حمل المصحف وورد وبي دي اف.

 حمل المصحف وورد وPDF.
القرآن الكريم وورد word doc icon||| تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

الخميس، 22 سبتمبر 2022

ج11. وج12.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي

 ج11. وج12.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

 


ج11. وج12.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

أولا :


ج11.-.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
ويُحكَى عن مالكٍ إباحة ذلك ، وأنكر ذلك أصحابه .
وروي عن عبدالله بن الحسن؛ أنه لقي سالم بن عبدالله ، فقال له : يا أبا عمر؛ ما حُدِّثتُ بحديث نافع عن عبدالله؛ أنه لم يكن يرى بأساً بإتيان النِّساء في أدبارهنَّ ، قال : كذب العبدُ وأخْطَأَ ، إنما قال عبدالله : يُؤْتُونَ في فُرُوجِهِنَّ من أَدْبَارِهِنَّ ، والدَّليل على تحريمِ الأدبارِ : ما روى خُزيمة بن ثابتٍ؛ أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إِتيان النِّساء في أَدْبَارِهِنَّ ، فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « حَلاَلٌ » فلما ولَّى الرَّجل دعاه ، فقال : « كَيْفَ قُلْتَ في أَيِّ الخَرْبتين أَوْ فِي الخَرزَتَين أوْ فِي أيِّ الخَصْفَتَين ، أَمِنْ قُبُلِهَا في قُبُلِهَا؟ فَنَعَمْ ، أمْ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا؛ فَنَعَمْ أَمْ مِنْ دُبُرِها فِي دُبُرِهَا ، فَلاَ ، فإنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحيِي مِنَ الحَقِّ ، لاَ تَأْتُوا النِّسَاءَ في أَدْبَارِهِنَّ » .
وأراد بخربتها مسلكها ، وأصل الخربة : عروة المزادة . شبِّه بالثّقب بها ، والخرزة هي : الثقبة التي يثقبها الخرَّاز وكنَّى به عن المأْتى ، وكذلك الخصفة من قولهم : خصفت الجلد إذا خرزته .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً في دُبُرِهَا » وقال - تعالى - في آيةِ المحيض : { قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء فِي المحيض } [ البقرة : 222 ] جعل الأذى علة لحرمة إتيان موضع الأذى ، ولا معنى للأذى إلاَّ ما يتأذَّى الإنسان مه بنتن ريحِ الدَّم ، وهذه العلَّة هنا أظهر؛ فوجب القول بتحريمه .
وروي عن أبي هريرة ، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ قال : « مَنْ أَتَى امْرَأَةً في دُبُرِهَا لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْه يَوْمَ القِيَامَةِ » .
وروى أبو داود الطَّيالسي ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « تِلْكَ اللوطِيَّةُ الصُّغْرَى بإِتْيَانِ المَرْأَةِ في دُبُرِهَا » .
وعن طاوس؛ قال : إنه كَانَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ إِتْيَانُ النِّسَاء في أَدْبَارِها . واحتج من جوَّزَهُ بوجوه :
الأول : التَّمسُّك بهذه الآية من وجهين :
أحدهما : أنه جعل الحرث اسماً للمرأة لا للموضع المعيَّن ، فلمَّا قال بعده : { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } كان المراد : فأتوا نساءكم أنى شئتم ، فيكون إطلاقاً في إتيانهن على جميع الوجوه .
وثانيهما : كلمة « أَنَّى » معناها : أين؛ قال - تعالى - { أنى لَكِ هذا } [ أل عمران : 37 ] ، معناه : من أين لك هذا ، فصار تقدير الآية : فأْتُوا حَرْثَكُم أَيْنَ شِئْتُم ، وكلمة « أَيْنَ » تدلُّ على تعدُّد الأمكنة؛ تقول : اجلِس أيْن شِئْتَ ، فيكون تخييراً بين الأمكنة .
وإذا ثبت هذا ، فلا يمكن حمل الآية على الإتيان من قبلها ، أو من دبرها في قُبُلِها؛ لأنه على هذا التَّقدير ، يكون المكان واحداً ، والتَّعدُّد إنَّما وقع في طريقِ الإتيان ، فاللاَّئق به أن نقول : اذهبوا إليه كيف شئتم ، فلمَّا لم يذكر كيف ، بل ذكر لفظة « أَنَّى » وهي مشعرةٌ بالتَّخيير بين الأمكنة كما بيَّنَّا ، ثبت أنَّ المراد ما ذكرنا .
الحجة الثانية : تمسَّكوا بعموم قوله - تعالى - : { إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } [ المؤمنون : 6 ] ، ترك العمل به في حقِّ الذُّكور بالإجماع ، فيبقى فيما عداه على العموم .
الحجة الثالثة : لو قال للمرأة : دُبُرِكِ عليَّ حَرَامٌ ، ونوى الطَّلاق ، أنه يكون طلاقاً فيقتضي كون دبرها حلالاً له .
والجواب عن الأوَّل : أن « الحَرْثَ » اسمٌ لموضع الحراثة ، والمرأة بجميع أجزائها ليست محلاً للحراثة ، فامتنع إطلاق اسم الحرث على ذات المرأة كما تقدَّم ، فلما أطلق لفظ « الحَرْثِ » على ذات المرأَة ، حملنا ذلك على المجاز المشهور من تسمية الشَّيء باسم جزئِه ، وهذه الضَّرورة مفقودةٌ في قوله : « فَأْتُوا حَرْثَكُمْ » فوجب حَمْلُ الحرث ههنا على موضع الحراثة على التَّعيين؛ فثبت أن هذه الآية لا دلالة فيها إلاَّ على إتيان النِّساء في محلِّ الحرث ، وقد قدَّمنا أن « الحَرْثَ » إنَّما يراد للزَّرع وهو الولد ، وذلك لا يكون إلاَّ في المأتى .
وعن الثَّاني : أنه لما ثبت أن المراد ب « الحَرْثِ » ذلك الموضع المعيَّن لم يمكن حمل « أَنَّى شِئْتُمْ » على التَّخْيير في الأمكنة .
وأما قوله : { إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } [ المؤمنون : 6 ] فإنه عامٌّ ، ودلائلنا خاصَّةٌ ، والخاصُّ مقدَّمٌ على العام .
وقولهم : دُبُرُكِ عَلَيَّ حَرَامٌ ، إنما صلح أن يكون كنايةٌ عن الطَّلاق ، وإنَّه لَمَحَلُّ الملامسة والمضاجعة ، وهو جزؤها ، فصار ذلك كقوله : يدك طالقٌ .
هذا الجواب من حيث التَّفصيل أمّا من حيث الجملة : فقد بينَّا أنَّ قوله : « قُلْ هُوَ أَذًى » يدلُّ على التَّحريم؛ لوجود العلَّة المقتضية له ، فلو جوَّزنا ذلك ، لكان جمعاً بين دليل التَّحريم ، ودليل التَّحليل في موضع واحدٍ ، والأصل أنَّه لا يجوز ، وأيضاً فالرِّوايات المشهورة في كون سبب النُّزول ، هو اختلافهم في أنَّهُ : هل يجوز إتيانهنّ من دُبُرِهِنّ في قبولِهِن؛ وسبب النُّزول لا يكون خارجاً عن الآية ، ومتى حملنا الآية على هذه الصُّورة لم تكن الآية نزلت على ذلك السَّبب .
ويمكن الجواب عن هذا : بأن الاعتبار بعموم اللَّفظ لا بخصوص السَّبب ، فإن السُّؤال قد يكون خاصّاً والجواب عامّاً ، وهو كثير .
قوله : { وَقَدِّمُواْ } مفعوله محذوفٌ ، أي : نيَّةَ الولدِ ، أو نيةَ الإعفاف ، وذِكْرَ اللهِ أو الخير؛ كقوله : { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ } [ البقرة : 110 ] .
وقال عطاء عن ابن عبَّاس : هي التَّسمية عند الجماع .
قال ابن الخطيب : وهذا في غاية البُعدِ : والَّذِي عندي فيه : أن قوله : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } جار مجرى التَّنبيه على إباحة الوطءِ؛ كأنه قيل : هؤلاء النِّسوان إِنَّمَا حكم الشَّرع بإباحة وطئهنَّ لكم؛ لأجل أنَّهُن حرث لكم ، أي بسبب أن يتولَّد الولدُ منهن ، ثم قال بعده : { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ } دليلاً على الإِذن في ذلك الموضع ، والمنْع من غير ذلك المَوضع ، فلمَّا اشْتَمَلت الآيةُ على الإِذن في أحدِ الموضعين ، والمنع من الموضع الآخِر ، لا جرم قال : { وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ } أي : لا تكُونُوا في قيد قضاء الشَّهوةِ ، بل كونوا في قيد تقديم الطَّاعةِ ، ثم إنه - تعالى - أكَّدَ ذلك بقوله : { واتقوا الله } ، ثم أكَّدَهُ ثالثاً بقوله : { واعلموا أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ } ، وهذه التَّهديدات الثَّلاثة المُتَوالية ، لا يليقُ ذكرها إلاَّ إذا كانت مسبوقة بالنَّهْي عن شيءٍ لذيذ مُشْتَهى ، فثبت أن ما قَبْل هذه الآية دالٌّ على تحريم هذا العملِ ، وما بعدها أيضاً دالٌّ على تحريمه؛ فثبتَ أَنَّ الصَّحِيح في تفسير هذه الآيةِ ، ما ذهب إليه الجمهور .
قوله : « لأَنْفُسِكُمْ » مُتعلِّقٌ ب « قَدِّمُوا » ، واللامُ تحتملُ التعليل والتعديّ ، والهاءُ في « مُلاَقُوهُ » يجوزُ أَنْ تعودَ على اللهِ تعالى ، ولا بُد مِنْ حذفِ مضافٍ ، أي : ملاقو جزائِهِ ، وأَنْ تعودَ على مفعولِ « قَدِّمُوا » المحذوف . وتَقَدَّم الكلام في التَّقوَى ، وتَقَدَّم أيضاً تفسير لقاء الله في قوله : { الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } [ البقرة : 46 ] .
والضميرُ في « وَبَشِّرِ » للرَّسُول عليه الصلاة والسلام لتقدُّم ذِكرِه في قوله : « يَسْأَلُونَكَ » قاله أبو البقاء ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ ضميرَ الخطابِ والتكلُّم لا يحتاج أَنْ يُقالَ فيهما : تَقدَّمَ ذِكْرُ ما يَدُلُّ عليهما ، ويجوزُ أن يكونَ لكلِّ مَنْ يَصِحُّ منه البِشارة .

وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
اللامُ في قوله { لأَيْمَانِكُمْ } تحتملُ وجهين :
أحدهما : أن تكونَ مقويةً لتعديةِ « عُرْضَةً » ، تقديره : ولا تجعلوا اللهَ معدَّى ومَرْصَداً لحَلْفِكُمْ .
والثاني : أن تكونَ للتعيلِ ، فتتعلَّقَ بفعلِ النهيِ ، أي : لا تَجْعَلُوهُ عُرْضَةً لأجْلِ أَيْمَانِكُمْ .
قوله : { أَن تَبَرُّواْ } فيه ستةُ أوجهٍ :
أحدها : - وهو قول الزجاج ، والتُبريزي ، وغيرهما - : أنها في محلِّ رفع بالابتداءِ ، والخبرُ محذوفٌ ، تقديرُه : أَنْ تَبَرُّوا وتتقُوا وتُصْلِحُوا خَيْرٌ لكُمْ مِنْ أَن تجعلُوه عُرْضَةً لأَيْمانكم ، أو بِرُّكُمْ أولى وأمثَلُ ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنه يؤدِّي إلى انقطاعِ هذه الجملةِ عمَّا قبلها ، والظاهرُ تعلُّقُها به .
الثاني : أنَّها في محلِّ نصب على أنها مفعولٌ من أجله ، وهذا قولُ الجمهورِ ، ثم اختلفوا في تقديرِه : فقيل : إرادةَ أنْ تَبَرُّوا وقيلَ : كراهةَ أن تَبَرُّوا ، قاله المهدويُّ ، وقيل : لِتَرْكِ أَنْ تَبَرُّوا ، قاله المبرِّدُ ، وقيل : لئَلاَّ تَبَرُّوا ، قاله أبو عبيدة والطَّبريُّ؛ وأنشدا : [ الطويل ]
1083- . . . فَلاَ واللهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً .. .
أي : لا تَهْبِطُ ، فحذف « لاَ » ومثلُه : { يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] ، أي : لئلا تضِلُّوا ، وتقديرُ الإِرادة هو الوجهُ ، وذلك أن التقاديرَ التي ذكرناها بعد تقدير الإِرادة لا يظهرُ معناها؛ لمَا فيه من تعليل امتناعِ الحَلْفِ بانتفاء البِرِّ ، بل وقوع الحَلْفِ مُعَلَّلٌ بانتفاء البِرِّ ، ولا ينعقد منهما شرطٌ وجزاءٌ ، لو قلتَ في معنى هذا النهي وعلَّتِه ، « إِنْ حَلَفْتَ بالله ، بَرَرْتَ » لم يصحَّ ، بخلافِ تقديرِ الإِرادة؛ فإنه يُعَلَّل امتناع الحَلْفِ بإرادة وجودِ البِرِّ ، وينعقدُ منهما شرطٌ وجزاءٌ تقول : إِنْ حَلَفْتَ ، لم تَبَرَّ ، وإنْ لم تَحْلِفْ ، بَرَرْتَ .
الثالث : أنَّها على إسقاط حرف الجرِّ ، أي : في أَنْ تَبَرُّوا؛ وحينئذٍ : يَجِيء فيها القولان : قولُ سيبويه والفراء فتكون في محلِّ نصبٍ ، وقولُ الخليل والكسائيَ ، فتكونُ في محلِّ جرٍّ ، وقال الزمخشري : ويتعلَّقُ « أَنْ تَبَرُّوا » بالفعل أو بالعُرْضَةِ ، أي : « ولا تَجْعَلُوا اللهَ لأَجْلِ أَيْمَانِكُمْ عُرْضَةً لأنْ تَبَرُّوا » . قال أبو حيان : وهذا التقديرُ لا يصحُّ للفصل بين العامل ومعمولهِ بأجنبيٍّ ، وذلك أنَّ « لأَيْمَانِكُمْ » عنده متعلقٌ ب « تَجْعَلُوا » ، فوقع فاصلاً بين « عُرْضَةً » التي هي العاملُ وبين « أَنْ تَبَرُّوا » الذي هو معموله وهو أجنبيٌّ منهما ، ونظيرُ ما أجازه أن تقولَ : « امْرُرْ وَاضْرِبْ بِزَيْدَ هِنْداً » ، وهو غيرُ جائزٍ ، ونَصُّوا على أنه لا يجوزُ : « جَاءَني رَجُلٌ ذُو فَرَسٍ رَاكِبٌ أَبْلَقَ » أي رجلٌ ذُو فَرَسٍ أَبْلَقَ راكِبٌ لِما فيه من الفصلِ بالأجنبيِّ .
الرابع : أنها في محلِّ جَرٍّ؛ عطفَ بيانٍ ل « أَيْمَانِكُمْ » ، أي : للأمورِ المَحْلُوفِ عليها التي هي البِرُّ والتقوَى والإِصلاح كما في الحديث . قال أبو حيان : « وهو ضعيفٌ لما فيه من جَعْلِ الأيمانِ بمعنى المَحْلُوفِ عليه » ، والظاهرُ أنها هي الأقسام التي يُقْسَمُ بها ، ولا حاجةَ إلى تأويلها بما ذُكِرَ من كَوْنها بمعنى المَحْلُوفِ عليه؛ إذ لم تَدْعُ إليه ضرورةٌ ، وهذا بخلافِ الحديثِ ، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -
« إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا » فإنه لا بد من تأويله فيه بالمحلوف عليه ، ولا ضرورة تدعو إلى ذلك في الآية الكريمة .
الخامسُ : أَنْ تكونَ في محلِّ جرٍّ على البدلِ من « لأَيْمَانِكُمْ » ؛ بالتأويل الذي ذكره الزمخشريُّ ، وهذا أَوْلَى من وجهِ عطفِ البيانِ؛ فإنَّ عَطْفَ البيانِ أكثرُ ما يكونُ في الأعلام .
السادس - وهو الظاهرُ - : أنَّها على إسقاطِ حرفِ الجر ، لا على ذلك الوجه المتقدِّم ، بل الحرفُ غيرُ الحرفِ ، والمتعلِّقُ غيرُ المتعلِّقِ ، والتقديرُ : « لإِقْسَامِكُمْ عَلَى أَنْ تَبَرُّوا » ف « عَلَى » متعلقٌ بإِقْسَامِكُمْ ، والمعنى : وَلاَ تَجْعَلوا الله مُعَرَّضاً ومُتَبَدَّلاً لإِقْسَامكُمْ على البِرِّ والتقْوَى والإِصْلاَح الَّتي هي أوصافٌ جميلةٌ؛ خَوْفاً من الحِنْثِ ، فكيف بالإِقسامِ علَى ما ليس فيه بِرٌّ ولا تَقْوَى!!!
والعُرْضَةُ في اشتقاقها ثلاثةُ أقوال :
أحدها : أنها « فُعْلَة » بمعنى « مَفْعُول » ؛ من العَرضِ؛ كالقُطْبَةِ والغُرْفَة ، ومعنى الآية على هذا : لاَ تَجْعَلُوهُ مُعَرَّضاً للحَلْفِ من قولهم : فُلاَنٌ عُرْضَةٌ لكَذَا ، أي : مُعَرَّضٌ ، قال كعبٌ : [ البسيط ]
1084- مِنْ كُلِّ نَضَّاخَةِ الذِّفْرَى إِذَا عَرِقَتْ ... عُرْضَتُهَا طَامِسُ الأَعْلاَمِ مَجْهُولُ
وقال حبيبٌ : [ الطويل ]
1085- مَتَى كَانَ سَمْعِي عُرْضَةً لِلَّوائِمِ ... وَكِيْفَ صَفَتْ لِلْعَاذِلِينَ عَزَائِمِي
وقال حسَّانُ : [ الوافر ]
1086- . . ... هُمُ الأَنصَارُ عُرْضَتُهَا اللِّقَاءُ
وقال أوسٌ : [ الطويل ]
1087- وأَدْمَاءَ مِثْلَ الفَحْلِ يَوْماً عَرَضْتُهَا ... لِرَحْلِي وَفِيهَا هِزَّةٌ وَتَقَاذُفُ
فهذا كلُّه بمعنى مُعَرَّضٌ لكذا .
والثاني : أنها اسمُ ما تَعْرِضُه على الشيءِ ، فيكونُ من : عَرَضَ العُودَ على الإِناءِ ، فيعترضُ دونَه ، ويصيرُ حاجزاً ومانعاً ، ومعنى الآية علَى هذا النَّهيُ عن أَنْ يَحْلِفُوا باللهِ علَى أنَّهم لا يَبَرُّونَ ولاَ يَتَّقُونَ ، ويقُولُون : لا نَقْدِرُ أَنْ نَفْعَلَ ذلك لأَجْلِ حَلْفِنَا .
والثالث : أنَّها من العُرْضَة ، وهي القوة ، يقال : « جَمَلٌ عُرْضَةٌ للسَّفَرِ » ، أي : قويٌّ عليه؛ وقال ابن الزَّبير : [ الطويل ]
1088- فَهَذِي لأَيَّامِ الحُرُوبِ وَهَذِهِ ... لِلَهْوِي وَهَذِي عُرْضَةٌ لارْتحَالِنَا
أي قوةٌ وعُدَّةٌ . ثم قيل لكُلِّ ما صَلُح لِشَيء فهو عُرْضَة له ، حتى قالوا للمرأَةِ : هي عُرْضَةٌ للنِّكاح إذا صَلُحَتْ له ومعنى الآية على هذا : لا تَجْعَلُوا اليمينَ بالله تعالى قوةً لأنفسكم في الامتناعِ عن البرِّ .
والأَيْمَانُ : جمعُ يَمِينٍ : وأصلُها العُضْوُ ، واستُعْمِلَتْ في الحَلْفِ مجازاً لما جَرَتْ عادةُ المتعاقِدِينَ بتصافُح أَيْمانهم ، واشتقاقُها من اليُمْن ، واليمينُ أيضاً : اسمٌ للجهةِ التي تكونُ من ناحيةِ هذا العُضْو ، فينتصبُ على الظرف ، وكذلك اليسارُ ، تقول : زَيْدٌ يَمِينُ عَمْروٍ ، وبَكرٌ يَسَارهُ ، وتُجْمَعُ اليمينُ على « أَيْمُنٍ وأَيْمَانٍ » وهل المرادُ بالأَيْمان في الآية القَسَمُ نفسُه ، أو المُقْسَمُ عليه؟ قولان ، الأولُ أَوْلَى .
وقد تقدَّمَ تجويزُ الزمخشريِّ أن يكونَ المرادُ به المحلوفَ عليه واستدلالُه بالحديث والجوابُ عنه .
فصل
ذكر المُفسِّرون في هذه الآية أقوالاً كثيرة ، وأجودها وجهان :
أحدهما : ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني ، وهو أنَّ قوله : { وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ } نهي عن الجُرأَة على اللهِ بكثَرةِ الحَلْفِ به؛ وذلك لأنه من أَكْثَرَ ذِكْر شيءٍ في معنًى من المعاني ، فقد جعلهُ عُرْضَة له ، فيقُول الرَّجُل : قد جَعَلْتَنِي عُرْضَة للَوْمك؛ قال الشَّاعر : [ الطويل ]
1089- ... وَلاَ تَجْعَلُوني عُرْضَةَ للَّوَائِمِ
وقد ذَمَّ الله تعالى مِنْ أكثر من الحَلْفِ بقوله : { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ } [ القلم : 10 ] ، وقال تعالى : { واحفظوا أَيْمَانَكُمْ } [ المائدة : 89 ] والعرب كانوا يَمْدَحُون الإنسان بالإقلال من الحلف؛ كما قال كثير : [ الطويل ]
1090- قَلِيلُ الأَلاَيَا حافِظٌ لِيَمِينِهِ ... وَإِنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الأَلِيَّةُ بَرَّتِ
والحِكْمَة في الأَمْرِ بتقليل الأَيمانِ؛ أن من حَلَف في كُلِّ قَلِيلٍ وكثِيرٍ باللهِ ، انْطَلق لِسَانهُ بذلك ، ولا يبقَى لليمِين في قَلْبِهِ وقْعٌ ، فلا يُؤْمَنُ إقْدَامه على الأَيْمَانِ الكَاذِبَةِ ، فيخْتَلُّ ما هو الغَرَضُ من اليمين ، وأيضاً كُلَّمَا كان الإنسان أَكْثَرَ تعظِيماً لله - تعالى - ، كان أكمل في العُبُوديَّة ، ومن كمال التَّعظيم أن يكُون ذِكْر الله - تعالى - أَجَلَّ وأَعْلَى عِنْدَه ، من أَنْ يَسْتشْهِد به في غرضٍ من الأَغراض الدُّنْيَويَّة .
فإن قيل : كيف يَلْزَم من تَرْك الحَلْفِ حُصُول البِرِّ والتٌّقْوى ، والإصْلاَح بين النَّاسِ؟
فالجواب : أَنَّ من تَرَك الحَلْف؛ لاعْتِقَادِه أَنّ الله أَعْظَم وأَجَلَّ من أَنْ يُسْتَشْهَد باسمِه المُعَظَّم في طَلَب الدُّنْيَا ، وخَسَائِس مطالب الحَلْفِ ، ولا شك أن هذا من أَعْظَمِ أَبْوَابِ البِرّ .
فصل في سبب النزول
نزلت هذه الآيةُ في عبد الله بن رواحة؛ كان بينه وبَيْنَ خَتَنِهِ على أَخِيه بشير بن النُّعْمان شيء ، فحلف عبدالله ألاّ يَدْخُلَ عليه ، ولا يُكَلِّمَهُ ، ولا يُصْلِح بَيْنَه وبين خصمهِ ، وإذا قيل لهُ فيه ، قال : قد حَلَفْتُ بالله ألاَّ أفْعَل ، فلا يَحِلُّ لي إلاَّ أنْ تَبَرَّ يميني فأنْزَل الله هذه الآية .
وقال ابن جريج : نزلت في أبي بكر الصِّدِّيق ، حين حلف ألاَّ ينفق على مسطح حين خاض في حديث الإفْك ، ومعنى الآية : لا تجعلوا الحلف باللهِ شيئاً مانعاً لكم من البرِّ والتَّقوَى ، يُدعى أَحدكم إلى صلة الرَّحمن أو بِرِّ ، فيقول : حلفتُ بالله ألاّ أفعله ، فيعتل بيمينه في ترك البِرّ .
قوله : { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } خَتَم بهاتَيْن الصفتَيْن؛ لتقدُّم مناسبتهما؛ فإنَّ الحَلْفَ متعلِّقٌ بالسَّمْع ، وإرادة البِرِّ من فِعْلِ القلْبِ متعلقةٌ بالعِلْم ، وقَدَّم السميع؛ لتقدُّم متعلِّقِه ، وهو الحَلْفُ .
قوله تعالى : { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ } .
واللَّغْوُ : مصدرُ لَغَا يَلْغُو ، يقال : لَغَا يَلْغُو لَغْواً ، مثل غَزَا يَغْزُو غَزْواً ، ولغِيَ يَلْغَى لَغًى مثل لَقِيَ يَلْقَى لقًى إذا أتى بما لا يُحْتاجُ إليه من الكلام ، أو بما لا خير فيه ، أو بِما يلغى إثمه؛ كقوله - عليه الصّلاة والسّلام -
« إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمعَةِ : أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتَ » .
ومن الثاني قوله تعالى : { والغوا فِيهِ } [ فصلت : 26 ] .
قال الفرَّاء : اللَّغا مصدر للغَيت .
قال أبو العبَّاس المقري : ورد لفظ « اللَّغو » في القرآن على ثلاثة أوجه :
الأول : بمعنى اليمين بغير عقديَّةٍ كهذه الآية .
الثاني : بمعنى الشَّتيمة؛ قال تعالى : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } [ الفرقان : 72 ] ، أي : لم يجيبوهم؛ ومثله : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ } [ القصص : 55 ] .
الثالث : بمعنى الحلف عند شُرْب الخمر؛ قال تعالى : { يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا } [ الطور : 23 ] ، أي : لا يحلف بعضهم على بعض .
فصل
والباء في « بِاللَّغْوِ » متعلِّق ب « يؤاخذكم » والباء معناها السَّببيّة ، كقوله : { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ } [ العنكبوت : 40 ] ، { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ } [ النحل : 61 ] .
واختلف في اللَّغْوِ : فقيل : ما سبق به اللسانُ مِنْ غيرِ قصدٍ ، قاله الفرَّاء ، ومنه قول الفرزدق : [ الطويل ]
1091- وَلَسْتَ بِمَأْخُوذٍ بِلَغْوٍ تَقُولُهُ ... إِذَا لَمْ تُعَمِّدْ عَاقِدَاتِ العَزَائِمِ
ويُحْكَى أن الحسن سُئِلَ عن اللَّغو وعن المَسبيَّة ذات زوجٍ ، فنهض الفرزدق ، وقال : أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قُلْتُ ، وأَنْشَد البيت : [ الطويل ]
وَلَسْتَ بمَأْخُوذٍ . . ..
وقوله : [ الطويل ]
1092- وَذَاتِ حَلِيلٍ أَنْكَحَتْهَا رِمَاحُنَا ... حَلاَلٌ لِمَنْ يَبْنِي بِهَا لَمْ تُطَلِّقِ
فقال الحسن : « ما أَذْكَاكَ لَوْلاَ حِنْثُك » ، وقد يُطْلَقُ على كلِّ كلامٍ قبيحٍ « لَغْوٌ » .
قال تعالى : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ } [ الفرقان : 72 ] ، { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً } [ مريم : 62 ] ؛ وقال العجاج : [ الرجز ]
1093- وَرَبِّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ ... عِنِ اللَّغَا وَرَفَثَ التَّكَلُّمِ
وقيل : ما يُطرحُ من الكلام؛ استغناءً عنه ، مأخوذٌ من قولهم لِما لا يُعْتَدُّ به من أولاد الإِبل في الدِّيَة « لَغْوٌ » ؛ قال جريرٌ : [ الوافر ]
1094- وَيَهْلكُ وَسْطَهَا المَرْئيُّ لَغْواً ... كَمَا أَلْغَيْتَ فِي الدِّيَةِ الحُوَرَا
وقيل : « اللَّغو » السَّاقط الذي لا يُعتدُّ به سواء كان كلاماً أو غيره ، فأَمَّا وروده في الكلام؛ فكقوله تعالى : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ } [ القصص : 55 ] وقوله : { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً } [ الواقعة : 25 ] ، وقوله : { لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً } [ فصلت : 26 ، { لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً } [ الغاشية : 11 ] وقال عليه الصّلاة والسّلام : « إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الجُمعَةِ والإِمَامُ يَخْطُبُ : أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتَ »
وأما قوله : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ } [ الفرقان : 72 ] فيحتمل أن يكون المُرادُ وإذا مَرُّوا بالكلام الَّذي يكون لغواً ، وأن يكون المُرادُ : وإذا مَرُّوا بالفعل الَّذِي يكون لغواً ، وأَمَّا ورود هذه اللَّفظة في غير الكلام ، فكما ورد فيما لا يعتدُّ به من الدِّية في أولاد الإِبل .
وقيل : هو ما لا يُفهم ، من قولهم : « لَغَا الطَّائِرُ » ، أي : صوَّتَ ، واللَّغو ، ما لَهجَ به الإنسانُ ، واللغةُ مأخوذةٌ من هذا .
وقال الراغب : ولَغِيَ بكذا : أي لَهِجَ به لَهَجَ العُصْفُورِ بِلَغَاهُ ، ومنه قيل للكلام الذي تَلْهَجُ به فرقةٌ « لُغَة » ؛ لجعلها مشتقةً من لَغِيَ بكذا ، أي : أُولِعَ به ، قوال ابن عيسى - وقد ذكر أن اللَّغوَ ما لا يفيدُ - : « ومنه اللغةُ؛ لأنَّها عند غيرِ أهلِها لَغْوٌ » ، وقد غَلَّطوه في ذلك .
قوله : { في أَيْمَانِكُمْ } فيه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن يتعلَّق بالفعلِ قبله .
الثاني : أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ المصدرِ قبله؛ كقولك : « لَغَا فِي يمينه » .
الثالث : أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حال من اللَّغْوِ ، وتعرفه من حيث المعنى؛ أنك لو جعلتَه صلةً لموصولٍ ، ووصفْتَ به اللغو ، لصحَّ المعنى ، أي : اللغو الذي في أَيْمَانِكُمْ . وسُمِّي الحَلفُ يَميناً؛ لأن العرب كانوا إذا تَحَالَفُوا وضع أحدهم يمينه في يمين الآخر .
وقيل : لأَنَّه يحفظ الشَّيء كما تحفظ اليد اليمنى الشَّيء .
فصل في تفسير اللغو
ذكر المفسِّرون في « اللَّغو » وجوهاً :
أحدها : قال الشَّافعيُّ وغيره : هو قول الرَّجل في عرض حديثه : « لاَ واللهِ » و « بَلَى واللهِ » من غير قصدٍ إليهما ، وهو قول عائشة ، وإليه ذهب الشَّعبي وعكرمة ، لِمَا رَوَت عائشة؛ قالت : سَبَبُ نُزُولِ هَذِه الآية : قول الرَّجُل فِي عُرْضِ حديثه : ( لاَ واللهِ ) و ( بَلَى واللهِ ) أخرجه البُخاري ، ويروى عن عائشة : أيمان اللَّغو ما كان في الهزل والمراء والخُصُومة ، والحديث الَّذي لا ينعقِدُ عليه القلبُ .
وقال آخرون : هو أن يحلف على شيءٍ يرى أنَّه صادِقٌ ، ثم تَبَيَّن أنه خلاف ذلك ، وهو قول ابن عبَّاس والحسن ، ومجاهد ، وسليمان بن يسار ، والزُّهري ، والسُّدِّيّ ، وإبراهيم النَّخعي ، وقتادة : ومكحول ، وبه قال أبو حنيفة .
وفائدة الخلاف : أَنَّ الشَّافعيُّ لا يوجب الكفَّارة في قول الرجل : « لاَ واللهِ » و « بَلَى واللهِ » ، ويوجبها ، فيما إذا حلف على شيءٍ يعتقد أَنَّهُ كان ، ثم بان أَنَّه لم يكن ، وأَبو حنيفة يحكم بالضِّدِّ من ذلك .
وقال سعيد بن جبير : هو اليمين في المعصية ، لا يؤاخذه الله بالحَنْثِ فيها ، بل يحنث ويُكَفِّر .
وقال مسروق : ليس عليه كفَّارة ، أنُكفِّرُ خطوات الشَّيطان؟ وقال الشَّعبيُّ : الرَّجل يحلف على المعصية كفَّارته أن يتوب منها ، وكُلُّ يمين لا يحلُّ لك أن تَفِي بها ، فليس فيها كفَّارة ، ولو أَمرته بالكفَّارة ، لأمرته أَنْ يُتمَّ على قوله .
هذا هو اللَّغو؛ لأن اللَّغو هو المعصية؛ قال تعالى : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ } [ القصص : 55 ] .
وقال عليٌّ : هو اليمين في الغضب ، وبه قال طاوس .
وقال الضَّحَّاك : اللَّغو هو اليمين المُكفِّرة ، سُمِّيت لغواً ، لأن الكَفَّارة أسقطتِ الإثم؛ كأنه قيل : لا يُؤاخذكُم اللهُ بِاللَّغْوِ في أيمانِكُم ، إِذْ كَفَّرْتُم .
وقال زيد بن أسلم : هو دُعاء الرَّجُل على نفسه؛ كقوله : « أَعْمَى الله بَصَرِي إن لَمْ أَفْعَلْ كَذَا ، أَخْرَجَنِي اللهُ من مَالِي إِنْ لَمْ آتِكَ غداً » أو يقول : هُوَ كَافِرٌ إن فَعَلَ كَذَا ، فهذا كُلُّه لَغْوٌ لا يُؤَاخذُه الله به ، ولو آخَذَ اللهُ به ، لعَجَّلَ لهم العُقُوبة؛ قال تعالى : { وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير } [ الإسراء : 11 ] ، { وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير } [ يونس : 11 ] .
وقال القاضي : هو كُلُّ ما يقع سهواً من غير قصدٍ؛ لقوله تعالى بعد ذلك : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } ، أي : يؤاخذكم إذا تعمَّدتم ، ومعلوم أنَّ المقابل للعمد هو السَّهو ، حُجَّة الشَّافعي - رضي الله عنه - ما روت عائشة - رضي الله عنها -؛ أَنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
« لَغْوُ اليَمِينِ قَوْلُ الرَّجُلِ فِي قَلْبِهِ : كَلاَّ واللهِ ، بَلَى واللهِ ، لاَ وَاللهِ » .
وروي أنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بقوم ينتضلون ، ومعه رجلٌ من أصحابه ، فرمى رجلٌ من القوم ، فقال : أصبت واللهِ ، ثم أخطأ فقال الَّذي مع النَّبي عليه الصلاة والسلام : حَنَثَ الرَّجُل يا رَسُولَ اللهِ ، فقال النَّبيُّ - عليه الصلاة والسلام - : « كُلُّ أَيْمَان الرُّمَاةِ لَغْوٌ لاَ كَفَّارَةَ فِيهَا ، وَلاَ عُقُوبَةَ » .
وأيضاً فقوله : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } هو الَّذي يقصد الإنسانُ على سبيل الجِدِّ ، ويربط قلبه به ، وإذا كان كذلك ، وجب أَنْ يكُونَ اللَّغْو كالمقابل له ، ويكُون معناه : ما لا يقصدُ الإنسان بالجِدِّ ، ولا يربط قلبه به ، وذلك هو قول القائل في عرض حديثه : لا والله ، وبلى والله مِنْ غير قصدٍ على سبيل العادة .
وأيضاً : فَإِنَّه قال قبل هذه الآية : { وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ } وتقدَّم أنَّ معناه : النَّهي عن كثرة الحلفِ ، والَّذِين يقولُون على سبيل العادة لاَ والله ، وبلى والله ، لا شك أنَّهم يكثرون الحَلْفَ واليمين ، فلمَّا ذكرهم اللهُ - عقيب قوله : { وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ } ، وبين أنَّه لا مؤاخذة عليهم ، ولا كفارة ، فإيجاب مؤاخذتهم يقتضي إِمَّا أَنْ يمتنعوا عن الكلام ، أو يلزمهم فِي كُلِّ لحظَةٍ كفَّارة ، وكلاهُما حرجٌ في الدِّين .
واحتجَّ أبو حنيفة بوجوه :
الأول : قوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ » ، فأوجب الكفَّارة على الحانِثِ مُطْلقاً ، ولم يفصل بين الجَدِّ والهزل .
الثاني : أَنَّ اليمين معنى لا يلحقه الفسخ ، فلا يعتبر فيه القصد كالطَّلاق والعتاق ، وهاتان الحُجَّتان توجبان الكَفَّارة في قول النَّاس لا واللهِ ، وبَلَى والله ، إذا حصل الحَنثُ .
ويؤيِّد ما قلناه : أَنَّ اليمين في اللغة عبارةٌ عن القُوَّة؛ قال الشَّاعر : [ الوافر ]
1095- إِذَا مَا رَيَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ
أي : بالقوَّة ، والمقصود من اليمين : تقوية جانب البِرِّ على جانب الحنث بسب اليمين ، وإنَّما يفعل هذا في الموضع الَّذي يكون قابلاً للتَّقوية ، وهذا إذا وقع اليمين على فعل في المستقبل ، فأمَّا إذا وقع اليمين على الماضي فذلك لا يقبل التَّقوية ألبتَّة فعلى هذا فاليمين على الماضي تكون خالية عن الفائدة فأمَّا اليمين على المستقبل ، فإنه قابلٌ للتَّقوية .
قوله : { ولكن يُؤَاخِذُكُم } وقعت هنا « َلَكِنْ » بين نقيضين؛ باعتبار وجود اليمين؛ لأنَّها لا تَخْلُو : إمَّا ألاَّ يقصدها القلبُ : بل جرتْ على اللسانِ ، وهي اللَّغْوُ ، وإمَّا أن يقصِدَها ، وهي المنعقدةُ .
قوله تعالى : { بِمَا كَسَبَتْ } متعلِّقٌ بالفعلِ قبله ، والباءُ للسببية كما تقدَّم ، و « مَا » يجوزُ فيها ثلاثةُ أوجه :
أظهرها : أنها مصدريةٌ لتُقابل المصدر ، وهو اللَّغو ، أي : لا يؤاخذكم باللغوِ ، ولكن بالكسب .
والثاني : أنها بمعنى « الذي » ، ولا بُدَّ من عائدٍ محذوفٍ ، أي : كَسَبَتْهُ؛ ويرجِّحُ هذا أنها بمعنى « الَّذِي » أكثرُ منها مصدريةً .
والثالثُ : أن تكونَ نكرةً موصوفةً ، والعائدُ أيضاً محذوفٌ ، وهو ضعيفٌ ، وفي هذا الكلام حَذْفٌ ، تقديره : ولكنْ يُؤاخِذكُمْ في أَيْمَانِكُمْ بما كَسَبَتْ قلوبُكُمْ؛ فحذف لدلالةِ ما قبله عليه .
فصل
قوله : { يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } ، أي : عزمتُم وقصدتُم إلى اليمين ، وكَسبُ القَلْب : العقدُ والنِّيَّة .
وقال زيد بن أسلم في قوله : « وَلكِم يُؤَاخِذُكم بما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ » هو في الرَّجل يقول : هو مشركٌ إن فعل أي : هذا اللَّغو إلاَّ أن يعقد الشِّرك بقلبه ويكسبه .
واعلم أنَّ اليمين لا تنعقد إلاَّ باللهِ تعالى أو اسم من أسمائِهِ ، أو صفةٍ من صفاته ، فاليمين باللهِ أَنْ يقول : والَّذي أعبده ، والَّذِي أصلِّي له؛ والَّذِي نفسي بيده ، ونحو ذلك .
واليمين بأسمائه؛ كقوله : واللهِ؛ والرَّحْمنِ ونحوه .
واليمين بصفاته؛ كقوله : وعزَّة اللهِ؛ وعظمةِ اللهِ؛ وجلال اللهِ؛ وقدرة اللهِ ، ونحوها .
فإذا حلف بشيءٍ منها على أمرٍ في المستقبل فحنث ، وجبت عليه الكفَّارة ، وإذا حلف على أمرٍ ماضٍ أَنه كان ولم يكُن وقد كان ، إِنْ كان عالِماً به حال اليمين ، فهو اليمين الغموس وهو من الكبائر ، وتجبُ فيه الكفَّارة عند الشَّافعيِّ ، عالماً كان أو جاهلاً .
وقال أصحاب الرَّأي : إِنْ كان عالِماً ، فهو كبيرةٌ ، ولا كفَّارة لها كسائر الكبائر ، وإِنْ كان جاهلاً ، فهو يمين اللَّغو عندهم .
واحتجَّ الشَّافعيُّ بهذه الآية على وجوب الكفَّارة في اليمين الغموس؛ قال : « لأَنَّه - تعالى - ذكر ههنا المؤاخذة بكسب القلب ، وقال في آيةِ المائدة : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان } [ المائدة : 89 ] ، وعقد اليمين محتمل لأن يكون المراد به العقد الَّذي مضادُّه الحِلّ ، فلما ذكر ههنا قوله : { بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } علمنا أن المراد من ذلك العقد هو عقد القلب ، وأيضاً ذكر المُؤاخذة ، ولم يبيِّن تلك المُؤاخذة ما هِيَ ، وَبيَّنَها في آية المائِدَة بقوله : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان فَكَفَّارَتُهُ } [ المائدة : 89 ] ، فتبيَّن أن المُؤَاخَذَة هي الكَفَّارَة ، فكل مُؤَاخَذَةٍ من هاتين الآيتين مجملةٌ من وجهٍ ، مبيَّنَةٌ من وجهٍ آخر ، فصارت كل واحدةٍ منهما مُفسَّرة للأُخرى من وجهٍ ، وحصل من كُلِّ واحدةٍ منهما أَنَّ كُلَّ يمينٍ ذكر على سبيل الجِدِّ وربط القلب به ، فالكفَّارة واجبةٌ فيها ، ويمين الغموس كذلك ، فكانت الكفَّارة واجبةٌ فيها .
فصل في كراهية الحلف بغير الله
ومن حلف بغير اللهِ مثل أن قال : والكعبة ، وبيت اللهِ ، ونبيِّ الله؛ أو حلف بأبيه ونحو ذلك ، فلا يكون يميناً ، ولا تجب فيه الكفَّارة إذا حنث ، وهو يمين مكروهٌ؛ قال الشَّافعيُّ : وأخشى أن تكون معصية .
روى مالكٌ عن نافعٍ ، عن ابن عمر؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدرك عمر بن الخطَّاب ، وهو يسير في ركب وهو يحلف بأبيه؛ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُم أَنْ تَحْلفُوا بآبَائِكُم ، فَمَنْ كَانَ حَالِفاً فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ » .
قوله تعالى : { والله غَفُورٌ حَلِيمٌ } قد تقدَّم أن « الغَفُور » مبالغةٌ في ستر الذُّنوب ، وفي إسقاط عقوبتها .
وأمَّا « الحليم » فاعلم أن الحلم في كلام العرب الأناة ، والسُّكون مع القُدرة والقُوَّة ، ويقال ضع الهودج على أحلم الجمال ، أي : على أشدِّها قوَّةً في السَّير ، ومنه الحِلْم ، لأَنَّه يرى في حال السُّكُون ، وحلمة الثَّدي؛ والحليمُ مِنْ حَلُم - بالضم - يَحْلُمُ إذا عَفَا مع قُدْرَة ، وأمَّا حَلِمَ الأديمُ فبالكسر يَحْلَمُ بالفتح ، فسد وتثقَّب؛ وقال [ الوافر ]
1096- فَإِنَّكَ وَالْكِتَابَ إِلَى عَلِيٍّ ... كَدَابِغَةٍ وَقَدْ حَلِمَ الأَدِيمُ
وأمَّا « حَلَمَ » ، أي : رأى في نومِه ، فبالفتح ، ومصدرُ الأولِ « الحِلْم » بالكسر؛ قال الجعديُّ : [ الطويل ]
1097- وَلاَ خَيْرَ فِي حِلْمٍ إِذَا لَمْ تَكُن لَهُ ... بَوَادِرُ تَحْمِي صَفْوَهُ أَنْ يُكَدَّرَا
ومصدرُ الثاني « الحَلِّمُ » بفتح اللام ومصدرُ الثالث : « الحُلُم » و « الحُلْم » بضم الحاءِ مع ضمِّ اللام وسكونها .

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
قوله تعالى : { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ } : هذه جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ ، وعلى رأي الأخفش من باب الفعلِ والفاعلِ؛ لأنه لا يشترطُ الاعتماد ، و « مِن نِّسَآئِهِمْ » في هذا الجارِّ ثمانيةُ أوجهٍ :
أحدها : أنْ يتعَلَّقَ ب « يُؤْلُونَ » .
قال الزمخشريُّ : « فإنْ قلتَ : كيف عُدِّي ب » مِنْ « وهو مُعَدى ب » عَلَى « ؟ قلتُ : قد ضُمِّنَ في هذا القَسَم المخصوصِ معنى البُعْد ، فكأنه قيل : يُبْعُدُونَ من نسائِهم مُؤْلِينَ ، أو مُقْسِمِين » .
الثاني : أنَّ « آلَى » يتَعَدَّى ب « عَلَى » و ب « مِنْ » ؛ قاله أبو البقاء نقلاً عن غيره؛ أنه يقال : آلَى من امرأته ، وعلى امرأته .
الثالث : أنَّ « مِنْ » قائمةٌ مقامَ « عَلَى » على رأي الكوفيِّين .
والرابع : أنها قائمةٌ مقامَ « فِي » ، ويكونُ ثم مضافٌ محذوفٌ ، أي : على تَرْكِ وَطْءِ نسائهم ، أو في ترك وطء نسائهم .
والخامس : أنَّ « مِنْ » زائدةٌ ، والتقدير : يُؤْلُون أَنْ يَعْتَزلوا نِسَاءَهُم .
والسادس : أَنْ تتعلَّقَ بمحذوف ، والتقديرُ : والذين يُؤُلون لهم من نسائهم تربُّصُ أربعة أشهرٍ؛ فتتعلَّق بما يتعلق به « لَهُم » المحذوفُ ، هكذا قَدَّره أبو حيَّان وعزاه للزمخشريِّ قال شهاب الدين وفيه نظرٌ؛ فإنَّ الزمخشريَّ قال : ويجوزُ أن يُرَادَ : لهم من نسائهم تَرَبُّصُ؛ كقولك : « لِي مِنْكَ كَذَا » فقوله « لَهُمْ » لم يُرد به أن ثَمَّ شيئاً محذوفاً ، وهو لفظُ « لَهُمْ » ، إنما أرادَ أَنْ يعلِّق « مِنْ » بالاستقرار الذي تعلَّق به « لِلَّذِينَ » ، غايةُ ما فيه : أنه أتى بضمير « الَّذِينَ » تبييناً للمعنى ، وإِلَى هذا المنحَى نحا أبو البقاء؛ فإنه قال : وقيل : الأصلُ « عَلَى » ، ولا يَجُوزُ أن تقومَ « مِنْ » مقامَ « عَلَى » فَعَلَى ذلك تتعلَّقُ « مِنْ » بمعنى الاستقرار ، يريدُ الاستقرارَ الذي تعلَّقَ به قوله « لِلَّذِينَ » ، وعلى تقدير تسليم أنَّ لفظة « لَهُمْ » مقدرةٌ ، وهي مُرادةٌ ، فحينئذٍ : إنما تكونُ بدلاً من « لِلَّذِينَ » بإِعادةِ العاملِ ، وإلاَّ يبقى قوله « لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ » مُفْلَتاً ، وبالجملةِ فتعلُّقه بالاستقرار غيرُ ظاهرٍ ، وأمَّا تقديرُ الشيخ : « والذين يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ » ، فليس كذلك؛ لأنَّ « الَّذِينَ » لو جاء كذلك غيرَ مجرور باللام ، سَهُلَ الأمرُ الذي ادَّعاه ، ولكن إنما جاءَ كما تراه مجروراً باللام ، سهُلَ الأمرُ الذي ادَّعاه ، ولكن إنما جاءَ كما تراه مجروراً باللام ، ثم قال أبو حيَّان : وهذا كلُّه ضعيفٌ يُنَزَّه القرآن عنه ، وإنما يتعلَّق ب « يُؤْلُونَ » على أحد وجهين : إمَّا أنْ تكونَ « مِنْ » للسَّبَبِ ، أي يَحْلِفُون بسبب نسائِهم ، وإمَّا أَنْ يُضَمَّن معنى الامتناع ، فيتعدَّى ب « مِنْ » فكأنه قيل « لِلَّذِينَ يمتنعُونَ من نسائِهِم بالإِيلاَءِ » فهذان وَجْهان مع السنة المتقدِّمة؛ فتكونُ ثمانةٌ ، وإن اعتبرت مطلقَ التضمينِ فتجيءُ سبعةٌ .
والإِيلاءُ : الحَلفُ . مصدرُ آلَى يُؤْلي ، نحو : أَكْرَمَ يُكْرِم إِكْرَاماً ، والأصل : « إئْلاءٌ » فأُبدِلت الهمزةُ الثانيةُ ياءً؛ لسكونها وانكسار ما قبلها؛ نحو : « إِيمَان » .
ويقال : تَأَلَّى وايتَلَى على افتَعَلَ ، والأصلُ : ائْتَلَى ، فقُلِبَت الثانيةُ ياءً؛ لِما تقدَّم .
والحَلْفَةُ : يقال لها : الأَلِيَّةُ والألُوَّةُ والأَلْوَةُ والإِلْوَةُ ، وتُجْمَعُ الأَليَّةُ على « أَلايَا » ؛ كعَشيَّة وعَشَايَا ، ويجوزُ أن تُجْمَعَ الأَلُوَّة أيضاً على « أَلاَيَا » ؛ كرَكُوبَة ورَكَائِب؛ قال كُثَيِّر عزَّة : [ الطويل ]
1098- قَلِيلُ الألاَيَا حَافِظٌ ليَمِينِهِ ... إِذَا صَدَرَتْ مِنْهُ الأَلِيَّةُ بَرَّتِ
وقد تقدَّم كيف تصريفُ أَلِيَّة وَأَلاَيَا عند قوله : { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } [ البقرة : 58 ] جمع خطيئة والإيلاء من عرف الشَّرع : هو اليمين على ترك الوطء؛ كقوله : لا أُجامعك ، أولا أُباضعك ، أو لا أُقاربك .
ومن المفسرين من قال في الآية حذف تقديره : للَّذين يؤلون من نسائهم ألاَّ يطئوهم ، إلاَّ أنَّه حذف لدلالة الباقي عليه .
قال ابن ا لخطيب : هذا إذا حملنا لفظ « الإِيلاَءِ » على المفهوم اللُّغَوِيّ ، أَمَّا إذا حملناه على المفهوم الشَّرعي ، لم يحتج إلى هذا الإضمار .
وقرأ أُبيٌّ وابن عباس : « للَّذِينَ يُقْسِمُونَ » ، نقله القرطبي .
وقرأ عبدالله : « آلَوْا مِنْ نِسَائِهِم » .
والتَّربصُ : الانتظارُ ، وهو مقلوبُ التَّصبُّرِ؛ قال : [ الطويل ]
1099- تَرَبَّصْ بِهَا رَيْبَ المَنُونِ لَعَلَّهَا ... تُطَلَّقُ يَوْماً أَوْ يَمُوتَ حَلِيلُهَا
وإضافةُ التربُّص إلى الأشهرِ فيها قولان :
أحدهما : أنَّه من باب إضافة المصدر لمفعوله؛ على الاتساع في الظرف؛ حتَّى صارَ مفعولاً به ، فأُضيفَ إليه ، والحالةُ هذه كقوله : « بَيْنَهُمَا مَسِيرة يَوْمٍ » أي : مَسِيرة في يَوْم .
والثاني : أنه أُضِيف الحَدَثُ إلى الظرف من غير اتِّساع ، فتكونُ الإِضافةُ بمعنى « فِي » وهو مذهبٌ كوفيٌّ ، والفاعلُ محذوفٌ ، تقديره : تربُّصُهُمْ أربعةُ أشهرٍ .
فصل
قال قتادة : كان الإيلاء طلاقاً لأهل الجاهلية وقال سعيد بن المُسيَّب : كان ذلك من ضرار أهل الجاهليَّة ، وكان الرَّجُلُ لا يُحِبُّ امرأته ، ولا يريد أن يتزوَّجها غيره ، فيحلف ألاَّ يقربها أبداً ، فيتركها لا أَيماً ولا ذات بعلٍ ، وكانوا في ابتداء الإِسلام يفعلون ذلك أيضاً؛ فأزال الله تعالى ذلك ، وضرب للزَّوْج مُدَّة يَتَرَوَّى فيها ويتأمَّل ، فإِنْ رأى المصلحة في تركِ هذه المضارَّة ، فعلها ، وإن رأى المصلحة في المفارقة ، فارقها .
وقال القُرطبيّ : وقد آلَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وطَلَّق ، وسببُ إيلائه : سُؤال نسائه إِيَّاه من النَّفقةِ ما ليس عندهُ؛ كذا في « صَحِيح مُسْلِم » ، وقيل : لأن زينب ردَّت عليه هديَّتهُ ، فغضب - صلى الله عليه وسلم - فآلَى منهُنَّ ، ذكره ابن ماجه .
فصل
فذهب أكثرهم إلى أَنَّهُ إِن حلف لا يَقْرَبُ زوجته أبداً ، أَو سَمَّى مُدَّة أكثر من أربعة أشهر يكون مؤْلياً ، فلا يتعرَّض لها قبل مضي أربعة أشهرن وبعد مُضيِّها يُوقفُ ويُؤمرُ بالفيئة أو الطَّلاقِ بعد مُطالبةِ المرأة ، والفَيْئَة : هي الرُّجُوع عمَّا قال بالوطء إن قَدَر عليه ، وإن لم يَقْدِر فبالقَوْل ، فإن لم يَفِ ولم يُطَلِّق ، طَلَّق عليه الحاكم واحدة .
وذهب إلى الوَقْفِ بعد مُضِيِّ المُدَّةِ : عمرن وعثمان ، وعليٌّ ، وأبو الدرداء ، وابن عمر .
قال سُليمان بن يسار : أدْرَكْتُ بضعة عشر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كُلُّهم يقول بوقف المُؤْلي ، وإليه ذهب سعيد بن جُبير ، وسُلَيْمان بن يسار ، ومجاهد ، وبه قال مالك والشَّافعي وأحمد وإِسحاق .
وقال بعض أهل العلم : إذا مضتْ عليها أربعةُ أشهر ، يقع عليها طَلْقَةً بائنة ، وهو قول ابن عبَّاس وابن مسعود ، وبه قال سُفيانُ الثَّورِيُّ وأصحاب الرَّأي .
وقال سعيد بن المُسيَّب والزُّهري : تقع طلقة رجعيَّةً ، ولو حلف ألاَّ يطأَها أَقَلَّ من أربعة أشهر ، لا يكون مُؤْلياً ، بل هو حانثٌ إذا وطئها قبل مُضِيِّ تلك المُدَّة ، وتجب عليه كفَّارة يمين على الصَّحيح ، ولو حلف ألاَّ يطَأَهَا أربعة أشهرٍ ، لا يكون مُؤلياً عند من يقول بالوقف بعد مُضِيِّ المُدَّة ، لأن بقاء المُدَّة شرط للوقف ، وثبوت المُطَالبة بالفيئة أو الطَّلاق ، وقد مضتِ المُدَّة ، وعند من لا يقول بالوقف لا يكون مؤلياً ويقعُ الطَّلاَق بمُضِيِّ المُدَّة .
وقال ابن عبَّاس لا يكون مُؤْلياً حتى يحلف لا يَطأَها أبداً .
وقال الحسن البصريِّ وإسحاق : أي مُدَّة حَلَف عَلَيها ، كان مُؤلياً وإن كان يَوْماً .
فصل
قال القرطبيُّ : إذا حلف أَلاَّ يطأ امرأتهُ أكثر من أربعة أشهرٍ؛ فانقضت الأربعة أشهرٍ ولم تُطالبه ، ولم ترفعهُ إلى الحاكم ، لم يلزمه شيء عند مالكٍ وأكثر أهل المدينة .
وقال بعض أصحابنا : يلزمه بانقضاء الأَربعَة أَشهر طلقة رجعيَّة ، وقال بعضهم : طلقة بائِنَة .
والصَّحِيح : ما ذهب إليه مالِكٌ ، وأكثر أَهْلِ المدينة وأصحابه .
فصل هل ينعقد الإيلاء في الغضب؟!
قال ابن عبَّاس : لا يكون إيلاءً إلاَّ في حالِ الغَضَبِ ، وهو المشهور عن عليٍّ - رضي الله عنه - وهو قول اللَّيث ، والشَّعبي ، والحسن ، وعطاء قالوا : لا يكون الإيلاءُ إلاَّ على وجه مغاضبةٍ ومشادَّة .
وقال ابن سيرين : يكون في غضبٍ ، وغير غضبٍ ، وهو قول ابن مسعود ، والثوري ومالك وأهل العراق والشَّافعيِّ وأحمد .
فصل
والمدخول بها وغير المدخول بها سواءٌ في صِحَّة الإيلاء منها .
قال القرطبي : والذِّمِّيُّ لا يصحُّ إيلاؤه كما لا يصحُّ طلاقهُ ، ولا ظِهَارُهُ؛ لأن نكاح أهل الشِّرْكِ عندنا ليس بنكاحٍ صحيحٍ .
فصل
ومُدَّة الإيلاء أربعة أشهر في حق الحُرِّ والعبدِ لأنَّها ضُرِبت لمعنى يرجع إلى الطَّبع ، وهو قِلَّةُ صبر المرأَة عن الزَّوج ، فيستوي فيه الحُرُّ والعبدُ؛ كمُدَّة الفَيْئَةِ ومُدَّة الرِّضاع .
وعند مالكٍ وأبي حنيفة : ينتصف بالرِّقِّ ، إلاَّ عند أبي حنيفة : ينتصف بِرِقِّ المرأة ، وعند مالكٍ : برِقِّ الرَّجُل؛ كقولهما في الطَّلاَق .
ولنا : ظاهر قوله تعالى : { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ } فتناول الكُلَّ من غير تخصيصٍ ، والتَّخصيص خلاف الظَّاهر ، والمعنى المُتَقَدِّم يمنع التَّخْصِيص .
قال القرطبيُّ : وأَجَلُ المُؤلي من يوم حلف ، لا مِنْ يوم المرافعة إلى الحاكم .
فصل فيمن يصح منه الإيلاء ومن لا يصح
كُلُّ زَوْج يتصوَّر منه الوَقَاع ، وكان تصرُّفه مُعْتبراً في الشَّرْع ، صَحَّ منه الإيلاءُ .
وقال مالكٌ : لا يَصِحُّ الإيلاءُ إلاَّ في حال الغضب ، وقال غيره : يصحُّ الإيلاءُ في حال الرِّضَى والغضب ، ويصحُّ الإيلاءُ من الرَّجعيَّة؛ لأنها زوجة؛ بدليل أَنَّه لو قال : نسائي طوالِقٌ ، وقع عليها الطَّلاَقُ .
وإيلاء الخَصِيِّ صحيحٌ ، لأنه يُجَامع كالفحلِ ، وإنما فُقِد في حَقِّهِ الإِنْزَالُ ، والمجبوب إن بقي منه ما يمكنه أن يُجَامع به ، صَحَّ إِيلاؤه ، وإن لم يَبْقَ ، فيه خلافٌ .
قال أبو حنيفة : لا يَصِحُّ إيلاؤه .
وقال غيره : يَصِحُّ لعموم الآية ، ولا يصحُّ الإيلاء [ من أَجْنَبيَّة ] ، فلو آلَى منها ثم تَزَوَّجها ، لم يكن مُؤْلِياً .
فصل
فإن امتنع من وطئها بغير يمين إضراراً بها ، أُمر بوطئها ، فإن امتنع إضراراً بها ، فرَّق الحاكم بينه وبينها ، من غير ضرب مُدَّة .
وقيل : يُضربُ له أجلُ الإيلاءِ ، فإذا حلف لا يطؤها حتى يفطم ولدها؛ لئلا يُمْغَلَ بولدها ، ولم يرد إضراراً بها حتى يَنْقَضِي أَمَدُ الرِّضاع ، لم يكُن لها مُطَالبته .
فصل
المُوْلِي لا يخلُو إمّا أن يحلف تَرْك الوَطْءِ بالله - تعالى - أو بغيره ، فإِن حَلَف بالله تعالى كان مُؤلياً ، ثم إن جامعها في مُدَّة الإيلاءِ ، خَرَجَ عن الإيلاءِ ، وهل تجب عليه كَفَّارة؟ فيه قَوْلاَن :
أصحّهما : أن عليه الكَفَّارة كما قَدَّمناه؛ لعموم الدَّلائِل الموجبةِ للكَفَّارةِ عند الحِنْثِ باليمين بالله - تعالى - لأنه لا فَرْقَ بين قوله : « والله لا أَقْرَبُكِ » ثم يَقْرَبُهَا ، وبين قَوله : « والله لا أُكَلِّمُكِ » ثم يُكَلِّمُهَا .
والقول الثاني : لا كَفَّارة عليه؛ لقول تعالى : { فَإِنْ فَآءُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
ولو كانت الكَفَّارة واجبةٌ لذكرها ، والحاجة مناسبةٌ إلى معرفتها ، ولا يجوزُ تأخِير البيان عن وقتِ الحاجة ، والغُفران يوجبُ ترك المُؤَاخَذةِ .
وللأَوَّلِين أن يجيبوا : بأنه إنما ترك الكَفَّارة ههُنا لأنه - تعالى - بيَّنها على لسان رسوله - عليه الصَّلاة والسلام - في سَائِر المواضع ، وتَرْكُ المُؤَاخذة بقوله : « غَفُورٌ رَّحِيمٌ » يدل على عدم العقاب ، وهو لا يُنافي وجُوب الفِعْل ، كما أن التَّائِب عن الزِّنا والقَتْلِ لا عِقاب عليه ، ومع ذلك يجِبُ عليه الحَدُّ والقِصَاصُ .
وأما إن كان الحالف في الإيلاء بغير اللهِ؛ كما إذا قال : إن وَطَأْتُكِ فعبدي حُرٌّ ، أَوْ أَنْت طالِقٌ ، أو ضرتك طَالِق ، أو التزم أمراً في الذِّمَّة ، فقال : إن وَطَأْتُكِ فَلِلَّه عليَّ عِتْق رَقبة ، أو صدقة ، أو صَوْم ، أو حَجّ ، أو صلاة ، فقال الشَّافعي في « القدِيمِ » ، وَأَحمدُ في ظاهر الرِّواية عنه : لا يكون مُؤْلِياً؛ لأن الإِيلاَء المعهُود هو الحلفُ باللهِ؛ ولقوله - عليه الصلاة والسلام - :
« مَنْ حَلَفَ فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ » .
وقال الشَّافعيّ في « الجَدِيدِ » - وهو قول أبي حنيفة ومالك وجماعة - إنه يكُون مُؤْلِياً؛ لأن لفظ الإيلاءِ يَتَناوَلُ الكُلَّ ، وعلى القولين فيمينُهُ منعقدة ، فإن كان قد عَلَّق به طلاقاً أو عِتْقاً ، وقع بِوَطْئِه ذلك المُعَلَّق ، وإن كان المُعَلَّق التزام قُرْبة في الذِّمَّة ، فعليه ما في نذرِ اللَّجاج ، إِمَّا كَفَّارة يمين ، وإِمَّا الوَفَاء بما سَمَّى .
وفائدة هذين القولين : أنا إن قلنا : يكون مُؤْلياً ، فبعد أَرْبَعَة أشهر يضيق الأَمْر عليه ، حَتَّى يَفيء أو يُعَلِّق ، وَإِنْ قلنا : لا يكون مُؤْلياً ، لا يضيقُ عليه الأَمر .
قال القرطبي : فإن حلف بالنَّبِيّ أو الملائِكَة ، أو الكَعبة ألا يَطَأَها أو قال : هو يَهُوديٌّ ، أو نصرانيٌّ ، أو زانٍ إن وطِئَها ، فليس بِمُؤْلٍ ، قال : وإن حلف ألا يَطَأَها ، واستثنى فقال : إن شاء الله ، فإنَّه يكون مُؤلياً ، فإن وَطِئَهَا ، فلا كَفَّارة عليه .
وقال ابن الماجشون في « المَبْسُوطِ » : ليس بِمؤلٍ ، وهو الصَّحيحُ .
قوله : { فَإِنْ فَآءُوا } ألفُ « فَاءَ » منقلبةٌ عن ياء؛ لقولهم : فَاءَ يَفِيءُ فَيْئَةً : رَجَعَ والفَيْءُ : الظلُّ؛ لرجوعه من بعد الزوال ، وقال عَلْقَمَةُ : [ الطويل ]
1100- فَقُلْتُ لَهَا فِيئِي فَمَا تَستَفِزُّنِي ... ذَوَاتُ العُيُون وَالبَنَانِ المُخَضَّبِ
وفرّقوا بين الفَيْءِ والظِّل : فقالوا : الفَيء ما كان بالعَشِيِّ؛ لأنه الذي نسختهُ الشَّمسُ ، والظَّلُّ ما كان بالغداة؛ لأنه لم تنسخه الشَّمس ، وفي الجنة ظِلٌّ وليس فيها فَيْءٌ؛ لأنه لا شَمْسَ فيها؛ قال تعالى : { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } [ الواقعة : 30 ] ؛ وأنشد : [ الطويل ]
1101- فَلاَ الظِّلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعُهُ ... وَلاَ الفَيْءُ مِنْ بَرْدِ العَشِيِّ تَذُوقُ
وقيل : فُلاَن سريعُ الفيئة ، أي : سريعُ الرُّجوع عن الغَضَبِ إلى الحَالَةِ المتقدِّمة ، حكاه الفَرَّاء عن العرب .
وقيل لما رَدَّه الله على المُسلمين من مال المُشْرِكين : فَيْء؛ كأنه كان لهم فرجع إِلَيهم ، فقوله : « فَاءُوا » معناه : رَجَعُوا عَمَّا حَلَفُوا عليه من تَرْك الجِمَاع ، فإنه غَفُورٌ رَحِيمٌ .
فصل في وجوب الكفَّارة
قال القُرطبيّ : جمهور العُلماء أَوْجَبُوا الكَفَّارة على المُؤْلي إذا فاء بجماع امرأته .
وقال الحسن : لا كَفَّارة عليه .
قال القرطبي : إِذَا كَفَّر عن يمينه ، سقط عنه الإيلاءَ .
قوله تعالى : { وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق } في نصب « الطَلاَقَ » وجهان :
أحدهما : أنه على إسقاط الخافضِ؛ لأنَّ « عَزَمَ » يتعدَّى ب « عَلَى » ، قال : [ الوافر ]
1102- عَزَمْتُ عَلَى إِقَامَةِ ذِي صَبَاحٍ ... لأَمْرٍ مَّا يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ
والثاني : أن تُضَمَّن « عَزَمَ » معنى « نَوَى » ؛ فينتصب مفعولاً به .
والعَزْمُ : عَقْدُ القلبِ وتصميمُه : عَزَم يَعْزِمُ عَزْماً وعُزْماً بالفتحة والضمة ، وعَزِيمَةً وعِزَاماً بالكَسْر ، ويستعمل بمعنى القَسَم : عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتَفْعَلَنَّ؛ والعزمُ والعَزِيمةُ : توطينُ النَّفْسِ على المُرادِ المَطْلُوب ، والأَمر المَقْصُود . والطلاقُ : انحلالُ العقدِ ، وأصلُه الانطلاق .
وقال القرطبي : والطَّلاق : التَّخليةُ ، يقال : نعجةٌ طالِقٌ ، وناقةٌ طالِق أي : مهملة؛ قد تُرِكت في المرعى ، لا قيدَ عليها ولا رَاعِيَ وبعير طُلُق : بضم الطَّاء واللام ، والجمع أَطلاقٌ ويقال : طَلَقَتْ بفتح اللام تَطْلُقٌ فهي طالِقٌ وطَالِقَةٌ؛ قال الأعشى : [ الطويل ]
1103- أَيَا جَارَتَا بَينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ .. .
وحكى ثعلب : « طَلُقَتْ » بالضم ، وأنكره الأخفش . والطلاقُ يجوز أَنْ يكون مصدراً ، أو اسمَ مصدرٍ ، وهو التطليقُ .
قوله : { فَإِنَّ الله } ظاهرُه أنَّه جوابُ الشرطِ ، وقال أبو حيان : ويَظْهَرُ أنَّه محذوفٌ ، أي : فَلْيُوقِعُوهُ ، وقرأ عبداللهِ : « فَإِنْ فَاءُوا فيهنَّ » وقرأ أُبيُّ « فِيهَا » والضميرُ للأَشْهُرِ .
وقراءةُ الجمهورِ ظاهرُها أنَّ الفَيْئَة والطَّلاق إنما تكونُ بعد مُضِيِّ الأربعة الأشهر ، إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ لمَّا كان يرَى بمذهبِ أبي حنيفة : وهو أنَّ الفَيْئَة في مُدَّة الأربعةِ الأشهرِ ، ويؤيِّدُه القراءةُ المتقدِّمَةُ ، احتاجَ إلى تأويل الآيةِ بما نصُّه : « فإِنْ قلتَ : كيف موقعُ الفاءِ ، إذا كانت الفيئةُ قبل انتهاءِ مدةِ التربُّصِ؟ قلت : موقعٌ صحيحٌ؛ لأنَّ قوله : » فَإِنْ فَاءَوُا . وَإِنْ عَزَمُوا « تفصيلٌ لقوله : { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ } ، والتفصيلُ يَعْقُب المُفَصَّلَ ، كما تقول : أنَّا نزيلُكُمْ هذا الشَّهْرَ ، فإِنْ أَحْمَدْتُكُمْ ، أَقَمْتُ عندَكُمْ إلى آخره ، وإلاَّ لم أقُم إلاَّ رَيْثما أَتَحَوَّلُ » ، قال أبو حيان : « وليس بصحيحٍ؛ لأ ، َّ ما مثل به ليس نظيرَ الآيةِ؛ ألا ترَى أنَّ المثالَ فيه إخبارٌ عن المُفَصَّل حاله ، وهو قوله : » أَنَا نَزِيلُكُمْ هذا الشَّهْر « ، وما بعد الشرطينِ مُصَرَّحٌ فيه بالجواب الدالِّ على اختلاف متعلَّقِ فعل الجزاء ، والآيةُ ليسَتْ كذلك؛ لأنَّ الذين يُؤلُونَ ليس مُخْبَراً عنهم ، ولا مُسْنَداً إليهم حُكْمٌ ، وإنما المحكُومُ عليه تربُّصُهُمْ ، والمعنى : تربُّصُ المُؤلين أربعةَ أَشْهُرٍ مشروعٌ لهم بعد إيلائهم ، ثم قال : » فَإِنْ فَاءُوا وَإِنْ عَزَمُوا « فالظاهرُ أَنَّهُ يَعْقُبُ تربُّصَ المدةِ المشروعةِ بأَسْرِهَا ، لأنَّ الفيئةَ تكونُ فيها ، والعَزْمَ على الطلاقِ بعدَها؛ لأنَّ التقييد المغاير لا يَدُلُّ عليه اللفظُ ، وإنما يُطابقُ الآيةَ أَنْ تقول : » للضَّيْفِ إكرامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ، فإنْ أقامَ ، فنحنُ كرماءُ مُؤثِرُونَ ، وإنْ عَزَمَ على الرحيلِ ، فله أن يَرْحَلَ « ، فالمتبادَرُ إلى الذِّهْنِ أنَّ الشرطين مُقَدَّرَانِ بعد إكرامهِ » .
قلوه : { سَمِيعٌ عَلِيمٌ } قال أبو حنيفة : سَمِيعٌ لإِيلائِه ، عليم بعزمِه .
قال القرطبي : دلَّت هذه الآية على أَنَّ الأَمة الموطوءة بملك اليمين لا يكون فيها إيلاءٌ ، إذ لا يقع عليها طلاقٌ .
فصل
قال أبو حنيفة والثَّوري : إنه لا يكون مُؤْلِياً حتى يحلف ألاَّ يطأها أربعة أشهر أو فيما زاد .
وقال الشَّافعيّ وأحمد ومالك : لا يكون مُؤلياً حتَّى تزيد المُدَّة على أربعة أشهر .
وفائدة الخلاف : أنه إذا آلَى منها أكثر من أربعة أهشرٍ أجل أربعة أشهرن وهذا المُدَّة تكون حَقّاً للزَّوج ، فإذا مضت تطالب المرأة الزَّوج بالفيئة أو بالطَّلاق فإن امتنع الزَّوجُ منهما ، طلَّقها الحاكمُ عليه ، وعند أبي حنيفة : إذا مضت أربعةُ أشهر ، يقعُ الطَّلاق . حجة الشَّافعي وجوهٌ .
الأول : أنَّ « الفاء » في قوله { فَإِنْ فَآءُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، { وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يقتضي كون هذين الحُكمين مشروعين متراخياً على انقضاء الأَرْبَعة أشهُر .
قال ابن الخطيب لما ذكر قول الزَّمخشريِّ المتقدِّم على سبيل الإيراد : وهذا ضعيفٌ ، لأن قوله : { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } إشارةٌ إلى حُكمين :
أحدهما : صدور الإيلاء عنهم .
والثاني : وجوب تَرَبُّص هذه المُدَّة على النِّسَاء .
والفاء في قوله : « فَإِن فَآءُوا » ورد عقيب ذكرهما معاً ، فلا بُدَّ وأن يكون هذا الحُكمُ مشروعاً عقيب الأَمرين : عقيب الإيلاءِ ، وعقيب حُصُولِ التَّرَبُّص في هذه المُدَّة ، بخلاف المثال الَّذِي ذكرهُ ، وهو قوله : « أَنَا أَنْزِلُ عِنْدَكُم؛ فإن أكرمتموني بقيتُ وإلا تَرَحَّلتُ » ؛ لأن هناك « الفاء » صارت مذكُورة عقيب شيء واحدٍ ، وهو النُّزول ، وهي هُنا مذكورة عقيب ذكر الإيلاء ، وذكر التَّربُّص ، فلا بُدَّ وأن يكُون ما دخلت « الفَاءُ » عليه واقعاً بين هذين الأمرين .
الحجة الثَّانية : قوله : { وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق } صريحٌ في أنّ وقوع الطَّلاَق ، إنَّما يكون بإيقاع الزَّوج .
وعند أبي حنيفة : يقع الطَّلاَق بِمُضِيِّ المُدَّة ، لا بإيقاع الزَّوج .
فإن قيل : الإيلاءُ طلاقٌ في نفسه؛ فالمراد من قوله : { وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق } الإيلاء المتقدِّم .
فالجواب : هذا بعيد؛ لأن قوله : { وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق } لا بُدَّ وأن يكون معناه : « وإن عَزَمُوا الَّذِين يُؤلُونَ مِنْ نِسَائِهُمُ الطَّلاق » فجعل المُؤلي عازماً ، وهذا يقتضي أن يكون الإيلاءُ والعزم قد اجتمعا ، وأما الطَّلاق فهو مُتعلَّقُ العزم ، ومُتعلِّق العزم مُتأخرٌ عن لعزم؛ فإذن الطَّلاَق مُتأَخِّر عن العَزْمِ لا محالة ، والإِيلاءُ إمَّا أن يَكُون مقارناً للعزم أو متقدِّماً عليه ، وهذا يُفيد أن الطَّلاق مُغَاير لذلك الإِيلاءِ .
الحجة الثَّالثة : قوله تعالى : { وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يقتضي أن يصدرَ من الزَّوج شيءٌ يكون مسموعاً وما ذاك إلاَّ أن نقول تقديره : « وإِن عَزَمُوا الطَّلاَق وطلّقوا فاللهُ سمِيعٌ لكَلاَمِهِم ، عَلِيمٌ بما في قُلُوبِهِم » .
فإن قيل : لِمَ لا يجوزُ أن يَكُون المُرادُ إن الله سَمِبعٌ لِذَلِك الإيلاءِ .
فالجواب : أنّ هذا التهديد لم يحصُل على نفس الإيلاء ، بل إنَّمَا حصل عن شيءٍ حصل بعد الإيلاء ، فلا بُدَّ وأن يَصْدُر عن الزَّوج بعد ذلك الإيلاء ، وهو كلام غيره؛ حتى يكون قوله : { فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } تهديداً عليه .
الحجة الرَّابعة : قوله : « فَإِنْ فَاءُوا » ، « وَإِنْ عَزَمُوا » ظاهره التَّخيير بين الأَمرين؛ وذلك يقتضي أن يكون ثبوتهما واحداً ، وعلى قول أبي حنيفة ليس الأمر كذلك .
الحجة الخامسة : أَنَّ الإيلاء في نفسه ليس بطلاقٍ ، بل هو حلفٌ على الامتناع عن الجماع مُدَّة مخصوصة ، إلاَّ أنّ الشَّرعَ ضرب لذلك مقداراً معلوماً من الزَّمان؛ وذكل لأَنَّ الرَّجُل قد يترُك جماع المرأة مُدَّة من الزَّمان لا بسبب المضارّة ، وهذا إنّما يكُون إذا كان الزَّمَانُ قصيراً ، فَأَمَّا ترك الجماعِ زماناً طويلاً ، فلا يَكُون إلاَّ عند قصد المضَارَّة ، ولما كان الطُّول والقِصرُ في هذا الباب أَمراً غير مضبوطٍ ، قَدَّر له الشَّارع حدّاً فاصِلاً بين القَصِير والطَّويل ، وذلك لا يُوجبُ وقُوعَ الطَّلاق ، بل اللائِقُ بحكم الشَّرع عند ظهور قصد المضارَّة ، أن يَأْمُر بتركِ المَضَارَّة ، أو بتخليصها من قَيْد الإيلاءِ ، وهذا المعنى مُعْتَبرٌ في الشَّرع؛ كضرب الأَجل في مُدَّة العنينِ وغيره .
حجة أبي حنيفة - رضي الله عنه - : قراءة عبدالله بن مسعود : « فَإِنْ فَاءُوا فِيهِنَّ » .
والجواب : أنّ القراءة الشَّاذَّة مردودة؛ لأن القرآن لا يَثْبُتُ كونه قُرآناً إلاَّ بالتَّواتُر؛ فحيث فلم يثبُت بالتَّواتر ، قطعنا بأنَّه ليس بقُرآن وأَوْلى النَّاس بهذا أبو حنيفة؛ فإنّه تَمَسَّك بهذا الحرف في أَنَّ التَّسمية ليست من القُرْآن .

وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
لما ذكر - عزَّ وجلَّ - الإيلاء ، وأن الطّلاق قد يقعُ بيَّن تعالى حُكم المرأة بعد التَّطْلِيق .
قوله : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ } : مبتدأٌ وخبرٌ ، وهل هذه الجملةُ من بابِ الخبرِ الواقعِ موقعَ الأمر ، أي : لِيتَرَبَّصْنَ ، أو عَلَى بابها؟ قولان ، وقال الكوفيون : إنَّ لفظها أمرٌ؛ على تقدير لام الأمرِ ، ومَنْ جعلها على بابها ، قدَّر : وحُكْمُ المطلَّقَاتِ أَنْ يتربَّصْنَ ، فحذف « حُكْمُ » مِن الأول ، و « أن » المصدرية من الثاني ، وهو بعيدٌ جدّاً .
و « تَرَبَّصَ » يتعدَّى بنفسَه؛ لأنه بمعنى انْتَظَرَن وهذه الآيةُ تحتمِلُ وجهين :
أحدهما : أن يكون مفعول التربُّص محذوفاً ، وهو الظاهرُ ، تقديرُه : يتربَّصْنَ التزويجَ أو الأزواجَ ، ويكونُ « ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ » على هذا منصوباً على الظرف؛ لأنَّ اسمُ عددٍ مضافٍ إلى ظرفٍ .
والثاني : أن يكون المفعولُ هو نفسَ « ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ » أي : ينتظرونَ مُضِيَّ ثلاثةِ قُرُوءٍ .
وأمَّا قوله : { بِأَنْفُسِهِنَّ } [ فيحتمل وجهين ، أحدهما ، وهو الظاهرُ : أَنْ يتعلَّق المنفصلِ في مثلِ هذا التركيب واجبٌ ، ولا يجوزُ أَنْ يُؤتَى بالضميرِ المتصل ، لو قيل في نظيرِه : « الهِنْدَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِهِنَّ » لم يجُز؛ لئلاَّ يَتَعَدَّى فِعْلُ المضمر المنفصلِ إلى ضميرِه المتصل في غير الأبواب الجائز فيها ذلك .
والثاني : أن يكونَ « بَأَنْفُسِهِنَّ » تأكيداً للمضمرِ المرفوع المتصلِ ، وهو النونُ ، والباءُ زائدة في التوكيد؛ لأَنَّه يجوزُ زيادتها في النفسِ والعينِ مُؤكَّداً بهما؛ تقولُ : « جَاءَ زَيْدٌ نَفْسُهُ وِبِنَفْسِهِ وَعَيْنُهُ وَبِعَيْنِهِ » ؛ وعلى هذا : فلا تتعلَّقُ بشيء لزيادتها ، لا يقالُ : لا جائزٌ أن تكونَ تأكيداً للضمير؛ لأنَّه كانَ يجبُ أن تُؤَكَّدَ بضميرِ رفعٍ منفصلٍ؛ لأنه لا يُؤكَّدُ الضميرُ المرفوعُ المتصلُ بالنَّفسِ والعَيْنِ ، إلاَّ بعد تأكيده بالضميرِ المرفوع المنفصلِ؛ فيقال : زَيْدٌ جَاءَ هُوَ نَفْسُهُ عَيْنُهُ « ؛ لأنَّ هذا المؤكَّد خرجَ عن الأصلِ ، لمَّا جُرَّ بالباءِ الزائدةِ أَشْبَهَ الفَضَلاَتِ ، فخرج بذكل عن حكم التوابع ، فلم يُلْتَزَمْ فيه ما التزِمَ في غيره ، ويُؤيِّد ذلك قولهم : » أَحْسِنْ بِزَيْدٍ ، وَأَجْمِلْ « ، أي : به ، وهذا المجرورُ فاعلٌ عند البصريِّين ، والفاعلُ عندهم لا يُحْذَفُ ، لكنه لَمَّا جَرَى مَجْرَى الفَضَلاتِ؛ بسبب جَرِّه بالحرفِ ، أو خَرَجَ عن أصل باب الفاعل؛ فلذلك جازَ حَذْفُه ، وعن الأَخْفَش ذَكَر في » المَسَائِلِ « أنهم قالوا : » قَامُوا أَنْفُسُهُمْ « من غير تأكيدٍ ، وفائدةُ التوكيدِ هنا أن يباشِرن التربُّصَ هُنَّ ، لا أنَّ عيرَهُنَّ يباشِرْنَهُنَّ التَّربُّصَ؛ ليكونَ ذلك أَبلغَ في المرادِ .
فإن قيل : القُرُوءُ : جمع كثرةٍ ، ومن ثلاثةٍ إلى عشرة يُمَيَّزُ بجموع القلة ولا يُعْدَلُ عن القلةِ إلى ذلك ، إلا عند عدم استعمالِ جمع قلَّةٍ غالباً ، وههنا فلفظُ جمع القلَّةِ موجودٌ ، وهو » أَقْرَاء « ، فما الحكمةُ بالإِتيانِ بجمع الكثرةِ مع وجودِ جمعِ القلَّةِ؟ .
فيه أربعةُ أوجهٍ :
أوّلها : أنه لّمَّا جمع المطلَّقات جمع القُرُوء ، لأنَّ كلَّ مطلقةٍ تترَّبصُ ثلاثة أقراءٍ؛ فصارَتْ كثيرةً بهذا الاعتبار .
والثاني : أنه من باب الاتساعِ ، ووضعِ أحدِ الجمعين موضعَ الآخر .
والثالث : أنَّ « قروءاً » جمعُ « قَرْءٍ » بفتح القافِ ، فلو جاء على « أَقْرَاء » لجاء على غير القياس؛ لأنَّ أفعالاً لا يطَّردُ في فَعْلٍ بفتح الفَاء .
والرابع - وهو مذهب المُبَرِّد - : أنَّ التقدير « ثَلاثَةً مِنْ قُرُوءٍ » ، فحذف « مِنْ » ، وأجاز : ثَلاثَة حَمِيرٍ وثَلاثَةَ كِلاَبٍ ، أي : مِنْ حِمِيرٍ ، ومِنْ كِلاَبٍ ، وقال أبو البقاء : وقيل : التقديرُ « ثَلاثَةَ أقْرَاءٍ مِنْ قُرُوءٍ » وهذا هو مذهبُ المبرِّد بعينِه ، وإنما فسَّر معناه وأَوضحه .
فصل
اعلم أن المُطلَّقة هي المرأةُ الَّتي وقع عليها الطَّلاق ، وهي إمَّا أن تكون أجنبيةً أو منكوحةً .
فإن كان أجنبيةً ، فإذا وقع الطّلاق عليها فهي مطلَّقةٌ بحسب اللُّغة ، لكنَّها غير مطلَّقةٍ بحسب عُرْف الشَّرع ، والعِدَّةُ غير واجبةٍ عليها بالإجماع .
وأما المَنْكُوحة : فإن لم يكن مدخولاً بها ، لم تجب عليها العِدَّة؛ لقوله تعالى : { إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } [ الأحزاب : 49 ] ، وإن كانت مدخولاً بها : فإن كانت حاملاً ، فعدَّتها بوضع الحمل؛ لقوله تعالى : { وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق : 4 ] ، وإن كانت حائلاً؛ فإن امتنع الحيض في حقِّها لصغر مفرط أو كبر مُفرطٍ ، فعِدَّتها بالأشهرِ؛ لقوله تعالى : { واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ واللاتي لَمْ يَحِضْنَ } [ الطلاق : 4 ] .
وإن لم يمتنع الحيض في حقِّها؛ فإذا كانت رقيقة ، فَعِدَّتها قَرْءان ، وإن كان حُرَّة ، فعدَّتها ثلاثة قُرُوءٍ .
فظهر من هذا أن العامَّ إِنَّما يحسن تخصيصه ، إذا كان الباقي بعد التَّخصيص أكثر؛ لأن العادة جاريةٌ بإطلاق لفظ الكُلِّ على الغالب؛ لأنَّه يُقَالُ في الثَّوبِ : إنه أَسود إذا كان الغَالِبُ فيه السَّوَاد وإن حصل فيه بياضٌ قليل ، فأمَّا إذا كان الغالبُ عليه البياض وكان السَّوادُ قليلاً ، كان إطلاق لفظ السَّواد عليه كذباً؛ فثبت شرط تخصيص العامِّ؛ أن يكون الباقي بعد التَّخصيص أكثر ، وهذه الآية ليست كذلك ، فإنه خرج من عمومها خمسة أقسامٍ ، فأطلق لفظ « المُطَلَّقَات » على قسم واحدٍ .
والجواب : أما الأجنبيَّة فخارجةٌ عن اللَّفظ ، فإنَّ الأَجنبيَّة لا يقال فيها : إنَّها مطلَّقة ، وأما غيرُ المدخولِ بها فالقرينة تخرجها؛ لأن أصل العِدَّة شُرِعت لبراءة الرَّحم ، والحاجةُ إلى البراءة لا تحصلُ إلاَّ عند سبق الشُّغل ، وأمَّا الحامل والآيسةِ فهما خارجتان عن اللَّفظ؛ لأن إيجاب الاعتداد بالأقراء ، يكون لم يجبُ الأقراء في حَقِّه .
وأمَّا الرقيق فتزويجهن كالنَّادِر ، فثبت أن الأَعمَّ الأَغلب باقٍ تحت العُمُومِ .
فإن قيل : « يَتَرَبَّصْنَ » خبر والمراد منه الأمر ، فما الفائدةُ في التَّعبير عن الأَمر بلفظ الخبر؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أنه - تعالى - لو ذكره بلفظ الأَمر ، لكان ذلك يُوهم أَنَّه لا يحصل المقصود ، إلاَّ إذا شرعت فيها بالقَصْد والاختيار ، وعلى هذا التَّقدير : فلو مات الزَّوج ، ولم تَعْلَم المرأَةُ حتى انقضت العِدَّةُ ، وجب ألاَّ يكون ذلك كافياً في المقصود؛ لأنَّها إذا أُمِرَت بذلك لَمْ تخرج عن العُهْدَة إلا إذا قصدت أداء التَّكليف ، فلما ذكره بلفظ الخبر ، زال ذلك الوهم ، وعُرِف أَنَّه متى انقضت هذه القُرُوءُ ، حصل المقصُود سَوَاء علمت بذلك أو لَمْ تعلم ، وسواءٌ شرعت في العِدَّة بالرِّضا أو بالغضب .
الثاني : قال الزَّمخشري : التَّعبير عن الأمر بصيغة الخبر يفيد تأكيد الأمر ، والإشعار بأنَّه ممَّا يجب أن يتعلٌَّ بالمُسارعة إلى امتثاله ، فكأنَّهُنَّ امتثلن الأمر بالتَّربُّص ، فهو يُخْبِرُ عنه موجوداً؛ ونظيره قولهم في الدُّعاء رحمك اللهُ؛ أُخرج في صورة الخبر ثقة بالإجابة ، كأنَّها وجدت الرَّحمة فهو يُخْبر عنها .
فإن قيل : لو قال : « يَتَرَبَّصُ المُطلَّقات » لكان ذلك جملة من فعلٍ وفاعلٍ ، فما الحكمة من ترك ذلك ، وعدولِهِ عن الجملة الفعليَّة إلى الجملة الاسميَّة ، وجعل المُطلَّقات مبتدأ ، ثم قوله : « يتربّصن » إسنادٌ للفِعل إلى ضمير المُطَلَّقات ، ثم جعل هذه الجملة خبراً عن ذلك المُبتدأ .
قال الشَّيخ عبد القاهر الجرجانيُّ في كتاب « دَلاَئِل الإِعْجَازِ » : إنَّك إذا قَدَّمت الاسم ، فقلت : زيدٌ فعل ، فهذا يفيد من التَّأكيد والقُوَّة ما لا يُفيد قولك : « فَعَلَ زَيْدٌ » ؛ وذلك لأنَّ قولك : « زَيْدٌ فَعَل » قد يُستعمل في أمرين :
أحدهما : أن يكون لتخصيص ذلك الفعل بذلك الفاعل؛ كقولك : أنا أكتب في المُهِمِّ الفُلانيّ إلى السُّلطان ، والمراد دعوى الإنسان الانفراد .
والثاني : ألاَّ يكون المقصود الحصر ، بل إنَّ تقديم ذكر المُحَدّث عنه بحديث كذا لإثبات ذلك الفعل له؛ كقولهم : « هُوَ يُعْطِي الجَزِيلَ » ولا يريد الحصر ، بل أن يُحَقِّق عند السَّامع أَنَّ إِعطَاء الجزيل دأبه؛ وذلك مثل قوله تعالى : { والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [ النحل : 20 ] ، وليس المراد تخصيص المخلوقيَّة بهم ، وقوله تعالى : { وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } [ المائدة : 61 ] ؛ وقول الشَّاعر : [ الطويل ]
1104- هُمَا يَلْبِسَانِ المَجْدَ أَحْسَنَ لِبْسَةٍ ... شَجِيعَانِ مَا اسْطَاعَا عَلَيْهِ كَلاَهُمَا
والسَّببُ في حُصُولِ هذا المعنى عند تقديم ذكر المبتدأ : أنَّكَ إذا قلت : « عَبْدُ اللهِ » فقد أشعرت بأَنَّك تريد الإِخبار عنه ، فيحصل في النَّفسِ شوق إلى معرفةِ ذلك ، فإذا ذكرت ذلك الخبر ، قبله العقل بتشوُّق ، فيكون ذلك أبلغ في التَّحقيق ، ونفي الشُّبهة .
فإن قيل : هلا قيل : يَتَرَبَّصْن ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ ، وما الفائدة في ذكر الأنفُسِ؟
فالجواب : إن في ذكر الأنفس بعث على التَّربُّص وتهييجُ عليه؛ لأن فيه ما يستنكفن منه ، فيحملهنَّ على أن يتربَّصن ، وذلك لأنذَ أنفس النِّساء طوامحٌ إلى الرِّجال ، فأراد أن يقعن على أنفسهن ، ويغلبنها على الطُّموح ، ويحرِّضنها على التَّربُّص .
فإن قيل : لم لم يقل : ثلاث قروء؛ كما يقال : ثَلاَث حِيَضٍ؟
والجواب : أنه أتبع تذكير اللَّفظ ، ولفظ « قَرْء » مذكَّر .
والقرء في اللغة : أصله الوقت المعتاد تردده ، ومنه : قرء النَّجم لوقت طلوعه وأفوله ، يقال : « أَقْرَأَ النَّجْمُ » ، أي : طلع أو أفل ، ومنه قيل لوقت هبوب الرِّ ] ح : قرؤها وقارئها؛ قال الشاعر : [ الوافر ]
1105- شَنِئْتُ العَقْرَ عَقْرَ بَنِي شُلَيْلٍ ... إِذَا هَبَّتْ لِقَارِيهَا الرِّيَاحُ
أي : لوقتها ، وقيل : أصله الخروج من طهر إلى حيضٍ ، أو عكسه ، وقيل : هو من قولهم : قَرَيْتُ المَاءَ في الحَوْضِ؛ أي : جمعته ، ومنه : قرأ القرآن . وقولهم : ما قرأت هذه الناقة في بطنها سَلاً قطٌّ ، أي لم تجمع فيه جنيناً؛ ومنه قول عمرو بن كلثوم : [ الوافر ]
1106- ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أَدْمَاءَ بَكْرٍ ... هِجَانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جِنِينَا
فعلى هذا : إذا أريد به الحيض ، فلاجتماع الدَّم في الرَّحم ، وإن أريد به الطهر ، فلاجتماع الدَّم في البدن ، وهذا قول الأصمعي ، والفرَّاء ، والكسائيّ .
قال شهاب الدِّين : وهو غلطٌ؛ لأنَّ هذا من ذوات الياء ، والقرء مهموزٌ .
وإذا تقرَّر ذلك فاختلف العلماء في إطلاقه على الحيض والطهر : هل هو من باب الاشتراك اللفظيِّ ، ويكون ذلك من الأضداد أو من الاشتراك المعنويِّ ، فيكون من المتواطئ؛ كما إذا أخذنا القدر المشترك : إمَّا الاجتماع ، وإمَّا الوقت ، وإمَّا الخروج ، ونحو ذلك . وقرء المرأة لوقت حيضها وطهرها ، ويقال فيهما : أَقْرَأَتِ المَرْأَةُ ، أي : حاضت أو طهرت ، وقال الأخفش : أَقْرَأَتْ أي : صارت ذات حيضٍ ، وقرأت بغير ألفٍ أي : حاضت ، وقيل : القرء ، الحيض ، مع الطهر ، وقيل : ما بين الحيضتين . والقائل بالاشتراك اللفظيِّ وجعلههما من الأضداد هم جمهور أهل اللِّسان؛ كأبي عمرو ويونس وأبي عبيدة .
ومن مجيء القرء والمراد به الطهر قول الأعشى : [ الطويل ]
@ 1170- أَفِي كُلِّ عَامٍ أَنْتَ جَاشِمٌ غَزْوَةٍ @ تَشُدُّ لأَقْصَاهَا عَظِيمَ عَزَائِكَا@ مُوَرِّثَةً عِزًّا وَفِي الحَيِّ رِفْعَةً @ لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا@ ... أراد : أنَّه كان يخرج من الغزو ولم يغش نساءه ، فيضيع أقراءهنّ ، وإنما كان يضيع بالسَّفر زمانَ الطُّهر لا زمان الحيض . ومن مجيئه للحيض قوله : [ الرجز ]
@1108- يَا رُبَّ ذِي ضِغْنٍ عَلَيَّ فَارِضِ @ لَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الْحَائِضِ@ ... أي : طعنته فسال دمه كدم الحائض ، ويقال « قُرْء » بالضمِّ نقله الأصمعيُّ ، و « قَرْء » بالفتح نقله أبو زيدٍ ، وهما بمعنى واحد . وقرأ الحسن : « ثَلاَثَةَ قَرْوٍ » بفتح القاف وسكون الراء وتخفيف الواو من غير همزٍ؛ ووجهها : أنه أضاف العدد لاسم الجنس ، والقرو لغةٌ في القرء ، وقرأ الزُّهريُّ - ويروى عن نافع - : « قُرُوِّ » بتشديد الواو ، وهي كقراءة الجمهور ، إلا أنه خفَّف ، فأبدل الهمزة واواً ، وأدغم فيها الواو قبلها . فصل مذهب الشَّافعيِّ - رضي الله عنه - : أنها الأظهار؛ وهو مرويٌّ عن ابن عمرو ، وزيد ، وعائشة ، والفقهاء السَّبعة ، ومالك وربيعة ، وأحمد في رواية .
وقال عليٌّ ، وعمر ، وابن مسعود : هي الحيض؛ وهو قول أبي حنيفة والثَّوريِّ والأوزاعيّ ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، وإسحاق ، وأحمد في رواية - رضي الله عنهم - . وفائدة الخلاف : أن مدَّة العدَّة عند الشَّافعيّ أقصر ، وعندهم أطول حتَّى لو طلَّقها في حال الطُّهر ، يحسب بقيَّة الطُّهر قرءاً ، وإن حاضت عقيبه في الحال ، فإذا شرعت في الحيضة الثَّالثة ، انقضت عدَّتها ، وإن طلَّقها في حال الحيض فإذا شرعت في الحيضة الرَّابعة ، انقضت عدَّتها . وعند أبي حنيفة : ما لم تطهر من الحيضة الثَّالثة ، إن كان الطَّلاق في حال الطُّهر ومن الحيضة الرَّابعة إن كان الطلاق في حال الحيض ، لا يحكم بانقضاء عدَّتها ، ثم قال : إذا طهرت لأكثر الحيض ، تنقضي عدَّتها قبل الغسل ، وإن طهرت لأقلِّ الحيض ، لم تنقض عدَّتها . وحجَّة الشَّافعي من وجوه : أولها : قوله تعالى : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [ الطلاق : 1 ] أي : في وقت عدَّتهن؛ كقوله تعالى : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة } [ الأنبياء : 47 ] ، أي : في يوم القيامة ، والطَّلاق في زمن الحيض منهيٌّ عنه؛ فوجب أن يكون زمان العدَّة غير زمان الحيض .
أجاب صاحب « الكَشَّاف » بأن معنى الآية : مستقبلات لعدَّتهن كما يقال : لثلاث بقين من الشَّهر ، يريد : مستقبلاً لثلاث .
قال ابن الخطيب : وهذا يقوِّي استدلال الشَّافعي - رضي الله عنه - لأن قوله : « لِثَلاَثٍ بَقِين من الشَّهْرِ » معناه : لزمانٍ يقع الشُّروع في الثَّلاثِ عقيبه ، وإذا كان الإذن حاصلاً بالتَّطليق في جَميع زَمَانِ الطُّهر ، وجَبَ أن يكُون الطُّهْرُ الحاصِل عَقِيب زمان التَّطليق من العدَّة ، وهو المطلوب .
وثانيها : روي عن عائشة - رضي الله عنها -؛ أنها قالت : « هل تَدْرُونَ ما الأَقْرَاءُ؟ الأَقْرَاءُ الأَطْهَارُ » .
قال الشَّافعي : والنساء بهذا أعلم؛ لأن هذا إنما يبتلى به النِّساء .
وثالثها : وهو ما تقدَّم من أن « القرْءَ » عبارةٌ عن الجمع ، واجتماع الدَّم إنَّما هو زمان الطُّهر؛ لأن الدَّم يجتمع في ذلك الزَّمان في البدن .
فإن قيل : بل زمان الحيض أولى بهذا الاسم؛ لأنَّ الدَّم يجتمع في هذا الزَّمان في الرَّحم .
قلنا : لا يجتمع أَلْبَتَّةَ في زمان الحيض في الرَّحم ، بل ينفصل قطرةً قطرةً ، وأمَّا وقت الطُّهر ، فالكلُّ مجتمعٌ في البدن لم ينفصل منه شيءٌ ، وكان معنى الاجتماع وقت الطُّهر أتم؛ لأن الدَّم من أوَّل الطُّهر يأخذ في الاجتماع والازدياد إلى آخره ، فكان آخر الطُّهر هو القرء في الحقيقة .
ورابعها : أن الأصل ألاّ يكون لأحدٍ على أحدٍ من المكلَّفين حقّ الحبس والمنع من التّصرُّفات ، وإنما تركنا العمل بهذا عند قيام الدَّليل عليه ، وهو أقلُّ ما يسمَّى بالأقراء الثَّلاثة وهي الأطهار؛ لأن الاعتداد بالأطهار أقلّ زماناً من الاعتداد بالحيض ، وإذا كان كذلك ، أثبتنا الأقلّ ضرورة العمل بهذه الآية ، واطرحنا الأكثر؛ للدَّلائل الدَّالَّة على أنَّ الأصل ألاَّ يكون لأحدٍ على غيره حقّ الحبس والمنع .
حجة أبي حنيفة وجوه :
أحدها : أنَّ الأقراء في اللُّغة ، وإن كانت مشتركةً بين الأطهار والحيض؛ إلا أن الشَّرع غلَّب استعمالها في الحيض؛ لما روي أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « دَعِي الصَّلاَةَ أَيَّامَ أَقْرَائِك » والمراد أيَّام الحَيْضِ .
وثانيها : ما تقدَّم من وروده بمعنى الحيض .
وثالثها : أنا إذا قلنا : بأن الأقراء هي الحيض ، أمكن معه استيفاء ثلاثة أقراءٍ بكمالها؛ لأنّا نقول إنّ المطلَّقة يلزمها تربُّص ثلاث حيضٍ ، وإنَّما تخرج عن العهدة بزوال الحيضة الثَّالثة ، ومن قال : إنَّه الطُّهر يجعلها خارجة من العهدة بقَرْءين وبعض الثَّالث؛ لأن عنده إذا طلَّقها في آخر الطُّهر تعتدُّ بذلك قرءاً ، فإذا كان في أحد القولين تكمل حقيقة اللَّفظ بالثَّلاثة .
أجاب الشَّافعي بأنق ال : قال الله تعالى : { الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } [ البقرة : 197 ] والأشهر جمع ، وأقلُّه ثلاثة ، وقد حملناه على شهرين وبعض الثَّالث ، وذلك شوَّال ، وذو القعدة ، وبعض ذي الحجَّة ، هكذا ههنا يجوز أن نحمل هذه الثَّلاثة على طهرين وبعض الثَّالث .
أجاب الجبَّائي عن هذا بوجهين .
الأول : أنَّا تركنا الظَّاهر في هذه الآية بدليل ، ولا يلزمنا أن نترك الظَّاهر هنا من غير دليلٍ .
والثاني : أن في العدَّة تربُّصاً متَّصلاً ، فلا بدَّ من استعمال الثَّلاثة ، ولا كذلك أشهر الحجِّ؛ لأنه ليس فيها فعل متصلٌ ، فكأنَّه قيل : هذه الأشهر وقت الحجِّ لا على سبيل الاستغراق ، ثم إن الثَّلاثة نصٌّ في إفرادها لا تحتمل التَّنقيص ، ولا كذلك قوله : « أَشْهُر » ؛ لأنَّه ليس بنصٍّ في الثلاثة؛ لأن العلماء اختلفوا في أقلِّ الجمع ، ولا يقاس ما فيه نصٌّ على ما لا نصَّ فيه بل العكس .
وأجيب الجبَّائي بوجهين :
الأول : كما أن حمل الأقراء على الأطهار يوجب الزّيادة؛ لأنه إذا طلَّقها في أثناء الطُّهر ، لم يحسب ما بقي من ذلك الطُّهر في العدَّة فتحصل الزِّيادة .
واعتذروا عنه : بأن الزِّيادة لا بدَّ من تحمُّلها لأجل الضَّرورة ، لأنه لو جاز الطَّلاق في الحيض ، لأمرناه بالطَّلاق في آخر الحيض حتى يُعْتَدَّ بأطهارٍ كاملةٍ ، وإذا اختص الطَّلاق بالطُّهر ، صارت تلك الزِّيادة محتملة للضَّرورة .
ونحن نقول : لمَّا صارت الأقراء مفسَّرة بالأطهار ، والله تعالى أمرنا بالطَّلاق في الطُّهر صار تقدير الآية : يتربَّصن بأنفسهن ثلاثة أطهارٍ؛ طهر الطَّلاق وطهران آخران ، ثم لزم من كون الطُّهر الأوَّل طهر الطَّلاق ، أن يكون ذلك الطَّهر ناقصاً ، ليعتدّ بوقوع الطَّلاق فيه .
الوجه الثاني في الجواب : أنّا بيَّنَّا أن القَرْء اسمٌ للاجتماع وكمال الاجتماع إنَّما يحصل في آخر الطُّهر ، فكان في الحقيقة الجزء الأخير من الطُّهر قرءاً تاماً ، وعلى هذا التَّقدير؛ لم يلزم دخول النُّقصان في شيءٍ من الأقراء .
ورابعها : أنه - تعالى - نقل إلى الشُّهور عند عدم الحيض؛ قال : { واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ واللاتي لَمْ يَحِضْنَ } [ الطلاق : 4 ] فأقام الأشهر مقام الحيض دون الأطهار .
وأيضاً : لما شرعت الأشهر بدلاً عن الأقراء ، والبدل يعتبر بتمامها؛ لأن الأشهر لا بدَّ من إتمامها ، فوجب أيضاً أن يكون الكمال معتبراً في المبدل ، فوجب أن تكون الأقراء كاملة وهي الحيض ، وأما الأطهار فيجب فيها قرءان وبعض قرءٍ .
وخامسها : قوله - عليه الصَّلاة والسلام - : « طَلاَق الأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ » وأجمعوا على أنَّ عدَّة الأمة نصف عدَّة الحرَّة ، فوجب أن تكون عدَّة الحرَّة هي الحيض .
وسادسها : أجمعنا على وجوب الاستبراء في الجواري بالحيض ، فكذا العدَّة؛ لأن المقصود من الاستبراء والعدَّة شيءٌ واحدٌ؛ لأن أصل العدَّة إنَّما شرع لاستبراء الرَّحم ، وإنما تستبرأ الرَّحم بالحيض والعدَّة شيءٌ واحدٌ؛ لأن أصل العدَّة إنَّما شرع لاستبراء الرَّحم ، وإنما تستبرأ الرَّحم بالحيض لا بالطُّهر؛ فوجب أن يكون هو المعتبر .
وسابعها : إن القول بأن القرء هو الحيض احتياطٌ ، وتغليبٌ لجانب الحرمة؛ لأن المطلَّقة إذا مرَّ عليها بقية الطَّهر ، وطعنت في الحيضة الثَّالثة ، فإن جعلنا القرء هو الحيض ، فحينئذ يحرم للغير التَّزويج بها ، وإن جعلنا القرء هو الطُّهر ، فحينئذٍ يجوز تزويجها ، وجانب التَّحريم أولى بالرِّعاية؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « ما اجْتَمَعَ الحَلاَلُ والحَرَامُ إلاَّ غَلَبَ الحَرَامُ الحلالَ » ولأن الأصل في الأبضاع الحرمة ، وهذا أقرب إلى الاحتياط ، فكان أولى؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « دَعْ مَا يرِيبُك إلَى مَا لاَ يرِيبُكَ » .
قوله : { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ } الجارُّ متعلَّقٌ ب « يَحِلُّ » واللام للتبليغ ، كهي في « قُلْتث لَكَ » .
قوله : { مَا خَلَقَ الله } في « مَا » وجهان :
أظهرهما : أنَّها موصولة بمعنى « الَّذِي » .
والثاني : أنها نكرةٌ موصوفةٌ ، وعلى كلا التقديرين ، فالعائد محذوفٌ لاستكمال الشروط ، والتقدير : ما خلقه ، و « مَا » يجوز أن يراد بها الجنين ، وهو في حكم غير العاقل ، فلذلك أوقعت عليه « مَا » وأن يراد بها دم الحيض .
قوله : { في أَرْحَامِهِنَّ } فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق ب « خَلَقَ » .
والثاني : أن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ على أنه حالٌ من عائد « مَا » المحذوف ، التقدير : ما خلقه الله كائناً في أرحامهنَّ ، قالوا : وهي حالٌ مقدَّرةٌ؛ قال أبو البقاء : « لأَنَّ وقتَ خَلْقِه لَيْسَ بشيءٍ ، حتَّى يَتِمَّ خَلْقُهُ » ، وقرأ مُبَشِّر بن عبيدٍ : « في أَرْحَامِهُنَّ » و « بِرَدِّهُنَّ » بضمِّ هاء الكناية ، وقد تقدَّم أنه الأصل ، وأنه لغة الحجاز ، وأنَّ الكسر لأجل تجانس الياء والكسرة .
قوله : { إِن كُنَّ } هذا شرطٌ ، وفي جوابه المذهبان المشهوران : إمَّا محذوفٌ ، وتقديره من لفظ ما تقدَّم؛ لتقوى الدلالة عليه ، أي : إنْ كُنَّ يؤمنَّ بالله واليَوم الآخر ، فلا يحلُّ أن يكتمن ، وإمَّا أنه متقدِّمٌ؛ كما هو مذهب الكوفيين وأبي زيدٍ ، وقيل : « إنْ » بمعنى « إِذْ » ، وهو ضعيفٌ .
فصل في بيان تصديق قول المرأة في انقضاء عدتها
اعلم أن انقضاء العدَّة لما كان مبنياً على انقضاء الأقراء في حقِّ ذوات الأقراء ، وكان علم ذلك متعذِّرٌ على الرِّجال ، جعلت المرأة أمينة على العدَّة ، وجعل القول قولها إذا ادَّعت انقضاء أقرائها في مدَّة يمكن ذلك فيها ، وهو على مذهب الشَّافعيّ اثنان وثلاثون يوماً وساعة؛ لأن أمرها يحمل على أنَّها طلِّقت طاهرة ، فحاضت بعد ساعةٍ يوماً وليلة ، وهو أقلُّ الحيض ، ثم طهرت خَمْسَةنَ عَشَر يوماً ، وهو أقَلُّ الطُّهْر ، ثم حاضَت يوماً وليلةً ، ثم طَهُرَت خَمْسَة عَشَر يَوْماً ، ثم رَأَتِ الدَّمَ ، فقد انْقَضَت عِدَّتُها؛ لحصول ثلاثة أطهارٍ فمتى ادَّعت هذا أو أكثر منه ، قبل قولها ، وكذلك إن كانت حاملاً فادَّعت أنها أسقطت فالقول قولها؛ لأنها أمينة عليه .
فصل في المراد بالكتمان
قال القرطبي : ومعنى النَّهي عن الكتمان : النَّهي عن الإضرار بالزَّوجِ وإذهاب حقِّه ، فإذا قالت المطلَّقة : حضتُ وهي لم تحِض ، ذهبت بحقِّه في الارتجاع ، وإذا قالت : لم أَحِضْ وهي قد حَاضَتْ ، ألْزَمَتْهُ من النَّفَقَةِ ما لم يَلْزَمه ، فأضرَّت به ، أو تقصد بكذبها في نفس الحيض ألاَّ ترجع حتى تنقضي العدَّة ويقطع الشَّرع حقَّه ، وكذلك الحاملُ تكتم الحمل؛ لتقطع حقَّه في الارتجاع .
قال قتادة : كانت عادتهن في الجاهليَّة أن يكتمن الحمل ليلحقن الولد بالزَّوج الجديد؛ ففي ذلك نزلت الآية .
فصل
اختلف المفسِّرون في قوله : { مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ } :
فقيل : هو الحَبَلُ والحَيْضُ معاً ، وذلك لأنَّ المَرْأة لَهَا أغْرَاض كَثِيرة في كتمانها؛ أمّا الحبل؛ فإنه يكون غرضها فيه أنَّ انقضاء عدَّتها بالقروء؛ لأنه يكون أقلَّ زماناً من انقضاء عدَّتها يوضع الحمل ، فإذا كتمت الحمل ، قصرت مدّة عدَّتها فتتزوَّج بسرعة وربما كرهت مراجعة الزَّوج ، وربما أحبَّت التَّزويج بزوج آخر ، أو أحبَّت أن تلحق ولدها بالزَّوج الثَّاني ، فلهذه الأغراض تكتم الحمل ، وأما كتمان الحيض ، فقد يكون غرضها إذا كانت من ذوات الأقراء أن تطول عدَّتها لكي يراجعها الزَّوج ، وقد تحبُّ تقصير عدَّتها لتبطل رجعته ولا يتمُّ لها ذلك إلاَّ بكتمان بعض الحيض في بعض الأوقات ، فوجب حمل النَّهي على مجموع الأمرين .
وقال ابن عبَّاسٍ وقتادة : هو الحيض فقط؛ لقوله تعالى : { هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام } [ آل عمران : 6 ] ، ولأن الحيض خارجٌ عن الرَّحم لا مخلوقٌ فيه ، وحمل قوله - تعالى - : { مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ } على الولد الذي هو شريف ، أولى من حمله على شيءٍ قَذِرٍ خسيسٍ .
وأجيب بأن المقصود منعها عن إخفاء هذه الأحوال الَّتي لا اطِّلاع لغيرها عليها ، وبسببها يختلف الحلُّ والحرمة في النِّكاح ، فوجب حمل اللَّفظ على الكلِّ ، وقيل : هو الحيض؛ لأن هذا الكلام إنَّما ورد عقيب ذكر « الأَقْرَاءِ » ، ولم يتقدَّم ذكر الحمل .
وأجيب : بأنَّ هذا كلامٌ مُسْتَأْنَفٌ مستَقِلٌّ بِنَفْسِه ، من غير أن يُرَدَّ إلى ما تقدَّم ، فوجب حمله على كلِّ ما يخلق في الرَّحم .
وقوله : { إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر } ليس المراد : أن ذلك النَّهي مشروطاً بكونها مؤمنة ، بل هذا كقول المظلوم للظَّالم : « إن كُنْتَ مُؤْمِناً فَيَنْبَغِي أن يَمْنَعَكَ إيمَانُك عن ظُلْمِي » ، وهذا تهديدٌ شديد في حقِّ النّساء؛ فهو كقوله في الشَّهادة : { وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } [ البقرة : 283 ] ، وقوله : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ } [ البقرة : 283 ] .
قوله تعالى : { وَبُعُولَتُهُنَّ } الجمهور على رفع تاء « بُعُولَتُهُنَّ » وسكَّنها مسلمة بن محاربٍ ، وذلك لتوالي الحركات ، فخُفِّف ، ونظيره قراءة : { وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [ الزخرف : 80 ] بسكون اللام حكاها أبو زيد ، وحكى أبو عمرو : أنَّ لغة تميم تسكين المرفوع من « يُعَلِّمُهُمُ » ونحوه ، وقيل : أجرى ذلك مجرى « عَضُدٍ ، وعَجُزٍ » ؛ تشبيهاً للمنفصل بالمتصل ، وقد تقدَّم ذلك .
و { أَحَقُّ } خبرٌ عن « بُعُولَتُهُنَّ » وهو بمعنى حقيقون؛ إذ لا معنى للتفضيل هنا؛ فإنَّ غير الأزواج لا حقَّ لهم فيهنَّ البتَّة ، ولا حقَّ أيضاً للنِّساء في ذلك ، حتى لو أبت هي الرَّجعة ، لم يعتدَّ بذلك .
وقال بعضهم : هي على بابها؛ لأنه تعالى قال : { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ } فكان تقدير الآية : فإنَّهن إن كتمن لأجل أن يتزوَّج بهنَّ زوجٌ آخر ، فإنَّ الزَّوج الأوَّل أحقُّ بردِّها؛ لأنه ثبت للزَّوج الثَّاني حقٌّ في الظَّاهر؛ لادِّعائها انقضاء عدَّتها .
وأيضاً : فإنَّها إذا كانت معتدَّة ، فلها في انقضاء العدَّة حقُّ انقطاع النِّكاح ، فلما كان لهنَّ هذا الحقُّ الذي يتضمَّن إبطال حقِّ الزَّوج ، جاز أن يقول : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ } حيث إن لهم أن يبطلوا بسبب الرَّجعة ما هنَّ عليه من العدَّة .
و « البُعُولة » فيها قولان :
أحدهما : إنه جمع « بَعْل » كالفحولة والذُّكورة والجدودة والعمومة ، والهاء زائدة مؤكِّدة لتأنيث الجماعة ولا ينقاس ، بل إنَّما يجوز إدخالها في جمع رواة أهل اللُّغة عن العرب ، فلا يقال في كعب : كُعُوبة ، ولا في كَلْب : كلابة .
والبعل زوجُ المَرْأةِ؛ قالوا : وسُمِّي بذلك على المستعلي ، فلما علا من الأرض فَشَرِبَ بعروقه . ويقال : بَعَلَ الرَّجُلُ يبعلُ؛ كمنع يمنعُ . ويشترك فيه الزَّوجان؛ فيقال للمرأة : بعلة؛ كما يقال لها : زَوْجَةٌ في كَثِير من اللُّغَاتِ ، وزَوْجٌ في أَفْصَح الكَلاَم ، فهما بَعْلاَن كما أنَّهما زوجان ، وأصل البعل : السَّيِّد المالِك فيما نقل ، يقال : من بعلُ هذه النَّاقة؟ كما يقال من ربِّها؟ وبعل : اسم صنم ، كانوا يتَّخونه ربّاً؛ قال - تعالى - : { أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين } [ الصافات : 125 ] ، وقد كان النِّساء يدعون أزواجهن بالسودد .
الثاني : أنّ البعولة مصدر ، يقال : بعل الرَّجُل يَبْعَل بُعُولَةً وبِعَالاً ، إذا صَارَ بَعْلاً ، وبَاعَل الرَّجُل امْرَأَتَهُ : إذا جَامَعَهَا؛ ومنه الحديث : أن النبيَّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - قال في أيَّام التَّشريق : « إِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ » ، وامرأة حَسَنَةُ التَّبَعّل إذا كَانَت تُحْسِن عِشْرَةَ زَوْجِها ، ومنه الحديث : « إِذَا أَحْسَنْتُنَّ تبعُّلَ أزواجكن » .
قوله : { بِرَدِّهِنَّ } متعلِّقٌ ب « أَحَقّ » . وقوله « فِي ذَلِكَ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلّقٌ أيضاً ب « أَحَقّ » ، ويكون المشار إليه بذلك على هذا وقت العدَّة ، أي تستحقّ رجعتها ما دامت في العدَّة ، وليس المعنى : أنه أحقُ أن يردَّها في العدَّة ، وإنما يردُّها في النكاح ، أو إلى النكاح .
والثاني : أن يتعلَّق بالردِّ ، ويكون المشار إليه بذلك على هذا النِّكاح ، قاله أبو البقاء .
والضمير في « بُعُولَتِهِنَّ » عائدٌ على بعض المطلَّقات ، وهنَّ الرَّجعيَّات خاصَّةً ، وقال أبو حيَّان : « والاولَى عندي : أن يكونَ على حَذْفِ مضافٍ دَلَّ عليه الحكم ، أي : وبُعُولَةُ رَجْعِيَّاتِهِنَّ » .
ومعنى الردّ هنا : الرُّجوع؛ قال - تعالى - : { وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي } [ الكهف : 36 ] ، وقال في موضع آخر : { وَلَئِن رُّجِّعْتُ } [ فصلت : 50 ] .
فإن قيل : ما معنى الرَّدّ في الرَّجعيَّة وهي زوجة ، ما دامت في العِدَّة؟
فالجواب : أنّ الردّ والرَّجعة يتضمَّن إبطال التَّربُّص والتَّحرِّي في العدَّة ، فإنَّها ما دامت في العدَّة ، كأنَّها جارية إلى إبْطال حقِّ الزَّوج ، وبالرَّجعة بطل ذلك فسمِّيت الرَّجعة ردّاً ، لا سيَّما ومذهب الشَّافعيِّ أنه يحرم الاستمتاع بها إلاّ بعد الرَّجعة ، فالردُّ على مذهبه فيه معنيان :
أحدهما : ردّها من التَّربُّص إلى خلافه .
والثاني : ردُّها من الحرمة إلى الحلِّ .
قوله : { إِنْ أرادوا إِصْلاَحاً } فالمعنى : أن الأزواج أحقُّ بالمراجعة ، إن أرادوا الإصلاح ولم يريدا المضارَّة؛ ونظيره قوله - تعالى - : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 231 ] .
والسَّبب في ذلك : أنَّ الرَّجل كان في الجاهليَّة يطلِّق امرأته ، فإذا قرب انقضاء عدَّتها ، راجعها ثم تركها مدَّة ثمَّ طلَّقها ، فإذا قرب انقضاء عدَّتها ، راجعها ثمَّ طلَّقها ثم بَعْدَ مدَّة طلقها يقصد بذلك تطويل عدَّتها ، فنهوا عن ذلك ، وجعل إرادة الإصلاح شرطاً في المراجعة .
فإن قيل : الشَّرط يقتضي انتفاء الحكم عند انتفائه ، فيلزم إذا لم توجد إرادة الإصلاح ألاّ تصحّ الرَّجعة؟
فالجواب : أنّ الإرادة صفةٌ باطنةٌ لا اطِّلاع لنا عليها ، والشَّرع لم يوقف صحَّة المراجعة عليها؛ بل جوازها فيما بينه وبين الله - تعالى - موقوف على هذه الإرادة ، فإن راجعها لقصد المضارَّة ، استحقَّ الإثم .
فصل
نقل القرطبي عن مالك ، قال : إذا وطئ المعتدَّة الرَّجعيَّة في عدَّتها ، وهو يريد الرَّجعة وجهل أن يُشهد ، فهي رجعةٌ ، وينبغي للمرأة أن تمنعه الوطء حتى يشهد؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - :
« إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وإنَّمَا لكُلِّ امْرِىءٍ مَا نَوَى » فإن وطئَ في العدَّة ، لا ينوي به الرَّجعة؛ فقال مالكٌ : يراحع في العدَّة ، ولا يطأ حتى يستبرئها من مائه الفاسد .
قال سعيد بن المسيَّب ، والحسن البصري ، وابن سيرين ، والزُّهري ، وعطاء ، والثَّوري : إذا جامعها فقد راجعها .
فصل
من قبّل أو باشر ولم ينو بذلك الرَّجعة ، كان آثماً وليس بمراجعٍ . وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن وطئها ، أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوةٍ ، فهي رجعة ، وينبغي أن يُشهد وهو قول الثَّوريّ .
فصل
قال أحمد : ولها التَّزيُّن لزوجها ، والتَّشرُّف ، وله الخلوة والسَّفر بها .
وقال مالك : لا يخلو معها ولا يدخل عليها إلاَّ بالإذن ، ولا ينظر إليها إلاَّ وعليها ثيابها ، ولا ينظر إلى شعرها .
وقال ابن القاسم : رجع مالك عن ذلك .
قوله : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ } خبرٌ مقدَّمٌ ، فهو متعلِّق بمحذوف ، وعلى مذهب الأخفشِ من باب الفعل والفاعل ، وهذا من بديع الكلام ، وذلك أنه قد حذف من أوَّله شيءٌ ثم أثبت في آخره نظيره ، وحذف من آخره شيءٌ أثبت نظيره في الأول ، وأصل التركيب : « وَلَهُنَّ على أزواجِهِنَّ مِثْلَ الذي لأَزْوَاجِهِنَّ عَلَيْهِنَّ » ، فحذف « عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ » لإثباتِ نظيره ، وهو « عَلَيْهِنَّ » ، وحذفت « لأَزْوَاجِهِنَّ » لإثبات نظيره ، وهو « لَهُنَّ » .
قوله : { بالمعروف } فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق بما تعلَّق به « لَهُنَّ » من الاستقرار ، أي : استقرَّ لهُنَّ بالمعروف .
والثاني : أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل « مِثْل » ؛ لأنَّ « مِثْل » لا يتعرَّفُ بالإضافة؛ فعلى الأوَّل : هو في محلِّ نصبٍ؛ وعلى الثاني : هو في محلِّ رفعٍ .
قوله : { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّ « لِلرِّجَالِ » خبرٌ مقدَّمٌ ، و « دَرَجَةٌ » مبتدأٌ مؤخرٌ ، و « عَلَيهِنَّ » فيه وجهان على هذا التقدير : مَّا التعلُّقُ بما تعلَّق به « لِلرِّجَالِ » ، وإمَّا التعلقُ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من « دَرَجَةٌ » مقدَّماً عليها؛ لأنه كان صفةً في الأصل ، فلمَّا قُدِّم انتصب حالاً .
والثاني : أن يكون « عَلَيْهِنَّ » هو الخبر ، و « للرجال » حال من « دَرَجَةٌ » ؛ لأنه يجوز أن يكون صفةٌ لها في الأصل ، ولكنَّ هذا ضعيفٌ؛ من حيث إنه يلزم تقديم الحال على عاملها المعنويِّ؛ لأ ، َّ « عَلَيْهِنَّ » حينئذٍ هو العالم فيها؛ لوقوعه خبراً . على أنَّ بعضهم قال : متى كانت الحال نفسها ظرفاً أو جارّاً ومجروراً ، قوي تقديمها على عاملها المعنويِّ ، وهذا من ذاك ، هذا معنى قول أبي البقاء . وردَّه أبو حيان بأنَّ هذه الحال قد تقدَّمت على جزأي الجملة ، فهي نظير : « قَائِماً في الدَّارِ زَيْدٌ » ، قال : وهذا ممنوعٌ ، لا ضَعِيفٌ؛ كما زعم بعضهم ، وجعل محلَّ الخلاف فيما إذا لم تتقدَّم الحالُ - العامل فيها المعنى - على جزأي الجملة ، بل تتوسَّط؛ نحو : « زَيْدٌ قَائِماً في الدَّارِ » ، قال : « فأبو الحسن يُجيزُهَا ، وغيره يمنعها » .
و « الرَّجُلُ » مأخوذ من الرُّجلة ، أي : القوَّة ، وهو أرجل الرَّجلين ، أي : أقواهما وفرس رَجِيلٌ : قويٌّ على المَشي ، والرَّجل معروفٌ لقوَّته على المشي ، وارتجل الكلام ، أي : قوي عليه من غير حاجةٍ فيه إلى فكرةٍ ورويَّة ، وترجَّل النَّهار : قوي ضياؤه .
و « الدَّرَجَة » هي المنزلة ، وأصلها : من درجتُ الشَّيء أدْرُجُه دَرْجاً ، وأدْرَجْتُه إدْرَاجاً إذا طويته ، ودَرَجَ القومُ قَرْناً بعد قرن ، أي : فنوا ، ومعناه : أنَّهم طووا عمرهم شيئاً فشيئاً ، والمدْرَجة : قَارِعَةُ الطَّريق؛ لأنَّها تطوي منزلاً بعد منزل ، والدَّرجة : المنزلة من منازل الجنَّة ، ومنه الدَّرجة التي يرتقي فيها ، والدَّرجُ : ما يرتقي عليها ، والدَّرك ما يهوى فيها .
فصل
لما بيَّن أن المقصود من المراجعة إصلاح حالها ، لا إيصال الضَّرر إليها ، بيَّن أن لكلِّ واحدٍ من الزَّوجين حقّاً على الآخر .
روي عن ابن عبَّاس ، قال : إني لأَتَزَيَّن لامْرَأَتِي كما تَتَزَيَّن لي؛ لقوله تعالى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف } .
وقال بعضهم : يجب أن يقوم بحقِّها ومصالحها ، ويجب عليها الانقياد والطَّاعة له .
وقيل : لهنَّ على الزَّوج إرادةُ الإصلاح عند المراجعة ، وعليهنّ ترك الكتمان فيما خلق الله في أرحامهن ، وهذا أوفق لصدر الآية .
وأما درجة الرجل على المرأة فيحتمل وجهين :
الأول : أن الرَّجل أزيدُ في الفضيلة من النِّساء لأمور : في كمال العقل ، وفي الدِّية ، وفي الميراث ، وفي القيمة ، وفي صلاحية الإمامة ، والقضاء ، والشَّهادة ، وللزَّوج أن يتزوَّج عليها ويتسرَّى ، وليس لها ذلك مع الزَّوج ، والزوج قادر على طلاقها وعلى رجعتها شاءت أو أبت ، وليس لها ذلك .
الوجه الثاني : أن الزَّوج اختصَّ بأنواعٍ من الحقوق وهي التزام المهر والنَّفقة والذَّبُّ عنها ، والقيام بمصالحها ، ومنعها من مواقع الآفات ، فكان قيام المرأة بخمة الرَّجل آكد وجوباً لهذه الحقوق الزَّائدة؛ كما قال - تعالى - : { الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } [ النساء : 34 ] ، قال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « لَوْ أَمَرْتُ أَحْداً بالسُّجُودِ لِغَيْرِ الله ، لأَمَرْتُ المَرْأَةَ بالسُّجُودِ لِزَوْجِهَا » وإذا كان كذلك ، فالمرأة كالأسير العاجز في يد الرَّجُلِ ، ولهذا قال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْراً فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُم عَوَانٌ » ، وفي خبرٍ آخر : « اتَّقُوا الله في الضَّعِيفَيْن : اليتيمِ والمَرْأَةِ » .
ثم قال : { والله عَزِيزٌ حَكُيمٌ } أي : غالبٌ لا يمنع ، مصيبٌ في أحكامه .

الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
قوله : { الطلاق مَرَّتَانِ } : مبتدأٌ وخبرٌ ، و « الطلاق » يجوز أن يكون مصدر « طَلَقَتِ المَرْأَةُ طَلاَقاً » ، وأن يكون اسم مصدر ، وهو التطليقُ؛ كالسَّلام بمعنى التَّسليم ، ولا بد من حذف مضافٍ قبل المبتدأ؛ ليكون المبتدأُ عين الخبر ، والتقدير : عددُ الطَّلاق المشروع فيه الرَّجعة مرَّتان .
والتثنية في « مَرَّتَانِ » حقيقةٌ يراد بها شفعُ الواحد ، وقال الزمخشريُّ : « إنها من باب التثنية الَّتي يراد بها التكرير » وجعلَهَا مثْلَ : لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَهَذَا ذَيْكَ . وردَّ عليه أبو حيَّان بأنَّ ذلك مناقضٌ في الظاهر لما قاله أولاً ، وبأنه مخالفٌ للحكم في نفس الأمر ، أمَّا المناقضة ، فإنه قال : الطَّلاق مَرَّتَان ، أي : الطلاقُ الشرعيُّ تطليقةٌ بعد تطليقةٍ على التفريق دون الإرسال دفعةً واحدةً ، فقوله هذا ظاهرٌ في التثنية الحقيقيّة ، وأمَّا المخالفة ، فلأنه لا يراد أن الطلاق المشروع بقع ثلاثَ مراتٍ فأكثر ، بل مرتين فقط؛ ويدلُّ عليه قوله بعد ذلك : { فَإِمْسَاكٌ } ، أي : بالرَّجْعَةِ من الطَّلْقَةِ الثانية ، { أَوْ تَسْرِيحٌ } أي : بالطلقة الثالثة؛ ولذلك جاء بعده « فَإِنْ طَلَّقَهَا » . انتهى ما ردَّ به عليه ، قال شهاب الدين : والزَّمخشريُّ إنما قال ذلك لأجل معنًى ذكره ، فينظر كلامه في « الكَشَّاف » ؛ فإنه صحيحٌ .
والألف واللام في « الطَّلاَق » قيل : هي للعهد المدلول عليه بقوله : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } [ البقرة : 228 ] وقيل : هي للاستغراق ، وهذا على قولنا : إن هذه الجملة متقطعةٌ ممَّا قبلها ، ولا تعلُّق لها بها .
قوله : { فَإِمْسَاكٌ } في الفاء وجهان :
أحدهما : أنها للتعقيب ، أي : بعد أن عرَّف حكم الطلاق الشرعيِّ؛ أنه مرَّتان ، فيترتَّب عليه أحد هذين الشيئين .
والثاني : أن تكون جواب شرطٍ مقدَّرٍ ، تقديره : فإن أوقع الطَّلقتين ، وردَّ الزَّوجة فإمساكٌ .
وارتفاعُ « إِمْسَاكٌ » على أحد ثلاثة أوجهٍ : إمَّا مبتدأ وخبره محذوفٌ متقدِّماً ، تقديره عند بعضهم : فَعَلَيْكُمْ إِمْسَاكٌ ، وقَدَّرهُ ابن عطية متأخِّراً ، تقديره : فإِمْسَاكٌ أَمْثَلُ أَوْ أَحْسَنُ .
والثاني : أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ ، أي : فالواجب إمساكٌ .
والثالث : أن يكون فاعل فعلٍ محذوفٍ ، أي : فليكن إمساك بمعروفٍ
قوله : « بِمَعْرُوفٍ » و « بِإِحْسَانٍ » في هذه الباء قولان :
أحدهما : أنها متعلِّقة بنفس المصدر الذي يليه ، ويكون معناها الإلصاق .
والثاني : أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها صفة لما قبلها ، فتكون في محلِّ رفعٍ ، أي : فإسماك كائنٌ بمعروفٍ ، أو تسريح كائنٌ بإحسان .
قالوا : ويجوز في العربيَّة نصب « فَإِمْسَاكٌ » ، و « تَسْرِيحٌ » على المصدر ، أي : فأمسكوهنَّ إمساكاً بمعروف ، أو سرِّحُوهُنَّ تسريحاً بإحسان ، إلاَّ أنَّه لم يقرأ به أحدٌ .
والتَّسريح : الإرسال والإطلاق ، ومنه قيل للماشية : سَرْحٌ ، وناقَةٌ سُرُحٌ ، أي : سهلة السَّير؛ لاسترسالها فيه .
وتسريح الشَّعر : تخليص بعضه من بعض ، والإمساك خلاف الإطلاق ، والمساك والمسكة اسمان منه؛ يقال : إِنَّه لذو مُسكةٍ ومساكة إذا كان بخيلاً .
قال الفرَّاء : يقال : إنه ليس بمساك غلمانه ، وفيه مساكة من جبر ، أي : قُوَّة .
قال القرطبي : وصريح الطَّلاق ثلاثة ألفاظٍ ورد القرآن بها : وهي الطَّلاق والسَّراح والفِراق ، وهو قول الشَّافعي .
فصل
روى عُروة بن الزُّبير ، قال : كان النَّاسُ في الابتداء يُطلِّقون من غير حصرٍ ولا عددٍ ، وكان الرَّجُل يُطلق امرأَته ، فإذا قاربت انقضاء عدَّتها ، راجعها ثم طلَّقها كذلك ، ثم راجعها يقصد مضارَّتها ، فنزلت هذه الآية : { الطلاق مَرَّتَانِ } .
ورُوِي : أن الرَّجُل كان في الجاهليَّة يُطَلِّق امرأَتهُ ، ثم يُراجعها قبل أن تنقضي عِدَّتها ، ولو طَلَّقها ألف مَرَّة ، كانت القُدرة على المُراجعة ثابتةٌ ، فجاءت امرأةٌ إلى عائشة - رضي الله عنها - ، فشكت أَنَّ زَوْجهها يُطَلِّقُها ويُراجِعها ، يُضارّها بذلك ، فذكرت عائشة ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزل قوله تعالى : { الطلاق مَرَّتَانِ } يعني : الطلاق الَّذِي يملك الرَّجعة عقيبهُ مرتان ، فإذا طَلَّق ثَلاَثاً ، فلا تحلُّ له إلاَّ بعد نكاح زوجٍ آخر .
فصل
اختلف المُفَسِّرون في هذه الآية :
فقال بعضهم : هذا حُكم مُبتدأ ، ومعناه : أن التَّطليق الشَّرعيّ يجب ن يكون تطليقةً بعد أُخرى ، على التَّفريق دون الجمع والإِرسال دفعةً واحدة ، وهذا قول من قال : الجمع بين الثَّلاث حرامٌ .
قال أبو زيد الدَّبوسيّ : هذا قول عمر وعثمان وعبد الله بن عبَّاس ، وعبدالله بن عمر ، وعمران بن حصين ، وأبي موسى الأشعري وأَبي الدَّرداء ، وحذيفة .
وقال آخرون : ليس بابتداء كلام ، وإنَّما هو متعلِّق بما قبله والمعنى : أن الطَّلاقَ الرَّجعيَّ مَرَّتان ، ولا رجعة بعد الثَّلاث ، وهو وقل من جوَّز الجمع بين الثَّلاث ، وهو مذهب الشَّافعي .
حُجَّة القول الأَوَّل : أن الأَلف واللام في « الطَّلاَقِ » إذا لم يكونا للمعهود ، أفادا الاستغراق ، فصار تقدير الآية : كُلُّ الطَّلاق مرَّتان ومَرَّة ثالثة ، ولو قال هكذا ، لأفاد أن الطَّلاق المشروع مُتَفَرِّق؛ لأن المرَّات لا تكُون إلاَّ بعد تفريق الاجتماع .
فإن قيل : هذه الآية وردت لبيان الطَّلاق المَسْنُون .
فالجواب : ليس في الآية بيان صفة السُّنَّة ، بل مُفسَّرة لأَصل الطَّلاق ، وهذا الكلام - وإن كان لفظه الخبر - إلاَّ أن معناهُ الأمر ، أي : طَلِّقُوا مَرَّتَين ، يعني : دَفْعتين ، وإنما عدل عن لفظ الخبر؛ لما تَقَدَّم من أن التَّعبير عن الأَمر بلفظ الخبر يُفيد تأكيد معنى الأَمر ، فثبت أن هذه الآية دالَّة على الأَمر بتفريق الطَّلقاتِ ، وعلى التَّشديد في ذلك الأَمر والمُبالغة فيه . واختلف القائِلُون بهذا على قولين :
الأول - وهو اختيار كثيرٍ من علماء أهل البيت - : أنَّه لو طَلَّقها اثنتين أو ثلاثاً ، لا يقع إلاَّ واحدة .
قال ابن الخطيب : وهذا القولُ هو الأَقيس ، لأن النَّهْيَ يدلُّ على اشتمالِ المنهيِّ عنه على مفسدة راجحة ، والقول بالوقوع سعيٌ في غدخال تلك المفسدة في الوجود ، وهو غير جائزٍ ، فوجب أن يكون الحُكم بعدم الوقوع .
والثاني : قول أبي حنيفة - رضي الله عنه - : إن الجمع - وإن كان مُحرَّماً - إلا أَنَّه يقعُ ، وهذا منه بناءً على أَنَّ النَّهيَ لا يَدُلُّ على الفَسَادِ .
حجَّة القول الثَّاني : هو أنَّ الآية مُتعلِّقَة بما قبلها؛ لأنه - تعالى - بيَّن في الآية الأُولى أن حقَّ المُراجعة ثابتٌ للزَّوج ، ولم يُبيِّن أنَّ ذلك الحَقَّ ثابِتٌ دائماً ، أو إلى غاية مُعيَّنة ، فكان كالمجمل المُفتقر إلى المُبيِّن ، أو العامِّ المفتقرِ إلى المُخصص ، فبيَّن في هذه الآيةِ أن ذلك الطَّلاق الَّذِي ثبت فيه للزَّوج حَقّ الرَّجْعَة ، هو أن يُوجد طلقتانِ ، فأمّا بعد الطَّلْقَتين ، فلا يثبِتُ أَلْبَتَّةَ حق الرَّجعة فالألف واللام في « الطَّلاقِ » المعهُود السَّابق ، فهذا تفسيرٌ مطابِقٌ لنظم الآية ، فيكُون أولى لوجوهٍ :
الأول : أن قوله : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } [ البقرة : 228 ] إن كان عَامّاً في كُلِّ الأَحوال؛ فهو مُفْتَقِرٌ إلى المُخَصّص ، وإن لم يكُن عامّاً فهو مُجملٌ؛ لأنه ليس فيه بيان الشَّرط الَّذِي عنده يثبت حقُّ الرَّجعة ، فافتقر إلى البيان ، فإذا جعلنا الآية مُتَعَلِّقة بما قبلها ، كان المُخَصص حاصلاً مع العامِّ المخصوص ، أو كان البيانُ حاصِلاً مع المُجْمَلِ ، وذلك أَولى من ألاَّ يكون كذلك؛ لأن تأخير البيان عن وقت الخِطابِ - وإذا كان جَائِزاً - ، إلا أن الأَرجح ألاَّ يَتَأَخَّر .
الثاني : أنَّا إذا جعلنا هذا الكلام مُبتدأ ، كان قوله : { الطلاق مَرَّتَانِ } يقتضي ذكر الطَّلقة الثَّانية ، وهي قوله : { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } فصار تقدير الآية : الطَّلاق مَرَّتان ومَرَّة؛ لأنا نقول : إن قوله : { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } متعلِّق بقوله : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } لا بقوله : { الطلاق مَرَّتَانِ } ، ولأن لفظ التَّسريح بالإِحسانِ لا إِشعار فيه بالطَّلاق ، ولأنَّا لو جعلنا التَّسريح هو الطَّلقة الثَّالثة ، لكان قوله : « فَإِنْ طَلَّقَهَا » طلقة رابعة ، وهو غير جائِزٍ .
الثالث : ما روينا في سبب النُّزول : من شكوى المرأة إلى عائشة كثرة تطليقها ومراجعتها قصداً للمضارَّة ، وقد أَجْمَعُوا على أَنَّ سبب النُّزول لا يجوز أن يكون خارجاً عن عُمُوم الآيةِ ، فكان تنزيل الآيةِ على هذا المعنى ، أولى من تنزيلها على حُكْمٍ أَجنبيٍّ عنها .
فصل
اعلم أن معنى الآية : أن الطَّلاق التي يَثْبُت فيه الرَّجعة هو أَنْ يوجد مرَّتان ، ثم الواجب بعد ذلك : إمَّا إمساكٌ بمعروفٍ ، وهو أن يُراجعها لا على قصد المضارَّة ، بل على قصدِ الإصلاح ، وإما تسريحٌ بإِحسانٍ ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن يُوقِعَ عليها الطَّلقة الثَّالثة ، روي أَنَّه لمَّا نَزلَ قوله تعالى : { الطلاق مَرَّتَانِ } ، قيل له - عليه الصلاة والسلام - : فأَين الثَّالثة؟ قال عليه الصَّلاة والسَّلام - : « هُو قَوْلُه تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ » .
الثاني : أن التَّسريح بالإحسان : أن يَتْرُكَ مُراجَعَتها حتى تَبين بانقضاءِ العِدَّة ، وهو مَروِيٌّ عن الضَّحَّاك والسُّدِّيّ .
قال ابن الخطيب : وهو أَقْرَبُ لوجوه :
أحدها : أن « الفَاء » في قوله : « فَإِنْ طَلَّقَها » تَقْتَضِي وقوع هذه الطَّلقة مُتَأَخِّرة عن ذلك التَّسريح ، فلو كان المُرادُ بالتَّسريح هو الطَّلقَة الثَّالثة ، لكان قوله : فإن طَلَّقها طَلْقَةً رَابِعَة؛ وهو لا يجُوزُ .
وثانيها : أنَّا إذا حَمَلْنَا التَّسريح على تَرْكِ المُراجعة ، كانت الآيةُ مُتَنَاولة لجميع الأَحوالِ؛ لأَنَّه بعد الطَّلْقَة الثَّانية إمَّا أن يُراجعها وهو المراد بقوله : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } أو لا يُراجعها ، بل يتركها حتى تنقضي عِدَّتُها وتبين ، وهو المرادُ بقوله : { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } أو يُطَلِّقها وهو المراد بقوله « فَإِنْ طَلَّقَها » ، فكانت الآيَةُ مُشْتَمِلَةً على بَيَانِ كُلِّ الأقسام ، وإذا جعلنا التَّسريح بالإِحسان طَلاَقاً آخر لزم تركُ أحد الأقسامِ الثَّلاثة ، ولزِم التكرير في ذكر الطَّلاقِ ، وهو غيرُ جَائِزٍ .
وثالثها : أنَّ ظاهر التَّسرِيح هو الإرسالُ والإِهمالُ ، فحمله على تركِ المُراجعة أَوْلَى من حملِهِ على التَّطليق .
ورابعها : أنَّه قال بعد ذلك التَّسريح : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً } والمُراد به الخُلع ، ومعلومٌ أنه لا يصحُّ الخلعُ بعد التَّطليقة الثَّالثة ، فهذه الوجوه ظاهرة ، لو لم يثبت الخبر الَّذِي رويناه ، فإن صحَّ ذلك الخبر ، فلا مزيد عليه .
فصل في الحكمة في الرَّجعة
والحِكْمة في إثبات حقِّ الرَّجعة : أن الإِنسان إذا كان مع صاحبه ، لا يدري هل تَشُقُّ عليه مُفارقتُه أَمْ لا؟ فإذا فارقهُ بعد ذلك يظهر ، فلو جَعَلَ الله الطَّلقة الواحدة مانِعةٌ من الرُّجوع ، لعظمت المَشَقَّة على الإِنسان بتقدير أَنْ تظهر المَحَبَّة بعد المُفارقة مَرَّتين ، وعند ذلك تحصل التَّجربة ، فإن كان الأَصلحُ الإِمْسَاكَ ، راجعها وأَمسكها بالمعروفِ ، وإن كان الأَصلح التَّسريح ، سرَّحها بإِحسان .
فصل
واختلف العُلَمَاءُ إذا كان أَحد الزَّوْجَينِ رقيقاً :
فذهب أكثرهم إلى أَنَّه يُعتبر عدد الطَّلاق بالزَّوج؛ فالحُرُّ يملك على زوجته الأَمة ثلاث تطليقاتٍ ، والعبد لا يملك على زوجته الحُرَّة ِلاَّ طَلْقَتَيْن .
قال عبدالله بن مسعود : الطَّلاق بالرِّجال والعِدَّة بالنِّساءِ ، يعني : يُعْتَبر في الطَّلاق حالُ الرَّجالِ ، وفي قدر العِدَّة حالُ المرأة ، وهو قول عُثمان ، وزيد بن ثابت ، وابن عبَّاس ، وبه قال عطاء وسعيد بن المُسَيَّب ، وإليه ذهب مالِكٌ ، والشَّافِعِي ، وأَحمد ، وإسحاق .
وذهب قَوْمٌ إلى أن الاعتبار بالمرأة في عدد الطَّلاق ، فيملُكِ العَبْدُ على زوجته الحُرَّة ثلاث طلقاتٍ ، ولا يَمْلِكُ الحُرَّ على زوجته الأَمة إلاَّ طلْقَتَين ، وهو قول سُفْيان الثَّوريّ وأصحاب الرَّأي .
فصل
إذا طلَّقها ثلاثاً بكلمةٍ واحدةٍ ، لزِمه الطَّلاَق بالإِجماع .
وقال عليّ بن أبي طالبٍ ، وابن مسعود : يلزمه طلقةٌ واحِدةٌ .
وقال ابن عبَّاس : وقوله : ثلاثاً لا معنى له؛ لأَنَّه لم يُطلِّق ثلاث مرَّات وإنَّما يجوز قوله : في ثَلاَث إذا كان مُخبراً عمّا مضى ، فيقول : طلَّقت ثلاثاً ، فيكون مُخبراً عن ثلاثة أفعالٍ كانت منهُ في ثلاثة أوقاتٍ؛ فهو كقول الرَّجُل : قرأت سُورَة كذا ثلاث؛ فإن كان قرأها ثلاث مرَّاتٍ ، كان صادِقاً ، وإن كان قرأها مرَّة واحِدَةً ، كان كاذِباً ، وكذا لو قال : أحْلِفُ بالله ثَلاَثاً يردد الحَلْف كانت ثَلاَثة أيمانٍ ، ولو قال : أَحْلِف بالله ثلاَثاً ، لم يَكُن حلف إلا يميناً واحدة والطَّلاق مِثْله .
وقاله الزُّبير بن العوَّام ، وعبد الرَّحمن بن عوف ، قاله القرطبي . قوله : « أَنْ تَأْخُذُوا » : « أَنْ » وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ على أنه فاعل « يَحِلُّ » ، أي : ولا يَحِلُّ لكُم أَخْذُ شَيءٍ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ . و « مِمَّا » فيه وجهان « . أحدهما : أن يتعلَّقَ بنفسِ » تَأْخُذُوا « ، و » مِنْ « على هذا لابتداءِ الغاية . والثاني : أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من » شَيْئاً « قُدِّمت عليه؛ لأنها لو تأَخَّرَتْ عنه لكانَتْ وصفاً ، و » مِنْ « على هذا للتبعيض ، و » مَا « موصولةٌ ، والعائدُ محذوفٌ ، تقديره : مِنَ الذي آتيتموهنَّ إِيَّاهُ ، وقد تقدَّم الإِشكالُ والجوابُ في حذفِ العائدِ المنصوب المنفصلِ عند قوله تعالى : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] وهذا مثلُه ، فَلْيُلْتَفَتْ إليه . و » آتَى « يتعدَّى لاثنين ، أولهُما » هُنَّ « والثاني هو العائدُ المحذوفُ ، و » شَيْئاً « مفعولٌ به ناصبُه » تَأْخُذُوا « . ويجوزُ أن يكونَ مصدراً ، أي : شيئاً مِنَ الأَخْذِ . والوجهانِ منقولانِ في قوله : { لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } [ يس : 54 ] . قوله : { إِلاَّ أَن يَخَافَآ } هذا استثناءٌ مُفَرَّغٌ ، وفي » أَنْ يَخَافَا « وجهان : أحدهما : أنه في محلِّ نصبٍ على أنه مفعولٌ من أجلِهِ ، فيكونُ مستثنىً من ذلك العامِّ المحذوفِ ، والتقديرُ : وَلاَ يَحِلُّ لكُمْ أن تَأْخُذُوا بِسَبَب من الأسباب ، إلا بسببِ خوفِ عدم إقامة حُدُودِ الله ، وحُذِفَ حرفُ العلةِ؛ لاستكمالِ شروط النصب ، لا سيما مع » أَنْ « ولا يجيءُ هنا خلافُ الخليلِ وسيبويه : أهيَ في موضع نصبٍ ، أو جرٍّ بعد حَذْفِ اللامِ ، بل هي في محلِّ نصبٍ فقط ، لأنَّ هذا المصدرَ لو صُرِّحَ به ، لنُصِبَ ، وهذا قد نصَّ عليه النحويُّون ، أعنِي كونَ » أَنْ « وما بعدها في محلِّ نصبٍ ، بلا خلافٍ ، إذا وقعَتْ موقعَ المفعولِ له . والثاني : أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، فيكونُ مستثنى من العامِ أيضاً ، تقديره : ولاَ يَحِلُّ لكُمْ في كلِّ حالٍ من الأحوالِ إلاَّ في حالِ خوفِ أَلاَّ يقيما حدودَ اللهِ ، قال أبو البقاء : والتقديرُ : إلاَّ خائفينَ ، وفيه حَذْفُ مضافٍ ، تقديره : وَلاَ يَحِلُّ لكُمْ أَنْ تأخُذُوا على كلِّ حال ، أو في كلِّ حال إلا في حالِ الخوفِ ، والوجهُ الأولُ أحسنُ ، وذلك أَنَّ » أَنْ « وما في حَيِّزها مُؤَوَّلةٌ بمصدرٍ ، وذلك المصدرُ واقعٌ موقعَ اسم الفاعلِ المنصُوبِ على الحَال ، والمصدرُ لا يطَّرِدُ وقوعُه حالاً ، فكيف بما هو في تأْويله!! وأيضاً فقد نَصَّ سيبويه على أنَّ » أَنِ « المصدرية لا تقَعُ موقعَ الحالِ .
والألفُ في قوله « يَخَافَا » و « يُقِيمَا » عائدةٌ على صنفَي الزوجين ، وهذا الكلامُ فيه التفاتٌ ، إذ لو جَرَى على نَسَقِ الكلام ، لقيل : « إِلاَّ أَنْ تَخَافُوا أَلاَّ تُقِيمُوا » بِتَاءِ الخِطَابِ لِلْجَمَاعَةِ ، وقد قَرأَها كذلك عبد الله ، ورُوِي عنه أيضاً بياءِ الغَيْبَة ، وهو التفاتٌ أيضاً . والقراءةُ في « يَخَافَا » بفتحِ الياءِ واضحةٌ ، وقرأها حمزة وأبو جعفر ويعقوب بضمِّها على البناء للمفعول ، وقَد استشكلها جماعةٌ ، وطعن فيها آخرون لعدم معرفتهم بلسان العرب ، وقد ذكروا فيها توجيهاتٍ كثيرةً ، أحسنُها أَنْ يكونَ « أَنْ يُقِيمَا » بدلاً من الضمير في « يَخَافَا » ؛ لأنه يَحُلُّ مَحَلَّه ، تقديره : إِلاَّ أَنْ يُخَافَ عَدَمُ إقامَتِهما حُدُودَ اللهِ ، وهذا من بدل الاشتمال؛ كقولك : « الزَّيْدَانِ أَعْجَبَانِي عِلْمُهُمَا » ، وكان الأصلُ : « إِلا أن يخافَ الوُلاَةُ الزوجَيْنِ أَلاَّ يقيمَا حُدُودَ اللهِ » ، فَحُذِفَ الفاعلُ الذي هو « الوُلاَةُ » ؛ للدلالة عليه ، وقامَ ضميرُ الزوجين مقامَ الفاعلِ ، وبقيتْ « أَنْ » وما بعدها في محلِّ رفعٍ بَدَلاً؛ كما تقدَّم تقديرُه . وقد خرَّجه ابن عطيَّة على أنَّ « خَافَ » يتعدَّى إلى مفعولين ك « اسْتَغْفَرَ » ، يعنيك إلى أحدِهما بنفسِه ، وإلى الآخرِ بحرفِ الجَرِّ ، وجَعَلَ الألِفَ هي المفعولَ الأولَ قامَتْ مقامَ الفاعلِ ، و « أَنْ » وما في حَيِّزها هي الثاني ، وجَعَل « أَنْ » في محلِّ جرٍّ عند سيبويه والكِسائيِّ ، وقد رَدَّ عليه أبو حيان هذا التخريجَ؛ بأنَّ « خَافَ » لا يتعدَّى لاثنين ، ولم يَعُدَّهُ النحويون حين عَدُّوا ما يَتَعَدَّى لاثنين؛ ولأنَّ المنصوبَ الثاني بعده في قولك : « خِفْتُ زَيْداً ضَرْبَهُ » ، إنما هو بدلٌ لا مفعولٌ به ، فليس هو كالثاني في « اسْتَغْفَرْتُ اللهَ ذَنْباً » ، وبأن نسبة كَوْنِ « أَنْ » في محلِّ جر عند سيبويه ليس بصحيحٍ ، بل مذهبُه أنها في محلِّ نصبٍ ، وتبعه الفراء ، ومذهبُ الخليل : أنها في محلِّ جَرٍّ ، وتبعه الكسائيُّ ، وهذا قد تقدَّم غيرَ مرةٍ . وقال غيره كقوله؛ إلاَّ أنَّه قدَّر حرفَ الجرِّ « عَلَى » ، والتقدير : إلاَّ أنْ يَخَافَ الوُلاَةُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى أَلاَّ يُقِيمَا ، فَبُنِيَ للمفعولِ ، فقام ضميرُ الزوجين مقامَ الفاعلِ ، وحُذِفَ حرفُ الجر مِنْ « أَنْ » فجاء فيه الخلافُ المتقدِّمُ بين سيبويه والخليل . وهذا الذي قاله ابنُ عطيةَ سَبَقَه إليه أبو عليٍّ ، إلاَّ أنه لم يُنَظِّرْهُ ب « اسْتَغْفَرَ » . وقد استشكل هذه القراءةَ قومٌ وطعَنَ عليها آخَرُونَ ، لا عِلمَ لهم بذلك ، فقال النحَّاسُ : لا أعْلَمُ في اختيارِ حمزة أبعدَ من هذا الحَرْفِ؛ لأنه لا يُوجِبُهُ الإِعرابُ ، ولا اللفظُ ، ولا المعنى . أمَّا الإِعرابُ : فلأنَّ ابنَ مسعود قرأ « إِلاَّ أَنْ تَخَافُوا أَلاَّ يُقِيمُوا » ، فهذا إذا رُدَّ في العربيةِ لما لم يُسَمَّ فاعلُه ، كان ينبغي أَنْ يُقال : « إِلاَّ أَنْ يُخَافَ » .
وأمَّا اللفظُ : فإِنْ كان على لفظِ « يُخَافَا » ، وَجَبَ أن يقال : فَإِن خِيفَ ، وإن كان على لفظ « خِفْتُمْ » ، وَجَب أن يقال : إِلاَّ أَنْ تَخَافُوا . وأمَّا المعنى : فَأَسْتَبْعِدُ أن يُقَالَ : « وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافَ غَيْرُكُمْ » ، ولم يَقُلْ تعالى : « ولا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا لَهُ منْهَا فدْيَةً » ، فيكون الخُلْعُ إلى السلطان ، والفَرْضُ أَنَّ الخُلْعَ لا يحتاجُ إلى السلطانِ . وقد رَدَّ الناسُ على النحَّاس : أمَّا ما ذكره من حيث الإِعرابُ : فلا يَلْزَمُ حمزةَ ما قرأ به عبدالله . وأمَّا مِنْ حيثُ اللفظُ ، فإنه من باب الالتفاتِ؛ كما قَدَّمْتُه أولاً ، ويَلْزَمُ النَّحَّاسَ أنه كان ينبغي على قراءةِ غيرِ حمزةَ أن يقرأَ : « فَإِنْ خَافَا » ، وإِنَّما هو في القراءتَين من الالتفاتِ المستحْسَنِ في العربيةِ . وأمَّا من حيثُ المعنى : فلأنَّ الولاةَ والحكامَ هُمُ الأصلُ في رَفْعِ التظالُمِ بين الناسوهم الآمرون بالأخْذِ والإِيتاء . و وجَّه الفراء قراءةَ حمزةَ ، بأنه اعتبرَ قراءةَ عبدِ الله « إِلاَّ أَنْ تَخَافُوا » . وخَطَّأَهُ الفارسيُّ وقال : « لَمْ يُصِبْ؛ لأنَّ الخوفَ في قراءةِ عبدِ الله واقعٌ على » أَنْ « ، وفي قراءة حمزة واقعٌ على الرجُلِ والمَرْأَةِ » . وهذا الذي خَطَّأَ به الفراء ليس بشيءٍ؛ لأنَّ معنى قراءةِ عبد الله : إِلاَّ أَنْ تَخَافُوهُمَا ، أي : الأولياءُ ، الزوجين ألاَّ يُقيمَا ، فالخوفُ واقعٌ على « أَنْ » وكذلك هي في قراءةِ حمزة الخوفُ واقعٌ عليها أيضاً بأحدِ الطريقينِ المتقدِّمينِ : إمَّا على كونها بدلاً من ضميرِ الزوجين؛ كما تقدَّم تقريره ، وإمَّا على حذف حرف الجرّ ، وهو « على » . والخوفُ هنا فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه على بابِه من الحَذَرِ والخَشْيَةِ ، فتكونُ « أَنْ » في قراءةِ « غير حمزةَ في محلِّ جَرٍّ ، أو نصبٍ؛ على حَسَبِ الخلافِ فيها بعدَ حذفِ حرفِ الجرِّ؛ إذ الأصلُ : مِنْ أَلاَّ يُقِيمَا ، أو في محلِّ نصبٍ فقط؛ على تعديةِ الفعلِ إليها بنفسِهِ؛ كأنه قيل : إِلاَّ أَنْ يَحْذَرَ عَدَمَ إِقَامَةِ حُذُودِ اللهِ .
والثاني : أنه بمعنى العِلْم ، وهو قَوْلُ أبي عُبَيْدَة . وأنشد [ الطويل ]
1109- فَقُلْتُ لَهُمْ خَافُوا بأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهُمُ فِي الْفَارِسِيِّ المُسَرَّدِ
ومنه أيضاً : [ الطويل ]
1110- وَلاَ تَدْفِنَنِّي فِي الفَلاَةِ فَإِنَّنِي ... أَخَافُ إِذَا مَا مِتُّ أَنْ لاَ أَذُوقُهَا
ولذلك رُفِعَ الفعلُ بعد » أَنْ « ، وهذا لا يصحُّ في الآيةِ ، لظهورِ النَّصْب ، وأما البيتُ ، فالمشهورُ في روايتِهِ » فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بأَلْفَيْ « .
والثالث : الظَّنّ ، قاله الفراء؛ ويؤيِّدُهُ قراءةٌ أُبَيٍّ : » إِلاَّ أَنْ يَظُنَّا « ؛ وأنشد : [ الطويل ]
1111- أَتَانِي كَلاَمٌ مِنْ نُصَيْبٍ يَقُولُهُ ... وَمَا خِفْتُ يَا سَلاَّمُ أَنَّكَ عَائِبِي
وعلى هذين الوجهين ، فتكونُ « أَنْ » وما في حَيِّزها سَادَّةً مَسَدَّ المفعولَيْن عند سيبويه ومَسَدَّ الأول والثاني محذوفٌ عند الأخفش؛ كما تقدَّم مراراً والأولُ هو الصحيحُ وذلك أَنَّ « خَافَ » مِنْ أفعالِ التوقُّع ، وقد يميل فيه الظنُّ إلى أحدِ الجائِزَين ، ولذلك قال الراغب : « الخَوْفُ يُقال لِمَا فيه رجاءٌ مَّا؛ ولذلك لا يُقال : خِفْتُ أَلاَّ أَقْدِرَ على طلوعِ السماءِ ، أو نَسْفِ الجبالِ » .
وأصلُ « يُقيمَا » : يُقْوِمَا ، فَنُقِلَتْ كسرةُ الواوِ إلى الساكن قبلَها ، ثم قُلِبَتِ الواوُ ياءً؛ لسكونها؛ بعد كسرةٍ ، وقد تقدَّم تقريرُه في قوله : { الصراط المستقيم } [ الفاتحة : 5 ] .
وزعم بعضهم أنَّ قوله : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ } معترضٌ بين قوله : { الطلاق مَرَّتَانِ } ، وبين قوله : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ } [ البقرة : 230 ] ، وفيه بَعْدٌ .
قوله : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } « لاَ » واسمُها وخبرُها ، وقوله : { فِيمَا افتدت بِهِ } متعلِّقٌ بالاستقرارِ الذي تضمَّنَهُ الخبرُ ، وهو « عَلَيْهِمَا » ، ولا جائزٌ أن يكونَ « عَلَيْهِمَا » متعلِّقاً ب « جُنَاحَ » و « فِيمَا افتدت » الخبرَ؛ لأنه حينئذٍ يكونُ مُطَوَّلاً ، والمُطَوَّلُ مُعْرَبٌ ، وهذا - كما رأيتَ - مبنيٌّ .
والضميرُ في « عَلَيْهِمَا » عائدٌ على الزوجَيْن ، أي : لا جُنَاحَ على الزوجِ فِيمَا أَخَذَ ، ولا على المَرْأَةِ فيما أَعْطَتْ ، وقال الفراء : إنَّما يَعُودُ على الزوجِ فقط ، وإنما أعادَهُ مُثَنى ، والمرادُ واحِدٌ؛ كقوله تعالى : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] { نَسِيَا حُوتَهُمَا } [ الكهف : 61 ] ؛ وقوله : [ الطويل ]
1112- فَإِنْ تَزْجُرَانِي يَا بْنَ عَفَّانَ أَنْزَجِرْ ... وَإِنْ تَدَعَانِي أَحْمِ عِرْضاً مُمَنَّعَا
وإنما يخرجُ من المِلْحِ ، والنَّاسي « يُوشَعُ » وحدَهُ ، والمنادَى واحدٌ في قوله : « يَا بْنَ عَفَّانَ » . و « مَا » بمعنى « الذي » ، أو نكرةٌ موصوفة ، ولا جائزٌ أن تكونَ مصدريةً؛ لعَوْدِ الضميرِ مِنْ « بِهِ » عليها ، إلا على رَأْي مَنْ يجعلُ المصدريةَ اسماً؛ كالأخفش وابنِ السَّرَّاج ومَنْ تابَعَهُما .
فصل
اعلم أنه - تعالى - لمَّا أَمر بأن يكون التَّسريح بإحسانٍ بين هنا أنَّ من جُملة الإحسان أَنَّه إذا طلَّقها لا يأخُذُ منها شيئاً ، ويدخُل في هذا النَّهي ألا يُضَيِّقَ عليها ليلجئها إلى الافتداءِ؛ كما قال في سورة النساء : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ُلِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ } [ النساء : 19 ] وقوله هنا : { إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } هو كقوله : { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } [ النساء : 19 ] وقال أيضاً : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } [ النساء : 20-21 ] .
فإن قيل : قوله : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ } هذا الخِطاب كان للأَزواج ، فكيف يطابقه قوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } وإن كان للأَئِمَّة والحُكَّام فهؤلاء لاَ يأخذون منهنّ شيئاً؟
قلنا : الأمران جائزان :
فيجُوز أن يكون أوَّلُ الآيةِ خِطَاباً للأَزْوَاجِ ، وآخِرُها خِطاباً للأَئِمَّة والحُكَّامِ ، وليس ذلك بغريبٍ من القُرْآن .
ويجوزُ أن يكون الخِطَابُ كُلُّه للأَئِمَّة والحُكَّام؛ لأنهم هُمُ الَّذِين يَأْمُرُون بالأَخْذِ والإِيتَاءِ عند التَّرافُع إليهم فَكَأَنَّهم هم الآخِذُون والمُؤتون ، ويَدُلُّ له قراءةُ حمزة المتقدِّمة : « يُخَافَا » بضم الياءِ ، أي : يعلم ذلك منهما ، يعني : يعلَم القاضي والوالي ذلك من الزَّوجين ، ويطابقه قوله : « فَإِنْ خِفْتُمْ » فجعل الخوف لغير الزَّوجين ، ولم يقل : « فإن خافا » . واعلم أنَّه لما منع الرجُل أن يأخذ من امرأَتِه شيئاً عند الطَّلاَق ، استثنى هذه الصُّورة ، وهي مسألة الخُلع ، واختلفُوا في هذا الاستثناء؛ هل هو مُتَّصِلٌ أو مُنقطع؟
وفائدة الخلاف تظهر في مسألة فقهيَّة؛ وهي أن أكْثَر المجتهدين جوَّز الخُلْع في غيرِ حالة الخوفِ والغَضَبِ .
وقال الزُّهري والنَّخعي وداود : لا يباح الخُلعُ إلاَّ عند الغضب والخوف من ألاَّ يُقِيما حدود الله ، فإن وقع الخُلْعُ في غيرِ هذه الحالةِ ، الخُلْعُ فاسِدٌ ، واحْتَجُّوا بهذه الآيةِ؛ فإنها صريحةٌ في تحريم الأخذ من الزَّوجةِ عند طلاقها ، واستثني هذه الصُّورة .
وأما جمهور المجتهدين فقالوا : الخُلعُ جائزٌ في حالة الخوف وغيره؛ لقوله تعالى : { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } [ النساء : 4 ] وإذا جاز لها أن تهب مهرها من غير أن تحصِّل لنفسها شيئاً بإزاء ما بذلت ، كان الخُلع الَّذِي تصير بسببه مالكة لنفسها أولى ، ويكون الاستثناء منقطعاً؛ كقوله : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً } [ النساء : 92 ] ، أي : لكن إن كان خطأً { وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ } [ النساء : 92 ] .
فصل
ظاهر الآية يدل على اشتراط حصول الخوف للرَّجل والمرأة ، فنقول : الأقسام الممكنة فيه أربعة :
إمَّا أن يكون الخوفُ من قبل المرأة فقط ، أو من قبل الزوج فقط ، أو لا يحصل الخوفُ من قبل واحدٍ منهما ، أو يكون الخوف من قبلهما معاً ، فإن حصل الخوفُ من قبل المرأةَ؛ بأن تَكُون المرأَةُ ناشزاً مُبْغِضةً للرَّجُلِ ، ففهنا يَحلُّ للزَّوج أخذُ المال منها؛ ويدُلُّ عليه ما رُوي في سبب نُزُول الآية : أن جميلة بنت عبدالله بن أبي أَوفَى تَزَوَّجها ثابت بن قيسٍ بن شماس ، وكانت تبعضُهُ أشدَّ البُغض ، وهو يحُبُّها أشدَّ الحُبِّ ، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقالت : فَرِّق بيني وبينه فإِنِّي أبغضه ، ولقد رفعت طرف الخباء فرأَيْتُه يجيءُ في أقوامٍ ، فكان أقصرهم قامةً وأقبحهم وجهاً وأشدَّهم سواداً ، وأنا أكره الكُفْر بعد الإِسلام . فقال ثابت : يا رسُول الله ، فلترُدَّ عليَّ الحديقة الَّتي أعطيتها؛ فقال لها : « مَا تَقُولِين؟ » قالت : نعم وأزيده فقال عليه الصلاة والسلام : « لا ، حديقته فقط » ثم قال لثابتٍ : « خذ مِنْها ما أَعْطَيْتَها وخلِّ سَبِيلَهَا » ففعل ، فكان أَوَّل خُلْعٍ في الإِسلام . وفي « سُنَنِ أَبِي دَاوُد » : أنّ المرأة كانت حفصة بنت سهلٍ الأنصاري .
فإن قيل : قد شرط في هذه الآيةِ خوفهُما معاً ، فكيف قُلْتُم : إنَّه يكفِي حُصُولُ الخوف منها فقط .
فالجواب : أنّ هذا الخوف - وإن كان أوّله من جهة المرأة - فقد يترَتَّب عليه الخوفُ الحاصلُ من جهة الزَّوج ، فإنها إذا كانت مبغض للزَّوج إذا لم تعطه ، فربَّما ضربها وشتمها ، وربَّمَا زاد على قدر الواجب ، فحصل الخَوْف لهما جميعاً؛ أمّا من جهتها فخوفها على نفسها من عصيان اللهِ ، وأمَّا من جهته ، فقد يزيد على قدرِ الواجب .
فأما أن يحصل الخوف من قبل الزَّوج فقط؛ بأن يضربها أو يُؤذِيها حتى تلتزم الفِدية ، فهذا المال حرامٌ؛ للآية المتقدِّمة .
وأما القِسْم الثالث : ألا يحصل الخوف من أحدٍ منهما ، فقد ذكرنا أنَّ أكثر المجتهدين قال بجواز الخلع ، والمالُ المأخوذ حلالٌ ، وقال قوم إنه حرامٌ .
وأما إن كان الخوفُ حاصلاً منهما ، فالمال حرامٌ أيضاً؛ لأن الآياتِ المتقدِّمة تدُلُّ على حُرمة أخذِ ذلك المَالِ ، إذا كان السَّبَبُ حاصِلاً من قِبَل الزَّوج ، وليس فيه تقييدٌ بأن يكون من جانب المرأة سبب أم لا؛ لأن الله - تعالى - أفرد بهذا القِسْم آية أخرى؛ وهي قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فابعثوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ } [ النساء : 35 ] ، ولم يذكر فيه أخذ المال ، وهذا التقسيم إنما هو فيما بين المكلَّفين وبين الله - تعالى - فأمَّا في الظَّاهر ، فهو جائزٌ .
فصل في قدر ما يجوز الخلع به
اختلفوا في قدر ما يجوز الخلع به :
فقال الشَّعبي والزُّهري والحسن البصري وعطاء وطاوس : لا يجوز أن يأخذ فوق ما أعطاها؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - لامرأة ثاتبٍ حين قالت له : نعم ، وأزيده ، قال : « لا ، حديقَتَهُ فَقَط » ، وهو قول عليٍّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - .
قال سعيد بن المُسيَّب : بل دون ما أَعطاها حتّى يكون الفضل .
وأما سائر الفقهاء فإنَّهُم جوَّزوا المخالغة بالأَزيد والأَقَلِّ والمُساوي .
فصل
قال قومٌ : الخُلع تطليقةٌ ، وهو قول علي ، وعثمان ، وابن مسعود ، والحسن والشَّعبي ، والنَّخعي ، وعطاء ، وابن السَّائب ، وشُريح ، ومجاهد ، ومكحول ، والزُّهري وهو قول أبي حنيفة وسُفيان وأحد قولي الشَّافعي وأحد الرِّوايتين عن أحمد .
والقول الثاني للشَّافعي ، وبه قال محمَّد وإسحاق وأبو ثور .
حجَّة القول الأَوَّل : أنه لو كان فسخاً ، لما صَحَّ الزِّيادة على المهر المُسَمَّى كالإِقالة في البيع ، ولأَنَّه لو كان فَسْخاً فإذا خالعها ولم يذكُر المهر ، وجب أن يجب عليها المهر؛ كالإقالةِ في البيع ، فإن الثَّمَن يجب رَدُّه وََإِنْ لم يَذْكُرْه . ولما لم يكن كذلك ، ثبت أن الخُلْعَ ليس بفسخٍ ، وإذا بطل ذلك ، ثبت أَنَّهُ طلاقٌ .
حجة القول الثَّاني : قوله تعالى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } [ البقرة : 230 ] ولو كان الخُلْعُ طلاقاً ، لكان الطَّلاَق أربعاً ، وهذا الاستدلال نقله الخطَّابي في « مَعَالم السُّنَن » عن ابن عبَّاسٍ ، وأيضاً أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أذن لثابت بن قيس في مُخالعة امرأته ، ولم يستكشف هل هي حائِضٌ أو في طُهْر جامعها فيه ، مع أنَّ الطَّلاق في هاتين الحالتين حرامٌ منهيٌّ عنه ، يجب أن يستكشف عنه ، فلما لم يستكشف بل أمره بالخلع مطلقاً ، دلَّ على أن الخُلْع ليس بطلاقٍ .
وأيضاً روى أبو داود في « سُنَنِ » عن عكرمة ، عن ابن عبَّاسٍ : أن امرأة ثابت بن قيس لما اخْتَلَعَت ، جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عِدَّتها حيضَة .
قال الخطَّابي : وهذا أدلُّ شيء على أن الخُلع فسخٌ وليس بطلاقٍ؛ لأن الله - تعالى - قال : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء } [ البقرة : 228 ] فلو كانت هذه طلقة ، لم يقتصر على قرءٍ واحدٍ .
قوله : { تِلْكَ حُدُودُ الله } مبتدأٌ وخبرٌ ، والمشارُ إليه جميعُ الآياتِ من قوله : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات } [ البقرة : 221 ] إلى هنا .
وقوله : { فَلاَ تَعْتَدُوهَا } أصلُه : تَعْتَدِيُوهَا ، فاسْتُثْقِلَت الضمَّةُ على الياءِ؛ فحُذِفت ، فسكنَتِ الياءُ وبعدَها واوُ الضميرِ ساكنةً ، فحُذِفت الياءُ؛ لالتقاءِ الساكنَينِ ، وضُمَّ ما قبلَ الواو؛ لتصِحَّ ، ووزنُ الكَلِمَة تَفْتَعُوها .
قال أبو العبَّاس المُقْرِي : ورد لفظ : « الاعْتِدَاء » في القُرآن بإزاء ثلاثة معانٍ :
الأول : الاعتِداء : تعدِّي المأمُورات والمنهيَّات؛ قال - تعالى - : { تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا } [ البقرة : 229 ] .
والثاني : « الاعتِدَاء » القتل؛ قال تعالى : { فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ البقرة : 178 ] أي : من قتل بعد قبُول التَّوْبة .
الثالث : « الاعْتِداء » الجزاء؛ قال - تعالى - : { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 194 ] أي : جاوزهُ .
فصل
قال القرطبي : إذا اختلعت منه بِرِضاع ابنها منه حولين جاز ، وفي الخُلْعِ بنفقتها على الابن بعد الحَوْلَيْن مُدَّة مَعْلُومة قولان :
أحدهما : يجوزُ؛ قاله سحنون .
والثاني : لا يجوزُ؛ رواه ابن القاسم عن مالك .
ولو اشترط على امرأته في الخُلْع نفقة حملِها ، وهي لا شيء لها ، فعليه النفقة إذا لم يَكُن لها مالٌ تنفق منه ، فإن أيسَرت بعد ذلك رجع عَلَيْها .
قال مالك : ومن الحقِّ أن يكلِّف الرَّجل نفقة ولده وإن اشترط على أمِّه نفقته إذا لم يكن لها ما تنفق عليه .
قوله : { وَمَن يَتَعَدَّ } « مَنْ » شرطيةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، وفي خبرها الخلاف المتقدِّم .
وقوله : { فأولئك } جوابها ، ولا جائزٌ أن تكون موصولةٌ ، والفاء زائدة في الخبر لظهور عملها الجزم فيما بعدها ، و « هُمُ » من قوله : { فأولئك هُمُ } يحتمل ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن يكون فصلاً .
والثاني : أن يكون بدلاً .
و { الظالمون } على هذين خبر « أُولَئِكَ » والإخبار بمفردٍ .
والثالث : أن يكون مبتدأً ثانياً ، و « الظالمون » خبره ، والجملة خبر « أُولَئِكَ » ، والإخبار على هذا بجملةٍ .
ولا يخفى ما في هذه الجملة من التأكيد؛ من حيث الإتيان باسم الإشارة للبعيد ، وتوسُّط الفصل والتعريف بالألف واللام في « الظالمون » أي : المبالغون في الظلم . وحمل أولاً على لفظ « مَنْ » ، فأفرد في قوله « يَتَعَدَّ » ، وعلى معناها ثانياً ، فجمع في قوله : { فأولئك هُمُ الظالمون } .
فصل
و { حُدُودُ الله } : أوامره ونواهيه ، وهي : ما منع الشرع من المجاوزة عنه ، وفي المراد من « الظُّلْمِ » هنا ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : اللَّعن لقوله تعالى : { أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } [ هود : 18 ] .
وثانيها : أنَّ إطلاق الظلم ] هنا تنبيهٌ على أن الإنسان ظلم نفسه؛ حيث أقدم على المعصية ، وظلم المرأة : بتقدير ألا تتمَّ عدَّة الرجل ، أو كتمت شيئاً ، ممَّا خلق الله في رحمها ، أو ترك الرجل الإمساك بالمعروف ، والتَّسريح بالإحسان ، أو أخذ شيئاً مما أتاها بغيرِ سببٍ من نشوزٍ ، فكل هذه المواضع تكون ظُلماً للغيرِ .

فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
أي : من بعد الطلاق الثالث ، فلمَّا قطعت « بعدُ » عن الإضافة بنيت على الضَّمِّ؛ لما تقدَّم تقريره . و « له » و « مِنْ بعد » ، و « حتى » ثلاثتها متعلقةٌ ب « يَحِلُّ » . ومعنى « مِنْ » : ابتداء الغاية ، واللام للتَّبليغ ، وحتَّى للتعليل ، كذا قال أبو حيَّان ، قال شهاب الدِّين : والظَّاهر أنها للغاية؛ لأنَّ المعنى على ذلك ، أي : يمتدُّ عدم التحليل له إلى أن تنكح زوجاً غيره ، فإذا طلَّقها وانقضت عدَّتها منه حلَّت للأول المطلِّق ثلاثاً ، ويدلُّ على هذا الحذف فحوى الكلام .
و « غيرَه » صفةٌ ل « زوجاً » ، وإن كان نكرةً ، لأنَّ « غَيْرَ » وأخواتِها لا تتعرَّف بالإضافة؛ لكونها في قوَّة اسم الفاعل العامل .
و « زَوْجاً » هل هو للتقييد أو للتوطئة؟ وينبني على ذلك فائدةٌ ، وهي أنه إن كان للتقييد : فلو كانت المرأة أمةً ، وطلَّقها زوجها ، ووطئها سيِّدها ، لم تحلَّ للأول؛ لأنه ليس بزوجٍ ، وإن كانت للتوطئة حلَّت؛ لأنَّ ذكر الزوج كالملغى ، كأنه قيل : حتى تنكح غيره ، وإنَّما أتى بلفظ « زَوْج » ؛ لأنه الغالبُ .
فإن قيل : ما الحكمة في إسناد النِّكاح إلى المرأة دون الرجل فقال { حتى تَنْكِحَ زَوْجاً } ؟
فالجواب : فيه فائدتان :
إحداهما : ليفيد أنَّ المقصود من هذا النكاح الوطء ، لا مجرَّد العقد؛ لأن المرأة لا تعقد عقد النكاح ، بخلاف الرجل؛ فإنه يطلِّق عند العقد .
الثانية : لأنَّه أفصح ، لكونه أوجز .
فإن قيل : فقد أُسند النِّكاح إلى المرأة في قوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ » وإنما أراد العقد .
فالجواب : أن هذا يدلُّ لنا؛ لأنَّ جَعْلَ إسناد النكاح إلى المرأة ، والمراد به العقد ، يكون باطلاً ، وكلامنا في إسناد النِّكاح الصَّحيح .
قال أهل اللُّغة : النكاح في اللغة : هو الضَّمُّ والجمع ، يقال : تَنَاكَحَتِ الأشْجَارُ ، إذا انضم بعضها إلى بعضٍ .
فصل
الذين قالوا : بأن التسريح بالإحسان هو الطَّلقة الثالثة ، قالوا : إنَّ قوله : { فَإِنْ طَلَّقَهَا } تفسيرٌ للتسريح بالإحسان .
واعلم أن للزَّوج مع المرأة بعد الطلقة الثانية ثلاثة أحوالٍ :
إمَّا أن يراجعها ، وهو المراد بقوله : « فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ » .
أو يتركها؛ حتى تنقضي عدَّتها وتبين ، وهو المراد بقوله : « أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ » .
والثالث : أنه إذا راجعها ، وطلَّقها ثالثةً؛ وهو المراد بقوله : { فَإِنْ طَلَّقَهَا } .
فهذه الأقسام الثلاثة؛ يجب تنزيل الألفاظ الثلاثة عليها؛ ليطابق كلُّ لفظٍ معناه ، فأمَّا إن جعلنا التَّسريح بالإحسان ، عبارةٌ عن الطَّلقة الثَّالثة ، كنَّا قد صرفنا لفظتين إلى معنى واحدٍ؛ على سبيل التِّكرار ، وأهملنا القسم الثالث ، ومعلومٌ أنَّ الأوَّل أولى ، ووقوع الخلع بين هاتين الآيتين ، كالأجنبي ، ونظم الآية : « الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ، فإن طلَّقها فلا تحل له من بعد حتَّى تنكح زوجاً غيره » .
فإن قيل : إذا كان النَّظم الصَّحيح هو هذا ، فما السبب في إيقاع الخلع فيما بين هاتين الآيتين؟
فالجواب : أنَّ الرجعة والخلع لا يصحَّان؛ إلاَّ قبل الطَّلقة الثالثة ، وأمَّا بعدها ، فلا يصحُّ شيءٌ من ذلك ، فلهذا السَّبب ذكر الله حكم الرجعة ، ثم أتبعه بذكر الخلع ، ثم ذكر بعد الكلِّ حكم الطَّلقة الثالثة؛ لأنها كالخاتمة .
فصل في شروط حل المطلقة ثلاثاً لزوجها
مذهب الجمهور : أنَّ المطلقة ثلاثاً لا تحلُّ لزوجها؛ إلاَّ بشرُوطٍ وهي :
أن تعتدَّ منه ، وتتزوَّج بغيره ، ويطأها ثم يطلِّقها ، وتعتدَّ من الآخر .
وقال سعيد بن جبيرٍ ، وسعيد بن المسيِّب : تحلُّ بمجرد العقد .
واختلف العلماء في ثبوت اشتراط الوطء؛ هل ثبت بالكتاب ، أو بالسنة؟ قال أبو مسلمٍ الأصفهانيُّ : الأمران معلومان بالكتاب .
قال ابن جنّي : سألت أبا عليٍّ عن قولهم : نكح المرأة ، فقال : فرَّقت العرب بالاستعمال ، فإذا قالوا : نكح امرأته ، أو زوجته ، أراد المجامعة ، وعلى هذا فالزَّوجية مقدَّمةٌ على النكاح ، الذي هو الوطء ، وإذا كان كذلك فقوله : { تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } ، أي : تتزوَّج بزوجٍ ، وينكحها ، أي : يجامعها .
وروي في سبب النزول أنَّ الآية نزلت في تميمة ، وقيل : عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك النضري كانت تحت ابن عمِّها ، رفاعة بن وهب بن عتيك القرظيّ ، فطلقها ثلاثاً ، قالت عائشة : جاءت امرأة رفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني كنت عند رفاعة ، فطلقني فبت طلاقي ، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ، وإنَّما معه مثل هدبة الثوب ، وإنه طلَّقني قبل أن يمسَّني؛ أفأرجع إلى ابن عمِّي؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : « أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلى رِفَاعَةَ؟ لاَ؛ حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ » والمراد ب « العُسَيْلَة » : الجماع ، فروي أنها لبثت ما شاء الله ، ثم رجعت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إن زَوْجِي قد مَسَّنِي ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : « كَذَبْتِ فِي قَوْلِكِ الأَوَّلِ ، فَلَنْ أُصَدِّقَكِ في الآخرِ » ، فلبثت حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتت أبا بكرٍ ، فقالت : يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أرجع إلى زوجيَ الأول؛ فإن زوجي الآخر قد مسني؟ فقال لها أبو بكر : قد شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتيته ، وقال لك ما قال؛ فلا ترجعي إليه ، فلما قبض أبو بكرٍ ، أتت عمر ، وقالت له مثل ذلك ، فقال : « لئن رجعت إليه لأَرْجُمنَّكِ » .
ولأن المقصود من توقيف الحل على اشتراط الوطء هو زجر الزوج ، وإنَّما يحصل بتوقيف الحل على اشتراط الوطء ، فأما مجرد العقد ، فليس فيه نفرةٌ ، فلا يصلح جعله زاجراً .
فصل
قال بعض العلماء : إذا طلق زوجته ، واحدةً أو اثنتين ثم نكحت زوجاً آخر ، فأصابها ، ثم عادت إلى الأول بنكاح جديد ، عادت على ما بقي من طلاقها .
وقال أبو حنيفة : بل يملك عليها ثلاثاً ، كما لو نكحت زوجاً بعد الثلاث .
فصل هل يلحق المختلعة الطلاق
قال القرطبيُّ : استدلَّ بعض الحنفية بهذه الآية ، على أنَّ المختلعة يحلقها الطلاق؛ لأنَّ الله شرع صريح الطلاق بعد المفاداة ، لأن « الفَاءَ » حرف تعقيبٍ ، فيبعد أن يرجع إلى قوله : « الطَّلاقُ مرَّتَانِ » ؛ لأنَّ الأقرب عوده إلى ما يليه ، كالاستثناء .
فصل
لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المُحَلِّلَ والمُحَلَّلَ لَهُ .
قال القرطبيُّ : ومدار التحليل على الزوج سواء شرط التحليل ، أو نواه ، فمتى كان ذلك فسد نكاحه .
فصل
قال القرطبيُّ : وطءُ السيِّد لأمته التي طلقها زوجها ، لا يحلّها؛ إذ ليس بزوجٍ وكذلك النكاح الفاسد .
فصل
قال القرطبيُّ : سئل سعيد بن المسيَّب ، وسليمان بن يسار ، عن رجل زوَّج عبداً له ، جاريةً له ، فطلَّقها العبد البتَّة ، ثم وهبها سيِّدها له ، هل تحل له بملك اليمين؟
فقالا : لا تَحِلُّ له ، حتى تَنْكِحَ زوجاً غيره .
فصل
سئل ابن شهاب ، عن رجلٍ كانت تحته أَمةٌ مملوكةٌ فاشتراها ، وقد كان طلقها واحدةً؛ فقال : تحل له بملك يمينه ، ما لم يبت طلاقها ، فإن بتَّ طلاقها ، فقال : لا تحلُّ له ، حتى تنكح زوجاً غيره .
فإن قيل : إذا طلَّق المسلم الذمية ثلاثاً؛ فتزوجت بعده ذمياً ، ودخل بها ، حلت للأول؛ لأن الذِّمي زوجٌ .
قوله تعالى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا } الضمير المرفوع عائدٌ على « زوجاً » النكرة ، أي : فإن طلَّقها ذلك الزوج الثاني ، وأتى بلفظ « إِنْ » الشرطية دون « إذا » ؛ تنبيهاً على أنَّ طلاقه يجب أن يكون باختياره ، من غير أن يشترط عليه ذلك؛ لأنَّ « إذا » للمحقق وقوعه و « إِنْ » للمبهم وقوعه ، أو المتحقِّق وقوعه المبهم زمان وقوعه؛ نحو قوله تعالى : { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون } [ الأنبياء : 34 ] .
قوله : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ } الضمير في « عليهما » يجوز أن يعود على المرأة ، والزوج الأول المطلَّق ثلاثاً ، أي : فإن طلَّقها الثاني ، وانقضت عدَّتها منه ، فلا جناح على الزوج المطلِّق ثلاثاً ، ولا عليها؛ أن يتراجعا .
وهذا يؤيد قول من قال : إن الرجل إذا طلق زوجته طلقةً أو طلقتين ، فتزوجت غيره ، وأصابها ، ثم عادت إلى الأول بنكاح جديدٍ ، أنَّها تعود على ما بقي من طلاقها؛ لأنه سمَّى هذا العود بعد الطلاق الثلاث رجعةً ، فبعد طلقةٍ وطلقتين أولى بهذا الاسم ، وإذا ثبت هذا الاسم ، كان رجعةً ، والرجعية تعود على ما بقي من طلاقها . ويجوز أن يعود عليها ، وعلى الزوج الثاني ، أي : فلا جناح على المرأة ولا على الزوج الثاني ، أن يتراجعا ما دامت عدَّتها باقيةً ، وعلى هذا فلا يحتاج إلى حذف تلك الجملة المقدَّرة ، وهي « وانْقَضَتْ عِدَّتُها » ، وتكون الآية قد أفادت حكمين ، أحدهما : أنها لا تحلُّ للأول؛ إلاَّ بعد أن تتزوج بغيره ، والثاني : أنه يجوز أن يراجعها الثاني ، ما دامت عدَّتها منه باقيةً ، ويكون ذلك دفعاً لوهم من يتوهَّمُ أنها إذا نكحت غير الأول حلَّت للأول فقط ، ولم يكن للثاني عيها رجعةٌ .
وهو الذي عوَّل عليه سعيد بن المسيَّب في أنَّ التحليل يحصل بمجرد العقد؛ لأن الوطء لو كان معتبراً ، لكانت العدة واجبةً ، وهذه الآية تدل على سقوط العدَّة؛ لأن « الفَاءَ » في قوله : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ } يدلُّ على أنَّ حل المراجعة حاصل عقيب طلاق الزوج الثاني ، إلاَّ أنه يجاب بأنَّ هذا المخصوص بقوله تعالى : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء } [ البقرة : 228 ] .
قوله : { أَن يَتَرَاجَعَآ } ، أي : « في أَنْ » ، ففي محلِّها القولان المشهوران : قال الفراء : موضعهما نصبٌ بنزع الخافض ، وقال الكسائي ، والخليل : موضعهما خفضٌ بإضمار ، و « عليهما » خبر « لا » ، و « في أن » متعلِّقٌ بالاستقرار ، وقد تقدَّم أنه لا يجوز أن يكون « عليهما » متعلقاً ب « جُناح » ، والجارُّ الخبر ، لما يلزم من تنوين اسم « لا » ؛ لأنه حينئذٍ يكون مطوَّلاً .
قوله : { إِن ظَنَّآ } شرطٌ جوابه محذوفٌ عند سيبويه لدلالة ما قبله عليه ، ومتقدِّم عند الكوفيين وأبي زيد . والظَّنُّ هنا على بابه من ترجيح أحد الجانبين ، وهو مقوِّ أن الخوف المتقدِّم بمعنى الظَّنِّ . وزعم أبو عبيدة وغيره أنه بمعنى اليقين ، وضعَّف هذا القول الزمخشري لوجهين ، أحدهما من جهة اللفظ وهو أنَّ « أَنْ » الناصبة لا يعمل فيها يقينٌ ، وإنما ذلك للمشدَّدة والمخففة منها ، لا تقول : علمت أنَّ يقوم زيدٌ ، إنما تقول : علمت أنْ يقوم زيدٌ . والثاني من جهة المعنى : فإنَّ الإنسان لا يتيقَّن ما في الغد وإنما يظنُّه ظناً .
قال أبو حيان : أمَّا ما ذكره من أنه لا يقال : « علمت أنَّ يقومَ زيد » فقد ذكره غيره مثل الفارسي وغيره ، إلاَّ أن سيبويه أجاز : « ما علْتُ إلا أن يقومَ زيدٌ » فظاهرُ هذا الردُّ على الفارسي . قال بعضهم الجمع بينهما أنَّ « عَلِمَ » قد يراد بها الظَّنُّ القويُّ كقوله : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } [ الممتحنة : 10 ] ، وقوله : [ الوافر ]
1113- وَأَعْلَمُ عِلْمَ حَقٍّ غَيْرَ ظَنِّ ... وتَقْوَى اللهِ مِنْ خَيْرِ العَتَادِ
فقوله : « علمَ حق » يفهم منه أنه قد يكون علم غير حق ، وكذا قوله « غيرِ ظَنٍّ » يفهم منه أنه قد يكون علمٌ بمعنى الظن . وممَّا يدلُّ على أنَّ « عَلِمَ » التي بمعنى « ظَنَّ » تعمل في « أَنْ » الناصبة ، فليس بوهم من طريق اللفظ كما ذكره الزمخشري .
وأمَّا قوله : « لأنَّ الإنسانَ لا يعلمُ ما في الغدِ » فليسَ كما ذكر ، بل الإنسان يعلم أشياء كثيرةً واقعةً في الغد ويجزم بها « قال شهاب الدين : وهذا الردُّ من الشيخ عجيبٌ جداً ، كيف يقال في الآية : إنَّ الظن بمعنى اليقين ، ثم يجعل اليقين بمعنى الظن المسوغ لعلمه في » أَنْ « الناصبة . وقوله : » لأنَّ الإنسانَ قد يَجْزِمُ بأشياءَ في الغد « مُسَلَّمٌ ، لكن ليس هذا منها .
وقوله : { أَن يُقِيمَا } إمَّا سادٌّ مسدَّ المفعولين ، أو الأول والثاني محذوفٌ ، على حسب المذهبين المتقدمين .
فصل
كلمة » إن « في اللغة للشرط ، والمعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط؛ فظاهر الآية يقتضي : أنه متى لم يحصل هذا الظن لم يحصل جواز المراجعة وليس الأمر كذلك؛ فإنَّ جواز المراجعة ثابتٌ ، سواءٌ حصل هذا الظنُّ ، أو لم يحصل ، إلاَّ أنا نقول : ليس المراد أنَّ هذا شرطٌ لصحة المراجعة؛ بل المراد منه أنه يلزمهم عند المراجعة بالنِّكاح الجديد رعاية حقوق الله تعالى ، وقصد الإقامة لحدود الله .
قال طاوسٌ : إن ظنَّ كلٌّ واحدٍ منهما ، أنه يحسن عشرة صاحبه .
وقيل : حدود الله : فرائضه ، أي إذا علما أنه يكون منهما الصلاح بالنكاح الثاني .
فمتى علم الزوج أنه يعجز بنفقة زوجته ، أو صداقها ، أو شيءٍ من حقوقها الواجبة عليه؛ فلا يحلُّ له أن يتزوجها؛ حتى يبيِّن لها . وكذلك لو كانت تعلم أنها تمنعه من الاستمتاع ، كان عليها أن تبين .
وكذلك لا يجوز له أن يغرَّها بنسبٍ يدعيه ، ولا مال له ، ولا صناعة يذكرها ، وهو كاذبٌ ، وكذلك لو كان بها علةٌ ، تمنع من الاستمتاع من جنونٍ ، أو جذامٍ ، أو بَرَصٍ ، أو داءٍ في الفرج؛ لم يجز لها أن تغرَّه ، وعليها أن تبيِّن له ما بها ، كما يجب على بائع السِّلعة . وكان النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام - تزوج امرأة ، فوجد بكشحها برصاً؛ فردَّها ، وقال : » دَلَّسْتُمْ عَلَيَّ « .
فصل هل على الزوجة خدمة الزوج؟
نقل القرطبيُّ عن ابن خويزمنداد قال : اختلف أصحابنا : هل على الزوجة خدمة الزوج؟
فقال بعضهم : ليس عليها خدمته؛ لأن العقد إنما يتناول الاستمتاع ، لا الخدمة؛ قال تعالى : { فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً } [ النساء : 34 ] .
وقال بعضهم : عليها خدمة مثلها؛ فإن كانت شريفة المحلِّ ، فعليها التدبير للمنزل ، وإن كانت متوسطة الحال ، فعليها أن تفرش الفراش ، ونحو ذلك ، وإن كانت دون ذلك ، فعليها أن تَقُمَّ البيت ، وتطبخ ، وتغسل ، وإن كانت من نساء الكرد ، والدّيلم والجبل في بلدهن كلِّفت ما تكلف نساؤهم المسلمين من ذلك؛ قال تعالى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف } [ البقرة : 228 ] .
قوله : { وَتِلْكَ حُدُودُ الله يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } » تلكَ « إشارةٌ إلى ما بينهما من التَّكاليف .
« يُبَيِّنُهَا » في هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنها في محلِّ رفعٍ ، خبراً بعد خبرٍ ، عند من يرى ذلك .
والثاني : أنها في محلِّ نصب على الحال ، وصاحبها « حدود الله » والعامل فيها اسم الإشارة .
وقرئ : « نبيِّنها » بالنون ، ويروى عن عاصمٍ ، على الالتفات من الغيبة إلى التكلم؛ للتعظيم .
فإن قيل : « تلك » إشارةٌ إلى ما بيَّنه من التكاليف؛ وقوله : « نُبَيِّنُهَا » إشارة إلى الاستقبال ، والجمع بينهما متناقضَ!
فالجواب : أنَّ هذه النصوص التي تقدمت أكثرها عامةٌ ، لا يتطرق إليها تخصيصاتٌ كثيرة ، وأكثر تلك المخصِّصات إنَّما عرفت بالسُّنَّة ، فكأنه قال : إن هذه الأحكام التي تقدمت ، هي حدود الله ، وسيبينها الله تعالى كمال البنيان ، على لسان النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام - وهو كقوله تعالى : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [ النحل : 44 ] .
وقيل : { وَتِلْكَ حُدُودُ الله } يعني : ما تقدَّم ذكره من الأحكام يبيِّنها الله لمن يعلم أن الله أنزل الكتاب ، وبعث الرسل؛ ليعلموا بأوامره ، وينتهوا عن نواهيه .
و « لقوم » متعلِّقٌ ب « يُبَيِّنُهَا » ، و « يعلمون » في محل خَفْض صفةً ل « قوم » ، وخص العلماء بالذكر؛ لأنَّهم هم المنتفعون بالبيان دون غيرهم ، وقيل : خصَّهم بالذّكر لقوله : { وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال } [ البقرة : 98 ] وقيل : عنى به العرب؛ لعلمهم باللسان .
وقيل : أراد من له علمٌ ، وعقلٌ؛ كقوله : { وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون } [ العنكبوت : 43 ] والمقصود أنه لا يكلف إلاَّ عاقلاً ، عالماً بما يكلِّف .

