حمل المصحف وورد وبي دي اف.

 حمل المصحف وورد وPDF.
القرآن الكريم وورد word doc icon||| تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

الجمعة، 23 سبتمبر 2022

ج43.وج44. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

ج43.وج44. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

أولا : 

 

 ج43. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
ج43. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)
قوله : { مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون } الآية لما ذكر عذاب الكفار في الدنيا والآخرة أتبعه بذكر ثواب المتقين فقال « مثلُ الجَنَّة » .
قال سيبويه : « مثَلُ الجنَّة » مبتدأ ، وخبره محذوف ، والتقدير : فيما قصصنا أو فما يتلى عليكم مثل الجنة وعلى هذا فقوله { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } تفسير لذلك المثل .
وقال أبو البقاء : « فعلى هذا » تَجْرِي « حال من العائد المحذوف في » وُعِدَ
أي : وعدها مقدراً جريان أنهارها « .
ثم نقل عن الفراء : أنه جعل الخبر قوله : » تَجْرِي « قال : » وهذا خطأ عند البصريين ، قال : لأن المثل لا تجري من تحته الأنهار وإنما هو من صفات المضاف إليه ، وشبهته : أن المثل هنا بمعنى الصفة فهو كقوله : صفة زيد أنه طيل ويجوز أن يكون « تَجْرِي » مستأنفاً .
وهذا الذي ذكره أبو البقاء نقل نحنوه الزمخشري ، ونقل غيره عن الفراء في الآية تأويلين آخرين :
أحدهما : على حذف لظفه « أنها » والأصل : صفة الجنة أنها تجري وهذا منه تفسير معنى لا إعراب ، وكيف تحذف « أنها » من غير دليل؟ .
والثاني : أن لفظة « مثلُ » زائدة ، والأصل : الجنة تجري من تحتها الأنهار ، وزيادة « مثِلُ » في لسانهم كثير ، ومنه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] { فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ } [ البقرة : 137 ] وقد تقدم .
قال الزمخشري : « وقال غيره ، أي غير سيبويه : الخبر { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } كما تقول : صفة زيد أسمر » .
قال أبو حيان : « وهذا أيضاً لا يصح أن يكون : تجْري » خبراً عن الصفة ولا « أسمر » خبراً عن الصفة ، وإنما يتاول « تَجْرِي » على إسقاط « أن » ورفع الفعل ، والتقدير أن تجري ، أي : جريانها « .
وقال الزجاج : » مثلُ الجنَّةِ « » جنة « على حذف المضاف تمثيلاً لما غاب بمان نشاهده .
ورد عليه أبو علي قال : » لا يصح ما قال الزجاج لا على معنى الصفة ولا على معنى الشبه؛ لأن الجنة التي قدرها جثَّة ولا تكون الصفة ، ولأن الشبه عبارة عن المماثلة بين المتماثلين وهوحدث والجنة جثة فلا تكون [ المماثلة ] « .
والجمهور على أن المثل هنا بمعنى الصفة ، فلس هنا ضرب مثل ، فهو كقوله تعالى : { وَلِلَّهِ المثل الأعلى } [ النحل : 60 ] ، وأنكر أبو علي أن يكون بمعنى الصفة ، وقال : معناه : الشبه .
وقرأ علي وابن مسعود » أمْثَالُ الجنَّةِ « ، أي : صفاتها وقد تقدم خلاف القراء فيه في البقرة .
فصل
اعلم أنه تعالى وصف الجنة بصفات ثلاث :
أولها : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } .
وثانيها : { أُكُلُهَا دَآئِمٌ } أي : لا ينقطع ثمرها ونعيهما بخلاف جنات الدنيا .
و « أكلها دائم » كقوله : « تجري » في الاستئناف التفسيري ، أو الخبري ، أو الحالية ، وقد تقدم .
وثالثها : ظلها ظليل لا يزول ، أي : ليس هناك حر ولا برد ولا شمس ولا قمر ولا ظله نظيره قوله تعالى : { لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً } [ الإنسان : 13 ] وهذا رد على الجهمية حيث قالوا : نعيم الجنة يفنى .
ولما وصف الجنة بهذه الصفات الثلاث ، بين أن تلك عقبى المتقين ، أي : عاقبتهم ، يعنى الجنة ، وعاقبة الكافرين النار .
قوله : { والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب } يعنى القرآن وهم أصحاب محمد صلوات الله وسلامه عليه { يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } من القرآن { وَمِنَ الأحزاب } أي : الجماعات ، يعني الكفار الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى { مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } هذا قول الحسن وقتادة .
فإن قيل : الأحزاب ينكرون كلّ القرآن .
فالجواب : أن الأحزاب لا ينكرون كل القرآن؛ لأنه ورد في إثبات الله تعالى وإثبات قدرته وعلمه وحكمه وقصص الأنبياء عليه الصلاة والسلام وهم لا ينكرون هذه الأشياء .
وقيل : المراد بالكتاب : التوراة والإنجيل ، وعلى هذه ففي الآية قولان :
الأول : قال ابن عباس رضي الله عنه : { الذين ءاتيناهم الكتاب } كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما ومن آمن من النصارى وهم ثمانون رجلاً : أربعو بنجران وثمانية باليمن ، واثنان وثلاثون بأرض الحبشة ، فرحوا بالقرآن ، لأنهم آمنوا به وصدقوه .
وسبب فرحهم به أن ذكر الرحمن كان في القرآن قليلاً في الابتداء فلما أسلم عبدالله بن سلام وأصحابه ساءهم قلة ذكره في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة فلما كرر الله ذكره في القرآن فرحوا به فنزلت الآية . والأحزاب بقية أهل الكتاب وسائر المشركين .
قال القاضي : وهذا القول أول من الأول؛ لأنه لا شبهة في أن من أوتي القرآن فإنهم يفرحون بالقرآن ، فإذا حملناه على هذا الوجه ظهرت الفائدة .
ويمكن أن يقال : إن الذين أوتوا القرآن يزداد فرحهم به لما رأوا فيه من العلوم الكثيرة والفوائد العظيمة ، ولهذا السبب حكى الله فرحهم به .
والثاني : أن الذي أتيناهم الكتاب : اليهود أعطوا التوراة ، والنصارى الإنجيل يفرحون بما أنزل في القرآن ، لأنه مصدق لما معهم { وَمِنَ الأحزاب } سائر الكفار { مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } وهو قول مجاهد .
قال القاضي : وهذا لا يصح لقوله { يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } أي جميع ما أنزل الله إليك ويمكن أن يجاب فيقال : : إن قوله { بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } لا يفيد العموم بدليل جواز إدخال لفظة الكل والبعض عليه ، ولو كانت كلمة « ما » للعموم لكان إدخال لفظ الكل عليه تكراراً ، وإدخال لفظ البعض عليه نقصاً .
ثم إنه تعالى لما بين هذا جمع كل ما يحتاج المرء إليه في معرفة المبدأ والمعاد في ألفاظ قليلة فقال { قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله ولاا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ } وهذا كلام جامع لكل ماورد التكليف به ، وفيه فوائد .
أولها : كلمة « إنَّمَا » للحصر ، ومعناه : إني ما أمرت إلا بعبادة الله تعالى وذلك يدل على أنه لا تكليف ولا أمر ولا نهي إلا بذلك .
وثانيها : أن العبادة غاية التعظيم ، وذلك يدل على أن المرء كلف بذلك .
وثالثها : أن عبادة الله لا تمكن إلا بعد معرفته ولا سبيل إلى معرفته إلا بالدليل وهذا يدل على أن المرء مكلفٌ بالنظر والاستدلال ، في معرفة الصانع وصفاته وما يجب ويجوز ويستحيل عليه .
ورابعها : أن عبادة الله واجبة ، وهي تبطل قول نفاة التكليف ويبطل القول بالجبر المخض .
وخامسها : قوله { ولاا أُشْرِكَ بِهِ } وهذا يدل على نفي الأضداد والأنداد بالكلية ويدخل فيه إبطال قول كل من أثبت معبوداً سوى الله تعالى من الشمس والقمر والكواكب الأصنام والأوثان والأرواح ، وهو على ما يقوله المجوس أو النور والظلمة على ما تقوله الثنوية .
وسادسها : قوله ( إليه أدعو ) أي : كلما وجب عليه الإتيان بهذه العبادات يجب عليه الدعوة إلى [ عبودية ] الله تعالى وهو إشارة إلى الحشر والنشر والبعث والقيامة .
قوله : { ولاا أُشْرِكَ } قرأ نافع في رواية عنه برفع « ولا أشْرِكُ » وهي تحتمل الطقع ، أي : وأنا لا أشرك . وقيل : هي حال .
وفيه نظر؛ لأن المنفي ب « لا » كالمثبت في عدم مباشرة واو الحال .
قوله : { وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً } الكاف في محل نصب ، أي : وكما يسرنا هؤلاء للفرح وهؤلاء لإنكار البعض كذلك { أَنزَلْنَاهُ حُكْماً } و « حُكْماً » حال من مفعول « أنْزلْنَاهُ » .
وقيل : شبه إنزاله حكماً عربياً بما أنزل على من تقدم من الأنبياء أي : كما أنزلنا الكمتب على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بلسانهم كذلك أنزلنا إليك القرآن .
وقيل : كما أنزلنا إليك الكتاب يا محمد فأنكره الأحزاب كذلك أنزلنا الحكم والدين « عربياً » نسب إلى العرب ، لأنه منزل بلغتهم فكذب به الأحزاب ، ولما كان القرِآن مشتملاً على جميع أنواع التكاليف وكان سبباً للحكم جعل نفس الحكم مبالغة .
فصل
قالت المعتزلة : دلت الآية على حدوث القرآن من وجوه :
الأول : أنه تعالى وصفه بكونه منزلاً وذلك لا يليق إلا بالمحدث .
والثاني : وصفه بكونه عربياً ، والعربي هو الذي حصر بوضع العرب واصطلاحهم وما كان كذلك كان محدثاُ .
والثالث : أن الآية دلت على أنه إنما كان حكماً عربياً؛ لأن الله جعله كذلك والموصوف بهذه الصفة محدث .
والجواب : أن كل هذه الوجوه دالة على أن المركب من الحروف والأصوات محدث لانزاع فيه .
قوله : { وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم } روي أن المشركين كانوا يدعونه إلى ملة آبائهم ، فتوعدوه الله على موافقتهم على تلك المذاهب مثل أن يصلي إلى قبلتهم بعد ما حوله الله عنها .
قال ابن عباس رضي الله عنه : الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته .
وقيل : المراد منه حث الرسول عليه الصلاة والسلام على القيام بحق الرسالة وتحذيره من خلافها ، وذلك يتضمن تحذير جميع المكلفين بطريق الأولى .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ } الآية اعمل أن القوم كانوا يذكرون أنواعاً من الشهبات في [ إبطال ] النبوة :
فالشهبة الأولى : قولهم : { مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق } [ الفرقان : 7 ] وهذه الشبهة ذكرها الله في سورة أخرى .
والشبهة الثانية : قولهم : الرسول الذي يرسله الله تعالى إلى الخلق لا بد أن يكون من جنس الملائكة كما قال : { لولاا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } [ الأنعام : 8 ] وقالوا : { لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة } [ الحجر : 7 ] .
الشهبة الثالثة : عابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكثرة الزوجات ، وقالوا لو كان رسولاً من عند الله لما اشتغل بالنسوة بل كان معرضاً عنهن مشتغلاً بالنسك والزهد فأجاب الله عز وجل بقوله { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً } وهذا أيضاً يصلح أن يكون جواباً عن الشبهات المتقدمة فقد كان لسليمان صلوات الله وسلامه عليه ثلاثمائة امرأة ممهرة وسبعمائة سرية ، ولداود صلوات الله وسلامه عليه مائة امرأة .
والشبهة الرابعة : قولهم : لو كان رسولاً من عند الله لكان أي شيء طلبناه منه من المعجزات أتى به ولم يتوقف ، فأجاب الله تعالى عنه بقوله { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } .
الشبهة الخامس : أنه صلوات الله وسلامه عليه كان يخوفهم ينزول العذاب [ وظهور النصرة له ولقومه ، فلما تأخر ذلك احتجوا بتأخره للطعن في نبوته وصدقه ، فأجاب الله تعالى عنه بقوله : { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } يعنى نزول العذاب على الكفار ] وظهور النصر والفتح للأولياء فقضى الله بحصولها في أوقات معينة ولكل حادث وقت معين و { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } فقيل : حضور ذلك الوقت لا يحدث ذلك الحادث ، وتأخر تلك المواعيد لا يدل على كونه كذاباً .
الشبهة السادسة : قالوا : لو كان صادقاً في دعوى الرسالة لما نسخ الأحكام التي نص الله على ثبوتها في الشرائع المتقدمة ، كالتوارة والإنجيل ، لكنه نسخها وحرفها كما في القبلة ، ونسخ أكثر أحكام التوراة والإنجيل ، فوجب أن لا يكون نبياً حقاً .
فأجاب الله تعالى عنه بقوله { يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } ويمكن أيضاً أن يكون قوله : { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } كالمقدمة لتقرير هذا الجةاب ، وذلك لأِنا نشاهد أنه تعالى يخلق حيواناً عجيب الخلقة بديع الفطرة من قطرة من النطفة ، ثم يبقيه مدة مخصوصة ، ثم يميته ويفرق أجزاءه وأبعاضه ، فلما لم يمتنع أن يحيي أولاً ثم يميت ثانياً ، فكيف يمتنع أن يشرع الحكم في بعض الأوقات؟ فكان المراد من قوله { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } ما ذكرنا .
ثم إنه تعالى لما قرر تلك المقدمة قال { يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } أي : أنه يوجد تارة ويعدم أخرى ، ويحيي تارة ويميت أخرى ، ويغني تارة ويفقر أخرى ، فكذلك لا يبعد أن يشرع الحكم تارة ثم ينسخه أخرى بحسب ما تقضيه المشيئة الإلهية عند أهل السنة ، أو بحسب رعاية المصالح عند المعتزلة .
قوله { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } أي : لكل شيء وقت مقدر وقيل : لكل حادث وقت معين قضي الله حصوله فيه كالحياة والموت والغنى والفقر والسعادة والشقاوة ، ولا يتغير البتة عن ذلك الوقت .
وقيل : هذا من المقلوب أي : فيه تقديم وتأخير ، أي : لكل كتاب أجل ينزل فيه ، أي : لكل تاب وقت يعمل به ، فوقت العمل بالتوراة قد انقضى ، ووقت العمل بالقرآن قد أتى وحضر .
وقيل : { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } عند الملائكة ، فللإنسان أحوال :
أولها نظفة ثم علقة ثم مضغة يصير شاباً ثم يصير شيخاً ، وكذلك القول في جميع الأحوال من الإيمان والكفر السعادة والشقاوة والحسن والقبح .
وقيل : لكل وقت مشتمل على مصلحة خفية ومنفعة لا يعملها إلا الله عز وجل فإذا جاء ذلك الوقت حدث الحادث ، ولا يجوز حدوثه في غيره .
وهذه الآية صريحة من أن الكل بقضاء الله وقدره .
قوله : { يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ } قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم : « ويُثْبِتُ » مخففاً من « أثْبَتَ » والباقون بالتشديد والتضعيف ، والهمزة للتعدية ولا يصح أن يكون التضعيف للتكثير ، إذ من شرطه أن متعدياً قبل ذلك ، ومفعول « يُثْبِتُ » محذوف ، أي : ويثبت ما يشاء والمحو : ذهاب أثر الكتابة ، يقال : مَحَاهُ يَمْحُوهُ مَحْواً ، إذا أذهب أثره .
قوله : « ويُثْبِتُ » قال النحويون : ويثبته إلا أنه استغنى بتعدية الفعل الأول عن تعدية الفعل الثاني ، وهو كقوله عز وجل { والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات } [ الأحزاب : 35 ] .
فصل
قال سعيد بن جبير وقتادة « يمحو الله مايشاء » من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله « ويُثْبِتُ » ما يشاء منها فلا ينسخه .
وقال ابن عباس رضي الله عنه : { يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ } الرزق والأجل والسعادة والشقاوة .
وعن ابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا : « يمحو السعادة والشقاوة ويمحو الرزق والأجل ويثبت ما يشاء .
وروي عن عمر رضي الله عنه : أنه كان يطف بالبيت وهو بيكي يقول : » اللهم إن كنت كتبتي في أهل السعادة فأثبتني فيها ، وإن كانت كتبتني في أهل الشقاوة فامحني منها بفضلك وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة ، فإنك تمحو ما تشائ وتثبت وعندك أم الكتاب « .
ومثله عن ابن مسعود وفي بعض الآثار : أن الرجل قد يكون بقي له من عمره ثلاثون سنة ، فيقطع رحمه فيرد إلى ثلاثة أيام ، والرجل قد بقي له من عمره ثلاثة أيام فيصل رحمه فيرد إلى ثلاثين سنة .
روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه سلم :
«
ينْزِلُ اللهُ سبحانه وتعالى في آخر ثلاث سَاعاتِ يبقين من اللَّيل فنظر في الساعة الاولى منهنَّ في أم الكتاب الذي لا نظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت » .
وقيل : الحفظة يكتبون جميع أعمال بني آدم وأقوالهم فيمحوا الله من دويان الحفظة ماليس فيه ثواب ولا عقاب ، كقوله : أكلت . شربت . دخلت . خرجت ، ونحوها من الكلام هو صادق فيه ، ويثبت ما فيه ثواب وعقاب ، قاله الضحاك والكلبي ورواه أبو بكر الأصم لأن الله تعالى قال في وصف الكتاب { لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [ الكهف : 49 ] .
وقال تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 78 ] .
فأجاب القاضي عنه : بأنه لا يغادر من الذنوب صغير ولا كبيرة ، ويمكمن أن يجاب عن هذا : بانكم خصصتم الكبيرة والصغيرة بالذنوب بمجرد اصطلاحكم ، وأمام في أصل اللغة فالصغيرة والكبيرة تتناول كل فعل وعرضٍ ، لأنه إن كان حقيراً فهو صغير وإن ك ان غير ذلك فهو كبير ، وعلى هذا يتناول المباحات .
وقال عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما : « هو الرجل يعمل بطاعة الله ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلاله ، فهو الذي يمحو اوالذي يثبت هو الرجل يعمل بطاعة الله فيموت في طاعته فهو الذي يثبت » .
وقال الحسن : { يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ } أي : من جاء أجله يذهب به ويثبت من لم يجىء أجله إلى أجله .
وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه : يمحو الله ما يشاء : من ذنوب العباد ويغفرها وثبت ما يشاء فلا يغفرها .
وقال عكرمة : ما يشاء من الذنوب بالتوبة ، ويثبت بدل الذنوب حسنات ، كما قال الله تعالى { فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [ الفرقان : 70 ] وقيل غير ذلك .
قوله { وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } أي : أصل الكتاب وهو اللوح المحفوظ الذي لايبدل ولا يغير ، والأم : أصل الشيء ، والعرب تسمي كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أمَّا له ، ومنه أم الرأس للدماغ ، وأم القرى لمكة ، وكد مدينة فهي أمّ لما حولها من القرى .
قال ابن عباس في رواية عكرمة : هما كتابان : كتاب سمي أم الكتاب يمحو ما يشاء منه ويثبت وأم الكتاب لا يغيرمنه شيء ، وعلى هذا فالكتاب الذي يمحو منه ويثبت هو الكتاب الذي تكتبه الملائكة على الخلق .
وعن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهم قال : إن لله لوحاً محفوظاً مسيرة خمسمائة عام من درة بيضاء له دفتان من ياقوت ، لله فيه كل ثوم ثلاثمائة وستون لحظة يمحوا ما يشاء ويثبت { وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } [ وسأل ابن عباس كعباً عن أم الكتاب ] فقال : « علم الله ما خلقه ما هو خالقه إلى كيوم القيامة » .
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)
قوله : { وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ } من العذاب قبل وفاتك { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } قبل ذلك { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ } ليس عليك إلا ذلك { وَعَلَيْنَا الحساب } والجزاء يوم القيامة .
قوله : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ } جواب للشرط قبله . قال أبو حيان : « والذي تقدم شرطان ، لأن المعطوف على الشرط شرط ، فأما كونه جواباً للشرط الأول فلس بظاهر؛ لأنه لا يترتب عليه ، إذ يصير المعنى : وإما نرينك بعض ما نعدهم من العذاب { وَعَلَيْنَا الحساب } وأما كونه جواباً للشرط الثاني وهو { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } فكذلك لأنه يصير التقدير : إنما نتوفينك فإنما عليك البلاغ ولا يترتب جواب التبليغ عليه وعلى وفاته صلى الله عليه وسلم لأن التكليف ينقطع [ عند الوفاة ] فيحتاج إلى تأويل ، وهو أن يقدر لكل شرط ما يناسب أن يكون جزاء مترتباً عليه ، والتقدير : وإما نرينك بعض الذي نعدهم به من العذاب فذلك شافيك من أعدائك أو نتوفينك قبل حلوله بهم ، فلا لوم عليك ولا عتب » .
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } الآية .
لما وعد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بأن يريد بعض ما وعده أو يتوفاه قبل ذلك ، بين ههنا أن آثار حصول تلك المواعيد وعلاماتها قد ظهرت ، فقال { أَوَلَمْ يَرَوْاْ } يعني أن أهل مكة الذي يسألون محمداً عليه الصلاة والسلام الآيات { أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } أكثر المفسرين على أن المراد : فتشح ديار الشرك فإن ما زاد من دار الإسلام قد نقص من دار الشرك؛ لأن المسلمين يستولون على أطراف مكة ويأخذونها من الكفرة قهراً وجبراً ، فانتقاض أحوال الكفرة وازدياد قوة المسلمين من أقوى العلامات على أن الله تبارك وتعالى ينجز وعده فلا يعتبرون بهذا ونظيره قوله تعالى : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الغالبون } [ الأنبياء : 44 ] وقوله تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ } [ فصلت : 53 ] .
وقال قوم : هو خراب الأرض ، أي : أو لم يروا أنا نأتي الأرض فنخربها ، ونهلك أهلها ، أفلا تخافون أن يفعل بكم ذلك؟ وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً : ننقصها من أطرافها ، المراد موت كبرائها وأشرافها وعلمائها وذهاب الصلحاء . قال الواحدي : « وهذا القول وإن احتمله اللفظ إلا أن اللائق بهذا الموضع هو الوجه الأول ، ويمكن أن يقال : هذا الوجه أيضاً لا يليق بهذا الموضع؛ لأن قوله { أَوَلَمْ يَرَوْاْ } أنا نحدث في الدنيا من الاختلافات خراب بعد عمارة ، وموت بعد حياة ، وذل بعد عز ، ونقص بعد كمال ، وإذا كانت هذه التغيرات مشاهدة محسوسة فما الذي يؤمنهم أن الله يقلب الأمر على هؤلاء الكفرة ويصيرهم ذليلين بعد عزهم ومقهورين بعد قهرهم ، فناسب هذا الكلام ماقبله » .
قوله : نَنْقُصهَا « حال إما من فاعل » نَأتِي « أو من مفعوله .
وقرأ الضحاك » نُنَقِّصها « بالتضعيف ، عداه بالتضعيف .
قوله : » لا مُعَقِّبَ « جملة حالية ، وهي لازمة . والمعقب : هو الذي يكرّ على الشيء فيبطله ، قال لبيد : [ الكامل ]
3188 . ...
طَلبُ المُعقِّبِ حَقَّهُ المظْلُومُ
والمعنى : والله يحكم لا رادَّ لحكمه . والمعقب : هو الذي يعقبه بالرد والإبطال ومنه قيل لصاحب الحق معقب؛ لأنه يعقب غريمه بالاقتضاء والطلب كأنه قيل : والله يحكم نافذاً حكمه خالياً عن المدافع والمعارض والمنازع { وَهُوَ سَرِيعُ الحساب } قال بان عباس رضي الله عنه : الانتقام .
قوله : { وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } يعني من قبل مشركي مكمة والمكر : إيصال المكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر { فَلِلَّهِ المكر جَمِيعاً } أي : عند الله جزاء مكرهم .
قال الواحدي رحمه الله : يعني أن مكر جمعي الماكرين حاصل بتخليقه وإرادته لأنه تعالى هو الخالق لجميع العباد والمكر لا يضح إلا بإذنه ، ولا يؤثر إلا بتقديره وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وأمانٌ لهن من مكرهم ، فكأنه قيل : إذا كان حدوث المكر من الله وتأثيره في المأمور به من الله تعالى وجب أن لا يكون الخوف إلا من الله .
ثم قال جل ذكره { يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ } ، أي : أن اكتساب العباد معلوم لله تعالى وخلاف المعلوم ممتنع الوقوع ، وإذا كان كذلك فلا قدرة للعبد على الفعل والترك ، فكان الكل من الله تعالى .
قالت المعتزلة : الآية الأولى إن دلت على قلوكم ، فقوله { يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ } دليل على قولنا ، لأن الكسب هو الفعل المشتمل على دفع مضرة أو جلب منفعة ، ولو كان حدوث الفعل [ بخلق ] الله تعالى لم تكن لقدرة العبد فيه أثر ، فوجب أن لا يكون للعبد فيه كسب .
والجواب : أن جميع القدرة مع الداعي مستلزم للفعل وعلى هذا التقدير فالكسب حاصل للعبد .
ثم إنه تعالى أكد ذلك التهديد فقال جل ذكره { وَسَيَعْلَمُ الكفار } قرأ ابن عامر والكوفيون « الكُفَّار » جمع تكسير والباقون : « الكَافِرُ » بالإفراد ذهاباً إلى الجنس .
وقرأ عبدالله « الكَافِرُونَ » جمع سلامة .
قال الزمخشري : « قرىء : الكَّفارُ والكَافرُون والذين كفرُوا ، والكَافِرُ » .
قال المفسرون : والمراد بالكافر : الجنس ، كقوله تعالى : { إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ } [ العصر : 2 ] .
وقال عطاء رحمه الله تعالى : يريد المستهزئين وهم خمسة ، والمقتسمين وهم ثمانية وعشرون « وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد أبا جهل ، والأول هو الصواب .
قوله : { وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً } الآية لما حكى عن القوم أنهم أنكروا كونه رسولاً من عند الله احتج عليهم بأمرين :
الاول : شهادة الله تعالى على نبوته ، والمراد من تلك الشهادة تعالى أظهر المعجزات على صدقه في ادعاء الرسالة ، وهذا أعظم مراتب الشهادة لأن الشهادة قول يفيد غلبة الظن ، وإظهار المعجزة فعل مخصوص يوجب القطع بكونه رسولاً من عند الله ، فكان إظهار المعجزة أعظم مراتب الشهادة .
والثاني : قوله { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } العامة على فتح ميم » مَنْ « وهي موصولة ، وفي محلها أوجه :
أحدها : أنها مجرورة المحل نسقاً على لفظ الجلالة ، أي : بالله وبمنْ عِندْهُ علمُ الكتابِ كعبد الله بن سلام ونحوه .
والثاني : أنها في محل رفع عطفاً على محل الجلالة ، إذ هي فاعلة ، والباء مزيدة فيها .
والثالث : أن يكون مبتدأ وخبره محذوف ، أي : ومن عنده علم الكتاب أعدل وأمضى قولاً ، و { عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } يجوز أن يكون الظرف صلة و » عِلْمُ « فاعل به ، واختاره الزمخشري وتقدم تقريره .
وأن يكون مبتدأ ، وما قبله الخبر ، والجملة صلة ل « مَنْ » .
والمراد بمن عنده علم الكتاب : ابن سلام ، أو جبريل عليه الصلاة والسلام .
قال ابن عطية : « ويعترض هذا القول بأن فيه عطف الصفة على الموصوف ولا يجوز وإنما يعطف الصفات » .
فاعترض أبو حيان عليه : بأن « مَنْ » لا يوصف بها ولا يغيرها من الموصولات إلا ما استثني ، وبأن عطف الصفات بعضها على بعض لا يجوز إلا بشرط الاختلاف .
قال شهاب الدين : نما عنى ابن عطية الوصف المعنوي لا الصناعي ، أما شرط الاختلاف فمعلوم .
وقرأ أبيّ وعلي وابن عباس وعكرمة وعبدالرحمن بن أبي بكرة والضحاك وابن أبي إسحاق ومجاهد رضوان الله عليهم في خلق كثير { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } جعلوا « من » حرف جر ، و « عنده » مجرور بها ، وهذا الجار خبر مقدم ، و « عِلْمُ » مبتدأ مؤخر ، و « منْط لابتداء الغاية أي : ومن عند الله حصل علم الكتاب .
وقرأ علي أيضاً والحسن وابن السميفع { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } يحعلون » من « جارة ، و » عُلِمَ « مبنياً للمعفول و » الكِتابُ « رفع بهن . وقرىء كذلك؛ إلا أنه بتشديد » عُلِّمِ « والضمير في » عِنْده « على هذه القراءات لله تعالى فقط .
وقرىء أيضاً : » وبِمَن « بأعادة الباء الداخلة على » مَنْ « عطفاتً على [ » باللهِ « ] .
فصل
على هذه القراءة الأولى المراد : شهادة مؤمني أهل الكتاب ، كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري . وقال أبو البشر : قلت لسعيد بن جبير : { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } أهو عبد الله بن سلام؟ ، فقال : وكيف يكون عبدالله بن سلام وهذه السورة مكية ، وهو ممن آمنوا بالمدينة بعد الهجرة؟ .
وأجيب : بأن هذه السورة وإن كانت مكية إلا إن هذه الآية مدنية .
ويعترض هذا أيضاً : بأن إثبات النبوة بقول الواحد والاثنين مع كونهما غير معصومين لا يجوز .
وقال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير والزجاج { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } هو الله سبحانه وتعالى .
وقال الأصم : { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } أي : ومن عنده علم القرآن .
والمعنى : أن الكتاب الذي جئتكم به معجز قاهر ، إلا أنه لا يحصل العلم بكونه معجزاً إلا لمن علم ما فيه من الفصاحة والبلاغة واشتماله على الغيوب وعلى العلوم الكثيرة فمن عرف هذا الكتاب من هذا الوجه دل على كونه معجزاً .
وقيل : { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } أي : الذي حصل عنده علم التوارة والإنجيل يعني كل من كان عالماً بهذين الكتابين علم اشتمالهما على البشارة بمقدم محمد صلوات الله وسلامه عليه فإذا انصف ذلك العالم ولم يكذبه كان ذلك شاهداً على أن محمداً رسول حق من عند الله صلوات الله وسلامه عليه .
وأما معنى القراءة الثانية : أي : أن أحداً لا يعلم الكتاب إلا من فضل وإحسانه وتعليمه ، والمراد العلم الذي هو ضل الجهل .
وأما القراءة على مالم يسم فاعله ، فالمعنى : أنه تعالى لما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحتج عليهم بشهادة الله على نبوته ، وكان لا معنى لشهادة الله على نبوته إلا إظهار القرآن على وفق دعواه ، ولا يعلم كون القرآن معجزاً إلا بعد الإحاطة بمعاني القرآن وأسراره ، بين الله تعالى أن هذا العلم لا يحصل إلا من عند الله ، والمعنى : أن الوقوف على كون القرآن معجزاً لا يحصل إلا لمن شرفه الله من عباده بأن يعلمه علم القرآن .
روى ابن عباس عن أبي بن كعب رضي الله عنهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « مَنْ قَرَأ سُورةَ الرَّعدِ أعْطيَ مِنَ الأجْرِ عَشْر حَسنَاتٍ بِوزْنِ كُلِّ سَحابٍ مَضَى وكُلِّ سَحابِ يكُونُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ ، وكَانَ يَوْمَ القِيامَةِ مِنَ المُوفِينَ بِعهْدِ اللهِ عزَّ وجلَّ سُبحَانهُ لا إلهَ إلاَّ هُوَ المَلِكُ الحقُّ المُبِينُ » .
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)
قوله تعالى : { الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ } يجوز أن يرتفع « كِتابٌ » على أنَّه خبر ل « الر » : إن قلنا : إنَّها مبتدأ ، والجملة بعد صفة ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي : هذا ، وأن يرتفع بالابتداء خبره الجملة بعده ، وجاز الابتجاء بالنكرة؛ لأنَّها موصوفة تقديراً ، تقديره : كتماب ، أي : كتاب يعني عظيماً من بين الكتب السماوية .
قالت المعتزلة : النَّازلُ ، والمنزلُ لا يكون قديماً .
والجواب : أنَّ الموصوف بالمنزل هو هذه الحروف وهي محدثةٌ .
قوله : { لِتُخْرِجَ الناس } متعلق ب « أنْزَلناهُ » . وقرىء ( ليَخْرُجَ الناس ) بفتح الياءِ وضمِّ الراء ، من خَرَجَ يَخْرُجُ . « النَّاسُ » رفعاً على الفاعليَّة .
قالت المعتزلة : اللاَّم في « لِتُخْرِجَ » لام الغرض والحكمة ، تدلُّ على أنه تعالى إنما أنزل هذا الكتاب لهذا الغرض ، فدل على أنَّ أقوال الله تعالى وأفعاله معللة برعاية المصالح .
وأجيب : بأن من فعل فعلاً لأجل شيءٍ أخر ، فهذا إنَّما يفعله إذا كان عاجزاً عن تحصيل ذلك المقصود إلاَّ بهذه الواسطة ، وذلك محالٌ في حقِّ الله تعالى ، وإذا ثبت بالدَّليل منع تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بالعلل؛ ثبت أنَّ كل ظاهر أشعر به فهو مؤول على معنى آخر .
فصل
قوله تعالى : { مِنَ الظلمات } أي : لتدعوهم من ظلمات [ الظَّلال ] إلى نُورِ الإيمان .
قال القاضي رحمه الله : هذه الآية تبطل القول بالجبر من جهات :
أحدها : أنَّه تعالى لو خلق الكفر في الكافر ، فكيف يصحُّ إخراجه منه الكتاب .
وثانيها : أنَّه تعالى أضاف الإخراج من الظُّلمات إلى النور إلى الرَّسُول عليه الصلاة والسلام فإن كان خالق الكفر هو الله تعالى فكيف يصحُّ من الرسول صلوات الله وسلامه عليه إخراجهم منه ، وكان للكافر أن يقول : إنَّك تقول : إن الله خلق الكفر فينا فكيف يصحُّ منك أن تخرجنا؟ .
فإن قال لهم : أنا أخرجكم من الظُّلماتِ التي هي كفر مستقبل لا واقع فلهم أن يقولوا : إنه كان الله سيخلقه فينا لم يصح ذلك الإخراج ، وإن لم يخلقه الله فنحن خارجون منه بلا إخراج .
وثالثها : أنه صلواتُ الله وسلامه عليه إنَّما يخرجهم من الكفر بالكتاب بأن يتلوه عليه ليتدبروهن؛ ولينظروا فيه فيعلموا بالنَّظر ، والاستدلال كونه تعالى علماً قادراً حكيماً ، ويعلموا بكون القرآن معجزة صدق الرسول صلوات الله وسلامه عليه فحينئذ يقبلوا منه كلَّ ما جاءهم من الشَّرائع ، وذلك إنَّما يكون إذا كان الفعل ويقع باختيارهم ، ويصحُّ منهم أن يقدموا عليه ويتصرَّفوا فيه .
والجواب عن الكل : أن يقال : الفعل الصادر من العبد .
إمَّا أن يصدر عنه حال استواء الدَّاعي إلى الفعل والترك .
أو حال رجحان أحد الطرفين على الآخر .
والأول باطل؛ لأنَّ صدور الفعل يقتضي رجحان جانب الوجودِ على جانب العدم وحصول الرُّجحان حال حصول الاستواء محال ، والثاني عين قولنا؛ لأنَّه يمتنع صدور الفعل عنه ألاَّ بعد حصول الرجحان ، فإن كان ذلك الرجان منه عاد السؤال ، وإن لم يكون منه بل من الله ، فحينئذ يكون المؤثر الأول هو الله تعالى وهو المطلوب .
قوله : { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } يجوز أن يتعلق بالإخراج ، أي : بتيسيره وتسهيله ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنَّه حالٌ من فال : « يُخْرِجُ » أي : مأذوناً لك .
وهذا يدلُّ على أنَّ فعل العبد مخلوق لله تعالى ، فإنَّ قوله : { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } معناه : أنَّ الرسول صلوات الله وسلامه عليه لا يمكنه إخراج النَّاس من الظلمات إلى النُّور إلا بإذن الله تعالى .
والمراد بهذا الإذن : إما الأمر وإما العلم وإما المشيئة والخلق ، وحمل الإذن على الأمر محالٌ ، لأنَّ الإخراج من الجهلِ إلى العلم لا يتوقف على الأمر فإنَّهُ سواء حصل الأمر أم لم يحصل ، فإنَّ الجهل متميزٌ على العلم ، والباطل متيمزٌ عن الحقّ .
وأيضاً : حمل الإذن على العلم محال؛ لأنَّ العلم يتبع المعولم على ماهو عليه فالعلمُ بالخروج من الظُّلمات إلى النُّور تابع لذلك الخروج ، ولا يمتنع أن يقال : إن حصول ذلك الخروج تابع للعلم بحصول ذلك الخروج ، ولما بطل هذان القسمان لم ببق إلا أن المراد من الإذن : المشيئة ، والتخليق ، وذلك يدلُّ على أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه لا يمكنه إخراج النَّاس من الظللمات إلى النُّور إلاَّ بمشيئة الله تعالى .
فإن قيل : لِمَ لا يجوز أن يكون المراد من الإذن الإلطاف؟ .
فالجواب : لفظ الإذن مجمل ، ونحن نفصل القول فيه .
فنقول : المراد بالإذن إمَّا أن يكون أمراً يقتضي رجحان جانب الوجود على جانب العدم ، أو لا يقتضي ذلك ، فإنَّ كان الثاني لم يكن له فيه أثر ألبتة ، وامتنع أن يقال : إنه إنَّما حصل بسببه ، ولأجله فبقي الأول ، وهو أنَّ المراد من الإذن معنى يقتضي رجحان ترجيح جانب الوجود على جانب العدم ، ومتى حص الرجحان فيه حصل الوجود ولا معنى لذلك إلا الداعية الموجبة وهو قولنا .
فصل
دلّت الآية على أنَّ طرق الكفر ، والضلالات كثيرة ، وأنَّ طريق الحقّ ليس إلاَّ واحداً؛ لأنَّ الله تعالى عبر عن الجهلِ ، والكفر بالظلمات ، وهي صيغة جمع ، وعبَّر عن الإيمان والهداية بالنُّور وهو لفظ مفردٌ .
قوله : { إلى صِرَاطِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه بدلٌ من قوله « إلى النُّورِ » بإعادة العامل ، ولا يضر الفصل بالجارّ؛ لأنه من معمولات العامل في المبدل منه .
والثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنَّه جواب سؤال مقدَّر ، كأنه قيل : إلى أيِّ نورٍ؟ فقيل : « إلى صِرَاطِ » ، والمراد بالصِّراط : الدّين والعزيز هو الغالب و « الحَمِيدِ » المستحق للحمد .
وقد قكر العزيز على ذلك الحميدِ؛ لأنَّ أول العلم بالله العلم بكونه تعالى قادراً ، ثمَّ بعد ذلك يعلم كونه عالماً ، ثمَّ بعد ذلك يعلم كونه غنيًّا عن جميع الحاجات والعزيز هو القادر ، والحميدُ هو العالم الغنيّ؛ فلذلك قدّم ذكر « العَزيز » على ذكر « الحَميد » .
قوله : { الله الذي } قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر برفع الجلالة والباقون بالجر ورواها الأصمعي ، وكان يعقوب إذا وصل خفض .
وأما الرفع فعلى وجهين :
أحدهما : أنه مبتدأ خبره الموصول بعده ، أو محذوف ، تقديره : الله الذي له ما في السموات ، وما في الأرض العزيز الحميد ، حذف لدلالة ما تقدَّم .
والثاني : أنَّه خبر لمبتدأ مضمر ، أي : هو الله ، وذلك على المدح ، وأمَّا الجرّ فعلى البدلِ عند أبي البقاءِ ، والحوفي ، وابن عطيَّة والبيان عند الزمخشري قال : « لأنه جرى مجرى الأسماء لغلبته على المعبود بحقّ ، كالنَّجم للثُّريَّا » .
قال أبو حيان : « وهذا التعليل لا يتمُّ إلاَّ أن يكون أصله » الإله « ثم فعل فيه ما تقدم أول الكتاب » .
وقال ابن عصفور : « لا تقدّم صفة على موصوف إلاَّ حيث سمع » وهو قليل ، وللعرب فيه وجهان :
أحدهما : أن تتقدم الصفة بحالها ، وفيه إعرابان للنحويين :
أحدهما : أن يعرب صفة متقدمة .
والثاني : أن يجعل الموصوف بدلاً من صفته .
والثاني : من الأولين أن تضيف الصفة إلى الموصوف ، فعلى هذا يجوز أن يعرب « العَزيزِ الحَميدِ » صفة متقدمة . ومن مجيء تقديم الصفة قوله : [ البسيط ]
3189
والمُؤمِنِ العَائذَاتِ الطَّيْر يَمْسحُهَا ... رُكْبَانُ مكَّة بَيْنَ الفيْلِ والسَّعَدِ
وقل الآخر : [ الرجز ]
3190
وبِالطَّوِيلِ العُمْرِ عُمْراً حَيْدَار ... يريد : الطير العائذات ، وبالعمر الطويل .
قال شهابُ الدِّين رحمه الله : « وهذا فيما لم يكن الموصوف نكرة ، أمَّا إذا كان نكرة فتنصب تكل الصفة على الحال » .
قال ابن الخطيب : « اللهُ » اسم علم لذاته المخصوصة وإذا كان كذلك ، فإذا أردنا أن نذكر الصفات ذكرنا أولاً قولنا : « اللهُ » ، ثم وصفناه كقوله : { هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغيب والشهادة هُوَ الرحمن الرحيم } [ الحشر : 22 ] الملكل القدُّوسُ ، ولا يمكمننا أن نعكس الأمر فنقول : هو الرحمن الرحيم الله ، فعلمنا أنَّ « اللهَ » اسم علم للذَّات المخصوصة ، وسائر الألفاظ دالة على الصِّفات .
وإذا ظهرت هذه المقدمة فالترتيب الحسن : أن يذكر الاسم ثم يذكر عقيبه الصفات ، كقوله : { هُوَ الله الخالق البارىء المصور } [ الحشر : 24 ] فأمَّا أن تعكس فتقول : هو الخالق المصور البارىء الله ؛ فذلك غير جائز ، وإذا ثبت هذا فنقول : الذين قرؤوا برفع الجلالة على أنَّه مبتدأ ، وما بعده خبر هو الصحيح ، والذين قرءوا بالجرِّ إتباعاً لقوله : { العزيز الحميد } مشكل لما بيِّنا من أنَّ الترتيب الحسن أن يقال : الله الخالق ، وعند هذا اختلفوا في الجواب :
فقال أبو عمرو بن العلاء : القراءةُ بالخفض على التَّقديم ، والتَّأخير ، والتقدير : صراط الله العزيز الحميدِ الذي له ما في السموات [ والأرض ] .
وقيل : لا يبعد أن تذكر الصفة أولاً ثمَّ يذكر الاسم ، ثم تذكر الصِّفة مرة أخرى كما يقال : الإمام الأجلّ محمد الفقيه ، وهنو بعينه نظير قوله : { صِرَاطِ العزيز الحميد الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } .
وتحقيق القول فيه : أنَّا بيَّنا أن الصِّراط إنَّما يكون ممدوحاً محموداً إذا كانا صراطاً للعالم القادر الغنيّ ، والله تعالى عبَّر عن هذه الأمور الثلاثة بقوله : { العزيز الحميد } فوقعت الشبهة في أن ذلك : { العزيز الحميد } من هو؟ فعطف عليها قوله { الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } إزالة لتلك الشُّبهة .
قوله : « وَويْلٌ » مبتدأ ، وجاز الابتداء به؛ لأنه دعاء ك « سَلامٌ عَليكُمْ » ، و « لِلْكافِرينَ » خبره ، و « مِنْ عذَابٍ » متعلِّق بالويلِ .
ومنعه أبو حيَّان؛ لأنَّه يلزمُ منه الفصل بين المصدر ومعموله ، وهو ممنوعٌ حيث يتقدَّم المصدر بحرف مصدري وفعل ، وقد تقدم .
ولذلك جوزوا تعلق « بِمَا صَبرْتُمْ » ب { سَلاَمٌ } [ الرعد : 24 ] ، ولم يعترضوا عليه بشيءٍ ، ولا فرق بين الموضعين .
وقال الزمخشريُّ : « فإن قلت : ما وجه اتِّصالِ قوله : { مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } بالويل؟ قلت : لأنَّ المعنى يولولون من عذاب شديد » .
قال أبو حيان : فظاهر يدلُّ على تقدير عامل يتعلق به { مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } .
ويجوز أن يتعلق بمحذوفٍ؛ لأنه صفة للمبتدأ ، وفيه سلامة من الاعتراض المتقدم ولا يضر الفصل بالخبر .
فصل
والمعنى : أنَّهم لما تركوا عبادة الله المالك للسموات ، والأرض ، وكل ما فيها وعبدوا ما لا يملك نفعاً ، ولا ضرَّا ، ويُخلَقُ ، ولا يَخْلِقُ ، ولا إدراك له ، فالويل كل الويل لمن هو كذلك ، وإنما خصه بالويل ، لأنهم يولولون من عذابٍ شديدٍ ، ويقولون : يا ويلاه نظيره قوله تعالى : { دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } [ الفرقان : 13 ] ثم وصفهم الله تعالى بثلاثة أنواع :
الأول : قوله : { الذين يَسْتَحِبُّونَ } يجوز أن يكون مبتدأ ، خبره : « أوْلئِكَ » وما بعده .
وأن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي هم الَّذينَ .
وأن يكون منصوباً بإضمار فعل على [ المدح ] فيهما .
وأن يكون مجروراً على البدل ، أو البيان ، أو النعت ، قاله الزمخشريُّ ، وأبو البقاء والحوفي وغيرهم .
ورده أبو حيان : بأن فيه الفصل بأجنبيّ ، وهو قوله جل ذكره { مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } قال : « ونظيره إذا كان صفة أن تقول : الدَّارُ لِزيدِ الحَسنةُ القُرشِي وهذا لا يجوز ، لأنك فصلت بين » زَيْدٍ « وصفته بأجنبي منهما ، وهو صفة الدَّار وهو لا يجوز ، والتركيب الصحيح أن تقول : الدَّارُ الحسنةُ لزيدٍ القُرشيِّ ، أو الدَّارُ لزَيدٍ القُرشي الحَسنَةُ » .
و « يَسْتحِبُّونَ » استفعل فيه بمعنى أفْعَلَ ، كاسْتَجابَ بمعنى أجَابَ ، أو يكون علتى بابه ، وضمن معنى الإيثار ، ولذلك تعدّى ب « عَلَى » .
وقرأ الحسن : « يُصدُّونَ » بضم الياء من « أصَدَّ » ، و « أصَدَّ » منقولٌ من « صَدَّ » اللازم ، والمفعول محذوف ، أي : غيرهم أو أنفسهم ، ومنه قوله : [ الطويل ]
3191
أنَاسٌ أصَدُّوا النَّاسَ بالسَّيْفِ عَنهُمْ .. . .
{
وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } تقدم مثله [ آل عمران : 99 ] .
قوله تعالى : { الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا عَلَى الآخرة } فيه إضمار تقديره : يستحبّون الحياة الدنيا ، ويؤثرونها على الآخرة؛ فجمع تعالى بين هذين الوصفين ليبين بذلك أن الاستحباب للدُّنيا وحده لا يكون مذموماً إلاَّ أن يضاف إليه إيثارها على الآخرة ، [ وأما ] من أحبَّها ليصل بها إلى منافع النَّفس بثوابِ الآخرة؛ فذلك لا يكونُ مذموماً .
والنوع الثاني من أوصاف الكفار : قوله عزَّ وجلَّ { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } أي : يمنعوا النَّاس من قبول دين الله .
والنوع الثالث من تلك الصفات قوله : { وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } . واعلم انَّ الإضلال على مرتبتين .
الأولى : أن يسعى في صدّ الغير .
والثانية : أن يسعى في إلقاء الشُّكوكِ ، والشبهات في المذهب الحق ، ويحاول تقبيح الحق بكل ما يقدر عليه من الحيلِ ، وهذا هو النهاية في الضلال ، والإضلال ، وإليه أشار بقوله : { وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } .
قال الزمخشريُّ : « الأصل في الكلام أن يقال : ويبغون لها عوجاً؛ فحذف الجار وأوصل الفعل » .
وقيل : الهاء راجعة إلى الدُّنيا معناه : يطلبون الدُّنيا على طريق الميل عن الحق ، أي : بجهة الحرام .
ولما ذكر الله تعالى هذه المراتب قال في وصفهم : { أولئك فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } وإنَّما وصف الله تعالى هذا الضلال بالبعد لوجوهٍ :
الأول : أنَّ أقصى مراتب الضلال هو البعد عن الطريق الحقّ ، فإنَّ شرط الضدين أن يكونا في غاية التَّباعدِ كالسَّواد ، والبياض .
الثاني : أن المراد بعد ردّهم عن الضَّلال إلى الهدى .
الثالث : أن امراد بالضَّشلال : الهلاك ، والتقدير : أولئك في هلاك يطُولُ عليهم فلا ينقطع ، وأراد بالبعد : امتداده وزوال انقطاعه .
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
قوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ } الآية لما ذكر في أوّل السورة : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور } [ إبراهيم : 1 ] فكان هذا إنعاماً من الله على الرسول من حيث إنَّه فوض إليه صلوات الله وسلامه عليه هذا الأمر العظيم وإنعاماً على الخلقِ حيثُ أرسل إليهم من خلصهم من ظلمات الكفر [ إلى الرشد ] ، وأرشدهم إلى نور الإيمان . ذكر في هذه الآية ما يجري مجرى تعهد النعمة ، والإحسان في الوجيهن؛ أمَّا بالنسبة إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه ؛ فلأنه تعالى بين أنَّ سائر الأنبياء عليه الصلاة و السلام أجمعين كانوا مبعوثين إلى قومهم خاصة ، وأنت يا محمد فمبعوث إلى عالم البشر ، فكان هذا الإنعام في حقك أفضل وأكمل ، وأما بالنسبة إلى عامة الخلق فهو أنه تعالى ما بعث رسولاً إلى قوم إلا بلسانهم ليسهل عليهم فهم تلك الشريعة فهذا وجه النظم .
قوله : { إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ } يجوم أن يكون حالاً ، أي : إلاَّ [ متكلماً ] بلغة قومه .
قال القرطبي : « وحَّد اللسان ، وإن أضافه إلى القوم؛ لأن المراد به اللغة فهو اسم حنسٍ يقع على القليلِ ، والكثير » .
وقرأ العامة : « بلِسانِ » بزنة كتابِ ، أي : بلغةِ قومهِ . وقرأ أبو الجوزاء وأبو السمالِ وابو عمران الجوني : بكسر اللام وسكون السين ، وفيه قولان :
أحدهما : أنَّهما بمعنى واحد ، كالرِّيشِ والرِّياش .
والثاني : أنَّ اللسان يطلق على العضو المعروف وعلى اللغةِ ، وأمَّا اللِّسنُ فخاص باللغة ، ذكره ابن عطيَّة ، وصاحب اللَّوامح .
وقرأ أبو رجاء ، وأبو المتوكل ، والجحدريُّ : بضم اللام والسين ، وهو جمع لِسَان كَكِتَاب وكُتُب ، وقرىء بسكون السين فقط ، وهو تخفيفٌ للقراءة قبله ، نحو « رُسْل في رُسُل » ، و « كُتْب » في « كُتُب » ، والهاء في « قَوْمِهِ » الظاهر عودها على « رَسُولٍ » المذكور وعن الضحاك أنَّها تعود على محمد صلوات الله وسلامه عليه وغلطوه في ذلك إذ يصير المعنى : إنَّ التوراة وغيرها أنزلت بلسان العرب ليبين لهنم النبي عليه الصلاة والسلام التوراة .
فصل
احتجَّ بعضهم بهذه الآية على أنَّ اللُّغات اصطلاحية ، فقال : لأنَّ التوقيف لجميع الرسل لا يكون إلاَّ بلغة قوم ، وذلك يقتضي تقدُّم حصول اللغات على إرسال الرسل ، وإذا كان كذكل؛ امتنع حصول تلك اللغات بالتوقيف؛ فوجب حصولها بالاصطلاح .
ومعنى الآية : وما أرسلنا من رسولٍ إلاَّ بلغة قومه .
فإن قيل : هذه الآية تدلُّ على أنَّ النبي المصطفى صلوات الله وسلامه عليه إنَّما بُعِثَ للعرب خاصة ، فكيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله صلى الله عليه وسلم :
«
وبُعِثْتُ إلى النَّاس عَامَّة » .
فالجواب : بُعِثَ إلى العرب بلسانهم والناس تبعٌ لهم ، ثم بعث الرُّسلُ إلى الأطلاف يدعوهم إلى الله تعالى ويترجمون لهم بألسنتهم .
وقيل : المراد من قومه أهل بلدته ، وليس المراد من قومه أهنل دعوته بدليل عموم الدعوة في قوله : { قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } [ الأعراف : 158 ] وإلى الجنّ أيضاً؛ لأن التَّحدي ثابت لهم في قوله تعالى : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن } [ الإسراء : 88 ] .
قال القرطبي : « ولا حجة للعجم ، وعغيرهم في هذه الآية؛ لأنَّ كل من ترجم له ما جاء به النبي صلوات الله وسلامه عليه ترجمةً يفهمها لزمته الحجة وقد قال الله عز وجل { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً } [ سبأ : 28 ] ، وقال عليه الصلاة والسلام : » أرْسلَ كُلُّ نبي إلى أمَّتهِ بِلسَانهَا وأرْسَشلنِي اللهُ إلى كُلِّ أحْمَرَ وأسْودَ مِنْ خَلْقِهِ « .
وقال صلى الله عليه وسلم : » لا يَسْمعُ بِي أحَدٌ مِنْ هَذهِ الأمَّة يَهُوديّ ، ولا نَصْرانِيّ ثُمَّ لَمْ يُؤمِنْ بالَّذي أرسِلْتُ بِهِ إلاَّ كَانَ مِنْ أصْحَابِ النَّارِ « وخرجه مسلم رحمه الله .
فصل
زعمت طائفة من اليهود يقال لهم : [ العيسوية ] أنَّ محمداً رسول الله ولكن إلى العرب خاصة ، وتمسكوا بهذه الآية من وجهين :
الأول : أنَّ القرآن لما نزل بلغة العرب لم يعرف كونه معجزة بسبب ما فيه من الفصاحة إلا العرب ، فلا يكون القرآن حجة إلاَّ على العربِ ، ومن لم يكن عربياً لم يكن القرآن حجة عليه؛ لأنه ليس بمعجزة في حقه لعدم علمه بفصاحته .
الثاني : قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ } ، ولسانه لسان العرب فدلَّ على أنَّه ليس له قوم سوى العرب .
والجواب ما تقدَّم في السُّؤال قبله .
قوله : » فَيُضِلُّ « استنئاق إخبار ، ولا يجوز أن نصبه عطفاً على ما قبله؛ لأنَّ المعطوف كالمعطوف عليه في المعنى ، والرسل أرسلت للبيان لا [ للإضلال ] .
قال الزجاج : » لو قرىء بنصبه على أنَّ اللاَّم لام العاقبة جاز « .
قوله : { فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الحكيم } تمسّك أهل السُّنَّة بهذه الآية على أنَّ الهداية ، والضلال من الله سبحانه وتعالى جل ذكره .
قالوا : وممَّا يؤكد هذا المعنى أن أبا بكرٍ ، وعمر رضوان الله عنهما وعن الصَّحابة أجمعين أقبلا في جماعة من الناس ، وقد ارتفعت أصواتهما ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما هذا؟ فقال بعضهم يا رسول الله : يقول أبو بكرٍ : الحسنات من الله ، والسيئات من أنفسنا ويقول عمر : كلاهما من الله ، وتبع بعضهم أبا بكر ، وتبع بعضهم عمر ، فتعرف الرسول ما قاله أبو بكر رضي الله عنه وأعرض عنه حتى عرف في وجهه ، ثم أقبل على عمر رضي الله عنه فتعرف ما قاله ، وعرف السرور في وجهه ، فقال صلوات الله وسلامه عليه : » أقضي بينكما كما قضي إسرافيل بين جبريل وميكائيل صلوات الله وسلامه عليه عليهما فقال جبريلُ مثل مقالتك يا عمر ، وقال ميكائيل مثل مقالتك يا أبا بكرٍ ، فقضاء إسرافيل صلوات الله عليه أن القدر كله خيره وشره من الله تعالى وهذا قضائي بينكما؟ .
قالت المعتزلة : لا يمكن أجراءُ هذه الآية على ظاهرها لوجوه :
الأول : أنه تبارك وتعالى قال : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } أي : ليبين لهم التكاليف بلسانهم فيكون إدراكهم لذلك التبيان أسهل ووقوفهم على الغرض أكمل وهذا الكلامُ إنَّما يصحُّ إذا كان مقصود الله تعالى من إرسال الرَّسول صلوات الله وسلامه عليه حصول الإيمان للمكلفين ، فلو كان مقصوده الإضلال ، وخلق الكفر فيهم لم يكن ذلك الكلام ملائماً لهذا المقصود .
والثاني : أنَّه عليه الصلاة والسلام إذا قال لهم : إنَّ الله يخلقُ الكفر والإضلال فيكم ، فهلم أن يقولوا : فما لنبوتك فائدة ، وما المقصود من إرسالك؟ وهل يمكننا أن نزيل كفراً خلقه الله فينا؟ وحينئذ تبطل دعوة النبوة ، وتفسد بعثة الرسل .
الثالث : إذا كان الكفر حاصلاً بتخليق الله تعالى وميشئته ، فيجب أن يكون الرضا به واجباً؛ لأن الرِّضا بقضاء الله واجب ، وذلك لا يقوله عاقل .
الرابع : أنَّ مقدمة الآية ، وهي قوله جل ذكره { لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور } [ إبراهيم : 1 ] يدلُّ على العدل ، وأيضاً مؤخر الآية يدلُّ عليه وهو قوله جلَّ ذكره { وَهُوَ العزيز الحكيم } فكيف يكون حكيماً من كان خالقاً للكفر والقبائح؛ فثبت بهذه الوجوه أنَّه لا يمكن جعل قوله : { فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } دليل على خلق الكفر في العبد ، فوجب المصير إلى التأويل وهو من وجوه :
الأول : المراد من الإضلال هو الحكم بكونه ضالاًّ كما يقال : فلانٌ يُكفِّرُ فُلاناً ويضله أي : يحكمُ بكونه كافر ضالاً .
والثاني : أنَّ الإضلال عبارة عن الذهاب بهم عن طريق الجنَّة إلى النَّار .
والثالث : أنَّه يقال : إنه تعالى لما ترك الضّال على ضلاله ، ولم يتعرض له فكأنه أضله والمهتدي أنَّه بالألطاف صار كأنه هداه .
قال الزمخشري : « والمراد بالإضلال التخلية ، ومنع الإلطاف وبالهداية : اللّطف ، والتَّوفيق » .
قال ابن الخطيب رحمه الله : « والجواب قوله عزَّ وجلَّ { لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } لا يليق به أن يضلهم .
قلنا قال الفراء : إذا ذكر فعل ، وبعده آخر ، فإن كان الفعل الثَّاني مشاكلاً للأول نسقه عليه ، وإن لم يكن مشاكله ، استأنفه ورفعه ، نظيره :
{
يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ ويأبى الله } [ التوبة : 32 ] وفي موضع رفع لا يجوز إلا ذلك؛ لأنَّه لا يحسن أن يقال : يريدون أن يأبى الله ، فلما لم يكن وضع الثاني في موضع الأول بطل العطف .
ونظيره أيضاً قوله : { لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرحام } [ الحج : 5 ] ومن ذلك قولهم : « أردت أن أزُوركَ فمَنعَنِي المطرُ » بالرفع غير منسوق على ما قبله كما ذكرناه؛ ومثله قول الشاعر : [ الرجز ]
3192
يُرِيدُ أنْ يُعْربَهُ فيُعْجِمُهْ ... وإذا عرفت هذا فنقول : ههنا قال الله تعالى : { لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } ثمَّ قال : { فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } ذكر : « فَيُضِلُّ » بالرفع فدلَّ على أنَّه مذكور على سبيل الاستئناف وأنه غير معطوف على ما قبله ، وتقديره من حيث المعنى كأنَّه قال عزَّ وجلَّ : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليكون بيانه لهم الشرائع بلسانهم الذي ألفوه واعتادوه ، ثم قال : ومع أنَّ الأمر كذلك فإنَّه تعالى يضلّ من يشء ، ويهدي من يشاء ، والغرضُ منه : التنبيه على أن تقوية البيان لا توجب حصول الهداية ، وإنما كان الأمر كذلك؛ لأنَّ الهداية ، والضلال لا يحصلان إلاَّ من الله تعالى .
وأما قولهم : لو كان الضلال حاصلاً بخلق الله تعالى لكان للكافر أن يقول : ما الفائدة في نبوتك ودعوتك؟ فالخَصْم يُسلِّم أن هذه الآيات إخبار عن كونه ضالاًّ فيقول له الكافر : لما أخبر إلهك عن كوني كافراً فإن آمنت صار إلهك كاذباً ، وهل أقدر على جعل علمه جهلاً؟ وإذا لم أقدر عليه ، فكيف يأمرني بهذا الإيمان؟ فالسؤال وارد عليه .
وأما قولهم ثالثاً : يلزم أن يكون الرضا بالكفر واجباً؛ لأنَّ الرِّضا بقضاء الله واجب قلنا : ويلزمُ أيضاً على مذهبك أن يكون السعي في تكذيب الله وفي تجهيله واجباً؛ لأنَّه تعالى لما أخبر عن كفره ، وعلم كفره ، فإزالته الكفر عن قلب علمه جهلاً ، وخبره الصدق كذباً ، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ؛ فيلزمك على مذهبك ، وهذا أشد استحالة ممَّا ألزمته علينا .
وأمَّا قولهم رابعاً : إن مقدمة الآية ، و هو قوله تعالى : { لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور } [ إبراهيم : 1 ] يدلُّ على صحَّة الاعتزال .
فنقول : قد ذكرنا أن قوله : { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } [ إبراهيم : 1 ] يدلُّ على صحَّة مذهب أهل السنة .
وأما قولهم خامساً : إنَّه تعالى وصف نفسه في آخر الآية بكونه حكيماً ، وذلك ينافي كونه تعالى خالقاً للكفر مريداً له ، فنقول : وصف نفسه بكونه عزيزاً ، والعزيزُ : هو الغالب القاهر ، فلو أراد بالإيمان من الكافر مع أنه لا يحصل ، وأراد عدم الكفرمنهم ، وقد حصل لما بقي عزيزاً غالبا؛ فثبت أن الوجوه التي ذكروها صعيفة ، وقد تقدَّم البحث في هذه المسألة في البقرة عند قوله جل ذكره :
{
يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } [ البقرة : 26 ] .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور } الآية لما بين أنَّه إنَّما أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم ليخرجهم من الظُّلمات إلى النُّور ، وذكر كمال نعمة الله عليه وعلى قومه بذلك الإرسال أتبع ذلك بشرح بعثة سائر الرسل صلوات الله وسلامه عليهم إلى أقوامهم ليكون ذلك تصبيرأ للرسول صلوات الله وسلامه عليه على أذى قومه فقال : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ } قال الأصم : آيات موسى عليه الصلاة والسلام وهي العصا ، واليد ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، وفلق البحر ، وانفجار العيون من الحجر ، وإظلال الجبل ، وإنزوال المن والسلوى .
وقال الجبائي آياته : دلائله وكتبه المنزلة عليه ، فقال في صفة محمد عليه الصلاة والسلام : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور } [ إبراهيم : 1 ] وقال في حق موسى صلوات الله وسلامه عليه { أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور } [ إبراهيم : 5 ] والمقصود من بعثة سائر الرسل عليهم الصلاة والسلام واحد وهو أن يسعو في أخراج الخلق من الضَّلالات إلى نور الهدايات .
قوله : « أنْ أخْرِجْ » يجوز أن تكون « أنْ » مصدرية ، أي : بأن أخرج والباء في « بِآيَاتِنا » للحال ، وهذه للتعدية ، ويجوز أن تكون مفسرة للرسالة بمعنى أي ، ويكون المعنى : أي : أخرج قومك من الظلمات ، أي : قلنا له : أخرج قومك كقوله { وانطلق الملأ مِنْهُمْ أَنِ امشوا } [ ص : 6 ] . وقيل : بل هي زائدة ، وهو غلط .
قوله : « وذَكِّرْهُمْ » يجحوز أن يكون منسوقاً على « أخْرِجْ » فيكون من التفسير ، ويجوز أن لا يكون منسوقاً؛ فيكون مستأنفاً .
و « أيَّام : عبارة عن نعمة تعالى؛ كقوله : [ الوافر ]
3193
وأيَّامٍ لنَا غُرٍّ طِوَالٍ ... عَصيْنَا المَلْكَ فِيهَا أنْ نَدِينَا
أو نقمه؛ كقوله : [ الطويل ]
3194
وأيَّامُنَا مَشْهُورَة في عَدُوِّنَا .. . . .
ووجهه : أن العرب تتجوز فتسند الحدث إلى الزمان ، مجازاً أو تضيفه إليها كقولهم : نَهارٌ صَائمٌ ، ولَيلٌ قَائمٌ ، و { مَكْرُ الليل } [ سبأ : 33 ] .
قال الواحديُّ : » أيَّام جمع يوم ، واليوم هو مقدار المدَّة من طلوع الشَّمس إلى غروبها ، وكان في الأصل : أيوامٌ ، فاجتمعت الياء ، والواو ، وسبقت إحداهما بالسُّكونِ فقلبت الراء ياء ، وأدغمت إحداهما في الأخرى فقلبت ياء « .
فصل
قال ابنُ عبَّاسٍ ، وأبيُّ بن كعب ، ومجاهدٌ وقتادة رضي الله عنهم وذكرهم بنعم الله . وقال مقاتلٌ : بوقائع الله في الأمم السَّالفة . يقال : فلان عالم بأيَّام العرب ، أي : بوقائعهم ، فأراد بما كان في أيَّام الله من النَّعمة ، والمحنة فاجتزأ بذكر الأيام عنه؛ لأنَّها كانت معلومة عندهم ، والمعنى : عظهم بالترغيب والترهيب ، والوعد ، والوعيد ، فالتّرغيب ، والوعد : أن يذكرهم ما أنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمن بالله ممن سلف من الأمم والترهيب والوعيد أن يذكرهم بأس الله وعذابه النازل بمن كذب بالرسل فيما سلف من الأيَّام ، كعادٍ ، وثمود وغيرهم .
واعلم أن أيَّام الله في حقِّ موسى عليه الصلاة والسلام منها ما كانت أيام محنة وبلاء ، وهي الأيام التي كانت بنو إسرائيل تحت قهر فرعون . ومنها : ما كانت راحة ونعماً كأيَّام إنزال المن ، والسلوى ، وفلق البحر ، وتظليل الغمام .
{
إِنَّ فِي ذلك } التّذكر « لآياتِ » دلائل { لِّكُلِّ صَبَّارٍ } كثير الصّبر { شَكُورٍ } كثير الشُّكر .
فإن قيل : ذلك التذكر آيات للكلّ ، فلم خصّ الصَّبَّار الشَّكور بالذِّكر؟ .
فالجواب : أنهم هم المنتفعون بالذكر بتلك الآيات كقوله : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] .
وقيل : لأن الانتفاع بهذا النَّوع من الذكر لا يمكن حصوله إلا للصَّبَّار الشَّكور .
ولما أمر موسى عليه الصلاة والسلام أن يذكرهم بأيَّام الله ، وحكى عن موسى عليه الصلاة والسلام ، أنَّه ذكَّرهم فقال تعالى : { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } .
فقوله : { أَنجَاكُمْ } ظرف للنعمة ، بمعنى الإنعام ، أي : اذكروا نعمة الله عليكم في ذلك الوقت .
قوله : { إِذْ أَنجَاكُمْ } يحجوز في ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون منصوباً ب « نِعْمَةَ » .
الثاني : أن يكون منصوباً ب « عَلْكُمْ » ، ويوضح ذلك ما ذكره الزمخشري رحمه فإنه قال : « إذْ أنْجَاكُمْ » ظرف للنعمة بمعنى الإنعام ، أي : إنعامه عليكم ذلك الوقت .
فإن قلت : هل يجوز أن ينتصب ب « عَليْكُمْ » .
قلت : « لا يخلُو إما أن يكون [ إنعام ] صلة للنعمة بمعنى الإنعام [ أو غير ] صلة ، إذا أردت بالنعمة العطية ، فإذا كان صلة لم يعمل فيه ويتبين الفرق بين الوجيهن ، أنَّك إذا قلت : نعمة الله عليكم ، فإن جعلته صلة لم يكن كلاماً حتى تقول فائضة أو نحوها وإلا كان كلاماً » .
الثالث : أنه بدل من عمة أي : اذكروا وقت إنجازكم ، وهو بدل اشتمال ، وتقدم الكلام في « يسومونكم » .
قوله : « ويذبحون » حال أخرى من آل فرعون ، وفي البقرة دون « واو » لأن قصد التفسير لسؤال العذاب ، وفي التفسير لا يحسن ذكر الواو ، وتقول : أتاني القوم : زيدٌ وعمرو ، وذلك قوله تعالى : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ } [ الفرقان : 68 ، 69 ] لما فسر الآثام بمضاعفة العذا بحذف الواو ، وهاهنا أدخل الواو بمعنى أنهنم يعذبونهم بالتذبيح وبغيره ، فالسوم هنا غير السوم هناك .
وقرأ بان محيصن « يَذْبَحُونَ » مخففاً ، و « يستحيون نساءكم » يتركونهن أحياء ، « وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم » ، وفي كونه بلاء وجهان :
الأول : أن تمكين الله أياهم من ذلك الفعل بلاءٌ من الله .
والثاني : أن ذلك إشارة إلى الإنجلاء ، وهو بلاء عظيم ، والبلاء هو الابتلاء ، وذلك قد يكون بالنعمة تارة ، وبالمحنة أخرى ، قال تعالى :
{
وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] وهذا أولى لأنه موافق لأول الآية وهو قوله : { اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } ، قاله ابن الخطيب رحمه الله .
قوله : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ } يجوز أن يكون نسقاً على : { إِذْ أَنجَاكُمْ } ، وأن يكون منصوباً ب « اذْكُرُوا » مفعولاً لا ظرفاً .
وجوَّز فيه الزمخشري : أن يكون نسقاً على : « نِعْمةَ » فهو من قول موسى ، والتقدير وإذ قال موسى اذكروا نعمة الله ، واذكروا حين تأذن ، وقد تقدَّم نظير ذلك في الأعراف .
ومعنى : « تَأذَّنَ » آذن ربكم إيذاناً بليغاً ، أي : أعلم ، يقال : أذَّن وتَأذَّن بمعنى واحد مثل : أوعد وتوعَّد ، وروي ذلك عن الحسن وغيره ومنه الأذان؛ لأنه إعلام قال الشاعر : [ الوافر ]
3195
فَلمْ نَشْعُر بضَوْسِ الصُّبْحِ حَتَّى ... سَمِعْنَا في مَجَالِسنَا الأذِينَا
وكان ابن مسعود يقرأ « وإذْ قال ربُّكُمْ » والمعنى واحد .
فيقال : « لَئِنْ شَكرْتُم » نعمتي ، وآمنتم ، وأطعتم : « لأزيدَنَّكُم » في النعمة .
وقيل : لئن شكرتم بالطَّاعة « لأزيدنكم » في الثواب .
والآية نصُّ في أنَّ الشكر سبب المزيد : « ولَئِنْ كَفرتُمْ » نعتمي فجحدتموها ، ولم تشكروها : « إنَّ عذَابِي لشَديدٌ » .
وقيل : المراد الكفر؛ لأن كفران النعمة لا يحصل إلا عند الجهل بكون تلك النعمة من الله تعالى .
قوله : { وَقَالَ موسى إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } أي : غني عن خلقه حميد محمود في أفعاله .
والمعنى : أن منافع الشكر ومضار الكفر لا تعود إلا إلى الشَّاكر والكافر ، أمَّا المعبود والمشكور فإنَّه متعالٍ عن أن ينتفع بالشُّكر ، أو يستضر بالكفران ، فلا حرم قال تعالى : { وَقَالَ موسى إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } .
والغرض منه : بيان أنه تعالى إنَّما أمر بهذه الطَّاعات لمنافع عائدة إلى العابد لا إلى المعبود .
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)
ثم قال : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ } الآية النَّبأ : الخبر ، والجمع الانباء؛ قال الشاعر : [ الوافر ]
3196
ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي .. .
قال أبو مسلم : « يحتمل أن يكون خطاباً من موسى صلوات الله وسلامه عليه [ لقومه ، يخوفهم بمثل هلاك من تقدمهم ، ويجوز أن يكون مخاطبة من الله تعال على لسان موسى عليه السلام ] لقومه : يذكرهم أمر القرون الأولى؛ ليعتبروا بأحوال المتقدمين .
روي عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية ثمَّ قال : » كَذبَ النَّسَّابُونَ « .
وعن عبدالله بن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال : بين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وبين عدنان ثلاثون [ أباً ] لا يعلمهم إلا الله وكان مالك ابن أنس رضي الله عنه يكره أن يسنب الإنسانت [ نفسه أباً أباً ] إلى آدم صلوات الله وسلامه عليه وكذلك في حق النبي صلوات الله وسلامه عليه ؛ لأنه لايعلم أولئك الآباء أحد إلا الله تعالى ، ونظيره : قوله تعالى { وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً } [ الفرقان : 38 ] وقوله : { مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } [ غافر : 78 ] وكان صلوات الله وسلامه عليه في نسبه لا يجاوز معد بن عدنان .
وقال عليه الصلاة والسلام : » تَعلَّمُوا من أنْسَابِكُم ما تصلُونَ بِه أرحَامَكُمْ وتعلمُوا مِنَ النُّجُوم ما تَسْتدِلُّونَ بِهِ على الطَّريقِ « .
وقيل : المراد بقولهم : » لا يَعْلمُهمْ « أي : عددهم ، وأعمارهم ، وكيفياتهم .
وقال عروة بن الزبير : » ما وجدنا أحداً يعرف ما بين عدنان ، وإسماعيل « .
قوله : » قَوم نُوحٍ « بدل ، أو عطف .
قوله : { والذين مِن بَعْدِهِمْ } » يجوز أن يكون عطفاً من الموصول الأول ، أو على المبدل منه ، وأن يكون مبتدأ خبره : { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } ، { جَآءَتْهُمْ } خبر آخر وعلى ما تقدم يكون : { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } حالاً من « الَّذينَ » أو من الضمير في : « مِنْ بعْدِهمْ » لوقوعه صلة « .
وهذا عَنَى أبو البقاءِ بقوله : حال من الضمير في : » مِنْ بَعْدهِمْ « ولا يريد به الضمير المجرور؛ لأنَّ مذهبه منع الحال من المضاف ، وإن كان بعضهم جوزه في صورة وجوز أيضاً هو والزمخشري : » والجملة من قوله : { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } اعتراض « .
ورد عليه أبو حيان : بأن الاعتراض إنما يكون بين جزءين ، أحدهما يطلب الآخر .
ولذلك لما أعرب الزمخشريُّ : » والَّذينَ « مبتدأ ، و » لا يَعْلمُهُمْ « خبره ، قال : » والجملة من المبتدأ ، والخبر اعتراض « ، واعترضه أبو حيَّان أيضاً بما تقدَّم .
ويمكنُ أن يجاب عنه في الموضعين : بأن الزمخشري يمكن أن يعتقد أن : » جَاءَتْهُم « حال مما تقدَّم ، فيكون الاعتراض واقعاً بين الحال وصاحبها ، وهو كلامٌ صحيحٌ .
قوله تعالى : { فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ } يجوز أن تكون الضمائر للكفار ، أي : فردّ الكفار أيديهم في أفواههم من الغيظ ، لقوله : { عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ } [ آل عمران : 119 ] قاله أبو عباس ، وابن مسعود ، والقاضي .
قال القرطبيُّ : وهذا أصح الأقوال ، قال الشاعر : [ الرجز ]
3197
لَوْ أنَّ سَلْمَى أبْصرَتْ تَخَدُّدِي ... ودِقَّةً في عَظْمِ سَاقِي ويَدِي
وبُعْدَ أهْلِي وجَفَاءَ عُوَّدِي ... عَضَّتْ مِنَ الوَجْدِ بأطْرافِ اليَدِ
وقد مضى هذا المعنى في آل عمران [ 119 ] ف « في » على بابها من الظرفية ، أي : فردُّوا أيديهم على أفواههم ضحكاً ، واستهزاء ، ف « فِي » بمعنى « عَلَى » وأشاروا إلى ألسنتهم وما نطقوا به من قولهم : إنَّا كَفرنا ، ف « عَنْ » بمعنى « إلى » ويوجوز أني كون المرفوع للكفار ، والأحزان للرسل صلوات الله وسلامه عليهم على أن يراد بالأيدي : النّعم ، أي : ردوا نعم الرسل وهي مصالحهم في أفواه الرسل؛ لأنهم إذا كذبوها كأنهم رجعوا بها من حيث جاءت على سبيل المثال ، ويجوز أن يراد المعنى ، والمراد بالأيدي : الجوارح ، ويجوز أن يكون الأولان للكفَّار ، والأخير للرسل ، فرد الكفار أيديهم في أفواههم أي في أفواه الرسل ، أي أطبقوا أفواههم يشيرون إليهم بالسُّكوت ، أو وضعوها على أفواههم يمنعونهم بذلك من الكلامِ .
وقيل : « في » هنا بمعنى الباء . قال الفراء : « قد وجدنا من العرب من يجعل » في « موضع الباء ، يقال : أدخلتُ بالجنَّة ، أدخلت في الجنَّة » وأنشد : [ الطويل ]
3198
وأرْغَبُ فِيهَا عَنْ لَقِيطٍ ورَهْطهِ ... ولكنَّنِي عَنْ سِنْبِسٍ لسْتُ أرْغَبُ
أي : أرغب بها .
وقال أبو عبيد رحمه الله : هذا ضرب مثل يقوله العربُ : رد يده إلى فيه إذا ترك ما أمره به .
ورد عليه : بأن من حفظ حجَّة على من لم يحفظ .
وقال أبو مسلم : المراد باليدِ : ما نطقت به الرُّسل من الحجج؛ لأنَّ إسماع الحجَّة إنعام عظيم ، والإنعام يسمى يداً ، يقال لفلان عندي ، يد إذا أولاه معروفاً وقد يذكر اليد والمراد منها صفقة البيع والعقد ، كقوله تعالى : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [ الفتح : 10 ] فالبينات التي ذكرها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وقرَّرها لهم نعم وأياد ، وأيضاً : العهود التي أتوابها مع القوم أيادي . وجمع اليد في القلة : أيْدِي ، وفي الكثرة أيَادي .
وإذا ثبت أنَّ بيانات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وعهودهم يصح تسميتها بالأيدي والنصائح ، والعهود إنَّما تظهر من الفمِ ، فإذا لم تقبل صارت مردودة إلى حيث جاءت فلما كان القبول تلقياً بالأفواه عن الأفواه كان الدفع ردًّا في الأفواه .
ونقل محمد بن جرير عن بعضهم : أنَّ معنى قوله تعالى : { فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ } أي : سكتوا عن الجواب ، يقال للرجل إذا أمسك عن الجواب : ردَّ يدهُ في فيه ، إذ لم يجبه ، ثمَّ زيف هذا الوجه وقال : إنَّهم أجابوا بالتَّكذيب وقالوا : إنَّا بما أرسلتم به كافرون وقالوا : « إنَّا كَفرْنَا بِمَا أرْسِلْتُم بِهِ »
قوله تعالى : { وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ } قرأ طلحة : « تَدعُونَّا » بإدغام نون الرفع في نون الضمير كما يدغم في نون الوقاية ، والمعنى : في شكِّ مريب موقع في الريبة أي : ذي ريبة من أرابه ، والريبة : لقلق النفس ، وألاّ [ تطمئن ] إلى الأمر .
فإن قيل : لما ذكروا أنهم قالوا : إنَّا كافرون برسالتكم ، وإن لم ندع هذا الجزم واليقين ، فلا أقل من أن نكون شاكين مرتابين في صحة نبوتكم وعلى هذا التقدير فلا سبيل إلى الاعتراف بنبوتكم .
قوله تعالى : { قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي الله شَكٌّ } الآية لما قالوا للرُّسلِ : وإنا لفي شك ، قالت لهم رسلهم وهل تشكون في الله ، وهو فاطر السموات ، والأرض وفاطر أنفسنا ، وأرواحنا ، وأرزاقنا إنَّا لا ندعوكم إلا لعبادة هذا الإله المنعم ، ولا نمنعكم إلا من عبادة غيره ، وهذه المعاني يشهد لها العقل بصحتها ، فكيف قلتم : وإنَّا لفي شكٍّ؟ .
قوله : { أَفِي الله شَكٌّ } استفهام بمعنى الإنكار ، وفي « شكٌّ » وجهان :
أظهرهما : أنه فاعل بالجار قبله ، وجاز ذلك لاعتماده على الاستفهام .
والثاني : أنه مبتدأ ، وخبره الجار ، والأولى أولى؛ بل كان ينبغي أن يتعين؛ لأنه يلزم من الثاني الفصب لبين الصفة ، والموصوف بأجنبيّ ، وهو المبتدأ وهذا بخلاف الأوَّل ، فإ ، الفاصل ليس أجنبيًّا ، إذ هو فاعله ، والفاعل كالجزء من رافعه .
ويدلُّ على ذلك تجوزيهم : « مَا رَأيْتُ رجلاً أحْسنَ في عَيْنهِ الكُحْلُ مِنهُ في عَيْنِ زيْدٍ » بنصب « أحْسَنَ » صفة ورفع « الكُحْلُ » فاعلاً ب « أفعل » ولم يضر الفصل به بين « أفْعَلَ » وبين « مِنْ » لكونه كالخبر من رافعه ولم يجيزوا رفع : أحْسَن « خبراً مقدماً ، و » الكُحْلُ « مبتدأ مؤخر لئلا يلزم الفصل بين » أفعل « وبين » من « بأجنبي .
ووجه الاستشهاد في هذه المسألة : أنَّهم جعلوا المبتدأ أجنبيًّا بخلاف الفاعل ولهذه المسألة موضع غير هذا .
وقرأ العامة » فاطِرِ « بالجر وفيه وجهان : النعت والبدلية .
قال أبو البقاء وفيه نظر؛ لأنَّ الإبدال بالمشتقات يقلّ ولو جعله عطف بيان كان أسهل .
قال الزمخشريُّ : » أدخلت همزة الإنكار على الظرف؛ لأنَّ الكلام ليس في الشكِّ إنَّما هو في المشكوك فيه ، وأنَّه لا يحتمل الشَّك لظهور الأدلَّة ، وشهادته عليه « .
قوله : { يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ } اللام متعلقة بالدُّعاءِ ، أي : لأجل غفران ذنوبكم؛ كقوله : [ المتقارب ]
3199
دَعَوْتُ لمَّا نَابَنِي مِسْوراً ... فَلبَّى فَلَبَّيْ يدي مِسْورِ
ويجوز أن تكون اللام معدية كقولك : « دعوتك لزيد » ، وقوله : « إذا تدعون إلى الإيمان » ، والتقدير : يدعوكم إلى غفران ذنوبكم .
لما استفهم بعمنى نفي ما اعتقدوه ، أردفعه بالدلائل الدالة على وجود الصانع المختار ، فقال : « فاطر السموات والأرض » : أي خالق السماوات والأرض « يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم » أي : ذنوبكم و « من » صلة ، وقيل : « من » تبعيضية ، وقيل : بمعنى البدل ، أي : بدل عقوبة ذنوبكم كقوله تعالى : { أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة } [ التوبة : 38 ] وسيأتي الكلام على هذه الوجوه .
{
وَيُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } إلى حين استيفاء أجلكم ، ولا يعالجكم بالعذاب ، قال بعض العلماء : إن الفطرة شاهدة بوجود الصانع المختار قبل الوقوف على الدلائل ، وذلك من وجوه :
الأول : قال بعضش العقلاء : إن من لطم وجه سبي لطمة ، فتلك اللطمة تدل على وجود الصانع المختار ، وعلى وجود التكليف ، وعلى وجود دار الجزاء ، وعلى وجود النبي صلى الله عليه وسلم .
أما دلالتهم على وجود الصانع؛ فإن الصبي العاقل إذا لطم يصيح ويقول من ذا الذي لطمني؟ وما ذاك إلا أن فطرته شاهدة بأن هذه اللطمة لما حدثت بعد عدمها موجب أن يكون حدوثها لأجل فعل فاعلها ، فلما شهدت فطرته الأصلية بافتقار ذلك الحادث الحقير إلى الفاعل ، فبأن تشهد جميع حوادث العالم بالافتقار إلى الفاعل أولى .
وأما دلالتها على وجود التكليف؛ فبأن الصبي يصيح ويقول : ضربني ذلك الضارب ، وهذا يدل على أن فطرته شهدت بأن الأفعال الإنسانية داخلة تحت الأمر والنهي ، ومندرجة تحت التكليف ، وأن الإنسان ما خلق ليفعل ما اشتهى .
وأما دلالتها على وجود الجزاء فهو : أن ذلك الصبي يطلب بطبعة الجزاء على تلك اللَّطمة ولا يتركه ، فلما شهدت فطرته الأصلية بوجوب الجزاء على ذلك العمل القليل ، فبأن تشهد على وجوب ا لجزاء على جميع العباد والأعمال أولى .
وأما دلالتها على وجوب النبوة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فإنهم يحتاجون إلى إنسان يبين لهم مقدار العقوبة الواجبة في تلك الجناية ، كم هي؟ ولا معنى للنبي إلا الإنسان الذي قدر هذه وبين هذه الأحكام؛ فثبت أن فطرة العقل حاكمة بأن الإنسان لا بد له من هذه الأربعة .
الوجه الثاني : في أنَّ الإقرار بوجود الصَّانع بديهي : وهو أنَّ الفطرة شاهدة بأن حدوث دار بنقوش عجيبة ، وتركيبات لطفية موافقة للحكمة ، والمصلحة تستحيلُ إلاَّ من نقاش عالم ، وبانٍ حكيمٍ ، ومعلوم أنَّ آثار الحكمة ف يالعالم العلوي ، والسفلي أكثر من الآثار الموجودة في تلك الدار المختصرة ، فلمَّا شهدت الفطرة الأصليَّة بافتقار النَّقش إلى النَّقاش ، والبناء إلى البَاني ، فبأن تشهد بافتقار كل هذا العالم إلى الفاعل المختار الحكيم أولى .
الوجه الثالث : أنَّ الإنسان إذا وقع في محنة شديدة ، فإنه بأصل فطرته ، وخلقته يتضرَّع إلى من يخصله منها ، وما ذاك إلاَّ شهادة فطرته بالافتقار إلى الصَّانع القادرم المدبر .
الرابع : أن الموجود إمَّا أن يكون غنيًّا عن المؤثر ، أو لا يكون ، فإن كان غنياً عن المؤثر فهو الموجود الواجب لذاته؛ لأنه لا معنى للواجب لذاته إلاَّ الموجود الذي لا حاجة له إلى غيره ، وإن لم يكن غنيًّا عن المؤثر فهو محتاج ، والمحتاجُ لا بد له من المحتاج إليه ، وذلك هو الصَّانع المختار .
الوجه الخامس : أن الاعتراف بوجودو الصانع المختار المكلف وبوجود المعاد أحوط فوجب المصير إليه ، أما كون الإقرار بوجود الصَّانع أحوط لأنه لو لم يكن موجوداً فلا ضرر في الإقرار بوجوده ، وإن كان موجوداً ففي إنكاره أعظم المضار .
وأمَّا كون الإقرار بكونه فاعلاً مختاراً أحوط ، فلأنهن إن لم يكن موجوداً فلا خير في الإقرار بكمونه مختاراً .
أمَّا لو كان موجوداً ففي إنكار كونه مختاراً أعظم المضار .
وأما كان كون الإقرار بكونه مكلفاً لعباده أحوط ، فلأنه لو لم يكلف أحداً من عبيده شيئاً فلا ضرر في اعقاد أنه كلف العباد ففي إنكار التكاليف أعظم المضار .
وأمَّا كون الإقرار [ بوجود ] المعاد أحوط؛ فلأنه إن كان الحق أن لا معاد؛ فلا ضرر في الإقرار بوجود المعاد فإنه لا يفوت إلا هذه اللذات الجمسانية ، وهني منقضية فانينة ، فإن كان الحق وجوب المعاد ففي إنكاره أعظم المضار ، فظهر أن الإقرار بهذه المقامات أحوط فوجب المضير إليه ، لأن بديهة العقل حاكمة بوجوب دفع الضرر عن النَّفس بقدر الإمكان ، والله أعلم .
فصل
لما استدلْ بكونه فاطر السموات والأرض وصف نفسه بكمال الرحمة والكرم ، والجود من وجهين :
الأول : قوله : { يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } .
قال الزمخشريًُّ رحمه الله : « لو قال قائل : ما معنى التعبيض في قوله تعالى : { مِّن ذُنُوبِكُمْ } » ؟ .
ثم أجاب : فقال ما جاء هكذا إلاَّ في خطاب الكفار ، كقوله تعالى { واتقوه وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } [ نوح : 3 ، 4 ] ، و { ياقومنآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } [ الأحقاف : 31 ] وقال في الخطاب للمؤمنين : { هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الصف : 10 ] إلى أن قال : { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [ الصف : 12 ] قال : والاستقراء يدلُّ على صحَّة ما ذكرناه .
ثم قال : وكان ذلك للتَّفرقة بين الخطابين لئلا يسوَّى بين الفريقين في المعاد .
وقيل : أريد به : يغفر لهم ما بينهم وبين الله بخلاف ما بنيهم وبين العباد من المظالم .
وقال الواحدي : قال أبو عبيدة : « مِنْ » زائدة ، وأنكر سيبويه زيادتها وإذا قلنا : ليست بزائدة ، ففيها وجهان :
أحدهما : أنه ذكر البعض هنا ، وأراد الجمع توسعاً .
والثاني : أن « مِنْ » ههنا للبدل ، أي : لتكون المغفرة بدلاً من الذُّنوبِ فدخلت « مِنْ » لتضمن المغفرة معنى إبدالها م الذُّنوبِ .
وقال القاضي : ذكر الأصم أنَّ كلمة « مِنْ » ههنا تفيد التبعيض ، أي : أنكم إذا [ تبتم ] يغفر لكم الذُّنوب التي هي من الكبائر ، وأمَّا التي تكون من الصغائر ، فلا حاجة إلى غفرانها؛ لأنها في أنفسها مغفورة .
قال القاضي : وقد أبعد في هذا التأويل؛ لأنَّ الكفار صغائرهم ، ككبائرهم لا تغفر إلا بالتَّوبة ، وإنما تكون الصَّغائر مغفورة من الموحدين من حيث يزيد ثوابهم على عقابهم فأمَّا من لا ثواب له أصلاً ، فلا يكون شيء من ذنوبه صغيرة ، فلا يغفر له له شيء ، ثم قال : وفيه وجه آخر : وهو أنَّ الكافر قد ينسى بعض ذنوبه في حال توبته ، وإيمانه؛ فلا يغفر له شيء من ذنوبه ، فلا تكون المغفرة إلا لما ذكره وتاب عنه .
فصل
قال ابن الخطيب : دجلت الآية على أنه تعالى يغفر الذنوب من غير توبة في حق المؤمن ، لأنه قال { يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } وعد بغفران الذنوب مطلقاً من غير اشتراط التوبة؛ فوجب أن يغفر بعض الذنوب مطلقاً من غير التوبة ، وذلك البعض ليس هو الكفر لانعقاد الإجماع على أنه تعالى لا يغفر الكفر إلا بالتوبة عنه والدخول في الإيمان؛ فوجب أن يكون البعض الذي يغفر من غير التوبة ما عدا الكفر من الذنوب .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إن كلمة « مِنْ صلة على ما قاله أبو عبيدة أو نقول : المراد منه تمييز خطاب المؤمن عن الكافر على ما قاله الزمخشريُّ ، أو نقول : المراد تخصيص الغفران بالكبائر على ما قاله الأصم ، أو نقول : المراد منه الذنوب التي ذكرها الكافر عند إسلامه ، كما قاله القاضي .
فنقول هذه الوجوه بأسرها ضعيفة ، أمَّا كونها صلة فمعناه الحكم على كلمة من كلام الله عزَّ وجلَّ بأنَّها عبثٌ والعاقل لا يجوز له المصير إليه من غير ضرورة .
وأما قوله الواحدي : المراد من كلمة » مِنْ « ههنا الكل فهو عين ما قاله أبو عبيدة؛ لأن حاصه أنَّ قوله تعالى جل ذكره { يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } أي : يغفر لكم ذنوبكم ، وهذا عينُ ما نقله عن أبي عبيدة ، وحكى عن سيبويه إنكاره .
وأما قوله : المراد منه إبدال السيئة بالحسنة ، فليس في اللغة أنَّ كلمة » مِنْ « تفيد الإبدال .
وأما قول الزمخشري : المراد تمييز خطاب المؤمنين من خطاب الكافرين بمزيد التشريف فهو من باب الطاعات ، لأن هذا التعبيض إن حصل ، فلا حاجة إلى ذكر هذا الجةاب وإن لم يحصل كان هذا الكلام فاسداً .
وأما قول الأصم ، فقد سبق بطلانه .
وأمَّا قول القاضي : فجوابه أنَّ الكافر إذا أسلم؛ غُفِرَت ذُنوبُه بأسرها ، لقوله عليه السلام : » التّائِبُ مِنَ الذنبِ كَمنْ لا ذَنْبَ لَهُ « .
