؤمنين » ؟ قال : لأن ذلك يوجب نفي خِدَاعهم ، والمعنى على إثبات الخداع ، ثم جعلها حالاً من ضمير « بمؤمنين » ، ولا فرق بين الحال والصفة في هذا .
و « الخداع » أصله : الإخفاءُ ، ومنه الأَخْدَعَان : عِرْقان مُسْتَبْطنان في العُنُقِ ، ومنه مخدع البيت ، وخَدَع الضَّبُّ خِدْعاً : إذا توارى في جُحْرِه ، وطريق خادع وخديع : إذا كان مخالفاً للمقصد ، بحيث لا يفطن له؛ فمعنى يخادع : أي يوهم صاحبه خلاف ما يريد به المَكْروه .
وقيل : هو الفساد أي يفسدون ما أَظْهَروا من الإيمان بما أَضمروا من الكُفْرِ قال الشاعر : [ الرمل ]
184-
أَبْيَضُ اللَّوْنِ لَذِيذٌ طَعْمُهُ ... طَيِّبُ الرِّيقِ إِذَا الرِّيقُ خَدَعْ
أي : فسد .
ومعنى « يُخَادعون الله » أي : من حيث الصورة لا من حيث المَعْنِى .
وقيل : لعدم عرفانهم بالله -تعالى- وصفاته ظنّوه ممن يُخَادَع .
وقال الزَّمخشري : إن اسم الله -تعالى- مُقْحَم ، والمعنى : يخادعون الذين آمنوا ، ويكون من باب : أعجبني زيد وكرمه . والمعنى : أعجبني كرم زيد ، وإنَّما ذكر « زيد » توطئةً لذكر كرمه .
وجعل ذلك نظير قوله تعالى : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] ، { إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ } [ الأحزاب : 57 ] ، وهذا منه غير مُرْضٍ؛ لأنه إذا صح نسبة مخادعتهم إلى الله -تعالى- بالأوجه المتقدّمة ، فلا ضرورة تدعو إلى ادعاء زيادة اسم الله تعالى .
وأما « أعجبني زيد وكرمه » ، فإن الإعجاب أسند إلى « زيد » بجملته ، ثم عطف عليه بعض صفاته تمييزاً لهذه الصفة من بين سائر الصفات للشرف ، فصار من حيث المعنى نظيراً لقوله تعالى : { وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال } [ البقرة : 98 ] .
والمصدر « الْخِدْع » بكسر الخاء ، ومثله : الخديعة .
و « فَاعَلَ » له معانٍ خمسة :
المشاركة المعنوية نحو : ضارب زيد عمراً .
وموافقة المجرد نحو : « جاوزت زيداً » أي : جُزْتُه .
وموافقة « أفعل » متعدياً نحو : « باعدت زيداً وأبعدته » . والإغناء عن « أفعل » نحو : « واريت الشيء » .
وعن المجرد نحو : سافرت وقاسيت وعاقبت ، والآية « فَاعَل » فيها يحتمل المعنيين الأوّلَيْن .
أما المشاركة فالمُخَادعة منهم الله -تعالى- تقدم معناها ، ومخادعة الله إياهم من حيث إنه أجرى عليهم أَحْكام المسلمين في الدنيا ، ومُخَادعة المؤمنين لهم كونهم امتثلوا أمر الله -تعالى- فيهم ، وأما كونه بمعنى المُجّرَّد ، فيبينه قراءة ابن مسعود وأبي حَيَوَةَ « يَخْدَعُونَ » . وقرأ أبو عمرو والرميان « وَمَا يُخَادِعُونَ » كالأولى ، والباقون « وَمَا يَخْدَعُونَ » ، فيحتمل أن تكونا القراءتان بمعنى واحد ، أي : يكون « فَاعَلَ » بمعنى « فَعَل » ، ويحتمل أن تكون المُفَاعلة على بابها ، أعني صدورها من اثنين ، فهم يُخَادعون أنفسهم ، حيث يُمَنُّونَها الأباطيل ، وأَنْفُسهمْ تخادعهم تمنِّيهم ذلك ، فكأنها مُحَاورة بين اثنين ، ويكون هذا قريباً من قول الآخر : [ المنسرح ]
185-
لَمْ تَدْرِ مَا لاَ؟ وَلَسْتَ قَائِلَهَا ... عُمْرَكَ ما عِشْتَ آخِرَ الأَبَدِ
وَلَمْ تُؤَامِرْ نَفْسَيْكَ مُمْتَرِياً ... فِيهَا وَفِي أُخْتِهَا وَلَمْ تَلِدِ
وقال آخر : [ الطويل ]
186-
يُؤَامِرُ نَفْسَيْهِ وَفِي الْعَيْشِ فُسْحَةٌ ... أَيَسْتَوْقِعُ الذُّوبَانَ أَمْ لاَ يَطُورُهَا
قال الومخشري : الاقتصار ب « خادعت » على وجهه أن يُقَال : عني به « فعلت » ، إلا أنه على وزن « فاعلت » ، لأن الزِّنَةَ في أصلها للمغالبة ، والفعل متى غولب فيه جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مُغَال لزيادة قوة الداعي إليه ، ويعضده قراءة أبي حيوة المتقدمة .
وقرىء : « وَمَا يُخَدِّعَونَ » ، ويُخَدِّعُونَ من خَدَّعَ مشدداً .
و « يُخَدِّعَونَ » بفتح الياء والتشديد؛ الأصل يختدعون ، فأدغم .
وقرىء : « وما يُخْدَعُونَ » ، « ويُخَادَعُونَ » على لفظ ما لم يسم فاعله ، وتخريجها على أن الأصل : وَمَا يُخْدَعُونَ إِلاَّ عَنْ أنفسهم « فلما حذف الجَرّ انتصب على حَدّ : [ الوافر ]
187-
تَمُرُّونَ الدِّيَارَ فَلَمْ تَعُوجُوا .. .
»
إلا أنفسهم « » إلا « في الأصل حرف استثناء و » أنفسهم « مفعول له ، وهذا استثناء مفرغ ، وهو : عبارة عما افتقر فيه ما قبل » إلا « لما بعدها ، ألا ترى أن » يخادعون « يفتقر إلى مفعول؟ ومثله : » ما قام إلا زيد « ، ف » قام « يفتقر إلى فاعل ، والتَّام بخلافه ، أي : ما لم يفتقر فيه ما قيل » إلا « لما بعدها ، نحو : قام القوم إلاّ ويداً ، وضربت القوم إلا بكراً ، فقام أخذ فاعله ، وضربت أخذ مفعوله ، وشرط الاستثناء المُفَرَّغ أن يكون بعد نفي ، أو شبهة كالاستفهام والنهي .
وأن قولهم : قرأت إلاّ يوم كذا ، فالمعنى على نفي مؤول تقديره : ما تركت القراءة إلاَّ يوماً ، هذا ومثله : { ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ } [ التوبة : 32 ] و { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } [ البقرة : 45 ] .
وللاستثناء أحكام كثيرة تأتي مفصّلة في مواضعها إن شاء الله تعالى .
والنَّفْسُ : هنا ذات الشيء وحقيقته ، ولا تختص بالأجسام لقوله تعالى : { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } [ المائدة : 116 ] ، » وَمَا يَشْعُرُونَ « هذه الجملة الفعلية يحتمل إلا يكون لها محلّ من الإعراب؛ لأنها استئناف ، وان يكون لها محلّ ، وهو النصب على الحال من فاعل » يخدعون « والمعنى : وما يرجع وَبَال خداعهم إلاَّ على أنفسهم غير شاعرين بذلك ، ومفعول » يشعرون « محذوف للعلم به ، تقديره : وما يشعرون أن وَبَالَ خداعهم راجع على أنفسهم ، واطّلاع الله عليهم .
والأحسن ألا يقدّر مفعول؛ لأن الغرض نفي الشعور عنه ألبتة من غير نظر إلى مُتَعلِّقه ، والأوّل يسمى حذف الاختصار ، ومعناه : حذف الشيء بدليل .
والثاني يسمى حذف الاختصار ، وهو حذف الشيء لا لدليل .
والشُّعور : إدراك الشيء من وجه يدقّ ، وهو مشتقّ من الشَّعَر لدقّته .
وقيل : هو الإدراك بالحاسّة مشتقّ من الشِّعِر ، وهو ثوب يلي الجَسَد ، ومنه مشاعر الإنسان أي : حواسّه الخمسة التي يشعر بها .
فصل في حد الخديعة
اعلم أن الخديعة مذمومة .
قال ابن الخطيب : » وَحَدُّهَا هي إظهار ما يوهم السّلامة والسّداد ، وإبطال ما يقتضي الإضرار بالغير ، أو التخلّص منه ، فهو بمنزلة النِّفَاق في الكفر والرِّياء في الأفعال الحسنة ، وكل ذلك بخلاف ما يقتضيه الدين؛ لأن يوجب الدين يوجب الاستقامة والعدول عن الغُرُورِ والإساءة ، كما يوجب المُخَالصة في العبادة « .
فصل في امتناع مخادعة الله تعالى
مخادعة الله -تعالى- ممتنعة من وجهين :
أحدهما : أنه يعلم الضَّمائر والسرائر ، فلا يصح أن يُخَادَع .
والثاني : أن المنافقين لم يعتقدوا أن الله بعث الرسول إليهم ، فلم يكن قصدهم في نفاقهم مخادعة الله ، فثبت أنه لا يمكن إجْراءُ هذا اللفظ على ظاهره ، فلا بُدّ من التأويل ، وهو من وجهين :
الأول : أنه -تعالى- ذكر نفسه ، وأراد به الرسول على عادته في تَفْخِيْمِ أمره ، وتعظيم شأنه .
قال : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفتح : 10 ] .
والمنافقون لما خادعوا [ الله ورسوله ] قيل : إنهم يخادعون الله .
الثاني : أن يقال : صورة حالهم مه الله حيث يظهرون الإيمان وهم كافرون صورة من يُخَادع ، وصورة صنع الله معهم حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده من الكَفَرَةِ صورة صنع الخادع ، وكذلك صورة صنع المؤمنين معهم حيث امتثلوا أمر الله فيهم ، فأجروا أحكامه عليهم .
فصل في بيان الغرض من الخداع في الآية
الغرض من ذلك الخداع وجوه :
الأول : أنهم ظنوا أن النبي -عليه الصلاة والسلام- وأصحابه يجرونهم في التَّعْظيم والإكرام مجرى سائر المؤمنين إذا أظهروا لهم الإيمان .
الثاني : يجوز أن يكون مرادهم إفشاء النبي -عليه الصلاة والسلام- أَسْرَاره ، والاطّلاع على أسرار المؤمنين ، فينقلونها إلى الكفار .
الثالث : أنهم دفعوا عن أنفسهم أَحْكَام الكفار ، كالقَتْلِ وغيره .
الرابع : أنهم كانوا يطعمون في أموال الغَنَائم .
فإن قيل : فالله تعالى كان قادراً على أن يوحي إلى نبيه كَيفية مَكْرِهِمْ وخِداعهم ، فَلِمَ لَمْ يَفْعَلْ ذلك هتكاً لسترهم؟
قلنا : هو قادر على استئصال « إبليس » وذريته ولكنه -تعالى- أبقاهم وقواهم ، إما لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، أو لحكمة لا يطلع عليها إلا هو .
وقوله : « وما يَخْدّعُونَ إلا أنفسهم » فيه وجهان :
الأول : أنه -تعالى- يجازيهم على ذلك ، ويعاقبهم عليه ، فلا يكونون في الحقيقة خادعين إلاّ أنفسهم .
والثاني : ما ذكره أكثر المفسرين ، وهو أم وَبَالَ ذلك راجع إليهم في الدنيا؛ لأن الله -تعالى- كان يدفع ضرر خِدَاعهم عن المؤمنين ويصرفه إليهم ، وهو كقوله : { إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] ونظائره .
«
في قلوبهم مرض » الجار والمجرور خبر مقدّم واجب التقديم لما تقدّم ذكره في قوله تعالى : { وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } [ البقرة : 7 ] . والمشهور تحريك الراء من « مرض » .
وَرَوَى الصمعي عن أبي عمرو سكونها ، وهما لغتان في مصدر مَرِضَ يَمْرَضُ .
«
والمرض » : الفتور .
وقيل : الفساد .
وقيل : صفة توجب وقوع الخَلَلِ في الأفعال الصادرة عن الفاعل ، ويطلق على الظلمة؛ وأنشدوا : [ البسيط ]
188-
فِي لَيْلَةٍ مَرِضَتْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ ... فَمَا يُحِسُّ بِهِ نَجْمٌ وَلاَ قَمَرُ
أي : لظلمتها ، ويجوز أن يكون أراد ب « مَرِضَتْ » فَسَدَت ، ثم بين جهة الفَسَادِ بالظُّلمةِ .
قوله : « فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً » .
هذه جملة فعلية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها ، متسبّبة عنها ، بمعنى أنَّ سبب الزِّيَادة حصول المرض في قلوبهم ، إذ المراد بالمرض هنا الغِلّ والحسد لظهور دين الله تعالى .
و « زاد » يستعمل لازماً ومتعدياً لاثنين ثانيهما غير الأول ك « أَعْطَى وكَسَا » ، فيجوز حذف مفعوليه ، وأحدهما اختصاراً واقتصاراً ، تقول : « زاد المال » فهذا لازم ، و « زدت زيداً أجراً » ومنه : { وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } [ الكهف : 13 ] ، { فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً } [ البقرة : 10 ] و « ودت زيداً » ولا تذكر ما زدته ، و « زدت مالاً » ولا تذكر من زدته .
وألف « زاد » منقلبة عن ياء؛ لقولهم : « يزيد » .
وقرأ ابن عامر وحمزة : « فزادهم » بالإمالة .
وزاد حمزة « زاد » حيث وقع ، و { زَاغَ } [ النجم : 17 ] { وَخَابَ } [ إبراهيم : 15 ] ، و { طَابَ } [ النساء : 3 ] ، و « حَاقَ » [ الأنعام : 10 ] ، والآخرون لا يميلونها .
فصل في أوجه ورود لفظ المرض
ورد لفظ « المرض » على أربعة أوجه :
الأول : الشّك كهذه الآية .
الثاني : الزِّنَا قال تعالى : { فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } [ الأحزاب : 32 ] .
الثالث : الحَرَجُ قال تعالى : { أَوْ كُنتُمْ مرضى أَن تضعوا أَسْلِحَتَكُمْ } [ النساء : 102 ] .
الرابع : المرض بعينه .
قوله : { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } نظيره قوله تعالى : { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } [ البقرة : 7 ] وقد تقدّم . و « أليم » هنا بمعنى : مُؤْلِم ، كقوله : [ الوافر ]
189-
ونَرْفَعُ مِنْ صُدُورِ شَمَرْدَلاَتِ ... يَصُكُّ وُجُوهَهَا وَهَجٌ أَلِيمُ
ويجمع على « فُعَلاَء » ك : « شريف وشرفاء » ، و « أفْعَال » مثل : « شريف وأشراف » ، ويجوز أن يكون « فعيل » : هُنَا للمُبَالغة محولاً من « فَعِل » بكسر العَيْنِ ، وعلى هذا تكون نسبة الألم إلى العَذّابِ مجازاً ، لأنّ الألم حلّ بمن وقع به العذاب لا بالعذاب ، فهو نظير قولهم : « شِعْرٌ شَاعِر » .
و { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } متعلّق بالاستقرار المقدر في « لهم » ، أي : استقر لهم عَذَابٌ أليم بسبب تكذيبهم . و « ما » يجوز أن تكون مصدرية ، أي : بكونهم يكذبون ، وهذا على القول بأن ل « كان » مصدراً ، وهو الصحيح عند بعضهم للتصريح به في قول الشاعر : [ الطويل ]
190-
بِبَذْلٍ وَحِلْمٍ سَادَ في قوْمِهِ الفَتَى ... وَكَوْنُكَ إِيَّاهُ عَلَيْكَ يَسِيرُ
فقد صَرّح بالكون ، ولا جائز أن يكون مصدر « كان » التَّامة لنصبه الخبر بعدها ، وهو « إياه » على أنَّ للنظر في هذا البيت مجالاً ليس هذا موضعه .
وعلى القول بأن لها مصدراً لا يجوز التصريح به معها ، لا تقول : « كان ويداً قائماً كوناً » ، قالوا : لأن الخبر كالعوض من المصدر ، ولا يجمع بين العوض والمُعَوَّض منه ، وحينئذ فلا حَاجَةَ إلى ضمير عائد على « ما » ؛ لأنها حرف مصدري على الصحيح ، خلافاً للأخفش وابن السَّراجِ في جعل المصدرية اسماً .
ويجوز أن تكون « ما » بمعنى « الذي » ، وحينئذ فلا بُدّ من تقدير عائدٍ أي : بالذي كانوا يكذبونه ، وجاز حَذْفُ العائد لاستكمال الشُّروط ، وهو كونه منصوباً بفعل ، وليس ثمَّ عائد آخر .
وزعم أبو البَقَاءِ أن كون « ما » موصولةً اسميةً هو الأظهر ، قال : لأنّ الهاء المقدرة عائدة على « الَّذِي » لا على المصدر . وهذا الَّذِي قاله غير لازم ، إذ لقائل أن يقول : لا نسلّم أنه لا بُدَّ من هاءٍ مقدّرة حتى يلزم جعل « ما » اسمية ، بل من قرأ { يَكْذِبُونَ } مخففاً فهو عنده يكذبون الرَّسول والقرآن ، أو يكون المشدّد بمعنى المخفّف ، وقرأ الكوفيون : { يَكْذِبُونَ } بالفتح والتَّخفيف ، والباقون بالضَّم والتشديد .
و « يكذّبون » مضارع « كذَّب » بالتشديد ، وله معانٍ كثيرة : الرَّمي بكذا ، ومنه الآية الكريمة والتعدية نحو : « فَرَّحْتُ زيداً » .
والتكثير نحو : « قَطَّعْتُ الأثواب » .
والجعل على صفة نحو : « قَطَّرْتُه » أي : جعلته مقطراً؛ ومنه : [ السريع ]
191-
قَدْ عَلِمَتْ سَلْمَى وَجَارَاتَهَا ... مَا قَطَّرَ الفَارِسَ إِلاَّ أَنَا
والتسمية نحو : « فَسَّقْتُهُ » أي : سميته فاسقاً
والدعاء له نحو : « سَقَّيْتُهُ » أي قلت له : « سَقَاكَ الله » .
أو الدعاء عليه نحو : « عَقَّرْتُه » أي قلت : عَقْراً لك .
والإقامة على الشي نحو : مَرَّضْتُه « والإزالة نحو : » قَذَّيْتُ عينه « أي : أزلت قَذَاها .
والتوجّه نحو : » شَرَّقَ وغَرَّبَ « ، أي : توجّه نحو الشرق والغرب .
واختصار الحكاية نحو : » أمَّنَ « قال : آمين .
وموافقة » تَفَعَّلَ « و » فَعَلَ « مخففاً نحو : وَلَّى بمعنى تولّى ، وقَدَّرَ بمعنى قَدَر ، والإغناء عن » تَفَعَّلَ « و » فَعَلَ « مخففاً نحو » حَمَّرَ « أي تكلم بلغة » حمير « ، قالوا : » مَنْ دخل ظَفَارِ حَمَّرَ وعَرَّدَ في القِتَال « هو بمعنى مخففاًن وغن لم يلفظ به .
و » الكذب « اختلف النَّاس فيه ، فقائل : هو الإخبار عن الشيء بخير ما هو عليه ذهناً وخارجاً ، وقيل : غير ما هو عليه في الخارج ، سواء وافق في ما في الخارج أم لا ، والصّدق نقيضه .
فصل في معنى الآية
قال المفسرون : { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } شكّ ونفاق { فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً } ؛ لأن الآيات كانت تنزل آيةً بعد آيةٍ ، كلما كفروا بآيةٍ ازدادوا كفراً ونفاقاً ، وذلك معنى قوله : { فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] والسورة لم تفعل ذلك ، ولكنهم ازدادوا رجساً عند نزولها حين كفروا بها قبل ذلك ، وهو كقوله تعالى : { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً } [ نوح : 6 ] والدعاء لم يفعل شيئاً من هذا ، ولكنهم ازدادوا فراراً عنده ، وقال : { فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } [ فاطر : 42 ] .
قالت المعتزلة : لو كان المراد من المرض -هاهنا- الكفر والجَهْل لكان قوله : { فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً } محمولاً على الكُفْرِ والجَهْلِ ، فيلزم أن يكون الله -تعالى- فاعلاً للكفر والجهل .
قالت المعتزلة : ولا يجوز أن يكون الله -تعالى- فاعلاً للكفر والجَهْلِ لوجوه :
أحدها : أنّ الكفار كانوا في غَايَة الحرص على الطَّعن في القرآن ، فلو كان المعنى ذلك لقالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم : إذا فعل الله الكفر فينا ، فكيف تأمران بالإيمان؟
وثانيها : أنه -تعالى- ذكر هذه الآيات في معرض الذَّم لهم على كُفْرِهِمْ ، فكيف يذمّهم على شيء خلقه الله فيهم .
وثالثها : قوله : { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } فإن كان الله خلق ذلك فيهم كما خلق لونهم وطولهم ، فأيّ ذنب لهم حتَّى يعذبهم؟
ورابعها : أنه -تعالى- أضافه إليهم بقوله : { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } وبأنهم يفسدون في الأرض ، وأنهم هم السّفهاء ، وأنهم إذا خلوا إلى شَيَاطِينهم قالوا : إنا معكم ، وإذا ثبت هذا فلا بُدّ من التأويل ، وهو ن وجوه :
الأول : يحمل المرض على الغَمّ ، لأنه يقال : مرض قلبي من أمر كذا ، والمعنى : أن المنافقين مرضت قلوبهم لما رأوا إثبات أمر النبي -عليه أفضل الصلاة والسلام- ، واستعلاء شأنه يوماً فيوماً ، وذلك يؤدي إلى زوال رياستهم ، كما روي أنه -عليه الصلاة والسلام- مَرَّ بعبد الله بن أُبّيِّ على حِمَارٍ ، فقال له : نَحّ حمارك يا مُحَمّد فقد آذانا رِيحُهُ ، فقال له بعض الأنصار ، اعْذُرْهُ يا رسول الله ، فإنه كان مؤملاً أن نُتَوِجَهُ الرياسة قبل أن تقدم علينا ، فهؤلاء لمَّا اشتدَّ عليهم الغَمّ وصفهم الله بذلك فقال : { فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً } أي : زادهم غمَّاً على غَمِّهِمْ .
وثانيها : المراد من زيادة المرض زيادة منع الألطاف فيكون بسبب ذلك المَنْع خاذلاً لهم . الثالث : أنَّ العرب تصف فتور النَّظر بالمرض يقولون : جاريةٌ مريضةُ الطرف .
قال جرير : [ البسيط ]
192-
إِنَّ العُيُونَ الَّتِي في طَرْفِهَا ... مَرَضٌ قَتَلْنَنَا ثُمَّ لَمْ يُحْيِينَ قَتْلاَنَا
فكذا المرض هاهنا إنما هو الفتور في النِّية؛ لأن قلوبهم كانت قويً على المُحَاربة ، والمُنَازعة ، والمخاصمة ، ثم انكسرت شوكتهم ، فأخذوا في النِّفَاق بسبب ذلك الخوف ، والانكسار ، فقال تعالى : { فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً } أي : زادهم الانْكِسَارَ والجُبْنَ والضعف ، وحقق الله ذلك بقوله : { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب } [ الأحزاب : 26 ]
الرابع : أن يحمل المرض على أَلَم القلب؛ لأنَّ المُبْتَلَى بالحَسَدِ والنِّفَاقِ ، ومشاهدة ما يكره ربما صار ذلك سبباً لتغيير مِزَاجَهَ ، وتألُّم قلبه ، وحَمْلُ اللَّفْظِ على هذا الوَجْهِ حَمْلٌ له على حقيقته ، فكان أولى .
وقوله : { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } صريح أن كذبهم علّة للعذاب الأليم ، وذلك يقتضي أن يكون كل كذب حراماً .
فأما ما يروى عن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- أنه كذب ثلاث كذبات ، فالمراد التعريض ، ولكن لما كانت صورته الكذب سمي بذلك .
والمراج بكذبهم قولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر ، وهم غير مؤمنين .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)
«
إذا » ظرف زمان مستقبل ويلزمها معنى الشرط غالباً ، ولا تكون إلاّ في الأمر المحقق ، أو المرجح وقوعه ، فلذلك لم تجزم إلا في شِعْرٍ؛ لمخالفتها أدوات الشرط؛ فإنها للأمر المحتمل ، فمن الجزم قوله : [ البسيط ]
193-
تَرْفَعُ لي خِنْدِفٌ واللهُ يَرْفَعُ لِي ... نَاراً إِذَا خَمَدَتْ نِيرَانُهُمْ تَقِدِ
وقال آخر : [ الكامل ]
194-
وَاسْتَغْنِ مَا أَغْنَاكَ رَبُّكَ بِالغِنَى ... وَإِذّا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلِ
وقال الآخر : [ الطويل ]
195-
إِذَا قَصُرَتْ أَسْيَافُنَا كَانَ وَصْلُهَا ... خُطَانَا إِلَى أَعْدَائِنَا فَنُضَارِبِ
فقوله : « فَنُضَارب » مجزوم لعطفه على محل قوله « كان وصلها » .
وقال الفرزدق : [ الطويل ]
196-
فَقَامَ أَبُو لَيْلَى إِلَيْهِ ابْنُ ظَالِمِ ... وَكَانَ إذَا مَا يَسْلُلِ السَّيْفَ يَضْرِبِ
وقد تكون للزمن الماضي ك : « إذ » كما قد تكون « إذ » للمستقبل ك « إذا » .
فمن مجيء « إذا » ظرفاً لما مَضَى من الزمان واقعةً موقع « إذ » قوله تعالى : { وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ } [ التوبة : 92 ] ، وقوله : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } [ الجمعة : 11 ] ، قال به ابن مالك ، وبعض النحويين .
ومن مجيء « إذ » ظرفاً لما يستقبل من الزمان قوله تعالى : { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ } [ غافر : 70 ] .
وتكون للمفاجأة أيضاً ، وهل هي حينئذ باقية على زمانيتها ، أو صارت ظرف مكان أو حرفاً؟
ثلاثة أقوال : أصحُّها الأول استصحاباً للحال ، وهل تتصرف أم لا؟
الظاهر عدم تصرفها ، واستدلّ من زعم تصرفها بقوله تعالى في قراءة من قرأ : { إِذَا وَقَعَتِ الواقعة لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجّاً } [ الواقعة : 1-4 ] بنصب « خافضة رافعة » ، فجعل « إذا » الأولى مبتدأ ، والثانية خبرها .
والتقدير : وَقْتُ وقوع الواقعة رجّ الأرض ، وبقوله : { حتى إِذَا جَآءُوهَا } [ الزمر : 71 ] ، و { حتى إِذَا كُنتُمْ } [ يونس : 22 ] فجعل « حتى » حرف جر ، و « إذا » مجرورة بها ، وسيأتي تحقيق ذلك في مواضع . ولا تُضَاف إلاَّ الجُمَلِ الفعلية خلافاً للأخفش .
وقوله : « قيل » فعل ماضٍ مبني للمفعول ، وأصله : « قَوَلَ » ك : « ضرب » ، فاستثقلت الكسرة على « الواو » ، فنقلت إلى « القاف » بعد سَلْبِ حركتها ، فسكنت « الواو » بعد كسرة ، فقلبت « ياء » ، وهذه أفصح اللغات ، وفيه لغة ثانية ، وهي الإشمام ، والإشمام عبارة عن جعل الضّمة بين الضم والكَسْرِ .
ولغة ثالثة وهي : إخلاص الضم ، نحو : « قُولَ وبُوعَ » ، قال الشاعر : [ الرجز ]
197-
لَيْتَ وَهَلْ يَنْفَعُ شَيْئاً لَيْتَ ... لَيْتَ شَبَاباً بُوعَ فَاشْتَرَيْتُ
وقال الآخر : [ الرجز ]
198-
حُوكَتْ عَلَى نَوْلَيْنِ إذْ تُحَاكُ ... تَخْتَبِطُ الشَّوْكَ وَلاَ تُشَاكُ
وقال الأخفش : « ويجوز » قُيُل « بضم القاء والياء » ، يعني مع الياء؛ لأن الياء تضم أيضاً .
وتجيء هذه اللغات الثلاث في « اختار » و « انقاد » ، و « ردّ » و « حَبَّ » ونحوها ، فتقول : « اختير » بالكسر ، والإِشْمَام ، و « اختورط ، وكذلك : » انقيد « ، و » انقود « ، و » رَدَّ « ، و » رِدَّ « ، وأنشدوا : [ الطويل ]
199-
وَمَا حِلُّ مِنْ جَهْلٍ حُبَا حُلَمَائِنَا ... وَلاَ قَائِلُ المَعْرُوفِ فِينَا يُعَنَّفُ
بكسر حاء » حل « .
وقرىء : » وَلَوْ رِدُّوا « [ الأنعام : 28 ] بكسر الراء .
والقاعدة فيما لم يسم فاعله أن يُضَمّ أول الفعل مطلقاً؛ فإن كان ماضياً كسر ما قبل آخره لفظاً نحو : » ضرب « ، أو تقديراً نحو : » قيل « ، و » اختير « .
وقد يضم ثاني الماضي أيضاً إذا افتتح بتاء مُطَاوعة نحو : » تُدُحْرج الحجر « ، وثالثه إن افتتح بهمزة وصل نحو : » انْطُلِقَ بزيد « واعلم أن شرط جواز اللغات الثلاث في » قيل « ، و » غيض « ، ونحوهما ألا يلتبس ، فإن التبس عمل بمقتضى عدم اللَّبْس ، هكذا قال بعضهم ، وإن كان سيبويه قد أطلق جواز ذلك ، وأشَمّ الكسائي : { قِيلَ } [ البقرة : 11 ] ، { وَغِيضَ } [ هود : 44 ] ، { وَجِيءَ } [ الزمر : 69 ] ، { وَحِيلَ } [ سبأ : 54 ] { وَسِيقَ الذين } [ الزمر : 71 ] و { سياء بِهِمْ } [ هود : 77 ] ، و { سِيئَتْ وُجُوهُ } [ الملك : 27 ] ، وافقه هشام في الجميع ، وابن ذكوان في » حِيْل « وما بعدها ، ونافع في » سيء « و » سيئت « ، والباقون بإخلاص الكسر في الجميع .
والإشْمَام له معان أربعة في اصطلاح القراء سيأتي ذلك في قوله : { لاَ تَأْمَنَّا } [ يوسف : 11 ] إن شاء الله تعالى .
و » الهم « جار ومجرور متعلّق ب » قيل « ، و » اللاَّم « للتبليغ ، و » لا « حرف نهي يجزم فعلاً واحداً ، و » تفسدوا « مجزوم بها ، وعلامة جزمه حذف النون؛ وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأمثلة الخمسة .
و » في الأرض « متعلّق به ، والقائم مقام الفاعل هو الجُمْلَةُ من قوله : » لا تفسدوا « لأنه هو القول في المعنى ، واختاره الزمخشري .
والتقدير : وإذا قيل لهم هذا الكلام ، أو هذا اللّفظ ، فهو من باب الإسناد اللَّفْظي .
وقيل : القائم مقام الفاعل مضمر ، تقديره : وإذا قيل لهم هو ، ويفسّر هذا المضمر سياق الكلام كما فسّره في قوله : { حتى تَوَارَتْ بالحجاب } [ ص : 32 ] .
والمعنى؟ : » وإذا قيل لهم قول سديد « فأضمر هذا القول الموصوف ، وجاءت الجملة بعده مفسّرة ، فلا موضع لها من الإعراب ، فإذا أمكن الإسناد المعنوي لم يعدل إلى اللَّفْظِيّ ، وقد أمكن ذلك بما تقدّم . وهذا القول سبقه إليه أبو البَقَاءِ ، فإنه قال : » والمفعول القائم مَقَام الفاعِلِ مصدر ، وهو القول ، وأضمر لأن الجملة بعد تفسّره ، ولا يجزز أن يكون « لا تفسدوا » قائماً مقام الفاعل؛ لأن الجملة لا تكون فاعلاً ، فلا تقوم مقام الفاعل « .
وقد تقدم جواب ذلك من أن المعنى : وإذا قيل لهم هذا اللفظ ، ولا يجوز أن يكون « لهم » قائم مقام الفاعل إلاَّ في رأي الكوفيين والأخفش ، إذ يجوز عندهم إقامة غير المفعول به مع وجوده .
وتلخصّ من هذا :
أنَّ جملة قوله : « لا تفسدوا » في مَحَلّ رفع على قول الزَّمخشري ، ولا محلّ لها على قول أبي البَقَاءِ ومن تبعه ، والجملة من قوله : « قيل » وما في حَيّزه في محل خفضٍ بإضافة الظرف إليه .
والعامل في « إذا » جوابها ، وهو « قالوا » ، والتقدير : قالوا « : إنما نحن مصلحون ، وقت قول القائم لهم : لا تفسدوا .
وقال بعضهم : الذي نختاره أن الجُمْلَةَ الَّتي بعدها وتليها ناصبة لها ، وأنَّ ما بعده ليس في مَحَلّ خَفْضٍ بالإضافة؛ لأنها أداة شرط ، فحكمها حكم الظروف التي يُجَازى بها ، فكما أنك إذا قلت : » متى تَقُمْ أَقُمْ « كان » متى « منصوباً بفعل الشرط ، فكذلك إذا قال هذا القائل .
والذي يفسد مذهب الجمهور جواز قولك : » إذا قمت فعمرو قائم « ووقوع : إذا » الفُجَائية جواباً لها ، وما بعد « الفاء » .
و « إذا » الفجائية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، وهو اعتراض ظاهر .
وقوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } « إنَّ » حرف مكفوف ب « ما » الزائدة عن العمل ، ولذلك تليها الجملة مطلقاً ، وهي تفيد الحَصْرَ عند بعضهم .
وأبعد من زعم أنّ « إنما » مركبة من « إنَّ » التي للإثبات ، و « ما » التي للنفي ، وأنّ بالتركيب حدث معنى يفيد الحَصْرَ .
واعلم أن « إن » وأخواتها إذا وَلِيْتَهَا « ما » الزائدة بطل عملها ، وذهب اختصاصها بالأسماء كما مرَّ ، إلا « لَيْتَ » فإنه يجوز فيها الوجهان سماعاً ، وأنشدوا قول النابعة : [ البسيط ]
200-
قَالَتْ : أَلاَ لَيْتَمَا هَذَا الحَمَامُ لَنَا ... إِلَى حَمَامَتِنَا وَنِصْفهُ ، فَقَدِ
برفع « الحَمَام » ونصبه ، فأما إهمالها فلبقاء اختصاصها ، وأمّا إهمالها فلحملها على أَخَوَاتِهَا ، على أنه قد روي عن سيبويه في البيت أنها معملة على رواية الرفع أيضاً ، بأن تجعل « ما » موصولة بمعنى « الذي » ، كالتي في قوله تعالى : { إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ } [ طه : 69 ] و « هذا » خبر مبتدأ محذوف هو العائد ، و « الحَمَام » نعت لهذا ، و « لنا » خبر ل « ليت » ، وحُذِفَ العائد وإن لم تَطُل الصلة .
والتقدير : ألا ليت الذي هو [ هذا ] الحمام كَائِنٌ لنا ، وهذا أولى من أن يدعي إهمالها ، لأن المقتضى للإعمال -وهو الاختصاص- باقٍ .
وزعم بعضهم أنّ « ما » الزائدة إذا اتَّصلت ب « إنَّ » وأخواتها جاز الإعمال في الجميع .
و « نحن » مبتدأ ، وهو ضمير مرفوع منفصل للمتكلم ، ومن معه أو المعظّم نفسه ، و « مصلحون » خبره ، والجملة في محل نَصْبٍ ، لأنها محكية ب « قالوا » .
والجملة الشرطية وهي قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } عطف على صلة « من » ، وهي « يقول » ، أي : ومن النَّاس من يقول ، ومن النَّاس من إذا قيل لهم : لا تفسدوا في الأرض قالوا : وقيل : يجوز أن تكون مستأنفةً ، وعلى هذين القولين ، فلا مَحَلّ لها من الإعراب لما تقدم ، ولكنها جزء كلام على القول الأول ، وكلام مستقل على القول الثاني ، وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن تكون معطوفةً على « يكذبون » الواقع خبراً ل « كانوا » ، فيكون محلّها النصب .
وردّ بعضهم عليهما بأن هذا الذي أجازاه على أَحَدِ وجهي « ما » من قوله : { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [ البقرة : 10 ] خطأ ، وهو : أن تكون موصولةً بمعنى « الذي » ، إذْ لا عائد فيها يعود على « ما » المَوْصُولة ، وكذلك إذا جعلت مصدريةً ، فإنها تفتقر إلى العائد عند الأَخْفَشِ ، وابن السراج . والجواب عن هذا أنهما لا يُجِيْزَانِ ذلك ألا وهما يعتقدان « ما » موصولة حرفية .
وأما مذهب الأخفش وابن السراج فلا يلزمهما القول به ، ولكنه يُشَكِلُ على أبي البَقَاءِ وحدهن فإنه يستضعف كون « ما » مصدرية كما تقدم .
فصل في أوجه ورود لفظ الفساد
ورد لفظ « الفساد » على ثلاثة أوجه :
الأول : بمعنى العِصْيَان كهذه الآية .
الثاني : بمعنى الهَلاَكِ قال تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] أي : أهلكتا .
الثالث : بمعنى السحر قال تعالى : { إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين } [ يونس : 81 ] .
فصل في بيان من القائل
منهم من قال : إن ذلك القائل هو الله تعالى ، ومنهم من قال : هو الرسول ، ومنهم من قال : بعض المؤمنين ، وكل ذلك محتمل .
والأقرب أن ذلك القائل هو الله تعالى ، ومنهم من قال : هو الرسول ، ومنهم من قال : بعض المؤمنين ، وكل ذلك محتمل .
والأقرب أن ذلك القائل كان مشافهاً لهم بذلك الكلام ، فإما أن يكون الرسول -عليه الصلاة والسلام- بلغه عنهم النفاق ، ولم يقطع بذلك ، فنصحهم فأجابوا بما يحقّ إيمانهم ، وأنهم في الصَّلاح بمنزلة سَائِرِ المؤمنين ، وإما أنْ يكون بعض من يلقون إليه الفَسَاد كان لا يقبله منهم ، وكان ينقلب واعظاً لهم قائلاً لهم : { لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض } [ البقرة : 11 ] فإن قيل : إنما كانوا يخبرون الرَّسول بذلك؟
قلنا : نعم ، كانوا إذا عوقبوا عادوا إلى إظهار الإسلام ، وكذبوا النَّاقلين عنهم ، وحلفوا بالله عليه كما قال -تعالى- عنهم : { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر } [ التوبة : 74 ] . وقيل هذا الكلام لليهود .
و « الفساد » خروج الشيء عن كونه منتفعاً به ، ونقيضه الصلاح .
واختلفوا في ذلك الفساد فقال ابن عباس والحَسَن وقَتَادَة والسّدي : الفساد في الأرض إظهار معصية الله تعالى .
قال القَفّال -رحمه الله- : وتقريره أن الشرائع سُنن موضوعة بين العباد ، فإذا تمسكوا بها زَوَال العدوان ، ولزم كل أحد شأنه ، وحقنت الدّماء ، وسكنت الفتن ، فكان فيه صلاح الأرض ، وصلاح أهلها ، وإذا تركوا التمسُّك بالشرائع ، وأقدم كلّ واحد على ما يَهْوَاه ، وقع الهَرَجُ والمَرَجُ والاضطراب ، ووقع الفساد في الأرض .
وقيل : الفساد هو مُدْرَارَاةُ المنافقين للكافرين ، ومخالطتهم معهم؛ لأنهم إذا مالوا إلى الكُفْرِ مع أنهم في الظاهر مؤمنون أَوْهَمَ ذلك ضعف الرسول وضعف أنصاره ، فكان ذلك يجري للكفار على إظهار عداوة الرسول ، ونَصْبِ الحروب له .
وقال الأصَمَ : كانوا يدعون في السّر إلى تكذيبه ، وجَحْد الإسلام ، وإلقاء الشُّبهات ، وتفريق بين النَّاس عن الإيمان .
فصل في مراد المنافقين بالإصلاح
قوله : { قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } هم المُنَافقون ، لأن مرادهم بهذا الكلام نقيض ما نهوا عنه ، وهو الإفساد في الأرض؛ فقولهم : إنما نحن مُصْلحون كالمُقَابِل له ، وفي هذا احتمالان .
أحدهما : أنهم اعتقدوا أن دينهم صواب ، فكان سعيهم لأجل تقوية ذلك الدّين ، لا جرم قالوا : إنما نحن مصلحون ، يعني : أن هذه المُدَاراة سَعْيٌ لأجل تقوية ذلك الدّين ، لا جرم قالوا : « إنما نحن مصلحون » أي : نحن نصلح أمر الفساد .
وقال ابن الخطيب : العلماء استدلّوا بهذه الآية على أنَّ من أظهر الإيمان وجل إجراء حكم المؤمنين عليه ، وتجويز خلافه لا يطعن فيه ، وتوبة الزِّنْدِيق مقبولةٌ ، والله أعلم .
وقوله : { ألاا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون } « ألا » حرف تنبيه ، واستفتاح ، وليست مركّبة من همزة الاستفهام و « لا » النافية ، بل هي بَسِيطَةٌ ، ولكنها لفظ مشترك بين التَّنبيه والاستفتاح ، فتدخل على الجُمْلَة اسميةً كانت أو فعليةً ، وبين العرض والتخصيص ، فتختصّ بالأفعال لفظاً أو تقديراً ، وتكون النافية للجنس دخلت عليها همزة الاستفهام ، ولها أحكام تقدّم بعضها عند قوله تعالى : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ البقرة : 2 ] ، وتكون للتَّمَنِّي ، فتجري مجرى « ليت » في بعض أحكامها .
وأجاز بعضهم أن تكون جواباً بمعنى « بَلَى » يقول القائل : ألم يقل زيد؟ فتقول : « ألا » بمعنى : « بلى قد قام » وهو غريب .
و « إنّهم » إنّ واسمها ، و « هم » تحتمل ثلاثة وجه :
أحدها : أن تكون تأكيداً لاسم « إنَّ » ؛ لأن الضمير المنفصل المرفوع يجوز أن يؤكد به جميع ضروب الضَّمير المتصل .
وأن تكون فصلاً ، وأن تكون مبتدأ .
و « المفسدون » خبره ، والجملة خبر ب « إن » .
وعلى القولين الأوّلين يكون « المفسدون » وحده خبراً ل « إن » ، وجيء في هذه الجملة بضروب من التأكيد منها : الاستفتاح والتنبيه ، والتَّأكيد ب « إن » ، والإتيان بالتأكيد ، والفَصْل بالضَّمير ، وبالتعريف في الخبر مبالغةً في الرد عليهم فيما ادّعوا من قولهم : « إنما نحن مُصْلِحُون » ؛ لأنهم أخرجوا الجواب جملةً اسميةً مؤكدةً ب « إنما » ليدلّوا بذلك على ثُبُوت الوَصْفِ لهم ، فرد الله عليهم بأبلغ وآكد مما ادعوه .


ج2. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
وقوله : { ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ } الواو عاطفة لهذه الجملة على ما قبلها .
و « لكن » معناها الاستدراك ، وهو معنى لا يُفَارقها ، وتكون عاطفةً في المفردات ، ولا تكون إلاّ بين ضدّين ، أو نقيضين ، وفي الخلافين خلاف ، نحو : « ما قام زيد لكن خرج بكر » ، واستدلّ بعضهم على ذلك بقوله طَرَفَةَ : [ الطويل ]
201-
وَلَسْتُ بِحَلاَّلِ التِّلاَعِ لِبَيْتِهِ ... وَلَكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدِ القَوْمَ أرفِدِ
فقوله : « متى يسترفد القوم أرفد » ليس ضدًّا ولا نقيضاً لما قبله ، ولكنه خلافه .
قال بعضهم : وهذا لا دليل فيه على المدّعى ، لأن قوله : « لستُ بحلاّل التِّلاعِ لبيته » كنايةٌ عن نفي البُخْلِ أي : لا أحلّ التِّلاَع لأجل البُخْل .
وقوله : « متى يسترفد القوم أرفد » كناية عن الكَرَمِ ، فكأنه قال : لست بخيلاً ولكن كريماً ، فهي -هاهنا- واقعة بين ضدّين .
ولا تعمل مخففة خلافاً ل « يونس » ، ولها أحكام كثيرة .
ومعنى الاسْتِدْرَاك في هذه الآية يحتاج إلى تأمل ونظر ، وذلك أنهم لما نهوا عن اتخاذ مثل ما كانوا يتعاطونه من الإفساد ، فقابلوا ذلك بأنهم مصلحون في ذلك ، وأخبر -تعالى- بأنهم هم المفسدون كانوا حقيقين بأن يعملوا أن ذلك كما أخبر -تعالى- وأنهم لا يدعون بأنهم مصلحون ، فاستدرك عليهم هذا المعنى الذي فَاتَهُمْ من عدم الشعور بذلك .
ومثله قولك : « زيد جاهل ، ولكن لا يعلم » ، وذلك لأنه من حيث اتّصف بالجهل ، وصار الجهل وصفاً قائماً به كان ينبغي أن يعلم بهذا الوَصْف من نفسه؛ لأن الإنسان له أن يعلم ما اشتملت عليه نفسه من الصفات ، فاستدركت عليه أنَّ هذا الوصف القائم له به لا يعلمه مُبَالغة في جهله .
ومفعول « يشعرون » محذوف : إمّا حذف اختصار ، أي : لا يشعرون بأنهم مفسدون ، وإما حذف اقتصار ، وهو الأحسن ، أي : ليس لهم شعور ألبتة .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
الكلام عليها كالكلام على التي قبلها .
و « آمنوا » فعل وفاعل ، والجملة في محل رفع لقيامها مقام الفاعل على ما تقدم في { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض } [ البقرة : 11 ] والأقوال هناك تعود هُنَا .
والكاف في قوله « كما آمن » في محلّ نصب .
وأكثر المعربين يجعلون نعتاً لمصدر محذوف ، والتقدير : آمنوا إيماناً كإيمان النَّاس ، وكذلك يقولون في : « سير عليه حثيثاً » : أي سيراً حثيثاً وهذا ليس مذهب سيبويه ، إنما مذهبه في هذا ونحوه أن يكون منصوباً على الحال من المصدر والمضمر المفهوم من الفعل المتقدم .
وإنما أحوج سيبويه إلى ذلك أن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه لا يجوز إلاَّ في مواضع محصورة ، ليس هذا منها ، فتلك المواضع : أن تكون الصفة خاصة بالموصوف ، نحو : « مررت بكاتب » .
أو واقعة خبراً نحو : « زيد قائم » .
أنو حالاً نحو : « جاء زيد راكباً » .
أو صفة لظرف نحو : « جلست قريباً منك » .
أو مستعملة استعمال الأسماء ، وهذا يحفظ ولا يُقَاس عليه ، نحو : « الأبْطَح والأَبْرَق » وما عدا هذه المواضع لا يجوز فيها حذف المَوْصوف؛ ألا ترى أنَّ سيبويه منع لا ماء ولو بارداً ، وإن تقدّم ما يدلُّ على الموصوف ، وأجاز : « إلا ماء ولو بارداً » ؛ لأنه نصب على الحال .
و « ما » مصدرية في محل جَرّ بالكاف ، و « آمَنَ النَّاسُ » صلتها .
واعلم أنَّ « ما » المصدرية توصَلُ بالماضي أو المضارع المتصرّف ، وقد شَذَّ وصلها بغير المتصرف في قوله : [ الطويل ]
202- ...
بِمَا لَسْتُمَا أَهْلَ الخِيَانَةِ ، والغَدْرِ
وهل توصل بالجمل الاسمية؟ خلاف ، واستدل على جوازه بقوله : [ الكامل ]
203-
وَاصِلْ خَلِيلَكَ ما التَّواصُلُ مُمْكِنٌ ... فَلأَنْتَ أَوْ هُوَ عَنْ قَلِيلٍ ذَاهِبُ
وقال الآخر : [ البسيط ]
204-
أَحْلاَمُكُمْ لِسِقَامِ الجَهْلِ شَافِيَةٌ ... كَمَا دِمَاؤُكُمُ تَشْفِي مِنَ الكَلَبِ
وقول الآخر : [ الوافر ]
205-
فإِنَّ الحُمْرَ مِنْ شَرِّ المَطَايَا ... كَمَا الحَبِطَاتُ شَرُّ بَنِي تَمِيمِ
إلاّ أن ذلك يكثر فيها إذا أفهمت الزمان؛ كقوله : [ الكامل ]
206-
وَاصِلْ خَلِيلَكَ . .
البيت .
وأجاز الزَّمخشري وأبو البقاء أن تكون « ما » كافّة ل « الكاف » عن العمل .
مثلها في قولك : ربما قدم زيد ، ولا ضرورة تدعو إلى هذا؛ لأن جعلها مصدريةً مبقٍ ل « الكاف » على ما عهد لها من العمل ، بخلاف جعلها كافة .
والألف واللام في « النَّاس » تحتمل أن تكون للجنس ، وفيها وجهان .
أحدهما : المراد « الأوس » و « الخزرج » ؛ لأن أكثرهم كانوا مسلمين ، وهؤلاء المنافقون كانوا منهم ، وكانوا قليلين ، ولفظ العموم قد يُطْلق على الأكثر .
والثاني : المُرَاد جميع المؤمنين؛ لأنهم هم النَّاس؛ لكونهم أعطوا الإنسانية حقَّهَا؛ لأن فضل الإنسان على سَائِرِ الحيوان بالعَقْلِ المرشد .
وتحتمل أن تكون « الألف » و « اللام » للعهد ، فيكون المراد « كما آمن الرسول ومن معهن وهم ناسٌ معهودون ، أو عبد الله بن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب .
الثاني : المُرَاد به النَّبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى : { أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } [ النساء : 54 ] .
أيك يحسدون النبي -عليه الصلاة والسلام- على النِّساء .
الثَّالث : الناس : المؤمنون خاصّة قال تعالى : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } [ آل عمران : 97 ] ، ومثله : { يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ } [ البقرة : 21 ] .
الرابع والخامس : كُفَّار قريش ، وزيد بن مسعود ، قال تعالى : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس } [ آل عمران : 173 ] يعني نَعِيم المكّي : { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } [ آل عمران : 173 ] .
السادس : آدم -عليه الصلاة والسَّلام- قال تعالى : { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس } [ البقرة : 199 ] يعني : آدم عليه الصلاة والسلام .
السابع : الرَّجَال؛ قال تعالى : { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس } [ غافر : 57 ] يعني : الرجال .
فصل في إعراب الآية
الهمزة في » أنؤمن « للإنكار ، والاستهزاء ، ومَحَلّ » أنؤمن « ب » قالوا « وقوله : { كَمَآ آمَنَ السفهآء } القول في » الكاف « و » ما « كالقول فيهما فيما تقدّم ، و » الألف « و » اللام « في » السفهاء « تحتمل أن تكون للجنس أو للعهد ، وأبعد من جعلها للغَلَبَة كالعيّوق؛ لأنه لم يغلب هذا الوصف عليهم ، بحيث إذا قيل : السفهاء فيهم منهم ناس مخصوصون ، كما يفهم من العيوق كوكب مخصوص .
والسَّفه : الخِفَّة ، يقال : ثوب سفيه أي : خفيف النَّسْج ، ويقال : سفهت الرِّيح الشيء : إذا حَرَّكته؛ قال ذو الرمّة : [ الطويل ]
207-
جَرَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِيَاحٌ تَسَفَّهِتْ ... أَعَالِيَهَا مَرَّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمِ
وقال أبو تمام : [ الوافر ]
208-
سَفِيهُ الرُّمْحِ جَاهِلُهُ إذَا مَا ... بَدَا فَضْلُ السَّفيهِ عَلَى الحَلِيمِ
أراد سريع الطَّعن بالرُّمْحِ خفيفه ، وإنما قيل لبذيء اللسان : سفيه؛ لأنه خفيف الهداية .
وقال عليه الصلاة والسلام : » شَارِبُ الخَمْرِ سَفِيهٌ « لقلة عقله .
وقيل : السفيه : الكَذَّاب الذي يعمل بخلاف ما يعلم ، وإنما سمّى المنافقون المسلمين بالسُّفهاء ، لأن المُنَافقين كانوا من أهل الرياسة ، وأكثر المسلمين كانوا فقراء ، وكان عند المنافقين أن دين محمد باطلٌ ، والباطل لا يقبله إلا السَّفيه ، فلهذا نسبوهم إلى السَّفاهة ، ثم إنّ الله -تعالى- قلب عليهم هذا القول فقال : » أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ « لوجوه :
وثانيها : أنَّ من باع آخرته بِدُنْيَاهُ فهو السَّفيه .
وثالثها : أنَّ من عادى الله ، وذلك هو السَّفيه .
والكلام على قوله : { ألاا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ } كالكلام على قوله : { ألاا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ } [ البقرة : 12 ] .
وقرأ أهل » الشام « و » الكوفة « » السّفهاء أَلاَ « بتحقيق الهمزتين ، وكذلك كل همزتين وقعتا في كلمتين اتفقتا أو اختلفتا ، والآخرون يحققون الأولى ، ويليّنون الثانية والمختلفتين طلباً للخفّة فإن كانتا متّفقتين مثل :
{
هؤلاء إِن } [ البقرة : 31 ] ، و { أَوْلِيَآءُ أولئك } [ الأحقاف : 32 ] ، و { جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ } [ هود : 101 ] قرأها أبو عمرو والبزي عن ابن كثير بهمزة واحدةٍ .
وقرأ أبو جعفر ، وورش ، ويعقوب : بِتَحْقِيق الأولى وتَلْيين الثانية .
وقرأ قَالُون : بتليين الأولى ، وتحقيق الثانية ، لأن مت يستأنف أولى بالهمزة ممّا يسكت عليه .
فصل في نظم الآية
إنما قال هناك : « ولكن لا يشعرون » ، وقال ها هنا : « ولكن لا يعلمون » لوجهين :
أحدهما : أن المثبت لهم -هناك- الإفساد ، وهو مما يدرك بأدنى تأمّل ، لأنه من المحسوسات التي لا تحتاج إلى فِكْرٍ كثير ، فنفى عنهم ما يدرك بالمشاعر ، وهي الحواسّ مبالغة في تجهيلهم ، وهو أنَّ الشعور الذي قد ثبت للبهائم مَنْفِيّ عنهم ، والمثبت -هنا- هو السَّفه والمصدر به هو الأمر بالإيمان ، وذلك مما يحتاج إلى إمْعَان فكرٍ ونَظَرٍ ، فإنه مُفْضٍ إلى الإيمان والتصديق ، ولم يقع منهم المأمور به وهو الإيمان ، فناسب ذلك نفي العلم عنهم .
الوجه الثاني : أن السَّفه خفّة العقل والجَهْل بالأمور؛ قال : [ السريع ]
209-
نَخَافُ أنْ تَسْفَهَ أحْلاَمُنَا ... فَنَجْهَلَ الجَهْلَ مَعَ الجَاهِلِ
والعلم نقيض الجَهْل فقابله بقوله : { لاَّ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 13 ] ؛ لأن عدم العلم بالشيء جهل به .
