حمل المصحف وورد وبي دي اف.

 حمل المصحف وورد وPDF.
القرآن الكريم وورد word doc icon||| تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

الجمعة، 23 سبتمبر 2022

ج35. وج36. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

 

ج35. وج36. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

 

ج35. وج36. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

اولا

ج35 كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
قوله : { خُذِ العفو } .
قال عبدُ الله بنُ الزُّبير : أمر اللَّهُ نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم بأخذ العفو من أخلاق النَّاسِ .
قال مجاهدٌ : يعني خذ العفو من أخلاق النَّاسِ وأعمالهم من غير تَجَسُّسِ وذلك مثل قبول الاعتذار ، والعفو المتساهل ، وترك البَحْثِ عن الأشياء ونحو ذلك . روي أنَّهُ لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل : « ما هذا؟ قال : لا أدْرِي حتى أسْألَ ثم رجع فقال : » إنَّ اللَّهَ يأمر أنَّ تصلَ مَنْ قطعك ، وتُعْطي مَنْ حَرَمكَ ، وتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمكَ «
قال العلماءُ : تفسيرُ جبريل - عليه الصَّلاةُ والسَّلام - مطابق للفظ الآية؛ لأنَّك إن وصلت من قطعك فقد عفوت عنه ، وإن أعطيت من حرمك فقد أتيت بالمعروف ، وإذا عفوت عمَّن ظلمك فقد أعرضت عن الجاهلين .
وقال ابنُ عباَّسٍ ، والسدُّ ، والضحاك ، والكلبيُّ : والمعنى خُذ ما عفا لك من أموالهم وهو الفضل من العيال ، وذلك معنى قوله : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو } [ البقرة : 219 ] ثم نسخت هذه الآية بالصَّدقات المفروضات .
قوله : { وَأْمُرْ بالعرف } ، أي : بالمعروف ، وهو كلُّ ما يعرفه الشَّرع ، وقال عطاءٌ : { وَأْمُرْ بالعرف } بلا إله إلا الله وأعرض عن الجاهلين » يعني أبا جهل وأصحابه ، نسختها آية السَّيْفِ ، وقيل : إذا تسفه عليك الجاهل ، فلا تقابله بالسَّفهِ كقوله : { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [ الفرقان : 63 ] .
قال جعفرُ الصَّادق : ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاقِ من هذه الآية .
فصل
اعلم أنَّ تَخْصِيصَهُمْ قوله : « خُذِ العَفْوَ » بما ذكروه من أخذ الفضل تقييد للمطلق من غير دليل ، وأيضاً إذا حملناه على أداء الزَّكَاةِ كالمقادير المخصوصة مُنافياً لذلك؛ لأنَّ أخذ الزكاة مأمور بأن لا يأخذ كرائم الأموال ولا يشدد الأمر على المزكي ، فلم يك إيجاب الزَّكاةِ ناسخاً لهذه الآية .
وأمَّا قوله : { وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين } فالمقصودُ منه أمر الرَّسُول بأن يصبر على سوء أخلاقهم ، وأن لا يقابل أقوالهم الركيكة وأفعالهم الخسيسة بأمثالها وليس فيه دلالة على المنع من القتالِ؛ لأنَّهُ لا يمتنع أن يؤمؤ عليه الصَّلاة والسَّلام بالإعراض عن الجاهلين مع الأمر بقتال المشركين فإنَّهُ لا تناقض بأن يقول الشَّارعُ لا تُقابلْ سفاهتهم بمثلها ولكن قاتلهم ، وإذا أمكن الجمع بين الأمرين؛ فلا حاجة إلى التزامِ النَّسْخٍ .
قوله تعالى : { وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ } الآية .
قال : عبدُ الرحم بن زيد : لما نزل قوله : « خُذِ العَفْوَ » الآية : قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم « كيف يا رب بالغضب؟ »
فنزل قوله : { وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ } الآية والنَّزْغُ : أدنى حركة تكونُ ، قاله الزَّجَّاجُ ، ومن الشَّيطان أدنى وسوسة وقال عبد الرحمن بن زيد لما نزلت : قوله وأكثر ما يُسْند للشيطان؛ لأنه أسرعُ في ذلك وقيل النَّزْغُ الدخول في أمر لإفساده .
وقال الزمخشري : والنَّزغُ والنِّسْغُ : الغَرْزُ والنَّخْسُ ، وجعل النزغ نازغاً كما قيل « جَدَّ جَدُّه » يعني : قصد بذلك المبالغة .
وقيل : النَّزغ : الإزعاج ، وأكثرُ ما يكون عند الغضب وأصله الانزعاج بالحركة إلى الشَّرِّ ، وتقريره : أنَّ الآمر بالمعروف إذا أمر بما يهيج السفيه ويظهر السَّفاهة فعند ذلك أمره اللَّه بالسكوت عن مقابلته فقال : { وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين } ثُمَّ أمره الله تعالى بما يجري مجرى العلاجِ بهذا المرض إن حدث فقال : فاستَعِذْ باللَّهِ « وهذا الخطابُ وإن كان للرَّسُول إلاَّ أنه عام لَجميع المكلفين . وقد تقدَّم الكلامُ في الاستعاذة؛ وقوله : { إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يدلُّ على أنَّ الاستعاذة باللِّسانِ لا تفيدُ إلاَّ إذا حضر في القلب العلم بمعنى الاستعاذة ، فكأنَّه تعالى يقول : اذكر لفظ الاستعاذة بلسانك ، فإني سميع ، واستحضر معنى الاستعاذة بقلبك ، وعقلك فإني عليمٌ بما في ضميرك .
قوله تعالى : { إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ } الآية .
بيَّن تعالى في هذه الآية أنَّ حال المُتَّقينَ يزيدُعلى حال الرسُول في هذا الباب؛ لأنَّ الرسول لا يحصل له من الشَّيطان إلاَّ النزغ الذي هو كالابتداءِ في الوسوسةِ ، وجوز على المتقين ما يزيدُ عليه وهو أن يمسهم طائف من الشيطانِ .
قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، والكسائيُّ : طَيْفٌ ، والباقون طائفٌ بزنة فاعل .
فأما طَيْفٌ ففيه ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أنَّهُ مصدر من : طَافَ يَطِيفُ ك » بَاعَ يَبِيعُ وأنشد أبو عبيدة : [ الكامل ]
2660 - أنَّى ألمَّ بِكَ الخيالُ يَطِيفُ ... ومطَافُهُ لَكَ ذُكْرَةٌ وشُغُوفُ
والثاني : أنَّهُ مُخففٌ من فَيْعِل والأصل : طَيِّف بتشديد الياءِ فحذف عين الكلمة ، كقولهم في : مَيِّت مَيْت ، وفي : لَيِّن لَيْن ، وفي : هَيِّن هَيْن .
ثم « طَيِّف » الذي هو الأصل يَحْتَمِل أن يكون من : طافَ يطيف ، أو من : طَافَ يَطُوفُ والأصل : طَيْوِف فقلب وأدغم .
وهذا قول ابن الأنباري ويشهد لقول ابن الأنباري قراءةُ سعيد بن جبير طيف بتشديد الياء .
والثالث : أنَّ أصله طَوْف من طاف يَطُوفُ ، فقلبت الواو ياءً .
قال أبُو البقاءِ قلبت الواو ياءً وإن كانت ساكنة كما قلبت في أيْد وهو بعيدٌ .
قال شهابُ الدينِ : وقد قالُوا أيضاً في : حَوْل حَيْل ، ولكن هذا من الشُّذُوذِ بحيث لا يقاس عليه .
وقوله : وإن كانت ساكنة ليس هذا مقتضياً لمنع قلبها ياء ، بل كان ينبغي أن يقال : وإن كان ما قبلها غير مكسورٍ . وأمَّا طائفٌ فاسمُ فاعل يحتمل أن يكون من : طاف يطُوف ، فيكون ك : قائم وقائلٍ . وأن يكون من : طاف يطيفُ ، فيكون ك : بَائعٍ ومائل وزعم بعضهم أنَّ : طَيْفاً وطَائِفاً بمعنى واحد ويُعْزَى للفرَّاءِ ، فيحتمل أن يَرُدَّ طائفاً ل : طَيْف فيجعلهما مصدرين ، وقد جاء فاعل مصدراً ، كقولهم : أقائماً وقد قعد النَّاسُ ، وأن يَرُدَّ طَيْفاً ل : طائف أي : فيجعله وصْفاً على فَعْل .
وقال الفارسي : الطَّيْف كالخَطْرة ، والطَّائف كالخَاطر ففرَّق بينهما ، وقال الكسائيُّ الطَّيف : اللَّمَم ، والطَّائف : ما طاف حول الإنسان .
قال ابنُ عطيَّة : وكيف هذا؛ وقد قال الأعشى : [ الطويل ]
2661 - وتُصْبِحُ مِنْ غِبِّ السُّرَى وكأنَّهَا ... ألمَّ بهَا من طائِفِ الجِنِّ أوْلَقُ
ولا أدري ما تَعَجُّبُه؟ وكأنه أخذ قوله ما طاف حول الإنسان مقيَّداً بالإنسان وهذا قد جعله طائفاً بالنَّاقة ، وهي سَقْطة؛ لأنَّ الكسائيَّ إنَّما قاله اتفاقاً لا تقييداً .
وقال أبُو زيدٍ النصاريُّ : طَافَ : أقبل وأدبر ، يَطُوف طَوْفاً ، وطَوَافاً ، وأطاف يُطِيفُ إطَافةً : استدار القومُ من نواحيهم ، وطافَ الخيالُ : أمَّ يطيف طَيْفاً . فقد فرَّق بين ذي الواو ، وذي الياء ، فخصَّص كلَّ مادة بمعنى ، وفرَّق أيضاً بين فَعَل وأفْعَل كما رأيت .
وزعم السُّهَيْليُّ : أنه لا يُسْتَعمل من طاف الخيالُ اسم فاعل ، قال : « لأنَّهُ تَخَيُّلٌ لا حقيقة له » قال : فأما قوله تعالى : { فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ } [ القلم : 19 ] فلا يقالُ فيه « طَيف » ؛ لأنه اسم فاعل حقيقة؛ وقال حسان : [ السريع ]
2662 - جنَّيَّةٌ أرَّقَنِي طَيْفُهَا ... يَذهَبُ صُبْحاً ويُرى في المنَامْ
وقال السدُّ : الطَّيْفُ الجنون ، والطائِفُ : الغضب ، وعن ابن عباس - رضي الله عنما - هو بمعنى واحد ، وهو النَّزغُ .
فصل
قال المفسرون : الطَّيفُ اللمة والوسوسة .
وقيل : الطَّائِفُ ما طافَ به من سوسة الشيطان ، والطيف اللم والمسُّ وقال سعيدُ بن جبير : هو الرَّجلُ يغضب الغضبة فيذكر الله تعالى ، فيكظم الغيظ .
وقال مجاهدٌ : هو الرَّجلُ يهم بالذنبِ ، فيذكر اللَّهَ تعالى فيدعه .
{ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } هذه « إذَا » الفُجائيَّة كقولك : خرجتُ فإذا زيد ، والمعنى : يبصرون مواقع خطاياهم بالتذكر والتَّفكر ، وقال السديُّ : إذا زلوا تابُوا وقال مقاتلٌ : إنَّ المتقي إذا مسه نزع من الشيطان تذكر وعرف أنه معصية فأبصر فنزع عن مخالفة الله .
واعلم أنَّ إذَا في قوله : { إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ } تستدعي جزاءً .
قوله : { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي } . في هذه الآيةِ أوجهٌ :
أحدها : أنَّ الضمير في : « إخوانهم » يعودُ على الشَّياطين لدلالةِ لفظ الشيطانِ عليهم ، أو على الشَّيطان نفسه؛ لأنَّهُ لا يُراد به الواحدُ ، بل الجِنْسُ .
والضميرُ المنصوبُ في يَمُدُّونهُم يعودُ على الكُفَّارِ ، والمرفوعُ يعود على الشياطين أو الشيطان كما تقدَّم ، والتقديرُ : وإخوان الشياطين يمدُّهم الشيطان ، وعلى هذا الوجه فالخبرُ جارٍ على غير من هو له في المعنى ، ألا ترى أنَّ الإمداد مسند إلى الشياطين في المعنى وهو في اللفظ خبر عن إخوانهم ومثله : [ البسيط ]
2663 - قَوْمً إذا الخَيْلأُ جَالُوا في كَواثبِهَا .. . . .
وقد تقدم البحث في هذا مع مكي وغيره من حيث جريانُ الفعل على غير من هو له ، ولم يَبْرُزْ ضمير .
وهذا التأويلُ الذي ذكرناهُ : هو قول الجمهور وعليه عامة المفسِّرين .
قال الزمخشريُّ : هو أوجهُ؛ لأنَّ إخوانهم في مقابلة : « الَّذينَ اتَّقَوا » .
الثاني : أنَّ المراد بالإخوان الشياطين ، وبالضَّمير المضاف إليه : الجاهلُون ، أو غير المتَّقين لأن الشيء يدلُّ على مقابله ، والواو تعودُ على الإخوان ، والضميرُ المنصوبُ يعود على الجاهلين ، أو غير المتَّقين؛ والمعنى : والشياطين الذين هم إخوانُ الجاهلين أو غير المتقين يَمُدُّون الجاهلين أو غير المُتَّقين في الغيِّ ، والخبر في هذا الوجه جارٍ على من هو لهُ لفظاً ومعنى ، وهذا تفسير قتادة .
الثالث : أن يعود الضميرُ المجرور والمنصوب على الشياطين ، والمرفوع على الإخوان وهم الكُفَّارث .
قال ابنُ عطيَّة : ويكون المعنى : وإخوان الشَّياطين في الغيِّ بخلاف الإخوة في اللَّهِ يَمُدُّون الشَّياطين أي : بطاعتهم لهم وقبولهم منهم ، ولا يترتَّب هذا التَّأويل على أن يتعلَّق في الغيِّ بالإمدادِ؛ لأنَّ الإنسَ لا يغوون الشياطين ، يعني يكون في الغيِّ حالاً من المبتدأ ، أي : وإخوانهم حال كونهم مستقرِّين في الغيّ ، وفي مجيء الحال من المبتدأ خلاف ، والأحسنُ أن يتعلَّق بم تضمنه أخوانُهُمْ من معنى المؤاخاة والأخوة ، وسيأتي فيه بحث لأبي حيان .
قال أبُو حيَّان : ويمكن أن يتعلَّق في الغيِّ على هذا التَّأويل ب : يمدُّونهم على جهة السببية ، أي : يمدُّونهم بسبب غوايتهم ، نحو : دَخلَتِ امْرأةٌ النَّارَ في هرَّةٍ ، أي : بسبب هرَّةٍ ، ويُحتملُ أن يكون في الغيِّ حالاً ، فيتعلَّق بمحذوفٍ أي : كائنين في الغيّ ، فيكون في الغيِّ في موضعه ، ولا يتعلَّق ب : إخوانهم وقد جوَّز ذلك ابن عطية .
وعندي في ذلك نظرٌ .
فلو قلت : مُطْعِمُكَ زيدٌ لَحْماً ، مُطْعِمُكَ لحماً زيدٌ ، فتفصل بين المبتدأ ومعموله بالخبر ، لكان في جوازه نظر ، لأنَّكَ فصلتَ بين العامل والمعمول بأجنبي لهما معاص ، وإن كان ليس أجنبياً لأحدهما وهو المبتدأ .
قال شهاب الدين : ولا يظهر منعُ هذا ألبتة لعدم أجنبيته وقرأ نافع يُمِدُّونهُمْ بضم الياء وكسر الميم من أمدَّ والباقون : بفتح الياء وضم الميم ، وقد تقدم الكلام على هذه المادة هل هما بمعنى واحد أم بينهما فرق في أوائل الكتاب [ البقرة : 155 ] .
فقيل : أمَدَّ ومَدَّ لغتان .
وقيل : مَدَّ معناه : جذب ، وأمَدَّ معناه من : الإمداد .
قال الواحدي عامة ما جاء في التنزيل ممَّا يحمد ويتسحب أمددتُ على أفعلتُ ، كقوله { أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ } [ المؤمنون : 55 ] وقوله { وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ } [ الطور : 22 ] { أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ } [ النمل : 36 ] وما كان بخلافه فإنَّه يجيء على : مددت؛ قال تعالى : { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ البقرة : 15 ] فالوجه ههنا قراءة العامة ، ومن ذمَّ الياء استعمل ما هو الخير لضده كقوله { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] وقرأ الجحدريُّ : يُمَادُّونهُم من : مادَّهُ بزنة : فاعله ، وقرأ العامَّةُ يُقْصِرُون من : أقْصَرَ ، قال الشاعر : [ الطويل ]
2664 - لَعَمْرُكَ ما قَلْبِي إلى أهْلِه بِحُرْ ... ولا مُقْصِرٍ يَوْماً فَيَأتِينِي بِقُرْ
وقال امرؤُ القيس : [ الطويل ]
2665 - سَمَا لَكَ شَوْقٌ بعدَ ما كانَ أقْصَرَا ... وحلَّتْ سُلَيْمَى بَطْنَ قَوٍّ فَعَرْعَرَا
أي : ولا نازع ممَّا هو فيه ، وارتفع شوقك بعد ما كان قد نزع وأقلع ، وقرأ عيسى ابن عمر ، وابن أبي عبلة « ثُمَّ لا يَقصُرون » بفتح الياء مِن : قَصرَ ، أي : لا يَنْقُصُونَ من قوله
{ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً } [ الأعراف : 192 ] وهو تكلف بعيد .
وقوله « فِي الغيِّ » قد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكون متعلقاً بالفعل ، أو ب « إخوانهم » أو بمحذوف على أنه حال إمَّا من « إخوانهم » وإمَّا من واو « يَمُدُّونهُم » وإمَّا من مفعوله .
فصل
قال اللَّيث : الإقصارُ : الكَفُّ عن الشَّيء ، وأقْصَرَ فلانٌ عن الشَّيءِ يُقْصِرُ إقصاراً إذا كفَّ عنه وانتهى .
قال ابنُ عبَّاسٍ : ثُم لا يُقْصِرُون عن الضَّلالِ والإضلال ، أمَّا الغاوي ففي الضَّلال ، وأمَّا المغوي ففي الإضلال . قال الكلبيُّ لكل كافر أخٌ من الشياطين يَمُدُّونهُمْ أي : يُطيلُون لهم في الإغواء حتَّى يستمرُّوا عليه .
وقيل : يزيدونهم في الضَّلالة .
قوله { وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ } يعني إذا لم تأتِ المشركين بآيةٍ { قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها } أي : هلاَّ افتعلْتَهَا ، وأنشأتها من قبل نفسك ، والاجتباء : افتعال من : جباهُ يَجْبيه ، أي : يجمعه مختاراً له ، ولهذا يقال : أجْتَبَيْتُ الشيء ، أي : اخترته .
وقال الزمخشريُّ : اجْتَبَى الشيء ، بمعنى جباهُ لنفسه ، أي جمعه ، كقولك : اجتمعه أو جُبِيَ إليه ، فاجتباه : أي أخذهُ ، كقولك : جليْتُ له العروس فاجتلاها ، والمعنى هلاَّ اجتمعتها افتعالاً من عند نفسك .
قال الفراء : تقول العرب : اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك؛ لأنهم كانوا يقولون : { إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه } [ الفرقان : 4 ] أو يقال : هلاَّ اقترحتها على إلهك إن كنت صادقاً ، وأنَّ الله تعالى يَقْبَلُ دعاءك ويجيبُ التمسك وذلك أنَّهم كانوا يطلبون منه آيات معينة على سبيل التعنت كقوله : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] . وعند هذا أمر رسوله أن يجيبهم بالجواب الشافي ، فقال : { قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يوحى إِلَيَّ مِن رَّبِّي } أي ليس عليّ أن أقترح على ربي وإنما أنا أنتظر الوحي .
ثُمَّ بيَّن أنَّ عدم الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحها لا يقدُ في الغرض؛ لأنَّ ظهور القرآن على وفق دعواه معجزة قاهرة ، فهي كافية في تصحيح النبوة ، فطلب الزيادة تعنت؛ فلا جرم قال : قل هذا يعني : القرآن بَصائرُ حجج ، وبيان ، وبرهان لذوي العقول في دلائل التَّوحيد ، والنبوة ، والمعاد ، والبصائرُ : جمع بصيرة ، أوصلها ظهور الشَّيء واستحكامه حتى يبصر الإنسان فيهتدي به ، أي : هذه دلائلُ تقودكم إلى الحقِّ؛ فأطلق على القرآن لفظ البصيرةِ تسمية للسبب باسم المسبب .
قال بُو حيَّان : وأطلق على القرآن بصائر إمَّا مبالغةً؛ وإمَّا لأنَّهُ سبب البصائر ، وإمَّا على حذف مضاف أي : ذو بصائر ثم قال : وهُدىً والفرقُ بين هذه المرتبة وما قبلها إنَّ النَّاس في معارف التوحيد ، والنبوة والمعاد ثلاثة أقسام :
إحدها : الذين بلغوا في هذه المعارف بحيث صاروا كالمشاهدين لها ، وهم أصحاب عين اليقين .
والثاني : الذين بلغُوا إلى ذلك الحد إلاَّ أنهم وصلوا إلى درجات المستدلِّين ، وهم أصحاب علم اليقين فالقرآنُ في حقِّ الأولين وهم السَّابقُون بصائر ، وفي حق القسم الثاني هُدىً ، وفي حق عامَّة المؤمنين رحمة ، ولمَّا كانت الرفق الثلاث من المؤمنين قال : « قَوْمٍ يُؤمنُونَ » .
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
قوله تعالى : { وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ } الآية .
لمَّا عظَّم شأن القرآن بقوله : « هَذَا بصائرُ » أردفهُ بقوله : { وَإِذَا قُرِىءَ القرآن } .
قوله له متعلقٌ ب : استَمِعُوا على معنى لأجله ، والضمير للقرآن ، وقال أبو البقاءِ : يجوزُ أن يكون بمعنى للَّه ، أي لأجله فأعاد الضمير على الله وفيه بعدٌ ، وجوَّز أيضاً أن تكون اللام زائدةً : أي فاستمعُوهُ ، وقد تقدَّم أنَّ هذا لا يجوزُ عند الجمهور إلا في موضعين إمَّا تقديم المعمولِ ، أو كون العامل فرعاً ، وجوَّز أيضاً أن تكون بمعنى إلى ، ولا حاجة إليه .
قوله « وأنصتُوا » الإنصاتُ : السُّكوت للاستماعِ . قال الكميتُ : [ الطويل ]
2666 - أبُوكَ الذي أجْدَى عَلَيَّ بِنصْرِهِ ... فأنْصَتَ عَنِّي بعده كُلَّ قَائِلِ
قال الفراء : ويقال : نصت ونصت بمعنى واحدٍ ، وقد جاء أنْصَت متعديّاً .
فصل
فقوله : { فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ } أمرٌ ، وظاهر الأمر للوجوب ، فيقتضي أن يكون الاستماعُ والسكوتُ واجباً ولعله يجوز أن تكون بحسب المخاطبين ، وأن تكون للتعليل وفيه أقوال .
أحدها : قال الحسنُ وأهلُ الظاهر : يجب الاستماعُ والإنصات لكل قارئ ، سواء كان معلم صبيان أو قارئ طريق .
الثاني : تحريم الكلام في الصَّلاة .
قال أبو هريرة : كانوا يتكلَّمون في الصَّلاة فنزلت هذه الآية ، فأمروا بالإنصات .
وقال قتادةُ : كان الرَّجُلُ يأتي وهُم في الصَّلاةِ ، فيسألهم : كم صلَّيتم وكم بقي؟ وكانُوا يتكلَّمون في الصَّلاةِ بحوائجهم فأنزل اللَّهُ هذه الآية .
الثالث : نزلت في ترك الجَهْر بالقراءة وراء الإمام .
قال ابنُ عبَّاسٍ : قرأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الصَّلاة المكتوبةِ ، وقرأ أصحابه وراءهُ رافعينَ أصواتهم؛ فخلطوا عليهم فنزلت هذه الآية ، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه .
وقال الكلبيُّ : كانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار ، وعن ابن مسعود أنَّهُ سمع ناساً يقرءون مع الإمام فلمَّا انصرف ، قال : أما آن لكم أن تفقهوا { وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ } وهو قول الحسن والزهري والنخعي وقال سعيد بن جبير ، وعطاء ، ومجاهد : إنَّ الآية في الخطبة ، أمروا بالإنصات لخطبة الإمام يوم الجمعة ، وهذا بعيدٌ لأنَّ الآية مكَّية والجمعة وجبت بالمدينة .
فصل
اختلفوا في القراءة خلف الإمام في الصَّلاةن فروي عن عمر ، وعثمان ، وعليِّ ، وابن عباسٍ ومعاذ ، وجوب القراءة سواء جهر الإمامُ بالقراءة أو أسرَّ ، وهو قول الأوزاعي ، والشافعي؛ وروي عن ابن عمر ، وعروة بن الزبير ، والقاسم بن محمد : أنَّ المأموم يقرأ فيما أسر الإمام فيه ، ولا يقرأ إذا جهر ، وبه قال الزهري « : ومالك ، وابن المبارك ، وأحمد وإسحاق ، وروي عن جابر أنَّ المأموم لا يقرأ سواء أسر الإمام أم جهر ، وبه قال الثَّوري ، وأصحابُ الرأي ، وتمسك من لا يرى القراءة خلف الإمام بظاهر هذه الآية ، ومن أوجبها قال : الآية في غير الفاتحةِ ، ويقرأ الفاتحة في سكتاتِ الإمام ولا ينازعُ الإمام في القراءة .
قوله تعالى : { واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ } الآية .
قال ابن عباس : يعني بالذِّكر : القراءة في الصلاة ، يريد يقرأ سراً في نفسه .
قوله « تَضَرُّعاً وخيفَةً » في نصبهما وجهان :
أظهرهما : أنَّهُمَا مفعولان من أجلهما ، لأنَّهُ يتسببُ عنهما الذِّكر . والثاني : أن ينتصبا على المصدر الواقع موقع الحال ، أي : مُتضرعين خائفين ، أو ذوي تضرع وخيفة .
وقرئ « وخفيَةً » بتقديم الفاءِ ، وقيل : هما مصدران للفعل من معناه لا من لفظه ذكره أبو البقاءِ . وهو بعيدٌ .
قوله : « ودُونَ الجَهْرِ » قال أبُو البقاءِ : معطوف على تَضَرُّع ، والتقديرُ ، ومقتصدين . وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ دُوَ ظرفٌ لا يتصرَّف علىلمشهور ، قال فالذي ينبغي أن يجعل صفة لشيء محذوف ذلك المحذوف هو الحال ، كما قدَّرهُ الزمخشري فقال : ودُونَ الجهْرِ ومتكلماً كلاماً دُونَ الجهْرِ ، لأنَّ الغخفاء أدخلُ في الإخلاص ، وأٌربُ إلى حسن التفكر .
فصل
معنى تضرُّعاً وخيفَةً أي : تتضرَّعُ إليَّ وتخافُ منِّي ، هذا في صلاة السِّر وقوله ودُونَ الجهْرِ أرادَ في صلاة الجهرِ لا تَجْهَر جَهْراً شديداً ، بل في خفضٍ وسُكونٍ تُسمعُ من وقال مجاهدٌ وابن جريجٍ : أمروا أن يذكروه في الصدورِ بالتضرع في الدُّعاء والاستكانة دون رعف الصوت والصياح في الدعاء .
قوله بالغُدُوِّ والآصالِ متعلق ب : اذْكُر أي : اذكُرْهُ في هذين الوقتين وهما عبارةٌ عن اللَّيل والنَّهارِ .
ومعناهما : البكرات والعشيَّات .
وقال أبُو البقاءِ : بالغُدُوِّ متعلق ب : ادعُو وهو سبقُ لسانٍ ، أو قلم ، إذ ليس نظمُ القرآن كذا ، والغُدُوُّ : إما جمع غدوة ، ك : قمح وقمحة ، وعلى هذا فيكون قد قابل الجمع بالجمع والمعنوي .
وقيل هو مصدرٌ ، قال تعالى : { غُدُوُّهَا شَهْرٌ } [ سبأ : 12 ] فيقدَّرُ زمانٌ مضاف إليه حتَّى يتقابل زمان مجموع بمثله تقديره : بأوقات الغدو ، والآصال جمع : أصُل ، وأصُل جمع : أصيل ، فهو جمع الجمع ولا جائزٌ أن يكون جمعاً ل : أصِيل ، لأنَّ فعيلاً ، لا يجمع على أفعال وقيل : هو جمعٌ ل : أصِيل ، وفَعِيلٌ يجمع على أفْعَال نحو : يَمِينٌ وأيمانٌ ، وقيل : آصال جمع ل : أصُل ، وأصُل مفرد ، ثبت ذلك من لغتهم ، وهو العَشِيُّ وفُعُل يجمع على « أفْعَال » قالوا : عُنُق وأعْنَاق ، وعلى هذا فلا حاجة إلى دَعْوَى أنَّه جمعُ الجمع ، ويجمعُ على « أصْلأان » ك : رغيفٍ ورُغْفَان ، ويُصَغَّر على لفظه؛ كقوله : [ البسيط ]
2667 - وقَفْتُ فيهَا أصَيْلاناً أسَئِلُهَا ... عَيَّتْ جواباً وما بالرَّبْعِ مِنْ أحَدِ
واستدلَّ الكوفيُّون بقولهم : أصيلان على جواز تصغير جمع الكثرةِ بهذا البيت ، وتأوَّلَهُ البصريُّون على أنَّه مفرد ، وتُبْدَل نونه لاماً . ويروى أصيلاً كَيْ .
وقرأ أبو مجلز واسمه : لاحقُ بنُ حُميدٍ السدوسيُّ البصري : والإيصَال مصدرُ : أصَلَ أي : دَخَلَ في الأصيلِ ، والأصيلُ : ما بين العصر والمغرب .
ثمَّ قال تعالى { وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الغافلين } والمرادُ منه أنَّ العبد يجبُ أن يكون ذاكراً لِلَّهِ تعالى في كلِّ الأوقات لأنه حثّه على الذكرِ الغدوات وبالعشيات ثم عمَّمَ بقوله : { وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الغافلين } يعني أنَّ الذكر القلبي يجب أن يكون دائماص ، وأن لا يغفل الإنسانُ عنه لحظةً واحدةً بحسب الإمكان .
قوله : { إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ } يعني الملائكة المُقرَّبين : « لا يسْتكبرُونَ » لا يتكبَّرُون عن عبادته . لمّضا رغَّب رسولهُ في الذِّكر ذكر عُقيبه ما يُقوِّي دواعيه فقال : { إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ } أي أنَّ الملائكة مع نهاية شرفهم وغاية طهارتهم وبراءتهم من بواعثِ الشَّهوَةِ والغضب ، والحقدِ ، والحسدِ ، مُواظبُونَ على العبوديَّة والسُّجودِ ، والخُضُوعِ ، فالإنسانُ المُبتَلَى بظلمات عالم الجسمانيات ومستعداً للذات البشرية أوْلَى بالمُواظبةِ على الطَّاعةِ ، والمرادُ بالعندية القرب الشَّرف
واستدلُّوا بهذه الية على أنَّ الملائكة أفضلُ من البشرِ ، لأنَّهُ تعالى لمَّا أمر رسولهُ بالعبادة والذكر قال : { إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } أي : فأنت أحقّ وأولَى بالعبادِة ، وهذا إنَّما يصحُّ إذا كانت الملائكةُ أفضل منه .
قوله : « ويُسَبِّحُونهُ » أي : يُنزِّهُونه ويقولون سبحان الله : « ولهُ يَسجُدُون » .
فإن قيل كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله : { فَسَجَدَ الملاائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ } [ الحجر : 30 ، 31 ] والمراد أنهم سجدوا لآدم؟
فالجوابُ : قال بعضُ العلماءِ : الذين سجدُوا لآدم - عليه السلامُ - ملائكة الأرض ، وأمَّا ملائكة السَّموات فلا ، وقيل : إنَّ قوله « ولهُ يسجُدُون » يفيدُ أنَّهم ما سجدُوا لغيرِ اللَّهِ بهذا العمومِ ، وقوله : فسجدُوا لآدم خاص والخاصُّ مقدمٌ على العام .
فصل
روى أبُو صالح عن أبي هريرة قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم « إذا قَرَأ ابنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فسجد اعتزلَ الشيطان يبكي يقول يا ويلهُ! أمر ابنُ آدمَ بالسجُودِ فسجد فلهُ الجنَّةُ وأمِرْتُ بالسُّجثود فعصيْت فلِيَ النَّارُ »
وعن معدان قال : « سألتُ ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : حَدِّثني حديثاً ينفعني اللَّهُ به .
قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْجُدُ لِلَّهِ سجدةً إلاَّ رفعهُ اللَّهُ بها درجةً وحطَّ عنهُ بها خطيئةً »
وروي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « مَنْ قَرَأ سُورة الأعرافِ جعل الله بينهُ وبين إبليسَ سِتْراً وكانَ آدمُ شَفِيعاً لهُ يَوْمَ القيامةِ قَرِيباً منهُ »
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)
قوله تعالى { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } الآية .
فاعل : يَسْأل يعوُد على معلومٍ ، وهم من حَضَرَ بَدْراً ، وسَألَ تارةٌ تكون لاقتضاءِ معنى في نفسِ المسئول فتتعدَّى ب « عَنْ » كهذه الآية؛ وكقول الشاعر : [ الطويل ]
2668 - سَلِي - إنْ جَهلْتِ - النَّاسَ عنَّا وعنْهُم ... فَليْسَ سواءً عالمٌ وجَهُولُ
وقد تكُون لاقتضاءِ مالٍ ونحوه؛ فتتعدَّى لاثنين ، نحو : سألتُ زيداً مالاً ، وقد ادَّعَى بعضهم : أنَّ السُّال هنابهذا المعنى .
وزعم أنَّ « عَنْ » زائدةٌ ، والتقدير : يَسْألونك الأنفالَ ، وأيَّد قوله بقراءة سعد بن أبي وقاص ، وابن مسعود ، وعلي بن الحسين ، وزيد ولده ، ومحمد الباقر ولده أيضاً ، وولده جعفر الصَّادق ، وعكرمة وعطاء « يَسألونكَ الأنفالَ » دون « عَنْ » .
والصحيح أنَّ هذه القراءة على إرادة حرف الجرِّ ، وقال بعضهم : « عَنْ » بمعنى « مِنْ » . وهذا لا ضرورة تدعو إليه .
وقرأ ابنُ محيصنِ « عَلَّنْفَالِ » والأصل ، أنَّه نقل حركة الهمزة إلى لام التعريف ، ثم اعتدَّ بالحركةِ العارضة ، فأدغمَ النُّونَ في اللاَّم كقوله : { وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم } [ العنكبوت : 28 ] وقد تقدم ذلك في قوله { عَنِ الأهلة } [ البقرة : 189 ] .
والأنفالُ : جمع : نَفَل ، وهي الزِّيادةُ على الشيءِ الواجب ، وسُمِّيت الغنيمة نفلاً ، لزيادتها على الحوزة .
قال لبيدٌ : [ الرمل ]
2669 - إنَّ تَقْوَى ربَّنَا خَيْرُ نَفَلْ ... وبإذْنِ اللَّهِ ريثي وعَجَلْ
وقال آخر : [ الكامل ]
2670 - إنَّا إذا أحْمَرَّ الوغَى نروي القَنَا ... ونَعِفُّ عند تقاسُم الأنفالِ
وقيل : سُمِّيت الأنفال؛ لأنَّ المسلمين فُضِّلُوا بها على سائر الأمم .
وقال الزمخشريُّ : والنَّفَل ما ينفلُهُ الغازي ، أي : يعطاه ، زيادةً على سهمه من المغنم ، وقال الأزهريُّ « النَّفَل ، والنَّافلة ما كان زيادةً على الأصلِ ، وسُمِّيت الغنائمُ أنفالاً؛ لأنَّ المسلمين فُضِّلُوا بها على سائر الأمم ، وصلاةُ التطوع نافلةٌ؛ لأنَّها زيادةٌ على الفرض » وقال تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [ الأنبياء : 72 ] أي : زيادة على ما سأل .
قال القرطبي : النَّفَلُ - بتحريك الفاءِ - والنَّفْل : اليمينُ ، ومنه النَّفَل في الحديث « فتبرئكم يهود بنفل خمسين منهم » والنَّفل : الانتفاءُ ، ومنه الحديث فانتفلَ من ولده . والنَّفلُ : نبت معروف .
فصل
في هذا السؤال قولان :
أحدهما : أنَّهم سألوا عن حكم النفال ، كيف تُصرفُ؟ ومن المستحقُّ لها؟ نظيره قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض } [ البقرة : 222 ] و { عَنِ اليتامى } [ البقرة : 220 ] فقال في المحيض : { قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء فِي المحيض } [ البقرة : 222 ] وقال في التيامى { قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } [ البقرة : 220 ] . فأجابهم بالحكم المعيَّن في كل واقعةٍ فدلَّ الجواب المعيَّن على أنَّ السؤال كان عن مخالطة النساء في المحيض ، وعن التصرُّفِ في مال اليتامى ومخالطتهم في المؤاكلة .
الثاني : هذا سؤال استعطاء ، و « عَنْ » بمعنى « مِنْ » ، وهذا قول عكرمة كما تقدم في قراءته .
فأمَّا القولُ الأولُ : وهو أنَّ السؤال كان عن حكم الأنفال ومصرفها ، فهو قول أكثر المفسرين لأنَّ قوله { قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول } [ الأنفال : 1 ] يدُلُّ على أنَّ المقصود منه منع القومِ عن المخاصمة والمنازعة .
وقوله : { فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } يدلُّ على أنَّ السُّؤال كان بعد وقوع الخصومة بينهم ، وقوله : { وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } يدلُّ على ذلك أيضاً . وإذا عرف ذلك فيحتمل أن يكون المراد بهذه الأنفال قسمة الغنائم ، وهي الأموال المأخوذة من الكفار قهراً ، ويحتمل أن يكون المراد غيرها .
أما الأوَّلُ ففيه وجوه :
أحدها : أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلام قسم ما غنموه يوم بدر على من حضر وعلى أقوامٍ لم يحضرُوا أيضاً ، وهم ثمانيةُ أنفسٍ : ثلاثةُ من المهاجرين ، وخمسة من الأنصار ، فالمهاجرون : عثمانُ - رضي الله عنه - تركه عليه الصلاة والسلام على ابنته وكانت مريضةً ، وطلحةُ وسعيدُ بن زيد فإنَّه عليه الصلاة والسلام بعثهما للتَّجسس عن خبرِ العدوّ وخرجا في طريق الشَّام .
وأما الأنصارُ : فأبو كنانة بن عبد المنذر ، وخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة ، وعاصم خلفه على العالية ، والحارث بن حاطب : ردَّهُ من الرَّوحاء إلى عمر بن عوفٍ لشيء بلغه عنه والحارث بن الصمة أصابته علةٌ بالروحاء ، وخوات بن جبير ، فهؤلاء لم يحضروا ، وضرب لهم النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الغنائم بسهم ، فوقع من غيرهم فيه منازعة ، فنزلت هذه الآية .
ثانيها : روي أنَّ الشَّبابَ يوم بدر قتلُوا وأسرُوا ، والأشياخ وقفُوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المصاف فقال الشبانُ : الغنائمُ لنا لأنَّ قتلنا وأسرنا وهزمنا . فقال سعد بن معاذ : والله ما منعنا أن نطلب ما طلب هؤلاء زهادة في الأجر ولا جبن عن العدو ، ولكن كرهنا أن تعرى مصافك ، فتعطف عليك خيلٌ من المشركين فيصيبوك .
وروي أنَّ الأشياخ قالوا : كُنَّا رِدْءاً لكم ولو انهزمتم لانحزتم إلينا ، فلا تذهبُوا بالغنائم ، فوقعت المخاصمة بهذا السَّبب فنزلت هذه الآية .
وثالثها : قال الزجاج : « الأنفالُ الغنائمُ ، وإنَّما سألُوا عنها؛ لأنها كانت حراماً على من كان قبلهم » .
وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ بيَّنَّا في هذا السؤال أنه كان مسبوقاً بمنازعة ومخاصمة ، وعلى قول الزجاج يكونُ السُّؤال عن طلب حكم فقط وأما الاحتمالُ الثاني : وهو أن يكون المرادُ بالأنفالِ شيئاً سوى الغنائمِ ، وعلى هذا أيضاً فيه وجوه :
أحدها : قال ابنُ عباس في بعض الروايات : « المرادُ بالأنفال ما شذَّ عن المشركين إلى المسلمين من غير قتال من أموالهم ، فهو إلى النبي صلى الله عليه وسلم يضعهُ حيثُ يشاءُ » .
وثانيها : الأنفالُ : الخُمس ، وهو قول مجاهد .
قال القومُ إنما سألوهُ عن الخمس فنزلت الآية .
وثالثها : أنَّ الأنفال هي السَّلب الذي يأخذه الغازي زائداً على سهمه من المغنم ترغيباً لهُ في القتال كقول الإمام : مَنْ قتلَ قَتِيلاً فلهُ سلبُهُ وقوله للسرية « ما أصبتُمْ فهُو لكُمْ ، أو فلكم نصفه أو ربعه » ولا يخمس النفل .
وعن سعد بن أبي وقَّاصِ قال : « قتل أخي عمير يوم بدر فقتلتُ به سعد بن العاص بن أمية وأخذت سيفه ، وكان يسمَّى ذا الكتيفةِ فأعجبني فجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت له : إنَّ الله شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف ، فقال : » ليس هُو لِي ، ولا لك اطراحهُ في القبض « فطرحته ورجعت ، وبي ما لا يعلمه إلا اللَّه من قتل أخي ، وأخذ سلبي ، وقلتُ وعسى أن يعطي هذا من لم يبل بلائي ، فما جاوزت إلاَّ قليلاً حتى جاءنِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقد أنزل اللَّهُ { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } فقال : يا سعدُ إنَّك سألتني السيف ، وليس لي ، وإنه قد صار لي فخذه »
قال القاضي : « وكلُّ هذه الوجوه تحتمله الآية ، وليس فيها دلالةٌ على ترجيح بعضها على البعض .
فإن صحَّ دليلٌ على اليقين قضي به ، وإلاَّ فالكلُّ محتملٌ ، وإرادة الجميع جائزة فلا تناقض فيها » .
قوله : { قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول } أي : حكمها للَّهِ ورسوله يقسمانها كما شاءا .
قال مجاهد ، وعكرمة ، والسديُّ : إنها نسخت بقوله : { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } [ الأنفال : 41 ] .
وهو قول ابن عباس في بعض الروايات .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هي ثابتةٌ غير منسوخة ، ومعنى الآية : قل الأنفال للَّه في الدنيا والآخرة ، وللرسُول يضعها حيُ أمره اللَّهُ ، أي : الحكمُ فيها لله ورسوله ، وقد بيَّن الله مصارفها في قوله : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } [ الأنفال : 41 ] الآية .
قوله : { فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } وتقدَّم الكلام على ذات في آل عمران ، وهي هنا صفةٌ لمفعولٍ محذوف تقديره : وأصلِحُوا أحْوالاً ذات افتراقكم وذات وصلكم أو ذات المكان المتصل بكم ، فإنَّ « بَيْن » قد قيل : إنه يراد به هنا : الفِراقُ أو الوصلُ ، أو الظَّرف ، وقال الزجاج وغيره : إنَّ ذات هنا بمنزلة حقيقة الشَّيء ونفسه ، وقد أوضح ذلك ابنُ عطيَّة .
وقال أبُو حيَّان : « والبينُ الفراقُ ، وذات نعت لمفعولٍ محذوف ، أي : وأصلحُوا أحوالاً ذات افتراقكم ، لمَّا كانت الأحوالُ ملابسةً للبين أضيفت صفتها إليه ، كما تقول : اسقني ذا إنائك ، أي : ماءً صاحب إنائك ، لمَّا لابس الماءُ الإناءَ وصف ب » ذَا « وأضيفَ إلى الإناءِ ، والمعنى : اسْقِنِي ما في الإناءِ من الماء » .
قوله : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } .
قال ابن عطيَّة : جواب الشرط المتقدم في قوله وأطيعُوا هذا مذهبُ سيبويه ، ومذهب المبردك أنَّ الجواب محذوفٌ متأخر ، ومذهبه في هذا ألاَّ يتقدَّم الجوابُ على الشرط وهذا الذي ذكرهُ نقل النَّاسُ خلافه ، نقلوا جواز تقديم جواب الشرط عليه عن الكوفيين ، وأبي زيد ، وأبي العبَّاس ، واللَّهُ أعلمُ .
ويجوز أن يكون للمبرِّد قولان ، وكذا لسيبويه؛ لأنَّ قوله : { قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول } يقتضي أن تكون الغنائم كلها للرسول .
ومعنى الآية : اتَّقُوا اللَّه بطاعته وأصلحوا الحال بينكم بترك المنازعة ، والمخالفة ، وتسليم أمر القسمة إلى الله والرسول : { وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي : إنَّ الإيمان الذي دعاكم الرسول إليه لا يتم إلا بالتزام الطَّاعة ، فاحذروا الخروج والمخالفة .
واحتجَّ من قال : ترك الطَّاعة يوجب زوال الإيمان بهذه الآية؛ لأنَّ المعلَّق بكلمة « إنْ » على الشَّيء عدم عند عدم الشَّيء .
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)
قوله تعالى : { إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } الآية .
لمَّا بيَّن أن الإيمان لا يحصل إلا بالطاعة قال : { إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } يقال : « وَجِلَ » الماضي بالكسر « يَوْجَلُ » بالفتح ، وفيه لغة أخرى ، قُرىء بها في الشَّاذ وجَلَتء بفتح الجيم في الماضي وكسرها في المضارع ، فتحذف الواو ، ك : وعَدَ يَعِدُ ، ويقال في المشهورة : وجِلَ يَوْجَل ، ومنهم من يقول « يَاجَلُ » بقلب الواو ألفاً ، وهو شاذٌّ؛ لأنَّه قلْبُ حرفِ العلّة بأحد السَّببينِ وهو انفتاحُ ما قبل حرفِ العلَّةِ دون تحركه وهو نظيرُ « طَائِيٍّ » في النَّسب إلى « طَيِّىء » .
ومنهم من يقول : « يبجَلُ » بكسر حرف المضارعة ، فتقلب الواوُ ياءً ، لسكونها وانكسرا ما قبلها ، وقد تقدَّم في أول الكتاب أنَّ من العرب من يكسرُ حرف المضارعةِ بشروطٍ منها : أن لا يكون حرفُ المضارعة ياءً إلاَّ في هذه اللَّفظةِ ، فقال « يَيَجَلُ » فأخذ قلب الواو ممَّن كسر حرف المضارعة ، وأخذ فتحَ الياءِ من لغة الجمهور .
والوَجَلُ : الفزَعُ .
وقيل : استشعارُ الخوف يقال منه : وجِلَ يُوْجَلُ ، ويَاجَلُ ، ويَيْجَلُ ، ويِيجَلُ ، وَجَلاً فهو وَجِلٌ .
فصل
معنى الآية : إنَّما المؤمنون الصَّادقون في إيمانهم : { إالذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } خافت وفرقت ، وقيل : إذا خوفوا باللَّهِ انقادُوا خوفاً من عقابه . { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً } وتصديقاً ويقيناً ، قال عمر بن حبيب وكانت له صحبة : إن للإيمان زيادةً ونقصاصناً ، قيل فما زيادته؟ قال : إذا ذكرنا الله وحمدناه فذلك زيادته ، وإذا سهونا وغفلنا فذلك نقصانه .
وكتب عمرُ بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي : « إنَّ للإيمان فرائضَ وشرائعَ وحدوداً وسنناً ، فمن استكملها استكمل الإيمان ، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان » .
ثم قال : { وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } يفوضون إليه أمورهم ، ويثقون به ، ولا يرجون غيره ، فالتَّقديمُ يفيدُ الاختصاص ، أي : عليه لا على غيره ، وهذه الجملةُ يحتمل أن يكونَ لها محلٌّ من الإعراب ، وهو النَّصْبُ على الحالِ من مفعول : زادَتْهُم ، ويحتمل أن تكون مستأنفة ، ويحتمل أن تكون معطوفة على الصِّلةِ قبلها ، فتدخل في حيِّز الصلاتِ المتقدِّمةِ . وعلى الوجهين فلا محلَّ لها من الإعراب .
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
قوله : { الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } ذكر الصَّلاة؛ لأنَّها رأسُ الطاعات الظاهرة ثم بذل المار في مرضاة اللَّهِ؛ فيدخل فيه الزكاة والصدقات ، والنَّفقة في الجهادِ ، وعلى المساجد والقناطر .
قال المعتزلة : أجمعت الأمةُ على أنَّه لا يجوزُ الإنفاق من الحرامِ ، فدلَّ على أنَّ الحرامَ لا يكن رزقاً وقد تقدم البحثُ فيه . وقوله : « الَّذين يُقيمُونَ » فيجوزُ في هذ الموصول أن يكون مرفوعاً على النَّعْتِ للموصول أو على البدلِ ، أو على البيان له ، وأن يكون منصوباً على القطع المُشعِر بالمدْح .
قوله : { أولاائك هُمُ المؤمنون حَقّاً } يجوز في حقّاً أن يكون صفة لمصدر محذوف ، أي : هم المؤمنون إيماناً حقاً ، ويجوز أن يكون مؤكداً لمضمون الجملة ، كقولك : هو عبد الله حقاً ، والعاملُ فيه على كلا القولين مُقدَّرٌ ، أي : أحقُّه حقاً ، ويجوز وهو ضعيفٌ جدّاً أن يكون مؤكِّداً لمضمون الجملة الواقعةِ بعده وهي : لَهُم درجاتٌ ويكون الكلامُ قد تمَّ عند قوله : هُمُ المُؤمِنُونَ ثم ابتدأ ب { حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ } وهذا إنَّما يجوزُ على رأي ضعيف ، أعني تقديم المصدر المؤكِّد لمضمون جملة عليها .
قوله : عِندَ ربِّهِمْ يجوزُ أن يكون متعلقاً ب « دَرَجَاتٌ » ، لأنَّها بمعنى أجُورٌ ، وأن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنَّها صفةٌ ل « درجاتٌ » أي : اسْتقرَّت عند ربهم ، وأن يتعلَّق بما تعلَّق به لَهُمْ من الاستقرار .
فصل
قوله : { أولاائك هُمُ المؤمنون حَقّاً } أي : يقيناً ، قال ابنُ عبَّاسٍ : برءوا من الكفر ، قال مقاتل : حَقّاً لا شكَّ في إيمانهم ، وفيه دليلٌ على أنَّه ليس لكل أحد أن يصف نفسه بكونه مؤمناً حقّاً؛ لأنَّ الله تعالى إنَّما وصف بذلك أقواماً مخصوصين على أوصاف مخصوصة ، وكلُّ أحدٍ لا يتحقَّقُ وجود ذلك الأوصاف فيه وقال ابنُ أبي نجيح : سألَ رجلٌ الحسن فقال : أمؤمن أنت؟ فقال : إن كنت تسألني عن الإيمان باللَّه وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والجنَّة ، والنَّار ، والبعث ، والحساب ، فأنا بها مؤمن وإن كنت تسألني عن قوله : { إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } [ الأنفال : 2 ] الآية ، فلا أدري أمنهم أنا أم لا؟ . وقال علقمةُ : كنا في سفر فلقينا قوماً فقلنا : من القومُ؟ فقالوا : نحنُ المؤمنون حقاً ، فلم ندر ما نجيبهم حتَّى لقينا عبد الله بن مسعود ، فأخبرناه بما قالوا : قال : فما رَدَدْتُمْ عليهم؟ قلنا : لم نردّ عليهم شيئاً ، قال : أفلا قلتم أمِنْ أهلِ الجنَّة أنتم؟ إنَّ المؤمنين أهلُ الجنَّةِ .
وقال سفيانُ الثوريُّ : من زعم أنَّهُ مؤمن حقاً عند الله ، ثم لم يشهدْ أنَّه في الجنَّة فقد آمن بنصف الآية دون النِّصف .
ثم قال تعالى : { لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ } قال عطاءٌ : بمعنى : درجات الجنَّةِ ويرتقونها بأعمالهم ، قال الربيعُ بنُ أنس : سبعون درجة بين كلِّ درجتين حر الفرس المضر سبعين سنة « ومَغْفرةٌ » لذنوبهم وَرِزقٌ كريمٌ حسن .
قال الواحديُّ : قال أهل اللُّغةِ : الكريمُ : اسم جامع لكل ما يحمدُ ويستحسنُ ، والكريم المحمود فيما يحتاج إليه فاللَّهُ تعالى موصوفٌ بأنه كريم ، والقرآنُ موصوف بأنَّه كريم ، قال تعالى : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } [ الواقعة : 77 ] وقال تعالى : { مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } [ الشعراء : 7 ] { وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } [ النساء : 31 ] وقال : { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } [ الإسراء : 23 ] فالرزق الكريم هو الشريفُ الفاضل الحسن .
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)
في قوله { كَمَآ أَخْرَجَكَ } عشرون وجهاً :
أحدها : أنَّ الكاف نعتٌ لمصدر محذوف تقديرهُ : الأنفالُ ثابتةٌ للَّه ثبوتاً كما أخرجك ، أي : ثبوتاً بالحقِّ كإخراجك من بيتك بالحقِّ ، يعني لا مرية في ذلك ، ووجه هذ التَّشبيه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا رأى كثرة المشركين يوم بدرٍ ، وقلَّة المؤمنين قال : مَنْ قتل قتيلاً فله كذا ، ومَنْ أسر أسيراً فله كذا ، لِيرغِّبَهُم في القتال ، فلمَّا انهزم المشركون قال سعدٌ : يا رسول اللَّهِ إنَّ جماعة من أصحابك وقومك فدوك بأنفسهم ، ولم يتأخَّرُوا عن القتال جُبْناً ، ولا بُخْلاً ببذل مهجتهم ، ولكنَّهم أشفقوا عليك من أن تُغتال ، فمتى أعطيت هؤلاء ما سميته لهم؛ بَقِيَ خلقٌ من المسلمين بغير شيء؛ فأنزل اللَّهُ تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول } [ الأنفال : 1 ] يصنعُ فيها ما يشاء ، فأمسك المسلمون عن الطَّلبِ ، وفي أنفس بعضهم شيء من الكراهة وحين خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى القتال يوم بدر كانوا كارهين لتلك المقالتة على ما سنشرحه ، فلمَّا قال : { قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول } [ الأنفال : 1 ] كان التقدير : أنَّهم رضوا بهذا الحكم في الأنفالِ وإن كانُوا كارهين له كما أخرجك ربك من بيتك بالحقِّ إلى القتال ، وإن كانُوا كارهين .
الثاني : قال عكرمةُ : تقديره : وأصلحوا ذات بينكم إصلاحاً كما أخرجك ، وقد التفت من خطاب الجماعة إلى خطاب الواحد .
والثالث : تقديرهُ : وأطيعوا اللَّهَ ورسولهُ طاعةً محققةً ثابتةً كما أخرجك ، أي : كما أنَّ إخراج اللَّه إياك لا مرية فيه ولا شبهة .
الرابع : تقديره : يتوكَّلون توكلاً حقيقياً كما أخرجك ربُّك .
الخامس : تقديره : هم المؤمنون حقّاً كما أخرجك فهو صفةٌ ل « حقاً » .
السادس : تقديره : استقرَّ لهم درجاتٌ وكذا استقراراً ثابتاً كاستقرار إخراجك .
السابع : أنَّهُ متعلقٌ بما بعده تقديره : يجادلونك مجادلةً : كما أخرجك ربك ، قال الكسائيُّ « الكاف » تتعلَّقُ بما بعده وهو قوله : { يُجَادِلُونَكَ فِي الحق } [ الأنفال : 6 ] والتقدير : { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق } على كره فريق من المؤمنين كذلك هم يكرهون القتال ويجادلونك فيه .
الثامن : تقديره : لكارهون كراهيةً ثابتةً : كما أخرجك ربُّك أي : إنَّ هذين الشيئين الجدال والكراهية ثابتان لا محالة كما أنَّ إخراجك ثابت لا محالة .
التاسع : أنَّ « الكافَ » بمعنى « إذ » ، و « مَا » زائدة ، والتقديرُ : اذكر إذ أخرجك وهذا فاسدٌ جدّاً ، إذ لم يثبتْ في موضعٍ أنَّ « الكاف » تكون بمعنى « إذ » وأيضاً فإنَّ « ما » لا تزاد إلاَّ في مواضعَ ليس هذا منها .
العاشر : أنَّ « الكافَ » بمعنى : « واو » القسم ، و « ما » بمعنى « الذي » واقعةٌ على ذي العلم مُقْسَماً به .
وقد وقعت على ذي العلم في قوله : { والسمآء وَمَا بَنَاهَا } [ الشمس : 5 ] { وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى } [ الليل : 3 ] والتقدير : والذي أخرجك ، ويكون قوله : يُجَادلُونكَ جواب القسمِ وهذا قول أبي عبيدة .
وقد ردَّ النَّاسُ عليه قاطبةً ، وقالوا : كان ضعيفاً في النَّحو . ومتى ثبت كون الكافِ حرف قسمٍ ، بمعنى « الواو » ؟ وأيضاً فإن : يُجَادلُونكَ لا يصحُّ كونه جواباً؛ لأنَّهُ على مذهب البصريين متى كان مضارعاً مثبتاً؛ وجب فيه شيئان : اللاَّمُ ، وإحدى النونين نحو : { لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن الصاغرين } [ يوسف : 32 ] وعند الكوفيين إمَّا اللاَّمُ ، وإمَّا إحدى النونين ، ويُجادلُونكَ عارٍ عنهما .
الحادي عشر : أنَّ الكاف بمعنى « على » ، و « ما » بمعنى : الذي ، والتقديرُ : امْضِ على الذي أخرجك ، وهو ضعيفٌ؛ لأنه لم يثبت كونُ الكاف بمعنى « على » ألبتة إلاَّ في موضع يحتمل النزاع كقوله { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 198 ] .
الثاني عشر : أنَّ الكاف في محل رفع ، والتقدير : كما أخرجك ربك فاتَّقُوا الله ، كأنَّهُ ابتداءٌ وخبر .
قال ابن عطيَّة : « وهذا المعنى وضعهُ هذا المفسِّر وليس من ألفاظ الآية في ورد ولا صدر » .
الثالث عشر : أنَّها في موضع رفعٍ أيضاً والتقدير : لهم درجاتٌ عند ربهم ومغفرةٌ ورزقٌ كريم هذا وعدٌ حقٌّ كما أخرجك ، وهذا فيه حذفُ مبتدأ وخبر ، ولو صرَّح بذلك لم يلتئم التشبيه ولم يحسن .
الرابع عشر : أنَّها في موضع رفع أيضاً والتقدير : وأصلحُوا ذات بينكم ، ذلكم خيرٌ لكم ، كما أخرجك ، فالكافُ في الحقيقة نعتٌ لخبر مبتدأ محذوف ، وهو ضعيفٌ لطولِ الفصلِ بين قوله : « وأصْلِحُوا » ، وبين قوله : « كما أخرجك » .
الخامس عشر : أنّضها في محل رفع أيضاً عى خبر ابتداء مضمر ، والمعنى : أنَّه شبَّه كراهية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لخروجه من المدينة ، حين تحققوا خروج قريشٍ للدفع عن أبي سفيان وحفظ غيره بكراهيتهم لنزع الغنائم من أيديهم ، وجعلها للَّه ورسوله ، يحكم فيها ما يشاء . واختار الزمخشري هذا الوجه وحسَّنه .
فقال : « يرتفع محلُّ الكاف على أنه خبر ابتداء محذوف تقديره : هذه الحالُ كحالِ إخراجك ، يعني أنَّ حالهم في كراهة ما رأيت من تنفيل الغزاة مثل حالهم في كراهة خروجهم للحرب » . وهذا الذي حسَّنه الزمخشريُّ هو قول الفرَّاءِ - وقد شرحه ابنُ عطيَّة بنحو ما تقدَّم من الألفاظ - فإنَّ الفرَّاء قال : « هذه الكاف شبَّهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته بالقصَّة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال » .
السادس عشر : أنَّها صفةٌ لخبر مبتدأ أيضاً ، وقد حذف المبتدأ وخبره ، والتقديرُ : قسمتك الغنائم حق كما كان إخراجك حقاً .
السابع عشر : أنَّ التَّشبيه وقع بين إخراجين ، أي : إخراج ربك إيَّاك من بيتك ، وهو مكَّة وأنت كارهٌ لخروجك ، وكان عاقبة ذلك الإخراج النَّصر والظفر كإخراجه إيَّاك من المدينة وبعضُ المؤمنين كارهٌ ، يكون عقيب ذلك الخروج الظفرُ والنصرُ والخيرُ ، كما كان عقيب ذلك الخروج الأول .
الثامن عشر : أن تتعلَّق الكافُ بقوله : « فاضْربُوا » ، وبسْطُ هذا على ما قالهُ صاحب هذا الوجه أن تكون الكاف للتشبيه على سبيل المجاز كقول القائل لعبده : كما رجعتك إلى أعدائي فاستضعفوك ، وسألت مدداً فأمددتُكَ ، وأزحت عللك ، فخذهم الآن وعاقبهم ، كما أحْسنْتُ إليك وأجريتث عليك الرزق ، فاعملْ كذا ، واشكرني عليه ، فتقدير الآية : كما أخرجك ربُّك من بيتك بالحق وغشَّاكم النُّعاسَ أمَنَةً منه ، وأنزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به وأنزل عليكم من السَّماء ملائكة مردفين فاضربوا فوق الأعناق ، واضربوا منهم كُلَّ بنان . كأنه يقولُ : قد أزَحْتُ عللكم ، وأمددتكم بالملائكة ، فاضربُوا منهم هذه المواضع وهو القتل ، لتبلغوا مراد الله في إحقاق الحقِّ ، وإبطال الباطلِ ، وهذا الوجه بعد طوله لا طائل تحته لبُعدِه من المعنى وكثرة الفواصل .
التاسع عشر : التقدير : كما أخرجك ربك من بيتك بالحقِّ ، أي : بسبب إظهار دين اللَّهِ ، وإعزاز شريعته ، وقد كرهوا خروجك تَهَيُّباً للقتال وخَوْفاً من الموت إذ كان أمر النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام - بخروجهم بغتةً ، ولم يكونُوا مُسَْعِدِّين للخروج ، وجادلوك في الحقِّ بعد وضوحه نصرك اللَّهُ وأمدَّك بملائكته ودلَّ على هذا المحذوفِ الكلامُ الذي بعده ، وهو قوله { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } [ الأنفال : 9 ] الآيات .
وهذا الوجهُ استحسنه أبو حيَّان ، وزعم أنه لمْ يُسْبَق به .
ثم قال : « ويظهرُ أنَّ الكاف ليست لمحضِ التَّشبيه ، بل فيها معنى التَّعليل » .
وقد نصَّ النحويُّون على أنَّها للتعليلِ وخرَّجُوا عليه قوله تعالى : { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ } .
وأنشدوا : [ الرجز ]
2671 - لا تَشْتُمِ النَّاسَ كَمَا لا تُشْتَمُ ... أي : لانتفاءِ شتم النَّاس لك لا تشتمهم .
ومن الكلام الشَّائِعِ : كما تطيع اللَّه يدخلك الجنَّة ، أي : لأجل طاعتك الله يدخلك الجنَّة ، فكذا الآية ، والمعنى : لأنْ خرجت لإعزاز دين اللَّهِ ، وقتل أعدائه ونصرك وأمدَّك بالملائكة .
العشرون : تقديره : وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين كما إخرجُك في الطَّاعة خيرٌ لكم كما كان إخراجك خيراً لهم ، وهذه الأقوالُ ضعيفة كما بينا .
قوله : « بالحَقِّ » فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق بالفعل ، أي : بسبب الحقِّ ، أي : إنَّه إخراجٌ بسبب حق يظهر وهو علوُّ كلمة الإسلام ، والنَّصرُ على أعداء اللَّهِ .
والثاني : أن يتعلق بمحذوفٍ على أنَّهُ حال من مفعول : « أخْرَجَكَ » أي : ملتبساً بالحقِّ .
قوله : وإن فريقاً الواو للحال ، والجملة في محلِّ نصب ، ولذلك كُسرت « إنَّ » ومفعول « كَارِهُونَ » محذوفٌ ، أي : لكارهون الخروج ، وسببُ الكراهية : إمَّا نفرة الطبع ممَّا يتوقَّع من القتال ، وإمَّا لعدم الاستعداد . والمراد ب « بيته » بيته بالمدينة ، أو المدينة نفسها .
فصل
روى ابنُ عبَّاس ، وابنُ الزُّبير ، ومحمَّد بنُ إسحاق ، والسُّديُّ أنَّ أبا سفيان أقبل من الشَّام في عير لقريش في أربعين راكباً من كفَّارِ قريش منهم : عمرُو بن العاصِ ، ومخرمة ابنُ نوفل ، وفيها أموال كثيرة ، حتَّى إذا كانوا قريباً من بدر ، أخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فأعجبهم تلقي العير ، لكثرة الخير ، وقلة العدوِّ ، فانتدب النَّاس ، فخفَّ بعضهم وثقل بعضهم؛ لأنهم لم يظنُّوا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حرباً .
فلمَّا سمع أبُو سفيان بمسير النبي صلى الله عليه وسلم ، استأجرَ ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكَّة وأمره أن يأتي قريشاً يستنفرهم ، ويخبرهم أنَّ محمداً قد عرض عليرهم في أصحابه ، فخرج ضمضم سريعاً إلى مكَّة .
وقد رأت عاتكة بنت عبد المطالب قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال رؤيا أفزعتها ، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له : يا أخي والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفزعتني وخشيت أن يدخل على قومك منها شرّ ومُصيبة فاكتم عليَّ ما أحدثك .
قال لها : وما رأيتُ؟ قالت : رأيتُ راكباً أقبل على بعيرٍ لهُ حتَّى وقف بالأبطح ثمَّ صرخ بأعلى صوته ألا فانفرُوا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث فأرى النَّاس قد اجتمعُوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه ، فبينما هم حولهُ مثل به بعيره على ظهر الكعبةِ ، ثمَّ صرخ بمثلها أعلى صوته ألا فانفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاثٍ ، ثمَّ مثل به بغيره على رأس أبي قبيس ، ثمَّ صرخ بمثلها ثم أخذ صخرة ، فأرسلها فأقبلت تهوي حتّضى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضَّت فما بقي بيت من بيوت مكَّة إلاَّ دخلته منها فلقةٌ ، فحدَّث بها العباس الوليد ، فذكرها الوليدُ لأبيه عتبة ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش .
قال العباس : فغدوت أطوف بالبيت وأبو جهل في رهط من قريش قعود يتحدَّثُون برؤيا عاتكة ، فلمَّا رأني أبو جهل قال : با أيا الفضل إذا فرغت من طوافك أفقبل إلينا .
قال : فلمَّا فرغتُ أقبلتُ حتَّى جلست مهم .
فقال أبو جهل : ييا بني عبد المطلب متى حدثت هذه النبية فيكم قلت : وما ذاك؟ .
قال : الرُّؤيَا التي رأتها عاتكة قلت : وما رأت؟
قال : يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتَّى تتنبأ نساؤهم لقد زعمت عاتكةُ في رؤياها أنَّهُ قال : انْفِرُوا في ثلاثٍ ، فسنتربّص بكم هذه الثلاث ، فإن يكُ ما قالت حقَّا فسيكونُ ، وإن تَمْضِ الثلاث ، ولم يكن من ذلك شيء؛ نكتب عليكم كتاباً أنَّكُمْ أكذبُ هل بيت في العرب قال العباس : فواللَّهِ ما كان منِّي إليه كبير فلمَّا كان بعد ثلاث إذْ هو يسمعُ صوتَ ضمضمٍ بن عمرو وهو يصرخ ببطن الوادي واقفاً على بعيره وقد جدع بعيره ، وحول رحله ، وشق قميصه ، وهو يقولُ : يا معشر قريش اللَّطيمة ، أموالكم مع أبي سفيان ، قد عرض لها مُحَمَّدٌ في أصحابه ولا أرى أن تدركوها الغوث .
فخرج أبو جهلٍ بجميع أهل مكَّة وهم النَّفيرُ ، وفي المثل السَّائر : لا في العير ، ولا في النفير ، فقيل له : إنَّ العير قد أخذت طريق السَّاحل ، ونجتْ ، فارجع بالنَّاس إلى مكة ، فقال : لا والله لا يكونُ ذلك أبداً حتَّى ننحرَ الجزور ، ونشرب الخُمُورَ ، ونقيم القينات والمعازف ببدر ، فيتسامع العربُ بخروجنا ، وأنَّ محمداً لم يُصِب العير ، فمضى بهم إلى بدرٍ ، وبدرٌ كانت العربُ تجمع فيه يوماً في السَّنةِ لسوقهم .
« ونزل جبريلُ وقال : إنَّ القوم قد خرجوا من مكَّة على كلِّ صعبٍ وذلولٍ ، وإن الله قد وعدكم أحدى الطائفتين فالعيرُ أحب إليكم أم النفير؟ .
قالوا : بل العيرُ أحبُّ إلينا من لقاء العدو ، فتغيَّر وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : إنَّ العير قدمضت على ساحلِ البَحْرِ ، وهذا أبو جهل قد أقبل .
فقالوا : يا رسول الله عليك بالعير ودَع العدُوَّ فقام عند غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر لإأحسنا ، ثمَّ قام سعدُ بنُ عبادة وقال : امْضِ لِمَا أمرك اللَّهُ به ، فواللَّهِ لو سرت إلى عدن ما تخلَّف رجلٌ عنك من الأنصار ، ثم قال المقدادُ بنُ عمرو : يا رسول الله امض لما امرك اللَّهُ؛ فإنَّ معك حيث أردت ، لا نقولُ لك كما قالت بَنُو إسرائيل لموسى : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلاا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 24 ] ولكن نقول : اذْهَبْ أنت وربُّك فقاتلا إنَّا معكما مقاتلون ما دامت عين منَّا تطرف ، فضحك رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم قال : » سِيرُوا على بركةِ الله ، وأبشروا ، فإنَّ اللَّهَ اللَّهَ قد وعدنِي إحْدَى الطائفتين ، واللَّهِ لكَأنِّي الآن أنظرُ إلى مصارعِ القوْمِ «
عن أنس قال رسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم » هذا مصرعُ فُلانٍ قال : ويضعُ يدهُ على الأرض ههنا وههنا ، قال : فَمَا مَاطَ أحدهم عن موضع يَدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولمَّا فرغ نبيُّ الله من بدر قال بعضهم : عليك بالعير ، فناداهُ العبَّاسُ وهو في وثاقه : لا يصلحُ ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لِمَ؟ قال : لأنَّ اللَّهَ وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك «
إذا عرف ذلك نقولُ كانت كراهية القتال حاصلة لبعضهم لقوله تعال : { وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ } [ الأنفال : 5 ] والحق الذي جادلوك فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تليق النفير لايثارهم العير .
يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)
قوله : { بَعْدَمَا تَبَيَّنَ } المرادُ منه : إعلام رسُول اللَّهِ بأنَّهم ينصرون ، وجدالهم قولهم : ما كان خُروجنا إلاَّ للعير ، وهلاَّ قلت لنا لنستعدّ ونتأهبّ للقتالِ؛ لأنَّهم كانُوا يكرهون القتال ثُم إنَّه تعالى شبَّه حالهم في فرط فزعهم بحال من يُجَرّ غلى القتل ، ويُسَاق إلى الموت وهو شاهد لأسبابه ناظر إلى موجبته ، ومنه قوله عليه السَّلأامُ : « من نفى ابنه وهو ينظر إليه » أي يعلم أنَّه ابنه ، كقوله تعالى : { يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } [ النبأ : 40 ] أي يعلم وكان خوفهم لأمور :
أحدها : قلَّة العدد .
وثانيها : كانوا رجَّالة ، روي أنه ما كان فيهم إلا فارسان . وثالثها : قلة السلاح .
قوله : يُجالدُونك يحتمل أن يكون مُسْتأنفاً إخباراً عن حالهم بالمجادلةِ ، ويحتمل أن يكون حالاً ثانية أي : أخرجك في حال مجادلتهم إيَّاك ، ويحتمل أن يكون حالاً من الضَّمير في لكارهُون ، أي : لكارِهُونَ في حال جدالٍ .
والظاهرُ أنَّ الضميرَ المرفوع يعودُ على الفريق المتقدِّم .
ومعنى المجادلة قولهم : كيف تُقاتل ولم نستعد للقتال؟ ويجوزُ أن يعود على الكفَّارِ ، وجدالهم ظاهر .
قوله : بَعْدَ ما تبيَّن منصوب بالجدال ، و « ما » مصدرية ، أي : بعد تَبينِهِ ووضوحه ، وهو أقبحُ من الجدال في الشَّيء قبل إيضاحه .
وقرأ عبد الله « بُيِّن » مبنياً للمفعول من : بَيَّنتُهُ أي : أظهرته ، وقوله : « وهُمُ ينظرُونَ » حالٌ من مفعول يُساقُونَ .
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)
قوله « وإذْ يعدُكُمُ » « إذْ » منصوب بفعل مقدر ، أي : اذكر إذْ ، والجمهور على رفع الدال؛ لأنَّه مضارع مرفوع .
وقرأ مسلمة بنُ محاربٍ : بسكونها على التَّخفيفِ لتوالي الحركاتِ .
وقرأ ابنُ محيصن « يعدكم اللَّهُ احدى » يوصل همزة أحْدَى تخفيفاً على غير قياس ، وهي نظير قراءة من قرأ : { إِنَّهَا لإِحْدَى } [ المدثر : 35 ] بإسقاط الهمزة أجرى همزة القطع مُجْرَى همزة الوصل ، وقرأ أيضاً أحَد بالتَّذكير؛ لأنَّ الطائفة مؤنث مجازي .
فصل
إحدى الطائفتين أي : الفرقتين :
أحدهما : أبو سفيان مع العير ، الأخرى أبو جهل مع النَّفيرِ ، و « أنَّها لَكُمْ » منصوبُ المحلِّ على البدلِ مِنْ إحْدَى أي : يَعِدُكم أنَّ إحدى الطائفتين كائنة لكم ، أي : تتسلَّطُون عليها تسلُّط المُلاَّكِ ، فهي بدل اشتمال وتوَدُّونَ تريدون : { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ } يعني : العير التي ليس فيها قتال والشَّوكةُ : السلاح كسِنان الرُّمح ، والنصل والسَّيف ، وأصلها من النَّبتِ الحديدِ الطرف ، ك : « شَوْكِ السَّعدان » ، يقال منه : رَجُلٌ شائِكٌ ، فالهمزة مِنْ « واوٍ » ، ك : قائم ، ويجوزُ قلبه بتأخير عينه بعد لامه ، فيقال : شاكٍ ، فيصير ك : غازٍ ، ووزنهُ حينئذ فالٍ .
قال زهيرٌ : [ الطويل ]
2672 - لَدَى أسَدٍ شَاكِي السِّلاحِ مُقذَّفٍ ... لهُ لبدٌ أظفارهُ لمْ تُقلَّمِ
ويُوصفُ السلاحُ : بالشَّاكي ، كما يوصف به الرَّجُل ، فيقال : رجلٌ شاكٌ ، وشاكٍ ، وسلاحٌ شاكٌ ، وشاكٍ . فأمَّا « شاكٌ » غير معتل الآخر ، وألفه منقلبةٌ عن عين الكلمة ، ووزنهُ في الأصل على فَعِل بكسر العين ، ولكن قلبت ألفاً ، كما قالوا : كبشٌ صافٌ أي صوف ، وكذلك « شاكٌ » أي : شَوِكٌ .
ويحتمل أن يكون حذوف العين ، وأصله « شَائِكٌ » ، فحذفت العين ، فبقي « شاكاً » فألفه زائدةٌ ، ووزنه على هذا « فالٍ » .
وأمَّا : « شاكٍ » فمنقوصٌ ، وطريقته بالقلب كما تقدم ومن وصف السلاح بالشاك قوله : [ الوافر ]
2673 - وألْبِسُ من رضاهُ في طريقِي ... سلاحاً يَذْعَرُ الأبطالَ شَاكَا
فهذا يحتمل أن يكون محذوف العين ، وأن يكون أصله « شوكاً » ، ك : صَوِف . ويقال أيضاً : هو شاكٌّ في السلاح ، بتشديد الكافِ ، من « الشِّكَّة » ، وهي السلام أجمع ، نقله الهرويُّ ، والرَّاغبُ .
قال : إنَّكُم تريدون الطائفة التي لا حدة لها ، يعني : العير ، ولكن الله يريدُ التَّوجُّهَ إلى الطائفة الأخرى ليحق الحقَّ بكلماته .
وقرأ مسلمة بن محارب : « بكلمته » على التَّوحيد ، والمراد به : اسم الجنس فيؤدِّي مؤدَّى الجمع ، والمراد بقوله : « بِكلماتِهِ » أي : بأمره إيَّاكم بالقتالِ ، وقيل : بهدايته التي سبقت من إظهار الدّين وإعزازه : { وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين } والدَّابرُ الآخر من دبر ، ومنه دابرة الطَّائر وقطع الدَّابر عبارة عن الاستئصال أي : ليستأصلهم حتى لا يبقى منهم أحد .
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
قوله : « لِيُحِقَّ » فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه متعلقٌ بما قبله ، أي : ويقطع ليحق الحقَّ ، والثاني : أن يتعلَّق ، بمحذوفٍ تقديره : ليحقَّ الحقَّ فعل ذلك ، أي : ما فعله إلاَّ لهما ، وهو إثباتُ الإسلامِ وإظهاره وزوالُ الكُفْرِ ومحقه .
قال الزمخشريُّ : « ويجب أن يُقدَّر المحذوفُ مؤخراً ليفيد الاختصاص وينطبق عليه المعنى » . وهذا على رأيه ، وهو الصحيحُ .
فإن قيل : قوله : { وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } ثم قوله بعد ذلك « لِيُحِقَّ الحقَّ » تكرير محضٌ .
فالجوابُ : أنَّ المراد بالأوَّل سبب ما وعد اللَّه به هذه الواقعة من النَّصر والظَّفر بالأعداد .
والمراد بالثاني : تقوية القرآن والدِّين ونصرة هذه الشَّريعةِ؛ لأنَّ الذي وقع مع المؤمنين يوم بدر بالكافرين سبب لعزة الدِّين وقوته ، ولهذا قرنه بقوله : « ويُبْطِلَ الباطلَ » الذي هو الشرك ، وذلك في مقابلة : « الحقّ » الذي هو الدين والإيمان .
فإن قيل : الحقُّ حقٌّ لذاته ، والباطلُ باطلٌ لذاته ، وما ثبت للشيء لذاته؛ فإنَّه يمتنع تحصيله بجعل جاعل فما المرادُ من تحقيق الحقِّ وإبطال الباطل .
الجوابُ : المرادُ من تحقيق الحقِّ وإبطال الباطل إظهار كون ذلك الحقِّ حقّاً ، وإظهار كون الباطل باطلاً ، وذلك يكون تارةً بإظهار الدَّلائل والبينات ، وتارةً بتقوية رؤسَاءِ الباطل .
فصل
احتجوا بقوله : « لِيُحِقَّ الحَقَّ » في مسألة خلْقِ الأفعال .
قالوا : يجبُ حمله على أنه يوجدُ الحقَّ وبكونه ، والحقُّ ليس إلاَّ الدين والاعتقاد ، فدل على أنَّ العقائد الحقة لا تحصل إلاَّ بتكوين الله ، ولا يمكنُ حمل تحقيق الحقِّ على إظهار آثاره؛ لأنَّ ذلك الظُّهُورَ حصل بفعل العبادِ ، فامتنع إضافة ذلك الإظهار إلى اللَّهِ تعالى ، ولا يمكنُ أن يقال : المرادُ من أظهاره وضع الدلائل عليها ، لأنَّ هذا المعنى حاصلٌ في حق الكافر والمسلم .
وقبل هذه الواقعة وبعدها فلا يَبْقَى لتخصيص هذه الواقعة بهذا المعنى فائدة أصلاً .
قالت المعتزلةُ : هذه الآيةُ تدلُ على أنَّهُ يريدُ تحقيق الباطل وإبطال الحق ألبتَّة ، إنَّما يريد تحقيق الحقِّ ، وإبطال الباطل ، وذلك يبطلُ قول من يقول إنَّه لا باطل ولا كفر إلاَّ والله تعالى مريدٌ له .
وأجيبوا : بأنه ثبت في أصول الفقة أنَّ المفرد المحلى بالألف واللاَّم ينصرفُ إلى المعهود السَّابقِ فهذه الآية دلَّ على أنَّه تعالى أراد تحقيق الحق ، وإبطال الباطل في الصُّورة ، فلم قُلْتُم إنَّ الأمر كذلك في جميع الصُّور؟
وقد بيَّنا أيضاً بالدَّليلِ أنَّ هذه الآية تدلُّ على صحَّة قولنا .
ثم قال تعالى : { وَلَوْ كَرِهَ المجرمون } أي : المشركون .
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)
قوله : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } الآية .
في « إذْ » خمسة أوجه :
أحدها : أنَّهُ منصوبٌ ب « اذْكر » مضمراً ، ولذلك سمَّاه الحوفي مستأنفاً ، أي : إنَّهُ منقطعٌ عمَّا قبله .
والثاني : أنَّهُ منصوب ب « يُحِقَّ » أي : يحقُّ الحقَّ وقت استغاثتكم ، وهو قول ابن جرير وهو غلط؛ لأن « لِيُحِقَّ » ، مستقبل؛ لأنَّه منصوبٌ بإضمار « أنْ » و « إذْ » ظرف لما مضى ، فكيف يعمل المستقبل في الماضي؟ .
الثالث : أنَّهُ بدلٌ من « إذ » الأولى ، قاله الزمخشري ، وابن عطيَّة ، وأبُو البقاءِ وكانوا قد قدَّمُوا أنَّ العامل في « إذْ » الأولى « اذكر » مقدراً .
الرابع : أنَّهُ منصوب ب « يَعِدُكُمُ » قاله الحوفيُّ ، وقبله الطبري .
الخامس : أنَّهُ منصوب بقوله « تَوَدُّونَ » قاله أبو البقاء ، وفيه بُعْدٌ لطولِ الفصْلِ .
واستاث : يتعدَّى بنفسه ، وبالباءِ ، ولم يجىء في القرآن إلاَّ متعدِّياً بنفسه ، حتَّى نقم ابن مالك على النحويين قولهم : المستغاث له ، أو به ، والمستغاث من أجله ، وقد أنشدوا على تعدِّيه بالحرف قول الشاعر : [ البسيط ]
2674 - حَتَّى اسْتَغَاثَتْ بماءٍ لا رشاءَ لَهُ ... من الأبَاطِحِ في حَافَاتِهِ البُرَكُ
مُكَلَّلٌ بأصُولِ النَّجْمِ تَنْسِجُهُ ... ريحٌ خريقٌ لضاحِي مائِهِ حُبُكُ
كَمَا استغاثَ بِسَيءٍ فَزُّ غَيْطلةٍ ... خَافَ العُيُونَ ولمْ يُنظَرْ بِه الحِشَكُ
فدلَّ هذا على أنَّهُ يتعدَّى بالحرف كما استعمله سيبويه وغيره .
فصل
الاستغاثةُ : طلبُ الغَوْث ، وهو النَّصرُ والعونُ ، وقيل : الاستغاثةُ : سدُّ الخَلَّةِ وقتَ الحاجةِ ، وقيل : هي الاستجارةُ ، ويقالُ : غَوْثٌ ، وغواثٌ ، والغَيْث من المطرِ ، والغَوْثُ من النُّصرةِ ، فعلى هذا يكون « اسْتَغَاثَ » مشتركاً بينهما ، ولكن الفرقَ بينهما في الفعل ، فيقال : اسْتَغثْتُهُ فأغاثني من الغَوث ، وغَاثَني من الغَيْث ، وفي هذه الاستغاثَةُ قولان :
الأول : أنَّ هذه الاستغاثة كانت من الرَّسُولِ - عليه الصَّلاة والسَّلام - .
قال ابن عبَّاسٍ : حدّثني عمرُ بنُ الخطاب - رضي الله عنه - قال : « لمَّا كان يوم بدرٍ نظر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين ، وهم ألف وإلى أصحابه ، وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ، واستقبل القبلة ، ومد يده ، فجعل يهتف بربّه : » اللَّهُمَّ أنْجِزْ لِي ما وعدْتَنِي ، اللَّهُمَّ إنْ تُهلِكْ هذه العصابة لا تُعْبَدُ في الأرضِ « فلم يزل كذلك حتّضى سقط رداؤهُ عن منكبه ، وردَّه أبو بكر ثمَّ التزمه ، ثم قال : كفاكَ يا نبيَّ اللَّهِ مناشَدَتكَ ربَّك ، فإنَّه سَيُنْجِزُ لك ما وعدكَ » ؛ فأنزل اللَّهُ الآية ، ولما اصطفّ القومُ قال أبُو جهلٍ : اللَّهُمَّ أولانا بالحقَّ فانْصُرهُ .
الثاني : أن هذه الاستغاثة كانت من جماعة المؤمنين؛ لأن الوجه الذي لأجله أقدم الرسول على الاستغاثة كان حاصلاً فيهم ، بل خوفهم كان أشَدّ من خوف الرسول ، ويمكن الجمع بينهما بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا وتضرع ، والمؤمنون كانوا يُؤمِّنونَ على دعائه .
قوله : « أنِّي » العامةُ على فتح الهمزةِ بتقدير حذف حرف الجرّ ، أي : فاستجاب بأني .
وقرأ عيسى بن عمر ، وتروى عن أبي عمرو أيضاً « إنِّي » بكسرها ، وفيها مذهبان ، مذهب البصريين : أنَّهُ على إضمار القول ، أي : فقال : إني ممدُّكم .
ومذهب الكوفيين : أنَّها مَحكيَّةٌ ب « اسْتَجَابَ » إجراءً له مُجْرَى القولِ؛ لأنَّه بمعناه .
قوله : « بألفٍ » العامَّةُ على التَّوحيدِ ، وقرأ الجحدريُّ « بآلفٍ » بزنة « أفْلُسِ » وعنه أيضاً ، وعن السدي « بآلاف » بزنة : أحْمَال « ، وفي الجمع بين القراءتين ، وقراءة الجمهور أن تحمل قراءةُ الجمهورِ على أنَّ المرادَ ب » بالألْفِ هم الوجوه ، وباقيهم كالأتباع لهم ، فلذلك لم يَنُصَّ عليهم في قراءة الجمهور ، ونصَّ عليهم في هاتين القراءتينِ ، أو تحمل الألف على من قاتل من الملائكة دون من لم يقاتل ، فلا تَنَافِي حينئذٍ بين القراءاتِ .
قوله : « مُردفينَ » قرأ نافع ، ويروى عن قنبل أيضاً : « مُردَفينَ » بفتح الدَّال ، والباقون بكسرها ، وهما واضحتان؛ لأنه يُروى أنه كان وراء كلّ ملكٍ رديفٌ له ، فقراءة الفتحِ تُشعر بأنَّ غيرهم أردفهم ، لركوبهم خلفهم ، وقراءة الكسر تشعر بأنَّ الراكب خلف صاحبه قد أردفه فصحَّ التَّعبيرُ باسم الفاعل تارةن وباسم المعفول أخرى ، وجعل أبو البقاءِ مفعول « مُردفين » يعني بالكسر محذَوفاً أي : مُردفين أمثالهم ، وجوَّز أن يكون معنى الإرداف : المجيء بعد الأوائل ، أي : جعلوا ردفاً للأوائل . ويطلب جواب عن كيفيَّةِ الجمع بين هذه الآية ، وآية آل عمران حيث قال هناك « بخَمْسَة » وقال هنا : « بألفٍ » والقصّة واحدة؟
والجوابُ : أنَّ هذه الألف مردفةٌ لتلك الخمسة؛ فيكون المجموعُ ستة آلاف ، ويظهر هذا ، ويقوى في قراءة : « مُردِفينَ » بكسر الدَّالِ .
وقد أنكر أبو عبيدٍ : أنْ تكون الملائكةُ أردفت بعضها أي : ركَّبَتْ خلفها غيرها من الملائكةِ .
وقال الفارسيُّ : من كسر الدَّال احتمل وجهين :
أحدهما : أن يكونوا مردفين مثلهم كما تقول : أردفتُ زيداً دابتي ، فيكون المفعولُ الثَّاني محذوفاً ، وحذفُ المفعولِ كثيرُ ، والوجه الآخرُ : أن يكونوا جَاءُوا بعد المسلمين .
وقال الأخفشُ « بنو فلان يَردفوننا ، أي : يَجيئُون بعدنا » .
وقال أبُو عبيدة « مُردفينَ » جاءوا بعدُ ، وردفني ، وأردفني واحد .
قال الفارسي : هذا الوجه كأنه أبْيَنُ لقوله تعالى : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } فقوله : « مُردفينَ » أي : جائين بعد ، لاستغاثتكم ، ومن فتح الدَّال فهم مُردفُون على أرْدِفُوا الناسَ ، أي : أنْزِلُوا بعدهم .
وقرأ بعض المكيين فيما حكاه الخليلُ : « مُردِّفينَ » بفتح الرَّاء وكسر الدَّالِ مشدَّدة ، والأصلُ : « مُرتدفينَ » فأدغم .
وقال أبو البقاءِ : إنَّ هذه القراءة مأخوذةٌ من « رَدَّفَ » بتشديد الدَّال على التكثير وإنَّ التضعيف بدلٌ من الهمزة ك : « أفْرحتَهُ وفرَّحْته » .
وجوَّز الخليلُ بنُ أحمد : ضمَّ الراءِ إتباعاً لضم الميم ، كقولهم : « مُخُضِم » بضم الخاءِ ، وقد قراء بها شذوذاً .
وقرىء « مُرِدِّفين » بكسر الرَّاءِ وتشديد الدَّالِ مكسورة ، وكسر الراء يحتمل وجهين : إمَّا لالتقاءِ الساكنين ، وإمَّا للإتباع .
قال ابنُ عطيَّة : « ويجوزُ على هذه القراءةِ كسرُ الميم إتباعاً للرَّاءِ ، ولا أحفظه قراءة » .
قال شهابُ الدِّين : وكذلك الفتحة في « مُردِّفينَ » في القراءة التي حكاها الخليلُ تحتمل وجهين :
أظهرهما : أنَّها حركةُ نقلٍ من التَّاء - حين قصد إدغامها - إلى الرَّاءِ .
والثاني : أنَّها فُتِحَتْ تخفيفاً وإن كان الأصلُ الكسر على أصل التقاء السَّاكين ، كما قد قُرىء به ، وقرىء « مِرِدِّفين » بكسر الميم ، إتباعاً لكسرةِ الرَّاءِ .
و « الإرداف » الإتباع ، والإركاب ، وراءك .
وقال الزَّجَّاجُ : « أردفْتُ الرَّجُلَ إذا جئت بعده » .
ومنه : { تَتْبَعُهَا الرادفة } [ النازعات : 7 ] ويقال : رَدِف ، وأرْدَفَ .
واختلف اللغويون : فقيل هما بمعنى واحد ، وهو قول ابن الأعرابي نقله عنه ثعلب .
وقولُ أبي زيْد نقله عنه أبو عبيدٍ ، قال : يقال : ردفْتُ الرَّجُلَ وأردفتُهُ ، إذا ركِبْتُ خَلْفَهُ؛ وأنشد : [ الوافر ]
2675 - إذَا الجَوْزَاءُ أرْدَفَتِ الثُّرَيَّا ... ظَنَنْتُ بآل فَاطِمَةَ الظُّنُونَا
أي : جاءت على رِدْفِها ، وقيل : بينهما فرقٌ فقال الزَّجَّاجُ : « يقال : رَدِفْتُ الرَّجل إذا ركبتُ خلفه ، وأرْدَفتُه أركبته خَلْفِي » . وهذا يُناسبُ قول مَنْ يُقدِّر مفعولاً في : « مُرْدِفين » بكسر الدَّال وأرْدَفْتُه إذا جئتَ بعده أيضاً فصار « أرْدَفَ » على هذا مشتركاً بين معنين .
وقال شمر : « رَدِفْتُ وأرْدَفْتُ إذَا فَعَلْتَ ذلك بنفسكَ ، فأمَّا إذَا فعلتهما بغيركَ فأرْدَفْتُ لا غير » .
وقوله : « مُرْدَفينَ » بفتح الدَّال فيه وجهان ، أظهرهما : أنَّهُ صفةٌ ل « ألْف » أي : ارْدَفَ بعضهم لبعض ، والثاني : أنَّه حالٌ من ضمير المخاطبين في ممدكم .
قال ابن عطية : « ويحتمل أن يراد بالمُرْدَفين : المؤمنون ، أي : أرْدِفُوا بالملائكة » .
وهذا نصٌّ فيما ذكر من الوجه الثاني .
وقال الزمخشري : وقرئ « مُرْدفين » بكسر الدَّال وفتحها من قولك : رَدِفه ، إذا تبعه ، ومنه قوله تعالى { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] أي : ردفكم ، وأرْدَفْتُه إيَّاه : إذا تَبِعْتَه ، ويقال : أرْدَفته كقولك ، اتَّبَعْته : إذا جِئْتَ بعده ، ولا يخلُو المكسورُ الدَّالِ من أن يكون بمعنى : مُتْبِعِين ، أو مُتَّبِعين .
فإن كان بمعنى مُتْبعين فلا يخلو من أن يكون بمعنى مُتْبِعين بعضهم بعضاً ، أو مُتْبِعِين بعضهم لبعض ، أي بمعنى مُتْبِعِين إياهم المؤمنين ، بمعنى يتقدَّمونهم فيتبعونهم أنفسهم ، أو مُتْبِعين لهم يُشيِّعُونهم ويُقدِّمُونهُم بين أيديهم ، وهم على ساقتهم ليكونوا على أعينهم وحِفْظِهم أو بمعنى مُتْبِعِين أنفسهم ملائكة آخرين ، أو متبعين غيرهم من الملائكة ، ويعضد هذا الوجه قوله تعالى في سورة آل عمران
{ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملاائكة مُنزَلِينَ } [ آل عمران : 124 ] { بِخَمْسَةِ آلااف مِّنَ الملاائكة مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 125 ] .
ومن قرأ « مُرْدَفين » بالفتح فهو بمعنى مُتْبعينَ أو مُتَّبعينَ .
وهذا الكلامُ على طوله ، شرحُهُ أنَّ « أتْبع » بالتخفيف ، يتعدَّى إلى مفعولين ، و « اتَّبَع » بالتَّشديد ، يتعدى لواحدٍ ، و « أردف » قد جاء بمعناهما ، ومفعوله أو مفعولاه ، محذوفٌ ، لفهم المعنى ، فيقدَّر في كل موضع ما يليق به ، إلاَّ أنَّ أبا حيَّان عابَ عليه قوله : « مُتْبِعين إيَّاهم المؤمنين » .