وقال تعالى : { قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ }
[
الأنفال : 38 ] فثبت أنَّ جميع ما ذكروه من التأويلات ضعيف ساقط ، بل المراد ما ذكرناه هو أنَّه يغفر بعض ذنوبه من غير توبةٍ؛ بشرط أن يأتي بالإيمان ، فبأن تحصل هذه الحال للمؤمن أولى .
قال تعالى : { وَيُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } . قيل : المعنى : إن آمنتم ، أخر الله موتكم إلى أجل مسمى ، وإلا عاجلكم بعذاب الاستئصال .
وقال ابن عباسٍ رضي الله عنهما : يمنعكم في الدُّنيا باللذات إلى الموت .
فِإن قيل : أليس قال : { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ الأعراف : 34 ] . فكيف قال هنا : { وَيُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } ؟ .
قلنا : تقدَّم الكلام في هذه المسألة في قوله : { ثُمَّ قضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى } [ الأنعام : 2 ] في الأنعام .
ولما ذكر الرسل عليهم الصلاة والسلام هذا الكلام للكفار قالوا : { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } وهذا الكلام يشتمل على ثلاثة أنواع من الشبه :
الأولى : أن الأشخاص الإنسانية متساوية في تمام الماهية فيتمنع أن يبلغ التفاوت بين تلك الأشخاص إلى هذا الحد وهو أن الواحد منهم رسولاً من الله تعالى مطلعاً على الغيب ، مخالطاً لزمرة الملائكة ، والباقون غافلون عن هذه الأحوال أيضاً كانوا يقولون : إن كنت قد فارقتنا في هذه الأحوال العالية الإلهية الشريفة وجب أيضاً أن تفارقنا في الأحوال الخسيسة ، وهي الحاجة إلى ألاكل ، والشرب ، والحديث والوقاع ، وهذه الشبهة هي المراد من قولهم { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } : أي في الصورة ولستم ملائكة ، وإنَّما تريدنون بقولكم أن تصدُّونا عمَّا كان يعبد آباؤنا .
وهذه الشبهة الثانية : وهي التمسك بالتقليد ، وهي أنهم وجدوا آباءهم وعلماءهم مطبقين على عبادة الأوثان .
قالوا : ويبعد أن أولئك القدماء على كثرتهم وقوة خاطرهم لم يعرفوا بطلان هذا الدين .
الشبهة الثالثة : قالوا : المعجز لا يدلُّ على الصدق؛ لأن الذي جاء به أؤلئك الرسل طعنوا فيه وزعموا أنَّها أمور متعادة ليست من باب المعجزات الخارجية عن قوَّة البشر؛ فلذلك قالوا : « فأتُونَا بسُلْطانٍ مُبِينٍ » أي : بحجة بينة على صحَّة دعواكم .
قوله « تُرِيدُونَ » يجوز أن يكون صفة ثانية ل « بَشرٌ » وحمل على معناه ، لأنه بمنزلة القوم والرهط ، كقوله : { أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } [ التغابن : 6 ] وأن يكون مستأنفاً .
وقوله : « أنْ تَصدُّونَا » العامة على تخفيف النون ، وقرأ طلحة بتشديدها كما شدد : « تدعونّا » وفيها تخريجان :
أحدهما : ما تقدَّم في نظيرتها على أن تكون هي المخففة لا النَّاصبة ، واسمها ضمير الشأن ، وشذّ عدم الفصل بينها ، وبين الجملة الفعلية .
والثاني : أنَّها ناصبة ، ولكن أهلمت حملاً على « مَا » المصدرية كقراء : { أَن يُتِمَّ } [ البقرة : 233 ] . برفع « يُتِمُّ » وقد تقدَّم القول فيه .
قوله تعالى : { قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } الآية لما حكمة عن الكفَّارم طعنهم في النُّبوة حكى عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جابهم فقالوا : { إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } سلموا أنَّ الأمر كذكل لكنهم بيَّنوا أن التماثل في البشرية لا يمننع من اختصاص بعض البشرِ بمنصب النبوة؛ لأنَّ هذا المنصب يمُنُّ الله به على من يشاء من عباده ، وإذا كان كذلك سقطت شبهتكم .
وأمَّا الجواب عن شبهة التقليد وهي قولهم : إطباقُ السلف لذلك الدين يدل على كونه حقًّا ، فجوابه عين الجواب المذكور ، وهو أنَّه لا يبعدُ أ ، يظهر الرَّجل الواحد مالم يظهر للخلق الكثير؛ لأن التمييز بين الحق ، والباطل ، والصدق ، والكذب عطية من الله وفضل منه؛ فلا يبعد أن يخص عبده بهذه العطية ، ويحرم الجمع العظيم منها .
وأما الجواب عن الشهبة الثالثة وهي قولهم : إنا لا نرضى بهذه المعجزات التي أتيتم بها ، وإنما نريد معجزات قاهرة أوقى منها ، فأجابوا عنها بقولهم : { وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } أي : أنَّ المعجزة التي أتينا بها حجة قاطعة قوية ودليل تام ، وأمَّا الأشياء التي تطلبتموها ، فأمور زائدة والحكم فيه لله تعالى فإن أظهرها فله الفضل ، وإن لم يظهرها فله العدل ، ولا يحكم بعد ظهور قدر الكفاية .
قوله : { وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ } يجوز أن يكون خبر : « كَانَ » « لَنَا » ، و : « إنْ نَأيِتَكُمْ » أسمها ، أي : وما كان لنا إتيانكم بسورة ، و { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } حالٌ ، ويجوز أن يكون الخبر { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } ، و « لَنا » تبين .
والظاهر أنَّ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لما أجابوا عن شبهاتهم بهذا الجواب أخذ القوم التَّخويف ، والوعيد فعند ذلك قال الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا نخاف من تخويفكم بعد أن تولكنا على الله : { وَعلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } .
قوله : { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله } كقوله سبحانه : { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله } [ البقرة : 246 ] .
والمعنى : ما لنا أن لا نتوكل على الله ، وقد عرفنا أنه لاينال شيء إلا بقضائه وقدره : { على مَآ آذَيْتُمُونَا } بين لنا الرشد وبصرنا النجاة .
قوله : « ولنَصْبِرنَّ ، جواب قسم ، وقوله : { وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا } يجوز أن تكون » مَا « مصدرية ، وهو الأرجح لعدم الحاجة إلى رابط ادعي حذفه على غير قياس .
والثاني : أنها موصولة اسمية ، والعائد محذوف على التدرج؛ إذ الأصل : آذيتمونا به ، ثم حذف الباء فوصل الفعل إليه بنفسه وقرأ الحسن رحمه الله : بكسر لام الأمر في » فَليتَوكَّل « وهو الأصل .
والمراد بهذا التوكل على الله في دفع شر الكفار فلا يلزم التكرار وقيل : الأول لاستحداث التوكل ، والثاني طلب دوامه .
قوله تعالى : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ } الآية لما حكى عن الأنبياء صلوات لله وسلامه عليهم توكلهم على الله في دفع شرور أعدائهم حكى عن الكفار أنهم بالغوا في السفاهة وقالوا : { لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } أي لا بد من أحد الأمرين .
قوله : « لنخرنكم » جواب قسم مقدر ، كقوله : « ولنصبرن » وقوله : « أو لتعدن » في « أوْ » ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها على بابها من كونها لأحد الشيئين .
والثاني : أنها بمعنى : « حتَّى » .
والثالث : أنها بمعنى « إلاَّّ » كقولهم : لألزمَنَّكَ أوْ تَقْضِينِي حَقِّي .
والقولان : الأخيران مردودان ، إذ لا يصح تركيب « حتَّى » ولا تركيب « إلاَّ » مع قوله « لتَعُودُن » بخلاف المثال المتقدم ، والعود هنا يحتمل أن يكون على بابه أي : لترجعن و « في ملَّتنا » متعلق به ، وأن يكون بمعنى الصيرورة ، فيكون الجار في محل نصب خبراً لها .
فإن قيل : هذا يوهم أنهم كانوا على ملتهم في أول الأمر حتى يعودا فيها .
فالجواب من وجوه :
أحدها : أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم إنَّما نشئوا في تلك البلاد؛ وكانوا من تلك القبائل وفي أول الأمر ما ظهروا المخالفة مع الكفار ، بل كانوا ساكتين إلى حين الوحي فظن القوم أنهم كانوا على ملتهم لسكوتهم ، فلهذا قالوا : { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } .
وثانيها : أن هذا الكلام الكفار ولا يجب في كل ما قالوه أن يكونوا صادقين .
وثالثها : قال الزمخشريُّ : « لعَوْدُ هنا بمعنى الصِّيرورة كثير في كلام العرب كثرة فاشية لا تكاد تسمعهم يستعملون : » صَارَ « ولكن عاد : ما عدت أراه ، وعاد لا يكلمني ما عاد لفلان مالٍ » .
ورابعها : أن الخطاب وإن كان في الظاهر مع الرسل إلا أنَّ المقصود بهذا الخطاب أتباعهم وأصحابهم ، فغلبوا في الخطاب الجماعة ، ولا بأس أن يقال : إنهم قبل ذلك الوقت كانوا على دين أولئك الكفار .
وخامسها : لعل أولئك الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كانوا قبل إرسالهم على ملَّة من الملل ، ثم إنه تعالى نسخه تلك الملة وأمرهم بشريعة أخرى وبقي تلك الأقوام على تلك الشريعة المنسوخة مصرين عليها ، وعلى هذا التقدير ، فلا يبعد أن يطلبوا من الأنبياء صلوات الله عليهم أن يعودوا إلى تلك الملّة .
ولما ذكر الكفَّار هذا الكلام أو حى الله عزَّ وجلَّ أليهم { لَنُهْلِكَنَّ الظالمين } .
قوله : « لنُهْلِكنَّ » جوب قسم مضمر ، وذلك القسم وجوابه فيه وجهان :
أحدهما : أنه على إضمار القول ، أي : قال لنهلكن .
والثاني : أنه أجرى الإيحاء مجرى القول؛ لأنه ضرب منه .
وقرأ أبو حيوة « ليُهْلِكنَّ » و « ليُسْكِننَّكُمْ » بياء الغيبة مناسبة لقوله : « ربُّهُمْ » والمراد بالأرض : أرض الظالمين ، وديارهم ، وأموالهم وقال عليه الصلاة والسلام : « مَنْ أذَى جَارهُ ورَّثُه اللهُ دارهُ »
وهذه الآية تدلُّ على أن من يتوكل على الله في دفع عدوه كفاه الله أمر عدوه .
قوله : { لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } « ذلِكَ » مبتدأ ، وهو مشار به إلى توريث الأرض ، ولمَنْ خَافَ « هو الخبر ، و » مَقامِي « فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مقحم ، وهو بعيد؛ إذ الأسماء لا تقحم .
الثاني : أنه مصدر مضاف للفاعل .
قال الفراء : » مَقامِي « مصدر مضاف لفاعله أي : مقامي عليه بالحفظ .
الثالث : أنه اسم مكان .
قال الزجاج : » مكان وقوفه بين يدي الحساب ، كقوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } [ الرحمن : 46 ] فأضاف قيام العبد إلى نفسه ، كقولك : نَدِمْتُ على ضَربِكَ ، أي : على ضَرْبِي أيَّاك ، و « خَافَ وعِيدِ » أي : عقابي ، أثبت الياء هنا ، وفي « ق » في موضعين : { كُلٌّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ وَعِيدِ } [ ق : 14 ] ، { فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ } [ ق : 45 ] وصلاً ، وحذفها وقفاً ورش ، والباقون وصلاً ووقفاً « .
فصل
في تفسير المقام وجوه :
الأول : موقفي وهو موقف الحساب؛ لأنَّه الذي يقف فيه العباد يوم القيامة ، كقوله تعالى : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } [ النازعات : 10 ] .
الثاني : أن المقام مصدر كالقيام ، يقال : قَامَ قِيَاماً ، ومقَاماً ، أي : لمن خاف مقامي ، أي : مقام العباد عندي ، وهو من باب إضافة المصدر إلى المفعول .
الثالث : لمن خاف مقامي ، أي : لمن خافني ، وذكر المقام هنا ، كقولك سلامٌ على المَجْلسِ الفُلاني ، والمراد : السَّلام على فلان .
قوله : { وَخَافَ وَعِيدِ } قال الواحدي : الوعيد اسمٌ من أوْعَد إيعَاداً وهو التَّهديد .
قال ابن عباس : خاف ما أوعدت من العذاب .
وهذا الآية تدلُّ على أنَّ الخوف من الله تعالى غير الخوف من عيده؛ لأن العطف يقتضي المغايرة .
وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
قوله : { واستفتحوا } العامة على « اسْتفْتَحُوا » فعلاً ماضياً ، وفي ضميره أقوال :
أحدها : أنه عائد على الرًّسلِ الكرام ، ومعنى الاستفتاح : الاستنصار كقوله : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح } [ الأنفال : 19 ] .
وقيل : طلب الحكم من الفتاحة ، وهي الحكومة ، كقوله تعالى : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين } [ الأعراف : 89 ] .
الثاني : أن يعود على الكفار ، أي أستفتح أمم الرسل عليهم؛ كقوله تعالى : { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء } [ الأنفال : 32 ] وقيل : عائد على القولين؛ لأن كلاَّ طلب النصر على صاحبه .
وقيل : يعود على قريش؛ لأنهم في سني الجدب استمطروا فلم يمطروا ، وهو على هذا مستأنف ، وأما علىغيره من الأقوال فهو عطف على قوله : « فاوحى إليهم » .
وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن رضي الله عنهم « واستفتحوا » على لفظ الأمر أمراً للرسل بطلب النصرة ، وهي تقوية لعوده في المشهورة على الرسل ، والتقدير : قال لهم : لنهلكن ، وقال لهم : استفتحوا .
قوله : « وخاب » هو في قراءة العامة عطف على محذوف ، وتقيدره : استفتحوا ، فنصروا ، وخاب ، ويجوز أن يكون عطفاً على « استفتحوا » على أن الضمير فيه للكفار ، وفي غيرها على القول المحذوف وقد تقدم أنه يعطف الطلب على الخبر وبالعكس .
إن قلنا : المستفتحون الرسل عليهم الصلاة والسلام ، فنصورا وظفروا ، وهو قول مجاهد وقتادة ، وذلك أنهم لما أيسوا من إيمان قومهم استنصروا الله ، ودعوا على قومهم بالعذاب ، كما قال نوح صلوات الله عليه : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] .
وإن قلنا : المستفتحون الكفرة كان المعنى أن الكفار استفتحوا على الرسل ظنًّا منهم أنهم على الحق والرسل على الباطل ، وذلك أنههم قالوا : « اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذبنا » نظيره : { وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] . « وخَابَ » ما أفلح . وقيل : خر . وقيل : هلك كل جبّار عنيد . والجبَّارُ الذي لا يرى فوقه أحداً ، والجبريةُ طلب العلوْ بما لا غاية وراءه ، وهذا الوصف لا يكون إلا الله عزَّ وجلَّ .
وقيل : الجبَّار الذي يجبر الخلق على مراده ، والجبَّار هنا : المتكبر على طاعة الله سبحانه وتعالى وعبادته ، ومنه قوله تعالى : { وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً } [ مريم : 14 ] .
قال أبو عبيدة : « الأجْبَر يقال فيه جبريّة ، وجَبرُوَّة ، وجَبرُوت » .
وحكى الزجاج : « الجِبْرُ ، والجِبْرِية ، والجِبَّارة ، الجِبْرِيَاءُ » .
قال الواحديُّ : « فهذه سبع لغات في مصدر الجبَّار ، ومنه الحديث : » أن امرأة حضرت النبي صلى الله عليه وسلم فأمَرهَا بِأمْرٍ فأبتْ عليْهِ ، فقال عليه الصلاة والسلام : « دَعُوهَا فإنَّها جَبَّارةٌ »
أي : مستكبرة « ، وأمَّا العنيد فقال أهلُ اللغة في اشتقاقه :
قال البصريون : أصل العُنُود : الخلاف ، والتباعد ، والترك .
وقال غيرهم : أصله من العَنْد وهو النَّاحية ، يقال : هو يمشي عنداً ، أي : ناحية فهو المُعانِدُ للحق بجانبه ، قاله مجاهد .
وقال ابن عبَّاس رضي الله عنه : هوالمعرض عن الحق . وقال مقاتلٌ : هو المتكبّر وقال قتادة : العَنِيدُ الذي أبى أن يقال : لا إلهَ إلاَّ الله .
ثم ذكر كيفية عذابهن فقال : » مِنْ وَرائِهِ « جملة في محلّ جر صفة ل » جبَّارٍ « ويجوز أن تكون الصفة وحدها الجار ، و » جهنم : فاعل به .
وقوله : « ويسقى » صفة معطوفة على الصفة قبلها . عطف جملة فعلية على اسمية فإن جعلت الصفة الجار وحده ، وعلقته بفعل كان من عطف فعلية على فعلية .
وقيل : عطف على محذوف ، أي : يلقى فيها ، ويُسْقَى .
و « وَرَاءِ » هنا على بابها ، وقيل بمعنى أمام ، فهو من الأضداد ، وهذا عنى الزمخشري بقوله : « مِنْ بَيْنِ يَديْهِ » وأنشد : [ الوافر ]
3200
عَسَى الكَرْبُ الَّذي أمْسَيْتُ فِيهِ ... يَكونُ وَراءَهُ فَرجٌ قَرِيب
وهو قول أبي عبيدة و ابن السِّكيت ، وقطرب ، وابن جريرٍ؛ وقال الشاعر في ذلك : [ الطويل ]
3201
أيَرْجُو بنُو مَرْوان سَمْعِي وطَاعتِي ... وقَوْمُ تَميمٍ والفَلاةُ وَرَئِيَا
أي : قُدَّامي؛ وقال الآخر : [ الطويل ]
3202
أليْسَ وَرائِي إنَّ تَراخَتْ مَنيَّتِي ... لزومٌ العَصَا عليْهَا الأصابِعُ
وقال ثعلب : هو اسم لما توارى عنك سواء كان خلفك ، أم قدامك فيصح إطلاق لفظ الوراء على الحذف وقدام ، ويقال : المَوْتُ وراء كُلُّ أحدٍ ، وقال تعالى : { وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } [ الكهف : 79 ] أي : أمامهم .
وقال ابن الأنباري : وراء بمعنى بعد ، قال الشاعر : [ الطويل ]
3203 ..
وليْسَ ورَاءَ اللهِ للْخَلْقِ مَهْرَبُ
ومعنى الآية : أنه بعد الخيبة يدخلهم جهنم .
قوله : { مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ } في « صديد » ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّه نعت ل « مَاءٍ » . وفي تأويلان :
أحدهما : أنه على حذف أداة التشبيه ، أي : ماء مثل صديد ، وعلى هذا فليس الماء الذي تشربونه صديداً ، بل مثله في النَّتنِ ، والغلظ ، والقذارة ، كقوله تعالى : { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل } [ الكهف : 29 ] .
والثاني : أنَّ الصديد لما كان يشبه الماء أطلق عليه ماء ، وليس هو بماء حقيقة ، وعلى هذا فيكون يشربون نفس الصديد المشبه للماء ، وهو قول ابن عطية ، وإلى كونه صفة ذهب الحوفي وغيره . وفيه نظرٌ ، إذ ليس بمشتق إلاَّ على من فسَّره بأنه صديدق بمعنى مصدود ، أخذه من الصَّدِّ ، وكأنه لكراهته مصدودٌ عنه ، أي : يمتنع عليه كل أحد .
الثاني : أنه عطف بيان ل « مَاءٍ » ، وإليه ذهب الزمخشري ، وليس مذهب البصريين [ جريانه ] في النكرات إنَّما قال به الكوفيون وتبعهم الفارسي أيضاً .
الثالث : أن يكون بدلاً ، وأعرب الفارسي « زَيْتُونةٍ » من قوله تعالى { مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ }
[
النور : 35 ] عطف بيان أيضاً .
واستدلّ من جوَّز كونه عطف بيان ، ومتبوعه نكرتين بهاتين الآيتين .
والصَّديد : ما يسيلُ من أجسادٍ أهلِ النَّار . وقيل : ما حَالَ بين الجلدِ واللَّحمِ من القَيْحِ .
قوله : « يتَجرَّعهُ » يجوز أن تكون الجملة صفة ل « مَاءٍ » وأن تكمون حالاً من الضمير في « يُسْقَى » ، وأن تكمون مستأنفة ، وتجرَّع : « تَفعَّل » وفيه احتمالات :
أحدها : أنه مطاو ل « جَرَّعْته » نحو « علَّمتهُ فتعلَّمَ » .
والثاني : أنه يكون للتكلف ، نحو « تحَلَّم » ، أي : يتَكلَّف جرعهُ ، ولم يذكر الزمخشري غيره .
الثالث : أنه دالٌّ على المهلة ، نحو تفهَّمتهُ ، أي : يتنوله شيئاً فشيئاً بالجرع كما يفهم شيئاً فشيئاً بالتفهيم .
الرابع : أنه بمعنى جرع المجرد ، نحو : عَددْتُ الشيء وتعَدَّيتُه .
والمعنى : يتحسَّاه ويشربه لا بمرة واحدة ، بل يجرعهُ لِمرارَتهِ وحَرارَتهِ .
قوله : { وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ } في « يَكادُ » قولان :
أحدهما : أن نفيهُ إثبات ، وإثباتهُ نفيٌ ، فقوله : { وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ } أي : يسيغه بعد إبطاء؛ لأن العرب تقول : ما كدت أقومُ أي : قمتُ بعد إبطاءٍ ، قال تعالى : { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } [ البقرة : 71 ] أي : فعلوا بعد إبطاء ، ويدلّ على حصول الإساغة قوله : { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ } [ الحج : 20 ] ولا يحصل الصهر إلا بعد الإساغة . وقوله : « يَتجرَّعهُ » يدل على أنهم ساغوا الشيء بعد الشيء .
والقول الثاني : أنَّ « كَادَ » للمقاربة ، فقوله « وَلا يَكادُ » لنفي المقاربة يعني ولم يقارب أن يسيغه ، فكيف تحصل إلا ساغة؟ .
كقوله تعالى : { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } [ النور : 40 ] ، أي : لم يقرب من رؤياها ، فكيف يراها؟ .
فإن قيل : فقد ذكرتم الدليل على الإساغة ، فكيف يجمع بين القولين؟ .
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أنَّ المعنى : ولا يسيغ جميعه .
والثاني : أنَّ الدَّليل الذي ذكرتم إنَّما دلَّ على وصول بعض ذلك الشَّراب إلى جوف الكافر ، إلاَّ أن ذلك ليس بإساغة؛ لأنَّ الإساغة في اللغة : إجراء الشرب في [ الحلق ] بقبول النفس ، واستطابة المشروب ، والكافر يتجرّع ذلك الشرب على كراهية ولا يسيغه ، أي : لا يستطيبه ولا يشربه شرباً مرة واحدة وعلى هذين الوجهين يصح حمل : « لا يَكَادُ » على نفي المقاربة .
قوله : { وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } أي : أن موجبات الموت أحاطت به من جميع الجهات .
واعلم أن الموت يقع على أنواع بحسب أنواعه الحياة .
فمنهنا : ماهو بإزاء القوة النامية الموجودة في الحيوان والنبات ، كقوله تعالى : { يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } [ الحديد : 17 ] .
ومنها : زوال القوة العاقلة ، وهي الجهالة ، كقوله تعالى : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } [ الأنعام : 122 ] { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى } [ النمل : 80 ] .
ومنها : الحزن والخوف المكدران للحياة ، كقوله تعالى : { وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } [ إبراهيم : 17 ] .
ومنهنا : النوم ، كمقوله تعالى عزَّ وجلَّ { والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } [ الزمر : 42 ] .
وقد قيل : النوم : الموتُ الخفيف ، والموتُ : النوم الثقيل ، وقد يستعار الموت للأحوال الشاقة كالفقر والذل ، والسؤال ، والهرم ، والمعصية ، وغير ذلك ، ومنه الحديث « أوْل من مَاتَ إبليسُ لأنَّهُ أوَّلُ من عَصَى » .
وحديث موسى صلوات الله سلامه عليه حين قال له ربه : « [ أمَا ] تَعْلَمْ أنَّ مَنْ أفْقرتُهُ فقَدْ أمَتُّهُ » .
ولنرجع إلى التفسير ، فنقول : قيل : بحدوث ألم الموت من كل مكان من أعظائه .
وقيل : يأتيه الموت من الجهات السّت { وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } فيستريح .
قال ابن جريج : تعلق روحه عند حنجرته ، ولا تخرج من فيه فيموت ، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فيستريح فَتَنْفَعهُ الحياة ، نظيره : { لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى } [ طه : 74 ] .
قوله : { وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } في الضمير وجهان :
أظهرهما : أنه عائد على « كُلِّ جبَّارٍ » .
والثاني : أنه عائد على العذاب المتقدم .
قيل : العذاب الغليظ : الخلود في النار .
وقيل : إنَّهُ في كل وقت يستقبله يتلقى عذاباً أشدّ مما قبله ، وتقدم الكلام على معنى « مِن وَرائهِ » .
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
قوله تعالى : { مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ } الآية لما ذكر أنواع عذابهم بين عبده أن سائر أعمالهم تصير ضائعة باطلة ، وذلك هو الخسران الشديد .
وفي ارتفاع : « مَثَلُ » أوجه :
أحدها : وهو مذهب سيبويه أنَّه مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا ربهم ، وتكون الجملة من قوله : { أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ } مستأنفة جواباً لسؤالٍ مقدر ، كأنه قيل : كيف مثلهم؟ فقيل : كَيْتَ وكَيْتَ « والمثل : مستعار للصفة التي فيه غرابة ، كقوله : صِفةٌ زيدٍ عِرْضهُ مصُونٍ ، مالهُ مَبْذولٍ » .
الثاني : أن يكون « مثل » مبتدأ ، و « أعمالهم » مبتدأ ثان ، و « كَرمَادٍ » خبر الثاني ، والثاني وخبره خبر المبتدأ الأوَّل .
قال ابن عطيَّة : « وهذا عندي أرجحُ الأقوال ، وكأنك قلت : المتحصل في النفس مثالاً للذين كفروا هذه الجملة المذكورة » وإليه نحا الحوفي .
قال أبو حيان : « وهو لا يجوز؛ لأن الجملة التي وقعت خبراً للمبتدأ لا رابط فيه يربطها بالمبتدأ ، وليست نفس المبتدأ فيستغنى ع رابط » .
قال شهابُ الدِّين رحمه الله : « بل الجملة نفس المبتدأ ، فإن نفس مثلهم هو » أعْمَالهُمْ كَرمَادٍ « في أنَّ كلاًّ منهما لا يفيد شيئاً ، ولا يبقى له أثر ، فهو نظير قولك : » هِجِّيرى أبي بكرٍ لا إلهَ إلاَّ اللهُ « وإلى هذا الوجه ذهب الزمخشري أيضاً؛ فإنه قال : » أي صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد ، كقولك : « صفةٌ زيْدٍ عرضهُ مصُون ومالهُ مَبذُول » فنفس عرضه مصون هو نفس صفة زيد « .
الثالث : أنَّ » مَثَلُ « زائدة ، قاله الكسائي والفراء ، أي : الذين كفروا أعمالهم كرماد ، ف » الَّذينَ « مبتدأ ، و » أعْمالهُمْ « مبتدأ ثاني ، و » كَرَمادٍ « خبره ، وزيادة الأسماء ممنوعمة .
الرابع : أن يكون » مثلُ « مبتدأ ، و » أعْمَالهُم « بدل منه على تقدير : مثل أعمالهم و » كَرمَادٍ « الخبر ، قاله الزمخشري . وعلى هذا فهو بدل كلِّ من كلِّ على حذف مضاف كما تقدم .
الخامس : أنه يكون » مثل « مبتدأ ، و » أعمالهم « بدلٌ منه بدل اشتمال و » كرماد « الخبر . كقول الزباءِ : [ الرجز ]
3204
مَا لِلْجمَالِ مَشْيهَا وَئيدَا ... أجَنْدَلاً يَحْملنَ أمْ حَديدَا
السادس : أن يكون التقدير : مثل أعمال الذين كفروا ، أو هذه الجملة خبراً لمبتدأ ، قال الزمخشريُّ .
السابع : أن يكون » مَثَلُ « مبتدأ ، و » أعْمَالهُم « خبره ، أي : مثل أعمالهم فحذف المضاف ، و » كَرمَادٍ « على هذا خبر مبتدأ محذوف .
وقال أبو البقاءِ حين ذكر وجه البدل : » ولو كان في غير القرآن لجاز إبدال « أعْمالهُمْ » من : « الَّذينَ » ، وهو بدل اشتمال « .
يعنى أنَّه كان يقرأ « أعْمَالهُمْ » مجرورة لكنَّه لم يقرأ به
«
والرَّمادُ معروف وهو ما سحقته النار من الأجرام ، وجمعه في الكثرة على رمُدٍ وفي القلة على أرْمِدةٍ ، كجَمادٍ وجُمُد وأجْمِدَة ، وجمعه على أرْمِدَاء شاذ » .
والرَّمادُ : الشبه المحكم ، يقال : أرْمدَ الماءُ ، أي : صار بلونِ الرَّمادِ .
والأرْمَدُ : مَا كَانَ على لَونِ الرَّمادِ ، وقيل للبعوض : رمدٌ لذلك ، ويقال : رمادٌ رَمْدٌ ، أي : صار هباء .
قوله تعالى : { اشتدت بِهِ الريح } في محل جر صفة ل « رَمَادٍ » ، و « فِي يَوْمٍ » متعلق ب « اشْتَدَّتْ : وفي » عَاصِفٍ « أوجه :
أحدها : أنه على تقرير : عاصف ريحه ، أو عاصف الريح ، ثم حذف الريح وجعلت الصفة ل » يَوْم « مجازاً ، كقولهم : يَومٌ ماطرٌ ، وليْلٌ قَائمٌ .
قال الهرويُّ : فحذفت لقتدم ذكرها ، كما قال : [ الطويل ]
3205
إذَا جَاءَ يَومٌ مُظلِمُ الشَّمسِ كَاسفٌ .. .
أي : كاسف الشمس .
الثاني : أنه عائد على النِّسب ، أي : ذي عصوف ، كلابن وتامر .
الثالث : أنه خفض على الجوار ، أي : كان الأصل أن يتبع العاصف الريح في الإعراب ، فيقال : اشتدت الريحُ العاصفة في يومٍ ، فلمَّا وقع بعد اليوم أعرب بإعرابه ، كقولهم : » جُحْرُ ضَبٍّ خربٍ « .
وفي جعل هذا من باب الفخض على الجوار نظر؛ لأنَّ من شرطه أني يكون بحيث لو جعل صفة لما قطع عن إعرابه ليصحَّ كمثال المذكور ، وهنا لو جعلت صفة للريح لم يصحَّ لتخالفها تعريفاً ، وتنكيراً في هذا [ التركيب ] الخاص .
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق : [ » يَوْمٍ عَاصفٍ « ] وهني على حذف الموصوف ، اي : في يوم ريح عاصف ، فحذف لفهم المعنى الدال على ذلك .
ويجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف إلى صفته عند من يرى ذلك نحو : » البَقْلةُ الحَمْقَاء « . ويقال : ريحٌ عاصفٌ ومُعْصِفٌ ، وأصله من العصف ، وهو ما يكبر من الزرع ، فقيل ذلك للريح الشديد؛ لأنَّها تعصف ، أي : تسكر ما تمرُّ به
قوله : » لاَ يَقدِرُونَ « مستأنف ، ويضعف أن يكون صفة ب » يَوْمٍ : على حذف العائدِ أي : لا يقدرون فيه ، و « ممَّا كَسبُوا » متعلق بمحذوف لأنه حالٌ من « شَيءٍ » إذ لو تأخر لكان صفة ، والتقدير : على شيء مما كسبوا .
فصل
وجه المشابهة بين هذا المثل وبين أعمالهم : هو أنَّ الريح العاصفة تُطير الرماد وتفرق أجزاءه بحيث لا يبقى لذلك الرماد أثر ، فكذا كفرهم يبطل أعمالهم ويحبطها بحيث لا يبقى من أعمالهم معه أثرٌ . واختلفوا ف يالمراد بتلك الأعمال ، فقيل : ما علموه من أعمال البرِّ كالصدقة ، وصلة الرحم ، وبر الواليدن ، وإطعام الجائع ، فتبطل وتحبط بسبب كفرهم بالله ، ولولا كفرهم لانتفعوا بها .
وقيل : المراد بتلك الأعمال عبادتهم الأصنام ، وكفرهم الذي اعتقدوه إيماناً وطريقاً لخلاصهم ، وأتبعوا أبدانهم دهراً طويلاً لينتفعوا بها ، فصارت وبالاً عليهم .
وقيل : المراد من أعمالهم كلا القسمين؛ لأن أعمالهم التي كانت في أنفسها خبرات قد بطلت ، والأعمال التي اعتقدوها خيراً ، وأفنوا فيها أعمالهم بطلت أيضاً ، وصارت في أعظم الموجبات لعذابهم ، ولا شك أنَّه يعظم حسرتهم وندامتهم ولذلك قال : { هُوَ الضلال البعيد } .
قوله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله خَلَقَ السماوات والأرض بالحق } الآية لما بين بطلان أعمالهم بسبب كفرهم ، وإعراضهم عن قبول الحق ، وأنَّ الله تعالى لا يبطل أعمال المخلصين ابتداءً ، وكيف يليق بالححكمةم أن يفعل ذلك والله تعالى ما خلق هذا العالم إلا لرعاية الحكمة والصواب؟
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ } قرأ أبو عبدالرحمن رحمه الله تعالى : بسكون الراء ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه أجرى الوصل مُجْرَى الوقف .
والثاني : أنَّ العرب حذفت لام الكلمة عند عدم الجازم ، فقالوا : « ولوْ تَرَ مَا الصِّبْيَان » فلما دخل الجازم تخيلوا أنَّ الراء محل الجزم ، ونظيره « لَمْ أبَلْ » فإن أصله : أبالِي ، ثم حذفوا لامه رفعاً ، فلمَّا جزموه لم يعتدوا بلامه ، وتوهموا الجزم في اللام ، والرُّؤية هنا قلبية ف « أنَّ » في محل المفعولين ، أو أحدهما على الخلاف .
وقرأ الأخوان هنا : « ( خالق السماوات والأرض ) » خَالِقُ « اسم فاعل مضاف لما بعده فلذلك خفضوا ما عطف عليه ، وهو » الأرض « ، وفي » النور « : » خالقُ كُلِّ دابّةٍ « [ أية : 45 ] اسم فاعل مضاف لما بعده ، والباقون : » خَلَقَ « فعلاً ماضياً ، ولذلك نصبوا : » الأرْضَ « و { كُلَّ دَآبَّةٍ } [ النور : 45 ] وكسر » السَّمواتِ « في قراءة الأخوين خفض ، وفي قراءة غيرهما نصب ، ولو قيل : في قراءة الأخوين : يجوز نصب » الأرْضَ « على أحد وجهين ، إمَّا على المحمل وإمَّا على حذف التنوين لالتقاء الساكنين ، فتكون » السَّموات « منصوبة لفظاً وموضعاً لم يمتنع ولكن لم يقرأ به .
و » بِالحقِّ « متعلق به » خَلَقَ « على أنَّ الباء سببيَّة ، أو بمحذوف على أنَّها حالية إمَّا من الفاعل ، أي : محقَّا ، أو من المفعول ، أي : متلبسة بالحق .
قوله » بالحَقِّ « تقدم نظيره في يونس { مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق } [ يونس : 5 ] أي : لم يخلق ذلك عبثاً بل لغرض صحيح .
قم قال عزَّ وجلَّ { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } والمعنى : من كان قادراً على خلق السموات والأرض بالحق ، فبأن يقدر على [ إفناء ] قوم إماتتهم وعلى أيجاد آخرين أولى؛ لأنَّ القادر على الأصعب الأعظم؛ يقدر على الأسهل الأضعف بطريق الأولى .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : هذا الخطاب مع كفَّار مكَّة يريد أميتكم يا معشر الكفَّار ، وأخلق قوماً خيراً منكم وأطوع منكم .
{
وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ } أي : ممتنع لما ذكرنا من الأولوية .
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)
قوله : { وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً } الآية لما ذكر عذاب الكفار وبطلان أعمالهم ذكر هنا كيفية حجتهم عند تمسك أتباعهم ، وكيفية افتضحاهم عندهم .
و « بَرَزَ » معناه في اللغة : ظَهَرَ بَعْدَ الخفاءِ ، ومنه يقال للمكانِ الواسع البرَازُ لظهوره .
وقيل : في قوله تعالى : { وَتَرَى الأرض بَارِزَةً } [ الكهف : 47 ] أي : ظاهرة لا يسترها شيء وامْرأةٌ بَرْزَةٌ : إذا كانت تعظهر للنَّاس ، ويقال : فلانٌ برز على أقرانه ، إذا فاقهم وسبقهم ، وأصله في الخيل إذا سبق أحدهما قيل : بَرَزَ عَليْهَا كأنَّهُ قد خرج من غُمارها .
وورد بلفظ الماضي وإن كان معناه الاستقبال؛ لأنَّ كل ما أخبر الله عنه فهو حقٍّ وصدق ، فصار كأنه قد حصل ، ودخل في الوجود ، كقوله تعالى : { ونادى أَصْحَابُ النار } [ الأعراف : 50 ] .
فصل
البُرُوزُ في اللغة قد تقدَّم أنه بمعنى الظُّهور بعد الاستِتَارِ وهذا في حق الله محالٌ ، فلا بد من التأويل ، وهو من وجوه :
الأول : أ ، هم كانوا يستترون من الغير عند ارتكاب الفواحش ويظنون أن ذلك يخفى على الله تعالى فإذا كان يوم القيامة انكشفوا عند الله تعالى وعلموا أن الله لا يخفى عليه خافية .
والثاني : أنَّهم خرجوا من قبورهم ، فبرزوا لحساب الله تعالى قالت الحكماءُ :
إنَّ النفس إذا فارقت الجسد فكأنه زال الغطاء ، وبقيت متجردة بذاتها عارية عن كل ما سواها وذلك هو البروز لله تعالى .
ثم حكى أن الضعفاء يقولون للرؤساء « إنّا كنا لكم تعباً » أي : إنما اتبعناكم لهاذ اليوم « فَهلْ أنتُم مُّغنُونَ » دافعون : { عَنَّا مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ } .
و « تَبَعاً » يجوز أن يكون جمع تابع ، كخَادِم وخَدَم ، وغَائِب وغَيَب ونَافِر ونَفَر ، وحَارِس وحَرَس ، ورَاصِد ورَصَد .
ويجوز أن يكون مصدراً ، نحو : قَوْمٌ عَدْلٌ ، ففيه التأويلات المشهورة .
قوله : { مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ } في « مِنْ » و « مِنْ » [ أربعة ] أوجه :
أحدها : أنَّ « مِنْ » الأولى للتبيين ، والثانية للتبعيض ، تقديره : مغنون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب اله ، قاله الزمشخريُّ .
قال أبو حيان : هذا يقتضي التقديم في قوله : « مِنْ شيءٍ » علتى قوله : « من عذاب الله؛ لأنه جعل » من شيء « هو المبين بقوله : » من عذاب الله « و » من « التبيينية مقدم عليها ما تبينه ولا يتأخر .
قال شهاب الدِّين : كلام الزمخشري صحيح من حيث المعنى؛ فإن » من عذاب الله « لو تأخر عن » شيء « كان صفة له ، ومبيناً ، فلما تقدم انقلب إعرابه من الصفة إلى الحال ، وأما معناه وهو البيان فباق لم يتغير .
الثاني : أن يكونا للتبعيض معاً ، بمعنى : هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله؛ أي : بعض بعض عذاب الله ، قاله الزمخشري .
قال أبو حيان : وهذا يقتضى أن يكون بدلاً ، فيكون بدل عام من خاص ، وهذا لا يقال؛ فإن بعضيه الشيء مطلقة ، فلا يكون لها بعض .
قال شهاب الدين : لا نزاع أنه يقال : بعض البعض ، وهي عبارة متداولة ، وذلك البعض المتبعض هو كل لأبعاضه بعض لكله ، وهذا كالجنس المتوسط ، هو نوع لما فوقه ، جنس لما تحته .
الثالث : أن « مِنْ » في « مِنْ شَيءٍ » مزيدة ، و « مِنْ » في « مِنْ عذابِ » فيها وجهان :
أحدهما : أن تتعلق بمحذوف؛ لأنها في الأصل صفة ل « شيء » فلما تقدمت نصبت على الحال .
والثاني : أنها تتعلق بنفس « مغنون » على أن يكون « من شيء » واقعاً موقع المصدر ، أي : غناء ، ويوضح هذا ما قاله أبو البقاء رحمه الله تعالى قال : و « من » زائدة أي شيئاً كائناً من ذاب الله سبحانه وتعالى ، ويكون محمولاً على المعنى ، تقديره : هل تمنعون عنا شيئاً؟ ويجوز أن يكون « شيء » واقعاً موقع المصدر ، أي غناء ، فيكون « من عذاب الله » متعلقاً ب « مغنون » ، و « من » في « من شيء » لاستغرق الجنس زائدة للتوكيد .
فصل
هذه التعبية يحتمل أن يكون المراد منها التعبية في الكفر ، ويحتمل أن يكون المراد منها التعبية في أحوال الدنيا ، فعند ذلك قال الذين استكبروا للضعفاء : « لو هدانا الله لهديناكم » قال ابن عباس رضي الله عنهما : معناه لو أرشدنا الله لأرشدناكم . قال الواحدي : معناه أنهم إنما دعوهم إلى الضلال؛ لأن الله تعالى أضلهم فلم يهدهم ، فدعوا أتباعهم إلى الضلال ، ولو هداهم لدعوهم إلى الهدى .
قال الزمخشري : لعلهم قالوا ذلك مع أنهم كذبوا فيه ، ويدل عليه قوله تعالى حكاية عن المنافقين : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ } [ المجادلة : 18 ] .
واعلم أن المعتزلة لا يجوزون صدور الكذب على أهل القيامة ، فكان هذا القول منه مخالفاً لأصول مشايخة ، فلا يقبل .
وقال الزمخشري : يجوز أن يكون المعنى : لو كنا من أهل اللطف ، فلطف بنا ربنا فهدانا إلى الإيمان لهديناكم إلى الإيمان .
وذكر القاضي هذا الوجه وزيفه بأن قال : لا يجوز حمل هذا على اللطف؛ لأن ذلك قد فعله الله تعالى .
وقيل : لو خلصنا الله من العذاب ، وهدانا إلى طريق النجنة ، لهديناكم؛ بدليل أن هذا هو الذي التمسوه وطلبوه .
قوله : { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ } إلى آخره فيه قولان :
أحدهما : أنه من كلام المستكبرين .
والثاني : أنه من كلام المستكبرين والضعفاء معاً ، وجاءت كل جملة مستقلة من غير عاطف دلالة على أن كلاًّ من المعاني مستقل بنفسه كافٍ في الإخبار ، وقد تقدَّم الكلام في التسوية والهمزة بعده في أول البقرة .
والجَزَعُ : عدمُ احتمالِ الشدَّة ، قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
3206
جَزِعْتُ ولَمْ أجْزَعْ مِنَ البيْنِ مَجْزَعاً ... وعَزَّيْتُ قلْباً بالكَواعِبش مُولعَا
وقال الراغب : « أصل الجَزْعِ : نقطعُ الحَبْلِ ، يقال : جَزعْتهُ فانْجَزعَ ومنه : جِزْعُ الوادي لمنقطعة ، ولانقطاع اللون بتغيره .
وقيل للخرز المتلون : جِزْع ، واللحم المُجَزَّعُ : ما كان ذا لونين والبسرة المجزعة : أن تبلغ الأرطاب نصفها ، والجَاذِعُ : خشبة تجعل في وسط لبيت فتلقى عليها رؤوس الخشب من الجانبين ، وصور الجزعة لما حمل عليه من العبء أو لقطعه بطوله وسط البيت » .
والجَزَع أخص من الحزن ، فإن الجزع حزنٌ يصرف الإنسان عما هو بصدده .
والمَحِيصُ : يكون مصدراً كالمَغِيب والمَشِيب ، ويكون اسم مكان ، كالمَبِيت والمَضِيق ويقال : حَاصَ عنه وحَاضَ بمعنى واحد ، ويقال : خاض بالضاد المعجمة ، وجصنا بها بالجيم .
والمعنى : مالنا من ملجأ ولا مهرب . فقام إبليس عند ذلك فخطبهم فقال { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق } .
قوله : { وَعْدَ الحق } يجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف الصفته ، كقوله تعالى : { وَحَبَّ الحصيد } [ ق : 9 ] ومسجد الجامع ، أي : الوعد الحق ، وأن يراد ب « الحقِّ » صفة الباري تعالى ، أي : وعدكم الله وعده الحق ، وأن يراد ب « الحَقِّ » البعث ، والجزاء على الأعمال ، فتكون إضافة صريحة .
وقيل : وعدكم الحق ثمَّ ذكر المصد تأكيداً ، وفي الكلام إضمارٌ من وجهين :
الأول : التقدير : أن الله وعدكم وعد الحق فصدقكم ووعدتكم فأخلفتكم وحذف لدلالة الحال على صدق ذلك الوعد؛ يقتضي مفعولاً ثانياً ، وحذف للعلم به تقديره : ووعدتكم أن لا جنّة ، ولا نار ، ولا حشر ، ولا حساب .
فصل
لما [ ذكر ] الله سبحانه وتعالى المناظرة التي وقعت بين الرؤساء والأتباع أردفها بالمناظرة التي وقعت بين الشيطان وأتباعه فقال : { وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر } قال المفسرون : إذا استقر أهلُ الجنَّة في الجنَّة ، وأهل النَّار في النَّار أخذ أهل النار في لوم إبليس وتقريعه ، فيقوم فيما بينهم خطيباً ، فيقول : « إنَّ اللهَ وعدَكُمْ وعْدَ الحقِّ ووَعدتُّكُمْ فأخْلفَتُكُمْ » .
وقيل : المراد من قوله تعالى : { لَمَّا قُضِيَ الأمر } أي : لما انقضت المحاسبة والمراد من الشيطان : إبليس لعنه الله! .
قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ } أي : قدرة وتسلط ، وقهر فأقهركم على الكفر والمعاصي .
قوله : { إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ } فيه وجهان :
أظهرهما : أنه استثناء منطقع؛ لأنَّ دعاءه ليس من جنس السُّلطان ، وهو الحجة البينة فهو كقولكم : ما تَحِيَّتُم إلاَّ الضرب .
والثاني : أنه متصل؛ لأن القدرة على حمل الإنسان على الشر تارة تكون بالقهر وتارة بتقوية الداعية في قلبه بإلقاء الوسوسة في قلبه ، فهو نوع من التسلُّط .
وقرىء « فَلا يَلُومُونِي » بالياء من تحت الالتفات ، كقوله تعالى : { حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم }
[
يونس : 22 ] .
ظاهر هذه الآية يدل على أن الشيطان لا قدرة له على صرع الإنسان وتعويج أعضائه وجوارحه وإزالة عقله كما يقوله العوام .
ومعنى الآية : ما كان مني إلا الدعاء والوسوسة وأنتم سمعتم دلائل الله وشاهدتم مجيء أنبياء الله؛ فكان من الواجب أن لا تغتروا بقولي ، ولا تلتفتوا إليَّ ، فملا رجحتم الوسوسة على الدلائل الظاهرة كان اللََّوم عليكم لا عليَّ .
قالت المعتزلة : هذه الآية تدل على أشياء :
أحدها : أنه لو كان الكفر والمعصية من الله تعالى لوجب أن يقال : فلا تلوموني ولا تلوموا أنفسكم فإنَّ الله تعالى قضى عليكم بالكفر ، وأجبركم عليه .
والثاني : أن ظاهر هذه الآية يدلُّ على أنَّ الشيطان لا قدرة له على تصريع الإنسان ، ولا على تعويج أعضائه وإزالة عقله .
والثالث : يدل على أنَّ الإنسان لا يجوز لومه ، وذمه ، وعقابه بسبب فعل الغير ، وعند هذا يظهر أنه لا يجوز عقاب أولاد الكفار بسبب كفر آبائهم .
وأجاب بعضهم عن هذه الوجوه : بأن هذا قول الشيطان ، فلا يجوز التمسك به .
وأجاب الخصم عنه : بأنه لو كان هذا الوقل منه باطلاً لبينه الله تعالى وأظهر إنكاره ، فلا فائدة من ذلك اليوم في ذكر الكلام الباطل ، والقول الفاسد .
ألا ترى أن قوله : { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ } كلام حق ، وقوله { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ } قول حق بدليل قوله تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين } [ الحجر : 42 ] .
قال ابن الخطيب رحمه الله : دلت هذه الآية على أنَّ الشيطان [ الأصلي ] هو النفس؛ لأن الشيطان بين أنَّه ما أتى إلاَّ بالوسوسة ، فلولا الميل الحاصل بسبب الشهوة ، والغضب ، والوهم ، والخيال لم يكن لوسوسته تأثير ألبتَّة ، فدل على أنَّ الشيطان الأصلي هو النفس .
فإن قيل : لِمَ قال الشيطان : « فَلا تَلُومونِي ولُومُوا أنْفُسكمْ » وهو ملوم بسبب وسوسته؟ .
فالجواب : أراد لا تلوموني على فعلكم : « ولوموا أنفسكم » عليه؛ لأنكم عدلتم عما توجه من هداية الله تعالى لكم .
قوله تعالى : { مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } العامَّة على فتح الياءِ؛ لأ ، الياء المدغم فيها تفتح أبداً ، لاسيما وقبلها كسرتان .
وقرأ حمزة بكسرها ، وهي لغة بني يربوع ، وقد اضطربت أقوال النَّاسِ في هذه القراءة اضراباً شديداً ، فمن مجترىء عليها ، ملحن لقارئها ، ومن مجوِّز لها من غير ضعف قال : إنَّها لغة بني يربوع ، والأصل : بمُصرخينَ لي [ فحذفت ] النون للإضافة وأدغمت ياء الجماعة في ياء الإضافة ، ومن مجوِّز لها بضعف .
قال حسين الجعفيُّ رحمه الله : سألت أبا عمرو عن كسر الياء؛ فأجازه وهذه الحكايةُ تحكى عنه بطرق كثيرة منها ما تقدَّم .
ومنها : سألت أبا عمرو ، قلت : إنَّ أصحاب النحو يلحنوننا فيها ، فقال : هي جائزة عن القرآن ، فوجته به عالماً ، فسألته عن شيء قرأ به الأعمش ، [ واستقرأ ] به : { وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } بالجر ، فقلا : هي جائزة ، فلما أجازها وقرأ بها الأعمش أخذت بها .
وقد أنكر أبو حاتم على أبي عمرو تحسينه لهذه القراءة ، ولا التفات إليه؛ لأَنَّه علم من أعلام القرآن ، واللغة ، والنحو ، واطلع على ما لم يطلع عليه من فوق السجستاني : [ البسيط ]
3207
وابْنُ اللَّبُونِ إذا ما لُزَّ في قَرنٍ ... لمْ يَسْتطِعْ صَوْلشةَ البُزْلِ القَناعِيسِ
ثم ذكر العلماؤ في ذلك التوجيهات :
منها : أن الكسر على أصل التقاء الساكنين ، وذلك أنَّ ياء الإعراب ساكنة وياء المتكلم أصلها السُّكون ، فلما التقيا كسرت؛ لالتقاء الساكنين .
الثاني : أنها تشبه هاء الضمير في أنَّ كلاًّ منهما ضمير على حرف واحد و « هاء » الضمير توصل بواو إذا كانت مضمومة ، وبياء إذا كانت مكسورة ، وتكسر بعد الكسرة والياء ساكنة؛ فتكسر كما تكسر الهاء في : « عَليْهِ » ، وبنو يربوع يصلونها بياء كما يصل ابن كثير نحو «
عليهي » بياء ، فحمزة كسر هذه الياء من غير صلة ، إذ أصله يقتضي عدمها .
وزعم قطربٌ أنها لغة بني يربوع .
قال : يزيدون على ياء الإضافة ياء؛ وأنشد : [ الرجز ]
3208
مَاضٍ إذَا ما هَمَّ بالمُضِيِّ ... قَال لهَا : هَلْ لَكِ يَا تَفِيِّ
وأنشده الفراء وقال : فإن يك ذلك صحيحاً ، فهو مما يلتقي من السكانيني فنخفض الآخر منها .
وقال أبو علي : قال الفرَّاءُ في كتاب التصريف له : زعم القاسم بن معنٍ أنه صواب ، وكان ثقة بصيراً .
وممن طعن عليها أبو إسحاق قال : هذه القرءاة عند جميع النحويين رديئةٌ مرذولة ، ولا وجه لها إلا وجه ضعيف .
وقال أبو جعفر : « صار هذا إدغاماً ، ولا يجوز أن يحمل كتاب الله عزَّ وجلَّ على الشذوذ » .
وقال الزمخشري : هي ضعيفة ، واستشهدوا لها ببيت مجهول : [ الرجز ]
3209
قَال لهَا : هَلْ لكِ يَا تَافيِّ ... قالتْ لهُ : مَا أنْتَ بالمَرْضِيِّ
وكأن قدر ياء الإضافة ساكنة ، وقبلها ياء سكانة فحركها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين ، ولكنه غير صحيح؛ لأنَّ ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث قبلها ألف نحو : عَصَاي ، فما بالها وقبلها ياء؟ .
فإن قلت : جرت الياء الأولى مجرى الحرف الصحيح لأجل الإدغام ، فكأنها ياء وقعت بعد حرف صحيح ساكن فحركت بالكسر على الأصل .
قلت : هذا قياس حسنٌ ، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات .
قال أبو حياان رحمه الله تعالى : « أما قولهن : واستشهدوا لها ببيت مجهول ، فقد ذكر غيره أنه للأغلب العجلي ، وهي لغة باقية في أفواه كثير من النَّاس إلى اليوم ، يقولون : ما فيِّ أفعلُ كذا بكسر الياء » .
قال شهابُ الدِّين : الذي ذكره صاحب هذا الرجز هو الشيخ أو شامة قال ورأيته أنا في أوَّل ديوانه ، وأول هذا الرجز :
3210
أقْبَلَ فِي ثَوْبٍ مَعَافِريِّ ... عِنْدَ اختلاطِ اللَّيْلِ والعَشِيَّ
ثم قال أبوة حيان : « وأما التقدير الذي ذكره فهو توجيه الفراء نقله عن الزجاج وأما قوله : في غضون كلامه حيثُ قبلها ألف ، فلا أعلم » حيث « يضاف إلى الجملة المصدرة بالظرف ، نحو : » قعد زيد حيث أمام عمرو بكر ، فيحتاج هذا التركيب إلى سماع « .
قال شهابُ الدين رحمه الله : » إطلاق النحاة قولهم : إنها تضاف إلى الجمل كاف في هذا ، ولا يحتاج تتبع كلَّ فرد فرد مع إطلاقهم القوانين الكلية « .
ثم قال : وأما قوله : لأن ياء الإضافة إلى آخره ، قد روي بسكون الياء بعد الألف ، وقد قرأ بذلك القراء ، نحو : { وَمَحْيَايَ } [ الأنعام : 162 ] .
قال شهاب الدين : مجيء السُّكون في هذه الياء لا يفيده ههنا ، وإنَّما كان يفيده لو جاء بها مكسورة بعد الألف فإنهن محل البحث ، وأنشد النحاة بيت الذبياني بالكسر والفتح ، وهو قوله : [ الطويل ]
3211
عَليَّ لِعمْرٍو نِعْمةٌ بَعْندَ نِعْمةٍ ... لِوالِدهِ ليْسَتْ بِذاتِ عَقارِبِ
وقال الفراء في كتاب » المَعانِي « له : » وقد خفض الياء من « مصرخي » الأعمش ويحيى بن وثاب جميعاً حدّثني بذلك القاسم بن معنٍ عن الأعمش ، ولعلها من وهنم القراء فِإنه قلَّ من سلم منهم من الوهم ، ولعله ظن أنَّ الياء في { بِمُصْرِخِيَّ } خافضة للفظ كله ، والياء للمتكلم خارجة عن ذلك؟ قال : ومما [ نرى ] أنهم وهموا فيه قوله { نُوَلِّهِ مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ } [ النساء : 115 ] بالجزم في الهاء « ، ثمَّ ذكر غير ذلك .
وقال أبوعبيدٍ : أمَّا الخفض فإنا نراه غلطاً؛ لأنَّهم ظنوا أنَّ الياء تكسر كل ما بعدها ، وقد كان في القراء من يجعله لحناً ، ولا أحبُّ أن أبلغ به هذا كله ، ولكن وجه القراءة عندنا غيرها .
وقال الأخفش : » ما سمعت بهذا من أحد من العرب ولا من أحد من النحويين « .
قال النحسا : فصار هذا إجماعاً ، ولا يجوز ، فقد تقدَّم ما حكاهُ النَّاس من أنها لغة ثابتة لبعض العرب .
وقد انتدب لنصرة هذه القراءة أبو علي الفارسي قال في حجَّته : » وجه ذلك أن الياء ليست تخلو من أن تكون في موضع نصب أو جر ، فالياء في النصب والجر كالهاء فيهما وكالكاف في « أكْرَمْتُكَ » وهذا لك ، فكما أنَّ الهاء قد لحقها الزيادة في « هذال لهو ، وضربهو » ، ولحق الكاف أيضاً الزيادة في قول من ق ل : « أعْطَاكهُ » و « أعْطَيْتكَهُ » فيما حكاهُ سيبويه وهما أختا الياء ، ولحقت الياء الزيادةم في قول الشاعر : [ الهزج ]
3212
، رَمَيْتِيهِ فأصْمَيْتِ ... ومَا أخْطَأتِ [ في ] الرَّميَه
كذلك الحقوا الياء الزائدة من المد ، فقالوا : فيِّ ، ثمَّ حذفت الياء الزائدة على الياء كما حذفت الزيادة من الهاء في قول من قال : [ الطويل ]
3213 .. . . .
لَهْ أرِقَانِ
وزعم أبو الحسن : أنَّها لغة « . ومراد أبي علي بالتنظير بالبيت في قوله : » له أرِقَانِ « حذف الصلة ، واتفق أن في البيت أيضاً حذف الحركمة ولو مثل بنحو » عَليْهِ « و » فِيهِ « لكان أولى .
ثمَّ قال الفارسي : كما حذفت الزيادة من الكاف فقيلك أعطيتكه ، وأعطيتكيه كذلك حذفت الياء اللاحقة للياء كما حذفت من أختها ، وأقرت الكسرة التي كانت تلي الياء المحذوفة فبقيت الياء على ما كانت عليه من الكسرِ .
قال\ : فإذا كانت الكسرة في الياء على هذه اللغةِ ، وإن كان من غيرها أفشى منها ، وعضده من القياس ما ذكرنا ما لم يجز .
لقائل أن يقول : إنَّ القراءة بذلك لحن ، [ لاستقامة ] ذلك في السَّماع والقياس ، وما كان كذلك لا يكون لحناً ، وهذا [ التوجيه ] يوضح التوجيه الثاني الذي تقدَّم ذكره ، وأما التوجيه الأول فأوضحه الفراء أيضاً .
قال الزجاج : » أجاز الفراء على وجه ضعيف الكسر؛ لأن أصل التقاء السكانين الكسر « .
قال الفراء : » ألا ترى أنهم يقولون : مذُ اليوم ، ومُذِ اليوم ، والرفع في الذال هو الوجه؛ لأنه أصل حركة « مُذْ » والخفض جائز ، فكذلك الياء من « مُصرخِيِّ » خفضت ولها أصل في النصب « .
قال شهاب الدين : تشبيه الفراء المسألة ب » مُذُ اليَوْم « فيه نظر؛ لأن الحرف الأول صحيح لم يتوالى قبله كسر ، بخلاف ما نحن فيه ، وهذا هو الذي عناه الزمخشريُّ قوله المتقدم : فكأنَّها وقعت فبعد حرف صحيح ، وقد اضطرب النقل عن الفراء في هذه المسألة كما ترى من [ نقل ] بعضهم عنه ، التخطئة مرة [ والتصويب ] أخرى ، ولعل الأمر كذلك فإنَّ العلماء يسألون فيجيبون مما يحضرهم حال السؤال ، وهني مختلفة التوجيه .
الثالث : أن الكسر للإتباع لما بعدها ، وهو كسر الهمزة من » إنِّي « كقراءة » الحَمْدِ للهِ « وكقولهم : بِعِير وشِعِير ، وشِهِيد ، سكر أوائلها إتباعاً لما بعدها وهو ضعيف جدًّا .
التوجيه الرابع : أنَّ المسوغ لهذا الكسر في الياء ، وإن كان مستقلاً أنها لما أدغمت فيها التي قبلها قويت بالإدغام ، فأشبهت الحروف الصحاح فاحتملت الكسر لأنه إنما يستثقل فيها إذا حذفت ، وانكسر ما قبلها ، ألا ترى أن حركات الإعراب تجري على المشدد ، ما ذاك إلا إلحاقه بالحروف الصحاح .
والمُصْرِخ : المُغِيثُ : يقال : استصرختُه فأصرخني ، أي : فأغَاثِني فكأن همزة للسكت ، أي : أ زَالَ صُراخِي . والصَّارخُ : هو المُسْتَغِيثُ ، قال : [ الطويل ]
3214
فَلاَ تَجْزَعُوا إنِّي لَكُمْ غَيْرُ مُصْرِخٍ ... ولَيْسَ لَكُمْ عِنْدِي غَنَاءُ ولا نَصْر
ويقال : صَرَخَ يَصْرخُ صَرْخاً وصرخة؛ قال : [ البسيط ]
3215
كُنَّا إذَا مَا أتَانَا صَارِخٌ فَزِعٌ ... كَانَ الصُّرَاخُ لَهُ قرْعَ الظَّنَابِيبِ
يريد : كان [ الصراخ ] ، فحذف المضاف ، وأقام المصدر الثلاثي مقام المصدر الرباعي ، نحو { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] .
والصَّريخُ : القومُ المُسْتَرخُونَ ، قال : [ الكامل ]
3216
قَوْمٌ إذَا سَمِعُوا الصَّريخَ رأيْتهُمْ ... مَا بَيْنَ مُلْجمِ مُهرهِ أو سَافِعِ
والصَّريخُ : أيضاً : المعينون ، فهو من الأضداد ، وهو محتملٌ أن يكون [ وصفاً ] على « فَعِيل » كالخليطِ ، وأن يكو مصدراً في الأصل ، قال « فَلا صَريخَ لَهُمْ » ، فهذا يحتمل ، وأن يكون فعيلاً بمعنى المفعل ، أي : فلا مُصْرِخَ لهم ، أي : ناصر وتصرَّخَ تكلَّف الصُّراخ .
قوله : { إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ } يجوز في « ما » وجهان :
[
أحدهما : أن يكون بمعنى الذي ، ثمَّ في المراد بعد الموصول وجهان : ]
أحدهما : أنه الأصنام ، تقديره : بالصَّنم الذي أشركتموني به ، أي : بالصنم الذي « اطعتموني كما أطعتموه ، كذا قال أبو البقاء ، والعائد محذوف ، فقدره أبو البقاء : بما أشركتموني به ، ثم حذف يعني بعد حذف الجار ، ووصول العفل إليه ، ولا حاجة إلى تقديره مجروراً بالياء؛ لأن هذا الفعل متعدّ لواحد ، نحو : شركتُ زيداً ، فلما دخلت همزة الفعل أكسبته ثانياً ، هو العائد ، تقول : أشْرَكْتُ زيْداً عَمْراً ، أي جعلتهُ شريكاً له .
الثاني : أنه الباري تعالى ، أي : بما أشركتموني به ، أي : بالله تعالى .
قال القرطبي : المعنى : أن إبليس قال : إني كفرت بالله الذي أشركتموني به من قبل كفركم ، أي : أنَّ كفره كان قبل كفر أتباعه ، وتكون » مَا « بمعنى » مَنْ « والكلام في العائد كما تقدَّم ، إلا أن فيه إيقاع » مَا « على العاقل والمشهور أنَّها لغير العاقل .
قال الزمخشري : » ونحو « مَا » هذه « مَا » في قوله : « سُبْحانَ مَا سخَّركُنَّ لنَا » ومعنى إشراكهم الشيطان بالله تعالى طاتهم له فيما كان يزينه لهم من عبادة الأوثان « .
قال أبو حيان : » ومن منع ذلك جعل سبحان هنا علماً على معنى التَّسبيح ، كما جعل « برَّة » علماً للمبرة ، و « ما » مصدرية ظرفية « ، أي : فيكون على حذف مضاف أي : سبحان صاحب تسخيركن؛ لأن التسبيح لا يليقُ إلا بالله عزَّ وجلَّ . .
الوجه الثاني : أن » ما « مصدرية ، اي : بإشراككم إياي مع الله ، لي الطاعة .
قوله » مِنْ قَبْلُ « متعهلق ب » كَفرْتُ « على القول الأوَّل؛ أي كفرت من قبل حين أبَيْتُ السجود لآدم عليه السلام بالذي أشركتموني وهو الله سبحانه وتعالى ، وب » أشْرَكْتُ « على الثاني ، أي : كفرت اليوم بإشراككم إيَّاي من قبل هذا اليوم أي : في الدنيا ، كقوله { وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } [ فاطر : 14 ] ، هذا قول الزمخشري رحمه الله .
وجوَّز أبو البقاء متعلقه ب » كَفرْتُ « وب » أشْرَكْتمُونِي « من غير ترتيب على كون : » مَا « مصدرية أوموصولة .
فقال : و « مِنْ قَبْلُ » متعلق ب « أشْرَكْتمُونِي » ، أي : كفرت الآن بما أشركتموني من قبل .
وقيل : هي متعلقة ب « كَفرْتُ » أي : كفرت من قبل إشراككم ، فلا أنفعكم شيئاً .
وقرأ ابو عمرو بإثبات الياء في « أشْرَكْتمُونِي » وصلاً ، وحذفها وقفاً ، وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً ، وهنا تم كلام الشيطان .
وقوله { إِنَّ الظالمين } من كلام الله تعالى ، ويجوز أن يكون من كلام الشيطان .
و « عَذابٌ » يجوز رفعه بالجار قبله على أنَّه الخبر ، وعلى الابتداء وخبره الجار .
قوله تعالى : { وَأُدْخِلَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } الآية لما شرح حال الأشقياء شرح أحوال السُّعداءِ فقال ، عزَّ وجلَّ { وَأُدْخِلَ الذين آمَنُواْ } قرأ العامة « أدْخِلَ » ماضياً مبنياً للمفعول ، والفاعل الله أو الملائكة .
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد : « أدخلُ » مضارعاً مستنداً للمتكلم وهو الله تعالى فمحل الموصول على الأولى رفع ، وعلى الثانية نصبٌ .
قوله : { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } في قراءة العامة يتعلق ب « أدْخِلَ » أي : أدخلوا بأمره ، وتيسيره .
ويجوز تعلقه بمحذوف على أنَّه حال ، أي : ملتبسين بأمر ربهم .
وجوز أبو البقاء ِأن يكون من تمام : « خَالِدينَ » يعني : أنه متعلق به ، وليس بممتنع ، وكذا على قراءة الشَّيخين .
فقال الزمخشريُّ : فإن قلت : « فَبِمَ يتعلَّق في القراءةِ الأخرى ، وقولك : وأدخل أنا بإذن ربهم كلام غير ملتئم؟ .
قلت : الوجه في هذه القراءة أنَّه يتعلق بما بعده ، أي : تحيتهم فيها سلام بإذنِ ربهم » .
ورد عليه أبو حيَّان هذا بأنه لا يتقدم معمول المصدر عليه .
وقد علقه غير الزمخشريِّ ب « أدْخِلَ » ، ولا تنافر في ذلك؛ لأنَّ كلَّ أحد يعلم أنَّ المتكلم في قوله : « وأدْخِلَ » أنه هو الله تعالى .
وأحسن من هذين أن يتعلق بما بعده ، أي : تحيتهم فيها سلامٌ بإن ربهم ورد في هذه القراءة بمحذوف على أنَّه حال كما تقدَّم تقديره .
و « تَحِيَّتُهُمْ » مصدر مضاف لمفعوله ، أي : يحييهم الله تعالى ، أو ملائكته ، ويجوزم أن يكون مضافاً لفاعله ، أي : يحيى بعضهم بعضاً .
ويعضد الأول { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23 ، 24 ] و { فِيهَا } متعلق به .
فصل
أعلم أنَّ الثَّواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم ، فأشار بقوله تعالى : { وَأُدْخِلَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } إلى المنفعة الخالصة واشار بقوله : { خَالِدِينَ فِيهَا } إلى دوامها ، وأشار إلى كونها مقرونة بالتعظيم بقوله { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } أي : بإذن الله وأمره ، وبقوله عزَّ وجلَّ { وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } [ يونس : 10 ] أي : أنهم يحيى بعضهم بعضاً بهذه الكلمة ، أو الملائكة يحيونهم بها ، كما قال تعالى : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23 ، 24 ] والرَّب الرحيم أيضاً يحييهم [ بهذه الكلمة ] { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ يس : 58 ] والسلام مشتقش من السلامة ، أي : أنهم سلموا من آفات الدنيا آمنوا من أمرضها وأسقامها .
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
قوله تعالى : { ألَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ } لما شرح أحوال الأشقياء ، وأحوال السعداء ذكر مثالاً للقسمين وف « ضَرَبَ » أوجه :
أحدها : أنه متعد لواحد بمعنى اعتمد مثلاً ووضعه ، و « كَلِمةً » على منصوبة بمضمر ، أي : جعل كلمة طيبة كشجرة طييبة ، وهو تفسير لقوله : « ضَربَ اللهُ مَثلاً » كقولك : شَرفَ الأمير زيْداً كَساهُ حُلَّةً ، وحلمه على ضربين ، وبه بدأ الزمخشريُّ .
قال أبو حيان رحمه الله : « وفيهن تكلف إضمار ، ولا ضرورة تدعو إليه » .
قال شهاب الدين : « بل معناه محتاج إليه فيضطر إلى تقديره محافظة على لمح هذا المعنى الخاص » .
الثاني : أنَّ « ضَرَبَ » متعدية لاثنين؛ لأنها بمعنى « صَيَّرَ » لكن مع لفظ المثل خاصة ، وقد تقدَّم تقرير هذا أوَّل الكتاب ، فيكون « كَلمَةٌ » مفعولاً أولا ، و « مَثلاً » هوالثاني مقدم .
الثالث : أنَّه متعدٍّ لواحد ، وهو « مَثَلاً » ، و « كَلمَةً » بدل منه ، و « كَشجَرةٍ » خبر مبتدأ مضمر ، أي : هي كشجرة طيبة وعلى الوجهين قبله يكون « كَشجَرةٍ » نعتاً ل : « كَلِمَةً » .
وقرىء « كَلِمةٌ » بالرفع ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو ، أي : المثل كلمة طيبة ، ويكون « كَشجَرة » على هذا نعتاً ل « كَلِمَةٍ » .
والثاني : أنَّها مرفوعة بالابتداء ، و « كَشجَرةٍ » خبر .
وقرأ أنس بن مالكٍ رضي الله عنه « ثَابِتٌ أصْلُهَتا » .
قال الزمخشريُّ : فِإن قلت : أي فربق بين القراءتين؟ قلت : قراءة الجماعة أقوى معنى؛ لأنَّ قراءة أنس أجرت الصفة على الشجرة ، ولو قلت : مررتُ برجُلٍ أبُوهُ قَائِمٌ ، فهو أقوى من « رَجُل قَائِم أبوهُ » ؛ لأنَّ المخبر عنه إنَّما هو الأب ، لا « رجل » . والجملة من قوله : « أصْلُهَا ثَابتٌ » في محلِّ جرٍّ نعتاً ل « شَجَرةٍ » .
وكذلك « تُؤتِي أكلها » ويجوز فيهما أن يكونا مستأنفين ، وجواز أبو البقاء في « تُوتِي » أن يكون حالاً من معنى الجملة التي قبلها ، أي : ترتفع مؤتية أكلها ، وتقدم الخلاف في « أكُلَهَا » .
فصل
المعنى : ألم تعلم ، والمثل : قول سائر كتشبيه شيء بشيء : « كَلِمة طَيِّبةً » هي قول : لا إله إلا الله « كَشجَرةٍ طَيِّبةٍ » وهي النَّخلةُ يريد : كشجرة طيبة الثمر .
وقال أبو ظيبان عن ابن عباسٍ رضي الله عنه : هي شجرة في الجنَّة أصلها ثابت في الأرض ، وفرعها أعلاها في السماء ، كذلك أصل هذه الكلمة راسخ في قلب المؤمن بالمعرفة ، والتصديق ، فإذا تكلَّم بها عرجت ، فلا تحجب حتى تنتهي إلى الله عزَّ وجلَّ قال تعالى :
{
إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] . ووصف الشجرة بكونها طيبة وذلك يشمل طِيبَ الصورة والشكل والمنظر ، والطعم ، والرائحة والمنفعة ويكون أصلها ثابت ، اي : راسخٌ آمن من الانقطاع ، والزوال ويكون فرعها في السماء؛ لأن ارتفاع الأغصان يدلُّ على ثبات الأصل ، وأنَّها متى ارتفعت كانت عبدية عن عفونات الأرض ، فكانت ثمارها نقيّة طاهرة عن جميع الشَّوائبِ ، ووصفها أيضاً بأنها : « تُؤتِي أكلها كُلَّ حينٍ بإذنِ ربِّها » والحين في اللغة هو الوقت ، والمراد أنَّ ثمار هذه الشجرة تكون أبداً حاضرة دائمة في كلِّ الأوقات ولا تكون مثل الأشجار التي تكون ثمارها حضارة في بعض الأوقات دون بعض .
وقال مجاهد وعكرمة : والحين : سنة كاملة؛ لأنَّ النخلة تثمر كلَّ سنةٍ . وقال سعيد بن جبير ، وقتادة والحسن : ستة أشهر من وقت إطلاعها إلى حين صرامها وروي ذلك عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه .
وقيل : أربعة أشهر من حين ظهورها إلى إدراكها .
وقال سعيد بن المسيب : شهران من حين أن يؤكل منها إلى الصرام .
وقال الربيع بن أنس رضي الله عنه : كل حين ، أي : كل غدوة ، وعشية ، لأن ثمرة النخل تؤكل أبداً ليلاً ونهاراً صيفاً وشتاء إما تمراً رطباً أو بسراً ، كذلك عمل المؤمن يصعد أوَّل النهار وآخره ، وبركة إيمانه لا تنطقع أبداً ، بل تتصل في كلِّ وقت .
والحكمةٌ في تمثيل الإيمان بالشجرة ، وهي أن الشجرة لا تكون إلا ثلاثة أشياء :
عِرقٌ رَاسخٌ ، وأصلٌ قَائِمٌ ، وفَرعٌ عالٍ ، كذلك الإيمان لا يتمُّ إلا بثلاثة أشياء : تصديق بالقلب وقول باللسان ، وعمل بالأبدان .
ثم قال تعالى جل ذكره { وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } والمعنى : أن في ضرب الأمثال زيادة إفهام ، وتذكير وتصوير للمعاني .
وقوله : { وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ } قرىء بنصب « مثَل » عطفاً على : « مَثلَ » الأوَّلِ .
و « اجْتُثَّتْ » « صفة ل » شَجَرَةٍ « ، ومعنى : » اجْتُثَّتْ « قلعت جثتها ، أي : شخصها والجثة شخص الإنسان قاعداً أو قائماً ويقال : اجتث الشيء أي اقتلعه ، فهو افتعال من لفظ الجثة ، وجَثَثْتُ الشيء : قلعتهُ .
قال لقيط الإيادي : [ البسيط ]
3217
هذَا الجَلاءًُ الَّذي يَجْتَثُّ أصْلَكُمُ ... فمَنْ رأى مِثْلَ ذَا يَوْماً ومنْ سَمِعَا
وقال الراغب : » جُثَّةٌ الشيء : شخصه النَّاتىء ، والمُجَيَّةُ : ما يجثُّ بِهِ والجَثِيثَةُ لما بَانَ جُثَّتهُ بعد طَبْخهِ ، والجَثْجَاثُ : نَبْتٌ « .
و » مِنْ قرارٍ « يجوز أن يكون فاعلاً بالجار قبله لاعتماده على النَّفي ، وأن يكون مبتدأ ، والجملة المنفية إمَّا نعت ل » شَجَرةٍ « وإمَّا حال من ضمير : » اجْتُثَّتْ « .
فصل في المراد بالشجرة الخبيثة
الكلمة الخبيثة هي الشرك : » كَشجَرةٍ خَبِيثةٍ « وهي الحنظلُ وقيل : هي الثوم .
وقيل : هي الكشوث وهل العسَّة ، وهي شجرةٌ لا ورق لها ، ولا عروق في الأرض .
[
قال الشاعر : ] [ البسيط ]
3218 . . ...
وهيَ كَشُوثٌ فلا أصْلٌ ولا ثَمَر
وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه أنَّها شجرة لم تخلق على وجهِ الأرض .
«
اجْتُثَّت » اقتلعت من فوق الأرض « مَا لهَا من قرارٍ » ثابت ، أي : ليس لها أصلٌ ثابتٌ في الأرض ولا فرع صاعد إلى السماء ، كذلك الكافر لا خير فيه ، ولا صعد له قولٌ طيب ، ولا عمل صالح .
فصل
قوله تعالى : { يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت } كلمة التوحيد ، وهي قوله : لا إله إلا الله { فِي الحياة الدنيا } يعني قبل الموت ، { وَفِي الآخرة } يعني في القبر هذا قول أكثر المفسرين .
وقيل : { فِي الحياة الدنيا } في القبر عند السؤال { وَفِي الآخرة } عند البعث ، والأول أصح ، لما روى البراء بن عازب أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « المُسْلِمُ إذَا سُئِلَ في القَبْرِ يَشهَدُ أنَّ لا إلهَ إلاَّ اللهُ ، وأنَّ مُحمَّداً رَسُولُ اللهِ ، فذَلِكَ قولهُ سُبحانَهُ { يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة } قال حين يُقالُ لَهُ : مَن ربُّكَ؟ ومَا دِينُكَ؟ ومَنْ نَبيُّكَ؟ فيقول : الله ربِّي ، ودينِي الإسلامُ ، ونَبِيِّي مُحمَّدٌ » واالمشهور أن هذه الآية وردت في سؤال الملكين في القبر ، فيلقّن الله المؤمن لكمة الحق في القبر عند السؤال ، ويثبته على الحق .
ومعنى « الثَّابِتِ » هو أنَّ الله تعالى إنَّما يثبتهم في القبر لمواظبتهم في الحياة الدنيا على هذا القول .
قوله : « بالقَوْلِ » فيه وجهان :
أحدهما : تعلقه ب « يُثَبِّتُ » .
والثاني : أنه متعلق ب « آمنُوا » .
وقوله تعالى : { فِي الحياة } متعلق ب « يُثَبِّتُ » ويجوز أن يتعلق ب « الثَّابتِ » .
ثمَّ قال تعالى : { وَيُضِلُّ الله الظالمين } أي : لايهدي المشركين للجواب بالصواب في القبر { وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَآءُ } من التوفيق والخذلان والتثبيت ، وترك التثبيت .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً } الآية اعلم أنَّه تعالى عاد إلى وصف الكافرين فقال عز وجل { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ } .
قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما : { الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً } هم والله كفار قريش « بدَّلُوا » أي : غيروا « نعِْمةَ اللهِ » عليم في محمد صلوات الله وسلامه عليه حيث ابتعثه الله منهم كفروا به : « أحَلُّوا » أنزلوا : « قَوْمهُمْ » من على كفرهم : « دَارَ البَوارِ » الهلاك .
ثم بيَّن دار البوار فقال : { جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار } المستقر ، وقال عليٌّ : هم كفار قريش نُحروا يوم بدرٍ .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه هم الأفجران من قريش بنو أمية وبنو [ مخزوم ] ، فأما بنو أمية فمُتِّعُوا إلى حين ، وأما بنو مخزوم ، [ فأهلكوا ] يوم بدر قاله على ابن أبي طالب ، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما .
وعن ابن عباس وقتادة رضي الله عنهما : نزلت في منتصري العرب جبلة بن الأيهم وأصحابه .
وقال الحسنُ رضي الله عنه : هي عامَّة في جميع المشركين .
قوله تعالى : { بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً } فيه أوجه :
أحدها : أن الأصل : بدلوا شكر نعمة الله كفراً ، كقوله تعالى : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [ الواقعة : 83 ] أي شكر رزقكم؛ وجب عليهم الشكر؛ فوضعوا موضعه الكفر .
والثاني : أنَّهم بدلوا نفس النعمة كفراً على أنَّهم لما كفروها سلبوها ، فبقوا مسلوبي النعمة موصوفين بالكفر حاصلاً لهم ، قالهما الزمخشريُّ ، وعلى هذا فلا يحتاج إلى حذف مضاف ، وقد تقدَّم أن « بدَّل » يعتدى لاثنين :
أولهما : من غير حرف .
والثاني : بالباء ، وأن الجمهور هو المتروكم والمنصوب هو الحاصل ، ويجوز حذف الحروف فيكون المجرور بالباء هنا هو « نِعْمَةٌ » ؛ لأنها المتروكة .
وإذاً عرف أنَّ قول الحوفي ، وأبي البقاءِ : أن « كُفْراً » هو المفعولُ الثاني ليس بجيد؛ لأنه هو الَّذي يصلُ إليه الفعل بنفسه لا بحرف الجر ، ما كان كذا فهو المفعول الأول .
قوله : { جَهَنَّمَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه بدلٌ من « دَارَ » .
الثاني : أنه عطف بيان لها ، وعلى هذين الوجهين؛ فالإحلال يقع في الآخرة .
الثالث : أن ينتصب على الاشتغل بفعل مقدر ، وعلى هذا ، فالإحلال يقع في الدُّنيا ، لأن قوله : { جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا } أي : واقع في الآخرة .
ويؤيَّدُ هذا التأويل : قراءة ابن أبي عبلة « جَهَنَّمُ » بالرفع على أنها مبتدأ ، والجملة بعده الخبر .
وتحتمل قراءة ابن أبي عبلة وجهاً آخر : وهو أن ترتفع على خبر [ مبتدأ ] مضمر .
و « يَصْلونهَا » حال إمَّا من : « قَوْمَهُمْ » ، وإمَّا من « دَارَ » ، وإمَّا من : « جَهنَّمَ » .
وهذا التوجيه أولى من حيث إنه لم يتقدم ما يرجح النصب ، ولا ما يجعله مساوياً والقراء الجماهير على النصب ، فلم يكونوا ليتركوا الأفصح؛ إلا لأنَّ المسألة ليست من الاشتغال في شيء ، وهذا الذي ذكرناه أيضاً مرجح لنصبه على البديلة أو البيان على انتصابه على الاشتغال .
و « البَوار » : الهلاكُ؛ قال الشاعر : [ الوافر ]
3219
فَلمْ أرَ مِثْلهُم أبْطالَ حَربٍ ... غَداةَ الرَّوْع إذْ خِيفَ البَوارُ
وأصله من [ الكساد ] كما قيل : كَسَدَ حتَّى فسَدَ ، ولما كان الكَسَاد يُؤدِّي إلى الفَساد والهلاك أطلق عليه البوار .
ويقال : بَارَ يَبُورُ بُوراً وبَوَاراً ، ورجُلُ جَائِرٌ بائِرٌ ، وقوله عزَّ وجلَّ : { وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً } [ الفتح : 12 ] ويحتمل أن يكون مصدراً وصف به الجمع ، وأن يكون جمع بائرٍ في المعنى ، ومن وقوع « بُور » على الواحد قوله : [ الخفيف ]
3220
يَا رسُولُ المَلِيكِ إنَّ لِسَانِي ... رَائِقٌ ما فَتقْت إذْ أنَا بُورُ
أي : هَالِكٌ .
قوله : { وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ } والمراد بهذا الجعل : الحم والاعتقاد ، والفعل ، والأنداد الأشباه ، والشركاء .
«
لِيُضلُّوا » قرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا : { وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ } بفتح الياءِ والباقون بضمها من أصله ، واللام هي لام الجر مضمرة : « أنْ » بعدها ، وهي لام العاقبة لما كان مآلهم إلى ذلك ويجز أن تكون لللتعليل .
وقيل : هي مع فتح الياء للعاقبة فقط ، ومع ضمها محتملة للوجهين كأنَّ هذا القائل توهم أنهم لم يجعلوا الأنداد لضلالهم ، وليس كما زعم ، لأن منهم من كفر عناداً واتخذ الآلهة ليضل بنفسه .
قوله تعالى : { قُلْ تَمَتَّعُواْ } عيشوا في الدنيا : { فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار } { إِلَى النار } خبر « إنَّ : والمصير مصدر ، و » صَارَ « التامة ، أي : فإنَّ مرجعكم كائن إلى النَّار .
وأجاز الحوفيُّ أن يتعلق { إِلَى النار } ب » مَصِيرَكُمْ « .
وقد ردَّ هذا بعضهم : بأنَّه لو جعلناه مصدراً صَارَ بمعنى انتقل ، و { إِلَى النار } متعلق به ، بقيت » إنَّ « بلا خبر ، لا يقال : خبرها حينئذ محذوف؛ لأنَّ حذفه في مثل هذا يقلُّ ، وإنَّما يكثر حذفه إذا كان الاسم نكرة ، والخبر ظرفاً أو جارًّا ، كقوله : [ المنسرح ]
3221
إنَّ مَحَلا وإنَّ مُرْتَحَلاَ ... وإنَّ في السَّفْرِ ما مضَى مَهَلا
قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
لما هدد الكفار ، وأوعدهم بالتَّمتُّع بنعيم الدنيا أمر المؤمنين بترك التمتع في الدنيا ، والمبالغة في الجهاد بالنفس والمال .
وفي « يُقِيمُوا » أوجه :
أحدها : أنه مجزومٌ بلام محذوفة ، تقديره : ليقيموا ، فحذفت وبقي عملها ، كما يحذف الجار ويبقى عمله ، كقوله : [ الوافر ]
3222
مُحَمَّدُ تَفْدِ نفْسكَ كُلُّ نَفْسٍ ... إذَا مَا خِفْتَ من شَيءٍ تَبَالا
يريد : لتفدِ .
وأنشده سيبويه إلا أنَّه خصه بالشعرِ .
قال الزمخشري : « ويجوز أن يكون : » يُقِيمُوا ، و « يُنْفِقُوا » بمعنى : ليقيموا ولينفقوا ، وليكون هذا هو المقولُ ، قالوا : وإنَّما جَازَ حذف اللاَّم؛ لأنَّ الأمر الذي هو « قُلْ » عوض منها ، ولو قيل : يقيموا الصلاة ، وينفقوا بحذف اللاَّم لم يجز « .
ونحا ابنُ مالكٍ رحمه الله إلى قريب من هذا ، فإنَّه جعل محذف هذه اللاَّم على أضربٍ : قليل ، وكثير ومتوسط . فالكثير : أن يكمون قبله قول بصيغة الأمر ، كلآية الكريمة .
والقليل : ألا يتقدم قول؛ كقوله : [ الوافر ]
3233
مُحَمَّدُ تَفْدِ . . .. . . .
والمتوسطُ : أن يتقدَّم بغير صيغة الأمر ، كقوله : [ الرجز ]
3224
قُلْتُ لبَوَّابٍ لَديْهِ دَرُهَا ... تِيذَنْ فإنِّي حَمؤُهَا وجَارُهَا
الثاني : أن » يُقِيمُوا « مجزوم على جواب : » قُلْ « ، وإليه نحا الأخفش والمبرد .
وقد رد النَّاس عليهما هذا؛ بأنه لا يلزمُ من قوله لهم : أقيموا أن يفعلوا ذم من تخلف عن هذا الأمر .
وقد أجيب عن هذا : بأنَّ المراد بالبعادِ المؤمنون ، ولذلك أضافهم إليه تشريفاً والمؤمنون متى أمروا؛ امتثلوا .
الثالث : أنه مجزومٌ على جواب المقولِ المحذوفِ ، تقديره : قل لعبادي أقيموا وأنفقوا ، أي : يقيموا وينفقوا ، قاله أبو البقاء رحمه الله وعزاه للمبرّد ، كذا ذكره جماعةٌ ولم يتعرّضوا لإفساده ، وهو فاسدٌ من وجهين :
أحدهما : أن جواب الشَّرط يخالف الشَّرط إما في الفعل ، وإما في الفاعل ، أو فيهما وأمَّا إذا كان مثله في الفعل والفاعل ، فهو خطأ ، كقولك : قُمْ يَقُمْ ، والتقدير على ما ذكره في وهذا الوجه : أن يُقِيمُوا يُقِيمُوا .
والوجه الثاني : أنَّ الأمر المقدر للمواجهة ، و » يُقِيمُوا « على لفظ الغيبة ، وهو خطأ إذا كان الفاعل واحداً .
قال شهاب الدين : » أمَّا الإفساد الأوَّل فقريب ، وأمَّا الثاني ، فليس بشيء لأنَّه يجوز أن يقول : قل لعبدي أطعني يطعك ، وإن كان للغيبة بعد الموجهة باعتبار حكاية الحال « .
الرابع : أن التقدير : أن يقول هلم : أقيموا يقيموا ، وهذا مروي عن سيبويه فيما حكاه ابن عطية ، وهذا هو القول الثاني .
الخامس : قال ابن عطية : » يحتمل أن يكون « يُقِيمُوا » جواب الأمر الذي يعطينا معناه قوله « قُلْ » وذلك أن تجعل « قُلْ » في هذه الآية بمعنى بَلَّغ وَأدِّ الشَّريعة يقيموا الصَّلاة « .
السادس : قال الفراء : الأمر معه شرط مقدر ، تقولُ : أطِعِ الله يُدخِلْكَ الجنَّة والفرق بين هذا ، وبين ما قبله : أنَّ ما قبله ضمن فيه الأمر نفسه معنى الشَّرط ، وفي هذا قدر فعل الشرط بعد فعل الأمر من غير تضمينٍ .
السابع : قال الفارسي إنَّه مضارع صرف عن الأمر إلى الخبر ، ومعناه : أقيموا .
وهذا مردودٌ؛ لأنه كان ينبغي أن تثبت نونه الدالةٌ على إعرابه .
وأجيب عن هذا : بأنه بني لوقوعه موقع المبني ، كما بني المنادى في نحو : يَا زَيْدُ لوقوعه موضع الضمير .
ولو قيل : بأنَّه حذفت نونه تخفيفاً على حد حذفها في قوله : « لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابروا » .
وفي معمول « قُلْ » ثلاثة أوجه :
الأول : الأمر المقدر ، أي : قل لهم أقيما يقيموا .
الثاني : أنه نفس « يُقِيمُوا » على ما قاله ابن عطية .
الثالث : أنَّه الجملة من قوله : { الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض } إلى أخره ، قاله ابن عطية؟
وفيه تفكيك النَّظم ، و جعل الجملة : { يُقِيمُواْ الصلاة } إلى آخرها مفلتاً مما قبله وبعده ، أو يكون جواباً فصل به بين القولين ، ومعموله ، لكنه لا يترتب على قوله ذلك : إقامة الصلاة ، والإنفاق إلا بتأويل بعيد جدًّا .
وقرأ حمزة والكسائي : « لِعبَادِيْ » بسكون الياء ، والباقون بفتح الياءِ لالتقاءِ الساكنين .
قوله : { سِرّاً وَعَلانِيَةً } في نصبهما ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّهما حالان مما تقدجم ، وفيهما الثلاث التأويلات في : زيْدٌ عدْلٌ ، أي : ذَوِي سرٍّ ، وعلانيةٍ ، أو مُسرِّينَ مُعلِنينَ ، أو جعلوا نفس السر والعلانية مبالغة .
الثاني : أنهما منصوبان على الظرف ، أي : وقتي سر وعلانية .
الثالث : أنهما منصوبان على المصدر ، أي : إنفاق سرِّ ، وإنفاق علانية .
قوله : { مِن قَبْلِكُمْ } متعلق ب : « يُقِيمُوا » و « يُنْفِقُوا » أي : يفعلون ذلك قبل هذا اليوم .
وقد تقدَّم خلاف القراء في : « لا بيعٌ فيه ولا خلالٌ » .
والخِلال المُخالة ، وهي المُصاحبة ، يقال : خاللته خِلالاً ، ومخالَّة؛ قال طرفة : [ السريع ]
3225
كُلُّ خَليلٍ كُنْتُ خَالَلْتُهُ ... لا تَراكَ اللهُ لَهُ وَاضِحَه
وقال امرؤ القيس : [ الطويل ]
3226
صَرْتُ الهَوَى عَنْهُنَّ مِنْ خَشْيةِ الرَّدَى ... وَلسْتُ بِمقْليِّ الخِلالِ ولا قَالِ
وقال الأخفش : خِلال جمع ل « خلة » ، نحو « بُرمَة وبِرَام » .
فصل
قال مقاتلٌ : يوم لا بيع فيه ، ولا شراء ، ولا مخالفة ، ولا قرابة . وقد تقدَّم الكلام على نحو هذه الآية في البقرة [ 254 ] .
فإن قيل : كيف نفى الخلة هاهنا وأثبتها في قوله : { الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين } [ الزخرف : 67 ] ؟ .
فالجواب : أن الآية الدَّالة على نفي المخالة محمولة على نفي المُخَاللَة بسبب ميل الطبع ، ورغبة النفس ، و الآية الدَّالة على حصول المُخَاللَة ، محمولة على الخُلَّة الحاصلة بسبب عبودية الله تعالى ومحبَّتهِ .
قوله تعالى : { الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض } الآية لما وصف أحوال السعداء ، وأحوال الأشقياء ، وكانتع العمدة العظمى في حصول السَّعادة معرفة الله تعالى بذاته وصفاته ، وحصول الشقاوة فقدان هذه المعرفة لا جرم ختم الله تعالى هذين الوصفين بالدَّلائل الدالة على وجود الصَّانع ، وكمل عمله وقدرته وذكر ههنا عشرة أنواع من الدلائل :
أولها : خلق السَّموات .