فصل في تعلق الآية بما قبلها
قال ابن الخطيب : لما نهاهم في الآية الأولى عن الفساد في الأرض ، ثم أمرهم في هذه الآية بالإيمان دلّ على أن كمال الإنسان لا يحصل إلا بمجموع الأمرين ، وهو تركه ما لا يَنْبَغِي ، وفعل ما ينبغي .
وقوله : { آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ الناس } أي : إيماناً مقروناً بالإخلاص بعيداً عن النفاق .
ولقائل أن يستدلّ بهذه الآية على أنّ مجرد الإقرار إيمان ، فإنه لو لم يَكُنْ إيماناً لما تحقّق مُسَمّى الإيمان إلاَّ إذا حصل بالإخلاص ، فكان قوله : « آمنوا » كافياً في تحصل المطلوب ، وكان ذكر قوله : { كَمَآ آمَنَ الناس } لغواً .
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
«
إذا » منصوب ب « قالوا » الذي هو جواب لها ، وقد تقدّم الخلاف في ذلك ، و « لقوا » فعل وفاعل ، الجملة في محلّ خفض بإضافة الظّرف إليها .
وأصل « لقوا » : لقيوا بوزن « شربوا » فاستثقلت الضمة على « الياء » التي هي « لام » الكلمة ، فحذفت الضمة فالتقى ساكنان : لام الكلمة وواو الجمع ، ولا يمكن تحريك أحدهما ، فحذف الأول وهو « الياء » ، وقلبت الكسرة التي على القاف ضمّة؛ لتجانِسَ واو الضمير ، فوزن « لَقُوا » : « فَعُوا » ، وهذه قاعدة مطّردة نحو : « خشوا » ، و « حيوا » . وقد سمع في مصدر « لقي » أربعة عشر وزناً : « لُقْيَاً وَلِقْيَةً » بكسر الفاء وسكون العَيْن ، و « لقاء ولقاءة » بفتحها أيضاً مع المَدّ في الثلاثة ، و « لَقَى » بفتح الفاء وضمّها ، و « لُقْيَا » بضم الفاء ، وسكون العين و « لِقِيَّا » بكسرها والتشديد و « لُقِيَّا » بضم الفاء ، وكسر العَيْنِ مع التشديد ، و « لُقْيَاناً وَلِقْيَاناً » بضم الفاء وكسرها ، و « لِقْيَانَةً » بكسر الفاء خاصّة ، و « تِلْقَاء » .
وقراءة أبو حنيفة -رحمه الله- : « وَإِذّا لاَقُوا » .
و « الَّذِينَ آمَنُوا » مفعول به ، و « قالوا » جواب « إذا » ، و « آمَنَّا » في محل نصب بالقول .
قال ابن الخطيب : « والمراد بقولهم : » آمنا « : أخلصنا بالقلب؛ لأن الإقرار باللسان كان معلوماً منهم مما كانوا يحتاجون إلى بَيَانِهِ ، إنما المشكوك فيه هو الإخلاص بالقلب ، وأيضاً فيجب أن يحمل على نقيض ما كانوا يظهرونه لشياطينهم ، وإنما كانوا يظهرون لهم التَّكذيب بالقلب » .
وقوله : { وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا } تقدّم نظيره ، والأكثر نظيره ، والأكثر في « خَلاَ » أن يتعدّى بالباء ، وقد يتعدّى ب « إلى » ، وإنما تعدّى في هذه الآية ب « إلى » لمعنى بديع ، وهو أنه إذا تعدّى بالباء احتمل معنيين :
أحدهما : الانفراد .
والثاني : السُّخرية والاستهزاء ، تقول : خلوت به « أي : سخرت منه ، وهو من قولك : خَلاَ فلان بعرض فلان أي : يَعْبَثُ به .
وإذا تعدّى ب » إلى « كان نصّاً في الانفراد فقط ، أو تقول : ضمن » خلا « معنى » صرف « فتعدّى » إلى « ، والمعنى : صرفوا خَلاَهم إلى شَيَاطينهم ، أو تضمّن معنى » ذهبوا وانصرفوا « ومنه : » القرون الخالية « .
وقيل : » إلى « -هنا- بمعنى » مع « ، كقوله :
{
وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ] .
وقيل : هي هنا بمعنى « الباء » ، وهذان القولان إنما يجوزان عند الكوفيين ، وأما البصريون فلا يُجِيزون التجوّز في الحروف؛ لضعفها .
وقيل المعنى : وإذا خلوا رجعوا إلى شَياطينهم . ف « إلى » على بابها .
والأصل في خَلَوا : خَلَوُوا ، فقلبت « الواو » الأولى التي هي « لام » الكلمة « ألفاً » لتحركها ، وانفتاح ما قبلها ، فبقيت ساكنة وبعدها « واو » الضمير ساكنة ، فالتقى ساكنان ، فحذف أولهما ، وهو « الألف » ، وبقيت الفتحة دالةً عليها .
و « شياطينهم » : جمع شيطان ، جمع تكسير ، وقد تقدّم القول في اشتقاقه ، فوزن شياطين : إما « فَعَالِيل » أو « فَعَالِين » على حسب القولين المتقدّمين في الاستعاذة ، والفصيح في شياطين وبابه أن يعرب بالحركات؛ لأنه جمع تَكْسير ، وهي لغةٌ رديئة ، وهي إجراؤه إجراء الجمع المذكر السالم ، سمع منهم : « لفلان البستان حوله البُسْتَانُون » .
وقرئ شاذَّا : « وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطون » [ الشعراء : 210 ] .
وشياطينهم : رؤساؤهم وكَهَنَتُهُمْ .
قال ابن عباس : وهم خمسة نفر من اليهود : كَعْبُ بن الشرف ب « المدينة » ، وأبو بردة ب « الشام » في بني أسلم ، وعبد الدار في « جهينة » ، وعوف بن عامر في بني أسد ، وعبد الله بن السوداء ب « الشام » ولا يكون كاهن إلا ومعه شيطان تابع له .
وقال مجاهد : شياطينهم : أصحابهم من المنافقين والمشركين .
وقوله : { إِنَّا مَعَكْمْ } « إنّ » واسمها و « معكم » خبرها ، والأصل في « إنا » : « إننا » لقوله تعالى : { إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً } [ آل عمران : 194 ] ، وإنما حذفت نُونَي « إنّ » لما اتصلت بنون « ن » ، تخفيفاً .
وقال أبو البقاء : « حذفت النون الوُسْطَى على القول الصحيح ، كما حذفت في » إن « إذا خففت » .
و « مَعَ » ظرف والضمير بعده في محلّ خفض بإضافته إليه وهو الخبر -كما تقدم- فيتعلّق بمحذوف وهو ظرف مكان ، وفهم الظرفية منه قلق .
قالوا : لأنه يدلّ على الصحبة ، ومن لازم الصحبة الظَّرفية ، وأما كونه ظرف مكان ، لأنه يخبر به عن الجُثَثِ نحو : « زيد معك » ، ولو كان ظرف زمان لم يَجُزْ فيه ذلك .
واعلم أن « مع » لا يجوز تسكين عينها إلا في شعر كقوله : [ الوافر ]
210-
فَرِيشِي مِنْكُمُ وَهَوَايَ مَعَكُمْ ... وَإِنْ كَانَتْ زَيَارَتُكُمْ لِمَامَا
وهي حينئذ على ظرفيتها خلافاً لمن زعم أنها حينئذ حرف جَرّ ، وإن كان النَّحاس ادّعى الإجماع في ذلك ، وهي من الأسماء اللازمة للإضافة ، وقد تقطع لفظاً ، فتنتصب حالاً غالباً ، تقول : جاء الويدان معاً أي : مصطحبين ، وقد تقع خبراً ، قال الشاعر : [ الطويل ]
211-
حَنَنْتَ إلى رَيَّا وَنَفْسُكَ بَاعَدَتْ ... مَزَارَكَ مَنْ وَشَعْبَاكُمَا مَعاً
ف « شَعْبَاكُمَا » مبتدأ ، و « مَعاً » خبره ، على أنه يحتمل أن يكون الخبر محذوفاً ، و « مَعاً » حال .
واختلفوا في « مع » حال قطعها عن الإضافة؛ هل هي من باب المقصور نحو : « عصى » و « رحا » ، أو المنقوص نحو : « يد » و « دم » ؟ قولان : الأوّل : قول يونس ، والأخفش .
والثاني : قول الخليل وسيبويه ، وتظهر فائدة ذلك إذا سمّي به
فعلى الأول تقول : « جاءني معاً » و « مررت بمَعٍ » ك « يَدٍ » ، ولا دليل على القول الأوّل في قوله : « وشعباكما معاً » ؛ لأن معاً منصوب على الظَّرف النائب عن الخبر ، نحو : « زيد عندك » وفيها كلام كثير .
فصل في نظم الآية
لم كانت مُخَاطبتهم للمؤمنين بالجملة الفعلية ومخاطبة شياطينهم بالجملة الاسمية محققة ب « إن » ؟
قال ابن الخطيب : الجواب : ليس ما خاطبوا به المؤمنين جديراً بأقوى الكلامين؛ لأن أنفسهم لا تساعدهم على المبالغة ، لأن القول الصادر عن النّفاق والكراهة قلّما يحصل معه المبالغة ، وإما لعلمهم بأن ادِّعاء الكمال في الإيمان لا يروج على المسلمين ، وأما كلامهم مع إخوانهم ، فكانوا يقولونه عن الاعتقاد ، ويعلمون أنّ المستمعين يقبلون ذلك منهم ، فلا جَرَمَ كان التأكيد لائقاً به . واختلفوا في قائل هذا القول أَهَمُّ كُلُّ المُنَافقين ، أو بعضهم؟
فمن حمل الشَّيَاطين على كبار المُنَافقين ، فحمل هذا القول على أنه من صغارهم ، فكانوا يقولون للمؤمنين : « آمنا » وإذا عادوا إلى أكابرهم قالوا : « إنا معكم » ، ومن قال : المراد بالشّياطين الكفار لم يمنع إضافة هذا القول إلى كُلّ المُنَافقين .
وقوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } كقوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } [ البقرة : 11 ] ، وهذه الجملة الظاهرة أنها لا محلّ لها من الإعراب لاستئنافها؛ إذ هي جواب لرؤسائهم ، كأنهم لما قالوا لهم : « إنَّا مَعَكُمْ » توجّه عليهم سؤال منهم ، وهو : فما بالكم مع المُؤْمنين تُظَاهرونهم على دينهم ، فأجابوهم بهذه الجملة .
وقيل : محلّها النصب ، لأنها بدلٌ من قوله : « إنَّا مَعَكُمْ » .
وقياس تخفيف همزة « مستهزؤون » ونحوه أن تجعل بَيْنَ بَيْنَ ، أي بين الهمزة والحرف الذي منه حركتها وهو « الواو » ، وهو رأي سيبويه ، ومذهب الأخفش قلبها « ياء » محضة .
وقد وقف حمزة على { مُسْتَهْزِئُونَ } و { فَمَالِئُونَ } [ الصافات : 66 ] و { لِيُطْفِئُواْ } [ الصف : 8 ] و { لِّيُوَاطِئُواْ } [ التوبة : 37 ] و { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ } [ يونس : 53 ] و { الخاطئين } [ يوسف : 29 ] و { الخاطئون } [ الحاقة : 37 ] ، و { مُّتَّكِئِينَ } [ الكهف : 31 ] و { مُتَّكِئُونَ } [ يس : 56 ] ، و { المنشئون } [ الواقعة : 72 ] بحذف صورة الهَمْزَةِ اتباعاً لرسم المُصْحَفِ .
وقولهم : { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } توكيد لقولهم : « إنَّا مَعَكُمْ » .
وقوله : { الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } الله : رفع بالابتداء ، و « يستهزىء » : جملة فعلية في محلّ رفع خبر ، و « بِهِمْ » متعلّق به ، ولا محل لهذه الجملة لاستئنافها .
و « يَمُدُّهُمْ » يتركهم ويُمْهِلُهُمْ ، وهو في محل رفع أيضاً لعطفه على الخَبَرِ ، وهو « يستهزىء » . و « يَعْمَهُونَ » في مَحَلِّ الحال من المفعول في « يَمُدُّهُمْ » ، أو من الضمير في « طغيانهم » ، وجاءت الحال من المُضّاف إليه؛ لأنَّ المُضّاف مصدر .
و « في طُغْيَانِهِم » يحتمل أن يتعلّق ب « يمدهم » ، أو ب « يعمهون » ، وقدّم عليه ، إلاَّ إذا جعل « يعمهون » حالاً من الضَّمير في « طغيانهم » ، فلا يتعلّق به حينئذ ، لفساد المعنى .
وقد منع أبو البَقَاءِ أن يكون « في طغيانهم » ، و « يعمهون » حَالَيْن من الضَّمير في « يمدهم » معللاً ذلك بأن العاملَ الواحدَ لا يعمل في حالين ، وهذا على رأي من منع ذلك .
وأما من يجيز تعدُّد الحال مع عدم تعدُّد صاحبها فيجيز ذلك ، إلاّ أنه في هذه الآية ينبغي أن يمنع من ذلك إلا ما ذكره أبو البَقَاءِ ، بل لأن المعنى يأبى جَعْلَ هذا الجار والمجرور حالاً؛ إذ المعنى منصب على أنه متعلّق بأحد الفعلين ، أعني : « يمدّهم » ، أو « يعمهون » لا بمحذوف على أنه حال .
والمشهور : فتح « الياء » من « يمدهم » .
وقرىء شاذاً : « يُمِدُّهُمْ » بضم الياء .
فقيل : الثلاثي والرُّباعي بمعنى واحد تقول : « مدّه » و « أمدّه » بكذا .
وقيل : « مدّه » إذا زاده عن جِنْسِهِ ، و « أمدّه » إذا أراد من غير جِنْسِهِ .
وقيل : مدّه في الشَّرِّ لقوله تعالى : { وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً } [ مريم : 79 ] ، وأمدّه في الخير لقوله تعالى : { وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ } [ نوح : 12 ] { وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ } [ الطور : 22 ] ، { أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملاائكة } [ آل عمران : 124 ] إلا أنه يعكر على هذين الفرقين أنه قرىء : { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي } [ الأعراف : 202 ] باللغتين ، ويمكن أن يُجَاب عنه بما ذكره الفارسي في توجيه ضم « الياء » أنه بمنزلة قوله تعالى : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ } [ آل عمران : 21 ] ، { فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى } [ الليل : 10 ] يعني أبو علي -رحمه الله- بذلك أنه على سبيل التهكُّم .
وأصل المدد الزيادة .
وقال الزمخشري : فإن قلت : لم زعمت أنه من المَدَد دون المَدّ في العُمُر والإمْلاء والإمْهَال؟
قلت : كفاك دليلاً على لك قراءة ابن كثير ، وابن محيصن : « ويمدهم » وقراءة نافع : { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ } [ الأعراف : 202 ] على أنَّ الذي بمعنى أَمْهَلَ إنما هو مَدّ له ب « اللام » كأملى له .
والاستهزاء لغةً : السخرية واللّعب؛ يُقَال : هَزِئَ به ، واستهزأ ، قال : [ الرجز ]
212-
قَدْ هَزِئَتْ مِنِّي أُمُّ طَيْسَلَهْ ... قالَت : أَرَاهُ مُعْدِماً لاَ مَالَ لَهْ
وقيل : أصله الانتقام؛ وأنشد : [ الطويل ]
213-
قَدِ اسْتَهْزَؤُوا مِنْهُمْ بِأَلْفَيْ مُدَجَّجِ ... سَرَاتُهُمُ وَسْطَ الصَّحَاصِحِ جُثَّمُ
فعلى هذا القول الثَّاني نسبة الاستهزاء إليه -تعالى- على ظاهرها .
وأما على القول الأول فلا بد من تأويل وهو من وجوه :
الأول : قيل : المعنى : يجازيهم على استهزائهم فسمى العقوبة باسم الذَّنب ليزدوج الكَلاَم ، ومنه : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ } [ الشورى : 40 ] ، { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ } [ البقرة : 194 ] .
وقال : { إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] ، { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله } [ آل : عمران : 54 ] .
وقال عليه الصلاة والسلام : « اللَّهُمَّ إنّ فلاناً هَجَاني ، وهو بعلم أني لَسْتُ بِشَاعِرٍ ، اللّهم فاهجُهُ ، اللهم فالْعَنْهُ عَدَدَ ما هَجَانِي » ؛ وقال عليه الصلاة والسَّلام : « تَكَلَّفُوا من الأَعْمَالِ ما تُطِيقونَ فإنَّ الله لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا » ؛ وقال عمرو بن كلثوم : [ الوافر ]
214-
أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَا
وثانيها : أنَّ ضرر استهزائهم بالمُؤْمنين راجعٌ إليهم ، وغير ضَارّ بالمؤمنين ، فيصير كأن الله استهزأ بهم .
وثالثها : أنّ من آثار الاستهزاء حُصُول الهَوَان والحَقارة ، فذكر الاستهزاء ، والمراد حُصُول الهَوَان لهم فعبّر بالسَّبب عن المُسَبِّب .
ورابعها : أنَّ استهزاء الله بهم أن يظهر لهم من أَحْكَامِهِ في الدُّنْيا ما لهم عند اللهِ خلافها في الآخرة ، كما أنهم أَظْهَرُوا [ للنَّبي و ] المؤمنين أمراً مع أنَّ الحاصل منهم في السر خلافه ، وهذا ضعيف؛ لأنه - تعالى - لما أظهر لهم أحكام الدُّنيا ، فقد أظهر الأدلّة الواضحة بما يعاملون به في الدَّار الآخرة ، فليس في ذلك مخالفة لما أظهره في الدنيا .
وخامسها : أن الله - تعالى - يُعَاملهم مُعَاملة المُسْتَهْزِئِ في الدُّنيا والآخرة ، أما في الدنيا ، فلأنه أطلع الرسول على أَسْرَارِهِمْ لِمُبَالغتهم في لإخْفَائِها ، وأمّا في الآخرة فقال ابنُ عَبَّاس : هو أن يفتح لهم باباً من الجنة ، فإذا رأوه المُنافقون خرجوا من الجَحِيمِ متوجّهين إلى الجنة ، فإذا وصلوا إلى باب الجنة ، فهناك يغلق دونهم الباب ، فذلك قوله تعالى : { فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ } [ المطففين : 34 ] وقيل : هو أن يُضْرَبَ للمؤمنين نورٌ يَمْشون به على صراط ، فإذا وصل المنافقون إليه حِيَلَ بينهم وبينه ، كما قالَ تَعَالَى : { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ } [ الحديد : 13 ] الآية .
فإن قيل : هلا قيل : إن الله يستهزئ بهم ليكون مطابقاً لقوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } [ البقرة : 14 ] ؟
ولجواب : أنَّ « يستهزئ : يفيد حدوث الاستهزاء وتجدّده وقتاً بعد وقت ، وقتاً بعد وقت ، وهكذا كانت نكايات الله فيهم { أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ } [ التوبة : 126 ] .
و » الطُّغيان « : الضلال مصدر طَغَى يَطْغَى طِغْياناً وطُغياناً بكسر الطَّاء وضمها . وبكسر الطَّاء قرأ زيد بن علي ، ولام » طغى « قيل : ياء . واو ، يقال : طَغَيْتُ وطَغَوْتُ ، وأصل المادّة مُجاوزة الحَدّ ، ومنه : طغى الماء .
و » العَمَةُ « : التردُّد والتحيُّر ، وهو قريب من العَمَى ، إلا أن بينهما عموماً وخصوصاً ، لأن العَمَى يطلق على ذهاب ضوء العين ، وعلى الخطأ في الرأي ، والعَمَةُ لا يطلق إلا على الخطأ في الرأي ، يقال : عَمِهَ عَمَهاً وَعَمَهَاناً فهو عَمِهٌ فهو عَمِهٌ وعَامِهٌ .
فصل في الرد على المعتزلة
قالت المعتزلة : هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها لوجوه :
أحدها : قوله تعالى : { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي } [ الأعراف : 203 ] أضاف ذلك الغيّ إلى إخوانهم ، فكيف يكون مضافاً إلى الله .
وثانيهما : أن الله - تعالى - ذمّهم على هذا الطغيان ، فلو كان فعلاً لله - تعالى - فكيف يذمهم عليه؟
وثالثهما : لو كان فعلاً لله - تعالى - لبطلت النبوة ، وبطل القرآن ، فكان الاشتغال بتفسيره عَبَثاً .
ورابعهم : أنه - تعالى - أضاف الطّغيان إليهم بقوله : { فِي طُغْيَانِهِمْ } ، ولو كان من الله لما أضافه إليهم فظهر أنه إنما أضافه إليهم ليعلم أنه - تعالى - غير خالق لذلك ، ومصداقه أنه حين أسند المَدّ إلى الشَّياطين أطلق الغيّ ، ولم يقيده بالإضافة في قوله : { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي } إذا ثبت هذا ، فلا بُدَّ من التأويل ، وهو من وجوه :
أحدها : قال الكَعْبِيّ وأبو مسلم الأصفهاني : إن الله - تعالى - لَمَّا منحهم أَلْطافَهُ التي منحها للمؤمنين ، وخَذَلَهُمْ بسبب كفرهم وإصرارهم عليه بقيت قلوبهم مُظْلِمَةً بتزايد الرَّيْن فيها ، وكتزائد النور في قلوب المؤمنين ، فسمى ذلك النور مدداً ، وأسنده إلى الله تعالى ، لأنه مسبّب عن فعله بهم .
وثانيها : أن يحمل على منع القَسْرِ والإِلْجاءِ .
وثالثها : أن يسند فعل الشيطان إلى الله - تعالى - لأنه بتمكينه ، وإقْدَاره ، والتَّخلية بينه وبين إغواء عباده .
ورابعها : قال الجُبَّائي : ويمدهم أي يمد عمرهم ، ثم إنهم مع ذلك في طغيانهم يعمهون ، وهذا ضعيف من وجهين :
الأول : ما بَيَّنَا أنه لا يجوز في اللُّغة تفسير « ويمدهم » بالمَدّ في العمر .
الثاني : هَبْ أنه يصحّ ذلك ، ولكنه يفيد أنه - تعالى - يمد عمرهم بغرض أن يكونوا في طُغيانهم يعمهون ، وذلك يفيد الإشكال .
أجاب القَاضِي عن ذلك بأنه ليس المُراد لأنه - تعالى - يبقيهم ، ويلطف بهم الطَّاعة ، فيأبون إلاَّ أن يعمهوا .
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
«
أولئك » : رفع بالابتداء و « الذين » وصلته خبره .
وقوله تعالى : { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } هذه الجملة عطف على الجملة الواقعة صلة ، وهي : « اشتروا » .
وزعم بعضهم أنها خبر المُبْتَدَأ ، وأنَّ الفاء دخلت في الخَبَرِ لما تضّمنه الموصول من معنى الشَّرْط ، فيصير قوله تعالى : { الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ } [ البقرة : 274 ] ، ثم قال : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ } [ البقرة : 274 ] وهذا وهم؛ لأن « الذين » ليس مبتدأ حتى يدّعي دخول الفاء في خبره ، بل هو خَبَرٌ عن « أولئك » كما تقدّم . فإن قيل : يكون الموصول مبتدأ ثانياً ، فتكون الفاء دخلت في خبره .
قلنا : يلزم من ذلك عدم الربط بين المبتدأ والجملة الواقعة خبرً عنه ، وأيضاً فإنَّ الصّلة ماضية معنى .
فإن قيل : يكون « الَّذين » بدلاً من « أولئك » فالجَوابَ يصير الموصول مخصوصاً لإبداله من مخصوص ، والصّلة أيضاً ماضية .
فإن قيل : « االذين » صفة ل « أولئك » ، ويصير نظير قولك : « الرجل الذي يأتيني فله درهم » .
قلنا : يرد بما رد به السؤال الثَّاني ، وبأنه لا يجوز أن يكون وصفاً له؛ لأنه أعرف منه ، ففسد هذا القَوْلُ .
والمشهور ضمّ واو « اشتروا » لالتقاء الساكنين ، وإنما ضممت تشبيهاً بتاء الفاعل .
وقيل : للفرق بين واو الجِمْعِ والواو الأصلية نحو : { لَوِ استطعنا } [ التوبة : 42 ] .
وقيل : لأن الضمة - هنا - أخفّ من الكسرة؛ لأنّها من جنس الواو .
وقيل : حركت بحركة الياء المحذوفة ، فإن الأصل : « اشتريوا » كما سيأتي .
وقيل : هي للجمع فهي مثل : « نحن » . وقرئ بكسرها على أصل التقاء الساكنين ، وبفتحها؛ لأنها أخف .
وأجاز الكسائي همزها تشبيهاً لها ب « أَدْؤُر » و « أَثْؤب » وهو ضعيف؛ لأن ضمها غير لازم .
وقال أبو البَقَاءِ : « ومنهم من يَخْتَلِسُهَا ، فيحذفها لالتقاء السَّاكنين؛ وهو ضعيف جداً ، لأن فيحذفها لالتقاء السَّاكنين؛ وهو ضعيف جداً ، لأن قبلها فتحة ، والفتحة لا تدلّ عليها » .
وأصل اشتروا : اشتريوا : فتحركت الياء ، وانفتح ما قبلها ، فقبلت أفلاً ، قم حذفت لالتقاء السَّاكنين ، وبقيت الفتحة دالّة عليها .
وقيل : بل حذفت الضَّمَّة من الياء فسكنت ، فالتقى سَاكِنَانِ ، فحذفت الياء لالتقائها ساكنةً مع « الواو » .
فإن قيل : واو الجمع قد حركت ، فينبغي أن يعود السَّاكن المحذوف؟
فالجواب : أنَّ هذه الحركة عارضةٌ فهي في حكم السَّاكن ، ولم يجئ ذلك إلاَّ في ضرورة الشعر؛ وأنشد الكِسَائيُّ :
215-
يَا صَيَاحِ لَمْ تَنَامِ العَشِيَّا ..
فأعاد الألف لما حركت الميم حركةٌ عارضةٌ .
و « الضَّلالة » مفعولة ، وهي : الجور عن القَصْدِ ، وفقد الاهتداء ، فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين .
و « بالهدى » متعلّق ب « اشتروا » والباء هنا للعوض ، وهي تدخل على المتروك أبداً .
فأما قوله تعالى : { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله الذين يَشْرُونَ الحياة الدنيا بالآخرة } [ النساء : 74 ] ، فإنَّ ظاهره أن الآخرة هي المأخوذة لا المتروكة .
فالجواب ما قاله الزَّمَخْشَرِيَ : « أن المراد ب » المشترين « المبطئون وعظوا بأن يغيروا ما بهم من النِّفَاق ، ويخلصوا الإيمان بالله -تعالى- ورسوله ، ويجاهدوا في الله حَقّ الجهاد ، فحينئذ دخلت » الباء « على المتروك .
والشِّراء -هاهنا- مَجَاز عن الاستبدال بمعنى أنهم لما تركوا الهدى ، وآثروا الضلالة ، جُعِلُوا بمنزلة لها بالهُدَى ، ثم رشح هذا المجاز بقوله تعالى : { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } فأسند الرِّبْحِ إلى التِّجارة ، والمعنى : فما ربحوا في تِجارتِهم؛ ونظير خذا التَّرْشيح قول الآخر : [ الطويل ] .
216-
بَكَى الخَزُّ مِنْ رَوْحٍ وَأَنْكَرَ جِلْدَهُ ... وَعَجَّتْ عَجِيجاً مِنْ جُذَامَ المَطَارِفُ
لما أسند البكاء إلى الخَزّ من أجل هذا الرجل - وهو رَوْح - وإنكاره لجلده مجازاً رَشّحه بقوله : » وَعَجّت المَطَارف من جُذام « أي : استغاثت الثياب من هذه القبيلة . وقول الآخر : [ الطويل ] .
217-
وَلَمَّا رَأَيْتُ النَّسْرَ عَزَ ابْنُ دَايةٍ ... وَعَشَّشَ في وَكْرَيْهِ جَاشَ لَهُ صَدْرِي
لما جعل » النَّسْرَ « عبارة عن الشَّيب ، و » ابن داية « وهو الغُرَاب عبارة عن الشباب ، مجازاً رَشّحه بذكر التعشُّش في الوَكْرِ ، وقول الآخر : [ الوافر ] .
218-
فَمَا أُمُّ الرُّدَيْنِ وَإنْ أَدَلَّتْ ... بِعَالِمَةٍ بأَخلاقِ الكِرامِ
إِذا الشَّيْطانُ قَصَّعَ في قَفَاهَا ... تَنَفَّقْنَاهُ بِالحبْلِ التُّؤَامِ
لما قال : » قَصّع في ثقاها « أي : دخل من القاصعاء ، وهي : جُحر من جِحَرَة اليَرْبُوعِ هنا لما ذكر سبحانه الشِّر ، أتبعه بما يُشاكله ، وهو الربح تمثيلاً لخسارتهم .
والربح : الزيادة على رأس المال .
وقوله : { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } هذه الجملة معطوفةٌ على قوله : { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } .
والمهتدي : اسم فاعل من اهتدى ، و » افتعل « عنا للمُطَاوعة ، ولا يكون » افتعل « للمطاوعة إلا من فعل نتعدٍّ .
وزعم بعضهم أنه يجيء من اللاَّزم ، واستدل على ذلك بقول الشاعر : [ الزجر ] .
219-
حَتَّى إذَا اشْتَالَ سُهَيْلٌ في السَّحَرْ ... كَشُعْلَةِ القَابِسِ تَرْمِي بالشَّرَرْ
قال : ف » اشْتال « افتعل لمُطاوعة » شال « ، وهو لازم ، وهذا وهم؛ لأن » افتعل « هنا ليس للمطاوعة ، بل بمعنى » فَعَلَ « المجرد .
ومعنى الآية أنهم ما كانوا مهتدين من الضلالة ، وقيل : مُصِيبين في تِجارتِهم؛ لأنّ المقصود من التِّجَارة سلامةُ رأس المال ، والربح ، وهؤلاء أضاعوا الأمرين؛ لأن رأس مالهم هو العَقْل الخالي عن المانع ، فلما اعتقدوا هذه الضلالات صارت تلك العقائد الفاسدة مانعةً من الاشتغال بطلب العقائد الحقة .
فهؤلاء مع أنهم لم يربحوا فقد أفسدوا رأس المال ، وهو العقل الهادي إلى العقائد الحقة .
وقال قتادة : » انتقلوا من الهُدَى إلى الضَّلالة ، ومن الطاعة إلى المعصية ، ومن الجَمَاعة إلى الفُرْقة ، ومن الأمن غلى الخوف ، ومن السُّنة إلى البِدْعَةِ « .
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)
اعلم أن المقصود من ضرب المِثَالِ أنه يؤثر في القَلْبِ ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه ، وذلك لأن الغرض من المَثَلِ تشبيه الخَفِيّ بالجَلِيّ والغائب بالشاهد ، فيتأكّد الوقوف على ماهيته ، ويصير الحس مطابقاً للعقل ، وذلك هو النهاية في الإيضاح في الترغيب في الإيمان لذا مثل بالظّلمة ، فإذا أخبرت عن ضعف أمر ومثّلته بِنَسْجِ العنكبوت كان ذلك أبلغ في وقعه في القلب بالخبر مجرداً .
قوله : « مثلهم » مبتدأ و « كمثل » جار ومجرور خبره ، فيتعلّق بمحذوف على قاعدة الباب ، ولا مُبَالاة بخلاف من يقول : إنّ « كاف » التشبيه لا تتعلّق بشيء ، والتقدير : مثلهم مستقر كَمَثَلِ . وأجاز أبو البقاء وابن عطية أن تكون « الكاف » اسماً هي الخبر ، ونظيره قول الشاعر : [ البسيط ] .
220-
أَتَنْتَهُونَ؟ وَلَنْ يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍ ... كَالطَّعْنِ يَذْهَبُ فيهِ الزَّيْتُ والفُتُلُ
وهذا مذهب الأخفش : يجيز أن تكون « الكاف » اسماً مطلقاً .
وأما مذهل سيبويه فلا يُجِيزُ ذلك إلا في شعر ، وأمّا تنظيره بالبيت فليس كما قال؛ لأنّ في البيت نضطر إلى جعلها اسماً لكونها فاعلة ، بخلاف الآية .
والذي ينبغي أن يقال : إن « كاف » التشبيه لها ثلاثة أحوال :
حال يتعيّن فيها أن تكون اسماً ، وهي ما إذا كانت فاعلة ، أو مجرورة بحرف ، أو إضافة . مثال الفاعل : [ البسيط ]
221-
أَتَنْتَهونَ وَلَنْ يَنْهَى . . ..
البيت .
ومثال جَرِّها بحرف قول امرئ القَيْسِ : [ الطويل ]
222-
وَرُحْنَا بكَابْنِ المَاءِ يُجْنَبُ وَسْطَنَا ... تَصَوَّبُ فِيهِ العَيْنُ طَوْراً وَتَرْتَقِي
وقوله : [ الوافر ]
223-
وَزَعْتُ بِكَالْهِرَاوَةِ أَعْوَجِيِّ ... إذَا وَنَتِ الرُّكَابُ جَرَى وَثابَا
ومثال جَرِّها بالإضافة قوله : [ السريع أو الرجز ]
224-
فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولْ ... وحال يتعيّن أن تكون فيها حرفاً ، وهي الواقعة صلة ، نحو : جاء الذي كزيد؛ لأن جعلها اسما يستلزم حذف عائد مبتدأ من غير طول الصِّلة ، وهذا ممتنع عند البصريين . وحال يجوز فيها الأمران ، وهي ما عدا ذلك نحو : « زيد كعمرو » .
وأبعد من جعلها زائدة في الآية الكريمة ، أي : مثلهم مثل الذي ، ونظّره بقوله : « ونظّره يقوله : » فَصُيِّرُوا مثل كعصف « كأنه جعل المثل والمثل بمعنى واحد ، والوجه أن المثل - هنا - بمعنى القصّة والتقدير : صفتهم وقصتهم كقصّة المستوقد ، فليست زائدةً على هذا التأويل ، وهذا جواب عن سؤال أيضاً ، وهو أن يقال : قوله تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد } يقتضي تشبيه مثلهم مثل المستوقد ، فما مثل المنافقين ومثل المُسْتَوْقِدِ حتّى شّبّه أحدهما بالآخر؟
فالجواب : أن يقال : استعير المثل للقصّة وللصفة إذا كان لها شأن وفيها غرابة ، كأنه قيل : قصتّهم العجيبةُ كقصّة الذي استوقد ناراً ، وكذا قوله : { مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون } [ الرعد : 35 ] أي فيما قصصنا عليه من العَجَائب قصّة الجنّة العجيبة .
{
وَلِلَّهِ المثل الأعلى } [ النحل : 60 ] أي : الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة .
{
مَثَلُهُمْ فِي التوراة } [ الفتح : 29 ] أي : وصفهم وشأنهم المتعجّب منه ، ولكن المَثَل - بالفتح - ولذلك حوفظ في لفظه فلم يغير .
و « الذي » : في محلّ خفض بالإضافة ، وهو موصول للمفرد المذكّر ، ولكن المراد به- هنا - جمع ولذلك روعي مّعٍنَاه في قوله : { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } فأعاد الضمير عليه جمعاً ، والأولى أن يقال : إنَّ « الذي » وقع وصفاً لشيء يفهم الجمع ، ثم حذف ذلك الموصوف للدّلالة عليه .
والتقدير : ومثلهم كمثل الفريق الذي استوقد ، او الجمع الذي اسْتَوْقَدَ؛ ويكون قد روعي الوصف مرة ، فعاد الضمير عليه مفرداً في قوله : { استوقد نَاراً } و « حوله » ، والموصوف أخرى فعاد الضمير عليه مجموعاً في قوله : « بنورهم » ، و « تركهم » .
وقيل : إنَّ المنافقين ذاتهم لم يشبهوا بذات المُسْتوقد ، وإنما شبهت قصّتهم بقصّة المستوقد ، ومثله قوله : { مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار } [ الجمعة : 5 ] ، وقوله : { يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت } [ محمد : 20 ] .
وقيل : المعنى : ومثل كل واحد منهم كقوله : { يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } [ غافر : 67 ] أي : يخرج كلّ واحد منكم . ووهم أبو البقاء ، فجعل هذه الآية من باب ما حذفت منه النُّون تخفيفاً ، وأنّ الأصْل : « الذين » ثم خففت بالحذف ، وكأنه مثل قوله تعالى : { وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا } [ التوبة : 69 ] ، وقول الشاعر : [ الطويل ] .
225-
وَإِنَّ الَّذي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ ... هُمُ القَمْمُ كُلُّ القَوْمِ يَا أُمُّ خَالِدِ
والأصل : « كالذين خَاضُوا » « وإنَّ الذين حانت » . وهذا وَهْم؛ لأنه لو كان من باب ما حذفت النون منه لوجب مُطَابقة الضمير جمعاً كما في قوله تعالى : { كالذي خاضوا } [ التوبة : 69 ] و « دِماؤُهُمْ » ، فلما قال تعالى : { استوقد } بلفظ الإفراد تبيّن أحد الأمرين المتقدّمين : إمّا بصلة من باب وقوع المفرد موقع الجمع؛ لأن المراد به الجنس ، او أنه من باب ما وقع فيه من صفة لموصوف يفهم الجمع .
وقال الزمخشري ما معناه : إنَّ هذه الآية مثل قوله تعالى : { كالذي خاضوا } [ التوبة : 69 ] ، واعتل لتسويغ ذلك بأمرين .
أحدهما : أن « الذي » لما كان وصلةً لوصف المعارف ناسب حذف بعضه لاستطالته ، قال : « ولذلك نهكوه بالحذف ، فحذفوا ياءه ثم كسرته ، ثم اقتصروا منه على اللاَّم في أسماء الفاعلين والمفعولين » .
والأمر الثاني : أنّ جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون ، إنما ذلك علامةٌ لزيادة الدّلالة ، ألا ترى أنَّ سائر المَوْصُولاَتِ لَفْظُ الجَمْعِ والمفرد التي نظر بها .
والوجه الثاني : أنه اعتقد كون الموصول بقيته « الذي » ، وليس كذلك ، بل « أل » الموصولة اسم موصول مستقلّ ، أي : غير مأخوذ من شيء ، على أنَّ الراجح من جهة الدَّليل كون « أل » الموصولة حرفاً لا اسماً كما سيأتي .
وليس لمرجّح أن يرجّح قول الزمخشري بأنهم قالوا : إنَّ الميم في قولهم : « مُ الله » بقية « أيمن » ، فإذا انتهكوا « أيمن » بالحذف حتى صار على حرف واحد ، فأولى أن يقال بذلك فيما بقي على حرفين ، لأن « أل » زائدة على ماهية « الذي » ، فيكونون قد حذفوا جميع الاسم ، وتركوا ذلك الزائد عليه ، بخلاف « ميم » « أيمن » ، وأيضاً فإن القول بأن « الميم » بقية « أيمن » قول ضعيف مردود يأباه قول الجُمًهُور .
وفي « الَّذي » لُغَاتٌ ، أشهرها ثبوت الياء ساكنةً ود تُشَدِّد مكسورة مطلقاً ، أو جاريةً بوجوه الإعراب ، كقوله : [ الوافر ]
226-
وَلَيْسَ المَالُ فَاعْلَمْهُ بِمَالٍ ... وَإِنْ أَرْضَاكَ إلا لِلِّذِيِّ
يَنَالُ بِهِ العَلاَءَ وَيَصْطَفِيِهِ ... لأَقْرَبِ أَقْرَبَيْهِ وَلِلْقَصِيِّ
فهذا يحتمل أن يكون مبنيَّا ، وأن يكون معرباً . وقد تُحْذَفُ ساكناً ما قبلها؛ كقول الآخر : [ الطويل ]
227-
فَلَمْ أَرَ بَيْتاً كَانً أَحْسَنَ بَهْجَةً ... مِنَ اللِّذْ بِهِ مِنْ آلِ عَزَّةَ عَامِرُ
أو مكسوراً؛ كقوله : [ الرجز ]
228-
واللِّذِ لَوْ شاءَ لَكَانَتْ بَرَّا ... أَوْ جَبَلاً أَشَمَّ مُشَمَخِرَّا
ومثل هذه اللغات في « التي » أيضاً .
قال بعضهم : « وقولهم : هذه لغات ليس بجيِّد؛ لأن هذه لم ترد إلاّ ضرورةً ، فلا ينبغي أن تسمى لغاتٍ » .
و « استوقد » : « استفعل » بمعنى « أَفْعَل » ، نحو : « استجاب » بمعنى « أَجَابَ » ، وهو رأي الأخفش وعليه قول الشاعر : [ الطويل ]
229-
وَدَاعٍ دَعَا : يَا مَنْ يَجِيبُ إلى الهُدَى ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ
لأي : فلم يجبه .
وقيل : بل السّين للطلب ، ورجّح قول الأخفش بأن كونه للطَّلب يستدعي حذف جملة ، ألا ترى أن المعنى : استدعوا ناراً فأوقدوها ، فلما أضاءت؛ لأن الإضاءة لا تنشأ عن الطلب إنما تنشأ عن الإيقاد .
والفاء في قوله : « فَلَمَّا » للسبب .
وقرأ ابن السَّميفع : « كمثل الذين » بلفظ الجمع ، واستوقد بالإقراد ، وهي مُشْكلة ، وقد خرجوها على أوجه أضعف منها وهي التوهّم ، أي : كأنه نطق ب « مَنْ » ؛ إذا أعاد ضمير المفرد على الجمع كقولهم ، « ضربني وضربت قومك » أي : ضربني من ، أو يعود على اسم فاعل مفهوم من « استوقد » ، والعائد على الموصول مَحْذوف ، وإن لم يكمل شرط الحذف ، والتقدير : استوقدها مستوقدٌ لهم . وهذه القراءة تقوّي قول من يقول : إنّ أصل « الذي » : « الذين » ، فحذفت النون .
و « لَمَّا : حرف وجوب لوجوب هذا مذهب سيبويه .
وزعم الفارسي وتبعه أبو البقاء ، أنها ظرف بمعنى » حين « ، وأن العامل فيها جوابها ، وقد ردّ عليه بأنها أجيبت ب » ما « النافية ، و » إذا « الفُجائية ، قال تعالى : { فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً }
[
فاطر : 42 ] .
وقال تعالى : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } [ العنكبوت : 65 ] ، و « ما » النافية ، و « إذا الفجائية لا يعمل ما بعدهما فيما قبلهما ، فانتفى أن تكون ظرفاً .
وتكون بمعنى » إلاّ « قال تعالى : { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدنيا } [ الزخرف : 35 ] في قراءة من قرأ بالتَّشديد .
و » أضاء « : يكون لازماً ومتعدياً ، فإن كان متعدياً ، ف » ما « مفعول به ، وهي موصولة ، و » حوله « ظرف مكان مخفوض به ، صِلةٌ لها ، ولا يتصرّف ، وبمعناه : حَوَال؛ قال الشاعر : [ الرجز ] .
231-
وأَنَا أَمْشِي الدَّأَلَى حَوَالَكَا ... ويُثَنَّيان؛ قال عليه الصلاة والسلام : » اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا « .
ويجمعان على » أَحْوال « .
ويجوز أن تكون » ما « نكرة موصوفة ، و » حوله « صفتها ، وإن كان لازماً ، فالفاعل ضمير » النار « أيضاً ، و » ما « زائدى ، و » حوله « منصوب على الظرف العامل فيه » أضاء « . وأجاز الزمخشري أن تكون » ما « فاعلة موصولة ، أو نكرة موصولة ، وأُنِّثَ الفعل على المعنى ، والتقدير : فلما أضاءت الجهةُ التي حوله أو جهةٌ حوله .
وأجاز أبو البقاء فيها أيضاً أن تكون منصوبة على الظرف ، وهي حينئذ : إما بمعنى الذي ، أو نكرة موصوفة ، والتقدير : فلما أضاءت النَّار المكان الذي حوله ، أو مكاناً حوله ، فإنه قال : يقال : ضاءت النّار ، وأضاءت بمعنى ، فعلى هذا تكون » ما « ظرفاً .
وفي » ما « ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون بمعنى الذي .
والثاني : هي نكرة موصوفة ، أي : مكاناً حوله .
والثالث : هي زائدة .
وفي عبارته بعض مُنَاقشته ، فإنه بعد حكمه على » ما « بأنها ظرفية كيف يُجَوِّزُ فيها - والحالة هذه - أن تكون زائدة ، وإنما أراد في » ما « هذه من حيث الجملة ثلاثة أوجه .
وقول الشاعر : [ الطويل ]
232-
أَضَاءَتٍ لَهُمْ أَحْسَابُهُمْ وَوُجُوهُهُمْ ... دُجَى اللَّيْلِ حَتَّى نَظَّمَ الجَزْعَ ثَاقِبُهْ
يحتمل التعدّي واللزوم كالآية الكريمة .
وقرأ ابن السَّمَيْفع : » ضاءت « ثلاثياً .
قوله : » ذهب الله بنورهم « هذه الجملة الظاهر أنها جواب ل » ما « .
وقال الزمخشري : » جوابها محذوف ، تقديره : فلما أضاءت خَمَدَتْ « وجعل هذا أبلغ من ذكر الجواب ، وجعل جملة قوله : { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } مستأنفة أو بدلاً من جملة التمثيل .
وقد رد عليه بعضهم هذا بوجهين :
أحدهما : أن هذا التقدير مع وجود ما يغني عنه ، فلا حاجة إليه؛ إذ التقديرات إنما تكون عند الضَّرورات .
والثَّاني : أنه لا تبدل الجملة الفعلية من الجملة الاسمية .
و » بنورهم « متعلّق ب » ذهب « ، والباء فيه للتَّعدية وهي مُرادفة للهمزة في التَّعدية ، هذا مذهب الجمهور .
وزعم أبو العباس أنَّ بينهما فرقاً ، وهو أن الباء يلزم معها مُصاحبة الفاعل للمفعول في ذلك الفِعْلِ الذي فبله ، والهزة لا يلزم فيها ذلك .
فإذا قلت : « ذهبت بزيد » فلا بُدَّ أن تكون قد صاحبته في الذِّهَاب فذهبت معه .
وإذا قلت : أذهبته جاز أن يكون قد صحبته وألاَّ يكون .
وقد رد الجمهور على المُبَرّد بهذه الآية؛ لأن مصاحبته - تعالى - لهم في الذهاب مستحيلة .
ولكن قد أجاب [ أبو الحسن ] ابن عُصْفور عن هذا بأنه يجوز أن يكون - تعالى - قد أسند إلى نفسه ذهاباً يليق به ، كما أسند إلى نفسه - تعالى - المجيء والإتيان على معنى يليق به ، وإنما يُرَد عليه بقول الشاعر : [ الطويل ] .
233-
دِيارُ الَّتِي كَانَتْ وَنَحْنُ عَلَى مِنَى ... تَحُلُّ بِنَا لَوْلاَ نَجَاءُ الرَكائِبِ
أي : تجعلنا جلالاً بعد أن كُنَّا مُحْرِمِين بالحج ، ولم تكن هي مُحْرِمَة حتى تصاحبهم في الحِلِّ؛ وكذا قول امرئ القيس : [ الطويل ]
234-
كُمِيْتٍ يَزِلُّ اللِّبْدُ عَنْ حَالِ مَتْنِهِ ... كَمَا زَلَّتِ الصَّفْواءُ بِالمُتَنَزِّلِ
«
الصفواء » الصخرة ، وهي لم تصاحب الذي تزله .
والضمير في « بنورهم » عائد على مَعْنَى الذي كما تقدم .
وقال بعضهم : هو عائد على مُضاف محذوف وتقديره : كمثل أصحاب الذي استوقد ، واحتاج هذا القائل إلى هذا التقدير ، قال : حتى يتطابق المشبه والمشبه به؛ لأنّ المشبه جمع ، فلو لم يقدر هذا المُضاف ، وهو « أصحاب » لزم أن يشبه الجمع بالمفرد وهو الذي استوقد . ولا أدري ما الذي حمل هذا القائل على مَنْعِ تشبيه الجمع بالمفرد في صفة جامعة بينهما ، وأيضاً فإنَّ المشبّه والمشبه به إنما هو القصّتان ، فلم يقع التشبيه إلاَّ بين قصَّتين إحداهما مُضافة إلى جمع ، والأخرى إلى مُفْرد .
قوله : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } ههذه جملة معطوفة .
فإن قيل : لم قيل : ذهب بنورهم ، ولم يقل : أذهب الله نورهم؟
فالجواب : أن معنى أذهبه : أزاله ، وجعله ذاهباَ ، ومعنى ذهب به : إذا أخذه ، ومضى به معه ، ومنه : ذهب السُّلطان بماله : أخذه ، قال تعالى : { فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ } [ يوسف : 15 ] فالمعنى : أخذ الله نوره ، وأمسكه ، فهو أبلغ من الإذهاب ، وقرأ اليماني : « أَذْهَبَ اللهُ نُورَهُمْ » .
فإن قيل : هلاّ قيل : ذهب الله بضوئهم [ لقوله : { فَلَمَّآ أَضَاءَتْ } ؟
الجواب : ذكر النور أبلغ؛ لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة . ]
فلو قيل : ذهب الله بضوئهم لأوهم ذهاب [ الكمال ، وبقاء ] ما يسمى نوراً والغرض إزالة النُّور عنهم بالكلية ، أَلا ترى كيف ذكر عقبيه : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } والظلمة عبارة عن عدم النور .
وقوله : [ { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } ] هذه جملة معطوفة على قوله : « ذهب الله » ، وأصل الترك : التخلية ، ويراد به التّصيير ، فيتعدّى لاثنين على الصَّحيح؛ كقول الشَّاعر : [ البسيط ]
235-
أَمَرْتُكَ الخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ ... فَقَدْ تَرَكْتَكَ ذَا مالٍ وَذَا نَضَبِ
فإن قلنا : هو متعدّ لاثنين كان المفعول الأول هو الضمير ، والمفعول الثاني : « في ظلمات » و « لا يبصرون » حال ، وهي حال مؤكدة؛ لأن من كان في ظلمة فهو لا يُبْصِرُ .
وصاحب الحال : إما الضمير المنصوب ، أو المرفوع المُسْتَكِنّ في الجار والمجرور .
ولا يجوز أن يكون « في ظلمات » حالاً و « لا يبصرون » هو المفعول الثاني؛ لأن المفعول الثاني خبر في الأصل ، والخبر لا يؤتى به للتأكيد ، فإذا جعلت « في ظلمات » حالاً فهم من عدم الإبصار ، فلو يفد قولك بعد ذلك : « لا يبصرون » إى التَّأكسد ، لكن التأكيد ليس من شَاْنِ الأخبار ، بل من شأن الأحوال؛ لأنها فضلات .
ويؤيّد ما ذكرت أن النحويين لما أعربوا قول امرئ القيس : [ الطويل ]
236-
إِذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ ... بِشِقِّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَوِّلِ
أعربوا : « شقّ » مبتدأ و « عندنا » خبره ، و « لم يُحَوَّلِ » خبراً ، و « عندنا » صفة ل « شق » مُسَوِّغاً للابتداء به قالوا : لأنه فهم معناه من قوله : « عندنا » ؛ لأنه إذا كان عنده عُلِمَ منه أنه لم يُحَوَّل .
وقد أعربه أبو البَقَاءِ كذلك ، وهو مردود بما ذكرت .
ويجوز إذا جعلنا « لا يبصرون » هو المفعول الثاني أن يتعلّق « في ظُلُمَاتٍ » به ، أو ب « تركهم » ، التقدير : « وتركهم لا يبصرون في ظلمات » . وإن كان « ترك » متعدياً لواحد كان « في ظُلُمَاتٍ » متعلّقاً ب « تركهم » ، و « لا يبصرون » حال مؤكّدة ، ويجوز أن يكون « في ظُلُمَاتٍ » حالاً من الضَّمير المنصوب في « تركهم » ، فيتعلّق بمحذوف ، و « لا يبصرون » حال أيضاً ، إما من الضمير في تركهم ، فيكون له حالان ، ويجري فيه الخلاف المتقدّم ، وإما من الضمير المرفوع المستكنّ في الجار والمجرور قبله ، فتكون حالين متداخلتين .
فصل في سبب حذف المفعول
فإن قيل : لم حذف المفعول من « يبصرون » ؟
فالجواب : أنه من قبيل المَتْرُوك الذي لا يلتفت إلى إخطاره بِالبَالِ ، لا من قبيل المقدّر المَنْوِيّ كأنّ الفعل غير متعدٍّ أصلاً .
قال ابن الخطيب : ما وجه التمثيل في أعطي نوراً ، ثم سلب ذلك النور ، مع أنّ المنافق ليس هو نور ، وأيضاً أن من استوقد ناراً فأضاءت قليلاً ، فقد انتفع بها وبنورها ثم حرم ، والمنافقون لا انتفاع لهم ألبتة بالإيمان ، وأيضاً مستوقد النًَّار قد اكتسب لنفسه النور ، والله - تعالى - ذهب بنوره ، وتركه في الظُّلمات ، والمنافق لم يكتسب خيراً ، وما حصل له من الحيرة ، فقد أتي فيه من قبل نفسه ، فما وجه التَّشبيه؟
والجواب : أنَّ العلماء ذكروا في كيفية التَّشبيه وجوهاً :
أحدها : قال السّدي : إن ناساً دخلوا في الإسلام عند وصوله - عليه الصلاة والسلام - إلى « المدينة » ثم إنهم نافقوا ، والتشبيه - ها هنا - في غاية الصحة؛ لأنهم بإيمانهم أولاً اكتسبوا نوراً ، ثم ينافقهم ثانياً أبطلوا ذلك النور ، ووقعوا في حيرة من الدنيا ، وأما المتحيّر في الدِّين ، فإنه يخسر نفسه في الآخرة أبَد الآبدين .
وثانيها : إن لم يصحّ ما قاله السّدي بل كانوا مُنَافقين من أول الأمر ، فها هنا تأويل آخر .
قال ابن عباس : وقتادة ، ومقاتل ، والضحاك ، والسدي ، والحسن : نزلت في المُنافقين يقول : مَثَلُهُمْ في نِفاقِهِم كَمَثَلِ رجل أوقد ناراً في ليلة مظلمة في مَغَارةٍ ، فاستدفأ ، ورأى ما حوله فاتَّقَى مما يخاف ، فَبَيْنَا هو كذلك إذْ طُفِئَتْ ناره ، فبقي في ظلمة خائفا متحيراً ، فكذلك المنافقون بإظهارهم كلمة الإيمان أمنوا على أموالهم ، وأولادهم ، وناكحوا المؤمنين ، وأورثوهم ، وقاسموهم الغَنَائم ، وسائر أحكام المسلمين ، فذلك نورهم ، فإذَا ماتوا عادوا إلى الظُّلْمَةِ والخوف ، ولما كان ذلك بالإضافة إلى العذاب الدَّائم مثل الذّرة ، شبههم بمستوقد النّار الذي انتفع بضوئها قليلاً ، ثم سلب ذلك ، فدامت حسرته وحيرته للظُّلمة العَظِيمةِ التي جاءته عقيب النُّور اليسير .
وثالثها : أن نقول ليس التَّشبيه في أنَّ للمنافق نوراً ، بل وجه التَّشْبيه بالمستوقد أنه لما زال النُّور عنه تحيَّروا تحيُّر من كان في نور ثم زال عنه أشَدّ من تحيّر سالك الطريق في ظلمة مستمرة ، لكنه - تعالى - ذكر النور في مستوقد النَّار لكي يصحّ أن يوصف بهذه الظُلمة الشديدة ، لا أن وجه التشبيه النور والظلمة .