وقال : « هذا ليس من مواضعِ فصل الضميرِ ، بل ممَّا يتصل ، وتُحْذف له النُّونُ ، لا يقال : هؤلاء كاسون إيَّاك ثوباً بل : كاسوك ، فتصحيحه أن يقول : متبعيهم المؤمنين ، أو متبعين أنفسهم المؤمنين » .
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
قوله : « وما جَعَلَهُ » الهاء تعود على الإمداد ، أي : وما جعل اللَّهُ الإمدادَ ، ثُمَّ هذا الإمدادُ يحتمل أن يكون المنسبكَ من قوله : « إنِّي مُمِدُّك » إذ المعنى : فاستجاب بإمدادكم ، ويحتمل أن يكون مدلولاً عليه بقوله : « مُمِدُّكم » كما دلَّ عليه فعلُهُ في قوله : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } [ المائدة : 8 ] وهذا الثَّاني أولَى؛ لأنَّه مُتأتٍّ على قراءة الفتح والكسر في : « إني » بخلاف الأول فإنَّهُ لا يتّجه عودُهُ على الإمداد على قراءة الكسر إلاَّ بتأويلٍ ذكره الزمخشريُّ : وهو أنَّه مفعول القول المضمر ، فهو في معنى القول .
وقيل يعودُ على المدد قاله الزَّجَّاجُ ، وهذا أولى؛ لأنَّ بالإمداد بالملائكةِ كانت البُشْرَى .
وقال الفرَّاءُ : إنَّهُ يعودُ على الإرداف المدلول عليه ب « مُرْدفين » .
وقيل : يعودُ على : « الألف » .
وقيل : على المدلول عليه ب « يَعِدُكم » .
وقيل : على جبريل ، أو على الاستجابة لأنَّها مؤنثٌ مجازي ، أو على الإخبار بالإمداد ، وهي كلُّهَا محتملة وأرجحها الأوَّلُ ، والجعل هنا تصييرُ .
فصل في قتال الملائكة يوم بدر .
اختلفوا في أنَّ الملائكة هل قاتلوا يوم بدر؟ فقال قومٌ : نزل جبريلُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - في خمسمائة ملك على الميمنة ، وفيها أبو بكر ، وميكائيل في خمسمائة على الميسرة وفيها علي بن أبي طالب في صورة الرِّجال عليهم ثياب بيض وعمائم بيض ، وقد أرخوا أطرافهم بين أكتافهم وقاتلوا ، وقيل : قاتلُوا يوم بدر ولم يقاتلُوا يوم الأحزاب ، ويوم حنين .
رُوي أنَّ أبّا جهل قال لابنِ مسعُودٍ : مِنْ أينَ كان الصَّوت الذي كُنَّا نسمعُ ولا نرى شخصاً؟ .
قال : من الملائكة .
فقال أبُو جهْلٍ : هُم غلبونَا لا أنتم .
« وروي أنَّ رجلاً من المسلمين بينما هو يشتد في أثر رجل من المشركين إذْ سمع صوت ضربة السَّوْط فوقه ، فنظر إلى المشرك وقد خرَّ مستلقياً وشُق وجهه ، فحدَّث الأنصاريُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : » صَدقتَ ذاكَ من مددِ السَّماءِ «
وقال آخرون لم يُقاتلُوا وإنَّما كانوا يكثرون السَّواد ويثبتون المؤمنين ، وإلاَّ فملك واحد كافٍ في إهلاك أهل الدنيا كلهم فإنَّ جبريل - عليه السلام - أهلكَ بريشةٍ من جناحه مدائن قوم لوطٍ ، وأهلك بلاد ثمود ، وقوم صالح بصحية واحدة .
وقد تقدَّم الكلامُ في كيفية هذا الإمداد في سورة آل عمران ، ويدلُّ على أنَّ الملائكة لم يقاتلوا قوله { وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى } إذا جعلنا الضمير عائداً على الإرداف .
قال الزَّجَّاجُ : » وما جعل الله المردفينَ إلا بشرى « وهذا أولى؛ لأنَّ الإمدادَ بالملائكة حصل بالبشرى .
{ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله } والمقصود التَّنبيه على أنَّ الملائكةَ وإن كانُوا قد نزلوا في موافقة المؤمنين ، إلاَّ أنَّ الواجب على المؤمنِ أنْ لا يعتمد على ذلك ، بل يجبُ أن يكون اعتماده على اللَّهِ ونصره وكفايته؛ لأنَّ الله هو العزيزُ الغالب الحكيم فيما ينزل من النُّصْرَةِ فيضعها في موضعها .
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)
قوله : « إذْ يُغَشِّيكمُ » في « إذ » وجوه :
أحدها : أنَّهُ بدلٌ من « إذ » في قوله : « وإذْ يَعِدُكُم » قال الزمخشريُّ : « إذْ يغشاكُمُ » بدلٌ ثانٍ من « إذ يعدكُم » .
قوله : « ثَانس » ؛ لأنه أبدل منه « إذْ » في قوله : « إذْ تستغيثُونَ » ووافقه على هذا ابنُ عطيَّة ، وأبو البقاء .
الثاني : أنَّهُ منصوبٌ ب « النصر » .
الثالث : بما في عند الله من معنى الفعل .
الرابع : ب « ما جعله اللَّهُ » .
الخامس : بإضمار « اذكُر » ذكر ذلك الزمخشريُّ . وقد سبقه إلى الرابع : الحُوفِيُّ . وقد ضعَّف أبو حيان الوجه الثَّاني بثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنَ فيه إعمال المصدر المقرون ب « أل » قال : وفيه خلاف : ذهب الكوفيُّون إلى أنَّه لا يعمل .
الثاني : أنَّ فيه فصلاً بين المصدر ومعموله بالخير ، وهو قوله : { إِلاَّ مِنْ عِندِ الله } [ الأنفال : 10 ] [ آل عمران : 126 ] ولو قلت : « ضَرْب زيدٍ شديدٌ عمراً » لَمْ يَجُرْ .
الثالث : أنه عمل ما قبل « إلاَّ » فيما بعدها ، وليس أحد الثلاثة الجائز ذلك فيها؛ لأنَّه لا يعملُ ما قبلها فيما بعدها إلا أن يكون مستثنى ، أو مستثنى منه أو صفة له .
وقد جوَّز الكسائيُّ والأخفش : إعمال ما قبل « إلاَّ » فيما بعدها مطلقاً ، وليس في هذه الأوجه أحسنُ من أنَّهُ أخبر عن الموصول قبل تمام صلته ، وضعَّف الثَّالث بأنَّهُ يلزم منه أن يكون استقرارُ النَّصْرِ مُقَيَّداً بهذا الظَّرفِ ، والمنَّصرُ من عند اللَّه لا يتقيَّدُ بوقت دون وقت وهذا لا يضعفُ به؛ لأنَّ المراد بهذا النَّصر نصرٌ خاص ، وهذا النصرُ الخاصُّ كان مقيَّداً بذلك الظرف . وضعَّف الرابع بطولِ الفصلِ ، ويكون معمولاً لما قبل « إلاَّ » .
السادي : أنَّهُ منصوبٌ بقوله : « ولتَطْمئنَّ بِهِ » قاله الطَّبريُّ .
السابع : أنَّهُ منصوبٌ بما دلَّ عليه : « عزيزٌ حكيمٌ » قاله أبُو البقاءِ ونحا إليه ابن عطيَّة قبله .
وقرأ ابنُ كثير ، وأبو عمرو : « يغْشاكُمُ النُّعاس » ، ونافع « يُغشِيكُمُ » بضمِّ الياءِ ، وكسر الشِّين خفيفة « النَّعاسَ » نصباً والباقون « يُغَشِّكُمُ » كالذي قبله ، إلاَّ أنه بتشديد الشِّين . فالقراءة الأولى من : « غَشِيَ يَغْشَى » ، و « النَّعاسُ » فاعل ، وفي الثانية من : « أغْشَى » وفاعله ضميرُ الباري تعالى ، وكذا في الثالثة من : « غَشَّى » بالتشديدن و « النُّعاس » فيهما مفعول به . و « أغْشَى وغَشَّى » لغتان .
قال الواحديُّ : « من قرأ » يَغْشَاكم « فلقوله : { أَمَنَةً نُّعَاساً يغشى } [ آل عمران : 154 ] فكما أنسد الفعل هناك إلى » النُّعاس « ، و » الأمَنَة « التي هي سبب النُّعاس كذلك ههنا ، ومن قرأ » يُغشيكم « ، أو » يُغشِّيكم « فالمعنى واحدٌ ، وقد جاء التَّنْزِيلُ بهما في قوله :
{ فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [ يس : 8 ] وقال : { فَغَشَّاهَا مَا غشى } [ النجم : 54 ] .
قوله : « أمَنَةً » في نصبها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّه مصدرٌ لفعلٍ مقدر ، أي : فأمِنْتُم أمَنَةً .
الثاني : أنَّها منصوبةٌ على أنَّها واقعةٌ موقع الحال إمَّا من الفاعل ، وإمَّا من المفعول ، فإن كان الفاعل ُ « النعاس » فنسبةُ الأمنة إليه مجازٌ ، وإن كان الباري تعالى كما هو في القراءتين الأخيرتين فالنسبةُ حقيقيةٌ ، وإن كان من المفعولِ فعلى المبالغةِ ، أي : جعلهم نفس الأمنة ، أو على حذف مضاف ، أي : ذوي أمنة .
الثالث : أنَّه مفعولٌ من أجله ، وذلك إمّضا أن يكون على القراءتين الأخريين أو على الأولى ، فعلى القراءتين الأخريين أمرها واضحٌ ، وذلك أن التَّغشية ، أو الإغشاء من اللَّهِ تعالى ، والأمنةُ منه أيضاً ، فقد اتَّحد الفاعل فصحَّ النَّصْبُ على المفعول له ، وأمَّا على القراءة الأولى ففاعل « يَغْشَى » النُّعاس وفاعل « الأمنة » الباري تعالى ، ومع اختلافِ الفاعل يمتنع النَّصْبُ على المفعولِ له على المشهُورِ ، وفيه خلاف اللَّهُمَّ إلاَّ أن يتجوَّز فيجوز .
وقد أوضح ذلك الزمخشريُّ فقال : و « أمَنَةً » مفعولٌ له .
فإن قلت : أما وجب أن يكون فاعلُ الفعل المُعَلَّلِ والعلَّة واحداً؟ قلتُ : بلى ، ولكن لمَّا كان معنى : « يَغْشَاكُمُ النعاسُ » تنعسون ، انتصب « أمَنَةً » على معنى أنَّ النُّعَاس والأمَنَةَ لهم ، والمعنى : إذ تنعسون أمنة بمعنى أمناً .
ثم قال : « فإن قلت : هل يجوز أن ينتصب على أنَّ الأمنة للنُّعاسِ الذي هو فاعل » يَغْشَاكُم؟ أي : يغشاكم النُّعاسُ لأمنة على أنَّ إسنادَ الأمْن غلى النعاس إسنادٌ مجازي ، وهو لأصحاب النُّعاس على الحقيقة ، أو على أنه أنامكم في وقتٍ كان من حق النعاس في ذلك الوقتِ المخوف أن لا يقدم على غشيانكم ، وإنَّما غشَّاكم أمنةً حاصلةً له من اللَّهِ لولاها لم يغشكم على طريقة التَّمثيل ، والتخييل « .
قال شهابُ الدين : لا تبعد فصاحة القرآن عن مثله ، وله فيه نظائرُ ، ولقد ألمَّ به بعضهم؛ فقال : [ الوافر ]
2676 - يَهَابُ النَّوْمُ أنْ يَغْشَى عُيُوناً ... تَهَابُكَ فهو نفَّارٌ شَرُودُ
قوله : » مِنْهُ « في محلِّ نصب ل » أمَنَةً « والضميرُ في : » منهُ « يجوز ان يعود على الباري تعالى ، وأن يعود على » النُّعاسِ « بالمجازِ المذكور آنفاً ، وقرأ ابنُ محيصن ، والنَّخعي ، ويحيى بنُ يعمُر : » أمْنَةً « بسكون الميم ، ونظير : أمِنَ أمَنَةً بالتحريك : حَيِيَ حياة ، ونظير : أمِنَ أمْنَة بالسُّكُون : رَحِمَ رَحْمَةً .
فصل
كلُّ نوم ونعاس فإنه لا يحصلُ إلاَّ من قبل الله تعالى فتخصيصُ هذا النعاس بأنَّهُ من الله تعالى لا بدَّ منه من فائدة جديدة ، وذكرُوا فيه وجوهاً :
أولها : أن الخائف من عدوه خوفاً شديداً لا يأخذه النَّومُ ، فصار حصول النَّومِ في وقت الخوفِ الشديد دليلاً على زوال الخوف وحصول الأمنِ .
وثانيها : أنَّهُم خافُوا من جهات كثيرة : قلة المسلمين ، وكثرة الكُفَّارِ ، وكثرة الأهبة ، والآلة ، والعدة للكافرين ، والعطش الشديد ، فلولا حصول النُّعاس ، وحصول الاستراحة حتّضى تمكنوا في اليوم الثاني من القتال لما تمَّ الظفرُ .
وثالثها : أنهم ما ناموا نوماً غرقاً يتمكن العدو منهم ، بل كان ذلك نعاساً يزيل الإعياء والكلالة بحيث لو قصدهم العدو لعرفوه ، ولقدروا على دفعه .
ورابعها : أنَّ النعاس غشيهم دفعةً واحدةً مع كثرتهم وحصول النُّعاس للجمع العظيم على الخوف الشَّديد أمرٌ خارق للعادة .
فلهذا قيل : إنَّ ذلك النُّعاس في حكم المُعْجِز .
فإن قيل : فإذا كان الأمر كذلك فلم خافوا بعد ذلك؟
فالجواب : لأنَّ المعلوم أنَّ الله تعالى يجعل جُنْدَ الإسلامِ مظفراً منصوراً ، وذلك لا يمنع من ضرورة بعضهم مقتولين .
قال ابنُ عباسٍ : « النُّعاس في القتال أمَنَة من اللَّهِ ، وفي الصَّلاةِ وسوسة من الشَّيطانِ » .
قوله : { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } العامَّةُ على « ماءً » ، و « ليطُهِّركُم » متعلقٌ ب : « يُنَزّل » .
وقرأ الشعبيُّ : « مَا ليُطهركُم » بألفٍ مقصورة ، وفيها تخريجان ، أشهرهما وهو الذي ذكره ابن جني وغيره - « أنَّ » « مَا » بمعنى « الَّذي » و « لِيُطهِّركُم » صلتها .
قال بعضهم : تقديره : الذي هو ليطهركم . فقدَّر الجار خبراً لمبتدأ محذوف ، والجملة صلة ل « مَا » وقد ردَّ أبو حيانهذين التخريجين بأنَّ لامَ « كَيْ » لا تقعُ صلةً .
والثاني : أن « ما » هو ماء بالمدّ ، ولكن العرب قد حذفتْ همزته فقالوا : « شَرِبْتُ مًا » بميم منونة حكاه ابن مقسم .
وهذا لا نظير له ، إذ لا يجُوزُ أن يُنتهك اسمٌ معربٌ بالحذفِ حتَّى يبقى على حرفٍ واحدٍ ، إذا عرف هذا؛ فيجُوزُ أن يكون قصر « ماء » ، وإنَّما لم يُنونهُ إجراء للوصل مجرى الوقف ، ثم هذه الألفُ تحتملُ أن تكون عين الكلمة ، وأنَّ الهمزة محذوفةٌ ، وهذه األفُ بدلٌ من الواوِ التي في « مَوَهَ » في الأصل ، ويجوزُ أن تكون المبدلة من التَّنوين ، وأجرى الوصل مُجْرَى الوقف ، والأوَّلُ أوْلَى ، لأنَّهم يُرَاعُونَ في الوقف ألاَّ يتركُوا الموقوف عليه على حرفٍ واحدٍ نحو : « مُرٍ » اسم فاعل من : أرَى يُري .
فصل
رُوي أنَّهم حَفَرُوا موضعاً في الرَّملِ ، فصار كالحوض الكبير ، واجتمع فيه الماء حتَّى شربُوا منه وتطهروا وتزودوا .
وقيل : إنَّهم لمَّا عطشوا ولم يجدوا الماء ثمَّ نامُوا واحتلمُوا تضاعفت حاجتهم إلى الماء ثم إنَّ المطر نزل وزالت عنهم تلك البليّة والمِحْنَة .
ومن المعلومِ بالعادة أنَّ المؤمن يستقذر نفسه إذا كان جُنُباً ، ويغتم إذا لم يمكن من الاغتسال ، وقد يستدل بهذا على حصول اليسر وزوال العسر .
قوله : « ويُذْهِبُ عنكُمْ » نسق على « لِيُطَهِّركُم » وقرأ عيسى بنُ عُمَرَ : « ويذْهِبْ » بسكون الباء وهو تخفيف سمَّاهُ أبُو حيَّان : جَزْماً . والعامة على « رِجْزَ » بكسر الرَّاءِ وبالزاي .
وقرأ ابنُ محيصن : بضمِّ الراءِ ، وابنُ أبي عبلة بالسِّين ، وقد تقدَّم الكلامُ على كلِّ واحد منهم .
ومعنى : رجز الشيطانِ ههنا : ما ينشأ عن وسوسته ، وقيل : الاحتلام ، وقيل : إن الكفار لمَّا نزلوا على الماءِ وسوس الشَّيطانُ للمسلمينِ وخوَّفَهُم من الهلاكِ ، فلمَّا نزل زالت تلك الوسوسة . فإن قيل : فأيُّ هذه الوجوه أوْلَى؟ .
فالجوابُ : أنَّ قوله « لِيُطهِّركُم » معناه ليزيلَ الجنابة عنكم ، فلوْ حملنا قوله { وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان } على الجنابةِ لزم التَّكرار ، وهو خلافُ الأصل .
ويمكن أنْ يُجابَ بأنَّ المُرادَ من قوله « لِيُطهِّركُم » حصولُ الطَّهارةِ الشَّرعيةِ ، والمرادُ : { وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان } إزالة عين المَنِيّ عن أعضائهم فإنَّهُ شيء مُسْتَخْبَثٌ .
ثم نقول حمله على إزالة أثر الاحتلام أولى من حمله على إزالة الوسوسة؛ لأن تأثير الماءِ في إزالة العينِ عن العضو تأثير حقيقيّ ، وتأثيره في إزالة الوسوسةِ عن القلبِ تأثير مجازي ، وحمل اللفظِ على الحقيقةِ أولى من حمله على المجازِ .
قوله : { وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ } أي بسبب نزول هذا المطر قويت قلوبهم وزال الخوفُ عنهم ، ومعنى الرَّبط في اللغة : الشَّد ، وقد تقدَّم في قوله : { وَرَابِطُواْ } [ آل عمران : 20 ] .
قال الواحديُّ : « ويشبه أن تكون » على « ههنا صلة ، والمعنى : وليربط قلوبكم بالصَّبر وما أوقع فيها من اليقين » .
وقال ابن الخطيب : ويشبه ألاَّ يكون صلة؛ لأنَّ كلمة « عَلَى » تفيد الاستعلاء ، فالمعنى أنَّ القلوب امتلأتْ من ذلك الربط حتَّى كأنَّهُ عَلاَ عليها وارتفع فوقها .
قوله : { وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام } قيل : إنَّ ذلك المطرَ لبَّد ذلك الرَّمل ، وصيَّرهُ بحيث لا تغوص أرجلهم فيه فقدروا على المشي عليه كيفما أرادوا ، ولولا هذا المطر لما قدروا عليه ، وعلى هذا فالضَّمير في « بِهِ » عائدٌ على المطرِ .
وقيل : إنَّ ربط قلوبهم أوجب ثبات الرَّبْطِ .
وقيل : لمَّا نزل المطرُ حصل للكافرينَ ضدَّ ما حصل للمؤمنين؛ لأنَّ الموضع الذي نزل الكفارُ فيه كان موضع التُّرابِ والوحل ، فلمَّا نزل المطرُ عظم الوحْلُ؛ فصار ذلك مانعاً لهم من المشي كيفما أرادوا فقوله : { وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام } يدلُّ دلالة المفهوم على أنَّ حال الأعداءِ كان بخلاف ذلك .
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)
قوله : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملاائكة } في « إذْ » أوجهٌ :
أحدها : أنَّهُ بدلُّ ثالث من قوله { وَإِذْ يَعِدُكُمُ } .
الثاني : أن ينتصب بقوله « يُثَبِّتَ » .
قالهما الزمخشريُّ ولم يبن ذلك على عودِ الضمير .
وأمَّا ابنُ عطية : فبناه على عَوْدِ الضَّمير في قوله « بِهِ » فقال : العاملُ في « إذْ » العاملُ الأول على ما تقدَّم فيما قبلها ، ولو قدَّرناهُ قريباً لكان قوله : « ويُثَبِّتَ » على تأويل عوده على الرَّبْطِ .
وأمَّا على تأويل عوده على : « المَاءِ » فيقلق أن يعمل « ويُثَبِّتَ » في « إذ » وإنَّما قلق ذلك عنده لاختلاف زمان التثبُّت وزمان الوحي ، فإنَّ إنزالَ المطر وما تعلَّق به من تعليلاتٍ متقدمٌ على تغشية النُّعاس ، وهذا الوحيُ وتغشيةُ النُّعاس والإيحاءُ كانا وقت القتال .
قوله : « أنِّي معَكُمْ » مفعولٌ ب « يُوحِي » أي : يوحي كوني كعكم بالغلبةِ والنصر .
وقرأ عيسى بن عمر - بخلافٍ عنه - « أنِّي مَعَكُمْ » بكسرِ الهمزةِ وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّ ذلك على إضمار القول ، وهو مذهب البصريين .
والثاني : إجراء « يُوحِي » مُجْرَى القول؛ لأنَّهُ بمعناه ، وهو مذهب الكوفيين .
فصل
في المعنى وجهان : أحدهما : أنَّه تعالى أوحى إلى الملائكة بأنَّهُ تعالى معهم أي مع الملائكة حال إرسالهم رِدْءاً للمسلمين .
والثاني : أنَّهُ تعالى أوحى إلى الملائكة أني مع المؤمنين فانصروهم ، وثبتوهم ، وهذا أولى؛ لأن المقصود إزالة التَّخويف ، والملائكةُ لم يخافوا الكُفَّار ، وإنَّما الخائف هم المسلمون .
ثم قال : { فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ } في كيفيَّةِ هذا التَّثْبيت وجوهٌ : فقيل : إنَّهم عرَّفُوا الرَّسُول - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنَّ الله ناصر المؤمنين والرَّسول عرَّف المؤمنين ذلك ، فهذا هو التثبيتُ .
وقيل : إنَّ الشيطان كما يُمكنه إلقاء الوسوسة إلى الإنسان ، فكذلك الملك يمكنه إلقاء الإلهامِ إليه ، فالتثبيت من هذا الباب .
وقيل : إنَّ الملائكة كانوا يتشبَّهُون بصورِ رجال من معارفهم وكانوا يمدونهم بالنَّصر والفتح ، والظَّفَرِ .
قول : { سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } وهذا من النعم الجليلة ، لأنَّ أمير النفس هو القلب فلمَّا بيَّن اللَّهُ تعالى أنَّهُ ربط قلوب المؤمنين أي : قوَّاها ، وأزال الخوف عنها ذكر أنه ألقى الرُّعْبَ في قلوب الكافرينَ ، فكان ذلك من أعظمِ نعم الله تعالى على المؤمنين .
قوله : « فاضْرِبُوا » قيل : هذا أمر للملائكة متصلٌ بقوله تعالى : « فَثَبِّتُوا » .
وقيل : أمر للمؤمنين وهو الصَّحيح لما تقدَّم من أنَّ الملائكة لم ينزلوا للمقاتلة ، بل لتقوية قُلُوبِ المؤمنين وتثبيتهم .
قوله : « فوْقَ الأعناقِ » فيه أوجه :
أحدها : أنَّ « فوْقَ » باقيةٌ على ظرفيتها والمفعولُ محذوفٌ ، أي : فاضربوهم فوق الأعناقِ . علَّمَهُم كيف يضربونهم .
والثاني : أنَّ « فوْقَ » مفعولٌ به على الاتَّساع؛ لأنه عبارةٌ عن الرَّأسِ ، كأنَّه قيل : فاضربوا رُءوسهم ، وهذا ليس بجيد؛ لأنَّهُ لا يتصرَّف .
وزعم بعضهم أنه يتصرَّف ، وأنك تقول : فوقُك رَأسُك برفع فوقك ، وهو ظاهرُ قول الزمخشريِّ ، فإنه قال : « فَوْقَ الأعْنَاقِ » أراد أعالي الأعناق التي هي المذابح لأنَّها مفاصلٌ .
الثالث : - وهو قول أبي عبيدة - : أنَّها بمعنى « على » أي : على الأعناقِ ويكون المفعولُ محذوفاً تقديره : فاضربوهم على الأعناق ، وهو قريبٌ من الأول .
الرابع : قال ابنُ قتيبة : هي بمعنى : « دون » .
قال ابن عطيَّة : « وهذا خطأ بيِّنٌ وغلطٌ فاحشٌ ، وإنَّما دخل عليه اللَّبْس من قوله : { بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } [ البقرة : 26 ] أي : فما دونها وليست » فوق « هنا بمعنى » دون « وإنَّما المرادُ : فَمَأ فوقها في القلَّة والصِّغَرِ » .
الخامس : أنها زائدةٌ أي : اضْرِبُوا الأعناقَ ، وهو قول أبي الحسنِ . وهذا عند الجمهور خطأ؛ لأنَّ زيادة الأسماءِ لا يجوزُ .
قوله : { . . . مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } يجوزُ أن يتعلَّق : « مِنْهُمْ » بالأمر قبله ، أي : ابتدئوا الضَّرب من هذه الأماكن ، وهذا الكلامُ مع ما قبله معناه : اضربوهم في جميع الأماكن والأعضاءِ من أعاليهم إلى أسافلهم ، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ حال من : « كُلَّ بنانٍ » لأنَّهُ في الأصل يجوزُ أن يكون صفةً لو تأخَّر ، قال أبُو البقاءِ : « ويَضْعُفُ أن يكون حالاً من » بَنَانٍ « إذْ فيه تقديمُ حالِ المضافِ إليه على المضاف » . فكأنَّ المعنى : اضربوهم كيف ما كان .
قال الزمخشريُّ : يعني ضرب الهام .
قال : [ الوافر ]
2677 - ... وأضْرِبُ هَامَة البْطَلِ المُشِيحِ
وقال : [ البسيط ]
2678 - غَشَّيْتُهُ وهْوَ في جَأواء بَاسِلَةٍ ... عَضْباً أصَابَ سَواءَ الرَّأسِ فانْفلقَا
وقال ابن عطية : ويُحتمل أن يريد بقوله : « فوق الأعْنَاقِ » وصْف أبلغِ ضرباتِ العنقِ ، وهي الضربة التي تكون فوق عظم العنق ودون عظم الرأس .
ثم قال : ومنه قوله : [ الوافر ]
2679 - جَعَلْتُ السَّيْفَ بَيْنَ الجِيدِ مِنْهُ ... وبَيْنَ أسِيلِ خَدَّيْهِ عِذَارَا
وقيل : هذا مِنْ ذكرِ الجزء وإرادة الكل؛ كقول عنترة : [ الكامل ]
2680 - عَهْدِي بِهِ شَدَّ النَّهار كأنَّمَا ... خُضِبَ البنَانُ ورأسُهُ بالعِظْلِمِ
والبَنَان : قيل : الأصابعُ ، وهو اسمُ جنسٍ ، الواحد : بنانةٌ؛ قال عنترةُ : [ الوافر ]
2681 - وأنَّ الموتَ طوْعُ يَدِي إذا مَا ... وصَلْتُ بنانَهَا بالهِنْدُوَانِي
وقال أبو الهيثم : « البنانُ : المفاصِلُ ، وكل مفصل بنانة » .
وقيل : البنانُ الأصابع من اليدين والرِّجلين ، وجميع المفاصل من جميع الأعضاء ، وأنشد لعنترة : [ الطويل ]
2682 - وقَدْ كانَ فِي الهَيْجَاءِ يَحْمِي دِمَاءَهَا ... ويَضْرِبُ عِنْدَ الكَرْبِ كُلَّ بنانِ
وقد تُبْدلُ نونُه الخيرة ميماً؛ قال رؤبةُ : [ الرجز ]
2683 - يَا هَالَ ذاتَ المَنْطِقِ التَّمْتَامِ ... وكَفِّكِ المُخَضَّبِ البَنَامِ
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)
قوله : « ذَلِكَ بأنَّهُمْ » ، « ذلكَ » مبتدأ وخبر ، والإشارةُ إلى الأمر بضربهمٍ ، والخطابُ يجوزُ أن يكون للرسول صلى الله عليه وسلم ويجوز أن يكون للكفَّارِ ، وعلى هذا فيكونُ التفاتاً .
كذا قال أبُو حيَّان وفيه نظر لوجهين :
أحدهما : أنه يلزمُ من ذلك خطابُ الجمع بخطاب الواحد ، وهو ممتنعٌ أو قليلٌ ، وقد حُكِيَتْ لُغَيَّة .
والثاني : أنَّ بعده : { بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله } فيكون التفت من الغيبةِ إلى الخطاب في كلمة واحدة ، ثمَّ رجع إلى الغيبة في الحال ، وهو بعيدٌ .
قوله : { وَمَن يُشَاقِقِ الله } « مَنْ » مبتدأ ، والجملةُ الواقعة بعدها خبرها ، أو الجملة الواقعة جزءً أو مجموعهما ، ومن التزم عود ضمير من جملة الجزاءِ على اسمِ الشَّرط قدَّرهُ هُنَا محذوفاً تقديره : فإنَّ الله شديدُ العقاب له .
واتفق القُّراءُ على فكِّ الإدغام هنا في : « يُشاقِقِ » ؛ لأنَّ المصاحفَ كتبته بقافين مفكوكتين ، وفَكُّ هذا النوعِ لغةُ الحجاز ، والإدغامُ بشروطه لغة تميم .
فصل
والمعنى : أنَّه تعالى ألقاهم في الخزي والنَّكال من هذه الوجوه الكثيرة؛ لأنهم شَاقُّوا الله ورسوله قال الزَّجَّاجُ جانبوا ، وصاروا في شقّ غير شقِّ المؤمنين والشِّقُّ الجانب و « شَاقوا اللَّهَ » مجاز ، والمعنى : شاقُّوا أولياءَ اللَّهِ ، ودين اللَّهِ .
ثم قال : { وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } يعني أنَّ هذا الذي نزل بهم في ذلك اليَوْمِ شيءٌ قليلٌ بالنسبة لِمَا أعدَّ لهم من العقاب يوم القيامةِ .
قوله : { ذلكم فَذُوقُوهُ } يجوز في : « ذَلِكُمْ » أربعةُ أوجهٍ :
أحدها : أن يكون مرفوعاً على خبر ابتداء مضمر ، أي : العقاب ذلكم ، أو الأمر ذلكم .
الثاني : أن يرتفع بالابتداء ، والخبرُ محذوفٌ ، أي : ذلكم العقابُ وعلى هذين الوجهين؛ فيكون قوله « فَذُوقُوهُ » لا تعلُّق لها بما قبلها من جهة الإعراب .
والثالث : أن يرتفع بالابتداء ، والخبرُ قوله : « فَذُوقُوهُ » وهذا على رأي الأخفشِ فإنَّهُ يرى زيادة الفاء مطلقاً أعني سواءً تضمَّن المبتدأ معنى الشَّرط أمْ لا ، وأمَّا غيرُهُ فلا يُجيز زيادتها إلاَّ بشرط أن يكون المبتدأ مشبهاً لاسم الشرك ما تقدَّم تقريره .
واستدلَّ الأخفشُ على ذلك بقول الشاعر : [ الطويل ]
2684 - وقَائِلَةٍ : خَولاَنُ فانْكِحْ فَتَاتَهُمْ ... وأكرُومَةُ الحَيَّيْنِ خِلْوٌ كَمَا هِيَا
وخرَّجه الآخرون على إضمار مبتدأ تقديره : هذه حَوْلاَنُ .
الرابع : أن يكون منصوباً بإضمار فعل يُفسِّرهُ ما بعده ، ويكون من باب الاشتغال .
وقال الزمخشريُّ : « ويجوز أن يكون نصباً على : عليكم ذلكم فذوقوه كقولك : زيداً فاضربهط .
قال أبو حيان : » ولا يَصِحُّ هذا التقدير ، لأنَّ « عليكم » من أسماء الأفعال وأسماءُ الأفعالِ لا تُضْمَر ، وتشبيهُهُ بقولك : زيداً فاضربهُ ، ليس بجيّد؛ لأنَّهم لم يُقدِّرُوهُ ب « عليك زيداً فاضربه » وإنَّما هذا منصوبٌ على الاشتغالِ « .
قال شهابُ الدِّين : يجوزُ أن يكون نَحَا الزمخشريُّ نحو الكوفيين؛ فإنَّهم يجرونهم مجرى الفعل مطلقاً ، ولذلك يُعْمِلُونه متأخراً نحو { كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ } [ النساء : 24 ] .
وقال أبُو البقاء : « ويجوز أن يكون في موضع نصب ، أي ذُوقُوا ذلكم ، ويجعل الفعلُ الذي بعده مُفَسِّراً له ، والأحسن أن يكون التقدير : بَاشِرُوا ذلكم فذوقوه ، لتكون الفاءُ عاطفةً »
قدَّر الفعل ير وافقٍ لما بعده لفظاً مع إمكانه ، وأيضاً فقد جعل الفاء عاطفةً لا زائدةً وقد تقدَّم تحقيقُ الكلام في هذه الفاء عند قوله : { وَإِيَّايَ فارهبون } [ البقرة : 40 ] .
قوله { وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النار } الجمهورُ على فتح « أنَّ » وفيها تخريجات أحدها : أنها ، وما في حيَّزها في محل رفع على الابتداء ، والخبرُ محذوفٌ تقديره : حَتْمٌ استقرارُعذاب النار للكافرين .
الثاني : أنها خبر مبتدأ محذوف أي : الحتم ، أو الواجب أنَّ للكافرين عذاب النَّارِ .
الثالث : أن تكون عطفاً على : « ذَلِكُمْ » في وجهيه قاله الزمخشريُّ . ويعني بقوله « في وجهيه » أي : وجهي الرفع وقد تقدَّما .
الرابع : أن تكون في محلِّ نصب على المعيَّة .
قال الزمخشريُّ : « أو نصب على أنَّ الواوَ بمعنى » مع « والمعنى : ذُوقُوا هذا العذابَ العاجل مع الآجل الذي لكم في الآخرة ، فوضع الظاهرَ موضع المضمر » : يعني بقوله : « وضع الظَّاهر موضع المضمر » أنَّ أصل الكلام فذوقوه وأنَّ لكم فوضع « لِلْكافِرينَ » موضع « لَكُمْ » شهادةً عليهم بالكفر ومنبهةً على العلّة .
الخامس : أن يكون في محل نصب بإضمار « واعلموا » .
قال الفراءُ : يجوزُ نصبه من وجهين :
أحدهما : على إسقاط الباء ، أي : بأنَّ للكافرين .
والثانيك على إضمارِ « اعلموا » ؛ قال الشاعر : [ الرجز ]
2685 - تَسْمَعُ للأخشَاءِ عنه لغطاً ... وللْيَديْنِ جُسْأةَ وبَدَدَا
أي : وترى لليدين بدَدا ، فأضمر « تَرَى » كذلك : « فَذُوقُوهُ » واعلموا : « أنَّ لِلْكافِرينَ » .
وأنكره الزجاج أشدَّ إنكارٍ .
وقال : لو جاز هذا لجاز : زيدٌ قائمٌ وعمراً منطلقاً ، أي : وترى عمراً منطلقاً ولا يُجيزه أحدٌ .
ونبَّه بقول « فَذُوقُوه » وهو ما عجل من القتل والأسر على أنَّ ذلك يسير بالإضافة إلى عذاب القيامة فلذلك سمَّاه ذوقاً لأن الذوق لا يكون إلاَّ لتعرف الطعم ، فقوله : « فَذُوقُوهُ » يدلَّ على أنَّ الذوق يكون في إدراك غير المطعوم كقوله { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
قوله تعالى : { يَآأَيُّهَا الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفاً } الآية .
في « زَحْفاً » وجهان :
أحدهما : أنه منصوبٌ على المصدر ، وذلك النّاصب له في محلِّ نصب على الحال ، والتقديرُ : إذا لقيتُمُ الذين كَفَرُوا زَاحِفينَ زَحْفاً أو يَزْحَفُونَ زحفاً .
والثاني : أنه منصوبٌ على الحال بنفسه ، ثُمَّ اختلفوا في صاحب الحال ، فقيل : الفاعلُ أي وأنتم زَحْفٌ من الزُّحوفِ ، أي : جماعة ، أو وأنتم تمشون إليهم قليلاً قليلاً ، على حسب ما يُفَسَّر به الزَّحْف ، وسيأتي .
وقيل : هو المفعول ، أي : وَهُمْ جَمٌّ كثير ، أو يمشون إليكم .
وقيل : هي حالٌ منهما ، أي : لقيتموهم مُتزاحفين بعضكم إلى بعض ، والزَّحْفُ الدُّنو قليلاً قليلاً ، يقال : زَحَفَ يَزْحَفُ إليه بالفتح فيها فهو زَاحفٌ زَحْفاً ، وكذلك تَزَحَّفَ وتَزَاحَفَ وأزْحَفَ لنا عَدُوُّنَا ، أي : دَنَوا لقتالنا .
وقال اللَّيْثُ : الزَّحْفُ : الجماعةُ يمشون إلى عدوِّهم؛ قال الأعشى : [ الكامل ]
2686 - لِمَنْ الظَّعَائنُ سَيْرُهُنَّ تَزَحُّفُ ... مِثْلَ السَّفينِ إذَا تَقَاذَفُ تَجْدِفُ
وهذا من باب إطلاق المصدر على العين ، والزَّحْفُ : الدَّبيب أيضاً ، مِنْ زَحَفَ الصبيُّ قال امرؤُ القيس : [ المتقارب ]
2687 - فَزَحْفاً أتَيْتُ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ ... فَثَوْباً لَبِسْتُ وثَوْباً أجُرّ
ويجوزُ جمعُهُ على : زُحُوف ومَزَاحِف ، لاختلافِ النوع؛ قال الهذليُّ : [ الوافر ]
2688 - كَأنَّ مَزاحِفَ الحَيَّاتِ فِيهِ ... قُبَيْلَ الصُّبْحِ آثَارُ السِّيَاطِ
ومَزاحِف : جمع « مَزْحف » اسم المصدر .
قوله : { فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار } مفعول : « تولُّوهم » الثَّاني هو « الأدْبار » ، وكذا « دُبُره » مفعول ثان ل : « يُولِّهِمْ » وقرأ الحسن : بالسُّكونِ كقولهم : عُنْق في عُنُق ، وهذا من باب التَّعريض حيث ذكر لهم حالةً تُسْتَهْجَنُ من فاعلها؛ فأتى بلفظ الدُّبُر دُونَ الظَّهر لذلك ، وبعضهم من أهل علم البيان سمَّى هذا النوع كنايةً ، وليس بشيء .
قوله : « إلاَّ مُتَحرفاً » في نصبه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ حال .
والثاني : أنه استثناء وقد أوضح ذلك الزمخشري .
فقال : « فإن قلت : بِمَ انتصبَ : » إلاَّ مُتَحرِّفاً « ؟ قلتُ : على الحالِ و » إلاَّ « لغوٌ ، أو على الاستثناءِ من المُولِّين : أي ومنْ يُولِّهم إلا رجلاً منهم مُتَحرفاً أو مُتَحيزاً » .
قال أبُو حيان : « لا يردُ بقوله » إلاَّ « لغوٌ أنَّها زائدةٌ ، إنَّما يريد أنَّ العامل وهو » يُولِّهِمْ « وصل لِمَا بعدها كقولهم في » لا « من قولهم : جئت بلا زاد - إنَّها لغوٌ . وفي الحقيقة هي استثناءٌ من حال محذوف والتقدير : ومَنْ يُولِّهِم ملتبساً بأية حال إلاَّ من حال كذا ، وإن لم تُقدَّرُ حالٌ محذوفة لم يَصِحَّ دخولُ » إلاَّ « لأن الشَّرط عندهم واجبٌ ، والواجبُ حكمُهُ ألاَّ تدخل » إلاَّ « فيه لا في المفعول ، ولا في غيره من الفضلات ، لأنه استثناء مُفرغ ، والمفرَّغ لا يكون في الواجب ، إنَّما يكون مع النفي أو النهي أو المؤول بهما ، فإن جاء ما ظاهرُه خلافُ ذلك يُؤوَّل » .
قال شهابُ الدِّينِ : « قوله لا في المفعول ولا في غيره من الفضلات ، لا حاجة إليه لنَّ الاستثناء المفرغ لا يدخل في الإيجاب مطلقاً ، سواءٌ أكان ما بعد إلاَّ فضلةً أو عمدةً فذكرُ الفضلةِ والمفعول يوهم جوازه في غيرهما » .
وقال ابنُ عطيَّة : « وأمَّا الاستثناءُ فهو من المُولِّين الذين تتضمَّنهم » مَنْ « فجعل نصبه على الاستثناء » .
وقال جماعةٌ : إنَّ الاستثناءَ من أنوع التولِّي ، ورُدَّ هذا بأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون التركيبُ : إلاَّ تحيُّزاً أو تحرُّفاً ، والتَّحيُّزُ والتَّحَوُّزُ : الانثمامُ ، وتحوَّزت الحيَّة : انطوَتْ ، وحُزْتُ الشَّيء : ضَمَمْتُهُ ، والحَوْزَةُ : ما يَضُمُّ الأشياء ، ووزنُ « متحيَّز » « مُتَفَيعِل » والأصل « مُتَحيْوِز » فاجتمعت الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسُّكُون فقلبت الواو ياءً ، وأدغمت في الباء بعدها ، ك : مَيِّت ، ولا يجوزُ أن يكون : « مُتفَعِّلاً » ؛ لأنَّه لو كان كذلك لكان « متحوِّزاً » ، فأمَّا متحوِّز ف « متفعِّل » .
فصل
معنى الآية : إذا ذهبتم للقتال ، فلا تولوهم الأدْبَارَ : أي لا تنهزموا ، فتجعلوا ظهوركم ممَّا يليهم ثم بيَّن أنَّ الانهزام محرم إلاَّ في حالتين :
إحداهما : أن يكون مُتحَرّفاً للقتال ، أي : أنه يجعل تحرفه أنه منهزم ، ثم ينعطف عليه ، وهو أحد أبواب خدع الحرب ومكايدها . يقال : تحرَّف وانحرف إذا زالَ عن وجهة الاستواء . والثانية : قوله { أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ } والتَّحيز الانضمام كما تقدَّم ، والفئة الجماعةُ ، فإذا كان هذا المنهزم منفرداً ، وفي الكفار كثرة ، وغلب على ظنه أنه إن ثبت قتل من غير فائدة ، وإن انضمَّ إلى جمع من المسلمين ليستعين بهم ويعودون إلى القتال ، فربَّمَا وجب عليه التَّحيُّز إلى هذه الفئة فضلاً عن أن يكون جائزاً .
والحاصل أن الانهزام من العدو حرام ، إلاَّ في هايتن الحالتين ، وهذا ليس بانهزام في الحقيقة ثمَّ قال تعالى : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } إلاَّ في هاتين الحالتين { فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ } في الآخرة { جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } [ الأنفال : 16 ] .
فصل
قال أبو سعيد الخدري : هذا في أصحاب بدر خاصة؛ لأن ما كان يجوز لهم الانهزام ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معهم ، ولم يكن فئة يتحيّزون إليها دون النبي صلى الله عليه وسلم وقد وعده الله بانّصر والظّفر فلم يكن لهم التحيّز إلى فئةٍ أخرى .
وأيضاً فإنَّ اللَّه شدد الأمر على أهل بدرٍ؛ لأنه كان أول جهاد ، ولو اتفق للمسلمين انهزام فيه ، لزم منه الخلل العظيم .
فلهذا وجب التشديدُ والمبالغة ، ومنع اللَّهُ في ذلك اليوم من أخذ الفداء من الأسرى لهذا السَّبب ، وهذا قول الحسنِ وقتادة والضحاك .
قال يزيدُ بن أبي حبيب : أوجب اللَّهُ النار لِمَنْ فَرَّ يوم بدر ، فلمَّا كان يوم أحد قال : { وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ } [ آل عمران : 155 ] . ثم كان يوم حنين بعده فقال : { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } [ التوبة : 25 ] ثم قال بعده { ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَآءُ } [ التوبة : 27 ] .
وقال عبدُ الله بنُ عُمَرَ : « كُنَّا في جيش بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحاص النَّاسُ حَيْصَةً ، فانْهَزَمْنَا ، فقُلْنَا يا رسول الله : نَحْنُ الفَرَّارُونَ ، فقال : » لا بَلْ أنتُمْ العَكَّارُونَ « أنَّا فِئَةُ المُسلمينَ »
وقال محمدُ بن سيرين : « لما قُتل أبو عبيدة جاء الخبر على عمر فقال : لو انحاز إليَّ كنتُ له فئةٌ فأنا فئةُ كلِّ مُسْلمٍ »
وقيل : حكم الآية عام في كل حرب ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام : « من الكبائر الفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ » والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السَّبب .
وقال عطاءُ بن أي رباح : « هذه الآية منسوخةٌ بقوله : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ } [ الأنفال : 66 ] فليس للقوم أن يفرُّوا من مثلهم فنسخت تلك إلاَّ في هذه العدة .
وعلى هذا أكثر أهل العلم أنَّ المسلمين إذا كانوا على الشطر من عددهم لا يجوز لهم الفرار غلاَّ مُتحرفاً أو مُتحيِّزاً إلى فئةٍ ، وإن كانوا أقلَّ من ذلك جاز لهم أن يولوا عنهم وينحازوا عنهم » . قال ابن عباس : « مَنْ فرَّ من ثلاثة فلم يفر ، ومن فَرَّ من اثنين فقد فرّ » .
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)
قوله تعالى : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ } في هذه « الفاء » وجهان :
أحدهما - وبه قال الزمخشري - : أنَّهَا جوابُ شرطٍ مقدر ، أي : إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم .
قال أبو حيان : « وليست جواباً ، بل لِرْطِ الكلامِ بعضه ببعضٍ » .
قوله { ولكن الله قَتَلَهُمْ } قرأ الأخوان ، وابن عامر : { ولكن الله قَتَلَهُمْ } ، { ولكن الله رمى } بتخفيف « لكن » ورفع الجلالة ، والباقون بالتَّشديد ونصب الجلالةِ ، وقد تقدَّم توجيه القراءتين في قوله : { ولكن الشياطين } [ البقرة : 102 ] وجاءت « لكن » هنا أحسن مجيءٍ لوقوعها بين نفي وإثبات .
قوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } نفى عنه الرمي ، وأثبته له ، وذلك باعتبارين ، أي : ما رَمَيْتَ على الحقيقة إذا رَمَيْتَ في ظاهرِ الحال ، أوْ مَا رَميْتَ الرُّعْبَ في قلوبهم إذْ رَمَيْتَ الحَصَيَات والتراب .
وقوله : « ومَا رَمَيْتَ » هذه الجملة عطفٌ على قوله : « فَلَمْ تَقْتلُوهُمْ » ؛ لأنَّ المضارع المنفي ب « لَمْ » في قوة الماضي المنفي ب « مَا » فإنَّك إذا قلت : « لَمْ يَقُمْ » كان معناه : ما قَامَ ولم يقل هنا : فَلَمْ تقتلوهم إذ قتلموهم ، : ما قال : « إذْ رَمَيْتَ » مبالغةً في الجملة الثانية .
فصل
قال مجاهد : « سبب نزول هذه الآية أنَّهم لمَّا انصرفُوا من القتالِ كان الرَّجُلُ يقولُ : أنا قتلتُ فلاناً ، ويقول الآخر مثله فنزلت الآية » ومعناها : فلم تقتلوهم أنتم بقوتكم ولكنَّ الله قتلهم بنصره إياكم وتقويته لكم .
وقيل : ولكن الله قتلهم بإمدادِ الملائكة .
وقوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } في سبب نزولها ثلاث أقوال :
الأول : وهو قول أكثر المفسِّرين « أنَّ رسول الله صلى اله عليه وسلم ندب النَّاس ، فانطلقُوا حتَّى نزلوا بدراً ، ووردت عليهم روايا قريش ، وفيهم أسلم غلام أسود لبني الحجاج ، وأبو يسار غلام لبني العاص بن سعد ، فأتوا بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أين قريش؟
قالا : هم وراء الكَثيبِ الذي ترى بالعدوة القصوى ، والكثيب : العقنقل .
فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لهما : كم القومُ؟ قالا : كثيرٌ .
قال : ما عددهم؟ قالا : لا ندري .
قال : كم ينحرون كلَّ يوم؟ قالا : يوماً عشرة ، ويماً تسعة .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم القوم ما بين التسعمائة إلى الألف ، ثم قال : فَمَنْ فيهم من أشراف قريش؟ قالا : عتبةُ بن ربيعة ، وشيبةُ بن ربيعة ، وأبو البختري بن هشامُ ، وحكم بن حزام ، والحارثُ بن عامر ، وطعمة بن عديّ ، والنضر بن الحارث ، وأبُو جهل بن هشام ، وأميةُ بن خلف ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وسُهَيل بن عمرو .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم » هَذِه مَكَّةُ قَدْ ألْقَتْ إلَيْكُمْ أفْلاذَ كَبدِهَا « فلما أقبلت قريش ، ورآها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تصوب من العقنقل ، وهو الكثيبُ الذي جاءوا منه إلى الوادي .
فقال : » اللَّهم هذه قريشُ قَدْ بخُيلائِهَا وفَخْرِهَا تُحادكَ ، وتُكذب رسُولكَ ، اللَّهُمَّ فَنصرُكَ الَّذِي وَعَدْتَنِي « ، فأتاه جبريل ، فقال : خُذْ قبضةً من تراب ، فارمهم بها ، فلمَّا التقى الجمعان ، تناول رسولُ الله كفاً من الحصى عليه تراب ، فرمَى به وجوه القوم وقال : شاهتِ الوجوه ، فلم يق مشرك إلاَّ ودخل في عينه وفمه ومنخريه منها . فانهزمُوا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم . »
وقال قتادةُ وابن زيد : ذكر لنا « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم بدرٍ ثلاث حصيات فرمَى بحصاة في ميمنة القوم ، وبحصاة في ميسرة القوم ، وبحصاة بين ظهرهم ، وقال : شاهت الوجوه فانهزموا » فذلك قوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } [ الأنفال : 17 ] . إذْ ليس في وُسْع أحد من البشر أن يَرْمي كَفّاص من الحصى إلى وجوه جيش ، فلا تبقى فيهم عينٌ إلاَّ ويُصِيبُهَا منه شيء . وقيل : المعنى : وما بلغت إذ رميت ولكن اللَّه بلغ ، وقيل : وما رميتَ بالرُّعْبَ في قلوبهم إذ رميت بالحصاء ولكن اللَّه رمى الرُّعب في قلوبهم حتى انهزموا .
القول الثاني : أنَّهَا نزلت يوم خيبر . « روي أنّه عليه الصَّلاة والسَّلام أخَذَ قوساً وهو على باب خيبر ، فرمى سهماً ، فأقبل السّهمُ حتّى قتل ابن أبي الحقيق وهو على فراشه » ، فنزلت الآية .
القول الثالث : أنَّهَا نزلت في يوم أحد ، « وذلك أن أمية بن خلف أتَى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعظم رميمٍ وقَتَّةٍ ، وقال : يا محمَّدُ ، من يُحْيي هذا وهو رميمٌ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : » يُحييه اللَّهُ يُميتُكَ ثم يُحْييك ثم يدخلك النَّار « فأسر يوم بدر ، فلما افتدي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنَّ عندي فرساً أعلفها كلَّ يوم فرقاً من ذرة كي أقتلك عليها .
فقال عليه السَّلامُ : » بَلْ أنا أقْتُلكَ إنْ شاءَ اللَّهُ « فلمَّا كان يوم أحد أقبل أبَيّ يركض على ذلك الفرس حتى دنا من رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فاعترض له رجال من المسلمين ليقتلوه .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » اسْتَأخِرُوا « ورماه بحربة فكسر ضِلعاً من أضلاعه » ، فحمل فمات ببعض الطري ففي ذلك اليوم نزلت الآية .
والصَّحيحُ أنَّها نزلت في يوم بدر وإلاَّ لدخل في أثناء القصَّة كلام أجنبي عنها ، وذلك لا يليق بل لا يبعد أن يدخل تحته سائر الوقئع؛ لأنَّ العبرة بعموم اللَّفْظِ لا بخصوص السَّببِ .
فصل
ومعنى الآية : أنَّ القبضةَ من الحصباءِ الَّتي رميتها ، فأنت ما رميتها في الحقيقة؛ لأنَّ رمْيَكَ لا يبلغ أثره إلا ما يبلغه رمي سائر البشر ، ولكن اللَّه رماها حيثُ أنفذ أجزاء ذلك التراب وأوصلها إلى عيونهم ، فصورة الرمية صدرت من الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - وأثرها إنَّما صدر من الله تعالى ، فلهذا المعنى صح فيه النفي والإثبات .
واحتج أهل السُّنَّةِ بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة للَّه تعالى؛ لأنَّ الله تعالى قال : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ } [ الأنفال : 17 ] .
ومن المعلوم أنهم جرحوا ، فدلَّ هذا على أان حدوث تلك الأفعال إنما حصل من اللَّه تعالى .
وقوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } أثبت كونه عليه الصَّلاة والسَّلام رامياً ونفى عنه كونه رامياً ، فوجب حمله على أنه رماه كسباً وأنه ما رماه خلقاً .
فإن قيل : أما قوله : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ } فيه وجوه :
أحدها : أنَّ قتل الكُفَّارِ إنما تيسَّر بمعونة الله ونصره وتأييده ، فصحت هذه الإضافة .
وثانيها : أن الجرح كان إليهم وإخراج الروح كان إلى الله ، والتقدير : فلم تميتوهم ولكن الله أماتهم .
وأما قوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } .
قال القاضي : قيل : فيه أشياء : منها أنَّ الرمية الواحدة لا توجب وصول التُّراب إلى عيونهم ، فكان وصول أجزاء التراب إلى عيونهم ليس إلاَ بإيصالِ اللَّهِ تعالى ، ومنها : أنَّ التُرابَ الذي رماه كان قليلاً فيمتنع وصول ذلك القدر إلى عيون الكل ، فدل على أنَّ الله تعالى ضمَّ إليها سائر أجزاء التُّرابِ ، فأوصلها إلى عيونهم . ومنها : أنَّ عند رميه ألقى الله الرُّعْبَ في قلوبهم ، فكان المُرَادُ من قوله : { ولكن الله رمى } هو أنه تعالى رمى قلوبهم الرُّعْب .
فالجوابُ : أنَّ كلَّ ما ذكروه عدولٌ عن الظَّاهرِ ، والأصلُ في الكلامِ الحقيقةُ .
قوله : { وَلِيُبْلِيَ المؤمنين } متعلقٌ بمحذوفٍ ، أي : وليبلي فعل ذلك ، أو يكون معطوفاً على علةٍ محذوفة ، أي : ولكن اللَّه رمى ليمحق الكفار ، وليُبْلي المؤمنين ، والبلاء في الخير والشَّر ، قال زهير : [ الوافر ]
2689 - ... وإبْلاهُمَا خَيْرَ البَلاءِ الَّذِي يَبْلُو
والهاءُ في « مِنْهُ » تعود على الظفر بالمشركين .
وقيل : على الرمي قالهما مكيٌّ ، والظَّاهر أنها تعود على الَّهِ تعالى .
وقوله : « بَلاَءً » يجوزُ أن يكون اسم مصدر ، أي : إبلاء ، ويجوزُ أن يكون أريد بالبلاء نفس الشيء المبلو به ، والمرادُ من هذا البلاء الإنعام أي : ولينعم على المؤمنين نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة والأجر .
قال القاضي : ولولا أنَّ المفسرين اتفقوا على حمل البلاءِ هنا على النعمة ، وإلاَّ لكان يحتمل المِحْنَة بالتكليف فيما بعده من الجهاد ثمَّ قال تعالى : { إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } لدعائكم « عَلِيمٌ » بنيّاتكم .
قوله : ذَلِكُمْ « يجوز فيه الرفعُ على الابتداء أي : ذلكم الأمر ، والخبر محذوف قاله الحوفيُّ ، والأحسنُ أن يقدَّر الخبر ذلكم البلاء حق وحتمٌ .
وقيل : هو خبر مبتدأ ، أي : الأمر ذلكم ، وهو تقدير سيبويه .
وقيل : محلُّه نصب بإضمار فعلٍ أي : فعل ذلكم ، والإشارةُ ب » ذَلِكُمْ « إلى القتل والرمي والإبلاء .
قوله : « وأنَّ اللَّه » يجوزُ أن يكون معطوفاً على : « ذَلِكُمْ » فيحكم علىمحلِّه بما يحكمُ على محلِّك « ذَلِكُمْ » ، وأن يكون في حلِّ نصبٍ بفعل مقدَّر أي : واعلموا أنَّ الله ، وقد تقدم ما في ذلك .
وقال الزمخشريُّ : « إنَّه معطوف على : » وليُبْلي « والمعنى : أنَّ الغرضَ إبلاءُ المؤمنين ، توهينُ كيد الكافرين » . وقرأ ابنُ عامر والكوفيون : « مُوهِن » بسكون الواوِ وتخفيف الهاءِ ، من « أوهَن » ك : أكْرَم ، ونوَّن « موهن » غير حفص ، وقرأ الباقون : « مُوهِّن » بفتح الواو ، وتشديد الهاءِ ، والتنوين ، ف « كَيْد » منصوبٌ على المفعول به في قراءة غير حفص ، ومخفوضٌ في قراءة حفص ، وأصله النَّصْبُ وقراءة الكوفيين جاءت على الأكثرر؛ لأن ما عينه حرف حلقٍ غير الهمزة تعديته بالهمزة ولا يُعَدَّى بالتَّضعيف إلاَّ كلمٌ محفوظ نحو : وهَّنْتُه وضعَّفْتُه .
فصل
توهينُ الله كيدهم يكون بأشياء :
بإطلاع المؤمنين على عوراتهم .
وإلقاء الرعب في قلوبهم وتفريق كلمتهم .
ونقض ما أبرموا بسبب اختلاف عزائمهم .
قال ابن عبَّاسٍ : ينبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول : « إنّي قد أوْهَنْتُ كَيْدَ عدوك حتى قتلت خيارهم وأسرت أشرافهم »
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
قوله : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح } قال الحسنُ ، ومجاهد ، والسُّدِّي : إنه خطابٌ للكافرين ، وذلك أنَّ أبا جهل قال يوم بدر : اللَّهم ، انصر أفضل الفريقين وأحقَّه بالنَّصْر .
وروي أنه قال : اللَّهم ، أينا كان أقطع للرَّحمِ وأفجر؛ فأهلكه الغداة .
وقال السدي : « لمَّا أراد المشركون الخروج إلى بدر تعلَّقُوا بأستار الكعبة وقالوا : اللَّهُمَّ انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين وأفضل الدينين ، فأنزل الله تعالى : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح } أي : تستنصروا لإحدى القبيلين ، فقد جاءكم النصر » .
وقال آخرون : المعنى : إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء .
قال عبد الرحمن بن عوف : إني لَفِي الصَّف يوم بدر ، فالتفت ، فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السِّنِّ وكأني لم آمن لمكانهما ، فتمنيت أن أن أكون بين أضلع منهما ، إذ قال لي أحدهما سرّاً من صاحبه ، أي عم أرني أبا جهل ، فقلت : يا ابن أخي ما تصنعُ به؟ .
قال : عاهدت الله إن رأيته أن أقتله ، أو أموت دونه ، وقال لي الآخر سرّاً من صاحبه مثله ، فما سَرَّني أنني بين رجلين مكانهما فأشرت لهما عيله ، فشدَّا عليه مثل الصقرين حتَّى ضرباهُ ، وهما ابنا عفراء .
وقال عكرمةُ : قال المشركون : والله ما نعرف ما جاء به فافتح بيننا وبينه بالحق ، فأنزل الله تعالى : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ } الآية ، أي : إن تسْتَفتِحُوا فقد جاءكم القضاء .
وقال أبيّ بن كعب : هذا خطاب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله للمسلمين : { إِنْ تَسْتَفْتِحُواْ } أي تستنصروا فقد جاءكم الفتح والنصر . روى قيس عن خباب قال : « شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسّد بردة له في ظل الكعبة ، فقلنا له : ألا تدعو الله لنا ، ألا تستنصر لنا ، فجلس مُحْمرّ الوجه ، فقال لنا : » لقَد كانَ مَنْ قَبْلكُم يُؤخَذُ الرجُ فيُحْفَر لهُ في الأرضِ ثُمَّ يُجاءُ بالمنشَارِ فيجعلُ فوق رأسِهِ ثُمَّ يُجعَلُ نِصفيْنِ ما يَصْرفهُ عنْ دينهِ ، ويُمَشَّطُ بأمشاطِ الحديدِ ما دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ ما يصرفهُ عن دينهِ ، والله ليُتمَّنَّ الله هذا الأمر حتَّى يسير الرَّاكبُ مِنْكُم من صنعاء إلى حضْرموت لا يخافُ إلا اللَّه ، ولكنَّكُم تَسْتَعْجِلُونَ «
قال القاضي : وهذا القول أوْلَى؛ لأن قوله { فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح } لا يليق إلا بالمؤمنين اللهم إلاَّ أن يحمل الفتحُ على الحكم والقضاء ، فيمكن أن يراد به الكفار .
قوله : { وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } .
فإن قلنا : إن ذلك الخطاب للكفار ، كان المعنى وإن تنتهوا عن قتال الرَّسول وعداوته؛ فهو خير لكم في الدّين بالخلاص من العقاب ، وفي الدّنيا بالخلاص من القتل والأسر والنَّهْبِ .
» وإن تَعُودُوا « إلى القتال : » نَعُدْ « أي : إلى تسليطه عليكم : { وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ } كثرة الجموع كما لم يغن ذلك يوم بدر .
وإن قلنا ذلك خطاب للمؤمنين كان المعنى : إن تنتهوا عن المنازعة في أمر الأنفال وتنتهوا عن طلب الفداء على الأسْرَى ، فقد كان وقع بينهم نزاع يوم بدر في هذه الأشياء حتى عاتبهم اللَّهُ بقوله : { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ } [ الأنفال : 68 ] .
فقال تعالى : { وَإِن تَنتَهُواْ } عن مثله : { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ } أنتم إلى تلك المنازعات « نَعُدْ » إلى ترك نصرتكم؛ لأن الوعد بنصركم مشروط بشرط استمراركم على الطَّاعة ، وترك المخالطة ثمَّ لا تنفعكم الفئة والكثرة ، فإنَّ الله لا يكون إلاَّ مع المؤمنين الذين لا يرتكبون الذنوب .
قوله : « ولَن تُغْنِيَ » قرأ الجمهورُ بالتَّاءِ من فوق ، لتأنيث الفئة .
وقرىء « ولن يُغْنِيَ » بالياء من تحت لأن تأنيثه مجازي ، وللفصل أيضاً : « ولو كَثُرَتْ » هذه الجملة الامتناعية حالية ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك .
قوله : { وَلَن تُغْنِيَ } قرأ نافعٌ ، ابن عامر ، وحفصٌ عن عاصم ، بالفتح . والباقون : بالكسر ، فالفتحُ من أوجه :
أحدها : أنه على لام العلَّة تقديره : ولأنَّ الله مع المؤمنين كان كيت وكيت .
والثَّاني : أن التقدير : ولأنَّ اللَّهَ مع المؤمنين امتنع عنادهم .
والثالث : إنه خبرُ مبتدأ محذوف أي : والأمر أنَّ الله مع المؤمنين ، وهذا الوجهُ الأخيرُ يقربُ في المعنى من قراءة الكسر لأنه استئناف .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
قوله تعالى : { اأيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } الآية .
لمَّا خاطب المؤمنين بقوله : { وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [ الأنفال : 19 ] أتبعه بتأديبهم فقال : { أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ } ولم يبين ماذا يسمعون إلاَّ أنَّ الكلام من أول السورة إلى ههنا لما كان واقعاً في الجهاد علم أن المراد وأنتم تسمعون دعاءه إلى الجهاد .
قوله { وَلاَ تَوَلَّوْا } الأصلُ : تتولُّوا فحذف إحدى التَّاءين ، وقد تقدَّم الخلافُ في أيتهما المحذوفة .
وقوله : { وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ } جملةٌ حالية ، والضميرُ في « عَنْهُ » يعود على الرَّسول؛ لأنَّ طاعته من طاعة الله .
وقيل : يعودُ على الله ، وهذا كقوله تعالى : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] وقيل : يعودُ على الأمر بالطَّاعةِ .
قوله { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } أي : لا تكونوا كالذين يقولون بألسنتهم إنَّا قبلنا تكاليف الله تعالى : ثمَّ إنَّهم بقلوبهم لا يقبلونها ، وهذه صفة المنافقين .
قوله : { إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الصم البكم الذين لاَ يَعْقِلُونَ } .
قيل : شبَّههم بالدَّواب لجهلهم ، وعدولهم عن الانتفاعِ بما يسمعونه وبما يقولونه ، ولذلك وصفهم بالصُّمِّ والبكم ، وبأنهم لا يعقلون .
وقيل : سمَّاهم دواباً لقلة انتفاعهم بعقولهم كما قال : { أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [ الأعراف : 179 ] .
قال ابن عبَّاسٍ : هم نفرٌ من عبد الدار بن قصي كانوا يقولون نحن صمٌّ بكم عمي عمَّا جاء به محمَّد؛ فقتلوا جميعاً بأحدٍ وكانوا أصحاب اللِّواء ، ولم يسلم منهم إلاَّ رجلان : مصعب بن عمير ، وسويد بن حرملة .
وقيل : بل هم من الدَّواب؛ لأنه اسم لما يدبّ على الأرض ولم يذكره في معرض التَّشبيه ، بل وصفهم بصفة تليقُ بهم على طريق الذَّمِّ ، كما يقال لمن لا يفهم الكلام : هو شبحٌ وجسد وطلل على طريق الذمّ .
وإنمَّا جُمع على جهة الذَّم وهو خبر « شَرّ » لأنه يُراد به الكثرةُ ، فجمع الخبر على المعنى . ولو كان الأصم لكان الإفرادُ على اللَّفظ ، والمعنى على الجمع .
قوله : { الذين لاَ يَعْقِلُونَ } يجوز رفعه أو نصبه على القطع .
قوله : { وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ } سماع الفهم والقبول ، ولو أسمعهم بعد أن علم أنه لا خير فيهم ما انتفعوا بذلك ، ولتولَّوا وهم معرضون لعنادهم وجحدوهم الحقَّ بعد ظهوره .
وقيل : إنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم أحي لنا قُصَيّاً فإنَّه كان شيخاً مباركاً حتى نشهد لك بالنُّبوَّة من ربك فقال اللَّه - عزَّ وجلَّ - : { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ } كلام قصيٍّ : { لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } .
فصل
اعلم أنَّهُ تعالى حكم عليهم بالتَّولي عن الدلائل ، وبالإعراض عن الحق ، وأنَّهُم لا يعقلونه البتَّة ولا ينتفعون به ألبتَّة ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون صدور الإيمان منهم مُحَالاً؛ لأنَّهُ لو صدر منهم الإيمان ، لكان إمّضا أن يوجد إيمانهم مع بقاء هذا الخبر صدقاً ، أو مع انقلابه كذباً ، والأول محالٌ؛ لأنَّ وجود الإيمان مع الغخبار عن عدم الإيمان يكون جميعاً بين النَّقيضيْنِ وهو محالٌ ، والثاني محالٌ؛ لأن انقلاب خبر اللَّهِ الصدق كذباً محالٌ ، لا سيَّمَا في الزَّمانِ المنقضي وهكذا القول في انقلاب علم اللَّه جهلاً ، كما تقدَّم تقريره .
فصل
قال النُّخحاة : كلمة « لو » وضعت للدلالة على انتفاء الشيء لانتفاء غيره .
فإذا قلت : لو جئتني لأكرمتك ، أفاد أنَّه ما حصل المجيءُ ، وما حصل الإكرامُ ، ومن الفقهاء مَنْ قال : إنَّه يفيد الاستلزام ، فأمَّا الانتفاء لأجل انتفاء الغير ، فلا يفيده هذا اللَّفْظُ ، ويدل عليه الآية والخبر .
أمَّا الآية فهذه وتقريره : أنَّ كلمة « لَوْ » لو أفادت ما ذكروه لكان قوله : { وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ } يقتضي أنَّهُ تعالى ما علم خيراً وما أسمعهم ، ثمَّ قال { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } فيكون معناه : أنه ما أسمعهم ، وأنهم ما تولَّوا لكن عدم التولي خير من الخيرات ، فأوَّل الكلام يقتضي نفي الخير ، وآخره يقتضي حصول الخير ، وذلك متناقض .
فثبت القولُ : بأنَّهُ لو كانت كلمة : « لَوْ » تفيد انتفاء الشَّيء لانتفاء غيره لوجب هذا التناقص؛ فوجب أن لا يُصار إليه .
وأمَّا الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام : « نِعْم الرَّجُلُ صُهَيْبٌ لو لمْ يَخَفِ اللَّه لَمْ يَعْصِهِ » فلو كانت لفظه « لَوْ » تفيدُ ما ذكروه لصار المعنى أنَّهُ خاف الله وعصاه ، وذلك متناقض .
فثبت أنَّ كلمة « لَوْ » لا فتيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، وإنَّما تفيدُ مجرد الاستلزام ، وهذا دليل حسن إلاَّ أنَّهُ خلاف قول الجمهور .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ } الآية .
قال أبو عبيدة ، والزجاج : « استَجِيبُوا » معناه : أجيبوا؛ وأنشدوا قول الغنوي : [ الطويل ]
2690 - .. فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذاكَ مُجِيبُ
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ الأمر يفيدُ الوجوب؛ لأنها تدل على أنه لا بُدَّ من الإجابة في كل ما دعاه الله إليه .
فإن قيل : قوله { استجيبوا للَّهِ } أمرٌ . فلم قلتم : إنَّه على الوجوب؟ وهل النّزاع إلا فيه ، فيرجع حاصل هذا الكلام إلى إثباتِ أنَّ الأمر للوجوب بناء على أنَّ هذا الأمر يفيدُ الوجوب فيقتضي إثبات الشيء بنفسه ، وهو مُحال .
فالجواب : أنَّ من المعلوم بالضَّرورة أنَّ كل ما أمر اللَّهُ به فهو مرغب فيه مندوب إليه ، فلو حملنا قوله « اسْتَجِيبوا » على هذا المعنى كان ذلك جارياً مجرى إيضاح الواضحات وهو عبثٌ ، فوجب حمله على فائدة زائدة ، وهي الوجوب صوتاً لهذا النصّ عن التعطيل .
ويؤيده ما روى أبو هريرة « أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ على باب أبي بن كعب فناداه وهو في الصَّلاة فعجل في صلاته ثم جاء فقال : » ما منعكَ عَنْ إجابتِي « ؟ فقال : كنتُ أصلِّي ، فقال : » أليس الله يقول : { ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } فلامه على ترك الإجابة « متمسكاً بهذه الآية .
فإن قيل : مسألةُ الأمر - يفيد الوجوب - مسألةٌ قطعيَّةٌ ، فلا يجوز التمسك فيها بخبر الواحد .
فالجوابُ : لا نسلم أنَّ مسألة الأمر - يفيدُ الوجوب - مسألة قطعيةٌ ، بل هي ظنيَّةٌ؛ لأن المقصود منها العمل ، والدلائل الظنية كافية في العمل .
فإن قيل : إنَّ الله تعالى ما أمر بالإجابة مطلقاً ، بل بشرط خاص ، وهو قوله : { إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } فلم قلتم إنَّ هذا الشرط الخاص حاصلٌ في جيمع الأوامر؟
فالجواب : أنَّ قصة أبي تدلُّ على أنَّ هذا الحكم عام ليس مخصصاً بشرط معين ، وأيضاً فلا يمكن حمل الحياة ههنا على نفس الحياة؛ لأنَّ إحياء الحيِّ محالٌ؛ فوجب حملُه على شيء آخر وهو الفوز بالثواب ، وكل ما دعا اللَّهُ إليه ورغب فيه مشتمل على الثواب ، فكان هذا الحكم عاماً في جميع الأومر .
فصل
في المُرادِ بقوله » لِمَا يُحْييكُم « وجوه :
أحدها : قال السُّديُّ : هو الإيمان والإسلامُ وفيه الحياة ، وقال قتادةُ : يعني القرآن فيه الحياة والنَّجاة . وقال مجاهدٌ : هو الحق .
وقال ابن إسحاق : الجهادُ أعزكم اللَّهُ فيه بعد الذُّلِّ ، وقال القتيبيُّ : الشَّهادةُ ، قال تعالى : { بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [ آل عمران : 169 ] .
قوله { وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ } قال الواحديُّ حكاية عن ابن عباس ، والضحاك : يحولُ بين المرءِ الكافرِ وطاعته ، ويحولُ بين المطيع ومعصيته ، فالسَّعيدُ من أسعده اللَّهُ ، والشقيُّ من أضله الله ، والقلوب بيده يقلبها كيف يشاء .
وقال السُّديُّ : يحول بين الإنسان وقلبه ، فلا يستطيع أن يؤمن ولا أن يكفر إلا بإذنه .
وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ ، وعطاءٌ : يحولُ بين المؤمن والكفر وبين الكافر والإيمان .
وقيلك إنَّ القوم لمَّا دعوا إلى القتال في حالة الضعف ساءت ظنونهم واختلجت صدورهم ، فقيل لهم : قاتلُوا في سبيل اللَّهِ ، واعلموا أنَّ الله يحُولُ بين المرءِ وقلبه فيبدلُ الله الخوف أمناً ، والجبن جراءة .
قوله : « بَيْنَ المَرْءِ » العامَّةُ على فتح الميم .
وقرأ ابن أبي إسحاق : بكسرها على إتباعها لحركة الهمزة ، وذلك ان في « المَرْءِ » لغتين : أفصحهما : فَتْح الميم مطلقاً ، والثانية : إتباع الميم لحركة الإعراب فتقول : هذا مُرْءٌ - بضم الميم ، ورأيت مَرْءاً - بفتحها ، ومررت بِمِرْءٍ - بكسرها ، وقرأ الحسن ، والزهري : بفتح الميم وتشديد الرَّاءِ . وتوجيهها : أن يكون نقل حركة الهمزة إلى الرَّاءِ ، ثم ضعَّف الراء ، وأجرى الوصل مُجْرى الوقف .
قوله « وأنَّهُ » يجوز أن تكون الهاء ضمير الأمر والشأن ، وأن تعود على الله تعالى ، وهو الأحسن لقوله : « إلَيْهِ تُحْشَرُونَ » أي إلى اللَّهِ؛ ولا تتركون مهملين .
قوله { بَيْنَ المرء } .
في « لا » وجهان :
أحدهما : أنَّها ناهيةٌ ، وعلى هذا ، فالجملةُ لا يجوزُ أن تكون صفةً ل « فِتْنَةً » لأنَّ الجملةًَ الطلبية لا تقعُ صفةً ، ويجوز أن تكون محمولة لقول ، ذلك القولُ هو الصِّفة أي : فتنةً مقولاً فيها : لا تُصيبن ، والنَّهيُ في الصورة للمصيبة ، وفي المعنى للمخاطبين ، وهو في المعنى كقولهم : لا أرَيَنَّكَ ههنا ، أي : لا تتعاطوا أسباباً يُصيبكم بسببها مصيبة لا تخص ظالمكم ، ونونُ التوكيد على هذا في محلِّها ، ونظيرُ إضمار القول قوله : [ الرجز ]
2691 - جاءُوا بِمَذْقٍ هَلْ رَأيْتَ الذِّئْبَ قَط ... أي مقول فيها ما رأيت .
والثاني : أن « لا » نافية ، والجملةُ صفة ل « فِتْنَةٌ » وهذا واضحٌ من هذه الجهة إلاَّ أنَّهُ يشكل عليه توكيد المضارع في غير قسم ، ولا طلب ، ولا شرط ، وفيه خلافٌ : هل يجري المنفيُ ب « لا » مجرى النَّهي؟ فقال بعضهم : نعم؛ واستشهد بقوله : [ الطويل ]
2692 - فَلا الجَارةُ الدُّنْيَا بها تَلْحَينَّهَا ... ولا الضَّيْفُ فيها إن أنَاخَ مُحَوِّلُ
وقال الآخر : [ الطويل ]
2693 - فَلاَ ذَا نَعِيمٍ يُتْرَكنْ لِنعيمِهِ ... وإنْ قال قَرِّظْني وخُذْ رِشْوةً أبَى
وَلاَ ذَا بئِيسٍ يتركنَّ لِبُؤْسِهِ ... فَيَنْفَعَهُ شَكُوٌ إليه إن اشْتَكى
فإذا جاز أن يُؤكد المنفيُّ ب « لا » مع انفصاله ، فلأن يؤكَّد المنفيُّ غيرُ المفصول بطريق الأولى إلاَّ أنَّ الجمهور يحملون ذلك على الضرورة .
وزعم الفرَّاءُ أنَّ : « لا تُصِيبَنَّ » جواب للأمر نحو : انزلْ عن الدَّابة لا تَطْرَحَنَّكَ ، أي : إن تنزل عنها لا تَطْرَحنك ، ومنه قوله تعالى { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ }
[ النمل : 18 ] أي : إن تدخلوا لا يَحْطِمنَّكُم ، فدخلت النُّونُ لِما فيه من معنى الجزاء .
قال أبو حيان . وقوله « لا يحطمنَّكُم » وهذا المثالُ ، ليس نظير { فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين } ؛ لأنه ينتظم من المثالِ والآيةِ شرطٌ وجزاءٌ كما قدَّر ، ولا ينتظمُ ذلك هنا ، ألا ترى أنه لا يَصِحُّ تقدير : إن تتقوا فتنة لا تُصِبِ الذين ظلموا ، لأنه يترتَّبُ على الشرط غيرُ مقتضاه من جهة المعنى .
قال الزمخشري : « لا تُصِيبَنَّ » لا يخلو إمَّا أن يكون جواباً للأمر ، أو نهياً بعد أمرٍ ، أو صفة ل « فِتْنَةً » فإن كان جواباً فالمعنى : إن أصابتكُم لا تُصيب الظَّالمين منكم خاصة بل تَعُمُّكُم .
قال أبو حيان « وأخذ الزمخشريُّ قول الفرَّاءِ ، وزاده فساداً وخبَّط فيه » فذكر ما نقلته عنه ثم قال : « فانظر إليه كيف قدَّر أن يكون جواباً للأمر الذي هو : » اتَّقُوا « ثمَّ قدَّر أداة الشطرِ داخلةً على غير مضارع » اتقُوا « ؟ فقال المعنى : إن أصابتكُم يعني : الفتنة . وانظر كيف قدَّر الفرَّاءُ ، انزل عن الدَّابَّةِ لا تَطْرَحَنَّكَ ، وفي قوله : { ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ } [ النمل : 18 ] فأدخل أداة الشَّرط على مضارع فعل الأمر ، وهكذا يُقدَّر ما كان جواباً للأمر » .
وقيل : « لا تُصِيبَنَّ » جوابُ قسم محذوف ، والجملةُ القسميةُ صفةٌ ل « فِتْنَةً » أي : فتنة واللَّه لا تُصيبنَّ ، ودخولُ النُّون أيضاً قليلٌ ، لأنه منفيٌّ .
وقال أبُو البقاءِ « ودخلتِ النُّونُ على المنفي في غير القسم على الشُّذُوذِ » وظاهرُ هذا أنَّهُ إذا كان النَّفي في جواب القسم يَطَّرد دخولُ النُّونِ ، وليس كذلك ، وقيل : إنَّ اللام لامُ التَّوكيد والفعلُ بعدها مثبتٌ ، وإنَّما أشبعتْ فتحةُ اللاَّمِ؛ فتولَّدت ألفاً ، فدخول النُّون فيها قياسٌ ، وتأثر هذا القائلُ بقراءةِ جماعةٍ كثيرة « لتُصِيبنَّ » وهي قراءة أمير المؤمنين ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، والباقر ، والربيع بن أنس ، وأبي العالية ، وابن جماز .
وممَّن وجَّه ذلك ابنُ جني ، والعجبُ أنه وجَّه هذه القراءة الشَّاذَّة بتوجيهٍ يَرُدُّهَا إلى قراءةِ العامَّة ، فقال : « يجوز أن تكون قراءةُ ابن مسعود ، ومن ذكر معه مخففةً من » لا « يعني حذفت ألفُ » لا « تخفيفاً واكتفي بالحركة » .
قال : « كما قالوا : أم واللَّه ، يريدون : أما واللَّهِ » .
قال المهدويُّ « كما حذفت مِنْ » ما « وهي أخت » لا « في نحو : أم والله لأفعلنَّ وشبهه » .
قوله « أخت لا » ليس كذلك؛ لأنَّ « أما » هذه للاستفتاح ، ك « ألاَ » ، وليست من النَّافية في شيءٍ ، فقد تحصَّل من هذا أنَّ ابن جني خرَّج كلاًّ من القراءتين على الأخرى . وهذا لا ينبغي أن يجوز ألبتَّة ، كيف يُوجدُ لفظ نفي ، ويتأوَّل بثبوتٍ وعكسه؟ وهذا ممَّا يقلب الحقائق ، ويُؤدِّي إلى التَّعمية .
وقال المبرِّدُ ، والفرَّاءُ ، والزَّجَّاجُ : في قراءة العامَّة « لا تُصِيبنَّ » الكلام قد تمَّ عند قوله : « فِتْنَةً » وهو خطابٌ عامٌّ للمؤمنين ، ثم ابتدأ نَهْيَ الظلمة خاصةً عن التعرُّض للظُّلم فتصيبهم الفتنةُ خاصة ، والمرادُ هنا : لا يتعرَّض الظَّالم للفتنة فتقع إصابتُها له خاصة .
قال الزمخشريُّ في تقدير هذا الوجه : « وإذا كانت نهياً بعد أمرٍ؛ فكأنه قيل : واحذروا ذنباً أو عقاباً .
ثم قيل : لا تتعرَّضُوا للظلم فيصيب العقابُ أو أثر الذَّنب من ظلم منكم خاصة » .
وقال عليُّ بن سليمان : هو نَهْيٌ على معنى الدُّعاءِ ، وإنَّما جعله نهياً بمعنى الدُّعاء لأنَّ دخول النون في النفي ب « لا » عنده لا يجوز ، فيصير المعنى : لا أصابت الفتنة الظالمين خاصة ، واستلزمت الدُّعاء على غير الظَّالمينَ ، فصار التقدير : لا أصابت ظالماً ولا غير ظالم فكأنَّه قيل : واتقوا فتنةً لا أوقعها اللَّهُ بأحدٍ .
وقد تحصَّلت في تخريج هذه الكلمة أقوال : النَّهْي بتقديريه ، والدُّعاء بتقديريه ، والجواب للأمر بتقديريه وكونها صفةً بتقدير القول .
قوله : « مِنكُمْ » فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أظهرها : أنَّها للبيان مطلقاً ، والثاني : أنَّها حالٌ ، فيتعلَّقُ بمحذوف .
وجعلها الزمخشريُّ : للتبعيض على تقدير ، وللبيان على تقدير آخر ، فقال « فإن قلت : فما معنى » مِنْ « في قوله : { الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ } ؟ قلت : التبعيضُ على الوجه الأوَّلِ ، والبيان على الثاني؛ لأنَّ المعنى : لا تصيبنَّكم خاصة على ظلمكم ، لأن الظلم منكم أقبحْ من سائر النَّاسِ » يعني بالأولِ كونه جواباً للأمر ، وبالثاني كونه نهياً بعد أمرٍ ، وفي تخصيصه التبعيض بأحد الوجهين دون الآخر ، وكذا الثاني : نظرٌ ، إذ المعنى يصح بأحد التقديرين مع التَّبعيض والبيان .
قوله : « خَاصَّةً » فيه ثلاثة أوجهٍ :
أظهرها : أنها حالٌ من الفاعل المستكنِّ في قوله : « لا تُصيبَنَّ » وأصلها أن تكون صفةً لمصدرٍ محذوفٍ ، تقديره : إصابةً خاصة .
الثاني : أنَّها حالٌ من المفعولِ وهو الموصولُ ، تقديره : لا تصيبنَّ الظَّالمين خاصة ، بل تعمُّهم ، وتعمُّ غيرهم .
الثالث : أنها حالٌ من فاعل « ظَلَمُوا » قاله ابن عطية . قال أبو حيان : « ولا يُعْقَلُ هذا الوجهُ » .
قال شهابُ الدِّين : « ولا أدري ما عدمُ تعقُّله؟ فإنَّ المعنى : واتقُوا فتنةً لا تصيبنَّ الذين ظلموا ، ولا يظلم غيرهم ، بمعنى : أنَّهم اختصوا بالظُّلْمِ ، ولم يشاركهم فيه غيرهم ، فهذه الفتنةُ لا تختصُّ إصابتها لهؤلاء ، بل تصبهم ، وتُصيبُ مَنْ لَمْ يظلم ألبتَّة ، وهذا معنى واضح » .
فإن قيل : إنَّه تعالى خوَّفهم بعذابٍ لو نزل عمَّ المذنب ، وغيره ، وكيف يليقُ بالرحيم الحليمِ أن يوصل العذاب إلى من لم يذنب؟
فالجوابُ : أنَّهُ تعالى قد ينزل الموت ، والفقر ، والعمى ، والزمانة بعبده ابتداء ، إمَّا لأنَّهُ يحسن منه تعالى ذلك بحكم المالكيَّةِ ، أو لأنَّه تعالى علم اشتمال ذلك على نوع من أنواع الصلاة على اختلاف المذهبين .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول } الآية .
لمَّا ذكر أنَّه رزقهم من الطَّيبات ، فههنا منعهم من الخيانةِ ، واختلفوا في تلك الخيانةِ .
فقال ابنُ عبَّاسٍ : نزلت في أبي لبابة حين بعثه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى قريظة لمَّا حاصرهم وكان أهله وولده فيهم ، فقالوا : ما ترى لنا ، أننزل على حكم سعد بن معاذ فينا؟ فأشار أبو لبابة إلى حلقه ، إنَّه الذبح فلا تفعلوا ، فكان منه خيانة لله ورسوله .
وقال السديُّ « كانُوا يسمعون الشيء من النبي صلى الله عليه وسلم فيفشونه ويبلغونه إلى المشركين فنهاهم الله عز وجل عن ذلك » .
وقال ابن زيد : « نَهاهُم الله أن يخُونُوا كما صنع المنافقون يظهورن الإيمان ، ويسرون الكُفْرَ » .
وقال جابرُ بن عبد الله : « إنَّ أبا سفيان خرج من مكَّة فعلم النبي صلى الله عليه وسلم خروجه ، وعزم على الذهاب إليه ، فكتب رجلٌ من المنافقين إليه أنَّ محمداً يريدكم ، فخذوا حذركم فنزلت الآية » . وقال الكلبيُّ والأصمُ والزهريُّ « نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكَّة لمَّا همَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالخروج إليها » .
فصل
قال أبو العباس المقرىء : ورد لفظ « الخيانة » في القرآن بإزاء خمسة معانٍ :
الأول : أنَّ المراد بالخيانة : الذَّنب في الإسلام ، كهذه الآية ، لمَّا نزلت في أبي لبابة .
الثاني : الخيانة : السرقة ، قال تعالى : { وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } [ النساء : 105 ] نزلت في طعمة ، لمَّا سرق الدرعين .
الثالث : نقض العهد ، قال تعالى : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً } [ الأنفال : 58 ] .
الرابع : الخيانة : المخالفة ، قال تعالى : { فَخَانَتَاهُمَآ } أي : خالفتاهما في الدين؛ لأنه يروى أنه ما زنت امرأةٌ نبي قط .
الخامس : الخيانة : الزِّنا ، قال تعالى : { وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين } [ يوسف : 52 ] يعني : الزنا .
فصل
قال القاضي : « الأقربُ : أنَّ خيانة الله غير خيانة رسوله ، وخيانة الرَّسُولِ غير خيانة الأمانة؛ لأنَّ العطف يقتضي المغايرة » .
وإذا عرف ذلك فنقول : إنَّه تعالى أمرهم أن لا يخونوا الغنائم ، وجعل ذلك خيانة للَّه؛ لأنَّهُ خيانة لعطيته وخيانة لرسوله؛ لأنه القيم بقسمها ، فمن خانها فقد خان الرَّسُول ، وهذه الغنيمة قد جعلها الله أمانة في أيدي الغانمين ، وألزمهم أن لا يتناولوا لأنفسهم منها شيئاً فصارت وديعة .
والوديعة أمانةٌ في يد المودع ، فمن خان منهم فيها قد خان أمانة النَّاس .
إذ الخيانةُ ضد الأمانة .
قال : ويحتمل أن يريد بالإمانة كل ما تعبد به ، وعلى هذا التقدير : فيدخل فيه الغنيمة وغيرها ، فكان معنى الآية : إيجاب أداء التكاليف تامة كاملة .
قال ابن عباس : « لا تخونوا الله بترك فرائضه ، والرسول بترك سنته » « وتخُونُوا أماناتِكُم » .
قال ابن عباس : « هي ما يخفى عن أعين النَّاس من فرائض الله تعالى » .
والأعمال التي ائتمن الله عليها العباد المذكورة في سبب النُّزول داخلة فيها ، لكن لا يجب قصر الآية عليها لأنَّ العبرةَ بعموم اللَّفظ لا بخصوص السَّببِ .
قال الزمخشريُّ « ومعنى الخون النقص ، كما أن معنى الوفاء التَّمام ، ومنه تخوَّنه إذا تنقصه ثم استعمل في ضد الأمانة؛ لأنك إذا خُنتَ الرَّجُلَ في شيءٍن فقد أدخلت النُّقصان فيه » .
قوله : « وتَخُونُوا » يجوزُ فيه أن يكون منصوباً بإضمارِ « أنْ » على جواب النَّهي ، أي : لا تجمعوا بين الخيانتين .
كقوله : [ الكامل ]
2694 - لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتأتِيَ مِثلَهُ ... عَارٌ علَيْكَ إذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
والثاني : أن يكون مجزوماً نسقاً على الأوَّل ، وهذا الثاني أولى؛ لأن فيه النهي عن كلِّ واحدٍ على حدته بخلاف ما قبله فإنَّه نهيٌ عن الجمع بينهما ، ولا يلزمُ من النهي عن الجمع بين الشيئين النهيُ عن كلٍّ واحدٍ على حدته ، وقد تقدَّم تحريره في قوله : { وَتَكْتُمُواْ الحق } [ البقرة : 42 ] أول البقرة .
و « أماناتكم » على حذف مضاف ، أي : أصحاب أماناتكم ، ويجوزُ أن يكونوا نهوا عن خيانة الأماناتِ مبالغةً كأنَّها جعلت مخونةً .
وقرأ مجاهدٌ ورويت عن أبي عمرو « أمَانتكُم » بالتَّوحيد ، والمراد الجمع .
وقوله : « وأنتُمْ تَعْلَمُونَ » جملة حالية ، ومتلَّقُ العلم يجوزُ أن يكون مراداً أي : وأنتم تعلمون قُبْحَ ذلك أو أنكم مؤاخذون بها ، ويجوزُ ألاَّ يُقَدَّر ، أي : وأنتم من ذوي العلمِ .
قوله : { واعلموا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } .
لمَّا كان الدَّاعي إلى الإقدام على الخيانةِ هو حب الأموالِ ، والأولاد ، نبَّه تعالى على أنه يجبُ على العقال أن يحترز عن المضار المتولدة من ذلك .
فقال : { أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } لأنَّها تشغل القلب بالدُّنيا .
ثم قال : { وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } أي : أنَّ سعادة الآخرة خيرٌ من سعاداتِ الدُّنيا ، لأنَّ سعادات الآخرة لا نهاية لها ، وسعادات الدنيا تفني وتنقضي .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
قوله تعالى : { يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إَن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } الآية .
لمَّا حذَّر من الفتنة بالأموال ، والأولاد ، رغَّب في التَّقوى الموجبة لترك الميل ، والهوى في محبَّة الأموال والأولاد .
فإن قيل : إدخالُ الشَّرط في الحكم إنَّما يحسن في حقِّ من كان جاهلاً بعواقب الأمورِ وذلك لا يليق باللَّهِ تعالى .
فالجوابُ : أنَّ قولنا إن كان كذا كان كذا لا يفيدُ إلاَّ كون الشَّرطِ مستلزماً للجواب ، فإمَّا أنَّ وقوع الشَّرط مشكوك فيه ، أو معلوم فذلك غير مستفاد من هذا اللَّفظ ، سلَّمنا أنَّه يفيد هذا الشَّك إلاَّ أنه تعالى يُعامل العباد في الجزاء معاملة الشَّاك ، وعليه يخرَّج قوله تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين } [ محمد : 31 ] .
قال أبو العباس المقرىء : « الفرقان » على أربعة أوجهٍ :
الأول : الفرقان النور ، كهذه الآية أي : يجعل لكم نوراً في قلوبكم تُفرِّقون به بين الحلال والحرام .
والثاني : الحجة .
قال تعالى : { وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب والفرقان } [ البقرة : 53 ] أي : الحجة .
الثالث : القرآنُ . قال تعالى { تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ } [ الفرقان : 1 ] أي : القرآن .
الرابع : يوم بدر قال تعالى { يَوْمَ الفرقان يَوْمَ التقى الجمعان } [ الأنفال : 41 ] أي : يوم بدر .
فصل
ومعنى الآية : إن تتَّقُوا الله بطاعته وترك معصيته يجعل لكم فرقاناً .
قال مجاهد : « مَخْرَجاً في الدُّنيا والآخرة من الضَّلال » وقال مقاتل : « مَخْرَجاً في الدَِّين من الشُّبهات » .
وقال عكرمة « نجاة ، أي : يفرق بينكم وبين ما تخافون » .
وقال الضحاك : « بياناً » .