وثانيها : خلق الأرض .
وثالثها : قوله : { وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ } .
«
مِنَ السَّماءِ : يجوز أني تعلق ب » أنْزلَ « ، و » من « لابتداءِ الغايةِ ، وأن يتعلق بمحذوف على أنَّه حال من » مَاءٍ « ؛ لأ ، ه صفته في الأصل ، وكذلك » مِنَ الثَّمراتِ « في الوجهين .
وجوَّز الزمخشري وابن عطية : أن تكون : » مِنْ « لبيان الجنس ، أي : ورزقاً هو الثمرات .
وردت عليهما بأن التي للبيان إنَّما تجيء بعد المبهم ، وقد يجاب عنهما؛ بأنهما أرادا ذلك من حيث المعنى لا الإعراب ، وقد تقدم ذلك في البقرة [ البقرة 23 ، 25 ] .
ورابعها : قوله تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك لِتَجْرِيَ فِي البحر بِأَمْرِهِ } يجوز أن يتعلق » بأمْرهِ « ب » تَجْرِي « أي : بسببه ، أو بمحذوف على أنَّها للحال ، أي : ملتبسة به .
وخامسها : قوله { وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار } .
وسادسها ، وسابعها : { وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَآئِبَينَ } دائبين حال من » الشمسِ والقَمرِ « ، وتقدم اشتقاق الدَّأبِ .
وثامنها وتاسعها : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار } .
وعاشرها : قوله تعالى : { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } العكامة على أضافة : » كُلِّ « إلى ما . وفي » مِنْ « قولان :
أحدهما : أنَّها زائدة في المفعول الثاني ، أي : كل ما سألتموه وهذا إنَّما يتأتَّى على قول الأخفشِ .
والثاني : أن تكون تبعيضية ، أي : آتاكم بعض جميع ما سألمتوه نظراً لكم ولمصالحكم وعلى هذا فالمفعول محذوف ، تقديره : وآتاكم من كل ما سألتموه ، وهو رأي سيبويه و » مَا « يجوز فيها أن تكون موصولة اسمية ، أو حرفية ، أو نكرة موصوفة ، والمصدر واقع موقع المفعول ، أي : مسئولكم ، فإن كانت مصدرية فالضمير في : » سَألتُموهُ « عائد على الله تعالى وإن كانت موصولة ، أو موصوفة كان عائداً عليها ، ولا يجوز أن يكون عائداً على الله تعالى ، وعائد الموصول أو الموصوف محذوف ، لأنه إما أ ن يقدر متصلاً سألتموهوه ، أو منفصلاً سألتموه إيَّاه ، و كلاهما لا يجوز فيه الحذف لما تقدم أول البقرة في قوله : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } .
وقرأ ابن عباس ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد ، والحسن ، والضحاك ، وعمرو بن فائد وقتادة ، وسلام ، ويعقوب ، ونافع رضشي الله عنهم في رواية : » مِنْ كُلِّ « منونة ، وفي » مَا « على هذه القراءة وجهان :
أحدهما : أنَّها نافية ، وبيه بدأ الزمخشري ، فقال : و » مَا سَألتْمُوهُ « نفي ومحله النَّصب على الحال ، أي : آتاكم من جميع ذلك غير سائلين .
قال شهاب الدين : ويكون المفعول الثاني هو الجار من قوله : « مِنْ كُلِّ » كقوله تعالى { وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ } [ النمل : 16 ] .
والثاني : أنها موصولة يمعنى الذي ، وهي المفعول الثاني ل « آتَاكُمْ : .
وهذا التخريج الثاني أولى؛ لأنَّ في الأول منافاة ف يالظ اهر لقراءة العامة .
قال أبو حيَّان : ِ » ولما أحس الزمخشري بظهور التنافي بين هذه القراءة ، وبين تلك قال : ويجوز أن تكون : « مَا » موصولة على : وآتاكم من كلِّ ذلك ما احتجتم إليه ، ولم تصلح أحوالكم ولا معايشكم إلا به ، فكأنكم طلبتموه ، وسألتموه بلسان الحالِ فتأول : « مَا سَألتْمُوهُ » بمعنى ما احتجتم إليه « .
فصل
اعلم أنَّه تعالى بدأ بذكر خلق السموات ، والأرض ، لأنهما الأصلان اللذان يتفرع عليهما سائر الأدلة المذكورة بعده .
ثمَّ قال : { وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ } فإنَّه لولا السماء لم يصحّ إنزال الماء منها ، ولولا الأرض لم يوجد ما يستقر الماء فيه ، فلا بد من وجودهما حتى يصح هذا المقصود .
واعلم أنَّ الماء إنمّا ينزلُ من السَّحاب إلى الأرض ، وسمي السحاب سماء اشتقاقاً من السمو؛ وقيل : ينزل من السماء إلى السحاب ، ثم ينزل من السحاب إلى الأرض ثم قال تعالى : { فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ } .
قال أبو مسلم رحمه الله : لفظ » الثَّمراتِ « يقع في الاغلب على ما يحصل من الأشجار ، ويقع أيضاً على الزَّرعِ والنبات ، كقوله تعالى : { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } [ الأنعام : 141 ] .
ثم قال تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك لِتَجْرِيَ فِي البحر بِأَمْرِهِ } [ إبراهيم : 32 ] نظره { وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام } [ الشورى : 32 ] .
واعلم أنَّ الانتفاع بما ينبت من الأرض إنَّما يكمل بوجود الفلك؛ لأنَّ الله تعالى خص كل طرف من أطراف الأرض بنوع آخر من النعم حتى إن نعمة هذا الطرف إذا نقلت إلى الطرف الآخر من الأرض ، وبالعكس ، كثرت الأرباح في التجارات وهذا الفعل لا يمكن إلا بسفن البرّ ، وهي الجمال ، أو بسفن البحر ، وهي الفلك .
فإن قيل : ما معنى : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك } منع أنَّ تركيب السفينة من أعمال العبادِ؟ .
فالجوابُ : أنَّ فعل العبد خلقُ الله تعالى عند أهنل السُّنَّة ، فلا سؤال .
وأمَّا عند المعتزلة : فأنه تعالى خلق الأشجار التي تركب منها السُّفن وخلق الحديد ، وسائر الآلات ، وعرف العباد صنعه التركيب ، وخلق الرياح ، وخلق الحركات القوية فيها ، ووسّع الأنهار وعمقها تعميقاً لجري السفن فيها ، ولولا ذلك لما حصل الانتفاع بالسفن .
وأضاف التسخير إلى أمره؛ لأنَّ الملك العظيم لا يوصف بأنَّه فعل ، وإنَّما يقال : أمر ، قال تعالى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
[
النحل : 40 ] وسخر الفلك مجازاً؛ لأنها جمادات ، ولما كانت تجري على وجه الماء ، وعلى وفق إرادة الملاح صارت كأنها حيوان مسخَّر .
ثم قال تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار } ، لأنَّ ماء البحر لا ينتفع به في الزراعات ، فأنعم الله تعالى على الخلق بتفجير الأنهار ، والعيون حتى انبعث الماء منها إلى موضع الزرع والنبات ، وأيضاً : فماء البحر لا يصلحُ للشرب ، وإنَّما يصلح له مياه الأنهار .
ثم قال عز وجل { وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر } والانتفاع بهما عظيم قال الله سبحانه وتعالى { وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً } [ نوح : 16 ] { وَقَمَراً مُّنِيراً } [ الفرقان : 61 ] { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب } [ يونس : 5 ] ، وتأثيرهما في إزالة الظلمة ، وإصلاح النبات والحيوان ، فالشمس سلطان النهار ، والقمر سلطان الليل ، فلولا الشمس لما حصلت الفصول الأربعة ، ولولاها لاختلت مصالح العالم بالكليِّة .
ثم قال : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار } ومنافعهما مذكورة في القرآن ، كقوله { وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً } [ النبأ : 10 ، 11 ] ، وقوله تعالى : { جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } [ القصص : 73 ] .
قال المتكلمون : تسخير الليل ، والنهار مجاز؛ لأنهما عرضٌ ، والأعراض لا تسخَّر .
ثم قال عزَّ وجلَّ : { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } أي : أنه لم يقتصر على هذه النعم بل أعطى عباده من المنافع مالا يأتي على بعضها التَّعداد .
ثمَّ قال { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا } قال الواحديُّ : « النِّعْةُ ههنا أسم أقسم مقام المصدر ، يقال : أنْعَمَ اللهُ عليْهِ ينعم إنْعَاماً ، ونِعْمةً ، أقيم الاسم مقام الإنعام ، كقوله : أنْفَقتُ عليْكَ إنْفَاقاً ونَفقَةً شيئاً واحداً ، ولذلك يجمع لأنَّهُ في معنى المصدر » .
وقال غيره : « النِّعمة هنا بمعنى المُنْعَم به » .
وخُتِمَت هذه الآية ب { إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ } ونظيرها في النحل ب { إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 18 ] لأن في هذه تقدم قوله عز وجل : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً } [ إبراهيم : 28 ] وبعده { وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً } [ أبراهيم : 30 ] فجاء قوله { إِنَّ الإنسان } شاهداً بقبح من فعل ذلك فناسب ختمها بذلك .
والتي في النَّحل ذكر فيها عدة تفضيلات ، وبالغ فيها ، وذكر قوله جلّ ذكره { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } [ النحل : 17 ] أي : من أوجد هذه النعم السابق ذكرها كمن لم يقدر منها على شيء ، فذكر أيضاً أن من جملة تفضلاته اتصافه بهاتين الصفتين .
وقال ابن الخطيب : « كأنه يقول : إذا حصلت النعم الكثيرة؛ فأنت الذي أخذتها وأنا الذي أعطيتها؛ فحصل لك عند أخذها وصفان : وهما : كونك ظلوماً كفاراً ، ولي وصفان عند أعطائها وهما : كوني غفوراً رحيماً ، فكأنه تعالى يقول : إن كنت ظلوماً فأنا غفورٌ ، وإنت كنت كفاراً فأنا رحيم ، أعلم عجزك ، وقصورك ، فلا أقابل جفاك إلا بالوفاء » .
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً } الآية لما استدل على أنَّه لا معبود إلا الله تعالى وأنَّه لا يجوز عبادة غير الله تعالى ألبتَّة ، وحكة عن إبراهيم عليه السلام أنَّه طلب من الله تعالى أشياء :
أحدها : قوله : { رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً } ، وتقدَّم تحريه في البقرة « وهذا البلد آمناً » ، ومسوِّل الجعل التَّصيير .
قال الزمخشري : « فإن قلت : فرق بين قوله : { اجعل هذا البلد آمِناً } وبين قوله { هذا بَلَداً آمِناً } [ البقرة : 126 ] .
قلت : قد سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ، ولا يخافون ، في الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن كأنه قال : هو بلد مخوف فاجعله آمناً » .
قوله « واجْنُبْنِي » ، يقال : جنَّبهُ شرًّا ، وأجْنَبهُ إيَّاه ثلاثياً ، ورباعياً ، وهي لغة نجد وجنَّبهُ إيَّاهُ مشدَّداً ، وهي لغة الحجاز وهو المنعُ ، وأصله من الجانب .
وقال الراغب : « قوله تعالى : { واجنبني وَبَنِيَّ } من جَنَبْتهُ عن كذا ، أي : أبْعدتهُ منه ، وقيل : من جَنَبْتُ الفرس ، [ كأنَّما ] سألهُ أن يقُودَهُ عن جانبِ الشِّرك بألطافِ منهُ وأسبابٍ خفيَّة » .
و « أنْ نعبد » على حذف الحرف ، أي : عن أن نَعْبُد .
وقرأ الجحدري وعيسى الثقفي رحمهما الله « وأجْنِبْنِي » بطقع الهمزة من « أجَنَبَ » .
قال بعضهم : يقال : جَنَبْتهُ الشَّيء ، وأجْنَبْتُه تَجَنُّباً ، وأجْنبتهُ إجْنَاباً ، بمعنى واحد .
فإن قيل : ههنا إشكالٌ من وجوه :
أحدهما : أن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه دعا ربَّه أن يجعل مكَّة بلداً آمناً وقد خرب جماعة الكعبة ، وأغاروا على مكَّة .
وثانيها : أن الأنبياء عليه الصلاة والسلام معصومون من عبادة الأصنام ، فما فائدة هذا الدعاء .
وثالثها : أنَّ كثيراً من أبنائه عبدوا الأصنام؛ لأنَّ كفَّار قريش كانوا من أولاده وكانوا يعبدون الأصنام فأين الإجابة؟ .
فالجواب عن الأوَّل من وجهين :
الأول : أنه نقل عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه لما فرغ من بناء الكعبة دعا بأن يجعل الله الكعبة ، وتلك البلدة آمنة من الخراب .
والثاني : أنَّ المراد جعل أهلها آمنين ، كقوله تعالى : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] والمراد أهلها ، وعلى هذا أكثر المفسرين ، وعلى هذا التقدير ، فالمراد بالأمن ما اختصت به مكة من زيادة الأمن ، وهو أنَّ من التجأ إلى مكَّة أمن ، وكان النَّاس مع شدة عداوتهم إذا التقوا بمكَّة لا يخاف بعضهم بعضاً ، ولذلك أمن الوحش ، فإنهم يقربون إذا كانوا بمكة ويستوحشون من النَّاس إذا كاناو خارج مكَّة .
وعن الثاني قال الزجاج : معناه : ثَبِّتْنِي على اجتناب عبادتها ، كما قال :
{
واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } [ البقرة : 128 ] أي : ثبتنا على الإسلام .
ولقائل أن يقول : السؤال باقٍ ، لأنه من المعلوم أنَّ الله تبارك وتعالى ثبت الأنبياء على الإسلام ، واجتناب عبادة الأصنام ، فما الفائدةٌ من هذا السؤال؟ .
قال ابن الخطيب : والصحيح عندي في الجواب وجهان :
الأول : أنه صلوات الله وسلامه عليه وإن كان يعلم أنَّ الله تعالى يصعمه من عبادة الأصنام ، إلاّ أنه ذكر ذلك للنفس وإظهاراً للحاجة والفاقة إلى فضل الله تعالى في كل المطالب .
والثاني : أنَّ الصوفية يقولون : إنَّ الشرك نوعان : شركٌ ظاهرٌ ، وهو الذي يقوله المشركون ، وشرك خفي ، وهو تعلق القلب بالأسباب الظاهرة . والتوحيد هو أن يقطع نظره عن الوسائط ، وأن لا يرى متوسطاً سوى الحق سبحانه وتعالى فيحتمل أن يكون قوله { واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام } المراد أن يعصمه عن هذا الشرط الخفي ، والله تعالى أعمل .
والجواب عن الثالث من وجوه :
أحدها : قال الزمخشري : « قوله » وبَنِيَّ : أراد بنيه [ من صلبه ] « .
والفائدة في هذا الدعاء غير الفائدة التي ذكرناها في قوله : » واجْنُبْنِي وبَنِيََّ « .
وثانيها : قال بعضهم : أراد من أولاده ، وأولاد أولاده كل من كان موجوداً حال الدُّعاء ، ولا شك أنَّ دعوته مجابة فيهم .
وثالثها : قال مجاهد : لم يعبد أحد من ولد إبراهيم عليه الصلاة والسلام صنماً ، والصنم هو التمثال المصور ، وما ليس بصنم هو من الوثن ، وكفَّار قريش ما عبدوا التمثال ، وإنما كانوا بعبدون أحجاراً مخصوصة .
وهذا الجواب ليس بقوي؛ لأنَّه صلوات الله وسلامه معليه لا يجوز أن يريد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله ، والحجر كالصَّنم في ذلك .
واربعها : أنًَّ هذا الدعاء مختص بالمؤمنين من أولاده ، بدليل قوله في آخر الآية { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } ، وذلك يفيد أنَّ من لم يتبعه على دينه فإنه ليس منه ، وقوله تبارك وتعالى لنوح عليه الصلاة والسلام : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } [ هود : 46 ] .
وخامسها : لعلَّه ، وإن كان عمّ في الدعاء إلاَّ أنَّه تعالى أجاب دعاءه في حق البعض دون البعض ، وذلك لا يوجب تحقير الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ونظيره قوله تعالى في حق إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه { قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } [ البقرة : 124 ] .
قوله : { واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام } دليل على أن الكفر ، والإيمان من الله تعالى لأنًَّ إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه طلب من الله تعالى أن يجنبه ، ويجنب أولاده من الكفر .
والمعتزلة يحملون ذلك على الإلطاف ، وهو عدول عن الظَّاهر ، وتقدم فسادهذا التأويل .
قوله : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً } الضمير في : » إنَّهُنَّ « و » أضْلَلْنَ « عائد على الأصنام ، لأنها جمع تكسير غير عاقل .
وقوله : { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } أي : من أشياعي ، وأهل ديني .
وقوله { وَمَنْ عَصَانِي } شرط ، ومحل « مَنْ » الرفع بالابتداء ، الجواب : { فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } والعائد محذوف ، أي : لهخ .
فصل
قال السديُّ : ومن عصاني ثمَّ تاب . وقال مقاتلٌ : { وَمَنْ عَصَانِي } فيما دون الشرط .
وقيل : قال ذلك قبل أن يعلمه الله أنَّهُ لا يغفر الشرك ، وهذه الآية تدلُّ على إثبات الشَّفاعة في أهل الكبائر؛ لأنَّه طلب المغفرة ، والرَّحمة لأولئك العصاة ، ولا تخلو هذه الشفاعة من أن تكون للكفار [ أو للعصاة ، ولا يجوز أن تكون للكفار ] ؛ لأنه تبرَّأ منهم بقوله : { واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام } .
وقوله : { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } فإنه يدلُّ بمفهومه على أنَّ من لم يتعبه على دينه ، فليس منه ، والأمة مجتمعة على أنَّ الشفاعة في حق الكفَّار غير جائزة؛ فثبت أن قوله : م { وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } شفاعة في العصاة غير الكفَّار .
ووتلك المعصية : إمَّا أن تكون من الصغائر ، أو من الكبائر بعد التَّوبة [ أو من الكبائر قبل التوبة ، والأول والثاني بطلان؛ لأن وقوله : { وَمَنْ عَصَانِي } اللفظ فيه مطلق ، فتخصيصه بالصغيرة عدول عن الظاهر ، وأيضاً فالصغائر والكبائر بعد التوبة ] وجبة الغفران عند الخصوم ، فلا يمكن حمل اللفظ عليه ، فثبت أنَّ هذه الشفاعة في إسقاط العقاب عن أهل الكبائر قبل التَّوبة .
وإذا ثبت حصول الشفاعة لإبراهيثم صلوات الله وسلامه عليه ثبت حصولها لمحمَّد عليه أفضل الصلاة والسلام لأنه لا قائل بالفرق ، ولأنََّ الشفاعة أعلى المناصب ، فلو حصلت لإبراهيم عليه الصلاة والسلام مع أنَّها لم تحصل لمحمَّد صلى الله عليه وسلم كان ذلك نقصاً في حقِّ محمدٍ صلوات الله وسلامه عليه .
قوله : { رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي } يجوز أن يكون هذا الجار صفة لمفعول محذوف ، أي : أسكنت ذرية من ذريتي ، ويجوز أن تكون « مِنْ » مزيدة عند الأخفش .
«
بوَادٍ » أي : في وادٍ ، وهو مكّة؛ لأن مكَّة وادٍ بين جبلين .
وقوله : { بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } كقوله { غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } [ الزمر : 28 ] .
قوله : { عِندَ بَيْتِكَ المحرم } يجوز أن تكون صفة ل « وَادٍ » .
وقال أبو البقاء : يجوز أن يكون بدلاً منه ، يعني أنَّه يكون بدل بعضه من كل؛ لأنَّ الوادي أعم من حضرة البيت .
وفيه نظرٌ ، من حيث أن « عِنْدَ » لا يتصرف .
فصل
سماه محرّماً؛ لأنه يحرم عنده ما لا يحرم عند غيره .
وقيل : لأنَّ الله حرم التعرض له ، والتهاون به . قيل : لأنه لم يزل ممتنعاً عزيزاً يهابه كل جبَّار كالشيء المُحرَّم الذي يجب أن يجتنب .
وقيل : لأنه حُرِّمَ من الطوفان ، أي : منع منه ، كما يسمى عتيقاً؛ لأنه أعْتِقَ من الطوفان وقيل : لأن موضع البيت حرم يوم خلق الله السموات ، والأرض وحفَّ بسبعة من الملائكةِ وجعل مثل البيت المعمور الذي نباه آدم صلوات الله وسلامه عليه فرفع إلى السَّماءِ .
وقيل : إنَّ الله حرَّم على عباده أن يقربوه الدماء ، والأقذار وغيرها .
قوله : « لِيُقِيمُوا » : يجوز أن تكون هذه اللام لام الأمر ، وأن تكون لام علة ، وفي متعلقها حينئذ [ وجهان ] :
أحدهما : أنها متعلقة ب « أسْكَنْتُ » وهو ظاهنر ، ويكون النداء معترضاً .
الثاني : أنَّها متعلقة ب « ألأجْنُبْنِي » أي : أجنبهم الأصنام . ليقيموا . وفيه بعد .
قوله : { اجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس } العامة على : « أفْئِدةً » جمع فؤاد ، ك « غُرَاب وأغْرِبَة » وقرأ هشام عن بان عامر بياء بعد الهمزة ، فقيل : إشباع؛ كقوله : [ الطويل ]
3227 ...
يُحِبَّكَ عَظْمٌ فِي التُّرابِ تَرِيبُ
أي : ترب؛ وكقوله : [ الرجز ]
3228
أعُوذُ باللهِ مِنَ العَقْرَابِ ... الشَّائلاتِ عُقدَ الأذْنَابِ
وقد طعن جماعة على هذه القراءة ، وقالوا : الإشباعُ من ضرائر الشعر ، فكيف يجعل في أفصح الكلام؟ .
وزعم بعضهم : أنَّ هشاماً إنَّما قرأ بتسهيل الهمزة بين بين فظنها الراوي [ أنها زائدة ] ياء بعد الهمزة ، قال : كما توهم عن أبي عمرو اختلاسه في : « بَارِئكُمْ » ، و « يَأمُرُكمْ » أنه سكن .
وهذا ليس بشيءٍ ، فإنَّ الرُّواة أجلُّ من هذا .
وقرأ زيد بنُ عليِّ : « إفادة » بزنة « رِفادة » ، وفيها وجهان :
أحدهما : أن يكون مصدراً ل « أفَادَ » ك « أقَامَ إقَامَة » أي : ذوي إفادَةِ ، وهم النَّاس الذين ينتفع بهم .
والثاني : أن يكون أصلها : « وفَادة » فأبدلت الواو همزة ، نحو إشاح وإعَاء .
وقرأت أم الهيثم : « أفْوِدَة » بكسر الواو وفيها وجهان :
أحدهما : أن يكون جمع : « فُؤاد » المُسَهَّل وذلك أنَّ الهمزة المفتوحة المضموم ما قبلها يطرد قبلها واواً ، نحو « جُون » ففعل في : « فُؤاد » المفرد ذلك فأقرت في الجمع على حالها .
والثاني : قال صاحب اللَّوامح رحمه الله : هي جمع « وَفْد » .
قال شهاب الدين : « فكان ينبغكمي أن يكون اللفظ » أوْفِدَة « يتقدم الواو؛ إلا أن يقال : إنه جمع » وَفْداً « على » أوْفِدَة « ، ثم قبله فوزنه » أعْفِلَة « كقولهم : آرام » في « أرْآم » وبابه ، إلاَّ أنَّه جمع « فَعْل » على « أفْعِلَة » نحو : « نَجْد وأنْجِدَة » و « وَهْي وأوْهِيَة » وأم الهيثم امرأة نقل عنها شيء من اللغةِ .
وقرىء « آفِدة » بزنة ضاربة وهو يحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون مقلوبة من « أَفْئِدَة » بتقديم الهمزة على الفاء ، فقلبت الهمزة ألفاً فوزنه : « أعْفِلَة » ك « آرام » في « أرآم » .
والثَّاني : أنها اسم فاعل : من « أَفَدَ يَافَدُ » ، أي : « قَرُبَ ودَنَا » . المعنى : جماعمةٌ آفدة أو جماعات آفدة .
وقرِىء : أَفِدَة « بالقصر ، وفيها وجهان أيضاً :
أحدهما : أن تكون اسم فالع على » فَعِل « ك » فَرِح فهو فَرِحٌ « ، وأن تكون مخففة من » أفْئِدَة « بنقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها ، وحذف الهمزة .
و » مِنْ « في » مِنَ النَّاسِ « فيها وجهان :
أحدهما : أنها لابتداء الغاية . قال الزمخشريُّ : » ويجوز أن يكون « مِن » الابتداء الغاية ، كقولك : القلبُ منِّي سقيمٌ ، تريد : قَلْبي ، كأنه قال : أفْئدةُ ناسٍ ، وإنَّما نكرت المضاف إليه في هذا التمثيل ، لتنكير « أفْئِدَة » لأنَّها في الآية نكرة ليتناول بعض الأفئدة « .
قال أبو حيَّان : » ولا ينظر كونها للغاية؛ لأنَّه ليس لنا فعل يبتدأ فيه بغاية ينتهي إلهيا ، إذ لا يصح حعل ابتداء الأفئدة من الناس « .
والثاني : أنها للتعبيض ، وفي التفسير : لو لم يقل من النَّاس لحج النَّاس كلهم .
قوله : تَهْوِي » هذا هو المفعول الثاني للجعل ، والعامة على : « تَهْوِي » بكسر العين ، بمعنى تسرع وتطير شوقاً إليه؛ قال : [ الكامل ]
3229
وإذَا رَمَيْتَ بِهِ الفِجَاجَ رَأيْتَهُ ... يَهْوِى مَخَارِمَها هُويَّ الأجْدلِ
وأصله أن يتعدى باللام ، كقوله : [ البسيط ]
3230
حتَّى إذَا ما هَوتْ كفُّ الوَليدِ بِهَا ... طَارتْ وفِي كفِّه مِنْ رِشهَا بِتَكُ
وإنَّما عدي بإلى؛ لأ ، ه ضمن معنى تميلُ ، كقوله : [ السريع ]
3231
يَهْوِي إلى مكَّة يَبْغِي الهُدَى ... ما مُؤمِنُ الجِن ككُفَّارِهَا
وقرأ أمير المؤمنين علي ، وزيد بن علي ومحمد بن علي وجعفر بن محمد ، ومجاهدٌ رضي الله عنهم بفتح الواو ، وفيه قولان :
أحدهما : أن « إلى » زائدة ، أي : تهواهم .
والثاني : أنه ضمن معنى تنزع وتميل ، ومصدر الأول على « هُوّى » ؛ كقوله : [ الكامل ]
3232 . . ...
يَهْوِي مَخارِمَها هُوي الأجْدلِ
ومصدر الثاني على « هَوًى » .
وقال أبو البقاء : « معناهما متقاربان ، إلا أنَّ » هوى « يعني بفتح الواو متعمد بنفسه ، وإنَّما عدِّي ب : » إلَى « حملاً على تميلُ » .
وقرأ مسلمة بن عبد الله : « تُهْوى » بضم التاءِ ، وفتح الواو مبنياً للمفعول ، من « أهْوى » المنقول من « هَوَى » اللازم ، أي : يسرع بها إليهم .
فصل
قال المفسرون : قوله { أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي } أدخل « مِنْ » للتعبيض ، والمعنى : أسكنت من ذريتي ولداً : { بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } وهو مكة؛ لأنَّ مكَّة وادٍ بين جبلين : { عِندَ بَيْتِكَ المحرم } .
روي عن ابن عبَّاسٍ ، رضي الله عنهما : أول ما أتَّخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل صلوات الله وسلامه عليه اتخذت منطلقاً لتعفي أثرها على سارة ، ثم جاء بها إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه وبابنها إسماعيل ، وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت ، وليس بمكَّة يومئذ أحد ، وليس فيها ماء ، ووضع عندها إناء فيه تمرٌ ، وسقاء فيه ماء ثمَّ قال إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه منطلقاً ، فتبعته هاجر ، فقالت : يا إبراهيم إلى من تكلنا؟ فقال صلوات الله وسلامه عليه إلى الله ، فقالت له : الله أمرك بهذا؟ قال : نعم ، قالت : إذن لا يضيعنا ، ثمَّ رجعت ، فانطلق إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه حتَّى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ، ثمَّ دعا الله بقوله : { رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } الآية ثمَّ إنها عطشت وعطش الصبي؛ فجعل يتلوى ، وهي تنظر إليه ، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه ، ثمَّ استقبلت الوادي تنظر أحداً ، فلم تر أحداً ، وهبطت من الصَّفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ، ثمَّ سمعت سعي المجهود ، حتى جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة فقالت عليها ونظرت هل ترى أحداً؟ فمل ترا أحداً ، ففعلت ذلك سبع مرات .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « فلِذلِكَ سَعَى النَّاسُ بَيْنَهمَا » فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً ، فقالت : صه! تريد نفسها ، ثم تسمعت فسمعت ، فقالت : قد أسمعتن إن كان عندك غواث! فإذا هي بالملك عند مضع زمزم؛ فضرب بعقبه حتَّى ظهر الماء ، أو قال : فضرب بجناحه فغارت عينها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رَحِمَ الله أمَّ إسْمَاعِيلَ لَولا أنَّها عَجلتْ لكَانَتْ زَمْزمُ عَيْناً مَعيناً » .
ثمَّ إنَّ إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه عاد بعد كبر إسماعيل ، وأقرَّاهو وإسماعيل قواعد البيت .
قال القاضي : « أكثر الأمور المذكورة في هذه القصَّة بعيدة؛ لأنه لا يجوز لإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه أن ينقل ولده حيث لا طعام ولا ماء معه مع أنه كان يمكنه أن ينقلهما إلى بلدة أخرى من بلاد الشام لأجل قول سارة إلا إذا قلنا : إنَّ الله أعلمه أنه يجعل هناك ماء وطعام » .
وقوله : { مِن ذُرِّيَّتِي } ، أي إسماعيل وأولاده بهذا الوادي الذي لا زرع فيه .
{
لِيُقِيمُواْ الصلاة فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس } قال المفسرون : جمع ، وقد تهوى : تحن وتشتاقُ إليهم . قال السدي : معناه : وأمل قلوبهم إلى هذا الموضع .
قال مجاهدٌ : لو قال : أ فئدة النَّاس لزاحمكم فارس والروم والترك والهند .
وقال سعيد بن جبير : لحجَّتِ اليهود ، والمجوس ، ولكنه قال : { أَفْئِدَةً مِّنَ الناس } فهم المسلمون .
{
ارزقهم مِّنَ الثمرات } ممَّا رقزت سكان القرى ذوات الماء : { لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } وذلك يدعل على أن المقصود من منافع الدنيا : أن يتفرغ لأداء العبادات .
ثم قال صلوات الله وسلامه عليه : { رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ } ما أمرونا .
قال ابن عباس ومقاتل : من الوجد بإسماعيل ، وأمه حيث أسكنهما بوادٍ غير ذي زرع . { وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَيْءٍ فَي الأرض وَلاَ فِي السمآء } .
قيل : هذا كله قول إبراهيم عليه السلام ، وقال الأكثرون : قول الله تعالى؛ تصديقاً لقول إبراهيم صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر } وجهان :
أحدهما : أن « عَلَى » على بابها من الاستعلاء المجازي .
والثاني : أنها معنى « مع » كقوله : [ المنسرح ]
3233
إنِّي على مَا تَريْنَ مِنْ كِبَرِي ... أعْلَمُ من حَيْثُ تُؤكَلُ الكَتِفُ
قال الزمخشري : « ومحلّ هذا [ الجار ] النصب على الحال من الياء في » وهَبَ لِي « » .
الآية تدلُّ على أنه تعالى أعطى إبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق صلوات الله وسلامه عليهم على الكبر والشيخوخة فأمَّا مقدار السنة فغير معلوم من القرآن ، فالمرجعُ فيه إلى الروايات .
فروي لما ولدت إسماعيل كمان سن إبراهيم صولات الله وسلامه عليه تسعاً وتعسين سنة ، ولما ولد إسحاق ك ان سنة مائة واثنتي عشرة سنة .
وقيل : ولد إسماعيل لأربع وستين سنة ، وولد إسحاق [ لتسعين ] سنة .
وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه لم يولد لإبراهيم صلى الله عليه وسلم إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة ، [ وإنما ذكر هذا الكبر؛ لأن المنة بهبة الولد في هذا السن أعظم؛ ] لأنه زمن اليأس من الولد .
فإن قيل : إن إبراهيم صلوت الله وسلامه عليه إنَّما دعا بهذا الدُّعاء عندما أسكن هاجر وابنها إسماعيل في ذلك الوادي ، وفي ذلك الوقت لم يكن ولد إسحاق فيكف قال : { الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } ؟ .
فالجواب : قال القاضي رحمه الله : « هذا الدَّليل يقتضي أن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه ، إنَّما ذكر هذا الكلام في زمان آخر لا عقيب ما تقدَّم من الدعاء ويمكن إيضاً أنه صلوت الله وسلامه عليه إنَّما ذكر هذا [ الدعاء ] بعد كبر إسماعيل وظهرو إسحاق صلوات الله وسلامه عليهما وإن كان ظاهر الروايات بخلافه » .
فصل
المناسبة بين قوله { رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَيْءٍ فَي الأرض وَلاَ فِي السمآء } وبين قوله { الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } ، وذلك أنه كان في قلبه أن يطلب من الله سبحانه وتعالى إعانتهما ، وإعانة ذريتهما بعد موته ، ولكنَّه لم يصرِّح بهذا المطلوب بل قال : { رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ } أي : تلعم ما في قلوبنا وضمائرنا ، فقوله : { الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } يدلُّ ظاهراً على أنَّهما يبقيان بعد موته على سبيل الرمز والتعريض ، وذلك يدلُّ على أن الاشتغال بالثناء عند الحاجة إلى الدعاء أفضل من الدعاء .
قال صلوات الله وسلامه عليه حاكياً عن ربِّه عز وجل أنه قال : « مَنْ شَغلهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْألتِي أعْطَيتهُ أفْضَل ما أعْطِي السَّائلينَ » .
ثم قال : { إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدعآء } لما ذكر الدعاء على سبيل التعريض لا على وجه التصريح ، قال : { إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدعآء } من قولك : « سَمِعَ الأميرُ كلامَ فلانٍ » إذا اعتدَّ بِهِ وقلبهُ ، ومنه « سَمِعَ اللهُ لمَنْ حَمدَهُ » .
قوله : { لَسَمِيعُ الدعآء } فيه أوجه :
أحدهما : أن يكون « فَعِيل » مثال مبالغة مضافاً إلى مفعوله وإضافته من نصب ، وهذا دليل سيبويه على أن « فعيلاً » يعمل عمل اسم الفاعل ، ون كان قد خالفهُ جمهور البصريين والكوفيين .
الثاني : أنَّ الإضافة ليست من نصب ، وإنَّما هو كقولك : « هذا ضَارِب ازيد أمس » .
الثالث : أن « سميعاً » مضاف لمرفوعه ، ويجعل دعاء الله سميعاً على المجاز والمراد : سماع الله ، قاله الزمخشريُّ .
قال أبو حيَّان : « وهو بعيد لاستلازمه أن يكون من الصفة المشبهة والصفة متعدية وهذا إنما يتأتى على قول الفارسي رحمه الله تعالى فإنه يجيز أن تكون المشبهة من الفعل المتعدي بشرط أمن اللبس ، نحو : زيدٌ ظالم العبيدَ ، إذا علم أنَّ له عبيد ظالمين ، وأما ههنا فاللبس حاصل ، إذ الظاهر من إضافته المثل للمفعول لا الفاعل » .
قال شهاب الدين : « واللَّبس أيضاً هنا منتف؛ لأنَّ المعنى على الإسناد المجازي كما تقرر » .
قوله : { رَبِّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة } أي : من المحافظين عليها .
واحتجُّوا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لأنَّ قول إبراهيم عليه الصلاة والسلا م { واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام } يدلُّ على أنت ترك المنيهات لا يحصل إلا من الله تعالى .
وقوله : { رَبِّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة وَمِن ذُرِّيَتِي } يدل على أن فعل المأمورات لا يحصل إلا من الله تعالى .
قوله : { وَمِن ذُرِّيَتِي } « عطف على المفعول الأول ل » اجْعَلْنِي « أي : واجعل بعض ذريتي مقيم الصلاة ، وهذا الجار في الحقيقة صفةٌ لذلك المفعول المحذوف ، أي : وبعضاً من ذريتي » .
وإنَّما ذكر هذا التعبيض؛ لأنه علم بإعلام الله سبحانه وتعالى أنَّه يكون في ذريته جمعاً من الكفار لقوله : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } [ البقرة : 124 ] .
وقوله { رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ } قرأ ابو عمرو ، وحمزة وورش ، والبزي بإثبات الياء وصلاَ وحذفها وقفاً ، والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً ، ووقد روى بعضهم بإثباتها وقفاً أيضاً .
قال ابن عباس رضي الله عنه : معناه : تتقبل عملي ، وعبادتي ، سمى العبادة دعاء .
قال صلوات الله وسلامه عليه « الدُّعَاءُ مُخٌّ العِبادَةِ » .
وقال إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه : { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } [ مريم : 48 ] وقيل : معناه : استجب دعائي .
قوله : { رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ } العامة على « والديَّ » بالألف بعد الواو وتشديد الياء ، وإبن جبير كذلك إلا أنه سكن الياء أراد والده وحده ، كقوله { واغفر لأبي } [ الشعراء : 86 ] .
وقرأ الحسين بن علي ، ومحمد بن زيد ابنا علي بن الحسين وابن يعمر رضي الله عنهم : « ولِولدَيَّ » ودمن ألف ، تثنية « وَلد » ، ويعنى بهما : إسماعيل ، وإسحاق وأنكرها الجحدري بأن في مصحف أبي « ولأبويَّ » فهي مفسرة لقراءة العامة .
وروي عن ابن يعمر أنه قرأ : « وَلِوُلدِي » بضم الواو ، وسكون الياء ، وفيها تأويلان :
أحدهما : أنه جمع ولد كأسْد في أسَد .
وأن يكون لغة في الولد ، الحُزْنِ والحَزَن ، والعُدْمِ والعَدَم ، والبُخْلِ والبَخَل ، وعليه قول الشاعر : [ الطويل ]
3234
فَليْتَ زِيَاداً كَان فِي بَطْنِ أمِّهِ ... وليْتَ زِيَاداً كَانَ وُلْدَ حِمَارِ
وقد قرىء بذلك في مريم ، والزخرف ، ونوح في السبعة ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
و « يَوْمَ » [ نصب ] ب « اغْفِرْ » .
فِإن قيل : طلب المغفرة إنَّما يكون بعد الذنب ، وهو صلوات الله وسلامه عليه كان قاطعاً بأن الله يغفر له ، فكيف طلب ما كان قاطعاً بحصوله؟ .
فالجواب : المقصود منه الالتجاء إلى الله ، وقطع الطَّمع إلاَّ من فضل الله تعالى وكرمه .
فإن قيل : كيف جاز أن يستغفر لأبويه ، كانا كافرين؟ .
فالجواب : من وجوه :
الأول : أن المنع لا يعلم إلا بالتوقيف ، فلعله لم يجد [ منعاً ] ، فظن جوازهن .
الثاني : أراد بالوالدين آدم وحواء صلوات الله وسلامه عليهما .
الثالث : كان ذلك بشرط الإسلام .
فإن قيل : لو كان الأمر كذلك لما كان ذلك الاستغفار باطلاً ، ولو لم يكن باطلاً لبطل قوله : { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } [ الممتحنة4 ] .
فالجواب : أن الله تعالى بين عذر خليله في استغفاره لأبيه في سورة التوبة .
وقال بعضهم : كانت أمه مؤمنة ، ولهذا خص أباه بالذكر في قوله : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } [ التوبة : 114 ] .
في قوله : { يَوْمَ يَقُومُ الحسابيوم يَقُومُ الحساب } قولان :
الأول : يقوم إلى بيت المقدس ، وهو مشتقّ من قيام القائم على الرجل ، كقولهم : قَامِتِ الحرُ على ساقها ، ونظيره : قوله : قامت الشمس أي : اشتعلت ، وثبت ضوؤها كأنَّها قامت على رجل .
الثاني : أن يسند إلى الحساب قيام أهله على سبيل المجاز ، كقوله : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] ٍ .
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
قوله : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون } لما بين دلائل التَّوحيد ثمَّ حكاى عن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه أنه طلب من الله العظيم أن يصونه عن الشرك ، وأن يوفقه للأعمال الصَّالحة ، وأن يخصه بالرحمة والمغفرة في يوم القيامة ، ذكر بعده ما يدل على وجود القيامة ، فهو قوله عزَّ وجلَّ { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون } وذلك تنبيه على أنَّه تبارك وتعالى لو لم ينتقم للمظلوم من الظَّالم للزم إمَّا أن يكون غافلاً عن ذلك الظَّالم ، أو عاجزاً عن الانتقام ، أو كان راضياً بذلك الظُّلم ولما كانت الغفلة ، والعجز ، والرِّضا بالظُّلم محالاً على الله امتنع أن لاينتقم من الظَّالم للمظلوم .
فإن قيل : كيف يليقُ بالرَّسُول صلوات الله وسلامه عليه أن يحسب الله عزَّ وجلَّ موصوفاً بالغفلةِ؟ .
فالجواب من وجوه :
الأول : المراد به التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب إن كان غافلاً ، كقوله تعالى : { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } [ الأنعام : 14 ] { وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ } [ القصص : 88 ] .
والثاني : المقصود منه بيان أنه لو لم ينتقم لكان عدم الانتقام لأجل غفلته عن ذلك الظالم ، ولما كان امتناع هذه الغفلة معلوماً للك أحد لا جرم كان عدمُ الانتقام محالاً .
الثالث : أنَّ المراد : ولا تحسبنه يعاملهم الله معاملة الغافل عمَّا يعملون ، ولكن معالمة الرَّقيب عليهم المحاسب على النقير ، والقطمير .
الرابع : أنَّ هذا الخطاب ، وإن كان خطاباً للنبِّ صلى الله عليه وسلم في الظاهر إلا أنه خطاب مع الأمَّة .
قال سفيان بن عيينة رضي الله عنه : هذا تسلية للمظلوم ، وتهديد للظَّالم .
قوله : { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ } أي : لأجل يوم ، فاللام للعلَّة .
وقيل : بمعنى « إلى » أي : للغاية .
وقرأ العامة « يُؤخِّرهُمْ » بالياء ، لتقدم اسم الله تعالى . وقرأ الحسن والسلمي ، والأعرج ، [ وخلائق ] رضي الله عنهم : « نُؤخِّرهُم » بنون العظمة .
ويروى عن أبي عمرو « نُؤخِّرُهمْ » بنون العظمة .
و « تَشْخَصُ » صفلة ل « يَوْمِ » . ومعنى شُخُوصِ البصرِ حدَّةُ النَّظر ، وعدم استقراره في مكانه ، ويقال : شَخَصَ سَمْعُه ، وبَصَرُه ، وأشْخَصَهُمَا صَاحِبهُما ، وشَخَصَ بَصَره ، أي : لم يطرف جفنهُ ، وشخوص البصر يدلُّ على الحيرة والدهشة ، ويقال : شخص من بلده أي : بعد والشخصُ : سواد الإنسان المرئيّ من بعيد .
قوله : { مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ } حالان من المضاف المحذوف إذا التقدير : أصحاب الأبصار ، إذا يقال : شَخَسَ زَيْدٌ بصرهُ ، أو تكون الأبصار دلَّت على أربابها فجاءت ا لحال من المدلول عليه ، قالهما أبو البقاءِ .
وقيل : « مُهْطِعين » منصوب بفعل مقدر ، أي : تبصرهم مهطعين ، ويجوز في « مُقْنِعِي » أن يكون حالاً من الضمير في : « مُهْطِعِينَ » فيكون حالاً ، وإضافة : « مُقْنِعِي » غير حقيقة؛ فلذلك وقع حالاً .
والإهْطَاعُ : قيل : الإسرْاعُ في المشيِ؛ قال : [ البسيط ]
3235
إذَا دَعانَا فأهْطَعْنَا لِدَعْوتهِ ... دَاعٍ سَمِيعٌ فَلفُّونَا وسَاقُونَا
وقال : [ الكامل ]
3236
وبِمُهْطِعٍ سُرُحٍ كأنَّ عِنانَهُ ... فِي رَأْسِ جِذْعٍ .
وقال أبو عبيدة : قد يكون الإسراع [ مع ] إدامة النَّظر .
وقال الراغب : « هَطَعَ » الرَّجلُ بِبصَرهِ إذَا صَوَّبهُ ، وبَعِيرٌ مُهْطِعٌ إذا صوَّب عُنُقهُ « .
وقال الأخفش : هُو الإقْبَالُ على الإصغاءِ ، وأنشد : [ الوافر ]
3237
بِدجْلةَ دَراهُم ولقَدْ أرَاهُمْ ... بِدجْلةَ مُهْطِعينَ إلى السَّماعِ
والمعنى : مُقبلينَ برءوسهم إلى سماعِ الدَّاعِي .
وقال ثعلبٌ : » هَطَعَ الرَّجلُ إذا نظرَ بذُلِّ وخُشوعٍ لا يقلع بِبصَره إلى السماء « . وهذا موافقٌ لقول أبي عبيدة؛ فقد سمع فيه : » أهْطََعَ وهَطَعَ « رباعيًّا وثلاثيًّا .
والإقناعُ : رفع الرَّأسِ ، وإدامة النَّظر من غير التفات إلى شغيره ، قاله القتبيُّ ، وابنُ عرفة .
ومنه قوله يصف إبلاً ترعى أعالي الشَّجر؛ فترفع رءوسها : [ الوافر ]
3238
يُبَاكِرْنَ العِضاهَ بِمُقنَعَاتٍ ... نَواجِذُهُنَّ كالحِدَإ الوَقِيعِ
ويقال : أقْنَعَ رأسه ، أي : طأطأها ، ونكَّسها فهو من الأضداد ، والقَناعةُ : الاجتزاءُ باليسيرِ ، ومعنى قَنَعَ عن كذا : أي : رفع رأسه عن السؤال . وفَمٌ مُقَنَّعٌ : معطوف الأسنان إليه داخلة ، ورجُلٌّ مُقنَّعٌ بالتشديد ، ويقال : قَنِعَ يَقْنَعُ قَناعَةً ، وقَنَعاً ، إذا رَضِيَ ، وقنع قُنُوعاً ، إذا سَألَ ، [ فوقع ] الفرق بالمصدر .
وقال الراغب : قال بعضهم : أصل هذه الكلمة من القناعِ ، وهو ما يُغطِّي الرَّأس
والقَانِعُ : من يَلِجُّ في السؤال فيرضى بِما يَأتيهِ ، كقوله : [ الوافر ]
3239
لَمَالُ المَرْءِ يًصْلِحُه فيُغْنِي ... مَفَاقِرهُ أعَفُّ مِنَ القُنُوعِ
ورجل مقنَّعٌ : تَقنَّعَ بِهِ؛ قال : [ الطويل ]
3240 ...
شُهُودِي على ليْلَى عُدولٌ مَقانِعُ
ومنى الآية : أنَّ المعتاد فيمن شاهد البلاء أنَّه يطرق رأسه عنه لئلا يراه ، فبين تعالى أنَّ حالهم بخلاف هذا المعتاد ، و أنهم يرفعون رءوسهم .
والرُّءُوسُ : جمعُ رأسِ ، وهو مؤنَّثٌ ، ويُجمع في القلَّةِ على أرؤس ، وفي الكثرة على » رُءُوس « والأرَاسُ : العظيم الرأس ، ويعبر به عن الرَّجل العظيم كالوجه ، والرِّسُّ مشتقًّ من ذلك ورِيَاسُ السَّيف مقبضه ، وشاةٌ رَأْسَى : أسودَّتْ رأسَها .
قوله : { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } في محل نصب على الحال من الضمير في : » مُقْنِعِي « ويجوزو أن يكون بدلاً من : » مُقْنِعِي « ، كذا قاله أبو البقاء ، يعني أنه يحل محله ، ويجوز أن يكون استئنافاً ، والطرف في الأصل مصدر ، وأطلق على الفاعل ، كقولهم : » مَا فِيهِمْ عينٌ تَطْرف « ، الطَّرفُ هنا : العَيْنُ قال الشاعر : [ الكامل ]
3241
وأغُضُّ طَرْفِي ما بَدتْ لِي جَارتِي ... حتَّى يُوارِي جَارتِي مَاوَاهَا
والطَّرفُ : الجِفْنُ أيضاً ، يقال : ما طبق طرفهُ ، أي : حفنهُ على الآخر ، الطَّرفُ أيضاً : تحركُ الجِفْنِ .
ومعنى الآية : دوام ذلك الشُّخوصِ .
قوله : { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ } » يجوز أن يكون استئنافاً ، وأن يكون حالاً ، والعامل فيه إمَّا « يَرتَدُّ » وإمَّا ما قبله من العوامل ، وأفرد : « هَواءٌ » ، وإن كان خبراً عن جمع؛ لأنَّه في معنى فارغة متجوفة ، ولو لم يقصد ذلك لقال : أهوية ليطابق الخبر مبتدأه « .
والهَواءُ : الخَالِي من الأجسامِ ويُعبَّرُ به عن الجُبْنِ ، يقال : جوفهُ هواء ، أي : فارغ؛ قال زهيرٌ : [ الوافر ]
3242
كَانَّ الرَّجلَ مِنْهَا فوقَ صَعْل ... مِنَ الظِّلمانِ جُؤجؤهُ هَواءُ
وقال حسَّان بن ثابت رضي الله عنه : [ الوافر ]
3243 ...
فانْتَ مُجَوَّفٌ نَخْبٌ هَواءُ
النَّخْبُ : الذي أخذت نخبته أي : خِيارهُ ، ويقال : قلب فلانٍ هواء : إذا كان جَباناً للقوة في قلبه .
والمعنى : أنَّ قلوب الكفار خالية يوم القيامة عن جمع الخواطر ، والأفكار لعظم ما نالهم من الحيرة لما تحقَّقوهُ من العذاب ، وخيالة من كلِّ سرور لكثرة ما هم فيه من الحزِنِ .
قوله : { وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب } قال أبو البقاء : { يَوْمَ يَأْتِيهِمُ } معفول ثان ل : « أنْذر » ، أي : خوفهم عذاب يوم ، وكذا قاله الزمخشريُّ .
وفيه نظرٌ ، إذ يؤول إلى قولك : أنذرهم عذاب يوم يأتيهم العذاب ، ولا حاجة إلى ذلك ، ولا جائز أن يكون ظرفاً؛ لأنَّ ذلك اليوم لا إنذار فيه سواء قيل : إنه يوم القيامة ، أو يوم هلاكهم ، أو يوم تلقاهم الملائكةُ .
والألف واللام في : « العَذابُ » للمعهود السَّابق ، أي : وأنذرهم يوم يأتيهم العذاب الذي تقدَّم ذكره ، وهو شخوصُ الأبصار ، وكونهم مهطعين مقنعي رءوسهم .
فصل
حمل أبو مسلم قوله : { يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب } على أنه حال المعاينة ، لأنَّ هذه الآية شبيهة بقوله تعالى : { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبِّ لولاا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين } [ المنافقون : 10 ] ، وظاهر الآية يشهد بخلافه؛ لأنه تعالى وصف اليوم بأن العذاب يأتيهم فيه ، وأنهم يسألون الرجعة ، ويقال لهم : { أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ } ؟ ولا يليق ذلك إلا بيوم القيامة .
ثمَّ حكى تعالى عنهم ما يقولون في ذلك اليوم : { فَيَقُولُ الذين ظلموا رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ } قال بعضهم : طلبوا الرجعة إلى الدنيا ليتلافوا ما فرَّطوا فيه .
وقيل : طلبوا الرُّجوع إلى حال التَّكليف لقولهم : { نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل } ، فقوله : « نُجِبْ » جواب الأمرِ .
قوله : { أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ } قال الزمشخري : « على إرادة القول وفيه وجهان : أن تقولوا ذلك أشراً وبطراً ، أو تقولوه بلسان الحال حيث بنوة شديداً ، وأملوا بعيداً » .
و « مَا لكُمْ » جواب القسم ، وإنَّما جاء بلفظ الخطاب لقوله : « أقْسَمْتُمْ » ، ولو جاء بلفظ المقسمين لقيل : « مَا لنَا » .
وقدَّر أبو حيَّان ذلك القول هنا من قول الله عزَّ وجلَّ أو الملائكة عليهم السلام أي : فيقال لهم : « أو لم تكونوا » ، وهوأظهر من الأول ، أعني؟ : جريان القول من غيرهم لا منهم ، والمعنى : { أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ } أراد قوله :
{
وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا } [ الأنعام : 109 ] إلى غير ذلك ممَّا كانوا ينكرونه .
قوله : { وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُمْ } وأصل « سَكَنَ » التَّعدي ب « في » كما في هذه الآية ، وقد يتعدى بنفسه .
قال الزمخشريُّ : « السكنى من السكونِ الذي هو اللَّبثُ ، من الأصل تعديه ب » في « كقولك : قرَّ في الدَّارِ وأقام فيِهَا ، ولكنَّه لما نقل إلى سكون خاص تصرف فيه ، فقيل : سكن الدَّار كما قيل : تَبَوَّأها ، وأوطنَها ، ويجوز أن يكون من السُّكونِ ، أي : قرُّوا فيها واطمأنُوا » .
والمعنى : وسكنتم في مساكن الذين كفورا قبلكم كقوم نوح ، وعادٍ ، وثمود و : { ظلموا أَنفُسَهُمْ } بالكفر؛ لأن من شاهد هذه الحال؛ وجب عليه أنّ يعتبر ، وإذا لم يعتبر يستوجب الذَّم والتقريع .
قوله : « وتَبيَّنَ لَكُمْ » فاعله مضمر لدلالة الكلام عليه ، أي حالهم وخبرهم وهلاكهم ، و « كَيْفَ » نصب ب « فَعلْنَا » وحملة الاستفهام ليست معمولة ل « تَبيَّنَ؛ لأنه من الأفعال التي لا تعلق ، ولا جائز أن يكون : » كَيْفَ « فاعلاً؛ لأنَّها إمَّا شرطية ، أو استفهامية وكلاهما لايعمل فيه ما تقدمه ، والفاعل لا يتقدَّم عندنا .
وقال بعض الكوفيين : إنَّ جملة : » كَيْفَ فَعلْنَا « هو الفاعل ، وهم يجيزون أن تكون الجملة فاعلاً ، وقد تقدَّم هذا في قوله : { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ } [ يوسف : 35 ] .
والعامة على » تَبيَّنَ « فعلاً ماضياً ، وقرأ عمر بن الخطاب ، والسلمي رضي الله عنهما في رواية عنهما : » ونُبيِّنُ « بضمِّ النون الأولى والثانية ، مضارع : » بيَّن « ، وهو خبر مبتدأ مضمر ، والجملة حالٌ ، أي : ونحن نبين .
وقرأ السلمي فيما نقل المهدويُّ كذلك إلا أنه سكن النون للجزم نسقاً على » تَكُونُوا « فيكون داخلاً في حيز التقدير .
فصل
والمعنى : عرفتم عقوبتنا إياهم ، وضربنا لكم الأمثال في القرآن ممَّا يعلم به أنَّه قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء ، وقادر على التَّعذيب المؤجَّل كما يفعل الهلاك المعجَّل .
قوله : { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ } قيل : الضمير عائدٌ إلى الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم .
وقيل : أراد قوم محمد صلى الله عليه سلم لقوله تعالى : { وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب } يا محمد ، وقد مكروا قومك مكرهم وذلك في قوله تعالى { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ } [ الأنفال : 30 ] .
وقيل : المراد من هذا المكر ما نقل : أن نمروذاً حاول الصُّعود إلى السماءِ ، فاتَّخذ لنفسه تابوتاً ، وربط قوائمه الأربعة بأربعة نسورٍ ، وكان قد جوَّعها ، وجعل لها في جوانب التابوت الأربعة عصياً ، وعلم عليها اللحم ، ثم جلس مع صاحب له في التابوت ، فلمَّا أبصرت النسور اللحم تصاعدت في الجو ثلاثة أيام ، وغابت الدنيا عن عين نمروذ ، ثمَّ نكَّس العصيّ التي كان عليها اللحم فهبطت النُّسور إلى الأرض .
قال القاضي رحمه الله : « وهذا بعيد جدًّا؛ لأنَّ الخطر فيه عظيم ، ولا يكاد العاقل يقدم عليه ، وما جاء فيه خبر ، ولا دليل » .
قال القشيري : وهذا جائزٌ بتقدير خلق الحياةِ في الحبالِ ، وذكر الماورديُّ عن بان عباس رضي الله عنهما أنَّ النمرود بن كعنان بنى الصَّرح في قرية الرسِّ من سواد الكوفة ، وجعل طوله خمسة آلاف ذراع ، وخمسة وعشرين ذراعاً ، وصعد فيه مع النُّّسور ، فلمَّا علم أنه ليس له سبيل إلى السماء اتَّخذ حصناً ، وجمع فيه أهله وولده ليتحصن فيه ، فأتى الله بنيانه من القواعد ، فتداعى الصَّرح علهيم ، فهلكوا جميعاً فهذا معنى قوله عزَّ وجلَّ : { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ } .
قوله : { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } يجوز أن يكون هذا المصدر مضافاً لفاعله كالأول بمعنى أنَّ مكرهم الذي مكروه جزاؤه عند الله ، أو للمفعول ، بمعنى أن عند الله مكرهم الذي يمكرهم به ، أي : يعذبهم قالمها الزمخشريُّ .
قال أبو حيان : « وهذا لايصحُّ إلاَّ إن كان » مَكَرَ « يتعدى بنفسه كما قال هو إذ قد يمكرهم به ، والمحفوظ أن » مَكَرَ « لا يتعدَّى إلى مفعولٍ به بنفسه ، قال تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ } [ الأنفال : 30 ] وتقول : زيدٌ ممكور به ، ولا يحفظ : زيدٌ ممكورٌ بسبب كذا .
قوله : { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال } قرأ العامة بكسر لام » لِتَزولَ « الأولى ، والكسائي بفتحها .
فأما القراءة الأولى ، ففيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّها نافيةٌ ، واللام بعدها لام الجحودِ؛ لأنَّها بعد كونٍ منفيّ ، وفي » كَانَ « حينئذ قولان :
أحدهما : أنَّها تامَّة ، والمعنى؛ تحقير مكرهم ، أنَّه ما كان لتزول منه الشَّرائع التي كالجبال في ثبوتها وقوَّتها .
ويؤيد كونها نافية قراءة عبدالله : ( وما كان مَكْرُهُمْ ) .
القول الثاني : أنَّها ناقصةٌ ، وفي خبرها القولان المشهوران بين البصريين والكوفيين ، هل هو محذوف ، واللام متعلقة به؟ وإليه ذهب البصريون ، أو هو اللام ، وما جرته كما [ هو مذهب ] الكوفيين؟ وقد تقرَّر هذا في آخر آل عمران .
الوجه الثاني : أن تكون المخففة من الثقيلة .
قال الزمخشري : » وإن عظم مركهم وتبالغ في الشدة ، فضرب زوال الجبال منه مثلاً لتفاقمه وشدته ، أي : وإن كان مكرهم معدًّا لذلك « .
وقال ابن عطية : » ويحتمل عندي أن يكون معنى هذه القراءة : تعظيم مكرهم ، أي : وإن كان شديداً إنما يفعل ليذهب به عظام الامور « ، فمهوم هذين الكلامين أنها مخففةٌ؛ لأنَّه إثبات .
والثالث : أنها شرطيةٌ ، وجوابها محذوفٌ ، أي : وإن كان مكرهم مقدراً لإزالةِ أشباه الجبال الرَّواسي ، وهي المعجزات ، والآيات ، فالله مجازيهم بمكرهم ، وأعظم منه .
وقد رجِّح الوجهان الأخيران على الأوَّل ، وهو : أنها نافية؛ لأنَّ فيه معارضة لقراءة الكاسئي في ذلك؛ لأنَّ قراءته تؤذن بالإثبات ، وقراءة غيره تؤذن بالنَّفي .
وقد أجاب بعضهم عن ذلك : بأنَّ الجبال في قراءة الكسائي مشار بها إلى أمور عظام غير الإسلام ، ومعجزاته لمكرهم صلاحية إزالتها ، وفي قراءة الجماعة مشار لها إلى ما جاء به النبيُّ المختار صلوات الله وسلامه عليه من الدين الحق ، فلا تعارض إذ لم يتوارد على معنى واحد نفياً ، وإثباتاً .
وأمَّا قراءة الكسائيِّ ففي : « إنْ » وجهان :
مذهبُ البصريين أنََّها المخففة واللام فارقة ، ومذهب الكوفيين أنَّها نافية ، واللام بمعنى : « إلاَّ » وقد تقدَّم تحقيق المذهبين .
وقرأ عمر ، وعلي ، وعبدالله ، وزيد بن علي ، وأبو سلمة وجماعة رضي الله عنهم ( وإن كاد مكرهم لتزول ) كقراءة الكسائي ، إلاََّ أنهم جعلوا مكان نون : « كَانَ » دالاً ، فعل مقاربة ، وتخريجها كما تقدَّم ، ولكن الزوال غير واقع .
وقرىءك « لَتَزُولَ » بفتح اللامين ، وتخريجها على إشاكالها أنها جاءت على لغة من لا يفتح لام كي .
فصل
في الجبال التي عني زوالها بمكرهم وجهان :
أحدهما : جبال الأرض .
الثاني : الإسلامُ ، والقرآن؛ لأنَّ ثبوته ، ورسوخه كالجبالِ .
وقال االقشيريُّ : { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } أي : هو عالم بذلك فيجازيهم ، أو عند الله جزاء مكرهم فحذف المضاف .
قوله تعالى : { فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } لما بين في الآية الأولى أنه ينتصر للمظلوم من الظَّالم بين هاهنا أنه لا يخلف الوعد .
قوله : { مُخْلِفَ وَعْدِهِ } العامة على إضافة : « مخْلِفَ » إلى « وعْدِهِ » وفيها وجهان :
أظهرهما : أن « مُخْلفَ » يتعدَّى لاثنين كفعله ، فقدم المفعول الثاني ، وأضيف إليه إسم الفاعل تخفيفاً ، نحو : هذا كَاسِي جُبَّةِ زيْدٍ .
قال الفراء وقطرب : لما تعدَّى إليهما جميعاً ، لم يبالِ بالتقديم والتأخير .
وقال الزمخشري : فإن قلت : هلاَّ قيل : مُخْلف رسله وعده؟ ولم قدَّم المفعول الثاني على الأول؟ .
قلت : قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد ، ثم قال : « رُسلهُ » ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحداً ، وليس من شأنه إخلاف المواعيد ، كيف يخلف رسله؟ .
وقال أبو البقاء : هو قريبُ من قولهم : [ الرجز ]
3244
يَا سَارِقَ اللَّيْلَةِ أهْلَ الدَّارِ ... وأنشد بعضهم نظير الآية الكريمة قول الشاعر : [ الطويل ]
3245
تَرَى الثَّورَ فِيهَا مُدخِلَ الظلِّ رَأسَهُ ... وسَائرِهُ بَاردٍ إلى الشَّمْسِ أجْمعُ
والحسبان هنا : الأمر [ المتيقن ] ، كقوله : [ الطويل ]
3246
فَلا تَحْسَبنْ أنِّي أضلُّ مَنيَّتِي ... وكُلُّ امرىءٍ كَأسَ الحِمام : ِ يَذُوقُ
الثاني : أنه متعد لواحد ، وهو « وعْدهِ » ، وأمَّا « رُسلهُ » فمنصوب بالمصدر فإنَّه ينحلْ بحرف مصدريّ ، وفعل تقديره : مخلف ما وعد رسله ، ف « ما » مصدريَّة لا بمعنى الذي؟
وقرأت جماعة : { مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } بنصب : « وَعْدهُ » وجر : رسُلهِ « فصلاً بالمفعول بين المتضايفين ، هي كقراءة ابن عامرٍ : { قَتْلُ أوْلادَهُمْ شُكرائِهِمْ ) .
قال الزمخشري مجرأة منه : « وهذه في الضعف [ كقراءة ] ( قَتْلُ أوْلادَهُمْ شُركائِهِمْ ) .
ثم قال : { إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انتقام } غالب لأهل المكر ، ذو انتقام لأوليائه منهم .
قوله تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض } [ لما بين أنه عزيز ذو انتقام ، بين وقت انتقامه ، فقال : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض } ] ويجوز في » يَوْمَ « عدة أوجه :
أحدها : أن ينتصب منصوباً ب » انتقام « أي : يقع انتقامه في ذلك اليوم .
الثاني : أن ينتصب ب » اذكُر « .
الثالث : ِأن ينتصب بما يتلخص من معنى عزيز ذو انتقام .
الرابع : أن يكون بدلاً من : » يَوْمَ يَأتِيهِمْ « .
الخامس : أن ينتصب ب : » مُخْلِفَ « .
السادس : أن ينتصب ب » وَعْدِهِ « ، و » إنَّ « وما بعدها اعتراض .
ومنع أبو البقاء هذه الآخرين ، قال : » لأن ما قبل « إنَّ » لا يعمل فيما بعدها « .
وهذا غير مانع؛ لأنه كما تقدَّم اعتراض ، فلا يبالى به فاصلاً .
فصل
التَّبديلُ يحتمل وجهين :
الأول : أن تكون الذَّات باقية ، وتبدل الصفة بصفة أخرى ، كما تقول : بدلت الحلقة خاتماً ، إذا أذبتها وسويتها خاتماً فنقلتها من شكل إلى شكل آخر ، منه قوله تعالى : { فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [ الفرقان : 70 ] ، ويقال : بدلَّلتُ قَمِيصِي جُبَّة ، إذا قلبت عَيْنَهُ فجعلتهُ جُبَّةٌ ، وقال الشاعر : [ الطويل ]
3247
فَمَا النَّاسُ بالنَّاسِ الذينَ عَرَفْتهُمْ ... ولا الدَّارُ بالدَّارِ الَّتي أنْتَ تَعْلمُ
الثاني : أنْ تُفني الذات ، وتحدث ذاتاً أخرى ، كقولك : بدَّلتُ الدَّراهمَ دنَانِيرَ ومنه قوله تعالى : { وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ } [ سبأ : 16 ] .
وإذا عرفت أن اللفظ محتمل للوجهين ففي الآية قولان :
الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : هي تلك الأرض ، إلاَّ أنها تغير صفتها فتسيرُ عنها جبالها ، وتفجر أنهارها ، وتسوى ، فلا { ترى فِيهَا عِوَجاً ولاا أَمْتاً } [ طه : 107 ] وقال صلى الله عليه وسلم : » تُبدَّلُ الأرضُ غيكر الأرْضِ ، فيَبْسُطهَا ، ويمُدُهَا مدَّ الأدِيم [ العكاظي ] لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً « وتبدل السموات باتثارِ كواكبها وانفطارها وتكوير شمسها؛ وخسوف قمرها ، وكونها تكن تارة كالمهل ، وتارة كالدهان .
والقول الثاني : تبديل الذات . قال ابن مسعود رضي الله عه : تبدل بأرض كالفضَّة البيضاء النَّقية ، لم يسفك فيها د مٌ ، ولم يعمل عليها خطيئة .
والقائلون بالقول الأول هم الذين يقولون عند قيام القيامةِ : لا يعدم الله الذوات والأجسام ، وإنَّما يعدم صفاتها .
وقيل : المراد من تبديل الأرض والسموات : هو أنَّ الله تعالى ، يجعل الأرض جهنم ، ويجعل السموات الجنة بدليل قوله تعالى : { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفجار لَفِي سِجِّينٍ }
[
المطففين : 7 ] وقوله عزَّ وجلَّ { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأبرار لَفِي عِلِّيِّينَ } [ المطففين : 18 ] .
وقالت عائشة رضي الله عنها : سألتُ رسُول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات } [ إبراهيم : 48 ] أيْنَ تكُون النَّاس يَوْمئذٍ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : « على الصِّراطِ » .
وروى ثوبانُ رضي الله عنه أن حبْراً من اليهودِ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيْنَ تكُونُ النَّاسُ يَومَ تُبدَّلُ الأرضُ غير الأرْضِ؟ قال : « هُمْ في الظُّلمةِ دون الجِسْرِ » .
قوله « والسَّمواتِ » تقديره : وتبدل السموات غير السموات .
وقرىء : « نُبَدّلُ » بالنون : « الأرض » نصباً « والسَّمواتِ » نسق عليه .
قوله « وبَرَزُوا » فيه وجهان :
أحدهما : أنها حملةٌ مستأنفة ، أي : يبرزون ، كذا قدَّره أبو البقاءِ ، يعنى أنه ماض يراد به الاستقبال ، والأحسن أنه مثل { ونادى أَصْحَابُ النار } [ الأعراف : 50 ] { ونادى أَصْحَابُ الجنة } [ الأعراف : 44 ] { رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ } [ الحجر : 2 ] { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] لتحقُّّق ذلك .
والثاني : أنها حال من « الأرض » ، و « قَدْ » معها مرادة ، قاله أبو البقاءِ ويكون الضمير في : « بَرَزُوا » للخلق دلّ عليه السِّياق ، والرَّابط بين الحال ، وصاحبها الواو .
وقرأ زيد بن علي « وبُرِّزُوا » بضم الباء ، وكسر الرَّاء مشددة عل التَّكثير في الفعل ومفعوله ، وتقدَّم الكلام في معنى البروز عند قوله تعالى { وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً } [ إبراهيم : 21 ] ، وإنما ذكر « الوَاحدِ القهَّارِ » هنا؛ لأنَّ الملك إذا كان لمالك واحد غالبٍ لا يغلبُ ، قهَّار لا يقهر ، فلا يستغاث بأحد عغيره ، فكان الأمر في غية الصعوبة ولما وصف نفسه تعالى بكونه قهاراً ، بيَّن عجزهم ، وذلتهم فقال : « وتَرَى المُجْرمينَ » وصفهم بصفات :
الأولى : قوله : { مُّقَرَّنِينَ فِي الأصفاد } « يجوز أن يكون حالاً على أنَّ الرؤية بصريّة ، وأن يكون مفعولاً ثانياً على أنَّها علمية ، و » فِي الأصْفادِ « متعلق به .
وقيل : بمحذوف على أنه حال أو صفة ل » مُقرَّنينَ « » .
والمُقرن : من جمع في القَرَن ، وهون الحبل الذي يربط به ، قال : [ البسيط ]
3248
أ وابنُ اللَّبُون إذَا ما لُزَّ فِي قرنٍ ... لَمْ يَستَطعْ صَولةَ ا لبُزْلِ القَناعِيسِ
وقال آخر : [ البسيط ]
3248
ب والخَيْرُ والشَّرُّ مَلْزُوزان في قَرنٍ ... وقال آخر : [ البسيط ]
3248
ج إنِّي لَدَى الباب كلمَلزُوزِ في قَرنٍ ... يقال : قَرنْتُ الشَّيء بالشَّيء إذا شددتهُ بِهِ ، ووَصلتهُ ، والقرنُ : اسم للحَبْلِ الذي يُشَدُّ بِهِ ، ونكَّرهُ لِكثرةِ ذلِك .
والأصْفَادُ : جمع صفدٍ ، وهو الغلُّ ، والقيد ، يقال : صَفَدَهُ يَصْفِده صَفْداً ، قيَّدهُ ، بِهِ ، والاسم الصَّفَد ، وصفَّدهُ مشدداً للتكثير؛ قال : [ الوافر ]
3249
فآبُوا بالنّهَابِ وبالسَّبَايَا ... وأبْنَا بالمُلُوكِ مُصفَّدِينَا
والأصفادُ من الصَّفْد ، وأصفْدَه ، أي : أعطاه ، ففرَّقُوا بين « فَعَل » و « أفْعَلَ » .
وقيل : بل يستعملان في القَيْدِ ، والعَطاءِ ، قال النابغة الذبياني : [ البسيط ]
3250 . ...
فَلمْ أعرِّضْ أبَيْتَ اللَّعْنَ بالصَّفدِ
أي : بالإعطاءِ ، وسمي العطاء صفداً ، لأنَّه يُقيَّدُ من يعطيه ، منه : أنا مغلول أياديك ، أسير نعمتك .
فصل
قيل : يقرن كل كافرٍ مع شيطانٍ في سلسلة ، بيانهن قوله : { احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ } [ الصافات : 22 ] يعنى : قرناءهم من الشَّياطين ، وقوله جل ذكره : { وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ } [ التكوير : 7 ] . أي قرنت .
وقيل : مقرونة أيديهم ، وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد أي : بالقيود .
قوله : { سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ } مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال من « المُجْرمينَ » وإمَّا من : « مُقرَّنِينَ » ، وإما من ضميره ، ويجوز أن تكون مستأنفة وهو الظاهر .
والسَّرابِيلُ : الثِّيابُ ، وسَرْبلتهُ ، أي : ألْبَستهُ السِّربالَ؛ قال : [ السريع ]
3251 ..
أوْدَى بِنعْليَّ وسِرْبَالِيَه
وتطلق على ما يحصن في الحرب من الدِّرع ، وشبهه قال تعالى : { وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } [ النحل : 8 ] .
والقَطرانُ : ما يستخرج منن شجر يسمَّى الأبهل ، فيطبخ ويطلى به الإبل الجُرْب ليذهب جربها [ بحدته ، وقد تصل حرارته إلى داخل الجوف ، ومن شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار ] ، وهو أسود اللَّون منتن الرَّائحةِ ، وفيه لغاتٌ : « قِطرانٍ » بفتح القاف وكمسر الطاء ، وهي قراءة العامة .
و « قَطْران » بزنة سكران ، وبها قرأ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وقال أبو النَّجْم : [ الرجز ]
3252
لَبَّسَهُ القَطْرانَ والمُسُوحَا ... و « قِطْرَان » بكسر القاف ، وسكون الطاء بزنة « سِرْحَان » ولم يقرأ بها فيما علمتُ .
قال شهابُ الدين رحمه الله : وقرأ جماعة كثيرة منهم عليُّ بن أبي طالب وةابن عباس ، وأبو هريرة رضي الله عنهم : « قَطِرِ » بفتح الْقاف ، وكسرها وتنوين الراء « آنٍ » بوزن « عَانٍ » جعلوها كلمتين ، والقَطِر : النَّحاس ، وال « آنِ » اسم فالع من أنَى يأني ، أي : تَناهى في الحرارةِ؛ كقوله تعالى : { بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [ الرحمن : 44 ] .
وعن عمر رضي الله عنه ليس بالطقران ، ولكنَّه النحاس الذي يصير بلونه .
قال ابن الأنباري : « تلك النَّار لا تبطل ذلك القطران ، ولا تفنيه ، كما لا تهلك أجسادهم النَّار ، والأغلال التي عليهم » .
واعلم أنه يطلى بذلك القطران جلود أهل النَّار حتَّى يصير ذلك الطِّلاء كالسِّربال ، وهو القميص ، فيحصل بسببه أربعة أنواع من العذاب : لذع القطران وحرقته ، وإسراع النَّار في جلودهم ، واللون الوحش ، ونتن الرِّحِ ، وأيضاً : التفاوت بين قطران القيامة ، وقطران الدنيا كالتَّفاوت بين النارين .
قوله : { وتغشى وُجُوهَهُمْ النار } قرىٍ « وتَغَشَّى » بتشديد الشِّين ، أي : وتتغشى فحذفت إحدى التَّاءين .
وقرىء برفع : « وُجوهُهُم » ونصب « النَّار » على سبيل المجازِ ، جعل ورود الوجوه النار غشياناً .
والجملة من قوله : « وتَغْشَى » قال أبو البقاءِ : « حال أيضاً » .
يعني أنَّها معطوفة على الحالِ ، ولا يعني أنَّها حال ، والواو للحال ، لأنَّه مضارع مثبت .
فصل
المعنى : [ تعلو ] النَّار وجوههم ، ونظيره قوله تعالى : { أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سواء العذاب } [ الزمر : 24 ] وقوله : { يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ } [ القمر : 48 ] .
واعلم أنَّ موضع المعرفة والنَّكرة ، والعلم ، والجهل ه والقلبُ ، وموضع الفكر ، والوهم والخيال هو الرَّأس ، وتأثير هذه الأحوال يظهر في الوجه ، فلهذا السبب خص الله تعالى هذين العضوين بظهور آثار العقاب فيهما ، قال الله تعالى [ في القلب ] : { نَارُ الله الموقدة التي تَطَّلِعُ عَلَى الأفئدة } [ الهمزة : 6 ، 7 ] وقال تعالى في الوجه : { وتغشى وُجُوهَهُمْ النار } .
قوله : { لِيَجْزِيَ الله كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } في هذه الأيام وجهان :
أظهرهما : أنَّها تتعلق ب « بَرَزُوا » وعلى هذا فقوله : « وتَرَى » جلمة معترضة بين المتعلق ، والمتعلق به .
والثاني : أنها تتعلق بمحذوف ، أي : فعلنا بالمجرمين ، ذلك ليجزي كل نفس لأنه إذا عاقب المجرم؛ أثاب الطَّائع .
قال الواحدي : « المرادُ : أنفسُ الكفَّار؛ لأن ما سبق ذكره لا يليق أن يكون جزاء لأهعل الإيمان ، ويمكن إجراء اللفظ على عمومه ، وأنه تعالى يجزي كلَّ نفسٍ ما كسبتن من عملها اللائق بها ، فيجزي الكفار بهذا العقاب المذكور ، ويجزي المؤمن المطيع الثَّواب وأيضاً ، فالله تعالى لما عاقب المجرمين بجرمهم ، فلأن يثيب المطيعين أولى » .
ثم قال تعالى : { إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } أي : لا يظلمهم ، ولا يزيد على عقابهم الذي يستحقه .
قوله تعالى : { هذا بَلاَغٌ } إشارة إلى ما تقدَّم من قوله : « ولا تحْسَبنَّ » إلى هنا ، أو إلى كلِّ القرآن ، نزل منزلة الحاضر بلاغ ، أي : كافية في الموعظة .
قوله تعالى : { وَلِيُنذَرُواْ بِهِ } فيه أوجه :
أحدها : أنه متعلقٌ بمحذوف ، أي : ولينذروا أنزلنا عليك .
الثاني : [ أنه معطوف على محذوف ، وذلك المحذوف متعلق ب « بلاغ » ، تقديره : لينصحوا ولينذروا ] .
الثالث : أن الواو مزيدة : « ولِيُنْذَرُوا » متعلق ب « بَلاغٌ » ، وهو رأي الأخفش نقله الماورديُّ .
الرابع : أنه محمولٌ على المعنى ، أي : ليبلغوا ، ولينذروا .
الخامس : أن اللام لام الأمر ، وهو حسنٌ ، لولا قوله : « ولِيَذَكَّرَ » فإن منصوب فقط .
قال شهاب الدين : قال بعضهم : لا محذور في ذلك ، فإن قوله : « لِيَذَّكرَ » ليس معطوفاً على ما تقدمه ، بل متعلق بفعل مقدر ، أي : وليذكر أنزلناه وأوحيناه .
السادس : أ ، ه خبر لمبتدأ مضمر ، التقدير : هذا بلاغ ، وهو لينذروا قاله ابن عطيَّة .
السابع : أنه عطف مفرداً على مفردٍ ، أي : هذا بلاغ وإنذار ، قاله المبردُ وهو تفسير معنى لا إعراب .
الثامن : أنه معطوف على قوله : « يُخْرجَ النَّاسَ » في أول السورة ، وهذا غريب جدًّا .
التاسع : قال أبو البقاء : « المعنى هذا بلاغٌ للنَّاسِ ، والإنذارُ متعلق بالبلاغ أو بمحذوف إذا جعلت النَّاس صفة .
ويجوز أن يتعلق بمحذوف ، وتقديره : ولينذروا به أنزل ، أو تلي » .
قال شهاب الدين : « فيؤدّي التقدير إلى أن يبقى التركيب : هذا بلاغ للإنذار والإنذار لا يتأتي فيه ذلك » .
وقرأ العامة : « لِيُنذَرُوا » مبنيًّا للمفعول . وقرأ مجاهدٌ وحميد بن قيس : « ولتُنْذِرُوا » بتاء مضمومة ، وكسر الذال كأن البلاغ للعموم ، والإنذار للمخاطبين ، وقرأ يحيى بن عمارة الدراع من أبيه وأحمد
بن يزيد بن أسيد السلمي « ولِيَنْذَرُوا » بفتح الياء والذال من نَذرَ بالشَّيء ، أي : علم به فاستعد له .
قالوا : ولو لم يعرف مصدر فهو ك « عَسَى » ، وغيرها من الأفعال التي لا مصارد لها .
فصل
معنى « لِيُنْذَرُوا » أي : وليخوفوا به { وليعلموا أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } أي : يستدلُّوا بهذه الآيات على وحدانيَّة الله تعالى : { وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب } أي : يتّعظ أولو العقول .
قال القاضي : أول هذه السورة ، وأخرها يدلُّ على أنَّ العبد مستقل بفعله إن شاء أطاعه ، وإن شاء عصى .
أمَّا أوَّل هذه السورة فقوله تعالى : { لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور } [ إبراهيم : 1 ] وقد ذكرناه هناك .
وأمَّا آخر السورة فقوله تعالى : { وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب } يدلُّ على أنَّه تعالى إنَّما أنزل هذه السورة ، وذكر هذه المواعظ؛ لأجل أن ينتفع بها الخلق؛ ليصيروا مؤمنين مطيعين ، ويتركوا الكفر والمعصية ، وقد تقدم جوابه .
روى أبو أمامة عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ سُورة إبْرَاهِيم أعْطِيَ مِنَ الأجْرِ عَشر حَسناتٍ بِعدَدِ مَنْ عَبدَ الأصْنامَ ، ومَنْ لَمْ يَعْبُدهَا » .
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
قوله تعالى : { الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ } تقدَّم نظير { تِلْكَ آيَاتُ } أول الرعد ، والإشارة ب « تِلْكَ » إلى ما تظمنته السورة من الآيات ، ولم يذكر الزمشخريُّ غيره .
وقيل : إشارة إلى الكتاب السالف ، وتنكير القرآن للتفخيم ، والمعنى : تلك آياتُ ذلك الكتاب الكالم في كونه كتاباً ، وفي كونه قرآناً مفيداً للبيان .
والمراد ب « الكِتَابِ » وال « قُرآن المبينِ » : الكمتاب الذي وعد به محمد صلوات الله وسلام عليه ، أي : مبين الحلال من الحرامِ ، والحقَّ من الباطل .
فإن قيل : لِمَ ذكر الكتاب ، ثم مقال : « وقُرْءَانٍ » ، وكلاهما واحدٌ؟ .
قيل : كلُّ واحدٍ يفيد فائدة أخرى؛ فإنَّ الكتاب ما يكتبُ ، والقرآن ما يجمع بضعه إلى بعض .
وقيل : المراد ب « الكِتَابِ » التَّوراةُ والإنجيلُ ، فيكون اسم جنسٍ ، وبال « قرآن » : هذا الكتاب .
قوله : { رُّبَمَا يَوَدُّ } في « رُبَّ » قولان :
أحدهما : أنها حرف جرٍِّ ، وزعم الكوفيُّون ، وأبو الحسنِ ، ابنُ الطَّراوة : أنها اسمٌ ، ومعناها : التَّقليلُ على المشهور .
وقيل : تفيد التكثير في مواضع الاتفخار؛ كقوله : [ الطويل ]
3253
فَيَا رُبَّ يَوْمٍ قَدْ لَهوْتَُ ولَيْلةٍ ... بآنِسَةٍ كأنَّها خَطُّ تِمْثَالِ
وقد أجيب عن ذلك : بأنها لتقليل النَّظير .
وفيها سبعة عشرة لغة وهي :
«
رُبَّ » بضمِّ الراءِ وفتحها كلاهما مع تشديتد الباء ، وتخفيفها ، فهذه أربع ، ورويت بالأوجه الأربعة ، مع تاء التأنيث المتحركة ، و « رُب » بضم الراء وفتحها مع إسكان الباء ، و « رُبُّ » بضم الراء وةالباء معاً مشددة ومخففة ، و « رُبَّت » .
وأشهرها : « رُبَّ » بالضم والتشديد والتخفيف ، وبالثانية قرأ عاصمٌ ونافعٌ وباتصالها بتاء التأنيث ، قرأ طلحة بن مصروف ، وزيد بن علي : « رُبَّتما » ، ولها أحكام كثيرة :
منها : لزوم تصديرها ، ومنها تنكير مجرورها؛ وقوله : [ الخفيف ]
3254
رُبَّما الجَاملِ المُؤبل فِيهمْ ... وعَناجيجُ بَينهُنَّ المَهارِي
ضرورة في رواية من جرَّ « الجَاملِ » .
ويجر ضمير لازم التفسير بعده ، ويستغنى بتثنيتها وجمعها ، وتأنيثها عن تثنية الضمير ، وجمعه ، وتأنيثه؛ كقوله : [ البسيط ]
3255 . . ...
ورُبَّهُ عَطِباً أنْقَذْتَ مِنْ عَطَبِهْ
والمطابقة؛ نحو : ربَّهُما رجُلَيْنِ ، نادر ، وقد يعطف على مجرورها ما أضيف إلى ضميره ، نحو : رُبَّ رجُلٍ وأخيه ، وهل يلزم وصف مجرورهنا؛ ومضيُّ ما يتعلق به على ضميره ، نحو : رُبَّ رجُلٍ وأخيه ، وهل يلزم وصف مجرورها؛ ومضيُّ ما يتعلق به على خلاف ، والصحيح عندم ذلك؛ فمن مجيئه غير موصوف قول هند : [ مجزوء الكامل ]
3256
يَا رُبَّ قائلةٍ غَدًا ... يَا لَهْفَ أم مُعاوِيًَه
ومن مجيء المستقبل ، قوله : [ الوافر ]
3257
فَإن أهْلِكَ فرُبَّ فتًى سَيَبْكِي ... عَليَّ مُهذَّبٍ رَخْصِ البَنانِ
وقول هند : [ مجزوء الكامل ]
3258
يَا رُبَّ قَائلةٍ غَداً .. . . .
وقول سليم : [ الطويل ]
3259
ومُعْتَصِمٍ بالحيِّ من خَشْيَةِ الرَّدَى ... سَيَرْدَى وغَازٍ مُشفِقٍ سَيَئُوبُ
فإن حرف التنفيس ، و « غداً » خلَّصاه للاستقبال .
و « رُبَّ » تدخل على الاسم ، و « رُبَّما » على الفعل ، ويقال : ربَّ رجُلٍ جَاءنِي ، ورُبَّما جَاءنِي .
و « ما » في « رُبمَا » ، تحتمل وجهين :
أظهرهما : أنها المهيئة ، بمعنى أنَّ « رُبَّ » مختصة بالأسماءِ ، فلما جاءت هنا « ما » هيَّأت دخولها على الأفعال وقد تقدم نظير ذلك [ يونس : 27 ] في « إنَّ » وأخواتها ويكفها أيضاً عن العمل؛ كقوله : [ الخفيف ]
3260
رُبَّما الجَامِلُ المُؤبَّلش فِيهِمْ .. . . .
في رواية من رفعه كما جرى ذلك في كاف التشبيه .
والثاني : أنَّ « مَا » نكرة موصوفة بالجملة الواقعة بعدها ، والعائد على « ما » محذوف تقديره : ربَّ شيء يوده الذين كفروا ، ومن لم يلتزم مضيَّ متعلقها ، لم يحتج إلى تأويل ، ومن التزم ذلك قال : لأن المترقب في إخبار الله تعالى واقعٌ لا محالة ، فعبَّر عنه بالماضي ، تحقيقاً لوقوعه؛ كقوله تعالى : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] ونحوه .
قوله : « لَوْ كَانُوا » يجوز في « لَوْ » وجهان : أحدهما : أن تكون الامتناعيَّة ، وحينئذ ، يكون جوابها محذوفاً ، تقديره لو كانُوا مسلمين لسرُّوا أو تخلصوا مما هم فيه ، ومفعول « يوَدُّ » محذوف على هذا التقدير ، أي : ربما يودُّ الذين كفروا النجاة ، دلَّ عليه الجملة الامتناعية .
والثاني : أنَّها مصدرية عند من يرى ذلك ، كما تقدم تقريره في البقرة [ البقرة : 96 ] ؛ وحنيئذ يكون هذا المصدر المؤولُ هو المفعول للودادة ، أي : يودُّون كونه مسلمين ، إن جعلنا « ما » كافة ، وإن جعلناها نكرة ، كانت « لَوْ » وما في حيِّزها بدلاً من « مَا » .
فصل
المعنى : يتمنَّى الذين كفورا لو كانوا مسلمين ، واختلفوا في الحال التي يتمنى الكافر فيها .
قال الضحاك : حال المعاينة .
وقيل : يوم القيامة .
والمشهور : أنه حين يخرجُ الله المؤمنين من النار .
روى أبو موسى الأشعريُّ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذَا اجْتمعَ أهْلُ النَّار في النَّارِ ، ومعهُمْ من شَاءَ اللهُ مِنْ أهْلِ القِبْلةِ ، قال الكفَّارُ لمِنْ في النَّار من أهْلِ القِبْلةِ : ألَسْتُم مُسْلمينَ؟ قالوا : بَلى ، قالوا : فَمَا أغْنَى عَنْكُم إسْلامكُم ، وأنْتُمْ معنا في النَّارِ ، قالوا : كَانَتْ لنَا ذُنوبٌ فأُخِذْنَا بِهَا ، [ فيغفر ] الله لَهُمْ ، بِفضْلِ رَحْمتهِ ، فيَأمرُ بإخْراجِ كُلِّ مَنْ كانَ مِنْ أهْلِ القِبْلةِ في النَّار ، فيَخْرجُونَ مِنْهَا ، فحنيئذٍ يودُّ الذين كفروا لَوْ كَانُوا مُسْلمينَ » .
فإن قيل : « رُبمَا » للتقليل ، وهذا التَّمني يكثر من الكفار .
فالجواب : أنَّ « رُبمَا » يراد بها التكثير ، والمقصود إظهار الترفع ، والاستغناءُ عن التَّصريح بالغرض؛ فيقولون : ربَّما نَدمتُ على ما فعلتُ ، ولعلَّكَ تَندمُ على فِعلِكَ؛ إذا كان العلمُ حَاصلاً بكثر النَّدمِ ، قال : [ البسيط ]
3261
أتْرك القِرْنَ مُصْفرًّا أنَاملهُ .. . .
وقيل : التقليل أبلغ في التهديد ، والمعنى : أنَّ قليل الندم كافٍ في الزجر عن هذا العمل ، فكيف كثره؟ .
وقيل : إنْ شغلهم بالعاذب لا يفزعهم للندامة فيخطر ذلك ببالهم أحياناً .
فإن قيل : إذا كان أهل القيامةِ ، يتمنَّون أمثال هذه الأحوال ، وجب أن يتمنى المؤمن الذي يقلُّ ثوابه عن درجةِ المؤمنِ الذي يكثر ثوابه ، والمُتمنِّي لما لم يجده يكونُ في الغصَّة وتَألُّمِ القلبِ .
فالجواب : أحوالُ أهل الآخرةِ ، لا تقاس بأحوال الدنيا؛ فإن الله تعالى يُرضي كُلَّ واحدٍ بما هو فيه ، وينزع عن قلوبهم الحسد ، وطلب الزيادتِ؛ كما قال تعالى : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } [ الحجر : 47 ] .
قوله تعالى : { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ } [ الحجر : 3 ] الآية ، أي دعْ يا محمد ، الكفَّار يأخذوةا حفوظهم من دنياهم ، فتلك خلاقهم ، ولا خلاق لهم في الآخرةِ ، { وَيُلْهِهِمُ } يشغلهم « الأملًُ » عن الأخذ بحظِّهم من الإيمان والطَّاعة ، { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } إذا [ وردوا ] القيامة ، وذاقوا وبال [ صنعهم ] وهذا تهديدٌ ووعيدٌ .
وقال بعض العلماء : « ذَرْهُمْ » ، تهديدٌ ، و { سَوْفَ يَعْلَمُونَ } ، تهديدٌ آخر ، فمتى يهدأ العيش بين تهديدين؟! والآية نسختها آية القتالِ .
قوله : « وذَرْهُمْ » ، هذا الأمرُ لا يستعمل له ماضٍ إلا قليلاً؛ استغناءً عنه ب « تَرَكَ » ، بل يستعمل منه المضارع نحو : { وَيَذَرُهُمْ } [ الأعراف : 186 ] ، ومن مجيء الماضي قوله عليه الصلاة والسلام « ذَرُوا لحَبشَة ما وَذَرتْكُم » ، ومثله : دَعْ ويَدَعْ ، ولا يقال : ودَعَ إلا نادراً ، وقد قرىء : { مَا وَدَّعَكَ } [ الضحى : 3 ] مخففاً؛ وأنشدوا : [ الرمل ]
3262
أ سَلْ أمِيري مَا الذي غَيَّرهُ ... عَنْ وصَالِي اليَوْمَ حتَّى وَدَعهْ؟
و « يَأكلُوا » مجزومٌ على جواب الأمر ، وقد تقدم [ البقرة : 17 ، 278 ] أنَّ « تَرَكَ » و « وَذرَ » يكونان بمعنى « صيَّر » ، فعلى هذا يكون المفعول الثاني محذوفاً ، أي : ذرهُم مهملين .
قوله تعالى : { وَيُلْهِهِمُ الأمل } ، يقال : لهيتُ عن الشَّيء ألهي لُهِيَّا؛ جاء في الحديث : أنَّ ابن الزبير رضي الله عنه كان إذا سمع صوت الرَّعدِ لَهِيَ عن الحديث « .