ورابعها : قال مُجاهد : إنَّ الذي أظهروه يوهم أنه من باب النور الذي ينتفع به ، وذهاب النور هو ما يظهره لأصحابه من الكفر والنِّفَاق ، ومن قال بهذا قال : إن المثل إنما عطف على قوله : { وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكْمْ } [ البقرة : 14 ] فالنار مثل لقولهم : « آمنا » وذهابه مثل لقولهم للكُفّار « إنا معكم » .
فإن قيل : كيف صار ما يُظْهره المنافق من كلمة الإيمان ممثلاً بالنور ، وهو حين يتم نُوره ، وإنما سمى مجرّد ذلك القول نوراً؛ لأنه قول حقّ في نفسه .
وخامسها : يجوز أن يكون استيقاد النار عبارةً عن إظهار المُنَافق كلمة الإيمان ، وإنما سمى نوراً؛ لأنه يتزين به ظاهراً فيهم ، ويصير ممدوحاً بسببه فيما بينهم ، ثم إنّ الله يذهب ذلك النور بِهَتْكِ ستر المُنافق بتعريف نبيّه والمؤمنين حقيقة أمره ، فيظهر له اسم النِّفاق بدل ما يظهر منه من اسم الإيمان ، فيبقى في ظُلُمَاتٍ لا يبصر؛ إذ النُّور الذي كان له قبل كَشْفِ الله أمره قد زال .
وسادسها : أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضَّلالة بالهُدَى عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هُداهم الذي باعوه بالنار المُضيئة ما حول المستوقد والضَّلالة التي اشتروها ، وطلع بها على قُلُوبِهِمْ بذهاب الله بنورهم ، وتركه إيّاهم في ظلمات .
وسابعها : يجوز أن يكون المستوقد - ها هنا - مستوقد نار لا يرضاها الله تعالى ، والغرض تشبيه الفتنة التي حاول المنافقون إثارتها بهذه النار ، فإنَّ الفتنة التي كانوا يثيرونها كانت قليلة البقاء ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله } [ المائدة : 64 ] .
وثامنها : قال سعيد بن جبير : نزلت في اليهود ، وانتظارهم لخروج النبي - عليه الصلاو والسلام - لإيقاد النَّار ، وكفرهم به بعد ظهوره ، كزوال ذلك النور؛ قاله محمد بن كَعْبٍ ، وعطاء .
والموقود - هنا - هو سطوع النَّار وارتفاع لهبها .
والنَّار : جوهر لطيف مضيء حامٍ محرق ، واشتقاقها من نَارَ يَنُورُ إذا نفر؛ لأن فيها حركةً واضطراباً ، والنور مشتق منها ، وهو ضوؤها ، والمنار العلامة ، والمَنَارة هي الشَّيء الذي يؤذن عليها ويقال أيضاً للشيء الذي يوضع عليه السّراج منارة ، ومنه النُّورَة لأنها تطهر البدن ، والإضاءة فرط الإنارة ، ويؤيده قوله تعالى : { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً } [ يونس : 5 ] .
وما حول الشيء فهو الذي يتّصل به تقول : دار حوله وحواليه .
والحًوْل : السَّنة؛ لأنها تحول ، وحال العَهْدِ أي : تغير ، ومنه حال لونه .
والحوالة : انقلاب الحّقّ من شخص إلى شخص ، والمُحَاولة : طلب الفعل بعد أن لم يكن طالباً له ، والحَوَل : انقلاب العَيْنِ ، وَالحِوَل : الانقلاب قال تعالى : { لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } [ الكهف : 108 ] .
والظّلمة : عدم النُّور عما من شأنه أنْ يَسْتَنِيرَ ، والظّلم في الأصل عِبَارةٌ عن النُّقصان قال تعالى : { ءَاتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئاً } [ الكهف : 33 ] أي : لم تَنْقُص .
والظّلم : الثلج ، لأنه ينقص سريعاً . والظَّلَمُ : ماء آسنٌ وطلاوته وبياضه تشبيعاً له بالثلج .
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
الجمهور على رفعها على أنّها خبر مبتدأ محذوف ، هم صم بكم ، ويجيء فيه الخلاف المَشْهُور في تعدُّد الخبر ، فمن أجاز ذلك حمل الآية عليه من غير تأويل ، ومن منع ذلك قال : هذه الأخبار : وإن تعدّدت لفظاً ، فهي متحدة معنى؛ لأن المعنى : هم غير قائلين للحق بسبب عَمَهُمْ وصَمَمِهِمْ ، فيكون من باب : « هذا حُلْوٌ حَامِضٌ » أي : مُزٌّ ، وهذا أعسر أيسر أي : أضبط ، وقول الشاعر : [ الطويل ]
237-
يَنَامُ بإِحْدَى مُقْلَتَيْهِ ويَتَّقِي ... بِأُخْرَى الأَعَادِي ، فَهُوَ يَقْظَانُ هَاجِعُ
أي : متحرّز .
أو يقدر لكل خبر مبتدأ تقديره : هم صُمّ بُكْمٌ ، هم عُمْيٌ .
والمعنى : أنهم جامعون لهذه الأوصاف الثلاثة ، ولولا ذلك لجاز أن تكون هذه الآية من باب ما تعدّد فيه الخبر لتعدّد المبتدأ ، كقولك : الزيدون فقهاء شعراء كاتبون ، فإنه يحتمل أن يكون المعنى أن بعضهم فقهاء ، وبعضهم شعراء ، وبعضهم كاتبون ، وأنهم ليسوا جامعين لهذه الأوصاف الثلاثة ، بل بعضهم اختصّ بالفقه ، والبعض الآخر اختصّ بالشعر ، والآخر بالكتابة .
وقرأ بعضهم « صمَّا بكمً عمياً » بالنصب ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه حالٌ ، وفيه وجهان :
أحدهما : هو حال من الضمير المنصوب في « تركهم » .
والثاني : من المرفوع في « لا يُبًصِرُون » .
الثاني : النَّصْب على الذَّم كقوله : { حَمَّالَةَ الحطب } [ المسد : 4 ] وقول الآخر :
238-
سَقَوْنِي الخَمْرَ ثُمَّ تَكَنَّفُونِي ... عُداةَ اللهِ مِنْ كَذِبٍ وزُورِ
أي : أذمُ عُداة الله .
الثالث : أن يكون منصوباً ب « ترك » ، أي : صمَّا بكماً عمياً .
والصّمم : داء يمنع من السَّمَاع ، وأصله من الصَّلابة ، يقال : قناة صَمّاء : أي : صلبة .
وقيل : أصله من الانسداد ، ومنه : صممت القَارُورَة أي : سددتها .
والبَكَمُ : داءٌ يمنع الكلام .
وقيل : هو عدم الفَهْمِ .
وقيل : الأبكم من وُلِدً أَخْرَسَ .
وقوله : « فهم لا يرجعون » جملة خبرية معطوفة على الجملة الخبرية قبلها .
وقيل : بل الأولى دعاء عليهم بالصَّمم ، ولا حاجة إلى ذلك .
وقال أبو البقاء : وقيل : فهم لا يرجعون حال ، وهو خطأ؛ لأن « الفاء » ترتب ، والأحوال لا ترتيب فيها .
و « رجع » يكون قاصراً ومتعدياً باعتبارين ، وهذيل تقول : : أرجعه غيره « ، فإذا كان بمعنى » عاد « كان لازماً ، وإذا كان بمعنى » أعاد « كان متعدياً ، والآية الكريمة تحتمل التَّقديرين ، فإن جعلناه متعدياً ، فالمفعول محذوف ، تقديره لا يرجعون جواباً ، مثل قوله : { إِنَّهُ على رَجْعِهِ لَقَادِرٌ } [ الطارق : 8 ] ، وزعم بعضهم أنه يضمَّن معنى » صار « ، فيرفع الاسم ، وينصب الخبر ، وجعل منه قوله عليه الصلاة والسلام : » لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفّاراً يَضْرِب بَعْضُكُم رِقابَ بَعْضٍ « .
ومن منع جريانه مجرى » صار « جعل المنصوب حالاً .
فصل في المراد بنفي السمع والبصر عنهم .
لما كان المعلوم من حالهم أنهم كانوا يسمعون ، وينطقون ، ويبصرون امتنع حمل ذلك على الحقيقة فلم يَبْقَ إلاّ تشبيه حالهم لشدة تمسُّكهم بالعناد ، وإعراضهم عن سماع القرآن ، وما يظهره الرسول من الأدلة والآيات بمن هو أصمّ في الحقيقة فلا يسمع ، وإذا لم يسمع لم يتمكّن من الجواب ، فلذلك جعله بمنزلة الأَبْكَمِ ، وإذا لم ينتفع بالأدلّة ، ولم يبصر طريق الرشد ، فهو لمنزلة الأعمى .
وقوله : { فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } أي : من التمسُّك بالنفاق فهم مستمرون على نفاقهم أبداً .
وقيل : لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه ، او عن الضَّلالة بعد أن اشتروها .
وقيل : أراد أنّهم بمنزلة المتحيّرين الّضين بقوا خامدين في مَكَانِهِمْ لا يبرحون ، ولا يدرون أيتقدّمون أم يتأخرّون؟ وكيف يرجعون إلى حيث ابتدءوا منه؟
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
اعلم أنّ هذا مثل ثانٍ للمنافقين ، وكيفية المشابهة من وجوه :
أحدها : أنه إذا حصل السحاب والرعد والبرق ، واجتمع مع ظلمة السّحاب ظلمة الليل ، وظلمة المَطَرِ عند ورود الصواعق عليهم يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصَّوَاعق حَذَرَ الموت ، وأن البرق يكاد يخطف أبصارهم ، فإذا أضاء لهم مَشَوْا فيه ، وإذا ذهب بَقَول في ظلمة عظيمة ، فوقفوا متحيّرين؛ لأنّ من أصابه البرق في هذه الظلمات الثلاث ثم ذَهَبَ عنه تشتدّ حيرته ، وتعظم الظُّلمة في عينيه أكثر من الذي لم يزل في الظلمة ، فشبّه المنافقين في حيرتهم وجهلهم بالدِّين بهؤلاء الذين وصفهم ، إذا كانوا لا يرون طريقاً ، ولا يهتدون .
وثانيها : أن المَطَرَ وإن كان نافعاً إلاّ أنه لما وجد في هذه الصُّورة مع هذه الأحوال الضَّارة صار النفع به زائلاً ، فكذا إظهار الإيمان نافعٌ للمنافقين لو وافقه الباطن ، فإذا فقد منه الاخلاص ، وحصل أنواع المَخَافَةِ ، فحصلت في المنافقين نهاية الحَيْرَةِ في الدين ، ونهاية الخوف في الدنيا؛ لأنّ المنافق يتصور في كل وقت أنه لو حصل الوقوف على باطنه لقتل ، فلا يزال الخَوْفُ في قلبه مع النفاق . ورابعها : المراد من الصَّيِّب هو الإيمان والقرآن ، والظلمات والرعد والبرق هي الأشياء الشَّاقة على المنافقين من التكاليف كالصَّلاة والصوم وترك الرِّيَاسات ، والجهاد مع الآباء والأمّهات ، وترك الأديان القديمة ، والانقياد لمحمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - مع شدّة استنكافهم عن الانقياد ، فكأنّ الإنسان يبالغ في الاحتراز عن المَطَرِ الصَّيِّب الذي [ هو ] أشَدُّ الأشياء نفعاً بسبب هذه الأُمُور المُقارنة ، كذلك هؤلاء . والمراد من قوله : { كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ } أنّه متى حصل لهم شيء من المَنَافع ، وهي عصمة أموالهم ودمائهم ، وحصول الغنائم ، فإنهم يرغبون في الدِّين .
قوله : { وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ } أي متى لم يجدوا شيئاً من تلك المنافع ، فحينئذ يكرهون الإيمان ، ولا يرغبون فيه .
فصل في « أو »
في « او » خمسة أقوال :
أظهرها : أنها للتفصيل بمعنى : أنَّ الناظرين في حال منهم من يشبههم بحال المُسْتَوْقد ، ومنهم من يشبههم بأَصْحاب صَيِّبٍ هذه صفته .
قال ابن الخطيب : « والثاني أبلغ؛ لأنه أدلُّ على فرط الحيرة » .
والثاني : أنها للإبهام ، أي : أن الله أَبْهَمَ على عباده تشبيههم بهؤلاء أو بهؤلاء .
والثالث : أنها للشَّك ، بمعنى : أنَّ الناظر يشكُّ في تشبيههم .
الرابع : أنها للإباحة .
الخامس : أنها للتخيير ، قالوا : لأن أصلها تساوي شيئين فصاعداً في الشك ، ثم اتسع فيها ، فاستعيرت للتساوي في غير الشك كقولك : « جالس الحسن أو ابن سيرين » يريد أنهما سيّان ، وأن يجالس أيهما شاء ، ومنه قوله تعالى : { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } [ الإنسان : 24 ] ، أي : الإثم والكفر متساويان في وجوب عصيانهما ، وزاد الكوفيون فيها معنيين آخرين :
أحدهما : كونها بمعنى « الواو » ؛ وأنشدوا : [ البسط ]
239-
نضال الخِلاَفَةَ أوْ كَانَتْ لَهُ قَدَراً ... كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ
وقال تعالى : { تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ } [ النور : 61 ] وقال : [ الطويل ]
240-
وَقَدْ زَعَمَتْ لَيْلَى بِأَنِّيَ فَاجِرٌ ... لِنَفْسِي تُقَاهَا أوْ عَلَيْهَا فُجُورُهًا
قال ابن الخطيب : وهذه الوجوه مطردة في قوله : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلك فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [ البقرة : 74 ] .
المعنى الثاني : كونها بمعنى : « بل » ؛ قال تعالى : { وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] وأنشدوا : [ الطويل ]
241-
بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ في رَوْنَقِ الضُّحَى ... وَصُورَتِها أوْ أَنْتَ في العَيْنِ أمْلَحُ
أي : بل أنت .
و « كصيب » معطوف على « كَمَثَلِ » ، فهو في محل رفع ، ولا بد من حذف مضافين؛ ليصح المعنى ، التقدير يراد : « أو كمثل ذوي صيّب » ولذلك رجع عليه ضمير الجمع في قوله : { يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ في آذَانِهِم } ، لأن المعنى على تشبيههم بأصحاب الصَّيِّب لا بالصيب نفسه .
و « الصَّيب » المَطَر سمي بذلك لنزوله ، يقال : صاب يصوب إذا نزل؛ ومنه : صوَّب رأسه : إذا خفضه؛ قال [ الطويل ]
242-
فَلَسْتُ لإنْسِيَّ ولَكِنْ لِمَلأَكِ ... تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ
وقال آخر : [ الطويل ]
243-
فَلاَ تَعْدِلِي بَيْنِي وَبَيْنَ مُغَمَّرٍ ... سَقَتْكِ رَوَايَا المُزْنِ حَيْثُ تَصُوبُ
وقيل : إنه من صَابَ يَصُوب : إذا قصد ، ولا يقال : صَيّب إلا للمطر الجَوَاد ، كان - عليه الصلاة والسلام - يقول : « اللهم اجعله صَيِّباً هَنِيئاً » أي : مطراً جواداً ، ويقال أيضاً للسحاب : صَيّب؛ قال الشماخ : [ الطويل ]
244- . . ...
وَأَسْحَمَ دَانٍ صادَقِ الرَّعْدِ صَيِّبِ
وتنكير « صيب » يدلّ على نوع زائد من المطر شديد هائلٍ كما نكرت « النَّار » في التمثيل الأول .
وقرئ « كصائب » ، والصَّيب أبلغ .
واختلف في وزن « صَيِّب » .
فقد ذهب البصرون أنه « فَيَعِل » ، والأصل : صَيْوِب أدغم ك « مَيّت » و « هَيّن » ، والأصل : مَيوت وهَيْوِن .
وقال بعض الكوفيين : وزنه « فَعِيل » والأصل : صَوِيب بزنة طويل .
قال النحاس : وهذا خطأ؛ لأنه كان ينبغي أن يصح ولا يُعَلّ كطويل ، وكذا أبو البقاء .
وقيل وزنه : « فَعْيَل » فقلب وأُدغم .
واعلم أنه إذا قيل بأن الجملة من قوله : { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } [ البقرة : 17 ] استئنافية ، ومن قوله : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } [ البقرة : 18 ] إنها من وصف المنافقين كانتا جملتي اعتراض بين المتعاطفين ، أعني قوله : « كَمَثَل » و « كَصَيِّبٍ » وهي مسألة خلاف منعها الفارسي ورد عليه بقول الشاعر : [ الوافر ]
245-
لَعَمْرِكَ والخُطُوبُ مُغَيِّراتٌ ... وَفِي طُولِ المُعَاشَرَةِ التَّقَالِي
لَقَدْ بَالَيْتُ مَظْعَنَ أُمٌّ أَوْفَى ... وَلَكِنْ أُمُّ أَوْفَى لا تُبَالِي
ففصل بين القسم ، وهو « لعمرك » وبين جوابه ، وهو « لَقَدْ بَالَيْتُ » بجملتين إحداهما : « والخطوب متغيرات » .
والثانية : « وفي طول المُعَاشرة التَّقالي » .
و « من السماء » يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يتعلّق ب « صيب » ؛ لأنه يعمل عمل الفعل ، والتقدير : كمطر يَصُوب من السماء ، و « مِنْ » لابتداء الغاية .
والثَّاني : أن يكون في محلّ جر صفة ل « صيب » ، فيتعلّق بمحذوف ، وتكون « من » للتبغيض ، ولا بُدّ حينئذ من حذف مضاف تقديره : كصيّب كائن من أمطار السَّماءِ .
والسماء : هذه المطلّة ، وهي في الأصل كل ما عَلاَكَ من سَقْفٍ ونحوه ، مشتقة من السُّمو ، وهو الإرتفاع ، والأصل : سَمَاو ، وإنما قُلبت الواو همزة لوقوعها طرفاً بعد ألف زائدة وهو بدل مُطّرد ، نحو : « كساء ورداء » ، بخلاف « سقاية وشقاوة » لعدم تطرف حرف العلّة ، ولذلك لما دخلت عليها تاء التأنيث صحَّت؛ نحو : « سماوة » .
قال الشاعر : [ الرجز ]
246-
طَيِّ اللَّيالِي زُلُفاً فَزُلَفَا ... سَمَاوَةَ الهِلاَلِ حَتَّى احْقَوْقَفَا
والسماء مؤنث قال تعالى : { إِذَا السمآء انفطرت } [ الانفطار : 1 ] وقد تذكَّر؛ قال تعالى : { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } [ المزمل : 18 ] ؛ وأنشد : [ الوافر ] .
247-
وَلَوْ رَفَعَ السَّمَاءَ إلَيْهِ قَوْماً ... لَحِقْنَا بَالسَّمَاءِ مَعَ السَّحَابِ
فأعاد الضَّمير من قوله : « إلَيْهِ » على « السَّمَاءِ » مذكَّراً ، ويجمع على « سَمَاوَاتٍ » ، وأَسْمِيَة ، وَسُمِيّ « ، والأصل » فعول « ، إلا أنه أعلّ إعلال » عِصِيّ « بقلب الواوين ياءين ، وهو قلب مطّرد في الجمع ، ويقلّ في المفرد نحو : عتا -عُتِيًّا ، كما شذّ التصحيح في الجمع قالوا : » إنكم لتنظرون في نُحُوٍّ كثيرةٍ « ، وجمع أيضاً على » سماء « ، ولكن مفرده » سَمَاوة « ، فيكون من باب تَمْرَةٍ وتضمْرٍ ، ويدلّ على ذلك قوله : [ الطويل ]
248- ..
فَوْقَ سَبْعِ سَمَائِيَا
ووجه الدّلالة أنه مُيِّزَ به » سَبْع « ولا تُمَيِّزُ هي وأخواتها إلاّ بجمع مجرور .
وفي قوله : » من السَّمَاءِ « ردّ على من قال : إن المطر إنما يحصل من ارتفاع أبخرة رطبة من الأَرْض إلى الهواء ، فتنعقد هناك من شدّة برد الهواء ، ثم ينزل مرة أخرى ، فذاك هو المطر؛ فأبطل الله هذا المذهب بأن بَيّن أن الصِّيب نزل من السَّمَاء ، وقال : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً طَهُوراً } [ الفرقان : 48 ] .
وقال : { وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } [ النور : 43 ] .
قوله : { فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } [ البقرة : 19 ] يحتمل أربعة أوجه :
أحدها : أن يكون صفة ل » صَيّب « .
الثاني : أن يكون حالاً منه ، وإن كان نكرة لتخصصه ، إما بالعمل في الجار بعده ، أو بصفة بالجار بعده .
الثالث : أن يكون حالاً من الضمير المُسْتَكِنّ في » من السماء « إذا قيل : إنه صفة ل » صَيّب « ، فيتعلق في التقادير الثلاثة بمحذوف ، إلاّ أنه على القول الأوّل في محلّ جر لكونه صفة لمجرور ، وعلى القولين الأخيرين في مَحَلّ نَصْب على الحال .
و « ظلمات » على جميع هذه الأقوال فاعل به؛ لأنَّ الجار والمجرور والظرف متى اعتمدا على موصوف ، أو ذي حالٍ ، أو ذي خبر ، أو على نَفْي ، أو استفهام عملاً عمل الفعل ، والأخفش يُعْمِلُهُمَا مطلقاً كالوصف ، وسيأتي تحرير ذلك .
الرابع : أن يكون خبراً مقدماً ، و « ظلمات » مبتدأ ، والجملة تحتمل وجهين :
الأول : الجر على أنها صفة ل « صيب » .
والثاني : النَّصْب على الحال ، وصاحب الحال يحتمل أن يكون « كصيب » ، وإن كان نكرة لتخصيصه بما تقدّمه ، وأن يكون الضَّمير المستكن في « من السَّماء » إذا جعل وصفاً ل « صيّب » ، والضمير في « فيه » ضمير « الصيب » ، واعلم أن جعل الجار صفة أو حالاً ، ورفع « ظلمات » على الفاعلية به أَرْجَحُ من جعل { فِيهِ ظُلُمَاتٌ } جملة برأسها في محلّ صفة أو حال؛ لأنّ الجار أقرب إلى المفرد من الجملة ، وأصل الصفة والحال أن يكونا مفردين .
و « رَعْدٌ وبَرْقٌ » : معطوفان على « ظلمات » بالاعتبارين المتقدّمين ، وهما في الأصْل مصدران تقول : رَعَدَتِ السماء تَرْعَدُ رَعْداَ ، وبَرَقَتْ بَرْقاً .
قال أبو البقاء : وهما على ذلك مُوَحَّدَتَانَ هنا يعني على المصدرية ويجوز أن يكونا بمعنى الرَّاعد والبارق ، نحو : رجل عَدْل .
والظاهر أنهما في الآية ليس المُرَاد بهما المصدر ، بل جعلا اسماً [ للهز واللمعان ] .
والبرق : اللَّمَعَان ، وهو مقصود الآية ، ولا حاجة حينئذ إلى جعلهما بمعنى اسم فَاعِلٍ .
وقال علي وابن عباس -رضي الله عنهما- وأكثر المفسرين : الرعد : اسم ملك يسوق السَّحاب ، والبرق : لَمَعَانُ سَوْط ] من نور يزجر به المكل السحاب .
وقيل : الرعد صوت انضغاط السّحاب .
وقيل : تسبيح الملك ، والبرق ضحكه .
وقال مجاهد : الرعد اسم الملك؛ ويقال لصوته أيضاً : رعد ، والبرق اسم ملك يسوق السحاب .
وقال شهر بن حَوشَبٍ : الرعد ملك يُزْجِي السحاب ، فإذا تبددت ضمها فإذا اشتد غضبه طارت من فيه النَّار فهي الصواعق .
وقيل : الرعد صوت انحراق الريح بين السحاب . فإن قيل : لم جمع « الظّلمات » ، وأفرد « الرعد والبرق » ؟
فالجواب : أن في « ظلمات » اجتمع أنواع منها ، كأنه قيل : فيه ظلمات داجيةٌ ، ورعد قاصف ، وبرق خاطف .
{
يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ } ، وهذه الجملة الظاهر أنها لا محلّ لها لاستئنافها كأنه قيل : ما حالهم؟ فقيل : يجعلون .
وقيل : بل لها محلّ ، ثم اختلف فيه فقيل : جرّ؛ لأنها صفة للمجرور ، أي : أصحاب صيب جاعلين ، والضمير محذوف .
أو نابت الألف واللام منابه ، تقديره : يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق منه أو من صواعقه .
وقيل : محلُّها نصب على الحال من الضمير في « فيه » .
والكلام في العائد كما تقدّم ، والجَعْل -هنا- بمعنى الالتقاء ، ويكون بمعنى الخَلْق ، فيتعدّى لواحد ، ويكون بمعنى « صَيَّرَ » أو « سمى » ، فيتعدى لاثنين ، ويكون للشروع ، فيعمل عمل « عسى » .
و « أَصَابِعهُمْ » جمع إصبع ، وفيها عشر لُغَات : بتثليث الهمزة مع تثليت البَاءِ ، والعاشرة « أصبوع » بضم الهمزة .
والواو في « يَجْعَلُون » تعود لِلْمُضَاف المحذوف ، كما تقدم إيضاحه .
واعلم أنه إذا حذف المضاف جاز فيه اعتباران :
أحدهما : أن يلتفت إليه .
والثاني : ألا يلتفت إليه ، وقد جمع الأمران في قوله تعالى : { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] ، والتقدير : وكم من أهل قرية فلم يراعه في قوله : { أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا } [ الأعراف : 4 ] ، ورعاه في قوله تعالى : { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] وذكر الأصابع ، وإن كان المجهول إنما هو رؤوس الأصابع تسمية للبعض باسم الكُلّ كما في قوله تعالى : { فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا } [ المائدة : 38 ] ، و { في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق } كلاهما متعلّق بالجعل ، و « من » معناها التعليل .
و « الصَّوّاعق » : جمع صاعقة ، وهي الضَّجَّة الشديدة من صوت الرعد تكون معها القطعة من النار .
ويقال : « ساعقة » بالسّين ، و « صاعقة » ، و « صاقعة » بتقديم القاف؛ وأنشد : [ الطويل ]
249-
أَلَمْ تَرَ أَنَّ المُجْرِمِين أصَابَهُمْ ... صَوَاقِعُ لاَ بَلْ هُنَّ فَوقَ الصَّواقِعِ
ومثله قول الآخر : [ الرجز ]
250-
يَحْكُونَ بِالمَصْقُولَةِ القَوَاطِعِ ... تَشَقُّقَ اليَدَيْنِ بِالصَّوَاقِعِ
وهي قراءة الحسن .
قال النَّحَّاس : وهي لغة « تميم » ، وبعض « بني ربيعة » ، فيحتمل أن تكون « صاعقة » مقلوبة من « صَاعِقة » ويحتمل ألاّ تكون ، وهو الأظهر لثبوتها لغةً مستقلةً كما تقدم .
ويقال : « صقعة » أيضاً ، وقد قرأ بها الكسَائي في « الذاريات » .
يقال : صُعِقَ زيد ، وأصعقه غيره قال : [ الطويل ]
251-
تَرَى النُّعَرَاتِ الزُّرْقَ تَحْتَ لَبَانِهِ ... أُحَادَ وَمَثْنَى أصعَقَتْهَا صَوَاهِلُهْ
وقيل : « الصّاعقة » [ قصف رعد ينقض منها شعلة ] من نارٍ لطيفة قوية لا تمرُّ بشيء إلاّ أتت عليه إلاّ أنها مع قوتها سريعة الخمود .
وقيل : الصاعقة : قطعة عذاب ينزلها الله على من يَشَاءُ ، وروي عن سالم بن عبد الله ابن عمر عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرَّعْدِ والصواعق قال : « اللَّهُمّ لا تقتلنا بغضبك ولا تُهْلكنا بِعَذَابِكَ وَعَافِنَا قبل ذَلِكَ » .
قوله : { حَذَرَ الموت } أي : مَخَافَةَ الهلاك ، وفيه وجهان :
أظهرهما : أنه مفعول من أجله ناصبه « يجعلون » ، ولا يضر تعدّد المفعول من أجله؛ لأن الفعل يعلّل يعلل .
الثاني : أنه منصوب على المصدر وعامله محذوف تقديره يحذرون حذراً مثل حَذَرِ الموت . و « الحَذَرُ » و « الحِذَار » مصدران ل « حذر » أي : خاف خوفاً شديداً . واعلم أن المفعول من أجله بالنسبة إلى نصبه وجره بالحرف على ثلاثة أقسام : قسم يكثر نصبه ، وهو ما كان غير معرف ب « أل » ولا مضاف نحو : « جئت إكراماً لك » .
وقسم عكسه ، وهو ما كان معرَّفاً ب « أل » ؛ ومن مجيئه منصوباً قول الشاعر : [ الرجز ]
252-
لا أَقْعُدُ الجُبْنَ عَنِ الهَيْجَاءِ ... ولَوْ تَوَالَتْ زُمَرُ الأَعْدَاءِ
وقسم يستوي فيه الأمران ، وهو المضاف كالآية الكريمة ، ويكون معرفةً ونكرةً ، وقد جمع حاتم الطائي الأمرين في قوله : [ الطويل ]
253-
وَأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الكَرِيمِ ادِّخَارَهُ ... وأُعْرِضُ عَنْ شَتْمِ اللَّئِيمِ تَكَرُّمَا
و « حَذَرَ المَوْتِ » مصدر مضاف إلى المفعول ، وفاعله محذوف ، وهو أحد المواضع التي يجوز فيها حذف الفاعل وحده .
والثاني : فعل ما لم يسم فاعله .
والثالث : فاعل « أفعل » في التعجُّب على الصحيح ، وما عدا هذه لا يجوز فيه حذف الفاعل وحده خلافاً للكوفيين .
والموت : ضد الحياة؛ يقال : مَاتَ يَمُوتُ ويَمَاتُ؛ قال الشاعر : [ الرجز ]
254-
بُنَيَّتي سَيِّدَةَ البَنَاتِ ... عِيشِي وَلاَ يُؤْمَنُ أَنْ تَمَاتِي
وعلى هذه اللّغة قرئ « مِتْنا » و « مِتُّ » -بكسر الميم- ك « خِفْنَا » و « خَفْتُ » ، فوزن « مَاتَ » على اللغة الأولى « فَعَلَ » بفتح العين ، وعلى الثانية « فَعِلَ » بكسرها ، و « المُوَات » : بالضمِّ المَوْت أيضاً ، وبالفتح : ما لا روح فيه ، والمَوْتَان بالتحريك ضد الحيوان؛ ومنه قولهم : « اشْتَرِ المَوْتَانَ ، ولا تَشْتَرِ الرَّقيق ، فإنه في مَعْرَضِ الهَلاَك؛ و » المَوْتَان « بضمّ » الميم « : وقوع الموت في الماشية ، ومُوِّتَ فلانٌ بالتشديد للمبالغة؛ قال : [ الوافر ]
255-
فَعُرْوَةُ مَاتَ مَوْتاً مُسْتَرِيحاً ... فَهَا أَنَا ذَا أُمَوَّتُ كُلَّ يَوْمِ
و » المُسْتَمِيت « : الأمر المُسْتَرْسِل؛ قال رؤْبَة : [ الرجز ]
256-
وَزَبَدُ البَحْرِ لَهُ كَتِيتُ ... وَاللَّيْلُ فَوْقَ المَاءِ مُسْتَمِيتُ
قوله : { والله مُحِيطٌ بالكافرين } [ البقرة : 19 ] .
وهو مجاز أي : لا يفوتونه . فقيل : عالم بهم ، كما قال : { أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمَا } [ الطلاق : 12 ] .
وقيل : جامعهم وقدرته مُسْتولية عليهم؛ كما قال : { والله مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ } [ البروج : 20 ] .
وقال مجاهد : يجمعهم فيعذبهم » .
وقيل : يهلكهم ، قال تعالى : { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } [ يوسف : 66 ] أي : تَهْلِكُوُا جميعاً .
وقيل : « ثَمَّ » مضافٌ محذوفٌ ، أي : عقابه محيطٌ بهم .
وقال أبو عَمْرو ، والكسَائِيُّ : « الكَافِرِينَ » [ بالإمالة ] ولا يميلان { أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } [ البقرة : 41 ] ، وهذه الجملة مبتدأ وخبر .
وأصل « مُحِيط » : « مُحْوِط » ؛ لأنه من حَاطَ يَحُوطُ فأُعِلّ كإِعْلاَلِ « نَسْتِعِين » .
والإحاطةُ : حصر الشيء من جميع جهاته ، وهذه الجملة قال الزمخشريُّ : « هي اعتراض لا مَحَل لها من الإعراب » كأنه يعني بذلك أن جملة قوله : { يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ } ، وجملة قوله : { يَكَادُ البرق } شيءٌ واحد؛ لأنهما من قصّة واحدة؛ فوقع ما بينهما اعتراضاً .
«
يَكَادُ » مضارع « كَادَ » ، وهي للِمُقَارَبَةِ الفعل ، تعمل عمل « كان » إلاَّ أن خبرها لا يكون إلاَّ مُضَارعاً ، وشذَّ مجيئُهُ اسماً صريحاً؛ قال : [ الطويل ]
257-
فَأُبْتُ إلّى فَهْمٍ وَمَا كِدْتُ آيباً ... وَكَمْ مِثْلِهَا فَارَقْتُهَا وَهِيَ تَصْفِرُ
والأكثر في خبرها تجرّده من « أن » ، عكس « عسى » ، وقد شذّ اقترانه بها؛ قال رُؤْبَة : [ الرجز ]
258-
قَدْ كَادَ مِنْ طُولِ البِلَى أَنْ يَمْحَصَا ... لأنها لمقاربة الفعل ، و « أَنْ » تخلص للاستقبال ، فتنافيا .
واعلم أن خبرها -إذا كانت هي مثبتة- منفيٌّ في المعنَى ، لأنها للمقاربة .
فإذا قلت : « كَادَ زَيْدٌ يَفْعَلُ » كان معناه : قارب الفعل إلاّ أنه لم يفعل ، فإذا نُفِيَتِ ، انتفى خبرها بطريق الأولَى؛ لأنه إذا انتفت مقاربة الفعل انتفى هو من باب أوبى؛ ولهذا كان قوله تعالى : { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } [ النور : 40 ] أبلغ من أن لو قيل : لَمْ يَرَهَا ، لأنه لم يقارب الرُّؤْيَة ، فكيف له بها؟
وزعم جماعة منهم ابن جِنِّي ، وأبو البَقَاءِ ، وابن عطية أن نفيها إثبات ، وإثباتها نفي؛ حتى ألغز بعضُهُمْ فيها؛ فقال : [ الطويل ]
259-
أَنحويَّ هَذَا العَصْرِ مَا هِيَ لَفظةٌ ... جَرَتْ في لِسَانَيْ جُرْهُمٍ وَثَمُودِ
إِذَا نُفِيتْ -والله أَعْلَمُ- أُثْبِتَتْ ... وَإِنْ أُثْبِتَتْ قَامَتْ مَقَامَ جُحُودِ
وحكوا عن ذي الرَّمَّة أنه لما أنشد قولَهُ : [ الطويل ]
260-
إذا غَيَّرَ النَّأْيُ المُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ ... رَسِيسُ الهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ
عيب عليه؛ لأنه قال : « لم يكد يَبْرَحُ » ، فيكون قد بَرِحَ ، فغيَّره إلى قوله : « لَمْ يَزَلْ » أو ما هو بمعناه .
والذي غرَّ هؤلاء قوله تعالى : { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } [ البقرة : 71 ] قالوا : « فهي هنا منفية » وخبرها مثبت في المعنى؛ لأن الذبح وقع لقوله : « فَذَبَحُوهَا » ، والجواب عن هذه الآية من وجهين :
أحدهما : أنه يحمل على اختلاف وقتين ، أي : ذبحوها في وقت ، وما كادوا يفعلون في وقت آخر .
والثاني : أنه عبّر بنفي مُقَاربة الفعل عن شدَّة تعنُّتهم ، وعسرهم في الفعل .
وأما ما حكَوْهُ عن ذي الرُّمَّة ، فقد غلَّط الجمهورُ ذا الرمَّة في رجوعِهِ عن قوله الأوَّل ، وقالوا : « هو أبلغُ وأحْسَنُ مما [ غيَّره إليه ] .
واعلم أن خبر » كاد « وأخواتها -غير » عَسَى « - لا يكون فاعله إلاّ ضميراً عائداً على اسمها؛ لأنها للمقاربة أو للشُّرُوع ، بخلاف » عسى « ، فإنها للترجِّي؛ تقول : » عَسَى زَيْدٌ أَنْ يَقُومُ أَبُوهُ « ، ولا يجوز ذلك في غيرها ، فأما قوله : [ الطويل ]
261-
وَقَفْتُ عَلَى رَبْعٍ لِميَّةَ نَاقَتِي ... فَمَا زِلْتُ أَبْكِي عِنْدَهُ وَأُخَاطِبُهْ
وَأَسْقِيهِ حَتَّى كَادَ مِمَّا أَبُثُّهُ ... تُكَلِّمُني أَحْجَارُهُ وَمَلاَعِبُهْ
فأتى بالفاعل ظاهراً ، فقد حمله بعضهم على الشُّذُوذ ، ينبغي أن يقال : إنما جاز ذلك؛ لأن الأحجار والملاعب هي عبارة عن الرَّبْعِ ، فهي هو ، فكأنه قيل : حتَّى كادَ يكلُّمُني؛ ولكنه عبّر [ عنه ] بمجموع أجزائه .
وأما قول الآخَرِ : [ البسيط ]
262-
وَقَدْ جَعَلْتُ إِذَا ما قُمْتُ يُثْقِلُني ... ثَوْبِي فَأَنْهَضُ نَهْضَ الشَّارِبِ السَّكِرِ
وَكُنْتُ أَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ مُعْتَدِلاً ... فَصِرْتُ أَمْشي عَلَى أُخْرَى مِنَ الشَّجَرِ
فأتى [ بفاعل ] [ خبر ] جعل ظاهراً ، فقد أجيب عنه بوجهين :
أحدهما : أنه على حذْف مضاف ، تقديره : وقد جعل ثوبي إذا ما قمت يثقلني .
والثاني : أنه من باب إقامة السَّبب مقام المُسَبَّبِ ، فإن نهوضه كذا متسبَّب عن إثقال ثوبه إيَّاه ، والمعنى : وقد جعلت أنهض نَهْضَ الشارب الثَّمل لإثقال ثوبي إيَّاي .
ووزن « كَادَ كَوِدَ » بكسر العين ، وهي من ذوات الواو؛ ك « خَافَ » يَخَافُ ، وفيها لغةٌ أخرى : فتح عينها ، فعلى هذه اللُّغة تضم فاؤها إذا أسندت إلى تاء التكلّم وأخواتها ، فتقول : « كُدْتُ ، وكُدْنَا » ؛ مثل : قُلْتُ ، وقُلْنَا ، وقد تنقل كسر عينها إلى فائها مع الإسناد إلى ظاهر ، كقوله : [ الطويل ]
263-
وَكِيدَ ضِبَاعُ القُفِّّ يَأْكُلْنَ جُثَّتي ... وَكِيدَ خِرَاشٌ عِنْدَ ذَلِكَ يَيْتَمُ
ولا يجوز زيادتها خلافاً [ للأخفش ] ، وسيأتي إن شاء الله هذا كله في « كاد » الناقصة .
أما « كاد » التامة بمعنى « مَكَرَ » فوزنها فَعَل بفتح العَيْن من ذوات « الياء » ؛ بدليل قوله : { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً } [ الطارق : 15 ، 16 ] .
و « البرق » اسمها ، و « يخطف » خبرها ويقال : خَطِفَ يَخْطَفُ [ بكسر عين الماضي ، وفتح المضارع ، وخَطَفَ يَخْطَفُ ] عكس اللغة الأولى وفيه تراكيب كثيرة ، والمشهور منها الأولى .
الثانية : يخطِف بكسر الطاء ، قرأها مجاهد .
الثالثة : عن الحسن بفتح « الياء والخاء والطاء » ، مع تشديد « الطاء » ، والأصل : « يَخْتَطِفُ » ، فأبدلت « تاء » الافتعال « طاء » للإدغام .
الرابعة : كذلك ، إلاّ أنه بكسر الطاء على [ أنه ] أصل التقاء السَّاكنين .
الخامسة : كذلك ، إلا أنه بكسر « الخاء » إتباعاً لكسرة الطاء .
السَّادسة : كذلك إلا أنه بكسر الياء أيضاً إتباعاً للخاء .
السابعة : « يختطف » على الأصْل .
الثامنة : يَخْطِّف بفتح الباء ، وسكون الخاء ، وتشديد الطاء [ وهي رديئة لتأديتها إلى التقاء ساكنين .
التاسعة : بضمّ الياء ، وفتح الخاء ، وتشديد الطاء ] مكسورة ، والتضعيف فيه للتكثير لا للتعدية .
العاشرة : « يَتَخَطَّفُ » عن أُبّيّ من قوله : { وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] .
و « الخَطْف » : أخذ شيء بسرعة ، وهذه الجملة -أعني قوله : « يَكَادُ البرق يخطف » لا محلّ لها ، لأنه استئناف كأنه قيل : كيف يكون حالهم مع ذلك البرق؟ فقيل : يكاد يخطف ، ويحتمل أن تكون في محل جر صفة ل « ذوي » المحذوفة : التقدير : كذوي صيِّب كائدٍ البرق يخطف .
قوله : { كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ } .
«
كُلَّ » نصب على الظرف؛ لأنها أضيفت إلى « ماط الظرفية ، والعامل فيها جوابها ، وهو » مشوا « .
وقيل : » ما « نكرة موصوفة ومعناها الوقت أيضاً ، والعائد محذوف تقديره : كل وقت أضاء لهم فيه ، ف » أضاء « على الأول لا مَحَلَّ له؛ لكونه صلةً ، ومحلّه الجر على الثاني .
و « أضاء » يجوز أن يكون لازماً .
وقال المُبَرِّدُ : « هو متعدّ ، ومفعوله محذوف أي : أضاء لهم البَرْقُ الطريق » ف « الهاء » في « فيه » تعود على البَرْقِ في قول الجمهور ، وعلى الطَّريق المحذوف في قول المُبَرّد .
و « فيه » متعلّق ب « مشوا » ، و طفي « على بابها أي : إنه محيط بهم .
وقيل : بمعنى الباء ، ولا بد من حذفٍ على القولين : أي : مشوا في ضوئه : أي بضوئه ، ولا محل لجملة قوله : » مشوا « ؛ لأنها مستأنفة ، كأنه جواب لمن يقول : كيف يمضون في حالتي ظهور البرق وخفائه؟
والمقصود تمثيل شدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصَّيِّب ، وما هم فيه من غاية التحيُّر والجهل بما يأتون ، وما يذرون .
واعلم أن » كلّ « من ألفاظ العموم ، وهو اسم جامع لازم للإضافة ، وقد يحذف ما يُضَاف إليه ، وهل تنوينه حينئذ تنوين عوض ، أو تنوين صرفٍ؟ قولان : والمضاف إليه » كل « إن كان معرفة وحذف ، بقيت على تعريفها ، فلهذا انتصب عنها الحال ، ولا يدخلها الألف واللام ، وإن وقع ذلك في عبارة بعضهم ، وربما انتصب حالاً ، وأصلها أن تستعمل توكيداً ك » أجمع « ، والأحسن استعمالها مبتدأ ، وليس كونها مفعولاً بها مقصوراً على السماع ، ولا مختصّاً بالشعر ، خلافاً لزاعم ذلك .
وإذا أضيفت إلى نكرة أو معرفة بلام الجنس حسن أن تلي العواملة اللفظية ، وإذا أضيفت إلى نكرة تعين اعتبار تلك النكرة فيما لها من ضمير وغيره ، تقول : » كل رجال أَتَوْكَ ، فأكرمهم « ، ولا يجوز أن تراعي لفظ » كل « فتقول : » كلُّ رجالٍ أتاكَ ، فأكْرِمه « ، و » كلُّ رجلٍ أتاكَ ، فأكْرِمه « ولا تقول » كلُّ رجلٍ أتَوْك ، فأكْرِمْهم « ؛ اعتباراً بالمعنى ، فأما قوله : [ الكامل ]
264-
جَادَتْ عَلَيْه كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ ... فَتَرَكْنَ كُلَّ حَدِيقَةٍ كَالدِّرْهَمِ
فراعى المعنى ، فهو شاذّ لا يقاس عليه .
وإذا أضيفت إلى معرفة فوجهان ، سواء كانت بالإضافة لفظاً؛ نحو : { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً } [ مريم : 95 ] فرَاعى لفظ » كُل « .
أو معنى نحو : [ العنكبوت : 40 ] فراعى لفظها ، وقال : { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } [ النمل : 87 ] فراعى المعنى .
وقول بعضهم : » إن كلما « تفيد التكرار » ليس ذلك من وضعها ، وإنما استفيد من العموم التي دلّت عليه .
فإنك إذا قلت : « كلما جئتني أكرمتك » كان المعنى أكرمك في كل فرد [ فرد ] من جيئاتك إلَيّ .
وقرأ ابن أبي عبلة « ضَاءَ » ثلاثياً ، وهي تدل علىأن الرباعي لازم .
وقرىء : « وَإِذَا أُظْلِمَ » مبنياً للمفعول ، وجعله الزمخشري دالاًّ على أن « أظلم » متعدٍّ ، واستأنس أيضاً بقول حَبيبٍ : [ الطويل ]
265-
هُمَا أَظْلَمَا حالَيَّ ثُمَّتَ أَجْلَيَا ... ظَلاَمَيْهِمَا عَنْ وَجْهِ أَمْرَدَ أَشْيَبِ
ولا دليل في الآيَةِ؛ لاحتمالِ أنَّ أصله ، « وإذَا أَظْلَمَ اللَّيْلُ عليهم » ، فلما بني للمفعول حذف الليل ، وقام « عَلَيْهِم » مقامه ، وأما بينت حبيب فمولّد .
وإنما صدرت الجملة الأولى ب « كلّما » والثانية ب « إذا » ، قال الزمخشري : « لأنهم حراصٌ على وجود ما هَمّهم به ، معقود من إمكان المشي وتأتِّيه ، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها ، وليس كذلك التوقُّفُ والتَّحبُّسُ » وهذا هو الظاهر ، إلاَّ أن من النحويين من زعم أن « إذا » تفيد التكرار أيضاً؛ وأنشد : [ البسيط ]
266-
إِذَا وَجَدْتُ أُوَارَ الحُبِّ في كَبِدِي ... أَقْبَلْتُ نَحْوَ سِقَاءِ القَوْمِ أَبْتَرِدُ
قال : « معناه معنى » كلما « .
قوله : » قَامُوا « أي وقفوا أو ثبتوا في مكانهم ، ومنهن » قامت السوق « .
قوله : { وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } .
»
لو « حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، هذه عبارة سيبويه وهي أولى من عبارة غيره ، وهي حرف امتناع لامتناع لصحة العبارة الأولى في نحو قوله تعالى : { لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي } [ الكهف : 109 ] .
وفي قوله عليه السلام : » نِعْمَ العَبْدُ صُهَيْب ، لو لم يَخفِ الله لم يَعْصِهِ « وعدم صحّة الثانية في ذلك كما سيأتي محرراً ، ولفساد قولهم : » لو كان إنساناً لكان حيواناً « ؛ إذْ لا يلزمُ من امتناع الإِنسَانِ امتناعُ الحيوان ، ولا يجزم بها خلافاً لقَوْم ، فأما قوله : [ الرمل ]
267-
لو يَشَأْ طَارَ بِهِ ذُو مَيْعَةٍ ... لاَحِقُ الآطَالِ نَهْدٌ ذُو خُصَلْ
وقول الآخر : [ البسيط ]
268-
تَامَتْ فُؤَادَكَ لَوْ يَحْزُنْكَ مَا صَنَعَتْ ... إِحْدىَ نِسَاءِ بَنِي ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَا
فمن تسكين المتحرك ضرورةً . وأكثر ما تكون شرطاً في الماضي ، وقد تأتي بمعنى » إِن « ؛ كقوله تعالى : { وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ } [ النساء : 9 ] وقوله : [ الطويل ]
269-
وَلَوْ أَنَّ لَيْلَى الأخْيَليَّةَ سَلَّمَتْ ... عَلَيّ ودُوني جَنْدَلٌ وَصَفَائِحُ
[
لَسَلَّمْتُ تَسْلِيمَ البَشَاشَةِ أَوْ زَقَا ... إِلَيْهَا صَدًى مِنْ جَانِبِ القَبْرِ صَائِحُ ]
ولا تكون مصدريةً على للصحيح ، وقد تُشَرَّب معنى التمني ، فتنصب المضارع بعد » الفاء « جواباً لها؛ نحو : { فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ } [ الشعراء : 102 ] وسيأتي تحريره إن شاء الله تعالى .
قال ابن الخطيب : المشهور أن » لو « تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، ومنهم من أنكر ذلك ، وزعم أنها لا تفيد إلا الرَّبط ، واحتج عليه بالآية والخبر :
أما الآية فقوله تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } [ الأنفال : 23 ] ، فلو أفادت كلمة » لو « انتفاء الشَّيء لانتفاء غيره لزم التَّنَاقض؛ لأن قوله : { وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ } [ الأنفال : 23 ] ، يقتضي أنه ما علم فيهم خيراً وما أسمعهم ، وقوله : { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } [ الأنفال : 23 ] ، يقيد أنه ما أسمعهم ، ولا تولوا؛ لكن عدم التولي خير ، فيلزم أن يكون قد علم فيهم خيراً ، وما علم فيهم خيراً .
وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام : « نعم الرَّجُلُ صُهَيْبٌ لو لم يَخَفِ اللهَ لم يَعْصِهِ » فعلى مقتضى قولهم : يلزم أنه خاف الله وعصاه ، وذلك متناقض ، فعلمنا أن كلمة « لو » إنما تفيد الربط .
و « شاء » أصله : « شيء » على « فعِل » بكسر العين ، وإنما قلبت « الياء » « ألفاً » للقاعدة الممهدة ومفعوله محذوف تقديره ولو شاء الله إذهاباً؛ وكثر حف مفعوله ومفعول « أراد » ، حتى لا يكاد ينطق به إلا في الشيء المستغرب؛ كقوله تعالى : { لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } [ الزمر : 4 ] ؛ وأنشدوا : [ الطويل ]
270-
وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَبْكِي دَماً لَبَكَيْتُهُ ... عَلِيْهِ وَلَكِنْ سَاحَةُ الصَّبْرِ أَوْسَعُ
واللام في « لذهب » جواب « لو » .
واعلم أن جوابها يكثر دخول « اللا » عليه مثبتاً ، وقد تحذف؛ قال تعالى : { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } [ الواقعة : 70 ] .
ويقلّ دخولها عليه منفياً ب « مَا » ، ويمتنع دخولها عليه منفياً بغير « مَا » ؛ نحو : « لو قمت لَمْ أَقُمْ » ؛ لتوالي لامين فيثقل ، وقد يحذف؛ كقوله : [ الكامل ]
271-
لا يُلْفِكَ الرَّاجُوكَ إِلاَّ مُظْهِراً ... خُلُقَ الكِرَامِ وَلَوْ تكُونُ عَدِيمَا
و « بسمعهم » كتعلّق ب « ذهب » .
وقؤئ : « لأَذْهَبَ » فتكون « الياء » زائدة أو تمون فَعَل وأَفْعَل بمعنى ، ونحوه { تَنبُتُ بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] والمراد من السمع : السماع ، أي : لذهب بأسماعهم وأبصارهم الظاهرة كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنة .
وقيل : لذهب بما استفادوا من العِزِّ والأمان الذي لهم بمنزلة السمع والبصر .
وقر ابن عامر وحمزة « شاء » و « جاء » حيث كان بالإمالة .
قوله : { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
هذه جملة مؤكّدة لمعنى ما قبلها ، و « كُلّ شيء » متعلّق ب « قدير » وهو « فعيل » بمعنى « فاعل » ، مستق من القُدْرة ، وهي القوة والاستطاعة ، وفعلها « قَدَرَ » بفتح العين ، وله ثلاثة عشر مصدراً : « قدْرَة » بتثليث القاف ، و « مَقْدرَة » بتثليث الدال ، و « قَدْراً » ، و « قَدَراَ » ، و « قُدَراَ » ، و « قَدَاراً » ، و « قُدْرَاناً » ، و « مَقِْراً » و « قدير » أبلغ من « قادر » ، قاله الزَّجاج .
وقيل : هما بمعنى واحد؛ قال الهَرَوِيّ .
والشيء : ما صحّ أن يعلم من وَجْه ويخبر عنه ، وهو في الأصل مصدر « شاء يشاء » ، وهل يطلق على المعدوم والمستحيل؟ خلاف مشهور .
فَصْلٌ في بيان المعدوم شيء؟
استدلّ بعضهم بهذه الآية على أن المعدوم شيء ، قال : « لأنه -تعالى- أثبت القدرة على الشيء ، والموجود لا قدرة عليه؛ لاستحالة إيجاد الموجود ، فالذي عليه القُدْرة معدوم وهو شيء ، فالمعدوم شيء » .
والجواب : لو صَحَّ هذا الكلام لزم أنَّ ما لا يقدر عليه ألا يكون شيئاً ، فالموجود إذا لم يقدر الله عليه وجب ألا يكون شيئاً .
فصل في بيان وصف الله تعالى بالشيء
قال ابن الخطيب : احتج جَهْمٌ بهذه الآية على أنه -تعالى- ليس بشيء لأنه -تعالى- ليس بمقدور له ، فوجب إلاَّ يكون شيئاً ، واحتج أيضاً بقوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] .
قال : « لو كان الله -تعالى- شيئاً ، لكان -تعالى- مثل نفسه ، فكان قوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] كذب ، فوجب ألا يكون شيئاً؛ حتى لا تتناقض هذه الآية » .
قال ابن الخطيب : وهذا الخلاف في الاسم؛ لأنه لا واسطة بين الموجود والمعدوم ، قال : واحتج أصحابنا بقوله تعالى : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله شَهِيدٌ } [ الأنعام : 19 ] .
وبقوله : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] والمستثنى داخل في المستثنى منه ، فوجب أن يكون شيئاً .
فصل في أن مقدور العبد مقدور لله تعالى
قال ابن الخطيب : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن مقدور العبد مقدور لله تعالى ، خلافاً لأبي هَاشِم وأبي عَلِيّ .
وجه الاستدلال : أن مقدور العَبْدِ شيء ، وكلّ شيء مقدور لله -تعالى- بهذه الآية ، فيلزم أن يكون مقدور العبد مقدوراً لله تعالى .
فصل في جواز تخصيص العام
تخصيص العام جائز في الجملة ، وأيضاً تخصيص العام بدليل العقل ، فإن قيل : إذا كان اللَّفظ موضوعاً للكل ، ثم تبين أن الكل غير مراد كان كذباً ، وذلك يوجب الطَّعن في كلّ القرآن .
والجواب : أن لفظ « الكُلّ » كما أنه يستعمل في المجموع ، فقد يستعمل مجازاً في الأكثر ، وإذا كان ذلك مجازاً مشهوراً في اللَّغة لم يكن استعمال اللفظ فيه كذباً ، والله أعلم .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
اعلم أنه -تعالى- لما بين أحكام الفِرَقِ الثلاث -أعني المؤمنين والكفار والمنافقين- أقبل عليهم بالخطاب وهو من باب « الالتفات » .
«
يا » حرف نداء وهي أم الباب .
وزعم بعضهم أنها اسم فعل ، وقد تحذف نحو : { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا } [ يوسف : 29 ] .