وقال ابن إسحاق : « فصلاً بين الحق والباطل . يُظهر الله به حقكم ويطفىء باطل من خالفكم » قال مُزرد بن ضرار : [ الخفيف ]
2695 - بَادَرَ الأفْق أنْ يَغيبَ فَلَمَّا ... أظْلَمَ اللَّيْلُ لَمْ يَجِدْ فُرقَانَا
قال آخر : [ الرجز ]
2696 - مَا لَك مِنْ طُولِ الأسَى فُرقَانُ ... بَعْدَ قَطِينٍ رَحَلُوا وبَانُوا
وقال آخر : [ الطويل ]
2697 - وكَيْفَ أرَجِّي الخُلْدَ والمَوْتُ طَالِبِي ... ومَا لِيَ مِنْ كَأسٍش المَنِيَّةِ فُرْقَانُ
والفرقان : مصدر كالرُّجحان والنُّقصان ، وتقدم الكلام عليه أول البقرة .
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
قوله تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ } الآية .
هذا الظرفُ معطوفٌ على الظَّرف قبله؛ لأنّ هذه السُّورة مدنيَّة ، وهذا المكر والقول إنما كان بمكَّة ولكنَّ الله ذكرهم بالمدينة لقوله تعالى : { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله } [ التوبة : 40 ] .
واعلم أنه لمَّا ذكَّر المؤمنين بنعمه عليهم بقوله : { واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ } [ الأنفال : 26 ] فكذلك ذكر رسوله بنعمه عليه وهو دفع كيد المشركين ومكر الماكرين .
قال ابنُ عبَّاسٍ ومجاهدٌ وقتادة وغيرهم : أن قريشاً فزعوا - لمَّا أسلمت الأنصار - أن يتفاقهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فاجتمع نفر من كبارهم في دار الندوة ليتشاوروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت رُءُوسهُم عتبة ، وشيبه ابنا ربيعة ، وأبو جهل ، وأبو سفيان ، وطعيمة بن عدي ، والنضر بن الحارث ، وأبو البختري بن هشام ، وزمعة بن الأسودِ ، وحكيم بن حزام ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وأمية بن خلف فاعترضهم إبليسُ في صورة شيخ ، فلما رَأوْهُ قالوا : من أنت؟ قال : شيخ من نجد ، سمعت باجتماعكم ، فأردت أن أحضركم ولن تعدموا منّي رأياً ونصحاً ، قالوا : ادخل فدخل ، فقال أبو البختري : أما أنا فأرى أن تأخذوا محمداً وتُقَيِّدُوه ، وتحبسوه في بيت وتسدُّوا باب البيت غير كوة وتلقون إليه طعامه وشرابه ، وتَتربَّصُوا به رَيْبَ المنُون حتَّى يهلك فيه كما هلك من قبلهُ من الشعر ، فصرخ عدوُّ الله الشيخُ النَّجدي وقال : بئس الرأي والله إن حبستموه في بيت ليخرجن أمره من وراء البيت إلى أصحابه ، فيوشك أن يَثِبُوا عليكم فيقاتلوكم ويأخذوه من أيديكم .
قالوا : صدق الشَّيخُ .
وقال بعضهم : أخرجوه من عندكم تستريحُوا من أذاه لكم .
فقال إبليس : ما هذا برأي ، تعمدُون إلى رجلٍ قد أفسد سفهاءكم فتخرجونه إلى غيركم فيفسدهم ، ألَمْ تَرَوْا حلاوة منطقه ، وطلاقة لسانه ، وأخذ القلوب بما تسمع من حديثه؟ والله لَئِن فعلتم ذلك لاستمال قلوب قومٍ ثم يسير بهم إليكم ويخرجكم من بلادكم قالوا : صدق والله الشيخ .
فقال أبو جهل : إنِّي أرى أن تأخذُوا من كلِّ بطنٍ من قريش شابّاً نسيباً وسطاً فتيّاً ثم يُعْطى كل فتى منهم سيفاً صارماً ، ثم يضربوه ضربة رجل واحدٍ ، فإذا قتلوهُ تفرَّق دمهُ بين القبائلِ كلها ، ولا أظن هذا الحيّ من بني هاشم يَقوونَ على حرب قريش كلها فيرضونَ بأخذ الدِّية فتؤدي قريش ديته .
فقال إبليس : صدق هذا التفى وهو أجودكم رأياً ، فتفرقوا على رأي أبي جهل فأوْحَى اللَّهُ تعالى إلى نبيِّه بذلك ، وأذن له في الخُرُوج إلى المدينة ، وأمره لاَّ يبيت في مضجعه ، فأمر الرسُول عليّاً أن يبيت في مضجعه وقال : اتَّشح ببُرْدَتي؛ فإنَّه لنْ يصلَ إليك أمرٌ تكرهه ، ثمَّ خرج النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ قبضة من ترابٍ ، وأخذ اللَّهُ أبصارهم عنه وجعل ينثر التُّراب على رءوسهم ، وهو يقرأ
{ إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً } [ يس : 8 ] إلى قوله : { فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [ يس : 9 ] ومضى إلى الغار من ثور هو وأبو بكر ، وخلف عليّاً بمكَّة حتَّى يؤدِّي عنه الودائع التي كانت توضع عنده لصدقه وأمانته ، وباتُوا مُترصِّدين ، فلمَّا أصبحوا ثَارُوا إلى مضجعه فأبصروا عليّاً فبهتوا .
وقالوا له : أيْنَ صاحبُك؟
قال : لا أدري فاقتصوا أثره وأرسلوا في طلبه ، فلما بلغوا الغار رَأوْا على بابه نسخ العنكبوت ، فقالوا : لو دخله لم يكن نسج العنكبوت على بابه؛ فمكث فيه ثلاثاً ثم قدم المدينة فذلك قوله : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ } .
وقوله « لِيُثُبِتُوكَ » متعلِّقٌ ب « يَمْكُرُ » والتثبيتُ هنا الضَّربُ ، حتَّى لا يبقى للمضروب حركة؛ قال : [ البسيط ]
2698 - فَقلتُ : ويْحَكَ ماذا فِي صَحيفتكُمْ؟ ... قالوا : الخَليفَةُ أمْسَى مُثْبَتاً وجِعَا
وقرأ ابن وثَّابٍ « لِيُثِّبتُوكَ » فعدَّاهُ بالتضعيف ، وقرأ النخعي « لِيبيتُوك » من البيات والمعنى :
قال ابنُ عبَّاسٍ : ليوثقوك ومن شد فقد أثبت؛ لأنَّهُ لا يقدر على الحركة ، ولهذا يقال لمن اشتدَّتْ به علة أو جراحة تمنعه من الحركة قد أثْبِتَ فلانٌ ، فهو مُثْبَتٌ .
وقيل : ليسجنوك ، وقيل : ليثبتوك في بيتٍ ، أو يقتلوك ، وهو ما حكي من أبي جهل « أو يُخْرِجُوكَ » من مكَّة كما تقدم .
ثم قال : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله } قال الضحاكُ : يصنعون ويصنع اللَّهُ ، والمكرُ من الله التدبير بالحقِّ ، وقيل : يجازيهم جزاء المكر . { والله خَيْرُ الماكرين } وقد تقدَّم الكلام في تفسير « المَكْرِ » في حق الله تعالى في آل عمران عند قوله : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله } [ آل عمران : 54 ] .
فإن قيل : كيف قال { والله خَيْرُ الماكرين } ولا خير في مكرهم؟
فالجوابُ من وجوه : أحد : أنَّ المراد أقوى الماكرين ، فوضع « خَيْرٌ » موضع « أقْوَى » تنبيهاً على أنَّ كُلَّ مكر ، فإنَّهُ يبطل في مقابلة فعل اللَّهِ تعالى .
وثانيها : أنَّ المُرادَ لو قدر في مكرهم ما يكون خيراً .
وثالثها : أنَّ المراد ليس هو التفضيل ، بل المرادُ أنَّهُ في نفسه خير كقولك : الزبد خير من الله ، أي : من عند اللَّهِ .
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)
قوله تعالى : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا } الآية .
لمَّا حكى مكرهم في ذاتِ محمَّدٍ ، حكى مكرهم في دين محمَّدٍ .
روي أنَّ النَّضْرَ بن الحارث كان يختلف تاجراً إلى فارس والحيرةِ فيسمع أخبار رستم وسفنديار ، وأحاديث العجمِ ، واشترى أحاديث كليلة ودمنة ، ويمر باليهود والنصارى فيراهم يقراءون التوراة والإنجيلن ويركعون ويسجدون فجاء مكَّة فوجد محمداً صلى الله عليه وسلم يصلِّي ويقرأ القرآن ، وكان يقعدُ مع المستهزئين والمقتسمين وهو منهم فيقرأ عيلهم ساطير الأوَّلين أخبار الأمم الماضية وأسماءهم ، وما سطر الأولون في كتبهم .
وكان يزعمُ أنها مثل ما يذكره مُحمَّدٍ من قصص الأولين ، فهذا هو المراد من قوله { لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين } ، والأساطير : جمع أسطورة وهي المكتوبة .
فإن قيل : الاعتمادُ على كون القرآن معجزاً هو أنَّ الله تعالى تحدَّى العرب بمعارضته فلم يأتوا بها ، وهذا الآيةُ تدلُّ على أنه أتى بالمعارضة .
فالجواب : أن كلمة « لو » تفيدُ انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، فقوله : { لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا } يدلُّ على أنه ما شاء ذلك القول ، وما قالوا؛ فثبت أنَّ النضر بن الحارث أقرَّ أنَّهُ ما أتى بالمعارضة ، وإنَّما أخبر أنه لو شاء أتى بها ، والمقصود إنَّما يحصل لو أتى بالمعارضة امَّا مجرَّد هذا القول ، فلا فائدة فيه .
وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)
قوله : { وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق } .
نزلت في النضر بن الحارث من بني عبد الدَّارِ .
قال ابنُ عباسٍ : لمَّا قصَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شأن القرون الماضية قال النَّضْرُ : لو شئت لقلتُ مثل هذا إن هذا إلا ما سطر الأوَّلُونَ في كتبهم .
فقال له عثمانُ بن مظعون : اتق الله فإن محمداً يقول الحقَّ ، قال : وأنا أقول الحق .
قال عثمان : فإنَّ محمداً يقول : لا إله إلاَّ الله ، قال : وأنا أقول : لا إله إلا الله ولكن هذه بنات الله ، يعني : الأصنام .
ثم قال : { اللهم إِن كَانَ هذا } الذي يقوله محمد « هُو الحقَّ من عندكَ » .
فإن قيل : في الآية إشكال من وجهين :
أحدهما : أن قوله { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق } الآية . حكاهُ الله عن كلام الكُفَّار ، وهو من جنس نظم القرآن ، فقد حصلت المعارضة في هذا وحكي عنهم في سورة الإسراء قولهم : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] الآيات ، وهذا أيضاً كلامُ الكُفَّار فقد حصل من كلامهم ما يشبه نظم القرن ، فدلَّ على حصول المعارضة .
الوجه الثاني : أنَّ كفار قريش كانُوا معترفين بوجود الإله ، وقدرته ، وكانوا قد سمعوا التَّهديد الكثير من محمد صلى الله عليه وسلم في نزول العذاب ، فلو كان القرآن معجزاً لعرفوا كونه معجزاً ، لأنهم أرباب الفصاحةِ والبلاغةِ ، ولو عرفوا ذلك لكان أقلّ الأحوال أن يَشُكُّوا في نبوَّة محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - ، ولو كانُوا كذلك لما أقدموا على قولهم : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء } ؛ لأن الشَّاك لا يتجاسر على مثل هذه المبالغة وحيث أتوا بهذه المبالغة علمنا أنَّه ما لاح لهم في القرآن وجه من الوجوه المعجزة .
فالجواب عن الأول : أنَّ الإتيان بهذا القدر من الكلامِ لا يكفي في حصول المعارضة؛ لأنَّ هذا القدر كلام قليل لا يظهر فيه وجوه الفصاحة والبلاغة .
والجوابُ عن الثَّانِي : هَبْ أنَّه لم يظهر لهم الوجه في كون القرآن معجزاً إلاَّ أنَّهُ لما كان معجزاً في نفسه ، فسواء عرفوا ذلك الوجه أو لم يعرفوا فإنه لا يتفاوت الحال .
قوله « هُو الحقَّ » العامَّةُ على نصب « الحقَّ » وهو خبر الكون ، و « هُوَ » فصل ، وقد تقدَّم الكلام عليه .
وقال الأخفشُ : « هو » زائد ، ومرادُه ما تقدَّم من كونه فصلاً .
وقرأ الأعمش ، وزيدُ بن علي : برفع « الحقَّ » ووجهها ظاهرٌ ، برفع « هُوَ » بالابتداء و « الحق » خبره ، والجملةُ خبرُ الكونِ؛ كقوله : [ الطويل ]
2699 - تَحِنُّ إلَى لَيْلَى وأنْتَ تَركْتَهَا ... وكُنْتَ عليْهَا بالمَلا أنْتَ أقْدَرُ
وهي لغةُ تميم . وقال ابن عطية : ويجوز في العربية رفع « الحقّ » على خبر « هو » والجملة خبر ل « كان » .
قال الزَّجَّاجُ « ولا أعلم أحداً قرأ بهذا الجائز » ، وقد ظهر من قَرأَ به وهما رجلان جليلان .
قوله : « مِنْ عندِكَ » حال من معنى « الحَقّ » : أي : الثَّابت حال كونه من عندك .
وقوله « مِنَ السَّماءِ » فيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ متعلقٌٌ بالفعل قبله .
والثاني : أنه صفة ل « حِجَارةً » فيتعلقُ بمحذوفٍ .
وقوله : « مِنَ السَّماءِ » مع أنَّ المطر لا يكون إلاَّ منها ، قال الزمخشريُّ : « كأنه أراد أن يقال : فأمطرْ علينا السِّجِّيلَ ، فوضع حجارة من السماء موضع السِّجِّيل كما يقالك صب عليه مسرودةً من حديد ، تريدُ درعاً » .
قال أبو حيان : « إنَّهُ يريد بذلك التَّأكيد » قال : « كَمَا أنَّ قوله : » من حديد « معناه التأكيد؛ لأنَّ المسرودَ لا يكون إلاَّ من حديدٍ ، كما أنَّ الأمطارَ لا تكونُ إلاَّ من السَّماءِ » .
وقال ابنُ عطيَّة : « قولهم » مِنَ السَّماءِ « مبالغة وإغراق » .
قال أبو حيَّان : « والذي يظهر أنَّ حكمة قولهم : » مِنَ السَّماءِ « هي مقابلتُهم مجيءَ الأمطارِ من الجهة التي ذكر عليه الصلاة والسلام أنه يأتيه الوحي من جهتها ، أي : إنَّك تذكر أن الوحي يأتيك من السَّماءِ ، فأتِنَا بالعذاب من الجهة التَّي يأتيك الوحي منها ، قالوه استبعاداً له » .
فصل
قال عطاءٌ : « لقد نزل في النضر بن الحارث بضع عشرة آية فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر » .
قال سعيدُ بنُ جبيرٍ « قتل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوم بدرٍ ثلاثةً من قريشٍ صبراً طعيمة بن عدي ، وعقبة بن أبي معيطٍ ، والنَّضْر بن الحارث » . وروى أنس أن الذي قال هذا الكلام أبُو جُهْلٍ .
قوله : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } اللاَّم في « ليُعَذِّبهُمْ » قد تقدَّم أنها لامُ الجحود ، والجمهورُ على كسرها ، وقرأ أبُو السَّمَّال : بفتحها .
قال ابن عطية عن أبي زيد : « سمعت من العرب من يقول » ليُعَذِّبهُمْ « بفتح اللاَّم ، وهي لغةٌ غيرُ معروفةٍ ولا مستعملةٍ في القرآن » . يعني في المشهور منه ، ولمْ يَعْتَدَّ بقراءة أبي السمال ، وروى ابن مجاهد عن أبي زيد فَتْحَ كلِِّ لامٍ عن بعض العربِ إلاَّ في { الحمد للَّهِ } [ الفاتحة : 2 ] وروى عبد الوارث عن أبي عمرو : فتح لام الأمر من قوله : { فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ } [ عبس : 24 ] ، وأتى بخبر « كان » الأولى على خلاف ما أتى به في الثانية فإنَّه إمَّا أن يكون محذوفاً ، وهو الإرادة كما يقدِّره البصريون أي : ما كان الله مُريداً لتعذيبهم وانتفاءُ إرادة العذاب أبلغُ من نفي العذاب ، وإمَّا أنه أكَّدَهُ باللاَّم على رأي الكوفيين لأنَّ كينونته فيهم أبلغُ من استغفارهمن فشتَّان بين وجودِه عليه الصَّلاة والسَّلام ، وبين استغفارهم .
وقوله « وأنتَ فيهِمْ » حال ، وكذلك « وهُمْ يَسْتَغفرُونَ » .
والظَّاهر أنَّ الضمائرَ كلَّها عائدةٌ على الكفار .
وقيل : الضمير في « يُعذِّبَهُمْ » و « مُعَذِّبَهُمْ » للكفَّارِ ، والضمير من قوله « وهُمْ » للمؤمنين .
وقال الزمخشريُّ : « وهُمْ يَسْتَغفرُونَ » في موضع الحال ، ومعناه : نفيُ الاستغفار عنهم أي : ولو كانوا ممَّن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذَّبهم ، كقوله تعالى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } [ هود : 117 ] ولكنهم لا يستغفرون ، ولا يؤمنون ولا يتوقَّع ذلك منهم . وهذا المعنى الذي ذكره منقولٌ عن قتادة ، وأبي زيد ، واختاره ابنُ جريرٍ .
فصل
قال أبُو العباس المقرىءُ : ورد لفظ « في » في القرآن بإزاء ستَّةِ أوجه :
الأول : بمعنى « مع » كهذه الآية ، وقوله تعالى : { وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين } [ النمل : 19 ] أي : مع عبادك ، ومثله : { فادخلي فِي عِبَادِي } [ الفجر : 29 ] .
الثاني : بمعنى « على » . قال تعالى { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] أي : على جذوع النخل ، ومثله : { أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ } [ الطور : 38 ] . أي : عليه .
الثالث : بمعنى « إلى » قال تعالى { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } [ النساء : 97 ] أي : أليها .
الرابع : بمعنى « عن » قال تعالى : { وَمَن كَانَ فِي هذه أعمى } [ الإسراء : 72 ] أي : عن هذه الآيات .
الخامس : بمعنى « من » قال تعالى : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ } [ النحل : 89 ] أي : مِنْ كل أمة « شَهِيداً » .
السادس : بمعنى « عند » قال تعالى { كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذا } [ هود : 62 ] .
فصل
اختلفوا في معنى هذه الآيةِ : فقال محمدُ بنُ إسحاق : هذا حكايةٌ عن المشركين ، وهذه الآية متصلة بالآية التي قبلها ، وذلك أنَّهُم كانوا يقولون إنَّ الله لا يعذبنا ونحن نستغفره ، ولا يعذب الله أمة ونبيها معها ، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم يُذكِّره جهالتهم وغرتهم قال : { وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ } [ الأنفال : 32 ] الآية وقال { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الأنفال : 33 ] ثم قال ردّاً عليهم { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله } وإن كنت بين اظهرهم ، وإن كانوا يستغفرون { وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام } .
وقال آخرون : هذا الكلام مستأنف يقول الله إخباراً عن نفسه : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ } واختلفوا في تأويلها .
فقال الضحاكُ ، وجماعة : تأويلها : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم مُقيم بين أظهرهم ، قالوا : نزلت هذه الآية على النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو مقيم بمكَّةَ ثمَّ خرج من بين أظهرهم وبقيت به بقيَّة من المسلمين يستغفرون الله؛ فأنزل اللَّهُ { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } ثم خرج أولئك من بينهم فعُذِّبوا وأذن اللَّهُ في فتح مكَّة ، وهو العذاب الأليم الذي وعدهم اللَّهُ « .
قال ابن عباس « لم يعذِّب الله قيةً حتى يخرج النبي منها ، والذين آمنوا ويلحق بحيث أمرَ » .
قال أبو موسى الأشعريُّ : كان فيكم أمانان : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } فأمَّا النبي صلى الله عليه وسلم فقد مضى ، والاستغفار كائن فيكم إلى يومِ القيامةِ .
فإن قيل : لمَّأ كان حضوره مانعاً من نزول العذاب بهم ، فكيف قال : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ } [ التوبة : 14 ] ؟
فالجوابُ : المرادُ من الأوَّلِ عذاب الاستئصال ، ومن الثاني : العذاب الحاصل بالمحاربة والمقاتلة .
وقال السديُّ : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } أي : لو استغفروا ، ولكنهم لم يكونوا مستغفرين ولو أقرُّوا بالذَّنب واستغفروا لكانوا مؤمنين .
وقال عكرمةُ : « وهُمْ يَستَغْفرُونَ » يسلمون ، يقول : لو أسلموا لما عذبوا ، وروى الوالبي عن ابن عبَّاسٍ : أي : وفيهم من سبق له من الله أنه يؤمن ويستغفر كأبي سفيان ، ومصعب بن أمية ، وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام ، وغيرهم .
وروى عبد الوهاب عن مجاهدٍ : « وهُمْ يستغْفِرُونَ » أي : وفي أصلابهم من يستغفر .
قوله تعالى : { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله } الآية .
في « أن » وجهان :
أظهرهما : أنَّها مصدريةٌ ، وموضعها إما نصبٌ ، أو جرٌّ؛ لأنَّها على حذف حرف الجر ، إذ التقدير : في ألاَّ يُعذِّبهم ، وهذا الجارُّ متعلقٌ بما تعلَّ به : « لَهُمْ » من الاستقرار ، والتقديرُ : أيَّ شيءٍ استقر لهم في عدم تعذيبِ اللَّهِ ياهم؟ بمعنى : لا حظ لهم في انتفاء العذاب .
والثاني : أنَّها زائدةٌ وهو قول الأخفش .
قال النَّحَّاسُ « : لو كانت كما قال لرفع » يُعذِّبهم « . يعني النَّحاس : فكان ينبغي أن يرتفع الفعلُ على أنه واقعٌ موضع الحال ، كقوله : { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله } [ المائدة : 84 ] ولكن لا يلزمُ من الزيادةِ عدمُ العمل ، ألا ترى : » أنَّ « مِنْ » و « الباء » يعملان وهما مزيدتان .
وقال أبُو البقاءِ : « وقيل هو حال ، وهو بعيدٌ ، لأنَّ » أنْ « تُخلِّص الفعل للاستقبال »
والظَّاهرُ أنَّ « ما » في قول « وَمَا لهُمْ » استفهامية ، وهو استفهامٌ معناه التقرير ، أي : كيف لا يُعذَّبُونَ وهم مُتَّصفون بهذه الحال؟ .
وقيل : « ما » نافية ، فهي إخبارٌ بذلك ، أي : ليس عدمُ التَّعذيب ، أي : لا ينتفي عنهم التعذيب مع تلبسهم بهذه الحال .
فصل
معنى الآية : وما يمنعهم من أن يعذبوا ، أي : بعد خروجك من بينهم : { وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام } أي : يمنعون المؤمنينَ من الطَّواف ، وقيل : أراد بالعذاب بالأوَّلِ عذاب الدُّنيا ، وبهذا عذاب الآخرة .
وقال الحسن : قوله { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ } [ الأنفال : 33 ] منسوخة بقوله { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله } [ الأنفال : 34 ] .
قوله { وَمَا كانوا أَوْلِيَآءَهُ } في هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنَّها استئنافيةٌ ، والهاء تعود على المسجد أي : وما كانُوا أولياءَ المسجد .
والثاني : أنَّها نسقٌ على الجملة الحاليَّة قبلها وهي : « وهُم يَصُدُّونَ » والمعنى : كيف لا يُعذِّبهُم اللَّه ، وهم مُتَّصفون بهذين الوَصْفيْنِ : صدِّهم عن المسجد الحرام ، وانتفاءِ كونهم أولياءه؟ ويجوزُ أن يعود الضَّميرُ على الله تعالى ، أي : لم يكونوا أولياءَ الله .
فصل
قال الحسن : كان المشركون يقولون : نحن أولياء المسجد الحرام ، فردَّ الله عليهم بقوله : { وَمَا كانوا أَوْلِيَآءَهُ } أي : أولياء البيت : « إنْ أوْلياؤُهُ » أي : ليس أولياء البيت « إلاَّ المُتَّقُون » يعني المؤمنين الذين يتَّقُون الشرك ، ويحترزون عن المنكرات ، كالذي كانوا يفعلونه عند البيتن فلهذا قال بعده : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً } [ الأنفال : 5 ] ولكن أكثرهم لا يعلمون .
وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
لمَّا ذكر أنَّهم ليسُوا أولياء البيتِ الحرام بيَّن ههنا ما به خرجوا من أن يكونوا أولياء البيت ، وهو أنَّ صلاتهم عند البيت إنَّما كان بالمكاء والتَّصديةِ .
أي : ما كان شيءٌ ممَّا يعُدَّونه صلاةً وعبادةً إلا هذين الفعلينِ ، وهما المكاء والتصدية أي : إن كان لهم صلاةٌ فلا تكن إلاَّ هذين ، كقول الشَّاعر : [ الطويل ]
2700 - ومَا كُنْتُ أخْشَى أن يكثونَ عَطَاؤُهُ ... أدَاهِمَ سُوداً أو مُحَدْرَجَةً سُمْرَا
فأقام القيود ، والسِّياط مقام العطاء ، والمُكَاء : مصدر مَكَا يَمْكُوا ، أي : صفر بين أصابعه أو بين كفَّيه .
قال الأصمعي : قلت لمنتجع بن نبهان : ما تَمْكُوا فريصتُه؟ .
فشبَّك بين أصابعه ، وجعلها على فِيهِ ، ونفخ فيها . يريد قول عنترة : [ الكامل ]
2701 - وحَلِيْلِ غَانِيَةٍ تَركْتُ مُجَدَّلاً ... تَمْكُو فَريصَتُهُ كَشِدْقِ الأعْلمِ
يقال : مكت الفريصة ، أي : صَوَّتت بالدَّمِ ، ومكت استُ الدَّابة ، أي : نفخت بالرِّيحِ .
وقال مجاهدٌ : المُكاءٌ : صفيرٌ على لحنِ طائرٍ أبيض يكون بالحجاز؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
2702 - إذَا غرَّدَ المُكَّاءُ في غَيْرِ روْضَةٍ ... فَوَيلٌ لأهْلِ الشَّاءِ والحُمُراتِ
المُكَّاء : فُعَّال ، بناء مبالغةٍ؛ قال أبو عبيدة : « يقال : مَكَا يَمْكُوا مُكُوّاً ومُكَّاءً : صَفَرَ ، والمُكاء : بالضَّمِّ ، كالبُكاءِ والصُّراخ » .
قال الزمخشريُّ : « المُكاء » : فُعال ، بوزن : الثُّغَاء والرُّغَاء ، من مَكَا يَمْكُوا : إذا صَفَر والمُكاء : الصَّفيرُ « ومنه : المُكَّاء : وهو طائر يألف الرِّيف ، وجمعهُ المَكَاكِيُّ .
قيل : ولم يشذَّ من أسماء الأصوات بالكسر إلاَّ الغِنَاء ، والنِّداء . والتَّصدية فيها قولان :
أحدهما : أنها من الصَّدى ، وهو ما يُسْمع من رجع الصَّوْتِ في الأمكنة الخالية الصُّلبةِ يقال منه : صَدَى يصدي تصديةً ، والمراد بها هنا : ما يسمع من صوت التَّصفيق بإحدى اليدينِ على الأخرى .
وقيل : هي مأخوذةٌ من التَّصدد ، وهي الضَّجيجُ ، والصِّياحُ ، والتصفيق ، فأبدلت إحدى الدَّالين ياءً تخفيفاً ، ويدلُّ عليه قوله تعالى : { إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } [ الزخرف : 57 ] في قراءة من كسر الصَّاد ، أي : يضجُّونَ ويلغطون ، وهذا قول أبي عبيدة ، وردَّه عليه أبو جعفر الرُّسْتمي ، وقال : إنَّما هو مِن الصَّدْي ، فكيف يُجعل من المضعَّف؟ وقد ردَّ أبو عليّ على أبي جعفر ردَّهُ وقال » قد ثبت أنَّ يصُدُّونَ من نحو الصَّوْتِ ، فأخذهُ منه ، وتصدية : تَفْعِلَة « ثم ذكر كلاماً كثيراً .
والثاني : أنَّها من الصَّدِّ ، وهو المنعُ؛ والأصل : تَصْدِدَة ، بدالين أيضاً ، فأبدلت ثانيتهما ياء ويُؤيِّدُ هذا قراءةُ من قرأ » يَصُدُّونَ « بالضَّمِّ ، أي : يمنعون . وقرأ العَامَّةُ : » صلاتُهُم « رفعاً ، » مُكَاءً « نَصْباً .
وأبان بن تغلب والأعمش وعاصم بخلاف عنهما : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ } نصباً ، » مُكَاءٌ « رفعاً وخطَّأ الفارسيُّ هذه القراءة ، وقال : لا يجوزُ أن يُخْبَر عن النَّكرةِ بالمعرفةِ إلاَّ في ضرورة؛ كقول حسَّانٍ : [ الوافر ]
2703 - كأنَّ سَبيئَةً مِنْ بَيْتِ رَأسٍ ... يَكُونُ مزاجَهَا عسلٌ ومَاءُ
وخرَّجها أبو الفتحِ على أنَّ « المُكَاء » و « التصدية » اسما جنس ، يعني : أنَّهُمَا مصدران .
قال : واسم الجنْسٍ تعريفُه وتنكيرُهُ متقاربانِ ، فلمَ يقالُ بأيِّهمَا جعل اسماً ، والآخر خبراً؟ وهذا يقرُب من المعرَّف ب « أل » الجنسيَّة ، حيث وُصِفَ بالجملة ، كما يُوصَف به النكرة ، كقوله تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار } [ يس : 37 ] ؛ وقول الآخر : [ الكامل ]
2704 - ولقد أمُرُّ على اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي ... فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ « لا يَعْنِينِي
وقال بعضهم : وقد قرأ أبو عمرو : » إلاَّ مُكاً « بالقصرِ والتنوين ، وهذا كما قالوه : بُكاءً ، وبُكّى . بالمدِّ والقصر .
وقد جمع الشَّاعر بين اللغتين ، فقال : [ الوافر ]
2705 - بَكَتْ عَيْنِي وحُقَّ لها بُكَاهَا ... ومَا يُغْنِي البُكَاءُ ولا العَوِيلُ
فصل
قال ابن عبَّاسٍ » كانت قريش يطوفون بالبيت عُراة ، يُصفرون ويصفِّقُون « .
وقال مجاهدٌ : » كانوا يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطّواف ويتسهزئون به ويصفِّرون ، ويصفِّقُونَ ، ويخلطون عليه طوافه وصلاته « .
وقال مقاتلٌ : » كان النبي صلى الله عليه وسلم إذَا صلَّى في المسجد الحرام ، قام رجلان عن يمينه ، ورجلان عن يساره يصفقون ليخلطوا على النبيِّ صلى الله عليه وسلم صلاته ، وهم من بني عبد الدَّارِ « .
وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ : » التصديةُ : صدهم المؤمنين عن المسجد الحرامِ ، وعلى هذا ف « التَّصددةُ » بدالين ، كما يقال : تظننت من الظن « .
فعلى قول ابن عباسٍ كان المكاءُ والتصديةُ نوع عبادة لهم ، وعلى قول مجاهد ومقالت : كان إيذاءاً للنبي صلى الله عليه وسلم . والأول أقرب ، لقوله تعالى : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً } .
فإن قيل : » المُكَاءُ « و » التَّصديةُ « ليسا من جنس الصَّلاة ، فكيف يجوزُ استثناؤهما من الصَّلاة؟ فالجوابُ : من وجوه ، أحدها : أنهم كانوا يعتقدون أنَّ المكاء والتصدية من جنس الصَّلاة ، فحسن الاستثناء على حسب معقتدهم .
قال ابنُ الأنباري : » إنَّما سمَّاه صلاة؛ لأنَّهُمْ أمروا بالصَّلاةِ في المسجدِ؛ فجعلوا ذلك صلاتهم « .
وثانيها : أنَّ هذا كقولك : زرتُ الأمير؛ فجعل جفائي صلتي ، أي : أقام الجفاء مقام الصلة ، كذا ههنا .
وثالثها : الغرضُ منه أن من كان المكاء والتَّصدية صلاته فلا صلاة له ، كقول العربِ : ما لفلان عيب إلاَّ السخاء ، أي : مَنْ كان السخاء عيبه فلا عَيْبَ فيه .
ثم قال تعالى { فَذُوقُواْ العذاب } أي : عذاب السيف يوم بدر ، وقيل : يقال لهم في الآخرة { فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
قوله تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ } الآية .
لمَّا شرح أحوال الكفَّار في طاعاتهم البدنية ، أتبعها بشرح أحوالهم في الطَّاعات الماليَّةِ .
قال مقاتل والكلبيُّ : نزلت في المُطعمين يوم بدر ، وكانوا اثني عشر رجلاً من كبار قريش ، كان يطعم كلُّ واحد منهم يوم عشر جزر .
وقال سعيدُ بن جبيرٍ : نزلت في أبي سفيان وإنفاقه المال على حرب محمد يوم أحد ، وكان قد استأجر ألفين من الأحابيش سوى من استجاش من العربِ ، وأنفق عليهم أربعين أوقية ، والأوقية : اثنان وأربعون مثقالا ، هكذا قاله الزمخشريُّ . ثُم بيَّن تعالى أنهم إنَّما ينفقون المال : { لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } أي : غرضهم من الإنفاق الصد عن اتباع محمد وهو سبيل الله ، وإن لم يكن عندهم كذلك .
قال : { فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً } أي : أنَّ هذا الإنفاق يكون عاقبته حسرة؛ لأنَّهُ يذهب المال ولا يحصل المقصودُ ، بل يغلبون في آخر الأمر . { والذين كفروا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } وإنَّما خصَّ الكفار ، لأن فيهم من أسلم .
قوله { لِيَمِيزَ الله الخبيث } قد تقدَّم الكلامُ فيه في آل عمران : [ 179 ] . والمعنى : ليميزَ اللَّهُ الفريق الخبيث من الكُفَّارِ من الفريق الطَّيب من المؤمنين ، فيجعل الفريق الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً ، أي : يجمعهم ويضمُّهم حتَّى يتراكموا .
« أولَئِكَ » إشارةً إلى الفريق الخبيثِ ، وقيل : المرادُ في جهاد الكفار ، كإنفاقِ أبي بكر وعثمان في نصرة الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، فيضم تعالى تلك الأموال الخبيثة بعضها إلى بعض فيلقيها في جهنَّم ، ويعذبهم بها ، كقوله تعالى : { فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ } [ التوبة : 35 ] فاللاَّمُ في قوله { لِيَمِيزَ الله الخبيث } على القول الأوَّلِ متعلقة بقوله تعالى : { يُحْشَرُونَ } أي : يحشرون ليميز اللَّهُ الفريق الخبيث من الفريق الطيب ، وعلى القول الثاني متعلقة بقوله : { ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً } و « يَجْعَلَ » يحتمل أن تكون تصييريةً ، فتنصبَ مفعولين ، وأن تكون بمعنى الإلقاء ، فتتعدَّى لواحد ، وعلى كلا التقديرين ف « بَعْضَهُ » بدل بعضٍ من كل ، وعلى القول الأوَّلِ يكون « عَلَى بعضٍ » في موضع المفعول الثَّاني ، وعلى الثَّاني يكون متعلقاً بنفس الجَعْل ، نحو قولك : ألقَيْتَ متاعك بعضه على بعض .
وقال أبُو البقاءِ ، بعد أن حكم عليها بأنَّها تتعدَّى لواحدٍ :
« وقيل : الجار والمجرور حالٌ تقديره : ويجعل الخبيث بعضه عالياً على بعض؟ .
ويقال : مَيَّزْتُه فتمَيَّزَ ، ومزْنُه فانمازَ ، وقرىء شاذاً : { وامتازوا اليوم } [ يس : 59 ] ؛ وأنشد أبو زيدٍ : [ البسيط ]
2706 - لمَّا نَبضا اللَّهُ عَنِّي شرَّ غُدْرَتِهِ ... وانْمَزْتُ لا مُنْسِئاً ذُعْراً ولا وَجِلا
وقد تقدَّم الفرق بين هذه الألفاظ في آل عمران [ 179 ] .
قوله » فَيَرْكُمَهُ « نسقٌ على المنصوبِ قبله ، والرَّكْمُ جمعك الشَّيء فوق الشيء ، حتى يصير رُكَاماً مركوماً كما يُركم الرمل والسحاب ، ومنه : { سَحَابٌ مَّرْكُومٌ } [ الطور : 44 ] والمُرْتَكَم : جَادَّة الطريق للرَّكْم الذي فيه أي : ازدحام السَّبابلة وآثارهم ، و » جَمِيعاً « حالٌ ، ويجوزُ أن يكون توكيداً عند بعضهم ثم قال تعالى : { أولئك هُمُ الخاسرون } إشارة إلى الذين كفرُوا .
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
قوله تعالى { قُل لِلَّذِينَ كفروا } الآية .
فصل
لمَّا بينَّ ضلالهُم في عباداتهم البدنية ، والمالية ، أرشدهم إلى طريق الصَّواب ، وقال : { قُل لِلَّذِينَ كفروا } . وفي هذه اللاَّم الوجهان المشهوران :
الأول : أنَّها للتبليغ ، أمر أن يُبلِّعَهُم معنى هذه الجملة المحكيةِ بالقول ، وسواء اوردها بهذا اللفظ أم بلفظٍ آخرَ مؤدٍّ لمعناها .
والثاني : أنها للتعليل ، وبه قال الزمخشريُّ . ومنع أن تكون للتبليغ ، فقال : « أي قل لأجلهم هذا القول : » إن ينتَهُوا « ن ولو كان بمعنى خاطبهم به ، لقيل : إن تَنْتَهُوا يغفر لكم وهي قراءةُ ابن مسعود ، ونحو { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ } [ الأحقاف : 11 ] خاطبوا به غيرهم لِيسمْعَوهُ » وقرىء « يَغْفره » مبنياً للفاعل ، وهو ضمير يعود على الله تعالى .
فصل
المعنى : قُل للَّذين كفرُوا إن ينتهوا عن الكُفْر وعداوة الرَّسُولِ ويسلموا { يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } من كفرهم وعداوتهم للرَّسُولِ ، وإن عَادُوا إليه ، وأصَرُّوا عليه : { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ } في نُصرةِ الله أنبياءه ، أولياءه ، وإهلاك أعداءه؛ فليتوقَّعُوا مثل ذلك .
وقال يحيى بنُ معاذ الرازي : توحيد ساعة لم يعجز عن هدم ما قبله من كُفْرٍ ، وأرجو ألاَّ يعجز عن هدم ما بعده من ذنب .
واستدلُّوا بهذه الآية على صحَّة توبة الزِّنديقِ ، وأنها تقبل ، واستدلوا بها أيضاً على أنَّ الكفَّار ليسوا مخاطبين بالفروع؛ لأنَّها لا تصح منهم في حال الكفر ، وبعد الإسلام لا يلزم قضاؤها .
واحتجُّوا بها أيضاً على أنَّ المرتد إذا أسلم لا يلزمه قضاء العبادات الَّتي تركها في حال الردَّةِ .
قوله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } الآية .
لمَّا بينَّ أن الكفار إن انتهوا عن الكفر غفر لهم ، وإن عادوا فهم متوعدون ، أتبعه بأن أمر بقتالهم ذا أصروا ، فقال : { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } .
وقال عروة بن الزبير : « كان المؤمنون يفتنون عن دين اللَّهِ في مبدأ الدَّعْوَة ، فافتتن بعض المسلمين ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يخرجوا إلى الحبشةِ ، وفتنة ثانية وهي أنه لمَّا بايعت الأنصارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة ، أرادت قريش أن يفتنوا المؤمنين بمكَّة عن دينهم؛ فأصاب المؤمنين جهدٌ شديدق ، فهذا هو المراد من الفتنةِ؛ فأمر اللَّهُ بقتالهم حتَّى تزول هذه الفتنة » .
قال المفسِّرُون : { حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي : شِرْك .
وقال الربيعُ : « حتَّى لا يفتن مؤمن عن دينه » .
قال القاضي « إنه تعالى أمر بقتالهم ، ثم بيَّن له قتالهم ، فقال : { حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } ويخلص الدِّين الذي هو دينُ الله من سائر الأديانِ ، وإنَّما يحصل هذا المقصود إذا زال الكفر بالكليَّة » ، « ويكون » العامَّةُ على نصبه ، نسقاً على المنصُوبِ مرفوعاً على الاستئناف .
قوله « فإن انتهَواْ » عن الكُفْرِ والمعاصي ، بالتَّوبة والإيمان ، فإنَّ اللَّه عالم لا يخفى عليه شيء يوصل إليهم ثوابهم .
قرأ الحسنُ ويعقوبُ وسليمانُ بن سلام : « بما تَعْمَلُون » بتاء الخطابِ؛ « وإن تولَّوْا » أي : عن التوبة والإيمان ، { فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ } أي : وليكم وهو يحفظكم ، ويدفع البلاء « عَنْكُم » .
وفي « مَولاكُمُ » وجهان :
أظهرهما : أنَّ « مَولاكُم » هو الخبر ، و « نِعْمَ المَوْلَى » جملةٌ مستقلةٌ سيقت للمدح .
والثاني : أن يكون بدلاً من « اللَّه » والجملةُ المدحيَّةُ خبر ل « أنَّ » والمخصوصُ بالمدح محذوف ، أي : نِعْمَ المولى اللَّهُ ، أو ربُّكُم . وكلُّ ما كان من حماية هذا المولى ، ومن كان في حفظه ، كان آمناً من الآفات مصوناً عن المخوفات .
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
قوله تعالى : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ } الآية .
لمَّا أمر بقتال الكفار بقوله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ } وعند المقاتلة قد تحصل الغنيمة ، ذكر تعالى حكم الغنيمة ، والظَّاهرُ أنَّ « ما » هذه موصولةٌ بمعنى « الَّذي » ، وكان من حقِّها أن تكتب منفصلةً من « أنَّ » كما كُتبت : { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ } [ الأنعام : 134 ] منفصلةً ، ولكن كذا رُسِمَت . و « غَنِمْتُم » صلتها ، وعائدها محذوف لاستكمال الشُّروطِ ، أي : غَنِمْتُمُوه .
وقوله « فأنَّ لِلَّهِ » الفاءُ مزيدةٌ في الخبر؛ لأنَّ المبتدأ ضُمِّن معنى الشَّرطِ ، ولا يَضُرُّ دخولُ الناسخ عليه؛ لأنه لَمْ يُغَيِّر معناه ، وهذا كقوله تعالى : { إِنَّ الذين فَتَنُواْ } ثم قال : « فَلَهُم » والأخفش مع تجويزه زيادة الفاء في خبر المبتدأ مطلقاً ، يمنع زيادتها في الموصول المشبه بالشَّرط إذا دخلت عليه « إنَّ » المكسورة ، وآية البروج [ 10 ] حُجَّةٌ عليه .
وإذا تقرَّر هذا ف « أنَّ » وما علمتْ فيه في محلِّ رفع على الابتداء ، والخبرُ محذوفٌ تقديره : فواجبٌ أنَّ لله خمسهُ ، والجملةُ من هذا المبتدأ والخبر خبر ل « أنَّ » .
وظاهر كلام أبي حيان أنه جعل الفاء داخلةً على : « أنَّ للَّهِ خُمُسَهُ » من غير أن يكون مبتدأ وخبرها محذوف ، بل جعلها بنفسها خبراً ، وليس مرادهُ ذلك ، غذ لا تدخل هذه الفاءُ على مفردٍ ، بل على جملةٍ ، والذي يُقَوِّي إرادته ما ذكرنا أنه حكى قول الزمخشريِّ ، أعني كونه قدَّر أنَّ « أنَّ » ، وما في حيِّزها مبتدأٌ ، محذوفُ الخبر ، فجعلهُ قولاً زائداً على ما قدَّمه .
ويجوز في « ما » أن تكون شرطيةً ، وعاملُها « غَنِمْتُم » بعدها ، واسمُ « أنَّ » حينئذٍ ضميرُ المرِ والشَّأنِ وهو مذهبُ الفرَّاءِ ، إلاَّ أنَّ هذا لا يجوزُ عند البصريين إلاَّ ضرورةً ، بشرط ألاَّ يليها فعل؛ كقوله : [ الخفيف ]
2707 - إنَّ مَنْ يَدْخُلِ الكَنِيسَة يَوْماً ... يَلْقَ فِيهَا جَآذِراً وظِبَاءَ
وقول الآخَرِ : [ الخفيف ]
2708 - إنَّ مَنْ لامَ بَنِي بنتِ حَسَّا ... نَ ألُمْهُ وأعُصِهِ في الخُطُوبِ
وقيل : الفاءُ زائدةٌ ، و « أنَّ » الثانيةُ بدلٌ من الأولى .
وقال مكي : « وقد قيل » إنَّ الثانية مؤكدةٌ للأولى ، وهذا لا يجوز لأنَّ الولى تبقى بغير خبر؛ ولأنَّ الفاء تحول بين المؤكَّد والمؤكِّد وزيادتها لا تَحْسُن في مثل هذا « .
وقيل : » ما « مصدريَّةٌ ، والمصدر بمعنى المفعول أي : أنَّ مغنومكم هو المفعول به ، أي : واعلموا أنَّ غُنمكم ، أي : مغنومكم .
والغنيمةُ : أصلها من الغُنْمِ ، وهو الفوزُ ، يقال : غنم يغنم فهو غانم ، وأصلُ ذلك من الغنم هذا الحيوان المعروف ، فإنَّ الظفر به يُسَمَّ غُنْماً ، ثم اتُّسِع في ذلك ، فَسُمِّي كلُّ شيء مظفورٍ به غُنْماً ومَغْنَماً وغَنيمة؛ قال علقمةُ بنُ عبدةَ : [ البسيط ]
2709 - ومُطْعَمُ الغُنْمِ يَوْمَ الغُنْمِ مُطعمُهُ ... أنَّى توَجَّهَ والمَحْرُومُ مَحْرُومُ
وقال الآخر : [ الوافر ]
2710 - لَقَدْ طَوَّفْتُ فِي الآفَاقِ حَتَّى ... رَضيتُ من الغنيمة بالإياب
قوله « مِنْ شيءٍ » في محلِّ نصبٍ على الحال من عائد الموصول المقدَّر ، والمعنى : ما غنمتموه كائناً من شيء ، أي : قليلاً أو كثيراً . وحكى ابن عطية عن الجعفي عن أبي بكر عن عاصم . وحكى غيره عن الجعفيِّ عن هارون عن أبي عمرو : « فإنَّ لِلَّهِ » بكسر الهمزةِ ، ويُؤيدُ هذه القراءة قراءة النخعي « فللَّه خُمُسهُ » فإنها استئناف ، وخرجها أبُو البقاءِ على أنَّها وما في حيَّزها في محلِّ رفع ، خبراً ل « أنَّ » الأولى .
وقرأ الحسنُ وعبدُ الوارث عن أبي عمرو : « خُمْسَهُ » بسكون الميم ، وهو تخفيفٌ حسن .
وقرأ الجعفيُّ « خِمْسه » بكسر الخاء . قالوا : وتخريجها على أنَّهُ أتبعَ الخاءَ لحركة ما قبلها ، وهي هاء الجلالة من كلمة أخرى مستقلة ، قالوا : وهي كقراءة من قرأ { والسمآء ذَاتِ الحبك } [ الذاريات : 7 ] بكسر الحاء إتباعاً لكسرة التاء من « ذاتِ » ولمْ يعتدُّوا بالساكن ، وهو لامُ التعريف ، لأنه حاجزٌ غير حصين .
قال شهاب الدين « ليت شعري ، وكيف يقرأ الجعفيُّ والحالةُ هذه؟ فإنه إن قرأ كذلك مع ضم الميم فيكون في غاية الثقل ، لخروجه من كسرٍ إلى ضمٍّ ، وإن قرأ بسكونها وهو الظَّاهرُ فإنه نقلها قراءةً عن أبي عمرو ، أو عن عاصم ، ولكن الذي قرأ : » ذاتِ الحِبُكِ « يبقى ضمَّه الباء ، فيؤدي إلى » فِعُل « بكسر الفاء وضمِّ العين ، وهو بناءٌ مرفوض » .
وإنما قلت : إنه يقرأ كذلك؛ لأنه لو قرأ بكسر التاء لما احتاجوا إلى تأويل قراءته على الإتباع؛ لأن في « الحُبُك » لغتين : ضمُّ الحاءِ والباءِ ، وكسرهما ، حتَّى زعم بعضهم أنَّ قراءة الخروج من كسرٍ إلى ضمٍّ من التَّداخل .
فصل
والغنيمةُ في الشريعةِ ، والفيء ، اسمان لما يُصيبه المسلمون من أموال الكفار .
فذهب جماعة إلى أنهما واحد ، وذهب قومُ إلى أنَّ الغنيمة ، ما أصابه المسلمُونَ منهم عَنْوَةً بقتال ، والفيء : ما كان من صلح بغير قتال .
قوله « مِن شيءٍ » يعني : من أي شيء كان حتَّى الخيط : { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } ذهب أكثر المفسِّرين والفقهاء إلى أنَّ قوله : « لِلَّه » افتتاح على سبيل التبرُّك ، وأضاف هذا المال لنفسه لشرفه . وليس المراد أن سهماً من الغنيمة « لِلَّهِ » مفرداً ، فإن الدنيا والآخرة لله عز وجل وهو قول قتادة والحسن وعطاء وإبراهيم والشعبي قالوا : سهم الله وسهم الرسول واحد والغنيمة تقسم خمسة أخماس أربعة أخماسها لِمنْ قاتل عليها ، والخُمْسُ لخمسة أصناف كما ذكر الله تعالى { وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } .
وقال أبو العالية ، وغيرهك يقسم الخُمْس على ستة أسهم : سهم لله تعالى ، ثم القائلون بهذا القول منهم من قال : يُصرف سهم الله إلى الرسول ، ومنهم من قال : يصرفُ لعمارة الكعبة .
وقال بعضهم : إنه عليه الصلاة والسلام كان يضربُ بيده في هذا الخُمْس فما قبض عليه من شيء جعله للكعبة ، وهو الذي سُمِّي « لِلَّهِ » .
فصل
قل القرطبي « هذه الآية ناسخة لأول السُّورة عند الجمهور ، وقد ادَّعى ابن عبد البر : الإجماع على أن هذه الآي نزلت بعد قوله { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } [ الأنفال : 1 ] وأنَّ أربعة أخماس الغنيمة مقسومة على الغانمين ، وأن قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } نزلت حين تشاجر أهل بدر في غنائم بدر ، على ما تقدم .
وقيل : إنها مُحكمة غير منسوخة ، وأنَّ الغنيمة لرسُولِ الله ، وليست مقسومة بين الغانمين وكذلك لمن بعده من الأئمة ، حكاه الماورديُّ عن كثير من أصحاب مالكٍ ، واحتجوا بفتح مكَّة وقصَّة حنين ، وكان أبو عبيد يقول : افْتَتَحَ رسولُ الله مكَّة عنوةً ومنَّ على أهلها ، فردها عليهم ، ولم يَقْسِمها ، ولم يجعلها فَيْئاً » .
فصل
أجمع العلماءُ على أن قولهُ : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ } ليس على عمومه ، وأنَّهُ مخصوصٌ باتفاقهم على أنَّ سلب المقتول لقاتله إذا نادى به الإمامُ ، وكذلك الأسارى الإمام فيهم مخيَّرٌ ، وكذلك الأراضي المغنومة .
فصل
قال الإمامُ أحمدُ : لا يكون السَّلب للقاتل إلاَّ في المبارزة خاصَّة ، ولا يخمس وهو قول الشافعيِّ - رضي الله عنه-؛ ولا يعطى القاتل السَّلب ، إلاَّ أن يقيم البيَّنة على قتله .
قال أكثرُ العلماء : يجوزُ شاهد واحد؛ لحديث أبي قتادة ، وقيل : شاهدان .
وقيل : شاهد ويمين ، وقيل : يقضى بمجرد دعواه .
قوله : « ولِذِي القُرْبَى » أي : أنَّ سَهْماً من خمس الخمس لذوي القربى ، وهم أقارب النبي صلى الله عليه وسلم ، واختلفوا فيهم .
فقال قومٌ : هم جميع قريش ، وقال قومٌ : هم الذين لا تحل لهم الصَّدقة .
وقال مجاهدٌ وعلي بنُ الحسينِ : هم بنُو هاشمٍ وبنو المطلب ، وليس لبني عبد شمس ، ولا لبني نوفل منه شيء ، وإن كانوا إخوة ، لما روي عن جُبير بن مطعم قال « قسَّم رسولُ الله - عليه الصَّلاة والسَّلام - سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب ولم يعط أحداً من بني عبد شمس ، ولا لبني نوفل؛ ولما روى محمدُ بن جبير بن مطعم عن أبيه قال : لمَّا قسم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشمٍ وبني المطلب أتيته أنا ، وعثمان بنُ عفان ، فقلنا يا رسُول الله : هؤلاء إخواننا من بني المُطلَّلِبِ أعطيتهم وتركتنا أو منعتنا ، وإنَّما قرابتنا وقرابتهم واحدةً ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : » إنَّما بنُو هاشم وبنو المطلب شيءٌ واحدٌ هكذا « وشبَّك بين أصابعه »
واختلف العلماءُ في سهم ذوي القربى ، هل هو ثابتٌ اليوم؟ فذهب أكثرهم إلى أنَّهُ ثابت وهو قول مالك والشافعي ، وذهب أصحابُ الرَّأي إلى أنَّهُ غير ثابت ، وقالوا سهم رسول الله وسهم ذوي القرى مَرْدُودان في الخُمس ، فيقسم خمس الغنيمة لثلاثةِ أصناف اليتامى والمساكين وابن السبيل .
وقال بعضهم : يعطى للفقراء منهم دون الأغنياء ، أي : يعطى لفقره لا لقرابته ، والكتاب والسنة يدلاَّن على ثبوته وكذا الخلفاء بعد رسُول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يعطونه ، ولا يُفَضل فقير على غني؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده كانوا يعطون العباس بن عبد المطلب مع كثرة ماله ، وألحقه الشافعي بالميراث الذي يستحق باسم القرابة ، غير أنه يعطى القريب والبعيد .
وقال : يفضل الذكر على الأنثى فيعطى الرجل سهمين ، والأنثى سهماً .
قال القرطبي : « ليست اللاَّم في » لِذِي القُرْبَى « لبيان الاستحقاق والملك ، وإنّضما هي للمصرف والمحل » .
قوله : { واليتامى والمساكين وابن السبيل } اليتامى : جمع « يَتيمٍ وهو الصغير المسلم الذي لا أب له إذا كان فقيراً ، و » المَسَاكِين « هم أهْلُ الفاقة والحاجة من المسلمين ، و » ابْنِ السَّبيلِ « هو المسافر البعيد عن مالهِ ، فهذا مصرف خمس الغنيمة ويقسم أربعة أخماس الغنيمة بين الغانمين الذين شهدُوا الوقعة ، للفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه ، وللرَّاجل سهمح لما روى ابنُ عمر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم » أسْهَمَ لرجلٍ ولفرسه ثلاثة أسهم سَهْماً له وسهمين لفرسه «
وهذا قولُ أكثر أهل العلم ، وإليه ذهب الثوريُّ ، والأوزاعيُّ وابن المبارك والشافعيُّ واحمد وإسحاق .
وقال أبو حنيفة : للفارس سهمان وللرَّاجلِ سهم ، ويرضخ للعبيد ، والنسوان ، والصبيان إذا حضروا القتال .
قال القرطبيُّ : » إذا خرج العبدُ ، وأهلُ الذِّمة وأخذوا مال أهل الحرب فهو لهم ولا يخمس « لأنه لم يوجب عليهم خيل ولا ركاب .
ويقسم العقار الذي استولى عليه المسلمون كالمنقولِ ، وعند أبي حنيفة يتخيَّرُ الإمام في العقار بين أن يقسمه بينهم وبين أن يجعله وقْفاً على المصالح .
وظاهر الآية لا يفرق بين العقار والمنقول ، ومن قتل مُشركاً استحقَّ سلبه من رأس الغنيمة لما روي عن أبي قتادة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : » من قَتل قتيلاً له عليه بيِّنة فله سلبه «
والسَّلبُ : كل ما يكون على المقتول من ملبوس وسلاح وفرسه الذي يركبه .
ويجوز للإمام أن ينفل بعض الجيش من الغنيمة لزيادة عناءٍ وبلاء يكون منهم في الحرب يخُصُّهم به من بين سائر الجيش ، ويجعلهم أسوة الجماعة في سائر الغنيمة ، لما روى ابن عمر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم » كان يُنفِّلُ بعض من يبعث من السَّرايا لأنفسهم خاصة سوى عامة الجيش «
وروى حبيب بن مسلمة الفهري قال : شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم « نَفَّلَ الرُّبعَ في البَدْأة والثُّلثَ في الرَّجْعَةِ »
واختلف في النفل من أين يعطى؟ .
فقال قوم : يعطى من خمس الخمس من سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول سعيد بن المسيب وبه قال الشافعي ، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : « مَا لي مِمَّا أفاء الله عليكم إلا الخمس والخُمسُ مردودٌ فيكم »
وقال قومٌ : هو من الأربعة أخماس بعد إفراد الخمس كسهام الغزاة وهو قول أحمد وإسحاق .
وذهب بعضهم إلى أنَّ النَّفْلَ من رأس الغنيمةِ قبل التخميس كالسّلب للقاتل .
فصل
دلَّت هذه الآية على جوازِ قسمة الغنيمة في دار الحربِ ، لقوله : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } الآية . فاقتضى ثبوت الملك لهؤلاء في الغنيمة وإذا ثبت لهم الملك وجب جواز القسمة .
وروى الزمخشريُّ عن الكلبيِّ : « أنَّ هذه الآية نزلت ببدرٍ » .
وقال الواقديُّ « كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهراً من الهجرة » .
فصل
قال القرطبيُّ : « لمَّا بيَّن اللَّهُ تعالى حكم الخمس وسكت عن الأربعة أخماس دل على أنها ملك للغانمين . وملك النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، إلاَّ أن الإمام مخير في الأسرى بين المن بالأمان كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بثمامة بن أثال ، وبين القتل كما قتل النبي صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي مُعيط من بين الأسرى صبراً ، وقتل ابن الحرث صبراً ، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهم كسهم الغانمين حضر أو غاب ، وسهم الصفيّ يصطفي سيفاً أو خادماً أو دابة ، وكانت صَفية بنت حُيَيّ من الصَّفيِّ من غنائم خيبر ، وكذلك ذو الفقار كان منه ، وقد انقطع إلا عند أبي ثور فإنه رآه باقياً للإمام يجعله حيث شاء [ وكان أهل الجاهلية ] يرون للرئيس ربع الغنيمة قال شاعرهم : [ الوافر ]
2710 - لكَ المِرْبَاعُ مِنْهَا والصَّفايَا ... وحُكْمُكَ والنَّشيطةُ والفُضُول
يقال ربع الجيش يربعه : إذا أخذ ربع الغنيمة . قال الأصمعي : ربع في الجاهلية وخمّس في الإسلام ، فكان يأخذ منها ثم يتحكم بعد الصَّفيِّ في أي شيء أراد ، وكان ما فضل منها من خرثيّ ومتاع له ، فأحكم الله تعالى الدين بقوله : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } فأبقى سهم الصَّفيِّ لنبيّه وأسقط حكم الجاهلية .
قوله : » إن كُنتُم « شرطٌ ، جوابه مقدرٌ عند الجمهور ، لا متقدم ، أي : إن كنتم آمنتتم فاعلموا أنَّ حكم الخمس ما تقدَّم ، أو : فاقبلوا ما أمرتم به .
والمعنى : واعلمُوا أنَّما غَنِمْتُم من شيءٍ فانَّ للَّهِ خُمُسَه وللرَّسُولِ يأمر فيه ما يريد ، فاقبلوه إن كنتم آمنتم باللَّهِ ، وبالمنزل على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ، وهو قوله :
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } [ الأنفال : 1 ] لمَّا نزلت في يوم بدر ، وهو يوم الفرقان فرق اللَّهِ فيه بين الحقِّ والباطل ، وهو يوم التقى الجمعان ، حزب الله وحزب الشيطان ، وكان يوم الجمعة سبع عشر مضت من رمضان .
وقوله « ومَا أنزلْنَا » عطفٌ على الجلالة ، فهي مجرورةُ المحلِّ ، وعائدُها محذوف ، وزعم بعضهم أنَّ جواب الشَّرطِ متقدم عليه ، وهو قوله ف { نِعْمَ المولى } [ الأنفال : 40 ] . وهذا لا يجوز على قواعد البصريين .
قوله : « يَوْمَ الفُرقِانِ » يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أن يكُون منصوباً ب « أنزَلْنَا » أي : أنزلْنَاهُ في يوم بدر ، الذي فُرِقَ فيه بين الحق والباطل .
الثاني : أن ينتصبَ بقوله « آمنتُم » أي : إن كنتم آمنتم في يوم الفرقانِ ، ذكره أبُو البقاءِ .
الثالث : يجوزُ أن يكون منصوباً ب « غَنِمْتُم » .
قال الزَّجَّاجُ : أي : ما غنمتم في يومِ الفرقان فحكمه كذا وكذا .
قال ابن عطية : « وهذا تأويلٌ حسنٌ في المعنى ، ويعترضه أنَّ فيه الفصل بين الظرف وما يعمل فيه بهذه الجملةِ الكثيرةِ الألفاظِ » ، وهو ممنوعٌ أيضاً من جهةٍ أخرى أخصّ من هذه . وذلك أنَّ « ما » إمَّا شرطية ، كما هو رأي الفرَّاءِ ، وإمَّا موصولة ، فعلى الأوَّل يُؤدِّي إلى الفصل بين فعل الشَّرط ، ومعموله بجملة الجزاء ، ومتعلَّقاتها ، وعلى الثَّاني يُؤدِّي إلى الفصلِ بين فعل الصلة ومعموله بخبر « أنَّ » .
قوله { يَوْمَ التقى الجمعان } فيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ بدل من الظرف قبله .
والثاني : أنه منصوب ب « الفرقان » ؛ لأنَّه مصدرٌ ، فكأنه قيل : يوم فرق فيه في يوم التقى الجمعان أي : الفرق في يوم التقاء الجمعين .
وقرأ زيد بن علي : « عَلَى عُبُدنَا » بضمتين ، وهو جمع « عَبْد » وهذا كما قد قرىء { وَعَبَدَ الطاغوت } [ المائدة : 60 ] ، والمراد بالعُبُد في هذه القراءة هنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين ، والمراد ب « مَا أنزلْنَا » أي : الآيات والملائكة ، والفتح في ذلك اليوم . { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : يقدر على نصركم وأنتم قليلون .
قوله « إذْ أنتُم » في هذا الظَّرف أربعةُ أوجهٍ :
أحدها : أنَّهُ منصوبٌ ب « اذكُرُوا » مُقدراً ، وهو قول الزَّجَّاجِ .
الثاني : أنَّهُ بدلٌ من « يَوْمَ الفرقانِ » أيضاً .
الثالث : أنه منصوب ب « قديرٌ » وهذا ليس بواضحٍ؛ إذ لا يتقيَّ اتِّصافه بالقدرة بظرفٍ من الظُّروف .
الرابع : أنه منصوبٌ ب « الفُرْقَانِ » أي : فرق بين الحقِّ والباطل إذْ أنتم بالعُدَّوَةِ .
قوله : « بالعُدْوَةِ » متعلقٌ بمحذوف؛ لأنَّهُ خبر المبتدأ ، والباء بمعنى : طفي كقولك : زيد بمكة . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو « بالعِدْوَةِ » بكسر العينِ فيهما ، والباقون بالضم فيهما وهما لغتان في شطِّ الوادي وشفيره وضِفَّته ، كالكُسْوة والكِسْوة ، والرُّشوة والرِّشوة ، سُمِّيت بذلك لأنَّها عدتْ ما في الوادي من ماءٍ ونحوه أن يتجاوزها ، أي : منعته؛ قال الشَّاعرُ : [ الوافر ]
2711 - عَدَتْنِي عَنْ زيارتها العَوَادِي ... وحَالَتْ دُونهَا حَرْبٌ زُبُونُ
وقرأ الحسنُ وزيد بن علي ، وقتادة وعمرو بن عبيد بالفتح ، وهي كلها لغاتٌ بمعنى واحد .
هذا هو قولُ جمهور اللغويين ، على أنَّ أبا عمرو بن العلاء أنكر الضمَّ ، ووافقه الأخفش ، فقال : « لَمْ يُسْمَعْ من العرب إلاَّ الكسرُ » . ونقل أبو عبيد اللغتين ، إلاَّ أنه قال : الضَّمُّ أكثرهما ، وقال اليزيديُّ : « الكسر لغةُ الحجازِ » ؛ وأنشدوا قول أوس بن حجرٍ : [ البسيط ]
2712 - وفَارسٍ لمْ يَحُلَّ القومُ عُدْوتَهُ ... ولَّوْا سِرَاعاً ومَا هَمُّوا بإقْبَالِ
بالكسر ، والضم . وهذا هو الذي ينبغي أن يقال ، فلا وجهَ لإنكار الضَّمِّ ، ولا الكسْرِ ، لتواتر كلٍّ منهما ، ويحمل قول أبي عمرو على أنَّهُ لم يبلُغْه ، ويحتمل أن يقال في قراءةِ من قرأ بفتح العين أن يكون مصدراً سُمِّي به المكان .
وقُرىء شاذّاً « بالعِدْيَة » بقلب الواو ياءً لانكسار ما تقدَّمها ، ولا يُعتبر الفاصلُ؛ لأنَّه ساكن ، فهو حاجز غير حصين ، وهذا كما قالوا : « هو ابن عمي دِنيا » بكسر الدَّال ، وهو من الدنو ، وكذلك : قِنْيَة ، وصِبْيَة ، وأصله السَّلامة ، كالذِّرْوَة ، والصِّفْوة والرِّبُوَة ، وقد تقدَّم الكلام على لفظ « الدُّنْيَا » .
قول « القُصْوَى » تأنيث « الأقصى » ، والأقصى : الأبعد ، والقَصْوُ : البعد وللصَّرفيين عبارتان ، إلبهما أن « فُعْلَى » من ذوات الواو ، إن كانت اسماً أبدلَتْ لامُها ياءً ، ثم يُمَثِّلُون بنحو : الدُّنْيَا ، والعُلْيَا ، والقُصْيَا ، وهذه صفاتٌح لأنَّها من باب أفعل التَّفضيل ، وكأنَّ العذر لهم أنَّ هذه وإن كانت في الأصْلِ صفاتٍ ، إلاَّ أنَّها جرتْ مجرى الجوامد .
قالوا : وإنْ كانت « فُعْلَى » صفةً أقرَّتْ لامُها على حالها ، نحو : الحُلْوى ، تأنيث الأحلى ونصُّوا على أن « القُصْوَى » شاذة ، وإن كانت لغة الحجاز ، وأنَّ « القُصْيَا » قياسٌ وهي لغة تميم ، وممَّنْ نصَّ على شذوذ : « القُصْوَى » يعقوب بن السِّكِّيت .
وقال الزمخشريُّ : وأمَّا « القُصْوَى » فكالقَوَد في مجيئه على الأصل ، وقد جاء « القُصْيَا » إلاَّ أنَّ استعمال « القُصوى » أكثر ، كما كثر استعمال « استصوب » مع مجيء « استَصَابَ » ، و « أغيَلت » مع « أغَالَتْ » انتهى .
وقد قرأ زيد بن عليٍّ : « بالعُدْوةِ القُصْيَا » فجاء بها على لغة تميم ، وهي القياسُ عند هؤلاء .
والعبارة الثانية - وهي القليلةُ - العكس ، أي : إن كانت صفةً أبدلتْ ، نحو : العُلْيَا والدُّنيا ، والقُصْيا ، وإن كانت اسماً أقرَّتْ؛ نحو « حُزْوَى » ؛ كقوله : [ الطويل ]
2713 - أدَاراً بِحُزْوَى هِجْتِ للعَيْنِ عَبْرَةً ... فَمَاءُ الهَوَى يرفَضُّ ، أو يَتَرقْرَقُ
وعلى هذا ف « الحُلْوَى » شاذة؛ لإقرار لامها مع كونها صفة ، وكذا « القُصْوَى » أيضاً ، عند هؤلاء؛ لأنها صفة وقد ترتَّب على هاتين العبارتين أنَّ « قُصْوَى » على خلافِ القياس فيهما وأن « قًصْيَا » هي القياس؛ لأنها عند الأولين من قبيل الأسماء ، وهم يقلبونها ياء وعند الآخرين من قبيل الصفات ، وهم يقلبونها أيضاً ياءً ، وإنَّما يظهر الفرقُ في « الحُلْوى » و « حُزْوَى » ف : « الحُلْوَى » عند الأولين تصحيحها قياسٌ ، لكونها صفةً ، وشاذة عند الآخرين ، لأنَّ الصفةَ عندهم تُقْلبُ واوُها ياءً . و « الحُزْوَى » عكسُها ، فإنَّ الأولين يقلبُون في الأسماء ، دون الصفات ، والآخرون عكسُهم . وهذا موضعٌ حسنٌ ، يختلط على كثير من النَّاس ، فلذلك شرحناه .
ونعني بالشذوذِ : شذوذ القياس ، لا شذوذ الاستعمال ، ألا ترى إلى استعمال التواتر ب « القُصْوَى » .
قوله { والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ } الأحسنُ في هذا الواو ، والواو التي قبلها الداخلة على « هم » : أن تكون عاطفة ما بعدها على « أنتُم » ؛ لأنَّها مبدَأ تقسيم أحوالهم ، وأحوال عدوِّهم ويجوزُ أن يكونا وَاوَي حال ، و « أسْفَلَ » منصوبٌ على الظَّرف النَّائب عن الخبرِ ، وهو في الحقيقة صفةٌ لظرف مكان محذوفٍ ، أي : والرَّكْبُ مكاناً أسفل مِنْ مكانكم .
وقرأ زيد بنُ عليٍّ « أسْفَلُ » بالرَّفعِ ، على سبيل الاتِّساع ، جعل الظرف نفس الركب مبالغةً واتساعاً .
وقال مكيٌّ : « وأجاز الفرَّاءُ ، والأخفشُ ، والكسائي رحمهم الله تعالى » أسْفَلُ « بالرَّفع على تقدير محذوفٍ ، أي : موضعُ الرَّكب أسفل » ، والتخريجُ الأوَّل أبلغُ في المعنى ، والرَّكْبُ : اسمُ جمعٍ ل « رَاكبٍ » لا حمع تكسر له؛ خلافاً للأخفش؛ كقوله : [ الرجز ]
2714 - بَنَيْتُهُ مِنْ عُصْبَةٍ مِنْ ماليَا ... أخْشَى رُكَيْباً ورُجَيْلاً عَادِيَا
فصَغَّره على لفظه ، ولو كان جمعاً لما صُغِّر على لفظه .
قوله « ولكِن ليَقْضِيَ » متلِّقٌ بمحذوف ، أي : ولكن تلاقَيْتُم لِيقْضِي ، وقدَّرَ الزمخشريُّ ذلك المحذوف فقال : « أي : ليقضي اللَّهُ أمراً كان واجباً أن يفعل ، وهو نصرُ أوليائه وقهرُ أعدائه دبر ذلك » ، و « كَانَ » يحتمل أن تكون على بابها من الدلالة على اقتران مضمون الجملة بالزَّمانِ الماضي ، وأن تكون بمعنى « صار » ، فتدُلَّ على التحوُّلِ ، أي : صار مفعولاً بعد أن لم يكن كذلك .
قوله « لِيَهْلِكَ » فيه أوجه :
أحدها : أنَّهُ بدلٌ من قوله : « ليَقضيَ اللَّهُ » بإعادة العاملِ فيتعلَّق بما تعلَّق به الأول .
الثاني : أنَّهُ متعلِّقٌ بقوله « مَفْعُولاً » ، أي : فعل هذا الأمر لِكَيْتَ وكَيْتَ .
الثالث : أنَّهُ متعلِّق بما تعلَّ به « لِيَقْضِيَ » على سبيل العطفِ عليه بحرفِ عطفٍ محذوف ، تقديره : وليهلكَ ، فحذف العاطفَ ، وهو قليلٌ جدّاً ، وتقدَّم التنبيه عليه .
الرابع : أنَّهُ متعلِّق ب « يَقْضِي » ذكره أبُو البقاءِ رحمه الله تعالى .
وقرأ الأعمشُ وعصمة عن أبي بكر عن عاصم « لِيَهْلَكَ » بفتح اللاَّم ، وقياسُ ما مضى هذا « هَلِكَ » بالكسر ، والمشهور إنما هو الفتح ، قال تعالى : { إِن امرؤ هَلَكَ } [ النساء : 176 ] { حتى إِذَا هَلَكَ } [ غافر : 34 ] .
قوله « مَنْ حَيَّ » قرأ نافعٌ وأبو بكر عن عاصم ، والبزيُّ عن ابن كثير بالإظهار والباقون بالإدغام ، والإظهارُ والإدغام في هذا النَّوْعِ لغتان مشهورتان ، وهو كُلُّ ما آخرُه ياءان من الماضي أولاهما مكسورة؛ نحو : « حَيِيَ ، وعَيِيَ » ، ومن الإدغام قول المتلمِّس : [ الطويل ]
2715 - فَهَذَا أوانُ العِرضْ حَيَّ ذُبابُه .. . . .
وقال الآخرُ : [ مجزوء الكامل ]
2716 - عَيُّوا بأمْرِهِمْ كَمَا ... عَيَّتْ ببَيْضَتِهَا الحَمامَهْ
فأدغم « عَيُّوا » ، وينُشدُ « عَيَّتْ ، وعَييَتْ » بالإظهارِ والإدغام ، فمن أظهر؛ فلأنه الأصلُ ولأن الإدغامَ يُؤدِّي إلى تضعيف حرفِ العلَّةِ ، وهو ثقيلٌ في ذاته؛ ولأن الياء الأولى يتعينَّ فيها الإظهارُ في بعض الصُّورِ ، وذلك في مضارع هذا الفعل؛ لانقلاب الثَّانية ألفاً في يَحْيَا ، ويَعْيَا ، فحمل الماضي عليه طرداً للباب؛ ولأنَّ الحركةَ في الثَّانية عارضةٌ؛ لزوالها في نحو : حَيِيتُ ، وبابه؛ ولأنَّ الحركتين مختلفتان؛ واختلاف الحركتين كاختلاف الحرفين .
قالوا وكذلك : لَحِحَت عينه وضببَ المكان ، وألِلَ السِّقَاءُ ، ومشِشَتْ الدَّابة .
قال سيبويه : « أخبرنا بهذه اللُّغةِ يونسُ » يعني بلغة الإظهار .
قال : « قد سمعت بعض العرب يقولُ : أحْيِيا ، وأحْيِيَة ، فيظهر » . وإذا لم يدغم مع لزوم الحركةِ فمع عروضها أوْلضى ، ومنْ أدغم فلاستثقال ظهور الكسرةِ في حرف يُجانسه؛ ولأنَّ الحركة الثانية لازمةٌ لأنَّهَا حركةُ بناء ، ولا يضُرُّ زوالها في نحو : « حَيِيْتُ » ، كما لا يَضُرُّ ذلك فيما يجب إدغامُه من الصحيح ، نحو : حَلَلْتُ وظَللْتُ ، وهذا كلَّه فيما كانت حركتُه حركة بناءٍ ، ولذلك قُيِّد به الماضي .
أمَّا إذا كانت حركة إعراب فالإظهارُ فقط ، نحو : لن يُحْيِي ولن يُعْيِيَ .
فصل
قوله « عَن بيِّنَةٍ » متعلق ب « يَهْلِكَ » و « يَحْيَا » ، والهلاكُ ، والحياةُ عبارةُ عن الإيمان والكفرِ ، والمعنى : ليصدرَ كُفْرُ من كفر عن وضوحٍ وبيان ، لا عن مُخالطةِ شبهة ، وليصدر إسلامُ من أسلم عن وضوحٍ لا عن مُخالطة شبهة .
معنى الآية : « إذْ أنتُمْ » أي : اذكرُوا يا معشر المسلمين : { إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدنيا } أي : بشفير الوادي الأدنى من المدينة ، والدُّنْيَا : تأنيثُ الأدْنَى ، « وهُم » يعني : المشركين . « بالعُدُوَةِ القُصْوَى » بشفير الوادي الأقصى من المدينة ممَّا يلي جانب مكَّة ، وكان الماءُ في العدوة التي نزل بها المشركون ، فكان استظهارهم من هذا الوجه أشد ، « والرَّكْبُ » العير التي خرجوا إليها : « أسْفَلَ مِنكُمْ » أي : في موضع أسفل إلى ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر .
« ولوْ توَاعَدتُّمْ » أنتم ، وأهل مكَّة « لاخْتَلَفْتُمْ » لخالف بعضكم بعضاً لقلتكم ، وكثرتهم ، أول أن المسلمين خرجوا ليأخُذُوا العير ، وخرج الكفَّارُ ليمنعوها ، فالتقوا على غير ميعاد ، ولكن الله جمعكم على غير ميعاد ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ، لنصر أوليائه وإعزاز دينه وإهلاك أعدائه { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } .
وذلك أن عسكر الرسول صلى الله عليه وسلم في أول الأمر ، كانوا في غاية الضَّعْفِ والخوف بسبب القلَّةِ ، وعدم الأهبة ، ونزلُوا بعيداً عن الماءِ ، وكانت الأرض الَّتي نزلُوا فيها رَمْلاً تغوصُ فيه أرجُلُهُمْ ، والكُفَّارُ كانوا في غاية القُوَّةِ ، لكثرتهم في العدد والعدة ، وكانوا قريباً من الماء وكانت الأرض التي نزلوا فيها صالحة للمضي ، والعير كانوا خلف ظهورهم وكانوا يتوقَّعُون مجيء المدد ساعةً فساعةً ، ثُمَّ إنَّه تعالى قلب القصَّة ، وجعل الغلبة للمسلمين ، والدَّمار على الكافرين ، فصار ذلك من أعظم المعجزات ، وأقوى البيِّنات على صدق محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - فيما أخبر عن ربه من وعد النصر والفتح والظفر .
وقوله : { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ } إشارة إلى هذا المعنى ، وهو أنَّ الذين هلكوا إنَّما هلكوا بعد مشاهدة هذه المعجزة ، والذين بقوا في الحياة شاهدوا هذه المعجزة القاهرة ، والمراد من البيِّنةِ : المعجزة ، ثم قال : { وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : يسمع دعاءكم ، ويعلم حاجتكم وضعفكم ويصلح مهمكم .
النَّاصب ل « إذْ » يجوزُ أن يكون مضمراً ، أي : اذكُرْ ، ويجوزُ أن يكون « عليم » ، وفيه بعدٌ من حيث تقييدُ هذه الصفةِ بهذا الوقتِ ، ويجوزُ أن تكون « إذْ » هذه بدلاً من « إذْ » قبلها ، والإراءة هنا حُلُمية .
واختلف فيها النُّحاةُ : هل تتعدَّى في الأصل لواحدٍ كالبصريَّةِ ، أو لاثنين ، كالظَّنِّيَة؟ .
فالجمهورْ على الأوَّلِ . فإذا دخلت همزةُ النَّقْلِ أكسبتْهَا ثانياً ، أو ثالثاً على حسب القولين فعلى الأوَّلِ تكون الكافُ مفعولاً أول ، و « هُمْ » مفعولٌ ثان ، و « قَلِيلاً » حال ، وعلى الثَّاني يكون « قَلِيلاً » نصباً على المفعول الثالث ، وهذا يَبْطُلُ بجواز حذف الثالث في هذا الباب اقتصاراً ، أي : من غير دليل تقول : أراني الله زيداً في مَنَامِي ، ورأيتك في النوم ، ولو كانت تتعدَّى لثلاثةٍ ، لما حُذفَ اقتصاراً؛ لأنه خبر في الأصل .
فصل
المعنى : إذْ يريك اللَّهُ يا محمد المشركين في منامك ، أي : نَوْمك .
قال مجاهد : أرَى الله النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام - كفار قريش في منامه قليلاً ، فأخبر بذلك أصحابه ، فقالوا : رُؤيَا النَّبي حق ، القومُ قليل ، فصار ذلك سبباً لقوَّةِ قلوبهم .
فإن قيل : رؤية الكثيرة قليلاً غلط ، فكيف يجوزُ من اللَّه تعالى أن يفعل ذلك؟ .
فالجوابُ : أنَّ الله تعالى يفعلُ ما يشاءُ ، ويحكم ما يريدُ ، ولعلَّه تعالى أراه البعض دون البعض فحكم الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - على أولئك الذين رآهم بأنهم قليلون .
وقال الحسنُ : هذه الإراءة اكنت في اليقظة ، قال : والمراد من المنامِ : العين؛ لانَّها موضع النَّوْمِ .
{ وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ } لجبنتم « ولتنَازَعْتُمْ » اختلفتم « فِي الأمْرِ » أي : في الإحجام والإقدام { ولكن الله سَلَّمَ } أي : سَلَّمكُم من المخالفة والفشل .
وقيل : سلَّمهم من الهزيمة يوم بدر .
{ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } .
قال ابنُ عبَّاسٍ : عليم بما في صدوركم من الحُبِّ لِلَّهِ تعالى وقيل : يعلم ما في صدوركم من الجراءة ، والجُبن والصَّبر والجزع .
قوله تعالى : { إِذْ يُرِيكَهُمُ } الإراءةُ - هنا - بَصرية ، والإتيان هنا بصلة ميم الجمع واجبٌ ، لاتصالها بضمير ، ولا يجوزُ التَّسكينُ ، ولا الضَّمُّ من غير واوٍ ، وقد جوَّز يونس ذلك فيقول : « أنْتُم ضرَبْتُمهُ » بتسكين الميم وضمها ، وقد يتقوَّى بما روي عن عثمان - رضي الله عنه - : « أراهُمُنِي الباطِلُ شَيْطَاناً » وفي هذا الكلام شذوذ من وجهٍ آخر ، وهو تقديمُ الضمير غير الأخصِّ على الأخصِّ مع الاتصال .
فصل
قال مقاتل - رضي الله عنه - « إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ، رأى في المنام أنَّ العدد قليلٌ قبل لقاء العدو ، وأخبر أصحابه بِمَا رأى ، فلمَّ التقوا ببدر قلَّل اللَّهُ المشركين في أعين المؤمنين »
قال ابنُ مسعودٍ : « لقد قللُوا في أعيننا حتى قلتُ لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين؟ قال أراهم مائة ، فأسرنا رجلاً منهم فقلنا له : كم كنتم؟ قال : ألفاً » .
« ويُقَلِّلُكُمْ » يا معشر المؤمنين « فِي أعينهم » .
قال السُّدي : « قال ناسٌ من المشركين إنَّ العير قد انصرفت ، فارجعُوا ، فقال أبو جهلٍ : الآن إذ برز لكم محمدٌ وأصحابه؟ فلا ترجعوا ، حتَّى تستأصلوهم ، إنَّما محمدٌ وأصحابه أكلة جزور ، فلا تقتلوهم واربطوهم بالحبال » ، والحكمة في تقليل عدد المشركين في أعين المؤمنين : تصديق رُؤيَا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولتقوى قلوبهم ، وتزداد جراءتهم على المشركين ، والحكمة في تقليل عدد المؤمنين في أعينِ المشركين : لئلاَّ يُبالغُوا في الاستعداد والتأهُّب والحذر ، فيصيرُ ذلك سَبَباً لاستيلاء المؤمنين عليهم .
ثم قال : { لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } .
فإن قيل : ذكرث هذا يفْهَمُ من الآية المتقدمة ، فكان ذكره - ههنا - محض التكرار .
فالجوابُ : أنَّ المقصودَ من ذكره في الآية المتقدمة ، هو أنَّهُ تعالى فعل تلك الأفعال ليحصل استيلاء المؤمنين على المشركين على وجه يكون معجزة دالَّة على صدق الرسول وههنا المقصود من ذكره ، أنه إنَّما فعل ذلك ، لئلاَّ يبالغ الكفار في الاستعداد والحذر فيصيرُ ذلك سَبَباً لانكسارهم .
ثمَّ قال { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } والغرضُ منه التَّنبيه على أنَّ أحوال الدُّنْيَا غير مقصودة لذاتها ، بل المراد منها ما يصلحُ أن يكون زاداً ليوم المعاد .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا } الآية .
لمَّا ذكر نعمه على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين يوم بدر ، علَّمهم - إذا التقوا - نوعين من الأدبِ ، الأوَّل : الثَّبات وهو أن يُوَطِّنُوا أنفسهم على اللَّقاء ، ولا يحدثوها بالتولِّي .
والثاني : أن يذكروا اللَّه كثيراً ، فقال : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا } فيه ، أي : جماعة كافرة « فاثبتُوا » لقتالهم .
{ واذكروا الله كَثِيراً } ادعوا الله بالنصر والظفر بهم .
وقيل : المرادُ أن يذكروا الله كثيراً بقلوبهم ، وبألسنتهم .
ثم قال تعالى : { لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ } أي : كونوا على رجال الفلاح .
فإن قيل : هذه الآية تُوجب الثَّبات على كلِّ حال ، وهذا يُوهمُ أنَّها ناسخةٌ لآية التَّحرف والتحيُّز .
فالجوابُ : أنَّ هذه الآية توجب الثَّبات في الجملة ، وهو الجدّ في المحاربة ، وآيةُ التحرّف والتحيّز لا تقدحُ في حصول الثبات في المحاربة ، بل الثبات في هذا المقصود ، لا يحصل إلاَّ بذلك التحرف والتحيز ، ثمَّ أكد ذلك بقوله : { وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } فيما يأمر به؛ لأن الجهاد لا ينفع إلاَّ مع التَّمسُّك بسائر الطاعات ، « ولاَ تَنَازعُوا » لا تختلفوا ، فإنَّ النزاعَ يوجب أمرين .
أحدهما : الفشل ، وهو الجُبن والضَّعف .
والثاني : « تَذْهبَ ريحُكُمْ » .
قال مجاهدٌ : نصرتكم .
وقال السُّديُّ : جراءتكم وجدكم .
وقال مقاتل : حدَّتكم .
وقال النضرُ بنُ شُميلٍ : قُوَّتكم . وقال الأخفشُ : دولتكم . و « الرِّيح » هاهنا - كنايةٌ عن بقاء الأمر وجريانه على المرادِ؛ تقول العربُ : « هَبَّت ريحُ فلان » إذا أقبل أمره على ما يريدُ ، وهو كنايةُ عن الدَّوْلة والغلبة؛ قال : [ الوافر ]
2717 - إذَا هَبَّتْ رياحُكَ فاغْتَنِمْهَا ... فإنَّ لِكُلِّ عَاصِفَةٍ سُكُونَا
ورواه أبو عبيدٍ « رُكُوداً » .
وقال آخر : [ البسيط ]
2718 - أتَنْظُرانِ قَلِيلاً رَيْثُ غَفْلتِهِم ... أو تَعْدُونِ فإنَّ الرِّيحَ للْعَادِي
وقال : [ البسيط ]
2719 - قَدْ عَوَّدْتُهُمْ ظبَاهُمْ أن يكُونَ لَهُمْ ... ريحُ القتالِ وأسْلابُ الَّذينَ لَقُوا
وقيل : الريح : الهيبةُ ، وهو قريبٌ من الأولِ؛ كقوله : [ البسيط ]
2702 - كَمَا حَميناكَ يْوْمَ النَّعْفِ من شَطَطِ ... والفَضلُ لِلْقومِ منْ ريحٍ ومِنْ عَدَدِ
وقال قتادة وابن زيد : « هو ريح النصر ، ولم يكن نصر قط إلاَّ بريحٍ يبعثُهَا اللَّهُ تضرب وجوه العدوّ » .
ومنه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام : « نُصِرْتُ بالصَّبَا أهْلِكَتْ عَادٌ بالدَّبُورِ »
وقال النعمانُ بنُ مقرن : « شَهِدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذَا لم يُقاتِل في أول النَّهارِ ، انتظر حتَّى تزولَ الشَّمسُ ، وتهب الريح ، وينزل النّصر »
تَفْشَلُوا « يحتملُ وجهين :
أحدهما : نصبٌ على جواب النَّهي .
والثاني : الجزم عطفاً على فعل النَّهْي قبله ، وقد تقدَّم تحقيقهما في » وتَخُونُوا « قبل ذلك ، ويدُلُّ على الثاني قراءة عيسى بن عمر » ويَذْهَبْ « بياء الغيبة وحزمه ، ونقل أبو البقاء قراءة الجزم ولم يُقيِّدها بياء الغيبة .
وقرأ أبُو حيوة وأبان وعصمة « ويَذْهَبَ » بياء الغيبة ونصبه .
وقرأ الحسنُ « فَتَفْشِلُوا » بكسر الشين ، قال أبو حاتمٍ : « هذا غيرُ معروفٍ » وقال غيره : إنَّها لغةٌ ثانية .
فصل
احتجَّ نُفاة القياسِ بهذه الآية فقالوا : القياس يفضي إلى المنازعةِ ، والمنازعةُ محرَّمةٌ بهذه الآية؛ فوجب أن يكون العمل بالقياس محرماً ببيان الملازمة ، فإنّا نشاهد الدُّنيا مَمْلُوءةً من الاختلافات بسبب القياس .
وأيضاً القائلون بأنَّ النَّص لا يجوز تخصيصه بالقياس تَمَسَّكُوا بهذه الآية ، وقالوا : قوله تعالى : { وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } صريح في وجوب طاعة الله ورسوله في كل ما نصَّا عليه ، ثم أتبعه بقوله : { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } ومَنْ تمسَّك بالقياس المخصص بالنَّصِّ فقد ترك طاعة اللَّهِ وطاعة رسوله ، وتمسَّك بالقياس الذي يوجب التنازع والفشل ، وكلُّ ذلك حرام . والجوابُ : بأنَّهُ ليس كلُّ قياس يوجب المنازعة .
قوله : « ولا تنَازَعُوا » معطوف على قوله : « فاثْبُتُوا » وهو جواب الشَّرطِ في قوله : { إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً } فالمحرَّم التنازع عند لقاء فئة الكُفَّارِ ، فلا حجة فيها ، وأيضاً : فقد ترتَّب على التنازع الفشل وذهاب الريح التي هي الدولة ، وذلك لا يترتَّب على القياس .
ثم قال : { واصبروا إِنَّ الله مَعَ الصابرين } والمقصودُ أنَّ كمال أمر الجهادِ مبنيٌّ على الصَّبْرِ فأمرهم بالصبر . كما قال في آية أخرى : { اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ } [ آل عمران : 200 ] . عن سالم أبي النضر مولى عُمَر بن عُبيدِ اللَّهِ وكان كاتباً له ، قال : كتب إليه عبدُ الله بن أبِي أوفَى « أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيَّامِهِ الَّتي لقيَ فيها العَدُو ، انتظر حتَّى مالتِ الشَّمْسُ ، ثمَّ قام في النَّاس ، فقال : » يا أيُّهَا النَّاسُ لا تَتمنوا لقاء العدُوّ ، وأسْألُوا اللَّهَ العَافيةَ فإذا لقِيتُمُوهم فاصْبِرُوا ، واعلَمُوا أنَّ الجنَّة تحتَ ظلالِ السُّيُوفِ « ثم قال : » اللَّهُمَّ مُنزلَ الكتابِ ، ومُجْرِي السَّحابِ ، وهازِمَ الأحْزابِ ، اهزمْهُمْ ، وانْصُرْنا عليْهِمْ «
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)
قوله تعالى : { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ الناس وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } .
نزلت في المشركين حين أقْبَلُوا إلى بدر ، ولهم بغي وفخرٌ . فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم « اللهم هذه قريشٌ قد أقبلت بخيلائها ، وفخرها تُجادل وتُكذِّب رسولك ، اللَّهُمَّ فنصرك الذي وعدتني » .
ولمَّا رأى أبُو سفيان أنه قد أحرز عيره ، أرسل إلى قريش إنكم إنَّما خرجتم لتمنعوا عيركم فقد نجَّاها اللَّهُ ، فارجعوا ، فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتَّى نردَ بَدْراً - فننحر الجزور ، ونطعم الطَّعام ، ونسقى الخمر ، وتعزف علينا القيانُ ، وتسمع بنا العربُ ، فلا يزالُونَ يهابوننا أبَداً . فوافوها فَسُقُوا كئوس المنايا مكان الخمر ، وناحَتْ عليهم النَّوائحُ مكان القيان ، فنهى اللَّهُ تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا مثلهم ، وأمرهم بإخلاص النِّية ، والحسبة في نصر دينه ومؤازرة نبيه .
واعلم أنَّه تعالى وصفهم بثلاثة أشياء :
أحدها : البطر .
قال الزَّجَّاجُ : البَطَرُ : الطغيان في النعمة وترك شكرها .
وثانيها : الرِّئاءُ ، وهو أظهار الجميل ليرى ، مع أنَّ باطنهُ يكون قبيحاً .
والفرق بينه وبين النفاق : أنَّ النفاق : إظهار الإيمان مع إبطان الكفر ، والرئاء : إظهار الطَّاعة مع إبطان المعصية .
وثالثها : صدهم عن سبيل اللَّهِ ، وهو كونهم مانعين عن دين محمد - عليه الصلاَّة والسَّلام - .
قوله : « بَطَراً ورِئاءَ » منصوبان على المفعول له ، ويجوزُ أن يكونا مصدرين في موضع نصبٍ على الحال ، من فاعل : « خَرَجُوا ، أي : خَرُجوا بطرينَ ومُرائين ، و » رئَاءَ « مصدرٌ مضاف لمفعوله .
قوله » ويَصُدُّونَ « : يجوزُ أن يكون مستأنفاً ، وأن يكون عطفاً على : » بَطَراً ورِئَاءَ « وحفَ المفعولُ للدَّلالةِ عليه .
فإن قيل : » يَصُدُّون « فعل مضارع ، وعطف الفعل على الاسم غير حسن . فذكر الواحديُّ في الجواب ثلاثة أوجه :
الأول : أن » يَصُدُّون « بمعنى : صادين ، أي : بطرين ومرائين وصادين .
والثاني : أن يكون قوله » بَطَراً ورِئَاءَ « حالان على تأويل : مبطرين ومرائين ، ويكون قوله » ويصدون « أي : وصادين .
الثالث : أن يكون قوله » بَطَراً ورِئَاءَ « بمنزلة : يبطرون ويراؤون .
قال ابنُ الخطيبِ : » إن شيئاً من هذه الوجوه لا يشفي الغليل؛ لأنَّهُ تارةً يقيم الفعل مقام الاسم وأخرى يقيم الاسم مقام الفعل ليصح له كون الكلمة معطوفة على جنسها .
