حمل المصحف وورد وبي دي اف.

 حمل المصحف وورد وPDF.
القرآن الكريم وورد word doc icon||| تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

الجمعة، 23 سبتمبر 2022

ج47.وج48..كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

 

 ج47.وج48..كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني 

أولا : 

 ج47.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
قال : فهذا هو المراد من قوله عزَّ وجلَّ : { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } .
والقول الأول أولى؛ لأنَّ سعيه في الشَّفاعة يفيد إقدام الناس على حمده ، فيصير محموداً ، وأمَّا ذكر هذا الدعاء ، فلا يفيد إلا الثواب ، أمَّا الحمد ، فلا .
فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : إنَّه تعالى يحمده على هذا القول؟ .
فالجواب : أنَّ الحمد في اللغة : مختصٌّ بالثناءِ المذكور ف يمقابلة الإنعام بلفظٍ ، فإن ورد لفظ « الحمد » في غير هذا المعنى ، فعلى سبيل المجاز .
القول الثالث : المراد مقامٌ تحمد عاقبته ، وهذا ضعيفٌ؛ لما ذكرنا .
القول الرابع : قال الواحديُّ - رحمه الله - : روي عن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - أنه قال : يقعدُ الله محمداً على العرشِ ، وعن مجاهد أنَّه قال : يجلسه معه على العرشِ .
قال الواحدي : وهذا قولٌ رذلٌ موحشٌ فظيعٌ ، ونص الكتاب يفسد هذا التفسير من وجوه :
الأول : أن البعث ضدُّ الإجلاس ، يقال : بعثتُ النَّاقة ، وبعث الله الميت ، أي : أقامه من قبله ، فتفسير البعث بالإجلاس تفسير الضدِّ بالضدِّ؛ وهو فاسدٌ .
والثاني : أنه تعالى ، لو كان جالساً على العرشِ ، بحيث يجلس عنده محمد - صلوات الله وسلامه عليه - لكان محدوداً متناهياً ، ومن كان كذلك ، فهو محدثٌ .
الثالث : أنه تعالى قال : { مَقَاماً مَّحْمُوداً } ولم يقل : مقعداً ، والمقام : موضع القيام ، لا موضع القعود .
الرابع : أن جلوسه مع الله على العرش ليس فيه كثير إعزازٍ؛ لأن هؤلاء الحمقاء يقولون : إنَّ أهل الجنة كلهم يجلسون معه ويرونه ، وإنه تعالى يسألهم عن أحوالهم التي كانوا عليها في الدنيا ، وإذا كانت هذه الحالة حاصلة عندهم لكلِّ المؤمنين ، لم يكن في تخصيص محمد صلى الله عليه وسلم بذلك مزيد شرفٍ ومرتبةٍ .
الخامس : أنه إذا قيل : السلطان بعث فلاناً ، فهم منه أنَّه أرسله لإصلاح مهماتهم ، ولا يفهم أنه أجلسه مع نفسه؛ فثبت أن هذا القول كلام رذلٌ ، لا يميل إليه إلاَّ قليل العقل ، عديم الدِّين .
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
قوله تعالى : { وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ } الآية .
يحتمل أن يكون « مدخل » مصدراً ، وأن يكون ظرف مكانٍ ، وهو الظاهر ، والعامة على ضمِّ الميم فيهما؛ لسبقهما بفعل رباعيٍّ ، وقرأ قتادة ، وأبو حيوة ، وإبراهيم بن أبي عبلة ، وحمسدٌ بفتح الميم فيهما : إمَّا لأنهما [ مصدران على حذف الزوائد؛ ك { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] ؛ وإمَّا لأنهما ] منصوبان بمقدر موافق لهما ، تقديره : فادخل مدخل ، واخرج مخرج ، وقد تقدَّم هذا مستوفًى في قراءةِ نافع في سورة النساء [ الآية : 31 ] ، وأنه قرأ كذلك في سورة الحجِّ [ الآية : 59 ] .
و « مُدخلَ صِدقٍ » ، و « مُخرجَ صِدقٍ » من إضافة التبيين ، وعند الكوفيين من إضافة الموصوف لصفته؛ لأنه يوصف به مبالغة .
و « سلطاناً » هو المفعول الأول للجعلِ ، والثاني أحدُ الجارَّين المتقدمين ، والآخر متعلِّقٌ باستقراره ، وقوله « نَصِيراً » يجوز أن يكون محولاً من « فاعلٍ » للمبالغة ، وأن يكون بمعنى مفعول .
فصل في معنى « مُدخَلَ صِدقٍ » و « مُخْرَجَ صِدْقٍ »
قد تقدَّم في قوله : { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض } [ الإسراء : 76 ] قولان :
أحدهما : أن يكون المراد منه سعي كفَّار مكَّة في إخراجه منها .
والثاني : المراد منه اليهود؛ قالوا له : الأولى أن تخرج من المدينة إلى الشَّام ، ثم قال : « أقم الصَّلاة » واشتغل بعبادة الله تعالى ، ولا تلتفت إلى هؤلاء الجهَّال ، فإنَّ الله تعالى يعينك ، ثمَّ عاد بعد هذا الكلام إلى شرح تلك الواقعة من أن كفَّار مكَّة أرادوا إخراجه ، فأراد الله تعالى هجرته إلى المدينة ، وقال له : { وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ } ، وهو المدينة ، { وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ } ، وهو مكَّة ، وهذا قول ابن عبَّاس ، والحسن ، وقتادة .
وعلى التفسير الثاني ، وهو أنَّ المراد منها أن اليهود حملوه على الخروج من المدينة والذَّهاب إلى الشَّام ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثمَّ أمر بأن يرجع إليها ، فلمَّا عاد إلى المدينة ، قال : « ربِّ أدخلْنِي مُدخلَ صدقٍ » وهي المدينة ، « وأخْرِجنِي مُخرجَ صِدقٍ » يعني : إلى مكة؛ [ بالفتح ] ، أي : افتحها .
وقال الضحاك : « أدْخلنِي مُدخلَ صِدْقٍ » ظاهراً على مكة بالفتح « وأخْرِدنِي مُخرجَ صِدْقٍ » من مكة ، آمناً من المشركين .
وقال مجاهد : أدخلني في أمرك الذي أرسلتني به من النبوة ، والقيام بمهمات أداء شريعتك ، « وأخْرِجْنِي » من الدنيا ، وقد قمت بما وجب عليَّ من حقِّها « مُخرجَ صِدقٍ » أي : إخراجاً لا يبقى عليَّ منها تبعةٌ .
وعن الحسن : « أدْخلنِي مُدخلَ صِدْقٍ » الجنة ، « وأخْرِجنِي مُخرجَ صِدْقٍ » أي : إخراجاً لا يبقى عليَّ منها تبعةٌ من مكة .
وقيل : أدخلني في طاعتك ، وأخرجني من المناهي .
وقيل : أدخلني القبر مدخل صدقٍ ، وأخرجني منه مخرج صدقٍ ، وقيل : أدخلني حيثُ ما أدخلتني بالصِّدق ، وأخرجني بالصِّدق ، أي : لا تجعلني ممَّن يدخل بوجهٍ ، ويخرج بوجهٍ ، فإنَّ ذا الوجهين لم يكن عند الله وجيهاً .
ووصف الإدخال والإخراج بالصِّدقِ؛ لما يئول غليه الدُّخولُ والخروج من النصر ، والعزِّ ، ودولة الدِّين ، كما وصف القدم بالصِّدق؛ فقال : { أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ } [ المائدة : 67 ] .
وقال : { أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون } [ المجادلة : 22 ] .
وقال : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } [ التوبة : 33 ] .
ولما سأل الله تعالى النُّصرة ، بيَّن أنَّه أجاب دعاءه؛ فقال : { وَقُلْ جَآءَ الحق } . وهو دينه وشرعه .
قوله : { وَزَهَقَ الباطل } . وهو كل ما سواه من الأديان ، والشَّرائع ، قاله السديُّ .
وقيل : جاء الحقُّ ، أي : القرآن . وزهق الباطل ، أي : ذهب الشيطان ، قاله قتادة .
وقيل : الحقُّ : عبادة الله تعالى ، والباطل عبادة الأصنام .
وعن ابن مسعودٍ : أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكَّة يوم الفتح ، وحول البيت ثلاثمائةٍ وستُّون صنماً ، فجعل يضربها بعودٍ في يده ، وجعل يقول : { جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل }
[ أي : ذهب الشيطان ] كان الصَّنمُ ينكبُّ على وجهه .
قوله : { إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً } . أي : إنَّ الباطل ، وإن كان له دولةٌ ، لا يبقى ، بل يزول بسرعة .
والزُّهوقُ : الذِّهاب ، والاضمحلال؛ قال : [ الكامل ]
3457- ولقَدْ شَفَى نَفْسِي وأبْرَأ سُقمهَا ... إقْدامهُ بِمزَالةٍ لمْ يَزْهقِ
يقال : زهقت نفسي تزهقُ زهوقاً بالضمِّ ، وأمَّا الزُّهوقُ ، بالفتح ، فمثال مبالغة؛ كقوله : [ الطويل ]
3458- ضَرُوبٌ بِنصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمانِها .. . . .
قوله تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن } : في « مِنْ » هذه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها لبيان الجنس ، قاله الزمخشري ، وابن عطيَّة ، وأبو البقاء ، وردَّ عليهم أبو حيان : بأنَّ التي للبيان ، لا بد وأن يتقدَّمها ما تبينه ، لا أن تتقدم هي عليه ، وهنا قد وجد تقدُّمها عليه .
الثاني : أنها للتبعيض ، وأنكره الحوفي؛ قال : « لأنه يلزم ألاَّ يكون بعضه شفاء » وأجيب عنه : بأنَّ إنزاله إنَّما هو مبعضٌ ، وهذا الجواب ليس بظاهرٍ ، وأجاب أبو البقاء بأنَّ منه ما يشفي من المرض . وهذا يؤيده الدَّليلُ المتقدِّم ، وأجاز الكسائيُّ : « ورَحْمةً » بالنصب عطفاً على ما تظاهر وهذا قد وجد بدليل رقية بعض الصحابة سيِّد الحيِّ الذي لدغ ، بالفاتحة؛ فشفي .
الثالث : أنها لابتداءِ الغاية ، وهو واضحٌ .
والجمهور على رفع « شفاء ورحمةٌ » خبرين ل « هُوَ » ، والجملة صلة ل « مَا » وزيد بن عليٍّ بنصبهما ، وخرِّجت قراءته على نصبهما على الحال ، والخبر حينئذ « لِلمُؤمنينَ » وقدِّمت الحال على عاملها المعنوي ، كقوله تعالى : { والسماوات مَطْوِيَّاتٌ } [ الزمر : 67 ] في قراءة من نصب « مَطْويَّاتٍ » ، وقول النابغة :
3459- رَهْطُ ابنِ كُوزٍ مُحقِبِي أدْرَاعهُمْ ... فِيهمْ ورَهْطُ رَبيعَة بْنِ حُذارِ
وقيل : منصوبان بإضمار فعلٍ ، وهذا عند من يمنع تقديمها على عاملها المعنوي ، وقال أبو البقاء : وأجاز الكسائي : « ورحْمَةً » بالنصب عطفاً على « مَا » فظاهر هذا أن الكسائيَّ [ بقَّى ] « شِفاءٌ » على رفعه ، ونصب « رَحْمةً » فقط عطفاً على « ما » الموصولة؛ كأه قيل : ونُنزِّل [ من القرآن رحمة ، وليس في نقله ما يؤذن بأنه تلاها قرآناً ، وتقدَّم الخلاف في ] « ونُنزِّلُ » تخفيفاً وتشديداً ، والعامة على نون العظمة .
ومجاهد « ويُنزِلُ » بياء الغيبة ، أي : الله .
فصل في المراد ب « مِنْ » في الآية
قال المفسِّرون : إنَّ « من » هنا للجنسِ؛ كقوله تعالى : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] .
أي : ونُنزِّل من هذا الجنس الذي هو قرآنٌ ما هو شفاءٌ ، فجميع القرآن شفاء للمؤمنين ، أي : بيانٌ من الضلالة والجهالة يتبيَّن به المختلف ، ويتَّضح به المشكل ، ويستشفى به من الشُّبهة ، ويهتدى به من الحيرة ، وهو شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها .
واعلم أنَّ القرآن شفاء من المراض الرُّوحانيَّة ، والأمراض الجسمانية .
أما كونه شفاء من الأمراض الروحانية؛ لأنَّ المرض الروحانيَّ قسمان :
أحدهما : الاعتقادات الباطلة ، وأشدُّها فساداً الاعتقادات الفاسدة في الإلهيَّات ، والنبوَّات ، والمعاد ، والقضاءِ ، والقدر؛ والقرآن كلُّه مشتملٌ على دلائل الحقِّ في هذه المطالب .
والثاني : الأخلاق المذمومة؛ والقرآن مشتمل على تفاصيلها ، وتعريف ما فيها من المفاسد ، والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة ، وكان القرآن شفاء من الأمراض الروحانيَّة .
وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية؛ فلأنَّ التبرُّك بقراءته يدفع كثيراً من الأمراض؛ ويؤيده ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَنْ لَمْ يَستشْفِ بالقرآنِ ، فلا شَفاهُ الله تعالى » .
وما ورد في حديث الرقية بالفاتحة .
ثم قال : { ولا يَزيدُ الظَّالِمِينَ إلاَّ خَسَاراً } المراد بالظالمين ها هنا : المشركون؛ لأنَّ سماع القرآن يزيدهم غضباً ، وغيظاً ، وحقداً ، وكلَّما نزلت آيةٌ يتجدَّد تكذيبٌ؛ فتزداد خسارتهم .
قال مجاهد وقتادة : لم يجالس هذا القرآن أحدٌ إلا قام عنه بزيادةٍ أو نقصان : قضاء الله الذي قضاه شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين ، ولا يزيد الظَّالمين إلا خساراً .
ثم إنه تعالى ذكر السَّبب الأصلي في وقوع هؤلاء الجهَّال في أودية الضَّلال ، وهو حبُّ الدنيا ، والرغبة في المال والجاه ، واعتقادهم أن ذلك إنَّما يحصل بجدِّهم واجتهادهم ، فقال : { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ } .
قال ابن عباس : الإنسان ها هنا هو الوليد بن المغيرة .
والأوْلى أنَّ كل إنسان من شأنه إذا فاز بمقصوده ، غترَّ وصار غافلاً عن عبادة الله - تعالى - وتمرَّد على طاعته؛ كما قال : { كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى } [ العلق : 6 ، 7 ] .
قوله تعالى : { وَنَأَى } : قرأ العامة بتقديم الهمزة على حرف العلة؛ من النَّأي ، وهو البعدُ ، وابن ذكوان - ونقلها أبو حيان وابن الخطيب عن ابن عامر وأبو جعفر : « نَاءَ » مثل « جَاءَ » بتقديم الألف على الهمزة ، وفيها تخريجان : أحدهما : أنها من : نَاءَ ، يَنُوء ، أي : نَهضَ؛ قال : [ الرجز ]
3460- حتَّى إذا مَا التَأمَتْ مَفاصِلُه ... ونَاءَ في شقِّ الشِّمالِ كَاهِلُه
والثاني : أنه مقلوبٌ من « نَأى » ، ووزنه « فَلعَ » كقولهم في « رَأى » : « رَاءَ » إلى غير ذلك فيكونان بمعنى ، ولكن متى أمكن عدم القلب ، فهو أولى ، وهذا الخلافُ أيضاً في حم السجدة [ فصلت : 51 ] .
وأمال الألف إمالة محضة الأخوان ، وأبو بكرٍ ، عن عاصمٍ ، وبين بين؛ بخلاف عنه ، السوسيُّ ، وكذلك في فصِّلت ، إلا أبا بكرٍ؛ فإنه لم يمله .
وأمال فتحة النون في السورتين خلفٌ ، وأبو الحارث والدُّوري عن الكسائيِّ .
ثم قال : { وَإِذَا مَسَّهُ الشر } ، أي : الشِّدة ، والضر { كَانَ يَئُوساً } أيساً قنوطاً .
وقيل : معناه : أنَّه يتضرَّع ، ويدعو عند الضُّرِّ والشدَّة ، فإذا تأخَّرت الإجابة ، أيس ، ولا ينبغي للمؤمن أن يَيْئَسَ من الإجابة ، وإن تأخَّرت ، فيدع الدعاء .
قوله تعالى : { على شَاكِلَتِهِ } : متعلق ب « يَعْمَلُ » ، والشَّاكلةُ : أحسنُ ما قيل فيها ما قاله الزمخشريُّ والزجاج : أنها مذهبه الذي يشاكلُ حاله في الهدى والضلالة؛ من قولهم : « طريقٌ ذو شَواكلَ » ، وهي الطرقُ التي تَشعَّبتْ منه؛ والدليل عليه قوله تعالى : { فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً } ، وقيل : على دينه ، وقيل : خلقه ، وقال ابن عباسٍ : « جانبه » وقال الحسن ، وقتادة : على نيَّته . وقال الفراء : « على طَريقتهِ ، والمذهب الذي جبل عليه » .
[ وهو ] من « الشَّكلِ » وهو المثل؛ يقال : لست على شكْلِي ، ولا شَاكلتي ، وأمَّا « الشَّكلُ » بالكسر فهو الهيئة؛ يقال : جاريةٌ حسنة الشِّكلِ ، وقال امرؤ [ القيس ] في « الشَّكل » بالفتح : [ الكامل ]
3461- حَيِّ الحُمولَ بِجانبِ العَزْلِ ... إذْ لا يُلائِمُ شَكلُهَا شَكْلِي
أي : لا يلائم مثلها مثلي .
قال ابن الخطيب : والذي يقوى عندي : أنَّ المراد من المشاكلة ما قاله الزجاج ، والزمخشريُّ؛ لقوله بعد ذلك : { فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً } [ الإسراء : 84 ] .
وفيه وجه آخر : وهو أنَّ المراد : أن كلَّ أحد يفعل على وفق ما يشاكله جوهر نفسه ، ومقتضى روحه ، فإن كانت مشرقة ، ظاهرة ، علوية ، صدرت منه أفعالٌ فاضلةٌ ، وإن كانت نفسه كدرة خبيثة [ مضلَّةً ظُلمانيَّة ، صدرت عنه أفعال خسيسة ] فاسدةٌ .
وأقول : اختلف العقلاء في أنَّ النفوس الناطقة البشريَّة ، هل هي مختلفةٌ بالماهيَّة ، أم لا؟ .
منهم من قال : إنَّها مختلفةٌ بالماهيَّة ، وإنَّ اختلاف أحوالاه وأفعالها لاختلاف امزجتها .
والمختار عندي : هو القسم الأوَّل ، والقرآن يشعر به؛ لأنه تعالى بيَّن في الآية المتقدمة : أنَّ القرآن بالنِّسبة إلى البعض يفيد الشِّفاء ، والرحمة ، وبالنِّسبة إلى الآخرين يفيد الخسار ، والخزي ، ثم أتبعه بقوله : { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ } .
ومعناه : أن اللائق بتلك النُّفوس أن يظهر فيها القرآن الخير وآثار لاذكاء والكمال وبتلك النفوس الكدرة أن يظهر فيها من القرآن آثار الخزي والضلال كما أن الشمس تعقد الملح وتلين الدهن وتبيض ثوب القصار ، وتسوِّد وجهه ، وهذا الكلام لا يتم المقصود به ، إلاَّ إذا كانت الأرواح والنفوس مختلفة ماهيَّاتهان فبعضها مشرقة صافية يظهر فيها من القرآن آثار الخزي والضلال كما أن الشمس تعقد الملح وتلين الدهن وتبيض ثوب القصار ، وتسوِّد وجهه ، وهذا الكلام لا يتم المقصود به ، إلاَّ إذا كانت الأرواح والنفوس مختلفة ماهيَّاتها ، فبعضها مشرقة صافية يظهر فيها من القرآن نورٌ على نورٍ ، وبعضها كدرةٌ ظلمانية ، ويظهر فيها من القرآن ضلال عل ضلالٍ ، ونكالٌ على نكالٍ . قوله : « أهْدَى » يجوز أن يكون من « اهْتدَى » ؛ على حذف الزوائد ، وأن يكون من « هَدَى » المتعدِّي ، وأن يكون من « هَدَى » القاصر ، بمعنى « اهتدى » . وقوله « سَبِيلاً » تمييزٌ .
[ والمعنى : ] فربُّكم أعلم بمن هو أوضح طريقاً .
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)
قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح } الآية .
رُوِثَ أن اليهود قالوا لقريشٍ : اسألوا محمداً عن ثلاثةِ أشياء ، فإن أجاب عن كلِّها ، أو لم يجب عن شيءٍ ، فليس بنبيٍّ ، وإن أجاب عن اثنين ، وأمسك عن الثَّالِث ، فهو نبيٌّ؛ فاسألوا عن فتيةٍ فقدوا في الزَّمنِ الأوَّل ، فما كان أمرهم؛ فإنهم كان لهم حديثٌ عجيبٌ؟ وعن رجلٍ بلغ مشرق الشَّمسِ ، ومغربها ، ما خبره؟ وعن الرُّوحِ؛ فسأله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « غداً أخبركم » ولم يقل : إن شَاءَ الله ، فانقطع عنه الوحي .
قال مجاهدٌ : اثنتي عشرة ليلة ، وقيل : خمسة عشر يوماً ، وقال عكرمة : أربعين يوماً ، وأهل مكَّة يقولون : وعدنا محمد غداً ، وقد أصبحنا لا يخبرنا بشيءٍ ، حتَّى حزن النبي صلى الله عليه وسلم من مكث الوحي ، وشقَّ عليه ما يقول أهل مكَّة ، ثم نزل الوحي بقوله : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } [ الكهف : 23 ، 24 ] .
ونزل في الفتية : { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الكهف والرقيم كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً } [ الكهف : 9 ] .
ونزل فيمن بلغ المشرق والمغرب : { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين } [ الكهف : 83 ] .
ونزل في الرُّوح : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } .
قال ابن الخطيب : ومن النَّاس من [ طعن ] في هذه الرواية؛ من وجوه :
أولها : قالوا : ليس الروح أعظم شأناً ، ولا أعلى درجة من الله تعالى ، فإن كانت معرفة الله تعالى حاصلة ممكنة ، فأي مانعٍ يمنع من معرفة الروح؟! .
وثانيها : أن اليهود قالوا : إن أجاب عن قصَّة أهل الكهف ، وقصَّة ذي القرنين ، ولم يجب عن الروح ، فهو نبيٌّ ، وهذا كلامٌ بعيد عن العقلاء؛ لأن قصَّة أصحاب الكهف ، وقصَّة ذي القرنين ليست إلا حكاية ، والحكاية لا تكون دليلاً على النبوة .
وأيضاً : فالحكاية التي يذكرها : إما أن تعتبر قبل العلم بنبوته ، أو بعد العلم بنبوته .
فإن كانت قبل العلم بنبوته ، كذَّبوه فيها ، وإن كانت بعد العلم بنبوته ، فحينئذٍ : نبوَّتهُ معلومة؛ فلا فائدة في ذكر هذه الحكاية وأما عدم الجواب عن حقيقةِ الروح ، فهذا يبعد جعله دليلاً على صحَّة النبوة .
وثالثها : أنَّ مسألة الروح يعرفها أصاغر الفلاسفة ، وأراذل المتكلِّمين ، فلو قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « إنِّي لا أعرفُها » لأورث ذلك ما يوجبُ التَّحقيرَ ، والتَّنفيرَ؛ فإنَّ الجهل بمثل هذه المسألة يفيد تحقير أيِّ إنسانٍ كان ، فكيف الرسول الذي هو أعلم العلماءِ ، وأفضل الفضلاء؟! .
رابعها : أنه تعالى قال في حقِّه { الرحمن عَلَّمَ القرآن } [ الرحمن : 1 ، 2 ] .
وقال : { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } [ النساء : 113 ] .
وقال : { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } [ طه : 114 ] .
وقال في [ حقِّه ، أي القرآن ، وصفته ] : { وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] .
وكان صلى الله عليه وسلم يقول :
« أرني الأشياء كما هي » .
فمن هذا حاله وصفته ، أيليق به أن يقول : أنا لا أعرف هذه المسألة ، مع أنَّها من المسائل المشهورة المذكورة عند جمهور الخلق؟! .
بل المختار عندنا : أنَّهم سألوه عن الروح ، وأنه - صلوات الله عليه - أجابهم على أحسن الوجوه ، وتقريره أن المذكور في الآية ، أنهم سألوه عن الروح ، والسؤال عن الروح يقع على وجوه كثيرة .
أولها : أن يقال : ماهية الروح ، هل هي متحيِّز أو حالٌّ في المتحيِّز .
وثانيها : أن يقال : الروح قديمة ، أو حادثة؟ .
وثالثها : أن يقالك الروح ، هل تبقى بعد الأجسام ، أو تفنى؟ .
ورابعها : أن يقال : ما حقيقة سعادة الأرواح ، وشقاوتها؟ .
وبالجملة : فالمباحثُ المتعلقة بالروح كثيرة .
وقوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح } ليس فيه ما يدلُّ على أنَّهم سألوه عن أيِّ المسائل ، إلا أنه تعالى ذكر في الجواب عن هذا السؤال : { قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي } وهذا الجواب لا يليقُ إلا بمسألتين من هذه المسائل التي ذكرناها :
إحداهما : السؤال عن ماهية الروح .
والأخرى : عن قدمها ، أو حدوثها .
أما البحث الأول : فهم قالوا : ما حقيقة الروح وماهيته؟! أهو أجسامٌ موجودة داخلة في البدنِ مولدةٌ من امتزاجِ الطبائع والأخلاط؟ أو هو عبارة عن نفس هذا المزاجِ والتركيب؟ أو هو عبارة عن عرض قائم بهذه الأجسام؟ أو هو عبارة عن موجودٍ يغاير هذه الأجسام ، والأعراض؟ فأجاب الله عنه بأنَّه موجودٌ مغايرُ لهذه الأجسام ، ولهذه الأعراض؛ وذلك لأن لهذه الأجسام ، ولهذه الأعراض أشياء تحدثُ عن امتزاجِ الأخلاط والعناصر .
وأمَّا الروح ، فإنه ليس كذلك ، بل هو جوهرٌ ، بسيطٌ ، مجردٌ ، ولا يحدث إلا بمحدثٍ يقول له : « كن فيكون » ، فأجاب الله عنه بأنه موجود محدث بأمر الله وتكوينه ، وتأثيره في إفادة الحياة بهذا الجسدِ ، ولا يلزم من عدم العلم بحقيقته المخصوصة نفيه؛ فإنَّ أكثر حقائقِ الأشياءِ ، وماهيَّاتها مجهولة؛ فإنَّا نعلم أنَّ السكنجبين له خاصيةٌ في قطع الصفراء؛ فأمَّا إذا أردنا أن نعرف ماهيَّة تلك الخاصِّيَّة ، وحقيقتها المخصوصة ، فذلك غير معلوم؛ فثبت أنَّ أكثر الحقائق مجهولةٌ ، ولم يلزم من كونها مجهولة بعينها عدمُ العلم بخاصِّيَّتها ، فكذا ها هنا؛ وهذا المراد بقوله : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } .
وأما البحثُ الثاني : فهو أنَّ لفظ الأمرِ قد جاء بمعنى الفعل؛ قال تعالى : { وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } [ هود : 97 ] .
وقال تعالى : { فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } [ هود : 82 ] أي : فعلنا .
فقوله تعالى : { قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي } . أي : من فعل ربِّي .
وهذا الجواب يدلُّ على أنَّهم سألوه عن الروح ، قديمة أو حادثة ، فقال : بل حادثة ، وإنما حصلت بفعل الله وتكوينه .
ثم احتجَّ على حدوثِ الرُّوحِ بقوله : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } .
ثم استدلَّ بحدوثِ الأرواح بتغيُّرها من حال إلى حالٍ ، وهو المراد بقوله : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } .
وأما أقوال المفسِّرين في الروح المذكورة ها هنا :
فقيل : الروح : القرآن؛ لأن الله تعالى سمَّى القرآن في هذه الآية ، وفي كثيرٍ من الآيات روحًا؛ قال تعالى : { أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] .
{ يُنَزِّلُ الملاائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ } [ النحل : 2 ] .
ولأنَّ القرآن تحصل به حياة الأرواح والعقول؛ لأنَّ به تحصل معرفة الله تعالى ، ومعرفة ملائكته ، وكتبه ، ورسله ، والأرواح إنَّما يحصلُ إحياؤها بهذه المعارف ، وتقدم قوله : { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [ الإسراء : 82 ] .
وقال بعده : { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } [ الإسراء : 86 ] .
إلى قوله : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [ الإسراء : 88 ] .
فلما كان ما قبل هذه الآية في وصف القرآن ، وما بعدها كذلك ، وجب أن يكون المراد بالروح القرآن؛ حتَّى تكون آيات القرآن كلها متناسبة؛ لأن القوم استعظموا أمر القرآن ، فسألوا : هل هو من جنس الشِّعر ، أو من جنس الكهانة؟ فأجابهم الله تعالى بأنه ليس من جنس كلام البشر ، وإنما هو كلامٌ ظهر بأمر الله ، ووحيه ، وتنزيله ، فقال : { قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي } ، أي : القرآن إنما ظهر بأمر الله ربِّي ، وليس من جنس كلامِ البشر .
ورُوِيَ عن ابن عباس : أنه جبريل ، وهو قول الحسن وقتادة؛ لقوله تعالى : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ } [ الشعراء : 193 ، 194 ] ؛ وقوله : { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا } [ مريم : 17 ] .
ويؤكده : { قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي } .
وقال جبريل : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } [ مريم : 64 ] .
فسالوا الرسول صلى الله عليه وسلم : كيف جبريل في نفسه؟ وكيف يأتيه؟ وكيف يبلغ الوحي إليه؟ .
وقال مجاهد : الرُّوحُ : خلق ليسوا من الملائكة ، على صور بني آدم يأكلون ، ولهم أيدٍ ، وأرجلٌ ، ورءوسٌ .
وقال أبو صالحٍ : يشبهون الناس ، وليسوا من النَّاس .
فصل
قال ابن الخطيب : ولم أجِدْ في القرآن ، ولا في الأخبار الصحيحة شيئاً يمكنُ التمسُّك به بهذا القول .
ورُوِيَ عن عليٍّ : أنَّه ملكٌ له سبعون ألف وجهٍ ، لكلِّ وجهٍ سبعون ألف لسانٍ ، لكلِّ لسانٍ سبعون ألف لغةٍ ، يسبِّح الله تعالى بتلك اللغات ، ويخلق الله تعالى من كلِّ تسبيحةٍ ملكاً يطير مع الملائكة ، قالوا : ولم يخلق الله خلقاً أعظم من الروحِ غير العرشِ ، ولو شاء أن يبتلع السَّموات السَّبع ، والأرضين السبع ، وما فيها بلقمةٍ واحدةٍ لفعله ، صورة خلقه على صورة الملائكة ، وصورة وجهه على صورة الآدميين ، يقوم يوم القيامة عن يمين العرش ، وهو أقرب الخلق إلى الله عزَّ وجلَّ اليوم عند الحجب السَّبعين ، ويقرب إلى الله يوم القيامة ، وهو يشفع لأهل التوحيد ، ولولا أنَّ بينه وبين الملائكة ستراً من نورٍ ، لاحترق أهل السموات من نوره .
فصل في ضعف هذا القول
قال ابن الخطيب : ولقائلٍ أن يقول : هذا القول ضعيفٌ؛ لوجوهٍ :
الأول : أنَّ هذا التفصيل ، إذا عرفه عليٌّ ، فالنبي أولى بأن يعرفه ، ويخبر به ، وأيضاً : فإنَّ الوحي لم يكن ينزل على عليٍّ؛ فهذا التفصيل ما عرفه إلا من النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فَلِمَ ذكر النبي هذا الشَّرح لعليٍّ ، ولم يذكره لغيره؟! .
الثاني : أنَّ ذلك الملك ، إن كان حيواناً واحداً ، وعاقلاً واحداً ، فلا فائدة في تكثير تلك اللغات ، وإن كان المتكلِّم بكلِّ لغةٍ ملكاً؛ فهذا مجموعُ ملائكة .
الثالث : أنَّ هذا شيء مجهول الوجود ، فكيف يسال عنه؟ أما الروح الذي هو سبب الحياة ، فهو شيء تتوفَّر دواعي العقلاء على معرفته؛ فصرف هذا السؤال إليه أولى .
وقيل : الرُّوحُ : عيسى؛ فإنَّه روح الله ، وكلمته ، والمعنى : أنَّه ليس كما يقوله اليهود ، ولا كما يقوله النصارى .
وقال قومٌ : هو الرُّوحُ المركَّب في الخلق الذي يحيا به الإنسان ، وهو الأصحُّ .
واختلفوا فيه؛ فقال بعضهم : هو الدم؛ ألا ترى [ أنَّ الإنسان ] ، إذا مات لا يفوتُ منه إلا الدمُ .
وقال قومٌ : هو نفس الحيوان؛ بدليل أنَّه يموت باحتباس النفس .
وقال قومٌ : هو عرضٌ .
وقال قومٌ : هو جسم لطيف .
وقال بعضهم : الروح معنى اجتمع فيه النُّور ، والطِّيب ، والعلوُّ ، والعلم ، والبقاء؛ ألا ترى أنه إذا كان موجوداً ، يكون الإنسان موصوفاً بهذه الصفات [ جميعها ] ، وإذا خرج ذهب الكلُّ؟! .
فصل
في شرح مذاهب القائلين بأنَّ الإنسان جسم موجود ، روح في داخل البدن .
قال ابن الخطيب : اعلم أن الأجسام الموجودة في هذا العالم السفليِّ : إما أن تكون أحد العناصر الأربعة ، أو ما يكون متولِّداً من امتزاجها ، ويمتنع أن يحصل في البدنِ الإنسانيِّ جسمٌ عنصريٌّ خالصٌ ، بل لا بدَّ وأن يكون الحاصل جسماً متولِّداً من امتزاجات هذه الأربعة .
فنقول : أمَّا الجسم الذي تغلب عليه الأرضية : فهو الأعضار الصُّلبة الكثيفة؛ كالعظم ، و العروق ، والغُضروف ، والعصب ، والوتر ، والرِّباطاتِ لهذا الجسم ، واللَّحم والجلد ، ولم يقل أحد من العقلاء الذين قالوا : إنَّ الإنسان بمعنى : روح مغاير لهذا الجسد ، بأنَّه عبارة عن عضوٍ معيَّن من هذه الأعضاء؛ وذلك لأنَّ هذه الأعضاء ثقيلة ، كثيفة ، ظلمانيَّة ، لم يقل أحد من العقلاء بأنَّ الإنسان عبارةٌ عن أحد هذه الأعضاء .
وأما الجسم الذي تغلب عليه المائية؛ فهو الأخلاط الأربعة ولم يُقَلْ في شيءٍ منها : إنَّه الإنسان إلاَّ في الدَّم؛ فإنَّ فيهم من قال : هو الرُّوح؛ بدليل أنَّه ، إذا خرج ، لزم الموت .
وأمَّا الجسم الذي تغلب عليه الهوائية ، والنارية؛ فهو الأرواح : وهي نوعان : أجسامٌ هوائية مخلوطة بالحرارةِ الغريزيّة ، متولِّدة : إمَّا في القلب ، أو في الدِّماغ ، وقالوا : إنما هي الروح الإنسانيُّ ، ثمَّ اختلفوا .
فمنهم من يقول : هو الرُّوح الذي في القلب .
ومنهم من يقول : إنَّه جزءٌ لا يتجزَّأ في الدِّماغ .
ومنهم من يقول : الرُّوحُ عبارة عن أجزاءٍ ناريَّة مختلطة بهذه الأرواح القلبيَّة ، والدِّماغيَّة ، وتلك الأجزاء النارية : هي المسمَّاة بالحرارة الغريزيَّة ، وهي الإنسان .
ومن النَّاس من يقول : الروح عبارةٌ عن أجسام نورانيَّةٍ ، سماويةٍ ، لطيفة الجوهر ، على طبيعة ضوءِ الشَّمس ، وهي لا تقبلُ التحلُّل ، والتبدُّل ، ولا التفرُّق ، والتمزُّق؛ وهو المراد بقوله : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [ الحجر : 29 ] نفذت تلك الأجسام الشَّريفة السماوية الإلهيَّة في داخل أعضاء البدنِ نفاذ النَّار في الفحم ، ونفاذ دهن السِّمسم في السِّمسم ، ونفاذ دهن الورد في جسمِ الورد؛ وهو المراد من قوله : { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [ الحجر : 29 ] .
ثم إنَّ البدن ما دام سليماً ، قابلاً لنفاذ تلك الأجسام الشريفة ، بقي حيًّا ، فإذا تولَّد في البدن أخلاطٌ غليظةٌ ، منعت من سريان تلك الأجسام الشريفة فيها ، فانفصلت عن هذا البدن؛ فحينئذ : يعرض الموت .
قال : فأمَّا أنَّ الإنسان جنسٌ موجودٌ خارج البدن ، فلا أعرف أحداً ذهب إلى هذا القول .
فصل في الاحتجاج على أن الروح ليست بجسم ولا عرض
احتجَّ ابن الخطيب لمسمَّى الروح بأنها ليست بجسمٍ ، ولا عرضٍ ، وأنها غير البدن؛ بوجوه كثيرة عقليَّة ونقليَّة .
قال ابن الخطيب : منها أنَّ العلم البديهيَّ حاصل بأن أجزاء هذه الجثَّة متبدلة بالزِّيادةِ والنُّقصانِ ، والمتبدل مغاير للثَّابت .
ومنها : أنَّ الإنسان حال كونه مشتغلاً بفكره في شيءٍ معيَّن ، فإنه في تلك الحالة يكونُ غافلاً عن جميع أجزاء بدنه ، وغير غافل عن نفسه؛ فوجب أن يكون الإنسان مغايراً لبدنه .
ومنها : قول الإنسان : رأسي ، وبدني ، وعيني ، ويضيف كل عضو إلى نفسه ، والمضاف غير المضاف إليهز
فإن قيل : قد يقول : نفسي وذاتي فيضيف الذات والنفس إلى [ نفسه ] ؛ فيلزم أن يكون الشيء وذاته مغايرة لنفسه ، وهو محالٌ ، قلنا : قد يريد بنفس الشيء وذاته الحقيقة المخصوصة التي يشير إليها كلُّ أحدٍ بقوله : أنا فلانٌ ، فغذا قال : نفسي ، وذاتي ، كان المراد البدن ، وهو مغاير للإنسان ، أمَّا إذا أريد بالنَّفس والذَّات الحقيقة المخصوصة المشار إليها بقوله : أنا فلانٌ ، ثم إنَّ الإنسان يكنه أن يضيف ذلك إلى نفسه بقوله : إنَّه لي .
ومنها : أنَّ الإنسان قد يكون حيًّا ، حال موت البدن؛ لقوله تعالى : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ } [ آل عمران : 169 ] .
والحِسُّ يرى الجسد ميِّتاً .
وقال تعالى : { النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [ غافر : 46 ] .
وقال - عليه الصلاة والسلام - : « [ » أنبياء الله لا يموتون « ] » .
وقال - عليه السلام- : « إذَا حُمِلَ الميِّتُ على نعشِه ، [ رفرف ] روحه فوق النَّعشِ ، ويقول : يا أهْلِي ، ويَا ولَدِي » .
وقال تعالى : { ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } [ الفجر ، 27 ، 28 ] .
ومنها : أن الإنسان ، إذا قطعت يداه ورجلاه ، لم ينقص من عقله ، وفهمه شيء .
ومنها : الذين مسخهم الله قردة وخنازير؛ فإن لم يكن ذلك الإنسان حيًّا ، وإلاَّ لكان ذلك المسخُ إماتة لذلك الإنسان ، وخلقاً لذلك الخنزير .
ومنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى جبريل في صورة دحية ، ويرى إبليس في صورة الشَّيخِ النجديِّ .
ومنها : العضو ، وهذا يدل على أن الإنسان شيء غير الجسد ، وأنَّ الزَّاني يزني بفرجه؛ فيضرب على ظهره؛ فيلزم أن يكون الإنسانُ شيئاً آخر ، سوى الفرج ، وسوى الظَّهر ، وهو شيء يستعمل الظهر في عمل ، والفرج في عمل؛ فيكون المتلذذ المتألم هو ذلك الشيء بواسطة ذلك العضو ، وكل هذا يدل على أن الإنسان شيء غير الجسد .
ثم قال : واحتج المنكر بثلاثة أوجه :
الأول : لو كانت مساوية لذات الله في كونه ليس بجسم ولا عرض لكانت مساوية له في تمام الماهية ، وذلك محال .
الثاني : قوله تعالى : { قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ } [ عبس : 17-22 ] .
وهذا تصريحٌ بأنَّ الإنسان شيء مخلوق من النُّطفة ، وأنه يموت ، ويدخل القبر ، ثم إنَّه تعالى يخرجه من القبر ، ولو لم يكن الإنسان عبارة عن هذه الجثَّة ، وإلاَّ لم تكن الأحوال المذكورة في هذه الآية صحيحة .
الثالث : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً } [ آل عمران : 169 ] إلى قوله : { فَرِحِينَ } [ آل عمران : 170 ] .
وهذا يدلُّ على أنَّ الروح جسم؛ لأنّ الارتزاق والفرح من صفات الأجسام .
والجواب عن الأوَّل : أنَّ المساواة في أنَّه ليس بمتحيِّز ، ولا حالٍّ في المتحيِّز مساواةٌ في صفةٍ سلبيةٍ ، والمساواة في الصِّفة السلبيَّة لا توجبُ المماثلة .
واعلم : أنَّ جماعة من الجهَّال يظنُّون أنَّه لما كان الروح موجوداً ليس بمتحيِّز ، ولا حالٍّ في المتحيز ، وجب أن يكون مثلاً للإله ، أو جزءاً له ، وذلك جهلٌ فاحشٌ ، وغلطٌ قبيحٌ .
وتحقيق القولك ما ذكرناه من أنَّ المساواة في السُّلوب ، لو أوجبت المماثلة ، لوجب القول باستواءِ كلِّ المخالفات؛ فإنَّ كل ماهيَّتينِ مختلفتين ، لا بدَّ وأن يشتركا في سلب ما عداهما عنهما ، فليتفكر في هذه الدقيقة؛ فإنَّها مغلطةٌ عظيمةٌ للجهَّال .
والجوابُ عن الثاني : أنه لمَّا كان الاتِّصافُ في العرف والظَّاهر عبارة عن هذه الجثَّة أطلق عليه اسم الإنسان .
وأيضاً : لقائل أن يقول : هَبْ أنَّا نجعلُ اسم الإنسان عبارة عن هذه الجثَّة ، إلاَّ أنَّ قد دلَّلنا أنَّ محلَّ العلم والقدرة ليس هو الجثَّة .
والجواب عن الثالث : أنَّ الرِّزْقَ المذكور في الآية محمولٌ على ما يقوِّي حالهم ويكمل كمالهم ، وهو معرفةُ الله ومحبَّته .
بل نقول : هذا من أدلِّ الدلائلِ على صحَّة قولنا؛ لأنَّ أبدانهم قد بليت في التُّراب ، والله يقول : « إنَّ أرواحهم تأوي في قناديل معلقة تحت العرش » وهذا يدلُّ على أنَّ الروح غير البدن .
قوله : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } .
أي : في جنب علم الله تعالى .
قال المفسِّرون : هذا خطابٌ لليهود ، وذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا قال لهم ذلك ، قالوا : نحن مختصُّون بهذا الخطاب ، أم أنت معنا؟ فقال - عليه الصلاة والسلام - :
« بل نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلاً » ، فقالوا ما أعجب شأنك ، يا محمد؛ ساعة تقول : { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } [ البقرة : 269 ] . وساعة تقول هذا ، فنزل قوله : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ } [ لقمان : 27 ] .
وما ذكروه ليس بلازمٍ؛ لأنَّ الشيء قد يكون قليلاً بالنِّسبة إلى علم الله تعالى ، وبالنسبة غلى حقائق الأشياء ، ولكنَّها كثيرة بالنسبة إلى الشَّهوات الجسمانيَّة ، واللذَّات الجسدانية .
وقيل : هذا خطابٌ للنبي صلى الله عليه وسلم .
وقيل : كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم معنى الرُّوح ، ولم يخبرْ به أحداً؛ لأنَّ ترك إخباره كان علماً لنُبوَّتهِ ، وقد تقدَّم الكلام على ذلك ، قال البغوي : الأصحُّ : أن الله تعالى استأثر بعلمه .
قوله : { مِّن العلم } : متعلق ب « أوتيتم » ، ولا يجوز تعلُّقه بمحذوفٍ على أنه ح ال من « قَلِيلاً » ؛ لأنَّه لو تأخَّر ، لكان صفة؛ لأنَّ ما في حيِّز « إلاَّ » لا يتقدَّم عليها .
وقرأ عبد الله ، والأعمش « ومَا أوتُوا » بضمير الغيبة .
قوله تعالى : { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } الآية .
لما ذكر أنَّه ما آتاهم من العلم إلاَّ قليلاً ، قال ها هنا : إنه لو شاء أن يأخذ منهم ذلك القليل ، لقدر عليه ، وذلك بأن يمحو حفظه من القلوب ، وكتابته من الكتب ، والمراد بالذي أوحينا إليك القرآن .
واحتج الكعبي بهذه الآية الكريمة بأنَّ القرآن مخلوقٌ؛ فقال : الذي يقدر على إزالته والذَّهاب به يستحيل أن يكون قديماً ، بل يجب أن يكون محدثاً .
وأجيب بأن يكون المراد بهذا الإذهاب إزالة العلم به عن القلوب ، وإزالة النَّقش الدَّال عليه من المصحف؛ وذلك لا يوجبُ كون ذلك المصكوكِ المدلول محدثاً .
فصل في كيفية رفع القرآن آخر الزمان
قال عبد الله بن مسعود : اقرءوا القرآن قبل أن يرفع؛ فإنَّه لا تقوم الساعة حتَّى يرفع ، قيل : هذه المصاحف ترفع ، فكيف بما في صدور النَّاس؟ قال : يسري عليه ليلاً ، فيرفع ما في صدورهم ، فيصبحون لا يحفظون شيئاً ، ولا يجدون ف يالمصاحف شيئاً ، ثم يفيضون في الشِّعر .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : لا تقوم السَّاعة حتَّى يرفع القرآن من حيثُ نزل ، لهُ دويٌّ حول العرشِ ، كدويِّ النَّحلِ؛ فيقول الربُّ : ما لك؟ فيقول : يا ربِّ ، أتلى ، ولا يعمل بي .
ثم قال : { ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً } أي : لا تجدُ من تتوكَّل عليه في ردِّ شيءٍ منه .
قوله تعالى : { إِلاَّ رَحْمَةً } : قيل : استثناء متصل؛ لأنها تندرج في قوله « وَكِيلاً » والمعنى : إلاَّ أن يرحمك ربُّك؛ فيردَّه عليك . وقيل : إنه استثناء منقطع ، فتتقدر ب « لَكِنْ » عند البصريين ، و « بَلْ » عند الكوفيين .
والمعنى : إلا رحمة من ربِّك؛ إذ كل رحمة من ربِّك تركته غير مذهوب به ، أي : لكن لا يشاء ذلك رحمة من ربِّك ، وهذا امتنانٌ من الله؛ وهو نوعان :
الأول : تسهيل ذلك العلم عليه .
والثاني : إبقاء حفظه عليه .
قوله « مِنْ ربِّكَ » يجوز أن يتعلق ب « رَحْمةً » وأن يتعلق بمحذوفٍ ، صفة لها .
ثم قال : { إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً } .
بسبب إبقاء العلم والقرآنِ عليك ، وقيل : بسببِ أنَّه جعلك سيِّد ولد آدم ، وختم بك النَّبيِّين ، وأعطاك المقَام المحمود ، فلما كان كذلك ، لا جرم أنعم عليك بإبقاء العلم والقرآن عليك .
قوله : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن } الآيات ، وقد تقدَّم الكلام على مثلِ هذه الآية .
فصل
قال بعضهم : هب أنَّه ظهر عجز الإنسانِ عن معارضته؛ فكيف عرفتُم عجز الجنِّ؟ وأيضاً : فلم لا يجوز أن يقال : إن هذا الكلام نظم الجنِّ ، ألقوهُ على محمد صلى الله عليه وسلم وخصُّوه به على سبيل السَّعي في إضلال الخلق؟ فعلى هذا : إنَّما تعرفون صدق محمد صلى الله عليه وسلم إذا عرفتم أنَّ محمَّداً صادق في قوله : إنَّه ليس من كلام الجنِّ ، بل من كلامِ الله تعالى؛ وحينئذٍ : يلزم الدور ، وليس لأحدٍ أن يقول : كيف يعقل أن يكون هذا من قول الجنِّ؛ لأنا نقول : إنَّ هذه الآية دلَّت على وقوعِ التحدِّي من الجنِّ ، وإنما يحسن وقوعُ هذا التحدِّي ، لو كانوا فصحاء بلغاء ، ومتى كان الأمرُ كذلك ، كان الاحتمال المذكور قائماً .
فالجواب عن الأوَّل : بأنَّ عجز البشر عن معارضته يكون في إثبات كونه معجزاً .
وعن الثاني : أنَّ ذلك ، لو وقع ، لوجب في حكمة الله : أن يظهر ذلك التَّلبيسُ ، وحيث لم يظهر ذلك ، دلَّ على عدمه ، وعلى أنَّ الله تعالى أجاب عن هذه الأسئلةِ بالأجوبة الشَّافية في آخر سورة الشعراء؛ في قوله : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين تَنَزَّلُ على كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [ الشعراء : 221-222 ] وسيأتي بيانه - إن شاء الله تعالى- .
قالت المعتزلة : هذه الآية تدلُّ على أنَّ القرآن مخلوقٌ؛ لأنَّ التحدِّي بالقديم محالٌ ، وقد تقدَّمت هذه الآية في سورة البقرة .
قوله : { لاَ يَأْتُونَ } : فيه وجهان :
أظهرهما : أنه جوابٌ للقسمِ الموطَّأ له باللام .
والثاني : أنه جواب الشرط ، واعتذروا به عن رفعه بأنَّ الشرط ماضٍ؛ فهو كقوله : [ البسيط ]
3462- وإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألةٍ ... يَقولُ لا غَائبٌ مَالِي ولا حَرِم
واستشهدوا عليه بقول الأعشى : [ البسيط ]
3463- لَئِنْ مُنِيتَ بِنَا عَنْ غِبِّ مَعْركةٍ ... لا تُلْفِنَا مِنْ دِمَاءِ القَوْمِ نَنْتَفِلُ
فأجاب الشرط مع تقدُّمِ لام التوطئة ، وهو دليلٌ للفراء ، ومن تبعه على ذلك ، وفيه ردٌّ على البصريِّين ، حيث يحتَّمون جواب القسمِ عند عدمِ تقدم ذي خبرٍ .
وأجاب بعضهم أنَّ اللام في البيت ليست للتوطئةِ ، بل مزيدةٌ؛ وهذا ليس بشيء؛ لأنه لا دليل عليه ، وقال الزمخشريُّ : « لولا اللام الموطِّئةُ؛ لجاز أن يكون جواباً للشرط؛ كقوله : [ البسيط ]
3464- . . ... يَقُولُ لا غَائِبٌ
لأنَّ الشرط وقع ماضياً « . وناقشه أبو حيَّان : بأنَّ هذا ليس مذهب سيبويه ، ولا الكوفيين والمبرِّد؛ لأنَّ مذهب سيبويه في مثله : أن النية به التقديم ، ومذهب الكوفيين ، والمبرِّد : أنه على حذف الفاء ، وهذا مذهب ثالثٌ ، قال به بعضُ الناس .
قوله : » ولَوْ كَانَ « جملةٌ حاليةٌ ، وتقدَّم تحقيق هذا ، وأنه كقوله - عليه السلام- : » أعطُوا السَّائل ، ولو جَاء على فَرسٍ « ، و » لبَعْضٍ « متعلقٌ ب » ظَهِيراً « .
فصل في معنى الآية
والمعنى : لو كان بعضهم لبعض عوناً ، ومظاهراً ، نزلت حين قال الكفَّار : ولو شئنا لقلنا مثل هذا ، فكذَّبهم الله - عز وجلَّ - فالقرآن معجزٌ في النَّظم ، والتَّأليف ، والإخبار عن الغيوب ، وهو كلام في أعلى طبقات البلاغة ، لا يشبه كلام الخلق؛ لأنَّه غير مخلوقٍ ، ولو كان مخلوقاً ، لأتوا بمثله .
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
قوله : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ } الآية .
{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } : مفعول محذوف ، وقيل : « مِنْ » زائدة في « مِنْ كلِّ مَثلٍ » وهو المفعول ، قاله ابن عطية ، وهو مذهب الكوفيين و الأخفش .
وقرأ الحسن : « صَرَفْنَا » بتخفيف الراء ، وتقدَّم نظيره .
فصل في ذكر الوجوه المحتملة في هذا الكلام
هذا الكلام يحتمل وجوهاً :
احدها : أنه وقع التحدِّي بكلِّ القرآن؛ كما في هذه الآية ، ووقع التحدِّي بسورة واحدة؛ كما في قوله : { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ } [ الطور : 34 ] فقوله : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ } يحتمل أن يكون المراد منه التحدِّي؛ كما شرحناه ، ثم إنهم مع ظهور عجزهم عن جميع هذه المراتب ، صاروا مصرِّين على كفرهم .
وثانيها : أن يكون المراد من « من كُلِّ مثلٍ » : أنَّا أخبرناهم بأنَّ الذين بقوا مصرِّين على الكفر؛ مثل قوم نوحٍ ، وعادٍ ، وثمود - ابتلاهم الله بأنواع البلاء - وشرحنا هذه الطريقة منراراً - ثم إنَّ هؤلاء الأقوام - يعني أهل مكَّة - لم ينتفعوا بهذا البيان ، بل اصرُّوا على الكفر .
وثالثها : أن يكون المراد من « مِنْ كلِّ مثلٍ » : مِنْ كلِّ وجهٍ من العبر ، والأحكام والوعد ، والوعيد ، وغيرها .
ورابعها : أن يكون المراد ذكر دلائل التوحيد ، ونفي الشركاء في هذا لقرآن مراراً كثيرة ، وذكر شبهات منكري النبوَّة ، والمعاد؛ وأجاب عنها ، ثمَّ أردفها بذكر الدَّلائل القاطعة على صحَّة النبوة ، والمعاد ، ثم إنَّ هؤلاء الكفَّار لم ينتفعوا بسماعها ، بل بقوا مصرِّين على الشِّرك ، وإنكار النُّبوَّة .
قوله : « إلاَّ كُفوراً » مفعول به ، وهو استثناءٌ مفرَّغ؛ لأنَّه في قوة : لم يفعلوا إلاَّ الكفور .
والمعنى : { فأبى أَكْثَرُ الناس } يعني : أهل مكَّة ، { إِلاَّ كُفُوراً } أي : جحوداً للحقِّ .
فإن قيل : كيف جاز : { فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً } ولا يجوز أن يقال : ضربتُ إلا زيداً؟ .
فالجواب : إنَّ لفظة : « أبَى » تفيد النَّفي؛ كأنه قيل : فلم يؤمنوا إلا كفوراً .
قوله : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ } الآية .
قرأ الكوفيُّون [ « تَفْجُرَ » ] بفتح التَّاء ، وسكون الفاء ، وضم الجيم خفيفة ، مضارع « فَجَرَ » واختاره أبو حاتم؛ قالوا : لأنّ الينبوع واحدٌ ، والباقون ، بضمِّ التاء ، وفتح الفاء ، وكسر الجيم شديدة ، مضارع « فجَّر » ، للتكثير ، ولم يختلفوا في الثانية : أنَّها بالتثقيل للتصريح بمصدرها ، وقرأ الأعمش « تُفْجِرَ » بضمِّ التاء ، وسكون الفاء ، وكسر الجيم خفيفة ، مضارع « أفْجرَ » بمعنى « فَجرَ » فليس التضعيفُ ، ولا الهمزة معدِّيينِ .
فمن ثقَّل ، أراد كثيرة الانفجار من الينبوع ، وهو وإن كان واحداً ، فلكثرة الانفجار فيه سحين أن يثقَّل؛ كما تقول : ضرَّب زيدٌ ، إذا كثر الضَّربُ منه؛ لكثرة فعله ، وإن كان الفاعل واحداً ، ومن خفَّف؛ فلأن الينبوع واحدٌ .
و « يَنْبُوعاً » مفعول به ، ووزنه « يَفعُولٌ » ؛ لأنه من النَّبعِ ، واليَنبُوعُ : العين تفور من الأرض .
فصل فيما يثبت صدق النبوة
اعلم أنَّه تعالى لمَّا بيَّن بالدليل كون القرآن معجزاً ، وظهر هذا المعجز على وفق دعوى محمد صلى الله عليه وسلم ، فحينئذٍ : تمَّ الدليل على كونه نبيًّا صدقاً؛ لأنَّا نقول : إن محمداً صلى الله عليه وسلم ادَّعى النبوة ، وأظهر المعجزة على وفق دعواه ، وكلُّ من كان كذلك ، كان نبيًّا صادقاً؛ فهذا يدلُّ على أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم صادقٌ ، وليس من شرط كونه نبيًّا صادقاً تَواترُ المعجزات الكثيرة ، وتواليها؛ لأنَّا لو فتحنا هذا الباب ، للزم ألاَّ ينقطع فيه ، وكلما أتى الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - بمعجز ، اقترحوا عليه معجزاً آخر ، ولا ينتهي الأمر فيه إلى حدِّ ينقطع عنده عناد المعاندين؛ لأنَّه تعالى حكى عن الكفَّار : أنهم بعد أن ظهر كون القرآن معجزاً ، التمسُوا من الرسُول - عليه الصلاة والسلام - ستَّة أنواعٍ من المعجزات الباهرات ، كما روى عكرمة ، عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - « أنَّ رؤساء أهل مكَّة ، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم جلوسٌ عند الكعبة ، فقالوا : يا محمد ، إنَّ أرض مكَّة ضيقةٌ ، فسير جبالها؛ لننتفع فيها ، وفجِّر لنا ينبوعاً ، أي : نهراً ، وعيوناً نزرع فيها ، فقال : » لا أقدر عليه « .
فقال قائلٌ منهم : أو يكون لك جنّة من نخيل وعنبٍ فتفجّر الأنهار خلالها تفجيراً ، فقال : » لا أقْدرُ عَليْهِ « فقيل : أو يكون لك بيتٌ من زخرفٍ ، اي : من ذهبٍ ، فيُغْنِيكَ عَنَّا ، فقال : » لا أقدِرُ عَليْهِ « فقيل له : أما تَسْتطِيعُ أن تَأتي قوْمكَ بِمَأ يسْألُونكَ؟ فقال : لا أسْتطِيعُ ، فقالوا : فإذا كنت لا تَسْتطِيعُ الخير ، فاسْتطعِ الشَّر ، فأرسل السَّماء؛ كما زَعمْتَ ، عَليْنَا كِسَفاً » .
قرأ العامة « تُسْقِطَ » بإسناد الفعل للمخاطب ، و « السَّماء » مفعول بها ، ومجاهد على إسناده إلى « السَّماء » فرفعها به .
وقرأ نافع ، و ابن عامرٍ ، وعاصم « كِسَفاً » هنا ، بفتح السِّين ، وفعل ذلك حفصٌ في الشعراء [ الآية : 187 ] وفي سبأ [ الآية : 9 ] ، والباقون يسكنونها في المواضع الثلاثة ، وقرأ ابن ذكوان بسكونها في الروم [ الآية : 48 ] ؛ بلا خلافٍ ، وهشام عنه الوجهان ، والباقون بفتحها .
فمن فتح السين ، جعله جمع كسفةٍ؛ نحو : قِطعَةٍ وقِطَع ، وكِسْرةٍ وكِسرٍ ، ومن سكَّن ، جعله جمع كسفة أيضاً على حدِّ : سِدْرةٍ وسِدْرٍ ، وقِمْحَةٍ وقِمَحٍ .
وجوَّز أبو البقاء فيه وجهين آخرين :
أحدهما : أنه جمعٌ على « فَعَلٍ » بفتح العين ، وإنما سكِّن تخفيفاً ، وهذا لا يجوز؛ لأنَّ الفتحة خفيفة يحتملها حرف العلة ، حيث يقدر فيه غيرها ، فكيف بالحرف الصحيح؟ .
قال : والثاني : أنه « فَعْلٌ » بمعنى « مَفْعُولٍ » ؛ ك « الطحْن » بمعنى « مَطْحُون » ؛ فصار في السكون ثلاثة أوجهٍ .
وأصل الكسفِ : القطع ، يقال : كسَفْتُ الثَّوبَ قطعته؛ وفي الحديث في قصَّة سليمان مع الصَّافناتِ الجياد : أنه « كَسَفَ عَراقِيبهَا » ، أي : قطعها .
فصل في معنى الكسف
قال اللَّيثُ : الكسف : قطع العرقوب ، قال الفرَّاء : وسمعتُ أعرابيًّا يقول لبزَّاز : أعطني كسفةً ، وقال الزجاج : « كَسفَ الشيء بمعنى غَطَّاهُ » ، قيل : ولا يعرفُ هذا لغيره .
وانتصابه على الحال في القراءتين فإن جعلناه جمعاً ، كان على حذفِ مضاف ، أي : ذات كسفٍ ، وإن جعلناه « فِعْلاً » بمعنى « مَفعُول » لم يحتج إلى تقدير ، وحينئذ : فإن قيل لِمَ لمْ يُؤنَّث؟ فالجواب : لأنَّ تأنيثه أعني : السَّماء غير حقيقيٍّ ، أو بأنها في معنى السَّقف .
قوله : « كَمَا زعَمْتَ » : نعت لمصدر محذوف ، أي : إسقاطاً مثل مزعومك؛ كذا قدَّره أبو البقاء .
فصل في المراد بالآية
قال عكرمة : { كَمَا زَعَمْتَ } ، يا محمد : أنَّك نبيٌّ ، « فأسْقِط » السماء علينا كسفاً .
وقيل : كما زعمت أن ربَّك إن شاء فعل ، وقيل : المراد قوله : { أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً } [ الإسراء : 68 ] .
فقيل : اجعل السَّماء قطعاً متفرقة؛ كالحاصب ، وأسقطها علينا .
قوله : { أَوْ تَأْتِيَ بالله والملاائكة قَبِيلاً } .
القَبِيلُ : بمعنى : المقابل؛ كالعشير ، بمعنى : المُعاشِر .
وقال ابن عباس : فوجاً بعد فوجٍ . وقال الليث : كلُّ جندٍ من الجنِّ والإنسِ قبيلٌ ، وقيل : كفيلاً ، أي ضامناً .
قال الزجاج : يقال : قبلتُ به أقبل؛ كما يقال : كفلت به أكفل ، وعلى هذا : فهو واحدٌ أريد به الجمعُ؛ كقوله : { وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً } [ النساء : 69 ] ، وقال أبو عليِّ : معناه المعاينة؛ كقوله تعالى : { لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة أَوْ نرى رَبَّنَا } [ الفرقان : 21 ] .
قوله : « قَبِيلاً » [ حالٌ من « الله ، والمَلائِكَةِ » أو من أحدهما ، والآخر محذوفة حاله ، أي : بالله قبيلاً ، والملائكة قبيلاً؛ ] كقوله : [ الطويل ]
3465- . كُنْتُ مِنهُ ووالِدي ... بَرِيئاً . . .
وكقوله : [ الطويل ]
3466- ... فَإنِّي وقيَّارٌ بِهَا لغَرِيبُ
ذكره الزمخشريُّ ، هذا إذا جعلنا « قَبِيلاً » بمعنى كفيلاً ، أي : « ضَامِناً » أو بمعنى « معاينة » كما قاله الفارسي ، وإن جعلناه بمعنى « جَماعَة » كان حالاً من « المَلائِكَة » .
وقرأ الأعرج « قِبَلاً » من المقابلة .
قوله { ترقى } : فعل مضارع [ منصوبٌ ] تقديراً؛ لأنه معطوفٌ على « تَفْجُرَ » ، أي : أو حتَّى ترْقَى في السَّماء ، [ أي : ] في معارجها ، والرقيُّ : الصعود ، يقال : رَقِيَ ، ببالكسر ، يرقى ، بالفتح ، رقيًّا على فعولٍ ، والأصل : « رُقُوي » فأدغم بعد قلب الواو ياء ، ورقياً بزنة ضربٍ ، قال الراجز : [ الرجز ]
3467- أنْتَ الَّذي كَلَّفتَنِي رقْيَ الدَّرجْ ... عَلى الكَلالِ والمَشِيبِ والعَرجَ
قوله تعالى : { نَّقْرَؤُهُ } يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون نعتاً ل « كتاباً » .
والثاني : أن يكون حالاً مِنْ « نَا » في « عَليْنَا » ؛ قاله أبو البقاء ، وهي حال مقدرة؛ لأنهم إنما يقرؤونه بعد إنزاله ، لا في حال إنزاله .
فصل في سبب نزول الآية
قال المفسرون : لمّا قال المشركون : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا } الآيات ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام معهُ عبدُ الله بن أميَّة ، وهو ابنُ عمَّته عاتكة بنت عبد المطلب ، فقال : يا محمد ، عرض عليك قومُك ما عرضُوا ، فلم تقبلهُ منهم ، ثمَّ سألوكَ لأنفسهم أموراً يعرفون بها منزلتك من الله تعالى ، فلم تفعل ، ثمَّ سألوك أن تعجِّل ما تُخوِّفهم به ، فلم تفعل ، فوالله لا أومن بك حتَّى تتَّخذ إلى السَّماء سلَّماً ترقى فيه ، وأنا أنظر حتَّى تأتيها ، وتنزل بنُسخةٍ منشورةٍ ، ومعك نفرٌ من الملائكةِ يشهدون لك بما تقولُ . وأيم الله ، لو فعلت ذلك ، لظننتُ أنِّي لا أصدِّقك ، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسل حزيناً لما يرى من مباعدتهم .
ثم قال تعالى : قل ، يا محمد : { سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } أمره بتنزيهه ، وتمجيده ، أي : أنَّه لو أراد أن ينزل ما طلبوا ، فلعل ، ولكن لا ينزل الآيات على ما يقترحه البشر .
واعلم أنَّه تعالى قد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من الآياتِ والمعجزات ما يغني عن هذا كلِّه مثل القرآن ، وانشقاق القمر ، وتفجير العيون من بين الأصابع ، وما أشبهها ، والقوم عامَّتهم كانوا متعنِّتين ، لم يكن قصدهم طلب الدَّليل؛ ليؤمنوا ، فردَّ الله عليهم سؤالهم .
قوله : { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي } قرأ ابن كثير ، وابن عامرٍ « قال » فعلاً ماضياً؛ إخباراً عن الرسول - عليه الصلاة والسلام - بذلك ، والباقون « قُلْ » على الأمر أمراً منه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بذلك ، وهي مرسومة في مصاحف المكيين والشاميين : « قال » بألف ، وفي مصاحف غيرهم « قل » بدونها ، فكل وافق مصحفه .
قوله : { إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } يجوز أن يكون « بَشَراً » خبر « كُنْتُ » و « رَسُولاً » صفته ، ويجوز أن يكون « رَسُولاً » هو الخبر ، و « بَشَراً » حال مقدمة عليه .
فصل في استدلالهم بهذه الآية
استدلُّوا بهذه الآية على أن المجيء على الله والذهاب محالٌ؛ لأنَّ كلمة « سبحان » للتنزيه عمَّا لا ينبغي .
فقوله : { سُبْحَانَ رَبِّي } : تنزيه لله تعالى عن شيءٍ لا يليقُ به ، وذلك تنزيهُ الله عما نسب إليه ممَّا تقدَّم ذكره ، وليس فيما تقدَّم ذكره شيء مما لا يليقُ بالله إلا قولهم : أو تأتي بالله ، فدلَّ على أنَّ قوله : « سُبحانَ ربِّي » تنزيهٌ لله تعالى أن يتحكَّم عليه المتحكِّمون في الإتيان ، والمجيء؛ فدلَّ ذلك على فساد قول المشبهة .
فإن قالوا : لِمَ لا يجوز أن يكون المراد تنزيه الله تعالى أن يتحكَّم عليه المتحكِّمون في اقتراح الأشياء؟ .
فالجواب : أنَّ القوم لم يتحكَّموا على الله ، وإنما قالوا للرسول : إن كنت نبيًّا صادقاً ، فاطلب من الله أن يشرِّفك بهذه المعجزات ، فالقوم إنَّما تحكَّموا على الرسول صلى الله عليه وسلم لا على الله ، فلا يليقُ حمل قوله : { سُبْحَانَ رَبِّي } على هذا المعنى ، فيجب حمله على قولهم { أَوْ تَأْتِيَ بالله } .
فصل في تقرير هذا الجواب
اعلم أنَّ تقرير هذا الجواب : أن يقال : إما أن يكون مرادكم من هذا الاقتراح أنَّكم طلبتم الإتيان من عند نفسي بهذه الأشياء ، أو طلبتم منِّي أن أطلب من الله إظهارها على يديَّ؛ لتدلَّ لكم على كوني رسولاً حقًّا من عند الله .
والأول باطلٌ؛ لأنِّي بشر ، والبشر لا قدرة له على هذه الأشياء .
والثاني أيضاً : باطل؛ لأنِّي قد أتيتكم بمعجزة واحدة ، وهي القرآن ، فطلب هذه المعجزات طلبٌ لما لا حاجة إليه ، وكان طلبها يجري مجرى التعنُّت والتحكُّم ، وأنا عبدٌ مأمورٌ ليس لي أن أتحكَّم على الله؛ فسقط هذا السؤال؛ فثبت كونُ قوله : { سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } جواباً كافياً في هذا الباب .
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)
قوله : { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا } الاية .
لمَّا حكى الله تعالى شبهة القوم في اقتراح المعجزات الزَّائدة ، وأجاب عنها حكى شبهة أخرى وهي أنهم استبعدوا أن يبعث الله للخقل رسولاً من البشرِ ، بل اعتقدوا أنَّ الله تعالى ، لو أرسل رسولاً إلى الخلق ، لكان ذلك الرسول من الملائكةِ ، وأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بوجوهٍ :
أحدها : قوله تعالى : { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى } .
وتقرير هذا الجواب : أنَّ بتقدير أن يبعث الله ملكاً رسولاً إلى الخلق ، فالخلق إنما يؤمنون بكونه رسولاً من عند الله؛ لأجل قيام المعجزات الدالة على صدقه؛ وذلك المعجز هو الذي يهديهم إلى معرفة صدق ذلك الملك في ادِّعاء رسالته ، فالمراد من قوله : { إِذْ جَآءَهُمُ الهدى } هو المعجز ، [ وإذا كان كذلك ، فنقول : لما كان الدليل على الصِّدق هو المعجز ] فقط فهذا المعجو سواءٌ ظهر على الملكِ ، أو على البشرِ ، وجب الإقرارُ برسالته ، فقولهم : « لا بُدَّ وأن يكون الرسول من الملائكة » : تحكم فاسد باطل .
والجواب الثاني عن شبهتهم ، وهي أنَّ أهل الأرض لو كانوا ملائكة ، لوجب أن يكون رسولهم من الملائكة؛ لأنّ الجنس إلى الجنس أميل ، فلما كان [ أهل الأرض ] من البشر ، فوجب أن يكون رسولهم من البشر؛ وهذا هو المراد من قوله تعالى : { لَوْ كَانَ فِي الأرض ملاائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً } [ الإسراء : 95 ] .
الجواب الثالث : قوله تعالى : { قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } .
وتقريره أنَّ الله تعالى ، لمَّا أظهر المعجزة على وفق دعواى ، كان ذلك شهادة من الله تعالى على كوني صادقاً ، ومن شهد الله على صدقه ، فهو صادق ، فقولكم بأنَّ الرسول يجب أن يكون ملكاً ، فذلك تحكُّم فاسدٌ؛ لا يلتفت إليه . ولمَّا ذكر الله تعالى هذه الأجوبة الثلاثة ، أردفها بما يجري مجرى التهديد ، والوعيد؛ فقال : { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً } [ الإسراء : 96 ] . أي : يعلم ظواهرهم وبواطنهم ، ويعلم أنَّهم لا يذكرون هذه الشبهات إلا لمحض الحسد ، وحبِّ الرياسة .
قوله : { أَن يؤمنوا } : مفعولٌ ثانٍ ل « مَنَع » ، أي : ما منعهم إيمانهم؛ و « أن قالوا » هو الفاعل ، و « إذْ » ظرف ل « مَنعَ » ، والتقدير : وما منع الناس من الإيمان وقت مجيء الهدى إيَّاهم إلا قولهم : أبعث الله .
وهذه الجملة المنفيَّة يحتمل أن تكون من كلام الله ، فتكون مستأنفة ، وأن تكون من كلام الرسول ، فتكون منصوبة المحلِّ؛ لاندراجها تحت القول في كلتا القراءتينز
قوله : { بَشَراً رَّسُولاً } تقدَّم في نظيره وجهان ، وكذلك قوله { لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً } .
قوله تعالى : { قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض } : يجوز في « كَانَ » هذه التمام ، أي : لو وجد ، وحصل ، و « يَمشُونَ » صفة ل « مَلائِكَة » و « في الأرض » متعلِّق به ، « مُطْمئنينَ » حال من فاعل « يَمشُونَ » ، ويجوز أن تكون الناقصة ، وفي خبرها أوجه ، أظهرها : أنه الجار ، و « يَمشُون » و « مُطمَئنِّينَ » على ما تقدم .
وقيل : الخبر « يمشُون » و « في الأرض » متعلق به .
وقيل : الخبر « مُطمئنِّينَ » و « يمشُونَ » صفة ، وهذان الوجهان ضعيفان؛ لأنَّ المعنى على الأول .
فإن قيل : إنَّه تعالى لو قال : قل لو كان في الأرض ملائكة ، لنزَّلنا عليهم من السَّماء ملكاً رسولاً كان كافياً في هذا المعنى . فما الحكمة في قوله : { يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ } ؟! .
فالجواب : أن المراد بقوله : { يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ } أي : مستوفين مقيمين .
قوله : { وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد } الآية .
لما أجاب عن شبهات القوم في إنكار النبوة ، وأردفها بالوعيد بقوله : { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً } على الإجمال ، ذكر بعده الوعيد الشديد على التَّفصيل ، فقال : { وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ } .
المراد تسليةُ الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أنَّ الذين حكم لهم بالإسلام والهداية سابقاً ، وجب أن يصيروا مؤمنين ، ومن سبق لهم حكم الله بالضَّلال والجهل ، استحال أن ينقلبوا عن ذلك .
واحتجَّ أهل السنة بهذه الآية على صحَّة مذهبهم في الهدى والضَّلال ، والمعتزلة حملوا هذا الضلال تارة على طريق الجنَّة؛ وتارة على منع الألطاف ، وتارة على التَّخلية ، وعدم التعرُّض لهم بالمنع . والواو مندرجة تحت القول ، فيكون محلُّها نصباً ، وأن يكون من كلام الله ، فلا محلَّ لها؛ لاستئنافها ، ويكون في الكلام التفاتٌ؛ إذ فيه خروجٌ من غيبة إلى تكلُّم في قوله : { وَنَحْشُرُهُمْ } .
وحمل على لفظ « مَنْ » في قوله « فَهُوَ المُهتدِ » فأفرد ، وحمل على معنى « من » الثانية في قوله « ومَن يُضلِلْ ، فلنْ تَجدَ لَهُم » ، [ فجمع ] .
ووجه المناسبة في ذلك - والله أعلم- : أنه لمَّا كان الهدي شيئاً واحداً غير متشعِّب السبل ، ناسبه التوحيد ، ولمَّا كان الضلال له طرقٌ متشعبةٌ؛ نحو : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام 153 ] ناسب الجمع الجمع ، وهذا الحمل الثاني مما حمل فيه على المعنى ، وإن لم يتقدمه حمل على اللفظ ، قال أبو حيان : « وهو قليل في القرآن » ، يعني : بالنسبة إلى غيره ، ومثله : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } [ يونس : 42 ] ويمكن أن يكون المحسِّن لهذا هنا كونه تقدَّم حمل على اللفظ ، وإن كان في جملة أخرى غير جملته .