وينادي بها المندوب والمستغاث . قال أبو حيان : « وعلى كثرة وقوع النداء في القرآن لم يقع نداء إلاَّ بها » .
وزعم بعضهم أن قراءة : « أَمَنْ هُوَ قَانِتٌ » [ الزمر : 9 ] بتخفيف الميم أن الهمزة فيه للنداء ، وهو غريب ، وقد يراد بها مجرد التنبيه فيليها الجمل الاسمية والفعلية ، قال تعالى : { أَلاَّ يَسْجُدُواْ } [ النمل : 25 ] بتخفيف أَلاَ؛ وقال الشاعر : [ الطويل ]
272-
أَلاَ يَا اسْقِيَانِي قَبْلَ غَارَةِ سِنْجَالِ .. . . .
وقال آخر : [ البسيط ]
273-
يا لَعْنَةُ اللهِ وَالأَقْوَامِ كُلُّهِمُ ... وَالصَّالِحِينَ عَلَى سمْعَانَ مِنْ جَارِ
و « أي » اسم منادى في محلّ نصب ، ولكنه بني على « الضم » ؛ لأنه مفرد معرفة ، وزعم الأخفش أنها هنا موصولة ، وأن المرفوع بعدها خبر مبتدأ مضمر ، والجملة صلةٌ ، والتقدير : « يا الَّذِين هُمُ النَّاس » ، والصحيح الأول ، والمرفوع بعدها صفة لها ، [ والمشهور ] : يلزم رفعه ، ولا يجوز نصبه على المحلّ خلافاً للمازني .
و « ها » زائدة للتنبيه لازمة لها ، والمشهور فتح هَائِهَا ، ويجوز ضمُّها إتباعاً للياء ، وقد قرأ ابن عامر بذلك في بعض المواضع نحو « أَيُّهُ المُؤْمِنُونَ » [ النور : 31 ] والمرسوم يساعده .
ولا توصف « أي » هذه إلا بما فيه الألف واللام ، أو بموصول هما فيه ، أو باسم إشارة نحو : { ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر } [ الحجر : 6 ] وقال الشاعر : [ الطويل ]
274-
ألاَ أَيُّهَذَا النَّابِحُ السِّيدَ إِنَّنِي ... عَلَى نَأْيهَا مُسْتَبْسِلٌ مِنْ وَرَائِهَا
وفسر بعضهم يا زيد : أنادي زيداً ، وأخاطب زيداً ، وهو خطأ من وجوه :
أحدهما : أن قوله : « أنادي زيداً » خبر يحتمل الصدق والكذب ، وقوله : يا زيد لا يحتملهما .
وثانيها : أن قولنا : « يا زيد » يقتضي أن زيداً منادى في الحال ، و « أنادي زيداً » لا يقتضي ذلك .
وثالثها : أن قولنا : « يا زيد » يقتضي صيرورة زيد خاطباً هذا الخطاب ، و « أنادي زيداً » لا يقتضي ذلك؛ لأنه لا يمكن أن يخبر إنساناً آخر بأن أنادي زيداً .
ورابعها : أن قولنا : أنادي زيداً إخبار عن النداء ، والإخبار عن النداء غير النداء .
واعلم أن « يا » حرف وضع في أصله لنداء البعيد ، وإن كان لنداء القريب ، [ لكن بسبب أمر مهم جدًّا ، وأما نداء القريب فله : « أي » والهمزة ] ثم استعمل في نداء من سها وغفل وإن قرب ، تنزيلاً له منزلة البعيد .
فإن قيل : فلم يقول الداعي : « يا رب » ، « يا الله » وهو أقرب إليه من حبل الوريد؟
قلنا : هو استبعاد لنفسه من مَظَانّ الزُّلْفَى ، إقراراً على نفسه بالتقصير .
و « أي » وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام كما أن « ذو » الذي وصلة إلى وصلة إلى الوصف بأسماء الأجناس ووصف المعارف بالجمل ، وهو اسم مبهم ، فافتقر إلى ما يزيل إبهامه ، فلا بد وأن يردفه اسم جنس ، أو ما جرى مجراه ، ويتصف به حتى يحصل المقصود بالنداء .
و ل « أي » معانٍ أخر كالاستفهام ، والشرط ، وكونها موصولة ، ونكرة موصوفة لنكرة ، وحالاً لمعرفة . و « النَّاس » صفة « أي » ، أو خبر محذوف حسب ما تقدم من الخلاف .
و « اعبدوا ربكم » جملة أمرية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية .
«
الَّذي خَلَقَكُمْ » فيه ثلاثة أوجه :
أظهرها : نصبه على النَّعت ل « ربكم » .
الثَّاني : نصبه على القطع .
الثالث : رفعه على القطع أيضاً . وقد تقدّم معناه .
فصل في تقسيم ورود النداء في القرآن الكريم
قال ابن عبَّاس رضي الله عنه : « يا أيُّهَا النَّاسُ » خطاب لأهل « مكة » و « يا أيُّهَا الَّذِين آمَنُوا » لأهل « المدينة » ، ورد على قوله هذه الآية بان البقرة مدنية .
وقال غيره : كلّ ما كان في القرآن من قوله : « يا أيها الذين آمنوا » فهو مدني .
وأما قوله : { يَاأَيُّهَا الناس } فمنه مكّي ، ومنه [ مدني ] وهذا خطاب عام؛ لأنه لفظ جمع معرف ، فيفيد العموم ، لكنه مخصوص في حقّ ما لا يفهم ، كالصَّبي ، والمجنون ، والغافل ، ومن لا يقدر ، لقوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] .
ومنهم من قال : إنه مخصوص في حق العبيد ، لأنّ الله -تعالى- أوجب عليهم طاعة مواليهم ، واشتغالهم بطاعة المولى كمنعهم عن الاشتغال بالعبادات ، والأمر الدَّال على وجوب طاعة المولى أخصّ من الأمر الدَّال على وجوب العبادة ، والخاصّ مقدّم على العام ، والكلام على هذا مذكور في أصول الفقه .
قال ابن الخطيب : قوله : { يَاأَيُّهَا الناس } يتناول جميع الناس الموجودين في ذلك العصر ، فهل يتناول الَّذين سيوجدون بعد ذلك أم لا؟
قال : « والأقرب أنه لا يتناولهم؛ لأن قوله : { يَاأَيُّهَا الناس } خطاب مُشَافهة ، وخطاب المُشَافهة مع المعدوم لا يجوز » ، وأيضاً فالذين سيوجدون ما كانوا موجودين في تلك الحالة ، وما لا يكون موجوداً لا يكون إنساناً ، فلا يدخل تحت قوله : { يَاأَيُّهَا الناس } .
فإن قيل : فوجب أن يتناول أحداً من الَّذين وجدوا بعد ذلك الزمان ، وإنه باطل قطعاً .
قلنا : لو لم يجد دليل منفصل لكان الأمر كذلك ، إلاَّ أنا عرفنا بالتَّواتر من دين محمد أن تلك الخطابات ثابتة في حَقِّ من سيوجد بعد ذلك إلى قيام السَّاعة؛ فلهذه الدلالة المنفصلة أوجبنا العموم .
فصل في المراد بالعبادة في القرآن
قال ابن عبَّاس رضي الله عنه : « كلّ ما ورد في القُرْآن من العبادة فمعناها التوحيد » .
وقال ابن الخطيب : قوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ } أمر كلّ واحد بالعبادة ، فهل يفيد أمر الكلّ بكل عبادة؟ الحقّ لا؛ لأن قوله : { اعبدوا } معناه : أدخلوا هذه الماهية في الوجود ، فإذا أتوا بفرد من أفراد هذه الماهيّة في الوجود فقد أدخلوا الماهية في الوجود؛ لأن الفرد من أفراد الماهية مشتمل على الماهية ، لأن هذه العبادة عبارة عن العِبَادَةِ مع قيد كونها هذه ، ومتى وجد المركب فقد وجد فيه قيده ، فالآتي بفرد من أفراد العبادة أتى بالعبادة ، وأتى بتمام ما اقتضاه قولنا : « اعْبُدُوا » ، وإذا كان كذلك وجب خروجه عن العهدة .
فصل في قول منكري التكليف
ذكر ابن الخطيب عن منكري التكليف أنهم لا يجوِّزون ورود الأمر من الله -تعالى- بالتكاليف لوجوه :
منها أنَّ الَّذي ورد به التكليف : إما أن يكون قد علم الله في الأزل وقوعه ، أو علم أنه لا يقع ، أو لم يعلم لا هذا ولا ذاك ، فإن كان الأوّل كان واجب الوقوع ، فلا فائدة في الأمر به ، وإن علم أنه لا يقع كان ممتنع الوقوع ، فكان الأمر به أمراً بإيقاع الممتنع ، وإن لم يعلم لا هذا ولا ذاك كان ذلك قولاً بالجهل على الله ، وهو محال .
وأيضاً فورود الأمر بالتكاليف إمَّا أن يكون لفائدة ، أو لا لفائدة ، فإن كان لفائدة فإما أن يعود إلى المعبود ، أو إلى العابد ، أمّا إلى المعبود فمحال؛ لأنه كامل لذاتهن والكامل لذاته لا يكون كاملاً بغيره ، ولأنا نعلم بالضرورة أنّ الإله العالي على الدَّهر والزمان يستحيل أن ينتفع بركوع العبد وسجوده . وإن كانت الفائدة تعود إلى العابد فمحال؛ لأن جميع الفوائد محصورة في حصول اللَّذَّة ودفع الألم ، وهو -سبحانه وتعالى- قادر على تحصيل كلّ ذلك للعبد ، من غير واسطة هذه المشاق ، فيكون توسّطها عبثاً ، والعبث غير جائز على الحكيم . وأيضاً إنَّ العبد غير موجد لأفعاله؛ لأنه غير عالم بتفاصيلها ، ومن لا يعلم تفاصيل الشيء لا يكون موجداً له ، وإذا لم يكن العبد موجداً لأفعال نفسه ، فإن أمره بذلك الفعل حالة ما خلقه فيه فقد أمره بتحصيل الحاصل ، وإن أمره حالة ما لم يخلقه فيه فقد أمره بالمحال ، وكل ذلك باطل .
وأجاب ابن الخطيب بوجهين :
أحدهما : أن أَصْحَابَ هذه الشّبه ، أوجبوا بما ذكروه اعتقاد عدم التَّكليف ، فهذا التكليف ينفي التكليف ، وإنه متناقض .
والثاني : أن عندنا يحسن من الله كل شيء ، سواء كان ذلك تكليف ما لا يطاق أو غيره؛ لأنه -تعالى- خالقٌ مالكٌ ، والمالك لا اعتراض عليه في فِعْلِهِ .
والخَلْق اختراع الشَّيء على غير مِثَالٍ سبق ، وهذه الصِّفة ينفرد بها الباري تعالى ، ويُطْلَقُ أيضاً على التقْدِيرِ « ؛ قال زُهَيْر : [ الكامل ]
275-
وَلأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْ ... ضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لا يَفْرِي
وقال الحَجَّاج : « ما خَلَقْتُ إلاَّ فَرَيْتُ وَلاَ وَعَدْتُ إلاَّ وَفَيْتُ » وهذه الصّفة لا يختص بها الله تعالى ، وقد غلط أبو عبد الله البصري في أنه لا يطلق اسم « الخَالِقِ » على الله -تعالى؛ قال : « لأنه مُحَالٌ ، وذلك أن التقدير والتسوية في حقِّ اللهِ ممتنعانِ ، لأنهما عبارة عن التفكُّر والزَّن » ، وكأنه لم يسمع قوله تعالى : { هُوَ الله الخالق البارىء } [ الحشر : 24 ] { الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [ الزمر : 62 ] ، وكأنَّه لا يعلَم أن الخَلْق يكون عبارة عن الإنشاء والاختراع .
قوله : { والذين مِن قَبْلِكُمْ } محلّه العطف على المنصوب في « خلقكم » و « من قبلكم » صلة « الذين » ، فيتعلّق بمحذوف على ما تقرر . و « من » لابتداء الغاية ، واستشكل بعضهم وقوع « من قبلكم » صلة من حيث إن كل ما جاز أن يخبر به جاز أن يقع صلة ، و « من قبلكم » ناقص ليس في الإخبار به عن الأعيان فائدة إلا بتأويل ، فكذلك الصّلة .
قال : وتأويله أن ظرف الزمان إذا وصف صح الإخبار والوصل به تقول : « نحن في يوم طيب » ، فيكون التقدير هنا -والله أعلم- « والَّذِينَ مِنْ قَبْلَكُمْ » -بفتح الميم- .
قال الزمخشري : ووجهها على إشكالها أن يقال : أقحم الموصول الثاني بين الأوّل وَصِلَتِهِ تأكيداً ، كما أقحم جرير في قوله : [ البسيط ]
276-
يَا تَيْمُ تَيْمَ عَدِيِّ لاَ أَبَا لَكُمُ .. .
تيْماً الثاني بين الأوَّل ، وما أضيف إليه ، وكإقحامهم لام الإضَافةِ بين المضاف والمضاف إلَيْه في نَحْو : « لاَ أَبَا لَكَ » قيل : هذا الذي قاله مذْهَبٌ لبعضهم؛ ومنه قوله : [ الطويل ]
277-
مِنَ النَّفَرِ اللاَّءِ الَّذِينَ إذَا هُمُ ... يَهَابُ اللِّئَامُ حَلْقَةَ البَابِ قَعْقَعُوا
ف « إذا » وجوبها صلةُ « اللاَّء » ، ولا صلةَ للذين؛ لأنه توكيد للأول ، إلا أن بعضهم يرد هذا القول ، ويجعله فاسداً من جهة أنه لا يؤكد الحرف إلا بإعادة ما اتّصل به ، فالموصول أولى بذلك ، وخرج الآية والبيت على أن « مَنْ قَبْلَكُمْ » صلةٌ للموصول الثَّاني ، والموصول الثَّاني وصلته خبر لمبتدأ محذوف ، والمبتدأ وخبره صلة الأول ، والتقدير : « والَّذين هُمْ مِنْ قَبْلِكُم » ، وكذا [ البيت ] فجعل « إذا » وجوابها صلةً [ للَّذِينَ ، واللَّذِينَ خبر لمبتدأ محذوف ، وذلك المبتدأ وخبره صلة ] ل « اللاء » ، ولا يخفَى ما في هذا التعسُّف .
قوله : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } .
«
لعل » واسمها وخبرها ، وإذا ورد في كلام الله -تعالى- فللناس فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أن « لَعَلّ » على بابها من الترجّي والإطماع ، ولكن بالنسبة إلى المخاطبين ، أي : لعلَّكم تتقون على رجائكم وطمعكم؛ وكذا قاتل سيبويه في قوله تعالى :
{
لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } [ طه : 44 ] : أي : اذْهَبَا على رجائِكُمَا .
والثَّاني : أنها للتعْليل : أي : اعْبُدُوا ربَّكُم؛ لِكَيْ تَتَّقُوا ، وبه قال قُطْرُبٌ ، والطبريُّ وغيرُهُما؛ وأنشدوا : [ الطويل ]
278-
وقُلْتُمْ لَنَا : كُفُّوا الحُرُوبَ لَعَلَّنَا ... نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِقِ
فَلَمَّا كَفَفْنَا الحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُكُمْ ... كَلَمْعِ سَرَابٍ في المَلاَ مُتَأَلِّقِ
أي : لنكُفَّ الحَرْبَ ، ولو كانت « لَعَلّ » للترجِّي ، لم يقل : وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِقِ .
والثَّالث : أنها للتعَرُّض للشيْءِ؛ كأنه قيل : افْعَلُوا ذلك متعرضِّين لأن تَتَّقُوا .
وقال القَفَّال : « لعل » مأخوذةٌ من تكرير الشيء لقولهم : عللاً بعد نَهَلِ ، و « اللام » فيها هي « لام » التأكيد كاللام التي تدخل في « لقد » ، فأصل « لعل » : طعل « ؛ لأنهم يقولون : » علك أن تفعل كذا « : أي لعلك . وإن كانت حقيقة في التكرير والتأكيد ، كان قول القائل : افعل كذا لعلّك تظفر بحاجتك . معناه : افعله؛ فإن فعلك له يؤكد طلبك له ويقويك عليه ، وهذه الجملة على كل قول متعلّقة من جهة المعنى ب » اعبدوا « أي : اعبدوا على رجائكم التَّقوى ، أو لتتقوا ، أو متعرّضين للتقوى ، وإليه مال المهدوي ، وأبو البقاء .
وقال ابن عطيّة : » [ يتجه ] تعلّقها بخلقكم ، لأنَّ كل مولود يولد على الفطرة ، فهو بحيث يرجى أن يكون متقياً « ، إلاَّ أن المهدوي منع من ذلك .
قال : لأن من ذرأه الله لجهنم لم يخلقه ليتقي ، ولم يذكر الزمخشري غير تعلّقها ب » خلقكم « ثم رتب على ذلك سؤالين :
أحدهما : أنه كما خلق المُخاطبين لعلّهم يتقون ، كذلك خلق الذين من قبلهم لذلك فلم خصّ المخاطبين بذلك دون من قبلهم؟
وأجاب عن ذلك بأنه لم يقصر عليهم ، بل غَلّب المخاطبين على الغائبين في اللفظ والمعنى على إرادة الجميع .
السُّؤال الثاني : هلا قيل : » تعبدون « لأجل » اعبدوا « أو اتقوا لمكان » تتقون « ليتجاوب طرفا النظم؟
وأجاب بأن التقوى ليست غير العبادة حتى يؤدي ذلك إلى تنافر النَّظْم ، وإنَّما التقوى قصارى أمر العابد ، وأقصى جهده .
قال أبو حَيَّان : وأما قوله : ليتجاوب طرفا النَّظم ، فليس بشيء؛ لأنه لا يمكن هنا تجاوب طرفي النظم ، إذ يصير اللفظ : اعبدوا ربكم لعلكم تعبدون ، أو اتقوا ربكم لعلكم تتقون ، وهذا بعيد في المعنى؛ إذ هو مثل : اضرب زيداً لعلك تضربه ، واقصد خالداً لصحّته أن يكون » لعلكم تتقون « متعلّقاً بقوله : » اعبدوا « فالَّذي نودوا لأجله هو الأمر بالعبادة ، فناسب أن يتعلّق بها ذلك ، وأتى بالموصول وصلته في سبيل التوضيح ، أو المدح الذي تعلقت به العبادة ، فلم يُجَأْ بالموصول ليحدّث عنه ، بل جاء في ضمن المقصود بالعيادة ، فلم يكن يتعلّق به دون المقصود ، وأجاب بعضهم عن كلام الزمخشري بأنه جعل » لعل « متعلّقة ب » خلقكم « لا ب » اعبدوا « ، فلا يصير التقدير : اعبدوا لعلكم تعبدون ، وإنما التقدير : اعبدوا الذي خلقكم لعلكم تعبدون؛ أي خلقكم لأجل العبادة ، يوضِّحه :
{
وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] .
وفي « لَعَلّ » لغاتٌ كثيرةٌ ، وقد يُجَرُّ بها؛ قال : [ الوافر ]
279-
لَعَلَّ اللهِ فَضَّلَكُمْ عَلَيْنَا ... بِشَيْءٍ أَنَّ أُمَّكُمُ شَرِيمُ
ولا تنصب الاسمين على الصحيح ، وقد تدخل « أَنْ » في خبرها؛ حملاً على « عَسَى » ؛ قال : [ الطويل ]
280-
لَعَلَّكَ يَوْماً أنْ تُلِمَّ مُلِمَّةٌ ..
وقد تأتي للاستفهام والتعليل كما تقدم ، ولكن أصلها أن تكون للترجّي والطمع في المحبوبات والإشفاق من المكروهات ك « عسى » ، وفيها كلام طويل يأتي في غضون هذا الكتاب إن شاء الله تَعَالَى .
و « تَتَّقَونَ » أصله « توتقيون » ؛ لأنه من « الوقاية » ، فأبدلت الواو ياء قبل تاء الافتعال ، وأدغمت فيها ، وقد تقدم ذلك في « المتقين » ، ثم استثقلت « الضّمة » على « الياء » فقدرت ، فسكنت الياء والواو بعدها ، فحذفت الياء لالتقاء السَّاكنين ، وضمت القاف لتجانسها ، فوزنه الآن « تفتعون » ، وهذه الجملة أعني « لعلكم تتقون » لا يجوز أن تكون حالاً؛ لأنها طلبية ، وإن كانت عبارة بعضهم تُوهمُ ذلك ، ومفعول « تتقون » محذوف أي : تتقون الشرك ، أو النار .
فَصْلٌ في الاستدلال بالآية على الصانع
هذه الآية تدلّ على الصانع القادر الفاعل المختار ، سأل بعض الدهرية الشَّافعي -رضي الله تعالى عنه- ما الدَّليل على الصانع؟ فقال : ورقة الفِرْصَاد طعمها ولونها وريحها وطبعها واحد عندكم؟ قالوا : نعم .
قال : فتأكلها دودة القَزّ فيخرج منها الإبْرَيْسم ، ويأكلها النحل فيخرج منها العَسَل ، والشَّاة فيخرج منها البَعَر ، وتأكلها الظِّبَاء فينعقد في نوافجها المسك ، فمن الذي جعلها لذلك مع أن الطَّبع واحد؟ فاستحسنوا ذلك وآمنوا على يديه ، وكانا سبعة عشر .
وسئل أبو حنيف -رضي الله عنه- عن الصَّانع فقال : الوالد يريد الذكر ، فيكون أنثى ، وبالعكس فيدلّ على الصَّانع . وتمسك أحمد بن حنبل بقلعة حصينة مَلْسَاء لا فُرْجَةَ فيها ، ظاهرها كالفضّة المُذّابة ، وباطنها كالذهب الإبريز ، ثم انشقت الجدران ، وخرج من القلعة حيوان سميع بصير ، فلا بُدّ من الفاعل؛ عنى بالقلعة البيضة ، وبالحيوان الفرخ .
وقال آخر : عرفت الصَّانع بنحلة بأحد طرفيها عسل ، وبالآخر لسع ، والعسل مقلوب لسع . فإن قيل : ما الفائدة في قوله { والذين مِن قَبْلِكُمْ } ، وخلق الذين من قبلهم لا يقتضي وجوب العبادة عليهم . والجواب : أن الأمر وإن كان على ما ذكر ولكن علمهم بأن الله -تعالى- خلقهم كعلمهم بأنه خلق من قبلهم؛ لأن طريقة العلم بذلك واحدة .
وأيضاً أن من قبلهم كالأصول لهم ، وخلق الأصول يجري مجرى الإنعام على الفروع ، كأنه -تعالى- يذكرهم عظيم إنعامه عليهم ، أي : لا تظن أني إنما أنعمت عليك حين وجدت ، بل كنت منعماً عليك قبل أن وجدت بألوف سنين ، بسبب أني كنت خالقاً لأصولك .
فإن قيل : إذا كانت العبادة تقوى فقوله : { اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ما وجهه؟
والجواب من وجهين :
الأول : لا نسلّم أن العبادة نفس التقوى ، بل العبادة فعل يحصل به التقوى؛ لأن الاتِّقاء هو الاحتراز عن المَضَارّ ، والعبادة فعل المأمور به ، ونفس هذا الفعل ليس هو نفس الاحتراز ، بل موجب الاحتراز ، فإنه -تعالى- قال : { اعبدوا رَبَّكُمُ } لتحترزوا به عن عقابه .
وإذا قيل في نفس الفعل : « إنه اتقاء » فذلك غير ما يحصل به الاتقاء ، لكن لما اتصل أحد الأمرين بالآخر أجري اسمه عليه .
الثاني : أنه -تعالى- إنما خلق المكلفين لكي يتقوا ويطيعوا ، على ما قال : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] فكأنه -تعالى- أمر بعبادة الرَّبِّ الذي خلقهم لهذا الغرض ، وهذا التأويل لائق بأصول المعتزلة .
فَصْلٌ في القراءات في الآية
قرأ أبو عمرو : خَلَقَكُمْ بالإدغام ، وقرأ ابن السَّميفع : « وَخَلَقَ مَنْ قَبْلَكُم » .
قوله : { الذي جَعَلَ لَكُمُ } يحتمل النصب والرَّفع ، فالنصب من خمسة أوجه :
أحدها : أن يكون نصبه على القطع .
الثاني : أنه نعت لربكم .
الثالث : أنه بدل منه .
الرابع : أنه مفعول ل « تتقون » ، وبه قال أبو البقاء .
الخامس : أنه نعت النعت ، أي : الموصول الأول ، لكن المختار أن النعت لا ينعت ، بل إن جاء ما يوهم ذلك جعل نعتاً للأول ، إلا أن يمنع مانع فيكون نعتاً للنعت ، نحو قولهم : « يا أيها الفارس ذو الجمة » فذو الجمة نعت للفارس لا ل « أي » ؛ لأنها لا تنعت إلا بما تقدم ذكره .
والرَّفع من وجهين :
أحدهما وهو الأصح : أنه خبر مبتدأ محذوف أي : هو الذي جعل .
والثاني : أنه مبتدأ ، وخبره قوله بعد ذلك : فلا تجعلوا لله ، وهذا فيه نظر من وجهين :
أحدها : أنّ صلته ماضية فلم يشبه الشرط ، فلا يزاد في خبره « الفاء » .
الثاني : عدم الرابط ، إلا أن يقال بمذهب الأخفش ، وهو أن يجعل الربط مكرر الاسم الظَّاهر إذا كان بمعناه نحو : « زيد قام أبو عبد الله » إذا كان أبو عبد الله كنية لزيد ، وكذلك هنا أقام الجلالة مقام الضَّمير ، كأنه قال : الذَّي جعل لكم ، فلا تجعلوا له أنداداً .
و « الذي » كلمة موضوعة للإشارة إلى المفرد عند محاولة تعريفه بقضية معلومة كقولك : ذهب الرجل الذي أبوه منطلق ، فأبوه منطلق قضية معلومة ، فإذا حاولت تعريف الرجل بهذه القضية المعلومة أدخلت عليه الَّذي ، وهو يحقّق قولهم : إنه مستعمل لوصف المعارف بالجمل .
وإذا ثبت هذا فقوله : { الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً } يقتضي أنهم كانوا عالمين بوجود شيء جعل الأرض فراشاً ، والسّماء بناءً ، وذلك تحقيق قوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ لقمان : 25 ] .
و « جعل » فيها وجهان :
أحدهما : أن تكون بمعنى « صَيَّر » فتتعدى لمفعولين فيكون « الأرض » مفعولاً أول ، و « فراشاً » مفعولاً ثانياً .
والثاني : أن يكون بمعنى « خلق » فيتعدّى لواحد وهو « الأرض » ويكون « فراشاً » حالاً .
و « السماء بناء » عطف على « الأرض فراشاً » ونظيره قوله : { أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً } [ النمل : 61 ] وقوله : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ طه : 53 ] .
واعلم أن كون الأرض فراشاً مشروط بأمور :
قال ابن الخطيب : أحدها : كونها ساكنة؛ فإنها لو كانت متحركة لم يمكن الانتفاع بها لما تقرر في المعقولات .
الثاني : ألا تكون في غاية الصَّلابة كالحجر؛ فإن النّوم عليه والمشي مما يؤلم البدن ، وأيضاً لو كانت الأرض من الذَّهب مثلاً لتعذّرت الزراعة ولتعذّر حفرها ، وتركيبها لما يراد .
وألاَّ تكون في غاية اللين كالماء الذي تغوص فيه الرِّجْل .
الثالث : ألاّ يكون في غاية اللّطافة والشفافية؛ فإن الشفّاف لا يستقر النور عليه ، وما كان كذلك ف'نه لا يسخن بالشمس فكان يبرد جدًّا ، فجعل كيفية لونه أخضر ليستقر النور عليهن فيتسخن فيصلح أن يكون فراشاً للحيوانات .
الرابع : أن تكون بارزةً من الماء؛ لأن طبع الأرض أن يكون غائصاً في الماء فكان يجب أن تكون البحار محيطةً بالأرض ، ولو كانت كذلك لما كانت فراشاً لنا ، فقلب الله طبيعة الأرض وأخرج بعض أجزائها [ من المياه ] كالجزيرة البارزة حتى صلحت لأن تكون فراشاً لنا .
ومن الناس من زعم أن الشرط في كون الأرض فراشاً ألا تكون كرة واستدل بهذه الآية ، وهذا بعيد؛ لأن الكرة إذا عظمت جدًّا كانت القطعة منها كالسطح في إمكان الاستقرار عليه ، والذي يؤيده كون الجبال أوتاداً للأرض ويمكن الاستقرار عليها ، فها هنا أولى .
فَصْلٌ في منافع الأرض وصفاتها
فأولها : الأشياء المتولّدة فيها من المعادن ، والنبات ، والحيوان ، والآثار العلوية والسّفلية ، ولا يعلم تفاصيلها إلا الله تعالى .
وثانيها : اختلاف بقاع الأرض ، فمنها أرض رخوة ، وصلبة ، ورملة ، وسبخة ، وحرّة ، قال تعالى : { وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ } [ الرعد : 4 ] .
وقال تعالى : { والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ والذي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً } [ الأعراف : 58 ] .
وثالثها : اختلاف طعمها وروائحها .
ورابعها : اختلاف ألوانها فأحمر ، وأبيض ، وأسود ، ورمادي ، وأغبر ، قال تعالى : { وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ } [ فاطر : 27 ] .
وخامسها : انصداعها بالنبات ، قال تعالى : { والأرض ذَاتِ الصدع } [ الطارق : 12 ] .
وسادسها : كونها خازنةً للماء المنزل ، قال تعالى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض } [ المؤمنون : 18 ] .
وسابعها : العيون والأنهار العظام .
وثامنها : ما فيها من المَفَاوِزِ والفَلَواتِ { والأرض مَدَدْنَاهَا } [ ق : 7 ] .
وتاسعها : أن لها طبع الكرم؛ لأنك تدفع إليها حبّة وهي تردها عليك سبعمائة { كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ } [ البقرة : 261 ] .
وعاشرها : حَبَاتها بعد موتها { وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا } [ يس : 33 ] .
الحادي عشر : ما فيها من الدَّواب المختلفة الألوان والصّور والخلق ، { وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } [ البقرة : 164 ] .
الثانية عشرة : ما فيها من النبات المختلف ألوانه ، وأنواعه ، ومنافعه : { وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ ق : 7 ] .
وفي اختلاف ألوانها دلالة ، واختلاف روائحها دلالة ، فمنها قوت البشر ، ومنها قوت البهائم : { كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُمْ } [ طه : 54 ] ومطعوم البشر ، فمنها الطعام ومنها الإدام ، ومنها الرَّوَاء ، ومنها الفاكهة ، ومنها الأنواع المختلفة في الحَلاَوَةَ والحموضة ، ومنها كسوة البشر؛ لأن الكسوة إمّا نباتية وهي القطن والكتان ، وإما حيوانية وهي الشَّعَر والصُّوف ، والأَبْرَيْسَم ، والجاود ، وهي من الحيوانات التي بثّها الله في الأرض ، فالمطعوم من الأرض ، والملبوس من الأرض؛ ثم قال : { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 8 ] .
وفيه إشارة إلى منافع كثيرة لا نعلمها نحن ، والله [ تعالى عالم بها ] ،
فَصْلٌ
قال بعضهم : السَّماء أفضل من الأرض لوجوه :
أحدها : أن السَّماء متعبَّد الملائكة ، وما فيها عُصي الله فيها .
وثانيها : لما أتى آدم -عليه الصلاة والسلام- في الجَنّة بتلك المعصية قيل : اهبط من الجنة ، وقال الله : « لا يسكن في جواري من عَصَاني » .
وثالثها : { وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً } [ الأنبياء : 32 ] وقوله : { تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء بُرُوجاً } [ الفرقان : 61 ] ولم يذكر في الأرض مثل ذلك .
ورابعها : في أكثر الأمر ورد ذكر السَّماء مقدماً على الأرض في الذكر .
وقال آخرون : بل الأرض أفضل؛ لوجوه :
أحدها : أنه -تعالى- وصف بقاعاً في الأرض بالبركة { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً } [ آل عمران : 96 ] ، { فِي البقعة المباركة مِنَ الشجرة } [ القصص : 30 ] { إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [ الإسراء : 1 ] .
ووصف أرض « الشام » بالبركة فقال : { مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا التي بَارَكْنَا فِيهَا } [ الأعراف : 137 ] .
ووصف جملة الأرض بالبركة فقال : { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض } [ فصلت : 9 ] إلى قوله : { وَبَارَكَ فِيهَا } [ فصلت : 10 ] .
فإن قيل : فأي بركةٍ في الفَلَواتِ الخالية ، والمَفَاوزِ المُهْلِكَةِ؟
قلنا : إنها مساكن الوحوش ومرعاها ، ومَسَاكن النَّاس إذا احتاجوا إليها ، فلهذه البركة قال تعالى : { وَفِي الأرض آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } [ الذاريات : 20 ] وهذه الآيات وإن كانت حاصلةً لغير المؤمنين ، لكن ممَّا لم ينتفع بها إلا الموقنون جعلها آيات للمؤمنين تشريفاً لهم كما قال : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] .
وثانيها : أنه -سبحانه- خلق الأنبياء المكرمين من الأرض على ما قال : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } [ طه : 55 ] ولم يخلق من السماء شيئاً ، لأنه قال : { وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً } [ الأنبياء : 32 ] .
وثالثها : أن الله -تعالى- أكرم نبيّه ، فجعل الأرض كلها مسجداً ، وجعل ترابها طهوراً .
فَصْلٌ في فَضْلِ السَّمَاءِ
وهو من وجوه :
الأول : أن الله -تعالى- زيَّنَهَا بسبعة أشياء : بالمصابيح { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ } [ الملك : 5 ] .
وبالقمر { وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً }
[
نوح : 16 ] وبالشمس : { وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً } [ نوح : 16 ] .
وبالعرش ، وبالكرسي ، وباللوح المحفوظ ، وبالقلم ، فهذه السَّبعة ثلاثة منها ظاهرة ، وأربعة مثبتة بالدلائل السَّمعية .
الثاني : انه -تعالى- سمّاها بأسماء تدلّ على عظم شانها سماء ، وسقفاً محفوظاً ، وسبعاً طباقاً ، وسبعاً شداداً ، ثم ذكر عاقبة أمرها فقال : { وَإِذَا السمآء فُرِجَتْ } [ المرسلات : 9 ] ، { وَإِذَا السمآء كُشِطَتْ } [ التكوير : 11 ] ، { إِذَا السمآء انفطرت } [ الانفطار : 1 ] ، و { إِذَا السمآء انشقت } [ الانشقاق : 1 ] ، { يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ } [ الأنبياء : 104 ] ، { تَكُونُ السمآء كالمهل } [ المعارج : 8 ] ، { يَوْمَ تَمُورُ السمآء مَوْراً } [ الطور : 9 ] . { فَكَانَتْ وَرْدَةً كالدهان } [ الرحمن : 37 ] .
وذكر مبدأها فقال : { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ } [ فصلت : 11 ] وقال : { أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا } [ الأنبياء : 30 ] فهذا الاستقصاء والتشديد في كيفية حدوثها وفنائها يدلُّ على أنه -سبحانه وتعالى- خلقها لحكمة بالغة على ما قال : { وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً } [ ص : 27 ] .
الثَّالث : أنه -تعالى- جعل السَّماء قِبْلَةَ الدعاء ، فالأيدي تُرفع إليها ، والوجوه تتوجّه نحوها ، وهي منزل الأنوار ، ومحل الضياء والصّفاء ، والطهارة ، والعصمة من الخلل والفَسَاد .
والبناء : مصدر « بنيت » ، وإنما قلبت « الياء » همزة لتطرُّفها بعد ألف زائدة ، وقد يراد به المفعول ، و « أنزل » عطف على « جعل » و « من السماء » متعلّق به ، وهي لابتداء الغاية ، ويجوز أن يتعلّق بمحذوف على أن تكون حالاً من « ما » ؛ لأن صفة النكرة إذا قدمت عليها نصيب حالاً ، وحينئذ معناها التبعيض ، وثَمَّ مضاف محذوف أي : من مياه السماء ماء .
وأصل « ماء » موه بدليل قولهم : « مَاهَتِ الرَّكِيَّةُ تَمُوهُ » وفي جمعه مياه وأمواه ، وفي تصغيره : مويه ، فتحركت « الياء » وانفتح ما قبلها ، فقلبت ألفاً ، فاجتمع حرفان خفيفان : « الأف » و « الهاء » ، فأبدلوا من « الهاء » أختها وهي الهمزة؛ لأنها أجلد منها .
فإن قيل : كيف قال : { وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً } [ البقرة : 22 ] وإنما ينزل من السَّحاب؟ فالجواب أن يقال : ينزل من السَّماء إلى السحاب ، ومن السحاب إلى الأرض .
فَصْلٌ في أوجه ورود لفظ الماء
قال أبو العباس المقري : ورد لفظ الماء في القُرْآن على ثلاثة أوجه :
الأوّل : بمعنى الماء المُطْلَق كهذه الآية .
الثاني : بمعنى النّطفة . قال تعالى : { خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ } [ الطارق : 6 ] .
وقوله : { مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } [ السجدة : 8 ] .
الثالث : بمعنى القرآن . قال تعالى : { أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } [ الرعد : 17 ] بمعنى القرآن ، احتمله الناس على قَدَرٍ .
قوله : « فاخرج » عطف على « أنزل » مرتب عليه ، و « به » متعلق به ، و « الباء » فيه للسببية ، و « من الثمرات » متعلّق به أيضاً ، و « من » هنا للتبعيض ، كأنه قصد بتنكير الماء والرزق معنى البعضِيّة ، كأنه قيل : وأنزل من السماء بعض الماء ، فأخرج به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم؛ إذ ليس جميع رزقهم هو بعض الثمرات ، إنما ذكر بعض رزقهم .
وأبعد من جعلها زائدة لوجهين :
أحدهما : زيادتها في الواجب ، وكون المجرور بها معرفةً ، وهذا لا يقول به بَصْرِيّ ولا كُوفِيّ إلاّ أبا الحسن الأَخْفَشَ .
والثاني : أن يكون جميع الثمرات رزقاً لنا . وهذا يخالف الواقع؛ إذ كثير من الثمرات ليس رزقاً لنا . وجعلها الزمخشري لبيان الجنس ، وفيه نظر؛ إذ لم يتقدم ما يبين هذا ، وكأنه يعني أنه بيان ل « رزقاً » من حيث المعنى .
و « رزقاً » ظاهره أنه مفعول به ناصبه « أخرج » ، ويجوز أن يكون « من الثمرات » في موضع المفعول به ، والتقدير : فأخرج ببعض الماء بعض الثمرات ، وفي « رزقاً » حينئذ وجهان :
أحدهما : أن يكون حالاً على أن الرزق بمعنى المرزوق كالطَّحْن والرَّعْي .
والثاني : أن يكون مصدراً منصوباً على المفعول من أجله ، وفيه شروط النصب موجودة .
وأجاز أبو البقاء أن يكون « من الثمرات » حالاً من « رزقاً » ؛ لإنه لو تأخر لكان نعتاً ، فعلى هذا يتعلق بمحذوف .
وجعل الزمخشري « من الثمرات » واقعاً موقع الثمر ، أو الثمار ، يعني مما ناب فيه جمع قلّة عن جمع الكَثْرة نحو : { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ } [ الدخان : 25 ] و { ثَلاَثَةَ قرواء } [ البقرة : 228 ] ، ولا حاجة تدعو إلى هذا؛ لأن جمع السَّلامة المحلَّى ب « أل » الَّتي للعموم يقع للكثرة ، فلا فَرْقَ إذن بين الثَّمَرَات والثِّمَار ، ولذلك ردَّ المحقِّقون قول من رَدَّ على حَسَّان بن ثابت رضي الله عنه : [ الطويل ]
281-
لَنَا الجَفَنَاتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ في الضُّحَى ... وَأَسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ مَنْ نَجْدَةٍ دَمَا
قالوا : كان ينبغي أن يقول : « الجِفَان » ، و « سيوفنا » ؛ لأنه أمدح ، وليس بصحيح؛ لما ذكرت قبل ذلك .
و « لكم » يحتمل التعلّق ب « أخرج » ، ويحتمل التعلّق بمحذوف ، على أن يكون صفة ل « رزقاً » . هذا إن أريد بالرزق المرزوق ، وإن أريد به المصدر ، فيتحمل أن تكون الكاف في « لكم » مفعولاً بالمصدر واللام مقوية له نحو : « ضربت ابني تأديباً له » أي : تأديبه .
قوله : { فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً } « الفاء » للتسبب أي : تسبب عن إيجاد هذه الآيات الباهرة النهي عن اتخاذكم الأنداد ، و « لا » ناهية ، و « تجعلوا » مجزوم بها ، علامة جزمه حذف النون ، وهي هنا بمعنى تُصَيِّرُوا .
وأجاز أبو البَقَاءِ أن تكون بمعنى : تُسَمُّوا ، وعَلَى القولين فيتعدى لاثنين .
أولهما : « أنداداً » .
وثانيهما : الجار والمجرور قبله ، هو واجب التقديم ، و « أنداداً » جمع نِدّ .
وقال أبو البقاء : « أنداداً » جمع « نِدّ » و « نديد » ، وفي جعله « نديد » نظر؛ لأنّ أفعالاً يحفظ في فعيل بمعنى فاعل ، نحو : شريف وأشراف ، ولا يقاس عليه .
فإن قيل : بم تعلّق قوله : « فلا تجعلوا » ؟
فالجواب فيه وجوه :
أحدها : أن يتعلّق بالأمر أي : اعبدوا ، ولا تجعلوا لله أنداداً ، فإن أصل العبادة التوحيد .
وثانيها : ب « لعل » على أن ينتصب ب « تجعلوا » انتصاب « فَاطَّلِع » في قراءة حَفْصٍ .
قال الزمخشري : والمعنى خلقكم لكي تتقوا ، وتخافوا عقابه فلا تثبتوا له ندًّا ، فإنه من أعظم موجبات العقاب ، فعلى هذا تكون « لا » نافية ، والفعل بعدها منصوب بإضمار « أن » في جواب الترجي ، وهذا لا يجيزه البصريون ، وسيأتي تأويل « فَاطَّلِعَ » ، ونظائِرِه في موضعه إنْ شَاءَ الله تعالى .
وثالثها : بقوله : { الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً }
إذا جعلت « الذي » خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو الذي خلق لكم هذه الدلائل الباهرة فلا تتخذوا له شريكاً .
و « النِّدُّ » المقاوم المُضاهي ، سواءٌ كان مِثْلاً ، أو ضدًّا ، أو خلافاً .
وقيل : هو الضِّدُّ عن أبي عُبَيْدة .
وقيل : الكُفْء والمِثْلُ؛ قَال حَسَّان : [ الوافر ]
282-
أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِنِدٍّ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الفِدَاءُ
أي : « وَلَسْتُ لَهُ بِكُفْءٍ » .
وقد رُوِيَ ذلك؛ وقال آخر : [ الرمل ]
283-
نَحْمَدُ اللهَ وَلاَ نِدَّ لَهُ ... عِنْدَهُ الخَيْرَ وَمَا شاءَ فَعَلْ
وقال الزمخشري : النِّدُّ المِثْلُ : ولا يقال إلا للنِّدِّ المخالف؛ قال جرير : [ الوافر ]
284-
أَتَيْماً تَجْعَلُونَ إِلَيَّ نِدًّا ... وَمَا تَيْمٌ لِذِي حَسَبٍ نَدِيدُ
ونَادَدْتُ الرّجل : خالفته ونافرته ، من : نَدَّ َيَنِدُّ نُدُوداً ، أي : نَفَر .
ومنه الحديث : « أيّ بعيرٍ نَدّ فأعياهم » .
ويقال : « نَدِيدَة » على المبالغة؛ قال لَبِيد : [ الطويل ]
285-
لِكَيْلاَ يَكُونَ السَّنْدَرِيُّ نَدِيدَتِي ... وَأَجْعَلَ أَقَوَاماً عُمُوماً عَمَاعِمَا
وأما « النِّد » بفتح النون فهل التَّلُّ المرتفع ، والنِّدُّ الطيب أيضاً ، ليس بعربي .
وقرأ محمد بن السَّمَيْفَع : « فلا تَجْعَلُوا للهِ نِدًّا » .
فإن قيل : إنهم بم يقولوا : إن الأصنام تنازع الله .
قلنا : لما عبدوها وسموها آلهة أشبهت حالهم حَالَ من يعتقد أنها آلهة قادرة على منازعته فقيل لهم ذلك على سبيل التهكُّم بهم .
قوله : { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال ، ومفعول العلم متروك ، لأن المعنى ، وأنتم من أهل العلم ، أو حذف اختصاراً أي : وأنتم تعلمون بطلاق ذلك ، والاسم من « أنتم » قيل : « أن » و « التاء » حرف خطاب يتغير بحسب المخاطب ، وقيل : بل « التاء » هي الاسم ، و « أن » عماد قبلها «
وقيل : بل هو ضمير برمته وهو ضمير رفع منفصل وحكم ميمه بالنسبة إلى السكون والحركة والإشباع والاختلاس حكم » ميم « هم ، وقد تقدّم جميع ذلك . والمعنى : إنكم لكمال عقولكم تعلمون أن هذه الأشياء لا يصح جعلها أنداداً لله -تعالى- فلا تقولوا ذلك؛ فإن القول القبيح ممن علم قبحه يكون أقبح .
وهذا الخطاب للكافرين ، والمنافقين ، قاله ابن عباس رضي الله عنه .
فإن قيل : كيف وصفهم بالعِلْمِ ، وقد نعتهم بالخَتْمِ ، والطَّبْعِ ، والصَّمَمِ ، والعمى؟
فالجواب من وجهين :
أحدهما : وأنتم تعلمون العلم الخاص أن الله خلق ، وأنزل الماء ، وأنبت الرزق ، وهو المنعم عليهم دون الأَنْدَادِ .
الثاني : وانتم تعلمون وحدانيته بالفرد والإمكان لو تدبرتم ونظرتم ، وفي هذا دليل على استعمال حجج المعقول ، وإبطال التقليد . وقال ابن فوُرِك : يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين ، والمعنى : لا ترتدوا أيها المؤمنون ، وتجعلوا لله أَنْدَاداً بعد علمكم بان الله واحد .
فَصْلٌ في فرق المشركين
قال ابن الخطيب : ليس في العالم أحد يثبت له شريكاً يساويه في الوجود ، والقدرة ، والعلم ، والحكم ، هذا مما لم يوجد ، لكن الثنوية يثبتون إليهن ، أحدهما : حكيم يفعل الخير ، والثاني : سفيه بفعل الشر؛ وأما اتخاذ معبود سوى الله ، فالذاهبون إلى ذلك فرق .
فمنهم عبدة الكواكب .
ومنهم الصَّائبة فإنهم يقولون : إنَّ الله -تعالى- خلق هذه الكواكب ، وهي مدّبرات لهذا العالم قالوا : فيجب علينا أن نعبد الكواكب ، والكواكب تعبد الله تعالى .
الفريق الثاني : الَّذين يعبدون المسيح عليه الصلاة والسلام .
الثالث : عبدة الأوثان . واعلم انه لا دين من أديان الكفر أقدم من دين عبادة النار؛ لأنه يروى أنّ النّار لما أكلت قربان « هابيل » جاء « إبليس » إلى قابيل « ، وأخبره أنها إنما أكلت قربان أخيه ، لنه عبدها ، فعبدت النار من ذلك الوقت .
وقيل : لا دين من أديان الكفر أقدم من دين الأوثان؛ لأن أقدم الأنبياء الذين نقل إلينا تاريخهم هو نوح عليه الصلاة والسلام؛ لأنه إنما جاء بالرد عليهم على ما أخبر الله -تعالى- عن قومه في قوله تعالى : { وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } [ نوح : 23 ] فعلمنا أن هذه المقالة كانت موجودةً قبل نوح عليه الصلاة والسَّلام باقية إلى الآن ، والمذهب الذي هذا شأنه ، فيستحيل معرفة فساده بالضرورة ، لكن العلم بأن هذا الحجر المنحوت في هذه السَّاعة ليس هو الذي خلقه وخلق السماء والأرض علم ضروري ، فيستحيل إطباق الجمع العظيم عليه؛ فوجب أن يكون لعبدة الأوثان غرض آخر سوى ذلك ، والعلماء ذكروا فيه وجوهاً :
أحدها : ما ذكره أبو معْشَرٍ جَعْفَرُ بن محمد المنجم البَلْخي أن كثيراً من أهل » الصِّين « و » الهند « كانوا يقولون بالله ، وملائكتهن ويعتقدون أنه -تعالى- جسم وصورة كأحسن ما يكون من الصُّور ، وهكذا حال الملائكة أيضاً في صورهم الحسنة ، وأنهم كلّهم قد احتجبوا عنا بالسماء ، وأن الواجب عليهم أن يصوغوا تماثيل أنيقة المنظر ، حسنة المرأى ، على الهيئة التي كانوا يعتقدونها من صور الإله والملائكة ، فيعكفون على عبادتها قاصدين به طلب الزُّلْفَى إلى الله -سبحانه- وملائكته .
فإن صَحّ ما قال أبو معشر ، فالسَّبب في عبادة الأوثان اعتقاد الشبه .
وثانيها : ما ذكر أكثر العلماء أن الناس رأوا تغيرات أحوال هذا العالم مربوطة بتغيرات أحوال الكواكب؛ فإنه بحسب قرب الشمس وبعدها عن سمت الرأس يحدث الفصول المختلفة ، والأحوال المتباينة ، ثم إنهم رصدوا أحوال سائر الكواكب ، فاعتقدوا ارتباط السعودة والنحوسة في الدنيا بكيفية وقوعها في طوالع الناس ، فلما اعتقدوا ذلك بالغوا في تعظيمها ، فمنهم من اعتقد أنها أشياء واجبة الوجود لذواتها ، وهي التي خلقت هذه العوالم ، ومنهم من اعتقد أنها مخلوقة للإله الأكبر ، لكنها [ خالقة لهذا ] العالم ، فالأولون اعتقدوا أنها هي الإله في الحقيقة ، والآخرون أنها هي الوسائط بين الله وبين البشر ، فلا جرم اشتغلوا بعبادتها والخضوع لها ، ثم لما رأوا الكواكب مستترة في أكثر الأوقات عن الأبصار اتخذوا لها أصناماً ، وأقبلوا على عبادتها قاصدين بتلك العبادات الأجرام العالية ، ومتقرّبين إلى أشباحها الغائبة ، ثم لما طالت المدة ألغوا ذكر الكواكب وتجرّدوا لعبادة تلك التماثيل ، فهؤلاء في الحقيقة عبدة الكواكب .
وثالثها : أن أصحاب الأحكام كانوا يعيّنون سنين متطاولة ، نحو الألف والألفين ، ويزعمون أن [ من اتخذ ] طلمساً في ذلك الوقت على وجه خاص ، فإنه ينفع في أحوال مخصوصة نحو السَّعادة والخصب ، ودفع الآفات ، وكانوا إذا اتخذوا ذلك الطلسم عَظَّموه لاعتقادهم أنهم ينتفعون به ، فلمَّا بالغوا في ذلك التعظيم صار ذلك كالعبادة ، ولمَّا طالت مدّة ذلك الفِعْلِ نسوا مبدأ الأمر ، وانشغلوا بعبادتها على الجهالة بأصل الأمر .
ورابعها : أنه متى مات منهم رجل كبير يعتقدون في أنه مجاب الدعوة ، ومقبول الشَّفاعة عند الله -تعالى- اتخذوا أصناماً على صورته ، ويعبدونه على اعتقاد أن ذلك الإنسان يكون شفيعاً لهم يوم القيامة عند الله -تعالى- على ما أخبر الله عنهم في قولهم : { هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله } [ يونس : 18 ] .
وخامسها : لعلهم اتخذوها محاريب لصلاتهم ، وطاعاتهم ، ويسجدون غليها لا لها كما أنَّا نسجد إلى القبلة لا للقبلة ، ولما استمرت هذه الحالة ظنّ الجهال من القوم أنه يجب عبادتها .
وسادسها : لعلّهم كانوا يعتقدون جواز حلول الرب فيها فعبدوها على هذا التأويل . فهذه هي الوجوه التي يمكن حلم هذه المقالة عليها حتى ليصير بحيث يعلم بطلانه بضرورة العقل .
واعلم أنّ إقامة الدّلالة على افتقار العالم إلى الصَّانع المختار يبطل القول بعبادة الأوثان على كلّ التأويلات ، والله أعلم .
فَصْلٌ
اعلم أن من بيوت الأصنام المشهورة « غمدان » الذي بناه الضحاك على اسم الزهرة بمدينة « صنعاء » وخربه بن عفان ، ومنها « » نوبهار بلخط الذي بناه « منوشهر » الملك على اسم القمر ، ثم كان لقبائل العرب أوثان معروفة مثل : ود ب « دومة الجندل » لكلب ، و « سواع » لبني هذيل ، و « يغوث » ب « اليمن » لمذحج ، و « يعوق » لمرادية همدان و « نَسْر » بأرض « حمير » لذي الكُلاَع ، و « اللات » ب « الطائف » ل « ثقيف » ، و « مناة » ب « يثرب » للخزرج ، و « العُزّى » لكنانة بنواحي « مكّة » و « أساف » و « نائلة » على « الصفا » و « المروة » .
وكان قُصَيّ جَدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن عبادتها ، ويدعوهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى ، وكذلك زَيْدُ بْنُ عَمْرو بْنُ نُفَيْلٍ ، وهو الذي يقول : [ الوافر ]
286-
أَرَبٌّ وَاحِدٌ أَمْ اَلْفُ رَبٍّ ... أَدِينُ إِذَا تَقَسَّمَتِ الأُمُورُ؟!
تَرَكْتُ اللاَّتَ والعُزَّى جَمِيعاً ... كَذَلِكَ يَفْعَلُ الرَّجُلُ البَصِيرُ
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
اعلم أنه سبحانه لما أقام الدلائل القاطعة على إثبات الصّانع ، وأبطل القول بالشريك عقبه بما يدلّ على النبوة ، ولما كانت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم مبنية على كون القرآن معجزاً أقام الدلالة على كونه معجزاً . واعلم أن كونه معجزاً يمكن بيانه من طريقين :
الأول : ألا يخلو حاله من أحد وجوه ثلاثة :
إما أن يكون مساوياً لكلام الفصحاء ، أو زائداً على كلام الفصحاء بقدر لا ينقض العادة ، أو زائداً عليه بقدر ينقض العادة ، والقسمان الأولان باطلان فتعين الثالث .
وإنما قلنا : إنهما باطلان؛ لأنه لو كان كذلك لوجب أن يأتوا [ بمثل سورة منه ] إما مجتمعين ، أو منفردين ، فإذا وقع التَّنَازع ، فالشهود والحكام مزيلون الشبهة وذلك نهاية الاحتجاج؛ لنه كان من معرفة اللغة والاطلاع على قوانين الفصاحة في الغاية ، وكانوا في محبة إبطال أمره في الغاية حتى بذلوا النفوس والأموال ، وارتكبوا المهالك والمحن ، وكانوا في الحمية والأنفة على حد لا يقبلون الحق ، فكيف الباطل ، وكل ذلك يوجب الإتيان بما يقدح في قوله ، فلما لم يأتوا بمثلها علمنا عجزهم عنها ، فثبت أن القرآن لا يماثل قولهم ، وأنَّ التفاوت بينه وبين كلامهم ليس تفاوتاً معتاداً ، فهو إذن تفاوت ناقص للعادة ، فوجب أن يكون معجزاً .