قال الكسائيُّ ، والأصمعيُّ : كلُّ شيءٍ تركتهُ ، فقد لهيتهُ؛ وأنشد : [ الكامل ]
3262
ب صَرمتْ حِبالَكَ فالْهَ عَنْهَا زَيْنَبُ ... أي : اتركها ، وأعرض عنها .
فصل في سبب شقاء العبد
قال القرطبي : أربعةٌ من الشقاءِ؛ جمودُ العين ، وقساوة القلبِ ، وطُولُ الأملِ ، والحرصُ على الدُّنيا .
فطُول الأملِ : داء عضالٌ ، ومرض مزمن ، ومتى تمكن من القلب فسد مزاجه ، واشتدَّ علاجه ، ولم يفارقه داءٌ ، ولا نجع فيه دواء ، بل أعيا الأطبَّاء ، ويئس من بُرئه الحكماء والعلماء .
وحقيقة الأمل : الحرص على الدنيا ، والانكباب عليها ، والحبُّ لها ، والإعراض عن الآخرة ، قال صلوات الله وسلامه عليه : » نَجَا أوَّلُ هذهِ الأمَّة باليَقِينِ والزُّهْدِ ، ويهْلِكُ آخِرُهَا بالبُخْلِ والأمَلِ « .
وقال الحسن : ما أطال عبدٌ الأمل ، إلا أساء العمل .
قوله : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ } ، أي : من أهل قرية ، { إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ } فيه أوجه :
أظهرها : أنها واو الحال ، ثم لك اعتباران :
أحدهما : أن تجعل الحال وحدها الجارَّ ، ويرتفع « كِتَابٌ » به فاعلاً .
والثاني : أن تجعل الجارَّ مقدماً ، و « كِتَابٌ » مبتدأ ، والجملة حالٌ ، وهذه الحال لازمةٌ .
الوجه الثاني : أنَّ الواو مزيدة ، ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة : « إلاَّ لَهَا » بإسقاطها ، والزيادة ليست بالسهلةِ .
الثالث : أن الواو داخلة على الجملة الواقعة صفة؛ تأكيداً ، قال الزمخشريُّ : والجملة واقعة صفة ل « قَرْيَةٍ » ، والقياس : ألاَّ تتوسط هذه الواو بينهما؛ كما قوله تعالى : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } [ الشعراء : 208 ] وإنما توسَّطت ، لتأكيد لصُوقِ الصفة بالموصوف؛ كما تقول : « جَاءنِي زيْدٌ عليْهِ ثَوبهُ ، وجَاءنِي وعليْهِ ثوْبهُ » .
وقد تبع الزمخشري في ذلك أبا البقاء ، وقد سبق له ذلك أيضاً في البقرة عند قوله : { وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 216 ] .
قال أبو حيَّان رحمه الله : « ولا نعلم أحداً قاله من النَّحويين » .
قال شهاب الدين : وفي محفوظِي أنَّ ابن جنّي سبقهما إلى ذلك « .
ثم قال أبو حيان : » وهو مبنيٌّ على جواز أنَّ ما بعد « إلاَّ » يكون صفة؛ وقد منعوا ذلك « .
قال الأخفش : لا يفصل بين الصفة والموصوف ب » إلا « ، ثم قال : وأما نحو : » مَا جَاءَنِي رجٌلٌ إلاَّ راكِبٌ « على تقدير : إلاَّ رجلٌ راكبٌ ، ففيه قُبح؛ لجعلك الصفة كالاسم .
وقال أبو علي : تقول ما مررتُ بأحَدٍ إلاَّ قائماً ، وقائماً حالٌ ، ولا تقول : إلاَّ قائمٌ؛ لأنَّ » إلاَّ « لا تعترض بين الصِّفة والموصوف .
قال ابن مالكٍ : وقد ذكر ما ذهب إليه الزمخشريُّ في قوله » مَا مَررْتُ بأحَدٍ إلاَّ زَيْدٌ خَيْرٌ مِنْهُ « : إنَّ الجملة بعد » إلاَّ « صفة ل » أحَدٍ « : إنه مذهبٌ لا يعرف لبصريِّ ، ولا كوفي فلا يلتفت إليه ، وأبطل قوله : » إنَّ الواو توسَّطت لتأكيد لصوف الصفة بالموصوف « .
قال شهابُ الدين رحمه الله : قولُ الزمخشريِّ قويٌّ من حيث القياس؛ فإنَّ الصفة في المعنى كالحال ، وإن كان بينهما فرقٌ من بعض الوجوه .
فكما أنَّ الواو تدخل على الجملة الواقعة حالاً؛ كذلك تدخل عليها واقعة صفة ، ويقويه أيضاً [ نصره ] به من الآية الأخرى في قوله : { مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } [ الشعراء : 208 ] . ويقويه أيضاً : قراءة ابن أبي عبلة المتقدمة ، وقال منذرُ بن سعيد : هذه الواو هي التي تعطي أن الحالة التي بعدها في اللفظ ، هي في الزمن قبل الحالة التي قبل الواو ، ومنه قوله تعالى :
{
حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [ الزمر : 73 ] .
فصل
لما توعد مكذِّبي الرسل بقوله : { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ } الآية أتبعه بما يؤكد الزجر ، وهو قوله : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } في الهلاك والعذاب ، أي : أجلٌ مضروبٌ ، لا يتقدم العذاب عليه ، ولا يتأخر عنه ، والمراد بهذا الهلاك : عذاب الاستئصال ، وقيل : الموتُ .
قال القاضي : والأول أقرب؛ لأنه أبلغ في الزَّجر ، فبيَّن تعالى أن هذا الإمهال لا ينبغي أن يغترَّ به العاقل . وقيل : المراد بالهلاك مجموع الأمرين .
قوله : { مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا } « مِنْ أمةٍ » فاعل « تَسْبِقُ » ، و « مِنْ » مزيدة للتأكيد؛ كقولك : ما جَاءنِي من أحَدٍ .
قال الواحدي : « وقيل : ليست بزائدةٍ؛ لأنَّها تفيد التبعيض ، أي : هذا الحكم لم يحصل في بعض من أبعاض هذه الحقيقة ، فيكون ذلك في إفادة عموم النَّفي ، آكد » .
قال الزمخشري : « معنى : » سَبَقَ « : إذا كان واقعاً على شخصٍ ، كان معناه أنَّه [ جاز ] ، وخلف؛ كقولك : سَبَقَ زيدٌ عمْراً ، أي : جَاوزَهُ وخَلفهُ وراءهُ ، ومعناه : أنه قصَّر عنه وما بلغه ، وإذا كان واقعاً على زمانٍ ، كان بالعكس في ذلك ، كقولك : سَبٌ فُلانٌ عام كذا ، معناه : أنه مضى قبل إتيانه ، ولم يبلغه ، فقوله : { مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } معناه : أنه لا يحصل الأجل قبل ذلك الوقت ولا بعده ، وإنَّما يحصل الأجل قبل ذلك الوقت ولا بعده ، وإنَّما يحصل في ذلك الوقت بعينه » .
وحمل على لفظ « أمََّةٍ » في قوله : « أجَلهَا » ، فأفرد وأنَّث ، وعلى معناها في قوله : { وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } ، فجمع وذكَّر ، وحذف متعلق « يَسْتَأخِرُون » وتقديره : عنه؛ للدلالة عليه ، ولوقوعه فاصلاً .
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ كل من ما أو قتل ، فإنما مات بأجله ، وأنَّ من قال : يجوز أن يموت قبل أجله مخطىء .
قوله : « وقَالُوا » ، يعنى مشركي مكَّة { ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر } ، أي : القرآن ، وأراد به محمداً صلى الله وعليه وسلم .
والعامة على : « نُزِّلَ » مشدَّداً ، مبنيًّا للمفعول ، وقرأ زيد بن علي : « نَزلَ » ، مخفََّاً مبنيًّا للفاعل .
{
إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } وذكروا نزول الذِّكر؛ استهزاء ، وإنما وصفوه بالجنون ، إما لأنه صلوات الله وسلامه عليه كان يظهر عليه عند نزول الوحي ، حالةٌ شبيهةٌ بالغشي؛ فظنُّوا أنَّها جنونٌ ، ويدلُّ عليه قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ } [ الأعراف : 184 ] .
وإما لأنه كانا يستبعدون كونه رسولاً حقًّا من عند الله؛ لأن الرجل إذا سمع كلاماً مستبعداً من غيره ، فربما قال : به جنون .
قوله : { لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة } ، « لَوْ مَا » : حرف تحضيضٍ؛ ك « هَلاًّ » ، وتكون أيضاً حرف امتناع لوجودٍ ، وذلك كما أنَّ « لولا » متردَّدةٌ بين هذين المعنيين ، وقد عرف الفرق بينهما ، وهو أنَّ التحضيضيَّة لا يليها إلاَّ الفعل ظاهراً أو مضمراً؛ كقوله : [ الطويل ]
3263 . ...
لَوْلاَ الكَمِيَّ المُقَنَّعَا
والامتناعية لا يليها إلا الأسماء : لظفاً أو تقديراً عند البصريين .
وقوله : [ الوافر ]
3264
ولَوْلاَ يَحْسِبُونَ الحِلْمَ عَجْزاً ... لمَا عَدِمَ المُسِيئُونَ احْتِمَالِي
مؤولٌ؛ خلافاً للكوفيين .
فمن مجيء « لَوما » حرف امتناعٍ قوله : [ البسيط ]
3265
لَوْمَا الحيَاءُ ولَوْمَا الدِّينُ عِبْتُكمَا ... بِبعْضِ ما فِيكُمَا إذْ عِبْتُما عَورِي
واختلف فيها : هل هي بسيطة أم مركبة؟ .
فقال الزمخشري : « لَوْ » ركبت مع « لا » ، ومع « مَا » ؛ لمعنيين ، وأمَّا « هَلْ » فلم تركَّب إلاَّ مع « لا » وحدها؛ للتحضيض .
واختلف أيضاً في « لَوْمَا » هل هي أصلٌ بنفسها ، أم فرعٌ على « لَوْلاَ » وأنَّ الميم مبدلة من اللام ، كقولهم : خاللته ، خالمته ، فهو خِلِّي وخِلْمِي ، أي : صديقي .
وقالوا : استولى على كذا ، [ واسْتَوَى ] عليه؛ بمعنًى ، خلاف مشهور ، وهذه الجملة من التحضيض ، دالةٌ على جواب الشرط بعدها .
فصل في معنى الآية
المعنى : لو كنت صادقاً في أدَّعائك النُّبوَّة ، لأتيتنا بملائكة يشهدون عندنا بصدقكم فيما تدَّعيه من الرسالة؛ ونظيره قوله تعالى في الأنعام : { وَقَالُواْ لولاا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمر } [ الأنعام : 8 ] ويحتمل أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا خوَّفهُم بنزول العذاب ، قالوا : لو ما تأتينا بالملائكة الذين ينزلون العذاب ، وهو المراد من قوله : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ العذاب } [ العنكبوت : 53 ] .
ثم إنه تعالى أجاب عن شبهتهم بقوله : { مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ } فإذا كان المراد الأول ، كان تقرير الجواب : أنَّ إنزال الملائكة لا يكون إلا بالحقِّ ، وقد علم الله تعالى من حال هؤلاء الكفار ، أنه لو أنزل عليهم ملائكة ، لبقوا مصرِّين على كفرهم ، فيصير إنزالهم عبثاً باطلاً ، ولا يكون حقًّا ، فلهذا السبب ما أنزل الله تعالى الملائكة .
قال المفسرون : المراد بالحق هنا الموت ، أي : لا ينزلون إلا بالموتِ ، أو بعذابٍ الاستئصال ، ولم يبق بعد نزولهم إنظارٌ ، ولا إمهال ، ونحن لا نريد عذاب الاستئصال بهذه الأمة؛ فلهذا السبب ما أنزلنا الملائكة ، وإن كان المراد استعجالهم بنزول العذاب فتقرير الجواب : أنَّ الملائكة لا تنزل إلاَّ بعذاب الاستئصال ، ولا تفعل بأمَّة محمد صلى الله عليه وسلم ذلك؛ بل يمهلهم لما علم من إيمان بعضهم ، ومن إيمان أولاد الباقين .
قوله : { مَا نُنَزِّلُ الملائكة } ، قرأ أبو بكر رضي الله عنه : « ما تُنزَّلُ » بضمِّ التاء ، وفتح النون ، والزاي مشدَّدة ، مبنيًّا للمفعول ، « المَلائِكةُ » : مرفوعاً لقيامه مقام فاعله ، وهو موافقٌ لقوله تعالى :
{
وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً } [ الفرقان : 25 ] ؛ لأنها لا تنزل إلاَّ بأمر من الله تعالى فغيرها هو المنزِّلُ لها ، وهو الله تعالى .
وقرأ الأخوان ، وحفص : بضمِّ النون الأولى ، وفتح الثانية ، وكسر الزاي مشددة مبنيًّا للفاعل المعظم نفسه وهو الباري جل ذكره . « المَلائِكةَ » ، نصباً : مفعول به؛ وهو موافق لقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملاائكة } [ الأنعام : 111 ] ، ويناسب قوله قبل ذلك : « ومَا أهْلَكْنَا » ، وقوله بعده : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا } [ الحجر : 9 ] ، وما بعده من ألفاظ التَّعظيم .
والباقون من السبعة ما تنزَّلُ بفتح التاء والنون والزاي مشددة ، و « المَلائِكةُ » مرفوعة على الفاعلية ، والأصل : تَتنَزَّلُ ، بتاءين ، فحذفت إحداهما ، وقد تقدم تقريره في : { تَذَكَّرُونَ } [ الأنعام : 152 ] ، ونحوه ، وهو موافق لقوله سبحانه وتعالى : { تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا } [ القدر : 4 ] .
وقرأ زيد بن علي : « مَا نَزلَ » مخففاً مبنيًّا للفاعل ، و « الملائكةُ » مرفوعة على الفاعلية ، وهو كقوله : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } [ الشعرا : 193 ] .
قوله : { إِلاَّ بالحق } يجوز تعلقه بالفعل قبله ، أو بمحذوف على أنه حالٌ من الفاعل أو المفعول ، أي : ملتبسين بالحق ، وجعله الزمخشري رحمه الله نعتاً لمصدر محذوف ، أي : إلاَّ تنزُّلاً ملتبساً بالحقِّ .
قوله « إذَنْ » قال الزمخشري : « إذَنْ حرف جواب وجزاء؛ لأنها جواب لهم ، وجزاء الشرط مقدر ، تقديره : ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين ، وما أخر عذابهم » .
قال صاحب النظم : « لفظة » إذَنْ « مركبة من » إذْ « ، وهو اسم بملنزلة » حِينَ « ؛ تقول : أتيتك إذْ جِئْتنِي ، أي : حِينَ جِئْتنِي ، ثم ضم إليه » إنْ « فصار : ِإذْ أنْ ، ثما استثقلوا الهمزة؛ فحذفوها ، فصار » إذَنْ « ، ومجيْ لفظة » أنْ « دليل على إضمار فعلٍ بعدها ، والتقدير : وما كانوا منظرين إذ كان ما طلبوا » .
قوله : « نَحْنُ » إما مبتدأ ، وإما تأكيدٌ ، ولا يكون فصلاً؛ لأنه لم يقع بين اسمين ، والضمير « لَهُ » للذكر ، وهو الظاهرُ ، وقيل : للرسول صلوات الله وسلامه عليه قاله الفراء ، وقوَّاه ابن الأنباري ، قال : لما ذكر الله الإنزال ، والمنزل ، دلَّ ذلك على المنزل عليه ، فحسنت الكناية عنه؛ لكونه أمراً معلوماً ، ك ما في قوله تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] فإنَّ هذه الكناية عائد على القرآن ، مع أنه لم يتقدم ذكره؛ وإنما حسنت الكناية لسبب معلوم ، فكذا هاهنا ، والأول أوضحُ « .
فإذا قلنا : الكناية عائدة إلى القرآن ، فاختلفوا في أنه تعالى كيف يحفظ القرآن؟ .
فقيل : بأن جعله معجزاً مبايناً لكلام البشر يعجز الخلق عن الزيادة ، والنقصان فيه ، بحيث لو زادوا فيه أو نقصوا عنه ، بغير نظم القرآن .
وقيل : صانه ، وحفظه من أن يقدر أحدٌ من الخلق على معارضته .
وقيل : قيَّض جماعة يحفظونه ، ويدرسونه فيما بين الخلق إلى آخر بقاءِ التكليفِ .
وقيل : المراد بالحفظِ : هو أنَّه لو أنَّ احداً حاول تغيير حرفٍ أو نقطةٍ ، لقال له أهل الدنيا : هذا كذب ، وتغيير لكلام الله تعالى حتى أن الشيخ المهيب لو اتَّفق له لحنٌ أو هفوة في حرف من كتاب الله تعالى لقال له كل الصبيان : أخطأت أيُّها الشيخ ، واعلم أنه لم يتفق لشيءٍ من الكتب مثل هذه الحفظ؛ فإنه لا كتاب إلا وقد دخله التصحيف ، والتحريف ، والتغيير ، إما في الكثير منه ، أو في القليل ، وبقاء هذا الكتاب مصوناً عن جميع جهات التَّحريف ، مع أنَّ دواعي الملاحدة ، واليهود ، والنصارة ، متوفرة على أبطاله وإفساده ، فذلك من أعظم المعجزات .
فإن قيل : لم اشتغلت الصحابة بجمع القرآن في المصحف ، وقد وعد الله عز وجل بحفظه وما حفظ الله عز وجل فلا خوف عليه؟ .
فالجواب : أنَّ جمعهم للقرآن كان من أسباب حفظ الله إياه ، فإنه تعالى لما أراد حفظه ، فيَّضهم لذلك ، وفي الآية دلالةٌ قويةٌ على كون البسملةِ آية من كل سورة؛ لأن الله تبارك وتعالى قد وعد بحفظ القرآن ، والحفظُ لا معنى له إلاَّ أن يبقى مصُوناً عن التغيير وعن الزيادة ، وعن النقصان فلو لو تكن التسمية آية من القرآن ، لما كان مصوناً من التغيير والزيادة ، ولو جاز أن يظنَّ بالصحابة رضي الله عنهم أنهم زادوا ، لجاز أيضاً أن يظنَّ بهم النقصان؛ وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجَّة ، وهذا لا دليل فيه؛ لأن أسماء السور أيضاً مكتوبةٌ معهم في المصحف ، وليست من القرآن بالأجماع .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
قوله : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا } مفعوله محذوف ، أي : أرسلنا رُسُلاً { مِن قَبْلِكَ } ف { مِن قَبْلِكَ } يجوز أن يتعلق ب « أرْسَلْنَا » ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه نعتٌ للمعفو ل المحفوف .
و { فِي شِيَعِ الأولين } ، قال الفراء : هو من إضافة المصوف لصفته ، والأصل : في الشِّيعِ الأوَّلين؛ كصَلاةِ الأولى ، وجَانبِ الغربي حقِّ اليَقينِ ، وجين القيمة .
والبصريون : يؤولنه على الحذف [ الموصوف ، أي : في شيعِ الأممِ الأولين ، وجانب المكان الغربي ، وصلاةِ السَّاعةِ الأولى .
والشِّيعُ : قال الفراء : الشَّاعُ واحدهم : شِيعَة ، وشِيعَةُ الرجُلِ : أتْباعهُ ، والشِّيعَةُ : وهم القوم المجتمعة المتفقة ، سموا بذلك؛ لأن بعضهم يُشَاعُ بعضاً ، وتقدم الكلام على هذا الحرف عند قوله تعالى : { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } [ الأنعام : 65 ] .
قوله : { وَمَا يَأْتِيهِم } قال الزمخشري : « حكاية حال ماضية؛ لأنَّ » مَا « لا تدخل على المضارع إلاَّ وهو في موضعِ الحالِ ، ولا على ماضٍ إلا وهو قريبٌ من الحال » .
وهذا الذي ذكره هو الأكثر في لسانهم؛ لكنَّه قد جاءت ما مقارنة للمضارع المراد به الاستقبال؛ كقوله تعالى : { مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي } [ يونس : 15 ] ، وأنشدوا للأعشى يمدحُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم : [ الطويل ]
3266
لَهُ نَافِلاتٌ ما يَغِبُّ نَوالُهَا ... ولَيْسَ عطَاءُ اليَوْمِ مَانِعَهُ غَدا
وقال أبُو ذؤيب : [ الكامل ]
3267
أوْدَى بَنِيَّ وأوْدَعُونِي حَسْرَةً ... عِنْدَ الرُّقَادِ وعَبْرَةً مَا تٌقلِعُ
قوله : « إلا كانوا » هذه الجملة يجوز أن تكون حالاً من مفعول « تَأتيهم » ، ويجوز أن تكمون صفة ل « رسُولٍ » فيكون في محلِّها وجهان الجرُّ باعتبار اللفظ ، والرفع باعتبار الموضع ، وإذا كانت حالاً فهي حالٌ مُقدَّرةٌ .
فصل في معنى الآية
المعنى : أنَّ عادة هؤلاء الجهَّال مع جميع الأنبياء والرسول صلوات لله وسلامه عليهم الاستهزاءُ بهم؛ كما فعلًُوا بك؛ ذكره تسليةً للنبي صلى الله عليه وسلم .
واعلم أنَّ السَّبَبَ الذي يحمِلُ هؤلاء الجهال على هذه العادة الخبيثة : إما لأنَّ الانتقال من المذاهب يشقُّ على الطِّباع .
وإمَّا لكونِ الرسول صلوات الله وسلامه عليه يكون فقِيراً ، وليس له أعوان ، ولا أنصارٌ؛ فالرؤساءُ يَثقُل عليهم خدمة من يكون بهذه الصِّفة .
وأمّا خذلانُ الله تعالى لهم ، فبإلقاء دواعي الكفرِ والجهلِ في قلوبهم ، وهذا هو السبب الأصليّ .
قوله : { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المجرمين } ، يجوز في الكاف أن تكون مرفوعة المحلِّ على خبرها متبدأ مضمر ، أي : الأمر كذلك ، و « نَسْلكهُ » مستأنف ، ويجوز أن تكون منصوبة المحل ، إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : مثل ذلك السلك؛ ويجوز نسلكه ، أي : نسلكُ الذكر ، إما ح حالاً من المصدر المقدَّر ، والهاء في « نَسْلكُهُ » يجوز عودها للذكر ، وهو الظاهر ، وقيل : يعود للاستهزاء ، قيل : على الشركِ .
والهاء في « بِهِ » يجوز عودها على ما تقدم من الثَّلاثة ، ويكون تأويلُ عودها على الاستهزاء والشرك ، أي : لا يؤمنون بسببه .
وقيل : للرسول صلوات الله وسلامه عليه وقيل : للقرآن .
وقال ابو البقاء : « ويجوز أن يكون حالاً ، أي : لا يؤمنون مستهزئين » كأنه جعل « بِهِ » متعلقاً بالحالِ المحذوفة قائمة مقامها .
وهو مردودٌ ، لأن الجارَّ إذا وقع حالاً أو نعتاً أو صلة أو خبراً ، تعلَّق بكون مطلق لا خاصِّ ، وكذا الظرف .
ومحل « لا يُؤمِنُونَ » النَّصب على الحالِ ، ويجوز ألاَّ يكون لها محلٌّ؛ لأنها بيان لقوله { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ } ، وقوله تعالى : { وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين } استئنافٌ ، والسَّلكُ : الإدخال ، يقال : سَلكْتُ الخَيْطَ في الإبْرةِ ، والرُّمحَ في المَطْعُونِ ومنه { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } [ المدثر : 42 ] .
قال أبو عبيدة ، وأبو عبيد : يقال : سَلكْتهُ وأسْلَكتهُ ، أي : نظمته ، قال : [ الوافر ]
3268
وكُنْتُ لِزازَ خَصْمكَ لَمْ أعَرِّدْ ... وقَدْ سَلكُوكَ في يَوْمٍ عَصِيبِ
وقال الآخر في « أسْلكَ » : [ البسيط ]
3269
حتَّى إذَا أسْلَكُوهُمْ فِي قُتَائِدةٍ ... شَلاًّ كَمَا تَطْردُ الجَمَّالةُ الشُّردا
فصل في المعنى الإجمالي للآية
ق ل الزجاج : المعنى : قد مضت سنة الله في الأولين بأن سلك الكفر والضَّلال في قلوبهم .
وقيل : نه تهديدٌ لكفار مكة ، أي : قد مضت سنة الله بإهلاك من كذب الرسل من القرون الماضية ، والأول أليق بظاهر اللفظ .
قوله تعالى : { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء } الآية ، هذا هو المراد في سورة الأنعام ، في قوله تعالى : { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ } [ الأنعام : 7 ] الآية يعني : أنَّ الذين يقولون : { لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة } [ الحجر : 7 ] ، فلو أنزلنا الملائكة « ، » فظلُّوا فيه « أي : فظلت الملائكة فيها » يَعْرجُونَ « ، وزهم يرونها عياناً .
و » ظلَّ « هذه الناقصة ، والضمير في » فظَلُّوا « يعود على الملائكةِ ، وهو الصحيح وقال الحسن رضي الله عنه : يعود على الكفَّار المفتح لهم الباب .
وقرأ الأعمش ، وأبو حيوة » يَعْرجُونَ « بكسر الراء؛ وهي لغةُ هذيل في عَرَجَ : يَعْرِجُ ، أي : صعد .
قوله
: {
لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا } قرأ ابن كثير : » سُكِرَتْ « مبنياً للمعفول ، مخفَّف الكاف ، وباقي السبعة كذلك إلا أنهم شدَّدوا الكاف ، والزهري : بفتح السين ، وكسر الكاف خفيفة مبنياً للفاعل .
فأما القراءة الأولى : فيجوز أن تكون بمعنى المشددة؛ فإن التخفيف يصلح للقليل والكثير ، وهما مأخوذتان من : السِّكر ، بكسر السين ، هو السَّدُّ .
والمعنى : حُبِسَتْ أبصارنا ، وسُدَّت ، وقيل : بمعنى : أخذت ، وقيل : بمعنى : سُحِرَت ، وقيل المشدد من : سَكِرَ الماءُ بالكسر ، والمخفف من سَكُرَ الشَّراب بالضم .
والمشهور أن » سَكِرَ « لا يتعدى فيكف بُنِي للمفعول؟ .
فقال أبو علي : » يجوز أن يكون سمع متعدِّياً في البصر « .
والذي قاله المحقِّقون من أهل اللغةِ : أنَّ » سَكِر « إن كان من : » سَكِرَ الشَّرابُ ، أو مِنْ سَكِرَ الرِّيحشُ « فالتضعيف فيه للتعدية ، وإن كان من » سَكِرَ الماءً « فالتضعيف فيه للتكثير؛ لأنه متعد مخفَّفاً ، وذلك أنه يقال : سَكرَت الرِّيحُ تَسْكرُ سَكْراً ، إذا رَكدَت ، وسَكِرَ الرَّجلُ منَ الشِّرابِ سَكْراً ، ذا رَكَدَ ، ولم ينقد لحاجته .
فهذان قاصران فالتضعيف فيها للتعدية ، ويقال : سَكِرتُ الماء في مجاريه : إذا منعتهُ من الجَرِّي ، فهذا متعدِّ ، فالتضعيف فيه للتكثير .
وأما قراءةٌ ابن كثير : فإن كانت من « سَكِرَ الماءًُ » فهي واضحةٌ؛ لأنه متعدِّ ، وإن كانت من « سَكُرَ الشَّرابُ أو سَكِرَ الرِّيحُ » فيجوز أن يكون الفعل استعمل لازماً تارة ، ومتعدياً أخرى ، نحو : « رَجَعَ زيْدٌ » ، ورَجَعه غَيْرُه ، وسَعِندَ وسَعِدَه غَيْرُه « وقال الزمخشريُّ : » وسُكِّرَتْ : حُيِّرت أو حبست من السِّكرِ أو السُّكر ، وقرىء : « سُكرَتْ » بالتخفيف ، أي : حُبسَتْ كمَا يُحْبَسًُ المُهْرُ عنِ الجري « ، فجعل قراءة التشديد محتملة لمعنيين ، وقراءة التخفيف محمتلة لمعنى واحدٍ .
وأما قراءة الزهريِّ ، فواضحةٌ ، أي : غطيت ، وقيل : هي مطاوع : اسْكرتُ المكان فَسَكرَ : أي : سَددْتهُ فانْسَدَّ .
{
بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ } ، أي عمل فينا السِّحْرُ ، وسحرنا محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم .
فإن قيل : كيف يجوزز من الجماعة العظيمة أن يكونوا شاكِّين في وجود ما يشهدونه بالعين ا لسليمة في النهار الوضاح؛ ولو جاز حصول الشكِّ في ذلك ، ك انت السَّفسطةٌ لازمة ، ولا يبقى حنيئذٍ اعتمادٌ على الحس والمشاهدة؟ .
أجاب القاضي رحمهن الله : بأنه تعالى ما وصفهم بالشكِّ فيما يبصرون ، وإنما وصفهم بأنهم يقولون هذا القول ، وقد يجوز أن يقدم الإنسانُ على الكذب على سبيل العنادِ والمكابرة ، ثم سأل نفسه ، أيصحُّ من الجمع العظيم أن يظهر الشك في المشاهدات؟ .
وأجاب : بأنه يصحُّ ذلك ، إذا جمعه9م عليه غرضٌ صحيحٌ معتبر من مواطأةٍ على دفع حجَّةٍ أو غلبة خصم ، وأيضاً : فهذه الحكاية إنما وقعت عن قوم مخصوصين ، سألُوةا الرسول صلى الله عليه وسلم إنزال الملائكةِ ، وهذا السؤال إنما كان من رؤساءِ القوم ، وكانوا قليلي العددِ ، وإقدامُ العددِ القليلِ على ما يجري مجرى المكابرة ، جائزٌ .
قوله : » فظلُوا « يقال : ظلّ فُلانٌ نَهارهُ يفعل كذا : إذا فعلهُ بالنَّهارِ ، ولا تقول العربُ : » ظَلّ يَظَلْ « إلاَّ لكلِّ عملٍ بالنهارِ؛ كما لا يقولون : بَاتَ يَبِيتُ إلا بالليل ، والمصدر الظُّلُول .
والعُروجُ : الصُّعودُ ، يقال : عَرَج يَعْرجُ عُرُوجاً ، ومنه : المَعَارجُ ، وهي المصاعدُ التي يصعد عليها .
فإن قلنا : إن الضمير في : » فَظلُّوا « للملائكة ، فقد تقدم بيانه ، وإن قلنا : يعود على المشركين ، فقال ابن عباسٍ رضي الله عنهما : » فظلَّ المشركون يصعدون في تلك المعارج ، وينظرون إلى ملكوتِ الله سبحانه وتعالى وقدرته ، وسلطانه ، وإلى عباده ، وملائكته عليهم السلام لشكُّوا في تلك الرؤية ، وأصرُّوا على جهلهم وكفرهم؛ كما جحدوا سائر المعجزات من انشقاقِ القمرِ ، ومجيء القرآن الذي لا يستطيع الجنُّ والإنس أن يأتوا بمثله « .
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
قوله : { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً } الأية ، « جَعلْنَا » : يجوز أن يكون بمعنى « خَلقْنَا » فيتعلق به الجارُّ ، وأن يكون بمعنى صيِّرنا؛ فيكون مفعلوه الأول : « بُرُوجاً » ومفعوله الثاني : الجارَّ ، فيتعلق بمحذوفٍ ، و « للنَّاظِرينَ » متعلق ب « زَينَّاهَا » ، والضمير ل « السَّماءِ » أي : زيَّناها بالشَّمس ، والقمرِ ، والنجوم .
وقيل : للبروج : وهي الكواكب ، زَّنَّاها بالضوءِ ، والنظر عينيّ .
وقيل : قلبي وحذف متعلقة؛ ليعُمَّ .
فصل في دلائل التوحيد السماوية والأرضية
لما أجاب عن منكري النبوة ، وقد ثبت أنَّ القول بالنبوةِ فرعٌ على القول بالتوحيد ، أتبعه تعالى بدلائل التوحيد وهي : منها سماويَّة ، ومنها أرضية ، فبدأ بذكر السماوية ، فقال وعز وجل : { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ } .
قال اللَّيثُ رحمه الله : البُرُوج واحدها بُرْج من بُروجِ الفلك ، والبُرُوج : هي النجوم الكبار ، مأخوذة من الظهور ، يقال : بَرجَتِ المرأةُ ، أي : ظهرت ، وأراد بها المنازل التي تنزلها الشمس ، والقمر ، والكواكب السيارة .
والعرب تعدُّ المعرفة بمواقعِ النُّجوم ، وأبوابها من أجلِّ العُلومِ ، ويستدلُّون بها على الطُّرقاتِ ، والأوقاتِ ، والخصب ، والحدْبِ ، وقالوا : الفلكُ : اثنَا عشر بُرْجاً ، كلُّ برجٍ ميلان ، ونصر للقمر .
وقال ابن عطية : هي قصورٌ في السماءِ ، وعليها الحرسُ .
{
وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ } مَرجُومٍ ، وقيل : ملعُون .
قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنه كانت الشياطين لا يحجبون عن السمواتِ ، وكانوا يدخلونها ، ويأتون بأخبارها؛ فيلقون على الكهنة ، فلما ولد عيسى صلوات الله وسلامه عليه منعوا من ثلاث سماواتٍ ، فلما و لد محمدٌ صلى الله عليه وسلم من السموات أجمع ، فما منهم من أحدٍ يريد استراق السمع ، 'إلاَّ رمي بشهابٍ .
فلمَّا منعُوا من تلك المقاعد ، ذكروا ذلك لإبليس ، فقال : حدث في الأرض حدثٌ ، قال : فبعثهم ، فوجد رسول الله صلواتالله وسلامه عليه يتلوا القرآن ، فقالوا والله حدث .
فإن قيل : ما معنى : { وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ } والشيطانُ لا قدرة له على هدم السماء ، فإيُّ حاجة إلى حفظ السماء منه؟ قلنا : لما منعمه من القرب منها ، فقد حفظ السماء من مقاربة الشيطان ، فحفظ الله السماء منهم ، كما قد يحفظ منازلنا ممَّن يخشى منه الفساد .
والرَّميُ في اللغة : الرميُ بالحجارة ، والرَّجمُ أيضاً : السبُّ والشتمُ؛ لأنه رميٌ بالقولِ القبيح ، والرجمُ : القول بالظنِّ؛ ومنه قوله تعالى : { رَجْماً بالغيب } [ الكهف : 22 ] ؛ لأنه يرميه بذلك الظنِّ ، والرجم أيضاً : اللَّعن ، والطَّرد .
قوله : { إِلاَّ مَنِ استرق } فيه خمسة أوجه :
أحدهما في محل نصب على الاستثناء المتصل ، والمعنى : فإنها لم تحفظ منه؛ قاله غير واحدٍ .
الثاني : منقطعٌ ومحله النصب أيضاً ، أي : لكن من استرق السمع . قال الزجاج رحمه الله .
موضع « » مَنْ « نصبٌ على التقدير ، قال : » وجاز أن يكون في موضع خفض ، والتقدير : إلا ممَّن « .
الثالث : أنه بدلاٌ من » كُلِّ شَيطانٍ « فيكون محله الجرَّ ، قاله الحوفي ، وأبو البقاءِ ، وتقدم عن الزجاج ، وفيه نظر؛ لأن الكلام موجبٌ .
الرابع : أنه نعتٌ ل » كُلِّ شَيْطانٍ « فيكون محله الجر ، على خلاف في هذه المسألة .
الخامس : أنَّه في محلِّ رفع بالابتداءِ ، وخبره الجملة من قوله تعالى : { فَأَتْبَعَهُ } ، وإنما دخلت الفاء؛ لأنَّ » مَنْ « إمَّا شرطيةٌ ، وإمَّا موصولةٌ ، مشبهةٌ بالشرطية . قاله أبو البقاء وحينئذٍ يكونُ من باب الاستثناءِ المنقطعه .
والشِّهَابُ : الشُّعلةُ مِنَ النَّارِ ، وسُمِّي بها الكوكبُ؛ لشدَّة ضَوئِه ، وبَريقه ، وكذلك سُمَّي السِّنانُ شِهَاباً ، ويجمع على : » شُهُبٍ « في الكثرةِ ، و » أشْهُبٍ « في القلَّة ، والشُّهْبَةُ : بياضٌ مختلطٌ بسوادٍ؛ تَشْبِيهاً بالشِّهاب؛ لاختلاطه بالدُّخانِ ، ومنه : كَتيبةٌ شهباءُ لسوادِ القَوْمِ ، وبياض الحديدِ ، ومِنْ ثمَّ غلط الناس في إطلاقهم الشُّبهة على البياضِ الخالص .
وقال القرطبيُّ : » أتْبَعَه « : أدركهُ ولَحِقهُ ، شهابٌ مُبِينٌ ، أي : كوكبٌ مُضيءٌ ، وكذلك : { بِشِهَابٍ قَبَسٍ } [ النمل : 7 ] أي : شُعلة نارٍ في رَأسِ عُودٍ ، قاله ابن عزيزٍ؛ وقال ذُو الرُّمَّ : [ البسيط ]
3270
كَأنَّه كَوكَبٌ فِي إثْرِ عِفْريَةٍ ... مُسَوَّمٌ فِي سَوادِ اللَّيْلِ مُنْقَضبُ
وسُمِّي الكَوكَبُ شِهَاباً ، لأنَّ بَريقَهُ يُشْبِه النَّار .
وقيل : شهابٌ شُعلة من نار تبين لأهل الأرضِ ، فتحرقهم ولا تعود إذا أحرقتهم ، كما إذا أحرقت النارُ ، لم تعد ، بخلاف الكواكب فِإنه إذا أحرق ، عاد إلى مكانه .
فصل
قال ابن عبَّاسٍِ رضي الله عنه : » إلاَّ مِنَ اسْترقَ السَّمْعَ « يريد الخفطة اليسيرة ، وذلك أن الشياطين يركبُ بعضهم بعضاً إلى سماء الدنيا يسترقون السمع من الملائكة ، فيُرمون من الكواكب ، فلا تخطيء أبداً ، فمنهم من يقتله ، منهم من يحرقُ وجهه وجنبه ويده حيث يشاء الله ، ومنهم من تخبله؛ فيصير غولاً؛ فيقتل الناس في البراري .
روى أبو هريرة رضي الله عنه : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم » إذَا قَضَا اللهُ الأمْرَ فِي السَّماءِ ، ضَربَتِ المَلائِكةُ بأجْنِحَتهَا خضعاناً لقوله كَأنَّه سِلسِلَةٌ على صِنْوانٍ ، فإذَا فزعَ عَنْ قُلوبِهمْ ، قالوا : مَاذَا قَال ربُّكُمْ؟ قَالُوا : الَّذي قَالَ الحَقُّ وهُوَ العليُّ الكَبيرُ ، فَيُسْمعها مُسْترِقُ السَّمع ، مُسْترِقُ السمعِ هَكَّذَا بَعضهُ فَوْقَ بَعْضٍ ، ووَصفَ سُفْيَانُ بِكفِّه فحرَّقها وبدَّدَ بيْنَ أصَابعهِ ، فيَسْمَعُ الكَلِمة ، فيُلْقِهَا إلى مَنْ تَحْتهُ ثُمَّ يُلْقيها الآخرُ إلى مَنْ تَحْتهُ ، حتَّى يُلقِيهَا على لِسانِ السَّاحر ، والكَاهنِ ، ورُبّضما أدْركهُ الشِّهابُ قبْلَ ِِأنْ يلقِيهَا ، ورُبَّما ألْقَاهَا قبلَ أن يُدرِكَهُ ، فيَكذِب مَعَهَا مِائةَ كِذْ ، فيقالُ : ألَيْس قد قَالَ لَنَا اليَوْمَ كَذَا وكَذَا ، فيصدق بتِلْكَ الكَلمةِ الَّتي سُمِعَتْ مِنَ السَّماءِ « .
وهذا لم يكن ظاهراً قبل أن يبعث الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يذكره شاعر من العرب قبل زمانه عليه السلام وإنما ظهر في بدء أمره وكان ذلك أساساً لنبوته صلى الله عليه وسلم .
قال يعقوب من عتبة بن المغيرة بن الأخنسِ بن شريق : إنَّ أول من قرع للرَّمي بالنجوم ، هذا الحيُّ من ثقيف ، وأنهم جاءوا إلى رجُلٍ منهم يقال له : عمر بنُ امَّة ، أحدُ بني علاج ، وكان أدْهَى العرب ، فقالوا له : ألَمْ تَرَ مَا حَدثَ في السماء من القذف بالنُّجُومِ؟ قال : بلى فانظروا ، فإن كانت معالمُ النجوم التي يُهْتدَى بها في البرِّ ، والبَحْر ، ويعرف بها الأنواءُ من الصيف ، والشتاء ، لما يصلحُ الناس من معايشهم ، هي التي يرمى بها ، فهي والله طيُّ الدنيا ، وهلاك الخلق الذين فيها ، وإن كان نجوماً غيرها ، وهي ثابتة على حالها ، فهذا الأمر أراد
الله لهذا الخلق .
قال معمرٌ : قلت للزهريِّ : أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال : نعم ، قال : أفرأيت قوله : { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ } [ الجن : 9 ] الآية قال : وقد غلظتْ ، وشدِّد أمرها حيث بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن قتيبة : إنَّ الرجم كان قبل مبعثه ، ولكن لم يكن في شدة الحراسة بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم .
وقيل : إن النجم ينقضُّ ، ويرمي الشيطان ، ثم يعود إلى مكانه .
فصل
قال القرطبي : « اختلفوا في الشِّهاب : هل يقتل أم لا؟ .
فقال ابن عباس رضي الله عنهما الشِّهاب يَجرح ، ويَحرِقُ ، ويُخْبلُ ، ولا يَقْتلُ .
وقال الحسنُ ، وطائفةٌ : يقتل ، فعلى هذا في قتلهم بالشهب قبل إلقائها السمع إلى الجنِّ قولان :
أحدهما : يقتلون قبل إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم من الجن ، ولذلك ما يعودون إلى استراقه .
والثاني : أنهم يقتلون بعد إلقائهم ، ولو لم يصل لا نقطع الاستراق ، وانقطع الاحراقُ ، ذكره الماوردي » .
قال القرطبي : « والقول الأول أصح؛ على ما يأتي بيانه في » الصافات « » .
فصل
قال ابن الخطيب : « في هذا الموضع أبحاثٌ دقيقة على ما ذكرناها في سورة الملك ، وفي سورة الجن ، ونذكر ههنا إشكالاً واحداً وهو : أنّ لقائل أن يقول : إذا جوَّزتم في الجملة ، أن يصعد الشيطان إلى السماوات ، ويختلط بالملائكةِ ، ويسمع أخبار الغيوب منهم ، ثم إنه ينزل ، ويلقي تلك الغيوب ، فعلى هذا يجب أن يخرج الإخبار عن المغيَّبات عن كونه معجزاً ، لأنَّ كل غيبٍ يخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم فيه هذا الاحتمال؛ فيخرجُ عن كونه معجزاً دليلاً عل الصدقِ ، ولا يقال : إن الله تعالى أخبر عنهم أنَّهم عجزوا بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنَّا نقول : هذا العجز لا يمكن إثباته إلا بعد القطع بكون محمدٍ صلى الله عليه وسلم وبكون القرآن الكريم حقًّا ، والقطع بهذا ، لا يمكن إلاَّ بواسطة المعجز ، وكون الإخبار عن الغيب معجزاً ، ولا يثبت إلا بعد إبطال هذا الاحتمال ، وحينئذٍ يلزم الدور ، وهو محالٌ باطلٌ .
ويمكن أن يجاب عنه : بانا نثبت كون محمدٍ صلى الله عليه وسلم رسولاً ، بسائر المعجزات ، ثم بعد العلم بنبوته ، نقطع بأن الله عَجَّزَ الشياطين عن تلقف الغيب ، وبهذا الطريق يندفع الدَّور « .
قوله : { والأرض مَدَدْنَاهَا } » الأرْضَ « : نصبٌ على الاشتغال ، ولم يقرأ بغيره؛ لأنه أرجع من حيث العطف على جملة فعلية قبلها ، وهي قوله : { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً } [ الحجر : 16 ] .
وقال أبو حيَّان : » ولما كانت هذه الجملة بعدها جملة فعلية ، كان النَّصب أرجح من الرفع « .
قال شهاب الدين : لَمْ يعدُّوةا هذا من القرائن المرجحة للنصب ، إنما عندو عطفها على جملة فعلية قبلها ، لا عطف جمعلة فعلية عليها ، ولكنه القياس ، إذ يعطف فيه فعلية على مثلها ، بخلاف ما لو رفعت ، إذ تعطف فعلية على اسمية ، لكنهم لم يعتبروا ذلك .
والضمير في » فِيهَا « : للأرض . وقيل : للرَّواسي . وقيل : لهما .
فصل
لما شرح الدلائل السماوية في تقرير التَّوحيد ، أتبعها بذكر الدلائل الأرضية وهي أنواع :
الأول : قوله : { والأرض مَدَدْنَاهَا } قال ابن عباسٍ : بسطناها على وجه الماءِ ، وبسطت من تحته الكعبة .
النوع الثاني : قوله : { وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ } وهي الجبال الثوابت واحدها راسٍ ، والجمع راسية وجم الجمع رواسي ، قال ابن عباسٍ : لما بسط الله الأرض على الماء ، مالت بأهلها كالسفينة؛ فأرساها الله بالجبال؛ لكيلا تميل بأهلها .
النوع الثالث : قوله تعالى : { وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ } ، يجوز فِي » مِنْ « أن تكمون تبعيضية ، وهو الصحيح ، وأن تكون مزيدة عند الكوفيين ، والأخفش ، والضمير في قوله : » فِيهَا « يحتمل أن يكون راجعاً إلى الأرض ، وأن يكون راجعاً إلى الجبال الرواسي ، إلاَّ أنَّ رجوعها إلى الأرض أولى؛ لأن أنواع النبات المنتفع بها ، إنما تتولَّد في الأرض ، وأما الجبلية ، فقليلة النفع .
وقيل : رجوع الضمير إلى الجبال أولى؛ لأنَّ المعادن من الذهب ، والفضة ، والحديد ، والنحاس ، وغيرها؛ إنَّما تتولد في الجبال ، والأشياء الموزونة في العرف والمعادة ، هي المعادن لا النبات .
وفي المراد بالموزون وجوه :
قيل : المقَّدر بقدر الحاجة ، أي : أنَّ الله تعالى يثبت ذلك المقدر بقدر ما يحتاج إليه الناس؛ لقوله : { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } [ الرعد : 8 ] وقوله تعالى : { وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [ الحجر : 21 ] .
وقيل : المناسب المطابق للحكمة كقولهم : كلامٌ موزونٌ ، أي : متناسب بعيد عن اللغو ، والمعنى : موزونٌ بميزان الحكمة ، والعقل .
وقيل : موزونٌ؛ بمعنى أنَّ الذي تنبته الأرض نوعان : المعادنُ ، والنباتُ ، أما المعادن : فهي بأسرها موزنة ، وأما النبات : فيرجع عاقبته إلى الوزنِ ، كالمخترف ، والفواكة في الأكثر .
قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ } جحمع معيشة ، أراد الله بها المطاعم ، والمشارب ، والملابس ، وقيل : ما يعيش به المرءُ في الدنيا ، وقد تقدَّم الكلام على المعايش في الأعرافِ .
قوله تعالى : { وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ } ، يجوز في خمسة أوجه :
أحدها : قول الزجاج : أنه منصوب بفعلٍ مقدرٍ ، تقديره : وأغنينا من لستم له برازقين ، كالعبد ، والدَّواب ، والوحوش .
الثاني : أنه منصوب عطفاً على « مَعايِشَ » ، أي : وجعلنا لكم فيها معايش ومن لسْتُمْ له برازقين من الدَّواب المنتفع بها .
الثالث : أنه منصوب عطفاغً على محل « لَكُمْ » .
الرابع : أنه مجرور عطفاً على « كُمْ » المجرور بها اللام؛ وجاز ذلك من غير إعادة الجار على رأي الكوفيين ، وبعض البصريين ، وتقدم تحقيقه في البقرة ، عند قوله : { وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام } [ البقرة : 217 ] .
الخامس : أنه مرفوع بالابتداء ، وخبره محذوف ، أي : ومن لستم له برازقين ، جعلنا له فيها معايش ، وسمع من العرب : ضربت زيداً ، وعمروا ، برفع « عمرو » ؛ مبتدأ محذوف الخبر ، اي : وعمرو ضربته ، و « مَنْ » يجوز أن يراد بها العقلاء ، أي : من لستم له برازقين من مواليكم الذين تزعمون أنكم ترزقونهم ، أو يراد بها غير العقلاء ، أي : من لستم له برازقين من الدوابِّ ، وإن كنتم تزعمون أنكم ترزقونهم؛ قال الله تعالى : { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ } [ النور : 45 ] ، وقال سبحانه : { ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ } [ النمل : 18 ] فذكرها بصيغة جمع العقلاء ، ويجوز أن يراد بها النوعان؛ وهو حسنٌ لفظاً ومعنًى .
قوله تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ } ، و « إنْ » : نافية ، و « مِنْ » مزيدة في المبتدإ ، و « عِنْدَنَ » خبره ، و « خَزائِنهُ » فاعل به؛ لاعتماده على النَّفي ، ويجوز أن يكون « عِندَنَا » خبراً ل « ما » بعده ، والجملة خبر الأولى ، والأولى أولى؛ لقرب الجارِّ من المفرد .
قال الواحدي : « الخَزائِنُ : جمع الخِزانَة ، وهي اسمُ المكمان الذي يُخْزنُ فيه الشيء ، أي : يحفظ ، والخِزانةٌ أيضاً عمل الخازن ، ويقال : خَزَنَ الشَّيء يَخْزنهُ ، إذ أحْرزَهُ » .
و « خَزَائِنهُ » هو المطر؛ لأنه سبب الأرزاق ، والمعايش لبني آدم ، وسائر الحيوانات .
قوله : « إلاَّ بقدَرٍ معلوم » يجوز أن يتعلق بالفعل قبله ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنهخ حالٌ من المفعول ، اي : إلا ملتبساً بقدرٍ .
قال ابن عباس رضي الله عنه : يريد : قدر الكفايةِ ، لكل ارضِ حدُّ مقدرٌ ، وقال الحكم : ما من عامٍ بأكثر مطرٍ ، من عام آخر؛ ولكنه يمطر قومٌ ، ويحرمُ آخرون ، وربما كان في البرح ، يعني أنه تعالى ينزل المطر كلَّ عامٍ بقدرٍ معلومٍ ، غير أنَّه يصرفه إلى من يشاء حيث يشاء .
ولقائل أن يقول : لفظ الآية لا يدلُّ على هذا المعنى ، فإن قوله تعالى : { وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } ، لا يدلُّ على أنه تعالى ينزله في جميع الأعوامِ على قدر واحد ، فتفسير الآية بهذا المعنى تحكُّمٌ بغير دليلٍ .
وقال ابنُ الخطيب : « وتخصيص قوله تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ } بالمطر تحكم محضٌ؛ لأن قوله : { وَإِن مِّن شَيْءٍ } يتناول جميع الأشياء ، إلا ما خصه الدليل » .
روى جعفر ، عن محمدٍ ، عن أبيه ، عن جده ، قال : في العرش مثال جميع ما خلق الله في البر ، والبحر ، وهو تأويل قوله : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ } .
قوله : { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ } الآية « لَواقِحَ » : حاتلٌ مقدرة من « الرِّياحِ » ، وفي اللواقح أقوال :
أحدها : أنها جميع « مُلْقِح » ؛ لأنه من ألْقَحَ يُلقحُ ، فهو ملقحٌ ، وجمعه مَلاقح ، فحذفت اليمم؛ تخفيفاً ، يقال : ألْقحَتِ الريحُ السَّحاب ، كما يقال : ألْقحَ الفَحْلُ الأنثَى؛ ومثله : الطَّوائِحشُ ، وأصله المطارحُ؛ لأنه من أطَاحَ يُطِيحُ ، قال : [ الطويل ]
3271
لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخصًومَةٍ ... ومُخْتَبِطٌ ممَّا تُطِيحُ الطَّوائِحُ
وهذا قول أبي عبيدة .
والثاني : أنه جمع لاَقِح ، يقال : لقَحَتِ الريحُ : إذا حملتِ الماء ، وقال الأزهري : حَوامِلُ تَحْمِلُ السَّحابَ؛ كقولك : ألقحتِ الناقةُ ، فلَقِحتْ ، إذا حملتِ الجَنين : َ في بَطْنِهَا ، فشُبِّهتِ الريحُ بِهَا؛ ومنه قوله : [ الطويل ]
3272
إذّا لَقِحَتْ حَرْبٌ عَوانٌ مُضرَّةٌ ... ضَرُوسٌ تُهِرُّ النَّاس أنْيَابُهَا عُصْلُ
الثالث : أنَّها جمع لاقحٍ ، على النسب؛ كالابنِ وتامرِ ، أي : ذات لقاحٍ ، لأنَّ الرِّحَ إذا مَرَّت على الماءِ ، ثُم مرَّت على السَّحابِ ، والماءِ ، كان فيها لقاحٌ قاله الفراء .
فصل
قال ابن عباس رضي الله عنهما : الرياحُ لوَاقِحُ الشَّجر والسَّحاب؛ وهو قول الحسن ، وقتادة ، والضحاك؛ لأنها تحمل الماء إلى السحاب؛ وأصله من قولهم : لقَحتِ الناقة ، وألْقَحَهَا الفحلُ ، إذا ألقى الماء فيها فحملت .
قال ابن مسعودٍ في تفسير هذه الآية : بعث الله الرياحَ؛ لتلقيح السحاب ، فتحمل الماغء ، وتمجّه في السحاب ، ثم إنه يعصرُ السحاب ، ويدره كما يدر اللقحة .
وقال عبيدٌ بن عيمر : يبعثُ الله الريح المبشرة ، فتقم الأرض قماً ، ثم يبعث المثيرة فتثير السحاب ، ثم يبعث المؤلفة ، فتؤلف السحاب بعضه إلى بعضٍ ، فتجعله ركاماً ، ثم ثبعث اللوَاقِحُ الشَّجر ثم تلا عبيد : « وأرسلنا الرياح لواقح » قال أبو بكر بنِ عيَّاشٍ رضي الله عنه : لا تقطر القطرةُ من السماء إلا بعد أن تعمل الرياحُ الأربعة فيها ، فالصَّبا تُهيِّجه ، والشَّمالُ تَجمعُه والجَنوبُ تُدرُّه ، والدَّبُور تُفرِّقه .
فصل
قال القرطبيُّ : « روي عن مالك رضي الله عنه في قوله تعالى : { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ } ، أي : ذوات لقح ، فلقاحُ القمح عندي أن يحبب ويسنبل ، ولقاح الشَّجر كُلها : أن تثمر ويسقط منها ما يسقط ، ويثيبت منها ما يثبت » .
قال ابن العربيِّ رحمه الله : إنما عوَّل مالكٌ على هذا التفسير على تشبيه الشجر بلقاح الجملِ ، وإنَّ الولد إذا عقد وخلق ونفخ فيه من الروحُ ، كان بمنزلةِ تحبب الثَّمر ، وتسنبله؛ لأنه سمِّي باسم تشتركُ فيه كلُّ حاملةٍ ، وهو اللِّقاحُ ، وعليه جاء الحديث :
«
نَهَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الحبِّ حتَّى يَشْتد » .
قال ابن عبد البرِّ : « الإبارُ عند أهل العلم في النخل : التَّلقيحُ ، وهو أن يأخذ شيئاً من طَلع ذكور النخلِ؛ فيدخله بين ظهراني طلع الإناث ، [ ومعنى ] ذلك في سائر الثمار [ ظهور الثمرة ] من التِّين ، وغيره ، حتَّى تكون الثَّمرة مرئية ، حين ينظر إليها ، والمعتبر عند مالك رضي الله عنه وأصحابه فيما يذكر من الثِّمار التذكر ، وفيما لا يذكر أن يثبت من نواره ما يثبت ويسقط ما يسقط ، وفي الزروع ظهوره من الأرض » .
فصل
قال عليه الصلاة ولاسلام « مِنَ ابتَاعَ نَخْلاً بَعْندَ أن تُؤبَّر ، فَثمَرتُهَا لِلبَائعِ ، إلاَّ أن يَشْترِطَ المُبتَاعُ » فلا يدخل الثمر المؤبَّر مع الأصولِ ف يالبيع إلا بالشرط؛ لأنها موجودة يحاطُ بها أَمَنَةً من السقوط غالباً ، بخلاف التي لم تؤبَّر ، إذ ليس سقوطها غالباً ، بخلاف التي لم تؤبر ، إذ ليس سقوطها مأموناً ، فلم يتحقق لها وجود ، فلم يجز للبائع اشتراطها ، ولا استثناؤها؛ لِأنها كالجنين .
فصل هل يجوز لمن اشترى النخل فقط أن يشتري الثمر قبل طيبه؟
اشترى النَّخل ، وبقي الثمر للبائع ، جاز لمشتري الأصل شراءُ الثمرة قبل طيبها ، في المشهور عن مالكٍ رحمه الله ويرى لها حكم التعبيةِ ، وإن انفردت بالعقدِ ، وعنه في رواية أنه لا يجوز ، وبه قال الشافعيُّ ، وأبو حنيفة ، والثَّوريُّ ، وأهل الظاهر .
فصل في النهي عن بيع الملاقح والمضامين
نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بَيعِ المَلاقحِ والمَضامِنيِ والمَلاقِحُ : الفحول من الإبلن ، الواحد مقلحٌ ، والمَلاقِحُ ما في بطون النوقِ من الأجنَّة ، الواحدة : مَلْقُوحةٌ ، من قولهم : لَقحْتُ ، كالمَحْمُومِ من حَمّ ، والمَجْنُون من جنّ ، وفي هذا جاء النَّهيُ .
قال أبو عبدية : المَضامِينُ ما في البطونِ وهي الأجنَّةِ ، والمَلاقِيحُ : ما في أصلابِ الفحُولِ ، وهو قول سعيد بن المُسيَّبِ ، وغيره .
وقيل : بالعكسِ .
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع [ المَجْر ] وهو بيع ما في بطُونِ الأمَّهاتِ .
قال ابن عابس رضي الله عنهما ما هَبَّتْ ريح قَطُّ إلاَّ جَثَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم عَلى رُكْبتَيْهِ ، وقال : « اللَّهُمَّ اجْعلهَا رحْمةتً ، ولا تَجْعلهَا عَذاباً ، اللَّهُمَّ اجْعَلهَا رِيَاحاً ولا تَجْعلهَا رِيحاً » قال ابن عباس رضي الله عنهما في كتاب الله عز وجل : { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً } [ القمر : 19 ] ، { إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم } [ الذاريات : 41 ] وقال تعالى : { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ } [ الحجر : 22 ] وقال تعالى : { يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ } [ الروم : 46 ] .
قوله تعالى : { فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } ، قد تقدّم أنَّ الماء : هل ننزل من السماء أو من السحاب .
وقوله : { فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } ، قال الأزهريُّ : « تَقُولُ العربُ لِكُلِّ ما فِي بُطونِ الأنْعَامِ ، ومِنَ السَّماءِ ، أو نهْرٍ يَجْري : أسْقَيْتُه ، أي : جعلته شَرْباً له ، وجعلتُ له منها مَسْقى لشرب أرضه أو ماشيته ، فإذا كانت السُّقْيَا لِسقْيهِ ، قالوا : سَقاهُ ، ولم يقولوا : أسْقَاه » .
ويؤكده اختلاف القراء في قوله : { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } [ النحل : 66 ] ، فقرؤا باللغتين ، وسيأتي بيانهما في السورة التي بعدها ، ولم يختلفوا في قوله : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ } [ الإنسان : 21 ] ، وفي قوله : { والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } [ الشعراء : 79 ] .
قال أبو علي : سَقَيْتُه حتَّى رَوِيَ ، وأسْقَيتهُ نَهْراً ، جعلتهُ شُرْباً ، وقوله : { فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } جعلناه سُقْياً لكم ، وربما قالوا في « أسْقَى » سَقَى؛ كقول لبيدٍ يصفُ سحاباً : [ الوافر ]
3273
أقُولُ وصَوْبُهُ منِّي بَعِيدٌ ... يَحُطُّ السَّيْبُ مِنْ قُللِ الجِبَالِ
سَقَى قَوْمِي بَنِي مَجْدٍ وأسْقَى ... نُمَيْراً والقَبائِلَ مِنْ هِلالِ
فقوله : « سَقَى قَوْمي » ليس يريد به ما يروى عطاشهم ، ولكن يريد رزقهم سَقْياً لبلادهم ، يخصبون بِها ، وبعيدٌ أن يَسْألَ لِقومِهِ ما يروي العطاش به ولغيرهم ما يخصبون به ، فأما سَقَيَا السَّقيَّة ، فلا يقال فيها : أسْقاهُ . وأما قول ذي الرُّمة : [ الطويل ]
3274
وأسْقِيهِ حتَّى كَادَ ممَّا أبُثُّهُ ... تُكلِّمُنِي أحْجَارهُ ومَلاعِبُه
[
يريد بقوله : « أسقيه » : أدعو له بالسقاء ، وأقول : سقاه الله ] .
واتَّصل الضميران هنا : لاختلافهما ربتة ، ولو فصل ثانيهما ، لجاز عند غير سيبويه وهذا كما تقدم في قوله تعالى : { أَنُلْزِمُكُمُوهَا } [ هود : 28 ] .
قوله تعالى : { وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } جملة مستأنفة ، و « لَهُ » متعلق ب « خَازِنينَ » ، والمعنى : أنَّ المطر في خَزائِننِا ، ولا في خَزائِنكُمْ . [ وقال سفيان : لستم بمانعين ] .
قوله تعالى : { وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ } الآية ، هاذ النَّوع السادس من دلائل التوحيد ، وهو الاستدلال بالإحياء ، والإماتةِ على وجودِ الإلهِ القادر المختار .
قوله : « لَنَحْنُ » يجوز أن يكون مبتدأ ، و « نُحْيِي » خبره ، والجملة خبر « إنا » ويجحوز أن يكون تأكيداً ل « إنَّا » ، ولا يجوز أ ، يكون فصلاً؛ لأ ، ه لم يقع بين اسمين ، وقد تقدم نظيره [ الحجر : 9 ] .
وقال أبو البقاء : لا يكون فصلاً لوجهين :
أحدهما : أن بعده فعلاً .
والثاني : أنَّ معه اللام .
قال شهابُ الدِّين رحمه الله : « الوجه الثاني : غلطٌ؛ فشإن لام التوكيد لا يمنع دخولها على الفصل ، نصَّ النحاة على ذلك ، ومنه قوله { إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق } [ آل عمران : 62 ] ٍ ، جوَّزوا فيه الفصل مع إقرانه باللام » .
فصل
من العلماءِ من حمل الأحياء على القدرِ المشتركِ بين إحياءِ النبات والحيوان ، ومنهم من قال : وصف النبات بالإحياء مجاز؛ فوجب تخصيصه بإحياء الحيوان ، وقوله جل ذكره : { وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ } يفيد الحصر ، أي : لا قدرة على الإحياء والإماتة إلا لنا ، « ونَحْنُ الوَارثُونَ » إذا مات جميع الخلائق ، فحينئذٍ يزول الملك كلِّ أحدٍ ، ويكون الله سبحانه هو الباقي المالك لكلِّ المملوكات ، وحده لا شريك له ، فكان شبيهاً بالإرثِ .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستأخرين } قال ابن عباس رضي الله عنهما المستقدمين : الأموات ، والمستأخرين : الأحياءُ .
وقال الشعبيُّ رضي الله عنه : الأولين ، والآخرين .
وقال عكرمة : المستقدمون : من خلق الله ، والمستأخرون : من لم يخلق .
وقيل : المستقدمين : القرون الأولى ، والمستأخرين : أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم .
وقال الحسن : المستقدمين : في الطَّاعة والخير ، والمستأخرين : في صفِّ القتال .
وقال ابن عيينه : أراد من سلم ، ومن لم يسلم .
وقال الأوزاعيُّ : أ راد المصلِّين في أول الوقت ، المؤخِّرين إلى آخره .
روى أبو الجوزاء ، عن ابن عباس : كانت امرأةٌ حسناء تصلِّي خلق النبي صلى الله عليه وسلم فكان قومٌ يتقدمون إلى الصف الأول؛ لئلا يرونها ، وآخرون يتأخَّرون ، ليرونها .
وفي رواية : أنَّ النساء كنَّ يخرجن إلى الجماعة ، فيقفن خلف الرجال ، من النساء من في قلبها ريبة ، فتقدم إلى أول صفِّ النساء؛ لتقرب من الرجال؛ فنزلت الآية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « خَيْرُ صُفوفِ الرِّجالِ أوَّلُها وشَرُّها أخرُهَا ، وخَيْرُ صُفوفِ النِّساءِ آخرُهَا وشَّرُّهَا أوَّلُهَا » .
وروري أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رغَّب في الصف الأول في الصلاة [ فازدحم ] النس عليه؛ فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية .
والمعنى : إنَّا نجزيهم على قدر نيَّاتهم .
فصل
قال القرطبي : « الآية تدلُّ على فضل أول الوقت في الصلاة ، وعلى فضل الصف الأوَّل ، كما تدل على فضل الصف الأول في الصَّلاة ، كذلك تدلُّ على فضل الصفِّ الأول في القتال‘ فإنَّ القيام في وجه العدوِّ ، وبيع العبد نفسه من الله تعالى لا يوازيه عملٌ ، ولا خلاف في ذلك » .
واعلم أنَّ ظاهر الآية يدل على أنه لا يخفى على الله شيء من أحوالهم؛ فيدخل فيه علمه بتقدّمهم ، وتأخرهم ، في الحدوثِ ، الوجود في الطاعات وغيرها؛ فلا ينبغي أن تخص بحالةٍ دون حالةٍ .
ثم قال تعالى : { وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ } على ما علم منهم ، وذلك تنبيه على أنَّ الحشر ، والنشر ، البعث ، والقيامة ، أمرٌ واجبٌ { إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } أي : أنَّ الحكمة تقتضي وجوب الحشر ، والنشر ، وعلى ما تقرر في أول سورة يونس عليه السلام .
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صَلْصَالٍ } الآية هذا هو النوع السابع من دلائل التوحيد؛ لأنه ثبت بالدلائل القاطعه أنه يمتنع القول بوجود حوادث لا أوَّل لها ، وإذا ثبت هذا وجب انتهاء الحوادث إلى حادث أوَّل ، هو أولُ الحوادث ، وإذا كان كذلك ، وجب انتهاء الناس إلى إنسانٍ هو أول الناس ، وذلك الإنسان الأول ، غير مخولقٍ من الأوبين؛ فيكون مخلوقاً لا محالة بقدرة الله تعالى .
فقوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } إشارة إلى ذلك الإنسان الأول ، وأجمع المفسرون على أن المراد آدمُ صلوات الله وسلامه عليه .
ونقل في كتب الشِّيعة ، عن محمد بن علي الباقر ، أنَّه قال : قد انقضى قبل آدم صلوات الله عليه الذي هو أبونا ألف ألف آدم ، أو أكثر .
قال ابنُ الخطيب رحمه الله : « وها لا يقدحُ في حدوث العالم ، بل الأمر كيف كان لا بدَّ من الانتهاء إلى إنسانٍ أول ، هو أول الناس ، فأما أن ذلك الإنسان الأول هو أبونا آدم ، فلا طريق له إلاََّ من جهة السمع » .
واعلم أنه تعالى قال : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] ، وقال تعالى : { إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ } [ ص : 71 ] ، وقال هاهنا : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } ، فطريقُ الجمع أنه جعل التُّرابَ طيناً ، ثم تركه حتَّى صار حمأ مسنوناً ، ثم خلقه منه ، وتركه حتى جفّ ، ويبس وصار له صلصلة .
واعلم أنه تعالى قادر على خقله من أي جنس أراد ، بل هو قادرٌ على خلقه ابتداء ، وإنما خلقه على هذا الوجه؛ إما لمحض المشيئة ، أو لما فيه من دلالة الملائكة؛ لأنَّ خلق الإنسان من هذه الأمور أعجب من خلقِ الشَّيءِ من جنسه .
وسمِّي إنساناً : إما لظهوره وإدراك البصر إياه ، وإمَّا من النسيان؛ لأنه عهد إليه فنسِي .
عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال : بعث الله تعالى جِبْريلَ عليه السلا إلى الأرض؛ ليأتيه بطينٍ منها ، فقالت الأرض : أعوذ بالله منك أن تنقص منِّي؛ فرجع ولم يأخذ ، فقال يا ربِّ : أنها عاذتْ بك ، فأعذتها ، فبعث ميكايئيل صلوات الله عليه فعاذت منه ، فأعاذها؛ فرجع ، فقال كما قال جبريل ، فبعث ملك الموتِ ، فعاذت منه ، فقال : وأنا أعوذُ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره ، فأخذ من وجه الأرض ، وخلطه ، لم يأخذ من مكان واحدٍ ، وأخذ من تربةٍ حمراء ، وبيضاء ، وسوجحاء ، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين .
وسُمِّي آدم؛ لأنه خلق من أديم الإرض ، وصعد به ، فقال الله تبارك وتعالى : « أما رَحِمْتَ الأرض حين تضرعت إليك » ؟ فقال : رأيتُ أمرك وأوجب من قولها ، فقال جل ذكره : « أنت تقبض أرواح ولده قبل التراب حتى عاد طيناً لازباً ، وهو يلتصُ بعضه ببعضٍ ، ثم ترك ، حتى أنتن ، وصار حمأ مسنوناً ، وهو المنتنُ .
ثم قال للملائكة : { إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } ، فخلقه الله بيده؛ لئلا يتكبَّر إبليس عليه ، لقوله الله تعالى : أتتكبَّر على ما علمت بيدي ، ولم أتكبر أنا عليه؟ .
فخلقه فكان جسداً من طينٍ أربعين عاماً ، فلما رأتهُ الملائكة ، فزعوا منه ، وكان أشدَّهم منه فزعاً إبليسُ فكان يمرُّ به ، فيضربه؛ فيصوتُ الجسدُ كما يصوتُ الفخَّار ، وتكون له صلصلةٌ؛ فذلك قوله : { مِن صَلْصَالٍ كالفخار } [ الرحمن : 14 ] ، ويقول : لأمر ما خلقت! ويدخل في فيه ، ويخرج من دبره ، ويقول للملائكة : لا ترهبوا منه؛ فإنه أجوف ، ولئن سُلِّطت عليه ، لأهلكنَّه ، فلمَّا نفخ فيه الروح ، ووصل إلى رأسه ، عطس ، فقالت الملائكة عليه السلام : قُل : الحمد لله ، فقال : الحمد لله ، فقال الله له : رحمك ربُّك ، فلما دخل الروح في عينيه ، نظر إلى ثمار الجنة ، فلما دخلت الروحُ جوفه ، اشتهى الطعام؛ فوثب قبل أن تبلغ الورح رجليه؛ عجلان إلى ثمار الجنَّة ، فذلك قوله تعالى : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } [ الأنبياء : 37 ] .
قوله تعالى : { مِن صَلْصَالٍ } ، « مِنْ » : لابتداء الغاية ، أو للتبعيضن ، والصلصالُ : قال أبو عبيده هو الطين المختلط بالرمل ، ثم يجفُّ؛ فسمع له صلصلةٌ ، أي : تصويت ، قال : والصلصلةُ : الصَّوتُ؛ وأنشدوا : [ الكامل ]
3275
شَرِبَتْ أسَاوِيُّ القُطاةِ مِنَ الكَدرْ ... وسَرَتْ فَتَرْمِي أحْيَاؤهَا بِصَلاصِلِ
أراد : صوتَ أجْنحَةِ أفراخِهَا ، حين تطيرُ ، أو أصواتَ أفراخها .
وقال الزمخشريُّ : « الطِّينُ اليابس الذي يُصلصِلُ من غير طبخٍ ، فإذا طبخ ، فهو فخار » .
وقال أبو الهيثم : « هو صوتُ اللِّجامِ ، وما أشبهه؛ كالقعقعة في الثوب » .
وقال الزمخشري أيضاً : قالوا : إذا توهَّمت في صوته مدًّا ، فهو صليلٌ ، وإن توهمت فيه خفاءً ، فهو صلصلةٌ ، وقيل : هو من تضعيف « صَلَّ » ، إذا أنتن أنتهى .
و « صَلْصَالٍ » هنا ، بمعنى مُصَلْصِل؛ كزَلْزالٍ ، بمعنى مُزَلْزِل ، ويكون « فَعْلال » أيضاً مصدراً ، ويجوز كسره أيضاً ، وفي هذا النَّوع ، أي : ما تكررت فاؤه ، وعينه خلافٌ .
فقيل : وزنه : فَعْفَع؛ كُرِّرتِ الفاء والعين ، ولا لام للكلمة؛ قاله الفراء ، وغيره . وهو غلطٌ؛ لأنَّ أقلَّ الأصول ثلاثة : فاءٌ ، وعينٌ ، ولامٌ .
والثاني : أنَّ وزنه « فَعْفَل : ؛ وهو قول الفرَّاء .
الثالث : أنه » فَعَّل « بتشديد العين ، وأسله » صَلَّل « فلما اجتمع ثلاثة أميالٍ ، أبدل الثاني من مجنس فاء الكلمة ، وهومذهب كوفيٌّ ، خصَّ بعضهم هذا لخلاف بما إذا لم يختل المعنى ، بسقوطِ الثالث ، نحو » لَمْلَمَ « و » كَبْكَبَ « فإنَّك تقول فيهما : » لَمَّ « ، و » كَبَّ « ، فول لم يصحَّ المعنى بسقوطه؛ نحو : سَمْسَمَ » ، قال : فلا خلافَ في أصالة الجميع .
قوله تعالى : { مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } فيه وجهان :
أحدهما أنه في محلِّ جر صفة ل « صَلْصَالِ » ؛ فيتعلق بمحذوف .
والثاني : أ ، ه بدل من « صَلْصالٍ » بإعادة الجارِّ . والحَمَأ : الطِّينُ الأسودُ المنتنُ .
قال الليث رحمه الله : واحده « حَمَأة » بتحريك العين جمعله اسم جنسٍ؛ وقد غلط في ذلك؛ فإن أهل اللغة قالوا : لا يقال إلاَّ « حَمْأة » [ بالإسكان ] ، ولا يعرف التحريك؛ نصَّ عليه أبو عبيدة ، وجماعة؛ وأنشدوا لأبي الأسودِ : [ الوافر ]
3276
تَجِيءُ بمِلْئِهَا طُوْراً وطَوْراً ... تَجِيءُ بِحَمْأةٍ وقَلِيلِ مَاءِ
فلا يكون « الحَمَأة » واحدة « الحَمْأ » ؛ لاختلاف الوزنين .
والمَسْنُون : المَصْبُوب؛ من قولهم : سَنَنتُ الشَّرابَ ، كأنَّه لِرُطُبتهِ جعل مَصْبُوباً ، كغيره من المائعات ، فكأن المعنى : أفرغ صورة إنسانٍ ، كما تفرغ الجواهر المذابة .
قال الزمخشريُّ : وحقُّ « مَسْنُونٍ » بمعنى مصور : أن يكون صفة ل « صَلْصالٍ » ؛ كأنه أفرغ الحمَأ ، فصوَّر منه تمثال شخصٍ . يعني أنه يصيرُ التقدير : من صلصالٍ مصوَّرٍ ، ولكن يلزم تقديم الوصف المؤول على الصَّريح؛ إذا جعلنا : « مِنْ حَمَأ » صفة ل « صَلْصَالٍ » ، أمَّا إذا جعلناه بدلاً منه؛ فلا .
وقيل : مسنونٌ : مصوَّرٌ من سنَّة الوجه ، وهي صورته؛ قال الشاعر : [ البسيط ]
3277
تُرِيكَ سُنَّة وجْهٍ غَيْرَ مُقْرِفَةٍ ..
وقال الزمخشريُّ : والمَسْنُونُ : المَحْكُوكُ ، مأخوذٌ من سننت الحجر ، إذا حككته به ، فالذي يسيل بينهما سَنَنٌ ولا يكون إلاَّ مُنْتِناً .
ومنه يسمَّى المسَن مسَنًّا؛ لأنَّ الحديد يحكُّ عليه .
وقيل : المسنونُ : المنسوب إليه ، والمعنى ينسب إليه ذريته ، وكأن هذا القائد أخذه من الواقع ، وقيل : هو من أسنَّ الماء إذا تغيَّر ، وهذا غلط؛ لاختلافِ المادتين .
رُوِيَ أنَّ الله تعالى خمَّر طينة آدم ، وتركه حتى صار متغيِّراً أسود ، ثم خلق منه آدم صلوات الله وسلامه عليه .
قوله : { والجآن خَلَقْنَاهُ } منصوب على الاشتغال ، ورجَّح نصبه؛ لعطف جملة على جملة فعليةٍ .
والجَّانُّ : أبُو الجنّ ، هو إبليس؛ كآدم أبي الإنسِ ، وقيل : هو اسمٌ لجنسِ الجن .
وقرأ الحسن : « والجَأن » بالهمز ، وقد تقدّم الكلام في ذلك في أواخر الفاتحة .
فصل
قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما : الجان ِأبو الجن؛ كما أن آدم أبو البشر ، وهو قول الأكثرين .
وروي أيضاً عن ابن عباسٍ ، والحسن ، ومقاتل ، وقتادة رضي الله عنهم : هو إبليس ، خلق قبل آدم .
وقيل : الجانُّ أبو الجن : وإبليس أبو الشياطين ، وفي الجنِّ : مسلمون ، وكافرون ، ويحيون ويموتون ، وأما الشيَّاطين؛ فليس سفهم مسلمون ، ويموتون إذا مات إبليس .
وذكر وهبٌ : أنَّ من الجن من يولد له ، ويأكلُونَ ، ويشربون بمنزلة الآدميِّين ، ومن الجن من هم بمنزلةِ الرِّيح : لاتوالدون ، ولا يأكلون ، ولا يشربون .
قال ابن الخطيب : « والأصحُّ أن الشياطين قسمٌ من الجن ، فمن كان منهم مؤمنٌ فإنه لا يسمَّى بالشيطان ، ومن كان منهم كافرٌ ، سمِّي بهذا الاسم . وسمُّوا جنًّا؛ لاستتارهم عن الأعين ، ومنه يسمَّى الجنينُ؛ لاستتاره عن الإعين ، في بطن أمِّه ، والجنَّةُ : ما تَقِي صابحها ، وتستره ، ومنه سمِّيت الجنة؛ لا ستتارها بالأشجار » .
قوله تعالى : { مِن قَبْلِكَ } ، و « مِن نَارٍ » متعلقان ب : خَلَقْنَاهُ « ؛ لأنَّ الأولى لابتداءِ الغاية ، والثانية للتعبيض ، وفيه دليلٌ على أنَّ » مِنْ « لابتداءِ الغاية في الزمان ، وتأويل البصريين له ، ولنظائره بعيد .
فصل
قال ابن عباس رضي الله عنهما : » يريد قبل خلق آدم صلوات الله وسلامه عليه « ز والسَّمومُ : ما يقتل من إفراطِ الحرّ من شمس ، أو ريح ، أو نار؛ لأنها تدخل المسامَّ فتَقْتلُ .
قيل : سُمِّيت سمُوماً؛ لأنها بلطفها تدخل في مسامِّ البدن ، وهي الخروقُ الخفيَّة التي تكون في جلد الإنسان ، يبرز منها عرقه وبخار بطنه .
وقيل : السَّمومُ ما كان ليلاً ، والحرورُ ما كان نهاراً . وعن ابن عباس : نارٌ لا خانلها .
قال أبو صالح : والصَّواعِقُ تكون منها ، وهي نار بين السماء وبين الحجاب ، فإذا أحدث الله أمراً ، خرقت الحجاب فهوت إلى ما أمرت به ، فالهَدَّةُ التي تسمعون؛ خرق ذلك الحجاب .
وقيل : نار السموم : لهب النَّار . وقيل : نارُ جهنَّم .
وروى الضحاك ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما : كان إبليس من جنسِ من الملائكة ، يقال لهم الجن ، خلقوا من نارِ السَّمومِ ، وخلقت الجنُّ الذين ذكروا من مارج من نارِ ، والملائكة خلقوا من نورٍ .
وقيل : { مِن نَّارِ السموم } من إضافةِ الموصوف لصفته .
قوله : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ } الآية ، لما استدلَّ بحدوثِ الإنسان؛ على وجود الإله القادر المختار؛ ذلك بعده واقعته ، وهو أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود له ، والمراد بكونه بشراً ، أي : جسماً يباشر ويلاقى ، والملائكة ، والجن لا يبشارون؛ للطف أجسامهم ، والبشرة : ظاهر الجِلدِ مِنْ كُلِّ حيوانٍ ، وتقدَّم ذكر الصلصالِ ، والحَمأ المَسْنُونِ .
{
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ } أي : شكلته بالصورة الإنسانية ، والخلقة البشرية .
وقيل : سوَّيتُ أجزاء بدنه : باعتدالِ الطَّبائعِ ، وتناسب الأمشاجِ ، نَفخْتُ فيه من روحي؛ فصار بشراً حيًّا .
والرُّوحُ : جسمٌ لطيفٌ ، يحيا به الإنسان ، وقيل : الرُّوحُ : هي الرِّيح؛ لأنَّ النَّفخ أخذ الريح في تجاويف جسم آخر؛ فظاهر قوله : { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } يشعر بأنَّ الروح هي الريح ، وإلا لما صحَّ وصفها بالنَّفخ ، وسيأتي بقيةُ الكلام على الروح عند قوله : { قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [ الإسراء : 85 ] ، وأضاف روح آدم صلوات الله وسلامه عليه إلى نفسه تشريفاً وتكريماً .
قوله تعالى : { فَقَعُواْ لَهُ } ، يجوز أن تتعلق اللام بالفعل قبلها ، وأن تتعلق ب » سَاجِدينَ « .
فصل
ظاهر قوله : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } يدل على وجوب السجود على الملائكة؛ لأنه مذكمور بفاء التَّعقيب؛ وذلك يمنُ التَّراخي .
قوله « أجْمَعُونَ » تأكيد ثانٍ ، ولا يفيد الاجتماع في الوقت؛ خلافاً لبعضهم .
وقال سيبويه : قوله : { كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } « توكيدٌ بعد توكيدٍ » . وسئل المبرد عن هذه الآية فقال : لو قال : فَسجَدَ الملائِكَةُ « احتمل أن يكون سجد بعضهم فلما قال : كُلُّهم زال هذا الاحتمال ، فظهر أنهم بأسرهم سجدوا ، ثم بعد هذا بقي احتمال وهو أنَّهم : هل سجدوا دفعة واحدة؟ أو سجد كل واحدٍ في وقت؟ . فلما قال : أجْمَعُون ظهر أن الكلَّ سجدوا دفعةً واحدةً . ولما حكى الزجاج هل القول ، عن المبرد ، قاتل : » وقول الخليل ، وسيبويه أجودُ؛ لأن « أجْمَعِينَ » معرفةٌ؛ فلا يكون حالاً « .
قال أبو البقاء : » لكان حالاً لا توكيداً « . يعنى أنَّه يفيد إفادة الحال مع أنه توكيدٌ؛ وفيه نظر؛ إذ لا منافاة بينهما بالنسبة إلى المعنى ، ألا ترى أنه يجوز : » جاؤوني جَمِيعاً « مع إفادته ، وقد تقدم تحريرُ هذا [ البقرة : 38 ] ، وحكاية ثعلب مع ابن قادم .
قوله : { إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين } تقدَّم الكلام على هذا الاستثناء في البقرة .
قال القرطبيُّ رحمه الله : » الاستثناء من الجنس غير الجنس صحيح عند الشافعي رضي الله عنه ، حتَّى ولو قال له : عليَّ دينارٌ إلا ثوباً ، أو عَشْرة أثْوابٍ ، إلاَّ قفيز حِنظَةٍ ، وما جانس ذلك يكون مقبُولاً ، ويسقط عنه من المبلغ قيمة الثوبِ ، والحِنْطةِ ويستوي في ذلك : المكِيلات ، والمَوزونَات ، والمُقدَّرات « .
وقال مالكٌ ، وأبو حنيفة رضي الهل عنهما : استثناء المكيل من الموزون ، والموزون من المكيل جائزٌ؛ حتى لو ساتثنى الدَّراهم من الحنطةِ ، والحنطة من الدراهم ، قُبِلَ ، أمَّا إذا استثنى المقوَّماتِ من المكيلاتِ ، أو الموزوناتِ ، والمكيلاتِ من المقوماتِ؛ فلا يصحُّ ؛ مثمل أن يقول : له عشرة دنانير إلاَّ ثوباً ، أو عشرة أثواب إلاَّ ديناراً ، فيلزم المقرُّ جميع المبلغ .
قوله تعالى : { أبى أَن يَكُونَ } ، استئنافٌ؛ وتقديره : أنَّ قائلاً قال : هلاَّ سجد؟ فقيل : أبي ذلك ، واستكبر عنه .
قوله تعالى : { قَالَ ياإبليس مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } قال بعض المتكلمين : إنه تعالى أوصل هذا الخطاب إلى إبليس ، على لسان بعض رسله؛ وهذا ضعيف؛ لأنَّ إبليس قال في الجواب : { لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ } ، فقوله : » خَلَقْتهُ « خطاب الحضورِ ، لا خطاب الغيبة؛ فظاهره يقتضي أنَّ الله تعالى تكلم مع إبليس بعغير واسطة .
فإن قيل : كيف يعقل هذا؛ مع أنَّ مكالمة الله تعالى من غير واسطةٍ من أعظم الناصب ، وأعلى المراتب ، فكيف يعقل حصوله لرأسِ الكفرِةِ؟ .
فالجواب : أنَّ مكالمة الله إنما تكون منصباً عالياً ، إذا كان على سبيل الإكرامِ والإعظام ، فأما إذا كان على سبيل الإهانة ، والإذلال ، فلا .
وقوله : { لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ } لتأكيد النَّفي ، معناه : لا يصحُّ منَّي أن أسجد لبشر .
وحاصل كلامه : أن كون بشراً يشعر بكمونه جسماً كثيفاً ، وهو كان روحانيًّا لطيفاً ، فكأنه يقول : البشر جسماني كثيف ، وأنا روحاني لطيف ، والجسماني الكثيف أدون حالاً من الروحاني اللطيف ، فيكف يكون للأدنى سجود للأعلى؟ .
وأيضاً : فآدم مخلوقٌ من صلصالٍ ، تولَّد من حمأ مسنون ، وهذا الأصل في غاية الدناءة ، وأصل « إبْليسَ » : هو النار ، والنار هي أشرف العناصر فكان أصل إبليس أشرف من أصل آدم؛ فوجب أن يكون إبليس أشرف من آدم ، والأشرف يقبح أن يؤمر بالسجود للأدنى؛ فهذا مجموع [ شبهة ] إبليس .
{
قَالَ فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } ، وهذا ليس جواباً عن الشُّبهة على سبيل التصريح ، بل جواب على سبيل التنبيه .
وتقديره : أن الذي قاله الله تعالى نصٌّ ، والذي قاله إبليس قياس ، ومن عارض النصَّ بالقياس ، كان رجيماً ملعوناً ، وتمام الكلام في هذا المعنى مذكور في سورة الأعراف .
والضمير في : « مِنْهَا » : قيل : من جنَّة عدنٍ ، وقيل : من السمواتِ ، وقيل : من زمرة الملائكةِ .
{
وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة إلى يَوْمِ الدين } قال ابن عباسٍ رضي الله عنه : يريد يوم الجزاء حيث يجازى العبادُ بأعمالهم .
و { إلى يَوْمِ } يجوز أن يتعلق بالاستقرار في : « عَليْكَ » ، ويجوز أن يتعلق بنفس اللعنة .
فإن قيل : كلمة « إلى » تفيد انتهاء الغايةِ؛ فهذا يشعر بأنَّ اللعن لا يحصل إلاَّ يوم الدِّين ، وعند القيامة يزول اللَّعن .
فالجواب من وجوه :
الأول : أن المراد التأبيد ، وذكر القيامة أبعد غاية تذكرها الناس في كلامهم؛ كقولهم : { مَا دَامَتِ السماوات والأرض } [ هود : 108 ] في التَّأيد .
والثاني : أنك مذموم مدعو عليك باللعنة في السموات والأرض إلى يوم الدين ، من غير أن يعذب ، فإذا جاء ذلك اليوم ، عذِّب عذاباً [ ينسى ] اللعن معه ، فيصير اللَّعن حنيئذٍ كالزائلِ؛ بسبب أنَّ شدّضة العذاب تذهل عنه .
قوله : { قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } وهذا متعلق بما تقدم ، والتدقير : إذا جعلتني رجيماً إلى يوم القيامة؛ فأنظريني ، أراد ألاَّ يموت ، والمراد من قوله : { إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } ، يوم البعثِ ، والنُّشورِ ، وهو يوم القيامة؛ فقال تعالى : { قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم } قيل : وقت النفخةِ الأولى حين يموت الخلائق؛ لأن من المعلوم أن تموت الخلائق فيه .
وقيل : سمِّي معلوماً؛ لأنه لا يعلمه إلا الله تعالى؛ لقوله عز وجل : { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } [ لقمان : 34 ] .
وقيل : يوم الوقت المعلوم : يوم القيامة .
==================================================
ج44. ج44. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
فإن قيل : لمَّا أجابه الله إلى مطلوبه لزم ألاَّ يموت إلى وقت قيام القيامة ، [ و ] وقت قيام القيامة لا موت ، فلزم ألا يموت بالكلية فالجواب : يحمل قوله { إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } : إلى ما يكون قريباً منه ، و [ الوقت ] الذي يموت فيه كلُّ المكلفين قريبٌ من يوم البعث .
وقيل : { يَوْمِ الوقت المعلوم } لا يعلمه إلا الله .
قيل : لم تكن إجابة الله تعالى له في الإمهالِِ إكرماً له ، بل كان زيادة في بلائه وشقائه .
قوله : { قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي } الباء للقسم ، و « مَا » مصدرية ، وجواب القسم { لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ } والمعنى : أقسم بإغوائك إيايّ ، لأزينن؛ كقوله : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ] إلاَّ أنه في هذا الموضع أقسم بعزة الله تعالى وهي من صفاتِ الذات ، وفي قوله : { بِمَآ أَغْوَيْتَنِي } ، أقسم بإغواء الله ، وهو من صفات الأفعال ، والفقهاء قالوا : القسم بصفاتِ الذَّات صحيحٌ ، واختلفوا في القسم بصفاتِ الأفعال .
ونقل الواحديُّ هنا عن بعضهم : أنَّ الباء هاهنا سببية ، أي : بسبب كوني غاوياً ، لأزيننَّ؛ كقول القائل : « أقْسمَ فُلانٌ بِمعْصِيتهِ ، ليَدْخُلنَّ النَّار ، وبِطاعَتهِ ليَدْخُلنَّ الجَنَّة » .
ومعنى : { أَغْوَيْتَنِي } : أضْللْتَنِي ، وقيل : خَيَّبْتَنِي من رحمتك ، { لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض } حبَّ الدنيا ، ومعاصيك .
والضمير في : « لَهُمْ » لذرية آدم عليه السلام وإن لم يجر لهم ذكر؛ للعلم بهم .
و « لإْغْوِيَنَّهُمْ » : لأضلَّنَّهُم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو : « المُخْلصِينَ » بكسر اللام ، والباقون : بفتح اللاَّم .
ومعنى القراءة الأولى : أنهم أخلصوا دينهم عن الشَّوائب؛ ومن فتح اللاَّم ، فمعناه : الذين أخلصهم الله بالهداية .
فصل
قال ابن الخطيب : « واعلم أنَّ الذي حمل » إبليس « على ذكر هذا الاستثناء ألاَّ يصير كاذباً في دعواه ، فلما احترز » إبليس « عن الكذب ، علمنا أنَّ الكذب في غاية الخساسةِ » .
فصل
قال رويمٌ : « الإخلاص في العمل : وهو الأَّ يريد صاحبه عليه عوضاً في الدَّارين ، ولا عوضاَ من المكلفين » .
وقال الجندي رضي الله عنه : الإخلاص : سرُّ بين العبد ، وبين الله تعالى لا يعلمه ملكٌ فيكتبه ، ولا شيطان فيفسده ، ولا هوًى فيمليه .
وذكر القشيريُّ ، وغيره عن النبي صلى الله علي هوسلم أنه قال : « سَألتُ جِبْريلَ عليه السلام عن الإخْلاًِ ما هُو؟ فقالَ : سَألتُ ربَّ العِزَّةِ عَنِ الإخْلاصِ ما هُو؟ فقال : سِرِّي اسْتودَعْتهُ قلبَ مَنْ أحْبَبْتهُ مِنْ عِبَادي » .
قوله تعالى : { قَالَ هَذَا صِرَاطٌ } « هَذَا » إشارة إلى الإخلاص المفهوم من المخلصين .
وقيل : إلى انتفاء تزْيينه ، وأغوائهه على من مرَّ عليه ، أي : على رضواني ، وكرامتي .
وقيل : « عَلى » بمعنى : « إلَى » ، نقل عن الحسنِ .
وقال مجاهدٌ : الحقُّ يرجع إلى الله تعالى وعليه طريقة ، لا تعرج على شيءٍ .
وقال الأخفش : يعني عليَّ الدَّلالةُ على الصراطِ المستقيم .
وقال الكسائي : هذا على التّهديد والتوعيد؛ كما يقول الرجل لمن يخاصمه : طريقتك علي أن لا تفلت منِّي ، قال تعالى : { لبالمرصاد } [ الفجر : 14 ] .
وقرأ الضحاك ، وقتادة ، وأبو رجاء ، وأبن سيرين ، ويعقوب في آخرين : « عليُّ » ، أي : عالٍ مرتفعٌ .
وعبَّر بعضهم عنه : رفيع أن ينال « مُسْتقِيمٌ » أن يمال .