وقرأ نافعٌ ، وأبو عمرو بإثبات ياء « المهتدي » وصلاً ، وحذفها وقفاً ، وكذلك في التي تحت هذه السورة ، وحذفها الباقون في الحالتين .
قوله : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً } يجوز أن يتعلق الجار في قوله { على وُجُوهِهِمْ } بالحشر ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من المفعول ، أي : كائنين ومسحوبين على وجوههم .
فإن قيل : كيف يمكنهم المشي على وجوههم؟ .
فالجواب من وجهين :
الأول : أنَّهم يسحبون على وجوههم ، قال تعالى : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ } [ القمر : 48 ] .
والثاني : قال أبو هريرة : قيل : يا رسول الله ، كيف يمشون على وجوههم؟ قال : « الذي يُمشِيهمْ على أقْدامِهمْ قَادرٌ أن يُمشِيهُمْ على وُجوهِهمْ » .
قوله : « عُمْياً » يجوز أن تكون حالاً ثانية من الضمير ، أو بدلاً من الأولى ، وفيه نظر؛ لأنه لا يظهر فيه أنواع البدل ، وهي : كلٌّ من كلٍّ ، ولا بعض من كلٍّ ، ولا اشتمال ، وأن تكون حالاً من الضمير المرفوع [ في الجارِّ ] لوقوعه حالاً ، وأن تكون حالاً من الضمير المجرور في « وُجوهِهمْ » .
فصل في توهم الاضطراب بين بعض الآيات والجواب عنه
قال رجل لابن عباس : أليس أنه تعالى يقول : { وَرَأَى المجرمون النار } [ الكهف : 53 ] .
وقال : { سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } [ الفرقان : 12 ] .
وقال : { دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } [ الفرقان : 13 ] .
وقال : { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا } [ النحل : 111 ] .
وقال حكاية عن الكفَّار : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] .
وأثبت لهم الرؤية ، والكلام ، والسَّمع ، فكيف قال ههنا : « عُمياً وبُكماً وصُماً » ؟ .
فأجاب ابن عباس وتلامذته من وجوه :
الأول : قال ابن عباس : « عُمْياً » : لا يرون شيئاً يسرهم ، و « صُمًّا » : لا يسمعون شيئاً يسرهم ، و « بُكْماً » لا ينطقون بحجَّة .
والثاني : في رواية عطاء : « عُمْياً » عن النَّظر إلى ما جعله الله إلى أوليائه ، و « بُكْماً » عن مخاطبة الله تعالى ، ومخاطبة الملائكة المقرَّبين .
الثالث : قال مقاتلٌ : حين قال لهم : { اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [ المؤمنون : 108 ] يصيرون صمًّا بكماً ، أما قبل ذلك ، فهم يرون ، ويسمعون ، وينطقون .
الرابع : أنَّهم يكونون رائين ، سامعين ، ناطقين في الموقف ، ولولا ذلك ، لما قدروا على مطالعة كتبهم ، ولا سمعوا إلزام حجة الله تعالى عليهم ، إلا أنَّهم إذا ذهبوا من الموقف إلى النَّار ، صاروا صمًّا ، وبكماً ، وعمياً .
وقيل : يحشرون على هذه الصفة .
قوله : { مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } يجوز في هذه الجملة الاستئناف ، والحالية إمَّا من الضمير المنصوب أو المجرور .
قوله : طكُلَّما خَبتْ « يجوز فيها الاستئناف ، والحالية من » جهنَّم « ، والعامل فيها معنى المأوى .
وخَبتِ النَّار تَخْبُوا » إذا سكن لهيبها؛ قال الواحدي : خبت سكنت ، فإذا ضعف جمرها ، قيل : خمدتْ ، فإذا طفئت بالجملة ، قيل : همدتْ؛ قال :
3468- وَسْطهُ كاليَراعِ أوْ سُرجِ المِجْ ... دَلِ طَوْراً يَخْبُو وطَوْراً يُنِيرُ
وقال آخر : [ الهزج ]
3469- لمن نَارٌ قُبَيْلَ الصُّبْ ... حِ عند البَيتِ ما تَخْبُو
إذا مَا أخمدَتْ ألْقِي عَليْهَا المَندلُ الرَّطْبُ
وأدغم التاء في زاي « زِدْنَاهُمْ » أبو عمرو ، والأخوان ، وورش ، وأظهرها الباقون .
قوله : { زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } .
قال ابن قتيبة : زدناهم تلهُّباً .
فإن قيل : إنه تعالى لا يخفف عنهم العذاب . وقوله : { كُلَّمَا خَبَتْ } يدلُّ على أنَّ العذاب محققٌ في ذلك الوقت .
فالجواب : أن قوله « كُلَّما خَبَتْ » يقتضي سكون لهب النار ، أما أنه يدل على تخفيف العذاب ، فلا؛ لأنَّ الله تعالى قال : { لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ } [ الزخرف : 75 ] .
وقيل : معناه : « كلَّما خبت » [ أي : ] كلما أرادت أن تخبو { زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } أي : وقوداً .
وقيل : المراد من قوله : { كُلَّمَا خَبَتْ } أي : نضجت جلودهم ، واحترقت ، أعيدوا إلى ما كانوا عليه .
قوله تعالى : { ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ } يجوز أن يكون مبتدأ وخبراً ، و « بأنهم » متعلق بالجزاء ، أي : « ذلك العذاب المتقدم جزاؤهم بسبب أنَّهم » ويجوز أن يكون « جَزاؤهُمْ » مبتدأ ثانياً ، والجار خبره ، والجملة خبر « ذلك » ، ويجوز أن يكون « جَزاؤهُمْ » بدلاً ، أو بياناً ، و « بِأنَّهُم » الخبر .
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ العمل علَّة الجزاءِ .
قوله : { وَقَالُواْ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } .
لمَّا أجاب عن شبهات منكري النبوة ، عاد إلى حكاية شبهة منكري المعاد .
وتلك الشبهة : هي أنَّ الإنسان بعد أن يصير رفاتاً ، ورميماً ، يبعد أن يعود هو بعينه ، فأجاب الله عنه : بأنَّ من بدر على خلق السموات والأرض في عظمتها وشدَّتها قادر على أن يخلق مثلهم في سغرهم ، وضعفهم؛ نظيره قوله تعالى : { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس } [ غافر : 75 ] .
وفي قوله : { قَادِرٌ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ } قولان :
الأول : [ معناه ] قادر على أن يخلقهم ثانياً ، فعبَّر عن خلقهم بلفظ « المثل » ؛ كقوله المتكلِّمين : إنَّ الإعادة مثل الابتداء .
والثاني : قادر على أن يخلق عبيداً آخرين يوحِّدونه ، ويقرُّون بكمال حكمته وقدرته ، ويتركون هذه الشبهات الفاسدة؛ وعلى هذا ، فهو كقوله تعالى : { وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } [ إبراهيم : 19 ] وقوله : { وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } [ التوبة : 39 ] .
قال الواحديُّ : والأول أشبه بما قبله .
ولمَّا بيَّن الله تعالى بالدَّليل المذكور : أنَّ البعث يمكنُ الوجود في نفسه ، أردفه بأنَّ لوقوعه ودخوله في الوجود وقتاً معلوماً عند الله تعالى؛ وهو قوله : { وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ } أي : جعل لهم وقتاً لا ريب فيه ، { فأبى الظالمون إَلاَّ كُفُوراً } أي : الظالمون إلا الكفر والجحود .
قوله : { وَجَعَلَ لَهُمْ } : معطوف على قوله « أو لَمْ يَروْا » ؛ لأنه في قوة : قد رأوا ، فليس داخلاً في حيِّز الإنكار ، بل معطوفاً على جملته برأسها .
وقوله : { لاَّ رَيْبَ فِيهِ } صفة ل « أجلاً » ، أي : أجلاً غير مرتابٍ فيه ، فإن أريد به يوم القيامة ، فالإفرادُ واضحٌ ، وإن أريد به الموت ، فهو اسم جنسٍ؛ إذ لكلِّ إنسانٍ أجلٌ يخصه .
وقوله : { إَلاَّ كُفُوراً } قد تقدَّم .
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
اعلم أنَّ الكفار ، لما قالوا : لن نؤمن لك؛ حتَّى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً وطلبوا إجراء الأنهارِ ، والعيون في بلدهم لتكثر أموالهم؛ بين أنَّهم لو ملكوا خزائن رحمة الله ، لبقوا على بخلهم وشحهم ، ولا أقدموا على إيصال النفع إلى أحدٍ ، وعلى هذا التقدير : فلا فائدة في إسعافهم لما طلبوه .
قوله : { لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ } : فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : - وإليه ذهب الزمخشري ، والحوفي ، وابن عطيَّة ، وأبو البقاء ، ومكيٌّ- : أن المسألة من باب الاشتغال ، ف « أنْتُمْ » مرفوع بفعلٍ مقدر يفسِّره هذا الظاهر ، لأنَّ « لَوْ » لا يليها إلا الفعل ، ظاهراً أو مضمراً ، فهي ك « إنْ » في قوله تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين } [ التوبة : 6 ] ، وفي قوله :
3470- وإنْ هُوَ لمْ يَحْمِلْ على النَّفْسِ ضَيْمهَا ... فَليْسَ إلى حُسْنِ الثَّنَاءِ سَبيلُ
والأصل : لو تملكون ، فحذف الفعل؛ لدلالة ما بعده عليه ، فانفصل الضمير ، وهو الواو؛ إذ لا يمكن بقاؤه متَّصلاً بعد حذف رافعه ، ومثله : « وإنْ هو لم يحمل » : الأصل : وإن لم يحمل ، فلما حذف الفعل ، انفصل ذلك الضميرُ المستتر ، وبرز ، ومثله فيما نحنُ فيه قول الشاعر :
3471- « لوْ ذَاتُ سِوارٍ لطَمتْنِي » ... برفع « ذَاتُ » وقول المتلمِّس :
3472- ولَوْ غَيْرُ أخْوالِي أرادُوا نَقِيصَتِي ..
ف « ذَاتُ سوارٍ » مرفوعةٌ بفعل مفسَّر بالظاهر بعده .
الثاني : أنه مرفوع ب « كَانَ » وقد كثر حذفها بعد « لو » والتقدير : لو كنتم تملكون ، فحذف « كَانَ » ، فانفصل الضمير ، و « تَمْلكُونَ » في محلِّ نصبٍ ب « كَانَ » المحذوفةِ ، وهو قولُ ابن الصائغ؛ وقريبٌ منه قوله : [ البسيط ]
3473- أبَا خُرَاشةَ أمَّا أنْتَ ذَا نَفرٍ .. . . .
فإنَّ الأصل : لأن كنت ، فحذفت « كَانَ » ، فانفصل الضمير ، إلا أنَّ هنا عوِّض من « كَانَ » « ما » ، وفي [ « لَوْ » ] لم يعوَّض منها .
الثالث : أنَّ « أنتم » توكيدٌ لاسم « كانَ » المقدر معها ، والأصل « لَوْ كُنتمْ أنْتُم تَمْلكُونَ » فحذفت « كَانَ » واسمها ، وبقي المؤكِّدُ ، وهو قول ابن فضالٍ المجاشعيِّ ، وفيه نظرٌ؛ من حيث إنَّا نحذف ما في التَّوكيد ، وإن كان سيبويه يجيزه .
وإنما أحوج هذين القائلين إلى ذلك : كون مذهب البصريِّين في « لَوْ » أنَّه لا يليها إلاَّ الفعل ظاهراً ، ولا يجوز عندهم أن يليها مضمراً مفسَّراً إلاَّ في ضرورة ، أو ندور ، كقوله : « لَو ذَات سوارٍ لطَمتْنِي » ، فإن قيل : هذان الوجهان أيضاً فيهما إذمار فعلٍ ، قيل : ليس هو الإضمار المعنيَّ؛ فإنَّ الإضمار الذي أبوه هو على شريطة التفسير في غير « كان » ، وأمَّا « كان » فقد كثر حذفها بعد [ « لو » ] في مواضع كثيرة ، وقد وقع الاسم الصَّريحُ بعد « لَوْ » غير مذكور بعده فعلٌ؛ وأنشد الفارسيُّ : [ الرمل ]
3474- لَو بِغيْرِ المَاءِ حَلْقِي شَرقٌ ... كُنْتُ كالغصَّانِ بالمَاءِ اعْتِصَارِي
إلا أنه أخرجه على أنه مرفوع بفعل مقدَّر يفسِّره الوصف من قوله « شَرِقٌ » ، وقد تقدَّم الكلام في « لَوْ » . قال أهل المعاني : إنَّ التقديم بالذكر يدل على التَّخصيص ، فقوله : { لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ } دليل على أنَّهم هم المختصُّون بهذه الحالة الخسيسة ، والشُّحْ الكامل .
واعلم أنَّ خزائن رحمة الله غير متناهية؛ فكان المعنى أنكم لو ملكتم من النِّعم خزائن لا نهاية لها ، لتقيمنَّ على الشحِّ ، وهذه مبالغة عظيمة في وصفهم بهذه الصفة .
قوله : « لأمْسَكْتُمْ » يجوز أن يكون لازماً؛ لتضمنه معنى « بخِلتمْ » وأن يكون متعدِّياً ، ومفعوله محذوف ، أي : لأمسكتم المال ، ويجوز أن يكون كقوله { يُحْيِي وَيُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] .
قوله : { خَشْيَةَ الإنفاق } فيه وجهان :
أظهرهما : أنه مفعول من أجله .
والثاني : أنه مصدر في موضع الحال ، قاله أبو البقاء ، أي : خاشين الإنفاق ، وفيه نظر؛ إذ لا يقع المصدر المعرفة موقع الحال ، إلا سماعاً؛ نحو : « جَهْدكَ » و « طَاقَتكَ » ، وكقوله :
3475- وأرْسلَهَا العِراكَ . . ..
ولا يقاس عليه ، والإنفاقُ مصدر « أنْفقَ » ، أي : أخرج المال ، وقال أبو عبيدة : « هو بمعنى الافتقار ، والإقتار » .
قوله : { خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي } ، أي : نعمة ربِّي .
{ إِذاً لأمْسَكْتُمْ } لبخلتم .
{ خَشْيَةَ الإنفاق } : الفاقة .
وقيل : خشية النفاق يقال : أنفق الرجل ، أي : أملق ، وذهب ماله ، ونفق الشَّرُّ ، أي : ذهب .
وقيل : لأمسكتم عن الإنفاق؛ خشية الفقر ، ومعنى « قَتُوراً » : قال قتادة : بخيلاً ممسكاً .
يقال : أقْتَرَ يُقْتِرُ إقتاراً ، وقتَّر تَقْتِيراً : إذا قصَّر في الإنفاق .
فإن قيل : قد حصل في الإنسان الجواد ، والكريم .
فالجواب من وجوه :
الأول : أن الأصل في الإنسان البخلُ؛ لأنَّه خلق محتاجاً ، والمحتاج لا بد وأن يحبَّ ما به يدفع الحاجة ، وأن يمسكه لنفسه ، إلا أنَّه قد يجود به [ لأسبابٍ ] من خارج ، فثبت أنَّ الأصل في الإنسان البخلُ .
الثاني : أنَّ الإنسان إنَّما يبذلُ؛ لطلب الحمدِ ، وليخرج من عهدة الواجب ، ثم للتَّقرُّب إلى الله تعالى ، فهو في الحقيقة إنَّما أنفق ليأخذ العوض ، فهو بخيلٌ ، والمراد بهذا الإنسان المعهود السَّابق ، وهم الذين قالوا : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } الآيات . اعلم أنَّ المقصود من هذا الكلام هو الجواب عن قولهم : لن نؤمن لك؛ حتى تأتينا بهذه المعجزات الباهرة؛ فقال تعالى : ولقد آتينا موسى معجزات مساويات لهذه الأشياء التي طلبتموها ، بل أقوى ، وأعظم ، فلو حصل في علمنا أنَّ جعلها في زمانكم؛ لعلمنا بأنها لا مصلحة في فعلها .
واعلم : أنه [ أزال ] القعدة في لسانه .
قال المفسرون : أذهب الأعجمية منه ، وبقي فصيحاً .
ومنها : انقلاب العصا حيَّة .
ومنها : تلقُّف الحية حبالهم وعصيَّهم ، مع كثرتها .
ومنها : اليد البيضاء من غير سوء .
ومنها : الطُّوفان والجراد ، والقمَّل ، والضَّفادع ، والدَّم .
ومنها : شقُّ البحر .
ومنها : ضربه الحجر بالعصا ، فانفجر .
ومنها : إظلال الجبل .
ومنها : إنزال المنِّ والسلوى عليه وعلى قومه .
ومنها : قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين وَنَقْصٍ مِّن الثمرات } [ الأعراف : 130 ] لأهل القرى؛ فهذه آيتان .
ومنها : الطَّمس على أموالهم ، فجعلها حجارة من النَّخيلِ ، والدَّقيق ، والأطعمة ، والدَّراهم والدَّنانير .
روي أن عمر بن عبد العزيز سأل محمد بن كعب ، عن قوله : { تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } ، فذكر محمد بن كعب في جملة التسعة؛ حلَّ عقدة اللِّسان ، والطَّمس ، فقال عمر بن العزيز : هكذا يجبُ أن يكون الفقيهُ ، ثم قال : يا غلامُ ، أخرج ذلك الجراب ، فأخرجه ، فإذا فيه بيضٌ مكسورٌ؛ نصفين ، وجوز مكسور ، وفول ، وحمص ، وعدس ، كلها حجارة .
وإذا كان كذلك ، فإنه تعالى ذكر في القرآن أنَّ هذه المعجزات لموسى صلى الله عليه وسلم وقال في هذه الآية : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } وتخصيص التسعة بالذِّكر لا يقدح فيه ثبوت الزائد عليه؛ لأنَّه ثبت في أصول الفقه أنَّ تخصيص العدد بالذكر لا يدلُّ على نفي الزائد؛ وهذه الآية دليل على هذه المسألة .
واعلم : أن هذه التسعة قد اتَّفقوا على سبعة منها؛ وهي : العصا ، واليد ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، وبقي اثنتان اختلفت أقوال المفسرين فيهما ، ولمَّا لم تكن تلك الأقوال مستندة إلى حجَّة ظنيَّة؛ فضلاً عن حجة يقينيَّة ، لا جرم تركت تلك الروايات .
فصل في أجود ما قيل في تفسير التسع آيات
في تفسير قوله : { تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } قول هو أجود ما قيل ، وهو ما روي عن صفوان بن عسَّالٍ المراديِّ : أن يهوديًّا قال لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله عن تسع الآيات ، فقال الآخر : لا تقل : نبي؛ فإنه لو سمع ، لصارت له أربعة أعين فأتياه ، فسألاه عن هذه الآية { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } .
فقال : هِيَ ألاَّ تشركوا بالله شيئاً ، ولا تقتلوا النَّفس التي حرَّم الله إلاَّ بالحقِّ ، ولا تَزنُوا ، ولا تَأكلُوا الرِّبا ، ولا تَسْحرُوا ، ولا تمشُوا بالبريءِ للسلطان؛ ليقتله ، ولا تسرقوا ، ولا تقذفوا المحصنة ، ولا تَفرُّوا من الزَّحف ، وعليكم - خاصة اليهود - ألاَّ تعذوا في السَّبت ، فقام اليهوديَّان يقبِّلان يده ، ويقولون : نشهدُ أنَّك نبيٌّ ، قال : فما يمنعكم أن تتبعوني؟ قال اليهودي : إنَّ داود دعا ربَّهُ ألاَّ يزال في ذُريَّته نبيٌّ ، وإنَّا نخافُ إن اتَّبعنَاكَ أن تقْتُلنَا يهُودُ .
قوله تعالى : { تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } : [ يجوز في « بَيِّنات » ] النصب صفة للعدد ، والجر صفة للمعدود .
قوله : « إذْ جَاءهُمْ » فيه أوجهٌ :
أحدها : أن يكون معمولاً ل « آتيْنا » ويكون قول÷ « فاسْألْ بَنِي إسْرائيلَ » اعتراضاً ، وتقديره : ولقد آتينا موسى تسع آياتٍ بيِّناتٍ؛ إذ جاء بني إسرائيل ، فسألهم ، وعلى هذا التقدير : فليس المطلوبُ من سؤال بني إسرائيل أن يستفيد هذا العلم منهم ، بل المقصود أن يظهر لعامة اليهود بقول علمائهم صدق ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم فيكون هذا السؤال سؤال استشهاد .
والثاني : أنه منصوب بإضمار اذكر .
والثالث : أنه منصوبٌ ب « يُخْبرُونكَ » مقدراً .
الرابع : أنه منصوب بقولٍ مضمرٍ؛ إذ التقدير : فقلنا له : سل بني إسرائيل حين جاءهم ، ذكر هذه الأوجه الزمخشري مرتبة على مقدمة ذكرها قبلُ [ قال : ] فاسْأَلْ بنِي إسْرائيلَ ، أي : فقلنا له : اسأل بني إسرائيل ، أي : اسْألهُم عن فرعون ، وقل له : أرسل معي بني إسرائيل ، أو اسألهم عن إيمانهم ، وحال دينهم ، أو اسألهم أن يعاضدوك . ويدل عليه قراءة رسول الله « فَسَألَ » على لفظ الماضي ، بغير همزٍ ، وهي لغة قريشٍ .
وقيل : فَسلْ ، يا رسول الله ، المُؤمنَ من بني إسرائيل؛ كعبد الله بن سلام وأصحابه عن الآيات؛ ليزدادوا يقيناً وطمأنينة؛ كقوله : { وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ البقرة : 260 ] [ ثم قال : ] فإن قيل بم تعلق « إذْ جَاءهُمْ » ؟ فالجواب :
أمَّا على الوجه الأول : فبالقول المحذوف ، [ أي ] : فقلنا له ، سلهم حين جاءهم ، أو ب « سَالَ » في القراءة الثانية ، وأمَّا على الآخر فب « آتَيْنَا » أو بإضمار « اذكر » أو ب « يُخْبرونَكَ » ومعنى « إذْ جَاءهُمْ » « إذ جاء آباءهم » ، انتهى .
قال أبو حيان : « لا يتأتَّى تعلقه ب » اذْكُر « ولا ب » يُخْبرُونَكَ « ؛ لأنه ظرف ماضٍ » .
قال شهاب الدين : إذا جعله معمولاً ل « اذْكُر » ، أو ل « يُخْبرُونكَ » لم يجعله ظرفاً ، بل مفعولاً به ، كما تقرَّر مراراً .
الوجه الخامس : أنه مفعول به ، والعامل فيه « فَسلْ » .
قال أبو البقاء : « فيه وجهان :
أحدهما : هو مفعول به ب » اسْألْ « على المعنى إذ التقدير : اذكر لبني إسرائيل؛ إذ جاءهم ، وقيل : التقدير : اذكر إذا جاءهم وهي غير » اذكُر « الذي قدَّرت به » اسْأل « » ، يعني : أن « اذكر » المقدرة غير « اذكُر » التي فسَّرت « اسألْ » بها؛ وهذا يؤيِّد ما تقدَّم من أنهم ، إذا قدروا « اذكُر » جعلوا « إدْ » مفعولاً به ، لا ظرفاً .
إلا أنَّ أبا البقاء ذكر [ حال ] كونه ظرفاً ، ما يقتضي أن يعمل فيه فعلٌ مستقبل ، فقال : « والثاني : أن يكون ظرفاً ، وفي العامل وجوه :
أحدها : » آتيْنا « .
والثاني : » قلنا « مضمرة .
والثالث : [ » قُل « ] ، تقديره : قل لخصمك : سل؛ والمراد به فرعون ، أي : قل ، يا موسى ، وكان الوجه أن يقال : إذ جئتهم بالفتح ، فخرج من الخطاب ، إلى الغيبة » .
فظاهر الوجه الثالث : أن العامل فيه « قُلْ » وهو ظرف ماض ، على أنَّ هذا المعنى الذي نحا إليه ليس بشيء؛ إذ يرجع إلى : يا موسى ، قل لفرعون : يا فرعون سل بني إسرائيل ، فيعود فرعون هو السائل لبني إسرائيل ، وليس المراد ذلك قطعاً ، وعلى التقدير الذي تقدم عن الزمخشري- وهو أن المعنى : يا موسى ، سل بني إسرائيل ، [ أي : اطلبهم من فرعون - يكون المفعول الأول للسؤال محذوفاً ، والثاني هو « بني إسْرائيلَ » ] ، والتقدير : سَلْ فرعون بني إسرائيل ، وعلى هذا : فيجوز أن تكون المسألة من التنازع ، وأعمل الثاني؛ إذ التقدير : سل فرعون ، فقال فرعون ، فأعمل الثاني ، فرفع به الفاعل ، وحذف المفعول من الأول ، وهو المختار من المذهبين .
والظاهر غير ذلك كلِّه ، وأن المأمور بالسؤال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنو إسرائيل كانوا معاصريه .
والضمير [ في ] « إذْ جَاءَهُمْ » : إمَّا للآباء ، وإمَّا لهم على حذف مضافٍ ، أي : جاء آباءهم .
فصل في معنى « واسأل بني إسرائيل »
المعنى : فسَلْ ، يا محمد ، بني إسرائيل؛ إذ جاءهم موسى ، يجوز أن يكون الخطاب معه ، والمراد غيره ، ويجوز أن يكون خاطبه - عليه الصلاة والسلام - وأمره بالسؤال؛ ليتبيَّن كذبهم مع قومهم ، فقال له فرعون : { إِنِّي لأَظُنُّكَ ياموسى مَسْحُوراً } .
وقوله « مَسْحُوراً » : وفيه وجهان :
أظهرهما : أنه بمعناه الأصلي ، أي : إنك سحرت ، فمن ثمَّ؛ اختل كلامك ، قال ذلك حين جاءه بما لا تهوى نفسه الخبيثة ، قاله الكلبي .
وقال ابن عباس : مخدوعاً ، وقال : مصروفاً عن الحقِّ .
والثاني : أنه بمعنى « فاعل » كميمون ومَشْئُوم ، أي : أنت ساحرٌ؛ كقوله : { حِجَاباً مَّسْتُوراً } [ الإسراء : 45 ] . فوضع المفعول موضع الفاعل ، قاله الفراء ، وأبو عبيدة ، وقال ابن جرير : يعطى علم السِّحر؛ فلذلك تأتي بالأعاجيب ، يشير لانقلابِ عصاه حيَّة ونحو ذلك .
قوله : { لَقَدْ عَلِمْتَ } : قرأ الكسائي بضمِّ التاء أسند الفعل لضمير موسى - عليه السلام - أي : إنِّي متحققٌ أن ما جئتُ به هو منزَّلٌ من عند الله تعالى ، والباقون بالفتح على إسناده لضمير فرعون ، أي : أنت متحقِّقٌ أنَّ ما جئت به هو منزَّل من عند الله ، وإنَّما كفرك عنادٌ ، وعن عليّ - رضي الله عنه - أنه أنكر الفتح ، وقال : « ما عَلِمَ عدُو الله قطُّ ، وإنَّما علمَ مُوسَى » ، [ ولَو عَلِمَ ، لآمنَ؛ ] فبلغ ذلك ابن عباس ، فاحتجَّ بقوله تعالى :
{ وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ } [ النمل : 14 ] على أنَّ فرعون وقومه علموا بصحَّة أمر موسى .
فصل في الخلاف في أجود القراءتين
قال الزجاج : الأجودُ في القراءة الفتحُ؛ لأنَّ علم فرعون بأنَّها آياتٌ نازلةٌ من عند الله أوكد في الاحتجاج ، واحتجاج موسى على فرعون بعلم فرعون أوكد من الاحتجاج عليه بعلم نفسه .
وأجاب من نصر قراءة عليٍّ عن دليل ابن عباس ، فقال قوله : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ } يدلُّ على أنهم استيقنوا أشياء ، فأمَّا أنهم استيقنوا كون هذه الأشياء نازلة من عند الله ، فليس في الآية ما يدل عليه؛ ويدلُّ بأنَّ فرعون قال : { إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [ الشعراء : 27 ] .
قال موسى : « لقَدْ عَلْمتَ » .
والمعنى : « اعلم أنِّي لستُ بمجنونٍ » ، ولم يثبت عن عليٍّ رفعُ التاء؛ لأنه يروى عن رجلٍ من مرادٍ عن عليٍّ ، وذلك الرجل مجهول .
واعلم : أن هذه الآيات من عند الله ، ولا تشكَّ في ذلك بسبب سفاهتك والجملة المنفيَّة في محلِّ نصبٍ؛ لأنها معلقة للعلم قبلها وتقدير الآية : ما أنزل هؤلاء « الآيات » ؛ ونظيره قوله : [ الكامل ]
3476- ... والعَيْشَ بَعْدَ أولئك الأيَّام
أي : للأمام . قوله : « بَصائِرَ » حالٌ ، وفي عاملها قولان :
أحدهما : أنه « أنْزلَ » هذا الملفوظ به ، وصاحبُ الحال « هؤلاءِ » وإليه ذهب الحوفي ، و ابن عطيَّة ، وأبو البقاء ، وهؤلاء يجيزون أن يعمل ما قبل « إلاَّ » فيما بعدها ، وإن لم يكن مستثنى ، ولا مستثنى منه ، ولا تابعاً له .
والثاني : - وهو مذهب الجمهور- : أنَّ ما بعد « إلاَّ » لا يكون معمولاً لما قبله ، فيقدر لها عامل ، تقديره : أنزلها بصائر ، وقد تقدَّم نظير هذه في « هود » عند قوله { إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرأي } [ هود : 27 ] .
ومعنى « بَصائِرَ » أي : حججاً بيِّنة؛ كأنها بصائر العقول ، والمراد : الآيات التِّسع ، ثم قال موسى : { وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يافرعون مَثْبُوراً } .
قوله : « مَثبُوراً » مفعول ثانٍ ، واعترض بين المفعولين بالنِّداء ، و المَثبُورُ : المهلك؛ يقال : ثبرهُ الله ، أي : أهلكه ، قال ابن الزبعرى : [ الخفيف ]
3477- إذْ أجَارِي الشَّيطَانَ في سَننِ الغَيْ ... يِ ومَنْ مَالَ مَيلهُ مَثْبُور
والثُّبورُ : الهلاكُ؛ قال تعالى : { لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً وَاحِداً } [ الفرقان : 14 ] .
وقال ابن عباس : مَثْبُوراً ، أي : ملعوناً ، وقال الفراء : مصروفاً ممنوعاً عن الخير ، والعرب تقول : ما ثبرك عن هذا؟ أي : ما منعك عن هذا ، وما صرفك عنه؟ .
قال أبو زيدٍ : يقال ثبرت فلاناً عن الشيء ، أثبرهُ ، أي رددتُّه عنه .
فصل في جواب موسى لفرعون بكونه مثبوراً
واعلم أنَّ فرعون لمَّا وصف موسى - عليه السلام - بكونه مسحوراً ، أجابه موسى بأنَّك مثبورٌ ، أي : أنَّ هذه الآيات ظاهراتٌ ، ومعجزاتٌ ظاهرةٌ؛ لا يرتاب العاقل في أنَّها من عند الله؛ وأنه أظهرها لأجل تصديقي ، وأنت تنكرها حسداً ، وعناداً ، ومن كان كذلك ، كان عاقبته الدَّمار والهلاك .
ثم قال تعالى : { فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأرض } .
أي : أراد فرعون أن يخرج موسى - عليه السلام - وبني إسرائيل من الأرض أي : أرض مصر .
قال الزجاج : لا يبعد أن يكون المراد من استفزازهم إخراجهم منها بالقتل ، أو بالتنحية ، وتقدَّم الكلام على الاستفزاز ، ثم قال : { فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً } .
وهو معنى ما ذكره الله في قوله : { وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ } [ فاطر : 43 ] ، أي : إنَّ فرعون أراد إخراج موسى من أرض مصر؛ لتخلص له تلك البلاد ، فأهلك الله فرعون ، وجعل تلك الأرض خالصة لموسى ولقومه ، وقال من بعد هلاك فرعون لبني إسرائيل : اسكنوا الأرض خالصة لكم ، خالية من عدوِّكم ، يعني : أرض مصر والشام ، { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة } . يعني : القيامة { جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً } من ههنا وههنا .
وفي { لَفِيفاً } : وجهان :
أحدهما : أنه حال ، وأن أصله مصدر لفَّ يلفُّ لفيفاً؛ نحو : النَّذير والنَّكير ، أي : جئنا بكم منضماً بعضكم إلى بعض ، من لفَّ الشيء يلفُّه لفًّا ، والألفُّ : المتداني الفخذين ، وقيل : العظيم البطن .
والثاني : أنه اسم جمع ، لا واحج له من لفظه ، والمعنى : جئنا بكم جميعاً ، فهو في قوة التَّأكيد .
واللَّفيفُ : الجمع العظيم من أخلاطٍ شتَّى من الشريف ، والدنيء ، والمطيع ، والعاصي ، والقويّ ، والضعيف ، وكل شيءٍ خلطته بشيءٍ آخر ، فقد لففته ، ومنه قيل : لففتُ الجيوش : إذا ضرب بعضها ببعض .
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
قوله : { وبالحق أَنْزَلْنَاهُ } الآية .
لما بيَّن أن القرآن معجز قاهر دالٌّ على الصدق في قوله تعالى : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن } [ الإسراء : 88 ] .
ثم حكى عن الكفار أنَّهم لم يكتفوا بهذا المعجز ، بل طلبوا أشياء أخر ، ثم أجاب تعالى بأنَّه لا حاجة إلى إظهار معجزاتٍ أخر ، وبيَّن ذلك بوجوهٍ كثيرةٍ :
منها : أنَّ قوم موسى آتاهم تسع آيات بيِّناتٍ ، فلما جحدوا بها أهلكهم الله ، فكذا ههنا ، أي : أنَّ المعجزات التي اقترحها قوم محمد صلى الله عليه وسلم ثمَّ كفروا بها؛ فوجب إنزال عذاب الاستئصال بهم ، وذلك غير جائزٍ في الحكمة؛ لعلمه تعالى أنَّ فيهم من يؤمن ، أو من يظهر من نسله مؤمنٌ . لمَّا تمَّ هذا الجواب ، عاد إلى حال تعظيم القرآن؛ فقال : { وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ } ، أي : ما أردنا بإنزاله إلاَّ إظهار الحقِّ .
قوله : { وبالحق أَنْزَلْنَاهُ } : في هذا الجار ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه متعلق ب « أنْزَلْنَاهُ » ، و الباء سببية ، أي : أنزلناه بسبب الحقِّ .
والثاني : أنه حال من مفعول « أنْزَلنَاهُ » ، أي : ومعه الحقُّ .
فتكون الباء بمعنى « مَعَ » قاله الفارسي؛ كما تقول : نزل بعدَّته ، وخرج بسلاحه .
والثالث : أنه حال من فاعله ، أي : ملتبسين بالحق ، وعلى هذين الوجهين يتعلق بمحذوف .
والضمير في « أنْزلْنَاهُ » الظاهر عوده للقرآن : إمَّا الملفوظ به في قوله قبل ذلك { على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن } [ الإسراء : 88 ] ؛ ويكون ذلك جرياً على قاعدة أساليب كلامهم ، وهو أن يستطرد المتكلمُ في ذكر شيءٍ لم يسبق له كلامه أولاً ، ثم يعود إلى كلامه الأول . وإمَّا للقرآن غير الملفوظ أولاً؛ لدلالة الحال عليه؛ كقوله تعالى : { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } [ الدخان : 3 ] وقيل : يعود على موسى؛ كقوله : { وَأَنزْلْنَا الحديد } [ الحديد : 25 ] ، وقيل : على الوعد ، وقيل : على الآيات التِّسعِ ، وذكر الضمير ، وأفرده؛ حملاً على معنى الدليل والبرهان .
قوله : « وبالحقِّ نَزلَ » فيه الوجهان الأولان ، دون الثالث؛ لعدم ضميرٍ آخر غير ضمير القرآن لاحتمال أن يكون التقدير : نزل بالحقِّ؛ كما تقول : نزلت بزيدٍ ، وعلى هذا التقدير : فالحق محمد صلى الله عليه وسلم . وفي هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنها للتأكيد؛ وذلك أنه يقال : أنزلته ، فنزل ، وأنزلته فلم ينزل؛ فجيء بقوله « وبالحقِّ نَزلَ » ؛ دفعاً لهذا الوهم ، وقيل : لست للتأكيد ، والمغايرة تحصل بالتغاير بين الحقَّين ، فالحق الأول التوحيد ، والثاني الوعد والوعيد ، والمر والنهي ، وقال الزمخشري : « وما أنزلنا القرآن إلاَّ بالحكمة المقتضية لإنزاله ، وما نزل إلا ملتبساً بالحق والحكمة؛ لاشتماله على الهداية إلى كلِّ خيرٍ ، أو ما أنزلناه من المسماء إلا بالحقِّ محفوظاً بالرَّصدِ من الملائكةِ ، وما نزل على الرسول إلاَّ محفوظاً بهم من تخليط الشياطين » ، و « مبشِّراً ونذيراً » : حالان من مفعول « أرْسلْنَاكَ » مبشراً للمطيعين ، ونذيراً للعاصين ، فإن قبلوا الدِّين الحقَّ ، انتفعوا به ، وإلا فليس عليك من كفرهم [ شيءٌ ] .
قوله تعالى : { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ } الآية : في نصب « قُرْآناً » أوجه :
أظهرها : أنه منصوب بفعل مقدر ، أي : « وآتَيْناكَ قُرآناً » يدل عليه قوله { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى } [ الإسراء : 101 ] .
الثاني : أنه منصوبٌ؛ عطفاً على الكاف في « أرْسَلْنَاكَ » ؛ قال ابن عطية : « من حيثُ كان إرسالُ هذا ، وإنزال هذا بمعنى واحدٍ » .
الثالث : أنه منصوب؛ عطفاً على « مُبشِّراً ونذيراً » قال الفراء : « هو منصوبٌ ب » أرْسَلناكَ « ، أي : ما أرسلناك إلا مبشِّراً ونذيراً وقرآناً؛ كما تقول : ورحمة يعني : لأن القرآن رحمةٌ » ، بمعنى أنه جعل نفس القرآن مراداً به الرحمة؛ مبالغة ، ولو ادَّعى ذلك على حذفِ مضافٍ ، كان أقرب ، أي : « وذا قرآنٍ » وهذان الوجهان متكلَّفان .
الرابع : أن ينتصب على الاشتغال ، أي : وفرقنا قُرآناً فرقناه ، واعتذر أبو حيان عن ذلك ، أي : عن كونه لا يصحُّ الابتداء به ، لو جعلناه مبتدأ؛ لعدم مسوغٍ؛ لأنه لا يجوز الاشتغال إلا حيث يجوز في ذلك الاسم الابتداء ، بأنَّ ثمَّ صفة محذوفة ، تقديره : وقرآناً أي قرآن ، بمعنى عظيم ، و « فَرقْنَاهُ » على هذا : لا محل له؛ بخلاف الأوجه المتقدمة؛ فإن محلَّه النصب؛ لأنَّه نعتٌ ل « قُرآناً » .
وقرأ العامة « فَرقْناهُ » بالتخفيف ، أي : بيَّنا حلاله وحرامه ، أو فرقنا فيه بين الحق والباطل ، وقرأ عليُّ بن أبي طالبٍ - كرَّم الله وجهه - وأبيٌّ ، وعبد الله ، وابن عباس والشعبي ، وقتادة ، وحميدٌ في آخرين بالتشديد ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّ التضعيف فيه للتكثير ، أي : فرَّقنا آياته بين أمرٍ ونهيٍ ، وحكمٍ وأحكامٍ ، ومواعظ وأمثال ، وقصصٍ وأخبار ماضية ومستقبلة .
والثاني : أنه دالٍّ على التفريق والتنجيم .
قال الزمخشريُّ : « وعن ابن عباس : أنه قرأ مشدداً ، وقال : لم ينزل في يومين ، ولا في ثلاثة ، بل كان بين أوله وآخره عشرون سنة ، يعني أنَّ » فرقَ « بالتخفيف يدل على فصل متقاربٍ » .
قال أبو حيان : « وقال بعضُ من اختار ذلك - يعني التنجيم - لم ينزل في يوم ، ولا يومين ، ولا شهرٍ ، ولا شهرين ، ولا سنة ، ولا سنتين؛ قال ابن عبَّاس : كان بين أوله ، وآخره عشرون سنة ، كذا قال الزمخشريُّ ، عن ابن عباس » .
قال شهاب الدين : ظاهر هذا : أنَّ القول بالتنجيم : ليس مرويًّا عن ابن عباس ، ولا سيما وقد فصل قوله « قَالَ ابن عبَّاسٍ » من قوله « وقال بعض من اختار ذلك » ، ومقصوده أنه لم يسنده لابن عباس؛ ليتمَّ له الردُّ على الزمخشري في أنَّ « فَعَّل » بالتشديد لا يدلُّ على التفريق ، وقد تقدم له معه هذا المبحث أوَّل هذا الموضوع .
قال ابن الخطيب : والاختيار عند الأئمة : « فَرقْنَاهُ » بالتخفيف ، وفسَّره أبو عمرو : بيَّناه .
قال ابو عبيدة : التخفيف أعجبُ غليَّ؛ لأنَّ معناه : بينَّاه ، ومن قرأ بالتشديد ، لم يكن له معنًى إلا أنه أنزل متفرِّقاً ، [ فالتفرُّق ] يتضمَّن التَّبيين ، ويؤكِّده ما رواه ثعلبٌ عن ابن الأعرابيِّ أنه قال : فَرقتُ ، أو أفْرَقتُ بين الكلامِ ، وفرَّقتُ بين الأجسامِ؛ ويدلُّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم : « البَيِّعانِ بالخِيَارِ ، ما لمْ يتفرَّقا » ولم يقل : « يَفْترِقَا » .
فصل في نزول القرآن مفرقاً
قال ابن الخطيب : إنَّ القوم قالوا : هَبْ أنَّ هذا القرآن معجز ، إلا أنه بتقدير أن يكون الأمر كذلك ، فكان من الواجب أن ينزله الله عليك دفعة واحدة؛ ليظهر فيه وجه الإعجاز؛ فجعلوا إتيان الرسول به مفرَّقاً شبهة في أنَّه يتفكَّر في فصل فصل ، ويقرؤه عليهم ، فأجاب الله عن ذلك أنه إنَّما فرَّقه ليكون حفظه أسهل؛ ولتكون الإحاطة والوقوف على دلائله ، وحقائقه ، ودقائقه أكمل .
قال سعيد بن جبير : نزل القرآن كلُّه في ليلة القدر من السَّماء العليا إلى السَّماء السفلى ، ثم فصل في السِّنين التي نزل فيها ، ومعنى الآية : قطَّعناه آية آية ، وسورة وسورة .
قوله : « لتَقْرَأهُ » متعلق ب « فَرقْنَاهُ » ، وقوله « عَلَى مُكْثٍ » فيه ثلاثةُ أوجه :
الأول : أنه متعلِّق بمحذوفٍ ، على أنه حالٌ من الفاعل ، أو المفعول في « لتَقْرَأهُ » ، أي : متمهِّلاً مترسِّلاً .
الثاني : أنه بدلٌ من « عَلَى النَّاس » قاله الحوفيُّ ، وهو وهمٌ؛ لأنَّ قوله « عَلى مُكثٍ » من صفاتِ القارئ ، أو المقرُوءِ من وجهة المعنى ، لا من صفات الناس؛ حتى يكون بدلاً منهم .
الثالث : أنه متعلق ب « فَرقنَاهُ » .
قال ابو حيان : « والظاهر تعلق » عَلى مُكثٍ « بقوله » لتَقْرأهُ « ، ولا يبالى بكون الفعل يتعلق به حرفا جر من جنسٍ واحدٍ؛ لأنه اختلف معنى الحرفين؛ لأن الأول في موضع المفعول به ، والثاني في موضع الحال ، أي : متمهِّلاً مترسلاً » .
قال شهاب الدين : قوله أولاً : إنه متعلق بقوله « لِتقْرَأهُ » : ينافي قوله في موضع الحال ، لأنه متى كان حالاً ، تعلق بمحذوفٍ ، لا يقال : أراد التعلق المعنوي ، لا الصناعي؛ لأنه قال : ولا يبالى بكون الفعل يتعلق به حرفا جرٍّ من جنسٍ واحد ، وهذا تفسير إعراب ، لا تفسير معنى .
والمُْثُ : التَّطاولُ في المدة ، وفيه ثلاثة لغات : الضمُّ ، والفتح - ونقل القراءة بهما الحوفيُّ ، وأبو البقاء - والكسر ، ولم يقرأ به فيما علمتُ ، وفي فعله الفتح والضمُّ وسيأتي بيانه ، إن شاء الله تعالى في النَّمل [ الآية : 22 ] ومعنى « عَلى مُكْثٍ » أي على تؤدةٍ ، وترسُّل في ثلاثٍ وعشرين سنة { وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً } على الحدِّ المذكور .
قوله : { قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تؤمنوا } : يخاطب الذين اقترحوا تلك المعجزات العظيمة؛ على وجه التَّهديد والإنكار ، أي : أنَّه تعالى ، أوضح البينات والدلائل ، وأزاح الأعذار ، فاختاروا ما تريدون .
{ إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ } أي : من قبل نزول القرآن ، قال مجاهد : هم ناسٌ من أهل الكتاب ، كانوا يطلبون الدِّين قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ثمَّ أسلموا بعد مبعثه؛ كزيد بن عمرو بن نفيلٍ ، وسلمان الفارسيِّ ، وأبي ذرٍّ ، وورقة بن نوفلٍ ، وغيرهم .
{ إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ } يعني القرآن .
{ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً } . يعني : يسقطون للأذقان ، قال ابن عباس : أراد به الوجوه .
قوله : { لِلأَذْقَانِ } : في اللام ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها بمعنى « على » ، أي : على الأذقان؛ كقولهم : خرَّ علىوجهه .
والثاني : أنها للاختصاص ، قال الزمخشري : فإن قيل : حرف الاستعلاءِ ظاهر المعنى ، إذا قلت : خرَّ على وجهه ، وعلى ذقنه ، فما معنى اللام في « خرَّ لذقنه ، ولوجهه » ؟ قال : [ الطويل ]
3478- ... فَخرَّ صَرِيعاً للْيَديْنِ وللْفَمِ
قلت : معناه : جعل ذقنهُ ، ووجههُ [ للخرور ] ، قال الزجاج : الذَّقنُ : مجمع اللَّحيين ، وكلما يبتدئ الإنسان بالخرور إلى السجود ، فأقرب الأشياء من الجبهة إلى الأرض الذَّقنُ .
وقيل : الأذقان اللِّحى؛ فإن الإنسان ، إذا بالغ في السجود ، والخضوع ، ربَّما مسح ليحتهُ على التُّراب؛ فإنَّ اللحية يبالغ في تنظيفها ، فإذا عفَّرها بالتُّراب ، فقد أتى بغايةِ التعظيم [ للخُرور ] .
واختصَّ به؛ لأنَّ اللام للاختصاص ، وقال أبو البقاء : « والثاني : هي متعلقة ب » يَخِرُّون « ، واللام على بابها ، أي : مذلُّون للأذقان » .
والأذقانُ : جمعُ ذقنٍ ، وهو مجمعُ اللَّحيين؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
3479- فَخرُّوا لأذقَانِ الوُجوهِ تَنُوشُهمْ ... سِباعٌ من الطَّيْرِ العَوادِي وتَنتِفُ
و « سُجَّداً » حال ، وجوَّز أبو البقاء في « للأذقانِ » أن يكون حالاً ، قال : « أي : ساجدين للأذقان » وكأنه يعني به « للأذْقانِ » الثانية؛ لأنَّه يصير المعنى : ساجدين للأذقان سجداً؛ ولذلك قال : « والثالث : أنها - يعني اللام - [ بمعنى ] » على « ؛ فعلى هذا يكون حالاً من » يَبْكُونَ « ، و » يَبْكُون « حال » .
فإن قيل : لم قيل : يَخرُّون للأذقان سجداً ، ولم يقل يسجدون؟
والجواب : أن المقصود من هذا اللفظ مسارعتهم إلى ذلك؛ حتَّى أنهم يسقطون .
ثم قال : { وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } ، أي : كان قولهم في سجودهم : « سبحان ربِّنا » ، أي : ينزِّهونه ، ويعظِّمونه { إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } أي : بإنزال القرآن ، وبعث محمد - عليه الصلاة والسلام - وهذا يدلُّ على أنَّ هؤلاء كانوا من أهل الكتاب ، لأنَّ الوعد ببعثة محمد سبق في كتابهم ، وهم كانوا ينتظرون إنجاز ذلك الوعد ، ثم قال : { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ } .
والفائدة في هذا التكرير اختلاف الحالين ، وهما :
خُرورهُمْ في حال كونهم باكين ، في حال استماع القرآن ، ويدلُّ عليه قوله : { وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } .
وجاءت الحال الأولى اسماً؛ لدلالته على الاستقرار ، والثانية فعلاً؛ لدلالته على التجدُّد والحدوث .
ويجوز أن يكون القول دلالة على تكرير الفعل منهم .
وقوله : « يَبْكُونَ » ، معناه : الحال ، { وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } ، أي : تواضعاً .
قوله : { وَيَزِيدُهُمْ } : فاعل « يزيدُ » : إمَّا القرآن ، أو البكاءُ ، أو السُّجودُ ، أو المتلوُّ ، لدلالة قوله : « إذَا يُتْلَى » .
قوله تعالى : { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن } الآية .
قال ابن عباس : سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكَّة ذات ليلة ، فجعل يبكي ، ويقول في سجوده : ( يا الله ، يا رحمن ) . فقال أبو جهلٍ : إنَّ محمداً ينهانا عن آلهتنا ، وهو يدعو إلهين ، فأنزل الله هذه الآية ، ومعناه : أنَّهما اسمان لواحدٍ ، [ أي : ] أيَّ هذين الاسمين سميتم ، فله الأسماءُ الحسنى .
قوله : { أَيّاً مَّا تَدْعُواْ } : [ « أيًّ » ] منصوب [ ب « تَدْعُوا » ] على المفعول به ، والمضاف إليه محذوف ، أي : أيَّ الاسمين ، و « تَدْعُوا » مجزوم بها ، فهي عاملة معمولة ، وكذلك الفعل ، والجواب الجملة الاسمية من قوله « فلهُ الأسْماءُ الحُسنَى » . وقيل : هو محذوفٌ ، تقديره : جاز ، ثم استأنف ، فقال : فله الأسماء الحسنى ، وليس بشيءٍ .
والتنوين في « أيًّا » عوض من المضاف إليه ، وفي « ما » قولان :
أحدهما : أنها مزيدة للتأكيد .
والثاني : أنها شرطية جمع بينهما؛ تأكيداً كما جمع بين حرفي الجر؛ للتأكيد ، وحسَّنه اختلافُ اللفظ؛ كثوله : [ الطويل ]
3480- فأصْبَحْنَ لا يَسْألنَنِي ... عن بِمَا بِهِ . .
ويؤيِّد هذا ما قرأ به طلحة بن مصرِّفٍ « أيًّا من تدعُوا » فقيل : « مَنْ » تحتمل الزيادة على رأي الكسائيِّ؛ كقوله : [ الكامل ]
3481- يَا شَاةَ من قَنصٍ لمَنْ حَلَّتْ لهُ ..
واحتمل أن تكون شرطية ، وجمع بينهما؛ تأكيداً لما تقدَّم ، و « تَدعُوا » هنا يحتمل أن يكون من الدعاء ، وهو النداءُ ، فيتعدَّى لواحدٍ ، وأن يكون بمعنى التسمية ، فيتعدَّى لاثنين ، إلى الأول بنفسه ، وإلى الثاني بحرف الجرِّ ، ثم يتسع في الجارِّ فيحذف؛ كثوله : [ الطويل ]
3482- دَعتْني أخَاهَا أمُّ عَمْرٍو . . .
والتقدير : قل : ادعُوا معبودكم بالله ، أو بالرَّحمن ، بأيِّ الاسمين سمَّيتموه ، وممَّن ذهب غلى كونها بمعنى « سمَّى » الزمخشريز
ووقف الأخوان على طأيًّا « بإبدال التنوين ألفاً ، ولم يقفا على » مَا « ؛ تبييناً لانفصال » أيًّا « من » مَا « ، ووقف غيرهما على » مَا « ؛ لامتزاجها ب » أيّ « ؛ ولهذا فصل بها بين » أي « ، وبين ما أضيفت إليه في قوله تعالى { أَيَّمَا الأجلين } [ القصص : 28 ] ، وقيل : » ما « شرطية عند من وقف على » ايًّا « ، وجعل المعنى : أي الاسمين دعوتموه به ، جاز ، ثم استأنف » مَا تدعوا ، فله الأسماء الحسنى « ، يعني أنَّ » ما « شرطٌ ثانٍ ، و » فَلهُ الأسماءُ « جوابه ، وجواب الأول مقدر ، وهذا مردودٌ بأنَّ » ما « لا تطلق على آحاد أولي العلم ، وبأنَّ الشرط يقتضي عموماً ، ولا يصحُّ هنا ، وبأن فيه حذف الشرط والجزاء معاً .
فصل
والمعنى : أيًّا ما تدعوا ، فهو حسنٌ؛ لأنه إذا حسنت أسماؤه ، فقد حسن هذان الاسمان؛ لأنهما منها ، ومعنى حسن أسماء الله كونها مفيدة لمعاني التَّمجيد والتَّقديس .
واحتجَّ الجبائي بهذه الآية ، فقال : لو كان تعالى خالقاً للظُّلم ، والجور ، لصحَّ أن يقال : يا ظالمُ ، حينئذٍ : يبطل ما ثبت بهذه الآية من كون أسمائه بأسرها حسنة .
والجواب : أنَّا لا نسلِّم أنه لو كان خالقاً لأفعال العباد ، لصحَّ وصفه بأنَّه ظالمٌ ، وجائرٌ ، كما لا يلزم من كونه خالقاً للحركة والسكون ، والسواد ، والبياض أن يقال : ما متحرك ، ويا ساكن ، ويا أبيض ، ويا أسود .
فإن قيل : فيلزم أن يقال : يا خالق الظُّلم والجور .
تقولون : ذلك حقٌّ في نفس الأمر ، وإنَّما الأدب أن يقال : يا خالق السَّموات والأرض ، فكذا قولنا ها هنا .
ثمَّ قال تعالى : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } .
وروى سعيد بن جبيرٍ ، عن ابن عبَّاس في هذه الآية ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعُ صوته بالقراءة ، فإذا سمعه المشركون سبُّوا القرآن ومن أنزله ، ومن جاء به ، فأنزل الله تعالى : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ } ، أي : بقراءتك ، أي : فيسمعك المشركون؛ ليسبُّوا القرآن ، ويسبُّوا الله عدواً بغير علم .
قوله : { وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } فلا يسمعك أصحابك .
قوله : { وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً } .
روى أبو قتادة « أنّ النبي صلى الله عليه وسلم طاف باللَّيل على دور أصحابه؛ فكان أبو بكرٍ يخفي صوته بالقراءة ، وكان عمر يرفعُ صوته ، فلما جاء النَّهار ، وجاء أبو بكرٍ وعمر ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : هِيَ لَكَ ، مَررْتُ بِكَ ، وأنْتَ تَقْرأ ، وأنْتَ تخفضُ من صَوتِكَ ، فقال : إنِّي سَمِعتُ من نَاجَيتُ ، قَالَ : فَارفَعْ قليلاً ، وقَالَ لِعُمرَ : مَررْتُ بِكَ ، وأنْتَ تَقْرَأ ، وأنْتَ تَرْفَعُ مِنْ صَوْتِكَ ، فقال : إنِّي أوقظُ الوسْنانَ ، وأطردُ الشَّيطَانَ ، فقال : اخْفِضْ قليلاً » .
وقيل : المراد ( ولا تجهر بصلاتك كلها ) ، ولا تخافت بها كلها ( وابتغ بين ذلك سبيلا ) بأن تجهر بصلاة الليل ، وتخافت بصلاة النَّهار .
وقيل : الآية في الدعاء ، وهو قول أبي هريرة ، وعائشة ، والنخعيِّ ، ومجاهدٍ ، ومكحولٍ ، وروي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية ، قال : إنَّما ذلِكَ في الدُّعاءِ والمسالة .
قال عبد الله بن شدَّادٍ : كان أعرابٌ من بني تميم ، إذا سلَّم النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : اللهم ارزقنا مالاً وولداً يجهرون ، فأنزل الله هذه الآية : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ } .
أي : لا ترفع صوتك بقراءتك ، ودعائك ، ولا تخافت بها .
والمُخَافتَةُ : خفض الصَّوت والسُّكوتُ .
يقل : خفت صوته يخفته خفوتاً ، إذا ضعف وسكن ، وصوتٌ خفيتٌ ، أي : خفيضٌ .
ومنه يقال للرجل ، إذا مات : قد خفت كلامه ، أي : انقطع كلامه ، وخفت الزَّرعُ ، إذا ذبل ، وخفت الرَّجل بقراءته ، يتخافتُ بها ، إذا لم يبيِّن قراءته برفع الصوت ، وقد تخافت القوم ، إذا تسارُّوا بينهم .
فصل في المستحب في الدعاء
واعلم أن الجهر بالدعاء منهيٌّ عنه ، والمبالغة في الإسرار غير مطلوبة ، والمستحبُّ التوسُّط ، وهو أن يسمع نفسه؛ كما روي عن ابن مسعود : أنه قال : لم يتخافت من يسمع أذنيه .
واعلم أن العدل هو رعاية الوسط؛ كما مدح الله هذه الأمَّة بقوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } [ البقرة : 143 ] .
ومدح المؤمنين بقوله : { والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] .
وأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } [ الإسراء : 29 ] فكذا ههنا : نهى عن الطَّرفين ، وهما الجهر والمخافتة ، وأمر بالتوسُّط بينهما ، فقال : { وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً } .
وقال بعضهم : الآية منسوخة بقوله - تعالى- : { ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } [ الأعراف : 55 ] .
وهو بعيدٌ .
واعلم أنه تعالى ، لمَّا أمر بأن لا يذكر ، ولا ينادى ، إلا بأسمائه الحسنى ، علَّم كيفيَّة التمجيد؛ فقال :
{ وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مَّنَ الذل } .
فذكر ثلاثة أنواع من صفات التنزيه والجلال :
الأول : أنه لم يتخذ ولداً ، والسَّببُ فيه وجوهٌ :
أولها : أنَّ الولد هو الشيء المتولِّد من أجزاء ذلك الشيء ، فكلُّ من له ولدٌ ، فهو مركبٌ من الأجزاء ، والمركَّب محدثٌ ، والمحدث محتاجٌ؛ لا يقدر على كمال الإنعامِ؛ فلا يستحقُّ كمال الحمدِ .
وثانيها : أنَّ كل من له ولدٌ ، فهو يمسك جميع النِّعم لولده ، فإذا يكن له ولدٌ ، أفاض كلَّ النِّعم على عبيده .
وثالثها : أن الولد هو الذي يقوم مقام الوالد بعد انقضائه ، فلو كان له ولد ، لكان منقضياً فانياً ، ومن كان كذلك ، لم يقدر على كمال الإنعام في جميع الأوقات؛ فوجب ألاَّ يستحقَّ الحمد على الإطلاق .
وهذه الآية ردٌّ على اليهود في قولهم { عُزَيْرٌ ابن الله } [ التوبة : 30 ] ، وردٌّ على النصارى في قولهم { المسيح ابن الله } [ التوبة : 30 ] وعلى مشركي العرب في قولهم : « المَلائِكةُ بنَاتُ الله » .
والنوع الثاني من الصفات السلبية قوله : { وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك } .
والسَّببُ في اعتبار هذه الصفة : أنَّه لو كان له شريكٌ ، فلا يعرف كونه مستحقًّا للحمد والشُّكر .
والنوع الثالث : قوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مَّنَ الذل } .
والسببُ في اعتباره : أنه لو جاز عليه وليٌّ من الذلِّ ، لم يجب شكره؛ لتجويز أن يكون غيره حمله على ذلك الإنعام .
أما إذا كان منزَّهاً عن الولد ، وعن الشَّريك ، وعن أن يكون له وليٌّ يلي أمرهُ ، كان مستوجباً لأعظم أنواع الحمد والشُّكر .
قوله : { مَّنَ الذل } : فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها صفة ل « وليّ » ، والتقدير : وليٌّ من أهل الذلِّ ، و المراد بهم : اليهود والنصارى؛ لأنهم أذلُّ الناس .
والثاني : أنها تبعيضية .
الثالث : أنها للتعليل ، أي : من أجل الذلِّ ، وإلى هذين المعنيين نحا الزمخشريُّ فإنه قال : « وليٌّ من الذلِّ : ناصر من الذلِّ ، ومانع له منه؛ لاعتزازه به ، أو لم يوالِ أحداً لأجل مذلَّة به؛ ليدفعها بموالاته » .
وقد تقدَّم الفرق بين الذُّلِّ والذِّلّ في أول هذه السورة [ الآية : 24 ] .
فصل في معنى قوله : { وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً }
معنى قوله : { وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً } ، أي : أنَّ التمجيد يكون مقروناً بالتكبير ، والمعنى : عظِّمه عن أن يكون له شريكٌ ، أو وليٌّ؛ قال - عليه الصلاة والسلام - « أحَبُّ الكلام إلى الله تعالى اربع : لا إله إلا الله ، و الله أكبر ، وسبحان الله ، والحمدُ لله لا يضرك بأيِّهنَّ بدأت » .
فصل
روى أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ سُورة بني إسرائيل ، فَرَقَّ قَلبهُ عِندَ ذِكْر الوالدين أعْطِيَ في الجنَّة قِنْطَاريْنِ مِنَ الأجْرِ ، والقِنطَارُ ألْفُ أوقيَّةٍ ، ومِائتَا أوقيَّةٍ ، كلُّ أوقيَّةٍ خيرٌ من الدُّنْيَا وما فِيهَا » .
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- : قول العبد : « الله أكبرُ خيرٌ من الدنيا وما فِيهَا » وهذه الآية خاتمة التَّوراة .
وروى مطرفٌ ، عن عبد الله بْنِ كعبٍ ، قال : « افتُتِحَتِ التَّوراةُ بفَاتحةِ سُورةِ الأنعامِ ، وخُتمَتْ بِخاتمَةِ هذه السُّورةِ » .
وروى عمرُو بنُ شعيب ، عن أبيه ، عن جدِّه ، قال : كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا أفْصَحَ الغلام من بني عَبْدِ المطَّلبِ ، عَلَّمهُ : الحَمدُ للهِ الَّذي لَمْ يتَّخذْ ولداً الآية .
وقال عبدُ الحميدِ بنُ واصلٍ : سَمعْتُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال : مَنْ قَرَأ : { وَقُلِ الحمد لِلَّهِ } الآية ، كَتبَ الله لهُ من الأجْرِ مِثلَ الأرْض والجِبالِ؛ لأنَّ الله تعلى يَقُولُ فيمَنْ زَعمَ أنَّ لهُ ولداً : { تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً } [ مريم : 90 ] .
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)
قال ابن الخطيب : تقدم الكلام في الحمد ، والذي أقوله ها هنا : إن التسبيح أينما جاء فإنما جاء مقدماً على التحميد؛ ألا ترى أنه يقال : « سبحان الله والحمد لله » .
وإذا عرف هذا ، فنقول : إنه تعالى - جلَّ جلاله - ذكر التسبيح عندما أخبر أنَّه أسرى بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ } [ الإسراء : 1 ] وذكر التحميد عندما ذكر إنزال الكتاب عليه فقال : { الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب } .
ثم قال : والمشبهة استدلوا بلفظ الإسراء في السورة المتقدمة وبلفظ الإنزال في هذه السورة على أنه تعالى مختص بجهة فوق .
والجواب عنه مذكور في سورة الأعراف في تفسير قوله { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } [ الأعراف : 54 ] .
واعلم : أنه تعالى أثنى على نفسه بإنعامه على خلقه ، وخصَّ رسوله صلى الله عليه وسلم بالذكر؛ لأنَّ إنزال الكتاب القرآن عليه كان نعمةً عليه على الخصوصِ وعلى سائر الناسِ على العمومِ .
أما كونه نعمة عليه؛ فلأنه تعالى أطلعه بواسطة هذا الكتاب الكريم على أسرار علم التَّوحيد والتَّنزيه وصفات الجلال وأحوال الملائكة وأحوال الأنبياءِ وأحوالِ القضاء والقدر ، وتعلُّق أحوال العالم السفليِّ بأحوال العالم العلوي ، وتعلق أحوال عالم الآخرة بعالم الدنيا ، وكيفية نزول القضاء من عالم الغيب ، وذلك من أعظم النِّعم ، وأمَّا كونه نعمة علينا؛ فلأنه مشتملٌ على التكاليفِ والأحكامِ والوعد [ والوعيد ] والثوابِ والعقاب ، فكلُّ واحدٍ ينتفعُ به بمقدار طاقته وفهمه .
قوله : { وَلَمْ يَجْعَل } : في هذه الجملة أوجهٌ ، أحدها : أنها معطوفة على الصلة قبلها . والثاني : أنها اعتراضية بين الحال وهي « قَيِّما » وبين صاحبها وهو « الكتاب » . والثالث : أنها حالٌ من « الكتاب » ، ويترتب على هذه الأوجه القول في « قَيِّماً » .
قوله : { قَيِّماً } : فيه أوجه : الأول : أنه حال من « الكتاب » . والجملة من قوله « ولم يجعل » اعتراض بينهما . وقد منع الزمخشري ذلك فقال : « فإن قلت : بم انتصب » قَيِّماً « ؟ قلت : الأحسن أن ينتصب بمضمرٍ ، ولم يجعل حالاً من » الكتاب « لأن قوله » ولم يجعل « معطوف على » أنْزلَ « فهو داخلٌ في حيِّز الصلةِ ، فجاعله حالاً فاصلٌ بين الحالِ وذي الحال ببعض الصلة » ، وكذلك قال أبو البقاء . وجواب هذا ما تقدَّم من أن الجملة اعتراضٌ لا معطوفة على الصِّلة .
الثاني : أنه حالٌ من الهاءِ في « لهُ » . قال أبو البقاءِ : « والحالُ مؤكدة . وقيل : منتقلة » . قال شهاب الدين : القول بالانتقالِ لا يصحُّ .
الثالث : أنه منصوب بفعلٍ مقدرٍ ، تقديره : جعله قيِّماً . قال الزمخشري : « تقديره : ولم يجعل له عوجاً ، جعله قيِّماً ، لأنه إذا نفى عنه العوج فقد أثبت له الاستقامة » .
قال : « فإن قلت : ما فائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامةِ وفي أحدهما غِنًى عن الآخر؟ . قلت : فائدته التأكيد فرُبَّ مستقيم مشهودٌ له بالاستقامةِ ، ولا يخلو من أدنى عوجٍ عند السَّيرِ والتصفُّح » .
الرابع : أنه حالٌ ثانية ، والجملة المنفيَّة قبله حال أيضاً ، وتعدد الحال لذي حال واحد جائزٌ . والتقدير : أنزله غير جاعلٍ له عوجاً قيماً .
والخامس : أنه حالٌ أيضاً ، ولكنه بدلٌ من الجملة قبله لأنها حال ، وإبدال المفرد من الجملة إذا كانت بتقدير مفرد جائز ، وهذا كما أبدلت الجملة من المفرد في قوله : « عَرفْتُ زيداً أبو مَنْ هو » .
والضمير في « لَهُ » فيه وجهان ، أحدهما : أنه للكتاب ، وعليه التخاريج المتقدمة . والثاني : أنه يعود على « عضبدِه » ، وليس بواضحٍ .
وقرأ العامة بتشديد الياء ، وأبانُ بن تغلب بفتحها خفيفة . وقد تقدَّم القولُ فيها .
ووقف حفص على تنوين « عِوَجاً » يبدله ألفاً ، ويسكت سكتةً لطيفة من غير قطع نفس ، إشعاراً بأنَّ « قيِّماً » ليس متصلاً ب « عوجاً » ، وإنما هو من صفة الكتاب . وغيره لم يعبَأ بهذا الوهم فلم يسكت اتِّكالاً على فهم المعنى .
قلت : قد يتأيَّد ما فعله حفصٌ بما في بعض مصاحف الصحابة : « ولم يَجْعلْ له عوجاً ، لكن جعله قيِّماً » . وبعض القراء يطلق فيقول : يقف على « عِوَجاً » ، ولم يقولوا : يبدل التنوين ألفاً ، فيحتمل ذلك ، وهو أقرب لغرضه فيما ذكرت .
ونقل أبو شامة عن ابن غلبون وأبي علي الأهوازيِّ ، يعني الإطلاق . ثم قال : « وفي ذلك نظرٌ - أي في إبدال التووين ألفاً - فإنه لو وقف على التنوين لكان أدلَّ على غرضه ، وهو أنه واقفٌ بنيَّة الوصل » . انتهى .
وقال الأهوازيُّ : « ليس هو وقفاً مختاراً ، لأنَّ في الكلام تقديماً وتأخيراً ، معناه : أنزل على عبده الكتاب قيِّماً ولم يجعل له عوجاً » . قال شهاب الدين : دعوى التقديم والتأخير وإن كان قال به غيره كالبغوي والواحدي وغيرهما إلاَّ أنَّها مردودةٌ لأنَّها على خلاف الأصل ، وقد تقدَّم تحقيقه .
وفعل حفصٌ في مواضع من القرآن مثل فعله هنا من سكتةٍ لطيفةٍ نافية لوهم مخلٍّ . فمنها : أنَّه كان يقف على « مَرْقدِنا » ، ويبتدئ : { هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن } [ يس : 52 ] . قال : لئلاَّ يتوهَّم أنَّ « هذا » صفة ل « مَرْقدِنا » فالوقف يبين أنَّ كلام الكفار انقضى ، ثم ابتدئ بكلامِ غيرهم . قيل : هم الملائكة . وقيل : المؤمنون . وسيأتي في يس ما يقتضي أن يكون « هذا » صفة ل « مَرْقدِنا » فيفوتُ ذلك .
ومنها : { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } [ القيامة : 27 ] . كان يقف على نون « مَنْ » ويبتدئ « راقٍ » قال : « لئلاَّ يتوهَّم أنها كلمة واحدة على فعَّال اسم فاعل للمبالغة من مرق يمرُق فهو مرَّاق » .
ومنها : { بَلْ رَانَ } [ المطففين : 14 ] كان يقف على لام بل ، ويبتدئ « ران » لما تقدَّم .
قال المهدويُّ : « وكان يلزمُ حفصاً مثل ذلك ، فيما شاكل هذه المواضع ، وهو لا يفعله ، فلم يكن لقراءته وجهٌ من الاحتجاج إلا اتباعُ الأثر في الرواية » . قال أبو شامة : « أولى من هذه المواضعِ بمراعاةِ الوقفِ عليها : { وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً } [ يونس : 65 ] ، ينبغي الوقف على » قَولهُم « لئلاَّ يتوهَّم أنَّ ما بعده هو المقولُ » ، وكذا { أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النار الذين يَحْمِلُونَ العرش } [ غافر : 6 ، 7 ] ينبغي أن يعتنى بالوقف على « النَّار » لئلا تتوهَّم الصفة .
قال شهابُ الدين : وتوهُّمُ هذه الأشياء من أبعد البعيد . وقال أبو شامة أيضاً : ولو لزم الوقفُ على اللام والنون ليظهرا للزمَ ذلك في كلِّ مدغمٍ « . يعني في » بل رانَ « وفي » مَنْ راقٍ « .
فصل
المعنى : ولم يجعل له عوجاً [ قيِّماً ] ، أي مختلفاً .
قال تعالى : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } [ النساء : 82 ] .
قال أهل اللغة : العوج في المعاني كالعوج في الأعيان ، فالمراد منه نفيُ التَّناقضِ .
وقيل : معناه لم يجعلهُ مخلوقاً .
روي عن ابن عبَّاس أنَّه قال في قوله تعالى : { قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } [ الزمر : 28 ] أي غير مخلوقٍ .
وقوله : » قيماً « فيما نقل عن ابن عباسٍ أنه قال : يريد مستقيماً [ قال ابن الخطيب : ] وهذا عندي مشكلٌ؛ لأنَّه لا معنى لنفي الاعوجاج إلاَّ حصول الاستقامةِ ، فتفسير القيّم بالمستقيم يوجبُ التكرار ، بل الحق أن يقال : المرادُ من كونه قيِّماً سبباً لهداية الخلق ، وأنَّه يجري بحذوِ من يكون قيّماً للأطفال ، فالأرواح البشرية كالأطفالِ ، والقرآن كالقيِّم المشفق القيم بمصالحهم .
قوله : » ليُنْذِرَ « في هذه اللام وجهان ، أظهرهما : أنها متعلقة ب » قيِّماً « قاله الحوفيُّ . والثاني : - وهو الظاهرُ - أنَّها تتعلق ب » أنْزلَ « . وفاعل » لِيُنذِرَ « يجوز أن يكون » الكتاب « وأن يكون الله ، وأن يكون الرسول .
و » أنْذَرَ « يتعدَّى لاثنين : { إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً } [ النبأ : 40 ] { فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً } [ فصلت : 13 ] . ومفعوله الأول محذوف ، يقدره الزمخشري : » ليُنْذِرَ الذين كفروا « ، وغيره : » ليُنذِرَ العباد « ، أو » ليُنذرَكم « ، أو لينذر العالم . وتقديره أحسن لأنه مقابل لقوله » ويُبشِّر المؤمنين « ، وهم ضدُّهم .
وكما حذف المنذر وأتى بالمنذر به هنا ، حذف المنذر به وأتى بالمنذرِ في قوله { وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ } [ الكهف : 4 ] فحذف الأول من الأول لدلالةِ ما في الثاني عليه ، وحذف الثاني من الثاني لدلالة ما في الأول عليه ، وهو في غاية البلاغة ، ولمَّا لم تتكرَّر البشارة ذكر مفعوليها فقال : { وَيُبَشِّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً } .
قوله : { مِّن لَّدُنْهُ } قرأ أبو بكرٍ عن عاصم بسكون الدَّال مشمَّة الضمَّ وكسر النون والهاء موصلة بياء ، فيقرأ « مِنْ لَدْنهِي » والباقون يضمون الدال ، ويسكنون النون ويضمون الهاء ، وهم على قواعدهم فيها : فابن كثيرٍ يصلها بواوٍ نحو : منهُو وعنهُو ، وغيره لا يصلها بشيءٍ .
وجه أبي بكرٍ : أنَّه سكن الدال تخفيفاً كتسكين عين « عَضُد » فالنون ساكنة ، فالتقى ساكنان فكسر النون لالتقاءِ الساكنين ، وكان حقُّه أن يكسر الأول على القاعدة المعروفة إلا أنه يلزم منه العودُ إلى ما فرَّ منه ، وسيأتي لتحقيق هذا بيانٌ في قوله تعالى : { وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ } [ النور : 52 ] في سورة النور ، لمَّا كسر النون إتباعاً على قاعدته ووصلها بياء . وأشم الدال إشارة إلى أصلها في الحركة .
والإشمامُ هنا عبارة عن ضمِّ الشفتين من غير نطقٍ ، ولهذا يختصُّ به البصير دون الأعمى ، هكذا قرَّرهُ القراء وفيه نظر؛ لأنَّ الإشمام المشار إليه إنما يتحقق عند الوقف على آخر الكلمة فلا يليق إلاَّ بأن يكون إشارة إلى حركة الحرفِ الآخر المرفوع إذا وقف عليه نحو : « جاء الرجل » ، وهكذا قدَّره النحويون . وأمَّا كونه يؤتى به في وسط الكلمة فلا يتصوَّر إلا أن يقفالمتكلم على ذلك الساكن ثم ينطق ب « ياء » الكلمة . وإذا جرَّبت نطقك في هذا الحرف الكريم وجدت الأمر كذلك ، لا ينطقُ به بالدال الساكنة مشيراً إلى ضمها إلا حتى يقف عليها ، ثم يأتي ب « ياء » في الكلمة .
فإن قلت : إنَّما آتي بالإشارة إلى الضمة بعد فراغي من الكلمةِ بأسرها . قيل لك : فاتت الدلالة على تعيين ذلك الحرف المشار إلى حركته .