وكان من الواجب عليه أن يذكر السبب الذي لأجله عبَّر عن الأولين بالمصدر ، وعن الثالث بالفعل . قال : إنَّ الشيخ عبد القاهر الجرجاني ، ذكر أنَّ الاسم يدلُّ على التَّمكين والاستمرار ، والفعل على التجدد والحدوث ، مثاله في الاسم قوله تعالى { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ } [ الكهف : 18 ] وذلك يقتضي كون تلك الحالة ثابتة راسخة ، ومثال الفعل قوله تعالى : { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض }
[ يونس : 31 ] وذلك يُدلُّ على أنه تعالى يوصل الرِّزق إليهم ساعة فساعة .
وإذا عرفت ذلك فنقول : إنَّ أبا جهلٍ ورهطهُ كاناو مجبولين على البطرِ ، والمفاخرة والعجب وأما صدهم عن سبيل اللَّهِ فإنما حصل في الزَّمانِ الذي ادَّعى محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - فيه النبوة ، فلهذا ذكر البطر والرئاء بصيغة الاسم ، وذكر الصد بصيغة الفعل « .
واعلم أنَّ الذي قاله ابن الخطيب لا يخدش فيما أجاب به الواحديُّ؛ لأنَّ الواحدي إنَّما أراد من حيث الصِّناعة ، لا من حيث المعنى .
ثم قال : { والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } أي : أنه عالم بما في دواخل القلوب ، وذلك كالتَّهديدِ والزَّجر عن الرئاء .
قوله تعالى : { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ } الآية .
وهذه من جملة النعم التي خصَّ اللَّهُ أهل بدر بها ، وفي العامل في » إذْ « وجوه : قيل : تقديره اذكر إذْ زيَّن لهم ، وقيل : عطف على ما تقدم من تذكير النعم ، وتقديره : واذكروا إذ يريكموهم وإذْ زيَّن .
وقيل : هو عطف على قوله : { خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ الناس } تقديره : ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس وإذ زيَّن لهم الشيطان أعمالهم؛ فتكون الواو للحال ، و » قد « مضمرة بعد الواو ، عند من يشترط ذلك والله أعلم
فصل
في هذا التَّزيين وجهان :
الأول : أن الشيطان زيَّن بوسوسته من غير أن يتحوَّل في صورة إنسان ، وهو قول الحسن والأصم .
والثاني : أنَّه ظهر في سورة إنسان .
قالوا : إن المشركين حين أرَادُوا المسير إلى بدر خافوا من بني بكر بن كنانة؛ لأنَّهُم كانوا قتلوا منهم واحداً ، فلم يأمنوا أن يأتوهم من ورائهم ، فتصوَّر لهم إبليسُ في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، وهو في بني بكر بن كنانة من أشرافهم في جند من الشياطين ، ومعه راية ، وقال لا غالِبَ لَكُمْ اليَوْمَ من النَّاسِ وإني جار لكم ، مجيركم ، من بني كنانة ، { فَلَمَّا تَرَآءَتِ الفئتان } أي : التقى الجمعان ، رأى إبليسُ الملائكة نزلوا من السماء ، فعلم أنْ لا طاقةَ لهم بهم { نَكَصَ على عَقِبَيْهِ } وكانت يده في يد الحارث بن هشام ، فلما نَكَصَ ، قال الحارثُ : أتَخْذلنا في هذه الحال؟
فقال : إني أرى ما لا ترون ودفع في صدر الحارث وانهزموا .
قوله { لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم } لكم خبر » لا « فيتعلق بمحذوف ، و » اليَوْمَ « منصوب بما تعلَّق به الخبر ، ولا يجوزُ أن يكون » لكم « أو الظرف متعلقاً ب » غَالِبَ « ؛ لأنه يكون مُطَوَّلأاً ومتى كان مُطَوَّلاً أعرب نَصْباً .
قوله » مِنَ النَّاس « بيان لجنس الغالبِ .
وقيل : هو حالٌ من الضَّميرِ في » لَكُمُ « لتضمُّنه معنى الاستقرار ، ومنع أبو البقاءِ أن يكون » من النَّاس « حالاً من الضمير في » غَالِبَ « ، قال : » لأنَّ اسم « لا » إذا عمل فيما بعده أعرب « والأمر كذلك .
قوله { وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ } يجوزُ في هذه الجملةِ أن تكُون معطوفةً على قوله { لاَ غَالِبَ لَكُمْ } فيكون قد عطف جملة مثبتة على أخرى منفيَّة ، ويجوزُ أن تكون الواو للحال ، وألف « جارٌ » من واو ، لقولهم : « تَجاورُوا » وقد تقدَّم تحقيقه [ النساء : 36 ] . و « لكم » متعلِّقٌ بمحذوف؛ لأنَّهُ ل « جارٌ » ، ويجُوز أن يتعلَّق ب « جار » لما فيه من معنى الفعل ، ومعنى « جار لكم » أي : مجير لكم من كنانة .
قوله { فَلَمَّا تَرَآءَتِ الفئتان } أي : التقى الجمعان؛ { نَكَصَ على عَقِبَيْهِ } « نَكَصَ » : جواب « لمَّا » والنُّكُوص : قال النضر بنُ شميلٍ : الرُّجوع قَهْقَرَى هارباً ، قال بعضهم : هذا أصله ، إلاَّ أنه قد اتُّسِع فيه ، حتى استُعْمل في كلِّ رجوع ، وإن لم يكن قَهْقَرَى؛ قال الشاعر : [ البسيط ]
2721 - هُمْ يَضْربُونَ حَبيكَ البَيْض إذْ لَحِقُوا ... لا يَنْكُصُونَ إذَا مَا استُلْحِمُوا وحَمُوا
وقال مُؤرِّج : « النُّكُوصُ : الرجوعُ بلغة سُلَيْم » ؛ قال : [ البسيط ]
2722 - لَيْسَ النُّكُوصُ على الأعقابِ مَكْرُمَةً ... إنَّ المكارِمَ إقْدَامٌ على الأسَلِ
فهذا إنَّما يريدُ به مُطْلَق ارُّجوع؛ لأنَّهُ كنايةٌ عن الفرارِ ، وفيه نظر؛ لأنَّ غالب الفرار في القتال إنَّما هو كما ذُكِر ، رجوعُ القَهْقَرَى ، كخوف الفَار .
و « عَلَى عَقبَيْهِ » حال ، إمَّا مؤكدةٌ ، عند من يَخُصُّه بالقهقرى ، أو مُؤسِّسةٌ ، عند من يستعمله في مطلق الرُّجُوعِ .
ثم قال : { إِنِّي برياء مِّنْكُمْ إني أرى مَا لاَ تَرَوْنَ } .
قيل : رأى الملائكة فخافهم .
وقيل : رأى أثر النُّصْرَة والظَّفر في حق النبي صلى الله عليه وسلم ، فعلم أنه لو وقف لنزلت عليه بليّة .
وقيل : رأى جبريل فخافه .
وقيل : لمَّا رأى الملائكة ينزلون من السماء ظنَّ أنَّ الوقت الذي أنظر إليه قد حضر ، وأشفق على نفسه ، وقيل « أرَى مَا لاَ تَرَوْنَ » من الرأي .
وقوله : { إني أَخَافُ الله } قال قتادة : « قال إبليس » إنِّي أرَى ما لا ترَوْنَ « وصدق ، وقال { إني أَخَافُ الله } وكذب ما به مخافة الله ، ولكن علم أنه لا قوة له ولا منعة ، فأوردهم وأسلمهم » .
وقال عطاءٌ : إنّي أخاف اللَّهَ أن يهلكني فيمن هلك .
وقال الكلبيُّ : خاف أن يأخذه جبريل ويعرفهم حاله ، فلا يطيعوه .
وقيل : معناه إنِّي أخافُ الله ، أي : أعلم صدق وعده لأوليائه؛ لأنه كان على ثقة من أمره ، وقيل : معناه إنِّي أخاف الله عليكم .
وقوله : { والله شَدِيدُ العقاب } .
قيل : انقطع الكلام عند قوله « أخَافُ اللَّه » ثم قال { والله شَدِيدُ العقاب } ويجُوز أن يكون من بقيِّة كلام إبليس .
روى طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
« مَا رُئيِ الشيطانُ يوماً هُو فيه أصغرُ ، ولا أدحرُ ، ولا أحقَرُ ، ولا أغْيَظُ مِنْهُ في يَوْمِ عرفةَ ، وما ذاكَ إلاَّ لِمَا رَأى من تنزُّلِ الرَّحْمَة وتجاوزُ الله عن الذُّنُوبِ العظام ، إلاَّ ما كان من يَوْمِ بدرٍ »
فقيل : وَمَا رأى يَوْمَ بدرٍ؟ قال : « أما إنَّهُ رَأى جبريلَ وهُوَ يَنْزعُ المَلائِكَة » ، حديث مرسل .
قوله تعالى : { إِذْ يَقُولُ المنافقون } العامل في « إذْ » إمَّا « زيَّن » ، وإمَّا « نَكَصَ » وإما « شديدُ العقاب » وإما « اذكروا » .
قال ابنُ الخطيب : « وإنما لم تدخل الواو في قوله » إذْ يقُولُ « ودخلت في قوله » وإذْ زَيَّن « ؛ لأنَّ قوله : » وإذْ زيَّن « عطف التزين على حالهم وخروجهم بطراً ورئاء النَّاس .
وأما قوله { إِذْ يَقُولُ المنافقون } فليس فيه عطف على ما قبله ، بل هو ابتداء كلام منقطع عما قبله » .
فصل
المنافقون : قوم الأوس والخزرجِ ، وأمَّا الذين في قلوبهم مرض فهم قوم من قريش أسلموا وما قوي إسلامهم ، وكانوا بمكَّة مستضعفين ، قد أسلموا وحبسهم أقرباؤهم عن الهجرة فلما خرجت قريش إلى بدرٍ أخرجوهم كُرْهاً ، فلمَّا نظروا إلى قلّة المسلمين ارتابوا وارتدوا ، وقالوا { غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ } . و { غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ } منصوب المحل بالقول .
قال ابن عباس - رضي الله عنه - : « معناه أنه خرج بثلاث مائة وثلاثة عشر يقاتلون ألف رجل » وقيل المرادُ : إن هؤلاء يسعون في قتل أنفسهم ، رجاء أن يجعلوا أحياء بعد الموتِ ، ويثابون على هذا القَتْلِ . فقالوا : غرَّ هؤلاء دينهم . فقتلوا جميعاً ، منهم : قيسُ بنُ الوليد بن المغيرة ، وأبُو قيس بنُ الفاكه بن المغيرة المخزميان ، والحارثُ بن زمعة بن الأسود بن المطلب ، وعلي بنُ أميّة بن خلف الجمحيُّ ، والعاصي بن منبه بن الحجَّاج .
ثم قال : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله } أي : يسلم أمره إلى اللَّه ، ويثقُ به ، فإنَّ اللَّهَ حافظه وناصره؛ لأنَّهُ عزي لا يغلبه شيء ، حكيم يوصل العذاب إلى أعدائه ، والرحمة والثواب إلى أوليائه .
قوله تعالى : { وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملاائكة } الآية .
لمَّا شرح أحوال الكُفَّار ، شرح أحوال موتهم ، والعذاب الذي يصل إليهم .
قرأ ابن عامر والأعرج « تَتَوفَّى » بتاء التأنيث ، لتأنيث الجماعة ، والباقون بياء الغيبة وفيها تخريجان ، أظهرهما - لموافقة قراءة من تقدَّم - : أنَّ الفاعل هم الملائكة ، وإنما ذُكِّرَ للفصل؛ ولأنَّ التأنيث مجازي .
والثاني : أنَّ الفاعل ضمير الله تعالى : لتقدم ذكره و « الملائكةُ » مبتدأ ، و « يَضْرِبُونَ » خبره ، وفي هذه الجملةِ حينئذٍ وجهان :
أحدهما : أنَّها حالٌ من المفعول .
والثاني : أنَّها استئنافيةٌ ، جواباً لسؤالٍ مقدر ، وعلى هذا فيوقف على « الَّذين كَفَرُوا » بخلاف الوجهين قبله .
وضعَّف ابنُ عطية وجه الحالِ بعدم الواو ، وليس بضعيفٍ لكثرة مجيء الجملة الحالية مشتملة على ضمير ذي الحال خاليةً من « واو » نظماً ونثراً ، وعلى كون « الملائكةُ » فاعلاً ، يكون « يَضْربُونَ » جملةً حاليةً ، سواءً قرىء بالتأنيث أم بالتذكير ، وجوابُ « لَوْ » محذوفٌ للدلالة عليه ، أي : رأيت أمراً عظيماً .
فصل
المعنى : ولو عاينت؛ لأنَّ « لو » ترد المضارع إلى الماضي ، كما ترد « إن » الماضي إلى المضارع .
قال الواحديُّ - رحمه الله - : « معنى يتوفى الذين كفروان يقبضون أرواحهم » قيل : عند الموت تضرب الملائكة وجوه الكفار وأدبارهم . وقيل : أراد المشركين الذين قتلوا ببدر ، كانت الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم .
قال سعيدُ بن جبيرٍ ، ومجاهد : يريدُ : أستاههم ولكن الله تعالى حَييٌّ يُكَنِّي .
وقال ابن عباس « كان المشركون إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيف وإذا ولَّوْا أدركتهم الملائكة يضربون أدبارهم وقال ابن جريح » يريدُ ما أقبل منهم وما أدبر يضربون أجسادهم كلها « . والمراد بالتوفي : القتل .
قوله { وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق } هذا منصوب بإضمار قول الملائكة ، أي : يضربونهم ويقولون لهم : ذوقوا . وقيل : الواو في » يَضْربُونَ « للمؤمنين أي : يَضْربونهم حال القتال ، وحال توفِّي أرواحهم الملائكة .
قيل : كان مع الملائكة مقامع من حديد ، يضربون بها الكُفَّار ، فتلتهب النَّار في جراحاتهم؛ فذلك قوله : { وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق } ، وقال الحسن - رضي الله عنه - : » هذا يوم القيامة ، تقولُ لهم خزنةُ جهنم : ذوقوا عذاب الحريقِ « وقال ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله تعالى عنهما - : » يقولون لهم ذلك بعد الموت « .
قوله : { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } .
أي : ذلك الضرب الذي وقع بكم ، أو عذاب الحريق : { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } بما كسبت أيديكم وهذا إخبار عن قول الملائكة - عليهم السلام - .
قال الواحديُّ : » يجوز أن يقال « ذلك » مبتدأ ، وخبره { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } ويجوز أن يكون خبره محذوفاً ، والتقدير : ذلك جزاؤكم بما قدمت أيديكم ، ويجوزُ أن يكون محل « ذلك » نَصْباً والتقدير : فعلنا ذلك بما قدمت أيديكم « .
فصل
فإن قيل : قوله { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } يقتضي أنَّ فاعل هذا الفعل هو اليد ، وذلك ممتنع لوجوه ، أولها : أنَّ هذا العذاب إنما وصل إليهم بسبب كفرهم ، ومحل الكفر هو القلب لا اليد وثانيها : أن اليد ليست محلاًّ للمعرفة والعلم ، فلا يتوجَّه التكليف عليها ، فلا يمكن إيصال العذاب إليها .
فالجوابُ : أن اليد ههنا عبارة عن القدرة وحسن هذا المجاز كون اليد آلة العمل ، والقدرة هي المؤثرة في العمل ، فحسن جعل اليد كناية عن القدرة .
واعْلَمْ أن الإنسان جوهر واحد ، وهو الفعال ، وهو الدراك ، وهو المؤمن ، وهو الكافر وهو المطيعُ ، وهو العاصي ، وهذ الأعضاء آلات لهُ ، وأدوات له في الفعل؛ فأضيف الفعل في الظَّاهر إلى الآله ، وهو في الحقيقة مضاف إلى جوهر ذاتِ الإنسان .
فإن قيل : إنَّه جعل هذا العقاب ، إنَّما تولَّد من الفعل الذي صدر عنه ، والعقاب إنما يتولَّد من العقائد الباطلة .
فالجوابُ : أنَّا بيَّنا أنَّ الفعل إنما ينشأ عن الاعتقاد ، فأطلق على المسبب اسم السَّببِ وهذا من أشهر وجوه المجاز .
قوله : { وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } .
في محل « أنَّ » وجهان :
أحدهما : النصبُ بنزع الخافض يعني : بأنَّ اللَّهَ .
والثاني : أنَّكَ إن جعلت قوله : « ذلك » في موضع رفع ، جعلت « أنَّ » في موضع رفع أيضاً ، أي : وذلك أنَّ الله .
قال الكسائيُّ : « ولو كسرت ألف » أنَّ « على الابتداء كان صواباً ، وعلى هذا التقدير يكون كلاماً مبتدأ منقطعاً عمَّ قبله » .
فصل
قالت المعتزلةُ : لو كان اللَّه تعالى يخلق الكفر في الكافر ، ثم يعذبه عليه لكان ظالماً ، وأيضاً قوله تعالى : { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } يدلُّ على أنه تعالى إنَّما لم يكن ظالماً بهذا العذاب؛ لأنَ العبد قدَّم ما استوجب عليه هذا العذاب ، وذلك يدلُّ على أنَّهُ لو لم يصدر منه تعالى ذلك التقديم لكان ظالماً في هذا العذاب ، وأيضاً : لو كان موجد الكفر والمعصية هو الله لا العبد لوجب كون الله ظالماً ، وهذه المسألة قد سبق ذكرها مُسْتَقْصَاةً في آل عمران .
قوله تعالى : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } الآية .
لمَّا بيَّن ما أنزله بأهل بدر من الكفَّار عاجلاً وآجلاً ، أتبعه بأن بيَّن أنَّ هذه طريقته وسنته ودأبه في الكل فقال : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } .
قال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما « هو أن آل فرعون أيقنوا أنَّ موسى نبي الله فكذبوه ، كذلك هؤلاء جاءهم محمد بالصِّدق فكذَّبوه ، فأنزل الله عقوبته ، كما أنزل بآل عمران » .
{ والذين مِن قَبْلِهِمْ } أي : كعادة الذين من قبلهم ، وتقدَّم الكلامُ على « كَدَأبِ » في آل عمران .
ثم قال تعالى : { إِنَّ الله قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب } والغرضُ منه : التَّنبيه على أن لهم عذاباً مُدْخراً سوى ما نزل بهم من العذاب العاجل ، ثمَّ ذكر ما يجري مجرى العلَّة في العقاب الذي أنزله بهم ، فقال : { ذلك بِأَنَّ الله } ، « ذلك » مبتدأ وخبر أيضاً ، كنظيره أي : ذلك العذابُ أو الانتقامُ بسبب أنَّ اللَّه .
قوله « لَمْ يَكُ » قال أكثرُ النحاةِ : إنَّما حذفت النون؛ لأنَّها لم تشبه الغُنَّة المحضة فأشبهت حروف اللين ووقعت طرفاً ، فحذفت تشبيهاً بها ، كما تقولُ : لَمْ يَدْعُ ، ولمْ يَرْمِ .
قال الواحدي - رحمه الله تعالى - : « هذا ينتقض بقولهم : لَمْ يَزنْ ، ولمْ يَخنْ ، ولم يسمع حذف النون ههنا » .
وأجاب علي بن عيسى فقال : إنَّ « كان » و « يكون » أم الأفعال ، من أجل أن كل فعل قد حصل فيه معنى « كان » ، فقولنا : ضرب ، معناه : كان ضرب ، ويضرب معناه يكون ضرب ، وهكذا القول في الكُلِّ؛ فثبت أنَّ هذه الكلمة أم الأفعال ، فاحتيج إلى الاستعمال في أكثر الأوقات ، فاحتملت هذا الحذف ، بخلاف قولنا : لم يخُنْ ، ولم يزن ، فإنَّه لا حاجة إلى ذكرها كثيراً ، فظهر الفرق .
فصل
معنى الآية إنَّ الله لا يُغَيِّر ما أنعم على قوم ، حتى يُغَيِّرُوا ما بهم بالكفران وترك الشكر ، فإذا فعلوا ذلك غيَّر اللَّهُ ما بهم ، فسلبهم النعمة
فصل
قال القاضي « معنى الآية : أنه تعالى أنعم عليهم بالعقل والقدرة وإزالة الموانع ، وتسهيل السبل ، والمقصودُ : أن يشتغلوا بالعبادة والشَّكْرِ ، ويعدلوا عن الكفر ، فإذا صرفوا هذه الأمور إلى الكفر والفسق ، فقد غيَّروا نعم اللَّهِ على أنفسهم فلا جرم استحقوا تبديل النعم بالنقم ، والمنح بالمحن » .
قال : « وهذا من أوكد ما يدلُّ على أنه تعالى لا يبتدأ أحداً بالعذاب والمضرة ، وأنَّ الذي يفعله لا يكون إلاّ َجزاء على معاصٍ سلفت ، لو كان تعالى خلقهم ، وخلق جسمانهم وعقولهم ابتداء للنَّار كما يقوله القومُ لما صحَّ ذلك » .
وأجيب : بأن ظاهر الآية مشعر بما قاله القاضي؛ إلاَّ أنَّا لو حملنا الآية عليه لزم أن يكون صفةُ اللَّهِ تعالى مُعَلَّلَةً بفعل الإنسان؛ لأنَّ حكمَ اللَّهِ بذلك التغيير وإرادته ، لمَّا كان لا يحصل إلاَّ عند إتيان الإنسان بذلك الفعل ، فلو لم يصدر عنه ذلك الفعل لم يحصل للَّه تعالى ذلك الحكم وتلك الإرادة ، فحينئذٍ يكون فعل الإنسان مؤثراً في حدوث صفة في ذات اللَّهِ تعالى ، ويكون الإنسان مغيراً صفة اللَّهِ ومؤثراً فيها ، وذلك محال في بديهة العقل؛ فثبت أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره ، بل الحقُ أنَّ صفة الله غالبة على صفات المحدثات ، فلولا حكمه وقضاؤه أولاً لما أمكن للعبد أن يأتي بشيء من الأفعال والأقوال .
ثم قال : { وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : سميع لأقوالهم ، عليم بأفعالهم .
قوله : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } .
فإن قيل : إنه تعالى ذكر : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } مرتين ، فما فائدة؟
فالجوابُ من وجوه ، منها : أنَّ الكلام الثَّاني يجري مجرى التفصيل للكلام الأول؛ لأنَّ الأول فيه ذكرُ أخذهم ، وفي الثاني ذكر إغراقهم ، وذلك تفصيل ، ومنها : أنَّهُ أريد بالأوَّلِ ما نزل بهم من العقوبة في حال الموت ، وبالثاني ما ينزلُ بهم في القبر وفي الآخرة ، ومنها : أنَّ الكلام الأول هو قوله : { كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله } والكلام الثاني هو قوله : { كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ } فالأوَّلُ إشارة إلى أنَّهم أنكروا دلائل الإلهية ، والثاني إشارة إلى أنَّهُ سبحانه ربَّاهم وأنعم عليهم بالوجوه الكثيرة ، فأنكروا دلائل التربية والإحسان مع كثرتها ، وتواليها عليهم فكان الأثر اللازم من الأول الأخذ ، والأثر اللازم من الثاني هو الإهلاك والإغراق وذلك يدلُّ على أنَّ للكفر أثراً عظيماً في حصول الإهلاك ، ومنها : أنَّ الأول دَأبٌ في أن هلكوا لمَّا كفروا ، وهذا دأبٌ في أن لم يُغيِّر اللَّهُ نعمتهم حتَّى يُغيروها هم .
ومنها : قال الكرمانيُّ : « يحتملُ أن يكون الضميرُ في : » كفرُوا « في الآية الأولى عائداً على قريش ، والضمير في : » كذَّبُوا « في الثانية عائداً على آل فرعون والذين من قبلهم ، كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم ، أهلكنا بعضهم بالرجفةِ ، وبعضهم بالخسف ، وبعضهم بالريحِ ، وبعضهم بالغرق ، وكذلك أهلكنا كفار بدر بالسيفِ لما كذبوا ، وأغرقنا آل فرعون » .
{ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ } جمع الضمير في : « كانوا » ، وجمع : « ظالمين » مراعاةً لمعنى « كُل » لأنَّ « كُلاًّ » متى قطعت عن الإضافة جاز مراعاةُ لظفها تارةٌ ، ومعناها أخرى . وإنَّما اختير هنا مراعاةُ المعنى؛ لأجل الفواصل ، ولو رُوعي اللَّفظُ فقيل مثلاً وكلٌّ كان ظالماً ، لَمْ تتَّفِق الفواصل .
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)
قوله تعالى : { إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ } الآية .
لمَّا وصف كُلَّ الكفار بقوله : { وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ } [ الأنفال : 54 ] أفرد بعضهم بمزية في الشر والعناد فقال : { إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله } أي : في حكمه وعلمه من حصلت له صفتان :
الأولى : الكافر المستمر على كفره مصرّاً عليه .
الثانية : أن يكون ناقضاً للعهد ، فقوله : { الذين كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون } إشارة إلى استمرارهم على الكفر ، وصرارهم عليه ، وقوله : { الذين عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ } إشارة إلى نقض العهد .
قال الكلبيُّ ومقاتلٌ : يعني يهود بني قريظة ، منهم كعب بن الأشرف وأصحابه .
{ الذين عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ } أي : عاهدنهم .
قيل : عاهدت بعضهم ، وقيل : أدخل « مِنْ » لأن معناه : أخذت منهم العهد . { ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ } .
قال ابنُ عباسٍ « هم بنو قريظة ، نقضوا العقد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعانوا المشركين على قتال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، ثم قالوا : نسينا وأخطأنا فعاهدهم ثانياً ، فنقضوا العهد ومالوا مع الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ، وركب كعب بن الأشرف إلى مكة فوافقهم على مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم ، { وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ } لا يخافون الله في نقض العهد .
قوله » الَّذينَ عاهدَتَّ « يجوزُ فيه وجهان :
أحدها : الرَّفْعُ على البدل من الموصول قبله ، أو على النَّعت له ، أو على عطف البيان ، او النصبُ على الذَّمِّ ، أو الرفع على الابتداء ، والخبرُ قوله » فإمَّا تَثْقَفَنَّهُم « بمعنى : من تعاهد منهم ، أي : من الكفار ثم ينقضون عهدهم ، فإن ظفِرتَ بهم فاصنعْ كيت وكيت ، فدخلت الفاءُ في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط ، وهذا ظاهر كلام ابن عطية رحمه الله تعالى .
و » مِنْهُمْ « يجوز أن يكون حالاً من عائد الموصول المحذوف ، إذ التقدير : الذين عادتهم ، أي : كائنين منهم ، ف » مِنْ « للتبعيض . وقيل : هي بمعنى : » مع « .
وقيل : الكلام محمول على معناه ، أي : أخذت منهم العهد .
وقيل : زائدةٌ أي : عاهدتهم . والأقوالُ الثلاثةُ ضعيفةٌ ، والأول أصحُّ .
{ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } .
قال ابن عباس { فنكل بهم من خلفهم } .
وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ : { أنذر بهم من خلفهم } .
العامَّةُ على الدال المهملة في » فَشرِّدْ . وأصل التَّشْرِيدِ ، التَّطريدُ والتفريقُ والتبديدُ .
وقيل : التفريق مع الاضطراب ، والمعنى : فرق بهم جمع كل ناقض ، أي : افعل بهؤلاء الذين نقضوا عهدك وجَاءُوا لحربك فعلاً من الحرب والتمكين ، يفرقُ منك ويخافك من خلفهم من أهل مكة واليمن ، « لَعَلَّهُم يذَّكرُون » يتذكرون ويعتبرون فيا ينقضون العهد .
وقرأ الأعمش بخلاف عنه : « فَشَرِّذْ » بالذال المعجمة .
وقال أبُو حيَّان رحمه الله تعالى : « وكذا هي في مصحف عبد الله » .
قال شهاب الدين : « وقد تقدَّم أنَّ النَّقْطَ والشَّكْلَ أمرٌ حادثٌ ، أحدثه يحيى بن يعمر ، فكيف يُوجد ذلك في مصحف ابن مسعود؟ » .
قيل : وهذه المادة - أعني : الشين ، والرَّاء ، والذال المعجمة - مهملة في لغة العرب وفي هذه القراءةِ أوجه ، أاحدها : أنَّ الذَّال بدلُ من مجاورتها ، كقولهم : خراديل وخراذيل .
الثاني : أنه مقلوبٌ مِنْ « شذر » ، من قولهم : تَفرَّقُوا شَذَرَ مَذَرَ ، ومنه : الشَّذْر المُلتقط من المعدن؛ لتفرُّقِهِ؛ قال : [ الطويل ]
2723 - غَرَائِرُ فِي كِنٍّ وَصوْنٍ ونَعْمَةٍ ... يُحَلَّيْنَ يَاقُوتاً وشَذْراً مُفَقَّرا
الثالث : أنه من ذر في مقاله ، إذا أكثر فيه ، قاله أبو البقاءِ ، ومعناه غير لائق هنا .
وقال قطرب : « شرّذ » بالمعجمة ، التنكيل ، وبالمهملة : التَّفريق . وهذا يُقَوِّي قول من قالك إن هذا المادَّة ثابتةٌ في لغة العربِ .
قوله « مَنْ خَلْفَهُمْ » مفعول : « شرِّدط . وقرأ الأعمشُ بخلاف عنه وأبو حيوة » مِنْ خلفهم « جاراً ومجروراً ، والمفعولُ على هذه القراءة محذوفٌ ، أي : فشرِّدُ أمثالهم من الأعداء ، وأناساً يعملون بعملهم ، والضميران في » لَعَلَّهُم يذكَّرُون « الظَّاهِرُ عودهما على » مَنْ خَلْفَهُمْ « ، أي : إذا راوا ما حلَّ بالمناقضين تذكَّرُوا . وقيل : يعودان على المثقفين ، وليس له معنى طائل .
قوله : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ } .
مفعول انبذ محذوف ، أي : انبذ إليهم عهودهم ، أي : اطرحها ، ولا تكترث بها و » عَلَى سواءٍ « حال إمَّا من الفاعل ، أي انبذها ، وأنت على طريقٍ قصدٍ ، أي : كائناً على عدل ، فلا تَبْغتهُمْ بالقتالِ بل أعلمهم به ، وإمَّا من الفاعل والمفعول معاً ، أي : كائنين على استواء في العلم ، أو في العداوةِ .
وقرأ العامَّةُ بفتح السِّين ، وزيد بن علي بكسرها ، وهي لغة تقدم التنبيه عليها أول البقرة .
فصل
المعنى : وإمَّا تعلمنَّ يا محمد » من قومٍ « معادين : » خيانةً « نقض عهد بما يظهر لك منهم من آثار الغدر ، كما يظهر من قريظة والنضير : » فانبِذْ إليْهِمْ « فاطرح » إليهمْ « عهدهم » على سواءٍ « .
يقول : أعلمهم قبل حربك إيَّاهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم حتَّى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد سواء ، فلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصبِ الحرب معهم .
وقوله : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين } هذه الجملة يحتمل أن تكون تعليلاً معنوياً للأمر بنبذ العهد على عدل ، وهو إعلامهم ، وأن تكون مستأنفة ، سيقت لذمِّ من خان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونقض عهده .
قوله تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ } الآية .
قرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم » يَحْسبنَّ « بياء الغيبة هنا ، وفي النور في قوله :
{ لاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ } [ النور : 57 ] كذلك ، خلا حفصاً ، والباقون بتاء الخطابِ ، وفي قراءة الغيبة تخريجاتٌ كثيرة سبق نظائرها في أواخر آل عمران ، ولا بدَّ من التنبيه هنا على ما تقدَّم ، فمنها ، أنَّ الفعل مسندٌ إلى ضميرٍ يُفسِّره السياق ، تقديره : ولا يحسبنَّ هو أي : قبيل المؤمنين ، أو الرسول ، أو حاسب .
أو يكون الضمر عائداً على : « مَنْ خَلفهُمْ » .
وعلى هذه الأقوالِ ، فيجوزُ أن يكون « الذينَ كفرُوا » مفعولاً أول و « سَبَقُوا » جملة في محل نصب مفعولاً ثانياً .
وقيل : الفعلُ مسندٌ إلى « الذينَ كفرُوا » ثم اختلف هؤلاء في المفعولين ، فقال قوم : الأول محذوفٌ تقديره : ولا يَحْسبنَّهم الذين كفروا سبقوا ، ف « هَم » مفعول أول ، و « سَبَقُوا » في محل الثاني : أو يكون التقدير : لا يحسبنَّ الذين كفروا أنفسهم سبقُوا . وهو في المعنى كالذي قبله .
وقال قومٌ : بل « أنْ » الموصولة محذوفة ، وهي وما في حيَّزها سادةٌ مسدَّ المفعولين ، والتقدير : ولا سحبن الذين كفروا أن سبقُوا ، فحذفت « أنْ » الموصولة وبقيت صلتها ، كقوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ } [ الروم : 24 ] وقوله : { قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ } [ الزمر : 64 ] .
قاله الزجاج : والتقدير : ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقونا ، وحذف « أن » الموصولة في القرآن ، وفي كلام العرب كثير ، فأمَّا القرآن فكالآيات ، ومن كلام العربِ : تسمعُ بالمعيديِّ خيرٌ من أن تراه؛ وقوله : [ الطويل ]
2724 - ألاَ أيُّهذا الزَّاجِرِي أحضرُ الوغَى .. . .
ويؤيد هذا الوجه قراءة عبد الله « أنهم سبقوا » .
وقال قومٌ : بل « سَبَقُوا » في محلِّ نصب على الحال ، والسادُّ مسدَّ المفعولين : { إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } ، وتكون « لا » مزيدةً ليصح المعنى .
قال الزمشخري - بعد ذكره هذه الأوجه - « وليست هذه القراءةُ التي تفرَّد بها حمزةُ بنيِّرة » وقد ردَّ عليه جماعةٌ هذا القول ، وقالوا : لم ينفرد بها حمزةُ ، بل وافقه عليها من قُرَّاء السبعة ابنُ عامر أسنُّ القراءة وأعلاهُم إسناداً ، وعاصمُ في رواية حفص ثم هي قراءة أبي جعفر المدني شيخ نافع ، وأبي عبد الرحمن السلمي ، وابن محيصن وعيسى ، والأعمش ، والحسن البصرين ، وأبي رجاء ، وطلحة ، وابن أبي ليلى . وقد ردَّ عليه أبو حيان أيضاً أنَّ « لا يحْسبَنَّ » واقع على « أنهم لا يُعْجِزون » وتكون « لا » صلة ، بأنَّهُ لا يتأتَّى على قراءة حمزة ، فإنَّهُ يقرأ بكسر الهمزة ، يعني فكيف تلتئم قراءةُ حمزة على هذا التخريج .
قال شهابُ الدِّين : « هو لم يلتزم التخريج على قراءة حمزة في الموضعين ، أعني : » لا يَحْسبنَّ « وقوله : » أنهم لا يعجزون « ، حتى نلزمه ما ذكر » وأما قراءةُ الخطاب فواضحةٌ ، أي : لا تحسبنَّ يا محمدُ ، أو يا سامعُ ، و « الذين كفرُوا » مفعول أول ، والثاني : « سبقوا » ، وقد تقدَّم في آل عمران وجهُ أنه يجوز أن يكون الفاعل الموصول ، وإنَّما أتى بتاءِ التأنيث ، لأنه بمعنى « القوم » ، كقوله :
{ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ } [ الشعراء : 105 ] . وقرأ الأعمش « ولا يَحْسبَ الذينَ كَفَرُوا » بفتح الباء .
وتخريجها على أن الفعل مؤكدٌ بنون التَّوكيد الخفيفة ، فحذفها؛ لالتقاء الساكنين ، كما يحذفُ له التنوين؛ فهو كقوله : [ المنسرح ]
2725 - لا تُهِينَ الفَقيرَ علَّكَ أنْ ... تَرْكعَ يوماً والدَّهْرُ قد رفعهْ
أي : لا تُهينن ، ونقل بعضهم : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين } من غير توكيدٍ ألبتَّة ، وهذه القراءةُ بكسر الباءن على أصل التقاء الساكنين .
قوله : « سَبَقُوا » أي : فاتوا . نزلت في الذين انهزموا يوم بدرٍ من المشركين ، فمن قرأ بالياء ، يقول لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سابقين فائتين من عذابنا ، ومن قرأ بالتَّاءِ فعلى الخطاب .
قوله { إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } قرأ ابن عامر بالفتح ، والباقون بالكسر . فالفتح إمَّا على حذفِ لام العلة ، أي : لأنهم . واستبعد أبو عبيد وأبو حاتم قراءة ابن عامر ، ووجهُ الاستبعادِ أنَّها تعليلٌ للنَّهْي ، أي : لا تحسبنَّهم فائتينح لأنَّهم لا يعجزون ، أي : لا يقع منك حُسبانٌ لفوتهم؛ لأنَّهم لا يعجزون ، وإمَّا على أنَّها بدلٌ من مفعولي الحسبان .
وقال أبُو البقاء : « إنَّه متعلقٌ ب » حسب « ، إمَّا مفعولٌ ، أو بدلٌ من سَبَقُوا » .
وعلى كلا الوجهين تكون « لا » زائدة « ، وهو ضعيفٌ ، لوجهين :
أحدهما : زيادة » لا « .
والثاني : أن مفعول » حسبن « إذا كان جملة ، وكان مفعولاً ثانياً كانت » إنَّ « فيه مكسورة؛ لأنَّه موضع ابتداء وخبر .
وقرأ العامة : » لا يُعْجِزُونَ « بنون واحدة خفيفةٍ مفتوحةٍ ، وهي نونُ الرفع . وقرأ ابن مُحَيْصِن » يُعْجِزُوني « بنون واحدة ، بعدها ياء المتكلم ، وهي نون الوقاية ، أو نون الرفع ، وقد تقدَّم الخلافُ في ذلك في سورة الأنعام في : » أتحاجُّوني « .
قال الزجاج : ألاختيارُ الفتحُ في النُّونِ ، ويجوزُ كسرها ، على أنَّ المعنى : لا يُعجزُونَنِي وتحذف النون الأولى ، لاجتماع النونين » ؛ كما قال عمر بن أبي ربيعة : [ الوافر ]
2726 - تَراهُ كالثَّغَامِ يعلُّ مِسْكاً ... يسُوءُ الفالياتِ إذا فَلَيْنِي
وقال متمم بنُ نُويرَةَ : [ الكامل ]
2727 - ولقَدْ علمْتِ ولا مَحَالَة أنَّنِي ... للحَادِثاتِ فَهَلْ تَرَيْنِي أجْزَعُ
قال الأخفشُ : « فهذا البيتُ يجوز على الاضطرار » . وقرأ ابنُ محيصن أيضاً « يُعجزُونِّ » بنون مشددة مكسورةٍ ، أدغم نون الرفع في نون الوقاية ، وحذف ياء الإضافة مُجْتَزِئاً عنها بالكسرة ، وعنه أيضاً فتحُ العين وتشديدُ الجيم وكسر النون ، مِنْ « عَجَّزَ » مشدداً .
قال أبو جعفرٍ : « وهذا خطأ من وجهين :
أحدهما : أنَّ معنى » عَجّضزه « ضعَّفه وضعَّف أمره . والآخر : كان يجب أن يكون بنونين » .
قال شهابُ الدِّين : « أمَّا تخطئة النَّحاس لهُ فخطأٌ؛ لأن الإتيان بالنُّونين ليس بواجب بل هو جائز ، وقد قرىء به في مواضع في المتواتر ، سيأتي بعضها ، وأمَّا » عجَّز « بالتشديد فليس معناه مقتصراً على ما ذكر ، بل نقل غيره من أهل اللغة أن معناه نسبني إلى العجز ، أو معناه : بَطَّأ ، وثبَّط ، والقراءة معناها لائقٌ بأحد المعنيين » . قرأ طلحة بكسر النون خفيفة .
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
قوله : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ } .
لمَّا أوجب على رسوله أن يُشرِّد من صدر منه نقض العهدِ ، وأن ينبذ العهد إلى من خاف منه النَّقض أمره في هذا الآية بالإعداد للكُفَّارِ .
قويل : إنَّ الصحابة لمَّا قصدوا الكفار يوم بدر بلا آلة ولا عدة أمرهم الله تعالى ألاَّ يعودوا لمثله ، وأن يعدُّوا للكفرا ما أمكنهم من آلة وعدة وقوة . والإعداد : اتخاذ الشيء لوقت الحاجة . والمراد بالقوة : الآلات التي تكون لكم قوة عليهم من الخيل والسلاح .
قال - عليه الصَّلاة والسلام - على المنبر « ألا إنَّ القُوَّة الرَّمي ألا إنَّ القُوَّة الرَّمي ألا إنَّ القُوَّة الرَّميُ »
وقال بعضهم : القوة هي الحصون .
وقال أهل المعاني : هذا عام في كل ما يتوقى به على الحرب .
وقوله عليه الصلاة والسلام « القُوَّةُ هي الرَّمْيُ » لا ينفي كون غير الرمي معتبراً ، كقوله عليه الصلاة والسلام : « الحَجُّ عرفة » و « النَّدمُ توْبةٌ » لا ينفي اعتبار غيره .
فإن قيل : قوله : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم } كان يكفي ، فلم خصَّ الرمي والخيل بالذكر؟ .
فالجوابُ : أنَّ الخيل لما كانت أصل الحروب وأوزارها الَّتي عقد الخير في نواصيها ، وهي أقوى الدّواب وأشد العدة وحصون الفرسان ، وبها يُجالُ في الميدان ، خصَّها بالذِّكر تشريفاً وأقسم بغبارها تكريماً ، فقال : { والعاديات ضَبْحاً } [ العاديات : 1 ] الآياتُ ، ولمَّا كانت السهامُ من أنجع ما يتعاطى في الحروب والنكاية في العدوَّ ، وأقربها تناولاً للأرواح ، خصَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر لها؛ ونظير هذا قوله تعالى : { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 89 ] بعد ذكر الملائكة ، ومثله كثير .
قوله « مِن قُوَّةٍ » في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : أنَّهُ الموصول ، والثاني : أنه العائد عليه ، إذ التقديرُ : ما استطعتموه حال كونه بعض القوة ، ويجوزُ أن تكون « مِنْ » لبيان الجِنْسِ .
قوله : « ومِن ربَاطِ » ، جوَّزُوا فيه أن يكون جمع « رَبْط » مصدر : رَبَط يَربط ، نحو : كَعْب وكِعَاب ، وكَلْب وكِلاب ، وأن يكون مصدراً ل « رَبَطَ » ، نحو : صَاحَ صِيَاحاً .
قالوا : لأنَّ مصادر الثلاثي لا تنقاس ، وأن يكون مصدر : « رَابِط » ، ومعنى المفاعلة : أنَّ ارتباط الخيل يفعله كلُّ واحد لفعل الآخر ، فيرابط المؤمنون بعضهم بعضاً ، قال معناه ابن عطيَّة .
قال أبُو حيَّان : قوله « مصادرُ الثلاثي غير المزيد لا تَنْقَاسُ » ليس بصحيحٍ ، بل لها مصادر منقاسةٌ ذكرها النحويون .
قال شهابُ الدِّين : « في المسألة خلافٌ مشهور ، وهو لم ينقل الإجماع على عدم القياسِ حتى يرُدَّ عليه بالخلاف؛ فإنَّهُ قد يكون اختيار أحد المذاهب ، وقال به ، فلا يُردُّ عليه بالقول الآخر » .
وقال الزمخشريُّ : « والرِّباط : الخَيْلُ التي تُرْبط في سبيل الله ويجوز أن يُسمَّى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة ، ويجوزُ أن يكون جمع : رَبيط يعني : بمعنى مَربُوط ، ك : فَصِيل وفِصَال . والمصدرُ هنا مضافٌ لمفعوله »
وقرأ الحسنُ ، وأبو حيوة ، ومالك بن دينار : « ومِنْ رُبُط » بضمتين ، وعن الحسن أيضاً « رُبْط » بضم وسكون ، نحو : كتاب وكُتْب .
قال ابنُ عطيَّة « وفي جَمْعه ، وهو مصدرٌ غيرُ مختلفٍ نظرٌ » .
قال شهابُ الدِّين « لا نُسَلِّم والحالةُ هذه أنه مصدرن بل حكى أبو زيدٍ أنَّ » الرِّبَاط « الخمسةُ من الخيلِ فما فوقها ، وأن جمعها » رُبُط « ولو سُلِّم أنَّهُ مصدرٌ فلا نُسَلِّم أنَّهُ لم تختلف أنواعه ، وقد تقدَّم أنَّ » رباطاً « يجوزُ أن يكون جمعالً ل » رَبْط « المصدر ، فما كان جواباً هناك ، فهو جوابٌ هنا » .
فصل
قال القرطبي : « روى أبُو حاتمٍ عن أبي زيد : الرِّباطُ من الخيل : الخَمْسُ فما فوقها ، وجماعته » رُبُط « ، وهي التي ترتبط ، يقال منه : رَبَطَ يَرْبط ربطاً ، وارتبط يرتبط ارتباطاً ومربط الخيل ومرابطها وهي ارتباطها بإزاء العدو » قال : [ الكامل ]
2728 - أمَرَ الإلهُ بربْطِهَا لعَدُوِّهِ ... في الحَرْبِ إنَّ اللَّهَ خَيْرُ مُوفِّقِ
روي أنَّ رجلاً قال لابن سيرين : إنَّ فلاناً أوْصَى بثلثِ ماله للحصون ، فقال : هي للخيل؛ ألم تسمع قول الشاعر : [ الكامل ]
2729 - ولَقَدْ علِمْتُ عَلَى تَجَنُّبِيَ الرَّدَى ... أنَّ الحُصُونَ الخَيْلُ لا مَدَرُ القُرَى
قال عكرمة : « رباط الخَيْلِ : الإناث » وهو قول الفرَّاء؛ لأنها اولى ما يربط لتناسها ونمائها ، ذكرهُ الواحديُّ .
ولقائل أن يقول : بل حمل اللَّفظ على الفُحُولِ أولى؛ لأنَّ المقصود برباط الخَيْلِ المحاربة عليها ، والفحول أقوى على الكر والفر والعدو ، فوجب تخصيص هذا اللفظ بها .
ولمَّا تعارض هذان الوجهان وجب حمل اللفظ على مفهومه الأصلي ، وهو كونه خيلاً مربوطاً سواء كانت فحولاً أو إناثاً .
وروي عن خالد بن الوليد « أنه كان لا يركبُ في القتال إلا الإناث ، لقلَّة صهيلها » .
روى ابن محيريز قال : « كان الصَّحابةُ يستحبُّون ذكور الخيل عند الصفوف ، وإناث الخيل عند الشتات والغارات » .
قال عليه الصَّلاة والسَّلام : « الخَيْلُ مَعْقُودٌ بنواصيها الخَيْرُ إلى يومِ القيامةِ الأجْرُ والمَغْنَمُ » وروى أبو هريرة قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « مَن احتبس فرساً في سبيل اللَّهِ إيماناً باللَّهِ ، وتصْديقاً بوعْدِهِ ، كان شبعه وريُّةُ وبولُهُ حسنات في ميزانِهِ يوَْ القيامةِ »
فصل
وهذه الآية تدل على جواز وقف الخيل والسلاح ، واتخاذ الخزائن والخزان [ لها عدة ] للأعداء ، ويؤيدهُ حديث ابن عمر في الفرس الذي حمل عليه في سبيل الله ، وقوله عليه الصلاة والسلام في حقِّ خالد : « وأمَّا خَالدٌ فإِنَّكُم تَظْلمُونَ خالِداً فإنَّه قَد احْتبسَ أدْراعَهُ وأعْتَادَهُ في سبيلِ اللَّهِ » .
وما روي أنَّ امرأة جعلت بعيراً في سبيل اللَّهِ ، فأرادَ زوجُها الحجَّ ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « ادفعيه إليه ليحج عليه فإن الحجَّ فريضةٌ من اللَّهِ » ؛ ولأنَّهُ مال ينتفع به في وجه قربة ، فجاز أن يوقف كالرباع .
ثم إنه تعالى ذكر ما لأجله أمر بإعداد هذه الأشياء . فقال : { تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ } ؛ لأنَّ الكفار إذا علموا كون المسلمين متأهبين للجهاد ، مستعدين له بجميع الأسلحة والآلات هابوهم .
قوله « تُرْهِبُونَ » يجوزُ أن يكون حالاً من فاعل : « أعِدُّوا » ، أي : حَصِّلُوا لهم هذا حال كونكم مُرْهِبين ، وأن يكُون حالاً من مفعوله ، وهو الموصولُ ، أي : أعِدُّوه مُرْهَباً بِهِ .
وجاز نسبته لكلٍّ منهما؛ لأنَّ في الجملة ضميريها ، هذا إذا أعدنا الضمير من « بِهِ » على « ما » الموصولة ، أمَّا إذا أعَدْنَاه على الإعِدادِ المدلُولِ عليه ب « أعِدُّوا » ، أو على « الرِّباط » ، أو على : « القُوَّةِ » بتأويل الحول؛ فلا يتأتَّى مجيئُها من الموصول ، ويجوز أن يكون حالاً من ضمير « لَهُمْ » ، كذا نقله أبو حيَّان عن غيره ، فقال : « تُرْهبون » قالوا : حال من ضمير في « لَهُمْ » ولا رابط بينهما؟ ولا يصحُّ تقدير ضمير في جملة « تُرهبون » لأخذه معموله . وقرأ الحسنُ ويعقوبُ ، ورواها ابن عقيل عن أبي عمرو : « تُرَهَّبُون » مضعَّفاً عدَّاه بالتضعيف ، كما عدَّاه العامَّةُ بالهمزةِ ، والمفعول الثَّاني على كلتا القراءتين محذوف؛ لأنَّ الفعل قبل النَّفْلِ بالهمزة ، أو بالتَّضعيف متعدٍّ لواحد ، نحو : « رَهَّبْتُك » والتقدير : تُرهِّبون عدوَّ اللَّه قتالكم ، أو لقاءكم .
وزعم أبو حاتم أنَّ أبا عمرو نقل قراءة الحسن بياء الغيبة وتخفيف « يُرْهبن » ، وهي قراءة واضحة ، فإنَّ الضمير حينئذٍ يرجع إلى من يرجع إليهم ضمير « لَهُمْ » ، فإنَّهُم إذا خافوا خَوَّفُوا من وراءهم .
قوله « عَدُوَّ اللَّهِ » العامَّة قراءوا بالإضافة ، وقرأ السلميُّ منوناً ، و « لِلَّه » بلام الجرِّ ، وهو مفرد ، والمراد به الجنس ، فمعناه : أعداء لله .
قال صاحبُ اللَّوامح « وإنما جعله نكرةً بمعنى العامَّة؛ لأنَّها نكرةٌ أيضاً لم تتعرَّف بالإضافة إلى المعرفة؛ لأنَّ اسم الفاعل بمعنى الحالِ ، أو الاستقبال ، ولا يتعرَّف ذلك وإن أضيف إلى المعارف ، وأمَّا » وعَدُوَّكُمْ « فيجوزُ أن يكون كذلك نكرة ، ويجوز أن يتعرَّف لأنه قد أُعيد ذكره ، ومثله : رأيت صاحباً لكم ، فقال لي صاحبكم » يعني : أن « عَدُوّاً » يجوز أن يُلمحَ فيه الوصفُ فلا يتعرَّف ، وألاَّ يلمح فيتعرف .
قوله « وآخَرِينَ » نسق على « عَدُوَّ اللَّهِ » ، و « مِن دُونِهِمْ » صفة ل « آخرينَ » .
قال ابن عطيَّة : « مِن دُونِهم » بمنزلة قولك : دون أن تكون هؤلاء ، ف « دون » في كلام العرب ، و « مِنْ دُونِ » تقتضي عدم المذكور بعدها من النَّازلة التي فيها القول؛ ومنه المثل : [ الكامل ]
2730- . . ... وأمِرَّ دُونَ عُبَيْدةَ الوَذَمْ
يعني : أنَّ الظَّرفية هنا مجازية ، لأنَّ « دون » لا بد أن تكون ظرفاً حقيقة ، أو مجازاً .
قوله { لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ } في هذه الآية قولان :
أحدهما : أنَّ « علم » هنا متعدِّيةٌ لواحدٍ؛ لأنها بمعنى « عرف » ، ولذلك تعدَّت لواحد .
والثاني : أنَّها على بابها ، فتتعدى لاثنين ، والثاني محذوفٌ ، أي : لا تعلمونهم فازعين ، أو محاربين .
ولا بُدَّ هنا من التَّنبيه على شيءٍ ، وهو أنَّ هذين القولين لا يجوز أن يكونا في قوله « اللَّهُ يَعْلمُهُم » بل يجب أن يقال : إنَّها المتعدية إلى اثنين ، وأنَّ ثانيهما محذوف ، لما تقدَّم من الفرق بين العِلْم والمعرفة . منها : أنَّ المعرفة تستدعي سَبْقَ جهل ، ومنها : أن متعلقها الذوات دون النسب ، وقد نصَّ العلماءُ على أنهُ لا يجوزُ أن يطلق ذلك - أعني الوصف بالمعرفةِ - على اللَّهِ تعالى .
فصل
قوله تعالى : { وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ } .
قال الحسن وابن زيد : « هم المُنافقون » . « لا تعلمُونَهم » ؛ لأنهم معكم يقولون : لا إله إلا الله وقال مجاهدٌ ومقاتل : « هم بنُو قريظة » وقال السديُّ : « هم أهل فارس » .
وروي ابنُ جريجٍ عن سلمان بن موسى قال : هم كُفَّارُ الجِن ، لما روي « أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : { وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ } فقال : إنَّهم الجنُّ ، ثم قال : » إنَّ الشَّيطانَ لا يُخَبِّل أحداً في دار فيها فرس حبيس « وعن الحسنِ : أنه قال : » صهيلُ الفرس يرهب الجن «
وقيل : المرادُ العدو من المسلمين ، فكما أنَّ المسلم يعاديه الكافر ، فقد يعاديه المسلم أيضاً .
ثم قال تعالى : { وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله } فهذا عام في الجهادِ وفي سائر وجوه الخيرات : » يُوفَّ إليْكُم « .
قال ابنُ عبَّاسٍ : » يُوفَّ لكُم أجره « أي : لا يضيع في الآخرة أجره؛ { وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } أي : لا تنقصون من الثَّواب . ولما ذكر ابن عباس هذا التفسير تلا قوه تعالى { آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئاً } [ الكهف : 33 ] .
قوله تعالى : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا } الآية .
لمَّا بيَّن ما يهرب به العدو من القوة ، بيَّن بعده أنَّهم عند هذا الإرهاب إذا مالوا إلى المصالحة ، فالحكمُ قبولُ المصالحِة ، والجنوحُ : المَيْلُ ، وجَنَحَتِ الإبلُ : أمالت أعناقها؛ قال ذو الرُّمَّةِ : [ الطويل ]
2731 - إذَا مَاتَ فوقَ الرَّحْلِ أحْيَيْتِ رُوحَهُ ... بِذكْراكِ والعِيسُ المَراسِيلُ جُنَّحُ
يقال : جَنَحَ اللَّيْلأُ : أقْبَلَ .
قال النضرُ بن شميلٍ : « جنح الرَّجلُ إلى فلانٍ ، ولفلان : إذا خضع له » والجُنُوح الاتِّباع أيضاً لِتضمُّنه الميل؛ قال النَّابغة - يصفُ طيراً يتبع الجيش : [ الطويل ]
2732 - جَوَانِحُ قَدْ أيْقَنَّ أنَّ قبيلهُ ... إذا ما التقَى الجَمْعَانِ أوَّلُ غَالِب
ومنه « الجَوانِحُ » للأضلاع ، لميلها على حشو الشخص ، والجناحث من ذلك ، لميلانه على الطَّائر ، وقد تقدَّم الكلامُ على بعض هذه المادة في البقرة .
قوله « لِلسَّلْمِ » تقدَّم الكلام على « السلم » في البقرة ، وقرأ أبو بكر عن عاصم هنا بكسر السين ، وكَذا في القتال : { وتدعوا إِلَى السلم } [ محمد : 35 ] ، ووافقه حمزة ما في القتال و « لِلسَّلْم » متعلق ب « جَنَحُوا .
فقيل : يتعدَّى بها ، وب » إلى « .
وقيل : هنا بمعنى » إلى « . وقرأ الأشهبُ العقيليُّ : » فاجْنُحْ « بضمِّ النُّون ، وهي لغة قيس ، والفتح لغة تميم .
والضمير في » لها « يعود على » السلم « ؛ لأنَّها تذكَّرُ وتُؤنث؛ ومن التَّأنيث قوله [ المتقارب ] .
2733 - وأقْنَيْتُ لِلْحربِ آلاتِهَا ... وأعْدَدْتُ للسِّلْمِ أوزارَها
وقال آخر : [ البسيط ]
2734 - السِّلْمُ تأخُذُ مِنْهَا ما رضيتَ بِهِ ... والحَرْبُ يَكْفيكَ منْ أنْفَاسِهَا جُرَعُ
وقيل : أثبت الهاء في » لها « ؛ لأنَّهُ قصد بها الفعلة والجنحة ، كقوله : { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الأعراف : 153 ] أراد : من بعد فعلتهم .
وقال الزمخشريُّ : » السِّلْمُ تُؤنَّث تأنيث نقيضها ، وهي الحربُ « . وأنشد البيت المتقدم : السِّلم تأخذ منها .
فصل
قال الحسنُ وقتادةُ : هذه الآية نسخت بقوله : { فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] .
وقوله { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله } [ التوبة : 29 ] .
وقال غيرهما : ليست منسوخة؛ لكنها تتضمَّنُ الأمر بالصُّلح إذا كان الصلاح فيه ، فذا رأى مصالحتهم ، فلا يجوز أن يهادنهم سنة كاملة وإن كانت القوة للمشركين جاز مهادنتهم عشر سنين ، ولا يجوز الزيادة عليها اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه هادن أهل مكَّة عشر سنين ، ثم إنهم نقضُوا العهد قبل كمال المُدَّة .
وقوله { وَتَوَكَّلْ عَلَى الله } أي : فوِّض الأمر فيما عقدته معهم إلى الله .
{ إِنَّهُ هُوَ السميع العليم } نبَّه بذلك على الزَّجر عن نقض العهد؛ لأنَّهُ عالم بما يضمير العبد سميع لما يقوله .
قال مجاهدٌ : » نزلت في قريظة والنضير « وورودها فيهم لا يمنع من إجرائها على ظاهر عمومها .
قوله تعالى { وَإِن يريدوا أَن يَخْدَعُوكَ } الآية .
أي : يريدوا ان يغدروا ويمكروا بك .
قال مجاهدٌ : يعني : بني قريظة { فَإِنَّ حَسْبَكَ الله هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين } أي : بالأنصارِ .
فإن قيل : لما قال : { هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ } فأي حاجة مع نصره إلى المؤمنين ، حتَّى قال » وبالمؤمنين « .
فالجوابُ : أنَّ التَّأييدَ ليس إلا من الله ، لكنه على قسمين :
أحدهما : ما يحصل من غير واسطة أسباب معتادة .
والثاني : ما يحصلُ بواسطة أسباب معتادة .
فالأول : هو المراد بقوله : « أيَّدكَ بنصْرِهِ » .
والثاني : هو المرادُ بقوله : « وبالمؤمنين » .
ثم بيَّن كيف أيد بالمؤمنين فقال { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } أي : بين الأوس والخزرج ، كانت بينهم إحن وخصومات ، ومحاربة في الجاهليَّة ، فصيَّرهم الله إخواناً بعد أن كانوا أعداءً ، وتبدلت العداوة بالمحبة القوية ، والمخالصة التَّامة ، ممَّا لا يقدر عليه إلاَّ الله تعالى .
{ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : قادر قاهر ، يمكنه التصرف في القلوب ، ويقلبها من العداوة إلى الصداقة ومن النفرة إلى الرغبة ، حكيم يقول ما يقوله على وجه الإحكام والإتقان ، أو مطابقاً للمصلحة والصَّواب على اختلاف القولين في الجبر والقدر .
فصل
احتجوا بهذه الآية على أن أحوال القلوب من العقائد ، والإرادات كلها من خلق الله تعالى؛ لأن تلك الألفة ، والمودة ، إنَّما حصلت بسب الإيمان ومتابعة الرسول - عليه الصلاة والسلام - فلو كان الإيمانُ فعلاً للعبد لا فعلاً لله تعالى ، لكانت المحبَّة المترتبة عليه فعلاً للعبد لا فعلاً لله تعالى ، وذلك خلاف صريح الآية .
فقال القاضي : « لَوْلاَ ألطافُ الله تعالى ساعةً فساعةً ، لما حصلت هذه الأحوال ، فأضيفت تلك المخالصة إلى الله تعالى بهذا التَّأويل ، كما يضافُ علم الولد وأدبه إلى أبيه ، لأجل أنَّه لم يحصل ذلك إلاَّ بمعونة الأبِ وتربيته ، فكذا ههنا » .
وأجيب : بأن كل ما ذكرتموه عدول عن الظاهر ، وحمل الكلام على المجاز ، وأيضاً فكل هذه الألطاف كانت حاصلة في حق الكُفار ، مثل حصولها في حقِّ المؤمنين ، فلو لم يحصل هناك شيء سوى الألطاف؛ لم يكن لتخصيص المؤمنين بهذه المعاني فائدة ، وأيضاً فالبرهانُ العقلي مقوٍّ لهذا الظَّاهر؛ أن القلب يصح أن يصير موصوفاً بالرَّغْبَةِ بدلاً عن النُّفرة والعكس .
فرجحان أحدِ الطَّرفين على الآخر لا بدَّ له من مرجِّح ، فإن كان المرجح هو العبدُ عاد التقسيم وإن كان هو الله تعالى ، فهو المقصود .
فعلم أنَّ صريح هذه الآية متأكد بصريح البرهان العقلي ، فلا حاجة إلى ما ذكره القاضي .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
قوله تعالى : { ياأيها النبي حَسْبُكَ الله } الآية .
لمَّا وعده بالنَّصر عند مخادعة الأعداء ، وعده بالنَّصر والظفر في هذه الآية مطلقاً ، وعلى هذا التقرير لا يلزمِ منه التكرار ، وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال ، والمرادُ بقوله { وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين } الأنصار .
وعن ابنِ عبَّاسٍ : « نزلت في إسلامِ عُمر » .
قال سعيدُ بن جبير : « أسلم مع النَّبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ، ثم أسلم عمر ، فنزلت هذه الآية » .
قال المفسِّرُون : فعلى هذا القول هذه الآية مكية ، [ كتبت في ] سورة مدنية بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قوله « ومن اتَّبعكَ » فيه أوجهٌ .
أحدها : أن يكون « مَنْ » مرفوع المحلِّ ، عطفاً على الجلالة ، أي : يكفيك الله والمؤمنون . وبهذا فسّره الحسن البصري وجماعة وهو الظاهر ولا محذور في ذلك حيث المعنى .
فإن قالوا : من كان الله ناصره امتنع أن يزداد حاله ، أو ينقص بسبب نصرة غير الله ، وأيضاً إسناد الحكم إلى المجموع يوهم أنَّ الواحدَ من ذلك المجموع لا يكفي في حصولِ ذلك المهم وتعالى الله عنه .
ويجابُ : بأنَّ الكُلَّ من اللَّهِ ، إلاَّ أنَّ من أنواع النُّصرة ما يحصل بناء على الأسباب المألوفةِ المعتادةِ ، ومنها ما يحصلُ لا بناءً على الأسباب المألوفة المعتادة؛ فلهذا الفرق اعتبر نصر المؤمنين ، وإن كان بعضُ الناس استصعب كون المؤمنين يكونون كافين النبي صلى الله عليه وسلم وتأوَّل الآية على ما سنذكره .
الثاني : أنَّ « مَنْ » مجرورُ المحلِّ ، عطفاً على الكافِ في : « حَسْبُكَ » ، وهذا رأي الكوفيين وبهذا فسَّر الشعبي وابن زيد ، قالا : « معناه : وحسبُ من اتَّبعك » .
الثالث : أنَّ محلَّه نصبٌ على المعيَّة .
قال الزمخشري : « ومنِ اتَّبعكَ » الواو بمعنى « مع » وما بعدهُ منصوبٌ ، تقول : حَسْبُكَ وزَيْداً درهمٌ ، ولا تَجُرُّ؛ لأنَّ عطف الظّاهر المجرور على المكنيّ ممتنعٌ؛ وقال : [ الطويل ]
2735 - .. . .
فَحَسْبُكَ والضَّحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ ... والمعنى : كَفَاك وكَفَى تُبَّاعكَ المؤمنين اللَّه ناصراً .
قال أبو حيَّان : « وهذا مخالفٌ لكلام سيبويه؛ فإنَّه قال » حَسْبُك وزَيْداً درهم « لمَّا كان فيه معنى : كفاك ، وقبُحَ أن يحملوه على الضمير دون الفعل ، كأنَّهُ قال : حسبك وبحسبِ أخاك » ثم قال : « وفي ذلك الفعل المضمير ضميرٌ يعودُ على الدرهم والنيةُبالدرهم التقديمُ ، فيكون من عطف الجمل ، ولا يجوزُ أن يكون من باب الإعمال ، لأنَّ طلبَ المبتدأ للخبر وعمله فيه ليس من قبيل طلب الفعل ، أو ما جرى مجراه ، ولا عمله فلا يُتوهَّم ذلك فيه » .
وقد سبق الزمخشريَّ إلى كونه مفعولاً معه الزجاج ، إلاَّ أنه جعل « حسب » اسم فعلٍ ، فإنه قال : « حَسْبُ » اسمُ فعل ، والكافُ نصبٌ ، والواو بمعنى « مع » .
وعلى هذا يكون « اللَّهُ » فاعلاً ، وعلى هذا التقدير يجوز في « ومَنْ » أن يكون معطوفاً على الكاف ، لأنَّها مفعول باسم الفعل ، لا مجرورٌ ، لأنَّ اسم الفعل لا يُضاف .
ثم قال أبو حيان : « إلاَّ أنَّ مذهب الزجاج خطأٌ ، لدخول العوامل على » حَسْب « نحو : بِحَسْبك درهم ، وقال تعالى : { فَإِنَّ حَسْبَكَ الله } ، ولم يثبت في موضع كونه اسم فعل ، فيحمل هذا عليه » .
وقال ابنُ عطية - بعدما حكى عن الشعبي ، وابن زيد ما تقدَّم عنهما من المعنى - : ف « مَنْ » في هذا التأويل في محلِّ نصب ، عطفاً على موضع الكاف؛ لأنَّ موضعها نصبٌ على المعنى ب : « يَكْفِيكَ » الذي سَدَّتْ « حسبك » مَسَدَّه .
قال أبو حيان « هذا ليس بجيد؛ لأنَّ » حَسْبك « ليس ممَّا تكونُ الكافُ فيه في موضع نصب ، بل هذه إضافة صحيحة ليست من نصب ، و » حَسْبك « مبتدأ مضافٌ إلى الضمير وليس مصدراً ، ولا اسم فاعل ، إلاَّ إن قيل : إنَّه عطف على التوهم كأنه توهَّم أنه قيل : يكفيك الله ، أو كفاك الله ، لكن العطف على التوهُّم لا ينقاسُ » .
والذي ينبغي أن يحمل عليه كلامُ الشعبي وابن زيد أن تكون « مَنْ » مجرورة ب « حَسْب » محذوفة ، لدلالة « حَسْبك » عليها؛ كقوله : [ المتقارب ]
2736 - أكُلَّ امرىءٍ تَححسَبينَ امْرَأً ... ونارٍ توقَّدُ باللَّيْلِ نَارَا
أي : وكلَّ نار ، فلا يكُونُ من العطفِ على الضمير المجرور .
قال ابن عطيَّة : « وهذا الوجهُ من حذفِ المضاف مكروه بأنه ضرورةٌ » .
قال أبو حيان : « وليس بمكروهٍ ، ولا ضرورة بل أجازه سيبويه ، وخرَّج عليه البيت وغيره من الكلام » .
قال شهابُ الدين : « قوله : » بل هذه إضافةٌ صحيحة ، ليست من نصب « فيه نظر؛ لنَّ النَّحويين على أنَّ إضافة » حَسْب « وأخواتها إضافةٌ غيرُ محضة ، وعلَّلُوا ذلك بأنها في قوة اسم فاعل ناصبٍ لمفعولٍ به ، فإنَّ » حَسْبكَ « بمعنى : كافيك ، و » غيرك « بمعنى مُغايرك ، و » قيد الأوابد « بمعنى : مُقيدها .
قالوا : ويدلُّ على ذلك أنَّها تُوصفُ بها النَّكرات ، فيقال : مررت برجلٍ حسبك من رجلٍ » .
وجوَّز أبو البقاء : الرفع من ثلاثة أوجهٍ : أنَّهُ نسقٌ على الجلالةِ كما تقدَّم ، إلاَّ أنَّهُ قال : فيكون خبراً آخر ، كقولك : القائمان زيد وعمرو ، ولم يُثَنِّ « حَسْبك » ؛ لأنه مصدرٌ .
وقال قومٌ : هذا ضعيفٌ؛ لأن الواو للجمع ، ولا يَحْسُن ههنا ، كما لا يَحْسُن في قولهم : « مَا شَاء اللَّهُ وشِئْتَ » ، « ثم » هاهنا أولى .
يعني أنَّهُ من طريق الأدل لا يُؤتَى بالواو التي تقتضي الجمع ، بل يأتي ب « ثم » التي تقتضي التراخي والاحديثُ دالٌّ على ذلك .
الثاني : أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره : وحسب من اتبعك .
الثالث : هو مبتدأ والخبر محذوف تقديره : ومن اتبعك كذلك ، أي : حسبهم الله .
وقرأ الشعبيُّ « ومَنْ » بسكون النون « أْتْبَعك » بزنة « أكْرَمَكَ » .
قوله تعالى : { ياأيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال } الآية .
لمَّا بيَّن أنه تعالى كافيه بنصره ، وبالمؤمنين ، بيَّن ههنا أنه ليس من الواجب أن يتكل على ذلك إلا بشرط أن يحرض المؤمنين على القتال؛ فإنه تعالى كفيل بالكفاية بشرط أن يحصل منهم التعاون على القتال ، والتحريض كالتحضيض والحث .
يقال : حَرَّضَ وَحَرَّشَ وحرَّكَ وحثَّ بمعنىً واحد .
وقال الهرويُّ « يقال : حَارَضَ على الأمر ، وأكَبَّ ، وواكبَ ، وواظبَ ، وواصبَ بمعنىً » .
قيل : وأصله من الحَرَض ، وهو الهلاك ، قال تعالى : { حتى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين } [ يوسف : 85 ] .
2737 - إنِّي امْرؤٌ نَابَنِي همٌّ فأحْرَضَنِي ... حتَّى بَليتُ وحتَّى شَفَّنِي سَقَمُ
قال الزجاج : « تأويل التحريض في اللُّغةِ أن يُحَثَّ الإنسان على شيءٍ حتى يُعلمَ منه أنَّه حارضٌ والحارض : المقاربُ للهلاك » واستبعد النَّاسُ هذا منه ، وقد نَحَا الزمخشريُّ نحوه ، فقال : « التَّحريضُ : المبالغةُ في الحثِّ على الأمر ، من الحرَض ، وهو أن ينهكه المرض ، ويتبالغ فيه حتى يُشْفِيَ على الموت أو تُسَمِّيه حَرضاً ، وتقولُ له : ما أراك إلاَّ حَرضاً » .
وقرأ الأعمش « حَرِّصْ » بالصاد المهملة ، وهو من « الحِرْصِ » ، ومعناه مقارب لقراءة العامة .
قوله : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ } الآيات .
أثبت في الشرط الأول قيداً ، وهو الصبرُ ، وحذف من الثاني : وأثبت في الثاني قيداً ، وهو كونهم من الكفر ، وحذف من الأوَّلِ ، والتقديرُ : مائتين من الذين كفروا ، ومائة صابرة فحذف من كلٍّ منهما ما أثبت في الآخر ، وهو في غاية الفصاحة .
وقرأ الكوفيون : { وإن يكُنْ منْكُم مائةٌ يَغلِبُوا } ، { فإنْ يكنْ منكُم مائةٌ صابرةٌ } بتذكير « يكن » فيهما ، ونافع وابن كثير وابن عامر بتأنيثه فيهما ، وأبو عمرو في الأولى كالكوفيين وفي الثانية كالباقين .
فَمَنْ ذكَّر فللفصل بين الفعل وفاعله بقوله : « مِنكُمْ » ؛ لأنَّ التأنيث مجازي ، إذ المراد ب « المائة » الذُّكور ، ومنْ أنَّثَ فلأجل اللفظِ ، ولم يلتفت للمعنى ، ولا للفصل .
وأمَّا أبو عمرو فإنَّما فرٌَّ بين الموضعين فذكَّر في الأول ، لما ذكر؛ ولأنَّهُ لحظ قوله : « يغلبوا » وأنَّثَ في الثاني ، لقوة التأنيث بوصفه بالمؤنث في قوله : « صَابِرَةٌ » ، وأمَّا : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ } و { وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ } فبالتذكير عند جميع القرَّاء ، إلاَّ الأعرج ، فإنه أنَّثَ المسند إلى « عشرون » .
فصل
هذا خبرٌ والمراد به الأمر ، كقوله تعالى : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [ البقرة : 233 ] .
والمعنى : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ } فليصبروا وليجتهدوا في القتالِ حتَّى « يَغلبُوا مائتيْنِ » ويدلُّ على أن المراد الأمر وجوه .
أولها : لو كان المرادُ الخبر ، لزم أن يقال لم يغلب قط مائتان من الكُفَّارِ عشرين من المؤمنين ، وذلك باطل .
وثانيها : قوله تعالى : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ } نسخ والنسخُ لا يليق إلاَّ بالأمر .
وثالثها : قوله تعالى { والله مَعَ الصابرين } وذلك ترغيب في الثبات على الجهادِ .
فصل
قوله تعالى : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ } يدُلُّ على أنَّهُ تعالى ما أوجبَ هذا الحكم إلاَّ بشرط كونه صابراً قادراً على ذلك ، وإنَّما حصل هذا الشَّرط عند حصول أشياء .
منها : أن يكون شديد الأعضاء ، قوياً جلداً ، وأن يكون قوي القلب شجاعاً غير جبان ، وأن يكون غير متحرّفٍ إلاَّ لقتال أو متحيزاً إلى فئة؛ فعند حصول هذه الشرائط كان يجبُ على الواحد أن يثبتَ للعشرةِ .
وإنَّما حسن هذا التكليف؛ لأنه مسبوق بقوله : { حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين } [ الأنفال : 64 ] فلمَّا وعد المؤمنين بالكفاية والنُّصرةِ كان هذا التكليف سهلاً؛ لأنَّ من تكفَّل بنصره فإن أهل العالم لا يقدرون على إيذائه .
فإن قيل : هذه الآية تدلُّ على جوب ثبات الواحد للعشرة ، فما الفائدة في العدولِ عن هذه اللَّفظةِ الوجيزة إلى تلك الكلمات الطويلة؟ .
والجوابُ : أن هذا الكلام إنَّما ورد على وفْق الواقعة؛ لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث السَّرايا ، والغالبُ أن تلك السَّرايا ما كان ينتقص عددها عن العشرين ، وما كانت تزيدُ على المائة فلهذا ذكر الله هذين العددين .
قوله : { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } وهذا كالعَّة لتلك الغلبة؛ لأنَّ من لا يؤمنُ باللَّهِ ولا يؤمنُ بالمعاد ، فالسعادةُ ليست عنده إلاَّ هذه الحياة الدنيويَّة ، ومن كان هذه معتقده فإنه يشح بهذه الحياة ولا يعرضها للزوال .
وأمَّا من اعتقد أن لا سعادة في هذه الحياة وأنَّ السعادة لا تحصل إلاَّ في الدَّار الآخرة ، فإنَّه لا يبالي بهذه الحياة الدنيا ، ولا يقيم لها وزناً ، فيقدم على الجهاد بقلب قوي عزم صحيح ، وإذا كان الأمر كذلك ، كان الواحد في الثبات يقاوم العدد الكثير .
وأيضاً : فإن الكُفَّار إنَّما يعولُون على قوتهم وشوكتهم ، والمسلمون يستغيثون بربهم بالدعاء ، والتضرع ، ومنْ كان كذلك كان النصر الظفر به أليق وأولى .
فصل
كان هذا يوم بدر فرض الله على الرَّجل الواحد من المؤمنين قتال عشرة من الكافرين فثقلت على المؤمنين ، فخفَّف اللَّهُ عنهم فقال : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } في الواحد عن قتال العشرة وفي المائة عن قتال الألف .
وقرأ المفضل عن عاصم « وعُلِمَ » مبنياً للمفعول ، و { أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } في محلِّ رفع لقيامه مقام الفاعل ، وهو في محلِّ نصبِ على المفعول به في قراءة العامة؛ لأن فاعل الفعل ضميرٌ يعودُ على اللَّهِ تعالى .
قوله : « ضَعْفاً » قرأ عاصم وحمزة هنا ، وفي الرُّوم في كلماتها الثلاث { الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً } [ الروم : 54 ] بفتح الضاد والباقون بضمها . وعن حفص وحده خلافٌ في الروم .
وقرأ عيسى بن عمر : « ضُعُفاً » بضم الضاذ والعين وكلها مصادر .
وقيل : الضَّعْفُ - بالفتح - في الرأي والعقل ، وبالضم في البدن .
وهذا قول الخليل بن أحمد ، هكذا نقله الراغب عنه . ولمَّا نقل ابنُ عطية هذا عن الثعلبي ، قال : « وهذا القول تردُّه القراءة » . وقيل : هما بمعنى واحد ، لغتان : لغةُ الحجاز الضَّمُّ ، ولغةُ تميم الفتح ، نقله أبو عمرو ، فيكونان ك : الفَقْر والفُقْر ، والمَكْث والمُكْث ، والبَخَل والبُخْل .
وقرأ ابن عباس فيما حكى عنه النقاش وأبو جعفر « ضُعَفَاء » جمعاً على « فُعَلاءَ » ك « ظَرِيف وظُرفُاء .
قوله » يكُن مِنكُم « » يكن « في هذه الأماكن يجوز أن تكون التامَّة ، ف » مِنكُمْ « إمَّا حالٌ من » عِشْرثون « لأنها في الأصل صفةٌ لها ، وإمَّا متعلق بنفس الفعل ، لكونه تاماً ، وأن تكون الناقصة فيكون » مِنكُمْ « الخبرَ ، والمرفوعٌ الاسمَ ، وهو » عِشْرُونَ « ، و » مائة « ، و » ألف « .
فصل
روى عطاءٌ عن ابن عبَّاسٍ : » لما نزلت التكليف الأوَّلُ ضَجَّ المهاجرون ، وقالوا : يا ربَّنا نحن جياع ، وعدونا شباع ، ونحن في غربة وعدونا في أهلهم ، ونحن قد أخرجنا من ديارنا وأموالنا ، وعدونا ليس كذلك ، وقال الأنصارُ : شُغلْنَا بعَدُوِّنَا ، وواسينا إخواننا ، فنزل التَّخفيف « .
وقال عكرمةُ : » إنَّما أمر الرجل أن يصبر لعشرة ، والعشرةُ لمائةٍ حال ما كان المسلمون قليلين ، فلمَّا كثروا خفف الله عنهم ، ولهذا قال ابن عباس : « أيُّمَا رجلٌ فرَّ من ثلاثة فلم يفر ، فإن فر من اثنين فقد فَرَّ » . والجمهورُ ادَّعُوا أن قوله : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ } ناسخ للآية المتقدمة « .
وأنكر أبو مسلم الأصفهانيُّ هذا النسخ ، وقال : » إن قوله في الآية الأولى : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } فهذا الخبر محمول على الأمر ، لكن بشرط كون العشرين قادرين على الصَّبر لمُقاتلةِ المائتين ، وقوله : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } يدلُّ على أنَّ ذلك الشرط غير حاصل في حقِّ هؤلاء ، فالآية الأولى دلَّت على ثبوت حكم بشرط مخصوص ، وهذه الآية دلَّت على أنَّ ذلك الشَّرط مفقود في حقِّ هذه الجماعة ، فلا جرم لم يثبت ذلك الحكم ، وعلى هذا التقدير لم يحصل النسخ ألبتة « .
فإن قيل : قوله تعالى : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } معناه : ليكن العشرون صابرون لمقابلة المائتين ، وعلى هذا التقدير فالنسخ لازم .
فالجوابُ : لم لا يجوزُ أن يكون المرادُ من الآية إن حصل عشرون صابرون في مقابلة المائتين فليشتغلوا بجهادهم؟
والحاصلُ أنَّ لفظ الآية ورد بلفظ الخبر؛ خالفنا هذا الظَّاهر وحملناه على الأمر ، أما على رعاية الشرط فقد تركناه على ظاهره ، وتقديره : إن يحصل منكم عشرون موصوفون بالصبر على مقاومة المائتين ، فليشتغلوا بمقاومتهم ، وعلى هذا فلا نَسْخَ .
فإن قيل : قوله : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ } مشعر بأن هذا التَّكليف كان متوجهاً عليهم فالجوابُ : لا نسلم أنَّ لفظ التخفيف يدلُّ على حصول التثقيل قبله؛ لأنَّ عادة العرب الرخصة بهذا الكلام ، كقوله تعالى عند الرُّخْصَةِ للحر في نكاح الأمة ، لمن لا يستطيع نكاح الحرة : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً } [ النساء : 25 ] فكذا ههنا .
وتحقيقه أنَّ هؤلاء العشرين كانوا في محلِّ أن يقال إنَّ ذلك الشرط حاصِلٌ فيهم ، فكان ذلك التكليف لازماً عليهم فلمَّا بيَّن اللَّهُ تعالى أنَّ ذلك الشرط غير حاصل فيهمن وأنَّه تعالى علم أن فيهم ضعفاً لا يقدرون على ذلك الشرط غير حاصل فيهم ، وأنَّه تعالى علم أن فيهم ضعفاً لا يقدرون على ذلك فقد تخلصوا عن ذلك الخوف ، فصحَّ أن يقالك خفَّف اللَّهُ عنهم ، وممَّا يدل على عدم النَّسْخِ أنَّهُ تعالى ذكر هذه الآية مقارنة للآية الأولى ، وجعل النَّاسِخ مقارناً للمنسوخ لا يجوزُ .
فإن قيل : المعتبر في النَّاسخِ والمنسوخ بالنُّزُولِ دون التلاوة ، فقد يتقدم الناسخ وقد يتأخرن ألا ترى في عدة الوفاة الناسخ مقدم على المنسوخ .
فالجوابُ : أنَّ الناسخ لمَّا كان مقارنته للمنسوخ لا يجوز في الوجود ، وجب ألا يكون جائزاً في الذكر ، اللهم إلاَّ لدليل قاهر ، وأنتم ما ذكرتم ذلك . وأمَّا قوله في عدة الوفاة الناسخ مقدم على المنسوخ ، فأبوا مسلم ينكر كلّ أنواع النسخ في القرآن فكيف يمكن إلزام هذا الكلام عليه؟ فهذا تقرير قول أبي مسلم .
قال ابن الخطيب : « إن ثبت إجماع الأمَّة على الإطلاق قبل أبي مسلمٍ على النَّسْخِ فلا كلام ، فإن لم يحصل الإجماعُ القاطع؛ فنقولُ : قول أبي مسلمٍ حسن صحيح » .
فصل
احتجَّ هشام على قوله : إنَّ الله تعالى لا يعلم الجزئيات إلاَّ عند وقوعها بقوله { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } فإنَّ معنى الآية : الآن علم اللَّهُ أن فيكم ضَعْفاً ، وهذا يقتضي أنَّ علمه تعالى بضعفهم ما حصل إلاَّ في هذا الوقتِ
وأجاب المتكلمون بأنَّ معنى الآية : أنَّهُ تعالى قبل حدوث الشيء لا يعلمه حادثاً واقعاً .
فقوله { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } معناه : أن الآن حصل العلم بوقوعه وحصوله ، وقبل ذلك كان الحاصل هو العلم بأنه سيقع او سيحدث .
فصل
الذي استقر عليه حكم التكليف بمقتضى هذه الآية أنَّ كلَّ مسلم بالغ مكلف وقف بإزاء كافرين ، عبداً كان أو حراً فالهزيمة عليه محرمة ما دام معه سلاح يقاتل ، فإن لم يبق معه سلاح ، فله أن ينهزم ، وإن قاتله ثلاثة حلت له الهزيمةُ والصبر أحسن .
روى الواحديُّ في البسيط : « أنه وقف جيش مؤتة ، وهم ثلاثة ألاف وأمراؤهم على التَّعاقب زيد بن حارثة ثمَّ جعفر بن أبي طالب ثمَّ عبد الله بن رواحة لمائتي ألف من المشركين ، مائة ألأف من الرُّومِ ، ومائة ألف من المستعربة ، وهم لخم وجذام » .
قوله : « بإذنِ اللَّهِ » أي : أنه لا تقع الغلبةُ إلاَّ بإذن اللَّهِ ، والإذن ههنا هو الإرادة وذلك يدل على مسألة خلق الأفعال ، وإرادة الكائنات .
ثم ختم الآية بقوله : { والله مَعَ الصابرين } والمرادُ ما ذكره في الآية الأولى في قوله { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } فبيَّن ههنا أنَّ الله مع الصَّابرين والمقصود أن العشرين لو صبروا ووقفوا ، فإنَّ نصري معهم وتوفيق مقارن لهم وهذا يدلُّ صحَّة مذهب أبي مسلم ، وهو أن ذلك الحكم لم ينسخ ، بل هو ثابت كما كان فإنَّ العشرين إن قدروا على مصابرة المائتين ، بقي ذلك الحكم ، وإنْ لم يقدروا على مصابرتهم فالحكمُ المذكور هنا زائل .
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
قوله تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى } الآية .
قرأ أبو عمرو « تكون » بالتأنيث ، مراعاةً لمعنى الجماعة ، والباقون بالتَّذكير ، مراعاةً للفظ الجمع ، والجمهورُ هنا على « أسْرَى » وهو قياس « فعيل » بمعنى « مفعول » دالاَّ على أنه ك : جَريح وجَرْحَى .
وقرأ ابنُ القعقاع والمفضَّل عن عاصم « أسَارَى » شبَّهُوا « أسير » ب : « كَسْلان » فجمعوهُ على « فُعَالَى » كَ : « كُسَالَى » ، كما شَبَّهُوا به « كسلان » فجمعوه على « كَسْلَى » ، وقد تقدَّم القولُ فيهما في البقرة .
قال الزمخشري : « وقرىء » ما كان للنَّبي « على التعريف »
فإن قيل : كيف حسن إدخال لفظه « كان » على لفظة « يكون » في هذه الآية؟ فالجوابُ : قوله « مَا كَان » معناه النفي والتنزيه ، أي : ما يجب وما ينبغي أن يكون المعنى المذكور ، كقوله : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } [ مريم : 35 ] .
قال أبو عبيدة « يقول : لم يكن لنبي ذلك ، فلا يكن لك ، ومن قرأ { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ } فمعناه : أنَّ هذا الحكم ما كان ينبغي حصوله لهذا النبي ، وهو محمد عليه الصلاة والسلام » .
قوله : « حتَّى يُثخِنَ » قرأ العامَّةُ « يُثْخنَ » مخففاً ، عدوهُ بالهمزة .
وقرأ أبُو جعفر ويحيى بن وثاب ويحيى بن يعمر « يُثَخِّنَ » بالتشديد ، عدوهُ بالتضعيف ، وهو مشتقٌّ من الثَّخانة ، وهي الغِلَظ والكثافة في الأجسام ، ثمَّ يُسْتَعار ذلك في كثرة لاقتل ، والجراحات ، فيقال : أثْخَنَتْه الجراح ، أي : أثقلته حتى أثْبَتَتْه ، ومنه « حتَّى إذا أثخنتموهم » .
وقيل : حتى يقهر ، والإثخان : القهرُ .
وأنشد المفضلُ : [ الطويل ]
2738 - تُصَلِّي الضُّحَى ما دَهْرُهَا بتَعَبُّدٍ ... وقَدْ أثْخَنَتْ فرعَونَ في كُفُرِهِ كُفْرَا
كذا أنشده الهروي شاهداً على القهر ، وليس فيه معنى ، إذا المعنى على الزِّيادة والمبالغةِ المناسبةِ لأصل معناه ، وهي الثَّخانة .
ويقال منه : ثَخُنَ يَثْخُنُ ثَخَانَة فهو ثَخِين ، ك : ظَرُفَ يَظْرُف ظَرَافَةً ، فهو ظريفٌ .
قوله { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا والله يُرِيدُ الآخرة } . الجمهورعلى نصب « الآخرة » .
وقرأ سليمانُ بن جماز المدني بجرِّها ، وخُرِّجتْ على حفِّ المضاف وإبقاء المضاف إليه على جرِّه . وقدَّره بعضهم عرض الآخرة ، فعيب عليه؛ إذْ لا يحسن أن يقال : والله يريد عرض الآخرة فأصلحه الزمخشريُّ بأنْ جعلهُ كذلك؛ لأجل المقابلة ، قال : « يعني ثوابها » وقدَّره بعضهم ب « أعمال » ، أو « ثواب » ، وجعله أبُو البقاءِ كقول الآخر : [ المتقارب ]
2739 - . ... ونَارٍ توقَّدُ باللَّيْلِ نَارَا
وقدَّر المضاف : « عَرَضَ الآخِرَةِ » .
قال أبُو حيان : « ليست الأيةُ مثل البيت ، فإنهُ يجوزُ ذلك ، إذَا لمْ يُفْصل بين حرف العطف وبين المجرور بشيء كالبيت ، أو يفصل ب » لا « نحو : » ما مثل زيد ولا أخيه يقولان لك « أمَّا إذَا فُصِل بغيرها كهذه القراءةِ فهو شاذٌّ قليل » .
قال الزجاج : « أسْرَى » جمع ، و « أسَارَى » جمع الجمع . والإثخان : قال الواحديُّ : « الإثخان » في كُلِّ شيء : عبارة عن قوَّته وشدَّته .
يقال : قد أثخنه المرض : إذا اشتد قوة المرض عليه وكذلك أثخنته الجراح .
فقوله : { حتى يُثْخِنَ فِي الأرض } أي : حتى يقوى ويشتد ويغلب ويقهر .
قال أكثر المفسرين : المرادُ منه : أين يبالغ في قتل أعدائه ، قالوا : وإنَّما جعلنا اللَّفظ يدل عليه؛ لأنَّ الملك والدولة إنما تقوى وتشتد بالقتل؛ قال الشَّاعرُ :
2740 - لا يَسْلَمُ الشَّرَفُ الرَّفيعُ من الأذَى ... حتَّى يُراقَ على جوانبِهِ الدَّمُ
وكثرة القتل توجب قوة الرهب وشدة المهابة ، وكلمة « حتّى » لانتهاء الغايةِ ، فقوله { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض } يدُلُّ على أنَّ بعد حصول الإثخان في الأرض فله أن يقدم على الأسارى .
وقوله : { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا } المرادُ منه : الفداء ، وإنّضما سمى منافع الدنيا عرضاً؛ لأنَّهُ لا ثبات له ولا دوام ، فكأنه يعرض ثم يزول ، ولذلك سمَّى المتكلمون الأعراض أعراضاً ، لأنها لا ثبات لها كثبات الأجسام؛ لأنها تطرأ على الأجسام ، وتزول عنها والأجسام باقية .
وقوله : { والله يُرِيدُ الآخرة } أي : أنه تعالى لا يريدُ ما يفضي إلى السعادات الدنيوية التي تعرض وتزول ، وإنَّما يريد ما يفضي إلى السعادات الأخروية الدائمة الباقية المصونة عن التبدل والزوال .
ثم قال : { والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : إن طلبتم الآخرة لم يغلبكم عدوكم؛ لأنَّ الله عزيز لا يقهر ولا يغلب ، حكيم في تدبير مصالح العالم .
قال ابنُ عبَّاسٍ : « هذا الحكم إنَّما كان يوم بدر؛ لأنَّ المسلمين كانوا قليلين ، فلما كثروا وقوي سلطانهم أنزل اللَّهُ بعد ذلك في الأسارى : { حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } [ محمد : 4 ] .
قال ابنُ الخطيبِ : » هذا الكلامُ يوهم أنَّ قوله : { فَإِمَّا مَنَّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } يزيدُ على حكم الآية التي نحن في تفسيرها ، وليس الأمر كذلك؛ لأنَّ كلتا الآيتين متوافقتان ، فإنهما يدلان على أنه لا بد من تقديم الإثخان ، ثم بعده أخذ الفداء « .
فصل
احتج الجبائيُّ والقاضي بهذه الآية على فساد قول من يقول : كلُّ ما يكون من العبد فاللَّهُ يريدُه؛ لأنَّ هذا الأسر وقع منهم على هذا الوجه ، ونصَّ اللَّهُ على أنَّهُ لا يرييده ، بل يريد منهم ما يؤدي إلى ثواب الآخرة وهو الطاعة .
وأجيبوا : بأنه تعالى ما أراد أن يكون هذا الأمر منهم طاعة وعملاً جائزاً مأذوناً فيه ، فلا يلزم من نفي الإرادة كون هذا الأمر طاعة ، نفي كونه مراد الوجود .
فصل
روي عن عبد الله بن مسعود قال : « لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم » ما تقُولُون في هؤلاءِ الأسْرَى « فقال أبو بكر : يا رسول الله قومك وأهلك اسْتَبْقِهِمْ ، واستأن بهم لعلَّ الله أن يتوب عليهم ، وخُذْ منهم فدية تكون لنا قوة على الكُفَّارِ .
وقال عمرُ : يا رسول الله : كذبوك وأخرجوك ، فَدَعْنَا نضرب أعناقهم ، مكِّن عليّاً مِنْ عقيلٍ فيَضْرب عنقَهُ ، ومكْنِي من فلانٍ : » نَسيباً لِعمَرَ « فأضْرِبَ عُنُقَهُ ، فإن هؤلاء أئِمَّةُ الكفرِ .
وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله انظر وادياً كثير الحطب؛ فأدخلهم فيه ، ثم أضرم عليهم ناراً ، فقال له العباس : قطعت رحمك . فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم ، ثم دخل فقال ناس : يأخذ بقول أبي بكر ، وقال ناس : يأخذ بقول عمر ، وقال ناس : يأخذ بقول ابن رواحة ، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال » إنَّ اللَّهَ ليليِّن قلوب رجال حتَّى تكون ألين من اللبن ، ويشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم ، قال : { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ إبراهيم : 36 ] ومثلك يا أبا بكر كمثل عيسى ، قال : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } [ المائدة : 118 ] ومثلك يا عمر ، كمثل نوح ، قال : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] ومثلك كمثل موصى ، قال : { رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ واشدد على قُلُوبِهِمْ } [ يونس : 88 ] الآية «
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أنتم اليوم عالة فلا ينقلبن أحد منهم إلاَّ بفداء أو ضرب عنق « .
قال عبد الله بن مسعود : إلا سهيل بن بيضاء ، فإني سمعته يذكر الإسلام فسكت رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع عليَّ الحجارة من السماء من ذلك اليوم ، حتَّى قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : إلا سهيل بن بيضاء .