والعم أنه قد اجتمع في القرآن وجوه كثير ، تدلُّ على أنه أبلغ في الفصاحة النهاية التي لا غاية لها :
أحدها : أن فصاحة العرب أكثرها في وصف المشاهدات مثل وصف بعير ، أو فرس ، أو جارية ، أو ملك ، أو ضربة ، أو طعنة أو وصف حرب ، أو وصف غارة ، وليس في القرآن شيء من هذا ، فكان يجب على هذا ألا يحصل فيه شيء من الفصاحة ، التي اتفقت العرب في كلامهم عليها .
وثانيها : أنه -تعالى- راعي فيه [ طريقة ] الصِّدق ، وتنزَّه عن الكذب في جميعه ، وكل شاعر ترك الكذب ، ولزم الصدق زكي شعره ، ألا ترى لبيد بن ربيعة ، وحسان بن ثابت لما أسلما زكي شعرهما ، [ ولم يكن شعرهما ] الإسلامي في الوجوه كشعرهما في الجاهلية ، والقرآن مع لزوم الصدق وتنزُّهه عن الكذب بلغ الغاية في الفصاحة كما ترى .
وثالثها : أن الكلام الفصيح والشعر الفصيح في القصيدة كلها ، إنما هو بيت أو بيتان والباقي ليس كذلك ، وأما القرآن فكله فصيح ، فعجز الخلق عن بعضه كما عجزوا عن جملته .
ورابعها : أن كل من وصف شيئاً بشعر ، فإن كرره لم يكن كلامه الثَّاني في وصف ذلك الشيء بمنزلة كلامه الأول ، وأما القرآن ففيه تكرار كثير ، وهو في غاية الفَصَاحة ، ولم يظهر التفاوت أصلاً .
وخامسها : أنهم قالوا : شعر امرئ القيس يحسن عند الطَّرب ، وذكر النِّسَاء ، وصفة الخَيْلِ ، وشعر النابغة عند الخوف ، وشعر الأعشى عند الطَّلَبِ ، ووصف الخَمْرِ ، وزهير عند الرَّغْبَةِ والرجاء ، وبالجملة فكل شاعر يحسن كلامه في فَنٍّ ، ويضعف كرمه في غيره ، والقرآن جاء فصيحاً في كل الفنون .
وسادسها : أن القرآن أصل للعلوم كلها ، فعلم الكلام كلّه في القرآن ، وعلم الفقه مأخوذ من القرآن ، كذا علم أصول الفقه ، وعلم النحو ، واللغة ، وعلم الزهد في الدُّنيا ، وأخبار الآخرة ، واستعمال مكارم الأخلاق .
وأما الطريق الثاني : أن يقول : القرآن لا يخلو إما أن يكون بالغاً في الفصاحة إلى حَدّ الإعجاز ، أو لم يكن ، فإن كان الأول ثبت أنه معجز ، وإن كان الثاني كانت المُعَارضة على هذا التقدير ممكنة ، فعدم إتيانهم بالمُعَارضة ، مع توفُّر داعيهم على الإتيان بها ، أمر خارق للعادة ، فكان ذلك معجزاً ، فثبت أنَّ القرآن معجز على جميع الوجوه .
«
إن » حرف شرط يجزم فعلين : شرطاً وجزاءً ، فلا تقول : « إن غربت الشمس » .
فإن قيل : فكيف قال هاهنا : { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ } ، وهذا خطاب مع الكفار ، والله تَعَالَى يعلم أنه في ريب ، وهم يعلمون ويقرون أنهم في ريب ، ومع ذلك فالتعليق حسن .
فالجواب : الخصائص الإلهية لا تدخل في الأوضاع العربية ، بل الأوضاع العربية مبنية على خصائص الخلق ، والله -تعالى- أنزل القرآن بلغة العرب ، وعلى منوالهم ، فكل ما كان في لغة العرب حسناً نزل القرآن على ذلك الوجه ، وما كان نسخاً في لسان العرب لم ينزل في القرآن ، فثبت بهذا أن كل ما جاء في العادة مشكوكاً فيه بين الناس ، حسن تعليقه ، سواء كان من قبل الله -تعالى- أو من قل غيره ، وسواء كان معلوماً للسَّامع أو المتكلّم أم لا ، وكذلك حسن قوله : إن كان زيد في الدار فأكرمه ، مع أنك علم أن زيداً في الدار؛ لأن حصول زيد في الدار ، شأنه أن يكون في العادة مشكوكاً فيه ، ولا يكون إلاَّ في المحتمل وقوعه ، وهي أم الباب؛ فلذلك يحذف مجزومها كثيراً ، وقد يحذف الشَّرط والجزاء معاً؛ قال : [ الرجز ]
287-
قَالَتْ بَنَاتُ العَمِّ : يا سَلْمَى وَإِنْ ... كَانَ فَقِيراً مُعْدماً قَالَتْ : وَإِنْ
أي : وإن كان فقيراً تزوجته .
وتكون « إن » نافية فتعمل وتهمل ، وتكون مخففة وزائدة باطِّراد وعدمه ، وأجاز بعضهم أن تكون بمعنى « إذا » ، وبعضهم أن تكون بمعنى « قد » ، ولها أَحْكَام كثيرة .
و « في ريب » خبر كان ، فيتعلّق بمحذوف ، ومحل « كان » الجزم ، وهي إن كانت ماضية لفظاً فهي مستقبلة معنى .
وزعم المبرد أنَّ ل « كان » الناقصة حكماً مع « إنْ » ، ليس لغيرها من الأفعال الناقصة ، فزعم أّنه لقوة « كان » أنّ « إنْ » الشرطية لا تقلب معناها إلى الاستقبال ، بل تكون على مَعْنَاها من المُضِيّ ، وتبعه في ذلك أبو البَقَاءِ ، وعلل ذلك بأن كثيراً استعملوها غير دالّة على حدث ، وهذا مردود عند الجمهور ، لأن التعليق إنما يكون في المستقبل ، وتأولوا ما ظاهره غير ذلك نحو :
{
إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ } [ يوسف : 26 ] إما بإضمار « يكن » بعد « إن » ، وإما على التبيين ، والتقدير : « إن يكن قميصه ، أو إن يتبين كونه قميصه » ولما خفي هذا المعنى على بعضهم جعل « إن » هنا بمنزلة « إذ » وقوله : « في ريب » مجاز من حيث إنه يجعل الريب ظرفاً محيطاً بهم ، بمنزلة المكان لكثرة وقوعه منهم .
و « مِمَّا » يتعلّق بمحذوف؛ لأنه صفة لريب ، فهو في محل جَرّ ، و « من » للسَّببية ، أو لابتداء الغاية ، ولا يجوز أن تكون للتبعيض ، ويجوز أن تتعلّق ب « ريب » أي : إن ارتبتم من أجل ، ف « من » هُنا للسَّببية ، و « ما » موصولة أو نكرة موصوفة ، والعائد على كلا القولين محذوف ، أي : نزلناه ، والتضعيف في « نَزّلنا » هنا للتعدية مرادفاً لهمزة التعدي ، ويدلّ عليه قراءة « أنزلنا » بالهمز ، وجعل الزمخشري التضعيف هنا دالاًّ على نزوله منجماً في أوقات مختلفة .
قال بعضهم : « وهذا الذي ذهب إليه في تضعيف الكلمة هنا ، هو الَّذي يعبر عنه بالتكثير أي يفعل مرة بعد مرة ، فيدل على ذلك بالتضعيف ويعبر عنه بالكثرة » قال : « وذهل عن قاعدة ، وهي أن التضعيف الدّال على ذلك من شرطه أن يكون في الأفعال المتعدّية قبل التضعيف غالباً نحو : » جَرَّحْتُ زِيْداً ، وفَتَّحْتُ الباب « ، ولا يقال جَلَّس زيدٌ » و « نَزَّل » [ لأنه ] لم يكن متعدياً قبل التضعيف ، وإنَّ ما جعله متعدياً تضعيفه « .
وقوله : » غالباً « لأنه قد جاء التضعيف دالاًّ على الكثرة في اللاَّزم قليلاً نحو : » مَوَّت المال « ، وأيضاً فالتضعيف الدَّال على الكثرة لا يجعل القاصر متعدياً ، كما تقدم في » مَوَّتَ المال « و » نَزَّل « كان قاصراً فصار بالتضعيف متعدياً ، فدلّ على أنَّ تضعيفه للنقل لا للتكثير ، وأيضاً كان يحتاج قوله تعالى : { لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً } [ الفرقان : 32 ] إلى تأويل ، وأيضاً فقد جاء التضعيف حيث لا يمكن فيه التكثير ، نحو قوله تعالى : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ } [ الأنعام : 37 ] ، { لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً } [ الإسراء : 95 ] إلا بتأويل بعيد جدًّا ، إذ ليس المعنى على أنهم اقترحوا تكرير نزول [ آية ، ولا أنه علق تكرير نزول ] مَلَك رسول على تقدير كون ملائكة في الأرض .
وفي قوله : { نَزَّلْنَا } التفات من الغيبة إلى التكلّم؛ لأن قبله : { اعبدوا رَبَّكُمُ } [ البقرة : 21 ] جاء الكلام عليه لقيل : » مما نزّل عَلَى عَبْدِهِ « ولكن التفت للتفخيم .
و » عَلَى عَبْدِنَا « متعلّق ب » نَزَّلْنَا « وعُدِّي ب » على « لإفادتها الاستعلاء ، كأن المنزل تمكّن من المنزول عليه ولبسه ، ولهذا جاء أكثر القرآن بالتعدّي بها دون » إلى « فإنها تمكّن من المنزول عليه ولبسه ، ولهذا جاء أكثر القرآن بالتعدّي بها دون » إلى « فإنها تفيد الانتهاء والوصول فقط ، والإضافة في » عبدنا « تفيد التشريف؛ كقوله : [ السريع ]
288-
يَا قَوْمِ قَلْبي عِنْدَ زَهْرَاءِ ... يَعْرِفُهُ السَّامِعُ وَالرَّائِي
لاَ تَدْعُنِي إلاَّ بِيَا عَبْدَهَا ... فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي
وقرئ « عبادنا » فقيل : المراد النبي -عليه الصلاة والسلام- وأمته؛ لأن جدوى المنزل حاصل لهم .
وقيل : المراد بهم جميع الأنبياء عليهم السلام .
والعبد : مأخوذ من التعبد ، وهو التذلل؛ قال طَرَفَةُ : [ الطويل ]
289-
إِلَى اَنْ تَحَامَتْنِي العَشِيرَةُ كُلُّهَا ... وأُفْرِدْتُ إِفْرَادَ البَعِيرِ المُعَبَّدِ
أي : المذلَّل .
ولما كانت العبادة أشرف الخصال والتسمّي بها أشرف الخطط سمَّى نبيه عبداً .
قوله : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ } جواب الشرط ، والفاء هنا واجبة؛ لن ما بعدها لا يصحّ أن يكون شرطاً بنفسه ، واصل « فأتوا » « إأْتِيُوا » مثل : اضربوا ، فلهمزة الأولى همزة وصل أُتي بها للابتداء بالسَّاكن ، والثَّانية فاء الكلمة ، فلما اجتمع همزتان ، وجب قلب ثانيهما ياءً على حَدِّ « إيمان » وبابه ، واستثقلت « الضمة » على « الياء » التي هي « لام » الكلمة فقدرت ، فسكنت « الياءط وبهدها طواو » الضمير ساكنة ، فحذف « الياء » لالتقاء ساكنين ، وضُمّت « التاء » للتجانُسِ ، فوزن « ايتوا » : « افعوا » ، وهذه الهمزة إنما يحتاج إليها ابتداءً ، أما في الدَّرْج فإنه يُسْتَغْنَى عنها ، وتعودُ الهمزةُ اليت هي « فاءُ » الكلمة؛ لأنّها إنّما قُلِبَتْ ياءً للكسرِ الذي كان قبلها ، وقد زال نحو : « فأتوا » وبابه ، وقد تحذف الهمزة التي هي « فاء » الكلمة في الأمر كقوله : [ الطويل ]
290-
فَإِنْ نَحْنُ لَمْ نَنْهَضْ لَكُمْ فَنَبَرَّكُمْ ... فَتُونَا فَعَادُونَا إذاً بالجَرَائِمِ
يريد : فأتونا كقوله : فأتوا .
قال ابن كيسان : « وهو أمر معناه التعجيز؛ لأنه -تعالى- علم عجزهم عنه » .
و « بسورة » متعلّق بأتُوا ، والسورة واحدة السُّوَر ، وهي طائفة من القُرْآن .
وقيل : السُّورة الدَّرجة الرفيعة ، قال النابغة : [ الطويل ]
291-
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَعْطَاكَ سُورَةً ... تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَها يَتَذَبْذَبُ
وسميت سورة القرآن بذلك؛ لأن قارئها يشرف بها وترفعه ، أو لرفعة شأنها ، وجلالة محلّها في الدِّين ، وإن جعلت واوها منقلبة عن « الهمزة » ، فيكون اشتقاقها من « السُّؤْر » ، وهو البقية ، والفضلة؛ ومنه : « أَسْأَرُوا في الإِنَاءِ » ؛ قال الأعشى : [ المتقارب ]
292-
فَبَانَتْ وَقَدْ أَسَأَرتْ في الفُؤَا ... دِ صَدْعاً عَلَى نَأْيِهَا مُسْتَطِيرَا
أي : أَبْقَتْ ، ويدلّ على ذلك أن « تميماً » وغيرها يهمزون فيقولون : سؤرة بالهمزة .
وسميت سورة القرآن بذلك؛ لأنها قطعة منه ، وهي على هذا مخفّفة من « الهمز » .
وقيل : اشتقاقها من سُور البناء؛ لأنها تحيط بقارئها ، وتحفظه كَسُورِ المدينة ، ولكنّ جَمْعَ سُورةِ القرآن سُوَر بفتح الوَاوِ ، وجَمْعَ سُورةِ البناء سُوْر بسكونها ، ففرقوا بينهما في الجمع .
فإن قيل : ما فائدةُ تقطيع القُرْآن سُوَراً؟
قلنا : وجوه :
أحدها : ما لجله بوب المصنِّفون كتبهم أبواباً وفصولاً .
وثانيها : أن الجنس إذا حصل تحته كان إفراد كل نوع من صاحبه أحسن .
وثالثها : أنّض القارئ إذا ختم سورة ، أو باباً من الكتاب ، ثم أخذ في آخر كان أنشط له ، كالمسافر إذا علم أنه قطع ميلاً أو طوى فرسخاً نشطه للمسير .
فَصْلٌ في بيان أن ترتيب القرآن توقيفي
قال ابن الخطيب : قوله : « فأتوا بسورة » يدلُّ على أن القرآن وما هو عليه من كونه سوراً هو على حدّ ما أنزله الله -تعالى- بخلاف قول كثير من أهل الحديث ، أنه نظم على هذا الترتيب في أيام عثمان ، فلذلك صحّ التحدّي بالقرآن على وجوه :
أحدها : قوله : { فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى } [ القصص : 49 ] .
وثانيها : قوله : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [ الإسراء : 88 ] .
وثالثها : قوله : { فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } [ هود : 13 ] .
ورابعها : قوله : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } [ البقرة : 23 ] ، ونظير هذا لمن يتحدّى صاحبه فيقول : ائتني بمثله ، ائتني بنصفه ، ائتني بربعه ، ائتني بمسألة مثله ، فإن هذا هُوَ النّهاية في التحدّي ، وإزالة لعُذْر .
قوله : { مِّن مِّثْلِهِ } في الهاء ثلاثة أقوال :
أحدهما : أنها تعود على « ما نَزَّلنا » عند الجمهور كعمرو ، وابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، وغيرهم ، فيكون « من مثله » صفة ل « سورة » ، ويتعلّق بمحذوف على ما تقرر : أي بسورة كائنة من مثل المنزل في فصاحته ، وإخباره بالغيوب ، وغير ذلك ، ويكون معنى « من » التبعيض .
واختار ابن عطية والمَهْدَويّ أن تكون للبيان ، وأجازا هما وأبو البقاء أن تكون زائدة ولا تجيء إلاَّ على قول الأخفش .
الثاني : أنها تعود على « عَبْدنا » فيتعلّق « من مثله » ب « أتوا » ، ويكون معنى « من » ابتداء الغاية ، ويجوز على هذا الوجه أيضاً أن تكون صفة لسورة أي : « بسورة كائنة من رجل مثل عبدنا أمي لا يقرأ ولا يكتب » .
قال القرطبي : و « من » على هذين التأويلين للتبعيض .
الثالث : قال أبو البقاء : « إنها تعود على الأنداد بلفظ المفرد كقوله : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } [ النحل : 66 ] ولا حاجة تدعو إلى ذلك ، والمعنى يأباه أيضاً .
قال القرطبي : وقيل : يعود على التوراة والإنجيل ، والمعنى : فأتوا بسورة من كتاب مثله؛ فإنها تصدِّق ما فيه ، والوقف على » مثله « ليس بتام؛ لن » وادعوا « نسق عليه .
قوله : { وادعوا شُهَدَآءَكُم } هذه جملة أمر معطوفة على الأمر قبلها ، فهي في مَحَلّ جزم أيضاً ، ووزن « ادعوا » افعوا؛ لأن لام الكلمة محذوف دلالة على السكون في الأمر الذي هو جزم في المُضَارع ، و « الواو » ضمير الفاعلين .
و « شهداءكم » مفعول به جمع « شهيد » كظريف .
وقيل : بل جمع « شاهد » ك « شاعر » والأوّل أولى؛ لاطَِّرَادِ « فعلاء » في « فعيل » دون فاعل ، والشهادة الحضور ، وفي المراد من الشهداء وجهان : الأول : المراد من الشهداء الأوثان .
والثاني : المراد من الشهداء أكابرهم ، أو من يوافقهم في إنكار أمر محمد عليه الصلاة والسلام ، والمعنى : ادعوا أكابركم ، ورؤساءكم ليعينوكم على المُعَارضة ، أو ليشاهدوا ما تأتون به ، فيكون [ الرد على الجميع أوكد ] . و « من دون الله » متعلّق ب « ادعوا » من دون الله شهداءكم ، فلا تستشهدوا بالله ، فكأنه قال : وادعوا من غير الله من يشهد لكم ، ويحتمل أن يتعلّق ب « شهداءكم » والمعنى : ادعوا من اتخذتموه من دون الله ، وزعمتم أنهم يشهدون لكم بصحّة عبادتكم إياهم ، وأعوانكم من دون الله أولياء الذين تستعينون بهم دون الله ، أو يكون معنى « من دون الله » بين يدي الله؛ كقوله : [ الطويل ]
293-
تُرِيكَ القَذَى مِنْ دُونِهَا وَهِيَ دُونَهُ ... لِوَجْهِ أَخِيهَا في الإِنَاءِ قُطُوبُ
أي : تريك القذى قُدَّامه؛ لرقَّتها وصفَائِها .
واختار أبو البقاء أن يكون « من دُونِ الله » حالاً من « شهدائكم » والعامل فيه محذوف قال : « تقديره : شهدائكم منفردين عن الله ، أو عن أنصار الله » .
و « دون » من ظروف متصرّفة ، وجعل من ذلك قوله تعالى : { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } [ الجن : 11 ] فقال : « دون » مبتدأ و « منّا » خبره ، وإنما بني لإضافته إلى مبنيٍّ ، وقد شذَّ رفعُهُ خبراً في قول الشاعر : [ الطويل ]
294-
أَلَمْ تَر أَنِّي قَدْ حَمَيْتُ حَقِيقَتي ... وبَاشَرْتُ حَدَّ المَوْتِ وَالمَوْتِ دُونُهَا
وهو من الأسماء اللاَّزمة للإضافة لفظاً ومعنى .
وأمّا « دون » التي بمعنى رديء فتلك صفة كسائر الصفات ، تقول : « هذا ثوب دُون » ، و « رأيت ثوباً دوناً » أي : رديئاً ، وليست مما نحن فيه .
و « دون » أيضاً نقيض « فوق » ويقال : هذا دون ذاك ، أي : أقرب منه ، ويقال في الأخذ بالشَّيء : دونكه .
قال تميم للحجَّاج : أَقَبِرنا صالحاً -وكان قد صلبه- فقال : دونكموه .
قوله تعالى : { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } هذا شرط حذف جوابه للدلالة عليه تقديره : إن كنتم صادقين فافعلوا ، ومتعلّق الصدق محذوف ، والظاهر تقديره هكذا : إن كنتم صادقين في كونكم في رَيْبٍ من المنزل على عبدنا أنه من عندنا .
وقيل : فيما تقدرون عيله من المُعَارضة ، وقد صرّح بذلك عنهم في آية أُخْرَى ، حيث قال تعالى حاكياً عنهم :
{
لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا } [ الأنفال : 31 ] والصدق ضد الكذب وقد تقدم ، والصّديق مشتقٌّ مه لصدقه في الوُدِّ والنُّصحِ ، والصّدْق من الرماح : الصُّلبة .
فَصلٌ في التهكم بالكافرين
قال ابن الخطيب : « وفي أمرهم بان يستظهروا بالجماد الذي ينطق في معارضة القرآن المعجز بالفصاحة غاية التهكم بهم » .
فصل في الاحتجاج على الجبرية
قال القاضي : هذا التحدّي يبطل القول بالجَبْرِ من وجوه :
أحدها : أنه مبني على تعذُّر مثله ممن يصح الفعل منه ، فمن ينفي كون العبد فاعلاً لم يمكنه إثبات التحدّي أصلاً ، وفي هذا إبطال الاستدلال بالمعجز .
وثانيها : أن تعذُّره على قولهم يكون لفقد القدرة الموجودة ، ويستوي في ذلك ما كان معجزاً ، وما لا يكون ، فلا يصح معنى التحدي على قولهم .
وثالثها : أن ما يضاف إلى العبد فالله -تعالى- هو الخالق له ، فتحديه يعود في التحقيق إلى أنه مُتَحَدٍّ لنفسه ، وهو قادرٌ على مثله من غير شك فيجب ألا يثبت الإعجاز على هذا القول .
ورابعها : أنّ المعجز إنما يدلّ بما فيه من بعض العادة ، فإذا كان من قولهم : إن المعتاد أيضاً ليس بفعل لم يثبت هذا الفرق ، فلا يصحّ الاستدلال بالمعجز .
وخامسها : أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يحتج بأنه -تعالى- لم يكن داخلاً في الإعجاز ، وعلى قولهم بالجبر لا يصح هذا الفرق؛ لأن المعتاد وغير المعتاد لا يكون إلاَّ من قبله .
والجواب : أن المطلوب من التحدي أن يأتي الخصم بالمتحدّى به قصداً ، وأن يقع ذلك منه اتفاقاً .
والثاني باطل؛ لأن الاتفاقيات لا تكون في وُسْعِهِ ، فثبت الأول ، وإذا كان كذلك ثبت أن إتيانه بالمتحدى موقوف على أن يحصل في قلبه قصد إليه ، فذاك القصد إن كان من لزم التسلسل ، وهو محال ، وإن كان من الله -تعالى- فحينئذ يعود الجبر ، ويلزمه كل ما أورده علينا ، فبطل كل ما قال .
قوله : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ } « إن » الشرطية داخلة على جملة « لم تفعلوا » و « تفعلوا » مجزوم ب « لم » ، كما تدخل « إن » الشرطية على فعل منفي ب « لا » نحو : { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ } [ الأنفال : 73 ] ، فيكون لم تفعلوا في محل جزم بها .
وقوله : « فاتقوا » جواب الشَّرط ، ويكون قوله : { وَلَن تَفْعَلُواْ } جملة معترضة بين الشرط وجزائه .
وقال جماعة من المفسّرين : معنى الآية : وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ، [ ولن تفعلوا فإن لم تفعلوا فاتقوا النَّار ، وفيه نظر لا يخفى ، وإنما قال تعالى : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ ] وَلَن تَفْعَلُواْ } فعبر بالفعل عن الإتيان؛ لأن الفعل يجري مجرى الكناية ، فيعبر به عن كل فعل ، ويغني عن طول ما تكنى به .
وقال الومخشري : « لو لم يعدل من لفظ الإتيان إلى لفظ الفعل ، لاسْتُطِعَ ان يقال : فإن لم تأتوا بسورة من مثله ، ولن تأتوا بسورة من مثله » .
قال أبو حيان : « ولا يلزم ما قال؛ لأنه لو قال : » فإن لم تأتوا ولن تأتوا « كان المعنى على ما ذكر ، ويكون قد حذف ذلك اختصاراً ، كما حذف اختصاراً مفعول » لم تفعلوا ، ولن تفعلوا « ألا [ ترى ] أن التقدير : فإن لم تفعلوا الإتيان بسورة من مثله ، ولن تفعلوا الإتيان بسورة من مثله؟ » .
فإن قيل : كيف دخلت « إن » على « لم » وللا يدخل عامل على عامل؟
فالجواب : أنَّ « إنْ » ها هنا غير عاملة في اللفظ ، ودخلت على « لم » كما تدخل على الماضي ، لأنها لا تعمل في « لم » كما لم تعمل في الماضي ، فمعنى « إن لم تفعلوا » إن تركتم الفعل .
و « لَنْ » حرف نصف معناه نفي المستقبل ، ويختص بصيغة المضارع ك « لَمْ » ولا يقتضي نفيُهُ التَّأبيدَ ، وليس أقلَّ مدة من نفي « لاَ » ، ولا نونُه بدلاً من ألف « لاَ » ، ولا هو مركَّباً من « لاَ أَنْ » ؛ خلافاً للخليل ، وزعم قومٌ أنها قد تجزم ، منهم أبو عُبَيْدَة؛ وأنشدوا : [ الخفيف ]
295-
لَنْ يَخِبِ الآنَ مِنْ رَجَائِكَ مَنْ حَرْ ... رَكَ مشنْ دُونِ بَابِكَ الحَلْقَهْ
وقال النابغة : [ البسيط ]
296- ...
فَلَنْ أُعْرِّضْ أَبَيْتَ اللَّعْنَ بِالصَّفَدِ
ويمكن تأويل ذلك بأنه مما سُكِّن فيه للضَّرورة .
قوله تعالى : { فاتقوا النار } هذا جواب الشرط كما تقدم ، والكثير في لغة العرب : « اتَّقَى يَتَّقِي » على افْتَعَلَ يَفْتَعِلُ ، ولغى « تميم » و « أسد » تَقَى يَتْقِي : مثل : رَمَى يَرْمِي ، فيسكنون ما بعد حرف المضارعة؛ حكى هذه اللغة سيبويه ، ومنهم من يحرك ما بعد حرف المضارعة؛ وأنشدوا : [ الوافر ]
297-
تَقُوهُ أَيُّهَا الفِتْيَانُ إنِّي ... رَأَيْتُ اللهَ قَدْ غَلَبَ الجُدُودَا
وقال آخر : [ الطويل ]
298- . . ...
تَقِ اللهَ فِينَا وَالكِتَابَ الَّذِي تَتْلُو
قوله تعالى : { النار } مفعول به ، و « الَّتي » صفتها ، وفيها أربعُ اللغات المتقدِّمة ، كقوله : [ الكامل ]
299-
شُغِفَتْ بِكَ اللَّتْ تَيَّمَتْكَ فَمِثْلُ مَا ... بِكَ مَا بِهَا مِنْ لَوعَةٍ وَغَرَامِ
وقال آخر : [ الوافر ]
300-
فَقُلْ لِلَّتْ تَلُومُكَ إنَّ نَفْسِي ... أَرَاهَا لا تُعَوَّذُ بَالتَّمِيمِ
و « وقودها النَّاس والحجارة » جملة من مبتدأ وخبر ، صلة وعائد ، والألف واللام في « النار » للعهد .
فإن قيل : الصِّلة مقررة ، فيجب أن تكون معلومةً فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة؟
والجواب : لا يمتنع أن يتقدّم لهم بهذه الصّلة معهودة عند السامع بدليل قوله تعالى : { فأوحى إلى عَبْدِهِ مَآ أوحى } [ النجم : 10 ] وقوله : { إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى } [ النجم : 16 ] وقوله : { فَغَشَّاهَا مَا غشى } [ النجم : 54 ] وقال :
{
فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ } [ طه : 78 ] إلا أنه خلاف المشهور أو لتقدم ذكرها في سورة التحريم -وهي مدينة بالاتفاق- وقد غلط الزمخشري في ذلك .
والمشهور فتح واو الوقود ، وهو اسم ما يوقد به .
وقيل : هو مصدر كالوَلوع والقَبُول والوَضُوء والطَّهُور ، ولم يجيء مصدر على « فَعُول » غير هذه الألفاظ فيما حكاه سيبويه .
وزاد الكسائي : الوَزُوع . وفرئ شاذًّا في سورة « ق » { وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } [ ق : 38 ] فتصير سبعة ، وهناك ذكرت هذه القراءة ، ولكن المشهور أن الوَقُود والوَضُوء والطَّهُور بالفتح اسم ، وبالضم مصدر .
وقرأ عيسى بن عمر بفتحها وهو مصدر .
وقال ابن عطية : وقد حكيا في المصدر . انتهى .
فإن أريد اسم ما يوقد به فلا حاجة إلى تأويل ، وإن أريد بهما المصدر فلا بد من تأويل ، وهو إما المُبَالغة أي : جُعِلُوا نفس التوقد مبالغة في وضعهم بالعذاب ، وإمَّا حذف مضاف ، إمّا من الأول أي أصحاب توقدها ، وإمّا من الثاني أي : يوقدها إحراق الناس ، ثم حذف المُضَاف ، وأقيم المضاف إليه مُقَامه . والهاء في « الحِجَارة » لتأنيث الجمع .
فَصْلٌ في تثنية « الَّتي » وجَمْعِهِ
وفي تثنية « الّتي » بحذف النون ، و « اللَّتانّ » بتشديد النون ، وفي جمعها خَمْسُ لُغَاتٍ : « اللاَّتي » -وهي لغة القرآن - و « اللاَّتِ » -بكسر التاء بلا ياء - و « اللَّوَاتي » ، و « اللَّوَاتِ » -بلا ياء ، وأنشد أبو عُبَيْدة : [ الرجز ]
301-
مِنَ اللَّوَاتِي وَالَّتِي وَاللاَّتِ ... زَعَمْنَ أَنِّي قَدْ كَبِرْتُ لِدَاتي
و « اللَّوَاءِ » بإسقاط « التاء » حكاه الجوهريُّ .
وزاد ابن الشَّجَرِيَّ : « اللاَّئي » بالهمز وإثبات « الياء » ، و « اللاءِ » بكسر « الهمزة » وحذف « الياء » و « اللاّ » بحذف الهمزة ، فإن جمعت الجمع ، قلتَ في « اللاتي » : « اللواتي » وفي « اللائي » : « اللوائي » .
قال الجوهريُّ : وتصغير « الَّتي » « اللَّتَيَّا » بالفتح والتشديد ، قال الراجز : [ الرجز ]
302-
بَعْدَ اللَّتَيَّا واللَّتَيَّا وَالَّتِي ... إذَا عَلَتْهَا أَنْفُسٌ تَرَدَّتِ
وبعض الشعراء أدخل على « الَّتي » حرْفَ النداء ، وحروف النداء لا تدخلُ على ما فيه الألف واللام إلاَّ في قولنا : « يَا أَللَّه » وحده ، فكأنه شبهها به؛ من حيث كانت الألفُ واللاَّمُ غير مفارقتين لها ، وقال : [ الوافر ]
303-
مِنْ أجْلِكِ يَا الَّتي تَيَّمْتِ قَلْبِي ... وَأَنْتِ بَخِيلَةٌ بِالوُدِّ عَنِّي
ويقال : « وقع فُلاَنٌ في اللَّتَيِّا وَالَّتي » وهما اسمان من أسماء الداهِيَة .
فَصْلٌ
قال ابن الخطيب : انتفاء إتيانهم بالسورة واجبٌ ، فهلاًّ جيء ب « إذا » الذي للوجوب دون « إن » الذي للشك؟ والجواب : من وجهين :
أحدهما : أنه ساق القول معهم على حسب حسابهم ، وأنهم لم يكونوا بعد جازمين بالعجز عن المُعَارضة؛ لاتكالهم على فصاحتهم ، واقتدارهم على الكلام .
والثَّاني : أنه تهكّم بهم كما يقزل الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة لمن هو دونه : « إن غلبتك لم أُبْقِ عليك » ، وهو عالم أنه غالبه تهكماً به . فإن قيل : ما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله . والجواب : إذا ظهر عجزهم عن المُعَارضة صَحّ عندهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا صَحّ ذلك ثم لزموا العِنَادَ استوجبوا العقاب بالنار ، فاتقاء النار يوجب ترك العناد ، فأقيم المؤثر مقام الأثر ، وجعل قوله : { فاتقوا النار } قائماً مقام قوله : فاتركوا العناد ، فأناب إبقاء النار منابه .
و « الحجارة » روي عن ابن مسعود والفراء -رضي الله تعالى عنهما- أنها حجارة الكبريت ، وخصّت بذلك؛ لأنها تزيد على جميع الأحجار بخمسة أنواع من العذاب : سرعة الإيقاد ، ونتن الرائحة ، وكثرة الدُّخَان ، وشدّة الالتصاق بالأبدان ، وقوة حرها إذا حميت .
وقيل : المراد بالحجارة الأصنام ، لأنهم لما قرنوا أنفسهم بها في الدنيا حيث نحتوها أصناماً ، وجعلوها أنداداً لله ، وعبدوها من دونه قال تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] وفي معنى « الناس والحجارة » و « حصب جهنم » في معنى « وقودوها » .
ولما اعتقد الكفار في حجارتهم المعبودة من دون الله أنها الشّفعاء ، والشهداء الذين يشفعون لهم ، ويستدفعون بها المضار عن أنفسهم جعلهم الله عذابهم ، فقرنهم بها محماة في نار جهنم إبلاغاً في تحسيرهم ، ونحوه ما يفعل بالكافرين الذين جعلوا ذهبهم وفضتهم عدة وذخيرة فشحُّوا بها ، ومنعوها من الحقوق ، حيث يحمى عليها في نار جهنّم ، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم .
قال ابن الخطيب : والقول بأنها حجارة الكبريت تخصيص بغير دليل ، بل فيه ما يدلّ على فساده؛ لأن الغرض هُنَا تفخيم صفة النَّار ، والإيقاد بحجارة الكبريت أمر معتاد ، فلا يدلّ الإيقاد بها على قوة النار .
أما لو حملنا على سائر الحجارة ، دلّ على عظم أمر النار؛ فإن سائر الأحجار تطفأ بها النيران ، فكأنه قال : تلك النار نار بلغت لقوتها أن تتعلق في أوّل أمرها بالحجارة التي هي مطفئة لنيران الدُّنيا .
قال القرطبي : « وليس في قوله تعالى : { وَقُودُهَا الناس والحجارة } [ البقرة : 24 ] دليلٌ على أنه ليس فيها غير الناس والحجارة ، بدليل ما ذكره في غير موضع ، مع كون الجن والشياطين فيها » وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « كلُّ مؤذٍ في النَّار » وفي تأويله وجهان :
أحدهما : كل من آذى الناس في الدنيا عذبه الله في الآخرة بالنار .
والثاني : أن كل ما يؤذي النَّاس في الدنيا من السِّباع والهوام وغيرها في النار معدّ لعقوبة أهل النار .
وذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه النار المخصوصة بالحجارة هي للكافرين خاصّة .
روى مسلم عن العباس بن عبد المطّلب -رضي الله عنه- قال : قلت : يا رسول الله ، إنّ أبا طالب كان يحوطك وينصرك ، فهل ينفعه ذلك؟ قال : « نعم ، وَجَدْتُهُ في غَمَرَاتٍ من النَّارِ فأخرجته إلى ضَحْضَاحٍ » .
وفي رواية : « ولَوْلاَ أَنَا لكان في الدَّرَكِ الأَسْفَلِ من النار » ويدلُّ على هذا التأويل قوله : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } .
وقال ابن الخطيب : وليس فيها ما يدلُّ على أنه ليس هناك نيران أخر غير موصوفة بهذه الصِّفة ، معدّة لفساق أهل الصلاة .
قوله تعالى : { أُعِدَّتْ } فعلٌ لما لم يسمَّ فاعلُهُ ، والقائم مقام الفاعل ضمير « النَّارِ » ، والتاء واجبةٌ ، لأن الفعل أسند إلى ضمير المؤنَّث ، ولا يلتفتُ إلى قوله : [ المتقارب ]
304-
فَلاَ مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا ... وَلاَ أَرْضَ أَبْقَلَ إبْقَالَهَا
لأنه ضرورة؛ خلافاً لابن كَيْسَان .
و « للكافرين » متعلّق به ، ومعنى « أُعِِدَّتْ » : هُيِّئَتْ؛ قال : [ مجزوء الكامل ]
305-
أَعْدَدَتُ لِلْحَدَثَانِ سَا ... بِغَةً وَعَدَّاءً عَلَنْدَى
وقرئ : « أُعْتِدَتْ » من العَتَاد بمعنى العدة ، وهذه الجملة الظاهر انها لا محلّ لها ، لكونها مستأنفة جواباً لمن قال : لمن أعدت؟
وقال أبو البَقَاء : محلها النصب على الحال من « النار » ، والعامل فيها « اتقوا » .
قيل : وفيه نظر ، فإنها معدة للكافرين اتقوا أم لم يتقوا ، فتكون حالاً لازمة ، لكن الأصل في الحال التي ليست للتوكيد أن تكون منتقلة ، فالأولى أن تكون استئنافاً .
قال أبو البقاء : ولا يجوز أن تكون حالاص من الضمير في « وقودها » لثلاثة أشياء :
أحدها : انها مضاف إليها .
الثاني : أن الحطب لا يعمل يعني أنه اسم جامد .
الثالث : الفصل بين المصدر أو ما يعمل عمله ، وبين ما يعمل فيه الخبر وهو « الناس » ، يعني أن الوقود بالضم ، وإن كان مصدراً صالحاً للعمل ، فلا يجوز ذلك أيضاً؛ لأنه عامل في الحال ، وقد فصلت بينه وبينها بأجنبي ، وهو « الناس » وقال السّجستاني : « أعدّت للكافرين » من صلة « التي » كقوله : { واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [ آل عمران : 131 ] .
قال بان الأنْبَاري : وهذا غلطاً؛ لأنا لا نسلم أن « وقودها الناس » -والحالة هذه- صلة ، بل إما معترضة ، لأن فيها تأكيداً وإما حالاً ، وهذان الوجهان لا يمنعهما معنى ، ولا صناعة .
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
اعلَمْ : أنَّه -سبحانه وتعالى- لمَّا تكلَّم في التوحيد والنُّبوَّة ، تكلَّم بعدهما في ذكر المَعَاد ، وبيَّن عقاب الكافر ، وثواب المُطيعِ ، ومن عادة الله -تعالَى- أنه إذا ذَكَرَ الوَعِيدَ ، أَنْ يعقبَهُ بذكرِ الوَعْد .
وها هنا فُصُولٌ :
الأوَّلُ : هذه الآياتُ صريحةٌ في أنَّ الجنَّة والنَّار مخلوقَتَانِ ، لأنه -تعالى- [ قال ] في صفَة النَّار : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [ البقرة : 24 ] وقال في صفَة الجَنَّة في آية أخْرَى : { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 133 ] ، وقال ها هنا : { وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ } وهذا إخبار عن وُقُوع هذا المُلْك وحُصُوله ، وحُصُول المُلْك في الحالِ يقْتَضي حصُولَ المَمْلُوك في الحال؛ فَدَلَّ على أنَّ الجنَّة والنَّار مخْلُوقَتَان .
الثاني : مَجَامَعُ اللَّذَّاتِ : إما المَسْكن ، أو المَطْعم ، أو المَنْكَح .
فَوَصَفَ تعالى المَسْكَن بقولِهِ : { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } والمَطْعَمَ بقوله : { كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً } والمَنْكَح بقوله : { وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } .
ثم هذه الأشياءُ إنْ حصَلَتْ ، وقارنَهَا خوْفُ الزوالِ ، كان النَّعِيمُ مُنَغَّصاً ، فبيَّن -تعالى- زوالَ هذا الخَوْف بقوله : { وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ؛ فدلَّت الآيةُ على كَمَال النَّعيم والسُّرور .
الثالثُ : قولُهُ : { وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ } هذه الجملةُ معْطُوفة على ما قَبْلها ، عَطَف جُمْلَةَ ثوابِ المُؤْمنين ، على جملة ثَوَاب الكافرين ، وجاز ذلك؛ لأنَّ مذْهب سِيبَويهِ -وهو الصَّحيحُ- : أنَّه لا يشترطُ في عَطْفِ الجُمَلِ التَّوافُقُ معْنًى ، بل تُعْطَف الطلبيَّة على الخَبَرية؛ وبالعكس؛ [ بدليل ] قوله : [ الطويل ]
306-
تُنَاغِي غَزَالاً عِنْدَ بَابِ ابْنِ عَامِرٍ ... وَكَحَّلْ أَمَاقِيكَ الحِسَانَ بِإِثْمِدِ
وقولِ امرِئ القَيْسِ : [ الطويل ]
307-
وإِنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ مُهْرَاقَةٌ ... وَهَلْ عِنْدَ رَسْمِ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ
وقال ابنُ الخَطِيبِ : ليس الَّذي اعتمد بالعَطْف هو الأَمْر ، حتى يطلب له مشاكل من أمر ونهي يعطف عليه ، إنما المعتمد بالعطف هو جملة ثواب المؤمنين؛ فهي معطوفة على جملة وَصْف عقاب الكافرين كما تقول : زيد يعاقب بالقيد والضرب وَبَشِّرْ عمرو بالعفو والإطلاق .
وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن يكون عطفاً على « فاتَّقوا » ليعطف أمراً على أمر ، وهذا قد رده أبو حيان بأن « فاتقوا » جواب الشرط ، فالمعطوف يكون جواباً؛ لأن حكمَه حكمُه ، ولكن لا يصح؛ لأن تبشيره للمؤمنين لا يترتب على قوله : « فإن لم تفعلوا » .
وقرئ : « وبُشَِّرَ » [ ماضياً ] مبنيًّا للمفعول .
وقال الزمخشري : « وهو عَطْف على أعدت » .
قيل : وهذا لا يتأتى على إعراب « أعدت » حالاً؛ لأنها لا تصلح للحالية .
وقيل : عطفها على « أعدت » فاسد؛ لأن « أعدت » صلة « التي » ، والمعطوف على الصلة صلة ، ولا يصلح أن يقال : « الباء » التي بشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنَّ لهم جنَّاتٍ ، إلاَّ أن يعتقد أن قوله : « أُعِدَّتْ » مستأنفٌ ، والظاهِرُ أنَّهُ من تمام الصلة ، وأنَّهُ حالٌ من الضمير في « وقودها » ، والمأمور بالبشارة يجوز أن يكون الرسولُ عليه السَّلامُ ، وأن يكون كُلُّ سَامِعِ ، كما قال عليه السلام :
«
بَشِّر المَشِّائِينَ إلَى المَسَاجِدِ في الظُّلَمِ بِالنُّورِ التَّامِّ يوم القِيَامِةِ » ، لم يأمر بذلك أحداً بعينه ، وإنَّما كل أحدٍ مأمور به .
و « البِشارةُ » : أوّل خبرٍ من خيرٍ أو شَرٍّ؛ قالوا : لأنَّ أثرها يظهرُ في البَشَرَةِ ، وهي ظاهرُ جِلْدِ الإنْسَانِ؛ وأنْشَدُوا : [ الوافر ]
308-
يُبَشِّرُنِي الغُرَابُ بِبَيْنِ أَهْلِي ... فَقُلْتُ لَهُ : ثَكِلَتُكَ مِنْ بَشِيرِ
وقال آخر : [ الطويل ]
309-
وَبَشَّرْتَنِي يَا سَعْدُ أنَّ أَحِبَّتِي ... جَفَوْني وأّنَّ الوُدَّ مَوْعِدُهُ الحَشْرُ
وهذا رأى سيبويه ، إلاّ أنَّ الأكثر استعمالُهَا في الخير ، وإن استُعْمِلَتْ في الشَّرِّ فَبِقَيْدٍ؛ كقوله تعالى : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ } [ آل عمران : 21 ] ، وإن أُطْلِقَتْ ، كان للخَيْرِ .
وقال البغويُّ : « البِشَارَةُ كل خبر صدقٍ » .
وقال ابن الخطيب : إنَّها الخبرُ الذي يُظْهِرُ السرور ، ولهذا قال الفقهاءُ : إذا قال لعبيده : أيُّكم يُبَشِّرُنِي بقدوم فلان فهو حرٌّ ، فَبَشَّروه فُرَادَى ، عَتَق أولهم؛ لأنَّهُ هو الذي أفاد خبره السرور . ولو قال مكان بَشَّرَني « : اَخْبَرَنِي عَتَقُوا جميعاً؟ لأنَّهم جميعاً أخبروه ، ظاهِرُ كلام الزمخشري أنَّها تختص بالخير؛ لأنَّهُ تَأَوَّلَ » فبشِّرهم بعذابٍ « على العكس في الكلام الذي يقصد به الزيادة في غيظ المُسْتَهْزَأ بَهِ وتَأَلُّمِهِ ، كما يقول الرَّجُلُ لِعَدوِّه : أَبْشِرْ بقتل ذريتك ونَهْبِ مالك .
والفِعْلُ منها بَشَرَ وبَشََّرَ مخففاً ومثقلاً ، فالتثقيل للتكثير بالنسبة إلى البشيرة .
وقد قُرِئ المضارع مخففاً ومشدَّداً .
وأمَّا الماضي فلم يقرأ به إلا مثقلاً نحو { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ } [ هود : 71 ] وفيه لغةٌ أخرى : أَبْشَرَ مِثل أَكْرَمَ .
وأنكر أبو حَاتِمٍ التخفيف ، وليس بصواب لمجيء مضارعه .
وبمعنى البشارة : البُشُور والتَّبْشِير والإِبْشَار ، وإن اختلفت أفعالُها ، والبِشَارةُ أيضاً : الجَمَالُ ، والبشيرُ : الجميلُ ، وتباشيرُ الفَجْرِ أَوائِلُهُ .
وكون صلة » الَّذين « فعلاً ماضياً دون كونه اسم فاعل ، دليلٌ على أنه يستحقُّ التبشير بفضل الله ممن وقع منه الإيمانُ ، وتحقَّقَ به وبالأعمال الصالحة .
و » الصَّالِحَاتُ « : جمع » صالحة « ، وهي من الصفات التي جَرَت مجرى الأسماءِ في إيلائِها العوامل؛ قال : [ البسيط ]
310-
كَيْفَ الهِجَاءُ وَمَا تَنْفَكُّ صَالِحَةٌ ... مِنْ آلِ لأْمٍ بِظَهْرِ الغَيْبِ تَأْتِيني
وعلامةُ نصبه الكَسْرَةُ؛ لأنَّهُ من باب جمع المؤنث السالم عن الفتحةِ ، التي هي أصلُ النَّصْبِ .
قال معاذ : » العملُ الصالحُ الذي فيه أربعة أشياء : العِلْمُ والنِّيَّهُ والصَّبْرُ والإخْلاصُ « .
وقال عثمان بن عَفَّان : » أخلصوا الأعمال « .
فَصْلٌ
قال ابن الخطيب : هذه الآية تدلّ على أن الأعمالَ غير داخلةٍ في الإيمان؛ [ لأنَّهُ لمَّا ذكر الإيمان ] ، ثمَّ عطف عليه العمل الصالح ، فوجب التغير وإلا لزم التكرار ، وهو خلاف الأصل .
قوله : { أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ } .
»
جنَّاتٍ « : اسم : » أنَّ « . و » لهم « خَبَرٌ مُقَدَّمٌ .
ولا يجوز تقديم خبر « أنَّ وأخواتها إلاَّ ظرفاً أو حرف جرٍّ ، و » أنَّ « وما في حيِّزها في محل جرٍّ عند الخليل والكسائي ، ونصب عند سيبويه والفرَّاء؛ لأنَّ الأصل : وبَشِّرِ الذين آمنوا بأنَّ لهم ، فحذف حرف الجرِّ مع » أنَّ « ، وهو حذفٌ مطَّرِدٌ معها ، ومع » أنَّ « الناصبة للمضارع ، بشرط أَمْنِ اللَّبْسِ ، بسبب طولهما بالصلةِ ، فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجرَِّ ، جرى الخلافُ المذكورُ ، فالخليلُ والكسائيُّ يقولان : » كأنَّ الحرف موجود ، فالجرُّ بَاقٍ « .
واستدلَّ الأخفشُ لهما بقول الشاعر : [ الطويل ]
311-
وَمَا زُرْتُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ حَبِيبَةً ... إِلَيَّ وَلاَ دَيْنٍ بِهَا أَنَا طَالِبُهْ
فَعَطْفُ » دَيْنٍ « بالجرِّ على محلِّ » أنْ تَكُونَ « يُبَيِّنُ كونَها مجرورةً .
قيل : » ويحتملُ أن يكون من باب عطفِ التَّوَهُّمِ ، فلا دليل فيه « .
والفرَّاءُ وسيبويه يقُولاَن : وجَدْنَاهُمْ إذا حذفوا حرفَ الجرِّ ، نَصَبُوا؛ كقولِهِ : [ الوافر ]
312-
تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْ تَعُوجُوا ... كَلاَمُكُمْ عَلَيَّ إِذَنْ حَرَامُ
أي : بالدِّيار ، ولا يجوزُ الجَرُّ إلاَّ في نادرِ شِعْرٍ؛ كقوله : [ الطويل ]
313-
إِذَا قِيلَ : أيُّ النَّاسِ شَرُّ قَبِيلَةٍ؟ ... أَشَارَتْ كُلَيْبٍ بِالأَكُفِّ الأَصَابِعُ
أي : إلى كُلَيْبٍ؛ قول الآخر : [ الكامل ]
314- ...
حَتًَّى تَبْذَّخَ فَارْتَقَى الأعْلاَمِ
أي : إلى الأَعْلاَم .
و » الجَنَّةُ « : البُسْتَانُ .
وقيل : الأرضُ ذات الشَّجرِ ، سمّيت بذلك لسترها من فيها ، ومنه » الجَنِينُ « لاستتاره ، و » المِجَنُّ « : التُّرْسُ ، وكذلك » الجُنَّةُ « لاستتارهم عن أَعْيُنِ النَّاسِ .
قال الفرَّاءُ : » الجنَّةُ « ما فيه النخيل ، و » الفردوس « : ما فيه الكرم .
فإن قيل : لم نُكِّرت » الجنَّاتُ « وعُرِّفت » الأنهار « ؟ فالجواب : أنَّ » الجنَّة « اسم لدار الثَّواب كلها ، وهي مشتملةٌ على جنّات كثيرة مُرَتَّبةٌ مراتبَ على استحقاقات العاملين ، لكل طبقةٍ منهم جنةٌ من تلك الجنَّات .
وأمَّا تعريف » الأنهار « ، فالمرادُ به الجنس ، كما يقال : لفلان بستانٌ فيه الماء الجاري والتين والعنب ، يشيرُ إلى الأجناس التي في علم المخاطب ، أو يشار باللام إلى أنهاٍ مذكورةٍ في قوله : { فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } [ محمد : 15 ] .
قوله : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } هذه الجملة في محلّ نصبٍ ، لأنَّها صفةٌ ل » جنَّات « .
و » تَجْري « مرفوع لتجرُّدِه من الناصب والجازم ، وعلامةُ رفعه ضمّةٌ مقدرةٌ في » الياء « استثقالاً ، وكذلك تقدَّرُ في كُلٍِّ فَعْلٍ مُعْتَلٍّ نحو : » يَدْعو « ، و » يَخْشَى « ، إلاَّ أنَّها تُقَدَّرُ في » الأَلِفِ « تعذُّراً .
»
من تحتها « أي : من تحت أَشْجَارها ومساكنها .
وقيل : من تحتها أي : بأمرهم .
كقول فرعون : { تَجْرِي مِن تحتيا } [ الزخرف : 51 ] أي : بأمري .
و « الأنهارُ » جمعُ نَهْرٍ بالفتح ، وهي اللُّغةُ العالية ، وفيه تسكين « الهاء » ولكن « أفعال » لا ينقاس في « فَعْل » السَّاكن العين ، بل يحفظ نحو : « أَفْراخ » ، و « أَزْنَاد » ، و « أفراد .
و » النَّهرُ « : دونَ البحرِ ، وفوق الجدول ، وهل هو مجرى الماءِ ، أو الماء الجاري نفسُه؟
والأوَّلُ أظهرُ؛ لأنًَّه مشتقٌّ من » نَهَرَُ « أي : وَسَّعْتُ .
قال قَيْسُ بن الخطِيمِ يصفُ طَعْنَةً : [ الطويل ]
315-
مَلَكْتُ بِهَا كَفَِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا .. . .
أي : وَسَّعْتُ .
ومنه : » النَّهارُ « لاتِّساع ضوئِهِ ، وإنَّما أُطْلِقَ على الماء مجازاً إطلاقاً للمحلِّ على الحالِّ .
ومنه قوله عليه السَّلامُ : » ما أَنْهَرَ الدَّمَ « معناه : ما وسَّعَ الذَّبْحَ؛ حَتَّى يجري الدَّم كالنَّهْرِ ، وجمعُ النَّهرِ : نَهَرٌ وأَنْهَارٌ ، وَنَهْرٌ نَهِرٌ : كثير الماء .
قال أبو ذُؤَيب : [ المتقارب ]
316-
أَقَامَتْ بِهِ وَابْتَنَتْ خَيْمَةً ... عَلَى قَصَبٍ وَفُرَاتٍ نَهِرْ
ورُوِيَ أنَّ أنهار الجنة ليست في أخاديد ، إنَّما تجري على سطح الجنَّةِ منبسطة بالقدرة ، والوقفُ على » الأنهار « حَسَنٌ وليس بتامٍّ و » من تَحْتِهَا « متعلقٌ ب » تجري « ، و » تحت « مكانٌ لا يتصرَّفُ ، وهو نقيض » فوق « ، إذا أُضِيفَا أُعْرِبَا ، وإذا قَطِعَا بنيا على الضَّمِّ . و » مِنْ « لابتداء الغاية .
وقيل : زائدةٌ .
وقيل : بمعنى » في « ، وهما ضعيفان .
واعلم أنَّهُ إذا قيل بأنَّ الجَنَّة هي الأرضُ ذاتُ الشَِّجرِ ، فلا بُدَّ م حَذْفِ مضاف ، أي : من تحت عَذْقِها أو أَشْجَارها .
وإن قيل : بأنَّها الشَّجَرُ نفسه ، فلا حَاجَةَ إلى ذلك .
وإذا قيل : بأنَّ الأنهار اسمٌ للماء الجاري فَنِسْبَةُ الجَرْي إليه حقيقة ، [ وإن قيل بأنَّهُ اسمٌ للأُخْدُودِ الذي يَجْرِي فيه ، فنسبةُ الجَري إليه ] مجازٌ ، كقول مهلهل : [ الكامل ]
317-
نُبِّئْتُ أَنَّ النَّارَ بَعْدَكَ أُوقِدَتِ ... وَاسْتَبَّ بَعْدَكَ يَا كُلَيْبُ المَجْلِسُ
قال أبو حيِّان : وقد ناقض ابن عطية كلامه هنا ، فإنَّه قال : » والنهارُ : المياهُ في مجاريها المتطاولةِ الواسعةِ « ثمَّ قال : نُسِبَ الجريُ إلى النَّهْرِ ، وإنَّمَا يجري الماءُ وحدّث توسُّعاً وتجوُّزاً ، كما قال : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] وكما قال : [ الكامل ]
318
ب- نُبِّئْتُ أنَّ النَّارَ . .. . . .