فالجواب عن هذا بأنه ليس في الكلمة ما يصلح أن يشار إلى حركته وهو الدال . وقد تقدَّم في « يوسف » أن الإشمام في { لاَ تَأْمَنَّا } [ يوسف : 11 ] إذا فسَّرناه بالإشارة إلى الضمة : منهم من يفعله قبل كمال الإدغام ، ومنهم من يفعله بعده ، وهذا نظيره . وتقدَّم أنَّ الإشمام يقع بإزاءِ معانٍ أربعةٍ تقدَّم تحقيقها .
و « مِنْ لدُنه » متعلق ب « ليُنْذِرَ » . ويجوز تعلقه بمحذوفٍ نعتاً ل « بَأساً » ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في « شديداً » .
والبأس مأخوذ من قوله : { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } [ الأعراف : 165 ] و { مِّن لَّدُنْهُ } أي : صادراً من عنده .
فصل
قال الزجاج : وفي « لدُن » لغات يقال : لَدُ ، ولدُنْ ، ولَدَى بمعنى واحدٍ ، وهي لا تتمكن ممكن « عند » ؛ لأنَّك تقول هذا القول الصَّواب عندي ، ولا يقال : صوابٌ لدني ، ويقال : عندي مالٌ عظيمٌ ، [ والمال ] غائب عنك ، ولدني لما يليك لا غير .
وقرئ « ويُبشِّرُ » بالرفع على الاستئناف . والمراد بالأجر الحسن الجنة .
قوله : { مَّاكِثِينَ } : حالٌ : إمَّا من الضمير المجرور في « لهُم » ، أو المرفوع المستتر فيه ، أو من « أجراً » لتخصصه بالصفة ، غلاَّ أنَّ هذا لا يجيءُ إلاَّ على رأيِ الكوفيين . فإنهم لا يشترطون بروزَ الضمير في الصفة الجارية على غير من هي له إذا أمن اللَّبسُ ، ولو كان حالاً منه عند البصريِّين لقال : ماكثين هم فيه . ويجوز على رأي الكوفيين أن يكون صفة ثانية ل « أجْراً » . قال أبو البقاء : وقيل : هو صفة ل « أجْراً » ، والعائد الهاء في « فيه » . ولم يتعرَّض لبروزِ الضمير ولا لعدمه بالنسبة إلى المذهبين .
و « أبداً » منصوبٌ على الظرف ب « مَاكثِينَ » .
فصل
اعلم أنَّ المقصود من إرسالِ الرسل إنذارُ المذنبين وبشارة المطيعين ، ولمَّا كان دفع الضرِّ أهمَّ عند ذوي العقول من إيصال النَّفع ، لا جرم قدَّم الإنذار في اللفظ .
قال الزمخشريُّ : قرئ « ويُبشِّرُ » بالتخفيف والتَّثقيل و { مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً } بمعنى خالدين .
فصل
قال القاضي : دلت الآية على صحَّة قوله في مسائل :
أحدها : أنَّ القرىن مخلوقٌ وبيانه من وجوه :
الأول : أنه تعالى وصفه بالإنزال والنزولِ ، وذلك من صفاتِ المحدثات ، فإنَّ القديم لا يجوز عليه التغييرُ .
والثاني : أنَّه وصفه بكونه كتاباً ، و الكتب هو الجمع ، وسمِّي كتاباً لكونه مجموعاً من الحروفِ والكلماتِ ، وما صحَّ فيه [ من ] التركيب والتأليف فهو محدثٌ .
الثالث : أنَّه تعالى أثبت الحمد لنفسه ، على إنزالِ الكتاب ، والحمد إنَّما يستحقُّ على النعمةِ ، والنعمةُ محدثة [ مخلوقة ] .
الرابع : أنَّه وصفهُ بأنه غير معوجٍّ وبأنَّه مستقيمٌ ، والقديم لا يمكن وصفه بذلك ، فثبت أنَّه محدثٌ مخلوقٌ .
وثانيها : خلق الأعمال؛ فإنَّ هذه الآية تدلُّ على قولنا في هذه المسألة من وجوهٍ :
الأول : نفس الأمر بالحمد؛ لأنَّه لو لم يكن للعبد فعلٌ لم ينتفع بالكتاب ، إذ الانتفاع به إنما يحصل إذا قدر أن يفعل ما دلَّ الكتاب على أنه يجب فعله ، ويترك ما دلَّ الكتاب على أنه يجب تركهُ ، وهذا إنَّما كان يعقل لو كان مستقلاً بنفسه .
أمَّا إذا لم يكن مستقلاً بنفسه لم يكن لعوج الكتاب أثرٌ في اعوجاج فعله ، ولم يكن لكون الكتاب « قيِّماً » أمرٌ في استقامةِ فعله كان العبدُ قادراً على الفعل مختاراً فيه .
والثاني : أنَّه تعالى لو أنزل بعض الكتاب ليكون سبباً لكفر البعض ، وأنزل الباقي ليؤمن البعضُ الآخر ، فمن أين أن ذلك الكتاب قيمٌ لا عوج فيه؟ لأنه لو كان فيه عوجٌ لما زاد على ذلك .
والثالث : قوله : « لِيُنذِرَ » وفيه دلالة على أنَّه تعالى أراد منه صلى الله عليه وسلم إنذارَ الكلِّ وتبشير الكلِّ ، وبتقدير أن يكون خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى لم يبق للإنذارِ والتبشير فائدة؛ لأنَّه تعالى إذا خلق الإيمان حصل شاء العبدُ أو لم يشأ ، وإذا خلق الكفر [ حصل ] شاء العبد أو لم يشأ ، فيصيرُ الإنذار والتبشيرُ على الكفر والإيمان جارياً مجرى الإنذارِ والتبشير على كونه طويلاً وقصيراً وأبيض وأسود ممَّا لا قدرة للعبد عليه .
الرابع : وصفه المفسرون بأنَّ المؤمنين يعملون الصالحاتِ فإن كان خلقاً لله تعالى ، فلا علم لهم به ألبتة .
الخامس : إيجابه لهم الأجر الحسن على ما علموا؛ فإن الله تعالى قادرٌ بخلق ذلك فيهم ، فلا إيجاب ولا استحقاق .
المسألة الثالثة : دلَّت الآية على أنَّه تعالى يفعل أفعاله لأغراض صحيحةٍ ، وذلك يبطل قول من يقول : إنَّ فعلهُ غيرُ مُعلَّلٍ بالغرضِ .
فصل
واعلم أن هذه الكلمات قد تكررت في هذا الكتاب فلا فائدة في الإعادة .
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)
اعلم أنَّ قوله : { وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً } معطوف على قوله : { لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ } [ الكهف : 2 ] ، والمعطوف يجب كونه مغايراً للمعطوف عليه ، فالأول عام في حقِّ كلِّ من استحقَّ العذاب ، والثاني خاصٌّ بمن قال : إنَّ الله اتَّخذ ولداً ، والقرآن جارٍ بأنه إذا ذكر الله قضية كلية عطف عليها بعض جزئياتها؛ تنبيهاً على كون ذلك البعض المعطوف أعظم جزئيات ذلك الكلي [ أيضاً ] ، كقوله تعالى : { وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] فكذا ها هنا يدل على أن أعظم أنواعِ الكفر والمعصيةِ إثباتُ الولد لله تعالى .
فصل
واعلم أنَّ المثبتين لله تعالى الولد ثلاث طوائف :
الأولى : كفار العرب الذين قالوا : الملائكة بناتُ الله .
الثانية : النصارى قالوا : المسيحُ ابن الله .
الثالثة : اليهود ، [ حيث ] قالوا : العزير ابنُ الله .
واعلم أنَّ إثبات الولد لله كفرٌ عظيمٌ ، وتقدَّم الكلام على ذلك في سورة الأنعام في قوله : { وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ الأنعام : 100 ] وسيأتي تمامه - إن شاء الله تعالى - في سورة مريم؛ لأنَّه تعالى أنكر على القائلين بإثبات الولد من وجهين :
الأول : قوله : { مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ } .
فإن قيل : اتخاذ الله تعالى الولد محالٌ في نفسه ، فكيف قيل : { مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ } [ الزخرف : 20 ] ؟ .
فالجوابُ أنَّ انتفاء العلم بالشيء قد يكون للجهل بالطريق الموصل إليه؛ وقد يكون لأنَّه في نفسه محالٌ ، لا يمكن تعلق العلم به ، ونظيره قوله : { وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } [ المؤمنون : 117 ] .
فصل
تمسَّك نفاة القياس بهذه الآية ، فقالوا : دلَّت هذه الآية على أن القول في الدِّين بغير علمٍ باطل ، والقول بالقياس الظنيِّ قول في الدِّين بغير علم ، فيكون باطلاً .
وجوابه تقدم عند قوله : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [ الإسراء : 36 ] .
وقوله : { وَلاَ لآبَائِهِمْ } أي أحداً من أسلافهم ، وهذه مبالغة في كون تلك المقالة فاسدة باطلاة جدًّا .
قوله : { مَّا لَهُمْ بِهِ } : أي : بالولد ، أو باتخاذه ، أو بالقول المدلول عليه ب « اتَّخَذَ » وب « قَالُوا » ، وبالله .
وهذه الجملة المنفية فيها ثلاثة أوجه :
أظهرها : أناه مستأنفة ، سيقت للإخبار بذلك .
والثاني : أنها صفة للولد ، قاله المهدويُّ ، وردَّه ابن عطية : بأنه لا يصفه بذلك إلاَّ القائلون ، وهم لم يقصدوا وصفه بذلك .
الثالث : أنها حالٌ من فاعل « قالوا » ، أي : قالوه جاهلين .
و « مِنْ عِلم » يجوز أن يكون فاعلاً ، وأن يكون مبتدأ ، والجارُّ هو الرافع لاعتماده أو الخبر ، و « مِنْ » مزيدة على كلا القولين .
قوله : « كَبُرتْ كلمة » في فاعل « كَبُرتْ » وجهان :
أحدهما : أنه مضمرٌ عائد على مقالتهم المفهومة من قوله : { قَالُواْ اتخذ الله } أي : كبر مقالهم ، و « كلمة » نصب على التمييز ، ومعنى الكلام على التعجُّب ، أي : ما أكبرها كلمة ، و « تَخرُج » الجملة صفة ل « كَلمةٌ » ويؤذنُ باستعظامها لأنَّ بعض ما يهجس في الخاطر لا يجسر الإنسان على إظهاره باللفظ .
والثاني : أن الفاعل مضمر مفسر بالنكرة بعده المنصوبة على التمييز ، ومعناها الذمُّ؛ ك « بِئْسَ رجلاً » فعلى هذا : المخصوصُ بالذمِّ محذوف ، تقديره : كبرت هي الكلمة كلمة خارجة من أفواههم تلك المقالة الشنعاءُ .
وقرأ العامة « كلمة » بالنصب ، وفيها وجهان :
النصبُ على التمييز تقديره كبرت الكلمة .
قال الواحديُّ : ومعنى التمييز : أنَّك إذا قلت : كبرت المقالة أو الكلمة ، جاز أن يتوهم أنَّها كبرت كذباً ، أو جهلاً ، أو افتراء ، فلما قلت : « كَلِمَة » فقد ميَّزتها من محتملاتها ، فانتصبت على التَّمييز ، والتقدير : كبرت الكلمة كلمة ، فحصل فيه الإضمار .
وأمَّا من رفع « كلمةٌ » فلا يضمر شيئاً .
قال النحويُّون : النصب أقوى وأبلغ .
وقد تقدَّم تحقيقه في الوجهين السابقين .
والثاني : النصب على الحال ، وليس بظاهر وقيل : نصباً على حذف حرف الجرّ ، والتقدير : « مِنْ كَلمَةٍ » فحذف « مِنْ » فانتصب .
قوله : « تَخرجُ » في الجملة وجهان :
أحدهما : هي صفة لكلمة .
والثاني : أنها صفة للمخصوص بالذَّم المقدر ، تقديره : كبرت كلمةٌ خارجةٌ كلمةً .
وقرأ الحسن ، وابن محيصنٍ ، وابن يعمر ، وابن كثير - في رواية القوَّاس عنه - « كَلمَةٌ » بالرفع على الفاعلية ، و « تَخْرجُ » صفة لها أيضاً ، وقرئ « كَبْرَتْ » بسكون الباء ، وهي لغة تميم .
قوله : « كَذِباً » فيه وجهان :
أحدهما : هو مفعولٌ به؛ لأنه يتضمَّن معنى جملة .
والثاني : هو نعت مصدر محذوف ، أي : قولاً كذباً .
فصل في المراد من الكلمة
المراد من هذه الكلمة هو قولهم : { اتخذ الله وَلَداً } فصارت مضمرة في « كَبُرتْ » ، وسمِّيت : « كلمة » كما يسمُّون القصيدة كلمة .
وقوله : { تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } أي : هذا الذي يقولونه ، لا يحكم به عقلهم وفكرهم البتَّة؛ لكنه في غاية الفساد والبطلان ، فكأنَّه يجري على لسانهم على سبيل التقليلد { إِن يَقُولُونَ } ، أي : ما يقولون إلاَّ كذباً .
واختلف النَّاس في حقيقة الكذب ، فقيل : هو الخبر الذي لا يطابقُ المخبر عنه .
وقيل : قال بعضهم : يشترط علم قائله بأنَّه غير مطابقٍ .
قال ابن الخطيب : وهذا القيد عندنا باطلٌ؛ لأنَّه تعالى وصف قولهم بإثبات الولد لله بكونه كذباً مع أن الكثير منهم يقول ذلك ، ولا يعلم كونه كذباً باطلاً ، فعلمنا أن كلَّ خبر لا يطابقُ المخبر عنه ، فهو كذبٌ ، سواءٌ علم القائل بكونه كذباً ، أو لم يعلم .
ويمكن أن يجاب بأنَّ الله تعالى ، إنما وصف علماءهم المحرِّفين للكلم عن مواضعه ، ودخل المقلِّدون على سبيل التَّبع عليه .
فصل في الرد على النّظام
احتجَّ النظَّام على أنَّ الكلام جسمٌ بهذه الآية ، قال : لأنَّه تعالى وصف الكلمة بأنَّها تخرجُ من أفواههم ، والخروجُ عبارة عن الحركةِ ، والحركةُ لا تصحُّ إلاَّ على الأجسام ، وأجيب : بأنَّ الحروف والأصوات إنَّما تحدث بسبب خروجِ النفس من الحلق ، فلما كان خروج النَّفسِ سبباً لحدوثِ الكلمةِ ، أطلق لفظ الخروج على الكلمة .
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)
والمقصود منه أنَّه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يعظم حزنك وأسفك؛ بسبب كفرهم ، فإنَّا بعثناك منذراً ومبشّراً ، فأما تحصيلُ الإيمان في قلوبهم ، فلا قدرة لك عليه ، والغرض منه تسلية الرَّسُول صلى الله عليه وسلم .
ومعنى : « بَاخعٌ نَفْسكَ » أي : قاتلٌ نفسك .
قال الليثُ : بخع الرَّجلُ نفيه إذا قتلها غيظاً من شدَّة وجده ، والفاء في قوله : ( فَلعلَّكَ ) قيل : جواب الشرط ، وهو قوله : { إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ } قدم عليه ، ومعناه التأخير .
وقال الجمهور : جواب الشرط محذوف لدلالة قوله : « فَلعلَّكَ » .
و « لَعلَّكَ » قيل : للإشفاق على بابها . وقيل : للاستفهام ، وهو رأيُ الكوفيِّين . وقيل : للنَّهي ، أي : لا تَبْخَعْ .
والبَخْعُ : الإهلاك ، يقال : بَخَع الرجل نفسه يَبخَعُهَا بَخْعاً وبُخُوعاً ، أهلكها وجداً . قال ذو الرمة : [ الطويل ]
3483- ألا أيُّهذا البَاخِعُ الوجْدُ نفسهُ ... لِشيءٍ نَحَتْهُ عَن يَديْهِ المَقادِرُ
يريد : نحَّته بالتشديد ، فخفف ، قال الأصمعي : كان ينشده : « الوَجْدَ » بالنصب على المفعول له ، وأبو عبيدة رواه بالرَّفع على الفاعلية ب « البَاخِع » .
وقيل : البَخْعُ : أن تضعفَ الأرض بالزِّراعةِ ، قاله الكسائي ، وقيل : هو جهدُ الأرض وعلى هذا معنى « بَاخعٌ نَفْسكَ » أي ناهكها وجاهدها؛ حتَّى تهلكها ، وقيل : هو جهد الأرض في حديث عائشة - رضي اله عنها - عن عمر : « بَخَعَ الأرض » تعني جهدها؛ حتَّى أخذ ما فيها من أموالِ ملوكها ، وهذا استعارة ، ولم يفسِّره الزمخشري هنا بغير القتل والإهلاك ، وقال في سورة الشعراء : « البَخْع » : أن يبلغَ بالذَّبْح البِخَاع بالباء وهو عرقٌ مستبطن الفقار ، وذلك أقصى حدِّ الذابح . قال شهاب الدين : وسمعت شيخنا علاء الدين القونيَّ يقول : « تَتبَّعتُ كُتبَ الطبِّ والتشريح ، فلم أجد لهذا اصلاً » .
فصل
يحتمل أنه لما ذكروه ، سمَّوه باسم آخر؛ لكونه أشهر فميا بينهم .
وقال الرَّاغب : « البَخْعُ : قتلُ النفس غمًّا » ثم قال : « وبَخعَ فلانٌ بالطاعة ، وبما عليه من الحق : إذا أقرَّ به ، وأذعن مع كراهةٍ شديدةٍ ، تجري مجرى بخعِ نفسه في شدَّته » .
قوله : « عَلى آثَارِهمْ » متعلقٌ ب « بَاخِعٌ » أي : من بعد هلاكهم .
يقال : مات فلانٌ على أثر فلانٍ ، أي بعده ، وأصل هذا أنَّ الإنسان ، إذا مات ، بقيت علاماتهُ ، وآثارهُ بعد موته مدَّة ، ثمَّ إنَّها تنمحي وتبطل بالكليَّة ، فإذا كان موته قريباً من [ موت ] الأول ، كان موته حاصلاً حال بقاءِ آثار الأول ، فصحَّ أن يقال : مات فلانٌ على أثرِ فلانٍ .
قوله : { إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث } يعني القرآن .
قال القاضي : وهذا يقتضي وصف القرآن بأنه حديثٌ ، وذلك يدلُّ على فساد قول من يقول : إنه قديمٌ .
وأجيب بأنه محمول على الألفاظ ، وهي حادثة .
قوله : { إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ } : قرأ العامة بكسر « إنْ » على أنها شرطية ، والجواب محذوفٌ عند الجمهور؛ لدلالة قوله : « فَلعلَّكَ » ، وعند غيرهم هو جوابٌ متقدِّم ، وقرئ : « أنْ لَمْ » بالفتح؛ على حذف الجارِّ ، أي : لأنْ لم يؤمنوا .
وقُرئ « بَاخِعُ نَفْسِكَ » بالإضافة ، والأصل النصبُ ، وقال الزمخشري « وقرئ طبَاخعُ نَفْسكَ » على الأصل ، وعلى الإضافة . أي : قاتلها ومهلكها ، وهو للاستقبال فيمن قرأ « إنْ لمْ يُؤمِنُوا » ، وللمضيِّ فيمن قرأ « إنْ لم تُؤمنوا » بمعنى : لأن لم تُؤمِنُوا « يعني أنَّ باخعاً للاستقبال في قراءة كسر » إنْ « فإنها شرطية ، وللمضيِّ في قراءةِ فتحها ، وذلك لا يأتي إلا في قراءة الإضافة؛ إذ لا يتصوَّر المضيُّ مع النصب عند البصريين ، وعلى هذا يلزم ألاَّ يقرأ بالفتح ، إلا من قرأ بإضافة » بَاخِع « ، ويحتاج في ذلك إلى نقل وتوقيف .
قوله : » أسفاً « يجوز أن يكون مفعولاً من أجله ، والعامل فيه » بَاخعٌ « وأن يكون مصدراً في موضع الحال من الضمير في » بَاخعٌ « .
والأسف : الحزن ، وقيل : الغضب ، وقد تقدَّم في الأعراف عند قوله : { غَضْبَانَ أَسِفاً } [ الأعراف : 150 ] وفي يوسف عند قوله : { ياأسفى عَلَى يُوسُفَ وابيضت } [ يوسف : 84 ] .
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
قوله : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا } الآية .
قال القاضي : وجه النَّظم كأنه يقول : يا محمد ، إنِّي خلقتُ الأرض ، وزينتها ، وأخرجتُ منها أنواع المنافع والمصالح ، وأيضاً ، فالمقصود من خلقها بما فيها من المصالح ابتلاء الخلق بهذه التكاليف ، ثم إنَّهم يكفرون ويتمرَّدون ، ومع ذلك ، فلا أقطع عنهم موادَّ هذه النِّعم ، فأنت أيضاً يا محمد لا يهمُّك الحزن؛ بسبب كفرهم إلى أن تترك الاشتغال بدعوتهم إلى الدِّين .
قوله : { زِينَةً } : يجوز أن ينتصب على المفعول له ، وأن ينتصب على الحال ، إن جعلت « جَعلْنَا » بمعنى « خَلقْنَا » ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً ، إن ك انت « جَعَلَ » تصييرية ، و « لها » متعلق ب « زَينةً » على العلَّة ، ويجوز أن تكون اللام زائدة في المفعول ، ويجوز أن تتعلق بمحذوفٍ صفة ل « زينةً » .
وقوله : « لنَبْلُوهُمْ » متعلق ب « جَعلْنَا » بمعنييه .
قوله : « أيُّهمْ أحْسنُ » يجوز في « أيُّهُمْ » وجهان :
أحدهما : أن تكون استفهامية مرفوعة بالابتداء ، و « أحسنُ » خبرها ، والجملة في محلِّ نصب متعلقة ب « نَبْلُوهُمْ » لأنه سببُ العلم ، والسؤال ، والنظر .
والثاني : أنَّها موصولة بمعنى الذي و « أحْسَنُ » خبر مبتدأ مضمرٍ ، والجملة صلة ل « أيُّهمْ » ويكون هذا الموصول في محلِّ نصبٍ بدلاً من مفعول « لنَبْلُوهُمْ » تقديره لِنَبلُو الذي هو أحسنُ؛ وحينئذٍ تحتمل الضمة في « ايُّهم » أن تكون للبناء ، كهي في قوله تعالى : { لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ } [ مريم : 69 ] على أحد الأقوالِ ، وفي قوله : [ المتقارب ]
3484- إذَا مَا أتَيْتَ بَنِي مالكٍ ... فَسلِّمْ عَلى أيُّهُم أفْضَلُ
وشرط البناء موجودٌ ، وهو الإضافة لفظاً ، وحذف صدر الصلة ، وهذا مذهب سيبويه ، وأن تكون للإعراب؛ لأنَّ البناء جائزٌ لا واجبٌ ، ومن الإعراب ما قُرِئ به شاذًّا { أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن } [ مريم : 69 ] وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه في مريم .
والضمير في « لِنبلوهُمْ » و « أيُّهم » عائد على ما يفهم من السِّياق ، وهم سكان الأرض . وقيل : يعود على ما على الأرض ، إذا أريد بها العقلاء ، وفي التفسير : المراد بذلك الرُّعاة . وقيل : العلماء والصلحاء والخلفاء .
فصل في المقصود بالزينة
اختلفوا في تفسير هذه الزينة ، فقيل : النَّبات ، والشجر ، والأنهار .
كما قال تعالى : { حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت } [ يونس : 24 ] وضمَّ بعضهم إليه الذَّهب ، والفضَّة ، والمعادن ، وضمَّ بعضهم إلى ذلك جميع الحيوان ، فإن قيل : أي زينة في الحيَّات والعقارب [ والشياطين ] .
فالجواب : فيها زينةٌ؛ بمعنى أنَّها تدلُّ على وحدانيَّة الله تعالى .
وقال مجاهد : أراد الرجال خاصَّة هم زينة الأرض .
وقيل : أراد به العلماء والصلحاء .
وقيل : أراد به الناس .
وبالجملة ، فليس في الأرض إلاَّ المواليد الثلاثة ، وهي المعادن ، والنبات ، والحيوان ، وأشرف أنواع الحيوان الإنسان .
قال القاضي : الأولى ألاَّ يدخل المكلَّف في هذه الزِّينة؛ لأنَّ الله تعالى قال : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم } فمن يبلوهم يجب ألاَّ يدخل في ذلك .
وأجيب بأن قوله : { زِينَةً لَّهَا } أي للأرض ، ولا يمتنع أن يكون ما تحسن به الأرض زينة لها ، كما جعل الله السَّماء مزينة بالكواكب .
وقوله : { لِنَبْلُوَهُمْ } لنختبرهم { أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } ، أي : أصلح عملاً .
وقيل : أيُّهم أترك للدُّنيا .
فصل
ذهب هشام بن الحكم إلى أنَّه تعالى لا يعلم الحوادث إلاَّ عند دخولها في الوجود ، فعلى هذا : الابتلاءُ والامتحانُ على الله جائز؛ واحتجَّ بأنه تعالى لو كان عالماً بالجزئيَّات قبل وقوعها ، لكان كلُّ ماعلم وقوعه واجب الوقوعِ ، وكل ما علم عدمه ممتنع الوقوعِ ، وإلاَّ لزم انقلابُ علمه جهلاً ، وذلك محالٌ ، والمفضي إلى المحال محالٌ ، ولو كان ذلك واجباً ، فالذي علم وقوعه يجبُ كونه فاعلاً له ، ولا قدرة له على التَّرك ، والذي علم عدمه يكون ممتنع الوقوع ، ولا قدرة له على الفعل ، وعلى هذا يلزم ألاَّ يكون الله قادراً على شيءٍ أصلاًن بل يكون موجباً بالذَّات .
وأيضاً ، فيلزم ألا يكون للعبد قدرة على الفعل ، ولا على التركِ؛ لأنَّ ماعلم الله وقوعه ، امتنع من العبد تركه ، وما علم عدمه ، امتنع منه فعله ، فالقول بكونه تعالى عالماً بالأشياء قبل وقوعها ، يقدح في الربوبيَّة ، وفي العبوديَّة ، وذلك باطلٌ؛ فثبت أنَّه تعالى إنما يعلم الأشياء عند وقوعها ، أي عند ذلك ، وعلى هذا التقدير ، فالابتلاءُ والامتحانُ والختبار غي رجائز عليه ، وعند هذا قال : يجرى قوله : { لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } على ظاهره .
وأمَّا جمهور علماء الإسلام ، فقد استبعدوا هذا القول ، وقالوا : إنه تعالى من الأزل إلى الأبدِ عالمٌ بجميع الجزئيَّات ، والابتلاءُ والامتحان عليه محال ، وأينما وردت هذه الألفاظ فالمراد أنه تعالى يعاملهم معاملة ، لو صدرت عن غيره ، لكانت على سبيل الابتلاءِ والامتحانِ .
فصل في تعليل أفعال الله تعالى
قالت المعتزلةُ : دلَّت هذه الآية ظاهراً على أنَّ أفعال الله تعالى معلَّلة بالأغراض وقال أهل السنة : هذا محالٌ؛ لأنَّ التعليل بالغرض إنَّما يصحُّ في حقِّ من لا يصحُّ منه تحصيل ذلك الغرض ، إلاَّ بتلك الواسطة ، وهذا يقتضي العجز ، وهو على الله تعالى محالٌ .
قوله : { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } .
والمعنى أنَّه تعالى إنما زيَّن الأرض؛ لأجل الامتحان والابتلاء ، لا لأجل أن يبقى الإنسان فيها متنعِّماً بها لا زاهداً فيها أي : لجاعلون ما عليها من هذه الزِّينة { صَعِيداً جُرُزاً } .
ونظيره : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [ الرحمن : 26 ] .
وقوله : { فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولاا أَمْتاً } [ طه : 106 ، 107 ] .
وقوله : { وَإِذَا الأرض مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ }
[ الانشقاق : 3 ، 4 ] .
والمعنى أنَّه لا بدَّ من المجازاةِ بعد إفناء ما على الأرض ، وتخصيص الإهلاك بما على الأرض يوهم بقاء الأرض ، إلا أنَّ سائر الآيات دلَّت أيضاً على أنَّ الأرض لا تبقى ، وهو قوله : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض } [ إبراهيم : 48 ] .
قوله : { صَعِيدًا } : مفعول ثانٍ؛ لأنَّ الجعل هنا تصيير ليس إلاَّ ، والصعيد : التراب .
وقال أبو عبيدة : الصعيد المستوي من الأرض .
وقال الزجاج : هو الطَّريق الذي لا طين له ، أو لا نبات فيهز وقد تقدَّم في آية التيمم . والجُرزُ : الذي لا نيات به ، يقال : سَنةٌ جُرُز ، وسنُونَ أجرازٌ : لا مطر فيها ، وأرضٌ جُرزٌ ، وأرضُونَ أجْرازٌ : لا نبات فيها قال الفراء : جَرزَتِ الأرض؛ فهي مجروزة إذا ذهب نباتها بقحطٍ أو جرازٍ يقال جرزها الجراد والشياة والإبل إذا أكل ما عليها وامرأة مجروز : إذا كانت أكولة . قال الشاعر : [ الرجز ]
3485- إنَّ العَجُوزَ خَبَّةً جَرُوزا ... تَأكلُ كُلَّ لَيْلةٍ قَفِيزا
وسيف جراز ، إذا كان مستأصلاً .
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
قوله : { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الكهف والرقيم كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً } الآية .
معناها : أظننت ، يا محمد ، أنَّ أصحاب الكهف والرَّقيم كانوا من آياتنا عجباً .
وقيل : معناه أنَّهم ليسوا بأعجب من آياتنا؛ فإنَّ ما خلقت من السموات والأرض وما فيهن من العجائب أعجبُ منهم ، فكيف يستبعدُ من قدرته ورحمته حفظ طائفة مدة ثلاثمائة سنةٍ وأكثر؟ هذا وجه النظم .
وقد تقدَّم سببُ نزولِ قصَّة أصحاب الكهف عند قوله : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح } [ الإسراء : 85 ] .
والكهف هو الغار في الجبل وقيل : مطلق الغار ، وقيل : هو ما اتسع ف يالجبل ، فإن لم يتَّسِعْ ، فهو غارٌ ، والجمع « كُهُوف » في الكثرة ، و « أكْهُفٌ » في القِلَّةِ .
والرَّقيم : قيل : بمعنى مرقوم .
وعلى هذا قال أهل المعاني : الرَّقيمُ الكتاب .
ومنه قوله : { كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } [ المطففين : 9 ] أي : مكتوب .
قال الفراء : الرقيم لوحٌ كان فيه أسماؤهم وصفاتهم ، وسمِّي رقيماً؛ لأنَّ أسماءهم كانت مرقومة فيه .
قال سعيد بن جبيرٍ ، ومجاهدٌ : كان لوحاً من حجارةٍ ، وقيل : من رصاصٍ ، كتبنا فيه أسماءهم وصفاتهم ، وشدَّ ذلك اللَّوح على باب الكهف ، وهو أظهر الأقوال .
وقيل : بمعنى راقم ، وقيل : هو اسم الكلب الذي لأصحاب الكهفِ ، وأنشدوا لأمية بن أبي الصَّلت : [ الطّويل ]
3486- وليْسَ بِهَا إلاَّ الرَّقيمُ مُجاوِراً ... وصِيدَهُمُ ، والقَوْمُ بالكهْفِ هُمَّدُ
وروى عكرمة عن ابن عبَّاس أنَّه قال : كلُّ القرآن معلومٌ إلا أربعة : غسلين ، وحناناً ، والأوَّاه ، والرَّقيم .
وروى عكرمة عن ابن عبَّاس أنه سئل عن الرَّقيم فقال : زعم كعبٌ أنَّها القرية التي خرجوا منها ، وهو قول السديِّ .
وحكي عن ابن عباس : أنَّه اسمٌ للوادي الذي فيه أصحاب الكهف ، وعلى هذا هو من رقمة الوادي ، وهو جانبه .
وقيل : اسم للجبلِ الذي فيه الكهف .
قوله : { أَمْ حَسِبْتَ } : « أم » هذه منقطعة ، فتقدَّر ب « بل » التي للانتقال ، لا للإبطال ، وبهمزة الاستفهام عند جمهور النحاة ، و « بل » وحدها أو بالهمزة وحدها عند غيرهم ، وتقدَّم تحقيق القولِ فيها .
و « أنَّ » وما في حيِّزها سادَّةٌ مسدَّ المفعولين ، أو أحدهما ، على الخلافِ المشهور .
قوله : « عَجَباً » يجوز أن تكون خبراً ، و « مِنْ آيَاتِنَا » حالٌ منه ، وأن يكون خبراً ثانياً ، و « مِنْ آيَاتِنَا » خبراً أوَّل ، وأن يكون « عجباً » حالاً من الضمير المستتر في « من آيَاتِنَا » لوقوعه خبراً ، ووحَّد ، وإن كان صفة في المعنى لجماعة؛ لأن أصله المصدر قال ابن الخطيب : عجباً ، و « العجب » ها هنا مصدر ، سمِّي المفعول به ، والتقدير : « كانوا معجوباً منهم » فسمُّوا بالمصدر . وقالوا : « عَجَباً » في الأصل صفة لمحذوفٍ ، تقديره : آية عجباً ، وقيل : على حذف مضافٍ ، أي : آية ذات عجبٍ .
قوله : { إِذْ أَوَى } : يجوز أن ينتصب ب « عَجَباً » وأن ينتصب ب « اذْكُرْ » ؛ لأنه لا يجوز أن يكون « إذْ » ههنا متعلقاً بما قبله على تقدير « أمْ حَسِبْتَ » ؛ لأنَّه كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم مدة طويلة ، فلم يتعلق الحسبان بذلك الوقت الذي أووا فيه إلى الكهف ، بل يتعلق بمحذوفٍ .
والتقدير : اذكر إذ أوى الفتيةُ إلى الكهف ، والمعنى صاروا إليه ، وجعلوهُ مأواهم ، فقالوا : { رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً } أي من خزائن رحمتك .
قوله : « وهَيِّئ » : العامة على همزة بعد الياء المشددة ، وأبو جعفر وشيبة والزهريُّ بياءين : الثانية خفيفة ، وكأنَّه أبدل الهمزة ياء ، وإن كان سكونها عارضاً ، ورُوِيَ عن عاصم « وهيِّ » بياءٍ مشددة فقط ، فيحتمل أن يكون حذف الهمزة من أول وهلةٍ تخفيفاً ، وأن يكون أبدلها؛ كما فعل أبو جعفرٍ ، ثم أجرى الياء مجرى حرفِ العلَّة الأصليِّ ، فحذفه ، وإن كان الكثير خلافه ، ومنه :
3487- جَرِيءٍ مَتَى يُظلمْ يُعَاقِبْ بظُلمهِ سَرِيعاً وإلاَّ يُبْدَ بالظُّلمِ يَظلِمِ
معنى « هيِّئ لنا » أصلخ من قولك « هيَّأت الأمرَ ، فتهيَّأ » .
وقرأ أبو رجاء « رُشداً » ها هنا بضم الراء وسكون الشين ، وتقدم تحقيق ذلك في الأعراف ، وقراءة العامة هنا أليق؛ لتوافق الفواصل .
والتقدير : هيِّئ لنا أمراً ذا رشدٍ؛ حتَّى نكون بسببه راشدين مهتدين .
وقيل : اجعل أمرنا رشداً كلَّهُ؛ كقولك : رَأيتُ منه رشداً .
قوله : { فَضَرَبْنَا } : مفعوله محذوف ، أي : ضربنا الحجاب المانع ، و « عَلَى آذانِهم » استعارة للزوم النوم؛ كقول الأسود : [ الكامل ]
3488- ضَربتْ عَليْكَ العَنْكبُوتَ بِنَسْجِهَا ... وقضَى عَليْكَ بشهِ الكِتابُ المُنزَلُ
ونصَّ على الآذان؛ لأنَّ بالضَّرب عليها خصوصاً يحصل النُّومُ . وأمال « آذانهم » .
قوله : { فِي الكهف } وهو ظرف المكان ، ومعنى الكلام : إنَّما هم في الكهف ، واسمه خيرم ، واسم الجبل الذي هو فيه [ مخلوس ] .
وقوله : « سِنينَ » ظرف « زمان » ل « ضَربْنَا » و « عَدداً » يجوز فيه أن يكون مصدراً ، وأن يكون « فعلاً » بمعنى مفعول ، أي من باب تسمية المفعول باسم المصدر ، كالقبض والنَّقض .
فعلى الأول : يجوز نصبه من وجهين :
احدهما : النعت ل « سنين » على حذف مضافٍ ، اي : ذوات عدد ، أو على المبالغة على سبيل التأكيد والنصب بفعلٍ مقدرٍ ، أي : تعدُّ عدداً .
وعلى الثاني : نعتٌ ليس إلا ، أي : معدودة .
فصل
[ اذكر العدد هنا على سبيل التأكيد ] قال الزجاج : ذكر العدد ها هنا يفيد كثرة السِّنين ، وكذلك كل شيءٍ ممَّا يعدُّ إذا ذكر فيه العددُ ، ووصف به ، اريد كثرته؛ لأنَّه إذا قلَّ ، فهم مقداره بدون التعديد ، أمَّا إذا ذكر فيه العددُ ، ووصف به ، أريد كثرته؛ لأنَّه إذا قلَّ ، فهم مقداره بدون التعديد ، أمَّا إذا كثر فهناك يحتاج إلى التعديد ، فإذا قلت : أقمتُ أيَّاماً عدداً ، أردتَّ به الكثرة .
قوله : { ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ } .
اللام لامُ الغرض؛ فيدل على أن أفعال الله تعالى معلَّلة بالأغراض ، وقد تقدم الكلام فيه ، ونظير هذه الآية في القرآن كثير ، منها ما سبق في هذه السورة ، وفي سورة البقرة : { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ } [ البقرة : 143 ] وفي آل عمران : { وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ } [ آل عمران : 142 ] وقوله : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ } [ محمد : 31 ] .
فصل
وقال بعض العلماء : « لِنعلمَ » أي : علم المشاهدة .
وقوله : { لِنَعْلَمَ } : متعلق بالبعث ، والعامة على نون العظمة؛ جرياً على ما تقدم وقرأ الزهريُّ « ليَعْلم » بياء الغيبة ، والفاعل الله تعالى ، وفيه التفاتٌ من التكلم إلى الغيبة ، ويجوز أن يكون الفاعل « أيُّ الحِزبينِ » إذا جعلناها موصولة ، كما سيأتي .
وقرئ « ليُعلمَ » مبنيًّا للمفعول ، والقائم مقام الفاعل ، قال الزمخشريُّ : « مضمون الجملة ، كما أنه مفعول العلم » . وردَّه أبو حيان بأنه ليس مذهب البصريين ، وتقدم تحقيق هذا أول البقرة .
وللكوفيين في قيام الجملة مقام الفاعل أو المفعولِ الذي لم يسمَّ فاعله : الجواز مطلقاً ، و التفصيل بين ما تعلق به؛ كهذه الآية فيجوز ، فالزمخشريُّ نحا نحوهم على قوليهم ، وإذا جعلنا « أيُّ الحزبَينِ » موصولة ، جاز أن يكون الفعل مسنداً إليه في هذه القراءة أيضاً؛ كما جاز إسناده إليه في القراءة قبلها .
وقرئ « ليُعْلِمَ » بضم الياء ، والفاعل الله تعالى ، و المفعول الأول محذوف ، تقديره : ليعلم الله الناس ، و « أيُّ الحِزْبيْنِ » في موضع الثاني فقط ، إن كانت عرفانية ، وفي موضع المفعولين إن كانت يقينيَّة .
وفي هذه القراءة فائدتان :
إحداهما : أنَّ على هذا التقدير : لا يلزم إثبات العلم المتجدَّد لله ، بل المقصود أنَّا بعثناهم؛ ليحصل هذا العلمُ لبعض الخالقِ .
والثانية : أنَّ على هذا لتقدير : يجب ظهور النَّصب في قوله « أيُّ » لكن لقائلٍ أن يقول الإشكال باقٍ؛ لأنَّ ارتفاع لفظة « أيُّ » بالابتداء لا بإسناده « ليُعْلِمَ » إليه .
ولمجيبٍ بأن يجيب؛ فيقول : لا يمتنعُ اجتماعُ عاملين على معمولٍ واحدٍ؛ لأنَّ العوامل النحوية علاماتٌ ومعرفاتٌ ، ولا يمتنع اجتماع معرفاتٍ كثيرة على شيءٍ واحد .
قوله : « أحْصَى » يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنه أفعلُ تفضيلٍ ، وهو خبر ل « أيُّهُم » و « أيُّهُم » استفهامية ، وهذه الجملة معلقة للعلم قبلها ، و « لِمَا لَبثُوا » حال من « أمَداً » ، لأنه لو تأخَّر عنه ، لكان نعتاً له ، ويجوز أن تكون اللامُ على بابها من العلَّة ، أي : لأجل ، قاله أبو البقاء ، ويجوز أن تكون زائدة ، و « ما » مفعولة : إمَّا ب « أحْصَى » على رأي من يعمل أفعل التفضيل في المفعول به ، وإما بإذمار فعلٍ ، و « أمداً » مفول « لبثُوا » أو منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ يدلُّ عليه أفعل عند الجمهور ، أو منصوب بنفس أفعل عند من يرى ذلك .
والوجه الثاني : أن يكون « أحْصَى » فعلاً ماضياً [ أي : أيهم ضبط أمداً لأوقات لبثهم ] و « أمداً » مفعوله ، و « لما لبثُوا » متعلق به ، أو حال من « أمداً » أو اللام فيه مزيدة ، وعلى هذا : ف طأمداً « منصوب ب » لبثُوا « و » ما « مصدريَّة ، أو بمعنى » الذي « واختار الأول - أعني كون » أحْصى « للتفضيل - الزجاج والتبريزيُّ ، واختار الثاني أبو عليٍّ والزمخشري وابن عطية ، قال الزمخشري : » فإن قلت : فما تقول فيمن جعله من أفعل التفضيل؟ قلت : ليس بالوجه السديد ، وذلك أن بناءه من غير الثلاثيِّ ليس بقياسٍ ، ونحو « أعْدَى من الجَربِ » و « أفلسُ من ابنِ المُذلَّقِ » شادٌّ ، و القياس على الشاذِّ في غير القرآن ممتنعٌ ، فكيف به؟ ولأنَّ « أمَداً » : إمَّا أن ينتصب بأفعل ، وأفعلُ لا يعمل ، وإمَّا أن ينتصب ب « لَبِثُوا » فلا يسدُّ عليه المعنى ، فإن زعمت أني أنصبه بفعلٍ مضمرٍ ، كما أضمر في قوله :
3490- . ... وأضْرَبَ منَّا بالسُّيُوفِ القَوانِسَا
فقد أبعدتَّ المتناول؛ حيث أبَيْتَ أن يكون « أحْصَى » فعلاً ، ثم رجعت مضطراً إلى تقديره « .
وناقشه أبو حيان فقال : » أمَّا دعواه أنَّه شاذٌّ ، فمذهب سيبويه خلافه ، وذلك أنَّ أفعل فيه ثلاثةُ مذاهب : الجواز مطلقاً ، ويعزى لسيبويه ، والمنع مطلقاً ، وهو مذهبُ الفارسيِّ ، والتفصيل : بين أن يكون همزته للتعديةِ ، فيمتنع ، وبين ألاَّ تكون ، فيجوز ، وهذا ليست الهمزة فيه للتعدية ، وأما قوله : « أفْعَلُ لا يَعْملُ » فليس بصحيح؛ لأنه يعمل في التمييز ، و « أمَداً » تمييزٌ لا مفعولٌ به ، كما تقول : زيدٌ أقطع النَّاس سيفاً ، وزيدٌ أقطع للْهَامِ سَيْفاً « .
فصل
قال شهاب الدين : الذي أحوج الزمخشريَّ إلى عدمِ جعله تمييزاً ، مع ظهوره في بادئ الرأي عدم صحَّة معناه ، وذلك : أنَّ التمييز شرطه في هذا الباب : أن تصحَّ نسبةُ ذلك الوصفِ الذي قبله إليه ، ويتَّصف به؛ ألا ترى إلى مثاله في قوله : زَيْدٌ أقطعُ النَّاس سَيْفاً » كيف يصحُّ أن يسند إليه ، فيقال : زيدٌ قطع سيفه ، وسيفه قاطعٌ ، إلى غير ذلك ، وهنا ليس الإحصاء من صفة الأمدِ ، ولا تصحُّ نسبته إليه ، وإنَّما هو من صفات الحزبين ، وهو دقيق .
وكان أبو حيان نقل عن ابي البقاء نصبه على التمييز ، وأبو البقاء لم يذكر نصبه على التمييز حال جعله « أحْصَى » أفعل تفضيلٍ ، وإنما ذكر ذلك حين ذكر أنه فعل ماضٍ ، قال أبو البقاء : في أحصى وجهان :
أحدهما : هو فعلٌ ماضٍ ، و « أمَداً » مفعوله .
و « لما لبثُوا » نعتُ له ، قدِّم ، فصار حالاً ، أو مفعولاً له ، أي : لأجل لبثهم ، وقيل : اللام زائدة و « ما » بمعنى « الذي » و « أمداً » مفعول « لَبِثُوا » وهو خطأ ، وإنما الوجه أن يكون تمييزاً ، والتقدير : لما لبثوهُ .
والوجه الثاني : هو اسم ، و « أمداً » منصوب بفعلٍ دلَّ عليه الاسم انتهى ، فهذا تصريح بأنَّ « أمَداً » حال جعله « أحْصَى » اسماً ، ليس بتمييز بل مفعول به بفعل مقدر ، وأنه جعله تمييزاً عن طلبثُوا « كما رأيت .
ثم قال أبو حيَّان : » وأمَّا قوله « وإمَّا أن ينصب ب » لبثُوا « فلا يسدُّ عليه المعنى ، أي : لا يكون معناه سديداً ، فقد ذهب الطبريُّ إلى أنه منصوب ب » لبِثوا « قال ابن عطيَّة : » وهو غير متَّجهٍ « انتهى ، وقد يتَّجه : وذلك أنَّ الأمد هو الغاية ، ويكون عبارة عن المدَّة من حيث إنَّ المدَّة غاية هي أمد المدَّة على الحقيقة ، و » ما « بمعنى » الذي « و » أمداً « منصوب على إسقاط الحرف ، وتقديره : لما لبثوا من أمدٍ ، أي : من مدة ، ويصير » مِنْ أمدٍ « تفسيراً لما أبهم من لفظ » ما « كقوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } [ البقرة : 106 ] { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } [ فاطر : 2 ] ولمَّا سقط الحرف ، وصل إليه الفعل » .
قال شهاب الدين : يكفيه أنَّ مثل ابن عطيَّة جعله غير متَّجهٍ ، وعلى تقدير ذلك ، فلا نسلِّم أن الطبري عنى نصبه ب « لَبِثُوا » مفعولاً به ، بل يجوز أن يكون عنى نصبه تمييزاً؛ كما قاله أبو البقاء .
ثم قال : وأمَّا قوله : فإنْ زَعَمْتَ إلى آخره ، فنقول : لا يحتاج إلى ذلك؛ لأنَّ لقائل ذلك أن يذهب مذهب الكوفيين في أنَّه ينصب « القَوانِسَ » بنفس « أضْرَبُ » ولذلك جعل بعض النحاة أنَّ « أعْلَمُ » ناصب ل « مَنْ » في قوله : { أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ } [ الأنعام : 117 ] ، وذلك لأنَّ أفعل مضمَّن لمعنى المصدر؛ إذ التقدير : « يزيدُ ضَرْبنَا القَوانِسَ على ضَرْبِ غَيْرنا » .
قال شهاب الدين : هذا مذهبٌ مرجوحٌ ، وأفعل التفضيل ضعيف ، ولذلك قصر عن الصفةِ المشبهة باسم الفاعل؛ حيث لم يؤنَّث ، ولم يثنَّ ، ولم يجمع .
وإذا جعلنا « أحْصَى » اسماً فجوَّز أبو حيان في « اي » أن تكون الموصولة ، و « أحْصَى » خبر لمبتدأ محذوف ، هو عائدها ، وأنَّ الضمة للبناء على مذهب سيبويه لوجود شرط البناء ، وهو إضافتها لفظاً ، وحذف صدر صلتها ، وهذا إنما يكون على جعل العلم بمعنى العرفان؛ لأنَّه ليس في الكلام إلا مفعولٌ واحدٌ ، وتقدير آخر لا حاجة إليه ، إلا أنَّ في إسناد « عَلِمَ » بمعنى عرف إلى الله تعالى إشكالاً تقدَّم تحريره في الأنفالِ وغيرها ، وإذا جعلناه فعلاً ، امتنع أن تكون موصولة؛ إذ لا وجه لبنائها حينئذ ، وهو حسن .
فصل في المراد بالحزبين
روى عطاءٌ عن ابن عبَّاس أنَّ المراد بالحزبين الملوك الذين تداولوا المدينة ملكاً بعد ملك ، فأصحاب الكهف حزبٌ ، والملوك حزبٌ .
وقال مجاهدٌ : « الحزبين » من قوم الفتية؛ لأنَّهم لما انتبهوا ، اختلفوا في أنَّهم كم ناموا؛ لقوله تعالى : { قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } [ الكهف : 19 ] .
وكأنَّ الذين قالوا : « ربُّكُمْ أعلم بِمَا لَبثْتُم » هم الذين علمُوا بطول مكثهم .
وقال الفراء : هم طائفتان من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا في مدَّة لبثهم .
وقولهم : { أحصى لِمَا لَبِثُواْ } أي : أ؛فظ لما مكثُوا في كهفهم نياماً { أَمَدًا } أي : غاية .
وقال مجاهد : عدداً .
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)
قوله : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق } [ أي : نقص عليك نبأهم ] على وجه الصدق .
قوله : { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ } شبَّان { آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } إيماناً وبصيرة .
وقوله : { آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ } : فيه التفاتٌ من التكلم إلى الغيبة؛ إذ لو جاء على نسقِ الكلامِ ، لقيل : إنَّهم فتيةٌ آمنوا بنا ، وقوله : « وَزِدْنَاهُم » التفات من هذه الغيبة إلى التكلم أيضاً .
ومعنى قوله : « ورَبَطْنَا » وشددنا « عَلى قُلوبِهمْ » بالصَّبْر والتثبت ، وقوَّيناهم بنور الإيمان ، حتَّى صبروا على هجران ديار قومهم ، ومفارقة ما كانوا فيه من خفض العيش ، وفرُّوا بدينهم إلى الكهف ، والرَّبطُ : استعارةٌ لتقوية كلمة في ذلك المكان الدَّحض .
قوله : { إِذْ قَامُواْ } : منصوب ب « رَبَطْنَا » . وفي هذا لقيام أقوالٌ :
أحدها : قال مجاهدٌ : كانوا عظماء مدينتهم ، فخرجوا ، فاجتمعوا وراء المدينة من غير ميعادٍ ، فقال أكبرهم : إنِّي لأجد في نفسي شيئاً ، إنَّ ربِّي ربُّ السموات والأرض ، فقالوا : نحن كذلك نجد في أنفسنا ، فقاموا جميعاً ، فقالوا : { رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض } .
والثاني : أنَّهم قاموا بين يدي ملكهم دقيانوس ، حين عاتبهم على ترك عبادة الصَّنم ، { فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها } فثبت الله هؤلاء الفتية وعصمهم ، حتَّى عصوا ذلك الجبَّار ، وأقرُّوا بربوبيَّة الله تعالى .
الثالث : قال عطاءٌ ومقاتلٌ : إنهم قالوا ذلك عند قيامهم من النَّوم ، وهذا بعيدٌ؛ لأنَّ الله تعالى استأنف قصَّتهم فقال : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم } .
قوله : { لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } .
« إذن » جواب وجزاء ، أي : لقد قلنا قولاً شططاً ، إن دعونا من دونه إلهاً ، و « شططاً » في الأصل مصدر ، يقال : شطَّ شططاً وشُطُوطاً ، أي : جار وتجاوز حدَّه ، ومنه : شطَّ في السَّوم ، وأشطَّ ، أي : جاوز القدر حكاه الزجاج وغيره ، ومن قوله : « ولا تشطط » وشطَّ المنزلُ : أي بعد ، [ من ذلك ] وشطَّت الجارية شطاطاً أي : طالت ، من ذلك .
فصل
قال الفراء : ولم أسمع إلا « أشطَّ يُشطُّ إشطاطاً » فالشطُّ البعد عن الحقِّ .
قال ابن عباس : « شَطَطاً » أي : جوراً .
وقال قتادة : كذباً . وفي انتصابه ثلاثة أوجه :
الأول : مذهب سيبويه النصب على الحال ، من ضمير مصدر « قُلْنَا » .
الثاني : نعت لمصدر ، أي : قولاً ذا شططٍ ، أو هو الشَّططُ نفسه؛ مبالغة .
الثالث : أنه مفعول ب « قُلنا » لتضمُّنه معنى الجملة .
قوله : { هؤلاء قَوْمُنَا اتخذوا } : يجوز في « قَوْمنَا » أن يكون بدلاً ، أو بياناً ، و « اتَّخذُوا » هو خبر « هؤلاء » ويجوز أن يكون « قَوْمُنا » هو الخبر ، و « اتَّخذوا » حالاً ، و « اتَّخذ » يجوز أن يتعدى لواحد؛ بمعنى « عملوا » لأنهم نحتوها بأيديهم ، ويجوز أن تكون متعدية لاثنين؛ بمعنى « صيَّروا » و « مِن دونه » هو الثاني قدِّم ، و « آلهة » هو الأول ، وعلى الوجه الأول يجوز في « من دونه » أن يتعلق ب « اتَّخذُوا » وأن يتعلق بمحذوفٍ حالاً من « ىلهة » إذ لو تأخَّر ، لجاز أن يكون صفة ل « آلهة » .
قوله : « لَوْلاَ يَأتُونَ » تحضيض فيه معنى الإنكار ، و « عَليْهِمْ » أي : على عبادتهم ، أو على اتخاذهم ، فحذف المضاف للعلم به ، ولا يجوز أن تكون هذه الجملة التحضيضية صفة ل « آلهة » لفساده؛ معنى وصناعة؛ لأنها جملة طلبية .
فإن قلت : أضمر قولاً؛ كقوله : [ الرجز ]
3491- جَاءُوا بمَذْقٍ هل رَأيْتَ الذِّئْبَ قَطْ ... هذا قول أصِحاب الكهف يعنون أهل بلدهم هم الذين كانوا في زمن دقيانوس ، عبدوا الأصنام { لَّوْلاَ يَأْتُونَ } هلا يأتون « عَليْهِمْ » على عبادتهم « بسُلْطَانٍ » بحجَّة بينة واضحة ، ومعنى الكلام أن عدم البينة بعدم الدَّليل لا يدلُّ على عدم المدلول ، وهذه الآية تدلُّ على صحَّة هذه الطريقة؛ لأنَّه تعالى استدلَّ على عدم الشركاء والأضداد؛ لعدمِ الدَّليل عليه ، ثم قال : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً } فزعم أ ، َّ له شريكاً ، وولداً ، يعني أنَّ الحكم بثبوت الشيء مع عدم الدليل عليه ظلمٌ وافتراءٌ على الله وكذبٌ ، وهذا من أعظم الدلائل على فساد القول بالتَّقليد .
قوله : { وَإِذِ اعتزلتموهم } : « إذْ » منصوب بمحذوف ، أي : وقال بعضهم لبعض وقت اعتزالهم ، وجوَّز بعضهم أن تكون « إذ » للتعليل ، أي : فأووا إلى الكهف؛ لاعتزالكم إيَّاهم ، ولا يصحُّ .
قوله : « ومَا يَعبُدُونَ » يجوز في « مَا » ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن تكون بمعنى « الذي » والعائد مقدر ، أي : واعتزلتم الذي يعبدونه وهذا واضح . و « إلاَّ الله » يجوز فيه أن يكون استثناء متصلاً ، فقد روي أنَّهم كانوا يعبدون الله ويشركون به غيره ، ومنقطعاً؛ فقد روي أنهم كانوا يعبدون الأصنام فقط ، والمستثنى منه يجوز أن يكون الموصول ، وأن يكون عائدهُ ، والمعنى واحد .
والثاني : أن تكون مصدرية ، أي : واعتزلتم عبادتهم ، أي : تركتموها ، و « إلاَّ الله » على حذف مضافٍ ، أي : إلاَّ عبادة الله ، وفي الاستثناء الوجهان المتقدمان .
الثالث : أنها نافية ، وأنه من كلام الله تعالى ، وعلى هذا ، فهذه الجملة معترضة بين أثناء القصَّة ، وإليه ذهب الزمخشريُّ ، و « إلاَّ الله » استثناء مفرَّغٌ ، أخبر الله عن الفتيةِ أنهم لا يعبدون غيره ، وقال ابو البقاء : « والثالث : أنها حرف نفيٍ ، فيخرج في الاستثناء وجهان :
أحدهما : هو منقطعٌ ، والثاني : هو متصل ، والمعنى : وإذ اعتزلتموهم إلا الله وما يعبدون إلا الله » .
فظاهر هذا الكلام : أن الانقطاع والاتصال في الاستثناء مترتِّبان على القول يكون « ما » نافية ، وليس الأمر كذلك .
فصل في كلام أهل الكهف
قال المفسِّرون : إنَّ أهل الكهف قال بعضهم لبعض : { وَإِذِ اعتزلتموهم } يعني قومكم { وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ الله } ، أي : اعتزلتموهم ، وجميع ما يعبدون إلا الله ، فإنَّكم لم تعتزلوا عبادته ، فإنَّهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه الأوثان .
وقرأ أبو مسعود : « ومَا يعبدون من دون الله ، فأووا إلى الكهف » .
قال الفراء : هو جواب « إذْ » كما تقولُ : إذ فعلت كذا فافعل كذا ، والمعنى اذهبوا إليه ، واجعلوه مأواكم .
{ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ } أي يبسطها عليكم ، { وَيُهَيِّىءْ لَكُمْ } يسهِّل لكم { مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً } ما يعود إليه رفقكم .
قوله : « مرفقاً » قرأ الجمهور بكسر الميم ، وفتح الفاءِ .
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية البرجمي وأبو جعفر بالعكس ، وفيها خلاف عند أهل اللغة؛ فقيل : هما بمعنى واحد ، وهو ما يرتفق به ، وليس بمصدر ، وقيل : هو بكسر الميم لليد ، وبفتحها للأمر ، وقد يستعمل كل واحدٍ منهما موضع الآخر ، حكاه الأزهريُّ عن ثعلب ، وأنشد الفراء جمعاً بين اللغتين في الجارحة : [ الرجز ]
3492- بِتُّ أجَافِي مِرْفقاً عن مَرْفقِ ... و [ قد ] يستعملان معاً في الأمرِ ، وفي الجارحة ، حكاه الزجاج .
وحكى مكيٌّ ، عن الفرَّاء أنه قال : « لا أعرفُ في الأمر ، ولا في اليد ، ولا في كلِّ شيء إلا كسر الميم » .
قلت : وتواترُ قراءة نافعٍ والشاميين يردُّ عليه ، وأنكر الكسائي كسر الميم في الجارحة ، وقال : لا أعرفُ فيه إلا الفتح ، وهو عكس قول تلميذه ، ولكن خالفه أبو حاتم ، وقال : « هو بفتح الميم : الموضع كالمسجد ، وقال أبو زيد : هو بفتح الميم مصدر جاء على مفعلٍ » وقال بعضهم : هما لغتان فيما يرتفق به ، فأمَّا الجارحةُ ، فبكسر الميم فقط ، وحكي عن الفراء أنه قال : « أهل الحجاز يقولون : » مرفقاً « بفتح الميم وكسر الفاء فيما ارتفقت به ، ويكسرون مرفق الإنسان ، والعرب بعد يكسرون الميم منهما جميعاً » وأجاز معاذٌ فتح الميم والفاء ، وهو مصدر كالمضرب والمقتل .
و « مِنْ أمْرِكُم » متعلق بالفعل قبله ، و « مِنْ » لابتداء الغاية ، أو للتبعيض .
وقيل : هي بمعنى بدلٍ ، قاله ابن الأنباري ، وأنشد : [ الطويل ]
3493- فَليْتَ لَنَا مِنْ مَاءِ زَمْزمَ شَرْبةً ... مُبرَّدةً باتتْ على طَهيَانِ
أي : بدلاً . ويجوز أن يكون حالاً من « مِرْفقاً » فيتعلق بمحذوفٍ .
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
قوله : { وَتَرَى الشمس } أي : أنت أيُّها المخاطب ، وليس المراد أنَّ من خوطب بهذا يرى هذا المعنى ، ولكنَّ العادة في المخاطبة تكون على هذا النحو .
قوله : { إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ } .
قرأ ابن عامر ويعقوب « تَزْوَرُّ » بسكون الزاي بزنة تَحْمَرُّ .
والكوفيون « تَزاوَرُ » بتخفيف الزاي ، والباقون بتثقيلها ، ف « تَزْورُّ » بمعنى « تميلُ » من الزَّورِ ، وهو الميل ، و « زاره » بمعنى « مال إليه » وقول الزُّور : ميلٌ عن الحق ، ومنه الأزورُ ، وهو المائلُ بعينه وبغيرها ، قال عمر بن أبي ربيعة : [ الطويل ]
3494- ... وجَنْبِي خِيفَةَ القَوْمِ أزْوَرُ
وقيل : تَزورُّ بمعنى تنقبضُ من « ازْوَرَّ » أي : انقبض ، ومنه قول عنترة : [ الكامل ]
3495- فَازْوَرَّ من وقْع القَنا بِلبَانهِ ... وشَكَا إليَّ بِعبْرةٍ وتَحمْحُمِ
وقيل : مال ، ومثله قول بشر بن أبي خازم : [ الوافر ]
3496- يُؤمُّ بِهَا الحُداةُ مِياهَ نَخْلٍ ... وفِيهَا عن أبَانيْنِ ازْوِرَارُ
أي : ميلٌ .
وأما « تَزاوَرُ » و « تزَّاوَرُ » فأصلهما « تَتزاورُ » بتاءين ، فالكوفيون حذفوا إحدى التاءين ، وبعضهم أدغم ، وقد تقدَّم نظائر هذا في { تَظَاهَرُونَ } [ الآية : 85 من البقرة ] و { تَسَآءَلُونَ } [ النساء : 1 ] ونحوهما ، ومعنى ذلك الميل أيضاً .
وقرأ أبو رجاء ، والجحدريُّ ، وابن أبي عبلة ، وأيوبُ السَّختيانيُّ « تَزوَارُّ » بزنة « تحْمَارُّ » وعبد الله ، وأبو المتوكل « تَزوَئِرُّ » بهمزة مكسورة قبل راء مشددة ، وأصلها « تَزوَارُّ » كقراءة أبي رجاء ، ومن معه ، وإنما كرهَ الجمع بين الساكنين ، فأبدل الألف همزة على حدِّ إبدالها في { الجآن } [ الرحمن : 15 ] و { الضآلين } [ الفاتحة : 7 ] . وقد تقدم تحقيقه آخر الفاتحة .
و « إذا طلعت » معمول ل « ترى » أو ل « تَزاوَرُ » وكذا « إذا غَربَتْ » معمولٌ للأول ، أو للثاني ، وهو « تَقْرِضُهمْ » والظاهر تمحّضهُ للظرفيةِ ، ويجوز أن تكون شرطية .
ومعنى « تَقْرضُهمْ » : تقطعهم ، لا تقربهم؛ إذ القرض القطع؛ من القطيعة والصَّرم ، قال ذو الرمَّة : [ الطويل ]
3497- إلى ظُعنٍ يَقْرضْن أقْوازَ مُشرِفٍ ... شِمَالاً ، وعنْ أيْمانِهنَّ الفَوارِسُ
والقَرْضُ : القطعُ ، وتقدم تحقيقه في البقرة ، وق لالفارسي : « معنى تقرضهم : تعطيهم من ضوئها شيئاً ، ثم تزول سريعاً ، كالقرض يستردُّ » وقد ضعِّف قوله؛ بأنه كان ينبغي أن يقرأ « تُقرضُهمْ » بضمِّ التاء ، لأنه من أقرضَ .
وقرئ « يَقْرضُهمْ » بالياء من تحت ، أي : الكهف ، وفيه مخالفةٌ بين الفعلين وفاعلهما ، فالأولى أن يعود على الشمس ، ويكون كقوله : [ المتقارب ]
3498- ... ولا أرْضَ أبْقلَ إبْقَالهَا
وهو قول ابن كيسان .
و « ذات اليمينِ » و « ذاتَ الشِّمالِ » ظرفا مكانٍ بمعنى جهة اليمين ، وجهة الشِّمال .
فصل
قال المفسرون : « تَزاوَرُ » بمعنى « تَمِيلُ » وتعدل عن كهفهم { ذَاتَ اليمين } ، أي : جهة ذات اليمين ، وأصله أنَّ ذات اليمين صفة أقيمت مقام الموصوف؛ لأنَّها تأنيث « ذو » في قولهم : « رجلٌ ذُو مالٍ ، وامرأةٌ ذات مالٍ » ؛ فكأنَّه قال : تَزاورُ عن كهفهم جهة ذات اليمين ، { وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشمال } .
قال الكسائيُّ : قرضت المكان ، أي : عدلتُ عنه .
وقال أبو عبيدة : القرض في أشياء ، منها القطع ، وكذلك السَّير في البلاد ، إذا قطعتها؛ تقول لصاحبك : هل وردتَّ [ موضع ] كذا؟ فيقول المجيب : إنما قرضتهُ .
فقوله : { تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشمال } ، أي : تعدل عن سمت رؤوسهم إلى جهة الشِّمال .
ثم ها هنا قولان :
الأول : قال ابن قتيبة وغيره : كان كهفهم مستقبل بناتِ نعشٍ ، لا تقع فيه الشمس عند الطُّلوع ، ولا عند الغروب ، ولا فيما بين ذلك وكان الهواء الطيِّب والنَّسيم الموافقُ يصل إليهم ، فلا جرم بقيتْ أجسادهم مصونة عن العفونة والفساد .
والثاني : أن الله تعالى منع ضوء الشمس من الوقوع عليهم عند طلوعها ، وكذا عند غروبها ، وكان ذلك فعلاً خارقاً للعادة ، وكرامة عظيمة ، خصَّ الله بها أصحاب الكهف ، قاله الزجاج ، واحتجَّ على صحَّته بقوله : { ذلك مِنْ آيَاتِ الله } ولو كان الأمر كما ذكره أصحاب القول الأول ، لكان ذلك أمراص معتاداً مألوفاً ، ولم يكن من آيات الله تعالى .
ثم قال تعالى : { وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ } أي متَّسعٍ من الكهف ، وجمعها فجواتٌ .
قال أبو عبيدة : ومنه الحديث : فإذا وجد فجوة نصَّ .
وقال غيره : الفجوة المتَّسع من الفجاء ، وهو تباعد ما بين الفخذين ، يقال : رجل أفجأ ، وامرأةٌ فجواء ، وجمع الفجوة فجاء كقصعة وقصاع .
وقوله : { وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ } جملة حالية ، أي : نفعل هذا مع اتساع مكانهم ، وهو أعجب لحالهم؛ إذ كان ينبغي أن تصيبهم الشمس لاتساع مكانهم .
فصل
قال المفسرون : اختار الله تعالى لهم مضجعاً في مقناة لا تدخل عليهم الشمس ، فتؤذيهم بحرِّها ، وتغيِّر ألوانهم ، وهم في متَّسع ينالهم بردُ الرِّيح ، ويدفع عنهم كرب الغار .
قوله : « ذلِكَ » مبتدأ أشأر به إلى جميع ما تقدم من قصَّتهم .
وقيل : « ذلِكَ » إشارةٌ إلى الحفظ الذي حفظهم الله تعالى في ذلك الغار تلك المدَّة الطويلة .
قوله : { مِنْ آيَاتِ الله } العجيبة الدَّالة على قدرته ، وبدائع حكمته ، و { مِنْ آيَاتِ الله } الخبر ، ويجوز أن يكون « ذلك » خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر ذلك ، و { مِنْ آيَاتِ الله } حال . ثم بين تعالى أنه كما أبقاهم هذه المدَّة الطويلة مصونينعن الموت والهلاك من لطفه وكرمه ، فكذلك رجوعهم أوَّلاً عن الكفر ، ورغبتهم في الإيمان كان بإعانة الله ولطفه؛ فقال : { مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد } مثل أصحاب الكهف « ومن يُضْلِل » ، أي : يضلله الله ، ولم يرشده؛ ك « دقيانُوس » وأصحابه { فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً } معيناً « مُرْشِداً » .
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
قوله : { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً } أي : لو رأيتهم ، لحسبتهم .
وقال شهبا الدِّين : لا حاجة إلى هذا التقدير .
{ أَيْقَاظاً } : جمع « يَقُظٍ » بضم القاف ، وبجمع على يقاظٍ ، ويقظ وأيقاظ ، كعضدٍ وأعضادٍ ، ويقظ ويقاظ ، كرجلٍ ورجالٍ ، وظاهرُ كلام الزمخشريِّ أنه يقال : « يقظٌ » بالكسر؛ لأنه قال : وأيقاظٌ جمع « يقظٍ » كأنكاد في « نكدٍ » .
وقال الخفش ، وأبو عبيدة ، والزجاج : أيقاظٌ جمع يقظٍ ويقظان .
وأنشدوا [ لرؤبة ] : [ الرجز ]
3499- ووَجدُوا إخْوانَهُم أيْقَاظا .. . .
وقال البغوي : أيقاظاً جمع يقيظ ويقظ ، واليقظة : الانتباه عند النَّوم .
قال الواحديُّ : وإنما يحسبون أيقاظاً؛ لأنَّ أعينهم مفتحةٌ ، وهم نيامٌ .
وقال الزجاج : لكثرة تقلبهم يظنُّ أنهم أيقاظٌ؛ لقوله تعالى : { وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال } والرقود جمع راقدٍ ، كقاعدٍ وقعود .
فصل في مدة تقليبهم
اختلفوا في مقدار مدَّة التَّقليب :
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - : « أنَّ لهم في كلِّ عام تَقْليبَتَيْنِ » وعن مجاهدٍ : يمكثون رقوداً على أيمانهم تسع سنينَ ، ثم ينقلبون على شمائلهم ، فيمكثون رقوداً تسع سنين .
وقيل : لهم تقليبة واحدة في يوم عاشوراء .
وقال ابن الخطيب : وهذه التقديرات لا سبيل للعقل إليها ، والقرآن لا يدل عليها ، وما جاء فيه خبر صحيح ، فكيف يعرف؟ وقال ابن عباس : فائدة تقليبهم؛ لئلا تأكل الأرض لحومهم وتبليهم .
قال ابن الخطيب : عجبت من ذلك؛ لأنَّ الله تعالى قدر على أن يمسك حياتهم ثلاثمائة سنة وأكثر ، فلم لا يقدر على حفظ أجسامهم من غير تقليب؟! .
قوله : « ونُقلِّبهُم » قرأ العامة « نُقلِّبهُم » مضارعاً مسنداً للمعظِّم نفسه .
وقرئ أيضاً بالياء من تحت ، أي : الله أو الملك ، وقرأ الحسن : « يُقلِبُهمْ » بالياء من تحت ساكن القاف ، مخفف اللام ، وفاعله ، إمَّا الله أو الملكُ .
وقرأ أيضاً « وتَقَلُّبَهُم » بفتح التاء ، وضمِّ اللام مشددة مصدر تقلَّب كقوله : { وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين } [ الشعراء : 219 ] ونصب الباء ، وخرَّجه أبو الفتح على إضمار فعل ، أي : ونرى تقلُّبهم ، أو نشاهد تقلُّبهم ، وروي عنه أيضاً رفع الباء على الابتداءِ ، والخبر الظرف بعده ، ويجوز أن يكون محذوفاً ، أي : آية عظيمة . وقرأ عكرمة « وتقلبُهمْ » بتاء التأنيث مضارع « قَلبَ » مخفَّفاً ، وفاعله ضمير الملائكةِ المدلولِ عليهم بالسِّياق .
وقوله : « ذَاتَ » منصوب على الظَّرف ، لأنَّ المعنى : ونُقلِّبُهمْ من ناحية اليمين أو على ناحية « اليمين » كما تقدَّم في قوله : { تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ اليمين } [ الكهف : 17 ] .
وقوله : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد } .
قرأ العامة « وكَلْبُهمْ » وقرأ جعفر الصادق « كَالبُهمْ » أي : صاحب كلبهم كلابنٍ وتامر ، ونقل أبو عمر الزاهدُ غلامُ ثعلبٍ « وكَالِئُهُمْ » بهمزة مضمومة اسم فاعل من كَلأ يَْلأُ أي : حفظ يحفظُ .
و « باسطٌ » اسم فاعل ماض ، وإنما عمل على حكاية الحال ، الكسائي يعمله ، ويستشهد بالآية .
والوَصِيدُ : الباب؛ قاله ابن عبَّاس والسديُّ . وقيل : العَتبَةُ .
والكهفُ لا يكون له بابٌ ، ولا عتبة ، وإنما أراد موضع الباب .
وقال الزجاج : الوصيد فناءُ البيت ، وفناء الدَّار .
وقيل : الصَّعيدُ والتُّراب .
قال الشاعر : [ الطويل ]
3500- بأرْضِ فَضاءٍ لا يسدُّ وصيدُها ... عَليَّ ومَعرُوفِي بها غَيْرُ مُنْكرِ
وجمعه : وصائد ووصدٌ .
وقيل : الوصيدُ : الصَّعيدُ والتراب .
قال يونس ، والأخفش ، والفراء : الأصيدُ والوصيدُ لغتان؛ مثل : الوكاف والإكاف .
وقال مجاهدٌ ، والضحاك : « الوَصِيدُ » : الكهف .
وأكثر المفسرين على أنَّ الكلب كان من جنس الكلاب .
وروي عن ابن جريج : أنه كان أسداً ، وسمِّي الأسد كلباً ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي لهبٍ ، فقال : « اللَّهُم سلِّط عليه كلباً من كِلابِكَ » فافترسه الأسدُ .
قال ابن عباس : كان كلباً أغرَّ ، واسمه قطميرٌ ، وعن عليِّ : اسمه « ريَّان » .
وقال الأوزاعي : يشور قال السدي : يور .
وقال كعبٌ : صهباً .
وقال مقاتل : كان كلباً أصفر .
وقال الكلبيُّ : لونه كالحليج ، وقيل غير ذلك .
قال خالد بن معدان : ليس في الجنَّة من الدوابِّ إلاَّ كلب أصحاب الكهف ، وحمار بلعام .
قال ابن عباس وأكثر المفسرين : هربوا من ملكهم فمرُّوا براعٍ ، معه كلبٌ ، فتبعهم على دينهم ، ومعه كلبه .
وقال الكلبيُّ : مرُّوا بكلبٍ فنبح عليهم ، فطردوه ، فعاد ، ففعلوا ذلك مراراً ، فقال لهم الكلب : لا تخشوا جانبي؛ فإنِّي أحبُّ أحبَّاء الله ، فناموا؛ حتَّى أحرسكم .
فصل
قال عبيد بن عميرٍ : كان ذلك كلب صيدهم ، ومعنى { بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ } ، أي : ألقاها على الأرض مبسوطتين ، غي رمقبوضتين .
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « اعتدلوا في السُّجودِ ، ولا يَبْسُط أحدكم ذِرَاعيْهِ انْبسَاطَ الكلْبِ » .
قال المفسرون : كان الكلب بسط ذراعيه ، وجعل وجهه عليهما .
قوله : { لَوِ اطلعت } العامَّة على كسر الواو من « لَو اطَّلعْتَ » على أصل التقاء الساكنين ، وقرأها مضمومة أبو جعفرٍ ، وشيبة ، ونافع ، وابن وثَّاب ، والأعمش؛ تشبيهاً بواوِ الضمير ، وتقدَّم تحقيقه .
قوله : { لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً } لما ألبسهم الله من الهيبة؛ حتَّى لا يصل إليهم أحدٌ؛ حتى يبلغ الكتاب أجله ، فيوقظهم الله من رقدتهم .
« فِرَاراً » يجوز أن يكون منصوباً على المصدر من معنى الفعل قبله؛ لأنَّ التولِّي والفرارَ من وادٍ واحدٍ ، ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحالِ ، أي : فارًّا ، ويكون حالاً مؤكدة ، ويجوز أن يكون مفعولاً له .