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
قوله تعالى : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ } : شرطٌ ، جوابه { فَأَمْسِكُوهُنَّ } ، وقوله : { فَبَلَغْنَ } عطفٌ على فعل الشرط ، والبلوغ : الوصول إلى الشيء : بلغه يبلغه بلوغاً؛ قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
1115- وَمَجْرٍ كَغُلاَّنِ الأُنَيْعِمِ بالِغٍ ... دِيَارَ العَدُوِّ ذِي زُهَاءٍ وَأَرْكَانِ
ومنه : البلغة ، والبلاغ : اسم لما يتبلَّغ به .
قوله تعالى : « بمعروفٍ » في محلِّ نصبٍ على الحال ، وصاحبها : إمَّا الفاعل أي : مصاحبين للمعروف ، أو المفعول ، أي : مصاحباتٍ للمعروف .
قوله : { ضِرَاراً } فيه وجهان :
أظهرهما : أنه مفعول من أجله ، أي : لأجل الضِّرار .
والثاني : أنه مصدرٌ في موضع الحال ، أي : حال كونكم مضارِّين لهنَّ .
قوله : { لِّتَعْتَدُواْ } هذه لام العلّة ، أي : لا تضارُّوهنَّ على قصد الاعتداء عليهن ، فحينئذٍ تصيرون عصاةً لله تعالى ، وتكونوا معتدين؛ لقصدكم تلك المعصية .
وأجاز أبو البقاء : أن تكون لام العاقبة ، أي : الصيرورة ، كقوله : { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] ، وفي متعلقها وجهان :
أحدهما : أنه { لاَ تُمْسِكُوهُنَّ } .
والثاني : أنه المصدرُ ، إنْ قلنا : إنه حالٌ ، وإنْ قُلْنَا : إنه مفعولٌ من أجله ، تعلَّقت به فقط؛ وتكون علةً للعلة؛ كما تقول : « ضربتُ ابني؛ تأديباً؛ لينتفع » ، فالتأديب علةٌ للضرب ، والانتفاع علةٌ للتأديب ، ولا يجوز أن تتعلَّق - والحالة هذه - ب « لا تُمْسِكُوهُنَّ » .
و « تَعْتَدُوا » منصوبٌ بإضمار « أنْ » وهي وما بعدها في محلِّ جر بهذه اللام ، كما تقدَّم تقريره ، وأصل « تَعْتَدُوا » : تَعْتَدِيُوا ، فأُعِلَّ كنظائره .
قوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ } أدغم أبو الحارث ، عن الكسائي ، اللام في الذال ، إذا كان الفعل مجزوماً كهذه الآية ، وهي في سبعة مواضع في القرآن : { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 331 ] في موضعين ، { وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ } [ آل عمران : 28 ] ، { وَمَن يَفْعَلْ ذلك عُدْوَاناً وَظُلْماً } [ النساء : 30 ] ، { وَمَن يَفْعَلْ ذلك ابتغآء مَرْضَاتِ الله } [ النساء : 114 ] ، { وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً } [ الفرقان : 68 ] ، { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فأولئك هُمُ الخاسرون } [ المنافقون : 9 ] . وجاز لتقارب مخرجيهما ، واشتراكهما في : الانفتاح ، والاستفال ، والجهر .
وتحرَّز من غير المجزوم نحو : يفعل ذلك . وقد طعن قومٌ على هذه الرواية ، فقالوا : لا تصحُّ عن الكسائي؛ لأنها تخالف أصوله ، وهذا غير صواب .
فصل في سبب النزول
هذه الآية نزلت في رجلٍ من الأنصار يدعى : ثابت بن يسارٍ ، طلّق امرأته ، حتى إذا قارب انقضاء عدّتها ، راجعها ، ثمَّ طلَّقها؛ يقصد مضارَّتها .
فإن قيل : ذكر هذه الآية بعد قوله : { الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } [ البقرة : 229 ] تكريرٌ لكلامٍ واحدٍ ، في موضوعٍ واحدٍ ، من غير زيادة فائدةٍ ، وهو لا يجوز؟!
فالجواب : أمَّا على قول أصحاب أبي حنيفة ، فالسؤال ساقطٌ عنهم؛ لأنهم حملوا قوله تعالى : { الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } [ البقرة : 229 ] على أن الجمع بين الطلقات غير مشروعٍ ، وإنَّما المشروع هو التفريق ، فإن تلك الآية في بيان كيفية الجمع والتفريق ، وهذه في بيان كيفية المراجعة .
وأمَّا على قول أصحاب الشافعي ، الذين حملوا تلك الآية على كيفية المراجعة ، فلهم أن يقولوا : إنَّ من ذكر حكماً يتناول صوراً كثيرة وكان إثبات ذلك الحكم في بعض تلك الصور أهمَّ ، أن يعيد بعد ذلك الحكم العامِّ تلك الصورة الخاصَّة مرَّةً أخرى؛ ليدلَّ ذلك التكرير على أن في تلك الصورة من الاهتمام ، ما ليس في غيرها ، وها هنا كذلك؛ لأن قوله : { الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } [ البقرة : 229 ] فيه بيان أنه لا بدَّ في مدّضة العدَّة من أحد هذين الأمرين ، ومن المعلوم أنَّ رعاية أحد هذين الأمرين عند مشارفة زوال العدة ، أولى بالوجوب من سائر الأوقات التي قبله؛ لأن أعظم أنواع الإيذاء ، أن يطلقها ، ثم يراجعها مرتين عند آخر الأجل؛ حتى تبقى في العدة تسعة أشهرٍ ، فلمَّا كان هذا أعظم أنواع المضارة ، حسن إعادة حكم هذه الصورة ، تنبيهاً على أنّض هذه الصورة أعظم اشتمالاً على المضارة ، وأولى بأن يحترز المكلف عنها .
فصل في معنى الإمساك بالمعروف
قال القرطبيُّ : الإمساك بالمعروف ، هو القيام بما يجب لها من حقٍّ على زوجها؛ وكذلك قال جماعةٌ من العلماء : إنَّ من الإمساك بالمعروف أنَّ الزوج إذا لم يجد ما ينفق على الزوجة ، أن يطلقها ، فإن لم يفعل خرج عن حدِّ المعروف ، فيطلِّق عليه الحاكم من أجل الضرر اللاَّحق بها؛ لأن في بقائها عند من لا يقدر على نفقتها ، ضرراً ، والجوع لا يصبر أحدٌ عليه ، وبهذا قال مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيدة ، وأبو ثور ، وعبدالرحمن بن مهدي ، وهو قول عمر ، وعلي ، وأبي هريرة .
وقال سعيد بن المسيَّب : إنَّ ذلك سنةٌ ، ورواه أبو هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقالت طائفةٌ : لا يفرٌَّ بينهما ، ويلزمها الصبر عليه ، وتتعلّق النفقة بذمَّته ، بحكم الحاكم؛ لقوله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } [ البقرة : 280 ] .
وحجّة الأوَّلين الآية ، وقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « تقول المرأة إمَّا أَنْ تُطْعِمني وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي » رواه البخاري في « صحيحه » .
فصل
قوله : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } إشارةٌ إلى المراجعة ، واختلف العلماء في كيفيتها؛ فقال الشَّافعيُّ : لما لم يكن النكاح والطلاق إلاَّ بكلامٍ ، لم تكن الرجعة - أيضاً - إلاَّ بكلامٍ .
وقال أبو حنيفة ، والثوري ، وأحمد : تصحُّ بالوطء .
حجة الشافعي : أنَّ ابن عمر طلَّق زوجته ، وهي حائض؛ فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : « مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا » فأمره - عليه الصَّلاة والسَّلام - بالمراجعة في تلك الحال . والوطء في زمن الحيض لا يجوز . وقد يجاب عن هذا؛ بأنَّنا لم نخصَّ الرجعة في الوطء ، بل قد يكون في صورةٍ بالوطءِ ، وفي صورة بالقول .
وحجَّة أبي حنيفة ، قوله تعالى : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أمرٌ بمجرد الإمساك ، والوطء إمساكٌ ، فوجب أن يكون كافياً .
فإن قيل : إنه تعالى أثبت حقَّ المراجعة عند بلوغ الأجل ، وبلوغ الأجل وهو عبارةٌ عن انقضاء العدَّة ، لا يثبت حقَّ المراجعة .
فالجواب من وجهين :
الأول : أنَّ المراد مشارفة البلوغ لا نفس البلوغ؛ كقول الرجل إذا قارب البلد : « قد بلغنا » ، وقول الرجل لصاحبه : « إذا بلغتَ مكَّةَ ، فاغْتَسلْ بِذِي طُوى » يريد مشارفة البلوغ ، لا نفس البلوغ ، وهو من باب مجاز إطلاق اسم الكلِّ على الأَكْثر .
الثاني : الأَجَل اسمٌ للزمان ، فنحمله على الزمان الذي هو آخر زمانٍ يمكن إيقاع الرجعة فيه ، بحيث إذا مات ، لا يبقى بعده إمكان الرجعة على هذا ، فلا حاجة إلى المجاز
فإن قيل : لا فرق بين قوله : « أَمسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ » ، وبين قوله : { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً } ؛ لأن الأمر بالشيء نهيٌ عن ضدِّه ، فما فائدة التكرار؟
فالجواب : الأمر لا يفيد إلاَّ مرةً واحدةً؛ فلا يتناول كلَّ الأوقات؛ أمَّا النهيُ فإنه يتناول كلَّ الأوقات ، فلعلَّه يمسكها بالمعروف في الحال ، ولكن في قلبه أن يضارَّها في الزمان المستقبل ، فلما قال : { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً } انْدَفَعَتْ الشبهات ، وزالت الاحتمالات .
فصل في بيان معنى الضرار
و « الضرار » : هو المضارَّةُ؛ قال تعالى : { والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً } [ التوبة : 107 ] ، ومعناه راجعٌ إلى إثارة العداوة ، وإزالة الألفة ، وإيقاع الوحشة؛ وذكر المفسرون فيه وجوهاً :
أحدها : ما تقدَّم في سَببِ نُزولِ الآيةِ من تطويلِ العِدَّةِ تسعة أشْهُرٍ ، فأكثر .
ثانيها : « الضرارُ » سوء العشرة .
وثالثها : تضييق النفقة ، وكانوا يفعلون في الجاهلية أكثر هذه الأعمال؛ لكي تختلع المرأة عنه بمالها .
قوله تعالى : { فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } فيه وجوه :
أحدها : ظلم نفسه؛ بتعريضها للعذاب .
وثانيها : ظلم نفسه؛ بأن فوَّت عليها منافع الدنيا والدِّين :
أمَّا منافع الدنيا : فإنَّه إذا اشتهر بين الناس بهذه المعاملة القبيحة فلا يرغب أحدٌ في تزويجه ، ولا معاملته .
وأما منافع الدِّين فتضييعه للثواب الحاصل على حسن عشرة الأهل ، والثواب على الانقياد لأحكام الله تعالى .
قوله : { وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً } فيه وجوه :
أحدها : أنَّ من أمر بشيء ، فلم يفعله بعد أن نصَّب نفسه منصب الطائعين ، يقال : إنه استهزأ بذلك الأمر ولعب به؛ فعلى هذا يكون المراد أنَّ من وصلت إليه هذه التكاليف المتقدمة من العدَّة ، والرَّجعة ، والخلع ، وترك المضارَّة ، ويسأم لأدائها يكون كالمستهزئ بها ، وهذا تهديدٌ عظيمٌ للعصاة من أهل الصلاة ، وغيرهم .
وثانيها : ولا تتسامحوا في تكاليف الله تعالى ، ولا تتهاونوا بها .
وثالثها : قال أبو الدَّرداء : كان الرجل يطلِّق في الجاهلية ، ويقول : « طَلَّقْتُ ، وَأَنَا لاَعِبٌ » ويعتق ، وينكح ، ويقول مثل ذلك؛ فنزلت هذه الآية ، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : « مَنْ طَلَّقَ ، أَوْ حَرَّرَ ، أَوْ نَكَحَ ، فَزَعَمَ أَنَّهُ لاَعِبٌ فَهو جدٌّ » .
وروى أبو هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ثَلاَثٌ جَدُّهُنَّ جدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جدٌّ؛ الطَّلاَقُ وَالنِّكَاحُ وَالعتَاقُ » .
ورابعها : قال عطاءٌ : معناه أنَّ المستغفِر من الذنبِ إذا كان مُصرّاً عليه ، أو على غيره ، كان مُسْتهزئاً بآيات الله تعالى .
وقال مالكٌ في « الموطأ » : بلغنا أَنَّ رجُلاً قال لابن عبَّاسٍ : إني طلقتُ امرأَتي مائةَ مَرَّةٍ ، فماذا ترى؟ فقال ابنُ عبَّاسٍ : طُلِّقَتْ منك بثلاثٍ؛ وسَبْعٌ وتسعون اخذت آياتِ الله هُزُواً .
والأَقربُ هو الأَوَّلُ؛ لأنه تهديد بعد ذكرِ تكاليفَ ، فيكون تهدِيداً عليها ، لا على غيرها . ولمَّا رَغَّبهم في أداءِ التكاليف بالتهديد ، رغبهم - أيضاً - بذكر نعمِهِ عليهم في الدنيا والدين ، فقال : « واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُم » أي : بالإسلام ، وبيان الأَحكام . ويجوز في « عليكم » وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق بنفسِ « المنعة » ، إن أريدَ بها الإِنعامُ؛ لأنها اسمُ مصدرٍ؛ كنباتٍ من أَنْبَتَ ، ولا تمنع تاءُ التأنيث من عملِ هذا المصدرِ؛ لأنه مبنيٌّ عليها كقوله : [ الطويل ]
1116- فَلَوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ مِنْكَ وَرَهْبَةٌ ... عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا كَالْمَوَارِدِ
فأعملَ « رهبةٌ » في « عِقَابَكَ » ، وإنما المحذُورُ أن يعمل المصدرُ الذي لاَ يُبنَى عليها ، نحو : ضربٌ وضَرْبَةٌ ، ولذلك اعتذر الناس عن قوله : [ الطويل ]
1117- يُحايي بِهِ الْجَلْدُ الَّذِي هُوَ حَازِمٌ ... بِضَربَةِ كَفَّيْهِ الْمَلاَ وَهْوَ رَاكِبُ
بأنَّ المَلاَ ، وهو السرابُ ، منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ لا بضربةٍ .
والثاني : أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ ، على أنه حالٌ من « نِعْمَة » إنْ أريد بها المُنْعَمُ به ، فعلى الأول تكون الجلالةُ في محلِّ رفعٍ ، لأنَّ المصدرَ رافعٌ لها تقديراً؛ إذ هي فاعلةٌ به ، وعلى الثاني في محلِّ جرٍّ لفظاً وتقديراً .
قوله : { وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ } يجوزُ في « ما » وجهان :
أحدهما : أن تكونَ في محلِّ نصب؛ عطفاً على « نعمة » ، أي : اذكروا نعمتَه والمُنَزَّل عليكم ، فعلى هذا يكون في قوله : « يَعِظُكُم » حالاً ، وفي صاحبها ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه الفاعلُ : في « أنزل » وهو اسمُ الله تعالى ، أي : أنزله واعظاً به لكم .
والثاني : أنه « ما » الموصولةُ ، والعاملُ في الحالِ : اذكروا .
والثالث : أنه العائد على « ما » المحذوفُ ، أي : وما أنزلهُ موعوظاً به ، فالعاملُ في الحالِ على هذا القولِ وعلى القولِ الأولِ « أَنْزَلَ » .
والثاني : من وَجْهي « ما » : أَنْ تكونَ في محلِّ رفع بالابتداء ، ويكونَ « يَعِظُكُم » على هذا في محل رفعٍ؛ خبراً لهذا المبتدإِ ، أي : والمُنَزَّلُ عليكم موعوظٌ به . وأولُ الوَجْهَيْنِ أقوى وأحسنُ .
قوله : { عَلَيْكُمْ } متعلِّقٌ ب « أَنْزَلَ » و « من الكتابِ » متعلِّقٌ بمحذوفٍ ، لأنه حالٌ ، وفي صاحبِهِ وجهان :
أحدهما : أنه « ما » الموصولةُ .
والثاني : أنه عائدُها المحذوفُ ، إذ التقديرُ : أنزله في حالِ كونِهِ من الكتابِ .
و « مِنْ » يجوز أن تكونَ تَبْعِيضِيةٌ ، وأَنْ تكونَ لبيانِ الجنسِ عند مَنْ يرى ذلك .
والضمير في « به » يعودُ على « ما » الموصولةِ « .
والمرادُ من » الكِتابِ « : القرآنُ ، ومن » الحِكْمَةِ « : » السُّنَّةُ « . يَعظُكُمْ بِهِ أي : يخوفكم به ، ثم قال : { واتقوا الله } أي : في أَوَامرِه ، ولا تُخالِفُوه في نواهيه ، { واعلموا أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
الكلامُ في صدرِ هذه الآية كالتي قبلها ، إلاَّ أنَّ الخِطابَ في : « طَلَّقتم » للأزواجِ ، وفي : « فَلاَ تعضُلُوهُنَّ » للأولياء؛ لأنه يروَى في سبب نُزُولِ هذه الآيةِ وجهان :
الأول : أَنَّ معقل بن يسار زوَّج أخته جميل بن عبدالله بن عاصمٍ ، وقيل : كانت تحت أبي الدَّحْدَاحِ عاصم بن عدي بن عجلان فطلقها ، ثم تركها حتى انقضَتْ عدَّتها ، ثم ندم؛ فجاء يخطبُها ، فقال : زوجتُك ، وفرشتُك ، وأكرمتُك؛ فطلقتها ثم جئت تخطِبُها؟! لا والله ، لا تعود إليك أبداً ، وكانت المرأةُ تُرِيدُ أَنْ ترجع إليه ، فقال لها معقل : إنه طلَّقكِ ثُمَّ تريدين مراجعته؟ وجهي مِنْ وَجْهِك حرامٌ ، إنْ راجعته؛ فأنزل اللهُ هذه الآيةَ ، فدعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - معقل بن يسار ، وتلا عليه الآيةَ ، فقال : رغم أنْفِي لأَمْرِ رِبِّي ، اللَّهُمّ رضيتُ ، وسلّمْتُ لأَمْرك ، وأَنكح أُخْتَه زوْجَها .
الثاني : روَى مجاهد ، والسدي : أَنَّ جابر بن عبدالله ، كانت له ابنةُ عَمٍّ فطلقها زَوْجُها ، وأراد رجعتها بعد العِدّة؛ فأَبَى جابر؛ فأنزل اللهُ - تعالى - هذه الآيةَ ، وكان جابرٌ يقولَ : فِيَّ نزلت هذه الآيةُ .
وقيل : الخطابُ فيهما للأزواج ، ونُسِبَ العَضْلُ إليهم؛ لأنهم كذلك كانوا يفعلون ، يُطَلِّقُونَ ، ويأْبَونَ أن تتزوج المرأَةُ بعدَهم؛ ظلماً وقهراً .
قوله : { أَزْوَاجَهُنَّ } مجازٌ؛ لأنه إذا أُريد به المطلَّقون ، فتسميتُهم بذلك اعتباراً بما كانوا عليه ، وإن أُريد بهم غيرُهم مِمَّن يُرِدْنَ تزويجهم فباعتبار ما يؤولون إليه . قال ابن الخطيب : وهذا هو المختارُ؛ لأن قوله : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء } شرطٌ ، والجزاءُ قوله : « فلا تَعْضُلُوهُنَّ » والشرطُ خطابٌ مع الأزواجِ ، فيكون الجزاءُ خِطَاباً معهم أيضاً؛ لأنه لو لم يكن كذلك ، لصار تقديرُ الآيةِ : إذا طلقتم النساء أَيُّها الأزواج ، فلا تعضُلُوهُنَّ أيها الأولياءُ ، وحينئذٍ لا يكونُ بين الشرطِ والجزاءِ مناسبةٌ أصلاً ، وذلك يُوجِبُ تفكيك نظم الآيةِ ، وتنزيه كلام اللهِ - عز وجل - عن مثل هذا ، واجبٌ . ثم يتأكدُ بوجهين آخرين :
الأول : أَنَّه من أَوَّل آية الطَّلاق إلى هذا الموضع ، خطابٌ مع الأزواجِ ، ولم يجرِ للأولياءِ ذِكْرٌ أَلْبَتَّة ، وصرفُ الخِطَابِ إلى الأَولياءِ خِلاَفُ النَّظْمِ .
الثاني : أَنَّ ما قبل هذه الآيةِ خطابٌ مع الأَزواجِ في كيفيةِ مُعاملتهم مع النساءِ بعد انقضاءِ العِدَّة ، فكان صَرْفُ الخِطابِ إلى الأزواجِ ، أولى؛ لأنه تَرتيبٌ حَسَنٌ لَطِيفٌ .
واستدلَّ الأولُونَ بما تقدَّمَ مِنْ سَبب النزولِ .
ويمكِنُ الجوابُ عنه من وجهين :
الأول : أَنَّ المحافظة على نظمِ كَلاَمِ الله - تعالى - ، أَوْلى من المحافظة على خبر الواحِدِ .
الثاني : أَنَّ الرَّوايتين في سبب النزولِ تَعَارَضَتَا؛ فَرُوِيَ أَنَّ معقل كان يقولُ : فِيّ نزلت هذه الآية ، وجابرٌ كان يقولُ فيّ نزلت ، وإذا تعارضت الروايتان تساقطتا فبقي ما ذكرناه من التَّمَسك بنظم كَلاَمِ الله - تعالى - سليماً عن المعارِضِ ، وفي هذه الاستدلالِ نظرٌ ، ولا تعارُضَ بين الخبرين؛ لأن مدلولَهُمَا واحدٌ .
واحتجوا أيضاً بأن هذه الآيةَ لو كانت خطاباً مع الأزواج ، فلا تخْلُوا إِمَّا أَنْ تكونَ خِطَاباً معهم قبل انقضاءِ العِدَّةِ ، أو بعد انقضائِها .
والأولُ باطل؛ لأنَّ ذلك مستفادٌ من الآيةِ الأُولَى ، فلما حملنا هذه الآيةَ على هذا المعنى ، كان تكراراً من غير فائدةٍن وأيضاً فقد قال تعالى : { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بالمعروف } فنهى عن العضل حال حُصُولِ التراضي ، ولا يحصلُ التراضِي بالنكاح ، إلاَّ بعد التصريح بالخطبة ولا يجوزُ التصريح بالخطبة إلاَّ بعد انقضاء العِدَّة ، وقال تعالى : { وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ } [ البقرة : 235 ] .
والثاني - أيضاً - باطلٌ؛ لأنَّ بعد انقضاءِ العدَّةِ ، ليس للزوج قدرةٌ على عضلِ المرأة ، فكيف يُصْرفُ هذا النهي إليه؟!
ويمكنُ أن يُجابَ : بأن الرجل يمكن أَنْ يَكُونَ بحيثُ يشتد نَدَمُه على مفارقَةِ المرأة ، بعد انقضاءِ عدَّتها ، وتلحقُه الغيرة ، إذا رأى مَنْ يخطبُها ، وحينئذٍ يعضلها عن من يَنْكِحها ، إِمَّا بأن يجحد الطلاق ، أو يَدَّعي أنه كان راجعها في العدَّة ، أو يدس إلى مَنْ يخطبها بالتهديد والوعيد ، أو يسيء القول فيها : بأنْ ينسبها إلى أمورٍ تُنَفِّر الرجال عنها ، فَنَهَى اللهُ تعالى الأزواج عن هذه الأَفعالِ ، وعرَّفَهم أن تركها أزكَى ، وأطهر ، من دنسِ الآثام .
واحتجوا - أيضاً - بقوله تعالى : { أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } قالوا : معناه : ولا يَمْنَعُوهن أَنْ يَنْكِحْنَ الذين كانوا أزواجاً لهُنَّ قبل ذلك ، وهذا الكلامُ لا ينتظِمُ إلاَّ إذا جعلنا الآيةَ خطاباً للأولياءِ .
ويمكن الجوابُ : بأنَّ معنى قوله : { أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } أن يَنكحنَ مَنْ يُرِدْنَ أن يتزوَّجنَه ، فيكونون أزواجاً لهن والعربُ تسمي الشَّيْءَ بما يَؤُول إليه .
[ وقيل : الخِطَابُ فيهما للأَولياء ، وفيهِ بُعْدٌ؛ من حيثُ إنَّ الطلاقٌ لا يُنْسَبُ إليهم إلا بمجازٍ بعيدٍ ، وهو أنْ جَعَلَ تَسَبُّبَهُمْ في الطَّلاقِ طَلاَقاً ] والفاءُ في { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } جوابث « إذا » .
والعَضْلُ : قيل : المَنْعُ ، ومنه : « عَضَلَ أَمَتَهُ » ، مَنَعَها من التزوُّجِ ، يَعْضلُها بكسر العينِ وضَمِّها؛ قال ابن هرمزٍ : [ الوافر ]
1118- وَإِنَّ قَصَائِدِي لَكَ فَاصْطَنِعْنِي ... كَرَائِمُ قَدْ عُضِلْنَ عَنِ النِّكَاحِ
وقال : [ الطويل ]
1119- وَنَحْنُ عَضَلْنَا بِالرِّمَاحِ نِسَاءَنَا ... وَمَا فِيكُمُ عَنْ حُرْمَةِ اللهِ عَاضِلُ
ومنه : « دَجَاجَةٌ مُعْضِلٌ » ، أي : احتبسَ بَيْضُها ، وقيل : أَصلهُ الضِّيقُ؛ قال أوس : [ الطويل ]
1120- تَرَى الأَرْضَ مِنَّا بِالْقَضَاءِ مَرِيضَةٌ ... مُعَضَّلَةٌ مِنَّا بِجَيْشٍ عَرَمْرَمِ
أي : ضَيِّقة بِهم ، وعَضَلَتِ المَرْأَة ، أي : نَشَبَ وَلَدُها في بَطْنِهَا ، وكذلك عضلت الشَّاةُ ، وأَعْضَلَ الدَّاءُ الأَطِبَّاء : إِذَا أَعياهُمْ ، ويُقَالُ : دَاءٌ عُضَالٌ ، أي : ضَيِّقُ العِلاج؛ وقالت ليلى الأخيلية : [ الطويل ]
1121- شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ العُضَالِ الَّذِي بِهَا ... غُلاَمٌ إِذَا هَزَّ القَنَاةَ شَفَاهَا
والمُعْضِلاتُ : المُشْكِلاَتُ؛ لضِيق فَهْمِها؛ قال الشافعيُّ : [ المتقارب ]
1122- إِذَا المُعْضِلاَتُ تَصَدَّيْنَنِي ... كَشَفْتُ حَقَائِقَهَا بِالنَّظَرْ
قوله تعالى : { أَن يَنكِحْنَ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه بدلٌ من الضميرِ المنصوبِ في « تَعْضُلُوهُنَّ » بدلُ اشْتِمالٍ ، فيكون في محلِّ نصب ، أي : فلا تَمْنَعُوا نكاحَهُنَّ .
والثاني : أَنْ يَكُونَ على إسقاط الخافِضِ ، وهو إمَّا « مِنْ » ، أو « عَنْ » فيكونُ في محلِّ « أَنْ » الوجهان المشهُورانِ : أعني مذهب سيبويه ، ومذهب الخليل . و « يَنْكِحْنَ » مضارعُ « نَكَحَ » الثّلاثيّ ، وكانَ قياسُه أنْ تُفْتَحَ عينُه؛ لأنَّ لامَه حرف حَلقٍ .
قوله : { إِذَا تَرَاضَوْاْ } في ناصبِ هذا الظَّرْفِ وجهان :
أحدهما : « ينكِحْنَ » أي : أَنْ ينكِحْنَ وقتَ التَّراضِي .
والثاني : أَنْ يكونَ « تَعْضُلُوهنَّ » أي : لا تعضُلوهنَّ وقتَ التَّراضِي ، والأولُ أظهرُ . و « إذا » هنا مُتَمحِّضَة للظرفيةِ . والضميرُ في « تراضَوا » يجوزُ أَنْ يَعُودَ إلى الأوْلياءِ وللأزواج ، وأَنْ يَعُودَ على الأَزْوَاجِ والزوجاتِ ، ويكونُ مِنْ تَغْلِيبِ المذكرِ على المؤنثِ .
قوله : { بَيْنَهُمْ } ظرفُ مكانِ مجازيّ ، وناصبُه « تراضَوا » .
قوله : { بالمعروف } فيه أربعةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه متعلقٌ بتراضَوا ، أي : تَرَاضَوا بما يَحْسُن مِنَ الدِّينِ والمروءَةِ .
والثاني : أن يتعلَّق ب « يَنْكِحْنَ » فيكون « ينكِحْنَ » ناصباً للظرفِ ، وهو « إِذا » ؛ ولهذا الجارِّ أيضاً .
والثالث : أَن يتعلَّق بمحذوفٍ على أَنَّه حالٌ من فاعل تَرَاضَوا .
والرابع : أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ ، دلَّ عليه الفعلُ ، أي : تراضياً كائناً بالمعروف .
فصل
تمسّكَ بهذه الآيةِ مَنْ يشترط الوَلِيَّ في النكَاحِ؛ بناءَ على أَنَّ الخطاب في هذه الآية للأولياء ، قال : لأَنَّ المرأة لو كانت تُزوِّج نفسها ، أَوْ تُوكِّلُ مَنْ يُزوِّجها ، ما كان الوليُّ قادراً على عضلها من النِّكاح ، ولو لم يكن قادراً على العضلِ لما نهاهُ اللهُ عن العضل وقد تقدم ما فيه من البحث ، وإِنْ سلم ، فلم لا يجوزُ أَنْ يكون المرادُ بالنَّهي عنِ العضلِ أَنْ يخليها ورأيها في ذلك؛ لأَنَّ الغالب في الأَيَامَى أَن يرجعن إلى رأي الأَولياء ، في بَابِ النكاحِ ، وإِنْ كان الاستئذان الشرعي حاصِلاً لهن ، وأَنْ يكُنَّ تحت رأيهم ، وتدبيرهم ، وحينئذٍ يكُونون مُتمكِّنين مِنْ منعهنَّ؛ لتمكنهم مِنْ تخليتهن ، فيكون النَّهي محمولاً على هذا الوجه ، وهذا منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ ، في تفسير هذه الآيةِ . وأيضاً فثبوتُ العضلِ في حَقِّ الولي مُمْتَنِعٌ؛ لأنه متى عضل القريبُ فلا يبقى لعضله أثرٌ .
وتمسَّك أبو حنيفة بقوله تعالى : { أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } على أَنَّ النكاح بغير وَليٍّ جائزٌ ، قال : لأنه أَضَافَ النكاح إليها إضافة الفعْل إلى فاعله ، ونهى الوليَّ عَنْ منعها منه ، قال : ويتأكَّدُ هذا بقوله تعالى : { حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } [ البقرة : 230 ] ، وبقوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف } [ البقرة : 234 ] ، وتزويجها نفسها مِنَ الكُفءِ ، فعلٌ بالمعروفِ؛ فوجب أَنْ يَصِحَّ .
وقوله تعالى : { وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } [ الأحزاب : 50 ] دليلٌ واضِحٌ مع أَنَّهُ لم يحضر هناك ولي البتَّةَ .
وأجاب الأولون : بأن الفِعْل كما يُضافُ إلى المباشر ، قد يُضافُ إلى المتسبّب ، يقال : بنى الأمِيرُ داراً ، وضرب ديناراً ، وإنْ كان مجازاً ، إلاَّ أنَّهُ يجب المصيرُ إليه؛ لدلالةِ الأَحاديث على بُطْلان هذا النِّكَاح .
فصل في اختلاف البلوغين
قال الشَّافعيُّ - رحمه اللهُ - دلَّ سياقُ الكلامينِ - أي في الآيتين - على افتراق البُلُوغين ، ومعناه أَنَّه تعالى قال في الآية الأولى : { فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } [ البقرة : 231 ] ولو كانت عِدَّتها قد انقضت ، لما قال : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } لأن إمساكها بعد العدّة لا يجوزُ وتكون مُسَرَّحَةٌ ، فلا حاجة إلى تسريحها ، وأما هذه الآية ، فإنه نهى عن عضلهن عن التَّزويج ، وهذا النَّهْي إِنَّما يحسن في الوقت الذي يمكنها أَنْ تتزوَّج فيه ، وذلك إِنَّما يكونُ بعد انقضاءِ العِدَّة ، فهذا هو المرادُ مِنْ قول الشافعي « دَلَّ سياقُ الكَلاَمينِ على افْتِراق البلوغين » .
فصل في معنى التراضي بالمعروف
في التَّراضي بالمعرُوف ، وجهان :
أحدهما : ما وافَقَ الشَّرعَ مِنْ عقدٍ حلالٍ ، ومهرٍ جائِزٍ ، وشُهُودٍ عُدُول .
الثاني : هو ما يُضادُّ قوله : { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ } [ البقرة : 231 ] فيكون معناه : أَنْ يرضى كُلُّ واحدٍ منهما بما لزمه بحق هذا العقد لصاحبه؛ حتى تحصل الصُّحبةُ الجميلةُ ، وتدوم الأُلفَةُ .
قال بعضهم : التراضِي بالمعرُوف ، هو مهرُ المِثْلِ ، وفَرَّعُوا عليه مسأَلةً فقهيةً ، وهي أنَّها إِذا زوَّجت نفسها بأَنْقص مِنْ مَهْرِ مِثْلِها ، نقصاناً فاحشاً ، فالنكاحُ صحيحٌ عند أَبِي حنيفة ، وللوَلِي أَنْ يَعْتَرِض عليها بسبب ذلك النُّقْصَانِ .
وقال أَبُو يوسُف ومحمَّد ليس للوَلِيِّ ذلك .
قوله : { ذلك } مبتدأٌ و { يُوعَظُ } وما بعده خبرهُ . والمُخَاطبُ قيل : إمَّا الرسُولُ - عليه الصلاة والسلام - أو كلُّ سامع ، ولذلك جيءَ بالكافِ الدالَّةِ على الواحد ، وقيل : للجماعةِ ، وهو الظَّاهِرُ ، فيكونُ « ذلك » بمعنى : « ذلكم » ، ولذلك قال بعده : { مِنكُمْ } وهو جائِزٌ في اللُّغة ، والتَّثْنِية والجمع أيضاً جائِزٌ ، قال تعالى : { ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي } [ يوسف : 37 ] وقال : { فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ } [ يوسف : 32 ] وقال : { ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ } [ الطلاق : 2 ] وقال : { أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة } [ الأعراف : 22 ] وإِنَّما وحَّدَ الخطاب وهو للأَولياء؛ لأن الأَصل في مخاطبة الجمع « لَكُمْ » ثم كثر حتَّى توهَّموا أن « الكَافَ » مِنْ نفسِ الحرفِ ، وليست بكافِ خِطابٍ؛ فقالوا ذلك ، فإِذَا قالوا هذا ، كانتِ الكافُ مُوَحَّدَةً منصوبةً في الاثنين ، والجمع ، والمؤَنَّثِ ، و « مَنْ كان » في محلِّ رفعٍ؛ لقيامه مقامَ الفاعل . وفي « كان » اسمُها ، يعودُ على « مَنْ » و « يؤمِنُ » في محلِّ نصبٍ ، خبراً ل « كان » و « مِنْكُمْ » : إمَّا متعلِّقٌ بكانَ عندَ مَنْ يرى أنها تعمَلُ في الظَّرفِ وشبهِهِ ، وإمَّا بمَحْذُوفٍ على أنه حالٌ من فاعل يُؤمِنُ . فإن قيل : لِمَ أتى باسمِ الإشارة البعيدِ والمشارُ إليه قريب وهو الحكم المذكورُ في العَضْل؟
والجواب : أَنَّ ذلك دليلٌ على تعظيم المُشارِ إليه .
وخَصَّصَ هذا الوعظِ بالمؤمنينَ دون غيرهم؛ لأنَّهُم المنتفِعُون به فلذلك حسنَ تخصيصهم؛ كقوله : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] وهو هدى لِلْكُلِّ ، كما قال : { هُدًى لِّلنَّاسِ } [ البقرة : 185 ] ، وقال : { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } [ النازعات : 45 ] { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر } [ يس : 11 ] ، مع أَنَّهُ كان منذراً لِلْكُلِّ؛ كما قال : { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان : 1 ] .
فصل في خطاب الكفار بفروع الشريعة
احتجُّوا بهذه الآيةِ على أَنَّ الكفار ليسُوا بمخاطبين بفروع الإِسلام؛ لأن تَخْصِيصهُ المؤمنين بالأَحكام المُشَار إليها ، دليلٌ على أَنَّ التكليف مختصٌّ بِمَنْ يؤمنُ باللهِ واليوم الآخر .
وأُجيبوا بأَنَّ التكليف قد ورد عامّاً؛ قال تعالى { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } [ آل عمران : 97 ] وبيانُ الأَحكام وإن كان عامّاً في حق كل المكلَّفين ، إلاَّ أَنَّه قد يكونُ ذلك البيانُ وعظاً للمؤمنين؛ لأن هذه التكاليف إِنَّما تتوجه على الكُفَّار على سبيل إثباتها بالدليل القاهر الملزم المعجز ، وأَمَّا المؤمنُ المقرُّ فإِنَّما تدكرُ له وتُشْرَحُ على سبيل العظةِ ، والتحذير .
قوله تعالى : { أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ } [ البقرة : 232 ] زكا الزرعُ إذا نما وأَلِفُ أزكى منتقلةٌ عن واو ، وقوله : « أزكى » إشارةٌ إلى استحقاقِ الثَّوابِ ، وقوله : { وَأَطْهَرُ } إشارة إلى إزالة الذنُوبِ .
قال المفَسِّرون : أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ مِنَ الرِّيبةِ . و « لكم » متعلقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ ل « أزكى » فهو في محلِّ رفع وقوله : « وَأَطْهَرُ » أي : لَكُمْ ، والمُفَضَّلُ عليه محذوفٍ؛ لِلْعِلْم به ، أي : مِنَ العَضْل .
قوله : { والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } معناه : أَنَّ المكلَّف وَإِنْ كان يعلمُ وجه الصَّلاح في هذه التكاليف على الجملة ، إلاَّ أَنَّ التفصيل غير معلومٍ ، واللهُ تعالى عالِمٌ في كل ما أَمَر ونهى ، بالكمية والكَيْفية بحسب الواقِع وبِحسب التقدير؛ لأنَّه تعالى عالِمٌ بما لا نهايةَ له من المعلُوماتِ .
قال بعض المفسِّرين : معناه أَنَّ لكُل واحدٍ من الزوجين ، قَدْ يكونُ في نفسه من الآخر علاقةُ حُبٍّ لم يُؤمن أَنْ يتجاوزَ ذلك إلى غير ما أَحَلَّ اللهُ لهما ، ولم يُؤمن من الأَولياء أنْ يسبق إلى قُلُوبهم منهما ما لعلهما أَنْ يكُونا بريئين من ذلك ، فَيَأثمون واللهُ يعلم من حُبِّ كُلّش واحدٍ منهما لصاحبه ، ما لا تعلمون أَنْتم .

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
قوله تعالى : { والوالدات يُرْضِعْنَ } كقوله { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ } [ البقرة : 228 ] فليُلْتفتْ إليه .
قال القرطبي : لما ذكر اللهُ تعالى النِّكاح والطَّلاق ذكر الولد؛ لأن الزَّوجين قد يفترِقانِ وثمَّ وَلَدٌ فالآية إِذن في المطلَّقاتِ اللاتي لهُنَّ أولادٌ من أزواجهنَّ ، قاله السُّدِّيُّ ، وغيره .
قال : { والوالدات } ولم يقل والزَّوجاتُ ، لأن أُمَّ الطِّفل قد تكُونُ مَطَلَّقَةً والوالدُ والوالدةُ صفتان غالبتانِ ، جاريتانِ مَجْرى الجوامد؛ ولذلك لم يُذْكر موصوفهما .
وقوله : { حَوْلَيْنِ } منصُوبٌ على ظرفِ الزمانِ ، ووصفهما بكاملين دفعاً للتجوُّز ، إِذْ قَد يُطْلَقُ « الحَوْلاَنِ » على الناقصين شهراً وشهرين ، من قولهم أَقَامَ فلانٌ بمكان كذا حَوْلَين أو شهرين وإِنَّما أقامَ حَوْلاً وبعض الآخر ، ومثله : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ } [ البقرة : 203 ] ومعلومٌ أنه يتعجَّل في يومٍ ، وبعض اليوم الثَّاني ، والحَولُ مِنْ حال الشَّيءُ يحولُ إذا انقلب ، فالحَوْلُ مُنقلب من الوقْتِ الأَول إلى الثاني . وسُمِّيت السنةُ حولاً؛ لتحوُّلها ، والحَوْلُ أيضاً : الحَيْلُ ، ويُقالُ : لا حول ولا قوةَ ، ولا حَيْلَ وَلاَ قُوَّةَ .
فصل في تفسير « الوالدات »
في « الوَالِدَات » ثلاثةُ أقوال :
أحدها : أَنَّ المراد منهُ جميعُ الوَالِدَاتِ سواءٌ كُنَّ مطلقاتٍ ، أو متزوِّجاتٍ لعُمُومِ اللَّفظِ .
الثاني : المرادُ مِنْهُ المطلقاتُ؛ لأَنَّه ذكر هذه الآية عقيب آية الطَّلاقِ ، ومناسبتهُ من وجهين :
الأول : أنه إذا طُلِّقَت المرأةُ ، فيحصلُ التباغض ، فقد تُؤذِي المرأةُ الطفلَ لأَمرين : إِمَّا لأنَّ إيذاءَهُ يتضمَّنُ إيذاءَ الأَبِ ، وإِمَّا لرغبتها في زوجٍ آخر فيفضي إلى إِهْمالِ أَمْرِ الطِّفْلِ .
الثاني : قال السُّدِّيُّ : ومما يدلُّ على أَنَّ المراد منه المطلقاتُ ، قوله بعد ذلك : { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } . ولو كانت زوجةً ، لوجب على الزَّوج ذلك مِنْ غير إرضاعٍ .
ويمكن الجوابُ عن الأَوَّل : أَنَّ هذه الآية مشتملةٌ على حُكم مستقلٍّ بنفسه ، فلم يجب تعلُّقُها بما قبلها ، وعن قول السديّ : أَنَّه لا يبعُدُ أَنْ تستحِقَّ المرأةُ قدراص مِنَ المالِ ، لمكانِ الزوجيَّة ، وقَدْراً آخر للإرضاع ، ولا مُنافاة بين الأَمرينِ .
القول الثالث : قال الواحديُّ في « البَسيط » الأَولى أَنْ يحمل على الزوجاتِ في حالِ بقاء النكاحِ؛ لأن المُطلَّقة لا تستحقُّ إلاَّ الأجرة .
فإِنْ قيل : إذا كانت الزوجيةُ باقيةً ، فهي مستحقةٌ للنفقة ، والكُسْوةِ؛ بسبب النكاحِ سَوَاءٌ أَرْضَعت الولد ، أَوْ لَمْ تُرضِعهُ ، فما وجهُ تعليق هذا الاستِحقاق بالإِرضاع؟
قلنا : النفقةُ والكسوةُ يجبانِ في مُقابلةِ التمكين ، فإذا اشتغلت بالحضانة والإرضاع ولم تتفرغْ لِخدمة الزوج ، رُبَّما توهَّمَ مُتوهِّمٌ أَنَّ نفقتها وكسوتها تسقطُ بالخلل الواقع في خدمة الزوجِ؛ فقطعَ اللهُ ذلك الوَهْمَ بإيجاب الرِّزقِ إذا اشتغلت المرأَةُ بالرضاعِ .
فصل
هذا الكلامُ ، وإِنْ كان خبراً فمعناه الأَمْرُ؛ وتقديره : يرضِعْنَ أَوْلادهنّ في حُكْمِ الله الذي أَوجبه؛ إِلاَّ أنه حذف ذلك للتصرف في الكَلامِ مع زوالٍ الإِيهامِن وهو أَمرُ استحباب ، لا إيجابٍ؛ لأنها لو وجب عليها الرضاعُ لما استحقتِ الأُجرة ، وقد قال :
{ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [ الطلاق : 6 ] وقال : { وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى } [ الطلاق : 6 ] وإذا ثبت الاستحبابُ ، فهو من حيث إِنَّ تربيةَ الطفلِ بلبنِ الأُمِّ أَصْلَحُ له من سائِرِ الأَلبان ، ومن حيثُ إِنَّ شفقةَ الأُم أَتَمُّ مِنْ شفقةِ غيرها .
فصل
قال القُرطبي : اختلف الناسُ في الرضاع : هَلْ هو حَقٌّ عليها أو هو حق عليه؟ واللفظُ محتملٌ؛ لأنه لو أراد التَّصريح بوجوبه لقال : وعلى الوَالِدَاتِ رضاعُ أَولادهُنَّ؛ كما قال : { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } ولكن هو حقٌّ عليها في حَقّ الزَّوجيَّة؛ لأنه يلزمُ في العُرْفِ إذْ قد صار كالشَّرط ، إلاَّ أنْ تكونَ شريفةً ذات ترفُّهٍ ، فعُرفها ألاَّ تُرْضِعَ وذلك كالشرط؛ ويجب عليها إن لم يقبل غيرها ، وهو عليها إذا كان الأبُ مُعدماً؛ لاختصاصها به ، فإِن ماتَ الأَبُ ولا مال لِلصَّبِيِّ ، فذهب مالكٌ في « المُدَوَّنَةِ » غلى أَنَّ الرضاعَ لازمٌ للأُمِّ بخلاف النَّفقةِ ، وفي كتاب « ابن الجلاب » : رضاعه في بيتِ المالِ ، فأَمَّا المطلَّقةِ طلاقاً بائِناً ، فلا رضاع عليها ، والرَّضَاعُ على الزَّوج إلاَّ أَنْ تشاء الأُمُّ ، فهي أَحَقُّ بأجرةِ المثل ، إذا كان الزوجُ مُوسِراً ، فإِن كان معدماً ، لم يلزمها الرضاعُ إلاَّ أَنْ يكون المولود لا يقبلُ غيرها فتجبر على الرَّضاع وكل من لزمها الإرضاعُ ، فأَصابها عُذْرٌ يمنعها منه ، عاد الإِرضاع على الأَبِ ، وعن مالكٍ : أَنَّ الأَبَ إذا كان مُعدماً ، ولا مال للصبي أَنَّ الرضاعَ على الأم لَمْ يكن لها لبنٌ؛ ولها مالٌ ، فَإِنَّ الإِرضاع عليها في مالها . وقال الشَّافعيُّ : لا يلزم الرضاعُ إلاَّ والداً أو جَدّاً وإن عَلاَ .
فصل في تحديد الحولين
اختلف العلماءُ في تحديد الحولينِ فقال بعضهم : هو حَدٌّ لبعضِ المولُودين .
روى عكرمة عن ابن عبَّاس : أَنَّها إذا وضعت لستَّةِ أشهرٍ ، فإِنَّها تُرْضِعه حولين كاملين ، وإن وضعتْ لسبعةِ أشهُر ، ترضعُه ثلاثةً وعشرينَ شهراً ، وإنْ وضعت لتسعةِ أشهر ، تُرضِعه إحدى وعشرين شهراً؛ كل ذلك تمامُ ثلاثين شهراً؛ لقوله تعالى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] .
وقال آخرون : هو حَدٌّ لكُلِّ مولُودٍ ، لا يُنقصُ رضاعُهُ عن حولين ، إلاَّ باتِّفاق الأَبوين فأَيُّهما أراد الفِطَامَ قبل تمام الحولينِ ، ليس له ذلك إلاَّ أَنْ يجتمعا عليه؛ لقوله تعالى : { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا } وهذا قولُ ابن جريجٍ ، والثوري ، ورواية الوالبي ، عن ابن عباس .
وقيل : المرادُ من الآية : بيانُ الرضاع الذي يثبتُ به الحرمةُ ، أن يكون في الحولينِ ، ولا يحرم ما يكون بعدَ الحولين .
قال قتادة : فرض اللهُ على الوالداتِ إِرضاعُ حولينِ كاملين ثم أنزل التخفيف؛ فقال { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } ، أي : هذا منتهى الرضاع ، ليس فيما دُونَ ذلك حَدٌّ محدودٌ ، إِنَّمَا هو على قَدْرِ صلاحِ الصَّبي ، وما يعيشُ به ، وهذا قولُ عليّ ، وابن مسعود ، وابن عباسٍ ، وابن عمر ، وعلقَمة ، والشَّعبيِّ ، والزهريّ - رضي الله عنهم - .
وقال أبو حنيفة : مدةُ الرَّضاعِ ثلاثُون شهراً ، واحتج الأَولون بقوله تعالى : { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } [ لقمان : 14 ] وقال - عليه السلام والصلاة - « لا رضاع بعد فصال »
وروى ابن عباس قال : قال - عليه الصلاة والسلام - « لاَ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ إِلاَّ مَا كَانَ فِي الحَوْلَيْنِ » .
فصل
رُوِيَ أَنَّ رجلاً جاء إلى علي - رضي الله عنه - فقال : تزوجتُ جاريةً بكراً ، وما رأيتُ بها ريبةٌ ، ثم وَلَدت لستَّةِ أشهرٍ ، فقال عليٌّ - رضي الله عنه - قال الله تعالى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] وقال تعالى : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } فالحملُ ستَّةُ أشهرٍ؛ الولدُ ولدكَ .
وعن عُمَر - رضي الله عنه - أنه جِيء بامرأةٍ ، وضعت لستةِ أشهر ، فشاور في رجمِها ، فقال ابنُ عباسٍ : إِنْ خاصَمْتكُم بكتابِ اللهِ - تعالى - خَصَمْتُكُمْ ، ثم ذكر هاتين الآيتين واستخرج منهما أَنَّ أَقَلَّ الحملِ ستةُ أشهرٍ ، قال : فكأنما أَيْقَظَهُمْ .
قوله : { لِمَنْ أَرَادَ } في هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه متعلقٌ بيُرْضِعْنَ ، وتكونُ اللامُ للتعليل ، و « مَنْ » وَاقِعَةٌ على الآباء ، أي : الوالداتُ يُرْضِعْنَ لأجْلِ مَنْ أَرَادَ إِتْمام الرَّضاعةِ مِنَ الآباءِ ، وهذا نظيرُ قولك : « أَرْضَعَتْ فلانةٌ لفلانٍ ولدَه » .
والثانيك أنها للتَّبيين؛ فتتعلَّق بمحذوفٍ ، وتكونُ هذه اللامُ كاللامِ في قوله تعالى : { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] ، وفي قولهم : « سُقْياً لك » . فاللامُ بيانٌ للمدعوِّ له بالسَّقْي وللمُهَيَّت به ، وذلك أَنَّه لمّا ذكر أنَّ الوالداتِ يُرْضِعْنَ أولاَدَهُنَّ حولين كاملين ، بيَّنَ أنَّ ذلك الحُكم إنما هو لمَنْ أرادَ أن يتُمَّ الرَّضاعة؛ و « مَنْ » تحتمِلُ حينئذٍ أَنْ يُرادَ بها الوَالِدَاتُ فقط ، أَوْ هُنَّ والوالدون معاً ، كلُّ ذلك محتملٌ .
والثالث : أنَّ هذه اللامَ خبرٌ لمبتدإ محذوفٍ ، فتتعلَّقُ بمحذوفٍ ، والتقديرُ : ذلك الحُكمُ لِمَن أرادَ . و « مَنْ » على هذا تكون للوالداتِ والوالدَيْنِ معاً .
قوله : { أَن يُتِمَّ الرضاعة } « أَنْ » وما في حَيَِّزها في محلِّ نصبٍ؛ مفعولاً بأراد ، أي : لِمَنْ أَرادَ إِتْمَامَها . والجمهورُ على « يُتمَّ الرَّضَاعَةَ » بالياء المضمومة من « أَتَمَّ » وإِعْمَالُ أنْ الناصبَة ، ونصبِ « الرَّضَاعةَ » مفعولاً به ، وفتح رائها .
وقرأ مجاهدٌ ، والحسنُ ، وابنُ محيصن ، وأَبُو رجاء : « تَتِمَّ » بفتح التاءِ من تَمَّ ، و « الرضَاعَةُ » بالرفعِ فاعلاً ، وقرأ أبو حيوة ، وابنُ أَبِي عبلة كذلك ، إلا أنهما كَسَرا راءَ « الرَّضَاعَة » ، وهي لغةٌ كالحَضارةِ ، والحِضارة ، والبَصْرِيُّونَ يقولون : فتحُ الرَّاءِ مع هاءِ التأنيث ، وكسرُها مع عدمِ الهاء ، والكُوفيُّون يزعمُونَ العكسَ . وقرأ مجاهدٌ - ويُرْوى عن ابن عبَّاسٍ - : « أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ » برفعِ « يُتِمُّ » وفيها قولان :
أحدهما : قولُ البصريِّين : أنها « أَنْ » الناصبةُ ، أُهْمِلت؛ حَمْلاً عَلَى « مَا » أُخْتِها؛ لاشتراكِهمَا في المَصْدرية ، وأَنشدوا على ذلك قوله : [ مجزوء الكامل ]
1123- إِنِّي زَعِيمٌ يَا نُوَيْ ... قَةُ إِنْ أَمِنْتِ مِنَ الرَّزَاحِ
أَنْ تَهْبِطِينَ بِلاَدَ قَوْ ... مٍ يَرْتَعُونَ مِنَ الطِّلاَحِ
وقول الآخر : [ البسيط ]
1124- يَا صَاحِبَيَّ فَدَتْ نُفُوسَكُمَا ... وَحَيْثُمَا كُنْتُمَا لَقِّيتُمَا رَشَدَا
أَنْ تَقْرَآنِ عَلَى أَسْمَاءَ وَيْحَكُمَا ... مِنِّي السَّلاَمَ وَأَلاَّ تُشْعِرَا أَحَدَا
فَأَهْمَلَها ، ولذلك ثَبَتَ نونُ الرفع ، وأَبَوْا أَنْ يَجعلُوها المخفَّفة مِنَ الثقيلةِ لوجهين :
أحدهما : أنه لم يُفْصَل بينها وبين الجملة الفعلية بعدها .
والثاني : أَنَّ ما قبلها ليس بفعلِ علمٍ ويقينٍ .
القول الثاني : وهو قول الكوفيِّين أنها المخفَّفة من الثَّقيلة ، وشذَّ وقوعها موقع الناصبة ، كما شذَّ وقوع « أنْ » الناصبة موقعها في قوله : [ البسيط ]
1125- قَدْ عَلِمُوا ... أَلاَّ يَدَانِيَنَا فِي خَلْقِهِ أَحَدٌ
وقرأ مجاهدٌ : « الرَّضْعَة » بوزن القصعة .
وعن ابن عباس أنّه قرأ أن يكمل الرضاعة .
فصل
قال القرطبيُّ : قوله تعالى : { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } يدل على أنَّ إرضاع الحولين ليس حتماً؛ لأنه يجوز الفطام قبل الحولين ولكنه تحديد لقطع التَّنازع بين الزَّوجين في مدَّة الرضاع ، ولا يجب على الأب إعطاء الأجرة ، لأكثر من حولين ، وإن أراد الأب الفطام قبل هذه المدة ، ولم ترض الأمُّ ، لم يكن له ذلك .
والرَّضْعُ : مصُّ الثدي ، ويقال للَّئيم : راضعٌ ، وذلك أنه يخاف أن يحلب الشاة؛ فيسمع منه الحلب؛ فيطلب منه اللبن ، فيرتضع ثدي الشاة بفمه .
قوله : { وَعلَى المولود لَهُ } هذا الجارُّ خبرٌ مقدَّمٌ ، والمبتدأ قوله : « رِزْقُهُنَّ » ، و « أَلْ » في المولود موصولةٌ ، و « لَهُ » قَائِمٌ مقام الفاعل للمولود ، وهو عائد الموصول ، تقديره : وعلى الذي ولد له رزقهنَّ ، فحذف الفاعل ، وهو الوالدات ، والمفعول ، وهو الأولاد ، وأقيم هذا الجارُّ والمجرور مقام الفاعل .
وذكر بعض النَّاس أنه لا خلاف في إقامة الجارِّ والمجرور مقام الفاعل ، إلاَّ السُّهيليَّ ، فإنَّه منع من ذلك؛ وليس كما ذكر هذا القائل ، فإنَّ البصريِّين أجازوا هذه المسألة مطلقاً ، والكوفيُّون قالوا : إن كان حرف الجرِّ زائداً جاز نحو : ما ضربَ من أحدٍ ، وإن كان غير زائدٍ ، لم يجز ، ولا يجوز عندهم أن يكون الاسم المجرور في موضع رفعٍ باتفاقٍ بينهم . ثم اختلفوا بعد هذا الاتفاق في القائم مقام الفاعل .
فذهب الفرَّاء : إلى أنَّ حرف الجرِّ وحده في موضع رفعٍ ، كما أنَّ « يَقُومُ » من « زَيْدٌ يَقُومُ » في موضع رفع .
وذهب الكسائيُّ ، وهشام : إلى أنَّ مفعول الفعل ضميرٌ مستترٌ فيه ، وهو ضميرٌ مبهمٌ من حيث أن يراد به ما يدلُّ عليه الفعل من مصدرٍ ، وزمانٍ ، ومكانٍ ، ولم يدلَّ دليلٌ على أحدها .
وذهب بعضهم إلى أنَّ القائم مقام الفاعل ضمير المصدر ، فإذا قلت : « سِيرَ بزيدٍ » فالتقدير : سِير هو ، أي : السَّيْرُ؛ لأنَّ دلالة الفعل على مصدره قويةٌ ، ووافقهم في هذا بعض البصريين .
قوله : { بالمعروف } يجوز أن يتعلَّق بكلِّ من قوله : « رزقُهنَّ » و « كِسْوَتُهنَّ » على أنَّ المسألة من باب الإعمالن وهو على إعمال الثاني ، إذ لو أعمل الأول ، لأُضمر في الثاني ، فكان يقال : وكسوتهنَّ به بالمعروف . هذا إن أُريد بالرزق والكسوة ، المصدران ، وقد تقدَّم أنَّ الرزق يكون مصدراً ، وإن كان ابن الطَّراوة قد رَّد على الفارسيّ ذلك؛ في قوله : { مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السماوات والأرض شَيْئاً } [ النحل : 73 ] كما سيأتي تحقيقه في النَّحل ، إن شاء الله تعالى . وإن أُريد بهما اسم المرزوق ، والمكسوِّ كالطِّحن ، والرِّعي ، فلا بدَّ من حذف مضافٍ ، تقديره : اتِّصال ، أو دفع ، أو ما أشبه ذلك ، ممَّا يصحُّ به المعنى ، ويكون « بالمعروف » متعلِّقاً بمحذوفٍ ، على أنه حالٌ منهما . وجعل أبو البقاء العامل في هذه الحال الاستقرار الذي تضمَّنه « على » .
والجمهور على « كِسْوَتهنَّ » بكسر الكاف ، وقرأ طلحة بضمِّها ، وهما لغتان في المصدر ، واسم المكسوِّ وفعلها يتعدَّى لاثنين ، وهما كمفعولي « أَعْطَى » في جواز حذفهما ، أو حذف أحدهما؛ اختصاراً أو اقتصاراً ، قيل : وقد يتعدَّى إلى واحدٍ؛ وأنشدوا : [ المتقارب ]
1126- وَأَرْكَبُ في الرَّوْعِ خَيْفَانَةٌ ... كَسَا وَجْهَهَا سَعَفٌ مُنْتَشِرْ
ضمَّنه معنى غطَّى ، وفيه نظرٌ؛ لاحتمال أنَّه حذف أحد المفعولين؛ للدلالة عليه ، أي : كَسَا وجهها غبار أو نحوه .
فصل
و { المولود لَهُ } هو الوالد ، وإنَّما عبَّر عنه بهذا الاسم لوجوه :
أحدها : قال الزَّمخشريُّ : والسَّبب فيه أن يعلم أنَّ الوالدات إنما ولدت الأولاد للآباء ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمَّهات؛ وأنشدوا للمأمون : [ البسيط ]
1127- وَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أَوْعِيَةٌ ... مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلآبَاءِ أَبْنَاءُ
وثانيها : أنّه تنبيهٌ على أَنَّ الولد إنما يلتحق بالوالد؛ لكونه مولوداً على فراشه ، على ما قاله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ » فكأنّه قال : إذا ولدت المرأة الولد لأجل الرَّجل وعلى فراشه ، وجب عليه رعاية مصالحه ، [ فنبه على أنَّ سبب النَّسب ، والالتحاق محدودٌ بهذا القدر .
وثالثها : ذكر الوالد بلفظ « المَوْلُودِ [ لَهُ ] » تنبيهاً على أنَّ نفقته عائدةٌ إليه ، فيلزمه رعاية مصالحه ] كما قيل : كلُّه لك ، وكلُّه عليك .
فإن قيل : فما الحكمة في قول موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - لأخيه : { قَالَ ياابنأم } [ طه : 94 ] ولم يذكر أباه .
فالجواب : أنّه أراد بذكر الأم [ أنْ ] يذكر الشفقة فإنَّ شفقة الأمِّ أعظم من شفقة الأب .
فصل
اعلم أنَّ الله تعالى كما وصَّى الأمَّ برعاية جانب الطِّفل ، في قوله : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } - وصَّى برعاية جانب الأمِّ ، حتَّى تقوى على رعاية مصلحة الطفل ، فأمره برزقها ، وكسوتها بالمعروف ، وهذا المعروف قد يكون محدوداً بشرطٍ وعقدٍ ، وقد يكون غير محدودٍ إلاَّ من جهة العرف لأنّه إذا قام بما يكفيها من طعام وكسوتها ، فقد استغنى عن تقدير الأجرة فإنه إن لم يقم بما يكفيها من ذلكن تضرَّرت وضررها يتعدى إلى الود ، ولمّا وصَّى الأمَّ برعاية الطفل أوّلاً ثم وصَّى الأب برعايته ثانياً ، دلَّ على أنَّ احتياج الطفل إلى رعاية الأمِّ أشدُّ من احتياجه إلى رعاية الأب؛ لأنَّه ليس بين الطفل وبين رعاية الأمّ واسطةٌ أَلْبَتَّةَ؛ ورعاية الأب إنَّما تصل إلى الطفل بواسطة ، فإنّه يستأجر المرأة على رضاعته ، وحضانته بالنفقة ، والكسوة ، وذلك يدلُّ على أنَّ حقَّ الأمِّ أكثر من حقِّ الأب ، والأخبار المطابقة لهذا المعنى كثيرةٌ مشهورةٌ .
قوله : { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ } الجمهور على « تُكَلَّفُ » مبنياً للمفعول ، « نفسٌ » قائم مقام الفاعل ، وهو الله تعالى ، { وُسْعَهَا } مفعول ثانٍ ، وهو استثناءٌ مفرغٌ؛ لأنَّ « كَلَّفَ » يتعدَّى لاثنين . قال أبو البقاء : « ولو رُفِعَ الوُسْعُ هنا ، لم يَجُزْ؛ لأنه ليس ببدَلٍ » .
وقرأ أبو جراء : « لاَ تَكَلَّفُ نَفْسٌ » بفتح التَّاء ، والأصل : « تَتَكَلَّفُ » فحذفت إحدى التاءين؛ تخفيفاً : إمَّا الأولى ، أو الثانية على خلافٍ في ذلك تقدَّم ، فتكون « نَفْسٌ » فاعلاً ، و « وُسْعَها » مفعولٌ به ، استثناء مفرَّغاً أيضاً . وروى أبو الأشهب عن أبي رجاء أيضاً : « لا يُكَلِّفُ نَفْساً » بإسناد الفعل إلى ضمير الله تعالى ، فتكون « نَفْساً » و « وُسْعَها » مفعولين .
والتكليفُ : الإلزام ، وأصله من الكلف ، وهو الأثر من السَّواد في الوجه؛ قال : [ البسيط ]
1128- يَهْدِي بِهَا أَكْلَفُ الخَدَّيْنِ مُخْتَبَرٌ ... مِنَ الْجِمَالِ كَثِيرُ اللَّحْمِ عَيْثُومُ
فمعنى « تَكَلَّفَ الأَمْرَ » ، أي : اجتهد في إظهار أثره .
وفلانٌ كَلِفٌ بكذا : أي مُغْرًى به .
و « الوُسْعُ » هنا ما يسع الإنسان فيطيق أخذه من سعة الملك أي الغرض ، ولو ضاق لعجز عنه ، فالسَّعة بمنزلة القدرة ، ولهذا قيل : الوسع فوق الطَّاقة ، والمراد منه : أنَّ أبا الصّبي لا يتكلّف الإنفاق عليه ، وعلى أُمِّه ، إلاَّ ما تتسع له قدرته ، لأنَّ الوسع ما تتَّسع له القدرة ، ولا يبلغ استغراق القدرة؛ وهو نظير قوله تعالى : { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا } [ الطلاق : 7 ] .
فصل في احتجاج المعتزلة بالآية
تمسَّك المعتزلة بهذه الآية في أنَّ الله - تعالى - لا يكلّف العبد ما لا يقدر عليه .
وقوله : { لاَ تُضَآرَّ } ابن كثير ، وأبو عمرو : « لا تُضَارُّ » برفع الراء مشددةً ، وتوجيهها واضح ، لأنه فعلٌ مضارعٌ لم يدخل عليه ناصبٌ ولا جازمٌ فرفع ، وهذه القراءة مناسبةٌ لما قبلها ، من حيث إنه عطف جملة خبريّةٌ على خبرية مثلها من حيث اللفظ وإلاَّ فالأولى خبريةٌ لفظاً ومعنًى ، وهذه خبريةٌ لفظاً نهييَّةٌ معنًى ويدل عليه قراءة الباقين كما سيأتي .
قال الكسائيُّ والفراء : هو نسقٌ على قوله : « لاَ يُكَلِّفُ » .
قال عليبن عيسى : هذا غلطٌ؛ لأنَّ النَّسق ب « لا » إنَّما هو إخراج على إخراج الثَّاني مما دخل فيه الأوَّل نحو : « ضربتُ زيداً لا عمراً » فأمّا أن يقال : يقوم زيدٌ لا يقعد عمرو ، فهو غير جائزٍ على النِّسق ، بل الصواب أنَّه مرفوعٌ على الاستئناف في النَّهي كما يقال : لا تضرب زيداً لا تقتل عمراً .
وقرأ باقي السَّبعة : بفتح الراء مشدّدةً ، وتوجيهها أنَّ « لا » ناهيةٌ ، فهي جازمةٌ ، فسكنت الراء الأخيرة للجزم ، وقبلها راء ساكنةٌ مدغمةٌ فيها ، فالتقى ساكنان؛ فحرَّكنا الثانية لا الأولى ، وإن كان الأصل الإدغام ، وكانت الحركة فتحةًن وإن كان أصل التقاء الساكنين الكسر؛ لأجل الألف؛ إذ هي أُخت الفتحة ، ولذلك لمَّا رخَّمت العرب « إِسْحَارّ » وهو اسم نباتٍ ، قالوا : « إِسحارَ » بفتح الراء خفيفةً ، لأنهم لمَّا حذفوا الراء الأخيرة ، بقيت الراء الأولى ساكنةً ، والألف قبلها ساكنةٌ؛ فالتقى ساكنان ، والألف لا تقبل الحركة؛ فحرَّكوا الثاني وهو الراء ، وكانت الحركة فتحةً؛ لأجل الألف قبلها ساكنة ، ولم يكسروا وإن كان الأصل ، لما ذكرنا من مراعاة الألف .
وقرأ الحسن بكسرها مشدَّدةً ، على أصل التقاء السَّاكنين ، ولم يراع الألف .
وقرأ أبو جعفرٍ بسكونها مشدَّدةً ، كأنه أجرى الوصل مجرى الوقف ، فسكَّن ، وروي عنه وعن ابن هرمز : بسكونها مخففة ، وتحتمل هذه وجهين :
أحدهما : أن يكون من « ضارَ » « يَضِيرُ » ، ويكون السكون لإجراء الوصل مجرى الوقف .
والثاني : أن يكون من ضارَّ يُضَارُّ بتشديد الراء ، وإنما استثقل تكرير حرف هو مكرر في نفسه؛ فحذف الثاني منهما ، وجمع بين الساكنين - أعني الألف والراء - إمَّا إجراءً للوصل مجرى الوقف ، وإمَّا لأنَّ الألف قائمةٌ مقام الحركة ، لكونها حرف مدٍّ .
وزعم الزمخشريُّ « أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ إنما اخْتَلَسَ الضَّمة ، فتَوَهَّم الراوي أنه سَكَّنَ ، وليس كذلك » انتهى . وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك عند { يَأْمُرُكُمْ } [ البقرة : 67 ] ونحوه .
ثم قراءة تسكين الرَّاء : تحتمل أن تكون من رفعٍ ، فتكون كقراءة ابن كثير ، وأبي عمرو ، ويحتمل أن تكون من فتح ، فتكون كقراءة الباقين ، والأول أولى؛ إذ التسكين من الضمة أكثر من التسكين من الفتحة؛ لخفَّتها .
وقرأ ابن عبَّاس : بكسر الراء الأولى ، والفكِّ ، وروي عن عمر بن الخطاب : « لا تُضَارَرْ » بفتح الرَّاء الأولى ، والفكِّ؛ وهذه لغة الحجاز ، أعني : [ فكَّ ] المثلين فيما سكن ثانيهما للجزم أو للوقف ، نحو : لم نمرر ، وامرُرْ ، وبنو تميم يدغمون ، والتنزيل جاء باللغتين نحو : { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } [ المائدة : 54 ] في المائدة ، قرئ في السَّبع بالوجهين ، وسيأتي بيانه واضحاً .
ثمَّ قراءة من شدَّد الراء : مضمومةً أو مفتوحةً ، أو مكسورةً ، أو مسكَّنةً ، أو خفَّفها تحتمل أن تكون الراء الأولى مفتوحة ، فيكون الفعل مبنياً للمفعول ، وتكون « وَالِدَة » مفعولاً لم يسمَّ فاعله ، وحذف الفاعل؛ للعلم به ، ويؤيده قراءة عمر رضي الله عنه .
ويكون معنى الآية { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } فينزع الولد منها إلى غيرها بعد أن رضيت بإرضاعه { وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ } أي : لا تلقيه المرأة إلى أبيه بعدما ألفها؛ تُضَارُّهُ بذلك .
وقيل : معناه لا تضارُّ والدةٌ؛ فتكره على إرضاعه ، إذا كرهت إرضاعه ، وقبل الصّبيُّ من غيرها؛ لأنَّ ذلك ليس بواجبٍ عليها ، ولا مولودٌ له بولده فيحتمل أن يعطي الأمَّ أكثر مما يجب لها ، إذا لم يرتضع الولد من غيرها .
وأن تكون مكسورةٌ ، فيكون الفعل مبنياً للفاعل ، وتكون « والدة » حينئذٍ فاعلاً به ، ويؤيده قراءة ابن عباسٍ .
وفي المفعول على هذا الاحتمال ثلاثة أوجه :
أحدها - وهو الظاهر - أنه محذوف تقديره : لا تُضَارِرْ والدةٌ زوجَها ، بسبب ولدها بما لا يَقْدِرُ عليه مِنْ رِزْقٍ وكُسْوةٍ ونحو ذلك ، ولا يُضَارِرْ مَوْلُود له زوجته بسبب ولده بما وجب لها من رزق وكسوةٍ ، فالباء للسببية .
والثاني : - قاله الزمخشريُّ - أن يكون « تُضارَّ » بمعنى تضرُّ ، وأن تكون الباء من صلته أي : لا تضرُّ والدةٌ بولدها ، فلا تسيءُ غداءه ، وتعهُّده ، ولا يضرُّ الوالد به بأن ينزعه منها بدما ألفها انتهى . ويعني بقوله « الباءُ مِنْ صِلتِه » ، أي : تكون متعلقةً به ، ومعدِّيةً له إلى المفعول ، كهي في « ذَهَبْتُ بزيدٍ » ويكون ضارَّ بمعنى أضرَّ ، فاعل بمعنى أفعل ، ومثله : ضاعفتُ الحسابَ وأضعفته ، وباعدته وأبعدته ، فعلى هذا ، نفس المجرور بهذه الباء ، هو المفعول به في المعنى ، والباء على هذا للتَّعدية ، كما نظَّرنا بِ « ذَهَبْتُ بزيدٍ » ، فإنه بمعنى أذهبته .
والثالث : أنَّ الباء مزيدةٌ ، وأنَّ « ضَارَّ » بمعنى ضرَّ ، فيكون « فَاعَلَ » بمعنى « فَعَل » المجرّد ، والتقدير : لا تضرُّ والدةٌ ولدها بسوء غذائه وعدم تعهُّده ، ولا يضرُّ والدٌ ولده بانتزاعه من أمه بعدما ألفها ، ونحو ذلك . وقد جاء « فاعل » بمعنى فعل المجرَّد نحو : واعدته ، ووعدته ، وجاوزته وجزته ، إلاَّ أنَّ الكثير في فاعل الدَّلالة على المشاركة بين مرفوعه ومنصوبه ، ولذلك كان مرفوعه منصوباً في التَّقدير ، ومنصوبه مرفوعاً في التقدير ، فمن ثمَّ كان التوجيه الأول أرجح من توجيه الزمخشريُّ ، وما بعده ، وتوجيه الزمخشريِّ أوجه ممَّا بعده .
فإن قيل : لم قال « تُضَارّ » والفعل واحد؟
قلنا : معناه لا يضار الأمُّ والأب بألاَّ ترضع الأم ، أو يمنعها الأب وينزعه منها ، أو يكون معناه أنّ كلَّ واحدٍ يقصد بإضرار الولد إضرار الآخر؛ فيكون في الحقيقة مضارَّة .
فصل في أحكام الحضانة
قال القرطبي : في هذه الآية دليلٌ لمالك على أنَّ الحضانة للأم ، وهي في الغلام إلى البلوغ ، وفي الجارية إلى النِّكاح ، وذلك حقٌّ لها .
وقال الشَّافعيُّ : إذ بلغ الولد ثماني سنين ، وهو سنُّ التَّمييز ، خيَّر بين أبويه ، فإنه في تلك الحالة تتحرّك همّته لتعلُّم القرآن ، والأدب ، والعبادات ، وذلك يستوي فيه الغلام والجارية .
وروى أبو هريرة : « أنَّ امرأَةً جاءت إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالت له : إنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يذْهَبَ بابني ، وقد سَقَانِي من بئرِ أبي عنبة وقد نفعني ، فقال النَّبيُّ لله صلى الله عليه وسلم : » اسْتَهِما عليه « فقال زوجها : من يحاقُّني في ولدي؟ فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : » هذا أبُوكَ ، وهذه أُمُّكَ ، فَخُذْ بِيد أيِّهمَا شِئْتَ « فأخذ بيد أُمه فانطلقت به » .
ودليلنا ما روى أبو داود ، عن عبدالله بن عمرو : أَنَّ امرأةً قَالَتْ : يا رَسُولَ اللهِ إِنَّ ابني هذا كَانَتْ بَطْنِي له وِعَاء ، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاء ، وحِجْرِي لَهُ حِوَاء ، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقني ، وأراد أن ينزعه مني ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أَنْتِ أَحَقُّ به ما لم تُنْكَحِي » .
فصل من أحق بالحضانة إذا تزوجت الأم؟
قال ابن المنذر : أجمع كلُّ من نحفظ عنه من أهل العلم على ألاَّ حقَّ للأمّ في الولد إذا تزوَّجت .
وقال مالك ، والشَّافعيُّ ، والنُّعمان ، وأبو ثور : إنَّ الجدَّة أُمَّ الأُمِّ أحقُّ بحضانة الولد ، واختلفوا إذا لم يكن له أُمٌّ ، وكانت له جدَّةٌ أمُّ أبٍ ، فقال مالكٌ : أمُّ الأب أحقُّ إذا لم يكن للصَّبي خالةٌ . وقال الشَّافعيُّ : أمُّ الأب أحقُّ من الخالة .
فصل الحضانة للقادر على حقوق الولد
ولا حضانة لفاجرةٍ ، ولا لضعيفة عاجزةٍ عن القيام بحقِّ الولد .
وروي عن مالك : أنَّ الحضانة للأُمّ ، ثم الجدَة للأمّ ، ثم الخالة ، ثمّ الجدة للأب ، ثم أخت الصَّبيِّ ، ثم عمَّته .
فصل
قال القرطبيُّ : إذا تزوّجت الأمُّ لم ينزع منها ولدها حتى يدخل بها زوجها في المشهور عندنا .
وقال ابن المنذر : إذا خرجت الأمُّ عن بلد ولدها ، ثمَّ رجعت إليه ، فهي أحقُّ بولدها : في قول الشَّافعيِّ ، وأبي ثور ، وأصحاب الرّأي وكذلك لو تزوَّجت ثمَّ طلِّقت ، أو توفِّي عنها زوجها ، رجعت إلى حقّها في الولد ، فإن تركت حقَّها من الحضانة ، ولم ترد أخذه ، وهي فارغةٌ غير مشغولةٍ ، بزوجٍ ، ثم أرادت بعد ذلك أخذه كان لها ذلك .
وقال القرطبيُّ : إن كان تركها له من عذر ، كان لها ذلك ، وإن تركته رفضاً له ، ومقتاً ، لم يكن لها بعد ذلك أخذه .
فصل
فإن طلَّقها الزَّوج ، وكانت الزَّوجة ذِمّيةٌ ، فلا حضانة لها .
وقال أبو ثورٍ ، وأصحاب الرَّأي ، وابن القاسم : لا فرق بين الذِّميَّة والمسلمة . وكذلك اختلفوا في الزَّوجين؛ يفترقان أحدهما [ حرٌّ ] والآخر مملوكٌ .
قوله : « له » في محلِّ رفعٍ لقيامه مقام الفاعل .
قوله : { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ } فيه دلالةٌ على ما يقوله النَّحويُّون ، وهو أنَّه إذا اجتمع مذكَّرٌ ومؤنَّثٌ ، معطوفاً أحدهما على الآخر ، كان حكم الفعل السابق عليهما للسابق منهما ، تقول : قام زيدٌ وهندٌ ، فلا تلحق علامة تأنيثٍ ، وقامت هندٌ وزيدٌ ، فتُلحق العلامة ، والآية الكريمة من هذا القبيل ، ولا يستثنى من ذلك إلاَّ أن يكون المؤنث مجازيّاً ، فيحسن ألاَّ يراعى المؤنَّث ، وإن تقدَّم؛ كقوله تعالى :
{ وَجُمِعَ الشمس والقمر } [ القيامة : 9 ] .
وفي هذه الجمل من علم البيان : الفصل ، والوصل .
أما الفصل : وهو عدم العطف بين قوله : « لا تُكَلَّفُ نفسٌ » على ما قبلها؛ لأنها مع ما بعدها تفسيرٌ لقوله « بالمعروف » .
وأمَّا الوصل : وهو العطف بين قوله : { والوالدات يُرْضِعْنَ } ، وبين قوله : { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ } ؛ فلأنَّهما جملتان متغايرتان في كلٍّ منهما حكمٌ ليس في الأخرى . ومنه أيضاً إبراز الجملة الأولى مبتدأً وخبراً ، وجعل الخبر فعلاً؛ لأنَّ الإرضاع مما يتجدَّدُ دائماً . وأُضيفت الوالداتُ للأولاد؛ تنبيهاً على شفقتهنَّ ، وحثاً لهنَّ على الإرضاع .
وجيء بالوالدات بلفظ العموم ، وإن كان جمع قلَّة؛ لأنَّ جمع القلَّة متى حلِّي بأل ، عمَّ ، وكذلك « أَوْلاَدَهُنَّ » عامٌّ؛ لإضافته إلى ضمير العامِّ ، وإن كان - أيضاً - جمع قلَّةٍ .
وفيها أيضاً إبراز الجملة الثانية مبتدأً وخبراً ، والخبر جارٌّ ومجرورٌ بحرف « على » الدالِّ على الاستعلاء المجازيّ في الوجوب ، وقدِّم الخبر؛ اعتناءً به . وقدِّم الرزقُ على الكسوة؛ لأنه الأهمُّ في بقاء الحياة ، ولتكرره كل يومٍ .
وأبرزت الثالثة فعلاً ، ومرفوعه ، وجعل مرفوعه نكرةً في سياق النفي؛ ليعمَّ ، ويتناول ما سبق لأجله من حكم الوالدات في الإرضاع ، والمولود له في الرزق ، والكسوة الواجبتين عليه للوالدة .
وأبرزت الرابعة كذلك؛ لأنَّها كالإيضاح لما قبلها؛ والتفصيل بعد الإجمال؛ ولذلك لم يعطف عليها كما ذكرته لك . ولمَّا كان تكليف النفس فوق الطاقة ، ومضارَّةُ أحد الزوجين للآخر ممَّا يتكرَّر ويتجدَّد ، أتى بهاتين الجملتين فعليتين ، وأدخل عليهما حرف النَّفي وهو « لا » ؛ لأنه موضوعٌ للاستقبال غالباً .
وأمَّا في قراءة من جزم ، فإنَّها ناهيةٌ ، للاستقبال فقط ، وأضاف الولد إلى الوالدة والمولود له؛ تنبيهاً على الشفقة والاستعطاف ، وقدَّم ذكر عدم مضارَّة الوالدة على ذكر عدم مضارة الوالد؛ مراعاةً لما تقدَّم من الجملتين ، إذ قد بدأ بحكم الوالدات وثنَّى بحكم الوالد .
قوله : { وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك } هذه جملةٌ من مبتدأ وخبر ، قدَّم الخبر؛ اهتماماً ، ولا يخفى ما فيها ، وهي معطوفة على قوله : { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ } وما بينهما اعتراضٌ؛ لأنه كالتَّفسير لقوله : « بِالْمَعْرُوفِ » كما تقدَّم التنبيه عليه .
والألف واللاَّم في « الوَارِثِ » بدلٌ من الضَّمير عند من يرى ذلك ، ثم اختلفوا في ذلك الضَّمير هل يعود على المولود له ، وهو الأب ، فكأنه قيل : وعلى وارثه ، أي : وارث المولود له ، أو يعود على الولد نفسه ، أي : وارث الولد؟ وهذا على حسب اختلافهم في الوارث .
وقرأ يحيى بن يعمر : « الوَرَثَةِ » بلفظ الجمع ، والمشار إليه بقوله : « مثلُ ذلك » إلى الواجب من الرزق والكسوة ، وهذا أحسن من قول من يقول : أشير به إلى الرزق والكسوة . وأشير بما للواحد للاثنين؛ كقوله : { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] . وإنما كان أحسن؛ لأنه لا يحوج إلى تأويلٍ ، وقيل : المشار إليه هو عدم المضارَّة ، قاله الشعبيُّ ، والزهري ، والضحاك ، وقيل : منهما وهو قول الجمهور .
وقيل : أجرة المثل .
فصل في المراد ب « الوارث »
في المراد ب « الوارث » أربعة أقوالٍ :
أحدها : قال ابن عباس : المراد وارث الأب؛ لأنَّ قوله : { وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك } معطوفٌ على قوله : { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف } وما بينهما اعتراضٌ لبيان المعروف ، والمعنى أنَّ المولود له إن مات ، فعلى وارثه مثل ما وجب عليه ، أي : يقوم وارثه مقامه في رزقها وكسوتها بالمعروف وتجنُّب الإضرار .
قال أبو مسلم الأصبهانيُّ : وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ الولد أيضاً يرثه فيؤدِّي ذلك إلى وجوب نفقته على غيره حال ما له مال ينفق منه ، وهذا غير جائزٍ .
قال ابن الخطيب : ويمكن أن يجاب بأنَّ الصبيَّ إذا ورث من أبيه مالاً ، فإنَّه يحتاج إلى من يقوم بتعهُّده والنَّفقة عليه بالمعروف ، ويدفع الضَّرر عنه ، وهذه الأشياء يمكن إيجابها على وارث الأب .
القول الثاني : أنَّ المراد وارث الصبيِّ ، فيجب عليه عند موت الأب كل ما كان واجباً على الأب ، هذا قول الحسن ، وقتادة ، وأبي مسلم ، والقاضي ، ثم اختلفوا في أنه أيُّ وارثٍ هو؟ فقيل : العصبات من الرِّجال ، وهو قول عمر بن الخطَّاب ، والحسن ، ومجاهد ، وعطاء ، وسفيان ، وإبراهيم .
وقيل : هو وارث الصبيِّ من الرِّجال والنساء على قدر مواريثهم منه ، وهو قول قتادة وابن أبي ليلى ، ومذهب أحمد وإسحاق .
وقيل : المراد من كان ذا رحمٍ محرمٍ دون غيرهم؛ كابن العمِّ والمولى ، وهو قول أبي حنيفة .
وظاهر الآية يقتضي أَلاَّ فرق بين وارثٍ ووارثٍ ، ولولا أن الأمَّ خرجت من حيث إنَّه أوجب الحقَّ لها ، لصحَّ دخولها تحت الكلام؛ لأنَّها قد تكون وارثةً للصبيِّ كغيرها .
القول الثالث : المراد من الوارث الباقي من الأبوين ، كا جاء في الدعاء : « واجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنَّا » أي : الباقي ، وهو قول سفيان وجماعة .
القول الرابع : المراد الصبيُّ نفسه الذي هو وارث أبيه المتوفَّى ، فإن كان له مالٌ ، وجب أجرة رضاعه في ماله ، وإن لم يكن له مال ، فعلى الأمِّ ، ولا يجبر على نفقة الصبيِّ إلاَّ الوالدان ، وهو قول مالكٍ والشافعيِّ .
قوله : { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً } .
في الفصال قولان :
أحدهما : أنَّه الفطام؛ لقوله تعالى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] وإنَّما سمي الفطام بالفصال؛ لأنَّ الولد ينفصل عن الاغتذاء بثدي أمِّه إلى غيره من الأقوات .
والثاني : قال أبو مسلم : ويحتمل أن يكون المراد من الفصال إيقاع المفاصلة بين الولد والأمِّ ، إذا حصل التراضي والتشاور في ذلك ، ولم يرجع بسبب ذلك ضررٌ إلى الولد .
قال المبرِّد : والفصال ، يقال : فصل الولد عن الأمِّ فصلاً وفصالاً ، والفصال أحسن؛ لأنَّه إذا انفصل عن أمِّه ، فقد انفصلت منه ، فبينهما فصالٌ ، نحو القتال والضِّراب ، وسمِّي الفصيل فصيلاً؛ لأنَّه مفصولٌ عن أمِّه؛ ويقال : فصل من البلد ، إذا خرج عنها وفارقها؛ قال تعالى : { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود } [ البقرة : 249 ] ، وحمل الفصال على الفطام هو قول أكثر المفسرين .
اعلم أنَّه لمَّا بيَّن تمام مدَّة الرضاع بقوله : { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } وجب حمل هذه الآية على غير ذلك ، حتى لا يلزم التَّكرار ، واختلفوا في ذلك : فمنهم من قال : إنَّها تدلُّ على جواز الفطام قبل الحولين وبعدهما ، وهو مرويٌّ عن ابن عبَّاس .
قوله تعالى : { عَن تَرَاضٍ } فيه وجهان :
أظهرهما : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ إذ هو صفةٌ ل « فِصَالاً » فهو في محلِّ نصبٍ ، أي : فصالاً كائناً عن تَرَاضٍ ، وقدَّره الزمخشريُّ : صادراً عن تَرَاضٍ ، وفيه نظرٌ من حيث كونه كوناً مقيَّداً .
والثاني : أنه متعلقٌ ب « أَرَادَا » ، قاله أبو البقاء ، ولا معنى له إلاَّ بتكلّف . والفصال ، والفصل : الفطام ، وأصله التفريق ، فهو تفريقٌ بين الصبيِّ والثَّدي ، ومنه سمِّي الفصيل؛ لأنَّه مفصولٌ عن أمه .
و « عَنْ » للمجاوزة مجازاً؛ لأنَّ التَّراضي معنًى ، لا عينٌ .
و « تَرَاضٍ » مصدر تفاعل ، فعينه مضمومةٌ ، وأصله : تفاعلٌ تراضوٌ ، ففعل فيه ما فعل ب « أدْلٍ » جمع دلوٍ ، من قلب الوالو ياءً ، والضمة قلبها كسرةً ، إذ لا يوجد في الأسماء المعربة واوٌ قبلها ضمةٌ لغير الجمع إلا ويفعل بها ذلك تخفيفاً .
قوله تعالى : { مِّنْهُمَا } في محلِّ جرٍّ صفةً ل « تَرَاضٍ » ، فيتعلَّق بمحذوفٍ ، أي : تَرَاضٍ كائنٍ أو صادرٍ منهما ، و « مِنْ » لابتداء الغاية .
وقوله : { وَتَشَاوُرٍ } [ حذفت « مِنْهُمَا » لدلالة ما قبلها عليها ، والتقدير : وتشاور منهما ] ، ويحتمل أن يكون التَّشاور من أحدهما ، مع غير الآخر؛ لتتفق الآراء منهما ، ومن غيرهما على المصلحة .
قوله : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } الفاء جواب الشَّرط ، وقد تقدَّم نظير هذه الجملة ، ولا بُدَّ قبل هذا الجواب من جملةٍ قد حذفت؛ ليصحَّ المعنى بذلك ، تقديره : ففصلاه أو فعلا ما تراضيا عليه ، فلا جناح عليهما في الفصال ، أو في الفصل .
فصل في التشاور
التشاور في اللُّغة : استخراج الرَّأْي ، وكذلك المشورة كالمعونة ، وشرت العسل ، إذا استخرجته .
وقال أبو زيدٍ : شُرت الدَّابَّةَ ، وشَوَّرْتُهَا ، أجريتها لاستخراج جريها في الموضع الذي تعرض فيه الدوابُّ ، يقال له : الشّوار ، والشَّوار بالفتح متاع البيت؛ لأنَّه يظهر للنَّاظر ، ويقال : شوَّرته فتشوَّر ، أي : خجلته ، والشَّارة : هيئة الرَّجل؛ لأنَّه ما يظهر من زينته ويبدو منها ، والإشارة : إخراج ما في نفسك وإظهاره للمخاطب بالنُّطق وغيره .
فصل في مدة الفطام
دلَّت الآية على أن الفطام في أقلَّ من حولين لا يجوز إلاَّ عند رضا الوالدين ، وعند المشاورة مع أرباب التَّجارب ، وذلك لأنَّ الأمَّ قد تملُّ من الرَّضاع فتحاول الفطام؛ والأب أيضاً قد يملُّ من عطاء الأجرة على الإِرْضَاع ، فيحاول الفِطَام؛ دَفْعاً لذلك ، لكنهما قلَّما يتوافقان على الإضرار بالولد؛ لغرض النَّفس ، ثم بتقدير توافقهما : اعتبر المشاورة مع غيرهما ، وعند ذلك يبعد حصول موافقة الكلِّ على ما يكون فيه ضرر الولد ، فعند اتِّفاق الكلِّ على أنَّ الفطام قبل الحولين لا يضرُّ الولد ألبتَّة يجوز الفطام .
فانظر إلى إحسان الله تعالى بهذا الطفل الصغير ، كم شرط في جواز فطامه من الشروط؛ دفعاً للمضارِّ عنه ، ثم عند اجتماع هذه الشَّرائط لم يصرِّح بالإذن ، بل قال : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } .
قوله : { وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ } .
« أن » وما في حيِّزها في محلِّ نصبٍ ، مفعولاً ب « أَرَاد » وفي « اسْتَرْضَعَ » قولان للنَّحويين :
أحدهما : أنه يتعدَّى لاثنين ، ثانيهما بحرف الجرِّ ، والتقدير : أن تسترضعوا المراضع لأولادكم ، فحذف المفعول الأوَّل وحرف الجر من الثاني ، فهو نظير « أَمَرْتُ الخَيْرَ » ، ذكرت المأمور به ، ولم تذكر المأمور؛ لأنَّ الثاني منهما غير الأوَّل ، وكلُّ مفعولين كانا كذلك ، فأنت فيهما بالخيار بين ذكرهما وحذفهما ، وذكر الأوَّل ، دون الثاني والعكس .
قال الواحديُّ : « أن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلاَدَكُمْ » ، أي : لأَوْلاَدِكُمْ وحذف اللام ، اجتزاءً بدلالة الاسترضاع؛ لأنَّه لا يكون إلاَّ للأولاد ، ولا يجوز : « دَعَوْتُ زَيْداً » وأنت تريد لزيد؛ لأنَّه لا يلتبس ها هنا خلاف ما قلنا في الاسترضاع ، ونظير حذف « اللاَّم » قوله تعالى : { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } [ المطففين : 3 ] أي : كالو لهم ، أو وزنوا لهم .
والثاني : أنه متعدٍّ إليهما بنفسه ، ولكنه حذف المفعول الأول ، وهذا رأي الزمخشريِّ ، ونظَّر الآية الكريمة بقولك : « أَنَجَحَ الحَاجَةَ » « وَاسْتَنْجَحَتْهُ الحَاجَةُ » وهذا يكون نقلاً بعد نقلٍ؛ لأنَّ الأصل « رَضِعَ الوَلَدُ » ، ثم تقول : « أَرْضَعَت المَرْأَةُ الوَلَدَ » ، ثم تقول : « اسْتَرْضَعْتُهَا الوَلَدَ » ؛ هكذا قال أبو حيَّان .
قال شهاب الدين : وفيه نظر؛ لأنَّ قوله « رضِعَ الوَلَدُ » يشعر أنَّ هذا لازمٌ ، ثم عدَّيته بهمزة النقل ، ثم عدَّيته ثانياً بسين الاستفعال ، وليس كذلك ، لأنَّ « رَضِعَ الوَلَدُ » متعدٍّ ، غاية ما فيه أنَّ مفعوله غير مذكورٍ ، وتقديره : رَضِعَ الوَلَدُ أُمَّهُ؛ لأنَّ المادَّة تقتضي مفعولاً به؛ كضرب ، وأيضاً فالتعدية بالسين قول مرغوبٌ عنه ، والسين للطلب على بابها؛ نحو : اسْتَسْقَيْتُ زَيْداً مَاءً ، واسْتَطْعَمْتُهُ خُبْزاً؛ فكما أنَّ ماءً وخبزاً منصوبان ، لا على إسقاط الخافض كذلك « أَوْلاَدَكُمْ » ، وقد جاء [ استفعل ] للطَّلب ، وهو معدًّى إلى الثاني بحرف جرٍّ ، وإن كان « أَفْعَلَ » الذي هو أصله متعدِّياً لاثنين ، نحو : « أَفْهَمَنِي زَيْد المَسْأَلَةَ » واستفهمته عنها ، ويجوز حذف « عَنْ » ، فلم يجيء مجيءَ « اسْتَسْقَيْتُ » و « اسْتَطْعَمْتُ » من كون ثانيهما منصوباً ، لا على إسقاط الخافض .
وفي هذا الكلام التفاتٌ وتلوينٌ ، أمَّا الالتفات : فإنه خروجٌ من ضمير الغيبة في قوله : « فَإِنْ أَرَادُوا » إلى الخطاب في قوله : « وَإِنْ أَرَدتُّمْ » ؛ إذ المخاطب الآباء والأمهات ، وأمَّا التلوين في الضمائر ، فإنَّ الأول ضمير تثنيةٍ ، وهذا ضمير جمعٍ ، والمراد بهما الآباء والأمهات أيضاً؛ وكأنه رجع بهذا الضمير المجموع إلى الوالدات والمولُودِ له ، ولكنه غَلَّبَ المُذَكَّرَ ، وهو المولودُ له ، وإنْ كان مفرداً لفظاً ، و « فَلاَ جُنَاحَ » جوابُ الشرطِ .
قوله : { إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم } « إِذَا » شرطٌ حذف جوابه؛ لدلالة الشرط الأول وجوابه عليه ، قال أبو البقاء : وذلك المعنى هو العاملُ في « إذا » وهو متعلِّق بما تعلَّق به « عَلَيْكُم » ، وهذا خطأٌ في الظاهر؛ لأنه جعل العامل فيها أولاً ذلك المعنى المدلول عليه بالشَّرط الأوَّل وجوابه ، فقوله ثانياً « وهو متعلِّق بما تعلَّق به عَلَيْكُم » تناقضٌ ، اللهم إلا أن يقال : قد يكون سقطت من الكاتب ألفٌ ، وكان الأصل « أَوْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ » فيصحُّ ، إلاَّ أنه إذا كان كذلك ، تمحَّضت « إِذَا » للظرفية ، ولم تكن للشرط ، وكلام هذا القائل يشعر بأنها شرطيةٌ في الوجهين على تقدير الاعتذار عنه .
وليس التَّسليم شرطاً للجواز والصحَّة ، وإنَّما هو ندب إلى الأولى ، والمقصود منه أن يسلِّم الأجرة إلى المرضعة يداً بيدٍ ، حتى تطيب نفسها ، ويصير ذلك سبباً لصلاح حال الطِّفل ، والاحتياط في مصالحه .
وقرأ الجمهور : « آتَيْتُمْ » بالمدِّ هنا وفي الرُّوم : { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً } [ الروم : 39 ] وقصرهما ابن كثير . وروى شيبان عن عاصم « أُوتِيتُمْ » مبنيّاً للمفعول ، أي : ما أقدركم الله عليه ، فأمَّا قراءة الجمهور ، فواضحةٌ؛ لأنَّ « آتَى » بمعنى « أَعْطَى » ، فهي تتعدَّى لاثنين ، أحدهما ضمير يعود على « مَا » الموصولة ، والآخر ضميرٌ يعود على المراضع ، والتقدير : ما آتيتموهنَّ إيَّاه ، ف « هُنَّ » هو المفعول الأوَّل؛ لأنه الفاعل في المعنى ، والعائد هو الثاني؛ لأنه هو المفعول في المعنى ، والكلام على حذف هذا الضمير ، وهو منفصلٌ قد تقدَّم ما عليه من الإشكال ، والجواب عند قوله : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] .
وأمَّا قراءة القصر ، فمعناها جئتم وفعلتم يقال : أَتَيْتُ جميلاً ، إذا فعلته؛ قال زهيرٌ : [ الطويل ]
1129- وَمَا كَانَ مِنْ خَيْرٍ أَتَوْهُ فَإِنَّمَا ... تَوَارَثَهُ آبَاءُ آبَائِهِمْ قَبْلُ
أي : فعلوه ، والمعنى : إذا سلَّمتم ما جئتم وفعلتم .
فعلى هذه القراءة يكون التَّسليم بمعنى الطَّاعة ، والانقياد ، لا بمعنى تسليم الأجرة ، يعني : إذا سلَّمتم لأمره وانقدتم لحكمه .
وقال أبو عليٍّ : ما أتيتم نقده أو إعطاءه ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وهو عائد الموصول ، فصار : آتيتموه ، أي : جئتموه .
وأما قراءة عاصم ، فمعناها : ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة ، وهو في معنى قوله تعالى : { وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } [ الحديد : 7 ] .
ثم حذف عائد الموصول ، وأجاز أبو البقاء أن يكون التقدير : ما جئتم به ، فحذف ، يعني : حذف على التَّدريج بأن حذف حرف الجرِّ أولاً؛ فاتَّصل الضمير منصوباً بفعلٍ ، فحذف .
و « ما » فيها وجهان :
أظهرهما : أنها بمعنى « الَّذِي » وأجاز أبو عليٍّ فيها أن تكون موصولةً حرفيَّةً ، ولكن ذكر ذلك مع قراءة القصر خاصَّةً ، والتقدير : إذا سلَّمتم الإتيان ، وحينئذٍ يستغنى عن ذلك الضَّمير المحذوف ، ولا يختصّ ذلك بقراءة القصر ، بل يجوز أن تكون مصدريَّةً مع المدِّ أيضاً؛ على أن المصدر واقعٌ موقع المفعول ، تقديره : إذا سلَّمتم الإعطاء ، أي : المعطى .
والظاهر في « مَا » أن يكون المراد بها الأُجرة التي تتعاطاها المرضع ، والخطاب على هذا في قوله : « سَلَّمْتُمْ » و « آتَيْتُمْ » لآباء خاصَّة ، وأجازوا أن يكون المراد بها الأولاد ، قاله قتادة والزهري ، وفيه نظرٌ؛ من حيث وقوعها على العقلاء؛ وعلى هذا فالخطاب في « سَلَّمْتُمْ » للآباء والأمَّهات .
قوله تعالى : { بالمعروف } فيه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن يتعلَّق ب « سَلَّمْتُمْ » أي : بالقول الجميل .
والثاني : أن يتعلَّق ب « آتَيْتُمْ » .
والثالث : أن يكون حالاً من فاعل « سَلَّمْتُمْ » ، أو « آتَيتُمْ » ، فالعامل فيه حينئذٍ محذوفٌ ، أي : مُلْتَبِسِينَ بالمعروف .
فصل
قد تقدَّم أنَّ الأمَّ أحقُّ بالرَّضاع ، فإن حصل ثمَّ مانعٌ عن ذلك ، جاز العدول عنها إلى غيرها ، مثل أن تتزوَّج بزوجٍ آخر ، فإنَّ قيامها بحقِّ ذلك الزوج يمنعها من الرَّضاع .
ومنها : إذا طلَّقها الزوج الأوَّل ، فقد تكره الرَّضاع؛ حتى يتزوَّج بها زوجٌ آخر .
ومنها : أن تأبى المرأة إرضاع الولد؛ إيذاءً للزَّوج المطلِّق وإيحاشاً له .
ومنها : أن تمرض ، أو ينقطع لبنها .
فعند أحد هذه الوجوه ، إذا وجدنا مرضعةً أخرى ، وقبل الطفل لبنها ، جاز العدول عن الأمِّ إلى غيرها .
فأمَّا إذا لم نجد مرضعةً أخرى أو وجدناها ، لكنَّ الطفل لا يقبل لبنها ، فهاهنا الإرضاع واجبٌ على الأمِّ .
ثم إنَّه تعالى ختم الآية بالتَّحذير ، فقال : { واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
في « الَّذِينَ » أوجهٌ :
أحدها : أنَّها مبتدأٌ لا خبر له ، بل أخبر عن الزوجات المتصل ذكرهنَّ به؛ لأنَّ الحديث معهنَّ في الاعتداد ، فجاء الخبر عن المقصود ، إذ المعنى : من مات عنها زوجها ، تربَّصت ، وإليه ذهب الكسائيُّ والفراء؛ وأنشد الفراء : [ الطويل ]
1130- لَعَلِّيَ إِنْ مَالَتْ بِيَ الرِّيحُ مَيْلَةً ... عَلَى ابْنِ أَبِي ذِبَّانَ أَنْ يَتَنَدَّمَا
فقال : لَعَلِّيَ « ثم قال : » أَنْ يَتَنَدَّمَ « فأخبر عن ابن أبي ذِبَّانَ ، فترك المتكلم؛ إذ التقدير : لعلَّ ابن أبي ذبَّان أن يتندَّم إن مالت بي الرِّيح ميلةً . وقال آخر : [ الطويل ]
1131- بَنِي أَسَدٍ إِنَّ ابْنَ قَيْسٍ وَقَتْلَهُ ... بِغَيْرِ دَمٍ دَارُ المَذَلَّةِ حُلَّتِ
فأخبر عن قتله بأنه دار مذلَّةٍ ، وترك الإخبار عن ابن قيسٍ .
وتحرير مذهب الكسائيِّ والفرَّاء : أنه إذا ذكر اسمٌ ، وذكر اسم مضافٌ إليه فيه معنى الإخبار ترك عن الأول ، وأخبر عن الثاني؛ نحو : » إنَّ زَيْداً وَأُخْتهُ مُنْطَلِقَةٌ « ، المعنى : إن أخت زيدٍ منطلقةٌ ، لكنَّ الآية الكريمة والبيت ا لأول ليسا من هذا الضَّرب ، وإنما الذي أورده شبيهاً بهذا الضرب . قوله : [ الوافر ]
1132- فَمَنْ يَكُ سَائِلاً عَنِّي فَإِنِّي ... وَجِرْوَةَ لاَ تَرُودُ وَلاَ تُعَارُ
وأنكر المبرد والزجاج ذلك؛ قالا : لأن مجيء المبتدأ بدون الخبر محال ، وليس هذا موضع البحث في هذا المذهب ودلائله .
الثاني : أنَّ له خبراً اختلفوا فيه على وجوه :
أحدها : أنه » يَتَرَبَّصْنَ « ، ولا بدَّ من حذفٍ يصحِّحُ وقوع هذه الجملة خبراً عن الأول؛ لخلوِّها من الرابط ، والتقدير : وأزواجُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ يَتَرَبَّصْنَ؛ ويدلُّ على هذا المحذوف قوله : { وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً } فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه لتلك الدلالة عليه . والتقدير : يتربَّصن بعدهم ، أو بعد موتهم ، قاله الأخفش .
وثالثها : أنَّ » يَتَرَبَّصْنَ « خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ ، التقدير : أزواجهم يتربَّصْنَ ، وهذه الجملة خبرٌ عن الأوَّل ، قاله المبرِّد .
ورابعها : أنَّ الخبر محذوفٌ بجملته قبل المبتدأ ، تقديره : فيما يتلى عليكم حكم الذين يتوفَّون ، ويكون قوله » يَتَرَبَّصْنَ « جملةً مبيِّنَةً للحكم ، ومفسِّرة له ، فلا موضع لها من الإعراب ، ويعزى هذا لسيبويه .
قال ابن عطيَّة : وَحَكَى المَهْدَوِيُّ عن سيبويه أنَّ المعنى : » وَفِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُم الذين يُتَوَفَّونَ « ، ولا أعرفُ هذا الذي حكاه؛ لأنَّ ذلك إنما يتَّجه إذا كان في الكلام لفظ أمرٍ بعد المبتدأ ، نحو قوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا } [ المائدة : 38 ] { الزانية والزاني فاجلدوا } [ النور : 2 ] وهذه الآية فيها معنى الأمر ، لا لفظه ، فتحتاج مع هذا التقدير إلى تقدير آخر يستغنى عنه إذا حضر لفظ الأمر .
وخامسها : أن بعض الجملة قام مقام شيء مضافٍ إلى عائدِ المبتدأ ، والتقدير : » وَالَّذِينَ يُتَوفَّوْنَ مِنْكُمْ ويَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ أَزْوَاجُهُمْ « فحذف » أَزْوَاجُهُمْ « بجملته ، وقامت النون التي هي ضمير الأزواج مقامهنَّ بقيد إضافتهنَّ إلى ضمير المبتدأ .
وقال القرطبيُّ : المعنى : والرِّجَالُ الَّذِينَ يَمُوتُونَ مِنْكُمْ « » وَيَذَرُونَ « - أي : يتركون - » أَزْوَاجاً « - أي : ولهم زوجاتٌ - فالزَّوجات » يَتَرَبَّصْنَ « قال معناه الزَّجَّاج واختاره النَّحاس ، وحذف المبتدأ في القرآن كثيرٌ؛ قال تعالى : { قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم النار } [ الحج : 72 ] أي هو النَّار .
وقرأ الجمهور » يُتَوَفَّوْنَ « مبنيّاً لما لم يسمَّ فاعله ، ومعناه : يموتون ويقبضون؛ قال تعالى : { الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا } [ الزمر : 42 ] ، وأصل التوفي أخذ الشيء وافياً كاملاً ، فمن مات ، فقد وجد عمره وافياً كاملاً .
وقرأ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ورواها المفضَّل عن عاصم - بفتح الياء على بنائه للفاعلن ومعناه : يَسْتَوْفُونَ آجَالَهُمْ ، قاله الزمخشريُّ .
ويُحكى أن أبا الأسود كان خلف جنازةٍ ، فقال له رجلٌ : من المتوفِّي؟ بكسر الفاء ، فقال : الله ، وكان أحد الأسباب الباعثة لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - على أن أمره بوضع كتابٍ في النَّحو .
وقد تقدَّم البحث في قوله تعالى : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء } [ البقرة : 228 ] وهل » بِأَنْفُسِهِنَّ « تأكيدٌ أو لا؟ وهل نصبُ » قُرُوء « على الظرف ، أو المفعوليَّة؟ وهو جارٍ ها هنا .
قوله : { مِنكُمْ } في محلِّ نصبٍ على الحال من مرفوع » يتَوَفَّوْنَ « والعامل فيه محذوفٌ ، تقديره : حال كونهم منكم ، و » مِنْ « تحتمل التبعيض وبيان الجنس والأزواج ها هنا .
فصل في معنى » التربص «
و » التَّرَبُّصُ « : التأنِّي والتصبُّر عن النِّكاح ، وترك الخروج عن مسكن النكاح بألاَّ تفارقه ليلاً ، ولم يذكر الله تعالى السُّكنى للمتوفَّى عنها في كتابه كما ذكرها للمطلَّقة بقوله : { أَسْكِنُوهُنَّ } [ الطلاق : 6 ] ، وليس في لفظ العدَّة في القرآن ما يدلُّ على الإحداد وإنما قال : » يَتَرَبَّصْنَ « فبينت السُّنَّة جميع ذلك .
قوله : { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } إنما قال » عَشْراً « من غير تاء تأنيثٍ في العدد والمراد عشرة أيام؛ لوجوه :
الأول : أنَّ المراد » عَشْرَ لَيَالٍ « مع أيامها ، وإنما أوثرت الليالي على الأَيام في التاريخ لسبقها؛ قال الزمخشريُّ : » وقيل « عَشْراً » ذهاباً إلى الليالي ، والأيام داخلةٌ فيها ، ولا تراهم قطُّ يستعملون التذكير ذاهبين فيه إلى الأيام ، تقولك « صُمْتُ عَشْراً » ، ولو ذكَّرْت خرجت من كلامهم ، ومن البيِّن قوله تعالى : { إِلاَّ عَشْراً } [ طه : 103 ] ، { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً } [ طه : 104 ] .
الثاني : قال المبرِّد : إنَّ حذف التاء؛ لأجل أنَّ التقدير عشر مددٍ كلُّ مدة منها يومٌ وليلةٌ ، تقول العرب : « سِرْنَا خَمْساً » أي : بين يوم وليلة؛ قال : [ الطويل ]
1133- فَطَافَتْ ثَلاَثاً بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ... وَكَانَ النَّكِيرُ أَنْ تُضِيفَ وَتَجْأَرَا
والثالث : أنَّ المعدود مذكَّرٌ وهو الأيام ، وإنما حذفت التاء؛ لأنَّ المعدود المذكر ، إذا ذكر وجب لحاق التاء في عدده؛ قالوا « صُمْنَا خَمْسَةَ أَيَّام » ، وإذا حذف لفظاً ، جاز في العدد الوجهان : ذكر التاء وعدمها ، حكى الكسائيُّ : « صُمْنَا مِنَ الشَّهْرِ خَمْساً » ، ومنه الحديث :
« وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ » ، وقال الشاعر : [ الطويل ]
1134- وَإِلاَّ فَسِيرِي مِثْلَ مَا سَارَ رَاكِبٌ ... تَيَمَّمَ خَمْساً لَيْسَ فِي سَيْرِهِ أَمَمْ
نصَّ النحويون على ذلك .
قال أبو حيَّان : « فَلا يُحْتَاجُ إلى تأويلها بالليالي ولا بالمدد؛ كما قدَّره الزَّمخشريُّ والمُبَرِّد على هذا » ، قال : « وإذا تقرر هذا ، فجاء قوله : » وَعَشْراً « على أحد الجازئين ، وإنما حسن حذف التاء هنا؛ لأنه مقطع كلام ، فهو شبيهُ بالفواصل؛ كما حسَّن قوله : { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً } [ طه : 103 ] كونه فاصلةً ، فقوله : » ولو ذَكَّرْتَ لَخَرجْتَ من كَلاَمِهِمْ « ليس كما ذكر ، بل هو الأفصح ، وفائدة ذكره » إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً « بعد قوله » إِلاَّ عَشْراً « أنه على زعمه أراد الليالي ، والأيام داخلةٌ معها ، فقوله : » إِلاَّ يَوْماً « دليلٌ على إرادةِ الأيَّام » . قال أبو حيان : « وهذا عندنا يدلُّ على أنَّ المراد بالعشر الأيَّام؛ لأنهم اختلفوا في مدَّة اللَّبث ، فقال بعضهم : » عَشْراً « وقال بعضهم : » يَوْماً « فدلَّ على أنَّ المقابل باليوم إنما هو أيام؛ إذ لا يحسن في المقابلة أن يقول بعضهم : عَشْرُ لَيَالٍ ، فيقول البعضُ : يَوْمٌ » .
الرابع : أنَّ هذه الأيَّام [ أيَّام حزن ومكروه ، ومثل هذه الأيَّام ] تسمَّى بالليالي على سبيل الاستعارة؛ كقولهم : « خَرَجْنَا لَيَالِيَ الفِتْنَةِ ، وجئنا لياليَ إِمَارَة الحَجَّاج » .
الخامس : أنَّ المراد بها الليالي ، وإليه ذهب الأوزاعيُّ وأبو بكر الأصمُّ ، وبعض الفقهاء قالوا : إذا انقضى لها أربعة أشهرٍ وعشر ليالٍ ، حلَّت للأزواج .
فصل
لما ذكر الله تعالى عدَّة الطلاق ، واتصل بذكرها ذكر الرَّضاع ، ذكر عدَّة الوفاة أيضاً؛ لئلاَّ يتوهَّم أن عدة الوفاة مثل عدَّة الطلاق .
فصل فيمن تستثنى من هذه العدَّة
هذه العدَّة واجبةٌ على كلِّ امرأةٍ مات عنها زوجها ، إلاَّ في صورتين :
الأولى : أن تكون أمَةً ، فإنَّها تعتدُّ عند أكثر الفقهاء نصف عدة الحرَّة .
وقال أبو بكر الأصمُّ : عدتها عدَّة الحرَّة؛ لظاهر هذه الآية ، ولأن الله تعالى جعل وضع الحمل في حقِّ الحامل بدلاً عن هذه المُدَّة؛ فوجب أن يشتركا فيه .
وأجاب الفقهاء بأنَّ التنصيف في هذه المدة ممكنٌ ، وفي وضع الحمل غير ممكن ، فظهر الفرق .
الصُّورة الثانية : أن تكون حاملاً ، فعدَّتها بوضع الحمل ، ولو كان بعد وفاة الزَّوج بلحظة .
وعن عليٍّ - رضي الله عنه - : أن تتربّصن بأبعد الأجلين .
واستدلَّ الجمهور بقوله تعالى : { وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق : 4 ] .
فإن قيل : هذه الآية إنما وردت عقيب ذر المطلَّقات؛ [ فيكون للمطلَّقات ] لا للمتوفَّى عنها زوجها .
فالجواب : أنَّ دلالة الاقتران ضعيفةٌ ، والاعتبار إنَّما هو بعموم اللفظ .
وأيضاً : قال عبدالله بن مسعود : « أُنْزِلَتْ سورةُ النِّساء القُصْرَى بعد الطُّولى » أراد بالقصرى « سُورَة الطَّلاَقِ » ، وبالطُّولى « سُورَة البَقَرَةِ » ، وأراد به قوله تعالى في سورة الطلاق : { وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } نزلت بعد قوله : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } فحمله على الفسخ ، وعامَّة الفقهاء خصُّوا الآية بحديث سبيعة ، وهو ما روي في « الصَّحِيحَينِ » : أنَّ سُبَيْعَة الأسلميَّة كانت تحت سعد بن خولة ، فتوفِّي عنها في حجَّة الوداع ، وهي حاملٌ ، فولدت بعد وفات زوجها بنصف شهرٍ ، فلمَّا طهرت من دمها تجمَّلت للخطَّاب ، فدخل عليها أبو السَّنابل بن بعكك ، رجلٌ من بني عبد الدَّار ، فقال لها : ما لي أراك متجمِّلةً ، لعلَّك تريدين النِّكاح ، والله ما أنت بناكح حتَّى تمرَّ عليك أربعة أشهرٍ وعشرٌ ، قالت سبيعة : فسألت النَّبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، قالت : فأفتاني بأنِّي قد حللت حين وضعت حملي ، وأمرني بالتَّزويج ، إن بدا لي .
ولا فرق في عدَّة الوفاة بين الصَّغيرة والكبيرة ، وقال ابن عبَّاس : لا عدَّة عليها قبل الدُّخول .
فصل في عدة أم الولد المتوفى عنها سيدها
اختلفوا في عدَّة أمِّ الولد ، إذا توفِّي عنها سيِّدها ، فقال سعيد بن المسيَّب ، والزُّهريُّ ، والحسن البصريُّ ، وجماعةٌ : عدَّتها أربعة أشهرٍ وعشرٌ ، وبه قال الأوزاعيُّ ، وإسحاق .
وروي عن عليٍّ ، وابن مسعود : أن عدَّتها ثلاث حيضٍ ، وهو قول عطاء وإبراهيم النَّخعيِّ وسفيان الثوريِّ وأصحاب الرَّأي .
قال مالكٌ : لا تنقضي عدَّتها في هذه المدَّة حتى ترى عادتها من الحيض في تلك المدَّة ، مثل إن كانت عادتها أن تحيض في كلِّ شهر فعليها حيضتان ، وإن كانت عادتها أن تحيض في كلِّ أربعة أشهر مرَّة ، فهاهنا يكفيها الشُّهور ، وهذا خلاف ظاهر الآية ، فإن ارتابت ، استبرأت نفسها من الرِّيبة؛ كما أنَّ ذات الأقراء ، لو ارتابت وجب عليها أن تحتاط .
فصل
إذا مات الزوج ، وقد بقي من شهر الوفاة أكثر من عشرة أيَّامٍ ، فالشَّهر الثاني والثالث والرابع يؤخذ بالأهلَّة ، سواءٌ خرجت ناقصةً أو كاملةً ، ثم تكمل الشهر الأوَّل من الخامس ثلاثين يوماً ، ثم تضمُّ إليها عشرة أيَّامٍ .
وإن مات ، وقد بقي من الشَّهر أقلُّ من عشرة أيامٍ ، اعتبر أربعة أشهر بعد ذلك بالأهلَّة ، وكمل العشرين من الشَّهر السادس .
فصل في كون الآية ناسخة
أجمع الفقهاء على أنَّ هذه الآية ناسخة لما بعدها من الاعتداد بالحول ، وإن كانت متقدِّمة في التِّلاوة غير أبي مسلم الأصفهاني ، فإنّه أبى نسخها ، وسيأتي كلامه إن شاء الله تعالى . والتقدُّم في التلاوة لاّ يمنع التأخُّر في النزول .
فصل في ابتداء هذه المدَّة ، فقال بعضهم : ابتداؤها من حين العلم بالوفاة؛ لقوله تعالى : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } والتربص بأنفسهن لا يحصل إلاَّ بقصد التربُّص ، والقصد لا يكون إلا مع العلم .
وقال الأكثرون : ابتداؤها من حيث الموت؛ لأنَّه سببها ، فلو انقضت المدَّة أو أكثرها ، ثم بلغها خبر الوفاة ، اعتدَّت بما انقضى من المدَّة ، ويدلُّ على ذلك أنَّ الصَّغيرة الَّتي لا علم لها يكفي في انقضاء عدَّتها مضيُّ هذه المدة .
فصل في وجوب نفقة الحامل
قال القرطبيُّ : أجمع العلماء على أنَّ نفقة المطلَّقة إذا كانت حاملاً واجبة؛ لقوله تعالى : { وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق : 6 ] ، واختلفوا في وجوب نفقة الحامل المتوفّى عنها زوجها ، فقال ابن عبّاس ، وسعيد بن المسيَّب ، وعطاء ، والحسن ، وعكرمة ، ويحيى الأنصاريُّ ، وربيعة ، ومالك ، وأحمد ، وإسحاق : ليس لها نفقةٌ ، وحكاه أبو عبيد عن أصحاب الرأي .
وروي عن عليّ ، وعبدالله : أنَّ لها النفقة من جميع المال ، وبه قال ابن عمر ، وشريحٌ ، وابن سيرين ، والشَّعبيُّ ، وأبو العالية ، والنَّخعيُّ ، وحماد بن أبي سلمان ، وأيُّوب السَّختيانيُّ وسفيان الثوريُّ ، وأبو عبيدٍ .
فصل
روي عن أبي العالية وسعيد بن المسيَّب؛ أن الله تعالى حدَّ العدة بهذا القدر؛ لأنَّ الولد ينفخ فيه الرُّوح في العشر بعد الأربعة ، وهو منقولٌ عن الحسن البصريِّ .
فصل
احتجَّ من قال إنَّ الكفَّار ليسوا مخاطبين بفروع الإسلام؛ بقوله تعالى : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ } قالوا : هذا خطابٌ مع المؤمنين ، فاختصَّ بهم ، وجوابه أنَّ المؤمنين ، لمَّا كانوا هم العالمين بذلك ، خصَّهم بالذِّكر؛ كقوله : { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } [ النازعات : 45 ] مع أنَّه كان منذراً للكلِّ؛ لقوله تعالى : { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان : 1 ] .
قوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي : مِن اختيار الأَزواج دون العقد ، فإن العقد إلى الوَلِيِّ .
وقيل : فيما فَعَلْنَ من التَّزَيُّن للرجالِ زينةً لا يشكرها الشَّرْع .
فصل في وجوب الإحداد في عدَّة الوفاةِ
يجب عليها الإحدادُ في عدَّة الوفاة ، وهو الامتناع من الزِّينة والطّ ] ب ، فلا يجُوز لها تدهينُ رأسها بأيِّ دُهْن كان ، سواء كان فيه طِيبٌ أو [ لم يكن ] ، [ ولها تدهِينُ جسدها بدُهن لا طيب فيه ، فإن كان فيه طيبٌ ، فلا يجوز ] ، ولا يجُوزُ لها أن تكتحل بكُحلٍ فيه طيبٌ وفيه زينةٌ ، كالكُحْل الأسود ، ولا بأس بالكُحل الفارسيِّ الذي لا زينة فيه ، فإن اضطرت إلى كُحل فيه زينةٌ فرخص فيه كثيرٌ من أهْل العلم منهم سالم بنُ عبد الله ، وسليمان بنُ يسارٍ ، وعطاءٌ والنخعيُّ ، وبه قال مالكٌ وأصحاب الراي .
وقال الشَّافعيُّ : تكتحلُ به ليلاً وتمسحهُ نهاراً .
قالت أمُّ سلمة : دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين تُوُفِّي أبو سلمة ، وقد جعلت عليَّ صبراً ، فقال : إنَّه يَشُبُّ الوجه ، فلا تجعليه إلاَّ باللَّيل وتنزعيه بالنَّهار .
ولا يجوز لها الخضابُ ، ولا لُبسُ الوشي والدِّيباج والحُليِّ ، ويجوزُ لها لُبْس البيض من الثِّياب ، ولُبْسُ الصوف والوبر ، ولا تلبسُ الثَّوب المصبوغ؛ كالأَحمر ، والأصفر ، والأَخضر النَّاضر ، ويجوزُ ما صُبغ لغير زينةٍ؛ كالسَّواد والكُحْليِّ .
وقال سفيان : لا تلْبَسُ المصبُوغ بحالٍ .
فصل في العدة في بيت الزوج
قال القرطبيُّ : إذا كان الزوج يملكُ رقبة المَسكن ، فإنَّ للزوجة العدَّة فيه ، وعليه أكثرُ الفقهاءِ ، وإِن كان للزَّوج السكنى دون الرَّقبة ، فلها السكنى في مدَّة العدَّة؛ خلافاً لأبي حنيفة والشَّافعيِّ؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - للفُريعة - وقد علم أن زوجها يملك رقبة المسكن - : « أمْكُثي في بيتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ » .
وهذا إذا كان قد أدَّى الكراء ، فإِن كان لم يُؤَدِ الكراء ، فالذي في « المُدَوَّنَة » أنَّه لا سكْنَى لها في مالِ المَيِّت ، وإن كان مُوسِراً؛ لأنَّ حقَّها إنما يتعلق بما يمكله مِنَ السُّكْنَى ملكاً تامّاً ، وما لَمْ ينقد عوضه لم يملكه مِلكاً تامّاً ، وإنَّما ملك العوضَ الذي بيده ، ولا حقَّ في ذلك للزَّوجة إلاَّ بالميراثِ ، دون السُّكْنَى؛ لأنَّ ذلك مالٌ ، وليس بسكْنَى . ورُوي عن مالكٍ : أن الكِراء لازمٌ للميِّت في ماله .
فصل
ولها أن تخْرج في حوائجها نهاراً إلى بعد العتمة ، ولا تبينُ إِلاَّ في منزلها ، وقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - « لا يحلُّ لامْرَأَةٍ تؤمِنُ بالله واليَوْمِ الآخِر » يدلُّ على أنَّ الكتابيَّة لا إحداد عليها ، وبه قال أبو حنيفة ، ورُوِيَ عن مالك أَنَّ عليها الإحداد؛ كالمسلمة ، وبه قال الشافعيُّ .
فصل
والإحدادُ واجبٌ على جميع الزَّوجات الحرائِر والإِماء والصغار والكبار ، وذهب أبو حنيفة أنَّه لا إحدادَ على أمة ، ولا على صغيرة ، وقال الحسن : الإحْدَادُ ليس بواحبٍ .
قوله : { بالمعروف } فيه أربعةُ أوجهٍ :
أحدها : أن يكونَ حالاً من فاعل « فَعَلْنَ » ، أي : فَعَلْنَ مُلْتَبسَاتٍ بالمعروف ومُصَاحِباتٍ له .
والثاني : أنه مفعولٌ به ، أي : تكونُ الباءُ باءَ التعدية .
الثالث : أن يكونَ نعتَ مصدر محذوفٍ ، أي : فَعَلْنَ فِعْلاً بالمعروف ، أي : كائناً ، ويجيءُ فيه مذهب سيبويه : أنه حالٌ من ضميرِ المصدرِ المعرفةِ ، أي : فَعَلْنَهُ - أي الفعلَ - ملتبساً بالمعروف ، وهو الوجهُ الرابعُ .
قوله : { بِمَا تَعْمَلُونَ } متعلق ب « خَبِيرٌ » ، وَقُدِّمَ لأجلِ الفاصلةِ ، و « مَا » يجوزُ أن تكونَ مصدريةً ، وأن تكونَ بمعنى « الذي » أو نكرةً موصوفة ، وهو ضعيفٌ ، وعلى هذين القولين ، فلا بدَّ من عائدٍ محذوفٍ ، وعلى الأَوَّل لا يُحتاجُ إليه ، إلا على رأي ضعيفٍ .
فصل
تَمَسَّكَ أصحابُ أبي حنيفة في جواز النِّكاح بغير وليِّ بقوله تعالى : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف } قالوا : وإضافةُ الفعل إلى الفاعل محمولٌ على المباشرة؛ لأنَّ هذا هو الحقيقة في اللفظ .
والجوابُ أنَّ هذا الخطابَ مع الأَولياء ، أو الحُكَّام؛ كما تقدَّم ، وتقدير الآية : لا جُنَاحَ على النِّسَاء وعلَيْكُم ، ثم قال : { فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف } أي : ما يحسُنُ عقلاً وشرعاً؛ لأَنَّ المعروف ضدُّ المنْكَر الذي لا يحْسُن ، وذلك هو الحلالُ من التزويج إذا كان مستجمعاً لِشرائط الصِّحَّة ، والله أعلم .

وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
قال القرطبيُّ : لا جناح ، أي : لا إِثْمَ والجناحُ : الإثمُ ، وهو أصح في الشَّرع .
وقيل : بل هو الأَمر الشاقُّ ، وهو أصحُّ في اللغة؛ قال الشَّمَّاخ : [ الوافر ]
1135- إِذَا تَعْلُو بِرَاكِبِهَا خَلِيجاً ... تَذَكَّرُ مَا لَدَيْهِ مِنَ الجُنَاحِ
و « التَّعْريضُ » في اللغة : ضدُّ التصريح ، ومعناه : أن يضمِّن كلامَهُ ما يصلحُ للدَّلالة على مقصُوده ، ويصلُحُ للدَّلالة على غير مقصُوده ، إلا أن إشعَاره بجانب المقصُود أتَمُّ وأرجحُ .
وأصلُهُ مِنْ عُرض الشيء ، وهو جانبُهُ؛ كأنَّه يحوم حولَهُ؛ ولا يظهر ، ونظيره أن يقول المُحتاج للمحتاج إليه : جئتُكَ لأُسلمَ عَلَيك ، ولأنْظر إلى وجهك الكريم؛ ولذلك قال : [ الطويل ]
1136- . . ... وَحَسْبُكَ بِالتَّسْلِيمِ مِنِّي تَقَاضِيَا
والتعريض قد يُسمَّى تلويحاً؛ لأنَّه يَلُوحُ منه ما يريدُه ، والفرقُ بين الكناية والتعريض : أنَّ الكناية ذكرُ الشَّيء بذكر لوازمه؛ كقولك فلانٌ طويلُ النجادِ ، كثيرُ الرماد؛ لأنَّ النجاد عبارةٌ عن حَمِيلَةِ السَّيفِ ، إذا كانت حميلةُ سيفهِ طويلةً ، لزم منه أن يكونَ الرَّجُل طويلاً ، وكذلك إذا كان كثير الرمَادِ ، لزم منه أن يكون كثير الطَّبخ للأَضياف ، وغيرهم ، والتعريضُ أنْ يذكر كلاماً يحتمل المقصُود وغيره ، إلاَّ أنَّ قرينة الحال تؤكِّد حمله على المقصُود .
وقال الفراء : الخِطْبَةُ مصدرٌ بمعنى الخَطْب ، وهي مثل قولك : إِنَّه لَحَسَنُ القِعْدةِ والجِلْسَةِ تريد : القُعُود والجُلُوس والخطبَةُ مصدرٌ في الأصل بمعنى الخَطْبِ ، والخَطْب : الحاجة ، ثم خُصَّت بالتماس النكاح؛ لأنه بعضُ الحاجات ، يقال : ما خَطْبُكَ؟ أي : ما حاجتُك . وفي اشتقاقه وجهان :
الأول : الأمر والشأن يقال ما خطبُكَ؟ أي : ما شأنُكَ؟ فقولهم : خَطَبَ فلانٌ فُلانَةً ، أي : سَأَلَهَا أَمراً وشأناً في نفسِها .
والثاني : أصلُ الخِطْبة من الخطابة الَّذي هو الكلامُ ، يقال : خَطَبَ المرأة ، أي : خاطبها في أمر النِّكاح ، والخطب : الأمر العظيم؛ لأ ، َّه يحتاجُ لخطاب كثيرٍ . والخطبة بالضَّم ، الكلامُ المشتملُ على الوعظِ والزَّجرِ ، وكلاهما من الخَطْبِ الذي هو الكلامُ ، وكانت سَجاح يُقال لها خِطْبٌ فتقول : نِكْحٌ .
قوله تعالى : { مِنْ خِطْبَةِ النسآء } في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : الهاءُ المجرورةُ في « بِهِ » .
والثاني : « مَا » المجرورة ب « فِي » ، والعاملُ على كِلا التقديرين محذوفٌ ، وقال أبو البقاء : حالٌ من الهاءِ المجرورةِ ، فيكونُ العاملُ فيه « عَرَّضْتُمْ » ، ويجوزُ أن يكونَ حالاً من « مَا » فيكونُ العاملُ فيه الاستقرارَ . قال شهاب الدين : وهذا على ظاهره ليس بجيِّدٍ؛ لأنَّ العاملَ فيه محذوفٌ؛ على ما تقرَّر ، إلا أَنْ يريدَ من حيث المعنى لا الصناعةُ ، فقد يجوزُ له ذلك .
والخِطبة بكسر الخاء - فعلُ الخاطِب - : من كلام وقصدٍ ، واستلطافٍ ، بفعل أَو قولٍ . يقال : خطبها يخطبها خطباً ، أو خطبةً ، ورجل خَطّاب كثيرُ التصرفِ في الخطبةِ ، والخطيبُ : الخاطِبُ ، والخِطِّيبَى : الخِطْبة ، والخطبة فعلهُ : كجلسةٍ ، وقعدةٍ ، وخُطبة - بضمِّ الخاءِ - هي الكلامُ الذي يقال في النكاح ، وغيره .
قال النحاس : « والخُطبة » ما كان لها أَوَّل وآخر ، وكذلك ما كان على فعله ، نحو الأَكلة ، والضَّغطَة .
فصل في جواز التعريض بالخطبة في عدة الوفاة
التعريضُ بالخطبة مباحٌ في عدَّة الوفاة ، وهو أَنْ يقول : رُبَّ راغبٍ فيك ، ومَنْ يجدُ مثلك ، إنَّك لجميلة إنَّك لصالِحَةٌ ، إنّك عليّ كريمةٌ ، إنِّي فيك لراغِبٌ ، وإن مِنْ غرضي أَنْ أَتزوَّج ، وإِنْ جمع اللهُ بيني وبينك بالحلالِ أعجبتني ، وإِنْ تزوَّجتُك لأُحسن إليك ، ونو ذلك من الكلامِ ، من غير أَنْ يقول : أَنْحكيني .
والمرأةُ تجيبه بمثله ، إِنْ رغبتْ فيه .
وقال إبراهيم : لا بأس أَنْ يُهدي لها ويقوم بشغلها في العدة ، إذا كانت غير شابةٍ .
روي أَنَّ سُكَيْنةَ بنت حنظلة؛ بانت من زوجها ، فدخل عليها أَبُو جعفرٍ محمَّد بن علي الباقر في عِدّتها ، وقال : يا ابنة حنظلة ، أنا مَنْ قد عَلِمْت قرابتي مِنْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وحقَّ جَدِّي عليِّ ، وقدَمي في الإسلام ، فقالت له سُكينة : أَتخطبني وأنا في العدَّة ، وأَنْتَ يؤخذُ عنك؟ فقال أو قد فعلت؟ إِنَّما أخبرتُك بقرابتي مِنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقد دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أُمِّ سلمة ، وهي في عِدَّةٍ من زوجها ، أبي سلمة ، فذكر لها منزلتهُ مِنَ الله - عز وجلَّ - وهو متحامِلٌ على يده؛ حتَّى أثَّر الحصيرُ في يده من شدَّة تحامله على يده .
فصل
والنٍّساء في حكم الخِطبة على ثلاثة أقسامٍ :
الأول : التي يجوز خِطْبتُها تعريضاً ، وتصريحاً ، وهي الخاليةُ عن الأَزْوَاجِ والعدد إلاَّ أَنْ يكونَ خطبها غيره؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - : « لا يَخْطِبَنَّ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيْهِ » ، وهذا الحديثُ وإِنْ كان مطلقاً ففيه ثلاثةُ أجوالٍ :
الحالة الأولى : أَنْ يخطب الرجلُ ، فيجاب صريحاً؛ فهاهنا لا يَحِلُّ لغيره أَنْ يخطبها .
الحالة الثانية : أَنْ يُجابَ بالردِّ صريحاً؛ فها هنا يَحِلُّ لغيره أَنْ يخطبها .
الحالة الثالثة : ألاَّ يوجد صريحُ الإجابة ، ولا صريحُ الرَّدِّ؛ فهاهنا فيه خلافٌ .
فقال بعضهم تجوزُ خطبتها؛ لأَن السكوتَ لَمْ يدُلَّ على الرِّضا وهو الجديدُ عن الشَّافعيَّ .
وقال مالكٌ : لا يجوزث ، وهو القديمُ؛ لأنَّ السكوت وإِنْ لم يدُلَّ على الرضا ، لكنه لا يدلُّ أيضاً على الكراهة ، فربَّمَا حصلت الرغبةُ مِنْ بعضِ الوجوه؛ فتصيرُ هذه الخِطبةُ الثانية مزيلة لذلك القدر من الرغبة .
القسم الثاني : التي لا تجوز خِطْبتُها؛ لا تصريحاً ، ولا تعريضاً ، وهي زوجة الغير؛ لأَنَّ خطبتها ربما صارت سبباً لتشويش الأَمر على زوجها ، مِنْ حيثُ إنها إذا علمت رغبة الخاطب ، فربما حملها ذلك على الامتناع مِنْ تأدية حُقُوق الزوج ، والتسبب إلى هذا حرامٌ ، والرجعية كذلك؛ لأنها في حكم الزوجة؛ لصحة طلاقها ، وظهارها ، ولعانها ، وعِدَّتُها منه عِدَّة الوفاة إذا مات عنها ويتوارثان .
القسم الثالث : أَنْ يفصل في حقِّها بين التعريض ، والتَّصريح ، وهي المعتدة غير الرجعيَّة ، وهي ثلاثة أقسامٍ :
الأول : المعتدة عِدَّة الوفاةِ ، يجوز خطبتها تعريضاً؛ لقوله تعالى : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء } فظاهره أنها المتوفَّى عنها زوجها؛ لأنها مذكورةٌ عقب تلك الآية ، ولمّا خُصِّصَ التعريضُ بعدم الجناح ، دلّ على أنّ التصريحَ بخلافشهِ ، والمعنى يُؤكِّدُه؛ لأن التصريح لا يحتمل غير النكاح ، فربما حملها الحِرص على النكاح ، على الإِخبار بانقضاء العِدَّة قبل أَوانها بخلافِ التعريضِ ، فإنَّه يحتمل غير ذلك ، فلا يدعوها إلى الكذب .
الثاني : المعتدةُ عن الطلاق الثلاث ، والبائن باللِّعان والرَّضاع ففي جواز التعريض بخطبتها خلافٌ .
فقيل : يجوز التعريض بخطبتها ، لأنّها ليست في نكاحٍ ، فأشبهت المتوفى عنها .
وقيل : لا يجوزُ لأنّ عدتها بالأَقراءِ ، فلا يُؤمن عليها الكَذِب في الإخبارِ بانقضاء عدَّتها؛ لرغبتها في الخُطَّاب .
الثالث : البائِنُ لطلاقٍ أَوْ فسخٍ ، وهي التي يجوزُ لزوجها نكاحُها في عدَّتها كالمختلعة ، والتي انفسخ نكاحُها بعيبٍ أو عُنَّةٍ ، أَو إعسار نفقةٍ ، فهذه يجوزُ لزوجها التصريحُ ، والتعريضُ؛ وأَمَّا غيرُ الزوج ، فلا يحلُّ له التصريحُ ، وفي التعريض خلافٌ ، والصحيحُ : أنّه لا يحِلُّ لأنها مُعتدةٌ ، تحلُّ للزوجِ أَنْ يستنكحها في عِدَّتها ، فلم يحلَّ التعريض لها كالرجعية .
وقيل : هي كالمتوفَّى عنها زوجها ، والمطلقة ثلاثاً .
قوله تعالى : { وْ أَكْنَنتُمْ } « أَوْ » هنا للإباحةِ ، أو التخيير ، أو التفصيلِ ، أو الإِبهامِ على المخاطبِ ، « وأَكَنَّ » في نفسِهِ شيئاً ، أي : أَخْفَاهُ ، وكَنَّ الشيء بثوبٍ ونحوه : أي سَتَرَهُ به ، فالهمزةُ في « أَكَنَّ » للتفرقة بين الاستعمالَيْنِ ك « أَشْرَقَتْ ، وشَرَقَتْ » .
وقال الفراءُ : للعرب في « أَكْنَنْتُ الشَيْءَ » أي : سترتهُ ، لغتان : كنَنْتُه ، وأَكْنَنْتُه في الكِنِّ ، وفي النَّفْس؛ بمعنى ، ومنه { مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ } [ القصص : 69 ] ، و { بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } [ الصافات : 49 ] وفرَّق قومٌ بينهما ، فقالوا : كننتُ الشيء ، إذا صُنته حتَّى لا تُصيبه آفةٌ ، وإن لم يكن مستُوراً يقال : دُرٌّ مكنونٌ وجاريةٌ مكنونةٌ ، وبيضٌ مكنونٌ مصونٌ عن التدحرج؛ وأمَّا « أَكْنَنْتُ » فمعناه : أضمرت ويستعمل ذلك في الشيء الذي يُخفيه الإنسانُ ، ويستره عن غيره ، وهو ضِدُّ أَعْلنتُ وأظهرت ، ومفعول « أكنَّ » محذوفٌ يعودُ على « ما » الموصولة في قوله : { فِيمَا عَرَّضْتُمْ } أي : أو أكْنَنْتُمُوهُ ، ف { في أَنْفُسِكُمْ } متعلِّقٌ ب { أَكْنَنتُمْ } ، ويضعُفُ جعلُهُ حالاً من المفعولِ المقدَّرِ .
فصل في عدوم وجوب الحد بالتعريض
استدلَّ بعضهم بهذه الآية على أنَّه لا يجب الحدُّ بالتعريض بالقذف [ لأن الله تعالى لمَّا دفع الجَرَج في التعريض بالنِّكاح ، دلَّ على أنَّ التعريض بالقذف ] لا يوجب الحد .
وأُجيب بأنّ الله - تعالى - لم يحلَّ التصريح بالخطبة في النكاح للمعتدَّة ، وأَذِن في التعريض الذي يُفهم منه النكاحُ ، فهذه يدلُّ على أَنَّ التعريض يُفهم منه القذف والأعراضِ يجب صيانتها ، وذلك يوجب الحدَّ على المعرِّض؛ لئلا يتعرض الفسقةُ إلى أخذ الأَعراضِ بالتعريض الذي يُفهم منه ما يُفهم بالتصريح .
فصل في المقصود من الآية
والمقصودُ من الآية أَنّه لا حرج في التعريض للمرأة في عِدَّة الوفاة ، ولا فيما يُضمره الرجلُ من الرغبة فيها .
فإن قيل : إنَّ التعريضَ بالخطبة أعظم حالاً مِنْ أَنْ يميل بقلبه إليها ، ولا يذكر باللِّسان شيئاً ، فلمّا قدّم جواز التعريض بالخطبة ، كان قوله بعد ذلك { أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ } جارٍ مجرى إيضاح الواضحات .
فالجواب : ليس المرادُ ما ذكرتم ، بل المرادُ أنّه أباح التعريض ، وحرّم التصريح في الحالِ ، ثم قال : { أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ } والمرادُ : أَنْ يعقد قلبه على أنه سيصرحُ بذلك في المستقبلِ ، ففي أوَّل الآيةِ أباح التعريض في الحالِ ، وحرَّم التصريح في الحالِ ، وها هنا أباح له أن يعقد عليه على أنَّه سيصرِّحُ بذلك بعد انقضاء العدّة ، ثم إنّه تعالى ذكر الوجه الذي لأجله أباح ذلك ، فقال : « عَلِمَ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ » لأنَّ شهوةَ النفس إذا حصلت للنكاح ، لا يكاد يخلُو ذلك المشتهي من العزم ، والتَّمَنِّي ، فلمّا كان دفع هذا الخَاطر ، كالشيء الشَّاقِّ أَسقط عنه هذا الحرج ، وأباحَ له ذلك ، ثُمَّ قال : { ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } وهذا الاستدراك فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه استدراكٌ من الجملةِ قبله ، وهي قوله : { سَتَذْكُرُونَهُنَّ } ؛ فإنَّ الذِّكر يقع على أنحاء كثيرةٍ ، ووجوهٍ متعددةٍ ، فاسْتُدْرِكَ منه وجهُ نُهِيَ فيه عن ذِكْرٍ مخصُوص ، ولو لم يُسْتَدْرَكْ ، لكانَ من الجائز؛ لاندراجِهِ تحت مطلقِ الذِّكْرِ ، وهو نظيرٌ : « زَيْدٌ سَيَلْقَى خَالِداً ، ولَكِنْ [ لاَ ] يواجهُهُ بِشَرٍّ » ، لمَّا كانت أَحوالُ اللقاءِ كثيرةً ، من جملتها مواجته بالشَّرِّ ، استُدْرِكَتْ هذه الحالةُ من بينها .
والثاني : - قاله أبو البقاء - : أنه مستدرَكٌ من قوله : { فِيمَا عَرَّضْتُمْ } وليس بواضحٍ .
والثالث : - قاله الزمخشريٌّ - أنَّ المُسْتَدْرَكَ منه جملةٌ محذوفةٌ قبل « لَكِنْ » تقديرُهُ : « فَاذْكُرُوهُنَّ ، وَلَكِنْ لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً » وقد تقدَّم أنَّ المعنى على الاستدرَاكِ من الجملةِ قبلَه ، فلا حاجة إلى حذف؛ وإنما الذي يحتاجُهُ ما بعدَ « لَكِنْ » وقوعُ ما قبلها من حيث المعنى ، لا من حيثُ اللفظُ؛ لأنَّ نَفْيَ المواجهةِ بالشَّرّ يستدعي وقوعَ اللقاءِ .
قوله : { سِرّاً } فيه خمسةُ أوجهٍ :
أحدها : أن يكونَ مفعولاً ثانياً .
والثاني : أنه حالٌ من فاعلِ « تُوَاعِدُوهُنَّ » ، أي : لا تُوَاعِدُوهُنَّ مُسْتَخِفين بذلك .
والثالث : أنه نعت مصدرٍ محذوفٍ ، أي : مواعدةً سِرّاً .
والرابع : أنه حالٌ من ذلك المصدر المُعَرَّف ، أي : المواعدةَ مستخفيةً .
والخامس : أَنْ ينتصِبَ على الظرف مجازاً ، أي : في سِرٍّ .
وعلى الأقوالِ الأربعةِ : فلا بُدَّ من حذفِ مفعولٍ ، تقديرهُ : لا تُوَاعِدُوهُنَّ نِكَاحاً .
والسِّرُّ : ضدُّ الجهرِ : وقيل : يُطْلَقُ على الوَطْءِ ، وعلى الزِّننا بخُصُوصيَّةٍ؛ وأنشدوا للحُطَيْئة : [ الوافر ]
1137- وَيَحْرُمُ سِرُّ جَارَتِهِمْ عَلَيْهمْ ... وَيَأْكُلُ جَارُهُمْ أُنُفَ القِصَاعِ
وقول الآخر - هو الأعشى - : [ الطويل ]
1138- وَلاَ تَقْرَبَنَّ جَارَةَ إِنَّ سِرَّهَا ... حَرَامٌ عَلَيْكَ فَانْكِحَنْ أَوْ تَأَبَّدَا
وقال الفرزدق : [ الطويل ]
1139- مَوَانِعُ لِلأَسْرَارِ إِلاَّ مِنَ أهْلِهَا ... وَيُخْلِفْنَ مَا ظَنَّ الغَيُورُ الْمُشَفْشِفُ
أي : الذي شَغفه بهن ، يعني : أنهنَّ عفائفُ يمنعن الجماعَ إلاَّ من أَزواجِهِنَّ؛ وقال امرؤ القيس : [ الطويل ]
1140- أَلاَ زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ اليَوْمَ أَنَّني ... كَبِرتُ وَأَلاَّ يُحْسِنُ السَّرَّ أَمْثَالِي
فصل في بيان السر في الآية
اختلفوا في السِّرِّ هنا ، فقال قومٌ : هو الزِّنا ، كان الرجلُ يدخل على المرأةِ مِنْ أجلِ الزِّنْيَة وهو يُعرِّضُ بالنِّكاح ، ويقول لها : دعيني أُجامِعْكِ ، فإذا وَفَيْتِ عشدَّتك ، أظهرتُ نكاحك قاله الحسن ، وقتادة ، وإبراهيم ، وعطاءٌ ، ورواه عطيةٌ عن ابن عباس .
وقال زيد بن أسلم : أي : لا يُنْكِحها سرّاً فيمسكها فإذا حلّت ، أظهرت ذلك .
وقال مجاهدٌ : هو قول الرجل لا تفوِّتيني بنفسك ، فإنِّي ناكِحُك . وقال الشعبيُّ ، والسدِّيُّ : لا يؤخَذُ ميثاقها ، ألاَّ ينكح غيرها . وقال عكرمة : لا يخطبها في العِدَّة .
وقال الكلبيُّ ورُوِيَ عن ابن عباس : أي تصفُوا أنفُسكم لهُنَّ بكثرةِ الجماع ، فيقول آتيتك الأَربعة والخَمْسة ، وأشباه ذلك ، وإنما قيل للزِّنا والجماع سِرّاً؛ لأنه يكون في خفاءٍ بين الرجل والمرأةِ .
فصل في كراهة المواعدة في العدّة
حكى القرطبيُّ ، عن ابن عطيَّة ، قال : أجمعتِ الأُمَّةُ على كراهة المواعدة في العدة للمرأة في نفسها ، وللأَبِ في ابنته البِكْر ، والسيّد في أمتِه . قال ابن المواز : وأمّا الوليّ الذي لا يملكُ الجبر ، فأكرهُهُ .
وقال مالكٌ - رحمه اللهُ - فيمَنْ يواعد في العدَّة ، ثم يتزوج بعدها : فراقها أَحَبُّ إليّ ، دخل بها ، أو لم يدخل ، وتكون تطليقةً واحدةً هذه رواية ابن وهبٍ ، وروى أشهب عن مالكٍ ، أنّه يفرِّق بينهما إيجاباً ، وقاله ابنُ القاسِمِ ، وحكى ابن الحارِث مثلهُ عن ابن الماجشون ، ورأى ما يقتضي أَنَّ التحريم يتأبدُّ ، وقال الشافعيُّ إِنْ صرَّح بالخطبة ، وصرَّحت له بالإجابة ، ولم ينعقد النكاح [ حتى ] تنقضي العِدَّة ، فالنكاح ثابت [ والتصريح لهما مكروهٌ ]
قوله : { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ } في هذا الاستثناءِ قولان :
أحدهما : أنه استثناءٌ منقطع؛ لأنه لا يندرج تحت « سِرّ » على أيِّ تفسيرٍ فَسَّرْتَه به ، كأنه قال لكنْ قولُوا قولاً معروفاً .
والثاني : أنه متصلٌ ، وفيه تأويلان ذكرهما الزمخشري فإنه قال : فَإِنْ قلتَ : بِمَ يَتَعَلَّقُ حرفُ الاستثناء؟ [ قلتُ ] : ب { لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ } ، أي : لا تواعِدُوهُنَّ مواعدةً قطٌّ إلا مواعدةً معروفةً غيرَ مُنْكَرَةٍ ، أو لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ إلا بأَنْ تقولوا ، أي : لا تواعِدُوهُنَّ إلاَّ بالتعريضِ ، ولا يكونُ استثناءً منقطعاً من « سِرّاً » ؛ لأدائِهِ إلى قولك : « لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ إلاَّ التعرِيضَ » انتهى ، فجعلَهُ استثناءً متصلاً مُفَرَّغاً على أحدِ تأويلين :
الأول : أنه مستثنىً من المصدرِ؛ ولذلك قدَّره : لا تواعِدُوهُنَّ مواعدةً إلاَّ مواعدةً معروفةً .
والثاني : أنه من مجرور محذوفٍ؛ ولذلك قَدَّره ب « إِلاَّ بَأَنْ تَقُولُوا » ؛ [ لأنَّ التقدير عنده : لا تُوَاعِدُوهُنَّ بشيءٍ ، إلا بَأَنْ تقولُوا ، ثم أَوْضَحَ قوله بأنْ تَقُولُوا ] بالتعريض ، فلمَّا حُذِفَت الباءُ من « أَنْ » ، وهي باءُ السببيةِ بقي في « أَن » الخلافُ المشهورُ بعد حذفِ حرفِ الجرِّ ، هل هي في محلِّ نصبٍ أم جَرٍّ؟ وقوله : « لأدائِهِ إلى قولك . . . إلى آخره » يعني أنه لا يصِحُّ تسلُّط العامِل عليه ، فإنَّ القولَ المعروفَ عندَهُ المرادُ به التعريضُ ، وأنت لو قلْتَ : « لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ إِلاَّ التَّعْرِيض ليس مواعداً .
وردَّ عليه أبو حيان : بأنَّ الاستثناء المنقطع ليس مِنْ شرطِهِ صحَّةُ تسلُّطِ العامِل عليه ، بل هو على قسمين : قسم يَصِحُّ فيه ذلك ، وفيه لغتان : لغةُ الحجازِ وجوبُ النصب مطلقاً ، نحو : » مَا جَاءَ أَحَدٌ إِلاَّ حِمَاراً « ولغةُ تميم إجراؤه مجرى المتصل ، فيجرونَ فيه النصبَ والبدلية بشرطه . وقِسْم لا يصحُّ فيه ذلك ، نحو : » مَا زَادَ إِلاَّ مَا نَقَصَ « ، و » مَا نَفَعَ إِلاَّ مَا ضَرَّ « ، وحكمُ هذا النّصبُ عند العرب قاطبةً ، فالقسمان يشتركان في التقديرِ ب » لَكِنْ « عند البصريين ، إلاَّ أنَّ أحدهما يصحُّ تسلُّط العامِل عليه في قولك : » مَا جَاءَ أَحَدٌ إِلاَّ حِمَار « لو قلت : » مَا جَاءَ إِلاَّ حِمَارٌ « ، صَحَّ؛ بخلافِ القسمِ الثاني؛ فإنَّه لا يتوجَّه عليه العامل وقد تقدم البحثُ في مثل هذا كثيراً .
فصل في القول المعروف ما هو؟
قال بعضُ المفسرين : هو التعريض بالخطبة .
وقال آخرون : لمّا أُذِن في أوّل الآيةِ بالتعريض ، ثم نهي عن المسارَّة معها؛ دفعاً للريبةِ ، استثني منه المسارَّة بالقولِ بالمعروفِ ، وهو أَنْ يعدها في السرِّ بالإحسان إليها ، والاهتمام بشأنها ، والتكفُّل بمصالحها؛ حتى يصير ذِكرُ هذه الأَشياء الجميلة ، مُؤكَّداً لذلك التعريض .
قوله : { وَلاَ تعزموا } في لفظ » العَزْمِ « وجوه :
الأول : أنّه عبارةٌ عن عقدِ القلب على فعلٍ من الأَفعالِ ، قال تعالى : { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله } [ آل عمران : 159 ] فلا بُدَّ في الآيةِ من إضمار فعلٍ ، وهذا اللفظ إنما يُعَدَّى للفعل بحرفِ » عَلَى « فيقال : فلان عزم على كذا ، فيكونُ تقدير الآيةِ : » ولا تَعْزمُوا على عُقدة النكاح حتى يبلُغَ الكِتَابث أَجَلَهُ « والمقصودُ منه المبالغة في النهي عن النكاح في زمان العِدَّة ، فإنّ العزم متقدمٌ على المعزوم عليه ، فإذا ورد النهي عن الإِقدام على المعزوم عليه كان أولى .
الثاني : أنَّ العزم عبارةٌ عن الإِيجاب ، يقال : عزمتُ عليكم ، أي : أَوجبتُ ، ويقال هذا من باب العزائم ، لا من باب الرُّخَصِ؛ وقال - عليه الصلاة والسلام - » عَزْمَةٌ مِنْ عَزَائِمِ رَبِّنَا « وقال : » إِنَّ اللهَ تَعالى يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخْصُهُ كَمَا تُؤْتَى عَزَائِمُهُ «
، فالعزمُ بهذا المعنى جائزٌ على الله تعالى ، وبالوجه الأول لا يجوز .
وإذا ثبتَ هذا فنقولُ : الإيجابُ سببُ الوجود ظاهراً ، فلا يبعد أَنْ يُستفاد لفظ العزمِ من الوجودِ ، وعلى هذا فقوله : { وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح } ، أي : لا تحقِّقُوا ، ولا تُنْشئَوا ، ولا تُفرِّعوا منه فعلاً؛ حتى يبلغ الكتابُ أَجَلَهُ وهذا اختيارُ أَكْثَر المحققين .
الثالث : قال القفَّال : إنما لم يقُلْ : ولا تعزِمُوا على عقدةِ النكاح؛ لأن معناهُ : ولا تعقدوا عُقْدة .
قال القرطبيُّ : عزم الشيء عليه قال تعالى : { وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق } [ البقرة : 227 ] وقال هنا : { وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح } . وحكى سيبويه : ضُرِبَ فلانٌ الظهر والبطنَ أي : « عَلَى » .
قال سيبويه : والحذفُ في هذه الأَشياء لا يقاسُ عليه .
وقال النحاسُ : ويجوز أَنْ يكون ولا تعقِدُوا عُقدة النكاح؛ لأَنَّ معنى « تَعْزِمُوا » و « تَعْقِدُوا » واحدٌ .
ويقال : تعزُمُوا ، بضم الزاي .
فصل
اعلم أنَّ الإِنسان إذا فعل فعلاً فلا بُدَّ أَنْ يتقدَم ذلك الفعلَ ستُّ مُقَدِّماتٍ .
الأولى : أن يسنح له ذلك الفعل ، ومعنى « يَسْنَحْ له » : أن يَجْنح إلى فعله ، ويعرضُ له فعله .
وثانيها : أَنْ يفكِّر في فعله ، بمعنى أن يفعله ، أم لا . وثالثها : أن يخطِرَ بباله فعله ، بمعنى أنه يترجَّحُ فعله على تركه . ورابعها : أن يريدُ فِعْلَهُ .
وخامسها : أَنْ يَهمّ بفعله ، وهو عزمٌ غيرَ جازِمٍ .
وسادسها : أَنْ يعزِم عَزْماً جازِماً فيفعله .
فصل في أصل العقد
وأَصل العقد : الشدُّ ، والمعهود ، والأنكحةُ تُسمَّى عُقُوداً لأنها تعقد كعقود الحبل في التوثيق .
قوله : « عُقْدَةَ » في نصبه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مفعولٌ به على أنه ضمَّن « عَزَمَ » معنى ما يتعدَّى بنفسه ، وهو : تَنْوُوا أو تُبَاشِرُوا ، ونحو ذلك .
والثاني : أنه منصوبٌ على إسقاط حرف الجر ، وهو « عَلَى » ؛ فإنَّ « عَزَمَ » يتعدَّى بها ، قال : [ الوافر ]
1141- عَزَمْتُ عَلَى إقَامةِ ذِي صَبَاحٍ ... لأَمْرٍ مَّا يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ
وحذفها جائز ، كقول عنترة ، [ الكامل ]
1142- وَلَقَدْ أَبِيتُ عَلَى الطَّوَى وَأظَلُّهُ ... حَتَّى أَنَالَ بِهِ كَرِيمَ المَطْعِمِ
أي : وَأَظَلُّ عليه .
والثالث : أنه منصوبٌ على المصدر؛ فإنَّ المعنى : ولا تعقدوا عقدة؛ فكأنه مصدرٌ على غير الصَّدر؛ نحو : قعدت جلوساً ، والعقدة مصدرٌ مضاف للمفعول ، والفاعل محذوفٌ ، أى : عُقْدتكم النِّكاح .
قوله تعالى : { حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ } فى « الكتاب » وجهان :
أحدهما : أن المراد به المكتوب ، والمعنى : حتى تبلغ العدَّة المفروضة آخرها .
الثانى : أن يكون المراد « الكتابَ » نفسه ، لأنه فى معنى الفرض؛ كقوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } [ البقرة : 183 ] فيكون المعنى : حتى يبلغ هذا التكليف آخره ونهايته ، وقال تعالى : { إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً } [ النساء : 103 ] أى : مفروضة .
قال القرطبى : وقيل : فى الكلام حذف ، أى : حتى يبلغ فرض الكتاب أجله ، فالكتاب على هذا المعنى بمعنى القرآن .
ثم قال تعالى : { واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في أَنْفُسِكُمْ } وهذا تنبيه على أنّه تعالى لمّا كان عالماً بالسرّ ، والعلانية؛ وجب الحذر منه فى السرِّ ، والعلانية ، فالهاء فى « فاحذروه » تعود على الله تعالى ، ولا بدَّ من حذف مضاف ، أى : فاحذروا عقابه . ويحتمل أن تعود على « مَا » فى قوله « مَا فِى أَنْفُسِكُمْ » بمعنى ما في أنفسكم من العزم على ما لا يجوز ، قاله الزمخشريُّ .
ثم قال : { واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ } أي : لا يعجِّل بالعقوبة .

لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)
قوله : « مَا لَمْ » فى « مَا » ثلاثة أقوالٍ :
أظهرها : أن تكون مصدريةً ظرفيةً ، تقديره : مدَّة عدم المسيس ، كقوله تعالى : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض } [ هود : 107 ] وقوله : { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ } [ المائدة : 117 ] .
وقول الآخر : [ الكامل ]
1143- إِنِّي بِحَبْلِكَ وَاصِلٌ حَبْلِي ... وَبِرِيشِ نَبْلِكَ رَائِشٌ نَبْلِي
مَا لَمْ أَجِدْكَ عَلَى هُدَى أَثَرٍ ... يَقْرُو مَقَصَّكَ قَائِفٌ قَبْلِي
والثاني : أن تكون شرطيةً ، بمعنى « إِنْ » نقله أبو البقاء . وليس بظاهرٍ؛ لأنه يكون حينئذٍ من باب اعتراض الشرط على الشرط ، فيكون الثانى قيداً فى الأول؛ نحو : « إِنْ تَأْتِ إِنْ تُحْسِنْ إِلَيَّ أُكْرِمْكَ » أي : إن أتيت محسناً ، وكذا فى الآية الكريمة : إن طلَّقتموهنَّ غير ماسِّين لهنَّ ، بل الظاهر : أنَّ هذا القائل إنما أراد تفسير المعنى؛ لأنَّ « مَا » الظرفية مشبَّهة بالشرطيَّة ، ولذلك تقتضي التعميم .
والثالث : أن تكون موصولة بمعنى « الَّذِي » ، وتكون للنساء؛ كأنه قيل : إن طلَّقتم النِّساء اللاَّئى لم تمسُّوهنَّ ، وهو ضعيفٌ ، لأنَّ « مَا » الموصولة لا يوصف بها ، وإن كان يوصف ب « الَّذِي » ، و « الَّتي » ، وفروعهما .
وقرأ الجمهور : « تَمَسُّوهُنَّ » ثلاثيّاً وهى واضحةٌ؛ لأن الغشيان من فعل الرجل؛ قال تعالى حكاية عن مريم { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } [ مريم : 20 ] . وقرأ حمزة والكسائيُّ فى الأحزاب « تُمَاسُّوهُنَّ » من المفاعلة ، فيحتمل أن يكون « فَاعَلَ » بمعنى « فَعَلَ » ك « سَافَرَ » ، فتوافق الأولى ، ويحتمل أن تكون على بابها من المشاركة؛ كما قال تعالى : { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } [ المجادلة : 3 ] ، وأيضاً : فإنَّ الفعل من الرجل والتمكين من المرأة ، ولذلك قيل لها زانيةٌ ، ورجَّح الفارسيّ قراءة الجمهور؛ بأنَّ أفعال هذا الباب كلَّها ثلاثيّةٌ؛ نحو : نَكَحَ ، فَرَعَ ، سَفَدَ ، وضَرَبَ الفَحْلُ .
قال تعالى : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ } [ الرحمن : 74 ] ، وقال : { فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } [ النساء : 25 ] ، وأمّا قوله فى الظّهار : { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } [ المجادلة : 3 ] فالمراد به المماسَّة التى هي غير الجماع ، وهي حرام فى الظهار .
قوله : { أَوْ تَفْرِضُواْ } فيه أربعة أوجهٍ :
أحدها : أنه مجزوم عطفاً على « تَمَسُّوهُنَّ » ، و « أَوْ » على بابها من كونها لأحد الشيئين ، قاله ابن عطيَّة .
والثاني : أنه منصوب بإضمار « أَنْ » عطفاً على مصدر متوهِّم ، و « أَوْ » بمعنى « إِلاَّ » ، التقدير : ما لم تَمَسُّوهُنَّ إلا أن تفرضوا؛ كقولهم : « لأَلْزَمَنَّكَ أَوْ تَقْضِيَني حَقِّي » قاله الزمخشريُّ .
والثالث : أنه معطوف على جملةٍ محذوفةٍ ، تقديره : « فَرَضْتُمْ أَوْ لَم تَفْرِضُوا » ، فيكون هذا من باب حذف الجزم وإبقاء عمله ، وهو ضعيفٌ جدًّا ، وكأنَّ الذي حسَّن هذا كون لفظ « لَمْ » موجوداً قبل ذلك .
والرابع : أن تكون « أَوْ » بمعنى الواو .
قال تعالى : { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] أي : وهم قائلون { وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] أي : ويزيدون ، وقوله : { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } [ الإنسان : 24 ] وقوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى } [ النساء : 43 ] معناه وجاء أحدٌ منكم من الغائط ، وأنتم مرضى أو مسافرون .
قال ابن الخطيب : فإذا تأمَّلت هذا القول ، علمت أنّه متكلفٌ ، بل خطأٌ قطعاً ، والفرض في اللغة : التقدير ، أي : تقدِّروا لهن شيئاً .
قوله : « فَرِيضَةً » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه مفعولٌ به ، وهو بمعنى مفعولة ، أي : إلاَّ أن تفرضوا لهنَّ شيئاً مفروضاً .
والثاني : أن تكون منصوبةٌ على المصدر بمعنى فرضاً ، واستجود أبو البقاء الوجه الأول؛ قال : « وأَنْ يكونَ مفعولاً به ، وهو الجَيِّدُ » والموصوف محذوفٌ ، تقديره : متعةً مفروضةً .
فصل في سبب النزول
هذه الآية نزلت في رجلٍ من الأنصار تزوج امرأة من بنى حنيفة ولم يسمِّ لها مهراً ، ثم طلَّقها قبل أن يمسَّها؛ فنزلت هذه الآية؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَتِّعْهَا وَلَوْ بِقَلَنْسُوَتِك » .
قوله : « وَمَتِّعُوهُنَّ » : قال أبو البقاء : « وَمَتِّعُوهِنَّ » معطوف على فعل محذوفٍ ، تقديره : « فَطلِّقوهنَّ ومتِّعوهنَّ » ، وهذا لا حاجة إليه؛ فإنَّ الضمير المنصوب في « مَتِّعُوهُنَّ » عائدٌ على المطلَّقات قبل المسيس ، وقبل الفرض ، المذكورين في قوله : { إِن طَلَّقْتُمُ النسآء . . . } إلى آخرها .
فإن قيل : ظاهر الآية مشعرٌ بأن نفي الجناح عن المطلق مشروطٌ بعدم المسيس ، وليس كذلك ، فإنّه لا جناح عليه - أيضاً - بعد المسيس .
فالجواب من وجوه :
الأول : أنّ الآية دالةٌ على إباحة الطلاق قبل المسيس مطلقاً في زمان الحيض ، وغيره؛ فكان عدم المسيس شرطاً في إباحة الطلاق مطلقاً .
الثاني : ما قدمناه من أنَّ « مَا » بمعنى « الذي » ، والتقدير : إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسُّوهنَّ؛ إلاَّ أنَّ « ما » اسمٌ جامدٌ لا ينصرف ، ولا يبين فيه الإعراب ، وعلى هذا فلا تكون « مَا » شرطاً فزال السؤال .
الثالث : قال القفال : إن المراد من الجناح في هذه الآية لزوم المهر ، وتقديره : لا مهر عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسُّوهنَّ أو تفرضوا لهنَّ فريضة ، يعني : لا يجب المهر إلاّ بأحد هذين الأمرين ، فإذا فقدا جميعاً لم يجب المهر .
قال ابن الخطيب : وهذا ظاهر ، وبيان أنّه قوله : « لاَ جُنَاحَ » معناه : لاَ مَهْرَ؛ لأنَّ إطلاق لفظ « الجنَاحِ » على المهر محتملٌ؛ لأن أصل الجناح في اللغة : الثقل ، يقال : جَنَحتِ السفينة ، إذا مالت بثقلها ، والذنب يسمَّى جناحاً؛ لما فيه من الثِّقل ، قال تعالى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [ العنكبوت : 13 ] ، وإذا ثبت أن الجناح هو الثقل ، ولزوم أداء المال ثقل ، فكان جُنَاحاً ، ويدلُّ على أنَّ هذا هو المراد وجهان :
الأول : أنه تعالى قال : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } نفى الجناح محدوداً إلى غاية ، وهي إمَّا المسيس ، أو الفرض والتقدير ، فوجب أن يثبت ذلك الجناح عند حصول أحد هذين الأمرين ، ثم إنَّ الجناح الذي يثبت عند أحد هذين الأمرين ، هو لزوم المهر .
الوجه الثاني : أنَّ تطليق النساء قبل المسيس ، وبعد تقدير المهر ، وهو المذكور في الآية التي بعدها ، هو تقدير المهر ، وقد أوجب فيه نصف المهر وهذا كالمقابل له ، فوجب أن يكون الجناح المنفي عنه هناك ، هو المثبت ها هنا ، فلما كان المثبت في الآية التي بعدها ، هو لزوم المهر ، وجب أن يقال : الجناح المنفي في هذه الآية هو لزوم المهر .
قوله : { لَى الموسع قَدَرُهُ } جملةٌ من مبتدأ وخبر ، وفيها قولان :
أحدهما : أنها لا محلَّ لها من الإعراب ، بل هي استئنافيةٌ بيَّنت حال المطلِّق بالنسبة إلى إيساره وإقتاره .
والثاني : أنها في موضع نصب على الحال ، وذو الحال فاعل « مَتِّعُوهُنَّ » .
قال أبو البقاء : « تقديره : بقَدر الوُسْعِ » ، وهذا تفسير معنًى ، وعلى جعلها حاليةً : فلا بدَّ من رابطٍ بينها وبين صاحبها ، وهو محذوفٌ ، تقديره : على المُوسِع مِنْكُمْ ، ويجوز على مذهب الكوفيين ومن تابعهم : أن تكون الألف واللام قامت مقام الضمير المضاف إليه ، تقديره : « عَلَى مُوسِعِكُمْ قَدَرُهُ » .
وقرأ الجمهور : « المُوسِعِ » بسكون الواو وكسر السين ، اسم فاعل من أوسَعَ يُوسِعُ ، وقرأ أبو حيوة بفتح الواو وتشديد السين ، اسم مفعولٍ من « وَسَّعَ » . وقرأ حمزة والكسائيُّ وابن ذكوان وحفصً : « قَدَرهُ » بفتح الدال في الموضعين ، والباقون بسكونها .
واختلفوا : هل هما بمعنًى واحدٍ ، أو مختلفان؟ فذهب أبو زيد والأخفش ، وأكثر أئمة العربية إلى أنهما بمعنًى واحدٍ ، حكى أبو زيدٍ : « خُذْ قَدَرَ [ كَذَا ] وقَدْرَ كَذَا » ، بمعنًى واحدٍ ، قال : « ويُقْرَأُ في كتاب الله : { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } [ الرعد : 17 ] ، و » قَدْرِهَا « ، وقال : { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } [ الأنعام : 91 ] ولو حركت الدال ، لكان جائزاً . وذهب جماعةٌ إلى أنهما مختلفان ، فالساكن مصدرٌ والمتحرك اسمٌ؛ كالعدِّ والعدد ، والمدِّ والمدد ، وكأنَّ القدر بالتسكين الوسع ، يقال : » هُوَ يُنْفِقُ عَلَى قَدْرِهِ « أي وسعه ، وقيل : بالتَّسكين الطاقة ، وبالتحريك المقدار ، قال أبو جعفر : » وَأَكثرُ ما يُسْتَعْمَل بالتحْرِيكِ ، إذا كان مساوياً للشيء ، يقال : هَذَا عَلَى قَدَرِ هَذَا « .
وقرأ بعضهم بفتح الراء ، وفي نصبه وجهان :
أحدهما : أن يكون منصوباً على المعنى .
قال أبو البقاء : وهو مفعولٌ على المعنى؛ لأنَّ معنى » مَتِّعُوهُنَّ « [ لِيُؤَدِّ كُلٍّ مِنْكُمْ قَدَرَ وُسْعِهِ » وشرح ما قاله : أن يكون من باب التضمين ، ضمَّن « مَتِّعُوهُنَّ » ] معنى « أَدُّوا » .
والثاني : أن يكون منصوباً بإضمار فعلٍ ، تقديره : فأوجبوا على الموسع قدره ، وجعله أبو البقاء أجود من الأول ، وفي السَّجاونديِّ : « وقال ابن أبي عبلة : قَدَرَهُ ، أي : قَدَرَهُ اللهُ » انتهى .
وظاهر هذا : أنه قرأ بفتح الدال والراء ، فيكون « قَدَرَهُ » فعلاً ماضياً ، وجعل فيه ضميراً فاعلاً يعود على الله تعالى ، والضمير المنصوب يعود على المصدر المفهوم من « مَتِّعُوهُنَّ » ، والمعنى : أنَّ الله قدر وكتب الإمتاع على الموسع وعلى المقتر .
قوله : « مَتَاعاً » في نصبه وجهان :
أحدهما : أنه منصوبٌ على المصدر ، وتحريره أنه اسم مصدرٍ؛ لأنَّ المصدر الجاري على صدره إنَّما هو التمتيع ، فهو من باب : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] . وقال أبو حيَّان : قالوا : انتصَبَ على المصدرِ؛ وتحريرُهُ : أن المتاع هو ما يمتع به ، فهو اسمٌ له ، ثم أطلق على المصدر؛ على سبيل المجاز ، والعامل فيه : « وَمَتِّعُوهُنَّ » قال شهاب الدين : وفيه نظرٌ؛ لأنَّ المعهود أن يطلق المصدر على أسماء الأعيان؛ كضربٍ بمعنى مضروبٍ ، وأمَّا إطلاق الأعيان على المصدر ، فلا يجوز ، وإن كان بعضهم جوَّزه على قلَّةٍ؛ نحو قولهم : « تِرْباً وَجَنْدَلاً » و « أَقَائِماً ، وَقَدْ قَعَدَ النَّاسُ » ، والصحيح أن « تِرْباً » ونحوه مفعولٌ به ، و « قائماً نصبٌ على الحال .
[ والثاني من وجهي » مَتَاعاً « أن ينتصب على الحال ] ، والعامل فيه ما تضمَّنه الجارُّ والمجرور من معنى الفعل ، وصاحب الحال ذلك الضمير المستكنُّ في ذلك العامل ، والتقدير : قدر الموسع يستقرُّ عليه في حال كونه متاعاً .
قوله : » بالمعروف « فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق ب » مَتِّعُوهُنَّ « ، فتكون الباء للتعدية .
والثاني : أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل » مَتَاعاً « ؛ فيكون في محلِّ نصبٍ ، والباء للمصاحبة ، أي : متاعاً ملتبساً بالمعروف .
قوله : » حَقّاً « في نصبه أربعة أوجه :
أحدها : أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لمعنى الجملة قبله؛ كقولك : » هَذَا ابْنِي حَقّاً « وهذا المصدر يجب إضمار عامله ، تقديره : حَقَّ ذلك حقّاً ، ولا يجوز تقديم هذا المصدر على الجملة قبله .
والثاني : أن يكون صفةً ل » مَتَاعاً « ، أي : متاعاً واجباً على المحسنين .
والثالث : أنه حالٌ ممَّا كان حالاً منه » مَتَاعاً « وهذا على رأي من يجيز تعدُّد الحال .
والرابع : أن يكون حالاً من » المَعْرُوفِ « ، أي : بالذي عرف في حال وجوبه على المحسنين ، و » عَلَى المُحْسِنِينَ « يجوز أن يتعلَّق ب » حَقًّا « ؛ الواجب ، وأن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ له .
فصل
اعلم أن المطلقات أربعة أقسام :
القسم الأول : وهو ألاَّ يؤخذ منهم على الفراق شيءٌ ظلماً ، وأخبر أن لهن كمال المهر ، وعليهن العدَّة .
القسم الثاني : المطلقة قبل الدُّخول ، وقد فرض لها - وهي المذكورة في الآية التي بعد هذه - وبيَّن أنَّ لها نصف المفروض لها ، وبيّن في سورة الأحزاب أنَّ لا عدَّة على غير المدخول بها؛ فقال :
{ إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } [ الأحزاب : 49 ] .
القسم الرابع : المطلقة بعد الدُّخول ، ولم يكن فرض لها ، وحكم هذا القسم ، مذكورٌ في قوله تعالى : { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [ النساء : 24 ] .
والقياس أيضاً يدلّ عليه ، فإنّ الأمَّة مجمعةً على أن الموطوءة بشبهةٍ لها مهر المثل ، والموطوءة بنكاحٍ صحيحٍ ، أولى بهذا الحكم .
فصل
تمسك بعضهم بهذه الآية على أنَّ جمع الثلاثة ليس بحرامٍ ، قالوا : لأن قوله : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء } يتناول جيميع أنواع التطليق بدليل أنّه يصحُّ استثناء الثلاث منها ، فيقال : لا جناح عليكم إن طلَّقتم النساء إلاّ إذا طلَّقتموهنَّ بثلاث تطليقاتٍ فإنّ عليكم الجناح ، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل ، وعلى هذا فتتناول هذه الآية جميع أنواع التطليق مفرداً أو مجموعاً .
قال ابن الخطيب : وهذا الاستدلال ضعيفا؛ لأن الآية دالَّةٌ على تحصيل هذه الماهيَّة في الوجود ، ويكفي في العمل بها إدخاله في الوجود مرَّةً واحدةً ، ولهذا قلنا : إنَّ الأمر المطلق لا يفيد التكرار ، كما إذا قال لامرأته : إن دخلت الدار ، فأنت طالقٌ ، فإن اليمين انعقدت على المرّة الواحدة فقط ، فثبت أنَّ هذا اللفظ لا يتناول حالة الجمع ، وأمَّا الاستثناء فإنَّه يشكل بالأمر ، لأنّه لا يفيد التكرار بالاتفاق من المحقّقين ، مع أنَّه يصحُّ أن يقال : صلِّ إلاَّ في الوقت الفلانيّ .
فصل في جواز عقد النكاح بغير مهر
قال بعض العلماء : دلَّت هذه الآية على أنَّ عقد النكاح بغير المهر جائزٌ .
وقال القاضي : لا تدلُّ على الجواز ، لكنها تدلُّ على الصِّحة ، فإنّه لو لم يكن صحيحاً ، لم يكن الطلاق مشروعاً ، ولم تلزم المتعة ، ولا يلزم من الصِّحة الجواز ، بدليل أنّ الطلاق في زمن الحيض حرامٌ وإذا أوقعه صحَّ .
فصل
بيَّن في هذه الآية أن المطلقة قبل الدخول والفرض ، لها المتعة ، وقد تقدّم تفسير « المُتْعَةِ » في قوله : { فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة } [ البقرة : 196 ] .
واعلم أنَّ المطلَّقة قبل الدخول ، إن كان قد فرض لها ، فلا متعة لها في قول الأكثرين؛ لأن الله تعالى أوجب في حقِّها نصف المهر ، ولم يذكر المتعة ، ولو كانت واجبةً ، لذكرها . وإن لم يكن فرض لها فلها المتعة؛ لهذه الآية .
قال القرطبي : من جهل المتعة حتَّى مضت أعوامٌ ، فليدفع ذلك إليها ، وإن تزوَّجت ، وإلى ورثتها إن ماتت ، رواه ابن المواز ، عن ابن القاسم .
وقال أصبغ : لا شيء عليه ، إن ماتت؛ لأنها تسليةٌ للزوجة عن الطَّلاق ، وقد فات ذلك .
ووجه الأول : أنه حقٌّ ثبت عليه ، فينتقل إلى ورثتها ، كسائر الحقوق .
واختلفوا في المطلَّقة بعد الدُّخول ، فذهب جماعةٌ : إلى أنه لا متعة لها؛ لأنها تستحق المهر ، وهو قول أصحاب الرأي .
وذهب جماعةٌ : إلى أنَّ لها المتعة؛ لقوله تعالى : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف } [ البقرة : 241 ] ، وهو قول عبدالله بن عمر ، وبه قال عطاء ، ومجاهد ، والقاسم بن محمد ، وإليه ذهب الشافعيُّ قال : لأنها تستحقُّ المهر بمقابلة إتلاف منفعة البضع ، ولها المتعة على وحشة الفراق .
وقال الزُّهريُّ : متعتان يقضي بإحداهما السلطان ، وهي المطلقة قبل الفرض ، والمسيس ، وهي قوله : { حَقّاً عَلَى المحسنين } ومتعةٌ تلزمه فيما بينه وبين الله تعالى لا يقضي بها السلطان وهي المطلقة بعد الفرض والمسيس وهي قوله : « حَقّاً عَلَى المتَّقين » .
وذهب الحسن ، وسعيد بن جبير : إلى أنَّ لكل مطلقةٍ متعةٌ ، سواء كان قبل الفرض ، والمسيس ، أو بعده؛ كقوله تعالى : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف } [ البقرة : 241 ] ؛ ولقوله في سورة الأحزاب : { فَمَتِّعُوهُنَّ } [ الأحزاب : 49 ] وقال الآخر : المتعة غير واجبةٍ ، والأمر بها أو ندبٍ ، واستحباب .
روي أنَّ رجلاً طلّق امرأته ، وقد دخل بها؛ فخاصمته إلى شريح في المتعة؛ فقال شريحٌ : لا تأب أن تكون من المحسنين ، ولا تأب أن تكون من المتَّقين ، ولم يجبره على ذلك .
فصل في بيان مقدار المتعة
اختلفوا في قدر المتعة ، فروي عن ابن عباس : أعلاها خادمٌ ، وأوسطها ثلاثة أثواب : درع ، وخمار ، وإزار ، ودون ذلك وقاية ، أو شيء من الورق .
وبه قال الشَّعبيُّ ، والزُّهريُّ ، وهو مذهب الشافعي ، وأحمد . قال الشافعي : أعلاها على الموسع : خادم ، وأوسطها : ثوبٌ ، وأقلُّها : أقل ماله ثمن حسنٌ ثلاثون درهماً ، « وَعَلَى المقتر » مقنعة .
وروي عن ابن عباس أنّه قال : أكثر المتعة خادمٌ ، وأقلها مقنعة ، وأيُّ قدر أدَّى ، جاز في جانبي الكثرة ، والقلة .
وطلَّق عبد الرحمن بن عوف امرأته وجمعها جاريةً سوداء ، أي : متَّعها .
ومتَّع الحسن بن عليٍّ امراته بعشرة آلاف درهم ، فقالت : متاعٌ قليلٌ من حبيبٍ مفارق .
وقال أبو حنيفة : المتعة لا تزاد على نصف مهر المثل ، قال : لأن حال المرأة التي يسمَّى لها المهر ، أحسن من حال التي لم يسمَّ لها ، فإذا لم يجب لها زيادةٌ على نصف المسمَّى ، إذا طلَّقت قبل الدُّخول ، فلأن لا يجب زيادةٌ على نصف مهر المثل أولى .
فصل في دلالة الآية على حال الزوج من الغنى والفقر .
دلَّت الآية على أنَّه يعتبر حال الزوج : في الغنى ، والفقر؛ لقوله : { عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ } .
وقال بعض العلماء : يعتبر حالهما وهو قول القاضي .
وقال أبو بكرٍ الرَّازي : يعتبر في المتعة حال الرجل؛ للآية ، وفي مهر المثل حالها ، وكذلك في النفقة ، واحتج القاضي بقوله : « بالمعروف » فإنّ ذلك يدلُّ على حالهما؛ لأنه ليس من المعروف أن يسوِّي بين الشريفة ، الوضيعة .
فصل
إذا مات أحدهما قبل الدُّخول ، والفرض؛ اختلف أهل العلم في أنها هل تستحقُّ المهر ، أم لا؟ فذهب عليٌّ ، وزيد بن ثابتٍ ، وعبد الله بن عمرن وعبدالله بن عباسٍ : إلى أنَّه لا مهر لها ، كما لو طلَّقها قبل الفرض ، والدخول .
وذهب قومٌ إلى أنَّ لها المهر ، لأن الموت كالدخول في تقدير المسمَّى ، فكذلك في إيجاب مهر المثل ، إذا لم يكن في العقد مسمى ، وهو قول الثَّوريَّ ، وأحمد ، وأصحاب الرَّأي .
واحتجَّوا بما روى علقمة ، عن ابن مسعود : أنَّه سئل عن رجل تزوَّج امرأةً ، ولم يفرض لها صداقاً ، ولم يدخل بها حتى مات .
قال ابن مسعود : لها صداق نسائها؛ لا وكس ، ولا شطط؛ وعليها العدَّة ، ولها الميراث؛ فقام معقل بن يسار الأشجعيِّ ، فقال : « قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في بَروعَ بنت واشقٍ - امْرَأَةٍ مِنَّا - مِثْلَ مَا قَضَيْتَ » ، ففرح بها ابن مسعود .
وقال الشَّافعيُّ : فإن ثبت حديث بروع بنت واشق ، فلا حجَّة في قول أحد دون النبيِّ صلى الله عليه وسلم . وإن لم يثبت ، فلا مهر لها؛ ولها الميراث . وكان عليٌّ - رضي الله عنه - يقول في حديث بروع : لا تقبل قول أعربيٌّ من أشجع ، على كتاب الله ، وسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فصل في اختلافهم في الخلوة
إنَّما خصَّ المحسنين؛ لأنهم المنتفعون بهذا البيان ، كقوله : { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } [ النازعات : 45 ] .
وقال أبو مسلم : من أراد أن يكون من المحسنين ، فهذا شأنه ، وطريقه ، والمحسن : هو المؤمن؛ فيكون المعنى : أنَّ العمل بما ذكرت هو طريق المؤمنين ، وقيل : « حَقّاً عَلَى المحسنين » إلى أنفسهم في المسارعة إلى طاعة الله تعالى .

وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
هذه الآية في المطلَّقة قبل المسيس المفروض لها؛ فبيَّن أنَّ لها نصف ما فرض لها .
واختلف أهل العلم في الخلوة ، فقال الشَّافعيُّ : إنها تقرر نصف المهر .
وقال أبو حنيفة : الخلوة الصَّحيحة : أن يخلو بها ، وليس هناك مانعٌ حسي ، ولا شرعيٍّ ، فالحسِّي : كالرَّتق ، والقرن والمرض أو معهما ثالثٌ .
والشرعي : كالحيض ، والنُّفاس ، وصوم الفرض ، وصلاة الفرض ، والإحرام المطلق؛ فرضاً كان ، أو نفلاً .
واحتجَّ الشَّافعيُّ : بأن الطلاق قبل المسيس يوجب سقوط نصف المهر؛ لأن قوله تعالى : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } ليس كلاماً تاماً ، بل لا بدَّ من إضمار ، [ شيءٍ ، ليتم ] الكلام ، فإمَّا أن يضمر : « فنصفُ مَا فَرضْتُمْ سَاقِطٌ » ، أو يضمر : « فنصفُ مَا فَرَضْتُمْ ثَابِتٌ » ، والإضمار الأوّل هو المقصود؛ لوجوه :
أحدها : أنّ المعلّق على الشَّيء بكلمة « إِنْ » عدمٌ عند عدم ذلك الشيء ظاهراً؛ فلو حملناه على الوجوب ، تركنا العلم بمقتضى التعليق ، لأنّه غير منفي قبله ، وإذا حملناه على السقوط ، عملنا بمقتضى التَّعليق؛ لأنه منفيٌّ قبله .
وثانيها : أنَّ قوله تعالى : { وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } يقتضي وجوب كلِّ المهر عليه ، لأنه لمّا التزم كلَّ المهر ، لزمه الكلُّ بقوله تعالى : { أَوْفُواْ بالعقود } [ المائدة : 1 ] فلا حاجة إلى بيان ثبوت النصف ، وإنَّما المحتاج إليه بيان سقوط النصف؛ لأن المقتضي لوجوب الكل قائمٌ ، فكان سقوط البعض ها هنا ، هو المحتاج إلى البيان ، فكان حمل الآية على بيان السقوط ، أولى من حملها على بيان الوجوب .
وثالثها : أن الآية الدَّالة على وجوب إيتاء المهر ، قد تقدمت في قوله : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً } [ البقرة : 229 ] فحمل الآية على سقوط النِّصف أولى .
ورابعها : أن المذكور في هذه الآية ، هو الطلاق قبل المسيس ، وهو يناسب سقوط نصف المهر ، ولا يناسب وجوب شيءٍ ، فلمّا كان إضمار السقوط أولى ، لا جرم استقصينا هذه الوجوه؛ لأن منهم من قال : معنى الآية : فنصف ما فرضتم واجبٌ ، وتخصيص النصف بالوجوب ، لا يدلُّ على سقوط الآخر ، إلاّ من حيث دليل الخطاب ، وهو عند أبي حنيفة ليس بحجَّة . وقد ذكرنا هذه الوجوه؛ دفعاً لهذا السؤال .
واستدلَّ أبو حنيفة بقوله تعالى : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً } [ النساء : 20 ] إلى قوله : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ } [ النساء : 21 ] فنهى تعالى عن أخذ المهر ، ولم يفرّق بين الطلاق ، وعدم الطَّلاق ، إلاَّ إن توافقنا على تخصيص الطلاق قبل الخلوة فمن ادّعى التخصيص - ها هنا - فعليه البيان ، وأيضاً فإنّه تعالى نهى عن أخذ المهر ، وعلَّل بعلَّة الإفضاء ، وهي الخلوة ، لأنَّ الإفضاء : مشتقٌّ من الفضاء ، وهو المكان الخالي فعلمنا أنَّ الخلوة تقرَّر المهر .
والجواب عن ذلك : بأن دليلهم عامٌّ ، ودليلنا خاصٌّ ، والخاصُّ مقدَّمٌ على العامِّ .
قوله تعالى : { وَقَدْ فَرَضْتُمْ } : هذه الجملة في موضع نصب على الحال ، وذو الحال يجوز أن يكون ضمير الفاعل ، وأن يكون ضمير المفعول؛ لأنَّ الرباط موجودٌ فيهما ، والتقدير : وإن طلقتموهن فارضين لهن ، أو مفروضاً لهنَّ ، و « فَرِيضَة » فيها الوجهان المتقدمان .
والفاء في « فَنِصْفُ » جواب الشرط ، فالجملة في محلِّ جزمٍ؛ جواباً للشرط ، وارتفاع « نِصْفُ » على أحد وجهين : إمَّا الابتداء ، والخبر حينئذٍ محذوفٌ ، وإن شئت قدَّرته قبله ، أي : فعليكم أو فلهنَّ نصف ، وإن شئت بعده ، أي : فنصف ما فرضتم عليكم - أو لهنَّ - وإمَّا على خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : فالواجب نصف .
وقرأت فرقةٌ : فَنِصْفَ « بالنصب على تقدير : » فَادْفَعُوا ، أَوْ أَدُّوا « ، وقال أبو البقاء : » ولو قُرِئَ بالنصبِ ، لكان وجهه فَأَدَّوا [ نِصْفَ ] « فكأنه لم يطَّلع عليها قراءة مرويَّةً .
والجمهور على كسر نون » نِصْف « ، وقرأ زيدٌ وعليٌّ ، ورواها الأصمعيُّ قراءة عن أبي عمرو : » فَنُصْف « بضمِّ النون هنا ، وفي جميع القرآن ، وهما لغتان ، وفيه لغةٌ ثالثة : » نَصِيف « بزيادة ياءٍ ، ومنه الحديث : » مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ « .
والنَّصيف - أيضاً - : القناع ، قاله القرطبي ، والنِّصف : الجزء من اثنين ، يقال : نصف الماء القدح ، أي : بَلَغَ نِصْفَهُ ، ونَصَفَ الإزار السّاق ، وكلُّ شيءٍ بلغ نصف غيره ، فقد نصفه .
و » مَا « في » مَا فَرَضْتُمْ « بمعنى » الَّذِي « ، والعائدُ محذوف لاستكمالِ الشروطِ ، ويضعفُ جعلُها نكرةً موصوفةً .
قوله تعالى : { إَلاَّ أَن يَعْفُونَ } في هذا الاستثناء وجهان :
أحدهما : أن يكونَ استثناءً منقطعاً ، قال ابن عطيَّة وغيره : لأنَّ عَفْوَهُنَّ عَنِ النِّصْفِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ أَخْذِهِنَّ » .
والثاني : أنه متصلٌ ، لكنه من الأحوال؛ لأَنَّ قوله : « فنصفُ ما فَرَضْتُمْ » معناه : فالواجبُ عليكم نصفُ ما فَرَضْتُمْ في كلِّ حال ، إلا في حال عَفْوِهِنَّ ، فإنه لا يجب ، وإليه نَحَا أبو البقاء ، وهذا ظاهرٌ ، ونظيرُه : { لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } [ يوسف : 66 ] وقال أبو حيان « إِلاَّ أَنَّ مَنْ مَنَعَ أَنْ تَقعَ » أَنْ « وصلتُها حالاً ، كسيبويه؛ فإنه يمنعُ ذلك ، ويكونُ حينئذٍ منقطعاً » .
وقرأ الحسن « يَعْفُونَهُ » بهاء مضمومةٍ وفيها وجهان :
أحدهما : أنها ضميرٌ يعودُ على النِّصف ، والأصلُ : إِلاّض أَنْ يَعْفُونَ عَنْهُ ، فحُذِف حرفُ الجَرِّ ، فاتصل الضميرُ بالفعلِ .
والثاني : أنها هاءُ السكتِ والاستراحةِ ، وإنما ضَمَّها؛ تشبيهاً بهاءِ الضميرِ ، كقول الآخر [ الطويل ]
1144- هُمُ الفَاعِلُونَ الخَيْرَ والآمِرُونَهُ .. . . .
على أحدِ التأويلين في البَيت أيضاً .
وقرأ ابن أبي إسحاق : « تَعْفُونَ » بتاءِ الخطابِ ، ووجهها الالتفاتُ من ضميرِ الغَيبة إلى الخطابِ ، وفائدةُ هذا الالتفاتِ التحضيضُ على عَفْوِهنَّ ، وأنه مندوبٌ .
و « يَعْفُونَ » منصوبٌ ب « أَنْ » تقديراً؛ فإنَّه مبنيٌّ؛ لاتصاله بنونِ الإِناثِ ، هذا رأيُ الجمهور ، وأمَّا ابن درستويه ، والسُّهَيْليُّ : فإنه عندهما معربٌ ، وقد فَرَّق الزمخشريُّ وأبو البقاء بين قولك : « الرِّجَالُ يَعْفُونَ » و « النِّسَاءُ يَعْفُونَ » وإنْ كان [ هذا ] من الواضحاتِ بأنَّ قولك « الرِّجَالُ يَعْفُونَ » الواو فيه ضميرُ جماعة الذكور ، وحُذف قبلها واوٌ أخرى هي لام الكلمة ، فإن الأصل : « يَعْفُوونَ » ، فاسْتُقْقلت الضمةُ على الواوِ الأولى ، فحُذِفت ، فبقيت ساكنةً ، وبعدها واو الضمير أيضاً ساكنةٌ ، فحُذِفت الواو الأولى؛ لئلاَّ يلتقي ساكنان ، فوزنهُ « يَعْفُونَ » ، والنونُ علامة الرفع؛ فإنه من الأمثلةِ الخمسةِ - وأَنَّ قولك : « النِّسَاءُ يَعْفُونَ » ، الواوُ لامُ الفعل ، والنون ضميرُ جماعةِ الإِناثِ ، والفعل معها مبنيٌّ ، لا يظهرُ للعامِل فيه أَثَرٌ قال شهاب الدين : وقد ناقش الشيخ الزمخشريُّ بأنَّ هذا من الواضحات التي بأدنى قراءة في هذا العلم تُعْرَفُ ، وبأنه لم يبيِّنْ حذف الواو من قولك : « الرِّجَالُ يَعْفُونَ » ، وأنه لم يذكُرْ خلافاً في بناء المضارع المتَّصلِ بنون الإناث ، وكُلُّ هذا سهلٌ لا ينبغي أن يُناقَشَ بمثله .
وقوله تعالى : { أَوْ يَعْفُوَاْ الذي } « أَوْ » هنا فيها وجهان :
أحدهما : هي للتنويع .
والثاني : أنها للتخيير ، والمشهورُ فتحُ الواو؛ عطفاً على المنصوبِ قبله ، وقرأ الحسن بسكونها واستثقل الفتحة على الواو ، فقدَّرها كما يقدِّرها في الألف ، وسائرُ العرب على استخفافها ، ولا يجوز تقديرها إلا في ضرورةٍ؛ كقوله - هو عامر بن الطُّفَيل - [ الطويل ]
1145- فَمَا سَوَّدَتْني عَامِرٌ عَنْ وِرَاثَةٍ ... أَبَى اللهُ أَنْ أَسْمُوْ بَأُمِّ وَلاَ أَبِ
ولمَّا سكَّن الواوَ ، حُذِفَت للساكن بعدها ، وهو اللامُ من « الَّذِي » ، وقال ابنُ عطية « والذي عندي أنه استثقل الفتحةَ على واو متطرِّفةٍ قبلها متحرِّكٌ؛ لقلِّةِ مجيئها في كلامهم » وقال الخليل : « لم يجئ في الكلام واوٌ مفتوحةٌ متطرفةٌ قبلها فتحةٌ إلا قولهم » عَفْوَة « جمع عَفْو » ، وهو ولدُ الحِمَارِ ، وكذلك الحركة - ما كانت - قبل الواو المفتوحةِ فإنَّها ثقيلةٌ « انتهى . قال أبو حيَّان : فقوله : » لقلَّةِ مجيئها « ، يعني مفتوحةً ، مفتوحاً ما قبلَها ، وهذا الذي ذكره فيه تفصيلٌ ، وذلك أنَّ الحركةَ قبلها : إمَّا أَنْ تكونَ ضمةً ، أو كسرةً ، أو فتحةً ، فإنْ كانَتْ ضمَّةً : فإمَّا أَنْ يكونَ ذلك في اسم أو فعلٍ ، فإنْ كان في فعلٍ ، فهو كثيرٌ ، وذلك جميعُ أمثلةِ المضارع الداخلِ عليها حرف نصبٍ؛ نحو : » لَنْ يَغْزُوَ « ، والذي لحِقَه نونُ التوكيد منها؛ نحو » هلَ يَغْزُوَنَّ « ، وكذلك الأمر؛ نحو : » اغْزُوَنَّ « ، وكذا الماضي على » فَعُلَ « في التعجب؛ نحو : سَرُوَ الرَّجُل؛ حتى إن ذوات الياء تُرَدُّ إلى الواو في التعجُّب ، فيقولون : » لَقَضُوَ الرَّجُلُ « ، على ما قُرِّرَ في بابِ التصريف ، وإنْ كان ذلك في اسم : فإمَّا أن يكونَ مبنيّاً على هاءِ التأنيث ، فيكثر أيضاً؛ نحو : عَرْقُوة وتَرْقُوة وقمحدوة ، وإنْ كان قبلها فتحة ، فهو قليل؛ كما ذكر الخليل ، وإن كان قبلها كسرةٌ ، قُلِبت الواوُ ياءً؛ نحو : الغازي والغازية ، وشَذَّ من ذلك » أَفْرِوَة « جمع » فَرِوَة « ، وهي مَيْلَغَةُ الكَلْب ، و » سَوَاسِوَة « وهم : المستوون في الشَّرِّ ، و » مَقَاتِوَة « جمع مُقْتَو ، وهو السائسُ الخادِمُ ، وتَلَخَّصَ من هذا أنَّ المراد بالقليل واوٌ مفتوحةٌ متطرِّفة مفْتُوحٌ ما قبلها [ في ] اسمٍ غير ملتبسٍ بتاءِ التأنيثِ ، فليس قولُ ابن عطية » والَّذي عندي إلَى آخره « بظاهر .
والمرادُ بقوله : { الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } قيل : الزوجُ ، وقيلَ : الولِيُّ و « أل » في النكاح للعهدِ ، وقيل بدلٌ من الإِضافةِ ، أي : نكاحُه؛ كقوله : [ الطويل ]
1146- لَهُمْ شِيمَةٌ لَمْ يُعْطِهَا اللهُ غَيْرَهُمْ ... مِنَ الجُودِ ، وَالأَحْلاُمُ غَيْرُ عَوَازِبِ
أي : أحلامُهم ، وهذا رأيُ الكوفيِّين . وقال بعضهم : في الكلامِ حذفٌ ، تقديره : بيده حِلُّ عُقْدَةِ النِّكَاحِ؛ كما قيل ذلك في قوله : { وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح } [ البقرة : 235 ] ، أي عَقْدَ عُقْدَةِ النكاح ، وهذا يؤيِّد أنَّ المرادَ الزَّوْجُ .
فصل فيمن بيده عقدة النكاح
المراد بقوله : « يَعفُونَ » أي : المطلقاتُ يعفُون عن أزواجهنَّ ، فلا يطالبنهم بنصفِ المهرِ .
واختلفوا في { الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } فقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، وسعيدُ بن جُبير ، والشعبي ، وشُرَيحٌ ، ومجاهدٌ ، وقتادة : هو الزَّوج ، وبه قال أبو حنيفة .
وقال علقمةُ ، وعطاءُ ، والحسنُ ، والزهريُّ ، وربيعةُ : هو الولي ، وبه قال أصحابُ الشَّافعيِّ .
واحتج الأَوَّلون بوجوهٍ :
الأول : أنَّه ليس للولِيّ أَنْ يهب مهرَ وليَّته ، صغيرةً كانت ، أو كبيرةً .
الثاني : أنَّ الَّذي بيد الولِيّ هو عقدُ النكاحِ ، فإذا عقد ، فقد حصل النكاحُ ، والعقدةُ الحاصلةُ بعد العقدِ في يدِ الزَّوج ، لا في يدِ الولي .
الثالث : روي عن جُبير بن مطعم : أَنَّهُ تزوج امرأةً وطلَّقها قبل أن يدخل بها ، فأكمل الصداق ، وقال : أنا أحَقُّ بالعفوِ ، وهذا يدل على أنّ الصحابةَ فهموا من الآية العفو الصادر من الزوج .
واحتج القائِلون بأنّه الوَلِيُّ بوجوهٍ .
أحدها : أن عفو الزوج هو أن يعطيها المهرَ كُلَّهُ ، وذلك يكون هبةً ، والهبةُ لا تُسمَّى عفواً .
وأُجيبوا بأنه كان الغالب عندهم ، أَنْ يسوق المهرَ كُلَّه إليها ، عند التزوج ، فإذا طلّق ، فقد استحقَّ المُطَالبة بنصفِ ما ساقَهُ إليها ، فإذا ترك المطالبة ، فقد عفا عنها .
وأيضاً ، فالعفو قد يُراد به التسهيلُ ، يقال : فلانٌ وجد المالَ عفواً صَفْواً ، وقد تقدَّم وجهه في تفسير قوله تعالى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } [ البقرة : 178 ] فعلى هذا عفو الرجل : أَنْ يبعث إليها كُلَّ الصداقِ على وجهِ السهُولةِ .
الثاني : أَنَّ ذكر الزَّوج ، قد تقدَّم في قوله تعالى : { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } فلو كان المرادُ ب { الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } هو الزوج ، لقال : أَوْ تَعْفُو على سبيل المخاطبةِ فلمَّا عبّر عنه بلفظ الغائب ، علِمْنا الغائب ، علِمْنا أَنَّ المرادَ منه غيرُ الأَزواج .
وأجيبوا بأَنَّ سبب العُدُولِ عن الخطاب إلى الغيبة؛ التنبيه على المعنى الذي لأجله رغب الزوج في العقد ، والمعنى : أَوْ يَعْفُو الزوج الذي حبسها مالك عقد نكاحها عن الأزواج ، ولم يكن منها سبب في الفراق وَإِنَّما فارقها الزوج ، فلا جرم كان حقيقاً بأَلاَّ ينقصها من مهرِها شيئاً .
الثالث : أَنَّ الزوج ليس بيده عَقْدُ عُقْدة النكاح أَلْبَةَّةَ؛ لأنه قبل النكاح كان أَجْنبيّاً عن المرأة ، ولا قُدْرة له على التصرف فيها بوجهٍ من الوجوهِ ، وأمَّا بعد النكاح ، فقد حصل النكاحُ ، ولا قُدْرة له على إيجاد الموجودِ ، بل له قدرةٌ على إِزالة النكاح ، والله - تعالى - أثبت العفو لمن في يدِه ، وفي قُدرته عقد النكاح .
قوله تعالى : { وَأَن تعفوا أَقْرَبُ } : « أَنْ تَعْفُوا » في محلِّ رفع بالابتداء؛ لأنه في تأويل « عَفْوُكُمْ » ، و « أَقْرَبُ » خبره ، وقرأ الجمهور « تَعْفُوا » بالخطاب ، والمرادُ الرجالُ والنساءُ ، فغلَّبَ المذكَّر لأنه الأصلُ ، والتأنيث ، قلتَ : « قَائِمَة » فاللفظ الدالُّ على المذكر هو الأَصل ، والدالُّ على المؤنَّثِ فرعٌ عليه ، وأمَّا المعنى : فلأَنَّ الكمال للذُّكور ، والنُّقصانَ للإِناثِ؛ فلهذا متى اجتمع المذكرُ ، والمؤنثُ - غُلِّب التذْكير ، والظاهِرُ أنه للأزواج خاصَّةً؛ لأنهم المخاطبون في صدر الآيةِ ، وعلى هذا فيكونُ التفاتاً من غائبٍ ، وهو قوله : { الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } - على قولنا إنَّ المرادَ به الزوجُ - [ وهو المختارُ ] - إلى الخطابِ الأولِ في صدرِ الآية ، وقرأ الشَّعبيُّ وأبو نهيك « يَعْفُوا » بياء من تحت ، قال أبو حيَّان جعله غائباً ، وجُمِع على معنى : { الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } ؛ لأنه للجنس لا يُراد به واحدق يعني أنَّ قوله : « وَأْنْ يَعْفُوا » أصله « يَعْفُوُونَ » ، فلمَّا دخل الناصبُ ، حُذِفت نونُ الرفعِ ، ثم حُذِفَت الواوُ التي هي لامُ الكلمةِ ، وهذه الباقية هي ضميرُ الجماعةِ ، جُمِعَ على معنى الموصُول؛ لأنه وإِنْ كان مفرداً لفظاً ، فهو مجموعٌ في المعنى؛ لأنه جنسٌ ، ويظهر فيه وجهٌ آخرُ ، وهو أن تكونَ الواوُ لامَ الكلمةِ ، وفي هذا الفعل ضميرٌ مفردٌ يعودُ على الذي بيده عُقدةُ النِّكَاح ، إلا أنه قَدَّر الفتحةَ في الواوِ استثقالاً؛ كما تقدَّم في قراءةِ الحسن ، تقديره : وأَنْ يَعْفُو الذي بيده عقدةُ النِّكاح .
قوله : { للتقوى } متعلِّقٌ ب « أَقْرَبُ » وهي هنا للتعديةِ ، وقيلَ : بل هي للتعليل ، و « أَقْرَبُ » تتعدَّى تارةً باللام ، كهذه الآيةِ ، وتارةً ب « إِلَى » ؛ كقوله تعالى : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد } [ ق : 16 ] ، وليست « إِلَى » بمعنى « اللام » ، وقيل : بل هي بمعناها ، وهذا مذهبُ الكوفيين ، أعنى التجوُّزَ في الحروفِ ، ومعنى اللامِ و « إِلَى » في هذا الموضع يتقارَبُ .
وقال أبو البقاء : يجوزُ في غير القرآن : « أَقْرَبُ مِنَ التقوَى ، وإِلَى التقْوَى » ، إلاَّ أَنَّ اللامَ هنا تَدُلُّ على [ معنًى ] غير معنى « إِلَى » ، وغير معنى « مِنْ » ، فمعنى اللامِ : العفو أَقربُ مِنْ أَجْلِ التقوى ، واللام تدلُّ على علَّة قُرب العفو ، وإذا قلتَ : أقربُ إلى التقوى ، كان المعنى : يقاربُ التقوى؛ كما تقول : « أَنْتَ أَقْرَبُ إِلَيَّ » ، و « أَقْرَبُ مِنَ التَّقْوَى » يقتضي أن يكون العفو والتقوَى قريبَيْن ، ولكنَّ العفوَ أشدُّ قُرباً من التقوَى ، وليس معنى الآية على هذا . انتهى . فجعل اللام للعلة ، لا للتعدية ، و « إِلَى » للتعدية .
واعلم أَنَّ فِعْلَ التعجُّب ، وأفعلَ التفضيلِ يتعدَّيان بالحرفِ الذي يتعدَّى به فعلهما قبل أن يكونَ تعجُّباً وتفضيلاً؛ نحو : « مَا أَزْهَدَنِي فِيهِ وَهُوَ أَزْهَدُ فِيهِ » ، وإِنْ كان من متعدٍّ في الأصلِ : فإِنْ كان الفعلُ يُفهم علماً أو جَهْلاً ، تعدَّيا بالباءِ؛ نحو : « هُوَ أَعْلَمُ بالفِقْهِ » ، وإِنْ كان لا يفهم ذلك ، تعدَّيا باللامِ ، نحو : « مَا أَضْرَبَكَ لِزَيْدٍ » و « أَنْتَ أَضْرَبُ لِعَمرو » إِلاَّ في باب الحُبِّ والبُغْضِ ، فإنهما يتعَدَّيان إلى المفعول ب « في » ، نحو : « مَا أَحَبَّ زَيْداً فِي عَمرو ، وَأَبْغَضَهُ فِي خَالِدٍ ، وهو أَحَبُّ في بكرٍ ، وأَبْغَضُ في خَالِدٍ » وإلى الفاعل المعنويِّ ب « إِلَى » ، نحو « زَيْدٌ أَحَبُّ إِلَى عمرو من خالِدٍ ، ومَا أَحَبَّ زَيْداً إِلَى عَمْرو » ، أي : إِنَّ عَمْراً يُحِبُّ زَيْداً ، وهذه قاعدةٌ جليلةٌ .
والمفضَّلُ عليه في الآيةِ الكريمةِ محذوفٌ ، تقديرُه : أقربُ للتقوَى من تَرْكِ العَفْوِ ، والياءُ في التقوَى بدلٌ من واو ، وواوها بدلٌ من ياءٍ؛ لأنها من وَقَيْتُ أَقِي وِقَايَةً ، وقد تقدَّم ذلك أوَّلَ السورة .
فصل
وإنَّما كان العفو أقرب إلى حُصُول التقوى؛ لأن مَنْ سمح بترك حَقِّه ، فهو محسنٌ ، ومَنْ كان مُحْسِناً ، استحقَّ الثواب ، وإذا استحق الثواب ، فقد اتقى بذلك الثواب ما هو دونه مِنَ العقاب ، وأيضاً فإن هذا الصنع يدعوه إلى ترك الظُّلم ، وترك الظلم تقوى في الحقيقة؛ لأن مَنْ سمح بحقِّه تقرُّباً إلى ربه ، كان أبعد مِنْ أَنْ يظلم غيره .
قوله : { وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ } قرأ الجمهور بضمِّ الواو مِنْ « تَنْسَوا » ؛ لأنها واوٌ ضمير ، وقرأ ابن يعمر بكسرها تشبيهاً بواو « لَوْ » كما ضَمّوا الواو من « لَو » ؛ تشبيهاً بواو الضمير ، وقال أبو البقاء في واوِ « تَنْسَوا » من القراءات ووجوهها ما ذكرناه في { اشتروا الضلالة } [ البقرة : 16 ] ، وكان قد قَدَّم فيها خمسَ قراءاتٍ ، فظاهرُ كلامه عودُها كلِّها إلى هنا ، إلاَّ أنه لم يُنْقَل هنا إلا الوجهان اللذان ذَكَرْتُهما .
وقرأ علي رضي الله عنه : « وَلاَ تَنَاسَوا » قال ابن عطيَّة : « وهي قراءة متمكِّنةٌ في المعنى؛ لأنه موضعُ تَنَاسٍ ، لا نِسْيَانٍ ، إلاَّ على التشبيه » ، وقال أبو البقاء : « على باب المفاعلةِ ، وهي بمعنى المتاركةِ ، لا بمعنى السهو ، وهو قريبٌ من قولِ ابن عطيَّة .
قوله تعالى : » بَيْنَكُمْ « فيه وجهان .
أحدهما : أنه منصوبٌ ب » تَنْسَوا « .
والثاني : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الفضل ، أي كائناً بينَكثمْ ، والأولُ أَوْلَى؛ لأنَّ النهيَ عن فِعْلٍ يكونُ بينَهم أبلغ من فعلٍ لا يكونُ بينَهُم والمرادُ بالفضلِ ، أي : إفضال بعضكم لى بعض بإعطاء الرجل تمامَ الصداقِ ، أو تركِ المرأَةِ نصيبها ، حثَّهما جميعاً على الإحسان ، ثم ختم الآية بما يجري مجرى التهديد ، فقال : { إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .
قال القرطبي : هذا خبرٌ في ضمنه الوعد للمحسنين ، والحِرمانُ لغير المحسنين ، أي : لا يخفى عليه عفوكم ، واستقضاؤكم .

حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
قوله تعالى : { حَافِظُواْ } : في « فَاعَلَ » هنا قولان :
أحدهما : أنه بمعنى « فَعِلَ » ، كطارَقْتُ النَّعْلَ ، وعاقَبْتُ اللصَّ ، ولمَّا ضمَّن المحافظة معنى المواظبةِ ، عدَّاها ب « عَلَى » .
الثاني : أنَّ « فَاعَلَ » على بابها من كونها بين اثنين ، فقيلَ : بين العبدِ وربِّه ، كأنه قيل : احفَظْ هذه الصلاةَ يحفظْكَ اللهُ ، وقيل : بين العبدِ والصلاةِ ، أي : احفَظْها تَحْفَظْك . وحفظُ الصَّلاة للمُصلِّي على ثلاثة أوجهٍ :
الأول : أنها تحفظه مِنَ المعاصي؛ كقوله : { إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر } [ العنكبوت : 45 ] .
الثاني : تحفظه من البَلايا ، والمِحَن؛ لقوله : { واستعينوا بالصبر والصلاة } [ البقرة : 45 ] ، وقال الله : { إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَآتَيْتُمْ الزكاة } [ المائدة : 12 ] أي : معكم بالصَّبر ، والحفظ .
الثالث : تحفظُه : بمعنى تشفعُ له؛ لأن الصلاة فيها القرآنُ؛ والقرآن يشفع لقارئه ، وهو شافِعٌ مُشَفَّعٌ .
وقال أبو البقاء : ويكون وجوبُ تكرير الحِفْظ جارياً مجرى الفاعلين؛ إذْ كان الوجوبُ حاثّاً على الفعلِ ، وكأنه شريكُ الفاعلِ للحفظ؛ كما قالوا في { وَاعَدْنَا موسى } [ البقرة : 51 ] فالوعدُ من اللهِ ، والقَبُولُ من موسى بمنزلةِ الوعد؛ وفي « حَافِظُوا » معنى لا يُوجَدُ في « احْفَظُوا » وهو تكريرُ الحفْظِ وفيه نظرٌ؛ إذ المفاعلةُ لا تدُلُّ على تكريرِ الفعلِ ألبتةَ .
قوله تعالى : { والصلاة الوسطى } ذكر الخاصَّ بعد العامِّ ، وقد تقدَّم فائدته عند قوله تعالى : { مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ } [ البقرة : 98 ] والوُسطى : فعلى معناها التفضيلُ ، فإنها مؤنثةٌ للأوسطِ؛ كقوله - يمدح الرسول عليه والصلاة والسلام - : [ البسيط ]
1147- يَا أَوْسَطَ النَّاسِ طُرّاً فِي مَفَاخِرِهِمْ ... وَأَكْرَمَ النَّاسِ أُمًّا بَرَّةً وَأَبَا
وهي [ من ] الوسط الذي هو الخيارُ ، وليست من الوسطِ الذي معناه : متوسِّطٌ بين شيئين؛ لأنَّ فُعْلى معناها التفضيلُ؛ ولا يُبْنى للتفضيل ، إلا ما يَقْبَلُ الزيادةَ والنقصَ ، والوَسَطُ بمعنى العَدْل والخيارِ يقبلُهما بخلافِ المتوسِّطِ بين الشيئين؛ فإنه لا يَقْبَلُهما ، فلا ينبني منه أفعلُ التفضيل .
وقرأ علي : « وَعَلَى الصَّلاَةِ » بإعادة حرفِ الجرِّ توكيداً ، وقرأَتْ عائشةُ - رضي الله عنها - « وَالصَّلاَةَ » بالنصبِ ، وفيها وجهان :
أحدهما : على الاختصاصِ ، ذكرَه الزمخشريُّ .
والثاني : على موضع المجرورِ قَبْلَهُ؛ نحو : مَرَرْتُ بزيدٍ وَعَمْراً ، وسيأتي بيانُه في المائدة - إن شاء الله تعالى - .
قال القرطبي : وقرأ أبو جعفر الواسطي « والصَّلاَةَ الوُسْطَى » بالنصب على الإِغراء أي : والْزَمُوا الصَّلاة الوُسْطَى وكذلك قرأ الحلواني ، وقرأ قالُونُ ، عن نافع « الوُصْطَى » بالصَّادِ؛ لمجاورَة الطاءِ؛ لأنهما مِنْ واحدٍ ، وهما لغتان؛ كالصراط ونحوه .
فصل
لمّا ذكر الأحكام المتعلّقة بمصالح الدُّنيا مِنْ بيان : النكاح ، والطلاقِ ، والعُقُودِ ، أتبعه بذكر الأَحكامِ المتعلِّقة بمصالح الآخرة .
وأَجمع المسلمون على وجوب الصلوات الخمس ، وهذه الآيةُ تدلُّ على كونها خَمْساً؛ لأن قوله : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات } تدل على الثَّلاثة مِنْ حيثُ إِنَّ أَقلَّ الجمع ثلاثةٌ ، ثم قال : { والصلاة الوسطى } يدلُّ على شيءٍ زائدٍ عن الثلاثة؛ وإلاَّ لزم التكرارُ ، والأصلُ عدمهُ ، ثم إنَّ الزَّائد يمتنع أَنْ يكون أربعةً ، لأنها لا يبقى لها وسطى فلا بُدَّ وأَنْ ينضمَّ إلى تلك الثلاثة عددٌ آخرٌ؛ حتى يحصلَ به للجموع واسطةٌ ، وأقلُّ ذلك خمسةٌ ، فدلَّت هذه الآيةُ على أن الصلوات المفروضات خمسٌ بهذا الطَّريق ، وهذا الاستبدال إنما يتم ، إذا قُلنا : إنَّ المراد من الوُسْطَى ما يكونُ وسطاً في العدد ، لا ما يكون وسطاً بسبب الفضيلة .
ج12. ج12.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب


المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
فصل
هذه الآيةُ وإِنْ دلّت على وجوب الصلوات الخمس لكنَّها لا تدلُّ على أوقاتها .
قالوا : والآياتُ الدالةُ على تفصيل الأَوقاتِ أَربعٌ :
أحدها : قوله تعالى : { فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [ الروم : 17 ] .
فقوله : « سُبْحَانَ اللهِ » أي : فسبِّحوا اللهَ ، معناه : صلُّوا للهِ حين تمسون ، أراد به صلاة المغربِ ، والعِشَاءِ ، « وَحِينَ تُصْبِحُونَ » أراد صلاة الصُّبح ، و « عَشيّاً » أراد به [ صلاة ] العصر ، و « حِينَ تُظْهِرُونَ » ، صلاة الظهر .
الثانية : قوله تعالى : { أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ الليل } [ الإسراء : 78 ] أراد ب « الدلوك » زوالها ، فدخل في الآية : صلاةُ الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، ثم قال : { وَقُرْآنَ الفجر } [ الإسراء : 78 ] أراد صلاة الصُّبح .
الثالثة : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الليل فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النهار } [ طه : 130 ] قالوا : لأَنَّ الزمان إِمَّا أَنْ يكون قبل طُلُوعِ الشَّمسِ ، أو قبل غروبها ، فالليل والنهارُ داخلان في هاتين اللفظتين .
الرابعة : قوله تعالى : { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ الليل } [ هود : 114 ] فالمراد ب « طَرَفَي النَّهَارِ » الصُّبحُ والعَصْر ، وبقوله « وزُلْفاً من الليل » المغرب ، والعشاء .
فصل في الصلاة الوسطى
اختلفوا في الوسطى على سبعة مذاهب :
الأول : أنَّ الله - تعالى - لمّا لم يبينها بل خصَّها بمزيد التوكيد ، جاز في كُلِّ صلاةٍ أَنْ تكون هي الوسطَى ، فيصير ذلك داعياً إلى أداء الكل بصفةِ الكمالِ ، والتمام؛ كما أنّه أخفى ليلة القَدْرِ في رمضان ، وأخفى ساعةَ الإجابةَ في يوم الجُمُعةِ ، وأَخْفَى اسمه الأَعظم في جميع الأَسماءِ ، وأخفى وقتَ الموتِ في الأوقات؛ ليكون المكلَّف خائِفاً من الموتِ في كل الأوقات ، وهذا قولُ جماعةٍ من العُلَماءِ .
قال محمَّد بن سيرين : سأل رجلٌ زيد بن ثابتٍ ، عن الصلاة الوسطى ، فقال : حافِظ على الصلوات كُلِّها تصبها .
وعن الربيع بن خيثم أنّه سأله واحدٌ عنها ، فقال : قال ابن عمر : الوُسطى واحدة منهن ، فحافِظ على الكُلِّ تكُنْ محافظاً على الوسطى ، ثم قال الربيع : فإنْ حافظتَ عليهن ، فقد حافظت على الوسْطى .
الثاني : أَنَّ الوسطى هي مجموعُ الصلوات الخَمْس؛ لأَن هذه الصلوات الخمس : هي الوسطى من الطاعات ، وتقريره : أنَّ الإِيمان بضعٌ وسبعون درجة : أعلاها شهادةث أَنْ لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى ، فهي واسطة بين الطرفين .
وقيل : الوسطى صلاةُ الجمعة؛ لأن وقتها وسطُ النهارِ ، ولها شروط ليست لبقيَّة الفرائض : من أشتراط الخُطبة ، والأَربعين ، ولا تصلي في المِصْر أكثر مِنْ جمعةٍ واحدةٍ ، إِلاَّ أَنْ تدعُو الحاجة إلى أكثر منها؛ وتفوتُ بفواتِ وقتها ولا تقضى؛ لأن العطف يقتضي المغايرة .
الثالث : أنها صلاةُ الصبح ، وهو قول علي وعمر وابن عباس ، وابن عمرو وجابر بن عبدالله ، ومعاذ وأبي أمامة الباهِليّ ، وهو قول عطاء ، وطاوسٍ ، وعكرمة ومجاهد ، وإليه ذهب مالكٌ ، والشافعي . واستدلُّوا بوجوه :
أحدها : أنَّ هذه الصلاة تُؤدَّى بعد طُلُوع الفجر ، وقبل طلوع الشمس ، وهذا الزمان ليس فيه ظُلمة باقية ، ولا ضوء تام فكأنّه ليس بليلٍ ولا نهارٍ ، فكان مُتوسِّطاً بينهما .
وثانيها : أَنََّ النهار حصل فيه صلاتان : الظهر ، والعصر؛ وفي الليل صلاتان : المغرب ، والعشاء؛ وصلاةُ الصبح كالمتوسطة بين صلاتي الليل ، وصلاتي النهار .
فإنْ قيل : هذه المعاني حاصِلةٌ في صلاة المغرب .
فالجوابُ : أنَّا نرجِّح صلاة الصُّبح على صلاة المغرب؛ بكثرة الفضائلِ ، على ما سيأتي إِنْ شاء الله تعالى .
وثالثها : أَنَّ الظهر ، والعصر صلاتا جمعٍ ، وكذلك : المغربُ والعِشاءُ ، وصلاة الصبح منفردةٌ بوقتِ واحدٍ؛ فكانت وسطاً بينهما .
ورابعها : قوله تعالى : { إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً } [ الإسراء : 78 ] وقد ثبت أَنَّ المراد منه صلاةُ الفجر ، يعنى تشهدُه ملائكةُ الليل وملائكةُ النهار ، فلا تجتمعُ ملائِكةُ الليل وملائكةُ النهار في وقتٍ واحد ، إِلاّ في صلاةِ الفجر؛ فثبت أَنَّ صلاةَ الفجرِ قد أخذت بطرفي الليل والنهار من هذا الوجه؛ فكانت كالشيءِ المتوسِّط .
وخامسها : قوله تعالى : { وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ } وصلاة الصبح مخصوصةٌ بطول القيام ، والقنوت ، وهذا ضعيف ، لأنه يقال لا نُسلِّمُ أَنَّ المراد بالقنوت طولُ القيام ، كما سيأتي في تفسير هذه الكلمة ، ولا نُسَلّم أَنَّ القنوت مخصوص بالفجر؛ بل يقنت في سائر الصَّلوات إِذَا نزل بالمسلمين ، إِلاَّ فلا قنوت في شيءٍ من الفرائض .
وسادسها : أَنَّهُ تعالى إنَّما أفردها بالذكر؛ لأَجل التأكيد؛ لأنها أحوجُ الصلوات إلى التَّأكيد ، إِذْ ليس في الصلواتِ أشقّ منها؛ لأنها تجب على الناس في ألذ أوقاتِ النَّوم؛ فيترك النومَ اللذيذ إلى استعمال الماء البارِدِ ، والخُروج إلى المسجد والتَّأهب للصلاة ، ولا شَكَّ أن هذا شاق صعبٌ على النفس .
وسابعها : أنها أفضلٌ الصلواتِ ، فوجب أَنْ تكونَ هي الوسطى ، ويدل على فضيلتها وجوه :
الأول : قوله تعالى : { والمستغفرين بالأسحار } [ آل عمران : 17 ] فختم طاعاتهم بكونهم مُسْتغفرين بالأَسحارِ ، وأَعظمُ أَنواع الاستغفار الفرائضُ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - حاكياً عن رَبّه : « لن يتقرّب المتقرّبون إليّ بمِثْل أَدَاءِ ما افترضتُ عَلَيْهِمْ » .
الثاني : رُوِيَ أَنَّ التكبيرة الأُولى فيها في الجماعة خيرٌ مِنَ الدُّنْيا وما فيها .
الثالث : أنه ثبتَ أَنَّ صلاة الصبح مخصوصة بالأَذانِ مرَّتين : مرَّة قبل طُلُوع الفجر ، ومرةً بعده .
فالأول : لإيقاظِ الناس من نومِهم ، وتأهبهم .
والثاني : الإِعلامُ بدخول الوقت .
الرابع : أَنَّ الله سمّاها بأسماء ، فقال في بني إسرائيل { وَقُرْآنَ الفجر } وقال في النور
{ مِّن قَبْلِ صلاة الفجر } [ النور : 58 ] وقال في الروم { وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [ الروم : 17 ] وقال عمر - رضي الله عنه - أن المراد من قوله { وَإِدْبَارَ النجوم } [ الطور : 49 ] صلاة الفجر .
الخامس : أن الله تعالى أقسَمَ بها ، فقال : { والفجر وَلَيالٍ عَشْرٍ } [ الفجر : 1-2 ] .
فإن قيل : قد أقسم الله تعالى - أيضاً - بالعصر فقال : { والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ } [ العصر : 1-2 ] قلنا : سلمنا أن المراد منه القسم بصلاة العصر ، لكن في صلاة الفجرمزيدُ تأكيدٍ وهو قوله : { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار } [ هود : 14 ] فكما أنّ أحدَ الطرفين ، وهو الصبحُ ، وهو واقعٌ قبل الطلُوع والطرف الآخرُ هو المغرب؛ لأنه واقعٌ قبل الغُرُوب ، فقد اجتمع في الفجر القسمُ به ، مع التأكيد بقوله : { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار } [ هود : 14 ] هذا التأكيدُ لم يوجد في العصر .
السادس : أن التثويب في أذان الصُّبح معتبرٌ ، وهو قولُ المؤذن : الصلاةُ خيرٌ من النَّومِ ، وهذا غيرُ حاصل في سائر الصلواتِ .
السابع : أَنَّ الإنسان إذا قام مِنْ نومِه فكأنه كان معدُوماً ، ثم صار موجوداً أو كان مَيْتاً ، ثم صار حياً ، فإذا شاهد العَبْدُ هذا الأمر العظيم ، فلا شكَّ أنَّ هذا الوقت أليقُ الأَوقاتِ ، بأَن يظهر العبدُ الخضوع ، والذلة والمسكنة في هذه العبادة .
وثامنها : رُوي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه سُئِل عن الصلاةِ الوسطى ، فقال : كنا نرى أنَّها الفجرُ .
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أنَّه صلى الصبح ، ثم قال : هذه هي الصلاةُ الوسْطى .
القول الرابع : أَنَّهُ صلاةُ الظهرِ ، وهو قول عمر ، وزيدٍ بن ثابت ، وأبي سعيد الخدري ، وأُسامة بن زيدٍ ، وهو قول أبي حنيفة ، وأصحابه ، واحتجُّوا بوجوه :
الأول : أن الظهرَ كان شاقّاً عليهم؛ لوقوعه في وقتِ القَيْلُولة ، وشدَّةِ الحرِّ ، فصرفُ المبالغة فيه أولى .
الثاني : روى زيد بن ثابت أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بالهاجرة ، وكان أثقلَ الصلواتِ على أصحابه ، وربما لم يكُن وراءه إلاّ الصَّفُّ ، والصَّفَّاِ ، فقال عليه الصلاة والسلام : « لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُحْرِّقَ عَلَى قَوْمٍ لاَ يَشْهَدُونَ الصَّلاَة في بُيُوتهم » فنزلت هذه الآيةُ .
الثالث : أن صلاة الظُّهر تقع في وسط النهار ، وليس في المكتوباتِ صلاة تقع في وسطِ النهارِ ، وهي أَوسطُ صلاةِ النَّهارِ في الطول .
الرابع : قال أبو العالية : صليتُ مع أصحابِ النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهرَ ، فلمّا فرغُوا سأَلتُهم عن الصلاةِ الوسطى فقالوا : التي صلَّيتَها .
الخامس : روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها كانت تقرأ « حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَة الوُسْطَى وَصَلاَةَ العَصْرِ » ، وكانت تقولُ سمعتُ ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وجهُ الاستدلالِ أنها عطفت صلاةَ العَصْرِ على الصلاةِ الوُسْطى ، والمعطوفُ عليه قبل المعطُوفِ ، والذي قبل العصر هي صلاةُ الظهر .
السادس : رُوي أنَّ قوماً كانوا عند زيد بن ثابتٍ ، فأرسلوا إلى أُسامة بن زيدٍ ، وسأَلُوه عن الصَّلاةِ الوُسطى ، فقال : هي صلاةُ الظهرِ كانت تقامُ في الهَاجِرة .
السابع : روي في الحديث أن أوَل إِمامة جبريل - عليه السلام - كانت في صلاةِ الظهر ، فَدَلَّ على أنّها أشرف ، فكان صرفُ التَّأكيد إليها أولى .
الثامن : أَنَّ صلاةَ الجمعة هي أشرفُ الصَّلواتِ ، وهي صلاةُ الظهرِ فصرف المبالغة إليها أولى روى الإمامُ أحمدُ ، وصحَّحَه : أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن الصلاة الوسطى [ فقال ] العصرُ . ورَوى أحمدُ ، والترمذيُّ ، وصحَّحه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن صلاةِ الوسطى فقال : « حَافِظُوا عَلَى الصَّلوَاتِ والصَّلاةِ والوُسْطَى وَصَلاةَ العَصْرِ » ثم نُسِخَت هذه الكلمةُ ، وبقي قولُه : « وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ » .
فإن قيل قد روي أنَّ عائشة أمرت أن يكتب لها مصحف ، وقالت للكاتب : إذا بلغت قوله تعالى : { والصلاة الوسطى } فآذِنِّي ، فلما وصل الكاتب إلى قوله تعالى : { والصلاة الوسطى } آذنها فأمرته أن يكتب : « وَصَلاَةَ العَصْرِ » وقالت : هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فالجواب أن هذا لم يروه غير واحدٍ تفرَّد به . وقد روى جماعةٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها صلاة العصر ، كما سيأتي ، وكثرة الأدلة ، والرُّواة يرجّح بها .
القول الخامس : أنها صلاة العصر ، وهو مرويٌّ عن عليّ ، وابن مسعودٍ ، وابن عبَّاسٍ ، وأبي هريرة ، وأبي أيُّوب ، وعائشة ، وبه قال إبراهيم النخعي ، وقتادة ، والحسن ، والضحاك ، ويروى عن أبي حنيفة .
واحتجوا بوجوه :
الأول : روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق : « شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ الوُسْطَى صَلاَة العَصْرِ ملأ اللهُ أَجْوَافَهُم وَقُبُورهُم نَاراً » وروى زرُّ بن حبيش ، قال : قلنا لعبيدة : سل علياً عن الصلاة الوسطى ، فسأله فقال : كنَّا نرى أنها صلاة الفجر ، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الخندق : « شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ الوُسْطَى صَلاَة العَصْرِ ملأ اللهُ أَجْوَافَهُم وَقُبُورهُم نَاراً » وعن عبدالله بن مسعودٍ ، قال : حَبَسَ المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صَلاة العصر ، حتَّى احمرَّت الشمس ، أو اصفرَّت؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ الوُسْطَى صَلاَة العَصْرِ ملأ اللهُ أَجْوَافَهُم وَقُبُورهُم نَاراً ، أو حَشَا اللهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَاراً » .
الثاني : أنَّ العصر أولى بالتأكيد من غيرها؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « مَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَى صَلاَةِ العَصْرِ فَقَدْ وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ » ، وقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « مَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَى صَلاَةِ العَصْرِ أو مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ العَصْرِ فَقَدْ حَبَطَ عَمَلُهُ » وقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « مَنْ حَافَظَ عَلَى صَلاَةِ العَصْرِ آتَاهُ اللهُ أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ » ولأن المحافظة على سائر الصلوات ، أخفُّ وأسهل من المحافظة على وقت العصر أخفى الأوقات .
وذلك لأن الصُّبح يدخل وقتها بطلوع الفجر المستطير ضوؤه ، ودخول الظهر بزوال الشَّمس ، والمغرب بغروب القرص ، ودخول العشاء بمغيب الشَّفق الأحمر ، لا جرم كانت الفضيلة فيها أكثر .
الثالث : أنَّ الناس عند العصر يكونون مشغولين بمهماتهم ، فكان الإقبال عليها أشقُّ .
الرابع : أنَّها متوسطةٌ بين صلاةٍ نهاريَّة ، وهي الظهر ، وصلاةٍ ليليَّةٍ ، وهي المغرب ، وأيضاً ، فهي متوسِّطة بين صلاتين بالليل وصلاتين بالنهار .
فإن قيل : قد ثبت عن عائشة أنها قرأت : « وَصَلاَةَ العَصْرِ » .
فالجواب أن يقال : إن هذه قراءة شاذَّة ، ولأنه ثبت عن خلق كثير في أحاديث صحيحةٍ أنها العصر ورووها بغير واوٍ؛ فدل على أنّ الواو زائدةٌ ، ولأنَّ الراوي لا يجوز له أن يسقط من الحديث حرفاً واحداً يتعلق به حكمٌ شرعي .
أو يقال : هذا من باب عطف الخاصِّ على العامِّ ، أو من عطف الصفات؛ لقولك : زيدٌ الكريم والعالم .
والقول السادس : أنها صلاة المغرب ، وهو قول عبيدة السلماني وقبيصة بن ذؤيب ، واحتجُّوا بوجهين :
أحدهما : أنه بين بياض النَّهار ، وسواد اللَّيل ، وهذا المعنى وإن كان حاصلاً في الصُّبح ، إلاّ أن الغرب ترجَّح بوجوهٍ أُخر : وهي أنها أزيدُ من الرَّكعتين؛ كما في الصبح ، وأقلُّ من الأربع؛ كما في الظهر ، والعصر ، والعشاء ، فهي وسطٌ في الطُّول ، والقصر .
الوجه الثاني : أنَّ صلاة الظهر تسمَّى بالصلاة الأولى ، ولذلك ابتدأ جبريل بالإمامة فيها ، وإذا كان الظهر أوَّل الصلوات ، كانت المغرب ، هي الوسطى ، لا محالة ، ولأنَّ قبلها صلاة سرٍّ ، وبعدها صلاة جهرٍ .
القول السابع : أنها العشاء ، قالوا : لأنها متوسِّطة بين صلاتين لا تقصران : المغرب ، والصبح .
وعن عثمان بن عفَّان - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « مَنْ صَلَّى صَلاَةَ العِشَاءِ الآخِرَةِ في جَمَاعَةٍ ، كَانَ كَقِيَامِ نِصْفِ لَيْلَة » .
قال القرطبي : وقال أبو بكر الأبهري : إن الوسطى صلاة الصُّبح ، وصلاة العصر تبعاً؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « إن اسْتَطَعْتُمْ أَلاََّ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا » يعنى : العصر ، والفجر ، ثم قرأ جرير : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } [ طه : 130 ] . وروى عمَّار بن رؤيبة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقَبْلَ غُرُوبِهَا » يعني الفجر والعصر ، وقيل : العشاء والصبح؛ لأن أبا الدَّرداء - رضي الله عنه - قال في مرضه الذي مات فيه : اسمعوا ، وبلِّغوا من خلفكم : حافظوا على هاتين الصَّلاتين ، يعني في جماعة - العشاء والصُّبح ، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبواً على مرافقكم .
قوله : { وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ } قال ابن عباس : القنوت : الدعاء ، والذكر ، بدليل قوله تعالى : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ الليل سَاجِداً وَقَآئِماً }
[ الزمر : 9 ] . ومنه الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت يدعو على رعل ، وذكوان ، وعصيّة ، وأحياء من سليم . وقيل : مُصلِّين؛ لقوله : « أَمْ هُوَ قَانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ » .
وقال الشعبيُّ ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وطاوسٌ ، وقتادة ، والضحاك ، ومقاتلٌ : القنوت : الطاعة ، ويدلُّ عليه وجهان :
الأول : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « كُلُّ قُنُوتٍ في القُرْآنِ فَهُوَ طَاعَةٌ » .
والثاني : قوله تعالى : { وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ } [ الأحزاب : 31 ] وقال : { فالصالحات قَانِتَاتٌ } [ النساء : 34 ] فالقنوت عبارةٌ عن كمال الطَّاعة ، وإتمامها والاحتراز عن إيقاع الخلل في أركانها . قال الكلبيُّ ، ومقاتلٌ : لكلِّ أهل دينٍ صلاةٌ يقومون فيها عاصين فقوموا أنتم لله في صلاتكم مطيعين .
وقيل : القنوت : السكوت ، وهو قول ابن مسعود ، وزيد بن أرقم ، قال زيد بن أرقم : كنَّا نتكلّم في الصلاة ، فيسلِّم الرجل؛ فيردون عليه ويسألهم كيف صليتم؟ كفعل أهل الكتاب . فنزل قوله تعالى : { وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ } فأمرنا بالسكوت ، ونهينا عن الكلام .
وقال مجاهد : القنوت : عبارةٌ عن الخشوع ، وخفض الجناح ، وسكون الأطراف ، وترك الالتفات من هيبة الله ، وكان العلماء إذا قام أحدهم يصلي ، يهاب الرحمن ، فلا يلتفت أو يقلب الحصى ، أو يعبث ، أو يحدّث نفسه بشيءٍ من أمر الدنيا ناسياً حتى ينصرف .
وقيل : القنوت : عبارة عن طول القيام .
قال جابر : سئل النبي صلى الله عليه وسلم أيُّ الصَّلاة أفضل؟ قال : طول القنوت ، يريد طول القيام .
قال ابن الخطيب : وهذا القول ضعيفٌ؛ وإلاَّ صار تقدير الآية : وقوموا لله قائمين؛ اللَّهم إلاَّ أن يقال : وقوموا لله مديمين لذلك القيام؛ فيصير القنوت مفسَّراً بالإدامة ، لا بالقيام .
وقيل : القنوت في اللغة : عبارةٌ عن الدوام على الشيء ، والصَّبر عليه والملازمة له .
وفي الشريعة مختصٌّ بالمداومة على طاعة الله تعالى؛ وهو اختيار عليٍّ بن عيسى ، وعلى هذا يدخل فيه جميع ما قاله المفسِّرون .
قوله : « قَانِتِينَ » حالٌ من فاعل « قُومُوا » و « لِلَّهِ » يجوز أن تتعلَّق اللام ب « قُومُوا » ، ويجوز أن تتعلَّق ب « قَانِتِينَ » ، ويدلُّ للثاني قوله تعالى : { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } [ البقرة : 116 ] . ومعنى اللام التعليل .
فصل
قال أبو عمرو : أجمع المسلمون على أنّ الكلام ، عامداً في الصلاة ، إذا كان المسلم يعلم أنّه في صلاةٍ ، ولم يكن ذلك في إصلاح صلاته أنّه يفسد الصلاة ، إلاّ ما روي عن الأوزاعي أنّه قال إن تكلم في الصَّلاة لإحياء نفسٍ ، ونحوه من الأمور الجسام ، لم يفسد ذلك صلاته .
واختلفوا في كلام السَّاهي ، فقيل : لا يفسد الصلاة .
وقيل : يفسدها .
وقال مالكٌ : إذا تكلم عامداً لمصلحة الصَّلاة ، لم تفسد ، وهو مذهب أحمد .
قوله تعالى : { فَإنْ خِفْتُمْ } .
قال الواحديُّ : معنى الآية : فإن خفتم عدوّاً ، فحذف المفعول لإحاطة العلم به .
وقال الزمخشريُّ : « فإن كان لكم خوفٌ من عَدُوٍّ ، أو غيرِه » فهو أصحُّ؛ لأن هذا الحكم ثابتٌ عند حصول الخوف ، سواءٌ كان الخوف من عدوٍّ ، أو غيره .
وقيل : المعنى : فإن خفتم فوات الوقت ، إذا أَخَّرْتُمُ الصلاة إلى أن تفرغوا من حربكم ، فصلُّوا رِجالاً ، أو ركْبَاناً ، وعلى هذا التقدير الآية تدلُّ على تأكيد فرض الوقت؛ حتى يترخَّص لأجل المحافظة عليه في ترك القيام ، والركوع ، والسجود .
قوله تعالى : { فَرِجَالاً } : منصوبٌ على الحال ، والعامل فيه محذوفٌ ، تقديره : « فَصَلُّوا رِجَالاً ، أو فحَافِظُوا عَلَيْهَا رِجَالاً » وهذا أولى؛ لأنه من لفظ الأول .
و « رِجَال » جمع راجلٍ؛ مثل قيامٍ وقائم ، وتجارٍ وتاجرٍ ، وصِحَابٍ وصاحب ، يقال منه : رَجِلَ يَرْجَلُ رَجْلاً ، فهو رَاجِلٌ ، ورَجُل بوزن عضدٍ ، وهي لغة الحجاز . يقولون : رَجِلَ فُلاَنٌ ، فهو رَجُلٌ ، ويقال : رَجْلاَن ورَجِيلٌ؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
1148- عَلَيَّ إِذَا لاَقَيْتُ لَيْلَى بِخُفْيَةٍ ... أَنَ ازْدَارَ بَيْتَ اللهِ رَجْلاَنَ حَافِيَا
كلُّ هذا بمعنى مشى على قدميه؛ لعدم المركوب .
وقيل : الراجل الكائن على رجله ، ماشياً كان أو واقفاً ، ولهذا اللفظ جموعٌ كثيرة : رجالٌ؛ كما تقدَّم؛ وقال تعالى : { يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ } [ الحج : 27 ] وقال [ الكامل ]
1149- وَبَنُو غُدَانَةَ شَاخِصٌ أَبْصَارُهُمْ ... يَمْشُونَ تَحْتَ بُطُونِهِنَّ رِجَالاً
ورَجِيلٌ ، ورُجَالَى ، وتروى قراءةً عن عكرمة ، ورَجَالَى ، ورَجَّالَة ، ورُجَّال ، وبها قرأ عكرمة وابن مخلدٍ ، ورُجَّالَى ، ورُجْلاَن ، ورِجْلَة ، ورَجْلَة بسكون الجيم وفتحها ، وأرجِلَة ، وأرَاجِلٍ ، وأرَاجِيل ، ورجَّلاً بضم الراء وتشديد الجيم من غير ألفٍ ، وبها قرئ شاذّاً .
وقال القفَّال : يجوز أن يكون « رِجَالٌ » جمع الجمع؛ لأن رجلاً يجمع على « رَاجِلٍ » ، ثمَّ يجمع راجلٌ على رِجالٍ .
والرُّكبان جمع راكب مثل فُرْسَان وفَارس ، قال القفَّال : قيل : ولا يقال إلاَّ لمن ركب جملاً ، فأمَّا راكب الفرس ، ففارسٌ ، وراكب [ الحمار ] والبغل حمَّار وبغَّال ، والأجود صاحب حمار وبغلٍ ، و « أو » هنا للتقسيم ، وقيل : للإباحة ، وقيل : للتخيير .
فصل
قال القرطبيُّ : لمّا أمر الله تعالى بالقيام له في الصلاة ، بحال القنوت ، وهو الوقار ، والسكينة ، وهدوء الجوارح ، وهذه هي الحالة الغالبة من الأمن ، والطُّمأنينة ، ذكر حالة الخوف الطارئة أحياناً ، وبيَّن أن هذه العبادة لا تسقط عن العبد في حالٍ ، ورخَّص لعبيده في الصلاة رجالاً على الأقدام ، أو ركباناً على الخيل والإبل ، ونحوه إيماءً ، وإشارةً بالرأس حيث ما توجهوا .
فصل في صلاة الخوف
صلاة الخوف قسمان :
أحدهما : حال القتال مع العدو ، وهي أقسام :
أحدها : حال التحام الحرب ، وهو المذكور في هذه الآية ، وباقيها مذكورٌ في سورة النِّساء [ 102 ] والقتال إمَّا واجبٌ ، أو مباحٌ ، أو محظورٌ .
فالواجب : كالقتال مع الكفار ، وهو الأصل في صلاة الخوف ، وفيه نزلت الآية ، ويلحق به قتال أهل البغي ، بقوله تعالى : { فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله } [ الحجرات : 9 ] .
والمباح : كدفع الصائل بخلاف ما إذا قصد الكافر نفسه؛ فإنه يجب الدفع ، وفي الدفع عن كل حيوانٍ محترم ، فإنَّه يجوز فيه صلاة الخوف .
وأمَّا المحظور فلا يجوز فيه صلاة الخوف؛ لأن هذا رخصةٌ ، والرخصة إعانة؛ والعاصي لا يستحقّ الإعانة .
القسم الثاني : في الخوف الحاصل في غير القتال ، كالهارب من الحرق ، أو الغرب ، أو السَّبع ، أو المطالبة بدينٍ ، وهو معسر خائفٌ من الحبس عاجزٌ عن بيِّنة الإعسار فلهم أن يصلُّوا صلاة الخوف؛ لأن قوله تعالى : { فَإنْ خِفْتُمْ } مطلقٌ يتناول الكلَّ ، فإن قيل : المراد منه الخوف من العدوِّ حال المقاتلة .
قلنا : سلمنا ذلك ، ولكن علمنا أنّه إنّما ثبت هناك ، لدفع الضَّرر ، وهذا المعنى قائمٌ هنا ، فوجب أن يكون ذلك الحكم مشروعاً هنا .
فصل في عدد ركعات صلاة الحضر والسفر والخوف
ولا ينتقص عدد الركعات بالخوف عند أكثر أهل العلم .
وروى مجاهد ، عن ابن عباسٍ قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً ، وفي السَّفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة .
وقال سعيد بن جبير : إذا كنت في القتال ، وضرب الناس بعضهم بعضاً ، فقل سبحان الله والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، واذكر الله فتلك صلاتك .
فصل
قال القرطبي : والمقصود من هذه الآية ، أن تفعل الصلاة كيفما أمكن ، ولا تسقط بحالٍ ، حتى لو لم يتفق فعلها إلا بالإشارة بالعين لزم فعلها ، وبهذا تميزت عن باقي العبادات؛ لأنها تسقط بالأعذار .
قال ابن العربيّ : ولهذا قال علماؤنا : إن تارك الصلاة يقتل لأنها أشبهت الإيمان الذي لا يسقط بحالٍ ، ولا تحوز النيابة فيها ببدنٍ ، ولا مالٍ ، فيقتل تاركها كالشهادتين .
قوله : { فَإِذَآ أَمِنتُمْ } يعني بزوال الخوف الذي هو سبب الرخصة { فاذكروا الله } أي : فصلُّوا الصلوات الخمس . والصلاة قد تسمَّى ذكراً ، قال تعالى : { فاسعوا إلى ذِكْرِ الله } [ الجمعة : 9 ] . وقيل : { فاذكروا الله } أي : فاشكروه؛ لأجل إنعامه عليكم بالأمن .
وطعن القاضي في هذا القول؛ بأن الشُّكر يلزم مع الخوف ، كما يلزم مع الأمن؛ لأن نعم الله تعالى متصلة في الحالين .
وقيل : إنَّ قوله تعالى : { فاذكروا الله } يدخل تحته الصلاة ، والشكر جميعاً .
قوله : { كَمَا عَلَّمَكُم } الكاف في محلِّ نصبٍ : إمَّا نعتاً لمصدر محذوفٍ ، أو حالاً من ضمير المصدر المحذوف ، وهو الظاهر ، ويجوز فيها أن تكون للتعليل ، أي : فاذكروه لأجل تعليمه إيَّاكُمْ ، و « مَا » يجوز أن تكون مصدريةً ، وهو الظاهر ، ويجوز أن تكون بمعنى « الَّّذِي » ، والمعنى : فصلُّوا الصَّلاة كالصَّلاة التي عَلَّمَكُمْ ، وعبَّر بالذكر عن الصلاة ، ويكون التشبيه بين هيئتي الصلاتين الواقعة قبل الخوف وبعده في حالة الأمن . قال ابن عطيَّة : « وعَلَى هذا التأويلِ يكون قوله : » مَا لَمْ تَكُونُوا « بدلاً من » مَا « في » كَمَا « وإلاَّ لم يتَّسق لفظ الآية » قال أبو حيان : « وهو تخريجٌ مُمْكِنٌ ، وأحسن منه أن يكون » مَا لَمْ تَكُونُوا « بدلاً من الضمير المحذوف في » عَلَّمَكُم « العائد إلى الموصول؛ إذ التقدير : عَلَّمَكُمُوهُ ، ونصَّ النحويون على أنه يجوز : ضَرَبْتُ الذي رَأَيْتُ أَخَاكَ » [ أي : رَأَيْتُهُ أَخَاكَ ] ، ف « أَخَاكَ » بدلٌ من العائد المحذوف « .

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
قرأ ابن كثير ، ونافع ، والكسائي ، وأبو بكرٍ ، عن عاصم : « وَصِيَّةٌ » بالرفع والباقون : بالنصب . وفي رفع { الذين يُتَوَفَّوْنَ } ثمانية أوجهٍ ، خمسةٌ منها على قراءة من رفع « وَصِيَّةً » ، وثلاثةٌ على قراءة من نصب « وصيةٌ » ؛ فأوّل الخمسة ، أنه مبتدأ ، و « وَصِيَّةٌ » مبتدأ ثانٍ ، وسوَّغ الابتداء بها كونها موصوفة تقديراً؛ إذ التقدير : « وَصِيَّةٌ مِنَ اللهِ » أو « مِنْهُمْ » ؛ على حسب الخلاف فيها : أهي واجبةٌ من الله تعالى ، أو مندوبةٌ للأزواج؟ و « لأَزْوَاجِهِمْ » خبر المبتدأ الثاني ، فيتعلَّق بمحذوفٍ ، والمبتدأ الثاني وخبره خبر الأول ، وفي هذه الجملة ضمير الأول ، وهذه نظير قولهم : « السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ » تقديره : « مَنَوَانِ مِنْهُ » ، وجعل ابن عطية المسوِّغ للابتداء بها كونها في موضع تخصيص؛ قال : « كما حَسُنَ أَنْ يرتفع : » سَلاَمٌ عَلَيْكَ « و » خَيْرٌ بَيْنَ يَدَيْكَ « ؛ لأنها موضع دعاءٍ » قال شهاب الدين : وفيه نظرٌ .
الثاني : أن تكون « وَصِيَّةٌ » مبتدأ ، و « لأَزْوَاجِهِمْ » صفتها ، والخبر محذوفٌ ، تقديره : فعليهم وصيةٌ لأزواجهم ، والجملة خبر الأوَّل .
الثالث : أنها مرفوعة بفعل محذوفٍ ، تقديره : كتب عليهم وصيَّةٌ و « لأَزْوَاجِهِمْ » صفةٌ ، والجملة خبر الأول أيضاً؛ ويؤيِّد هذا قراءة عبدالله : « كُتِبَ عَلَيْهِمْ وَصِيَّةٌ » وهذا من تفسير المعنى ، لا الإعراب؛ إذ ليس هذا من المواضع التي يضمر فيها الفعل .
الرابع : أن « الَّذِينَ » مبتدأٌ ، على حذف مضافٍ من الأول ، تقديره : ووصيَّةُ الذين .
الخامس : أنه كذلك إلا أنه على حذف مضافٍ من الثاني ، تقديره : « وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أَهْلُ وَصيَّةٍ » ذكر هذين الوجهين الزمخشريُّ ، قال أبو حيان : « ولا ضرورة تدعونا إلى ذلك » .
فهذه الخمسة الأولى التي على رفع « وَصِيَّةٌ » . وأمَّا الثلاثة التي على قراءة النصب في « وَصِيَّةٌ » :
فأحدها : أنه فاعل فعل محذوفٍ ، تقديره : وليوص الذين ، ويكون نصب « وَصِيَّةٌ » على المصدر .
الثاني : أنه مرفوع بفعل مبني للمفعول يتعدَّى لاثنين ، تقديره : « وأُلْزِمَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ » ويكون نصب « وَصِيَّةً » على أنها مفعولٌ ثانٍ ل « أُلْزِمَ » ، ذكره الزمخشريُّ ، وهو والذي قبله ضعيفان؛ لأنه ليس من مواضع إضمار الفعل .
الثالث : أنه مبتدأٌ ، وخبره محذوف ، وهو الناصب لوصية ، تقديره : والذين يتوفون يوصون وصيَّة ، وقدره ابن عطية : « لِيُوصُوا » و « وَصِيَّةً » منصوبةٌ على المصدر أيضاً ، وفي حرف عبدالله : « الوَصِيَّةُ » رفعاً بالابتداء ، والخبر الجارُّ بعدها ، أو مضمرٌ أي : فعليهم الوصية ، والجارُّ بعدها حالٌ ، أو خبرٌ ثانٍ ، أو بيانٌ .
قوله تعالى : { مَّتَاعاً } في نصبه سبعة أوجهٍ :
أحدها : أنَّه منصوبٌ بلفظ « وَصِيَّة » لأنها مصدرٌ منونٌ ، ولا يضرُّ تأنيثها بالتاء؛ لبنائها عليها؛ فهي كقوله : [ الطويل ]
1150- فَلَوْلاَ رَجَاءُ النَّضْرِ مِنْكَ وَرَهْبَةٌ ... عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا كَالْمَوَارِدِ
والأصل : وصية بمتاع ، ثم حذف حرف الجرِّ ، اتساعاً ، فنصب ما بعده ، وهذا إذا لم تجعل « الوصيَّة » منصوبةٌ على المصدر؛ لأن المصدر المؤكَّد لا يعمل ، وإنما يجيء ذلك حال رفعها ، أو نصبها على المفعول؛ كما تقدَّم تفصيله .
والثاني : أنه منصوبٌ بفعلٍ ، إمَّا من لفظه ، أي : متِّعوهنَّ متاعاً ، أي : تمتيعاً ، أو من غير لفظه ، أي : جعل الله لهنَّ متاعاً .
الثالث : أنه صفةٌ لوصية .
الرابع : أنه بدل منها .
الخامس : أنه منصوبٌ بما نصبها ، أي : يوصون متاعاً ، فهو مصدر أيضاً على غير الصدر؛ ك « قَعَدْتُ جُلُوساًَ » ، هذا فيمن نصب « وَصِيَّةٌ » .
السادس : أنه حالٌ من الموصين : أي ممتَّعين أو ذوي متاعٍ .
السابع : أنه حالٌ من أزواجهم ، [ أي ] : ممتَّعاتٍ أو ذوات متاعٍ ، وهي حالٌ مقدَّرة إن كانت الوصية من الأزواج .
وقرأ أُبيٌّ : « مَتَاعٌ لأَزْوَاجِهِمْ » بدل « وَصِيَّةٌ » ، وروي عنه « فَمَتَاعٌ » ، ودخول الفاء في خبر الموصول؛ لشبهه بالشرط ، وينتصب « مَتَاعاً » في هاتين الروايتين على المصدر بهذا المصدر ، فإنه بمعنى التمتيع؛ نحو : « يُعْجِبُنِي ضَرْبٌ لَكَ ضَرْباً شَدِيداً » ، ونظيره : { قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً } [ الإسراء : 63 ] ، و « إِلَى الحَوْلِ » متعلِّقٌ ب « مَتَاع » أو بمحذوفٍ؛ على أنه صفة له .
قوله تعالى : { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } في نصبه ستة أوجهٍ :
أحدها : أنه نعتٌ ل « مَتَاعاً » .
الثاني : أنه بدلٌ منه .
الثالث : أنه حالٌ من الزوجات ، أي : غير مخرجات .
الرابع : أنه حالٌ من الموصين ، أي : غير مخرجين .
الخامس : أنه منصوب على المصدر ، تقديره : لا إخراجاً ، قاله الأخش .
السادس : أنه على حذف حرف الجرِّ ، تقديره : من غير إخراجٍ ، قاله أبو البقاء ، قال شهاب الدين : وفيه نظر .
فصل في المراد بقوله « غير إخراج »
معنى قوله : { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } أي : ليس لأولياء الميِّت ووارثي المنزل؛ إخراجها ، « فَإِنْ خَرَجْنَ » أي : باختيارهن قبل الحول « فلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُم » ، أي : لا حرج على وليِّ أحدٍ وُلِّيَ ، أو حاكم ، أو غيره؛ لأنه لا يجب عليها المقام في بيت زوجها حولاً .
وقيل : لا جناح في قطع النّفقة عنهن ، أو لا جناح عليهنَّ في التشرُّف إلى الأزواج ، إذ قد انقطعت عنهنَّ مراقبتكم أيُّها الورثة ، ثم عليها أنها لا تتزوج قبل انقضاء العدَّة بالحول أو لا جناح في تزويجهنَّ بعد انقضاء العدّة ، لأنه قال : « بالمَعْرُوفِ » ، وهو ما يوافق الشرع .
و { والله عَزِيزٌ } صفةٌ تقتضي الوعيد بالنسبة لمن خالف الحدَّ في هذه النازلة ، في إخراج المرأة ، وهي لا تريد الخروج { حَكِيمٌ } ، أي مُحْكِمٌ لما يريد من أمور عباده والله أعلم .
قوله : { فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ } هذان الجارَّان يتعلَّقان بما تعلَّق به خبر « لا » وه « عَلَيْكُمْ » من الاستقرار ، والتقدير : لا جناح مستقرٌّ عليكم فيما فعلن في أنفسهنَّ ، و « مَا » موصولةٌ اسميةٌ ، والعائد محذوف ، تقديره : فعلنه ، و « مِنْ مَعْرُوفٍ » متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من ذلك العائد المحذوف ، وتقديره : فيما فعلنه كائناً من معروفٍ .
وجاء في هذه الآية { مِن مَّعْرُوفٍ } نكرةً مجرورةً ب « مِنْ » ، وفي الآية قبلها « بِالمَعْرُوفِ » معرَّفاً مجروراً بالباء؛ لأنَّ هذه لام العهد؛ كقولك : « رَأَيْتُ رَجُلاً فَأَكْرَمْتُ الرَّجُلَ » إلاَّ أنَّ هذه ، وإن كانت متأخِّرةً في اللفظ ، فهي متقدِّمة في التنزيل ، ولذلك جعلها العلماء منسوخةً بها ، إلا عند شذوذٍ ، وتقدَّم نظائر هذه الجمل ، فلا حاجة إلى إعادة الكلام فيها .
فصل في سبب النزول
في هذه الآية ثلاثة أقوالٍ :
الأول : وهو اختيار جمهور المفسرين أنها منسوخةٌ ، قالوا : نزلت الآية في رجل من أهل الطائف ، يقال له : حكيم بن الحرث ، هاجر إلى المدينة ، وله أولاد ، ومعه أبواه وامرأته ، فمات ، فأنزل الله هذه الآية؛ فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم والديه ، وأولاده ميراثه ، ولم يعط امرأته شيئاً ، وأمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولاً كاملاً ، وكانت عدَّة الوفاة في ابتداء الإسلام حولاً ، كاملاً ، وكانت عدَّة الوفاة في ابتداء الإسلام حولاً ، وكان يحرم على الوارث إخراجها من البيت قبل تمام الحول ، وكان نفقتها وسكناها واجبةً في مال زوجها تلك السَّنة ، ما لم يخرج ، ولم يكن لها الميراث ، فإن خرجت من بيت زوجها ، سقطت نفقتها ، وكان على الرجل أن يوصي بها ، فكان كذلك حتى نزلت آية الميراث ، فنسخ الله تعالى نفقة الحول بالرُّبع ، والثُّمن ، ونسخ عدَّة الحول ب « أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً » .
قال ابن الخطيب : دلَّت هذه الآية على وجوب أمرين :
أحدهما : وجوب النفقة ، والسُّكنى من مال الزَّوج ، سواءٌ قراءة « وَصِيَّةٌ ووصِيَّةً » بالرفع ، أو بالنصب .
والثاني : وجوب الاعتداد ، ثم نسخ الله تعالى هذين الحكمين ، أمّا الوصية بالنفقة ، والسكنى ، فلثبوت ميراثها بالقرآن ، والسنة ، دلَّت على أنَّه لا وصيَّة لوارثٍ ، فصار مجموع القرآن والسنَّة ناسخاً لوجوب الوصيَّة لها بالنفقة والسكنى في الحول .
أمَّا وجوب العدة في الحول ، فنسخ بقوله : { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } [ البقرة : 234 ] .
القول الثاني : وهو قول مجاهد : أنَّ الله تعالى أنزل في عدَّة المتوفى عنها زوجها آيتين :
إحداهما : قوله { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } [ آية : 234 ] ، والأخرى هذه الآية؛ فوجب تنزيل هاتين الآيتين على حالتين ، فنقول : إنَّها إن لم تختر السُّكنى في دار زوجها ، والأخذ من ماله ، وتركته؛ فعدَّتها هي الحول ، قال ابن الخطيب : وتنزيل الآيتين على هذين التَّقديرين أولى؛ حتى يكون كل منهما معمولاً به ، والجمع بين الدَّليلين ، والعمل بهما أولى من اطراح أحدهما ، والعمل بالآخر .
القول الثالث : قال أبو مسلم الأصفهاني : معنى الآية : أنَّ من يتوفَّى منكم ، ويذرون أزواجاً ، وقد وصّوا وصيَّة لأزواجهم ، بنفقة الحول ، وسكنى الحول ، فإن خرجن قبل ذلك ، وخالفن وصيَّة أزواجهنَّ ، بعد أن يقمن أربعة أشهرٍ وعشراً؛ فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروفٍ ، أي : نكاحٌ صحيحٌ؛ لأن إقامتهنَّ بهذه الوصيَّة غير لازمة .
قال : والسَّبب : أنَّهم كانوا في الجاهليَّة يوصون بالنَّفقة ، والسُّكنى حولاً كاملاً ، وكان يجب على المرأة الاعتداد بالحول فبيَّن الله تعالى في هذه الآية أنَّ ذلك غير واجبٍ ، وعلى هذا التَّقدير ، فالنَّسخ زائلٌ ، واحتجَّ على ذلك بوجوهٍ :
أحدها : أنَّ النَّسخ خلاف الأصل؛ فوجب المصير إلى عدمه ، بقدر الإمكان .
الثاني : أنَّ النَّاسخ يكون متأخِّراً عن المنسوخ في النُّزول ، وإذا كان متأخِّراً عنه في النُّزول ، يجب أن يكون متأخِّراً عنه في التِّلاوة ، وهو إن كان جائزاً في الجملة إلاَّ أنَّ قولنا يعدّ من سوء التَّرتيب ، وتنزيه كلام الله واجبٌ بقدر الإمكان ، ولمَّا كانت هذه الآية متأخِّرةً عن تلك في التِّلاوة؛ كان الأولى ألاّ يحكم بكوها منسوخةً بتلك .
الثالث : أنَّه ثبت عند الأصوليِّين متى وقع التَّعارض بين التَّخصيص ، والنَّسخ ، كان النَّسخ أولى ، وها هنا إن خصَّصنا هاتين الآيتين بحالتين على ما هو قول مجاهد؛ اندفع النَّسخ ، فكان قول مجاهد أولى من التزام النَّسخ من غير دليلٍ ، وأمَّا على قول أبي مسلم ، فيكون أظهر؛ لأنكم تقولون : تقدير الآية : فعليهم وصيَّةٌ لأزواجهم ، أو تقديرها :
فليوصوا وصيَّةً ، فأنتم تضيفون هذا الحكم إلى الله تعالى ، وأبو مسلم يقول : بل تقدير الآية : والذين يتوفون منكم ، ولهم وصيَّةٌ لأزواجهم ، أو تقديرها : وقد أوصوا وصيَّةً لأزواجهم فهو يضيف هذا الكلام إلى الزَّوج ، وإذا كان لا بدَّ من الإضمار فليس إضماركم أولى من إضمارنا ثم على تقدير أن يكون الإضمار ما ذكره أبو مسلمٍ؛ لم يلزم تطرُّق النَّسخ إلى الآية ، فيكون أولى .
وإذا ثبت هذا فنقول : الآية من أولها إلى آخرها ، تكون جملةً واحدةً شرطيَّةً ، فالشَّرط هو قوله : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ } فهذا كلُّه شرطٌ والجزاء هو قوله : { فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ } فهذا تقرير قول أبي مسلمٍ .
قال ابن الخطيب : وهو ف ي غاية الصِّحَّة ، وعلى تقدير باقي المفسِّرين ، فالمعنى : والذين يتوفَّون منك أيُّها الرِّجال ، ويذرون زوجاتٍ فليوصوا وصيَّةٌ ، وكتب عليكم الوصيَّة بأن تمتِّعوهنَّ متاعاً ، أي : نفقة سنةٍ لطعامها ، وكسوتها ، وسكناها ، غير مخرجين لهن ، فإن خرجن من قبل أنفسهنّ قبل الحول من غير إخراج الورثة ، فلا جناح عليكم يا أولياء الميِّت ، فيما فعلن في أنفسهنّ من معروف ، يعني : التَّزين للنِّكاح ، ولرفع الجناح عن الرِّجال ، وجهان :
أحدهما : لا جناح عليكم في ترك منعهنّ من الخروج؛ لأنَّ مقامها في بيت زوجها حولاً ، غير واجبٍ عليها ، فخيَّرها الله تعالى بين : أن تقيم حولاً ، ولها النَّفقة والسُّكنى ، وبين أن تخرج إلى أن نسخت بأربعة أشهر وعشراً .
فإن قيل : إن الله تعالى ذكر الوفاة ، ثم أمرنا بالوصيَّة ، فكيف يوصي المتوفى؟!
فالجواب أنَّ معناه : والذين يقارون الوفاة ينبغي أن يفعلوا هذا ، فجعل المقاربة للوفاة عبارة عنها .
وقيل : إنّ هذه الوصيّة يجوز أن تكون مضافةً إلى الله تعالى ، بمعنى : « أمره ، وتكليفه » ، كأنَّه قيل : وصيّة من الله لأزواجهم ، كقوله : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } [ النساء : 11 ] .
فصل
المعتدَّة من فرقة الوفاة ، لا نفقة لها ، ولا كسوة حاملاً كانت ، أو حائلاً .
وروي عن عليٍّ ، وابن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ لها النَّفقة إذا كانت حاملاً ، وعن جابر ، وابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أنهما قالا : لا نفقة لها ، حسبها الميراث ، وهل تستحقُّ السُّكنى؟ قال عليٌّ ، وابن عباس ، وعائشة - رضي الله عنهم - : لا تستحقُّ السُّكنى ، وهذا مذهب أبي حنيفة والمزنيّ .
وقال عمر ، وابن عمر ، وعثمان ، وابن مسعود ، وأمُّ سلمة : إنها تستحقُّ السُّكنى ، وبه قال مالك ، والثَّوريُّ ، وأحمد .
واحتجَّ كلٌّ من الطائفتين بخبر فريعة بنت مالك ، أخت أبي سعيدٍ الخدريِّ ، قتل زوجها؛ فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إنّي أرجع إلى أهلي ، فإنَّ زوجي ما تركني في منزل يملكه؛ فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « نَعَمْ » ، فانصرفت حتى إذا كنت في المسجد ، أو في الحجرة دعاني فقال : « امْكُثِي في بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ » ، فاختلفوا في تنزيل هذا الحديث .
فقيل : لم يوجب في الابتداء ، ثمَّ أوجب؛ فصار الأوَّل منسوخاً .
وقيل : أمرها بالمكث في بيتها أجراً على سبيل الاستحباب ، لا على سبيل الوجوب .
واحتجَّ المزنيُّ على أنَّه لا سكنى لها فقال : أجمعنا على أنَّه لا نفقة لها؛ لأنَّ الملك انقطع بالموت ، فكذلك السُّكنى بدليل : أنهم أجمعوا على أنَّ من وجب له نفقةً ، وسكنى عن ولد ووالد على رجلٍ؛ فمات؛ انقطعت نفقتهم ، وسكناهم؛ لأنّ ماله صار ملكاً للوارث ، فكذا ها هنا .
وأجيب بأنَّه لا يمكن قياس السُّكنى على النفقة؛ لأنَّ المطلقة ثلاثاً تستحقُّ السُّكنى بكلِّ حالٍ ، ولا تستحقُّ النَّفقة لنفسها عند المزنيّ . ولأن النَّفقة وجبت في مقابلة التَّمكين من الاستمتاع ، ولا يمكن ها هنا ، وأمَّا السُّكنى وجبت لتحصين النساء ، وهو موجودٌ ها هنا فافترقا .

وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
إنَّما أعاد ذكر المتعة ها هنا؛ لزيادة معنًى؛ وذلك أنَّ في غيرها بيان حكم غير الممسوسة ، وفي هذه الآية : بيان حكم جميع المطلّقات في المتعة .
وقيل : لأنَّه لما نزل قوله تعالى : { وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ } [ البقرة : 236 ] ، إلى قوله : { حَقّاً عَلَى المحسنين } [ البقرة : 236 ] قال رجلٌ من المسلمين : إن أردت؛ فعلت ، وإن لم أرد ذلك لم أفعل فقال الله تعالى : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف } جعل المتعة لهن بلام الملك ، وقال : { حَقّاً عَلَى المتقين } يعنى المؤمنين المتَّقين الشِّرك .
وقيل : المراد بهذه المتعة : النَّفقة ، والنَّفقة قد تسمَّى متاعاً ، فاندفع التَّكرار .
واعلم أنَّ القائل بوجوب المتعة لكلِّ المطلقات : هو سعيد بن جبير ، وأبو العالية والزُّهريّ .
وقال الشَّافعيُّ : لكلّ مطلقة إلاّ المطلقة التي فرض لها المهر ، ولم يوجد في حقّها المسيس .
قال أبو حنيفة : لا تجب المتعة إلاَّ للمطلَّقة التي لم يفرض لها ، ولم يوجد المسيس .
وقول الله تعالى في زوجات النبي صلى الله عليه وسلم : { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ } [ الأحزاب : 28 ] محمولٌ على أنَّه تطوُّع من النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لا على سبيل الوجوب .
وقوله : { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ } [ الأحزاب : 49 ] محمولٌ على غير المفروض لها أيضاً .
قال القرطبيُّ : وأوجب الشَّافعيُّ المتعة للمختلعة ، والمبارئة ، وقال أصحاب مالك : كيف يكون للمفتدية متعة وهي تعطى ، فكيف تأخذ متاعاً ، لا متعة لمختارة الفراق من مختلعة ، أو مفتدية ، أو مبارئة ، أو مصالحة ، أو ملاعنة ، أو معتقة تختار الفراق ، دخل بها أم لا ، سمى لها صداقاً أم لا؛ وقد تقدَّم ذلك ، ثم قال : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)
اعلم أنَّ عادته تعالى : أن يذكر القصص بعد بيان الأحكام ليفيد الاعتبار للسَّامع .
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين } : هذه همزة الاستفهام دخلت على حرف النَّفي ، فصيَّرت النَّفي تقريراً ، وكذا كلُّ استفهام دخل على نفي نحو : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الشرح : 1 ] { أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ } [ الزمر : 36 ] فيمكن أن يكون المخاطب علم هذه القصّة قبل نزول هذه الآية ، فيكون التَّقرير ظاهراً ، أي : قد رأيت حال هؤلاء ، كقول الرَّجل لغيره يريد تعريفه ابتداء : « ألم تر إلى ما جرى على فلان؟ » .
قال القرطبيُّ : والمعنى عند سيبويه : تنبُّه إلى أمر الذين ، ولا تحتاج هذه الرواية إلى مفعولين والمخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كل سامع ، إلاَّ أنَّه قد وقع الخطاب معه ابتداءً كقوله : { ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء } [ الطلاق : 1 ] ويجوز أن يكون المراد بهذا الاستفهام : التعجب من حال هؤلاء ، وأكثر ما يرد كذلك : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً } [ المجادلة : 14 ] { أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل } [ الفرقان : 45 ] ؛ وقال الشاعر : [ الطويل ]
1151- أَلَمْ تَرَ أَنِّي كُلَّمَا جِئْتُ طَارِقاً ... وَجَدْتُ بِهَا طِيباً وإنْ لَمْ تَطَيَّبِ
والرُّؤية هنا علميَّة ، فكان من حقِّها أن تتعدَّى لاثنين ، ولكنَّها ضمِّنت معنى ما يتعدَّى بإلى .
والمعنى : ألم ينته علمك إلى كذا . وقال الرَّاغب : « رأيت : يتعدَّى بنفسه دون الجارِّ ، لكن لما استعير قولهم : » ألم تَرَ « بمعنى ألم تنظر؛ عدِّي تعديته ، وقلَّما يستعمل ذلك في غير التقدير ، لا يقال : رأيت إلى كذا » .
وقرأ السُّلمي : « تَرْ » بسكون الرَّاء ، وفيها وجهان :
أحدهما : أنه توهَّم أنَّ الراء لام الكلمة ، فسكَّنها للجزم؛ كقوله : [ الرجز ]
1152- قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا سَوِيقَا ... وَاشْتَرْ فَعَجِّلْ خَادِماً لَبِيقَا
وقيل : هي لغة قومٍ ، لم يكتفوا في الجزم بحذف حرف العلَّة .
والثاني : أنه أجرى الوصل مجرى الوقف ، وهذا أولى ، فإنَّه كثيرٌ في القرآن؛ نحو : « الظُّنُونَا » ، و « الرَّسُولاَ » ، و « السَّبِيلاَ » ، و « لَمْ يَتَسَنَّهُ » ، و « بِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ » وقوله : « وَنُصْلِهِ » ، و « نُؤْتِهِ » ، و « يُؤَدِّه » ، وسيأتي ذلك ، إن شاء الله تعالى .
قوله : { وَهُمْ أُلُوفٌ } مبتدأٌ وخبرٌ ، وهذه الجملة في [ موضع ] نصب على الحال ، وهذا أحسن مجيئها ، إذ قد جمع فيها بين الواو والضمير ، و « أُلوفٌ » فيه قولان :
أظهرهما : أنه جمع « ألْف » لهذا العدد الخاصِّ ، وهو جمع الكثرة ، وجمع القلّة : آلاف كحمول ، وأحمال .
والثاني : أنه جمع « آلِف » على فاعل كشاهدٍ وشهود ، وقاعدٍ وقُعودٍ ، أي : خرجوا وهم مؤتلفون ، قال الزَّمخشريُّ : « وهذا من بِدَع التَّفاسير » .
قوله تعالى : { حَذَرَ الموت } أي من خوف الموت وهو مفعولٌ من أجله ، وفيه شروط النَّصب ، أعني المصدرية ، واتحاد الفاعل ، والزمان .
قوله : { ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه معطوفٌ على معنى : فقال لهم الله : موتوا ، لأنَّه أمرٌ في معنى الخبر تقديره : فأماتهم الله ثم أحياهم .
والثاني : أنه معطوفٌ على محذوفٍ ، تقديره : فماتوا ثم أحياهم بعد موتهم ، و « ثم » تقتضي تراخي الإحياء عن الإماتة . وألف « أَحْيَا » عن ياء؛ لأنَّه من « حَيِيَ » ، وقد تقدَّم تصريف هذه المادّة عند قوله : { إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً } [ البقرة : 26 ] .
فصل
قال السُّدِّيُّ وأكثر المفسرين : « كانت قرية يقال لها : » دَاوْردَان « قيل واسط ، وقع بها الطَّاعون ، فخرج عامَّة أهلها ، وبقيت طائفةٌ ، فهلك أكثر الباقين وبقي منهم بقيَّةٌ في المرض والبلاء ، فلما ارتفع الطَّاعون؛ رجع الَّذين هربوا سالمين فقال من بَقِيَ من المرضى : هؤلاء أحزم منّا ، لو صنعنا كما صنعوا لنجونا ، ولئن وقع الطَّاعون ثانيةً لنخرجنّ إلى أرض لا وباء فيها ، فوقع الطاعون من قابِلٍ؛ فهرب عامَّة أهلها ، وهم بضعةٌ وثلاثون ألفاً؛ حتى نزلوا وادياً أفيح فلمّا نزلوا المكان الذين يبتغون فيه النَّجاة ، ناداهم ملك من أسفل الوادي ، وآخر من أعلاه : » أنْ مُوتُوا « فماتوا جميعاً وبليت أجسامهم ، فمرَّ بهم نبيٌّ يقال له : » حِزْقِيل بن يوذي « : ثالث خلفاء بني إسرائيل ، بعد موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - ، وذلك أن القيم بعد موسى بأمر بني إسرائيل يُوشَعُ بْنُ نُون ثم كالب بن يوفنا ، ثم حزقيل ، وكان يقال له : ابن العجوز؛ لأنَّه أمَّه كانت عجوزاً ، فسألت الله الولد بعدما كبرت ، وعقمت ، فوهبه الله لها » .
قال الحسن ، ومقاتل : هو ذو الكفل ، وسمِّي : ذا الكفل؛ لأنَّه تكفَّل بسبعين نبيّاً ، وأنجاهم من القتل ، فلمَّا مرَّ حزقيل على أولئك الموتى ، وقف متفكّراً فيهم متعجِّباً ، فأوحى الله إليه أتريد أن أُريك آيةً؟ قال : نعم ، فقيل له : نادِ! يَا أَيُّهَا العِظَامُ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكِ أن تَجْتَمِعِي ، فجعلتِ العِظَامُ يَطِيرُ بعضها إلى بعض ، حتى تمّت العِظَامُ ، ثم أوحى اللهُ إليه ثانياً أن ينادي : يا أيَّتُها العِظَامُ؛ إنَّ اللهَ يأمرك أنَّ تَكْتَسِي لحماً ودماً ، ثم نادي : إنَّ اللهَ يأمرك أن تَقُومي؛ فقامت ، فلمَّا صاروا أحياءً قاموا ، وكانوا يقولون : « سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ » ثم رجعوا إلى قريتهم ، بعد حياتهم ، وكانت أمارات موتهم ظاهرةً في وجوههم ، ثمَّ بقوا إلى أن ماتوا بعد ذلك بحسب آجالهم .
روى عبدالله بن عامر بن ربيعة أنَّ عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - : خرج إلى الشَّام ، فلمَّا جاء « سَرْغَ » بلغه أنَّ الوباء قد وقع بالشَّام؛ فأخبره عبد الرحمن بن عوف : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
« إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضِ فَلاَ تَقْدُمُوا عَلَيْهِ ، وإذا وَقَعَ بِأَرْضٍ وأَنْتُمْ بِهَا؛ فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَاراً » ؛ فرجع عمر من « سرغ » .
وقال ابن عبَّاس ، والكلبيُّ ومقاتل والضَّحَّاك : إنَّ ملكاً من ملوك بني إسرائيل أمر عسكره بالقتال؛ فخافوا القتال ، وجبنوا ، وكرهوا الموت ، فاعتلُّوا ، وقالوا لملكهم : إنَّ الأرض التي تذهب إليها بها الوباء ، فلا نأتيها حتى يزول ذلك الوباء منها؛ فأرسل الله عليهم الموت؛ فخرجوا من ديارهم فراراً من الموت ، فلما رأى الملك ذلك قال : اللَّهمّ ربّ يعقوب ، وإله موسى ، وهارون قد ترى معصية عبادك ، فأرهم آيةً في أنفسهم ، حتى يعلموا أنَّهم لا يستطيعون الفرار منك ، فلمَّا خرجوا قال لهم الله « مُوتُوا » ، فماتوا جميعاً ، وماتت دوابهم كموت رجل واحدٍ ، وبقوا ثمانية أيَّام ، حتَّى انتفخوا وأروحت أجسادهم ، وبلغ بني إسرائيل موتهم ، فخرجوا لدفنهم؛ فعجزوا لكثرتهم ، فحظروا عليهم حظائر دون السِّباع ، فأحياهم الله بعد الثمانية أيَّام ، وبقي فيهم شيءٌ من ذلك النتن ، وفي أولادهم إلى هذا اليوم .
واحتجُّوا على هذه الرِّواية بقوله عقيب ذلك : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [ البقرة : 244 ] وقال مقاتل والكلبي كانوا قوم حزقيل ، أحياهم الله تعالى بعد ثمانية أيَّام ، وذلك أنه لمَّا أصابهم ذلك ، خرج حزقيل في طلبهم ، فوجدهم موتى؛ فبكى وقال : « يا ربِّ؛ كُنْتُ من قومٍ يحمدونَكَ ويسبِّحُونَكَ ويقدِّسُونَكَ ، ويكبِّرُونَكَ ، ويهللونَكَ؛ فبقيت واحداً لا قوم لي » ؛ فأوحى الله إليه : إنِّي جعلت حياتهم إليك ، فقال حزقيل : احيوا بإذن الله تعالى؛ فعاشوا .
قال مجاهدٌ : إنهم قالوا حين أُحيوا : سبحانك ربنا ، وبحمدك لا إله إلاّ أنت ، فرجعوا إلى قومهم ، وعاشوا دهراً طويلاً وسحنة الموت على وجوههم ، لا يلبسون ثوباً إلاَّ عاد دنساً مثل الكفن ، حتى ماتوا لآجالهم التي كتب لهم .
قال ابن عباس : إنَّها لتوجد اليوم في ذلك السِّبط من اليهود تلك الرِّيح .
قال الحسن : أماتهم الله قبل آجالهم عُقُوبَةً لهم ، ثم بعثهم إلى بقيَّة آجالهم .
قال ابن العربيّ : أماتهم الله عقوبة لهم ، ثم أحياهم ، وميتة العقوبة بعدها حياةٌ ، وميتة الأجل لا حياة بعدها .
قوله تعالى : { فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ } .
قال ابن الخطيب : قيل : هو من قوله : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] والمراد سرعة وقوع المراد ، ولا قول هناك .
وقيل : أمر الرَّسول أن يقول لهم : « مُوتُوا » أو الملك ، والأوَّل أقرب .
قوله تعالى : { ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } يقتضي أنهم أُحيوا بعد موتهم ، وذلك ممكنٌ ، وقد أخبر الصَّادق به؛ فوجب القطع .
وقالت المعتزلة : إحياء الميِّت فعلٌ خارق للعَادَةِ ، ولا يجوز إظهاره إلا معجزة للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم .
قال ابن الخطيب : وأصحابنا يجوّزون خرق العادة كرامةً للأولياء ، ولغير ذلك .
قالت المعتزلة : وهذا الإحياء ، وقع في زمن حزقيل ببركة دعائه . وها هنا بحثٌ وهو أنَّه قد ثبت بالدَّليل أن المعارف تصير ضروريّة عند القرب من الموت ومعاينة الأهوال والشدائد ، فهؤلاء إن كانوا عاينوا تلك الأهوال الموجبة للعلم الضَّروريِّ؛ وجب إذا عاشوا أن يبقوا ذاكرين لذلك؛ لأن الأشياء العظيمة لا تنسى مع كمال العقل؛ لتبقى لهم تلك العلوم ، ومع بقائها يمتنع التَّكليف كما في الآخرة ، ولا مانع يمنع من بقائهم غير مكلَّفين وإن كان جاءهم الموت بغتةً ، كالنَّوم ولم يعاينوا شدَّةَ ، ولا هولاً ، فذلك أيضاً ممكن .
وقال قتادة : إنَّما أحيوا ليستوفوا بقيَّة آجالهم .
فصل
واختلفوا في عدّتهم .
قال الواحديُّ - رحمه الله - : لم يكنوا دون ثلاثة آلاف ، ولا فوق سبعين ألفاً .
والوجه من حيث اللَّفظ : أن يكون عددهم أزيد من عشرة آلاف؛ لأنَّ الألوف جمع الكثرة ، ولا يقال في عشرة فما دونها ألوف ، وقيل : إنَّ الألوف جمع ألفٍ ، كقعودٍ وقاعدٍ ، وجلوسٍ ، وجالسٍ ، والمعنى : أنَّهم كانوا مؤتلفي القلوب .
قال القاضي : والوجه الأوَّل أولى؛ لأنَّ ورود الموت عليهم دفعةً واحدةً ، وهم كثرةٌ عظيمةٌ ، تفيد مزيد اعتبار بحالهم؛ لأنَّ موت الجمع العظيم دفعةً واحدةً لا يتَّفق وقوعه ، وأمَّا ورود الموت على قوم تآلفوا حب الحياة ، وبينهم ائتلافٌ ومحبةٌ كوروده وبينهم اختلاف ، فوجه الاعتبار لا يتغيَّر .
قال ابن الخطيب : ويمكن أن يجاب بأنَّ المراد كون كلّ واحد منهم آلفاً لحياته ، محباً لهذه الدُّنيا ، فرجع حاصله إلى ما قال تعالى في صفتهم { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ } [ البقرة : 96 ] ، ثم إنهم مع غاية حبِّهم للحياة وألُفهم بها أماتهم الله تعالى ، وأهلكهم ليعلم أنّ حرص الإنسان على الحياة ، لا يعصمه من الموت ، فهذا القول ليس ببعيدٍ .
فصل
قال القرطبيُّ : الطَّاعون وزنه فاعول من الطَّعن ، غير أنَّه لما عدل به عن أصله؛ وضع دالاً على الموت العام بالوباء . قاله الجوهريُّ . وردت عائشة - رضي الله عنها - أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « فَنَاءُ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ » قالت : الطَّعن قد عرفناه فما الطَّاعون ، قال : « غُدَّةٌ كَغُدَّةِ البَعِيرِ تَخْرُجُ في المراقِّ والآبَاطِ » قال العلماء : وهذا الوباء يرسله الله نقمة ، وعقوبة على من يشاء من عصاة عبيده ، وكفرتهم ، وقد يرسله الله شهادة ، ورحمة للصَّالحين ، كقول معاذٍ في طاعون عمواس : إنَّه شهادةٌ ورحمةٌ لكم ، ودعوة نبيكم ، وهي قوله عليه الصَّلاة والسَّلام : « اللَّهُمَّ أَعْطِ مُعَاذاً وَأَهْلَهُ نَصِيبَهُم مِنْ رَحْمَتِكَ » ، فَطُعِنَ في كَفِّهِ - رضي الله عنه - .
فصل
وروى البخاريُّ : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين ذكره الوباء : « إنَّه رجزٌ ، أو عذابٌ عذِّب به بعض الأمم ، ثمَّ بقي منه بقيَّةٌ ، فيذهب المرَّة ، ويأتي الأخرى ، فمن سمع به بأرضٍ ، فلا يقدمنَّ عليه ، ومن كان بأرضٍ وقع بها ، فلا يخرج فراراً منه » وعمل عمر - رضي الله عنه - بمقتضى هذا الحديث لمَّا رجعوا من « سَرْغ » حين أخبرهم ابن عوف بهذا الحديث .
وقالت عائشة - رضي الله عنها - « الفَارُّ مِنَ الوَبَاءِ كالفَارِّ مَنَ الزَّحْفِ » .
قال الطَّبريُّ : يجب على المرء توقّي المكاره قيل نزولها ، وتجنُّب الأشياء المخيفة قبل هجومها ، وكذلك كلّ متَّقًى من غوائل الأمور ، سبيله إلى ذلك سبيل الطَّاعون ، ونظيره قوله عليه الصَّلاة والسَّلام : « لاَ تَتَمَنَّوا لِقَاءَ العَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللهَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا » ، ولما خرج عمر - رضي الله عنه - مع أبي عبيدة إلى الشَّام فسمع عمر أنَّ الوباء بها فرجع ، فقال له أبو عبيدة : أفراراً من قدر الله ، فقال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟! نعم نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله ، والمعنى لا محيص للإنسان عمَّا قدَّره الله عليه ، لكن أمرنا الله من التَّتحرُّز من المخاوف ، والمهلكات ، وباستفراغ الوسع في التَّوقِّي من المكروهات ، ثمَّ قال له : أرأيت لو كانت لك إبل ، فهبطت وادياً له عدوتان ، إحداهما خصبةٌ والأخرى جدبة ، أليس إن رعيت الخصبة ، رعيتها بقدر الله ، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ فرجع عمر من موضعه ذلك إلى المدينة .
قوله : { إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس } .
أَتَى بهذه الجملة مؤكَّدة ب « إِنْ » واللام ، وأتى بخبرٍ « إِنَّ » : « ذو » الدَّالة على الشَّرفِ بخلافِ « صاحبِ » ، و « عَلَى النَّاسِ » متعلقٌ بفَضْل تقول : تَفَضَّل فلان عليَّ ، أو بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ له فَهُوَ في محلّ جرٍّ ، أي : فضلٍ كائنٍ على النَّاسِ . وأل في النَّاسِ لِلْعمُوم . والمعنى أَنَّ هذه القِصَّة تشجع الإِنسان على الإِقدام على طاعة الله تعالى ، وتزيل على قَلبه الخَوفَ ، فكان ذِكْرُ هذه القِصَّة سبباً لبعد العبد عن المعصية ، وقربه من الطَّاعةِ ، فكان ذِكرُ هذه القصَّةِ فضلاً وإحساناً من اللهِ على عبدهِ وقيل للعهدِ والمُرادُ بهم : الَّذشين أَمَاتَهُم لأنهم خرجُوا من الدُّنيا على المعصيةِ ، ثم أعادهُم إلى الدُّنيا؛ حتى تَابُوا .
وقيل : المُرادُ بالعَهدِ أَنَّ العرب الذين كانُوا منكرين للمعاد؛ كانوا مُتمسكين بقول اليهُود في كثير من الأُمور إذا سمِعُوا بهذه الواقعة ، فالظَّاهِرُ أَنَّهُم يرجعون من الدين الباطل الَّذِي هو الإِنكارُ إلى الدِّين الحَقّ ، وهو الإِقرار بالبعث ، فيتخلَّصُون مِنَ العقاب ، وكان ذكر هذه القصَّة؛ فضلاً من الله في حقّ هؤلاء .
قوله : { ولكن أَكْثَرَ الناس } هذا استدراكٌ مِمَّا تَضَمَّنَهُ قوله { إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس } ؛ لأنَّ تقديره : فيجب عليهم أَنْ يَشْكُروه لتفضُّلِهِ عليهم بالإِيجادِ ، والرَّزْق ، ولكنَّ أكثرَهم غيرُ شاكرٍ . وهو كقوله : { فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً } [ الإسراء : 89 ] .

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)
قوله تعالى : { وَقَاتِلُوا } هذه الجملة فيها أقوالٌ :
أحدها : أنه عطفٌ على قوله : « مُوتُوا » وهو أمرٌ لِمَنْ أَحياهُم اللهُ بعد الإِماتةِ بالجهاد ، [ أي ] فقال لهم : مُوتوا وقاتِلوا ، رُوي ذلك عن ابن عبَّاسٍ ، والضَّحاك . قال الطَّبريِّ : « ولا وجهَ لهذا القَوْلِ » .
والثاني : [ أنها معطوفةٌ على قوله : « حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ » وما بينهما اعتراضٌ .
والثالث ] : أَنَّها معطوفةٌ على محذوفٍ تقديره : « فَأَطِيعُوا وَقَاتلوا ، أو فلا تَحْذَروا الموتَ كما حَذِرَهُ الذين مِنْ قَبْلكُم ، فلم يَنْفَعهم الحذرُ ، قاله أبو البقاء .
والظَّاهر أنَّ هذا أمرٌ لهذه الأمةِ بالجهاد ، بعد ذكره قوماً لم ينفعهم الحذرُ من المَوتِ ، فهو تشجيعٌ لهم ، فيكونُ من عطفِ الجملِ؛ فلا يُشْتَرَطُ التوافقُ في أمرٍ ولا غيره .
قوله : { فِي سَبِيلِ اللَّهِ } فالسَّبيلُ : هو الطَّريق ، وسمِّيتُ العباداتُ سبيلاً إلى اللهِ مِن حيثُ إِنَّ الإنسان بسلوكها يتوصَّلُ إلى ثوابِ اللهِ .
قال القرطبي : وهذا قول الجمهور : وهو الَّذِي ينوى به أن تكون كلمة الله هي العُليا ، وسُبُلُ الله كثيرةٌ ، فهي عامَّةٌ فِي كُلِّ سبيل . قال تعالى : { قُلْ هذه سبيلي } [ يوسف : 108 ] قال مالكٌ : سبل الله كثيرة ، وما مِنْ سبيلٍ إِلاَّ يقاتل عليها أو فيها أو لها ، وأعظمها دينُ الإسلامِ ، فلا جرم كان المُجاهِدُ مُقاتِلاً في سبيلِ اللهِ . ثُمَّ قال : { واعلموا أَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أَي : يسمعُ كلامكم في ترغيب الغير في الجهاد ، أو في ترعيب الغيرِ عنه ، و » عليمٌ « بما في ضمائركُم من البواعثِ ، والأَعراضِ : أَنَّ ذلك الجهاد لغرض الدِّينِ ، أو لغرض الدُّنيَا .