والألف واللاَّمُ في » النهار « للجنس .
وقيل : للعَهْدِ لذكرها في سورةِ القتالِ .
وقال الزمخشري : يجوز أن تكون عوضاً من الضَّمير كقوله : { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 4 ] أي : » أَنْهَارُها « يعني أنَّ الأصل : واشتعل رأسي ، فَعَوَّضَ » أل « عن ياء المتكلم ، وهذا ليس مذهب البَصَريين ، بل قال به بعضُ الكوفيِّين؛ وهو مردود بأنَّهُ لو كانت » أَلْ « عوضاً من الضمير ، لَمَا جُمِعَ بينهما ، وقد جُمِعَ بينهما؛ قال النَّابغةُ : [ الطويل ]
318
ب- رَحِيبٌ قِطَابٌ الجَيْبِ مِنْهَا رَقِيقَةٌ ... بجَسِّ النَّدَامَى بَضَّةُ المُتَجَرِّدِ
فقال : الجيب منها ، وأمَّا ما ورد ، وظاهره ذلك ، فيأتي تأويله في موضعه .
قوله تعالى : { كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ }
تقدَّم القولُ في « كُلَّمَا » وهذا لا يخلو إمَّا أن يكون صفة ثانيةِ ل « جنَّاتٍ تجري » ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو جملة مستأنفة؛ لأنَّه لَمَّا قيل : « أنَّ لهم جنَّاتٍ » لم يَخْلُ قَلْبُ السَّامِعِ أنْ يقع فيه أنَّ ثمار تلك الجنَّات تُشبهُ ثِمَارَ الدُّنْيَا أم لا؟
والعامِلُ في « كُلَّما » هاهنا « قالوا » .
و « مِنْهَا » متعلِّقٌ ب « رُزِقُوا » ، و « مِن » لابتداء الغاية ، وكذلك « من ثَمَرَةٍ » ، لأنَّها بدلٌ من قوله : « منها » بدلُ اشتمالٍ بإعادة العاملِ .
وإنَّما قلنا : إنه بدل اشتمال؛ لأنَّهُ لا يتعلّق حرفان بمعنى واحدٍ بعاملٍ واحد ، إلاَّ على سبيل البدلية ، أو العطف .
وأجاز الزَّمخشري أنَّ « مِنْ » للبيان كقولك : « رأيتُ منك أسداً » ؛ وفيه نظرٌ؛ لأنَّ من شرط ذلك أن يَحِلَّ مَحَلَّها موصولٌ ، وأن يكون ما قبلها مُحَلَّى ب « أل » الجنسية ، وأيضاً فليس قبلها شيء يَتَبَيَّنُ بها ، وكونُها بياناً لما بعدها بعيدٌ جِداً ، وهو غير المصطلح .
«
رِزْقاً » مفعولٌ ثانٍ ل « رُزِقُوا » ، وهو بمعنى « مَرْزُوقٍ » ، وكونُهُ مصدراً بعيدٌ؛ لقوله : { هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً } ، والمصدر لا يؤتى به متشابهاً ، وإنما يؤتى بالمرزوق كذلك .
قوله : { قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } .
«
قالوا » : هو العاملُ في « كلما » كما تقدّم ، و « هَذَا الَّذِي رزِقْنَا » مبتدأ في محل نصب بالقول ، وعائِدُ الموصول محذوفٌ؛ لاستكماله الشُّروط ، أي : رُزِقْناه .
و « مِنْ قبلُ » متعلِّقٌ به .
و « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ ، ولَمَّا قطعت « قَبْلُ » بُنِيَتْ [ وإنما بنيت ] على الضَّمَّةِ؛ لأنها حركة لم تكنْ لها حالَ إعرابها .
واختلف في هذه الجملةِ ، فقيل : لا محلَّ لها من الإعراب؟ لأنَّها استئنافيةٌ ، فإنَّهُ قيل : لَما وصفت الجَنَّاتُ ما حالها؟
فقيل : كُلَّمَا رُزِقُوا قالوا .
وقيل : لَهَا محلٌّ ، ثُمَّ اختلف فيه ، فقيل : رَفْعٌ على أنَّه خبر مبتدأ محذوف ، واختلف في ذلك المبتدأ ، فقيل : ضمير « الجنَّات » ، أي : هي كلَّما وقيل ضمير « الَّذين آمنوا » أي : هم كُلَّما رُزِقوا قالوا .
وقيل : مَحَلُّها نَصْبٌ على الحالِ ، وصاحبُها : إمَّا « الذين آمنوا » ، وإمَّا « جنات » ، وجاز ذلك ، وإن كانت نكرة؛ لأنها تخصصت بالصفةِ ، وعلى هذين تكون حالاً مُقَدَّرة؛ لأنَّ وقت البشارة بالجَنَّاتِ لم يكونوا مرزوقين ذلك .
وقيل : مَحَلُّهَا نَصبٌ على أنَّها صفة ل « جنات » أيضاً .
فَصْلٌ في المشبه به في الآية
الآية تَدُلُّ على أنَّهُمْ شَبَّهُوا رزقهم الذي يأتيهم في الجنَّة بِرِزْقهم قبل ذلك ، فالمُشَبَّهُ بِهِ أهو من أرزاق الدنيا ، أم من أرزاق الآخرة؟ ففيه وجهان :
أحدهما : أنَّه من أَرْزَاق الدنيا ، وفيه وجهان :
أحدهما : هذا الذي وَعَدنَا به في الدُّنيا .
والثَّاني : هذا الذي رُزِقنا في الدنيا ، لأنَّ لونه يشبهُ ثمار الدُّنيا ، فإذا أكلوا وجدوا طَعْمَهُ غير ذلك .
الوجه الثاني : أنَّ المُشَبَّهُ به ثمار الآخرة ، واختلفوا فيما حصلت المشابهة فيه على وجهين :
الأول : المراد تساوي ثوابهم في كُلِّ الأوقات في القدر والدرجة؛ حَتَّى لا يزيدَ ولا ينقص .
الثاني : المراد المُشَابهة في المنظر ، فيكون الثاني كأنَّه الأوّل على ما رُوِيَ عن الحسن ، ثمَّ هؤلاء اختلفوا ، فمنهم من يقول : الاشتباهُ كما يقع في المنظر يقع في الطَّعمِ . ومنهم من يقول : وإن حصل الاشتباه في اللَّون ، لكِنَّها تكون مختلفةً في الطَّعْم .
قال الحَسَنُ : يؤتى أَحَدُهُمْ بالصّحفة فيأكل منها ، ثُمَّ يُؤْتَى بالأخرى فيقول : هذا الذي أُوتِينَا به من قَبْلُ : فيقول الملك : « كُل فاللَّونُ واحدٌ ، والطعمُ مختلفٌ » .
فإن قيل : قوله : { كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا } مع قوله : « قالُوا : هذا الذي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ » -هذا صيغةُ عموم ، فيشمل كُلُّ الأوقاتِ التي رُزِقوا فيها ، فيدخل فيه أوّل مَرّة رُزِقوا في الجنَّة ، فلا بُدَّ وأن يقولوا : « هذا الذي رُزِقْنَا من قَبْلُ » فما الجواب على قولنا بَأَنَّ المشبَّه به ثِمَارُ الآخِرة؟ والجواب أنَّ عمل ذلك على ما وعدوا به في الدُّنْيَا ، أو يكون تقدير الكلام : هذا الَّذِي رُزِقْنَا في الأَزَلِ .
قوله : { وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً } الظاهِرُ أنَّها جملةٌ مستأنفة .
وقال الزمخشريُّ فيها : هو كقولك : « فلانُ أَحْسِن بِفُلانٍ » ونِعْمَ ما فعل ، ورأى من الرَّأي كذا ، وكان صواباً .
ومنه : { وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً وكذلك يَفْعَلُونَ } [ النمل : 34 ] .
وما أشْبَه ذلك من الحُمَلِ التي تُُسَاقُ في الكلام معترضةً للتقرير ، يعني بكونها معترضة ، أي من أحوال أَهْلِ الجنَّةِ ، فإنَّ بَعْدَهَا : { وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ } ، وإذا كانت معترضةً فلا محلَّ لها . وقيل : هي عَطْفٌ على « قالوا » .
وقيل : مَحَلُّها النَّصبُ على الحالِ ، وصاحبُها فاعل « قالوا » أي : قالوا هذا الكلام في هذا الحال ، ولا بُدَّ من تقدير « قد » قبل الفعل ، أي : « وَقَدْ أُتُوا » ، وأَصْلُ أُتُوا : أُتِيُوا مِثْل : ضُرِبوا ، فأُعِلَّ كَنَظَائِرِهِ .
[
وقرأ هارون ] الأعور : « وأَتوا » مبنيّاً للفاعل ، والضَّمير للولدان والخدم للتصريح بهم في غير موضع ، والضميرُ في « به » يعود على المرزوق الذي هو الثمرات ، كما أن هذه إشارة إليه . وقال الزمخشري : « يعود إلى المرزوق في الدُّنْيَا والآخرة؛ لأنَّ قوله : { الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } انطوى تحته ذكر ما رُزِقُوه في الدَّارَيْنِ .
ونظيرُ ذلك قوله تعالى : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا } [ النساء : 135 ] » .
أي : بجنسي الغنيِّ والفقير المدلول عليهما بقوله : { غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً }
[
النساء : 135 ] ويعني بقوله : « انطوى تحته ذِكْرُ ما رُزُِقوه في الدَّارَيْنِ » اَنَّهُ لَمَّا كان التقديرُ : مِثْلَ الَّذي رُزِقْناه كان قد انطوى على المرزوقين معاً ، كما أنَّ قَوْلَكَ : « زَيْدٌ مثلُ حاتمٍ » مُنْطَوٍ على زيدٍ وحاتمٍ .
قال أبو حيَّان : « وما قاله غيرُ ظاهرٍ؛ لأنَّ الظاهِرِ عَوْدُه على المرزوقِ في الآخرة فقط؛ لأنَّه هو المُحَدّثُ عنه ، والمشبَّهُ بِالَّذِي رُزقوه من قبلُ ، لا سيما إذا فسِّرت القبلية بما في الجنَّةِ ، فَإِنَّهُ يتعيّنُ عَوْدُ على المرزوق في الجنَّةِ فقط ، وكذلك إذا أعربت الجملة حالاً؛ إذ يصير التقديرُ : قالوا : هذا الذي رُزِقْنَا من قَبْلُ وقد أتوا به؛ لأنه الحامل لهم على هذا القول ، كأنَّه أُتُوا به مُتَشَابِهاً وعلى تقدير أن يكون معطوفاً على قالوا ، لا يَصِحُّ عوده على المرزوق في الدَّارين؛ لأن الإتيان إذ ذاك يستحيل أن يكون ماضياً معنىً؛ لأنَّ العامل في » كُلَّما « أو ما في حيزها يحتمل هُنا أن يكون مستقبل المَعْنَى؛ لأنها لا تخلو من معنى الشرط ، وعلى تقدير كونها مستأنفة لا يظهر ذلك أيضاًً ، لأنَّ هذه محدَّث بها عن الجَنَّةِ وأحوالها » .
قوله : { مُتَشَابِهاً } حالٌ من الضَّمير في « به » ، أي : يشبه بعضه في المنظر ، ويختلف في الطعمِ ، قاله بان عبَّاس ومجاهد ، والحسن وغيرهم رضي الله -تعالى- عنهم .
وقال عكرمة : « يُشْبِهُ ثَمَرَ الدُّنيا ، ويباينه في جل الصَّفات » .
قال ابن عبَّاس : « هذا على وَجْه التَّعَجُّبِ ، وليس في الدُّنْيَا شيءٌ مما في الجَنَّةِ سِوَى الأسماء ، فكأنَّهم تَعَجَّبُوا لِمَا رأوه من حُسْنِ الثَّمَرَةِ ، وعِظم خالقها » .
وقال قتادةُ : « خياراً لا رَذلَ فيه ، كقوله تعالى : { كِتَاباً مُّتَشَابِهاً } [ الزمر : 23 ] وليس كثمار الدنيا التي لا تتشابه؛ لأنَّ فيها خياراً وغير خِيَار » .
قوله : { وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } « لهم » خبر مُقَدَّم ، وأزواج مبتدأ ، و « فيها » متعلّق بالاستقرار الذي تعلّق به الخبر .
قال أبو البقاء : « لا يكون فيها الخبر ، لأنَّ الفائدة تقل؛ إذ الفائدة في جَعْلِ الأَزواج لهم » .
وقوله : « مُطَهَّرةٌ » صفة ، وأتى بها مفردة على حدِّ : النساءِ طَهُرَتْ ومنه بيت الحماسة : [ الكامل ]
319-
وَإِذَا العَذَارَى بَالدُّخَانِ تَلَفَّعَتْ ... وَاسْتَعْجَلَتْ نَصْبَ القُدُورِ فَمَلَّتِ
وقرأ زيد بن عليّ : « مُطَهَّراتٌ » على حَدِّ : النساءُ طَهَرْنَ .
وقرأ عبيد بن عمير : « مُطَهَّرة » يعني : متطَهِّرة .
والزوج ما يكون معه آخر ، ويقالُ زوج للرَّجل والمرأة ، وأمَّا « زَوْجَةٌ » فقليلٌ . قال الأَصْمَعِيُّ : لا تكاد العربُ تقول : زوجة ، ونَقَلَ الفرّاءُ أنّها لغة « تميم » ، وأنشد للفرزدق : [ الطويل ]
320-
وَإِنَّ الَّذِي يَسْعَى لِيُفْسِدَ زَوْجَتِي ... كَسَاعٍ إلَى أُسْدِ الشَّرَى يَسْتَبِيلُهَا
وفي الحديث عن عمَّار بن ياسرِ في حقِّ عائشة رضي الله عنهما : « إنِّي لاَعْلَمْ أنَّها زَوْجَتَهَ في الدُّنيا والآخرة »
ذكره البُخَاري رضي الله عنه ، واختاره الكسائيُّ . والزَّوجُ أيضاً : الصِّنْفُ ، والتثنية : زوجان .
والطّهارة : النظافة ، والفِعْلُ منها طَهَرَ بالفتح ، ويَقِلُّ الضَّمُ ، واسم الفاعل منها « طاهر » فهو مقيسٌ على الأوَّلِ ، شاذّ على الثَّاني ، ك « خاثر » و « حامِض » من خَثُرَ اللبنُ وحَمُضَ بضمِّ للعين . فإن قيل : طاهرة ، الجوابُ : في المُطَهَّرةِ إشعارٌ بأنَّ مُطَهِّراً طَهَّرَهُنَّ ، وليس ذلك إلاَّ الله تعالى ، وذلك يفيد فخامة أهل الثواب ، كأنَّهُ قيل : إنَّ الله -تعالى- هو الَّذي زَيَّنَهُنَّ .
قال مُجَاهد : « لا يَبُلْنَ ولا يَتَغَوَّطْنَ وَلاَ يلِدْنَ وَلاَ يَحِضْنَ ، وَلاَ يُبْغَضْنَ » .
وقال بعضه : « مُطَهَّرةٌ في اللغة أجمع من طاهرة وأَبْلَغ » .
قوله : { وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } هم مبتدأ ، وخالدون خبره ، وفيها متعلّق به .
وقال القرطبيُّ : « والظرفُ مَلْغِيٌّ ، وقُدِّم ليوافق رؤوس الآي » وأجازوا أن يكون « فيها » خبراً أول ، و « خالدون » خبر ثانٍ ، وليس هذا بِسَدِيدٍ ، وهذه الجملة والتي قبلها عطفٌ على الجملةِ قبلهما حسب ما تقدَّم .
وقال أبو البقاء : « وهاتان الجملتان مستأنفتان ، ويجوز أن تكون الثانية حالاً من الهاء والميم في » لهم « ، والعامِلُ فيها معنى الاستقرار » .
قال القرطبي : « ويجوز في غير القرآن نصب » خالدين « على الحال » .
و « الخلود » : المكث الطويل ، وهل يُطْلَقُ على ما لا نهاية له بطريق الحقيقة أو المجاز؟ قولان .
قالت المعتزلة : « الخلد » : هو الثباتُ اللاَّزم ، والبقاء الدائمُ الذي لا يقطع ، واحْتَجُّوا بالآية ، وبقوله : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون } [ الأنبياء : 34 ] فنفى الخلد عن البَشَرِ مع أنَّه -تعالى- أعطى بعضهم العمر الطويل ، والمنفيّ غير المثبت ، فالخلدُ هو البقاءُ الدَّائمُ؛ وبقول امرئ القيس : [ الطويل ]
321-
وَهَلْ يَنْعَمَنْ إلاَّ سَعيدٌ مُخَلَّدٌ ... قَلِيلُ الهُمُومِ ما يَبِيتُ بأَوْجَالِ
قال ابن الخطيب : وقال أصحابنا : الخلدُ هو الثّباتُ الطويل ، سواء دام أو لم يَدُم؛ واستدلُّوا بقوله تعالى : { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } [ التوبة : 100 ] ولو كان التأبيد داخلاً في مفهوم الخلد ، لكان ذلك تكرُّراً ، واستدلّوا أيضاً بالعرفِ؛ يقال : حَبَسَ فلانٌ فُلاَناً حَبْساً مُخَلَّداً ، ويكتبُ في الأوقاف : وقَفَ فلانٌ وَقْفاً مُخَلَّداً .
وقال الآخرون : « العقلُ يَدُلُّ على دوامه؛ لأنه لو لم يجب الدوام ، لجوّزوا انقطاعه ، فكان خوف الانقطاع ينغص عليهم تلك النعمة ، لأنَّ النِّعْمَةَ كُلَّمَا كانت أعظم كان خوفها انقطاعها أعظم وقعاً في القَلْبِ ، وهذا يقتضي ألا ينفك أهل الثواب [ ألبتة ] من الغم والحسرةِ ، وقد يجابُ عنه بأنَّهم عرفوا ذلك بقرينة قوله : » أبداً « .
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)
اعلم أنَّه -تعالى- لَمَّا بَيَّنَ كون القرآن مُعْجزاً ، أورد الكُفَّار هنا شبهةً قدحاً في ذلك ، وهي أنَّهُ جاء في القرآن ذِكْرُ النَّحلِ ، والعنكبوت ، والنَّملِ ، وهذه الأشياء لا يليق ذكرها بكلام الفُصَحَاء ، فاشتمالُ القرآن عليها يقدحُ في فصاحته ، فَضْلاً عن كونه مُعْجزاً ، وأجاب الله -تعالى-عنه بأنَّ صِغَر هذه الأَشْيَاء لا يقدح في فصاحةٍ ، إذا كان ذكرها مشتملاً على حكم بالغة ، فهذا هو الإشارة إلى كيفية تَعُلُّق هذه الآية بما قبلها .
روي عن ابن عبّاس -رضي اللهُ تعالى عنه- أنَّه لما قال : { ياأيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ } [ الحج : 73 ] فطعن في أصنامهم ، ثُمَّ شَبَّه عبادتها ببيت العَنْكَبُوت .
قال اليهود : أي قدر للذُّبَاب والعنكبوت حتَّى يَضْربَ اللهُ المَثَل بهما؟! فنزلت هذه الآية .
وقيل : إنَّ المُنَافقين طَعَنوا في ضرب الأمثال بالنَّار ، والظلمات ، والرَّعد ، والبَرْق في قوله : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً } [ البقرة : 17 ] وقوله : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء } [ البقرة : 19 ] قالوا : اللهُ أَجَلُّ وأعلى من أن يضرِبَ الأمثالَ ، فأنزل الله هذه الآية ، وهذه رواية أبي صالح عن ابن عبّاس .
وروى عطاء عن ابن عبّاس أيضاً أنَّ هذا الطعن كان من المشركين .
فقال القَفَّالُ رحمه الله : الكُلُّ محتملٌ هاهنا . أمَّا اليهود ، فلأنه قيل في آخر الآية : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ } وهذا صفة اليهود؛ لأنَّ الخطاب بالوفاءِ بالعهدِ إنَّمَا هو لبني إسرائيل ، وأمَّّا الكفار والمنافقون فقد ذكروا في سورة « المدثر » : { وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والكافرون مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } [ المدثر : 31 ] ، فالذين في قلوبهم مرض هم الكافرون المُنَافقون ، والذين كفروا يحتمل المشركين ، لأنَّ السورة مَكِّيَةٌ ، فقد جُمِعَ الفريقان ها هنا .
إذا ثبت هذا ، فنقول : احتمال الكُلِّ هاهنا قائمٌ؛ لأنَّ الكافرين والمُنافقين واليهود كانوا مُتَوَافقين في إيذاء الرَّسول ، وقد مضى من أوّلِ السُّورةِ إلى هذا الموضع ذكر المنافقين ، واليهود ، والمشركين ، وكُلُّهم من الذين كفروا .
ثُمَّ قال القَفَّال : « وقد يجوز أن ينزل ذلك ابتداءً من غير سبب؛ لأنَّ معناه مفيدٌ في نفسه » .
فَصْلٌ في معنى الحياء واشتقاقه
الحياء : تَغَيَّرَ وانكسارٌ يعتري الإنسانَ من خوفِ ما يُعَابُ بِهِ ويُذَم ، واشتقاقه من الحياة ، ومعناه على ما قال الزمخشري : نقصت حياته ، واعتلت مجازاً ، كما يُقَالُ : نَسِيَ وخَشِيَ ، وشظي القوسُ : إذا اعتلت هذه الأعضاء ، جُعِلَ الحييُّ لما يعتريه من الانكسار ، والتَّغَيُّرِ منتكس القوة منتقص الحياة كما قالوا : فلان هلك من كذا حياءً ، ومات حياءً ، وذاب حياءً ، يعني بقوله : « نَسِيَ وخَشِيَ وشظي » أي : أصيبَ نَسَاه ، وهو « عرق » وحَشَاه ، وهو ما احتوى عليه البَطْنُ ، وشظاهُ وهو عَظْم في الوَرِك ، واستعماله هُنَا في حَقِّ الله -تعالى- مَجَازٌ عن التَّرْكِ .
وقيل : مجاز عن الخِشْيَةِ؛ لأنَّها أيْضاً من ثمراته ، وَرَجَّحَهُ الطَّبريُّ ، وجعله الزمخشريُّ من باب المُقَابلةِ ، يعني أنَّ الكُفَّارَ لَمَّا قالوا : أَمَا يَسْتَحي رَبُّ محمد أن يضرب المثَلَ بالمُحْقّرَات ، « قُوبِلَ » قولهم ذلك بقوله : { إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً } [ ونظيره قول ] أبي تمَّام : [ الكامل ]
322-
مَنْ مُبْلِغٌ أَفْنَاءَ يَعْرُبَ كُلَّهَا ... أَنِّي بَنَيْتُ الجَارَ قَبْلَ لمَنْزِلِ
لو لم يذكر بناء الدَّارِ لم يصحّ بناء الجار .
وقيل : معنى لا يستحيي ، لا يمتنع ، وأصْلُ الاستحياء الانقباضُ عن الشَّيء ، والامتناعُ منه؛ خوفاً من مُواقعة القبيح ، وهذا محالٌ على الله تعالى ، وفي « صحيح مسلم » عن أم سلمة قالت : « جاءت أم سليم إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسولَ الله إنَّ اللهَ لا يَسْتَحي من الحَقِّ » المعنى لا يأمر بالحَيَاء فيه ، ولا يمتنع من ذكره .
قال ابن الخطيب : « القانون في أمثال هذه الأشياء ، أنَّ كُلَّ صفةٍ ثبتت للعبدِ مما يختص بالأجسام ، فإذا وصف الله بذلك ، فلذلك محمولٌ على نهايات الأعراض ، لا على بدايات الأعراض ، مثاله : حالةٌ تَحْصُلُ للإنسان ، ولكن هل لها مبدأ ومنتهى ، أمَّا المبدأ فهو التغيُّر الجسماني الذي يلحق الإنسان من خوف أن يُنْسبَ إليه القبيح ، وأمَّا النهاية فهو أن يترك الإنسان ذلك الفعل ، فإذا ورد الحياءُ في حقِّ الله تعالى ، فليس المراد منه ذلك الخوف الذي هو مبدأ الحياء ومقدمته ، بل تركُ الفعلِ الذي هو منتهاه وغايته ، وكذلك الغضبُ [ له مقدمةٌ ] وهو غليان دم القَلْبِ وشهوة الانتقام وله غاية ، وهي إنزال العقاب بالمغضوب عليه ، فإذا وصفنا الله -تعالى- بالغَضَبِ ، فليس المراد ذلك المبدأ ، يعني شهوة الانتقام ، وغليان دم القَلْبِ ، بل المرادُ تلك النّهاية ، وهي إنزال العقاب ، فهذا هو القانون الكُلِّ في هذا الباب » .
فَصْلٌ في تنزيه الخالق سبحانه
قال القاضي : ما لا يجوز على الله -تعالى- من هذا الجنس إثباتاً ، فيجب أَلاَّ يطلق على طريقة النفي عليه ، وإنَّما يقال : إنَّه -تعالى- لا يوصفُ به ، فأمَّا أن يقال : « لا يستحي » ويطلقُ عليه فمحالٌ؛ لأنَّهُ يوهم نفي ما يجوز عليه ، وما ذكره الله -تعالى- في كتابه من قوله : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } [ البقرة : 255 ] ، { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } [ الإخلاص : 3 ] فهو بصورة النفي ، وليس بنفي على الحقيقة ، وكذلك قوله تعالى : { مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ } [ المؤمنون : 91 ] ، وكذلك قوله تعالى : { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } [ الأنعام : 14 ] وليس كل ما ورد في القرآن جائز أن يُطْلَقَ في المخاطبة ، فلا يجوز أن يطلق ذلك إلاَّ مع بيان أنَّ ذلك مُحَالٌ .
ولقائلٍ أن يقولَ : لاَ شَكَّ أنَّ هذه الصِّفات منتفيةٌ عن الله تعالى ، فكان الإخبار عن انتفائها يدلُّ على صحّتها عليه .
فنقول : هذه الدلالة ممنوعة ، وذلك أن تخصيص هذا النفي بالذكر ، لا يَدُلُّ على ثبوته لغيره ، لو قرنَ اللَّفظ بما يَدُلُّ على انتفاء الصِّحة كان ذلك أحسن ، من حيث إنه يكون مبالغة في البيان ، وليس إذا كان غيره أحسن أن يكون ذلك قبيحاً .
فَصْلٌ في إعراب الآية
قوله : « لا يَستَحيي » جملة في محلِّ الرفع خبراً ل « أن » ، واستفعل هنا للإغناء عن الثُّلاثي المجرّد .
وقال الزمخشري : « إنَّه مُوَافق له أي : قد ورد » حَيي « ، و » استَحْيى « بمعنى واحد ، والمشهور : اسْتَحْيَى يَسْتَحْيي فهو مستحيٍ ومُسْتَحْيىً منه من غير حَذْف » .
قال القرطبي : « ويستحيي » أصله يَسْتَحْييُ عينه ولامه حرفا علة أعلّت « اللام » منه بأن استثقلت الضمةُ على « الياء » فسكنت ، والجمعُ مستحيون ومستحيين ، وقد جاء استحى يستحي فهو مستح مثل : اسْتَقَى يَسْتَقِي .
وقرأ به ابن محيصن .
ويروى عن ابن كثير ، وهي لغة « تميم » و « بكر بن وائل » ، نقلت فيها حركة الياء الأولى إلى « الحاء » فسكنت ، ثم استثقلت الضَّمة على الثانية ، فسكنت ، فحذف إحداهما للالتقاء ، والجمعُ مستحون ومستحين ، قاله الجوهري .
ونقل بعضهم أن المحذوف هنا مختلفٌ فيه؛ فقيل : عينُ الكلمة ، فوزنُه يَسْتَفِل .
وقيل : لامُه ، فوزنه يَسْتَفِع ، ثُمَّ نُقِلت حركةُ اللاَّم على القول الأوّل ، وحركةُ العَيْن على القول الثاني إلى الفاء ، وهي الحاء؛ ومن الحذف قولُه : [ الطويل ]
323-
ألا تَسْتَحِي مِنَّا المُلُوكُ وَتَتَّقِي ... مَحَارِمَنا لاَ يَبُؤِ الدَّمُ بِالدَّمِ
وقال آخر : [ الطويل ]
324-
إذا ما اسْتَحَيْنَ المَاءَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ ... كَرَعْنَ بِسبْتٍ في إِنَاءٍ مِنَ الوَرْدِ
و « استحيي » يتعدَّى تارة بنفسه ، وتارة بحرف جرّ تقول : استحييتُه وعليه :
إذا ما استحين الماء . .
واستحييت منه؛ وعليه :
أَلاّ تستحي مِنَّا الملوك . .
فيحتمل أن يكون قد تعدَّى في هذه الآية إلى أن يضرب بنفسه ، فيكون في محل نصب قولاً واحداً ، ويحتمل أن يكون تَعَدَّى إليه بحرف المحذوف ، وحينئذٍ يجري الخلافُ المتقدّم في قوله : « أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ » .
و « يَضْرِب » معناه : يُبَيِّنُ فيتعدَّى لواحدٍ .
وقيل : معناه التصييرُ ، فيتعدّى لاثنين نحو : « ضَرَبْتُ الطِّينَ لَبِناً » .
وقال بعضهم : « لا يتعدَّى لاثنين إلاَّ مع المثل خاصة » ، فعلى القول الأوّلِ يكونُ « مَثَلاً » مفعولاً و « ما » زائدة .
وقال أبو مسلم الأصفهاني : « معاذ الله أنْ يكون في القرآن زيادة » .
وقال ابن الخطيب : والأصح قول أبي مُسْلِمِ؛ لأن الله -تعالى- وصف القرآن بكونه : هدى وبَيَاناً ، وكونه لَغْواً ينافي ذلك ، فعلى هذا يكون « ما » صفة للنكرة قبلها ، لتزداد النكرة اتساعاً . ونظيره قولهم : « لأَمْرٍ مَّا جَدَعَ قَصيرٌ أَنْفُهُ » وقولُ امرئ القيس : [ المديد ]
325-
وَحَدِيثُ الرَّكبِ يَوْمَ هُنَا ... وَحَدِيثٌ مَّا عَلَى قِصَرِهْ
وقال أبو البَقَاءِ : وقيل : « ما » نَكِرَةٌ موصوفةٌ ، ولم يجعل بعوضة صفتها ، بل جعلها بدلاً منها ، وفيه نظرٌ؛ إذ يحتاج أن يُقدِّر صفةً محذوفة ولا ضرورة لذلك ، فكان الأولى أن يجعل بعوضةً صفتها بمعنى أنَّهُ وصفها بالجنس المُنكَّرِ لإبهامِه ، فهي في معنى « قليل » ، وإليه ذهب الفرّاء والزَّجَّاجُ وثَعْلَبٌ ، وتكون « ما » وصفتها حينئذٍ بدلاً من « مَثَلاً » و « بعوضة » بدلاً من « ما » ، أو عطف بيان لها ، إن قيل : « ما » صفة ل « مثلاً » ، أو نعتٌ ل « ما » إن قيل : إنَّها بدلٌ من « مثلاً » كما تقدَّم في قول الفَرَّاء ، وبدلٌ من « مثلاً » أو نعتٌ ل « ما » إن قيل : إنَّها بدلٌ من « مثلاً » كما تقدَّم في قول الفَرَّاء ، وبدلٌ من « مثلاً » أو عطف بيان له إن قيل : إن « ما » زائدة .
وقيل : « بعوضة » هو المفعول ، و « مثلاً » نُصِبَ على الحالِ قُدِّمَ على النكرةِ .
وقيل : نُصِبَ على إسقاط الخافض ، التقدير : ما بين بعوضةٍ ، فلمَّا حُذِفَتْ « بين » أعربت « بعوضة » بإعرابها ، وتكون الفاء في قوله : « فما فوقها » بمعنى إلى ، أي : إلى ما فوقها ، ويعزى هذا للكسائي والفرّاء وغيرهم من الكوفيين؛ وأنشدوا : [ البسيط ]
326-
يَا أَحْسَنَ النَّاسِ مَا قَرْناً إلَى قَدَمٍ ... وَلاَ حِبَالَ مُحِبٍّ وَاصِلٍ تَصِلُ
أي : ما بين قَرْنٍ .
وَحَكَوْا : « له عشرون ما ناقةً فَجَمَلاً » ، وعلى القول الثَّاني يكونُ « مثلاً » مفعول أوَّلَ ، و « ما » تحتمل الوجهين المتقدمين ، و « بعوضةً » مفعولٌ ثانٍ .
وقيل : بعوضةً هي المفعولُ الأولُ ، و « مَثَلاً » هو الثَّاني ، ولَكِنَّهٌُ قُدِّم .
وتلخَّص مما تقدَّم أنَّ في « ما » ثلاثة أوجه :
زائدة ، صفة لما قبلَها ، نكِرةٌ موصوفةٌ ، وأنَّ في « مثلاً » ثلاثة أيضاً :
مفعول أوّل ، أو مفعول ثان ، أو حالٌ مقدّمة ، وأنَّ في « بعوضة » تسعة أوجه ، والصوابُ من ذلك كُلُّه أن يكون « ضَرَبَ » متعدِّياً لواحدٍ بمعنى بَيَّنَ ، و « مثلاً » مفعولٌ به ، بدليل قوله : « ضُرِبَ مَثَلٌ » ، و « ما » صفةٌ للنَّكِرة ، و « بعوضةً » بدلٌ لا عطف بيان ، لأن عطف البيان ممنوع عند جمهور البصريين في النكرات .
وقرأ إبراهيم بن أبي عَبْلَةَ والضَّحَّاكُ ورؤبة بن العجاج برفع « بعوضةٌ » واتفقوا على أنَّها خبرٌ لمبتدأ ، ولكنهم اختلفوا في ذلك المبتدأ ، فقيل : هو « ما » على أنَّها استفهاميةٌ أيك أيُّ شيء بعوضةٌ ، وإليه ذهب الزمخشري ورَجَّحَهُ .
وقيل : المبتدأ مضمرٌ تقديرُه « : هو بعوضةٌ ، وفي ذلك وجهان :
أحدهما : أن تُجْعَلَ هذه الجملة صلة ل » ما « لكونها بمعنى الذي ، ولكنَّه حذف العائد ، وإن لم تَطُل الصِّلةُ ، وهذا لا يجوز عند البصريين إلاَّ في » أيّ « خاصّة لطولها بالإضافة ، وأمَّا غيرُها فشاذٌّ ، أو ضرورة كقراءة :
{
تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ } [ الأنعام : 154 ] وقوله : [ البسيط ]
327-
مَنْ يُعَنْ يِالحَقِّ لاَ يَنْطِقْ بِمَا سَفَهٌ ... وَلاَ يَحِدْ عَنْ سَبِيلِ الحَمْدِ وَالكَرَمِ
أي : الذي هو أحسنُ ، وبما هو سَفَهٌ ، وتكونُ « ما » على هذا بدلاً من « مثلاً » كأنَّهُ قيل : مثلاً الذي هو بعوضةٌ .
قال النَّحَّاسُ : « والحذفُ في » ما « أقبحُ منه في » الذي « لأن » الذي « إنّما له وجه واحد ، والاسم معه أطول » .
والثاني : أن تُجْعَلَ « ما » زائدة ، أو صفةً ، وتكون « هو بعوضةٌ » جملة كالمفسِّرة لما انطوى عليه الكلامُ .
ويقال : إنَّ معنى : « ضربتُ له مثلاً » مَثَّلْتُ له مَثَلاً ، وهذه الأبنيةِ على ضربٍ واحدٍ ، وعلى مثال [ واحد ] ونوعٍ واحد .
والضربُ : النوعُ ، والبعوضةُُ : واحِدةُ البعوض ، وهو معروف ، وهو في الأَصْلِ وَصْفٌ على فَعُول كالقَطُوع ، مأخوذ من البَعْض ، وهو القَطْع ، وكذلك البَضْع والعَضْب؛ قال : [ الوافر ]
328-
لَنِعْمَ البَيْتُ بَيْتُ أَبِي دِثَارٍ ... إِذَا مَا خَافَ بَعْضُ القَوْمِ بَعْضَا
وقال الجوهري : البعوض : البَقُّ ، الواحدة بعوضة ، سُميت بذلك لصغرها .
فَصْلٌ في استحسان ضرب الأمثال
اعلم أنّ ضرب الأمثال من الأمور المستحسنة في العقول ، وقد اشتهر العربُ في التمثيل بأحقر الأشياء ، فقالوا في التمثيل بالذَّرَّةِ : « أجمع من ذَرَّةٍ » ، و « أضبط من ذرَّة » ، « وأخفى من ذَرَّةٍ » ، وفي التمثيل بالذُّباب : « أجرأ من الذُّبَاب » ، « وأخطأ من الذُّبَاب » ، « وأطيش من الذباب » ، و « أشبه من الذبابِ بالذباب » ، « وألخّ من الذُّبَاب » .
وفي التمثيل بالقراد : « أسمع من قراد » ، وأضعف من قرادة ، وأعلق من قرادة ، وأغم من قرادة ، وأدبّ من قرادة .
وقالوا في الجراد : أَطْيَرُ من جَرَادة ، وأحْطَم من جَرَادة ، وأَفْسد من جرادة ، وأصفى من لعاب الجرادة .
وفي الفراشة : « أضعف من فراشة » ، « وأجمل من فراشة » ، و « أطيش من فراشة » .
وفي البعوضةِ : « كلفني مخّ البعوضة » ، مثلٌ في تكليف ما لا يُطاق . فقولهم : ضرب الأمثال لهذه الأشياء الحقيرة لا يليق بالله تعالى .
قلنا : هذا جَهْلٌ ، لأنَّهُ -تعالى- هو الذي خلق الكبير والصغير ، وحكمه في كُلِّ ما خلق وبرأ عام؛ لأنَّه قد أحكم جميعه ، وليس الصغير أخفّ عليه من العظيم ، ولا العظيم أصعب عليه من الصَّغير ، وإذا كان الكُلُّ بمنزلةٍ واحدةٍ لم يكن الكبير أَوْلَى من أن يضربه مثلاً لعباده من الصغير ، بل المعتبر فيه ما يليقُ بالقضيَّةِ ، وإذا كان الأليق بها الذُّباب والعنكبوت ، ضرب المثل بهما ، لا بالفيل والجمل ، فإذا أراد أن يُقَبَّحَ عبادتهم للأصنام ، ويُقَبِّحَ عدو لهم عن عبادة الرحمن ، صَلَحَ أن يضرب المثل بالذُّبَاب ، لِيُبَيِّنَ أن قدر مَضَرَّتها لا تندفع بهذه الأصنام ، ويضرب المثل العَنْكَبُوت؛ لِيُبَيِّنَ أنَّ عبادتها أَوْهَى وأضعف من ذلك كُلَّما كان المضروب به المثل أضعف كان المثل أقوى وأوضح ، وضرب المَثَلِ بالبعوضة؛ لأَنَهُ من عجائب خلق الله تعالى؛ فإنه صغير جِدًّا ، وخرطومه في غاية الصغر ، ثُمَّ إنَّه من ذلك مجوّف ، ثمَّ ذلك الخرطوم مع فرط صغره ، وكونه مجوّفاً يغوص في جلد الفِيل والجَامُوس على ثَخَانَتِهِ ، كما يضرب الرجل أصابعه في الخبيص ، وذلك لما رَكَّبَ الله في رأس خرطومه من السم .
قوله : { فَمَا فَوْقَهَا } قد تقدَّم أنَّ « الفاء » بمعنى « إلى » ، وهو قولٌ مرجوحٌ جَدًّا ، و « ما » في « فَمَا فَوْقَهَا » إن نصبنا « بعوضة » كانت معطوفة عليها موصولةً بمعنى « الذي » ، وصلتُهَا الظَّرفُ ، أو موصوفةً وصفتها الظرفُ أيضاً ، وإن رفعنا « بعوضةٌ » ، وجعلنا « ما » الأولى موصولة أو استفهامية ، فالثانية معطوفة عليها ، لكن في جَعْلِنَا « ما » موصولةً يكون ذلك من عَطْفِ المفردات ، وفي جعلنا إيَّاها استفهامية يكون من عَطْفِ الجمل ، وإن جعلنا « ما » زائدة ، أو صفة لنكرةٍ ، و « بعوضةٌ » ل « هو » مضمراً كانت « ما » معطوفة على بعوضة .
فَصْلٌ في معنى قوله : « فما فوقها »
قال الكِسَائيّ وأبو عُبَيْدَةَ ، وغيرهما : معنى « فما فوقها » والله اعلمُ : ما دونها في الصِّغَرِ ، والمحقّقون مالوا إلى هذا القول؛ لأنَّ المقصود من هذا التمثيل تحقير الأوثان ، وكُلَّمَا كان المشبَّهُ به أشدَّ حقارةً كان المقصود أكمل حصولاً في هذا الباب .
وقال قتادة ، وابن جريج : « المعنى في الكبر كالذُّباب ، والعنكبوت ، والكلبِ ، والحمار؛ لأنَّ القوم أنكروا تمثيل اللهِ بتلك الأشياء » .
قوله : { فَأَمَّا الذين آمَنُواْ } .
«
أمَّا » حرفٌ ضُمِّنَ معنى اسم شرط وفعله ، كذا قَدَّرَه سيبويه قال : « أمَّا » بمنزلةِ مَهْمَا يَكُ مِنْ شَيءٍ .
وقال الزَّمَخْشَرِيّ : وفائدته في الكلام أن يعطيه فَضْلَ توكيد ، تقولُ : زيدٌ ذاهبُ ، فّا قصدت توكيد ذلك ، وأنَّهُ لا محالة ذاهبٌ ، قلت : أمَّا زيدٌ فذاهبُ .
وقال بعضهم : « أمَّا » حرف تفصيل لما أجمله المتكلم ، أو ادَّعاه المخاطبُ ، ولا يليها إلاَّ المبتدأ ، وتلزم الفاءُ في جوابها ، ولا تُحْذَفُ إلاَّ مع قولٍ ظاهرٍ ومقدَّرٍ كقوله : { فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } [ آل عمران : 106 ] أي : فيقال لهم : أكَفَرْتُمْ ، وقد تحذفُ حيث لا قَوْلَ؛ كقوله : [ الطويل ]
329-
فأَمَّا القِتَالُ لا قِتَالَ لَدِيْكُمُ ... وَلَكِنَّ سَيْراً في عِرَاضِ المَوَاكِبِ
أي : فلا قتالَ .
ولا يجوز أن تليها « الفاء » مباشرة ، ولا أن تتأخّر عنها بِجُزْأَي جملةٍ ، لو قلت : « أَمَّا زَيدٌ منطلقٌ ففي الدَّار » لم يجز ، ويجوز أنْ يَتَقَدَّمَ معمولُ ما بعد « الفاءِ » عليها ممتليٌّ أمَّا كقوله : { فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ } [ الضحى : 9 ]
ولا يجوز الفصلُ بَيْن أَمَّا والفاءِ بمعمول خبر « إنَّ » خلافاً للمبرد ، ولا بمعمول خبر « ليت » و « لَعَلَّ » خلافاً للفرّاء ، وإن وقع بعدها مصدرٌ نحو : « أمَّا عِلْماً فعالمٌ » فإن كان نكرةً جاز نصبه عند التميميين فيه الرفع والنصب نحو : « أَمَّا العِلْمُ فَعَالِمٌ » ، ونصب المنكِّر عند سيبويه على الحال ، والمعرَّف مفعول له .
وأمَّا الأخفشُ فنصبهما عنده على المفعول المطلق ، والنصب بفعلِ الشرط المقدَّر ، أو بما بعد الفاء ، ما لم يمنع مانعٌ ، فيتَعَيَّن فِعلُ الشرط نحو : أمَّا عِلْمَاً فلا عِلْمَ له أو : فإنَّ زيداً عالمٌ؛ لأن « لا » و « إنَّ » لا يَعْمَلُ ما بعدهما فيما قبلهما .
وأمَّا الرفعُ فالظاهِرُ أنه بفعل الشرط المقدَّرِ ، أي : مهما يُذْكَرْ عِلْمٌ ، أو : العلم فزيدٌ عالمٌ ، ويجوز أن يكون مبتدأ ، وعالمٌ خبر مبتدأ محذوف ، والجملةُ خبرةُ ، والتقديرُ : أَمَّا علمٌ - أو العلمُ - فزيدٌ عالمٌ به ، وجاز الابتداء بالنكرة ، لأنَّهُ موضعُ تفصيل ، وفيها كلام طويل .
و « الَّذِينَ آمَنُوا » في مَحَلِّ رفع بالابتداء ، و « فيعلمون » خبره .
قوله : « فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ » .
الفاءُ جواب « أَمَّا » لما كان تضمنته من معنى الشَّرط ، و « أَنَّهُ الْحَقُّ » سَادٌّ مَسَدَّ المفعولين عند الجمهور ، [ وساد ] مسدّ المفعول الأوّل فقط ، والثاني محذوف ، عند الأخفش ، أي : فيعلمون حَقِيْقَتَهُ ثَابِتَةً .
وقال الجمهور : لا حَاجَةَ إلى ذلك؛ لأنَّ وجود النسبة فيها بعد « أّنَّ » كافٍ في تَعَلُّقِ العلمِ ، أو الظَّنِّ به ، والضمير في « أَنَّهُ » عائدٌ على المَثَلِ .
وقيل : على ضرب المثل المفهوم من الفِعْلِ .
وقيل : على ترك الاستحياء .
و « الحقُّ » : هو الثابت ، ومنه حَقَّ الأمْرُ أي : ثبت ، ويقابله الباطل .
و « الحق » واحدُ الحقوق ، و « الحَقَّة » بفتح الحاء أخص منه ، يقال : هذه حَقَّتِي ، و « مِنْ » لابتداء الغاية المَجَازية .
قوله : « وأَمَّا الَّذِينَ كفروا » لغة « بني تميم » ، و « بني عامر » في « أَمَّا » « أَيْمَا » يبدلون من أحد الميمَْن ياءً؛ كراهيةٌ للتضعيف؛ وأنشد عمرُ بنُ أبي رَبِيعَةَ : [ الطويل ]
330-
رَأَتْ رَجُلاً أَيْمَا إِذَا الشَّمْسُ عَارَضَتْ ... فَيَضْحَى وَأَيْمَا بِالعَشِيِّ فَيَخْصَرُ
قوله : « فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ » .
اعلم أَنَّ « ما » في كلام العرب ستى استعمالات :
أحها : أن تكون « ما » اسم استفهام في محل رفع بالابتداء ، و « ذا » اسمُ إشارةٍ خبرُهُ .
والثاني : أن تكون « ما » استفهاميةً و « ذا » بمعنى الَّذِي ، والجملةُ بعدها صلةٌ ، وعائدها محذوفٌ ، والأجودُ حينئذٍ أن يرفع ما أجيبَ به أو أُبْدِلَ منه؛ كقوله : [ الطويل ]
331-
لاَ تَسْأَلاَنِ المَرْءَ مَاذَا يُحَاوِلُ ... أَنَحْبٌ فَيُقْضَى أَمْ ضَلاَلٌ وَبَاطِلُ
ف « ذا » هنا بمعنى الذي؛ لأنه أُبْدِلَ منه مرفوعٌ ، وهو « أَنْحبٌ » ، وكذا { مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو } [ البقرة : 219 ] في قراءة أبي عمرو .
والثالث : أن يُغَلَّبَ حكم « ما » على « ذا » فَيُتْرَكَا ، ويصيرا بمنزلة اسمٍ واحدٍ ، فيكون في محلِّ نصبٍ بالفِعْلِ بَعْدَهُ ، والأجودُ حينئذٍ أن يُنْصبَ جوابُه والمبدلُ منه كقوله : « مَاذَا يُنْفِقُونَ قلِ : الْعَفْوَ » في قراءة غير أبي عمرو ، و { مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً } [ النحل : 30 ] عند الجميع . ومنه قوله : [ البسيط ]
332-
يَا خُزْرَ تَغْلِبَ مَاذَا بَالُ نِسْوَتِكُمْ ... لاَ يَسْتَفِقْنَ إِلَى الدِّيِدَيْنِ تَحْنَانَا
ف « ماذا » مبتدأ ، و « بالُ نسوتكم » خبرُه .
الرابع : أن يُجْعَلَ « ماذا » بمنزلةِ الموصول تغليباً ل « ذا » على « ما » عكس الصورة التي قبله ، وهو قليلٌ جداًّ؛ ومنه قوله : [ الوافر ]
333-
دَعِي مَاذَا عَلِمْتِ سَأَتَّقِيهِ ... وَلَكِنْ بِالْمُغَيِّبِ حَدِّثِينِي
ف « ماذا » بمعنى الذي؛ لأنَّ ما قبله لا تعلّق له به .
الخامس : زعم الفَارِسِيُّ أَنَّ « ماذا » كله نكرة موصوفة ، وأنشدَ : « دَعِي مَاذَا عَلِمْتِ » أي : دَعِي شيئاَ معلوماً ، وقد تقدَّم تأويله .
السَّادس : وهو أضعفها أَنْ تكون « ما » استفهاماً ، و « ذا » زائدة ، وجميع ما تقدَّم يُصْلُحُ أن يكون مثالاً له ، ولكنَّ زيداة الأسماء ممنوعة أو قليلة جِداً .
إذا عُرِفَ ذلك فقوله « مَاذَا أَرَادَ اللهُ » يجوز فيه وجهان دون الأربعة الباقية :
أحدهما : أن تكون « ما » استفهامية في محلِّ دفع بالابتداء ، و « ذا » بمعنى « الذي » ، و « أراد اللهُ » صِلَة ، والعائِدُ محذوف لاستكمال شروطَه ، تقديره : « أراد اللهُ » والموصول خَبَرُ « ما » الاستفهامية .
والثاني : أن تكون « مَاذَا » بمنزلةِ اسم واحدٍ في مَحَلِّ نَصْبٍ بالفعلِ بعده ، تقديره : أيَّ شيء أراد اللهُ . قال ابن كَيْسَان : وهو الجيد ومحل هذه الجملة النصب بالقول ، و « مثلا » نصب على التمييز ، قيل : وجاء على معنى التوكيد؛ لأنه من حيث أُشير إليه بهذا عُلِمَ أَنَّهُ مَثَلٌ ، فجاء التمييز بعده مؤكّدا للاسم الذي أُشيرَ إليه .
وقيل : نصب على الحالِ ، واختلف في صاحبها ، فقيل : اسم الإشارة ، والعاملُ فيها معنى الإشارة .
وقيل : اسم اللهِ - تعالى - مُتَمَثِّلاً بذلك .
وقيل : على القطع وهو رأي الكوفيين ، وَمَعْنَاه عندهم : أَنَّهُ كان أصله أن يتبع ما قبله ، والأصلُ : بهذا المَثلِ ، فلمَّا قَطِعَ عن التَّبعيَّةِ انتصب؛ وعلى ذلك قول امرئ القيس : [ الطويل ]
334-
سَوامِقُ جَبَّارٍ أَثِيثِ فُرُوعُهُ ... وَعَالَيْنَ قِنْواناً مِنَ البُسْرِ أَحْمَرَا
أصله : من البُسْرِ الأَحْمَرِ .
فَصْلٌ في معنى الإرادة واستقاقها
و « الإرادةُ » لغةٌ طلبُ الشيءً مع المَيْلِ إليه ، وقد تتجرّد للطلب ، وهي التي تنسبُ إلى اللهِ - تعالى - وعَيْنُها واوٌ من رادَ يرودُ ، طَلَبَ ، فأصلُ « أراد » أَرْوَدَ « مثل : أقام ، والمصدرُ الإرادةُ مثلُ الإقامةِ ، وأصلُها : إرْوَاد فأُعِلَّتٍ وعُوِّضَ من محذوفِها تاءُ التأنيث .
فَصْلٌ في ماهية الإرادة
و » الإرادةُ « ماهية يجدها العاقل من نفسه ، ويُدْرِكُ بالتفرقةِ البديهية بينها وبين علمه وقدرته وألمه ولذّته ، وإذا كان كلك لم يكن تصور ماهيتها محتاجاً إلى التعريف .
وقال المتكلمون : إنها صفة تقتضي رُجْحَانَ أحد طرفي الجائز على الآخر ، لا في الوقوع ، بل في الإيقاع ، واحترزنا بهذا القِيْدِ الأخير عن القدرةِ .
قوله : » { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً } الياء فيه للسَّببيَّة ، وكذلك في « يهدي به » ، وهاتان الجملتان لا محل لهما؛ لأنَّهما كالبيان للجملتين المُصَدَّرَتِيْنِ ب « أَمَّا » ، وهما من كلام الله تعالى . وقيل : في محلِّ نَصْبِ؛ لأنهما صفتان ل « مَثَلاً » أي : مَثَلاً يُفَرِّقُ النَّاس به إلى ضُلاَّلٍ ومُهْتَدِين ، وهما على هذا من كلام الكفَّار .
وأجاز أبو البقاء أن تكون حالاً من اسم الله ، أي : مُضِلاَّ به كثيراً ، وهادياً به [ كثير ] .
وجَوَّزَ ابن عطية أن يكون جملة قوله : « يُضِلُّ بِعِ كَثِيراً » من كلام الكُفَّارِ ، وجملةُ قوله : « وَيَهْدِي بِهِ كَثيراً » من كلام الباري تعالى . وهذا ليس بظاهرٍ لأنّهُ إلباسٌ في التركيب .
والضميرُ في « به » عائدٌ على « ضَرْب » المضاف تقديراً إلى المَثَل ، أي يضرب المثل ، وقيل : الضميرُ الأوّل للتكذيب ، والثاني للتصديق ، ودَلَّ على ذلك قوة الكلام .
[
وقُرِئ : « يُضَلُّ به كثيرٌ ، ويُهِدَى به كثيرٌ ، وما يُضِلُّ بِهِ إلاَّ الفَاسِقُونَ » بالبناء للمفعول ] .
وقُرِئَ أيضاً : « يَضِلُّ كَثِيرٌ ويَهْدِي به كثيرٌ ، وما يَضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفَاسِقون » بالبناء للفاعل .
قال بعضهم : « وهي قراءة القَدَرِيَّة ، وقد نَقَلَ ابن عطية عن أبي عمرو الدَّاني أنَّهَا قراءة المعتزلة » . ثم قال : وابن أبي عبلةَ من ثِقَاتِ الشاميين « يعني قارئها ، وفي الجملةِ فهي مخالفة لسواد المصحفِ .
فإنْ قيل : كيف وصف المهتدين هنا بالكثرة وهم قليلون؛ لقوله : { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } [ ص : 24 ] ، و { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } [ سبأ : 13 ] فالجوابُ أَنّهم ، وإن كانوا قليلينَ في الصُّورة ، فهم كثيرون في الحقيقةِ؛ كقوله : [ البسيط ]
335-
إِنَّ الكِرَامَ كَثِيرٌ فِي الْبِلاَدِ وَإِنْ ... قَلُّوا كَمَا غَيْرُهُمْ قَلَّ وَإِنْ كَثُرُوا
فصار ذلك باعتبارين .
فَصْلٌ في استعمالات الهمزة
قال ابن الخطيب : » الهمزةُ تجيءُ تارةً لتنقل الفِعْلِ من غير التعدِّي إلى التعديّ كقولك : « خَرَجَ » فَإِنَّهُ غير متعدٍّ ، فإذّا قلت « أَخْرج » فقد جعلته متعدّياً ، وقد تجيء لتنقل الفعل من التعدِّي إلى غير التعدِّي كقوله : كَبَبَتْهُ فأكب « وقد تجيء لمجرّد الوجدان » .