قوله : { وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } قرأ ابن كثير ، ونافع « لمُلِّئْتَ » بالتشديد على التكثير . وأبو جعفرٍ ، وشيبة كذلك ، إلا أنه بإبدال الهمزة ياء ، والزهري بتخفيف اللام والإبدال ، وهو إبدال قياسي والباقون بتخفيف اللام ، و « رُعباً » مفعول ثانٍ : وقيل : تمييزٌ .
قال الأخفش : الخفيفة أجود في كلام العربِ .
يقولون : ملأتنِي رعباً ، ولا يكادون يعرفون ملأتنِي؛ ويدل على هذا أكثر استعمالهم؛ كقوله : [ الوافر ]
3501- فَتَمْلأ بَيْتنَا أقِطاً وسَمْنَا .. .
وقول الآخر : [ الطويل ]
3502أ- ومن مالِئٍ عَيْنَيْهِ مِنْ شيءِ غَيْرِهِ ... إذَا رَاحَ نحو الجمْرَةِ البِيضُ كالدُّمَى
وقال الآخر : [ الرجز ]
3502ب- لا تَمْلأ الدَّلءو وعَرِّقْ فيها
وقال الاخر : [ الرجز ]
3503- امْتَلأ الحَوضُ وقَالَ قَطْنِي ... وقد جاء التثقيل أيضاً ، أنشدوا للمخبَّل السعديِّ : [ الطويل ]
3504- وإذْ قتل النُّعْمانُ بالنَّاسِ مُحرِمَا .. .
وقرأ ابن عامر والكسائي « رُعباً » بضمِّ العين في جميع القرآن ، والباقون بالإسكان .
فصل في سبب الرعب
اختلفوا في ذلك الرُّعب كان لماذا؟ فقيل : من وحشة المكان ، وقال الكلبي : لأنَّ أعينهم مفتَّحة ، كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلَّم ، وهم نيامٌ .
وقيل : لكثرة شعورهم ، وطول أظفارهم ، وتقلُّبهم من غير حسٍّ ، كالمستيقظ .
وقيل : إنَّ الله تعالى ، منعهم بالرُّعب؛ لئلاَّ يراهم أحدٌ .
ورُوِيَ عن سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبَّاس ، قال : غزونا مع مُعاويةَ نحو الرُّوم ، فمَررْنَا بالكَهْفِ الذي فِيهِ أصْحابُ الكهفِ ، فقال مُعاوِيةُ : لو كُشِفَ لنَا عنْ هؤلاءِ ، لنَظَرْنَا إليْهِمْ ، فقَال ابْنُ عبَّاسٍ : قَدْ مَنَعَ الله ذلِكَ مَنْ هُو خَيْرٌ مِنْكَ : { لو اطَّلعْتَ عَليْهِم لولَّيتَ مِنهُم فراراً } ، فبعث معاوية ناساً ، فقال : اذهبوا ، فانظروا ، فلمَّا دخلوا الكهف ، بعث الله عليهم ريحاً ، أخرجتهم .
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
قوله : { وكذلك بَعَثْنَاهُمْ } : الكاف نعت لمصدر محذوف ، أي : كما أنمناهم تلك النَّومةَ ، كذلك بعثناهم؛ ادِّكاراً بقدرته ، والإشارة ب « ذلِكَ » إلى المصدر المفهوم من قوله « فَضرَبْنَا » ، أي : مثل جعلنا إنامتهم هذه المدة المتطاولة آية ، جعلنا بعثهم آية ، قاله الزجاج والزمخشريُّ .
قوله : { لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ } متعلقة بالبعث ، وقيل : هي للصَّيرورة؛ لأن البعث لم يكن للتساؤل ، قاله ابن عطيَّة ، والصحيح أنَّها على بابها من السببية .
قوله : { كَم لَبِثْتُمْ } « كم » منصوبة على الظرف ، والمميز محذوف ، تقديره : كم يوماً؛ لدلالةِ الجواب عليه ، و « أوْ » في قوله : { أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } للشكِّ منه ، وقيل : للتفصيل ، أي : قال بعضهم كذا ، وبعضهم كذا .
فصل
المعنى كما أنمناهم في الكهف ، وحفظنا أجسامهم من البلى ، طول الزمان ، فكذلك بعثناهم من النَّوم الذي يشبه الموت؛ { لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ } ليسأل بعضهم بعضاً ، واللام لام العاقبة؛ لأنَّهم لم يبعثوا للسُّؤال .
فإن قيل : هل يجوز أن يكون الغرض من بعثهم أن يتساءلوا ويتنازعوا؟ .
فالجواب : لا يبعد ذلك؛ لأنَّهم إذا تساءلوا ، انكشف لهم من قدرة الله أمورٌ عجيبةٌ ، وذلك أمرٌ مطلوبٌ .
قاله ابن الخطيب .
ثم قال تعالى : { قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ } وهو رئيسهم ، واسمه مكسلمينا : { كَم لَبِثْتُمْ } في نومكم ، أي : كم مقدار لبثنا في هذا الكهف { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } .
قال المفسرون : إنهم دخلوا الكهف غدوة وبعثهم الله في آخر النَّهار؛ فلذلك قالوا : يوماً ، فلما رأوا الشمس ، قالوا : أو بعض يوم ، فلما نظروا إلى شعورهم وأظفارهم « قَالُوا » أي : علموا أنَّهم لبثوا أكثر من يوم : { قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } .
قيل : إنَّ رئيسهم مكسلمينا ، لما [ رأى ] الاختلاف بينهم قال : دعوا الخلاف .
قوله : { فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه } يعني يمليخا ، قاله ابن عباس .
قوله : « بورِقكُمْ » حال من « أحَدكُمْ » ، أي : مصاحباً لها ، وملتبساً بها ، وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، وأبو بكر بفتح الواو وسكون الراء والفكِّ ، وباقي السبعة بكسر الراء ، والكسر هو الأصل ، والتسكين [ تخفيف ] ك « نَبْق » في نَبِق ، وحكى الزجاج كسر الواو ، وسكون الراء ، وهو نقلٌ ، وهذا كما يقال : كَبِدٌ وكَبْدٌ وكِبْدٌ .
وقرأ أبو رجاء ، وابن محيصن كذلك ، إلاَّ أنه بإدغام الفاق ، واستضعفوها من حيث الجمع بين ساكنين على غير حدَّيهما ، وقد تقدَّم ذلك في المتواتر ما يشبهُ هذه من نحو { تُسْأَلُونَ عَمَّا } [ في الآية : 134 من البقرة ] و { لاَ تَعْدُواْ فِي السبت } [ النساء : 154 ] و { الخُلْدِ جَزَآءً } [ فصلت : 38 ] و { فِي المهد صَبِيّاً } [ مريم : 29 ] وروي عن ابن محيصن؛ أنَّه لمَّا أدغم كسر الراء فراراً ممَّا ذكرنا .
وقرأ أمير المؤمنين « بوارقكم » اسم فاعلٍ ، أي : صاحب ورقٍ ، ك « لابنٍ » وقيل : هو اسم جمع كجاملٍ وباقرٍ .
والوَرِقُ : الفضَّة المضروبة ، وقيل : الفضَّة مطلقاً مضروبة كانت ، أو غير مضروبة؛ ويدلُّ عليه ما رُوي أنَّ عرفجة اتَّخذَ أنفاً من ورقٍ .
فصل في لغات « الوَرِق »
قال الفراء والزجاج : فيه ثلاثُ لغاتٍ : وَرِقٌ ، ووَرْقٌ ، ووِرْقٌ ، ك « كَبِدٍ وكَبْدٍ وكِبْدٍ » وكسر الواو أردؤها يقال لها : « الرِّقةُ » بحذف الواو ، وفي الحديث : « في الرِّقةِ ربعُ العُشْرِ » وجمعت شذوذاً جمع المذكر السالم .
فصل
قال المفسرون : كان معهم دراهم عليها صورة الملكِ الذي كان في زمانهم ، ثم قال تعالى : { إلى المدينة } وهي الَّتي يقال لها اليوم ( طرسوس ) ، وكان اسمها في الجاهلية « أفسوس » ، وهذه الآية تدل على أنَّ السَّعي في إمساك الزَّاد أمرٌ مشروعٌ .
قوله : { فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أزكى طَعَاماً } [ يجوز في « أي » أن تكون استفهامية ، وأن تكون موصولة . قال الزجاج : إنها رفع بالابتداء و « أزكى » خبرها ، وتقدم الكلام على نظيره في قوله : { أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } [ الكهف : 7 ] ، ولا بد ها هنا من حذف « أيُّ » أي : أيّ أهلها أزكى و « طعاماً » ] تمييزٌ ، أي : لا يكون من غصبٍ ، أي : سببٍ حرام .
وقيل : لا حذف ، والضميرُ عائدٌ على الأطعمة المدلول عليها من السِّياق .
قيل : أمروهُ أن يطلب ذبيحة مؤمنٍ ، ولا يكون من ذبيحة من يذبح لغير الله ، وكان فيهم مؤمنون ينكرون إيمانهم .
فصل في معنى « أزكى »
قال الضحاك : أزكى طعاماً ، أي : أطيب .
وقال مقاتلٌ : أجود .
وقال عكرمة : أكثر .
وأصل الزَّكاة النُّمو والزيادة .
وقيل : أرخص طعاماً { فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ } أي : قوتٍ وطعامٍ تأكلونه .
قوله : « ولْيَتلَطَّفْ » قرأ العامة بسكون لام الأمر ، والحسنُ بكسرها على الأصل ، [ وقتيبة الميَّال ] « وليُتَلَطَّفْ » مبنياً للمفعول ، وأبو جعفر وأبو صالحٍ ، وقتيبة « ولا يشعُرنَّ » بفتح الياء وضمِّ العين .
فإن قيل : « بكُمْ » « أحدٌ » فاعل به .
فالجواب : معنى « وليَتَلطَّفْ » أي : يكون في سترة ، وكتمانٍ في دخول المدينة ، قاله الزمخشريُّ ، ويجوز أن يعود على قومهم؛ لدلالة السِّياق عليهم .
وقرأ زيدُ بن عليٍّ « يُظْهرُوا » مبنيًّا للمفعول .
فصل
{ يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ } ، أي : يطَّلعوا عليكم ، ويعلموا مكانكم .
وقيل : أو يشرفوا على مكانكم أو على أنفسكم من قولهم : ظهرتُ على فلانٍ ، إذا علوتهُ ، وظهرتُ على السَّطح ، إذا صرت فوقه ، ومنه قوله تعالى : { فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ } [ الصف : 14 ] أي عالين .
وقوله : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } [ التوبة : 33 ] أي : ليعليه .
قوله : { يَرْجُمُوكُمْ } . قال ابن جريج : يَشْتموكُمْ ، ويُؤذُوكم بالقول ، وقيل : يقتلوكم بالحجارة ، والرجمُ بمعنى القتل كثيرٌ . قال تعالى : { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ } [ هود : 91 ] وقوله : { أَن تَرْجُمُونِ } [ الدخان : 20 ] والرجم أخبث القتل ، قاله الزجاج .
{ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ } أي يردُّوكم إلى دينهم .
قوله : { وَلَن تفلحوا إِذاً أَبَداً } أي إن رجعتم إلى دينهم ، لم تسعدوا في الدنيا ، ولا في الآخرة ، ف « إذاً » جوابٌ وجزاءٌ ، أي : إن يظهروا ، فلن تفلحوا .
وقال الزجاج : لن تُفْلِحُوا ، إذا رجعتم إلى ملتهم أبداً ، فإن قيل : أليس أنَّهم لو أكرهوا على الكفر ، حتى أظهروا الكفر ، لم يكن عليهم مضرَّة ، فكيف قالوا : { وَلَن تفلحوا إِذاً أَبَداً } ؟ .
فالجواب : يحتمل أن يكون المراد أنَّهم لو ردُّوا إلى الكفر ، وبقوا مظهرين له ، فقد يميل بهم ذلك غلى الكفر ، ويصيروا كافرين حقيقة ، فكان تخوُّفهم من هذا الاحتمال .
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
قوله : { وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } : أي : وكما أنمناهم ، وبعثناهم ، لما فيه من الحكم الظاهرة؛ أعثرنا ، أي : أطلعنا . وتقدَّم الكلام على مادَّة « عثر » في المائدة .
يقال : عثرتُ على كذا ، أي : علمته ، وأصله أن من كان غافلاً عن شيءٍ فعثر به ، نظر إليه ، فعرفه ، وكان العثارُ سبباً لحصول العلم ، فأطلق اسم السَّببِ على المسبَّب « ليَعْلَمُوا » متعلق ب « أعْثرْنَا » والضمير : قيل : يعود على مفعول « أعْثَرنَا » المحذوف ، تقديره : أعثرنا النَّاس ، وقيل : يعود على أهل الكهف .
فصل في سبب تعرف الناس عليهم
اختلفوا في السَّبب الذي عرف الناس به واقعة أصحاب الكهف ، فقيل : لطول شعورهم ، وأظفارهم؛ بخلاف العادة ، وظهرت في بشرة وجوههم آثار عجيبةٌ يستدلُّ بها على أن مدَّتهم طالت طولاً بخلاف العادة .
وقيل : لأن أحدهم لما ذهب إلى المدينةِ؛ ليشتري الطَّعام ، أخرج الدراهم لثمن الطَّعام ، فقال صاحب الطعام : هذه النُّقود غير موجودة في هذا الزَّمان ، وإنها كانت موجودة قبل هذا الوقت بمدَّة مديدة؛ [ فلعلك ] وجدتَّ كنزاً ، فحملوه إلى ملك تلك المدينة ، فقال له الملك : أين وجدتَّ تلك الدَّراهم؟ فقال : بعتُ بها أمس تمراً ، وخرجنا فراراً من الملك دقيانوس ، فعرف الملك أنَّه ما وجد كنزاً ، وأنَّ الله تعالى بعثه بعد موته .
ومعنى قوله : { ليعلموا أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } أي : إنما أطلعنا القوم على أحوالهم؛ ليعلم القوم أنَّ وعد الله حقٌّ بالبعث والنَّشر؛ فإنَّ ملكَ ذلك الزَّمان كان منكر البعث ، فجعل الله أمر الفتية دليلاً للملكِ .
وقيل : اختلف أهلُ ذلك الزَّمانِ ، فقال بعضهم : الرُّوحُ والجسد يبعثان جميعاً .
وقال آخرون : إنَّما يبعثُ الرُّوح فقط ، فكان الملك يتضرَّع إلى الله تعالى أن يظهر له آية يستدلُّ بها على الحقِّ في هذه المسالة ، فأطلعه الله تعالى على أصحاب الكهف ، فاستدلَّ بهم على صحَّة بعث الأجساد؛ لأنَّ انتباههم بعد ذلك النَّوم الطويل يشبه من يموت ، ثم يبعث .
قوله : « إذ يَتنازعُونَ » يجوز أن يعمل فيه « أعْثَرنا » أو « لِيعْلمُوا » أو لمعنى « حقٌّ » أو ل « وَعْد » عند من يتَّسعُ في الظرف ، وأمَّا من لا يتَّسعُ ، فلا يجوز عنده الإخبار عن الموصول قبل تمامِ صلته .
واختلف في هذا التَّنازع ، فقيل : كانوا يتنازعون في صحَّة البعث ، فاستدلَّ القائلون بصحَّة هذه الواقعةِ ، وقالوا : كما قدر الله على حفظ أجسادهم مدَّة ثلاثمائةٍ وتسع سنين ، فكذلك يقدر على حشر الأجساد بعد موتها .
وقيل : إنَّ الملك وقومه ، لما رأوا أصحاب الكهف ، ووقفوا على أحوالهم ، عاد القوم إلى كهفهم ، فأماتهم الله ، فعند هذا اختلف الناس ، فقال قومٌ : إنَّ بعضهم قال : إنهم نيامٌ ، كالكرَّة الأولى .
وقال آخرون : بل الآن ماتوا .
وقيل : إن بعضهم ، قال : سدّوا عليهم باب الكهف مسجدٌ ، وهذا القول يدلُّ على أنَّ هؤلاء القوم كانوا عارفين بالله تعالى ، ويعترفون بالعبادة و الصلاة .
وقيل : إنَّ الكفار قالوا : إنهم على ديننا ، فنتخذ عليهم بنياناً ، وقال المسلمون [ إنهم ] على ديننا ، فنتخذ عليهم مسجداً .
وقيل : تنازعوا في مقدار مكثهم .
وقيل : تنازعوا في عددهم ، وأسمائهم .
قوله : « بُنْياناً » يجوز أن يكون مفعولاً به ، جمع بنيانةٍ ، وأن يكون مصدراً .
قوله : { رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ } يجوز أن يكون من كلام الله تعالى ، وأن يكون من كلامِ المتنازعين فيهم ، ثم قال { قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ } قيل : هو الملك المسلم ، واسمه بيدروس وقيل : رؤساء البلد .
قوله « غلبوا » قرأ عيسى الثقفيُّ ، والحسن بضمِّ الغين ، وكسر اللام .
قوله : { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً } يعبد الله فيه ، ونستبقي آثار اصحاب الكهف بسبب ذلك المسجد .
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
قوله : { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ } : قيل : إنَّما أتي بالسِّين في هذا؛ لأنَّ في الكلام طيًّا وإدماجاً ، تقديره : فإذا أجبتهم عن سؤالهم عن قصَّة أهل الكهف ، فسلهم عن عددهم ، فإنهم سيقولون . ولم يأت بها في باقية الأفعال؛ لأنها معطوفة على ما فيه السين ، فأعطيت حكمه من الاستقبال .
وقرأ ابن محيصن « ثلاثٌ » بإدغام الثاء المثلثة في تاء التأنيث؛ لقرب مخرجيهما ، ولأنهما مهموسان ، ولأنهما بعد ساكن معتل .
{ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } الجملة في محل رفع صفة ل « ثَلاثَة » .
قوله : { وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ } قرأ ابن كثير في رواية بفتح الميم ، وهي لغة كعشرةٍ ، وقرأ ابن محيصن بكسر الخاء والميم ، وبإدغام التاء في السين ، يعني تاء « خمسةٌ » في سين « سادسهم » وهي قراءة ثقيلة جداً؛ لتوالي كسرتين وثلاث سيناتٍ ، قال شهاب الدين ولا أظن مثل هذا إلا غلطاً على مثله ، وروي عنه إدغام التنوين في السين من غيرغنَّة .
و « ثَلاثةٌ » و « خَمسةٌ » و « سَبعةٌ » إخبار المبتدأ محذوف مضمرٍ ، أي : هم ثلاثة ، وهم خمسة ، وهم سبعة ، وما بعد « ثلاثة » و « خمسة » من الجملة صفة لهما ، كما تقدَّم ، ولا يجوز أن تكون الجملة حالاً ، لعدم عامل فيها ، ولا يجوز أن يكون التقدير : هؤلاء ثرثة ، وهؤلاء خمسةٌ ، ويكون العامل اسم الإشارة أو التنبيه ، قال أبو البقاء : لأنَّها إشارةٌ إلى حاضر ، ولم يشيروا إلى حاضر « .
قوله : { رَجْماً بالغيب } فيه أربعة أوجهٍ :
أحدها : أنه مفعولٌ من أجله؛ يقولون ذلك لأجل الرمي بالغيب .
والثاني : أنه في موضع الحال ، أي : ظانِّين .
والثالث : أنه منصوب ب » يَقُولونَ « لأنه بمعناه .
والرابع : أنه منصوب بمقدر من لفظه ، أي : يرجمون بذلك رجماً .
والرَّجمُ في الأصل : الرَّميُ بالرِّجامِ ، وهي الحجارة الصِّغارُ ، ثم عبِّر به عن الظنِّ ، قال زهير : [ الطويل ]
3505- ومَا الحَربُ إلاَّ ما عَلِمْتُمْ وذُقْتُم ... ومَا هُوَ عَنْهَا بالحَديثِ المُرجَّمِ
أي : المظنون .
قوله : » وثامنُهم « في هذه الواو أوجهٌ :
أحدها : أنها عاطفة ، عطفت هذه الجملة على جملة قوله » هُم سَبْعةٌ « فيكونون قد أخبروا بخبرين ، الأول : أنهم سبعة رجالٍ على البتِّ . والثاني أنَّ ثامنهم كلبهم ، وهذا يؤذنُ بأن جملة قوله { وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } من كلام المتنازعين فيهم .
الثاني : أن الواو للاستئناف ، وأنه من كلام الله تعالى أخبر عنهم بذلك ، قال هذا القائل : وجيء بالواو؛ لتعطي انقطاع هذا ممَّا قبله .
الثالث : أنها الواو الداخلة على الصفة؛ تأكيداً ، ودلالة على لصق الصفة بالموصوف ، وإليه ذهب الزمخشري ، ونظره بقوله : { مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] .
وردَّ أبو حيَّان عليه : بأنَّ أحداً من النحاة لم يقله ، وقد تقدَّم الكلام عليه في ذلك .
الرابع : أنَّ هذه تسمَّى واو الثمانية ، وأنَّ لغة قريشٍ ، إذا عدُّوا يقولون : خمسةٌ ستَّة سبعة ، وثمانية تسْعةٌ ، فيدخلون الواو على عقد الثمانية خاصة ، ذكر ذلك ابن خالويه ، وأبو بكر راوي عاصم ، قلت : وقد قال ذلك بعضهم في قوله تعالى : { وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَ } [ الزمر : 73 ] في الزمر ، فقال : دخلت في أبواب الجنة؛ لأنها ثمانية ، ولذلك لم يجأ بها في أبواب جهنَّم؛ لأنها سبعة ، وسيأتي هذا ، إن شاء الله .
قال أصحاب هذا القول : إنَّ السبعة عند العرب أمثل في المبالغة في العدد؛ قال تعالى : { إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً } [ التوبة : 80 ] .
ولما كان كذلك ، فلما وصلوا إلى الثَّمانية ، ذكروا لفظاً يدلُّ على الاستئناف فقالوا : وثمانية ، فجاء هذا الكلام على هذا القانون ، قالوا : ويدلُّ عليه قوله تعالى : { والناهون عَنِ المنكر } [ التوبة : 112 ] ؛ لأن هذا هو العدد الثامن من الأعداد المتقدمة .
وقوله : { حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [ الزمر : 73 ] لأن أبواب الجنة ثمانيةٌ ، وأبواب النَّار سبعة ، فلم يأتِ بالواو فيها .
وقوله : { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً } [ التحريم : 5 ] هو العدد الثامن مما تقدَّم .
قال القفال : وهذا ليس بشيء؛ لقوله تعالى : { هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر } [ الحشر : 23 ] ولم يذكر الواو في النَّعت الثامن .
وقرئ : « كَالبُهمْ » أي : صاحب كلبهم ، ولهذه القراءةِ قدَّر بعضهم في قراءة العامة : وثامنهم صاحب كلبهم .
وثلاثةٌ وخمسةٌ وسبعةٌ : مضافة لمعدودٍ محذوف ، فقدَّره أبو حيان : ثلاثة اشخاص ، قال : « وإنَّما قدَّرنا أشخاصاً؛ لأنَّ رابعهم اسم فاعل أضيف إلى الضمير ، والمعنى : أنه ربعهم ، أي : جعلهم أربعة ، وصيَّرهم إلى هذا العدد ، فلو قدَّرناه رجالاً ، استحال أن يصيِّر ثلاثة رجالٍ أربعة؛ لاختلافِ الجنسين » وهو كلامٌ حسنٌ .
فصل
وقال أبو البقاء : « ولا يعمل اسم الفاعل هنا؛ لأنه ماض » قلت : يعني أنَّ رابعهم فيما مضى ، فلا يعمل النصب تقديراً ، والإضافة محضة ، وليس كما زعم ، فإنَّ المعنى على : يصير الكلب لهم أربعة ، فهو ناصبٌ تقديراً ، وإنما عمل ، وهو ماضٍ؛ لحكاية الحال ك « بَاسِطٌ » .
فصل
روي أن السيِّد والعاقب وأصحابهما من نصارى نجران ، كانوا عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم فجرى ذكر أصحاب الكهف ، فقال السيِّد - وكان يعقوبياً - : كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم .
وقال العاقبُ - وكان نُسطوريًّا- : كانوا خمسة سادسهم كلبهم .
وقال المسلمون : ك انوا سبعة ، وثامنهم كلبهم ، فحقَّق الله قول المسلمين بعدما حكى قول النصارى ، فقال : « سَيقُولونَ ثَلاثةٌ رابعهُم كَلْبهُم ، ويَقُولونَ خَمسَةٌ سَادسهُمْ كَلبُهمْ رجماً بالغيب ويَقُولونَ : سَبْعةٌ وثَامنهُمْ كَلبُهمْ » .
قوله : { رَجْماً بالغيب } أي : ظنًّا وحدساً من غير يقينٍ ، ولم يقل هذا في السبعة ، فقال : { وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } .
فصل
قال أكثر المفسرين : هذا هو الحقُّ؛ ويدلُّ عليه وجوهُ :
الأول : أنَّ الواو في قوله : { وَثَامِنُهُمْ } هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنَّكرة ، كما تدخل ع لى الجملة الواقعة حالاً عن المعرفة في قولك : « جَاءنِي رجلٌ ، ومَعهُ آخَرُ » ومررت بزيدٍ ، ومعه سيفٌ ، ومنه قوله :
{ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] .
وفائدتها : تأكيد لصوق الصفة بالموصوف ، والدلالة على أنَّ اتصافه به أمرٌ ثابتٌ مستقرٌّ ، فكانت هذه الواو دالة على أنَّ الذين كانوا في الكهف كانوا سبعة وثامنهم كلبهم .
الثاني : أنه تعالى خصَّ هذا الموضع بهذا الحرف الزَّائد وهو الواو؛ فوجب أن يحصل به فائدة زائدة؛ صوناً للفظ عن التعطيل ، وليس الفائدة إلاَّ تخصيص هذا القول بالإثبات والتَّصحيح .
الثالث : أنه تعالى أتبع القولين بقوله : { رَجْماً بالغيب } ولم يقله في السَّبعة ، وتخصيص الشيء بالوصف يدلُّ على أنَّ الحال في الباقي بخلافه ، وأنه مخالف لهما في كونه « رجْماً بالغَيْب » .
الرابع : أنه قال بعده : { رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ } فدلَّ على أن هذا القول ممتازٌ عن القولين الأوَّلين بمزيد القوَّة والصَّحة .
الخامس : أنه تعالى قال : { مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ } فدلَّ على أنَّه حصل العلم بعدتهم لذلك القليل ، وكلُّ من قال من المسلمين قولاً في هذا الباب ، قال : إنهم كانوا سبعة ، وثامنهم كلبهم؛ فوجب أن يكون المراد من ذلك القليل هؤلاء الذين قالوا هذا القول ، وكان عليٌّ - رضي الله عنه - يقول : كانوا سبعة ، وثامنهم كلبهم ، وأسماؤهم : ميليخا ، مكسلمينا ، مسلثينا وهؤلاء الثلاثة كانوا أصحاب يمين الملك ، وعن يساره : مرنوس ، ديرنوس ، سادنوس ، وكان الملكُ يستشير هؤلاء الستَّة ، يتصرَّفون في مهمَّاته ، والسَّابع هو الرَّاعي الذي وافقهم ، لمَّا هربوا من ملكهم ، واسم كلبهم قطميرٌ ، وروي عن ابن عباس أنه قال : مكسلمينا ، ويلميخا ، ومرطوس وبينويس ، وسارينوس ، وذونوانس ، وكشفيطيطونونس وهو الراعي ، وكان ابن عباس يقول : أنا من أولئك العدد القليل .
السادس : أنه تعالى ، لما قال : { سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } قال : { قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ } .
والظاهر أنَّه لما حكى الأقوال ، فقد حكى كلَّ ما قيل من الحقِّ والباطل ، ويبعد أنَّه تعالى ذكر الأقوال الباطلة ، ولم يذكر ما هو الحقُّ ، فثبت أن جملة الأقوال الحقَّة والباطلة ليست إلاَّ هذه الثَّلاثة ، ثم خصَّ الأولين بأنه رجمٌ بالغيب؛ فوجب أن يكون الحق هو الثالث .
السابع : أنه قال لرسوله - عليه الصلاة والسلام- : { فَلا تُمارِ فِيهمْ إلاَّ مِراءً ظَاهِراً ، ولا تَسْتفْتِ فِيهم مِنهُمْ أحَداً } فمنعه من المناظرة معهم في هذا الباب ، وهذا إنما يكون ، لو علم حكم هذه الواقعة ، ويبعد أن يحصل العلم بذلك لغير النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا يحصل للنبيِّ - عليه السلام - فعلمنا أنَّ العلم بهذه الواقعة حصل للنبيِّ صلى الله عليه وسلم والظاهر أنه لم يحصل ذلك إلاَّ بهذا الوحي؛ لأنَّ الأصل فيما سواهُ العدم ، فيكون الأمر كذلك ، ويكون الحقُّ قوله : { سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } وهذه الوجوه ، وإن كان فيها بعض الضعف إلاَّ أنه لما تقوَّى بعضها ببعضٍ ، حصل فيها تمامٌ وكمالٌ .
فصل
في هذه الآية محذوفٌ ، وتقديره : سيقولون : هم ثلاثة ، فحذف المبتدأ؛ لدلالة الكلام عليه ، ثم قال تعالى : { قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم } أي : بعددهم { مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ } ، وهذا هو الحق؛ لأن العلم بتفاصيل كائنات العالم ، وحوادثه في الماضي والمستقبل ، لا يحصل إلاَّ عند الله ، أو عند من أخبره الله تعالى ، ثم لمَّا ذكر تعالى هذه القصَّة ، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المراءِ والاستفتاء ، فقال : { فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً } ، أي لا تجادل ، ولا تقل في عددهم وشأنهم إلاَّ مراء ظاهراً إلا بظاهر ما قصصنا عليك ، فقف عنده ، { وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً } أي من أهل الكتاب ، أي : لا ترجع إلى قولهم بعد أن أخبرناك؛ لأنَّه ليس عندهم علمٌ في هذا الباب إلاَّ رجماً بالغيب .
فصل
واعلم أنَّ نفاة القياس تمسَّكوا بهذه الآية ، قالوا : لأن قوله : { رَجْماً بالغيب } قيل : كان ظنًّا بالغيب؛ لأنَّهم أكثروا أن يقولوا رجماً بالظنِّ ، مكان قولهم : « ظنَّ » حتى لم يبق عندهم فرقٌ بين العبارتين ، كما قال : [ الطويل ]
3506- . . ... ومَا هُوَ عَنْهَا بالحَديثِ المُرجَّمِ
أي : المظنون ، ثم إنه تعالى ، لمَّا ذم هذه الطريقة ، رتَّب عليها المنع من استفتاء هؤلاء الظانِّين ، فدلَّ على أن الفتوى بالمظنون غير جائزٍ عند الله تعالى ، وتقدَّم جوابهم .
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
وذلك أن أهل مكَّة سألوه عن الروح ، وعن أصحاب الكهف ، وعن ذي القرنين ، فقال : أخبركم غداً ، ولم يقل : إن شاء الله ، فلبث الوحيُ أيَّاماً ، ثم نزلت هذه الآية .
فصل
اعترض القاضي على هذا الكلام من وجهين :
الأول : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عالماً بأنَّه إذا أخبر أنه سيفعل الفعل الفلانيَّ غداً ، فربَّما جاءته الوفاة قبل الغد ، وربما عاقه عائقٌ عن ذلك الفعل غداً ، وإذا كانت هذه الأمور محتملة ، فلو لم يقل : إن شاء الله ، خرج الكلام مخالفاً لما عليه ، وذلك يوجب التنفير عنه .
أما إذا قال : « إن شاء الله تعالى » كان محترزاً عن هذا المحذور المذكور ، وإذا كان كذلك ، كان من البعيد أن يعد بشيءٍ ، ولم يقل : إن شاء الله .
الثاني : أن هذه الآية مشتملةٌ على قواعد كثيرةٍ ، وأحكام جمَّة ، فيبعد قصرها على هذا السبب ، إذ يمكن أن يجاب عن الأول بأنه لا يمتنع أن الأولى أن يقول : « إن شاء الله تعالى » ، إلاَّ أنه ربَّما اتَّفق له نسيان قول « إن شاء الله » لسبب من الأسباب ، وكان ذلك من باب ترك الأولى والأفضل ، وأنه يجاب عن الثاني بأنَّ اشتماله على الفوائد الكثيرةِ لا يمتنع أن يكون نزوله بسببٍ واحدٍ منها .
قوله : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } : قال أبو البقاء : في المستثنى منه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : هو من النَّهي . والمعنى : لا تقولنَّ : افعلُ غداً ، إلاَّ أن يؤذن لك في القول .
الثاني : هو من « فاعلٌ » ، أي : لا تقولنَّ إني فاعل غداً؛ حتَّى تقرن به قول « إن شاء الله » .
والثالث : أنه منقطعٌ ، وموضع « أن يشاء الله » نصب على وجهين :
أحدهما : على الاستثناء ، و التقدير : لا تقولنَّ ذلك في وقتٍ إلاَّ وقت أن يشاء الله ، أي : يأذن ، فحذف الوقت ، وهو المراد .
الثاني : هو حالٌ ، والتقدير : لا تقولنَّ : أفعل غداً إلا قائلاً : « إن شاء الله » وحذف القول كثير ، وقيل : التقدير إلاَّ بأن يشاء الله ، أي : إلاَّ ملتبساً بقول : « إن شاء الله » .
وقد ردَّ الزمخشريُّ الوجه الثاني ، فقال : « إلاَّ أن يشاءَ » متعلقٌ بالنهي ، لا بقوله « إنِّي فاعلٌ » لأنه لو قال : إني فاعل كذا إلا أن يشاء الله ، كان معناه : إلا أن تعترض مشيئة الله دون فعله ، وذلك ممَّا لا مدخل فيه للنهي .
معناه أنَّ النهي عن مثل هذا المعنى ، لا يحسن .
ثم قال : « وتعلُّقهُ بالنهي من وجهين :
أحدهما : ولا تقولنَّ ذلك القول ، إلا أن يشاء الله أن تقوله بأن يأذن لك فيه .
والثاني : ولا تقولنَّه إلاَّ بأن يشاء الله ، أي : إلاَّ بمشيئته ، وهو في موضع الحال ، أي : ملتبساً بمشيئة الله ، قائلاً إن شاء الله .
وفيه وجه ثالثٌ : وهو أن يكون « إلاَّ أن يشاء » في معنى كلمة تأبيدٍ ، كأنَّه قيل : ولا تقولنَّه أبداً ، ونحوه : { وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّنَا } [ الأعراف : 89 ] لأن عودهم في ملتهم ممَّا لم يشأ الله « .
وهذا الذي ذكره الزمخشري قد ردَّه ابن عطيَّة بعد أن حكاه عن الطبري وغيره ، ولم يوضِّح وجه الفساد .
وقال أبو حيان : » وإلا أن يشاء الله ، استثناء لا يمكن حمله على ظاهره؛ لأنه يكون داخلاً تحت القول ، فيكونُ من المقول ، ولا ينهاه الله أن يقول : إني فاعلٌ ذلك غداً إلا أن يشاء الله؛ لأنه قول صحيحٌ في نفسه ، لا يمكن أن ينهى عنه ، فاحتيج في تأويل هذا الظاهر إلى تقديرٍ ، فقال ابن عطيَّة : في الكلام حذف يقتضيه الظاهر ، ويحسِّنهُ الإيجاز ، تقديره : إلاَّ أن يقول : إلا أن يشاء الله ، أو إلاَّ أن تقول : إن شاء الله ، والمعنى : إلاَّ أن تذكر مشيئة الله ، فليس « إلاَّ أن يشاء الله » من القول الذي نهي عنه « .
فصل
قال كثيرٌ من الفقهاء : إذا قال الرَّجل لزوجته : » أنْتِ طالقٌ ، إن شاء الله « لم يقع الطَّلاق؛ لأنه لما علَّق وقوع الطَّلاق على مشيئة الله ، لم يقعِ الطَّلاق إلا إذا علمنا حصول المشيئة ، ومشيئةُ الله غيبٌ لا سبيل لنا إلى العلم بحصولها ، إلا إذا علمنا أن متعلَّق المشيئة وقع وحصل ، وهو هذا الطلاق ، وعلى هذا لا يعرف حصول المشيئة ، إلاَّ إذا وقع الطلاق ، ولا يعرف وقوع الطلاق ، إلاَّ إذا عرفنا المشيئة ، فيوقف كلُّ واحدٍ منهما على العلم بالآخرِ ، وهو دورٌ؛ فلهذا لم يقع الطَّلاق .
فصل
احتجوا بهذه الآية على أنَّ المعدوم شيءٌ ، قالوا : لأنَّ الشيء الذي سيفعله غداً سمَّاه الله تعالى في الحال شيئاً ، وهو معدومٌ في الحال .
[ وأجيب ] بأنَّ هذا الاستدلال لا يفيدُ إلاَّ أنَّ المعدوم مسمى بكونه شيئاً ، والسبب فيه أنَّ الذي يصير شيئاً يجوز تسميته بكونه شيئاً في الحال تسمية للشيء بما يئولُ إليه؛ لقوله تعالى : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] والمراد سيأتي أمر الله .
ثم قال تعالى : { واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن : معناه : إذا نسيت الاستثناء ، ثم ذكرت ، فاستثنِ .
وقيَّده الحسن وطاوس بالمجلس .
وعن سعيد بن جبيرٍ : بعد سنة ، أو شهرٍ ، أو أسبوعٍ ، أو يوم .
وعن عطاءٍ : بمقدار حلب ناقةٍ غزيرةٍ .
وعند عامة الفقهاء : لا أثر له في الأحكام ما لم يكن موصولاً ، وقالوا : لأنا لو جوَّزنا ذلك ، لزم ألاَّ يستقرَّ شيءٌ من العهود والإيمان .
[ يحكى ] أنه بلغ المنصور أنّ أبا حنيفة خالف ابن عبَّاس في الاستثناء المنفصل ، فاستحضره؛ لينكر عليه ، فقال له أبو حنيفة : هذا يرجع عليك؛ فإنك تأخذ البيعة بالأيمان ، أترضى أن يخرجوا من عندك ، فيستثنوا ، فيخرجوا عليك ، فاستحسن المنصور كلامه ، ورضي عنه .
واعلم أن هذا تخصيص النصِّ بالقياس ، وفيه ما فيه .
وأيضاً فلو قال : « إنْ شَاءَ الله » خفية؛ بحيث لا يسمع ، كان دافعاً للحنث بالإجماع ، مع أنَّ المحضور باقٍ ، فما عوَّلوا عليه ليس بقويٍّ ، [ والأولى ] أن يحتجَّ في وجوب كون الاستثناء متَّصلاً بالآيات الكثيرة الدالة على وجوب الوفىءِ بالعقد والعهد؛ كقوله : { أَوْفُواْ بالعقود } [ المائدة : 1 ] { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ } [ الإسراء : 34 ] ، فإذا أتى بعهدٍ ، وجب عليه الوفاء بمقتضاه بهذه الآيات .
خالفنا الدليل فيما إذا كان متَّصلاً؛ لأن الاستثناء مع المستثنى منه كالكلام الواحد؛ بدليل أنَّ الاستثناء وحده لا يفيد شيئاً ، فهو جارٍ مجرى بعض الكلمة الواحدة ، فجملة الكلام كالكلمة الواحدة المفيدة ، وإذا كان كذلك ، فإن لم يكن منفصلاً ، حصل الالتزام التَّامُّ بالكلام؛ فوجب عليه الوفاء بذلك المتلزم .
وقيل : إن قوله : { واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } كلامٌ مستأنفٌ لا تعلّق له بما قبله .
فصل
قال عكرمة : واذكر ربَّك ، إذا غضبت .
وقال وهبٌ : مكتوب في الإنجيل « ابن آدمَ ، اذكُرنِي حين تغضبُ ، أذكرك حينَ أغْضَبُ » .
وقال الضحاك ، و السديُّ : هذا في الصَّلاة المنسيَّة .
قال ابن الخطيب : وتعلق هذا الكلام بما قبله يفيد إتمام الكلام في هذه القضيَّة ، وجعله مستأنفاً يصير الكلام مبتدأ منقطعاً ، وذلك لا يجوز .
ثم قال : { وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً } وفيه وجوهٌ :
الأول : أن ترك قوله : « إنْ شَاءَ اللهُ » ليس بحسن ، وذكره أحسن من تركه ، وهو قوله : { لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً } المراد منه ذكر هذه الجملة .
الثاني : أنَّه لمَّا وعدهم بشيءٍ ، وقال معه ( إن شاء الله تعالى ) فيقول : عسى أن يهديني ربِّي لشيءٍ أحسن وأكمل مما وعدتُّكم به .
الثالث : أن قوله : { عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً } إشارة إلى قصَّة أصحاب الكهف ، أي : لعلَّ الله يؤتيني من البيِّنات والدلائل على صحَّة نبوَّتي وصدقي في ادِّعاء النبوة ما هو أعظم في الدلالة ، وأقرب رشداً من قصَّة أصحاب الكهف ، وقد فعل الله ذلك حين آتاهُ من قصص الأنبياء ، والإخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك .
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
قوله : { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وازدادوا تِسْعاً } .
قال قتادة : هذا من كلام القوم؛ لأنَّه تعالى قال : { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] إلى أن قال : { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ } أي : إنَّ أولئك الأقوام ، قالوا ذلك ، ويؤيِّده قوله تعالى بعده { قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } وهذا يشبهُ الردَّ على الكلام المذكور قبله .
ويؤيِّده أيضاً ما ورد في مصحف عبد الله : ( وقالوا ولبثوا في كهفهم ) .
وقال آخرون : هو كلام الله تعالى أخبر عن كميَّة هذه المدَّة .
وأما قوله : { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } فهو كلامٌ تقدَّم ، وقد تخلَّل بينه وبين هذه الآية ما يوجبُ انقطاع أحدهما عن الآخر ، وهو قوله : { فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً } [ الكهف : 22 ] .
وقوله تعالى : { قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } لا يوجب أنَّ ما قبله حكاية؛ لأنَّه تعالى أراد بل الله أعلم بما لبثوا ، فارجعوا إلى خبر الله دون ما يقوله أهل الكتاب ، والمعنى أن الأمر في مدَّة لبثهم ، كما ذكرنا ، فإن نازعوك فيها ، فأجبهم فقل : { الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } أي : فهو أعلم منكم ، وقد أخبر بمدَّة لبثهم .
وقيل : إنَّ أهل الكتاب قالوا : إنَّ المدَّة من لدن دخلوا الكهف إلى يومنا ثلاثمائة وتسع سنين ، فردَّ الله عليهم ، وقال : { قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } يعني بعد قبض أرواحهم إلى يومنا هذا ، لا يعلمه إلاَّ الله .
قوله : { ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ } : قرأ الأخوان بإضافة « مِئةِ » إلى « سنين » والباقون بتنوين « مِئةٍ » .
فأمَّا الأولى : فأوقع فيها الجمع موقع المفرد؛ كقوله : { بالأخسرين أَعْمَالاً } [ الكهف : 103 ] . قاله الزمخشريُّ يعني أنه أوقع « أعْمَالاً » موقع « عملاً » وقد أنحى أبو حاتمٍ على هذه القراءة ولا يلتفت إليه ، وفي مصحف عبد الله « سنة » بالإفراد ، وبها قرأ أبيّ ، وقرأ الضحاك « سِنُونَ » بالواو على أنها خبر مبتدأ مضمرٍ ، أي : هي سنُونَ .
وأمَّا الباقون ، فلما لم يروا إضافة « مِئَة » إلى جمعٍ ، نَوَّنُوا ، وجعلوا « سِنينَ » بدلاً من « ثَلاثمائةٍ » أو عطف بيان .
قال البغويُّ : فإن قيل لِمَ قال : « ثلاثمائة سنين » ولم يقل سنة؟ فالجواب ، لمَّا نزل قوله تعالى : { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ } فقالوا : أيَّاماً ، أو شهوراً ، أو سنين ، فنزلت « سنين » .
وقال الفراء : من العرب من يضع « سنين » موضع سنة .
ونقل أبو البقاء أنها بدل من « مِئَةٍ » لأنها في معنى الجمع . ولا يجوز أن يكون « سِنينَ » في هذه القراءة تمييزاً؛ لأنَّ ذلك إنما يجيء في ضرورةٍ مع إفرادِ التمييز؛ كقوله :
3507أ- إذَا عَاشَ الفَتَى مِئَتيْنِ عَاماً ... فَقدْ ذَهبَ اللَّذاذَةُ والفَتَاءُ .
فصل
قيل : المعنى : ولبثوا في كهفهم سنين ثلاثمائة { وازدادوا تِسْعاً } .
قال الكلبيُّ : قالت نصارى نجران : أما الثلاثمائة ، فقد عرفناها ، وأما التسع ، فلا علم لنا بها ، فنزلت : { قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } .
روي عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنه قال : عند أهل الكتاب : أنَّهم لبثُوا ثَلاثمائَةٍ شَمْسيَّة ، والله تعالى ذَكرَ ثَلاثمَائةِ سنةٍ قمريَّة ، والتَّفاوتُ بين الشَّمسية والقمريَّة في كلِّ مائةِ سنةٍ ثلاث سنين ، فيكونُ ثَلاثمائَةٍ ، وتِسْع سنينَ ، فَلذلِكَ قال : « وازْدَادُوا تِسْعاً » .
قال ابن الخطيب : وهذا مشكلٌ؛ لأنه لا يصحُّ بالحساب ، فإن قيل : لِمَ لا قيل : ثلاثمائة ، وتسع سنين؟ .
وما الفائدة في قوله : « وازْدَادُوا تِسْعاً » ؟ .
فالجواب : أن يقال : لعلَّهم لما استكمل لهم ثلاثمائة سنة ، قرب أمرهم من الانتباه ، ثمَّ اتفق ما أوجب [ بقاءهم في النَّوم ] تسع سنين .
قوله : « تِسْعاً » أي : تسع سنين ، حذف المميِّز؛ لدلالةِ ما تقدَّم عليه؛ إذ لا يقال : عندي ثلاثمائة درهم وتسعة ، إلا وأنت تعني : تسعة دراهم ، ولو أردتَّ ثياباً ونحوها ، لم يجزْ؛ لأنه إلغازٌ ، و « تِسْعاً » مفعولٌ به ، وازداد : افتعل ، أبدلت التاء دالاً بعد الزاي ، وكان متعدِّياً لاثنين؛ نحو : { وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } [ الكهف : 13 ] ، فلما بني على الافتعال ، نقص واحداً .
وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية « تسعاً » بفتح التاء كعشرٍ .
قوله : { قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } أنه تعالى أعلم بمقدار هذه المدَّة من الناس الذين اختلفوا فيها؛ لأنَّه إله السموات والأرض ومدبِّر العالم له غيبُ السَّموات والأرض .
والغَيْبُ : ما يغيب عن إدراكك ، والله - تعالى - لا يغيبُ عن إدراكه شيءٌ ، ومن كان عالماً بغيب السموات والأرض ، يكون عالماً بهذه الواقعة ، لا محالة .
قوله : { أَبْصِرْ بِهِ } : صيغة تعجُّب بمعنى « مَا أبْصرَهُ » على سبيل المجاز ، والهاء لله تعالى ، وفي مثل هذا ثلاثة مذاهب : الأصح : أنه بلفظ الأمر ، ومعناه الخبر ، والباء مزيدة في الفاعل؛ إصلاحاً للفظ أي ما أبصر الله بكلِّ موجودٍ ، وأسمعه بكلِّ مسموعٍ .
والثاني : أنَّ الفاعل ضمير المصدر .
والثالث : أنه ضمير المخاطب ، أي : أوقع أيُّها المخاطب ، وقيل : هو أمر حقيقة لا تعجب ، وأن الهاء تعود على الهدى المفهوم من الكلام .
وقرأ عيسى : « أسْمعَ » و « أبْصرَ » فعلاً ماضياً ، والفاعل الله تعالى ، وكذلك الهاء في « به » ، أي : أبصر عباده وأسمعهم .
وتقدَّم الكلام على هذه الكلمة عند قوله : { فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار } [ البقرة : 175 ] .
قوله : { مَا لَهُم } أي : ما لأهلِ السموات والأرض .
قوله : « مِنْ دُونهِ » أي : من دون الله .
قوله : « مِنْ وليٍّ » أي من ناصرٍ .
و « مِنْ وليٍّ » يجوز أن يكون فاعلاً ، وأن يكون مبتدأ .
قوله : « ولا يُشْرِكُ » قرأ ابن عامر بالتاء والجزم [ عطفاً على قوله :
{ وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ } [ الكهف : 23 ] وقوله : { واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عسى } ] أي : ولا تشركْ أنت أيها الإنسانُ ، والباقون بالياء من تحت ، ورفع الفعل ، أي : ولا يشرك الله في حكمه أحداً ، فهو نفيٌ محضٌ .
فصل في المراد بالحكم في الآية
قيل : الحكم ها هنا علم الغيب ، أي : لا يشركُ في علم غيبه أحداً .
وقرأ مجاهد وقتادة : « ولا يُشرِكْ » بالياء من تحت والجزم .
قال يعقوب : « لا أعرف وجهه » . قال شهاب الدين : وجهه أنَّ الفاعل ضميرُ الإنسان ، أضمر للعلم به .
والضمير في قوله « مَا لهُمْ » يعود على معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال ابن عطية : « وتكون الآية اعتراضاً بتهديد » كأنَّه يعني بالاعتراض : أنهم ليسوا ممَّن سيق الكلام لأجلهم ، ولا يريد الاعتراض الصِّناعي .
فصل
قوله : { مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ } .
قيل : ما لأصحاب الكهف من دون الله وليٌّ؛ فإنَّه هو الذي يتولَّى حفظهم في ذلك النَّوم الطَّويل .
وقيل : ليس لهؤلاءِ القوم المختلفين في مدَّة لبث أصحاب الكهف وليٌّ من دون الله ، يتولَّى أمرهم ، ويقيم لهم تدبير أنفسهم ، فإذا كانوا محتاجين إلى تدبير الله وحفظه ، فكيف يعلمون هذه الواقعة من غير إعلامه؟! .
فصل
واختلفوا في زمن أصحاب الكهف وفي مكانهم ، فقيل : كانوا قبل موسى - عليه الصلاة والسلام - وأنَّ موسى صلى الله عليه وسلم ذكرهم في التَّوراة ، فلهذا سأل اليهودُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصَّتهم .
وقيل : دخلوا الكهف قبل المسيح ، وأخبر المسيحُ بخبرهم ، ثم بعثوا في الوقت الذي بين عيسى ، وبين محمد صلى الله عليه وسلم .
وقيل : إنَّهم دخلوا الكهف بعد الميسح ، حكى هذا القول القفَّال عن محمد بن إسحاق ، وذكر أنهم لم يموتوا ، ولا يموتون إلى يوم القيامة .
وأمَّا مكان الكهف ، فحكى القفَّال عن محمد بن موسى الخُوارزميِّ المنجم : أن الواثق أنفذه؛ ليعرف حال أصحاب الكهف من ملك الرُّوم ، قال : فوجَّه ملكُ الرُّوم معي أقواماً إلى الموضع الذي يقال إنهم فيه .
وقيل : إنَّ الرجل قال : إنَّ الرجل الموكَّل بذلك الموضع فزَّعني من الدُّخول عليهم ، قال : فدخلت فرأيت الشُّعور على صدورهم .
قال : وعرفت أنَّ ذلك تمويهٌ واحتيالٌ ، وأنَّ الناس كانوا قد عالجوا تلك الجثث بالأدوية المجففة؛ لتصونها عن البلاء؛ كالتلطيخ بالصَّبر وغيره .
قال القفَّال : والذي عندنا أنَّ موضع أصحاب الكهف لا يعرف ، ولا عبرة بقول أهل الرُّوم ، وذكر الزمخشري عن معاوية « أنَّه لما غزا الرُّومَ ، فمرَّ بالكهف ، فقال : لو كشف عن هؤلاء ، ننظر إليهم ، فقال له ابن عباس : أيُّ شيءٍ لك في ذلك؟ قد منع الله من هو خيرٌ منك ، فقال : { لَو اطَّلعتَ عَليْهِمْ ، لولَّيتَ مِنهُمْ فِراراً ، ولمُلِئْتَ مِنهُمْ رُعْباً } .
فقال : لا أنتهي عن ذلك ، حتَّى أعلم حالهم ، فبعث أناساً ، فقال : اذهبوا ، فانظروا ، فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحاً ، [ فأخرجتهم ] » .
فصل
قال ابن الخطيب : والعلم بذلك الزَّمان ، وذلك المكان ، ليس للعقل فيه مجالٌ ، وإنما يستفاد ذلك من نصٍّ ، وهو مفقودٌ؛ فثبت أنَّه لا سبيل إليه .
قال ابن الخطيب : هذه السورة الثلاث اشتملت كلُّ واحدة منها على حصول حالةٍ غريبةٍ عجيبةٍ نادرةٍ في هذا العالم : سورة بني إسرائيل اشتملت على الإسراء بالجسد الشريف صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الشَّام ، وهي حالة عجيبة ، وهذه السورة اشتملت على بقاء القوم في النوم مدَّة ثلاثمائة سنةٍ ، وأزيد ، وهي أيضاً حالة عجيبة وسورة مريم اشتملت على حدوث الولد لا من الأب ، وهي أيضاً حاله غريبة والمعتمد في بيان هذه العجائب ، والغرائب المذكورة : أنَّه تعالى قادر على كلِّ الممكنات ، عالمٌ بجميع المعلومات من الجزئيات والكليَّات ، فإنَّ كلَّ ما كان ممكن الحصول في بعض الأوقات كان ممكن الحصول في سائر الأوقات .
وإذا ثبتت هذه الأصول الثلاثة ثبت القول بإمكان البعث ، ولما كان قادراً على الكل وثبت أن بقاء الإنسان حياً في النوم مدة يوم ممكن ، فكذلك بقاؤهُ مدة ثلاثمائة سنةٍ ، يوجب أن يكون ممكناً ، بمعنى : أن إله العالم يحفظه عن الآفةِ .
وأما الفلاسفةُ فإنهم يقولون : لا يبعد وقوع أشكالٍ فلكية غريبة توجب في عالم الكون والفساد حصول أحوالٍ غريبة نادرة ، وذكر أبو علي بن سفيان في « باب الزَّمان » من كتاب « الشِّفا » أن أرسطاطاليس الحكيم ذكر أنه عرض لقوم من المباطيل حالةٌ شبيهة بأصحاب الكهف .
قال ابن سينا : ويدلُّ التاريخ على أنهم قبل أصحاب الكهف .
قوله تعالى : { واتل مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ } الآية .
اعلم أن كفَّار قريش اجتمعوا ، وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أردت أن نؤمن بك فاطرد هؤلاء الذين آمنوا بك ، فنهاهُ الله عن ذلك ، وبيّن في هذه الآيات أنَّ الذي اقترحوه والتمسوه مطلوب فاسد ، ثم إنه تعالى جعل الأصل في هذا الباب شيئاً واحداً ، وهو أن يواظب على تلاوة الكتاب الذي أوحاه الله إليه ، ولا يلتفت إلى اقتراح المقترحين وتعنتهم ، فقال : { واتل مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ } أي التزم قراءة الكتاب الذي أوحي إليك والزم العمل به { لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } أي : لا مغيِّر للقرآن ، وهذه آية تدل على أنه لا يجوز تخصيص النصِّ بالقياس؛ لأن معنى الكلام : الزم العمل بمقتضى هذا الكتاب ، وذلك يقتضي وجوب العمل بمقتضى ظاهره .
فإن قيل : فيجب ألا يتطرَّق النسخ إليه أيضاً .
فالجواب : أن هذا مذهبُ أبي مسلم الأصفهاني ، وليس ببعيد ، وأيضاً فالنسخ في الحقيقة ليس بتبديلٍ؛ لأن المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ ، فالناسخ كالمغاير ، فكيف يكون تبديلاً؟ ثم قال : { ولن تَجدِ مِنْ دُونهِ مُلتحداً } أي : ملجأ ، قال أهل اللغة : هو من لحد وألحد : إذا مال ، ومنه قوله
{ الذين يُلْحِدُونَ } [ فصلت : 40 ] والملحدُ : الماثل عن الدِّين .
قال ابن عباس : حرزاً .
وقال الحسن : مدخلاً .
وقال مجاهد : ملجأ .
وقيل : ولن تجد من دونه ملتحداً في البيان والإرشاد .
قوله : { واصبر نَفْسَكَ } أي : احبسها وثبتها قال أبو ذؤيب : [ الكامل ]
3507ب- فَصَبرْتُ نَفْساً عِنْدَ ذلِكَ حُرَّة ... تَرْسُو إذَا نَفْسُ الجَبانِ تَطلَّعُ
وقوله : « بالغَداةِ » تقدَّم الكلام عليها في الأنعام .
فصل في نزول الآية
نزلت في عيينة بن حصن الفزاريِّ ، أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم ، وعنده جماعةٌ من الفقراءِ فيهم سلمان ، وعليه شملةٌ قد عرق فيها ، وبيده خوصةٌ يشقها ، ثم ينسجها؛ فقال عيينة للنبي صلى الله عليه وسلم : أما يؤذيكَ ريحُ هؤلاء؟ ونحن سادات مضر وأشرافها فإن أسلمنا ، أسلم الناس ، وما يمنعنا من اتِّباعِكَ إلاَّ هؤلاء ، حتى نتبعك ، واجعل لنا مجلساً ، ولهم مجلساً ، فأنزل الله تعالى : { واصبر نَفْسَكَ } ، أي : احبسْ يا محمد نفسك { مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي } طرفي النَّهار ، { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } أي : يريدون الله ، لا يريدون به عرضاً من الدنيا .
وقال قتادة : نزلت في أصحاب الصُّفة ، وكانوا سبعمائة رجلٍ فقراء في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرجعون إلى تجارة ، ولا إلى زرع ، يصلُّون صلاة ، وينتظرون أخرى ، فلما نزلت هذه الآية ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : « الحمد لله الذي جعل في أمَّتي من أمرتُ أن أصبر نفسي معهم » . وهذه القصة منقطعة عما قبلها ، وكلامٌ مفيدٌ مستقلٌّ ، وتقدم نظير هذه الآية في سورة الأنعام ، وهو قوله تعالى : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي } [ الأنعام : 52 ] ففي تلك الآية نهى الرسول - عليه السلام - عن طردهم ، وفي هذه الآية أمرهُ بمجالستهم والمصابرة معهم .
فصل في قراءات الآية
قرأ ابن عامر بالغداة والعشيّ ، بضمِّ الغين ، والباقون بالغَداة ، وهما لغتان ، فقيل : المراد كونهم مواظبين على هذا العمل في كلِّ الأوقاتِ كقول القائل : ليس لفلانٍ عمل بالغداة والعشيِّ إلاَّ شتم الناس ، وقيل : المراد صلاة الفجر والعصر .
وقيل : المراد الغداة هي الوقت الذي ينتقل الإنسان فيه من النَّوم إلى اليقظة ، ومن اليقظة إلى النَّوم .
قوله : { وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أن مفعوله محذوف ، تقديره : ولا تعد عيناك النظر .
والثاني : أ ، ه ضمِّن معنى ما يتعدَّى ب « عَنْ » قال الزمخشريُّ : « يقال : عدَّاه ، أي : جاوزه فإنما عدِّي ب » عَنْ « لتضمين » عَدا « معنى نبا وعلا في قولك : نَبتْ عنه عينه ، وعلتْ عنه عينه ، إذا اقتحمته ، ولم تعلق به ، فإن قيل : أي غرضٍ في هذا التضمين؟ وهلاَّ قيل : ولا تعدهم عيناك ، أو : ولا تعل عيناك عنهم؟ فالجواب : الغرض منه إعطاءُ مجموع معنيين ، وذلك أقوى من إعطاء معنى [ فذٍّ ] ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك : ولا تقتحمهم عيناك متجاوزتين إلى غيرهم ، ونحوه
{ وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ] ، أي : لا تضمُّوها إليها آكلين لها « .
وردَّه أبو حيان : بأنَّ مذهب البصريين أن التضمين لا ينقاس ، وإنما يصار إليه عند الضرورة ، فإذا أمكن الخروج عنه ، فلا يصار إليه .
وقرأ لحسن » ولا تُعدِ عَينَيْكَ « من أعدى رباعيًّا ، وقرأ هو ، وعيسى ، والأعمش » ولا تُعدِّ « بالتشديد ، من عدَّى يعدِّي مضعفاً ، عدَّاه في الأولى بالهمزة ، وفي الثانية بالتثقيل؛ كقول النابغة : [ البسيط ]
3508- فَعدِّ عَمَّا تَرَى إذْ لا ارتِجاعَ لهُ ... وانْمِ القُتودَ على عَيْرانةٍ أجُدِ
كذا قال الزمخشري ، وأبو الفضل ، وردَّ عليهما أبو حيان : بأنه لو كان تعدِّيه في هاتين القراءتين بالهمزة ، أو التضعيف ، لتعدَّى لاثنين؛ لأنه قبل ذلك متعد لواحد بنفسه ، وقد أقرَّ الزمخشري بذلك؛ حيث قال : » يقال : عداهُ إذا جاوزه ، وإنَّما عدِّي ب « عن » لتضمنه معنى علا ، ونبا « فحينئذٍ يكون » أفْعلَ « و » فعَّل « ممَّا وافقا المجرَّد وهو اعتراضٌ حسنٌ .
فصل
يقال : عدَّاه ، إذا جاوزه ، ومنه قولهم : عدا طورهُ ، وجاءني القومُ عدا زيداً؛ لأنَّها تفيد المباعدة ، فكأنَّه تعالى نهى نبيَّه عن مباعدتهم ، والمعنى : لا تزدري فقراء المؤمنين ، ولا تثني عينيك عنهم؛ لأجل مجالسته الأغنياء .
ثم قال : » تُريدُ « جملة حالية ، ويجوز أن يكون فاعل » تريدُ « المخاطب ، أي : تريد أنت ، ويجوز أن يكون ضمير العينين ، وإنما وحِّد؛ لأنهما متلازمان يجوز أن يخبرَ عنهما خبر الواحد ، ومنه قول امرئ القيس : [ الهزج ]
3509- لِمَنْ زُحلوفَةٌ زُلُّ ... بِهَا العَيْنانِ تَنهَلُّ
وقول الاخر : [ الكامل ]
3510- وكَأنَّ في العَيْنينِ حبَّ قَنْفُلٍ ... أو سُنْبُلاً كُحلَْ بِهِ فانهَلَّتِ
وفيه غير ذلك ، ونسبة الإرادة إلى العينين مجازٌ ، وقال الزمخشري : » الجملة في موضع الحال « قال أبو حيان : » وصاحبُ الحال ، إن قدِّر « عَيْناكَ » فكان يكون التركيبُ : يريدان « . قال شهاب الدين : غفل عن القاعدة المتقدِّمة : من أنَّ الشيئين المتلازمين يجوز أن يخبر عنهما إخبار الواحد ، ثم قال : » وإن قدَّر الكاف ، فمجيءُ الحال من المجرورِ بالإضافة نحو هذا فيه إشكالٌ؛ لاختلاف العامل في الحال ، وذي الحال ، وقد أجاز ذلك بعضهم ، إذا كان المضاف جزءاً أو كالجزءِ ، وحسَّن ذلك أنَّ المقصود هو نهيه - عليه الصلاة والسلام - وإنما جيء بقوله « عَيْناكَ » والمقصود هو؛ لأنَّهما بهما تكونُ المراعاة للشخص والتلفُّتُ له « .
قال شهاب الدين : وقد ظهر لي وجهٌ حسنٌ ، لم أر غيري ذكره : وهو أن يكون » تَعْدُ « مسنداً لضمير المخاطب صلى الله عليه وسلم ، و » عَيْناَ « بدلا من الضمير ، بدل بعض من كل ، و » تُرِيدُ « على وجهيها من كونها حالاً من » عَيْناكَ « أو من الضمير في » تَعْدُ « إلا أن في جعلها حالاً من الضمير في » ولا تعدُ « ضعفاً؛ من حيث إنَّ مراعاة المبدل منه بعد ذكر البدل قليلٌ جدًّا ، تقول : » الجاريةُ حسنها فاتنٌ « ولا يجوز » فَاتِنةٌ « إلاَّ قليلاً ، كقوله :
3511أ- فَكَأنَّهُ لَهِقُ السَّراة كأنَّهُ ... مَا حَاجِبَيْهِ مُعيَّنٌ بِسوَادِ
فقال : « مُعيَّنٌ » مراعاة للهاء في « كَأنَّه » وكان الفصيحُ أن يقول : « مُعيَّنانِ » مراعاة لحاجبيه الذي هو البدل .
فصل
{ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا } ، أي تطلب مجالسة الأغنياء ، والأشراف ، وصحبة أهل الدنيا ، ولما جاء أمره بمجالسة الفقراء من المسلمين ، نهاه عن الالتفات إلى قول الأغنياء والمتكبرين ، فقال : { وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا } يعني عيينة بن حصين ، وقيل : أميَّة بن خلف ، { واتبع هَوَاهُ } في طلب الشَّهوات { وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } قال قتادة ومجاهد : ضياعاً .
وقيل : ندماً ، وقال مقاتلٌ : سرفاً .
وقال الفراء : متروكاً .
وقيل : باطلاً .
وقال الأخفش : مجاوزاً للحدِّ .
قوله : « أغْفَلنَا قَلبَهُ » العامة على إسناد الفعل ل « ن » و « قلبهُ » مفعول به .
وقرأ عمرو بن عبيد ، وعمرو بن فائد ، وموسى الأسواري بفتح اللام ، ورفع « قَلبهُ » أسندوا الإغفال إلى القلب ، وفيه أوجهٌ ، قال ابن جنِّي : من ظنَّنا غافلين عنه . وقال الزمخشريُّ : « من حَسِبنَا قلبُه غافلينَ ، من أغفلته ، إذا وجدته غافلاً » . وقال أبو البقاء : فيه وجهان :
أحدهما : وجدها قلبه معرضين عنه .
والثاني : أهمل أمرنا عن تذكُّرنا .
قوله : « فرطاً » يحتمل أن يكون وصفاً على « فعل » كقولهم : « فَرسٌ فرط » ، أي : متقدِّمٌ على الخيل ، وكذلك هذا ، أي : متقدِّماً للحقِّ ، وأن يكون مصدراً بمعنى التفريط ، أو الإفراط ، قال ابن عطيَّة : الفرط : يحتمل أن يكون بمعنى التفريط والتَّضييع ، أي : أمرهُ الذي يجب أن يلزم ، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف .
قال الليث : الفرط : الأمرُ الذي يفرط فيه ، يقال : كلُّ أمر فلانٍ فرطٌ ، وأنشد : [ الهزج ]
3511ب- لَقدْ كَلَّفْتنِي شَطَطَا ... وأمْراً خائباً فُرُطا
فصل
دلَّت هذه الآية على أنذَه تعالى هو الذي يخلق الجهل والغفلة في قلوب الجهَّال .
قالت المعتزلة : المراد بقوله : { أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا } : وجدنا قلبه غافلاً ، وليس المراد منه : خلق الغفلة .
ويدلُّ عليه ما روي عن عمرو بن معدي كرب الزبيديِّ أنَّه قال لبني سليم : « قَاتَلنَاكُمْ فَما أجَبْنَاكُمْ ، وسَألناكُمْ فَما أبْخَلْناكُمْ ، وهَجرْنَاكُمْ فمَا أفْحَمناكُمْ » أي ما وجدناكم جبناء ، ولا بخلاء ، ولا مفحمين .
وحمل اللفظ على هذا المعنى أولى؛ لوجوه :
الأول : لو كان كذلك ، لما استحقُّوا الذمَّ .
الثاني : أنه قال بعد هذه الآية { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } ولو كان تعالى خلق الغفلة في قلبه ، لما صحَّ ذلك .
الثالث : أنه لو خلق الغفلة في قلبه ، لوجب أن يقال : ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ، فاتبع هواهُ؛ لأن على هذا التقدير : يكون ذلك من أفعالش المطاوعة ، وهي إنما تعطف بالفاءِ ، لا بالواو ، يقال : كسرتهُ ، فانكسر ، ودفعته فاندفع ، ولا يقال : وانكسر ، واندفع .
الرابع : قوله : { واتبع هَوَاهُ } فلو أغفل قلبهم في الحقيقة ، لم يجز أن يضاف ذلك إلى { واتبع هَوَاهُ } .
والجواب عن الأول من وجهين :
الأول : أن الاشتراك خلاف الأصل ، فوجب أن يكون حقيقة في أحدهما مجازاً في الآخر ، وجعله حقيقة ف يالتكوين ، مجازاً في الوجدان أولى من العكس؛ لوجوه :
أحدها : مجيءُ بناءِ الأفعال بمعنى التَّكوين أكثر من مجيئه بمعنى الوجدان ، والكثرة دليلٌ على الرُّجحان .
وثانيها : أن مبادرة الفهم من هذا البناءِ إلى التَّكوين أكثر من مبادرته إلى الوجدان ، ومبادرة الفهم دليل الرجحان .
وثالثها : إنَّ جَعْلَنا إيَّاه حقيقة في التكوين أمكن من جعله مجازاً عن الوجدان؛ لأنَّ العلم بالشيء تابعٌ لحصول المعلوم ، فجعل اللفظ حقيقة في المتبوعِ مجازاً في التَّبع موافقٌ للمعقول ، أمَّا لو جعلناه حقيقة ف يالوجدان ، مجازاً في الإيجاد ، لزم جعله حقيقة في التَّبع مجازاً في الأصل ، وهو عكسُ المعقول .
والوجه الثاني من الجواب : سلَّمنا كون اللفظ مشتركاً بالنسبة إلى الإيجاد وإلى الوجدان ، إلاَّ أنَّا نقول : يجب حمل قوله : « أغْفَلْنَا » على إيجاد الغفلة؛ لأنَّ الدليل دلَّ على أنَّه يمتنع كون العبدُ موجداً للغفلة في نفسه؛ لأنَّه إذا حاول إيجاد الغفلة ، فإمَّا أن يحاول إيجاد مطلق الغفلة ، أو يحاول إيجاد الغفلة عن شيء معيَّن ، والأول باطلٌ ، وإلاَّ لم يكن حصول الغفلة عن هذا الشيء أولى بأن يحصل له الغفلة عن شيءٍ آخر؛ لأنَّ الطبيعة المشتركة فيها بين الأنواعِ الكثيرةِ تكون نسبتها إلى كلِّ تلك [ الأنواع ] على السويَّة .
والثاني أيضاً باطلٌ؛ لأنَّ الغفلة عبارةٌ عن غفلة لا تمتاز عن سائر الأقسام ، إلاَّ بكونها منتسبة غلى ذلك الشيء المعيَّن بعينه ، فعلى هذا : لا يمكن أن يقصد إلى إيجاد الغفلة عن كذا ، إلاَّ إذا تصوَّر العلم أن كون تلك الغفلة غفلة عن كذا ، ولا يمكنه أن يتصوَّر تلك الغفلة غفلة عن كذا إلاَّ إذا تصوَّر كذا؛ لأنَّ العلم بنسبة أمر إلى أمر آخر مشروطٌ بتصوُّر كلِّ واحد من المنتسبين؛ فثبت أنَّه لا يمكنه القصد إلى إيجاد الغفلة ، إلاَّ عند الشعور بكذا ، لكن الغفلة عن كذا ضدُّ الشعور بكذا؛ فثبت أن العبد لا يمكنه إيجاد هذه الغفلة إلاَّ عند اجتماع الضدين ، وذلك محالٌ ، والموقوف على المحال محالٌ ، فثبت أنَّ العبد غير قادرٍ على إيجاد الغفلة؛ فوجب أن يكون خالقُ الغفلة وموجدها في العباد هو الله تعالى ، وأما المدحُ والذمُّ فمعارضٌ بالعلم والدَّاعي ، وقد تقدَّم .
وأما قوله : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] فسيأتي الكلام عليه ، إن شاء الله تعالى .
وأما قولهم : لو كان المراد إيجاد الغفلة ، لوجب ذكر الفاء ، فهذا إنَّما يلزم لو كان خلق الغفلة في القلب من لوازمه حصول اتِّباع الشَّهوة والهوة ، كما أن الكسر من لوازمه حصول الانكسار ، وليس الأمر كذلك؛ لأنَّه لا يلزم من حصول الغفلة عن الله حصول متابعة الهوى؛ لاحتمال أن يصير غافلاً عن ذكر الله ، ولا يتَّبع الهوى ، بل يبقى متوقِّفاً حيراناً مدهوشاً خائفاً .
وذكر القفَّال في تأويل الآية على مذهب المعتزلة وجوهاً :
أحدها : أنه تعالى ، لما صبَّ عليهم الدنيا صبًّا ، وأدَّى ذلك إلى حصول الغفلة في قلوبهم ، صحَّ أن يقال : إنه تعالى حصل الغفلة في قلوبهم ، كقوله تعالى : { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَارا } [ نوح : 6 ] .
وثانيها : أن معنى { أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ } أي : تركناه ، فلم نسمهُ بسمةِ أهل الطَّهارة والتقوى .
وثالثها : { أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ } أي خلاَّه مع الشيطان ، ولم يمنعه منه . والجواب عن الأول : أنَّ فتح أبواب لذَّات الدنيا عليه ، هل يؤثِّر في حصول الغفلة في قلبه أو لا يؤثر؟ فإن أثر ، كان أثر إيصال اللذَّات إليه سبباً لحصول الغفلة في قلبه ، وذلك عينُ القول بأنه فعل الله ، أي : فعل ما يوجب الغفلة في قلبه ، وإن لم يؤثِّر في حصول الغفلة ، فبطل إسناده غليه ، وعلى الثاني وهو أنَّه بمعنى تركناه فهو لا يفيدُ إلاَّ ما ذكرناه .
وعن الثالث : إن كانت للتَّخلية؛ بمعنى حصول تلك الغفلة ، فهو قولنا ، وإلاَّ بطل إسناد تلك الغفلة إلى الله تعالى .
قوله تعالى : { وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ } الآية .
في تقرير النَّظم وجوهٌ :
الأول : أنه تعالى ، لمَّا أمر رسوله ألا يلتفت إلى قول الأغنياء ، قال : { وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ } الآية أي : قل لهؤلاء : هذا الدِّين الحق من عند الله تعالى ، فإن قبلتموه ، عاد النَّفع عليكم ، وإن لم تقبلوهُ ، عاد الضَّرر إليكم ، ولا تعلق لذلك بالفقر والغنى .
والثاني : أنَّ المراد أنَّ الحقَّ ما جاء من عند الله ، والحقَّ الذي جاءنا من عنده أن أصير نفسي مع هؤلاء الفقراء ، ولا أطردهم ، ولا ألتفت إلى الرؤساء ، [ ولا أنظر إلى ] أهل الدنيا .
والثالث : أن يكون المراد هو أنَّ الحقَّ الذي جاء من عند الله { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } وأنَّ الله تعالى لم يأذن في طرد أحدٍ ممَّن آمن وعمل صالحاً؛ لأجل أن يدخل في الإيمان جمع من الكفار .
فإن قيل : أليس أن العقل يقتضي ترجيح الأهمِّ ، وطرد أولئك الفقراء لا يوجب إلاَّ سقوط حرمتهم ، وهذا ضررٌ قليلٌ .
وأما عدم طردهم ، فإنَّه يوجبُ بقاء الكفَّار على الكفر ] ، لكن من ترك الإيمان؛ حذراً من مجالسة الفقراء ، فإنَّ إيمانهُ ليس بإيمان ، بل هو نفاقٌ؛ فيجب على العاقل ألاَّ يلتفت إلى من هذا حاله .
الرابع : قل يا محمد للَّذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا : يا أيُّها الناس ، من ربكم الحقُّ ، وإليه التوفيق والخذلان ، وبيده الهدى والضَّلال ، ليس إليَّ من ذلك شيءٌ ، وقد بعثتُ إلى الفقراءِ والأغنياء { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } وهذا على طريق التهديد والوعيد ، كقوله { اعملوا مَا شِئْتُم } [ فصلت : 40 ] والمعنى : لست بطارد المؤمنين لهواكم ، فإن شئتم ، فآمنوا ، وإن شئتم ، فاكفروا .
قال ابن عبَّاس : معنى الآية : من شاء الله له الإيمان ، آمن ، ومن شاء له الكفر ، كفر .
فصل
قالت المعتزلة : هذه الآية صريحةٌ في أنَّ الإيمان والكفر والطاعة والمعصية باختيار العبد .