قوله تعالى : { عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } أعلم أن إبليس لما قال { وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } أوهم أنَّ له سلطاناً على غير المخلصين ، فبيَّن الله تعالى في هذه الآية أنه ليس له سلطانٌ على أحد م نعبيد الله سواء كان مخلصاً أو غير مخلص ، لكن من اتبع منهم إبليس باختياره؛ ونظيره قوله حكاية عن إبليس : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ } [ إبراهيم : 22 ] ، وقوله تعالى : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } [ النحل : 99 ، 100 ] فعلى هذا يكون استثناء منقطعاً .
قال الجبائيُّ : « هذه الآية تدلُّ على بطلان قول من زعم أنَّ الشيطان ، والجنَّ يمكنهم صرع الناس ، وإزالة عقولهم » .
وقيل : الاستثناء متصلٌ؛ لأنَّ المراد ب « عِبَادي » العموم ، طائعهم ، وعاصيهم و حينئذ يلزم استثناء الأكثر من الأقلِّ .
وأراد بالعباد الخلَّص؛ لأنه أضافهم إليه إضافة تشريفٍ ، فلم يندرج فيه الغوون؛ للضمير في موعدهم .
قال القرطبي : « قال العلماء في معنى قوله تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } : يعني على قلوبهم » .
وقال ابن عيينة : « يلقيهم في ذنب ثم أمنعهم بعفوي : أو : هم الذين هداهم الله ، واجتباهم ، وأختارهم ، واصطفاهم » .
فإن قيل : قد أخبر الله تعالى ، عن آدم ، وحواء صلوات الله وسلامه عليهما بقوله : { فَأَزَلَّهُمَا الشيطان } [ البقرة : 36 ] وعن جلمة من أصحاب نبيَّه { إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } [ آل عمران : 155 ] .
فالجواب : أنه ليس له سلطان على قلوبهم ، ولا موضع إيمانهم ، ولا يلقيهمخ في ذنب يؤول إلى عدم العفو ، بل يزيله بالتوبة ، ولم يكن خروج آدم عقوبة على ما تقدم بيانه في البقرة .
وأما أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقد مضى القول عليه في « آل عمران » ، ثم إنَّ قوله تعالى : { لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } يحتمل أن يكون حاصلاً فيمن حفظ الله ، ويحتمل أن يكون في أكثر الأوقات ، وقد يكون ي تسليطه تفريج كربه ، وإزالة عمه؛ كما فعل ببلالٍ ، إذْ أتاه يهديه ، كما يهدَّى الصبيُّ حتى نام ، ونام النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يستيقظوا حتى طلعت الشمس ، وفزعوا ، وقالوا : ما كفَّارةُ ما صَنعنَا في تَفْريطِنَا في صَلاتِنَا؟ فقال لهُم النبيُّ صلى الله عليه سلم « ليْسَ في النَّوْمِ تَفْرِيطٌ » ؛ ففرَّج عَنْهُم .
وقال ابن عطيَّة : تأكيد فيه معنى الحال من الضمير في « مَوْعِدهُم » ، والعامل فيه معنى الإضافة ، قاله أبو البقاء « .
وفي مجىء الحال من المضاف إليه ، خلافٌ ، ولا يعمل فيها الموعد ، إن أريد به الكان ، فإن أريد به المصدر ، جاز أن يعمل؛ لأنه مصدرٌ ، ولكن لا بدَّ من حذف مضاف ، عي : مكان موعدهم .
قوله تعالى : { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ } يجوز في هذه الجملة أن تكون مستأنفة ، وهو الظاهر ، ويجوز أن تكمون خبراً ثانياً ، ولا يجوز أن تكون حالاً من » جَهنَّم « ؛ لأن » إنَّ : « لا تعمل في الحال ، قال ابو البقاء . وقياس ما ذكروه في » لَيْتَ ، وكأنَّ ، ولعلَّ « من أخواتها من أعمالها في لحال؛ لأنَّها بمعنى : تمنيَّتُ وشبهت ، وترجيت أ ، تعمل فيها » إنَّ « أيضاً؛ لأنَّها بمعنى أكدتُ ، ولذلك عملت عمل الفعل ، وهي أصل الباب .
فصل
قال عليٌّ كرم الله وجهه : هل تدرون كيف أبوا النًَّار؟ ووضع أحدى يديه على الأخرى ، أي : سبعةٌ أبوابٍ ، بضعها فوق بعض ، وأنَّ الله تعالى وضع الجنان على العرض ، ووضع النِّيران بعضها على بعض .
قال ابن جريج : النار سبع دركاتٍ : أولها جهنَّم ، ثمَّ لظى ، ثم الحطمة ، ثم السعير ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية .
قال الضحاك : الطبقة الأولى : فيها أهل التوحيد ، يعذَّبون على قدر أعمالهم ثم يخرجون منها ، والثانية : لليهود والثالثة : للنَّصار ، والرابعة : للصابئين ، وروي أن الثانية : للنصارى ، والثالثة : لليهودِ ، والرابعة للصابئين ، والخامسة : للمجوسِِ ، والسادسة : للمشركين ، والسابعة : للمنافقين؛ قال تعالى : { إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار } [ النساء : 145 ] .
قوله : » مِنهُمْ « يجوز أن يكون حالاً من » جُزءٌ « ؛ لأنَّه في الأصل صفة له ، فلما قدمت ، انتصبت حالاً ، ويجوز أن يكون حالاص من الضمير المستتر في الجارِّ ، وهو : » لكُلِّ بابٍ « ، والعامل في هذه الحال ، ما عمل في هذا الجارِّ ، ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير المستكن في : » مَقسُومٌ « ؛ لأنَّ الصفة لا تعمل فيها قبل الموصوف ، و لا يجوز أن تكون صفة ل » بابٍ « ؛ لأنَّ الباب ليس من النَّاس .
وقرأ أبو جعفر : » جُزٌّ « بتشديد الزَّاي من غير همزٍ ، فكأنه ألقى حركة الهمزة على الزَّاي ، ووقف عليها فشدَّدها؛ كقولك : » خَبّ « في » خبءُ خالد « ثم أجري الوصل مجرى الوقف .
الجُزِْءُ : بعض الشيء ، والجمع : أجزاء ، وجَزَّأتهُ : جعلته أجزاء . والمعنى : أنه تعالى يُجزِّىء أبتاع إبليس أجزاءَ ، أي : يجعلهم أقساماً ، ويدخل في كل باب من أبواب جهنَّم طائفة؛ والسبب في ذلك : أنَّ مراتبَ الكفر مختلفةٌ بالغلظةِ والخفة .
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)
قوله تعالى : { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } الآياتِ ، لمَّا شرح أحوال أهل العقاب ، أتبعه بصفة أهل الثَّواب .
وروي أنَّ سلمان الفارسيِّ رضي الله عنه لما سمع قوله تعالى : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 43 ] مَرَّ ثلاثةُ أيَّام من الخوفِ لا يعقلُ ، فَجيء به إلى رسول الله صلى لله عليه وسلم فسأله ، فقال : يا رسول الله ، نزلت هذه الآية : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 43 ] : فوالذي بعثك بالحق نبيًّا ، لقد قطعت قلبي فأنزل الله تعالى { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : [ أراد ] بالمتقين : الذين اتقوا الشِّرك بالله تعالى ، والكفر به ، وبه قال جمهور الصحابة ، والتَّابعين .
وهو الصحيح؛ لأنَّ المتقي هو الآتي بالتقوى مرة واحدة ، كما أن الضَّارب هو الآتي بالضرب ، والقاتل هو الآتي بالقتل مرة واحدة ، فكما أنه ليس من شرط صدق الوصف بكونه ضارباً ، وقاتلاً ، أن يكون آتياً بجميع أنواع الضرب والقتل ، ليس من شرط صدق الوصف بكونه متَّقياً كونه آتياً بجميع أنواع التقوى؛ لأنَّ الآتي بفردِ واحدٍ من أفراد التقوى ، يكون آتياً بالتقوى؛ لأنَّ كل فردٍ من أفراد الماهية ، يجب كونه مشتملاً على تلك الماهيَّة ، وبهذا التحقيق استدلُّوا على أنَّ الأمرَ لا يفيد التَّكرار .
وإذا ثبت هذا فنقول : أجمعت الأمة على أنَّ التقوى عن الكفر شرط في حصول المحكم بدخول الجنة .
وقال الجبائي ، وجمهور المعتزلةِ : المتقين : هم الَّذين اتَّقوا جميع المعاصي ، قالوا : لأنه اسم مدحٍ ، فلا يتناولُ إلاَّ من [ كان ] كذلك .
واعلم أنَّ الجنات أربعةٌ؛ لقوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] ثم قال : { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 62 ] فيكمن [ المجموع ] أربعة .
قوله : « وعُيُونٍ » : قرأ ابن كثيرٍ ، والأخوان ، وأبو بكر ، وابن ذكوان : بكسر عين « عِيُونٍ » منكراً ، والعينُّ معرف حيث وقع؛ والباقون : بالضمِّ ، وهو الأصل .
فصل
الجنَّاتُ : البَساتِينُ ، والعُيونُ : يحتمل أن يكون المراد بها الأنهار المذكمورة في قوله تعالى : { فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } [ محمد : 15 ] ، ويحتمل أن يكمون امراد من هذه العيون منافع مغايرة لتلك الأنهار .
قوله : { ادخلوها بِسَلامٍ آمِنِينَ } العامة على وصل الهمزة من : دَخَلَ يَدخُل ، وقد تقدم خلاف القراء في حركة هذا التنوين ، لالتقاءِ السَّاكنين في البقرة : [ 173 ] .
وقرأ يعقوب رحمه الله بفتح التنوين وكسر الخاء ، وتوجيهها : أنَّه أمرٌ من : أدْخَلَ يَدْخلُ فلما وقع بعد « عُيونِ » ألقى حركة الهمزة على التنوين؛ لأنها همزة قطع ثمَّ حذفها ، والأمر من الله تعالى ، للملائكةِ ، أي : أدخلوها أيَّاهم .
وقرأ الحسن ، ويعقوب أيضاً : « أُدخِلُوها » ماضياً مبنياً للمفعول ، إلا أنَّ يعقوب ضمَّ التنوين ووجهه : أنه أخذه من أدخل رباعياً ، فألقى حركة همزة القطع على التنوين كما ألقى حركة المفتوحةِ في قراءته الأولى ، والحسن كسرهُ على أصل التقاءِ الساكنين ، ووجهه : أن يكون أجرى همزة القطع مجرى همزة الوصل في الإسقاط .
وقراءة الأمر على إضمار القول ، أي : يقال لأهل الجنَّة : أدخلوها ، أو يقال للملائكة : أدخلوها إياهم ، وعلى قراءة الإخبار يكون مستأنفاً من غير إضمارٍ ، وقوله « بِسَلامٍ » حالٌ : أي : ملتبسين بالسلامة أو مسلماً عليكم .
و « آمنِينَ » حال أخرى ، وهي بدلٌ مما قبلها ، إما بدل كلُ من كلِّ وإما بدل اشتمالِ؛ لأن الأمن مشتملٌ على التحية أو بالعكسٍ ، والمعنى : أمنين من الموت ، والخورج ، والآفات .
فإن قيل : إن الله تعالى [ حكم ] قبل هذه الآية بأنهم في جنات وعيون ، وإذا كانوا فيها فكيف يقال لهم : « ادْخُلُوها » ؟ .
فالجواب : أنَّهم لما ملكوا جنات كثيرة ، فكلما أرادوا أن ينتقلوا من جنة إلى أخرى قيل لهم : { ادخلوها بِسَلامٍ آمِنِينَ } .
قوله تعالى : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } الغِلُّ : الشَّحناءُ ، والعداوة الحقد الكامن ف يالقلب ، مأخوذ من قولهم : أغلَّ في جوفه ، وتغلغل .
قوله : « إخْوَاناً » يجوز أن يكون حالاً من « هُمْ » في « صُدُورهِمْ » ، وجاز ذلك‘ لأنَّ المضاف جزءُ المضاف إليه .
وقال أبو البقاءِ : والعامل فيها معنى الإلصاق ، ويجوز أن يكون حالاً من فاعل « ادْخُلوهَا » على أنها حال مقدرة ، قاله أبو البقاء . ولا حاجة إليه بل هو حال مقارنة .
ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في قوله : « جَنَّاتٍ » .
قوله « على سُررٍ » ، يجوز أن يتعلق بنفس « إخواناً » ، لانه بمعنى متصافين ، أي : متصافين على سُررٍ ، قاله أبو البقاء؛ وفيه نظر؛ حيث تأويل جامدٍ بمشتقٍّ ، بعيد منه .
و « مُتَقابِلينَ » على هذا حالٌ من الضمير في « إخْواناً » ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف ، على أنه صفة ل « إخْواناً » ، وعلى هذا ف « مُتقَابِلينَ » حالٌ من الضمير المستطنِّ في الجارِّ ، ويجوز أن يتعلق ب « مُتَقَابلينَ » ، أي : متقابلين على سررٍ ، وعلى هذا ف « مُتَقَابلينَ » من الضمير في « إخْواناً » أو صفة ل « إخْوَاناً » .
ويجوزم نصبه على المدحِ ، يعني : أنه لا يمكن أن يكون نعتاً للضمير فلذلك قطعَ .
والسُّررُ : جمع سَريرٍ ، وهو معروفٌ ، ويجوز في « سُررٍ » ، ونحوه مما جمع على هذه الصيغةِ من مضاعف « فَعِيل » فتح العين؛ تخفيفاً؛ وهي لغة بني كلبٍ وتميم ، فيقولون : سُرَرٌ وجُدَدٌ ، وذلك في جمع سرير وجديد .
قال المفضل : لأنَّهم يستثقلون الضمتين المتوالتين في حرفين من جنس واحد .
فصل
قال بعض أهل المعاني : السَّريرُ : مجلسٌ رفيعٌ مهيَّأ للسُّرورِ ، وهو مأخوذ منه؛ لأنه مجلس سرورٍ . متقابلينَ : يقالب بعضهم بعضاً ، ولا ينظر أحد منهم إلى قفا صاحبه ، والتَّقابلُ : التواجه ، وهو نقيضُ التَّدابر .
قوله : { يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ } يجوز أن تكون هذه مستأنفة ، ويجوز أن تكون حالاً من الضمير في « مُتَقَابلينَ » .
والنَّصَبُ : التَّعَبُ ، يقال منه : نَصِبض يَنْصَبُ فهو نَصِبٌ ونَاصِبٌ ، أنصبني كذا ، قال : [ الطويل ]
3278
تَأوَّبَنِي هَمٌّ مَعَ اللَّيْلِ مُنصِبُ ..
وهمَّ ناصبٌ ، أي : ذُو نصبٍ ، كلابن وتامر؛ قال النابغة : [ الطويل ]
3279
كِلينِي لِهَمِّ يَا أمَيْمة نَاصبٍ ... ولْلٍ أقَاسيهِ بَطيءٍ الكَواكِبِ
و « مِنْهَا » متعلقه « بمُخْرجين » .
وهذه الآية أنصُّ آيةٍ في القرآن على الخلود .
نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
قوله تعالى : { نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم } أثبت الهمزة الساكنة في « نَبِّىء » صورة ، وما أثبت في قوله : « دِفْءٌ » ؛ لأنَّ ما قبلها ساكنٌ ، فهي تحذف كثيراً ، وتلقى حركتها على الساكن قبلها ف « نَبِّىءْ » في الخط على تحقيق الهمزة ، وليس قبل همزة « نَبِّىْ » ساكن؛ فأخَّروها على قياس الأصل .
وقوله : أنَا الغَفورُ « يجوز في » أنَا « أن يكون تأكيداً ، أن يكون فصلاً » .
وقوله : { هُوَ العذاب } يجوزم في « هُوَ » الابتداء ، والفصل ، ولا يجوز التوكيد؛ إذ المظهر لا يؤكَّد بالمضمر .
فصل
ثبت في أصول الفقه أنَّ ترتيب الحكم على الوصف المناصب يشعر بغلبةِ ذلك الوصف ، فهاهنا وصفهم بكونهم عباده ، ثم ذكر عقب هذا الوصف الحكم بكونه غفوراً رحيماً ، وهذا يدلُّ على أنَّ كلَّ من اعترف بالعبودية ، وكان في حقِّه غفوراً رحيماً ، ومن أنكر ذلك ، كان مستوجباً للعذاب الأليم .
وفي الآية لطائف : أولها : أنه أضاف العباد إلى نفسه بقوله : « عِبَادي » وهذا تشريفٌ عظيمٌ ، ويدل عليه قوله : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ } [ الإسراء : 1 ] .
وثانيها : أنه لما ذكر المغفرة ، والرحمة بالغ في التَّأكيدات بألفاظٍ ثلاثة :
أولها : قوله : « أنِّي » .
وثانيها : « أنَا » .
وثالثها : إدخال الألف واللام على قوله : « الغَفُور الرَّحيمُ » ، ولما ذكر العذاب ، لم يقول : إني إنا ولَمْ يَصفْ نفسهُ بِذلكَ ، بل قال عزَّ وجلَّ : { عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم } .
وثالثها : أنه تعالى أمر رسوله صلوات الله وسلامه عليه أن يبلغ إليهم هذا المعنى ، فكأنه أشهد رسوله على نفسه بالتزام المغفرة ، والرحمة .
ورابعها : أنه تعالى لمَّا قال : { نَبِّىءْ عِبَادِي } كان معناه : كلّ من اعترف بعبوديَّتي ، وهنذا يشمل المؤمن ، والعاصي ، وكذلك يدل على تغليب جانب الرحمة من الله تعالى .
قال قتادة : بلغنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال : « لَو يَعْلمشُ العَبدُ قَدْرِ عَفْوِ الله لمَا تورَّع عن حرامٍ ، ولوْ عَلِمَ قدر عِقابِهِ لبَخَعَ نَفْسَهُ » أي : قتلها .
وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه مرَّ بِنفَرٍ من أصحابه ، وهم يضحكُون ، فقال : أتَْضحَكُون وبيْنَ أيديكمُ النَّارُ « فنزَل جِبريلُ صلوات الله وسلامه عليه بِهذِهِ الآية ، وقال : » يقول لك يا محمَّد : لِمَ تقنط عِبادِي « .
وقال بان عبَّاسِ رضي الله عنهما : معنى : { أَنَا الغفور الرحيم } لمن تاب منهم .
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
قوله تعالى : { وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } القصَّة : لما قرَّر أمر النبوة ، أردفه بدلائل التوحيد ، ثمَّ عقبه بذكر أحوال القيامةِ ، وصفة الأشقياء ، والسعداء ، أتبعه بذكر قصص الأنبياء ، صلوات الله وسلامه عليهم ، ليكن سماعها مرغِّباً للعبادة الموجبة للفوز بدرجاتِ الأولياءِ ، ومحذراً عن المعصية الموجبةِ لاستحقاقِ دركاتِ الأشقياءِ .
فقوله : « ونَبِّئْهُم » ، هذا الضمير راجعٌ إلى قوله عز وجل : عِبَادِي « ، أي : ونبِّىء عبادي ، يقال : أنْبأتُ القوم إنباءً ونَبَّأتهُم تَنْبئةً إذا أخبرتهم .
قوله : » عَن ضَيْفِ « ، أي [ أضياف إبراهيم ] ، والضَّيْفُ في الأص مصدر ضَافَ يضيفُ : إذا أتى إنساناً يطلب القوى ، وهو اسمٌ يقع على الواحدِ ، والاثنين ، والجمع ، والمذكر ، والمؤنَّث .
فِإن قيل : كيف سمَّاهم ضيفاً ، مع امتناعهم من الأكلِ؟ .
فالجواب : لمن ظنَّ إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه أنَّهم إنَّما دخلوا عليه لطلب الضِّيافة ، جاز تسميتهم ذلك .
وقيل : من دخل [ دار ] إنسان ، والتجأ إليه سمِّي ضيفاً ، ون لم يأكل ، وكان إبراهيم صلوات الله وسلامه علثيه يكنَّىأبا الضيفان ، كان لقصره أربعة أبوابٍ ، لكي لا فوته أحدٌ .
وسمِّي الضيف ضيفاً؛ لإضافته إليك ، ونزوله عليك .
قال القرطبي رحمه الله : » ضَافهُ مَالَ إليه ، وأضَافهُ : [ أماله ] ، ومنه الحديث : حِينَ تضيفلإ الشَّمسُ للغُروبِ . وضَيفُوفَةُ السَّهم ، والإضافةُ النَّحوية « .
قوله : { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ } في » إذْ « وجهان :
أحدهما : أنه مفعول لفعل مقدر ، أي : اذكر إذ دخلوا .
والثاني : أنه ظرف على بابه ، وفي العامل فيه وجهان :
أحدهما : أنه محذوف ، تقديره : خبر ضيف .
والثاني : أنه نفس » ضَيْفِ « ، وفي توجيه ذلك وجهان :
أحدهما : أنه لما كان في الأصل مصدراً اعتبر ذلك فيه ، ويدلُّ على اعتبار مصدريته بعد الوصف به : عدم مطابقته لما قبله تثنية ، وجمعاً وتأنيثاً في الأغلب ، ولأنه قائم مقام وصفه ، والوصف يعمل .
والثاني : أنه على حذف مضاف ، أي : أصحاب ضيف إبراهيم ، أي : ضيافته ، فالمصدر باقٍ على حاله ، فلذلك عمل .
قال أبو البقاء بعد أن قدر أصحاب ضياتفه : والمصدر على هذا مضاف إلى المفعول .
قال شهابُ الدِّين : وفيه نظر ، إذ الظَّاهر إضافته لفاعله؛ لأنه النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { فَقَالُواْ سَلاماً } ، أي نُسلِّم لك سلاماً أو سلَّمتُ سلاماً ، أو سلمُوا سَلاماً ، قاله القرطبي رحمه الله تعالى .
قال : { إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ } أي : خائفون؛ لأنهم لم يأكلوا طعامه ، وقيل : لأنهم دخلوا بغير إذن ، وبغير وقت .
قوله : » لا تَوجَلْ « العامة على فتح التاء من » وجِلَ « ك : » شَرِبَ « يَشربُ ، والفتح قياس » فَعِلَ « إلا أن العرب آثرت [ يفعل بالكسر ] في بعض الألفاظ إذا كانت واواً ، نحو : » نَبِقَ « وقرأ الحسن : » لا تُوجَل « مبنياً للمفعول من الإيجال .
وقرىء : « لا تَأجَلْ » ، والأصل : « تَوْجل » كقراءة العامة ، إلاَّ أبدل من الواو ألفاً لانفتاح ما قبلها ، وإن لم تتحرَّك كقولهم : « تَابةٌ » ، و « صَامةٌ » في « تَوْبة » ، و « صَوْمة » وسمع : اللَّهُم تقبَّل تَابتِي ، وصَامتِي . وقرىء أيضاً : « لا تُواجِل » من المواجلة .
ومعنى الكلام : لاتخف؛ « إنَّا نَبشِّرُكَ » ، قرأ حمزة : « إنَّا نَبْشُركَ » بفتح النون وتخفيف الباء ، والباقون بضم النون ، وفتح الباء ، و « إنَّا نُبشِّركَ » استئناف بمعنى التعليل للنهي عن الوجل ، والمعنى إنَّك بمثابة الآمن المبشر فلا توةجل .
واعلم أنَّهم بشروهن بأمرين :
أحدهما : أنَّ الولد ذكرٌ ، والثاني : أنه عليمٌ .
فقيل : بشَّروه بنبوته بعده ، وقيل : عليم بالدِّين ، فعجب إبراهيم أمره و { قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي على أَن مَّسَّنِيَ الكبر } قرأ الأعرج : « بشَّرتُمونِي » بإسقاط أداة الاستفهام ، فيحتمل الأخبار ، ويحتمل الاستفهام ، وإنما حذفت أدلته للعلم به .
وِ « على أنْ مسَّنيَ » في محل نصبٍ على الحال .
وقرأ ابن محيصن : « الكُبْر » بزنة « فُعْقولهخ : » فبمَ تبشّرون « » بِمَ « متعلقٌ ب » تُبشِّرُون « ، وقدم وجوباً؛ [ لأنه ] استفهام وله صدر الكلام .
وقرأ العام : بفتح النون مخففة على أنها نون الرفع؟ ولم يذكر مفعنول التبشير ، وقرأ نافع بكسرها ، والأصل : تبشروني فحذف الياء مجتزئاً عنها بالكسرة .
وقد غلطه أبو حاتم ، وقال : هذا يكون في الشعر اضطراراً .
وقال مكي : » وقد طعن في هذه القراءة قومٌ لبُعدِ مخرجِها في العربيَّة؛ لأنَّ حذف النون التي تصحبُ الياء لا يحسنُ إلاَّ في الشِّعر ، وإن قُدِّر حذف النون الأولى حذفت [ علم ] الرفع من غير ناصب ، ولا جازم؛ ولأنَّ نون الرفع كسرها قبيحٌ ، إنَّما حقُّها الفتح « .
وهذا الطعن لا يتلفت إليه ، لأنَّ ياء المتكلم قد كثر حذفها مجتزءاً عنها بالكسرة ، وقد قرىء بذلك في قوله تعالى : { قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمرونيا } [ الزمر : 64 ] كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
ووجهه : أنَّه لما اجتمع نونان أحدهما نون الرفع ، والأخرى نون الوقاية استثقل اللفظ ، فمنهم من أدغم ، ومنهم من حذف ، ثم اختلف في المحذوفة ، هل هي الأولى ، أو الثانية ، وتقدَّم الكلام على ذلك في سورة الأنعام [ الأنعام : 80 ] .
وقرأ ابن كثير بتشديدها مكسورة ، أدغم الأولى في الثانية ، وحذف ياء الإضافة ، والحسن : أثبت الياء مع تشديد النون ، ورجح قراءة من أثبت مفعول : » يُبشِّرُون « وهو الياء .
قوله : { قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بالحق } » بَشَّرناكَ « ، و » بالحقِّ « متعلق بالفعل قبله ، وضعف أن يكون حالاً ، أي : قالوا بَشَّرنَاكَ .
ومعنى : » بالحَقِّ « هنا استفهام بمعنى التعجُّب ، كأنه قيل : بأيَّ أعجوبةٍ تبشروني؟ .
فِإن قيل : كيف استبعد قدرة الله تعالى على خلقِ الولدِ منه في زمانِ الكبرِ؟ وما فائدة هذا الاستفهام مع أنهم قد بينوا ما بشَّروا به؟ .
فِأجاب القاضي : بأنه أراد أن يعرف أنه تعالى هل يعطيه الولد مع أنه يبقيه على سفة الشيخوخة ، أو يقلبه شابًّا ، ثم يعطيه الولد؟ .
وسبب هذا الاستفهام : أن العادة جارية بأنه لا يحصل الولد حال الشيخوخة التامَّة ، وإنما يحصل في حال الشَّبابِ .
فإن قيل : فإذا كان معنى الكلام ما ذكرتم ، فلم قالوا : { بَشَّرْنَاكَ بالحق فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين } ؟ .
قلنا : إنهم بيَّنوا أنه تعالى بشَّرهُ بالولد مع إبقائه على صفة الشَّيخوخَةِ ، وقولهم { بَشَّرْنَاكَ بالحق فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين } لايدل على أنه كان كذلك بدليل أنه صرَّح في جوابهم بما يدلُّ على أنَّه ليس كذلك فقال : { وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضآلون } .
وأجاب غيره : بأن الإنسان إذا كان عظيم الرغبة في شيءٍ ، وفاته الوقت الذي يغلب على ظنِّه حصول المراد فيه ، فإذا بشِّر بعد ذلك بحصوله عظم فرحه ، وسروره ، ويصير ذلك الفرحُ القويُّ كالمدهش له ، والمزيل لقوَّة فهمه ، وذكائه ، فربَّما تكلم بكلماتٍ مضطربة في ذلك الوقت .
وقيل أيضاً : إنه يستطيب تلك البشارة ، فربَّما يعيد السؤال ليسمع تلك البشارة مرَّة أخرى ومرتين وأكثر طلباً للالتذاذ بسماع تلك البشارة ، أو طلباً لزيادة الطمأنينة والوثوق ، كقوله : { وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ البقرة : 260 ] وقيل أيضاً : استفهم : أبأمرِ الله تبشروني ، أم من عند أنفسكم ، واجتهادكم .
قوله : { قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بالحق } قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما يريد بما قضى الله تعالى .
وقوله : { فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين } نهي لإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه عن القنوطِ ، وقد تقدَّم أنَّ النهي لإنسان عن الشَّيء لا يدل على كون المنهي فاعلاً للمنهيّ عنه ، كقوله جلَّ وعزَّ { وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين } [ الأحزاب : 48 ] { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } [ القصص : 78 ] .
قوله : { وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ } هذا استفهام معناه النفي ، ولذلك وقع بعد الإيجاب ب « إلاَ » .
وقرأ أبو عمرو ، والكسائي : « يَقْنِطُ » بكسر عين هذا المضارع حيث وقع ، والباقون بفتحها وزيد بن علي والأشهب بضمها ، وفي الماضي لغتان « قنط » بكسر النون ، « يَقنَطُ » بفتحها ، وقنط « يقْنطُ » بكسرها ، ولولا أن القراءة سنة متبعة ، لكان قياس من قرأ { مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ } [ الشورى : 28 ] وافلتح في الماضي هو الأكثر ، ولذلك أجمع عليه .
قال الفارسي : فتح النون في الماضي ، وكسرها في المستقبل من أعلى اللغات ، ويرجحُ قراءة « يَقْنَطُ » بالفتح قراءة أبي عمرو في بعض الروايات « فلا تكن من القنطين » كفَرِحشَ يفرح فهو فَرِحٌ .
والقُنُط : شدَّة اليأسِ من الخَيرٍ ، وحكى أبو عبيدة : « قَنُطَ » يَقْنُطُ بضمِّ النون .
قال ابن الخطيب : « وهذا يدلُّ على أنَّ » قَنَطَ « بفتح النون أكثر؛ لأن المضارع من » فَعَل « يجيء على » يَفْعِلُ ويَفْعُل « مثل : فَسقَ : ويَفْسُقُ ، لا يجيء مضارع فَعَلَ على يَفْعَلُ » .
فصل
جواب إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه حق؛ لأنَّ الفنوط من رحمة الله تعالى لا يحصل إلاَّ عند الجهل بأمور :
أحدها : أن يجهل كونه تعالى قادراً عليه .
وثانيها : أن يجهل كونه تعالى عالماً باحتياج ذلك العبد إليه .
وثالثها : أ ، يحجهل كونه تعالى ، منزّهاً عن البخل ، والحاجة .
والجهل بكلِّ هذه الأمور سبب للضَّلالِ ، القُنوط من رحمة الله كبيرة ، كالأمن من مكرهِ .
قوله تعالى : { فَمَا خَطْبُكُمْ } الخطب : الشأن ، والأمر ، سألهم عمَّا لأجله أرسلهم الله تعالى .
فِإن قيل : إنَّ الملائكة لما بشَّروه بالولد الذَّكر العليمِ ، كيف قال لهم بعد ذلك « فَمَا خَطْبُكمُ » ؟ .
فالجواب : قال الأصم : معناه : ما الذي وجتهم له سوى البُشْرَى؟ .
وقال القاضي : إنه علم أنه لو كان المقصود أيضاً البشارة ، لكان الواحد من الملائكة كافياً ، فلمَّا رأى جمعاً من الملائكة؛ علم أنَّ لهم غرضاً آخر سوى إيصال البشارة ، فلا جرم قال : « فَما خَطْبكُمْ » ؟ .
قيل : إنَّهم قالوا : إنَّا نُبشِّركَ بغُلامٍ عَليم لإزالة الخوف ، والوجل ، ألا ترى أنّه لما قال : { إنا منكم وجلون } قالوا له : { لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم } ، فلو كان المقصود من المجيء هو البشارة؛ كانوا ذكروا البشارة في أوَّل دخولهم ، فلمَّا لم يكن الأمر كذلك علم إبراهيم صلوات الله وسلام عليه أنَّ مجيئهم ما كان لمجرَّد البشارة ، بل لغرض آخر فلا جرم سألهم عن ذلك الغرض ، قال : { فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } مشركين ، وإنَّما اقتصوار على هذا القدر ، لعلم إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه بأنَّ الملائكة إذا أرسلوا إلى المجرمين ، كان ذلك لأهلاكهم .
ويدل ع لى ذلك قوله : { إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ } قوله « إلا آل لُوطٍ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه استثناء متصل علىأنه مسثنى من الضمير المستكن في : « مُجرمِينَ » بمعنى أجرموا كلهم إلاَّ آل لوطٍ؛ فإنَّهم لم يجرموا ، ويكون قولهم « إنَّا لمنجوهم » استئناف إخبار بنجاتهم ، لكنهم لم يجرموا ولكن الإرسال حينئذ شاملاً للمجرمين ولآل لوط لإهلاك أولئك وأنجاء هؤلاء .
والثاني : أنه اسثناء منقطع؛ لأن آل لوط لم يندرجوا في المجرمين آلبتَّة .
قال أبو حيان : وإذا كان استثناء منقطعاً ، فهو مما يجبُ فيه النصب؛ لأنه من الاستثناء الذي لا يمكن توجيه العامل إلى المستثنى منه؛ لأنهم لم يرسوال إليهم ، إنما أرسلوا إلى القوم المجرمين خاصَّة ، ويكون قوله : « إنَّ لمُنجَّوهُمْ » جَرَى مَجْرى خبر لكن في اتِّصاله ب « آل لوطٍ » ؛ لأن المعنى : لكنَّ آل لوط منجوهم ، وقد زعم بعض النحويين في الاستثناء المنقطع المقدَّر بلكن ، إذ لم يكن بعده ما يصحُّ أن يكون خبراً : أنَّ الخبر محذوف ، وأنه في موضع رفع لجريان : « إلاَّ » ، وتقديرها ب « لَكِن » .
قال شهابُ الدِّين : « وفيه نظرٌ؛ لأن قوله لا يتوجه إليه العامل أيك لا يمكن ، نحو : ضحك القوم إلا حمارهم ، وصهلت الخيلُ إلا الإبل . أمَّا هذا ، فيمكن الإرسال إليهم من غير منع ، وأمَّا قوله : لأنهم لم يرسلوا إليهم فصحيح؛ لأنَّ حكم الاستثناء كلَّه هكذا ، وهو أن يكون خارجاً عمَّا حكم به على الأوَّل ، لكنَّه لو سلط عليه لصحَّ ذلك بخلاف ما تقدَّم من أمثلتهم » .
قوله : { إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ } قرأ الأخوان : « لمُنْجُوهمْ » مخففاً؛ وكذلك خففا أيضاً فعل هذه الصيغة في قوله تعالى في العنكبوت { لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ } [ العنكبوت : 32 ] ؛ وكذلك خففا أيضاً قوله فيها : { إِنَّا مُنَجُّوكَ } [ العنكبوت : 33 ] فهما جاريتان على سننٍ واحدٍ .
وقد وافقهما ابن كثير ، وأبو بكر على تخفيف : « مُنجوكَ » كأنهما جمعا بَيْنَ اللغتين ، وباقي السبعة بتشديد الكل . والتخفيف والتشديد لغتان مشهورتان من : نَجَّى وأنْجى ، وأنزلَ ، ونزَّل ، وقد نطق بفعلهما ، قال : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ } [ العنكبوت : 65 ] وفي موضع { أَنجَاهُمْ } [ يونس : 23 ] .
قوله : { امرأته } فيه وجهان :
أحدهما : أنه استثناء من « آل لُوطٍ » . قال أبو البقاء رحمه الله : « والاستنثاء إذا جاء عبد الاستثناء كان الاستثناء الثاني مضافاً إلى المبتدا كقولك : » لهُ عِندِي عشرةٌ إلا أربعة إلا درهماً « فإن الدرهم يستثنى من الأربعة ، فهو مضاف إلى العشرة ، فكأنك قلت : أحد عشرة إلاَّ أربعة ، أوعشرة إلاَّ ثلاثة » .
والثاني : أنها مستثناةٌ من الضمير المجرور في قوله « لمُنَجوهمْ » .
وقد منع الزمخشري رحمهن الله الوجه الأول ، وعيَّن الثاني فقال : « فإن قلت : قوله : » إلا امرأتهُ « مِمَّ استثني؟ وهل هو استثناء نم استثناء؟ .
قلت : مستثنى من الضمير المجرور في قوله : » لمُنَجُّوهم « ، وليس من الاستثناء في شيء؛ لأن الاستثناء م الاستثناء إنَّما يكون فيما اتَّحد الحكم فيه ، وأن يقال : أهلكناهم إلا آل لوط إلا امرأتهُ ، كما اتَّحد في قول المطلِّق : أنت طالقٌ ثلاثاً إلا اثنين إلا واحدة ، وقول المقرّ : لفلان علي عشرة درارهم إلا ثلاثة إلا درهماً ، اما الآية فقد اختلف الحكمان؛ لأنّ : » آل لوطٍ « متعلق ب » أرْسَلْنَا « أوة ب » مُجرمِينَ « ، و » إلاَّ امْرأتهُ « قد تعلَّق بقوله : » لمُنجوهم « فأنَّى يكون استثناء من استثناء » .
قال أبو حيَّان : ولما استسلف الزمخشري أنَّ « امرأتهُ » استثناء من الضمير في لمُنجُّوهم « أبى أن يكون استثناء من استثناء ، ومن قال : إنه استثناء من استثناء ، فيمكن [ تصحيح قوله ] بأحد وجهين :
أحدهما : أنه لما كان امرأته مستثنى من الضمير في » لمُنَجوهُم « ، وهو عائدٌ على » آل لوطٍ « صار كأنَّه مستثنى من : » آل لوطٍ « ؛ لأنَّ المضمر هو الظاهر .
والوجه الآخر : أن قوله « إلاَّ آل لوطٍ » لمَّا حكم عليهم بغير الحكم الذي حكم به على قوم مجرمين ، اقتضى ذلك نجاتهم فجاء قوله : { إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ } تأكيداً لمعنى الاستثناء ، إذ المعنى : إلا آل لوط لم نرسل إليهم بالعذاب ، وجاتهم مرتبة على [ عدم ] الإرسال إليهم بالعذاب ، فصار نظير ذلك : قام القومُ إلاَّ زيداً لم يقم أو إلاَّ زيداً فإنه لم يقم ، فهذه الجملة تأكيدٌ لما تضمَّنهُ الاستثناء من الحكم على ما بعد إلاَّ بضدِّ الحكم السَّابق على المستثنى منه ، ف : « إلاَّ امْرَأتهُ » على هذا التدقير الذي قرَّرناه مستثنى من : « آلَ لُوطٍ » ؛ لأنَّ الاستثناء ممَّا جيء به للتَّأسيس أولى من الاستثناء ممَّا جيء به للتأكيد .
قوله « قدَّرْنَا » قرأ أبو بكر ههنا ، وفي سورة النمل بتخفيف الدَّال ، والباقون بتشديدها ، وهما لغتان : قَدَّر ، وقَدَر .
قوله : « إنَّها » كسرت من أجل اللاّم في خبرها ، ولولا [ لَفُتِحَتْ ] ، وهي معلقة لما قبلها؛ لأنَّ فعل التقدير قد يعلق إجراء له مجرى العلم إمَّا لكونه بمعناه ، وإمَّا لأنه مترتب عليه .
قال الزمخشري : « فإن قلت : لم جاز تعليق فعل التقدير في قوله : { قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين } ، والتعليق من خصائص أفعال القلوب؟ قلت : لتضمن فعل التقدير معنى العلم » .
قال أبو حيَّان رحمه الله تعالى « وكسرت » إِنَّها « إجراء لفعل التقدير مجرى العلم » .
وهذا لا يصحُّ علة لكسرها ، إنَّما يصحُّ علةً لتعليقها الفعل قبلها .
فصل
معنى التقدير في اللغة : جعل الشيء على مقدار غيره ، يقال : قدر هذا الشيثء بهذا ، أي : اجعله على مقداره ، وقدَّر الله سبحانه الأقوات ، أي : جعلها على مقدار الكفاية ، ثمَّ يفسر التقدير بالقضاء فيقال : قضى الله عليه ، وقَدرَ عليه ، أي : جعله على مقدار ما يكفي في الخير ، والشر . وقيل : معنى : « قَدَّرْنَا » كتبنا . وقال الزجاج : دبرنا . فإن [ قيل ] لم أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم مع أنه لله عزَّ وجلَّ؟
فالجواب : إنَّما ذكروا هذه العبارة لما لهم من القرب والاختصاص بالله ، كما يقول خاصة الملك : دبرنا كذا [ وأمرنا بكذا ] ، والمدبر ، والآمر هو الملك لا هم ، وإنَّما يريدون بهذا الكلام إظهار ما لهم من الاختصاص بذلك الملك ، فكذا هنا .
قوله تعالى : { إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين } في موضع مفعول ، التقدير : قضينا أنها تتخلف ، وتبقى مع من يبقى حتَّى يهلك ، فتلحق بالهالكين .
قوله تعالى : { فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ المرسلون } القصة لما بشروا إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه بالولد ، وأخبروه بأنهم مرسلون بالعذاب إلى قوم مجرمين ذهبوا بعد ذلك إلى لوط عليه السلام ، وإلى آله ، وإنَّ لوطاً ، وقومه ما عرفوا أنهم ملائكة لله .
فقالوا : { قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } ؛ لأنهم لما هجموا عليه؛ استنكرهم ، وخاف من دخولهم لأجل شر يوصلونه إليه .
وقيل : خاف؛ لأنهم كانوا شبايا مرداً حسان الوجوه ، فخاف أن يهجم قومه عليهم لطلبهم ، فقال هذه الكلمة .
وقيل : إنَّ النكرة ضدّ المعرفة ، فقوله : { قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } ، أي : لا أعرفكم ، و أعرف أنكم من أي الأقوام ، ولأي غرض دخلتم عليّ ، فقال : { قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } .
قوله : { بَلْ جِئْنَاكَ } إضراب عن الكلام المحذوف ، تقديره : ما جئناك بما ينكر ، { بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا [ كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ } ] .
وقد تقدَّم الخلاف في قوله : « فأسْرِ » قعاً ووصلاً في هود : [ 81 ] .
وقرأ اليماني فيما نقل ابن عطية ، وصاحب اللوامح : « فَسِرْ » من السير . وقرأت فرقة بفتح الطاء ، وقد تقدَّم في يونس أنَّ الكسائي ، وابن كثير قرآه بالسكون في قوله « قِطْعاً » والباقون بالفتح .
قوله : قالت الملاكئة { بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ } يشكون أنه نازلٌ بهم ، وهو العذاب؛ لأنه كان يوعدهم بالعذاب ، فلا يصدقونه ، ثمَّ أكدوا ذلك بقولهم : { وَآتَيْنَاكَ بالحق } قال الكلبيُّ : بالعذاب ، [ وقيل ] باليقين والأمر الثابت الذي لا شك فيه وهو العذاب ] ثم أكدوا هذه التَّأكيد بقولهم { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } .
{
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الليل } والقِطْعُ والقَطع : آخر الليل؛ قال : [ الخفيف ]
3280
افْتَحِي البَابَ وانظُرِي في النُّجُومِ ... كَم عليْنَا مِن قِطْعِ ليْلٍ بَهِيمِ
{
واتبع أَدْبَارَهُمْ } ، أي سر خلفهم { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } لئلا ترتاعوا من أمر عظيم فأنزل بهم من العذاب .
وقيل : معناه الإسراع ، وترك الاهتمام لما خلف وراءه ، كما يقول : امض لشأنك ، ولا تعرج على شيءٍ .
وقيل : المعنى لو بقي [ منه ] متاعٌ في ذلك الموضع ، فلا يرجعن بسببه ألبتَّة .
وقيل : جعل الكله ذلك علامة لمن ينجو من آل لوطٍ .
{
وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني « الشَّام » .
وقال المفضل : حيث يقول لكم جبريل . وقال مقاتل : يعني زغر . وقيل : « الأرْدن » .
قوله : { حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } « حَيْثُ » على بابها من كونها ظرف مكان مبهمٍ ، ولإبهامها تعدي إليها الفعل من غير واسطةٍ ، على أنه قد جاء في الشِّعر تعديته إليها ب « في » كقوله : [ الطويل ]
3281
فَأصْبحَ في حَيْثُ التَقيْنَا شَردُهمْ ... طَليقٌ ومكْتوفُ اليَديْنِ ومُزْعِفُ
وزعم بعضهم أنها هنا ظرف زمانٍ ، مستدلاً بقوله : { بِقِطْعٍ مِّنَ الليل } ثم قال { وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } أي : في ذلك الزَّمان .
وهو ضعيف ، ولو كان كما قال ، لكان التركيب وأمضوا حيث أمرتهم على أنه لو جاء التَّركيب كذا لم يكن فيه دلالة .
قوله : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ } ضمَّن القضاء معنى الإيجاء؛ فلذلك تعدَّى تعيدته « إلى » ، ومثله { وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الإسراء : 4 ] .
و « ذَلكَ الأمْرَ » « ذَلِكَ » مفعول القضاءِ ، والإشارة به إلى ما وعد من إهلاكِ قومه ، و « الأمْرَ » إمَّا بدلٌ منه ، أو عطف بيانٍ له .
قوله : { أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ } العامة على فتح « أنَّ » وفيها أوجه :
أحدها : أنها بدل من « ذَلِكَ » إذا قلنا : « الأمْرَ » عطف بيان .
الثاني : أنَّها بدلٌ من « الأمْرَ » سواء قلنا : إنه بيان أو بدل مما قبله .
الثالث : أنه على حذف الجار ، أي : بأنَّ دابر ، ففيه الخلاف المشهور .
وقرأ زيد بن علي ، والأعمش بكسرها؛ لأنه بمعنى القول .
وعلَّله أبو حيان : بأنه لمَّا علق ما هو بمعنى العلم؛ كسر .
وفيه النظر المتقدم .
ويؤيِّد إضمار القول قراءة ابن مسعودٍ : وقلنا إنَّ دابر هؤلاء .
ودابرهم : آخرهم « مَقطوعٌ » مستأصل ، يعني مستأصلون عن آخرهم؛ حتى لا يبقى منهم أحد « مُصْبحينَ » ، أي في حال ظهور الصبح ، فهو حال من الضمير المستتر في : « مَقطُوعٌ » ، وإنَّما جمع حملاً على المعنى ، وجعله الفرَّاء ، وأبو عبيدة خبراً لكان المضمرة ، قالا : تقديره : إذا كانوا مصبحين ، نحو « أنْتَ مَاشِياً أحسنُ مِنْكَ رَاكِباً » .
وهو تكلفٌ ، و « مُصْبحِينَ » داخلين في الصَّباحِ .
قوله : { وَجَآءَ أَهْلُ المدينة } ، أي : مدينة لوط ، يعني : « سدُوم » « يَسْتبشِرُونَ » حالٌ ، أي : يستبشرون بأضياف لوطٍ ، يبشر بعضهم بعضاً في ركوب الفاحشة منهم .
قيل : إنَّ الملائكة لما كانوا في غاية الحسن اشتهر خبرهم .
وقيل : أخبرتهم امرأة لوطٍ بذلك؛ فذهبوا إلى دارِ لوطٍ؛ طلباً منهم لأولئك المردِ .
فقال لهم لوط صلوات الله وسلامه عليه : « هَؤلاءِ ضَيْفِي » وحق على الرجل إكرام ضيفه ، « فلا تَفْضحُونِ » فيهم .
يقال : فَضحَهُ يَفضحُه فَضْحاص ، وفَضِيحَةً ، إذا أظهر من أمره ما يلزمه به العار ، والفَضِيحُ والفَضِيحةُ : البيان ، والظُّهورُ ، ومنه : فَضِيحَةُ الصُّبْحِ؛ قال الشاعر : [ البسيط ]
3282
وَلاحَ ضَوءُ هِلالِ اللَّيْلِ يَفْضحُنَا ... مِثْلَ القُلامَةِ قَدْ قُصَّتْ مِنَ الظُّفُرِ
إلا أنَّ الفضحية اختصت بما هو عارٌ على الإنسان عند ظهوره .
ومعنى الآية : أن الضيف يجب إكرامه ، فإذا قصدتموه بالسُّوءِ كان ذلك إهانة بي ، ثمَّ أكد ذلك بقوله : { واتقوا الله وَلاَ تُخْزُونِ } ولا تخجلون ، فأجابوه بقولهم : { أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالمين } ، أي : عن أن تضيِّف أحداً من العالمين .
وقيل : ألم ننهك أن تدخل الغرباء المدينة؛ فإنا نركبُ منه الفاحشة .
قوله : { هَؤُلآءِ بَنَاتِي } يجوز فيه أوجه :
أحدها : أ ، يكون { هَؤُلآءِ بَنَاتِي } مفعولاً بفعل مقدرٍ ، أي : تزوَّجُوا هؤلاء ، و « بَناتِي » بدلٌ ، أو بيانٌ .
الثاني : أن يكون { هَؤُلآءِ بَنَاتِي } مبتدأ وخبراً ، ولا بدَّ من شيء محذوف تتمُّ به الفائدة ، أي : فتزوَّجُوهنَّ .
الثالث : أن يكون « هَولاءِ » مبتدأ ، و « بَناتِي » بدلٌ ، أو بيان والخبر محذوف ، أي : هُنَّ أطهر لكم كما جاء في نظيرتها .
وتقدَّم الكلام على هذه المعاني في هود .
قوله { لَعَمْرُكَ } مبتدأ محذوف الخبر وجوباً ، ومثله : لايْمُن الله ، و « إنَّهُمْ » ، وما في حيزه جواب القسم ، تقديره : لعمرك قسمي ، أو يميني إنهم ، والعُمُرُ والعَمْر بالفتح والضم هو البقاء ، إلا أنَّهم التزموا الفتح في القسم .
قال الزجاج : لأنه اخفُّ عليهم ، وهم يكثرون القسم ب « لعَمْرِي ولعَمْرُكَ » .
وله أحكام كثيرة :
منها : أنه متى اقترن بلام الابتداء؛ ألزم فيه الرفع بالابتداء ، وحذف خبره لسد جواب القسم مسدَّه .
ومنها : أنه يصير صريحاً في القسم ، أي : يتعيَّن فيه ، بخلاف غيره نحو : عَهْدُ اللهِ ومِثَاقُه .
ومنها : أنه يلزم فتح عينه .
فإن لم يقترن به لام الابتداء ، جاز نصبه بفعلٍ مقدرٍ ، نحو : عَمْرُ اللهِ لأفعلنَّ ، ويجوز حينئذٍ في الجلالة وجهان :
النَّصبُ والرفع فالنصب على أنه مصدرٌ مضاف لفاعله ، وفي ذلك معنيان :
أحدهما : أن الأصل : أسألك بعمرك الله ، أي : بوصفك الله تعالى بالبقاء ، ثم حذف زوائد المصدر .
والثاني : أن المعنى : بعبادتك الله ، والعَمْرُ : العِبادةُ .
حكى ابن الأعرابي : إنِّي عمرتُ ربِّي ، أي : عبدته ، وفلان عامر لربِّه ، أي : عابده .
وأمَّا الرفع : فعلى أنه مضاف لمفعوله .
قال الفارسي رحمه الله : معناه [ عَمَّرك ] الله تعميراً ، وقال الأخفش : أصله : أسْألك بِيُعمرك الله ، فحذف زوائد المصدر ، والفعل ، والياء ، فانتصب ، وجاز أيضاً ذكر خبره ، فتقول : عمرك قسمي لأقومن ، وجاز أيضاً ضمُّ عينه ، وينشد بالوجهين قوله : [ الخفيف ]
3283
أيُّهَا المُنْكِحُ الثُريَّا سُهَيلاً ... عَمركَ الله كيْفَ يَلتقِيَانِ
هِيَ شَامِيَّةٌ إذَا ما استقلَّتْ ... وسُهَيْلٌ إذا اسْتقل يَمانِي
ويجوز دخول باء الجر عليه؛ نحو : بعمرك لأفعلنَّ؛ قال : [ الوافر ]
3284
رُقيَّ بِعمْرِكُم لا تَهْجُرينَا ... ومَنِّينَا المُنَى ثُمَّ امْطُلينا
وهو من الأسماء اللازمة للإضافة ، فلا يقطع عنها ، ويضاف لكل شيء ، وزعم بعضهم : أنه لا يضاف إلى الله تعالى .
قيل : كان هذا يوهم أنه لا يستعمل إلا شفي الانقطاع ، وقد سمع إضافته للباري تعالى . قال الشاعر : [ الوافر ]
3285
إذَا رَضِيَتْ عليَّ بَنُو قُشيْرٍ ... لعَمْرُ الله أعْجَبنِي رِضَاهَا
ومنع بعضهم إضافته إلى ياء المتكلِّم ، قال لأنه حلف بحياة المقسم ، وقد ورد ذلك ، قال النابغة : [ الطويل ]
3286
لعَمْرِي وما عمْرِي عليَّ بِهيِّنٍ ... لقد نَطقَتْ بُطلاً عليَّ الأقَارعُ
وقد قلبته العرب لتقديم رائه على لامه ، فقالوا : وعملي ، وهي رديئة .
«
إنَّهُمْ » العامة على كسر « إنَّ » لوقوع اللام في خبرها ، وقرأ أبو عمرو في رواية الجهضمي له « أنَّ » فتحها ، وتخريجها على زيادة اللام ، وهي كقراءة ابن جبيرٍ ( ألا أنهم ليأكلون الطعام ] بالفتح .
وقرأ الأعمش : « سَكْرهُمْ » بغير تاء ، وابن أبي عبلة « سَكرَاتهِمِ » جمعاً ، والأشهب : « سُكْرتِهِم » بضم السين .
و « يَعْمَهُونَ » حال إمَّا من الضمير المستكن في الجار ، وإمَّا من الضمير المجرور بالإضافة ، والعامل إمَّا نفس سكرة ، لأنَّها مصدر ، وإمَّا معنى الإضافة .
فصل
قيل : إن الملائكة عليهم السلام قالت للوطٍ صلوات الله وسلامه عليه « لعَمُركَ إنَّهم لَفِي سَكرتِهمْ يَعْمَهُونَ » : يتحيَّرون .
وقال قتادة : يلعبون فكيف يعقلون قولك ويتلفتون إلى نصيحتك؟ .
وقيل : إنَّ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإنَّه أقسم بحياته وما أقسم بحياة أحدٍ .
روى أبو الجوزاء عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال ما خلقَ الله نفساً أكرم على الله من محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، وما أقْسمَ بحياةِ أحدٍ إلاَّ بحياتهِ .
قال ابن العربي : قال المفسرون بإجماعهم : أقسم الله تعالى ها هنا بحياةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم تشريفاً له ، أنَّ قومه من قريش في سكرتهم يعمهون وفي حريتهم يترددون ، وقال القاضي عياضٌ : اتفق أهل التفسير في هذا : أنَّه قسم من الله تعالى بمدة حياة محمد صلى الله عليه وسلم وأصله ضمُّ العين من العمر ، ولكنها فتحت بكثرة .
قال ابن العربي : ما الذي يمنعُ أن يقسم الله تعالى بحياة لوطٍ ، ويبلغ به من التشريف ما شاء ، وكلُّ ما يعيطه الله للوطٍ من فضل ، يعطي ضعفه لمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنَّه أكرم على الله منه؛ أو لات تراه سبحانه أعطى إبراهيم الخلَّة ، وموسى التكليم ، وأعطلى ذلك لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم ، فإذا أقسم بحياة لوطٍ ، فحياة محمدٍ صلى الله عليه وسلم أرفعُ ، ولا يخرج من كلام إلى كلام لم يجر له ذكرٌ لغير ضرورةٍ .
قال القرطبيُّ : ما قاله حسنٌ ، فإنَّه كان يكون قسمة سبحانه بحياة محمد صلى الله عليه وسلم ، كلاماً معترضاً في قصَّة لوط .
قال القشيريُّ : يحتمل أن يرجع ذلك إلى قوم لوطٍ؛ أي كانوا في سكرتهم يعمهون ، أي لمَّا وعظ لوطٌ قومه وقال : هؤلاء بناتي ، قالت الملائكة : يا لوط لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ، ولا يدرون ما يحلُّ بهم صباحاً .
فإن قيل : فقد أقسم الله تعالى بالتِّين ، والزَّيتونِ ، وطور سنين ، وما في هذا من الفضل؟ قيل له : ما من شيء أقسم الله به ، إلاّ وفي ذلك دلالة على فضل على ما يدخل في عداده ، فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم .
ثم قال : { فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة } ، ولم يذكر في الآية صيحة من هي فإن ثبت بدليل قوي أن تلك صيحة جبريل قيل به وإلا فليس في الآية دليلٌ على أنه جاءتهم صيحة مهلكة .
قوله « مُشْرقينَ » « حال من مفعول » أخَذتْهُمْ « ، أي داخلين في الشروق ، أي : بزوغِ الشَّمسِ .
يقال : شَرَق الشارق يَشْرُق شُرُوقاً لكل ما طلع من جانب الشرع ، ومنه قوله : ما ذرَّ شَارِقٌ ، أي طلع طَالعٌ فكان ابتداء العذاب حين أصبحوا وتمامه حين أشرقوا .
والضمير في : » عَاليهَا وسَافِلهَا « للمدينة . وقال الزمخشريُّ : » لقرى لقوم لوط « .
ورجح الأول بأنه تقدَّم ذكر المدينة في قوله { وَجَآءَ أَهْلُ المدينة } فعاد الضمير إليها بخلاف الثاني ، فإنه لم يتقدَّم لفظ القرى .
{
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً } تقدم الكلام على ذلك كله في هود : [ 82 ] .
قوله { لِلْمُتَوَسِّمِينَ } متعلق بمحذوف على أنه صفة ل » آيَاتٌ « وأجود أن يتعلق بنفس » آيَاتٌ « ؛ لأنَّها بمعنى العلامات .
والتوسُّم : تفعل من الوسم ، والوسمُ أصله : التَّثبت ، والتَّفكر مأخوذ من الوسمِ ، وهو التَّأثير بحديد في جلد البعير ، أو غيره .
وقال ثعلب : الوَاسِمُ النَّاظر إليك من [ قرنك ] إلى قدمك ، وفيه معنى التَّثبيت .
وقال الزجاج : حقيقة المتوسِّمين في اللغة : المثبتون في نظرهم حتَّى يعرفوا سمة الشيء ، وصفته وعلامته وهو استقصاءُ وجوه التَّعرف قال : [ الكامل ]
3287
أوَ كُلما وردَتْ عُكاظَ قَبيلَةٌ ... بَعَثَتْ إليَّ عَريفَهَا يَتوسَّم
وقيل : هو تفعُّل من الوسمِ ، وهو العلامة ، توسَّمتُ فيك خيراً ، أي : ظهر لي مِيسَمُهُ عليك .
قال ابن رواحة يمدحُ النبي صلى الله عليه وسلم : [ البسيط ]
3288
إنِّي تَوسَّمْتُ فِيكَ الخَيرَ أعْرفهُ ... واللهُ يَعْلمُ أنِّي ثَابتُ البَصرِ
وقال آخر : [ الطويل ]
3289
تَوسَّمْتهُ لمَّا رَأيْتُ مَهَابَةٌ ... عَليْهِ ، وقُلْتُ المَرْءُ مِنْ آلِ هَاشمِ
ويقال : اتَّسمَ الرَّجلُ ، إذا اتَّخذَ لِنفْسِه عَلامةً يُعرف بِهَا ، وتوسَّم : إذا طلبَ كلأ الوسمي ، أي : العُشْبَ النَّابت في أوَّل المطر .
واختلف المفسِّرون : فقال ابن عبَّاس رضي الله عنهما للنَّاظرين .
وقال مجاهدٌ للمتفرِّسين ، وقال قتادة للمعتبرين ، وقال مقاتلٌ للمتفكرين .
قوله : { وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ } الظاهر عود الضمير على المدينة ، أو القرى وقيل على الحجارة وقيل : على الآيات ، والمعنى : بطريقٍ قال مجاهد هذا طريق معلم ، وليس بخفيّ ، ولا زائلٍ .
ثم قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ } ، إي : كل من آمن بالله ، ويصدق بالأنبياء ، والرُّسلِ صلوات الله وسلامه عليهم؛ عرف أنَّما كان انتقامُ الله من الجُهَّال لأجل مخالفتهم ، وأمَّا الذين لا يؤمنون؛ فيحملونه على حوادث [ العالم ] ، وحصول القرانات الكوكبية ، والاتصالات الفلكية .
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)
قوله تعالى : { وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأيكة لَظَالِمِينَ } « إنْ » هي المخففة ، واللم فارقة وهي للتأكيد ، وقد تقدَّم حكم ذلك [ البقرة : 143 ] .
و « الأيْكَة » : الشَّجرة الملتفَّّة ، واحدة الإيْكِ . قال : [ الكامل ]
3290
تَجْلُو بِقَادمتَي حَمامَةِ أيْكَةٍ ... بَرَاداً أسِفَّ لِثاتهُ بالإثْمِدِ
ويقال : لَيْكَة ، وسيأتي بيانه عند اختلاف القرَّاء فيه الشعراء : [ 176 ] إن شاء الله تعالى .
وأصحاب الأيكة : قوم شعيب كانوا أصحاب غياضٍ ، وشجرٍ متلفٍّ .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : وكان عامة شجرهم الدوم ، وهو المقل .
{
فانتقمنا مِنْهُمْ } بالعذاب .
روي أنَّ الله تعالى سلَّط عليهم الحر سبعة أيَّام ، مفبعث الله سبحانه سحابة فالتجئوا إليها يلتمسون الرَّوْحَ؛ فبعث الله عليهم ناراً ، فأحرقتهم ، فهو عذابُ يوم الظُّلة .
قوله تعالى : { وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ } في ضمير التثنية أقوال :
أرجحها : عوده على [ قريتي ] قوم لوطٍ ، وأصحاب الأيكةِ ، وهم : قوم شعيبٍ؛ لتقدُّمها ذكراً .
وقيل : يعود على لوطٍ وشعيبٍ ، [ وشعيبٌ ] لم يجر له ذكر ، ولكن دلَّ عليه ذكر قومه .
وقيل : يعود على الخبرين : خبر هلاك قوم لوطٍ ، وخبر إهلاك قوم شعيبٍ .
وقيل : يعود على أصحاب الأيكةِ ، وأصحاب مدين؛ لأنه مرسلٌ إليهما ، فذكر أحدهما يشعر بالأخرى .
وقوله جل ذكره { لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ } أي : بطريق واضح ، والإمام [ اسم لما ] يؤتمُّ به .
قال الفراء ، والزجاج : « إنَّما جعل الطَّريقُ إماماً؛ لأنه يؤمُّ ، ويتبع » .
قال ابن قتيبة : لأنََّ المسافر يأتمُّ به حتى يصير إلى الموضع الذي يريده .
وقوله : « مُبينٍ » يحتمل أنه مبين في سنفسه ، ويحتمل أنه مبين لغيره ، لأن الطريق تهدي إلى المقصد .
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)
قوله : { وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحجر المرسلين } . قال صاحبُ « ديوان الأدبِ » الحِجْر : بكسر الحاء المهملة ، وتسكين الجيم له ستَّة معانٍ :
فالحِجْر : منازل ثمود ، وهو المذكور هاهنا ، والحِجْرُ : الأنثى من الخيل . والحِجْرُ : الكعهبة . والحِجْرُ : لغة في الحجرِ ، هو واحد الحجور في قوله تعالى : { وَرَبَائِبُكُمُ اللاتي فِي حُجُورِكُمْ } [ النساء : 23 ] والحِجْرِ : العَقْلُ ، قال تعالى : { هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ } [ الفجر : 5 ] ، والحِجْرُ : الحرامُ في قوله تعالى : { وَحِجْراً مَّحْجُوراً } [ الفرقان : 53 ] أي : حراماً محرماً .
فصل
قال « المُرْسلينَ » ، وإنَّما كذبوا صالحاً وحده؛ لأنَّ من كذَّب نبيًّا؛ فقد كذَّب الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ملأنهم على دين واحد ولا يجوز التَّفرييقُ بينهم .
وقيل : كذَّبُوا صالحاً ، وقيل : كذَّبوا صالحاً ومن تقدمه من النَّبيين أيضاً ، والله تعالى أعلم .
قال المفسرون : والحِجْرُ : اسم وادٍ كان يسكنه ثمود قوم صالحٍ ، وهو بين المدينة ، والشام ، والمراد ب « المُرْسلينَ » صالحٌ وحده .
قال ابن الخطيب : « ولعلَّ القوم كانوا براهمة منكرين لكل الرسل » .
{
وَآتَيْنَاهُمْ } يعني النَّاقة ، وولدها ، والبئر ، والآيات في النَّاقة : خروجها من الصَّخرة ، وعظم خلقها ، وظهور نتاجها عند خروجها ، وقُرب ولادتها ، وغزارة لبنها ، وأضاف الإيتاء إليهم ، وإن كانت النَّاقة آية صالحٍ؛ لأنَّها آيات رسولهم ، فكانوا عنها معضرين؛ فذلك يدلُّ على أنَّ النَّظر ، والاستدلال واجب ، وأنَّ التقليد مذموم .
{
وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً } تقدَّم كيفيَّة النَّحت في الأعراف : [ 74 ] ، وقرأ الحسن ، وأبو حيوة : بفتح الحاءِ .
«
ءَامِنينَ » من عذاب الله .
وقيل : آمنين من الخرابِ ، ووقوع السَّقف عليهم .
{
فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة } ، أي : صيحة العذاب « مُصْبِحينَ » ، أي وقت الصُّبح .
قوله : « فَمَا أغْنَى » يجوز أني تكون نافية ، أو استفهامية فيها [ معنى ] التعجب ، وقوله : « مَا كَانُوا » يجوز أن تكون « مَا » مصدرية ، أي : كسبهم ، أو موصوفة ، أو بمعنى « الَّذي » ، وةالعائد محذوف ، أي : شيء يكسبونه ، أو الذي يكسبونه .
فصل
وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه « أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا نزل الحجر في غزوة تبوك ، أمرهم ألاَّ يشربوا من بئرها ، ولا يستقوا منها ، فقال واحدٌ : عَجَنَّا ، وأسْتقَيْنَا ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ذلك الماء ، وا ، يطرحوا ذلك العجين » ، وفي رواية : « وأ ، ْ يَعْلِفُوا الإبل العجِين » .
وفي هذا دليل على كراهة دخول تلك المواضع ، وعلى كراهةِ دخول مقابر الكفار ، وعلى تحريم الانتفاع بالماء المسخوط عليه؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بإهراقه وطرح العجين ، وهكذا حكم الماء النَّجسِ ، ويدلُّ على أنَّ ما لا يجوز استعماله من الطعام ، والشراب ، يجز أن يعلفه البهائم .
قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق } الآية . لما ذكر أهلاك الكفَّار ، فكأنه قيل : كيف يليق الإهلاك بالرحيم؟ .
فأجاب : بأني ما خلقت الخلق إلا ليشتغلوا بعبادي ، كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] فإذا تركوها ، وأعرضوا عنها؛ وجب في الحكمة إهلاكهم ، وتظهير وجه الأرض منهم .
وهذا النَّظم حسنٌ ، إلا أنَّه إنما يستقيمُ على قوله المعتزلة ، وفي النظم وجه آخر : وهو أنه تعالى إنَّما هذه القصَّة تسلية لنبيِّه صلى الله عليه وسلم و أن يصبره على سفاهة قومه ، فإنه إذا سمع [ أنَّ ] الأمم السَّالفة كانوا يعاملون بمثل هذه المعاملات؛ سهُل تحمُّل تلك السَّفاهات على محمد صلى الله عليه وسلم ثم : إنَّه تعالى لما بيَّن أنه أنزل العذاب على الأمم السَّالفة ، قال لمحمد صلى الله عليه وسلم : « إنَّ السَّاعةَ لآتيِةٌ » ، وإنَّ الله لينتقم لك من أعدائك ، ويجازيهم ، وإيَّاك ، فإنه ما خلق السماوات ، والأرض ، وما بينهما إلا بالحق ، والعدل والإنصاف ، فكيف يليق بحكمته إهمال أمرك؟ .
ثم إنَّه تعالى لما صبَّره على أذى قومه ، رغَّبة بعد ذلك في الصَّفح عنهم ، فقال : { فاصفح الصفح الجميل } .
قوله : : إلاَّ بالحقِّ « نعت لمصدر محذوف ، أي : ملتسبة بالحقِّ .
قال المفسِّرون : هذه الآية منسوخة بآية القتال ، وهو بعيد؛ لأنَّ المقصود من ذلك أن يظهر الخلق الحسن ، والعفوا ، والصفح ، فكيف يصير منسوخاً؟ .
ثم قال : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخلاق العليم } ، أي خلق الخلق مع اختلاف طبائعهم ، وتفاوت أحوالهم ، مع علمه بكونهم كذلك وإذا كان كذلك ، فإنَّما خلقهم مع هذا التَّفاوت ، ومع العلم بذلك التَّفاوت ، أمَّا على قول أهل السنة فلمخض مشيئته ، وإرادته ، وعلى قول المعتزلة : لأجل المصلحة ، والحكمة .
وقرأ زيد بن علي ، والجحدري : » إنَّ ربَّك هُو الخَالِقُ « ، وكذا هي في مصحف أبيّ وعثمان .
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني } يحتمل أن يكون سبعاً من الآيات ، وأن يكون سبعاً من السُّورِ ، وأن يكون سبعاً من الفوائد ، وليس في اللفظ ما يدلُّ على التَّعيين .
والثاني : صيغة جمع ، واحدة مثناةُ ، والمثناةُ : كل شيءٍ يُثَنَّى ، وأي : يجعل اثنين من قولك : ثَنَيْت الشَّيء ثَنْياً ، أي : عَطفْتهُ ، أو ضممت إليه آخر ، ومنه يقال لرُكْبتَي الدَّابة ومِرْفقَيْهَا مثانِي؛ لأنها تثنى بالفخذ ، والعضد؛ ومثاني الوادي معاطفه .
وإذا عرف هذا ، فقوله : { سَبْعاً مِّنَ المثاني } مفهومه سبعة أشياء من جنس الأشياء التي تثنى ، وهذا القدر مجملٌ ، ولا سبيل إلى تعيينه ، إلا بدليلٍ منفصلٍ ، وللنَّاس فيه أقوال :
أحدها : قال عمرُ ، وعليٌّ ، وابن مسعودٍ ، وأبو هريرة ، والحسن ، وأبو العالية ، ومجاهدٌ والضحاك ، وسعيد بن جبير ، وقتادة رضي الله عنهم : إنه فاتحة الكتاب .
روى أبو هريرة رضي الله عنهم « أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ فاتحة الكتاب ، وقال : » هِيَ السَّبْعُ المَثانِي « .
وإنَّما سمِّيت بالسَّبع؛ لأنها سبعُ آياتٍ ، وفي تمسيتها بالمثاني وجوه :
أولها : قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما والحسن ، وقتادة لا ، ها تثنى في الصلاة ، فتقرأ في كلِّ ركعةٍ .
ثانيها : قال الزجاج : لأنَّها تثنى مع ما يقرأ معها .
وثالثها : لأنها قسمت قسمين : نصفها ثناءُ ، ونصفها دعاءٌ ، كما ورد في الحديث المشهور .
ورابعها : قال الحسين بن الفضل : لأنَّها نزلت مرَّتين ، مرة بمكَّة ، ومرة بالمدينة .
وخامسها : لأنَّ كلماتها مثناة ، مثل : { الرحمن الرحيم مالك يَوْمِ الدين إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهدنا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } [ الفاتحة : 37 ] .
وفي قراءة عمر : ( غير المغضوب عليهم وغير الضالين ) .
نقل القاضي عن أبي بكر الأصم أنَّه قال : كان ابن مسعودٍ رضي الله عنه لا يكتب في مصحفه فاتحة الكتاب؛ رأى أنَّها ليست من القرآن .
قال ابن الخطيب : » لعلَّ حجَّته أنه عطف السَّبع المثاني على القرآن والمعطوف مغاير للمعطوف عليه؛ فوجب أن تكون غير القرآن العظيم « ، ويشكل هذا بقوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } [ الأحزاب : 7 ] ، وكذلك قوله تعالى : { وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] .
وللخَصْم أن يجيب بأنه يجوز أن يذكر الكلَّ ، ثمَّ يعطف عليه ذكر بعض أقسامه لكونه أشرف الأقسام ، وأمَّا إذا ذكر شيءٌ ِآخر كان المذكور أولاً مغايراً للمذكور ثانياً ، وها هنا ذكر سبع المثاني . ثم عطف عليه القرآن فوجب التغاير .
ويجاب عليه : بأنَّ بعض الشَّيء مغاير لمجموعه ، فلم لا يكفكي هذا القدر من المغايرة في حسن العطف؟ .
واعلم أنَّه لمَّا كان المراد بالسَّبع المثاني هو الفاتحة؛ دلَّ على أنَّها أفضل سور القرآن ، لأن إفرادها بالذِّكر مع كونها جزءاً من القرآن؛ يدلُّ على مزيد اختاصها بالفضلية ، وأيضاً : لما أنزلها مرَّتين دلَّ ذلك على أفضليتها ، وشرفها ، ولما واظب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قرءاتها في جميع الصلوات طول عمره ، وما أقام [ سورة أ خرى ] مقامها في شيءٍ من الصلوات ، دل على على وجوب قراءتها ، وألاَّ يقوم شيء من القرآن مقامها .
القول الثاني : السَّبع المثاني : هي السبع الطوال ، قاله ابن عمر ، وسعيد بن جبيرٍ في بعض الروايات عن ابن عباس رضي الله عنهما وإنما سميت السبع الطوال مثاني؛ لأنَّ الفرائض ، والحدود ، والأمثال والخبر ، والعبر ثنيت فيها .
وأنكر الربيع هذا القول ، وقال : الآيةُ مكية ، وأكثر هذه السورة مدنيَّة ، وما نزل منها من شيءٌ في مكَّة ، فكيف تحمل هذه الآية عليها؟ .
وأجاب قومٌ عن هذا بأنه تعالى جلَّ ذكره أنزل القرآن كلَّه إلى سماءِ الدنيا ، ثم أنزل على نبيه منه نجوماً ، فلمَّا أنزله إلى سماءِ الدُّنيا ، وحكم بإنزاله عليه فهو جملة من آتاه ، وإن لم ينزل عليه بعدُ .
وفي هذا الجواب نظرٌ ، فإن قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني } ذكره في [ معرض ] الامتنان ، وهذا الكلامُ إنَّما يصدق ، إذا وصل ذلك إلى محمَّدٍ صلوات الله وسلامه عليه فأمَّا ما لم يصله بعد ، فلا يصدق ذلك عليه .
وأما قوله : إنه لما حكم بإنزاله على محمد ، كان ذلك جارياً مجرى ما نزل عليه ، فضعيف؛ لأنَّ إقامة مالم ينزل عليه مقام النَّازل عليه مخالف للظَّاهرِ .
القول الثالث : أنَّ السَّبع المثاني : هون القرآن ، وهو منقولٌ عن ابن عباس رضي الله عنه في بعض الروايات ، وهوق ول طاوس رضي الكله عنه لقوله تعالى : { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ } [ الزمر : 23 ] فوصف كلَّ القرآن بكونه مثاني؛ لأنه كرَّر فيه دلائل التَّوحيدِ ، والنبوَّة ، والتَّكاليف .
قالوا : وهو ضعيف؛ لأنه لو كان المراد بالسَّبع المثاني القرآن لكان قوله : { والقرآن العظيم } ، عطفاً على نفسه ، وذلك غير جائزٍ .
وأجيب عنه : بأنه إنَّما حسن العطف فيه لاختلاف اللفظين؛ كقول الشاعر :
3291
إلى المْلِكِ القَرْمِ وابْنِ الهُمامِ ... وليْثِ الكَتِيبَةِ في المُزدحَم
واعلم أن هذا ، وإن كان جائزاً إلا أنَّهم أجمعوا على أن الأصل خلافه .
القول الرابع : أنه يجوز أن يكون المراد بالسبع الفاتحة ، وبالمثاني كل القرآن ، ويكون التقدير : ولقد آتيناك سبع آياتٍ هي الفاتحة ، وفي من جملة المثاني الذي هو القرآن ، وهذا عين الأول .
و « مِن » في قوله : « مِنَ المثَانِي » .
قال الزجاج رحمه الله تعالى : فيها وجهان :
أحدهما : أن تكون للتبعيض من القرآن ، أي : ولقد آتيناك سبع آياتٍ من جملة الآيات التي يثنى بها على الله ، وآتيناك القرآن العظيم .
ويجوز أن تكون « مِن » صفة ، والمعنى : أتيناك سبعاً هي المثاني ، كقوله تعالى :
{
فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] ، أي اجتنبوا الأوثان؛ لان بعضها رجس .
قوله : « والقرآن » فيه أوجه :
أحدها : أنه من عطف بعض الصفات على بعض ، أي : الجامع بين هذه النعتين .
الثاني : أنه من عطف العام على الخاص ، إذ المراد بالسَّبع : إمَّا الفاتحة ، أو الطوال ، فكأنه ذكر مرتين بجهة الخصوص ، ثم باندراجه في العموم .
الثالث : أنَّ الواو مقحمة ، وقرىء « وَالقُرآنِ » بالجر عطفاً على : « المَثَانِي » .
قوله تعالى : { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا } الآية لما عرف رسوله عظيم نعمه عليه فما يتعلق بالدِّين ، وهو أنه تعالى آتاه سبعاً من المثاني ، والقرآن العظيم نهاه عن الرغبة في الدنيا فقال : { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } ، أي لا تشتغل سرك ، وخاطرك بالالتفات إلى الدينا ، وقد أوتيت القرآن العظيم .
قال أبو بكر رضي الله عنه « مَنْ أوتِي القرآن فرَأى أنَّ أحَداً أوتِي مِنَ الدنيَا أفضل ممَّا أوتِي ، فقَد صَغَّرَ عَظِيماً وعَظَّمَ صَغِيراً » . وتأوَّل سفيان بن عيينة هذه الآية بقول النبي صلى الله عليه وسلم : « ليْسَ مِنَّا من لمْ يتغنَّ بالقُرآنِ » أي لم يستغن .
وقال ابن [ عبَّاسٍ ] رضي الله عنهما : « لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ » ، أي لا تتمنّ ما فضلنا به أحداً من متاع الدُّنيا .
وقرَّر الواحديُّ هذا المعنى فقال : « إنَّما يكون مادًّا عينيه إلى الشيء ، إذا أدام النَّظر نحوه ، وإدامةٌ النَّظر إلى الشَّيء تدلُّ على استحسانه ، وتمنِّيه ، وكان النبي صلى لله عليه وسلم لا ينظر إلى ما يستحسن من متاع الدنيا » .
وروي أنه صلى الله عليه وسلم « نظر إلى نَعَم بَنِي المُصطلقِ ، وقد [ عَبِسَتْ ] في أبْوالِهَا ، وأبْعارِهَا؛ فَتٌنَّعَ في ثَوْبهِ؛ وقَرأ هذِه الآية » .
قوله : « عَبِستْ في أبْوالِهَا وأبْعَارِهَا » هون أن تجف أبعارها ، وأبوالها على أفخاذها ، إذا تركت من العمل أيَّام الربيع؛ فيكثر شحومها ، ولحومها ، وهي أحسن ما تكون .
قوله : { أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ } .
قال ابن قتيبة : أي أصنافاً من الكُفَّار ، والزَّوْجُ في اللغة : الصِّنف { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } ؛ لأنهم لم يؤمنوا لم يؤمنوا ، فيتقوى بإسلامهم ، ثم قال عز وجل { واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } .
الخفض : معناه في اللغة : نقيض الرفع ، ومنه قوله تعالى في وصف القيامة { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } [ الواقعة : 3 ] ، أي : أنَّها تخفض أهل المعاصي ، وترفع أهل الطَّاعة ، وجناح الإنسان : يدهُ .
قال الليثُ رضي الله عنه يد الإنسان : جناحه ، قال تعالى : { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب } [ القصص : 32 ] ، وخفض الجناح كناية عن اللِّين ، والرّفقِ ، والتَّواضع ، والمقصود : أنه نهاه عن الالتفات إلى الأغنياء من الكفار ، وأمره بالتَّواضع لفقراءِ المؤمنين [ ونظيره ] { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } [ المائدة : 54 ] ، وقوله : { أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] .
قوله : { وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين } لما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالزُّهدِ في الدنيا ، وخفض الجناح للمؤمنين ، أمره أن يقول للقوم : { أَنَا النذير المبين } ، وهذا يدخل تحته كونه مبلغاً لجميع التَّكاليف ، وكونه [ شارحاً لمراتب ] الثَّواب والعقاب ، والجنَّة والنَّار ، ومعنى « المَبِين » الآتي بجميع البيِّنات الوافية .
قوله : { الذين جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ } فيه أقوال :
أحدها : أنََّ الكاف [ تتعلق ] ب « آتَيْنَاكَ » ، وإليه ذهب الزمشخريُّ فإنه قال : « أنزلنا عليك » ، مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب ، وهم المقتسمون : { كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين } .
الثاني : أنه نعت لمصدر محذوف منصوب ب « آتَيْنَاكَ » تقديره : آتيناك إتياناً كما أنزلنا .
الثالث : أنه منصوب نعت لمصدر محذوف ، ولكنَّه ملاق ل « آتيْنَاكَ » ومن حيث المعنى لا من حيث اللفظ ، تقديره : أنزلنا إليك إنزالاً كما أنزلنا؛ لأنَّ « آتَيْنَاكَ » بمعنى أنزلنا إليك .
الرابع : أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوف ، والعامل فيه مقدَّر أيضاً ، وتقديره : ومتعناهم تمتيعاً كما أنزلنا ، والمعنى : نعمنا بعضهم كما عذَّبنا بعضهم . الخامس : أنه صفة لمصدر دلَّ عليه التقدير ، والتقدير : أنا النَّذير إنذاراً كما أنزلنا ، أي : مثل ما أنزلنا .
السادس : أنه نعتٌ لمفعول محذوف ، النَّاصب له : « النَّذيرُ » ، تقديره : النَّذيرُ عذاباً { كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين } وهم قوم صالح؛ لأنهم قالوا : « لنُبَيتنَّه » وأقسموا على ذلك ، أو يراد بهم قريش حين قسموا القرآن إلى سحرٍ ، وشعرٍ ، وافتراءٍ .
وقد ردَّ بعضهم هذا : بأنه يلزم منه إعمال الوصف موصوفاً ، وهو غير جائز عند البصريين جائز عند الكوفيين ، فلو عمل ثمًَّ وصف جاز عند الجمعي .
السابع : أنَّه مفعول به ناصبه : « النَّذيرُ » أيضاً .
قال الزمخشريُّ : « والثاني : أن يتعلق بقوله : { وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين } ، أي : وأنذر قريشاً مثل ما أنزلنا على المقتسمين ، يعني اليهود ، وما جرى على بني قريظة ، و النضيرِ » .
وهذا مدرودٌ بما تقدَّم من إعمال الوصف موصوفاً .
قال ابن الخطيب : وهذا الوجه لا يتمُّ إلاَّ بأحد أمرين : إمَّا التزامُ إضمارٍ ، ِأو التزام حذفٍ .
أمَّا الإضمار فهو أن يكون التقدير : إني أنا النذير [ المبين ] عذاباً ، كما أنزلنا على المقتسمين ، وعلى هذا الوجه : المفعول محذوف ، وهو المشبه ، ودلَّ عليه المشبه به ، كما تقول : رأيت كالقمر في الحسن ، أي : رأيت إنساناً كالقمرِ في الحسن ، وأمَّا الحذف ، فهو أن يقال : الكاف زائدة محذوفة ، والتقدير : إني أنا النذير [ المبين ما ] أنزلناه على المقتسمين ، وزيادة الكاف له نظير ، وهو قوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] .
الثامن : أنه منصوب نعتاً لمفعولٍ به مقدرب ، والناصب لذلك المحذوف مقدرٌ أيضاً لدلالة لفظ « النَّذِير » عليه ، أي : أنذركم عذاباً مثل العذاب المنزَّل على المقتسمين ، وهنم قوم صالحٍ ، أو قريش ، قاله أبو البقاء رحمه الله وكأنه فرَّ من كونه منصوباً بلفظ « النَّذير » كما تقدَّم من الاعتراض البصريّ .
وقد ردَّ ابن عطية على القول السادس بقوله : والكاف في قوله : « كَمَا » متعلقة بفعلٍ محذوفٍ ، تقديره : وقل إنِّي أنا النذير المبين عذاباً كما أنزلنا ، فالكاف : اسم في موضعِ نصبٍ ، هذا قول المفسِّرين .
وهو غير صحيح؛ لأنَّ : « كما أنزلنا » ليس ممَّا يقوله محمد صلوات الله وسلامه عليه بل هو من كلام الله تعالى فيفصل الكلام ، وإنَّما يترتب هذا القول بأن يقدر أن الله تعالى قال له : أنذر عذاباً كما .
والذي أقول في هذا المعنى : « وقل إنّي أنا النذيرُ المبين كما قال قلبك رسلنا وأنزلنا عليهم كما أنزلنا عليك » .
ويحتمل أن يكون المعنى : وقل : إنِّي أنا النذيرُ المبينُ ، كما قد أنزلنا في الكتب أنَّك ستأتي نذيراً على أن المقتسمين ، هم أهل الكتاب ، وقد اعتذر بعضهم عمَّا قاله أبو محمد فقال : الكاف متعلقة بمحذوف دلَّ عليه المعنى ، تقديره : أنا النذير بعذاب مثل ما أنزلنا ، وإن كان المنزل الله ، كما تقول بعض خواصِّ الملكِ : أ/رنا بكذا ، وإن كان الملك هو الآمرُ .
وأما قول أبي محمدٍ : « وأنزلنا عليهم ، كما أنزلنا عليك » ؛ كلامٌ غير منتظم ، ولعلَّ أصله : وأنزلنا عليك كما أنزلنا عليهم : ، كذا أصلحه أبو حيان . وفيه نظر ، كيف يقدر ذلك ، والقرآن ناطق بخلافه ، وهو قوله : { عَلَى المقتسمين } .
التاسع : أنه متعلق بقوله : « لنَسَألنَّهُمْ » تقديره : لنسألنَّهم أجمعين ، مثل ما أنزلنا .
العاشر : أنَّ الكاف مزيدة ، تقديره : أنا النذير ما أنزلناه على المقتسمين .
ولا بد من تأويل ذلك على أنَّ « ما » معفولٌ ب « النذير » عند الكوفيين ، فإنَّهم يعملون الوصف للموصوف ، أو على إضمار فعل لائقٍ أي : أنذركم ما أنزلناه كما يليق بمذهب البصريين .
الحادي عشر : أنه متعلق ب « قل » ، التقدير : وقيل قولاً كما أنزلنا على المقتسمين أنك نذير لهم ، فالقول للمؤمنين في النَّذارةِ كالقول للكفَّار المقتسمين؛ لئلا يظنُّوا أنَّ إنذارك للكفار مخالف لإنذار المؤمنين ، بل أنت في وصف النذارة لهم بمنزلة واحدة ، تنذر المؤمن ، كما تنذر الكافر ، كأنه قال : أنا النذيرُ لكم ، ولغيركم .
فصل
قال ابن عبَّاسِ رضي الله عنهما : المقتسمون : هم الَّذين اقتسموا طرق مكَّة يصدُّون النَّاس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقرب عددهم من أربعين .
وقال مقاتل بن سليمان رحمه الله : كانوا ستَّة عشر رجلاً بعثهم الوليد بن المغيرة أيَّام الموسم ، فاقتسموا شعاب مكَّة ، وطرقها يقولون لمن سلكها : لا تغتروا بالخارج منَّا ، والمدعي للنبوَّة ، فإنه مجنونٌ ، وكانوا ينفِّرُونَ النَّاس عنه بأنه ساحرٌ ، أو كاهنٌ ، أو شاعرٌ ، فطائفة منهم تقول : ساحرٌ ، ، وطائفة تقول : إنه كاهنٌ ، وطائفة تقول : إنه شاعرٌ ، فأنزل الله عز وجل بهم خزياً؛ فماتوا أشدَّ ميتة .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنهم اليهود ، والنصارى { جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ } جزءوه أجزاء ، فآمنوا بما وافق التَّوراة ، وكفروا بالباقي .
وقال مجاهد : قسموا كتاب الله تعالى ففرقوه ، وبدلوه .
وقيل : قسَّموا القرآن ، وقال بعضهم : سحر ، وقال بعضهم : شعر ، وقال بعضهم : كذبٌ ، وقال بعضهم : ِأساطير الأولين .
وقيل : الاقتسام هو أنهم فرَّقوا القول في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم : شاعرٌ ، وقال بعضهم : كاهنٌ .
قوله : { الذين جَعَلُواْ } فيه أوجه :
أظهرها : أنه نعت ل « المٌقْتَسمِينَ » .
الثاني : أنه بدلٌ منه .
الثالث : أنه بيانٌ .
الرابع : أنه منصوبٌ على الذَّمِّ .
الخامس : أنه خبر مبتدأ مضمرٍ .
السادس : أنه منصوب ب « النَّذيرُ المبِينُ » كما قاله الزمخشريُّ .
وهو مردود بإعمال الوصف بالموصوف عند البصريين كما تقدَّم .
و « عِضِينَ » جمع عِضَة ، وهي الفرقة ، والعِضِين : الفِرَق ، وتقدم معنى جعله القرآن كذلك ، ومعنى العِضَة : السِّحر بلغة قريش ، يقولون : هو عَاضهُ ، وهي عَاضِهَة ، قال : [ المتقارب ]
3292
أعُودذُ بِربِّي مِنَ النِّافِثَاتِ ... في عٌقَدِ العَاضِهِ المُعْضهِ
وفي الحديث : « لَعنَ اللهُ العَاضِهةً والمُسْتعضِهَة » ، أي السَّاحربة ، والمسُتسْحِرَة وقيل : هو من العضه ، وهو : الكذب ، والبهتان ، يقال : عَضَهُ عَضْهَاً ، وعضيهةً ، أي : رماه بالهتان ، وهذا قول الكسائي رحمه الله تعالى .
وقيل : هو من العِضَاه ، وهو شجر له شوكٌ مؤذٍ ، قاله الفرَّاء .
وفي لام « عِضَة » قولان يشهد لكلِّ منهنما التصريف :
الاول : الواو ، لقولهم : عِضَوات ، وعَاضَة ، وعَاضِهَة ، وعِضَة ، وفي الحديث « لا تَعْضِية في مِيراثٍ » ، وفسِّر : بأ ، لا تفريق فيما يضر بالورثة تفريقه كسيفٍ يكسر نصفين فينقص ثمنه .
وقال الزمخشريُّ : « عِضِينَ » : أجزاء ، جمع عِضَة ، وأصلها عِضْوَة ، فعلة من عضَّى الشاة ، إذا جعلها أعضاءِ؛ قال : [ الزاجر ]
3293
وليْسَ دِينُ اللهِ بالمُعَضَّى ... وجمع « عِضَة » على « عِضِين » ، كما جمع سنة ، وثبة ، وظبة وبعضهم يجري النون بالحركات مع التاء ، وقد تقدم تقرير ذلك ، وحينئذ تثبت نوه في الإضافة ، فيقال : هذه عضينك .
وقيل : واحد العِضِين : عِضَةٌ ، وأصلها : عِضْهَةٌ ، فاستثقلوا الجمع بين هاتين ، فقالوا : عِضَةٌ ، كما قالوا : شَفَةٌ ، والأصل : شَفْهَةٌ ، بدليل قولهم : شافهنا .
قوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } يحتمل أن يعود الضمير إلى المقتسمين؛ لأن الأقرب ، ويحتمل أن يعود إلى جميع المكلفين ، لأنَّ ذكرهم تقدَّم في قوله تعالى : { وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين } أي : لجميع [ الخلائق ] .
{
عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } قال القرطبي : في البخاري : قال عدَّة من أهل العلم في وقوله تعالى : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } عن لا إله إلا الله .
فإن قيل : كيف الجمع بين قوله تعالى : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } وبين قوله : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ }
[
الرحمن : 39 ] .
فأجابوا بوجوه :
أولها : قال ابن عباس رضي الله عنهما : لا يسألون سؤال استفهامٍ؛ لأنه تعالى عالم بكلِّ أعمالهم ، بل سؤال تقريع ، فيقال لهم : لم فعلتم كذا؟ .
وهذا ضعيد؛ لأنه لو كان المراد من قوله : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ } [ الرحمن : 39 ] سؤال استفهام ، لما كان في تخصيص هذا النفي بقولهم « يَومئِذٍ » فائدة؛ لأنَّ مثل هذا السؤال على الله محالٌ في كلِّ الأوقات .
وثانيها : أنه يصرف للنفي إلى بعض الأوقات ، والإثبات إلى وقت آخر؛ لأنَّ يوم القيامة ، يوم طويل ، وفيه مواقف يسألون في بعضها ، ولا يسألون في بعضها ، قاله عكرمة عن ابن عباس ونظيره قوله تعالى : { هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ } [ المرسلات : 35 ] ، وقال في آية أخرى : { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } [ الزمر : 31 ] .
ولقائلٍ ِأن يقوله : قوله : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ } [ الرحمن : 39 ] الآية : تصريحٌ بأنه لايحصل السؤال في ذلك اليوم ، فلو حصل السؤال في جزء من أجزاء اليوم ، لحصل التَّناقض .
وثالثها : أن قوله : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ } [ الرحمن : 39 ] تفيد الآية النَّفي ، وفي قوله { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ } يعود إلى المقتسمين ، وهذا خاص فيقدم على العام .
قوله : { فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } أصل الصَّدع : الشَّقُّ ، صدعته فانصدع ، أي : شَقَقتهُ ، فانْشَقّ .
قال ابن السكِّيت : الصَّدعُ في اللغة : الشَّقٌّ ، والفصل؛ وانشد لجرير : [ البسيط ]
3294
هذَا الخَليفَةُ فارضَوْا ما قَضَى لَكُمُ ... بالحَقِّ يَصْدعُ ما فِي قَولهِ جَنَفُ
ومنه التفرقة أيضاً؛ كقوله : { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } [ الروم : 43 ] وقال : [ الوافر ]
3295 . ...