حُكِيَ عن عمرو بن معد يكرب أَنَّهُ قال لبني سليم : « قَاتَلْنَاكُمْ فَمَا أَجْبَنّاكُم ، وَهَاجَيْنَاكم فما أفْحَمْنَاكُم ، وسألناكم فما أبخلناكم » ، أي : ما وجدناكم جبناء ولا مفحمين ، ولا بخلاء . ويقال : أتيت أرضَ فُلاَن فأعمرتها ، أي : وجدتها عامرةً .
ولقائل أن يقولَ : لم لا يجوز أن يقال : الهمزة لا تفيد إلاَّ نقل الفعل من غير التعدّي إلى التعدِّي ، وأمَّا قوله : كَبَبْتُهُ فَأَكَبَّ ، فلعلَّ المراد كببته فأكبَّ نفسه على نفسه فيكون قد ذكر الفعل مع حذف المفعولين ، وهذا ليس بعرف؟!
وأما قوله : « قاتلناكم فما أجبناكم » فالمراد ما أثّر قتالنا في صيرورتكم جبناء ، وكذا القول في البواقي وهذا الذي قلناه أولى دفعاً للاشتراك .
إذا ثبت هذا فنقول قولنا : « أَضَلَّهُ الله » لا يمكن حمله إلاّ على وجهين :
أحدهما : أنه صَيَّرَهُ ضَالاَّ عن الدِّين .
والثاني : وجده ضالاَّ .
فَصْلٌ في معنى الإضلال
واعلم أن معنى الإضلالِ عن الدين في اللًُّعة : هو الدعاء إلى ترك الدِّيْنِ ، وتقبيحه في عَيْنِهِ ، وهذا هو الإضلال الذي أضافه اللهُ - تعالى - إلى « إبليس » فقال : { إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ } [ القصص : 15 ] وقال : { وَلأُضِلَّنَّهُمْ } [ النساء : 119 ] .
وقوله : { رَبَّنَآ أَرِنَا اللذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن والإنس نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا } [ فصلت : 29 ] ، وأيضاً أضاف هذا الإضلال إلى فرعون ، فقال : { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى } [ طه : 79 ] .
واعلم أنَّ الأُمَّةَ مجمعة على أن الإضلال بهذا المَعنى لا يجوز على اللهِ تعالى؛ فإنَّه ما دعا إلى الكفر ، وما رَغَّبَ فيه ، بل نهى عنه ، وزَجَرَ وتَوَعَّدَ بالعقاب عليه ، وإذا كان المعنى الأصلي في الإضلال في اللُّغة هذا ، وهذا المعنى منفي بالإجماع ، ثبت انعقاد الإجماع على أنه لا يجوز إجراء هذا اللَّفظ على ظاهره ، وعند هذا افتقر أهل الْجَبْرِ والقدر إلى التأويل .
أمَّا أهل الجَبْرِ فقد حملوه على أَنَّهُ - تعالى - خالق الضلال والكفر فيهم وصدّهم عن الإيمان ، وحال بينهم وبينهُ ، ورُبَّما قالوا : هذا هو حقيقةُ اللفظ في أصل اللغةِ؛ لأنَّ الإضلال عبارة عن جَعْلِ الشَّيء ضالاَّ كما أنَّ الإخراج والإدخال عبارةٌ عن جَعْلِ الشيء خارجاً وداخلاً . وأما المعتزلة فقالوا : التأويل من وجوه :
أحدها : قالوا : إنَّ الرَّجُلَ إذا ضَلَّ باختياره عن حضور شيء من غير أن يكون لذلك الشَّيء أثر في ضلالة فيقال لذلك الشيء : إنَّهُ أَضَلَّهُ قال تعالى في حق الأصنام : { إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً } [ إبراهيم : 36 ] أي : ضَلُّوا بِهِنَّ وقال : { وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً } [ نوح : 23- 24 ] أي : ضَلَّ كثيرٌ من النَّاسِ بهم .
وقال : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً } [ المائدة : 64 ] . وقوله :
{
فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً } [ نوح : 6 ] أي : لم يزدهم الدُّعاءُ إلاَّ فِراراً .
وقال : { فاتخذتموهم سِخْرِيّاً حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي } [ المؤمنون : 110 ] وهم لم ينسوهم في الحقيقة ، وكانوا يُذَكِّرونهم الله .
وقال : { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 124- 125 ] .
فأخبر تعالى أنَّ السورة المشتملة على الشَّرَائعِ يُعَرَّفُ أحوالهم .
فمنهم من يصلح عليها؛ فيزداد بها إيماناً؛ ومنهم من يفسد عليها فيزداد بها كُفْراً ، فأضيفت الزيادةُ في الإيمان ، والزيادة في الكُفُرِ إلى السُّورة؛ إذ كانوا إنَّما صلحوا عند نزولها وفسدوا ، فهكذا أُضيفَ الضَّلالُ والهُدَى إلى الله تعالى؛ إذ كان حدوثهما عند ضربة - تعالى - الأمثال لهم .
وثانيهما : أنَّ الإضلال هو التسمية بالضلالة ، فيقال : أَضَلَّهُ إذا سماه ضالاً ، وأكفر فلان فلاناً إذا سمّاه كافراً ، وذهب إليه قطرب ، وكثير من المعتزلة .
ومن أهل اللغةِ من أنكره ، وقال : إِنَّمَا يقال : ضللته تضليلاً ، إذا سمَّيْتُهُ ضالاًّ ، وكذلك فَسّقته وفَجَّرته ، أي : سَمَّيْتُه : فاسقاً وفاجراً .
وأجيب عنه بأنَّه حتى صَيَّرَهُ في نَفْسِهِ ضالاَّ لَزِمَهُ أي يُصَيِّره محكوماً عليه بالضَّلال فهذا الحكم من لوازم ذلك التصيير وإطلاق اسم الملزوم على اللازمِ مشهورٌ .
وثالثهما : أن يكون الإضلال هو التَّخلية ، وترك المنع بالقهر ، والجبر ، فيقال : أَضَلَّهُ أي : خَلاَّه وضلاله .
قالوا : ومجازه من قولهم : « أَفْسَدَ فُلانٌ ابْنَهُ ، وأهلكه » إذا لم يتعهدّه بالتأديب؛ ومنه قوله : [ الوافر ] .
336-
أَضَاعُونَي وَأَيِّ فَتَىً أَضَاعُوا .. . . .
ويقال لمن ترك سيفه في الأرضِ النَّدِيَّةِ حَتَّى فَسَدَ وصدئ : أفسدت سيفك وأصدأته .
ورابعها : الضلال ، والإضلال هو العذاب والتعذيب لقوله { إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } [ القمر : 47 ] { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار } [ القمر : 48 ] ، فوصفهم بأنَّهُم يوم القيامةِ في ضلال ، وذلك هو عذابه .
وخامسها : أن تحمل الإضلال على الإهلاك والإبطال ، كقوله : { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } [ محمد : 1 ] قيل : أهلكها ، وأبطلها ، ومجازه من قولهم : « ضَلَّ الماءُ في اللَّبَنِ » إذا صار مستهلكاً فيه .
ويقال : أضَلَّ القَوْمَ مَيِّتَهُمْ ، أي : واروه في قبره فأخفوه حتى صار لا يُرَى .
وقالوا : { أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض } [ السجدة : 10 ] فيتحمل أن يضل الله إنساناً أي : يهلكه ويعدمه .
وسادسها : أن يحمل الإضلال على الإضلال عن الجَنَّةِ .
قالت المعتزلة : وهذا في الحقيقة ليْسَ تأويلاً ، بل حَمْلٌ للَّفظ على ظاهره فإن الآية تَدُلُّ على أَنَّهُ يضلّهم ، وليس فيها دلالة على أنه عن ماذا يُضلهم؟ فنحن نحملها على أنَّهُ - تعالى - يُضِلُّهم عن طريق الْجَنَّةِ ، ثُمَّ حملوا كُلَّ ما في القرآنِ من هذا الجنس على هذا المحمل ، وهو اختيار الجُبَّائي . قال تعالى : { كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير } [ الحج : 4 ] أي : يُضِلُّه عن الجَنَّةِ وثوابها هذا كله إذا حملنا الهمزة في الإضلال على التعدية .
وسابعها : ان تحمل الهمزة لا على التعدية ، بل على الوجدان على ما تقدَّم ، فيقال : أَضَلَّ فلانٌ بَعِيرَهُ أي : ضَلَّ عنه ، فمعنى إضلال الله - تعالى - لهم أَنَّهُ وجدهم ضَالِّين .
وثامنها : أن يكون قوله : « يُضِلُّ به كَثِيراً ، ويَهْدِي بِهِ كَثِيراً » من تمام قول الكُفَّار كأَنَّهم قالوا : ماذا أراد اللهُ بهذا المثل الذي لا يظهر وجه الفائدة فيه؟
ثُمَّ قالوا : يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً ، ذكروه على سبيل التَّهَكُّمِ ، فهذا من قول الكُفَّارِ ، ثُمَّ قال تعالى جواباً لهم : « وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِيْنَ » أي ما أضَلَّ إِلاَّ الفاسقين .
هذا مجموع كلام المعتزلة .
قالت الجبرية : وهذا معارضٌ بمسألة الدّاعي ، وهي أن القادِرَ على العلم والْجَهِلِ والإهداء والضلالِ لم فعل أحدهما دون الآخر؟
ومعارضٌ أيضاً بمسألة العلم ما سبق تقريرها في قوله تعالى : { خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ } [ البقرة : 7 ] .
والجَوَابُ عن الآيات يأتي في مواضعه .
قوله : « وما يُضِلُّ بِهِ إلاَّ الفَاسِقِيْنَ » « الفاسقين » مفعول ل « يضل » وهو استثناء مُفَرّغ ، وقد تقدَّم معناه ، ويجوز عند القرّاء أن يكون منصوباً على الاستثناء والمستثنى منه محذوف تقديره : « وما يُضِلُّ به أحداً إِلاَّ الفاسقين » ؛ كقوله : [ الطويل ]
337-
نَجَا سَالِمٌ والنَّفْسُ مِنْهُ بِشِدْقِهِ ... وَلَمْ يَنْجُ إِلاَّ جَفْنَ سَيْفٍ ومئزَرَا
أي : لم ينجُ بشيء ، ومنع أبو البقاء نصبه على الاستثناء ، كأنَّه اعتبر مذهب جمهور البَصْريين .
و « الفِسْقُ » لغةً : الخروجُ ، يقالُ : فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ عن قِشْرهَا ، أي : خَرَجَتْ ، والفأرة من جُحُرِها .
و « الفاسقُ » : خارج عن طاعةِ الله ، يقال : فَسَقَ يَفْسُقُ وَيَفْسِقُ بالضم والكسر في المضارح فِسْقاً وفُسُوقاً ، عن الأخفش فهو فَاسِقٌ .
وزعم ابن الأعرابي ، أنَّه لم يسمع في كلام الجاهلية ، ولا في شعرهم « فاسق » ، وهذا عجيبٌ ، وهو كلامٌ عربيٌّ حكاه عنه ابن فارس والجَوْهَرِيُّ ، وقد ذكر ابنُ الأَنْبَارِيُّ في كتاب « الزَّاهِر » لمَّا تَكَلَّمَ على معنى « الفِسْقِ » قَوْلَ رُؤْبَة : [ الرجز ]
338-
يَهْوِينَ فِي نَجْدٍ وَغَوْراً غَائِراً ... فَوَاسِقاً عَنْ قَصْدِهَا جَوَائِرَا
و « الفسيق » : الدائم الفسق ، ويقال في النداء : يا فَاسِق ويا خبيث ، يريد يا أيُّها الفاسق ويا أيها الخبيث . والفسقُ في عرف الاستعمال الشرعي الخروج من طاعةِ اللهِ عز وجل ، فقد يقع على من خرج بعصيان . واختلف أهل القبلة في أنَّهُ مؤمنٌ أو كافر .
فعند بعضهم أنَّه مؤمن ، وعند الخوارج : أنَّه كافرٌ ، وعند المعتزلة : أنَّه لا مؤمن ولا كافر .
واحْتَجَّ الخَوَارجُ بقوله تعالى : { بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان } [ الحجرات : 11 ] .
وقال : { إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ التوبة : 67 ] . وقال : { حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأيمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان } [ الحجرات : 7 ] وهذه مسألة طويلة مذكورة في علم الكلام .
قوله : « الَّذيِنَ يَنْقُضُون » فيه أربعة وجوه :
أحدها : أَن يكون نعتاً ل « الفاسقين » .
والثاني : أَنَّهُ منصوبٌ على الذَّمِّ .
والثالث : أَنَّه مرفوعٌ بالابتداء ، وخبره الجملة من قوله « أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ » .
والرابع : أَنَّهُ خبر لمبتدأ محذوف أي : هم الفاسقون . والعهدُ في كلامهم على معانٍ :
منها الوصيَّةُ والضَّمان ، والاكتفاء ، والأمر .
و « مِنْ بَعْدِ » متعلِّق ب « ينقضون » ، و « من » لابتداء الغاية ، وقيل : زائدة ، وليس بشيء . والضميرُ في ميثاقه يجوز أن يعود على العهد ، وأن يعود على اسم الله تعالى ، فهو على الأوّل مصدرٌ مضاف إلى المفعول ، وعلى الثَّاني مضافٌ للفاعل .
و « الميثاقُ » العَهْدُ المؤكَّدُ باليمين مِفْعَال الوثاقةِ والمعاهدةِ ، والجمع : المواثيق على الأصل؛ لن أصل مِيِثَاق : مِوْثَاق ، صارت « الواو » ياء؛ لانكسار ما قبلها وهو مصدرٌ ك « الميلاد » و « المِيعَاد » بمعنى الولادة ، والوعد؛ وقال ابن عطية : هو اسْمٌ في وضع المصدر؛ كقوله : [ الوافر ]
339-
أَكُفْراً بَعْدَ رَدِّ المَوْتِ عَنِّي ... وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمِائَةِ الرِّتَاعَا
أي : إِعْطَائِكَ ، ولا حاجة تدعو إلى ذلك ، والمادة تَدُلُّ على الشَّدِّ والرَبْطِ ، وجمعه مَوَاثِيق ، ومَيَاثِق ، أيضاً ، ومَيَاثيق؛ وأنشد ابن الأعرابيِّ : [ الطويل ]
340-
حِمًى لا يَحِلُّ الدَّهْرُ إلاَّ بإِذْنِنَا ... وَلاَ نَسْأَلُ الَقْوَامَ عَهْدَ الْمَيَاثِقِ
والمَوْثِق : المِيثَاق والمُواثَقَة والمُعَاهَدَة؛ ومنه قوله تعالى : { وَمِيثَاقَهُ الذي وَاثَقَكُم بِهِ } [ المائدة : 7 ] .
فَصْلٌ في النقض
النقضُ إفسادُ ما أبرمته من بناءٍ أو حبل أو عهد ، والرجوع به إلى الحالة الأولى .
والنقاضة : ما نُقِضَ من حبل الشعر ، والمُنَاقضةُ في القولِ : أَنْ يَتَكَلَّمَ بما يناقض معناه ، والنَّقيضةُ في الشّعر ما ينقضُ به .
والنَّقض : المَنْقُوض ، واختلف النَّاسُ في هذا العَهْدِ ، فقيل : هو أذلي أخذه اللهُ على بني آدم -عليه السَّلام- حين استخرجهم من ظهره .
قال المتكلمون : « هذا ساقطٌ » ؛ لأنَّه -تعالى- لا يحتج على العبادِ بعهد وميثاق لا يشعرون به ، كما لا يؤاخذهم بالسَّهْوِ والنسيان وقيل : هو وصيَّةُ اللهِ -تعالى- إلى خلقه ، وأمرمه إياهم بها أمرهم به من طاعته ، ونهيه إياهم عما نهاهم من معصيته في كتبه على ألسنة رسله ، ونقضهم ذلك ترك العمل به ، وقيل : بل نَصبَ الأدلّة على وحدانيته بالسموات ، والأرضِ ، وسائر الصنعة ، وهو بمنزلة العَهْدِ ، ونقضهم ترك النَّظَر في ذلك .
وقيل : هو ما عهده إلى من أوتي الكتاب أن يبينوا نبوَّة محمد عليه السَّلام ، ولا يكتموا أمره ، فالآية على هذا في أَهْل الكتاب .
وقاب أبو إسحاق الزَّجَّاج : عهده جَلَّ وعَزَّ ما أخذه على النَّبيين ومَنْ تبعهم ، ألاَّ يَكْفُرُوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ودليلُ ذلك : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين } [ آل عمران : 81 ] إلى قوله : { وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي } [ آل عمران : 81 ] أي : عهدي .
قوله : « وَيَقْطَعُونَ » عطف على « يَنْقُضُونَ » فهي صلة أيضاً ، و « ما » موصولة ، و « أَمَرَ الله به » صلتها وعائدها .
وأجاز أبو البقاء أن تكون نكرةً موصوفةً ، ولا يجوز أن تكون مصدرية لعود الضمير عليها إلاَّ عند أبي الحَسَن وابن السراج وهي مفعولة ب « يَقْطَعُونَ » والقطع معروف ، والمصدر -في الرّحم- القطيعة ، يقال : قطع رحمه قطيعة فهو رجل قُطَعٌ وقُطَعَةٌ ، مثل « هُمَزَة » ، وقَطَعْتُ الحبل قَطْعاً ، وقطعت النهر قُطُوعاً ، وقَطَعَت الطير قُطُوعاً ، وقُطَاعاً ، وقِطَاعاً إذ خرجت من بَلَدٍ إلى بَلَدٍ .
وأصاب الناسَ قُطْعَةٌ : إذا قلت مياههم ، ورجل به قُطْعٌ أي انبهار .
قوله : « مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ » « ما » في موضع نصب ب « يقطعون » و « أَنْ يُوصلَ » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : الجر على البدل من الضمير في « بِهِ » أي ما أمر الله بِوَصْلِهِ؛ كقول امرئ القيس : [ الطويل ]
341-
أَمِنْ ذِكْرِ سَلْمَى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوصُ ... فَتَقْصُرُ عَنْهَا خُطْوَةٌ أَوْ تَبُوصُ
أي : أمِنْ نَأْيِهَا .
والنصب وفيه وجهان :
أحدهما : أنه بدل من « مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ » بدل اشتمال .
والثاني : أنه مفعول من أجله ، فقدره المَهْدوِيّ : كراهية أن يوصل ، وقدره غيره : ألا يوصل .
والرفع على أنه خبر مبتدأ [ مضمر ] أي : هو أن يوصل ، وهذا بعيداً جداً ، وإن كان أبو البقاء ذكره .
واختلف في الشيء الذي أمر بوصله فقيل : صلة الأرْحَام ، وحقوق القرابات التي أمر الله بوصلها ، وهو كقوله تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض وتقطعوا أَرْحَامَكُمْ } [ محمد : 22 ] وفيه إشارة إلى أنهم قطعوا ما بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - من القرابة ، وعلى هذا فالآية خاصة .
وقيل : أمر أن يوصل القول بالعمل ، فقطعوا بينهما بأن قالوا ، ولم يعملوا . وقيل : أمر أن يوصل التصديق بجميع أنبيائه ، فقطعوه بتصديق بعضهم ، وتكذيب بعضهم . وقيل : الإشارة إلى دين الله ، وعبادته في الأرض ، وإقامة شرائعه ، وحفظ حدوده ، فهي عامة في كل ما أمر الله -تعالى- أمرهم أن يصلوا حَبْلَهُمْ بِحَبْلِ المؤمنين ، فانقطعوا عن المؤمنين ، واتصلوا بالكفار .
وقيل : إنهم نهوا عن التنازع وإثارة الفتن ، وهم كانوا مشتغلين بذلك .
و « يُفْسِدُونَ » عطف على الصّلة أيضاً ، و « في الأَرْضِ » متعلق به .
والأظهر أن يراد به الفساد في الأرض الذي يتعدى دون ما يقف عليهم .
وقيل : يعبدون غير الله ، ويجورون في الأفعال ، إذ هي بحسب شهواتهم ، ثم إنه -تعالى- أخبر أن من فعل هذه الأَفَاعيل خسر فقال : « أُولِئَكَ هُمُ الخَاسِرُونَ » كقوله : { وأولئك هُمُ المفلحون } [ البقرة : 5 ] ، وقد تقدم أنه يجوز أن تكون هذه الجملة خبر « الذِينَ يَنْقُضُونَ » إذا جعل مبتدأ .
وإن لم يجعل مبتدأ ، فهي مستأنفة ، فلا محل لها حينئذ ، و « هم » زائدة ، ويجوز أن يكون « هم » مبتدأ ثان ، و « الخَاسِرُونَ » خبره ، والثاني وخبره خبر الأول .
والخاسر : الذي نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز .
والخسران : النقصان ، كان في ميزان أو غيره؛ قال جرير : [ الرجز ]
342-
إِنَّ سَلِيطاً فِي الخَسَارِ إِنَّهْ ... أَوْلادُ قَوْمٍ خُلِقُوا أَقِنَّهْ
يعني بالخسار ما ينقص من حظوظهم وشرفهم .
قال الجوهري : وخسرت الشيء بالفتح -وأخسرته نقصته .
والخَسَار والخَسَارَة والخَيْسَرَى : الضَّلال والهلاك . فقيل للهالك : خاسر؛ لأنه خسر نفسه ، وأهله يوم القيامة ، ومنع منزله من الجَنَّة .
فصل
قال القرطبي : في هذه الآية دليلٌ على أنَّ الوفاء بالعهد والتزامه ، وكل عهد جائز ألزمه المرء نفسه ، فلا يحل له نقضه ، سواء أكان بين مسلم أم غيره ، لذم الله -تعالى- من نقض عهده .
وقد قال : { أَوْفُواْ بالعقود } [ المائدة : 1 ] وقد قال لنبيه عليه الصلاة والسلام : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ } [ الأنفال : 58 ] فنهاه عن الغَدْرِ ، وذلك لا يكون إلاَّ بنقض العهد ، على ما يأتي إن شاء الله تعالى .
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)
اعلم أنه -تعالى- لما تكلَم في دلائل التوحيد ، والنبوة ، والمعاد شَرَعَ في شَرْحِ النعم التي عمت جميع المكلفين . فالمراد بهذا الاستخبار التَّبكيت والتعنيف .
قوله : « كيف » استفهام يسأل به عن الأحوال ، وبني لتضمنه معنى الهمزة ، وبني على أخف الحركات ، وكان سبيلها أنْ تكون ساكنةً؛ لأن فيها معنى الاستفهام الذي معناه التعجب .
وشذّ دخول حرف الجر عليها ، قالوا : « على كيف تبيعُ الأَحْمَرَيْنِ » .
وكونها شرطاً قليل ، ولا يجزم بها خلافاً للكوفيين ، وإذا أبدل منها اسم ، أو وقع جواباً ، فهو منصوبٌ إذا كان بعدها فعل متسلّط عليها نحو كيف قمت . أصحيحاً أم سقيماً؟ وكيف سرت؟ فتقول : رَاشِداً ، وإلا فمرفوعان نحو : كيد زيد؟ أصحيح أم سقيم؟ وإن وقع بعدها اسم مسؤول عنه بها ، فهو مبتدأ ، وهي خبر مقدم ، نحو : كيف زيد؟
وقد يحذف الفعل بعدها ، قال تعالى : { كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا } [ التوبة : 8 ] أي : كيف تُوَالُونَهُمْ؟ .
وكيف في هذه الآية منصوبة على التشبيه بالظرف عند سيبويه ، أي : في أي حالة تكفرون؟ وعلى الحال عند الأخفش . أي : على أي حال تكفرون؟ والعامل فيها على القولين « تكفرون » ، وصاحب الحال الضمير في « تكفرون » .
ولم يذكر أبو القاء غير مذهب الأخفش ، ثم قال : والتقدير : معاندين تكفرون؟ وفي هذا التقدير نظر؛ إذ يذهب معه معنى الاستفهام المقصُود به التنعجّب ، أو التوبيخ ، أو الإنكار .
قال الزمخشري بعد أن جعل الاستفهام للإنكار : وتحريره أنه إذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها ، وقد علم أن كلّ موجود لا بدَّ له من حالٍ ، ومُحَالٌ أن يوجد بغير صفة من الصفات كان إنكاراً لوجوده على الطريق البرهاني .
وفي الكلام التفات من الغيبة في قوله « وأَما الَّذين كَفَروا » إلى آخره إلى الخطاب في قوله : « تَكْفُرُونَ » و « كُنْتُم » .
وفائدته : أن الإنكار إذا توجّه إلى المخاطب كان أبلغ .
وجاء « تَكْفُرُون » مضارعاً لا ماضياً؛ لأن المنكر الدّوام على الكفر ، والمُضَارع هو المشعر بذلك ، ولئلا يكون ذلك توبيخاً لمن آمن بعد كفر . و كَفَر « يتعدّى بحرف الجر نحو : » تَكْفُرُونَ باللهِ « { تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله } [ آل عمران : 70 ] { كَفَرُواْ بالذكر } [ فصلت : 41 ] وقد يتعدّى بنفسه في قوله تعالى : { أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ } [ هود : 18 ] وذلك لما ضمن معنى جحدوا .
فإن قيل : كيف يجوز أن يكون هذا الخطاب لأهل الكتاب ، وهم لم يكفروا بالله؟
فالجواب أنهم [ لما ] لم يسمعوا أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يصدقوه فيما جاء به ، فقد أشركوا؛ لأنهم لم يقروا بأن القرآن من عند الله ، ومن يزعم أن القرآن من كلام البشر ، فقد أشرك بالله ، وصار ناقضاً للعَهْدِ .
فصل في الرد على المعتزلة
قال المعتزلة : هذه الآية تدلّ على أن الكفر من قبل العباد من وجوه :
أحدها : أنه -تعالى- لو كان هو الخالق للكفر فيهم لما جاز أن يقول : « كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ » موبخاً لهم ، كما لا يجوز أن يقول : كيف تَسْوَدُّونَ وتبيضون وتصحون وتسقمون لما كان ذلك كله من خلقه فيهم .
وثانيها : إذا كان خلقهم أولاً للشقاء والنار ، وما أراد بخلقهم إلاّ الكفر وإرادة الوقوع في النَّار ، فكيف يصح أن يقول موبخاً لهم : « كيف تكفرون » ؟ .
وثالثها : أنه -تعالى- إذا قال للعبد كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ ، فهذا الكلام إما أن يكون موجهاً للحجّة على العبد ، وطلباً للجواب منه ، أو ليس كذلك ، فإن لم يكن لطلب هذا المعنى لم يكن في ذكره فائدة ، فيكون هذا الخطاب عبثاً ، وإن ذكره لتوجيه الحجّة على العبد ، فللعبد أن يقول : حصل في حقي أمور كثيرة موجبة للكفر .
فالأول : أنك علمت بالكفر منّي ، والعلم بالكفر يوجب الكفر .
والثاني : أنك أردت الكفر مني ، وهذه الإرادة موجبة له .
والرابع : أنك خلقت فيّ قدرة موجبة للكفر .
والخامس : أنك خلقت فيَّ إرادة موجبة للكفر .
والسادس : أنك خلقت فيَّ قدرة موجبة للإرادة الموجبة للكفر .
ثم لما حصلت هذه الأسباب السّتة في حصول الكفر ، فالإيمان متوقّف على حُصُول هذه الأسباب السّتة في طرف الإيمان ، وهي بأسْرِهَا كانت مفقودةً ، فقد حصل لعدم الإيمان اثنا عشر سبباً واحد منها مستقل [ بالمنع من الإيمان ] ومع قيام هذه الأَسْبَاب الكثيرة فكيف يعقل أن يقال : كيف تكفرون بالله؟ وآيات أخر تأتي في مواضعها إن شاء الله تعالى .
والجواب عن هذا انّ الله -سبحانه- علم أن لا يكون ، فلو وجد [ لانقلب عليه ] جهلاً ، وهو محال ، ووقوعه محال ، وأيضاً فالقدرة على الكفر إن كانت صالحةً للإيمان امتنع كونها مصدراً للإيمان على التعيين إلاّ لمرجح ، وذلك المرجّح إن كان من العبد عاد السؤال ، وإن كان من الله ، فلما لم يحصل ذلك المرجح من الله امتنع حصول الكفر ، وإذا حصل ذلك امرجح وجب ، وعلى هذا يعقل قوله : « كَيْفَ تَكْفُرُونَ » قاله ابن الخطيب .
قوله : « وكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُم » « الواو » الحال ، وعلامتها أن يصلح موضعها « إذ » . [ والجملة في ] موضع نَصْبٍ على الحال ، ولا بد من إضمار « قد » ليصح وقوع الماضي حالاً .
وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف صح أن يكون حالاً ، وهو ماض؟
قلت : لم تدخل « الواو » على « كُنْتُمْ أَمْوَاتاً » وحده ، ولكن على جملة قوله : « كُنْتُمْ أَمْوَاتاً » إلى « تُرْجَعُونَ » كأنه قيل : كيف تكفرون بالله ، وقصتكم هذه ، وحالكم أنكم كنتم أمواتاً في أصلاب آبائكم ، فجعلكم أحياء ، ثم يميتكم بعد هذه الحَيَاة ثم يحييكم بعد الموت ، ثم يُحَاسبكم؟ .
ثم قال : فإن قلت : بعض القصّة ماض ، وبعضها مستقبل ، والمستقبل كلاهما لا يصح أن يقع حالاً حتى يكون فعلاً حاضراً وقت وجود ما هو حال عنه ، فما الحاضر الذي وقع حالاً؟
قلت : هو العلم بالقصّة كأنه قيل : كيف تكفرون ، وأنتم عالمون بهذه القصة بأولها وآخرها؟
قال أبو حيان ما معناه : هذا تكلّف ، يعني تأويله هذه الجملة بالجملة الاسمية . قال : والذي حمله على ذاك اعتقاده أن الجمل مندرجةً في حكم الجملة الأولى ، قال : ولا يتعيّن ، بل يكون قوله تعالى : « ثُمَّ يُمِيتُكُمْ » وما بعده جملاً مستأنفة أخبر بها -تعالى- لا داخلة تحت الحال ، ولذلك غاير بينها وبين ما قبلها من الجمل بحرف العطف ، وصيغة الفعل السَّابقين لها في قوله : « وكُنْتُم أَمْوَاتاً فأحْيَاكُمْ » .
و « الفاء » في قوله « فأحياكم » على بابها من التَّعقيب ، و « ثُمَّ » على بابها من التَّرَاخي؛ لأن المراد بالموت الأول العدم السابق ، وبالحَيَاة الأولى الأولى الخَلْق ، وبالموت الثاني المَوْتَ المعهود ، وبالحياة الثانية الحياة للبعث ، فجاءت الفاء ، و « ثم » على بابهما من « التَّعقيب » والتراخي على هذا التفسير ، وهو أحسن الأقوال .
ويعزى لابن عباس وابن مسعود ومجاهد ، والرجوع إلى الجزاء أيضاً متراخٍ عن البعث .
قال ابن عطية : وهذا القول هو المُرَاد بالآية ، وهو الذي لا مَحِيدَ للكفار عنه لإقرارهم بهما ، وإذا أذعنت نفوس الكُفّار لكونهم أمواتاً معدومين ، ثم الإحياء في الدنيا ، ثم الإماتة فيها قوي عليهم لزوم الإِحْيَاءِ الآخر ، وجاء جحدهم له دعوى لا حُجّة عليها ، والحياة التي تكون في القبر على هذا التأويل في حكم الدنيا .
وقيل : لم يعتدّ بها كما لم يعتد بموت من أَمَاتَهُ في الدنيا ، ثم أحياهُ في الدنيا .
وقيل : كنتم أمَواتاً في ظهر آدم ، ثم أخرجكم من ظهره كالذُّرِّ ، ثم يميتكم موت الدنيا ، ثم يبعثكم .
وقيل : كنتم أمواتاً -أي نُطَفاً- في أصلاب الرجال ، وأرحام النساء ، ثم نقلكم من الأرحام فأحياكم ، ثم يميتكم بعد هذه الحياة ، ثم يحييكم في القبر للمسألة ، ثم يميتكم في القبر ، ثم يحييكم حَيَاةَ النشر إلى الحَشْرِ وهي الحياة التي ليس بعدها موت .
قال القرطبي : فعلى هذا التأويل هي ثلاث مَوْتَات ، وثلاث إحْيَاءَات ، وكونهم موتى في ظهر ابن آدم ، وإخراجهم من ظهره والشهادة عليهم غير كونهم نطفاً في أصلاب الرجال ، وأرحام النساء ، فعلى هذا تجيء أربع موتات وأربع إحياءات .
وقد قيل : إن الله -تعالى- أوجدهم قبل خلق آدم -عليه الصَّلاة والسّلام- كالهَبَاءُ ، ثم أماتهم ، فيكون هذا على خمس موتات ، وخمس إحياءات ، وموتة سادسة للعُصَاة من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا دخلوا النَّار ، لحديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«
أما أهل النَّارِ الَّذِين هم أهلها فَإِنَّهُمْ لا يَمُوتُونَ فيها ولا يَحْيَون ، ولكن ناس أصابَتْهُمُ النَّارُ بذنوبهم -أو قال بِخَطَايَاهم- فأماتهم الله إماتَةً حتى إذا كانوا فَحْماً أذن في الشَّفاعة ، فجيء بهم ضَبَئر ضَبَئر ، فَبُثُّوا على أنهار الجَنَّة ثم قيل : يا أهل الجَنّة أفيضوا عليهم فينبتون نَبَات الحِبَّة تكون في حَمِيْل السّيل » الحديث .
قال : فقوله : « فأماتهم الله » حقيقة في الموت ، لأنه أكّده بالمصدر ، وذلك تكريماً لهم .
وقيل : يجوز أن يكون « أماتهم » عبارة عن تغييبهم عن آلامها بالنوم ، ولا يكون ذلك موتاً على الحقيقة ، والأول أصح ، وقد أجمع النحويون على أن الفعل إذا أكّد بالمصدر لم يكن مجازاً ، وإنما هو على الحقيقة ، كقوله : { وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً } [ النساء : 164 ] ، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
وقيل : المعنى : وكنتم أمواتاً بالخمول ، فأحياكم بأن ذكرتم ، وشرفتم بهذا الدين ، والنبي الذي جاءكم ، ثم يميتكم فيموت ذكركم ، ثم يحييكم للبعث .
فصل في أوجه ورود لفظ الموت
قال أبو العبَّاس المقرئ : ورد لفظ « الموت » على خمسة أوجه :
الأول : بمعنى « النُّطْفة » هذه الآية .
الثاني : بمعنى « الكفر » قال تعالى : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } [ الأنعام : 122 ] ومثله : { وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء وَلاَ الأموات } [ فاطر : 22 ] .
الثالث : بمعنى « الأرض التي لا نَبَات لها » ، قال تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا } [ يس : 33 ] .
الرابع : بمعنى « الضّم » قال تعالى : { والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ } [ النحل : 20 ، 21 ] .
الخامس : بمعنى « مفارقة الروح الجسد » .
فصل في أوجه ورود لفظ الحياة
الأول : بمعنى دخول الرُّوح في الجَسَدِ كهذه الآية .
الثاني : بمعنى « الإسلام » قال تعالى : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } [ الأنعام : 122 ] أي : هديناه إلى الإسلام .
الثالث : بمعنى « صفاء القلب » قال تعالى : { اعلموا أَنَّ الله يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } [ الحديد : 17 ] أي يصفي القلوب بعد سَوَاداها .
الرابع : بمعنى « الإنبات » قال تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا } [ يس : 33 ] أي : أنبتناها .
الخامس : بمعنى « حياة الأنفس » قال تعالى : { ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } [ الفجر : 24 ] .
السادس : بمعنى « العيش » قال تعالى : { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } [ النحل : 97 ] أي : لنرزقنّه عيشاً طيباً .
فصل في إثبات عذاب القبر
قال ابن الخطيب : احتج قوم بهذه الآية على بطلان عذاب القَبْرِ ، قالوا : ويؤيده قوله : { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ } [ المؤمنون : 15 ، 16 ] ولم يذكر حياةً فيما بين هاتين الحالتين ، قالوا : ولا يجوز الاستدلال بقوله تعالى : { قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين } [ غافر : 11 ] ؛ لأنه قول الكفار ، ولأنّ كثيراً من الناس أثبتوا حياة الذَّر في صُلب آدم حين استخرجهم وقال لهم : { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ } [ الأعراف : 32 ] وعلى هذا التقدير حصل حَيَاتان وموتتان من غير حَاجَةٍ غلى إثبات حَيَاةٍ في القبر ، فالجواب لم يلزم من عدم الفِكْرِ في هذه الآية ألا تكون حاصلة ، وأيضاً فللقائل أن يقول : إن الله -تعالى- ذكر حَيَاة القبر في هذه الآية؛ لأن قوله : « ثُمَّ يُحْيِيكُمْ » ليس هو الحياة الدائمة ، وإلا لما صح أن يقول : « ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُون » ؛ لأن كلمة « ثُمَّ » تقتضي التَّراخِي ، والرجوع إلى الله -تعالى- حاصل عقب الحَيَاةِ الدَّائمةِ من غير تَرَاخٍ ، فلو جعلنا الآية من هذا الوجه دليلاً على حياة القبر كان قريباً .
قوله : « ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُون » الضمير في « إليه » لله تعالى ، وهذا ظاهر؛ لأنه كالضمائر قبله ، وثَمَّ مضاف محذوف أي : إلى ثوابه وعقابه .
وقيل : على الجزاء على الأعمال .
وقيل : على المكان الذي يتولّى الله فيه الحكم بينكم .
وقيل : على الإحياء المدلول عليه ب « أحياكمط ، يعني : أنكم ترجعون إلى الحال الأولى التي كنتتم عليها في ابتداء الحياة الأولى من كونكم لا تملكون لأنفسكم شيئاً .
والجمهور على قراءة » تُرْجَعُون « مبنياً للمفعول .
وقرأ يحيى بن يعمر : وابن أبي إسحاق ، ومُجَاهد ، وابن مُحَيصن ، وسلام ، ويعقوب مبنياً للفاعل حيث جاء .
ووجه القراءتين أن » رجع « يكون قاصراً ومتعدياً فقراءة الجُمْهور من المتعدّي ، وهو أرجح؛ لأن أصلها » ثُمَّ إِلَيْهِ مرجعكم « لأن الإسناد في الأفعال السَّابقة لله تَعَالَى ، فناسب أن يكون هذا كله ، ولكنه بني للمفعول لأجل الفواصل والمقاطع .
و » أموات « جمع » ميِّت « وقياسه على فعائل كسيّد وسيائد ، والأولى أن يكون أن يكون » أموات « جمع » مَيْت « مخففاً ك » أقوال « في جمع » قول « ، وقد تقدمت هذه المادّة .
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
هذا هو النعمة الثانية اليت عمّت المكلفين بأسرهم .
«
هو » مبتدأ ، وهو ضمير موفوع منفصل للغائب المذكر ، والمشهور تخفيفُ واوه وفتحها ، وقد تشدد؛ كقوله : [ الطويل ]
343-
وَإِنَّ لِسَانِي شُهْدَةٌ يُشْتَفَى بِهَا ... وَهُوَ عَلَى مَنْ صَبَّهُ اللهُ عَلْقَمُ
وقد تسكن ، وقد تحذف كقوله : [ الطويل ]
344-
فَبَيْنَاهُ يَشْرِي رَحْلَهُ ..
والموصول بعده خبر عنه . و « لكم » متعلّق ب « خلق » ، ومعناها السَّببية ، أي : لأجلكم ، وقيل : للملك والإباحة ، فيكون تميكاً خاصاً بما ينتفع به .
وقيل : للاختصاص ، و « ما » موصولة ، و « في الأرض » صلتها ، وهي في محلّ نصب مفعول به ، و « جميعاً » حال من المفعول بمعنى « كلّ » ، ولا دلالة لها على الاجتماع في الزَّمَان ، وهذا هو الفَارِقُ بين قولك : جَاءُوا جميعاً و « جاءوا معاً » فإنّ « مع » تقتضى المُصَاحبة في الزمان ، بخلاف « جميع » قيل : وهي -هُنَا- حال مؤكدة ، لأن قوله : « مَا فِي الأَرْضِ » عام .
فصل في بيان أن الأصل في المنافع الإباحة
استدلّ الفُقَهَاء بهذه الآية على أنّ الأصل في المَنَافع الإباحة .
وقيل : إنها تدلُّ على حرمة أكل الطِّين ، لنه خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض ، وفيه نظر؛ لأن تخصيص الشيء بالذِّكر لا يدلّ على نفي الحكم عما عَدَاه ، وأيضاً فالمعادن داخلة في ذلك ، وكذلك عروق الأرض ، وما يجري مجرى البعض لها .
وقد تقدّم تفسير الخلق ، وتقديره الآية كأنه -سُبْحانه وتعالى- قال : كيف تكفرون بالله ، وكنتم أمواتاً فأحياكم؟ وكيف تكفرون بالله ، وقد خلق لكم ما في الأرض جميعاً؟
أو يقال : كيف تكفرون بقدرة الله على الإعادة ، وقد أحياكم بعج موتكم ، وقد خلق لكم كل ما في الأرض ، فكيف يعجز عن إعادتكم؟ .
قوله : « ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتَ » .
أصل « ثم » أن تقتضي تراخياً زمانياً ، ولا زمان هنا ، فقيل : إشارة إلى التراخي بين رُتْبَتَيْ خلق الأرض والسماء .
وقيل : لما كان بين خلق الأرض والسماء أعمال أُخَر من جعل الجِبَال والبَرَكة ، وتقدير الأقوات ، كما أشار إليه في الآية الأخرى عطف ب « ثم » ؛ إذ بين خلق الأرض والاستواء إلى السماء تراخ .
و « استوى » : معناه لغة : استقام واعتدل ، من استوى العُودُ .
وقيل : علا وارتفع؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
345-
فأَوْرَدْتُهُمْ مَاءً بِفَيْفَاءَ قَفْرَةٍ ... وَقَدْ حَلَّقَ النَّجْمُ اليَمَانِيُّ فَاسْتَوَى
وقال تعالى : { فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك } [ المؤمنون : 28 ] .
ومعناه هنا : قصد وعمل . وفاعل « اسْتَوَى » ضمير يعود على الله .
وقيل : يعود على الدُّخَان نقله ابن عطية .
وهو غلط لوجهين :
أحدهما : عدم ما يدلّ عليه .
والثاني : أنه يرده قوله تعالى : { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ } [ فصلت : 11 ] .
و « إلى » حرف انتهاء على بَابها .
وقيل : هي بمعنى « عَلَى » ؛ فتكون في المَعْنَى كقول الشاعر : [ الرجز ]
346-
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ ... مَنْ غَيْرِ سَيْفٍ ودَمٍ مُهْرَاقِ
ومثله قوله الآخر : [ الطويل ]
347-
فَلَمَّا َعَلَوْنَا وَاسْتَوَيْنَا عَلَيْهِمُ ... تَرَكْنَاهُمُ صَرْعَى لِنَسْرٍ وَكَاسِرِ
وقيل : ثَمَّ مضاف محذوفٌ ضميره هو الفاعل ، أي : استوى أمره ، و « إلَى السَّمَاءِ » متعلّق ب « اسْتَوَى » ، والضمير في « فَسَوَّاهُنّ » يعود على السَّمَاء ، إما لأنها جمع « سماوة » كما تقدم ، وإما لأنها اسم جنس يطلق على الجمع .
وقال الزمخشري : « هُنَّ » ضمير مبهم ، و « سَبْعَ سَمَاوَاتٍ » تفسيره ، كقولهم : رُبَّهُ رَجُلاً « ، وقد رد عليه بأنه ليس من [ المواضع التي يفسر فيها الضمير بما بعده؛ لأن النحويين حصروا ذلك في سبع مواضع ] :
ضمير الشأن ، والمجرور ب » رب « ، والمرفوع ب » نعم وبئس « ، وما جرى مجراهما ، وبأول المتنازعين ، والمفسر بخبره ، وبالمُبْدَل منه .
ثم قال هذا المعترض : إلا أن يتخيل فيه أن يكون » سَبْعَ سَمَاواتٍ « بدلاً ، وهو الذي يقتضيه تشبيهه ب » رُبُّهُ رَجَلاً « فإنه ضمير مبهم ليس عائداً على شيء قبله ، لكن هذا يضعف بكون التقدير يجعله غير مرتبطٍ بما قبله ارتباطاً كلياً ، فيكون أخبرنا بإخبارين :
أحدهما : أنه استوى إلى السماء .
والثاني : أنه سوى سبع سماوات .
وظاهر الكلام أن اذلي استوى إليه هو المستوي بعينه .
ومعنى تسويتهنّ : تعديل خلقهن ، وإخلاؤه من العِوَجِ ، والفُطُور وإتمام خَلْقهن .
قوله : » سَبْعَ سَمَواتٍ « في نصبه خمسة أوجه :
أحسنها : انه بدلٌ من الضمير في » فَسَوَّاهُنَّ « العائد على » السَّمَاءِ « كقولك ، أخوك مررت به زيد .
الثاني : أنه بدل من الضمير أيضاً ، ولكن هذا الضمير يفسره ما بعده ، وهذا يضعف بما ضعف به قول الزمخشري المتقدّم .
الثالث : أنه مفعول به ، والأصل ، فسوَّى منهن سَبْعَ سموات ، وشبهوه بقوله تعالى : { واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا } [ الأعراف : 155 ] أي : من قومه قاله أبو البقاء وغيره ، وهذا ضعيف لوجهين :
أحدهما : بالنسبة إلى اللفظ .
والثاني : بالنسبة إلى المعنى .
أما الأول فلأنه ليس من الأفعال المتعدية لاثنين .
أحدهما : بإسقاط الخافض؛ لأنها محصورة في » أمر « و » اختار « وأخواتها .
الثاني : أنه يقتضي أن يكون ثَمَّ سماوات كثيرة ، سوى من جملتها سبعاً ، وليس كذلك .
الرابع : أن » سوى « بمعنى » صَيَّر « فيتعدّى لاثنين ، فيكون » سَبْعَ « مفعولاً ثانياً ، وهذا لم يثبت أيضاً ، أعني جعل » سَوَّى « مثل » صَيَّرَ « .
فصل في هيئة السماوات السبع
اعلم أن القرآن -هاهنا- قد دلّ على سبع سماوات .
وقال أصحاب الهيئة : أقربها إلينا كرة القمر ، وفوقها كرة عطارد ، ثم كرة الزّهرة ، ثم كرة الشَّمس ، ثم كرة المرّيخ ، ثم كرة المشتري ، ثم كرة زُحَل ، قالوا : لن الكوكب الأسفل إذا مَرَّ بين أبصارنا ، وبين الكوكب الأعلى ، فإنهما يصيران ككوكب واحدٍ ، ويتميز السَّاتر عن المَسْتور بلونه الغَالب كَحُمْرَةِ المريخ ، وصُفْرَة عطارد ، وبَيَاض الزهرة ، وزُرْقَة المُشْتري ، وكدرة زُحَل ، وكلّ كوكب فإنه يكسف الكوكب الذي فوقه .
فصل في الاستدلال على سبق خلق السماوات وعلى الأرض
قال [ بعض المَلاَحدة ] : هذه الآية تدلّ على أن خلق الأرض قبل خلق السَّماء ، وكذا قوله : { أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ } [ فصلت : 9 ] إلى قوله تعالى : { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء } وقال في سورة « النازعات » : { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [ النازعات : 30 ] وهذا يقتضي أن يكون خلق الأرض بعد السماء ، وذكروا في الجواب وجوهاً :
أحدها : يجوز أن يكون خلق الأرض قبل السماء إلاّ أنه دَحَاهَا حتى خلق السماء؛ لأن التدحية هي البَسْط .
ولقائل أن يقول : هذا مُشْكل من وجهين :
الأول : ان الأرض جسم عظيم ، فامتنع انفكاك خلقها عن التَّدْحية ، وإذا كانت التَّدْحية متأخّرة عن خلق السماء كان خلقها لا مَحَالَة متأخراً عن خلق السماء .
الثاني : أن قوله : « خَلَقَ لَكُم الأَرْضَ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء » يدلّ على أن خلق الأرض ، وخلق كل ما فيها متقدم على خلق السماء ، وخلق هذه الأشياء في الأرض لا يمكن إِلاَّ إذا كانت مدحوةً ، فهذه الآية على كونها مدحوة قبل خلق السَّماء ، فيعود التَّنَاقض .
والجواب الثاني : أن قوله : { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [ النازعات : 30 ] يقتضي تقديم خلق السماء على الأرض ، ولا يقتضي أن تكون تسوية السماء مقدّمة على خَلْقِ الأرض ، وعلى هذا التَّقْدِير يزول التناقض .
ولقائل أن يقول : قوله : { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا } [ النازعات : 27- 28 ] يقتضي أن يكون خلق السماء ، وتسويتها مقدماً على تدحية الأرض ، ولكن تَدْحِيَةَ الأرض ملازمة لخلق ذات الأرض ، وحينئذ يعود السؤال .
والجواب الثالث وهو الصحيح أن قوله : « ثُمّ » ليس للترتيب هاهنا ، وإنما هو على جِهَةِ تعديد النعم ، على مثل قول الرَّجل لغيره : أليس قد أعطيتك النعم العظيمة ، ثم وقعت الخُصُوم عنك ، ولعلّ بعض ما أخره في الذكر قد تقدّم فكذا ها هنا ، والله أعلم .
فإن قيل : هل يَدُلّ التنصيص على سَبْعِ سموات على نَفْي العدد الزائد؟
قال ابن الخطيب : الحق أن تخصيص العدد بالذكر لا يَدُلُّ على نفي الزائد .
فصل في إثبات سبع أَرْضين
ورد في التنزيل أن السموات سبع ، ولم يأت في التنزيل أن الأرضين سبع إلاَّ قوله { وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ } [ الطلاق : 12 ] وهو محتمل للتأويل ، لكنه وردت في أحاديث كثيرة صحيحة تدلّ على أن الأرضين سبع كما روي في « الصحيحين » عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :
«
من ظَلَمَ قِيْد شِبْرٍ مِنَ الأرض طُوِّقَهُ من سبع أرضين » إلى غير ذلك .
وروى أبو الضحى -واسمه مسلم- عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال : « الله الذي خَلَقَ سبع سَمَاواتٍ ومن الأرضِ مِثْلَهُنَّ قال : سبع أرضين في كل أرض نَبِيّ كنبيكم ، وآدم كآدم ، ونوح كنوح ، وإبراهيم كإبراهيم وعِيسَى كعيسى » قال البيهقي : إسناد هذا عن ابن عَبَّاسٍ صحيح وهو شاذّ لا أعلم لأبي الضّحى عليه دليلاً .
و « السماء » تكون جمعاً ل « سماوة » في قول الأخفش ، و « سماءة » في قول الزّجاج ، وجمع الجمع « سَمَاوات » و « سماءات » ، فجاء « سِوَاهن » إما على أن « السّماء » جمع ، وإما على أنها مفرد اسم جنس ، وقد تقدّم الكلام على « السَّماء » في قوله : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء } [ البقرة : 19 ] .
قوله : { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } هو : مبتدأ ، و « عليم » خبره ، والجار قبله يتعلّق به .
واعلم انه يجوز تسكين هاء « هُو » و « هي » بَعْدَ « الواو » و « الفاء » و « لام » الابتداء و « ثُمّ » ؛ نحو : { فَهِيَ كالحجارة } [ البقرة : 74 ] { ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة } [ القصص : 61 ] { لَهُوَ الغني } [ الحج : 64 ] { لَهِيَ الحيوان } [ العنكبوت : 64 ] وقرأ بها الكسائي وقالون عن نافع ، تشبيهاً ل « هُو » ب « عَضُد » ول « هِي » ب « كَتِف » ، فكما يجوز تسكين عين « عَضُد » و « كَتِف » يجوز تسكين هاء « هُوَ » ، و « هِي » بعد الأحرف المذكورة؛ إجراءً للمنفصل مجرى المتّصل ، لكثرة دورها معها ، وقد تسكن بعد كاف الجر؛ كقوله : [ الطويل ]
348-
فَقُلْتُ لَهُمْ : مَا هُنَّ كَهِيَ فَكَيْفَ لِي ... سُلُوٌّ وَلاَ أَنْفَكُّ صَبًّا مُتَيَّمَا
وبعد همزة الاستفهام؛ كقوله : [ البسيط ]
349-
فَقُمْتُ للطَّيْفِ مُرتاعاً فَأَرَّقَنِي ... فَقُلْت : أَهِيَ سَرَتْ أمْ سَرَت أَمْ عَادِنِي حُلُمُ
وبعد « لكن » في قراءة ابن حَمْدُون : { لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي } [ الكهف : 38 ] وكذا في قوله : { يُمِلَّ هُوَ } [ البقرة : 282 ] . فإن قيل عليم « فعيل » من « علم » ، و « علم » متعدّ بنفسه ، فكيف تعدّى ب « الباء » ، وكان من حقه إذا تقدم مفعوله أن يتعدّى إيله بنفسه أو ب « اللام » المقوية ، وإذا تأخر أن يتعدى إيله بنفسه فقط؟
فالجواب : أن أمثلة المُبالغة خالفت أفعالها ، وأسماء فاعليها لمعنى وهو شبهها ب « أفعل » التفضيل بجامع ما فيها ن مَعْنَى المبالغة ، و « أفعل » التفضيل له حكم في التعدّي ، فأعطيت أمثلة المُبَالغة ذلك الحكم ، وهو أنها لا تَخْلُو من أن تكون من فعل متعدٍّ بنفسه أو لا .
فإن كان الأول فإما أن يفهم علماً أو جهلاً أو لا .
فإن كان الأول تعدت بالباء نحو : { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ } [ النجم : 32 ] { وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } [ الحديد : 6 ] و « زيد جهول بك » و « أنت أجهل به » وإن كان الثَّاني تعدّت ب « اللام » نحو : « أنا أضرب لزيد منك » و « أنا ضراب له ، ومنه : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107 ] ، وإن كانت من متعدٍّ بحرف جَرّ تعدّت هي بذلك الحرف نحو : » أنا أصبر على كذا « و » أنا صبور عليه « ، و » أزهد فيه منك « ، و » زهيد فيه « .
فصل في إثبات العلم لله سبحانه بخلقه
هذه الآية تدلّ على أنهلا يمكن أن يكون خالقاً للأرض وما فيها ، وللسماوات وما فيها من العَجَائب والغرائب إذى إذا كان عالماً بها محيطاً بجزئياتها وكلّياتها ، وذلك يدلّ على أمور :
أحدها : أن يفسد قول الفَلاَسفة الَّذين قالوا : إنه لا يعلم الجُزئيات ، ويدلّ على صحة قول المتكلمين فإنهم قالوا : إنه -تعالى- فاعل لهذه الأجسام على سبيل الإحكام والإِتْقَان ، وكل فاعل على هذا الوجه ، فإنه لا بد وأن يكون عالماً بما فعله كما ذكر في هذه الآية .
وثانيها : يدل على فساد قول المعتزلة ، وذلك لأنه -سبحانه وتعالى- بين أن الخالق للشَّيء على سبيل التقدير والتحديد ، ولا بد أن يكون عالماً به وبتفاصيله ، لأن خالقه قد خصّه بقدر دون قدر ، والتخصيص بقدر معين لا بُدّ وأن يكون بإرادة ، وإلا فقد حصل الرُّجْحَان من غير مرجّح ، والإرادة مشروطة بالعلم ، فثبت أن خالق الشَّيء لا بد وأن يكون عالماً به على سبيل التفصيل .
فلو كان العبد موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بها ، وبتفاصيلها في العَدَدِ والكميّة والكيفية ، فلمَّا لم يحصل هذا العلم علمنا أنه غير موجدٍ لأفعال نفسه .