قال ابن الخطيب : وهذه الآية من أقوى الدَّلائلِ على صحَّة مذهب أهل السُّنَّة؛ لأنَّ الآية صريحةٌ في أنَّ حصول الإيمان ، وحصول الكفر موقوفان على حصول مشيئة الإيمان وحصول مشيئة الكفر ، وصريح العقل يدلُّ على أنَّ الفعل الاختياريَّ يمتنع حصوله بدون القصد إليه ، وبدون الاختيار .
وإذا عرفت هذا ، فنقول : حصول ذلك القصد والاختيار ، إن كان بقصدٍ آخر يتقدَّمه ، لزم أن يكون كلُّ قصدٍ واختيارٍ مسبوقاً بقصدٍ آخر ، واختيارٍ آخر إلى غير نهاية ، وهو محالٌ؛ فوجب انتهاء ذلك القصد والاختيار إلى قصد واختيار يخلقه الله تعالى في العبد على سبيل الضرورة ، وعند حصول ذلك القصد الضروريِّ ، والاختيار الضروريِّ ، يجب الفعل؛ فالإنسان شاء أو لم يشأ ، فإنه تحصل في قلبه تلك المشيئة الجازمة الخالية عن المعاصي ، وإذا حصلت تلك المشيئةُ الجازمةُ ، فشاء أو لم يشأ ، يجب حصول الفعل ، فالإنسان مضطرٌّ في صورة مختار .
فصل
دلَّت الآية على أنَّ صدور الفعل عن الفاعل بدون القصد والدَّاعي محالٌ ، وعلى أنَّ صيغة الأمر لا لمعنى الطَّلب في كتاب الله كثيرةٌ .
قال عليٌّ - رضي الله عنه- : هذه الصيغة تهديدٌ ووعيدٌ ، وليست تخييراً .
ودلَّت أيضاً على أنَّه تعالى لا ينتفع بإيمان المؤمنين ، ولا يتضرر بكفر الكافرين ، بل نفع الإيمان يعود عليهم ، وضرر الكفر يعود عليهم؛ لقوله تعالى : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَ } [ الإسراء : 7 ] .
قوله : { وَقُلِ الحق } : يجوز فيه ثلاثة أوجه :
الأول : أنه خبر لمبتدأ مضمرٍ ، أي : هذا ، [ أي ] القرآن ، أو ما سمعتم الحقُّ .
الثاني : أنه فاعل بفعلٍ مقدرٍ ، دلَّ عليه السياقُ ، أي : جاء الحق ، كما صرَّح به في موضع آخر [ في الآية 81 من الإسراء ] ، إلاَّ أنَّ الفعل لا يضمر إلاَّ في مواضع تقدَّم التنبيه عليها ، منها : أن يجاب به استفهام ، أو يردَّ به نفي ، أو يقع بعد فعلٍ مبني للمفعول ، لا يصلح إسناده لما بعده؛ كقراءة : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال } [ النور : 36 ] كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى .
الثالث : أنه مبتدأ ، وخبره الجار بعده .
وقرأ أبو السمال قعنب : « وقُلُ الحقَّ » بضم اللام؛ حيث وقع ، كأنه إتباعٌ لحركة القاف ، وقرأ أيضاً بنصب « الحقَّ » قال صاحب « اللَّوامح » : « هو على صفة المصدر المقدَّر؛ لأنَّ الفعل يدلُّ على مصدره ، وإن لم يذكر ، فينصبه معرفة ، كما ينصبه نكرة ، وتقديره : وقل القول الحقَّ ، وتعلق » مِنْ « بمضمرٍ على ذلك ، أي : جاء من ربكم » انتهى .
وقرأ الحسن والثقفي بكسر لامي الأمر ، في قوله : « فليُؤمِنْ » و « فَليَكْفُرْ » وهو الأصل .
قوله : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن } يجوز في « مَنْ » أن تكون شرطية ، وهو الظاهر ، وأن تكون موصولة ، والفاء لشبهه بالشرط ، وفاعل « شَاءَ » : الظاهر أنه ضمير يعود على « مَنْ » وقيل : ضمير يعود على الله ، وبه فسَّر ابن عباس ، والجمهور على خلافه .
قوله : { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً } أعددنا وهيَّأنا ، من العتاد ، ومن العدَّة { لِلظَّالِمِينَ } للكافرين ، أي : لمن ظلم نفسه ، ووضع العبادة في غير موضعها .
واعلم أنَّه تعالى ، لمَّا وصف الكفر والإيمان ، والباطل والحق ، أتبعه بذكر الوعيد على الكفر ، وبذكر الوعد على الإيمان ، و العمل الصَّالح .
قوله : { أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } في محل نصبٍ ، صفة ل « ناراً » والسُّرادِقُ : قيل : ما أحاط بشيءٍ ، كالمضرب والخباءِ ، وقيل للحائط المشتمل على شيء : سُرادق ، قاله الهوريّ ، وقيل : هو الحجرة تكون حول الفسطاطِ ، وقيل : هو ما يمدُّ على صحنِ الدار ، وقيل : كل بيتٍ من كرسفٍ ، فهو سرادق ، قال رؤبة : [ الرجز - السريع ]
3512- يَا حكمُ بْنَ المُنذِرِ بْنِ الجَارُودْ ... سُرَادِقُ المَجْدِ عَليْكَ مَمدُودْ
ويقال : بيت مسردقٌ ، قال الشاعر : [ الطويل ]
3513- هو المُدخِلُ النُّعْمانَ بيْتاً سَماؤهُ ... صُدورُ الفُيولِ بعد بيتِ مُسرْدَقِ
وكان أبرويز ملك الفرس قد قتل النعمان بن المنذر تحت أرجُلِ الفيلةِ ، والفيول : جمع فيلٍ ، وقيل : السُّرادقُ : الدِّهليزُ ، قال الفرزدق : [ الطويل ]
3514- تَمنَّيْتهُمْ حتَّى إذا مَا لَقِيتَهُم ... تَركْتَ لَهُم قَبْلَ الضِّرابِ السُّرادِقَا
والسُّرادِقُ : فارسي معرب ، أصله : سرادة ، قاله الجواليقيُّ ، وقال الراغب : « السُّرادِقُ فارسيٌّ معربٌ ، وليس في كلامهم اسم مفرد ، ثالث حروفه ألفٌ بعدها حرفان » .
فصل
أثبت تعالى للنَّار شيئاً شبيهاً بالسرادقِ تحيط بهم من سائرِ الجهاتِ ، والمراد : أنهم لا مخلص لهم فيها ، ولا فُرجة ، بل هي محيطة بهم من كلِّ الجوانب .
وقيل : المراد بهذا السُّرادق الدخان الذي وصفه الله تعالى في قوله : { انطلقوا إلى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَب } [ المرسلات : 30 ] .
وقالوا : هذه الإحاطة بهم إنَّما تكون قبل دخولهم ، فيحيط بهم هذا الدخان كالسرادق حول الفسطاط .
وروى أبو سعيد الخدريُّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « سُرادِقُ النَّارِ أربعةُ جُدُرٍ ، كِثفُ كلِّ جدارٍ مَسِيرةُ أرْبعِينَ سنةً » .
وقال ابن عبَّاس : السُّرادِقُ حائط .
قوله : { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ } ، أي : يطلبوا الغوث ، والياء عن واوٍ؛ إذ الأصل : يستغوثوا ، فقلبت الواو ياء كما تقدم في قوله :
{ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 2 ] وهذا الكلام من المشاكلة والتَّجانس ، وإلاَّ فأيُّ إغاثةٍ لهم في ذلك؟ أو من باب التهكُّم؛ كقوله : [ الوافر ]
3515- .. تَحِيَّةُ بينهم ضَرْبٌ وجيعُ
وهو كثيرٌ .
وقوله : « كالمُهْل » صفة ل « ماء » والمهلُ : دُرْدِيُّ الزيت ، وقيل : ما أذيب من الجواهر كالنحاس والرصاص والذهب والفضة .
وعن ابن مسعود أنَّه دخل بيت المال ، وأخرج ذهباً وفضة كانت فيه ، وأوقد عليها ، حتَّى تلألأتْ ، وقال : هذا هو المهل .
وقيل : هو الصَّديد والقيح .
وقيل : ضرب من القطران ، والمَهَل بفتحتين : التُّؤدَةُ والوَقارُ ، قال : { فَمَهِّلِ الكافرين } [ الطارق : 17 ] .
قوله : « يَشوي الوجوه » يجوز أن تكون الجملة صفة ثانية ، وأن تكون حالاً من « ماء » لأنه تخصَّص [ بالوصف ] ، ويجوز أن تكون حالاً من الجارِّ ، وهو الكاف .
والشَّيءُ : الإنضاجُ بالنار من غير مرقةٍ ، تكون مع ذلك الشيء المشويِّ .
فصل
روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « بِماءِ كالمُهْلِ » قال : كعكر الزَّيت ، فإذا قرِّب إليه ، سقطت فروة وجهه فيه .
وسئل ابن مسعود عن المهل ، فدعا بذهب وفضة ، فأوقد عليهما النَّار ، حتَّى ذابا ، ثم قال : هذا أشبه شيءٍ بالمهل .
قيل : إذا طلبوا ماء للشُّرب ، فيعطون هذا المهل .
قال تعالى : { تصلى نَاراً حَامِيَةً تسقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ } [ الغاشية : 4 ، 5 ] .
وقيل : إنَّهم يستغيثون من حرِّ جهنَّم ، فيطلبون ما ء يصبونه على وجوههم للتبريد ، فيعطون هذا الماء؛ كما حكى عنهم قولهم : { أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء } [ الأعراف : 50 ] .
قوله : { بِئْسَ الشراب } المخصوص محذوف ، تقديره : هو ، أي : ذلك الماء المستغاث به .
قوله : { وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } « ساءت » هنا متصرفة على بابها ، وفاعلها ضمير النار ، ومرتفقاً تمييزٌ منقولٌ من الفاعلية ، أي : ساء ، وقبح مرتفقها . والمُرتَفقُ : المُتَّكأ ومنه سمي المرفق مرفقاً؛ لأنه يتكأ عليه ، وقيل : المنزل قاله ابن عبَّاس .
وقال مجاهد : مجتمعاً للرُّفقة؛ لأنَّ أهل النَّار يجتمعون رفقاء ، كما يجتمع أهل الجنَّة رفقاء .
فأمَّا رفقاء أهل الجنَّة ، فهم الأنبياءُ والصِّديقُون والشُّهداء والصالحون { وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً } [ النساء : 69 ] .
وأما رفقاء النَّار ، فهم الكفَّار والشَّياطين ، أي : بئسَ الرفقاءُ هؤلاءِ ، وبئس موضعُ الترافق النَّار ، كما أنه نعم الرفقاءُ أهل الجنَّة ، ونعم موضع الرفقاء الجنَّة ، قاله ابن عباس وقيل : هو مصدر بمعنى الارتفاق ، وقيل : هو من باب المقابلة أيضاً؛ كقوله في وصف الجنة بعد : { وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً } [ الكهف : 31 ] ، وإلاَّ فأيُّ ارتفاقٍ في النار؟ قال الزمخشري : إلا أن يكون من قوله : [ البسيط ]
3516- إنِّي أرِقْتُ قَبِتُّ اللَّيْلَ مُرتفِقاً ... كَأنَّ عينيَّ فيها الصَّابُ مَذْبُوحُ
فهو يعني من باب التَّهكُّم .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
قوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } الآية .
لما ذكر وعيد المبطلين ، أردفه بوعد المحقِّين ، وهذه الآية تدل على أنَّ العمل الصالح مغايرٌ للإيمان؛ لأنَّ العطف يوجب المغايرة .
قوله : { إِنَّا لاَ نُضِيعُ } : يجوز أن يكون خبر « إنَّ الَّذينَ » والرابط : إمَّا تكرر الظاهر بمعناه ، وهو قول الأخفش ، ومثله في الصلة جائزٌ ، ويجوز أن يكون الرابط محذوفاً ، أي : منهم ، ويجوز أن يكون الرابط العموم ، ويجوز أن يكون الخبر قوله : { أولئك لَهُمْ جَنَّاتُ } ويكون قوله : { إِنَّا لاَ نُضِيعُ } اعتراضاً ، قال ابن عطية : ونحوه في الاعتراض قوله : [ البسيط ]
3517- إنَّ الخَلِيفَةَ إنَّ الله ألبَسهُ ... سِربَالَ مُلكٍ بهِ تُزْجَى الخَواتِيمُ
قال أبو حيَّان : ولا يتعيَّنُ أن يكون « إنَّ الله ألبسَهُ » اعتراضاً؛ لجواز أن يكون خبراً عن « إنَّ الخليفة » . قال شهاب الدين : وابن عطيَّة لم يجعل ذلك معيَّناً بل ذكر أحد الجائزين فيه ، ويجوز أن تكون الجملتان- أعني قوله : { إِنَّا لاَ نُضِيعُ } وقوله { أولئك لَهُمْ جَنَّاتُ } - خبرين ل « إنَّ » عند من يرى جواز تعدد الخبر ، وإن لم يكونا في معنى خبر واحد .
وقرأ الثقفيُّ « لا نُضيِّعُ » بالتشديد ، عدَّاه بالتشديد ، كما عدَّاه الجمهور بالهمزة .
وقيل : ولك أن تجعل « أولئك » كلاماً مستأنفاً بياناً للأجرِ المبهمِ .
فصل
قال ابن الخطيب : قوله : { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } ظاهره يقتضي أنَّه استوجب المؤمن على الله بحسن عمله أجراً ، وعندنا الاستيجاب حصل بحكم الوعد . وعند المعتزلة : بذات الفعل ، وهو باطلٌ؛ لأنَّ نعم الله كثيرةٌ ، وهي موجبةٌ للشكر والعبوديَّة ، فلا يصير الشُّكر والعبودية بموجبٍ لثوابٍ آخر؛ لنَّ أداء الواجب لا يوجبُ شيئاً آخر .
واعلم أنَّه تعالى ، لمَّا أثبت الأجر المبهم ، أردفه بالتفصيل ، فبيَّن أولاً صفة مكانهم ، فقال : { أولئك لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ } والعدنُ في اللغة عبارة عن الإقامة ، يقال : عدن بالمكان ، إذا أقام به ، فيجوز أن يكون المعنى : أولئك لهم جنات إقامة [ كما يقال : دار إقامة ]
ويجوز أن يكون العدن اسماً [ الموضع ] معيَّن في الجنَّة ، وهو وسطها .
وقوله : « جنَّاتُ » اسم مع ، فيمكن أن يكون المراد ما قاله تعالى { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] ثم قال : { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 62 ] ويمكن أ ، يكون المراد نصيب كلِّ واحدٍ من المكلَّفين جنَّة على حدةٍ ، ثم ذكر أنَّ من صفات تلك الجنات أنَّ الأنهار تجري من تحتها ، وذلك لأنَّ أحسن مساكن الدنيا البساتين التي تجري فيها الأنهار ، ثمَّ ذكر ثانياً أنَّ لباسهم فيها ينقسم قسمين : لباسُ التستُّر ، ولباس التحلِّي .
فأمَّا لباس التحلِّي فقال : { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ } فقيل : على كلِّ واحد منهم ثلاثة أسورة : سوارٌ من ذهبٍ لهذه الآية ، وسوار من فضَّة؛ لقوله :
{ وحلوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ } [ الإنسان : 21 ] ، وسوار من لؤلؤ؛ لقوله { وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [ الحج : 23 ] .
وأمَّا لباسُ التستُّر ، فلقوله : { وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } .
فالأول : هو الدِّيباجُ الرَّقيق .
والثاني : هو الديباجُ الصَّفيق .
وقيل : أصله فارسيٌّ معرَّبٌ ، وهو « إستبره » : أي غليظٌ .
قوله : { مِنْ أَسَاوِرَ } : في « مِنْ » هذه أربعة أوجه :
الأوّل : أنها للابتداءِ .
والثاني : أنها للتبعيض .
والثالث : أنها لبيان الجنس ، أي : أشياء من أساور .
والرابع : أنها زائدة عند الأخفش؛ ويدلُّ عليه قوله : { وحلوا أَسَاوِرَ } [ الإنسان : 21 ] . [ ذكر هذه الثلاثة الأخيرة أبو البقاء ] .
وأساور جمع أسورةٍ ، [ وأسْوِرَة ] جمع سِوار ، كحِمار وأحْمِرة ، فهو جمع الجمع . وقيل : جمع إسوارٍ ، وأنشد : [ الرجز ]
3518- واللهِ لَوْلاَ صِبْيَةٌ صِغَارُ ... كَأنَّمَا وجُوهُهمْ أقْمَارُ
أخَافُ أنْ يُصِيبَهُمْ إقْتَارُ ... أو لاطِمٌ ليْسَ لهُ إسْوَارُ
لمَّا رَآنِي مَلِكٌ جَبَّارُ ... بِبَابهِ مَا طَلَعَ النَّهارُ
وقال أبو عبيدة : هو جمع « إسوارٍ » على حذف الزيادة ، وأصله أساوِيرُ .
وقرأ أبان ، عن عاصم « أسْوِرَة » جمع سوارٍ ، وستأتي إن شاء الله تعالى في الزخرف [ الزخرف : 30 ] هاتان القراءتان في المتواتر ، وهناك يذكر الفرق إن شاء الله تعالى .
والسِّوارُ يجمع في القلَّة على « أسْوِرَةٍ » وف يالكثرة على « سُورٍ » بسكون الواو ، وأصلها كقُذلٍ وحُمرٍ ، وإنما سكنت؛ لأجل حرف العلَّة ، وقد يضمُّ في الضرورة ، قال : [ السريع ]
3519- عَنْ مُبرِقاتٍ بالبُرِينِ وتَبْ ... دُو في الأكُفِّ اللامعاتِ سُورْ
وقال أهل اللغة : السِّوارُ : ما جعل في الذِّراعِ من ذهبٍ ، أو فضَّة ، أو نحاسٍ ، فإن كان من عاج ، فهو قلبٌ .
قوله : « مِنْ ذهبٍ » يجوز أن تكون للبيان ، أو للتبعيض ، ويجوز أن تتعلق بمحذوفٍ؛ صفة لأساور ، فموضعه جرٌّ ، وأن تتعلق بنفس « يُحلَّوْنَ » فموضعها نصبٌ .
قوله : « ويَلْبَسُونَ » عطف على « يُحلَّوْن » وبني الفعل في التحليةِ للمفعول؛ إيذاناً بكرامتهم ، وأنَّ غيرهم يفعل بهم ذلك ويزيِّنهم به ، كقول امرئ القيس : [ الطويل ]
3520- عَرائِسُ في كِنٍّ وصَوْنٍ ونَعْمَةٍ ... يُحلَّيْنَ يَاقُوتاً وشَذْراً مُفقَّرا
اللِّبس ، فإنَّ الإنسان يتعاطاه بنفسه ، وقدِّم التَّحلِّي على اللباس؛ لأنه أشهى للنَّفس .
وقرأ أبان عن عاصم « ويَلْبِسُونَ » بكسر الباء . { مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } « مِنْ » لبيانِ الجنس ، وهي نعتٌ لثياب .
والسُّندسُ : ما رقَّ من الدِّيباج ، والإستبرق : ما غلظ منه وعن أبي عمران الجونيِّ اقل : السُّندسُ : هو الديباجُ المنسوج بالذَّهب ، وهما جمعُ سندسةٍ وإستَبْرقةٍ ، وقيل : ليسا جمعين ، وهل « إسْتَبْرق » عربيُّ الأصل ، مشتقٌّ من البريق ، أو معرب أصله إستبره؟ خلاف بين اللغويين . وقيل : الإستبرق اسم للحرير وأنشد للمرقش : [ الطويل ]
3521- تَراهُنَّ يَلبَسْنَ المشَاعِر مرَّةً ... وإسْتَبْرَقُ الدِّيباجِ طَوراً لِباسُهَا
وهو صالحٌ لما تقدَّم ، وقال ابن حجرٍ : « الإستبرقُ : ما نسج بالذَّهب » .
ووزن سُنْدسٍ : فُعْلُلٌ ، ونونه أصليةٌ .
وقرأ ابن محيصن « واستبرق » بوصل الهمزة وفتح القافِ غير منونة ، فقال ابن جنِّي : « هذا سهوٌ ، أو كالسَّهو » قال شهاب الدين : كأنه زعم أنَّه منعه الصَّرف ، ولا وجه لمنعه؛ لأنَّ شرط منع الاسم الأعجمي : أن يكون علماً ، وهذا اسم جنسٍ ، وقد وجَّهها غيره على أنه جعلها فعلاً ماضياً من « البريق » و « استَفْعَلَ » بمعنى « فعل » المجرد؛ نحو : قرَّ ، واستقرَّ . وقال الأهوازيُّ في « الإقناعِ » : « واسْتَبْرَقَ بالوصل وفتح القاف حيث كان لا يصرفه » وظاهر هذا أنه اسم ، وليس بفعلٍ ، وليس لمنعه وجه؛ كما تقدَّم عن ابن جنِّي ، وصاحب « اللوامح » لمَّا ذكر وصل الهمزة ، لم يزد على ذلك ، بل نصَّ على بقائه منصرفاً ، ولم يذكر فتح القاف أيضاً ، وقال ابنُ محيصنٍ : « واسْتَبْرَق » بوصل الهمزة في جميع القرآن ، فيجوز أنه حذف الهمزة تخفيفاً؛ على غير قياسٍ ، ويجوز أنَّه جعله عربيًّا من بَرِق يبرقُ بريقاً ، ووزنه استفعل ، فلمَّا سمِّي به ، عامله معاملة الفعل في وصل الهمزة ، ومعاملة التمكين من الأسماء في الصَّرف والتنوين ، وأكثر التفاسير على أنَّه عربية ، وليس بمستعربٍ ، دخل في كلامهم ، فأعربوه « .
قوله : » مُتَّكئين « حالٌ ، والأرائِكُ : جمع أريكةٍ ، وهي الأسرَّة ، بشرط أن تكون في الحجالِ ، فإن لم تكن لم تسمَّ أريكة ، وقيل : الأرائكُ : الفرشُ في الحجالِ أيضاً ، وقال الراغب : » الأريكةُ : حجلة على سريرٍ ، فتسميتها بذلك : إمَّا لكونها في الأرض متَّخذة من أراك ، أو من كونها مكاناً للإقامة؛ من قولهم : أَرَكَ بالمكانِ أروكاً ، وأصل الأروكِ الإقامة على رعي الأرَاكِ ، ثم تجوز به في غيره من الإقامات « .
وقرأ ابن محيصن » عَلَّرائِكِ « وذلك : أنه نقل حركة الهمزة إلى لام التعريف ، فالتقى مثلان : لام » على « - فإنَّ ألفها حذفت؛ لالتقاء الساكنين - ولام التعريف ، واعتدَّ بحركة النقل ، فأدغم اللام في اللام؛ فصار اللفظ كما ترى ، ومثله قول الشاعر : [ الطويل ]
3522- فَمَا أصْبحَتْ عَلَّرْضِ نفسٌ بَريئةٌ ... ولا غَيْرُهَا إلاَّ سُليْمَانُ نَالهَا
يريد » عَلَى الأرض « وقد تقدَّم قراءة قريبة من هذه أوَّل البقرة : » بما أنزِلَّيكَ « ، أي : قوله : نعم الثواب » أي : نعم الجزاء .
قوله : { وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً } مجلساً ، ومقرّاً ، وهذا في مقابلة قوله : { وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } [ الكهف : 29 ] .
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
قوله تعالى : { واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ } الآية .
وجه النَّظم أن الكفار ، لمَّا افتخرُوا بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين ، بيَّن الله تعالى أنَّ ذلك ممَّا لا يوجب الافتخار ، لاحتمال أن يصير الغنيُّ فقيراً ، والفقير غنيًّا ، وأما الذي تجبُ المفاخرةُ به فطاعة الله وعبادته ، وهي حاصلةٌ لفقراءِ المسلمين ، وبيَّن ذلك بضرب هذا المثل؛ فقال : { واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ } أي : مثل حال الكافرين والمؤمنين كحال رجلين ، وكانا أخوين في بني إسرائيل : أحدهما : كافرٌ ، واسمه [ براطوس ] ، والآخر : مؤمنٌ ، اسمه يهوذا ، قاله ابن عباس .
وقال مقاتل : اسم المؤمن تمليخا ، واسم الكافر قطروس .
وقيل : قطفر ، وهما المذكوران في سورة « الصافات » في قوله تعالى : { إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين } [ الصافات : 51 ، 52 ] على ما رواه عبد الله بن المبارك عن معمَّرٍ عن عطاءٍ الخراسانيِّ ، قال : كانا رجلين شريكين ، لهما ثمانية آلافِ دينارٍ .
وقيل : كانا أخوين ، وورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينارٍ ، فأخذ كلُّ واحدٍ منهما أربعة آلاف دينارٍ ، فاشترى الكافر أرضاً بألفٍ ، فقال المؤمن : اللَّهم ، إنَّ أخي اشترى أرضاً بألف ، وإنِّي أشتري منك أرضاً بألف في الجنَّة ، فتصدَّق به .
ثم [ بنى ] أخوه داراً بألف ، فقال المؤمن : اللَّهم ، إني أشتري منك داراً بألف في الجنَّة ، فتصدق به .
ثم تزوج أخوه امرأة بألف ، فقال المؤمن : اللَّهم ، إني جعلت ألفاً صداقاً للحور العين ، وتصدَّق به .
ثم اشترى أخوه خدماً ومتاعاً بألف دينار ، فقال المؤمن : اللهم ، إنِّي اشتريتُ منك الولدان بألف ، فتصدَّق به ، ثم أحاجه ، أي : أصابه حاجةٌ ، فجلس لأخيه على طريقه ، فمرَّ به في خدمه وحشمه ، فتعرَّض له ، فقال : فلانٌ؟! قال : نعم ، قال : ما شأنك؟ قال : أصابتني حاجةٌ بعدك ، فأتيتك لتصيبني بخير ، قال : ما فعل مالك ، وقد اقتسمنا المال [ سويَّة ] ، فأخذت شطره؟ فقصَّ عليه قصَّتهُ ، قال : إنَّك لمن المصدِّقين ، اذهب ، فلا أعطيك شيئاً .
وقيل : نزلتْ في أخوين من أهل مكَّة من بني مخزوم ، أحدهما : مؤمنٌ ، وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن عبد ياليل ، وكان زوج أمِّ سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم والآخر كافرٌ ، وهو الأسود بن عبد الأسد بن عبد ياليل .
قوله : { رَّجُلَيْنِ } : قد تقدم أنَّ « ضرب » مع المثل ، يجوز أن يتعدى لاثنين في سورة البقرة ، وقال أبو البقاء : التقدير : مثلاً مثل رجلين ، و « جَعلْنَا » تفسير ل « مَثَل » فلا موضع له ، ويجوز أن يكون موضعه نصباً نعتاً ل « رَجُليْنِ » كقولك : مررتُ برجلين ، جعل لأحدهما جنَّةٌ .
قوله : { وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ } يقال : حفَّ بالشيء : طاف به من جميع جوانبه ، قال النابغة : [ البسيط ]
3523- يَحُفُّهُ جَانِبَا نِيقٍ وتُتْبِعُهُ ... مِثلُ الزُّجاجةِ لمْ تُكْحَلْ من الرَّمدِ
وحفَّ به القوم : صاروا طائفين بجوانبه وحافَّته ، وحففته به ، أي : جعلته مطيفاً به .
والحِفاف : الجانبُ ، وجمعه أحِفَّةٌ ، والمعنى : جعلنا حول الأعناب النَّخْل .
قال الزمخشريُّ : وهذه الصفة ممَّا يؤثرها الدَّهاقين في كرومهم ، وهو أن يجعلوها محفوفة بالأشجار المثمرة ، وهو أيضاً حسنٌ في [ المنظر ] .
قوله : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً } قيل : كان الزَّرع في وسط الأعناب ، وقيل : كان الزَّرْع بين الجنَّتين ، أي : لم يكن بين الجنتين موضعٌ خالٍ .
والمقصود منه أمورق :
الأول : أن تكون تلك الأرض جامعة للأقوات والفواكه .
والثاني : أن تكون متَّسعة الأطراف ، متباعدة الأكناف ، ومع ذلك ، لم يتوسَّطها ما يقطع بعضها عن بعض .
والثالث : أنَّ مثل هذه الأرض تأتي كلَّ [ يوم ] بمنفعةٍ أخرى ، وثمرة أخرى فكانت منافعها دارّة متواصفة .
قوله : { كِلْتَا الجنتين } : قد تقدَّم في السورة قبلها [ الإسراء : 23 ] حكم « كلتا » وهي مبتدأ ، و « آتتْ » خبرها ، وجاء هنا على [ الكثير : وهو ] مراعاةُ لفظها ، دون معناها .
وقرأ عبد الله - وكذلك في مصحفه - « كِلا الجنَّتَيْنِ » بالتذكير؛ لأنَّ التأنيث مجازي ، ثم قرأ « آتتْ » بالتأنيث؛ اعتباراً بلفظ « الجَنَّتين » فهو نظير « طَلعَ الشَّمسُ ، وأشْرقَتْ » . وروى الفراء عنه قراءة أخرى : « كُلُّ الجنَّتينِ أتَى أكُلَهُ » أعاد الضمير على اللفظ « أكل » .
واعلم أنَّ لفظ « كل » اسمٌ مفردٌ معرفة يؤكَّد به مذكَّران معرفتان ، و « كِلْتَا » اسمٌ مفردٌ معرفة يؤكَّد به مؤنثان معرفتان ، وإذا أضيفا إلى المظهر كانا بالألف في الأحوال الثلاثة؛ كقولك : « جَاءنِي كِلاَ أخَويْكَ ، ورَأيْتُ كِلاَ أخَويْكَ ، ومَررْتُ بِكلا أخَويْكَ ، وجَاءنِي كِلْتَا أخْتَيْكَ ، ورأيْتُ كِلْتَا أخْتَيْكَ ، ومَرَرْتُ بِكلْتَا أخْتيْكَ » ، وإذا أضيفا إلى المضمر ، كانا في الرَّفع بالألف ، وفي الجر والنَّصب بالياءِ ، وبعضهم يقول مع المضمر بالألف في الأحوال الثلاثة أيضاً .
فصل
ومعنى { آتَتْ أُكُلَهَا } أعطت كلُّ واحدةٍ من الجنتين { أُكُلَهَا } ثمرها تامًّا ، { وَلَمْ تَظْلِمِ } لم تنقص ، { مِّنْهُ شَيْئاً } والظُّلم : النقصان ، يقول الرَّجُل : ظلمنِي حقِّي ، أي : نقصنِي .
قوله : « وفجَّرنَا » العامة على التشديد ، وإنما كان كذلك ، وهو نهرٌ واحدٌ مبالغة فيه ، وقرأ يعقوب ، وعيسى بن عمر بالتخفيف ، وهي قراءة الأعمش في سورة القمر [ القمر : 12 ] ، والتشديد هناك أظهر لقوله « عُيُوناً » .
والعامة على فتح هاء « نهر » وأبو السَّمال والفيَّاض بسكونها .
قوله : { وَكَانَ لَهُ } أي : لصاحب البستان .
قوله : { وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ } : قد تقدَّم الكلام فيه في الأنعام [ الأنعام : 99 ] ، وتقدَّم أنَّ « الثُّمُرَ » بالضمِّ المال ، فقال ابن عباس : جميع المال من ذهبٍ ، وفضةٍ ، وحيوانٍ ، وغير ذلك ، قال النابغة : [ البسيط ]
3524- مَهْلاً فِداءً لَكَ الأقْوامُ كُلُّهمُ ... ومَا أثمِّرُ من مالٍ ومِنْ وَلدِ
وقال مجاهد : هو الذهبُ والفضَّة خاصة .
« فقال » يعني صاحب البستان « لصاحبه » أي المؤمن .
« وهو يُحَاوِرهُ » أي : يخاطبه وهذه جملة حاليَّة مبيِّنةٌ؛ إذ لا يلزم من القول المحاورةُ؛ إذ لمحاورة مراجعة الكلام من حار ، أي : رجع ، قال تعالى : { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } [ الإنشقاق : 14 ] . وقال امرؤ القيس : [ الطويل ]
3525- ومَا المَرْءُ إلاَّ كالشِّهابِ وضَوْئهِ ... يَحُورُ رَماداً بَعْدَ إذْ هُوَ سَاطِعُ
ويجوز أن تكون حالاً من الفاعل ، أو من المفعول .
قوله : { أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً } .
والنَّفَرُ : العشيرة الذين يذبُّون عن الرجل ، وينفرون معه ، وقال قتادة : حشماً ، وخدماً .
وقال مقاتلٌ : ولداً تصديقه قوله : { أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً } [ الكهف : 39 ] .
قوله : { جَنَّتَهُ } : إنما أفرد بعد ذكر التثنية؛ اكتفاء بالواحد للعلمِ بالحال ، قال أبو البقاء : كما اكتفى بالواحد عن الجمع في قول الهذليِّ : [ الكامل ]
3526- فَالعيْنُ بَعدهُم كَأنَّ حِداقهَا ... سُمِلتْ بِشوْكِ فهي عُورٌ تَدْمَعُ
ولقائلٍ أن يقول : إنما يجوز ذلك؛ لأنَّ جمع التكسير يجري مجرى المؤنَّثة ، فالضمير في « سُمِلَتْ » وفي « فهي » يعود على الحداقِ ، لا على حدقةٍ واحدة ، كما يوهم .
وقال الزمخشري : « فإن قلت : لم أفرد الجنَّة ، بعد التثنية؟ قلت : معناه : ودخل ما هو جنَّتهُ ، ما له جنة غيرها ، بمعنى : أنه ليس له نصيب في الجنة الَّتي وعد المتَّقون ، فما ملكه في الدنيا ، فهو جنَّته ، لا غير ، ولم يقصد الجنتين ، ولا واحدة منهما » .
فصل
قال أبو حيان : « ولا يتصوَّر ما قال؛ لأنَّ قوله : { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ } إخبار من الله تعالى بأنَّ هذا الكافر دخل جنَّته ، فلا بدَّ أن قصد في الإخبار : أنه دخل إحدى جنتيه؛ إذ لا يمكن أن يدخلهما معاً في وقتٍ واحدٍ » . قال شهاب الدين : من ادَّعى دخولهما في وقتٍ واحدٍ ، حتَّى يلزمه بهذا المستحيلِ في البداية؟ وأمَّا قوله « ولم يقصد الجنَّتين ، ولا واحدة » معناه : لم يقصد تعيين مفردٍ ، ولا مثنى ، لا أنه لم يقصد الإخبار بالدخول .
وقال أبو البقاء : « إنما أفرد؛ لأنَّهما جميعاً ملكهُ ، فصارا كالشيء الواحد » .
قوله : « وهُو ظَالِمٌ » حال من فاعل « دَخلَ » ، وقوله « لنَفْسهِ » مفعول « ظَالِمٌ » واللام مزيدة فيه؛ لكون العامل فرعاً .
قوله : « { مَآ أَظُنُّ } فيه وجهان :
أحدهما : ان يكون مستأنفاً بياناً لسبب الظلم .
والثاني : أن يكون حالاً من الضَّمير في » ظَالِمٌ « ، أي : وهو ظالمٌ في حال كونه قائلاً .
قوله : » أنْ تَبِيدَ « أي : تهلك ، قال : [ المقتضب ]
3527- فَلئِنْ بَادَ أهْلهُ ... لبِما كَانَ يُوهَلُ
ويقال : بَادَ يَبيدُ بُيُوداً وبَيْدُودة ، مثل » كَيْنُونة « والعمل فيها معروفٌ ، وهو أنه حذفت إحدى الياءين ، ووزنها فيعلولة .
قوله : { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ } يعني الكافر آخذاً بيد صاحبه المسلم يطوف به فيها ، ويريه بهجتها وحسنها ، وأخبره بصنوف ما يملكه من المال { وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } بكفره ، وهذا اعتراضٌ وقع في أثناء الكلام ، والمعنى أنه لمَّا اغترَّ بتلك النِّعم ، وتوسَّل بها إلى الكفران والجحود؛ لقدرته على البعث ، كان واضعاً لتلك النِّعم في غير موضعها ، { قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً } .
قال أهل المعاني : لما أذاقه حسنها وزهوتها ، توهَّم أنها لا تفنى أبداً مطلقاً ، { وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً } فجمع بين كفرين .
الأول : قطعه بأنَّ تلك الأشياء لا تبيدُ أبداً .
والثاني : إنكار البعث .
فإن قيل : هب أنَّه شكَّ في القيامة ، فكيف قال : ما أظنُّ أن تبيد هذه أبداً ، مع أنَّ الحسَّ يدلُّ على أنَّ أحوال الدنيا بأسرها ذاهبةٌ غير باقية؟ .
فالجواب : مراده أنَّها لا تبيد مدَّة حياته ، ثم قال : { وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } أي مرجعاً وعاقبة ، وانتصابه على التَّمييز ، ونظيره قوله تعالى : { وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى } [ فصلت : 50 ] .
وقوله : { لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً } [ مريم : 77 ] .
فإن قيل : كيف قال : ولَئِنْ رددت إلى ربي وهو ينكرُ البعث؟ .
فالجواب : معناه : ولئنْ رددتُّ إلى ربِّي على زعمكَ ، يعطيني هنالك خيراً منها .
والسَّبب في وقوعه في هذه الشُّبهة أنَّه تعالى لمَّا أعطاه المال والجاه في الدنيا ، ظنَّ أنه إنَّما أعطاه ذلك؛ لكونه مستحقًّا له ، والاستحقاقُ باقٍ بعد الموت؛ فوجب حصول الإعطاء ، والمقدِّمة الأولى كاذبةٌ؛ فإن فتح باب الدنيا على الإنسان ، يكون في أكثر الأمر للاستدراج .
وقرأ أبو عمرو والكوفيون « مِنْهَا » بالإفراد؛ نظراً إلى أقرب مذكورٍ ، وهو قوله : « جنَّتهُ » وهي في مصاحف العراق ، دون ميم ، والباقون « مِنْهُما » بالتثنية؛ نظراً إلى الأصل في قوله : « جَنَّتيْنِ » و « كِلتَا الجنَّتيْنِ » ورُسِمَتْ في مصاحفِ الحرمينِ والشَّام بالميم ، فكل قد وافق رسم مصحفه .
قوله : { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ } أي المسلم .
قوله : { وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ } أي : خلق أصلك من تراب ، وهذا يدلُّ على أنَّ الشاكَّ في البعث كافرٌ .
ووجه الاستدلال أنَّه ، لمَّا قدر على [ الابتداء ] ، وجب أن يقدر على الإعادة .
وأيضاً : فإنَّه تعالى ، لمَّا خلقك هكذا ، فلم يخلقك عبثاً ، وإنَّما خلقك لهذا المعنى ، وجب أن يحصل للمطيع ثوابٌ ، وللمذنب عقابٌ؛ ويدلُّ على هذا قوله : { ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً } أي : هيَّأك تهيئة تعقل وتصلح أنت للتكليف ، فهل يحصل للعاقل مع هذه الآية إهمال أمرك؟! .
قوله : { مِن نُّطْفَةٍ } النُّطفة في الأصل : القطرة من الماء الصافي ، يقال : نَظفَ يَنطفُ ، أي : قطرَ يَقطُر ، وفي الحديث : « فَخرجَ ، ورَأسهُ يَنطفُ » وفي رواية : يَقطرُ ، وهي مفسِّرةٌ ، وأطلق على المنيِّ « نُطفَةٌ » تشبيهاً بذلك .
قوله : « رجُلاً » فيه وجهان :
أحدهما : أنه حالٌ ، وجاز ذلك ، وإن كان غير منتقلٍ ، ولا مشتقٍّ؛ لأنه جاء بعد « سوَّاك » إذ كان من الجائز : أن يسوِّيهُ غير رجل ، وهو كقولهم : « خَلقَ الله الزَّرافةَ يَديْهَا أطْولَ من رِجْلَيْهَا » وقول الآخر : [ الطويل ]
3528- فَجاءَتْ بِهِ سَبْطَ العِظامِ كأنَّما ... عِمامَتهُ بيْنَ الرِّجالِ لِوَاءُ
والثاني : أنه مفعول ثانٍ ل « سَوَّاكَ » لتضمُّنه معنى خلقك ، وصيَّرك وجعلك ، وهو ظاهر قول الحوفيِّ .
قوله : { لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي } : قرأ ابن عامر ، ويعقوب ، ونافع في رواية بإثبات الألف وصلاً ووقفاً ، والباقون بحذفها وصلاً ، وبإثباتها وقفاً وهي رواية عن نافعٍ ، فالوقفُ وفاقٌ .
والأصل في هذه الكلمة : « لكن أنّا » فنقل حركة همزة « أنَا » إلى نون « لكِنْ » وحذف الهمزة ، فالتقى مثلان ، فأدغم ، وهذا أحسنُ الوجهين في تخريج هذا ، وقيل : حذف همزة « أنا » [ اعتباطاً ] ، فالتقى مثلان ، فأدغم ، وليس بشيءٍ؛ لجري الأول على القواعد ، فالجماعة جروا على مقتضى قواعدهم في حذف ألف « أنّا » وصلاً ، وإثباتها وقفاً ، وقد تقدم لك : أنَّ نافعاً يثبت ألفه وصلاً قبل همزة مضمومة ، أو مكسورة ، أو مفتوحة؛ بتفصيلٍ مذكورٍ في البقرة ، وهنا لم يصادف همزة ، فهو على أصله أيضاً ، ولو أثبت الألف هنا ، لكان أقرب من إثبات غيره؛ لأنه أثبتها في الوصلِ جملة .
وأمَّا ابن عامرٍ ، فإنه خرج عن أصله في الجملة؛ إذ ليس من مذهبه إثبات هذه الألف وصلاً في موضع [ ما ] ، وإنما اتَّبع الرسم . وقد تقدَّم أنها لغة تميمٍ أيضاً .
وإعراب ذلك : أن يكون « أنَا » مبتدأ ، و « هو » مبتدأ ثانٍ ، و « هو » ضمير الشأن ، و « اللهُ » مبتدأ ثالث و « ربِّي » خبر الثالث ، والثالث وخبره خبر الثاني ، و الثاني وخبره خبر الأول ، والرابط [ بين الأول ] وبين خبره الياء في « ربِّي » ويجوز أن تكون الجلالة بدلاً من « هُوَ » أو نعتاً ، أو بياناً ، إذا جعل « هو » عائداً على ما تقدَّم من قوله « بالذي خلقك من تراب » لا على أنَّه ضمير الشأن ، وإن كان أبو البقاء أطلق ذلك ، وليس بالبيِّن .
وخرَّجه الفارسي على وجهٍ غريب : وهو أن تكون « لكِنَّا » « لكنَّ » واسمها وهو « ن » والأصل : « لكنَّنا » فحذف إحدى النونات؛ نحو : { إنَّا نَحْنُ } [ الحجر : 9 ] وكان حق التركيب أن يكون « ربُّنا » « ولا نُشرِكُ بربِّنا » قال : « ولكنه اعتبر المعنى ، فأفرد » وهو غريبٌ جدًّا .
قال الكسائي : فيه تقديمٌ وتأخيرٌ ، تقديره : « لكنَّ الله هُوَ ربِّي » .
وقرأ أبو عمرو « لكنَّهْ » بهاء السَّكت وقفاً؛ لأنَّ القصد بيان حركة نون « أنَا » فتارة تبيَّن بالألف ، وتارة بهاء السكت ، وعن حاتم الطائي : [ الرمل المجزوء ]
3529- هَكذَا فَرْدِي أَنَهْ ...
وقال ابن عطية عن أبي عمرو : روى عنه هارون « لكنَّه هو الله » بضمير لحق « لكن » قال شهاب الدين : فظاهر هذا أنه ليس بهاء السَّكت ، بل تكون الهاءُ ضميراً اسماً ل « لكِنْ » وما بعدها الخبر ويجوز أن يكون « هو » مبتدأ ، وما بعده خبره ، وهو وخبره خبر « لكنَّ » ويجوز أن يكون تأكيداً للاسم ، وأن يكون فصلاً ، ولا يجوز أن يكون ضمير شأنٍ؛ لأنه حينئذ لا عائد على اسم « لكنَّ » من هذه الجملة الواقعة خبراً .
وأمَّا في قراءة العامة : فلا يجوز أن تكون « لكنَّ » مشددة عاملة؛ لوقوع الضمير بعدها بصيغة المرفوع .
وقرأ عبد الله « لكنْ أنَا هُوَ » على الأصل من غير نقل ، ولا إدغامٍ ، وروى عنه ابنُ خالويه « لكنْ هُو الله » بغير « أنا » . وقرئ أيضاً « لكننا » .
وقال الزمخشريُّ : « وحسَّن ذلك - يعني إثبات الألف في الوصل - وقوع الألف عوضاً عن حذف الهمزة » ونحوه - يعني إدغام نون « لكن » في نون « نَا » بعد حذف الهمزة - قول القائل :
3530- وتَرْمِينَنِي بالطَّرْفِ أيْ أنْتَ مُذنِبٌ ... وتَقْلِيننِي لكنَّ إيَّاكِ لا أقْلِي
الأصل : لكن أنا ، فنقل ، وحذف ، وأدغم ، قال أبو حيان : « ولا يتعيَّن ما قاله في البيت؛ لجواز أن يكون حذف اسم » لكنَّ « [ وحذفه ] لدليلٍ كثيرٌ ، وعليه قوله :
3531- فَلوْ كُنْتَ ضَبيًّا عَرفْتَ قَرابتِي ... ولكنَّ زَنْجِيٌّ عَظِيمُ المَشافرِ
أي : ولكنَّك ، وكذا ها هنا : ولكنَّني إيَّاك » قال شهاب الدين : لم يدَّع الزمخشري تعين ذلك في البيت؛ حتَّى يردَّ عليه بما ذكره .
ويقرب من هذا ما خرَّجه البصريُّون في بيت استدلَّ به الكوفيون عليهم في جواز دخولِ لام الابتداء في خبر « لكنَّ » وهو : [ الطويل ]
3533- . . ... ولكنَّني من حُبِّهَا لعَمِيدُ
فأدخل اللام في خبر « لكنَّ » وخرَّجه البصريون على أن الأصل : « ولكن من حُبِّها » في قوله : « ولكنَّني من حُبِّها لعمِيدُ » ، فأدغم اللام في خبر « لكنَّ » ، وجوَّزه البصريُّون ، وخرَّجه طائفة من البصريِّين على أنَّ الأصل ولكن إنِّي من حُبِّها ، ثم نقل حركة همزة « إنِّي » إلى نون « لكن » بعد حذف الهمزة ، وأدغم على ما تقدَّم ، فلم تدخل اللام إلا في خبر « إنَّ » ، هذا على تقدير تسليم صحة الرواية ، وإلا فقالوا : إنَّ البيت مصنوعٌ ، ولا يعرف له قائلٌ .
والاستدراك من قوله « أكَفرْتَ » كأنَّه قال لأخيه : أنت كافرٌ؛ لأنَّه استفهام تقرير ، لكنَّني أنَّا مؤمنٌ؛ نحو قولك : « زَيْجٌ غَائبٌ ، لكنَّ عمراً حاضرٌ » لأنه قد يتوهَّم غيبةُ عمرو أيضاً .
فصل في المقصود بالشرك في الآية
معنى { وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً } .
ذكر القفال فيه وجهين :
الأول : أنِّي لا أرى الفقر والغنى إلاَّ منه؛ فأحمده إذا أعطى ، وأصبر ، إذا ابتلى ، ولا أتكبَّر عندما ينعم عليَّ ، ولا أرى كثرة [ المال ] ، والأعوان من نفسي ، وذلك لأنَّ الكافر ، لمَّا [ اعتزَّ ] بكثرة المال والجاه ، فكأنه قد أثبت لله شريكاً في إعطاء العزِّ والغنى .
الثاني : أنَّ هذا الكافر ، لمَّا أعجز الله عن البعث والحشر ، فقد جعله مساوياً للخلق في هذا العجز ، وإذا أثبت المساواة ، فقد أثبت الشَّريك .
قوله : { ولولاا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ الله } : « لولا » تحضيضيَّةٌ داخلة على « قلت » و « إذْ دَخلْتَ » منصوب ب « قُلْتَ » فصل به بين « لوْلاَ » وما دخلت عليه ، ولم يبال بذلك؛ لأنه ليس بأجنبيٍّ ، وقد عرفت أنَّ حرف التحضيضِ ، إذا دخل على الماضي ، كان للتَّوبيخ .
ومعنى الكلام : هلاَّ إذا دخلت جنَّتك ، قلت : ما شَاءَ الله ، أي : الأمر ما شاء الله ، وقيل : جوابه مضمرٌ ، أي : ما شاء الله كان .
{ مَا شَآءَ الله } يجوز في « مَا » وجهان :
الأول : أن تكون شرطية؛ فتكون في محلِّ نصبٍ مفعولاً مقدماً وجوباً ب « شاء » أي : أيَّ شيء شاء الله ، والجواب محذوف ، أي : ما شاء الله ، كان ووقع كما تقدم .
والثاني : أنها موصولة بمعنى « الذي » وفيها حينئذ وجهان :
أحدهما : أن تكون مبتدأة ، وخبرها محذوف ، أي : الذي شاء الله كائنٌ وواقعٌ .
والثاني : أنها موصولة بمعنى « الذي » وفيها حينئذ وجهان :
أحدهما : أن تكون مبتدأة ، وخبرها محذوف ، أي : الذي شاءه الله ، وعلى كل تقدير : [ فهذه الجملة ] في محل نصبٍ بالقول .
قوله : « إلاَّ الله » خبر « لا » التبرئةِ ، والجملة أيضاً منصوبة بالقولِ ، أي : هلاَّ قلت هاتين الجملتين .
فإن قيل : معنى { لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله } أي : لا أقدرُ على حفظ مالي ، ولا دفع شيءٍ عنه إلاَّ بالله .
روى هشامُ بن عروة عن أبيه : « أنَّهُ كان إذَا رأى مِنْ مَالهِ شَيْئاً يُعْجبهُ ، أو دَخَلَ حَائِطاً من حِيطانِه قال : مَا شَاءَ الله لا قُوَّة إلاَّ بالله » .
فالجواب : احتجَّ أهل السنَّة بقوله : { مَا شَآءَ الله } على أنَّ كلَّ ما أراده الله واقعٌ ، وكلَّ ما لم يقع ، لم يرده الله تعالى؛ وهذا يدلُّ على أن الله ما أراد الإيمان من الكافر ، وهو صريحٌ في إبطال قول المعتزلة .
فصل في الرد على استدلال المعتزلة بالآية
[ ذكر الجبائيُّ ] والكعبيُّ بأنَّ تأويل قولهم : « مَا شَاءَ الله » ممَّا تولَّى فعله ، لا ما هو فعل العباد ، كما قالوا : لا مردَّ لأمر الله ، لم يرد ما أمر به العباد ، ثم قال : لا يمتنع أن يحصل في سلطانه ما لا يريد ، كما يحصل فيه ما ينهى عنه .
واعلم أنَّ الذي ذكره الكعبيُّ ليس جواباً عن الاستدلال ، بل هو التزامٌ لمخالفة ظاهر النصِّ ، وقياس الإرادة على الأمر باطلٌ؛ لأنَّ هذا النصَّ دالٌّ على أنَّه لا يوجد إلاَّ ما أراده الله ، وليس في النصوص ما يدلُّ على أنَّه لا يدخل في الوجود إلاَّ ما أمر به ، فظهر الفرق . وأجاب القفَّال عنه بأن قال : هلاَّ إذا دخلت [ جنَّتك ] ، قلت : ما شاء الله ، أي : هذه الأشياء الموجودةُ في هذا البستان : ما شاء الله؛ كقول الإنسان ، إذا نظر غلى شيءٍ عمله زيدٌ : عمل زيدٍ ، أي : هذا عمل زيدٍ .
ومثله : { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] ، أي : قالوا : ثلاثةٌ ، وقوله : { وَقُولُواْ حِطَّةٌ } [ الأعراف : 161 ] أي : وقولوا : هذه حطَّة ، وإذا كان كذلك ، كان [ المراد أن ] هذا الشيء الموجود في البستان شيءٌ شاء الله تكوينه ، وعلى هذا التقدير : لم يلزم أن يقال : وقع كلُّ ما شاء الله؛ لأنَّ هذا الحكم غير عامٍّ في الكلِّ ، بل يختصُّ بالأشياء المشاهدة في البستان ، وهذا التأويلُ الذي ذكره القفَّال أحسن مما ذكره الجبائيُّ والكعبيُّ .
فصل
قال ابن الخطيب : وأقول : إنَّه على جوابه لا يندفع الإشكال عن المعتزلة؛ لأنَّ عمارة ذلك البستان ، ربَّما حصلت بالغصوب ، وبالظُّلم الشديد؛ فلا يصحُّ أيضاً على قول المعتزلة أن يقال : هذا واقعٌ بمشيئةِ الله ، اللهم ، إلاَّ أن يقال : المراد أنَّ هذه الثمار حصلت بمشيئة الله إلاَّ أنَّ هذا تخصيص لظاهر النصِّ من غير دليل .
وأمَّا أمر المؤمن الكافر بأن يقول : لا قُوَّة إلاَّ بالله ، أي : لا قُوَّة لأحدٍ على أمر من الأمور إلاَّ بإعانة الله وإقداره .
ثُمَّ إن المؤمن ، لما علَّم الكافر الإيمان ، أجابه عن الافتخار بالمال والنَّفر ، فقال : { إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً } .
واعلم أن ذكر الولد ها هنا يدلُّ على أنَّ المراد بالنَّفر المذكور في قوله : { وَأَعَزُّ نَفَراً } الأعوان والأولاد .
وقوله : { إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ } يجوز في « أنا » وجهان :
أحدهما : أن يكون مؤكِّداً لياء المتكلم .
والثاني : أنه ضمير الفصل بين المفعولين ، و « أقلَّ » مفعول ثانٍ ، أو حال بحسب الوجهين في الرؤية ، هل هي بصرية أو علمية؟ إلا أنَّك إذا جعلتها بصرية ، تعيَّن في « أنَا » أن تكون توكيداً ، لا فصلاً؛ لأنَّ شرطه أن يقع بين مبتدأ وخبر ، أو ما أصله المبتدأ والخبر .
وقرأ عيسى بن عمر « أقلُّ » بالرفع ، ويتعيَّن أن يكون « أنا » مبتدأ ، و « أقلُّ » خبره ، والجملة : إمَّا في موضع المفعول الثاني ، أو في موضع الحال على ما تقدَّم في الرؤية .
و « مَالاً وولداً » تمييزٌ ، وجواب الشرط قوله « فعَسَى ربِّي » .
قوله : { حُسْبَانًا } : الحسبان مصدر حسب الشيء يحسبه ، أي : أحصاهُ ، قال الزجاج : « أي عذاب حسبان ، أي : حساب ما كسبت يداك » وهو حسن .
فصل في معنى الحسبان
قال الراغب : « قيل : معناه ناراً ، وعذاباً ، وإنما هو في الحقيقة ما يحاسبُ عليه ، فيجازى بحسبه » وهذا موافق لما قاله أبو إسحاق ، والزمخشريُّ نحا إليه أيضاً ، فقال : « والحُسْبان مصدر؛ كالغفران والبطلان بمعنى الحساب ، أي : مقداراً حسبه الله وقدَّره ، وهو الحكم بتخريبها » . وهو قول ابن عباس وقيل : جمع حسبانةٍ ، وهي السَّهمُ .
وقال ابن قتيبة : مرامي من السَّماء ، وهي مثل الصَّاعقة ، أي : قطع من النَّار .
قوله : { أَوْ يُصْبِحَ } : عطف على « يُرْسلَ » قال أبو حيَّان : و « أوْ يُصْبِحَ » عطفٌ على قوله : « ويُرْسِلَ » لأن غُؤورَ الماءِ لا يتَسبَّبُ عن الآفةِ السماوية ، إلا إن عنى بالحسبان القضاء [ الإلهيَّ ] ؛ فحينئذ يتسبَّب عنه إصباحُ الجنة صعيداً زلقاً ، أو إصباح مائها غوراً .
والزَّلقُ والغَوْرُ في الأصل : مصدران وصف بهما للمبالغة .
والعامة على فتح الغين ، غَارَ المَاءُ يَغورُ غَوراً : غَاضَ وذهب ف يالأرض ، وقرأ البرجميُّ بضم الغين لغة في المصدر ، وقرأت طائفة « غُؤوراً » بضمِّ الغين ، والهمزة ، وواوٍ ساكنة ، وهو مصدر أيضاً ، يقال : غار الماء غؤوراً مثل : جلس جلوساً .
فصل في معنى قوله : { فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً }
معنى قوله : { فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً } أرضاً جرداء ملساء لا نبات فيها ، وقيل : تزلق فيها الأقدام .
وقال مجاهد : رملاً هائلاً ، والصعيد وجه الأرض .
{ أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً } أي : غائراً منقطعاً ذاهباً لا تناله الأيدي ، ولا الدِّلاءُ ، والغور : مصدر وقع موقع الاسم ، مثل زور وعدل .
قوله : { فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً } أي : فيصير بحيثُ لا تقدر على ردِّه إلى موضعه .
ثمَّ أخبر الله تعالى أنَّه حقَّق ما قدره هذا المؤمن ، فقال : { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } اي : أحاط العذاب بثمر جنته ، وهو عبارة عن إهلاكه بالكليَّة ، وأصله من إحاطة العدوِّ؛ لأنَّه إذا أحاط به ، فقد استولى عليه ، ثمَّ استعمل في كلِّ إهلاكٍ ، ومنه قوله تعالى : { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } [ يوسف : 66 ] .
قوله : { يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ } : قُرئ « تَقلَّبُ كفَّاهُ » ، أي : تتقلَّب كفَّاه ، و « أصْبحَ » : يجوز أن تكون على بابها ، وأن تكون بمعنى « صار » وهذا كناية عن الندم؛ لأنَّ النادم يفعل ذلك .
قوله : { عَلَى مَآ أَنْفَقَ } يجوز أن يتعلق ب « يُقلِّبُ » وإنما عدِّي ب « عَلَى » لأنه ضمِّن معنى « يَندَمُ » .
وقوله : « فيها » ، أي : في عمارتها ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنَّه حال من فاعل « يُقلِّبُ » أي : متحسِّراً ، كذا قدَّره أبو البقاس ، وهو تفسير معنى ، والتقدير الصناعي؛ إنما هو كونٌ مطلقٌ .
قوله : « ويَقُولُ » يجوز أن يكون معطوفاً على « يُقلِّبُ » ويجوز أن يكون حالاً .
فصل في كيفية الإحاطة
قال المفسرون : إنَّ الله تعالى أرسل عليها ناراً ، فأهلكتها وغار ماؤها ، { فَأَصْبَحَ } صاحبها الكافر { يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ } ، أي : يصفِّق بيديه ، إحداهما على الأخرى ، ويلقِّب كفَّيه ظهراً لبطن؛ تأسُّفاً وتلهُّفاً { عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ } ساقطة { على عُرُوشِهَا } سقوفها ، فتسقَّطت سقوفها ، ثمَّ سقطت الجدران عليها .
ويمكن أنَّ يكون المراد بالعروشِ عروش الكرم ، فتسقط العروش ، ثم تسقط الجدران عليها .
قوله : { وَيَقُولُ ياليتني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً } .
والمعنى : أن المؤمن ، لمَّا قال : { لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً } قال الكافر : يا ليتني قلت كذلك .
فإن قيل : هذا الكلام يوهم أنه إنما هلكت جنَّته؛ لشؤم شركه ، وليس الأمر كذلك؛ لأنَّ أنواع البلاء أكثرها إنَّما تقع للمؤمنين ، قال تعالى : { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } [ الزخرف : 33 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : « خُصَّ البَلاءُ بالأنْبِياءِ ، ثمَّ الأوْلياءِ ، ثُمَّ الأمثلِ فالأمثَلِ » .
وأيضاً : فلما قال : { ياليتني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً } فقدم ندم على الشِّرك ، ورغب في التوحيد؛ فوجب أن يصير مؤمناً ، فلم قال بعده : { وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله } ؟ .
فالجواب عن الأوَّل : أنه لمَّا عظمت حسراته لأجل أنه أنفق عمره في تحصيل الدنيا ، وكان معرضاً في عمره كلِّه عن طلب الدِّين ، فلما ضاعت الدنيا بالكليَّة ، بقي محروماً عن الدنيا والدِّين .
والجواب عن الثاني : أنَّه إنَّما نَدِمَ على الشِّرك؛ لاعتقاده أنَّه لو كان موحِّداً غير مشركٍ ، لبقيت عليه جنَّته ، فهو إنَّما رغب في التوحيد والردَّة عن الشِّرك؛ لأجل [ طلب ] الدنيا؛ فلهذا لم يقبل الله توحيده .
قوله : { وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ } : قرأ الأخوان [ « يَكُنْ » ] بالياء من تحت ، والباقون من فوق ، وهما واضحتان؛ إذ التأنيث مجازيٌّ ، وحسن التذكير للفصل .
قوله : « يَنْصُرونَهُ » يجوز أن تكون هذه الجملة خبراً ، وهو الظاهر ، وأن تكون حالية ، والخبر الجار المتقدم ، وسوَّغ مجيء الحال من النَّكرة تقدم النفي ، ويجوز أن تكون صفة ل « فئةٍ » إذا جعلنا الخبر الجارَّ .
وقال : « يَنْصُرونَهُ » حملاً على معنى « فِئةٍ » لأنَّهم في قوَّة القوم والنَّاس ، ولو حمل على لفظها ، لأفرد؛ كقوله تعالى : { فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ } [ آل عمران : 13 ] .
وقرأ ابن أبي عبلة : « تَنْصرُهُ » على اللفظ ، قال أبو البقاء : « ولو كان » تَنْصرهُ « لكان على اللفظ » . قال شهاب الدين : قد قرئ بذلك ، كما عرفت .
[ قال بعضهم ] : ومعنى « يَنْصُرونَهُ » يقدرون على نصرته ، ويمنعونه من عذاب الله { وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا } ممتنعاً متنعماً ، أي : لا يقدر على الانتصار لنفسه ، وقيل : لا يقدر على ردِّ ما ذهب عنه .
قوله : { هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ } : يجوز أن يكون الكلام تمَّ على قوله « مُنْتَصِراً » وهذه جملة منقطعة عمَّا قبلها ، وعلى هذا : فيجوز في الكلام أوجه :
الأول : أن يكون « هنالك الولايةُ » مقدَّراً بجملة فعلية ، فالولاية فاعل بالظرف قبلها ، أي : استقرَّت الولاية الله ، و « لله » متعلق بالاستقرار ، أو بنفس الظرف؛ لقيامه مقام العامل ، أو بنفسِ الولاية ، أو يمحذوفٍ على أنه حال من « الوَلاية » وهذا إنما يتأتَّى على رأي الأخفش من حيث إنَّ الظرف يرفع الفاعل من غير اعتمادٍ .
والثاني : أن يكون « هُنالِكَ » منصوباً على الظرف متعلقاً بخبر « الولاية » وهو « لله » أو بما تعلق به « لله » أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ منها ، والعامل الاستقرارُ في « لله » عند من يجيز تقدم الحال على عاملها المعنوي ، أو يتعلق بنفس « الولايةِ » .
والثالث : أن يجعل « هُنالِكَ » هو الخبر ، و « لله » فضلةٌ ، والعامل فيه ما تقدَّم في الوجه الأول .
ويجوز أن يكون « هُنالِكَ » من تتمَّة ما قبلها ، فلم يتمَّ الكلام دونه ، وهو معمولٌ ل « مُنْتَصِراً » ، أي : وما كان منتصراً في الدار الآخرة ، و « هُنالِكَ » إشارة غليها ، وإليه نحا أبو إسحاق . وعلى هذا فيكون الوقف على « هُنالِكَ » تامًّا ، والابتداء بقوله « الوَلايَةُ لله » فتكون جملة من مبتدأ وخبر .
والظاهر في « هُنالِكَ » : أنه على موضوعه من ظرفية المكان ، كما تقدَّم ، وتقدَّم أنَّ الأخوين يقرآن بالكسر ، والفرق بينهما وبين قراءة الباقين بالفتح في سورة الأنفال ، فلا معنى لإعادته .
وحكي عن أبي عمرو والأصمعي أن كسر الواو هنا لحنٌ ، قالا : لأنَّ « فعالة » إنما تجيء فيما كان صنعة أو ممعنى متقلَّداً ، وليس هنالك تولِّي أمورٍ .
فصل في لغات الولاية ومعانيها
قال الزمخشري : الولاية بالفتح : النصر ، والتولِّي ، وبالكسر : السلطان والملك .
وقيل : بالفتح : الربوبيَّة ، وبالكسر : الإمارة .
قوله : « الحَقِّ » قرأ أبو عمرو ، والكسائي برفع « الحقُّ » والباقون بجرِّه ، فالرفع من ثلاثة أوجه :
الأول : أنه صفة للولاية وتصديقه قراءة أبيٍّ « هُنالك الوَلايةُ الحق للهِ » .
والثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو ما أوحيناه إليك .
الثالث : أنه مبتدأ ، وخبره مضمر ، أي : الحق ذلك ، وهو ما قلناه .
والجر على أنه صفة للجلالة الكريمة؛ كقوله « ثُمَّ ردُّوا إلى الله مَولاهُم الحقِّ » .
وقرأ زيد بن عليٍّ ، وأبو حيوة ، وعمرو بن عبيد ، ويعقوب « الحقَّ » نصباً على المصدر المؤكِّد لمضمون الجملة؛ كقولك « هذَا قَوْلُ الله الحق » وهذا عبد الله الحقَّ ، لا الباطل .
قوله : « عُقباً » قرأ عاصم وحمزة بسكون القاف ، والباقون بضمِّها ، فقيل : لغتان؛ كالقُدُسِ والقُدْس ، وقيل : الأصل الضمَّ ، والسكون تخفيف ، وقيل بالعكس؛ كالعُسْر واليُسْر ، وهو عكس معهود اللغة ، ونصبها ونصب « ثَواباً » و { أَمَلاً } [ الكهف : 46 ] على التمييز لأفعل التفضيل قبلها ، ونقل الزمخشريُّ أنه قرئ « عُقْبَى » بالألف ، وهي مصدر أيضاً؛ كبُشْرَى ، وتروى عن عاصم .
فصل في نظم الآية
اعلم أنَّه تعالى لمَّا ذكر من قصّة الرجلين ما ذكر علمنا أن النُّصرة والعاقبة المحمودة كانت للمؤمن على الكافر ، وعرفنا أن الأمر هكذا يكون في حقِّ كل مؤمنٍ وكافرٍ ، فقال : { هُنالِكَ الوَلايةُ للهِ الحَقِّ } أي : في مثل ذلك الوقت وفي مثل ذلك المقام ، تكون الولاية لله يوالي أولياءه؛ فيعليهم على أعدائه ، ويفوِّض أمر الكفار إليهم .
فقوله : « هُنالِكَ » إشارةٌ إلى الموضع ، والوقت الذي يريد إظهار كرامة أوليائه ، وإذلال أعدائه .
وقيل : المعنى في مثل تلك الحالة الشديدة يتولَّى الله ، ويلتجئ إليه كلُّ محتاجٍ مضطرٍّ ، يعني أن قوله : { ياليتني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً } فكأنه ألجَ إليها ذلك الكافر ، فقالها جزعاً ممَّا ساقهُ إليه شؤمُ كفره ، ولولا ذلك ، لم يقلها .
وقيل : المعنى : هنالك الولاية لله ينصرُ فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة ، وينتقم لهم ويشفي صدورهم من [ أعدائهم ] ، يعني أنَّه تعالى نصر المؤمنين على الكفرة ، وينتقم لهم ويشفي صدورهم من [ أعدائهم ] ، يعني أنَّه تعالى نصر المؤمن بما فعل [ بأخيه الكافر و ] بصدق قوله : { فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السمآء } .
ويعضده قوله : { هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً } أي : لأوليائه ، وقيل : « هُنالِكَ » إشارةٌ إلى الدَّار الآخرةِ ، أي : في تلك الدَّار الآخرة الولاية لله كقوله : { لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] .
وقوله : { هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً } أي : خيرٌ في الآخرة لمن آمن به ، و التجأ إليه ، { وَخَيْرٌ عُقْباً } أي : هو خيرٌ عاقبة لمن رجاهُ ، وعمل لوجهه .
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
قوله تعالى : { واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا } الآية .
أي : واضرب ، يا محمد ، لهؤلاء الذين افتخروا بأموالهم ، وأنصارهم على فقراء المسلمين { مَّثَلَ الحياة الدنيا } ثم ذكر المثل فقال : { كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض } .
قوله : { كَمَآءٍ } : فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون خبر مبتدأ محذوف ، فقدَّره ابن عطيَّة هي ، أي : الحياة الدنيا .
والثاني : أنه متعلق بمعنى المصدر ، أي : ضرباً كماء ، قاله الحوفيُّ . وهذا بناء منهما على أن « ضرب » هذه متعدية لواحدٍ فقط .
والثالث : أنه في موضع المفعول الثاني ل « اضْرِبْ » لأنها بمعنى طصَيِّرْ « وقد تقدم .
قال أبو حيان بعدما نقل قولي ابن عطيَّة والحوفيِّ : » وأقول : إنَّ « كماءٍ » في موضع المفعول الثاني لقوله « واضْرِبْ » ، أي : وصيِّر لهم مثل الحياة ، أي : صفتها شبه ماء « . قال شهاب الدين : وهذا قد سبقه إليه أبو البقاء .
و » أنْزَلنَاهُ « صفة ل » مَاءٍ « .
قوله : » فاخْتلَطَ به « يجوز في هذه الباء وجهان :
أحدهما : أن تكون سببية .
الثاني : أن تكون متعدِّية ، قال الزخشري : » فالتفَّ بسببه ، وتكاثف حتى خالط بعضه بعضاً ، وقيل : تجمع الماء في النبات؛ حتى روي ورَفَّ رفيفاً ، وكان حق اللفظ على هذا التفسير : فاختلط بنباتِ الأرض ، ووجه صحته : أنَّ كلَّ مختلطين موصوف كل واحدٍ منهما بصفةِ الآخر « .
قوله : { فَأَصْبَحَ هَشِيماً } » أصْبَحَ « يجوز أن تكون على بابها؛ فإنَّ أكثر ما يطرقُ من الآفاتِ صباحاً؛ كقوله : { فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ } [ الكهف : 42 ] ويجوز أن تكون بمعنى » صار « من غير تقييدٍ بصباحٍ؛ كقوله : [ المنسرح ]
3533- أصْبَحَتُ لا أحْمِلُ السِّلاحَ ولاَ ... أمْلِكُ رَأسَ البعيرِ إنْ نَفرَا
والهشيمُ : واحده هشيمة ، وهو اليابس ، وقال الزجاج وابن قتيبة : كل ما كان رطباً ، فيَبِسَ ، ومنه { كَهَشِيمِ المحتظر } [ القمر : 31 ] ومنه : حشمتُ الفتَّ والهشيم : المتفتِّت المتكسِّر ، ومنه هشمت أنفه ، وهشَمَ الثَّريدَ : إذا فتَّه .
قال : [ الكامل ]
3534- عَمْرُو الَّذي هَشمَ الثَّريدَ لقَومهِ ... ورِجَالُ مَكَّةَ مُسنتُونَ عِجَاف
قوله : » تَذرُوهُ « صفة ل » هَشِيماً « والذَّرْوُ : التفريق ، وقيل : الرفع .
والعامة » تَذْروهُ « بالواو ، وقرأ عبد الله » تَذْريه « من الذَّري ، ففي لامه لغتان : الواو والياء ، وقرأ ابن عبَّاس » تُذْريهِ « بضمِّ التاء من الإذراءِ ، وهذه تحتمل أن تكون من الذَّرْوِ ، وأن تكون من الذَّري ، والعامة على » الرَّياحِ « جمعاً ، وزيد بن عليِّ ، و الحسنُ ، والنخعيُّ في آخرين » الرِّيحُ « بالإفراد .
فصل في معنى ألفاظ الآية
و » مَثَل « معنى المثل ، قال ابن عباسٍ : يعني بالماءِ المطر ، نزل من السماء { فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض } خرج من كل لون وزهرة ، » فأصْبحَ « عن قريب » هَشِيماً « يابساً .
وقال الضحاك : كسيراً .
« تَذْروهُ الرِّياحُ » :
قال ابن عباس : تذريه .
وقال أبو عبيدة : تفرّقه .
وقال القتبي : تنسفه .
قوله : { وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً } قادراً بتكوينه أولاً ، وتنميته وسطاً ، وإبطاله آخراً ، فأحوال الدنيا كذلك تظهرُ أولاً في غاية الحسن والنَّضارة ، ثم تتزايد قليلاً قليلاً ، ثم تأخذ في الانحطاط إلى أن تنتهي إلى الفناء والذَّهاب ، ومثل هذا الشيء ليس للعاقل أن يبتهج به .
فصل في حسن ترتيب الآيات
قوله تعالى : { المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا } الآية .
لما بيّن تعالى أنَّ الدنيا سريعة الانقراض والانقضاء مشرفة على الزَّوال والبوار والفناء ، بيَّن تعالى أنَّ المال والبنين زينة الحياة الدنيا ، و المقصود منه إدخال هذا الجزئيِّ تحت ذلك الكليِّ ، فينعقد به قياسٌ بيِّن الإنتاج ، وهو أنَّ المال والبنين زينة الحياة الدنيا ، وكل ما كان زينة الحياة الدنيا ، فهو سريعُ الانقضاءِ والانقراضِ ، ومن اليقين البديهيِّ ، أن ما كان كذلك ، فإنه يقبح بالعاقل أن يفتخر به ، أو يقيم له في نظره وزناً ، فهذا برهان باهرٌ على فساد قول المشركين الذين افتخروا بكثرة الأموال والولاد على فقراء [ المؤمنين ] .
قوله : { زِينَةُ الحياة الدنيا } على التثنية ، وسقطت ألفها لفظاً لالتقاء الساكنين ، فيتوهم أنه قرئ بنصب « زينة الحياة » .
فصل في بيان رجحان فقراء المؤمنين على أغنياء الكفار
لما أقام البرهان على فساد قول المشركين ، ذكر ما يدلُّ على رجحان أولئك الفقراء على أغنياء الكفَّار ، فقال : { والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ } .
وبيان هذا الدليل : أنَّ خيرات الدنيا [ منقرضة ] ، وخبرات الآخرة باقيةٌ دائمةٌ ، والدائم الباقي خيرٌ من المنقرضِ الزائل ، وهذا معلومٌ بالضَّرورة .
قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه- : المال والبنون حرث الحياة الدنيا ، والأعمال الصالحة حرث الآخرة ، وقد يجمعها الله لأقوامٍ
وقال ابن عبَّاس وعكرمة ومجاهد : الباقيات الصالحات هي قول : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر .
وقال - عليه الصلاة والسلام- : « أفْضَلُ الكلامِ أربعٌ : سُبْحانَ الله ، والحَمدُ لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبرْ » .
وقال صلى الله عليه وسلم : « أكثروا من البَاقيَاتِ الصَّالحاتِ قيل : وما هُنَّ يَا رسُول الله؟ قال : الملة . قيل : وما هي يا رسول الله؟ قال : التَّكبيرُ ، والتَّهليلُ ، والتَّسبيحُ ، والتَّحميدُ ، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العلِّ العظيم » .
وقال سعيد بن جبير ومسروق وإبراهيم ويروى أيضاً عن ابن عباس : البَاقيَاتُ الصَّالحاتُ : الصلوات الخَمْسُ .
وقال قتادة : ويروى أيضاً عن ابن عبَّاس أنَّها الأعمال الصالحة { خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً } جزاء { وَخَيْرٌ أَمَلاً } أي : ما يؤمِّله الإنسان .
قوله : { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال } الآية .
لما بيَّن خساسة الدُّنيا ، وشرف القيامة ، أراد أن يعيِّن أحوال القيامةِ .
قوله : { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ } : « يَوْمَ » منصوب بقولٍ مضمرٍ بعده ، تقديره : نقول لهم يوم نسيِّر الجبالك لقد جئتمونا ، وقيل : بإضمار « اذْكُرْ » وقيل : هو معطوف على « عِنْدَ ربِّكَ » فيكون معمولاً لقوله « خَيْرٌ » .
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر بضمِّ التاء ، وفتح الياء مبنياً للمفعول ، « الجِبَالُ » بالرفع؛ لقيامه مقام الفاعل ، وحذف الفاعل؛ للعلم به ، وهو الله ، أو من يأمره من الملائكة ، وهذه القراءة موافقةٌ لما اتُّفقَ عليه في قوله { وَسُيِّرَتِ الجبال } [ النبأ : 20 ] ، ويؤيِّدها قراءة عبد الله هنا { وَسُيِّرَتِ الجبال } فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول .
والباقون « نُسيِّرُ » بنون العظمة ، والياء مكسورة من « سَيَّرَ » بالتشديد؛ « الجبالَ » بالنصب على المفعول به ، وهذه القراءة مناسبة لما بعدها من قوله { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } .
وقرأ الحسن كقراءة ابن كثير ، ومن ذكر معه إلاَّ أنه بالياء من تحت؛ لأنَّ التأنيث مجازيٌّ وقرأ ابن محيصن ، ورواها محبوب عن أبي عمرو : [ « تسير » ] بفتح التاء من فوق ساكن الياء ، من سارت تسير ، و « الجِبَالُ » بالرفع على الفاعلية .
قوله : { وَتَرَى الأرض بَارِزَةً } « بَارِزَةً » حالٌ؛ إذ الرؤية بصرية ، وقرأ عيسى { وتُرَى الأرضُ } مبنيًّا للمفعول ، و « الأرضُ » قائمة مقام الفاعل .
قوله : { وَحَشَرْنَاهُمْ } فيه ثلاثة أوجه :
الأول : أنه ماضٍ ، يراد به المستقبل ، أي : ونحشرهم ، وكذلك { وَعُرِضُوا } [ الكهف : 48 ] و { وَوُضِعَ الكتاب } [ الكهف : 49 ] .
والثاني : أن تكون الواو للحالِ ، والجملة في محلِّ النصب ، أي : نفعل التسيير في حال حشرهم؛ ليشاهدوا تلك الأهوال .
والثالث : قال الزمخشري : « فإن قلت : لِمَ جيء ب » حَشرْنَاهُمْ « ماضياً بعد » نُسيِّرُ « و » ترى « ؟ قلت : للدلالة على أنَّ حشرهم قبل التسيير ، وقيل البروز؛ ليعاينوا تلك الأهوال العظام؛ كأنَّه قيل : وحَشرنَاهُم قبل ذلكَ » .
فصل
قال أبو البقاء ، وأبو حيان : « والأولى أن تكون الواو للحال » فذكر نحواً ممَّا قدَّمته .
قوله : « فَلمْ نُغادِرْ » عطل على « حَشَرنَاهُمْ » فإنه ماضٍ معنى ، والمغادرة هنا : بمعنى « الغَدْر » وهو الترك ، أي : فلم نترك ، والمفاعلة هنا ليس فيها مشاركة ، وسمي الغدر غدراً؛ لأنَّ به ترك الوفاءُ ، وغدير الماء من ذلك؛ لأنَّ السيل غادره ، أي : تركه ، فلم يجئه أو ترك فيه الماء ، ويجمع على « غدر » و « غُدرَان » كرغيف ورغفان ، واستغدر الغَديرُ : صار فيه الماء ، و الغديرة : الشَّعرُ الذي ترك حتى طال ، والجمع غدائرُ . قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
3535- غَدائِرُهُ مُسْتشْزِرَاتٌ إلى العُلا .. .
وقرأ قتادة « فَلمْ تُغادِرْ » بالتاء من فوقُ ، والفاعل ضمير الأرض ، أو الغدرة المفهومة من السياق ، وأبان : « يُغادَرْ » مبنياً للمفعول ، « أحدٌ » بالرفع ، والضحاك : « نُغْدِرْ » بضم النون ، وسكون العين ، وكسر الدال ، من « أغْدرَ » بمعنى « غَدرَ » .
=======================
ج48.
ج48. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
فصل في المراد بالتسيير
ليس في الآية ما يدلُّ على أنَّ الأرض إلى أين تسير ، فيحتمل أن الله يسيِّرها إلى موضع يريده ، ولم يبيِّن ذلك الموضع لخلقه .
والحقُّ أنَّ المراد أنَّه يسيِّرها إلى العدم؛ لقوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولاا أَمْتاً } [ طه : 105-107 ] { وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً } [ الواقعة : 5 ، 6 ] { وَتَرَى الأرض بَارِزَةً } [ الكهف : 47 ] ، أي : لم يبق عليها شيء من الجبال ، والعمران ، والشَّجر « بَارِزةً » ظاهرة ليس عليها ما يسترها؛ كما قال : { فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولاا أَمْتاً } [ طه : 106 ، 107 ] .
وقال عطاء : « بَارِزةً » أبرزت ما في بطنها ، وقذفت الموتى المقبورين فيها ، أي بارزة البطن والجوف ، فحذف ذكر الجوف ، ودليله قوله تعالى : { وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ } [ الإنشقاق : 4 ] { وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا } [ الزلزلة : 2 ] وقال : { وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً } [ إبراهيم : 21 ] .
{ وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } أي : وحشرناهم أي : وجمعناهم للحساب ، فلم نترك من الأوَّلين والآخرين أحداً ، إلاَّ وجمعناهم لذلك اليوم .
قوله : { وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً } .
{ صَفًّا } : حال من مرفوع « عرضوا » وأصله المصدرية ، يقال منه : صفَّ يصفُّ صفًّا ، ثم يطلق على الجماعة المصطفِّين ، واختلف هنا في « صفًّا » : هل هو مفرد وقع موقع الجمع؛ إذ المراد صفوفاً؛ ويدل عليه الحديث الصحيح : « يجمعُ الله الأوَّلين والآخرينَ في صعيدٍ واحدٍ صفوفاً » وفي حديث آخر : « اهلُ الجنَّة مائةٌ وعشرون صفًّا ، أنتم منها ثمانون » .
ويؤيده قوله تعالى : { يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } [ غافر : 67 ] أي أطفالاً . وقيل : ثَمَّ حذف ، أي : صفًّا صفًّا ، ونظيره قوله في موضع : { وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً } [ الفجر : 22 ] . وقال في آخر : { يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً } [ النبأ : 38 ] يريد : صفًّا صفًّا؛ بدليل الآية الأخرى ، فكذلك هنا ، وقيل : بل كل الخلائق تكون صفًّا [ واحداً ] ، وهو أبلغ في القدرة ، وأمَّا الحديثان فيحملان على اختلاف أحوالٍ؛ لأنه يوم طويل ، كما شهد له بقوله { كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [ المعارج : 4 ] فتارة يكونون فيه صفًّا واحداً ، وتارة صفوفاً .
وقيل : صفًّا أي : قياماً؛ لقوله تعالى : { فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ } [ الحج : 36 ] أي قياماً .
قوله : { لَّقَدْ جِئْتُمُونَا } على إضمار قول ، أي : وقلنا لهم كيت وكيت .
وتقدَّم أن هذا القول هو العامل في قوله { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال } [ الكهف : 47 ] . ويجوز أن يضمر هذا القول حالاً من مرفوع « عُرِضُوا » ، أي : عرضوا مقولاً لهم كذا وكذا .
قوله : { كَمَا خَلَقْنَاكُمْ } : أي : مجيئاً مشبهاً لخلقكم الأول حفاة ، عراة غرلاً ، لا مال ، ولا ولد معكم ، وقال الزمخشري : « لقَدْ بَعثْنَاكُم كَمَأ أنْشَأناكُمْ أوَّل مرَّة » فعلى هذين التقديرين ، يكون نعتاً للمصدر المحذوف ، وعلى رأي سيبويه : يكون حالاً من ضميره .
قوله : { كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } .
ليس المراد حصول المساواة من كل الوجوه؛ لأنهم خلقوا صغاراً ، ولا عقل لهم ، ولا تكليف عليهم ، بل المراد أنَّه قال للمشركين المنكرين للبعث المفتخرين على فقراء المؤمنين بالأموال والأنصار : { كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي حفاة ، عراة ، بغير أموال ، ولا أعوانٍ ، ونظيره قوله تعالى : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } [ الأنعام : 94 ] .
ثم قال تعالى : { بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً } أي كنتم مع التعزُّز على المؤمنين بالأموال والأنصار ، تنكرون البعث ، فالآن قد تركتم الأموال والأنصار في الدنيا ، وشاهدتم أنَّ البعث والقيامة حقٌّ .
قوله : { أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً } « أنْ » هي المخففة ، وفصل بينها وبين خبرها؛ لكونه جملة فعلية متصرفة غير دعاءٍ بحرف النفي ، و « لكم » يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً للجعل بمعنى التصيير ، و « مَوْعداً » هو الأول ، ويجوز أن يكون معلَّقاً بالجعل ، أو يكون حالاً من « مَوعِداً » إذا لم يجعل الجعل تصييراً ، بل لمجرد الإيجادِ .
و « بَلْ » في قوله : « بَل زَعَمتُمْ » لمجرَّد الانتقالِ ، من غير إبطالٍ .
قوله : { وَوُضِعَ الكتاب } : العامة على بنائه للمفعول ، وزيد بن عليٍّ على بنائه للفاعل ، وهو الله ، أو الملك ، و « الكِتاب » منصوب مفعولاً به ، و « الكتابُ » جنس للكتب؛ إذ من المعلوم أنَّ لكلِّ إنسانٍ كتاباً بخصُّه ، وقد تقدَّم الوقف على « مَا لهذا الكتابِ » وكيف فصلت لام الجرِّ من مجرورها خطًّا في سورة النساء عند { فَمَا لهؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } [ النساء : 78 ] .
و « لا يُغَادِرُ » جملة حالية من « الكتاب » . والعامل الجار والمجرور؛ لقيامه مقام الفعل ، أو الاستقرار الذي تعلق به الحال .
قوله : « إلاَّ أحْصَاهَا » في محل نصب نعتاً لصغيرة وكبيرة ، ويجوز أن تكون الجملة في موضع المفعول الثاني؛ لأنَّ « يُغَادِرُ » بمعنى « يترك » و « يتركُ » قد يتعدَّى لاثنين؛ كقوله : [ البسيط ]
3536- . ... فَقدْ تَركْتُكَ ذَا مَالٍ وذَا نَشبِ
في أحد الوجهين .
روى أبو هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : « يُحشَرُ النَّاس على ثلاثِ طرائقَ رَاغبينَ رَاهبينَ ، فاثْنانِ على بَعيرٍ ، وثَلاثةٌ على بَعيرٍ ، وأرْبعةٌ على بَعيرٍ ، وعَشرةٌ على بَعيرٍ ، وتَحشُرَ بقيَّتهُم النَّارُ ، تَقيلُ مَعهُمْ ، حَيْثُ قَالُوا ، وتَبِيتُ معهم؛ حيث باتوا ، وتُصْبِحُ معهم ، حيث أصبحُوا ، وتمسي معهم ، حيث أمسوا » .
وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : « قلت : يا رسول الله كيف يُحْشَر النَّاسُ يوم القِيامة؟ قال : حُفاةً عُراةً ، قالت : قلتُ : والنِّساء؟ قال : والنِّساء ، قالت : قلت : يا رسول الله ، أستحي ، قال : يا عائشة ، الأمر اشدُّ من ذلك؛ أن يهمهم أن ينظر بعضهم لبعض » .
وقيل : توضعُ بين يدي الله عزَّ وجلَّ ، { فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ } خائفين { مِمَّا فِيهِ } في الكتاب من الأعمال الخبيثة ، كيف تظهر لأهل الموقف ، فيفتضحون { وَيَقُولُونَ } إذا رأوها : { ياويلتنا } يا هلاكنا ، والويلُ والويلة : الهلكة ، وكأنَّ كلَّ من وقع في مهلكة ، دعا بالويل ، ومعنى النِّداء تنبيه المخاطبين .
{ مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً } من ذنوبنا .
قال ابن عباس : الصَّغيرة : التبسُّم ، والكبيرة : القهقهة .
قال سعيد بن جبير : الصغيرة : اللَّمم ، [ والمسُّ ، و القبلة ] ، والكبيرة : الزِّنا .
{ إِلاَّ أَحْصَاهَا } وهو عبارة عن الإحاطة ، أي : ضبطها وحصرها ، وإدخال تاء التأنيث في الصغيرة والكبيرة ، على تقدير أنَّ المراد الفعلة الصغيرة والكبيرة .
قال - عليه الصلاة والسلام - : « إيَّاكُم ومحقِّرات الذنوب؛ فإنَّما مثلُ محقِّرات الذنوب؛ فإنَّما مثلُ محقِّراتِ الذُّنوب مثل قوم نزلوا ببطنِ وادٍ ، فجاء هذا بعودٍ ، وجاء هذا بعودٍ ، وجاء هذا بعودٍ ، حتَّى أنضجوا خبزتهم ، وإنَّ محقِّراتِ الذنوب لموبقاتٌ » .
{ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً } مكتوباً في الصَّحيفة .
{ وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } لا ينقص ثواب أحدٍ عمل خيراً .
وقال الضحاك : لم يؤاخذ أحداً بجرم لم يعمله .
فصل في الرد على المجبرة
قال الجبائي : هذه الآية تدلُّ على فساد قول المجبرة في مسائل :
أحدها : أنه لو عذَّب عباده من غير ذنب صدر منهم ، لكان ظالماً .
وثانيها : أنه لا يعذِّب الأطفال بغير ذنب .
وثالثها : بطلان قولهم : لله أن يفعل ما شاء ، ويعذِّب من غير جرم؛ لأنَّ الخلق خلقه ، إذ لو كان كذلك ، لما كان لنفي الظلم عنه معنى؛ لأنَّ بتقدير أنه إذا فعل أي شيءٍ ، لم يكن ظلماً منه؛ لم يكن لقوله : « إنَّه لا يظلمُ » فائدة .
فإن قيل : أيُّ فائدة في ذلك؟ .
فالجواب عن الأوَّل بمعارضة العلم والدَّاعي .
وعن الثاني : أنَّه تعالى ، قال : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } [ مريم : 35 ] ولم يدلَّ هذا على أنَّ اتخاذ الولد يصحُّ عليه ، فكذلك ها هنا .
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)
قوله : { وَإِذَا قُلْنَا للملاائكة اسجدوا لآدَمَ } الآية .
اعلم أنَّ المقصود في الآياتِ المتقدِّمة الردُّ على الذين افتخروا بأموالهم ، وأعوانهم على فقراء المسلمين ، وهذه الآية المقصود من ذكرها عين هذا المعنى؛ وذلك : أنَّ إبليس ، إنما تكبَّر على آدم؛ لأنَّه افتخر بأصله ونسبه ، فقال : { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ الأعراف : 13 ] فأنا أشرف منه أصلاً ونسباً ، فكيف أسجد له ، وكيف أتواضع له؟ وهؤلاء المشركون عاملوا فقراء المؤمنين بهذه المعاملة ، فقالوا : كيف نجالسُ هؤلاء الفقراء ، مع أنَّا من أنساب شريفة ، وهم من أنساب نازلة ، ونحن أغنياء ، وهم فقراء؟ فذكر الله هذه القصة؛ تنبيهاً على أنَّ هذه الطريقة بعينها طريقة إبليس ، ثم إنه تعالى حذَّر عنها ، وعن الاقتضاء بها في قوله : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ } ، وهذا وجه النظم .
قوله : { وَإِذَا قُلْنَا } : أي : اذكر .
قوله : { كَانَ مِنَ الجن } فيه وجهان :
أحدهما : أنه استئناف يفيد التعليل؛ جواباً لسؤال مقدَّر .
والثاني : أن الجملة حالية ، و « قَدْ » معها مرادة ، قاله أبو البقاء .
قوله : « فَفسَقَ » السببية في الفاء ظاهرة ، تسبَّب عن كونه من الجنِّ الفسقُ ، قال أبو البقاء : إنما أدخل الفاء هنا؛ لأنَّ المعنى : « إلاَّ إبليس امتنع ففسق » . قال شهاب الدين . إن عنى أنَّ قوله « كان من الجنِّ » وضع موضع قوله « امْتنعَ » فيحتمل مع بُعده ، وإن عنى أنه حذف فعلٌ عطف عليه هذا ، فليس بصحيحٍ؛ للاتغناء عنه .
قوله : « عَنْ أمْر » « عَنْ » على بابها من المجاوزة ، وهذ متعلقة ب « فَسقَ » ، أي : خرج مجاوزاً أمر ربِّه ، وقيل : هي بمعنى الباء ، أي : بسبب أمره؛ فإنه فعَّالٌ لما يريدُ .
قوله : « وذُرِّيتهُ » يجوز في الواو أن تكون عاطفة ، وهو الظاهر ، وأن تكون بمعنى « مع » و « مِنْ دُونِي » يجوز تعلقه بالاتِّخاذ ، وبمحذوف على أنَّه صفة لأولياء .
قوله : { وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } جملة حالية من مفعول الاتخاذ أو فاعله ، لأن فيها مصححاً لكلٍّ من الوجهين ، وهو الرابط .
قوله : « بِئْسَ » فاعلها مضمرٌ مفسَّر بتمييزه ، والمخصوص بالذمِّ محذوف ، تقديره : بِئْسَ البدل إبليس وذرِّيتهُ . وقوله « للظَّالمينَ » متعلق بمحذوفٍ حالاً من « بَدلاً » وقيل : متعلق بفعل الذمِّ .
فصل في الخلاف في أصل إبليس
اعلم أنه تعالى بيَّن في هذه الآية أنَّ إبليس كان من الجنِّ ، وللنَّاس في الآية أقوالٌ :
الأول : قال ابن عبَّاس : كان من حيٍّ من الملائكةِ ، يقال لهم الحنُّ ، خلقوا من نار السَّموم ، وكونه من الملائكة لا ينافي كونه من الجنِّ ، لقوله : { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً } [ الصافات : 158 ] وقوله : { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن } [ الأنعام : 100 ] وسمِّي الجن جنًّا؛ لاستتارهم ، والملائكة داخلون في ذلك .
وأيضاً : فإنه كان خازن الجنة ، فنسب إلى الجنَّة؛ كقولهم : كوفيٌّ ، وبصريٌّ .
وعن سعيد بن جبير ، قال : كان من الجنَّانين الذين يعملون في الجنان ، وهم حيٌّ من الملائكة ، يصوغون حلية أهل الجنة منذ خلقوا .
رواه القاضي في تفسيره عن هشام عن سعيد بن جبيرٍ .
وقال الحسن : كان من الجنِّ ، ولم يكن من الملائكةِ ، فهو أصل الجنِّ ، كما أنَّ آدم أصل الإنس .
وقيل : كان من الملائكة ، فمسخ وغيَّر ، وكما يدلُّ على أنه ليس من الملائكة قوله تعالى : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي } والملائكة ليس لهم نسلٌ ، ولا ذرِّيَّة .
بقي أن يقال : لو لم يكن من الملائكة ، لما تناوله الأمر بالسجود ، فكيف يصحُّ استثناؤه منهم؟ .
تقدَّم الكلام على ذلك في البقرة .
ثم قال تعالى : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } .
قال الفراء : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } ، أي : خرج من طاعته ، تقول العرب : فسقتِ الرطبة عن قشرها ، أي خرجت ، وسميت الفأرة فويسقة؛ لخروجها من جحرها .
قال رؤبة : [ الرجز ]
3537- يَهْويْنَ في نَجْدٍ وغَوْراً غَائِرَا ... فَواسِقاً عَنْ قَصْدِهَا جَوائِرَا
وحكى الزجاج عن الخليل وسيبويه ، أنه قال : لما أمر فعصَى ، كان سبب فسقه هو ذلك الأمر ، والمعنى : أنه لولا ذلك الأمر السابق ، لما حصل ذلك الفسق ، فلهذا حسن أن يقال : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } كقوله : { واسأل القرية التي كُنَّا فِيهَا } [ يوسف : 82 ] .
ثم قال : « أفَتَتَّخِذُونَهُ » يعني : يا بني آدم { وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } ، أي : أعداء .
روى مجاهد عن الشعبيِّ قال : إنِّي قاعدٌ يوماً؛ إذ أقبل رجل فقال : أخبرني ، هل لإبليس زوجة؟ قال : إنَّه لعرسٌ ما شَهدتُّه ، ثُم ذكرتُ قول الله عزَّ وجلَّ : { أفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي } فعلمت أنَّه لا يكون ذريَّة إلا من زوجة ، فقلت ، نعم .
وقال قتادة : يتوالدون ، كما يتوالد بنو آدم .
وقيل : إنَّه يدخل ذنبه في دبره ، فيبيض ، فتنفلق البيضة عن جماعة من الشَّياطين .
ثم قال : { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } .
قال قتادة : بئس ما استبدلوا طاعة إبليس ، وذريته بعبادة ربِّهم .
قوله : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات } : أي : إبليس وذريته ، أو ما أشهدت الملائكة ، فكيف يعبدونهم؟ أو ما أشهدت الكفار ، فكيف ينسبون إليَّ ما لا يليق بجلالي؟ أو ما أشهدت جميع الخلقِ .
وقرأ أبو جعفر ، [ وشيبة ] والسختياني في آخرين : « ما أشهدناهم » على التعظيم .
والمعنى : ما أحضرناهم { خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ } أي : ولا أشهدت بعضهم خلق بعض ، يعني : ما اشهدتهم؛ لأعتضد بهم .
قوله : { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً } أي : ما كنت متَّخذهم ، فوضع الظاهر موضع المضمر؛ بياناً لإضلالهم؛ وذمًّا لهم وقوله : « عَضُدًا » أي : ما كنت متَّخذهم ، فوضع الظاهر موضع المضمر؛ بياناً لإضلالهم؛ وذمَّا لهم وقوله : « عَضُداً » أي : أعواناً .
قال ابن الخطيب : والأقرب عندي أنه الضمير الرَّاجع على الكفَّار الذين قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم : إن لم تطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء ، لم نؤمن بك ، فكأنه - تعالى - قال : إنَّ هؤلاء الذين أتوا بالاقتراح الفاسد ، والتعنُّت الباطل ، ما كانوا شركاء في تدبير العالم؛ لأنِّي ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ، ولا خلق أنفسهم ، ولا أعتذد بهم في تدبير الدنيا والآخرة ، بل هم كسائر الخلق ، فلم أقدموا على هذا الاقتراح الفاسد؟ .
ويؤكِّد هذا أن الضمير يجب عوده على أقرب مذكور ، وهو هنا { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } .
قوله : { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً } وضع الظاهر موضع المضمر؛ إذ المراد ب « المُضلِّينَ » من نفى عنهم إشهاد خلق السموات ، وإنما نبَّه بذلك على وصفهم القبيح .
وقرأ العامة « كُنْتُ » بضمِّ التاء؛ إخباراً عنه تعالى وقرأ الحسن ، والجحدري ، وأبو جعفر بفتحها؛ خطاباً لنبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم وقرأ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - { مُتَّخِذاً المضلين } نوَّن اسم الفاعل ، ونصب به ، إذ المراد به الحال ، أو الاستقبال .
وقرأ عيسى « عَضْداً » بفتح العين ، وسكون الضاد ، وهو تخفيف سائغ ، كقول تميمٍ : سبْع ورجْل في : سبُعٍ ورجُلٍ وقرأ الحسن « عُضداً » بالضم والسكون؛ وذلك أنه نقل حركة الضاد إلى العين بعد سلب العين حركتها ، وعنه أيضاً « عضداً » بفتحتين ، و « عضداً » بضمتين ، والضحاك « عضداً » بكسر العين ، وفتح الضاد ، و هذه لغات في هذا الحرف .
والعضدُ من الإنسان وغيره معروف ، ويعبِّر به عن العون والنصير؛ يقال : فلان عضدي ، ومنه { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } [ القصص : 35 ] أي : سنقوِّي نصرتك ومعونتك .
قوله : { وَيَوْمَ يَقُولُ } : معمول ل « اذْكُرْ » أي : ويوم نقول ، يجري كيت وكيت وقرأ حمزة « نقُول » بنون العظمة؛ مراعاة للتكلُّم في قوله : « مَا أشْهدتهُمْ » إلى آخره ، والباقون بياء الغيبة؛ لتقدم اسمه الشريف العظيم الظاهر .
أي : يقول الله يوم القيامة : { نَادُواْ شُرَكَآئِيَ } يعني الأوثان .
وقيل : للجنِّ ، ولم يذكر تعالى أنَّهم كيف دعوهم في هذه الآية الكريمة ، بيَّن ذلك في آية أخرى ، وهو أنَّهم قالوا : { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ } [ إبراهيم : 21 ] .
{ الذين زَعَمْتُمْ } أنهم شركاء { فَدَعَوْهُمْ } فاستغاثوا بهم ، { فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ } ، أي : لم يجيبوهم ، ولم ينصروهم ، ولم يدفعوا عنهم ضرراً ، ثم قال : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً } أي : مهلكاً . قاله عطاء والضحاك .
فصل في بيان الموبق
قال الزمخشري وغيره : والمَوْبِقُ : المهلك ، يقال : وَبِقَ يَوبِقُ وَبَقاً ، أي : هَلَكَ ووَبَقَ يَبِقُ وُبُوقاً أيضاً : هلك وأوبقه ذنبه ، وعن الفراء : « جعَل اللهُ تواصُلهمْ هَلاكاً » فجعل البين بمعنى الوصل ، وليس بظرفٍ؛ كقوله : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] على قراءة من قرأ بالرفع ، فعلى الأول يكون « موبقاً » مفعولاً أول للجعل ، والثاني الظرف المتقدِّم ، ويجوز أن تكون متعدية لواحدٍ ، فيتعلق الظرف بالجعلِ أو بمحذوفٍ على الحال من « مَوْبِقاً » .
وعلى قول الفراء ليكون « بينهم » مفعولاً أول و « مَوبقاً » مفعولاً ثانياً ، والمَوْبِقُ هنا : يجوز أن يكون مصدراً ، وهو الظاهر ، ويجوز أن يكون مكاناً .
قال ابن عباس : وهو وادٍ في النَّار .
وقال ابن الأعربيِّ : كل حاجزٍ بين الشيئين يكون المَوبِقَ .
وقال الحسن : « مَوْبقاً » أي : عداوة ، هي في شدَّتها هلاك؛ كقولهم : لا يكن حُبك كلفاً .
وقيل : الموبقُ : البَرْزَخُ البعيد .
وجعلنا بين هؤلاء الكفَّار وبين الملائكة وعيسى برزخاً بعيداً ، يهلك فيه النصارى؛ لفرط بعده؛ لأنَّهم في قاع جهنَّم ، وهو في أعلى الجنا .
قوله : روَرَأَى المجرمون النار } الآية .
{ وَرَأَى المجرمون النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا } ، في هذا الظنِّ قولان :
الأول : أنه بمعنى العلم واليقين .
والثاني : قال ابن الخطيب : الأقرب إلى المعنى : أن هؤلاء الكفار يرون النَّاس من مكانٍ بعيدٍ ، فيظنُّون أنهم مواقعوها في تلك السَّاعة ، من غير تأخير من شدَّة ما يسمعون من تغيُّظها وزفيرها ، كقوله : { إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } [ الفرقان : 12 ] .
وقوله : { مُّوَاقِعُوهَا } أي : مخالطوها؛ فإنَّ مخالطة الشيء لغيره ، إذا كان تامَّة قويَّة ، يقال لها : مواقعة .
قوله : « مَصْرِفاً » المصرف المعدل ، اي : لم يجدوا عنها معدلاً .
قال الهذليُّ : [ الكامل ]
3538- أزُهَيْرُ هَلْ عَن شَيْبةٍ مِنْ مصْرفِ ... أمْ لا خُلودَ لبَاذلٍ مُتكلِّفِ
والمصرف يجوز أن يكون اسم مكانٍ ، أو زمانٍ ، وقال أبو البقاء : « مَصْرِفاً : أي انصرافاً ، ويجوز أن يكون مكاناً » . قال شهاب الدين : وهذا سهوٌ ، فإنه جعل المفعل بكسر العين مصدراً لما مضارعه يفعل بالكسر من الصحيح ، وقد نصُّوا على أنَّ اسم مصدر هذا النوع مفتوح العين ، واسم زمانه ومكانه مكسوراً ، نحو : المَضْرَبُ والمَضْرِبُ .
وقرأ زيد بن عليٍّ « مَصْرَفاً » بفتح الراء جعله مصدراً؛ لأنه مكسور العين في المضارع ، فهو كالمضرب بمعنى الضَّرب ، وليت أبا البقاء ذكر هذه القراءة ووجَّهه بما ذكره قبل .
قوله : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } بينَّا { فِي هذا القرآن لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } .
اعلم أن الكفَّار ، لما افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة أموالهم وأتباعهم ، وأبطل الله أقوالهم الفاسدة ، وذكر المثلين المتقدِّمين ، ذكر بعده : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } وهو إشارة إلى ما سبق ، والتصريف يقتضي التكرير ، والأمر كذلك؛ لأنه تعالى أجاب عن شبهتهم التي ذكروها من وجوهٍ كثيرةٍ ، والكفار مع تلك الجوابات الصَّافية ، والأمثلة المطابقة لا يتركون المجادلة الباطلة؛ فقال : { وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } .
قوله : { مِن كُلِّ مَثَلٍ } : يجوز أن تكون « مِنْ كلِّ » صفة لموصوف محذوف ، وهو مفعول « صرَّفنا » ، أي : صرَّفنا مثلاً من كلِّ مثلٍ ، ويجوز أن تكون « مِنْ » مزيدة على رأي الأخفش والكوفيين .
قوله : « جَدَلاً » منصوب على التمييز ، وقوله : { أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } أي : أكثر الأشياء التي يتأتَّى منها الجدالُ ، إن فصَّلتها واحداً واحداً ، يعني أنَّ الإنسان أكثر جدلاً من كلِّ شيء يجادلُ ، فوضع « شيءٍ » موضع الأشياء ، وهل يجوز أن يكون جدلاً منقولاً عن اسم كان؛ إذ الأصل : وكان جدلُ الإنسان أكثر شيء؟ فيه نظر ، وكلام أبي البقاء يشعر بجوازه؛ فإنه قال : « فيه وجهان :
أحدهما : أنًَّ شيئاً ههنا في معنى فجادل ، لأنَّ أفعل يضاف إلى ما هو بعضٌ له ، وتمييزه ب » جدلاً « يقتضي أن يكون الأكثر مجادلاً ، وهذا من وضع العام موضع الخاص .
والثاني : أن في الكلام محذوفاً ، تقديره : وكان جدل الإنسان أكثر شيءٍ ، ثم ميَّزه » . فقوله : « تقديره : وكان جدل الإنسان » يفيد أنَّ إسناد « كان » إلى الجدلِ جائز في الجملة ، إلا أنه لا بدَّ من تتميم لذلك : وهو أن تتجوَّز ، فتجعل للجدلِ جدلاً؛ كقولهم : « شِعرٌ شَاعرٌ » يعني أنَّ لجدل الإنسان جدلاً هو أكثر من جدلِ سائر الأشياءِ .
وهذه الآية دالَّة على أنَّ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - جادلوهم في الدِّين حتَّى صاروا مجادلين؛ لأنَّ المجادلة لا تحصل إلاَّ من الطرفين .
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)
قوله : { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى } الآية .
تقدم إعراب نظيرها في آخر السورة قبلها .
فإن قلت : قالت المعتزلةُ : الآية دالةٌ على أنَّه لم يوجد ما يمنع عن الإقدام على الإيمانِ ، وذلك يدلُّ على فساد قول من يقول : إنه حصل المانعُ .
[ فالجواب ] بأن العلم بأنه لا يؤمنُ مضادٌّ لوجود الإيمان ، وإذا كان ذلك العلم قائماً ، كان المانعُ قائماً .
وأيضاً : قول الداعي إلى الكفر مانعٌ من حصول الإيمان .
وإذا ثبت هذا ، ظهر أن المراد مقدار الموانع المحسوسة .
فصل في معنى الآية
المعنى : { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى } : القرآن والإسلام والبيان من الله عزَّ وجلَّ .
وقيل : إنه الرسول صلى الله عليه وسلم .
قوله : { وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ } ويتوبوا .
قوله : { إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين } وهو عذاب الاستئصال وقيل : إلا طلب أن يأتيهم سنَّة الأولين من معاينة العذاب ، كما قالوا : { إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء } [ الأنفال : 32 ] .
قوله : { أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب قُبُلاً } .
قال ابن عباس : أي عياناً من المقابلة .
وقال مجاهد : فجأة .
قرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم ، وأبو جعفر بضمِّ القاف والباء ، جمع قبيل : أي أصناف العذاب نوعاً نوعاً ، والباقون بكسر القاف ، وفتح الباء ، أي عياناً .
وروى الزمخشري : « قَبَلاً » بفتحتين ، أي : [ مستقبلاً ، والمعنى : ] أنهم لا يقدمون على الإيمان إلا عند نُزُول العذاب . واعلم أنَّهم لا يوقفون الإقدام على الإيمان على أحد هذين الشرطين؛ لأنَّ العاقل لا يرضى بحُصُول الأمرين إلا أنَّ حالهم بحال من وقف العمل على أحد هذين الشَّرطين .
ثم بيَّن تعالى أنه إنما أرسل الرُّسُل مبشِّرين ومُنْذرين بالعقاب على المعصية؛ لكي يؤمنوا طوعاً ، ومع هذه الأحوال يوجد من الكُفَّار المجادلة بالباطل؛ لغرض دحض الحقِّ؛ وهذا يدُلُّ على أنَّ الأنبياء ك انوا يجادِلُونهم ، كما تقدَّم من أنَّ المجادلة إنَّما تحصُلُ من الجانبين ، ومجادلتُهُمْ قولهم : { أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 94 ] ، وقوله : { لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] .
قوله : { ليُدْحِضُوا } : متعلِّقٌ ب « يُجادِلُ » والإدْحاض : الإزلاقُ ، يقال : أدحض قدمه ، أي : أزلقها ، وأزلَّها من موضعها . والحجَّة الداحضة الَّتي لا ثبات لها لزلزلة قدمها ، والدَّحضُ : الطِّين؛ لأنه يُزلقُ فيه ، قال : [ الطويل ]
3539- أبَا مُنْذِرٍ رُمْتَ الوَفَاءَ وَهِبْتَهُ ... وَحِدْتَ كَمَا حَادَ البَعِيرُ عَنِ الدَّحْضِ
وقال آخر : [ الطويل ]
3540- [ وَرَدْتُ وَنَجَّى اليَشْكُرِيّ حِذَارُهُ ... وَحَادَ كَمَا حَادَ البَعيرُ عَنِ الدَّحْضِ ]
و « مكانٌ دَحْضٌ » مِنْ هذا .
قوله : « وَمَا أُنْذِرُوا » يجوزُ في « مَا » هذه أَنْ تكون مصدريَّةً ، وأَنْ تكون بمعنى « الَّذي » والعائد محذوف ، وعلى التقديرين ، فهي عطفٌ على « آياتي » .
و « هُزُواً » مفعولٌ ثانٍ أو حالٌ ، وتقدَّم الخلافُ في « هُزُواً » في قوله { وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً } وفيه إضمار أي وما أنذروا به ، وهو القرآن « هُزُواً » أي استهزاء .
قوله تعالى : { وَمَنْ أظْلَمُ } الآية .
تقدم إعراب نظيرها في الأنعام ، واعلم أنَّه تعالى لمَّا حكى عن الكفَّار جدالهم بالباطل ، وصفهم بالصِّفات الموجبة للخزي والخذلان ، فقال : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ } .
أي : لا ظلم أعظم من كفر من ترد عليه الآيات ، فيعرض عنها ، ويتركها ، ولم يرمن بها ونسي ما قدَّمت يداه ، أي : مع إعراضه عن التأمُّل في الدلائلِ والبيِّنات يتناسى ما قدمت يداه من الأعمال المنكرة ، والمراد [ بالنِّسيان ] التَّشاغل والتغافل عن كفره المتقدِّم .
قوله : { إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } أي : أغطية .
قوله : { أَن يَفْقَهُوهُ } لئلاَّ يفقهوه .
قوله : { وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً } صمماً وثقلاً .
قوله : { وَإِن تَدْعُهُمْ } يا محمد { إلى الهدى } إلى الدين . قوله : { فَلَنْ يهتدوا إِذاً أَبَداً } وهذا في أقوام ، علم الله منهم أنهم لا يؤمنون .
وتقدَّم الكلام على هذه الآية في سورة الأنعام .
والعجب أنَّ قوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } متمسَّكُ القدريَّة .
وقوله : { إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } متمسَّك الجبرية ، وقلما تجد آية في القرآن لأحد هذين الفريقين إلا ومعها آية للفريق الآخر ، والتجربة تكشف عن صدق هذا ، وما ذاك إلا امتحانٌ من الله ألقاه على عباده ، ليتميَّز العلماء الراسخُون عن المقلِّدين . ثم قال : { وَرَبُّكَ الغفور ذُو الرحمة } .
« الغَفورُ » : البليغ المغفرة ، وهو إشارة غلى دفع المضارِّ { ذُو الرحمة } : الموصوف بالرحمة ، وإنَّما ذكر لفظ المبالغة في المغفرة ، لا في الرحمة؛ لأنَّ [ المغفرة ] ترك [ الإضراب ] .
قوله : { بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ } : يجوز في « المَوعِد » أن يكون مصدراً أو زماناً أو مكاناً .
والمَوئِلُ : المرجعُ ، من وأل يَئِلُ ، أي : رجع ، وهو من التأويل ، وقال الفراء : « المَوْئِلُ : المنجى ، وألَتْ نفسه ، أي : نَجَتْ » قال الأعشى : [ البسيط ]
3541- وقَدْ أخَالِسُ ربَّ البيتِ غَفْلتهُ ... وقَدْ يُحَاذِرُ منِّي ثمَّ ما يَئِلُ
أي : ما ينجو ، وقال ابن قتيبة : « المَوْئِلُ : الملجأ » . يقال : وأل فلانٌ إلى فلانٍ يئلُ وألاً ، وَوُءُولاً ، إذا لجأ إليه ، وهو هنا مصدر .
و « مِنء دُونهِ » متعلق بالوجدان؛ لنه متعدٍّ لواحدٍ ، أو بمحذوف على أنه حال من « مَوْئِلاً » .
وقرأ أبو جعفر « مَوِلاً » بواو مكسورة فقط ، والزهري : بواو مشددة فقط ، والأولى أقيس تخفيفاً .
وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
قوله : { وَتِلْكَ القرى أَهْلَكْنَاهُمْ } أي قرى الأوَّلين : قوم نوح وعاد وغيرهم ، وتلك مبتدأ ، والقرى خبره .
و « أهْلكْنَاهُمْ » حينئذ : إمَّا خبر ثانٍ ، أو حال ، ويجوز أن تكون « تِلْكَ » مبتدأ ، و « القرى » صفتها لأنَّ أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجنس أو بيان لها ، أو بدلٌ منها ، و « أهْلَكنَاهَا » الخبر ، ويجوز أن يكون « تِلْكَ » منصوب المحلِّ بفعلٍ مقدَّر على الاشتغال .
والإضمار في « أهْلَكنَاهُمْ » عائد على « أهْل » المضاف إلى القرى ، إذ التقدير : وأهل تلك القرى ، فراعى المحذوف ، فأعاد عليه الضمير ، وتقدَّم ذلك في أول الأعراف [ الآية : 4 ] .
و « لمَّا ظلموا » يجوز أن يكون حرفاً ، وأن يكون ظرفاً ، وقد تقدَّم .
قوله : « وجعلنا لمهلكهم موعداً » قرأ عاصم « مَهْلَك » بفتح الميم ، والباقون بضمها ، وحفص بكسر اللام ، والباقون بفتحها ، فتحصَّل من ذلك ثلاث قراءاتٍ ، لعاصم قراءتان؛ فتح الميم مع فتح اللام ، وهي رواية أبي بكرٍ عنه ، والثانية فتح الميم ، مع كسر اللام ، وهي رواية حفص عنه ، والثالثة : ضم الميم ، وفتح اللام ، وهي قراءة الباقين .
وأمَّا قراءة أبي بكرٍ ، ف « مَهْلَك » فيها مصدرٌ مضاف لفاعله ، وجوَّز أبو عليٍّ أن يكون مضافاً لمفعوله ، وقال : إنَّ « هَلَكَ » يتعدَّى دون همز ، وأنشد : [ الرجز ]
2542- ومَهْمَهٍ هَالكِ مَنْ تعرَّجا ... ف « مَنْ » معمول ل « هالكٍ » وقد منع النَّاسُ ذلك ، وقالوا : لا دليلَ في البيت؛ لجواز أن يكون ذلك من باب الصفةِ المشبهة ، والأصل : هالك من تعرَّجا .
ف « مَنْ تعرَّج » فاعل الهالك ، ثم أضمر في « هَالِك » ضمير « مهمه » ونصب « من تعرَّج » نصب « الوجه » في قولك : « مررتُ برجلٍ حسنٍ الوجهَ » ثم أضاف الصفة ، وهي « هَالِك » إلى معمولها ، فالإضافة من نصبٍ ، والنصب من رفعٍ ، فهو كقولك : « زيدٌ منطلقُ اللسان ، ومنبسطُ الكفِّ » ولولا تقدير النصبِ ، لامتنعتِ الإضافة؛ إذ اسم الفاعل لا يضاف إلى مرفوعه ، وقد يقال : لا حاجة إلى تقدير النصب؛ إذ هذا جارٍ مجرى الصفة المشبهة ، والصفة المشبهة تضاف إلى مرفوعها ، إلا أنَّ هذا مبنيٌّ على خلافٍ آخر ، وهو : هل يفع الموصول في باب الصفة أم لا؟ والصحيح جوازه ، قال الشاعر : [ البسيط ]
3543- فَعُجْتُهَا قِبلَ الأخْيار مَنْزلةً ... والطَّيبِي كُلِّ ما التَاثَتْ به الأزُرُ
وقال الهذليُّ : [ الطويل ]
3544- أسِيلاتُ أبْدانٍ دِقَاقٌ خُصورُهَا ... وثِيرَاتُ ما التفَّت عليها المَلاحِفُ
وقال أبو حيَّان في قراءة أبي بكرٍ هذه : « إنَّه زمانٌ » ولم يذكر غيره ، وجوَّز غيره فيه الزمان و المصدر ، وهو عجيبٌ؛ فإنَّ الفعل متى كسرت عينُ مضارعه ، فتحت في المفعل مراداً به المصدر ، وكسرت فيه مراداً به الزمان والمكان ، وكأنَّه اشتبهت عليه بقراءة حفص؛ فإنَّه بكسر اللام ، كما تقدَّم ، فالمفعل منه للزَّمان والمكان .
وجوَّز أبو البقاء في قراءته أن يكون المفعل فيها مصدراً ، قال : « وشذَّ فيه الكسر كالمرجع » وإذا قلنا : إنَّه مصدر ، فهل هو مضافٌ لفاعله ، أو مفعوله؟ يجيء ما تقدَّم في قراءة رفيقه ، وتخريجُ ابي عليٍّ ، واستشهاده بالبيت ، والردُّ عليه ، كل ذلك عائد هنا .
وأمَّا قراءة الباقين ، فواضحةٌ ، و « مُهْلكٌ » فيها يجوز أن يكون مصدراً مضافاً لمفعوله أي لإهلاكهم ، وأن يكون زماناً ، ويبعد أن يراد به المفعول ، أي : وجعلنا للشخصِ ، أو للفريقِ المهلكِ منهم .
والمَوْعِدُ : مصدر ، أو زمان .
قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ موسى لِفَتَاهُ } الآية : « إذْ » منصوب ب « اذْكُرْ » أو وقت قال لفتاه : جرى ما قصصنا عليك من خبره .
قال عامة أهل العلم : إنَّه موسى بن عمران . وقال بعضهم : إنَّه موسى بن ميشا من أولاد يوسف ، والأول أصحُّ ، لما روى عمرو بن دينارٍ ، قال : أخبرني سعيد بن جبيرٍ ، قال : قلت لابن عبَّاسٍ : إنَّ نوفاً لابكاليَّ يزعم أنَّ موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل ، فقال ابن عبَّاس : كذب عدوُّ الله ، حدَّثنا أبيّ بن كعبٍ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إنَّ موسى قَامَ خطيباً في بني إسرائيل ، فسُئِلَ : أيُّ النَّاس أعلمُ؟ فقال : أنَا ، فَعَتبَ الله عليه؛ إذْ لم يردَّ العِلْمَ إليه ، فأوحَى إليه : إنَّ لِي عَبْداً بمَجْمَع البَحْرينِ ، هو أعلم منك ، فقال موسى : يا ربِّ ، فكيف لي به؟ قال : تأخذُ معك حوتاً ، فتجعلهُ في مكتلٍ ، فحيثما فقدتَّ الحوت ، فهو ثمَّ؛ فأخذ حوتاً ، فجعلهُ في مكتلٍ ، ثمَّ انطلق ، وانطلق معه فتاهُ يُوشعُ بن نونٍ ، حتَّى أتيا الصَّخرةَ ، ووضعَا رُءُوسَهُمَا ، فنَامَا ، واضطرب الحُوتُ في المكْتَلِ ، فخرج منهُ ، فسَقطَ في البَحْرِ ، فاتَّخذَ سَبيلهُ في البَحْرِ سَرَباً ، وأمْسَكَ الله عن الحُوت جَرية الماءِ ، فصَارَ عَليْهِ كالطَّاقِ ، فلمَّا اسْتيقظَ ، نَسِيَ صَاحبهُ أنْ يُخْبِرَهُ بالحُوتِ ، فانْطلقَا بقيَّة يَوْمهِمَا وليْلتِهمَا ، حتَّى إذا كان من الغَداةِ ، قَالَ مُوسَى لفتاهُ : آتِنَا غَداءَنَا ، لقَدْ لقينا من سَفرنَا هذا نصباً ، قال : ولمْ يَجِدْ مُوسى النَّصب ، حتَّى جَاوزَ المكان الذي أمرهُ الله تعالى ، فقال له فتاهُ : أرَأيْتَ إذْ أوَيْنَا إلى الصَّخرةِ ، فإنِّي نَسيتُ الحُوتَ ومَا أنْسانيه إلاَّ الشَّيطانُ أنْ أذكرهُ ، واتَّخذَ سبيلهُ في البحر عجباً ، قال : وكَانَ للحُوتِ سرباً ولمُوسَى وفتاهُ عجباً ، قال موسى : ذلكَ ما كُنَّا نبغي فَارتدّا على آثارهما قصصاً ، رجعا يقُصَّانِ آثارهما ، حتى [ انتهيا ] إلى الصَّخرة ، فإذا رجلٌ مُسَجَّى ثوباً ، فسلَّم عليه مُوسى ، فقال الخَضِرُ : وأنَّى بأرضِكَ السَّلامُ؟ فقال : أنَا مُوسَى ، قال : مُوسى بني إسرائيل؟ قال : نَعمْ ، أتَيْتُك ، لتُعَلِّمَنِي ممَّا علِّمتَ رُشداً [ وذكر باقي ] القصة » .
واعلم أنَّه كان ليوسف - عليه السلام - ولدان : أفرائيم وميشا ، فولد أفرائيم نون وولد نون يوشع بن نون ، وهو فتى موسى ، ووليُّ عهده بعد وفاته ، وأما ولد ميشا ، فقيل : إنه جاءته النُّبوَّة قبل موسى بن عمران ، وأهل التَّوراة يزعمون أنَّهُ هو الذي طلب هذا العالم ليتعلَّم منه ، وهو العالمُ الذي خرق السَّفينة ، وقتل الغلام ، وبنى الجدار ، وموسى بن ميشا معه ، هذا قول جمهور اليهود .
واحتجَّ القفال على صحَّة قول الجمهور بأنه موسى صاحب التَّوراة ، قال : إنَّ الله تعالى ما ذكر موسى في كتابه إلاَّ وأراد به موسى صاحب التوراة ، فإطلاق هذا الاسم يوجب الانصراف إليه ، ولو كان المرادِ شحصاً آخر يسمَّىموسى غيره ، لعرّفه بصفةٍ تميِّزه وتزيل الشبهة كما أنَّه لما كان المشهور في العرف أنَّ ابا حنيفة هو الرجل المفتي ، فلو ذكرنا هذا الاسم ، وأردنا به غيره ، لقيَّدناهُ ، كما نقول : أبو حنيفة الدِّينوريُّ .
فصل في حجة القائلين بأنه موسى بن ميشا
واحتج القائلون بأنَّ موسى بن ميشا بأنَّ الله تعالى بعد أن أنزل عليه التوراة ، وكلَّمه بلا واسطة ، وخصَّه بالمعجزات الباهرة العظيمة التي لم يتَّفق مثلها لأكثر أكابر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يبعد أن يبعثه بعد ذلك إلى التَّعليمِ والاستفادة .
[ فالجواب ] عنه : بأنَّه ليس ببعيدٍ أن يكون العالم العامل الكامل في أكثر العلوم يجهل بعض الأشياء؛ فيحتاج إلى تعلُّمها إلى من هو دونه ، وهو أمرٌ متعارفٌ .
فصل في اختلافهم في فتى موسى
واختلفوا في فتى موسى ، فالصحيح أنه يوشعُ بن نونٍ؛ كما روي في الحديث المتقدِّم ، وقيل : كان أخا يوشع .
وروى عمرو بن عبيدٍ عن الحسن أنَّه عبدٌ لموسى .
قال القفَّال والكعبي : يحتمل ذلك .
قال - عليه الصلاة والسلام- : « لا يقُولنَّ أحَدُكمْ : عَبْدِي وأمَتِي ، وليقُلْ : فَتَايَ وفَتَاتِي » .
وهذا يدلُّ على أنهم كانوا يسمُّون العبد فتًى ، والأمة فتاةً .
قوله : « لا أبْرَحُ » يجوز فيها وجهان :
أحدهما : أن تكون ناقصة ، فتحتاج إلى خبر .
والثاني : أن تكون تامة ، فلا تحتاج إليه ، فإن كانت الناقصة ، ففيها تخريجان :
أحدهما : أن يكون الخبر محذوفاً؛ للدلالة عليه تقديره : لا أبرح أسيرُ حتَّى ابلغ ، إلاَّ أن حذف الخبر في هذا الباب نصَّ بعض النحويِّين على أنه لا يجوز ولو بدليلٍ ، إلا في ضرورة؛ كقوله : [ الكامل ]
3545- لَهفِي عَليْكَ للَهْفةٍ مِنْ خَائفٍ ... يَبْغِي جِوارَكَ حِينَ ليْسَ مُجِيرُ
أي : حين ليس في الدنيا مجيرٌ .
والثاني : أنَّ في الكلام حذف مضافٍ ، تقديره : لا يبرحُ مسيري ، حتَّى أبلغ ، ثم حذف « مسير » وأقيمت الياء مقامه ، فانقلبت مرفوعة مستترة بعد أن كانت مخفوضة المحلِّ بارزة ، وبقي « حتَّى أبلغ » على حاله هو الخبر .
وقد خلط الزمخشري هذين الوجهين ، فجعلهما وجهاً واحداً ، ولكن في عبارة حسنة جدًّا ، فقال : « فإن قلت : » لا أبْرَحُ « إن كان بمعنى » لا أزولُ « من برح المكان ، فقد دلَّ على الإقامةِ ، لا على السَّفر ، وإن كان بمعنى » لا أزَالُ « فلا بدَّ من خبر ، قلت : هي بمعنى » لا أزَالُ « وقد حذف الخبر؛ لأنَّ الحال والكلام معاً يدلان عليه؛ أمَّا الحال ، فلأنها كانت حال سفرٍ ، وأمَّا الكلام ، فلأن قوله » حتَّى أبلغ « غاية مضروبة تستدعي ما هي غاية له ، فلا بدَّ أن يكون المعنى : لا أبرحُ أسير حتَّى أبلغَ ، ووجه آخرُ : وهو أن يكون المعنى : لا يبرحُ مسيري ، حتَّى أبلغ على أنَّ » حتَّى أبلغَ « هو الخبر ، فلمَّا حذف المضافُ ، أقيم المضافُ إليه مقامهُ ، وهو ضمير المتكلِّم ، فانقلب الفعل من ضمير الغائب إلى لفظ المتكلِّم ، وهو وجهٌ لطيفٌ » .
قال شهاب الدين : وهذا على حسنه فيه نظرٌ لا يخفى ، وهو : خلوُّ الجملة الواقعة خبراً عن « مسيري » في الأصل من رابطٍ يربطها به؛ ألا ترى أنه ليس في قوله « حتَّى أبلغ » ضمير يعود على « مسيري » إنما يعود على المضاف إليه المستتر ، ومثل ذلك لا يكتفى به .
ويمكن أن يجاب عنه : بأن العائد محذوفٌ ، تقديره : حتى أبلغ به ، أي : بمسيري .
وإن كانت التامة ، كان المعنى : لا أبرح ما أنا عليه ، بمعنى : ألزمُ المسير والطَّلبَ ، ولا أفارقه ، ولا أتركه؛ حتَّى أبلغ؛ كما تقول : لا أبرح المكان ، فعلى هذا : يحتاجُ أيضاً إلى حذف مفعول به ، كما تقدَّم تقريره فالحذف لا بدَّ منه على تقديري التَّمامِ والنقصان [ في أحد وجهي النقصان ] .
وقرأ العامة « مجمع » بفتح الميم ، وهو مكان الاجتماع ، وقيل : مصدر ، وقرأ الضحاك وعبد الله بن مسلم بن يسارٍ بكسرها ، وهو شاذٌّ؛ لفتح عين مضارعة .
قوله : « حُقُباً » منصوبٌ على الظرف ، وهو بمعنى الدَّهر . وقيل : ثمانون سنة ، وقيل : سنةٌ واحدةٌ بلغة قريش ، وقيل : سبعون ، وقرأ الحسن : « حُقْباً » بإسكان القاف ، فيجوز أن يكون تخفيفاً ، وأن يكون لغة مستقلة ، ويجمع على « أحقابٍ » كعنقٍ وأعناقٍ ، وفي معناه : الحقبةُ بالكسر ، قال امرؤُ القيس :
3546- فَإن تَنْأ عَنْهَا حِقْبةً لا تُلاقِهَا ... فإنَّكَ ممَّا أحْدَثَتْ بالمُجرِّبِ
والحقبة بالضمِّ أيضاً ، وتجمع الأولى على حقبٍ ، بكسر الحاء كقربٍ ، والثانية على حقبٍ ، بضمِّها؛ كقربٍ .
فإن قيل قوله : « أوْ أمْضِيَ » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه منسوق على « أبْلُغَ » يعني بأحد أمرين : إمَّا ببلوغه المجمع ، أو بمضيِّه حقباً .
والثاني : أنه تغييةٌ لقوله « لا أبْرَحُ » فيكون منصوباً بإضمار « أنْ » بعد « أو » بمعنى « إلى نحو » لألزَمنَّكَ أو تَقضِيَنِي حقِّي « .
فالجواب قال أبو حيان : « فالمعنى : لا أبرحُ حتى أبلغ مجمع البحرين ، إلى أن أمضي زماناً ، أتيقَّنُ معه فوات مجمع البحرين » قال شهاب الدين : فيكون الفعل المنفيُّ قد غيِّي بغايتين مكاناً وزماناً؛ فلا بدَّ من حصولهما معاً ، نحو : « لأسيرنَّ إلى بيتك إلى الظَّهر » فلا بدَّ من حصولِ الغايتين؛ والمعنى الذي ذكره الشيخ يقتضي أنه يمضي زماناً يتيقَّن فيه فوات مجمع البحرين .
وجعل أبو البقاء « أو » هنا بمعنى « إلاَّ » في أحد الوجهين :
قال : « والثاني : أنها بمعنى : إلاَّ أن أمضي زماناً؛ أتيقَّن معه فوات مجمع البحرين » وهذا الذي ذكره أبو البقاء معنى صحيحٌ ، فأخذ الشيخ هذا المعنى ، ركَّبهُ مع القول بأنَّها بمعنى « إلى » المقتضيةِ للغاية ، فمن ثمَّ جاء الإشكالُ .
فصل في المراد بمجمع البحرين
قوله : « مجمعُ البَحريْنِ » ؛ الذي وعد فيه موسى لقاء الخضر - عليه السلام - : هو ملتقى بحرين فارس والرُّوم ممَّا يلي المشرق ، قاله قتادة ، [ وقال محمد بن كعب : طنجة ] وقال أبي بن كعبٍ : إفريقيَّة .
وقيل : البحران موسى والخضر؛ لأنَّهما كانا بحري علمٍ . وليس في اللفظ ما يدل على تعيين هذين البحرين؛ فإن صحَّ بالخبر الصحيح شيء فذاك ، وإلاَّ فالأولى السُّكوت عنه .
ثم قال : « أوْ أمضيَ حُقباً » : أو أسير زماناً طويلاً .
واعلم أنَّ الله تعالى كان أعلم موسى حال هذا العالم ، وما أعلمه بموضعه بعينه ، فقال موسى : لا أزالُ أمشي؛ حتَّى يجتمع البحرانِ ، فيصيرا بحراً واحداً ، أو أمضي دهراً طويلاً؛ حتى أجد هذا العالم ، وهذا إخبارٌ من موسى أنَّه وطن نفسه على تحمُّل التَّعب الشَّديد ، والعناء العظيم في السَّفر؛ لأجل طلب العلم ، وذلك تنبيهٌ على أنَّ المتعلِّم ، لو سار من المشرق إلى المغرب؛ لأجل مسألة واحدة ، حقَّ له ذلك .
ثم قال : { فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا } .
أي : انطلقا إلى أن بلغا مجمع بينهما ، والضمير في قوله : « بينهما » إلى ماذا يعود؟ .
فقيل : لمجمع البحرين .
وقيل : بلغا الموضع الذي وقع فيه نسيانُ الحوت ، وهذا الموضع الذي كان يسكنه الخضر - عليه السلام - أي : يسكن بقربه ، ولأجل هذا المعنى ، لمَّا رجع موسى وفتاه بعد أن ذكر الحوت ، صار إليه ، وهو معنى حسنٌ ، والمفسِّرون على القول الأوَّل .
قوله : { نَسِيَا حُوتَهُمَا } : الظاهر نسبةُ النِّسيانِ إلى موسى وفتاه ، يعني نسيا تفقُّد أمره ، فإنه كان علامة لهما على ما يطلبانه ، وقيل : نسيَ موسى أن يأمرهُ بالإتيان به ، ونسي يوشعُ أن يفكِّره بأمره ، وقيل : النَّاسِي يوشع فقط ، وهو على حذف مضاف ، أي : نسي أحدهما؛ كقوله : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] .
قوله : « في البَحْرِ سرباً » مفعول ثانٍ ل « اتَّخذَ » و « فِي البَحْرِ » يجوز أن يتعلق ب « اتَّخذ » وأن يتعلق بمحذوفٍ على أنه محالٌ من المفعول الأول أو الثاني .
والهاء في « سبيلهُ » تعود على الحوت ، وكذا المرفوع في « اتَّخذَ » .
قوله : { جَاوَزَا } : مفعوله محذوف ، أي : جاوزا الموعد ، وقيل : جاوزا مجمع البحرين .
قوله : « هَذَا » إشارة إلى السَّفر الذي وقع بعد تجاوزهما الموعد ، أو مجمع البحرين ، و « نَصباً » هو المفعول ب « لَلِينَا » والعامة على فتح النون والصاد ، وعبد الله بن عبيد بن عمير بضمِّهما ، وهما لغتان من لغاتٍ أربعٍ في هذه اللفظة ، كذا قال أبو الفضل الرازيُّ في « لَوامحِهِ » .
قوله : { أَرَأَيْتَ } : تقدم الكلام عليها مشبعاً في الأنعام ، وقال أبو الحسن الأخفش هنا فيها كلاماً حسناً ، وهو : أنَّ العرب أخرجتها عن معناها بالكليَّة ، فقالوا : أرَأيْتكَ ، وأرَيْتكَ بحذف الهمزة ، إذا كانت بمعنى : أخْبِرْنِي « وإذا كانت بمعنى » أبْصَرْتَ « لم تحذف همزتها ، وشذَّت أيضاً ، فألزمها الخطاب على هذا المعنى ، ولا يقال فيها أيضاً : » أرَانِي زيداً عمراً ما صَنعَ « ويقال على معنى » اعْلَمْ « وشذَّت أيضاً ، فأخرجتها عن موضعها بالكليَّة؛ بدليل دخول الفاء؛ ألا ترى قوله : { أرَأيْتَ إذ أوينا إلى الصَّخرةِ فإني } فمَا دخلت الفاء إلاَّ وقد أخرجت إلى معنى : » أمَّا « أو » تنبَّه « ، والمعنى : أمَّا إذ أوينا إلى الصَّخرة ، فإنِّي نسيتُ الحوت ، وقد أخرجتها أيضاً إلى معنى » أخبرني « كما قدَّمنا ، وإذا كانت بمعنى » أخبرني « فلا بدَّ بعدها من الاسم المستخبر عنه ، وتلزم [ الجملة ] التي بعدها الاستفهام ، وقد تخرج لمعنى » أمَّا « ويكون أبداً بعدها الشرط ، وظروف الزمان ، فقوله » فإنِّي نسيتُ « معناه : أمَّا إذ أوينا فإنِّ ] ، أو تنبَّه إذْ أويْنَا ، وليست الفاءُ إلاَّ جواباً ل » أرَأيْتَ « لأنَّ » إذْ « لا يجوز أن يجازى بها إلاَّ مقرونة ب » ما « بلا خلافٍ » .
قال الزمخشري : « أرأيت » بمعنى « أخْبرنِي » فإن قلت : ما وجه التئامِ هذا الكلام ، فإنَّ كلَّ واحد من « أرَأيْتَ » ومن « إذْ أويْنَا » ومن { فإنِّي نسيتُ الحوت } لا متعلق له .
قلت : لمَّا طلب موسى الحوت ، ذكر يوشع ما رأى منه ، وما اعتراه من نسيانه إلى تلك الغاية ، ودهش ، فطفق يسأل موسى عن سبب ذلك ، كأنه قال : أرأيت ما دهاني ، إذ أوينا إلى الصخرة ، فإنّي نسيتُ الحوت ، فحذف ذلك .
قال أبو حيَّان : وهذان مفقودان في تقدير الزمخشريِّ : « أرَأيْتَ بمعنى أخبرني » يعني بهذين ما تقدَّم في كلام الأخفش من أنَّه لا بدَّ بعدها من الاسم المستخبر عنه ، ولزومِ الاستفهام الجملة التي بعدها .
قال النوويُّ في « التهذيب » يقال : أوى زيدٌ بالقصر : إذا كان فعلاً لازماً ، وآوى غيره بالمدِّ : إذا كان متعدِّياً ، فمن الأول هذه الآية قوله :
{ إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف } [ الكهف : 10 ] .
ومن المتعدِّي قوله تعالى : { وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ } [ المؤمنون : 50 ] .
وقوله : { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى } [ الضحى : 6 ] .
هذا هو الفصيح المشهور ، ويقال في كلِّ واحدٍ بالمدِّ والقصر ، لكن بالقصر في اللازمِ أفصح ، والمدُّ في المتعدِّي أفصحُ وأكثر .
قوله : « ومَا أنْسَانيهُ » قرأ حفص بضم الهاء ، وكذا في قوله : « عَلَيْهُ الله » في سورة الفتح [ آية : 10 ] ، قيل : لأنَّ الياء هنا أصلها الفتح ، والهاء بعد الفتحة مضمومة ، فنظر هنا إلى الأصل ، وأمَّا في سورة الفتح؛ فلأنَّ الياء عارضة؛ إذ أصلها الألف ، والهاء بعد الألف مضمومة ، فنظر إلى الأصل أيضاً .
والباقون بالكسر نظراً إلى اللفظ ، فإنَّها بعد ياءٍ ساكنة ، وقد جمع حفص في قراءته بين اللغات في هاء الكناية : فإنه ضمَّ الهاء في « أنسانيه » في غير صلة ، ووصلها بياءٍ في قوله : { فِيهِ مُهَاناً } [ الفرقان : 69 ] على ما سيأتي ، إن شاء الله تعالى ، وقرأ كأكثر القراء فيما سوى ذلك .
وقرأ الكسائي « أنسانيه » بالإمالة .
قوله : « أنْ أذكرهُ » في محلِّ نصبٍ على البدل من هاء « أنسانيه » بدل اشتمال ، أي : أنساني ذكرهُ .
وقرأ عبد الله : « أن أذكركه » ، وقرأ أبو حيوة : « واتِّخاذَ سبيلهِ » عطف هذا المصدر على مفعول « أذكرهُ » .
قوله : « عَجَباً » فيه أوجهٌ :
أحدها : أنه مفعول ثانٍ ل « اتَّخذَ » و « في البحْرِ » يجوز أن يتعلق بالاتخاذِ ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعول الأول أو الثاني .
وفي فاعل « اتَّخذ » وجهان :
أحدهما : هو الحوتُ ، كما تقدَّم في « اتَّخذ » الأولى .
والثاني : هو موسى .
الوجه الثاني من وجهي « عَجَباً » أنه مفعول به ، والعامل فيه محذوف ، فقال الزمخشريُّ : « أو قال : عجباً في آخر كلامه تعجباً من حاله ، وقوله : { وما أنسانيه إلاَّ الشيطان } اعتراضٌ بين المعطوف والمعطوف عليه » . فظاهر هذا أنَّه مفعول ب « قال » ، أي : قال هذا اللفظ ، والسبب في وقوع هذا الاعتراض ما يجري مجرى القدر والعلة لوقوع ذلك النسيان .
الثالث : أنه مصدر ، والعامل فيه مقدَّر ، تقديره : فتعجَّب من ذلك عجباً .
الرابع : أنه نعت لمصدر محذوف ، ناصبه « اتَّخذَ » أي : اتخذ سبيله في البحر اتِّخاذاً عجباً ، وعلى هذه الأقوال الثلاثة : يكون « في البَحْرِ » مفعولا ثانياً ل « اتَّخذَ » إن عدَّيناها لمفعولين .
فصل
دلَّت الرواياتُ على أنَّه تعالى بيَّن لموسى صلى الله عليه وسلم أنَّ هذا العالم موضعه مجمع البحرين ، إلا أنَّه ما عيَّن موضعاً ، إلا أنَّه جعل انقلاب الحوت حيًّا علامة على مسكنه المعيَّن ، كمن يطلب إنساناً ، فيقال له : إنَّ موضعه محل!َة كذا من كذا ، فإذا انتهيت إلى المحلَّة ، فسل فلاناً عن داره ، فأينما ذهب بك ، فاتبعه؛ فإنَّك تصل إليه ، فكذا هنا قيل له : إنَّ موضعه مجمع البحرين ، فإذا وصلت إليه ، ورأيت انقلاب الحوت حيًّا وطفر إلى البحر ، فيحتمل أنَّه قيل له : فهناك موضعه ، ويحتمل أنَّه قيل له : فاذهب على موافقة ذلك الحوت؛ غفإنَّك تجدهُ .
وإذا عرفت هذا فنقول : إن موسى وفتاه ، لمَّا بلغا مجمع بينهما ، طفرت السَّمكةُ إلى البحر ، وسارت ، وفي كيفيَّة طفرها روايات .
فقيل : إن الفتى غسل السَّمكة ، لأنها كانت مملحة ، فطفرت وسارت .
وقيل : إنَّ يوشع توضَّأ في ذلك المكان من عينٍ تسمَّى « مَاءَ الحياةِ » لا يصيبُ ذلك الماءُ شيئاً إلاَّ حيي ، فانتضح الماء على الحوت المالح ، فعاش ووثب في الماء .
وقيل : انفجر هناك عينٌ من الجنَّة ، ووصلت قطراتٌ من تلك العين إلى السَّمكة ، وهي في المكتل ، فاضطربت ، وعاشت ، فوثبت في البحر .
ثم قال تعالى : { نَسِيَا حُوتَهُمَا } أي : نسيا كيفيَّة الاستدلال بهذه الحالة المخصوصة على الوصول إلى المطلوب ، فإن قيل : انقلاب السَّمكة المالحة حيَّة [ حالة ] عجيبة [ فلما ] جعل الله تعالى حصول هذه الحالة العجيبة دليلاً على الوصول إلى المطلوب ، فكيف يعقل حصول النِّسيان في هذا المعنى؟ .
فالجواب أنَّ يوشع كان قد شاهد المعجزات الباهرات من موسى - عليه الصلاة والسلام - كثيراً ، فلم يبق لهذه المعجزات عنده وقعٌ عظيم ، فجاز حصول النِّسيان .
وهذا الجواب فيه نظرٌ .
قال ابن زيدٍ : أي شيءٍ أعجبُ من حوتٍ يؤكل منه دهراً ، ثم صار حيًّا بعدما أكلَ بعضه .
فصل في ذكر جوابٍ آخر لابن الخطيب
قال ابن الخطيب : وعندي فيه جوابٌ آخر ، وهو أنَّ موسى - عليه السلام - لما استعظم علم نفسه ، أزال الله عن قلب صاحبه هذا العلم الضروريَّ؛ تنبيهاً لموسى عليه السلام - على أنَّ العلم لا يحصل ألبتَّة إلا بتعليم الله تعالى ، وحفظه على القلب .
وقال البغويُّ : « نَسيَا » تركا « حُوتَهُمَا » ، وإنما كان الحوت مع يوشع ، وهو الذي نسيه ، وأضاف النِّسيان إليهما؛ لأنهما جميعاً لمَّا تزوَّداه لسفرهما ، كما يقال : خرج القوم إلى موضع كذا ، وحملوا من الزَّاد كذا [ وإنما حملهُ واحد منهم . ثم قال : « واتخذ سبيله في البحر سرباً » قيل : تقديره سرب في البحر سرباً « ] إلاَّ أنه أقيم قوله : » فاتّخذ « مقام قوله : » سرباً « ، والسَّرب هو الذهاب ومنه قوله تعالى : { وَسَارِبٌ بالنهار } [ الرعد : 10 ] .
وقيل : إن الله تعالى أمسك الماء عن الجري ، وجعله كالطاق والكوَّة؛ حتَّى سرب الحوت فيه ، وذلك معجزةٌ لموسى أو الخضر - عليهما السلام- .
روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : » انجاب الماءُ عن مسلكِ الحوت ، فصار كوَّة ، لم يلتئمْ ، فدخل موسى الكوَّة على إثر الحوت ، فإذا هو بالخضر « .
وقوله : { فَلَمَّا جَاوَزَا } أي : موسى وفتاه الموعد المعين ، وهو الوصول إلى الصخرة بسبب النِّسيان المذكور ، وذهبا كثيراً ، وتعبا ، وجاعا .
{ قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا } والغداءُ : ما يعدُّ للأكل غدوة ، والعشاء : ما يعدُّ للأكل عشية { لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً } أي : تعباً وشدَّة ، وذلك أنَّه ألقى على موسى الجوع بعد مجاوزة الصَّخرة؛ ليتذكَّر الحوت ، ويرجع إلى مطلبه ، فقال له فتاه وتذكَّر : { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة } الهمزة في « أرَأيْتَ » همزة الاستفهام ، و « رَأيْتَ » على معناه الأصليِّ ، وجاء الكلام هذا على المتعارفِ بين النَّاس؛ فإنه إذَا حدث لأحدهم أمرٌ عجيبٌ ، قال لصاحبه : أرأيت ما حدث لي ، كذلك هنا ، كأنه قال : أرأيت ما وقع لي ، إذا أوينا إلى الصَّخرة ، فحذف مفعول « أرَأيْتَ » لأنَّه - أي لأنَّ قوله : « فإنِّي نسيتُ الحوت » - يدل عليه ، أي : فقدته .
{ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ } أي أذكر لك أمر الحوت .
{ واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَباً } ووجه كونه عجباً انقلابه من المكتل ، وصيرورته حيًّا ، وإلقاء نفسه في البحر على غفلةٍ منهما ، ويكون المراد منه ما ذكرنا أنه تعالى جعل الماء عليه كالطَّاق والسَّرب ، وقيل : تمّ الكلام عند قوله : { واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر } ، ثم قال : « عَجَباً » أي أنَّه يعجب من رؤية تلك العجيبة ، ومن نسيانه لها .
وقيل : إنَّ قوله « عَجَباً » حكايةٌ لتعجُّب موسى .
ثم قال موسى : { ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ } أي : نطلبه؛ لأنَّه أمارة الظَّفر بالمطلوب ، وهو لقاء الخضر .
قوله : { نَبْغِى } : حذف نافع وأبو عمرو والكسائي ياء « نَبْغِي » وقفاً ، وأثبتوها وصلاً ، وابن كثير أثبتها في الحالين ، والباقون حذفوها في الحالين؛ اتِّباعاً للرسم ، وكان من حقِّها الثبوتُ ، وإنما حذفت تشبيهاً بالفواصل ، أو لأنَّ الحذف يؤنس بالحذف ، فإن « ما » موصولة حذف عائدها ، وهذه بخلاف التي في يوسف [ الآية : 65 ] ، فإنها ثابتة عند الجميع ، كما تقدَّم .
قوله : « قصصاً » فيه ثلاثة أوجه :
الأول : أنه مصدر في موضع الحال ، أي : قاصِّين .
الثاني : أنه مصدر منصوب بفعل من لفظه مقدر ، أي : يقصَّان قصصاً .
الثالث : أنه منصوبٌ ب « ارْتدَّا » لأنه في معنى « فقَصَّا » .
قوله : { { فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ } الآية .
قيل : كان ملكاً من الملائكة ، والصحيح ما ثبت في التَّواريخ ، وصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه الخضر ، واسمه بليا بن ملكان .
وقيل : كان من نسل بني إسرائيل .
وقيل : كان من أبناء الملوك الذين زهدُوا في الدنيا ، والخضر لقبٌ له ، سمِّي بذلك؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إنَّما سمِّي خضراً؛ لأنَّه جلس على فَرْوةٍ بيْضاءَ ، فإذا هِيَ تهتزُّ تَحْتَهُ خَضِراً » .
وقال مجاهد : إنما سمِّي خضراً؛ لأنَّه كان إذا صلَّى ، اخضرَّ ما حوله .
روي في الحديث أنَّ موسى - عليه السلام - لمَّا رأى الخضر - عليه السلام - سلَّم عليه ، فقال الخضر : وأنَّى بأرضك السلام؟ قال : أنا موسى ، قال : موسى بني إسرائيل؟ قال : نعم ، أتيتك؛ لتعلِّمنِي ممَّا علِّمت رشداً .
فصل في بيان أن الخضر كان نبياً
قال أكثر المفسرين : إنَّه كان نبيًّا ، واحتجوا بوجوهٍ :
الأول : قوله : { آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا } والرحمة : هي النبوة؛ لقوله تعال { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ } [ الزخرف : 32 ] .
وقوله : { وَمَا كُنتَ ترجوا أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } [ القصص : 86 ] .
والمراد من هذه الرحمة النبوة ، ولقائلٍ أن يقول : سلَّمنا أن النبوَّة رحمة ، ولكن لا يلزمُ بكلِّ رحمةٍ نبوةٌ .
الثاني : قوله تعالى : { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } وهذا يدل على أنه علمه لا بواسطة ، ومن علَّمه الله شيئاً ، لا بواسطة البشر ، يجب أن يكون نبيًّا ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ العلوم الضرورية تحصل ابتداء من عند الله ، وذلك لا يدلُّ على النبوَّة .
الثالث : قول موسى - عليه السلام - : « هل أتَّبِعُك على أن تعلِّمنِي ممَّا علِّمتَ رُشداً » والنبي لا يتَّبع غير النبي في التعلُّم .
وهذا أيضاً ضعيفٌ؛ لأنَّ النبي لا يتبع غير النبي في العلوم التي باعتبارها صار نبيًّا ، [ أما في غير تلك العلوم فلا ] .
الرابع : أنَّ ذلك العبد أظهر الترفُّع على موسى ، فقال : { وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } فأما موسى ، فإنه أظهر التواضع له؛ حيث قال : { وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } وذلك يدلُّ على أنَّ ذلك العالم كان فوق موسى ، ومن لا يكون نبيًّا ، لا يكون فوق النبيِّ ، وذلك أيضاً ضعيفٌ؛ لأنه يجوز أن يكون غير النبيِّ فوق النبي في علومٍ لا تتوقَّف نبوته عليها .
فإن قيل : إنه يوجبُ تنفيراً .
فالجواب : وتكليمه بغير واسطة يوجب التَّنفير .
فإن قالوا : هذا لا يوجبُ التنفير ، فكذلك فيما ذكروه .
الخامس : احتجَّ الأصم بقوله : « وما فعلتهُ عن أمْرِي » أي : فعلته بوحي الله تعالى ، وذلك يدلُّ على النبوة ، وهذا ضعيف أيضاً .