قال ابن عباس : قال عمر بن الخطاب : فَهَوِيَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكرٍ ولمْ يَهْوَ ما قلت ، فلمَّا كان من العد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعديْن يبكيانِ ، قلتُ : يا رسُول الله ، أخبِرْنِي مِنْ أيِّ شيءٍ تَبْكِي أنتَ وصاحبُكَ ، فإنْ وجَدْتُ بكاءً بكَيْتُ ، وإنْ لَمْ أجِدْ بكاءً تَباكَيْتُ لبكائِكُما .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم » أبكي للَّذي عَرَ عليَّ أصحابُكَ مِنْ أخذهم الفداءَ ، لقد عُرِضَ عليَّ عذابُهُم أدْنَى مِنْ هذه الشجَّرةِ « شجرةٍ قريبةٍ مِنَ النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل اللَّهُ عزَّ وجلَّ { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض } إلى قوله : { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً } وأحَلَّ الله الغنيمةَ لهُمْ .
وكان الفداء لكل أسيرٍ أربعين أوقية ، والأوقيةُ : أربعون ردهماً .
قوله : { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
قال ابنُ عباسٍ : كانت الغنائمُ حراماً على الأنبياء؛ فكانُوا إذَا أصابوا مَغْنَماً جعلوه للقربان فكانت تتنزل نار من السماءِ فتأكله ، فلمَّا كان يوم بدر أٍرع المؤمنون في الغنائم ، وأخذ الفداء ، وفأنزل اللَّهُ تعالى : { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ } .
يعني : لولا قضاء من الله سبق في اللوح المحفوظ بأنَّهُ تحلُّ لكم الغنائم لمَسَّكُم العذاب .
وهذا مشكل؛ لأنَّ تحليل الغنائم والفداء ، هل كان حاصلاً في ذلك الوقت ، أو ما كان حاصلاً فيه؟ فإن كان ذلك التَّحليل والإذن حاصلاً في ذلك الوقت امتنع إنزال العذاب عليهم؛ لأنَّ ما كان مأذوناً فيه من قبل الشرع لم يحصل العقابُ على فعله .
وإن قلنا : إنَّ الإذن ما كان حاصلاً في ذلك الوقت كان ذلك الفعل حراماً في ذلك الوقت ، أقصى ما في الباب أنَّهُ سيحكم بحله بعد ذلك ، إلاَّ أنَّ هذا لا يقدح في كونه حراماً في ذلك الوقت .
فإن قالوا : إنَّ كونه بحيثُ يصير بعد ذلك حلالاً ، يوجبُ تخفيف العقابِ .
قلنا : فإذا كان الأمر كذلك امتنع إنزال العقاب بسببه ، وذلك يمنع من التخويف بسبب ذلك العقاب .
قال ابنُ العربيِّ : « في هذه الآية دليلٌ على أنَّ العبد إذا اقتحم ما يعتقده حراماً ممَّا هو في علم اللَّه حلال له لا عقوبة عليه ، كالصَّائم إذا قال : هذا يوم نَوْبي فأفطر الآن ، وتقولُ المرأة : هذا يوم حيضتي فأفطر ، ففعلا ذلك ، وكان النوب والحيضُ الموجبان للفطر ، فمشهور المذهب أن فيه الكفارة ، وهو قول الشافعيِّ .
وقال أبُو حنيفة : لا كفارة عليه . وجه الأوَّل أنَّ طريق الإباحة لا يثبت عذراً غير عقوبة التَّحْريمِ عند الهتكِ ، كما لَوْ وَطىء امرأة ثمَّ نكحها .
ووجه قول أبي حنيفةَ : أنَّ حرمة اليوم ساقطة عند الله - عزَّ وجلَّ - ، فصادق الهَتْكَ محلاًّ لا حرمةَ له في عِلْمِ اللَّه تعالى ، كما لو قصد وطء امرأة زُفَّت إليه ، وهو يعتقدُ أنَّها ليست بزوجةٍ له فإذا هي زوجته » .
قال القرطبيُّ : « وهذا أصحُّ » .
وقال ابن جريح : « لولا كتابٌ من اللَّهِ سبقَ » أنَّهُ لا يضلُّ قوماً بعد إذْ هداهم حتَّى يبين لهم ما يتقون ، وأنَّهُ لا يأخذ قوماً فعلوا شيئاً بجهالة ، وأنَّهُ لا يعذب إلا بعد النهي ، لعذبكم فيما صنعتم ، وأنَّهُ تعالى ما نهاهم عن أخْذِ الفداءِ . وهذا أيضاً ضعيفٌ؛ لانَّا نقول حاصل هذا القول أنه ما وجد دليل شعري يوجب حرمة ذلك افداء . فهل حصل دليل عقليّ يقتضي حرمته أم لا؟
فإن قلنا : حصل ، فيكون اللَّهُ تعالى قد بيَّن تحريمه بواسطة ذلك الدَّليل العقلي ، فلا يمكن أن يقال : إنَّهُ تعالى لم يُبيَِّن تلك الحرمة ، وإن قلنا : إنه ليس في العقل ولا في الشَّرع ما يقتضي المنع؛ فحينئذ امتنع أن يكون المنع حاصلاً وإذا كان الإذن حاصلاً فكيف يمكن ترتيب العقاب على فعله؟
وقال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير : { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ } أنَّهُ لا يعذِّب أحداً شهد بدراً مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وهذا أيضاً مشكلٌ؛ لأنَّهُ يقتضي أن يقال : إنهم ما منعُوا عن الكُفْرِ والمعاصي والزِّنا والخمر ، وما هددوا بترتيب العذابِ على هذه القبائح ، وذلك يوجبُ سقوط التَّكاليف عنهم ، ولا يقوله عاقل ، وأيضاً فلو كان كذلك ، فكيف أخذهم اللَّهُ في ذلك الموضع بِعَيْنه في تلك الواقعةِ بعينها؟
قال ابنُ الخطيب : « واعلمْ أنَّ النَّاس أكثروا فيه ، والمعتمد في هذا الباب أن نقول :
أمَّا على قول أهل السنة : فيجوز أن يعفُو اللَّهُ عن الكبائر .
========================
ج36.
ج36.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
فقوله { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ } لولا أنه تعالى حكم في الأزل بالعفو عن هذه الواقعة لمَسَّهُم عذاب عظيم ، وهذا هو المراد من قوله { كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة } [ الأنعام : 54 ] وقوله « سبقت رحمتي غضبي » .
وأمَّا على قول المعتزلة : فهم لا يجوزون العفو عن الكبائر ، فكان معناه { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ } في أنَّ من احترزَ عن الكبائر صارت صغائره مغفورة ، وإلاَّ لمسَّهُم عذابٌ عظيمٌ ، وهذا الحكمُ وإن كان ثابتاً في حقِّ جميع المسلمين ، إلاَّ أنَّ طاعات أهل بدر كانت عظيمة ، وهو قبولهم الإسلام ، وانقيادهم لمحمَّدٍ ، وإقدامهم على مقاتلة الكفار من غير سلاح وأهبة فلا يبعد أن يقال : إنَّ الثَّواب الذي استحقُّوهُ على هذه الطاعات كان أزيدَ من العقاب الذي استحقوه على هذا الذنب ، لا جرمٍ صار هذا الذنب مغفوراًن ولو قدّرْنا صدور هذا الذنب من المسلمين ، لما صار مغفوراً ، فبسبب هذا القدر من التفاوت ، حصل لأهْلِ بدر هذا الاختصاص « .
قال ابن إسحاق : لم يكن من المؤمنين أحدٌ ممَّن حضر إلاَّ أحبَّ الفداء ، إلاَّ عمر بن الخطاب فإنه أشار على رسُول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الأسرى ، وسعد بن معاذ قال : يا نَبِيَّ الله الإثْخَان في القَتْلِ أحب إليَّ من استبقاءِ الرِّحالِ ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم » لو نزل من السَّماءِ عذابٌ لما نَجَا منه غير عمر بن الخطاب ، وسعد بن معاذ «
قوله تعالى : { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً } الآية .
روي أنهم أمسكوا أيديهم عمَّا أخذُوا من الفداء ، فنزلت هذه الآية .
فإن قيل : ما معنى » الفاء « في قوله : » فَكُلُوا « ؟ فالجوابُ : التقدير قد أبحت لكم الغنائم فكلوا .
و » مَا « يجُوزُ أن تكون مصدرية ، والمصدرُ واقعٌ موقع المفعول ، ويجوزُ أن تكون بمعنى » الَّذي « وهو في المعنى كالذي قبله ، والعائد على هذا محذوف .
وقوله : « حَلاَلاً » نصبٌ على الحَالِ ، إمَّا من ما الموصولةِ ، أو من عائدها إذَا جعلناها اسمية .
وقيل : هو نعتُ مصدرٍ محذوف ، أي : أكْلاً حلالاً .
وقوله : « واتَّقُوا » قال ابنُ عطية : « وجاء قوله : » واتَّقُوا اللَّهَ « اعتراضاً فصيحاً في أثناء القولِ؛ لأنَّ قوله : { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } متصلٌ بقوله : { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ } يعني : أنه متصلٌ به من حيث إنه كالعلة له . والمعنى : واتقوا اللَّهَ ولا تُقْدِمُوا بعد ذلك على المعاصي واعلموا أنَّ اللَّه غفور لما أقدمتم عليه من الزلة » .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
قوله تعالى : { ياأيها النبي قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى } الآية .
لمَّا أخذ الفداء من الأسارى ، وشق عليهم أخذ أموالهم ، ذكر اللَّهُ تعالى هذه الآية استمالة لهم .
قوله : « مِنَ الأسْرَى » قرأه أبو عمرو بزنة « فُعَالى » والباقون بزنة « فَعْلضى » وقد عُرِفَ ما فيهما .
ووافق أبا عمرو قتادة ونصر بن عاصم وابن أبي إسحاق وأبو جعفر . واختلف عن الجحدري والحسن . وقرأ ابنُ مُحَيْصنٍ « مِنْ أسْرَى » منكَّراً .
قوله : « يُؤتِكُمْ » جواب الشَّرط . وقرأ الأعمشُ « يُثِبْكم » من الثَّواب ، وقرأ الحسنُ وأبو حيوة وشيبة وحميد « مِمَّا أخَذَ » مبنياً للفاعل ، وهو الله تعالى .
فصل
وهذه الآية نزلت في العباس بن عبد المطلب؛ وكان قد أسر يوم بدر .
وكان أحد العشرة الذين ضمنوا إطعام أهل بدر ، وكان يوم بدر نوبته ، وكان خرج بعشرين وقية من ذهب ليطعم بها النَّاسَ ، فأراد أن يطعم ذلك اليوم فاقتتلوا وبقيت العشرون أوقية معه ، فأخذت منه في الحرب ، فكلَّم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحسب العشرين أوقية من فدائه فأبى وقال : « أما شيء خرجت تستعين به علينا ، فلا أتركه » وكلفه فداء ابني أخويه عقيل بن أبي طالبٍ ، ونوفل بن الحارث ، فقال العبَّاسُ : يا محمَّدُ تركتني أتكَفَّفُ قريشاً ما بقيت؟ .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « وأيْنَ الذهبُ الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكَّة ، فقلت لها : إني لا أدري ما يُصيبني في وجهي هذا فإن حدث لي حدث ، فهو لك ولعبد الله ولعبيد الله والفضل وقُثَم » يعني : بنيه .
« فقال العبَّاس : وما يُدْريك؟ قال : » أخبرني به ربِّي «
قال العباسُ : أشهد أنَّك صادق وأن لا إله إلاَّ الله ، وأنَّك عبده ورسوله ، والله لم يطلعْ عليه أحدٌ إلاَّ الله ، ولقد رفعته إليها في سوادِ الليلِ ، وقد كنتُ مُرْتَاباً في أمرك ، فأمَّا إذْ أخبرتني بذلك ، فلا ريب .
فذلك قوله عز وجل : { ياأيها النبي قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى } الذين أخذتم منهم الفداء { إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً } أي : إيماناً : { يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ } من الفداء : » ويغْفِرْ لَكُمْ « ذنوبكم : { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } قال العباس فأبدلني اللَّهُ عنها عشرين عبداً كلهم تاجر بمالي ، وإنَّ أدناهم يضرب بعشرين ألف درهم مكان العشرين أوقية ، وأعطاني ومزم ، وما أحب أنَّ لي بها جميع أموالهم أهل مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربي .
قال قوم : إنَّها في العباس خاصة ، وقال آخرون : إنَّها نزلت في الكلِّ ، وهذا أولى لقوله تعالى : { قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى } ، ولقوله » مِنَ الأسْرَى « ، ولقوله » فِي قُلوبكم « ولقوله : يُؤتِكُمْ خَيْراً » ، ولقوله « مِمَّا أخذَ منكُمْ » ، وقوله : « ويَغْفِر لكُمْ » ، أٌصى ما في الباب أن يقال : سبب نزول الآية هو العباسُ ، إلاَّ أنَّ العبرة بعموم اللَّفْظِ لا بخصوص السَّبَبِ .
فصل
احتج هشام بن الحكم على أنَّهُ تعالى لا يعلم الشَّيء إلاَّ عند حدوثه بهذه الآية ، لأن قوله : { إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً } فعل كذا ، وكذا شرط وجزاء ، والشَّرط هو حصول هذا العلم ، والشرط والجزاء لا يصح حصولهما إلا في المستقبل ، وذلك يوجب حدوث علم الله تعالى .
والجواب : أنَّ ظاهر اللفظ وإن كان يقتضي ما ذكره ، إلاَّ أنه لمَّا دلَّ الدليلُ على أن علمالله يمتنع أن يكون محدثاً ، وجب أن يقال : ذكر العلم وأراد به المعلوم من حيث إنَّه يدل حصول العلم على حصول المعلوم .
قوله تعالى : { وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ } الآية .
الضمير في « يريدوا » يعود على « الأسْرَى » ، لأنهم أقربُ مذكور .
وقيل : على الجانحين .
وقيل : على اليهُود .
وقيل : على كُفَّار قريش .
قال ابن جريج : أراد بالخيانة الكفر أي : إن كفروا بك فقد كفروا باللَّهِ من قبل ، فأمكن منهم المؤمنين ببدر حتى قتلوهم .
وقيل : أراد بالخيانة منع ما ضمنوا من الفداء .
قال الأزهريُّ : يُقالُ أمكنني الأمْرُ يُمْكنُنِي فهُوا مُمْكِنٌ ، ومفعول الإمكان محذوف ، والمعنى : فأمكن المؤمنين منهم يوم بدر حتى قتلوهم وأسروهم .
ثم قال : « واللَّهُ عليمٌ » أي : ببواطنهم وضمائرهم : « حَكِيمٌ » يجازيهم بأعمالهم .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
قوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ } الآية .
اعلم أنَّهُ تعالى قسم المؤمنين في زمان الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - إلى أربعة أقسام وذكر حكم كل واحد منهم ، وتقرير هذه القسمة أنَّهُ - عليه الصلاة والسلام - لما ظهرت نبوته ودعا النَّاس إلى الدِّين ، ثم انتقل من مكَّة إلى المدينة ، فمنهم من وافقه في تلك الهجرة ، ومنهم من لم يوافقه فيها بل بقي في مكة .
أمَّا القسمُ الأوَّلُ : فهم المهاجرون الأوَّلُون ، وقد وصفهم الله بقوله : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله } وإنما قلنا : إن المراد بهم المهاجرون الأولون؛ لأنَّهُ تعالى قال بعد ذلك : { والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ } وقال تعالى : { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ } [ الحديد : 10 ] .
وقال : { والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار } [ التوبة : 100 ] .
القسم الثاني من الموجودين في زمان محمد - عليه الصلاة والسلام - وهم الأنصار؛ لأنَّهُ عليه الصلاة والسلام لمَّا هارج إليهم مع طائفة من أصحابه ، فلولا أنَّهم آووا ، ونصروا ، وبذلوا النَّفٍ والمال في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإصلاح مهمات أصحابه لما تمَّ المقصودُ ألبتَّة فحال المهاجر أعلى في الفضيلة من حال الأنصار؛ لنَّهم السَّابقون إلى الإيمان ، وتحمَّلُوا العناء والمشقة دهراً طويلاً من كفَّار قريش ، وصبروا على أذاهم ، وهذه الحالةُ ما حصلت للأنصارِ ، وفارقوا الأوطان ، والأهل ، والأموال ، والجيران ، ولم يحصل ذلك للأنصار ، وأيضاً فإنَّ الأنصار اقتدوا بهم الإسلام ، وهم السابقون للإيمان .
ولمَّا ذكر الله تعالى هذين القسمين ، قال : { أولئك بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } قال الواحديُّ عن ابن عباس وغيره من المفسرين « المراد في المرايث » وقالوا : جعل الله تعالى سببب الإرث الهجرة ، والنصرة دون القرابة ، وكان القريب الذي آمن ولم يهاجر لم يرث؛ لأنَّهُ لم يهاجر ولم ينصر .
واعلم أنَّ لفظ الولاية غير مشعرٍ بهذا المعنى؛ لأنَّ اللفظ مشعر بالقرِ على ما تقرَّر في هذا الكتاب .
ويقال : السلطانُ ولي من لا ولي له ولا يفيد الإريث .
وقال تعالى : { ألاا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } [ يونس : 62 ] ولا يفيدُ الإرث بل الولاية تفيد القرب ، فيمكن حمله على غير الإرث ، وهو كون بعضهم معظماً للبعض ، مهتماً بشأنه ، مخصوصاً بمعاونته ومناصرته ، وأن يكونوا يداً واحدة على الأعداء ، فحمله على الإرث بعيد عن دلالة اللفظ ، لا سيما وهم يقولون إن ذلك الحكم نسخ بقوله في آخر الآية : { وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } .
فأيُّ حاجة إلى حمل اللفظ على معنى لا إشعار لذلك اللفظ به ، ثمَّ الحكم بأنَّهُ صار منسوخاً بآية أخرى مذكورة معه ، هذا في غاية البعد ، اللَّهم إذا حصل إجماع المفسرين على ذلك فيجب المصير إليه ، إلاَّ أنَّ دعوى الإجماع بعيد .
القسم الثالث : المؤمنون الذين لم يهاجروا وبقوا في مكة ، وهم المراد بقوله { والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ } فقال تعالى : { مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ } ، فالولاية المنفية في هذه الصُّورة ، هي الولاية المثبتة في القسم المتقدم ، فما قيل هناك قيل هنا .
واحتج الذَّاهبون إلى أنَّ المراد من هذه الولاية الإرث ، بأن قالوا : لا يجوزُ أن يكُون المراد منها ولاية النصرة والدلي عليه أنَّه تعالى عطف عليه قوله : { وَإِنِ استنصروكم فِي الدين فَعَلَيْكُمُ النصر } وذلك عبارة عن الموالاة في الدِّين ، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه فوجب أن يكون المراد بالولاية المذكورة أمراً مغايراً لمعنى النصرة ، وهذا استدلال ضعيف لأنا إذَا حملنا تلك الولاية على التَّعظيم والإكرام ، فهو أمرٌ مغاير للنصرة ، لأنَّ الإنسان قد ينصر بعض أهل الذمة في بعض المهمات ، مع أنه لا يواليه بمعنى التعظيم ، وقد ينصر عبده وأمته بمعنى الإعانة ، مع أنه لا يواليه بمعنى التعظيم ، فسقط هذا الاستدلال .
قوله : « مِن ولايتهم » قرأ حمزة هنا ، وفي الكهف « الولاية لِلَّه » هو ، والكسائي بكسر الواو ، والباقون بفتحها . فقيل : لغتان . وقيل : بالفتحِ من « المَوْلَى » يقال : مَوْلَى بيِّن الولاية ، وبالكسر من ولاية السلطان . قاله أبُو عبيد . وقيل : بالفتح من النُّصْرَة والنَّسب ، وبالكسر من الإمارة . قاله الزَّجَّاجُ قال : « ويجوز الكسرُ؛ لأنَّ في تولِّي بعض القوم بعضاً جنساً من الصناعة والعمل ، وكلُّ ما كان من جنس الصناعة مكسورٌ كالخياطية والقصارة » ، وقد خطَّأ الأصمعيُّ قراءة الكسرِ ، وهو المُخْطِىءُ ، لتواترها .
وقال أبُو عبيدٍ : « والذي عندنا الأخْذُ بالفتح في هذين الحرفين؛ لأنَّ معناهما من الموالاة في الدِّين » .
وقال الفارسي : « الفتحُ أجودُ؛ لأنَّها في الدِّينِ » ، وعكس الفرَّاءُ هذا ، فقال « يُريدُ من مواريثهم ، فكسر الواو أحبُّ إليَّ من فتحها؛ لأنها إنَّما تفتح إذا كانت نصرة وكان الكسائيُّ يذهبُ بفتحها إلى النصرة ، وقد سُمع الفتح والكسر في المعنى جَمِيعاً » .
قوله : « حتَّى يُهاجِرُوا » يُوهِمُ أنَّهم لمَّا لمْ يهاجروا مع رسُولِ الله سقطت ولايتهم مطلقاً فأزال الله هذا الوهم بقوله : { مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ } أي : أنهم لو هاجروا لعادت تلك الولاية .
قوله تعالى : { وَإِنِ استنصروكم فِي الدين فَعَلَيْكُمُ النصر } .
لمَّا بيَّن قطع الولاية بين تلك الطَّائفة من المؤمنين ، بيَّن أنَّ المراد منه ليس هو المقاطعة التَّامة كما في حقِّ الكُفَّارِ ، بل هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا « لو استنصروكم فانصروهم » ولا تخذلوهم .
قوله : « فَعَليْكُم النَّصْرُ » مبتدأ وخبر ، أو فعل وفاعل عند الأخفش ، ولفظةُ « عَلَى » تُشعرُ بالوُجُوبِ ، وكذلك قدَّره الزمخشريُّ ، وشَبَّهه بقوله : [ الطويل ]
2741 - عَلَى مُكْثِريهِمْ رِزْقُ مَنْ يَعْتَريهم ... وعِنْدَ المُقلِّينَ السَّماحَةُ والبَذْلُ
قوله : { إِلاَّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ } أي : لا يجوز لكم نصرتهم عليهم إذ الميثاق مانع من ذلك .
ثم قال : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } قرأ السلمي والأعرج : « يَعْمَلُون » بياء الغيبةِ وكأنه التفات ، أو إخبار عنهم .
قوله تعالى : { والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ } الآية .
اعلم أنَّ هذا لترتيبٌ في غاية الحسن؛ لأنَّهُ تعالى ذكر للمؤمنين أقساماً ثلاثة :
الأول : المؤمنون من المهاجرين .
والثاني : الأنصار وهم أفضل النَّاس وبيَّن أنه يجب أن يوالي بعضهم بعضاً .
والقسم الثالث : المؤمنون الذين لم يهاجروا .
فهؤلاء لهم بسب بإيمانهم فضل ، وبسبب تركِ الهجرة لهم حالة نازلة ، فيكون حكمهم متوسطاً بمعنى أنَّ الولاية للقسم الأوَّل منفية عن هذا القسم ، إلاَّ أنَّهم يكونون بحيثُ لو استنصروا المؤمنين ، واستعانوا بهم نصروهم وأعانوهم ، فهذا الحكم متوسط بين الإجلال ، والإذلال ، وأمَّا الكفار فليس لهم ما يوجب شيئاً من أسباب الفضيلة ، فوجب كون المسلمين منقطعين عنهم من كل الوجوه ، فلا يكون بينهم ولاية ولا مناصرة .
فصل
قال ابن عباس « يرث المشركون بعضهم من بعض » وهذا إنما يستقيم إذا حملنا الولاية على الإريث ، بل الحق أن يقال : إنَّ كفار قريش كانوا في غاية العداوة لليهود فلمَّا ظهرت دعوة محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - تناصروا وتعاونوا على إيذائه ومحاربته ، فالمراد من الآية ذلك .
قوله « إلاَّ تَفْعَلُوه » الهاءُ تعودُ إمَّا على النَّصرِ ، أو الإرث ، أو الميثاق ، أي : حِفْظه أو على جميع ما تقدَّم ذكره ، وهو معنى قول الزمخشري : « ألاَّ تفعلُوا ما أمرتكُم به » .
وقرأ العامة « كبير » بالباء الموحدة ، وقرأ الكسائيُّ فيما حكى عنه أبو موسى الحجازي « كثير » بالثَّاءِ المثلثة ، وهذا قريب ممَّا في البقرة .
والمعنى : قال ابن عبَّاسٍ : « ألاَّ تأخُذُوا في الميراثِ بِمَا أمرتُكُم بِهِ » وقال ابنُ جريجٍ : « إلاَّ تتعاونُوا وتتناصَرُوا » .
وقال غيرهم : إن لم تفعلوا ما أمرتكم به في هذه التَّفاصيل المذكورة تحصل فتنة في الأرض ، قوة الكفر ، وفساد كبير ، وضعف الإسلام . وبيان هذه الفتنة والفساد من وجوه : الأول : أنَّ المسلمين لو اختلطوا بالكفار في زمان ضعف المسلمين وقلة عددهم ، وزمان قوة الكفار وكثرة عددهم فربما صارت تلك المخالطة سبباً لالتحاق المسلم بالكافر ، وثانيها : أن المسلمين إذا تفرقوا لم يظهر لهم جمع عظيم ، فيصير ذلك سبباً لجراءة الكفار عليهم . وثالثها : إذا اكن جمع المسلمين يزيد كل يوم في العدة والقوة ، صار ذلك سبباً لمزيد رغبتهم في الإسلام ورغبة المخالف في الالتحاق بهم .
قوله تعالى : { والذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ } .
زعم بعضهم أنَّ هذه الجملة تكرار للتي قبلها ، وليس كذلك ، فإنَّ التي قبلها تضمنت ولاية بعضهم لبعض ، وتقسيم المؤمنين إلى ثلاثة أقسام ، وبيان حكمهم في ولايتهم ، وتناصرهم وهذه تضمَّنت الثناء والتشريف والاختصاص ، ومال آل إليه حالهم من المغفرة والرزق الكريم والمعنى : « أولئك هم المُؤمنونَ حقّاً » لا مرية ولا ريب في إيمانهم ، وقيل : حققوا إيمانهم بالهجرة والجهاد وبذل المال في الدين ، { لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } الجنة .
فإن قيل : فأي معنى لهذا التكرار . قيل : المهاجرون كانوا على طبقات ، وكان بعضهم أهل الهجرة الأولى ، وهم الذين هاجروا قبل الحديبية ، وبعضهم أهل الهجرة الثانية ، وهم الذين هاجروا بعد صلح الحديبية قبل فتح مكَّة ، وكان بعضهم ذا هجرتين ، هجرة الحبشة ، والهجرة إلى المدينة ، فالمراد من الآية الأولى الهجرة الأولى ومن الثانية الهجرة الثانية .
قوله تعالى : { والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ } .
هؤلاء هم القسم الرابع من مؤمني زمان محمد عليه الصلاة والسلام ، الذين لم يوافقوا الرسول في الهجرة ، إلاَّ أنهم بعد ذلك هاجروا إليه وجاهدوا معه .
واختلفوا في قوله « مِنْ بعْدُ » فقال الواحدي ، عن ابن عبَّاسٍ « بعد الحديبثة وهي الهجرة الثانية » .
وقيل : بعد نزول هذه الآية ، وقيل : بعد يوم بدر ، والأصحُّ أنَّ المراد : والذين هاجروا بعد الهجرة الأولى ، وهؤلاء هم التابعون ، بإحسان ، كما قال : { والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ } [ التوبة : 100 ] والصحيح : أنَّ الهجرة انقطعت بفتح مكَّة ، لأنَّ مكة صارت بلد الإسلام .
وقال الحسن : « الهجرة غير منقطعة أبداً » . وأما قوله عليه الصلاة والسلام « لا هجْرةَ بعْدَ الفَتْحِ » فالمراد الهجرة المخصوصة ، فإنَّها انقطعت بالفتح وبقوة الإسلام ، أما لو اتفق في بعض الأمان كون المؤمنين في بلد ، وهم قليلون ، وللكافرين معهم شوكة ، وإن هاجروا المسلمون من تلك البلدة إلى بلد آخر ضعفت شوكة الكفار فهاهنا تلزمهم الهجرة على ما قاله الحسن؛ لأنَّ العلة في الهجرة من مكة إلى المدينة قد حصلت فيهم .
قوله { فأولئك مِنكُمْ } أي : معكم ، يريد : أنتم منهم وهو منكم .
ثم قال : { وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله } .
قالوا : المراد بالولاية ولاية الميراث ، قالوا هذه الآية ناسخة؛ لأنَّهُ تعالى بيَّن أنَّ الإرث كان بسبب الهجرة والنصرة ، والآن بعد نسخ ذلك فلا يحصل الإرث إلاَّ بسبب القرابة .
وقوله : { فِي كِتَابِ الله } أي : السهام المذكورة في سورة النّساء ، وأمَّا الذين فسَّرثوا الولاية بالنَّصرة والتَّعظيم قالوا « : إنَّ تلك الولاية لمَّا كانت محتملة للولاية بسبب الميراث بين الله تعالى في هذه الآية أنَّ ولاية الإرث إنَّما تحصل بسبب القرابة ، إلاَّ ما خصَّ الدليل ، فيكون المقصود من هذا الكلام إزالة هذا الوهم .
فصل
تمسَّك أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية في توريث ذوي الأرحام ، وأجيبوا بأن قوله : { وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } مجمل في الشيء الذي حصلت فيه هذه الأولوية .
فلما قال : { فِي كِتَابِ الله } كان معناه في الحكم الذي بيَّنه اللَّهُ في كتابه فصارت هذه الأولوية مقيَّدة بالأحكام التي بيَّنها اللَّهُ في كتابه وتلك الأحكام ليست إلاَّ ميراث العصبات ، فيكونُ المرادُ من هذه المجمل هو ذلك فقط ، فلا يتعدَّى إلى توريث ذوي الأرحام .
فإن قيل تمسكوا بهذه الآية في أن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو علي بن أبي طالب ، لقوله : { وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } [ الأنفال : 75 ] فدل على ثبوت الأولوية ، وليس في الآية شيء معين في ثبوت هذه الأولوية؛ فوجب حمله على الكل ، إلاَّ ما خصّه الدَّليل ، فيندرج فيه الإمامة ، ولا يجوزُ أن يقال : إنَّ أبا بكر من أولي الأرحام ، لما نقل أنَّهُ عليه الصلاة والسلام أعطاءه سورة براءة ليبلغها إلى القوم ثم بعت علياً خلفه وأمر أن يكون المبلغ هو علي ، وقال : « لا يُؤدِّيها إلاَّ رجلٌ مِنِّي » وذلك يدلُّ على أنَّ أبا بكر ما كان منه .
والجوابُ : إن صحَّت هذه الدلالة كان العباس أولى بالإمامةِ؛ لأنَّهُ كان أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ عليٍّ .
قول : { فِي كِتَابِ الله } يجوزُ أن يتعلَّق بنصّ أولها أي : أحق في حكم الله أو في القرن ، أو في اللوح المحفوظ ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي : هذا الحكمُ المذكور في كتاب الله .
ثم قال : { إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي : أنَّ هذه الأحكام التي ذكرتها وفصلتها كلها حكمة وصواب ، وليس فيها شيء من العبث؛ لأنَّ العالم بجميع المعلومات لا يحكم إلاَّ بالصَّواب .
روى أنس قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ سُورة الأنفال وبراءة فأنَّا شَفِيعٌ لَهُ يوم القيامة ، وشاهد أنَّه بريءٌ منَ النِّفاق وأعطي من الأجْرِ بعددِ كُلِّ مُنافقٍ ومُنافِقَةٍ في دارِ الدُّنْيَا عشر حسناتٍ ، ومُحِيَ عنه عشرُ سيئاتِ ، ورفع لهُ عشرُ درجاتٍ ، وكان العَرْشَ وحملته يُصَلُّون عليه أيَّام حياتِهِ في الدنيا »
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
قوله تعالى : { بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } الآية .
الجمهور على رفع بَراءَةٌ ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّها رفعٌ بالابتداء ، والخبرُ قوله { إِلَى الذين } وجاز الابتداءُ بالنَّكرة؛ لأنَّها تخَصَّصَتْ بالوَصْفِ بالجارِّ بعدها ، وهو قوله مِنَ اللهِ كما تقولُ رجُلٌ من بني تميم في الدَّارِ .
والثاني : أنَّها خبرُ ابتداءٍ مضمرٍ ، أي : هذه الآياتُ براءةٌ ، ويجوز في مِنَ اللهِ أن يكون متعلقاً بنفس براءةٌ؛ لأنها مصدرٌ ، كالثَّناءة والدَّناءة . وهذه المادة تتعدَّى ب « مِنْ » ، تقولُ : بَرِئتُ من فلانٍ ، أبرأ براءةً ، أي : انقطعتِ العُصبةُ بَيْنَنَا ، وعلى هذا ، فيجوزُ أن يكون المُسوِّغُ للابتداء بالنَّكرة على الوجه الأوَّل هذا . وإلى الَّذينَ متعلقٌ بمحذوف على الأوَّلِ ، لوقوعهِ خبراً ، وبنفس « بَرَاءَةٌ » على الثَّاني ، ويقال : بَرِئْتُ ، وبَرَأتُ من الدين ، بالكسْرِ والفتح ، وقال الواحديُّ : « ليس فيه إلاَّ لغةٌ واحدة ، كسرُ العينِ في الماضي وفتحُها في المستقبل » . وليس كذلك ، بل نقلهما أهلُ اللغةِ ، وقرأ عيسى بن عمر « بَرَاءَةٌ » بالنصب على إضمار فعل أي اسمعُوا براءةً .
وقال ابنُ عطيَّة « أي : الزموا براءة ، وفيه معنى الإغراء » وقرىء « مِن اللهِ » بكسر نون « مِنْ » على أصل التقاءِ السَّاكنينِ ، أو على الإتباع لميم « مِنْ » وهل لُغَيَّةٌ ، فإنَّ الأكثر فتحها مع لام التَّعريفِ ، وكسرها مع غيرها ، نحو « مِن ابنك » ، وقد يُعْكَسُ الأمرُ فيهما ، وحكى أبُو عُمَرَ عن أهل نجران أنَّهم يَقْرَءُونَ كذلِك ، بكسر النونِ مع لام التَّعريف .
فإن قيل : ما السَّبب في أنَّ نسب البراءة إلى الله ورسوله ، ونسب المُعاهدةِ إلى المشركين؟ فالجوابُ : قد أذن اللهُ في معاهدة المشركين ، فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدهم ، ثم إنَّ المشركين نقضُوا العهد؛ فأوجَبَ اللهُ النَّبْذَ إليهم ، فخوطب المسلمون بما يحذرهم من ذلك ، وقيل لهم : اعلموا أنَّ الله ورسوله قد برئا ممَّا عاهدتم من المشركين . روي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا خرج إلى تبوك وتخلف المنافقون ، وأرجفوا بالأراجيف ، وجعل المشركون ينقضون العهد ، فأمر الله تعالى بنقض عهودهم ، التي كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الزجاج : « بَراءَةٌ » أي : قد بَرِىء الله ورسولهُ من إعطائهم العهود والوفاء بها إذا نكثوا .
فإن قيل : كيف يجوزُ أن ينقض النبي صلى الله عليه وسلم العهد؟ .
فالجوابُ : لا يجوز أن ينقض العهد إلاَّ على ثلاثة أوجه :
فالأول : أن يظهر له منهم خيانةٌ مستورة ويخاف ضررهم ، فينبذ العهد إليهم ، حتَّى يستووا في معرفة نقض العهد ، لقوله { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ } [ الأنفال : 58 ] وقال أيضاً : { الذين عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ }
[ الأنفال : 56 ] .
الثاني : أن يكون قد شرط لبعضهم في وقت العهد أن يقرهم بما أمر الله به ، فلمَّا أمر الله تعالى بقطع العهدِ بينهم قطع لأجل الشرط .
الثالث : أن يكون مؤجلاً فتنقضي المدَّةُ وينقضي العهدُ ، ويكونُ الغرض من إظهار البراءة أن يظهر لهم أنه لا يعود للعهد ، وأنه على عزم المحاربة والمقاتلة ، فأمَّا فيما وراء هذه الأحوال الثلاثة لا يجوزُ نقض العهد ألبتَّةَ؛ لأنَّه يجري مجرى الغدر وخلف القول ، والله ورسوله بريئان منه؛ ولهذا المعنى ألبتَّةَ؛ لأنَّه يجري مجرى الغدر وخلف القول ، والله ورسوله بريئان منه؛ ولهذا المعنى قال تعالى : { إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ } [ التوبة : 4 ] ، وقيل : إنَّ أكثر المشركين نقضوا العهد إلاَّ بنُو ضمرة وبنُو كنانة .
قوله : { إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين } الخطاب مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي عاهدهم وعاقدهم؛ لأنه عاهدهم وأصحابه بذلك راضون ، فكأنَّهم « عَاقَدُوا » وعاهدوا .
قوله : « فَسِيحُواْ » . قال ابنُ الأنباري : « هذا على إضمار القولِ ، أي : قل لهم فسيحوا » ويكون التفاتاً من الغيبة إلى الخطابِ ، كقوله : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً } [ الإنسان : 21-22 ] ، ويقال : سَاحَ يَسيحُ سِياحةً وسُيُوحاً وسَيحَاناً أي : انساب ، لِسَيْح الماء في الأماكن المنبسطة ، قال طرفة : [ السريع ]
2742- لَوْ خِفْتُ هَذَا مِنْكَ مَا نِلْتَني ... حتَّى ترى خَيْلاً أمَامِي تَسِيحْ
و « أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ » ظرف ل « سِيحُوا » ، وقرىء « غَيْرُ مُعْجِزي اللهَ » بنصب الجلالةِ على أنَّ النون حُذفتْ تخفيفاً ، وقد تقدَّم تحريره .
فصل
المعنى : قال لهم سيروا في الأرض مقبلين ومدبرين ، آمنين غير خائفين : { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله } أي : غير فائتين ولا سابقين : { وَأَنَّ الله مُخْزِي الكافرين } أي : مذلهم بالقتال في الدُّنيا والعذاب في الآخرة .
واختلفوا في هذه الأشهر الأربعة ، فقال الزهريُّ : « إن براءةَ نزلت في شوال ، وهي أربعة أشهر : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم » ، والصَّواب الذي عليه الأكثرون : أنَّ ابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر ، وانقضاؤه إلى عشرين من ربيع الآخر ، ومن لم يكن له عهد ، فإنما أجله انسلاخ الأشهر الحرم ، وذلك خمسون يوماً ، وقيل : ابتداء تلك المدة كان من عشر ذي القعدة إلى عشر من ربيع الأول؛ لأنَّ الحجَّ في تلك السنة كان في ذلك الوقت بسبب النَّسيء الذي كان فيهم ، ثم صار في السَّنة الثانية في ذي الحجة وهي حجة الوداع ويدلُّ عليه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام :
« ألا إنَّ الزَّمَانَ قَد اسْتَدارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَق اللهُ السَّمَاوَاتِ والأرْض » .
فصل
اختلف العلماء في هذا التأجيل ، وفي هؤلاء الذين برىء الله ورسوله من العهود التي كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال جماعة : هذا تأجيلٌ للمشركين ، فمن كانت مدةُ عهده أقل من أربعة أشهر رفعه إلى أربعة أشهر ، ومن كانت مدته أكثر من أربعة أشهر حطه إلى أربعة أشهر ، ثمَّ هو حرب بعد ذلك لله ولرسوله ، فيقتل حيثُ يدرك ويؤسر إلاَّ أن يتوب .
وقال الكلبيُّ : إنما كانت الأربعةُ أشهر من كان له عهد دون أربعة فأتموا له أربعة أشهر ، فأمَّا من كان عهده أكثر من أربعة أشهر فهذا أمر بإتمام عهده بقوله : { فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ } .
قال الحسنُ « أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقتال مَنْ قاتله من المشركين ، فقال : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ } [ البقرة : 190 ] وكان لا يقاتلُ إلاَّ من قاتله ثم أمره بقتال المشركين والبراءة منهم ، وأجلهم أربعة أشهر ، فلم يكن لأحدٍ منهم أجل أكثر من أربعة أشهر لا من كان له عهد قبل البراءة ، ولا من لم يكن له عهد ، وكان الأجل لجميعهم أربعة أشهر ، وأحل دماء جميعهم من أهل العهود وغيرهم بعد انقضاء الأجل » .
والمقصود من هذا الإعلام أمور :
أولها : أن يتفكروا لأنفسهم ويحتاطوا في هذا الأمر ، ويعلموا أنَّه ليس لهم بعد هذه المدة إلاَّ أحد أمور ثلاثة :
إمَّا الإسلامُ أو قبول الجزية أو السيف ، فيصير ذلك حاملاً لهم على الإسلام .
وثانيها : لئلاَّ ينسب المسلمون إلى نكث العهد .
وثالثها : أراد اللهُ أن يعمَّ جميع المشركين بالجهاد ، فعمَّ الكل بالبراءة وأجلهم أربعة أشهر ، وذلك لقوة الإسلام وتخويف الكفار ، ولا يصحُّ ذلك إلا بنقض العهود .
ورابعها : أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يحج في السَّنة الآتية ، فأمر بإظهار هذه البراءة لئلاَّ يشاهدة العراة ، وقيل : نزل هذا قبل تبوك .
وقال محمد بن إسحاق ومجاهد وغيرهما : نزلت في أهل مكَّة . وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عاهد قريشاً عام الحديبية ، على أن يضعوا الحرب عشر سنين ، يأمن فيها الناس ، ودخلت خزاعةُ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم عدتْ بنو بكر على خزاعة فنالت منها ، وأعانتهم قريش بالسِّلاح فلمَّا تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة ، ونقضوا العهد ، خرج عمرو بن سالم الخزاعيُّ ، حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : [ الرجز ]
2743- لا هُمَّ إنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّداَ ... حِلْفَ أبينَا وأبيهِ الأَتْلَدَا
كنتَ لَنَا أباً وكُنَّا وَلَدَا ... ثُمَّتَ أسلَمْنَا ولمْ نَنْزِعْ يَدَا
فانصُرْ هَداكَ اللهُ نَصْراً أبَدَا ... وادْعُ عِبَادَ اللهِ يأتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رسُولُ اللهِ قَدْ تَجَرَّدَا ... فِي فَيْلقٍ كالبَحْرِ يَجْرِي مُزبدَا
أبْيَضَ مثلَ الشَّمسِ يَسْمُو صَعدَا ... إن سيمَ خَسْفاً وَجْهُهُ تَربَّدَا
إنَّ قُريشاً أخلفُوكَ المَوْعِدَا ... ونَقَضُوا ميثاقَك المُؤكَّدَا
هُمْ بَيَّتُونَا بالهَجيرِ هُجَّدَا ... وقَتلُونَا رُكَّعاً وسُجَّدَا
وزعَمُوا أنْ لسْتَ تَدْعُو أحَدَا ... وهُمْ أذَلُّ وأقَلُّ عَدَدَا
فقال رسُول الله « لا نُصِرتُ إنْ لَمْ أنصرْكم » ، ثمَّ تجهَّز إلى مكة ، ففتح مكَّة سنة ثمان من الهجرة ، فلمَّا كانت سنة تسع أراد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يحُجَّ ، ثم قال : إنَّه يحضر المشركون ، فيطوفون عراةً .
فبعث أبا بكر تلك السنة أميراً على الموسم ، ليقيم للنَّاس الحجَّ ، وبعث معه بأربعين آية من صدر سورة « براءة » ليقرأها على أهل الموسم ، ثم بعث عليّاً على ناقته العضباء ليقرأ على النَّاس « براءة » وأمره أن يؤذن بمكَّة ، ومنى ، وعرفة أن قد برئت ذمة الله ، وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلِّ مشرك ، وألا يطوف بالبيت عريان ، فرجع أبو بكر فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، أنزل في شأني شيء؟ قال : لا ، ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلاَّ رجل من أهلي ، أما ترضى يا أبا بكر أنَّك كنت معي في الغار ، وأنَّك صاحبي على الحوضِ؟ قال : بَلَى يا رسول الله ، فسار أبو بكر أميراً على الحجِّ ، وعليّ ليُؤذن ب « براءة » فلمَّا كان قبل التَّرْوية بيوم خطب أبو بكر النَّاس ، وحدَُّهم عن مناسكهم ، وأقام للنَّاس الحجَّ ، والعرب في تلك السنةِ على منازلهم التي كانُوا عليها في الجاهلية من الحجِّ ، حتَّى إذا كان يوم النَّحر ، قام عليُّ بنُ أبي طالب فأذَّن في النَّاسِ بالذي أمر به ، وقرأ عليهم سورة « براءة » .
قال زيدُ بن يثيع : سألنا عليّاً بأي شيء بعثت في الحجِّ؟ قال « بعثتُ بأربع : ألاَّ يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين النَّبي صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته ، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر ، ولا يدخلُ الجنَّة إلاَّ نفسَّ مؤمنةٌ ، ولا يجتمعُ المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا » . ثمَّ حجَّ النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر حجة الوداع .
وكان السَّبب في بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليّاً ، أنَّ العرب تعارفُوا فيما بينهم في العهود ونقضها ألاَّ يتولَّى ذلك إلا سيدهم ، أو رجل من رهطه ، فبعث عليّاً إزاحة للعلَّة ، لئلاَّ يقولوا هذا خلاف ما نعرفه في نقض العهود .
والدليل على أنَّ أبا بكر كان هو الأمير ، أنَّ عليّاً لمَّا لحقهُ قال : أمير أو مأمور؟ فقال : مأمور ، ثم ساروا وقال أبو هريرة « بعثني أبو بكر في تلك الحجَّة في مؤذنين يوم النَّحْر ، يؤذِّن بمنى ألاَّ يحجَّ بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان » .
قوله وأذانٌ . رفع بالابتداء ، أي : أذان صادر ، أو إعلام واصل ، ومِنَ اللهِ إمَّا صفةً ، أو متعلقٌ به ، وإلى النَّاسِ الخبر ، ويجوزُ أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ أي : وهذا إعلامٌ ، والجارَّان متعلقان به ، كما تقدَّم في براءة .
قال أبو حيَّان : « ولا وجه لقولِ من قال : إنه معطوف على » بَرَاءَةٌ « ، كما لا يقال » عمرو « معطوف على » زيد « في : زيد قائم وعمرو قاعد » .
وقرأ الضحاك وعكرمة وأبو المتوكل « وإذْن » بكسر الهمزة وسكون الذَّال ، وقرأ العامَّةُ « أنَّ الله » بفتح الهمزة على أحد وجهين ، إمَّا كونه خبراً ل « أذانٌ » ، أي : الإعلامُ من اللهِ براءة من المشركين . وضعَّف أبو حيان هذا الوجه ، ولم يذكر تضعيفه . وإمَّا على حذف حرفِ الجرِّ ، أي : بأنَّ الله ، ويتعلَّقُ هذا الجارَّ إمَّا بنفس المصدر ، وإمَّا بمحذُوفٍ على أنه صفة ويَوْمَ منصوبٌ بما تعلَّق به الجارُّ في قوله إلى النَّاسِ . وزعم بعضهم أنَّه منصوبٌ ب « أذَانٌ » وهو فاسدٌ من وجهين :
أحدهما : وصفُ المصدر قبل عمله .
الثاني : الفَصْلُ بينه وبين معموله بأجنبي ، وهو الخبرُ ، وقرأ الحسنُ والأعرج بكسر الهمزة وفيه المذهبان المشهوران ، مذهبُ البصريين إضمارُ القول ، ومذهبُ الكوفيين إجراءُ الأذانِ مُجْرَى القول .
فصل
والأذانُ : الإعلامُ ، قال الأزهري : « آذنْتُه إيذاناً . فالأذانُ يقوم مقام الإيذان ، وهو المصدر الحقيقي » ومنه : أذان الصَّلاة ، ومنه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام للاّتي غسَّلن ابنته زينب : « فإذا فَرغتن فآذنَّني » أي : أعلمنني ، فلمَّا فرغنا آذنَّاهُ ، أي : أعلمناه ، والأذانُ معروفٌ .
ونقل النووي في « التهذيب » عن الهرويِّ قال : ويقال فيه الأذان ، والأذين ، والإيذان قال : وقال شيخي : الأذينُ هوالمؤذن المعلم بأوقات الصلوات « فعيل » بمعنى « مفعل » [ وقوله عليه السلام : « ما أذِن الله كأذنه » بكسر الذال منه ، وقوله : « كأذَنِهِ » بفتح الذال ، والأذن بضم الذال وسكونها : أذن الحيوان ، مؤنثة ، وتصغيرها : أذينة . و « إذن » في قوله عليه السلام : « فلا إذن » حرف مكافأة وجواب ، يكتب بالنون ، وإذا وقفت على « إذن » قلت كما تقول : رأيت زيداً . قال الجوهري ] .
قوله : « مِنَ المُشركِينَ » متعلقٌ بنفس « بَرِيءٌ » ، ما يقال : بَرئْتُ منه ، وهذا بخلاف قوله : { بَرَآءَةٌ مِّنَ الله } [ التوبة : 1 ] فإنَّها هناك تحتمل هذا ، وتحتمل أن تكون صفة ل « بَراءَةٌ » .
قوله ورسُولُهُ الجمهور على رفعه ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مبتدأ ، والخبرُ محذوفٌ أي : ورسوله بريءٌ منهم ، وإنَّما حذف ، للدلالةِ عليه .
والثاني : أنه معطوفٌ على الضمير المستتر في الخبر ، وجاز ذلك للفصل المسوِّغ للعطف ، فرفعه على هذا بالفاعلية والتقدير : برئ الله ورسوله [ من المشركين ] .
الثالث : أنه معطوف على محلِّ اسم « أنَّ » وهذا عند من يجيز ذلك في المفتوحة قياساً على المكسورةِ ، قال ابنُ عطيَّة « ومذهبُ الأستاذ - يعني ابن البَاذشِ - على مقتضى كلام سيبويه أن لا موضع لما دخلت عليه [ » أنَّ « إذ هو معربٌ ، قد ظهر فيه عمل العامل ، وأنه لا فرق بين » أنَّ « وبين » لَيْتَ « والإجماعُ على أن لا موضع لما دخلتْ عليه ] هذه » .
قال أبو حيَّان : « وفيه تعقُّبٌ؛ لأنَّ كون » أنَّ « لا موضع لما دخلتْ عليه ليس ظهور عمل العامل بدليل » لَيْسَ زيد بقائم « وما في الدَّار من رجل ، فإنه ظهرعمل العامل ولهما موضع وقوله : » بالإجماع « يريد أنَّ » ليت « لا موضع لما دخلت عليه بالإجماع ، وليس كذلك؛ لأن الفراء خالف ، وجعل حكم » لَيْتَ « وأخواتها جميعاً حكم » إنَّ « بالكسر » .
قال شهابُ الدين قوله : « بدليل ليس زيد بقائم . . » إلى آخره قد يظهر الفرقُ بينهما ، فإنَّ هذا العامل ، وإن ظهر عمله في حكم المعدُومِ ، إذ هو زائد ، فلذلك اعتبرنا الموضع معه ، بخلاف « أنَّ » بالفتح ، فإنَّه عاملٌ غيرُ زائد ، وكانَ ينبغي أن يردَّ عليه قوله : وأنْ لا فرق بين « أنَّ » وبين « لَيْتَ » فإنَّ الفرق قائمٌ ، وذلك أنَّ حكم الابتداء قد انتسخ مع « لَيْتَ » ، و « لَعلَّ » ، و « كأنَّ » لفظاً ومعنًى ، بخلافه مع « إنَّ » ، و « أنَّ » ، فإنَّ معناه معهما باقٍ . وقرأ عيسى بن عمر ، وزيد بن علي وابن أبي إسحاق « ورسوله » بالنَّصبِ ، وفيه وجهان :
أظهرهما : أنه عطفٌ على لفظ الجلالة ، والثاني : أنه مفعولٌ معه .
قال الزمخشريُّ . وقرأ الحسنُ « ورسُولِهِ » بالجرِّ ، وفيها وجهان :
أحدهما : أنه مقسمٌ به ، أي : ورسوله إن الأمر كذلك ، وحذف جوابه لفهم المعنى .
والثاني : أنه على الجواز ، كما أنهم نَعَتُوا وأكَّدوا على الجواز ، وقد تقدَّم تحقيقه . وهذه القراءةُ يبعدُ صحتُها عن الحسن ، للإبهام ، حتَّى يحكى أنَّ أعرابياً سمع رجلاً يقرأ « ورَسُولِهِ » بالجر ، فقال الأعرابيُّ : إن كان الله قد بَرِىء من روسله فأنا بريء منه ، فَلَبَّبه القارىء إلى عمر - رضي الله عنه - فحكى الأعرابيُّ الواقعة ، فحينئذ أمر عمرُ بتعليم العربيَّة . ويحكى أيضاً هذه عن أمير المؤمنين عليّ ، وأبي الأسود الدُّؤلي - رضي الله عنهما - قال أبُو البقاءِ : « ولا يكون عطفاً على » المشركين « لأنَّه يؤدي إلى الكفر » . وهذا واضح .
فصل
قال بعض المفسرين قوله : { بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين } جملة تامة مخصوصة بالمشركين ، وقوله : { وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الأكبر } جملة أخرى ثانية معطوفة على الجملة الأولى ، وهي عامة في حق جميع النَّاسِ؛ لأنَّ ذلك يجب أن يعرفه المؤمن والمشرك ، من حيثُ إنَّ الحكم المتعلق بذلك يلزمهما جميعاً ، فيجبُ على المؤمنين أن يعرفوا الوقت الذي يباحُ فيه القتال من الوقت الذي يحرم فيه ، فأمره تعالى بهذا الإعلام يوم الحج الأكبر ، وهو الجمع الأعظم ، ليصل ذلك الخبر إلى الكل ، فيشتهر .
وفي هذا العطف الإشكال الذي ذكره أبو حيان في صدر الآية عند قوله { وَأَذَانٌ مِّنَ الله } .
فصل
اختلفوا في يوم الحجِّ الأكبر ، فقال ابن عباس في رواية عكرمة « إنَّه يومُ عرفةَ » وهو قول عُمر ، وسعيد بن المسيب ، وابن الزبير ، وعطاء ، وطاووس ، ومجاهد ، وإحدى الروايتين عن علي ، ورواية المسور بن مخرمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيَّة عرفة ، فقال : « أمَّا بعدُ فإنَّ هذا يوم الحج الأكبر » لأنَّ معظم أفعال الحج فيه ، وروي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وقف يوم النَّحر عند الجمرات ، وقال : « هذا يومُ الحج الأكبر » وقال عليه الصلاة والسلام « الحج عرفةُ » ولأنَّ أعظم أعمال الحج الوقوف بعرفة؛ لأ ، َّ من أدركه ، فقد أدرك الحجَّ ، ومن فاته فقد فاته الحجُّ .
وقال ابنُ عبَّاسٍ في رواية عطاء يوم الحج الأكبر : يوم النحر ، وهو قول النخعيّ ، والشعبيّ ، والسديّ ، وإحدى الروايتين عن عليٍّ ، وقول المغيرة بن شعبة وسعيد بن جبير .
وروى ابن جريج عن مجاهد أنه قال : يوم الحجِّ الأكبر أيَّام منى كلها ، وهو مذهب سفيان الثَّوريّ ، وكان يقول : يوم الحجِّ الأكبر : أيامه كلها ، كما يقال : يوم صفين ، ويوم الجمل ، ويراد به الحين والزمان .
وأما تسيمته بيوم الحج الأكبر ، فإن قلنا : إنَّه يوم عرفة؛ فلأنه أعظم واجباته ، ومن فاته الحجُّ ، وكذلك إن قلنا : إنَّه يوم النحر ، لأن معظم أفعال الحج يفعل فيه ، وقال الحسنُ : سُمِّيَ بذلك لاجتماعِ المسلمين والمشركين فيه ، وموافقته لأعياد أهل الكتاب ، ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده ، فعظم ذلك اليوم في قلب كل مؤمنٍ وكافر ، وطعن الأصم في هذا الوجه وقال : عيدُ الكفَّارِ فيه سخط . وهذا الطَّعن ضعيفٌ؛ لأنَّ المرادَ أنَّ ذلك اليوم استعظمه جميع الطوائف ، فلذلك وصف بالأكبر .
وقيل سُمِّي بذلك؛ لأن المسلمين والمشركين حَجُّوا في تلك السَّنة ، وقيل : الأكبرُ الوقوف بعرفة والأصغر النَّحر ، قاله مجاهدٌ ، ونقل عن مجاهدٍ : الأكبر القرانُ ، والأصغر الإفراد ، فإن قيل : قوله : { بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين } وقوله { أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ } لا فرق بينهما ، فما فائدة هذا التكرار؟
فالجواب من وجوه :
الأولُ : أنَّ المقصودَ من الأوَّلِ البراءة من العهد ، ومن الثاني : البراءة التي هي نقيض الموالاة ، ويدلُّ على هذا الفرقِ في البراءة الأولى برىء إليهم ، وفي الثانية برئ منهم .
الثاني : أنَّهُ تعالى في الكلام الأوَّل ، أظهر البراءة عن المشركين الذين عاهدوا ونقضوا العهد ، وفي هذه الآية أظهر البراءة عن المشركين من غير أن وصفهم بوصف معيّن ، تنبيهاً على أنَّ الموجب لهذه البراءة كفرهم وشركهم .
قوله « فإن تُبْتُمْ » عن الشكر ، وأخلصتم التَّوحيدَ : { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ } أعرضتم عن الإيمان { فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله } وذلك وعيد عظيم .
ثم قال { وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } في الآخرة ، والبشارةُ - ههنا - وردت على سبيل الاستهزاء كما يقال : تحيتهم الضرب ، وإكرامهم الشَّتم .
قوله { إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين } في هذا الاستثناء ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّه استثناءٌ منقطعٌ ، والتقديرُ : لكن الذين عاهدتم فأتمُّوا إليهم عهدهم ، وإلى هذا نحا الزَّمخشري ، فإنه قال : « فإن قلت : ممَّا استثنى قوله : » إلاَّ الذينَ عاهَدتُّم « ؟ قلت : وجهه أن يكون مستثنى من قوله : » فسيحُوا في الأرضِ « ؛ لأنَّ الكلام خطابٌ للمسلمين ومعناه : براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ، فقولوا لهم : سِيحُوا إلاَّ الذين عاهدتم منهم ، ثُمَّ لَمْ ينقصوا فأتموا إليهم عهدهم ، والاستثناءُ بمعنى الاستدراك ، كأنه قيل بعد أن أمروا في النَّاكثين ، ولكن الذين لم ينكثوا ، فأتمُّوا إليهم عهدهم ، ولا تجروهم مجراهم .
الثاني : أنَّه استثناءٌ متصلٌ ، وقبلهُ جملةٌ محذوفة ، تقديره : اقتلوا المشركين المعاهدين إلاَّ الذين عاهدتم ، وفيه ضعفٌ؛ قاله الزَّجَّاجُ ، فإنَّه قال : » إنَّه عائد إلى قوله : « براءةٌ » والتقدير : براءة من الله ورسوله إلى المشركين المعاهدين إلاَّ الذين لم ينقضوا العهد « .
الثالث : أنَّه مبتدأ ، والخبر قوله : » فأتمُّوا إليهِمْ « قاله أبو البقاءِ ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الفاء تزاد في غير موضعها ، إذ المبتدأ لا يشبه الشَّرط؛ لأنَّه لأناسٍ بأعيانهم ، وإنما يتمشَّى على رأي الأخفش ، إذ يُجوِّز زيادتها مطلقاً ، والأولى أنَّهُ منقطعٌ ، لأنَّا لو جعلناهُ متصلاً مستثنى من المشركين في أوَّل السُّورة ، لأدَّى إلى الفصل بين المستثنى ، والمستثنى منه بجملٍ كثيرة .
قوله { ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } الجمهور » يَنقصُوكُم « بالصَّاد المهملة ، وهو يتعدَّى لواحدٍ ، ولاثنين ، ويجوزُ ذلك فيه هنا ف » كُمْ « مفعولٌ أول ، و » شَيْئاً « إمَّا معفول ثان ، وإمَّا مصدرٌ ، أي : شيئاً من النقصان ، أو : لا قليلاً ، ولا كثيراً من النقصان .
وقرأ عطاءُ بن السائب الكوفي وعكرمة ، وابن السَّمَيْفع ، وأبو زيد » يَنقُضُوكم « بالضَّاد المعجمة وهي على حذف مضاف ، أي : ينقضُوا عهدكم ، فحذف المضافُ وأقيم المضافُ إليه مقامه .
قال الكرمانيُّ : » وهي مناسبة لذكر العهد « . أي : إنَّ النقضَ يُطابق العهد ، وهي قريبة من قراءة العامَّة ، فإنَّ من نقض العهد فقد نقص من المدة ، إلاَّ أنَّ قراءة العامة أوقعُ لمقابلها التمام .
فصل
ومعنى قوله : { إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين } وهم بنو ضمرة حي من كنانة ، أمر الله ورسوله بإتمام عهدهم إلى مدتهم ، وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشعر وكان السَّبب فيه أنهم لم ينقضوا ، أي : لم ينقضوا شيئاً من عهدهم الذي عاهدتموهم عليه ، » ولمْ يُظاهِرُوا « لم يعامونا » عَليكُمْ أحَداً « من عدوكم ، » فأتمُّوا إليهم عهدَهُم « الذي عاهدتموهم عليه ، أي : أوفوقا بعهدهم : » إلى مُدتِهِم « إلى أجلهم الذي عاهدتموهم عليه » إنَّ الله يحبُّ المُتَّقِينَ « أي : إنَّ هذه الطائفة لما اتقوا النقض ، ونكث العهد ، استحقوا من اللهِ أن يصان عهدهم أيضاً عن النقض والنكث .
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)
قوله تعالى : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم } الآية .
قال الليثُ « يقال سلختُ الشهر : إذا خرجت منه » . و « الانسلاخُ » هنا من أحسن الاستعارات ، وقد بيَّن ذلك أبو الهيثم ، فقال : « يقال : أهْللنا شهر كذا ، أي : دخلنا فيه ، فنحنُ نزداد كلَّ ليلةٍ منه إلى مضيِّ نصفه لباساً ، ثم نسلخه عن أنفسنا جزءاً فجزءاً إلى أن ينقضي وينسلخ » ؛ وأنشد : [ الطويل ]
2744- إذا مَا سَلخْتُ الشَّهْرَ أهلَلتُ مِثلهُ ... كَفَى قَاتِلاً سَلْخِي الشُّهُورَ وإهْلالِي
والألف واللام في « الأشهر » يجوز أن تكون للعهد ، والمراد بها : الأشهرُ المتقدمة في قوله : { فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } [ التوبة : 2 ] ، والعربُ إذا ذكرت نكرة ، ثم أرادت ذكرها ثانياً أتت بضميره؛ أو بلفظه مُعرَّفاً ب « أل » ، ولا يجوز حينئذ أن نصفهُ بصفةٍ تُشْعر بالمغايرة ، فلو قيل : « رأيت رجلاً ، فأكرمتُ الرَّجل الطَّويل » لمْ تُرد بالثَّاني الأول وإن وصفته بما لا يقتضي المغايرة جاز ، كقولك : فأكرمت الرجل المذكور ، ومنه هذه الآية ، فإنَّ « الأشهر » قد وصفت ب « الحُرُم » ، وهي صفةٌ مفهومة من فحوى الكلام فلم تقتض المغايرة ، ويجوزُ أن يراد بها غيرُ الأشهر المتقدمة ، فلا تكون « أل » للعهد وقد ذكر المفسرون الوجهين .
قالوا : المرادُ بالأشهر الحرم : الأربعة ، رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم .
وقال مجاهدٌ وابن إسحاق : « هي شهور العهد فمن كان له عهد فعهده أربعة أشهر ، ومن لا عهد له فأجله إلى انقضاء المحرم خمسون يوماً » .
وقيل لها حرم : لأنَّ الله حرَّم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتَّعرض لهم .
فإن قيل : هذا القدر بعض الأشهر الحرم ، واللهُ تعالى يقول : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم } . قيل : لمَّا كان القدر متصلاً بما مضى أطلق عليه اسم الجمع ، ومعناه : مضت المدة المضروبة التي يكون معها انسلاخ الأشهر الحرم .
قوله { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } .
اعلم أنَّه تعالى أمر بعد انقضاءِ الأشهر الحرم بأربعة أشياء :
أولها : قوله : { فاقتلوا المشركين } أي : على الإطلاق في أي وقت كان في الحل أو الحرمِ .
وثانيها : « وَخُذُوهُمْ » أي : أسروهم .
وثالثها : « واحصروهم » والحصر : المنع ، أي : امنعوهم من الخروج إن تحصنوا ، قاله ابن عباس .
وقال الفرَّاءُ « امنعوهم من دخول مكَّة والتَّصرف في بلاد الشام » .
ورابعها : قوله { واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } . في انتصاب « كل » وجهان :
أحدهما : أنه منصوبٌ على الظرف المكاني .
قال الزجاج « نحو : ذهبت مذهباً » . وردَّ عليه الفارسيُّ هذا القول من حيث إنَّه ظرف مكان مختص ، والمكانُ المختصُّ لا يصلُ إليه الفعلُ بنفسه بل بواسطة؛ في نحو : صَلَّيْتُ في الطريق وفي البيت ، ولا يصل بنفسه إلاَّ في ألفاظٍ محصورةٍ بعضها ينقاس ، وبعضها يسمع ، وجعل هذا نظير ما فعل سيبويه في بيت ساعدة : [ الكامل ]
2745- لَدْنٌ بِهزِّ الكفِّ يعْسِلُ متنهُ ... فيهِ كما عسل الطَّريقَ الثَّعْلَبُ
وهو أنَّهُ جعله ممَّا حذف فيه الحرفُ اتِّساعاً ، لا على الظرف ، لأنه ظرف مكان مختص .
قال أبو حيَّان « إنه ينتصبُ على الظرف؛ لأنَّ معنى » واقعُدُوا « لا يراد به حقيقةُ القعود ، وإنما يراد : ارصدوهم ، وإذا كان كذلك فقد اتفق العامل والظرف في المادة ، ومتى أتفقا في المادة لفظاً ، أو معنًى ، وصل إليه بنفسه ، تقول : جلست مجلس القاضي ، وقعدت مجلس القاضي ، والآيةُ من هذا القبيل » .
والثاني : أنه منصوبٌ على إسقاط حرف الجر ، وهو « على » ، أي : على كلِّ مرصد قاله الأخفشُ ، وجعله مثل قول الآخر : [ الطويل ]
2746- تَحِنُّ فتبدي مَا بِهَا مِنْ صبابَةٍ ... وأخْفِي الذي لَوْلاَ الأسَى لَقَضانِي
وهذا لا ينقاس ، بل يقتصر فيه على السَّماع ، كقوله : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ } [ الأعراف : 16 ] ، أي : على صراطك ، اتفق الكل على تقدير « على » ، وقال بعضهم : هو على تقدير الباء ، أي : بكل مرصد ، نقله أبو البقاء ، وحينئذٍ تكون الباء بمعنى « في » فينبغي أن تقدَّر « في » لأنَّ المعنى عليها؛ وجعله نظير قول الشاعر : [ الوافر ]
2747- نُغَالِي اللَّحْمَ للأَضْيَافِ نَاسِياً ... أنَّ المنيَّةَ للْفَتَى بالمَرْصَدِ
والمِرْصَادُ : المكانُ المختص بالترصُّد ، والمرصد : يقع على الرَّاصد ، سواءً كان مفرداً أم مثنى أم مجموعاً ، وكذلك يقع على « المرصُودِ » . وقوله تعالى : { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } [ الجن : 27 ] يحتمل كلَّ ذلك؛ وكأنَّهُ في الأصل مصدر ، فلذلك التزم فيه الإفرادُ والتذكيرُ .
ومعنى الآية : اقعدوا لهم على كلِّ طريق - والمرصدُ : الموضعُ الذي يرقب فيه العدو يريد : كونُوا لهم رصداً ، لتأخذوهم من أي وجه توجهوا .
قوله : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } أي : دعوهم ليتصرفوا في أمصارهم ، ويدخلوا مكَّة « إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ » لمن تاب « رَحيمٌ » به .
واحتجُّوا بهذه الآية على قتل تارك الصَّلاة؛ لأنَّ اللهَ تعالى أباح دم الكفَّار مطلقاً ثم حرَّمها عند التوبة ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، فإذا لم توجد الثلاثة ، فإباحة الدَّم بحالها .
قال الحسينُ بن الفضلِ : « هذه الآية تنسخ كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصَّبر على أذى الأعداء » .
قوله تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ } الآية .
روى ابن عباس : أنَّ رجلاً من المشركين قال لعليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - : إن أردنا أن نأتي الرسول بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله ، أو لحاجة أخرى ، فهل نقتل؟ فقال عليٌّ - رضي الله عنه - : « لا » لأنَّ الله قال : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ } أي : فأمنه حتى يسمع كلام اللهِ .
فتقرير النظم : أنه لما أوجب بانسلاخ الأشهر الحرم قتل المشركين ، دلَّ ذلك على أن حجة الله تعالى قد قامت عليهم ، وأن ما ذكره عليه الصَّلاة والسَّلام قبل ذلك من الدلائل كفى في إزاحة عذرهم ، وذلك يقتضي أن أحداً من المشركين لو طلب الدَّليل والحجة لا يلتفت إليه ، بل يطالب إمَّا بالإسلام ، وإمَّا بالقتل ، فذكر الله تعالى هذه الآية إزالة لهذه الشبهة ، وبيَّن أنَّ الكافر إذا جاء طالباً الدَّليل والحجة ، أو طالباً لاستماع القرآن ، فإنَّه يجب إمهاله ويحرم قتله .
قوله : { وَإِنْ أَحَدٌ } كقوله { إِن امرؤ هَلَكَ } [ النساء : 176 ] في كونه من باب الاشتغال عند الجمهور .
قال ابنُ الخطيب : « أَحَدٌ » مرتفع بفعل مضمر يفسِّرهُ الظَّاهرُ ، وتقديره : « وإن استجارك أحد ، ولا يجُوز أن يرتفع بالابتداء ، لأنَّ » إنْ « من عوامل الفعل لا تدخل على غيره » . قوله « حتَّى يسمَعَ » يجوز أن تكون هنا للغاية ، وأن تكون للتَّعليلِ ، وعلى كلا التقديرين تتعلَّق بقوله « فَأجِرهُ » ، وهل يجُوزُ أن تكون هذه المسألةُ من باب التَّنازع أم لا؟ وفيه غموضٌ ، وذلك أنَّه يجوز من حيث المعنى أن تعلَّق « حتَّى » بقوله « استجاركَ » ، أو بقوله « فأجرهُ » إذ يجوز تقديره : وإن استجارك أحدٌ حتَّى يسمع كلام اللهِ فأجرهُ ، حتَّى يسمع كلام الله . والجوابُ أنه لا يجوزُ عند الجمهور ، لأمر لفظي من جهة الصناعة لا معنوي ، فإنَّا لو جعلناه من التَّنازع ، وأعملنا الأوَّل مثلاً ، لاحتاج الثَّاني إليه مضمراً على ما تقرَّر ، وحينئذٍ يلزمُ أنَّ « حتَّى » تجرُّ المضمر ، و « حتَّى » لا تجرُّهُ إلاَّ في ضرورة شعر كقوله : [ الوافر ]
2749- فَلا واللهِ لا يَلْقَى أنَاسٌ ... فتًى حتَّاكَ يا ابْنَ أبي يزيدِ
وأمَّا عند من يُجيزُ أن تجرَّ المضمر؛ فلا يمتنع ذلك عندهُ ، ويكون من إعمال الثَّاني لحذفه ، ويكون كقولك : فَرحْتُ ومررتُ بزيدٍ ، أي : فرحْتُ به ، ولو كان مِنْ إعمالِ الأوَّلِ لمْ يحذفْهُ من الثَّاني ، وقوله : « كَلاَمَ الله » من بابِ إضافة الصِّفةِ لموصوفها ، لا من بابِ إضافة المخلوقِ للخالِقِ ، و « مَأْمنَهُ » يجوزُ أن يكون مكاناً ، أي : مكان أمنه ، وأن يكون مصدراً ، أي : ثُمَّ أبلغْه أْمْنَهُ .
فصل في المراد من الآية
معنى الآية : وإن استجاركَ أحدٌ من المشركينَ الذين أمرتكَ بقتالهم وقتلهم أي : استأمنك بعد انسلاخ الأشهر الحرم ، ليسمع كلام الله « فأجرهُ » ، وأمنه « حتَّى يسمع كلام الله » فيما له وعليه من الثواب والعقاب . « ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ » أي : إن لم يسلم أبلغه الموضع الذي يأمنُ فيه ، وهو دار قومه ، فإن قاتلك بعد ذلك ، وقدرت عليه فاقتله .
« ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ » ، لا يعلمون دين الله وتوحيده ، فهم محتاجون إلى سماع كلام الله .
قال الحسنُ « هذه الآية محكمة إلى يوم القيامة » .
فصل
قالت المعتزلةُ : هذه الآية تدلُّ على أنَّ كلام اللهِ يسمعه الكافرُ ، والمؤمنُ ، والزنديقُ ، والصديق والذي يسمعه جمهور الخلق؛ ليس إلاَّ هذه الحروف والأصوات ، فدلَّ ذلك على أنَّ كلام اللهِ ليس إلاَّ هذه الحروف والأصوات ، ثمَّ من المعلوم بالضرورة ، أنَّ الحروف والأصوات لا تكون قديمة ، لأنَّ تكلم الله بهذه الحروف ، إمَّا أن يكون معاً ، أو على الترتيب ، فإن تكلَّم بها معاً لم يحصل منه هذا الكلام المنتظم؛ لأن الكلام لا يحصل مُنتظماً إلا عند دخول هذه الحروف في الوجودِ على التعاقب ، فلو حصلت معاً ، لما حصل الانتظام ، فلم يحصل الكلام ، وإن حصلت متعاقبةً؛ لزم أن ينقضي المتقدم ، ويحدث المتأخر ، وذلك يوجب الحدوث ، فدلَّ هذا على أنَّ كلام الله مُحدثٌ - قالوا فإن قلتم : إنَّ كلام الله شيءٌ مغايرٌ لهذه الحروف والأصوات فهو باطلٌ؛ لأن الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - ما كان يشير بقوله { كَلاَمَ الله } [ التوبة : 6 ] إلا إلى هذه الحروف والأصوات .
وقال آخرون : ثبت بهذه الآية أنَّ كلام الله ليس إلاَّ هذه الحروف والأصوات ، وثبت أن كلام الله قديمٌ ، فوجب القولُ بقدم الحروف والأصوات .
وقال ابنُ فورك : « إنا إذا سمعنا هذه الحروف والأصوات ، فقد سمعنا مع ذلك كلام الله تعالى » . وأنكروا عليه هذا القول؛ لأنَّ الكلام القديم ، إمَّا أن يكون نفس هذه الحروف والأصوات ، وإمَّا أن يكون شيئاً آخر مغايراً لها .
والأول قول الزجاج ، وهو باطلٌ ، لأنَّ ذلك لا يليقُ بالعقلاء .
والثاني باطلٌ ، لأنَّا على هذا التقدير ، لمَّا سمعنا هذه الحروف والأصوات ، فقد سمعنا شيئاً آخر يخالفُ ماهيَّة هذه الحروف والأصوات لكنَّا نعلم بالضرورةِ أنا عند سماع هذه الحروف والأصوات لم نسمع شيئاً آخر سواها ولم يدرك سمعنا شيئاً مغايراً لها ، فسقط هذا الكلام .
والجواب عن كلام المعتزلة : أن يقال هذا الذي نسمعه ليس عين كلام الله على مذهبكم؛ لأنَّ كلام الله ، ليس الحروف والأصوات التي خلقها أولاً ، بل تلك الحروف والأصوات انقضت ، وهذه التي نسمعها حروف وأصوات فعلها الإنسان ، فما ألزمتموه علينا فهو لازم عليكم .
فصل
قال الفقهاءُ : إذا دخل الكافر الحربي دار الإسلامِ ، كان مَغْنُوماً مع ماله ، إلاَّ أن يدخل مستجيراً لغرض شرعي ، كاستماع كلام الله رجاء الإسلام ، أو دخل لتجارة ، فإن دخل بأمان صبي أو مجنون ، فأمانهما شبهة أمان؛ فيجب تبليغه مأمنه ، وهو أن يبلغ مَحْرُوساً في نفسه وماله إلى مكانه الذي هو مأمن له ، ومن دخل منهم دار الإسلام رسُولاً ، فالرسالة أمانٌ ، ومن دخل ليأخذ مالاً له في دار الإسلام ، ولماله أمان ، فأمان ماله أمان له .
{ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ } الآية .
في خبر « يكون » ثلاثةُ أوجهٍ :
أظهرها : أنَّهُ « كيف » ، و « عَهْدٌ » اسمُها والخبر هنا واجبُ التقديم ، لاشتماله على ما لهُ صدر الكلام ، وهو الاستفهامُ ، بمعنى الاستنكار ، كقولك : كيف يُسْتفتَى مثلك؟ أي : لا ينبغي أن يستفتى .
و « للمشركين » على هذا يتعلق إمَّا ب « يكُونُ » ، عند من يجيزُ في « كانَ » أن تعمل في الظَّرف وشبهه ، وإمَّا بمحذوفٍ ، على أنَّها صفةٌ ل « عَهْدٌ » ، في الأصلِ ، فلمَّا قُدِّمتْ نصبت حالاً ، و « عِند » يجوز أن تكون متعلقةً ب « يكون » أو بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل « عَهْدٌ » أو متعلقة بنفس « عَهْدٌ » لأنه مصدرٌ .
والثاني : أن يكون الخبرُ « للمشركين » ، و « عند » على هذا فيها الأوجه المتقدمة ، ويزيد وجهاً رابعاً وهو أنه يجوزُ أن يكون ظرفاً للاستقرار الذي تعلَّق به « للمُشركين » .
والثالث : أن يكون الخبرُ « عِندَ اللهِ » ، و « للمُشركينَ » على هذا إمَّا تبيين ، وإمَّا متعلقٌ ب « يكون » عند من يُجيز ذلك - كما تقدَّم - وإمَّا حالٌ من « عَهْدٌ » . وإمَّا متعلقٌ بالاستقرار الذي تعلَّق به الخبر ، ولا يبالى بتقديم معمولِ الخبر على الاسم لكونه حرف جرّ ، « كَيْفَ » على هذين الوجهين مُشْبهةٌ بالظَّرفِ ، أو بالحال ، كما تقدَّم تحقيقه في : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } [ البقرة : 28 ] .
ولمْ يذكُرُوا هنا وجْهاً رابعاً - وكان ينبغي أن يكون هو الأظهر - وهو أن يكون الكونُ تاماً ، بمعنى : كيف يوجدُ عهدٌ للمشركينَ عند اللهِ؟ والاستفهام هنا بمعنى النَّفي ، ولذلك وقع بعده الاستثناء ب « إلاَّ » ومن مجيئه بمعنى النفي أيضاً قوله :
2750- فَهَذِي سُيوفٌ يا صُدَيُّ بن مالكٍ ... كثيرٌ ، ولكنْ كيف بالسَّيْفِ ضَارِبُ
أي : ليس ضاربٌ بالسَّيْفِ ، وفي الآية محذوفٌ تقديره : كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر فيما وقع من العهد .
قوله : { إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام } في الاستثناء وجهان :
أحدهما : أنَّهُ منقطعٌ ، أي : لكن الذين عاهدتم ، فإنَّ حكمهم كيت وكيت .
والثاني : أنَّهُ متَّصلٌ ، وفيه حينئذٍ احتمالان :
أحدهما : أنَّهُ منصوبٌ على أصْلِ الاستثناء من المُشركينَ .
والثاني : أنه مجرورٌ على البدل منهم؛ لأنَّ معنى الاستفهام المتقدم نفيٌ ، أي : ليس يكونُ للمشركين عهدٌ إلا للذين لم ينكُثوا ، وقياسُ قول أبي البقاءِ فيما تقدَّم أن يكون مرفوعاً بالابتداء ، والجملةُ من قوله « فَمَا استقاموا » خبره .
فصل
معنى الآية : أي : لا يكون لهم عهد عند الله ، ولا عند رسوله وهم يغدرون ، وينقضون العهد ، ثم استثنى فقال : { إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام } .
قال ابنُ عباسٍ : « هُمْ قُريْش » .
وقال قتادة « هم أهلُ مكَّة الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحُديبيةِ » .
قال تعالى : { فَمَا استقاموا لَكُمْ } أي : على العهد { فاستقيموا لَهُمْ } [ يعني ما أقاموا على العهد ثم إنهم لم يستقيموا ] ونقضوا العهد ، وأعانوا بني بكر على خزاعة ، فضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح أربعة أشهر يختارون من أمرهم ، وإمَّا أن يلحقوا بأي بلاد شاءوا ، فأسلموا قبل الأربعة أشهر .
وقال السدي والكلبي وابن إسحاق : إنهم قبائل من بني بكر وهم خزيمةُ ، وبنو مدلج من ضمرة ، وبنو الديل ، وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية ولم يكن نقض إلاَّ قريش ، وبنو الديل من بكرٍ؛ فأمر بإتمام العهد لمنْ لم ينقض وهو بنو ضمرة ، وهذا القول أقرب إلى الصواب؛ لأنَّ هذه الآيات نزلت بعد نقض قريش العهد وبعد فتح مكَّة؛ لأنَّ بعد الفتح كيف يقول قد مضى : { فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا لَهُمْ } .
وإنَّما هم الذين قال الله - عزَّ وجلَّ - فيهم : { إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } [ التوبة : 4 ] كما نقصكم قريش ، ولم يظاهروا عليكم كما ظاهرت قريش بني بكر على خزاعة ، وهم حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قوله « فَمَا استقاموا » يجوزُ في « ما » أن تكون مصدرية ظرفيةً ، وهي محلِّ نصب على ذلك أي : فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم ، ويجوزُ أن تكون شرطيةً ، وحينئذٍ ففي محلِّها وجهان :
أحدهما : أنَّها في محلِّ نصب على الظَّرف الزماني ، والتقدير : أيَّ زمانٍ استقاموا لكم فاستقيموا لهم ، ونظَّره أبو البقاءِ بقوله : { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } [ فاطر : 2 ] .
والثاني : أنها في محلِّ رفع بالابتداء ، وفي الخبر الأقوال المشهورة ، و « فاستقيمُوا لهُم » جواب الشرط ، وقد نحا إليه الحوفيُّ ، ويحتاجُ إلى حذف عائد ، أي : أي زمانٍ استقاموا لكم فاستقيموا لهم ، وقد جوَّز ابنُ مالكٍ في « ما » المصدرية الزمانية أن تكون شرطية جازمة ، وأنشد على ذلك : [ الطويل ]
2751- فَمَا تَحْيَ لا تَسْأمْ حَيَاةٌ وإنْ تَمُتْ ... فَلا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا ولا العَيْشِ أَجْمَعَا
ولا دليل فيه ، لأنَّ الظاهر الشرطيةُ من غير تأويلٍ بمصدريَّة وزمانٍ .
قال أبُو البقاءِ : « ولا يجوز أن تكون نافيةً ، لفساد المعنى ، إذ يصير المعنى استقيموا لهم؛ لأنَّهم لم يستقيموا لكم » . ثم قال تعالى : { إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين } أي : من اتقى الله فوفى بعهده لمن عاهده .
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)
قوله تعالى : { كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } الآية .
المستفهمُ عند محذوفٌ ، لدلالة المعنى عليه ، فقدَّره أبو البقاءِ « كيف تَطْمئنون ، أو كيف يكونُ لهم عهدٌ » ؟ وقدَّره غيره : كيف لا تقاتلونهم؟ . والتقدير الثاني مِنْ تقديري أبي البقاء أحسنُ؛ لأنَّه من جنس ما تقدَّم ، فالدلالةُ عليه أقْوى .
وقد جاء الحذفُ في هذا التركيب كثيراً ، وتقدَّم منه قوله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ } [ آل عمران : 25 ] ، { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا } [ النساء : 41 ] ؛ وقال الشاعر : [ الطويل ]
2752- وخَبَّرْتُمَاني أنَّما الموتُ في القُرَى ... فكيْفَ وهاتا هَضْبَةٌ وكَثِيبُ
أي : كيف مات؟ وقال الحطيئةُ : [ الطويل ]
2753- فَكيْفَ ولمْ أعلمْهُم خَذلُوكُمُ ... علَى مُعظمٍ ولا أديمَكُمُ قدُّوا
أي : كيف تلومونني في مدحهم؟
قال أبُو حيَّان : « وقدَّر أبو البقاءِ الفعل بعد » كيف « بقوله : » كيف تطمئنون « ، وقدَّره غيره ب » كيف لا تقاتلونهم « ؟ .
قال شهابُ الدِّين : » ولم يقدره أبُو البقاء بهذا وحده ، بل به ، وبالوجه المختار كما تقدَّم منه « .
قوله » كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا « » كيف « تكرار ، لاستبعاد ثبات المشركينَ على العهد ، وحذف الفعل ، لكونه معلوماً ، أي : كيف يكون لهم عهد وحالهم أنَّهُمْ إن يظهروا عليكم بعد ما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق ، لم ينظروا في حلف ولا عهد ولا يبقوا عليكم . والجملة الشرطية من قوله : » إِن يَظْهَرُوا « في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، أي : كيف يكونُ لهم عهدٌ ، وهم على حالةٍ تنافي ذلك؟ وقد تقدَّم تحقيق هذا عند قوله : { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } [ الأعراف : 169 ] ، و » لا يرْقُبوا « جوابُ الشرط ، وقرأ زيد بن علي : » وإن يُظهَرُوا « ببنائه للمفعول ، من أظهره عليه ، أي : جعله غالباً له ، يقال : ظهرت على فلان : إذا علوته ، وظهرت على السطح : إذا صرت فوقه .
قال اللَّيْثُ : » الظُّهور : الظَّفر بالشَّيء ، وأظهر اللهُ المسلمين على المشركين ، أي : أعلاهُم عليهم « . قال تعالى : { فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ } [ الصف : 14 ] وقوله : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } [ التوبة : 33 ] أي : ليعليه .
قوله : » لاَ يَرْقُبُواْ « قال الليثُ » رقبَ الإنسانَ يرقبُ رقْبةً ورِقْبَاناً ، هو أن ينتظره « .
والمعنى : لا ينتظروا ، قاله الضحاكُ ، ورقيب القوم : حارسهم ، وقوله : { وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } [ طه : 94 ] أي : لم تحفظه .
وقال قطربٌ : » لا يراعوا فيكم إلاَّ « . قوله : » إلاًّ « مفعولُ به ب » يَرْقُبُوا « . وفي » الإِلِّ « أقوالٌ » .
أحدها : أنَّ المراد به العهد ، قاله أبو عبيدة ، وابن زيد ، والسديُّ وكذلك الذمة ، إلاَّ أنه كرر ، لاختلاف اللفظين؛ ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
2754- لَوْلاَ بنُو مالكٍ ، والإِلُّ مَرْقبةٌ ... ومالكٌ فيهمُ الآلاءُ والشَّرَفُ
أي : الحِلْف؛ وقال آخر : [ المتقارب ]
2755- وجَدْناهُمُ كَاذِباً إلُّهُمْ ... وذُو الإِلِّ والعَهْدِ لا يَكْذِبُ
وقال آخر : [ الرمل ]
2756- أفْسَدَ النَّاسَ خُلُوفٌ خَلَفُوا ... قَطَعُوا الإِلَّ وأعْرَاقَ الرَّحِمْ
وفي حديث أمِّ زرع بنت أبي زرع : « وفيُّ الإلِّ ، كريمُ الخِلِّ ، بَرُودُ الظِّلِّ » أي؛ وفَيُّ العهد .
الثاني : أنه القرابةُ ، قاله ابنُ عبَّاسٍ والضحاك ، وبه قال الفراء وأنشدوا لحسان : [ الوافر ]
2757- لَعَمْرُكَ إِنَّ إِلَّكَ مِنْ قُريشٍ ... كإِلِّ السَّقْبِ من رَألِ النَّعَامِ
وأنشد أبو عبيدة على ذلك قوله : [ الرمل ]
2758- . ... قَطَعُوا الإِلَّ وأعراقَ الرَّحِمْ
والظَّاهر أنَّ المراد به العهد - كما تقدَّم - لئلاَّ يلزم التكرار .
الثالث : أنَّ المراد به الله - تعالى - أي : هو اسم من أسمائه ، واستدلُّوا على ذلك بحديث أبي بكر لمَّا عرض عليه كلام مُسَيْلمة - لعنه الله - « إنَّ هذا الكلام لم يخرج من إلّ » ، أي : الله - عز وجل - قاله أبو مجْلزٍ ، ومجاهد وقال عبيد بن عمير : يُقرأ جِبْرَئل بالتشديد ، يعني عبد الله ولم يرتض هذا الزجاج ، قال : « لأنَّ أسماءه - تعالى - معروفة في الكتابِ والسُّنَّةِ - ولم يُسمَعْ أحدٌ يقول : يا إلُّ ، افعلْ لي كذا » .
الرابع : أنَّ : « الإلَّ » الجُؤار ، وهو رفعُ الصَّوت عند التحالُف ، وذلك أنهم كانوا إذا تماسحوا ، وتحالفوا ، جأرُوا بذلك جُؤاراً . ومنه قول أبي جهل : [ الطويل ]
2759- لإلِّ عَليْنَا واجب لا نُضيعُهُ ... مَتِينٍ قُوَاهُ غَيْرِ مُنْتكِثِ الحَبْلِ
الخامس : أنه من : ألَّ البرقُ ، أي : لَمَعَ .
قال الأزهريُّ : « الأليل : البريق ، يقال : ألَّ يؤلُّ ، أي : صَفَا ولَمَعَ » ، ومنه الألَّة ، للمعانها .
وقيل : الإلّ من التحديد ، ومنه « الألَّةٌ » الحَرْبة ، وذلك لحدَّتها ، وقد جعل بعضهم بين هذه المعاني قدراً مشتركاً ، يرجعُ إليه جميعُ ما تقدَّم ، فقال الزَّجَّاجُ : « حقيقةُ الإلِّ عندي على ما تُوحيه اللغة : التحديد للشيء ، فمن ذلك الألَّةُ : الحَرْبَةُ ، وأذنٌ مُؤلَّلَة ، فالإلُّ يخرج في جميع ما فُسِّر من العهد ، والقرابةِ ، والجُؤارعلى هذا ، فإذا قلت في العهد : بينهما إلٌّ ، فتأويلُه أنَّهُمَا قد حَدَّدَا في أخْذ العهود ، وكذلك في الجُؤار والقرابة » .
وقال الرَّاغبُ : « الإِلُّ » كلُّ حالةٍ ظاهرة من عَهْدٍ ، وحِلْفٍ ، وقرابة تَئِلُّ ، أي : تَلْمَعُ ، وألَّ الفرسُ : أسرع . والألَّةُ : الحرْبَةُ اللاَّمعة « وأنشد غيرُهُ على ذلك قول حماس بن قيسٍ يوم فتح » مكَّة « : [ الرجز ]
2760- إنْ تَقْتلُوا اليوْمَ فَمَا لِي عِلَّه ... سِوَى سِلاحٍ كاملٍ وألَّه ... وذِي غِرَارَيْنِ سَريعِ السَّلَّه ... قال : وقيل : الإلُّ والإيلُ : اسماه لله - تعالى - ، وليس ذلك بصحيحٍ .
قال الأزهريُّ » « إيل » من أسماء الله بالعبرانية؛ فجاز أن يكون عُرِّب ، فقيل : « إلّ » والأللان : صفحتا السكّين « . انتهى ، ويجمع الإلُّ في القلَّة على آلِّ ، والأصل : » أألُل « بزنة » أفْلُس « ، فأبدلت الهمزةُ الثانية ألفاً ، لسكونها بعد أخرى مفتوحة ، وأدغمت اللاَّمُ في اللام ، وفي الكثرة على » إلالٍ « ك » ذِئْب وذِئَاب « .
و « الألُّ » بالفتح : قيل : شدَّة القنوط . قال الهرويُّ في الحديث : « عجب ربكم من ألِّكُم وقُنوطكم » . قال أبو عبيدة : المحدِّثون يقولونه بكسر الهمزة ، والمحفوظ عندنا فَتَحُها ، وهو أشبَهُ بالمصادرِ ، كأنَّه أرادَ : من شدَّة قنوطكم ، ويجوزُ أن يكون من رفع الصَّوت ، يقال : ألَّ يَؤُلُّ ألاَّ ، وأللاً ، وألِيلاً ، إذا رفع صوته بالبكاء ، ومنه يقال له : الويل والألِيل؛ ومنه قول الكميت : [ البسيط ]
2761- وأنتَ مَا أنتَ فِي غَبْراءَ مُظْلِمَةٍ ... إذَا دَعَتْ أَلَلَيْهَا الكَاعِبُ الفُضُلُ
انتهى .
وقرأ فرقة « ألاَّ » بالفتح ، وهو على ما ذكر من كونه مصدراً ، من « ألَّ يَؤلُّ إذا عاهد . وقرأ عكرمة : » إيلاً « بكسر الهمزة ، بعدها ياءٌ ساكنة ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّه اسمُ الله تعالى ، ويُؤيِّده ما تقدم في : { لِّجِبْرِيلَ } [ البقرة : 97 ] ، و { إِسْرَائِيلَ } [ البقرة : 40 ] أنَّ المعنى : عبدُ اللهِ .
الثاني : يجوزُ أن يكون مشتقاً مِن : آل يَؤُولُ : إذا صَارَ إلى آخر الأمر ، أو من : آل يؤولُ : إذا سَاسَ ، قاله ابنُ جني ، أي : لا يرقبون فيكم سياسةً ولا مُداراة ، وعلى التقديرين سكنت الواو بعد كسرة فقُلبتء ياءً ، ك : » ريح « .
الثالث : أنه هو » الإِلُّ « المضعف ، وإنَّما اسْتُثقل التَّضعيفُ ، فأبدل إحداهما حرف علةٍ ، كقولهم : أمْلَيْتُ الكتاب ، وأمْلَلْتُه .