وثالثها : قالت المعتزلة : إذا جمع بين هذه الآية وبين قوله : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [ يوسف : 76 ] ظهر أنه -تعالى- عالم بذاته .
والجَوَاب : قوله تعالى : » وَفَوْقَ كُلُّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ « عام ، وقوله : { أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } [ النساء : 166 ] خاصّ والخاص مقدّم على العام .
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
هذه الآية دالّة على كيفية تنظيم الله -تعالى- لآدم عليه الصَّلاة والسلام ، فيكون ذلك إنعاماً عامًّا على جميع بني آدم ، فيكون هذا هو النعمة الثالثة من تلك النعم العامّة التي أوردها .
«
إذ » ظرفُ زمانٍ ماض ، يخلص المضارع للمضي ، وبني لشبهة بالحَرْفِ في الوضع والافتقار ، وتليه الجُمَل مطلقاً .
قال المبرد : إذا جاء « إذ » مع المستقبل كان معناه ماضياً كقوله : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ } [ الأنفال : 30 ] يريد : إذ مكروا ، وإذا جاء مع الماضي كان معناه مستقبلاً كقوله : { وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } [ المائدة : 116 ] وقد يبقى على مُضِيِّهِ كهذه الآية .
وإذا كانت الجملة فعلية قبح تقديم الاسم ، وتأخير الفعل نحو : « إذ زيد قام » ، ولا يتصرّف إلا بإضافة الزمن إليه ، نحو : « يومئذ » ، ولا يكون مفعولاً به ، وإن قال به اكثر المعربين ، فإنهم يقدرون « ذكر وقت كذا » ، ولا ظرف مكان ، ولا زائداً ، ولا حرفاً للتعليل ، ولا للمفاجأة خلافاً لمن زعم ذلك .
وقد تحذف الجملة المضاف هو إليها للعلم ، ويعرض منها تنوين كقوله : { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } [ الواقعة : 84 ] وليس كَسْرَته -والحالةُ هذه- كسرة إعراب ، ولا تنوينه تنوينَ صرفٍ خلافاً للأخفش ، بل الكسر لالتقاء السَّاكنين ، والتنوين للعوض بدليل وجود الكسر ، ولا إضافة؛ قال الشاعر : [ الوافر ]
350-
نَهَيْتُكَ عَنْ طِلاَبِكَ أُمُّ عَمْرٍو ... بِعَاقِبَةٍ وَأَنْتَ إِذٍ صَحِيحُ
وللأخفش أن يقول : أصله : « وأنت حينئذ » فلما حذف المضاف بقي المُضَاف إليه على حاله ، ولم يقم مقامه نحو : { والله يُرِيدُ الآخرة } [ الأنفال : 67 ] بالجر ، إلا أنه ضعيف .
و « قَالَ رَبُّكَ » : جملة فعلية في محلّ خفض بإضافة الظرف إليها ، واعلم أنّ « إذ » فيه تسعة أوجه ، أحسنها أنه منصوب ب « قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا » أي : قالوا ذلك القول وضقْتَ قول الله عز وجل إني جاعل في الأرض خليفة ، وهذا أسهل الأوجه .
الثاني : أنه منصوب ب « اذكر » مقدراً ، وقد تقدم أنه لا يتصرّف ، فلا يقع مفعولاً .
الثالث : أنه منصوب ب « خلقكم » المتقدّم في قوله : { اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ } [ البقرة : 21 ] والواو زائدة . وهذا ليس بشيء لطول الفصل .
الرابع : أنه منصوب ب « قال » بعده ، وهذا فاسد؛ لأن المضاف إليه لا يعمل في المضاف .
الخامس : أنه زائد ، ويُعْزَى لأبي عبيدة .
السادس : أنه بمعنى « قد » .
السابع : أنه خبر لمبتدأ مَحْذوف تقديره : ابتداء خلقكم وَقْتَ قول ربك .
الثامن : أنه منصوب بفعل لائقٍ تقديره : ابتداء خلقكم وَقْتَ قوله ذلك .
وهذان ضعيفان ، لأن وقت ابتداء الخَلْقِ ليس وقت القول ، وايضاً لا يتصرف .
التاسع : أنه منصوب ب « أحياكم » مقدراً ، وهذا مردودٌ باختلاف الوقتين أيضاً .
و « للملائكة » متعلّق ب « قال » واللاَّم للتبليغ . و « ملائكة » جمع « مَلَك » ، واختلف في « ملك » على ستة أقوال ، وذلك أنهم اختلفوا في ميمه ، ها هي أصلية أو زائدة؟ والقائلون بأصالتها اختلفوا .
فقال بعضهم : « ملك » وزنه « فَعَلٌ » من المِلْك ، وشذّ جمعه على « فَعَائلة » ، فالشذوذ في جمعه فقط .
وقال بعضهم : بل أصله « مَلأْك » ، والهمزة فيه زائدة ك « شَمْأَل » ، ثم نقلت حركة الهمزة إلى « اللام » ، وحذفت الهمزة تخفيفاً ، والجمع جاء على أصل الزيادة ، فهذان قولان عند هؤلاء .
والقائلون بزيادتها اختلفوا أيضاً :
فمنهم من قال : هو مشتقٌّ من « أَلَكََ » أي : أرسل ، ففاؤه همزة ، وعينه لام؛ ويدلّ عليه قوله : [ المنسرح ]
351-
أَبْلِغْ أَبا دَخْتَنُوسَ مَألُكَةً ... عَنِ الَّذِي قَدْ يُقَالُ مِلْكَذِب
وقال الآخر : [ الرمل ]
352-
وَغُلاَمٍ أَرْسَلَتْهُ أُمُّهُ ... بِأَلُوكٍ فَبَذَلْنَا مَا سَأَلْ
وقال آخر : [ الرمل ]
353-
أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنِّي مَأْلَكاً ... أَنَّه قََدْ طَالَ حَبْسِي وَانْتِظَاري
فأصل ملك : ثم قلبت العين إلى موضع الفاء « ، و » الفاء « إلى موضع » العين « على وزن » مَفْعَلٍ « ثم نقلت حركة » الهمزة « إلى » اللام « ، وحذفت » الهمزة « تخفيفاً ، فيكون وزن ملك : » مَعَلاً « بحذف الفاء .
ومنهم من قال : هو مشتقّ من » لأك « أي : أرسل أيضاً ، ففاؤه لام ، وعينه همزة ، ثم نقلت حركة الهمزة ، وحذفت كما تقدّم ، ويدلّ على ذلك أنه قد نطق بهذا الأصل قال : [ الطويل ]
354-
فَلَسْتَ لإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لمَلأَكٍ ... تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ
ثم جاء الجمع على الأصل ، فردّت الهمزة على كلا القولين ، فوزن » ملائكة « على هذا القول » مَفَاعلة « ، وعلى القول الذي قبله » مَعَافِلَة « بالقَلْب .
وقيل : هو مشتقٌّ من : » لاَكَهُ -يَلُوكُه « إذا » أداره -يديره « ؛ لأن الملك يدير الرسالة في فِيهِ ، فأصل مَلْك : مَلُوك ، فنقلت حركة » الواو « إلى » اللام « الساكنة قبلها ، فتحرك حرف العلّة ، وانفتح ما قبله فقلب » ألفاً « ، فصار : ملاكاً مثل : » مقام « ، ثم حذفت الألف تخفيفاً ، فوزنه : » مفل « بحذف العين ، وأصل » ملائكة « : » ملاوكة « ، فقلبت » الواو همزة « ، ولكن شرط قلب الواو والياء همزة بعد ألف مفاعل أن تكون زائدة نحو : » عَجَائز « و » رَسَائل « ، على أنه قد جاء ذلك في الأصل قليلاً قالوا : » مَصَائب « و » مَنَائِر « ، وقرىء شاذَّا ، { مَعَايِشَ } [ الأعراف : 10 ] بالهمز ، فهذه خمسة أقوال .
السّادس : قال النضر بن شُمَيْلٍ : لا اشتقاق ل » الملك « عند العرب » والهاء « في » ملائكة « لتأنيث الجمع ، نحو : » صَلاَدمة « .
وقيل : للمُبَالغة ك « عَلاّمة » و « نسَّابة » ، وليس بشيء ، وقد تحذف هذه الهَاء شذوذاً؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
355-
أَبَا خَالِدٍ صَلَّتْ عَلَيْكَ المَلاَئِكُ ... فصل في ماهية الملائكة
اختلفوا في ماهيّة الملائكة ، وحقيقتهم ، والضابط فيه أن يقال : إن المَلاَئكة ذوات قائمة بنفسها ، وهي إما متحيّزة ، أو ليست بمتحيّزة ، فإن كانت متحيّزة فهاهنا أقوال :
أحدها : أنها أجسام لطيفة هَوَائية تقدر على التشكُّل بأشكال مختلفةٍ مسكنها السموات ، وهذا قول أكثر المسلمين .
الثاني : قول طوائف من عَبَدَةِ الأوثان : أن الملائكة هي هذه الكواكب الموصوفة بالإسْعَادِ ، والإِنْحَاسِن فَالْمُسْعِدَات منها ملائكة الرَّحمة ، والمنحسات منها مَلاَئكة العذاب .
الثالث : قول معظم المَجُوس ، والثنوية : وهو أن هذا العَالمَ مركّب من أصلين أزليين ، وهما النور والظّلمة ، وهُمَا في الحقيقة جَوْهَرَان شَفَّافان مُخْتَاران قادران ، متضادا النّفس والصورة ، مختلفا الفعل والتدبير ، فجوهر النُّور فاضل خيّر ، نفيّ طيّب الريح ، كريم النفس يسر ولا يضر ، وينفع ولا يمنع ، ويَحْيَا ولا يبلى ، وجوهر الظلمة على ضدّ ذلك .
ثم إنَّ جوهر النور لم يزل يولد الأولياء ، وهم الملائكة لا على سبيل التَّنَاكح ، بل على سبيل تولّد الحكمة من الحكيم ، والضوء من المضيء ، وجوهر الظلمة لم يزل يولد الأعداء ، وهم الشياطين على سبيل تولّد السَّفهِ من السفيه لا على سبيل التناكح .
القول الثاني : وهو أنها ذوات قائمة بأنفسها ، وليست بمتحيّزة ، ولا بأجسام . فهاهنا قولان :
الأول : قول طوائف من النَّصَارى ، وهو أن الملائكة في الحقيقة هي الأنفس النَّاطقة المفارقة لأبدانها على نَعْتِ الصفاء والخيرية ، وذلك لأن هذه النفوس المفارقة إن كانت صافيةً خالصة فهي الملائكة ، وإن كانت خبيثةً كَدِرَةً فهي الشياطين .
والثاني : قول الفَلاَسفة وهي أنها جَوَاهر قائمة بأنفسها وليست بمتحيّزة ألبتة ، وأنها بالماهية مخالفة لأنواع النفوس النَّاطقة البشرية ، وأنها أكملُ قوةً منها ، وأكثر علماً منها ، وأنها للنفوس البشرية جارية جرى الشَّمس بالنسبة إلى الأضواء ، ثم إنَّ هذه الجَوَاهر على قسمين : منها ما هي بالنسبة إلى أجْرَام الأَفْلاَك والكواكب كنفوسنا الناطقة بالنسبة إلى أبداننا ، ومنها ما هي لا هي عَلَى شَيْءٍ من تدبير الأفلاك ، بل هي مستغرقة في معرفة الله ، ومحبته ومشتغلة بطاعته ، وهذا القسم هُمُ الملائكة المُقَرَّبُون ، ونسبتهم إلى الملائكة الَّذين يدبرون السَّمَاوات ، كنسبة أولئك المدبرين إلى نفوسنا النَّاطقة ، فهذان القِسْمان قد اتفقت الفلاسفة على إثباتهما ، ومنهم من أثبت انواعاً أُخَرَ من الملائكة ، وهي الملائكة الأرضية المدبِّرة لأحوال هذا العالم السفليّ ، ثم إن المدبرات لهذا العَالَم إن كانت خيرةً فهم الملائكة ، وإن كانت شريرةً فهم الشياطين .
فصل في شرح كثرتهم
قال عليه الصلاة والسلام : « أطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أن تَئِطَّ ما فيها مَوْضِعَ قَدَمٍ إلا وفيه مَلَكٌ ساجدٌ ، أو راكع » .
[
وروي أن بني آدم عشر الجن ، والجن وبنو آدم عشر حيوانات البَرّ ، وهؤلاء كلهم عُشر حيونات البَرّ ، وهؤلاء كلّهم عشر حيوانات البَحْرِ ، وهؤلاء كلّهم عشر ملائكة الأرض الموكّلين بها ، وكلّ هؤلاء ملائكة سَمَاء الدنيا ، وكل هؤلاء عشر ملائكة السَّماءِ الثانية وعلى هذا الترتيب إلى ملائكة السّرادق الواحد من سُرَادقات العرش التي عددها ستمائة ألف ، طول كلّ سرادق وعرضه وسمكه إذا قوبلت به السَّمَاوات والأرضون وما فيها وما بينها ، فإنها كلها تكون شيئاً يسيراً وقدراً صغيراً ، وما من مقدار موضع قدم إلا وفيه مَلَكٌ ساجد ، أو راكع ] وقائم ، لهم زَجَلٌ بالتسبيح والتَّقديس ، ثم كلّ هؤلاء في مُقَابلة الملائكة الذين يَحُومُونَ حول العرش كالقَطْرَةِ في البحر ، ولا يعلم عَدَدَهُمْ إلا اللهُ تعالى ، ثم مع هؤلاء ملائكة اللَّوحِ الذين هم أشياع إسرافيل عليه السّلام ، والملائكة الذين هم جنود جبريل عليه السَّلام ، ولا يحصى أجناسهم ولا مدة أعمارهم ولا كيفية عبادتهم إلا الله تعالى ، على ما قال : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [ المدثر : 31 ] .
وروي في بعض كتب التَّذكير أنه -عليه الصلاة والسلام- حين عرج به رأى ملائكة في مَوْضِعٍ بمنزلة سوق بعضهم يمشي تُجَاهَ بعض ، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « إلَى أيْنَ يَذْهَبُونَ؟ » فقال جبريل عليه السَّلام : لا أَدْرِي إِلاّ أَنِّي أراهُمْ مذ خلقت ولا أرى واحداً منهم قد رأيته قبل ذلك ، ثم سأل واحداً منهم وقيل له : مذ كم خلقت؟ فقال : لا أدري غير أن الله -تعالى- يخلق كوكباً في كلّ أربعمائة ألف سنةٍ ، فخلق مثل ذلك الكوكب منذ خَلَقَنِي أربعمائة ألف مرة فسبحانه من إله ما أعظم قدرته وما أجلّ كماله .
فصل فيمن قيل له من الملائكة : « إني جاعل »
اختلفوا في المَلاَئكة الَّذين قال لهم : « إنِّي جاعلٌ لهم » كلّ الملائكة ، أو بعضهم؟ فروى الضَّحَّاك عن ابن عباس أنه سبحانه إنما قال هذا القول للملائكة الذين [ كانوا مُحَاربين ] مع « إبليس » ؛ لأن الله -تعالى- لما أسكن الجنّ الأرض ، فأفسدوا فيها ، وسفكوا الدّماء ، وقتل بعضهم بعضاً ، بعث الله « إبليس » في جُنْدٍ من الملائكة ، فقتلهم « إبليس » بعسكره حتى أخرجوهم من الأرض؛ وألْحَقُوهُمْ بِجَزَائِرِ البَحْر ، وشعوب الجِبَالِ ، وسَكَنُوا الأرض ، وخفّف الله عنهم العبادة ، وأعطى « إبليس » ملك الأرض ، وملك سماء الدنيا ، وخزانة الجنّة ، فكان يعبد الله تارة في الأرض ، وتارة في السماء ، وتارة في السماء ، وتارة في الجنة ، فاخذه العجب وقال في نفسه : ما أعطاني الله هذا المُلْكَ إلا لأني أكرم الملائكة عليه فقال تعالى لهم : « إنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً » .
وقال أكثر الصحابة والتابعين إنه قال ذلك لجماعة الملائكة من غير تخصيص ، لأن لفظ الملائكة يفيد العُمُوم .
فإن قيل : ما الفائدة في أن الله قال للملائكة : « إنِّي جَاعِلٌ في الارضِ خليفةً » مع أنه منزّه عن الحاجة إلى المَشُورة؟ .
فالجواب من وجهين :
الأوّل : أنه -تعالى- علم أنهم إذا اطَّلعُوا على ذلك السّر أوردوا عليه ذلك السُّؤال ، فكانت المَصْلَحَة تقتضي إحاطتهم بذلك الجَوَاب ، فعرّفهم هذه الواقعة لكي يوردوا ذلك السُّؤال ، ويسمعوا ذلك الجواب .
والثاني : أنه -تعالى- علم عباده المَشُورة .
قوله : « إنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً » هذه الجملة معمولُ القول ، فهي في محل نصب به ، وكسرت « إنَّ » هنا ، لوقوعها بعد القول المجرّد من معنى الظَّنِّ محكية به ، فإن كان بمعنى الظَّن جرى فيها وجهان : الفَتْح والكَسْر؛ وأنشدوا : [ الطويل ]
356-
إِذَا قُلْتَ إِنِّي آيبٌ أَهْلَ بَلْدَةٍ ... نَزَعْتُ بِهَا عَنْهُ الْوَلِيَّةَ بِالهَجْرِ
وكان ينبغي أن يفتح ليس إلاَّ؛ نظراً لمعنى الظن ، لكن قد يقال جاز الكسر مُرَاعاةً لصورة القول .
و « إن » على ثلاثة أقسام :
قسم يجب فيه كسرها ، وقسم يجب فيه فتحها ، وقسم يجوز فيه الوجهان .
والضابط الكُلّي في ذلك : أن كلَّ موضع سَدَّ مسدَّها المصدرُ ، وجب فيها فتحها؛ نحو : « بلغني انك قائمٌ » ، وكلَّ موضعٍ لم يَسُدَّ مسدَّهَا ، وجب فيه كَسْرُها؛ كوقوعها بعد القول ومبتدأةً وصلةً وحالاً ، وكلّ موضع جاز أن يسدّ مسدّها ، جاز الوجهان؛ كوقوعها بعد فاء الجزاء ، و « إذا » الفجائية .
و « جاعل » فيه قولان :
أحدهما : أنه بمعنى « خالق » فيكون « خليفة » مفعولاً به و « فِي الأَرضِ » فيه حينئذ قولان :
أحدهما : وهو الواضح -أنه متعلّق ب « جاعل » والثاني : أنه متعلّق بمحذوف؛ لأنه حال من النكرة بعده .
القول الثانيك أنه بمعنى « مُصَيِّر » ذكره الزَّمَخْشَرِي ، فيكون « خليفة » هو المفعول الأول ، و « في الأرض » هو الثَّاني قدم عليه ، ويتعلّق بمحذوف على ما تقرر .
والأرض قيل : إنها « مكة » ، روى ابن سابط عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « دُحِيَتِ الأَرْضُ من مَكَّةَ » ولذلك سميت « أم القرى » ، قال : وقبر نوح ، وهود ، وصالح ، وشعيب بين « زمزم » والمَقَام .
والظاهر أنّ الأرض في الآية جميع الأرض من المشرق والمغرب .
و « خليفة » يجوز أن يكون بمعنى « فاعل » أي : يخلفكم أو يخلف من كان قبله من الجنّ ، وهذا أصح ، لدخول تاء التأنيث عليه .
وقيل : بمعنى « مفعول » أي : يخلف كل جيل من تقدمه ، وليس دخول « التَّاء » حينئذ قياساً ، إلاَّ أن يقال : إن « خليفة » جرى مجرى الجَوَامِدِ ك « النَّطيحة » و « الذَّبيحة » . وإنما استغنى بذكره كما يستغنى بذكر أبي القَبِيلَةِ نحو : « مُضَر » و « رَبِيعَة » وقيل : المعنى على الجنس .
وقال « ابن الخطيب » : الخليفة : اسم يصلح للواحد والجمع كما يصلح للذكر والأنثى .
و « الخَلَفُ » -بالتحريك- من الصَّالحين ، وبتسكينها من الطَّالحين .
واختلفوا في أنه لِمَ سمّاه -أي : خليفة- على وجهين :
فروي عن « ابن عباس » أنه -تعالى- لما نفى الجنّ من الأرض ، وأسكنها آدم كان آدم -عليه الصلاة والسَّلام- خليفة لأولئك الجنّ الذين تقدّموه ، لأنه خلفهم .
والثاني : إنما سمَّاه الله خليفةً ، لأنه يخلف الله في الحكم بين خلقه ، ويروى عن ابن مسعود ، وابن عباس ، والسّدي وهذا الرأي متأكّد بقوله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق } [ ص : 26 ] . [ روى أبو ذر قال : قلت : يا رسول الله أنبياً كان آدم مرسلاً؟ قال : « نعم . . » الحديث ] .
فإن قيل : لمن كان رسولاً إلى ولده ، وكانوا أربعين ولداً في عشرين بطناً في كل بَطْنٍ ذكر وأنثى ، وتوالدوا حتى كثروا ، وأنزل عليهة تحريم الميتة والدَّم ولحم الخِنْزِير ، وعاش تسعمائة وثلاثين سنةً . ذكره أهل التوراة والله أعلم . [ وروي عن وهب بن منبه أنه عاش ألف سنة ] .
وقرئ : « خلِيقةً » بالقاف ، و « خليفة » منصوب ب « جاعل » كما تقدّم؛ لأنه اسم فاعل ، وأسم الفاعل يعمل عمل فعله مطلقاً إن كان فيه الألف واللام ، ويشترط الحال أو الاستقبال والاعتماد إذا لم يكونا فيه ، ويجوز إضافته تخفيفاً ما لم يفصل بينهما كهذه الآية .
فصلٌ في وجوب نصب خليفة للناس
هذه الآية دليلٌ على وجوب نصب إمام وخليفة يسمع له ويُطَاع ، لتجتمع به الكلمة ، وتنفذ به أحكام الخليفة ، ولا خلاف في وجوب ذلك بَيْنَ الأئمة إلاّ ما روي عن الأصَمّ ، وأتباعه أنها غير واجبةٍ في الدين -وأن الأمة متى أقاموا حججهم وجهادهم ، وتناصفوا فيما بينهم ، وبذلوا الحقّ من أنفسهم ، وقسموا الغَنَائم والفَيء والصدقات على أهلها ، وأقاموا الحُدُود على من وجبت عليه ، أجزأهم ذلك ، ولا يجب عليهم أن ينصبوا إماماً يتولّى ذلك ، وشروط الإمامة مذكورة في كتب الفِقْه .
وتناصفوا فيما بينهم ، وبذلوا الحقّ من أنفسهم ، وقسموا الغَنَائم والفَيْء والصدقات على أهلها ، وأقاموا الحُدُود على من وجبت عليه ، أجزأهم ذلك ، ولا يجب عليهم أن ينصبوا إماماً يتولّى ذلك ، وشروط الإمامة مذكورة في كتب الفِقْه .
قوله : « قَالُوا : أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا » قد تقدم أن « قالوا » عامل في « إِذْ قَالَ رَبُّكَ » ، وأنه المختار ، والهمزة في « أتجعل » للاستفهام على بابها ، وقال الزمخشري : « للتعجب » ، وقيل : للتقرير؛ كقوله : [ الوافر ]
357-
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايَا ... وَأَنْدَى الْعَالِمينَ بُطُونَ رَاحِ
وقال « أبو البَقَاءِ » للاسترشاد ، أي : أتجعل فيها من يفسد كمن كان قبل .
و « فيها » الأولى متعلّقة ب « تجعل » إن قيل : إنها بمعنى « الخَلْق » ، و « من يفسد » مفعول به .
وإن قيل : إنها بمعنى « التصيير » ، فيكون « فيها » مفعولاً ثانياً قدّم على الأول ، وهو « من يفسد » ، و « من » تحتمل أن تكون كموصولةً ، أو نكرة موصوفة ، فعلى الأول لا محلّ للجملة بعدها من الإعراب ، وعلى الثَّاني محلها النصب ، و « فيها » الثانية متعلّقة ب « يفسد » . و « يفسك » عطف على « يفسد » بالاعتبارين .
والجمهور على رَفْعِهِ ، وقرئ منصوباً على جواب الاتسفهام بعد « الواو » التي تقتضي الجمع بإضمار « أن » كقوله : [ الكامل ]
358-
أَتَبِيتُ رَيَّانَ الجُفُونِ مِنَ الكَرَى ... وَأَبِيتَ مِنْكَ بِلَيْلَةِ الْمَلْسُوعِ
وقال : « ابن عطية » : « منصوب بواو الصرف » وهذه عبارةُ الكوفيين ، ومعنى « واو الصرف » أن الفعل كان يقتضي إعراباً ، فصرفته « الواو » عنه إلى النصب .
والمشهور « يَسْفِكُُ » بكسر الفاء ، وقرئ بضمها أيضاً بضم حرف المُضَارعة من « أُسْفِكُ » .
وقرئ أيضاً مشدداً للتكثير . و « السَّفْك » : هو الصَّب ، ولا يستعمل إلاّ في الدم .
وقال ابن فارس والجوهري : « يستعمل أيضاً في الدمع » .
وقال « المَهْدَوِيّ » : ولا يستعمل السَّفك إلاّ في الدم ، وقد يستعمل في نَثْرِ الكلام ، يقال : سفك الكلام ، أي : نثره .
و « السَّفاك » : السفاح ، وهو القادر على الكلام .
و « الدِّمَاء » جمع « دَم » ولا يكون اسمٌ معربٌ على حرفين ، فلا بُدَّ له من ثالث محذوف هو لامه ، ويجوز أن تكون « واواً » وأن تكون « ياء » ؛ لقولهم في التثنية « دَمَوَان » و « دَمَيَان » ؛ قال الشاعر : [ الوافر ]
359-
فَلَوْ أَنَّا عَلَى حَجَرٍ ذُبِحْنَا ... جَرَى الدَّمَيَانِ بِالخَبَرِ الْيَقِينِ
وهل وزن دم : « فَعْل بسكون العين ، أو » فَعَل « بفتحها؟ قولان؛ وقد يُرَدُّ محْذُوفُهُ ، فيستعمل مقصوراً ك » عَصَا « ؛ وعليه قول الشاعر :
360-
كَأَطُومٍ فَقَدَتْ بُرْغُزَهَا ... أَعْقَبَتْهَا الغُبْسُ مِنْهُ عَدَمَا
غَفَلَتْ ثُمَّ أَتَتْ تَرْقُبُهُ فَإِذّا هِيَ بِعِظَامٍ وَدَمَا
»
الأَطُوم « : الناقة ، » وبرغزها « : ولدها ، و » الغُبْسُ « : الضباع .
وقد تشدّد ميمه؛ قال الشاعر : [ البسيط ]
461-
أَهانَ دَمَّكَ فَرْغاً بَعْدَ عِزَّتِهِ ... يَا عَمْرُو بَغْيُكَ إِصْرَاراً عَلَى الْحَسَدِ
وأصل الدَّمَاء : » الادِّمَاو « أو » الدِّمَاي « فقلب حرف العلّة همزة لوقوعه طرفاً بعد ألف زائدةٍ ، نحو : » كِسَاء « و » رِدَاء « .
فإن قيل : الملائكة لا يعلمون إلا بما عملوا ، ولا يسبقونه بالقول ، فكيف قالوا : » أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا « .
فالجواب : اختلف العلماء فيه ، فمنهم من قال : إنهم ذكروا ذلك عن ظَنّ قياساً على حالِ الجِنّ الذين كانوا في الأرض قبل آدم عليه الصَّلاة والسّلام ، قاله ابن عباس ، والكلبي وأحمد بن يحيى .
الثَّاني : أنهم عرفوا خلقة آدم ، وعرفوا أنه مركب من الأخلاط الأربعة فلا بد وأن يتولد منه المشهور بالغَضَبِ ، فيتولّد الفساد من الشَّهْوَةِ ، وسَفْكِ الدماء من الغضب .
ومنهم من قال : إنهم قالوا ذلك على يَقِيْنِ ، وهو مروي عن « ابن معود » وناس من الصحابة ، وذكروا وجودهاً :
أحدها : أنه - لما قال : « إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةٌ » قالوا : ربنا وما يكون ذلك الخليفة .
قال : يكون له ذرية يفسدون في الأرض ، ويتحاسدون ، ويقتل بعضهم بعضاً ، فعند ذلك قالوا : « أَتَجْعَلُ فِيْهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيْهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ » ؟
إما على طريق التَّعجُّب من استخلاف الله من يعصيه ، أو من عصيان الله من يستخلفه في أرضه ، وينعم عليه بذلك ، وإما على طريق الاستعظام والاستكبار للفعلين جميعاً الاستخلاف والعصيان .
وثانيها : أنه - تعالى - كان قد أعلم الملائكة أنه إذا كان في الأرض خلقٌ عظيم أفسدوا فيها ، وسفكوا الدماء .
وثالثها : قال ابن زَيْدٍ : لما خلق الله النَّار خافت الملائكة خوفاً شديداً ، فقالوا : ربنا لمن خلقت هذه النار؟ قال : لمن عَصَانِي من خلقي ، ولم يَكُنْ لله يومئذ خلقٌ سوى الملائكة ، ولم يكن في الأرض خلق ألبتة ، فلما قال : « إني جاعل في الأرض خليفةٌ » عرفوا أن المعصية تظهر منهم .
ورابعها : لما كتب القلم في اللوح [ المحفوظ ] ما هو كائن إلى يوم القيامة ، فلعلّهم طالعوا اللّوح ، فعرفوا ذلك .
وخامسها : إذا كان مَعْنَى الخليفة من يكون نائباً لله في الحكم والقضاء ، والاحتياج إلى الحاكم والقاضي إنما يكون عند التنازع ، والتَّظَالم ، فكان الإخبار عن وُجود الخليفة إخباراً عن وقوع الفساد والشَّرِّ بطريق الالتزام .
وسادسها : قال قتادة : كان الله أعلمهم أنه إذا جعل في الأرض خليفةً يفعل كذا وكذا ، قالوا : أتجعل فيها الَّذي علمناه أم غيره .
قوله : « ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ » الواو : للحال ، و « نحن نسبح » : جملة من مبتدأ وخبر في محلٍّ النصب على الحال .
و « بحمدك » : متعلّق بمحذوف؛ لأنه حالٌ أيضاً ، و « الباء » فيه للمصاحبة أي : نسبّح ملتبسين بحمدك ، نحو : جاء زيدٌ بثيابه . فهما حَالاَنِ مُتَدَاخِلان ، أي حال في حال .
وقيل : « الباء » للسببية فتتعلّق بالتسبيح ، قل « بن عطية » : ويحتمل ن يكون قولهم : « بحمدك » اعتراضً بين الكلامين ، كأنهم قلوا : ونحن نسبح ونقدس ، ثم اعترضا على جهة التسليم ، أي : وأنت المَحْمُودُ في بالهداية إلى ذلك وكأنه يحاول أنه تكون « الباء » فعلاً محذوفاً لائقاً بالمعنى تقديره : حصل لنا التسبيح والتقديس بسبب حمدك .
و « الحمد » هنا : مصدر مُضَاف لمفعوله ، وفاعله محذوف تقديره بحمدنا إيّاك ، وزعم بعضهم أنّ الفاعل مضمر فيه ، وهو غلط؛ لأنَّ المصدر اسم جامد لا يضمر فيه على أنه قد حكي الخِلاَف في المصدر الواقع موقع الفِعْل ، نحو : « شرياً زيداً » هل يتحمّل ضميرً أو لا وقد تقدم .
و « نُقَدِّسُ » عطف على « نُسَبِّحُ » فهو خير أيضاً عن « نحن » ، ومفعوله محذوف أي : نقدس أنفسنا وأفعالنا لك .
و « لك » متعلّق به ، أو ب « نسبح » ومعناها العلّة .
وقل : زائدة ، فإنَّ ما قبلها متعدٍّ بنفسه ، وهو ضعيف ، إذ لا تُزادَ « اللام » إلا مع تقديم المعمول ، أو يكون العامل فرعاً .
وقيل : هي مُعَدِّيَةٌ : نحو : « سجدت لله » .
وقيل : للبيان كهي في قولك : « سُقْياً لك » فعل هذا تتعلّق بمحذوف ، ويكون خبر مبتدأ مضمر أي : تقديساً لك .
وهذا التقدير أحسن من تقدير قولهم : أعني؛ لأنه أليق بالموضع . وأبعد من زعم أن جملة « ونحن نسبح » داخلة في حيز استفهام مقدر تقديره : وأنحن نسبح أم نتغير؟ واستحسنه ابن عطية مع القول بالاستفهام المحض في قولهم : « أتجعل » وهذا يأباه الجمهور ، أعني : حذف همزة الاستفهام من غير ذكر « أم » المعادلة وهو رأي « الأخفش » وجعل من ذلك قوله تعالى : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ } [ الشعراء : 22 ] أي : وأتلك نعمة .
وقول الآخر : [ الطويل ]
362-
طَرِبَتْ وَمَا شَوْقَاً إلى البِيضِ أَطْرَبُ ... وَلا لَعِباً مِنِّي وذُو الشَّيْبِ يَلِعًبُ
أي : وأذو الشيب؟
وقول الآخر : [ المنسرح ]
363-
أَفَرِحَ أَنْ أُزْرَأَ الكِرَامَ وَأَنّْ ... أُورَثَ ذَوْداً شَصَائِصاَ نَبَلا
أي : أأفرح؟ .
فأما مع « أم » جائز لدلالتها عليه؛ كقوله : [ الطويل ]
364-
لَعَمْرِكَ ما أدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِياً ... يِسَبْعٍ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانٍ
أي : أبسبع؟
و « التسبيح » : التنزيه والبَرَاءة ، وأصله من السَّبح وهو البعد ، ومنه السَّابح في الماء ، فمعنى « سبحان الله » أي : تنزيهاً له وبراءة عما لا يليق بجلاله ومنه : [ السريع ]
365-
أَقُولُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ ... سُبٍحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ
أي : تنزيهاً ، وهو مختص بالباري تَعَالى .
قال « الراغب » في قوله : سبحان من عَلْقَمَةَ الفاخر إن أصله : سُبْحَانَ علقمة ، على سبيل التهكُّم فزاد فيه « من » .
وقيل : تقديره : سبحان الله من أجل عَلْقَمَة ، فظاهر قوله أنه يجوز أن يقال لغير البَارِي على سبيل التهكُّم ، وفيه نظر .
و « التقديس » : التَّطهير ، ومنه الأرض المقدَّسَة ، وبيت المَقْدِس ، ورُوح القُدُس؛ وقال الشاعر : [ الطويل ]
366-
فَأَدْرَكْنَهُ يَأْخُذْنَ بِالسَّاقِ وَالنِّسَا ... كَمَا شَبْرَقَ الْوِلْدَانُ ثَوْبَ الْمُقَدِّسِ
أي : المُطَهِّر لهم .
وقال : « الزمخشري » : هو من قدس في الأرض : إذا ذهب فيها وأبعد ، فمعناه قريب من معنى « نسبّح » .
ثم اختلفوا على وجوع :
أحدها : نطهرك أي : نَصِفُكَ بما يليق بك من العلو والعزّة .
وثانيها : قول مجاهد : نطهر أفعالنا من ذنوبنا حتى تكون حالصةٌ لك .
ورابعها : نطهر قلوبنا عن الالتفات إلى غيرك حتى تصير مستغرقةً في أنوار معرفتك .
قالت المعتزلة : هذه الآية تدلّ على مذهبنا من وجوه :
أحدها : قولهم : « ونَحْنُ نُسَبِّحُ بحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ » أضافوا هذه الأفعال إلى أنفسهم ، فلو كانت أفعالاً لله - تعالى - لما حسن التمدُّح بذلك ، ولا فضل لذلك على سفك الدماء؛ إذ كل ذلك من فعل الله تعالى .
وثانيها : إذا كان لا فاحشة ، ولا ظُلْم ، ولا وجود إلاّ بصنعه وخلقه ومشيئته ، فكيف يصح التنزيه والتقديس؟
وثالثها : أن قوله : « أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ » يدلّ على مذهب العَدْلِ ، لأنه لو كان خالقاً للكفر لكان خلقهم لذلك الكفر ، فكان ينبغي أن يكون الجواب نعم خلقهم ليفسدوا وليقتلوا ، فلما لم يَرْضَ بهذا الجواب سقط هذا المذهب .
ورابعها : لو كان الفساد والقَتْلُ من فعل الله - تعالى - لكان ذلك جارياً مجرى أجسامهم ، وألوانهم ، وكما لا يصح التعجُّب من هذه الأشياء ، فكا من الفساد والقتل . والجواب : المُعَارضة بمسألة الداعي والعلم ، والله أعلم .
أصل « إنّي » : فاجتمع ثلاثة أمثال ، فحذفنا أحدها ، وهل هو « نون » الوقاية ، أو « النون » الوسطى؟
قولان : الصحيح الثاني ، وهذا شبيه بما تقدم في { إِنَّا مَعَكْمْ } [ البقرة : 14 ] وبابه ، والجملة في محل نَصْب بالقول .
و « أعلم » يجوز فيه أن يكون فعلاً مضارعاً ، وهو الظاهر ، و « ما » مفعول به ، وهي : إما نكرة موصوفة أو موصولة ، وعلى كل تقدير ، فالعائد محذوف لاستكماله الشروط : أي : تعلمونه .
وقال « المهدي ، ومكّيّ : وتبعهما » أبو البقاء « : إن » أعلم « اسم بمعنى » عالم « ؛ كقوله : [ الطويل ]
367-
لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وإنّي لأَوْجَلُ ... عَلَى أَيِّنَا تَعْدُو المَنِيَّةُ أَوَّلُ
ف » ما « يجوز فيها أن تكون في محلّ جر بالإضافة ، أو نصب ب » أعلم « ، ولم ينون » أعلم « لعدم انصرافه بإجماع النحاة .
واختلفوا في أفعل إذا سمي به وكان نكرة ، فسيبويه والخليل لا يصرفانه ، والأخفش يصرفه نحو : » هؤلاء حَوَاجّ بيت الله « .
وهذا مبني على أصلين ضعيفين :
أحدهما : جعل » أفعل « بمعنى » فاعل « من غير تفضيل .
والثاني : أن » أفعل « إذا كانت بمعنى اسم الفاعل علمت عمله ، والجمهور لا يثبتونها .
وقيل : » أعلم « على بابها من كونها للتفضيل ، والمفضل عليه محذوف ، أي : اعلم منكم ، و » ما « منصوبة بفعل محذوف دلّ عليه » أفعل « أي : علمت ما لا تعلمون ، ولا جائز أن ينصب ب » أفعل « التفضيل؛ لأنه أضعف من الصفة المشبّهة التي هي أضعف من اسم الفاعل الذي هو أضعف من الفِعْلِ في العمل ، وهذا يكون نظير ما أوّلوه من قول الشاعر : [ الطويل ]
368-
فَلَمْ أَرَ مِثْلَ الحَيِّ حَيَّاً مُصَبِّحاً ... وَلاَ مِثْلَنَا يَوْمَ الْتَقِيْنَا فَوَارِسَا
أَكَرَّ وأَحْمَى لِلْحَقِيقَةِ مِنْهُمُ ... وَأَضَرَبَ مِنَّا بالسُّيُوف القَوَانِسَا
ف « القَوَانِس » منصوب بفعل مقدر أي : ب « ضرب » لا ب « أضرب » ، وفي ادعاء مثل ذلك في الآية الكريمة بعد الحَذْفِ يتبيّن المفضل عليه ، والناصب ل « ما » .
فصل في بيان علام الجواب في الآية
اختلف علماء التأويل في هذا الجواب وهو قوله : « إِنَّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ » فقيل : إنه جواب لتعجّبهم ، كأنه قال : لا تتعجّبوا من أن فيهم من يفسد ، ويقتل ، فإني أعلم مع هذا أن فيهم صالحين ، ومتّقين ، وأنتم لا تعلمون .
وقيل : إنه جواب لغمّهم كأنه قال : لا تغتمّوا بسبب وجود المفسدين ، فإني أعلم أيضاً أن فيهم جمعاً من المتّقين ، ومن لو أقسم على لأبرّه . وقيل : إنه طلب الحكمة كأنه قال : إن مصلحتكم أن تعر فرا وجه الحكمة فيه على الإجمال دون التفصيل . بل ربما كان ذلك التفصيل مفسدة لكم .
وقال « ابن عباس » : كان « إبليس » - لعنة الله - قد أعجب ودخله الكِبَرُ لما جعله خازن السّماء ، وشرفه ، فاعتقد أن ذلك لمزيّةٍ له ، فاستحب الكفر والمعصية في جانب آدم - عليه الصلاة والسلام - وقالت الملائكة : « ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك » ، وهي لا تعلم أن في نفس إبليس خلاف ذلك ، فقال الله لهم : « إني أعلم ما لا تَعْلَمُونَ » ، وقيل : المعنى عام ، أي : أعلم ما لا تعلمون مما كان ، وما يكون ، وما هو كائن .
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)
اعلم أن الملائكة لما سألوا عن وجه الحكمة ، فأجابهم على سبيل الإجمال بقوله : « إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُون » .
أراد الله تعالى أن يزيدهم بياناً ، وأن يفصّل لهم ذاك المُجْمَل ، فبين تعالى لهم من فضل آدم - عليه الصلاة والسلام - ما لم يكن معلوماً لهم ، وذلك بأن علم آدم الأسماء كلها ، ثم عرضهم عليهم ليظهر بذلك كَمَال فَضْلِه ، وقُصُورهم عنه في العلم ، فيتأكّد ذلك الجواب الإجمالي بهذا الجواب التفصيلي .
فصل في إعراب الآية
قوله : « وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسمَاء » هذه الجملة يجوز ألاَّ يكون لها مَحَلّ من الإعراب ، لاستئنافها ، وأن يكون محلها الجر ، لعطفها على « قَالَ رَبُّكَ » .
و « علم » متعدّية إلى اثنين ، وكانت قبل التضعيف متعديةً لواحد؛ لأنها عرفانية ، فتعدّت بالتضعيف لآخر ، وفرقوا بين « علم » العِرْفَانية واليَقِينيّة في التعدية ، فإن أرادوا أن يعدوا اليقينية عدوها بالهمزة ذكر ذلك « أبو علي الشّلوبين » .
وفاعل « علم » يعود على الباري تَعَالى ، و « آدم » مفعوله .
وآدم - عليه الصلاة والسلام - كُنيته أبو البَشَر ، وقيل : أبو محمد ذكره السُّهيلي ، وقيل : كنيته في الأرض أبو البشر ، وكنيته في الجنة أبو محمد .
وأصله بهمزتين ، لأنه « أفعل » إلا أنهم لَيَّنُوا الثانية ، فإذا احتجت إلى تحريكها جعلتها « واواً » فقلت : « أوادم » في الجمع؛ لأنه ليس لها أصل في الياء معروف ، فجعلت الغالب عليها الواو ، عن « الأخفش » .
وفي « آدم » ستة أقوال : أرجحها أنه اسم أعجمي لا اشتقاق فيه ، ووزنه « فَاعَلَ » كَنَظَائره نحو : « آزر » و « شالخ » ، وإنّما مُنعَ من الصَّرف للعلمية والعُجْمة الشخصية .
والثاني : أنه مشتقٌّ من « الأُدْمَةِ » ، وهي حُمْرَةٌ تميل إلى السَّوَاد ، واختلفوا في الأُدْمَةِ ، فزعم « الضَّحاك » أنها السُّمرة ، وزعم « النَّضْر » أنها البياض ، وأن آدم - عليه الصلاة والسلام - كان أبيض ، مأخوذ من قولهم : ناقة أَدْمَاء ، إذا كانت بيضاء ، وعلى هذا الاشتقاق جمعه « أَدْمٌ » و « أَوَادِمُ » ك « حُمَرٍ : و » أَحَامِرَ « ، ولا ينصرف بوجه .
الثالث : أنه مشتقٌ من أديم الأرض ، وهو وجهها . ومنع من الصَّرف على هَذَيْنِ القولين للوزن والعلميّة .
الرابع : أنه مشتقٌ من أَدِيم أيضاً على هذا الوزن أعني وزن فاعل ، وهذا خطأ ، لأنه كان يبنغي أن ينصرف ، لأن كونه مشتقٌّ من الأُدْمَة ، وهو أديم الأرض جمعه » آدَمُون « فيلزم قاشلو هذه المقالة صرفه .
الخامس : أنه عِبْرِيّ من الإدام ، وهو التراب .
السّادس : قال » الطبري « : إنه في الأصل فعل رباعي مثل : » أكرم « ، وسمي به لغرض إظهار الشيء حتى تعرف جِهَته .
والحاصل أن ادّعاء الاشتقاق فيه بعيد؛ لأن الأسماء الأعجمية لا يَدْخُلُهَا اشتقاق ولا تصريف .
و « آدم » وإن كان مفعولاً لفظاً فهو فاعل معنى ، و « الأسماء » مفعول ثانٍ ، والمسألة من باب « أعطى وكَسَا » ، وله أحكام تأتي إن شاء الله تعالى .
وقرئ : « عُلَِمَ » مبنياً للمفعول و « آدمُ » رفع لقيامه مقام الفاعل . و « كُلَّهَا » تأكيد للأسماء تابع أبداً ، وقد يلي العوامل كما تقدّم .
وقوله : « الأَسْمَاءَ كُلَّهَا » الظاهر أنه لا يحتاج إلى ادِّعَاء حذف؛ لأن المعنى : وعلم آدم الأسماء ، ولم يبين لنا أسماء مخصوصة ، بل دلّ قوله : « كلها » على الشُّمول ، والحكمة حاصلة بتعلُّم الأسماء ، وإن لم يعلم مسمياتها ، أو يكون أطلق الأسماء ، وأراد المسميات ، فَعَلَى هذين الوجهين لا حَذْفَ .
وقيل : ى بُدّ من حذف ، واختلفوا فيه ، فقيل : تقديره : أسماء المسميات ، فحذف المُضاف إليه للعلم .
قال الزمخشري : وعوض منه « اللام » ، كقوله تعالى : { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 4 ] ورجّح هذا القول بقوله : « أَنْبِئُونِي بأَسْمَاءِ هَؤلاَءِ » ، « فَلَمَا أَنْبَأَهَمْ بَأَسْمَائِهِمْ » ولم يقل : « أَنْبِئُونِي بِهَؤُلاَءِ » ، « فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِهِمْ » ولكن في قوله « وعوض منه اللام » نظر؛ لأن الألف واللام لا تقوم مَقَامَ الإضافة عند البصريين . وقيل : تقديره : مسميات الأسماء ، فحذف المُضاف ، وأقيم المُضَاف إليه مقامه ، ورجح هذا القول بقوله : « ثُمَ عَرَضَهُمْ » لأن الأسماء لا تجمع كذلك ، فدلّ عوده على المسميات ، ونحو هذه الآية قوله تعالى : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ } [ النور : 40 ] .
تقديره : أو كَذِي ظُلُمَاتٍ ، فالهاء في « يغشاه » على « ذي » المحذوف .
فصل في المراد بالأسماء في الآية
اختلف أهل التأويل في معنى الأسماء التي علّمها لآدم - عليه الصلاة والسلام - فقال ابن عباس ، وعكرمه ، وقتادة ، ومجاهد ، وابن جبير : علمه أسماء جميع الأشياء كلّها جليلها وحقيرها .
وروى عاصم بن كليب عن سعد مولى الحَسَنِ بن علي قال : « كنت جالساً عند ابن عباس ، فكروا اسْمَ الآنِيَةِ وَاسْمَ السّوط ، قال ابن عباس : وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا » .
وروي عن ابن عبَّاس ، ومجاهد ، وقتادة : « علمه أسماء كلّ شيء حتى القصْعَة والقصيعة وحتى الجَفنة والمِخْلب » وعن قتادة قال : علم آدم من الأسماء أسماء خلقه ما لم تعلم المَلائكة ، وسمى كل شيء باسمه ، وأنحى منفعة كل شيء إلى جنسه .
قال النَّحَّاس : « وهذا أحسن ما روي » .
وقال الطبري « علمه أسماء الملائكة وذريّته » واختار هذا ، ورجّحه بقوله : « ثم عرضهم » .
وقال القتيبي « أسماء ما خلق في الأرض » .
وقيل : أسماء الأجناس والأنواع .
وقال الربيع بن أنس : « أسماء الملائكة » .
وقيل : أسماء ذريّته .
وقيل : أسماء ما كان وما يكون إلى يوم القيامة .
وقيل : صنعة كلّ شيء .
وقال أصحاب التأويل : إن الله - عزّ وَجَلّ - علم آدم جميع اللُّغات ، ثم تكلم كل واحد من أولاده بلغة فتفرقوا في البلاد ، واختص كل فرقة منهم بِلُغةٍ .
فصل في بيان أن اللغات توقيفية أو اصطلاحية؟
قال « الأشعري » و « الجبائي » و « الكعبي » : اللُّغات كلها توفيقيةٌ ، بمعنى أن الله تعالى خلق علماً ضرورياً بتلك الألفاظ ، وتلك المعاني ، وبأن تلك الألفاظ موضوعةٌ لتلك المعاني : لقوله تعالى : « وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا » .
وقال « أبو هاشم » : إنه لا بد من تقدم لغة اصطلاحية ، وأن الوضع لا بد وأن يكون مسبوقاً على الاصطلاح ، واحتج بأمور :
أحدها : أنه لو حصل العلم الضروري بأنه - تعالى - وضع ذلك اللَّفظ لذلك المَعْنَى لصارت صفةُ الله معلومةً بالضرورة ، مع أن ذاته معلومة بالاستدلال ، وذلك مُحَال ، ولا جائز أن يحصل لغير العاقل ، لأنه يبعد في العقول أن يحصل العلم بهذه اللُّغَات مع ما فيها من الحكم العجيبة لغير العاقل ، فالقول بالتوقيف فاسد .
وثانيعا : أنه - تعالى - خاطب الملائكة ، وذلك يوجب تقدُّم لغة على ذلك التكلم .
وثالثها : أن قوله : « وَعَلَّم آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا » يقتضي إضافة التعليم إلى الأسماء ، وذلك يقتضي في تلك الأسماء أنها كانت أسماء قبل ذلك التَّعليم ، وإذا كان كذلك كانت اللُّغات حاصلةٌ قبل ذلك التعليم .
ورابعها : أن آدم - عليه الصَّلاة والسلام - لما تَحَدَّى الملائكة بعلم الأسماء ، فلا بد وأن تعلم الملائكة كونه صادقاً في تعيين تلك الأسماء لتلك المسميات على ذلك التعليم .
فصل في بيان هل كان آدم نبياً قبل المعصية؟
قالت المعتزلة : إن علم آدم الأسماء معجزة دالّة على نبوّته - عليه الصلاة والسلام - والأقرب أنه كان مبعوثاً إلى حَوّاء ، ولا يبعد أيضاً أن يكون إلى من توجّه التحدي إليهم من الملائكة؛ لأن جميعهم وإن كانوا رسلاً فقد يجوز الإرْسَال إلى الرسول ، كبعثة إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - إلى لُوطٍ - عليه الصلاة والسّلام - واحتجوا بأن حصول ذلك العلم له ناقصٌ للعادة ، فوجب أن يكون معجزاً ، وإذا ثبت كونه معجزاً ثبت كونه رسولاً في ذلك الوقت .
ولقائل أن يقول : لا نسلم أن ذلك العلم ناقص للعادة؛ لأن حصول العلم باللُّغة لمن علمه الله ، وعدم حصوله لمن لم يعلمه ليس بناقصٍ للعادة .
وأيضاً فإما أن يقال : الملائكة علموا كون تلك الأسماء موضوعةً لتلك المسميات ، فحينئذ تحصل المُعَارضة ، ولا تظهر المزية ، وإن لم يعلموا ذلك ، فكيف عرفوا أن آدم أصاب فيما ذكر من كون كلّ واحد من تلك الألفاظ اسماً لكل واحد من تلك المعاني؟ واعلم أنه يمكن دفع هذا السُّؤال من وجهين :
الأول : ربّما كان لكل صِنْفٍ من أصناف الملائكة لغة من هذه اللغات ، وكان كل صنف جاهلاً بلغة الصنف الآخر ، ثم إن جميع أصناف الملائكة حضروا وإن آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما عَدّ عليهم جميع تلك اللُغات بأسرها عرف كل صنف إصابته في تلك اللُّغة خاصّة ، فعرفوا بهذه الطريق صدقة إلاَّ انهم بأسرهم عجزوا عن معرفة تلك اللغات بأسرها ، فكان ذلك معجزاً .
الثَّاني : لا يمتنع أن يقال : إنه - تعالى - عرفهم قبل ذلك أنهم إذا سمعوا من آدم - عليه الصلاة والسَّلام- أظهر فعلاً خارقاً للعادة ، فَلِمَ لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات أو من باب الإرهاص؟ وهما عندنا جائزان .
واحتج من قطع بأنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - ما كان نبياً في ذلك الوَقْتِ بوجوه :
أحدها : أنه لو كان نبياً في ذلك الزمان لكان قد صدرت منه المعصية بعد النبوة ، وذلك غير جائز .
وثانيها : لو كان رسولاً في ذلك الوقت لكان إما أن يكون مبعوثاً إلى أحد ، أو لا يكون مبعوثاً إلى أحد ، وإما أن يكون مبعوثاً إلى الملائكة والإنس والجن ، والأوَّل باطل ، لأن الملائكة عند المعتزلة أفضل من البشر ، ولا يجوز جعل الأدون رسولاً إلى الأشرف؛ لأن الرسول متبوع ، والأمّة تبع ، وجعل الأدون متبوع الأشرف خلاف الأصل ، وأيضا فالمرء إلى قبول القول ممن هو من جنسه أمكن ، ولهذا قال الله تعالى : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً } [ الأنعام : 9 ] ولا جائز أن يكون مبعوثاً إلى البشر ، لأنه ما كان هناك أحد من البشر إلا حَوّاء ، وحواء ما عرفت التكليف إلا بواسطة آدم لقوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة } [ البقرة : 35 ] شافههما بهذا التكليف ، وما جعل آدم واسطة ، ولا جائز أن يكون مبعوثاً إلى الجن؛ لأنه ما كان في السماء أحد من الجنّ ، ولا جائز أيضاً أن يكون مبعوثاً إلى أحد ، لأن المقصود من جعله رسولاً التبليغ ، فحيث لا مبلغ لم يكن في جعله رسولاً فائدة .
وثالثها : قوله تعالى : { ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ } [ طه : 122 ] دليل على أنه إنما اجتباه ربه بعد الزّلة ، فوجب أن يكون قبل الزِّلة غير مجتبي ، وإذا لم يكن ذلك الوقت مجتبي وجب ألا يكون رسولاً؛ لأن الاجتباء والرسالة مُتَلاَزمان ، لأن الاجتباء لا مَعْنَى له إلاّ التخصيص بأنواع التشريفات ، وكل من جعله الله رسولاً ، فقد خصّه بذلك لقوله تعالى : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] .
قوله : « ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلاَئِكَةِ » .
«
ثم » : حرف للتَّرَاخي كما تقدّم ، والضَّمير في « عَرَضَهُمْ » للمسميات المقدّرة ، أو لإطلاق الأسماء وإرادة المسميات ، كما تقدم .

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدجال يستغل ازمات الناس من الجوع ونقص الطعام والمياه في دعوتهم الباطلة لعبادتهم إياه والايمان به

  بياناته الشخصية     المسيح الدجال ليس خوارق إنما هو دجل وكذب قلت المدون ان الأ أزمة الاقتصادية الحادثة الان في كل دول العالم والمجاعة المت...