كَأنَّ بَياضَ غُرَّتهِ صَدِيعُ
والصَّديعُ : ضوءُ الفجر لانشقاقِ الظُّلمةِ عنه ، يقال : انْصدعَ ، وانْفلقَ ، وانْفجرَ ، وانْفطرَ الصُّبحُ ، ومعنى « فَاصدَعْ » فرق بني الحقِّ والباطلِ وافْصِلْ بينهما .
وقال الراغب : الصَّدعُ : الشقُّ في الأجسام الصَّلبةِ كالزجاج ، والحديد ، وصدّعته بالتشديد ، فتصدع وصَدعتهُ بالتخفيف ، فانْصَدعَ ، وصَدْعُ الرأس لتوهُّم الانشقاق فيه ، وصدع الفلاة ، أي : قطعها ، من ذلك ، كأنَّه تونهم تفريقها .
ومعنى « فاصْدَعُ » اقل ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه : أظهر .
وقال الضحاك : أعلم . وقال الأخفش : فرِّق بين الحقِّ والباطل ، وقال سيبويه : اقْضِ .
و « مَا » في قوله « بِمَا تُؤمَرُ » مصدرية ، أو بمعنى الذي ، والأصل تؤمر به ، وهذا الفعل يطرد حذف الجار معه ، فحذف العائد فيصح ، وليس هو كقولك : جَاءَ الذي مررتُ ، ونحوه : [ البسيط ]
3296
أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ ما أمِرْتَ بِهِ .. . . .
والأصل : بالخَيْرِ .
وقال الزمخشريُّ : « ويجوز أن تكون » مَا « مصدرية ، أي : بأمرك مصدر مبنيّ للمعفول » انتهى .
وهو كلامٌ صحيحٌ ، والمعنى : فاصدع بأمرك ، وشأنك .
قالوا : وما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفياً حتى نزلت هذه الآية .
ونقل أبو حيَّان عنه أنه قال : ويجوز أن يكون المصدر يراد به « أنْ » ، والفعل المبني للمفعول .
ثم قال أبو حيان : « والصحيح أنَّ ذلك لا يجوز » . قال شهابُ الدين : الخلاف إنَّما هو في المصدر ، والمصرح به هل يجوز أن ينحل بحرف مصدري ، وفعل مبني للمفعول أم لا يجوز .
خلاف المشهور ، أمَّا أنَّ الحرف المصدري هل يجوز فيه أن يوصل بعفلٍ مبني للمفعولٍ ، نحو : يعجبني أن يكرم عمرو أم لا يجوز؟ فليس محل النِّزاع .
ثم قال تعالى : { وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين } ، أي لا تبال عنهم ، ولا تلتفت إلى لومهم إيَّاك على إظهار الدَّعوة .
قال بعضهم : هذا منسوخٌ بآية القتال ، وهو ضعيف؛ لأنَّ معنى هذا الإعراض ترك المبالاة ، فلا يكون منسوخاً .
قوله : { إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين } يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم { فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } ، ولا تخف أحداً غير الله ، فإن الله كافيك ِأعداءك كما كفاك المستهزيئن ، وهم خمسة نفرٍ من رؤساء قريش : الوليد بن المغيرة المخزوميُّ ، وكان رأسهم ، والعاص بن وائلٍ [ السهمي ] ، والأسود بن عبدالمطلب بن الحارث بن أسد بن عبدالعزى أبو زمعة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا عليه ، فقال : « اللَّهُمَّ أعْمِ بصَرهُ ، وأثْكلهُ بِولَدهِ » ، والأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد منافٍ بن زهرة ، والحررث بن قيس بن الطلالة؛ فأتى جبريل محمداً صلى الله عليه وسلم والمستهزءون يطوفون بالبيت ، فقام جبريل صلوات الله وسلامه عليه وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ، فمرّ به الوليد بن المغعيرة ، فقال جبريل عليه السلام : يا محمد : كيف تجدُ هذا؟ قال : « بئس عبدالله » قال : قد كَفَيْتُكَه ، وأؤْمَأ إلى ساق الوليد ، فمرَّ برجلِ من خزاعة نبَّال يَرِيشُ نَبْلاً ، وعليه برد يمان ، وهو يهز إزاره ، فتعلَّقت شظية نبلٍ بإزاره ، فمنعه الكبرُ أن يتطامن ، فينزعها ، وجعلت تضربُ ساقه؛ فخدشته فمرض منها حتَّى مات . ومرَّ به العاس بن وائلٍ ، فقال جبريلُ : كيف تجد هذا يا محمد؟ قال : بِئْسَ عبد الله ، فأشار جبريل عليه السلام إلى أخْمَصِ رجليه ، وقال : قد كفيتكه ، فخرج على راحلته ، ومعه ابنان له يتنزَّه؛ فنزل شِعْباً من تلك الشِّعاب ، فوطىء على شبرقة ، فدخلت شوكة في أخمص رجله ، فقال : لُدِغْتُ لُدِغْتُ؛ فطلبوا ، فلم يجدوا شيئاً ، وانتفخت رجله حتى صارت مثل عنق البعير ، فمات مكانه .
ومرّ به مربد بن الأسود بن المطلب ، فقال جبريل : كيف تجدُ هذا يا محمَّد؟ قال : « عَبْدُ سوءٍ » ، فأشار بيده إلى عينيه ، وقال : قد كَفَيْتُكَهُ ، فعمي .
قال ابن عباس رضي الله عنه : رماه جبريل بورقةٍ خضراء؛ فذهب بصره ، ووجعت عينه ، فجعل يضرب برأسه الجدار حتَّى هلك ، ومرَّ به الأسود بن عبد يغوث ، فقال جبريل عليه السلام : كَيْفَ تَجِدُ هذا يا محمد؟ قال : بئس عبدالله على أنه [ ابن ] خالي ، فقال جبريل عليه الصلاة والسلام : قد كفيتكه فأشار إلى بطنه فاستسقى فمات ، ومرَّ به الحارث بن قيسٍ ، فقال جبريل عليه السلام كيف تجد هذا يا محمَّد؟ صلوات الله وسلامه عليك ، قال : عَبدُ سُوءٍ فأومأ ، فامتخط قيحاً؛ فمات .
قيل : استهزاؤهم ، وااقتسامهم أنَّ الله تعالى لمّا أنزل في القرآنِ سورة البقرةِ ، وسرة النحل ، وسورة العنكبوت ، كانوا يجتمعون ، ويقولون استهزاء ، يقول هذا إلى سورة البقرة ، ويقول هذا إلى سورة النحل ، ويقول هذا إلى سورة العنكبوت فأنزل الله تعالى : { نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : فصلّ بأمر ربك : « وكُنْ مِنَ السَّاجدِينَ » المصلين [ المتواضعين ] .
قال بان العربي « ظنَّ بعضه الناس أنَّش المراد هنا بالسجود نفسه ، فرأى هذا الموضع محل سجود في القرآن ، وقد شاهدت الإمام بمحراب زكريا من البيت المقدس ظهره الله تعالى يسجدُ في هذا الموضع ، وسجدت معه فيها ، ولم يره [ جماهير ] العلماء » .
قال [ القرطبي ] ، وقد ذكر أبو بكر النقاش أنَّ ههنا سجدة عند أبي حذيفة رضي الله عنه ويمان بن رئاب ، ورأى أنها واجبة ، قال العلماء : إذا أنزل بالعبد بعض المكاره فزع إلى [ الطاعات ] وروي أن رسول الله صلى لله عليه وسلم « كَانَ إذا حَزبه أمْرٌ فَزع إلى الصَّلاةِ » .
{
واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين } قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما : يريد الموت؛ لأنه أمر متيقن .
فإن قيل : فأيُّ فائدة لهذا التَّوقيت مع أنَّ كلَّ واجد يعلم أنه إذا مات سقطت عنه العبادات؟ .
فالجواب : المراد : « واعبد ربَّك » في جميع زمان حياتك ، ولا تخل لحظة من لحظات الحياة من العبادة .
روى أبيُّ بن كعب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ سُورة الحِجْرِ كان لَهُ مِنَ الأجْرِ عَشْرُ حَسناتٍ بِعدَدِ المُهَاجرِينَ والأنصَارِ والمُسْتَهزِئينَ بمُحمَّدٍ » صلى الله عليه وسلّم وشرَّف ، وبجَّل ، ومجَّد ، وعظَّم .
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
قوله : { أتى أَمْرُ الله } في « أتَى » وجهان :
أشهرهما : أنه ماضٍ لفظاً مستقبل معنى ، إذ المراد به يوم القيامة ، وإنَّما أبرز في صورة ما وقع وانقضى تحقيقاً له ولصدق المخبر به .
والثاني : أنَّه على بابه .
والمراد به مقدماته وأوائله ، وهو نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي : جاء أمر الله ودنا وقرب .
وقال ابن عرفة : « تقول العرب : أتاك الأمرُ وهو متوقَّع بعد أي : أتى امر الله وعداً فلا تستعجلوه وقوعاً » .
وقال قومٌ : المراد بالأمر ههنا عقوبة المكذِّبين والعذاب بالسيف وذلك أنَّ النَّصر بن الحارث قال : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء } [ الأنفال : 32 ] فاستعجل العذاب فنزلت هذه الآية ، وقتل النضر يوم بدر صبراً .
وقال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما- : قوله تعالى : { اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] قال الكفار بعضهم لبعض : إنَّ هذا يزعمُ أنَّ القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتَّى [ ننظر ] ما هو كائن ، فلما لم ينزل ، قالوا : ما نرى شيئاً ، [ فنزل قوله تعالى ] { اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ } [ الأنبياء : 1 ] فأشفقوا ، فلما امتدَّت الأيام ، قالوا : يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوِّفنا به ، فنزل قوله تعالى { أتى أَمْرُ الله } فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رءوسهم وظنُّوا أنها قد أتت حقيقة ، فنزل قوله { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } فاطمأنُّوا .
والاستعجال : طلب الشيء قبل حينه . واعلم أنَّه - صلوات الله وسلامه عليه - لمَّا كثر تهديده بعذاب الدنيا والآخرة ولم يروا شيئاً نسبوه إلى الكذب فأجابهم الله - تعالى - بقوله { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } وتقرير هذا الجواب من وجهين :
أحدهما : أنه وإن لم يأتِ العذاب ذلك الوقت إلاَّ أنه واجب الوقوعِ ، والشيءُ إذا كان بهذه الحالة والصِّفة فإنه يقال في الكلام المعتاد : إنه قد أتى ووقع إجراء لما يجب وقوعه مجرى الواقع ، يقال لمن طلب الإغاثة وقرب حصولها جاء الفوت .
والثاني : أن يقال : إنَّ أمر الله بذلك وحكمه قد أتى وحصل ووقع ، فأمَّا المحكوم به فإنَّما لم يقع ، لأنَّ الله - تعالى - حكم بوقوعه في وقتٍ معينٍ فلا يخرج إلى الوجود قبل مجيء ذلك الوقت ، والمعنى : أن أمر الله وحكمه بنزولِ العذاب قد وجد من الأزلِ إلى الأبدِ إلاَّ أنَّ المحكومَ إنَّما لم يحصل ، لأنَّه - تعالى - خصَّص حصوله بوقتٍ معيَّنٍ { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } قبل وقته ، فكأنَّ الكفار قالوا : سلَّمنا لك يا محمد صحة ما تقول : من أنَّه - تعالى - حكم بإنزال العذاب علينا إمَّا في الدنيا وإمَّا في الآخرة ، إلاَّ أنا نعبد هذه الأصنام لتشفع لنا عند الله فنتخلص من العذاب المحكوم به فأجابهم الله - تعالى - بقوله { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
قوله : { عَمَّا يُشْرِكُونَ } يجوز أن تكون « ما » مصدرية فلا عائد لها عند الجمهور أي : عن إشراكهم به غيره ، وأن تكون موصولة اسمية .
وقرأ العامة { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } بالتاء خطاباً للمؤمنين أو للكافرين وقرأ ابن جبير بالياء من تحت عائداً على الكفار أو على المؤمنين .
وقرأ الأخوان « تُشْرِكُونَ » بتاء الخطاب جرياُ على الخطاب في « تَسْتَعْجِلُوهُ » والباقون بالياء عوداً على الكفار ، وقرأ الأعمش وطلحة والجحدري وجم غفير بالتاء من فوق في الفعلين .
قوله { يُنَزِّلُ الملاائكة } قد تقدم الخلاف في « يُنَزِّلُ » بالنسبة إلى التشديد والتخفيف في البقرة .
وقرأ زيد بن عليٍّ والأعمش وأبو بكر عن عاصم « تُنَزَّلُ » [ مشدداً ] مبنيًّا للمفعول وبالتاء من فوق . « المَلائِكَةُ » رفعاً لقيامه مقام الفاعل ، وقرأ الجحدري : كذلك إلا أنه خفَّف الزَّاي .
وقرأ الحسن ، والأعرج ، وأبو العالية - رحمهم الله - عن عاصم بتاء واحدة من فوق ، وتشديد الزاي مبنياً للفاعل ، والأصل تتنزل بتاءين .
وقرأ ابن أبي عبلة : « نُنَزِّلُ » بنونين وتشديد الزَّاي « المَلائِكةَ » نصباً ، وقتادة كذلك إلاَّ أنَّه بالتخفيف .
قال ابن عطية : « وفيهما شذوذٌ كبيرٌ » ولم يبين وجه ذلك .
ووجهه أنَّ ما قبله وما بعده ضمير غائبٌ ، وتخريجه على الالتفات .
قوله : « بِالرُّوحِ » يجوز أن يكون متعلقاً بنفس الإنزالِ ، وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من الملائكة ، أي : ومعهم الروحُ .
قوله « مِنْ أمْرهِ » حال من الروح ، و « مِنْ » إمَّا لبيانِ الجنس ، وإما للتبعيض .
قوله « أنْ أنْذِرُوا » في « أنْ » ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنَّها المفسرة؛ لأن الوحي فيه ضرب من [ القول ] ، والإنزال بالروح عبارةٌ عن الوحي؛ قال تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] وقال : { يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [ غافر : 15 ] .
الثاني : أنها المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن محذوف ، تقديره : أنَّ الشأن أقول لكم : أنه لا إله إلا أنا ، قاله الزمخشري .
الثالث : أنها المصدرية التي من شأنها نصب المضارع ، ووصلت بالأمر؛ كقولهم : كتبت إليه بأن قُمْ ، وتقدم البحث فيه .
فإن قلنا : إنَّها المفسرة فلا محلَّ لها ، وإن قلنا : إنها المخففة ، أو الناصبة ففي محلّها ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنَّها مجرورة المحل بدلاً من « الرُّوحِ » لأنَّ التوحيد روحٌ تحيا به النفوس .
الثاني : أنَّها في محل جرٍّ على إسقاطِ الخافض؛ كما هو مذهب الخليل .
الثالث : أنَّها في محلِّ نصبٍ على إسقاطه؛ وهو مذهب سيبويه .
والأصل : بأن أنذروا؛ فلما حذف الجار جرى الخلاف المشهور .
قوله : { أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ } هو مفعول الإنذار ، والإنذار قد يكون بمعنى الإعلام؛ يقال : أنْذرتهُ ، وأنْذَرتهُ بكذا ، أي : أعلموهم بالتوحيد .
وقوله : « فاتَّقُونِ » التفاتٌ إلى التكلم بعد الغيبة .
فصل
وجه النَّظم : أنَّ الله - تعالى - لما أجاب الكفار عن شبهتهم؛ تنزيهاً لنفسه - سبحانه وتعالى - عما يشركون؛ فكأنَّ الكفار قالوا : هب أنَّ الله قضى على بعض عبيده بالشرّ ، وعلى آخرين بالخير ، ولكن كيف يمكنك أن تعرف هذه الأمور التي لا يعلمها إلا الله؟ وكيف صرت بحيث تعرف أسرار الله وأحكامه في ملكه وملكوته؟ .
فأجاب الله - تعالى - بقوله : { يُنَزِّلُ الملاائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أنذروا أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ فاتقون } وتقرير هذا الجواب : أنَّه - تعالى - ينزل الملائكة على من يشاء من عباده ، ويأمر ذلك العبد أن يبلغ إلى سائر الخلق أن إله الخلق كلفهم بالتوحيد ، وبالعبادة ، وبين لهم أنَّهم إن فعلوا ، فازوا بخيرِ الدنيا والآخرة ، فهذا الطريق ضربٌ مخصوصٌ بهذه المعارف من دون سائر الخلق .
فصل
روى عطاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : يريد ب « المَلائِكة » جبريل وحده .
وقال الواحديُّ : يسمَّى الواحد بالجمع؛ إذا كان ذلك الواحد رئيساً مقدَّماً جائز ، كقوله تعالى : { إِنَّآ أَرْسَلْنَا } [ القمر : 19 ] ، و { إنَّآ أَنزَلْنَا } [ النساء : 105 ] ، و { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا } [ الحجر : 9 ] .
والمراد بالروح الوحي كما تقدم ، وقيل : المراد بالروح هنا النبوة ، وقال قتادة رحمه الله تعالى : الرحمة ، وقال أبو عبيدة : إنَّ الروح ههنا جبريل عليه السلام .
والباءُ في قوله « بِالرُّوحِ » بمعنى « مع » كقولهم : « خَرجَ فلانٌ بِثيَابهِ » أي : ومعه ثيابهُ .
والمعنى : نُنزِّلُ الملائكة مع الروح؛ وهو جبريل ، وتقرير هذا الوجه : أنَّه - تعالى - ما أنزل على محمدٍ - صلوات الله وسلامه عليه - جبريل وحدهُ في أكثر الحوالِ؛ بل كان يُنزِّلُ مع جبريل - عليه السلام - أقواماً من الملائكة؛ كما في يوم بدرٍ ، وفي كثيرٍ من الغزواتِ ، وكان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تارة ملك الجبال ، وتارة ملك البحار ، وتارة رضوان ، وتارة غيرهم .
وقوله « مِنْ أمْرهِ » أي أنَّ ذلك النُّزُولَ لا يكون إلا بأمر الله؛ كقوله : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } [ مريم : 64 ] وقوله تعالى : { وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [ الأنبياء : 27 ] ، وقوله : { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] .
وقوله : { على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } يريد الأنبياء المخصوصين برسالته : « أنْ أنْذِرُوا » قال الزجاج : « أنْ » بدلٌ من « الرُّوحِ » .
والمعنى : ينزِّل الملائكة بأن أنذروا ، أي : أعلموا الخلائق ، أنَّه لا إله إلا أنا ، والإنذار هو الإعلامُ مع التخويف .
«
فاتَّقُون » فخافون . يروى أن جبريل - صلوات الله وسلامه عليه - نزل على آدم - عليه الصلاة والسلام - اثنتي عشرة مرة ، وعلى إدريس أربع مراتٍ ، وعلى نوح - عليه الصلاة والسلام - خمسين مرَّة ، وعلى إبراهيم اثنتين وأربعين مرة وعلى موسى أربع مرات ، وعلى عيسى عشر مراتٍ ، وعلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم وعلى سائر الأنبياء أربعة وعشرين ألف مرَّةٍ .
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
قوله : { خَلَقَ السماوات والأرض بالحق تعالى } ارتفع { عَمَّا يُشْرِكُونَ } اعلم أنَّ دلائل الإلهيات وقعت في القرآن على نوعين :
أحدهما : أن يتمسَّك بالأظهر مترقياً إلى الأخفى ، فالأخفى كما ذكره في سورة البقرة في قوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ } [ البقرة : 21 ] فجعل تغير أحوال الإنسان دليلاً على احتياجه إلى الخالق .
ثم استدل بتغير أحوال الآباءِ ، والأمهاتِ؛ قال تعالى : { والذين مِن قَبْلِكُمْ } [ البقرة : 21 ] .
ثم استدلَّ بأحوال الأرض؛ فقال تعالى : { الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً } [ البقرة : 22 ] لأن الأرض أقرب إلينا من السماء .
ثُمَّ استدلَّ بأحوال السماء بعد الأرض؛ فقال تعالى : { والسماء بِنَآءً } [ البقرة : 22 ] .
ثم استدلَّ بالأحوال المتولدة من تركيب السماء ، والأرض؛ فقال سبحانه : { وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ } [ البقرة : 22 ] .
النوع الثاني : أن يستدل بالأشرف ، فالأشرف نازلاً إلى [ الأدون فالأدون ] ؛ كما ذكر في هذه الآية ، فاستدل على وجود الإله المختار بذكر الأجرام الفلكية العلوية ، فقال : { خَلَقَ السماوات والأرض بالحق تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } وقد تقدم الكلام على الاستدلال بذلك أول الأنعام ، ثم استدل ثانياً بخلق الإنسان ، فقال عز وجل : { خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } .
واعلم أنَّ أشرف الأجسام بعد الأفلاكِ والكواكبِ هو الإنسانُ .
وعلمْ أنَّ الإنسان مركبٌ من بدنٍ ونفسٍ ، فقوله تعالى : { خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ } إشارةٌ إلى الاستدلال ببدنه على وجود الصانع الحكيم سبحانه .
وقوله عز وجل : { خَصِيمٌ مُّبِينٌ } إشارة إلى الاستدلال بأحوال نفسه على الصانع الحكيم جل ذكره ، أمَّا الاستدلال ببدنه فإنه النطفة متشابهة الأجزاءِ بحسب المشاهدة؛ إلاَّ أنَّ بعض الأطباءِ يقول : إنه مختلف الأجزاءِ في الحقيقة؛ لأنَّ النطفة تتولد من فضلة الهضم .
الثالث : أنَّ الغذاء يحصل له : في المعدةِ هضم أولٌ ، وفي الكبد هضمٌ ثانٍ ، وفي العروق هضم ثالثٌ ، وعند وضوله إلى جواهر الأعضاء هضم رابعٌ .
ففي هذا الوقت حصل بعض أجزاءِ الغذاء إلى العظمِ ، وظهر فيه أثرٌ من [ الطبيعة ] العظيمة ، وكذا يقول في اللحمِ والعصبِ والعروقِ ، و غيرها .
ثم عند استيلاء الحرارة على البدن عند هيجان الشَّهوة ويحصل ذوبان من جملة ذلك الأعضاء؛ وذلك هو النطفة ، وعلى هذا التقدير تكون النطفة جسماً مختلف الأجزاء والطبائع .
وإذا عُرف هذا ، فالنطفةُ : إمَّا أن تكون جسماً متساوي الأجزاءِ في الطبيعةِ ، والماهيةِ ، أو مختلف الأجزاءِ ، فإن كان الأول لم يجز أن يكون المقتضي لتوليدِ البدن منها هو الطبيعة الحاصلة في جوهر النطفة ودمِ الطَّمثِ؛ لأنَّ الطبيعة تأثيرها بالذات والإيجاب لا بالتدبير والاختيار ، والقوة الطبيعية إذَا عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون فعلها هو الكره .
وعلى هذا الحرف عوَّلوا في قولهم : البَسائطُ يجب أن يكون شكلها الكرة؛ وحيث لم يكن الأمر كذلك؛ علمنا أنَّ المقتضي لحدوث الأبدان الحيوانية ليس هو الطبيعة؛ بل فاعل مختار ، وهو يخلق بالتَّدبير ، والحكمة ، والاختيار ، وإن قلنا : إنَّ النطفة جسمٌ مركبٌ من أجزاء مختلفة في الطبيعةِ والماهيةِ ، فنقول : بتقدير أن يكون الأمر كذلك ، فإنه يجب أن يكون تولد البدنِ منها تدبير فاعل مختار حكيم ، وبيانه من وجهين :
الأول : أن النطفة رطوبة سريعة الاستحالة ، وإذا كان كذلك؛ كانت الأجزاء الموجودة فيها لا تحفظ الوضع والنسبة ، فالجزء الذي هو مادة الدماغ قد يصير أسفل ، والجزء الذي هو مادة القلب قد يحصل فوقُ ، وإذا كان كذلك وجب اختلاف أعضاءِ الحيوان وحيث لم يكن الأمر كذلك وجب أن لا تكون أعضاء الحيوانِ على هذا الترتيب المعيَّن أمراً دائماً؛ علمنا أنَّ حدوث هذه الأعضاء على هذا الترتيب الخاصِّ ليس إلا بتدبير الفاعل المختار .
الوجه الثاني : أنَّ النطفة بتقدير أنَّها جسمٌ مركبٌ من أجسامٍ مختلفة الطبائع إلاَّ أنَّه يجب أن ينتهي تحليل تركيبها إلى آخر يكون كل واحدٍ منها في نفسه جسماً بسيطاً .
وإذا كان كذلك ، فلو كان المدبِّر لها قوة طبيعية لكان كل واحدٍ من تلك البسائطِ يجب أن يكون شكله هو الكرة فيلزم أن يكون الحيوان على شكل كراتٍ مضمومة بعضها إلى بعض .
وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أنَّ مدبِّر أبدان الحيوانات ليس هي الطبائع ، ولا تأثيرات النجوم والأفلاك ، لأنَّ تلك التأثيرات متشابهة؛ فعلمنا أنَّ مدبر أبدانِ الحيوانات فاعلٌ مختارٌ حكيمٌ .
قوله تعالى : { مِن نُّطْفَةٍ } متعلق ب « خَلَقَ » و « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ .
والنُّطفَةُ : القطرة من الماءِ؛ نطَفَ رَأسهُ مَاءً ، أي : قطر ، وقيل : هي الماء الصافي ، ويعبر بها عن ماءِ الرجل ، ويكنى بها عن اللؤلؤةِ ، ومنه : صَبِي منَطَّفٌ إذا كان في أذنه لؤلؤة ، ويقال : ليلةٌ نطوفٌ إذا جاء فيها المطر ، والنَّاطفُ : ما سال من المائعات يقال : نَطَفَ يَنطفُ ، أي : سال فهو نَاطِف ، وفلانٌ يُنْطَفُ بسُوءٍ .
قوله : { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ } عطف هذه الجملة على ما قبلها ، فإن قيل : الفاءُ تدل على التعقيب ، ولا سيَّما وقد وجد معها « إذا » التي تقتضي المفاجأة ، وكونه خصيماً مبيناً لم يعقب خلقه من نطفةٍ ، إنما توسَّطتْ بينهما وسائطُ كثيرةٌ .
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أنه من باب التعبير عن حال الشيء بما يؤولُ إليه ، كقوله تعالى : { أَعْصِرُ خَمْراً } [ يوسف : 36 ] .
والثاني : أنه أشار بذلك إلى سرعة نسيانهم مبدأ خلقهم .
وقيل : ثمَّ وسائط محذوفة .
والذي يظهر أن قوله « خَلقَ » عبارة عن إيجاده ، وتربيته إلى أن يبلغ حدَّ هاتين الصفتين .
و « خَصِيمٌ » : فعيلٌ مثالُ مبالغةٍ من خَصِمَ بمعنى اخْتَصَمَ ، ويجوز أن يكون بمعنى مخاصم ، كالخَليطِ والجَليسِ ، ومعنى « خَصِيمٌ » جدولٌ بالبَاطلِ .
فصل
اعلم أنَّه - سبحانه وتعالى - إنَّما يخلق الإنسان من نطفة بواسطة تغيراتٍ كثيرةٍ مذكورة في قوله :
{
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] الآيات إلاَّ أنِّه - تعالى - اختصرها ها هنا استغناء بذكرها هناك .
قال الواحديُّ رحمه الله : الخصيمُ بمعنى المخاصم . وقال أهل اللغة : خصِيمُكَ الذي يُخاصِمُك ، وفعيل بمعنى مفاعل معروف ، كالنَّسيبِ والعَشيرِ .
ووجه الاستدلال بكونه خصيماً على وجود الإله المدبِّر الحكيم : أنَّ [ النفوس ] الإنسانيَّة في أولِ الفطرة أقلُ فهماً وذكاةءً من نفوس سائر الحيوانات؛ ألا ترى أنَّ ولد الدجاجة حالما يخرج من قشر البيضةِ يميِّزُ التصديق والعدوَّ ، ويهرب من الهرَّةِ ، ويلتجيءُ إلى الأمِّ ويميزُ الغذاء الموافق ، والغذاء الذي لم يوافق .
وأمَّا ولد الإنسان فإنَّه حال انفصاله من بطنِ الأمِّ لا يميزُ البتَّة بين العدوِّ والصديق ولا بين الضارِّ والنافع ، فظهر أن الإنسان في أولِ الفطرة أقلُ فهماً وذكاءً من نفوس سائر الحيوانات؛ ألا ترى أنَّ ولد الدجاجة حالما يخرج من قشر البيضةِ يميِّزُ الصديق والعدوَّ ، ويهرب من الهرَّةِ ، ويلتجئُ إلى الأمِّ ويميزُ الغذاء الموافق ، والغذاء الذي لم يوافق .
وأمَّا ولد الإنسان فإنَّه حال انفصاله من بطنِ الأمِّ لا يميزُ البتَّة بين العدوِّ والصديق ولا بين الضارِّ والنافع ، فظهر أنَّ الإنسان في أول الحدوثِ أنقص حالاً ، وأقلُّ فطنة من سائر الحيوانات .
ثم إنَّ الإنسان بعد كبره يقوى عقله ويعظم فهمه ، ويصير بحيث يقوى على مساحة السماوات والأرض ، وقوى على معرفة الله - عزَّ وجلَّ - وصفاته ، وعلى معرفة أصناف المخلوقات من الأرواح والأجسام والفلكيات والعنصريات ، ويقوى على إيراد الشبهات القوية في دين الله - تعالى - والخصومات الشديدة في كل المطالب ، فانتقال نفس الإنسان من تلك البلادة المفرطة إلى هذه الكياسة المفرطة لا بدَّ وأن يكون بتدبير مدبر مختارٍ حكيم بنقل الأرواحِ من نقصانها إلى كمالاتها ، ومن جهالاتها غلى معارفها بحسب الحكمةِ والاختيارِ فهذا هو المراد من قوله تعالى : { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } .
الأول : أنه يجادل عن نفسه منازعاً للخصوم بعد أن كان نطفة قذرة وجماداً ، لا حسَّ فيه ولا حركة ، والمقصود منه أنَّ الانتقال من تلك الحالةِ الخسيسة إلى هذه الحالةِ العالية الشريفة لا يحصل إلا بتدبير مدبرٍ حكيم .
والثاني : فإذا هو خصيمٌ لربِّه ، منكر على خالقه ، قائل : { مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ } [ يس : 78 ] والغرض وصف الإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل والتَّمادي في كفران النِّعمة .
كما نقل أنَّها نزلت في أبي بن خلفٍ الجمحي؛ وكان ينكر البعث جاء بعظمٍ رميمٍ ، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : أتقول إنَّ الله - تعالى - يحيي هذه بعدما قد رُمّ؟ .
والصحيح أنَّ الآية عامة؛ لأنَّ هذه الآيات ذكرت لتقرير الاستدلال على وجودِ الصَّانع الحكيم لا لتقرير وقاحةِ النَّاسِ وتماديهم في الكفر والكفران .
قوله تعالى : { والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ } الآية هذه الدلالة الثالثة؛ لأنَّ أشرف الأجساد الموجودة في العالم السفليِّ بعد الإنسان سائرُ الحيوانات لاختصاصها بالقوى الشريفة ، وهي الحواسُّ الظاهرة والباطنة والشهوةُ والغضب .
قوله : { والأنعام خَلَقَهَا } العامة على النصب ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه نصب على الاشتغال وهو أرجح من الرفع لتقدم جملة فعليَّة .
والثاني : أنه نصب على عطفه على « الإنْسانَ » ، قاله الزمخشريُّ ، وابن عطيَّة فيكن « خَلقَهَا » على هذا مؤكداً ، وعلى الأول مفسراً .
وقرئ شاذًّا « والأنْعَامُ » رفعاً وهي مرجوحةٌ .
قوله : { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } يجوز أن يتعلق « لكم » ب « خلقها » ، أي : لأجلكم ولمنافعكم ، ويكون « فيها » خبراً مقدماً ، و « دفء » مبتدأ مؤخرٌ ، ويجوز أن يكون « لَكُمْ » هو الخبر ، أو يكون حالاً من « دفء » قاله أبو البقاء .
وردَّه أبو حيَّان : بأنَّه إذا كان العاملُ في الحال معنويًّا ، فلا يتقدم على الجملة بأسرها ، ولا يجوز « قَائماً في الدَّارِ زيْدٌ » فإن تأخَّرت نحو « زَيْدٌ في الدَّارِ قَائِماً » جاز بلا خلافٍ ، أو توسَّطت بخلاف أجازه الأخفش ومنعه غيره .
ولقائل أن يقول : لما تقدم العامل فيها ، وهي معه جاز تقديمها عليه بحالها إلا أن نقول : لا يلزم من تقديمها وهو متأخر تقديمها عليه وهو متقدم لزيادة الفتح .
وقال أبو البقاء أيضاً : « ويجوز أن يرتفع » دِفْءٌ « ب » لَكُمْ « أو ب » فِيهَا « والجملة كلُّها حالٌ من الضمير المنصوب » .
قال أبو حيان « ولا يسمَّى جملة ، لأنَّ التقدير : خلقها كائنٌ لكم فيها دفءٌ ، أو خلقها لكم كائناً فيها دفءٌ » .
قال شهابُ الدِّين : « قد تقدم الخلاف في تقدير متعلق الجار إذا وقع حالاً أو صفة أو خبراص ، هل يقدر فعلاً أو اسماً ، ولعلَّ أبا البقاءِ نحا إلى الأول فتسميته له جملة صحيحٌ على هذا » .
والدِّفءُ : اسم لما يدفأ به ، أي : يسخنُ .
قال الأصمعيُّ : ويكون الدفءُ السخونة ، يقال : اقعد في دفء هذا الائط ، أي : في كنفه ، وجمعه أدفَاء ، ودَفِئَ يومنا فهو دَفيءٌ ، ودَفِئَ الرَّجُل يَدْفأ فهو دَفْآنُ ، وهي دَفْأى ، كَسَكْران ، وسَكْرَى .
والمُدفِّئَةُ بالتخفيف والتشديد ، الإبل الكثيرة الوبر الكثيرة الوبر والشَّحم ، وقيل : الدِّفْءُ : نِتاجُ الإبل وألبَانُهَا وما ينتفعُ به منها .
وقرأ زيد بن علي : « دِفٌ » بنقل حركة الهمزة إلى الفاءِ ، والزهريُّ : كذلك إلاَّ أنَّه شدَّد الفاء ، كأنَّه أجرى الوصل مجرى الوقف ، نحو قولهم : هذا فرخٌّ بالتشديد وقفاً .
وقال صاحب اللَّوامحِ : « ومنهم من يعوض من الهمزة فيشدِّد الفاء وهو أحد وجهي حمزة بن حبيبٍ وقفاً » .
قال شهابُ الدِّين : والتشديد وقفاً : لغة مستقلة وإن لم يكن ثمَّ حذف من الكلمة الموقوف عليها .
قوله « ومَنافِعُ » أراد النَّسْل ، والدَّرَّ ، والركوب ، والحملَ ، وغيرها ، فعبر عن هذا الوصف بالمنفعة؛ لأنَّه الأعمُّ ، والدر والنسل قد ينتفع به بالبيع بالنقودِ ، وقد ينتفع به بأن تبدَّل بالثياب ، وسائر الضَّرورياتِ ، فعبَّر عن جملة الأقسامِ بلفظ المنافع ليعمَّ الكل .
فصل
الحيوانات قسمان :
منها ما ينتفع به الإنسان ، ومنها ما لا يكون كذلك ، والقسم المنتفع به [ أفضل ] من الثاني ، والمنتفع به إمَّا أن ينتفع به الإنسان في ضروراته ، مثل الأكلِ واللبسِ أو في غير ضروراته ، والأول أشرف وهو الأنعام ، فلهذا يدأ بذكره فقال : { والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ } وهي عبارة عن الأزواج الثمانية ، وهي الضَّأنُ والمعز والبقر والإبل .
قال الواحديُّ : تمَّ الكلام عند قوله : { والأنعام خَلَقَهَا } ثم ابتدأ وقال : { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } .
قال صاحبُ النَّظم : أحسنُ الوجهين أن يكون الوقف عند قوله : « خَلَقَهَا » ؛ لأنه عطف عليه { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } والتقدير : لكم فيها دفءٌ ولكم فيها جمالٌ .
ولما ذكر الأنعام ، أتبعه بذكر المنافع المقصودة منها ، وهي إما ضرورية ، أو غير ضرورية ، فبدأ بذكر المنافع الضرورية؛ فقال : { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } وقد ذكر هذا المعنى في آية أخرى ، فقال سبحانه : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إلى حِينٍ } [ النحل : 80 ] .
والمعنى : ملابسُ ولحفاءُ يستدفئون بها ، ثم قال : « ومَنافِعُ » والمراد ما تقدم من نسلها ودرِّها .
ثم قال : { وَمِنْهَا تَكُلُونَ } ، « مِنْ » ها هنا لابتداء الغاية ، والتبعيض هنا ضعيفٌ .
قال الزمخشري : « فإن قلت : تقديم الظرف مؤذنٌ بالاختصاص ، وقد يؤكل من غيرها ، قلت : الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس ، وأمَّا غيرها من البط والدجاج ونحوها من الصَّيد ، فكغير المعتد به؛ بل جارٍ مجرى التَّفكُّهِ » .
قال ابن الخطيب : « ويحتمل أن غالب أطعمتكم منها؛ لأنَّكم تحرثون بالبقر ، والحب والثّمار التي تأكلونها ، وتكتسبون بها ، وأيضاً بإكراء الإبل وتبيعون نتاجها ، وألبانها ، وجلودها ، وتشترون بها جميع أطعمتكم » .
فإن قيل : منفعة الأكل مقدمة على منفعة اللَّبس ، فلم أخَّر منفعة الأكْلِ في الذكر؟ .
فالجواب : أنَّ الملبوس أكثر من المطعوم؛ فلهذا قدِّم عليه في الذِّكر فهذه المنافع الضرورية الحاصلة من الأنعام ، وأمَّا المنافع غير الضرورية الحاصلة من الأنعام فأمورٌ :
الأول : قوله { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } كقوله { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } .
و « حِينَ » منصوب بنفس « جمالٌ » أو بمحذوفٍ ، على أنه صفة له ، أو معمولٌ لما عمل في « فِيهَا » أو في « لَكُمْ » .
وقرأ عكرمة ، والضحاك ، والجحدري - رحمهم الله - : « حِيناً » بالتنوين؛ على أنَّ الجملة بعده صفة له ، والعائد محذوف ، أي : حيناً تريحون فيه وحيناً تسرحون فيه ، كقوله : { واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ } [ البقرة : 281 ] وقدِّمت الإراحة على [ السرح ] ؛ لأنَّ الأنعام فيها أجمل لملءِ بطونها وتحفُّل ضروعها ، بخلاف التسريح؛ فإنها عند خروجها إلى المرعى تخرج جائعة عادمة اللَّبن ثم تتفرق وتنتشر .
فصل
قد ورد الحين على أربعة أوجهٍ :
الأول : بمعنى الوقت كهذه الآية .
الثاني : نتهى الأجل ، قال : { وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ } [ يونس : 98 ] ، أي : إلى منتهى آجالهم .
الثالث : إلى ستة اشهر ، قال تعالى : { تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } [ إبراهيم : 25 ] .
الرابع : أربعون سنة ، قال تعالى : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر } [ الإنسان : 1 ] .
أي : أربعون سنة ، يعني آدم - صلوات الله وسلامه عليه - حين خلقه من طينٍ قبل أن ينفخ فيه الروح .
والجمالُ : مصدر جَمُلَ بضمِّ الميم يجمُل فهو جَمِيلٌ وهي جَمِيلةٌ ، وحكى الكسائي : جَمْلاء كحَمْرَاء؛ وأنشد : [ الرمل ]
3297-
فَهْيَ جَمْلاءُ كَبَذرٍ طَالعٍ ... بذَّتِ الخَلْقَ جَمِيعاً بالجَمالِ
ويقال أراح الماشية وهراحها بالهاء بدلاً من الهمزة ، وسرح الإبل يسرحها سرحاً ، أي : أرسلها ، وأصله أن يرسلها لترعى ، والسَّرحُ : شجرٌ له ثمرٌ ، الواحدة سرحةٌ ، قال أبيّ : [ الطويل ]
3298-
أبَى الله إلاَّ أنَّ سَرحَة مَالكٍ ... عَلي كُلِّ أفْنانِ العِضاهِ تَرُوقُ
وقال : [ الكامل ]
3299
أ- بَطلٌ كَأنَّ ثِيَابَهُ في سَرْحَةٍ ... يُحْذَى نِعَالَ السِّبْتِ ليْسَ بِتَوْءَمِ
ثم أطلق على كلِّ إرسالٍ ، واستعير أيضاً للطلاق ، يقال : سَرحَ فلانٌ امْرأتهُ كما استعير الطلاقُ أيضاً من إطلاق الإبل من عقلها ، واعتبر من السَّرح المضي فقيل : ناقة [ سرحٌ ] ، أي : سريعة ، وقيل : [ الكامل ]
3299
ب- سُرُحُ اليَديْنِ كَانَّهَا . . . .
وحذف مفعولي « تُرِيحُونَ وتَسْرَحُونَ » مراعاة للفواصل مع العلم بها .
فصل
الإراحةُ : ردُّ الإبل بالعشيّ إلى مراحها حيث تأوي إليه ليلاً ، وسرح القوم إبلهم سرحاً ، إذا أخرجوها بالغداة إلى المرعى .
قال أهل اللغة : هذه الإراحةُ أكثر ما تكون أيَّام الربيع إذا سقط الغيث ، وكثر الكلأُ ، وخرجت العرب للنّجعةِ ، وأحسن ما يكون النعمُ في ذلك الوقت .
ووجهُ التجملِ بها أنَّ الراعيَ إذا روحها بالعشيَّ وسرَّحها بالغداة تزينت عند تلك الإراحة والتسريح الأفنية ، وكثر فيها النفاء والرغاء ، وعظم وقعهم عند الناس لكونهم مالكين لها .
والمنفعة الثانية قوله : { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ } .
الأثقالُ : جمع ثِقَل ، وهو متاع السَّفر إلى بلدٍ . قال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما- : « يريد من مكة إلى [ المدينة ] والشام ومصر » .
وقال الواحديُّ - رحمه الله- : « والمراد كلُّ بلدٍ لو تكلفتم بلوغه على غير إبلٍ لشقَّ عليكم » .
وخصَّ ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - هذه البلاد لأنَّها متاجر أهل مكة .
قوله { لَّمْ تَكُونُواْ } صفة ل « بَلدٍ » ، و « إلاَّ بشقِّ » حال من الضمير المرفوع في « بَالغِيهِ » ، أي : لم تبلغوه إلا ملتبسين بالمشقةِ .
والعامة على كسر الشِّين . وقرأ أبو جعفر ورويت عن نافع ، وأبي عمرو بفتحها؛ فقيل : هما مصدران بمعنى واحد ، أي : المشقَّة فمن الكسرِ قول الشاعر : [ الطويل ]
3300-
رَأى إبلاً تَسْعَى ويَحْسِبُهَا لَهُ ... أخِي نَصبٍ مِنْ شِقِّهَا ودُءُوبِ
أي : من مشقّتها .
وقيل : المفتوح المصدر ، والمكسور الاسم .
وقيل : بالكسر نصف الشيء . وفي التفسير : إلاَّ بنصف أنفسكم ، كما تقول : لَمْ تَنلهُ إلا بقطعه من كيدك على المجاز .
فصل
أذا حملنا الشقَّ على المشقَّةِ كان المعنى : لم تكونوا بالغيه إلاَّ بالمشقَّة ، وإن حملناها على نصف الشيء كان المعنى : لم تكونوا بالغيه إلا عند ذهاب نصف قوتكم ونقصانها .
قال بعضهم : المراد من قوله تعالى { والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ } الإبل فقط ، لأنه وصفها في آخر الآية بقوله - عز وجل - { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ } وهذا لا يليق إلاَّ بالإبل فقط .
والجواب : أنَّ هذه الآيات وردت لتعديدِ منافع الأنعام ، فبعض تلك المنافع حاصل في الكلِّ ، وبعضها يختص بالبعض ، لأنَّ قوله تعالى : { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } حاصل في البقر والغنم أيضاً .
{
إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } بخلقه حيث جعل لهم هذه المنافع .
فصل
احتجَّ منكرو كرامات الأولياءِ بهذه الآية ، لأنَّ هذه الآية دلت على أنَّ الإنسان لا يمكنه الانتقال من بلدٍ إلى بلدٍ إلا بشقِّ الأنفس ، وحملِ الأثقالِ على [ الجمال ] ، فيكون الانتقال من بلدٍ إلى بلدٍ بعيدٍ في ليلةٍ واحدةٍ من غير تعبٍ ، وتحمُّل مشقة خلاف هذه الآية ، فيكون باطلاً .
ولمَّا بطل القول بالكرامات في هذه الصورة ، بطل القول بها في سائر الصُّورِ؛ لأنه لا قائل بالفرق .
والجواب : أنَّا نَخُصُّ هذه الآية بالأدلَّة الدالة على وقوع الكرامات .
قوله : { والخيل والبغال والحمير } العامة على نصبها؛ نسقاً على الأنعام ، وقرأ ابن أبي عبلة برفعها على الابتداء ، والخبر محذوف ، أي : مخلوقةٌ ومعدَّة لتركبوها ، وليس هذا ممَّا ناب فيه الجارُّ مناب الخبر لكونه كوناً خاصًّا .
قال القرطبي : « وسُمِّيت الخيل خيلاً لاختيالها في مشيها ، وواحد الخيل خائل ، كضَائن واحد ضأن . وقيل : لا واحد له ، ولما أفرد - سبحانه وتعالى - الخيل ، والبغال ، والحمير ، بالذكر؛ دلَّ على أنَّها لم تدخل في لفظ الأنعام . وقيل : دخلتْ؛ ولكن أفردها بالذكر لما يتعلق بها من الركوب ، فإنَّه يكثر في الخيل والبغال والحمير » .
قوله : « وَزِينَةً » في نصبها أوجهٌ :
أحدها : أنه مفعولٌ من أجله وإنَّما وصل الفعل إلى الأول باللام في قوله تعالى : { لِتَرْكَبُوهَا } وإلى هذا بنفسه لاختلاف الشَّرط في الأول ، وعدم اتحاد الفاعل ، وأنَّ الخالق الله والراكب المخاطبون .
الثاني : أنَّها منصوبة على الحال ، وصاحبُ الحال إمَّا مفعول « خَلَقَهَا » وإمَّا مفعول « لِترْكَبُوهَا » فهو مصدر ، وأقيم مقام الحالِ .
الثالث : أن ينتصب بإضمار فعلٍ ، فقدره الزمخشريُّ - رحمه الله - وخلقها زينة .
وقدره ابن عطيَّة وغيره : وجعلها زينةً .
الرابع : أنَّه مصدرٌ لفعلٍ محذوف أي : « ولتتَزيَّنُوا بِهَا زينةً » .
وقرأ قتادة عن ابن أبي عامر : « لتَرْكَبُوهَا زِينَةً » بغير واوٍ ، وفيها الأوجه المتقدمة؛ ويريد أن يكون حالاً من فاعل « لِترْكبُوهَا » متزينين .
فصل
لمَّا ذكر منافع الحيوان التي ينتفع بها من المنافع الضرورية ، ذكر بعده منافع الحيوانات التي ليست بضرورية فقال : { والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } ، والخيل اسم جنسٍ لا واحد له من لفظه كالإبل .
واحتجَّ القائلون بتحريمِ لحومِ الخيلِ؛ وهو قول ابن عباسٍ ، والحكم ، ومالك ، وأبي حنيفة - رضي الله عنهم - بهذه الآيةِ ، قالوا : منفعة الأكل أعظم من منفعة الركوب ، فلو كان أكل لحوم الخيل جائزاً؛ لكان هذا المعنى أولى بالذِّكر ، وحيث لم يذكره الله - تعالى - علمنا تحريم أكله .
ويقوِّي هذا الاستدلال : أنَّه قال - تعالى - في صفة الأنعام { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } وهذه الكلمة تفيد الحصر ، فيقتضي أن لا يجوز الأكل من غير الأنعامِ فوجب أن يحرَّم أكل لحوم الخيل بمقتضى هذا الحصرِ .
ثمَّ إنَّه - تعالى - ذكر بعد هذا الكلام الخيل والبغال والحمير ، وذكر سبحانه أنها مخلوقة للركوب ، وهذا يقتضي أن منفعة الأكلِ مخصوصة بالأنعام .
وأيضاً قوله تعالى : { لِتَرْكَبُوهَا } يقتضي أنَّ تمام المقصود من خلق هذه الأشياء الثلاثة ، هو الركوبُ والزينةُ ، ولو حلَّ أكلها لما كان تمامُ المقصود من خلقها هو الركوب ، بل كان حلُّ أكلها أيضاً مقصوداً؛ وحينئذٍ يخرج جواز ركوبها عن أن يكون تمام المقصودِ؛ بل يصير بعض المقصودِ .
وأجاب الواحديُّ - رحمه الله- : بأنَّه لو دلَّت هذه الآية على تحريم أكل الخيل؛ لكان تحريم أكلها معلوماً في مكَّة؛ لأنَّ هذه السورة مكية .
ولو كان الأمر كذلك لكان قول عامة المفسرين والمحدِّثين إنَّ تحريم لحوم الحمر الأهلية كان عام خيبر باطلاً؛ لأنَّ التحريم لما كان حاصلاًُ قبل هذا اليوم ، لم يبق لتخصيص هذا التَّحريم بهذه [ السنة ] فائدة .
وأجاب غيره : بأنه ليس المراد من الآية بيان التَّحليل والتحريم؛ بل المراد منه أن يعرِّف الله - تعالى - عباده نعمه ، وتنبيههم على كمالِ قدرته وحكمته .
واحتجُّوا بقولِ جابر - رضي الله عنه- : « نَهَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبرٍ عَنْ لَحومِ الحُمرِ ورخَّصَ في لُحومِ الخَيْلِ » .
ولمَّا ذكر - تعالى - أصناف الحيوانات المنتفع بها ، ذكر بعده الأشياء التي لا ينتفع غالباً بها فذكرها على سبيل الإجمال .
فقال سبحانه وتعالى : { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وذلك لأنَّ أنواعها وأصنافها خارجة عن الإحصاء؛ فذكر ذلك على سبيل الإجمال .
وروى عطاء ومقاتل والضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : « إنَّ عَنْ يَمِينِ العَرْشِ نَهْراً مِنْ نُورٍ مِثلَ السَّمواتِ السَّبْع والبِحار السَّبعَة والأرضين السبع يَدخُل فيه جِبْريلُ - عليه الصلاة والسلام - كُلَّ سحرٍ فيزْدادُ نُوراً إلى نُورهِ وجَمالاً إلى جَمالهِ ، ثُمَّ ينتفِضُ فيَخْلقُ الله - سبحانه وتعالى - مِنْ كُلِّ نُقْطَة تقع مِن رِيشهِ كذا وكذا ألْفَ مَلك ، يَدخلُ مِنهُم كُلَّ يَومٍ سَبعُونَ ألفاً البيتَ المَعْمُورَ ، وفي الكَعْبةِ أيضاً سَبْعُون ألفاً لا يعُودُونَ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ » .
قوله : { وعلى الله قَصْدُ السبيل } الآية والمعنى : إنما ذكرت هذه الدلائل وشرحتها؛ إزاحةً للعذرِ؛ وإزالة للعلَّة { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } [ الأنفال : 42 ] .
قوله : { وَمِنْهَا جَآئِرٌ } الضمير يعود على السبيل؛ لأنَّها تؤنث { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي } [ يوسف : 108 ] أو لأنَّها في معنى سُبلٍ ، فأنَّث على معنى الجمع ، والقَصْدُ مصدرٌ يوصف به فهو بمعنى قاصد ، يقال : سبيلٌ قصدٌ وقاصدٌ ، أي : مستقيمٌ ، كأنه يَقْصِدُ الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه .
وقيل : الضمير يعود على الخلائق؛ ويؤيده قراءة عيسى ، وما في مصحف عبد الله : « ومِنْكُمْ جَائِرٌ » ، وقراءة عليّ : « فَمِنكُْ جَائِرٌ » بالفاء .
وقيل : « ألْ » في « السَّبيلِ » للعهد؛ وعلى هذا يعود الضمير على السبيل التي تتضمنها معنى الآية؛ لأنَّه قيل : ومن السبيل فأعاد عليها ، وإن لم يجر له ذكر؛ لأنَّ مقابلها يدلُّ عليها ، وأما إذا كانت « ألْ » للجنس فيعود على لفظها .
والجَوْرُ : العدول عن الاستقامة؛ قال النابغة : [ الطويل ]
3301- . ...
يَجُورُ بِهَا المَلاَّحُ طَوْراً ويَهْتَدِي
وقال آخر : [ الكامل ]
302-
ومِنَ الطَّريقَةِ جَائِرٌ وهُدًى ... قَصْدُ السَّبيلِ ومِنْهُ ذُو دَخْلِ
وقال أبو البقاء : و « قَصْدُ » مصدرٌ بمعنى إقامة السَّبيل ، أو تعديل السبيل ، وليس مصدر قصدته بمعنى أتَيْتهُ .
فصل
قوله : { وعلى الله قَصْدُ السبيل } يعني بيان طريق الهدى من الضَّلالة ، وقيل : بيان الحقِّ من الباطل بالآيات والبراهين ، والقصد : الصراط المستقيم .
{
وَمِنْهَا جَآئِرٌ } يعني : ومن السَّبيل جائر عن الاستقامة معوجّ ، والقصد من السبيل دينً الإسلامِ ، والجائر منها : اليهوديَّة والنَّصرانيةُ وسائر مللِ الكفرِ .
قال جابر بن عبد الله : « قَصْدُ السَّبيلِ » بيانُ الشَّرائع والفرائض .
وقال ابن المبارك وسهل بن عبد الله : « قَصْدُ السَّبيلِ » السنة ، « ومِنْهَا جَائِرٌ » الأهواء والبدع؛ لقوله تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ } [ الأنعام : 153 ] .
فصل
قالت المعتزلة : دلت الآية على أنَّه يجب على الله الإرشاد والهداية إلى الدِّين وإزالةُ العلل [ والأعذار ] ؛ لقوله { وعلى الله قَصْدُ السبيل } وكلمة « عَلَى » للوجوب ، قال تعالى : { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } [ آل عمران : 97 ] ودلت الآية أيضاً على أنه تعالى لا يضلُّ أحداً ولا يغويه ولا يصده عنه ، لأنه لو كان - تعالى - فاعلاً للضَّلال؛ لقال { وعلى الله قَصْدُ السبيل } وعليه جائرها ، أو قال : وعليه الجائر فلمَّا لم يقل ذلك ، بل قال في قصد السبيل أنه عليه ، ولم يقل في جور السبيل أنه عليه ، بل قال : « ومِنْهَا جَائِرٌ » دلَّ على أنَّه - تعالى - لا يضلُّ عن الدينِ أحداً .
وأجيب : بأنَّ المراد على أنَّ الله - تعالى - بحسب الفضلِ والكرمِ؛ أن يبين الدِّين الحق ، والمذهب الصحيح ، فأما أن يبين كيفية الإغواء والإضلال؛ فذلك غير واجب .
قوله تعالى : { وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } يدل على أنَّه - تعالى - ما شاء هداية الكفار ، وما أراد منهم الإيمان؛ لأنَّ كلمة « لَوْ » تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، أي : ولو شاء هدايتكم لهداكم أجمعين ، وذلك يفيد أنه - تعالى - ما شاء هدايتهم فلا جرم ما هذاهم .
وأجاب الأصمُّ : بأنَّ المراد : لو شاء أن يلجئكم إلى الإيمان لهداكم ، وهذا يدل على أنَّ مشيئة الإلجاءِ لم تحصل .
وأجاب الجبائيُّ : بأنَّ المعنى : ولو شاء لهداكم إلى الجنَّة وإلى نيل الثواب؛ لكنَّه لا يفعل ذلك إلا بمن يستحقه ، ولم يرد به الهدى إلى الإيمان؛ لأنَّه مقدور جميع المكلَّفين .
وأجاب بضعهم؛ فقال المراد : ولو شاء لهداكم إلى الجنَّة ابتداء على سبيل التفضل ، إلاَّ أنَّه - تعالى - [ عرَّفكمُ ] للمنزلة العظيمة بما نصب من الأدلة وبيَّن ، فمن تمسَّك بها فاز ، ومن عدل عنها فاتته وصار إلى العذاب . وتقدم الجواب عن ذلك مراراً .
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)
قوله تعالى : { هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السماء مَآءً } لمَّا استدلَّ على وجود الصانع الحكيم بأحوال الحيوان ، أتبعه بذكر الاستدلال على وجود الصانع الحكيم بعجائب أحوال النبات .
واعلم أنَّ الماء المنزَّل من السماء هو المطر وهو قسمان :
أحدهما : الذي جعله الله شراباً لنا ، ولكل حيٍّ .
فإن قيل : دلت الآية على أنَّ شراب الخلق ليس إلاَّ من المطرِ ، ومن المعلوم أنَّ الخلق يشربون من المياه التي في قعر الأرض؛ وأجاب القاضي - رحمه الله- : بأنه تعالى بين أنَّ المطر شرابنا ، ولم ينفِ أن نشرب من غيره .
وأجاب غيره : بأنه لا يمتنع أن يكون الماء العذب تحت الأرض من جملة ما ينزل من السماء؛ لقوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } [ المؤمنون : 18 ] ولا يمتنع أيضاً في العِذاب من الأنهار أن يكون أصلها من المطر .
والقسم الثاني من المياه النازلة من السماء ما يجعله الله سبباً لتكوين النبات ، وهو قوله { وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ } .
قوله : « لَكُمْ » يجوز أن يتعلق ب « أنْزَلَ » ويجوز أن يكون صفة ل « مَاءً » فيتعلق بمحذوفٍ ، فعلى الأول يكون [ « شراب » مبتدأ ، و « منه » خبره مقدم عليه ، والجملة ايضاً صفة ل « ماء » ، وعلى الثاني يكون « شراب » فاعلاً ] بالظرف ، و « مِنْهُ » حال من « شَرابٌ » ، و « مِنَ » الأولى للتبعيض ، وكذا الثانية عند بعضهم ، لكنَّه مجازٌ؛ لأنَّه لما كان سقاه بالماء جعل كأنه من الماء؛ كقوله : [ الرجز ]
3303-
أسْنِمَةُ الآبَالِ في رَبَابَهْ ... أي : في سحابة ، يعني به المطر الذي ينبت به الكلأ الذي تأكله الإبل فتسمن أسنمتها .
وقال ابنُ الأنباري - رحمه الله- : « هو على حذف مضافٍ إمَّا من الأول؛ يعني قبل الضمير ، أي : ومن جهته أو سقيه شجر ، وإمَّا من الثاني ، يعني قبل شجر ، أي : شربُ شجرٍ أو حياة شجر » .
وجعل أبو البقاءِ : الأولى للتبعيض ، والثانية للسببية؛ أي : وبسببه غنباتُ شجرٍ ، ودل عليه قوله - سبحانه وتعالى - { يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع } .
والشجر ها هنا : كلُّ نباتٍ من الأرض حتَّى الكلأ ، وفي الحديث : « لا تَأكلُوا ثمنَ الشَّجرِ فإنَّهُ سُحْتٌ » يعني : الكلأ ينهى عن تحجر المباحاتِ المحتاج إليها ، وأنشدوا شعراً : [ الرجز ]
3304-
نُطْعِمُهَا اللَّحْمَ إذَا عَزَّ الشَّجَرْ ... يريد : يسقون الخيل اللبن إذا أجدبت الأرض ، قاله الزجاج .
وقال ابن قتيبة في هذه الآية : المراد من الشجر : الكلأ .
فإن قيل : قال المفسرون في قوله تعالى : { والنجم والشجر يَسْجُدَانِ } [ الرحمن : 6 ] : إن المراد بالنجم : ما ينجم من الأرض ممَّا ليس له ساق ، ومن الشجر ما له ساق ، وأيضاً : عطف الشجر على النَّجم؛ فيوجب مغايرة الشجر للنجم .
فالجواب : أنَّ عطف الجنس على النع وبالضدِّ مشهور وأيضاً : فلفظ الشجرِ يشعر بالاختلاط ، يقال : تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم ببعض ، وتشاجرتِ الرِّماح إذا اختلطت ، وقال تعالى : { حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } [ النساء : 65 ] ، ومعنى الاختلاط حاصل في العشب ، والكلأ؛ فوجب إطلاق لفظ الشجر عليه .
وقيل المراد بالشجر ما له ساقٌ؛ لأنَّ الإبل تقدر على رعي ورق الأشجار الكبار وإطلاق الشجر على الكلأ مجازٌ .
قوله : { فِيهِ تُسِيمُونَ } هذه صفة أخرى ل « مَاءً » ، والعامة على « تُسِيمُونَ » بضم التاء من أسام ، أي : [ أرسلها ] لترعى .
وقرأ زيد بن علي بفتحها ، فيحتمل أن يكون متعدياً ، ويكون فعل وأفْعَل بمعنى ، ويحتمل أن يكون لازماً على حذف مضافٍ ، أي : تُسِيمُ مَواشِيكُمْ .
يقال : أسمت الماشية إذا خلَّيتها ترعى ، وسامت هي تسُومُ سَوْماً ، إذا رعتْ حيثُ شاءتَ فهي سَوام وسَائِمَة .
قال الزجاج - رحمه الله- : « أخذ ذلك من السومةِ وهي العلامة؛ لأنَّها تؤثر في الأرض برعيها علاماتٍ » .
وقال غيره : لأنها تعلَّم الإرسال والمرعى ، وتقدم الكلام في هذه المادة في آل عمران عند قوله تعالى : { والخيل المسومة } [ الآية : 14 ] .
قوله تعالى : { يُنْبِتُ لَكُمْ } تحتمل هذه الجملة الاستئناف والتبعيَّة ، كما في نظيرتها ، ويقال : أنْبتَ الله الزَّرْعَ فهو منبُوت ، وقياسه : مُنْبَت . وقيل : أنْبتَ قد يجيء لازماً ، ك « نَبَتَ » ؛ وأنشد الفراء : [ الطويل ]
3305-
رَأيْتُ ذَوِي الحَاجَاتِ حولَ بُيوتِهِمْ ... قَطِيناً لهُمْ حتَّى إذَا أنْبتَ البَقْلُ
وأباه الأصمعيُّ؛ والبيت حجة عليه ، وتأويله : ب « أنبت » البقل نفسه على المجاز بعيد جدًّا .
وقرأ أبو بكر « نُنْبِتُ » بنون العظمة ، والزهري « تنَبِّتُ » بالتشديد ، والظاهر أنَّهُ تضعيف التَّعدي ، وقيل : بل للتَّكرير ، وقرأ أبي : « تُنْبُتُ » بفتح الياء وضمِّ الباءِ . « الزَّرْعَ » وما بعده رفع بالفاعلية ، وتقدم خلافُ القراء في رفع « الشَّمْس » وما بعدها ونصبها ، وتوجيه ذلك في سورة الأعراف .
فصل
النبات قسمان :
أحدهما : لرعي الأنعام؛ وهو المراد من قوله « تُسِيمُونَ » .
والثاني : المخلوق لأكل الإنسانِ؛ وهو المراد من قوله : { يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب } .
فإن قيل : إنه - تعالى - بدأ في هذه الآية بذكر مأكول [ الحيوان ] وأتبعه بذكر مأكولِ الإنسانِ ، وفي ىية أخرى عكس الترتيب؛ فقال : { كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُم } [ طه : 54 ] فما الفائدة فيه؟ .
فالجواب : أنَّ هذه الآية مبنيَّةٌ على مكارم الأخلاق؛ وهو أن يكون اهتمام الإنسانِ بمن يكون تحت يده ، أكمل من اهتمامه بنفسه ، وأمَّا الآية الأخرى ، فمبنيةٌ على قوله - عليه الصلاة والسلام- : « ابْدَأ بِنَفْسِكَ ، ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ » .
فصل
اعلم أنَّ الإنسان خلق محتاجاً إلى الغذاء ، والغذاء ، إمَّا من الحيوانات ، وإمَّا من النبات ، والغذاء الحيوانيُّ أشرف من الغذاء النباتي؛ لأنَّ تولد أعضاءِ الإنسانِ من [ أكل ] أعضاء الحيوان أسهل من تولدها من غذاء النبات؛ لأنَّ المشابهة هناك أكمل وأتم ، والغذاء الحيواني إنما يحصل من إسامةِ الحيواناتِ وتنميتها بالرعي؛ وهو الذي ذكره الله في الإسامةِ .
وأمَّا الغذاء النباتيُّ ، فقسمان : حبوب ، وفواكه : أمَّا الحبوب ، فإليها الإشارة بقوله : « الزَّرْعَ » ، وأما الفواكه ، فأشرفها : الزيتونُ ، والنَّخيلُ ، والأعناب أما الزيتون؛ فلأنه فاكهة من وجه ، وإدامٌ من وجه آخر؛ لما فيه من الدهنِ ، ومنافع الهنِ كثيرة : للأكلِ ، والطلاءِ ، وإشعالِ السِّراج .
وأما امتياز النَّخيل والأعناب من سائر الفواكه ، فظاهر معلوم ، وكما أنَّه - تعالى - لما ذكر الحيوانات المنتفع بها على التفصيل ، ثم وصف البقية بقوله تعالى : { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 8 ] فكذلك ههنا ، لمَّا ذكر الأنواع المنتفع بها من النبات ، قال في وصف البقية : { وَمِن كُلِّ الثمرات } تنبيهاً على أن تفصيل أنواعها ، وأجناسها ، وصفاتها ، ومنافعها ، ما لم يكن ذكره ، فالأولى أن يقتصر فيه على الكلام المجملِ ، ثم قال سبحانه وتعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } .
واعلم أن وجه الدَّلالة من هذه الآية على وجود الله - تعالى - : هو أنَّ الحبة الواحدة تقع في الطين ، فإذا مضى عليها زمنٌ معينٌ ، نفذت في تلك الحبة أجزاء من رطوبة الأرض؛ فتنتفخ وتنشقُّ أعلاها وأسفلها؛ فيخرج من أعلاها شجرة صاعدة إلى الهواء ، ومن أسفلها شجرة أخرى غائصة في [ قعرِ ] الأرض؛ وهي عروقُ الشجرِ ، ثمَّ إنَّ تلك الشجرة لا تزال تزدادُ ، وتنمو وتقوى ، ثم يخرج منها الأوراق ، والأزهارُ ، والأكمام ، والثمار ، ثمَّ إنَّ تلك الشجرة تشتمل على أجسام مختلفة الطبائع؛ كالعنب فإنَّ قشوره وعجمه باردان يابسان كثيفان ، ولحمه وماؤه حارٌ رطبٌ ، فنسبة هذه الطبائع السفلية إلى هذا الجسم متشابهة ، ونسبة التأثيرات الفلكية ، والتحريكات الكوكبيَّة إلى الكلِّ متشابهة ، فمع تشابه هذه الأشياء ، ترى هذه الأجسام مختلفة في الطبع ، والطَّعم ، واللَّون ، والرائحة ، والصفة؛ فدلَّ صريح العقل على أنَّ ذلك ليس إلا بفعل فاعل قادرٍ حكيمٍ رحيمٍ .
وختم هذه الآية بقوله : { يَتَفَكَّرُونَ } لأنه تعالى ذكر أنَّه أنزل من السماءِ ماء ، فأنبت به الزرع ، والزيتون ، والنخيل ، والأعناب ، فكأنَّ قائلاً قال : لا نسلِّم أنه - تعالى - هو الذي أنبتها ، بل يجوز أن يكون حدوثها لتعاقبِ الفصولِ الأربعةِ ، وتأثيرات الشمس والقمر والكواكب ، فما لم يقُم الدليل على فساد هذا الاحتمالِ لا يكون هذا الدليل وافياً بإفادة هذا المطلوب ، بل يكون مقام الفكر والتأمل باقياً ، فلهذا ختم الآية بقوله : { لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } .
قوله تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار والشمس والقمر } الآية وهذه الآية هي الجواب عن السؤال المتقدم تقريره من وجهين :
الأول : أن يقول : هبْ أن حدوث الحوادث في هذا العالم السفلي مستندة إلى الاتِّصالات الفكليَّة إلاَّ أنه لا بدَّ لحركتها واتصالاتها من أسباب ، وأسباب تلك الحركات : إما ذواتها ، وإمَّا أمورٌ مغايرةٌ لها ، والأول باطل من وجهين :
الأول : أنَّ الأجسام متماثلةٌ ، فلو كان الجسم علَّة لصفة ، لكان كل جسمٍ واجب الاتصاف بتلك الصفةِ؛ وهو محالٌ .
والثاني : أنَّ ذات الجسم لو كانت علَّة لحصول هذه الحركة ، لوجب دوامُ هذه الحركة بدوام تلك الذات ، ولو كان كذلك لوجب بقاءُ الجسم على حالةٍ واحدةٍ من غير تغيير أصلاً؛ وذلك يوجبُ كونه ساكناً لذاته ، وما أفضى ثبوته إلى عدمه ، كان أصلاً باطلاً .
فثبت أنَّ الجسم يمتنع أن يكون متحرِّكاً لكونه جسماً ، فبقي أن يكون متحركاً لغيره ، وذلك الغير : إمَّا أن يكون سارياص فيه ، أو مبايناً عنه ، والأول باطلٌ لأن البحث المذكور عائد في أن ذلك الجسم بعينه لم اختص بتلك القوة بعينها دون سائر الأجسام؛ فثبت أن محرك أجسام الأفلاك والكواكب أمور مباينة عنها ، وذلك المباين إن كان جسماً أو جسمانياً ، عاد التقسيم الأول فيه ، وإن لم يكن جسماً ولا جسمانياً ، فإما أن يكون موجباً بالذات أو فاعلاً مختاراً ، والأول باطل لأنَّ نسبة ذلك الموجب بالذات إلى جميع الأجسام على التسوية؛ فلم يكن بعض الأجسام بقبولِ بعض الآثار المعينة أولى من بعض؛ فثبت أنَّ محرك تلك الأفلاك والكواب هو الفاعل القادر المختار المنزَّهُ عن كونه جسماً ، وجسمانيًّا؛ وذلك هو الله - تعالى - .
فالحاصل أنَّا وإن حكمنا باستثناء حوادث العالم السفليِّ إلى الحركات الفلكية والكوكبية ، فهذه الحركاتُ الفلكية لا يمكن إسنادها إلى [ أفلاكٍ أخرى ] ؛ وإلاَّ لزم التَّسلسلُ؛ وهو محالٌ؛ فوجب أن يكون خالق هذه الحركات ومدبرها هو الله - تعالى - وإذا كان كذلك ، كان هذا اعترافاً بأنَّ الكُلَّ من الله - تبارك وتعالى - وبإحداثه وتخليقه ، وهذا هو المراد من قوله عز وجل : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار والشمس والقمر } يعني : أنَّ تلك الحوادث كانت لأجل تعاقبِ الليل والنَّهار ، وحركاتِ الشَّمس والقمر ، فهذه الأشياء لا بدَّ وأن يكون حدوثها بتخليق الله - تعالى - وتسخيره؛ قطعاً للتسلسل .
ولمَّا تم هذا الدليل ، ختم الآية بقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي : كلّ عاقل يعلم أنَّ القول بالتسلسل باطل ، وأنه لا بدَّ من الانتهاءِ إلى الفاعل المختار .
والجواب الثاني عن ذلك السؤال : أنَّ تأثير الطبائع ، والأفلاك ، والكواكب؛ بالنسبة إلى الكلِّ واحد ، ثمَّ إنَّا نرى تولد العنب : قشره على طبع ، وعجمه على طبعٍ ، ولحمه على طبع ثالثٍ ، وماؤه على طبع رابع ، ونرى في الورد ما يكون أحد وجهي الورقة الواحدة منه في غاية الصُّفرةِ ، والوجه الثاني من تلك الورقةِ في غاية الحمرة ، وتلك الورقة في غاية الرقة واللَّطافة ، ونعلم بالضرورة أنَّ نسبة الأنجم ، والأفلاكِ ، إلى وجهي تلك الورقة الرقيقة نسبة واحدة ، والطبيعة الواحدة هي المادة الواحدة لا تفعل إلا فعلاً واحداً؛ ألا ترى أنهم قالوا : شكل البسيط هو الكرة؛ لأن تأثير الطبيعة الواحدة في المادة الواحدة يجب أن يكون متشابهاً ، والشكل الذي يتشابه جميع جوانبه هو الكرة ، وأيضاً إذا أضأنا الشمع ، فإذا استضاء خمسة أذرع من ضوء ذلك الشمع من أحد الجوانب ، وجب أن يحصل مثل هذا الأثر في جميع الجوانب؛ لأن الطبيعة المؤثرة يجب أن تتشابه نسبتها إلى كل الجوانب ، وإذا ثبت هذا ، فنسبة الشمس ، والقمر ، والأنجم ، والأفلاك ، والطبائع إلى وجهي تلك الورقة اللطيفة نسبة واحدة ، والطبائع إلى وجهي تلك الورقة اللطيفة نسبة واحدة ، وثبت أنَّ الطبيعة المؤثرة ، متى كانت نسبتها واحدة كان الأثر متشابهاً ، وثبت أنَّ الأثر غير متشابهٍ؛ لأنَّ أحد وجهي تلك الورقة في غاية الصفة ، والوجه الثاني منها في غاية الحمرة ، وهذا يفيد القطع بأنَّ المؤثِّر في حصول تلك الصفات ، والألوان ، والأحوال - ليس هو الطبيعة؛ بل الفاعل فيها هو الفاعل المختار الحكيم ، وهو الله - تعالى - وهذا هو المراد من قوله تعالى : { وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرض مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } .
ولما كان مدار هذه الحجَّة على أنَّ المؤثر الموجب بالذاتِ وبالطبيعةِ ، يجب أن تكون نسبته إلى الكل متشابهة - لا جرم ختم الآية بقوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } فلمَّا دلَّ الحسُّ في هذه الأحكام النباتيَّة على اختلاف صفاتها ، وتنافر أحوالها - على أنَّ المؤثِّر فيها ليس هو الطبيعة - ظهر أنَّ المؤثر فيها ليس موجباً بالذاتِ؛ بل الفاعل المختار - سبحانه وتعالى- .
فإن قيلك لا يقال : سخَّرتُ هذا الشيء مسخَّراً .
فالجواب : أنَّ المعنى : أنه - تعالى - سخر لنا هذه الأشياء حال كونها مسخرةً تحت قدرته وإذنه .
فإن قيل : التسخيرُ عبارة عن القهر والقسر ، ولا يليق ذلك إلاَّ بمن هو قادر يجوز أن يقهر؛ فكيف يصحُّ ذلك في اللَّيل والنهار ، وفي الجمادات؛ كالشمس والقمر؟ .
فالجواب من وجهين :
الأول : أنه - تعالى - لما دبَّر هذه الأشياء على طريقة واحدة مطابقة لمصالح العباد ، صارت شبيهة بالعبدِ المنقادِ المطواع؛ فلهذا المعنى أطلق على هذا النَّوع من التَّدبير لفظ التَّسخيرِ .
والجواب الثاني : لا يستقيمُ إلاَّ على مذهب علماء الهيئة؛ لأنهم يقولون : الحركة الطبيعية للشمس والقمر ، هي الحركة من المغرب إلى المشرقِ ، والله تعالى سخر هذه الكواكب بواسطة حركة الفلك الأعظم من المشرق إلى المغرب ، فكانت هذه الحركة قسرية؛ فلذلك أطلق عليها لفظ التسخير .
فإن قيل : إذا كان لا يحصل للنهار والليل وجود إلا بسبب حركات الشمس؛ كان ذكر الليل والنهار مغنياً عن ذكر الشمس ، فالجواب : حدوث النهار واللّيل ليس بسبب [ حدوث ] حركةِ الشمس؛ بل حدوثهما سبب حركة الفلك الأعظم الذي دلَّ الدليل على أن حركته ليست إلا بتحريكِ الله - تعالى - وأما حركةُ الشمسِ ، فَإنَّها علة لحدوث السنة ، لا لحدوث اليومِ .
فإن قيل : المؤثر في التسخير هو القدرة ، لا الأمر؛ فكيف قال الله : { مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ } ؟ .
فالجواب : هذه الآية مبنيّة على أنَّ الأفلاك والكواكب جماداتٌ ، أم لا ، وأكثر المسمين على أنَّها جمادات؛ فلهذا حملوا الأمر في هذه الآيةِ على الخلق [ والتقدير ] ، ولفظ الأمر بمعنى الشَّأنِ والفعل كثيرٌ؛ قال تعالى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] .
ومنهم من قال : إنها ليست بجماداتٍ ، فههنا يحمل الأمر على الإذنِ والتكليفِ .
قوله : { وَمَا ذَرَأَ } عطف على الليل والنهار؛ قاله الزمخشري؛ يعني : ما خلق فيها من حيوانٍ وشجر .
وقال أبو البقاء : « في موضعِ نصبٍ بفعلٍ محذوفٍ؛ أي : وخلق ، أو أنبت » .
كأنه استبعد تَسلطَ « وسَخَّرَ » على ذلك؛ فقدَّر فعلاً لائقاً ، و « مُخْتلِفاً » حال منه ، و « ألْوانهُ » فاعل به .
وختم الآية الأولى بالتفكُّر؛ لأنَّ ما فيها يحتاج إلى تأملٍ ونظر ، والثانية بالعقل؛ لأنَّ مدار ما تقدم عليه ، والثالثة بالتذكر؛ لأنه نتيجة ما تقدم .
وجمع « آيَاتٍ » في الثانية دون الأولى والثالثة؛ لأنَّ ما يناط بها أكثر؛ ولذلك ذكر معها الفعل .
قوله تعالى : { وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّا } الآية لما استدلَّ على إثباتِ الإله أولاً بأجرامِ السَّمواتِ ، وثانياً ببدن الإنسان ، وثالثاً بعجائبِ خلق الحيوانات ، ورابعاً بعدائب النبات - ذكر خامساً عجائب العناصرِ فبدأ بالاستدلال بعنصر الماءِ .
قال علماء الهيئةِ : ثلاثة أرباع كرة الأرض غائصة بالماءِ ، وذلك هو البحر المحيط ، وحصل في هذا الرابع المسكون سبعة أبحرٍ؛ قال تعالى : { والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر } [ لقمان : 27 ] والبحر الذي سخره الله للناس هو هذه البحار ، ومعنى تسخيرها للخلق : جعلها بحيث يتمكن [ الناس ] من الانتفاع بها : إمَّا بالركوبِ ، أو بالغوصِ .
واعلم أنَّ منافع البحارِ كثيرةٌ ، فذكر منها - تعالى - هنا ثلاثة أنواعٍ :
الأول : قوله تعالى { لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّا } يجوز في « منهُ » تعلقه ب « لِتَأكُلوا » وأن يتعلق بمحذوفٍ؛ لأنه حال من النكرة بعده ، و « مِنْ » لابتداءِ الغاية أو للتبعيض ، ولا بدَّ من حذف مضافٍ ، أي : من حيوان ، و « طَريًّا » فعيلٌ من : طَرُوَ يَطْرُو طَراوَةً؛ ك « سَرُوَ يَسْرُو سَرَاوَة » .
وقال الفراء : [ بل يقال : ] « طَرِيَ يَطْرَى طَرَاءً ممدوداً وطَراوَةً؛ كما يقال : شَقِيَ يَشْقَى شَقاءً وشَقاوةً » .
والطَّراوَةُ ضد اليُبوسَةِ أي : غضًّا جديداً ، ويقال : طَريْتُ كذا ، أي : جدَّدْتهُ ، ومنه الثياب المُطرَّاة ، والإطْراءُ : مدحٌ تجدَّد ذكرهُ؛ وأمَّا « طَرَأ » بالهمز ، فمعناه : طَلَعَ .
قال ابن الأعرابي - رحمه الله- : لحمٌ طَريٌّ غير مهموز ، وقد طَرُوَ يَطْرُو طَراوَةً .
فصل
اعلم أنَّه - تعالى - لما أخرج من البحر الملح الزُّعاقِ الحيوان الذي لحمه في غاية العذوبة ، علم أنَّه إنَّما حدث لا بحسبِ الطب؛ بل بقدرة الله - تعالى - وحكمته بحيث أظهر الضد من الضدِّ .
فصل
لو حلف لا يأكل اللحم فأكل لحم السَّمك ، قال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : لا يحنثُ؛ لأنَّ لحم السَّمك ليس بلحم . وقال آخرون : يحنثُ لأنَّ الله - تعالى - نصَّ على تسميته لحماً ، وليس فوق بيان الله بيانٌ .
روي أنَّ أبا حنيفة - رضي الله عنه - لما قال بهذا ، وسمعه سفيان الثوري فأنكر عليه ذلك محتجاً بهذه الآية؛ فبعث إليه أبو حنيفة رجلاً وسأله عن رجلٍ حلف لا يصلِّي على البساطِ فصلَّى على الأرضِ ، هل يحنث أم لا؟ .
فقال سفيان - رحمه الله - : لا يحنثُ ، فقال السائل : أليس أنَّ الله - تعالى - قال : { والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطا } [ نوح : 19 ] قال : فعرف سفيان أنَّ ذلك بتلقين أبي حنيفة - رضي الله عنه - قاله ابن الخطيب .
وهذا ليس بقويِّ؛ لأنَّ أقصى ما في الباب أنَّا تركنا العمل بظاهرِ القرآنِ في لفظ البساط لدليل قام ، فكيف يلزمنا ترك العمل بظاهر القرآن في آية أخرى من غير دليل ، والفرق بين الصورتين من وجهين :
الأول : أنه لما حلف لا يصلِّي على البساط ، فلو أدخلنا الأرض تحت لفظ البساطِ؛ لزمنا أن نمتعه من الصلاة؛ لأنه إن صلَّى على الأرض حنث ، وإن صلَّى على البساط حنث ، بخلاف ما إذا أدخلنا لحم السمك تحت لفظِ اللحم؛ لأنه ليس في منعه من أكل اللَّحم على الإطلاق محذورٌ .
الثاني : أنَّا نعلم بالضرورة من عرف أهل اللغة ، أنَّ وقوع اسم البساط على الأرض مجازٌ ولم نعرف أن وقوع اسم اللحم على لحم السمك مجاز وحجة أبي حنيفة - رضي الله عنه- : أنَّ الأيمان مبناها على العرف؛ لأن الناس إذا ذكروا اللحم على الإطلاقِ ، لا يفهم منه لحم السَّمك؛ بدليل أنَّه إذا قال لغلامه : « اشْترِ بهذا الدِّرهمِ لحماً » فجاء بلحمِ سمكٍ استحق الإنكار .
والجواب : أنا رأيناكم في كتاب الأيمان تارة تعتبرون اللفظ ، وتارة تعتبرون المعنى ، وتارة تعتبرون العرف ، وليس لكم ضابط؛ بدليل أنَّه إذا قال لغلامه : اشتر بهذا الدرهم لحماً فجاء بلحم العصفور استحق الإنكار ، مع أنَّكم تقولون : إنه يحنث بأكل لحم العصفور؛ فثبت أنَّ العرف مضطربٌ ، والرجوع إلى نصِّ القرآن متعين .
النوع الثاني من منافع البحر : قوله : { وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } « الحليةُ : اسم لما يتحلَّى به ، وأصلها الدَّلالةُ على الهيئة؛ كالعِمَّة والخِمرة » .
«
تَلْبَسُونهَا » صفة ، و « مِنْهُ » يجوز فيه ما جاز في « مِنْهُ » قبل ، والمراد بالحلية : اللؤلؤ والمرجان .
فصل
المراد : يلبسهم لبس نسائهم؛ لأنَّهن من جملتهم ، ولأنَّ تزينهنَّ لأجلهم فكأنها زينتهم ، وتمسك بعض العلماءِ في عدم وجوب الزكاةِ في الحليِّ المباح لقوله - عليه الصلاة والسلام- :
«
لا زَكَاةَ في الحُلِيّ » .
ويمكن أن يجاب على تقدير صحَّة الحديث : بأنَّ لفظ « الحُلِيّ » مفرد محلى بالألف واللام؛ فيحمل على المعهود السابق ، وهو المذكور في هذه الآية ، فيصير تقدير الحديث : لا زكاة في اللآلئ ، وحينئذٍ يسقط الاستدلال بالحديث .
النوع الثالث من منافع البحر : قوله تعالى : { وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } قال أهل اللغة : مَخْرُ السَّفينةِ شقُّها الماء بصدرها . وعن الفراء : أنه صوتُ جَرْي الفلك بالرِّياحِ .
إذا عرفت هذا ، فقول ابن عبَّاسٍ : « مَواخِرَ » أي : جَوارِي ، إنما حسن التفسير به؛ لأنها لا تشقُّ الماء إلاَّ إذا كانت جارية . وقوله تعالى : { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } يعني : لتركبوه للتجارة؛ فتطلبوا الريح من فضل الله ، وإذا وجدتم فضل الله تعالى وإحسانه؛ فلعلكم تقدمون على شكره .
قال القرطبي : « امتنَّ الله على الرِّجالِ والنساء امتناناً عامًّا بما يخرج من البحر ، فلا يحرم عليهم شيء منه ، وإنَّما حرَّم الله - تعالى - على الرجال الذهب والحرير .
قال - صلوات الله وسلامه عليه - في الحرير والذهب : » هَذا حَرامٌ على ذُكورِ أمَّتِي حلٌّ لإنَاثهَا « .
وروى البخاريُّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم اتَّخذَ خاتماً من فضَّة ونقش فيه محمَّد رسول الله » .
فصل
من حلف لا يلبس حلياً ، فلبس لؤلؤاً لم يحنث ، وهو قول أبي حنيفة - رضي الله عنه - .
وقال بعض المالكية : « هذا ، وإن كان الاسم اللغويُّ يتناوله فلم يقصده باليمين ، والأيمان مبنية على العرف ، ألا ترى أنه لو حلف لا ينام على فراش فنام على الأرض لم يحنث وكذلك لو حلف لا يستضيء بسراج ، وجلس في ضوء الشمس لا يحنث ، وإن كان الله سمى الأرض فراشاً والشمس سراجاً » .
قوله : { وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ } ، « تَرَى » جملة معترضة بين التعليلين : وهما « لِتأكُلوا » ، « ولِتَبْتغُوا » ، وإنما كانت اعتراضاً ، لأنه خطاب لواحدٍ بين خطابين لجمعٍ .
و « فِيهِ » يجوز أن يتعلَّق ب « تَرَى » وأن يتعلق ب « مَوَاخِرَ » لأنها بمعنى شواقٍّ ، وأن يتعلق بمحذوفٍ؛ لأنه حال من « مَواخِرَ » أو من الضمير المستكنِّ فيه .
و « مَواخِرَ » جمع مَاخِرَة ، والمَخْرُ : الشقُّ ، يقال : مَخرتِ السَّفينةُ البَحْرَ ، أي : شقَّتهُ ، تَمْخرُه مَخْراً ومُخوراً ، ويقال للسُّفنِ : بَناتُ مَخْرٍ وبَخْرٍ ، بالميم والباء بدل منها .
وقال الفراء : هُوَ صوتُ جري الفلك ، وقيل : صوتُ شدَّة هُبوبِ الرِّيح ، وقيل بنات مَخْر لسحاب [ ينشأ ] صيفاً ، وامْتخَرْتَ الرِّيحَ واسْتَخْرْتَهَا : إذا استقبلتها بأنفك .
وفي الحديث : « اسْتَمخِرُوا الرِّيحَ وأعِدُّوا النبْلَ » يعني في الاستنجاءِ ، اي : ينظر أين مجراها وهبوبها؛ فليستدبرها؛ حتَّى لا يرد عليه البول .
والمَاخُورُ : الموضع الذي يباع فيه الخمر ، و « تَرَى » هنا بصرية فقط .
قوله { وَلِتَبْتَغُواْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : عطفٌ على « لِتَأكُلوا » وما بينهما اعتراضٌ كما تقدم ، وهذا هو الظاهر .
وثانيها : أنه عطفٌ على علَّةٍ محذوفةٍ ، تقديره : لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا ، ذكره ابن الأنباري .
وثالثها : أنه متعلق بفعلٍ محذوفٍ ، أي : فعل ذلك لتبتغوا . وفيهما تكلُّف لا حاجة إليه .
ومعنى { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } يعني : لتركبوها للتجارة؛ لتطلبوا الرِّبْحَ من فضلِ الله ، فإذا وجدتم فضل الله فلعلكم تشكرونه .
قوله تعالى : { وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُم } والمقصود منه : ذكرُ بعض النعم التي خلقها الله في الأرض ، وتقدم ذكر الرواسي .
قوله { أَن تَمِيدَ بِكُم } أي : كراهة أن تميدَ ، أو لئلاَّ تميد ، أي : تتحرَّك ، والميدُ : هو الاضطرابُ [ والتكفؤ ] ، ومنه قيل للدوار الذي يعتري راكب البحرِ : ميدٌ .
قال وهب : « لما خلق الله الأرض جعلت تمورُ؛ فقالت الملائكة : إنَّ هذه غير مقرَّة أحدٍ على ظهرها ، [ فأصبحت ] وقد أُرسيتْ بالجبالِ ، فلم تدر الملائكة ممَّ خلقت الجبال؛ كالسفينة إذا ألقيت في الماءِ ، فإنها تميل من جانب إلى جانب ، وتضطرب ، فإذا وضعت الأجرام الثقيلة فيها ، استقرت على وجه الماء » .
قال ابن الخطيب - رحمه الله - وهذا مشكلٌ من وجوهٍ :
الأول : أنَّ هذا التعليل؛ إمَّا أن يكون مع القولِ بأن حركاتِ هذه الأجسام بطبعها ، أو ليست بطبعها؛ بل هي واقعةٌ بتحريكِ الفاعل المختارِ ، أمَّا على التقدير الأول فمشكلٌ؛ لأن الأرض أثقل من الماءِ ، والأثقل من الماء يغوص في الماءِ ، ولا يبقى طافياً عليه ، وإذا لم يبق طافياً ، امتنع أن يقال : إنَّها تميلُ ، وتميدُ وتضطرب ، وهذا بخلاف السفينة؛ لأنها متخذة من الخشب ، وفي داخل الخشب تجويفات مملوءة من الهواء ، فلهذا السَّبب تبقى الخشبةُ طافية على الماء ، [ فحينئذ ] تميل وتميد وتضطرب على وجه الماء ، فإذا أرسيت بالأجرام الثقيلة ، استقرت وسكنت؛ فافترقا .
وأمَّا على التقدير الثاني : وهو أنَّه ليس للأرض والماء طبع يوجب الثقل والرسوب ، وإنَّما - الله تعالى - أجرى عادته بجعلها كذلك ، وصار الماء محيطاً بالأرض لمجردِ إجراءِ العادة ، وليس ههنا طبيعة للأرض ، ولا للماء ، توجب حالة مخصوصة ، فعلى هذا التقدير؛ علَّة سكون الأرض : هي أنَّ الله - تعالى - خلق فيها السكون .
وعلة كونها مائدة مضطربة : هي أنَّ الله يخلق فيها الحركة ، وعلى هذا ، فيفسد القول بأنَّ الأرض كانت مائدة مائلة ، فخلق الله تعالى الجبال وأرساها بها؛ لتبقى ساكنة؛ لأنَّ هذا إنما يصح إذا كانت طبيعة الأرض توجبُ الميلان ، وطبيعة الجبال توجبُ الإرساء ، والثبات ، ونحن نتكلم على تقدير نفي الطبائع الموجبة لهذه الأحوال ، فثبت أن هذا التعليل مشكلٌ على كلِّ تقديرٍ .
الثاني : أنَّ إرساء الأرض بالجبال إنَّما كان؛ لأجل أن تبقى الأرض على وجه الماء ساكنة من غير أن تميد وتميل ، وهذا إنما يعقل إذا كان الماء الذي استقرت الأرض على وجهه واقفاً .
فنقول : فما المقتضي لسكونه في ذلك الحيِّز المخصوص؟ فإن كان طبعه المخصوص أوجب وقوفه في ذلك الحيز المعين ، فلم لا نقولُ مثله في الأرض؟ وهو أنَّ طبيعة الأرض المخصوصة أوجبت وقوفها في ذلك الحيِّز المعيَّن ، وحينئذٍ يفسد القول بأنَّ الأرض إنما وقفت؛ بسبب أنَّ الله أرساها بالجبال ، وإن كان المقتضي لسكون الماء في حيِّزه المعين ، هو أنَّ الله - تعالى - سكَّن الماء بقدرته في ذلك الحيز المخصوص ، فلم لا نقول مثله في سكون الأرض؟ وحينئذ يفسد هذا التعليل أيضاً .
الثالث : أنَّ الأرض كلها جسم ، فبتقدير أن تميل وتضطرب على وجه البحر المحيط ، فلم لم تظهر تلك الحالة للناس؟ .
فإن قيل : أليس أنَّ الأرض تحرِّكها البخارات المحتبسة في داخلها عند الزلزال ، وتظهر تلك الحركات للناس ، فبم تنكرون على من يقول : إنه لولا الجبال لتحركت الأرض ، إلاَّ أنَّه - تعالى - لما أرساها بالجبال الثقالِ ، لم تقو الريحُ على تحريكها؟ .
قلنا : تلك البخارات احتبست في [ داخل ] قطعة صغيرة من الأرض ، فلما حصلت الحركة في تلك القطعة الصغيرة ، ظهرت تلك الحركة ، فظهور تلك الحركة في تلك القطعة المعينة من الأرض يجري مجرى اختلاج يحصل في عضوٍ معينٍ من بدن الإنسانِ ، أما لو تحركة كلية الأرض لم تظهر تلك الحركةُ؛ ألا ترى أنَّ الساكن في السفينة لا يحسُّ بحركة كليةِ السفينة ، وإنْ كانت على أسرع الوجوه ، وأقواها ، فكذا ها هنا .