وقال الشاعر : [ البسيط ]
2762- يَا لَيْتَمَا أمَّنَا شالتْ نَعامتُهَا ... أيْمَا إلى جنَّةٍ أيْمَا إلى نَارِ
قوله : » وَلاَ ذِمَّةً « الذِّمَّة قيل : العَهْد ، فيكون ممَّا كُرِّرَ لاختلافِ لفظه ، إذا قلنا : إنَّ الإلَّ العهدُ أيضاً ، فهو كقوله تعالى : { صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } [ البقرة : 157 ] ، وقوله : [ الوافر ]
2763- . . ... وألْقَى قولَها كَذِباً ومَيْنَا
وقوله : [ الطويل ]
2764- . ... وهندٌ أتَى من دُونهَا النَّأيُ والبُعْدُ
وقيل : الذِّمَّة : الضَّمان ، يقال : هو في ذمَّتي ، أي : في ضماني ، وبه سُمِّي أهل الذِّمَّة ، لدخولهم في ضمانِ المسلمين . ويقال : له عليَّ ذمَّةٌ ، وذِمام ومذمَّة ، وهي الذمُّ قال ذلك ابن عرفة ، وأنشد لأسامة بن الحارث : [ الطويل ]
2765- يُصَيِّحُ بالأسْحَارِ في كلِّ صارةٍ ... كمَا نَاشَدَ الذَّمَّ الكَفيلَ المُعَاهِدُ
وقال الرَّاغِبُ » الذِّمامُ : ما يُذَمُّ الرجلُ على إضاعته من عهدٍ ، وكذلك الذِّمَّة ، والمَذمَّة والمِذمة ، يعني بالفتح والكسر . وقيل : لي مَذَمَّةٌ فلا تهتكها « وقال غيره : » سُمِّيَتْ ذِمَّة ، لأنَّ كُلَّ حُرْمة يلزمك من تضييعها الذَّمُّ ، يقال لها : ذِمَّة ، وتجمع على « ذِمِّ » ، كقوله : [ الطويل ]
2766- . . ... كَمَا نَاشَدَ الذَّمِّ
وعلى ذممٍ ، وذِمَامٍ « . وقال أبو زيد : » مَذِمَّة ، بالكسْرِ من الذِّمام ، وبالفتح من الذَّمِّ « .
وقال الأزهري : » الذِّمَّة : الأمان « . وفي الحديث : » ويسعى بذمَّتِهم أدْناهُمْ « .
قال أبو عبيد : » الذِّمَّة : الأمانُ ههنا ، يقول إذا أعطى أدنى الناسُ أماناً لكافر نفذَ عليهم ، ولذلك أجاز عمر - رضي الله عنه - أمان عبدٍ على جميع العسكر « .
وقال الأصمعي « الذِّمَّة : ما لَزِم أن يُحفظَ ويُحْمَى » .
قوله : « يُرْضُونَكُم » فيه وجهان :
أحدهما : أنه مستأنفٌ ، وهذا هو الظاهر ، أخبر أنَّ حالهم كذلك .
والثاني : أنها في محلِّ نصب على الحال من فاعل « لاَ يَرْقُبُواْ » .
قال أبُو البقاءِ : « وليس بشيءٍ؛ لأنَّهم بعد ظهورهم لا يُرْضُون المؤمنين » .
ومعنى الآية : يعطونكم بألسنتهم خلاف ما في قلوبهم .
قوله : « وتأبى قُلُوبُهُمْ » يقالُ : أبَى يَأبَى ، أي : اشتد امتناعه ، فكلَّ إباءٍ امتناعٌ من غير عكس ، قال : [ الطويل ]
2767- أبَى اللهُ إلاَّ عَدْلَهُ ووفاءهُ ... فَلاَ النُّكْر مَعْروفٌ ولا العُرْفُ ضَائِع
وقال آخر : [ الطويل ]
2768- أَبَى الضَّيْمَ والنُّعمانُ يَحْرِقُ نَابَهُ ... عَليْهِ فأفْضَى والسُّيوفُ مَعَاقِلُهْ
فليس مَنْ فسَّره بمطلق الامتناع بمصيبٍ . ومجيءُ المضارعِ منه على « يفعل » بفتح العين شاذٌّ ، ومثله « قَلَى يَقْلَى في لغة » .
فصل
المعنى : « وتأبى قُلُوبُهُمْ » الإيمان « وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ » وفيه سؤالان :
السؤال الأول : أنَّ الموصوفين بهذه الصفة كفار ، والكفر أقبح وأخبث من الفسق ، فكيف يحسن وصفهم بالفسق في معرض المبالغة؟
السؤال الثاني : أنَّ الكفار كلُّهم فاسقون ، فلا يبقى لقوله : « وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ » فائدة ، والجواب عن الأوَّلِ : أنَّ الكافِر قد يكونُ عَدْلاً في دينه ، وقد يكون فاسقاً خبيث النفس في دينه ، فالمرادُ أن هؤلاء الكفار الذين من عادتهم نقض العهود ، « أكثرُهُمُ فَاسقُون » في دينهم ، وذلك يوجب المبالغة في الذَّم .
والجوابُ عن الثَّاني عين الأوَّل؛ لأنَّ الكافر قد يكون محترزاً عن الكذب ، ونقض العهد ، والمكر ، والخديعة وقد يكون موصوفاً بذلك ، ومثل هذا الشَّخص يكون مذموماً عند جميع النَّاسِ ، وفي جميع الأديان .
ومعنى الآية : أنَّ أكثرهم موصوف بهذه الصفات الذميمة . وقال ابنُ عبَّاسٍ « لا يبعدُ أن يكون بعض أولئك الكفار قد أسلم ، وتاب ، فلهذا السبب قال : » وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ « . ليخرج عن هذا الحكم ، أولئك الذين أسْلَمُوا » .
قوله { اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
قال مجاهدٌ « أطعم أبو سفيان حلفاءه ، وترك حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقضوا العهد الذي كان بينهم بسبب تلك الأكلة » . وقال ابنُ عبَّاسٍ : « إنَّ أهل الطائف أمدرهم بالأموال ليقووهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم » .
وقيل : لا يبعدُ أن تكون طائفة من اليهود ، أعانوا المشركين على نقض العهود ، فكان المراد من هذه الآية ، ذم أولئك اليهود ، وهذا اللفظُ في القرآن ، كالأمر المختص باليهود ، ويتأكد هذا بأنَّ الله تعالى أعاد قوله : { لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } ولو كان المراد منه المشركين ، لكان هذا تكراراً محضاً ، وإذا حمل على اليهود لم يكن تكراراً ، فكان أوْلَى .
ثم قال : « إِنَّهُمْ سَآءَ » أي : بئس « مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ » .
قال أبُو حيَّان : يجوزُ أن تكون على بابها من التَّصرُّف والتعدِّي ، ومفعولها محذوفٌ ، أي : ساءهم الذي كانُوا يعملُونه ، أو عملُهم ، وأن تكون الجارية مَجْرى « بِئْسَ » فتُحَوَّل إلى « فَعُل » بالضمِّ ، ويمتنع تصرُّفها ، وتصيرُ للذَّم ، ويكون المخصوص بالذم محذوفاً ، كما تقرَّر مراراً .
قوله : { لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } أي : لا تبقوا عليهم أيها المؤمنون كما لا يبقُون عليكم لو ظهروا . { وأولئك هُمُ المعتدون } لنقض العهد ، وتعديهم ما حدّ اللهُ في دينه ، وما يوجبه العقد والعهد .
فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
قوله تعالى : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين } .
لمَّا بيَّن تعالى حال من لا يرقبُ في الله إلاًّ ولا ذمَّةً ، وينقض العَهْدَ ، ويتعدَّى ما حُدّ له . بيَّن بعده أنهم إن تابوا ، وأقاموا الصَّلاة ، وآتوا الزماة ، فهم : { فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين } .
فإن قيل : المعلق على الشيء بكلمة « إنْ » عدم عند عدم ذلك الشيء ، فهذا يقتضي أنَّهُ متى لم توجد هذه الثلاثة ، ولا تحصل الأخوة في الدِّين ، وهو مُشْكلٌ؛ لأنَّه ربَّما كان فقيراً ، أو كان غنيّاً ، لكن قبل انقضاءِ الحول ، لا تلزمه الزكاة .
فالجوابُ : أنَّه قد تقدَّم في تفسير قوله تعالى : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } [ النساء : 31 ] أن المعلق على الشَّيء بكلمة « إن » لا يلزم منه عدم ذلك الشَّيء ، كذلك ههنا ، ومن النَّاس من قال : إنَّ المعلق على الشَّيء بكلمة « إنْ » عدم عند عدم ذلك الشيء ، فها هنا قال : المؤاخاة بين المسلمين موقوفة على فعل الصلاة والزكاة جميعاً ، فإنَّ الله شرطها في إثبات المؤاخاة ، ومنْ لمْ يكن أهلاً لوجوب الزكاة عليه؛ وجب عليه أن يقرَّ بحكمها فإذا أقرَّ بهذا الحكم دخل في الشَّرط الذي به تجبُ الأخوة .
قوله : فإِخوَانُكُم خبرُ مبتدأ محذوف ، أي : فهم إخوانكم ، والجملةُ الاسمية في محلِّ جزمٍ على جواب الشرط ، وفِي الدِّينِ متعلِّقٌ ب « إخْوانُكُمْ » لِمَا فيه من معنى الفعل .
فصل
قال أبو حاتم « قال أهل البصرة أجمعون : الإخوة في النَّسب ، والإخوان في الصَّداقة » . وهذا غلطٌ ، يقال للأصدقاء وغير الأصدقاء إخوة ، وإخوان ، قال الله تعالى { إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ } [ الحجرات : 10 ] ولم يَعْنِ النَّسبَ ، وقال تعالى : { أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ } [ النور : 61 ] وهذا في النسب .
قال ابن عبَّاسٍ : « حرمت هذه الآية دماء أهل القبلةِ » ومعنى قوله : « فَإِخْوَانُكُمْ » أي : فهم إخوانكم « فِي الدين » لهم ما لكم ، وعليهم ما عليكم ، قال ابنُ مسعودٍ « أمرتم بالصَّلاةِ والزكاة فمن لم يزك فلا صلاة له » .
وروى أبو هريرة قال : لمَّا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر ، وكفر من كفر من العرب فقال عمرُ : كيف تقاتل النَّاس ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أمِرْتُ أنْ أقاتل النَّاس حتَّى يقُولُوا لا إلهَ إلاَّ اللهُ ، فمَنْ قَالهَا فقد عَصَمَ منِّي مالهُ ونَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّها وحِسابُهُ على اللهِ » فقال : والله لأقاتلنَّ مَنْ فرَّق بين الصلاةِ والزكاةِ ، فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم على منعه ، قال عمر : « فوالله ما هو إلاَّ أن شرح الله صدر أبي بكر للقتال ، فعرفت أنه الحقّ » .
قوله { وَنُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } قال الزمخشريُّ : وهذا اعتراض واقع بين الكلامين ، والمقصود : الحث والتحريض على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين وعلى المحافظة عليها .
قوله { وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم } نقضوا عهودهم ، « الأيمان » جمع « يمين » بمعنى : الحلف . « مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ » عقدهم . يعني : مشركي قريش . قال الأكثرون : المرادُ : نكثهم لعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل : المرادُ : حمل العهد على الإسلام ، ويؤيدهُ قراءة من قرأ « وإن نكثُوا إيمانَهُم » بكسر الهمزة والأول أولى ، للقراءة المشهورة؛ ولأنَّ الآية وردت في ناقضي العهد ، وقوله : { وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ } أي : عابوه ، وهذا دليلٌ على أنَّ الذِّمِّي إذا طعن في دين الإسلام ظاهراً لا يَبْقَى له عهد .
قوله : { فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر } أي : متى فعلوا ذلك فافعلوا هذا . قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو « أئِمَّة » بهمزتين ثانيتهما مُسهَّلة بَيْنَ بَيْنَ ، ولا ألف بينهما .
والكوفيون وابن ذكوان عن ابن عامر بتحقيقهما ، من غير إدخال ألف بينهما ، وهشام كذلك ، إلاَّ أنَّه أدخل بينهما ألفاً ، هذا هو المشهور بين القراء السبعة ، وفي بعضها كلامٌ يأتي إن شاء الله تعالى ، ونقل أبو حيان عن نافع ومن معه ، أنَّهم يبدلون الثانية ياء صريحة ، وأنَّهُ قد نُقِلَ عن نافعٍ المدُّ بينهما ، أي : بين الهمزة والياء . فأمَّا قراءةُ التحقيق ، وبينَ بينَ ، فقد ضعَّفها جماعةٌ من النحويين ، كأبي علي الفارسي ، وتابعيه ، ومن القرَّاء أيضاً من ضعَّف التَّحقيق مع روايته له وقراءتِهِ به لأصحابه ، ومنهم من أنكر التسهيل بينَ بينَ ، فلم يقرأ به لأصحاب التخفيف ، وقرءوا بياء خفيفة الكسر ، نَصُّوا على ذلك في كتبهم ، وأمَّا القراءةُ بالياء فهي التي ارتضاها الفارسيُّ ، وهؤلاء الجماعة؛ لأنَّ النُّطقَ بالهمزتين في كلمة واحدة ثقيل ، وهمزة بينَ بينَ بزنة المخففة .
والزمخشري جعل القراءة بصريح الياء لَحْناً ، وتحقيق الهمزتين غير مقبولٍ عند البصريين ، قال : « فإن قلت : كيف لفظ » أئمة « ؟ قلت : بهمزة بعدها همزةُ بين بين ، أي : بين مخرج الهمزة والياء وتحقيق الهمزتين قراءة مشهورة ، وإن لم تكنْ مقبولةً عند البصريين ، وأمَّا التصريحُ بالياء فلا يجوزُ أن تكون ، ومن قرأ بها فهو لاحن مُحرِّفٌ » .
قال أبُو حيَّان : « وذلك دَأبه في تلحين المقرئين ، وكيف يكون لحناً ، وقد قرأ بها رَأسُ النُّحاة البصريين أبو عمرو بن العلاءِ ، وقارىءُ أهْلِ مكة ابنُ كثير ، وقارىءُ أهل المدينة نافعٌ » ؟
قال شهابُ الدِّين : « لايُنقَمُ على الزمخشريُّ شيءٌ ، فإنه إنَّما قال : إنَّها غيرُ مقبولة عند البصريين ، ولا يلزم من ذلك أنه لا يقبلها ، غاية ما في الباب أنَّه نقل عن غيره ، وأمَّا التصريحُ بالياء فإنَّه معذورٌ فيه ، لما تقدَّم من أنه اشتُهِر بين القراء التسهيل بين بين ، لا الإبدال المحض ، حتَّى إنَّ الشَّاطبي جعل ذلك مذهباً للنحويين ، لا للقراء ، فالزمخشري إنما اختار مذهب القراء لا مذهب النُّحاة في هذه اللَّفظة » .
وقد رَدَّ أبو البقاء قراءة التَّسهيل بينَ بينَ ، فقال : « ولا يجوزُ هنا أن تجعل بين بين ، كما جعلت همزةث » أئذا « ؛ لأنَّ الكسرة هنا منقولة ، وهناك أصليةٌ ، ولو خُفِّفت الهمزةُ الثانية على القياس لقُلبت ألفاً ، لانفتاح ما قبلها ، ولكن تُرِكَ ذلك لتتحرك بحركةِ الميم في الأصل » .
قال شهابُ الدِّين « قوله » منقولةٌ « لا يُفيد؛ لأنَّ النقل هنا لازم ، فهو كالأصل ، وقوله » ولوْ خُفِّفَتْ على القياس « إلى آخره ، لا يُفيد أيضاً؛ لأنَّ الاعتناء بالإدغام سابقٌ على الاعتناء بتخفيف الهمزة » .
ووزن « أئِمَّة » « أفْعِلة » ، لأنَّها جمع « إمام » ك « حمار وأحْمِرة » والأصل : « أأمِمَة » فالتقى ميمان ، فأريد إدغامهما فنُقلت حركةُ الميم الأولى للسَّاكن قبلها ، وهو الهمزة الثانية ، فأدَّى ذلك إلى اجتماع همزتين ثانيتهما مكسورة ، فالنحويون البصريون يوجبون إبدال الثانية ياء ، وغيرهم يحقق ، أو يسهِّل بين بين ، ومنْ أدخلَ الألف فللخفَّة حتى يُفَرِّق بين الهمزتين ، والأحسنُ أن يكون ذلك في التحقيق ، كما قرأ هشام ، وأمَّا ما رواه أبو حيان عن نافع من المدِّ مع نقله عنه أنَّه يصرِّح بالياء فللمبالغة في الخفة .
قوله : « لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ » قرأ ابنُ عامر « لا أيمان » بكسر الهمزة ، وهو مصدرُ آمَن يُؤمن إيمانً . هل هو من الأمان؟ وفي معناه حينئذٍ وجهان :
أحدهما : أنهم لا يؤمنون في أنفسهم ، أي : لا يُعطون أماناً بعد نُكثهم وطعنهم ، ولا سبيل إلى ذلك .
والثاني : الإخبار بأنهم لا يُوفُون لأحدٍ بعهدٍ يعقدُونَه له ، أو من التصديق أي : إنَّهم لا إسلام لهم ، واختار مكيٌّ التأويل الأوَّل ، لما فيه من تجديد فائدة لمْ يتقدَّم لها ذكرٌ؛ لأنَّ وصفهم بالكفر وعدم الإيمان قد سَبَقَ وعُرِف .
وقرأ الباقون بالفتح ، وهو جمعُ يمين وهذا مناسب للنكث ، وقد أُجمع على فتح الثَّانية ، ويعني نفي الأيمان عن الكُفَّارِ ، أنَّهم لا يُوفُون بها وإن صدرتْ منهم وثَبتَتْ؛ وهذا كقول الآخر : [ الطويل ]
2769- وإِنْ حَلَفْتَ لا يَنْقُضُ النَّأيُ عَهْدَهَا ... فَليْسَ لِمخْضُوبِ البَنَانِ يَمِينُ
وبذلك قال الشَّافعي ، وحمله أبو حنيفةَ على حقيقته أنَّ يمين الكافرِ لا تكونُ يميناً شرعيةً ، وعند الشافعي يمينٌ شرعيةٌ .
فصل في المراد من الآية
معنى الآية : قاتلوا الكفار بأسرهم ، وإنَّما خصَّ الأئمة ، والسَّادة بالذِّكر ، لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع على الأفعال الباطلة .
قال ابنُ عبَّاسٍ : « نزلت في أبي سفيان بن حربٍ ، والحارث بن هشام ، وسهل بن عمرو ، وعكرمة بن أبي جهل ، وسائر رؤساء قريش يومئذٍ ، والذين نقضُوا العهد ، وهم الذين همُّوا بإخراج الرسول » ، وقال مجاهدٌ « هم أهل فارس والروم » وقال حذيفة بن اليمان « ما قُوتل أهل هذه الآية ، ولم يأت أهلها بعد » .
{ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ } أي : لا عهود لهم . ثم قال : { لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } وهو متعلق بقوله : { فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر } أي : ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعد ما وجد منهم من العظائم أن تكون المقاتلة سبباً في انتهائهم عن الكفر .
قوله تعالى : { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ } لما قال { فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر } أتبعه بذكر السبب الباعث على مقاتلتهم ، فقال { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ } نقضُوا عهودهم ، وهم الذين نقضوا عهد الصُّلح بالحديبية وأعانوا بني بكر على خزاعة ، { وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول } من مكة حين اجتمعُوا في دار النَّدوة . وقيل : المراد من المدينة ، لما أقدموا عليه من المشورة والاجتماع على قصده بالقتل ، وقيل : بل همُّوا على إخراجه من حيثُ أقدموا على ما يدعوه إلى الخروج ، وهو نقيضُ العهدِ ، وإعانة أعدائه ، فأضيف الإخراج إليهم توسعاً لما وقع منهم من الأمور الدَّاعية إليه .
وقوله : { وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول } إمَّا بالفعل ، وإمَّا بالعزم عليه ، وإن لمْ يُوجَدْ ذلك الفعل بتمامه ، واعلم أنَّه ذكر ثلاثة أشايء ، كل واحد منها يوجب مقاتلتهم إذا انفرد ، فكيف إذا اجتمعت؟
أحدها : نكثهم العهد .
والثاني : أنهم همُّوا بإخراج الرسول ، وهذا من أوكد موجبات القتال .
والثالث : قوله { وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } يعني : بالقتال يوم بدر؛ لأنَّهم حين سلم العير ، قالوا : لا ننصرف حتى نستأصل محمداً ومن معه .
وقال ناسٌ من المفسِّرين : أراد أنَّهُم بدأوا بقتال خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الحسنُ : لا يجوز أن يكون المراد منه ذلك؛ لأنَّ سورة براءة نزلت بعد فتح مكَّة .
وقوله : « أَوَّلَ مرَّةٍ » نصبٌ على ظرف الزَّمانِ ، وأصلها المصدر من « مَرَّ يَمُرُّ ، كما تقدم [ الأنعام : 94 ] .
قوله : { أَتَخْشَوْنَهُمْ فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } الجلالةُ مبتدأ ، وفي الخبر أوجهٌ :
أحدها : أنَّهُ » أحَقُّ « ، و » أن تخْشَوْهُ « على هذا بدل من الجلالة بدل اشتمال ، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ ، والتقدير : فخشية اللهِ أحَقُّ مِنْ خَشيتهم .
الثاني : أَنَّ » أَحَقُّ « خبر مقدم ، و » أَن تَخْشَوهُ « مبتدأ مؤخر ، والجملةُ خبرُ الجلالة .
الثالث : أنَّ » أَحَقُّ « مبتدأ ، و » أن تَخْشَوهُ « خبره ، والجملةُ أيضاً خبر الجلالة ، قاله ابن عطية ، وحسن الابتداء بالنكرة ، لأنها أفعل تفضيل ، وقد أجاز سيبويه أن تكون المعرفةُ خبراً للنكرة في نحو : اقصد رجلاً خيرٌ منه أبوه .
الرابع : أنَّ » أن تخشوه « في محلِّ نصب ، أو جرٍّ ، بعد إسقاطِ الخافضِ ، إذ التقدير : أحقُّ بأن تخشوه ، وقوله : { إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ } شرطٌ حذف جوابه ، أو قُدِّم على حسب الخلاف [ الأنفال : 1 ] .
فصل
هذا الكلامُ يقوي داعية القتال من وجوه :
الأول : أنَّ تقرير الموجبات القويَّة ، وتفصيلها ممَّا يُقَوِّي هذه الداعية .
الثاني : أنَّك إذا قلت للرجل : أتخشى خصمك؛ فكأنك تحرضه على القتال ، أي : لا تخف منه .
والثالث : قوله { فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } أي : إن كنت تَخْشَى أحَداً فالله أحقُّ أن تخشاه ، لكونه في غاية القدرة ، فالضَّررُ المتوقع منهم غايته القتل ، وأمَّا المتوقع من اللهِ فالعقابُ الشديد في القيامة ، والذم اللازم في الدُّنيا .
والرابع : قوله : { إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ } أي : إن كنتم موقنين بالإيمان ، وجب عليكم القتال ، أي : إنكم إن لم تقدموا على القتال ، وجب أن لا تكونوا مؤمنين .
فصل
حكى الواحديُّ عن أهل المعاني أنهم قالوا : « إذا قلت : ألا تفعل كذا ، فإنَّما يستعمل ذلك في فعل مقدر وجوده ، وإذا قلت : ألست تفعل ، فإنَّما تقول ذلك في فعل تحقَّق وجوده ، والفرقُ بينهما أنَّ » لا « ينفى بها المستقبل ، فإذا أدخلت عليها الألف كان تحضيضاً على فعل ما يستقبل ، و » ليس « إنما تستعمل لنفي الحال ، فإذا أدخلت عليها الألف صار لتحقيق الحال » .
فصل
نقل عن ابن عباس أنه قال قوله : { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً } ترغيب في فتح مكَّة وقوله : { قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ } أي : عهدهم ، يعني قريشاً حين أعانوا بني الديل بن بكر على خزاعة ، كما تقدم .
وقال الحسنُ « لا يجوزُ أن يكون المرادُ منه ذلك؛ لأنَّ سورة براءة نزلت بعد فتح مكَّة » .
فصل
قال الأصم « دلَّت الآية على أنَّهم كرهوا هذا القتال ، لقوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 216 ] فأمنهم الله تعالى بهذه الآيات » . قال القاضي « إنه تعالى قد يحث على فعل الواجب من لا يكون كارهاً له ، ولا مُقصراً فيه ، فإن أراد أن مثل هذا التحريض على الجهاد لا يقع إلاَّ وهناك كره للقتال ، لا يصح أيضاً ، لأنَّهُ يجوز أن يحث تعالى بهذا الجنس على الجهاد ، لكي لا يحصل الكره الذي لولا هذا التحريض كان يقع » .
فصل
قال القرطبيُّ « استدلُّوا بهذه الآية على وجوب قتل كل من طعن في الدِّين ، إذ هو كافر ، والطعنُ هو أن ينسب إليه ما لا يليقُ به ، أو يعترض بالاستخفاف على ما هو من الدِّين ، لما ثبت بالدليل القطعي على صحَّة أصوله ، واستقامة فروعه » قال ابنُ المنذر : « أجمع عامَّةُ أهل العلم على أنَّ من سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقتل » . قال القرطبيُّ : « وأمَّا الذِّمي إذا طعن في الدِّين انتقض عهده في المشهور من مذهب مالك ، لقوله تعالى : { وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ } [ التوبة : 13 ] الآية ، فأمر بقتلهم وقتالهم ، وهو مذهب الشَّافعي وقال أبو حنيفة : يستتابُ ، وإنَّ مجرَّد الطَّعن لا ينقض به العهد إلاَّ مع وجود النَّكث » .
فصل
[ إذا حارب الذميُّ انتقض عهده ، وكان ماله وولده فيئاً معه ] .
فصل
قال القرطبيُّ : « أكثر العلماء على أنَّ من سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذِّمة ، أو عرَّض ، أو استخفَّ بقدره ، أو وصفه بغير الوجه الذي نعت به فإنه يقتل؛ لأنَّا لَمْ نُعْطِه الذِّمة أو العهد على هذا ، لقوله تعالى : { وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم } الآية ، وقال أبو حنيفة والثوريُّ وأتباعهما من أهل الكوفة : لا يقتلُ ، لأنَّ ما هو عليه من الشرك أعظم ، ولكن يؤدَّب » .
فصل
قال القرطبي : « اختلفوا فيما إذا سبَّه ثم اسلم تقية من القتل ، فقيل : يسقطُ القتل بإسلامه ، وهو المشهور من المذاهب؛ لأن الإسلام يجُبُّ ما قبله . بخلاف المسلم إذا سبَّه ثم تاب ، قال تعالى : { قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] . وقيل : لا يسقط الإسلام قتله ، قاله في العتيبة » .
قوله تعالى : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ } الآية .
اعلم أنَّه تعالى لمَّا قال في الآية الأولى : « ألاَ تُقاتِلُونَ » وذكر الأشياء التي توجبُ إقدامهم على القتالِ ، ذكر في هذه الآية خمسة أنواع من الفوائد ، كلُّ واحد منها يعظم موقعه إذا انفرد فكيف إذا اجتمعت؟ .
أولها : قوله : { يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ } وسمى ذلك عذاباً؛ لأنَّ اللهَ تعالى يعذب الكافرين ، إن شاءَ في الدُّنيا ، وإن شاء في الآخرة ، والمراد من هذا العذاب القتل تارةً ، والأسر أخرى ، واغتنام الأموال ثالثاً .
فإن قيل : أليس قد قال تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] فكيف قال ههنا : { يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ } ؟ .
فالجواب : المراد من قوله { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] عذاب الاستئصال والمراد من قوله : { يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ } عذاب القتل والحرب ، والفرق بين البابين : أنَّ عذابَ الاستئصال قد يتعدَّى إلى غير المذنب ، وإن كان في حقه سبباً لمزيد الثواب ، أمَّا عذابُ القتل ، فالظَّاهر أنه مقصورٌ على المُذْنب .
فصل
احتج أهل السنة على أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى بقوله : { يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ } فإنَّ المراد من هذا العذاب ، القتل والأسر ، وظاهر هذا النص يدلُّ على أنَّ ذلك القتل والأسر فعل الله تعالى ، يدخله في الوجود على أيدي العباد .
وأجاب الجبائيُّ عنه فقال : لو جاز أن يقال إنَّهُ يعذب الكُفَّار بأيدي المؤمنين لجاز أن يقال : إنه يعذب المؤمنين بأيدي الكُفار ، ولجاز أن يقال : إنَّهُ يكذب الأنبياء على ألسنة الكُفَّار ، ويلعن المؤمنين على ألسنتهم ، لأنَّه تعالى خالق لذلك ، فلمَّا لم يَجُزْ ذلك عند المجبرة ، علم أنَّه تعالى لم يخلق أعمال العباد ، وإنَّما نسب ما ذكر إلى نفسه على سبيل التوسع من حيثُ إنَّهُ حصل بأمره وألطافه ، كما يضيف جميع الطاعات إليه بهذا التفسير .
وأجيب : بأنَّ الذي ألزمتموه علينا فالأمر كذلك ، إلاَّ أنا لا نقوله باللِّسانِ ، كما نعلم أنه تعالى هو الخالقُ لجميع الأجسام ، ثم إنا لا نقول : يا خالق الأبوال والعذرات ، ويا مكون الخنافس ، والديدان ، فكذا ههنا ، وأيضاً : أنا توافقنا على أن الزِّنا واللِّواط وسائر القبائح ، إنما حصلت بتقدير الله وتيسيره ، ثمَّ لا يجوز أن يقال : يا مسهل الزنا واللواط ، ويا دافع الموانع عنها .
وأما قوله : المراد إذن الإقدارُ ، فهذا صرف للكلام عن ظاهره ، وذلك لا يجوزُ إلاَّ لدليل قاهر ، والدَّليل القاهر من جانبنا ، فإنَّ الفعل لا يصدر إلاَّ عند الدَّاعية الحاصلة ، وحصول تلك الدَّاعية ليس إلاَّ من الله تعالى .
وثانيها : قوله : « ويُخْزِهِمْ » أي : يذلهم بالأسر والقهر ، قال الواحديُّ « إنهم بعد قتلكم إيَّاهم » وهذا يدلُّ على أنَّ الإخزاء وقع بهم في الآخرة ، هذا ضعيف لما تقدَّم من أنَّ الإخزاء حاصلٌ في الدنيا .
وثالثها : قوله : « وينصُرْكُم عليْهِمْ » أي : لمَّا حصل لهم الخزي ، بسبب كونهم مقهورين فقد حصل النصر للمسلمين [ بسبب ] كونهم قاهرين .
فإن قيل : لمَّا كان حصُولُ الخزي مستلزماً لحصول النصر ، كان إفراده بالذِّكرِ عبثاً .
فالجوابُ : ليس الأمر كذلك؛ لأنه يحتمل أن يحصل الخزي لهم من جهة المؤمنين ، إلاَّ أنَّ المؤمنين يحصل لهم آفة بسبب آخر ، فلمَّا قال : « وينصُرْكم عليْهِمْ » دلَّ على أنهم ينتفعون بهذا النصر والفتح والظفر .
ورابعها : قوله { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } . قرأ الجمهور بياء الغيبة ، رَدّاً على اسم الله تعالى ، وقرأ زيد بن علي « نشف » بالنُّون ، وهو التفات حسن ، وقال : « قَوْمٍ مُؤمنينَ » شهادة للمخاطبين بالإيمان ، فهو من باب الالتفات ، وإقامة الظَّاهر مقام المضمر ، حيث لم يقل « صدوركم » .
والمعنى : ويبرىء داء قلوب قَوْمٍ مُؤمنين مِمَّا كانُوا ينالُونه من الأذى منهم .
ومعلوم أنَّ من طال تأذِّيه من خصمه ، ثم مكَّنه الله منه على أحسنِ الوجوه ، فإنَّهُ يعظم سروره به ، ويصير ذلك سبباً لقوة النفس ، وثبات العزيمة .
وقال مجاهدٌ والسديُّ « أراد صدور خزاعة حلفاء رسول الله ، حيث أعانت قريش بني بكر عليهم حتى نكّلوا بهم ، فشفى الله صدورهم من بني بكر بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم » .
وخامسها : قوله : { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } كرْبَهَا ووَجْدهَا بمعونة قريش بني بكر عليهم .
فإن قيل : قوله { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } وبين قوله : { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } فهذه المنافع الخمسة ترجع إلى تسكين الدَّواعي الناشئة من القوَّة الغضبيَّة ، وهي التَّبشفي ، ودرك الثَّأر وإزالة الغيظ ، ولم يذكر فيها وجدان المال ، والفوز بالمطاعم والمشارب؛ لأنَّ العرب جبلوا على الحميّة والأنفة ، فرغبهُم في هذه المعاني لكونها لائقة بطباعهم .
وقرأ الجمهور : « ويُذْهب » بضمِّ الياء وكسرِ الهاء مِنْ : « أذْهَبَ » ، و « غَيْظَ » مفعول به وقرىء « ويَذْهَب » بفتح الياء والهاء ، جعله مضارعاً ل « ذَهَبَ » ، و « غيظُ » فاعل به وقرأ زيد بن علي كذلك ، إلاَّ أنَّه رفع الفعل مستأنفاً ، ولم ينسقْه على المجزم قبله ، كما قَرَءُوا « ويتوبُ » بالرفع عند الجمهور .
قوله : { وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ } قرأ الجمهور بالرَّفع ، وقرأ زيدُ بنُ علي ، والأعرج ، وابن أبي إسحاق ، وعمرو بن عبيد ، وعمرو بن فائد ، وعيسى الثقفي ، وأبو عمرو في رواية ويعقوب « ويتُوبَ » بالنَّصب ، فأمَّا قراءةُ الجمهور فإنَّهَا استئنافُ إخبارٍ ، وكذلك وقع ، فإنه قد أسلم ناسٌ كثيرون ، كأبي سفيان ، وعكرمة بن أبي جهل ، وسهيل بن عمرو وغيرهم .
قال الزجاج : وأبُو الفتح : وهذا أمرٌ موجودٌ ، سواءٌ قوتلوا ، أمْ لمْ يقاتلوا ، ولا وجه لإدخال التوبة في جواب الشرط الذي في : « قَاتِلُوهم » . يعنيان بالشَّرط : ما فُهِمَ من الجملة الأمرية . قالوا : ونظيره : { فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ } [ الشورى : 24 ] وتمَّ الكلامُ ههنا ، ثم استأنف فقال : { وَيَمْحُ الله الباطل } [ الشورى : 24 ] وأمَّا قراءةُ زيد ومنْ ذُكر معه فإنَّ التوبةَ تكونُ داخلة في جواب الأمر من طريقِ المعنى ، وفي توجيه ذلك غموضٌ ، فقال بعضهم : إنَّه لمَّا أمرهُمْ بالمقاتلة شقَّ ذلك على بعضهم ، فإذا أقدموا على المقاتلةِ صار ذلك العملُ جارياً مجرى التوبة من تلك الكراهة ، قاله الأصمُّ . فيصير المعنى : إن تقاتلوهم يُعذِّبهمُ الله ، ويتُبء عليكم من تلك الكراهة لقتالهم ، وقال آخرون - في توجيه ذلك - : إنَّ حصول الظَّفَر وكثرة الأموال لذَّةٌ تطلبُ بطريقٍ حرام ، فلمَّا حصلتْ لهُم بطريقٍ حلالٍ ، كان ذلك داعياً لهم إلى التَّوبة ممَّا تقدم ، فصارت التوبةُ معلقةً على المقاتلة .
وقال ابنُ عطية - في توجيه ذلك - : « يتوجه عندي إذا ذهب إلى أنَّ التوبة يراد بها هنا قتل الكافرين والجاهد في سبيل الله ، هو توبةٌ لكم أيها المؤمنون ، وكمالٌ لإيمانكم ، فتدخلُ التسوية على هذا في شرطِ القتال » .
قال أبُو حيان « وهذا الذي قرروه من كون التَّوبة تدخلُ تحت جواب الأمر بالنسبة للمؤمنين الذين أمِرُوا بقتال الكُفَّارِ ، والذي يظهر أنَّ ذلك بالنسبة إلى الكُفَّار ، والمعنى : على من يشاء من الكفار ، لأنَّ قتال الكفارِ ، وغلبة المسلمين إياهم قد يكونُ سبباً لإسلام كثير ، ألا ترى إلى فتح مكَّة ، كيف أسلم لأجله ناسٌ كثيرون ، وحسنُ إسلامُ بعضهم جدّاً ، ك : ابن أبي سرح ، ومن تقدم ذكره ، وغيرهم » فيصير المعنى : إن تقاتلوهم يتب الله على من يشاء من الكُفَّار ، أي : يُسْلمُ من يشاء منهم ، والمرادُ بالتَّوبة هنا : الهداية إلى الإسلام كما ذكره جمهور المفسرين ، ثمَّ قال { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } عليم بكل ما يفعل في ملكه « حَكِيمٌ » مصيب في أحكامه وأفعاله .
قوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ } الآية .
قال الفراء : « أمْ » من الاستفهام الذي يتوسط الكلام ، ولو أريد به الابتداء لكان ب « الألفط أو ب » هل « .
فصل
هذا ترغيبٌ في الجهاد قيل : هذا خطابٌ للمنافقين ، وقيل : للمؤمنين الذي شق عليهم القتال ، فقال : أحسبتم أن تتركوا فلا تأمروا بالجهاد ، ولا تمتحنوا ، ليظهر الصادق من الكاذب ، « ولمَّا يعلم اللهُ » أي يرى اللهُ الذين جاهدوا منكم ، وذكر العلم والمراد منه : المعلوم ، فالمراد أن يصدر الجهاد عنهم ، إلاَّ أنه لما كان وجود الشيء يلزمه أن يكون معلوم الوجود عند الله ، لا جرم جعل علم الله بوجوده كناية عن وجوده .
قوله { وَلَمْ يَتَّخِذُواْ } يجوزُ في هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنَّها داخلةٌ في حيِّز الصلة ، لعطفها عليها ، أي : الذين جَاهَدُوا ولم يتَّخذُوا .
الثاني : أنَّها في محلِّ نصب على الحالِ من فاعل : « جَاهدُوا » أي : جَاهَدُوا حال كونهم غير متخذين وليجَةً .
و : « وَليجَةً » مفعول ، و « مِن دُونِ اللهِ » إمَّا مفعول ثان ، إن كان الاتخاذُ بمعنى التَّصْيير ، وإمَّا متعلقٌ بالاتخاذ ، إن كان على بابه ، والوليجة : فَعِيلة ، مِن الوُلُوج ، وهُو الدُّخُولُ ، و « الوَليجَةُ » من يداخلك في باطن أمورك ، وقال أبو عبيدة : « كُلُّ شيءٍ أدخلته في شيءٍ وليس منهُ ، والرجل في القوم وليس منهم ، يقال له وليجة » ويستعملُ بلفظٍ واحدٍ ، للمفردِ ، والمثنى ، والمجموع ، وقد يجمعُ على « ولاَئِج » و وُلُج ، ك : صحيفة ، وصحائف ، وصحف وأنشدوا لعبادة بن صفوان الغنوي : [ الطويل ]
2770- ولائجُهُمْ في كُلِّ مَبْدَى ومَحْضَرٍ ... إلى كُلِّ مَنْ يُرْجَى ومَنْ يَتخوَّفُ
فصل
معنى الآية : { وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً } بطانة ، وأولياء يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم .
وقال قتادةُ : « وَليجةً » خيانة . وقال الضَّحَّاك . « خديعة » . والمقصودُ من ذكر هذا الشَّرط : أنَّ المجاهد قد يجاهد ولا يكون مُخْلصاً ، بل يكون منافقاً باطنه خلاف ظاهره ، فبيَّن أنَّهُ لا بد وأن يأتُوا بالجهاد مع الإخلاص خالياً عن الرياءِ ، والنفاقِ ، والتَّودُّدِ إلى الكفار .
والمقصودُ : بيان أنَّه ليس الغرضُ منه إيجاب القتالِ فقط ، بل الغرض أن يُؤتَى به انقياداً لأمر اللهِ ، ولحكمه وتكليفه ، ليظهر به بذل النفس والمال في طلب رضوان الله فحينئذٍ يحصل به الانتفاع .
قوله : { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } قرأ الحسنُ « بِمَا يَعْملُون » بالغيبةِ على الالتفات؛ وبها قرأ يقعوبُ في رواية سلاَّم ، أي : عالم بنياتهم ، وأغراضهم ، لا يَخْفَى عليه منها شيءٌ .
قال ابنُ عبَّاسٍ : إنَّ الله لا يَرْضَى أن يكون الباطنُ خلاف الظَّاهِرِ ، ولا الظَّاهر خلاف الباطن ، وإنَّما يريدُ من خلقه الاستقامة ، كما قال { إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا } [ فصلت : 30 ] ، قال : ولمَّا فرض القتالُ ، تميَّز المنافقُ من غيره ، وتميَّز من يوالي المؤمنين ممَّن يعادِيهمْ .
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
قوله تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله } الآية .
اعلم أنَّهُ تعالى بَدَأ السُّورة بذكر البراءة من الكُفَّار ، وبالغ في ذلك ، وذكر من أنواع قَبَائِحِهمْ مَا يوجب تلك البراءةَ ، ثمَّ إنَّه تعالى حكى عنهم شبهاً احتجوا بها في أنَّ هذه البراءة غير جائزةٍ ، وأنَّهُ يجبُ مخالطتهم ومناصرتهم ، فأولها هذه الآية ، وذلك أنَّهم ذكروا أنهم موصوفون بصفات حميدةٍ توجبُ مخالطتهم ومعاونتهم ، ومناصرتهم ، ومن جملةِ تلك الصِّفات ، كونهم عامرين للمسجدِ الحرامِ .
قال ابنُ عبَّاسٍ : لمَّا أسر العبَّاسُ يوم بدرٍ ، وعيَّرَهُ المسلمون بالكُفرِ ، وقطيعة الرَّحمِ ، وأغلظ له عليٌّ القول ، فقال العبَّاسُ : ما لكم تذكرون مساوئنا ، ولا تذكرون محاسننا؟ فقال له عليٌّ : ألكُم محاسن؟ فقال : نعم ، إنَّا لنعْمُرُ المسْجِدَ الحَرامَ ، ونحجب الكَعْبَة ، ونسْقِي الحاجَّ ، ونفكُّ العاني؛ فأنزل اللهُ تعالى ردّاً على العبَّاسِ : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله } أي : ما ينبغي للمشركين أن يعمرُوا مساجد الله ، أوجب على المسلمين منعهم من ذلك؛ لأنَّ المساجد تعمر لعبادة ا لله وحده .
واعلم أنَّ عمارة المَسْجِد قسمان :
إمَّا بلزومها وكثرة إتيانها ، يقال : فلان يعمرُ مجلس فلان إذا كثر غشيانه ، وإمَّا بالعمارة المعروفة بالبناء ، فإن كان المراد هو الثاني كان المعنى أنَّه ليس للكافر أن يقدم على مرمَّةِ المسجد ، لأنَّ المسجد موضع العبادة ، فيجب أن يعظم ، والكافرُ يهينه ، وأيضاً فالكافرُ نجس في الحكم ، لقوله تعالى : { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] ، وتطهير المسجد واجبٌ ، لقوله تعالى : { أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ } [ البقرة : 125 ] ، وأيضاً فالكافرُ لا يحترز من النَّجاسة ، فدخوله المسجد تلويث للمسجد ، وقد يؤدّي إلى فسادِ عبادة المصلين .
وأيضاً إقدامه على مرمة المسجد يجري مجرى الإنعام على المُصلين ، ولا يجوز أن يصير الكافر صاحب المنّة على المسلمين ، وقد ذهب جماعةٌ منهم الواحديُّ؛ إلى أنَّ المُرادَ منه : العمارة المعروفة من بناء المسجدِ ، ومرمته عند الخراب ، فيمنع منه الكافر ، حتى ولو أوصى بها لم تقبل ، ويمنع من دخول المساجدش ، وإن دخل بغير إذن استحق التعزير ، وإن دخل بإذن لم يعزر ، والأولى تعظيمُ المساجد ، ومنعهم منها ، وقد أنزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف في المسجد وهم كفَّار ، وشد ثمامة بن أثال الحنفي في سارية من سواري المسجد ، وهو كافر ، وحمل بعضهم العمارة على المسجد على الوجه الأول .
« أَن يَعْمُرُواْ » اسم « كان » . قرأ ابنُ السميفع « يُعْمِرُوا » بضم الياء وكسر الميم ، من : « أعمر » رباعياً ، والمعنى : أن يعينوا على عمارته . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو « مسجد اللهِ » بالإفراد ، وهي تحتملُ وجهين ، أن يُراد به مسجدق بعينه ، وهو المسجد الحرام ، لقوله { وَعِمَارَةَ المسجد الحرام } [ التوبة : 19 ] ، وأن يكون اسم جنسٍ ، فيندرج فيه سائر المساجد ، ويدخل المسجدُ الحرامُ دخولاً أوليّاً وقرأ الباقون : « مَساجِد » بالجمع ، وهي أيضاً محتملةٌ للأمرين ، ووجه الجمع إمَّا لأنَّ كُلَّ بقعةٍ من المسجد الحرام يقال لها : مسجدٌ ، وإمَّا لأنه قبلةُ سائر المساجد ، فصَحَّ أن يُطْلقَ عليه لفظُ الجمع لذلك .
[ قال الفرَّاءُ : ربما ذهب العربُ بالواحد إلى الجمع ، وبالجمع إلى الواحد ألا ترى إلى الرجل يركب البرذون؛ فيقول : أخذت في ركوب البراذين ، وفلان يجالس الملوك ، وهو لا يجلس إلا مع ملك واحد ، ويقال : فلان كثير الدرهم والدينار يريد : الدراهم والدنانير ] .
قوله : « شَاهِدِينَ » الجمهور على قراءته بالياء نصباً على الحال من فاعل : « يَعْمُرُوا » أراد : وهم شاهدون . وقرأ زيد بن علي : « شَاهِدُون » بالواو رفعاً على خبر ابتداءٍ مضمر ، والجملةُ حالٌ أيضاً .
قوله « على أَنْفُسِهِمْ » الجمهور على « أنفُسهم » جمع « نَفْس » وقرىء « أنفسهم » بضم الفاء ، ووَجْهُهَا أن يُرادَ ب « الأنْفَس » - وهو الأشرف الأجل من النَّفَاسة - : رسولُ صلى الله عليه وسلم .
قيل : لأنه ليس بطنٌ من بطون العرب إلاَّ وله فيهم ولادة ، وهذا المعنى منقولٌ في تفسير قراءة الجمهور أيضاً ، وهو مع هذه القراءة أوضح .
فصل
قال الحسنُ : « لم يقولوا نحن كفار ، ولكن كلامهم بالكفر شاهد عليهم بالكفر » .
وقال الضحاك عن ابن عبَّاسٍ : « شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم للأصنام ، فكانوا يطوفون بالبيت عراة ، وكانت أصنامهم منصوبة بخارج البيت الحرام عند القواعد ، وكلَّما طافُوا شَوْطاً سَجَدُوا لأصْنَامِهِمْ ، ولم يَزْدَادُوا بذلك من الله إلاَّ بُعْداً » .
وقال السدي : « شهادتهم على أنفسهم بالكفر ، هو أن النصراني يسأل من أنت؟ فيقول : أنا نصراني ، واليهودي يقول أنها يهودي ، ويقال للمشرك ما دينك؟ فيقول : مشرك » .
وقيل : إنَّهم كانُوا يقولون : لبيك لا شريك لك إلاَّ شريك هو لك تملكه وما ملك ، ونقل عن ابن عباس أنه قال : « المرادُ أنهم يشهدون على الرسول بالكفر ، قال : وإنَّما جازَ هذا التفسيرُ ، لقوله تعالى : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [ التوبة : 128 ] .
قال القاضي » هذا عدول عن الحقيقة ، وإنما يجوز المصير إليه لو تعذَّر إجراءُ اللفظ على حقيقته ، أمَّا لما بيَّنا أنَّ ذلك جائز لم يجز المصير إلى هذا المجاز « .
قوله { أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } لأنها لغير الله ، ثم قال : { وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ } هذه جملةٌ مستأنفة و » في النَّارِ « متعلقٌ بالخبرِ ، وقُدِّم للاهتمام به ، ولأجل الفاصلة .
وقال أبُو البقاءِ : » وهم خالدون في النَّارِ ، وقد وقع الظرفُ بين حرف العطف والمعطوف « وفيه نظرٌ ، من حيثُ إنَّه يوهم أنَّ الجملة معطوفةٌ على ما قبلها ، عطف المفرد على مثله تقديراً ، وليس كذلك ، بل هي مستأنفةٌ ، وإذا كانت مستأنفة فلا يقال فيها : فصل الظَّرف بين حرف العطف والمعطوف ، وإنَّما ذلك في المتعاطفين المفردين ، أو ما في تأويلهما ، وقد تقدَّم تحقيقه في قوله تعالى :
{ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً } [ البقرة : 201 ] وفي قوله : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل } [ النساء : 58 ] .
وقرأ زيد بن علي خالدين بالياء ، نصباً على الحالِ من الضمير المستتر في الجارِّ قبله ، لأنَّ الجارَّ صار خبراً ، كقولك : في الدار زيد قاعداً ، فقد رفع زيد بن علي « شاهدين » ، ونصب « خالدون » عكس قراءة الجمهور فيها .
فصل
احتج أهلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على أنَّ الفاسق من أهل الصَّلاة ، لا يخلد في النار من وجهين :
الأول : أن قوله { وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ } يفيد الحصر ، أي : هم فيها خالدون لا غيرهم؛ لأنَّ هذا الكلام إنَّما ورد في حق الكفار .
الثاني : أنَّه تعالى جعل الخلود في النار للكافر جزاء على كفره ، ولو كان هذا الحكم ثابتاً لغير الكفار ، لما صحَّ تهديد الكافر به .
قوله : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله } جمهورُ القراء على الجمع ، وقرأ الجحدريُّ ، وحماد بن أبي سلمة عن ابن كثير بالإفراد ، والتَّوجيهُ يؤخذ ممَّا تقَدَّم ، والظَّاهر أن الجمع هنا حقيقةٌ؛ لأن المراد : جميع المؤمنين العامرين لجميع مساجد أقطار الأرض .
فصل
اعلم أنَّه تعالى لمَّا بيَّن أنَّ الكافر ليس له أن يشتغل بعمارة المسجد ، بيَّن أنَّ المشتغل بهذا العمل يجب أن يكون موصوفاً بصفات أربع ، فقال : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَأَقَامَ الصلاة وآتى الزكاة وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله } فبين أنه لا بُدَّ من الإيمان بالله؛ لأن المسجد عبارة عن الموضع الذي يعبد الله فيه ، والكافرُ يمتنع منه ذلك ، وأمَّا كونه مؤمناً باليوم الآخر ، لأنَّ عبادة الله إنَّما تفيد في القيامة ، فمن أنكر القيامة ، لم يعبد الله ، ومن لم يعبد الله ، لم يَبْنِ بناءً لعبادة الله .
فإن قيل : لِمَ لَمْ يذكر الإيمان بالرَّسول - عليه الصَّلاة والسَّلام -؟ .
فالجوابُ : من وجوه :
الأول : أنَّ المشركين كانوا يقولون : إنَّ محمداً إنَّما ادَّعى الرِّسالةَ طلباً للرئاسة ، فذكر ههنا الإيمان باللهِ واليوم الآخر ، وترك ذكر النُّبوةِ ، كأنه يقولُ : مطلوبي من تبليغ الرسالة ليس إلاَّ الإيمان بالمبدأ والمعاد ، فذكر المقصود الأصليّ ، وحذف ذكر النبوة ، تنبيهاً للكفار على أنَّه لا مطلوب له من الرسالة إلاَّ هذا القدر .
الثاني : أنه لمَّا ذكر الصَّلاة ، والصلاة لا تتم إلاَّ بالأذان والإقامة والتشهد ، وهذه الأشياء مشتملة على ذكر النبوة ، فكان كافياً .
الثالث : أنَّه ذكر الصلاة ، والمفرد المحلى بالألف واللام ينصرف إلى المعهود السابق ، والمعهود عند المسلمين هي الأعمال التي كان يأتي بها محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - فكان ذكر الصَّلاة دليلاً على النبوة ، وأمَّا قوله « وأَقَامَ الصَّلاةَ » فلأنَّ المقصود الأعظم من بناء المسجد إقامة الصلاة ، وأمَّا قوله « وآتَى الزَّكاةَ » فلأنَّ الإنسانَ إذا كان مقيماً للصلاة ، فإنَّه يحضرُ في المسجد ، وفي المسجد طوائف الفقراء والمساكين ، لطلب أخذ الزَّكاةِ ، فتحصُل عمارة المسجد ، وإن حملنا العمارة على البناء ، فلأن الظَّاهرَ أنَّ الإنسان إذا لم يؤدّ الزكاة لا يعمر مسجداً .
وأما قوله { وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله } أي : لا يبني المسجد لأجل الرِّياء والسمعة ، ولكن يبنيه لمجرد طلب رضوان الله .
روي أنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - بنى في أول الإسلام على باب داره مسجداً ، فكان يصلي فيه ، ويقرأ القرآن ، والكفار يؤذونه بسببه ، فيحتمل أن يكون المراد منه تلك الحالة ، ولمَّا حصر عمارة المساجد فيمن كان موصوفاً بهذه الصفات الأربع ، نبَّه بذلك على أنَّ المسجد يجبُ صونه عن غير العبادة فيدخل فيه فضول الحديث ، وإصلاح مهمات الدنيا . قال عليه الصلاة والسلام : « يأتِي في آخر الزمانِ ناسٌ من أمتِي يأتُون المساجدَ فيقعُدُون فيها حلقاً ، ذكرُهُم الدُّنْيَا ، وحُبُّ الدُّنْيَا ، لا تُجالِسُوهُم فليْسَ للهِ بِهِمْ حَاجَة » وقال عليه الصلاة والسلام « الحديثُ في المسْجِدِ يَأكلُ الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش » ، وقال عليه الصلاة والسلام ، قال الله تعالى : « إن بيوتي في الأرض المساجد ، وإنَّ زُوَّاري فيها عُمَّارها ، فطُوبَى لعبدٍ تطهَّر في بيتهِ ثمَّ زَارنِي في بَيْتِي ، فحقٌّ على المَزُورِ أن يُكرم زائرهُ » ، وقال عليه الصلاة والسلام « مَنْ ألفَ المَساجِد ألفهُ الله » ، وقال عليه الصلاة والسلام « إذَا رأيْتُم الرَّجلَ يعتادُ المسجدَ فاشْهَدُوا له بالإيمان » ، وقال عليه الصلاة والسلام « مَنْ أسرجَ في مسجدٍ سراجاً لم تزلِ الملائِكةُ وحملةُ العرشِ يَسْتغفرُونَ لهُ ما دامَ في ذلك المسْجدِ ضَوؤهُ » ، وهذه الأحاديث نقلها الزمخشريُّ .
قوله : { فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين } قال المفسرون : « عسى » من الله واجب ، لكونه متعالياً عن الشّك والتردد .
وقال أبو مسلم : « عسى » ههنا راجع إلى العباد ، وهو يفيدُ الرجاء ، فكان المعنى : إنَّ الذين يأتون بهذه الطاعات ، إنَّما يأتون بها على رجاء الفوز بالاهتداء ، لقوله تعالى : { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً } [ السجدة : 16 ] والتحقيق فيه : أنَّ العبد عند الإتيان بهذه الأعمال ، لا يقطعُ على الفوز بالثَّواب؛ لأنه يجوزُ من نفسه أنه قد أخَلَّ بقيد من القيود المعتبرة في حصول القبول ، وقال الزمخشريُّ « المرادُ منه تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء ، وحسم لأطماعهم من الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها وافتخروا بها » . فبيَّن تعالى أنَّ الذين آمنوا وضَمُّوا إلى إيمانهم العمل بالشرائع ، والخشية من الله فهؤلاء صار حصول الاهتداء لهم دائراً بين « لَعَلَّ » و « عَسَى » ، فما بالُ هؤلاء المشركين ، يقطعون بأنَّهم مهتدون ، ويجزمون بفوزهم بالخير من عند اللهِ تعالى .
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
قوله تعالى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج } الآية .
الجمهور على قراءة « سِقايةَ » ، و « عِمارةَ » مصدرين على « فِعالةٍ » ، ك : الضِّيافة ، والوِقاية والتِّجارة ، ولم تقلب الياء همزة ، لتَحصُّنها بتاء التأنيث ، بخلاف « رِدَاءة ، وعِباءة » ، لطروء تاء التأنيث فيهما ، قاله الزمخشريُّ . واعلم أنَّ : السِّقاية فعلٌ ، وقوله { مَنْ آمَنَ بالله } [ التوبة : 18 ] إشارة إلى الفاعل ، فظاهر اللفظ يقتضي تشبيه الفعل بالفاعل ، والصفة بالموصوف ، وإنّه محالن وحينئذ فلا بُدَّ من حذف مضاف ، إمَّا من الأول ، وإمَّا من الثَّاني ، ليتصادق المجعولان ، والتقدير : أجعلتم أهل سقايةِ الحاجِّ ، وعِمارة المسجد الحرام كمَنْ آمَنَ ، أو أجعلتم السقاية والعِمارة كإيمان مَنْ آمَنَ ، أو كعملِ من آمَنَ ، ونظيره : { لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله } [ البقرة : 177 ] ، وقيل : السٌِّاية والعمارة يعني : السَّاقي والعامر ، وهذا كقوله : { والعاقبة للتقوى } [ طه : 132 ] ، أي : للمتقين ، والمعنى : أجعلتم ساقي الحاج وعامر المسجد الحرام ك { كَمَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر } . ويدلُّ عليه قراءة أبي وابن الزبير والباقين كما يأتي قريباً .
وقرأ ابنُ الزُّبير ، والباقر ، وأبو وجزة « سُقَاة . . . وعمرة » بضمِّ السين ، وبعد الألف تاء التأنيث ، و « عَمَرة » بفتح العين والميم دون ألف ، وهما جمع « ساقٍ » ، و « عامر » ، كما يقال : قاضٍ وقُضاة ، ورَام ورُمَاة ، وبارٌّ وبَرَرة ، وفاجِر وفَجَرة .
والأصل : سُقَيَة ، فقُلبت الياء ألفاً ، لتحركها وانفتاح ما قبلها ، ولا حاجة هنا إلى تقدير حذف مضافٍ ، وإن احتيج إليه في قراءة الجمهور .
وقرأ سعيد بن جبير كذلك ، إلاَّ أنه نصب « المسجِد الحرَام » ب « عَمَرَة » ، وحذف التنوين لالتقاء الساكنين؛ كقوله : [ المتقارب ]
2771- .. ولا ذَاكِرَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً
وقوله : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد } [ الإخلاص : 1-2 ] . وقرأ الضحاك « سُقَاية » ، « عمرة » ، وهما جمعان أيضاً ، وفي جمع « ساقٍ » على « فُعَالة » نظرٌ لا يَخْفى ، والذي ينبغي أن يقال : أن يُجْعل هذا جمعاً ل « سِقْي » و « السِّقْي » هو الشيء المَسْقِي ك « الرِّعْي ، والطِّحن » . و « فِعْل » يُجمع على « فُعال » ، قالُوا : ظِئْر وظُؤار ، وكان من حقه ألا تدخل عليه تاء التأنيث ، كما لم تدخل في : « ظُؤار » ، ولكنه أنَّث الجمع ، كما أنَّث في قولهم : « حِجَارة ، وفُحولة » ، ولا بُدّ حينئذٍ من تقدير مضافٍ ، أي : أجعلتم أصحاب الأشياءِ المَسقيَّة كمَنْ آمَنَ؟ .
فصل
روى النُّعْمانُ بنُ بشيرٍ قال : كُنْتُ عِنْدَ منبَرِ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال رجلٌ : لا أُبَالِي ألاَّ أعملَ عملاً بعد الإسلام ، إلا أن أسقي الحاج ، وقال آخر : ما أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام ، وقال آخر : الجهاد في سبيل الله أفضل ممَّا قلتم ، فزَجرهُمْ عمرُ وقال : لا تَرفعُوا أصوَاتكُم عندَ مِنبرِ رسُول الله صلى الله عليه وسلم وهُو يَوْمُ الجُمعةِ - ولكنْ إذا صَلَّيتُ دخلتُ واستَفْتيْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمَا اختَلَفْتُم فيه ، فدخل ، فأنزلَ الله عزَّ وجلَّ هذه الآية إلى قوله : { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } .
وقال ابنُ عبَّاسٍ « إنَّ عليّاً أغلظ الكلام للعبَّاس حين أسر يوم بدر ، فقال العبَّاسُ : لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام ، والهجرة ، والجهاد ، لقد كنا نعمر المسجد الحرام ، ونسقي الحاج ، فأنزل الله هذه الآية . وأخبر أنَّ عمارتهم المسجد الحرام ، وقيامهم على السقاية ، لا ينفعهم مع الشرك بالله ، وأنَّ الإيمان بالله ، والجهاد مع نبيه خيرٌ مِمَّا هُمْ عليه » .
وقال الحسنُ والشعبيُّ ومحمدُ بن كعبٍ القرظيُّ « نزلت في عليٍّ بن أبي طالب ، والعباس ، وطلحة بن أبي شيبة ، افتخروا ، فقال طلحةُ : أنا صاحبُ البيتِ ، بيدي مفتاحه ، ولو أردتُ بتُّ فيه ، وقال العبَّاس : أنا صاحبُ السِّقاية ، والقائم عليها ، وقال علي : لا أدري ما تقولون ، لقد صلَّيْتُ إلى القبلة ستة أشهر قبل النَّاس ، وأنا صاحب الجهاد ، فأنزل الله هذه الآية » .
وقيل : إنَّ عليّاً قال للعباس بعد إسلامه : يا عم ألا تهاجرون ، ألا تحلقُون برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ألستُ في أفضل من الهجرةِ؟ أسقي الحاج ، وأعمر البيت الحرام؟ فنزلت هذه الآية ، فقال العباس : ما أراني إلاَّ تارك سقايتنا ، فقال عليه الصلاة والسلام : « أقيمُوا على سقَايتكُم فإنَّ لَكُم فيهَا خَيْراً » .
وقيل : إنَّ المشركين قالوا لليهود : نحن سقاة الحجيج ، وعمار المسجد الحرام ، فنحن أفضل أم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ فقالت اليهودُ لهم : أنتُمْ أفْضَلُ .
قال ابن الخطيب : « هذه المفاضلة تحتملُ أن تكون جرت بين المسلمين ، ويحتمل أن تكون جرت بين المسلمين والكفار ، أمَّا كونها جرت بين المسلمين ، فلقوله تعالى بعد ذلك { أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله } ، وهذا يقتضي أن يكون للمرجوح درجة أيضاً عند الله ، وذلك لا يليق إلاَّ بالمؤمنين ، وأمَّا احتمال كونها جرت بين المؤمنين والكفار ، فلقوله تعالى { كَمَنْ آمَنَ بالله } وهذا يدل على أنَّ هذه المفاضلة وقعت بين من لم يُؤمن بالله وبين من آمن بالله » .
وهذا هو الأقرب؛ لأن المفسرين نقلوا في تفسير قوله تعالى : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله } [ التوبة : 18 ] أنَّ العباس احتجَّ على فضائل نفسه ، بأنَّهُ عمر المسجد الحرام ، وسقي الحاج ، فأجاب الله عنه بوجهين :
الأول : ما تقدَّم في الآية الأولى : أنَّ عمارة المسجد الحرام توجب الفضيلة إذا كانت صادرة عن المؤمن ، أمَّا إذا صدرت عن الكافر ، فلا فائدة فيها ألبتة .
والثاني : هذه الآية ، وهو أن يقال : سَلَّمنا أنَّ عمارة المسجد الحرام ، وسقي الحاج ، يوجب نوعاً من الفضيلة ، إلاَّ أنها بالنسبة إلى الإيمان والجهاد كمقابلة الشيءِ الشَّريف الرفيع جدّاً بالشَّيء الحقير التافه جدّاً ، وإنَّه باطل ، وبهذا الطريق حصل النظم الصحيح لهذه الآية بما قبلها .
فصل
روى عكرمةُ عن ابن عبَّاسٍ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السِّقاية فاستسقى ، فقال العبَّاسُ يا فضل اذهب إلى أمك فأتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها ، فقال : اسقني . فقال يا رسُول الله : إنَّهم يجعلون أيديهم فيه ، قال : اسقني ، فشرب منه ، ثم أتى زمزم وهم يستقون ويعملون فيها ، فقال : اعملوا فإنَّكم على عملٍ صالح ، ثم قال : لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذا ، يعني : عاتقه وأشار إلى عاتقه .
وعن بكر بن عبد الله المزنيّ : قال : كنتُ جالساً مع ابنِ عبَّاسٍ عند الكعبة فأتاه أعرابيّ فقال : ما لي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ؟ أمِنْ حاجةٍ بكم؟ أمِنْ بُخْلٍ؟ فقال ابنُ عبَّاسٍ : الحمدُ للهِ ما بِنَا من حاجة ولا بخل ، إنَّما قدم النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته ، وخلفه أسامة ، فاستسقى ، فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب ، وسقى فضله أسامة ، فقال : أحسنتم وأجملتم ، كذا فاصْنَعُوا ، فلا نريد تغيير ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحسنُ : « كانت السِّقاية بنبيذ الزبيب » .
وعن عمر أنه وجد نبيذ السقاية من الزبيب شديداً ، فكسر منه بالماء ثلاثاً ، وقال : إذا اشتد عليكم فاكسروا منه بالماء . وأمَّا عمارة المسجد الحرامِ فهي تجهيزه وتحسين صورة جدرانه .
قوله { لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله } في الجملة وجهان :
أظهرهما : أنَّها مستأنفةٌ ، أخبر تعالى بعدم تساوي الفريقين .
والثاني : أن يكون حالاً من المفعولين للجعل ، والتقدير : سَوَّيْتُم بينهم في حال تفاوتهم ، ولمَّا نفى المساواة بينهما ، وذلك لا يفيد من هُوَ الرَّاجح؛ فنبَّه على الرَّاجح بقوله { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } أي : إنَّ الكافرين ظلمُوا أنفسهم ، لأنهم تركُوا الإيمان ، ورضُوا بالكفر فكانوا ظالمين ، لأنَّ الظُّلمَ عبارةٌ عن وضع الشيء في غير موضعه ، وأيضاً ظلموا المسجد الحرام ، فإنَّه تعالى جعله موضعاً لعبادة الله تعالى ، فجعلوه موضعاً لعبادة الأوثان .
قوله تعالى : {
1649;لَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله } الآية .
لمَّا ذكر ترجيح الإيمان ، والجهاد على السِّقاية وعمارة المسجد الحرام على طريق الرمز؛ أتبعه بذكر هذا التَّرجيح بالتَّصريح ، أي : مَنْ كان موصوفاً بهذه الصِّفات الأربعة كان أعظم درجة عند الله ممَّن اتَّصف بالسِّقاية والعمارة ، والسَّبب فيه؛ لأن الإنسان ليس له إلاَّ الروح ، والبدن ، والمال ، فأمَّا الرُّوح فإنه لمَّا زال عنه الكفر ، وحصل فيه الإيمان ، فقد وصل إلى مراتب السعادات وأما البدن والمال ، فبالهجرة والجهادِ صارا معرَّضين للهلاك ، ولا شكَّ أنَّ النفس والمال محبوب الإنسان ، والإنسان لا يعرض عن محبوبه إلاَّ عند الفوز بمحبوب أكمل من الأوَّلِ ، فلولا أنَّ طلب الرضوان أتمُّ عندهم من النفس والمال؛ وإلاَّ لما رجَّحُوا جانب الآخرة على النفس والمال طلباً لمرضاة الله تعالى ، وأي مناسبة بين هذه الدرجة وبين الإقدام على السِّقاية والعمارة بمجرد الاقتداء بالآباء ، وطلب الرياسة والسُّمعة؟
قوله : { أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله } لم يقُلْ : أعظم درجة من المشتغلين بالسقاية والعمارة؛ لأنَّه لو ذكرهم ، أوهم أن تلك الفضيلة بالنسبة إليهم ، فلمَّا ترك ذكر المرجوح ، دلَّ ذلك على أنَّهُمْ أفضل من كل من سواهم على الإطلاق .
فإن قيل : لمَّا أخبرتم بأنَّ هذه الصفات كانت بين المسلمين والكافرين ، فكيف قال في وصفهم : « أعْظَمُ دَرَجَةً » ؟ .
فالجوابُ من وجوه :
الأول : أن هذا ورد على ما قدَّرُوا لأنفسهم من الدَّرجة والفضيلة عند الله ، ونظيره قوله تعالى : { ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ } [ النمل : 59 ] ، وقوله { أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم } [ الصافات : 63 ] .
الثاني : أنَّ المراد : أولئك أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفاً بهذه الصفات ، تنبيهاص على أنَّهم لمَّا كانوا أفضل من المؤمنين الذين ما كانوا موصوفين بهذه الصفات فبأن لا يقاسوا إلى الكفار أولى .
الثالث : أن المراد ، أنَّ المؤمن المُهاجِرَ المجاهد أفضل ممَّن على السقاية والعمارة ، والمراد منه : ترجيح تلك الأعمال على هذه الأعمال ، ولا شك أنَّ السِّقاية والعمارة من أعمال الخير ، وإنَّما بطل ثوابها في حقِّ الكفار؛ لأن الكفر منع من ظهور ذلك الأثر ، ثُم بيَّن تعالى أنهم : « هُمُ الفائِزُون » وهذا للحصر ، والمعنى : أنهم هم الفائزون بالدرجة العلية المشار إليها بقوله : « عِنْدَ اللهِ » وليس المراد منه العندية بحسب الجهة والمكان .
وقد تقدَّم اختلاف القراء في : « يُبَشِّرهُم » وتوجيه ذلك في « آل عمران » وكذلك في الخلاف في { وَرِضْوَانٌ } [ آل عمران : 15 ] .
وقرأ الأعمش « رضُوان » بضمِّ الراء والضَّاد ، وردَّها أبُو حاتم ، وقال : « لا يجوز » . وهذا غيرُ لازم للأعمش فإنه رواها ، وقد وُجِد ذلك في لسان العرب ، قالوا : « السُّلُطان » بضم السين واللام .
قوله { لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ } يجوز أن تكون هذه الجملةُ صفةً ل « جَنَّاتٍ » وأنْ تكون صفةً ل « رَحْمَة » ؛ لأنَّهم جَوَّزُوا في هذه الهاء أن تعود للرَّحمة ، وأنْ تعود للجنات ، وجوَّز مكي أن تعود على البشرى المفهومة من قوله : « يُبَشِّرهُمْ » ، كأنَّه قيل : لهم في تلك البشرى . وعلى هذا فتكونُ الجملةُ صفةً لذلك المصدرِ المقدَّرِ إن قدَّرْتَه نكرةً ، وحالاً إن قدَّرْتَه معرفةً . ويجوزُ أن يكون « نعيمٌ » فاعلاً بالجارِّ قبله ، وهو أولى ، لأنَّه يصير من قبيل الوصف بالمفرد ، ويجوزُ أن يكون مبتدأ ، وخبره الجار قبله ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك مراراً [ الأنفال : 72 ] . قوله : « خَالِدِينَ » حالٌ من الضمير في « لهم » .
واستدل أهلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على أنَّ الخلود يدلُّ على طول المكث ، ولا يدل على التأبيد ، قالوا : لأنَّهُ لو كان الخلود يفيد التَّأبيد ، لكان ذكر التأبيد بعد ذكر الخُلُود تكراراً ، وإنه لا يجوز
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تتخذوا آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ } الآية .
والمقصود من هذه الآية : أن تكون جواباً عن شبهة أخرى ، ذكروها في أن البراءة من الكافر غيرُ ممكنة ، فإنَّ المسلم قد يكون أبوه كافراً أو ابنُه والكافر قد يكون أبوهُ أو أخوه مسلماً والمقاطعة بين الرَّجُلِ وأبيه وابنه وأخيه كالمتعذر ، فأزال اللهُ تعالى هذه الشبهة بهذه الآية . ونقل المفسِّرون عن ابنِ عبَّاسٍ « أنَّه تعالى لمَّا أمر المسلمين بالهجرةِ قبل فتح مكَّة ، فمنْ لم يهاجر لم يقبل اللهُ إيمانه ، حتى يجانب الآباء والأقرباء إن كانُوا كفاراً » .
قال ابنُ الخطيب « وهذا مشكل؛ لأنَّ الصحيح أنَّ هذه السورة إنَّما نزلت بعد فتح مكة ، فكيف يمكن حمل هذه الآية على ما ذكروه؟ وإنَّما الأقربُ أنَّهُ تعالى أمر المؤمنين بالتبرِّي عن المشركين بسبب الكفر ، لقوله : { إَنِ استحبوا الكفر عَلَى الإيمان } أي : اختاروا الكفر على الإيمان ، والاستحباب : طلب المحبة ، يقال استحب له ، بمعنى : أحبه ، كأنه طلب محبته » .
ولمَّا نهى الله عن مخالطتهم ، وكان النَّهي يحتملُ أن يكُون نَهْيَ تنزيهٍ وأن يكون نهي تحريم ، ذكر ما يزيل الشبهة فقال : { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فأولئك هُمُ الظالمون } . قال ابن عباسٍ « يريدُ : مشركاً مثلهم ، لأنه رضي بكفرهم ، والرَّضى بالكُفرِ كفر ، كما أنّض الرضا بالفسقِ فسق » .
قال القاضي : « هذا النَّهي لا يمنعُ أن يتبرأ المرءُ من أبيه في الدُّنيا ، كما لا يمنع من قضاء دين الكافرن ومن استعمله في الأعمال » .
قوله : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ } « آباؤكم » وما عطف عليه اسم « كان » ، و « أحب » خبرها ، فهو منصوبٌ ، وكان الحجاجُ بنُ يوسف يقرها بالرفع ، ولحَّنَه يحيى بن يعمر فنفاه .
قال أبو حيَّان « إنَّما لحَّنَه باعتبار مخالفةِ القراء النَّقلة ، وإلاَّ فهي جائزةٌ في العربية ، يُضمر في » كان « اسماً ، وهو ضميرُ الشأن ، ويُرفع ما بعدها على المبتدأ والخبر ، وحينئذٍ تكونُ الجملة خبراً عن » كان « .
قال شهاب الدِّين . فيكون كقول الشاعر : [ الطويل ]
2772- إذَا مِتُّ كَانَ النَّاسُ صِنْفَانِ شَامِتٌ ... وآخَرُ مُثْنٍ بالذي كُنتُ أصْنَعُ
وهذا في أحد تأويلي البيت .
والآخر : أنَّ » صنفان : خبرٌ منصوب ، وجاء به على لغةِ بني الحارث ، ومن وافقهم .
والحكاية التي أشار إليها الشَّيْخُ من تلحين يحيى للحجَّاج هي : أنَّ الحجاج كان يَدَّعي فصاحةً عظيمة ، فقال يوماً ليحيى بن يعمر وكان يعظِّمه : هل تجدني ألحن؟ فقال : الأميرُ أجَلُّ من ذلك ، فقال : عَزمْتُ عليك إلاَّ ما أخبرتني ، وكانوا يُعظِّمون عزائم الأمراء ، فقال : نعم ، فقال : في أي شيءٍ؟ فقال : في القرآن ، فقال : ويْلَك!! ذلك أقبحُ بي ، في أيِّ آية؟ قال : سَمعتُك تقر : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ } إلى أن انتهيت إلى « أحَبّ » فرفعتها ، فقال : إذن لا تسمعني ألْحَنُ بعدها ، فنفاهُ إلى « خراسان » فمكث بها مدةً ، وكان بها حينئذٍ يزيد بن المهلب بن أبي صفرة ، فجاءهم جيش ، فكتب إلى الحجاج كتاباً ، وفيه : « وقد جاءنا العدوُّ فتركناهم بالحضيض ، وصعدنا عُرعُرة الجبل » ، فقال الحجاج : ما لابن المهلب ولهذا الكلام ، فقيل له : إنَّ يحيى هناك ، فقال : إذن ذاك .
وقرأ الجمهور « عَشيرَتُكُمْ » بالإفراد ، وأبو بكر عن عاصم « عَشِيراتكم » جمع سلام . [ ووجه الجمع أنَّ لكلِّ من المخاطبين عشيرة ، فحسن الجمع ، وزعم الأخفشُ أنَّ « عشيرة » لا تجمع بالألف والتاء ، وإنَّما تكسيراً على « عشائر » ، وهذه القراءة حجةٌ عليه ، وهي قراءة أبي عبد الرحمن السلمي وأبي رجاء .
وقرأ الحسن « عَشائرُكُم » قيل : وهي أكثر مِنْ « عشيراتكم » ] .
و « العَشِيرةُ » : هي : الأهلُ الأدنون . وقيل : هم أهلُ الرَّجُلِ الذين يتكثَّر بهم ، أي : يصيرون له بمنزلةِ العدد الكامل ، وذلك أنَّ العشيرة هي العددُ الكاملُ ، فصارت العشيرةُ اسماً لأقارب الرَّجُلِ الذين يتكثَّر بهم ، سواءً بلغوا العشرة أم فوقها .
وقيل : هي الجماعةُ المجتمعة بنسبٍ ، أو وداد ، لعقد العشرة .
فصل
هذه الآية هي تقريرُ الجواب المذكور في الآية الأولى ، وذلك لأنَّ جماعة المؤمنين ، قالوا : يا رسُول الله كيف يمكن البراءة منهم بالكليَّة؟ وهذه الآية توجب انقطاعنا عن آبائنا وإخواننا وعشيرتنا ، وإن نحن فعلنا ذلك ، ذهبت تجارتنا ، وهلكت أموالنا ، وخربت ديارنا ، فأنزل الله تعالى : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقترفتموها وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ } أي : تَسْتوطنُونَها راضين بسكناها { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ } فانتظروا { حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ } . قال عطاءٌ : « بقضائه » .
وقال مجاهدٌ ومقاتلٌ : « بفتح مكَّة » .
وهذا أمر تهديد ، فبيَّن تعالى أنَّه يجب تحمل جميع هذه المضارّ في الدُّنيا ، ليبقى الدِّين سليماً . ثم قال { والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } أي : الخارجين عن الطاعةِ ، وهذه الآية تدلُّ على أنَّه إذا وقع التَّعارضُ بين مصلحةٍ واحدة من مصالح الدِّين ، وبين مهمات الدُّنيا؛ وجب ترجيح الدِّين على الدنيا .
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
قوله تعالى : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ } الآية .
لمَّا ذكر في الآية المتقدمة أنه يجب الإعراض عن مخالطة الآباء والأبناء ، والإخوان ، والعشيرة ، وعن الأموال ، والتجارات ، والمساكن ، رعاية لمصالح الدِّين ، وعلم أنَّ ذلك يشقّ على النفوس ، ذكر ما يدلُّ على أنَّ من ترك الدُّنيا لأجل الدِّين ، فإنَّهُ تعالى يوصله مطلوبه .
وضرب لهذا مثلاً ، وذلك أنَّ عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقعة حنين ، كانوا في غاية الكثرةِ والقوَّةِ ، فلمَّا أعجبوا بكثرتهم ، صارُوا منهزمين ، فلمَّا تَضَرَّعُوا في حال الانهزام إلى اللهِ تعالى قوَّاهم حتَّى هزموا عسكر الكُفَّارِ ، وذلك يدلُّ على أنَّ الإنسان متى اعتمد على الدُّنيا ، فاته الدِّين والدنيا ، ومتى أطاع الله ، ورجَّحَ الدِّين على الدُّنيا ، آتاه اللهُ الدِّين والدُّنيا على أحسن الوُجوه فكان هذا تسلية لأولئك المأمورين بمقاطعة الآباءِ والأبناءِ ، لأجل مصلحة الدِّين ، وعداً لهم بأنهم إن فعلُوا ذلك أوصلهم اللهُ تعالى إلى أقاربهم وأموالهم ومساكنهم على أحسن الوجوه .
قال الواحديُّ : « النّصر : المعونةُ على العدوِّ خاصة » « المواطن » : جمع « مَوْطِن » بكسر العين ، وكذا اسم مصدره ، وزمانه ، لاعتلال فائه ك « المَوْعد » ، قال : [ الطويل ]
2773- وكَمْ مَوْطنٍ لوْلايَ طِحْتَ كَما هَوَى ... بأجْرَامِهِ مِنْ قُنَّةِ النِّيقِ مُنْهَوِي
و « حُنَيْن » : اسمُ وادٍ بين مكة والطائف ، فلذلك صرفه ، وبعضهم جعله اسماً للبقعة ، فمنعه في قوله : [ الكامل ]
2774- نَصَرُوا نَبيَّهُمُ وشَدُّوا أزْرَهُ ... بِحُنينَ يَوْمَ تواكُلِ الأبْطالِ
وهذا كما قال الآخرُ في « حراء » : اسم الجبل المعروف ، اعتباراً بتأنيث البقعة في قوله : [ الوافر ]
2775- ألَسْنَا أكْثَرَ الثَّقليْنِ رَجْلاً ... وأعْظَمَهُمْ بِبطْنِ حِرَاءَ نَارَا
فصل
المرادُ بالمواطن الكثيرة : غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقال : إنها ثمانون موطناً ، فأعلمهم أنه تعالى هو الذي تولَّى نصر المؤمنين ، ومن نصره الله فلا غالب له ، ثم قال « وَيَوْمَ حُنَيْنٍ » أي : واذكر يوم حُنَيْن من جملة تلك المواطن حال ما أعجبتكم كثرتكم ، و « حنين » واد بين مكة والطائف .
وقيل : إلى جنب ذي المجاز . قال الرواةُ : لمَّا فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّة ، وقد بقيت أيامٌ من شهر رمضان ، خرج متوجهاً إلى حنين ، لقتال هوازن وثقيف ، في اثني عشر ألفاً ، عشرة آلاف من المهاجرين ، وألفان من الطلقاءِ .
وقال عطاءٌ : عن ابن عباس « كانوا ستة عشر ألفاً » .
وقال الكلبيُّ « كانوا عشرة آلاف » . وكان هوازن وثقيف أربعة آلاف ، وعلى هوازن : مالكُ بن عوف النضري ، وعلى ثقيف : كنانة بن عبد ياليل الثقفي ، فلما التقى الجمعان ، قال رجلٌ من الأنصار يقال له : سملة بنُ سلامة بن وقش : لن نغلب اليوم عن لقَّةٍ ، وهو المراد من قوله : { إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } ، فساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه ، ووكلوا إلى كلمة الرجل ، وفي رواية : لم يرض الله قوله ، ووكلُوا إلى أنفسهم ، فاقتتلوا قتالاً شديداً؛ فانهزم المشركون وتخلّوا عن الذراري ، ثم نادوا يا حماة السواد اذكروا الفضائح ، فتراجعوا ، وانكشف المسلمون .
قال قتادةُ : وذكر لنا أنَّ الطُّلقاء انجفلوا يومئذ بالنَّاسِ .
قوله : « وَيَوْمَ حُنَيْنٍ » فيه أوجه :
أحدهما : أنَّهُ عطفٌ على محلِّ قوله : « فِي مَوَاطِنَ » عطف ظرف الزمان من غير واسطة « في » على ظرف المكان المجرور بها ، ولا غرو في نسق ظرف زمان على مكان ، أو العكس ، تقول : سرت أمامك ويوم الجمعة ، إلاَّ أنَّ الأحسن أن يُتركَ العاطفُ في مثله .
الثاني : زعم ابنُ عطية : أنَّه يجوز أن يُعطف على لفظ « مَواطِنَ » بقتدير : « وفِي يَوْمِ » ، فحذف حرف الخفض ، وهذا لا حاجة إليه .
الثالث : قال الزمخشريُّ : « فإن قلت : كيف عطف الزمان على المكان ، وهو » يَوْمَ حُنينٍ « على » مَواطِنَ « ؟ .
قلت : معناه : وموطن يوم حنين ، أو في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين » .
الرابع : أن يُراد ب « المواطِن » : الأوقاتُ ، فحينئذٍ إنَّما عطف زمانٌ على زمان .
قال الزمخشريُّ - بعدما تقدَّم عنه - : « ويجوزُ أن يُراد ب » المواطن « : الوقت ، ك : مقتل الحسين ، على أنَّ الواجب أن يكون : » يَوْمَ حُنينٍ « منصوباً بفعل مضمر ، لا بهذا الظَّاهر ، ومُوجِبُ ذلك أنَّ قوله : » إِذْ أَعجَبَتْكُمْ « بدلٌ من » يَوْمَ حُنَينٍ « ، فلو جعلتَ ناصبَه هذا الظاهر ، لم يصحَّ؛ لأنَّ كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن ، ولم يكونوا كثيرين في جميعها ، فبقي أن يكون ناصبُه فعلاً خاصاً به » .
قال شهابُ الدِّين : « لا أدري ما حمله على تقدير أحد المضافين ، وعلى تأويل » المواطن « بالوقت ، ليصحَّ عطفُ زمانٍ على زمان ، أو مكان على مكان ، إذ يصحُّ عطفُ أحدُ الظرفين على الآخر؟ وأمَّا قوله : » على أنَّ الواجب أن يكون « إلى آخره؛ كلامٌ حسنٌ ، وتقريره أنَّ الفعل مُقيدٌ بظرف المكان ، فإذا جعلنا » إذْ « بدلاً من » يَوْم « كان معمولاً له؛ لأنَّ البدل يَحُلُّ محلَّ المُبْدل منه؛ فيلزم منه أنه نصرهم إذ أعجبتهم كثرتُهم في مواطن كثيرة ، والفرض أنَّهم في بعض هذه المواطن لم يكونوا بهذه الصفة ، إلاَّ أنَّه قد ينقدح ، فإنَّه - تعالى - لم يقل في جميع الموطن ، حتَّى يلزم ما قاله » .
ويمكن أن يكون أراد بالكثرةِ : الجميع ، كما يُراد بالقلة العدمُ .
قوله : « بِمَا رَحُبَتْ » « ما » مصدريةٌ ، أي : رَحْبُها وسعتها .
وقرأ زيد بن علي في الموضعين « رَحْبَت » بسكون العين ، وهي لغة تميم ، يسكنون عين « فَعُل » فيقولون : في « شَرُف » « شَرْف » . و « الرُّحْب » بالضمِّ : السَّعَة ، وبالفتح : الشيء الواسع ، يقال : رَحُب المكان يَرْحُب رُحْباً ورَحَابَةٌ ، وهو قاصر . فأمَّا تعدِّيه في قولهم : رَحُبَتكم الدار « فعلى التضمين ، لأنه بمعنى » وسعتكم « .
فصل
قوله : { فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } الإغناء : إعطاء ما يدفع الحاجة ، أي : فلم يُعطِكم شيئاً يدفع حاجتكم . والمعنى : أنه تعالى أعلمهم أنَّهُم لا يغلبون بكثرتهم ، وإنما يغلبون بنصر الله ، فلمَّا أعجبوا بكثرتهم ، صاروا منهزمين ، ثم قال : { وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ } أي : مع رحبها ، و » ما « ههنا مع الفعل بمنزلة المصدر ، والمعنى : إنكم لشدَّةِ ما لحقكم من الخوف ضاقت عليكم الأرضُ ، فلم تجدُوا فيها موضعاً يصلح لفراركم من عدوكم .
قال البراء بن عازب : كانت » هوازن « رماة ، فلما حملنا انكشفوا وأكببنا على الغنائم ، فاستقبلونا بالسهام ، وانكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق معه إلا العباس وأبو سفيان بن الحارث . قال [ البراء ] : والذي لا إله إلاَّ هو ما ولَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم قط ، قال : رأيته وأبو سفيان آخذ بالركاب ، والعباس آخذ بلجام دابته البيضاء وهو يقول : » أنَا النبيُّ لا كذِبْ ، أنَا ابنُ عَبْدِ المُطَّلِب « وطفق يركضُ بغلته نحو الكفار ، ثم قال للعبَّاس : نادِ المهاجرين والأنصار - وكان العباس رجلاً صَيِّتاً - فجعل يُنَادِيك يا عباد الله ، يا أصحاب الشجرة ، يا أصحاب سورة البقرةِ ، فجاء المسلمون حين سمعوا صوته عنقاً واحداً ، وأخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيده كفاً من الحَصَى ، فرماهم بها ، وقال : » شَاهتِ الوُجوهُ « فما زال أمرهم مدبراً ، وحدهم كليلاً حتى هزمهم اللهُ ، ولم يبق منهم أحد يومئذ إلاَّ وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب ، فذلك قوله : { ثُمَّ أَنَزلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين } .
والمراد بالسّكينة : ما يسكن إليه القلبُ ، ويوجب الأمنة ، ووجه الاستعارة فيه : أنَّ الإنسان إذا خاف فرَّ وفُؤاده متحرك ، وإذا أمن؛ سكن وثبت؛ فلمَّا كان الأمن موجباً للسكون جعل لفظ السَّكينة كناية عن الأمن . ثم قال تعالى : { وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } والمراد : أَنْزَلَ الملائِكة ، وليس في هذه الآية ما يدلُّ على عدّة الملائكة ، كما هو في قصة بدر ، فقال سعيد بن جبير : » أيَّد الله نبيه بخمسة آلاف من الملائكة « ولعله إنَّما قاسه على يوم بدر .
وقال سعيدُ بن المسيبِ : حدَّثني رجلٌ كان في المشركين يوم حنين قال : لمَّا كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم ، فلمَّا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء ، تلقانا رجال بيض الوجوه ، فقالوا : شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكتافنا ، واختلفوا في أنَّ الملائكة هل قاتلوا ذلك اليوم؟ فالذي روي عن سعيد بن المسيب يدلُّ على أنهم قاتلوا ، وقال آخرون : إن الملائكة ما قاتلوا إلا يوم بدر ، وفائدة نزولهم في هذا اليوم : هو إبقاء الخواطر الحسنة في قلوب المؤمنين .
ثم قال تعالى : { وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ } والمرادُ من هذا التَّعذيب : قتلهم وأسرهم ، وأخذ أموالهم وسبي ذراريهم .
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ فعل العبد خلق لله تعالى؛ لأنَّ المراد من هذا التَّعذيب ليس إلا الأخذ والأسر ، وقد نسب تلك الأشياء إلى نفسه .
قوله : { وذلك جَزَآءُ الكافرين } تَمسَّك الحنفيَّةُ في مسألة الجلد مع التعزير بقوله { الزانية والزاني } [ النور : 2 ] قالوا : الفاءُ تدلُّ على كون الجلد جزاء ، والجزاء اسم للكافي ، وكون الجلد كافياً يمنع كون غيره مشروعاً معه ، وأجيبوا بأن الجزاء ليس اسماً للكافي؛ لأنه تعالى سمَّى هذا التعذيب جزاء مع أنَّ المسلمين أجمعوا على أنَّ العقوبة الدائمة في القيامة مُدَّخرة لهم ، فدلت هذه الآية على أنَّ الجزاء ليس اسماً لما يقع به الكفاية .
قوله { ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَآءُ } أي : أنَّ الله تعالى مع كل ما جرى عليهم من الخذلان يتوب عليهم ، بأن يزيل عن قلبهم الكفر ، ويخلق فيه الإسلام ، وقال القاضي : معناهُ : أنَّهُ بعد ما جرى عليهم ما جرى ، إذا أسلمُوا وتابُوا فإنَّ الله يقبل توبتهم « وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ قوله : » ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ « ظاهره يَدُلُّ على أنَّ تلك التبوة إنَّما تحصل لهم من قبله تعالى ، وتقدَّم الكلامُ على المعنى في البقرة عند قوله { فَتَابَ عَلَيْهِ } [ البقرة : 37 ] ثم قال : { والله غَفُورٌ } أي : لمن تاب { رَّحِيمٌ } لِمَنْ آمن وعمل صالحاً .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } الآية .
اعلم أنه عليه الصَّلاة والسَّلام ، لمَّا أمر عليّاً أن يقرأ على مشركي مكَّة أول سورة براءة ، وينبذ إليهم عهدهم ، وأنَّ الله بريء من المشركين ورسلوه ، قال أناس : يا أهل مكَّة ستعلمون ما تلقونه من الشِّدَّة لانقطاع السبل وفقد الحمولات؛ فنزلت هذه الآية ، لرفع الشُّبهةِ ، وأجاب الله تعالى عنها بقوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } أي : فَقْراً وحاجةً ، { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ } قال الأكثرون : لفظ المشركين يتناولُ عبدة الأوثانِ ، وقال قومٌ : يتناولُ جميع الكُفَّارِ ، وقد تقدم ذلك .
قال الضحاكُ وأبو عبيدةَ : « نَجَسٌ » قذر .
وقيل : خَبِيثٌ ، وهو مصدر يستوي فيه الذكر والأنثى ، والتثنية والجمع . جعلوا نفس النَّجَس ، على المبالغة ، أو على حذفِ مضاف .
وقرأ أبو حيوة « نِجْسٌ » بكسر النُّون وسكون الجيم ، وجهه أنَّه اسمُ فاعل في الأصلِ على « فَعِل » مثل : « كَتِف وكَبِد » ثم خُفِّف بسكون عَيْنه بعد إتباع فائه ، ولا بُدَّ من حذف موصوف حينئذٍ قامَتْ هذه الصفةُ مقامه ، أي : فريق نجس ، أو جنس نجس ، فإذا أفرد قيل « نَجس » بفتح النون .
قال البغوي « ولا يقال على الانفراد ، بكسر النُّون وسكون الجيم ، إنَّما يقال » رِجْسٌ نِجْسٌ « ، فإذا أفرد قيل » نَجِسٌ « بفتح النون وكسر الجيم » وقرأ ابن السَّميفع « أنْجَاس » بالجمع ، وهي تحتمل أن تكون جمع قراءةِ الجمهور ، أو جمع قراءةِ أبي حيوة ، وأراد به نجاسة الحكم ، لا نجاسة العين ، سُمُّوا نجساً على الذَم .
وقال ابنُ عبَّاس وقتادةُ « سماهم نجساً » ؛ لأنَّهم يجنبون ، فلا يغتسلون ، ويحدثون فلا يتوضؤون « ونقل الزمخشري عن ابن عباسٍ » أنَّ أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير « وعن الحسنِ » مَنْ صَافحَ مشركاً توضَّأ « وهذا قول الهادي من أئمة الزَّيدية .
وأمَّا الفقهاءُ : فقد اتفقوا على طهارة أبدانهم ، وهذا هلاف ظاهر القرآن ، فلا يرجع عنه إلا بدليل منفصلٍ ، ولا يمكن ادعاء الإجماع فيه لما بينا من الخلاف .
واحتج القاضي على طهارتهم بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من أوانيهم ، وأيضاً لو كان نجساً ، لما تبدل ذلك بالإسلام ، وأجاب القائلون بالنجاسة : بأنَّ القرآن أقوى من خبر الواحد وبتقدير صحَّةِ الخبر؛ يجب أن يعتقد أن حل الشرب من إنائهم كان متقدماً على نزول هذه الآية من وجهين :
الأول : أنَّ هذه السُّورة من آخر ما نزل من القرآن ، وأيضاً كانت المخالطة مع الكُفَّار جائزة فحرَّمها الله تعالى ، وكانت المعاهدة حاصلة معهم ، فأزالها الله؛ فلا يبعد أن يقال أيضاً : الشرب من أوانيهم ، كان جائزاً فحرمه اللهُ .