روي أنَّ موسى - عليه السلام - لمَّا وصل غليه ، فقال : السلام عليك ، فقال : وعليك السلام ، يا نبيَّ بني إسرائيل ، فقال موسى : من عرَّفك هذا؟ قال : الذي بعثك إليَّ؛ وهذا يدلُّ على أنَّه إنما عرف ذلك بالوحي ، والوحي لا يكون إلا إلى النبيِّ .
ولقائلٍ أن يوقل : لم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات؟ .
قال البغوي : ولم يكن الخضرُ نبيًّا عند أكثر أهل العلم .
قوله : { آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } أي : علم الباطن إلهاماً .
و « عِلْماً » : مفعول ثان ل « عَلَّمْناهُ » قال أبو البقاء : « ولو كان مصدراً ، لكان تعليماً » يعني : لأنَّ فعله على « فعَّل » بالتشديد ، وقياس مصدره « التَّفعيلُ » .
و « مِنْ لدُنَّا » يجوز أن يتعلق بالفعل قبله ، أو بمحذوف على أنه حالٌ من « عِلْماً » .
قوله : ( على أن تعلمني ) : في موضع الحال من الكاف في « أتَّبِعُكَ » أي : أتَّبِعك [ باذلاً لي علمكَ « .
قوله : » رُشْداً « مفعول ثان ل » تُعلِّمَنِي « لا لقوله : » ممَّا عُلِّمتَ « قال أبو البقاء : » لأنَّه لا عائد إذن على الذي « يعني أنه إذا تعدَّى لمفعول ثان غير ضمير الموصول ، لم يجز أن يتعدَّى لضمير الموصول؛ لئلا يتعدَّى إلى ثلاثة ، ولكن لا بدَّ من عائدٍ على الموصول .
وقد تقدَّم خلاف القراء في » رُشداً « في سورة الأعراف [ الآية : 146 ] ، وهل هما بمعنى واحد أم لا؟ .
وقوله : رشداً » أي : علماً ذا رشدٍ .
قال القفَّال : قوله « رُشْداً » يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون « الرُّشْدُ » راجعاً إلى الخضرِ ، أي : ممَّا علمك الله ، وأرشدك به .
والثاني : أن يرجع إلى موسى ، أي : على أن تعلِّمني ، وتُرشِدني ممَّا علِّمت .
فصل في أدب موسة - عليه السلام - في تعلُّمه من الخضرِ
دلَّت هذه الآية على أنَّ موسى - عليه السلام - راعى أنواعاً كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلَّم من الخضر .
منها : أنه جعل لنفسه تبعاً له في قوله : « هَلْ أتَّبعكَ » .
ومنها : أنَّه استأذن في إثباتِ هذه التبعيَّة؛ كأنَّه قال : تأذنُ لي على أن أجعل نفسي تبعاً لك ، وهذه مبالغةٌ عظيمةٌ في التواضعِ .
ومنها : قوله « على أن تعلمني » وهذا إقرارٌ منه على نفسه بالجهل ، وعلى أستاذه بالعلم .
ومنها : قوله : « ممَّا علِّمتَ » وصيغة « مِنْ » للتبعيض ، فطلب منه تعليم بعض ما علِّم ، وهذا أيضاً إقرارٌ بالتواضع ، كأنه يقول : لا أطلب منك أن تجعلني مساوياً لك في العلم ، بل أطلب منك أن تعطيني جزءاً من الجزء ، ممَّا علِّمت .
ومنها : أن قوله : « مِمَّا علِّمتَ » اعترافٌ بأنَّ الله تعالى علَّمهُ ذلك العلم .
ومنها : قوله « رُشْداً » طلب منه الإرشاد والهداية .
ومنها أنَّ قوله : { تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ } طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله الله به ، أي : يكون إنعامك عليَّ عند تعليمك إيَّاي شبيهاً بإنعام الله عليك في هذا التعليم .
ومنها : قوله : { هَلْ أَتَّبِعُكَ } يدل على طلب متابعته مطلقاً في جميع الأمور غير مقيَّد بشيءٍ دون شيءٍ .
ومنها : أنه ثبت [ في الأخبار ] أنَّ الخضر عرف أولاً أنَّه موسى صاحب التَّوراةِ ، وهو الرجل الذي كلَّمه الله من غير واسطة ، وخصَّه بالمعجزات القاهرة الباهرة ، ثم إنَّه - عليه السلام - مع هذه المناصب الرفيعة والدَّرجاتِ العالية الشَّريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع؛ وذلك يدلُّ على كونه - عليه السلام - آتياً في طلب العلم أعظم أبواب المبالغةِ في التواضع ، وهذا هو اللائقُ به؛ لأنَّ كلَّ من كانت إحاطتهُ بالعلوم التي علم ما فيها من البهجة والسعادة أكثر ، كان طلبه له أشدَّ ، وكان تعظيمه لأربابِ العلم أكمل وأشدَّ .
ومنها : قوله : { هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ } فأثبت أوَّلاً كونه تبعاً ، ثم طلب منه ثانياً أن يعلِّمه ، وهذا منه ابتداءٌ بالخدمة ، ثم في المرتبة الثانية ، طلب منه التَّعليم .
ومنها : قوله : { هَلْ أتَّبِعُكَ } لم يطلب على المتابعة إلاَّ التعليم ، كأنه قال : لا أطلب منك على هذه المتابعة المال والجاه ، ولا عوض لي إلاَّ طلب العلم .
فصل
روي أنه لمَّا قال موسى : { هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ } ، قال له الخضرُ : كفى بالتَّوراة علماً ، وببني إسرائيل شغلاً ، فقال له موسى : إنَّ الله أمرني بهذا ، فحينئذ قال له : { إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } ، وإنَّما قال ذلك؛ لأنَّه علم أنَّه يرى معه أموراً كثيرة منكرة ، بحسب الظاهر ، ولا يجوز للأنبياء أن يصبروا على المنكرات ، ثمَّ بيَّن عذره في ترك الصَّبر ، فقال : { وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } ، أي : علماً .
واعلم أنَّ المتعلِّم على قسمين : متعلِّم ليس عنده شيءٌ من المعلوم ، ولم يمارس الاستدلال ، ولم يتعوَّد التقرير ، و الاعتراض ، ومتعلِّم حصَّل العلوم الكثيرة ، ومارس الاستدلال والاعتراض ، ثم إنَّه يريد أن يخالط إنساناً أكمل منه؛ ليبلغ درجة الكمال ، فالتعلم في حقِّ هذا القسم الثاني شاقٌّ شديدٌ؛ لأنه إذا رأى شيئاً ، أو سمع كلاماً ، فربَّما يكون ذلك منكراً بحسب الظاهر ، إلاَّ أنه في الحقيقة صوابٌ حقٌّ ، فهذا المتعلم لأجل أنه ألف الكلام والجدال ، يغترُّ بظاهره ، ولأجل عدم كماله ، لا يقف على سرِّه وحقيقته ، فيقدم على النِّزاع ، والاعتراض ، والمجادلة ، وذلك مما يثقل سماعه على [ الأستاذ ] المتبحِّر ، فإذا اتَّفق مثل هذه الواقعة مرتين أو ثلاثة ، حصلت النُّفرة التامَّة والكراهة الشديدة العظيمة ، وإلى هذا ، أشر الخضر بقوله : { إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } أي أنَّه ألف الإثبات والإبطال ، والاستدلال والاعتراض .
وقوله : { وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } إشارةٌ إلى كونه غير عالمٍ بالحقائقِ ، وقد تقدم أنه متى حصل الأمران ، [ عسر ] السُّكوت ، وعسر التعلم ، وانتهى الأمر بالآخرة إلى النُّفرة التامة ، وحصول التقاطع .
قوله : « خُبْراً » : فيه وجهان :
الأول : أنه تمييزٌ لقوله « تُحِطْ » وهو منقول من الفاعلية؛ إذ الأصل : مما لم يحطْ به خبرك .
والثاني : أنه مصدر لمعنى لم تحط؛ إذ هو في قوَّة : لم يخبره خبراً ، وقرأ الحسن « خُبُراً » بضمتين .
فصل في أن الاستطاعة تحصل قبل الفعل
قال ابن الخطيب : احتجَّ أصحابنا بقوله : { إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } على أن الاستطاعة تحصل قبل الفعل .
وقالوا : لو كانت الاستطاعة على الفعل حاصلة قبل [ حصول الفعل ] ، لكانت الاستطاعة على الصَّبْر حاصلة لموسى قبل حصول الصَّبر ، فيلزم أن يكون قوله : { إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } كذباً ، ولمَّا بطل ذلك ، علمنا أنَّ الاستطاعة لا توجد قبل الفعل .
أجاب الجبائيُّ بأنَّ المراد من هذا القول : أنَّه يثقل عليه الصَّبر؛ لا أنه لا يستطيعه ، يقال في العرف : « إنَّ فلاناً لا يستطيع أن يرى فلاناً ، ولا أن يجالسه » إذا كان يثقل عليه ذلك .
ونظيره قوله تعالى : { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع } [ هود : 20 ] أي كان يشقُّ عليهم الاستماع .
وأجيب بأنَّ هذا عدولٌ عن الظاهر من غير دليل ، وأنه لا يجوز ، ومما يؤكد استدلال الأصحاب قوله تعالى : { وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } استبعد حصول الصبر على ما لا يقف الإنسان على حقيقته ، ولو كانت الاستطاعة قبل الفعل لكانت القدرة على الفعل حاصلة قبل حصول ذلك العلم ، ولو كان كذلك لما كان حصول الصبر عند عدم ذلك العلم مستبعداً؛ لأن القادر على الفعل لا يبعد منه إقدامه على ذلك الفعل ولما حكم الله تعالى باستبعاده ، علمنا أن الاستطاعة ، تحصل قبل الفعل .
قوله : { ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } . قال ابن الخطيب : احتج الطاعنون في عصمةِ الأنبياء بهذه الآية؛ فقالوا إن الخضر قال لموسى : إنَّك لنْ تستطيعَ معي صبراً ، وقال موسى : ستجدني إن شاء الله صابراً ، وكلُّ واحدٍ من هذين القولين مكذبٌ للآخر ، فيلزمُ إلحاقُ الكذب بأحدهما ، وعلى التَّقديرين ، فيلزم صدور الكذب عن الأنبياء - عليهم السلام- .
وأجيب بأنَّه يحمل قوله : { إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } على الأكثر والأغلب ، وعلى هذا ، فلا يلزم ما ذكروه ، وقد يجاب بجواب آخر ، وهو أن موسى - عليه السلام - استثنى في جوابه ، فقال : { ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً } وعلى هذا ، فلا يلزمُ ما ذكروه .
قوله : { وَلاَ أَعْصِي } فيه أربعة أوجهٍ :
أحدها : أنَّها لا محلَّ لها من الإعراب لاستئنافها ، وفيه بعدٌ .
الثاني : أنها في محلِّ نصبٍ؛ عطفاً على ستجدني؛ لأنها منصوبة المحلِّ بالقول .
وقال أبو حيَّان : ويجوز أن يكون معطوفاً على « ستجدني » فلا يكون لهُ محلٌّ من الإعراب ، وهذا سهوٌ؛ فإنَّ « سَتجِدُنِي » منصوب المحلِّ؛ لأنه منصوب بالقول ، فكذلك ما عطف عليه ، ولكنَّ الشيخ رأى كلام الزمخشريِّ كذلك ، ولم يتأمَّله ، فتبعه في ذلك ، فمن ثمَّ جاء السَّهوُ قال الزمخشري : « ولا إعْصِي » في محلِّ النصب عطفاً على « صَابِراً » أي : ستجدني صابراً ، وغير عاصٍ أو « لا » في محل رفع عطفاً على « سَتجدُنِي » .
الثالث : أنه في محلِّ نصب على « صَابِراً » كما تقدَّم تقريره .
فصل
دلَّ قوله : { وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } على أنَّ ظاهر الأمر للوجوب ، وأن تارك المأمور به عاصٍ ، والعاصي يستحقُّ العقاب؛ كقوله تعالى : { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } [ الجن : 23 ] .
فصل
قوله الخضر لموسى : « وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً » نسبه إلى قلة العلم ، فقول موسى : ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً تواضعٌ شديد ، وإظهار للتَّحمل التَّام ، وذلك يدلُّ على أنَّ الواجب على المتعلِّم إظهار التواضع بكلِّ الغايات ، وأمَّا المعلم فإن رأى أنَّ في التغليظ على المتعلِّم ما يفيده نفعاً وإرشاداً إلى الخير ، فالواجب عليه ذكره ، فإنَّ السُّكوت عنه يوقع المتعلِّم في الغرور ، وذلك يمنع من التعلُّم .
قوله : « فإن اتَّبْعتَنِي » أي صحبتني ، ولم يقل : اتَّبعني ، ولكن جعل الاختيار إليه ، إلاَّ أنَّه شرط عليه شرطاً ، فقال : « فلا تَسْالنِي » تقدَّم خلاف القرَّاء في هذا الحرفِ ، في سورة « هود » .
وقرأ أبو جعفر وابن عامر - هنا - بفتح السِّين ، واللام ، وتشديد النون من غير همزٍ ، وبغير ياءٍ ، وروي عن ابن عامرٍ ، ونافع كذلك مع الياء ، والمعنى : لا تسألني : لا تستخبرني حين ترى منِّي ما لم تعلمْ وجههُ حتَّى أكون أنا المبتدئ بتعليمك إيَّاه ، وإخبارك به ، وهذا معنى قوله : { حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } أي : أبتدئ بذكره ، فأبين لك شأنهُ .
قوله : { فانطلقا حتى إِذَا رَكِبَا فِي السفينة خَرَقَهَا } الآية .
اعلم أنَّ موسى - عليه السلام - وذلك العالم ، لمَّا تشارطا على الشرط المذكور ، سار فانتهيا إلى موضع ، احتاجا فيه إلى ركوب السَّفينة ، فوجدا سفينة ، فكلموهم أن يحملوهم ، فعرفوا الخضر ، [ فحملوهم ] من غير نول ، فلما لجُّوا البحر ، أقدم ذلك العالم على خرق السَّفينة .
قال ابن الخطيب : لعلَّه أقدم على إخراق مكانٍ في السفينة؛ لتصير السفينة بذلك السبب معيبة ظاهرة العيب ، فلا يتسارع به إلى أهلها الغرق فعند ذلك قال له موسى : { أخَرقْتهَا لتُغْرِقَ أهْلهَا } [ لمَّا رأى موسى - عليه السلام - ذلك الأمر المنكر بحسبِ الظَّاهر نسيَ الشرط المتقدم؛ فلهذا قال ما قال ] .
وفي اللام وجهان :
أحدهما : هي لام العلة .
والثاني : هي لام الصَّيرورة ، وقرأ الأخوان : « ليَغرَقَ » بفتح الياء من تحت ، وسكون الغين ، وفتح الراء ، « أهْلُهَا » بالرفع فاعلاً ، والباقون بضمِّ التاء من فوق ، وكسر الراء ، أي : لتغرق أنت أهلها ، بالنصب مفعولاً به ، والحسن وأبو رجاء كذلك ، غلا أنَّهما شدَّدا الراء .
والسَّفينة معروفة ، وتجمع على سفنٍ وسفائن ، نحو : صحيفة وصحف وصحائف ، وتحذف منها التاء مراداً بها الجمع ، فتكون اسم جنسٍ؛ نحو : ثمر [ وقمح ] ، إلا أنه هذا في المصن وع قليلٌ جدًّا ، نحو : جَرَّة وجر ، وعمامة وعمام ، قال الشاعر : [ الوافر ]
3547- مَتَى تَأتيهِ تَأتِي لُجَّ بَحْرٍ ... تَقاذفُ في غَوارِبهِ السَّفِينُ
واشتقاقها من السَّفن ، وهو القشر؛ لأنَّها تقشر الماء ، كما سميت « بِنْتَ مخرٍ » لأنها تمخرُ الماء ، أي : تشقُّه .
قوله : « إمْراً » أي شيئاً عظيماً ، يقال : أمِرَ الأمْرُ ، أي : عظم وتفاقم ، قال : [ الرجز ]
3548- دَاهِيَةً دَهْيَاءَ إدًّا إمْرا ... والإمرُ في كلام العرب : الدَّاهيةُ ، وأصله كل شيءٍ شديدٌ كثيرٌ ، يقال : أمر القوم : إذا كثروا ، واشتدَّ أمرهم .
ومعنى الآية : لقد جئت شيئاً منكراً .
وقال القتيبيُّ : « إمْراً » أي عظيماً عجيباً منكراً .
روي أنَّ الخضر ، لمَّا [ خرق ] السَّفينة لم يخلها الماءِ .
وروي أن موسى لمَّا رأى ذلكَ أخذ ثوبه ، وحشا به الخرق
قوله : { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } أي : قال ذلك الخضر ، قال موسى { لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ } .
قال ابن عبَّاس : إنَّه لم ينس ، ولكنًَّه من معاريض الكلام ، فكأنَّه نسي شيئاً آخر .
وقيل : معناه : بما تركت من عهدك ، والنِّسيان التَّرك .
وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : « كانت الأولى من موسى نسياناً ، والوسطى شرطاً ، والثالثة عمداً » .
فصل في الرد على الطاعنين في عصمة الأنبياء
قال ابن الخطيب : احتجَّ الطَّاعنون في عصمة الأنبياءِ بهذه الآية من وجهين :
أحدهما : أنه ثبت بالدليل أن ذلك العالم كان نبيًّا ، ثم قال موسى : « أخَرقتهَا ، لتُغْرِقَ أهْلهَا » ، فإن صدق موصى في هذا القول ، دلَّ ذلك على صدور الذَّنْب العظيم من ذلك النبيِّ ، وإن كذب ، دلَّ ذلك على صدور الذنب [ العظيم ] من موسى .
والثاني : أنه التزم أنَّه لا يعترض على ذلك العالمِ ، وجرت العهود المذكورة بذلك ، ثم إنَّه خالف تلك العهود ، وذلك ذنبٌ .
فالجواب عن الأول : أن موسى ، لما شاهد منه الأمر الخارج عن العادةِ ، قال هذا لكلام ، لا لأجل أنه اعتقد فيه أنه فعل قبيحاً ، بل إنَّه أحبَّ أن يقف على وجهه وسببه ، وقد يقال في الشيء العجيب الذي لا يعرف سببه : إنَّه إمرٌ .
وعن الثاني : أنَّه إنما خالف الشَّرط؛ بناءً على النِّسيان ، ثم إنه تعالى حكى عن ذلك العالم أنَّه [ لما خالف الشرط ] لم يزد على أن قال : { أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } ، فعندها اعتذر موسى بقوله : { لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ } أراد أنه نسي وصيَّته ، ولا مؤاخذة على الناسي ، { وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً } أي : لا تكلِّفني مشقَّة ، يقال : أرهقهُ عسراً وأرهقته عسراً ، أي : كلَّفتهُ ذلك . لا تضيِّق عليَّ أمري ، لا تعسِّر متابعتك [ ويسرها عليّ ] بالإغضاء ، وترك المناقشة ، و عاملني باليسر ، ولا تعاملني بالعسر .
و « عُسْراً » : مفعول ثانٍ ل « تُرهِقْنِي » من أرهقه كذا ، إذا حمَّله إيَّاه ، وغشَّاه به ، و « ما » في « بِمَأ نسيتُ » مصدرية ، أو بمعنى « الذي » والعائد محذوف .
وقرأ أبو جعفر : « عُسُراً » بضمِّ السين ، حيث وقع .
قوله : { فانطلقا حتى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ } الآية .
اعلم أنَّ لفظ الغلام قد يتناول الشابَّ البالغ ، وأصله من الاغتلامِ ، وهو شدَّة الشَّقِ ، وذلك إنما يكون في الشَّباب ، وقد يتناولُ هذا اللفظُ الصبي الصغير ، وليس في القرآن كيف لقياه : هل كان يلعبُ مع الغلمان ، أو كان منفرداً؟ أو هل كان مسلماً ، أو كان كافراً؟ أو هل كان بالغاً ، أو صغيراً؟ لكن اسم الغلام بالصَّغير أليقُ ، وإن احتمل الكبير ، إلاَّ أن قوله : « بغير نفسٍ » أليق بالبالغ منه بالصبيِّ؛ لأن الصبيِّ لا [ يقتل ] .
قال ابن عباس : لم يكن نبي الله يقول : أقتلت نفساً زكيَّة بغير نفس إلاَّ وهو صبيٌّ لم يبلغ .
وكيفيَّة قتله ، هل كان بحزِّ رأسه ، أو بضرب رأسه بالجدار ، أو بطريق آخر؟ فليس في لفظ القرآن ما يدلُّ على شيءٍ من هذه الأقسام ، لكنَّه روي في الحديث عن ابن عباس عن أبيِّ بن كعب قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إنَّ الغلام الذي قتله الخضرُ ، طبع كافراً ، ولو عاش ، لأرهق والديه طغياناً وكفراً » .
فإن قيل : إنَّ موسى استبعد أن يقتل النَّفس إلاَّ لأجل القصاصِ ، وليس الأمر كذلك ، لأنه قد يحلُّ دمه بسبب آخر .
فالجواب : أنَّ السَّبب الأقوى هو ذاك .
قوله : { زَكِيَّةً } : قرأ « زَاكِية » بألف وتخفيف الياء : نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وبدون الألف وتشديد الياء : الباقون ، فمن قرأ « زاكيةً » فهو اسمُ فاعلٍ على أصله ، ومَنْ قرأ « زَكِيَّةً » فقد أخرجه إلى فعيلة للمبالغة .
قال الكسائيُّ والفراء : معناهما واحدٌ؛ مثل القاسيةِ والقسيَّة ، وقال أبو عمرو بن العلاء : الزَّاكيةُ : التي لم تذنبْ قطُّ ، والزكيَّة : التي أذنبت ثم تابت .
[ والغلام : من لم يبلغْ ] . وقد يطلق على البالغ الكبير . فقيل مجازاً باعتبار ما كان . ومنه قول ليلى : [ الطويل ]
3549- شَفاهَا مِنَ الدَّاءِ الذي قَدْ أصَابهَا ... غُلامٌ إذَا هزَّ القَناةَ شَفاهَا
وقول الآخر : [ الطويل ]
3550- تَلقَّ ذُبَابَ السَّيفِ عنِّي فإنَّني ... غُلامٌ إذا هو جيتُ لستُ بِشاعرِ
وقيل : بل هو حقيقة ، لأنه من الاغتلام وهو الشَّبق ، وذلك إنما يكون في الشاب المحتلمِ ، والذي يظهرُ أنه حقيقةٌ فيهما عند الاطلاق ، فإذا أريد أحدهما ، قيد كقوله : « لغُلامَيْنِ يَتيمينِ » وقد تقدَّم ترتيب أسماءِ الآدميِّ من لدن هو جنينٌ إلى أن يصير شيخاً ، ولله الحمد ، في آل عمران .
قال الزمخشري : « فإن قلت : لم قال : » حتى إذا ركبا في السفينة خرقها « بغير فاءٍ ، و » حتَّى إذا لقيا غلاماً ، فقتله « بالفاء؟ قلت : جعل » خَرقهَا « جزاء للشرط ، وجعل » قتلهُ « من جملة الشرط معطوفاً عليه ، والجزاء » قال : أقتلت « فإن قلت : لم خولف بينهما؟ قلت : لأنَّ الخرق لم يتعقَّب الركوب ، وقد تعقَّب القتل لقاء الغلام » .
قوله : بغَيْرِ نفسٍ « فيه ثلاثة أوجه :
الأول : أنها متعلقة ب » قَتلْتَ « .
الثاني : أنها متعلقة بمحذوف ، على أنها حال من الفاعل ، أو من المفعول ، أي : قتلته ظالماً ، أو مظلوماً ، كذا قدَّره أبو البقاء ، وهو بعيد جدًّا .
الثالث : أنها صفة لمصدر محذوف ، أي : قتلاً بغير نفسٍ .
قوله : » نُكْراً « قرأ نافع ، وأبو بكر ، وابن ذكوان بضمَّتين ، والباقون بضمة وسكون ، وهما لغتان ، أو أحدهما أصلٌ ، و » شَيْئاً « : يجوز أن يراد به المصدر ، أي : مجيئاً نكراً ، وأن يراد به المفعول به ، أي : جئت أمراً منكراً ، وهل النكر أبلغ من الإمر ، أو بالعكس؟ فقيل : الإمرُ أبلغُ؛ لأنَّ قتل أنفسٍ بسبب الخرقِ اعظم من قتل نفسٍ واحدة وأيضاً : فالإمر هو الداهية العظيمة فهو أبلغ من النكر ، وقيل : النُّكر أبلغ ، لأن معه القتل الحتم ، بخلاف خرق السفينة ، فإنه يمكن تداركه؛ ولذلك قال : » ألَمْ أقُلْ لَكَ « ولم يأتِ ب » لَكَ « مع » إمْراً « ؛ لأن هذه اللفظة تؤكِّد التَّوبيخ .
وقيل : زاد ذلك ، لأنَّه نقض العهد مرَّتين ، فقال الخضرُ لموسى - عليهما السلام- : { ألَمْ أقُل لكَ إنَّكَ لنْ تَسْتطيعَ معي صَبْراً } فعند ذلك قال موسى : { إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي } وهذا كلام نادمٍ .
قوله : » فَلاَ تُصَاحِبْنِي « : العامة على » تُصاحِبُني « من المفاعلة ، وعيسى ويعقوب : » فلا تَصْحبنِّ ] « من صحبه يصحبه .
وأبو عمرو في رواية ، وأبيٌّ بضمِّ التاءِ من فوق ، وكسر الحاء ، من أصحب يصحب ، ومفعوله محذوف ، تقديره : فلا تصحبني نفسك ، وقرأ أبيٌّ » فلا تصحبني علمك « فأظهر المفعول .
قوله : » مِنْ لدُنِّي « العامة على ضمِّ الدال ، وتشديد النون ، وذلك أنَّهم أدخلوا نون الزيادة أعني الوقاية على » لَدُن « لتقيها من الكسر؛ محافظة على سكونها ، حوفظ على سكون نون » مِنْ « و » عَنْ « فألحقت بهما نون الوقايةِ ، فيقولون : منِّي وعنِّي بالتشديد .
ونافع بتخفيف النون ، والوجه فيه : أنَّه لم يلحقُ نون الوقاية ل » لَدُن « إلا أن سيبويه منع من ذلك وقال : » لا يجوز أن تأتي ب « لَدُنْ » مع ياء المتكلم ، دون نون وقاية « وهذه القراءة حجة عليه ، فإن قيل : لم لا يقال : إن هذه النون نون الوقاية ، وإنَّما اتصلت ب » لَدُ « لغة في » لَدُنْ « حتى يتوافق قول سيبويه ، مع هذه القراءة؟ قيل : لا يصحُّ ذلك من وجهين :
أحدهما : أنَّ نون الوقاية ، إنما جيء بها؛ لتقيَ الكلمة الكسر؛ محافظة على سكونها ، ودون النون لا سكون؛ لأنَّ الدال مضمومة ، فلا حاجة إلى النُّون .
الثاني : أن سيبويه يمنع أن يقال : « لَدُنِي » بالتخفيف .
وقد حذفت النون من « عَنْ » و « مِنْ » في قوله : [ الرمل ]
3551- أيُّهَا السَّائلُ عنهم وعنِي ... لستُ من قَيْسٍ ولا قَيْسُ مني
وقرأ أبو بكر بسكون الدَّال ، وتخفيف النون ، لكنَّه ألزم الدال الضمة منبهة على الأصل .
ولكن تحتمل هذه القراءة أن تكون النون فيها أصليَّة ، وأن تكون للوقاية على أنها دخلت على « لد » الساكنة الدال ، لغة في « لدُنْ » فالتقى ساكنان ، فكسرت نون الوقاية على أصلها ، وإذا قلنا بأنَّ النون أصلية ، فالسكون تخفيف؛ كتسكين ضاد « عضدٍ » وبابه واختلف القراء في هذا الإشمام ، فقائل : هو إشارة بالعضو من غير صوتٍ ، كالإشمام الذي في الوقف ، وهذا هو المعروف ، وقائل : هو إشارة للحركة المدركة بالحسِّ ، فهو كالرَّوْم في المعنى ، يعني : أنه إتيان ببعض الحركة ، وقد تقدَّم هذا محرَّراً في يوسف عند قوله { لاَ تَأْمَنَّا } [ يوسف : 11 ] ، وفي قوله في هذه السورة « من لدنه » في قراءة شعبة أيضاً ، وتقدَّم بحثٌ يعود مثله هنا .
وقرأ عيسى وأبو عمرو في رواية « عُذُراً » بضمتين ، وعن أبي عمرو أيضاً « عذري » مضافاً لياءِ المتكلم .
و « مِنْ لدُنَّي » متعلق ب « بَلغْتَ » أو بمحذوف على أنَّه حال من « عُذْراً » .
فصل في معنى الآية
قال ابن عباس : معناه : أعذرت فيما بيني وبينك .
وقيل : حذَّرتني أنِّي لا أستطيع معك صبراً .
وقيل : اتَّضح لك العذر في مفارقتي .
والمراد أنَّه مدحه بهذه الطريقة من حيث إنَّه احتمله مرَّتين أولاً وثانياً .
روى ابن عبَّاس عن أبيِّ بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رَحْمَةُ الله عليْنَا ، وعلى مُوسَى » وكان إذا ذكر أحداً من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بدأ بنفسه « لولا أنَّه عجَّل ، لرأى العجب ، ولكنَّه أخذته من صاحبه ذمامة ، قال : » إنْ سألتُكَ عَن شيءٍ بعدها ، فلا تُصَاحِبنِي ، قَدْ بلغْتَ من لدُنِّي عُذْراً؛ فلو صبر ، لرأي العجب « .
قوله : { فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا } الآية .
قال ابن عباس : هي أنطاكية .
وقال ابن سيرين : هي [ الأبلة ] ، وهي أبعد الأرض من السَّماء وقيل : بَرْقَة .
وعن أبي هريرة : بلدة بالأندلس .
{ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا } قال أبي بن كعبٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم : حتَّى إذا أتيا أهل قريةٍ لئاماً ، فطافَا في المجلسِ فاستطعما أهلها ، فأبوا أن يضيفوهما .
وروي أنَّهما طافا في القرية ، فاستطعماهم ، فلم يطعموهما ، فاستضافاهم ، فلم يضيِّفوهما .
قال قتادة : شرُّ القرى التي لا تضيِّف الضَّيف .
وروي عن أبي هريرة : » أطعمتهما امرأةٌ من أهل بربر بعد أن طلبا من الرِّجال ، فلم يطعموهما؛ فدعوا لنسائهم ، ولعنا رجالهم « .
قوله : { استطعمآ أَهْلَهَا } : جواب « إذا » أي : سألاهم الطام ، وفي تكرير « أهلها » وجهان :
أحدهما : أنه توكيد من باب إقامة الظاهر مقام المضمر؛ كقوله : [ الخفيف ]
3552- لا أرَى المَوْتَ يَسْبِقُ الموتَ شَيءٌ ... نَغَّص المَوْتُ ذَا الغِنَى والفَقِيرَا
وقول الآخر : [ الكامل ]
3553- لَيْتَ الغُرابَ غَداةَ يَنْعُبُ دائماً ... كَانَ الغُرابُ مُقطَّعَ الأوْدَاجِ
والثاني : أنَّه للتأسيس؛ وذلك أنَّ الأهل المأتيِّين ليسوا جميع الأهل ، إنما هم البعض؛ إذ لا يمكن أن يأتينا جميع الأهل في العادة في وقتٍ واحدٍ ، فلما ذكر الاستطعام ، ذكره بالنسبة غلى جميع الأهل ، كأنهما تتبعا الأهل واحداً واحداً ، فلو قيل : استطعماهم ، لاحتمل أنَّ الضمير يعودُ على ذلك البعضِ المأتيِّ ، دون غيره ، فكرَّر الأهل لذلك .
فإن قيل : الاستطعام ليس من عادة الكرام ، فكيف أقدم عليه موسى ، مع أنَّ موسى كان من عادته طلبُ الطعام من الله تعالى ، كما حكى عنه قوله : { إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [ القصص : 24 ] .
فالجواب : أنَّ إقدام الجائع على الاستطعام أمرٌ مباحٌ في كلِّ الشرائع ، بل ربَّما وجب عند خوف الضَّرر الشديد .
فإن قيل : إنَّ الضيافة من المندوبات ، فتركها ترك المندوب ، وذلك أمرٌ غير منكرِ ، فكيف يجوز من موسى - عليه السلام - مع علوِّ منصبه أن يغضب عليهم الغضب الشديد الذي لأجله ترك العهد الذي التزمه مع ذلك العالم في قوله : { إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي } .
وأيضاً مثل هذا الغضب لأجل ترك الأكل في ليلةٍ واحدةٍ ، لا يليقُ بأدونِ الناس فضلاً عن كليم الله؟ .
فالجواب : أنَّ الضيافة قد تكون من الواجبات ، بأن كان الضيف قد بلغ في الجوع إلى حيث لو لم يأكل ، لهلك ، وإذا كان كذلك ، لم يكن الغضب الشديد لأجل ترك الأكل [ ليلة ] ، بل كان لأجل تركهم الواجب عليهم .
فإن قيل : إنه ما بلغ في الجوع إلى حدِّ الهلاك؛ بدليل أنَّه قال : { لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } ، ولو كان بلغ في الجوع إلى حدِّ الهلاك ، لما قدر على ذلك العمل ، فكيف يصحُّ منه طلب الأجرة؟ .
فالجواب : لعلَّ ذلك الجوع كان شديداً ، إلاَّ أنه ما بلغ حدَّ الهلاك .
قوله : « أنْ يُضيِّفُوهمَا » مفعولٌ به لقوله « أبَوْا » والعامة على التشديد من ضيَّفه يضيِّفه . والحسن وأبو رجاء وأبو رزين بالتخفيف من : أضافه يضيفه وهما مثل : ميَّله وأماله .
رُوِيَ أنَّ أهل تلك القرية ، لمَّا سمعوا نزول هذه الآية ، استحيوا ، وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمل من الذَّهب ، وقالوا : يا رسول الله ، نشتري بهذا الذَّهب أن تجعل الباء تاء؛ حتى تصير القراءة « فأتوا أن يضيفوهما » ، أي : أتوا [ لأجل أن ] يضيِّفوهما ، أي كان إتيانهم لأجل الضِّيافة ، وقالوا : غرضنا منه أن يندفع عنَّا هذا اللُّؤم ، فامتنع النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقال : « تغير هذه النُّقطة يوجب دخول الكذب في كلام الله تعالى ، وذلك يوجب القدح في الإلهيَّة .
قوله : { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ } أي : فرأيا في القرية حائطاً مائلاً .
وقوله : « أنْ ينْقَضَّ » مفعول للإرادة ، و « انقضَّ » يحتمل أن يكون وزنه « انفعل » من انقضاضِ الطائر ، أو من القضَّة ، وهي الحصى الصِّغار ، والمعنى : يريد أن يتفتَّت ، كالحصى ، ومنه طعام قَضَضٌ ، إذا كان فيه حصى صغارٌ ، وأن يكون وزنه « افْعَلَّ » ك « احمَرَّ » من النقض ، يقال : نقض البناء ينقضه ، إذا هدمه ، ويؤيد هذا ما في حرف عبد الله وقراءة الأعمش « يُرِيدُ ليُنْقَضَ » مبنيًّا للمفعول؛ واللام كهي في قوله { يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً } [ النساء : 28 ] . وما قرأ به أبيٌّ « يُرِيدُ أن ينقض » بغير لامِ كيْ .
وقرأ الزهريُّ « أن ينقاضَ » بألف بعد القاف . قال الفارسي : « هو من قولهم قضته فانقاضَ » أي : هدمته ، فانهدم . قال شهاب الدين : فعلى هذا يكون وزنه ينفعلُ ، والأصل : « انْقيضَ » فأبدلت الياء ألفاً ، ولمَّا نقل أبو البقاء هذه القراءة قال : « مثل : يَحمارُّ » ومقتضى هذا التشبيه : أن يكون وزنه « يفعالَّ » ونقل أبو البقاء : أنه قُرئ كذلك بتخفيف الضاد ، قال : « هو من قولك : انقاضَ البناءُ ، إذا تهدَّم » .
وقرأ عليٌّ أمير المؤمنين - كرَّم الله وجهه- ، وعكرمة في آخرين « يَنقَاصُ » بالصاد مهملة ، وهو من قاصه يقيصه ، أي : كسره ، قال ابن خالويه : « وتقول العرب : انقاصتِ السِّنُّ : إذا انشقَّت طولاً » وأنشد لذي الرّمّة :
3554- .. . . مُنقاصٌ ومُنْكثِبُ
وقيل : إذا تصدَّعتْ ، كيف كان وأنشد لأبي ذؤيبٍ : [ الطويل ]
3555- فراقٌ كقَيْصِ السنِّ ، فالصَّبْرَ إنَّه ... لكلِّ أنَاسٍ عَثْرةٌ وجُبورُ
ونسبة الإرادة إلى الجدار مجازٌ ، وهو شائع جدًّا .
وقد ورد في النَّثر والنَّظم ، قال الشاعر : [ الوافر ]
3556- يُرِيدُ الرُّمح صَدرَ أبِي بَراءٍ ... ويَرْغَبُ عنْ دِمَاءِ بنِي عَقيلٍ
والآية من هذا القبيل .
وكذا قوله : { وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب } [ الأعراف : 154 ] وقوله : { أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] ومن أنكر [ المجاز ] مطلقاً أو في القرآن خاصة ، تأوَّل ذلك على أنه خُلق للجدارِ حياةٌ وإرادةٌ؛ كالحيوانات ، أو أنَّ الإرادة صدرت من الخضرِ؛ ليحصل له ، ولموسى ما ذكره من العجب .
وهو تعسفٌ كبيرٌ ، وقد أنحى الزمخشري على هذا القائل إنحاءً بليغاً جدًّا .
قوله : « فأقَامهُ » قيل : [ نقضه ] ، ثم بناه ، قاله ابن عبَّاس .
وقيل : مسحه بيده ، فقام ، واستوى ، وذلك من معجزاته ، هكذا ورد في الحديث . وهو قول سعيد بن جبير .
واعلم أن ذلك العالم ، لمَّا فعل ذلك ، كانت الحالة حالة اضطرارٍ إلى الطعام ، فلذلك نسيَ موسى قوله : { إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي } فلا جرم قال : { لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } ، أي : طلبت على إصلاحك الجدار جعلاً ، أي لصرفه في تحصيل المطعوم؛ فإنك قد علمت أنَّا جياعٌ ، وأنَّ أهل القرية لم يطعمونا ، فعند ذلك قال الخضر : « هذا فراقُ بَيْنِي وبيْنكَ » .
قوله : { لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو « لتخِذْتَ » بفتح التاء ، وكسر الخاء مِنْ تَخِذَ يتْخذُ ك « تَعِبَ يَتْعَبُ » . والباقون « لاتَّخذتَ » بهمزة الوصل ، وتشديد التاءِ ، وفتح الخاء من الاتِّخاذ ، واختلف : هل هما من الأخذ ، والتاء بدلٌ من الهمزة ، ثم تخذف التاء الأولى فيقال : تَخِذَ ، كتَقِيَ من « اتَّقَى » نحو قوله : [ الطويل ]
3557- .. تَقِ الله فِينَا والكِتابَ الَّذي تَتْلُو
أم هما من تخذَ ، والتاء أصيلةٌ ، ووزنهما فعل وافتعل؟ قولان تقدَّم تحقيقهما في هذا الموضوع ، والفعل هنا على القراءتين متعدٍّ لواحدٍ؛ لأنَّه بمعنى الكسب .
قوله : { فِرَاقُ بَيْنِي } : العامة على الإضافة؛ اتِّساعاً في الظرف ، وقيل : هو بمعنى الوصل . كقوله : [ الطويل ]
3558- . ... وجِلْدَةُ بين العيْنِ والأنْفِ سَالِمُ
وحكى القفال عن بعض أهل العربيَّة أنَّ البين هو الوصل؛ لقوله { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] ، فيكون المعنى هذا فراقُ اتصالنا ، كثول القائل : أخزى الله الكاذب بيني وبينك ، أي : أحدنا هكذا . قاله الزجاج .
وقرأ ابن أبي عبلة « فِراقُ » بالتنوين على الأصل ، وتكرير المضاف إليه عطفاً بالواو هو الذي سوَّغ إضافة « بين » إلى غير متعددٍ؛ ألا ترى أنَّك لو اقتصرت على قولك : « المَالُ بيني » لم يكن كلاماً؛ حتى تقول : بيننا أو بيني وبين فلانٍ .
وقوله : « هذا » أي : هذا الإنكار على ترك الأجر هو المفرَّق بيننا .
وقيل : إنَّ موسى - عليه السلام - لمَّا شرط أنَّه إنْ سأله بعد ذلك سؤالاً ىخر ، حصل الفراق بقوله : [ { إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني } فلما ذكر هذا السؤال فارقه ذلك العالم ، وقال ] : { هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } أي : هذا الفراق [ الموعود ] ، ثم قال : { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } .
قرأ ابن وثَّاب « سَانْبِيكَ » بإخلاص الياء بدل الهمزة .
قوله تعالى : { أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ } : العامة على تخفيف السين ، جمع « مِسْكين » . وقرأ عليٌّ أميرالمؤمنين - كرَّم الله وجهه - بتشديدها جمع « مسَّاك » وفيه قولان :
أحدهما : أنه الذي يمسكُ سكَّان السفينة ، وفيه بعض مناسبة .
والثاني : أنَّه الذي يدبغُ المُسوكَ جمع « مَسْكٍ » بفتح الميم ، وهي الجلود ، وهذا بعيدٌ؛ لقوله : { يَعْمَلُونَ فِي البحر } قال شهاب الدين ولا أظنُّها إلا تحريفاً على أمير المؤمنين ، و « يَعْملُونَ » صفة لمساكين .
قوله : { وَرَآءَهُم مَّلِكٌ } « وَرَاء » هنا بمعنى المكان .
وقيل : « وَراءَهُمْ » بمعنى « أمَامَهُمْ » ؛ كقوله :
{ مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ } [ إبراهيم : 16 ] وقيل : « وَراءَهُمْ » خلفهم ، وكان رجوعهم في طريقهم عليه . والأول أصحُّ؛ لقوله : { مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ } [ إبراهيم : 16 ] ويؤيِّده قراءة ابن عباس : وكان أمامهم ملكٌ يأخذ كلَّ سفينةٍ غصباً وقال سوارُ بن المضرِّب السعديُّ : [ الطويل ]
3559- أيَرْجُو بنُو مَرْوانَ سَمْعِي وطَاعتِي ... وقَوْمِي تَميمٌ والفَلاةُ وَرائِيَا
وقال تعالى : { وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً } [ الإنسان : 27 ] وتحقيقه : أنَّ كلَّ ما غاب عنك ، فقد توارى عنك وتواريت عنه ، وقيل : إنَّ تحقيقه أنَّ ما غاب عنك ، فقد توارى عنك ، وأنت متوارٍ عنه ، فكلُّ ما غاب عنك ، فهو وراءك ، وأمام الشيء وقدامه ، إذا كان غائباً عنك ، متوارياً عنك ، فلم يبعد إطلاق لفظة « وراء » عليه ، ويراد بها الزَّمان؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
3560- ألَيْسَ وَرائِي أنْ أدبَّ على العَصَا ... فَيأمَنَ أعْدائِي ويَسْأمنِي أهْلِي
وقال لبيد : [ الطويل ]
3561- أليْسَ ورَائِي إنْ تَراخَتْ منيَّتِي ... لُزومُ العَصَا تُحْنَى عليْهَا الأصَابِعُ
قوله : « غَصْباً » فيه أوجه :
الأول : أنه مصدر في موضع الحال ، أو منصوب على المصدر المبين لنوع الأخذ ، أو منصوب على المفعول له ، وهو بعيد عن المعنى ، وادَّعى الزمخشري أنَّ في الكلام تقديماً وتأخيراً ، فقال : « فإن قلت : قوله : » فأردتُّ أن أعيبها « مسبَّبٌ عن خوفه الغصب عليها ، فكان حقه أن يتأخَّر عن السبب؛ فلمَ قُدِّم عليه؟ قلتُ : النيةُ به التأخيرُ؛ وإنما قدِّم للعناية به ، ولأنَّ خوف الغصب ليس هو السبب وحده ، ولكن مع كونها للمساكين ، فكان بمنزلةِ قولك : زيدٌ ظنِّي مقيمٌ » .
قوله : { فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ } : التثنية للتغليب ، يريد : أباه وأمَّه ، فغلَّب المذكَّر ، وهو شائع ، ومثله : القمران والعمران ، وقد تقدَّم [ في يوسف ] : أنَّ الأبوين يراد بهما الأب والخالة ، فهذا أقربُ .
والعامة على « مُؤمنين » بالياء ، وأبو سعيدٍ الخدريُّ ، والجحدريُّ « مُؤمنانِ » بالألف ، وفيه ثلاثة أوجه :
الأول : أنه على لغة بني الحارث ، وغيرهم .
الثاني : أن في « كان » ضمير الشَّأن ، و « أبواهُ مُؤمِنانِ » مبتدأ وخبر في محل النصب؛ كقوله : [ الطويل ]
3562- إذَا مِتُّ كان النَّاسُ صِنفَانِ شَامتٌ ..
فهذا أيضاً محتمل للوجهين .
الثالث : أن في « كان » ضمير الغلام ، أي : فكان الغلامُ ، والجملة بعده الخبر ، وهو أحسن الوجوه .
قوله : { فَخَشِينَآ } أي : فعلمنا { أَن يُرْهِقَهُمَا } يفتنهما .
وقال الكلبيُّ : يكلِّفهما طغياناً وكفراً .
وقال سعيد بن جبيرٍ : فخشينا أن يحملهما حبُّه على أن يتابعاه على دينه .
قيل : إنَّ ذلك الغلام كان بالغاً ، وكان يقطع الطريق ، ويقدم على الأفعال المنكرة ، وكان يصير ذلك سبباً لوقوعهما في الفسق ، وربما يؤدِّي ذلك الفسق إلى الكفر .
وقيل : كان صبيًّا إلا أن الله تعالى علم منه أنَّه لو صار بالغاً ، لحصلت منه تلك المفاسد .
وقيل : الخشية بمعنى الخوف ، وغلبة الظنِّ ، والله تعالى قد أباح له قتل من غلب على ظنِّه تولُّد المفاسد منه .
فإن قيل : هل يجوز الإقدام على قتل الإنسان لمثل هذا الظنِّ؟
فالجواب : أنَّه إذا تأكَّد ذلك الظنُّ بوحي الله تعالى إليه ، جاز .
قوله : { فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا } : قرأ نافع ، وأبو عمرو بفتح الباء ، وتشديد الدال من « بدَّل » هنا ، وفي التحريم [ الآية : 5 ] { أَن يُبْدِلَهُ } وفي القلم [ الآية : 32 ] { أَن يُبْدِلَنَا } والباقون بسكون الباء ، وتخفيف الدال من « أبْدلَ » في المواضع الثلاثة ، فقيل : هما لغتان بمعنى واحد ، وقال ثعلبٌ : الإبدال تنحيةُ جوهرةٍ ، واستئناف أخرى؛ وأنشد : [ الرجز ]
3563- عَزْلَ الأميرِ للأمِيرِ المُبدَلِ ... قال : ألا تراه نحَّى جسماً ، وجعل مكانه آخر ، والتبديل : تغيير الصورة إلى غيرها ، والجوهرة باقية بعينها؛ واحتجَّ الفراء بقوله تعالى : { يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [ الفرقان : 70 ] قال : والذي قال ثعلبٌ حسنٌ ، إلاَّ أنَّهم يجعلون « أبدلتُ » بمعنى « بدَّلتُ » قال شهاب الدين : ومن ثم ، اختلف الناس في قوله تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض } [ إبراهيم : 48 ] : هل يتغير الجسمُ والصفة ، أو الصفة دون الجسم؟ .
قوله : { يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً } أي : يرزقهما الله ولداً خيراً من هذا الغلام « زَكَاةً » أي : ديناً ، وصلاحاً .
وقيل : ذكر الزكاة تنبيهاً على مقابلة قول موسى - عليه السلام - « أقتَلْتَ نفساً زكيَّة بغيرِ نفسٍ » فقال العالم : أردنا أن يرزق الله هذين الأبوين خيراً ، بدلاً عن ابنهما هذا ولداً يكون خيراً منه بما ذكره من الزَّكاة ، ويكون المراد من الزَّكاة الطهارة ، وكان قول موسى : « أقَتَلْتَ نَفْساً زكيَّة » ، أي : طاهرة ، لأنَّها ما وصلت إلى حدِّ البلوغ ، فكانت زاكية طاهرة من المعاصي ، فقال العالم : إن تلك النفس ، وإن كانت طاهرة زاكية في الحال ، إلاَّ أنه تعالى علمَ منها أنَّها إذا بلغتْ ، أقدمت على الطغيان ، والكفر ، فأردنا أن يحصل لهما ولدٌ عظيمٌ ، أي : أعظم زكاة وطهارة منه ، وهو الذي يعلمُ الله منه أنَّه عند البلوغ لا يقدم على شيءٍ من هذه المحظورات .
ومن قال : إنَّ ذلك الغلام كان بالغاً ، قال : المراد من وصف نفسه بكونها زاكية أنه لم يظهر عليه ما يوجب قتله .
قوله : « رُحْماً » قرأ ابن عامر « رُحُماً » بضمتين ، والباقون بضة وسكون ، وهما بمعنى الرحمة؛ قال رؤبة : [ الرجز ]
3564- يَا مُنْزِلَ الرُّحْمِ على إدْريسَا ... ومُنْزِلَ اللَّعْنِ على إبْليسَا
وقيل : الرُّحُم بمعنى الرَّحم ، وهو لائِقٌ هنا من أجلِ القرابةِ بالولادة؛ ويؤيِّده قراءة ابن عباس « رَحِماً » بفتح الراءِ ، وكسر الحاء ، و « زَكاةً ورُحْماً » منصوبان على التمييز .
والمعنى : هذا البدل يكون [ أقرب ] عطفاً ورحمة بأبويه ، وأشفق عليهما .
فصل في المبدل به
قال الكلبيُّ : أبدلهما الله جارية تزوَّجها نبيٌّ من الأنبياء ، فولدت له نبيًّا ، فهدى الله على يديه أمَّة من الأمم .
قوله : { وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا } وكان اسمهما « أصْرَم » و « صَرِيم » .
واعلم أنه سمَّى القرية في قوله : { أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ } وسمَّى القرية هنا مدينة بقوله : « يَتيميْنِ في المدينةِ » فدلَّ على جواز [ تسمية ] إحداهما بالأخرى ، ثم قال : « وكَان تحته كنزٌ لهُمَا » .
روى أبو الدرداء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : « كَانَ ذهباً ، وقضَّة » .
وقال عكرمة : كان مالاً ، ويدلُّ على ذلك أنّ المفهوم من لفظ الكنز هو المالُ .
وعن ابن عباس قال : « كَانَ لوحاً من ذهبٍ مكتوباً فيه : عجباً لمن أيقن بالموتِ ، كيف يفرحُ ، عجباً لمن أيقن بالقدر كيف ينصبُ ، عجباً لمن أيقن بالرزقِ كيف يتعب ، عجباً لمن يؤمنُ بالحساب كيف يغفل ، عجباً لمن أيقن بزوالِ الدُّنيا ، وتقلبها بأهلها كيف يطمئنُ إليها ، لا إله إلا الله ، محمدُ رسول الله ، وفي الخطاب الجانب الآخر : أنا الله ، لا إله إلا أنا ، وحدي لا شريك لي ، خلقت الخير والشرَّ فطوبى [ لمن ] خلقته للخير ، وأجريته على يديه ، والويل لمن خلقته للشرِّ ، وأجريته على يديه » .
وهذا قول أكثر المفسِّرين وروي أيضاً مرفوعاً ، قال الزجاج : والكنزُ إذا أطلق إنما ينصرفُ إلى كنز المال ، ويجوز عند التَّقييد لكنز العلم ، يقال : عنده كنز علم . وهذا اللوح كان جامعاً لهما .
« وكان أبُوهمَا صالحاً » قيل : كان [ اسمه ] « كَاشِحٌ » وكان من الأنبياء ، قال ابن عباس : حفظا بصلاح أبيهما ، ولهذا قيل : إنَّ الرجل الصالح يكون كنزه العلم لا المال ، قيل : كان بينهما وبين الأب الصَّالح سبعة آباء وهذا يدل على أنَّ صلاح الإنسان يفيد العناية بأحوال أبنائه ، فإن قيل : اليتيمان ، هل أحد منهما عرف حصول الكنز تحت ذلك الجدار ، أو ما عرف أحد منهما ذلك؟ فإن كان الأول امتنع أن يتركوا سقوط ذلك الجدار ، وإن كان الثاني فكيف يمكنه بعد البلوغ استخراج ذلك الكنز ومعرفته والانتفاع به؟ .
الجواب : لعل اليتيمين كانا جاهلين به إلاَّ أن وصيَّهما كان عالماً به ، إما أن ذلك الوصيَّ غاب ، وأشرف ذلك الجدار في غيبته على السُّقوطِ ، ثم قال : « فأرادَ ربُّك أن يبلغا أشدَّهُما » أي : يبلغا ويعقلا ، وقيل : يدركا شدَّتهما وقوتهما .
وقيل : ثماني عشرة سنة ، ويستخرجا حينئذ كنزهما « رحْمةً من ربِّك » أي : نعمة من ربِّك .
وفي نصب « رَحْمَةً » ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنه مفعول له .
الثاني : أن يكون في موضع الحال من الفاعل ، أي : أراد ذلك راحماً ، وهي حالٌ لازمة .
الثالث : أن ينتصب انتصاب المصدر؛ لنَّ معنى « فاراد ربُّك أن يبلغا » معنى : « فرحمهما » ثم قال : وما فعلتهُ عن أمْرِي « أي : ما فعلته باختيارِي ورأيي ، بل فعلتهُ بأمر الله وإلهامه ، بأنَّ الإقدامَ على تنقيص أموالِ النَّاسِ وإراقةِ دمائهم ، لا يجوز إلاَّ بالوحي والنفي القاطع ، » وذلِكَ تأويلُ ما لمْ تَسْطِع عليه صبراً « أي : لم تطقْ عليه صبراً .
قوله : « تَسْطِعْ » قيل أصله « اسْتطاعَ » فحذفت تاء الافتعال ، وقيل : المحذوف الطاء الأصلية ، ثم أبدلت تاءُ الافتعال طاء بعد السِّين ، وهذا تكلف بعيدٌ .
وقيل : السِّين مزيدة عوضاً من قلب الواو ألفاً ، والأصل : أطاع ، ولتحقيق القول فيه موضعٌ غير هذا ، ويقال : استتاع - بتاءين ، واستاع - بتاء واحدة ، فهذه أربع لغاتٍ حكاها ابن السِّكيتِ .
فصل
اعلم أنَّ أحكام الأنبياء - عليهم السلام - مبنيةٌ على الظواهر؛ كما قال - عليه السلام - : « نَحْنُ نحكمُ بالظَّاهرِ والله يتولَّى السَّرائرَ » وهذا العالم ما كانت أحكامه مبنية على ظواهر الأمور ، بل ك انت مبنية على الأسباب الحقيقية الواقعة في نفس الأمر ، وذلك لنَّ الظاهر في أموال النَّاس ، وفي أرواحهم في المسالة الأولى والثانية من غير سببٍ ظاهرٍ لا يبيح ذلك التصرف؛ لأن تخريق السفينة تنقيصٌ لملك الغير من غير سبب ظاهر يبيحُ ذلك التصرُّف ، والإقدام على قتل الغلامِ إلحاقٌ بضررِ القتل به من غير سبب ظاهر والإقدامُ على إقامةِ الجدار المائل تحملٌ للتَّعَب والمشقَّة من غير سبب ظاهر ، فهذه المسائل الثلاثة ليس حكم ذلك العالم فيها مبنيًّا على الأسباب الظاهرة ، بل كان مبنياً على أسباب معتبرة في نفس الأمر ، وهذا يدلُّ على أنَّ ذلك العالم كان قد آتاهُ الله قوة عقلية يقدر بها أن يشرفَ على بواطن الأمور ، ويطَّلع بها على حقائق الأشياء ، فكانت مرتبة موسى - عليه السلام - في معرفةِ شرائع الأحكام بناء على الظواهر ، وهذا العالم مرتبته الوقوف على بواطن الأشياء وحقائقها ، فلهذا كانت مرتبته في العلم فوق مرتبة موسى . إذا عرف هذا؛ فنقول : هذه المسائل الثلاثة مبنيةٌ على حرف واحد ، وهو أنه : إذا تعارض ضرران يجب تحمل الأولى ، لدفع الأعرى ، فهذا هو الأصل المعتبر في المسائل الثلاثة ، أمَّا الأولى : فلأنَّ ذلك العالم علم أنَّه لو لم يعب السفينة بالتخريقِ ، فغصبها ذلك الملك ، وفاتت منافعها بالكليَّة على ملاَّكها ، فوقع التعارضُ بين أن يخرقها ويعيبها ، ويبقى مع ذلك العيب على ملاَّاكها وبين ألاَّ يخرقها ، فيغصبها الملك ، وتفوت منافعها على ملاكها بالكلِّية ، ولا شكَّ أن الضرر الأوَّل أقلُّ؛ فوجب تحمُّله؛ لدفع الضرر الثاني؛ لكونه أعظم ضرراً .
وأمَّا المسألة الثانية فكذلك؛ لأنَّ بقاء ذلك الغلام كان مفسدة للوالدين في دينهم ، وفي أبنائهم ، ولعلَّه علم بالوحي أن المضار الناشئة من قتل ذلك الغلام أقل من المضار الناشئة بسبب حصول تلك المفاسدِ للأبوين؛ فلهذا السَّبب أقدم على قتله .
والمسألة الثالثة - أيضاً - كذلك؛ لأنَّ المشقة الحاصلة بسبب الإقدام على بناء الجدار المائل أسهل من المضارِّ الحاصلة بسبب ترك إقامته ، لأنَّ ذلك الجدار لو سقط ، لضاع مال أولئك الأيتام ، وفيه ضررٌ شديدٌ ، فالحاصل أنَّ ذلك العالم كان مخصوصاً بالوقوف على حقائق الأشياء وببناء الأحكام على حقائقها ، وأنّ موسى - عليه السلام - كانت أحكامه مبنية على ظواهر الأمور ، فبهذا ظهر التفاوتُ بينهما في علمه .
فإن قيل : فحاصل الكلام أنَّه تعالى أطلعه على حقائق الأشياء ، وهذا النَّوعُ من العلم ما يمكنُ تعلُّمه ، وموسى - عليه السلام - إنما ذهب إليه ليتعلم منه العلم ، فكان الواجب على ذلك العالم أن يظهر له علماً يمكنُ تعلُّمه ، وهذه المسائل علمها لا يمكن تقاسمه ، فما الفائدة في إظهارها؟
فالجواب : أنَّ العلم بظواهر الأشياء يمكن تحصيله بناء على معرفة الشرائع الظاهرة ، وأمَّا العلم بحقائق الأشياء ، فإنَّه لا يمكن تحصيله إلاّ بناءً على تصفية الباطن ، وتطهير القلب ع نالعلائق الجسمانية ، ولهذا قال تعالى في صفة علم ذلك العالم : { وعلَّمناهُ من لدُنَّا علماً } ثم إن موسى - عليه السلام - لمَّا كملت مرتبته في علم الشريعة بعثه الله تعالى إلى ذلك العالم ، ليعلِّم موسى أنَّ كمال الدرجة في أن ينتقل الإنسان من علوم الشريعة المبنية على الظَّواهر إلى علوم البواطنِ المبنية على الإشراف على حقيقة الأمور .
فصل
احتجُّوا بهذه الآية على أن الفقير أشدُّ حاجة من المسكين؛ لأنَّه تعالى سمَّاهم مساكين مع أنهم كانوا يملكون السفينة .
واعلم أن العالم بيَّن مراده من تخريق السفينة ، وأنه لم يكن مقصوده تغريق أهلها؛ بل كان مقصوده تعييبها ، لئلاَّ يأخذها ذلك الملك الظَّالم؛ لأنه كان من عادته أخذ السفن الخالية من العيوب ، وضرر هذا التخريق أسهل من ضرر الغصب .
فإن قيل : هل يجوز للأجنبيِّ أن يتصرَّف في ملك الغير لمثل هذا الغرض؟ .
فالجواب : هذا مما تختلف أحواله بسبب اختلاف الشرائع ، فلعلَّ هذا كان جائزاً في تلك الشريعة ، وأما في شريعتنا فهذا الحكم غير بعيدٍ ، فإنَّا إذا علمنا أن الذين يقطعون الطريق يأخذون جميع مال الإنسان ، فإن دفعنا إلى قاطع الطَّريق بعض ذلك المال سلم الباقي ، فحينئذ يحسنُ منَّا أن ندفع بعض مال ذلك افنسان إلى قاطع الطريق؛ ليسلم الباقي ، وكان هذا إحساناً منا لذلك المالك .
كذلك قيل في السفينة المشحونة إذا خيف عليها الغرق ، وأنه إذا ألقي منها شيءٌ في البحر خفَّت وسلم ما فيها جاز الإلقاء ، بل يجب كذلك ، وكذلك مسالة التترُّس بالمسلمين .
واعلم بأنَّ هذا التخريق يجب أن يكون على وجه لا يبطل منافع تلك السفينة بالكلِّية ، إذ لو ك ان كذلك ، لم يكن الضَّررُ الحاصل من غصبها أعظم من الضَّرر الحاصل من تخريقها ، وحينئذ لم يكن تخريقها جائزاً .
فصل
اعلم أنَّه قال : { فأردتُّ أن أعيبها } وقال : { فأردْنَا أن يبدلهما ربُّهما خيراً منهُ } ، وقال : { فأرَادَ ربُّك أن يبلُغا أشدَّهما } فاختلفت الإضافة في هذه الإرادات الثلاثة ، وهي كلها قضيَّة واحدة ، وفائدة ذلك أنه لما ذكر العيب أضافه إلى إرادة نفسه ، فقال : { فأرَدْتُ أن أعيبها } ولمَّا ذكر القتل ، عبَّر عن نفسه بلفظِ الجمع تنبيهاً على أنَّه من العظماء في علوم الحكمة ، فلم يقدم على هذا القتل إلاَّ لحكمةٍ عاليةٍ ، ولمَّا ذكر رعاية صالح اليتيمين لأجل صلاح أبيهما اضافه إلى الله تعالى ، لأنَّ المتكفِّل بمصالح الأبناء برعاية حقِّ الآباء ليس إلاَّ الله تعالى .
فصل
اختلفوا : هل الخضر حيٌّ أم لا؟ فقيل : إنَّ الخضر وإلياس حيَّان يلتقيان كلَّ سنةٍ بالموسم ، قيل : وسبب حياته أنَّ ذا القَرنَيْنِ دخل الظلمات ، لطلب عين الحياة ، وكان الخضر على مقدِّمته ، فوقع الخضر على عين الحياة ، فنزل ، واغتسل ، وشرب ، وقيل : وأخطأ ذو القرنين الطريق ، فعاد .
وقيل : إنه ميتٌ ، لقول الله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد } [ الأنبياء : 34 ] وقال عليه الصلاة والسلام بعدما صلى العشاءَ ليلة : « أرَأيْتكُمْ ليْلتَكُم هذه ، فإنه على رأس مائة سنةٍ لا يبقى ممَّن هو اليوم على ظهر الأرضِ أحدٌ » ولو كان الخضر حيًّا ، لكان لا يعيش بعده .
رُويَ أنَّ موسى لمَّا اراد أن يفارقه قال : أوصني ، قال : لا تطلب العلم لتحدِّث به ، واطلبه لتعمل به .
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)
قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين } الآية .
قد تقدَّم في أول هذه السورة أن اليهود أمروا المشركين أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الكهف ، وعن ذي القرنين ، وعن الرُّوح ، فقوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين } هو ذلك السؤال ، واختلفوا في ذي القرنين ، فقيل : هو الإسكندر بن فيلبوس اليونانيُّ ، وقيل : كان اسمه مرزبان بن مرزبة من ولد يونان بن ثافث بن نوحٍ ، وكان اسود ، قال بعضهم : كان نبيًّا ، لقوله تعالى : { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض } والأولى حمله على التمكين في الدِّين ، والتَّمكين الكامل في الدِّين هو النبوة ، ولقوله تعالى : { وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } ومن جملة الأسباب النبوة ، فمقتضى العموم أنه آتاهُ من النبوة سبباً ، ولقوله تعالى : { ياذا القرنين إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } والذي يتكلَّم الله معه لا بد وأن يكون نبياً . قال ابو الطفيل ، وسئل عن ذي القرنين : أكان نبيًّا أم ملكاً؟ قال : لم يكن نبياً ، ولا ملكاً ، ولكن كان عبداً أحبَّ الله ، فأحبَّه الله ، وناصح الله فناصحه .
روي أنَّ عمر - رضي الله عنه - سمع رجلاً يقول لآخر : « يَا ذَا القرنين » فقال : تسمَّيتم بأسماء النبيين ، فلم ترضوا حتى تسمّيتم بأسماء الملائكة . والأكثرون على أنه كان ملكاً عادلاً صالحاً ، واختلفوا في سبب تسميته بذي القرنين قيل : لأنه بلغ قرني الشمس : مشرقها ومغربها ، وأيضاً : بلغ ملكه أقصى الشمال ، لأنَّ « يأُجوجَ ومأجُوجَ » قومٌ من التركِ يسكنون في أقصى الشمالِ ، فهذا المسمَّى بذي القرنين قد دلَّ القرآن على أنَّ ملكه بلغ أقصى المغرب والمشرق والشمال ، وهذا نهاية المعمور من الأرض ، ومثل هذا الملك البسيط على خلاف العادات ، فيجب أن يبقى ذكره مخلّداً على وجه الدهر لا يخفى ، والذي اشتهر في كتب التواريخ أن الذي بلغ ملكه إلى هذا الحد ليس إلا الإسكندر ، وذلك أنه لمَّا مات أبوه جمع ملك الروم بعد أن كان طوائف ، ثم قصد ملوك العرب وقهرهم ، وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ، ثم عاد إلى مصر ، فبنى الإسكندرية ، وسمَّاها باسم نفسه ، ثم دخل الشَّام ، وقصد بني إسرائيل ، وورد « بيت المقدس » ، وذبح في مذبحه ، ثم انعطف إلى « أرمينيَّة » و « باب الأبواب » ودان له العراقيُّون ، والقبط ، والبربر ، ثم توجه نحو دارا بن دارا ، وهزمه مرات إلى أن قتله صاحب حرسه ، واستولى الإسكندر على ممالك الفرس ، وقصد الهند والصِّين ، وغزا الأمم البعيدة ، ورجع إلى « خراسان » وبنى المدن الكثيرة ، ورجع إلى العراق ، ومرض ب « شهرزور » ومات ، فلما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين كان رجلاً ملك الأرض أو ما يقرب منها ، وثبت من التَّواريخ أن من هذا شأنه ماكان إلاَّ الإسكندر وجب القطعُ بأنَّ المراد بذي القرنين هو الإسكندر بن فيلبوس اليوناني .
قيل : وسمِّي بذي القرنين ، لأنه ملك الرُّوم وفارس ، وقيل : لأنه دخل النور والظلمة ، وقيل : لأنه رأى في المنام كأنه أخذ بقرني الشَّمس ، وقيل : لأنه كانت له ذؤابتان حسنتان ، وقيل : لأنه كان له قرنان تواليهما العمامة .
وروى أبو الفضلِ عن عليّ أنه أمر قومهُ بتقوى الله ، فضربوه على قرنه الأيمن ، فمات ، فبعثه الله ، فأمرهم بتقوى الله ، فضربوه على قرنه الأيسر ، فمات فأحياه الله .
وقيل : كان لتاجه قرنان ، وقيل : لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس ، وقيل : لأن الله سخر له النُّور والظلمة ، فإذا سرى يهديه النور من أمامه ، وتمتد الظلمة من ورائه .
فروي أن ذا القرنين أمر ببناء مدنٍ كثيرةٍ منها : « الدبوسية » و « حمدان » و « برج الحجارة » ، ولما بلغ « الهند » بنى مدينة « سرنديب » وأن أرباب الحساب قالوا له : إنَّك لا تموتُ إلا على أرض من حديدٍ ، وسماه من خشب ، وكان يدفن كنوز كلِّ بلدٍ فيها ، ويكتب ذلك معه بصفته وموضعه ، فبلغ « بابل » ، فرعف ، فسقط عن دابَّته ، فبسطت له دروع فنام عليها ، فآذته الشمس ، فأظلوه بتُرسٍ ، فنظر وقال : هذه أرضٌ من حديدٍ وسماء من خشبٍ ، فأيقن بالموت ، فمات وهو ابنُ ألف سنة وثلاثمائة سنة .
وقال أبو الرَّيحان البيروني في كتابه المسمَّى ب « الآثار الباقية عن القرون الخالية » : قيل : إنَّ ذا القرنين هو أبو كربٍ سُمَيُّ بن عبرين بن أقريقيش الحميريّ ، وأنَّ ملكهُ بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، وهو الذي افتخر به أحد الشعراء من حمير : [ الكامل ]
قَدْ كَانَ ذُو القَرنيْنِ قَبْلي مُسْلِماً ... مَلِكاً عَلا فِي الأرْضِ غير مُفَنَّدِ
بلغَ المشارِقَ والمغارِبَ يَبتَغِي ... أسْبابَ ملكٍ من كَرِيم سيِّدِ
ثم قال أبو الريحان : ويشبهُ أن يكون هذا القول أقرب ، لأن الأذواء كانوا من اليمن ، وهم الذين لا يخلون أساميهم من « ذي كذا » المنار ، و « ذي نواس » ، و « ذي النُّون » ، و « ذي رعين » والقول الأول أظهر ، لما تقدم من الدليل ، ولأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « سمِّي ذا القرنَيْنِ لأنَّه طاف قرنَي الدُّنيا شرقها وغربها » .
قال ابن الخطيب : إلاَّ أنَّ فيه إشكالاً قويًّا ، وهو أن الإسكندر كان تلميذ أرسطاطاليس الحكيم ، وكان على مذهبه ، فتعظيم الله إيَّاه يُوجِبُ الحكم بأنَّ مذهب أرسطاطاليس حقٌّ وصدقٌ ، وذلك ممَّا لا سبيل إليه .
قال ابن كثير : روي عن ابن عباسٍ : أنَّ اسم ذي القرنين عبد الله بن الضحاك .
وقيل : مصعبُ بن عبد الله بن قينان بن منصور بن عبد الله بن الآزر بن عون بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن قحطان .
وروي أنَّه كان من حمير ، وأمُّه روميَّة ، وأنه كان يقال له الفيلسوفُ؛ لعقله .
وقال السهيلي : قيل : كان اسمه مرزبي بن مرذبة ذكره ابن هشام ، وهو أول التَّبابعة .
وقيل : إنه أفريدون بن أثفيان الذي قتل الضحاك ويروى في خطبة قيس بن ساعدة التي خطبها بسوق عكاظ ، أنه قال فيها يا معشر إياد أين الصعب ذو القرنين ملك الخافقين ، وأوّل المسلمين ، وعمر ألفين ، ثم كان ذلك كطرفة عين ، وأنشد ابن هشام : [ الكامل ]
والصَّعبُ ذُو القرنيْنِ أصْبحَ ثَاوِياً ... بالحِنْوِ حيث أميم مقيم
أمَّا ذو القرنين الثاني فهو الإسكندر بن فيلبس بن مصريم بن هرمس بن هردوس ابن ميطون بن رومي بن نويط بن نوفيل بن ليطى بن يونان بن يافث بن نوح بن سرحون بن رومي بن قريط بن نوفيل بن رومي بن الأصفر بن اليغز بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل - عليه السلام - كذا نسبه ابن عساكر المقدوني اليوناني المصري باني الإسكندرية الذي يؤرِّخ بأيَّامه الروم ، وكان متأخِّراً عن الأول بدهر طويل ، وكان هذا قبل المسيح بنحوٍ من ثلاثمائة سنة ، وكان وزيره أرسطاطاليس الفيلسوف ، وهو قتل دارا بن دارا [ ملك ] ملوكِ الفرس .
وإنما نبهنا على هذا؛ لأنَّ كثيراً من الناس يعتقد أنهما واحدٌ ، وأن المذكور في القرىن هو الذي كان أرسطاطاليس وزيرهُ ، فيقع بذلك خطأ كثير؛ فإنَّ الأول كان مؤمناً عبداً صالحاً ، وملكاً عادلاً ، وكان وزيره الخضر - عليهما السلام - وكان نبيًّا ، وأمَّا الثاني فكان مشركاً ، وكان وزيره فيلسوفاً ، وكان بين زمانيهما أزيد من ألفي [ سنة ] فأين هذا من هذا؟ .
قوله : « سَأتلُو » : دخلت السين ها هنا؛ لأن المعنى أني سأفعل هذا إن وفَّقني الله عليه ، وأنزل عليَّ وحياً ، وأخبرني عن كيفية تلك الحال .
قوله « مِنْهُ ذِكْراً » أي : من أخباره وقصصه .
قوله : « إنَّا مكَّنا له » .
ومعنى « مكنَّا لهُ » : أوطأنا ، والتمكينُ : تمهيد الأسباب قال عليٌّ : سخَّر له السَّحاب ، فحمله عليه ، ومدَّ له في الأسباب ، وبسط له في النُّورِ ، وكان اللَّيلُ والنهار عليه سواء ، فهذا معنى تمكنيه في الأرض؛ وأنه سهَّل عليه السير فيها ، وذلل له طريقها .
وهذا التَّمكينُ بسبب النبوة ، ويحتمل أن يكون المراد التمكين بسبب الملكِ من حيث إنه ملك مشارق العالم ومغاربه ، والأول أولى؛ لأنَّ التمكينَ بسبب النبوّة أعلى من التمكين بسبب الملك ، وحمل كلام الله تعالى على الوجه الأكمل الأفضل أولى ، ثم قال : { وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } قالوا : السبب في أصل اللغة عبارة عن الحبل ، ثم استعير لكل ما يتوصل به إلى المقصود ، وهو يتناول العلم والقدرة والآلة ، فلذلك قيل : « وآتيناه من كل شيء » ما يستعين به الملوك على فتح المدن ، ومحاربة الأعداء « سبباً » أي : علماً يتسبب به إلى كل ما يريد ويسير به في أقطار الأرض ، وقيل : قرَّبنا له أقطار الأرض .
واستدلوا بعموم قوله : { وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } على أنه كان نبيًّا كما تقدَّم ، ومن أنكر نبوته قال : المعنى : وآتيناه من كلِّ شيءٍ يحتاجُ إلى إصلاح ملكه إلاَّ أن تخصيص العموم خلاف الظاهر ، فلا يصار إليه إلاَّ بدليلٍ .
قوله : { فَأَتْبَعَ سَبَباً } .
قرأ نافع ، وابن كثيرٍ ، وأبو عمرو « فَاتَّبعَ » و « ثمَّ اتَّبعَ » في الموضعين بهمزة وصل ، وتشديد التاء . والباقون بهمزة القطع في المواضع الثلاثة وسكون التاء .
فقيل : هما بمعنى واحدٍ فيتعدَّيان لمفعولٍ واحدٍ .
وقيل : « أتْبَعَ » بالقطع متعدٍّ لاثنين حذف أحدهما تقديره : فأتْبع سبباً سبباً آخر ، أو فأتبع أمره سبباً آخر ، ومنه { وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً } [ القصص : 42 ] فعدَّاه لاثنين ومن حذف أحد المفعولين : قوله تعالى : { فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ } [ الشعراء : 60 ] ، أي : أتبعوهم جنودهم . و اختار أبو عبيد « اتَّبعَ » بالوصل ، قال : « لأنَّه من المسيرِ » قال : تقول : تبعتُ القوم واتَّبعتُهم . فأمَّا الإتباعُ بالقطع فمعناه اللحاقُ ، كقوله تعالى : { فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } [ الصافات : 10 ] .
وقال يونس ، وأبو زيدٍ : « أتْبعَ » بالقطع عبارة عن المجدِّ المسرعِ الحثيثِ الطلب . وبالوصلِ إنَّما يتضمَّن الاقتفاء دون هذه الصفات .