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
« مَّن » للاستفهام ومحلُّها الرَّفع على الابتداءِ ، و « ذا » اسمُ إشارةٍ خبرُهُ ، و « الذي » وصلتُهُ نعتٌ لاسم الإِشارةِ ، أو بدلٌ منه ، ويجوزُ أن يكونَ « مَنْ ذا » كلُّه بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ تركَّبا كقولك : « مَاذَا صَنَعْتَ » كما تقدَّمَ في قوله : { مَاذَآ أَرَادَ الله } [ البقرة : 26 ] . ومَنَع أبو البقاء هذا الوجه وفرَّق بينه وبين قولِكَ : « ماذا » حيثُ يُجْعَلان اسماً واحداً بأنَّ « ما » أشدُّ إيهاماً مِنْ « مَنْ » ؛ لأنَّ « مَنْ » لمَنْ يعقِلُ . ولا معنى لهذا المنعِ بهذه العلةِ ، والنحويون نَصُّوا على أنَّ حكمَ « مَنْ ذا » حكمُ « ماذا » .
ويجوز أن يكونَ « ذا » بمعنى الّذي ، وفيه حينئذٍ تأويلان :
أحدهما : أنَّ « الَّذِي » الثاني تأكيدٌ له؛ لأنَّه بمعناه ، كأَنَّهُ قيل : مَنِ الَّذِي يُقرِضُ الله قرضاً .
والثاني : أَنْ يكونَ « الذي » خبرَ مبتدأ محذوفٍ ، والجملةُ صلةُ ذا ، تقديرُه : « مَنْ الذي [ هو الّذي ] يُقْرِضُ ، وذا وصلتهُ خبرُ » مَنِ « الاستفهاميّة . أجاز هذين الوجهين ابن مالك ، قال شهاب الدين وهما ضعيفان ، والوجهُ ما قدَّمتُهُ .
وانتصَبَ » قَرْضاً « على المصدر على حذفِ الزَّوائِد ، إِذ المعنى : إقراضاً كقوله : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] ، وعلى هذا فالمفعولُ الثاني محذوفٌ تقديرُهُ : » يُقْرِضُ اللهَ مالاً وصدقةً « ، ولا بدَّ من حذفِ مُضَافٍ تقديرهُ : يقرضُ عِبادَ اللهِ المحاويجَ ، لتعاليه عن ذلك ، أو يكونُ على سبيل التَّجُّوزِ ، ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى المفعول نحو : الخَلْق بمعنى المخلُوق ، وانتصابُهُ حينئذٍ على أنه مفعولٌ ثانٍ ل » يُقْرِض « .
قال الواحديُّ : والقَرْضُ في هذه الآيةِ اسمٌ لا مصدر ، ولو كان مصدراً؛ لكان إقراضاً . و » حَسَناً « يجوزث أَن يكونَ صفةً لقرضاً بالمعنيينِ المذكورين ، ويجوزُ أن يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ ، إذا جعلنا » قَرْضاً « بمعنى مفعول أي : إقراضاً حسناً .
قوله : » فَيُضَاعِفَهُ « قرأ عاصمٌ وابن عامر هنا ، وفي الحديد بنصب الفاء ، إلاَّ أنَّ ابنَ عامر وعاصماً ويعقوب يشدِّدون العينَ من غير ألفٍ وبابه التشديد وقرأ أبو عمرو في الأحزاب والباقون برفعِها ، إلاَّ أنَّ ابن كثير يشدِّد العينَ من غير ألفٍ؛ فحصَلَ فيها أربعُ قراءتٍ .
أحدها : قرأ أبو عمرو ونافع ، وحمزة ، والكسائيُّ فيضاعفُهُ بالألف ورفع الفاء .
والثانية : قراءة عاصم » فيضاعفه « بالألف ونصب الفاء .
والثالثة : قرأ ابن كثير : » فَيُضَعِّفُهُ « بالتَّشديد ، ورفع الفاءِ .
والرابعة : قرأ ابن عامرٍ فيضعِّفَه بالتَّشْديد ، ونصب الفاء . فالرَّفْعُ من وجهين :
أحدهما : أنَّهُ عطفٌ على » يقرض « الصِّلةِ .
والثاني : أَنَّهُ رفعٌ على الاستئناف أي : فهو يُضاعِفُهُ ، والأولُ أحسنُ لعدَمِ الإِضمارِ .
والنصبُ من وجهين :
أحدهما : أنَّهُ منصوبٌ بإضمارٍ « أَنْ » عطفاً على المصدر المفهوم من « يقرضُ » في المعنى ، فيكونُ مصدراً معطوفاً على مصدرٍ تقديرُهُ : مَنْ ذا الذي يكونُ منه إقراضٌ فمضاعفةٌ مِنَ اللهِ تعالى كقوله : [ الوافر ]
1153- لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي ... أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ
والثاني : أنه نصبٌ على جوابِ الاستفهام في المعنى؛ لأَنَّ الاستفهام وإِنْ وَقَعَ عن المُقْرِضِ لفظاً ، فهو عن الإِقراضِ معنى كأنه قال : أيقرضُ اللهَ أَحَدٌ فيضاعفَه .
قال أبو البقاء : « ولا يجوز أن يكونَ جوابَ الاستفهام على اللفظ؛ لأنَّ المُسْتَفْهَمَ عنه في اللَّفْظِ المُقرِضُ أي الفاعلُ للقَرْضِ ، لا عن القَرْضِ ، أي : الذي هو الفِعْلُ » وقد مَنَع بعضُ النَّحويّين النَّصبَ بعد الفاء في جواب الاستفهام الواقع عن المسندِ إليه الحكمُ لا عن الحُكم ، وهو مَحْجوجٌ بهذه الآيةِ وغيرها ، كقوله : « مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي؛ فأغفرَ له ، مَنْ يَدْعُونِي؛ فأَسْتَجِيبَ له » بالنصبِ فيهما .
قال أبو البقاء : فإنْ قيلَ : لِمَ لاَ يُعْطَفُ [ الفعل على ] المصدرِ الذي هو « قرضاً » كما يُعْطَفُ الفعلُ على المصدرِ بإضمار « أَنْ » كقولِ الشاعر [ الوافر ]
1154- لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقَرَّ عَيْنِي .. .
قيل : هذا لا يصحُّ لوجهين :
أحدهما : أنَّ « قرضاً » هنا مصدرٌ مؤكِّدٌ ، والمصدرُ المُؤكِّدِ لا يُقَدَّرُ ب « أَنْ » والفعلِ .
والثاني : أنَّ عطفَهُ عليه يُوجبُ أن يكونَ معمولاً ليقرضُ ، ولا يصِحُّ هذا في المعنى؛ لأَنَّ المضاعفةَ ليستُ مُقْرِضَةً ، وإِنَّما هي فعلُ اللهِ تعالى ، وتعليله في الوجهِ الأولِ يُؤذِنُ بأنه يُشترط في النصبِ أنْ يُعْطَفَ على مصدرس يتقدَّر ب « أَنْ » والفعلِ ، وهذا ليس بشرطٍ؛ بل يجوزُ ذلك وإن كان الاسمُ المعطوفُ عليه غيرَ مصدرٍ؛ كقوله : [ الطويل ]
1155- وَلَوْلاَ رِجَالٌ مِنْ رِزَامٍ أَعِزَّةٍ ... وآلُ سُبَيْعٍ أَوْ أَسُوءَكَ عَلْقَمَا
ف « أَسُوءَكَ » منصوبٌ ب « أَنْ » ؛ عطفاً على « رِجَالٌ » ، فالوجهُ في مَنْعِ ذلك أنْ يُقال : لو عُطفَ على « قرضاً » ؛ لشاركه في عامِلِه ، وهو « يُقْرض » فيصيرُ التَّقْدِيرُ : مَنْ ذا الذي يَقْرِضُ مضاعفةً ، وهذا ليسَ صحيحاً معنى .
وقد تقدَّم أَنَّه قرئ « يُضاعِفُ » ، و « يُضَعِّفُ » فقيل : هما بمعنى ، وتكونُ المفاعلَةُ بمعنى فَعَل المجرد ، نحو عاقَبْت ، وقيل : بل هما مختلفان ، فقيل : إنَّ المضعَّفَ للتكثير .
وقيل : إنَّ « يُضَعِّف » لِما جُعِلَ مثلين ، و « ضاعَفَه » لِما زيد عليه أكثرُ من ذلك .
والقَرْضُ : القَطْعُ ، ومنه : « المِقْرَاضُ » لِمَا يُقْطَع به وانقطع القوم هلكوا وانقطع أثرهم وقيل للقَرْض « قرض » ؛ لأنه قَطْعُ شيءٍ من المالِ ، وهذا أصلُ الاشتقاقِ ، ثم اختلف أهل العِلْمِ في « القَرْض » فقيل : هو اسمٌ لكلِّ ما يُلْتَمَسُ الجزاءُ حَسَناً كان أو سيئاً « ، تقول العرب : لك عندي قرضٌ حسنٌ وسيّئ ، والمرادُ منه الفعل الذي يجازى عليه .
قال أَميَّة بن الصَّلت : [ البسيط ]
1156- كُلُّ امْرِىءٍ سَوْفَ يُجْزَى قَرْضَهُ حَسَناً ... أَوْ سَيِّئاً وَمَدِيناً مِثْلٌ ما دَانَا
واختلفوا في أَنَّ إِطلاق لفظ القَرْضِ على هذا ، هل هو حقيقة أو مجازٌ .
قال الزَّجَّاج : هو حقيقةٌ ، واستدلَّ بما ذكرناه ، وقيل : مجازٌ ، لأَنَّ القَرْضَ : هو أَنْ يعطي الإنسان ليرجع إليه مثله وهنا إِنَّما ينفق ليرجع إِلَيه بدله ، و « القِرض » بالكَسْرِ - لغةٌ فيه حكاها الكِسَائِيُّ ، نقله القرطبي .
قوله : « أَضْعَافاً » فيه ثلاثة أوجهٍ :
أظهرها : أَنَّهُ حالٌ من الهاءِ في « فيضاعِفُ » ، وهل هذه حالٌ مؤكِّدَةٌ أو مبيِّنة ، الظَّاهِرُ أنها مُبَيِّنَةٌ؛ لأنَّها وإنْ كانَتْ من لفظِ العامِلِ ، إلاَّ أنَّها اختصَّتْ بوصفِها بشيءٍ آخَر ، ففُهِم منها ما لم يُفْهَمُ من عامِلها ، وهذا شأنُ المبيِّنة .
والثاني : أنه مفعولٌ به على تضمين « يضاعفُ » معنى يُصَيِّر ، [ أي : يُصَيِّره ] بالمضاعَفَةِ أضْعافاً .
الثالث : أنه منصوبٌ على المصدر .
قال أبو حيان : [ قيل ] ويجوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ على المصدرِ باعتبار أَنْ يُطْلَقَ الضِّعْفُ - وهو المضَاعفُ ، أو المضعِّفُ - بمعنى المضاعفة ، أو التضعيف ، كما أُطلِقَ العطاء ، وهو اسمُ المُعْطَى بمعنى الإِعطاء . وجُمِعَ لاختلافِ جهاتِ التضعيفِ باعتبارِ اختلاف الأشخاص ، واختلاف المُقْرِضِ واختلافِ أنواعِ الجَزَاءِ . وسبقه إلى هذا أبُو البقاءِ ، وهذه عبارتُهُ ، وأنشد : [ الوافر ]
1157- أَكُفْراً بَعْدَ رَدِّ المَوْتِ عَنِّي ... وَبَعْدَ عَطَائِكَ المِائَةَ الرِّتَاعَا
والأَضْافُ جمعُ « ضِعْف » ، والضِّعْفُ مثل قَدْرَيْنِ مُتَسَاوييْن . وقيل : مثلُ الشَّيء في المِقْدَارِ . ويقالُ : ضِعْفُ الشَّيء : مثلُهُ ثلاثَ مرات ، إلاَّ أنه إذا قيل « ضعفان » ، فقد يُطْلَقُ على الاثنين المِثْلَيْنِ في القَدْرِ من حيثُ إِنَّ كلَّ واحدٍ يُضعِّفُ الآخرَ ، كما يُقالُ زَوْجان ، من حيث إنَّ كلاً منهما زوجٌ للآخر .
فصل
لما أمر اللهُ تعالى بالجهادِ ، والقتال على الحَقّ؛ إذ ليس شيءٌ من الشَّريعة ، إِلاَّ ويجوز القِتَالُ عليه وعنه ، وأعظمها دينُ الإِسلام ، حرَّض تعالى على الإِنفاقِ في ذلك؛ فَدَخل في ذلك : المُقَاتِلُ في سبيلِ اللهِ ، فإِنَّهُ يَقْرضُ رجاء الثَّوابِ ، كما فعلَ عثمانُ - رضي اللهُ عنه - في جيشِ العُسْرَةِ .
فصل
اختلف المُفَسِّرُون في هذه الآية على قولين :
أحدهما : أنَّ هذه الآية متعلِّقةٌ بما قبلها ، والمرادُ منها القرض في الجهادِ خاصَّةً ، فندب العاجز عن الجهاد أَنْ ينفق على الفقير القادر عليه ، وأمر القادر على الجهاد : أن ينفق على نفسه في طريق الجهاد ، ثمَّ أكد ذلك بقوله تعالى : { والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } .
القول الثاني : أَنَّ هذا الكلام مبتدأٌ لا تعلُّق له بما قبله ، ثم اختلفوا هؤلاء ، فمنهم من قال : المراد من القرض إنفاق المال ، ومنهم من قال : إِنَّه غيره والقائلون بأَنَّه إنفاق المال ، اختلفوا على ثلاثة أقوال :
الأول : أَنَّه الصَّدقةُ غير الواجبة ، وهو قول الأَصم ، واحتجَّ بوجهين :
أحدهما : أَنَّهُ تعالى سمَّاه قرضاً والقَرْضُ لا يكون إِلاَّ تبرعاً .
الوجه الثاني : قال ابن عبَّاسٍ : إِنَّ هذه الآية « نزلت في أبي الدَّحداح ، قال : يا رسول اللهِ! إِنَّ لي حديقتين ، فإِنْ تصدّقت بأحدهما ، فهل لي مثلها في الجنَّة .
قال : » نَعَمْ « ، قال : وأمّ الدَّحداح معي؟ قال : » نعم « . فتصدق بأفضل حديقته ، وكانت تُسَمَّى » الحنيبة « قال : فرجع أبُو الدَّحداح إلى أهله ، وكانوا في الحديقة التي تصدّق بها ، فقام على باب الحديقة وذكر ذلك لامرأته فقالت أم الدَّحداح : بارك اللهُ لك فيما اشتريتَ ، ثمَّ خرجوا منه وسلموها؛ فكان عليه الصَّلاة والسَّلام يقول : كم مِنْ نخلةٍ رداحٍ تُدلي عروقها في الجنَّة لأَبي الدَّحداح
. » القول الثاني : أَنَّ المراد من هذا القرض : الإنفاقُ الواجب في سبيل اللهِ . قالوا : لأَنَّه تعالى ذكر في آخر الآية قوله : { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } ، وذلك كالزَّجر وهو إِنَّما يليقُ بالواجب .
القول الثالث : أَنَّه يشتمل قسمين كقوله تعالى : { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ } [ البقرة : 261 ] وأمَّا من قال : إِنَّ المُراد : إِنفاقُ شيء سوء المال . قالوا : رُوِيَ عن بعضِ أصحاب ابن مسعودٍ أنه قول الرَّجل سبحان اللهِ ، والحمد للهِ ، ولا إله إلاَّ الله ، واللهُ أكْبَرُ . قال ابنُ الخطيب [ قال القاضي ] وهذا بعيدٌ؛ لأَنَّ لفظ الإِقراض لا يقعُ في عرف اللُّغة عليه ، ولا يمكن حمل هذا القولِ على الصِّحَّة إِلاَّ أَنْ نقول : إذا كان الفقيرُ لا يملك شيئاً ، وكان في قلبه أنه لو قدر على الإِنفاق لأنفق ، وأعطى ، فحينئذٍ تكون نيته قائمةً مقام الإِنفاق ، فقد روي أَنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام قال : « مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ؛ فَلْيَلْعَنِ اليهُود ، فإنَّه لهُ صَدَقَة » .
فصل
قال القرطبي : وذكر القَرْضِ ها هنا إِنَّما هو تأنيسٌ ، وتقريبٌ للنَّاسِ بما يفهمونه ، واللهُ هو الغنيُّ الحميدُ ، لكنَّهُ تعالى شبَّه عطاء المؤمنين في الدُّنيا ، بما يرجون به ثوابه في الآخرةِ بالقرض كما شبَّه إِعطاء النُّفوسِ ، والأموال في أَخذِ الجنَّةِ ، بالبيع والشراء .
قوله تعالى : « حَسَناً » قال الواقديُّ : محتسب طيبة به نفسه .
وقال عمرو بن عثمان الصَّدفيُّ : « لا يتبعه مَنّاً ، ولا أَذى » .
وقال سهلُ بن عبداللهِ : لا يعتقِدث في قرضه عوضاً .
واعلم : أَنَّ هذا الإِقراض إِذَا قلنا : المرادُ به الإِنفاقُ في سبيل الله ، فهو يخالف القرضَ من وجوهٍ :
الأول : أَنَّ القرض إِنَّما يأخذه من يحتاج ُ إليه لفقره ، وذلك في حقّ اللهِ تعالى مُحالٌ .
الثاني : أَنَّ البدل في القرضِ المعتاد لا يكون إِلاّ المثل ، وفي هذا الإنفاق هو الضِّعفُ .
الثالث : أَنَّ المالَ الذي يأخُذُه المستقرضُ ، لا يكون ملكاً له ، وها هنا المالُ المأخُوذ ملك له ، ومع هذه الفُروق سمَّاه الله تعالى قرضاً ، والحكمةُ فيه التَّنبيهُ على أَنَّ ذلك لا يضيعُ عند اللهِ كما أَنَّ القرض يجبُ أداؤه ، ولا يجوزُ الإخلالُ به ، فكذا الثَّوَابُ الواجبُ على هذا الإنفاقِ واصلٌ إلى المكلف لا محالة .
فصل
قال القرطبيُّ : القرضُ : قد يكون بالمالِ ، وقد بَيَّنَّا حُكْمَهُ ، كما قال عليه الصّلاة والسَّلام « أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كأَبِي ضَمْضَم ، كان إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قال : اللَّهُمَّ إِنِّي تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِكَ » .
وقال ابن عمر : « أَقْرِضْ من عِرْضِكَ ليوم فَقْرِكَ » يعني مَنْ سبَّك فلا تأخذ منه حقّاً ، ولا تقم عليه حَدّاً ، حتى تأتي يوم القيامة موفر الأجر .
وقال أبو حنيفة : لا يجوز التَّصَدُّق بالعرض؛ لأَنَّه حقُّ اللهِ تعالى وهو مروي عن مالكٍ .
قال ابن العربيّ : وهذا فاسِدٌ لقوله عليه الصَّلاة والسّلام : « إِنَّ دِمَاءَكم وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ » هذا يقتضي أَنْ تكون هذه المحرمات الثَّلاث تجري مجرًى واحداً ، في كونها باحترامها حقاً للآدمي
فصل
وكون القرض حسناً يحتملُ وجوهاً :
أحدها : أنه أراد به أن يكون حلالاً خالصاً من الحرام .
الثاني : ألاَّ يتبع ذلك منّاً ولا أذى .
الثالث : أن يفعله بنية التَّقرُّب إلى اللهِ تعالى .
والمراد من التَّضعيف ، والإضعاف ، والمضاعفة واحد ، وهو : الزِّيَادَةُ على أصل الشَّيء حتَّى يصير مثليه ، أو أكثر ، وفي الآية حذفٌ والتقدير : فيضاعف ثوابه .
فصل
والمراد بالأضعاف الكثيرة :
قال السُّدِّيُّ : هذا التَّضعيفُ لا يعلمه إلاَّ الله - عزَّ وجلَّ - وإِنَّما أبهم ذلك؛ لأَنَّ ذكر المبهم في باب التَّرغيب ، أقوى من المحدود وقال غيره : هو المذكورُ في قوله تعالى : { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ } [ البقرة : 261 ] ، فيحمل المجمل على المُفسَّرِ؛ لأَنَّ كلتا الآيتين وردتا في الإنفاق .
قوله تعالى : { والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } قرأ أبو عمر ، وحمزة ، وحفص ، وقنبلٌ « وَيَبْسُطُ » ها هنا وفي الأعراف بالسِّين على الأصل ، والباقُون بالصَّادِ لأجل الطاء . وقد تقدَّم تحقيقه في { الصراط } [ الفاتحة : 6 ] .
فصل
قوله : « يقبض » بإمساك الرّزق والنفس ، والتقتير ، و « يَبْسُطُ » بالتَّوسيع ، وقيل : يقبضُ بقبول التوبة الصَّادقة ، ويبسط بالخلف ، والثَّواب . وقيل : هو الإِحياءُ والإماتة ، فمن أَمَاتهُ فقد قبضه ومن مَدَّ له في عمره فقد بسط له .
وقيل : يقبضُ بعض القلوب ، حتَّى لا تقدم على هذه الطَّاعة . والمعنى : أَنَّهُ كما أمرهم بالصَّدقةِ أخبر أَنَّهُ لا يمكنهم ذلك إلا بتوفيقه ، وإعانته ، وقيل : ذكر ذلك ليعلمَ الإِنسان أَنَّ القبض والبسط بيد اللهِ ، فإذا علم ذلك؛ انقطع نظره عن مال الدُّنيا ، وبقي اعتمادُهُ على اللهِ ، فحينئذٍ يَسْهُلُ عليه الإنفاق ثمَّ قال : { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فيجزيكم بأعمالكم ، حيث لا حاكم ولا مُدَبِّرَ سواه .
وقال قتادة : الهاء في « إليه » راجعة إلى التّراب كنايةً عن غير مذكور ، أي من التُّراب خلقتم ، وإليه تُرْجعون ، وتعودون .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
الملأُ من القَوْمِ وجوههم ، وأشرافهم ، وهو اسم للجماعة من النَّاس لا واحد لهُ من لفظه كالرَّهْطِ والقومِ ، والجيشِ ، والمَلأُ : الأَشرافُ سُمُّوا بذلك؛ لأنهم يملئون العيونَ هيبةً ، أو المجالسَ إذا حضروا؛ أو لأنهم مليئون بما يُحْتاج إليهم فيه ، وقال الفرَّاءُ : « المَلأُ » الرجالُ في كلِّ القرآن ، وكذلك القومُ والرَّهطُ والنَّفَرُ ، ويُجْمع على أَمْلاء؛ قال : [ الطويل ]
1158- وَقَالَ لَهَا الأَمْلاَءُ مِنْ كُلِّ مَعْشَرٍ ... وَخَيْرُ أَقَاوِيلِ الرِّجَالِ سَدِيدُهَا
قال القرطبي : والملأ أيضاً حسن الخلق ، ومنه الحديث : « أَحْسنُوا الملأَ فكلُّكُمْ سيروى » أخرجه مسلم .
قوله تعالى : { مِن بنيا } فيه وجهان :
أحدهما : أَنَّهُ صلةٌ للملأ على مذهب الكُوفيين؛ لأنهم يجعلون المُعَرَّفَ بأل موصولاً؛ ويُنْشِدُون : [ الطويل ]
1159- لَعَمْرِي لأَنْتَ الَيْتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ ... وأَقْعُدُ في أَفْيَائِهِ بالأصائِلِ
و { مِن بَعْدِ موسى } متعلِّقٌ بما تعلَّقَ [ به ] الجارُّ الأولُ ، وهو الاستقرار ، ولا يضُرُّ اتحادُ الحرفين لفظاً لاختلافِهما معنًى ، فإِنَّ الأولى للتبعيض والثانية لابتداءِ الغاية . وقال أبو البقاء : « مِنْ بعدِ » متعلِّقٌ بالجار الأول ، أو بما تعلَّق به الأول يعني بالأولِ : « من بني » ، وجعله عاملاً في « مِنْ بعد » لِما تضمنَّه من الاستقرار ، فلذلك نَسَبَ العملَ إليه ، وهذا على رأي بعضِهم ، يَنْسِبُ العمل للظرف والجارِّ الواقِعَيْن خبراً أو صفةً أو حالاً أو صلةً ، فتقول في نحو : « زيدٌ في الدار أبوه » أبوه : فاعلٌ بالجارِّ ، والتحقيقُ أنه فاعلٌ بالاستقرار الذي تعلَّق به الجارُّ ، وهو الوجهُ الثاني . وقدَّر أبو البقاء مضافاً محذوفاً . تقديرُه : من بعدِ موسى ، ليصِحَّ المعنى بذلك .
قوله : { إِذْ قَالُواْ } العاملُ في هذا الظرفِ أجازوا فيه وجهين :
أحدهما : أنه العاملُ في « مِنْ بعد » لأنَّه بدلٌ منه ، إذ هما زمانان ، قاله أبو البقاء : والثاني : أنه « ألم تر » قال شهاب الدين وكلاهما غيرُ صحيحٍ .
أمَّا الأول فلوجهين :
أحدهما من جهة اللفظِ والآخرُ من جهة المعنى . فأمّا الذي من جهة اللفظِ فإنه على تقدير إعادة « مِنْ » و « إذ » لا تُجَرُّ ب « مِنْ » . الثاني : أنه ولو كانَتْ « إذ » من الظروف التي تُجَرُّ ب « مِنْ » كوقت وحين لم يصِحَّ [ ذلك أيضا لأنَّ العاملَ في « مِنْ بعد » محذوفٌ فإنه حالٌ تقديره : كائنين من بعد ، ولو قلت : كائن من حين قالوا لنبيٍّ لهم ابعثْ لنا ملكاً لم يصِحَّ ] هذا المعنى .
وأمَّا الثاني فلأنه تقدَّم أن معنى « ألم تر » تقريرٌ للنفي ، والمعنى : ألم ينته علمُك ، أو قد نَظَرْتَ إلى الملأ وليس انتهاءُ علمِه إليهم ولا نظرُه إليهم كان في وقتِ قولهم ذلك ، وإذا لم تكنْ ظرفاً للانتهاءِ ولا للنظر فكيف تكونُ معمولاً لهما أو لأحدِهما؟
وإذ قد بَطَلَ هذان الوجهان فلا بُدَّ له من عاملٍ يصِحُّ به المعنى وهو محذوفٌ ، تقديره : ألم تَر إلى قصة الملأ أو حديث الملأ ما في معناه؛ وذلك لأنَّ الذواتِ لا يُتَعَجَّبُ منها ، إنما يُتَعَجَّبُ من أحداثها ، فصار المعنى : ألم تَرَ إلى ما جرى للملأ من بني إسرائيل إلى آخرها ، فالعاملُ هو ذلك المجرورُ ، ولا يصحُّ المعنى إلا به لِما تقدَّم .
قوله تعالى : { لِنَبِيٍّ } متعلِّقٌ ب « قالوا » واللامُ فيه للتبليغ ، و « لهم » متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لنبي ، ومحلُّه الجرُّ ، و « ابعَثْ » وما في حيَّزه في محلِّ نصبٍ بالقولِ . و « لنا » الظاهرُ أنه متعلِّقٌ بابعَثْ ، واللامُ للتعليلِ أي : لأجلِنا .
قوله : { نُّقَاتِلْ } الجمهورُ بالنونِ والجزم على جواب الأمر . وقرئ بالياء والجزم على ما تقدَّم ، وابن أبي عبلة بالياءِ ورفعِ اللام على الصفةِ لملكاً ، فمحلُّها النصبٌ أيضاً . [ وقرئ بالنونِ ورفع اللام على أنها حالٌ من « لنا » فمحلُّها النصبُ أيضاً ] أي : ابعَثْه لنا مقدِّرين القتال ، أو على أنها استئنافُ جوابٍ لسؤالٍ مقدَّرٍ كأنه قال لهم : ما يَصْنعون بالملكِ؟ فقالوا نقاتِلْ .
قوله : { هَلْ عَسَيْتُمْ } عسى واسمها ، وخبرها « أَنْ لا تقاتِلوا » والشرطُ معترضٌ بينهما ، وجوابهُ محذوفٌ للدلالة عليه ، وهذا كما توسَّط في قوله : { وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ } [ البقرة : 70 ] ، وهذا على رأي مَنْ يَجْعَلُ « عسى » داخلةً على المبتدأ والخبر ، ويقولُ إنَّ « أَنْ » زائدةٌ لئلا يُخْبَرَ بالمعنى عن العين . وأمّا مَنْ يرى أنّها تُضَمَّنُ معنى فعل متعدٍّ فيقول : « عَسَيْتم » فعلٌ وفاعلٌ ، و « أَنْ » وما بعدها مفعولٌ به تقديره : هل قارَبْتُم عدم القتالِ ، فهي عنده ليسَتْ من النواسخِ ، والأولُ هو المشهورُ .
وقرأ نافع « عَسِيْتُم » هنا وفي القتال : بكسر السينِ ، وهي لغةٌ مع تاءِ الفاعلِ مطلقاً ومع ن [ ومع ] نونِ الإناثِ نحو : عَسِينا وعَسِين ، وهي لغةُ الحجاز ، ولهذا غَلِطَ مَنْ قال : « عسى تُكْسَرُ مع المضمر » وأَطْلَقَ ، بل كان ينبغي له أن يُقَيِّدَ الضمير بما ذكرنا ، إذ لا يقال : الزيدان عَسِيا والزيدون عَسِيوا بالكسرِ البتة .
وقال الفارسي : « ووجهُ الكسرِ قولُ العربِ : » هو عَس بكذا « مثل : حَرٍ وشَج ، وقد جاء فَعَل وفَعِل في نحو : نَقَم ونَقِم ، فكذلك عَسَيْتُ وعَسِيْتُ ، فإِنْ أُسْنِدَ الفعلُ إلى ظاهرٍ فقياسُ عَسِيتم - أي بالكسر - أن يقال : » عَسِيَ زيدٌ « مثل : » رَضِي زيدٌ « .
فإن قيل : فهو القياسُ ، وإِنْ لم يُقَلْ فسائِغٌ أن يُؤْخَذَ باللغتين ، فتُسْتَعملَ إحداهما موضعَ الأخرى كما فُعِل ذلك في غيره » فظاهرُ هذه العبارة أنه يجوز كسرُ سينِها مع الظاهِر بطريق القياسِ على المضمرِ ، وغيرهُ من النحويين يمنعُ ذلك حتى مع المضمر مطلقاً ، ولكن لا يُلتفت إليه لورودِه متواتراً ، وظاهرُ قوله « قولُ العرب : عَسٍ » أنه مسموعٌ منهم اسمُ فاعلها ، وكذلك حكاه أبو البقاء أيضاً عن ابن الأعرابي ، وقد نَصَّ النحاة على أن « عسى » لا تتصرَّف « .
واعلم أنَّ مدلولَ « عسى » إنشاءٌ لأنها للترجي أو للإِشفاق ، فعلى هذا : فكيف دَخَلت عليها « هل » التي تقتضي الاستفهامَ؟ فالجوابُ أن الكلامَ محمولٌ على المعنى ، قال الزمخشري : « والمعنى : هل قارَبْتم ألاَّ تقاتلوا ، يعني : هل الأمرُ كما أتوقّعه أنكم لا تقاتلون ، أراد أن يقول : عَسَيْتُم ألا تقاتلوا ، بمعنى أتوقَّعُ جبنَكم عن القتالِ ، فأدخلَ » هل « مستفهِماً عما هو متوقعٌ عنده ومَظْنونٌ ، وأرادَ بالاستفهام التقريرَ ، وثَبَتَ أنَّ المتوقَّع كائنٌ وأنه صائبٌ في توقعه؛ كقوله تعالى : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان } [ الإنسان : 1 ] معناه التقريرُ » وهذا من أَحسنِ الكلامِ ، وأحسنُ مِنْ قول مَنْ زعم أنها خبرٌ لا إنشاءٌ؛ مُسْتَدِلاً بدخولِ الاستفهام عليها؛ وبوقوعها خبراً ل « إنَّ » في قوله : [ الرجز ]
1160- لاَ تُكْثِرَنْ إِنِّي عَسَيْتُ صَائِمَا ... وهذا لا دليلَ فيه؛ لأنه على إضمار القول؛ كقوله : [ البسيط ]
1161- إِنَّ الَّذِينَ قَتَلْتُمْ أَمْسِ سَيِّدَهُمْ ... لاَ تَحْسَبُوا لَيْلَهُمْ عَنْ لَيْلِكُمْ نَامَا
ولذلك لا توصلُ بها الموصولات؛ خلافاً لهشامٍ .
قوله : { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ } هذه الواوُ رابطةٌ لهذا الكلام بما قبلَه ، ولو حُذِفَتْ لجازَ أن يكونَ منقطعاً مِمَّا قبله . و « ما » في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، ومعناها الاستفهامُ ، وهو استفهامُ إنكارٍ . و « لنا » في محلِّ رفع خبر ل « ما » .
و « أَلاَّ نُقَاتِلَ » فيه ثلاثةُ أوجهٍ .
أظهرها : أنَّها على حذفِ حرفِ الجرِّ وهو قول الكسائي والتقديرُ : وما لنا في ألاَّ نقاتل ، أي : في تركِ القتالِ ، ثم حُذِفَتْ « في » مع « أَنْ » فجرى فيها الخلافُ المشهورُ بين الخليل وسيبويه : أهي في محلِّ جر أم نصبٍ؟ وهذا الجارَّ يتعلَّقُ بنفسِ الجارِّ الذي هو « لنا » أو بما يتعلَّق هو به على حسبِ ما تقدَّم في « مِنْ بعد موسى » .
قال البغوي : فإن قيل : فما وجه دخول « أن » في هذا الموضع ، والعرب لا تقول ما لك ألاَّ تفعل ، وإنما يقال : ما لك لا تفعل؟ قيل : دخول « أن » وحذفها لغتان صحيحتان ، فالإثبات كقوله تعالى : { مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين } [ الحجر : 32 ] ، والحذف كقوله تعالى : { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله } [ الحديد : 8 ] وقال الفراء : الكلام ها هنا محمول على المعنى؛ لأن قولك : ما لك لا تقاتل؟ معناه : ما يمنعك أن تقاتل ، فلما كان معناه المنع حسن إدخال « أن » فيه كقوله { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ } [ ص : 75 ] وقوله : { أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين } [ الحجر : 32 ] ورجح الفارسي قول الكسائي على قول الفراء .
قال : لأن على قول الفراء لا بد من إضمار حرف الجر تقديره ما يمنعنا من أن نقاتل فإذا كان لا بد من إضمار حرف الجر على القولين ، فعلى قول الكسائي يبقى الإضمار على ظاهره وعلى قول الفراء لا يبقى ، فكان قول الكسائي أولى .
الثاني : مذهب الأخفش أنَّ « أَنْ » زائدةٌ ، ولا يضرُّ عملها مع زيادتها ، كما لا يضرُّ ذلك في حروف الجر الزائدة ، وعلى هذا فالجملة المنفيَّة بعدها في محلِّ نصبٍ على الحال ، كأنه قيل : ما لنا غير مقاتلين ، كقوله : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } [ نوح : 13 ] { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ } [ المائدة : 84 ] وقول العرب : « ما لك قائماً » ، وقول الله تعالى : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] وهذا المذهب ضعيفٌ لأنَّ الأصل عدم الزيادة ، فلا يصار إليها دون ضرورةٍ .
الثالث : - وهو أضعفها - وهو مذهب الطبري أنَّ ثمَّ واواً محذوفةً قبل قوله : « أن لا نقاتلَ » . قال : « تقديره : وما لنا ولأن لا نقاتل ، كقولك : إياك أن تتكلَّم ، أي : إياك وأن تتكلم ، فحذفت الواو » وهذا كما ترى ضعيفٌ جداً . وأمَّا قوله : إنَّ قولهم إياك أن تتكلم على حذف الواو؛ فليس كما زعم ، بل « إياك » ضمِّنت معنى الفعل المراد به التحذير ، و « أَنْ تتكلمَ » في محلِّ نصبٍ به تقديره : احذر التكلم .
قوله : { وَقَدْ أُخْرِجْنَا } هذه الجملة في محلِّ نصبٍ على الحال ، والعامل فيها : « نقاتلْ » ، أنكروا ترك القتال وقد التبسوا بهذه الحال . وهذه قراءة الجمهور ، أعني بناء الفعل للمفعول .
وقرأ عمرو بن عبيد : « أَخْرَجَنا » على النباء للفاعل . وفيه وجهان :
أحدهما : أنه ضمير الله تعالى ، أي : وقد أخرجنا الله بذنوبنا .
والثاني : أنه ضمير العدوّ .
{ وَأَبْنَآئِنَا } عطفٌ على « ديارنا » أي : ومن أبنائنا ، فلا بدَّ من حذف مضافٍ تقديره : « ومن بين أبنائنا » كذا قدره أبو البقاء . وقيل : إنَّ هذا على القلب ، والأصل : وقد أُخرج أبناؤنا منا ، ولا حاجة إلى هذا .
قوله تعالى : { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ } ، فاعلم أن في الكلام محذوفاً تقديره : فسألوا الله تعالى ذلك فبعث لهم ملكاً وكتب عليهم القتال فتولوا .
قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً } نصبٌ على الاستثناء المتصل من فاعل « تَوَلَّوا » فإن قيل المستثنى لا يكون مبهماً ، لو قلت : « قام القومُ لا رجالاً » لم يصحَّ ، فالجواب إنما صحَّ هذا لأنَّ « قليلاً » في الحقيقة صفةٌ لمحذوفٍ ، ولأنه قد تخصَّص بوصفه بقوله : « منهم » ، فقرب من الاختصاص بذلك .
وقرأ أُبي : « إلاَّ أن يكون قليلٌ منهم » وهو استثناءٌ منقطعٌ ، لأنَّ الكون معنًى من المعاني والمستثنى منه جثثٌ . ولا بدّ من بيان هذه المسألة لكثرة فائدتها . وذلك أنّ العرب تقول : « قام القوم إلا أنْ يكونَ زيدٌ وزيداً » بالرفع والنصب ، فالرفع على جعل « كان » تامةً ، و « زيدٌ » فاعلٌ ، والنصب على جعلها ناقصةً ، و « زيداً » خبرها ، واسمها ضميرٌ عائدق على البعض المفهوم من قوة الكلام ، والتقدير : قام القوم إلا أن يكون هو - أي بعضهم - زيداً ، والمعنى : قام القوم إلا كون زيدٍ في القائمين ، وإذا انتفى كونه قائماً انتفى قيامه ، فلا فرق من حيث المعنى بين العبارتين ، أعني « قام القوم إلا زيداً » و « قاموا إلا أن يكون زيداً » ، إلا أن الأول استثناءٌ متصلٌ ، والثاني منقطعٌ لما قررناه .
فصل
وجه تعلُّق هذه الآية بما قبلها أنَّه تعالى لما فرض القتال بقوله : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [ البقرة : 244 ] ، ثمَّ أمر بالإنفاق فيه بقوله : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله } [ البقرة : 245 ] ذكر بعد ذلك هذه القصة تحريضاً على عدم تركهم مخالفة الأمر بالقتال ، فإنَّهم لما أُمروا تولَّوا ، وخالفوا؛ فذمهم الله تعالى ونسبهم إلى الظُّلم بقوله : { والله عَلِيمٌ بالظالمين } والمراد التَّرغيب في الجهاد .
فصل فيمن هو النبي الذي نادى بالبعث في الآية
اختلفوا في ذلك النبيِّ الذي قالوا له { ابعث لَنَا مَلِكاً } من هو فقال قتادة : هو يوشع ابن نون بن أفرائيم بن يوسف لقوله تعالى : { مِن بَعْدِ موسى } وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّ قوله { مِن بَعْدِ موسى } كما لا يحتمل الاتصال بالتَّعاقب يحتمل البعديَّة بغير تعاقب ، وإن كان بينهما غير يوشع؛ لأنَّ البعديّة حاصلة ، وذكر ابن عطيَّة في تضعيف هذا القول أنَّ مدَّة داود بعد موسى بقرون من النَّاس ، ويوشع هو فتى موسى عليهما الصَّلاة والسَّلام .
وقال السُّدِّيُّ : اسمه شمعون سمَّته أُمُّه بذلك؛ لأنَّها دعت الله أن يرزقها غلاماً ، فاستجاب الله دعاءها ، فسمته سمعون ، أي : سمع الله دعائي ، والسِّين تصير شيناً بالعبرانية وهو شمعون ابن صفيَّة بنت علقمة ، من ولد لاوي بن يعقوب .
وقال سائر المفسِّرين : هو اشمويل بن هلقايا .
فصل
كان سبب مسألتهم إيّاه ذلك؛ لأنَّه لمَّا مات موسى خلف بعده في بني إسرائيل يوشع بن نون يقيم فيهم التَّوراة ، وأمر الله ، حتى قبضه الله ، ثمَّ خلف فيهم « كالِب بْنَ يُوفَنَا » ؛ حتى قبضه الله ، ثمَّ حزقيل حتى قبضه الله ، ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل ونسوا عهد الله؛ حتى عبدوا الأوثان ، فبعث الله إليهم « إِلْياسَ » نبياً ، فدعاهم إلى الله ، وكانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى ، يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التَّوراة ، ثم خلف بعد « إِلْيَاسَ » « اَلْيَسَع » ، وكان فيهم ما شاء الله؛ حتَّى قبضه الله ، وخلف فيهم الخلوف ، وعظمت الخطايا وظهر لهم عدوٌّ يقال له البلثاثا ، وهم قوم « جَالُوتَ » ، كانوا يسكنون ساحل بحر الرُّوم ، بين مصر ، وفلسطين ، وهم العمالقة ، فظهروا على بني إسرائيل ، وغلبوا على كثير من أرضهم ، وسبوا كثيراً من ذراريهم ، وأسروا من أبناء ملوكهم أربعين وأربعمائة غلام ، وضربوا عليهم الجزية ، وأخذوا توراتهم ، ولقي بنو إسرائيل منهم بلاءً شديداً ، ولم يكن لهم نبيٌّ يدبِّر أمرهم ، وكان سبط النُّبوَّة قد هلكوا ، فلم يبق منهم إلاَّ امرأة حبلى؛ فحبسوها في بيت رهبة أن تلد جاريةً ، فتبدلها بغلام لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها ، وجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاماً؛ فولدت غلاماً فسمته شمويل تقول : سمع الله دعائي ، فكبر الغلام فأسلموه ليتعلم التَّوراة في بيت المقدس ، وكفله شيخٌ من علمائهم وتبنَّاه ، فلمَّا بلغ الغلام أتاه جبريل ، وهو نائم إلى جنب الشَّيخ ، وكان لا يأتمن عليه أحداً ، فدعاه جبريل بلحن الشيخ : يا أُشمويل ، فقام الغلام فزعاً إلى الشَّيخ قوال : يا أبتاه دعوتني؟ فكره الشَّيخ أن يقول : لا فيفزع الغلام ، فقال : يا بنيّ ارجع فنم ، فرجع الغلام ، فَنَامَ ، ثمَّ دعاه الثَّانية ، فقال الغلام : يا أَبَتِ دَعَوْتَنِي!؟ فقال : ارجع فنم فإنْ دعوتُكَ الثَّالثة؛ فلا تجبني ، فلمَّا كانت الثَّالثة ظهر له جبريل فقال له : اذهب إلى قومك؛ فبلغهم رسالة ربِّك ، فإن الله قد بعثك فيهم نبيّاً ، فلمَّا أتاهم كذَّبوه ، وقالوا له : استعجلت بالنُّبوَّة ، ول تَنَلْكَ ، وقالوا : إن كنت صادقاً فابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله آيةً من نبوَّتك ، وإنما كان قوام أمر بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك ، وطاعة الملوك لأنبيائهم ، فكان الملك هو الذي يسير بالجموع ، والنَّبيُّ يقوم له بأمره ، ويشير عليه برشده ، ويأتيه بالخبر من عند ربِّه .
قال وهبٌ : بعث الله أُشمويل نبيّاً ، فلبثوا أربعين سنةً بأحسن حال ، ثمَّ كان من أمر جالوت ، والعمالقة ما كان فقالوا لأُشمويل : « ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِل » ، فقال : « هَلْ عَسَيْتُم » ؟! استفهام شكٍّ ، أي : لعلكم « إِنْ كُتِبَ » أي : فرض « عَلَيْكُمُ القِتَالُ » مع ذلك الملك ألا تفوا بما تقولون ، ولا تقاتلوا معه « قَالُوا : وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا » ، فجعلوا ذلك علَّةً قويَّة توجب التَّشديد في أمر الجهاد؛ لأنَّ من بلغ منه العدوُّ هذا المبلغ ، فالظَّاهر من أمره الاجتهاد في قمع عدوِّه ومقاتلته ، وظاهر الكلام العموم ، والمراد الخصوص؛ لأنَّ الذين قالوا لنبيِّهم : ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله؛ كانوا في ديارهم وأوطانهم ، وإنَّما أخرج من أسر منهم ، ومعنى الآية أنهم قالوا مجيبين لنبيِّهم : إنما كنا نزهد في الجهاد إذ كنا ممنوعين في بلادنا ، لا يظهر علينا عدوٌّ ، فأمَّا إذْ بلغ ذلك منَّا ، فنطيع ربَّنا في الجهاد ، ونمنع نساءنا ، وأولادنا ، { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ } : أعرضوا عن الجهاد ، وضيَّعوا أمر الله { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } - وهم الذين عبروا النَّهر مع طالوت ، واقتصروا على الغرفة كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
قيل : كان عدد هذا القليل ثلاثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدرٍ .

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)
قوله تعالى : { طَالُوتَ مَلِكاً } : « مَلِكاً » حال من « طالوت » فالعامل في الحال « بَعَثَ » . و « طالوتُ » فيه قولان :
أظهرهما : أنه اسمٌ أعجميٌّ فلذلك لم ينصرف للعلتين ، أعني : العلمية والعجمة الشَّخصية .
والثاني : أنه مشتقٌّ من الطول ، ووزنه فعلوت كرهبوت ورحموت ، وأصله طولوت ، فقلبت الواو ألفاً؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وكأن الحامل لهذا القائل بهذا القول ما روي في القصَّة أنه كان أطول رجلٍ في زمانه وبقوله « وزاده بسطة في العلم والجسم » إلا أنَّ هذا القول مردودٌ بأن لو كان مشتقاً من الطُّول ، لكان ينبغي أن ينصرف ، إذ ليس فيه إلاَّ العلمية . وقد أجابوا عن هذا بأنه وإن لم يكن أعجمياً لكنَّه شبيه بالأعجمي ، من حيث إنَّه ليس في أبينة العرب ما هو على هذه الصِّيغة ، وهذا كما قالوا في حمدون ، وسراويل ، ويعقوب ، وإسحاق عند من جعلهما من سحق وعقب وقد تقدم .
وأجاب آخرون : بأنه اسمٌ عبراني وافق عربيّاً مثل حطة وحنطة ، وعلى هذا يكون أحد سببيه العجمة؛ لكونه عبرانياً .
قوله : { أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا } في « أَنَّى » وجهان :
أحدهما : أنَّها بمعنى كيف ، وهذا هو الصَّحيح .
والثاني : أنها بمعنى من أين ، اختاره أبو البقاء ، وليس المعنى عليه . ومحلُّها النّصب على الحال ، وسيأتي الكلام في عاملها ما هو . و « يَكُونُ » فيها وجهان :
أحدهما : أنها تامَّةٌ ، و « المُلْكُ » فاعلٌ بها و « له » متعلّقٌ [ بها ، و « عَلَيْنَا » متعلقٌ ] بالملك ، تقول : « فلان مَلَك على بني فلان أمرهم » ، فتتعدى هذه المادة ب « على » ، ويجوز أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من « المُلْك » ، و « يَكُونُ » هي العاملة في « أنَّى » ، ولا يجوز أن يعمل فيها أحد الظَّرفين ، أعني « له » ، و « علينا » ؛ لأنه عاملٌ معنوي والعامل المعنويُّ لا تتقدَّم عليه الحال على المشهور .
والثاني : أنها ناقصةٌ ، و « له » الخبر ، و « علينا » متعلِّقٌ : إمَّا بما تعلَّق به هذا الخبر ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من « المُلك » كما تقدَّم ، والعامل في هذه الحال « يكون » عند من يجيز في « كَانَ » الناقصة أن تعمل في الظرف وشبهه ، وإمَّا بنفس الملك كما تقدَّم تقريره ، والعامل في « أنَّى » ما تعلَّق به الخبر أيضاً ، ويجوز أن يكون « عَلَيْنَا » هو الخبر ، و « لَهُ » نصبٌ على الحال ، والعامل فيه الاستقرار المتعلِّق به الخبر ، كما تقدَّم تقريره ، أو « يَكُونُ » عند من يجيز ذلك في الناقصة ، ولم أر من جوَّز أن تكون « أنى » في محلِّ نصب خبراً ل « يَكُونُ » بمعنى « كَيْفَ يَكُونُ المُلْكُ عَلَيْنَا لَهُ » ولو قيل به لم يمتنع معنًى ولا صناعةً .
قوله : { وَنَحْنُ أَحَقُّ } : جملةٌ حاليَّةٌ ، و « بالمُلْكُ » و « مِنْهُ » كلاهما متعلّقٌ ب « أَحَقُّ » . « ولم يُؤْتَ سَعَةً » هذه الجملة الفعلية عطفٌ على الاسميَّة قبلها ، فهي في محلِّ نصب على الحال ، ودخلت الواو على المضارع؛ لكونه منفياً و « سعةً » مفعول ثانٍ ليؤت ، والأول قام مقام الفاعل .
و « سَعَةً » وزنها « عَلَة » بحذف الفاء ، وأصلها « وُسْعَة » ، وإنما حذفت الفاء في المصدر حملاً له على المضارع ، وإنما حذفت في المضارع لوقوعها بين ياء - وهي حرف المضارعة - وكسرة مقدَّرة ، وذلك أنَّ « وَسِع » مثل « وَثِق » فحقٌّ مضارع أن يجيء على يفعل بكسر العين ، وإنما منع ذلك في « يَسَع » كون لامه حرف حلقٍ ، ففتح عين مضارعه لذلك ، وإن كان أصلها الكسر ، فمن ثم قلنا : بين ياء وكسرة [ مقدرةٍ ، والدَّليل على ذلك أنَّهم قالوا : وَجِلَ يَوْجَل فلم يحذفوها لمَّا كانت الفتحة أصلية غير عارضةً ، بخلاف فتحة « يَسَع » و « يَهَب » وبابهما .
فإن قيل : قد رأيناهم يحذفون هذه الواو ، وإن لم تقع بين ياءٍ وكسرةٍ ] ، وذلك إذا كان حرف المضارعة همزة نحو : « أَعِدُ » ، أو تاءً نحو : « تَعِد » أو نوناً نحو : « نَعِد » ، وكذلك في الأمر والمصدر نحو : : عِدْ عِدَةَ حَسَنَةً « .
فالجواب أنَّ ذلك بالحمل على المضارع مع الياء طراً للباب ، كما تقدَّم لنا في حذف همزة أفعل ، إذا صار مضارعاً لأجل همزة المتكلِّم ، ثم حمل باقي الباب عليه . وفتحت سين » السَّعة « لمَّا فتحت في المضارع لأجل حرف الحلق ، كما كسرت عين » عِدة « لمَّا كسرت في » يَعِد « إلا أنَّه يشكل على هذا : وَهَبَ يَهَبُ هِبة ، فإنهم كسروا الهاء في المصدر ، وإن كانت مفتوحة في المضارع لأجل أنَّ العين حرف حلقٍ ، فلا فرق بين » يَهَبُ « ، و » يَسَع « في كون الفتحة عارضةً والكسرة مقدرةً ، ومع ذلك فالهاء مكسورةٌ في » هِبة « ، وكان من حقِّها الفتح لفتحها في المضارع ك » سَعَة « .
و » من المال « فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلقٌ بيؤت .
والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لسعة ، أي : سَعَةً كائنةً من المال .
فصل
اعلم أنَّه تعالى لما بيَّن في الآية أنَّه لمَّا أجابهم إلى سؤالهم تولَّوا ، بيَّن في هذه الآية أنَّ أوّل تولِّيهم إنكارهم إِمْرَة طالوت ، وذلك أنَّهم لمَّا طلبوا من نبيِّهم أن يطلب من الله أن يعيِّن لهم ملكاً؛ فأجابهم بأنَّ الله قد بعث لكم طالوت ملكاً ، أظهروا التَّولي عن طاعة الله ، وأعرضوا عن حكمه ، وقالوا : » أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا « ، واستبعدوا ذلك .
قال المفسِّرون : وسبب هذا الاستبعاد : أنَّ النبوَّة كانت مخصوصةً بسبط معيَّن من أسباط بني إسرائيل ، وهم سبط لاوي بن يعقوب ، ومنه « مُوسَى وهارون » وسبط المملكة سبط « يَهُوذا » ، ومنه « دَاوُدُ ، وسُلَيْمَانُ » و « طَالُوت » لم يكن من أحد هذين السِّبطين ، بل كان من ولد « بِنْيَامِين » فلذها السَّبب؛ أنكروا كونه ملكاً عليهم ، وزعموا أنَّهم أحقُّ بالملك منه ، ثمَّ أكدوا هذه الشُّبهة بشبهة أخرى وهي قولهم : « وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ » ، أي : فقير .
قال وهبٌ : كان دبَّاغاً .
وقال السدِّيُّ : مكارياً .
وقال آخرون : كان سقَّاء ، واسمه بالعبرانية ساول بن قيس ، وكان من سبط بنيامين ابن يعقوب ، وكانوا عملوا ذنباً عظيماً ، كانوا ينكحون النِّساء على ظهر الطَّريق نهاراً ، فغضب الله عليهم ونزع الملك والنبوة عنهم وكانوا يسمون سبط الإثم ، ثمَّ إنَّ الله تعالى أجابهم عن شُبْهتهم بقوله : { إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم } .
والاصطفاء : أخذ الملك من غيره صافياً ، واصطفاه واستصفاه ، بمعنى : الاستخلاص ، وهو أخذ الشَّيء خالصاً .
وقال الزَّجَّاج : مأخوذٌ من الصَّفوة ، فأصله اصتفى بالتاء ، فأبدل التَّاء بالطَّاء ليسهل النُّطق بها بعد الصَّاد .
فصل
اعلم أنَّهم لمَّا طعنوا في استحقاقه للملك بأمرين :
أحدهما : كونه ليس من بيت المملكة .
والثاني : القدرة ، وهذان الوصفان أشدُّ مناسبة لاستحقاق الملك من الوصفين الأوَّلن لوجوه :
أحدها : أنَّ العلم ، والقدرة من باب الكمالات الحقيقيَّة ، والمال والجاه ليسا كذلك .
الثاني : أنَّ العلم ، والقدرة يمكن التَّوصُّل بهما إلى المال والجاه ، ولا ينعكس .
الثالث : أنَّ المال والجاه ، يمكن سلبهما عن الإنسان ، والعلم والقدرة ، لا يمكن سلبهما عنه .
الرابع : أنَّ العالم بأمر الحرب ، والقويّ الشَّديد على المحاربة ، ينتفع به في حفظ مصلحة الملك ، ودفع شرِّ الأعداء ، أكثر من الانتفاع بالرجل النَّسيب الغنيِّ الذي لا قدرة له على دفع الأعداء ، ولا يحفظ مصلحة الملك .
فصل
دلَّت هذه الآية على بطلان قول من يقول : إنَّ الإمامة موروثةٌ ، وذلك؛ لأنَّ بني إسرائيل لمَّا أنكروا أن يكون الملك من غير بيت المملكة؛ أسقط الله هذا الشَّرْط ، وبيَّن أنَّ المستحقَّ للملك من خصَّه الله به فقال : { والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ } ، وهذه الآية نظير قوله : { تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ } [ آل عمران : 26 ] .
فصل
والمراد بالبسطة في الجسم : الجمال ، وقيل : المراد : طول القامة . قيل : كان أطول من كل أحدٍ برأسه ، وبمنكبه . وقيل : المراد القوَّة .
قال ابن الخطيب : وهذا القول عندي أصحُّ؛ لأنَّ المنتفع به في دفع الأعداء هو القوَّة ، والشِّدة ، لا الطُّول ، والجمال .
قوله : { فِي العلم } فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه متعلِّقٌ ب « بَسْطَة » كقولك : « بَسَطْتُ لَهُ في كَذَا » .
والثاني : أنه متعلّقٌ بمحذوفً؛ لأنه صفةٌ ل « بَسْطَة » ، أي : بَسْطَة مستقرةً أو كائنة .
قوله : { والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ } .
قال بعض المفسِّرين : هذا من كلام الله تعالى لمحمّدٍ - عليه الصَّلاة والسَّلام - ، والمشهور : أنَّه من قول أشمويل ، قال لهم ذلك ، لمَّا علم من تعنتهم وجدالهم في الحجج ، فأراد أن يتمِّم كلامه بالقطعي ، الذي لا اعتراض عليه فقال : { والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ } ، وأضاف ملك الدُّنيا إلى الله إضافة مملوكٍ إلى ملكٍ .
قوله : { والله وَاسِعٌ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه على النسب ، أي : ذو سعة رحمة ، كقولهم : لابنٌ ، وتامرٌ ، أي : صاحب تمرٍ ولبنٍ .
والثاني : أنَّه جاء على حذف الزوائد من أوسع ، وأصله مُوسِعٌ . وهذه العبارة إنَّما يتداولها النَّحويون في المصادر فيقولون : مصدرٌ على حذف الزوائد .
والثالث : أنه اسمُ فاعلٍ من « وَسِع » ثلاثياً؛ قال أبو البقاء : « فالتَّقدير على هذا : واسع الحِلم؛ لأنَّك تقول وسع حلمه » .
فصل في تفسير قوله { وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
في قوله : { وَاسِعٌ عَلِيمٌ } ثلاثة أقوال :
أحدها : أنَّه واسع الفضل ، والرَّزق ، والرَّحمة ، وسعت رحمته كلَّ شيءٍ ، والتَّقدير : أنتم طعنتم في طالوت ، لكونه فقيراً ، فالله تعالى واسع الفضل ، يفتح عليه أبواب الرِّزق ، والسَّعة ، كما في المال؛ لأنه فوّض إليه الملك ، والملك لا يتمشَّى إلاَّ بالمال .
والثاني ، والثالث : ما تقدَّم في الإعراب آنفاً من كونه بمعنى : « مُوسِعٌ » وذو سعة ، والعليم العالم وقيل : العالم بما كان ، والعليم بما يكون .

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)
اعلم أنَّه لما أخبرهم نبيهم : بأنَّ الله تعالى ، بعث لهم طالوت ملكاً ، وأبطل حجَّتهم قالوا : « فَمَا آيَةُ مُلْكِهِ؟ قال : { أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت } .
قوله تعالى : { أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت } : » أَنْ « ، وما في حيِّزها في محلِّ رفع خبرٍ ل » إِنَّ « تقديره : إنَّ علامة ملكه إيتاؤكم التَّابوت .
وفي » التَّابوتِ « ، قولان :
أحدهما : أنه فاعولٌ ، ولا يعرف له اشتقاقٌ ، ومنع قائل هذا أن يكون وزنه فعلوتاً مشتقاً من تاب يتوب كملكوت من الملك ورهبوت من الرُّهب ، قال : لأنَّ المعنى لا يساعد على ذلك .
الثاني : أن وزنه فعلوت كملكوت ، وجعله مشتقاً من التَّوب وهو الرُّجوع ، وجعل معناه صحيحاً فيه ، لأنَّ التَّابوت هو الصُّندوق الذي توضع فيه الأشياء ، فيرجع إليه صاحبه عند احتياجه إليه ، فقد جعلنا فيه معنى الرجوع .
والمشهور أن يوقف على تائه بتاءٍ من غير إبدالها هاءً؛ لأنَّها إمَّا أصلٌ إن كان وزنه فاعولاً ، وإمَّا زائدةٌ لغير التَّأنيث كملكوت ، ومنهم من يقلبها هاءً ، وقد قرئ بها شاذّاً ، قرأها أُبيّ ، وزيد بن ثابت ، وهي لغة الأنصار ، ويحكى أنهم لمَّا كتبوا المصاحف زمن عثمان - رضي الله عنه - احتلفوا فيه فقال زيد : » بالهَاءِ « ، وقال : [ أُبَيّ : ] » بالتَّاءِ « ، فجاءوا عثمان فقال : » اكْتبوه على لغة قريش « يعني بالتَّاءِ .
وهذه الهاء هل هي أصل بنفسها ، فيكون فيه لغتان ، ووزنه على هذا فاعول ليس إلاَّ ، أو بدلٌ من التَّاء؛ لأنها قريبةٌ منها لاجتماعهما في الهمس ، أو إجراءٌ لها مجرى تاء التَّأنيث؟ قال الزَّمخشريُّ : » فإنْ قلت : ما وزنُ التابوت؟ قلت : لا يَخْلو أن يَكُونَ فَعَلوتاً ، أو فاعُولاً ، فلا يَكُونُ فاعُولاً لقلته نحو سَلِسٌ وقَلِقٌ « يعني : في الأوزان العربيَّة ، ولا يجوز ترك المعروف [ إليه ] فهو إذاً فعلوت من التَّوب وهو الرُّجوع؛ لأنَّه ظرفٌ تودع فيه الأشياء ، فيرجع إليه كلَّ وقتٍ .
وأمَّا من قرأ بالهاء فهو فاعول عنده ، إلاَّ من يجعل هاءه بدلاً من التَّاء لاجتماعهما في الهمس ، ولأنَّهما من حروف الزِّيادة ، ولذلك أُبدلت من تاء التَّأنيث .
قوله : { فِيهِ سَكِينَةٌ } يجوز أن يكون » فيه « وحده حالاً من التَّابوت ، فيتعلَّق بمحذوفٍ ، ويرتفع » سَكِينَة « بالفاعليَّة ، والعامل فيه الاستقرار ، والحال هنا من قبيل المفردات ، ويجوز أن يكون » فيه « خبراً مقدّماً ، و » سكينةٌ « مبتدأ مؤخراً ، والجملة في محلِّ نصب على الحال ، والحال هنا من قبيل الجمل ، و » سكينةٌ « فعيلة من السكون ، وهو الوقار . أي هو سبب سكون قلوبكم ، فيما اختلفتم فيه من أمر طالوت ، ونظيره { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } [ التوبة : 40 ] قيل : كان التَّابوت سبب سكون قلوبهم ، فأينما كانوا سكنوا إليه ، ولم يفرّوا عن التَّابوت ، إذا كان معهم في الحرب .
وقرأ أبو السَّمَّال بتشديد الكاف ، قال الزَّمخشريُّ : « وَهُوَ غريبٌ » .
قوله : { مِّن رَّبِّكُمْ } يجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه صفةٌ ل « سَكِينَة » ، ومحلُّه الرَّفع . ويجوز أن يتعلَّق بما تعلَّق به « فيه » من الاستقرار . و « مِنْ » يجوز أن تكون لابتداء الغاية ، وأن تكون للتبعيض . وثمَّ مضافٌ محذوفٌ ، أي : من سكينات ربكم .
فصل
اعلم أنَّ مجيء التَّابوت لا بدَّ وأن يكون على وجهٍ خارقٍ للعادة؛ حتى يصح كونه آية من عند الله دالَّة على صدق تلك الدَّعوة ، وذلك يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون المعجز نفس التَّابوت .
قال أصحاب الأخبار : إنَّ الله تعالى ، أنزل على آدم تابوتاً فيه صور الأنبياء من أولاده ، وكان من عود من الشمشار نحواً من ثلاثة أذرع في ذراعين ، فكان عند آدم إلى أن مات فتوارثه أولاده إلى أن وصل إلى يعقوب ، ثم بقي في أيدي بني إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - ، فكان موسى يضع فيه التوراة ومتاعاً من متاعه ، وكان عنده إلى أن مات ، ثمَّ تداولته أنبياء بني إسرائيل ، وكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلَّم ، وحكم بينهم ، وإذا حضروا القتال قدَّموه بين أيديهم ، ليستفتحوا على عدوِّهم ، وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر ، ثمَّ يقاتلون العدوَّ ، فإذا سمعوا من التَّابوت صيحةً؛ استيقنوا النَّصر ، فلمَّا عصوا ، وفسدوا سلَّط الله عليهم العمالقة ، فغلبوهم على التَّابوت وسلبوه ، فلمَّا سألوا نبيَّهم على ملك طالوت؛ قال لهم النَّبيُّ : « إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ » أنكم تجدون التَّابوت في داره ، ثمَّ إنَّ الكفَّار حين سلبوا التَّابوت؛ جعلوه في موضع البول والغائط ، فدعا نبيُّ ذلك الوقت عليهم ، فسلَّط الله عليهم البلاء حتى كل من بال ، أو تغوّط ابتلاه الله بالبواسير ، فعلم الكفَّار أن ذلك سبب استخفافهم بالتَّابوت ، فأخرجوه ووضعوه على ثورين ، فأقبل الثَّوران يسيران ، ووكل الله بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما ، حتى أتوا منزل طالوت ، ثمَّ إنَّ قوم ذلك النَّبيّ رأوا التَّابوت عند طالوت ، فعلموا أنَّ ذلك دليل على كونه ملكاً لهم .
وقيل : إنَّ التَّابوت صندوقٌ كان موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - يضع التوراة فيه ، وكان من خشب يعرفونه ، ثم إنَّ الله - تعالى - رفعه لمّا قبض موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - لسخطه على بني إسرائيل ، ثمَّ قال نبيُّ أولئك القوم : إنّ آية ملك طالوت أن يأتيكم التَّابوت من السَّماء ، والملائكة يحفظونه ، والقوم كانوا ينظرون إليه؛ حتَّى نزل عند طالوت ، وهذا قول ابن عباسٍ - رضي الله عنه - ، وأضيف الحمل إلى الملائكة في القولين ، لأنَّ من حفظ شيئاً في « الطَّريق؛ جاز أن يوصف بأنه حمل ذلك الشيء ، وإن لم يحمله ، كقول القائل : حملت الأمتعة إلى زيدٍ ، إذا حفظها في الطَّريق ، وإن كان الحامل غيره .
الثاني : ألا يكون التَّابوت معجزاً ، بل يكون المعجز فيه بأن يشاهدوا التَّابوت خالياً ، ثمَّ إنَّ ذلك النَّبيّ يضعه بمحضرٍ من القوم في بيتٍ ، ويغلقون البيت عليه ، ثمَّ يدعي ذلك النَّبي أنَّ الله تعالى يخلق فيه ما يدلُّ على ما وصفنا ، فإن فتحوا باب البيت ، ونظروا في التَّابوت؛ رأوا فيه كتاباً يدلُّ على أنَّ ملكهم هو طالوت ، وأنَّ الله ينصرهم على عدوِّهم ، فهذا يكون معجزاً قاطعاً دالاً على أنَّه من عند الله ، ولفظ القرآن محتملٌ للوجهين .
فصل في المراد بالسكينة
اختلفوا في السَّكينة : قال عليٌّ - رضي الله عنه - : هي ريحٌ تخرج ، أي : شديدة هفَّافةٌ لها رأسان ، ووجه كوجه الإنسان .
وقال ابن عبَّاسٍ ، ومجاهدٌ : هي صورةٌ من زبرجدٍ وياقوت لها رأسٌ كرأس الهِرّ وذنبٌ كذنبه ، ولها جناحان ، وقيل : لها عينان لهما شعاعٌ ، وكانوا إذا سمعوا صوتها تيقنوا بالنَّصر ، وكانوا إذا خرجوا ، وضعوا التَّابوت قدَّامهم ، فإذا سار ساروا ، وإذا وقف وقفوا .
وعن ابن عبَّاس : هي طستٌ من ذهب من الجنَّة؛ كان يغسل فيها قلوب الأنبياء .
وقال أبو مسلم : كان في التَّابوت بشارات من كتب الله المنزَّلة على موسى وهارون - عليهما الصَّلاة والسَّلام - ومن بعدهما من الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام بأن الله تعالى ينصر طالوت ، وجنوده ، ويزيد خوف العدوّ عنهم .
وعن وهب بن منبّه قال : هي روحٌ من الله تتكلَّم إذا اختلفوا إلى شيءٍ من أمورهم تخبرهم ببيان ما يريدون . وقال أبو بكر الأصمٌّ : معنى السَّكينة؛ أي : تسكنون عند مجيئه وتقرون له بالملك ، وتزول نفرتكم عنه؛ لأنه متى جاءهم التَّابوت من السَّماء ، وشاهدوا تلك الحالة ، فلا بد وأن تسكن قلوبهم إليه وتزول نفرتهم .
وقال قتادة ، والكلبيُّ : السَّكينة فعيلة من السّكون ، أي : طمأنينة من ربكم ، ففي أي مكان كان التَّابوت اطمأنوا إليه وسكنوا .
قوله : { وَبَقِيَّةٌ } وزنها فعيلة والأصل : بَقِيْبَة بياءين ، الأولى زائدة ، والثانية لام الكلمة ، ثم أُدغم ، ولا يستدلُّ على أنَّ لام « بَقِيَّة » ياء بقولهم : « بَقِيَ » في الماضي ، لأنَّ الواو إذا انكسر ما قبلها قلبت ياء ، ألا ترى أنَّ « رَضِي » و « شَقِيَ » أصلهما من الواو : الشِّقْوَة والرِّضوان .
و « مِمَّا تَرَكَ » في محلِّ رفعٍ؛ لأنه صفةٌ ل « بَقِيَّة » فيتعلَّق بمحذوفٍ ، أي : بقيةٌ كائنةٌ . و « مِنْ » للتَّبعيض ، أي : من بقيَّات ربِّكم ، و « مَا » موصولةٌ اسميَّةٌ ، ولا تكون نكرةً ولا مصدريةً .
و « آل » تقدم الكلام فيه ، وقي : هو هنا زائدٌ؛ كقوله : [ الطويل ]
1162- بُثَيْنَةُ مِنْ آلِ النِّسَاءِ وَإِنَّمَا ... يَكُنَّ لِوَصْلٍ لاَ وِصَالَ لِغَائِبِ
يريد « بُثَيْنَةُ » من النساء .
قال الزَّمخشريُّ : وَيَجُوزُ أن يريد : ممَّا تَرَكَ موسى وهارون ، والآلُ مقحمٌ لتفخيم شأنهما ، أي زائدٌ للتعظيم ، واستشكل أبو حيان كيفيَّة إفادة التَّفخيم بزيادة الآل . و « هَارُون » أعجميٌّ . قيل : لم يرد في شيءٍ من لغة العرب ، قاله الراغب ، أي : لم ترد مادته في لغتهم .
فصل في المقصود بالبقية
اختلفوا في البقية ، فقيل : { مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ } من الدِّين ، والشَّريعة ، والمعنى : أنَّ بسبب هذا التَّابُوت ينتظمُ ما بَقِيَ من دينهما ، وشريعتهما .
وقيل : كان فيه لوحان من التَّوراة ، ورضاض الألواح الَّتي تكسَّرت ، وعصا موسى ونعلاهُ ، وثيابه ، وعمامة هارون وعصاه ، وقفيزٌ من المنّ الذي كان ينزلُ على بني إسرائيل ، واختلفوا في الآلِ على قولين :
أحدهما : المراد موسى ، وهارون نفسهما كقوله - عليه الصلاة والسلام - لأبي موسى الأَشعريّ : « لَقَدْ أُوتِيَ هذا مِزْماراً مِنْ مَزَامِير آل داوُدَ » وأراد به داود نفسه؛ لأنه لم يكُن لأحد من آلِ داوُدَ من الصَّوتِ الحسن مثل ما كان لداود .
الثاني : قال القفَّال : إنَّما أضيف ذلك إلى آل موسى وآل هارون؛ لأَنَّ ذلك التَّابوت تداولته القُرُونُ بعدهما إلى وقتِ طالُوت ، وما في التَّابُوت توارثه العلماء عن أتباع موسى وهارون ، فيكون الآل : هم الأتباع قال تعالى : { أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب } [ غافر : 46 ] .
قوله : { تَحْمِلُهُ الملاائكة } هذه الجملةُ تحتمِلُ أن يكونَ لها محلٌّ من الإِعرابِ على أنها حالٌ من التَّابُوت أي : محمولاً للملائكةِ وألاَّ يكونَ لها محلٌّ لأنها مستأنفةٌ ، إِذْ هي جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ كأنه قيل : كيف يأتي؟ فقيل : تحمِلُهُ الملائكةُ .
وقرأ مجاهد « يَحْمِلُه » بالياءِ من أسفلِ؛ لأنَّ الفِعْل مُسْنَدٌ لجمعِ تكسيرٍ ، فيجوزُ في فعله الوجهان . و « ذلك » مشارٌ به قيل : إلى التَّابوت . وقيل : إلى إتيانه ، وهو الأَحسنُ ليناسِبَ آخرُ الآيةِ أولها [ و « إِنْ » ] الأظْهَرُ فيها [ أنها ] على بابها من كونِها شرطيةً وجوابُها محذوفٌ . وقيل : هي بمعنى « إذ » فإنّ هذه الآية معجزة باهِرَة للمؤمنين .
قال ابن عبَّاسٍ : إِنَّا التَّابُوت ، وعصا موسى في بحيرة طبرية وإنهما يخرجان قبل يوم القيامة .
مِنَ النَّاسِ من قال : إن طالُوتَ كان نبيّاً؛ لأن اللهَ تعالى أظهر المعجزة على يديه ، ومن كان كذلك كان نبيّاً .
فإن قيل : هذه من باب الكرامات ، قلنا : الفَرْقٌ بين الكرامةِ والمُعجزة : أنَّ الكرامة لا تكون على سبب التَّحَدِّي؛ فتكون معجزةً ، وقد يُجابُ بأن ذلك معجزةٌ لنبيّ ذلك الزّمان وأنه آية قاطِعَةٌ في ثبوت ملك طَالُوتَ .

فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
[ قوله تعالى : « فَصَلَ » : أي : انْفَصَلَ ، فلذلك كان قاصِراً . وقيل إِنَّ أصلَه التَّعدِّي إلى مفعولٍ ولكن حُذِفَ ، والتقديرُ : فَصَلَ نفسه ثم إن هذا المفعول حذف حتى صار الفعلُ كالقاصِرِ .
و { بالجنود } متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من « طَالُوت » أي مصاحباً لهم ] . وبين جملةِ قوله : « فلمَّا فَصَلَ » وبين ما قبلَها من الجملِ جُمل محذوفةٌ يَدُلُّ عليها فحوى الكلامِ وقوتُه ، تقديرُهُ : فلما أتاهم بالتَّابُوت أذعنوا له وأجابوا فَمَلَّكُوا طالوتَ ، وتأهَّبوا للخروجِ ، وهي كقوله : { فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق } [ يوسف : 45 ، 46 ] . ومعنى الفصل : القَطْعُ .
يقال : فصلت اللَّحْمَ عن العَظم فَصْلاً ، وفاصل الرَّجُل شريكهُ وامرأته فصالاً . ويُقالُ للفطام فِصالٌ؛ لأَنَّه يقطعُ عن الرَّضاع وفصل عن المكان قطعه بالمجاوزة عنه ، قال تعالى : { وَلَمَّا فَصَلَتِ العير } [ يوسف : 94 ] والجنود جمع جُنْدٍ ، وكل صنف من الخلق جُنْدٌ على حدةٍ ، يقال للجراد الكثيرة : إنَّها جنود اللهِ ، ومنه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام : « الأَرْوَاح جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ » .
فصل
روي أنَّ طَالُوت خرج من بيت المقدس بالجنود ، وهم يومئذٍ سبعون ألفاً ، وقيل : ثمانُون ألف مُقاتل ، وذلك أَنَّهُم لمَّا رأَوا التَّابُوت لم يشكوا في النَّصْر ، فساروا إلى الجهاد ، فقال طالُوتُ : لا حاجة لي في كُلِّ ما أَرى ، لا يخرجُ معي رجُلٌ بنى بيتاً لم يفرغ منه ، ولا تاجِرٌ مشتغلٌ بالتِّجارة ، ولا مَنْ تزوّج امرأة لم يبنِ بها ، ولا يتبعني إلا الشاب النّشيط الفارغ ، فاجتمع إليه مما اختار ثَمَانُون ألفاً ، وكان في حَرٍّ شديد ، فشكوا قلَّة الماءِ بينهم ، وبين عدوِّهم وقالوا : إِنَّ المياه قليلة لا تحملنا ، فادعُ اللهَ أن يجري لنا نهراً فقال : { إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ } ، واختلفوا في هذا القائل ، فقال الأكثرون هو طالوت؛ لأنَّهُ المذكور السَّابِقُ ، وعلى هذا ، فإِنَّه لم يقلهُ عن نفسه ، فلا بُدَّ وأن يكُون عن وحي أَتَاهُ عن رَبِّهِ وذلك يقتضي أَنَّه كان مع الملك نبيٌّ ، وقيل : القائِلُ هو النَّبِيُّ المذكور في أول القِصَّةِ ، وهو أشمويل عليه الصَّلاة والسَّلام ، وعلى هذا التَّقدير إن قلنا : هذا الكلامُ من طالُوت ، فيكون تحمَّلَهُ عن ذلك النَّبي ، وحينئذٍ لا يكون طالُوت نبيّاً ، وإن قلنا : الكلام من النَّبيّ فتقديره : فَلَمَّا فصل طالُوت بالجنود قال لهم نبيهم : إن اللهَ مبتليكم بنهرٍ ، وفي هذا الابتلاء وجهان :
الأول : قال القاضي : كان المشهورُ من أمر بني إسرائيل مخالفة الأنبياء ، والملوك مع ظهور الآيات ، والمعجزات ، فأراد اللهُ تعالى إظهار علامة قبل لقاء العدوّ يتميز بها الصَّابِرُ على الحرب من غيره .
الثاني : أَنَّهُ تعالى ابتلاهم ليتعوَّدُوا الصَّبر على الشَّدائد والابتلاء الامتحان وفيه لغتان من « بَلاَ يَبْلُو » و « ابْتَلَى يَبْتَلِي » ؛ قال : [ الكامل ]
1163- وَلَقَدْ بَلَوْتُكَ وَابْتَلَيْتُ خَلِيفَتِي ... وَلَقَدْ كَفَاكَ مَوَدَّتِي بِتَأَدُّبِ
فجاء باللُّغتين ، وأصلُ الياءِ في مبتليكم واوٌ لأَنَّهُ من بلا يبلُو؛ وابتلى يَبْتَلِي ، أي : اختبر ، وإِنَّما قلبت لانكِسَارِ ما قبلها .
قوله { بِنَهَرٍ } الجمهورُ على قراءتَه بفتح الهاء وهي اللَّغة الفصيحةُ ، وفيه لغةٌ أخرى : تسكينُ الهاءِ ، وبها قرأ مجاهد وأبو السَّمَّال في جميع القرآن وكلُّ ثلاثي حشوه حرف حلق ، فإِنّهُ يجيء على هذين الوجهين؛ كقوله : صَخَرَ وَصَخْر وشَعَر وشَعْر وَبَحَر وَبَحْر؛ قال : [ البسيط ]
1164- كَأَنَّمَا خُلِقَتْ كَفَّاهُ مِن حَجَرٍ ... فَلَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالنِّى عَمَلُ
يَرَى التَّيَمُّمَ فِي بَرٍّ وفي بَحَرٍ ... مَخَافَةَ أَنْ يُرَى فِي كَفِّهِ بَلَلُ
وتقدم اشتقاقُ هذه اللَّفظة عند قوله تعالى : { مِن تَحْتِهَا الأنهار } [ البقرة : 25 ] .
قوله : { فَلَيْسَ مِنِّي } ، أي : من أَشياعي وأصحابي ، و « مِنْ » للتَّبعيض؛ كأنه يجعلُ أصحابَه بعضه؛ ومثله قول النَّابغة : [ الوافر ]
1165- إِذَا حَاوَلْتَ فِي أَسَدٍ فُجُوراً ... فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي
ومعنى يَطْعَمْهُ : يَذُقْهُ؛ تقولُ العربُ : « طَمِعْتُ الشَّيْءَ » أي : ذُقْتُ طَعْمَهُ؛ قال : [ الطويل ]
1166- فَإِنْ شِئْتَ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ ... وَإِنْ شِئْتَ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخاً وَلاَ بَرْدَا
والنقاخ : الماءُ العذبُ المروِي ، والبردُ : هو النَّومُ .
فصل
قال أهلُ اللُّغة : وإِنَّما اختير هذا اللَّفظُ لوجهين :
أحدهما : أَنَّ الإِنسانَ إذا عطش جدّاً ، ثم شربَ الماء ، وأراد وصف ذلك الماء ، فإِنَّهُ يصفُهُ بالطُّعُومِ اللَّذِيذة ، فقوله : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } ، أي : وَإِنْ بلغ به العطشُ إلى حيث يكون الماءُ في فَمِهِ موصوفاً بالطُّعوم الطَّيِّبة؛ فإنه يجب عليه الاحتراز عنه ، وألا يشرب .
الثاني : أَنَّ مَنْ جعل الماءَ في فمه ، وتمضمض به ، ثم أخرجه فإنّه يصدق عليه أَنَّهُ ذاقه وطعمه ، ولا يصدُق عليه أَنَّه شربه ، فلو قال : ومن لم يشربه فإِنَّهُ مني ، كان المنعُ مقصوراً على الشّرب . فلما قال : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } حصل المنعُ في الشُّربِ ، والمضمضة ، ومعلومٌ أَنَّ هذا التَّكليف أَشَقُّ ، فإِنَّ الممنُوع من الشُّربِ ، إِذَا تَمَضْمضَ بالماءِ وجد نوع خِفَّةٍ وراحةٍ .
فإن قيل : هَلاَّ قيل : « وَمَنْ لَمْ يَطْْعَمْ مِنْهُ » ليكون آخر الآية مُطابقاً لأَوَّلها؟
فالجواب : إِنَّما اختير ذلك لفائدة وهي أَنَّ الفُقهاء اختلفوا في أَنَّ مَنْ حَلَفَ ألاَّ يشرب مِنَ هذا النَّهرِ . قال أبو حنيفة : لا يحنثُ إلا إِذَا كرع منهُ؛ حتى لو اغترف بكوزٍ من النَّهرِ ، وشرب لا يحنث؛ لأَنَّ الشُّرب من الشَّيء هو : أَنْ يكُونَ ابتداء شُربِهِ مُتَّصلاً بذلك الشَّيء ، وهذا لا يحصل إِلاَّ بالشُّرب مِنَ النَّهر .
وقال الباقون : يحنثُ بالشُّرب مِنَ الكُوزِ ، إذا اغترف به مِنَ النَّهر؛ لأَنَّ هذا وَإِنْ كان مجازاً ، فهو مجازٌ معروفٌ ، وإذا تقرَّر هذا فقوله : { مَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } ظاهره : أَنَّ النَّهْيَ مقصورٌ على الشُّرب من النَّهْرِ ، حتّى لو اغترف بكُوزٍ ، وشرب ، لا يكُونُ داخلاً تحت النَّهي فلما كان هذا الاحتمالُ قائِماً في اللَّفظ الأَوَّل ذكر في اللَّفظ الثَّاني ما يزيلُ هذا الاحتمال ، فقال : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني } أضاف الطَّعم والشّرب إلى الماء لا إلى النهر إزالة لذلك الاحتمال .
فصل
قال ابنُ عبَّاس ، والسُّدِّيُّ : إِنَّه نهر فلسطين ، وقال قتادة والرَّبيع : هو نهرٌ بين الأُردن وفلسطين قال القاضي : والتوفيقُ بين القولين : أَنَّ النَّهر المُمتد من بلدٍ إلى بلدٍ قد يُضافُ إلى أحد البلدين . وروى الزَّمخشريُّ أَنَّ الوقت كان قيظاً ، فسلكوا مفازةً فسألوا أَنْ يجري اللهُ لهم نهراً ، فقال : إِنَّ اللهَ مبتليكم بما اقترحتُمُوهُ مِنَ النَّهرِ .
قوله : { إِلاَّ مَنِ اغترف } منصوبٌ على الاستثناء ، وفي المُستَثنى منه وجهان :
الصَّحيح أَنَّهُ الجملةُ الأولى ، وهي : { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } ، والجملةُ الثانيةُ معترِضةٌ بين المُستَثنى والمُستَثنى مِنْهُ وأصلُها التَّأخيرِ ، وإِنَّما قُدِّمَتْ ، لأنها تَدلُّ عليها الأولى بطريقِ المفهوم ، فإنَّه لمَّا قال تعالى : { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } ، فُهِمَ منه أَنَّ من لم يشرب فإنَّه منه ، فَلَمَّا كانت مدلولاً عليها بالمفهوم ، صارَ الفصلُ بها كلا فصلٍ .
وقال الزمخشريُّ : والجُمْلَةُ الثَّانيةُ في حُكم المُتَأَخِّرة ، إلاَّ أَنَّها قُدِّمَتْ للعناية ، كما قُدِّمَتْ للعناية ، كما قُدِّمَ « والصَّابِئُونَ » في قوله : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئون } [ المائدة : 69 ] .
والثاني : أَنَّهُ مستثنى من الجملة الثَّانية ، وإليه ذهب أبو البقاء . قال شهاب الدين : وهذا غيرُ سديدٍ لأنه يؤدِّي إلى أَنَّ المعنى : ومَنْ لم يطعمْه فإِنَّهُ مِنِّي ، إلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرفة بيده؛ فإنه ليس مني ، لأَنَّ الاسْتثناء من النَّفْي إثباتٌ ، ومن الإِثبات نفيٌ ، كما هو الصَّحيحُ ، ولكن هذا فاسدٌ في المعنى؛ لأنهم مفسوحٌ لهم في الاغترافِ غرفةً واحدةً .
والاستثناءُ إذا تعقَّبَ الجُمَلَ ، وصلح عَوْدُهُ على كلٍّ منها هل يختصُّ بالأخيرة ، أم لا؟
خلافٌ مشهورٌ ، فإنْ دلَّ دليلٌ على اختصاصِهِ بإحدى الجُمَلِ عمِلَ به ، والآيةُ من هذا القبيل ، فإنَّ المعنى يعودُ إلى عودِهِ إلى الجُملة الأولى ، لا الثَّانية لِمَا قَرَّرْنَاهُ .
وقرأ الحرمِيَّان وأبو عمرو : « غَرْفَة » بفتح الغين وكذلك يعقوب وخلفٌ . والباقون بضمها . فقيل : هما بمعنى المصدر ، إلاَّ أنهما جاءا على غير الصَّدر كنبات من أَنْبَتَ ، وَلَوْ جاءَ على الصَّدر لقيل : اغترافاً . وقيل : هما بمعنى المُغْتَرف كالأَكل بمعنى المأكولِ . وقيل : المَفْتُوح مصدرٌ قُصِدَ به الدَّلالة على الوحدةِ ، فإنَّ « فَعْلَة » يدُلُّ على المَرَّة الواحدة ، ومثله الأكلة يقال فلان يأكل بالنهار أكلة واحدة والمضمُومُ بمعنى المفعول ، فحيثُ جعلتهما مَصْدراً فالمفعولُ [ محذوفٌ ، تقديره : إلاَّ مَن اغترف ماءً ، وحيثُ جعلتهما بمعنى المفعول ] كانا مفعولاً به ، فَلا يُحتاج إلى تقديرِ مَفْعُولٍ .
ويدل على الشَّيء الَّذي يحصُلُ بالكَفِّ كاللُّقمة والحُسْوة والخُطوةِ بالضم ، والحُزَّة القطعة اليسيرة من اللحم . قال القرطبيُّ : وقال بعضهم : الغرقة بالكَفّ الواحد ، والغُرفة بالكفين .
وقال المبرِّدُ « غَرْفَةً » بالفتح مصدر يقعُ على قليل ما في يده وكثيره وبالضَّمِّ اسم ملء الكف ، أو ما اغترف به ، فحيثُ جعلتهما مصدراً ، فالمفعولُ محذوفٌ تقديره : إِلاَّ من اغترف ماءً ، وحيثُ جعلتهما بمعنى المفعول كان مفعولاً به ، فلا يحتاجُ إلى تقديره مفعولٍ ونُقِلَ عن أبي علي أَنَّهُ كان يُرَجِّح قراءة الضَّمِّ؛ لأَنَّه في قراءةِ الفتح يجعلها مصدراً ، والمصدرُ لا يوافق الفعل في بنائِهِ ، إِنَّما جاءَ على حذفِ الزوائد وجعلُها بمعنى المفعول لا يحوج إلى ذلك فكان أرجح .
قوله : { بِيَدِهِ } يجوزُ أن يتعلَّق ب « اغْتَرَفَ » وهو الظَّاهر . ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه نعتٌ ل « غُرْفَة » ، وهذا على قولنا : بأن « غُرْفَة » ، بمعنى المفعول أَظْهر منه على قولنا : بأنها مَصْدَرٌ ، فإنَّ الظَّاهِرَ من الباء على هذا أن تكون ظرفيَّةٌ ، أي : غُرفةً كائِنَةً في يده .
فصل
قال ابن عباس : كانت الغرْفَةَ تَشْرَبُ منها هو ، ودوابُّهُ ، وخدمه ، ويحمل منها . قال ابن الخطيب : وهذا يحتملُ وجهين :
أحدهما : أَنَّهُ كان مَأْذوناً له أَنْ يأخذ من الماء ما شاء مرَّةً واحِدَةً بغرفةٍ واحدةٍ بحيثُ كان المأْخُوذُ من المرَّةِ الواحدة يكفيه ، ودوابُّهُ ، وخدمه ، ويحمل باقيه .
والثاني : أَنَّهُ كان يأخذُ القليل فيجعل اللهُ فيه البركة حتَّى يكفِي كُلَّ هؤلاء؛ فتكون معجزة لنبيّ ذلك الزَّمان كما أَنَّهُ تعالى كان يَروِي الخلق العظيم من الماءِ القليل في زمن محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - .
فصل
قال القرطبي : قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني } يدلُّ على أَنَّ الماء طعامٌ ، فإذا كان طعاماً ، كان قُوتاً للأَبدان به ، فوجب أن يجري فيه الرِّبا .
قال ابن العربيّ وهو الصَّحيح من المذهب ، ورَوَى أبو عمر عن مالكٍ قال : لا بأس ببيع الماء بالماءِ متفاضلاً ، وإلى أجلٍ ، وهو قول أَبي حنيفة ، وأبي يوسف وقال محمَّد بن الحسن : هو مِمَّا يُكال ويوزن فعلى هذا لا يجُوزُ عندهُ التفاضل .
فصل
قال ابن العربيِّ : قال أبو حنيفة : إذا قال الرَّجُلُ إذا شرب عبدي من الفراتِ فهو حرّ ، فلا يُعتق إِلاَّ أَنْ يكرع فيه ، والكرعُ : أَنْ يشرب الرَّجُلُ بفيه مِنَ النَّهر ، فَإِنْ شرب بيده ، أو اغترف منه بإِناءٍ ، لم يعتق ، لأنَّ اللهَ - تعالى - فرَّق بين الكرع في النَّهر ، وبين الشّرب باليدِ . قال : وهذا فاسِدٌ لأَنَّ شُرب الماء يُطلق على كُلِّ هيئةٍ وصفةٍ في لسان العرب من غرف باليد ، أو كرع بالفم انطلاقاً واحداً .
قال القرطبي : وقول أبي حنيفة أصحّ؛ لأَنَّ أهل اللُّغة فرَّقوا بينهما ، كما فرَّق الكتابُ والسُّنَّةُ .
قال الجوهريُّ وغيره : كرع من الماء كروعاً : إذا تناوله بفيه من موضعه ، من غير أَنْ يشرب بكفيه ، أو بإناءٍ ، وفيه لغة أخرى « كرعَ » بكسر الرَّاء كَرَعاً .
وَأَمَّا السُّنَّة ، فما رُويَ عن ابن عمر قال : مررنا على بِرْكةٍ ، فجعلنا نكرعُ فيها فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : « لاَ تَكْرَعُوا وَلَكِن اغْسِلُوا أَيْدِيكُمْ ثُمَّ اشْرَبُوا فيها ، فَإِنَّها ليس إِناءٌ بأَطيب مِنَ اليَدِ »
وقال عليه الصلاة والسلام : « مَنْ شَرِبَ بيَدِهِ وَهُوَ يَقْدِرُ على إِناءٍ يُريدُ بِهِ التَّواضُع كَتَبَ اللهُ بِعَدَدِ أَصَابِعِهِ حَسَنَاتٍ وهو إِناء عيسى ابن مريم - عليه الصلاة والسّلام - إذا اطَّرَح القدح فقال أَفّ هذا مع الدّنيا » أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر .
قوله : { فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً } هذه القراءةُ المشهورةُ ، وقرأ عبدالله ، وأُبَيّ والأعمش « إِلاَّ قَليلٌ » وتأويله أنّ هذا الكلام وإِنْ كان موجباً لفظاً فهو منفيّ معنى ، فإنه في قُوَّة : لم يُطيعوه إلا قليلٌ منهم ، فلذلك جعلهُ تابعاً لِمَا قبلهُ في الإِعْرابِ . قال الزَّمخشريُّ : وهذا مِنْ مَيْلِهم مع المعنى والإِعراضِ عن اللَّفظ جانباً ، وهو بابٌ جليلٌ من عِلْم العربيةِ ، فلمَّا كان معنى « فَشَرِبُوا مِنْهُ » في معنى « فلم يُطِيعوه » حمل عليه ، ونحوه قول الفرزدق : « لم يَدَعْ مِنَ المَالِ إِلاَّ مُسْحَتاً أو مُجَلَّفُ » يشير إلى قوله : [ الطويل ]
1167- وَعَضُّ زَمَانٍ يَا بْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ ... مِنَ المَالِ إِلاَّ مُسْحَتاً أَوْ مُجَلَّفُ
فإنَّ معنى « لَمْ يَدَعْ مِنَ المَالِ إِلاَّ مُسْحَتاً » لم يبقَ من المالِ إِلاَّ مُسْحَتٌ ، فلذلك عطف عليه « مُجَلَّفُ » بالرَّفع مُراعاة للمعنى المذكور . وفي البيت وجهان آخران ، أحدهما . .
ولا بُدَّ من ذكر هذه المسألة لعموم فائدتها فأقول : إذا وقع في كلامهم استثناءٌ موجبٌ نحو : « قَامَ القَوْمُ إِلاَّ زَيْداً » فالمشهورُ وجوبُ النَّصب على الاستثناءِ . وقال بعضهم : يجوزُ أن يَتْبَعَ ما بعدَ « إِلا » ما قبلها في الإِعراب فتقول : « مَرَرْتُ بالقوم إلا زيدٍ » بجرّ « زَيْدٍ » واختلفوا في تابعيَّة هذا ، فعبارةُ بعضهم أَنَّهُ نعتٌ لما قبلَه ، ويقولُ : إنه يُنْعَتُ بإِلاَّ ، وما بعدها مُطْلقاً سواءً كان متبوعُها معرفةً ، أم نكرةً مضمراً ، أم ظاهراً ، وهذا خارجٌ عن قياس باب النَّعتِ لما قد عرَفْتَ فيما تقدَّم .
ومنهم مَنْ قال : لا يُنْعَتُ بها إِلاَّ نكرةً ، أو معرفةً بأل الجنسيّةِ لقربها من النّكرة . ومنهم مَنْ قال : قَولُ النَّحويين هنا نعتٌ : إِنَّما يعنُون به عطفَ البيانِ؛ ومن مَجِيء الإتباع بما بعد « إِلاَّ » قوله : [ الوافر ]
1168- وَكُلُّ أَخٍ مُفارِقُهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلاَّ الفَرْقَدَانِ
فصل
لما ذكر تعالى أَنّ هذا الابتلاء ليتميز المُطِيعُ مِنَ المخالف ، أخبر بعد ذلك بأَنَّهُم لما هجموا على النَّهرِ شرب أَكثرهم ، وأطاع قليلٌ ، فلم يشربوا ، فأَمَّا الَّذين شربُوا فَرُوي أَنَّهم اسودَّت شفاههم وغلبهم العطش ، ولم يرووا ، وبقوا على شَطّ النَّهر وجبنوا عن لقاءِ العدُوّ ، وأَمَّ الَّذين أطاعوا ، فقوي قلبهم ، وصحَّ إِيمانهُمُ .
قال السُّدِّيُّ : كانوا أربعة آلاف ، وقال الحسن ، وهو الصَّحيح : أنهم كانُوا على عَدَدِ أهل بدرِ ثلاثمائة ، وبضعة عشر ، ويدُلُّ عليه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام لأصحابه يوم بدر :
« أَنَّتُمُ اليَوْمَ عَلَى عَدَدِ أَصْحَابِ طَالُوت حين عَبَرُوا النَّهَر ، وَمَا جَازَ مَعَهُ إِلاَّ مُؤمنٌ » .
قال البراء بن عازب : وكنا يومئذٍ ثلاثمائة ، وثلاثة عشر رجلا ولا خلاف بين المُفسِّرين أَنَّ الذين عصوا رجعوا إلى بلدهم ، وإنما اختلفوا هل كان رجوعهم بعد مجاوزة النهر أو قبله؟ والصَّحيح : أنَّهُم لم يجاوزوا النَّهر ، وإِنَّما رجعوا قبل المجاوزة لقوله تعالى : { فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ والذين آمَنُواْ مَعَهُ } .
قال ابن عبَّاس والسُّدِّيُّ : كان المُخالِفون أهل شكٍّ ، ونِفاقٍ ، فقالوا : { لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ } فانحرفوا ، ولم يجاوزُوا النَّهرَ .
وقال آخرون : بل جاوزُونا النَّهرَ ، وإنما كان رجوعهم بعد المجاوزة ، ومعرفتهم بجالوت ، وجنوده؛ لقولهم { لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ } .
قوله : { قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ الله كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً } وهذا يدلُّ على أَنَّهُم حين لا قوا العدوّ ، وعاينوا كثرتهم انقسموا فرقتين إحداهما : رجعت وهي المخالفة ، وبقيت المطيعة .
قوله : { جَاوَزَهُ هُوَ والذين آمَنُواْ مَعَهُ } « هو » ضميرٌ مرفوعٌ منفصِلٌ مؤكِّدٌ للضّمير المستكنِّ في « جَاوَزَ » .
قوله : « والَّذِين » يحتملُ وجهين :
أظهرهما : أنه عطفٌ على الضَّمير المستكنِّ في « جَاوَزَ » لوجود الشَّرط ، وهو توكيدُ المعطوفِ عليه بالضَّمير المنفصلِ .
والثاني : أَنْ تكُون الواوُ للحالِ ، قالوا : ويلزَمُ من الحالِ أن يكونُوا جاوزوا معه ، وهذا القائلُ يجعلُ « الَّذِينَ » مبتدأ ، والخبرَ قالوا : « لاَ طَاقَةَ » ؛ فصار المعنى : « َفَمَّا جَاوَزَهُ ، والحالُ أنَّ الَّذِين آمنوا قالوا هذه المقالة » ، والمعنى ليس عليه .
ويجوزُ إدغامُ هاء « جَاوَزَهُ » في هاء « هُو » ، ولا يُعْتدُّ بفصلِ صلةِ الهاءِ؛ لأنها ضعيفةٌ ، وإِنْ كان بعضهم استضعف الإِدغام ، قال : « إِلاَّ أَنْ تُخْتَلَسَ الهاءُ » ، يعني : فلا يبقى فاصلٌ . وهي قراءة أبي عمرو ، وأدغم أيضاً واوَ « هُوَ » في واو العطف بخلاف عنه ، فوه الإِدغام ظاهرٌ لالتقاءِ مثلين بشروطِهما . ومَنْ أظهر وهو ابن مجاهدٍ ، وأصحابُهُ قال : « لأَنَّ الواو إِذا أُدْغِمَت سَكَنَتْ ، وإذا سكنت صَدَقَ عليها أنها واوٌ ساكنة قبلها ضمَّةٌ ، فصارَت نظير : { آمَنُواْ وَكَانُواْ } [ يونس : 63 ] فكما لا يُدغم ذاك لا يدغم هذا . وهذه العِلَّةُ فاسدةٌ لوجهين :
أحدهما : أنها ما صارَتْ مثلَ » آمنوا ، وكانوا « إلا بعد الإِدغام ، فكيف يُقال ذلك؟ وأيضاً فإِنَّهُم أدغموا : { يَأْتِيَ يَوْمٌ } [ البقرة : 254 ] وهو نظيرُ : { فِي يَوْمٍ } [ إبراهيم : 18 ] و { الذى يُوَسْوِسُ } [ الناس : 4 ] بعين ما عَلَّلوا به .
وشرطُ هذا الإِدغام في هذا الحرف عند أبي عمرو ضمُّ الهاءِ ، كهذه الآية ، ومثله : { هُوَ والملائكة } [ آل عمران : 18 ] { هُوَ وَجُنُودُهُ } [ القصص : 39 ] ، فلو سكنت الهاءُ؛ امتنع الإِدغامُ نحو { وَهُوَ وَلِيُّهُمْ } [ الأنعام : 127 ] ولو جرى فيه الخلافُ أيضاً لم يكن بعيداً ، فله أُسوة بقوله : { خُذِ العفو وَأْمُرْ } [ الأعراف : 199 ] بل أولى لأَنَّ سكون هذا عارضٌ بخلافِ : » الْعفوَ وأمر « .
قوله تعالى : { والذين آمَنُواْ مَعَهُ } .
ليس المراد منه المعيّة في الإِيمان ، لأنَّ إيمانهم لم يكُن مع إِيمان طَالُوت ، بل المراد : أَنَّهم جاوزا النَّهر معه لأَنَّ لفظ « مع » لا تقتضي المعيَّة لقوله تعالى : { فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } [ الشرح : 5 ] واليسر لا يكون مع العسر .
قوله : { لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم } [ لنَا ] هو : خبر « لا » ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، ولا يجوزُ أن يتعلَّقَ بطاقة ، وكذلك ما بعده من قوله « اليَومَ » و « بِجَالُوتَ » ؛ لأنه حينئذٍ يصير مُطَوَّلاً والمُطَوَّلُ ينصبُ منوناً ، وهذا كما تراهُ مبنياً على الفتح ، بل « اليَوْمَ » و « بِجَالُوتَ » متعلِّقان بالاستقرار الَّذي تعلَّق به « لنَا » .
وأجاز أبو البقاء : أن يكون « بِجَالُوتَ » هو خبرَ « لا » ، و « لنَا » حينئذٍ : إِمَّا تبيينٌ أو متعلِّقٌ بمحذوف على أَنَّه صفةٌ لطاقة .
والطَّاقةُ : القُدرةُ وعينُها واو؛ لأَنَّها مِنَ الطَّوقِ وهو القُدرةُ ، وهي مصدرٌ على حذفِ الزَّوائدِ ، فإِنَّها من « أَطَاقَ » ونظيرها : أجَابَ جابةً ، وأَغَارَ غارةً ، وَأَطَاعَ طَاعةً .
و « جالوت » اسمٌ أعجميٌّ ممنوعُ الصرفِ ، لا اشتقاقَ له ، وليس هو فَعَلوتاً من جال يَجُول ، كما تقدَّم في طَالُوت ، ومثلهما داود .
قوله : { كَم مِّن فِئَةٍ } « كَمْ » خبريةٌ ، فإنَّ معناها التَّكثيرُ ، ويدلُّ على ذلك قراءة أبي : « وكَائِن » ، وهي للتكثير ، ومحلُّها الرَّفعُ بالابتداء ، و « مِنْ فِئَةٍ » تمييزُها ، و « مِنْ » زائدةٌ فيه . وأكثرُ ما يجيءُ مميِّزها ، ومميِّز « كَائِن » مجروراً بمِنْ ، ولهذا جاء التنزيلُ على ذلك ، وقد تُحْذفُ « مِنْ » فيُجَرُّ مميِّزها بالإِضافة لا بمِنْ مقدرةً على الصَّحيح ، وقد يُنصَبُ حَمْلاً على مُميِّز « كَم » الاستفهامية ، كما أَنَّهُ قد يُجَرُّ مميِّز الاستفهاميّةِ حَمْلاً عليها ، وذلك بشروطٍ ذكرها النُّحاةُ .
قال الفرَّاء : لو ألغيت « مِنْ » ها هنا جاز فيه الرَّفع والنَّصبُ والخفضُ .
أَمَّا النَّصبُ فلأنّ « كم » بمنزلة عددٍ ، فينصب ما بعدهُ نحو : عشرونَ رجلاً . وَأَمَّا الخَفْضُ ، فبتقدير دخول حرف « من » عليه .
وأَمَّا الرَّفعُ ، فعلى نيَّة الفِعْل تقديره « كم غلبت فئةٌ » ومِنْ مجيءِ « كَائِن » منصوباً قولُ الشاعر : [ الخفيف ]
@1169- أُطْرُدِ اليَأْسَ بالرَّجَاءِ فَكَائِنْ ... آلِماً حُمَّ يُسْرُهُ بَعْدَ عُسْرِ
وَأَجازُوا أَنُ يكونَ « مِنْ فِئَةٍ » في محلِّ رفع صفةً ل « كم » فيتعلَّق بمحذوفٍ . و « غَلَبَت » هذه الجملةُ هي خبرُ « كم » والتقديرُ : كثيرٌ من الفئاتِ القليلةِ غالبٌ الفئاتِ الكثيرةَ .
وفي اشتقاق « فئة » قولان :
أحدهما : أنها من فاء يَفِيء ، أي : رجع فَحُذِفَتْ عينُها ووزنُها فِلَة .
والثاني : أَنَّها مِنْ فَأَوْتُ رأسَه أي : كسرتُه ، فحُذِفت لامُها ووزنُها فِعَة كمئة ، إِلاَّ أَنَّ لامَ مئة ياءٌ ، ولامَ هذه واوٌ ، والفِئَةُ : الجماعةُ من النَّاسِ قلَّت ، أو كثرت ، وهي جمعٌ لا واحد له من لفظه ، وجمعها : فئات وفئون في الرَّفع ، وفئين في النَّصب والجرِّ ، ومعناها على كلٍّ من الاشتقاقين صحيحٌ ، فإنَّ الجماعَةَ من النَّاسِ يَرْجِعُ بعضهم إلى بعضٍ ، وهم أيضاً قطعةٌ من النَّاسِ كقطَعِ الرَّأْسِ المكسَّرة .
قوله : { بِإِذْنِ الله } فيه وجهان .
أَظهرهُمَا : أنَّه حالٌ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، والتَّقدير : ملتبسين بتيسير الله لهم .
والثاني : أَنَّ الباءَ للتَّعْدية ، ومجرورها مفعولٌ به في المعنى ، ولهذا قال أبو البقاء : « وإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَها مَفْعُولاً به » .
وقوله : { والله مَعَ الصابرين } مبتدأٌ وخبرٌ ، وتحتمِل وجهين :
أحدهما : أن يكون محلُّها النَّصْبَ على أنها من مقولهم .
والثاني : أنَّها لا محلَّ لها من الإِعراب ، على أَنّها استئنافٌ أَخْبَرَ اللهُ تعالى بها .
فصل في المقصود بالظن في الآية
اختلفوا في الظن المذكور في قوله تعالى : { قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ الله } . وذكروا فيه وجوهاً :
أحدها : قال قتادة : المراد من لقاء الله الموت . قال عليه الصلاة والسلام : « مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لقاءَه وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ » وهؤلاء المؤمنون ، لما وطَّنُوا أنفسهم على القتل ، وغلب على ظنهم أَنَّهُم يموتون وصفهم بأنهم يظنون أنهم ملاقوا ثواب الله .
وثانيها : قال أبو مسلم : معناه يظنون أَنَّهُم ملاقو ثواب الله بسبب هذه الطاعة ، وذلك لأَنَّ أحداً لا يعلمُ بما فيه عاقبة أمره وَإِنَّما يكون ظاناً راجياً وإِن بلغ في طاعة الله ما بلغ .
وثالثها : أَنَّهم ذكروا في تفسير السَّكينة قول بعض المفسِّرين : إِنَّ التَّابوت كان فيه كُتُبٌ إِلَهيَّةٌ ، نزلت على الأَنبياء المُتَقَدِّمين دالَّةٌ على حُصًولِ النَّصر ، والظّفر لِطَالُوتَ ، وجنوده ولكنه لم يكن في تلك الكُتُبِ أَنَّ النَّصْر والظّفر يحصلُ في المرةِ الأولى ، أو بعدها ، فهم وإِنْ كانوا قاطعين بالنصر ولكنهم ظَنُّوا : هل هُوَ في تلك المَرَّةِ ، أو بعدَها؟!
رابعها : قال كثير من المفسرين : يظنون : أي يعلمون ، فأطلق الظن وأراد به العلم كقوله تعالى : { الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [ البقرة : 46 ] ووجه المجاز ما بين الظن واليقين من المشابهة في تأكيد الاعتقاد .
والمراد من قولهم : { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله } تَقْويةُ قلوب الَّذِينَ قالوا : { لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ } ، والمعنى : لا عِبرة بكثرةِ العددِ ، وإِنَّما العبرةُ بالتَّأْييد الإِلهي ، ثم قال : { والله مَعَ الصابرين } . وهذا من تَمامِ قولهم ، ويحتمل أَنْ يكُونَ قولاً من اللهِ تعالى ، والأَوَّلُ أَظهرُ .

وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)
قوله تعالى : { بَرَزُواْ لِجَالُوتَ } في هذه اللام وجهان :
أحدهما : أنَّها تتعلَّق ب « برزوا » .
والثاني : أنها تتعلَّقُ بمحذُوفٍ على أَنَّها ومجرورها حالٌ من فاعل : « بَرَزوا » قال أبو البقاء : « وَيَجُوزُ أن تكُونَ حالاً أي : برزوا قاصِدِين لِجَالُوتَ » . ومعنى برزوا : صاروا إلى بَراز من الأرض ، وهو ما انْكَشَفَ منها وَاسْتَوَى ، وسميت المبارزة لظهور كُلّ قرنٍ لصاحبه ، واعلم أَنَّ عسكر طالُوت لما برزوا عسكر جالوت ، ورأوا قِلَّة جانبهم ، وكثرة عدوهم ، لا جرم اشتغلوا بالدُّعاء ، والتَّضرع ، فقالوا : { رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً } . وفي ندائِهِم بقولهم : « رَبَّنَا » : اعترافٌ منهم بالعُبُوديَّة ، وطلبٌ لإِصلاحهم؛ لأَنَّ لفط « الرَّبَّ » يُشْعر بذلك دونَ غيرها ، وأَتوا بلفظِ « عَلَى » في قولهم « أَفْرغ عَلَيْنَا » طلباً؛ لأنْ يكونَ الصَّبْرُ مُسْتعلِياً عليهم ، وشاملاً لهم كالظرفِ . ونظيره ما حكى اللهُ عن قوم آخرين أَنَّهُم قالوا حين لاقوا عدوَّهم : ومَا كَانوا قَوْلَهُم إِلاَّ أَنْ قالُوا : { ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } [ آل عمران : 147 ] { وانصرنا عَلَى القوم الكافرين } [ آل عمران : 147 ] وكذلك كان عليه الصَّلاة والسَّلام يفعل في المواطن كما رُوِيَ عنه في قصّة بدرٍ أنه عليه الصَّلاة والسَّلام لم يَزَلْ يُصَلِّي ، ويستنجز من الله وعده ، وكان إِذَا لقي عدُوّاً قال : « اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِم وَاجْعَلْ كَيْدَهُم فِي نُحُورِهِمْ » وكان يقول : « اللَّهُمَّ بِكَ أَصُولُ وَأَجُولُ » .
والإفراغ : الصَّبُّ ، يقال : أفرغت الإِناءَ : إذا صببت ما فيه ، أصله : من الفراغ يقال : فلان فارغٌ معناه : خالٍ ممَّا يشغله ، والإفراغ : إخلاءُ الإناء من كلِّ ما فيه .
واعلم أنَّ الأمور المطلوبة عند لقاء العدو ثلاثة :
الأول : الصَّبر على مشاهدة المخاوف وهو المراد بقولهم : { وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } .
الثاني : أن يكون قد وجد من الآلات والأدوات ما يمكنه أن يقف ويثبت ، ولا يصير ملجأ إلى الفرار .
الثالث : زيادة القوَّة على العدوِّ؛ حتى يقهره ، وهو المراد من قولهم « وانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ » .
فصل في دفع شبه المعتزلة في خلق الأفعال
احتجَّ أهل السُّنَّة بقوله : { رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً . . . } الآية على أنَّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى؛ لأنه لا معنى للصَّبر إلاّ : القصد على الثبات ولا معنى للثبات إلاّ السُّكون والاستقرار ، وهذه الآية دالَّة على أنَّ ذلك القصد بالصَّبر من الله تعالى .
أجاب القاضي : بأنَّ المراد من الصبر ، وتثبيت الأقدام : تحصيل أسباب الصّبر ، وأسباب ثبات القدم : إمَّا بأن يلقي في قلوب أعدائهم الاختلاف ، فيعتقد بعضهم أنَّ البعض الآخر على الباطل ، أو يحدث في ديارهم وأهليهم البلاء ، كالموت ، والوباء ، أو يبتليهم بالموت ، والمرض الذي يعمهم ، أو يموت رئيسهم ، ومن يدبّر أمرهم ، فيكون ذلك سبباً لجرأة المسلمين عليهم .
والجواب عما قاله القاضي من وجهين :
الأول : أنَّا بيَّنَّا أنَّ الصَّبر عبارة عن القصد إلى السكون والثبات عبارة عن السكون وهو الذي أراده العبد من الله - تعالى - ، وأنتم تصرفون الكلام عن ظاهره ، وتحملونه على أسباب الصَّبر ، وترك الظَّاهر لغير دليل لا يجوز .
الثاني : أنَّ هذه الأسباب التي سلمتم أنَّها بفعل الله تعالى إذا حصلت ووجدت فهل لها أثر في التَّرجيح الدَّاعي ، أو ليس لها أثرٌ في التَّرجيح؛ فعند صدور هذه الأسباب المرجحة يحصل الرجحان ، وعند حصول الرُّجحان ، يمتنع الطَّرف المرجوح ، فيجب حصول الطَّرف الرَّاجح ، لأنه لا خروج عن طرفي النقيض وهو المطلوب .

فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)
« الهَزَمُ » : أصله الكسر ، يقال « سِقَاءٌ مَتَهزِّم » إذا انشق و « قَصَبٌ مُتَهَزِّمٌ » ، أي متكسِّر .
والهزمة : نقرة في الجبل ، أو في الصَّخرة . قال سفيان بن عيينة في زمزم : وهي هزمة جبريل ، يريد هزمها برجله فخرج الماء . ويقال : سمعت هزيمة الرعد كأنَّه صوت تشقُّقٍ . ويقال للسَّحاب هزيم؛ لأنَّه ينشق بالمطر .
قوله : { بِإِذْنِ الله } فيه الوجهان المتقدِّمات أعني كونه حالاً ، أو مفعولاً به .
فصل
أخبر تعالى أنَّ تلك الهزيمة كانت بإذن الله تعالى وإعانته وتيسيره ، ثم قال : { وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ } .
قال القرطبيُّ : وكان جالوت رأس العمالقة وملكهم ، ظلُّه ميل ويقال : إنَّ البربر من نسله .
قال ابن عبَّاس : إنَّ داود - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان راعياً ، له سبعة إخوة مع طالوت ، فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم « إِيشَا » ؛ أرسل إليهم داود ليأتيه بخبرهم ، فأتاهم وهم في المصاف وبدر جالوت الجياد إلى البراز ، وكان من قوم عاد ، فقال داود لإخوته : أما فيكم من يخرج إلى هذا الأقلف؟ فسكتوا فذهب إلى ناحية أخرى من الصف ليس فيها إخوته فمر به طالوت ، وهو يحرض الناس .
فقال له داود : ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف؟
فقال طالوت : أنكحه ابنتي ، وأعطيه نصف ملكي ، فقال داود : فأنا أخرج إليه؛ وكانت عادته أنه يقاتل الأسد والذِّيب بالمقلاع في المرعى ، وكان طالوت عارفاً بجلادته ، فلما همَّ داود بالخروج إلى جالوت ، مرّ بثلاثة أحجار فقلن : يا داود ، خذنا معك ففينا منيَّة جالوت ، ثمَّ لما خرج إلى جالوت ، رماه ، فأصابه في صدره ونفذ الحجر فيه ، وقتل بعده ناساً كثيرة ، فهزم الله جنود جالوت ، وقتل داود جالوت وهو داود بن إيشى بكسر الهمزة . وقيل داود بن زكريَّا بن مرشوى من سبط يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - وكان من أهل بيت المقدس ، فحسده طالوت ، وأخرجه من مملكته ، ولم يف له بوعده ، ثم ندم على صنعه ، فذهب يطلبه إلى أن قتل ، وملك داود ، وحصلت له النُّبوَّة ، وهو المراد من قوله : { وَآتَاهُ الله الملك والحكمة } هو العلم مع العمل والحكمة : هي وضع الأمور موضعها على الصَّواب ، والصَّلاح .
قوله : { وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ . . . } .
قال الكلبيُّ وغيره : « صنعة الدُّرُوعِ » .
قال تعالى : { وَأَلَنَّا لَهُ الحديد أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السرد } [ سبأ : 10-11 ] وقيل : منطق الطَّير والنّمل ، وقيل الزّبور ، وعلم الدّين ، وكيفية الحكم ، والفصل .
قال تعالى : { وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } [ الأنبياء : 79 ] .
وقيل : الألحان الطَّيِّبة . قيل كان إذا قرأ الزَّبور؛ تدنو الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها ، وتظله الطّير مصغية له ، ويركد الماء الجاري ، وتسكن الرّيح .
وروى الضَّحَّاك عن ابن عباس : هو أنَّ الله تعالى أعطاه سلسلةً موصولة بالمجرّة ، ورأسها عند صومعته ، وقوّتها اللُّؤلؤ قوّة الحديد ، ولونها لون النّار وحلقها مستديرة مفصلة بالجواهر ، مدسَّرة بقضبان اللُّؤلؤ الرطب ، فلا يحدث في الهواء حدث إلاّ صلصلت السلسلة ، فيعلم داود ذلك الحدث ، ولا يمسُّها ذو عاهة إلاَّ برأ ، فكانوا يتحاكمون إليها بعد داود إلى أن رفعت فمن تعدَّى على صاحبه ، وأنكر حقه أتى إلى السِّلسلة ، فمن كان صادقاً مدّ يده إلى السِّلسلة ، فنالها ، ومن كان كاذباً ، لم ينلها ، وكانت كذلك إلى أن ظهر فيهم المكر والخديعة ، فبلغنا أن بعض ملوكهم أودع رجلاً جوهرة ثمينة ، فلما استردَّها أنكرها فتحاكما إلى السلسلة فعمد الذي عنده الجوهرة إلى عكَّازه ، فنقرها وضمنها الجوهرة ، واعتمد عليها حتى حضروا السلسلة ، فقال صاحب الجوهرة : ردَّ عليَّ الوديعة .
فقال له صاحبه : ما أعرف لك عندي من وديعة ، فإن كنت صادقاً فتناول السلسلة ، فقام صاحب الجوهرة ، فتناولها بيده . فقيل للمنكر قم أنت ، فتناولها .
فقال لصاحب الجوهرة : خذ عكَّازي هذا ، فاحفظها حتى أتناول السِّلسلة ، فأخذها فقال الرجل : « اللَّهم إِن كنت تَعْلم أنَّ هذه الوديعة التي يدّعيها ، قد وصلت إليه فقرب مني السّلسلة ، فمد يده فتناولها ، فتعجب القوم ، وشكُّوا فيها ، فأصبحوا وقد رفع الله السِّلسلة .
قوله { مِمَّا يَشَآءُ } : فاعلٌ ، » يشاء « ضمير الله تعالى .
وقيل : ضمير داود ، والأول أظهر .
قوله : { وَلَوْلاَ دَفْعُ } ؛ قرأ نافعٌ هنا ، وفي الحج : » دِفَاع « ، والباقون : » دَفْع « . فأمَّا » دَفْع « ، فمصدر » دَفَعَ « » يَدْفَعُ « ثلاثياً ، وأمَّا » دِفَاع « فيحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون مصدر » دَفَعَ « الثلاثيِّ أيضاً ، نحو : كَتَب كتاباً ، وأن يكون مصدر » دَافَعَ « ؛ نحو : قاتل قتالاً؛ قال أبو ذؤيبٍ : [ الكامل ]
1170- وَلَقَدْ حَرِصْتُ بَأَنْ أُدَافِعُ عَنْهُمُ ... فَإِذَا المَنِيَّةُ أَقْبَلَتْ لاَ تُدْفَعُ
قالوا وفعال كثيراً يجيء مصدراً للثلاثي من فَعَلَ وفَعِلَ ، تقول : جمح جماحاً وطمح طماحاً وتقول لقيته لقاءً ، وقمت قياماً ، وأن يكون مصدر لدفع تقول : دفعته ، دفعاً ، ودفاعاً نحو : قتل قتلاً وقتالاً .
و » فاعل « هنا بمعنى فَعَلَ المجرد ، فتتَّحد القراءتان في المعنى ويحتمل أن يكون من المفاعلة ، والمعنى أنه سبحانه إنَّما يكفّ الظَّلمة ، والعصاة عن ظلم المؤمنين على أيدي أنبيائه ، ورسله ، وأئمة دينه ، وكان يقع بين أولئك المحقين ، وأولئك المبطلين مدافعات ومكافحات ، فحسن الإخبار عنه بلفظ المدافعة كقوله تعالى : { يُحَارِبُونَ الله } [ المائدة : 33 ] و { شَآقُّواْ الله } [ الأنفال : 13 ] ونظائره كثيرة .
ومن قرأ » دِفَاع « ، وقرأ في الحجّ { يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا } [ الحج : 38 ] أو قرأ » دَفْع « ، وقرأ » يَدْفَع « - وهما أبو عمرو وابن كثير - فقد وافق أصله ، فجاء بالمصدر على وفق الفعل ، وأمَّا من قرأ هنا : » دَفْع « ، وفي الحجّ » يُدافِع « ، وهم الباقون ، فقد جمع بين اللُّغتين ، فاستعمل الفعل من الرُّباعي والمصدر من الثلاثي .
والمصدر هنا مضافٌ لفاعله وهو الله تعالى ، و « النَّاس » مفعول أول ، و « بعضهم » بدلٌُ من « الناسِ » بدل بعضٍ من كلٍّ .
و « ببعضٍ » متعلِّقٌ بالمصدر ، والباء للتعدية ، فمجرورها المفعول الثاني في المعنى ، والباء إنَّما تكون للتعدية في اللاَّزم ، نحو : « ذَهَبَ بِهِ » فأمَّا المتعدِّي لواحدٍ فإنَّما يتعدَّى بالهمزة ، تقول : « طَعِمَ زيدٌ اللَّحْمَ ، وأَطْعَمْتُه اللَّحْم ، ولا تقول : » طَعِمْته باللَّحْم « ، فتعدِّيه إلى الثاني بالباء ، إلاَّ فيما شذَّ قياساً ، وهو » دَفَعَ « ، و » صَكَّ « ، نحو : صككت الحجر بالحجر ، أي : جعلت أحدهما يصكُّ الآخر ، ولذلك قالوا : صككت الحجرين أحدهما بالآخر .
فصل في المدفوع والمدفوع به
اعلم أنَّه تعالى ذكر في هذه الآية المدفوع ، والمدفوع به ، وأمَّا المدفوع عنه ، فغير مذكورٍ ، وهو يحتمل وجوهاً :
الأول : أن يكون المعنى : ولولا دفع الله بعض الناس عن الكفر بسبب البعض ، فيكون الدَّافعون هم الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام والأئمة الذين يمنعون النَّاس عن الكفر بسبب البعض بإظهار الدَّلائل .
قال تعالى : { أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور } [ إبراهيم : 1 ] .
الثاني : دفع بعض الناس عن المعاصي ، والمنكرات بسبب البعض ، فيكون الدافعون هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؛ لقوله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } [ آل عمران : 110 ] .
الثالث : ولولا دفع الله بعض الناس عن الهرج ، والمرج ، وإثارة الفتن في الدُّنيا بسبب البعض ، فيكون الدَّافعون هم الأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - ثم الأئمة والملائكة والدّابّون عن شرائعهم ، وذلك أنَّ الإنسان الواحد لا يمكنه أن يعيش وحده ، ما لم يخبز هذا لذاك ، ويطحن ذاك لهذا ، ويبني هذا لذاك ، وينسج ذاك لهذا ، ولا تتمّ مصلحة الإنسان .
فالظَّاهر أن مصلحته لا تتمُّ إلاّ باجتماع جمع في موضع واحد ، ولهذا قيل إن الإنسان مدنيٌّ بالطبع ، ثم إنَّ الاجتماع سبب للمنازعة المفضية إلى المخاصمة ، ثم إلى المقاتلة ، فلا بدّ في الحكمة الإلهيَّة من وضع شريعةٍ بين الخلق ليقطع بها الخصومات ، والمنازعات ، فبعث الله الأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - بالشَّرائع؛ ليدفع بهم ، وبشرائعهم الآفات ، والفساد عن الخلق فإنَّ الخلق ما داموا متمسكين بالشَّرائع لا يقع بينهم خصامٌ ولا نزاعٌ ، والملوك والأئمة متى كانوا متمسكين بالشرائع كانت الفتن زائلة والمصالح حاصلة ، ولهذا قال عليه الصَّلاة والسَّلام : » الإِسْلاَمُ والسُّلْطَانُ أَخَوَان « وقال أيضاً : » الإِسْلاَمُ أميرٌ ، والسُّلْطَانُ حَارِسٌ ، فمن لا أمير له فهو مُنْهَزِمٌ ، ومن لا حَارِسَ له فَهُو ضَائِعٌ « .
وعلى هذا الوجه فيكون تفسير قوله : { لَفَسَدَتِ الأرض } ، أي : لغلب على أهل الأرض القتل والمعاصي ، وذلك يسمّى فساداً . قال تعالى : { وَيُهْلِكَ الحرث والنسل والله لاَ يُحِبُّ الفساد }
[ البقرة : 205 ] وقال : { أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين } [ القصص : 19 ] .
الرابع : ولولا دفع الله بالمؤمنين ، والأبرار عن الكفّار ، والفجّار ، لفسدت الأرض ولهلكت بمن فيها . قال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « إِنَّ اللهَ لَيَدْفَعُ بِالمُسْلِم الصَّالِح عَنْ مائَةِ أَهْلِ بَيٍْتٍ مِنْ جِيرَانِهِ » وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « إِنَّ اللهَ يَدْفَعُ بمن يُصَلِّي مِنْ أُمَّتِي عمَّن لا يصلِّي ، وبمن يزكّي عمن لا يُزكِّي ، وبمن يصوم عمَّن لا يصوم وبمن يحجّ عمَّن لا يحجّ ، وبمن يجاهد عمَّن لا يجاهد ، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء لما أنظرهم الله طرفة عين » ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية .
ويدلُّ على صحَّة هذا القول قوله تعالى : { وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً } [ الكهف : 82 ] . وقال تعالى : { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ الفتح : 25 ] وقال : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] . وعلى هذا التأويل يكون معنى قوله : { لَفَسَدَتِ الأرض } ، أي : لأهلك الله أكثر أهلها الكفّار والعصاة .
قال القرطبيُّ : وقيل : هم الأبدال ، وهم أربعون رجلاً ، كلّما مات واحدٌ أبدل آخر ، فإذا كان عند القيامة ماتوا كلهم اثنان وعشرون بالشَّام ، وثمانية عشر بالعراق .
وروي عن علي - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إِنَّ الأَبْدَالَ يَكُونُونَ بالشَّام وَهُمْ أَرْبعُونَ رَجُلاً كُلَّمَا مَاتَ مِنْهُم رَجُلٌ أبدل اللهُ مكانه رَجُلاً يُسْتَقَى بِهِمُ الغَيْث وَيَنْصُرُهُمْ عَلَى الأَعْدَاءِ وَيُصْرَفُ بِهِمْ عَنْ أَهْلِ الأَرْضِ البَلاَء » .
ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول ، وخرج أيضاً عن أبي الدرداء قال : إن الأنبياء كانوا أوتاد الأرض ، فلما انقطعت النبوة أبدل الله مكانهم قوماً من أمة محمد يقال لهم الأبدال ، لم يفضلوا النَّاس بكثرة صوم ، ولا صلاة ، ولكن بحسن خلق ، وصدق الورع ، وحسن النِّية ، وسلامة القلوب لجميع المسلمين والنَّصيحة لهم ابتغاء مرضاة الله ، بصبر ، وحلم ، ولبٍّ ، وتواضع في غير مذلَّةٍ فهم خلفاء الأنبياء قوم اصطفاهم الله سبحانه لنفسه ، واستخلصهم بعلمه لنفسه ، وهم أربعون صدِّيقاً ثلاثون رجلاً على مثل يقين إبراهيم خليل الرحمن بهم يرفع الله المكاره ، والبلايا عن النَّاس ، وبهم يمطرون ، ويرزقون ، لا يموت الرَّجل منهم ، حتى يكون الله قد أنشأ من يخلفه .
وقال سفيان الثَّوري : « هم الشُّهود الذين تستخرج بهم الحقوق » .
الخامس : قال ابن عبَّاس ومجاهد : ولولا دفع الله بجنود المسلمين؛ لغلب المشركون على الأرض ، فقتلوا المؤمنين ، وخربوا المساجد ، والبلاد .
السادس : أن يحمل اللفظ على الكل؛ لأن بين هذه الأقسام قدراً مشتركاً ، وهو دفع المفسدة ، فإذا حملنا اللَّفظ عليه ، دخلت الأقسام بأسرها فيه .
فصل في بطلان مذهب الجبر
قال القاضي : هذه الآية من أقوى الدَّلائل على بطلان الجبر؛ لأنه إذا كان الفساد من خلقه لم يكن لقوله : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض } تأثير في زوال الفساد؛ لأن على قولهم إنَّما لا يقع الفساد بسبب ألا يفعله الله تعالى ولا يخلقه لا لأمر يرجع إلى النَّاس ، والجواب : أنَّ الله تعالى لمّا كان عالماً بوقوع الفساد ، فإذا صح مع ذلك العلم ألاَّ يقع الفساد كان المعنى أنه لا يصح من العبد أن يجمع بين عدم الفساد وبين العلم بوجود الفساد ، فيلزم أن يكون العبد قادراً على الجمع بين النَّفي والإثبات ، وهو محال ويؤيد ذلك قوله تعالى مستدركاً { ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين } بين أن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام يعم الناس كلهم فلو كان دفع الفساد بهذا الطريق فعل العبد لكان الفضل للعبد؛ لأنه الدَّافع على قولهم ، ولم يكن لله تعالى على العالمين فضل سبب ذلك الدَّفع . فإن قالوا : نحمل هذا على البيان ، والإرشاد .
قلنا : كلُّ ذلك قائم في حقّ الكفَّار ، والفجَّار ، ولم يحصل منهم دفاع .
قوله : { ولكن الله } وجه الاستدراك أنه لمَّا قسَّم النَّاس إلى مدفوع ومدفوع به ، وأنَّه بهذا الدَّفع امتنع فساد الأرض ، فقد يهجس في نفس من غُلب عمّا يريد من الفساد أنَّ الله غير متفضِّلٍ عليه ، حيث لم يبلغه مقاصده وطلبه ، فاستدرك عليه [ أنّه ] وإن لم يبلغ مقاصده أنَّ الله متفضّلٌ عليه ، ومحسن إليه؛ لأنه مندرجٌ تحت العالمين ، وما من أحدٍ إلاّ ولله عليه فضلٌ ، وله فضل الاختراع [ والإيجاد ] .
و « عَلَى » يتعلَّق ب « فَضْل » ؛ لأنَّ فعله يتعدَّى بها ، وربَّما حذفت مع تخفيف الفعل؛ وقد جمع [ بين ] الحذف والإثبات في قوله : [ الوافر ]
1171- وَجَدْنَا نَهْشَلاً فَضَلَتْ فُقِيْماً ... كَفَضْل ابْنِ المَخَاضِ عَلَى الفَصِيلِ
أمَّا إِذا ضُعِّف ، فإنه لا تحذف « على » أصلاً كقوله : { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } [ البقرة : 253 ] ، ويجوز أن تتعلَّق « عَلَى » بمحذوفٍ لوقوعها صفةً لفضل .

تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
قوله تعالى : { تِلْكَ آيَاتُ الله } : مبتدأٌ وخبرٌ ، و « نَتْلُوهَا » فيه قولان :
أحدهما : أن تكون حالاً ، والعامل فيها معنى الإشارة .
والثاني : أن تكون مستأنفةً فلا محلَّ لها . ويجوز غير ذلك ، وهو يؤخذ مما تقدم .
قال القرطبيُّ : وإن شِئْتَ كان « آيَاتُ الله » بدلاً ، والخبر نتلوها عليك بالحقّ وأشير إليها إشارة البعيد لما بينا في قوله : { ذَلِكَ الكتاب } [ البقرة : 2 ] أن « تلك » و « ذَلِكَ » يرجع إلى معنى هذه ، وهذا ، وأيضاً فهذه القصص لما ذكرت صارت بعد ذكرها كالشَّيء الذى انقضى ، ومضى ، فكانت في حكم الغائب ، فلذها التأويل قال : « تِلْكَ » وأشير إليها إشارة البعيد لما تقدَّم في قوله : { ذَلِكَ الكتاب } . قوله : « بالحق » يجوز فيه أن يكون حالاً من مفعول « نَتْلُوها » ، أي : ملتبسةً بالحقّ ، أو من فاعله؛ أي : نتلوها ومعنا الحقُّ ، أو من مجرور « عَلَيْكَ » ، أي : ملتبساً بالحقّ .
قوله : { وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } . قال القرطبيُّ : خبر إن أي : وإنك لمرسل .
فصل
اعلم أنَّه أشار بقوله : « تِلْكَ » إلى القضيَّة المذكورة من نزول التَّابوت ، وغلب الجبابرة على يد داود ، وهو صبيٌّ فقير . ولا شكّ أنَّ هذه الأحوال آياتٌ باهرةٌ دالّة على كمال قدرة الله تعالى وحكمته ، وفي معنى قوله : « بالحق » وجوه :
أحدها : أنَّ المراد : أن تعتبر بها يا محمَّد أنت ، وأمتك في احتمال الشَّدائد في الجهاد ، كما احتملها المؤمنون ، فيما مضى ، وقال « نَتْلُوهَا » ، أي : يتلوها جبريل ، وأضاف ذلك إليه تشريفاً له كقوله : { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفتح : 10 ] .
وثانيها : « بالحق » أي باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب؛ لأنه في كتبهم كذلك من غير تفاوت أصلاً .
وثالثها : أنَّا أنزلنا هذه الآيات على وجه تكون دالَّة على نبوتك بسبب ما فيها من الفصاحة والبلاغة .
ورابعها : « بالحق » ، أي : يجب عليك أن تعلم : أنَّ نزول هذه الآيات من قبل الله تعالى ، وليس من قبل الشياطين ، ولا تحريف الكهنة والسحرة ، وقوله عقيب ذلك : { وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } . يحتمل وجهين :
الأول : أن إخبارك عن هذه القصص من غير تعلُّم ، ولا دراسة دليل على أنَّك رسول وإنما ذكرها وعرفها بسبب الوحي من الله تعالى .
الثاني : أن يكون المراد منه تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم . والمعنى أنك إذا عرفت بهذه الآيات ما جرى على الأنبياء من الخلاف والرد لقولهم ، فلا يعظمن عليك كفر من كفر بك ، وخلاف من خالفك ، لأنَّ لك بهم أسوة وإنَّما بعثوا لتأدية الرِّسالة على سبيل الاختبار ، فلا عتب عليك في خلافهم وكفرهم والوبال في ذلك إنَّما يرجع عليهم .

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
قال القرطبيُّ : قال « تِلْكَ » ، ولم يقل « ذَلِكَ » مراعاةً لتأنيث لفظ الجماعة ، وهي رفع بالابتداء ، و « الرُّسُلُ » نعته ، وخبر الابتداء الجملة وقيل : « الرسل » عطف بيان ، و « فضَّلنا » الخبر .
فصل في مناسبة الآية لما قبلها
قال أبو مسلمٍ : وجه تعلق هذه الآية بما قبلها ، ما ذكر في الآية التي قبلها من تسلية الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، وهو أنَّه أخبر النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بأخبار الأنبياء المتقدّمين ، وأقوال أُممهم لهم ، كسؤال قوم موسى : { أَرِنَا الله جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] ، وقولهم : { اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف : 138 ] . وكقوم عيسى بعد مشاهدة إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله ، فكذبوه ، وراموا قلته ، ثم أقام فريقٌ منهم على الكفر به ، وهم اليهود ، وزعم فريقٌ منهم أنَّهم أولياؤه ، وكالملأ من بني إسرائيل الذين حسدوا طالوت ، ودفعوا ملكه بعد المسألة ، وكذلك ما جرى من أمر النهر ، فذكر ذلك كلَّه تسلية للرَّسول صلى الله عليه وسلم عمّا رأى من قومه من التّكذيب والحسد ، فقال : هؤلاء الرُّسل الذين كلَّم الله بعضهم ، ورفع الباقين درجات ، وأيّد عيسى بروح القدس ، قد نالهم من قومهم ما ذكرناه لك من مشاهدة المعجزات ، فلا يحزنك ما ترى من قومك ، فلو شاء الله لم يختلف أمم أولئك ، ولكن ما قضى الله فهو كائن ، وما قدَّره ، فهو واقع .
فصل
في المراد من تلك الرُّسل أقوال :
أحدها : أنَّ المراد من تقدم ذكرهم من الأنبياء في القرآن كإبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، وموسى وغيرهم - صلوات الله عليهم - .
الثاني : أنَّ المراد من تقدّم ذكرهم في هذه الآية كأشمويل ، وداود ، وطالوت على قول من يجعله نبيّاً .
الثالث : قال الأصمُّ : المراد منه الرُّسل الذين أرسلهم الله لدفع الفساد ، وأشار إليهم بقوله : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض } قوله تعالى : { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ } : يجوز أن يكون حالاً من المشار إليه ، والعامل معنى الإشارة كما تقدَّم ، وقال « تلك » ولم يقل أولئك الرُّسل؛ لأنه ذهب إلى معنى الجماعة كأنه قيل : تلك الجماعة ، ويجوز أن يكون مستأنفاً ، ويجوز أن يكون خبر « تِلْكَ » على أن يكون « الرُّسل » نعتاً ل « تِلْكَ » ، أو عطف بيان أو بدلاً .
فصل في تفاضل الأنبياء
أجمع الأمَّة على أنَّ الأنبياء بعضهم أفضل من بعضٍ ، وأنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل من الكلِّ ، ويدلُّ على ذلك وجوه :
الأول : قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] فلما كان رحمة للعالمين ، لزم أن يكون أفضل من كلِّ العالمين .
الثاني : قوله : { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } [ الشرح : 4 ] قيل فيه لأنه قَرَنَ ذكره بذكره في الشَّهادتين والأذان ، والتّشهد ، ولم يكن ذلك لسائر الأنبياء .
الثالث : أنه تعالى قرن طاعته بطاعته فقال : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } [ النساء : 80 ] وبيعته ببيعته فقال : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفتح : 10 ] وعزته بعزته فقال : { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ } [ المنافقون : 8 ] ورضاه برضاه فقال : { أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] ، وإجابته بإجابته فقال : { استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم } [ الأنفال : 24 ] .
الرابع : أنَّ معجزات سائر الأنبياء قد ذهبت ، ومن بعض معجزاته - عليه الصَّلاة والسَّلام - القرآن ، وهو باقٍ إلى آخر الدَّهر .
الخامس : قوله تعالى بعد ذكر الأنبياء : { أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده } [ الأنعام : 90 ] فأمر محمداً بالاقتداء بهم ، وليس هو الاقتداء في أصول الدين؛ لأن شرعه نسخ سائر الشّرائع ، فلم يبق إلا أن يكون الاقتداء في محاسن الأخلاق ، فكأنه تعالى قال : إنّي أطلعتك على أحوالهم وسيرهم ، فاختر أنت أجودها ، وأحسنها . فمقتضى ذلك أنه اجتمع فيه من الخصال ما كان متفرقاً فيهم ، فوجب أن يكون أفضل منهم .
السادس : أنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - بعث إلى الخلق كلهم ، فوجب أن يكون مشقته أكثر من بعث إلى بعضهم ، فإذا كانت مشقته أكثر كان أجره أكثر ، فوجب أن يكون أفضل .
السابع : أن دين محمَّد أفضل الأديان؛ فيلزم أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء .
بيان الأول : أنَّ الله تعالى جعل دينه ناسخاً لسائر الأديان ، والنَّاسخ أفضل من المنسوخ ، قال تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] . وإنَّما نالت الأمة هذه الفضيلة لمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم وفضيلة التابع توجب فضيلة المتبوع .
الثامن : قال صلى الله عليه وسلم : « آدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ القِيَامَةِ » وذلك يدل على أنه أفضل من آدم ، ومن كل أولاده ، وقال صلى الله عليه وسلم : « أَنَّا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ » وقال صلى الله عليه وسلم : « لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ أَحَدٌ النَّبيِّين حَتَّى أَدْخُلَهَا أَنَا ، ولا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ مِنَ الأُمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أُمَّتي » وروى أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال : « أَنَا أَوَّل النَّاسِ خُرُوجاً إِذَا بُعِثُوا ، وَأَنا خَطِيبُهُم إِذَا وَفَدُوا ، وَأَنَّا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا أيسُوا ، وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلى رَبِّي وَلاَ فَخْرَ » .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : جلس ناسٌ من الصَّحابة يتذاكرون فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثهم فقال بعضهم : عجبأ إنَّ الله اتخذ إبراهيم خليلاً ، وقال آخر : ماذا بأعجب من كلام موسى كلمه تكليماً ، وقال آخر : فعيسى كلمة الله وروحه . وقال آخر : آدم اصطفاه الله ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : « سَمِعْتُ كَلاَمَكُم ، وحُجَّتُكُمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللهِ وهُوَ كَذَلِك ، ومُوسَى نَجِيُّ الله ، وَهُوَ كَذلِكَ ، أَلاَ وَأَنَا حَبِيبُ اللهِ ، وَلاَ فَخْرَ ، وَأَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الحَمْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ ولا فَخْرَ ، وَأَنَا أوّل مَنْ يُحَرِّكُ حَلَقَة الجَنَّة فَيُفْتَحُ لي ، فَأَدْخُلها ، ومَعِي فُقَرَاءُ المُؤْمِنِينَ ، وَأَنَا أَكْرَمُ الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ وَلاَ فَخْرَ » .
التاسع : روى البيهقي في « فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ » - رضي الله عنهم - « أنه ظهر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - من بعيد؛ فقال صلى الله عليه وسلم : » هَذَا سَيِّدُ العَرَبِ « فقالت عائشة رضي الله عنها : ألَسْتَ أَنْتَ سَيِّدَ العَرَبِ؟ فقال : » أَنَا سَيِّدُ العَالَمِينَ وهو سيِّدُ العرب « .
العاشر : جاء في الصحيحين أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : » أُعْطِيتُ خَمْساً لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ من الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي ، وَلاَ فَخْرَ ، بُعِثْتُ إِلَى الأَحْمَرِ ، والأَسْوَدِ ، وكان النَّبي قبل يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ ، وجُعِلَتْ لِي الأرْضُ مَسْجِداً وطَهُوراً وَنُصِرْتُ بالرُّعْبِ أَمَامِي مَسِيرَةَ شَهْرٍ ، وأُحِلَّتْ لِي الغَنَائِمُ ولَمْ تُحَلَّ لأحَدٍ قَبْلِي ، وأُعْطِيتِ الشَّفَاعَةَ ، فادَّخَرْتُهَا لأُمَّتِي ، فهِيَ نائلة إن شاء الله تعالى مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيئاً « .
الحادي عشر : عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : » إِنَّ الله تعالى اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ومُوسَى نَجِيّاً وَاتَّخَذَنِي حَبيباً . قال : وعزَّتي لأوثرنّ حبيبي على خليلي « .
الثاني عشر : أنَّ الله تعالى كلما نادى نبيّاً في القرآن ناداه باسمه قال : { يَاآدَمُ اسكن } [ البقرة : 35 ] { ياعيسى ابن مَرْيَمَ اذكر } [ المائدة : 116 ] { يانوح اهبط } [ هود : 48 ] { ياداوود } [ ص : 26 ] { وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم } [ الصافات : 104 ] { ياموسى إني أَنَاْ رَبُّكَ } [ طه : 11-12 ] وأما النبي صلى الله عليه وسلم فناداه بقوله : { ياأيها النبي } [ الأنفال : 64 ] { ياأيها الرسول } [ المائدة : 41 ] وذلك يفيد التفضيل .
قال القرطبي رحمة الله عليه : فإن قيل : قد روى الثِّقات أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » لاَ تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ وَلاَ تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللهِ « ، فأجاب بعض العلماء عن ذلك ، فقال : كان هذا قبل أن يوحى إليه بالتفضيل ، وقبل أن يعلم أنه سيّد ولد آدم ، وأن القرآن ناسخٌ للمنع من التَّفضيل .
وقال قوم : إنَّ المنع من التَّفضيل إنما هو من جهة النُّبوة ، التي هي خصلة واحدة ، لا تفاضل فيها ، وإنَّما التَّفاضل في زيادة الأحوال ، والكرامات ، والألطاف ، والمعجزات المتباينة .
وأما النُّبوَّة في نفسها ، فلا تفاضل فيها ، وإنما التَّفاضل في أمورٍ أخر زائدةٍ عليها؛ ولذلك منهم » أُولُو العَزْمِ « ، ومنهم من اتُّخِذَ خَليلاً ، ومنهم مَنْ كَلَّم اللهُ ، ورفع بعضهم درجات .
قال القرطبي : وهذا أحسن الأقوال ، فإنَّه جمع بين الآي ، والأحاديث من غير نسخ ، وهكذا القول في الصحابة إن شاء الله تعالى اشتركوا في الصُّحبة ، ثم تباينوا في الفضائل بما منحهم الله من المواهب ، والوسائل ، مع أنَّ الكلَّ شملتهم الصُّحبة والعدالة .
قال ابن الخطيب : فإن قيل إنَّ معجزات سائر الأنبياء ، كانت أعظم من معجزاته ، فإن آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - جعل مسجود الملائكة ، وإبراهيم ألقي في النَّار العظيمة؛ فانقلبت برداً وسلاماً عليه ، وموسى أوتي تلك المعجزات العظيمة من قلب العصا حية تسعى ، وتلقفها ما صنعوا ، وإخراج اليد البيضاء من غير سوء ، وفلق البحر ، وفلق الحجر ، ومكالمة ربه ، وداود ألان له الحديد ، وسخّر الجبال يسبحن معه والطّير ، وسخر لسليمان الجن ، والإنس ، والطير والوحوش والرِّياح ، وعيسى أنطقه في المهد ، وأقدره على إحياء الموتى ، ونفخ فيه من روحه ، وجعله يبرئ الأكمه ، والأبرص ، ولم يكن ذلك حاصلاً لمحمد صلى الله عليه وسلم وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - :
« لاَ تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى » وقال : « لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَكُونَ خَيْراً مِنْ يَحْيى بين زَكَرِيَّا » ، وذكر أنه لم يعمل سيئة قط .
فالجواب : أن كون آدم - عليه الصّلاة والسّلام - مسجوداً للملائكة؛ لا يوجب أَنْ يكون أفضل من محمد - صلى الله عليه وسلم - بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : « آدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لوَائِي يَوْمَ القِيَامَةِ » وقال : « كُنْتُ نَبِيّاً وَآدَمُ بَيْنَ المَاءِ والطِّينِ » ، وروي أَنَّ جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام - أخذ بركاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج ، وهذا أعظم من السُّجُود . وقال تعالى : { إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي } [ الأحزاب : 56 ] - صلى الله عليه وسلم - فصلّى بنفسه على محمَّد ، وأمر الملائكة ، والمؤمنين بالصَّلاة عليه ، وذلك أفضل من سُجُود الملائكة ، وأيضاً ، فإِنَّ سُجُودَ الملائكة لآدم كان تأديباً ، وأمرهم بالصَّلاة على محمد - صلى الله عليه وسلم - تقريباً ، وأيضاً فالصَّلاة على محمد - صلى الله عليه وسلم - [ دائمة إلى يوم القيامة وسجود الملائكة لآدم عليه السَّلام ] لم يكن إلا مرَّةً واحدة ، وأيضاً فإِنَّ الملائكة ، إِنَّما أمروا بالسُّجود لآدم لأجل أَنَّ نور محمد - صلى الله عليه وسلم - في جبهة آدم .
قال القرطبي : وقال ابن قتيبة : إِنَّما أراد بقوله : « أَنا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ » يوم القيامة؛ لأَنَّه الشافع يومئذ وله لواء الحمد والحوض ، وأراد بقوله : « لاَ تُخَيِّرُونِي عَلَى يُونسَ بن مَتَّى » على طريق التواضع ، لأنَّ قوله تعالى : { وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت } [ القلم : 48 ] يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل منه .
فإن قيل : إنه تعالى خصّ آدم بالعلم فقال : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا } [ البقرة : 31 ] وقال في حقّ محمد - صلى الله عليه وسلم - : { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان } [ الشورى : 52 ] وأيضاً فمعلم آدم هو الله تعالى ومحمد معلمه جبريل كما قال : { عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى } [ النجم : 5 ] .
فالجواب : أن الله تعالى قال في علم محمَّد - صلى الله عليه وسلم - : { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً } [ النساء : 113 ] ، وقال : { الرحمن عَلَّمَ القرآن } [ الرحمن : 1-2 ] وقال : { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } [ طه : 114 ] ، وأما قوله : { عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى } ، فذلك بحسب التلقين والمعلم هو الله كقوله : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ } [ السجدة : 11 ] وقال : { الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا } [ الزمر : 42 ] .
فإن قيل : قال نوحٌ - عليه الصَّلاة والسَّلام - { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الذين آمنوا }
[ هود : 29 ] وذلك خلق منه . وقيل لمحمد - صلى الله عليه وسلم - { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } [ الأنعام : 52 ] .
فالجواب : قد قيل لنوح : { أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ نوح : 1 ] فكان أوَّل أمره العذاب . وقيل لنبينا - صلى الله عليه وسلم - : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] ، وعاقبة نوح أن قال : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] وعاقبة النّبي - صلى الله عليه وسلم - الشّفاعة . قال تعالى : { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } [ الإسراء : 79 ] فما أوتي نبي آية إلا أُوتي نبينا مثل تلك الآية ، وفضل على غيره بآيات مثل انشِقاق القمر بإشارته ، وحنين الجذع على مفارقته ، وتسليم الحجر والشّجر عليه ، وكلام البهائم ، والشَّهادة برسالته ، ونبع المَاءِ من بين أصابعه وغير ذلك من المُعجزات ، والآيات الَّتي لا تحصى وأظهرها القرآن الذي عجز أهل السَّماء والأَرض عن الإتيان بمثله .
قوله : { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله } هذه الجملة تحتملُ وجهين :
أحدهما : أَنْ تكونَ لا مَحَلَّ لها من الإِعرابِ لاستئنافها .
والثاني : أنها بدلٌ من جملةِ قوله « فَضَّلْنا » . والجمهورُ على رفع الجلالة على أنه فاعلٌ ، والمفعولُ محذوفٌ وهو عائدُ الموصولِ أي : مَنْ كَلَّمه الله كقوله : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين } [ الزخرف : 71 ] .
وقُرئ بالنصبِ على أنَّ الفاعل ضميرٌ مُستترٌ وهو عائدُ الموصولِ أيضاً ، والجلالةُ نَصْبٌ على التَّعظيم .
وقرأ أبو المتوكل وابن السَّميفع : « كالَمَ اللهَ » على وزن فاعَلَ ، ونصبِ الجلالةِ ، و « كَليم » على هذا معنى مُكَالِم نحو : جَلِيس بمعنى مُجالِس ، وخليط بمعنى مخالطٍ . وفي هذا الكلامِ التفاتٌ؛ لأنه خروجٌ من ضَمِيرِ المتكلّمِ المعظِّم نفسَه في قوله : « فَضَّلْنا » إلى الاسمِ الظَّاهِر الَّذشي هو في حُكْمِ الغائِبِ .
فضل في كلام اللهِ المسموع
اختلفوا في ذلك الكلامِ ، فقال الأشعري وأتباعه هو الكلامُ القديم الأزليُّ الذي ليس بحرف ، ولا صوت قالوا : كما أَنَّه لم يمتنع رُؤية ما ليس بمكيف ، فهكذا لا يستبعد سماع ما ليس بمكيف .
وقال الماتريديُّ : سماع ذلك الكلام محالٌ إِنَّما المَسْموع هو الحرف والصَّوت .
فصل في المراد بالمُكلَّم
اختلفوا هل المُرادُ بقوله : { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله } هل هو موسى وحده أم هو وغيره فقيل : موسى - صلى الله عليه وسلم - وحده ، وقيل : بل هو وغيره .
قالوا : وقد سمع من قوم موسى السّبعون المختارون ، وسمع محمد - صلى الله عليه وسلم - ليلة المِعراج بدليل قوله : { فأوحى إلى عَبْدِهِ مَآ أوحى } [ النجم : 10 ] فإن قيل : قوله تعالى : { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله } إِنَّما ذكره في بيان غاية المنقبة والشّرف لأولئك الأَنبياء الذين كلّمهم الله تعالى ، وقد جاء في القرآن ، مكالمة بين الله ، وبين إبليس ، حيث قال : { فَأَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم } إلى آخر الآيات [ الحجر : 36-38 ] وظاهرها يدلُّ على مكالمة كثيرة بين اللهِ ، وبين إبليس ، فإن كان ذلك يوجب غاية الشَّرف ، فكيف حصل لإبليس؟ فإن لم يوجب شَرَفاً ، فكيف ذكره في معرض التَّشريف لموسى - صلى الله عليه وسلم - حيث قال :
{ وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً } [ النساء : 164 ] .
فالجواب : من وجهين :
أحدهما : أَنَّهُ ليس في قِصَّة إبليس ما يدلُّ على أَنَّ الله تعالى قال في تلك الأجوبة معه من غير واسطة ، فلعلَّ الواسطة كانت موجودة .
الثاني : هَبْ أَنَّهُ كان من غير واسطةٍ ، ولكن مكالمة بالطَّرد واللَّعن فإِنَّ الله يكلِّم خاصَّتَهُ بما يحبُّونَ من التَّقرُّب والإكرام ، ويكلّم من يَهينُهُ بالطَّرْدِ واللَّعْنِ والكلام الموحش فإنه وإِن كان منهما مكالمة لكن إحداهما توجب التَّقرُّبَ والتَّشريف والإكرام ، والأخرى تُوجِبُ البُعدَ ، والإِهانة والطَّرد .
قوله : { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } .
في نصبه ستَّةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحال .
الثاني : أَنَّهُ حالٌ على حذفِ مُضَافٍ ، أي : ذوي درجاتٍ .
الثالث : أَنَّهُ مفعولٌ ثانٍ ل « رفع » على أَنَّهُ ضُمِّنَ معنى بلَّغ بعضهم درجات .
الرابع : أنه بدلُ اشتمالٍ ، أي : رفع درجاتٍ بعضهم ، والمعنى : على درجاتِ بعض .
الخامس : أنه مصدرٌ على معنى الفعل لا لفظه؛ لأَنَّ الدّرجة بمعنى الرَّفعة ، فكأنه قيل : ورَفَع بعضهم رَفعاتٍ .
السادس : أنه على إِسْقاط الخافضِ ، وذلك الخافضُ يَحْتمل أن يَكُون « عَلَى » أو « فِي » ، أو « إلى » تقديره : على درجاتٍ أو في درجاتٍ أو إلى درجات ، فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجر انتصَبَ ما بعده .
فصل في المراد بالدَّرجات
في تلك الدَّرجات وجوهٌ :
أحدها : أَنَّ المُراد منه بيان أَنَّ مراتِب الرُّسل ، ومناصبهم متفاوتة؛ وذلك لأَنَّه تعالى اتَّخَذ إبراهيم خَلِيلاً ، ولم تكن هذه الفضيلة لغيره وجمع لِدَاوُد بين المُلْكِ ، والنُّبوَّةِ ، ولم يحصل هذا لغيره ، وسخَّر لِسُليمان الجِنّ والإنس ، والطير ، والريح ، ولم يحصل هذا لأبيه داود ، وخصّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - بأَنَّه مبعوث إِلى الجن والإنس ، وبِأَنَّ شرعه نسخ سائِرَ الشَّرائع .
الثاني : أَنَّ المراد منه المعجزات ، فَإِنَّ كل واحد من الأَنبياء أوتي نوعاً آخر من المعجزات على ما يَليقُ بزمانه ، فمعجزات موسى هي قلب العصا حيّة ، واليد البيضاء ، وفلق البحر كان كالشّبيه بما كان أهل ذلك العصر مُتقدّمين فيه ، وهو السّحر . ومعجزات عيسى ، وهي إِبراءُ الأَكمه ، والأَبْرَص ، وإِحياء الموتى كالشَّبيه بما كان أهل ذلك العصر مُتقدِّمين فيه ، وهو الطِّبُّ .
ومعجزة محمد - صلى الله عليه وسلم - وهي القرآن كانت من جنس الفصاحة ، والبلاغة والخطَب ، والأَشعارِ ، وبالجملة فالمعجزاتُ متفاوتةٌ بالقلَّةِ والكثرة وعدم البقاء ، وبالقوة وعدم القُوَّةِ .
الثالث : أن المراد بتفاوت الدّرجات ما يتعلّق بالدُّنيا من كثرة الأَتباع والأصحاب وقوَّة الدَّولة ، وإذا تَأَمَّلْتَ هذه الوجوه؛ علمت أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان جامعاً لِلْكُلِّ ، فمنصبه أعلى ومعجزاته أبقى ، وأقوى ، وقومه أكثر ، ودولتُهُ أعظمُ وأوفر .
الرابع : أَنَّ المراد بقوله : { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } هو محمَّد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنَّه هو المفضل على الكُلّ ، وإنما قال « وَرَفَعَ بَعْضَهُم » على سبيل الرَّمْزِ ، لمن فعل فعلاً عظيماً فيقال له : من فعل هذا الفعل؛ فيقول : أحدكم ، أو بعضكم ، ويرِيدُ به نفسهُ وذلك أفخمُ من التَّصريح به ، وقد سُئِل الحُطَيئَةُ عن أَشعرِ النَّاسِ ، فذكر زهيراً ، والنَّابغة ، ثم قال : « ولو شئت لذكرت الثَّالِث » أراد ن فسه .
وقيل : المراد إدريس عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى : { وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } [ مريم : 57 ] ومراتب الأنبياء في السَّمواتِ .
فإن قيل : المفهومُ من قوله { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } هو المفهوم من قوله : « تلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ » ، فما فائدة التكرير؟
فالجواب : أَنَّ قوله : { تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } [ يدل على إثبات تفضيل البعض على البعض ، ولكنّه لا يدلُّ على أَنَّ ذلك التّفضيل ، حصل بدرجة ، أو بدرجات ، فبيَّن بالثَّاني أَنَّ التَّفضِيل بدرجات .
فإن قيل : قوله : { تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } ] كلام كلي ، وقوله بعد ذلك { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله } شروع في تفصيل تلك الجملة وقوله بعد ذلك : { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } ، إعادة لذلك الكلام الكُلّي ، ومعلومٌ أَنَّ إعادَة الكَلاَمِ الكليّ بعد الشُّرُوعِ في تفصيل جُزْئِيَّاتِهِ ، يكون تكراراً .
فالجواب : أَنَّ فيه زيادة على الأَوَّل بقوله : « دَرَجَات » إذ التفصيل أَعَمُّ درجة ودرجات ، فلا تكرار في شيءٍ من ذلك .
قوله : { وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات } . فيه سؤالان :
السُّؤال الأَوَّل : قال في أوَّل الآية : { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } [ ثمَّ عَدَل عن هذا النَّوع من الكلام إلى المغايبة فقال : { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } ] ، ثم عدل من المغايبة إلى النَّوع الأَوَّل فقال : { وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات } فما الفائدة في العدول عن المُخاطبة إلى المغايبة ، ثم عوده إلى المُخاطبة مرَّة أخرى .
والجوابُ : أَنَّ قوله : { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله } أهيب وأكثر وَقْعاً من أن يُقال : منهم من كلمنا ، ولذلك قال : { وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيما } فلهذا اختَارَ لفظ الغيبة .
وأَمَّا قوله { وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات } فإِنَّما اختار لفظ المخاطبة؛ لأن الضَّمير في قوله « وآتَيْنَا » ضمير التَّعظيم ، وضمير تعظيم إحياء الموتى يدلُّ على عظمة الإيتاء .
السُّؤال الثاني : لم خصَّ موسى ، وعيسى - عليهما الصَّلاة والسَّلام - بذكر معجزاتهما؟
والجواب : سبب التَّخصيص : أنَّ معجزاتهما أبهر ، وأقوى من معجزات غيرهما ، وأيضاً ، فأمتهما موجودون حاضرون في هذا الزَّمان ، وأمم سائر الأنبياء ليسوا موجودين ، فتخصيصهما بالذكر تنبيه على الطَّعن في أمتهما ، كأنه قيل هذان الرسولان مع علو درجتهما ، وكثرة معجزاتهما لم يحصل الانقياد من أمتهما لهما ، بل نازعوهما وخالفوهما وأعرضوا عن طاعتهما .
السُّؤال الثالث : تخصيص عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - بإيتاء البيِّنات يوهم أنه مخصوص بالبيِّنات دون غيره ، وليس الأمر كذلك ، فإن موسى صلى الله عليه وسلم أوتي أقوى منها ، أو مساوٍ .
والجواب : أنَّ المقصود من هذا الكلام : التَّنبيه على قبحِ أفعال اليهود ، حيث شاهدوا هذه البيِّنات الواضحة الباهرة ، وأعرضوا عنها .
السُّؤال الرابع : « البيِّنات » جمع قلَّة ، وذلك لا يليق بهذا المقام!
والجواب : لا نسلِّم أنه جمع قلَّة ، لأنَّ جمع السّلامة إنما يكون جمع قلَّة إذا لم يعرَّف بالألف واللام ، فأما إذا عرف بهما؛ فإنه يصير للاستغراق ، ولا يدلُّ على القلَّة .
قوله : { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس } « القُدُس » تثقله أهل الحجاز ، وتخففه تميم .
واختلفوا في تفسيره ، فقال الحسن : القُدُسُ ، هو الله - تعالى - وروحه جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام - والإضافة للتَّشريف .
والمعنى أعناه بجبريل في أوَّل أمره ، ووسطه ، وآخره .
أمَّا أوله؛ فلقوله تعالى : { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [ التحريم : 12 ] .
وأما الوسط ، فلأن جبريل علَّمه العلوم ، وحفظه من الأعداء .
وأما آخر أمره ، فحين أرادت اليهود قتله أعانه جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام - ورفعه إلى السَّماء ، ويدلُّ على أنَّ روح القدس جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام -؛ قوله تعالى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس } [ النحل : 102 ] .
ونقل عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّ روح القدس هو الاسم الذي كان يحيي عيسى عليه السلام به الموتى .
وقال أبو مسلم : روح القدس الذي أيَّده به يجوز أن يكون الروح الطاهرة التي نفخها الله تعالى فيه وميزه بها عن غيره من المخلوقات ممن خلق من اجتماع نطفتي الذكر والأنثى .
قوله : { وَلَوْ شَآءَ الله } مفعوله محذوف ، فقيل : تقديره : ألاّ تختلفوا وقيل : ألاَّ تقتتلوا .
وقيل : ألاَّ تؤمروا بالقتال .
وقيل : أن يضطرَّهم إلى الإيمان ، وكلُّها متقاربة .
و « مِنْ بَعْدِهِمْ » متعلِّقٌ بمحذوفٍ ، لأنه صلةٌ ، والضَّمير يعود على الرُّسل .
وقيل يعود على موسى ، وعيسى ، والاثنان جمع .
قال القرطبيُّ : والأوَّل ظاهر اللَّفظ ، وأنَّ القتال إنَّما وقع ممَّن جاءوا بعدهم وليس كذلك ، بل المراد ما اقتتل الناس بعد كلِّ نبي ، وهذا كما تقول : « اشتريت خيلاً ، ثمَّ بِعْتُهَا » . وهذه عبارة جائزة ، وأنت إنَّما اشتريت فرساً وبعته ثم آخر وبعته ، ثم آخر وبعته ، وكذلك هذه النَّوازل ، إنما اختلف النَّاس بعد كلِّ نبي ، فمنهم من آمن ، ومنهم من كفر بغياً وحسداً .
و { مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ } فيه قولان :
أحدهما : أنه بدلٌ من قوله : « مِنْ بَعْدِهِم » بإعادة العامل .
والثاني : أنه متعلِّقٌ باقتتل ، إذ في البيِّنات - وهي الدلالات الواضحة - ما يغني عن التَّقاتل والاختلاف . والضَّمير في « جَاءَتْهم » يعود على الَّذشين من بعدهم ، وهم أمم الأنبياء .
فصل
تعلق هذه الآية بما قبلها : أنَّ الرسل - عليهم الصَّلاة والسَّلام - لما جاءوا بالبيِّنات ، وأوضحوا الدَّلائل ، والبراهين ، اختلف أقوامهم فمنهم من آمن ، ومنهم من كفر وبسبب ذلك الاختلاف تقاتلوا ، وتحاربوا ، ولو شاء الله ألاَّ يقتتلوا لم يقتتلوا .
واستدلُّوا بهذه الآية على أنَّ الحوادث إنَّما تحدث بقضاء الله وقدره .
ثم قال : { ولكن اختلفوا فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ } وإذا اختلفوا ، فلا جرم اقتتلوا .
وهذه الآية دالَّةٌ على أنَّ الفعل لا يقع إلاَّ بعد حصول الدَّاعي؛ لأنَّه بيَّن أن الاختلاف مستلزم للتقاتل ، والمعنى : أنَّ اختلافهم في الدِّين يدعو إلى المقاتلة ، وذلك يدلُّ على أنَّ المقاتلة لا تقع إلا لهذا الدَّاعي ، ومتى ثبت ذلك ظهر أن الكلَّ بقضاء الله وقدره؛ لأنَّ الدَّواعي تستند لا محالة إلى داعية خلق الله تبارك وتعالى في العبد دفعا للتَّسلسل ، فكانت هذه الآية دالة من هذا الوجه أيضاً على صحَّة هذا المذهب .
قوله : { ولكن اختلفوا } وجه الاستدراك واضحٌ ، فإنَّ « لَكِنْ » واقعةٌ بين ضدّين ، إذ المعنى : ولو شاء الله الاتِّفاق لاتَّفقوا؛ ولكن شاء الاختلاف فاختلفوا . وقال أبو البقاء رحمه الله : « لكنْ » استدراك لما دلَّ الكلام عليه ، لأنَّ اقتتالهم كان لاختلافهم ، ثم بيَّن الاختلاف بقوله : { فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ } ، فلا محلَّ حينئذٍ لقوله : { فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ } .
وكسرت النُّون من { ولكن اختلفوا } لالتقاء السَّاكنين ويجوز حذفها في غير القرآن الكريم ، وأنشد سيبويه : [ الطويل ]
1172- فَلَسْتُ بِآتِيهِ ، وَلاَ أَسْتَطِيعُهُ ... وَلاَكِ اسْقِنِي إِنْ كَانَ مَاؤُكَ ذَا فَضْلِ
قوله : { وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا } فيه قولان :
أحدهما : أنها الجملة الأولى كرِّرت تأكيداً قاله الزمخشري .
وقال الواحدي - رحمه الله - إنما كرَّر ذلك تأكيداً للكلام ، وتكذيباً لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم ولم يجر به قضاء من الله ، ولا قدر .
الثاني : أنها ليست لتأكيد الأولى ، بل أفادت فائدة جديدة ، والمغايرة حصلت بتغاير متعلَّقهما ، فإنَّ متعلَّق الأولى مغايرٌ لمتعلَّق المشيئة الثانية ، والتقدير في الأولى : وَلَوْ شَاءَ اللهُ أن يحول بينهم وبين القتال بأن يسلبهم القوى والعقول ، وفي الثانية : ولو شاء لم يأمر المؤمنين بالقتال ، ولكن شاء أمرهم بذلك .
قوله : { ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } من اختلافهم ، فيوفق من يشاء ، ويخذل من يشاء لا اعتراض عليه في فعله ، وهذه الآية دالَّةٌ على أنَّه تعالى هو الخالق لإيمان المؤمنين ، والخصم يساعد على أنه تعالى يريد الإيمان من المؤمن .
ودلت الآية على أنه يفعل كل ما يريد ، فوجب أن يكون الفاعل لإيمان المؤمن هو الله تعالى ، ولما دلَّت على أنه يفعل ما يريد ، فلو كان يريد الإيمان من الكفَّار لفعل فيهم الإِيمان ، ولكانوا مؤمنين ، ولما لم يكن كذلك ، دلَّ على أنَّه تعالى لا يريد الإيمان منهم فدلَّت الآية على مسألة خلق الأعمال وعلى مسألة إرادة الكائنات .
وقالت المعتزلة : يفعل كل ما يريد من أفعال نفسه ، وهذا ضعيفٌ لوجهين :
أحدهما : أنه تقييدٌ للمطلق .
والثاني : أنَّه على هذا التّقييد تصير الآية من باب إيضاح الواضحات؛ لأنه يصير معنى الآية : أنَّه يفعل ما يفعله .
سأل رجل عليَّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : يا أمير المؤمنين؛ أخبرني عن القدرِ! فقال : طريقٌ مظلمٌ فلا تسلكه . فأعاد السُّؤال فقال : بحرٌ عميقٌ لا تلِجْه ، فأعاد السُّؤال ، فقال : « سِرُّ الله في الأَرْضِ ، قَد خَفِي عَلَيْكَ ، فَلاَ تَفْتِشْهُ » .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
اعلم أنه تعالى لما أمر بالقتال بقوله : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [ البقرة : 244 ] أعقبه بالحض على النفقة في الجهاد فقال : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً } [ البقرة : 245 ] والمقصود منه الإنفاق في الجهاد ، ثمَّ إنَّه أكد الأمر بالقتال بذكر قصَّة طالوت ، ثم أعقبه بالأمر بالإنفاق في الجهاد في هذه الآية الكريمة .
قوله : { أَنْفِقُواْ } : مفعوله محذوفٌ ، تقديره : شيئاً ممَّا رزقناكم ، فعلى هذا { مِمَّا رَزَقْنَاكُم } متعلّقٌ بمحذوفٍ في الأصل لوقوعه صفةً لذلك المفعول ، وإن لم تقدِّر مفعولاً محذوفاً ، فتكون متعلِّقة بنفس الفعل . و « مَا » يجوز أن تكون بمعنى الذي ، والعائد محذوفٌ ، أي : رزقناكموه ، وأن تكون مصدريَّةً ، فلا حاجة إلى عائدٍ ، ولكن الرّزق المراد به المصدر لا ينفق ، فالمراد به اسم المفعول ، وأن تكون نكرةً موصوفةً وقد تقدَّم تحقيق هذا عند قوله تعالى : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] .
قوله : { مِّن قَبْلِ } متعلِّقٌ أيضاً بأنفقوا ، وجاز تعلُّقُ حرفين بلفظٍ واحدٍ بفعلٍ واحدٍ لاختلافهما معنًى؛ فإنَّ الأولى للتَّبعيض والثانية لابتداء الغاية ، و « أَنْ يَأْتي » في محلِّ جرٍّ بإضافة « قبل » إليه ، أي : من قبل إتيانه .
وقوله : { لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ } إلى آخره : الجملة المنفيَّة صفةٌ ل « يَوم » فمحلُّها الرَّفع . وقرأ « بَيْعٌ » وما بعده مرفوعاً منوناً نافع والكوفيون وابن عامر ، وبالفتح أبو عمرو وابن كثير ، وتوجيه ذلك تقدم في قوله تبارك وتعالى : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ } [ البقرة : 197 ] .
والخلَّة : الصَّداقة ، كأنها تتخلَّل الأعضاء ، أي : تدخل خلالها ، أي وسطها .
والخلَّة : الصديق نفسه؛ قال : [ الطويل ]
1173- وَكَانَ لَهَا في سَالِفِ الدَّهْرِ خُلَّةٌ ... يُسَارِقُ بِالطَّرْفِ الخِبَاءَ المُسَتَّرَا
وكأنه من إطلاق المصدر على العين مبالغةً ، أو على حذف مضافٍ ، أي : كان لها ذو خلَّة ، والخليل : الصَّديق لمداخلته إيَّاك ، ويصلح أن يكون بمعنى فاعل ، أو مفعول ، وجمعه « خُلاَّن » ، وفعلان جمع فعيل يقل في الصّفات ، وإنما يكثر في الجوامد نحو : « رُغْفَانٍ » .
قال القرطبيُّ : والخُلَّة : خالص المودَّة [ مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين والخِلالة والخَلالة ، والخُلالة : الصداقة ، والمودة ] ؛ قال الشاعر : [ المتقارب ]
1174- وَكَيْفَ تُواصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ ... خِلاَلَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ
وأبو مرحب كنية الظِّلّ ، ويقال : هو كنية عرقوب الذي قيل فيه : « مواعيد عرقوب » .
والخَلَّة - بالضَّمِّ - أيضاً - ما خالل من النبت يقال : الخلة خبز الإبل ، والحمض فاكهتها .
والخَلَّة : - بالفتح - الحاجة والفقر ، يقال : سدَّ خلته ، أي : فقره .
والخِلَّة بالكسر ابن مَخَاض ، عن الأصمعي : يقال أتاهم بقرص كأنَّه فِرْسِنُ خلة .
والأنثى خلَّة أيضاً ، والخلّة : الخمرة الحامضة .
والخِلَّة - بالكسر - واحدة خلل السُّيوف ، وهي بطائن كانت تغشى بها أجفان السُّيوف منقوشة بالذَّهب وغيره ، وهي أيضاً سُيُور تلبس ظهور سيتي القوس ، والخلّة أيضاً ما يبقى بين الأسنان .
و « هم » يجوز أن تكون فصلاً أو مبتدأ ثانياً ، و { الظالمون } خبره والجملة خبر الأوَّل .
فصل
قالت المعتزلة : لما أمر بالإنفاق من كلِّ ما كان رزقاً ، وبالإجماع لا يجوز الإنفاق من الحرام وجب القطع بأنَّ الرّزق لا يكون إلاّ حلالاً .
وأجاب ابن الخطيب : بأنَّ الأصحاب مخصَّصة بالأمر بالإنفاق ما كان رزقاً حلالاً أو حراماً . واختلفوا في هذه النَّفقة ، فقال الحسن : هذا الأمر مختص بالزكاة قال : لأنَّ قوله { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ } كالوعد والوعيد ، ولا يتوجه الوعيد إلاَّ على الواجب ، وهو قول السُّدي .
وقال الأكثرون : هذا الأمر يتناول الواجب ، والمندوب وليس في الآية وعيد ، فكأنه قال : حصلوا منافع الآخرة حين تكونون في الدُّنيا ، فإنكم في الآخرة لا يمكنكم تحصيلها .
وقال الأصمُّ : المراد منه الإنفاق في الجهاد .
وفي المراد من البيع هنا وجهان :
أحدهما : أنَّه بمعنى الفدية كما قال : { فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ } [ الحديد : 15 ] وقال : { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ } [ البقرة : 123 ] ، وقال : { وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ } [ الأنعام : 70 ] فكأنه قيل من قبل أن يأتي يوم لا تجارة فيه ، فتكسب ما تفتدي به من العذاب .
الثاني : أن يكون المعنى : قدِّموا لأنفسكم من المال الذي هو ملككم قبل أن يأتي اليوم الذي لا يكون فيه تجارة ولا مبايعة يكتسب بسببها شيء من المال .
{ وَلاَ خُلَّةٌ } ولا صداقة ، ونظيره قوله تعالى : { الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين } [ الزخرف : 67 ] وقال { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب } [ البقرة : 166 ] .
وقوله : { وَلاَ شَفَاعَةٌ } يقتضي نفي كلّ الشَّفَاعَاتِ ، فقوله : { وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ } عام في الكل إلاَّ أنَّ سائر الدَّلائل دلَّت على ثبوت المودة والمحبة بين المؤمنين ، وعلى ثبوت الشفاعة بين المؤمنين والسبب في عدم الخلة والشفاعة أمور :
أحدها : أنَّ كل واحد يكون مشغولاً بنفسه . قال تبارك وتعالى : { لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [ عبس : 37 ] .
الثاني : أنَّ الخوف الشَّديد يغلب على كلِّ أحدٍ ] { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ } [ الحج : 2 ] .
الثالث : أنَّه إذا نزل العذاب بسبب الكفر ، أو الفسق صار مبغضاً لهذين الأمرين وإذا صار مبغضاً لهما؛ صار مبغضاً لمن اتَّصف بهما .
وقوله : { والكافرون هُمُ الظالمون } ، ولم يقل « والظَّالِمُونَ هم الكافرون » .
وذكروا في تأويل هذه الآية وجوهاً :
أحدها : أنَّ نفي الخلَّة ، والشَّفاعة مختص بالكافرين ، لأنّه أطلقه ثم عقبه بقوله { والكافرون هُمُ الظالمون } وعلى هذا تصير الآية دالَّةً على إثبات الشَّفاعة في حقّ الفسَّاق .
قال القاضي : هذا التأويل غير صحيحٍ؛ لأن قوله : { والكافرون هُمُ الظالمون } كلام مبتدأ ، فلم يجب تعليقه بما تقدَّم .
والجواب : أنَّا لو جعلناه كلاماً مبتدأً تطرق الخُلْفُ إلى كلام الله تعالى؛ لأنَّ غير الكافرين قد يكون ظالماً ، وإذا علَّقناه بما تقدَّم زال الإشكال .
الثاني : أنَّ معناه أنَّ الله لم يظلم الكافر بإدخاله النَّار ، وإنَّما الكافر هو الذي ظلم نفسه ، حيث اختار الكفر والفسق ، ونظيره قوله تعالى :
{ وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [ الكهف : 49 ] .
الثالث : معناه : أنَّكم أيُّها الحاضرون لا تقتدوا بالكفَّار حيث تركوا تقديم الخيرات ليوم فاقتهم ، وحاجتهم ، ولكن قدّموا لأنفسكم ما يفديها يوم القيامة .
الرابع : { الكافرون هُمُ الظالمون } حيث وضعوا أنفسهم في غير مواضعها لتوقعهم الشَّفاعة بمن لا يشفع لهم عند الله ، لأنهم كانوا يقولون عن الأوثان { هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله } [ يونس : 18 ] وقالوا : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] .
الخامس : المراد من الظلم ترك الإنفاق قال تعالى : { آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئاً } [ الكهف : 33 ] أي أعطت فلم تمنع فيكون معنى الآية الكريمة والكافرون هم التاركون للإنفاق في سبيل الله ، وأمَّ المسلم فلا بدَّ أن ينفق شيئاً قلَّ أو كثر .
السادس : { والكافرون هُمُ الظالمون } أي هم الكاملون في الظلم البالغون الأمر العظيم فيه . ذكر هذه الوجوه القفال .

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
اعلم أنَّ عادته سبحانه وتعالى في هذا الكتاب الكريم أن يذكر علم التَّوحيد ، وعلم الأحكام ، وعلم القصص ، فإنَّ الإنسان إذا بقي في النَّوع الواحد ، كان يوجب بعض الملال فإذا انتقل من نوع إلى نوع آخر ، كان كأنَّه انشرح صدره ، وفرح قلبه ، فكأنه سافر من بلدٍ إلى بلدٍ آخر ، وانتقل من بستان إلى بستان آخر ، أو من تناول طعام لذيذ إلى تناول طعام آخر ، ولا شكّ أنه يكون ألذَّ ، وأشهى ، فلمَّا تقدَّم من علم الأحكام وعلم القصص ما رآه مصلحة ، ذكر الآن ما يتعلَّق بالتَّوحيد .
قوله تعالى : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي } : مبتدأٌ وخبرٌ وهو مرفوعٌ محمولٌ على المعنى ، أي : ما إله إلاَّ هو ، ويجوز في غير القرآن لا إله إلاَّ إيَّاه ، نصب على الاستثناء .
وقيل : { الله } مبتدأٌ ، و { لاَ إله } مبتدأ ثان ، وخبره محذوف تقديره معبود أو موجود .
و { الحي } فيه سبعة أوجه :
أحدها : أن يكون خبراً ثانياً للجلالة .
الثاني : أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف ، أي : هو الحيُّ .
الثالث : بدل من موضع : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } فيكون في المعنى خبراً للجلالة ، وهذا في المعنى كالأول ، إلا أنَّه هنا لم يخبر عن الجلالة إلاَّ بخبرٍ واحدٍ بخلاف الأول .
الرابع : أن يكون بدلاً من « هُوَ » وحده ، وهذا يبقى من باب إقامة الظاهر مقام المضمر ، لأنَّ جملة النَّفي خبرٌ عن الجلالة ، وإذا جعلته بدلاً حلَّ محلَّ الأول ، فيصير التقدير : الله لا إله إلا الله .
الخامس : أن يكون مبتدأٌ وخبره { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } .
السادس : أنه بدلٌ من « اللهِ » .
السابع : أنه صفة لله ، وهو أجودها ، لأنه قرئ بنصب « الحيَّ القَيُّومَ » على القطع ، والقطع إنَّما هو في باب النَّعت ، ولا يقال في هذا الوجه الفصل بين الصِّفة والموصوف بالخبر ، لأنَّ ذلك جائزٌ حسن [ تقول : قائمٌ العاقلُ ] .
و { الحي } فيه قولان :
أحدهما : أن أصله حييٌ بياءين من حيي يحيا فهو حيٌّ ، وإليه ذهب أبو البقاء .
والثاني : أنَّ أصله حيوٌ فلامه واو فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها متطرِّفة ، وهذا لا حاجة إليه ، وكأنَّ الذي أحوج هذا القائل إلى ادِّعاء ذلك أنَّ كون العين ، واللام من واد واحدٍ هو قليل في كلامهم بالنسبة إلى عدم ذلك فيه ، ولذلك كتبوا « الحَيَاةَ » بواوٍ في رسم المصحف العزيز تنبيهاً على هذا الأصل ، ويؤيده « الحَيَوَانُ » لظهور الواو فيه . ولناصر القول الأول أن يقول : قلبت الياء الثانية واواً تخفيفاً؛ لأنَّه لمَّا زيد في آخره ألفٌ ونونٌ استثقل المثلان .
وفي وزنه أيضاً قولان :
أحدهما : أنه فعل .
والثاني : أنَّه فيعل فخُفِّف ، كما قالوا ميْت ، وهيْن ، والأصل : هيّن وميّت .
قال السُّدِّيُّ المراد ب « الحَيّ » الباقي؛ قال لبيدٌ : [ الطويل ]
1175- فَإِمَّا تَرَيْنِي اليَوْمَ أَصْبَحْتُ سَالِماً ... فَلَسْتُ بِأَحْيَا مِنْ كِلاَبٍ وَجَعْفَرِ
وقال قتادة : والحيُّ الذي لا يموتُ والحيُّ اسمٌ من أسمائه الحسنى ، ويقال إنه اسم الله الأعظم .
وقيل إنَّ عيسى ابن مريم - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان إذا أراد أن يحيي الموتى يدعو بهذا الدعاء « يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ » .
ويقال : إنَّ آصف بن برخيا ، لمَّا أراد أن يأتي بعرش بلقيس إلى سليمان - عليه الصَّلاة والسَّلام - دعا بقوله : « يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ » .
ويقال إن بني إسرائيل سألوا موسى عن اسم الله الأعظم فقال لهم « أيا هيا شراهيا » يعني « يا حي يا قيوم » ، ويقال هو دعاء أهل البحر إذا خافوا الغرق يا حي يا قيوم وعن علي - رضي الله عنه - لما كان يوم بدر جئت أنظر ما يصنع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو ساجدٌ يقول « يَا حَيُّ يَا قيُّومُ » ، فترددت مرات ، وهو على حاله لا يزيدعلى ذلك إلى أن فتح الله له .
وهذا يدلُّ على عظمة هذا الاسم .
والقيُّوم : فيعولٌ من : قام بالأمر يقوم به ، إذا دبَّره؛ قال أميَّة : [ الرجز ]
1176- لَمْ تُخْلَقِ السَّمَاءُ والنُّجُومُ ... وَالشَّمْسُ مَعْهَا قَمَرٌ يَعُومُ
قَدَّرَهُ مُهَيْمِنٌ قَيُّومُ ... وَالحَشْرُ وَالجَنَّةُ والنَّعِيمُ
إلاَّ لأَمْرٍ شَأْنُهُ عَظِيمُ ... وأصله « قَيْوُومٌ » ، فاجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت فيها الياء فصار قيُّوماً .
وقرأ ابن مسعود والأعمش ويروى عن عمر : « الحَيُّ القَيَّام » ، وقرأ علقمة : « القَيِّم » وهذا كما يقولون : ديُّور ، وديار ، وديِّر . ولا يجوز أن يكون وزنه فعُّولاً ك « سَفُّود » إذ لو كان كذلك؛ لكان لفظه قوُّوماً؛ لأنَّ العين المضاعفة أبداً من جنس الأصليَّة كسُبُّوح ، وقُدُّوس ، وضرَّاب ، وقتَّال ، فالزَّائد من جنس العين ، فلمَّا جاء بالياء دون الواو؛ علمنا أنَّ أصله فيعول ، لا فعُّول ، وعدَّ بعضهم فيعولاً من صيغ المبالغة كضروبٍ ، وضرَّاب .
قال بعضهم : هذه اللَّفظة عبريَّة؛ لأنَّهم يقولون « حياً قياماً » ، وليس الأمر كذلك؛ لأنا قد بيَّنا أن له وجهاً صحيحاً في اللُّغة .
فصل
اعلم أنَّ تفسير الجلالة قد تقدَّم في أوَّل الكتاب ، والإله؛ قال بعضهم : هو المعبود ، وهو خطأ من وجهين :
الأول : أنه تبارك وتعالى كان إلهاً في الأزل ، وما كان معبوداً .
الثاني : أنَّه تعالى أثبت معبوداً سواه في قوله : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } [ الأنبياء : 98 ] .
قال ابن الخطيب - رحمه الله : وإنما « الإله » هو القادر على ما إذا فعله كان مستحقاً للعبادة ، وأما « الحيُّ » قال المتكلِّمون : هو كلُّ ذاتٍ يصحُّ أن يعلم ، ويقدر ، واختلفوا في أنَّ هذا المفهوم صفةٌ وجوديَّةٌ أم لا ، فقال بعضهم : إنَّه عبارةٌ عن كون الشَّيء بحيث لا يمتنع أنَّه يعلمُ ويقدرُ ، وعدم الامتناع صفةٌ موجودة ، أم لا؟
قال المحقِّقون : لما كانت الحياة عبارةٌ عن عدم الامتناع ، وقد ثبت أنَّ الامتناع أمر عدمي ، إذ لو كان وصفاً موجوداً؛ لكان الموصوف به موجوداً ، فيكون ممتنع الوجود موجوداً ، وهو محالٌ ، وإذا ثبت أنَّ الامتناع عدمٌ وثبت أن الحياة عدم هذا الامتناع ، وثبت أنَّ عدم العدم : وجودٌ ، لزم أن يكون المفهوم من الحياة صفة موجودة ، وهو المطلوب .
قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - : ولقائل أن يقول لمّا كان الحيّ أنَّه الذي يصحّ أن يعلم ، ويقدر ، وهذا القدر حاصلٌ لجميع الحيوانات فكيف يحسن أن يمدح الله نفسه بصفة يشاركه فيها أخس الحيوانات .
والذي عندي في هذا الباب : أنَّ الحيَّ عبارةٌ عن الكامل في نفسه ، ولما لم يكن كذلك مقيداً بأنه كاملٌ في هذا دون ذاك دلّ على أنه كاملٌ على الإطلاق .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّه كان يقول : أعظم أسماء الله - تعالى - « الحيّ القيوم » .
روي أنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - ما كان يزيد على ذكره في السجود يَومَ بَدْرٍ .
والقيوم؛ قال مجاهدٌ : القائم على كلِّ شيءٍ وتأويله قائمٌ بتدبير الخلائق في إيجادهم وأرزاقهم .
وقال الكلبيُّ : القائم على كلّ نفس بما كسبت .
وقال الضحاك : القيُّوم الدَّائم الوجود الذي يمتنع عليه التغيير .
وقيل : القيُّوم الذي لا ينام ، وهذا القول بعيد؛ لأنه يصير قوله - تعالى - { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } تكراراً .
وقال أبو عبيدة : القيُّوم الذي لا يزول .
قوله : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } في هذه الجملة خمسة أوجه :
أحدها : أنها في محلِّ رفع خبراً للحيّ كما تقدَّم في أحد أوجه رفع الحيّ .
الثاني : أنَّها خبرٌ عن الله تعالى عند من يجيز تعدُّد الخبر .
الثالث : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضَّمير المستكنِّ في « القَيُّومِ » كأنَّه قيل : يقوم بأمر الخلق غير غافل ، قاله أبو البقاء رحمه الله تعالى .
الرابع : أنها استئناف إخبارٍ ، أخبر - تبارك وتعالى - عن ذاته القديمة بذلك .
الخامس : أنها تأكيد للقيُّوم؛ لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيُّوماً ، قاله الزَّمخشريُّ ، فعلى قوله إنَّها تأكيدٌ يجوز أن يكون محلُّها النصب على الحال المؤكَّدة ، ويجوز أن تكون استئنافاً ، وفيها معنى التأكيد ، فتصير الأوجه أربعةً .
والسِّنة : النُّعاس ، وهو ما يتقدَّم النَّوم من الفتور؛ قال عديّ بن الرقاع : [ الكامل ]
1177- وَسْنَانُ أَقْصَدَهُ النُّعَاسُ فَرَنَّقَتْ ... في عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنَائِمِ
وهي مصدر وسن يَسِنُ؛ مثل : وَعَد ، يَعِد ، وقد تقدَّم علة الحذف عند قوله { سَعَةً مِّنَ المال } [ البقرة : 247 ] .
فإن قيل : إذا كانت السِّنة عبارةٌ عن مقدِّمة النَّوم ، فقوله تعالى : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } يدلُّ على أنَّه لا يأخذه نومٌ بطريق الأولى ، فيكون ذكر النَّوم تكراراً .
فالجواب : تقدير الآية : لا تأخذه سنة ، فضلاً عن أن يأخذه نومٌ .
وقيل هذا من باب التكميل .
وقال ابن زيد : « الوَسْنَانُ : الَّذِي يَقُومُ مِنَ النَّومِ وهو لا يَعْقِلُ؛ حَتَّى إنَّه رُبَّمَا جَرَّدَ السَّيْفَ على أهْلِهِ » ، وهذا القول ليس بشيء ، لأنَّه لاَ يفهم من لغة العرب ذلك ، وقال المفضَّل : « السِّنَةُ : ثِقَلٌ في الرَّأْسِ ، والنُّعَاسُ في العَيْنَيْنِ ، والنَّوْمُ في القَلْبِ » .
وكُرّرت « لاَ » في قوله تعالى : { وَلاَ نَوْمٌ } تأكيداً ، وفائدتها انتفاء كلِّ واحدٍ منهما ، ولو لم تذكر لاحتمل نفيهما بقيد الاجتماع ، ولا يلزم منه نفيُ كلِّ واحدٍ منهما على حدته ، ولذلك تقول : « مَا قَامَ زيدٌ ، وعمرو ، بل أحدهما » ، [ ولو قلت : « مَا قَامَ زيدٌ وَلاَ عمْرو ، بل أحدهما » ] لم يصحَّ .
فصل في تفسير « الوَسْنَانِ »
والوسنان : بين النَّائم ، واليقظان ، والنَّوم : هو الثَّقيل المزيل للقوَّة والعقل .
وقيل السِّنة : أوَّل النَّوم ، وهو النُّعاس ، والنَّوم : غشيةُ ثقيلةٌ تقع على القلب تمنع المعرفة بالأشياء .
قيل : إنَّ النَّوم عبارةٌ عن ريح تخرج من أعصاب الدِّماغ فإذا وصلت العينين ، حصل النُّعاس ، وإذا وصلت إلى القلب ، حصل النوم .
فصل
والمعنى : لا يغفل عن شيءٍ دقيقٍ ، ولا جليلٍ ، فعبَّر بذلك عن الغفلة ، لأنه سببها ، فأطلق اسم السَّبب على مسببه .
نفى الله - تعالى - عن نفسه النَّوم ، لأنَّه آفةٌ وهو منزَّهٌ عن الآفات؛ ولأنَّهُ تغيُّرٌ ، ولا يجوز عليه التَّغيُّر .
عن أبي موسى قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات ، فقال : « إنَّ اللهَ لاَ يَنَامُ ، وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ ، وَلَكِنَّهُ يَخْفِضُ بَالْقِسْطِ ، ويَرْفَعُهُ وَيُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ حِجابُهُ النُّورُ ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وجهه مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ » .
يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حكى عن موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنَّه وقع في نفسه هل ينام الله تعالى! فأرسل إليه ملكاً فأرَّقه ثلاثاً ، ثمَّ أعطاه قارورتين في كلِّ يدٍ واحدة ، وأمره بالاحتفاظ بهما وكان يتحرَّز بجهده ألا ينام ، فنام في آخر الأمر ، فاطفقت يداه وانكسرت القارورتان فضرب الله - تعالى - ذلك مثلاً له في بيان أنَّه لو كان ينام؛ لم يقدر على حفظ السَّموات والأرض .
واعلم أنَّ مثل هذا لا يمكن نسبته إلى موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - فإن كلَّ من جوَّز النَّوم على الله - تعالى - أو كان شاكاً في جوازه كفر ، فكيف يجوز نسبة هذا إلى موسى - عليه السَّلام - فإن صحَّت هذه الرواية فالواجب نسبة هذا السُّؤال إلى جهال قومه .
قوله : { لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } هي كالتي قبلها إلاَّ في كونها تأكيداً ، و « ما » للشُّمول ، واللاّم في « لَهُ » للملك ، وكرَّر « مَا » تأكيداً ، وذكرها هنا المظروف دون الظرف؛ لأنَّ المقصود نفي الإلهيَّة عن غير الله تعالى ، وأنه لا ينبغي أن يعبد إلاّ هو ، لأنَّ ما عبد من دونه في السَّماء كالشَّمس ، والقمر ، والنجوم أو في الأرض كالأصنام وبعض بني آدم ، فكلُّهم ملكه تعالى تحت قهره ، واستغنى عن ذكر أنَّ السَّموات ، والأرض ملكٌ له بذكره قبل ذلك أنه خالق السَّموات والأرض .
فصل
لما كان المراد من هذه الإضافة الخلق ، والملك ، احتجوا بهذه الآية الكريمة على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى .
قالوا : لأنَّ قوله تعالى { لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } يتناول كل ما في السموات والأرض ، وأفعال العباد من جملة ما في السَّموات والأرض ، فوجب أن تكون منتسبة إلى الله تعالى انتساب الملك والخلق .
فإن قيل : لم قال « لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض » ولم يقل من في السموات .
فالجواب : لما كان المراد إضافة كلِّ ما سواه إليه بالمخلوقيّة ، وكان الغالب عليه ما لا يعقل ، أجرى الغالب مجرى الكلِّ ، فعبر عنه بلفظة « مَا » ، وأيضاً فهذه الأشياء إنَّما أسندت إليه من حيث إنَّها مخلوقة ، وهي غير عاقلةٍ ، فعبر عنه بلفظ « مَا » للتنبيه على أنَّ المراد من هذه الإضافة إليه الإضافة من هذه الجهة .
قوله : { مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ } كقوله : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله } [ البقرة : 245 ] .
قال القرطبيُّ : « مَنْ » رفع بالابتداء ، و « ذَا » خبره ، و « الَّذِي » نعتٌ ل « ذَا » ، أو بدل ولا يجوز أن تكون « ذا » زائدة كما زيدت مع « مَا » ؛ لأنَّ « ما » مبهمة ، فزيدت « ذا » معها لشبهها بها .
و « مَنْ » ، وإن كان لفظها استفهاماً فمعناه النَّفي ، ولذلك دخلت « إلاَّ » في قوله : { إِلاَّ بِإِذْنِهِ } .
و « عِنْدَهُ » فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه متعلِّق بيشفع .
والثاني : أنه متعلِّق بمحذوف لكونه [ حالاً ] من الضَّمير في « يَشْفَعُ » ، أي : يشفع مستقراً عنده ، وقوي هذا الوجه بأنه إذا لم يشفع عنده من هو عنده وقريبٌ منه فشفاعة غيره أبعد وضعَّف بعضهم الحاليَّة بأنَّ المعنى : يشفع إليه .
و { إِلاَّ بِإِذْنِهِ } متعلِّققٌ بمحذوف ، لأنَّه حال من فاعل ، « يَشْفَع » فهو استثناءٌ مفرَّغ ، والباء للمصاحبة ، والمعنى : لا أحد يشفع عنده إلاَّ مأذوناً له منه ، ويجوز أن يكون مفعولاً به ، أي : بإذنه يشفعون كما تقول : « ضَرَب بِسَيْفِهِ » ، أي : هو آلةٌ للضَّرب ، والباء للتعدية .
و « يَعْلَمُ » هذه الجملة يجوز أن تكون خبراً لأحد المبتدأين المتقدمين ، أو استئنافاً ، أو حالاً . والضَّمير فِي « أيْدِيهم » و « خَلْفَهُم » يعود على « مَا » في قوله تعالى : { لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } إلا أنَّه غلَّب من يعقل على غيره . وقيل : يعود على العقلاء ممَّن تضمَّنه لفظ « ما » دون غيرهم . وقيل : يعود على ما دلَّ عليه « مَنْ ذَا » من الملائكة والأنبياء . وقيل : من الملائكة خاصّةً .
فصل
قال مجاهدٌ وعطاءٌ والسديُّ : « مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ » ما كان قبلهم من أمور الدُّنيا « وَمَا خَلْفَهُم » ما يكون خلفهم من أمور الآخرة بعدهم .
وقال الضَّحَّاك والكلبي : « يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ » يعني الآخرة؛ لأنَّهم يقدمون عليها . « وَمَا خَلفَهُمْ » يعني الدُّنيا؛ لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم .
وقال عطاءٌ عن ابن عبَّاس : « مَا بَيْنَ أَيْدِيهِم » من السماء إلى الأرض « وَمَا خَلْفَهُم » يريد ما في السَّموات .
وقال ابن جريج : « مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ » : مضيّ آجالهم « وما خَلْفَهُم » : ما يكون بعدهم .
وقال مقاتل : « مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ » ما كان قبل الملائكة . « وَمَا خَلْفَهُم » أي : ما كان بعد خلقهم .
وقيل : « مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ » ما قدموا من خير وشر « وَمَا خَلْفَهُمْ » ما هم فاعلوه .
والمقصود من هذا الكلام : أنَّه عالم بأحوال الشَّافع ، والمشفوع له ، فيما يتعلَّق باستحقاق الثَّواب والعقاب؛ لأنَّه عالمٌ بجميع المعلومات لا يخفى عليه شيءٌ والشُّفعاء لا يعلمون من أنفسهم أنَّ لهم من الطَّاعة ما يستحقُّون به هذه المنزلة العظيمة عند الله ، ولا يعلمون أنَّ الله هل أذن لهم في تلك الشَّفاعة ، أم لا .
قوله : { بِشَيْءٍ } متعلِّقٌ ب « يحيطون » . والعلم عنا بمعنى المعلوم؛ لأنَّ علمه تعالى الذي هو صفةٌ قائمةٌ بذاته المقدَّسة لا يتبعَّض ، ومن وقوع العلم موقع المعلوم قولهم : « اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا عِلْمَكَ فِينَا » وحديث موسى ، والخَضِر - عليهما الصَّلاة والسَّلام - « مَا نَقَص علمي وعلمُك من علمه إلاَّ كَمَا نقص العُصْفُورُ من هذا البَحْر » ولكون العلم بمعنى المعلوم ، صحَّ دخول التَّبعيض ، والاستثناء عليه . و « مِنْ عِلْمِهِ » يجوز أن يتعلَّق ب « يحيطون » ، وأن يتعلَّق بمحذوف لأنه صفة لشيء ، فيكون في محلِّ جر . و « بمَا شَاءَ » متعلِّقٌ ب « يحيطون » أيضاً ، ولا يضرُّ تعلُّق هذين الحرفين المتَّحدين لفظاً ومعنًى بعاملٍ واحدٍ؛ لأنَّ الثاني ومجروره بدلان من الأول ، بإعادة العامل بطرق الاستثناء ، كقولك : « مَا مَرَرْتُ بأحدٍ إلاَّ بِزَيْدٍ » ، ومفعول « شَاءَ » محذوفٌ تقديره : إلا بما شَاءَ أن يحيطوا به ، وإنما قدَّرته كذلك لدلالة قوله : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ } .
فصل
هؤلاء المذكورون في هذه الآية يحتمل أن يكونوا هم الملائكة ، ويحتمل أن يكونوا الملائكة وسائر من يشفع يوم القيامة من النَّبيين ، والصِّديقين والشهداء والصالحين .
وفي معنى الاستثناء قولان :
أحدهما : أنَّهم لا يعلمون شيئاً من معلوماته إلا ما أراد هو أن يعلمهم كما قالوا : { لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ } [ البقرة : 32 ] .
الثاني : أنَّهم لا يعلمون الغيب إلاَّ بما شاء أن يطلع بعض أنبيائه على بعض الغيب كقوله تعالى { عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ } [ الجن : 26-27 ] .
قوله : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض } : الجمهور على « وَسِعَ » بفتح الواو وكسر السِّين وفتح العين فعلاً ماضياً .
و « كُرْسِيُّه » بالرَّفع على أنَّه فاعله ، وقرئ « وَسْعَ » سكَّن عين الفعل تخفيفاً نحو : عَلْمَ في عَلِمَ . وقرئ أيضاً : « وَسْعُ كُرْسِيِّه » بفتح الواو وسكون السين ورفع العين على الابتداء ، و « كُرْسِيِّه » خفضٌ بالإضافة « السَّمَوَاتُ » رفعاً على أنه خبر للمبتدأ .
واعلم أنه يقال : وَسِعَ فلاناً الشَّيء يَسعهُ سَعَةً إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به ، ولا يسعك هذا أي : لا تطيقه ولا تحتمله ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « لَوْ كَانَ مُوسَى حَيّاً مَا وَسِعَهُ إِلاَّ اتِّبَاعِي » أي : لا يحتمل غير ذلك .
والكُرْسِيُّ : الياء فيه لغير النَّسب ، واشتقاقه من الكِرْسٍ ، وهو الجمع؛ ومنه الكُرَّاسة للصَّحائف الجامعة للعلم؛ ومنه قول العجَّاج : [ الرجز ]
1178- يَا صَاحِ ، هَلْ تَعْرِفُ رَسْماً مُكْرَسا؟ ... قَالَ : نَعَمْ ، أَعْرِفُهُ وَأَبْلَسَا
وقيل : أصله من تراكب الشَّيء بعضه على بعض ، ومنه الكرس أبوال الدَّوابِّ وأبعارها يتلبد بعضها فوق بعض . [ وأكرست الدَّار : إذا كثرت الأبعار والأبوال فيها ، وتلبَّد بعضها فوق بعض ] ، وتكارس الشَّيء : إذا تركب ومنه الكرَّاسة ، لتركب بعض الأوراق على بعضٍ . و « الكُرْسِيُّ » هو هذا الشَّيء المعروف لتركب خشباته بعضها فوق بعضٍ .
وجمعه كراسيّ كبُخْتِيّ وبَخَاتِيّ ، وفيه لغتان : أشهرهما ضمُّ كافه ، والثانية كسرها ، وقد يعبَّر به عن الملك؛ لجلوسه عليه ، تسميةً للحالِّ باسم المحلِّ؛ ومنه : [ الرجز ]
1179- قَدْ عَلِمَ القُدُّوسُ مَوْلَى القُدْسِ ... أَنَّ أَبَا العَبَّاسِ أَوْلَى نَفْسِ
في مَعْدِنِ المَلْكِ القَدِيمِ الكُرْسِي ... وعن العلم؛ تسميةً للصفة باسم مكان صاحبها؛ ومنه قيل للعلماء : « الكَرَاسِيّ » ؛ قال القاتل : [ الطويل ]
1180- يَحُفُّ بِهِمْ بِيضُ الوُجُوهِ وَعُصْبَةٌ ... كَرَاسِيُّ بِالأَحْدَاثِ حِينَ تَنُوبُ
وصفهم بأنهم عالمون بحوادث الأمور ، ونوازلها؛ ويعبَّر به عن السَّرِّ ، قال : [ البسيط ]
1181- مَا لِي بِأَمْرِكَ كُرْسِيٌّ أُكَاتِمُهُ ... وَلاَ بِكُرْسِيِّ - عَلْمَ اللهُ - مَخْلُوقِ
وقيل : الكرسيُّ لكلِّ شيء : أصله .
فصل في حقيقة « الكُرْسِيّ »
واختلفوا فيه على أربعة أقوال :
أحدها : أنَّه جسم عظيم يسع السَّموات ، والأرض قال الحسن : هو العرش نفسه .
وقال أبو هريرة : الكرسيُّ : موضوعٌ أمام العرش ومعنى قوله : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض } أي : سعته مثل سعة السَّموات والأرض .
وقال السُّدِّيُّ : إنَّه دون العرش ، وفوق السَّماء السَّابعة ، وفي الأخبار أن السموات والأرض في جنب الكرسيّ كحلقة في فلاةٍ ، والكرسي في جنب العرش كحلقة في فلاةٍ .
وأمّا ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : الكرسيُّ : موضع القدمين فمن البعيد أن يقول ابن عباس هو موضع القدمين لأن الله سبحانه وتعالى منزه عن الجوارح .
وثانيها : أنَّ « الكرسي » هو السُّلطان ، والقدرة ، والملك .
ثالثها : هو العلم ، لأنَّ العلم هو الأمر المعتمد عليه « والكُرْسِيُّ » هو الشَّيء الذي يعتمد عليه ، وقد تقدَّم هذا .
ورابعها : ما ختاره القفَّال وهو : أنَّ المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه؛ لأنَّه خاطب الخلق في تعريف ذاته ، وصفاته بما اعتادوه في ملوكهم ، وعظمائهم كما جعل الكعبة بيتاً له يطوف النَّاس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم ، وأمر النَّاس بزيارته ، كما يزورون بيوت ملوكهم .
وذكر في الحجر الأسود : « أنَّهُ يمين اللهِ في أَرْضِهِ » وجعله موضوعاً للتقبيل كما يقبل الناس أيضاً أيدي ملوكهم ، وكذلك ما ذكر في محاسبة العباد يوم القيامة من حضور الملائكة والنبيين والشُّهداء ، ووضع الميزان ، فعلى هذا القياس أثبت لنفسه العرش في قوله : { الرحمن عَلَى العرش استوى } [ طه : 5 ] ووصف العرش بقوله : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء } [ هود : 7 ] ثم قال : { وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش } [ الزمر : 75 ] ثم قال : { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } [ الحاقة : 17 ] وقال : { الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ } [ غافر : 7 ] ، وكذلك إثبات الكرسيّ .
وقال ابن الخطيب - رحمه الله - : وهذا جوابٌ مبيّن إلاَّ أنَّ المعتمد هو الأوَّل ، وأنَّ ترك الظَّاهر بغير دليل لا يجوز .
قوله : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } يقال : آده كذا ، أي : أثقله ، ولحقه منه مشقَّةٌ؛ قال القائل : [ الطويل ]
1182- أَلاَ مَا لِسَلْمَى اليَوْمَ بَتَّ جَدِيدُهَا ... وَضَنَّتْ وَمَا كَانَ النَّوَالُ يُؤُودُها
أي : يثقلها ، ومنه الموءودة للبنت تدفن حيّة ، لأنَّهم يثقلونها بالتُّراب . وقرئ : « يَوْدُهُ » بحذف الهمزة ، كما تحذف همزة « أُنَاسٍ » ، وقرئ « يُوُودُهُ » بإبدال الهمزة واواً .
و « حِفْظ » : مصدرٌ مضافٌ لمفعوله ، أي : لا يَئُودُهُ أن يحفظهما .
و « العَلِيُّ » أصله : « عَلْيِوٌ » ، فأُدْغِمَ؛ نحو : مَيِّتٍ؛ لأنَّه من علا يعلو؛ قال القائل في ذلك البيت : [ الطويل ]
1183- فَلَمَّا عَلَوْنَا وَاسْتَوَيْنَا عَلَيْهِمُ ... تَرَكْنَاهُمُ صَرْعَى لِنَسْرٍ وَكَاسِرِ
فصل في المراد بالعلو
والمراد بالعلو علو القدر والمنزلة لا علو المكان لأن الله سبحانه وتعالى منزه عن التحيز والعلي والعالي القاهر الغالب للأشياء تقول العرب : علا فلان فلاناً أي غلبه وقهره؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
1184- فَلَمَّا عَلَوْنَا . . .. .
البيت المتقدِّم ، وقال تعالى : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض }
[ القصص : 4 ] .
قال ابن الخطيب : لو كان علوُّه بالمكان لكان متناهياً؛ فإنَّ الجزء المفروض فوقه ، أعلى منه ، فلا يكون عليّاً مطلقاً ، وإن كان غير متناه ، وقد دلَّت البراهين اليقينيَّة على استحالة بعدٍ غير متناهٍ .
وأيضاً فلو فرضنا في ذلك نقطاً غير متناهية ، فإن لم يحصل فوق تلك النّقط نقطة ، أخرى ، وكانت تلك النُّقطة طرفاً ، لذلك البعد ، فيكون متناهياً ، وإن لم يوجد في ذلك البعد سفلاً فلا يكون فيها ما هو فوق على الإطلاق ، وذلك ينفي حصول العلوّ المطلق ، ولأنَّ العالم كرة ، فكل علوّ بالنسبة إلى أحد وجهي الأرض هو سفل بالنسبة للوجه الثاني ، فينقلب العلوُّ سفلاً ، ولأن لو كان علُّوه بالمكان ، لكان حصول العلوّ للمكان بالذَّات ، والله تعالى بالعرض ، وما بالذات أشرف منها بالعرض ، فيكون علوُّ المكان أشرف من علوِّه سبحانه ، وذلك باطلٌ .
و { العظيم } تقدَّم معناه ، وقيل : هو هنا بمعنى المعظَّم؛ كما قالوا : « عَتِيقٌ » بمعنى : مُعَتَّق؛ قال القائل : [ الخفيف ]
1185- فَكَأَنَّ الخَمْرَ العَتِيقَ مِنَ الإِسْ ... فَنْطِ مَمْزُوجَةً بِمَاءٍ زُلاَلِ
قيل : وَأُنكر ذلك لانتفاء هذا الوصف . وقيل في الجواب عنه : إنَّه صفة فعلٍ ، كالخلق ، والرِّزق ، والأوَّل أصحُّ .
قال الزَّمخشريُّ : « فإنْ قلت : كَيْفَ تَرَتَّبَتِ الجُملُ في آية الكرسيّ من غير حَرْفِ عطفٍ؟ قلت : ما منها جملةٌ إلاَّ وهي واردةٌ على البيان لما ترتَّبت عليه ، والبيان متَّحدٌ بالمبيَّن ، فلو توسَّط بينهما عاطفٌ لكان كما تقول العرب : » بَيْنَ العَصَا وَلِحَائِهَا « فالأولى بيانٌ لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمناً عليه غير ساهٍ عنه ، والثانية لكونه مالكاً لما يدبِّره ، والثالثة لكبرياء شأنه ، والرابعة لإحاطته بأحوال الخلق وعلمه بالمرتضى منهم ، المستوجب للشَّفاعة وغير المرتضى ، والخامسة لسعة علمه ، وتعلُّقه بالمعلومات كلِّها ، أو لجلاله وعظم قدرته » انتهى . يعني غالب الجمل وإلاَّ فبعض الجمل فيها معطوفة وهي قوله : { وَلاَ يُحِيطُونَ } ، وقوله : { وَلاَ يَؤُودُهُ } وقوله { وَهُوَ العلي العظيم } .
فصل في فضل هذه الآية
في فضل هذه الآية الكريمة روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ما قُرِئَت هذه الآية في دَارٍ إلاَّ اهْتَجَرَهَا الشَّيْطَانُ ثَلاَثِينَ يَوْماً ، ولاَ يَدْخُلُهَا سَاحِرٌ وَلاَ سَاحِرَةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً » .
وعن عليٍّ - رضي الله عنه - قال : سمعت نبيَّكم على أعواد المنبر وهو يقول : « مَنْ قَرَأَ آيَةَ الكُرْسِيِّ في دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ ، لم يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الجَنَّة إِلاَّ المَوْتُ ، ولا يواظب عليها إلاَّ صدّيق ، أو عابدٌ ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه؛ أمَّنه الله على نفسه وجاره ، وجار جاره ، والأبيات التي حوله » .
وتذاكر الصَّحابة أفضل ما في القرآن ، فقال لهم عليٌّ : أين أنتم من آية الكرسيّ قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يَا عَلِيُّ سَيِّدُ البَشَرِ آدَمُ ، وسَيِّدُ العَرَبِ مُحَمَّدٌ ، وَلاَ فَخْرَ ، وَسَيِّدُ الكَلاَمِ القُرْآنُ ، وسَيِّد القُرْآنِ البَقَرَةُ وسَيِّدُ البَقَرَةِ آيةُ الكُرْسِيّ »
وعن أبيّ بن كعبٍ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يَا أبا المنذر؛ أيُّ آيةٍ في كِتَابش اللهِ أعْظَم » ؟ قلت : اللهُ لا إله إلاَّ هو الحيُّ القَيُّومُ ، قال : فضرب صدري ثم قال : « ليَهْنِكَ العِلْمُ يَا أَبَا المُنْذِرِ » ثم قال : « وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ لهذه الآية لِسَاناً وَشَفَتَيْنِ تُقَدِّسُ المَلِكَ عِنْدَ سَاقِ العَرْشِ » .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : « وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زَكَاةِ رمضان فأتاني آت ، فجعل يحثو من الطَّعام ، فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [ إنّي محتاج ، ولي عيالٌ ، ولي حاجة شديدةٌ قال : فخلّيت عنه ، فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم ] » يا أبا هريرة مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ « ؛ قلت يا رسول الله؛ شَكَا حَاجَةً شديدة ، وعيالاً؛ فرحمته ، فخلَّيت سبيله . قال : » أَمَا إِنَّهُ قَدُ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ « فعرفت أنه سيعود ، بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فرصدته ، فجاء يحثو من الطَّعام ، فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : دعني فإنِّي محتاج ولي عيال ولا أعود فرحمته فخليت سبيله ، فأصبحت فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم : » يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة « قلت : يا رسول الله شكا حاجةً ، وعيالاً فرحمته وخلَّيت سبيله قال : » أمَا إنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ ، وسيعود « فعرفت أنه سيعود؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه سيعود فرصدته الثالثة : فجاء يحثو من الطَّعام؛ فأخذته ، فقلت لأرفعنَّك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات أنَّك تزعم ألاَّ تعود ، ثم تعود قال : دعني أُعلّمك كلمات ، ينفعك الله بها ، قلت : ما هي قال : إذا أَوَيْتَ إلى فراشك ، فاقرأ آية الكرسيّ { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } حتى تختم الآية ، فإنَّك لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطانٌ ، حتّى تصبح ، فخلَّيت سبيله فأصبحت ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَا فَعَلْتَ بِأَسِيركَ البَارِحَةَ؟ قلت : يا رسول الله - عليك الصَّلاة والسَّلام - زَعَمَ أنَّه يعلمني كلمات ينفعني الله بها ، فخلّيت سبيله - قال : ما هي قلت : قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسيّ من أولها ، حتى تتمّ الآية ، وقال لي لا يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطان ، حتى تصبح ، وكانوا أحرص شيءٍ على الخير ، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : » أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ ، وهو كَذُوبٌ ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِب منذ ثَلاَث لَيَالٍ يا أبا هُرَيْرَةَ؟ « قلت : لا ، قال : » ذَلِكَ شَيْطَانٌ « .