الثاني : أنَّ الأصل حل الشرب من أي إناء كان ، فلو قلنا إنه حرم بحكم الآية ، ثم حل بحكم الخبرِ ، فقد حصل نسخان ، أما لو قلنا إنَّه كان حلالاً بحكم الأصل ، والرسول شرب من آنيتهم بحكم الأصل ، ثم جاء التَّحريمُ بهذه الآيةِ ، لم يحصل النَّسخ إلاَّ مرة واحدة؛ فوجب أن يكون هذا أولى .
وأما قولهم : لو كان الكافرُ نجس العين ، لما تبدَّلت النجاسةُ بالطَّهارة بسبب الإسلام . فهذا قياس في معارضة النَّص الصَّريح ، وأيضاً فالخمرةُ نجسة العين ، فإذا انقلبت بنفسها خلاًّ طهرت ، وأيضاً إنَّ الكافر إذا أسلم؛ وجب عليه الاغتسالُ ، إزالة للنجاسةِ الحاصلة بحكم الكفر ، وهذا ضعيفٌ؛ فإنَّ الأعيانَ النجسة لا تقبل التَّطهير بالغسل ، إنما يطهر بالغسل ما ينجس .
فصل
قالت الحنفيَّةُ : أعضاءُ المحدث نجسة نجاسة حكمية ، وبنوا عليه أنَّ الماء المستعمل في رفع الحدث نجس ، ثم روى أبو يوسف عن أبي حنيفة : أنَّهُ نجاسة خفيفة ، وروى الحسنُ بن زيادٍ : أنَّه نجس نجاسة غليظة ، وهذه الآية تدلُّ على فساد هذا القول؛ لأن كلمة « إِنَّمَا للحصر ، فاقتضى أن لا نجس إلاَّ المشرك ، فالقولُ بأنَّ أعضاءَ المحدث نجسة ، يخالف هذا النَّص ، والعجب أن هذا النص صريح في أن المشرك نجس ، وفي أنَّ المؤمن ليس بنجس ، ثم إنَّ قوماً قلبوا القضية ، وقالوا : المشرك طاهرٌ ، والمؤمن حال كونه محدثاً نجس ، وزعموا أنَّ المياه التي يستعملها المشركون في أعضائهم بقيت طاهرة مطهرة ، والمياه التي يستعملها أكابرُ الأنبياء في أعضائهم نجسة نجاسة غليظة ، مع مخالفة قوله عليه الصلاة والسلام : » المُؤمنُ لا يَنْجُسُ حيّاً ، ولا ميتاً « وأجمعوا على أنَّ إنساناً لو حمل محدثاً في صلاته لم تبطل صلاته ، ولو كان يده رطبة فوصلت إلى يدِ مُحدث لم تنجس يده ، ولو عرق المحدثُ ووصل العرقُ إلى ثوبه لم ينجس الثوب ، والقرآن ، والخبر ، والإجماع ، تطابقت على القول بطهارة وأعضاء المحدث ، فكيف يمكن مخالفته؟
فصل
قيل المرادُ بالمسجدِ الحرام : نفس المسجدِ ، وقيل : جميع الحرم ، وهو الأقربُ لقوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ } وذلك لأن موضع التجارات ليس هو عين المسجد؛ فلو كان المقصود من هذه الآية المنع من المسجد خاصة ، لما خافُوا بسبب هذا المنع من العَيْلَة ، وإنَّما يخافون العيلة إذا منعوا من حضور الأسواقِ والمواسم ، ويؤكد هذا قوله تعالى : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام } [ الإسراء : 1 ] مع أنَّهم أجمعُوا على أنه إنَّما رفع الرسول من بيت أم هانىء ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام » لا يجتمع دينان في جزيرة العربِ « وهي من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق طولاً ، ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشَّام عرضاً ، واعلم أنَّ جملة بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام :
أحدها : الحرم ، فلا يجوزُ للكافر أن يدخله بحال ذمِّيّاً كان أو مستأمناً ، لظاهر هذه الآية ، وإذا جاء رسول من دار الكُفرِ إلى الإمام ، والإمام في الحرمِ ، لا يأذن له في دخول الحرم ، بل يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم ، وإن دخلَ مشكر الحرم متوارياً فمرض فيه ، أخرجناه مريضاً ، وإن مات ودفن ولم نعلم نبشناه ، وأخرجنا عظامه إذا أمكن ، وجوَّز أهل الكوفة للمعاهد دخول الحرم .
والقسم الثاني من بلاد الإسلام : الحجازُ ، فيجوز للكافر دخولها بالإذن ، ولكن لا يقيم أكثر من ثلاثة أيَّامٍ ، مقام السفرِ ، لما روي عن عمر بن الخطابِ ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لَئِنْ عِشْتُ إنْ شاءَ الله لأخرجنَّ اليهُودَ والنَّصارى من جزيرةِ العربِ ، حتى لا أدعُ إلاَّ مُسْلِماً » فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوصى فقال : « أخرجُوا المُشركينَ مِنْ جزيرةِ العرب » فلم يتفرَّغ لذلك أبو بكر ، وأجلاهم عمر في خلافته ، وأحل لمن يقدم منهم تاجراً ثلاثاً .
والقسم الثالث : سائر بلاد الإسلام؛ فيجوزُ للكافر أن يقيم فيها بذمَّة أو أمان ، ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن مسلم .
فصل
والمراد بقوله « بَعْدَ عامهم هذا » يعني العام الذي حجَّ فيه أبو بكرٍ بالنَّاس ، ونادى علي بالبراءة ، وهو سنة تسع من الهجرةِ .
قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } . العيلةُ : الفقرُ ، يقالك عَالَ الرَّجُل يَعِيلُ عَيْلَةً : إذا افتقر . والمعنى : إن خفتم فقراً بسبب منع الكفار : « فسَوْفَ يغنيكُم الله مِنْ فَضْلِهِ » قال مقاتل « أسلم أهلُ جدة وصنعاء وحنين ، وحملوا الطعام إلى مكَّة ، فكفاهم الله ما كانوا يخافون » .
وقال الحسنُ والضحاكُ وقتادةُ : « عوَّضهم الله عنها بالجزية » وقيل : أغناهم بالفيء . وقال عكرمة : « أنزل اللهُ عليهم المطر ، وكثر خيرهم » .
فإن قيل : الغرضُ بهذا الخبر ، إزالة الخوف بالعيلة ، وقوله « إن شَاء اللهُ » يمنع من فائدة هذا المقصود .
فالجوابُ من وجوه :
الأول : ألاَّ يحصل الاعتماد على حصول هذا المطلوب؛ فيكون الإنسان أبداً متضرّعاً إلى الله تعالى في طلب الخيرات ، وفي دفع الآفات .
الثاني : أنَّ المقصود من ذكر هذا الشَّرط تعليم رعاية الأدب ، كقوله : { لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله } [ الفتح : 27 ] .
الثالث : المقصودُ : التَّنبيه على أنَّ حصول هذا المعنى لا يكون في كلِّ الأوقات ، وفي جميع الأمكنة؛ لأنَّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام - قال في دعائه : { وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات } [ البقرة : 126 ] وكلمة « مِنْ » للتبعيض ، فقوله ههنا « إن شَاءَ اللهُ » المراد منه ذلك التبعيض .
ثم قال : { إِنَّ الله عَلِيمٌ } بأحوالكم ، « حَكِيمٌ » أي : لا يعطي ولا يمنع إلاَّ عن حكمة وصواب .
قوله تعالى : { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر } الآية .
لمَّا بيَّن تعالى حكم المشركين في إظهار البراءة عنهم في أنفسهم ، وفي وجوب مقاتلتهم ، وفي تبعيدهم عن المسجد الحرام ، ذكر بعده حكم أهل الكتاب ، وهو أن يقاتلوا حتى يعطوا الجزية .
قال مجاهدٌ « نزلت حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال الرُّوم ، فغزا بعدها غزوة تبوك » وقال الكلبيُّ « نزلت في قريظة والنَّضير من اليهودِ ، فصالحهم ، فكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام ، وأول ذلّ أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين » .
فإن قيل : أهل الكتاب يؤمنون بالله واليوم الآخر ، فكيف أمر بقتالهم؟ .
فالجوابُ : لا يؤمنون كإيمان المؤمنين؛ فإنَّهم إذا قالوا : عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله ، لا يكون ذلك إيماناً باللهِ .
قوله : { وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ } أي : لا يُحرِّمُون ما حرَّم الله في القرآن ، وبينه الرسول ، وقال أبو زيدٍ : لا يعملون بما في التوراة والإنجيل ، بل حرفوهما وأتوا بأحكام كثيرة من قبل أنفسهم .
قوله { وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق } أي : لا يدينون الدِّين الحق ، أضاف الاسم إلى الصَّفةِ وقال قتادة : « الحَقّ » هو الله - عزَّ وجلَّ -؛ أي : لا يدينون دين الله ، ودينه الإسلام . قال أبو عبيدة : معناه : لا يطيعون الله طاعة أهل الحقّ .
قوله : { مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } بيانٌ للموصول قبله ، والمرادُ : اليهودُ والنصارى { حتى يُعْطُواْ الجزية } وهي الخراجُ المضروب على رقابهم ، و « الجِزْيةُ » : « فِعْلَة » ، لبيان الهيئة ، ك « الرِّكْبَة » . قال الواحديُّ : « الجزيةُ : ما يعطى المعاهد على عهده ، وهي » فِعْلة « من جزى يجزي إذا قضى ما عليه » .
قوله : « عَن يَدٍ » حالٌ ، أي : يُعْطُوها مقهورين أذِلاَّء ، وكذلك : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } .
قال الزمخشريُّ « قوله : » عن يدٍ « إمَّا أن يراد به عن يد المُعْطِي ، أو يد الآخذ ، فإن كان المراد به المعطي ففيه وجهان :
أحدهما : عن يد غير ممتنعة؛ لأنَّ مَنْ أبى وامتنع لم يعط عن يده ، بخلافِ المطيع المنقاد .
وثانيهما : حتى يعطوها عن يد إلى يدٍ نقداً غير نسيئة ، ولا مبعوثاً على يد أحدٍ ، ولكن عن يد المُعطي إلى يد الآخذ .
وإن كان المرادُ به : يد الآخذ ، ففيه وجهان :
الأول : حتى يعطوا الجزية عن يد قاهرة مستولية للمسلمين عليهم ، كما تقولُ : اليد في هذا لفلان .
وثانيها : أنَّ المراد : عن إنعام عليهم؛ لأنَّ قبول الجزية منهم ، وترك أرواحهم لهم نعمة عظيمة عليهم » .
قوله { وَهُمْ صَاغِرُونَ } أي : تؤخذ الجزية منهم على الصغار والذل والهوان ، يأتي بها بنفسه ماشياً إلا راكباً ، ويسلمها وهو قائم والمتسلم جالس ، ويؤخذ بلحيته ويقال له أدِّ الجزية .
وقال الكلبيُّ : « إذا أعْطَى يصفعُ في قفاهُ » . وقيل : يكتب ويجرُّ إلى موضع الإعطاء .
وقيل : إعطاؤه إيَّاها هو الصِّغار؛ وقال الشافعيُّ « الصِّغارُ : جريان أحكام الإسلام عليهم » .
فصل
الكفار فريقان ، منهم عبدة الأوثان وعبدة ما استحسنوا ، فهؤلاء لا يقرَّون على دينهم بأخذ الجزية؛ ويجب قتالهم حتى يقولوا : لا إله إلاَّ الله ، ويصيروا مؤمنين .
والثاني : أهل الكتاب وهم اليهودُ والنصارى؛ فهؤلاء يقرون بالجزية ، والمجوسُ أيضاً سبيلهم سبيل أهل الكتاب ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « سُنُّوا بِهمْ سُنَّة أهْلِ الكِتابِ » ، وأخذه الجزية من مجوس هَجَرَ .
فصل
اتَّفَقَتْ الأمةُ على جواز أخذ الجزية من أهل الكتاب ، وهم اليهودُ والنصارى إذا لم يكونوا عرباً ، واختلفوا في أهل الكتابِ العرب وفي غير أهل الكتاب من كفار العجم؛ فذهب الشافعيُّ إلى أنَّ الجزية على الأديان لا على الأنساب ، فتؤخذُ من أهل الكتاب عرباً كانوا أو عجماً ، ولا يؤخذ من أهل الأوثان بحال؛ لأنَّ النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام - أخذها من أَكَيْدِر دُومَةَ - وهو رجل من العرب يقال : غسان - ، وأخذ من أهل دومة اليمنِ وعامتهم عرب؛ وذهب مالكٌ والأوزاعي إلى أنَّها تؤخذ من جميع الكُفَّارِ .
وقال أبُو حنيفة : تؤخذُ من أهل الكتابِ على العموم ، وتؤخذُ من مشركي العجم ، ولا تؤخذ من مشركي العربِ . وقال أبو يوسف : لا تؤخذُ من العربي كتابياً كان أو مشركاً وتؤخذ من العجمي كتابيّاً كان أو مشركاً ، وأمَّا المجوس فاتفقت الصَّحابةُ على أخذ الجزية منهم؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - : « سُنُّوا بِهمْ سُنَّةَ أهْلِ الكِتابِ » .
فصل
قال القاضي : قسم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على كل محتلم ديناراً ، وقسم عمر على الفقراء من أهل الذمة اثني عشر درهماً ، وعلى الأوْساطِ أربعة وعشرين ، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين ، ولمَّا بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن أمرهُ أن يأخذَ من كلِّ حالم ديناراً ، أي : بالغ ، ولم يفرِّق بين الغني والفقير والوسط ، وذلك دليل على أنها لا تجب على الصبيان ، وكذلك لا تجب على النساء ، إنَّما تؤخذ من الأحرار البالغين العقلاء من الرجالِ .
فصل
تؤخذ الجزية عند أبي حنيفة في أوَّل السنة ، وعند الشافعي وغيره في آخرها . وتسقط الجزية بالإسلام والموت عند أبي حنيفة وغيره لقوله عليه الصلاة والسلام « لَيْسَ عَلى المُسلمِ جزيةٌ » وعند الشافعي - رضي الله عنه - لا تسقطُ .
فصل
قال بعضُ العلماءِ : هؤلاء إنَّما أقرُّوا على دينهم الباطل بأخذ الجزية حرمة لآبائهم الذين انقرضوا على الحق من شريعة التوراة والإنجيل ، وأيضاً فكتابهم في أيديهم ، فربَّما يتفكرون فيه فيعرفون صدق محمد ونبوته ، فأمهلوا لهذا المعنى .
فصل
طعن ابنُ الراوندي في القرآن وقال : إنه ذكر في تعظيم كفر النصارى ، قوله : { تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً } [ مريم : 90-91 ] فبيَّن أنَّ إظهارهم لهذا القولِ بلغ إلى هذا الحدِّ ، ثم إنَّه أخذ منهم ديناراً واحداً وأقرهم عليه ، وما منعهم منه .
والجواب : ليس المقصود من أخذ الجزية تقريره على الكُفرِ ، بل المقصودُ حقن دمه وإمهاله مدَّة ، رجاء أنه ربما وقف في هذه المدة على محاسنِ الإسلام وقوَّة دلائله؛ فينتقل من الكفر إلى الإيمان .
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
{ وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله } الآية .
قرأ عاصم والكسائيُّ بتنوين « عُزَيْرٌ » ، والباقون من غير تنوين ، فأمَّا القراءةُ الأولى فيحتمل أن يكون اسماً عربياً مبتدأ ، و « ابنُ » خبره ، فتنوينه على الأصل ، ويحتمل أن يكون أعجمياً ، ولكنهُ خفيفُ اللَّفظِ ، ك « نُوحِ » ، و « لُوطٍ » ، فصُرفَ لخفَّة لفظه ، وهذا قول أبي عبيد ، يعني : أنَّهُ تصغيرُ « عَزَر » ، فحكَمه حكم مُكَبَّره ، وقال : هذا ليس منسوباً إلى أبيه ، إنَّما هو كقولك : زيد ابن الأمير ، وزيد ابن أخينا ، و « عُزَيْرٌ » مبتدأ وما بعده خبره ، ورُدَّ هذا بأنَّه ليس بتصغير ، إنَّما هو أعْجَمي ، جاء على هيئة التَّصغيرِ في لسان العرب ، ك « سُلَيْمَان » ، جاء على مثال « عُثَيْمَان ، وعُمْيَران » .
وأمَّا القراءةُ الثانية؛ فيحتمل حذفُ التنوين ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّه حذف التنوين لالتقاء الساكنين على حدِّ قراءة { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد } [ الإخلاص : 1-2 ] . قال الفرَّاء : نون التنوين في « عُزَيْرٌ » ساكنة ، والباء في قوله « ابْنُ اللهِ » ساكنة ، فالتقى ساكنان ، فحذف نون التنوين للتخفيف؛ وأنشد : [ المتقارب ]
2776- وألْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ ... ولا ذَاكِرٍ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً
وهو اسمٌ منصرفٌ مرفوعٌ بالابتداء ، و « ابن » خبره .
الثاني : أنَّ تنوينه حذف ، لوقوع الابن صفة له ، فإنَّه مرفوعٌ بالابتداء ، و « ابن » صفته ، والخبرُ محذوفٌ ، أي : عُزَيرٌ ابْنُ الله نَبيُّنا ، أو إمامُنَا ، أو رسولُنَا ، وقد تقدَّم أنَّه متى وقع « الابن » صفة بين علمين ، غير مفصولٍ بينه وبين موصوفه ، حذفت ألفه خطّاً ، وتنوينه لفظاً ، ولا تثبت إلاَّ ضرورة ، وتقدم الاشتشهادُ عليه آخر المائدة . ويجوز أن يكون « عُزَيْرٌ » خبر مبتدأ مضمر ، أي : نَبيُّنا عُزير ، و « ابن » صفةٌ له ، أو بدل ، أو عطف بيان .
الثالث : أنه إنَّما حذف ، لكونه ممنوعاً من الصَّرف ، للتعريف والعجمة . ولم يرسم في المصحف إلاَّ بإثبات الألف ، وهي تنصرُ من يجعله خبراً .
وقال الزمخشري : « عزير ابن » مبتدأ وخبره ، كقوله : { المسيح ابن الله } و « عُزَيْرٌ » اسم أعجمي ، : « عَزرَائيل ، وعيزار » ولعجمته وتعريفه امتنع صرفه ، ومن صرفه جعله عربياً . وقول من قال بسقوط التنوين؛ لالتقاء الساكنين ، كقراءة { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد } [ الإخلاص : 1 ، 2 ] ولأنَّ « الابن » وقع وصفاً ، والخبر محذوف ، وهو « معبودنا » فتمحُّلٌ عن مندوحة « .
فصل
لمَّا حكم تعالى في الآيةِ المتقدِّمة على اليهودِ والنَّصارى بأنهم لا يُؤمنونَ بالله ، شرح ذلك في هذه الآية ، بأن نقل عنهم أنهم أثبتُوا للهِ ابناً ومنْ جوَّز ذلك في حق الإله ، فقد أنكر الإله في الحقيقة ، وأيضاً بيَّن تعالى أنهم بمنزلة المشركين في الشرك وإن كانت طرق القول بالشرك مختلفة ، إذ لا فرق بين من يعبد الصَّنم وبين من يعبد المسيح وغيره ، لأنه لا معنى للشرك إلاَّ أن يتَّخذ الإنسانُ مع الله معبوداً ، وهذا معنى الشِّرك ، بل لو تأمَّلنَا لعلمنا أن كفر عابد الوثن أخَفّ من كفر النصارى؛ لأنَّ عابد الوثن لا يقولُ : إنَّ هذا الوثن خالق للعالم ، بل يجريه مجرى الشيء الذي يتوسَّلُ به إلى طاعة الله ، والنَّصارى يثبتون الحلول والاتحاد وذلك كفر قبيح؛ فثبت أنَّه لا فرق بين هؤلاء الحلولية وبين سائر المشركين .
فإن قيل : اليهودُ قسمان : منهم مشبهة ، ومنهم موحدة ، كما أنَّ المسلمين كذلك ، فهَبْ أنَّ المشبهة منهم منكرون لوجود الإله ، فما قولكم في موحدة اليهود؟ .
فالجوابُ : أولئك لا يكونوا داخلين تحت هذه الآية ، وإنما وجبت الجزيةُ عيهم؛ لأنَّه لمَّا ثبت وجوب الجزية على بعضهم؛ وجب القول به في حل الكلِّ؛ لأنه لا قائل بالفرق .
وأما النَّصارى فيقولون بالأب والابن وروح القُدسِ ، والحلول والاتحاد ، وذلك ينافي الإلهيَّة .
وإنَّما خصَّ الله الطائفتين بقبول الجزية منهم؛ لأنَّهم في الظاهر ألصقوا أنفسهم بموسى وعيسى - عليهما الصَّلاة والسَّلام - ، وادَّعُوا أنهم يعملون بالتوراة والإنجيل؛ فلأجل تعظيم هذين الرسولين المعظمين ، وكتابيهما المعظمين ، ولتعظيم أسلاف هؤلاء اليهود والنصارى ، لأنهم كانوا على الدِّين الحق ، حكم الله بقبول الجزية منهم ، وإلاَّ ففي الحقيقة لا فرق بينهم وبين المشركين .
فصل
في قوله : { وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله } أقوال :
أحدها : قال عبيد بن عمير : إنَّما قال هذا رجلٌ واحد من اليهود اسمه : فنحاص بن عازوراء ، وهو الذي قال : { إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } [ آل عمران : 181 ] .
وثانيها : روى سعيدُ بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال : « أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود سلام بن مشكم ، والنعمان بن أبي أوْفَى ، وشاس بن قيس ، ومالك بن الصيف ، فقالوا : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا ، ولا تزعم أنَّ عُزيراً ابن الله؟ فنزلت هذه الآية . وعلى هذين القولين ، فالقائل بهذا بعض اليهود ، وإنما نُسب ذلك إلى اليهود بناء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحدِ ، يقال : فلانٌ ركبَ الخيولَ وجالسَ السَّلاطينَن ولعله لم يركب ولم يجالس إلا واحداً .
وثالثها : لعلَّ هذا المذهب كان فَاشياً فيهم ثمَّ انقطع ، فحكى الله ذلك عنهم ، ولا عبرة بإنكار اليهُودِ ذلك ، فإنَّ حكاية الله عنهم أصدق ، والسَّبب في ذلك ما روى عطية العوفي عن ابن عباس أن اليهود أضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق ، فأنساهم الله التوراة ، ونسخها من صدورهم ، فتضرَّع عزير إلى الله وابتهل إليه ، فعاد حفظ التوراة إلى قلبه ، فأنذر قومه به فلمَّا حرَّبُوه وجدوه صادقاص فيه ، ثم إنَّ التابوت نزل بعد دعائه منهم ، فلمَّا رأوا التَّابُوتَ عرضوا ما كان فيه على الذي كان يعلمهم عزير؛ فوجدوه مثله ، فقالوا : ما أوتي عزير هذا إلاَّ أنه ابن الله .
وقال الكلبيُّ : « لمَّا قتل بُخْتنصَّر علماءهم ، فلمْ يبق فيهم أحدٌ يعرف التوراة ، وكان عزير ابن ذاكَ صغيراً؛ فاستصغره فلم يقتله ، فلمَّا رجع بنو إسرائيل إلى بيتِ المقدس وليس فيهم من يقرأ التوراة بعث الله عزيراً ، ليجدِّد لهم التوراة ، ويكون لهم آية بعدما أماته مائة عام ، يقال : أتاهُ ملكٌ بإناءٍ فيه ماء؛ فسقاه ، فمثلت التوراة في صدره ، فلمَّا أتاهُم وقال : أنا عُزَيرٌ فكذَّبُوه وقالوا : إنْ كنت كما تزعُمُ فأملِ علينا التوراة فكتبها لهم ، ثمَّ إنَّ رجلاً قال : إنَّ أبي حدَّثَنِي عن جدِّي أنَّ التوراة جعلت في خابية ودفنت في كرم ، فانطلقوا معه حتى أخرجوها فعرضوها على ما كتب عزير ، فلم يغادر حرفاً ، فقالوا : إنَّ الله لم يقذف التوراة في قلب رجلٍ إلاَّ أنه ابنه ، فقالوا : عُزيرٌ ابنُ الله » .
فصل
وأمَّا قولُ النَّصارى المسيح ابن اللهِ ، فظاهرٌ ، وفيه إشكال ، وهو أنَّا نقطع أن المسيح عليه الصلاة والسلام كان مبرأً من دعوة النَّاس إلى الأبوة والبنوة؛ فإنَّ هذا أفحش أنواع الكُفْرِ ، فكيف يليق بأكابر الأنبياء؟ وإذا كان كذلك ، فكيف يعقلُ إطباق محبي عيسى من النصارى عليه ، ومن الذي وضع هذا المذهب الفاسدَ؟
وأجاب المفسِّرُون عن هذا : بأنَّ أتباع عيسى - عليه الصلاة والسلام - كانُوا على الحقِّ بعدما رفع عيسى حتى وقع حرب بينهم وبين اليهود ، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له : بولص قتل جماعةً من أصحاب عيسى ، ثم قال لليهود : إن كان الحقُّ مع عيسى؛ فقد كفرنا ، والنَّار مصيرنا ، ونحن مغبونون إنْ دخلوا الجنَّة ودخلنا النارَ ، وإني أحتال؛ فأضلهم حتى يدخلوا النَّار ، وكان له فرس يقال له : العقاب ، يقاتلُ عليه ، فعرقب فرسه ، وأظهر الندامة ، ووضع التراب على رأسه ، فقالت له النَّصارى : مَنْ أنتَ؟ قال : بولص عدوكم ، تبتُ ، فنوديت من السَّماء ليس لك توبة إلاَّ أنْ تَتَنَصَّر؛ وقد تبت ، فأدخلوه الكنيسة ، ومكث سنةً لا خرج ليلاً ولا نهاراً ، حتَّى تعلَّم الإنجيل وقال : نوديت أنَّ الله قبل توبتك؛ فصدقوه وأحبوه .
ثم مضى إلى بيتِ المقدسِ ، واستخلف عليهم رجلاً اسمه : نسطور ، وعلمه أنَّ عيسى ، ومريم والإله كانوا ثلاثة ، وتوجه إلى الرُّوم وعلَّمهم اللاهوت والنَّاسوت ، وقال : ما كان عيسى إنساناً ، ولا جسماً ولكنه ابن الله ، وعلَّم رجلاً يقال له : يقوبُ ذلك ، ثم دعا رجلاً يقال له ملكا فقال له : إنَّ الإله لم يزل ، ولا يزال عيسى ، ثم دعا هؤلاء الثلاثة وقال لكلِّ واحد منهم أنت خالصتي فادع النَّاس إلى إنجيلك ، ولقد رأيتُ عيسى في المنام ورضي عنِّي ، وإنِّي غداً أذبح نفسي لمرضاة عيسى ، ثم دخل المذبح ، فذبح نفسه ، فلمَّا كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم النَّاس إلى مذهبه؛ فتبع كلُّ واحد منهم طائفة ، فاختلفوا واقتتلوا ، هذا ما حكاه الواحديُّ وغيره .
قال ابنُ الخطيبِ : « والأقربُ عندي أن يقال : لعلَّه ورد لفظ الابن في الإنجيل على سبيل التِّشريفِ ، ثم إنَّ القومَ لأجل عداوة اليهود؛ ولأجل أن يقاتلوا غلوهم الفاسد في أحد الطرفين بغلو فاسد في الطَّرف الثاني ، فبالغوا وفسَّرُوا لفظ الابن بالبنوة الحقيقية ، والجهال قبلوا ذلك ، وفشا هذا المذهبُ الفاسدُ في أتباع عيسى ، والله أعلم بحقيقة الحال » .
قوله : { ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ } واعلم أنَّ كلَّ قول إنَّما يقال بالفمِ ، فما معنى تخصيصهم بهذه الصفة؟ والجواب من وجوه :
أحدها : أنَّ معناه قول لا يعضده برهانٌ ، وإنّما هو لفظ يفوهُون به فارغ من معنى معتبر لحقه؛ لأن إثبات الولد للإله مع أنه مُنزَّهٌ عن الحاجة والشهوة ، والمضاجعة ، والمباضعة قولٌ باطلٌ ، ليس له تأثير في العقل ، ونظيره قوله تعالى : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } [ آل عمران : 167 ] .
وثانيها : أنَّ الإنسان قد يختار مذهباً إمَّا على سبيل الكناية ، وإمَّا على سبيل الرَّمز ، وأمَّا إذا صرَّح بلسانه فهو الغاية في اختيار ذلك المذهب ، والمعنى على هذا : أنَّهم يُصرِّحون بهذا المذهبِ ولا يخفونه ألبتة .
وثالثها : أنَّ المعنى : أنهم دعوا الخلق إلى هذه المقالة حتى وقعت هذه المقالة في الأفواه والألسنة والمرادُ : مبالغتهم في دعوة الخلقِ إلى هذا المذهب .
قال أهل المعاني : لم يذكر اللهُ قولاً مقروناً بالأفواه والألسن إلاَّ كان ذلك زوراً .
قال ابنُ العربي : « في هذه الآية دليلٌ من قول ربنا تبارك وتعالى على أنَّ من أخبر عن كفر غيره الذي لا يجوز لأحد أن يبتدىء به لا حرج عليه؛ لأنَّه إنَّما ينطق به على سبيل الاستعظام له والرَّد عليه ، ولو شاء ربنا ما تكلم به أحد ، فإذا أمكن من إطلاق الألسنة به فقد أذن بالإخبار عنه ، على معنى إنكاره بالقلب واللسان ، والردّ عليه بالحجَّة » .
قوله « يُضَاهِئُونَ » قرأ العامة « يُضَاهُون » بضمِّ الهاءِ ، بعدها واو ، وعاصم بهاءٍ مكسورة ، بعدها همزةٌ مضمومة ، بعدها واو ، فقيل : هما بمعنى واحدٍ ، وهو المشابهة ، وفيه لغتانِ : « ضَاهَأتُ وضَاهَيْتُ » بالهمز والياءِ ، والهمزُ لغة ثقيف .
وقيل : الياء فرع عن الهمزةِ ، كما قالوا : قرأ وقَرَيْت ، وتوضَّأت وتوضَّيت ، وأخْطَأت وأخْطَيْت . وقيل : بل « يُضَاهِئُونَ » بالهمزِ مأخوذ من « يُضَاهِيونَ » ، فلمَّا ضُمَّت الياء قُلبتْ همزةً ، وهذا خطأٌ؛ لأنَّ مثل هذه الياء لا تَثْبُتُ في هذا الموضع حتى تقلبَ همزةً ، بل يؤدي تصريفه إلى حذف الياء ، نحو : يُرامُونَ ، من « الرمي » ، ويُماشُونَ ، من « المشي » وزعم بعضهم : أنَّهُ مأخوذٌ من قولهم : « امرأة ضَهْيَا » بالقصر ، وهي التي لا ثَدْيَ لها ، أو الَّتي لا تحيضُ ، سُمِّيت بذلك ، لمشابهتها الرجال ، يقال امرأة ضَهْيَا ، بالقصر وضَهْيَاء ، بالمد ، ك : حمراء ، وضَهْيَاءة ، بالمدِّ وتاءِ التأنيث ، ثلاث لغات ، وشذِّ الجمعُ بين علامتي تأنيث في هذه اللَّفظة ، حكى اللغة الثالثة الجرميُّ ، عن أبي عمرو الشيباني .
قيل : وقولُ من زعم أنَّ المضاهأة بالهمز مأخوذةٌ من : امرأة ضَهْيَاء ، في لغاتها الثلاث ، فقوله خطأ ، لاختلاف المادتين ، فإنَّ الهمزة في « امرأة ضَهْيَاء » زائدة في اللُّغاتِ الثلاث ، وهي في « المضاهأة » أصلية .
فإن قيل : لِمَ لَمْ يُدَّعَ أنَّ همزة « ضهياء » وباؤها زائدة؟ .
فالجوابُ : أنَّ « فَعْيَلاً » بفتح الياء يَثْبُتْ .
فإن قيل : فَلِمَ لم يُدَّعَ أنَّ وزنها « فَعْلل » ، ك : « جَعْفَرٍ » ؟ .
فالجوابُ : أنه قد ثبت زيادة الهمة في « ضَهْيَاء » بالمدِّ ، فثبت في اللُّغة الأخرى ، وهذه قاعدة تصريفية ، والكلامُ على حذف مضاف تقديره : يُضَاهي قولهم قول الذين ، فحذف المضاف وأقيم المضافُ إليه مقامه ، فانقلب ضمير رفع بعد أن كان ضمير جرٍّ .
والجمهور على الوقف على « بأفواههم » ، ويبتدئون ب « يُضَاهِئُونَ » .
وقيل : الباء تتعلَّق بالفعل بعدها ، وعلى هذا فلا يحتاج إلى حذف هذا المضاف . واستضعف أبو البقاءِ قراءة عاصم ، وليس بجيِّدٍ لتواترها ، وقال أحمدُ بنُ يحيى : لم يتابع أحد عاصماً على الهمز .
والمضاهاة : المشابهة ، في قول أكثر أهل اللُّغة . وقال شمرُ : « المضاهاة : المتابعة ، يقال : فلان يضاهي فلاناً ، أي : يتابعه » .
فصل
قال مجاهدٌ : « » يضاهئون « قول المشركين من قبلن كانوا يقولون : اللاَّت والعُزَّى بنات الله » .
وقال قتادة والسديُّ : « ضاهت النصارى قول اليهود من قبل ، فقالوا : المسيحُ ابنُ الله ، كقول اليهود من قبل عزير ابنُ الله؛ لأنهم أقدم منهم » وقال الحسنُ : « شبَّه كفرهم بكفر الذين مضوا من الأمم الكافرة » كما قال في مشركي العرب : { كَذَلِكَ قَالَ الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } [ البقرة : 118 ] .
وقال القتيبي : « يريد من كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى ، يقولون ما قال أسلافهم » .
قوله : « قَاتَلَهُمُ الله » قال ابنُ عبَّاسٍ : لعنهم الله . وقال ابن جريج : قتلهم اللهُ .
وقيل : هذا بمعنى التَّعجب من شناعةِ قولهم ، كما يقال : ركبوا شنيعاً ، قاتلهم اللهُ ما أعجب فعلهم ، وهذا التعجب إنَّما هو راجع إلى الخلقِ ، والله لا يتعجَّبُ من شيء ، ولكن هذا الخطابُ على عادة العرب في مخاطبتهم ، والله عجب منهم في تركهم الحق وإصرارهم على الباطل .
« أنى يُؤْفَكُونَ » أي : كيف يصرفون عن الحق بعد قيام الأدلة عليه .
قوله { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } .
الأحْبَارُ : العلماءُ . قال أبو عبيد : « الأحبارُ : الفقهاءُ قد اختلفوا في واحده ، فقال بعضهم : » حَبْرٌ « ، وقال بعضهم » حِبْرٌ « .
وقال الأصمعيُّ : لا أدري أهو الحِبْرُ أو الحَبْرُ « . وكان أبو الهيثم يقول : » واحد « الأحبار » « حَبْرٌ » بالفتح لا غير ، وينكر الكسر « وكان الليثُ ، وابن السِّكيت يقولان » حِبْر « و » حَبْر « للعالم ذِمِّيّاً كان أو مسلماً ، بعد أن يكون من أهل الكتاب » . وقال أهل المعاني : « الحبر » : العالم الذي صناعتُه تحبير المعاني بحس البيان عنها ، وإتقانها ، ومنه : ثوب محبر ، أي : جمع الزينة ، والرَّاهبُ : الذي تمكنت الخشية والرهبة في قلبه ، وظهرت آثار الرهبة على وجهه ولباسه . وفي عرف الاستعمال ، صار الأحبارُ مختصاً بعلماء اليهود من ولد هارون .
والرُّهبان : علماء النَّصارى أصحاب الصَّوامع . ومعنى اتخاذهم أرباباً : أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم ، واستحلُّوا ما أحلوا ، وحرموا ما حرموا .
قال أكثرُ المفسرين : « ليس المراد من الأرباب أنَّهم اعتقدوا إلهيتهم ، بل المراد : أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم » .
قال عدي بن حاتم : « أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب وهو يقرأ سورة براءة ، فقال : » يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك « فطرحته ، ثم انتهى إلى قوله : { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } فقلت : إنّا لنسا نعبدهم ، فقال : » أَلَيْسَ يحرِّمون مَا أَحَلَّ اللهُ فَتُحَرِّمُونَهُ ويُحلون ما حرَّم اللهُ؛ فَتَسْتحلُّونَهُ؟ « قال قلت : بلى ، قال : » فَتِلْكَ عبادتُهُمْ « .
وقال الربيع : قلت لأبي العالية : كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ قال : إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالفُ أقوال الأحبار والرهبان؛ فكانوا يأخذون بأقوالهم ويتركون حكم كتابِ الله تعالى . فإن قيل : إنَّه تعالى لمَّا كفرهم بسبب طاعتهم للأحبار والرُّهبان ، فالفاسقُ يطيع الشيطانَ؛ فوجب الحكم بكفره على ما هو قول الخوارجِ .
فالجوابُ : أنَّ الفاسق إن كان يطيع الشيطان إلاَّ أنَّه لا يُعظِّمه ، لكنه يلعنه ، فظهر الفرق .
فصل
قوله { والمسيح ابن مَرْيَمَ } عطف على » رُهبانهم « ، والمفعول الثَّاني محذوف ، والتقدير : اتخذ اليهودُ أحبارهم أرباباً ، والنصارى رهبانهم والمسيح ابن مريم أرْبَاباً ، وهذا لأمْنِ اللَّبْس خلط الضمير في » اتَّخَذُوا « ، وإن كان مقسماً لليهود والنَّصارى ، وهذا مراد أبي البقاءِ في قوله : » أي : واتخذوا المسيح ربًّا ، فحذف الفعل وأحد المفعولين « . وجوَّز فيه أيضاً أن يكون منصوباً بفعل مقدر أي : وعبدُوا المسيح ابن مريم .
ثم قال : { وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي : سبحانه أن يكون له شريك في الأمر والتكليف ، وفي كونه معبوداً ، وفي وجوب نهاية التعظيم .
قوله : { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ } الآية .
ذكر عن رؤساء اليهود والنصارى نوعاً ثالثاً من أفعالهم القبيحة ، وهو سعيهم في إبطال أمر محمد عليه الصلاة والسلام .
والمراد من « النور » قال الكلبيُّ : هو القرآن ، أي : يردُّوا القرآن بألسنتهم تكذيباً . وقيل : النور : الدَّلائل الدَّالة على صحة نبوته وشرعه وقوة دينه . وسمى الدلائل نوراً؛ لأنَّ النور يهتدي به إلى الصَّواب .
قوله : { ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ } « أن يتمّ » مفعول به ، وإنَّما دخل الاستثناء المفرغ في الموجب؛ لأنَّهُ في معنى النفي ، فقال الأخفشُ الصغيرُ « معنى يأبَى : يمنع » وقال الفرَّاء : « دخلتْ » إلاَّ « لأن في الكلام طرفاً من الجحد » وقال الزمخشريُّ : « أجْرَى » أبَى « مُجْرى » لَمْ يُرِدْ « ، ألا ترى كيف قُوبل : { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ } بقوله : { ويأبى الله } ، وأوقع موقع : ولا يريد الله إلا أن يتمَّ نوره؟ » .
والتقدير : لا يريد إلا أن يتمَّ نوره ، إلاَّ أنَّ الإبَاءَ يفيد زيادة عدم الإرادة ، وهي المنع والامتناع .
والدليل عليه قوله عليه السلام : « وإذا أرادوا ظلمنا أبينا » فامتدح بذلك ، ولا يجوز أن يمتدح بأنَّه يكره الظلم؛ لأنَّ ذلك يصح من القوي والضعيف .
وقال الزَّجاج « إنَّ المستثنى منه محذوفٌ ، تقديره : ويَأبَى أي : ويكره كلَّ شيء إلاَّ أن يُتمَّ نوره » وقد جمع أبو البقاء بين مذهب الزجاج ، ومذهب غيره فجعلهما مذهباً واحداً فقال : « يَأبَى بمعنى : يَكْره ، ويكره بمعنى يمنع ، فلذلك استثنى ، لما فيه من معنى النَّفْي ، والتقدير : يأبَى كُلَّ شيء إلاَّ إتمام نوره » . أي : يعلي دينه ويظهر كلمته ، ويتم الحق الذي بعث به محمداً صلى الله عليه وسلم : { وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } .
قوله تعالى : { هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق } . يعني : الذي يأبى إلاَّ إتمام دينه ، هو الذي أرسل رسوله محمداً : « بالهُدَى » ، أي : القرآن ، وقيل : ببيان الفرائض « ودين الحقِّ » وهو الإسلام ، « لِيُظهِرَهُ » ليعليه وينصره ، { عَلَى الدين كُلِّهِ } على سائر الأديان كلها { وَلَوْ كَرِهَ المشركون } فإن قيل : ظاهر قوله { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } يقتضي كونه غالباً لجميع الأديان ، وليس الأمر كذلك ، فإن الإسلام لم يصر غالباً لسائر الأديان في أرض الهند والصين وسائر أراضي الكفرة .
فالجواب من وجوه :
أحدها : قال ابن عباسٍ « الهاءُ في » لِيُظهِرَهُ « عائدة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أي : ليعلمه شرائع الدِّين كلها ، فيظهره عليها حتى لا يخفى عليه منها شيء » .
وثانيها : قال أبو هريرة والضحاك : هذا وعدٌ من الله تعالى بأنه يجعل الإسلام عالياً على جميع الأديان وتمام هذا يحصلُ عند خروج عيسى عليه الصَّلاة والسَّلامُ .
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول عيسى قال : « ويهلكُ في زمانِهِ الملل كُلُّهَا إلاَّ الإسلام » .
وروى المقدادُ قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ : « لا يَبْقَى على ظهْرِ الأرض بيتُ مدر ولا وبرٍ إلاَّ أدخلهُ الله كلِمَة الإسلام ، بِعِزِّ عزيز ، أو بذُلِّ ذليلٍ ، إمَّا أن يُعزَّهمُ اللهُ فيجعلهُمْ من أهْلِهِ فيعزُّوا بهِ ، وإمَّا أن يُذلَّهُمْ فيَدِينُون لَهُ » .
وقال السديُّ : ذلك عند خروج المهدي ، لا يبقى أحد إلاَّ دخل في الإسلام ، أو أدَّى الخراج .
وثالثها : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } في جزيرة العربِ ، وقد حصل ذلك ، فإنَّه تعالى ما أبقى فيها أحداً من الكُفَّارِ .
ورابعها : أنَّهُ لا يدين يخالف دين الإسلام ، إلاَّ وقد قهرهم المسلمون ، وظهروا عليهم في بعض المواضع ، وإن لم يكن ذلك في جميع مواضعهم ، فقهروا اليهُود ، وأخرجوهم من بلاد العرب ، وغلبوا النصارى على بلاد الشام وما والاها إلى ناحية الرُّوم والغرب ، وغلبوا المجوس على ملكهم ، وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم ممَّا يلي الترك والهند .
وخامسها : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } بالحُجَّةِ والبيانِ ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ هذا وعد بأنه تعالى سيفعله ، والقوة بالحُجَّة والبيان كانت حاصلة من أوَّلِ الأمْرِ . ويمكن أن يجاب عنه ، بأنَّهُ في مبدأ الأمر كثرت الشبهات ، بسبب ضعف المؤمنين ، واستيلاء الكُفَّارِ ، ومنعهم للنَّاسِ من التأمل في تلك الدلائل ، وأمَّا بعد قوة الإسلام ، وعجز الكُفَّار ، ضعفت الشبهات فقوي دلائل الإسلام .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل } الآية .
لمَّا وصف اليهود والنصارى بالتكبّرِ وادعاءِ الربوبية ، وصفهم في هذه الآية بالطَّمع والحرص على أخذ أموالِ الناس بالباطل . فقوله : « كثيراً » يدلُّ على أنَّ هذه طريقة بعضهم ، لا طريقة الكل ، فإنَّ العالم لا يخلو عن الحق ، وإطباق الكُل على الباطل ، كالممتنع ، وهذا يدلُّ على أنَّ إجماع هذه الأمة على الباطل ، لا يحصلُ؛ فكذلك في سائر الأمم ، وعبَّر عن أخذ الأموال ب « الأكلِ » ؛ إمَّا لأنَّ المقصود الأعظم من جمع الأموال الأكل ، فسمى الشيء باسم ما هو أعظم مقاصده ، وإمَّا لأنَّ من أكل شيئاً ، فقد ضمَّه إلى نفسه ، ومنع غيره من الوصول إليه؛ وإمَّا لأنَّ من أخذ أموال الناس ، إذا طولب بردّها ، قال : أكلتها ، فلهذه الوجوه سمى الأخذ بالأكل .
واختلفوا في تفسير هذا « الباطل » . فقيل : كانوا يأخذون الرشا في تخفيف الأحكام ، والمسامحة في الشرائع ، وقيل : كانوا يدَّعُون عند العوام منهم ، أنَّه لا سبيل إلى الفوز بمرضاة الله تعالى إلاَّ بخدمتهم وطاعتهم ، وبذل الأموال في مرضاتهم ، والعوامُ كانوا يغْتَرُّونَ بتلك الأكاذيب ، وقيل : كانوا يُغَيِّرُونَ الآيات الدَّالة على مبعث محمد - عليه الصلاة والسلام - ، وعلى صدقه ، ويذكرون في تأويلها وجوهاً فاسدةً ، ويُطَيِّبُون قلوب عوامهم بهذا السَّبب ، ويأخذون الرشوة عليهم ، وقيل : كانوا يُحرِّفُون كتاب الله ، ويكتبون كتباً ويقولون هذه من عند الله ، ويأخذون بها ثمناً قليلاً من سفلتهم .
قوله « وَيَصُدُّونَ » يحتمل أن يكون متعدياً ، أي : يصدُّون النَّاسَ ، وأن يكون قاصراً ، كذا قال أبو حيان ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّه متعدٍّ فقط ، وإنَّما يحذف مفعوله ، ويراد ، أو لا يُراد ، كقوله { كُلُواْ واشربوا } [ البقرة : 60 ] .
قوله { والذين يَكْنِزُونَ الذهب } الجمهورُ على قراءته بالواو ، وفيها تأويلان :
أحدهما : أنَّها استئنافيةٌ ، و « الذينَ » مبتدأ ضُمِّنَ معنى الشرط ، ولذلك دخلت الفاءُ في خبره .
الثاني : أنَّه من أوصافِ الكثير من الأحبارِ والرُّهبان ، وهو قول عثمان ومعاوية .
قال زيدُ بنُ وهبٍ : مررتُ بأبي ذر بالربذة ، فقلت : يا أبا ذرّ ما أنزلك هذه البلاد؟ فقال : كنت بالشام ، فقرأت : { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة } فقال معاويةُ : هذه الآية في أهل الكتابِ ، فقلتُ : إنها فيهم وفينا ، فصار ذلك سبباً للوحشة بين وبينه ، فكتب إليَّ عثمان أن أقبل إليَّ ، فلمّا قدمت المدينة انحرف النَّاس عنِّي؛ كأنهم لم يَرَوْنِي من قبل ، فشكوت ذلك إلى عثمان ، فقال لي : تنح قريباً ، فقلت : والله إنّي لم أدع ما كنت أقول .
ويجوزُ أن يكون « الَّذينَ » منصوباً بفعلٍ مقدرٍ ، يُفسِّره ، « فَبشِّرهُم » وهو أرجحُ ، لمكان الأمر .
وقرأ طلحة بن مصرف « الَّذينَ » بغير واو ، وهي تحتملُ الوجهين المتقدمين ، ولكنَّ كونها من أوصافِ الكثير من الأحبار والرُّهبان أظهر من الاستئناف ، عكس التي بالواو .
و « الكَنْزُ » الجمعُ والضَّم ، ومنه : ناقة كناز ، أي : منضمَّة الخَلْق . ولا يختص بالذهب والفضة ، بل يقال في غيرهما ، وإن غلب عليهما؛ قال : [ البسيط ]
2777- لا دَرَّ دَرِّيَ إنْ أطعَمْتُ جَائِعَهُمْ ... قِرْفَ الحَتِيِّ وعِنْدِي البُرُّ مَكْنُوزُ
وقال آخر : [ الرجز ]
2778- على شَديدٍ لحمُهُ كِنَاز ... بَاتَ يُنَزِّينِي على أوفَازِ
قوله : « وَلاَ يُنفِقُونَهَا » تقدَّم شيئان وعاد الضمير مفرداًن فقيل : إنه من باب ما حذف ، لدلالة الكلام عليه ، والتقدير : والذين يكنزون الذهب ولا ينفقونه . وقيل : يعود على المكنوزات ، ودلَّ على هذا جُزْؤه المذكورُ؛ لأنَّ المكنوزَ أعمُّ من النقدين وغيرهما ، فلمَّا ذكر الجزءَ دلَّ على الكُل ، فعاد الضميرُ جمعاً بهذا الاعتبار؛ ونظيره قول الآخر : [ الطويل ]
2779- ولَوْ حَلفَتْ بَيْنَ الصَّفَا أمُّ عَامِرٍ ... ومَرْوَتِهَا باللهِ بَرَّتْ يَمينَهَا
أي : ومروة مكة ، عاد الضميرُ عليها لمَّا ذُكِر جزؤها ، وهو الصَّفا ، كذا استدل به ابن مالك ، وفيه احتمالٌ ، وهو أن يكون الضميرُ عائداً على « الصَّفا » ، وأنَّثَ حملاً على المعنى ، إذْ هو في معنى البقعة والحدبة .
وقيل : الضميرُ يعودُ على الذهب؛ لأنَّ تأنيثه أشهر ، ويكون قد حذف بعد الفضة أيضاً .
وقيل : إنَّ كلَّ واحد منهما جملة وافية ، دنانير ودراهم ، فهو كقوله : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] .
وقيل : التقدير : ولا ينفقون الكنوز .
وقال الزجاجُ : « ولا ينفقون تلك الأموال » وقيل : يعودُ على الزَّكاة .
وقال القرطبيُّ « قال ابنُ الأنباريّ » قصد الأغلب والأعم وهي الفضة ، ومثله قوله : { واستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } [ البقرة : 45 ] .
ردَّ الكناية إلى الصلاة؛ لأنَّها أعم ، ومثله : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } [ الجمعة : 11 ] فأعاد الهاء إلى التجارة؛ لأنها الأهم « . وردَّ هذا بعضهم ، قال : ليس هذا نظيره؛ لأنَّ » أو « فصلت التجارة عن اللَّهْو ، فحسن عود الضمير على أحدهما » .
وإنَّما خصَّ الذهبَ والفضة بالذِّكر من بين سائر الأموالِ؛ لأنهما الأصل المعتبر في الأموال ، وهما اللذان يقصدان بالكنز ، ثم قال : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي : فأخبرهم على سبيل التَّهكم لأنَّ الذين يكنزون الذَّهب والفضة ، إنَّما يكنزوهما ، ليتوسَّلوا بهما إلى تحصيل الفرج يوم الحاجة فقيل : هذا يوم الفرج ، كما يقال : تحيتهم ليس إلاَّ الضرب ، وإكرامهم ليس إلا الشتم وأيضاً : فالبشارةُ : عبارة عن الخيرِ الذي يؤثر في القلبِ؛ فيتغير بسببه لون بشرة الوجهِ وهذا يتناول ما إذا تغيَّرت البشرة بسبب الفرح أو بالغم .
قوله : « يَوْمَ يحمى » منصوبٌ بقوله : « بِعَذَابٍ أَلِيمٍ » .
وقيل : بمحذوفٍ يدلُّ عليه « عذاب » أي : يُعذَّبُون يوم يُحْمَى ، وقيل : هو منصوبٌ ب « أليم » . وقيل : الأصلُ : عذاب يوم ، و « عذاب » بدل من « عذاب » الأوَّلُ ، فلمَّا حذف المضافُ أقيم المضافُ إليه مُقامه .
وقيل : منصوبٌ بقولٍ مضمر ، وسيأتي بيانه .
و « يحمى » يجوزُ أن يكون من « حَمَتْيُ أوْ أحْمَيْتُ ثلاثياً ورباعياً ، يقالُ : حَمَيْتُ الحديدة ، وأحميتُهَا ، أي : أوْقَدْتُ عليها ، لِتَحْمَى ، والفاعلُ المحذوفُ هو » النَّارُ « تقديره : يوم تُحْمَى النارُ عليها ، فلما حذف الفاعل ، ذهب علامةُ التأنيث ، لذهابه كقولك : رُفِعَت القضية إلى الأمير ، ثم تقول : رُفع إلى الأمير .
وقيل : لأنَّ تأنيثَ » النَّار « مجازي ، والفعل غيرُ مسند في الظَّاهر إليه ، بل إلى قوله » عَلَيْهَا « فلهذا حسن التَّذكير والتأنيث .
وقيل : المعنى : يُحْمَى الوقود . وقرأ الحسنُ » تُحْمَى « بالتَّاءِ من فوق ، أي : النَّار ، وهي تؤيد التأويل الأوَّل .
وقرأ أبو حيوة » يُكْوى « بالياء من تحت؛ لأنَّ تأنيث الفاعل مجازيٌّ .
وقرأ الجمهور : » جِباهُهُم « بالإظهارِ وقرأ أبو عمرو في بعض طرقه بالإدغام ، كما أدغم { سَلَكَكُمْ } [ المدثر : 42 ] ، و { مَّنَاسِكَكُمْ } [ البقرة : 200 ] ، ومثل » جِباهُهم « ، { وُجُوهُهُمْ } [ آل عمران : 106 ] ، والمشهور الإظهار .
قوله : { هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ } أي : جزاء ما كنتم؛ لأنَّ المكنوز لا يُذاق و » ما « يجوزُ أن تكون بمعنى » الذي « ، فالعائدُ محذوفٌ ، وأن تكون مصدرية . وقرىء » تَكْنُزُون « بضم عين المضارع ، وهما لغتان ، يقال : كَنَزَ يَكْنِزُ ، ويَكْنُزُ ، ك : يقتل .
فصل
أصل الكنز في كلام العرب : الجمع ، وكل شيء جمع بعضه إلى بعض فهو مكنوز . واختلف علماءُ الصحابة في المرادِ بهذا الكَنْزِ المذموم ، فقال الأكثرون : هو المالُ الذي لم تؤد زكاته ، قال عمرُ بنُ الخطَّابِ : » ما أدِّي زكاته فليس بكنز وإن كن تحت سبع أرضين ، وكلُّ ما لم تؤد زكاتُه فهو كنز وإن كان فوق الأرضين « . وقال ابنُ عبَّاسٍ في قوله : { وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله } يريد : الذين لا يؤدُّون زكاة أموالهم . وروى أبُو هرية قال : قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : » مَا مِنْ صاحبِ ذهَبٍ ولا فضَّةٍ لا يُؤدِّي منْهَا حقَّها إلاَّ إذا كانَ يَوْمَ القيامةِ صُفِّحَتْ لهُ صَفَائِحُ من نارٍ فأحْمِيَ عليْها في نَارِ جهنَّم فيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وجَبِينُهُ وظهرُه كُلَّما بَردتْ أعيدتْ لهُ في يوْم كان مقدارُهُ خَمسينَ ألفَ سنةٍ حتَّى يُقْضَى بيْنَ العبادِ فَيَرَى سبيلهُ إمَّا إلى الجنَّةِ وإمَّا إلى النَّارِ « .
قال القاضي » تخصيص هذا المعنى بمنع الزَّكاة لا سبيل إليه ، بل الواجب أن يقال : الكنزُ : هو المال الذي ما أخرج عنه ما وجب إخراجه ، ولا فرق بين الزكاة وبين ما يجب من الكفارات ، وبين ما يلزم من نفقة الحج أو الجمعة ، وبين ما يجبُ إخراجه في الديون والحقوق ، والإنفاق على الأهل والعيال ، وضمان المتلفات ، وأروش الجنايات؛ فيجب دخول كل هذه الأقسام في هذا الوعيد « .
وروي عن علي بن أبي طالب أنَّه قال : كل مال زاد على أربعة آلاف درهم؛ فهو كنز ، أدِّيتُ منه الزكاة أو لم تُؤدِّ ، وما دونها نفقة . وروي عن أبي ذرٍّ أنَّهُ كان يقولُ : « مَنْ ترك بيضاء أو حمراء كُوي بها يوم القيامةِ » وقيل : ما فضل عن الحاجةِ كنز ، لما روى أبو أمامة قال : « مات رجلٌ من أهل الصفة فوجدَ في مئزَرِهِ دينارٌ ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : كَيُّةٌ ، ثم توفي آخر فوجدَ في مِئْزره ديناران ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كَيتانِ » والقولُ الأول أصح ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « نِعمَ المالُ الصَّالح للرجلِ الصَّالحِ » وقوله عليه الصلاة والسلام : « ما أدي زكاتُهُ فليْسَ بِكَنْزٍ » وروى مجاهد عن ابن عبَّاسٍ قال : لمَّا نزلت هذه الآيةُ كبر ذلك على المسلمين ، وقالوا : ما يستطيعُ أحد منَّا أن يدع لولده شيئاً ، فذكر ذلك عمر للرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : « إنَّ الله لمْ يفْرضِ الزَّكاةَ إلاَّ ليطيِّبَ بها ما بقي من أموالكُم » وسئل ابنُ عمر عن هذه الآية فقال : كان هذا قبل أن تنزل الزَّكاة ، فلمَّا نزلت جعلها اللهُ طُهْراً للأموال . وقال ابنُ عمر : « مَا أبَالي لوْ أنَّ لي مثلَ أحُدٍ ذهباً أعلم عددهُ أزكيه ، وأعمل بطاعة الله عزَّ وجلَّ » .
وكان في زمان الرسول - عليه الصلاة والسلام - جماعة مياسير كعثمان ، وعبد الرحمن بن عوف وكان عليه الصلاة والسلام يعدُّهم من أكابر المؤمنين ، وندب عليه الصلاة والسلام إلى إخراج الثلث أو أقل في المرض ، ولو كان جمع المال محرماً لكان عليه الصلاة والسلام يأمر المريض بالتَّصدق بكله ، بل كان يأمر الصحيحَ في حال صحته بذلك ، وقال عليه الصلاة والسلام لسعد بن أبي وقاص : « إنَّك إن تَدعْ ورثَتَكَ أغْنياءَ خيرٌ مِنْ أنْ تدعهُم عالة يتكَفَّفُون النَّاسَ » .
فصل
اختلفوا في وُجُوب الزَّكاةِ في الحليّ ، فقال مالكٌ وأحمدُ وإسحاقُ وأبو ثور وأبو عبيد : لا زكاة فيه . وهو قول الشافعي بالعراقِ ، ووقف فيه بعد ذلك بمصر ، وقال الثوريُّ وأبو حنيفة والأوزاعي : فيه الزكاة .
فإن قيل : مَنْ لمْ يكنُزْ ولم يُنفِقْ في سبيل الله وأنفقَ في المعاصي ، هل يكون حكمه في الوعيد حكم من كنز ولم يُنْفق في سبيل الله . قيل : إنَّ ذلك أشدّ ، فإن من بذل ماله في المعاصي ، عصى من جهتين : بالإنفاق والتناول ، ك : شراء الخَمْرِ وشربها . بل من جهات إذا كانت المعصية ممَّا تتعدَّى كمنْ أعانَ على ظُلْمِ مسلم من قتله أو أخذ ماله .
فإن قيل : لِمَ خُصت هذه الأعضاءُ؟ فالجواب من وجوه :
أحدها : أنَّ المقصودَ من كسب الأموال ، حصول فرح القلب ، فيظهر أثره في الوجه ، وحصول الشبع ينفتح بسببه الجنبان ، وليس ثياب فاخرة يطرحونها على ظهورهم ، فلمَّا طلبوا تزيين هذه الأعضاء الثلاثة ، حصل الكي على الجباه والجنوب والظهور .
وثانيها : أنَّ هذه الاعضاء مجوفة وفي داخلها آلات ضعيفة يعظم تألُّمها بسبب وصول أدنى أثر غليها ، بخلاف سائر الأعضاء .
وثالثها : قال أبُو بكر الوراق : خصت هذه المواضع بالذكر؛ لأنَّ صاحب المال إذا رأى الفقير قبض جبهته وإذا جلس الفقيرُ بجنبه تباعد عنه وولَّى ظهره .
ورابعها : أنهم يُكوون على الجهات الأربع ، أمَّا من مقدمه فعلى الجبهة ، وأمَّا من خلفه فعلى الظهر ، وأما من يمينه ويساره فعلى الجنبين .
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
قوله تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً } الآية .
« العِدَّة » مصدر بمعنى « العَدَد » . و « عِندَ اللهِ » منصوبٌ به ، أي : في حُكْمه . و « اثْنَا عشرَ » خبرُ « إنَّ » ، وقرأ ميسرة عن حفص ، وهي قراءةُ أبي جعفر « اثْنَا عَشْرَ » بسكون العين مع ثبوتِ الألف قبلها ، واستكرهتْ من حيثُ الجمعُ بين ساكنين على غير حَدَّيْهما ، كقولهم : « التقَتْ حَلْقتَا البطانِ » بإثباتِ الألف من « حَلْقتَا » . وقرأ طلحة بسكون الشين كأنه حمل « عشر » في المذكر على « عشرة » في المؤنث ، و « شَهْراً » نصب على التمييز ، وهو مؤكِّد؛ لأنه قد فُهِم ذلك من الأول ، فهو كقولك : عندي من الدَّنانير عشرون ديناراً . والجمعُ متغاير في قوله « عِدَّة الشُّهورِ » وفي قوله تعالى : { الحج أَشْهُرٌ } [ البقرة : 197 ] ؛ لأنَّ هذا جمعُ كثرة ، وذاك جمعُ قلة .
قوله : { فِي كِتَابِ الله } يجوزُ أن يكون صفةً ل « اثْنَا عَشَرَ » ، والتقديرُ : اثنا عشر شهراً مثبتة في كتاب الله . ثمَّ لا يجوزُ أن يعنى بهذا الكتاب كتاب من الكتب ، لأنَّه متعلقٌ بقوله : { يَوْمَ خَلَقَ السماوات } وأسماء الأعيان لا تتعلَّق بالظروفِ ، فلا تقول : غلامك يوم الجمعة ، بل الكتاب ههنا مصدر والتقدير : إنَّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله ، أي : في حكمه الواقع يوم خلق السموات والأرض .
ويجوزُ أن يكون بدلاً من الظرفِ قبله ، وهذا لا يجوزُ ، أو ضعيفٌ ، لأنَّه يلزمُ منه أن يخبر عن الموصول قبل تمام صلته ، فإنَّ هذا الجارَّ متعلق به على سبيل البدلية ، وعلى تقدير صحة ذلك من جهة الصناعة ، فكيف يصحُّ من جهة المعنى؟ ولا يجوزُ أن يكون « فِي كتابِ اللهِ » متعلقاً ب « عِدَّة » لئلاَّ يلزم الفصلُ بين المصدر ومعموله بخبره وقياس مَنْ جوَّز إبداله من الظرف أن يجوِّز هذا ، وقد صرَّح بجوازه الحوفيُّ .
قوله : « يَوْمَ خَلَقَ » يجوز فيه أن يتعلَّق ب « كِتَاب » على أنَّه يُرادُ به المصدر ، لا الجثة ويجوزُ أن يتعلَّق بالاستقرار في الجار والمجرور ، وهو « في كِتابِ الله » ويكونُ الكتابُ جثةً لا مصدراً ، وجوَّز الحوفيُّ أن يكون متعلقاً ب « عِدَّة » وهو مردودٌ بما تقدَّم ، ويجوزُ أن يتعلَّق بفعل مقدر ، أي : كتب ذلك يوم خلق .
فصل
هذه الآية أيضاً من شرح قبائح اليهود والنَّصارى والمشركين ، وهو إقدامهم على تغيير أحكام الله تعالى؛ لأنَّه تعالى ، حكم في كل وقت بحكم خاص ، فإذا غَيَّرُوا تلك الأوقات بسبب النَّسيء ، كان ذلك سعياً منهم في تغيير حكم السَّنة بحسب أهوائهم وآرائهم فكان ذلك زيادة في كفرهم وجرأتهم .
فإنَّ السَّنة عند العربِ : عبارة عن اثني عشر شهراً قمرية ، ويدُلُّ عليه هذه الآية وقوله تعالى : { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب } [ يونس : 5 ] فجعل تقدير القمر بالمنازل دليلاً على السنين ، وإنَّما يصح ذلك إذا كانت السَّنة معلقة بسير القمر ، وقال تعالى { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } [ البقرة : 189 ] وعند سائر الطوائف : السَّنة عبارة عن المدة التي تدور الشمس فيها دورة تامة من فصل إلى فصل ، فيكون الحج واقعاً في الشتاء مرَّة ، وفي الصيف أخرى ، فشقَّ الأمر عليهم بهذا السَّبب .
وأيضاً إذا حضروا الحجَّ حضروا للتجارة ، فربما كان ذلك الوقت غير موافق لحضور التجارات من الشمسية ، فلذلك بقي زمان الحج مختصاً بوقت معين موافق لمصلحتهم ، وانتفعوا بتجاراتهم ومصالحهم ، فهذا النَّسيء وإن كان سبباً لحصولِ المصالحِ الدنيوية ، إلاَّ أنَّه لزم منه تغيير حكم الله تعالى ، لمَّا خصَّ الحجَّ بأشهر معلومة على التّعيين ، وكان بسبب ذلك النَّسيء يقع في سائر الشُّهور تغيير حكم الله تعالى وإبطال تكليفه؛ فلهذا المعنى استوجبُوا الذَّمَّ العظيمَ في هذه الآية . والمرادُ بالكتابِ : حكمه وإيجابه . قال ابن عباس « إنه اللَّوحُ الحفوظ » وقيل : القرآن .
فصل
قال القرطبيُّ : قوله تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ الشهور } وهي جمع شهر . فإذا قال الرجل لأخيه : لا أكلمك الشهور ، وحلف على ذلك فلا يكلمه حَوْلاً ، قالهُ بعض العلماء وقيل : لا يكلمه أبداً . قال ابنُ العربي : وأرى إن لم يكن له نيّة أن يقتضي ذلك ثلاثة أشهر ، لأنَّه أقل الجمع الذي يقتضيه صيغة « فُعول » في جمع « فَعْل » .
قوله { مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } هذه الجملةُ يجوز فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون صفةً ل « اثْنَا عَشَرَ » .
الثاني : أن تكون حالاً من الضمير في الاستقرار .
الثالث : أن تكون مستأنفة . والضمير في « منها » عائدٌ على اثنا عشر شهراً ، لأنه أقربُ مذكورٍ ، على « الشُّهور » والضمير في « فيهنَّ » عائدٌ على « الاثني عشر » أيضاً . وقال الفرَّاءُ ، وقتادةُ : يعودُ على الأربعةِ الحُرُم وهذا أحسنُ ، لوجهين :
أحدهما : أنه أقرب مذكور . والثاني : أنه قد تقرَّر أنَّ معاملة جمع القلة غير العاقل معاملة جمع الإِناث أحسنُ مِنْ معاملة ضمير الواحدة ، والجمعُ الكثيرُ بالعكس ، تقول الأجذاع انكسرن ، والجذوع انكسرت ، ويجوزُ العكس .
فصل
أجمعُوا على أنَّ هذه الأربعة ثلاثة منها سرد ، وهي : ذُو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرم ، وواحد فرد ، وهو : رجبٌ ، ومعنى الحرم : أنَّ المعصية فيها أشد عقاباً ، والطَّاعةُ فيها أشد ثواباً ، والعربُ كانوا يُعظِّمُونها حتَّى لو لقي الرجلُ قاتل أبيه لم يتعرَّض له .
فإن قيل : أجزاء الزمان متشابهة في الحقيقة ، فما السَّببُ في هذا التَّمييز؟
فالجوابُ : هذا المعنى غير مُسْتَبعَدٍ في الشَّرائع ، فإنه ميَّز البلد الحرام عن سائر البلاد بمزيد الحرمةِ ، وميَّز يوم الجمعة عن سائر الأيام بمزيد الحرمة ، وميَّز يوم عرفة عن سائر الأيام بعبادة مخصوصة ، وميز شهر رمضان عن سائر الشُّهور بمزيد حرمة ، وميز بعض ساعات اليوم والليلة بوجوب الصلاة فيها ، وميز ليلة القدر عن سائر الليالي ، وميَّز بعض الأشخاص بإعطاء الرِّسالة ، فأي استبعاد في تخصيصِ بعض الشهور بمزيد الحرمة .
وفيه فائدة أخرى وهي : أنَّ الطباع مجبولة على الظلم والفساد ، وامتناعهم من هذه القبائح على الإطلاق شاقٌّ عليهم ، فخص تعالى بعض الأوقات وبعض الأماكن بمزيد التعظيم والاحترام ، حتى إنَّ الإنسانَ ربما امتنع في تلك الأزمنة ، وفي تلك الأمكنة عن فعل القبائح ، وذلك يوجب أنواعاً من الفوائد .
أحدها : أنَّ ترك القبائح في تلك الأوقات أمر مطلوب؛ لأنه يقل القبائح .
وثانيها : أنَّ تركها في تلك الأوقات ربما صار سبباً لميل طبعه إلى الإعراضِ عنها مطلقاً .
وثالثها : أنَّه إذا أتى بالطَّاعات فيها وأعرض عن المعاصي فيها ، فبعد انقضاء تلك الأوقات لو شرع في المعاصي صار شروعه فيها سبباً لبطلان ما تحمله من العناءِ والمشقَّةِ في أداء الطَّاعات في تلك الأوقات ، والظَّاهر من حال العاقل أنَّه لا يرضى بذلك فيصير ذلك سبباً لاجتنابه عن المعاصي بالكلِّية ، فهذا هو الحكمة في تخصيص بعض الأزمنة ، وبعض الأمكنة ، بمزيد التعظيم .
قوله { ذلك الدين القيم } أي : الحساب المستقيم ، يقال : « الكَيِّسُ من دَانَ نَفسَهُ » أي : حاسبها ، وقال الحسنُ : « ذلكَ الدِّينُ القَيّم » الذي لا يبدلُ ولا يُغير ، « القَيِّم » - ههنا - بمعنى : القائم الدائم الذي لا يزول ، وهو الدِّينُ الذي فَطَرَ الناس عليه .
قوله { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } بفعل المعصية ، وترك الطَّاعاتِ ، قال ابنُ عبَّاسٍ : « المراد ، فلا تظلموا في الشهور الاثني عشر أنفسكم ، والمراد : منع الإنسان من الإقدام على الفساد في جميع العمر » . وقال الأكثرون الضَّمير في قوله « فِيهِنَّ » عائدٌ على الأربعة الحرم ، وقد تقدَّم . وقيل : المرادُ ب « الظلم » النَّسيء الذي كانُوا يعملونه ، فينقلون الحجَّ من الشهر الذي أمر الله بإقامته فيه إلى شهرٍ آخر ، وقيل : المرادُ ب « الظُّلمِ » ترك المقاتلة في هذه الأشهر .
قوله : { وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً } نصب « كَافَّةً » على الحالِ ، إمَّا من الفاعل ، أو من المفعول ، وقد تقدَّم أن « كَافَّةً » لا يُتصرَّف فيها بغير النصب على الحال ، وأنَّها لا تدخلها « أل » ؛ لأنها بمعنى قولك : قامُوا جميعاً ، وقامُوا معاًن وأنَّها لا تُثَنَّى ، ولا تُجْمع ، وكذلك « كافة » الثانية ، ومعنى « كافة » أي : جميعاً .
فصل
معنى الآية : قاتلوهم بأجمعكم مجتمعين على قتالهم ، كما أنَّهم يقاتلونكم على هذه الصِّفة ، أي : تعاونوا وتناصروا على ذلك؛ ولا تتخاذلوا وكونوا عباد الله مجتمعين متوافقين في مقاتلة الأعداء .
وقال ابنُ عبَّاسٍ : « قاتلوهم بكليتهم ولا تحابوا بعضهم بترك القتال ، كما أنَّهُم يستحلُّون قتال جميعكم » { واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } أي : مع أوليائه الذين يخشونه في أداء الطَّاعات والاجتناب عن المحرمات .
واختلفوا في تحريم القتال في الأشهر الحرم ، فقيل : كان مُحرماً ثم نسخ بقوله تعالى { وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً } أي : فيهن ، وفي غيرهن ، وهو قول قتادة ، وعطاء الخراساني ، والزهريُّ وسفيان الثوري ، وقالوا : لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين ، وثقيفاً بالطائف ، وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة . وقال آخرون : غير منسوخ . قال ابن جريج « حلف بالله عطاء بن أبي رباح أنَّهُ ما يحلُّ للنَّاس أن يغزوا في الحرم ، ولا في الأشهر الحرم إلاَّ أن يقاتلوا فيها ، وما نسخت » .
قوله { إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر } في « النَّسِيء » قولان :
أحدهما : أنَّه مصدرٌ على « فَعِيل » مِن : « أنْسأ » ، أي : أخَّرَ ، ك « النذير » من أنذر ، و « النكير » من أنْكَر ، وهذا ظاهرُ قول الزمخشري فإنَّه قال : « النَّسيء : تأخيرُ حرمة الشهر إلى شهر آخر » ، وحينئذٍ . فالإخبارُ عنه بقوله « زيادة » واضحٌ ، لا يحتاج إلى إضمار .
وقال الطبريُّ : « النَّسيء - بالهمز - معناه : الزيادة » ؛ لأنَّه تأخير في المدة ، فيلزمُ منه الزيادة ، ومنه النَّسيئة في البيع ، يقال : أنْسَأ الله أجلهُ ، ونسأ في اجله أي أخّر وهو ممدود عند أكثر القراء .
الثاني : أنَّه « فَعِيلٌ » بمعنى « مَفْعُول » مِنْ نسأهُ أي : أخَّره فهو منسوءٌ ، ثم حُوِّل « مفعول » إلى « فَعِيلٍ » ، وإلى ذلك نَحَا أبُو حاتمٍ ، والجوهري - وهذا القول ردَّه الفارسي فإنَّه يكون المعنى : إنَّما المؤخَّر زيادة ، والمؤخَّر الشهر ، ولا يكون الشهرُ زيادة في الكفرِ ، وأجيب عن هذا بأنَّه على حذف مضاف إمَّا من الأول ، أي : إنَّما إنساءُ النَّسيء زيادة في الكفر ، وإمَّا من الثاني ، أي : إنما النسيء ذُو زيادة . وقرأ الجمهورُ « النَّسيء » بهمزة بعد الياءِ ، وقرأ ورش عن نافع « النسيّ » بإبدال الهمزة ياء وإدغام الياء فيها ، ورُويت هذه عن أبي جعفر ، والزهري وحميد ، وذلك كما خفّفوا « برية » و « خطية » .
وقرأ السلمي ، وطلحة ، والأشهب ، وشبل ، « النَّسْء » بإسكان السين . وقرأ مجاهدٌ والسلمي وطلحةُ أيضاً « النَّسُوء » بزنة « فعُول » بفتح الفاءِ ، وهو التأخير ، و « فعول » في المصادر قليل ، قد تقدَّم منه ألفاظ في أوائل البقرة ، وتقدَّم في البقرة اشتقاقُ هذه المادة ، وهو هنا عبارةٌ عن تأخير بعض الشُّهُور عن بعض؛ قال : [ الوافر ]
2780- ألَسْنَا النَّاسِئِينَ على مَعَدٍّ ... شُهُورَ الحِلِّ نجعَلُهَا حَرَامَا
وقال آخر : [ الكامل ]
2781- نَسَئُوا الشُّهُورَ بها وكانُوا أهلهَا ... مِنْ قبلِكُم والعِزُّ لمْ يتحوَّلِ
قوله « يُضَلُّ بِهِ » قرأ الأخوان ، وحفص « يُضَلُّ » مبنياً للمفعول وأبو عمرو في رواية ابن مقسم « يُضِلّ » مبنياً للفاعل ، وفيه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : يضل اللهُ به الذين كفروا .
والثاني : يضل الشيطان به الذين كفروا .
والثالث : يضل به الذين كفروا تابعيهم . والباقون مبنياً للفاعل ، والموصول فاعل به . وقرأ ابن مسعود والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ويعقوب ، وعمرو بن ميمون « يُضِلّ » مبنياً للفاعل ، من « أضَلَّ » وفي الفاعل وجهان :
أحدهما : ضمير الباري تعالى ، أي : يُضِلُّ اللهُ الذين كفروا .
والثاني : أنَّ الفاعل « الذينَ كفرُوا » وعلى هذا فالمفعولُ محذوف ، أي يُضل الذين كفروا أتباعهم .
وقرأ أبُو رجاء « يَضَلُّ » بفتح الياء والضَّاد ، وهي مِنْ « ضَلِلْتُ » بكسر اللام ، « أضَلُّ » بفتحها ، والأَصْلُ « فَنُقِلت فتحة اللام إلى الضَّاد ، لأجل الإدغام ، وقرأ النَّخغي ، والحسن في رواية محبوب » نُضِلُّ « بضم نون العظمة ، و » الَّذشينَ « مفعول ، وهذه تقوِّي أنَّ الفاعل ضمير الله في قراءة ابن مسعود .
قوله : » يُحِلُّونه « فيه وجهان :
أحدهما : أنَّ الجملة تفسيريةٌ للضلال .
والثاني : أنها حاليةٌ . وقوله : » ليواطِئُوا « في هذه اللام وجهان :
أحدهما : أنها متعلقةٌ ب » يُحَرِّمُونَه « وهذا مقتضى مذهب البصريين فإنهم يعملون الثاني من المتنازعين .
والثاني : أنَّها تتعلَّق ب » يُحِلُّونَهُ « وهذا مقتضى مذهب الكوفيين ، فإنهم يعملون الأول ، لسبقه . وقول من قال : إنَّها متعلقةٌ بالفعلين معاً ، فإنَّما يعني من حيث المعنى ، لا اللفظ . وقرأ أبُو جعفرٍ » ليُواطِئُوا « بكسر الطَّاءِ وضمِّ الياءِ الصَّريحة .
والصحيحُ أنه ينبغي أن يقرأ بضمِّ الطاء وحذف الياء؛ لأنَّه لمَّا أبدل الهمزة ياءً استثقل الضمة عليها فحذفها ، فالتقى ساكنان ، فحذفت الياء ، وضمت الطاء ، لتجانس الواو والمواطأة : الموافقةُ والاجتماع ، يقال : تواطئوا على كذا ، أي : اجتمعوا عليه كأنَّ كلَّ واحدٍ يَطَأ حيث يَطَأ الآخر ، ومنه قوله تعالى : { إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْأً } [ المزمل : 6 ] . وسيأتي إن شاء الله تعالى .
وقرأ الزهريُّ » لِيُواطِيُّوا « بتشديد الياء ، هكذا ترجموا قراءته ، وهي مشكلةٌ ، فإن لم يُرِدْ به شدة بيان الياء ، وتخليصها من الهمز دون التضعيف ، فلا أعرف وجهها وهو كما قال .
قوله : » زُيِّنَ « الجمهور على » زُيِّنَ « ببنائه للمفعول ، والفاعل المحذوف هو الشيطان . وقرأ زيد بن علي » زَيَّن « ببنائه للفاعل ، وهو الشيطان أيضاً ، و » سوء « مفعوله .
فصل
معنى النَّسيء : هو تأخير تحريم شهر إلى شهر آخر ، وذلك أنَّ العرب كانت تعتقد تعظيم الأشهر الحرم ، وكان ذلك ممَّا تمسكت به من ملة إبراهيم ، وكانت معايشهم من الصيد والغارة فكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر متوالية ، وربَّما وقعت لهم حرب في الأشهر الحرم ، فيكرهون تأخير حربهم ، فنسئوا ، يعني : أخَّرُوا تحريم ذلك الشَّهر إلى شهر آخر ، وكانوا يؤخِّرُون تحريم المحرم إلى صفر ، فيحرمون صفر ، ويستحلُّون المحرم فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر أخَّرُوه إلى ربيع الأوَّل؛ فكانوا يصنعون هكذا شهراً بعد شهر حتَّى استدار التَّحريم إلى السَّنة كلها ، فقام الإسلامُ وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه اللهُ - عزَّ وجلَّ - وذلك بعد دهر طويل ، فخطب النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقال :
« ألاّ إنَّ الزَّمانَ قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، السَّنة اثنا عشر شهراً منها أربعةٌ حرمٌ ثلاث متواليات ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ورجب مُضَر الذي بين جُمادى وشعبان . . . » الحديث . فأمرهم بالمحافظة لئلاَّ يتبدل في مستأنف الأيام .
واختلفوا في أوَّل من نسأ النَّسيء . فقال ابنُ عباس والضحَّاك وقتادة ومجاهد « أوَّل من نسأ النسيء بنو مالك بن كنانة » .
وقال الكلبيُّ « أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة ، وكان يقومُ على الناس بالموسم ، فإذا همَّ الناسُ بالصدودِ ، قام فخطب ، فقال : لا مردّ لما قضيتُ ، أنا الذي لا أعاب ولا أجاب فيقول له المشركون : لبيك ، ثم يسألونه أن ينسأهم شهراً يغيرون فيه ، فيقول : إنَّ صفر في هذا العام حرام فإذا قال ذلك حلوا الأوتار ، ونزعوا الأسنة والأزجة ، وإن قال حلال ، عقدوا الأوتار ، وشدوا الأزجة ، وأغاروا وكان من بعد نعيم رجل يقال له : جنادة بن عوف ، وهو الذي أدرك النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هو رجل من كنانة يقال له : القَلَمَّسُ . قال شاعرهم : [ الوافر ]
2782- ومِنَّا نَاسِىءُ الشَّهْرِ القَلمَّسْ ... وكانوا لا يفعلون ذلك إلاَّ في الحجِّ إذا اجتمعت العرب في الموسم . وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس : » إنَّ أول من سنَّ النَّسيء : عمرو بن لُحَيّ بن قمعة بن خندف « .
ثم قال : { إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر يُضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ } تقدَّم الكلام عليه . { يُحِلُّونَهُ عَاماً } يعني : النَّسيء { وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ } أي : يوافقوا . { عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله } أي : إنهم لم يحلوا شهراً من الحرام إلاَّ حرَّمُوا مكانه شهراً من الحلال ، ولم يحرِّمُوا شهراً من الحلال إلاَّ أحلُّوا مكانه شهراً من الحرام ، لئلاَّ يكون الحرام أكثر من أربعة أشهر ، فتكون الموافقة في العدد .
{ زُيِّنَ لَهُمْ سواء أَعْمَالِهِمْ } قال ابنُ عبَّاس : زين لهم الشيطان : { والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ } الآية . لمَّا ذكر فضائح الكفار عاد إلى التَّرغيب في مقاتلتهم .
قال ابنُ عبَّاس : نزلت هذه الآية في غزوة تبوك ، وذلك لأنَّهُ عليه الصلاة والسلام لمَّا رجع من الطائف أقام بالمدينة أمر بجهاد الرُّوم وكان ذلك الوقت زمان شدة الحر ، حين طابت ثمار المدينة ، واستعظم النَّاسُ غزو الرُّوم وهابوه ، وكان ذلك في حر شديد ، وسفر بعيد ، ومفاوز ، وعدُو كثير ، وذلك حين طابت ثمار المدينة ، وظلالها فأمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم ، فشقَّ عليهم الخروج ، وتثاقلُوا ، فنزلت هذه الآية .
ومعنى : « إِذَا قِيلَ لَكُمُ » أي : قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم « انفِرُوا » اخرجوا ، واسم القوم الذين يخرجون النفير .
قوله : « اثاقلتم » أصله « تثَاقلْتُم » فلمَّا أريد الإدغام سكنت الثَّاءُ فاجتلبت همزةُ الوصل كما تقدَّم في { فادارأتم } [ البقرة : 72 ] ، والأصل : « تَدَارَأتُم » . وقرأ الأعمشُ « تثاقَلْتُم » بهذا الأصل و « ما » في قوله : « مَا لَكُمْ » استفهامية ، وفيها معنى الإنكار .
وقيل : فاعله المحذوف هو الرسول . « اثَّاقَلْتُمْ » ماضي اللَّفظ ، مضارع المعنى ، أي : تتثاقلون ، وهو في موضع الحالِ ، وهو عاملٌ في الظَّرف ، أي : ما لكم متثاقلين وقت القول .
وقال أبُو البقاءِ : « اثَّاقلتم : ماض بمعنى المضارع أي : ما لكم تتثاقلون ، وهو في موضع نصب ، أي : أيُّ شيء لكم في التَّثاقل ، أو في موضع جر على رأي الخليلِ . وقيل : هو في موضع حال » .
قال أبو حيان : وهذا ليس بجيد؛ لأنه يلزم منه حذفُ « أنْ » لأنه لا ينسبِكُ مصدرٌ إلاَّ من حرف مصدري والفعل وحذفُ « أنْ » في هذا قليلٌ جداً ، أو ضرورة . وإذا كان التقديرُ في التثاقل ، فلا يمكن عمله في « إذا » لأنَّ معمول المصدر الموصول لا يتقدَّمُ عليه ، فيكون النَّاصب ل « إذا » والمتعلِّق به في التثاقل ما تعلَّق به « لَكُم » الواقعُ خبراً ل « ما » وقرىء « أثَّاقلْتُم » بالاستفهام الذي معناه الإنكار ، وحينئذٍ لا يجوزُ أن يعمل في « إذا » ؛ لأنَّ ما بعد حرف الاستفهام لا يعمل فيما قبله ، فيكونُ العاملُ في هذا الظَّرف إمَّا الاستقرارُ المقدَّر في « لكم » ، أو مضمرٌ مدلولٌ عليه باللَّفظ ، والتقدير : ما تصنعون إذا قيل لكم ، وإليه نحا الزمخرشي .
والظَّاهر أن يقدَّر : ما لكم تتثاقلون إذا قيل لكم ، ليكون مدلولاً عليه من حيث اللفظُ والمعنى .
وقوله : « إِلَى الأرض » ضُمِّنَ اثَّاقلتم معنى المَيْلأ والإخلاء ، فعدي ب « إلى » والمعنى : تباطأتم إلى الأرض ، أي : لزمتم أرضكم ومساكنكم ، وملتم إلى الدنيا وشهواتها ، وكرهتم مشاق الجهاد ومتاعبه ، ونظيره قوله { أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ } [ الأعراف : 176 ] قال المفسِّرون : معناه : اثاقلتم إلى نعيم الأرض ، وإلى الإقامة وبالأرض .
قوله { أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا } أي : بخفض الدنيا ودعتها . وقوله : { إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ } جناس لفظي ] ، وكذا قوله : { اصبروا وَصَابِرُواْ } [ آل عمران : 200 ] ، وقوله : { أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ } [ هود : 48 ] وقوله : { ياأسفا عَلَى يُوسُفَ } [ يوسف : 84 ] ، وقوله : { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ } [ النمل : 44 ] ، وقوله : { أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ } [ فصلت : 51 ] ، وقوله : { على عِلْمٍ عَلَى العالمين } [ الدخان : 32 ] وقوله { مَالِكَ الملك } [ آل عمران : 26 ] .
قوله « مِنَ الآخرة » تظاهرت أقوالُ المعربين ، والمفسرين على أنَّ « مِنْ » بمعنى « بدل » كقوله { لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً } [ الزخرف : 60 ] ، أي : بدلكم؛ ومثلة قول الآخر : [ الرجز ]
2783- جَارِيةٌ لَمْ تأكُلِ المُرقَّقَا ... ولمْ تَذُقْ مِن البُقُولِ الفُسْتُقَا
وقول الآخر : [ الطويل ]
2784- فَليْتَ لَنَا مِنْ ماءِ زَمْزمَ شَرْبَةٌ ... مُبرَّدَةً باتَتْ على طَهَيَانِ
إلاَّ أنَّ أكثر النَّحويين لم يثبتُوا لها هذا المعنى ، ويتأوَّلون ما أوهم ذلك ، والتقدير هنا : اعتصمْتُمْ من الآخرة راضين بالحياةِ الدُّنيا ، وكذلك باقيها .
وقال أبُو البقاءِ : « مِنَ الآخرة » في موضع الحال ، أي : بدلاً من الآخرة . فقدَّر المتعلَّقَ كوناً خاصاً ، ويجوز أن يكون أراد تفسير المعنى . ثم قال : « فما متاع الحياة الدنيا » أي : لذاتها . وقوله « فِي الآخرةِ » متعلقٌ بمحذوفٍ من حيثُ المعنى ، تقديره : فما متاعُ الحياة الدنيا محسوباً في الآخرة ف « محسوباً » حالٌ مِنْ « متاعُ » .
وقال الحوفي : إنَّه متعلق ب « قَلِيلٌ » ، وهو خبر المبتدأ قال : « وجاز أن يتقدَّم الظَّرفُ على عامله المقترن ب » إلاَّ « ؛ لأنَّ الظروف تعمل فيها روائحُ الأفعال ، ولو قلت : ما زيدٌ عمراً إلاَّ يضرب ، لم يَجُزْ » .
فصل
الدَّليلُ على أنَّ متاع الدُّنيا في الآخرة قليل ، أنَّ لذات الدُّنيا خسيسة في أنفسها ومشوبة بالآفاتِ والبليات ، ومنقطعة عن قريبٍ لا محالة ، ومنافع الآخرة شريفة عالية خالصة عن كل الآفاتِ ، ودائمة أبدية سرمدية ، وذلك يوجب القطع بأنَّ متاع الدُّنيا في جنب متاع الآخرة قليل حقير .
قوله : { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } .
في الآخرة ، وقيل : هو احتباس المطر عنهم في الدنيا .
قال القرطبيُّ : « هذا شرطٌ ، فلذلك حذفت منه النُّون . والجوابُ » يُعذِّبْكُم « و { وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } وهذا تهديدٌ ووعيدٌ لتارك النَّفير » . { وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } خيراً منكم وأطوع .
قال ابنُ عبَّاسٍ : « هم التابعون » .
وقال سعيدُ بن جبير : « هم أبناء فارس » وقيل : هم أهلُ اليمن . « وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً » بترككم النفير .
قال الحسنُ « الكناية راجعة إلى الله تعالى ، أي : لا تضروا الله » ، وقال غيره تعود إلى الرسول؛ لأنَّ الله عصمه من الناس ، ولا يخذله إن تثاقلتم عنه .
{ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
قال الحسنُ وعكرمةُ : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } [ التوبة : 122 ] وقال المحقِّقون : الصحيح أنَّ هذه الآية خطاب لمن استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفروا ، وعلى هذا فلا نسخ .
قوله : { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله } . هذا الشرط جوابه محذوف ، لدلالة قوله : { فَقَدْ نَصَرَهُ الله } عليه ، والتقدير : إلاَّ تنصروه فسينصره . وذكر الزمخشريُّ فيه وجهين :
أحدهما : ما تقدَّم . والثاني : قال « إنه أوجب له النُّصْرَة ، وجعله منصوراً في ذلك الوقتِ ، فلنْ يُخْذَلَ من بعده » . قال أبُو حيَّان : « وهذا لا يظهرُ منه جوابُ الشَّرط؛ لأنَّ إيجابَ النصرة له أمْرٌ سبق ، والماضي لا يترتَّب على المستقبل والذي يظهرُ الوجهُ الأول » . وهذا إعلام من الله أنَّه المتكفلُ بنصر رسوله ، وإعزاز دينه ، أعانوه ، أو لَمْ يُعينُوه ، وأنه قد نصرهُ عند قلة الأولياءِ ، وكثرة الأعداء ، فكيف به اليوم وهو في كثرة من العَدَدِ والعُدَدِ .
وقوله : { إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ } أي : أنهم جعلوه كالمضطر إلى الخُروج من مكَّة ، حين مكروا به وأرادوا تثبيته ، وهمُّوا بقتله .
قوله « ثَانِيَ اثنين » منصوبٌ على الحالِ من مفعول « أخْرَجهُ » وقد تقدَّم معنى الإضافة في نحو هذا التَّركيب عند قوله : { ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } [ المائدة : 73 ] .
وقرأت جماعة « ثَانِي اثنَيْنِ » بسكون الياء . قال أبُو الفَتْحِ : « حكاها أبو عمرو » .
ووجهها أنَّ يكون سكَّن الياء تشبيهاً لها بالألفِ وبعضهم يخصُّه بالضرورة ، والمعنى : هو أحد الاثنين ، والاثنان أحدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والآخر أبو بكر الصديق .
قوله : { إِذْ هُمَا فِي الغار } . و « الغارُ » بيت يكون في الجبل ، وهو هنا بيت في جبل ثور بمكَّة ، ويجمع على « غِيران » ، ومثله : « تاج وتِيجَان » ، و « قاعٌ وقيعان » ، والغارُ أيضاً : نَبْتٌ طيبُ الريح ، والغارُ أيضاً : الجماعة والغاران : البطنُ والفرجُ . وألف « الغَارِ » عن واو .
قوله : « إِذْ يَقُولُ » بدل ثان من « إذْ » الأولى . وقال أبُو البقاءِ : أي : إذ هما في الغار ، و « إذْ يَقُول » ظرفان ل « ثَانِي اثنَيْنِ » .
فصل
عن ابن عمر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر : « أنت صاحبي في الغارِ وصاحبِي على الحَوْضِ » . قال الحسينُ بن الفضل « من قال إنَّ أبا بكر لم يكن صاحب رسول الله فهو كافر؛ لإنكاره نص القرآن ، وفي سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعاً لا كافراً » .
فإن قيل : إنَّ الله تعالى وصف الكافر بكونه صاحباً للمؤمن في قوله : { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ } [ الكهف : 37 ] .
فالجوابُ : أنَّ هناك وإن وصفه بكونه صاحباً إلاَّ أنَّه أردفهُ بما يدلُّ على الإهانة والإذلال وهو قوله : « أكفرتَ » ؟ أمَّا ههنا فبعد أن وصفه بكون صاحباً ذكر بعده ما يدل على الإجلال والتعظيم وهو قوله { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا } فأيّ مناسبة بين البابين؟ .
روي أنَّ قريشاً لمَّا بيَّتُوا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أول الليل إلى الغار ، وأمر عليّاً أن يضطجع على فراشه ، ليمنعهم السواد من طلبه ، جعل أبُو بكر يمشي ساعة بين يديه ، وساعة خلفه ، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : « ما لك يا أبا بكر؟ فقال : أذكر الطلب؛ فأمشي خلفك ، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك؛ فلما انتهينا إلى الغار دخل أبو بكر أولاً ، يلتمس ما في الغار ، فقال له رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، ما لك؟ فقال بأبي أنت وأمِّي ، الغيرَانُ مأوى السِّباع والهوام ، فإن كان فيه شيء كان بِي لا بِكَ وكان في الغارِ حجر ، فوضع عقبه عليه ، لئلا يخرج ما يؤذي الرسول ، فلما طلب المشركون الأثر وقربوا ، بكى أبو بكر خوفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عليه الصلاة والسلام » لا تَحْزَنْ إنَّ الله مَعَنَا « فقال أبو بكر : إن الله لمعنا ، فقال الرسول » نعم « فجعل يمسح الدموع عن خدِّه ، ولم يكن حزن أبي بكر جبناً منه ، وإنَّما إشفاقاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : إن أقتل فأناً رجلٌ واحدٌ ، وإن قتلت هلكت الأمة . »
وروي أنَّ الله تعالى بعث حمامتين فباضتا في أسفل باب الغارِ ، والعنكبوت نسجت عليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « اللَّهُمَّ أعْمِ أبصارهم » فجعلوا يترددون حول الغار ولا يرون أحداً .