قال ابن الخطيب - رحمه الله- : والذي عندي ههنا أن يقال : ثبت بالدلائل اليقينية أنَّ الأرض كرة ، وثبت أنَّ الجبال على سطح الكرة جاريةٌ مجرى خشوناتٍ تحصل على وجه هذه الكرة .
وإذا ثبت هذا فنقول : لو فرضنا أنَّ هذه الخشوناتِ ما كانت حاصلة؛ بل كانت الأرض كرة حقيقية ، خالية عن الخشونات ، والتضريسات - لصارت بحيث تتحركُ بالاتسدارة بأدنى سبب؛ لأنَّ الجرم البسيط المستدير : إمَّا ن يجب كونه متحركاً بالاستدارة؛ وإن لم يجب ذلك عقلاً ، إلاَّ أنَّها بأدنى سبب تتحركُ على [ هذا الوجه ] ، فلما حصل على ظاهر سطح الكرة من الأرض هذه الجبال ، وكانت الخشونات الواقعة على وجهِ الكرةِ ، فكل واحدٍ من هذه الجبال إنَّما يتوجه بطبعه نحو مركز العالم ، وتوجُّه ذلك الجبل نحو مركز العالم بثقله العظيم ، وقوته الشديدة ، يكون جارياً مجرى الوتد الذي يمنع كرة الأرض من الاستدارة ، فكان تخليقُ هذه الجبال على وجه الأرض كالأوتادِ المغروزةِ في الكرة المانعة من الحركة المستديرة ، فكانت مانعة للأرض من المَيْدِ ، والمَيْلِ ، والاضطراب ، بمنى أنها منعت الأرض من الحركةِ المستديرة والله أعلم .
قوله : « وأنْهَاراً » عطف على « رَواسِيَ » ؛ لأنَّ الإلقاء بمعنى الخلقِ ، وادَّعى ابن عطيَّة رحمه الله : أنَّه منصوب بفعلٍ مضمرٍ ، أي : وجعل فيها أنهاراً .
وليس كما ذكر .
وقيل : الإلقاءُ معناه الجعلُ ، قال تعالى : { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا } [ فصلت : 10 ] وقدره أبو البقاء : « وشقَّ فيها أنْهاراً » وهو مناسبٌ .
واعلم أنَّه ثبت في العلوم العقليَّة ، أنَّ أكثر الأنهار إنما يتفجرُ منابعها في الجبال ، فلهذا [ السبب ] لمَّا ذكر الجبال ، أتبع ذكرها بتفجير العيون والأنهار .
قوله « وسُبُلاً » أي : وذلَّل ، أو وجعل فيها طرقاً؛ لتهتدوا بها في أسفاركم؛ كقوله تعالى : { وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } [ طه : 53 ] إلى ما تريدون .
وقوله : { وَعَلامَاتٍ } أي : وضع فيها علاماتٍ .
قوله : « وبِالنَّجْمِ » متعلق ب « يَهْتَدُون » والعامة على فتح النون ، وسكون الجيم ، بالتوحيد ، فقيل : المراد به : كوكب بعينه وهو الجَدْي أو الثُّريَّا .
وقيل : بل هو اسم جنس ، وقرأ ابنُ وثَّاب : بضمهما ، والحسن : بضمِّ النون فقط ، وعكس بعضهم النقل عنهما .
فأمَّا قراءة الضمتين ، ففيها تخريجان :
أظهرهما : أنه جمع صريح؛ لأنَّ فعلاء يجمع على فعل؛ نحو : « سَقْقٌ وسُقُف ، وزَهْر وزُهُر » .
والثاني : أنَّ أصله النجوم ، وفعل يجمع على فعول؛ نحو : فَلْس وفُلُوس ، ثم خفِّف بحذف الواو ، كما قالوا : أسُد وأسُود وأسْد .
قال أبو البقاء؛ « وقالوا في » خِيَام : خُيُم « يعني أنَّه نظيرهُ من حيث حذفوا فيه حرف المدِّ .
وقال ابن عصفورٍ : » إنَّ قولهم : « النُّجُم » من ضرورات الشِّعر « وأنشد : [ الرجز ]
3306-
إنَّ الذي قَضَى بِذَا قاضٍ حِكمْ ... أن تَرِدَ الماءَ إذَا غَابَ النُّجُمْ
يريد النجوم . كقوله : [ الرجز ]
3307-
حَتَّى إذَا بُلَّتْ حَلاقِيمُ الحُلُقْ ... يريد الحُلُوق .
وأمَّا قراءة الضمِّ ، والسكون ، ففيها وجهان :
أحدهما : أنها تخفيف من الضمِّ .
والثاني : أنها لغة مستقلة . وتقديم كلِّ من الجارِّ ، والمبتدأ ، يفيد الاختصاص ، قال الزمخشريُّ - رحمه الله- : » فإن قلت : قوله تعالى : { وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ } مختصٌّ بسفرِ البحر؛ لأنه تعالى لما ذكر صفة البحر ، ومنافعه ، بيَّن أنَّ من يسير فيه يهتدون بالنجم .
وقال بعضهم : هو مطلقٌ في سفر البحر والبرِّ .
فصل في المراد بالعلامات
المراد بالعلاماتِ : معالمُ الطريق ، وهي الأشياء التي يهتدى بها ، وهذه العلامات هي الجبالُ والرياحُ .
قال ابنُ الخطيب : « ورايتُ جماعة يشمُّون التراب؛ فيعرفون الطرقان بشمِّه » .
قال الأخفش - رحمه الله- : تم الكلام عند قوله : « وعَلامَاتٍ » ثم ابتدأ : { وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ } .
وقال محمد بن كعبٍ القرظيِّ ، والكلبيُّ - رحمهما الله- : الجبالُ علاماتُ النَّهار ، والنجوم علامات الليل .
قال السديُّ : أراد بالنجم : الثُّريَّا ، وبنات نعش ، والفرقدين ، والجدي ، يهتدى بها إلى الطرق ، والقبلة .
قال القرطبيُّ : سأل ابنُ عباس رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرَّف وكرَّم - عن النَّجم؛ فقال - صلوات الله وسلامه عليه- :
«
هُوَ الجَديُ عليْهِ قِبْلتكُمْ وبِهِ تَهْتَدونَ في بَرِّكُمْ وبَحْرِكُمْ » ، وذلك أنَّ آخر الجدي بناتُ نعشٍ الصغرى ، والقطب الذي تستوي عليه القبلة بينهما .
قوله تعالى : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } الآية لمَّا ذكر الدَّلائلَ الدالة على وجود الإله القادر الحكيم ، أتبعه بذكر إبطال عبادة غير الله - تعالى - والمقصود أنَّه لما دلت الدلائل [ القاهرة ] على وجود إله قادرٍ حكيم ، وثبت أنَّه هو المُولِي لجميع هذه النعم ، والمعطي لكلِّ هذه الخيراتِ ، فكيف يحسنُ في العقولِ الاشتغال بعبادة غيره ، لا سيَّما إن كان غيره جماداً لا يفهم ، ولا يعقل؟ .
فلهذا قال تعالى : { أَفَمَن يَخْلُقُ } هذه الأشياء التي ذكرناها { كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } ، أي كمن لا يقدر على شيء ألبتة؛ { أَفَلا تَذَكَّرُونَ } فإنَّ هذا القدر لا يحتاج إلى تدبُّر ، ونظر؛ بل يكفي فيه أن تتنبهوا على ما في عقولكم ، من أنَّ العبادة لا تليق إلا بالمنعم الأعظم ، وأنتم ترون في الشاهد إنساناً عاقلاً فاهماً ينعم بالنعم العظيمة ومع ذلك فتعلمون أنَّ عبادته تقبح ، فهذه الأصنام جمادات محضة ، ليس لها فهمٌ ، ولا قدرة ولا غحساس ، فكيف تعبدونها؟ .
قوله { كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } إن أريد ب { كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } جميع ما عبد من دون الله ، كان ورود « مَنْ » واضحاً؛ لأنَّ العاقل يغلب على غيره ، فيعبر عن الجميع ب « مَنْ » ولو جيء أيضاً ب « ما » لجاز ، وإن أريد به الأصنام ، ففي إيقاع « مَنْ » عليهم أوجهٌ :
أحدها : إجراؤهم لها مجرى أولي العلم في عبادتهم إيَّاها ، واعتقادِ أنَّها تضرُّ ، وتنفع كقول الشاعر : [ الطويل ]
3308-
بَكيْتُ إلى سِرْبِ القَطَا إذْ مَرَرْنَ بِي ... فقُلْتُ : ومِثْلِي بالبُكَاءِ جَدِيرُ
أسِرْبَ القَطَا هَلْ مَنْ يُعِيرُ جَناحَهُ؟ ... لَعلِّي إلى مَنْ قَدْ هَويتُ أطِيرُ
فأوقع « مَنْ » على السرب ، لمَّا عاملها معاملة العقلاء .
الثاني : المشاكلة بينه وبين « مَنْ يَخْلقُ » .
[
الثالث : تخصيصه بمن يعلم ، والمعنى : أنه إذا حصل التباين بين من يخلق ] وبين « مَنْ لا يخلقُ » من أولي العلم ، وأنَّ غير الخالق لا يستحقُّ العبادة ألبتة ، فكيف يستقيم عبادة الجمادِ المنحطِّ رتبة ، السَّاقط منزلة عن المخلوقِ من أولي العلم؛ كقوله تعالى : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ } [ الأعراف : 195 ] إلى آخره؛ وأمَّا من يجيز إيقاع « مَنْ » على غيرِ العقلاءِ من غير شرطِ كقطرب فلا يحتاج إلى تأويل .
قال الزمخشري - رحمه الله- : فإن قلت : هو إلزامٌ للذين عبدوا الأوثان ، ونحوها؛ تشبيهاً بالله تعالى - جلَّ ذكره - وقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق - سبحانه لا إله إلا هو - فكان حقُّ الإلزامُ أن يقال لهم : أفمن لا يخلق كمن يخلق .
قلت : حين جعلوا غير الله مثل الله عز وجل ، بتسميتهم والعبادة له ، جعلوا الله من جنسِ المخلوقات ، وتشبيهاً بها ، فأنكر عليهم ذلك بقوله : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } .
فصل في الاحتجاج بالآية
احتجَّ أهل السنَّة بهذه الآية على أنَّ العبد غير خالقٍ لأفعالِ نفسه؛ لأنَّه سبحانه - عز وجل - ميَّز نفسه عن الأشياءِ التي يعبدونها بصفة الخالقية؛ لأنَّ الغرض من قوله تعالى : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } بيان تميُّزه عن الأصنام بصفة الخالقية ، وأنَّه إنَّما يستحق الإلهية ، والمعبوديَّة؛ لكونه خالقاً ، وهذا يقتضي أنَّ العبد لو كان خالقاً لشيءٍ؛ وجب أن يكون إلهاً معبوداً ، ولما كان ذلك باطلاً ، علمنا أنَّ العبد لا يقدر على الخلق ، والإيجاد .
أجاب المعتزلة من وجوه :
الأول : المراد من قوله تعالى { أَفَمَن يَخْلُقُ } ما تقدم ذكره من السماوات والأرض ، والإنسان ، والحيوان ، والنبات ، والبحار ، والنجوم ، والجبال ، كمن لا يقدر على خلق شيءٍ أصلاً ، وهذا يقتضي أنَّ من كان خالقاً لهذه الأشياءِ؛ فإنه يكون إلهاً ، ولم يلزم منه أنه إن قدر على خلق أفعال نفسه أن يكون إلهاً .
الثاني : أنَّ معنى الآية : أنَّ من كان خالقاً كان أفضل ممَّن لا يكون خالقاً ، فوجب امتناع التسوية بينهما في الإلهيَّة ، والمعبوديَّة ، وهذا القدر لا يدلُّ على انَّ كلَّ من كان خالقاً؛ فإنَّه يجب أن يكون إلهاً؛ لقوله : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ } [ الأعراف : 195 ] .
ومعناه أنَّ الذي له رجلٌ يمشي بها يكون أفضل من الذي له رجلٌ لا يمشي بها ، وهذا يوجب كون الإنسان أفضل من الصَّنم ، والأفضل لا يليقُ به عبادة الأخسِّ .
فهذا هو المقصود من هذه الآية ، ثم إنها لا تدل على أن من له رجل يمشي بها أن يكون إلهاً ، فلذلك ها هنا المقصود من هذه الآية : أنَّ الخالق أفضل من غير الخالق ، فيمتنع التسويةُ بينهما في الإلهية والمعبودية ، ولا يلزم منه أنَّه بمجرَّد حصول صفة الخالقيَّة يكون إلهاً .
الثالث : أنَّ كثيراً من المعتزلةِ لا يطلقون لفظ الخالق على العبد . قال الكعبيُّ في تفسيره : إنا لا نقول : إنا لا نخلق أفعالنا ، ومن أطلق ذلك ققد أخطأ؛ إلاَّ في مواضع ذكرها الله تعالى؛ كقوله تعالى : { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير } [ المائدة : 110 ] ؛ وفي قوله عز وجل : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] واعلمْ أنَّ أصحاب أبي هاشم يطلقون لفظ الخالق على العبد حقيقة؛ حتَّى إنَّ أبا عبد الله البصري بالغ وقال : إطلاق لفظ الخالق حقيقة على العبد ، وعلى الله مجاز؛ لأنَّ الخلق عبارةٌ عن التقدير ، وذلك عبارة عن الظنِّ ، والحسبان ، وهو في حقِّ العبد حاصلٌ ، وفي حق الله تعالى محالٌ .
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22)
قوله تعالى : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ } لمَّا بيَّن أنَّ الاشتغال بعبادة غير الله باطلٌ ، بيَّن ههنا أنَّ العبد لا يمكنه الإتيانُ بعبادة الله ، وشكر نعمه على سبيل التَّمامِ ، والكمال ، بل العبد وإن أتعب نفسه في القيام بالطاعاتِ ، والعبادات ، وبالغ في شُكْرِ نعم الله؛ فإنه يكون مقصِّراً؛ لأنَّ الاشتغال بشكر النِّعم مشترطٌ بعلمه بتلك النعم على سبيل التفصيل ، فإنَّ من لا يكون متصوراً ، ولا مفهوماً بمتنع الاشتغال بشكره ، والعلم بنعمة الله على سبيل التفصيل غير حاصل للعبد؛ لأنَّ نعم الله كثيرة ، وأقسامها عظيمة ، وعقول الخلق قاصرة عن الإحاطة بمبادئها فضلاً عن غايتها ، لكنَّ الطريق إلى ذلك أن يشكر الله على جميع نعمه مفصَّلها ، ومجملها .
ثم قال - جلَّ ذكره- : { إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، « لَغَفُورٌ » لتقصيركم في شكر نعمه ، « رَحِيمٌ » بكم حيث لم يقطع نعمه عنكم لتقصيركم . قال بعضهم : إنَّه ليس لله على [ الكافر ] نعمةٌ . وقال الأكثرون : لله على الكافر والمؤمن نعمٌ كثيرةٌ؛ لأنَّ الإنعامَ بخلق السمواتِ ، والأرض ، وخلق الإنسان من نطفةٍ ، والإنعام بخلق الخيلِ ، والبغال والحمير ، وجميع المخلوقات المذكورة للإنعام يشترك فيها المؤمن ، والكافر .
قوله تعالى : { والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } قرأ العامة « تُسِرُّونَ » و « تُعْلِنُونَ » بناء الخطاب ، وأبو جعفرٍ ، وشيبة بالياء من تحت ، وقرأ عاصم وحده : « يَدْعُونَ » بالياء ، والباقون بالتاء من فوق ، وقراءة « يُدْعَونَ » مبنيًّا للمفعول ، وهن واضحات ، والمعنى : أنَّ الكفار كانوا مع اشتغالهم بعبادة غير الله يسرُّون ضروباً من المكر بمكايد الرسول؛ فذكر هذا زجراً لهم عنها .
قوله تعالى : { والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } تكريرٌ؛ لأن قوله تعالى : { أَفَمَن يَخْلُقُ } يدلُّ على أنَّ الأصنام لا تخلق شيئاً .
فالجواب : أنَّ الأول أنَّهم لا يخلقون شيئاً ، وههنا أنَّهم لا يخلقون شيئاً ، وأنهم مخلوقون كغيرهم؛ فكان هذا زيادة في المعنى .
قوله « أمْوات » يجوز أن يكون خبراً ثانياً ، أي : وهم يخلقون وهم أمواتٌ ، ويجوز أن يكون « يُخْلَقُونَ » ، و « أمْواتٌ » كلاهما خبر من باب : هذا حُلْوٌ حَامِضٌ ذكره أبو البقاء رحمه الله تعالى ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي : هم أمواتٌ .
قوله : { غَيْرُ أَحْيَآءٍ } يجوز فيه ما تقدم ويكون تأكيداً .
وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون قصد بها أنهم في الحال غير أحياء؛ ليدفع به توهُّم أنَّ قوله تعالى : { أَمْوَاتٌ } فيما بعد ، إذ قال تعالى : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] .
قال شهابُ الدِّين : « وهذا لا يخرجه عن التأكيد الذي ذكره قبل ذلك » .
فصل في وصف الأصنام
اعلم أنه - تعالى - وصف الأصنام بصفات :
أولها : أنها لا تخلق شيئاً .
وثانيها : أنها مخلوقة .
وثالثها : أنهم أموات غير أحياءٍ ، أي : أنها لو كانت آلهة حقيقية؛ لكانت أحياء غير أموات ، أي : لا يجوز عليها الموت ، كالحيِّ الذي لا يموت - سبحانه - وهذه الأصنام بالعكسِ .
فإن قيل : لما قال « أمْواتٌ » علم أنَّها « غَيْرُ أحياءٍ » ، فما فائدة قوله تعالى : { غَيْرُ أحْيَاءٍ } ؟ .
والجواب : أنَّ الإله هو الحيُّ الذي لا يحصل عقيب حياته موتٌ ، وهذه الأصنام أموات لا يحصل عقيب موتها حياة ، وأيضاً : فهذا الكلام مع عبدة الأوثان ، وهم في نهاية الجهالة ، ومن تكلَّم مع الجاهل الغرِّ الغبي ، فقد يعبر عن المعنى الواحد ، بعباراتٍ كثيرة ، وغرضه الإعلام بأنَّ ذلك المخاطب في غاية الغباوة ، وإنما يعيد تلك الكلمات؛ لأنَّ ذلك السامع في نهاية الجهالة ، وأنه لا يفهم المعنى المقصود بالعبارة الواحدة .
ورابعها : قوله : { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } والضمير في قوله : « يَشْعرُونَ » عائد على الأصنام ، وفي الضمير في قوله : « يُبْعَثُونَ » قولان :
أحدهما : أنه عائد إلى العابد للأصنام ، أي : ما يدري الكفار عبدةُ الأصنام متى يبعثون .
الثاني : أنه يعود إلى الأصنام ، أي : الأصنام لا يشعرون متى يبعثها الله تعالى .
قال ابن عباس - رضي الله عنه : إنَّ الله - تعالى - يبعث الأصنام لها أرواحٌ ، ومعها شياطينها ، فتتبرَّأ من عابديها ، فيؤمرُ بالكلِّ إلى النَّارِ .
فصل هل توصف الأصنام بموت أو حياة
الأصنام جمادات ، والجمادات لا توصف بأنها أمواتٌ ، ولا توصف بأنها لا تشعر بكذا وكذا .
فالجواب من وجوه :
الأول : أنَّ الجماد قد يوصف بكونه ميتاً؛ قال تعالى : { يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت } [ الأنعام : 95 ] .
الثاني : أنهم لما وصفوا بالإلهيَّة قيل لهم : ليس الأمر كذلك؛ بل هي أمواتٌ ، لا يعرفون شيئاً ، فخوطبوا على وفق معتقدهم .
الثالث : أنَّ المراد بقوله تعالى : { والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله } [ الملائكة ] وكان أناسٌ من الكفَّار يعبدونهم؛ فقال الله تعالى : إنهم « أمْواتٌ » أي : لا بدَّ لهم من الموت « غَيْرُ أحْيَاءٍ » أي : غير باقيةٍ حياتهم ، { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } أي لا علم لهم بوقت بعثهم . انتهى .
قوله تعالى : « أيَّانَ » منصوب بما بعده لا بما قبله؛ لأنَّه استفهام ، وهو معلق ل « مَا يَشْعرُونَ » فجملته في محل نصب على إسقاطِ الخافض ، هذا هو الظاهر .
وقيل : إن « أيَّانَ » ظرف لقوله { إلهكم إله وَاحِدٌ } [ النحل : 22 ] يعني : أنَّ الإله واحدٌ يوم القيامة ، ولم يدَّع أحد [ تعدُّد ] الآلهةِ في ذلك اليوم ، بخلاف أيَّام الدنيا ، فإنه قد وجد فيها من ادَّعى ذلك ، وعلى هذا فقد تم الكلام على قوله « يَشْعُرونَ » إلاَّ أنَّ هذا القول مخرجٌ ل « أيَّانَ » عن [ موضوعها ] ، وهو إمَّا الشرط ، وإمَّا الاستفهام إلى محضِ الظرفية ، بمعنى وقت مضاف للجملة بعده؛ كقولك « وقْتَ يَذهَبُ عَمرٌو مُنْطلِقٌ » ف « وَقْتَ » : منصوبٌ ب « مُنْطَلِقٌ » مضاف ل « يَذْهَبُ » .
لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
قوله تعالى : { إلهكم إله وَاحِدٌ } لما زيف طريقة عبدة الأصنام وفساد مذاهبهم ، قال { إلهكم إله وَاحِدٌ } ثمَّ ذكر ما لأجله أصرَّ الكفار على الشركِ؛ فقال : { فالذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ } جاحدة { وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } مستعظمون أي : إنَّ المؤمنين في الآخرة يرغبون بالفوز في الثواب الدائم ، ويخافون العقاب الدائم ، فإذا سمعوا الدلائل خافوا ، وتأملوا ، وتفكروا فيما يسمعون ، فلا جرم ينتفعون بسماع الدلائل ، ويرجعون إلى الحقِّ .
وأمَّا الذين لا يؤمنون بالآخرة وينكرونها ، فإنهم لا يرغبون في الثواب ولا يرهبون عن الوقوع في العقاب ، فيبقون منكرين لكلِّ كلامٍ يخالف قولهم ، ويستكبرون عن الرجوع إلى قول غيرهم ، فيبقون مصرِّين على الجهل والضلال .
قوله تعالى : { لاَ جَرَمَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين } .
قد تقدم الكلام على لفظة « لا جَرمَ » في سورة هودٍ - عليه السلام - والعامة على فتح الهمزة من « أن اللهَ » ، وكسرها عيسى الثقفي رحمه الله ، وفيها وجهان :
أظهرهما : الاستئناف .
والثاني : جريان « لا جرمَ » مجرى القسم فيتلقى بما يتلقى به .
وقال بعض العرب : « لا جَرمَ واللهِ لا [ فَارَقْتَُ ] » وهذا يضعف كونها للقسم؛ لتصريحه بالقسم بعدها ، وإن كان أبُو حيَّان أتى بذلك مقوِّياً لجريانها مجرى القسم .
قوله : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين } ، أي : أنَّ إصرارهم على الكفر ليس لأجل شبهة تصوروها ، بل لأجل التقليد لأسلافهم ، والتَّكبُّر؛ قال عليه الصلاة والسلام : « لا يَدْخُل الجَنَّة مَنْ كَانَ في قَلْبهِ مِثْقَالُ ذرَّةٍ مِنْ كِبْر ، ولا يدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ في قَلْبِه مِثقَالُ ذرَّةٍ من إيمانٍ ، فقال رجُلٌ : يا رسُولَ الله - صلّى الله عَليْكَ - إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أنْ يكُونَ ثَوْبهُ حَسناً ، قال صلى الله عليه وسلم : إنَّ الله - تعَالَى - جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ ، الكِبْرُ : بَطرُ الحقِّ ، وغَمْطُ البَاطلِ » .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين } الآيات .
لمَّا قرر دلائل التوحيد ، وأبطل مذاهب عبدة الأصنام ، ذكر بعد ذلك شبهات منكري النبوة مع الجواب عنها .
فالشبهة الأولى : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما احتجَّ على صحة بعثته بكون القرآن معجزة؛ طعنوا فيه ، وقالوا : إنه أساطير الأولين ، واختلفوا في هذا القول .
فقيل : هو كلام بعضهم لبعض .
وقيل : قول المسلمين لهم .
وقيل : قول المقتسمين الذين اقتسموا [ مكَّة ] ومداخل مكة؛ ينفِّرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سألهم وفود الحاجِّ عمَّا أنزل الله على رسوله .
قوله : « مَاذَا » تقدم الكلام عليها أول البقرة .
وقال الزمخشريُّ : « أو مرفوعٌ بالابتداءِ ، بمعنى أي شيء أنزله ربُّكم » .
قال أبو حيَّان : « وهذا غيرُ جائزٍ عند البصريِّين » . يعني : من كونه حذف عائده المنصوب ، نحو « زَيْدٌ ضَربْتُ » وقد تقدم خلاف النَّاس في هذا ، والصحيح جوازه ، والقائم مقام الفاعل ، قيل : الجملة من قوله { مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ } لأنها المقولة ، والبصريون يأبون ذلك ، ويجعلون القائم مقامه ضمير المصدر؛ لأنَّ الجملة لا تكون فاعلة ، ولا قائمة مقام الفاعل ، و الفاعل المحذوف : إمَّا المؤمنون ، وإما بعضهم ، وإمَّا المقتسمون .
وقرئ « أسَاطيرَ » بالنصب على تقدير : أنزل أساطير ، على سبيل التهكُّم ، أو ذكرتم أساطير .
والعامة برفعه على أنَّه خبر مبتدأ مضمر فاحتمل أن يكون التقدير : المنزَّل أساطير على سبيل التَّهكُّم ، أو المذكور أساطير ، وللزمخشريُّ هنا عبارة [ فظيعة ] .
قوله « لِيَحملُوا » لمَّا حكى شبهتهم قال : « لِيَحْمِلُوا » وفي هذه اللام ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنها لامُ الأمر الجازمة على معنى الحتم عليهم ، والصغار الموجب لهم ، وعلى هذا فقد تمَّ الكلام عند قوله : « الأوَّلِينَ » ثم استؤنف أمرهم بذلك .
الثاني : أنها لام العاقبة ، أي : كان عاقبة [ قولهم ] ذلك؛ لأنَّهم لم يقولوا أساطير ليحملوا؛ فهو كقوله تعالى : { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] .
قال : [ الوافر ]
3309-
لِدُوا لِلْمَوْتِ وابْنُوا للخَرابِ .. . .
الثالث : أنها للتعليل ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه تعليل مجازي .
قال الزمخشريُّ رحمه الله : واللام للتعليل من غير أن تكون غرضاً؛ نحو قولك « خَرجْتُ مِنَ البَلدِ مَخافَةَ الشَّرِّ » .
والثاني : أنه تعليلٌ حقيقة .
قال ابن عطيَّة بعد حكاية وجه لامِ العاقبةِ : « ويحتمل أن يكون صريح لام كي؛ على معنى قدِّر هذا؛ لكذا » انتهى .
لكنه لم يعلِّقها بقوله « قَالُوا » إنما قدَّر لها عاملاً ، وهو « قدَّر » هذا .
وعلى قول الزمخشري يتعلق ب « قَالُوا » لأنها ليست لحقيقة العلَّة ، و « كَامِلةً » حالٌ ، والمعنى لا يخفَّف من عقابهم شيءٌ ، بل يوصل ذلك العقاب بكليته إليهم ، وهذا يدل على أنَّه - تعالى - قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين إذ لو كان هذا المعنى حاصلاً للكل ، لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفَّار بهذا التكميل فائدة .
قال - صلوات الله وسلامه عليه- : « أيُّمَا دَاعٍ دَعَى إلى الهُدَى ، فاتُّبعَ ، كَانَ لهُ مِثْلُ أجْرِ مَن اتَّبعَهُ لا يَنقصُ مِنْ أجُورِهِمْ شيءٌ ، وأيُّمَا داعٍ دَعَى إلى الضَّلالِ فاتُّبعَ؛ كَان عَليْهِ وِزْرُ من اتَّبعَه لا ينقص مِنْ آثامهمْ شيءٌ » .
قوله : { وَمِنْ أوْزَارِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنَّ « مِنْ » مزيدة ، وهو قول الأخفش ، أي : وأوزار الذين ، على معنى : ومثل أوزار؛ كقوله - عليه الصلاة والسلام- : « كَانَ عَليْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ منْ عَمِلَ بِهَا » .
الثاني : أنها غير مزيدة ، وهي للتبعيض ، أي : وبعض أوزار الذين ، وقدَّر أبو البقاءِ : مفعولاً حذف ، وهذه صفته ، أي : وأوزار من أوزار ، ولا بد من حذف « مثل » أيضاً .
ومنع الواحديُّ أن تكون « مِنْ » للتبعيض ، قال : « لأنَّهُ يستلزم تخفيف الأوزار عن الأتباع ، وهو غير جائز ، لقوله - صلوات الله وسلامه عليه- : » مِنْ غَيْرِ أن يَنقُصَ مِنْ أوْزَارِهِمْ شيء « لكنها للجنس ، أي : ليحملوا من جنس أوزار الأتباع » .
قال أبو حيان : « والتي لبيان الجنس لا تقدَّر هكذا؛ وإنَّما تقدر الأوزار التي هي أوزارُ الذين يذلونهم فهو من حيث المعنى موافق لقول الأخفش ، وإن اختلفا في التقدير » .
قوله تعالى : { بِغَيْرِ عِلْمٍ } حال وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : أنه مفعول يُضِلُّونَ « أي : يضلون من لا يعلم أنهم ضلالٌ؛ قاله الزمخشريُّ .
والثاني : أنه الفاعل ، ورجَّح هذا بأنَّه المحدث عنه ، وتقدم الكلام في إعراب نحو : » سَاء مَا يَزرُونَ « وأنَّها قد تجري مجرى بِئْسَ ، والمقصود منه المبالغة في الزَّجْرِ .
فإن قيل : إنه - تعالى - حكى هذه الشُّبهة عنهم ، ولم يجب عنها ، بل اقتصر على محض الوعيد ، فما السبب فيه؟ .
فالجواب : أنه - تعالى - بين كون القرآن معجزاً بطريقين :
الأول : أنه - صلوات الله وسلامه عليه - تحدَّاهم تارة بكل القرآن ، وتارة بعشر سورٍ ، وتارة بسورةٍ واحدةٍ ، وتارة بحديثٍ واحدٍ ، وعجزوا عن المعارضة؛ وذلك يدل على كون القرآن معجزاً .
الثاني : أنه - تعالى - حكى هذه الشُّبهة بعينها في قوله : { اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الفرقان : 5 ] ، وأبطلها بقوله : { قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات } [ الفرقان : 6 ] أي : أنَّ القرآن مشتملٌ على الإخبارِ عن الغيوب ، وذلك لا يتأتَّى إلا ممَّن يكون عالماً بأسرار السماوات ، والأرض ، ولما ثبت كون القرآن معجزاً بهذين الطريقين ، وتكرر شرحهما مراراً؛ لا جرم اقتصر ههنا على مجرد الوعيد .
قوله تعالى : { قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ } ذكر هذه الآية مبالغة في وصف أولئك الكفار .
قال بعض المفسرين : المراد بالذين من قبلهم نمرودُ بن كنعان بنى صَرْحاً عظيماً بِبَابلَ طوله خمسة آلافِ ذراع ، وعرضه ثلاثة آلافِ ذراع - وقيل : فرسخاً - ورام منه الصُّعودَ إلى السماء؛ ليقاتل أهلها ، فَهَبَّتْ ريحٌ وألقت رأسها في البحر ، وعزَّ عليهم الباقي وهم تحته ، ولما سقط الصَّرحُ تبلبلت ألسن النَّاس من الفزع يومئذ؛ فتكلموا بثلاثة وسبعين لساناً؛ فلذلك سمِّيت بابل ، وكانوا يتكلمون قبل ذلك بالسريانية؛ فذلك قوله تعالى : { فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد } أي : قصد تخريب بنيانهم من أصولها .
والصحيح : أنَّ هذا عامٌّ في جميع المبطلين الذين يحاولون إلحاق الضَّرر والمكر بالمحقِّين .
واعلم أنَّ الإتيان ها هنا عبارةٌ عن إتيان العذاب ، أي : أنهم لمَّا كفروا؛ أتاهم الله بزلزال تقلقلتْ منها بنيانهم من القواعد ، و الأساس؛ والمراد بهذا محض التَّمثيلِ والمعنى : أنَّهم رتبوا منصوباتٍ؛ ليمكروا بها أنبياء الله؛ فجعل هلاكهم مثل قوم بنوا بنياناً ، وعمدوه بالأساطين ، فانهدم ذلك البناءُ ، وسقط السقف عليهم؛ كقولهم : « مَنْ حَفَرَ بِئْراً لأخِيهِ أوْقعَهُ اللهُ فِيهِ » .
وقيل : المراد منه ما دل عليه الظاهر .
قوله تعالى : { مِّنَ الْقَوَاعِدِ } « مِن » لابتداءِ الغايةِ ، أي : من ناحية القواعد ، أي : أتى أمر الله وعذابه .
قوله « مِنْ فَوقِهِمْ » يجوز أن يتعلَّق ب « خَرَّ » ، وتكون « مِن » لابتداءِ الغاية ، ويجوز يتعلَّق بمحذوفٍ على أنها حالٌ من « السَّقف » وهي حال مؤكدة؛ إذ « السَّقفُ » لا يكون تحتهم .
وقيل : ليس قوله : « مِنْ فَوقِهِمْ » تأكيدٌ؛ لأنَّ العرب تقول : « خَرَّ عَليْنَا سَقفٌ ، ووقَعَ عَليْنَا حَائِطٌ » إذا كان عليه ، وإن لم يقع عليه ، فجاء بقوله « مِنْ فَوْقِهِم » ليخرج به هذا الذي في كلام العرب ، أي : عليهم وقع ، وكانوا تحته فهلكوا .
وهذا غير طائل ، والقول بالتوكيد أظهر .
وقرأ العامة : « بُنْيَانَهُمْ » ، وقوم : بُنْيَتَهُمْ ، وفرقة منهم أبو جعفر : بَيْتَهُم . والضحاك : بُيوتَهُم .
والعامة : « السَّقْفُ » أيضاً مفرداً ، وفرقة : بفتح السِّين ، وضمِّ القاف بزنة « عَضُد » وهي لغة في « السَّقفِ » ولعلَّها مخففة من المضموم ، وكثر استعمال الفرع؛ لخفَّته ، كقولهم في لغة تميم « رَجُلٌ » ولا يقولون : رجَُلٌ .
وقرأ الأعرج : « السُّقُف » بضمتين ، وزيد بن علي : بضم السين ، وسكون القاف ، وقد تقدم مثل ذلك في قراءة { وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } [ النحل : 16 ] ثم قال : { وَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } إن حملنا الكلام على محض التمثيل؛ فالمعنى : أنَّهُمْ اعتمدوا على منصوباتهم ، ثم تولَّد البلاء منها بأعيانها ، وإن حملناه على الظاهر ، فالمعنى : أن السَّقف نزل عليهم بغتة .
ثم بين - تعالى - أن عذابهم لا يكون مقصوراً على هذه القدر ، بل الله - تعالى - يخزيهم [ يومَ ] القيامة ، و الخِزْيُ : هو العذاب مع الهوانِ؛ فإنه يقول لهم : { أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ } .
قال أبو العبَّاس المقريزيُّ - رحمه الله- : ورد لفظ « الخِزْي » في القرآن على أربعة [ معانٍ ] :
الأول : بمعنى العذاب؛ كهذه الآية؛ وكقوله تعالى : { وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ } [ الشعراء : 87 ] أي : لا تُعذِّبني .
الثاني : بمعنى القَتْلِ؛ قال تعالى : { فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحياة الدنيا } [ البقرة : 85 ] ، أي : القتلُ .
قيل : نزلت في بني قريظة ، ومثله : { ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ } [ الحج : 9 ] أي : فضيحة . قيل : نزلت في النضر بن الحارث .
الثالث : بمعنى الهوان ، قال تعالى : { كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ } [ يونس : 98 ] أي الهوان .
الرابع : بمعنى الفضيحة قال تعالى : { رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } [ آل عمران : 192 ] أي فضحته ، ومثله : { وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ } [ الشعراء : 87 ] ومثله : { وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي } [ هود : 78 ] ومثله : { أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض ذلك لَهُمْ خِزْيٌ } [ المائدة : 33 ] .
قوله : { أَيْنَ شُرَكَآئِيَ } مبتدأ وخبر ، والعامة على « شُركَائِيَ » مدوداً ، مهموزاً ، مفتوح الياءِ ، وفرقة كذلك تسكنها فتسقط وصلاً؛ لالتقاء الساكنين ، وقرأ البزي - بخلاف عنه - بقصره مفتوح الياء ، وقد أنكر جماعة هذه القراءة ، وزعموا أنها غير مأخوذ بها؛ لأنَّ قصر الممدود لا يجوز إلاَّ ضرورة .
وتعجب أبو شامة من أبي عمرٍو الدانيِّ ، حيث ذكرها في كتابه؛ مع ضعفها ، وترك قراءاتٍ شهيرة واضحة .
قال شهاب الدِّين : « وقد روى ابن كثيرٍ - أيضاً - قصر التي في القصص ، وروي عنه - أيضاً - قصرُ » وَرائِي « في مريم ، وروي عنه أيضاً قَصْرُ : { أَن رَّآهُ استغنى } [ العلق : 7 ] في سورة العلق ، فقد روى عنه قصر بعض الممدودات ، فلا يبعد رواية ذلك هنا عنه » .
وبالجملة : قصر الممدود ضعيفٌ؛ ذكره غير واحدٍ؛ لكن لا يصلُ به على حدِّ الضرورة .
قوله : « تُشَاقُّون » قرأ نافع : بكسر النن خفيفة ، والأصل : تُشاقُّونِّي فحذفها مجتزئاً عنها بالكسرة .
والباقون : بفتحها ، خفيفة ، ومفعوله محذوف ، أي : تشاقُّون المؤمنين ، أو تشاقُّون الله؛ بدليل القراءة الأولى .
وضعَّف أبو حاتم هذه القراءة؛ أعني : قراءة نافع ، وقرأت فرقة : بتشديدها مكسورة ، والأصل : تُشَاقُّوننِي؛ فأدغم ، وقد تقدم تفصيل ذلك في : { أتحاجواني } [ الأنعام : 80 ] و { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } [ الحجر : 54 ] وسيأتي في قوله تعالى : { أَفَغَيْرَ الله تأمرونيا } [ الزمر : 64 ] .
فصل
قال الزجاج : قوله { أَيْنَ شُرَكَآئِيَ } ، أي : في زعمكم ، واعتقادكم ، ونظيره : { أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [ الأنعام : 22 ] وحسنت هذه الإضافة لأنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سببٍ؛ كما يقال لمن يحمل خشبة : « خُذْ طَرفَكَ ، وآخُذُ طَرفِي » فأضاف الطَّرفَ إليهِ .
ومعنى « تُشَاقُّونَ » أي : تعادون ، وتخاصمون المؤمنين في شأنهم ، والمشاقَّة : عبارة عن كون أحد الخصمين في شقٍّ ، والخصم الآخر في الشق الآخر .
ثم قال تعالى : { قَالَ الذين أُوتُواْ العلم } قال ابن عباسٍ : يريد الملائكة ، وقال آخرون : هم المؤمنون الذين يقولون حين يرون خزي الكفار في القيامة : { إِنَّ الخزي اليوم والسواء } العذاب { عَلَى الكافرين } وفائدة هذا الكلام : أنَّ الكفار كانوا يتكبَّرون على المؤمنين في الدنيا ، فإذا ذكر المؤمنون هذا الكلام يوم القيامة؛ كان هذا الكلام في إيذاء الكفار أكمل وحصول الشماتة أقوى .
فصل في احتجاج المرجئة بالآية
احتج المرجئة بهذه الآية على أنَّ العذاب مختصٌّ بالكافرين ، [ قالوا : ] فإن قوله تعالى : { إِنَّ الخزي اليوم والسواء } في يوم القيامة مختص بالكافرين ، ويؤكد هذا قول موسى - عليه السلام- : { إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى } [ طه : 48 ] .
قوله : « اليَوْمَ » منصوب ب « الخِزْيَ » وعمل المصدر فيه « ألْ » وقيل : هو منصوب بالاستقرار في { عَلَى الكافرين } إلاَّ أنَّ فيه فصلاً بالمعطوف بين العامل ومعموله؛ واغتفر ذلك؛ لأنهم يتوسَّعون في الظروف .
قوله : { الذين تَتَوَفَّاهُمُ } يجوز أن يكون الموصول مجرور المحلِّ؛ نعتاً لما قبله ، أو بدلاً منه ، أو بياناً له ، وأن يكون منصوباً على الذم أو مرفوعاً عليه ، أو مرفوعاً بالابتداء ، والخبر قوله { فَأَلْقَوُاْ السلم } والفاء مزيدة في الخبر؛ قاله ابن عطية .
وهذا لا يجيء إلاَّ على رأي الأخفش؛ في إجازته زيادة الفاء في الخبر مطلقاً؛ نحو : « زيْدٌ فقامَ » ، أي : قام ، ولا يتوهم أنَّ هذه الفاء هي التي تدخل مع الموصول المضمَّن معنى الشَّرط؛ لأنَّه لو صرَّح بهذا الفعل مع أداة الشرط ، لم يجز دخول الفاء عليه؛ فما ضمِّن معناه أولى بالمنع؛ كذا قاله أبو حيان ، وهو ظاهر .
وعلى الأقوالِ المتقدمة ، خلا القول الأخير يكون « الَّذينَ » وصلته داخلاً في القول ، وعلى القول الأخير ، لا يكون داخلاً فيه ، وقرأ « يَتوفَّاهُمُ » بالياءِ في الموضعين حمزة ، والباقون : بالتاء من فوق؛ وهما واضحتان مما تقدم في قوله : { فَنَادَتْهُ الملاائكة } [ آل عمران : 39 ] وناداه ، وقرأت فرقة : بإدغام إحدى التاءين في الأخرى ، وفي مصحف عبد الله : « تَوفَّاهمُ » بتاء واحدة ، وهي محتملة للقراءةِ بالتشديد على الإدغام ، وبالتخفيف على حذف إحدى التَّاءين .
و { ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } حالٌ من مفعولٍ « تَتوفَّاهُمُ » ، و « تَتوفَّاهُمُ » يجوز أن يكون مستقبلاً على بابه؛ إن كان القول واقعاً في الدنيا ، وإن كان ماضياً على حكاية الحال إن كان واقعاً يوم القيامةِ .
قوله « فألْقوا » يجوز فيه أوجهٌ :
أحدها : أنه خبر الموصول ، وقد تقدم فساده .
الثاني : أن يكون عطفاً على « قَالَ الَّذِينَ » .
الثالث : أن يكون مستأنفاً ، والكلام قد تمَّ عند قوله : « أنْفُسهمْ » ثمَّ عاد بقوله : « فألْقَوا » إلى حكاية كلام المشركين يوم القيامة؛ فعلى هذا يكون قوله : { قَالَ الذين أُوتُواْ العلم } إلى قوله « أنْفُسهِمْ » جملة اعتراضٍ .
الرابع : أن يكون معطوفاً على « تَتوفَّاهُم » قاله أبو البقاءِ .
وهذا إنَّما يتمشى على أنَّ « تَتوفَّاهُم » بمعنى المضيِّ؛ ولذلك لم يذكر أبو البقاء في « تَتوفَّاهُم » سواه . قوله { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء } فيه أوجهٌ :
أحدها : أن يكون تفسيراً للسلم الذي ألقوه؛ لأنَّه بمعنى القول؛ بدليل الآية الأخرى : { فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول } [ النحل : 86 ] قاله أبو البقاء ، ولو قال : يُحْكى بما هو بمعنى القول؛ لكان أوفق لمذهبِ الكوفيِّين .
الثاني : أن يكون منصوباً بقولٍ مضمرٍ ، ذلك القول منصوبٌ على الحالِ ، أي : فألقوا السَّلم قائلين ذلك .
و « مِنْ سُوءٍ » مفعول « نَعْملُ » زيدت فيه « مِنْ » ، و « بَلَى » جوابٌ ل « مَا كُنَّا نعمل » فهو إيجابٌ له .
فصل
قال ابن عباس رضي الله عنه : استسلموا ، وأقرُّوا لله بالعبودية عند الموت ، وقالوا { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء } ، والمراد من هذا السوء الشِّرك ، فقالت الملائكة تكذيباً لهم { بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } من التكذيب ، والشرك ، وقيل : تمَّ الكلام عند قوله : { ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } ثم عاد إلى حكايةِ كلام المشركين إلى يوم القيامة ، والمعنى : أنَّهم يوم القيامة ألقوا السَّلم؛ وقالوا : { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء } على سبيل الكذب ، ثمَّ ههنا اختلفوا : فالذين جوَّزوا الكذب على أهلِ القيامة قالوا : إنَّ قولهم : { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء } لغاية الخوف ، والَّذينَ لم يجوِّزوا الكذب عليهم قالوا : المعنى : ما كنَّا نعمل مِنْ سُوءٍ عند أنفسنا وفي اعتقادنا ، وقد تقدَّم الكلام في قوله الأنعام : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] هل يجوز الكذب على أهل القيامة ، أم لا؟ .
وقوله : { بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } يحتمل أن يكون من كلام الله أو بعض الملائكة .
ثم يقال لهم : { فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا } وهذا يدلُّ على تفاوت منازلهم في العقاب ، وصرَّح بذكر الخلود؛ ليكون الغمُّ [ والحزن ] أعظم .
قوله : « فَلَبِئْسَ » هذه لام التأكيد؛ وإنما دخلت على الماضي لجموده وقربه من الأسماء ، والمخصوص بالذم محذوفٌ ، أي : جهنَّم .
قوله تعالى : { وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً } الآية .
لما بين أحوال الكافرين ، أتبعه ببيان أحوال المؤمنين .
قال القاضي [ المتقي هو : ] تارك جميع المحرَّمات وفاعل جميع الواجبات .
وقال غيره : المتَّقي : هو الذي يتَّقي الشرك .
قوله : « خَيْراً » العامة على نصبه ، أي : أنزل خيراً .
قال الزمخشريُّ : « فإن قلت : لِمَ رفع » أسَاطِيرُ الأولين « ونصب هذا؟ .
قلت : فصلاً بين جواب المقر ، وجواب الجاحد ، يعني : أنَّ هؤلاء لما سئلوا لم يَتَلعْثَمُوا ، وأطبقوا الجواب على السؤال بيِّناً مكشوفاً مفعولاً للإنزال ف » قَالُوا خَيْراً « أي : أنزل خيراً وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال ، فقالوا : هو أساطير الأوَّلين ، وليس هو من الإنزال في شيءٍ » .
وقرأ زيد بن عليٍّ : « خَيْرٌ » بالرفع ، أي : المُنزَّلُ خيرٌ ، وهي مُؤيِّدة لجعل « مَاذَا » موصولة ، وهو الأحسن؛ لمطابقة الجواب لسؤاله ، وإن كان العكس جائزاً ، وقد تقدم تحقيقه في البقرة .
قوله : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ } هذه الجملة يجوز فيها أوجه :
أحدها : أن تكون منقطعة عما قبلها استئناف إخبار بذلك .
الثاني : أنَّها بدلٌ من « خَيْراً » . قال الزمخشري : « هو بدلٌ من » خَيْراً « ؛ حكاية لقول » الَّذينَ اتَّقوا « ، أي : قالوا هذا القول فقدَّم تسميته خبراً ثمَّ حكاه » .
الثالث : أنَّ هذه الجملة تفسير لقوله : « خَيْراً » ، وذلك أنَّ الخير هو الوحيُ الذي أنزل الله فيه : من أحسن في الدنيا بالطاعةِ؛ فله حسنةٌ في الدنيا ، وحسنةٌ في الآخرة .
وقوله : { فِي هذه الدنيا } الظاهر تعلقه ب « أحْسَنُوا » ، أي : أوقعوا الحسنة في دار الدنيا ، ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوفٍ على أنَّه حكاية حالٍ من « حَسنةً » ، إذ لو تأخر؛ لكان صفة لها ، ويضعف تعلقه بها نفسها؛ لتقدمه عليها .
فصل
قال المفسرون : إنَّ أحياء من العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا جاء [ سائل ] المشركين الذين قعدوا على الطريق عن محمدٍ - صلوات الله وسلامه عليه - فيقولون : ساحر ، وكاهن ، وشاعر وكذاب ، كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فيأتي المؤمنين فيسألهم عن محمدٍ صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه؛ فيقولون « خَيْراً » ، أي أنزل خيراً ، ثم ابتدأ فقال : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ } أي كرامة من الله .
قال ابن عباسٍ - رضي الله عنه- : هي تضعيفُ الأجر إلى العشرة . وقال الضحاك : هي النصرة والفتح . وقال مجاهدٌ : هي الرزقُ الحسن ، ويحتمل أن يكون الذي قالوه من الجواب موصوف بأنه خيرٌ .
وقولهم « خَيْراً » جامع لكونه حقاً وصواباً ، ولكونهم معترفين بصحته ، ولزومه وهذا بالضدِّ من قول الذين لا يؤمنون : إن ذلك أساطير الأولين . وتقدم الكلام على « خَيْرٌ » في سورة الأنعام في قوله تعالى : { وَلَلدَارُ الآخرة خَيْرٌ } [ الأنعام : 32 ] .
ثم قال تعالى : { وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين جَنَّاتُ عَدْنٍ } ، أي ولنعم دار المتقين دارُ الآخرة فحذفت؛ لسبق ذكرها .
هذا إذا لم تجعل هذه الآية متصلة بما بعدها ، فإن وصلتها بما بعدها قلت : { وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين جَنَّاتُ عَدْنٍ } برفع « جَنَّاتُ » على أنها اسم ل « نِعْمَ » كما تقول : نِعْمَ الدَّارُ دَارٌ يَنْزلُهَا زَيْدٌ .
قوله { جَنَّاتُ عَدْنٍ } يجوز أن يكون هو المخصوص بالمدح؛ فيجيء فيها ثلاثة أوجهٍ :
رفعها بالابتداءِ ، والجملة المتقدمة خبرها .
أو رفعها بالابتداءِ ، والخبر محذوف؛ وهو أضعفها ، وقد تقدم تحقيق ذلك .
ويجوز أن يكون « جَنَّاتُ عَدنٍ » خبر مبتدأ مضمرٍ لا على ما تقدم ، بل يكون المخصوص [ بالمدح ] محذوفاً؛ تقديره : ولنعم دارُ المتقين دارهم هي جنات .
وقدره الزمخشري : { ولنِعْمَ دارُ المتَّقِينَ دَارُ الآخرة } « ويجوز أن يكون مبتدأ ، والخبر جملة ، من قوله » يَدْخُلونهَا « ويجوز أن يكون الخبر مضمراً ، تقديره : لهم جنَّات عدنٍ ، ودلَّ على ذلك قوله : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ } .
والعامة على رفع » جَنَّات « على ما تقدم ، وقرأ زيد بن ثابت ، والسلميُّ » جَنَّاتِ « نصباً على الاشتغالِ بفعلٍ مضمرٍ ، تقديره : بدخُلونَ جنَّاتِ عدْنٍ يَدخُلونهَا ، وهذا يقوي أن يكون » جَنَّاتُ « مبتدأ ، و » يَدْخُلونهَا « الخبر في قراءةِ العامَّة ، وقرأ زيد بن عليٍّ : » ولنِعْمَتْ « بتاءِ التأنيث ، مرفوعة بالابتداء و » دَارِ « خفض بالإضافة ، فيكون » نِعْمَت « مبتدأ و » جَنَّات عَدْنٍ « الخبر . و » يدخلونها « في جميع ذلك نصب على الحال ، إلا إذا جعلناه خبراً ل » جنات « ، وقرأ نافع في رواية : » يُدخَلُونهَا « بالياء من تحت؛ مبنياً للمفعول .
وقرأ أبو عبد الرحمن : » تَدْخُلونهَا « بتاء الخطاب مبنياً للفاعل .
قوله : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } يجوز أن يكون منصوباً على الحال من » جَنَّاتُ « قاله ابن عطيَّة ، وأن يكون في موضع الصفة ل » جنَّات « قاله الحوفيُّ ، والوجهان مبنيَّان على القول في » عَدْنٍ « هل هي معرفة؛ لكونه علماً ، أو نكرة؟ فقائل الحال : لحظ الأول ، وقائل النَّعتِ : لحظ الثاني .
قوله : { لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ } الكلام في هذه الجملة ، كالكلام في الجملة قبلها ، والخبر إمَّا » لَهُمْ « وإمَّا » فِيهَا « .
قوله : » كَذلِكَ « الكاف في محل نصب على الحال من ضمير المصدر؛ أو نعتاً لمصدرٍ مقدَّر ، أو في محل رفع خبر المبتدأ مضمر ، أي : الأمر كذلك و { يَجْزِي الله المتقين } مستأنف .
فصل
قال الحسن : دار المتقين هي الدُّنيَا؛ لأنَّ أهل التَّقوى يتزوَّدون فيها للآخرة .
وقال أكثرُ المفسرين : هي الجنَّة ، ثم فسرها فقال : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } فقوله » جَنَّاتُ عدْنٍ « يدلُّ على القصور ، والبساتين ، وقوله : » عَدْنٍ « يدل على الدَّوامِ ، وقوله : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } يدل على أنه حصل هناك أبنية يرتفعون عليها ، والأنهار جارية من تحتهم ، { لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ } من كلِّ الخيراتِ ، { كَذَلِكَ يَجْزِي الله المتقين } أي : هذا جزاء التَّقوى .
ثم وصف المتقين فقال : { الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة طَيِّبِينَ } وهذا مقابلٌ لقوله { الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } [ النحل : 28 ] .
وقوله : » طَيِّبِينَ « كلمة مختصرة جامعة لمعان كثيرة؛ فيدخل فيها إتيانهم بالمأموراتِ ، واجتنابهم عن المنهيات ، واتصافهم بالأخلاق الفاضلة ، وبراءتهم عن الأخلاق المذمومة .
وأكثر المفسرين يقول : إن هذا التَّوفي قبض الأرواح .
وقال الحسن : إنه وفاةُ الحشر؛ لقوله بعد { ادخلوا الجنة } واحتج الأولون بأن الملائكة لما بشروهم بالجنة ، صارت الجنة كأنها دارهم ، فيكون المراد بقوله : { ادخلوا الجنة } أي : خاصة لكم ، « يَقُولونَ » يعني الملائكة : « سَلامٌ عَلَيْكُم » وقيل : يُبلِّغونَهم سلام الله .
قوله : { الذين تَتَوَفَّاهُمُ } يحتمل ما ذكرناه فيما تقدم ، وإذا جعلنا « يَقُولون » خبراً فلا بدَّ من عائدٍ محذوفٍ ، أي : يقولون لهم ، وإذا لم نجعله خبراً ، كان حالاً من الملائكة؛ فيكون « طَيِّبينَ » حالاً من المفعول ، و « يَقُولُونَ » حالاً من الفاعل ، وهي يجوز أن تكون حالاً مقارنة ، أي : كان القول واقعاً في الدنيا ، ومقدرة إن كان واقعاً في الآخرة .
ومعنى « طَيِّبينَ » ، أي ظاهرين من الشرك ، وقيل : صالحين ، وقيل : زاكية أعمالها وأقوالهم ، وقيل : طيِّبي الأنفس؛ ثقة بما يلقونه من ثواب الله - تعالى - وقيل : طيبة نفوسهم ، بالرجوع إلى الله ، وقيل : طيِّبين ، أي : يكون وفاتهم طيبة سهلة .
و « ما » في « بِمَا » مصدرية ، أو بمعنى الذي؛ فالعائد محذوف .
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)
قوله تعالى : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } الآية .
هذه شبهة ثانية لمنكري النبوة؛ فإنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل الله ملكاً من السماء؛ يشهد على صدقه في ادِّعاء النبوة؛ فقال تعالى : { هَلْ يَنْظُرُونَ } في التصديق بنبوتك { إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الملائكة } شاهدين بذلك ، ويحتمل أنَّ القوم لما طعنوا في القرآن بقولهم : { أَسَاطِيرُ الأولين } وذكر أنواع التهديد ، و الوعيد ، ثم أتبعه بذكر الوعد لمن وصف القرآن بكونه خيراً ، عاد إلى بيان أنَّ أولئك الكفار لا ينزجرون عن كفرهم ، وأقوالهم الباطلة بالبيانات التي ذكرناها ، إلا إذا جاءتهم الملائكة بالتهديد ، أو أتاهم أمر ربِّك ، وهو عذاب الاستئصال ، وعلى كلا التقديرين قال تعالى : { كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } ، أي : أفعال هؤلاء ، وكلامهم يشبهُ كلام الكفار المتقدمين وأفعالهم ، وتقدم الكلام على قوله : { إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الملاائكة } [ الأنعام : 158 ] في آخر الأنعام ، وأنَّ الأخوين يقرآن بالياء من تحت ، و الباقين بالتاء من فوق ، وهما واضحتان؛ لكونه تأنيثاً مجازيًّا .
قوله : { وَمَا ظَلَمَهُمُ الله } بتعذيبه إياهم ، فإنه أنزل بهم ما استحقوه بكفرهم { ولكن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أي ولكنهم ظلموا أنفسهم؛ بكفرهم ، وتكذيبهم الرسل .
{
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ } أي : عقاب سيئات ما عملوا ، فقوله : « فأصَابَهُمْ » عطف على « فَعلَ الَّذينَ » وما بينهما اعتراضٌ ، « وَحَاقَ » نزل « بِهِمْ » على وجه الإحاطة بجوانبهم ، { مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي : عقاب استهزائهم .
قوله تعالى : { وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا } الآيات .
هذه شبهة ثالثة لمنكري النبوة لأنهم تمسكوا بالقول بالجبر على الطَّعن في النبوة؛ فقالوا : لو شاء الله الإيمان ، لحصل لنا سواء جئت ، أو لم تجئ ، ولو شاء الكفر لحصل الكفر ، جئت أو لم تجئ ، فالكلُّ من الله ، ولا فائدة في مجيئك ولا في إرسالك وهذا غير ما حكاه الله عنهم في سورة الأنعام في قوله : { سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ } [ الأنعام : 148 ] .
واستدلال المعتزلة به ، مثل استدلالهم بتلك الآية ، والكلام فيه استدلال واعتراض عين ما تقدم هناك ، فلا فائدة ، ولا بأس بأن نذكر منه القليل ، فنقول : الجواب عن هذه الشبهة هي : أنَّهم قالوا : لما كان الكل من الله - تعالى - كانت بعثة الأنبياء عبثاً؛ فنقول : هذا اعتراضٌ - على الله - تعالى فإن قولهم : إذا لم يكن في بعثة الرسول مزيد فائدة في حصول الإيمان ، ودفع الكفر؛ كانت بعثة الأنبياءِ غير جائزة من الله - تعالى- .
فهذا القول جارٍ مجرى طلب العلةِ في أحكام الله - تعالى - وفي أفعاله ، وذلك باطل؛ بل الله تعالى يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، ولا يعترض عليه في أفعاله .
وقال بعضُ المتكلمين والمفسرين : إنهم ذكروا هذا الكلام استهزاء؛ كقول قوم شعيبٍ : { إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد } [ هود : 87 ] ولو قالوا ذلك اعتقاداً لكانوا مؤمنين .
قوله : { فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ المبين } قالت المعتزلة : إنه - سبحانه وتعالى - ما منع أحداً من الإيمان ، وما أوقعه في الكفر ، والرسل ليس عليهم إلا التبليغُ .
وأهل السنة قالوا : معناه أنه - تعالى - أمر الرسول بالتبليغ فوجب عليهم ، فأمَّا أن الإيمان هل يحصل ، أو لا يحصل؟ فذلك لا يتعلق بالرسولِ - صلوات الله وسلامه عليه - ولكنه تعالى يهدي من يشاءُ بإحسانه ، ويضل من يشاء بخذلانه ، ويدل عليه قوله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } فإنه يدلُّ على أنه - تعالى - كان أبداً في جميع الأمم؛ آمراً بالإيمان ، وناهياً عن الكفر .
ثم قال : { فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة } أي : فمنهم من هداه الله إلى الإيمان ، ومنهم من أضله عن الحق ، وأوقعه في الكفر ، وهذا يدلُّ على أنَّ أمر الله لا يوافق إرادته؛ بل قد يأمر بالشيء ولا يريده ، وينهى عن الشيء وييده ، وقد تقدم تأويلات المعتزلةِ ، وأجوبتهم مراراً .
والطاغوتُ : كل معبودٍ من دون الله ، وقيل : اجتنبوا الطَّاغوت : أي طاعة الشيطان .
قوله : { أَنِ اعبدوا الله } يجوز في « أنْ » أن تكون تفسيرية؛ لأنَّ البعث يتضمن قولاً ، وأن تكون مصدرية ، أي : بعثناه بأن اعبدوا .
قوله : { فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة } يجوز في « مَنْ » الأولى أن تكون نكرة موصوفة ، والعائد على كلا التقديرين محذوف من الأول ، وقوله « حقَّتْ » يدل على صحة مذهب أهل السنةِ؛ لأنَّه تعالى لمَّا أخبر عنه أنَّه حقت عليه الضلالة ، امتنع أن لا يصدر منه الضلالة ، وإلاَّ لانقلب خبر الله تعالى الصدق كذباً ، وهو محال؛ ويؤيده قوله : { فَرِيقاً هدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة } [ الأعراف : 30 ] ، وقوله : { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ يونس : 96 ] وقوله : { لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } [ يس : 7 ] ثم قال - عز وجل- : { فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين } أي : مآل أمرهم ، وخراب منازلهم بالعذاب ، والهلاك؛ فتعتبروا ، ثم أكد أنَّ من حقت عليه الضلالة؛ فإنه لا يهتدي؛ فقال تعالى : { إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ } أي : تطلب بجهدك ذلك؛ { فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ } .
قوله { إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ } قرأ العامة بكسر الراء ، مضارع حرص بفتحها ، وهي اللغة الغالبة لغة الحجاز .
وقرأ الحسن ، وأبو حيوة : « تَحْرَص » بفتح الراء ، مضارع حرص بكسرها ، وهي لغة لبعضهم ، وكذلك النخعيُّ : إلاَّ أنه زاد واواً قبل : « إنْ » فقرأ : « وإنْتحرصْ » .
قوله : « لا يَهْدِي » قرأ الكوفيون بفتح الياءِ ، وكسر الدَّال ، وهذه القراءة تحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون الفاعل ضميراً عائداً على الله - تعالى - أي : لا يهدي الله من يضله؛ ف « مَنْ » مفعول « يَهْدِي » ؛ ويؤيده قراءة أبي : « فإنَّ الله لا هَادِي لمَنْ يضلُّ ولمَنْ أضلَّ » وأنه في معنى قوله :
{
مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ } [ الأعراف : 186 ] .
والثاني : أن يكون الموصول هو الفاعل ، أي : لا يهدي المضلين ، و « يَهْدي » يجيء في معنى يهتدي ، يقال : هداهُ فهدى ، أي : اهتدى .
ويؤيد هذا الوجه : قراءة عبد الله « يَهِدِّي » بتشديد الدال المكسورة ، والأصل يهتدي؛ فأدغم .
ونقل بعضهم في هذه القراءة كسر الهاء على الإتباع ، وتحقيقه ما تقدم في يونس ، والعائد على « مَنْ » محذوف ، أي : الذي يضله الله .
والباقون « لا يُهْدَى » بضمِّ الياء ، وفتح الدال ، مبنيًّا للمفعول ، و « مَنْ » قائم مقام فاعله ، وعائده محذوف أيضاً .
وجوَّز أبو البقاء : أن تكون « مَنْ » مبتدأ ، و « لا يَهْدِي » خبره - يعني - تقدم عليه .
وهذا خطأ؛ لأنه متى كان الخبر فعلاً رافعاً لضميرٍ مستترٍ وجب تأخيرهُ نحو : « زيْدٌ لا يَضْرِب » ، ولو قدمت لالتبس بالفاعل .
وقرئ « لا يُهْدِي » بضم الياء وكسر الدال .
قال ابن عطية - رحمه الله- : « وهي ضعيفة » .
قال ابن حيَّان : « وإذا ثبت أن » هَدَى « لازم بمعنى اهتدى ، لم تكن ضعيفة؛ لأنه أدخل همزة التعدية على اللازم ، فالمعنى لا يجعل مهتدياً من أضله الله » .
وقوله تعالى : « ومَا لَهُمْ » حمل على معنى « مَنْ » فلذلك جمع .
وقرئ : « مَنْ يَضِلُّ » بفتح الياء من « ضَلَّ » أي : لا يهدي من ضل بنفسه { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } ، أي : [ ما يقيهم ] من العذاب .
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
قوله : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } الآية هذه شبهة رابعة لمنكري النبوة ، وهو قولهم : بأنَّ الحشر ، والنشر ، باطلٌ ، لأن هذه البِنْيَة إذا مات صاحبها ، وتفرقت أجزاؤه ، امتنع عوده بعينه ، وإذا بطل القول بالبعث ، بطل القول بالنبوة من وجهين :
الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى تقرير القول بالمعاد ، وهو باطل؛ فيكون داعياً إلى الباطل؛ ومن كان كذلك لم يكن رسولاً .
والثاني : أنه يقرر نبوة نفسه ، ووجوب طاعته؛ بناء على الترغيب في الثواب والترهيب من العقاب ، وإذا بطل ذلك ، بطلت نبوته .
فقوله : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ } .
معناه : أنهم كانوا يدعون العلم الضروريَّ بأن الشيء إذا فني وعدم ، فإنه لا يعود بعينه ، وأن عوده بعينه محال في بديهة العقل .
وأمَّا بيان أنَّه لما أبطل القول بالبعث بطل القول بالنبوة ، فلم يصرِّحوا به ، فتركوه ، لأنَّه كلام متبادر إلى العقول ، ثمَّ إنه تعالى بيَّن أنَّ القول بالبعث ممكن؛ فقال : « بَلَى وعْداً عليْهِ حَقًّا » أي حق على الله التمييز بين المطيع ، والعاصي ، وبين المحق ، والمبطل ، وبين المظلوم ، والظالم؛ وهو قوله تعالى :
{
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الذي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ } وسيأتي بيان تقرير هذه الطريقة في سورة « يس » إن شاء الله تعالى ، ثم بين إمكان الحشر ، والنشر؛ بأن كونه - تعالى - موجداً للأشياء ، لا يتوقف على سبق مادة ، ولا مدة ، ولا آلة؛ وهو تعالى إنما يكونها بقوله : « كُنْ » .
فقال : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وكما أنه قدر على ابتداء إيجاده؛ وجب أن يكون قادراً على إعادته .
قوله : « وأقْسَمُوا » ظاهره أنه استئناف خبر ، وجعله الزمخشريُّ نسقاً على « وقَالَ الَّذِينَ أشْرَكُوا » إيذاناً بأنهما كفرتان عظيمتان ، وقوله « بَلَى » إثبات لما بعد النفي . قوله « وعْداً عَليْهِ حقًّا » هذان المصدران منصوبان على المصدر المؤكد ، أي : وعد ذلك وعداً وحق حقًّا .
وقيل : « حقًّا » نعت ل « وعْداً » والتقدير : بلى يبعثهم ، وعد بذلك وعداً حقًّا .
وقرأ الضحاك : « وعْد عَليْهِ حَقٌّ » برفعهما؛ على أنَّ « وعْدٌ » خبر مبتدأ مضمر ، أي : بلى يبعثهم وعد على الله ، و « حَقٌّ » نعت ل « وعْدٌ » .
قوله : « لِيُبَيِّنَ » هذه اللام متعلقة بالفعل المقدَّر بعد حرف الإيجاب ، أي : بلى يبعثهم ، ليبيَّن ، وقوله « كُنْ فَيكُونُ » تقدم في البقرة ، « واللام » في « لِشيْءٍ » وفي « لَهُ » لام التبليغ؛ كهي في قوله قلت لهُ قُمْ فقَامَ ، وجعلها الزجاج للسبب فيهما ، أي : لأجل شيء أن يقول لأجله ، وليس بواضح .
وقال ابن عطية : « وقوله » أنْ نَقُولَ « ينزَّل منزلة المصدر ، كأنه قال : قولنا؛ ولكن » أنْ « مع الفعل تعطي استقبالاً ليس في المصدر في أغلب أمرها ، وقد يجيء في مواضع لا يلحظ فيها الزمن؛ كهذه الآية؛ وكقوله - سبحانه وتعالى- : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ } [ الروم : 25 ] إلى غير ذلك » .
قال أبو حيَّان : وقوله : « ولكن » أنْ « مع الفعل يعني المضارع » وقوله : « في أغلب أمرها » ليس بجيدٍ؛ بل تدل على المستقبل في جميع أمورها ، وقوله : « قد تجيء . . . إلى آخره » لم يفهم ذلك من دلالة « أنْ » وإنما فهم من نسبة قيام السماءِ ، والأرض بأمر الله؛ لأنه يختصُّ بالمستقبل دون الماضي في حقه - تعالى- .
ونظيره : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ الأحزاب : 5 ] فكان تدلُّ على اقتران مضمون الجملة بالمزمن الماضي ، وهو - سبحانه وتعالى - متَّصف بذلك في كل زمان .
قوله « قَولُنَا » مبتدأ ، و « أن نقُول » خبره ، و « كُنْ فَيكُونُ » : « كُنْ » من « كَانَ » التامة التي بمعنى الحدوث والوجود ، أي : إذا أردنا حدوث شيء ، فليس إلاَّ أن نقول له احدث فيحدث عقيب ذلك من غير توقفٍ .
وقرأ ابن عامر ، والكسائي « فيكون » بنصب النون ، والباقون بالرفع .
قال الفراء : ولقراءة الرفع وجهها : أن يجعل قوله « أن نقُول له » كلاماً تاماً ، ثم يخبر عنه بأنه سيكون ، كما يقال : « إنَّ زَيْداً يَكْفيهِ إنْ أمِرَ فيَفْعَلُ » برفع قولك « فَيَفْعَلُ » على أن تجعله كلاماً مبتدأ .
وأما وجه القراءة الأولى : فأن تجعله عطفاً على « أن نَقُول » والمعنى : أن نقول كن فيكون . هذا قول الجمهور .
وقال الزجاج : « ويجوز أن يكون نصباً على جواب » كُنْ « » .
ويجاب بأن قوله كُنْ وإن كانت على لفظ الأمر ، فليس القصد به ههنا الأمر ، إنما هو - والله أعلم - الإخبار عن كون الشيء وحدوثه ، وإذا كان كذلك بطل قوله : إنه نصب على جواب « كُنْ » .
فإن قيل : قوله « كُنْ » إن كان خطاباً مع المعدون؛ فهو محالٌ ، وإن كان خطاباً مع الموجود ، كان أمراً بتحصيل الحاصل؛ وهو محالٌ .
فالجواب : أن هذا تمثيل لنفي الكلام والمعاياة وخطاب مع قوم يعقلون ليس هو خطاب المعدوم؛ ولأن ما أراده فهو كائن على كُلِّ حالٍ ، وعلى ما أراده من الإسراعِ ، ولو أراد خلق الدنيا ، والآخرة بما فيهما من السماوات ، والأرض ، في قدر لمحِ البصر لقدر على ذلك؛ ولكن خاطب العباد بما يعقلون .
فصل في دلالة الآية على قدم كلام الله
دلت هذه الآية على قدم القرآن؛ لأنَّ قوله تعالى { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } فلو كان قوله حادثاً؛ لافتقر إحداثه إلى أن يقول له : كن فيكون ، وذلك يوجب التسلسل؛ وهو محال؛ فثبت أنَّ كلام الله قديمٌ .
قال ابن الخطيب : وهذا الدليل عندي ليس بالقوي من وجوه :
أحدها : أنَّ كلمة « إذَا » لا تفيد التكرار؛ لأن الرجل إذا قال لامرأته : « إذا دخَلْتِ الدَّارَ فأنْتِ طالقٌ » فدخلت الدَّار مرة واحدة طلِّقت واحدة ، ولو دخلت ثانياً لم تطلَّق طلقة ثانية ، فعلمنا أنَّ ذلك لا يفيد التكرار؛ وإذا كان كذلك ثبت أنَّه لا يلزم من كل ما يحدثه الله تعالى أن يقول له : كن فيكون ، فلم يلزم التَّسلسلُ .
وثانيها : أن هذا الدليل إن صح ، لزم القول بقدم لفظ « كُنْ » وهذا معلوم البطلان بالضرورة؛ لأنَّ لفظة « كُنْ » مركبة من الكاف والنُّون ، وعند حصول الكاف لم تكن النون حاضرة ، وعند مجيء النون تفوت الكاف ، وهذا يدلُّ على أنَّ لفظة « كُنْ » يمتنع كونها قديمة ، وإنَّما الي يدعي أصحابنا قدمه صفة [ مغايرة ] للفظ : « كُنْ » فالذي تدل عليه الآية لا يقول به أصحابنا ، والذي يقولون به لا تدلُّ عليه الآية؛ فسقط التمسك به .
ثالثها : أنَّ الرجل إذا قال : إنَّ فلاناً لا يقدم على قولٍ ، ولا على فعل ، إلا ويستعين فيه بالله كان عاقلاً؛ لأنا نقول إن استعانته بالله فعل من أفعاله؛ فيلزم أن يكون كل استعانةٍ مسبوقةٍ باستعانة أخرى إلى غير نهاية؛ وهذا كلام باطل بحسب العرف؛ فكذلك ما قالوه .
ورابعها : أنَّ هذه الآية مشعرة بحدوث الكلام من وجوه :
الأول : أن قوله تعالى { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ } يقتضي كون القول واقعاً بالإرادة؛ فيكون محدثاً .
الثاني : أنه علق القول بكلمة « إذَا » وهي إنَّما تدخل للاستقبال .
الثالث : أن قوله تعالى : { أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } لا خلاف أنَّ ذلك ينبئُ عن الاستقبال .
الرابع : أن قوله « كن فَيكُونُ » كلمة مقدمة على حدوثِ الكونِ بزمان واحدٍ ، والمتقدم على المحدث بزمان واحد؛ يجب أن يكون محدثاً .
الخامس : أنه معارض بقوله تعالى : { وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً } [ الأحزاب : 37 ] و { وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً } [ الأحزاب : 38 ] و { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث } [ الزمر : 23 ] و { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ } [ الطور : 24 ] و { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً } [ الأحقاف : 12 ] فإن قيل : فهب أنَّ هذه الآية لا تدل على قدم الكلام لكنكم ذكرتم أنَّها تدل على حدوث الكلام ، فما الجواب عنه؟ .
قلنا : نصرف هذه الدلائل إلى الكلام المسموع الذي هو مركب من الحروف ، والأصوات ، ونحن نقول بكونه محدثاً .
قوله : { والذين هَاجَرُواْ فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } الآية .
لما حكى عن الكفَّار أنَّهم أقسموا بالله جهد أيمانهم ، على إنكار البعث ، دلَّ ذلك على تماديهم في الغيِّ والجهل ، ومن هذا حاله ، لا يبعد إقدامه على إيذاء المسلمين؛ بالضَّرب ، وغيره من العقوبات؛ وحينئذ يلزم على المؤمنين أن يهاجروا عن ديارهم ، ومساكنهم فذكر - تعالى - في هذه الآية حكم تلك الهجرة ، وبيَّن ما للمهاجرين من الحسنة في الدنيا والآخرة؛ من حيث هاجر ، وصبر ، وتوكَّل على الله - عز وجل - وذلك ترغيبٌ لغيرهم في طاعة الله - عز وجل - .
قال ابن عباسٍ - رضي الله عنه- : نزلت هذه الآية في صهيب ، وبلال ، وعمار ، وخبَّاب ، وعابس ، وجبير ، وأبي جندل بن سهيل ، أخذهم المشركون بمكة فجعلوا يعذبونهم؛ ليردوهم عن الإسلام ، فأما صهيب فقال لهم : أنا رجل كبيرٌ إن كنت لكم لم أنفعكم ، وإن كنت عليكم لم أضركم؛ فافتدى منهم بماله ، فلما رآه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - قال : رَبِحَ البيعُ يا صهيب ، وقال عمر رضي الله عنه : « نِعْمَ الرَّجلُ صهيبٌ ، لوْ لَمْ يَخفِ الله لَمْ يَعْصِه » ، يريد لو لم يخلق الله النار لأطاعه .
وقال قتادة - رضي الله عنه- : هم أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم ظلمهم أهل مكة ، وأخرجوهم من ديارهم؛ حتَّى لحق طائفة منهم بالحبشة ، ثم بوَّأهم الله المدينة بعد ذلك؛ فجعلها لهم دار هجرة ، وجعلهم أنصاراً للمؤمنين ، وبسبب هجرتهم ظهرت قوة الإسلام ، كما أن نصرة الأنصار قوَّت شوكتهم ، ودل عليه قوله تعالى : { والذين هَاجَرُواْ فِي الله } على أنَّ الهجرة إذا لم تكن لله ، لم يكن لها موقع ، وكانت بمنزلة الانتقال من بلدٍ إلى بلد .
قوله : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } الآية هذه شبهة رابعة لمنكري النبوة ، وهو قولهم : بأنَّ الحشر ، والنشر ، باطلٌ ، لأن هذه البِنْيَة إذا مات صاحبها ، وتفرقت أجزاؤه ، امتنع عوده بعينه ، وإذا بطل القول بالبعث ، بطل القول بالنبوة من وجهين :
الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى تقرير القول بالمعاد ، وهو باطل؛ فيكون داعياً إلى الباطل؛ ومن كان كذلك لم يكن رسولاً .
وقوله تعالى : { مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } أي أنهم كانوا مظلومين في أيدي الكفار .
قوله : « حَسنَةً » فيها أوجه :
أحدها : أنها نعتٌ لمصدر محذوف ، أي : تبوئة حسنة .
الثاني : أنها منصوبة على المصدر الملاقي لعامله في المعنى؛ لأنَّ معنى { لَنُبَوِّئَنهُمْ « لنحسنن إليهم .
الثالث : أنها مفعول ثانٍ؛ لأن الفعل قبلها مضمن لمعنى لنعطينهم ، و » حَسَنةً « صفة لموصوف محذوفٍ ، أي : داراً حسنة؛ وفي تفسير الحسن : دار حسنة وهي المدينة على ساكنها - أفضل الصلاة والسلام- .
وقيل : تقديره : منزلة حسنة ، وهي الغلبة على أهل المشرق .
وقيل : حسنة بنفسها هي المفعول من غير حذف موصوف .
وقرأ أمير المؤمنين ، وابن مسعود ، ونعيم بن ميسرة : » لنُثوينَّهُمْ « بالثاء المثلثة والياء ، مضارع أثوى المنقول بهمزة التعدية من » ثَوَى بالمكان « أقام فيه وسيأتي أنَّه قرئ بذلك في السبع في العنكبوت ، و » حَسنَةً « على ما تقدم .
ويريد أنه يجوز أن يكون على نزع الخافض أي « في حَسَنة » والموصول مبتدأ ، والجملة من القسم المحذوف وجوابه خبره ، وفيه ردٌّ على ثعلب؛ حيث منع وقوع جملة القسم خبراً .
وجوَّز أبو البقاء في : « الَّذينَ » النصب على الاشتغالِ بفعلٍ مضمر ، أي : لنبوأنَّ الذين .
ورده أبو حيان : بأنه لا يجوز أن يفسر عاملاً ، إلا ما جاز أن يعمل ، وإن قلت « زَيْداً لأضْربنَّ » لم يجز ، فكذا لا يجوز « زَيْداً لأضْربنَّه » .
قوله : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } يجوز فيه أن يعود الضمير على الكفار ، أي : لو كانوا يعلمون ذلك لرجعوا مسلمين .
أو على المؤمنين ، أي : لاجتهدوا في الهجرة والإحسان كما فعل غيرهم .
فصل : الإحسان عند الإعطاء
روي أنَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول : خُذه بَاركَ الله لَكَ فِيهِ ، هذا ما وَعدكَ الله في الدُّنيَا وما ادَّخرَ لَكَ في الآخرةِ أفضلُ ، ثم تلا هذه الآية .
وقيل : المعنى : لنحسنن إليهم في الدنيا . وقيل : الحسنة في الدنيا التوفيق والهداية .
قوله تعالى : { الذين صَبَرُواْ } محلُّه رفعٌ على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هم الذين صبروا ، أو نصب على تقدير أمدح ، ويجوز أن يكون تابعاً للموصول قبله نعتاً ، أو بدلاً ، أو بياناً فمحله محله .
والمعنى : أنَّهم صبروا على العذاب ، وعلى مفارقة الوطن ، وعلى الجهاد ، وبذل الأموال ، و الأنفس في سبيل الله .
قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً } الآية هذه الآية شبهة خامسة لمنكري النبوة ، كانوا يقولون : الله أعلى ، وأجلُّ من أن يكون رسوله واحداً من البشر؛ بل لو أراد بعثة رسولٍ غلينا كان يبعث ملكاً ، وتقدم تقريرُ هذه الشبهة في سورة الأنعام؛ فأجاب الله عن هذه الشبهة بقوله : { نوحي إِلَيْهِمْ } والمعنى : أنَّ عادة الله من أول زمان التكليف لم يبعث رسولاً إلاَّ من البشر ، وهذه العادة مستمرةٌ ، فلا يلتفت إلى طعن هؤلاء الجهال .
ودلت هذه الآية على أنه ما أرسل أحداً من النساءِ ، ودلت على أنه ما أرسل أحداً من النساءِ ، ودلت على أنه - تعالى - ما أرسل ملكاً ، إلاَّ أن ظاهر قوله تعالى : { جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً } [ فاطر : 1 ] يدل على أن الملائكة رسل الله إلى سائر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام- ، ثم قال الله تعالى : { فاسألوا أَهْلَ الذكر } .
قال ابن عباس - رضي الله عنه- : يريد أهل التوراة ، ويدل عليه قوله تعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر } [ الأنبياء : 105 ] يعني التوراة . وقال الزجاج : معناه سلوا كلَّ من يذكر بعلم وتحقيق .
واختلف الناس في أنه هل يجوز للمجتهد تقليد المجتهد؟ منهم من أجازه محتجاً بهذه الآية؛ فقال : لمَّا لم يكن أحد المجتهدين عالماً ، وجب عليه الرجوع إلى المجتهد العالم بالحكم؛ لقوله تعالى : { فاسألوا أَهْلَ الذكر إنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } فإن لم يجب؛ فلا أقل من الجواز .
واحتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا : المكلف إذا نزلت به واقعة ، فإن كان عالماً بحكمها ، لم يجز له القياس ، وإن لم يكن عالماً بحكمها ، وجب عليه سؤال من كان عالماً بها؛ لظاهر هذه الآية ، ولو كان القياس حجة ، لما وجب عليه سؤال العالم؛ لأنه يمكنه استنباط ذلك الحكم بالقياس ، فثبت أن تجويز العمل بالقياس يوجب ترك العمل بظاهر هذه الآية؛ فوجب أن لا يجوز .
والجواب : أنه ثبت جواز العمل بالقياس بإجماع الصحابة - رضي الله عنهم - فالإجماع أقوى من هذا الدليل .
قوله « بِالبَيِّناتِ » فيه ثمانية أوجه :
أحدها : أنه متعلق بمحذوفٍ على أنه صفة ل « رِجَالاً » فيتعلق بمحذوفٍ ، أي رجالاً ملتبسين بالبينات ، أي : مصاحبين لها وهو وجه حسنٌ لا محذور فيه ، ذكره الزمخشريُّ .
الثاني : أنه متعلق ب « أرْسَلْنَا » ذكره الحوفي ، والزمخشريُّ ، وغيرهما ، وبه بدأ الزمخشريُّ ، فقال : « يتعلق ب » أرْسَلْنَا « داخلاً تحت حكم الاستثناء مع » رِجَالاً « أي : وما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات ، كقولك : ما ضَربْتُ إلاَّ زيْداً بالسَّوطِ؛ لأن أصله : ضَربتُ زَيْداً بالسَّوطِ » .
وضعفه أبو البقاء : بأن ما قبل « إلاَّ » لا يعمل فيما بعدها ، إذا تم الكلام على « إلا » وما يليها ، قال : إلا أنه قد جاء في الشعر : [ البسيط ]
3310-
نُبِّئْتهُمْ عَذَّبُوا بالنَّارِ جَارتَهُم ... ولا يُعَذِّبُ إلاَّ الله بالنَّارِ
وقال أبو حيَّان : « وما أجازه الحوفي ، والزمخشري ، لا يجيزه البصريون؛ إذ لا يجيزون أن يقع بعد » إلاَّ « إلاَّ مستثنى ، أو مستثنى منه ، أو تابع لذلك ، وما ظن بخلافه قدر له عامل ، وأجاز الكسائي أن يليها معمول ما بعدها مرفوعاً ، أو منصوباً أو مخفوضاً ، نحو : ما ضَربَ إلا عمراً زيدٌ ، وما ضَربَ إلاَّ زيْدٌ عَمْراً ، وما مرَّ إلاَّ زيْدٌ بِعَمْرٍو » .
ووافقه ابن الأنباري في المرفوع ، والأخفش ، في الظرف ، وعديله؛ فما قالاه يتمشَّى على قول الكسائي ، والأخفش .
الثالث : أنه يتعلق ب « أرْسَلْنَا » أيضاً؛ إلاَّ أنه على نية التقديم قبل أداة الاستثناء تقديره : وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالاً؛ حتى لا يكون ما بعد « إلاَّ » معمولين متأخرين لفظاً ورتبة داخلين تحت الحصر لما قبل « إلاَّ » ، حكاه ابن عطية .
وأنكر الفراء ذلك وقال : « إنَّ صلة ما قبل » إلاَّ « لا يتأخر إلى ما بعد » إلا « لأن المستثنى منه هو مجموع ما قبل » إلاَّ « مع صلته ، فلما لم يصر هذا المجموع مذكوراً بتمامه؛ امتنع إدخال الاستثناء عليه » .
الرابع : أنه متعلق ب « نُوحِي » كما تقول : أوحى إليه بحق . ذكره الزمخشري ، وأبو البقاء .
الخامس : أنَّ الباء مزيدة في « بالبَيِّناتِ » وعلى هذا؛ فيكون « البَيِّنَات » هو القائم مقام الفاعل؛ لأنها هي الموحاة .
السادس : أن الجارَّ متعلق بمحذوف؛ على أنَّه حالٌ من القائم مقام الفاعل ، وهو « إليْهِمْ » ذكرهما أبو البقاء . وهما ضعيفان جدًّا .
السابع : أن يتعلَّق ب « لا تَعْلَمُون » على أنَّ الشرط في معنى : التبكيت والإلزام؛ كقول الأجير : إن كنت عملت لك فأعطني حقِّي .
قال الزمخشريُّ : وقوله تعالى : { فاسألوا أَهْلَ الذكر } اعتراضٌ على الوجوه المتقدمة ، ويعني بقوله : « فاسْئَلُوا » الجزاء وشرطه ، وأما على الوجه الأخير ، فعدم الاعتراض واضحٌ .
الثامن : أنه متعلق بمحذوف جواباً لسؤالٍ مقدرٍ؛ كأنه قيل : بِمَ أرسلوا؟ فقيل : أرسلوا بالبينات ، والزُّبرِ ، كذا قدره الزمخشري . وهو أحسن من تقدير أبي البقاءِ : بعثوا لموافقته للدالِّ عليه لفظاً ومعنى .
فصل في تأويل « إلا »
قال البغوي - رحمه الله- : « إلاَّ » بمعنى « غَيْرَ » ، أي : وما أرسلنا قبلك بالبينات ، والزبر ، غير رجالٍ يوحى إليهم ، ولو لم نبعث إليهم ملائكة .
وقيل : تأويله : وما أرسلنا من قبلك إلاَّ رجالاً يوحى إليهم بالبينات والزبر ، والبينات والزبر : كل ما يتكامل به الراسالة؛ لأن مدارها على المعجزات الدالة على صدق مدعي الرسالة ، وهي البينات على التكاليفِ ، التي يبلغها الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - إلى العباد ، وهي الزبر .
ثم قال تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } أراد بالذكر الوحي وكان - عليه الصلاة والسلام - مبيناً للوحي ، وبيان الكتاب يطلب من السنة . انتهى .
فصل القرآن ليس كله مجملاً بل منه المجمل والمبين
ظاهر هذه الآية يقتضي أن هذا الذكر مفتقر على بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم والمفتقر إلى [ البيان ] مجملٌ ، فهذا النص يقتضي أنَّ هذا القرآن كله مجمل؛ فلهذا قال بعضهم : متى وقع التعارض بين القرآن والخبر وجب تقديم الخبر؛ لأن القرآن مجمل؛ فلهذا قال بعضهم : متى وقع التعارض بين القرآن والخبر وجب تقديم الخبر؛ لأن القرآن مجملٌ بنص هذه الآية ، والخبر مبين لهذه الآية ، والمبين مقدم على المجمل . وأجيب : بأن القرآن منه محكمٌ ، ومنه متشابه ، والمحكم يجب كونه مبيناً؛ فثبت أن القرآن كله ليس مجملاً ، بل فيه المجمل .
فقوله : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } محمول على تلك المجملات .
فصل هل الرسول مبين لكلم ما أنزل الله
ظاهر هذه الآية يقتضي أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم هو لمبين لكلِّ ما أنزل الله على المكلفين ، وعند هذا قال نفاة القياس : لو كان القياس حجة ، لما وجب على الرسول بيانُ كلِّ ما أنزل الله تعالى على المكلفين من الأحكام؛ لاحتمال أن يبين لمكلف ذلك الحكم بطريق القياس ، ولما دلت هذه الآية على أنَّ المبين للتكاليف ، والأحكام؛ هو الرسول ، علمنا أنَّ القياس ليس بحجةٍ .
وأجيب عنه : بأنَّه صلى الله عليه وسلم لما بين أنَّ القياس حجة فمن رجع في تبيين الأحكام والتكاليف إلى القياس؛ كان ذلك في الحقيقة رجوعاً إلى بيان الرسولِ صلى الله عليه وسلم . قالوا : لو كان البيان بالقياس من بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وقع فيه اختلافٌ .
قوله تعالى : { أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات } الآية في « السَّيِّئاتِ » ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنها نعت لمصدر محذوف ، أي : المكرات السيئات .
الثاني : أنه مفعول به على تضمين : « مَكرُوا » عملوا وفعلوا ، وعلى هذين الوجهين ، فقوله { أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرض } مفعولٌ ب « أمِنَ » .
الثالث : أنه منصوب ب « أمن » ، أي : أمنوا العقوبات السيئات ، وعلى هذا فقوله { أَن يَخْسِفَ الله } بدل من « السَّيِّئات » .
والمكرُ في اللغة : هو السعي بالفسادِ خفية ، ولا بد هنا من إضمارٍ ، تقديره المكرات السيئات ، والمراد أهل مكة ، ومن حول المدينة .
قال الكلبيُّ : المراد بهذا المكر : اشتغالهم بعبادة غير الله - تعالى - والأقربُ أن المراد سعيهم في إيذاءِ الرسول ، وأصحابه على سبيل الخفيةِ ، أي : يخسف الله بهم الأرض؛ كما خسف بالقرون الماضية .
قوله : { أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } أي : يأتيهم العذاب من السماء من حيث يفجؤهم؛ فيهلكهم بغتة؛ كما فعل بالقرون الماضية .
{
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ } أي : أسفارهم { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد } [ آل عمران : 196 ] .
وقال ابن عباس - رضي الله عنه- : في اختلافهم . وقال ابن جريج : في إقبالهم وإدبارهم .
وقيل : في حال تلقُّبهم في أمكارهم ، فيحول الله بينهم ، وبين إتمام تلك الحيل .
وحمل التقلُّب على هذا المعنى ، مأخوذ من قوله تعالى : { وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور } [ التوبة : 48 ] . { أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ } هذا الجارُّ متعلق بمحذوفٍ؛ فإنه حال ، إمَّا من فاعل « يَأخُذهُمْ » وإما من مفعوله ، ذكرهما أبو البقاء .
والظاهر كونه حالاً من المفعول دون الفاعل .
والتَّخَوُّفُ : تفعُّلٌ من الخَوفِ ، يقال : خِفْتُ الشَّيء ، وتخَوَّفتهُ .
والتَّخوُّفُ : التَّنقُّص ، أي : نقص من أطرافهم ، ونواحيهم ، الشيء بعد الشيء حتًّى يهلك جميعهم ، يقال : تخوَّفته الدَّهرَ؛ وتخوفه ، إذا نقصه ، وأخذ ماله ، وحشمه ، ويقال : هذه لغة بني هذيل .
وقال الأعرابيِّ : تخوَّفتُ الشَّيءَ وتخيَّفتهُ إذا تنقَّصتهُ .
حكى الزمخشريُّ أن عمر - رضي الله عنه - سألهم على المنبر عن هذه الآية فسكتوا ، فقام شيخٌ من هذيل ، فقال : هذه لغتنا ، التخَوُّف التنقُّص ، فقال عمر : فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ .
قال : نعم ، قال شاعرنا : [ البسيط ]
3311-
تخوَّف الرَّحلُ منهَا تَامِكاً قَرِداً ... كمَا تَخوَّفَ [ عُودَ ] النَّبْعةِ السَّفن
فقال عمر - رضي الله عنه- : أيُّها الناس عليكم بديوانكم لا تضلُّوا ، قالوا : وما ديواننا؟ قال : شعر الجاهلية؛ فإنَّ فيه تفسير كتابكم ، وكان الزمخشري نسب البيت قبل ذلك لزهير ، وكأنه سهوٌ؛ فإنه لأبي كبير الهذلي؛ ويؤيد ذلك قول الرجل : قال شاعرنا ، وكان هذيلياً كما حكاه هو ، فعلى هذا يكون المراد ما يقع في أطراف بلادهم ، كما قال تعالى : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ } [ الأنبياء : 44 ] أي : لا نعاجلهم بالعذاب ، ولكن ننقص من أطراف بلادهم حتى يصل إليهم فيهلكهم .