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
قوله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } : كقوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] وقد تقدَّم . وأل في « الدِّين » للعهد ، وقيل : عوضٌ من الإضافة أي « في دِينِ اللهِ » لقوله تعالى : { فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى } [ النازعات : 41 ] ، أي : تأوي .
والجمهور على إدغام دال « قَد » في تاء « تَبَيَّن » ؛ لأنها من مخرجها .
والرُّشد : مصدر رشد بفتح العين يرشد بضمِّها ، ومعناه في اللُّغة ، إصابة الخير . وقرأ الحسنُ « الرُّشُد » بضمتين كالعنق ، فيجوز أن يكون هذا أصله ، ويجوز أن يكون إتباعاً ، وهي مسألة خلاف أعني ضمَّ عين الفعل . وقرأ أبو عبد الرحمن الرَّشد بفتح الفاء والعين ، وهو مصدر رشد بكسر العين يرشد بفتحها ، وروي عن أبي عبد الرَّحمن أيضاً : « الرَّشَادُ » بالألف .
ومعنى الإكراه نسبتهم إلى كراهة الإسلام . قال الزَّجَّاج : « لاَ تَنْسُبوا إلى الكَرَاهَةِ مَنْ أَسْلَمَ مُكْرِهاً » ، يقال : « أَكْفَرَهُ » نسبه إلى الكفر؛ قال : [ الطويل ]
1186- وَطَائِفَةٌ قَدْ أَكْفَرُوني بِحُبِّهِمْ ... وَطَائِفَةٌ قَالُوا مُسِيٌ وَمُذنِبُ
قوله : { مِنَ الغي } متعلِّقٌ بتبيَّن ، و « مِنْ » للفصل ، والتمييز كقولك : ميَّزت هذا من ذاك . وقال أبو البقاء : « في موضع على أنَّه مفعولٌ » وليس بظاهرٍ؛ لأنَّ معنى كونه مفعولاً به غير لائقٍ بهذا المحلِّ . ولا محلِّ لهذه الجملة من الإعراب؛ لأنَّها استئنافٌ جارٍ مجرى التّعليل لعدم الإكراه في الدين .
والتّبيين : الظهور والوضوح ، بان الشَّيء ، واستبان ، وتبيَّين : إذا ظهر ووضح ومنه المثل : تَبَيَّنَ الصُّبح لذي عينين .
قال ابن الخطيب : وعندي أنَّ الإيضاح ، والتعريف ، إنَّما سمِّي بياناً؛ لأنَّه يوقع الفصلة ، والبينونة بين المقصود وغيره .
والغيُّ : مصدر غوى بفتح العين قال : { فغوى } [ طه : 121 ] ، ويقال : « غَوَى الفَصِيلُ » إذا بَشِمَ ، وإذا جاع أيضاً ، فهو من الأضداد . وأصل الغيّ : « غَوْيٌ » فاجتمعت الياء والواو ، فأُدغمت نحو : ميّت وبابه .
والغيُّ : نقيض الرُّشد : يقال : غَوَى يَغْوِي ، غيّاً ، وغَوَايَةٌ إذا سلك خلاف طريق الرُّشد .
فصل في معنى « الدِّين » في الآية
قال القرطبيُّ : المراد « بالدِّينِ » في هذه الآية الكريمة المعتقد ، والملة بدليل قوله { قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي } .
قال سعيد بن جبير عن ابن عبَّاس : كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة ، لا يعيش لها ولد ، فكانت تنذر لئن عاش لها ولد لتهودنَّه فإذا عاش ولدها جعلته في اليهوديَّة . فلمَّا جاء الإسلام ، وفيهم منهم ، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم عددٌ من أولاد الأنصار ، فأرادت الأنصار استردادهم ، وقالوا : أبناؤنا وإخواننا ، فنزلت : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قَدْ خَيَّرَ اللهُ أَصْحَابَكُمْ ، فإن اخْتَارُوكم فهم منكم ، وإن اخْتَارُوهم ، فأجلوهم مَعَهمْ » .
وقال مجاهد : كان ناسٌ مسترضعين في اليهود من الأوس ، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجلاء بني النّضير قال الذين كانوا مسترضعين فيهم : لنذهبنّ معهم ولندينن بدينهم ، فمنهم أهلوهم وأكرهوهم على الإسلام فنزلت { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين . . .
} .
وقال مسروقٌ : كان لرجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ابنان متنصّران قبل مبعث النَّبي صلى الله عليه وسلم ثم قدما المدينة في نفر من النَّصارى يحملون الطَّعام فلزمهما أبوهما ، وقال لا أدعكما حتى تسلما فأبيا أن يسلما فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « يَا رَسُولَ الله أَيَدْخُلُ بعضي النَّار وأنا أَنْظُرُ ، فأنزل الله تعالى { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } ، فخلى سبيلهما .
وقال قتادة وعطاء : نزلت في أهل الكتاب إذا قبلوا الجزية ، وذلك أنَّ العرب كانت أُمَّة أمّية لم يكن لهم كتاب ، فلم يقبل منهم إلاَّ الإسلام ، فلما أسلموا طوعاً ، أو كرهاً؛ أنزل الله تعالى { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } ؛ فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يسلموا ، أو يقرُّوا بالجزية ، فمن أعطى منهم الجزية ، لم يكره على الإسلام .
وقال ابن مسعود كان هذا في ابتداء الإسلام ، قبل أن يؤمر بالقتال ، فصارت منسوخة بآية السَّيف . ومعنى { تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي } ، أي : تميَّز الحقّ من الباطل ، والإيمان من الكفر ، والهدى من الضّلالة بالحجج والآيات الظَّاهرة .
قوله : { بالطاغوت } متعلِّقٌ ب » يَكْفر « ، والطاغوت بناء مبالغةٍ كالجبروت والملكوت . واختلف فيه ، فقيل : هو مصدرٌ في الأصل ، ولذلك يوحَّد ويذكَّر ، كسائر المصادر الواقعة على الأعيان ، وهذا مذهب الفارسيّ ، وقيل : هو اسم جنس مفردٍ ، فلذلك لزم الإفراد والتَّذكير ، وهذا مذهب سيبويه رحمه الله . وقيل هو جمعٌ ، وهذا مذهب المبرّد ، وهو مؤنّث لقوله تعالى { والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت } [ البقرة : 257 ] قال أبو علي الفارسي : وليس الأمر كذلك ، لأن » الطَّاغُوتَ « مصدر كالرّغبوت ، والرَّهبوت ، والملكوت ، فكما أنَّ هذه الأسماء آحاد ، كذلك هذا الاسم مفردٌ ، وليس بجمع ومما يدلّ على أنَّه مصدر مفرد وليس بجمع قوله تبارك وتعالى : { أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت } ، فأفرد في موضع الجمع ، كما يقال هم رضاً ، وهم عدل انتهى . وهو مؤنَّث لقوله تعالى { والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا } [ الزمر : 17 ] .
وأجاب من ادَّعى التّذكير عن هذا الاستدلال بأنَّه إنما أنَّث هنا؛ لإرادة الآلهة وقال آخرون : ويكون مذكراً ، ومؤنثاً ، وواحداً وجمعاً قال تعالى في المذكر والواحد : { يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت وَقَدْ أمروا أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } [ النساء : 60 ] قوال في المؤنث : { والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا } [ الزمر : 17 ] وقال في الجمع : { يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النور إِلَى الظلمات } [ البقرة : 257 ] . واشتقاقه من طغَى يَطْغَى ، أو من طَغَا يَطْغُو ، على حسب ما تقدَّم أول السورة ، هل هو من ذوات الواو أو من ذوات الياء؟ وعلى كلا التّقديرين ، فأصله طَغَيُوت ، أو طَغَوُوت لقولهم : » طُغْيان « في معناه ، فقلبت الكلمة بأن قدِّمت اللاّم وأُخِّرت العين ، فتحرَّك حرف العلَّة ، وانفتح ما قبله فقلب ألفاً ، فوزنه الآن فلعوت ، وقيل : تاؤه ليست زائدةً ، وإنَّما هي بدلٌ من لام الكلمة ، ووزنه فاعول من الطُّغيان كقولهم » حانوت « ، و » تابوت « ، والتاء فيهما مبدلة من » هَا « التأنيث .
قال مكي « وقد يجُوز أن يكون أصلُ لامه واواً ، فيكون أصله طغووتاً؛ لأنه يقال : طَغَى يَطْغى ويَطْغو ، وطَغَيْتُ وطَغَوْتُ ، ومثله في القلب والاعتلال ، والوزن : حانوت؛ لأَنَّه من حَنا يحنو وأصله حَنَووت ، ثم قُلِب وأُعِلَّ ، ولا يجوزُ أن يكونَ من : حانَ يَحِين لقولهم في الجمعِ حَوانيت » انتهى قال شهاب الدين : كأنَّه لمَّا رأى أنَّ الواوَ قد تُبْدَل تاءً كما في تُجاه ، وتُخَمَة ، وتُراث ، وتُكَأة ، ادَّعى قَلْبَ الواوِ التي هي لامٌ تاءً ، وهذا ليس بشيءٍ .
وقدَّم ذِكْرَ الكفر بالطَّاغوت على ذِكْرِ الإِيمان باللهِ - تعالى - اهتماماً بوجوبِ الكفرِ بالطَّاغوتِ ، وناسبَهَ اتصالُهُ بلفظ « الغَيّ » .
فصل في المراد بالطاغوت
واختلف في الطَّاغوت فقال عمر ، ومجاهدٌ ، وقتادة : هو الشَّيطان .
وقال سعيد بن جبير : هو الكاهن . وقال أبو العالية : هو الساحر . وقال بعضهم : الأَصنام .
وقيل مردة الجنّ والإنس ، وكلُّ ما يطغى الإِنسان .
وقيل : الطَّاغُوتُ هو كلّ ما عُبِدَ مِنْ دون الله ، وكان راضياً بكونه معبُوداً ، فعلى هذا يكُونُ الشَّيطان والكهنة ، والسَّحرة ، وفرعون والنمروذ كلُّ واحد منهم طاغوتاً؛ لأنهم راضون بكونهم معبودين وتكونُ الملائكة ، وعزير ، وعيسى ليسوا بطواغيت ، لأنهم لم يرضوا بأن يكونوا معبودين .
قوله : { وَيْؤْمِن بالله } عطف على الشَّرط وقوله { فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى } جواب الشَّرط ، وفيه دليل على أنَّهُ لا بدّ للكافر من أن يتوب عن الكفر ، ثم يؤمنُ بعد ذلك .
وفيه دليل على أَنَّ درء المفاسد مقدَّمٌ على جلب المصالح؛ لأنَّهُ قدّم الكُفر بالطَّاغوت [ على الإيمان باللهِ اهتماماً به فإن قيل الإيمان باللهِ مستلزم لِلْكُفر بالطَّاغُوت .
قلنا : لا نسلم ، قد يكفر بالطَّاغوت ] ولا يؤمن بالله واستمسك أي : استمسك واعتصم { بالعروة الوثقى } أي العقد الوثيق المحكم في الدِّين .
و « العُرْوَة » : موضعُ شَدِّ الأَيدي ، وأصلُ المادّةِ يَدُلُّ على التَّعلُّق ، ومنه : عَرَوْتُه : أَلْمَمْتُ به متعلِّقاً ، وَاعتراه الهَمُّ : تعلَّق به ، و « الوُثْقى » : فُعْلى للتفضيل تأنيث الأوثق ، كفُضْلى تأنيث الأفضل ، وجمعُها على وُثَق نحو : كُبْرى وكُبَر ، فأمَّا « وُثُق » بضمّتين فجمع وَثيق . وهذا استعارة المحسُوس للمعقول؛ لأَنَّ من أراد إمساك هذا الدِّين تعلّق بالدلائل وأوضحها الدّالة عليه ، ولما كانت دلائِلُ الإِسلام أقوى الدَّلائل وأوضحها وصفها الله تبارك وتعالى بأَنَّها العروة الوثقى .
قال مجاهِدٌ : « العُرْوَةُ الوثقى » الإيمان .
وقال السُّدِّي : الإِسلام .
وقال ابن عباسٍ ، وسعيد بن جبير والضحاك : لا إِله إلاَّ الله .
قوله : { لاَ انفصام لَهَا } كقوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ البقرة : 2 ] والجملةُ فيها ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أن تكونَ استئنافاً ، فلا مَحَلَّ لها حينئذٍ .
والثاني : أنها حالٌ من العُرْوة ، والعاملُ فيها « اسْتَمْسَكَ » .
والثالث : أنها حالٌ من الضميرِ المستتر في « الوُثْقَى » . و « لها » في موضعِ الخبرِ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي : كائنٌ لها . والانفصامُ - بالفَاءِ - القَطْعُ من غير بَيْنُونة ، والقصمُ بالقافِ قَطْعُ بينونةٍ ، وقد يُستعمل ما بالفاءِ مكانَ ما بالقافِ .
والمقصودُ من هذا اللَّفظ المُبالغةُ؛ لأَنَّهُ إذا لم يكن لها انفِصَام ، فأن لا يكون لها انقطاع أولى ، ومعنى الآية : بالعُرْوَة الوثقى التي لا انفصام لها ، والعرب تُضْمِرُ « الَّتي » و « الذي » و « مَن » وتكتفي بصلاتها منها .
قال سلامة بن جندل : [ البسيط ]
1187- وَالعَادِيَاتُ أَسَالِيُّ الدِّمَاءِ بِهَا ... كَأَنَّ أَعْنَاقَهَا أَنْصَابُ تَرْجِيبِ
يريد والعاديات التي قال تعالى : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] أي من له .
قوله : { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } فيه قولان :
أحدهما : أنَّهُ تعالى يسمع قول من يتكلم بالشَّهادتين ، وقول من يتكلَّم بالكُفْر ، ويعلمُ ما في قلب المؤمِنِ من الاعتقاد الطاهر ، وما في قلب الكافر من الاعتقاد الخبيث .
الثاني : روى عطاء عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب إسلام أهل الكِتاب من اليهود الذين كانوا حول المدينة ، وكان يَسْأَلُ الله ذلك سِرّاً ، وعلانية ، فمعنى قوله { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يريدُ لدعائك يا محمَّد عليم بحرصك واجتهادك .

اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
« الوليّ » فعيل بمعنى : فاعل من قولهم : ولي فلان الشَّيء يليه ولاية ، فهو وَال وولى ، وأصله من الوَلْي الَّذي هو القُرْبُ؛ قال الهُذليُّ : [ الكامل ]
1188- .. وَعَدَتْ عَوَادٍ دُونَ وَلْيِكَ تَشْعَبُ
ومنه يقال داري تلي دارها ، أي : تقرب منها ومنه يُقالُ للمحبّ المقارب ولي؛ لأَنَّهُ يقرب منك بالمحبَّةِ والنُّصرة ، ولا يفارقك ، ومنه الوالي؛ لأَنَّه يلي القوم بالتَّدبير والأمر والنّهي ، ومنه المولى ، ومن ثمّ قالوا في خلاف الولاية : العداوة من عدا الشَّيء : إذا جاوزه ، فلأجل هذا كانت العَدَاوةُ خلاف الوِلاَية ومعنى قوله تبارك وتعالى : { الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ } ، أي : ناصرهم ومعينهم ، وقيل : مُحبهم .
وقيل : متولي أمورهم لا يكلهم إلى غيره .
وقال الحسنُ : ولي هدايتهم .
قوله : { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور } ، أي : من الكُفْرِ إلى الإيمان .
قال الواقدي : كلّ ما في القرآن من الظُلُماتِ ، والنور فالمرادُ منه : الكفر والإيمان غير التي في سورة الأنعام { وَجَعَلَ الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] فالمراد منه اللَّيل والنَّهار ، سُمي الكفر ظُلمة لالتباس طريقه ، وسُمي الإسلام نُوراً ، لوضوح طريقه .
وقال أَبو العبَّاس المُقْرىءُ « الظُّلُمَات » على خمسة أوجه :
الأول : « الظُّلُمَاتُ » الكفر كهذه الآية الكريمة .
الثاني : ظُلمة اللَّيلِ قال تعالى : { وَجَعَلَ الظلمات والنور } يعني اللَّيل والنهار .
الثالث : الظُّلُمَات ظلمات البر والبحر والأهوال قال تعالى : { قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ البر والبحر } [ الأنعام : 63 ] أي من أهوالهما .
الرابع : « الظُّلُمَات » بطون الأُمَّهات ، قال تعالى : { فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ } [ الزمر : 6 ] يعني المشيمة والرحم والبطن .
الخامس : بطنُ الحُوتِ قال تعالى : { فنادى فِي الظلمات } [ الأنبياء : 87 ] أي في بطنِ الحوت .
فصل في سبب النُّزولِ
ظاهر الآية يقتضي أنهم كانُوا في الكفر ، ثم أخرجهم اللهُ تعالى من ذلك الكُفْرِ إلى الإِيمان ، وها هنا قولان :
الأول : أَنَّ هذه الآية مختصَّةٌ بمن كان كافراً ، ثم أَسلم ، وذكر في سبب النُّزول روايات :
أحدها : قال مجاهدٌ : نزلت هذه الآية في قوم آمنوا بعيسى ، وقوم كفروا به ، فلما بعث اللهُ سبحانه وتعالى محمداً - عليه الصَّلاة والسَّلام - آمن به من كفر بعيسى وكفر به من آمن بعيسى .
وثانيتهما : أنها نزلت في قوم آمنوا بعيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - على طريقة النَّصَارى ، ثم آمنوا بعده بمحمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - فقد كان إِيمانهم بعيسى حين آمنوا به كفراً ، وظلمةً ، لأَنَّ القول بالاتِّحاد كفرٌ باللهِ تعالى ، أخرجهم من تِلْكَ الظُّلمات إلى نور الإِسلامِ .
وثالثتها : أنها نزلت في كُلِّ كافر أسلم وآمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - .
القول الثاني : أَنْ يحمل اللَّفظ على كُلِّ مَنْ آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - سواء كان ذلك الإيمان بعد كُفْرٍ ، أو لم يكن؛ لأنه إخراج من ظُلُمات الكفر إلى نور الإِسلامِ؛ لقوله تعالى :
{ وَكُنْتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النار فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } [ آل عمران : 103 ] ومعلومٌ أَنهم ما كانوا في النار أَلْبَتَّةَ ، وقال في قِصَّة يُوسُف عليه الصَّلاة والسَّلام { إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } [ يوسف : 37 ] ولم يكن فيها قطّ ، وسمي النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إنساناً يقولُ : أشهد ألا إله إِلا الله ، فقال : « عَلَى الفِطْرَةِ » ، فلما قال : أشهَدُ أَنَّ محمداً رسول اللهِ قال : « خَرَجَ مِنَ النَّارِ » ، ومعلوم أنه ما كان فيها .
روي أنه عليه السَّلامُ أقبل على أَصحابه ، فقال « تَتَهَافَتُونَ فِي النَّارِ تَهَافُتَ الجَرَادِ ، وَهَا أَنَا آخِذٌ بِحُجزِكُم » ومعلوم أَنَّهم ما كانوا متهافتين في النَّارِ .
فصل
استدلَّ بعضُ العُلماء بهذه الآية على أَنَّ الغاية تدخل في المُغيَّا . لقوله تعالى على لسانه - عليه الصلاة والسلام - : « يُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ » فلو لم يدخلون في النُّور لم يخرجهم من الظُّلمات إِلى النُّور ، ولو لم تدخل الغايةُ في المُغيّا ، لما أدخلوهم في النُّور .
فصل
فإن قيل : هذه الآية صريحة في أَنَّ الله سبحانه وتعالى هو الَّذي أخرج الإِنسان من الكُفْر ، وأدخله في الإيمان ، فيلزمُ أن يكون الإِيمانُ بخلق الله تعالى؛ لأَنَّهُ لو حصل بخلق العبد ، لكان العبدُ هو الذي أخرجَ نفسهُ من الكُفر إلى الإِيمان وذلك يناقض صريح الآية .
أَجَاب المعتزلةُ بأَنَّ هذا محمولٌ على نصبِ الأَدلَّةِ وإِرسال الأنبياء ، وإِنزالِ الكُتُبِ ، والتَّرغيب في الإِيمانِ ، والتَّحذير عن الكُفْرِ بأقصى الوجوه :
قال القاضي : وقد نَسَبَ اللهُ الإِضلال إِلى الصَّنَم بقوله تعالى : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس } [ إبراهيم : 36 ] ، لأجل أَنَّ الأَصْنَامَ سبب بوجه ما لضلالهم ، فبأن يضاف الإِخراج من الظُّلمات إلى النُّور إلى الله تعالى مع قوَّةِ الأسبابِ التي فعلها بمن يؤمن أولى .
والجواب : من وجهين :
أحدهما : أَنَّ هذا حمل للَّفظ على خلاف حقيقته .
الثاني : أَن هذه التَّرغيبات إِنْ كانت مؤثرة في ترجيح الدَّاعية ، صار الرَّاجح واجباً والمرجوح ممتنعاً ، وحينئذٍ يبطلُ قولهم ، وإن لم تؤثر في التَّرجيح لم يصحّ تسميتها بالإِخراج .
قوله تعالى : { والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت } : « الذين » مبتدأ أولُ ، وَأَوْلياؤهم مبتدأ ثانٍ ، وَالطَّاغُوتُ : خبرهُ ، والجملةُ خبرُ الأَوَّلِ . وقرأ الحسنُ « الطَّوَاغيت » بالجمع ، وإن كان أصلُه مصدراً؛ لأنه لمَّا أطلق على المعبود مِنْ دُونِ الله اختلفَت أنواعهُ ، ويؤيِّد ذلك عَوْدُ الضميرِ مَجْمُوعاً من قوله : « يُخْرِجونهم » .
قوله : « يُخْرِجونهم » هذه الجُملة وما قبلها من قوله : « يُخْرِجُهم » الأحسنُ ألاَّ يكونَ لها محلٌّ من الإِعرابِ ، لأَنَّهُمَا خَرَجا مخرجَ التفسير للولاية ، ويجوزُ أن يكونَ « يُخْرِجُهم » خبراً ثانياً لقوله : « الله » وَأَنْ يكونَ حالاً من الضَّمير في « وليُّ » ، وكذلك « يُخْرِجُونَهُم » والعاملُ في الحالِ ما في معنى الطَّاغُوتِ ، وهذا نظيرُ ما قاله الفارسيُّ في قوله تعالى :
{ نَزَّاعَةً للشوى } [ المعارج : 16 ] إنها حالٌ العاملُ فيها « لَظَى » وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى و « مَنْ » [ و ] « إِلى » مُتعلِّقان بفعلي الإِخراج .
فإن قيل كيف قال « يُخْرِجُونَهُم مِنَ النُّورِ إِلى الظُّلماتِ » وهم كفارٌ لم يكونوا في نور قطّ .
فالجواب هم اليهود كانوا مؤْمنين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - قبل أنْ يُبعث لما يجدون في كتبهم من نعته ، فلما بُعث كَفَرُوا به .
وقال مُقاتلٌ : يعني كعب بن الأَشرف وحيي بن أخطب ، وسائر رؤوس الضلالة؛ « يُخْرِجُونَهُم » يدعونهم .
وقيل هو على العُموم في حقِّ جميع الكُفَّار ، وقالوا : منعهم إياهم من الدخول فيه إخراج ، كما يَقُولُ الرَّجُل لأبيه أخرجتني من مالك ، ولم يكن فيه ، ولما قدَّمنا في التي قبلها .
فصل في دفع شبهة للمعتزلة
احتجت المعتزلةُ بهذه الآية الكريمة على أَنَّ الكُفْر ليس من الله تعالى ، قالوا : لأنه تعالى أضافه إلى الطَّاغوت لا إلى نفسه .
وأُجيبوا بأَنَّ إسناد هذا إلى الطَّاغُوت مجاز بالاتفاق بيننا وبينكم؛ لأن المراد ب « الطَّاغُوت » على أظهر الأقوال هو الصَّنَمُ ، وإذا كانت هذه الإضافة مجازية بالاتفاق ، خرجت عن أن تكُون حجة لكم .
قوله : { أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } يحتمل أَنْ يرجع ذلك إلى الكُفَّار فقط ويحتمل أَنْ يرجع إلى الكُفَّار والطَّواغيت معاً .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
تقدَّم الكلامُ في { أَلَمْ تَرَ إِلَى } في قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ } [ البقرة : 243 ] قال القرطبيّ : وهذه ألف التوقيف ، وفي الكلام معنى التَّعجب ، أي : أعجبوا له قال الفرَّاء : « أَلَمْ تَرَ » ، بمعنى : هل رأيتَ الَّذي حاجَّ إبراهيم ، وهل رأَيْتَ الَّذي مرَّ على قرية؟
وقرأ عليٌّ رضي اللهُ عنه : بِسُكون الرَّاء وتقدَّم أيضاً توجيهها . والهاءُ في « رَبِّهِ » فيها قولان :
أظهرهما : أنها تعود على « إبراهيم » .
والثاني : على « الَّذِي » ، ومعنى حاجَّه : أظهرَ المغالبة في حجته .
فصل
أعلم أَنَّه تعالى ذكر ها هنا قصصاً ثلاثاً .
الأولى : في بيان إِثبات العالم بالصَّانع ، والثانية والثالثة : في إثبات الحشرِ والنَّشرِ والبعث .
فالأولى مناظرة إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - مع ملك زمانِهِ ، وهي هذه .
قال مجاهِدٌ هو النُّمروذُ بن كنعانَ بن سام بن نُوح ، هو أول من وضع التَّاجَ على رأسه ، وتجبر وادَّعى الرُّبوبية؛ حاجَّ إبراهيم أي : خاصمَهُ وجادله ، واختلفوا في وقتِ هذه المحاجَّةِ . فقال مقاتل : لمّا كسَّرَ الأَصنامَ سجنه النمروذ ، ثم أخرجه ليحرقهُ فقال [ له ] : من رَبُّكَ الذي تَدعُونا إليه؛ فقال : { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } .
وقال آخرون : كان هذا بعد إلقائه في النَّار .
وقال قتادةُ : هو أَوَّلُ من تَجَبَّرَ ، وهو صاحب الصَّرح ببابل .
وقيل هو نُمروذُ بن فالج بن عابر بن شالخ بن أَرفخشذ بن سام ، وحكى السُّهيليُّ أنه النُّمروذُ بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح ، وكان ملكاً على السَّواد ، وكان ملكه الضحاك الَّذي يُعْرَفُ بالأزدهاق وذلك أن النَّاس قحطوا على عهد نمروذ ، وكان النَّاسُ يمتارون من عنده الطَّعام ، وكان إذا أتاه الرَّجلُ في طلب الطَّعام سأَلَ : مَنْ رَبُّكَ فإن قال : أَنْت؛ نال من الطعام فأتاه إبراهيم فيمن أتاه ، فقال له نمروذُ : من رَبُّكَ؛ فقال له إبراهيم : ربيّ الّذِي يُحْيي وَيُمِيتُ . فاشتغل بالمحاجَّة ، ولم يعطه شيئاً ، فرجع إبراهيم عليه الصلاة والسلام فمر على كثيبٍ من رَمْلٍ أعفرٍ ، فأخذ منه تطييباً لقلوبِ أهْلِه إذا دخل عليهم؛ فلما أَتى أَهلهُ ، ووضع متاعه نام فقامت امرأته إلى متاعه ، ففتحته فإذا هو بأجود طعام رأَتهُ؛ فصنعت له منه فقربته إليه ، فقال من أين هذا؟ قالت مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي جئت به ، فعرف أن الله - تعالى - رزقه فَحَمَدَ اللهَ تعالى .
قوله : { أَنْ آتَاهُ الله } فيه وجهان :
أظهرهما : أَنَّهُ مفعولٌ من أجله على حذفِ العِلّة ، أي : لأَنْ آتاه ، فحينئذٍ في محلِّ « أَنْ » الوجهان المشهوران ، أعني النَّصب ، أو الجرِّ ، ولا بُدَّ من تقديرِ حرفِ الجرِّ قبل « أَنْ » ؛ لأَنَّ المفعول مِنْ أجلهِ هنا نَقَّص شرطاً ، وهو عدمُ اتِّحادِ الفاعلِ ، وإنما حُذفت اللامُ ، لأَنَّ حرف الجرِّ يطَّرد حذفُهُ معها ، ومع أنَّ ، كما تقدَّم .
وفي كونِهِ مفعولاً من أجلِهِ وجهان :
أحدهما : أَنَّهُ من باب العكسِ في الكلام بمعنى : أنه وضعَ المُحاجَّة موضع الشُّكْر ، إذ كان مِنْ حقِّه أن يشكرَ في مقابلة إتيانِ المُلْكِ ، ولكنَّهُ عَمِلَ على عكس القضية ، كقوله تعالى : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [ الواقعة : 82 ] ، وتقول : « عَادَاني فُلانٌ؛ لأني أَحسنت إليه » وهو باب بليغٌ .
والثاني : أَنَّ إيتاءَ المُلْكِ حَمَلَه على ذلك؛ لأَنَّهُ أورثه الكِبْرَ وَالبَطَرَ ، فَنَشَأَ عنهما المُحاجَّةُ .
الوجه الثاني : أنَّ « أَنْ » ، وما في حيِّزها واقعةٌ موقعَ ظرفِ الزَّمانِ ، قال الزَّمخشريُّ رحمه الله « وَيَجُوزُ أن يكونَ التَّقديرُ : حاجَّ وقتَ أَنْ آتاهُ اللهُ » . وهذا الذي أجازه الزمخشريُّ فيه نظر؛ لأَنَّهُ إِنْ عنى أَنَّ ذلكَ على حذفِ مُضافٍ ففيه بُعْدٌ من جهةِ أَنَّ المحاجَّة لم تقع وقتَ إِيتاءِ اللهِ له المُلْك ، إِلاَّ أَنْ يُتَجَوَّز في الوقتِ ، فلا يُحْمَل على الظَّاهر ، وهو أنَّ المُحاجَّة وَقَعَت ابتداء إيتاءِ المُلْك ، بل يُحْمَلُ على أنَّ المُحاجَّة وقعت وقتَ وجود المُلْك ، وإن عنى أَنَّ « أَنْ » وما حيِّزها واقعةٌ موقع الظَّرف ، فقد نصَّ النَّحويون على منع ذلك وقالوا : لا يَنُوب عن الظَّرف الزَّماني إلا المصدرُ الصَّريحُ ، نحو : « أَتيتُكَ صِيَاحَ الدِّيكِ » ولو قلت : « أَنْ يصيحَ الدِّيكُ » لم يَجز . كذا قاله أبو حيَّان قال شهاب الدين وفيه نظرٌ ، لأنه قال : « لا ينوبٌ عن الظَّرفِ إلا المصدرُ الصّريح » ، وهذا معارضٌ بأنهم نَصُّوا على أنَّ « ما » المصدريةَ تنوبُ عن الزَّمانِ ، وليست بمصدرٍ صريحٍ .
والضمير في « آتاه » فيه وجهان :
أظهرهما : أَنْ يعودَ على « الَّذِي » ، وهو قول جمهور المفسرين وأَجاز المهدويُّ أن يعودَ على « إِبْرَاهِيم » ، أي : ملك النُّبُوَّة . قال ابن عطيَّة : « هذا تَحاملٌ من التَّأْوِيل » ، وقال أبو حيان : هذا قولُ المعتزلة ، قالوا : لأنَّ الله تعالى قال : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } [ البقرة : 124 ] والمُلْك عهدٌ ، ولقوله تبارك وتعالى : { فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الكتاب والحكمة وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً } [ النساء : 54 ] . وعودُ الضَّمير إِلى أقرب مذكور واجب ، وأقرب مذكورٍ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - وأجيب عن الأَوَّل بأَنَّ الملك حصل لآل إبراهيم ، وليس فيها دلالةٌ على حصوله لإبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - .
وعن الثاني : بأن الذي حاج إبراهيم كان هو المَلِكُ ، فعود الضَّمير إليه أَوْلَى .
قوله : « إِذْ قَالَ » فيه أربعةُ أوجهٍ :
أظهرها : أَنَّهُ معمولٌ لحاجَّ .
والثاني : أن يكون معمولاً لآتاه ، ذكرهُ أبو البقاء . وفيه نظرٌ من حيثُ إنَّ وقت إيتاءِ المُلْكِ ليس وقتَ قولِ إبراهيم ، { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } ، إِلاَّ أَنْ يُتَجَوَّز في الظَّرفِ كما تقدَّم .
والثالث : أن يكون بدلاً من { أَنْ آتَاهُ الله الملك } إذا جُعِلَ بمعنى الوقت ، أجازه الزَّمخشريّ بناءً منه على أَنَّ « أَنْ » واقعةٌ موقعَ الظَّرف ، وقد تقدَّم ضعفُهُ ، وأيضاً فإِنَّ الظّرفين مختلفان ، كما تقدَّم إلا بالتَّجوز المذكورِ .
وقال أبو البقاء رحمه الله « وَذَكَرَ بَعْضُهم أنه بَدَلٌ من » أَنْ آتَاهُ الملك « وليس بشيءٍ؛ لأَنَّ الظرفَ غيرُ المصدرِ ، فلو كان بدلاً لكان غلطاً إلا أَنْ تُجْعَل » إذ « بمعنى » أَنْ « المصدرية ، وقد جاء ذلك » انتهى . وهذا بناءً منه على أنَّ « أَنْ » مفعولٌ من أجله ، وليست واقعةً موقع الظَّرفِ ، أمَّا إِذَا كانت « أَنْ » واقعةٌ موقع الظرف فلا تكون بدل غلط ، بل بدلُ كلِّ من كُلِّ ، كما هو قول الزمخشري وفيه ما تقدَّم بجوابه ، مع أَنَّه يجوزُ أَنْ تكون بدلاً مِنْ « أَنْ آتاهُ » ، و « أَنْ آتَاهُ » مصدرٌ مفعولٌ من أجلِهِ بدلَ اشتمالٍ؛ لأَنَّ وقتَ القولِ لاتِّسَاعِهِ مُشتملٌ عليه وعلى غيره .
الرابع : أَنَّ العامِلَ فيه « تَرَ » منق وله : « أَلَمْ تَرَ » ذكره مكيٌّ رحمه الله تعالى ، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأَنَّ الرُّؤية على كِلاَ المذكورين في نظيرها لم تكن في وقتِ قوله : { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } .
قوله : { الذي يُحْيِي } مبتدأٌ في محلِّ نصب بالقول .
فصل
الظَّاهر أن هذا جواب سؤالٍ سابق غير مذكورٍ؛ لأَنَّ الأَنبياء بعثوا للدَّعوة ومتى ادَّعى الرسالة والدَّعوة ، فلا بدَّ وأن يطالبه المنكر بإثبات أَنَّ للعالم إلهاً؛ ألا ترى لما قال موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - { إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين } [ الشعراء : 16 ] { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين } [ الشعراء : 23 ] فاحتجَّ موسى على إثبات الإِله بقوله { رَبُّ السماوات والأرض } [ الشعراء : 24 ] فكذا ها هنا لما ادَّعى إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - الرِّسالة قال النُّمروذ من ربك؟ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت .
وقرأ حمزة : { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } بإسكان الياء ، وكذلك { حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش } [ الأعراف : 33 ] { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض } [ الأعراف : 146 ] ، و { قُل لِّعِبَادِيَ الذين } [ إبراهيم : 31 ] ، و { آتَانِيَ الكتاب } [ مريم : 30 ] و { مَسَّنِيَ الضر } [ الأنبياء : 83 ] و { مَسَّنِيَ الشيطان } [ ص : 41 ] و { عِبَادِيَ الصالحون } [ الأنبياء : 105 ] ، و { عِبَادِيَ الشكور } [ سبأ : 13 ] و { إِنْ أَرَادَنِيَ الله } [ الزمر : 38 ] ، و { إِنْ أَهْلَكَنِيَ الله } [ تبارك : 28 ] أسكن الياء فيهن حمزة؛ وافق ابن عامر والكسائي في « لعبادي الذين آمنوا » وابن عامر في « آيَاتِي الَّذِين » ، وفتحها الآخرون .
فصل
استدلَّ إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام على إثبات الإله بالإحياء والإماتة ، وهو دليلٌ في غاية القُوَّة لأَنَّهُ لا سبيل إلى معرفةِ اللهِ تعالى إِلاَّ بواسطة أفعاله التي لا يُشاركُهُ فيها أحدٌ من القادرين ، والإحياء والإماتة كذلك؛ لأَنَّ الخلق عاجزون عنهما والعلم بعد الاختيار ضروري ، وهذا الدَّليل ذكره اللهُ تعالى في مواضع من كتابه كقوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] إلى آخرها وقوله : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } [ التين : 4 ، 5 ] وقال : { الذي خَلَقَ الموت والحياة }
[ الملك : 2 ] .
فإن قيل : لِمَ قدَّم هنا ذِكر الحياةِ على الموتِ في قوله { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } ، وقدَّمَ الموتَ على الحياةِ في آياتٍ كقوله { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } [ البقرة : 28 ] وقال { الذي خَلَقَ الموت والحياة } [ الملك : 2 ] ، وحكى عن إِبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - قوله في ثنائِهِ على الله تعالى { والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } [ الشعراء : 81 ] .
فالجواب : أَنَّ الدَّليل إذا كان المقصود منه الدَّعوة إلى اللهِ - تعالى - يجب أَنْ يكون في غاية الوضُوح ، ولا شكّ أَنَّ عجائب الخلقة حال الحياة أكثر ، واطلاع الإِنسان عليها أتم ، فلا جرم قَدَّم ذكر الحياة هُنا .
{ قَالَ أَنَا أُحْيِي } مبتدأٌ ، وخبرٌ منصوب المحلِّ بالقول أيضاً . وأخبر عن « أَنَا » بالجملة الفعلية ، وعن « رَبّي » بالموصولِ بها؛ لأَنَّه في الإِخبار بالموصولِ يُفيد الاختصاص بالمُخبَرِ عنه بخلافِ الثاني ، فإِنَّهُ لم يدَّعِ لنفسه الخسيسة الخصوصية بذلك .
و « أَنَا » : ضميرٌ مرفوعٌ مُنفصلٌ ، والاسمُ منه « أَنَ » والألفُ زائدةٌ؛ لبيان الحركةِ في الوقفِ ، ولذلك حُذِفت وصلاً ، ومن العربِ مَنْ يثبتها مطلقاً ، فقيل : أُجريَ الوصلُ مجرى الوقف؛ قال القائل في ذلك : [ المتقارب ]
1189- وَكَيْفَ أَنَا وَانْتِحَالي القَوَا ... فِي بَعْدَ المَشِيبِ كَفَى ذَاكَ عَارا
وقال آخر : [ الوافر ]
1190- أَنَا سَيْفُ فَاعْرِفُونِي ... حُمَيْداً قَدْ تَذَرَّيْتُ السَّنَاما
والصحيح أنه فيه لغتان ، إحداهما : لغةُ تميم ، وهي إثباتُ ألفه وصلاً ووقفاً ، وعليها تُحْمَلُ قراءةُ نافع فإِنَّه قرأ بثبوت الألف وصلاً قبل همزةٍ مضمومة نحو : { أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ } ، أو مفتوحةٍ نحو : { وَأَنَاْ أَوَّلُ } [ الأعراف : 143 ] ، واختلف عنه في المكسروة نحو : { إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ } [ الشعراء : 115 ] ، وقرأ ابن عامرٍ : { لَّكِنَّا هُوَ الله رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً } [ الكهف : 38 ] على ما سيأتي إن شاء الله تعالى وهذا أحسنُ من توجيه مَنْ يَقُولُ « أُجْري الوصلُ مجرى الوَقْفِ » . واللُّغة الثانية : إثباتُها وَقْفاً وحَذفُها وَصْلاً ، ولا يجوزُ إثباتُها وصلاً إِلاَّ ضرورةً كالبيتين المتقدِّمين . وقيل : بل « أَنَا » كلُّه ضمير .
وفيه لغاتٌ : « أَنا وأَنْ » - كلفظ أَنِ النَّاصبةِ - و « آن » ؛ وكأنه قَدَّم الألف على النون ، فصار « أانَ » ، قيل : إنَّ المراد به الزَّمان ، وقالوا : أَنَهْ ، وهي هاءُ السَّكْتِ ، لا بدلٌ من الألف؛ قال : « هكذا فَرْدِي أَنَهْ » ؛ وقال آخر : [ الرجز ]
1191- إِنْ كُنْتُ أَدْرِي فَعَلَيَّ بَدَنَهْ ... مِنْ كَثْرَةِ التَّخْلِيطِ أَنِّي مَنْ أَنَهْ
وإنما أثبت نافعٌ ألفَه قبل الهمز جمعاً بين اللُّغتين ، أو لأَنَّ النُّطقَ بالهمزِ عسرٌ فاستراح له بالألف لأنها حرفُ مدٍّ .
فصل
قال أكثرُ المفسِّرين : لما احتج إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - على إثبات الإله بالإحياء ، والإماتة؛ دعا النُّمروذ برجلين ، فقتل أحدهما ، واستبقى الآخر ، وقال : أَنَا أيضاً أحيي وأُميت ، فجعل تَرْكَ القتلِ إِحياءً .
قال ابن الخطيب : وعندي أَنَّه بعيد؛ لأَنَّ الظَّاهر من حال إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنه شرح حقيقة الإحياء وحقيقة الإماتة ومتى شرحه امتنع أَن يشتبه على العاقل الإِماتة والإحياء على ذلك الوجه بالإماتة والإحياء بمعنى القتل وتركه ويبعد في الجمع العظيم أَنْ يكونُوا في الحماقة بحيث لا يعرفون هذا القدر من الفرق ، والمرادُ من الآية - واللهُ أعْلَمُ - أن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما احتجّ بالإحياء ، والإِماتة قال المنكر : أتدعي الإِحياء والإِماتة مِن اللهِ ابتداء من غير واسطة الأَسباب الأرضيَّة والسَّماويَّة ، أو بواسطتها .
أَمَّا الأَوَّل : فلا سبيل إليه ، وأَمَّا الثَّاني ، فلا يدلُّ على المقصود ، لأَنَّ الواحد منا يقدر على الإِحياء والإِماتة بواسطة سائر الأسباب فإِنَّ الجماع قد يُفْضي إلى الولد الحيّ بواسطة الأَسباب الأرضيَّة والسَّماويَّة ، وتناول السّم قد يفضي إلى الموت ، فلما ذكر النُّمروذ هذا السُّؤَال على هذا الوجه؛ أجاب إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - فقال : [ هب أَنَّ الإِحياء ، والإماتة ] حصلا من الله تعالى بواسطة الاتِّصالات الفلكية إلاَّ أنه لا بُدَّ لتلك الاتصالات والحركات الفلكية من فاعل مُدَبّر ، فإذا كان المُدبِّر لتلك الحركات الفلكيّة هو اللهُ تعالى؛ كان الإِحياءُ والإماتةُ الصَّادران من البشر بواسطة الأسباب الفلكية والعنصرية ليست كذلك؛ لأنه لا قدرة للبشر على الاتِّصالات الفلكية؛ فظهر الفرقُ .
إذا عرف هذا فقوله تعالى : { فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق } ليس دليلاً آخر ، بل من تمام الدَّليل الأَوَّل؛ ومعناه : أَنَّهُ وإن كان الإحياء والإماتة [ من اللهِ ] بواسطة حركات الأَفلاك إِلاَّ أن حركات الأفلاك من اللهِ تعالى فكان الإِحياء والإماتة أيضاً من الله تعالى ، وأما البشر فإنه وإن صدر منه الإحياء والإماتة بواسطة الاستعانة بالأَسباب السَّماويَّة والأَرضيَّة إلاَّ أن تلك الأَسباب ليس واقعة بقدرته؛ فثبت أَنَّ الإِحياء والإِماتة الصَّادرين عن البشر ليسا على ذلك الوجه ، فلا يصلح نقضاً عليه ، فهذا هو الَّذي اعتقده في كيفيَّة جريان هذه المناظرة ، لا ما هو المشهورُ عند الكلِّ واللهُ أَعلمُ بحقيقة الحال .
قوله : { فَإِنَّ الله } هذه الفاءُ جواب شرطٍ مقدَّر تقديره : قال إبراهيم - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - إِنْ زعمتَ ، أو موَّهْتَ بذلك فإِنَّ اللهَ . ولو كانت الجملةُ محكيَّةً بالقول ، لما دخلت هذه الفاءُ ، بل كان تركيب الكلام : قال إبراهيم : إِنَّ اللهَ يَأْتِي ، وقال أبو البقاء رحمه الله : « دَخَلَتِ الفاءُ؛ إيذاناً بتعلُّق هذه الكلام بما قبلَه ، والمعنى : إذا ادَّعيت الإِحياءَ والإِماتة ، ولم تفهم ، فالحُجَّة أَنَّ الله تعالى يأتي ، هذا هو » المعنى « والباءُ في » بالشَّمْسِ « للتعديةِ ، تقول : أَتَتِ الشَّمْسُ ، وأَتَى اللهُ بها ، أي : أجاءها ، و » مِنَ المَشْرِقِ « و » مِنَ المَغْرِبِ « متعلِّقان بالفعلين قبلهما ، وأجاز أبو البقاء فيهما بعد أَنْ مَنع ذلك أن يكونا حالين ، وجعل التقدير : مُسخَّرةً أو منقادةً قال شهاب الدين - رحمه الله - : وليته استمر على منعه ذلك .
فصل
للناس ها هنا طريقان :
أحدهما : طريقة أكثر المفسِّرين : وهو أنَّ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما رأى من النُّمروذ إِلقاءَ تلك الشُّبهة ، عدل إلى دليل آخَرَ أوضح من الأَوَّل ، فقال : { فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق ، فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب } فزعم هؤلاء أن الانتقال مِنْ دليل إلى دليلٍ أوضح منه جائزٌ للمستدلِّ .
فإن قيل : هلاَّ قال النمروذُ فليأتِ بها ربُّك من المغربِ .
قلنا : الجوابُ من وجهين :
أحدهما : أن هذه المُحاجَّة كانت بعد إلقاء إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - في النَّار وخروجه منها سالماً ، فعلم أَنَّ من قدر على حفظ إبراهيم في تلك النار العظيمة من الاحتراق ، يقدر على أن يأتي بالشَّمس من المغرب .
والثاني : أن الله تعالى خذله وأنساه إيرادَ هذه الشُّبهة؛ نصرةً لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - .
والطريقُ الثاني : قاله المحقِّقون : إن هذا ليس بانتقالٍ من دليل إلى دليلٍ ، بل الدليلُ واحدٌ في الموضعين ، وهو أنا نرى حدوث الأشياء لا يقدر الخلق على إحداثها ، فلا بُدَّ من قادر آخر يتولَّى إحداثها ، وهو سبحانه وتعالى ، ثم إنَّ قولنا : نرى حدوث أشياء لا يقدر الخلق على إحداثها ، أمثلةٌ؛ منها : الإِحياء والإِماتة ، ومنها : السحاب ، والرعد ، والبرق ، ومنها : حركات الأفلاك ، والكواكب ، والمستدلُّ لا يجوز له أن ينتقل من دليل إلى دليلٍ ، ولكن إذا ذكر لإيضاح كلام مثالاً ، فله أن ينتقل مِنْ ذلك المثال إلى مثالٍ آخر ، فيكون ما فعله إبراهيم - عليه السَّلامُ - من باب ما يكونُ الدليلُ فيه واحداً ، إلاَّ أنه يقع الانتقال عند إيضاحه مِنْ مثالٍ إلى مثالٍ آخر ، وليس ما يقع [ من باب الانتقال من دليل إلى دليل آخر ] .
قال ابن الخطيب : وهذا الوجه أحسن من الأوَّل وأليقُ بكلام أهل التحقيق ، وعليه إشكالات من وجوه :
الإشكال الأول : أن صاحب الشُّبهة ، إذا ذكرها وقعت في الأسماع ، وجب على المحقِّ القادر على الجواب أن يجيب في الحال؛ إزالةً لذلك التلبيس والجهل عن العقول ، فلما طعن الملك الكافر في الدَّليل الأوَّل أو في المثال الأول بتلك الشبهة ، كان الاشتغال بإبطال تلك الشبهة واجباً مضيِّقاً ، فكيف يليق بالمعصوم أن يترك ذلك الواجب .
الإشكال الثاني : أن المبطل لمَّا أورد تلك الشُّبهة ، فإذا ترك المحق الجواب عنها ، وانتقل إلى كلام آخر ، أوهم أن كلامه الأوَّل ، كان ضعيفاً ساقطاً ، وأنه ما كان عالماً بضعفه ، وأن ذلك المبطل ، علم وجه ضعفه ، ونبَّه عليه ، وهذا ربما يوجب سقوط شأن المحقِّ ، وهو لا يجوز .
الإشكال الثالث : أنَّه وإن كان يحسن الانتقال من دليلٍ إلى دليلٍ آخر ، أو من مثالٍ إلى مثالٍ آخر ، لكنه يجب أن يكون المنتقل إليه أوضح وأقرب ، وها هنا ليس كذلك؛ لأنَّ جنس الإحياء والإماتة لا قدرة للخلق عليهما ، وأما جنس تحريك الأجسام ، فللخلق قدرةق عليه ولا يبعد في العقل وجود ملكٍ عظيم في الجثة أعظم من السموات ، وأنه هو الذي يحرِّك السموات ، وعلى هذا التقدير فالاستدلال بالإحياء والإماتة على وجود الصَّانع أقوى وأظهر من الاستدلال بطلوع الشَّمس على وجود الصانع ، فكيف يليق بالمعصوم أن ينتقل من الدَّليل الأوضح الأظهر إلى الدليل الخفيِّ .
الإشكال الرابع : أن دلالة الإحياء والإماتة على وجود الصَّانع أقوى وأظهر من دلالة طلوع الشَّمس عليه؛ لأنَّا نرى في ذات الإنسان وصفاته تبدّلات واختلافات ، والتبدُّل قويّ الدلالة على الحاجة إلى المؤثِّر القادر ، وأمَّا الشمس فلا نرى في ذاتها تبدُّلاً ، ولا في صفاتها ، ولا في منهج حركاتها ألبتَّة ، فكانت دلالة الإحياء والإماتة على الصانع أقوى ، فكان العدول منه إلى طلوع الشمس انتقالاً من الأجلى لأقوى للأضعف الأخفى ، وإنه لا يجوز .
الإشكال الخامس : أنَّ النمروذ ، لما لم يستح من معارضة الإحياء والإماتة الصادرين عن الله تبارك وتعالى بالقتل والتخلية ، فكيف يؤمن منه عند استدلال إبراهيم بطلوع الشَّمس أن يقول : طلوع الشمس من المشرق مني ، فإن كان لك إلهٌ ، فقل له يطلعها من المغرب؛ وعند ذلك التزم المحقِّقون من المفسِّرين ذلك ، فقالوا : إنه لو أورد هذا السُّؤال ، لكان من الواجب أن تطلع الشَّمس من المغرب ، ومن المعلوم : أن إفساد سؤاله في الإحياء والإماتة أسهل بكثيرٍ من إلزامه بطلوع الشَّمس من المغرب ، ولا يكون طلوع الشَّمس من المشرق دليلاً على وجود الصَّانع ، وحينئذٍ يصير دليله الثَّاني ضائعاً؛ كما صار دليله الأوَّل ضائعاً ، فالذي حمل سيدنا إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - على أن يترك الجواب عن ذلك السؤال الرَّكيك ، والتزام الانقطاع ، واعترف بالحاجة إلى الانتقال والتمسُّك بدليلٍ لا يمكنه تمشيته ، إلا بالتزام طلوع الشَّمس من المغرب ، وبتقدير أن يأتي بإطلاع الشمس من المغرب ، فإنه يضيع دليله الثَّاني أيضاً كما ضاع الأوَّل ، والتزام هذه المحذورات لا يليق بأقلِّ الناس علماً؛ فضلاً عن أفضل العقلاء ، وأعلم العلماءس ، فظهر بهذا أنَّ الذي أجمع جمهور المفسِّرين عليه ضعيفٌ .
قال ابن الخطيب : وأما الوجه الذي ذكرناه ، فلا يتوجَّه عليه شيءٌ من هذه الإشكالات ، لأنَّا نقول : لما احتجَّ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - بالإحياء والإماتة ، أورد الخصم عليه سؤالاً لا يليق بالعقلاء ، وهو أنَّك إذا ادعيت الإحياء والإماتة لا بواسطةٍ ، فلا تجد إلى إثبات ذلك سبيلاً ، وإن ادعيت حصولها بواسطة حركات الأفلاك ، [ فنظيره أو ما يقرب منه حاصلٌ للبشر؛ فأجاب إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - بأن الإحياء والإماتة ، وإن حصلا بواسطة حركات الأفلاك ] ، لكن تلك الحركات حصلت من الله تعالى ، وذلك لا يقدح في كون الإحياء والإماتة من الله تعالى؛ بخلاف الخلق ، فإنهم لا قدرة لهم على تحريك الأفلاك ، فلا يكون الإحياء والإماتة صادرين منهم ، وعلى هذا تزول الإشكالات المذكورة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
[ قال القرطبيُّ : وروي في الخبر أن الله تعالى قال : « وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى آتِيَ بِالشَّمْسِ مِنَ المَغْرِبِ لِيُعْلَمَ أَنِّي أَنَا القَادِرُ عَلَى ذَلِكَ .
» ] « قوله : { فَبُهِتَ الذي كَفَرَ } الجمهور : » بُهِتَ « مبنيّاً للمفعول ، والموصول مرفوعٌ به ، والفاعل في الأصل هو إبراهيم ، لأنه المناظر له ، ويحتمل أن يكون الفالع في الأصل ضمير المصدر المفهوم من » قَالَ « ، أي : فبهته قول إبراهيم ، وقرأ ابن السَّميفع : » فَبَهَتَ « بفتح الباء والهاء مبنيّاً للفاعل ، وهذا يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون الفعل متعديّاً ، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - ، و » الَّذِي « هو المفعول ، أي : فبهت إبراهيم الكافر ، أي : غلبه في الحجَّة ، أو يكون الفاعل الموصول ، والمفعول محذوفٌ ، وهو إبراهيم ، أي : بهت الكافر إبراهيم ، أي : لمَّا انقطع عن الحجَّة بهته ، أي : سبَّه وقذفه حين انقطع ، ولم تكن له حيلةٌ .
والثاني : أن يكون لازماً ، والموصول فاعلٌ ، والمعنى معنى بهت ، فتتَّحد القراءتان ، أو بمعنى أتى بالبهتان ، وقرأ أبو حيوة : » فَبَهُتَ « بفتح الباء ، وضمِّ الهاء ، كظرف ، والفاعل الموصول ، وحكى الأخفش : فَبَهِتَ بكسر الهاء ، وهو قاصر أيضاً ، فيحصل فيه ثلاث لغاتٍ : بَهَت بفتحهما ، بَهُتَ بضم العين ، بَهِتَ بكسرها .
قال عروة العدويُّ : [ الطويل ]
1192- فَمَا هُوَ إِلاَّ أَنْ أَرَاهَا فُجَاءَةً ... فَأُبْهَتَ حَتَّى مَا أَكَادُ أُجِيبُ
فالمفتوح يكون لازماً ومتعدياً ، قال تعالى : { فَتَبْهَتُهُمْ } [ الأنبياء : 40 ] .
والبَهْتُ : التحيُّر ، والدَّهش ، وبَاهَتَهُ وَبَهَتَهُ واجهه بالكذب ، ومنه الحديث : » إنَّ اليَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ « ، وذلك أن الكذب يحيِّر المكذوب عليه .
ومعنى الآية : أنَّه : بقي مغلوباً لا يجد مقالاً ، ولا للمسألة جواباً .
قوله : { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } . وتأويله على قول أهل السُّنة ظاهر ، وأما المعتزلة ، فقال القاضي : يحتمل وجوهاً :
منها : أنه لا يهديهم؛ لظلمهم وكفرهم للحجاج وللحق ، كما يهدي المؤمن ، فإنه لا بد في الكافر من أن يعجز وينقطع .
ومنها : لا يهديهم بزيادة الهدى والألطاف .
ومنها : لا يهديهم إلى الثواب أو لا يهديهم إلى الجنَّة .
والجواب عن الأول : أنَّ قوله : » لاَ يَهْدِيهِمْ « إلى الحجاج إنما يصحُّ إذا كان الحجاج موجوداً؛ إذ لا حجاج على الكفر .
وعن الثاني : أن تلك الزيادة ، إذا كانت ممتنعةً في حقِّهم عقلاً ، لم يصحَّ أن يقال : إنه تبارك وتعالى لا يهديهم كما لا يقال إنه تبارك وتعالى لا يجمع بين الضِّدَّين ، فلا يجمع بين الوجود والعدم .
وعن الثالث : أنه لم يهدهم للثواب ولم يجز للجنة ذكر فيبعد صرف اللَّفظ إليهما ، بل اللائق بسياق الآية الكريمة أن يقال : إنه تعالى لما أخبر أن الدليل ، لمَّا بلغ في الظهور والحجَّة إلى حيث صار المبطل كالمبهوت عن سماعه ، إلاَّ أن الله تعالى لم يقدِّر له الاهتداء ، لم ينفعه ذلك الدليل الظَّاهر ، ونظير هذا التفسير قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملاائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } [ الأنعام : 111 ] .

أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
هذه القصة الثانية والجمهور على سكون واو « أَوْ » وهي هنا للتفضيل ، وقيل : للتخيير بين التعجُّب من شأنهما ، وقرأ سفيان بن حسين « أَوَ » بفتحها ، على أنها واو العطف ، والهمزة قبلها للاستفهام .
وفي قوله : « كَالَّذِي » أربعة أوجهٍ :
أحدها : أنه عطفٌ على المعنى وهو قولٌ عند الكسائي والفرَّاء وأبي علي الفارسيِّ وأكثر النحويّين ، قالوا : ونظيره من القرآن قوله تعالى : { قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } [ المؤمنون : 84-85 ] ثم قال : { مَن رَّبُّ السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } [ المؤمنون : 86-87 ] . فهذا عطف على المعنى؛ لأنَّ معناه : لمن السَّموات؟! فقيل لله؛ وقال الشَّاعر : [ الوافر ]
1193- مُعَاوِيَ ، إِنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ ... فَلَسْنَا بِالجِبَالِ وَلاَ الحَدِيدَا
فحمل على المعنى ، وترك اللفظ ، وتقدير الآية :
هل رأيت كالذي حاجَّ إبراهيم ، أو كالذي مرَّ على قريةٍ ، هكذا قال مكيٌّ ، أمَّا العطف على المعنى ، فهو وإن كان موجوداً في لسانهم؛ كقوله : [ الطويل ]
1194- تَقِيٌّ نَقِيٌّ لَمْ يُكَثِّرْ غَنِيمَةٌ ... بِنَهْكَةِ ذِي قُرْبَى وَلاَ بِحَقَلَّدِ
وقول الأخر في هذين البيتين : [ الوافر ]
1195- أَجِدَّكَ لَنْ تَرَى بِثُعَيْلِبَاتٍ ... وَلاَ بَيْدَانَ نَاجِيَةً ذَمُولاَ
وَلاَ مُتَدَارِكٍ وَاللَّيْلُ طَفْلٌ ... بِبَعْضِ نَوَاشِغِ الوَادِي حُمُولاَ
فإنَّ معنى الأول : ليس بمكثِّر ، ولذلك عطف عليه « وَلاَ بِحَقَلَّد » ، ومعنى الثاني : أجِدَّك لست بِرَاءٍ ، ولذلك عطف عليه « وَلاَ مُتَدَارِكٍ » ، إلا أنهم نصُّوا على عدم اقتياسه .
الثاني : أنه منصوبٌ على إضمار فعل ، وإليه نحا الزمخشريُّ ، وأبو البقاء ، قال الزمخشريُّ : « أو كالَّذِي : معناه أوَ رَأَيْتَ مَثَلَ الَّذِي » ، فحذف لدلالة « أَلَمْ تَرَ » عليه؛ لأنَّ كلتيهما كلمتا تعجُّبٍ ، وهو حسنٌ؛ لأنَّ الحذف ثابتٌ كثيرٌ ، بخلاف العطف على المعنى .
الثالث : أنَّ الكاف زائدةٌ؛ كهي في قوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] ، وقول الآخر : [ السريع أو الرجز ]
1196- فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولْ ... والتقدير : ألم تر إلى الذي حاجَّ ، أو إلى الذي مرَّ على قريةٍ . وفيه ضعفٌ؛ لأنَّ الاصل عدم الزيادة .
والرابع : أنَّ الكاف اسم بمعنى مثل ، لا حرفٌ؛ وهو مذهب الأخفش . قال شهاب الدِّين : وهو الصحيح من جهة الدليل ، وإن كان جمهور البصريين على خلافه ، فالتقدير : ألم تر إلى الذي حاجَّ ، أو إلى مثل الذي مرَّ ، وهو معنى حسنٌ . وللقول باسمية الكاف دلائل مذكورةٌ في كتب القوم ، ذكرنا أحسنها في هذا الكتاب .
منها : معادلتها في الفاعلية ب « مِثْل » في قوله : [ الطويل ]
1197- وَإِنَّكَ لَمْ يَفْخَرْ عَلَيْكَ كَفَاخِرٍ ... ضَعِيفٍ وَلَمْ يَغْلِبْكَ مِثْلُ مُغَلَّبِ
ومنها دخول حروف الجر ، والإسناد إليها . وتقدَّم [ الكلام ] في اشتقاق القرية .
قوله : « وهي خَاوِيَةٌ » هذه الجملة فيها خمسة أوجهٍ :
أحدها : أن تكون حالاً من فاعل « مَرَّ » والواو هنا رابطةٌ بين الجملة الحالية وصاحبها ، والإتيان بها واجبٌ؛ لخلوِّ الجملة من ضمير يعود إليه .
الثاني : أنها حالٌ من « قرية » : إمَّا على جعل « عَلَى عُرُوشِهَا » صفةٌ لقرية على أحد الأوجه الآتية في هذا الجارِّ ، أو على رأي من يجيز الإتيان بالحال من النكرة مطلقاً؛ وهو ضعيف عند سيبويه .
الثالث : أنها حالٌ من « عُرُوشِهَا » مقدَّمةٌ عليه ، تقديره : مرَّ على قرية على عروشها خاويةٌ .
الرابع : أن تكون حالاً من « هَا » المضاف إليها « عُرُوش » قال أبو البقاء : « والعَامِلُ مَعْنَى الإِضَافَةِ ، وهو ضَعِيفٌ مع جوازه » انتهى . والذي سهَّل مجيء الحال من المضاف إليه ، كونه بعض المضاف؛ لأنَّ « العُرُوشَ » بعض القرية ، فهو قريب من قوله تعالى : { مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً } [ الحجر : 47 ] .
الخامس : أن تكون الجملة صفةً لقرية ، وهذا ليس بمرتضى عندهم؛ لأنَّ الواو لا تدخل بين الصفة والموصوف ، وإن كان الزمخشريُّ قد أجاز ذلك في قوله تعالى : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] [ فجعل : « وَلَهَا كِتَابٌ » ] صفةً ، قال : « وتَوَسَّطَتِ الواوُ؛ إيذاناً بإلصاق الصفة بالموصوف » وهذا مذهب سبقه إليه أبو الفتح ابن جنِّي في بعض تصانيفه ، وفي ما تقدَّم ، وكأنَّ الذي سهَّل ذلك تشبيه الجملة الواقعة صفةً ، بالواقعة حالاً ، لأنَّ الحال صفةٌ في المعنى ، ورتَّب أبو البقاء جعل هذه الجملة صفةً لقرية ، على جواز جعل « عَلَى عُرُوشِهَا » بدلاً من « قَرْيَةٍ » على إعادة حرف الجرِّ ، ورتَّب جعل « وَهِي خَاوِيَةٌ » حالاً من العروش ، أو من القرية ، أو من « ها » المضاف إليها ، على جعل « عَلَى عُرُوشِهَا » صفةٌ للقرية ، وهذا نصُّه ، قد ذكرته؛ ليتضح لك ، فإنه قال : وقد قيل : هو بدلٌ من القرية تقديره : مرَّ على قريةٍ على عروشها ، أي : مَرَّ على عروش القرية ، وأعاد حرف الجرِّ مع البدل ، ويجوز أن يكون « عَلَى عُرُوشِهَا » على هذا القول صفةً للقرية ، لا بدلاً ، تقديره : على قرية ساقطةٍ على عروشها ، فعلى هذا لا يجوز أن تكون « وَهِيَ خَاوِيَةٌ » حالاً من العروش وأن تكون حالاً من القرية؛ لأنها قد وصفت ، وأن تكون حالاً من « هَا » المضاف إليه ، وفي هذا البناء نظرٌ لا يخفى .
قوله : { على عُرُوشِهَا } فيه أربعة أوجهٍ :
أحدها : أن يكون بدلاً من « قرية » بإعادة العامل .
الثاني : أن يكون صفةً ل « قَرْيَةٍ » كما تقدَّم فعلى الأول : يتعلَّق ب « مَرَّ » ؛ لأنَّ العامل في البدل العامل في المبدل منه ، وعلى الثاني : يتعلَّق بمحذوفٍ ، أي : ساقطةٍ على عروشها .
الثالث : أن يتعلَّق بنفس خاوية ، إذا فسَّرنا « خَاوِيَةٌ » بمعنى متهدِّمة ساقطة .
الرابع : أن يتعلَّق بمحذوفٍ يدلُّ عليه المعنى ، وذلك المحذوف قالوا : هو لفظ « ثَابِتَةٌ » ؛ لأنهم فسَّروا « خَاوِيَةٌ » بمعنى : خاليةٌ من أهلها ثابتةٌ على عروشها ، وبيوتها قائمة لم تتهدَّم ، وهذا حذفٌ من غير دليلٍ ، ولا يتبادر إليه الذهن ، وقيل : « عَلَى » بمعنى « مَعَ » ، أي : مع عروشها ، قالوا : وعلى هذا فالمراد بالعروش الأبنية .
وقيل : « عَلَى » بمعنى « عَنْ » أي : خاويةٌ عن عروشها ، جعل « عَلَى » بمعنى « عَنْ » كقوله : { إِذَا اكتالوا عَلَى الناس } [ المطففين : 2 ] أي : عنهم .
والخاوي : الخالي . يقال : خوت الدار تخوي خواءً بالمد ، وخويّاً ، وخويت - أيضاً - بكسر العين تَخْوَى خَوّى بالقصر ، وخَوْياً ، والخَوَى : الجوع؛ لخلوِّ البطن من الزَّاد . والخويُّ على فعيل : البطن السَّهل من الأرض ، وخوَّى البعير : جَافَى جنبه عن الأرض؛ قال القائل في ذلك : [ الرجز ]
1198- خَوَّى عَلَى مُسْتَوِيَاتٍ خَمْسِ ... كِرْكِرَةٍ وَثَفِنَاتٍ مُلْسِ
ومنه الحديث : « كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إِذَا سَجَدَ خَوَّى » أي : خلا عن عضده ، وجنبيه ، وبطنه ، وفخذيه ، وخوَّى الفرس ما بين قوائمه ، ويقال للبيت إذا انهدم خوى؛ لأنه بتهدمه يخلو من أهله ، وكذلك خوت النجوم وأخوت إذا سقطت .
والعُرُوشُ : جمع عرش ، وهو سقف البيت ، وكذلك كلُّ ما هُيِّىءَ ليستظلَّ به ، وقيل : هو البنيان نفسه؛ قال القائل في ذلك : [ الكامل ]
1199- إِنْ يَقْتُلُوكَ فَقَدْ ثَلَلْتَ عُرُوشَهُمْ ... بِعُتَيْبَةَ بْنِ الحَارِثِ بِنْ شِهَابِ
اختلفوا في الذي مرَّ بالقرية فقال مجاهد ، وأكثر المفسرين من المعتزلة : كان رجلاً كافراً شاكّاً في البعث .
وقال قتادة ، وعكرمة ، والضحاك ، والسديُّ : هو عُزَيرُ بن شرخيا .
وقال وهب بن منبه ، ورواه عطاء ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - هو إرمياء بن خلقيا ، ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم : إنَّ إرمياء هو الخضر - عليه السَّلام - ، وهو من سبط هارون بن عمران - عليه الصَّلاة والسَّلام - وهو قول محمد بن إسحاق .
وقال وهب بن منبِّه : إنَّ إرمياء ، هو النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي بعثه الله عندما خرَّب بخت نصَّر بيت المقدس ، وأحرق التوراة .
واحتجَّ من قال إنه كان كافراً بوجوه :
الأول : استبعاده الإحياء بعد الإماتة من الله وذلك كفرٌ .
فإن قيل : يجوز وقوع ذلك منه قبل البلوغ .
قلنا : لو كان كذلك ، لم يجز أن يعجب الله رسوله منه إذ الصَّبيُّ لا يتعجَّب من شكِّه في مثل ذلك ، وضعَّفوا هذه الحجة؛ بأن ذلك الاستبعاد ما كان بسبب الشَّكِّ في قدرة الله تعالى ، بل يحتمل أن يكون بسبب اطِّراد العادات في أنَّ مثل ذلك الموضع الخراب قلَّما يصيِّره الله معموراً ، كما أنَّ الواحد إذا رأى جبلاً ، فيقول : متى يقلب الله هذا ذهباً ، أو ياقوتاً؟ لا أن مراده الشَّكُّ في قدرة الله ، بل إنَّ ذلك لا يقع في مطرد العادات ، فكذا ها هنا .
الحجة الثانية : قوله تعالى في حقه : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ } وهذا يدلُّ على أنه قبل ذلك لم يحصل له التبين ، وضعِّف ذلك بأن تبيُّن الإحياء على سبيل المشاهدة ، ما كان حاصلاً له قبل ذلك ، وأمَّا التبين على سبيل الاستدلال فلا يسمل أنه لم يكن حاصلاً له .
الحجة الثالثة : قوله : { أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وهذا يدلُّ على أنَّ هذا العلم إنما حصل له في ذلك الوقت ، وهذا أيضاً ضعيفٌ؛ لأن تلك المشاهدة أفادت نوع توكيد ، وطمأنينة ، وذلك إنما حصل في ذلك الوقت ، وهذا يدلُّ على أنَّ أصل العلم ما كان موجوداً قبل ذلك .
الحجة الرابعة : انتظامه مع النمروذ في سلكٍ واحدٍ ، وهذا - أيضاً - ضعيفٌ؛ لأنه وإن كان قبله قصَّة النمروذ ، ولكن بعده قصة سؤال إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - فوجب أن يكون نبياً من جنس إبراهيم .
واحتج من قال إنه كان مؤمناً بوجوه :
منها قوله تعالى : { أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا } وهذا يدلُّ على أنَّه كان عالماً بعد موتها بالله تعالى وبأنَّه يصحُّ منه الإحياء في الجملة ، لأن تخصيص هذا الشيء باستبعاد الإحياء ، إنما يصحُّ إذا حصل الاعتراف بالقدرة على الإحياء في الجملة ، فأما من يعتقد أنَّ القدرة على الإحياء ممتنعةٌ لم يبق لهذا التخصيص فائدة .
ومنها مخاطبة الله تعالى له بقوله : { كَمْ لَبِثْتَ } وبقوله : { بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ } ، وبقوله : { فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وانظر إلى حِمَارِكَ } ، وبقوله : { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ } ، وبقوله { وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً } وهذه المخاطبات لا تليق بالكافر ، قال تعالى : { والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 91 ] ، فجعله آية للناسن دليلٌ على مزيد التشريف .
ومنها ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : إن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم الكثير ، ومنهم العزير وكان من علمائهم ، فجاء بهم إلى « بابل » فدخل عُزَيرٌ يوماً تلك القرية ونزل تحت ظلِّ شجرةٍ ، وهو على حمارٍ ، فربط حماره ، وطاف في القرية فلم ير فيها أحداً ، فعجب من ذلك ، وقال { أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا } لا على سبيل الشَّكِّ في القدرة ، بل على سبيل الاستبعاد بحسب العادة ، وكانت الأشجار مثمرة ، فتناول من الفاكهة التين والعنب ، وشرب من عصير العنب ، ونام فأماته الله في منامه مائة عام وهو شابٌّ ثم أعمى عنه عيون الإنس والسِّباع والطَّير ، ثمَّ أحياه الله بعد المائة ، ونودي من السَّماء يا عزير « كَمْ لَبِثْتَ » بعد الموت ، فقال : « يَوْماً » وذلك أن الله أماته ضحًى في أول النهار ، وأحياه بعد مائة عامٍ آخر النَّهار قبل غيبوبة الشَّمس ، فلما أبصر من الشَّمس بقيةً قال : « أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ » فقال الله تبارك وتعالى : { بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فانظر إلى طَعَامِكَ } من التِّين ، والعنب « وَشَرَابِكَ » من العصير لم يتغير طعمه ، فنظر فإذا التين والعنب كما شاهدهما قال : « وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ » فنظر فإذا هو عظامٌ بيض تلوح وقد تفرَّقت أوصاله ، وسمع صوتاً : أيَّتها العظام البالية ، إنِّي جاعلٌ فيك روحاً ، فانضم أجزاء العظام بعضها إلى بعضٍ ، ثم التصق كلُّ عضو بما يليق به الضلع إلى الضلع ، والذِّراع إلى مكانه ، ثم جاء الرأس إلى مكانه ، ثم العصب والعروق ، ثم أنبت طراء اللحم عليه ثم انبسط الجلد عليه ثم خرجت الشعور من الجلد ، ثمَّ نفخ فيه الروح ، فإذا هو قائم ينهق ، فخرَّ عزير ساجداً ، وقال : { أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ثم إنَّه دخل بيت المقدس .
فقال القوم : حدَّثنا آباؤنا : أنَّ عزير بن شرخيا مات ببابل ، وقد كان بختنصر قد قتل ببيت المقدس أربعين ألفاً من قراء التوراة ، وكان فيهم عزير ، والقوم ما عرفوا أنَّه يقرأ التوراة ، فلمَّا أتاهم بعد مائة عام جدَّد لهم التوراة ، وأملاها عليهم عن ظهر قلبه ، فلم يخرم منها حرفاً ، وكانت التوراة قد دفنت في موضع فأخرجت وعورض بما أملاها فما اختلفا في حرفٍ واحدٍ ، فعند ذلك قالوا : عزير ابن الله ، وهذه الرواية مشهورة .
ويروى أنه أرميا - عليه الصَّلاة والسَّلام - فدلَّ على أنَّ المارَّ كان نبيّاً؛ واختلفوا في تلك القرية :
فقال وهبٌ ، وقتادة ، وعكرمة ، والربيع هي : إيلياء ، وهي بيت المقدس ، وقال ابن زيد هي القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت ، وعن ابن زيد أيضاً أن القوم الذين خرجوا من ديارهم ، وهم ألوفٌ حذر الموت فقال الله لهم : موتوا ، مرَّ عليهم رجلٌ ، وهم عظامٌ تلوح فوقف ينظر؛ فقال : { أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ } .
قال ابن عطية : وهذا القول من ابن زيد مناقض لألفاظ الآية ، إذا الآية إنما تضمَّنت قريةً خاويةً ، لا أنيس فيها ، والإشارة ب « هذه » إنَّما هي إلى القرية ، وإحياؤها إنما هو بالعمارة ، ووجود البناء والسكان .
قال القرطبي : روي في قصص هذه الآية : أنَّ الله تعالى بعث لها ملكاً من الملوك ، فعمرها وجدَّ في ذلك ، حتى كان كمال عمارتها عند بعث القائل . وقيل : إنه لمَّا مضى لمدته سبعون سنةً ، أرسل الله ملكاً من ملوك فارس عظيماً يقال له « كُوشَك » فعمَّرها في ثلاثين سنةً .
وقال الضحاك : هي الأرض المقدَّسة .
وقال الكلبيُّ : هي دير سابر أباد وقال السديُّ مسلم أباد ، وقيل : دير هرقل .
وقوله : { أنى يُحْيِي هذه الله } في « أَنَّى » وجهان :
أحدهما : أن تكون بمعنى « متى » .
قال أبو البقاء رحمه الله : « فَعَلى هذا تكون ظرفاً » .
والثاني : أنَّها بمعنى كيف .
قال أبو البقاء رحمه الله : فيكون مَوْضِعُها حالاً من « هذه » ، وتقدَّم لما فيه من الاستفهام ، والظاهرُ أنها بمعنى كيف ، وعلى كلا القولين : فالعاملُ فيها « يُحْيِي » ، و « بعد » أيضاً معمول له . والإحياء ، والإماتة : مجازٌ؛ إن أريد بهما العمران والخراب ، أو حقيقةٌ إن قدَّرنا مضافاً ، أي : أنَّى يحيي أهل هذه القرية بعد موت أهلها ، ويجوز أن تكون هذه إشارة إلى عظام أهل القرية البالية ، وجثثهم المتمزقة ، دلَّ على ذلك السياق .
قوله : { مِئَةَ عَامٍ } قال أبو البقاء رحمه الله : « مائَة عامٍ » : ظرفٌ لأماته على المعنى؛ لأنَّ المعنى ألبثه مئة عام ، ولا يجوز أن يكون ظرفاً على ظاهر اللفظ ، لأنَّ الإماتة تقع في أدنى زمانٍ ، ويجوز أن يكون ظرفاً لفعل محذوف ، تقديره : « فأَمَاتَه اللهُ فلبِثَ مائة عام » ويدلُّ على ذلك قوله : « كَمْ لَبِثْتَ » ، ولا حاجة إلى هذين التأويلين ، بل المعنى جعله ميِّتاً مائة عام .
و « مِئة » عقدٌ من العدد معروفٌ ، ولامها محذوفة ، وهي ياء ، يدلُّ على ذلك قولهم : « أَمْأَيْتُ الدَّرَاهِمَ » ، أي : صيَّرتها مئة ، فوزنها فعة ويجمع على « مِئَات » ، وشذَّ فيها مئون؛ قال القائل : [ الطويل ]
1200- ثَلاَثُ مِئِينٍ لِلْمُلُوكِ وَفَى بِهَا ... رِدَائِي وَجَلَّتْ عَنْ وُجُوهِ الأَهَاتِمِ
كأنَّهم جروها بهذا الجمع لما حذف منها؛ كما قالوا : سنون : في سنة .
والعام : مدَّة من الزمان معلومةٌ ، وعينه واوٌ؛ لقولهم في التصغير : عويم ، وفي التكسير : « أَعْوَام » .
وقال النقَّاش : « هو في الأصل مصدرٌ وسمِّي به الزمان؛ لأنه عومةٌ من الشمس في الفلك ، والعوم : هو السبح؛ وقال تعالى : { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] فعلى هذا يكون العوم والعام كالقول والقال » .
فإن قيل : ما الحكمة في أنْ أماته الله مائة عامٍ ، مع أنَّ الاستدلال بالإحياء بعد يومٍ ، أو بعض يومٍ حاصل .
فالجواب : أنَّ الإحياء بعد تراخي المدَّة أبعد في العقول من الإحياء بعد قرب المدَّة ، وبعد تراخي المدَّة يشاهد منه ، ويشاهد هو من غيره ، ما هو عجبٌ .
قوله : « ثُمَ بَعَثَهُ » ، أي : أحياه ، ويوم القيامة يسمَّى يوم البعث؛ لأنهم يبعثون من قبورهم ، وأصله : من بعثت الناقة ، إذا أقمتها من مكانها .
فإن قيل : ما الحكمة في قوله - تبارك وتعالى - « ثُمَّ بَعَثَهُ » ولم يقل : ثمَّ أحياه؟
فالجواب : أن قوله : « بَعَثَهُ » يدلُّ على أنه عاد كما كان أوَّلاً : حيّاً ، عاقلاً ، فاهماً ، مستعداً للنظر ، والاستدلال ، ولو قال : ثمَّ أحياه ، لم تحصل هذه الفوائد .
قوله : « كَمْ » منصوبٌ على الظرف ، ومميِّزها محذوفٌ تقديره : كم يوماً ، أو وقتاً .
والناصب له « لَبِثْتَ » ، والجملة في محلِّ نصب بالقول ، والظاهر أنَّ « أَوْ » في قوله : « يوماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ » بمعنى « بَلْ » للإضراب ، وهو قول ثابت ، وقيل : هي للشك .
فصل
قال ابن الخطيب : من الخوارق ما يمكن في حالة ، ومن الناس من يقول في قصة أهل الكهف ، والعزير : إنه كذب على معنى وجود حقيقة الكذب فيه ، ولكنه لا مؤاخذة به ، وإلاَّ فالكذب : الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه ، وذلك لا يختلف بالعمل ، والجهل؛ فعلى هذا يجوز أن يقال : إنَّ الأنبياء لا يعصمون عن السَّهو والنِّسيان ، والقول الأوَّل أصحُّ .
قوله : « قَالَ بَلْ لَبِثْتَ » عطفت « بل » هذه الجملة على جملةٍ محذوفةٍ ، تقديره : ما لبثتَ يوماً أو بعض يوم ، بل لبثت مئة عام . وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن كثير : بإظهار الثَّاء في جميع القرآن الكريم ، والباقون : بالإدغام .
فصل فيمن قال : كم لبثت
أجمعوا على أن ذلك القائل هو الله تعالى؛ لأنَّ ذلك الخطاب كان مقروناً بالمعجز ، ولأنه بعد الإحياء شاهد من أحوال حماره ، وظهور البلى في عظامه ، ما عرف به أنَّ تلك الخوارق لم تصدر إلاَّ من الله تعالى .
وقيل : سمع هاتفاً من السماء ، يقول له ذلك .
وقيل : خاطبه جبريل ، وقيل : نبيٌّ .
وقيل : مؤمنٌ شاهده من قومه عند موته ، وعمِّر إلى حين إحيائه .
قال القرطبي : والأظهر أنَّ القائل هو الله - عز وجل - ، لقوله تعالى : { وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً } .
فإن قيل : إنه تعالى كان عالماً بأنه كان مَيْتاً ، والميِّت لا يمكنه بعد أن صار حيّاً أن يعلم مدَّة موته طويلةً كانت أم قصيرةً؛ فلأيِّ حكمةٍ سأله عن مقدار المدة؟
فالجواب : أنَّ المقصود منه التنبيه على حدوث ما حدث من الخوارق ، بقوله : { لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } على حسب ظنِّه؛ كما روي في القصة : أنه أماته ضحًى ، وأحياه بعد المائة قبل غروب الشمس؛ فظن أنَّ اليوم لم يكمل ، كما حكي عن أصحاب الكهف : { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } [ الكهف : 19 ] على ما توهَّموه ، ووقع في ظنِّهم .
وقول إخوة يوسف { ياأبانا إِنَّ ابنك سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } [ يوسف : 81 ] وإنما قالوا ذلك؛ بناءً على إخراج الصُّواع من رحله .
قوله : { لَمْ يَتَسَنَّهْ } هذه الجملة في محلِّ نصب على الحال ، وزعم بعضهم : أنَّ المضارع المنفيَّ ب « لَمْ » إذا وقع حالاً ، فالمختار دخول واو الحال؛ وأنشد : [ الطويل ]
1201- بِأَيْدِي رِجَالٍ لَمْ يَشِيْمُوا سُيُوفَهُمْ ... وَلَمْ تَكْثُرِ القَتْلَى بِهَا حِينَ سُلَّتِ
وزعم آخرون : أنَّ الأولى نفي المضارع الواقع حالاً بما ، ولمَّا . وهذان الزَّعمان غير صحيحين؛ لأنَّ الاستعمالين واردان في القرآن ، قال تعالى : { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء } [ آل عمران : 174 ] ، وقال تعالى : { أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ }
[ الأنعام : 93 ] فجاء النفي ب « لم » مع الواو ودونها .
فإن قيل : قد تقدَّم شيئان ، وهما « طَعَامِكَ وشَرَابِكَ » ولم يعد الضَّمير إلاَّ مفرفاً ، قلنا فيه ثلاثة أوجهٍ :
أحدهما : أنها لمَّا كانا متلازمين ، بمعنى أنَّ أحدهما لا يكتفى به بدون الآخر ، صارا بمنزلة شيء واحد؛ حتى كأنه [ قال : ] فانظر إلى غذائك .
الثاني : أنَّ الضمير يعود إلى الشَّراب فقط؛ لأنه أقرب مذكور ، وثمَّ جملة أخرى حذفت لدلالة هذه عليها . والتقدير : وانظر إلى طعامك لم يتسنَّه ، وإلى شرابك لم يتسنَّه ، وقرأ ابن مسعود - رضي الله عنه - « فانْظُرْ إِلى طَعَامِكَ وهذا شَرابُك لم يتسنه » ، أو يكون سكت عن تغيُّر الطعام؛ تنبيهاً بالأدنى على الأعلى ، وذلك أنه إذا لم يتغيَّر الشراب مع نزعة النَّفس إليه ، فعدم تغيُّر الطعام أولى ، قال معناه أبو البقاء .
الثالث : أنه أفرد في موضع التثنية ، قاله - أيضاً - أبو البقاء؛ وأنشد : [ الكامل ]
1202- فَكَأَنَّ في الْعَيْنَيْنِ حَبَّ قَرَنْفُلٍ ... أَوْ سُنْبَلٍ كُحِلَتْ بِهِ فَانْهَلَّتِ
وليس بشيءٍ .
وقرأ حمزة ، والكسائي : « لَمْ يَتَسَنَّهْ » بالهاءِ وقفاً ، وبحذفها وصلاً ، والباقون : بإثباتها في الحالين . فأمَّا قراءتهما ، فالهاءُ فيها للسكتِ . وأمَّا قراءةُ الجماعةِ : فالهاءُ تحتملُ وجهين :
أحدهما : أن تكون - أيضاً - للسكت ، وإنما أُثبتت وصلاً إِجراءً للوصل مجرى الوقف ، وهو في القرآن كثيرٌ ، [ سيمرُّ بك منه مواضع ] فعلى هذا يكون أصل الكلمة : إِمَّا مشتقاً من لفظ « السَّنَةِ » على قولنا إِنَّ لامَها المحذوفة واوٌ ، ولذلك تُرَدُّ في التصغير والجمع؛ قالوا : « سُنَيَّة وَسَنَوات » ؛ وعلى هذه اللغة قالوا : « سَانَيْتُ » أُبْدِلَتِ الواو ياءً؛ لوقوعها رابعةً ، وقالوا : أَسْنَتَ القومُ إذا أصابتهُمُ السَّنَةُ؛ قال الشاعر : [ الكامل ]
1203 - . . ... وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ
ويقولون في جمعها : سنوات فقلبوا الواو تاءً ، والأصلُ : أَسْنُووا ، فأَبْدلوها كما أَبْدلُوها في تُجاه وتُخمة؛ كما تقدَّم ، فأصله : يَتَسَنَّى فحُذِفت الألف جزماً .
وإما من لفظ « مَسْنُون » وهو المتغيرُ ، ومنه { حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 28 ] ، والأصلُ : يتَسَنَّنُ ، بثلاثٍ نونات ، فاسْتُثْقل توالي الأَمثال ، فأَبدلنا الأخيرة ياءً؛ كما قالوا في تظنَّن : تظنَّى ، وفي قصَّصت أظفاري : قصَّيتُ ، ثم أبدلنا الياء ألفاً؛ لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها ، ثم حُذِفت جزماً ، قاله أبو عمرو ، وخطَّأَه الزجاج ، قال : « لأنَّ المسنونَ : المصبوبُ على سنن الطريق » .
وحُكِيَ عن النقَّاش أنه قال : « هو مأخوذٌ من أَسِن الماءُ » أي : تغيَّر ، وهذا وإِنْ كان صحيحاً معنًى ، فقد رَدَّ عليه النحاةُ قوله؛ لأنه فاسِدٌ اشتقاقاً ، إذ لو كان مشتقاً من « أَسِنَ الماءُ » لكان ينبغي حين منه تفعَّل ، أَنْ يقال تأسَّنَ . ويمكن أَنْ يُجاب عنه : أنه يمكنُ أن يكون قد قُلبت الكلمةُ بأن أُخِّرت فاؤها - وهي الهمزة - إلى موضع لامها ، فبقي : يَتَسَنَّأ ، بالهمزة آخراً ، ثمَّ أُبدلت الهمزةُ ألفاً ، كقولهم في قرأ : « قَرَا » ، وفي استهزأ : « اسْتَهْزا » ثم حُذفت جزماً .
والوجه الثاني : أن تكون الهاءُ أصلاً بنفسها ، ويكونُ مشتقاً من لفظ « سَنَة » أيضاً ، ولكن في لغةِ من يجعلُ لامها المحذوفة هاءً ، وهم الحجازيون ، والأصلُ : سُنَيْهة ، يدلُّ على ذلك التصغير والتكسير ، قالوا : سُنَيْهةٌ ، وسُنَيْهَاتٌ ، وسَانَهْتُ؛ قال شاعرهم :
1204- وَلَيْسَتْ بِسَهْنَاءٍ وَلاَ رُجَبِيَّةٍ ... وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الجَوَائِحِ
ومعنى « لم يَتَسَنَّهْ » على قولنا : إِنَّهُ من لفظ السَّنَة ، أي : لم يتغيَّر بمَرِّ السنين عليه ، بل بقي على حالِهِ ، وهذا أَوْلَى من قول أَبي البقاء في أثناء كلامه : « مِنْ قولك : أَسْنَى يُسْنِي ، إذا مَضَتْ عليه سِنُون » ؛ لأنه يصير المعنى : لم تمضِ عليه سِنُون ، وهذا يخالفه الحِسُّ ، والواقع .
وقرأ أُبَيّ؛ « لَمْ يَسَّنَّهْ » بإِدْغَام التَّاءِ في السِّينِ ، والأَصْلُ : « لم يَتَسَنَّهْ » .
كما قُرِئ : { لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ } [ الصافات : 8 ] ، والأصل : يَتَسَمَّعُونَ؛ فأُدغم ، وقرأ طلحة بن مصرفٍ : « لِمِئَةِ سَنَةٍ » .
فإن قيل : لما قال تعالى : { بَلْ لبثت مائة عام } كان مِنْ حقِّه أن يذكر عقيبه ما يدل على ذلك وقوله : { فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ } لا يدلُّ على أنه لبث مائة عامٍ ، بل يدلُّ ظاهراً على قول المسؤول إنه لبث يوماً أو بعض يوماً .
فالجواب أنه ذكر ذلك ليعظم اشتياقه إلى طلب الدَّليل الذي يكشف هذه الشبهة ، فلما قال تعالى : { وانظر إلى حِمَارِكَ } فرأى الحمار صار رميماً وعظاماً نخرة ، فعظُم تعجبه من قُدرة الله تعالى؛ فإنَّ الطعامَ ، والشراب يسرع التغير إليهما ، والحمارُ ربما بقي دهراً طويلاً عظيماً ، فرأى ما لا يبقى باقياً ، وهو الطعامُ ، والشَّرابُ ، وما يبقى غير باقٍ ، وهو العظامُ فعظُم تعجبه من قدرة الله تعالى ، وتمكّنت الحجةُ في قلبه ، وعقله .
قوله : { وانظر إلى حِمَارِكَ } معناه أَنَّه عرَّفه طُول مدة موته ، بأن شاهد انقلاب العِظام النخرة حيّاً في الحال ، فإنه إذْ شاهد ذلك ، علِمَ أن القادر على ذلك قادِرٌ على أَنْ يُميته مائة عام ، ثم يُحْييه .
فإن قيل : إنَّ القادِرَ على إحياء العِظام النخرة ، قادِرٌ على أَنْ يجعل الحمار عظاماً نخرة في الحال ، وحينئذٍ لا يمكن الاستدلال بعظام الحمار على طُول مدة الموت .
فالجواب : أَنَّ انقلاب العِظام إلى الحياة معجزةٌ دالَّةٌ على صدق قوله : « بَلْ لَبِثْتَ مائةَ عامٍ » . قال الضحاك : إنَّهُ تعالى بعثهُ شابّاً أسود الرأس ، وبنو بنيه شيوخٌ بيض اللِّحى ، والرُّؤوس .
قوله : « وَلِنَجْعَلَكَ » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه متعلقٌ بفعلٍ محذوفٍ مقدَّرٍ بعده ، تقديره : ولنجعلك فعلنا ذلك .
الثاني : أنه معطوفٌ على محذوفٍ تقديره : فعلنا ذلك ، لتعلَمَ قُدْرتنا ولنجعلك .
الثالث : أن الواو زائدة واللامُ متعلقةٌ بالفعلِ قبلها ، أي : وانظر إلى حِمارِك ، لنجعلَكَ .
قال الفرَّاء : وهذا المعنى غير مطلوبٍ من الكلامِ؛ لأنه لو قال فانظر إلى حِمارك لنجعلك آيةً للناسِ ، كان النظرُ إلى الحمار شرطاً ، وجعله آية جزاءً أَمَّا لمَّا قال : « وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً » [ كان المعنى : ولنجعلك آيةً فعلنا ما فعلنا ، من الإماتة ، والإحياء . وليس في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ ، كما زعم بعضهم؛ فقال : إن قوله : « وَلِنَجْعَلَكَ » مؤخر بعد قوله تعالى : { وانظر إِلَى العظام } ، وأَنَّ الأَنظارَ الثلاثةَ منسوقةٌ بعضها على بعضٍ ، فُصِل بينها بهذا الجارّ؛ لأنَّ الثالث مِنْ تمامِ الثاني ، فلذلك لم تجعل هذه العلةُ فاصلةً معترضةً . وهذه اللامُ لامُ كي ، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار « أَنْ » وهي وما بعدها من الفعلِ في محلِّ جرٍّ على ما سبق بيانُهُ غير مرةٍ . و « آية » مفولٌ ثانٍ؛ لأنَّ الجَعْلَ هنا بمعنى : التصيير . و « لِلنَّاسِ » صفةٌ لآيةٍ ، و « أَلْ » في الناس ، قيل : للعهدِ ، إِنْ عَنَى بهم بقيةَ قومِهِ ، وقيل : للجنس ، إِنْ عَنَى بهم جميع بني آدم ] .
قوله : { وانظر إِلَى العظام } .
أكثر المفسرين على أن المراد بالعظام حمارُه ، وقال آخرون : أراد بها عظام الرجلِ نفسه ، قالوا : إِنَّ الله أَحْيَا رأسهُ وعينيه ، وكانت بقيةُ بدنه ، عظاماً نخرةً ، فكان ينظرُ إلى أَجزاء عظام نفسه فرآها تجتمعُ ، وينضمُّ بعضها إلى بعضٍ وكان يرى حمارَه واقفاً كما ربطه حين كان حيّاً لم يأكل ، ولم يشرب مائة عام ، وتقدير الكلام على هذا الوجه وانظر إلى عظامك؛ وهو قولُ قتادة ، والرَّبيع ، وابن زيدٍ ، وضُعِّف ذلك بوجوه :
منها : أَنَّ قوله « لَبِثْتُ يَوْمَا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ » إنما يليقُ بمن لا يرى أثر التغير في نفسه ، فيظن أنه كان نائِماً في بعض يومٍ ، وأَمَّا من شاهد بعض أجزاءِ بدنه متفرقةً ، وعظامُه رميمة نخرةً ، فلا يليقُ به ذلك .
ومنها أنه خاطبُه ، وأَجاب ، والمجيب ، هو الذي أَماتهُ اللهُ ، فإذا كانت الإِماتةُ راجعةً إلى كله ، فالمجيب - أيضاً - الذي بعثه اللهُ ، يجب أن يكون جملة الشَّخص .
ومنها أَنَّ قوله - تعالى - { فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } يدلُّ على أَنَّ تلك الجملة أَحياها ، وبعثها .
قوله : « كَيْفَ » منصوبٌ نصبَ الأَحوال ، والعاملُ فيها « نُنْشِزُها » وصاحبُ الحالِ الضميرُ المنصوبُ في « نُنْشِزُها » ، ولا يعملُ في هذا الحالِ « انظُرْ » إذ الاستفهامُ له صدرُ الكلام ، فلا يعملُ فيه ما قبله ، هذا هو القولُ في هذه المسألة ، ونظائرها .
وقال أبو البقاء : « كيف نُنْشِزُها » في موضِعِ الحالِ من « العِظَامِ » ، والعاملُ في « كيف » نُنْشِزُها ، ولا يجوز أن يعمل فيها « انظُرْ » لأنَّ هذه جملة استفهام ، والاستفهامُ لا يقعُ حالاً ، وإنما الذي يقعُ حالاً « كَيْفَ » ، ولذلك تُبْدَلُ منه الحالُ بإعادة حرفِ الاستفهامِ ، نحو : « كيف ضَرَبْتَ زيداً؛ أقائماً أم قاعداً » ؟
والذي يَقْتَضِيه النظرُ الصحيحُ في هذه المسألة ، وأمثالها : أَنْ تكونَ جملةُ « كَيْفَ نُنْشِزُها » بدلاً مِنَ « العِظَامِ » فيكونَ في محلِّ جَرٍّ أو محلِّ نصبِ ، وذلك أنَّ « نظر » البصرية تتعدَّى ب « إِلَى » ، ويجوزُ فيها التعليقُ ، كقوله تعالى :
{ انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } [ الإسراء : 21 ] فتكونُ الجملةُ في محلِّ نصبٍ؛ لأنَّ ما يتعدى بحرف الجرِّ يكونُ ما بعده في محلِّ نصبٍ به . ولا بُدَّ مِنْ حذف مضافٍ؛ لتصِحَّ البدليَّة ، والتقدير : إلى حال العظام ، ونظيرُهُ قولهم : عَرفْتُ زيداً : أبو مَنْ هُوَ؟ ف « أَبُو مَنْ » هو بدلٌ من « زَيْداً » ، على حذفٍ تقديرُهُ : « عَرَفْتُ قِصَّةَ زَيْدٍ » . والاستفهامُ في بابِ التعليقِ ، لا يُراد به معناه؛ بل جرى في لسانِهم مُعلَّقاً عليه ، حكُم اللفظِ دونَ المعنى ، و [ هو ] نظيرُ « أي » في الاختصاص ، نحو : « اللهُمَّ اغفِرْ لنا أَيَّتُها العِصَابَةُ » فاللفظُ كالنداء في جميعِ أَحكامه ، وليس معناه عليه .
وقرأ أبو عمروٍ ، والحرميَّان : « نُنْشِزُهَا » بضم النون ، وكسر الشِّين ، والراءِ المُهملةِ ، والباقُون : كذلك؛ إلاَّ أَنَّها بالزاي المُعْجمة . وابن عباسٍ : بفتح النونِ ، وضمِّ الشِّين ، والراءِ المهملةِ أيضاً والنخعيّ : كذلك؛ إلا أنها بالزاي المعجمةِ ، ونُقِل عنه أيضاً ضمُّ الياءِ ، وفتحِها مع الراءِ ، والزاي .
فأَمَّا قراءة الحرميّين : فمن « أَنشَرَ اللهُ الموتى » بمعنى : أَحْيَاهم ، وأمَّا قراءةُ ابن عباس : فَمِنْ « نَشَر » ثُلاَثيّاً ، وفيه حينئذٍ وجهان :
أحدهما : أَنْ يكون بمعنى أَفعلَ ، فتتحدَ القراءتان .
والثاني : أَنْ يكونَ مِنْ « نَشَرَ » ضِدَّ : طَوى ، أي : يَبسُطها بالإِحياء ، ويكونُ « نَشَرَ » أيضاً مطاوِع أَنْشَرَ ، نحو : أَنْشَرَ الله الميتَ ، فَنَشَرَ ، فيكونُ المتعدي ، واللازمُ بلفظٍ واحدٍ؛ إلاَّ أنَّ كونه مطاوعاً لا يُتَصَوَّر في هذه الآيةِ الكريمة؛ لتعدِّي الفعل فيها ، وإنْ كان في عبارة أبي البقاء رحمه الله في هذا الموضع بعضُ إبهامٍ؛ ومِنْ مجيء « نَشَر » لاَزِماً قوله : [ السريع ]
1205- حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوْا ... يَا عَجَباً لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ
فناشِر : مِنْ نَشَر؛ بمعنى : حَيِيَ . والمراد بقوله ننشرها ، أي : نُحْييها ، يقال أنشر الله الميتَ ونشرَهُ ، قال تعالى : { ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ } [ عبس : 22 ] وقد وصف اللهُ العِظِام بالإِحياءِ في قوله : { مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ } [ يس : 78 ، 79 ] .
وأَمَّا قراءةُ الزَّاي فمن « النَّشْزِ » وهو الارتفاعُ ، ومنه : « نَشْزُ الأَرْضِ » وهو المرتفع ، ونشوزُ المرأةِ ، وهو ارتفاعها عن حالها إلى حالةٍ أُخرى ، فالمعنى : يُحرِّك العِظام ، ويرفعُ بعضها إلى بعضٍ للإِحياء .
قال ابن عطية : « وَيَقْلَقُ عندي أَنْ يكونَ النشوزُ رفعَ العِظَامِ بعضها إلى بعضٍ ، وإنما النشوزث الارتفاعُ قليلاً قليلاً » ، قال : « وانظر استعمال العربِ ، تَجده كذلك؛ ومنه : » نَشَزَ نَابُ البَعِير « و » أَنْشَزُوا ، فَأَنْشَزوا « ، فالمعنى هنا على التدرُّج في الفعلِ » فجعل ابنُ عطية النشوزَ ارتفاعاً خاصّاً .
ومَنْ ضَمَّ النونَ جعلهُ مِنْ « أَنْشَزَ » ، ومَنْ فَتَحها ، فَمِنْ « نَشَزَ » ، يقال : « نَشَزه » و « أَنْشَزَه » بمعنى . ومَنْ قرأَ بالياءِ ، فالضميرُ لله تعالى . وقرأ أُبيّ « نُنْشِئُها » من النَّشْأَةِ . ورجَّح بعضهم قراءة الزاي على الراء ، بِأَنْ قال : العِظامُ لا تُحْيَا على الانفرادِ؛ بل بانضمام بعضِها إلى بعضٍ ، والزايُ أَوْلى بهذا المعنى؛ إذ هو بمعنى الانضمام دونَ الإِحياءِ ، فالموصُوفُ بالإِحياءِ الرجلُ دونَ العظامِ ، ولا يقال : هذا عظمٌ حيٌّ . وهذا ليس بشيءٍ؛ لقوله : { مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ } [ يس : 78 ] .
ولا بُدَّ من ضميرِ محذوفٍ من قوله : « العِظام » أي؛ العظامِ منه ، أي : من الحمارِ ، أو تكونُ « أَلْ » قائمةً مقامَ الإِضافة ، أي : عظامِ حمارِك .
قوله : « لَحْماً » مفعولٌ ثانٍ لِ « نَكْسُوها » وهو من باب أَعْطَى ، وهذا من الاستعارة ، ومثله قول لبيدٍ : [ البسيط ]
1206- الحَمْدُ لِلَّهِ إِذْ لَمْ يَأْتِيني أَجَلِي ... حَتَّى اكْتَسَيْتُ مِنَ الإِسْلاَمِ سِرْبَالا
قوله : « فَلَمَّا تَبَيَّنَ » في فاعل « تَبيَّن » قولان :
أحدهما : مُضمرٌ يُفَسِّره سياقُ الكلامِ ، تقديرُهُ : فلمَّا تبيَّن له كيفيةُ الإِحياءِ التي استقر بها ، وقدَّره الزمخشريُّ : « فلمَّا تبيَّن له ما أَشْكَل عليه » يعني مِنْ أَمْرِ إِحياءِ الموتى ، والأَوَّلُ أَوْلَى؛ لأنَّ قوةَ الكلامِ تدِلُّ عليه بخلافِ الثاني .
والثاني : - وبه بدأ الزمخشري - : أن تكون المسألةُ من بابِ الإِعمالِ ، يعني أن « تَبَيَّن » يطلُبُ فاعلاً ، و « أَعْلَمُ » يطلبُ مفعولاً ، و « أَنَّ اللهَ على كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ » يصلُح أَنْ يكونَ فاعلاً لتبيَّن ، ومفعولاً لأعلَمُ ، فصارَتِ المسألةُ من التنازع ، وهذا نصُّه ، قال : وفَاعِلُ « تبيَّن » مضمرٌ تقديره : فلمَّا تبيَّن له أَنَّ الله على كل شيءٍ قدير قال : أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ على كل شيء قديرٌ ، فحُذف الأَوَّل؛ لدلالةِ الثاني عليه ، كما في قولهم : « ضَرَبَنِي ، وضَرَبْتُ زَيْداً » فجعله مِنْ باب التنازع وجعله من إعمال الثاني ، وهو المختارُ عند البصريين ، فلمَّا أعملَ الثاني ، أَضْمَرَ في الأَولِ فاعلاً ، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ من إعمال الأَولِ؛ لأنه كان يلزَمُ الإِضمارُ في الثاني بضميرِ المفعول ، فكأنه قال : فلمَّا تبيَّن له ، قال أعلمه أن الله . ومثله في إعمال الثاني : { آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } [ الكهف : 96 ] { هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ } [ الحاقة : 19 ] لما ذكرت .
إِلاَّ أَنَّ أبا حيَّان ردَّ عليه بأنَّ شرط الإِعمالِ على ما نصَّ عليه النحويون اشتراكُ العاملَينِ ، وأَدْنى ذلك بحرفِ العطفِ - حتى لا يكون الفصلُ معتبراً - أو يكونُ العاملُ الثاني معمولاً للأول ، نحو : « جاءني يَضْحَكُ زيدٌ » فإنَّ « يَضْحَكُ » حالٌ عاملها « جاءني » فيجعل في : « جاءني » ، أو في : « يضحك » ضميراً؛ حتَّى لا يكونَ الفعلُ فاصلاً ، ولا يَردُ على هذا جعلُهُم « آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً »

قلت المدون الاتي بمشيئة الله ج13. وج14.  

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدجال يستغل ازمات الناس من الجوع ونقص الطعام والمياه في دعوتهم الباطلة لعبادتهم إياه والايمان به

  بياناته الشخصية     المسيح الدجال ليس خوارق إنما هو دجل وكذب قلت المدون ان الأ أزمة الاقتصادية الحادثة الان في كل دول العالم والمجاعة المت...