فصل
دلَّت هذه الآية على فضيلة أبي بكر رضي الله عنه من وجوه :
أحدها : أنَّه عليه الصلاة والسلام لمَّا ذهب إلى الغار كان خائفاً من الكفار أن يقتلوه ، فلولا أنه عليه الصلاة والسلام كان قاطعاً بأنَّ أبا بكر من المؤمنين المحقين الصادقين الصِّيقين ، وإلا لما أصحبه نفسه في ذلك؛ لأنه لو جوز أن يكون باطنُه بخلاف ظاهره ، لخافه أن يدل أعداءه عليه ، أو لخافه أن يقدم هو على قتله ، فلمَّا استخلصه لنفسه في تكل الحالة ، دلَّ على أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام كان قاطعاً بأنَّ باطنه على وفق ظاهره .
وثانيها : أن الهجرة كانت بإذن الله ، وكن في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من المخلصين ، وكانوا في النسب إلى شجرة رسول اله صلى الله عليه وسلم ، أقرب من أبي بكر ، فلولا أنَّ الله تعالى أمره بأن يستصحب أبا بكر في هذه الواقعة الصعبة ، وإلاَّ لكان الظاهر ألاَّ يخصه بهذه الصُّحبة وتخصيص الله إيَّاه بهذا التشريف يدلُّ على علو منصبه في الدِّين .
وثالثها : أنَّ كل من سوى أبي بكر فارقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمَّا أبو بكر فما فارق رسول الله كغيره ، ولا تخلَّف عنه كغيره ، بل صبر على مؤانسته ، وملازمته ، وخدمته عند الخوفِ الشَّديد الذي لم يبق معه أحد ، وذلك يوجب الفضل العظيم .
ورابعها : أنَّه تعالى سمَّاه : « ثَانِيَ اثْنَيْنِ » فجعله ثاني محمَّدٍ - عليه الصلاة والسلام - في أكثر المناصب الدينية ، فإنَّه صلى الله عليه وسلم لمَّا أرسل إلى الخلقِ وعرض الإسلام على أبي بكر فآمن؛ وذهب وعرض الإسلام على طلحة ، والزبير ، وعثمان ، وجماعة من كبار الصحابة فآمن الكلُّ على يده ، ثم إنه جاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أيام قلائل ، فكان هو - رضي الله عنه - « ثَانِي اثْنَيْن » في الدَّعوة إلى الله تعالى ، وكلَّما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ، كان أبو بكر يقف في خدمته ، فكان « ثَانِيَ اثنين » في المواقف كلِّها ، وكلما صلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقف خلفه ، وكلَّما جلسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان « ثَانِيَ اثنين » في مجلسه ، ولمَّا مرض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، قام مقامه في الإمامة ، فكان « ثَانِيَ اثْنَيْنِ » ولمَّا مات دفن بجنبه ، فكان « ثاني اثنين » هناك .
وطعن بعض الحمقى من الروافض في هذا الوجه وقال : كونه ثاني اثنين للرسول لا يكون أعظم من كون الله رابعاً لكل ثلاثة في قوله تعالى : { مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] الآية . ثم إن هذا الحكم عام في حق المؤمن والكافرن فلمَّا لم يكن هذا المعنى من الله دالاًّ على فضيلة الإنسان فلأن لا يدل من النبي عليه الصلاة والسلام على فضيلة الإنسان أولى؟ .
والجوابُ : أنَّ هذا تعسف بارد؛ لأنَّ المراد هناك كونه تعالى مع الكل بالعلم والتدبير ، وكونه مطلقاً على ضمير كل أحد ، أمَّا هنا فالمراد بقوله تعالى : { ثَانِيَ اثنين } تخصيصه بهذه الصِّفة في معرض التعظيم .
قوله : { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } فالضمير في « عَلَيْه » يعودُ على أبي بكر؛ لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عليه السكينة دائماً ، وقد تقدَّم القولُ في السكينة . والضميرُ في « أيَّدهُ » للنبي صلى الله عليه وسلم وهو إشارة إلى قصَّة بدر ، وهو معطوف على قوله { فَقَدْ نَصَرَهُ الله } . وقرأ مجاهد « وأيَدَه » بالتَّخفيف . و « لَمْ تَرَوْهَا » صفة ل « جُنُود » .
قوله : { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى } كلمتهم : الشرك وهي السفلى إلى يوم القيامة ، { وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا } إلى يوم القيامة . قال ابنُ عبَّاسٍ « هي قول : لا إله إلاَّ الله » .
وقيل : كلمة الذين كفروا ما قدروا في أنفسهم من الكيدية ، وكلمة الله : وعده أنه ناصره .
والجمهور على رفع « كَلِمة » على الابتداء ، و « هي » يجوزُ أن تكون مبتدأ ثانياً ، و « العُليا » خبرها ، والجملة خبر الأوَّل . ويجز أن تكن « هي » فصلاً « ، و » العُليا « الخبر . وقرأ يعقوب » وكلمةَ اللهِ « بالنَّصب ، نسقاً على مفعولي » جعل « أي : وجعل كلمة الله هي العليا .
قال أبُو البقاء : وهو ضعيفٌ ، لثلاثة أوجه :
أحدها : وضعُ الظَّاهر موضع المضمر ، إذ الوجه أن يقول : وكلمته .
الثاني : أنَّ فيه دلالةً أنَّ كلمة الله كانت سُفْلَى ، فصارت عليا ، وليس كذلك .
الثالث : أنَّ توكيد مثل ذلك ب » هي « بعيد ، إذ القياسُ أن يكون » إياها « .
قال شهابُ الدِّين : أما الأولُ فلا ضعف فيه؛ لأنَّ القرآن ملآن من هذا النَّوعِ ، وهو من أحسن ما يكون؛ لأنَّ فيه تعظيماً وتفخيماً .
وأمَّا الثاني فلا يلزمُ ما ذكر ، وهو أن يكون الشَّيء المصيَّر على الضد الخاص ، بل يدلُّ التَّصيير على انتقال ذلك الشيء المُصَيَّر عن صفةٍ ما إلى هذه الصفة .
وأمَّا الثالثُ ف » هِيَ « ليست تأكيداً ألبتة ، إنما هي ضمير فصل على حالها ، وكيف يكونُ تأكيداً ، وقد نصَّ النحويون على أنَّ المضمر لا يؤكد المظهر؟ .
ثم قال : { والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : قاهر غالب » حَكِيمٌ « لا يفعل إلاَّ الصَّواب .
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)
قوله تعالى : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } الآية .
لمَّا توعد من لا ينفر مع الرسول ، أتبعه الأمر الجزم ، فقال : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } نصبهما على الحال من فاعل « انفرُوا » . قال الحسنُ ، والضحاكُ ، ومجاهد ، وقتادة وعكرمة : « شُباناً وشُيوخاً » . وعن ابن عباسٍ : نشاطاً وغير نشاط . وقال عطيةُ العوفي : ركباناً ومشاةً . وقال أبو صالحٍ : « خفافاً من المال ، أي : فقراء » ثقالاً « أي : أغنياء » . وقال ابن زيد « الثقيل : الذي له الضيعة ، والخفيف : الذي لا ضيعة له » .
وقيل : « خفافاً » من السلاح أي : مقلين منه ، و « ثِقالاً » مستكثرين منه . وقال مرة الهمداني : صحاحاً ومراضاً .
وقال يمان بن رباب « عزاباً ومتأهلين » ، وقيل غير ذلك . والصحيح أنَّ الكلَّ داخل فيه؛ لأنَّ الوصف المذكور وصف كلّي؛ فيدخل فيه كل هذه الجزئيات ، فقد روى ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أعَلَيَّ أنَّ أنفر؟ قال : « ما أنت إلاَّ خفيفٌ أو ثقيلٌ » فرجع إلى أهله ولبس سلاحه ، ووقف بين يديه؛ فنزل قوله : { لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ } [ النور : 61 و الفتح : 17 ] .
وقال مجاهدٌ : « إنَّ أبا أيُّوب شهد بدراً مع الرسول ، ولم يتخلف عن الغزوات مع المسلمين ، ويقول قال الله تعالى : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } فلا أجدني إلاَّ خفيفاً أو ثقيلاً » . وعن صفوان بن عمرو قال : كنت والياً على حمص ، فلقيت شيخاً قد سقط حاجباه ، من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو ، فقلت : يا عم أنت معذور عند الله ، فرفع حاجبيه وقال : يا ابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً ، إلا أنَّ من أحبَّه ابتلاه . وعن الزهري : خرج سعيدُ بنُ المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له : إنَّك عليل صاحب ضرر ، فقال : استنفر الله الخفيف والثقيل ، فإن عجزت عن الجهاد كثرت السواد وحفظت المتاع . وقيل للمقداد بن الأسود وهو يريد الغزو أنت معذور ، فقال : أنْزلَ اللهُ علينا في سورة براءة : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } [ التوبة : 41 ] والقائلون بهذا القول يقولون : إنَّ هذه الآية نسخت بقوله : { لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ } [ النور : 61 ] وبقوله : { لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ } [ التوبة : 91 ] الخراساني نسخت بقوله { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } [ التوبة : 122 ] .
ولقائل أن يقول : اتفقوا على أن هذه الآيات نزلت في غزوة تبوك ، واتفقوا على أنَّهُ عليه الصَّلاة والسَّلام خلف النساء وخلف من الرجال أقواماً ، فدلَّ ذلك على أنَّ هذا الوجوب ليس على الأعيان ، بل من فروض الكفايات ، فمنْ أمره الرسولُ بالخروج ، لزمه خفافاً وثقالاً ، ومن أمره بأن يبقى ترك النفير . وحينئذٍ لا حاجة إلى التزام النسخ .
وأيضاً فقوله : { وَسَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } [ التوبة : 42 ] دليل على أنَّ قوله : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } إنَّما يتناولُ من كان قادراً متمكناً ، إذ لو لم تكن الاستطاعة معتبرة في ذلك التكليف ، لما أمكنهم جعل عدم الاستطاعة عذراً في التخلف ، فدلَّ على عدم النسخ فيها .
قوله : { وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله } .
فيه قولان :
الأول : أنَّها تَدُلُّ على أنَّ الجهادَ يجبُ على من له المال والنفس ، ومن لم يكن له ذلك ، لم يجب عليه الجهاد .
والثاني : أنَّ الجهاد بالنفس يجب إذا انفرد وقوي ، ويجب بالمالِ إذا ضعف عن الجهادِ بنفسه؛ فيلزمه أن ينيبَ من يغزُو عنه بنفقة من عنده ، وذهب إلى هذا كثيرٌ من العلماء .
ثم قال : { ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } .
فإن قيل : كيف يصح أن يقال : الجهادُ خير من القعُودِ ع نه ، ولا خير في القعود؟
فالجوابُ : من وجهين :
الأول : أنَّ لفظ « خير » يستعمل في شيئين :
أحدهما : بمعنى : هذا خير من الآخر . والثاني : أنه خير في نفسه ، كقوله تعالى { إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [ القصص : 24 ] .
وقوله : { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ } [ العاديات : 8 ] ، وعلى هذا سقط السُّؤال .
والثاني : سلمنا أنَّ المراد كونه خيراً من غيره ، إلا أن التقدير : أن ما يستفاد من نعيم الآخرة بالجهاد خير ممَّا يستفيده القاعد عنه من الرَّاحة والتنعم بها ، ولذلك قال تعالى : { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } .
قوله : { لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً } الآية .
لمَّا بالغ في ترغيبهم في الجهادِ ، وأمرهم بالنَّفير ، عاد إلى تقرير كونهم متثاقلين ، بقوله : { لَوْ كَانَ عَرَضاً } اسم « كان » ضميرٌ يعودُ على ما دل عليه السِّياق ، أي : لو كان ما دعوتَهم إليه .
والعرض : ما عرض لك من منافع الدُّنيا ، والمراد هنا : غنيمة قريبة المتناول ، { وَسَفَراً قَاصِداً } أي : سَهْلاً قريباً ههنا . { لاَّتَّبَعُوكَ } لخرجوا معك . ومثل بالقاصد ، لأنَّ المتوسط ، بين الإفراد والتفريط ، يقال له : مُقتصدٌ . قال تعالى : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } [ فاطر : 32 ] ومعنى القاصد : ذو قصد ، كقولهم : لابنٌ ، وتامرٌ ، ورابحٌ { ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة } . قرأ عيسى بن عمر ، والأعرج « بَعِدَت » بكسر العين . وقرأ عيسى « الشِّقَّة » بكسر الشين أيضاً قال أبو حاتمٍ : هما لغة تميم .
والشُّقَّة : الأرض التي يُشَقُّ ركوبُها ، اشتقاقاً من المشقَّة .
وقال الليثُ ، وابن فارسٍ : هي الأرضُ البعيدة المسير ، اشتقاقاً من الشِّق ، أو من المشقَّة ، والمعنى : بعدت عليهم المسافة وهذه الآية نزلت في المنافقين الذين تخلَّفُوا عن غزوة تبوك .
قوله : { وَسَيَحْلِفُونَ بالله } الجارُّ متعلقٌ ب « سَيَحْلِفُونَ » .
وقال الزمخشريُّ « بِاللهِ » متعلقٌ ب « سَيحْلفُونَ » ، أو هو من جملة كلامهم ، والقولُ مرادٌ في الوجهين ، أي : سَيحْلِفُون ، يعني : المتخلِّفين عند رجوعك معتذرين يقولون : باللهِ لو استطعنا أو سَيحْلفُونَ بالله يقولون : لو اسْتَطعْنَا .
وقوله : « لَخَرجْنَا » سدَّ مسدَّ جواب القسم ، و « لَوْ » جميعاً .
قال أبو حيان : قوله : « لخَرجْنَا » سدَّ مسدَّ جواب القسمِ ، و « لو » جميعاً « ؛ ليس بجيد ، بل للنحويين في هذا مذهبان :
أحدهما : أنَّ » لَخَرجْنَا « جوابُ القسم وجوابُ » لَوْ « محذوفٌ ، على قاعدة اجتماع القسم والشَّرط ، إذا تقدَّم القسم على الشَّرط ، وهذا اختيارُ ابن عصفورٍ . والآخر : أنَّ » لخَرجْنَا « جوابُ » لَوْ « و » لَوْ « وجوابها جواب القسم ، وهذا اختيارُ ابن مالكٍ . أمَّا أنَّ » لخَرَجْنَا « سد مسدَّهما فلا أعلمُ أحداً ذهب إلى ذلك ، ويحتمل أن يتأول كلامه على أنَّه لمَّا حذف جواب » لو « ودلَّ عليه جواب القسم جعل كأنَّهُ سدَّ مسدَّ جواب القسمِ ، وجواب » لو « .
وقرأ الأعمشُ ، وزيدُ بنُ عليٍّ » لوُ استطَعْنَا « بضم الواو ، كأنَّهما فَرَّا من الكسرة على الواو وإن كان الأصل ، وشبَّها واو » لَوْ « بواو الضَّمير ، كما شبَّهوا واو الضَّمير بواو » لَوْ « حيث كسرُوها ، نحو : { اشتروا الضلالة } [ البقرة : 16 ] ، لالتقاء الساكنين . وقرأ الحسنُ : { اشتروا الضلالة } ، و { لَوِ استطعنا } بفتح الواو تخفيفاً .
ولو قلت : » وأنا قائمٌ « حالاً من ضمير » ليفعلنَّ « لم يجز ، وكذا عكسه ، نحو : حلفَ زيدٌ لأفعلنَّ يقوم ، تريد : قائماً ، لم يجز .
وأمَّا قوله : » وجاء به على لفظ الغائب؛ لأنه مُخْبرٌ عنهم « فمغالطةٌ ، ليس مخبراً عنهم بقوله : » لَوِ استطَعْنَا لخَرجْنَا « ، بل هو حاكٍ لفظ قولهم . ثمَّ قال : ألا ترى لو قيل : لو استطاعوا لخرجوا ، لكان سديداً . . . إلى آخره . كلامٌ صحيحٌ ، لكنه - تعالى - لم يقل ذلك إخباراً عنهم ، بل حكايةٌ ، والحالُ من جملة كلامهم المحكيّ ، فلا يجوزُ أن يخالف بين ذي الحال وحاله ، لاشتراكهما في العامل ، لو قلت : قال زيدٌ : خرجت يضربُ خالداً ، تريد : اضرب خالداً ، لم يجز . ولو قلت : قالت هندٌ : خرج زيد أضرب خالداً ، تريد : خرج زيد ضارابً خالداً ، لم يَجُزْ ، انتهى .
الرابعُ : أنَّها جملةٌ استئنافيةٌ ، أخبر اللهُ عنهم بذلك .
فصل
معنى الآية : أنَّه لو كانت المنافع قريبة ، والسَّفر قريباً لاتبعوك طمعاً منهم في الفوزِ بتلك المنافع ، ولكن طال السفرُ ، وكانوا كالآيسين من الفوز بالغنيمة ، بسبب استعظامهم غزو الرُّوم ، فلهذا تخلَّفُوا ، ثمَّ أخبر تعالى أنه إذا رجع من الجهادِ يجدهم : { سَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } إمَّا عند ما يعاتبهم بسبب التخلف ، وإمَّا ابتداءً على طريقة إقامة العذر في التخلف ، ثم بيَّن أنَّهم يهلكون أنفسهم بسبب الكذب والنِّفاق ، وهذا يَدُلُّ على أن الأيمان الكاذبة توجب الهلاك ، ولهذا قال عليه الصَّلاة والسَّلام » اليمينُ الغموسُ تدعُ الدِّيارَ بلاقعَ « ثم قال : { والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } في قولهم ما كنا نستطيع الخروج فإنهم كانوا مستطيعين الخروج ، فكانوا كاذبين في أيمانهم .
فصل
قالوا : الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - أخبر عنهم أنَّهم سيحلفون ، وهذا إخبار عن غيب يقع في المستقبل ، والأمر لمَّا وقع كما أخبر كان إخباراً عن الغيب ، فكان معجزاً .
قوله تعالى : { عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } الآية .
لمَّا بيَّن تعالى بقوله : { لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ } أنه تخلف قوم عن ذلك الغزو ، وليس فيه بيان أنَّ ذلك التخلف كان بإذن الرسول أم لا؟ فلمَّا قال بعده : { عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } دلَّ هذا ، على أنَّ فيهم من تخلَّف بإذنه .
قوله : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } « لِمَ » ، و « لَهُمْ » كلاهما متعلقٌ ب « أذِنْتَ » ، وجاز ذلك؛ لأنَّ معنى اللاَّمين مختلف؛ فالأولى للتعليل ، والثانية للتبليغ . وحذفت ألفُ « ما » الاستفهامية لانجرارها ، وتقديمُ الجارِّ للأول واجبٌ؛ لأنَّه جرَّ ما له صدرُ الكلام ، ومتعلَّقُ الإذن محذوفٌ ، يجوزُ أن يكون القُعود ، أي : لِمَ أذنت لهم في القعود ، ويدل عليه السِّياق من اعتذارهم عن تخلُّفِهم عنه عليه السلام . ويجوزُ أن يكون الخروج ، أي : لِمَ أذنت لهم في الخروج ، لأنَّ خروجهم فيه مفسدةٌ من التخذيل ، وغيره ، يدلُّ عليه : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } [ التوبة : 47 ] .
قوله : { حتى يَتَبَيَّنَ } يجوزُ في « حتى » أن تكون للغاية ، ويجوز أن تكون للتعليل ، وعلى كلا التقديرين فهي جارَّةٌ ، إمَّا بمعنى « إلى » ، وإمَّا بمعنى اللام ، و « أنْ » مضمرةٌ بعدها ، ناصبة للفعل ، وهي متعلقة بمحذوفٍ .
قال أبُو البقاءِ : « تقديرهُ : هَلاَّ أخَّرْتَهم إلى أن يَتبيَّنَ ، أو ليتبيَّن ، وقوله : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } يدُلُّ على المحذوف ، ولا يجُوزُ أن تتعلَّق » حتَّى « ب » أذِنْتَ « لأنَّ ذلك يوجب أن يكون أذنَ لهم إلى هذه الغاية ، أو لأجل التَّبيين ، وذلك لا يُعاتبُ عليه » وقال الحوفيُّ : « حتى غاية لِمَا تضمَّنه الاستفهامُ ، أي : ما كان له أن يأذن لهم ، حتى يتبيَّن له العُذْر » .
وفي هذه العبارة بعضُ غَضَاضةٍ .
فصل
احتجُّوا بهذه الآية على أنَّ الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام -؛ كان يحكم بمقتضى الاجتهاد في بعض الوقائع ، ولدخوله عليه الصلاة والسلام تحت قوله تعالى : { فاعتبروا ياأولي الأبصار } [ الحشر : 2 ] والرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان سيداً لهُم ، ثمَّ أكَّدُوا ذلك بهذه الآية فقالوا : إمَّا أن يقال : إنه تعالى أذن له في ذلك الإذن ، أو منعه عنه ، أوْ مَا أذن له فيه وما منعهُ عنه والأول باطلٌ ، وإلاَّ امتنع أن يقول له : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } ، والثاني باطل؛ لأنه يلزم منه أن يقال : إنَّه حكم بغير ما أنزل الله ، فيدخل تحت قوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله } [ المائدة : 44-47 ] الآيات . وذلك باطل بصريح القول .
فلمْ يبق إلاَّ أنَّه عليه الصلاة والسلام أذن في تلك الواقعة من تلقاء نفسه ، فإمَّا أن يكون ذلك عن اجتهاد ، أو لا ، والثاني باطل؛ لأنه حكم بمجرد التشهي وهو باطل كقوله تعالى : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات } [ مريم : 59 ] فلمْ يبق إلاَّ أنه عليه الصَّلاة والسَّلام أذن في تلك الواقعة بالاجتهاد .
فإن قيل : الآية تدلُّ على أنَّهُ لا يجوز له الاجتهاد؛ لأنه تعالى منعه بقوله : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } ؟ فالجوابُ : أنه تعالى ما منعه من الإذن مطلقاً ، لقوله تعالى : { حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين } [ التوبة : 43 ] والحكم الممدود إلى غاية ب « حتّى » يجب انتهاؤه عند حصول الغاية فدلَّ على صحة قولنا .
فإن قالوا : لِمَ لا يجوز أن يكون المرادُ من ذلك التَّبيين هو التَّبيين بطريق الوحي؟ .
فالجواب : ما ذكرتموه محتمل؛ إلاَّ أنه على تقديركم ، يصير تكليفه ، أن لا يحكم ألبتة ، حتى ينزل الوحين فلمَّا ترك ذلك ، كان كبيرة ، وعلى تقديرنا يكون ذلك الخطأ خطأ في الاجتهاد فيؤجر عليه ، لقوله : « ومن اجتهد فأخطأ فله أجر » فكان حمل الكلامِ عليه أولى .
فصل
دلَّت هذه الآية على وجوب التثبت ، وعدم العجلة ، والتَّأنِّي ، وترك الاغترار بظواهر الأمور ، والمبالغة في التفحص ، حتَّى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحقه .
فصل
قال قتادةُ : عاتبه الله كما تسمعون في هذه الآية ، ثمَّ رخَّص له في سورة النُّور فقال : { فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ } [ النور : 62 ] .
فصل
قال أبُو مسلم الأصفهاني في قوله { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } : ليس فيه ما يدل على أنَّ الإذن في ماذا؟ فيحتمل أن بعضهم استأذن في القُعُودِ؛ فأذن له ، ويحتملُ أن بعضهم استأذن في الخروجِ؛ فأذن له ، مع أنَّ ما كان خروجهم معه صواباً ، لكونهم عيوناً للمنافقين على المسلمين ، وكانوا يثيرون الفتنَ ، فلهذا ما كان خروجهم مع الرَّسُول مصلحة ، قال القاضي « هذا بعيدٌ؛ لأن هذه الآية نزلتْ في غزوة تبوك على وجه الذَّم للمتخلفين ، والمدح للمبادرين وأيضاً ما بعد هذه الآية يدل على ذم القاعدين وبيان حالهم » .
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)
قوله تعالى : { لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } الآية .
أي : لا يستأذنوك في التخلف { والله عَلِيمٌ بالمتقين } .
قوله : « أَن يُجَاهِدُواْ » فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ متعلقُ « الاستئذان » ، أي : لا يستأذنوك في الجهادِ ، بل يمضُون فيه غير مترددين .
والثاني : أن متعلق « الاستئذان » محذوف و « أن يُجاهدُوا » مفعولٌ من أجله ، تقديره : لا يستأذنك المؤمنون في الخروج والقعود كراهة أن يجاهدوا ، بل إذا أمرتُهم بشيءٍ بادروا إليه . وقال بعضهم : لا بدّ في الكلام من إضمار آخر؛ لأنَّ ترك استئذان الإمام في الجهادِ غير جائز ، فلا بدَّ من إضمار ، والتقديرُ : لا يستأذنك هؤلاء في أن لا يجاهدوا ، إلاَّ أنَّه حذف حرف النفي كقوله : { يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] ويدلُّ على هذا المحذوف أنَّ ما قبل الآية ، وما بعدها يدل على أن هذا الذم إنَّما كان على الاستئذان في القعود .
قوله تعالى : { إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله } الآية .
بيَّن أنَّ هذا الاستئذان لا يصدر إلاَّ عند عدم الإيمان باللهِ واليوم الآخر ، ولمَّا كان عدم الإيمان قد يكون بسبب الشَّك فيه ، وقد يكون بسبب القطع والجزم بعدمه ، بيَّن تعالى أنَّ عدم إيمان هؤلاء ، إنَّما كان بسبب الشك والريب ، فدلَّ على أنَّ الشَّاك المرتاب غير مؤمن بالله وقد تقدَّم الكلام على هذه المسألة في سورة الأنفال عند قوله : { أولاائك هُمُ المؤمنون حَقّاً } [ الأنفال : 4 ] ثم قال : { فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } أي : متحيرين .
قوله : { وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً } .
قرأ العامة « عُدَّة » بضمِّ العين وتاء التأنيث ، وهي الزَّادُ والراحلةُ ، وجميعُ ما يحتاج إليه المسافرُ .
وقرأ محمد بنُ عبد الملك بن مروان ، وابنه معاوية « عُدَّهُ » كذلك ، إلاَّ أنَّهث جعل مكان تاء التأنيث هاء ضمير غائب ، يعود على « الخُرُوجِ » . واختلف في تخريجها ، فقيل : أصلها كقراءة الجمهور بتاء التأنيث ، ولكنهم يحذفونها للإضافةِ ، كالتَّنوين ، وجعل الفراء من ذلك قوله تعالى : { وَإِقَامَ الصلاة } [ الأنبياء : 73 ] .
ومنه قول زهير : [ البسيط ]
2785- إنَّ الخليطَ أجَدُّوا البَيْنَ فانْجَرَدُوا ... وأخْلَفُوكَ عِدَ الأمْرِ الذي وعَدُوا
يريد : عدة الأمْرِ .
وقال صاحبُ اللَّوامح « لمَّا أضاف جعل الكناية نائبةً عن التاء ، فأسقطها ، وذلك لأن العُدَّ بغير تاء ، ولا تقديرها ، هو » البئرُ الذي يخرج في الوجه « . وقال أبو حاتم : » هو جمع « عُدَّة » ، ك : « بُرّ » جمع « بُرّة » ، و « دُرّ » جمع « دُرَّة » والوجهُ فيه « عُدَد » ولكن لا يوافق خطَّ المصحف « . وقرأ زر بن حبيش ، وعاصم في رواية أبان » عِدَّهُ « بكسر العين ، مضافة إلى هاء الكناية .
قال ابن عطيَّة : هو عِنْدِي اسمٌ لما يُمَدُّ ، ك « الذَّبْح » ، و « القِتْل » .
وقُرىء أيضاً « عِدَّة » بكسر العين ، وتاء التأنيث ، والمرادُ : عدة من الزَّاد والسلاح ، مشتقاً من « العَدَدِ » .
قوله : { ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم } . الاستدراكُ هنا يحتاجُ إلى تأمُّلٍ ، فلذلك قال الزمخشريُّ : فإن قلت : كيف موقعُ حرفِ الاستدراك؟ قلتُ : لمَّا كان قوله : { وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج } معطياً معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو . قيل : { ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم } كأنه قيل : ما خرجوا ، ولكن تَثَبَّطُوا عن الخروج لكراهةِ انبعاثهم ، : « ما أحْسَنَ زَيْدٌ إليَّ ولكن أساءَ إليَّ » . انتهى . يعني أنَّ ظاهرَ الآية يقتضي أنَّ ما بعد « لكن » موافقٌ لما قبلها ، وقد تقرَّر فيها أنَّها لا تقع إلاَّ بين ضدين ، أو نقيضين ، أو خلافين ، على خلاف في هذا الأخير ، فلذلك احتاج إلى الجواب المذكور .
قال أبُو حيان « وليست الآيةُ نظير هذا المثالِ - يعني : ما أحْسَنَ زيدٌ إليَّ ، ولكن أساء - ، لأنَّ المثال واقعٌ فيه » لكن « بين ضِدَّيْن ، والآيةُ واقعٌ فيها » لكن « بين متفقين من جهة المعنى » .
قال شهابُ الدِّين « مُرادُهم بالنقيضين : النفيُ والإثبات لفظاً ، وإن كانا يتلاقيان في المعنى ولا يُعَدُّ ذلك اتفاقاً » .
والانبعاثُ : الانطلاقُ ، يقال : بعثتُ البعير فانبعث ، وبعثته لكذا فانبعث ، أي : نفذ فيه والتَّثْبِيطُ : التَّعْويق ، يقالُ : ثَبَّطْتُ زيداً ، أي : عُقْتُه عمَّا يريده ، من قولهم : ناقة ثَبِطَة أي : بطيئة السير ، والمراد بقوله : « اقْعُدُوا » : التَّخْلية ، وهو كنايةٌ عن تباطئهم ، وأنَّهم تشبهوا بالنساء ، والصبيان ، والزَّمْنَى ، وذوي الأعذار ، وليس المرادُ قعوداً؛ كقوله : [ البسيط ]
2786- دَعِ المكَارِمَ لا تَقْصِدْ لبُغْيتهَا ... واقْعُدْ فإنَّكَ أنْتَ الطَّاعِمُ الكَاسِي
والمعنى : أنَّه تعالى كره خروجهم مع الرَّسُولِ - عليه الصلاة والسلام - ، فصرفهم عنه .
فإن قيل : خروجهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم إمَّا أن يقال إنَّه كان مفسدة ، وإمَّا أن يقال إنه مصلحة ، فإن كان مفسدة ، فلمَ عاتبَ الرسول في إذنه لهم بالقعود؟ وإن كان مصلحة فَلِمَ قال تعالى : إنه كره انبعاثهم وخروجهم؟
والجوابُ : أنَّ خروجهم مع الرَّسولِ ما كان مصلحة؛ لأنَّه تعالى صرَّح بعد هذه الآية بذكر المفاسد بقوله : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } ، بقي أن يقال : فلمَّا كان الأصلح أن لا يخرجوا ، فلِمَ عاتب الرسول في الإذن؟ فنقولُ : قد حكينا عن أبي مسلم أنه قال : ليس في قوله : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] أنه عليه الصلاة والسلام ، قد أذن لهم بالقُعُود ، بل يحتمل أن يقال : إنهم استأذنوه في الخروج معه ، فأذن لهم ، وعلى هذا يسقط السؤال .
قال أبو مسلم « ويدلُّ على صحَّة ما قلنا أنَّ هذه الآية دلَّت على أنَّ خُروجَهُمْ معه كان مفسدةً؛ فوجب حمل ذلك العتاب على أنه عليه الصلاة والسلام أذن لهم في الخروج معه » ويؤكد ذلك قوله تعالى :
{ فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً } [ التوبة : 83 ] وقوله تعالى : { سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ } [ الفتح : 15 ] فاندفع السُّؤال على طريق أبي مسلم .
والجوابُ على طريقة غيره ، وهو أن نسلم أنَّ العتاب في قوله : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] يوجب أنَّهُ عليه الصلاة والسلام أذن لهم في القعود ، فنقولُ : ذلك العتابُ ما كان لأجل أن ذلك القعود كان مفسدة ، بل لأجل أنَّ إذنه عليه الصَّلاة والسَّلام بذلك القعود مفسدة ، وبيانه من وجوه :
الأول : أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام أذن قبل إتمام التفحص وإكمال التأمل ، ولهذا قال تعالى { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين } [ التوبة : 43 ] .
والثاني : أن التقدير أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يأذن لهم في القعود ، فهم كانوا يقعدون من تلقاء أنفسهم وكان يصير ذلك القعود علامة على نفاقهم ، وإذا ظهر نفاقهم احترز المسلمون منهم ، ولم يغتَرُّوا بقولهم ، فلمَّا أذن الرَّسولُ في ذلك القعود بقي نفاقهم مخفياً ، وفاتت تلك المصالح .
والثالث : أنَّهم لمَّا استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب عليهم وقال : { اقعدوا مَعَ القاعدين } ثم إنَّهم اغتنموا هذه اللفظة وقالوا : قد أذن لنا ، فقال تعالى : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] أي : لم ذكرت عندهم هذا اللفظ الذي أمكنهم أن يتوسلوا به إلى غرضهم .
الرابع : أن الذين يقولون إن الاجتهاد غير جائز على الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام ، قالوا : إنه إنَّما أذن بمجرد الاجتهاد وذلك غير جائز؛ لأنهم لمَّا تمكنوا من الوَحْيِ ، وكان الإقدامُ على الاجتهاد مع التَّمكن من الوحي جارياً مجرى الإقدام على الاجتهاد مع حضور النَّص ، فلمَّا كان هذا غير جائز فكذا ذاك .
ثم قال تعالى : { وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين } . واختلفوا في تأويل هذا القول ، فقيل : هو الشيطان على طريق الوسوسة ، وقيل : قاله بعضهم لبعضٍ . وقيل : قاله الرسُول - عليه الصلاة والسلام - ، لمَّا أذن لهم في التخلف ، فعاتبه الله . وقيل : القائل هو الله تعالى؛ لأنه كره خروجهم؛ لأجل الإفساد ، فأمرهم بالقعود عن هذا الخروج المخصوص . ثُمَّ بيَّن ذلك بقوله { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } أي : في جيشكم ، وفي جمعكم . وقيل : « فِي » بمعنى « مع » أي : معكم .
قوله : « إِلاَّ خَبَالاً » جَوَّزُوا فيه أن يكون استثناء متصلاً ، وهو مفرَّغٌ؛ لأنَّ زاد يتعدى لاثنين .
قال الزمخشري المُسْتَثنى منه غيرُ مذكورٍ ، فالاستثناءُ من أعمِّ العام ، الذي هو الشيء فكان استثناء متصلاً ، فإنَّ « الخبال » بعض أعمِّ العام ، كأنه قيل : « ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً » وجوَّزُوا فيه أن يكون منقطعاً ، والمعنى : ما زادوكم قوةً ولا شدةً ، ولكنْ خبالاً .
وهذا يجيءُ على قول من قال : إنَّه لم يكن في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبال ، كذا قال أبو حيان . وفيه نظرٌ؛ لأنه إذا لم يكن في العسكر خبال أصلاً ، فكيف يُسْتثنى شيءٌ لم يكن ولم يتوهَّمْ وجوده؟ . وتقدم تفسير « الخبال » في آل عمران . قال الكلبيُّ : إلاَّ شراً وقال يمان : إلاَّ مكراً ، وقيل : إلاَّ غيّاً ، وقال الضحاك : إلاَّ غَدْراً .
وقرأ ابن أبي عبلة : « ما زادكُمْ إلاَّ خَبَالاً » ، أي : ما زادكم خروجهم .
قوله : { ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ } . الإيضاعُ : الإسراعُ ، يقال : أوضع البعيرُ ، أي : أسرعَ في سيرهِ؛ قال امرؤ القيس : [ الوافر ]
2787- أرَانَا مُوضِعينَ لأمْرِ عَيْبٍ ... ونُسْحَرُ بالطَّعامِ وبالشَّرابِ
وقال آخر : [ منهوك الرجز ]
2788- يَا لَيْتنِي فيهَا جَذَعْ ... أخُبُّ فيها وأضَعْ
ومفعول : « أوْضَعُوا » محذوف ، أي : أوضعوا ركائبهم؛ لأنَّ الراكبَ أسرعُ من الماشي .
قال الواحديُّ « قال أكثر أهل اللُّغةِ : إن الإيضاع حمل البعير على العدو ، ولا يجوزُ أن يقال : أوضع الرَّجلُ إذا سار بنفسه سَيْراً حثيثاً . يقال : وضع البعيرُ : إذا عدا ، وأوضعه الراكب : إذا حمله عليه » .
وقال الفرَّاءُ : « العرب تقول : وضعتْ النَّاقةُ ، وأوضع الراكبُ ، وربَّما قالوا للرَّاكب : وضَعَ » .
وقال الأخفشُ وأبو عبيد : يجوزُ أن يقال : أوضع الرَّجُلُ : إذا سار بنفسه سيراً حثيثاً من غير أن يراد وضع ناقته . روى أبو عبيد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم « أفاض من عرفة وعليه السَّكينة وأوضعَ في وادي مُحَسِّر » . قال الواحديُّ « والآية تشهد لقول الأخفشِ وأبي عبيد » والمراد من الآية : السَّعي بينهم بالعداوة والنميمة .
و « الخِلال » جمع « خَلَل » ، وهو الفُرْجَةُ بين الشيئين . ومنه قوله : { فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } [ النور : 43 ] ، وقرىء « مِنْ خلله » وهي مخارج صب القطر . ويستعار في المعاني فيقال : في هذا الأمْر خلل .
وقرأ مجاهدٌ ، ومحمد بن زيدٍ « ولأوْفَضُوا » ، وهو الإسراع أيضاً؛ من قوله تعالى : { إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } [ المعارج : 43 ] .
وقرأ ابنُ الزبير « ولأرْفَضُوا » بالفراء والفاء والضاد المعجمة ، من : رفض ، أي : أسرع أيضاً؛ قال حسَّان : [ الكامل ]
2789- بِزُجَاجةٍ رفَضَتْ بِمَا فِي جَوْفِهَا ... رَفَضَ القَلُوصِ بِراكبٍ مُسْتعْجِلِ
وقال : [ الكامل ]
2790- . . ... والرَّافِضَاتِ إلى مِنى فالغَبْغَبِ
يقال : رَفَضَ في مشيه رفْضاً ، ورَفَضاناً .
فإن قيل : كتب في المصحفِ « ولاَ أوْضَعُوا » بزيادة ألف . أجاب الزمخشريُّ « أنَّ الفتحة كانت تُكْتَب ألفاً قبل الخطِّ العربي ، والخطُّ العربي اخترع قريباً من نزول القرآن ، وقد بقى من ذلك الألف أثرٌ في الطباع ، فكتبوا صورة الهمزة ألفاً ، وفتحتها ألفاً أخرى ، ونحوه { أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ } [ النمل : 21 ] . يعني : في زيادة الألف بعد » لا « وهذا لا يجوزُ القراءةُ به ومن قرأ به متعمداً بكفّر » .
قوله : « يَبْغُونَكُمُ » في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، من فاعل « أوْضَعُوا » أي : لأَسْرعُوا فيما بينكم ، حال كونهم باغين ، أي : طالبين الفتنة لكم ، ومعنى الفتنة : افتراقُ الكلمة .
قوله : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } هذه الجملةُ يجوز أن تكون حالاً من مفعول « يَبْغُونكُمْ » أو من فاعله ، وجاز ذلك؛ لأنَّ في الجملة ضميريهما . ويجوزُ أن تكون مستأنفةً ، والمعنى : أنَّ فيكم من يسمع لهم ، ويُصْغِي لقولهم .
فإن قيل : كيف يجوزُ ذلك على المؤمنين مع قوة دينهم؟
فالجوابُ : لا يمتنع لمنْ قرب عهده بالإسلام أن يؤثر قول المنافقين فيهم ، أو يكون بعضهم مجبولاً على الجبن والفشل؛ فيؤثر قولهم فيهم ، أو يكون بعض المسلمين من أقارب رؤساءِ المنافقين فينظرون إليهم بعض الإجلال والتَّعظيم؛ فلهذا الأسباب يؤثر قول المنافقين فيهم ويجوز أن يكون المراد : وفيكم جواسيس منهم ، يسمعون لهم الأخبار منكم ، فاللاَّمُ على الأوَّلِ للتقوية لكون العامل فرعاً ، وفي الثاني للتعليل ، أي : لأجلهم . ثم قال تعالى : { والله عَلِيمٌ بالظالمين } الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم ونفاقهم ، وظلموا غيرهم بسبب أنهم سعوا في إلقاء غيرهم في وجوه الآفات .
فصل
{ لَقَدِ ابتغوا الفتنة مِن قَبْلُ } . أي : طلبُوا صد أصحابك عن الدِّين وردهم إلى الكُفْرِ ، وتخذيل النَّاس عنكَ قبل هذا اليوم ، كفِعْلِ عبد الله بن أبيّ يوم أحد حين انصرف عنك بأصحابه . وقال ابنُ جريج : هو أنَّ اثني عشر رجلاً من المنافقين ، وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة ، ليفتكوا بالنبي صلى الله عليه وسلم .
قوله : { وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور } . قرأ مسلمة بن محارب « وقلبُوا » مخففاً . والمرادُ بتقليب الأمر : تصريفه وترديده ، لأجل التدبر والتأمل فيه ، أي : اجتهدوا في الحيلةِ والكيدِ لك يقال للرجل المتصرف في وجوه الحيل : فلان حُوَّلٌ قلبٌ ، أي : يتقلب في وجوه الحيل .
ثم قال تعالى : { حتى جَآءَ الحق } أي : النصرُ والظفرُ .
وقيل : القرآن . { وَظَهَرَ أَمْرُ الله } دين الله . { وَهُمْ كَارِهُونَ } حالٌ ، والرَّابط الواو؛ أي : كارهون لمجيء الحق ولظهور أمر الله .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)
قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي } الآية .
{ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي } كقوله : « يَا صالحُ ائتنا » من أنه يجوزُ تحقيقُ الهمزة ، وإبدالها واواً ، لضمة ما قبلها ، وإن كانت منفصلةً من كلمةٍ أخرى . وهذه الهمزةُ هي فاءُ الكلمة ، وقد كان قبلها همزة وصلٍ سقطت درجاً .
قال أبو جعفرٍ « إذا دخلت » الواو « و » الفاء « على » ائذن « فهجاؤها : ألف وذال ونون ، بغير ياء . أو » ثم « فالهجاءُ : ألفٌ وياءٌ وذالٌ ونونٌ . والفرق : أنَّ » ثُمَّ « يوقف عليها وينفصل ، بخلافهما » .
قال شهابُ الدِّين « يعني إذا دخلت واوُ العطف ، أو فاؤه ، على هذه اللفظة اشتدَّ اتصالهما بها ، فلم يُعْتَدَّ بهمزة الوصل المحذوفة دَرْجاً ، فلم يُرْسَمْ لها صورةٌ ، فتكتب » فأذَنْ « ، و » أذَنْ « فهذه الألف هي صورة الهمزة ، التي هي فاء الكلمة » .
وإذا دخلت عليها « ثم » كُتِبَتْ كذا : ثم ائتُوا ، فاعتدُّوا بهمزة الوصل فرسموا لها صورة .
قال شهابُ الدين : وكأنَّ هذا الحُكْمَ الذي ذكره مع « ثم » يختصُّ بهذه اللَّفظة ، وإلاَّ فغيرها مما فاؤه همزةٌ ، تسقط صورة همزة وصله خطّاً ، فيكتب الأمرُ من الإتيان مع « ثم » هكذا : « ثُمَّ أتُوا » ، وكان القياس على « ثُم ائْذَانْ » « ثم ائْتُوا » ، وفيه نظرٌ ، وقرأ عيسى بن عمر ، وابن السَّميفع ، وإسماعيل المكي ، فيما روى عنه ابن مجاهد « ولا تُفْتِنِّي » بضم حرف المضارعة ، من « أفتنه » رباعياً . قال أبُو حاتم « هي لغة تميمٍ » وقيل : أفتنه : أدخله فيها ، وقد جمع الشاعر بين اللغتين ، فقال : [ الطويل ]
2791- لَئِنْ فَتَنَتْني لَهْيَ بالأمْسِ أفْتَنَتْ ... سَعِيداً فأمْسَى قَدْ قَلاَ كُلَّ مُسْلِمِ
ومتعلق « الإذن » : القعودُ ، أي : ائذن لي في القعود والتخلف عن الغزو ، ولا تَفْتِنِّي بخروجي معك . أي : لا تهلكني بخروجي معك ، فإنَّ الزمانَ شديد الحرّ ، ولا طاقة لي به . وقيل : لا تفتنيِّي؛ لأنِّي إذا خرجت معك هلك مالي وعيالي ، وقيل : نزلت في جد بن قيس المنافق وذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا تجهَّز لغزو تبوك ، قال له : « يا أبا وهب ، هل كل في جلاد بني الأصفر؟ يعني : الروم - تتخذ منهم سراري ووصفاء » فقال جدُّ : يا رسول الله ، لقد عرف قومي أني رجل مغرمٌ بالنِّساءِ ، وإنِّي أخشى إن رأيت بنات الأصفر ألاَّ أصبر عنهنَّ ، ائذن لي في القعود ، ولا تفتنِّي بهنّ ، وأعينكم بمالي .
قال ابن عباسٍ : « اعتلَّ جدُّ بن قيس ، ولم تكن علته إلا النفاق ، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال :
« قد أذنت لك » ، فأنزل الله عز وجل : { وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي } الآية .
قوله : { أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ } أي : في الشّرك والإثم وقعوا بنفاقهم ، وخلافهم أمر الله ورسوله .
وفي مصحف أبي « سَقَطَ » لأنَّ لفظة « مِنْ » موحد اللفظ ، مجموع المعنى ، وفيه تنبيه على أنَّ مَنْ عصى الله لغرض ، فإنَّهُ تعالى يبطل عليه ذلك الغرض؛ لأنَّ القوم لمَّا اختاروا القعود لئلا يقعوا في الفتنة ، بيَّن اللهُ تعالى أنهم واقعون ساقطون في عينِ الفتنة - ثم قال { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين } مطبقة عليهم .
قوله : { إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ } نصر وغنيمة « تَسُؤهُمْ » تُحزنهم ، يعني المنافقين { وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ } نكبة وشدة ومكروه ، يفرحوا ، و { يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ } أي : حذرنا ، « ويتَولَّوا » يدبروا عن مقام التحدث بذلك إلى أهليهم { وَّهُمْ فَرِحُونَ } مسرورون .
ونقل عن ابن عبَّاسٍ « أنَّ الحسنة في يوم بدرٍ ، والمصيبة في يوم أحدٍ ، فإن ثبت أنَّ المراد هذا بخبر وجب المصير إليه ، وإلاَّ فالواجب حمله على كل حسنة ، وعلى كل مصيبة » .
قوله : { قُل لَّن يُصِيبَنَآ } قال عمر بن شقيق : سمعت « أعين » قاضي الرَّيِّ يقرأ « لن يُصيبنَّا » بتشديد النون .
قال أبُو حاتم : ولا يجوزُ ذلك؛ لأنَّ النُّونَ لا تدخلُ مع « لَنْ » ، ولو كانت لطلحة بن مصرف ، لجاز ، لأنها مع « هل » ، قال الله تعالى { هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ } [ الحج : 15 ] .
يعني أبو حاتم : أنَّ المضارع يجوز توكيده بعد أداة الاستفهام ، وابن مصرف يقرأ « هَلْ » بدل « لَنْ » ، وهي قراءة ابن مسعود . وقد اعتذر عن هذه القراءة بأنَّها حملت « لن » على « لم » و « لا » النافيتين ، و « لم » و « لا » يجوز توكيد الفعل المنفيِّ بعدهما .
أمَّا « لا » فقد تقدم تحقيق الكلام عليها في الأنفال . وأما « لم » فقد سمع ذلك فيها؛ وأنشدوا : [ الرجز ]
2792- يَحْسَبُهُ الجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلمَا ... شَيْخاً عَلَى كُرسيِّهِ مُعَمَّمَا
أراد : « يَعْلمَنْ » فأبدل الخفيفة ألفاً بعد فتحة ، كالتنوين . وقرأ القاضي أيضاً ، وطلحة « هَلْ يُصَيِّبنا » بتشديد الياء . قال الزمخشريُّ : ووجهه أن يكون « يُفَيْعِل » لا « يُفَعِّل » لأنَّهُ من ذوات الواو ، كقولهم : الصَّواب ، وصَابَ يَصوبُ ، ومَصَاوب ، في جمع « مصيبة » فحقُّ « يُفَعِّل » منه « يُصَوِّب » ، ألا ترى إلى قولهم : صوَّب رأيه ، إلاَّ أن يكون لغة من يقول : صَابَ السَّهْمُ يصيبُ؛ كقوله : [ المنسرح ]
2793- . ... أسْهُمِيَ الصَّائِبَاتُ والصُّيُبُ
يعني : أن أصله « يُصَوْيب » فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياءً ، وأدغم فيها .
وهذا كما تقدم في « تَحَيَّزَ » أنَّ أصله « تَحَيْوزَ » ، وأمَّا إذا أخذناه من لغة من يقول : صَاب السَّهم يصيب ، فهو من ذوات الياء فوزنه على هذه اللغة « فَعَّلط .
فصل
المعنى : قل لهم يا محمد { لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا } أي : علينا ، وقدره في اللوح المحفوظ ، أو يكون المعنى » لنْ يُصيبنَا إلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنَا « أي : في عاقبة أمرنا من الظفر بالعدو ، والاستيلاء عليهم . وقال الزجاج : المعنى : إذا صرنا مغلوبين ، صرنا مستحقين للأجر العظيم ، والثَّواب الكثير ، وإن صرنا غالبين ، صرنا مستحقين للثواب في الآخرة وفزنا بالمال الكثير ، والثناء الجميل في الدنيا والصحيح الأول .
ثم قال : » هُوَ مَوْلاَنَا « ناصرنا ، وحافظنا . قال الكلبي » هو أوْلَى بنا من أنفسنا ، في الحياة والموت « . { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } وهذا كالتنبيه على أن حال المنافقين بالضد من ذلك ، وأنهم لا يتوكلون إلا على الأسباب الدنيوية الفانية .
فصل
{ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين } الآية .
هذا الجواب الثاني عن فرح المنافقين بمصائب المؤمنين ، أي : » هَلْ تَربَّصُونَ « ، أي : تنتظرون ، » بنا « أيها المنافقون ، { إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين } إمَّا النصر والغنيمة ، فيحصل لنا الفوز بالأموال في الدنيا والنصر ، والفوز بالثواب العظيم في الآخرة ، وإمَّا الشهادة ، فيحصل لنا الثواب العظيم في الآخرة .
قوله : { إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين } مفعول » تربَّص « ، فهو استثناء مفرغ . وقرأ ابن محيصنٍ : » إلاَّ احدى « بوصل ألف » إحدى « ؛ إجراءً لهمزة القطع مجرى همزة الوصل؛ فهو كقول الشاعر : [ الرجز ]
2794- إنْ لَمْ أقَاتِلْ فالبسُونِي بُرقَعَا ... وقول الآخر : [ الكامل ]
2795- يَا بَا المُغيرةَ رُبَّ أمْرٍ مُعْضِلٍ ... فرَّجْتهُ بالمكْرِ مِنِّي والدَّهَا
قوله : { وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ } إحدى السوأتين إمَّا { أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ } فيهلككم كما أهلك تلك الأمم الخالية ، { أَوْ بِأَيْدِينَا } أي : بأيدي المؤمنين ، إن أظهرتم ما في قلوبكم من النفاق ، فيقع بكم القتلِ والنَّهب مع الخزي والذلّ ، ومفعول : التربص » أَن يُصِيبَكُمُ « ثم قال : » فتربصوا « أي : إحدى الحالتين الشريفتين { إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ } أي : مواعيد الله من إظهار دينه ، واستئصال من خالفه ، فقوله : » فتربصوا « وإن كان صيغة أمر ، إلاَّ أنَّ المراد منه : التهديد ، كقوله : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] .
قوله تعالى : { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْها } الآية .
» طوعاً ، أو كرهاً « مصدران في موضع الحال ، أي : طائعين ، أو كارهين . وقرأ الأخوان » كُرهاً « بالضَّمِّ ، وقد تقدم تحقيقُ ذلك في النساء . وقال أبُو حيان هنا : » قرأ الأعمش وابن وثاب « كُرهاً » بضم الكاف « . وهذا يُوهم أنَّها لم تُقْرأ في السبعة . قال الزمخشري : هو أمرٌ في معنى الخبر ، كقوله :
{ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً } [ مريم : 57 ] ، ومعناه لن يُتقبَّل منكم؛ أنفقتم طوعاً أو كرهاً ، ونحوه قوله تعالى : { استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } [ التوبة : 80 ] ؛ وقول كثير عزة : [ الطويل ]
2796- أسيئي بِنَا أو أحْسِنِي لا ملُومَة ..
أي : لن يغفر اللهُ ، استغفرت لهم ، أو لم تستغفر . ولا نلومُكِ أحسنتِ إلينا ، أم أسَأتِ؛ وفي معناه قول القائل : [ الطويل ]
2797- أخُوكَ الذي إنْ قُمْتَ بالسَّيفِ عَامِداً ... لِتضْربَهُ لَمْ يَسْتغشَّكَ في الوُدِّ
وقال ابن عطيَّة « هذا أمرٌ في ضمنه جزاءٌ ، والتقدير : إنْ تنفقوا لن يُتقبَّل منكم . وأمَّا إذا عَرِي الأمرُ من الجواب فليس يصحبه تضمُّنُ الشَّرط » قال أبُو حيَّان « ويقَدْح في هذا التَّخريجِ ، أنَّ الأمر إذا كان فيه معنى الشرط ، كان الجواب كجواب الشرط . فعلى هذا يقتضي أن يكون التركيب : » فلن يتقبل « بالفاء ، لأنَّ » لَنْ « لا تقعُ جواباً للشَّرط إلاَّ بالفاء فكذلك ما ضُمِّنَ معناه؛ ألا ترى جزمه الجواب ، في قوله : اقصد زيداً يُحْسِنْ إليكَ » .
قال شهابُ الدِّينِ « إنَّما أراد أبو محمد تفسير المعنى ، وإلا فلا يجهلُ مثل هذه الواضحات ، وأيضاً فلا يلزمُ أن يعطى الأمر التقديري حكم الشَّيء الظاهر من كل وجه » .
وقوله : « إنَّكمُ » وما بعده جارٍ مجرى التعليل . وقوله : { لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ } يحتملُ أن يكون المراد أن الرسُول - عليه الصلاة والسلام - لا يتقبل تلك الأموال منهم ، ويحتملُ أن يكون المراد أنها لا تصير مقبولة عند الله تعالى .
قيل : نزلت في جد بن قيس حين استأذن في القعود ، وقال : أعينكم بمالي ، والمرادُ بالفسق هنا : الكفر ، لقوله بعده { وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ } [ التوبة : 54 ] .
وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
قوله تعالى : { وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ } الآية .
« أنْ تُقْبَلَ » فيه وجهان ، أحدهما : أنه مفعول ثانٍ ، ل « مَنَعَ » إمَّا على تقدير إسقاطِ حرف الجر ، أي : من أن يقبل ، وإمَّا لوصول الفعل إليه بنفسه؛ لأنَّك تقول : منعتُ زيداً حقَّه ومن حقه . والثاني : أنَّهُ بدلٌ من « هم » في : « مَنَعَهُمْ » ، قاله أبو البقاءِ ، كأنَّهُ يريد : بدل الاشتمال ، ولا حاجة إليه . وفي فاعل « مَنَعَ » وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ { إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ } أي : ما منعهم قبول نفقتهم إلاَّ كفرهم .
والثاني : أنَّهُ ضمير الله تعالى : أي وما منعهم الله ، ويكون « إِلاَّ أَنَّهُمْ » منصوباً على إسقاط حرف الجر ، أي : لأنَّهم كفروا . وقرأ الأخوان « أن يُقْبَلَ » بالياءِ من تحت . والباقون بالتَّاء من فوق . وهما واضحتان ، لأنَّ التأنيث مجازي . وقرأ زيد بن علي كالأخوين إلاَّ أنَّه أفرد النفقة . وقرأ الأعرج « تُقبل » بالتاء من فوق ، « نَفَقَتهُم » بالإفراد . وقرأ السُّلمي « يَقْبل » مبنياً للفاعل ، وهو الله تعالى . وقرىء « نَقْبل » بنون العظمة ، « نفقتهم » بالإفراد .
فصل
ظاهر اللفظ يدل على أنَّ منع القبول معلل بمجموع الأمور الثلاثة ، وهي الكفر بالله ورسوله ، وإتيان الصَّلاة وهم كسالى ، والإنفاق على سبيل الكراهية .
ولقائل أن يقول : الكفر بالله سبب مستقل في المنع من القبولِ ، فلا يبقى لغيره أثر ، فكيف يمكن إسناد الحكم إلى السببين الباقيين؟ .
وجوابه : أنَّ هذا الإشكالِ إنما يتوجَّهُ على قول المعتزلةِ ، حيث قالوا : إنَّ الكفر لكونه كفراً يؤثر في هذا الحكم ، أما عند أهْلِ السُّنَّةِ : فإنَّ شيئاً من الأفعال لا يوجب ثواباً ولا عقاباً وإنَّما هي معرفات ، واجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد جائز .
فصل
دلَّت الآية على أنَّ شيئاً من أعمال البر لا يقبل مع الكفر بالله تعالى .
فإن قيل : كيف الجمع بينه وبين قوله : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ] ؟ فالجوابُ : أن يصرف ذلك إلى تأثيره في تخفيف العقابِ ، ودلت الآية على أنَّ الصلاة تجب على الكافر ، لأنه تعالى ذمَّ الكافر على فعل الصَّلاة على وجه الكسل .
قال الزمخشريُّ « كُسَالَى » بالضمِّ والفتح جمع : « كَسْلان » نحو « سَكَارى » . قال المفسِّرون : معنى هذا الكسل ، أنَّهُ إن كان في جماعة صلَّى ، وإن كان وحده لم يصلِّ .
وقوله : { وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ } أي : لا ينفقون لغرض الطاعة بل رعاية للمصلحة الظاهرة .
قوله تعالى : { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ } الآية .
لمَّا قطع في الآية الأولى رجاء المنافقين عن جميع منافع الآخرة ، بيَّن ههنا أنَّ الأشياء التي يظنونها من منافع الدنيا؛ فإنه تعالى جعلها أسباباً لتعذيبهم في الدُّنيا .
والإعجاب : هو السرور بالشَّيء من نوع الافتخار به ، ومع اعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه . قوله { فِي الحياة الدنيا } فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلقٌ ب « تُعْجِبْكَ » ، ويكون قوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ } جملة اعتراض ، والتقدير : فلا تعجبك في الحياةِ ، ويجوز أن يكون الجارُّ حالاً من « أمْوالُهُمْ » وإلى هذا نحا ابنُ عبَّاسٍ ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي وابن قتيبة ، قالوا في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ ، والمعنى : فلا تعجبك أموالهم ، ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنَّما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة .
قال أبو حيان : « إلاَّ أنَّ تقييد الإعجاب المنهيَّ عنه الذي يكون ناشئاً عن أموالهم وأولادهم من المعلوم أنَّه لا يكون إلاَّ في الحياة الدُّنيا ، فيبقى ذلك كأنَّهُ زيادة تأكيد بخلاف التَّعذيب ، فإنَّه قد يكون في الدنيا ، كما يكون في الآخرة ، ومع أنَّ التقديم والتأخير يخصُّه أصحابنا بالضرورة » .
قال شهابُ الدين : « كيف يقال - مع نصِّ من قدَّمتُ ذكرهم - أصحابنا يخصُّون ذلك بالضَّرورة؟ على أنه ليس من التقديم الذي يكون في الضرورة في شيءٍ ، إنَّما هو اعتراض ، والاعتراض لا يقال فيه تقديم وتأخير ، بالاصطلاح الذي يخصُّ بالضرورة . وتسميتهم - أعني : ابن عباس ، ومن معه رضي الله عنهم - إنَّما يريدون به الاعتراض المشار إليه ، لا ما يخصه أهل الصناعة بالضرورة » .
والثاني : أنَّ « فِي الحياةِ » متعلقٌ بالتعذيب ، والمراد بالتعذيب الدنيويِّ : مصائبُ الدُّنيا ورزاياها أو ما لزمهم من التكاليف الشَّاقة ، فإنَّهم لا يرجون عليها ثواباً ، قاله ابنُ زيد : أو ما فُرِض عليهم من الزكوات ، قاله الحسنُ . وعلى هذا فالضميرُ في « بها » يعود على الأموال فقط ، وعلى الأول يعود على « الأولاد ، والأموال » .
فإن قيل : أيُّ تعذيب في المال والولد وهما من جملة النّعم؟ .
فالجوابُ : على القول الأول بالتقديم والتأخير ، فالسؤالُ زائل . وعلى الثاني المصائب الواقعة في المال والولد . وقيل : بل لا بدَّ من تقدير حذف ، بأن يقال : أراد بالتعذيب بها من حيث كانت سبباً للعذاب ، أمَّا في الدُّنيا ، فإن من أحب شيئاً كان تألمه على فراقه شديداً ، وأيضاً يحتاج في تحصيلها إلى تعب شديد ، ومشاقّ عظيمة ، ثم في حفظها كذلك ، وأمَّا في الآخرة فالأموال حلالها حساب ، وحرامها عذابٌ .
فإن قيل : هذا المعنى حاصل للكلِّ ، فما فائدة تخصيص المنافقين؟ .
فالجوابُ : أن المنافق لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر فلا ينفق ماله في سبيل الله لأنَّهُ يراه ضياعاً لا يرجو ثوابه ، وأما المؤمن فينفق ماله طيبة بها نفسه ، يرجو الثواب في الآخرة والمنافق لا يجاهدث في سبيل الله خوفاً من أن يقتل ، والمؤمن يُجَاهدُ ، يرجو ثواب الآخرة ثم قال : { وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } أي : تخرجُ أنفسهم وهم كارهون .
أي : يموتون على الكفر .
قوله : { وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ } على دينكم { وَمَا هُم مِّنكُمْ } أي : ليسوا على دينكم { ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } يخافون أن يظهروا ما هم عليه فيقتلوا .
قوله : { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ } . « المَلْجَأ » : الحِصْن . وقال عطاءٌ : المَهْرب وقيل : الحِرْز وهو « مَفْعَل » ، مِنْ : لَجَأ إليه ، يلجأ ، أي : انحاز . يقال : ألجَأتُهُ إلى كذا أي : اضطررته إليه فالتَجَأ . و « الملجأ » يصلحُ للمصدر ، والزمان ، والمكان . والظَّاهرُ منها - المكان . و « المغارات » جمع « مغارة » ، وهي الموضع الذي يغور الإنسان فيه ، أي : يستقر . وقال أبُو عبيدٍ : كل شيءٍ جزتَ فيه فغبتَ فهو مغارة لك ، ومنه : غار الماء في الأرض ، وغارت العين . وهي مفعلة ، مِنْ : غَارَ يغُورُ ، فهي كالغَار في المعنى . وقيل : المغارة : السِّرْب ، كنفق اليربوع .
والغار : النَّقْبُ في الجبل . والجمهورُ على فتح ميم « مغارات » . وقرأ عبدُ الرحمن بن عوف « مُغارات » بالضم ، وهو من : أغار ، و « أغار » يكون لازماً ، تقول العربُ : « أغار » بمعنى « غار » أي : دخل . ويكون متعدّياً ، تقول العرب : أغرت زيداً ، أي : أدخلته في الغار ، فعلى هذا يكون من « أغار » المتعدِّي ، والمفعول محذوف ، أي : أماكنُ يغيرون فيها أنفسهم ، أي : يُغَيِّبُونها . و « المُدَّخل » : « مُفْتَعَل » مِنَ : الدخول ، وهو بناء مبالغة في هذا المعنى ، والأصل : « مُدْتَخل » فأدغمت « الدال » في « تاء » الافتعال ك : « ادَّانَ » من « الدَّين » . وقرأ قتادة ، وعيسى بن عمر ، والأعمش « مُدَّخَّلاً » بتشديد الدال والخاء معاً . وتوجيهها أن الأصل « مُتدَخَّلاً » ، من : تدخَّل « بالتَّضعيف ، فلمَّا أدغمت التاء في الدال صار اللفظ » مُدخَّلاً « نحو » مُدَّيَّن « من » تَديَّن « .
وقرأ الحسنُ أيضاً ، ومسلمةُ بن محاربٍ ، وابن أبي إسحاق ، وابن محيصن ، وابن كثير ، في رواية » مَدْخَلاً « بفتح الميم وسكون الدال وفتح الخاء خفيفة ، مِنْ » دخل « . وقرأ الحسنُ في رواية محبوب كذلك ، إلاَّ أنه ضمَّ الميم ، جعله من » أدخل « . وهذا من أبدع النَّظم ، ذكر أولاً الأمر الأعم ، وهو » الملجأ « من أي نوع كان ، ثم ذكر الغيران التي يُخْتفى فيها في أعلى الأماكن ، وهي الجبالُ ، ثم ذكر الأماكن التي يختفى فيها في الأماكن السافلة ، وهي السُّروب ، وهي التي عبَّر عنها ب » المُدَّخل « . وقال الزجاج : يصحُّ أن تكون » المغارات « من قولهم : » حَبل مُغار « أي : محكم الفتل ، ثم يستعار ذلك في الأمر المحكم المبرم فيجيء التأويل على هذا : لو يجدون نصرة ، أو أموراً مشددة مرتبطة تعصمهم منكم وجعل » المُدَّخَل « أيضاً قوماً يدخلون في جملتهم .
وقرأ أبي « مُنْدَخَلاً » بالنون بد الميم ، من « انْدخَلَ » ؛ قال : [ البسيط ]
2798- . . ... ولا يَدِي في حَميتِ السَّمْنِ تَنْدخِلُ
وأنكر أبو حاتم هذه القراءة عنه ، وقال : إنَّما هي بالتاء ، وهو معذورٌ ، لأنَّ « انفعل » قاصر لا يتعدى ، فكيف يبنى منه اسم مفعول؟ وقرأ الأشهب العقيلي « لوالَوْا » ، أي : لتتابعوا وأسرعوا وكذلك رواها ابن أبي عبيدة بن معاوية بن نوفل ، عن أبيه ، عن جده وكانت له صحبة من الموالاة . وهذا مما جاء فيه « فعَّل » ، و « فاعل » بمعنى ، نحو : ضَعَّفْتُه ، وضَاعَفْتُه .
قال سعيد بن مسلم : أظنها « لَوألُوا » بهمزة مفتوحة بعد الواو ، من « وأل » ، أي : التجأ وهذه القراءةُ نقلها الزمخشري عن أبيّ ، وفسَّرها بما تقدم من الالتجاء . و « الجُموح » النُّفُور بإسراع؛ ومنه : فرس جمُوحٌ ، إذا لم يرُدَّهُ لِجَامٌ؛ قال : [ المتقارب ]
2799- سَبُوحاً جَمُوحاً وإحْضَارُهَا ... كَمَعْمَعَةِ السَّعَفِ المُوقَدِ
وقال آخر : [ البسيط ]
2800- وقد جَمَحْتُ جِمَاحاً في دِمَائِهِمُ ... حتَّى رأيتُ ذوي أحْسابِهِمْ جَهَزُوا
وقرأ أنس بن مالك ، والأعمش : يَجْمِزُون . قال ابن عطية يُهرولُونَ في مَشيهمْ وقيل : يَجْمِزُونَ ، ويَجْمَحُونَ ، ويشتدُّون بمعنى « .
وفي الحديث : » فلمَّا أذْلقَتهُ الحجارةُ جَمَزَ « وقال رؤبة : [ الرجز ]
2801- إمَّا تَرَيْنِي اليومَ أمَّ حَمْزٍ ... قَاربْتُ بين عَنقي وجمْزِي
ومنه » يَعْدُو الجَمَزَى « وهو أن يجمع رجليه معاً ، ويهمز بنفسه ، هذا أصله في اللغة وقوله : » إليهِ « عاد الضميرُ على » الملجأ « أو على » المُدَّخل « ، لأنَّ العطف ب » أوْ « ، ويجوز أن يعود على » المغارات « لتأويلها بمذكر . ومعنى الآية : أنهم لو يجدون مخلصاً منكم أو مهرباً لفارقوكم .
قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات } الآية .
قرأ العامة » يَلْمِزُكَ « بكسر الميم ، من : لَمَزه يَلْمِزه ، أي . عابه ، وأصله : الإشارة بالعين ونحوها .
قال الأزهري أصله : الدفع ، لَمَزتُهُ دفعته وقال الليث هو الغمز في الوجه ومنه : هُمزةٌ لُمَزَة . أي : كثيرُ هذين الفعلين . وقال أبو بكر الأصم » اللَّمز : أن يشير إلى صاحبه بعيب جليسه . والهمز : أن يكسر عينه على جليسه إلى صاحبه « . وقرأ يعقوب ، وحماد بن سلمة عن ابن كثير ، والحسن ، وأبو رجاء ، ورويت عن أبي عمرو بضمها ، وهما لغتان في المضارع . وقرأ الأعمش » يُلْمِزُكَ « مِنْ » الْمَز « رباعياً . وروى حماد بن سلمة » يُلامِزُكَ « على المفاعلة من واحدٍ ، ك : سافرَ ، وعاقب .
هذا شرح نوع آخر من طباعهم وأفعالهم ، وهو طعنهم في الرسول بسبب أخذ الصدقات ، ونزلت في ذي الخويصرة التميمي ، واسمه : حرقوص بن زهير ، أصل الخوارج .
قال أبو سعيد الخدري بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم مالاً إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي ، وقال : يا رسول الله اعدل ، فقال : « ويلك من يعدل إذا لم أعدل؟ » فنزلت هذه الآية .
وقال الكلبي : قال رجل من المنافقين ويقال له : أبو الجواظ لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتزعم بأن الله أمرك بأن تضع صدقات في الفقراء والسماكين ، فلم تعضها في رعاة الشاء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا أبا لك ، فإنما كان موسى راعياً وإنما كان داود راعياً » ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فلما ذهب قال عليه السلام : « احذروا هذا وأصحابه ، فإنهم منافقون » .
وروى أبو بكر الأصم في تفسيره أنه عليه السلام قال لرجل من أصحابه : « ما علمك بفلان؟ » قال ما لي به علم إلا أنك تدينه في المجلس وتجزل له العطاء ، فقال عليه السلام : « إنه منافق أداريه عن نفاقه ، وأخاف إفساده . »
قال ابن عباس « يلمزك » : يغتابك ، وقال قتادة : يطعن عليك ، وقال الكلبي : يعيبك في أمرٍ ما ، قال أبو علي الفارسي : هنا محذوف والتقدير : يعيبك في تفريق الصدقات فإن أعطوا كثيراً فرحوا ، وإن أعطوا قليلاً فإذا هم يسخطون . وقد تقدم الكلام على « إذا » الفجائية ، والعامل فيها . قال أبو البقاء : « يسخطون » لأنه قال : إنها ظرف مكان ، وفيه نظر تقدم نظيره .
قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ } . الظاهر أنَّ جواب « لَوْ » محذوفٌ ، تقديره : لكان خيراً لهم .
وقيل : جوابها « وقالوا » ، والو مزيدةٌ ، وهذا مذهبُ الكوفيين . والمعنى { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ } ما نحتاج إليه { إِنَّآ إِلَى الله رَاغِبُونَ } هاتانِ الجملتان كالشَّرح لقولهم : « حَسبُنَا اللهُ » ، فلذلك لم يتعاطفا ، لأنَّهُمَا كالشَّيء الواحد ، فشدَّه الاتصال منعت العطف .
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)
قوله تعالى : { إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين } الآية .
اعلم أنَّ المنافقين لمَّا لمزوا الرسول عليه الصلاة والسلام في الصدقات ، بيَّن لهم أنَّ مصرف الزكاة هؤلاء ، ولا تعلق لي بها ، ولا آخذ لنفسي نصيباً منها .
وقد ذكر العلماء في الحكمة في وجوب الزكاة أموراً :
منها : قالوا : شكر النِّعمة عبارة عن صرفها إلى طلب مرضاة المنعم ، والزكاة شكر النعمة . فوجب القولُ بوجوبها؛ لأنَّ شكر المنعم واجب .
ومنها : أنَّ إيجاب الزكاة توجب حصول الألفة بالمودَّة ، وزوال الحقد والحسد بين المسلمين فهذه وجوهٌ معتبرةٌ في الحكمة الناشئة لوجوب الزَّكاة .
ومنها : أنَّ الفاضل عن الحاجات الأصلية إذا أمسكه الإنسان عطَّله عن المقصود الذي لأجله خلق المالُ ، وذلك سعي في المنع من ظهور حكمة الله تعالى ، وهو غير جائز ، فأمر الله بصرف طائفة منه إلى الفقير حتَّى لا تتعطل تلك الحكمة .
ومنها : أنَّ الفقراء عيالُ الله ، لقوله تعالى { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا } [ هود : 6 ] والأغنياء خزان الله؛ لأنَّ الأموال التي في أيديهم لله تعالى ، ولولا أن الله ألقاها في أيديهم ، لما ملكوا منها حبة واحدة .
ومنها : أنَّ المال بالكليَّة في يد الغني مع أنَّه غير محتاج إليه ، وإهمال جانب الفقير العاجز عن الكسب بالكليَّة ، لا يليقُ بحكمة الرحيم؛ فوجب أن يجب على الغنيّ صرف طائفة من ذلك المال إلى الفقير .
ومنها : أنَّ الأغنياء لو لم يقوموا بمهمات الفقراء ربّما حملهم شدة الحاجة ومضرة المسكنة على الالتحاق بأعداء المسلمين ، أو على الإقدامِ على الأفعال المنكرة كالسرقة وغيرها؛ فإيجاب الزكاة يفيد هذه الفائدة؛ فوجب القول بوجوبها وقيل غير ذلك .
فصل
كلمة « إنَّما » للحصر ، فدلَّت على أنه لا حق في الصدقات لأحد إلاَّ لهذه الأصناف الثمانية وذلك مجمع عليه ، ويدلُّ على أنَّ كلمة « إنَّما » للحصر؛ لأنها مركبة من « إن » و « ما » ، و « إن » للإثبات و « ما » للنفي « ، واجتماعهما يوجب بقاءهما على ذلك المفهوم ، وكذلك تمسَّك ابنُ عبَّاسٍ في نفي ربا الفضل بقوله عليه الصلاة والسلام » إنَّما الرِّبَا في النَّسيئَةِ « ، وتمسك بعض الصحابة في أن الإكسال لا يوجب الاغتسال بقوله عليه الصلاة والسلام » إنما الماءُ من الماءِ « ، ولولا إفادتها الحصر ، لما كان كذلك ، وقال تعالى { إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ } [ النساء : 171 ] فدلَّت على نفي إلهية الغير؛ وقال الأعشى : [ السريع ]
2802- ولسْتَ بالأكْثَرِ منهُم حَصًى ... وإنَّما العِزَّةُ لِلكَاثِرِ
وقال الفرزدق : [ الطويل ]
2803- أنَا الذَّائدُ الحَامِي الذِّمارَ وإنَّما ... يدافعُ عنْ أحسابهِمْ أنَا أوْ مِثْلِي
فدلَّت هذه الوجوه على أنَّ كلمة » إنَّما « للحصر .
وروى زياد بن الحارث الصُّدانئي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته فأتاه رجل فقال أعطني من الصَّدقة فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
« إنَّ اللهَ لَمْ يرضَ بحُكْم نبي ، ولا غيره في الصَّدقاتِ حتَّى حكم فيها فجَزَّأها ثمانيةَ أجزاء ، فإنْ كنتَ من تلكَ الأجزاءِ أعطيتُك حقَّك » .
فصل
مذهب أبي حنيفة : أنه يجوز صرف الصَّدقة إلى بعض الأصناف ، وهو قول عمر وحذيفة ، وابن عباسٍ ، وسعيد بن جبير ، وأبي العالية ، والنخعي . قال سعيدُ بن جبير : لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقرأ متعففين فحبوتهم بها كان أحب إليَّ وقال الشافعي لا بُدَّ من صرفها إلى الأصناف الثمانية وهو قوك عكرمة ، والزهري وعمر بن عبد العزيز واحتج بظاهر الآية . قال ولا بدَّ في كلِّ صنف من ثلاثة ، فإن دفع سهم الفقراء إلى فقيرين ضمن نصيب الثالث ، وهو ثلث سهم الفقراءِ قال : ولا بد من التسوية في أنصباء هذه الأصناف الثمانية ، مثاله لو وجد خمسة أصناف ، ولزمه أن يتصدَّق بعشرة دراهم؛ لزمه أن يجعل العشرة خمسة أسهم .
واختلفوا في صفة الفقير والمسكين ، فقال ابن عباسٍ ، والحسنُ ، ومجاهدٌ ، وعكرمةُ والزهريُّ : الفقير : الذي لا يسأل ، والمسكين : السَّائل . قال ابن عمر : ليس بفقير من جمع الدرهم إلى الدرهم والتمرة إلى التمرة ، ولكن الفقير من أنقى نفسه وثيابه ولا يقدر على شيء : { يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف } [ البقرة : 273 ] .
وقال قتادة : الفقير : المحتاج الزَّمِنُ ، والمسكين : الصحيح المحتاج . وروي عن عكرمة الفقراء من المسلمين ، والمساكين من أهل الكتاب . وقال الشافعي الفقير من لا مال ولا حرفةَ تقع منه موقعاً زمناً كان أو غير زمن ، والمسكين من له مال أو حرفة لا تغنيه سائلاً كان أو غير سائل .
واستدل بقوله : { أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ } [ الكهف : 79 ] فأثبت لهم ملكاً ، وكان عليه الصلاة والسلام يتعوذ من الفقر ، وقال : كاد الفقرُ أن يكون كُفْراً . وكان يقول : اللَّهُمَّ أحْيِني مِسْكيناً وأمِتْنِي مسْكِيناً ، فكيف كان يتعوذ من الفقر ، ويسأل ما هو دونه وهذا تناقض؟
وقال أصحاب الرأي : الفقيرُ أحسن حالاً من المسكين . وقيل : الفقير من له المسكن والخادم والمسكين من لا ملك له ، وقالوا كل محتاج إلى شيء فهو فقير إليه ، وإن كان غنياً عن غيره قال تعالى : { ياأيها الناس أَنتُمُ الفقرآء إِلَى الله } [ فاطر : 15 ] ، والمسكين المحتاج إلى كلِّ شيءٍ ألا ترى كيف حضَّ على طعامه ، وجعل طعام الكفارة له ، ولا فاقة أشد من الحاجة إلى سد الجوعة .
وقال إبراهيمُ النخعيُّ : الفقراء هم المهاجرون ، والمسكين من لم يهاجر ، وقيل : لا فرق بين الفقراء والمساكين فالله تعالى وصفهم بهذين الوصفين ، والمقصود شيءٌ واحد ، وهو قول أبي يوسف ومحمد .
وفائدة الخلاف تظهر في مسألة : وهي أنَّه لو أوصى لفلان وللفقراء والمساكين ، فالذين قالوا : الفقراء غير المساكين ، قالوا : لفلان الثلث ، والذين قالوا : الفقراء هم المساكين قالوا لفلان النصف .
واختلفوا في حدِّ الغني الذي يمنع أخذ الصَّدقة ، فقال الأكثرون : حده أن يكون عنده ما يكفيه وعياله سنة ، وهو قول مالك ، والشافعي . وقال أصحاب الرأي : حدُّه أن يملك مائتي درهم . وقيل : من ملك خمسين درهماً ، لا يحلُّ له أخذ الصدقة . روي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : « مَنْ سَألَ النَّاسَ ولهُ ما يُغْنِيه جاء يوم القيامةِ ومسْألتُهُ في وجهه خُموش أو خُدُوش . قيل : وما يُغنيهِ؟ قال : » خَمْسُونَ دِرْهماً أو قيمتها من الذَّهب « ، وهو قول الثوري ، وابن المباركِ ، وأحمد وإسحاق وقالوا : لا يجوزُ أن يعطى الرجل من الزكاة أكثر من خمسين ، وقيل : أربعون درهماً لقول النبي صلى الله عليه وسلم » مَنْ سَأل ولهُ أوقيةٌ أو عَدْلُهَا فقدْ سَألَ إلْحَافاً « .
قوله : { والعاملين عَلَيْهَا } وهم السُّعاةُ لجباية الصدقة ، يعطون بقدر أجور أمثالهم .
وقال مجاهدٌ والضحاكُ : يعطون الثمن ، ولا يجوزُ أن يكُون العاملُ على الصدقة هاشمياً ولا مطلبياً؛ لأنَّ الرسول - عليه الصلاة والسلام - أبَى أن يبعث أبا رافع عاملاً على الصَّدقاتِ وقال : أما علمت أن مولى القومِ منهم .
قوله : { والمؤلفة قُلُوبُهُمْ } قال ابنُ عباسٍ : هم أشراف من الأحياء أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ، وكانوا خمسة عشر رجلاً : أبُو سفيانَ ، والأقرعُ بنُ حابسٍ ، وعيينةُ بن حصنٍ ، وحويطبُ بنُ عبد العزى ، وسهلُ بنُ عمرو من بني عامر ، والحارثُ بنُ هشام ، وسهيلُ بن عمرو الجهنيُّ ، وأبُو السنابل ، وحكيم بن حزامٍ ، ومالكُ بن عوف وصفوانُ ابنُ أمية ، وعبد الرحمن بنُ يربوع ، والجدُّ بنُ قيس ، وعمرو بنُ مرداس ، والعلاءُ بنُ الحرث ، » أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّ رجل منهم مائة من الإبل ورغبهم في الإسلام ، إلاَّ عبد الرحمن بن يربوع أعطاه خمسين من الإبل ، وأعطى حكيم بن حزام سبعين من الإبل ، فقال : يا رسول الله ما كنت أرى أنَّ أحداً من النَّاس أحق بعطائك مني فزاده عشرة ، وهكذا حتى بلغ مائة ، ثم قال حكيمٌ : يا رسول الله ، أعطيتك الأولى التي رغبت عنها خير أم هذه التي قنعت بها؟ فقال عليه الصَّلاة والسَّلام : بل التي رغبت عنها ، فقال : والله لا آخذ غيرها « فقيل : مات حكيم وهو أكثر قريش مالاً ، وشقَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك العطايا ، لكن ألفهم بذلك . قال ابنُ الخطيبِ : وهذه العطايا إنَّما كانت يوم حنين ، ولا تعلق لها بالصدقات ، ولا أدري لأي سبب ذكر ابنُ عبَّاسٍ هذه القصة في تفسير هذه الآية وإنَّما ذكر ابنُ عباسٍ ذلك بياناً للمؤلَّفة من هم ، فذكر ذلك مثالاً .
واعلم أنَّ المؤلفة قسمان ، مسلمون وكفار ، فأمَّا المسلمون فيعطون لأجل قوَّة إيمانهم أو معونتهم على أخْذِ الزَّكاة ممَّن امتنع عن دفعها ، أو ترغيباً لأمثالهم في الإسلام وأما الكُفَّار؛ فيعطون ترغيباً لهم في الإسلام ، أو خشية من شرهم ، كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم صفوان بن أمية لمَّا رأى من ميله في الإسلام .
قال الواحديُّ إنَّ الله تعالى أغنى المسلمين عن تألف قلوب المشركين ، فإن رأى الإمامُ في ذلك مصلحة يعود نفعها على المسلمين إذا كانوا مسلمين جاز ، ويعطون من الفيء لا من الزَّكاة .
واعلم أنَّ المؤلفة قسمان ، مسلمون وكفار ، فأمَّا المسلمون فيعطون لأجل قوَّة إيمانهم أو معونتهم على أخْذِ الزَّكاة ممَّن امتنع عن دفعها ، أو ترغيباً لأمثالهم في الإسلام وأما الكُفَّار؛ فيعطون ترغيباً لهم في الإسلام ، أو خشية من شرهم ، كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم صفوان بن أمية لمَّا رأى من ميله في الإسلام .
قال الواحديُّ إنَّ الله تعالى أغنى المسلمين عن تألف قلوب المشركين ، فإن رأى الإمامُ في ذلك مصلحة يعود نفعها على المسلمين إذا كانوا مسلمين جاز ، ويعطون من الفيء لا من الزَّكاة .
وقال جماعةٌ من أهل العلم : إنَّ المؤلفة منقطعة ، وسهمهم ساقط ، روي ذلك عن عمر وهو قول الشعبي ، وبه قال مالكٌ ، والثوريُّ ، وأصحاب الرأي وإسحاق بن راهويه وقال قومٌ : سهمهم ثابت مروي ذلك عن الحسنِ ، وهو قول الزهري ، وأبي جعفر محمد بن علي ، وأبي ثور ، وقال أحمدُ : يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك .
قوله : وفِي الرقابِ قال الزجاجُ فيه محذوف ، والتقديرُ : « وفي فك الرقاب » وقد تقدم الكلامُ في تفسير « الرقاب » في قوله : { والسآئلين وَفِي الرقاب } [ البقرة : 177 ] . ثمَّ في تفسير « الرقاب » أقوال :
أحدها : أنَّهم المكاتبون ليعتقوا من الزكاة ، وقال مالكٌ وغيره : إنه لعتق الرقاب يشترى به عبيد فيعتقون . وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة ولكن يعطى منها في رقبة ويعان بها مكاتب؛ لأن قوله : { وَفِي الرقاب } يقتضي أن يكون له فيه مدخل ، وذلك يُنَافِي كونه تاماً فيه ، وقال الزهريُّ : سهم الرقاب نصفان ، نصف للمكاتبين المسلمين ، ونصفٌ يشترى به رقاب ممَّن صلوا وصاموا .
قال بعض العلماء : والاحتياط في سهم الرقاب دفعه إلى السَّيد بإذن المكاتب؛ لأنَّه تعالى أثبت الصدقات للأصناف الأربعة المتقدم ذكرهم بلام التمليك بقوله : { إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين } ولمَّا ذكر « الرقاب » أبدل حرف اللام بحرف « في » فقال : « وفِي الرِّقابِ » فلا بدَّ لهذا الفرق من فائدة ، وهي أنَّ الأصنافَ الأربعة يدفع إليهم نَصِيبُهُمْ . وأما الباقون فيصرف نصيبهم في المصالح المتعلقةِ بهم لا إليهم .
قال الزمخشري : « فإن قلت : لِمَ عدل عن اللاَّمِ إلى » فِي « في الأربعة الأخيرة؟ قلت : للإيذان بأنَّهم أرسخُ في استحقاقِ التصدُّق عليهم ممَّن سبق ذكرهُ؛ لأنَّ » في « للوعاء ، فنبَّه على أنهم أحقاءُ بأن توضع فيهم الصدقات وجعله مظِنَّة لها ومصَبّاً » .
ثم قال : « وتكرير » في « في قوله : { وَفِي سَبِيلِ الله وابن السبيل } فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين » .
قوله : والغَارمينَ قال الزجاجث : أصل الغرم في اللغةِ : لزوم ما يشق ، والغرام العذاب اللاَّزم ، وسمي العشق غراماً ، لكونه شاقاً على الإنسان ولازماً له ، ومنه : فلان مغرم بالنِّساءِ إذا كان مولعاً بهنَّ ، وسمي الدَّين غراماً ، لكونه شاقاً ، والمرادُ بالغارمين المديونون ، فالدِّيْنُ إن حصل بسبب معصيةٍ لا يدخلُ في الآية؛ لأنَّ المقصود من صرف المال إليه الإعانة ، والمعصية لا تستوجب الإعانة ، وإن حصل لا بسبب معصية فهو قسمان : دينٌ حصل بسبب نفقات ضرورية أو في مصلحة ، ودين بسبب حمالات وإصلاح ذات بين ، والكل داخل في الآية .
روى الأصمُّ في تفسيره « أن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا قضى بالغرة في الجنين قالت العاقلة : لا نملك الغرَّة يا رسول الله ، فقال لحمل بن مالك بن النَّابغة أعنهم بغرة من صدقاتهم » وكان حمل على الصدقة يومئذ .
قوله : { فِي سَبِيلِ الله } قال المفسِّرون : يعني الغزاة ، قال أكثرُ العلماء : يجوز له أن يأخذ من الزَّكاة وإن كان غنياً . وقال أبو حنيفة وصاحباه : لا يعطى الغازي إلاَّ مع الحاجة .
ونقل القفالُ في تفسيره عن بعض العلماء أنَّهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى ، وبناء الحصون ، وعمارة المساجد؛ لأن قوله : { وَفِي سَبِيلِ الله } عام في الكل وقال أكثر أهل العلم : لا يعطى منه شيء في الحج . وقال قومٌ : يجوزُ أن يصرف سهم في سبيل الله إلى الحج ، يروى ذلك عن ابن عباس وهو قول الحسن ، وأحمد ، وإسحاق .
قوله : { وابن السبيل } وهو كل من يريدُ سفراً مباحاً ولم يكن له ما يقطعُ به المسافة يعطى له قدر ما يقطع به تلك المسافة ، وإن كان ذا يسار في بلده . وقال قتادةُ : ابن السبيل : هو الضعيف وقال فقهاءُ العراقِ : ابن السبيل : الحاج المنقطع .
واعلم أنَّ مال الزَّكاة لا يخرج عن هذه الثمانية . واختلفوا هل يجوزُ وضعه في بعض الأصناف؟ إذا قلنا يجوز وضعه في بعض الأصناف ، فإنَّما يجوز في غير العامل ، فأمَّا وضعه بالكليَّةِ في العامل فلا يجوز بالاتفاق .
فإن قيل : ما الحكمةُ في أنه تعالى ذكر الأصناف الستة وهم : الفقراء ، والمساكين ، والعاملون والمؤلفة ، والرقاب ، والغارمون ، بصيغة الجمع ، وذكر الصنفين الآخرين ، وهما : في سبيل الله وابن السبيل بصيغة الإفراد؟
فالجوابُ : أنَّ المراد بهما الجنس هو جمع حقيقة ، ولا يقال : هلاَّ ذكر الأصناف الستَّة بصيغة الإفراد ويكون المراد الجنس كهذين؛ لأنا نقول : لو أفرد في الجميع ، فلا يخلو إمَّا أن يفردهم معرفين بالألف واللام للعهد؛ فينصرف بين السَّامع إلى صرف الزَّكاة إلى معهودٍ سابق معين وليس هو المقصود من الآية بالإجماع ، وإن أفردهم منكرين ، فهم منه أنَّ الزَّكاة لا يجوز دفعها إلى فقير واحد ، أو مسكين واحد ، وكذلك سائرها ، ولا يجوزُ دفعها لاثنين فما زاد ، وهو خلاف الإجماع
فصل
والسَّبيل : الطريقُ ، ونسب المسافر إليها لملازمته إيَّاها ، ومروره عليها قال بعضُ العلماءِ : إذا كان المسافر غنيّاً في بلده ، ووجد من يسلفه فلا يعطى وهو الصحيح .
ولا يلزمه أن يدخل تحت مِنَّة أحد إذا وجد منة تعالى .
فصل
إذا جاء وادَّعى وصفاً من الأوصاف الثمانية ، هل يقبل قوله أو يقال : أثبت ما تقولُ؟ أمَّا الدَّينُ فلا بدّ أن يثبته ، وأمَّا البقية فظاهرُ الحال يَكْفِي .
قوله : « فَرِيضَةً » في نصبها وجهان :
أحدهما : أنَّها مصدرٌ على المعنى لأنَّ معنى { إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ } في قوة : فرض الله ذلك .
والثانيك أنَّها حالٌ من الفقراء ، قاله الكرماني ، وأبُو البقاءِ .
يعنيان من الضمير المستكن في الجار ، لوقوعه خبراً ، أي : إنَّما الصدقاتُ كائنة لهم حال كونها فريضة ، أي : مفروضة . ويجوزُ أن يكون فريضةً حينئذٍ بمعنى مفعولة ، وإنَّما دخلت التاءن لجريانها مجرى الأسماء ، ك « النَّطيحة » . ويجوزث أن يكون مصدراً واقعاً موقع الحال ، ونُقل عن الفرَّاء أنَّها منصوبة على القطع . ثم قال : { والله عَلِيمٌ } بمقادير المصالح { حَكِيمٌ } لا يشرع إلاَّ ما هو الأصوب والأصلح .
فصل
وهذه الآية المراد بها فريضة الزكاة ، فأمَّا صدقة التطوع فيجوزُ دفعها إلى هؤلاء وإلى غيرهم ، من بني هاشم ومواليهم ، ومن لا يجوز لهم أخذ الزكاة الواجبة ، يجوزُ له الأخذ إذا كان غارماً أو مؤلفاً ، أو عاملاً .
قوله تعالى : { وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي } الآية .
وهذا نوع آخر من طعن المنافقين ، وهو أنَّهُم كانُوا يقولون في رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه أذن . نزلت في جماعة من المنافقين ، كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون ما لا ينبغي ، فقال بعضُهم لا تفعلوا فإنَّا نخافُ أن يبلغه ما نقولُ ، فيقع بنا فقال الجلاس بنُ سويد : نقول ما شئنا ، ثم نأتيه ونُنْكر ما قلنا ، ونحلف فيصدِّقنا بما نقول ، إنَّما محمدٌ أذنٌ ، أي سامعة ، يقال : فلان « أذنٌ وأذنٌ » على وزن « فُعُل » ، إذا كان يسمع كل ما قيل ويقبله .
وأصله من « أذن » له « أذَناً » إذا استمع ، وقال محمد بن إسحاق بن يسار : « نزلت في رجل من المنافقين يقال له : نبتل بن الحارث ، وكان رجُلاً أزلم ، ثائر الشعر ، أحمر العينين ، أسفع الخدين ، مشوَّه الخلقة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث . »
وكان ينمّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنافقين ، فقيل له : لا تفعل فقال : إنَّما محمد أذن ، فمن حدَّثه شيئاً صدَّقه؛ فنقول ما شئنا ، ثُمَّ نأتيه فنحلف له ، فيصدقنا ، فنزلت الآية .

 قلت المدون التالي هو 

ج37.وج38.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدجال يستغل ازمات الناس من الجوع ونقص الطعام والمياه في دعوتهم الباطلة لعبادتهم إياه والايمان به

  بياناته الشخصية     المسيح الدجال ليس خوارق إنما هو دجل وكذب قلت المدون ان الأ أزمة الاقتصادية الحادثة الان في كل دول العالم والمجاعة المت...