ويحتمل أن النَّقص من أموالهم وأنفسهم يكون قليلاً قليلاً حتى يفنوا جميعهم .
وقال الضحاك ، و الكلبيُّ : من الخوف ، أي : لا يأخذهم بالعذاب ، أولاً؛ بل يخيفهم ، أو بأن يعذب طائفة؛ فتخاف التي يليها .
ثم قال : { فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } أي يمهل في أكثر الأمر؛ لأنه رءوف رحيم ، فلا يعاجل بالعذاب .
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
قوله : { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ } الآية قرأ الأخوان : « تَرَوْا » بالخطاب جرياً على قوله : « فإنَّ ربّكُمْ » .
والباقون : بالياء جرياً على قوله : { أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ } [ النحل : 45 ] .
وأما قوله { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير } [ الملك : 19 ] فقراءة حمزة أيضاً بالخطاب ، ووافقه ابن عامر فيه؛ فحصل من مجموع الآيتين : أنَّ حمزة بالخطاب فيهما ، والكسائي بالخطاب في الأولى ، والغيبة في الثانية ، وابن عامر بالعكس ، والباقون : بالغيبة فيهما .
وأما توجيهُ الأولى فقد تقدم ، وأما الخطاب في الثانية؛ فجرياً على قوله تعالى : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } [ النحل : 78 ] وأمَّا الغيبة؛ فجرياً على قوله تعالى { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } [ النحل : 73 ] إلى آخره ، وأمَّا تفرقة الكسائي ، وابن عامرٍ بين الموضعين؛ فجمعاً بين الاعتبارين ، وأنَّ كلاًّ منهما صحيح .
فصل
لمَّا خوَّف المشركين بأنواع العذاب المتقدمةِ ، أردفه بما يدلُّ على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي ، والسفلي؛ ليظهر لهم أنَّ مع كمال هذه القدرة القاهرة والقوة الغير متناهية ، كيف يعجز عن إيصال العذاب إليهم؟ وهذه الرؤية لما كانت بصرية وصلت ب « غلى » ؛ لأن المراد بها الاعتبارُ ، والاعتبار لا يكون بنفس الرؤية ، حتى يكون مع النظر غلى الشيء الكامل في أحواله .
قوله : { مِن شَيْءٍ } هذا بيان ل « مَا » في قوله : { مَا خَلَقَ الله } فإنها موصولة بمعنى الذي .
فإن قيل : كيف يبين الموصول وهو مبهم ب « شيء » وهو مبهم؛ بل أبهم ممَّا قبله؟ .
فالجواب : أن شيئاً قد اتضح ، وظهر بوصفه بالجملة بعده؛ وهي : « يَتفيَّؤ ظِلالهُ » .
قال الزمخشري : و « مَا » موصولة ب « خَلقَ الله » وهو مبهمٌ؛ بيانه في قوله { مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ } .
وقال ابن عطية : « مِنْ شيءٍ » لفظ عامٌّ في كل ما اقتضته الصفة من قوله : « يتَفيَّؤُ ظِلالهُ » .
قال الزمخشري : و « مَا » موصولة ب « خَلقَ الله » وهو مبهمٌ؛ بيانه في قوله { مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ } .
وقال ابن عطية : « مِنْ شيءٍ » لفظ عامٌّ في كل ما اقتضته الصفة من قوله : « يتَفيَّؤُ ظِلالهُ » .
فظاهر هاتين العبارتين : أن جملة « يَتَفيَّؤ ظِلالهُ » صفة ل « شَيءٍ » فأما غيرهما؛ فإنه قد صرح بعدم كون الجملة صفة؛ فإنه قال : والمعنى : من كل شيءٍ له ظلٌّ من جبل ، وشجر ، وبناء ، وجسم قائم ، وقوله « يَتفيَّؤُ ظِلالهُ » إخبار من قوله « مِنْ شَيءٍ » ليس بوصف له ، وهذا الإخبار يدلُّ على ذلك الوصف المحذوف الذي تقديره : هو له ظل . وفيه تكلف لا حاجة إليه ، والصفة أبين و « مِنْ شيءٍ » في محل نصبٍ على الحالِ من الموصول ، أو متعلق بمحذوف على جهة البيان؛ أعني : من شيء .
والتَّفَيُّؤ : تَفعُّلٌ من فَاءَ يَفِيءُ ، أي : رَجَعَ ، و « فاء » : قاصر فإذا أريد تعديته عدِّي بالهمزة كقوله { مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ } [ الحشر : 7 ] أو بالتضعيف نحو : فَيَّأ الله الظِّلَ فتَفيَّأ ، وتَفيَّأ : مطاوع فَيَأ ، فهو لازم ، ووقع في شعر أبي تمَّامٍ متعدِّياً في قوله : [ الكامل ]
3312- ...
وتَفَيَّأتْ ظِلاَلَهَا مَمْدُودَا
واختلف في الفيء ، فقيل : هو مطلق الظل ، سواء كان قبل الزوالِ ، أو بعده ، وهو الموافق لمعنى الآية ههنا .
وقيل : ما كان قبل الزوال فهو ظلٌّ فقط ، وما كان بعده فهو ظل وفيءٌ ، فالظل أعم . يروى ذلك عن رؤبة بن العجَّاج ، وأنكر بعضهم ذلك ، وأنشد أبو [ زيد ] للنَّابغة الجعدي : [ الخفيف ]
3313-
فَسلامُ الإلهِ يَغْدُو عَليْهِمْ ... وفُيُوءُ الفِرْدَوْسِ ذَاتِ الظِّلالِ
فأوقع لفظ « الفَيءِ » على ما لم تنسخه الشمس؛ لأن ظلَّ الجنة ما حصل بعد أن كان زائلاً بسبب ضوء الشمس .
وقيل : بل تختصُّ الظلُّ : بما قبل الزوال ، والفيء : بما بعده .
قال الأزهري : تَفيُّؤ الظِّلال : رُجوعُهَا بعد انتِصَافِ النَّهارِ ، فالتفيؤ : لا يكون إلا بالعشيِّ بعدما انصرفت عنه الشمس ، والظل ما يكون بالغداةِ ، وهو ما لم تنله الشمس؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
3314-
فَلا الظِّلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعهُ ... ولا الفَيءُ مِنْ بَرْدِ العَشيِّ تَذُوقُ
وقال امرؤ القيس : [ الطويل ]
3315-
تَيَمَّمتِ العَيْنَ الَّتي عِندَ ضَارجٍ ... يَفِيءُ عليْهَا الظِّلُّ عَرْمَضُهَا طَامِ
وقد خطأ ابن قتيبة الناس في إطلاقهم الفيء على ما قبل الزوال وقال : إنما يطلق على ما بعده؛ واستدل بالاشتقاق؛ فإن الفيء هو الرجوع ، وهو متحقق بما بعد الزَّوال [ قال : وإنما يطلق على ما بعده ] ، فإن الظل يرجع إلى جهة المشرق بعد الزوال بعد ما نسخته الشمس قبل الزوالِ .
وتقول العربُ في جمع فَيء : « أفْيَاء » للقليل ، و « فُيُؤٌ » للكثير؛ كالبيوت ، والعيون ، وقرأ أبو عمرو « تَتفَيَّؤُ » بالتاء من فوق مراعاة لتأنيث الجمع ، وبها قرأ يعقوب ، والباقون بالياء لأنه تأنيث مجازي .
وقرأ العامة : « ظِلاله » جمع ظلٍّ ، وعيسى بن عمر « ظِلَلُه » جمع ظِلَة؛ ك « غُرْفَة ، وغُرَف » .
قال صاحب اللَّوامح في قراءة عيسى « ظِلَلُه » : والظَّلَّة : الغَيْمُ : وهو جسم ، وبالكسر : الفيء ، وهو عرض فرأى عيسى : أنَّ التفيؤ الذي هو الرجوع بالأجسام أولى منه بالإعراض ، وأما في العامة فعلى الاستعارةِ .
قال الواحدي : « ظِلالهُ » أضاف الظلال إلى مفرد ، ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال ، وإنما حسن هذا؛ لأنَّ الذي يرجع إليه الضمير ، وإن كان واحداً في اللفظ ، وهو قوله تعالى { إلى مَا خَلَقَ الله } إلاَّ أنه كثير في المعنى؛ كقوله تعالى { لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ }
[
الزخرف : 13 ] فأضاف الظُّهور ، وهو جمع إلى ضمير مفرد؛ لأنه يعود إلى واحد أريد به الكثرة في المعنى ، وهو قوله تعالى : { مَا تَرْكَبُونَ } انتهى .
قوله تعالى : { عَنِ اليمين } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يتعلق ب « يَتفيَّؤُ » ومعناها المجاوزة أي : يتجاوز الظلال عن اليمين إلى الشمائل .
الثاني : أنها متعلقة بمحذوف على أنها حال من « ظِلالهُ » .
الثالث : أنها اسم بمعنى جانب ، فعلى هذا يبنتصب « إلى » على الظرف .
وقوله : { عَنِ اليمين والشمآئل } فيه سؤالان :
أحدهما : ما المراد باليمين والشمائل؟ .
والثاني : كيف أفرد الأول ، وجمع الثاني؟ .
وأجيب عن الأول بأجوبة :
أحدها : أنَّ اليمين يمين الفلك؛ وهو المشرق ، والشمائل شماله ، وهو المغرب ، وخصَّ هذان الجانبان؛ لأنَّ أقوى الإنسان جانباه؛ وهما يمينه وشماله ، وجعل المشرق يميناً؛ لأن منه تظهر حركة الفلك اليومية .
الثاني : البلدة التي عرضها أقلُّ من الميل تكونُ الشمس صيفاً عن يمين البلد فيقع الظل عن يمينهم .
الثالث : أن المنصوب للعبرة كلُّ جرمٍ له ظلٌّ ، كالجبل ، والشجر ، والذي يترتب فيه الأيمان ، والشمائلن إنما هو البشر فقط ، ولكن ذكر الأيمان ، والشمائل ، هنا على سبيل الاستعارة .
الرابع : قال الزمخشريُّ : { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله } من الأجرام التي لها ظلال متفيئة عن أيمانها ، وشمائلها عن جانبي كل واحد منها وشقَّيه استعارة من يمين الإنسان ، وشماله لجانبي الشيء ، أي : يرجع من جانب إلى جانب .
وهذا قريب ممَّا قبله ، وأجيب عن الثاني بأجوبة :
أحدها : أن الابتداء يقع من اليمين ، وهو شيءٌ واحدٌ؛ فلذلك وحد اليمين ، ثم ينتقص شيئاً فشيئاً وحالاً بعد حال ، فهو بمعنى الجمع ، فصدق على كل حال لفظة الشمائل؛ فتعدُّد بتعدُّد الحالات ، وإلى قريب منه نحا أبو البقاء - رحمه الله- .
والثاني : قال الزمخشريُّ : واليمين بمعنى الأيمان ، يعني أنَّه مفرد قائم مقام الجمع ، وحينئذ فهما في المعنى جمعاً؛ كقوله تعالى { وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 45 ] أي الأدبار .
الثالث : قال الفراء : لأنه إذا وحَّد ذهب إلى واحد من ذوات الظِّلال ، وإذا جمع ذهب إلى كلِّها؛ لأن قوله تعالى { مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ } لفظه واحد ، ومعناه الجمع ، فعبر عن أحدهما بلفظ الواحد؛ كقوله تعالى { وَجَعَلَ الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] وقوله عز وجل : { خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ } [ البقرة : 7 ] .
الرابع : أنَّا إذا فسَّرنا اليمين بالمشرق؛ كانت النقطة التي هي مشرق الشمس واحدة بعينها ، فكانت اليمين واحدة ، وأما الشمائل فهي عبارة عن الانحرافات الواقعة في تلك الظلال بعد وقوعها على الأرض ، وهي كثيرة؛ فلذلك عبَّر عنها بصيغة الجمع .
الخامس : قال الكرمانيُّ : « يحتمل أن يراد بالشمائل الشمال ، والخلف ، والقُدَّام؛ لأنَّ الظل يفيء من الجهات كلها ، فبدأ باليمين؛ لأنَّ ابتداء الفيء منها ، أو تيمُّناً بذكرها ، ثم جمع الباقي على لفظة الشمال؛ لما بين اليمين ، والشمال من التضادِّ ، ونزَّل القدَّام والخلف منزلة الشمال؛ لما بينهما وبين اليمين من الخلاف » .
السادس : قال ابن عطية : « وما قال بعض الناس من أنَّ اليمين أول وقعةٍ للظل بعد الزوالِ ، ثم الآخر إلى الغروب ، هي عن الشمائلِ؛ ولذلك جمع الشمائل ، وأفرد اليمين؛ لتخليطٌ من القول ، ومبطل من جهات » .
وقال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - : « إذا صليتَ الفجر كان ما بين مطلع الشمس ، ومغربها ظلاَّ ، ثم بعث الله عليه الشمس دليلاً؛ فقبض إليه الظِّلَّ؛ فعلى هذا فأول دورة الشمس فالظلُّ عن يمين مستقبل الجنوب ، ثم يبدأ الانحرافُ ، فهو عن الشمائل؛ لأنه حركاتٌ كثيرة ، وظلالٌ منقطعة ، فهي شمائلُ كثيرة؛ فكان الظل عن اليمين متصلاً واحداً عامًّا لكل شيءٍ » .
السابع : قال ابن الضائع رحمه الله : « وجمع بالنظر إلى الغايتين؛ لأنَّ ظل الغداة يضمحلُّ حتى لا يبقى منه إلا اليسيرُ ، فكأنه في جهة واحدة ، وهي بالعشيِّ - على العكس - لاستيلائه على جميع الجهات ، فلحظت الغايتان في الآية ، هذا من جهة المعنى ، وأما من جهة اللفظ ، ففيه مطابقة؛ لأنَّ » سُجَّداً « جمع ، فطابقه جمع الشَّمائل؛ لاتصاله به؛ فحصل في الآية مطابقة اللفظ للمعنى ، ولحفظهما معاً؛ وتلك الغاية في الإعجاز » .
قوله « سُجَّداً » حال من « ظِلالهُ » ، وسُجَّداً جمع ساجدٍ ، كشَاهِدٍ وشُهَّد ورَاكِع ورُكَّع .
والسجودُ : الميل ، يقال : سَجدتِ النَّخلةُ إذا مالتْ ، وسَجدَ البَعيرُ إذَا طَأطَأ رأسه؛ وقال الشاعر : [ الطويل ]
3316- ...
تَرَى الأكْمَ فِيهَا سُجَّداً للحَوافرِ
فالمراد بهذا السجود التواضعُ .
واعلم أن انتقاص الظلِّ بعد كماله إلى غاية محدودة ثمَّ ازدياده بعد غاية نقصانه ، وتنقله من جهة إلى أخرى على وفقِ تدبير الله ، وتقديره بحسب الاختلافاتِ اليوميَّة الواقعة في شرق الأرض ، وغربها ، وبحسب الاختلافات الواقعة في طول السنة على وجه مخصوصٍ ، وترتيب معيِّنٍ لا يكون إلا لكونها منقادة لله تعالى خاضعة لتقديره وتدبيره؛ فكان السجود عبارة عن تلك الحال .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : اختلاف هذه الظلال معلَّلٌ باختلاف سير الشمس لا لأجل تقدير الله؟ .
فالجوابُ : أنَّا وإن سلمنا ذلك ، فمحرك الشمس بالحركة الخاصَّة ليس إلاَّ الله - تعالى - فدل على أنَّ اختلاف أحوال هذه الظلال لم يقع إلا بتدبير الله تعالى ، وقيل : هذا سجود حقيقة؛ لأن هذه الظلال واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد ، قال أبو العلاء المعرِّي ، في صفة وادٍ : [ الطويل ]
3317-
بِخَرْقٍ يُطِيلُ الجُنْحَ فِيهِ سُجودَهُ ... وللأرْضِ زِيّ الرَّاهبِ المُتعبِّدِ
فلمّا كان شكل الأظلال يشبه شكل الساجدين ، أطلق عليه السجود ، وكان الحسنُ يقول : أما ظلُّلك ، فسجد لربِّك ، وأما أنت ، فلا تسجد له؛ بئسما صنعت .
وعن مجاهدٍ : ظلُّ الكافر يصلِّي ، وهو لا يصلِّي ، وقيل : ظلُّ كلِّ شيءٍ يسجد لله ، سواء كان ذلك ساجداً لله ، أم لا .
قوله : { وَهُمْ دَاخِرُونَ } في هذه الجملة ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها حال من الهاء في « ظِلالهُ » . قال الزمخشريُّ : « لأنه في معنى الجمع ، وهو ما خلق الله من كلِّ شيءٍ له ظل ، وجمع بالواو والنون؛ لأنَّ الدُّخورَ من أوصاف العقلاء ، أو لأنَّ في جملة ذلك من يعقل فغلب » .
وقد ردَّ أبو حيَّان هذا بأن الجمهور لا يجيزون مجيء الحالِ من المضاف إليه ، وهو نظير جَاءنِي غُلامُ هِندٍ ضَاحِكَةً ، قال : « ومن أجاز مجيئها منه إذا كان المضاف جزءاً ، أو كالجزءِ جوز الحالية منه هنا؛ لأنَّ الظل كالجزء؛ إذ هو ناشئ عنه » .
الثاني : أنها حال من الضمير المستتر في « سُجَّدًا » فهي حال متداخلة .
الثالث : أنها حال من « ظِلالهُ » فينتصب عنه حالان ، ثم لك في هذه الواو اعتباران :
أحدهما : أن تجعلها عاطفة حالاً على مثلها ، فهي عاطفة ، وليست بواو حالٍ ، وإن كان خلو الجملة الاسميَّة الواقعة حالاً من الواو قليلاً أو ممتنعاً على رأي ، وممن صرح بأنها عاطفة : أبو البقاءِ .
والثاني : أنها واوُ الحال ، وعلى هذا فيقال : كيف يقتضي العامل حالين؟ .
فالجواب : أنه جاز ذلك؛ لأن الثانية بدلٌ من الأولى ، فإن أريد بالسجود التَّذلل والخضوع ، فهو بدل كل من كل ، وإن أريد به [ حقيقته ] ، فهو بدل اشتمالٍ ، إذ السجود مشتمل على الدخور .
ونظير ما نحن فيه : « جَاءَ زيْدٌ ضَاحِكاً وهو شاك » فقولك : « وهو شاك » يحتمل الحاليَّة من « زَيْدٍ » أو ضمير « ضَاحِكاً » ، والدُّخورُ : التواضع؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
3318-
فَلمْ يَبْقَ إلاَّ دَاخِرٌ في مُخَيَّسٍ ... ومُنْجَحِر في غَيْرِ أرْضِكَ في جُحْرِ
وقيل : هو القهر والغلبة ، ومعنى « داخرون » أذلاَّء صاغرين .
قوله تعالى : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } الآية قد تقدم أن السجود على نوعين :
سجود كسجود الصلاة بوضع الجبهة على الأرض ، وسجود هو انقياد وخضوع؛ فلهذا قال بعضهم : المراد بالسجود ههنا : الانقيادُ والخضوع؛ لأنه اللائق بالدابة .
وقيل : السجود حقيقة؛ لأنه اللائق بالملائكة عليهم الصلاة والسلام .
وقيل : السجود لفظ مشتركٌ بين المعنيين ، وحمل اللفظ المشترك [ على إفادة مجموع معنيين جائز ، فيحمل لفظ السجود ههنا على المعنيين معاً ، أما في حق الدابة فبمعنى التواضع ، وأما في حق الملائكة فبمعنى السجود الحقيقي؛ وهذا ضعيف؛ لأن استعمال اللفظ المشترك ] في جميع مفهوماته معاً غير جائز .
قوله تعالى : { مِن دَآبَّةٍ } يجوز أن يكون بياناً ل { مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } ويكون لله تعالى في سمائه خلق؛ يدبون كما يدبُّ الخلق الذي في الأرض ، ويجوز أن يكون بياناً ل { مَا فِي الأرض } فقط .
قال الزمخشريُّ : « فإن قلت : هلاَّ جيء ب » مَنْ « دون » ما « تغليباً للعقلاءِ على غيرهم؟ .
قلت : إنه لو جيء ب « مَنْ » لم يكن فيه دليلٌ على التغليب ، بل كان متناولاً للعقلاء خاصة ، فجيء بما هو صالح للعقلاء ، وغيرهم؛ إرادة للعموم « .
قال أبو حيَّان : » وظاهر السؤال تسليم أنَّ مَنْ قد تشتمل العقلاء ، وغيرهم على جهة التغليب ، وظاهر الجواب تخصيص « مَنْ » بالعقلاءِ ، وأنَّ الصالح للعقلاء ما دون « مَنْ » ، وهذا ليس بجوابٍ لأنه أورد السؤال على التسليم ، ثمَّ أورد الجواب على غير التسليم ، فصار المعنى أنَّ من يغلب بها؛ والجواب لا يغلب بها ، وهذا في الحقيقة ليس بجواب « .
فصل
قال الأخفش : قوله : » مِنْ دَابَّةٍ « يريد من الدَّواب ، وأخبر بالواحدِ؛ كما تقول : ما أتَانِي من رجلٍ مثله ، وما أتَانِي من الرِّجالِ مثلهُ .
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : » يريد كل دابَّة على الأرضِ « .
فإن قيل : ما الوجه في تخصيص الملائكة ، والدواب بالذكر؟ .
فالجواب من وجهين :
الأول : أنَّه تعالى بيَّن في آية الظلال أن الجمادات بأسرها منقادة لله - سبحانه وتعالى - وبين بهذه الآية أنَّ الحيوانات بأسرها منقادة لله - تعالى - لأن أخسَّها الدوابُّ ، وأشرفها الملائكة - عليهم الصلاة والسلام - فلما بين في أخسها ، وفي أشرفها كونها منقادة خاضعة لله - تعالى - كان ذلك دليلاً على أنها بأسرها منقادة خاضعة لله تعالى .
الثاني : قال حكماءُ الإسلام : الدابَّةُ : اشتقاقها من الدَّبيب ، والدبيب عبارة عن الحركة الجسمانيَّة؛ فالدابة اسمٌ لكلِّ حيوان يتحرك ويدبُّ ، فلما ميَّز الله الملائكة عن الدابة؛ علمنا أنَّها ليست مما يدبُّ؛ بل هي أرواحٌ محضةٌ مجردة ، وأيضاً فإن الطيران بالجناح مغاير للدبيب؛ لقوله { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] .
{
وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } يجوز أن تكون الجملة استئنافاً أخبر عنهم بذلك ، وأن يكون حالاً من فاعل » يسجد « .
قوله » يَخَافُونَ « فيها وجهان :
أن تكون مفسرة لعدم استكبارهم ، كأنه قيل : ما لهم يستكبرون؟ فأجيب بذلك ، ويحتمل أن يكون حالاً من فاعل » لا يَسْتَكْبِرُونَ « ، ومعنى » يَخافُونَ ربَّهُمْ « ، أي : عقابه .
قوله : » مِنْ فَوْقِهِمْ « يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنه ينعلق ب » يَخَافُونَ « ، أي : يخافون عذاب ربهم كائناً من فوقهم فقوله » مِنْ فوقِهِمْ « صفة للمضاف ، وهو عذابٌ ، وهي صفة كاشفةٌ؛ لأن العذاب إنَّما ينزل من فوق .
الثاني : أنه متعلق بمحذوفٍ على أنه حال من » رَبِّهمْ « ، أي : يخافون ربَّهم عالياً عليهم علوَّ الرتبة والقدرة قاهراً لهم ، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى : { وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ }
[
الأنعام : 18 ] .
فصل دلالة الآية على عصمة الملائكة
دلت الآية على عصمة الملائكة عن جميع الذنوب؛ لأن قوله { وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } يدلُّ على أنهم منقادون لخالقهم ، وأنهم ما خالفوه في أمرٍ من الأمور ، كقوله { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } [ مريم : 64 ] ، وقوله : { لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [ الأنبياء : 27 ] ، وكذلك قوله - جل وعز- : { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] وذلك يدل على أنهم فعلوا كلَّ ما أمروا به ، فدل على عصمتهم عن كل الذنوب .
فإن قيل : هب أن الآية دلت على أنَّهم فعلوا كلَّ ما أمروا به ، فلم قلتم : إنها تدلُّ على أنهم تركوا كل ما نُهوا عنه؟ .
فالجواب : أنَّ كلَّ من نهى عن شيءٍ ، فقد أمر بتركه؛ وحينئذ يدخل في اللفظ ، فإذا ثبت بهذه الآية كون الملائكة معصومين من كلِّ الذنوب ، وثبت أنَّ إبليس ما كان معصوماً من الذنوب ، بل كان كافراً؛ لزم القطع بأنَّ إبليس ما كان من الملائكةِ ، وأيضاً : فإنه - تعالى - قال في صفة الملائكة : { وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } ، ثم قال عز وجل لإبليس { أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين } [ ص : 75 ] وقال : { فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا } [ الأعراف : 13 ] وثبت أنَّ الملائكة لا يستكبرون ، وثبت أنَّ إبليس تكبَّر ، واستكبر ، فوجب أن لا يكون من الملائكة .
وللخصم أن يجيب بأن إبليس لو لم يكن من الملائكة ، لما ذمَّ على تركه المعهود من ترك مخالفة الأمرِ ، ومن الاستكبار ، فلما خالف الأمر ، واستكبر ، خرج من حيّز الملائكة ، ولعن ، وطرد؛ لأنه خالف المعهود من حاله .
قال ابن الخطيب - رحمه الله - « ولما ثبت بهذه الآية وجوب عصمة الملائكة ، ثبت أنَّ القصة الخبيثة التي يذكرونها في حقِّ هاروت وماروت باطلة ، فإن الله - تبارك وتعالى - وهو أصدق القائلين لما شهد في هذه الآية على عصمة الملائكة وبراءتهم من كل ذنبٍ؛ وجب القطع بأن تلك القصة باطلة كاذبة » .
واحتجَّ الطاعنون في عصمة الملائكة بهذه الآية فقالوا : إنَّ الله - تعالى - وصفهم بالخوف ، ولولا أنهم يجوِّزون من أنفسهم الإقدام على الذنوب ، وإلاَّ لم يحصل الخوفُ والجواب من وجهين :
الأول : أنه - تعالى - حَذَّرهم من العقاب؛ فقال { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 29 ] فللخوف من العذاب يتركون الذنب .
الثاني : أن ذلك الخوف خوف الإجلال؛ هكذا نقل عن ابن عباس؛ كقوله تعالى { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء } [ فاطر : 28 ] وكقول النبي صلى الله عليه وسلم « إنِّي لأخْشَاكُم للهِ » حين قالوا له وقد بكى : أتَبْكِي وقد غَفرَ الله لَكَ مَا تقدَّم من ذَنْبِكَ وما تَأخَّر؟ .
وهذا يدلُّ على أنه كلَّما كانت معرفة الله أتمَّ ، كان الخوف منه أعظم . وهذا الخوف لا يكون إلا خوف الإجلال والكبرياء .
فصل في استدلال المشبهة بالآية والرد عليهم
استدل المشبهة بقوله تعالى : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ } على أنه - تعالى - فوقهم بالذات .
والجواب : أن معناه : يخافون ربَّهم؛ من أن ينزل عليهم العذاب من فوقهم ، وإذا احتمل اللفظ هذا المعنى؛ سقط استدلالهم ، وأيضاً يجب حمل هذه الفوقية على الفوقية بالقدرة ، والقهر والغلبة؛ لقوله تعالى : { وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } [ الأعراف : 127 ]
ويقوِّي هذا الوجه أنه تعالى قال : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ } فوجب أن يكون المقتضي لخوفهم هو كون ربِّهم فوقهم؛ لأنَّ الحكم المرتب على وصف يشعر بكون ذلك الحكم معلَّلاً بذلك الوصف ، وهذا التعليل ، إنَّما يصدح إذا كان المراد بالفوقية ، القهر والقدرة؛ لأنَّها هي الموجبة للخوف ، وأما الفوقية بالجهة ، والمكان ، فلا توجب الخوف؛ لأنَّ حارس البيت فوق الملك بالمكان والجهة مع أنَّه أخسُّ عبيده .
فصل في أن الملك أفضل من البشر
تمسك قومٌ بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر من وجوه :
الأول : قوله تعالى : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مِن دَآبَّةٍ والملاائكة } وقد تقدم أنَّ تخصيص هذين النوعين بالذكر ، إنَّما يحسن إذا كان أحد الطرفين أخسَّ المراتب ، وكان الطرف الثاني أشرفها ، حتَّى يكون ذكر هذين الطرفين منبهاً على الباقي ، وإذا كان كذلك ، وجب أن يكون الملائكة أشرف خلق الله - عز وجل- .
الثاني : أن قوله { وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } يدلُّ على أنه ليس في قلوبهم تكبر ، وترفع ، وقوله تعالى : { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } يدل على أنَّ أعمالهم خالية عن الذنب ، و المعصية ، فمجموع هذين الكلامين يدلُّ على أنَّ بواطنهم ، وظواهرهم ، مبرأةٌ عن الأخلاق الفاسدة ، والأفعال الباطلة ، وأما البشر ، فليسوا كذلك ويدلُّ عليه القرآن والخبر .
أما القرآن فقوله تعالى : { قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ } [ عبس : 17 ] وهذا الحكم عامٌّ في الإنسان ، وأقلُّ مراتبه أن تكون طبيعة الإنسان مقتضية لهذه الأحوال الذَّميمة .
وأما الخبر ، فقوله عليه الصلاة والسلام- : « مَا منَّأ إلاَّ وقدْ عصى أو هَمَّ بِمعْصِيةٍ غير يَحْيَى بن زكريَّا » .
ونعلم بالضرورة أن المبرَّأ عن المعصية ، ومن لم يهمَّ بها أفضل ممَّن عصى ، أو همَّ بها .
الثالث : أنَّ الله - تعالى - خلق الملائكة - عليهم الصلاة والسلام - قبل البشر بأدوار متطاولة ، وأزمان ممتدة ، ثم إنه - تعالى - وصفهم بالطاعة ، والخضوع ، والخشوع طول هذه المدَّة ، وطول العمر مع الطاعة يوجب مزيد الفضيلة لوجهين :
الأول : قوله - صلوات الله وسلامه عليه- : « الشَّيخ في قَومِه كالنَّبيِّ في أمَّتهِ » فضَّل الشيخ على الشابّ؛ وما ذاك إلاَّ لأنَّه لما كان عمره أطول ، فالظاهر أنَّ طاعته أكثر؛ فكان أفضل .
والثاني : قوله - عليه الصلاة والسلام- : « مَنْ سَنَّ سُنَّة حَسنةً فلهُ أجْرهَا وأجْرُ من عَملَ بها إلى يَوْمِ القِيامَةِ » فلما كان شروع الملائكة في الطاعات قبل شروع البشر فيها ، لزم أن يقال : إنهم هم الذين سنُّوا هذه السنة ، وهي طاعة الخالق ، والبشر إنما جاءوا بعدهم ، واستنُّوا بسُنَّتهِم؛ فوجب بمقتضى هذا الخبر أن كلَّ ما حصل للبشر من الثواب ، فقد حصل مثله للملائكةِ ، ولهم ثواب القدر الزائد من الطاعة؛ فوجب كونهم أفضل .
قوله تعالى : { وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين } الآية لمَّا بين أن كلَّ ما سوى الله فهو منقادٌ لجلاله وكبريائه ، أتبعه في هذه الآية بالنهي عن الشرك ، وبأن كل ما سواه ، فهو ملكه؛ وأنه غنيٌّ عن الكل .
قوله تعالى : « اثْنَيْنِ » فيه قولان :
أحدهما : أنه مؤكد ل « إلهَيْنِ » وعليه أكثر الناس ، و « لا تتَّخِذُوا » على هذا يحتمل أن تكون متعدية لواحدٍ ، وأن تكون متعدية لاثنين ، والثاني منهما محذوف ، أي : لا تتخذوا اثنين إلهين ، وفيه بعدٌ .
وقال أبو البقاءِ : « هو مفعولٌ ثانٍ » . وهذا كالغلط؛ إذ لا معنى لذلك ألبتة .
وكلام الزمخشريِّ هنا يفهم أنَّه ليس بتأكيد؛ فإنه قال : طفإن قلت : إنَّما جمعوا بين العدد ، والمعدود؛ فيما وراء الواحد والاثنين ، فقالوا : عندي رجال ثلاثة ، وأفراسٌ أربعةٌ؛ لأنَّ المعدود عارٍ عن الدَّلالةِ عن العدد الخاص ، فأمَّا رجلٌ ورجلان ، وفرسٌ وفرسان؛ فمعدودان فيهما دلالة على العدد؛ فلا حاجة إلى أن يقال : رجل واحد ، ورجلان اثنان ، فما وجه قوله تعالى : { إلهين اثنين } ؟ .
قلت : الاسم الحامل لمعنى الإفراد ، والتثنية دال على شيئين ، على الجنسية ، والعدد المخصوص ، فإذا أريدت الدلالة على أنَّ المعنيَّ به منهما ، والذي يساق إليه الحديث هو العدد شفع بما يؤكد العدد ، فدلَّ به على القصد إليه ، والعناية به ، ألا ترى أنك لو قلت : « إنَّما هُوَ إلهٌ » ، ولم تؤكده بواحدٍ لم يحسن ، وخُيِّلَ أنك أثبت الإلهية ، لا الواحدانيَّة « .
وقال أبو حيَّان رحمه الله : » لما كان الاسمُ الموضوع للإفراد ، والتثنية قد يتجوَّز فيه؛ فيراد به [ الجنس ] ؛ نحو : نِعْمَ الرَّجلُ زَيْدٌ ، ونِعْمَ الرَّجلانِ الزيدان . وقول الشاعر : [ الوافر ]
3319-
فإنَّ النَّارَ بالعُودَيْنِ تُذْكَى ... وإنَّ الحَرْبَ أوَّلُهَا الكَلامُ
أكد الوضوع لهما بالوصف ، فقيل : إلهَيْنِ اثْنَينِ ، وقيل : إلهٌ واحدٌ « .
فصل
قال ابن الخطيب : الفائدة في قوله : » اثْنَيْنِ « : أن الشيء إذا كان ميتنكراً مستقبحاً ، فإذا أريد المبالغة في التنفير عنه عبر عنه بعبارات كثيرة ليصير توالي تلك العبارات سبباً لوقوف العقل على قبحه ، والقول بوجودِ إلهين مستقبحٌ في العقول؛ فإنَّ أحداً من العقلاءِ لم يقل بوجود إلهين متساويين في الوجودِ ، والعدمِ ، وصفات الكمال فالمقصود من تكرير » اثْنَيْنِ « تأكيدُ التنفير عنه ، وتوقيف العقل على ما فيه من القبح ، وأيضاً فقوله » إلهَيْنِ « لفظ واحد يدل على أمرين : ثُبوتِ الإلهِ ، وثبوتِ التعددِ .
فإذا قيل : { لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين } لم يفهم من هذا اللفظ أنَّ النهي ، وقع عن إثبات الإله ، وعن إثبات التعدد ، وعن مجموعهما ، فلما قال : { لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين } ظهر أن قوله : » لا تَتَّخِذُوا « نهيٌ عن إثبات التعدد فقط ، وأيضاً فإنَّ التثنية منافية للإلهية ، وتقريره من وجوه :
الأول : أنَّا لو فرضنا موجودين ، يكون كل واحدٍ منهما واجباً لذاته؛ لكانا مشتركينِ في الوجوب البالتعيين ، وما به المشاركة ، غير ما به المباينة؛ فكلُّ واحدٍ منهما مركبٌ من جزءين ، وكل مركَّب فهو ممكنٌ؛ فثبت أنَّ القول بأن واجب الوجود أكثر من واحدٍ ينفي القول بكونهما واجبي الوجودِ .
الثاني : أنَّا لو فرضنا إلهين ، وحاول أحدهما تحريك جسم ، والآخر تسكينه؛ امتنع كون أحدهما أولى بالفعل من الثاني؛ لأنَّ الحركة الواحدة والسكون الواحد ، لا يقبل القسمة أصلاً ، ولا التفاوت أصلاً؛ وإذا كان كذلك امتنع أن تكون القدرة على أحدهما أكمل من القدرة على الثاني؛ وإذا ثبت هذا ، امتنع كون إحدى القدرتين أولى بالتأثير من الثانية ، وإذا ثبت هذا ، فإمَّا أن يحصل مراد كل منهما ، وهو محال ، أو لا يحصل مراد كلِّ واحدٍ منهما ألبتَّة؛ وحينئذٍ يكون كل واحدٍ منهما عاجزاً؛ والعاجز لا يكون إلهاً . فثبت أن كونهما اثنين ينفي كون كل واحد منهما إلهاً .
الثالث : لو فرضنا غلهين اثنين ، لكان إمَّا أن يقدر أحدهما على أن يستر ملكه عن الآخر ، أو لا يقدر ، فإن قدر؛ فذلك الآخر ضعيفٌ ، وإن لم يقدر ، فهو ضعيفٌ .
الرابع : أن أحدهما : إمَّا أن يقوى على مخالفة الآخر ، أو لا يقوى عليه ، فإن لم يقو عليه ، فهو ضعيف ، وإذا قوي عليه ، فالأول المغلوبُ ضعيف؛ فثبت أنَّ الاثنينيَّة والإلهية متضادان .
فالمقصود من قوله { لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين } هو التنبيه على حصول المنافاة ، والمضادة بين الإلهية ، وبين الاثنينية .
ولما ذكر هذا الكلام قال : { إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } ، أي : إنه لمَّا دل الدليل على أنَّه لا بد للعالم من الإله ، وثبت أنَّ القول بوجود إلهين محالٌ؛ ثبت أنه لا إله إلا الواحد الأحد .
ثم قال { فَإيَّايَ فارهبون } وهذا رجوعٌ من الغيبة إلى حضور ، والتقدير : أنه لما ثبت أنَّ الإله واحد ، وأنَّ المتكلم بهذا الكلام إلهٌ؛ ثبت حينئذٍ أنَّه لا إله للعالم إلاَّ المتكلم بهذا الكلام ، فحينئذ يحسن منه أن يعدل من الغيبة إلى الحضور؛ ويقول : { فَإيَّايَ فارهبون } .
قوله تعالى : { { فَإيَّايَ } منصوب بفعلٍ مضمرٍ مقدَّر بعده ، يفسره هذا الظاهر ، أي : إيَّاي ارهبوا فارهبون ، وقدَّرهُ ابن عطيَّة : ارهبوا إيَّاي ، فارهبون .
قال أبو حيَّان : وهو ذهولٌ عن القاعدة النحوية؛ وهي أنَّ المفعول إذا كان ضميراً متصلاً ، والفعل متعدِّ لواحدٍ ، وجب تأخيرُ الفعل؛ نحو : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } [ الفاتحة : 5 ] ولا يجوز أن يتقدم إلاَّ في ضرورة؛ كقوله : [ الرجز }
3320-
إليْكَ حَتَّى بَلغَتْ إيَّاكا ... وقد مرَّ تقريره أول البقرة .
وقد يجابُ عن ابن عطيَّة : بأنه لا يقبحُ في الأمور التقديريَّة ما يقبحُ في اللفظيَّة .
وفي قوله : « إيَّاي » التفاتٌ من غيبة؛ وهي قوله « وقَالَ اللهُ » إلى تكلم ، وهو قوله « فإيَّاي » ثم التفت إلى الغيبة أيضاً ، في قوله تعالى : { وَلَهُ مَا فِي السماوات والأرض } .
فصل
قوله « فارْهَبُونِ » يفيد الحصر ، وهو أنَّه لا يرهب الخلق إلاَّ منه ، ثم قال : { وَلَهُ مَا فِي السماوات والأرض } .
قال ابن عطية : « والواو في قوله : { وَلَهُ مَا فِي السماوات والأرض } عاطفة على قوله » إلهٌ واحدٌ « ، ويجوز أن تكون واو ابتداءٍ » .
قال أبو حيَّان : « ولا يقال : واو ابتداءٍ إلاَّ لواو الحال ، ولا يظهر هنا الحال » .
قال شهابُ الدين : وقد يطلقون واو ابتداء ، ويريدون بها واو الاستئناف؛ أي : التي لم يقصد بها عطف ولا تشريك ، وقد نصُّوا على ذلك؛ فقالوا : قد يؤتى بالواو أول الكلام ، من غير قصدٍ إلى عطفٍ ، واستدلوا على ذلك بإتيانهم بها في أول اشعارهم وهو كثيرٌ جدًّا .
ومعنى قوله : « عاطفة على قوله : إلهٌ واحدٌ » أي : أنها عطفت جملة على مفرد ، فيجب تأويلها بمفردٍ؛ لأنها عطفت على الخبر؛ فيكون خبراً ، ويجوز - على كونها عاطفة - أن تكون عاطفة على الجملة بأسرها ، وهي قوله تعالى : { إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } . وكأن ابن عطية - رحمه الله - قصد بواو الابتداء هذا؛ فإنَّها استئنافيةٌ .
فصل
قال أهل السنة : هذه الآية تدل على أنَّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى؛ لأنَّها من جملة ما في السماوات والرض ، وليس المراد من كونها لله ، أنَّها مفعولة لأجله ، ولطاعته؛ لأنَّ فيها المباحاتِ ، والمحظورات التي يؤتى بها ، لغرضِ الشَّهوةِ ، واللَّذةِ ، لا لغرضِ الطاعة؛ فوجب أن يكون المراد من كونها لله تعالى أنَّها واقعة بتكوينه وتخليقه .
قوله : { وَلَهُ الدين وَاصِباً } حال من « الدِّينُ » والعامل فيها الاستقرار المتضمن الجارَّ الواقع خبراً ، والواصبُ : الدَّائمُ؛ قال حسَّان : [ المديد ]
3321-
غَيَّرتهُ الرِّيحُ تَسْفِي بِهِ ... وهَزِيمٌ رَعْدهُ وَاصِبُ
وقال ابو الأسود : [ الكامل ]
3322-
لا أبْتَغِي الحَمْدَ القَليلَ بَقاؤهُ ... يَوْماً بِذمِّ الدَّهْرِ أجْمعَ وَاصِبَا
والواصب : العليل لمداومةِ السقم له؛ قال تعالى : { وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ } [ الصافات : 9 ] أي : دائمٌ ، وقيل : من الوصبِ ، وهو التَّعب؛ ويكون حينئذٍ على النسب ، أي : ذا وَصَبٍ؛ لأنَّ الدِّين فيه تكاليف ، ومشاقٌّ على العباد؛ فهو كقوله : [ المتقارب ]
3323- ..
أضْحَى فُؤادِي بِهِ فَاتِنَا
أي : ذا فُتونٍ ، وقيل : الواصب : الخالص ، ويقال : وصَب الشَّيءُ ، يَصِبُ وصُوباً ، إذا دام ، ويقال واظَبَ على الشَّيءِ ، وَواصَبَ عليه إذا دَامَ ، ومَفازَةٌ واصِبَةٌ ، أي : بعيدة ، لا غاية لها .
وقال ابن قتيبة : ليس من أحدٍ يدان له ، ويطاع إلاَّ انقطع ذلك بسبب في حال الحياة ، أو بالموتِ إلا الحقَّ - سبحانه وتعالى - فإنَّ طاعته دائمة لا تنقطع .
قال ابنُ الخطيب : وأقولُ : الدين قد يعنى به الانقياد؛ يقال : يا من دَانتْ لهُ الرِّقَابُ ، أي : انقادت لذاته ، أي : وله الدينُ واصِباً ، أي : انقياد كل ما سواه له لازمٌ أبداً؛ لأنَّ انقياد غيره له معلَّل ، بأنَّ غيره ممكنٌ لذاته ، والممكن لذاته يلزم أن يكون محتاجاً إلى السبب ، في طرفي الوجود ، والعدمِ ، فالماهيَّات يلزمها الإمكان لزوماً ذاتيًّا والإمكان يلزمه الاحتياج إلى المؤثر لزوماً ذاتيًّا ، ينتج أنَّ الماهيات يلزمها الاحتياج إلى المؤثِّر لزوماً ذاتيًّا ، فهذه [ الماهيات ] موصوفة بالانقياد لله - تعالى - اتصافاً ، دائماً ، واجباً ، لازماً ، ممتنع التَّغير .
ثم قال { أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ } ، أي : تخافون؛ استفهام على طريق الإنكارِ ، أي : أنكم بعد ما عرفتم أن إله العالم واحد ، وأن كلَّ ما سواه محتاجٌ إليه ، في حدوثه وبقائه ، فبعد العلم بهذه الأصول ، كيف يعقل أن يكون للإنسان رغبة في غير الله أو رهبة من غير الله؟! .
قوله تعالى : { وَمَا بِكُم } يجوز في « مَا » وجهان :
أحدهما : أن تكون موصولة ، والجارُّ صلتها ، وهي مبتدأ ، والخبر قوله : « فَمِنَ اللهِ » والفاء زائدة في الخبر؛ لتضمن الموصول معنى الشرط ، تقديره : والذي استقرَّ بكم ، و « مِنْ نِعْمَةٍ » بيانٌ للموصولِ .
وقدَّر بعضهم متعلق « بِكُمْ » خاصًّا ، فقال : « ومَا حَلَّ بِكُمْ أو نَزلَ بِكُمْ » .
وليس بجيِّد؛ إذ لا يقدر إلاَّ كوناً مطلقاً .
الثاني : أنها شرطية ، وفعل الشرط بعدها محذوف ، وإليه نحا الفراء ، وتبعه الحوفيُّ وأبو البقاء .
قال الفرَّاء : التقدير « وما يكن بكم » . وقد ردَّ هذا؛ بأنَّه لا يحذف فعلٌ إلا بعد « إنْ » خاصَّة في موضعين :
أحدهما : أن يكون من باب الاشتغال؛ نحو { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ } [ التوبة : 6 ] لأن المحذوف في حكم المذكور .
الثاني : أن تكون « إن » متلوة ب « لا » النافية ، وأن يدلَّ على الشرط ما تقدَّمه من الكلام؛ كقوله : [ الوافر ]
3324-
فَطلِّقْهَا فَلسْتَ لهَا بِكُفءٍ ... وإلاَّ يَعْلُ مَفرِقكَ الحُسَامُ
أي : وإلا تطلقها ، فحذف؛ لدلالة قوله « فَطلِّقُهَا » عليه .
فإن لم توجد « لا » النافية ، أو كانت الأداة غير « إنْ » لم تحذف إلا ضرورة ، مثال الأول قول الشاعر : [ الرجز ]
3325-
قَالتْ بَناتُ العَمِّ : يَا سَلمَى وإنْ ... كَانَ فَقِيراً مُعْدماً؛ قالتْ : وإنْ
أي : وإن كان فقيراً راضية؛ ومثال الثاني قول الشاعر : [ الرمل ]
3326-
صَعْدَةٌ نَابتَةٌ في حَائرٍ ... ايْنَمَا الرِّيحُ تُمَيِّلهَا تَمِلْ
وقول الآخر : [ الخفيف ]
@_3327-
فَمَتى وَاغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّو ... هُ وتُعْطَفْ عَليْهِ كَأسُ السَّاقِي
فصل
لما بيَّن أنَّ الواجب على العاقل أن لا يتَّقي غير الله ، بين ههنا أنه يجب عليه أن لا يشكر أحداً إلا الله تعالى؛ لأنَّ الشكر إنما يلزم على النعمةِ ، وكلُّ نعمةٍ تحصل للإنسانِ ، فهي من الله تعالى ، لقوله { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله } .
واحتجُّوا على أن الإيمان حصل بتخليقِ الله بهذه الآية؛ فقالوا : الإيمانُ نعمة وكلُّ نعمة فهي من الله ، فالإيمان من الله تعالى ، وأيضاً : فالنعمة عبارة عن كل ما ينتفع به ، وأعظم الأشياء نفعاً هو الإيمان ، فثبت أنَّ الإيمان نعمةٌ ، وكل نعمة فهي من الله؛ لقوله { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله } وهذا اللفظ يفيد العموم ، وأيضاً : فالموجود إمَّا واجب لذاته ، وهو الله - تعالى - وإما ممكنٌ لذاته ، والممكن لذاته ، لا يوجد إلا لمرجح؛ إن كان واجباً لذاته ، كان حصول ذلك الممكن بإيجادِ الله - تعالى - وإن كان مُمْكِناً لذاته ، عاد التقسيمُ الأول فيه والتسلسل؛ وهو محال ، فلا بدَّ أن ينتهي إلى إيجاد الواجب لذاته؛ فثبت بهذا أنَّ كل نعمة فهي من الله .
واعلم أنَّ النعم : إمَّا دينيَّة أو دنيويَّة ، أما النعمُ الدينية : فهي إمَّا معرفة الحقِّ لذاه ، وإما معرفة الخير؛ لأجل العمل به ، وأما النعمُ الدنيوية فهي : إمَّا نفسانية ، وإما بدنيةٌ ، وإما خارجية ، وكل واحدٍ من هذه الثلاثة جنس تحته أنواع خارجة عن الحصر والتحديد؛ كما قال : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] انتهى .
قوله : { إِذَا مَسَّكُمُ الضر } قال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما- : يريد الأسقام ، والأمراض ، والقحط ، والحاجة .
[
قوله ] : { فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } الفاء جواب « إذَا » والجُؤارُ : رفع الصَّوت؛ قال رؤبة يصف راهباً : [ المتقارب ]
3328-
يُداوِمُ من صَلواتِ المَلِيكِ ... طَوْراً سُجُوداً وطَوْراً جُؤار
ومنهم من قيَّده بالاستغاثة؛ وأنشد الزمخشريُّ : [ الكامل ]
3329 ... -
جَأَّرُ سَاعَاتِ النِّيامِ لِربِّهِ
...
وقيل : الجُؤارُ : كالخُوارِ ، جَأرَ الثَّوْرُ ، وخَارَ : واحِدٌ ، إلاَّ أنَّ هذا مهموز العين ، وذلك مُعتلها .
وق لالراغب : « جَأرَ إذا أفْرطَ في الدُّعاءِ ، والتَّضرُّعِ تَشْبِيهاً بجُؤارِ الوحشيات » وقرأ الزهري : « تَجَرُونَ » محذوف الهمزة ، وإلقاء حركتها على الساكن قبلها ، كما قرأ نافع : « رِداً » في { رِدْءاً } [ القصص : 34 ] .
ومعنى الآية : أنَّه - تعالى - بيَّن أن جميع النِّعم من الله ، ثم إذا اتفق لأحدٍ مضرةٌ تزيل تلك النعم؛ فإلى الله يستغيث؛ لعلمه بأنَّه لا مفزع للخلق إلا الله ، فكأنه - تعالى- قال لهم : فأين أنتم عن هذه الطريقة في حال الرخاءِ ، والسلامة .
قوله : { ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر } « إذَا » الأولى شرطية ، والثانية : فجائية جوابها ، وفي الآية دليل على أنَّ « إذَا » الشرطية لا تكون معمولة لجوابها؛ لأنَّ ما بعد « إذَا » الفجائية لا يعمل فيما قبلها .
[
وقرأ قتادة ] : « كَاشِفٌ » على فاعل . قال الزمخشريُّ : « بمعنى » فعل « وهو أقوى من » كَشَف « لأن بناء المغالبة يدل على المبالغة » .
قوله : « مِنْكُمْ » يجوز أن يكن صفة ل « فَرِيقٌ » ، و « مِنْ » للتبعيض ، ويجوز أن يكون للبيان ، قال الزمخشريُّ : « كأنه قال : إذا فريقٌ كافرٌ ، وهم أنتم » .
فصل
بين - تعالى - أنَّ عند كشف الضرِّ ، وسلامة الأحوال ، يفترقون : فريق منهم يبقى على ما كان عليه عند الضَّراء ، أي : لا يفزع إلاَّ إلى الله ، وفريق منهم يتغيَّرون فيشركون بالله - تعالى - غيره؛ وهذا جهلٌ وضلالٌ؛ لأنَّه لما شهدت فطرته الأصليَّة عند نزول البلاءِ ، والضرِّ في ألاَّ يفزع إلا إلى الله ، ولا يستغاث إلا بالله - فعند زوال البلاءِ يجب ألاَّ يزول عن ذلك الاعتقاد؛ ونظير هذه الآية قوله تعالى : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } [ لقمان : 13 ] .
قوله : { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ } في هذه اللام ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن تكون لام كي ، وهي متعلقة ب « يُشْرِكُونَ » ، أي : أن إشراكهم سببه كفرهم به .
الثاني : أنَّها لام الصَّيرورةِ ، أي : صار أمرهم إلى ذلك .
الثالث : أنَّها لام الأمر ، وإليه نحا الزمخشريُّ .
وقرأ ابو العالية ، ورواها مكحول عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم « فيُمْتَعُوا » بضمِّ الياءِ من تحت ، ساكن الميم ، مفتوح الياء مضارع « مُتِعَ » مبنيًّا للمفعول ، « فسَوْفَ يَعْلمُونَ » بالياء من تحت أيضاً ، وهذا المضارع في هذه القراءة ، يجوز أن يكون حذف منه النون فيه؛ إما للنصب ، عطفاً على « لِيَكْفُروا » وإن كانت لام « كي » ، أو للصيرورة ، وإما لنصب أيضاً ، ولكن على جواب الأمر إن كانت اللام للأمر ، ويجوز أن يكون حذفها للجزم؛ عطفاً على « لِيَكْفرُوا » وإن كانت للأمر أيضاً .
فصل
قال بعض المفسرين : هذه لام العاقبة؛ كقوله تعالى : { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] يعني : أنَّ عاقبته تلك التضرعات ، ما كانت إلا هذا الكفر .
والمراد بقوله : « بِمَا ءَاتَيْناهُمْ » كشف الضرِّ ، وإزالة المكروه ، وقيل : لمراد به القرآن وما جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم من النبوة والشرائع .
ثمَّ توعَّدهم فقال : « فتَمتَّعُوا » ، [ والمراد منه التهديد ] ؛ كقوله { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] وقوله : { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أمركم ، وما ينزل بكم من العذاب .
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
قوله : { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً } الآية لما بيَّن فساد قول أهل الشرك بالدلائل القاهرة ، شرح في هذه الآية تفاصيل أقوالهم .
قوله : { لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ } الضمير في قوله : « يَعْلمُونَ » يجوز أن يعود للكفار ، أي : لما يعلم ، ومعنى « لا يَعْلمُونَ » أنهم يسمُّونها آلهة ، ويعتقدون أنَّها تضرُّ ، وتنفع ، وتشفع؛ وليس الأمر كذلكز
ويجوز أن تكون للآلهة ، وهي الأصنام ، أي : الأشياء غير موصوفةٍ بالعلمز
قال باضهم : والأوَّل أولى؛ لأنَّ نفي العلم عن الحي حقيقةٌ ، وعن الجمادِ مجازٌ ، وأيضاً : الضمير في « ويَجْعَلُونَ » عائدٌ غلى المشركين ، فكذلك في قوله { لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ } ، وأيضاً فقوله : { لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ } جمعٌ بالواو والنون؛ وهو بالعقلاءِ أليق منه بالأصنام .
وقيل : الثاني أولى؛ لأنَّا إذا أعدناه إلى المشركين؛ افتقرنا إلى إضمار؛ فإن التقدير : ويجعلون لما لا يعلمون إلهاً ، أو لما لا يعلمون كونه نافعاً ضارًّا ، وإذا اعدناه إلى الأصنام ، لم نفتقر إلى الإضمار؛ لأن التقدير : ويجعلون لما لا علم لها .
وأيضاً : لو كان هذا العلم مضافاً إلى المشركين ، لفسد المعنى؛ لأنه من المحال أن يجعلوا نصيباً مما رزقهم ، لما لا يعلمونه .
فإذا قلنا بالقول الأول ، احتجنا إلى الإضمار ، وذلك يحتمل وجوهاً :
أحدها : ويجعلون لما لا يعلمون له حقًّا ، ولا يعلمون في طاعته [ نَفْعاً ] ، ولا في الإعراضِ عنه ضُرًّا .
قال مجاهدٌ : يعلمون أنَّ الله خلقهم ويضرُّهم وينفعهم ، ثم يجعلون لما لا يعلمون أنَّه ينفعهم ، ويضرُّهم نصيباً .
وثانيها : ويجعلون لما لا يعلمون إلهيَّتها .
وثالثها : ويجعلون لما لا يعلمون السبب في صيرورتها ىلهة معبودة .
قوله « نَصِيباً » هو المفعول الأول للجعل ، والجارُّ قبله هو الثاني ، أي : ويصيِّرون الأصنام .
[
وقوله : ] { مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ } يجوز أن يكون نعتاً ل « نَصِيباً » وأن يتعلق بالجعل؛ ف « مِنْ » على الأول للتبعيض ، وعلى الثاني للابتداء .
فصل
في المراد بالنصيب احتمالات :
أحدها : أنهم جعلوا لله نصيباً من الحرثِ ، والأنعامِ؛ يتقرَّبون به إلى الله ، ونصيباً للأصنام؛ يتقربون به إليها ، كما تقدم في آخر سورة الأنعام .
والثاني : قال الحسنُ - رحمه الله - : المراد بهذا النصيب : البَحِيرةُ ، و السَّائبةُ ، والوَصِيلةُ ، والحَامِ .
والثالث : ربما اعتقدوا في بعض الأشياء ، أنَّه لما حصل بإعانة بعض تلك الأصنام ، كما أنَّ المنجمين يوزِّعون موجودات هذا العالم على الكواكب السبعة ، فيقولون : لرجلٍ كذا وكذا من المعادن ، والنبات ، والحيوان ، وللمشتري أشياء أخرى .
ثمَّ لمَّا حكى عن المشركين هذا المذهب ، قال : { تالله لَتُسْأَلُنَّ } وهذا في هؤلاء الاقوام خاصة بمنزلة قوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الحجر : 92 ، 93 ] ، فأقسم الله سبحانه وتعالى - جل ذكره - على نفسه أنَّه يسسألهم ، وهذا تهديد شديد؛ لأن المراد من هذا أنه يسألهم سؤال توبيخٍ ، وتهديدٍ ، وفي وقت هذا السؤال احتمالان :
الأول : أنه يقع هذا السؤال عند قرب الموت ، ومعاينة ملائكة العذاب ، وقيل : عند عذاب القبر ، وقيل : في الآخرةِ .
الثاني : أنه يقع ذلك في الآخرة ، وهذا أولى؛ لأنه - تعالى - قد أخبر بما يجري هناك من ضروب التوبيخ عند المسألة ، فهو إلى الوعيد أولى .
النوع الثاني من كلماتهم الفاسدة : قوله : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات } ونظيره قوله : { وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً } [ الزخرف : 19 ] كانت خزاعة ، وكنانة تقول : الملائكة بنات الله .
قال ابن الخطيب : « أظنُّ أنَّ العرب إنَّما أطلقوا لفظ البنات على الملائكة؛ لأن الملائكة - عليهم الصلاة والسلام - لما كانوا مستترين عن العيون ، أشبهوا النساء في الاستتار ، فأطلقوا عليهم البنات » .
وهذا الذي ظنَّه ليس بشيءٍ ، فإن الجنَّ أيضاً مستترون عن العيون ، ولم يطلقوا عليها لفظ البنات .
ولمَّا حكى عنهم هذا القول قال : « سُبْحَانهُ » والمراد : تنزيه ذاته عن نسبة الولد إليه .
وقيل : تعجيب الخلق من هذا الجهل الصَّريح ، وهو وصف الملائكة بالأنوثةِ ، ثم نسبتها بالولدية إلى الله - سبحانه وتعالى - والمعنى : معاذ الله .
قوله : { وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن هذا الجملة من مبتدأ ، وخبر ، أي : يجعلون لله البنات ، ثمَّ أخبر أنَّ لهم ما يشتهون .
وجوَّز الفرَّاء ، والحوفيُّ ، والزمخشري ، وأبو البقاء - رحمهة الله عليهم - أن تكون « مَا » منصوبة المحلّ؛ عطفاً على « البَناتِ » و « لَهُمْ » عطف على الله ، أي : ويجعلون لهم ما يشتهون .
قال أبو حيَّان : وقد ذهلوا عن قاعدةٍ نحويَّة ، وهو أنه لا يتعدَّى فعل المضمر إلى ضميره المتَّصلِ ، إلاَّ في باب « ظنَّ » وفي « عَدمَ » و « فَقَد » ولا فرق بين أن يتعدى الفعل بنفسه ، أو بحرف الجرِّ؛ فلا يجوز : زَيْدٌ ضربه ، أي : ضرب نفسهُ ، ولا « زَيْدٌ مَرَّ بِِهِ » ، أي : مر بنفسه ، ويجوز : « زيد ظنه قائماً » ، و « زيد فقده وعدمه » أي : [ ظن نفسه قائماً ، وفقد ] نفسه ، وعدمها . إذا تقرَّر هذا ، فجعل « مَا » منصوبة عطفاً على « البَناتِ » يؤدِّي إلى تعدِّي فعل الضمير المتَّصل ، وهو واو « يَجْعلُونَ » إلى ضميره المتَّصل ، وهو « هُمْ » في « لَهُمْ » انتهى .
وهذا يحتاجُ إلى إيضاح أكثر من هذا ، وهو أنَّه لا يجوز تعدي فعل الضمير المتصل ، ولا فعل الظاهر إلى ضميرها المتصل ، إلا في باب « ظنَّ » وأخواتها من أفعال القلوب ، وفي « فَقَد » و « عَدمَ » فلا يجوز زيدٌ ضربهُ زيدٌ ، أي : ضَربَ نفسه ، ويجوز : زَيْدٌ ظنَّه قَائماً ، وظنَّه زَيْدٌ قَائِماً ، وزيْدٌ فقَدهُ وعدمهُ ، وفقَدهُ وعَدمهُ زَيْدٌ ، ولا يجوز تعدي فعل المضمر المتصل إلى ظاهر ، في باب من الأبواب ، لا يجوز : زيدٌ ضربَ نَفسَهُ ، وفي قولنا « غلى ضميرها المتصل » قيدان :
أحدهما : كونه ضميراً ، فلو كان ظاهراً كالنَّفس لم يمتنع ، نحو : زَيْدٌ ضرب نفسهُ وضَرَب نفسه زيد .
والثاني : كونه متَّصلاً ، فلو كان منفصلاً؛ جاز ، نحو : زيدٌ ما ضرب إلاَّ إيَّاه ، وما ضَربَ زيْدٌ إلاَّ إياه ، وأدلَّة هذه المسألة مذكورة في كتب النَّحو .
وقال مكي : « وهذا لا يجوز عند البصريين ، كما لا يجوز : جعلت لي طعاماً إنَّما يجوز جعلت لنفسي طعاماً ، فلو كان لفظ القرآنِ : ولأنفسهم ما يشتهون ، جاز ما قال الفرَّاء عند البصريين ، وهذا أصلٌ يحتاج إلى تعليل ، وبسطٍ كثيرٍ » .
وقال أبو حيَّان - بعدما حكى أنَّ « مَا » في موضع نصبٍ عن الفرَّاء ، ومن تبعه- : وقال أبو البقاءِ ، وقد حكاهُ؛ وفيه نظرٌ .
قال شهابُ الدِّين : « وأبو البقاء لم يجعل النَّظر في هذا الوجه ، إنَّما جعله في تضعيفه ، بكونه يؤدِّي غلى تعدي فعل المضمر المتَّصل إلى ضميره المتصل في غير ما استثني ، فإنه قال : » وضعَّف قومٌ هذا الوجه ، وقالوا : لو كان كذلك لقال : ولأنفسهم ، وفيه نظرٌ « فجعل النظر في تضعيفه لا فيه » .
وقد يقال : وجه النَّظر أنَّ الممتنع تعدى ذلك الفعل ، أي : وقوعه على ما جر بالحرف ، نحو : « زيد مرَّ بِهِ » فإن المرور واقعٌ ب « زيدٍ » ، وأمَّا ما نحن فيه ، فليس الجعل واقعاً بالجاعلين ، بل ما يشتهون .
وكان أبو حيَّان يعترض دائماً على القاعدة المتقدمة بقوله تعالى : { وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة } [ مريم : 25 ] { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب } [ القصص : 32 ] .
والجواب عنهما ما تقدَّم ، وهو أنَّ الهزَّ ، والضَّم ليسا واقعين بالكاف ، وقد تقدَّم لنا هذا البحث في مكانٍ آخر ، وإنَّما أعدته لصعوبته ، وخصوصيته ، هذا بزيادة فائدة ، وأراد بقوله : { وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } [ النحل : 57 ] أي : الشيء الذي يشتهونه ، وهو السَّترُ .
ثمَّ إنه - تعالى - ذكر أنَّ الواحد من هؤلاء المشركين لا يرضى بالبنت لنفسه فالذي لا يرتضيه لنفسه كيف ينسبه لله - تعالى - فقال تعالى : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى } .
التَّبْشيرُ في عرف اللغة : مختصٌّ بالخبر الذي يفيد السرور ، إلا أنَّ أصله عبارة عن الخبر الذي يؤثر في تغيير بشرة الوجه ، ومعلومٌ أن السُّرورَ كما يوجب تغير البشرة ، فكذلك الحزن يوجبه؛ فوجب أن يكون التَّبشيرُ حقيقة في القسمين ، ويؤكِّده قوله تعالى : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] . وقيل : المراد بالتَّبشير ههنا الإخبار .
قوله : { ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً } يجوز أن تكون « ظلَّ » ليست على بابها من كونها تدلُّ على الإقامة نهاراً على الصِّفة المسندة إلى اسمها ، وأن تكون بمعنى : « صَارَ » وعلى التقديرين هي ناقصة ، و « مُسْودًّا » خبرها .
وأما « وجهه » ففيه وجهان :
أشهرهما ، وهو المتبادر إلى الذّهن أنه اسمها .
والثاني : أنه بدلٌ من الضمير المستتر في « ظلَّ » : بدل بعضٍ من كلٍّ ، أي : ظلَّ أحدهم وجهه ، أي : ظل وجه أحدهم .
قوله : « كَظِيمٌ » يجوز أن يكون بمعنى فاعل ، وأن يكون بمعنى مفعول كقوله : { وَهُوَ مَكْظُومٌ } [ القلم : 48 ] ، والجملة حالٌ ، وبجوز أن يكون : « وهُوَ كَظيمٌ » حالاً من الضَّمير في « ظلَّ » أو من « وَجْههِ » أو من الضمير في : « مُسْودًّا » .
وقال أبو البقاءِ : « فلو قرئ هنا » مُسْوَدٌّ « يعني بالرفع ، كلان مستقيماً على أن يجعل اسم » ظل « مضمراً فيها ، والجملة خبرها » .
وقال في سورة الزخرف [ الآية : 17 ] : « ويقرآن بالرفع على أنه مبتدأ ، وخبر في موضع خبر ظلَّ » .
قوله : { يتوارى } يحتمل أن تكون مستأنفة ، وأن تكون حالاً ممَّا كانت الأولى حالاً منه إلا « وجْههُ » فإنه لا يليق ذلك به ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في : « كَظِيمٌ » .
قوله { مِنَ القوم مِن سواء } تعلق هنا جاران بلفظ واحد لاختلاف معناهما فإنَّ الأولى للابتداء ، والثانية للعلَّة ، أي : من أجل سوء ما بشِّر به .
قوله : « أيُمْسِكهُ » قال أبو البقاء : « في موضع الحال ، تقديره : يتوارى ، أي : مُتردِّداً هل يمسكه أم لا؟ » .
وهذا خطأٌ عند النحويين؛ لأنهم نصوا على أنَّ الحال ، لا تقع جملة طلبيَّة ، و الذي يظهر أن هذه الجملة الاستفهامية معمولة لشيءٍ محذوف هو حال من فاعل « يَتوارَى » ، ليتم الكلام ، أي : يتوارى ناظراً ، أو متفكِّراً : « أيُمسِكهُ على هُونٍ . . . أمْ يدُسُّه » على تذكير الضمائر اعتباراً بلفظ « مَا » .
وقرأ الجحدريُّ : أيُمْسِكُها ، أم يدسُّها مراعاة للأنثى ، أو لمعنى « مَا » .
وقرئ : أيمسكهُ أم يدسُّها ، والجحدري ، وعيسى - رحمهما الله - على « هَوان » بزنة فدان ، وفرقة على « هَوْنٍ » وهي قلقة؛ لأنَّ الهون بفتح الهاء : الرِّفقُ ، واللينُ ، ولا يناسب معناه هنا ، وأمَّا الهوان فمعنى « هُونٍ » المضموم .
قوله : { على هُونٍ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه حال من الفاعل ، وهو مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - فإنه قال : أيمسكه مع [ رضاء ] بهوان نفسه ، وعلى رغم أنفه .
والثاني : أنه حالٌ من المفعول ، أي : يمسكها ذليلة مهانة .
والدَّس : إخفاء الشيء ، وهو هنا عبارة عن الوَأدِ .
فصل
معنى الآية : أنَّ وجهه يتغير تغير المغموم ، ويقال لمن لقي مكروهاً قد اسود وجهه غمًّا ، وحزناً ، وإنما جعل اسوداد الوجه كناية عن الغمِّ؛ لأنَّ الإنسان إذا قوي فرحه انشرح صدره ، وانبسط روح قلبه من داخل البدن ، ووصل إلى الأطراف ، ولا سيَّما إلى الوجه لما بين القلب ، والدِّماغ من التَّعلق الشَّديد ، وإذا وصل الرُّوح إلى ظاهر الوجه أشرق الوجه ، وتلألأ ، واستنار ، وإذا قوي غمُّ الإنسان احتقن الروحُ في داخل القلب ، ولم يبق منه أثرٌ قويٌّ في ظاهر الوجه ، فلا جرم يصفرُّ الوجه ، ويسودُّ ، ويظهر فيه أثر الأرضية ، والكآبة؛ فثبت أنَّ من لوازم الفرح استنارة الوجه ، وإشراقه ، ومن لوازم الغمِّ كمودة الوجه ، وغبرته ، وسواده ، فلهذا قال : { ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } أي ممتلئ غمًّا « يتوارى » به من القوم يتنحى عنهم ويتغيَّب من سوء ما بشِّر .
قال المفسِّرون : كان الرجلُ في الجاهليَّة إذا ظهر آثار الطَّلق بامرأته توارى واختفى عن القوم إلى أن يعلم ما يولد له ، فإن كان ذكراً؛ ابتهج به وإن كان أنثى حزن ، ولم يظهر أياماً يدبر فيها رأيه ماذا يصنع بها؟ وهو قوله : { أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ } ، أي : أيحتبسه؟ والإمساك هنا : الحبس ، كقوله : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } [ الأحزاب : 37 ] والهُونُ : الهَوان .
قال النضر بن شميلٍ : يقال : إنه أهون عليه هوناً ، وهَواناً ، وأهَنْتُه هُوناً وهواناً ، وقد تقدَّم الكلام فيه في سورة الأنعام عند قوله تعالى : { عَذَابَ الهون } [ الأنعام : 93 ] .
{
أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب } والدَّسُ : إخفاءُ الشيء في الشيء ، كانت العرب يدفنون البنات أحياء خوفاً من الفقر عليهن ، وطمع غير الأكفاءِ فيهنَّ .
قال قيس بن عاصم : يا رسول الله : « إني واريت ثماني بنات في الجاهليَّة ، فقال - صلوات الله وسلامه عليه- : أعتِقْ عَنْ كُلِّ واحِدةٍ منهُنَّ رقبة » ، فقال : يا نبيَّ الله إنِّي ذُو إبلٍ ، فقال - عليه الصلاة والسلام - « أهدِ عن كُلِّ واحدةٍ مِنهُنَّ هَدْياً » .
وروي « أنَّ رجلاً قال : يا رسول الله : والذي بعثك بالحق نبيًّا ما أجدُ حلاوة الإسلام منذ أسلمت قد كان لِيَ بنتٌ في الجاهليَّة ، وأمرتُ امْرأتي أن تُزيِّنهَا وتطيبها ، فأخْرَجتْهَا إليّ فلمَّا انْتهَيْتُ بِهَا إلى وادٍ بَعيدٍ القعْر ألقَيْتُهَا فيهِ ، فقالت : يا أبَتِ قَتَلتَنِي ، فكُلَّما تَذَكَّرتُ قَوْلهَا لَمْ يَنْفَعْنِي شيءٌ ، فقال صلى الله عليه وسلم » مَا كانَ في الجاهليَّة فقد هَدمهُ الإسلامُ ، ومَا كَانَ في الإسلامِ يَهدمهُ الاستِغفَارُ « .
واعلم أنَّهم كانوا مختلفين في قتل البنات ، فمنهم من يذبحها ، ومنهم من يحفر الحفيرة ، ويدفنها إلى أن تموت ، ومنهم من يرميها من شاهق جبلٍ ، ومنهم من يغرقها ، وكانوا يفعلون ذلك تارة للغيرة ، وتارة للحميَّة ، وتارة خوفاً من الفقر ، والفاقة ، ولزومِ النَّفقةِ .
وكان صعصعة عم الفرزدق إذا أحسَّ شيئاً من ذلك ، وجه إلى والد البنت إبلاً يستحييها بذلك ، فقال الفرزدق مفتخراً به : [ المتقارب ]
3330-
وعَمِّي الذي مَنعَ الوَائِداتِ ... وأحْيَا الوئِيدَ فَلمْ تُوءَدِ
{
أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } ؛ لأنهم بلغوا في الاستنكاف من البنت إلى أعظم الغايات .
أولها : أنه يُسوِّدُّ وجهه .
ثانيها : أنَّه يختفي عن القوم من شدَّة نفرته عنها .
وثالثها : يقدم على قتلها مع أنَّ الولد محبوبٌ بالطبع ، وذلك يدلُّ على أنَّ النفرة من البنت تبلغ مبلغاً لا مزيد عليه ، فالشيء الذي يبلغ الاستنكاف عنه إلى هذا الحدِّ العظيم ، كيف يليقُ بالعاقل أن ينسبه لإله العالم القديم المقدَّس العالي عن مشابهة جميع المخلوقات؟ .
ونظير هذه الآية قوله تعالى : { أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى } [ النجم : 21 ، 22 ] .
فصل
قال القرطبيُّ : ثبت في صحيح مسلم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من ابتُلِي من البَناتِ بشيءٍ ، فأحْسنَ إليْهِنَّ كُنَّ لهُ سِتْراً من النَّارِ » .
وعن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال : قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم « مَنْ عَالَ جَارِيتيْنِ حتَّى تَبلُغَا ، جَاء يَوْمَ القِيامةِ أنَا وهُوَ كهَاتيْن ، وضمَّ أصَابعهُ » أخرجهما مسلم .
فصل
قال القاضي : « دلَّت هذه الآية على بطلانِ الجبر؛ لأنَّهم يضيفون إلى الله - تعالى - من الظُّلمِ ، والفواحش ما إذا أضيف إلى أحدهم أجهد نفسه في البراءة منه ، والتَّباعد عنه ، فحكمهم في ذلك مشابهٌ لحكم هؤلاء المشركين ، بل أعظم؛ لأنَّ إضافة البنات إلى الله إضافة قبح واحد ، وذلك أسهل من إضافة كل القبائح والفواحش إلى الله - تعالى - » .
وجوابه : لما ثبت بالدَّليل استحالة الصاحبة والولد على الله أردفه الله - تعالى - بذكر هذا الوجه الإقناعي ، وإلا فليس كل ما قبح في العرف قبح من الله - تعالى - ألا ترى أنَّه لو زيَّن رجلٌ إماءه ، وعبيده ، وبالغ في تحسين صورهم ، ثمَّ بالغ في تقوية الشَّهوةِ فيهم وفيهن ، ثم جمع بين الكل ، وأزال الحائل ، والمانع ، فإنَّ هذا بالاتِّفاقِ حسن من الله - تعالى - وقبيح من كلِّ الخلق ، فعلمنا أنَّ التعويل بالوجوه المبنية على العرف إنَّما تحسن إذا كانت مسبوقة بالدَّلائل القطعيَّة اليقينيَّة ، وقد ثبت بالبراهين القطعيَّة امتناع الولد على الله ، فلا جرم حسنت تقويتها بهذه الوجوه الإقناعية .
وأمَّا أفعال العباد فقد ثبت بالدَّلائل القطعيَّة أنَّ خالقها هو الله سبحانه وتعالى فكيف يمكن إلحاق أحد البابين بالآخر .
ثم قال : { لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة مَثَلُ السوء } والمثلُ السُّوءِ : عبارة عن الصِّفةِ السوء ، وهي احتياجهم إلى الولدِ ، وكراهيتهم الإناث خوفاً من الفقر والعار { وَلِلَّهِ المثل الأعلى } ، أي : الصِّفة العالية المقدسة ، وهي كونه تعالى منزّهاً عن الولد .
قال ابن عباس - رضي الله عنه- : مثل السُّوءِ : النَّار ، والمثل الأعلى شهادة أن لا إله إلا الله { وَهُوَ العزيز الحكيم } .
فإن قيل : كيف جاء { وَلِلَّهِ المثل الأعلى } مع قوله تعالى : { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال } [ النحل : 74 ] .
فالجواب : أنَّ المثل الذي يضربهُ الله حقٌّ وصدقٌ ، والذي يذكره غيره باطل .
قال القرطبي في الجواب : « إن قوله تعالى : { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال } ، أي : الأمثال التي توجب الأشباه ، والنَّقائص ، أي : لا تضربوا لله مثلاً يقتضي نقصاً وتشبهاً بالخلق ، والمثل الأعلى : وصفه بما لا شبيه له ولا نظير » .
قوله تعالى : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ } الآية لما حكى عن القوم عئم كفرهم ، وقبيح قولهم ، بين أنه يمهل هؤلاء الكفار ، ولا يعاجلهم بالعقوبة إظهاراً للفضل ، والرحمة ، والكرمِ .
قالت المعتزلة : هذه الآية دالَّة على أنَّ الظلم والمعاصي ليست فعلاً لله تعالى ، بل تكون أفعالاً للعباد؛ لأنه - تعالى - أضاف ظلم العباد إليهم ، فقال - عزَّ وجلَّ - { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ } ، وأيضاً : لو كان خلقاً لله لكانت مؤاخذتهم بها ظلماً من الله ، ولما منع الله - تعالى - العباد من الظلم ، فبأن يكون منزّهاً عن الظلم أولى؛ ولأنَّ قوه تعالى : « بِظُلمهِمْ » الباء فيه تدلُّ على العليَّة ، كما في قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ } [ الحشر : 4 ] . وقد تقدَّم الجواب مراراً .
فصل
ظاهر الآية يدلُّ على أنَّ إقدام الناس على الظُّلم؛ يوجب إهلاك جميع الدَّواب ، وذلك غير جائزٍ؛ لأن الدَّابَّة لمَّا لم يصدر عنها ذنبٌ ، فكيف يجوز إهلاكها بسبب ظلم النَّاس؟ .
وأجيب بوجهين :
أحدهما : أنَّا لا نسلم أن قوله : { مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } يتناول جميع الدَّوابِّ .
قال الجبائي - رحمه الله- : إن المراد لو يؤاخذهم الله بما كسبوا من كفر ، ومعصية لعجَّل هلاكهم ، وحينئذ لا يبقى لهم نسلٌ ، ومن المعلوم أنه لا أحد إلاَّ وفي أحد آبائه من يستحق العذاب ، وإذا هلكوا؛ فقد بطل نسلهم ، فكان يلزمه أن لا يبقى في العالم أحد من النَّاس ، وإذا [ هلكوا ] ، وجب ألا يبقى أحد من الدَّواب أيضاً ، لأن الدَّواب مخلوقةٌ لمنافع العباد ، وهذا وجهٌ حسن .
الثاني : أنَّ الهلاك إذا ورد على الظَّلمةِ ، ورد أيضاً على سائر النَّاس والدَّواب ، فكان ذلك الهلاك في حق الظلمة عذاباً ، وفي حق [ غيرهم امتحاناً ] ، وقد وقعت هذه الواقعة في زمن نوحٍ - عليه الصلاة والسلام- .
الثالث : أنه تعالى لو أخذهم لانقطع القطر ، وفي انقطاعه انقطاع النَّبْت ، فكان لا يبقى على ظهرها دابَّة .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - سمع رجُلاً يقول : إن الظَّالمَ لا يضُرُّ إلاَّ نفسه فقال : « لا والله ، بل إنَّ الحبارى لتموتُ في وكْرِهَا بظلم الظالم » .
وعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه : كَادَ الجُعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم؛ فهذه الوجوه الثَّلاثة مبنيةٌ على أنَّ لفظ الدابة يتناول جميع الدَّواب .
والجواب الثاني : أنَّ المراد بالدَّابة الكافر ، قوله تعالى : { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ الأعراف : 34 ] .
قوله : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ } ، أي : البنات التي يكرهونها لأنفسهم ومعنى : « ويجعلون » : يصفون الله بذلك ، ويحكمون به له ، كقولك : جعلتُ زيداً على النَّاس ، أي : حكمت بهذا الحكم .
وتقدَّم معنى الجعل عند قوله تعالى : { مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ } [ المائدة : 103 ] .
قوله : { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب } بسكون التَّاء تخفيفاً ، وهي تشبه تسكين لام { بلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [ الزخرف : 80 ] ، وهمزة { بَارِئِكُمْ } [ البقرة : 54 ] ونحوه .
والألسنةُ : جمع لسان مراداً به التذكير ، فجمع كما جمع فعال المذكر نحو : « حِمَار وأحْمِرَة » ، وإذا أريد به التَّأنيث جمع جمع أفعل ، كذِرَاعٍ ، وأذْرُع .
وقرأ معاذ بن جبل رضي الله عنه : « الكُذُبُ » بضم الكافِ والذَّال ، ورفع الباء ، على أنَّه جمع كذُوب ، كصَبُور وصُبُر ، وهو مقيسٌ .
وقيل : هو جمع كاذب ، نحو « شَارِف وشُرُف » ؛ كقول الشاعر : [ الوافر ]
3331-
ألاَ يَا حَمْزَ للشَّثرفِ النِّواءِ .. . .
وهو حينئذٍ صفة ل : « ألْسِنتُهمُ » ، وحينئذ يكون « أنَّ لهُم الحُسْنَى » مفعولاً به والمراد بالحسن : البَنُونَ .
وقال يمانُ : يعني بالحسنةِ : الجنة في المعادِ .
فإن قيل : كيف يحكمُون بذلك ، وهم منكُرونَ القيامة؟ .
فالجواب : أنَّ جميعهم لم ينكر القيامة ، فقد قيل : إنَّه كان في العرب جمعٌ يقرُّونَ بالبعثِ ، ولذلك كانوا يربطون البعير النَّفيسَ على قبرٍ ، ويتركنه إلى أن يموت ويقولون : إنَّ ذلك الميت إذا حشر؛ يحشر معه مركوبه .
وقيل : إنهم كانوا يقولون : إن كان محمداً صادقاً في قوله بالبعث ، تحصل لنا الجنَّة بهذا الدين الذي نحن عليه .
قيل : وهذا القول أولى ، لقوله بعد : « لا جَرمَ أنَّ لهُم النَّارَ » فردّ عليهم قولهم ، وأثبت لهم النَّار؛ فدلَّ على أنهم حكموا لأنفسهم بالجنَّة .
قوله : { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار } ، أي : حقًّا . قال ابن عباسٍ - رضي الله عنه - نعم إن لهم النَّار .
قال الزجاج : « لا » رد لقولهم ، أي : ليس الأمر كما وصفوا ، « جرم » [ فعلهم ] أي : كسب ذلك القول لهم النار ، فعلى هذا اللفظ « أنَّ » في محلِّ نصبٍ بوقوع الكسب عليه .
وقال قطربٌ : « أنَّ » في موضع رفع ، والمعنى : وجب أن لهم النَّار ، وكيف كان الإعراب ، فالمعنى : أنه يحق لهم النَّار ، ويجبُ .
قوله : { وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ } قرأ نافعٌ بكسر الراء ، اسم فاعل من أفرط ، إذا تجاوز فالمعنى : أنهم متجاوزون الحد في معاصي الله - تعالى - أو في الإفراط ، فأفعل هنا قاصر .
وقال الفارسيُّ : كأنه من أفرط ، أي : صار ذا فرطٍ ، مثل : أجرب ، أي : صار ذا جرب ، والمعنى : أنَّهم ذُو فرطٍ إلى النَّار كأنَّهم قد أرْسِلُوا إلى من يُهَيِّئُ لهُم مواضع إلى النَّار .
والباقون بفتحها ، اسم مفعولٍ من : أفرطته ، وفيه معنيان :
أحدهما : أنه من أفرطته خلفي ، أي : تركته ونسيته ، حكى الفراء أنَّ العرب تقول أفرطتُ منهم ناساً ، أي : خلفتهم ، والمعنى : أنَّهم مَنْسيُّونَ مَترُوكونَ في النَّار .
والثاني : أنه من أفرطته ، أي : قدمته إلى كذا ، وهو منقولٌ بالهمزة من فرط إلى كذا ، أي : تقدَّم إليه ، كذا قاله ابو حيان ، وأنشد للقطامي : [ البسيط ]
3332-
واسْتَعْجلُونَا وكَانُوا مِنْ صَحابَتِنَا ... كَمَا تعجَّل فُرَّاطٌ لِوُرَّادِ
فجعل « فَرَطَ » قاصراً ، و « أفْرَطَ » منقولاً .
وقال الزمخشريُّ : « بمعنى مقدَّمُون إلى النَّار معجَّلون إليها ، من أفرطت فُلاناً وفرَّطتهُ ، إذا قدَّمتهُ إلى المَاءِ » .
فجعل « فَعَلَ » ، و « أفْعَل » بمعنى؛ لأنَّ « أفْعَلَ » منقولٌ من « فَعَل » والقولان محتملان ، ومنه الفرطُ ، أي : المتقدم ، قال صلى الله عليه وسلم : « أنَا فَرطُكمْ على الحَوْضِ » ، أي : سابقكم ، ومنه « جَعَلهُ فَرطاً لأبويه وذُخْراً » ، أي : متقدماً بالشَّفاعة ، وبتثقيل الموازين ، والمعنى على هذا : أنهم قدموا إلى النَّار ، وأنهم فرط الذين يدخلون بعدهم .
وقرأ أبو جعفر في رواية « مُفرِّطُونَ » بتشديد الرَّاءِ مكسورة من فرَّط في كذا ، أي : قصَّر ، وفي رواية مفتوحة من فرَّطتهُ معدى بالتَّضعيف؛ أي من « فرط » بالتخفيف أي : تقدَّم ، وسبق .
وقرأ عيسى بن عمر والحسن - رضي الله عنهما - « لا جَرمَ إنَّ لهم النار وإنهم » بكسر « إن » فيهما على أنهما جواب قسم ، أغنت عنه : « لا جرم » .
ثم بين - تعالى - أن هذا الصُّنع الذي صدر من مشركي قريش ، قد صدر عن سائر الأمم السَّابقة في حق أنبيائهم - صلوات الله وسلامه عليهم- .
فقال : { تالله لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ } أي : كما أرسلنا إلى هذه الأمَّة ، وهذا تسليةٌ للرسول صلى الله عليه وسلم فيما كان يناله من الغم بسبب جهالات القوم .
قالت المعتزلة : هذه الآية تدلُّ على فساد قول المجبرة من وجوهٍ :
أحدها : أنَّه إذا كان خالقُ أعمالهم هو الله - تعالى- ، فلا فائدة في التَّزيينِ .
والثاني : أنَّ ذلك التزيين لما كان بخلق الله - تعالى - لم يجز ذمُّ الشيطان بسببه .
والثالث : أنَّ ذلك التزيين هو الذي يدعو الإنسان إلى الفعل ، وإذا كان حصول الفعل بخلق الله - تعالى - كان ضرورياً ، فلم يكن التَّزيينُ داعياً .
والرابع : أنَّ على قولهم : الخالق لذلك العمل ، أجدر بأن يكون ولياً لهم من الدَّاعي إليه .
الخامس : أنه - تعالى - أضاف التزيين إلى الشَّيطان ، ولو كان ذلك المزيِّن هو الله - تعالى - لكانت إضافته إلى الشَّيطان كذباً .
والجواب : إنْ كان مزين القبائح في أعين الكفَّار هو الشيطان ، فمزين تلك الوساوس في عين الشيطان إن كان شيطاناً آخر؛ لزم التَّسلسل ، وإن كان هو الله - تعالى - فهو المطلوبُ .
قوله : { فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ } يجوز أن تكون هذه الجملة حكاية حال ماضية ، أي : فهو ناصرهم ، أو آتية .
ويرادُ باليوم يوم القيامةِ ، والمعنى : فهو وليّ أولئك الذين زيِّن لهم أعمالهم يوم القيامةِ ، وأطلق اسم اليوم على يوم القيامةِ لشهرته ، والمقصود أنَّهُ لا وليَّ لهم ، ولا ناصر لهم؛ لأنهم إذا عاينوا العذاب ، وقد نزل بالشَّيطان كنزوله بهم ، رَأوْا أنه لا مخلِّص له منه كما لا مخلص لهم منه؛ جاز أن يوبَّخوا بأن يقال لهم : « هذا وليُّكم اليوم » على وجْه السُّخريةِ .
وجوَّز الزمخشري أن يعود الضمير على قريشٍ ، فيكون حكاية حال في الحال لا ماضية ، ولا آتية ، والمعنى : أنَّ الشيطان يتولى إغواءهم ، وصرفهم عنك كما فعل بكفَّار الأمم قبلك ، فعلى هذا رجع عن الإخبار عن المم الماضية إلى الإخبار عن كفَّار مكَّة ، وسمَّاه ولياً لهم؛ لطاعتهم له ، ولهم عذاب أليم في الآخرة .
وجوَّز الزمخشري أيضاً أن يكون عائداً على « أممٍ » ، ولكن على حذف مضاف تقديره : فهو ولي أمثالهم اليوم .
واستبعده أبو حيان ، وكأن الذي حمله على ذلك قوله : « اليَوْمَ » فإنه ظرف خالٍ ، وقد تقدَّم أنه على حكاية الحال الماضية ، أو الآتية .
ثمَّ ذكر - تعالى - أنه مع هذا الوعيد الشَّديد ، قد أقام الحجَّة ، وأزاح العلَّة فقال تعالى : { وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اختلفوا فِيهِ } ، أي وما أنزلنا عليك القرآن إلا لتبين بواسطة بيانات القرآن الأشياء التي اختلفوا فيها يعني أهل الملل ، والنحل ، والأهواء ، مثل التوحيد ، والشرك ، والجبر ، والقدر ، وإثبات المعاد ونفيه ، ومثل : تحريمهم الحلال كالبحيرة والسائبة وغيرهما ، وتحليلهم أشياء محرمة كالميتة .
فصل
قالت المعتزلة : واللام في « لتُبَيِّنَ » تدلُّ على أنَّ أفعال الله معللة بالأغراض ، كقوله تعالى : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس } [ إبراهيم : 1 ] وقوله عزَّ وجلَّ { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] .
والجواب : أنه لما ثبت بالعقل امتناع التعليل ، وجب صرفه إلى التَّأويل .
قوله : { وَهُدًَى وَرَحْمَةً } فيه وجهان :
أحدهما : أنهما انتصبا على أنهما مفعولان من أجلهما؛ والناصب : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ } ولما اتحد الفاعل في العلَّة ، والمعلول؛ وصل الفعل إليهما بنفسه ، ولما لم يتَّحد في قوله : { وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ } ، أي : لأن تبين على أنَّ هذه اللاَّم لا تلزم من جهة أخرى ، وهي كون مجرورها « أنْ » ، وفيه خلاف في خصوصية هذه المسألةِ ، وهذا معنى قول الزمخشري فإنه قال : « معطوفان على محل » لتُبيِّنَ « إلا أنهما انتصبا على أنهما مفعول بهما؛ لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب ، ودخلت اللام على : » لتُبيِّنَ « ؛ لأنه فعل المخاطب لا فعل المنزل ، وإنما ينتصب مفعولاً له ما كان فعلاً لذلك الفعل المعلل » .
قال أبو حيَّان - رحمه الله - : « قوله : معطوفان على محل » لتُبيِّنَ « ليس بصحيح؛ لأنَّ محلَّه ليس نصباً ، فيعطف منصوب ، ألا ترى أنَّه لو نصبه لم يجز لاختلافِ الفاعل » .
قال شهابُ الدِّين : « الزمخشريُّ لم يجعل النَّصب لأجل العطفِ على محلِّه إنَّما جعله بوصول الفعل إليهما لاتِّحادِ الفاعل ، كما صرح به فيما تقدَّم آنفاص ، وإنما جعل العطف لأجل التشريك في العلَّة لا غير ، يعني : أنهما علَّتان ، كما أنَّ » لتُبيِّنَ « علة ، ولئن سلمنا أنه نصب عطفاً على المحل ، فلا يضر ذلك ، وقوله : » لأنَّ محله ليس نصباً « ممنوع ، وهذا ما لا خلاف فيه من أن محل الجار ، والمجرور النصب؛ لأنه فضلة ، إلا أن تقوم مقام مرفوع ، ألا ترى إلى تخريجهم قوله : » وأرْجُلكُمْ « في قراءة النصب على العطف على محل » برءُوسِكمْ « ، ويجيزون : مررت بزيد وعمرو على خلاف في ذلك بالنسبة إلى القياس ، وعدمه لا في أصل المسالة ، وهذا بحقُ حسنٌ » .
فصل
قال الكلبيُّ : وصف القرآن بكونه هدى ، ورحمة لقوم يؤمنون ، يدل على أنَّه ليس كذلك في حق الكلِّ ، لقوله في أوَّل البقرة : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] ، وإنَّما خص المؤمنين بالذ1كر؛ لأنهم هم المنتفعون به ، كقوله : { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } [ النازعات : 45 ] ؛ لأنَّ المنتفع بالإنذار هؤلاء القوم فقط .

قلت المدون التالي هو ج45.وج46. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدجال يستغل ازمات الناس من الجوع ونقص الطعام والمياه في دعوتهم الباطلة لعبادتهم إياه والايمان به

  بياناته الشخصية     المسيح الدجال ليس خوارق إنما هو دجل وكذب قلت المدون ان الأ أزمة الاقتصادية الحادثة الان في كل دول العالم والمجاعة المت...