قال البغويُّ : والصحيح الفرق بينهما ، فمن قطع الألف ، فمعناه : أدرك ولحق ، ومن قرأ بالتشديد فمعناه : سار ، يقال : ما زلتُ أتَّبعه حتى اتبعته ، أي : ما زلتُ أسير خلفهُ حتى لحقته ، ومعنى الآية : أنه تعالى لمَّا أعطاهُ من كل شيءٍ سببه ، فإذا أراد سبباً أتبع سبباً يوصله إليه { حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة } .
عن أبي ذرٍّ قال : كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على جملٍ ، فرأى الشمس حين غابت ، فقال : أتدري يا أبا ذرٍّ ، أتدري أين تغربُ هذه؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : « فإنَّها تغربُ في عينٍ حاميةٍ » وهي قراءة ابن مسعود ، وطلحة ، وابن عمر ، واختارها أبو عبيدة ، قال : لأنَّ عليها جماعة من الصحابة .
وأما القراءة الثانية ، فهي من الحمأةِ ، وهي الطِّين ، وهي قراءة ابن عبَّاس .
فصل
ثبت بالدَّليل أنَّ الأرض كرة ، وأنَّ السماء محيطة ، وأنَّ الشمس في الفلك الرابع ، وكيف يعقل دخولها في عينٍ؟ وأيضاً قال : « وجد عِنْدهَا قوماً » ومعلومٌ أن جلوس القوم قرب الشَّمسِ غير موجودٍ ، وأيضاً فالشمس أكبر من الأرض بمراتٍ كثيرةٍ ، فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض؟ وإذا ثبت هذا فنقول : تأويل قوله تعالى : { تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } من وجوه :
الأول : أنَّ ذا القرنين لما بلغ موضعاً من المغرب ، لم يبق بعدهُ شيءٌ من العماراتِ ، وجد الشَّمس كأنَّها تغربُ في عينٍ مظلمةٍ ، وإن لم يكن كذلك في الحقيقة كما أنَّ راكب البحر يرى الشمس كأنَّها تغيبُ في البحر إذا لم يرَ الشطَّ ، وهي في الحقيقة تغيبُ وراء البحر ، ذكر هذا التأويل الجبائيُّ في تفسيره .
الثاني : أنَّ للجانب الغربيّ من الأرض مساكنَ يحيطُ البحر بها ، فالناظرُ إلى الشَّمْسِ يتخيلُ كأنَّها تغيب في تلك البحار ، ولا شكَّ أنَّ البحار الغربية قويةٌ السخونة ، فهي حاميةٌ ، وهي أيضاً حمئة لكثرة ما فيها من الماء ومن الحمأةِ السَّوداءِ ، فقوله : { تَغْربُ في عينٍ حمئةٍ } إشارةٌ إلى أن الجانب الغربي منالأرض قد أحاط البحر به ، وهو موضعٌ شديدُ السخونة ، قال اهل الأخبار : إنَّ الشمس تغيب في عينٍ كثيرة الماءِ والحمأةِ ، وهذا في غاية البعد؛ وذلك لأنَّا إذا رصدنا كسوفاً قمريًّا ، فإذا اعتبرناه ، ورأينا أنَّ المغربيين قالوا : حصل هذا الكسوف في أوَّل الليل ، ورأينا المشرقين ، قالوا : حصل في أوَّل النَّهار علمنا أن أول الليل عند أهل المغرب هو أول النهار الثاني عند أهل المشرق ، بل ذلك الوقت الذي هو أول الليل عندنا هو وقت العصر في بلد ، ووقت الظُّهر في بلدٍ آخر ، ووقت الضَّحوة في بلد ثالثٍ ، ووقت طلوع الشمس في بلدٍ رابع ، ونصف الليل في بلد خامسٍ ، وإذا كانت هذه الأحوال معلومة بالاستقراء والأخبار وعلمنا أن الشمس طالعة ظاهرة في كل هذه الأوقات كان الذي يقال : إنَّها تغيبُ في الطين والحمأة كلاماً على خلاف اليقين؛ وكلام الله تعالى مبرَّأ عن هذه التهمة ، فلم يبق إلاَّ أن يصار غلى التَّأويل المذكور
ثم قال : « ووجد عندها قوماً » أي : عند العين أمة ، وقيل : الضمير [ عائد ] إلى الشمس .
قال ابن جريج : مدينة لها اثنا عشر ألف باب ، لولا ضجيج أهلها لسمعت وجبة الشمس حين تجبُ .
قوله : { قُلْنَا ياذا القرنين } يدل على أنه تعالى كلمه من غير واسطة ، وذلك يدل على أنه كان نبيًّا ، فإن قيل : خوطب على ألسنة بعض الأنبياء ، فهو عدولٌ عن الظاهر .
وقال بعضهم : المراد منه الإلهام .
قوله : { إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ } .
يجوز فيه الرفع على الابتداء ، والخبر محذوف ، أي : إمَّا تعذيبك واقعٌ ، والرفع على خبر مضمرٍ ، أي : هو تعذيبك ، والنصب اي : إمَّا أن تفعل أن تعذِّب .
وهذا يدلُّ على أنَّ سكَّان آخر المغرب ، كانوا كفاراً ، فخيَّر الله ذا القرنين فيهم بين التعذيب ، إن أقاموا على الكفر ، وبين المنِّ عليهم ، والعفو عنهم ، وهذا التخيير على معنى الاجتهاد في أصلح المرين ، كما خيَّر نبيه - محمداً عليه الصلاة و السلام - بين المنِّ على المشركين ، وبين قتلهم .
وقال الكثرون : هذا التعذيب هو القتل ، وأمَّا اتِّخاذ الحسنى فيهم ، فهو تركهم أحياء .
ثم قال ذو القرنين : { أَمَّا مَن ظَلَمَ } أي : ظلم نفسه؛ بمعنى « كفر » لأنَّه ذكر في مقابلته : { وَأَمَّا مَنْ آمَنَ } ثم قال : { فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ } أي بقتله { ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ } في الآخرة { عَذَاباً نُّكْرا } أي : منكراً فظيعاً .
وهو النار ، والنار أنكر من القتل .
قوله تعالى : { وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً } .
{ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى } الآية .
قوله : { جَزَآءً الحسنى } قرأ الأخوان ، وحفص بنصب « جزاءً » وتنوينه ، والباقون برفعه مضافاً ، فالنصب على المصدر المؤكِّد لمضمون الجملة ، أو بنصب بمضمرٍ ، أو مؤكدٍ لعامل من لفظه مقدَّر ، أي : يجزي جزاء ، وتكون الجملة معترضة بين المبتدأ وخبره المقدَّم عليه ، وقد يعترض على الأول : بأنَّ المصدر المؤكِّد لمضمون جملة لا يتقدَّم عليها ، فكذا لا يتوسَّطُ ، وفيه نظر يحتمل الجواز والمنع ، وهو إلى الجواز أقرب .
الثالث : أنه في موضع الحال .
الرابع : نصبه على التفسير ، قاله الفراء؛ يعني التمييز ، وهو بعيد .
وقرأ ابن عباس ، ومسروق بالنصب والإضافة ، وفيها تخريجان :
أحدهما : أن المبتدأ محذوف ، وهو العامل في « جزاءَ الحُسْنى » التقدير : فله الجزاء جزاء الحسنى .
والثاني : أنه حذف التنوين لالتقاء الساكنين؛ كقوله : [ المتقارب ]
3565- . ... ولا ذَاكِرَ الله إلاَّ قَلِيلا
ذكره المهدويُّ .
والقراءة الثانية رفعه فيها على الابتداء ، والخبر الجار قبله ، و « الحُسْنَى » مضاف إليها ، والمراد بالحسنى الجنَّة ، وقيل : الفعلة الحسنى .
وقرأ عبد الله ، وابن أبي إسحاق « جزاءٌ » مرفوعاً منوناً على الابتداء ، و « الحُسْنَى » بدلٌ ، أو بيان ، أو منصوبة بإضمار « أعْنِي » أو خبر مبتدأ مضمرٍ .
و « يُسْراً » نعت مصدر محذوف ، أي : قولاً ذا يسرٍ ، وقرأ أبو جعفر بضم السين في اليُسُر حيث ورد .
فصل في اختلاف معنى الآية باختلاف القراءة
قال المفسرون : المعنى على قراءة النصب : فله الحسنى جزاء؛ كما يقال : لك هذا الثوب هبةً .
وعلى قراءة الرفع ، فيه وجهان :
أحدهما : فله الجزاءُ الحسنى ، والفعلةُ الحسنى : هي الإيمانُ ، والعمل الصَّالح .
والثاني : فلهُ جزاء المثوبة الحسنى ، وإضافة الموصوف إلى الصِّفة مشهورةٌ؛ كقوله : { وَلَدَارُ الآخرة } [ يوسف : 109 ] . و { حَقُّ اليقين } [ الواقعة : 95 ] .
وقوله : { وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً } الآية ، أي : لا نأمرهُ بالصَّعب الشَّاق ، ولكن بالسَّهل الميسَّر من الزَّكاة ، والخراج وغيرهما ، وتقديره : ذا يسر؛ كقوله : { قَوْلاً مَّيْسُوراً } [ الإسراء : 28 ] .
قوله : { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حتى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشمس } .
أي : سلك طرقاً ومنازل { حتى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ } أي : موضع طلوعها { وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً } .
قال الحسنُ وقتادة : لم يكن بينهم وبين الشمس ستراً ، وليس هناك شجرٌ ، ولا جبلٌ ، ولا أبنيةٌ ، تمنع [ طلوع ] الشمس عليهم؛ لأنَّهم كانوا في مكان لا يستقرُّ عليهم بناءٌ ، وكانوا يكونون في أسراب لهم ، حتَّى إذا زالت الشمس عنهم ، خرجوا إلى معايشهم وحروثهم .
وقال الحسن : كانوا إذا طلعت الشمس ، يدخلون الماء ، فإذا ارتفعت عنهم ، خرجوا فرعوا؛ كأنَّهم بهائمُ .
قال الكلبيُّ : هم قومٌ عراةٌ؛ كسائر الحيوان ، يفترشُ أحدهم أذنيه؛ أحدهما تحته ، ويلتحفُ بالأخرى .
فصل فيما يروى عن السد
ذكروا في بعض كتب التفسير : أن بعضهم ، قال : سافرت ، حتَّى جاوزت الصِّين ، فسألت عن هؤلاء القوم ، فقيل : بينك وبينهم مسيرة يوم وليلةٍ ، فبلغتهم ، فإذا أحدهم يفترش إحدى أذنبه ، ويلبس الأخرى ، فلما قرب طلوع الشمس ، سمعت صوتاً كهيئة الصَّلصلة ، فغُشي عليَّ ، ثم أفقتُ ، فلمَّا طلعت الشمس؛ إذ هي فوق الماءِ؛ كهيئة الزيت ، فأدخلونا سرباً لهم ، فلما ارتفع النَّهار ، جعلوا يصطادون السَّمك فيطرحونه في الشمس؛ فينضج .
قوله : { مَطْلِعَ الشمس } .
العامَّة على كسر اللام من « مَطْلِع » والمضارعُ « يَطلُع » بالضم ، فكان القياس فتح اللام في المفعل مطلقاً ، ولكنَّها مع أخواتٍ لها سمع فيها الكسر ، وقياسها الفتح ، وقد قرأ به الحسن ، وعيسى ، وابن محيصن ، ورويت عن ابن كثيرٍ ، وأهل مكة ، قال الكسائي : « هذه اللغة قد ماتت » يعني : أي : بكسر اللام من المضارع ، والمفعل ، وهذا يشعرُ أنَّ من العرب من كان يقول : طَلَع يَطلِعُ ، بالكسر في المضارع .
قوله : { كَذَلِكَ } : الكاف : إمَّا مرفوعة المحلِّ ، أي : الأمر كذلك ، أو منصوبته ، أي : فعلنا مثل ذلك .
ومعنى الكلام : كذلك فعل ذو القرنينِ ، أتبع هذه الأسباب ، حتى بلغ ، وقد علمنا حين ملَّكناه ما عنده من الصلاحية لذلك الملك .
وقيل : كذلك جعل الله أمر هؤلاء القوم على ما قد أعلم رسول الله - عليه السلام - في هذا الذِّكر .
وقيل : كذلك كانت حاأهل المطلع؛ كما كانت حاله مع أهل المغرب ، قضى في هؤلاء ، كما قضى في أولئك؛ من تعذيب الظالمين ، والإحسان إلى المؤمنين .
وقيل : تمَّ الكلام عند قوله : { كَذَلِكَ } .
والمعنى : أنه تعالى قال : أمر هؤلاء القوم ، كما وجدهم عليه ذو القرنين ، ثم قال بعده : { وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً } أي : كنَّا عالمين بأنَّ الأمر كذلك .
قوله : { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } الآية .
و { بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } « بين » هنا يجوز أن يكون ظرفاً ، والمفعول محذوف ، أي : بلغ غرضه ومقصوده ، وأن يكون مفعولاً به على الاتِّساع ، أي : بلغ المكان الحاجز بينهما .
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، بفتح سين « السَّدَّين » و « سَدًّا » في هذه السورة ، وحفصٌ فتح الجميع ، أعني موضعي هذه السورة ، وموضعي سورة يس [ الآية : 9 ] ، وقرأ الأخوان بالفتح في « سدًّا » في سورتيه ، وبالضمِّ في « السُّدَّين » والباقون بالضمِّ في الجميع ، فقيل : هما بمعنى واحدٍ ، وقيل : لمضمومُ : ما كان من فعل الله تعالى ، والمفتوحُ ما كان من فعل النَّاس ، وهذا مرويٌّ عن عكرمة ، و الكسائي ، وأبي عبيد وابن الأنباريِّ .
قال الزمخشري : لأنَّ السُّدَّ ، بالضمِّ : « فُعْل » بمعنى « مفْعُول » أي : هو مما فعله الله ، وخلقه ، والسَّدُّ ، بالفتح : مصدر حدث يحدثه الناس . وهو مردودٌ : بأنَّ السدَّين في هذه السورة جبلان ، سدَّ ذو القرنين بينهما بسدٍّ ، فهما من فعلِ الله ، والسدُّ الذي فعله ذو القرنين من فعل المخلوق ، و « سدًّا » في يس من فعلِ الله تعالى؛ لقوله : « وجعلنا » ومع ذلك قرئ في الجميع ، بالفتح ، والضمِّ ، فعلم أنَّهما لغتان؛ كالضَّعف ، والضُّعف ، والفَقر ، والفُقر ، وقال الخليل : المضموم اسمٌ ، والمفتوح مصدر ، وهذا هو الاختيار .
فصل في مكان السد
الأظهرُ : أنَّ موضع السدَّين في ناحية الشَّمال ، وقيل : جبلان بين أرمينيَّة ، وأذربيجان .
وقيل : هذا المكان في مقطع أرض التُّرك .
وحكى محمد بن جرير الطبريُّ في تاريخه : أنَّ صاحب أذربيجان أيَّام فتحها ، وجَّه إنساناً إليه من ناحية الخزر ، فشاهده ، ووصف أنَّه بنيانٌ رفيعٌ وراء خندقٍ وثيقٍ منيعٍ ، وذكر ابن خرداذبة في كتابه « المسالك والممالك » أن الواثق بالله رأى في المنام كأنَّه فتح هذا الردم ، فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه ، فخرجوا من باب الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه ، فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه ، فخرجوا من باب الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه ، فوصفوا أنه بنيانٌ من لبنٍ من حديد مشدود بالنُّحاس المذاب ، وعليه بابٌ مقفلٌ ، ثم إنَّ ذلك الإنسان لمَّا حاول الرُّجوع ، أخرجهم الدليل إلى البقاع المحاذية لسمرقند .
فصل في مقتضى هذا الخبر
قال أبو الرَّيحان البيرونيُّ : مقتضى هذا الخبر أنَّ موضعه في الربع الشماليِّ الغربيِّ من المعمورة .
قوله : { يَفْقَهُونَ } : قرأ الأخوان بضمِّ الياء ، وكسر القاف ، من أفقه غيره ، فالمفعول محذوف ، أي : لا يفقهون غيرهم قولاً ، والباقون بفتحهما ، أي : لا يفهمون كلام غيرهم ، وهو بمعنى الأول ، وقيل : ليس بمتلازمٍ؛ إذ قد يفقه الإنسان كلام غيره ، ولا يفقه قوله غيره ، وبالعكس .
فصل في كيفية فهم ذي القرنين كلام أولئك القوم
لمَّا بلغ ذو القرنين ما بين السَّدين { وَجَدَ مِن دُونِهِمَا } [ أي ] من ورائهما مجاوزاً عنهما « قوماً » ، أي : أمَّة من الناس { لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } .
فإن قيل : كيف فهم ذو القرنين منهم هذا الكلام ، بعد أن وصفهم الله تعالى بقوله : { لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } ؟ .
فالجواب من وجوه :
أحدهما : قيل : كلّم عنهم مترجمٌ؛ ويدل عليه قراءة ابن مسعودٍ : لا يكادون يفقهون قولاً ، قال الذين من دونهم : يا ذا القرنين { إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوج } .
وثانيها : أن قوله : { لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } يدلُّ على أنَّهم قد يفقهون بمشقَّة وصعوبة [ من إشارة ونحوها ] .
وثالثها : أنَّ « كاد » معناه المقاربة؛ وعلى هذا ، فلا بدَّ من غضمارٍ ، تقديره : لا يكادون يفقهون إلاَّ بمشقةٍ؛ من إشارة ونحوها .
قوله : { يَأْجُوجَ وَمَأْجُوج } : قرأ عاصم بالهمزة الساكنة ، والباقون بألف صريحة ، واختلف في ذلك؛ فقيل : هما أعجميَّان ، لا اشتقاق لهما ، ومنعا من الصرف؛ للعلميَّة والعجمة ، ويحتمل أن تكون الهمزة أصلاً ، والألف بدلاً منها ، أو بالعكس؛ لأنَّ العرب تتلاعب بالأسماء الأعجمية ، وقيل : بل هما عربيَّان ، واختلف في اشتقاقهما .
فقال الكسائي : يأجوجُ : مأخوذٌ من تأجُّج النار ، ولهبها أو شدَّة توقُّدها؛ فلسرعتهم في الحركة سمُّوا بذلك ، ومأجوج من موج البحر .
وقيل من الأجِّ ، وهو الاختلاط أو شدَّة الحرِّ .
وقيل من الأجِّ ، وهو الاختلاط أو شدَّة الحرِّ .
وقال القتيبيُّ : من الأجِّ ، وهو سرعة العدو ، ومنه قوله : [ الطويل ]
3566- . ... تَؤجُّ كمَا أجَّ الظَّلِيم المُنفَّرُ
وقيل : من الأجاجِ ، وهو الماءُ المالح الزُّعاقُ .
وقال الخليلُ : الأجُّ : حبٌّ؛ كالعدس ، والمجُّ : مجُّ الرِّيق ، فيحتمل أن يكونا مأخوذين منهما ، ووزنهما يفعولُ ، ومفعول ، وهذا ظاهر على قراءة عاصم ، وأمَّا قراءة الباقين ، فيحتمل أن تكون الألف بدلاً من الهمزة الساكنة ، إلا أنَّ فيه أنَّ من هؤلاء من ليس أصله قلب الهمزة الساكنة ، وهم الأكثر ، ولا ضير في ذلك ، ويحتمل أن تكون ألفهما زائدتين ، ووزنهما « فَاعُول » من يجَّ ، ومجَّ .
ويحتمل أن يكون ماجوج من « مَاجَ ، يَمُوجُ » أي : اضطرب ، ومنه الموجُ ، فوزنه مفعول ، وأصله : مَوجُوج ، قاله أبو حاتم ، وفيه نظر؛ من حيث ادِّعاءُ قلب حرف العلة ، وهو ساكنٌ ، وشذوذه كشذوذ « طائي » في النَّسب إلى طيِّئ .
وعلى القول بكونهما عربيَّين مشتقَّين ، فمنع صرفهما؛ للعلميَّة والتأنيث؛ بمعنى القبيلة؛ كما تقدَّم في سورة هود ، ومثل هذا الخلاف والتعليل جارٍ في سورة الأنبياء [ الآية : 93 ] - عليهم السلام - والهمزة في يأجوج ومأجوج لغة بني أسدٍ ، وقرأ رؤبة وأبوه العجاج « آجُوج » .
فصل في اصل يأجوج ومأجوج
اختلفوا في أنَّهم من أيِّ الأقوام ، فقال الضحاك : هم جيلٌ من التُّرك .
وقال السديُّ : التُّرك : سريَّة من يأجُوج ومأجوج ، خرجت ، فضرب ذو القرنين السدَّ ، فبقيت خارجة ، فجميع الترك منهم .
وعن قتادة : أنَّهم اثنان وعشرون قبيلة ، بنى ذو القرنين السدَّ على إحدى وعشرين قبيلة ، وبقيت قبيلة واحدة ، وهم التُّركُ ، سمُّوا بذلك؛ لأنَّهم [ تركوا ] خارجين .
فصل في أجناس البشر
قال أهل التَّاريخ : أولاد نوحٍ ثلاثة : سام ، وحام ، ويافث . فسام أبو العرب ، والعجم ، والرُّوم .
وحام : أبو الحبشة ، والزَّنج ، والنُّوبة .
ويافث : أبو التُّرك ، والخزر ، والصقالبة ، ويأجوج ومأجوج .
واختلفوا في صفاتهم :
فمن النَّاس من وصفهم بقصر القامة ، وصغر الجثَّة بكون طول أحدهم شبراً ، ومنهم من يصفهم بطُول القامة ، وكبر الجثَّة ، فقيل : طول أحدهم مائةُ وعشرون ذراعاً ، ومنهم من طوله وعرضه كذلك ، وأثبتوا لهم مخالب في الأظفار وأضراساً كأضراسِ السِّباع ، ومنهم من يفترش إحدى أذنيه ، ويلتحفُ بالأخرى .
فصل في إفسادهم
واختلفوا في كيفية إفسادهم :
فقيل : كانوا يقتلون الناس .
وقيل : كانوا يأكلوه لحوم النَّاس ، وقيل : كانوا يخرجون أيَّام الربيع ولا يتركون لهم شيئاً أخضر .
وبالجملة : فلفظ الفساد يحتمل هذه الأقسام .
ثمَّ إنَّه تعالى حكى عن أهل ما بين السَّديْن أنَّهم قالوا لذي القرنين : { فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً } الآية .
قوله : « خَرْجاً » قرأ ابن عامر « خَرْجاً » هنا وفي المؤمنين [ الآية : 72 ] بسكون الراء ، والأخوان « خَرَاجاً » « فَخَراج » في السورتين بالألف ، والباقون كقراءة ابن عامر في هذه السورة ، والأول في المؤمنين ، وفي الثاني ، وهو « فَخرَاج » كقراءة الأخوين ، فقيل : هما بمعنى واحد كالقول والقوال ، والنّوْل والنَّوال ، وقيل : « الخَراجُ » بالألف ما ضرب على الأرض من الإتاوةِ كلَّ عامٍ ، وبغير الألف بمعنى الجعل ، أي : نُعطيكَ من أموالنا مرَّة واحدة ما تستعينُ به على ذلك ، وقال أبو عمر : الخرج : ما تبرَّعت به ، والخراج ما لزمك أداؤهُ .
قال مكيٌّ - رحمه الله- : واختيار تركُ الألف؛ لأنَّهم إنما عرضوا عليه : أن يعطوه عطيَّة واحدة على بنائه ، لا أن يضرب ذلك عليهم كلَّ عامٍ ، وقيل : الخرجُ : ما كان على الرءوس ، والخراج : ما كان على الأرض ، قاله قطرب يقال : أدِّ خرج رأسك ، وخراج أرضك ، قاله ابن الأعرابيِّ ، وقيل : الخرجُ أخصُّ ، والخَراجُ أعمُّ ، قاله ثعلبٌ ، وقيل : الخرجُ مصدر ، والخراجُ : اسم لما يعطى ، ثم قد يطلق على المفعول المصدر؛ كالخلقِ؛ بمعنى المخلوق .
ثم قال : { على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً } أي : حاجزاً ، فلا يصلون إلينا .
قوله : { مَا مَكَّنِّي } : « ما » بمعنى « الذي » وقرأ ابن كثيرٍ : « مكَّنني » بإظهار النون ، والباقون بإدغامها في نون الوقاية؛ للتخفيف .
وهي مرسومةٌ في مصاحف غير مكَّة بنون واحدة ، وفي مصاحف مكَّة بنونين ، فكلٌّ وافق مصحفه .
ومعنى الكلام : ما قوَّاني عليه ربِّي خيرٌ من جعلكم ، أي : ما جعلني مكيناً من المال الكثير ، خيرٌ ممَّا تبذلُون لي من الخراج؛ فلا حاجة بي إليه ، كقول سليمان -عليه السلام- : { فَمَآ آتَانِي الله خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ } [ النمل : 36 ] .
قوله : { فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ } أي : لا أريد المال ، ولكن أعينوني بأيديكم ، وقوَّتكم { أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً } .
والرَّدْم : هو السدُّ ، يقال : ردمت الباب ، أي : سددتُّه ، وردمتُ الثوب : رقعته؛ لأنه يسدُّ موضع الخرق بالرَّقع ، والرَّدم أكثر من السدِّ؛ من قولهم : ثوبٌ مردم ، أي : وضعت عليه رقاعٌ .
قالوا : وما تلك القوة؟ . قال : فعلةٌ وصنَّاعٌ يحسنون البناء والعمل ، والآلة .
قالوا : وما تلك الآلة؟ .
قال : { آتُونِي } : قرأ أبو بكرٍ « ايتُونِي » بهمزة وصلٍ؛ من أتى يأتي في الموضعين من هذه السورة؛ بخلاف عنه في الثاني ، ووافقه حمزة على الثاني ، من غير خلافٍ عنه ، والباقون بهمزة القطع فيهما .
ف « زُبرَ » على قراءة همزة الوصل منصوبة على إسقاط الخافض ، أي : جيئُوني بزُبرِ الحديد ، وفي قارءة قطعها على المفعول الثاني؛ لأنه يتعدَّى بالهمزة إلى اثنين ، وعلى قراءة أبي بكرٍ يحتاج إلى كسر التنوين من « رَدْماً » لالتقاءِ الساكنين؛ لنَّ همزة الوصل ، تسقط درجاً ، فيقرأ له بكسر التنوين ، وبعده همزة ساكنة هي فاءُ الكلمة ، وإذا ابتدأت بكلمتي « ائتُونِي » في قراءته ، وقراءة حمزة ، تبدأ بهمزة مكسورة للوصلِ ، ثم ياءٍ صريحة ، هي بدلٌ من همزة فاء الكلمة ، وفي الدَّرج تسقط همزة الوصل ، فتعود الهمزة؛ لزوالِ موجب إبدالها .
والباقون يبتدئون ، ويصلون بهمزة مفتوحة؛ لأنَّها همزة قطعٍ ، ويتركون تنوين « رَدْماً » على حاله من السكون ، وهذا كله ظاهر لأهل النحو ، خفيٌّ على القراء .
والزُّبَرُ : جمع زُبْرَة ، كغُرفَةٍ وغُرَفٍ .
و « زُبَرَ الحَديدِ » قطعه .
قال الخليل : الزُّبرة من الحديد : القطعة الضخمة .
وقرأ الحسن بضمِّ الباء .
قوله : « سَاوَى » هذه قراءة الجمهور ، وقتادة « سوَّى » بالتضعيف ، وعاصم في رواية طسُوِّيَ « مبنيًّا للمفعول .
وفيه إضمارٌ ، أي : فأتوهُ بها ، فوضع تلك الزُّبرَ بعضها على بعض { حتى إِذَا ساوى } أي سدت ما بين الجبلين إلى أعلاهما .
قوله : » الصَّدفَيْنِ « قرأ أبو بكرٍ بضم الصاد ، وسكون الدَّال ، وابن كثيرٍ ، وأبو عمرو ، وابن عامر بضمهما ، والباقون بفتحهما ، وهذه لغاتٌ قرئ بها في السَّبع ، وأبو جعفرٍ ، وشيبة ، وحميد بالفتح والإسكان ، والماجشونُ بالفتح والضمِّ ، وعاصم في رواية بالعكس .
والصَّدفانِ : ناحيتا الجبلين ، وقيل : أن يتقابل جبلان ، وبينهما طريقٌ ، والناحيتان صدفان؛ لتقابلهما ، وتصادفهما ، من صادفت الرجل ، أي : لاقيته وقابلته ، وقال أبو عبيد : » الصَّدفُ : كل بناءٍ مرتفعٍ ، وقيل : ليس بمعروفٍ ، والفتحُ لغة تميمٍ ، والضمُّ لغة حميرٍ « .
فصل في بناء السد
لما أتوهُ بزبر الحديد ، وضع بعضها على بعض؛ حتى ساوتْ ، وسدَّت ما بين الجبلينِ ، ووضع المنافخ عليها ، و الحطب ، حتَّى إذا صارت كالنَّار ، صبَّ النُّحاس المذاب على الحديدِ المحمَّى ، فالتصق بعضه ببعض ، فصار جبلاً صَلْداً .
وهذه معجزةٌ تامَّةٌ؛ لأنَّ هذه الزُّبَر الكثيرة ، إذا نفخ عليها؛ حتَّى تصير كالنَّار ، لم يقدر الحيوان على القرب منها ، والنَّفخُ عليها لا يكون إلا بالقرب منها ، فكأنَّه تعالى صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النَّافخين عليها .
قيل : إنَّه وضع الحديد على الحطب ، والحطب على الحديد؛ فصار الحطب في خلال الحديد ، ثمَّ نفخُوا عليه؛ حتَّى صار ناراً ، أفرغ عليه النُّحاس المذاب؛ فدخل في خلال الحديد مكان الحطب؛ لأنَّ النَّار أكلت الحطب؛ فصار النحاسُ مكان الحطب؛ حتَّى لزم الحديدُ النُّحاس .
قال قتادة : صار كالبُرد المحبَّر طريقة سوداء وطريقة حمراء .
فصل فيما بين السدين
قال الزمخشريُّ : قيل : بعد ما بين السَّدين مائة فرسخٍ .
وروي : عرضهُ كان خمسين ذراعاً ، وارتفاعه مائتي ذراعٍ .
قوله : » قِطْراً « هو المتنازع فيه ، وهذه الآية أشهر أمثلةِ النحاةِ في باب التنازع ، وهي من إعمال الثاني؛ للحذف من الأول ، والقِطرُ : النُّحاس ، أو الرَّصاصُ المذاب؛ لأنه يقطر .
قوله : { فَمَا اسطاعوا } : قرأ حمزة بتشديد الطاء ، والباقون بتخفيفها ، والوجه في الإدغام ، كما قال أبو عليٍّ : « لمَّا لم يمكنْ إلقاء حركة [ التَّاء ] على السِّين؛ لئلاَّ يحرَّك ما لا يتحرَّك » - يعني : أنَّ سين « اسْتَفْعَلَ » لا تتحرَّك - أدغم مع السَّاكن ، وإن لم يكن حرف لين ، وقد قرأت القراء غير حرفٍ من هذا النحو؛ وقد أنشد سيبويه « ومَسْحي » يعني في قول الشاعر : [ الرجز ]
3567- كَأنَّهُ بَعْدَ كَلالِ الزَّاجرِ ... ومَسْحِي مرُّ عُقابٍ كَاسرِ
[ يريد « ومَسْحِه » ] فأدغم الحاء في الهاء بعد أن قلب الهاء حاء ، وهو عكس قاعدة الإدغام في المتقاربين ، وهذه القراءة قد لحَّنها بعض النُّحاة ، قال الزجاج : « من قرأ بذلك ، فهو لاحِنٌ مخطئٌ » وقال أبو عليٍّ : « هي غيرُ جائزةٍ » .
وقرأ الأعشى ، عن أبي بكر « اصْطاعُوا » بإبدال السِّين صاداً ، والأعمش « استطاعوا » كالثانية .
فصل
حذفت تاء « اسْتطَاعُوا » للخفَّة؛ لأنَّ التاء قريبة المخرجِ من الطَّاء ، ومعنى « يَظْهَرُوهُ » أي : يعلونه من فوق ظهره؛ لطوله ، وملاسته ، وصلابته ، وثخانته ، ثم قال ذو القرنين : « هَذَا » إشارةٌ غلى السدِّ « رَحْمَةٌ » أي : نعمة من الله ، ورحمة على عباده { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي } أي : القيامة .
وقيل : وقت خروجهم { جَعَلَهُ دَكَّآءَ } أي : جعل السدَّ مدكوكاً مستوياً ، مع وجه الأرض .
قوله : { جَعَلَهُ دَكَّآءَ } : الظاهر أنَّ « الجَعْلَ » هنا بمعنى « التَّصْيير » فتكون « دكَّاء » مفعولاً ثانياً ، وجوَّو ابن عطيَّة : أن يكون حالاً ، و « جَعَلَ » بمعنى « خَلَقَ » وفيه بعدٌ؛ لأنه إذ ذاك موجود ، وتقدَّم خلاف القراء في « دكَّاء » في الأعراف .
قوله : { وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً } الوعْدُ هنا مصدر بمعنى « المَوعُود » أو على بابه .
فصل فيما روي عن يأجوج ومأجوج
روى قتادة ، عن أبي رافعٍ ، عن أبي هريرة ، يرفعه : أنَّ يأجُوج ومأجُوجَ يحفرونه كلَّ يوم ، حتَّى إذا كادوا يرون شُعاعَ الشَّمسِ ، قال الذي عليهم : ارجعوا؛ فسَتحْفُرونهُ غداً ، فيُعيدهُ الله كما كان ، حتَّى إذا بَلغَتْ مُدَّتهُمْ ، حفروا؛ حتَّى كادوا يرون شعاع الشَّمسِ ، قال الذي عليهم : ارْجِعُوا ، فسَتحْفرُونَهُ ، إن شاء الله تعالى غداً ، واستثنى ، فيَعُودُونَ إليه ، وهو كهيئته حين تركوهُ ، فيحفرونه ، فيخرجون على النَّاس [ فَيَشْرَبُونَ ] المياهَ ، ويتحَصَّنُ النَّاس في حصونهم ، فيرمون بسهامهم إلى السَّماءِ ، فتَرجِعُ فيها كهيئةِ الدَّم ، فيقولون : قهرنا أهْلَ الأرْضِ ، وعلونا أهل السَّماء ، فيَبعَثُ الله عليهم نغفاً في أقفائهم ، فَيهلكُونَ ، وإنَّ دوابَّ الأرضِ لتسمنُ وتشكرُ من لحومهم .
وعن النَّواس بن سمعان ، قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدَّجَّال ذات غداةٍ ، فخفَّض فيه ورفَّع حتَّى ظننَّاهُ في طائفةِ النَّخل ، فلمَّا رحنا إليه ، عرف ذلك فينا ، فقال : ما شَأنكم؟ قلنا : يا رسول الله ، ذكرتَ الدَّجالِ أخْوفني عليكم ، إنْ يخرجْ وأنا فيكم ، فأنا حَجيجُهُ دونكم ، وإن يخرج ، ولستُ فيكم ، فكلُّ امرئٍ حَجِيجُ نفسه ، والله خليفتي على كلِّ مسلم؛ إنَّهُ شابٌّ قططٌ ، عينه طافيةٌ؛ كأنِّي أشبِّهه بعبد العُزَّى بن قطنٍ ، فمن أدركه منكم ، فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف ، إنَّه خارجٌ خلَّة بين الشَّام والعراق ، فعاث يميناً ، وعاث شمالاً؛ يا عباد الله فاثبتوا قلنا : يا رسول الله ، وما لبثهُ في الأرض؟ قال : أربعون يوماً؛ يومٌ كسنةٍ ، ويومٌ كشهرٍ ، ويومٌ كجمعةٍ ، وسَائ~رُ أيَّامه كأيَّامكُمْ ، قلنا : يا رسول الله ، فذلك اليومُ الذي كسنةٍ ، يكْفِينَا فيه صلاةُ يوم؟ قال : لا ، اقدرُوا لهُ قدرهُ ، قلنا : يا رسول الله ، وما إسراعهُ في الأرض؟ قال : كالغَيْثِ اسْتدْبَرَتهُ الرِّيحث ، فيأتي على القومِ ، فيَدعُوهُمْ ، فيُؤمِنُونَ به ، ويسْتَجيبُونَ له ، فيَأمُر السَّماءَ ، فتُمْطِرُ ، والأرض فتُنْبِتُ ، وتَروحُ عليهم سارحتهم ، أطول ماكانت ذُرًى ، وأسبغهُ ضُرُوعاً ، وأمدَّهُ خَواصِرَ ، ثمَّ يأتي القوم ، فيَدعُوهُمْ ، فيَردُّونَ عليه قوله ، قال : فيَنْصرِفُ عنهم ، فيُصْبِحُونَ مُمْحلين ، ليس بايديهم شيءٌ من أموالهم ، ويمرُّ بالخربة ، فيقول لها : أخرجي كنُوزكِ ، فتَتْبَعُهُ كنُوزهَا؛ كيعَاسيب النَّحلِ ، ثمَّ يدعو رجلاً مُمتلِئاً شباباً ، فيَضْرِبُهُ بالسَّيفِ ، فيَقْطعُه جزلتين رمية الغرض ، ثمَّ يدعوهُ ، فيُقْبلُ ، يتهلَّلُ وجههُ؛ يضحك ، فبينما هو كذلك؛ إذْ بعثَ الله عيسى ابن مريم المسيح - عليه السلام - فينزلُ عند المنارةِ البيضاءِ شرقيَّ دمشق ، بين مهرُودتين واضعاً كفَّيه على أجْنحَةِ ملكين ، إذا طأطأ رأسهُ ، قطر ، وإذا رفعه؛ تحدَّر منه مثل جمان اللؤلؤِ ، فلا يحلُّ للكافر يجدُ ريحَ نفسه غلاَّ مات ، ونفسه ينتهي حيثُ ينتهي طرفه حتَّى يدركه ببابِ لدٍّ ، فيقتلهُ ، ثمَّ يأتي عيسى قومٌ قد عصمهمُ الله منهُ ، فيَمْسحُ عن وجوههم ، ويحدِّثهُمْ بدرجاتهم في الجنَّة ، فبينما هو كذلك إذْ أوحى الله تعالى غلى عيسى : إنِّي قَدْ أخرجتُ عباداً لي لا يدان لأحدٍ بقتالهم ، فحرِّزْ عبادي إلى الطُّور ، ويبعثُ الله يأجُوج ومأجُوجَ ، وهُمْ من كلِّ حدبٍ ينسلون ، فيمُرُّ أوائلهُم على بحيرة « طبَريَّة » فيَشْربُونَ ما فيها ، ويمرُّ آخرهم ، فيقولون : لقد كان بهذه مرَّة ماءٌ ، ويحصر نبي الله وأصحابه حتى يكون رأسُ الثَّور لأحدهم خيراً من مائة دينارٍ لأحدكم اليْومَ ، فيرغب نبيُّ الله عيسى وأصحابه إلى الله ، فيُرسِلُ الله تعالى عليهم النَّغف في رقابهم ، فيُصْبِحُون فَرْسَى كموتِ نفسٍ واحدةٍ ثمَّ يهبطُ نبيُّ الله وأصحابه إلى الأرض ، فلا يجدُونَ في الأرض موضع شبر إلا ملأهُ زَهمهُمْ ونتنهُمْ ، فيَرْغبُ نبيُّ الله عيسى وأصحابهُ إلى الله ، فيُرسِلُ الله عليهم طيراً؛ كأعناقِ البُخْتِ ، فتَحْملهُمْ ، فتَطْرَحهُمْ حيثُ شَاءَ الله ، ثمَّ يرسلُ الله مطراً ، لا يكنُّ منهُ بيتٌ مَدَرٌ ، ولا وبرٌ ، فيَغْسِلُ الأرض ، حتَّى يَتركهَا كالزَّلقة ، ثمَّ يقال للأرض : أنْبتِي ثَمرتك ، ورُدِّي بَركتَكِ ، فيَومئذٍ : تَأكلُ العَصابةُ الرُّمانَة ، ويَسْتظلُّونَ بِقحْفِهَا ، ويبارك في الرِّسلِ ، حتَّى إنَّ اللقحة من الإبل ، لتكفي الفئامَ من النَّاس ، وبينما هم كذلك؛ إذْ بعث الله ريحاً طيبة ، فتَأخُذهُمْ تحت آباطهم ، فتَقْبِضُ رُوح كلِّ مؤمنٍ ، وكلِّ مسلمٍ ، ويبقى شِرارُ النَّاس يَتهارَجُونَ فيها تَهارُجَ الحُمُر ، فعليهم تَقومُ السَّاعةُ .
قوله : { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } الآية .
قيل : هذا عند فتح السَّد ، وتركنا يأجوج ومأجوج يموجُ بعضهم في بعضٍ ، أي : يزدحمون كموج الماء ، ويختلط بعضهم في بعضٍ؛ لكثرتهم .
وقيل : هذا عند قيام السَّاعة يدخل الخلق بعضهم في بعض ، ويختلط إنسيُّهم بِجنِّيِّهِمْ حَيَارَى .
قوله : « يَوْمئِذٍ » التنوين عوضٌ من جملةٍ محذوفة ، تقديرها : يوم إذ جاء وعدُ ربِّي ، أو إذ حجز السدُّ بينهم .
قوله : { يَمُوجُ } : مفعول ثانٍ ل « تَركْنَا » والضمير في « بَعْضهُمْ » يعود على « يَأجُوج ومأجُوج » أو على سائر الخلق .
قوله : { وَنُفِخَ فِي الصور } . لأن خروج يأجوج ومأجوج من علامات قرب السَّاعة ، وتقدَّم الكلام في الصور ، { فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً } في صعيدٍ واحدٍ .
« وعَرضْنَا » : أبْرَزْنَا .
{ جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً } حتَّى يشاهدوها عياناً .
قوله : { الذين كَانَتْ } : يجوز أن يكون مجروراً بدلاً من « لِلْكافِرينَ » أو بياناً ، أو نعتاً ، وأن يكون منصوباً بإضمار « أذمُّ » وأن يكون مرفوعاً خبر ابتداءٍ مضمرٍ .
ومعنى { كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ } : أي : [ غشاءٍ ، والغطاء : ما يغطِّي الشيء ويسترهُ { عَن ذِكْرِي } : عن الإيمان والقرآن ، والمراد منه : شدَّة انصرافهم عن قَبُول الحقِّ ، وعن الهدى والبيان ، وقيل : عن رؤية الدلائل : { وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } .
أي : سمع الصَّوت ، أي : القبول والإيمان؛ لغلبةِ الشَّقاء عليهم .
وقيل : لا يعقلون ، وهذا قوله : { فَعَمُواْ وَصَمُّواْ } [ المائدة : 71 ] .
أما العمى ، فهو قوله : { كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي } وأما الصّمم فقوله : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } .
أي : لا يقدرون [ أن يَسْمَعُوا ] من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يتلوه عليهم؛ لشدَّة عداوتهم له .
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)
قوله تعالى : { أَفَحَسِبَ الذين كفروا } الآية .
لما بيَّن إعراض الكافرين عن الذِّكر ، وعن سماع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم أتبعه بقوله : { أَفَحَسِبَ الذين كفروا }
والمعنى : أفظنَّ الذين كفروا أن ينتفعوا بما عبدوه .
والمراد بقوله : { أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دوني أَوْلِيَآءَ } : أرباباً ، يريد بالعباد : عيسى ، والملائكة .
وقيل : هم الشياطين يتولَّونهم ويطيعُونَهُم .
وقيل : هم الأصنام ، سمَّاها عباداً؛ كقوله : { عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ } [ الأعراف : 194 ] . وهو استفهام توبيخ .
قوله : { أَفَحَسِبَ } : العامة على كسر السين ، وفتح الباء؛ فعلاً ماضياً ، و { أَن يَتَّخِذُواْ } سادٌّ مسدَّ المفعولين ، وقرأ أميرُ المؤمنين عليُّ بنُ أبي طالب ، وزيد بن عليٍّ ، وابن كثيرٍ ، ويحيى بن يعمر في آخرين ، بسكون السين ، ورفع الباء على الابتداء ، والخبر « أنْ » وما في حيِّزها .
والمعنى : أفكافيهم ، وحسيبهم أن يتَّخذوا كذا وكذا .
وقال الزمخشريُّ : « أو على الفعل والفاعل؛ لأن اسم الفاعل ، إذا اعتمد على الهمزة ، ساوى الفعل في العمل؛ كقولك : » أقَائمٌ الزَّيدانِ « وهي قراءة محكيَّةٌ جيِّدةُ » .
قال أبو حيَّان : « والذي يظهر أنَّ هذا الإعراب لا يجوزُ؛ لأنَّ حسباً ليس باسم فاعلٍ ، فيعمل ، ولا يلزم من تفسير شيءٍ بشيء : أن يجرى عليه أحكامه ، وقد ذكر سيبويه اشياء من الصِّفات التي تجري مجرى الأسماء ، وأنَّ الوجه فيها الرفع ، ثم قال : وذلك نحو : مرَرْتُ برجلٍ خير منه أبوهُ ، ومررتُ برجلٍ سواءٍ عليه الخير والشر ، ومررت برجلٍ اب لهُ صاحبه ، ومررتُ برجلٍ حسبك من رجلٍ هو ، ومررتُ برجلٍ أيِّما رجلٍ هو » . ثم قال ابو حيان : « ولا يبعُد أن يرفع به الظاهر ، فقد أجازوا في » مررتُ برجلٍ أبي عشرةٍ أبوه « أن يرتفع » أبوهُ « ب » أبِي عشرةٍ « لأنه في معنى والدِ عشرةٍ » .
قوله : « نُزُلاً » فيه أوجهٌ :
أحدها : أنه منصوب على الحال ، جمع « نَازِلٍ » نحو شارفٍ ، وشُرفٍ .
الثاني : أنه اسم موضع النُّزولِ . قال ابن عباس : « مَثوَاهُمْ » وهو قول الزجاج .
الثالث : أنَّه اسمُ ما يعدُّ للنازلين من الضُّيوف ، أي : معدة لهم؛ كالمنزلِ للضَّيف ، ويكون على سبيل التهكُّم بهم ، كقوله تعالى : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] وقوله : [ الوافر ]
3568- . . ... تَحيَّةُ بينهم ضَرْبٌ وجِيعُ
ونصبه على هذين الوجهين مفعولاً به ، أي : صيَّرنا .
وأبو حيوة « نُزْلاً » بسكون الزاي ، وهو تخفيف الشَّهيرة .
قوله : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً } .
يعني : الَّذينَ أتعبوا أنفسهم في عملٍ يرجون به فضلاً ونوالاً ، فنالُوا هلاكاً وبواراً .
قال ابن عباس ، وسعد بن أبي وقَّاصٍ : هم اليهود والنَّصارى .
وهو قول مجاهدٍ .
وقيل : هم الرهبانُ الذين حبسوا أنفسهم في الصَّوامع؛ كقوله تعالى :
{ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ } [ الغاشية : 3 ] .
وقال عليُّ بن أبي طالبٍ : هم أهلُ حروراء .
قوله : { أَعْمَالاً } : تمييزٌ للأخسرين؛ وجمع لاختلاف الأنواع .
قوله : { الذين ضَلَّ } : يجوز فيه الجر نعتاً ، وبدلاً ، وبياناً ، والنصب على الذَّم ، والرفع على خبر ابتداء مضمرٍ .
ومعنى خُسْرانهِم أن مثلهم كمن يشتري سلعة يرجُو منها ربحاً ، فخسر وخاب سعيهُ ، كذلك أعمالُ هؤلاء الذين أتعبُوا أنفسهم مع ضلالهم ، فبطل جدُّهم واجتهادهم في الحياة الدنيا ، { وَهُمْ يَحْسَبُونَ } يظنون { أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } أي : عملاً .
قوله : { يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ } يسمَّى في البديع « تَجْنيسَ التَّصحيف » وتجنيس الخطِّ ، وهذا من أحسنه ، وقال البحتريُّ : [ الطويل ]
3569- ولَمْ يَكُنِ المُغْتَرُّ بالله إذْ شَرَى ... ليُعْجِزَ والمُعْتَزُّ بالله طَالِبُهْ
فالأول : من الغُرورِ ، والثاني : من العزِّ ، ومن أحسن ما جاء في تجنيس التصحيف قوله : [ السريع ]
3570- سَقَيْنَنِي ريِّي وغَنَّيْنَنِي ... بُحْتُ بِحُبِّي حينَ بِنَّ الخُرُذ
يصحف بنحو : [ السريع ]
شَقَيْتَنِي ربِّي وعَنَّيْتَنِي ... بِحُبِّ يَحْيَى خَتنِ ابنِ الجُرُذ
وفي بعض رسائل الفصحاء :
قِيلَ قَبْلَ نَداكَ ثَرَاكَ ، عَبْدٌ عِنْدَ رَجَاكَ رَجَاكَ ، آمِلٌ أمِّكَ .
قوله تعالى : { أولئك الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ } .
لقاء اللع عبارة عن رؤيته؛ لأنَّه يقال : لقيتُ فلاناً ، أي : رأيته .
فإن قيل : اللُّقيا عبارةٌ عن الوصول؛ قال الله تعالى : { فَالْتَقَى المآء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } [ القمر : 12 ] .
وذلك في حقِّ الله محالٌ؛ فوجب حمله على ثواب الله .
فالجواب : أن لفظ اللقاء ، وإن كان في الأصل عبارة عن الوصول إلاَّ أنَّ استعماله في الرؤية مجازٌ ظاهرٌ مشهورٌ ، ومن قال بأنَّ المراد منه : لقاء ثواب الله ، فذلك لا يتمُّ إلا بالإضمار ، وحمل اللفظ على المجاز المتعارفِ المشهور أولى من حمله على ما يحتاج إلى الإضمار .
واستدلَّت المعتزلة بقوله تعالى : { فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } على أن الإحباط حقٌّ ، وقد تقدَّم ذلك في البقرة وقرأ ابن عباس « فَحبَطَتْ » بفتح الباء والعامة بكسرها .
قوله : { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } .
قرأ العامة « نُقِيمُ » بنون العظمة ، من « أقَامَ » ومجاهدٌ وعبيد بن عميرٍ : « فَلا يُقِيمُ » بياءِ الغيبة ، لتقدُّم قوله : « بآيَاتِ ربِّهِمْ » فالضمير يعود عليه ، ومجاهدٌ أيضاً « فلا يقُومُ لَهُمْ » مضارع « قَامَ » متعدٍّ ، كذا قال أبو حيَّان ، والأحسن من هذا : أن تعرب هذه القراءة على ما قاله أبو البقاء : أن يجعل فاعل « يَقومُ » « صنيعُهمْ » أو « سَعْيهُم » وينتصب حينئذٍ « وزْناً » على أحد وجهين : إمَّا على الحال ، وإمَّا على التَّمييز .
فصل في معنى الآية
المعنى : أنَّا نزدري بهم ، وليس لهم عندنا وزنٌ ومقدارٌ ، تقول العرب : ما لفلانٍ عندي وزنٌ ، أي : قدرٌ؛ لخسَّتهِ ، وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إنَّهُ ليَأتِي يَومَ القيامةِ الرَّجلُ العَظيمُ السَّمينُ ، فلا يَزنُ عند الله جَناحَ بَعُوضةٍ »
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
قوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } الآية .
لما ذكر وعيد الكفَّار ، ونزلهم ، أتبعه بوعيدِ المؤمنين ونزلهم . قال قتادة : الفِرْدَوس : وسطُ الجنَّة ، وأفضلها .
وعن كعبٍ : ليس في الجنانِ أعلى من جنَّة الفردوس ، وفيها الآمرون بالمعروف ، والنَّاهون عن المنكر .
وعن مجاهدٍ : الفردوسُ : هو البستان ، بالرومية .
وقال عكرمة : هو الجنَّة بلسان الحبش .
وقال الزجاج : هو بالروميَّة منقولٌ إلى لفظ العربيَّة .
وقال الضحاك : هي الجنَّة الملتفَّة الأشجارِ .
وقيل : هي التي تنتبت ضروباً من النَّبات .
وقيل : الفردوس : الجنَّة من الكرم خاصَّة .
وقيل : ما كان عاليها كرماً .
وقيل : كلُّ ما حُوِّط عليه ، فهو فردوس .
وقال المبرِّد : الفردوس فيما سمعتُ من العرب : الشَّجرُ الملتفُّ ، والأغلب عليه : أن يكون من العنب ، واختلفوا فيه :
فقيل : هو عربيٌّ ، وقيل : هو أعجميٌّ ، وقيل : هو روميٌّ ، أو فارسيٌّ ، أو سرياني ، قيل : ولم يسمعْ في كلام العرب إلاَّ في قوله حسَّان : [ الطويل ]
3572- وإنَّ ثَوابَ الله كُلَّ مُوحِّدٍ ... جِنَانٌ من الفِرْدوس فيهَا يُخُلَّدُ
وهذا ليس بصحيح؛ لأنَّه سمع في شعر أميَّة بن أبي الصَّلت : [ البسيط ]
3573- كَانَتْ مَنازِلهُمْ إذ ذَاكَ ظَاهِرةً ... فيهَا الفَراديسُ ثمَّ الثُّومُ والبَصَلُ
ويقال : كرمٌ مفردسٌ ، أي : معرِّش ، ولهذا سمِّيت الروضة التي دون اليمامةِ فردوساً .
وإضافة جنَّاتٍ إلى الفردوس إضافة تبيينٍ ، وجمعه فراديسُ؛ قال - عليه الصلاة والسلام- : « في الجنَّة مائةُ درجةٍ ما بَيْنَ كلِّ درجةٍ مسيرةُ مائة عام ، والفِردوسُ أعلاها درجةً ، وفيها الأنهارُ الأربعة ، والفِرْدَوسُ من فَوْقِهَا ، فإذا سَألتمُ الله تعالى ، فاسْألُوهُ الفِرْدوسَ؛ فإنَّ فوقها عَرْشُ الرَّحمنِ ، ومِنْهَا تُفجَّرُ أنهارُ الجنَّة » .
قوله : « نُزُلاً » : فيه ما تقدَّم : من كونه اسم مكان النزول ، أو ما يعدُّ للضَّيف ، وفي نصبه وجهان :
أحدهما : أنه خبر « كَانَتْ » و « لهُمْ » متعلقٌ بمحذوفٍ على أنَّه حالق من « نُزلاً » أو على البيان ، أو ب « كَانَتْ » عند من يرى ذلك .
والثاني : أنه حالٌ من « جنَّات » أي : ذوات نُزُلٍ ، والخبر الجارُّ .
وإذا قلنا بأنَّ النُّزل هو ما يهيَّأ للنَّازل ، فالمعنى : كانت لهم ثمارٌ جنَّات الفردوس ، ونعيمها نزلاً ، ومعنى « كَانتْ لَهُمْ » أي : في علم الله قبل أن يخلقوا .
قوله : { لاَ يَبْغُونَ } : الجملة حال : إمَّا من صاحب « خَالِدينَ » وإمَّا من الضمير في « خَالِدِينَ » فتكون حالاً متداخلة .
والحِوَلُ : قيل : مصدر بمعنى « التَّحَوُّل » يقال : حال عن مكانه حِوَلاً؛ فهو مصدر؛ كالعِوَج ، والعِوَد ، والصِّغر؛ قال : [ الرجز ]
3574- لِكُلِّ دَولةٍ أجَلْ ... ثم يُتَاحُ لهَا حِوَلْ
والمعنى : لا يطلبون عنها تحوُّلاً إلى غيرهاز
وقال الزجاج : « هو عند قومٍ بمعنى الحيلة في التنقُّل » وقال ابن عطيَّة : « والحِوَلُ : بمعنى التَّحول؛ قال مجاهد : مُتحوَّلاً » وأنشد الرَّجز المتقدم ، ثم قال : « وكأنَّه اسمُ جمعٍ ، وكأنَّ واحده حوالةٌ » قال شهاب الدين : وهذا غريبٌ ، والمشهور الأول ، والتصحيح في « فِعَلٍ » هو الكثير ، إن كان مفرداً؛ نحو : « الحِوَلِ » وإن كان جمعاً ، فالعكس؛ نحو : « ثِيرَة » و « كِبَرة » .
قوله تعالى : { قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي } الآية .
لما ذكر في هذه السورة أنواع الدَّلائل والبيِّنات ، وشرح فيها أقاصيص الأوَّلين ، نبَّه على كمال حال القرآن ، فقال : { قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي } .
قال ابن عباس : قالت اليهود : يا محمد ، تزعمُ أنّك قد أوتينا الحكمة ، وفي كتابك { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } [ البقرة : 269 ] .
ثم تقول : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 85 ] .
فأنزل الله هذه الآية .
وقيل : لمَّا نزلت : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } قالت اليهود : أوتينا التوراة ، وفيها علمُ كلِّ شيءٍ ، فأنزل الله تعالى : { قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي } .
والمِدَادُ : اسمٌ لما تمدُّ به الدَّواة من الحبرِ ، ولما يمدُّ به السِّراجُ من السَّليط ، وسمي المدادُ مداداً؛ لإمداده الكاتب ، وأصله من الزيادة .
وقال مجاهدٌ : لو كان البحر مداداً للقلم والقلم يكتب « لنفِد البَحْرُ » أي : ماؤهُ .
قوله : « تنفد » : قرأ الأخوان « يَنْفدَ » بالياء من تحت؛ لأنَّ التأنيث مجازي ، والباقون بالتاء من فوق؛ لتأنيث اللفظ ، وقرأ السلميُّ - ورويت عن أبي عمرو وعاصم - « تنفَّد » بتشديد الفاء ، وهو مطاوع « نفَّد » بالتشديد؛ نحو : كسَّرته ، فتكسَّر ، وقراءة الباقين مطاوع « أنْفَدتُّهُ » .
قوله : « ولَوْ جِئْنَا » جوابها محذوفٌ لفهم المعنى ، تقديره : لَنفِدَ ، والعامة على « مَدداً » بفتح الميم ، والأعمش قرأ بكسرها ، ونصبه على التمييز كقوله : [ الطويل ]
3575- ... فإنَّ اله!وَى يَكْفِيكهُ مثلهُ صَبْرا
وقرأ ابن مسعود ، وابن عبَّاس « مِداداً » كالأول ، ونصبه على التَّمييز ايضاً عند أبي البقاء ، وقال غيره - كأبي الفضل الرازيِّ- : إنه منصوب على المصدر ، بمعنى الإمداد؛ نحو : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] قال : والمعنى : ولو أمددناهُ بمثله إمداداً .
فصل في معنى الآية
المعنى : ولو كان الخلائقُ بكتبون ، والبَحْرُ يمدُّهم ، لنفد ما في البحر ، ولم تنفدْ كلماتُ ربِّي { وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ } أي بمثل ماء البحر في كثرته .
قوله : { مََدداً } نظيره قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله } [ لقمان : 27 ] .
واستدلُّوا بهذه الآية على أنَّها صريحةٌ في إثباتِ كلماتٍ كثيرة لله تعالى .
قال ابن الخطيب : وأصحابنا حملوا الكلماتِ على متعلِّقات علم الله تعالى .
قال الجبائيُّ : وأيضاً قوله : { قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي } يدلُّ على أنَّ كلمات الله تعالى ، قد تنفدُ في الجملة ، وما ثبت عدمهُ ، امتنع قدمهُ .
وأيضاً قال : { وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } .
وهذا يدلُّ على أنه تعالى قادر على أن يجيء بمثل كلامه ، والذي يجيءُ به يكون محدثاً ، والذي يكون المحدثُ كلامهُ فهو أيضاً محْدَثٌ .
فالجوابُ : بأنَّ المراد به الألفاظ الدَّالَّة على تعلُّقات تلك الصِّفاتِ الأزليَّة .
ولمَّا بيَّن تعالى تمام كلامه أمر محمَّداً صلى الله عليه وسلم بأن يسلك طريقة التَّواضع ، فقال : { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ } .
أي : لا امتياز بيني وبينكم في شيء من الصفات إلاَّ في أنَّ الله تعالى ، أوحى إليّ أنَّه لا إله غلاَّ هو الواحد الأحد .
قال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما- : علَّم الله - عزَّ وجلَّ - رسوله صلى الله عليه وسلم التواضع ، فأمره أن يُقرَّ ، فيقول : أنا آدميٌّ مثلكم إلاَّ أنِّي خُصِصْتُ بالوحي .
قوله : { أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ } وهو يدلُّ على مطلوبين :
أحدهما : أن كلمة « أنَّما » تفيد الحصر .
والثاني : كون الإله واحداً .
قوله : { أَنَّمَآ إلهكم } : « أنَّ » هذه مصدرية ، وإن كانت مكفوفة ب « ما » وهذا المصدر فائمٌ مقام الفاعل؛ كأنَّه قيل : إنَّما يوحى إليَّ التوحيد .
قوله : { فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ } .
الرَّجاء : هو ظنُّ المنافع الواصلة ، والخوفُ : ظنُّ المضارِّ الواصلة إليه ، فالرَّجاءُ هو الأملُ .
وقيل : معنى « يَرْجُو لقاءَ ربِّه » أي : يخاف المصير إليه ، فالرجاء يكون بمعنى الخوف ، والمل جميعاً؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
3576- فَلاَ كُلُّ مَا تَرجُو مِنَ الخَيْرِ كَائِنٌ ... ولا كَلُّ مَا تَرْجُو من الشَّرِ واقِعُ
فجمع بين المعنيين ، وأهل السُّنة حملوا لقاء الربِّ على رؤيته . والمعتزلة حملوه على لقاء ثواب الله .
قوله تعالى : { فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً } .
قرأ العامة : « ولا يُشْرِكْ » بالياء من تحتُ ، عطف نهي على أمرٍ ، ورُويَ عن أبي عمرو « ولا تُشْرِكْ » بالتاءِ من فوق؛ خطاباً على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، ثم التفت في قوله « بِعبادَةِ ربِّهِ » إلى الأول ، ولو جيء على الالتفات الثاني ، لقيل : « ربِّك » والباء سببيةٌ ، أي : بسبب . وقيل : بمعنى « في » .
فصل في ورود لفظ الشرك في « القرآن الكريم »
قال أبو العبَّاس المقري : ورد لفظ الشِّرْك « في القرآن بإزاء معنيين :
الأول : بمعنى الشِّرك في العمل؛ كهذه الآية .
الثاني : بمعنى العَدْل؛ قال تعالى : { واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } [ النساء : 36 ] . أي : ولا تعدلوا به شيئاً .
فصل في بيان الشرك الأصغر
قال - عليه الصلاة والسلام- : » أخْوَفُ مَا أخَافُ عَليْكُمُ الشِّركُ الأصْغَرُ ، قَالُوا : وما الشِّركُ الأصغر؟ قال : الرِّياءُ « .
وقال - عليه الصلاة والسلام- : » إنَّ الله تَعالَى يَقُولُ : أنَا أغْنَى الشُّركاءِ عَنِ الشِّرْكِ ، فَمنْ عَمِلَ عملاً أشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي ، فَأنَا مِنْهُ بَرِيءٌ ، وهُوَ للَّذي عَمِلهُ « .
وعن أبي الدَّرداء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : « مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أوَّلِ سُورةِ الكَهْفِ عُصِمَ مِن فِتْنَةِ الدَّجالِ » .
وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « مَنْ قَرَأ أوَّلَ سُورةِ الكَهْفِ ، كَانَتْ لَهُ نُوراً مِنْ قَدمَيْهِ إلى رأسِِ ، ومَنْ قَرَأهَا ، كَانَتْ لَهُ نُوراً مِنَ الأرْضِ إلى السَّماءِ » .
وعن سمرة بن جُنْدبٍ ، عن أبيه قال : قال النبيِّ صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ عَشْرَ آياتٍ مِنَ الكهْفِ حِفْظاً ، لَمْ يَضرَّهُ فِتْنَةُ الدَّجالِ ، ومن قَرَأ السُّورة كُلَّهَا ، دَخلَ الجنَّة » .
وعن عبد الله بن أبي فروة ، قال : إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ألا أدُلُّكمْ على سُورةٍ شيَّعها سَبْعُونَ ألفَ ملكٍ ، حِينَ نَزلَتْ ، ملأَ عِظَمُهَا مَا بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ ، ولتَالِيهَا مِثْلُ ذلِكَ؟ قالوا : بَلَى يا رسُول الله ، قَالَ : سُورَةُ الكَهْفِ مَنْ قَرَأها يَوْمَ الجُمعةِ ، غُفِرَ لهُ إلى الجُمعةِ الأخرى ، وزِيَادةِ ثَلاثةِ أيَّامٍ ، وأعْطِي نُوراً يَبْلغُ السَّماءَ ، وَوُقِيَ فِتْنةَ الدَّجالِ » .
كهيعص (1)
اعلم أنَّ حروف المُعْجمِ على نوعين : ثُنائي ، وثُلاثي ، وقد جرت العادةُ -عادةُ العرب- أن ينطقُوا بالثنائيَّات المقطوعة ممالة ، فيقولوا : بَا ، تَا ، ثَا ، وكذلك أمثالها ، وأن ينطقوا بالثلاثيَّات التي في وسطها الألف مفتوحة مشبعة ، فيقولون : دال ذال ، صاد ، ضاد ، وكذلك أشكالها .
أما الرَّازي وحدُه من بين حُروف المعجم ، فمعتادٌ فيه الأمران ، ؛ فإنَّ من أظهر ياءَه في النُّطْق حتَّى يصير ثلاثيَّا ، لم يُملُه ، ومن لم يظهر ياءه في النطق؛ حتَّى يشبه الثنائيَّ ، أماله .
واعلم أنَّ إشباع الفتحة في جميع المواضع أصلٌ ، والإمالة فرعٌ عليه؛ ولذلك يجوزُ إشباعُ كُلِّ ممالٍ ، ولا يجوز كُلُّ مُشْبَعٍ من المفتوحات .
والعامَّة على تسكين أواخر هذه الأحرفُ المقطعة ، لذلك كان بعضُ القرَّاء يقفُ على كُلِّ حرفٍ منها وقفة يسيرة كبالغة في تمييز بعضها من بعض .
وقرأ [ الحسن ] « كافُ » [ و « ها » ] وتفخيمهما ، وبعضهم يُعبِّر عن التفخيم بالضمِّ ، كما يعبِّر عن الإمالةِ بالكسر ، وإنما ذكرته؛ لأنَّ عبارتهم في ذلك مُوهمةٌ .
وأزهر دال « صاد » قبل ذالِ « ذكرُ » نافعٌ ، وابن كثير ، واعاصم؛ لن الأصل ، وأدغمها فيها الباقون .
والمشهورُ إخفاء نون « عَيْن » قبل الصَّاد؛ لأنها تقاربها ، ويشتركان في الفمِ ، وبعضها يظهرها؛ لأنها حروفٌ مقطعةٌ يقصدون تمييز بعضها من بعض .
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
قوله : { ذِكْرُ } : فيه ثلاثة أوجه :
الأول : أنه مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : فيما يتلى عليكم ذكر .
الثاني : أنه خبر محذوف المبتدأ ، تقديره : أو هذا ذكر .
الثالث : أنه خبر الحروف المقطَّعة ، وهو قول يحيى بن زياد ، قال أبو البقاء « وفيه بعدٌ؛ لأنَّ الخبر هو المبتدأ في المعنى ، وليس في الحروف المقطَّعة ذكرُ الرحمة ، ولا في ذكر الرحمة معناها » .
و « ذِكْرُ » مصدرٌ مضافٌ؛ قيل : إلى مفعوله ، وهو الرحمة في نفسها مصدرٌ أيضاً مضافٌ إلى فاعله ، و « عَبدَهُ » مفعولٌ به ، والناصبُ له نفسُ الرحمةِ ، ويكون فاعلُ الذِّكرِ غير مذكورٍ لفظاً ، والتقدير : أن ذكر الله ورحمته عبدهُ ، وقيل : بل « ذِكْرُ » مضافٌ إلى فاعله على الاتِّساع ، ويكون « عبدهُ » منصوباً بنفس الذِكْر ، والتقدير : أن ذكرت الرحمة عبدُه ، فجعل الرحمة ذاكرةً له مجازاً .
و « زكَرِيَّا » بدلٌ ، أو عطفُ بيانٍ ، أو منصوبٌ بإضمار « أعْنِي » .
وقرأ يحيى بن يعمر -ونقلها الزمخشريّ عن الحسن - « ذَكَّرَ » فعلاً ماضياً مشدداً ، و « رحمة » بالنصب على أنها مفعولٌ ثانٍ ، قدمت على الأول ، وهو « عَبْدُهُ » والفاعلُ : إما ضمير القرآن ، أو ضمير الباري تعالى ، والتقدير : أن ذكَّر القرآنُ المتلُوُّ -أو ذكَّر الله- عبده رحمتُه ، أي : جعل العبد يذكرُ رحمته ، ويجوز على المجازِ المتقدِّم أن « رحمةَ ربِّك » هو المفعول الأول ، والمعنى : أنَّ الله جعل الرحمة ذاكرةً للعبد ، وقيل : الأصلُ : ذكَّر برحمةِ ، فلما انتزع الجارُّ نصب مجروره ، ولا حاجة إليه .
وقرأ الكلبيُّ « ذكر » بالتخفيف ماضياً « رَحْمَةَ » بالنصب على المفعول به ، « عَبْدُهُ » بالرفع فاعلاً بالفعل قبله ، « زَكريَّا » بالرفع على البيان ، أو البدل ، أو على إضمار مبتدأ ، وهو نظيرُ إضمار الناصب في القراءة الأولى .
وقرأ يحيى بن يعمر -فيما نقله عنه الدَّاني- « ذَكَّرْ » فعل أمرٍ ، « رَحْمَةَ » و « عَبْدهُ » بالنصب فيهما على أنهما مفعولان ، وهما على ما تقدَّم من كون كلِّ واحدٍ ، يجوز أن يكون المفعول الأول ، أو الثاني ، بالتأويلِ المتقدّم في جعل الرحمة ذاكرةً مجازاً .
فصل في تأويل هذه الحروف المقطعة
قال ابنُ عباسٍ : هذه الحروف اسم من أسماء الله تعالى ، وقال قتادةُ : اسمٌ من أسماء القرآن .
وقيل : اسمٌ للسُّورة .
وقيل : هو قسمٌ أقسم الله به ويروى عن سعيد بن جبيرٍ ، عن ابن عباس في قوله { كهيعص } قال : الكافُ من كريم وكبير ، والماء من هاد ، والياء من رحيم والعين من عليهم ، وعظيم ، والصاد من صادق .
وعن ابن عبَّاس أيضاً أنَّه حمل الياء على الكريم مرَّة ، وعلى الحكيم أخرى .
وعن ابن عباس في العين أنَّه من عزيز من عدل . قال ابنُ الخطيب : وهذه أقوالٌ ليست قويَِّة؛ لأنَّه لا يجوزُ من الله تعالى أن يودعَ كتابهُ ما لا تدلُّ عليه اللغةُ ، لا بالحقيقةِ ، ولا بالمجازِ ، لأنَّا إن جوَّزنا ذلك ، فتح علينا بابُ قول من يزعم أنَّ لكلِّ أولي من دلالته على الكريم ، والكبير ، أو على اسم آخر من أسماء الرَّسُول -عليه الصلاة والسلام- أو الملائكة ، أو الجنَّة ، أو النَّار ، فيكون حملها على بعضها دون البعض تَحَكُّماً .
فصل في المراد بقوله تعالى : { رَحْمَةِ رَبِّكَ }
يحتملُ أن يكون المراد من قوله { رَحْمَةِ رَبِّكَ } أنه عنى عبدهُ زكريَّا ، ثم في كونه رحمة وجهان :
أحدهما : أن يكون « رحْمة » على أمَّته؛ لأنَّه هداهُم إلى الإيمان والطَّاعة .
والثاني : أن يكون رحمة على نبيِّنا محمد -عليه الصلاة والسلام- وعلى أمَّته؛ لأنَّ الله تعالى ، لمَّا شرع لمحمَّد صلى الله عليه وسلم طريقتهُ في الإخلاص والابتهال في جميع الأمور إلى الله تعالى ، وصار ذلك لطفاً داعياً له ، ولأمَّته إلى تلك الطريقة زكريَّا رحمة .
ويحتمل أن يكون المرادُ أنَّ هذه السُّورة فيها ذكرُ الرحمة التي يرحمُ بها عبدُه زكريَّا .
قوله : { إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً } .
في ناصب إذ ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّهُ « ذِكْرُ » ، ولم يذكُر الحوفيُّ غيره .
والثاني : أنَّه « رَحْمَة » وقد ذكر الوجهين أبو البقاء .
والثالث : أنَّه بدلٌ من « زكريَّا » بدل ُ اشتمالٍ؛ لأنَّ الوقت مشتملٌ عليه ، وسيأتي مثلُ هذا عند قوله { واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ } [ مريم : 16 ] ونحوه .
فصل في أدب زكريا في دعائه
راعى سُنَّة الله في إخفاء دعوته؛ لأنَّ الجهر والإخفاء عند الله سيَّان ، وكان الإخفاء أولى؛ لأنَّه أبعد عن الرِّياء ، وأدخلُ في الإخلاص .
وقيل : أخفاه؛ لئلاَّ يلامُ على طلبِ الولدِ في زمان الشيخوخة وقيل : أسرَّهُ من مواليه الذين خافهم .
وقيل : خِفْتُ صوتهُ؛ لضعفه ، وهرمه ، كما جاء في صفةِ الشَّيْخ : صوتهُ خفاتٌ ، وسمعهُ تارات . فإن قيل : من شرط النِّداء الجهر ، فكيف الجمع بين كونه نداء وخفيًّ؟ .
فالجوابُ من وجهين :
الأول : أنَّه أتى بأقصى ما قدر عليه من رفع الصوت؛ إلا أنَّ صوته كان ضعيفاً؛ لنهايةِ ضعفه بسببِ الكبر ، فكان نداءً؛ نظراً إلى القصد ، خفيًّا نظراً إلى الواقع .
الثاني : أنَّه دعاه في الصَّلاة؛ لأنَّ الله تعالى ، أجابه في الصَّلاة؛ لقوله تعالى : { فَنَادَتْهُ الملاائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ } [ آل عمران : 39 ] فتكُون الإجابةُ في الصَّلاة تدلُّ على كون الدُّعاء في الصّلاة؛ فوجب أن يكون النداءُ فيها خفيًّا .
وفي التفسير : « إذْ نَادَى » : دعا « ربَّه » في محرابِهِ .
قوله : { نِدَآءً خَفِيّاً } دعا سرًّا من قومه في جوف الليل .
قوله : { قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي } الآية .
قوله : { قَالَ رَبِّ } : لا محلَّ لهذه الجملةِ؛ لأنها تفسير لقوله « نَادَى ربَّهُ » وبيانٌ ، ولذلك ترك العاطف بينهما؛ لشدَّة الوصل .
قوله : « وهَنَ » العامَّةُ على فتحِ الهاء ، وقرأ الأعمشُ بكسرها ، وقُرئ بضمِّها ، وهذه لغاتٌ في هذه اللفظة ، ووحَّد العظم لإرادة الجنس؛ يعني : أنَّ هذا الجنسَ الذي هو عمودُ البدنِ ، وأشدُّ ما فيه ، وأصلبه ، قد أصابه الوهنُ ، ولو جمع ، لكان قصداً آخر : وهو أنه لم يهن منه بعضُ عظامه ، ولكن كلُّها ، قاله الزمخشريُّ ، وقيل : أطلقَ المفردُ ، والمرادُ به الجمعُ؛ كقوله : [ الطويل ]
3577- بِهَا جِيفَ الحَسْرَى فأمَّا عِظَامُهَا ... فبِيضٌ وأمَّا جِلْدُها فصليبُ
أي : جلودُها ، ومثله : [ الوافر ]
3578- كُلُوا في بعضِ بَطْنكمُ تَعِفُّوا ... فإنَّ زمانَكُم زمنٌ خَمِيصُ
أي : بُطُونكُمْ .
و « مِنِّي » حالٌ من « العَظْم » وفيه ردٌّ على من يقول : إنَّ الألف واللام تكونُ عوضاً من الضمير المضافِ إليه؛ لأنه قد جمع بينهما هنا ، وإن كان الأصل : وهن عظمي ، ومثله في الدَّلالةِ على ذلك ما « أنشد شاهداً على ما ذكرتُ : [ الطويل ]
3579- رَحِيبٌ قِطَابُ الجَيْبِ مِنْهَا رفيقةٌ ... بجَسِّ النَّدامَى بضَّةُ المُتَجَرِّدِ
ومعنى { وَهَنَ العظم مِنِّي } : ضعف ، ورقَّ العظم من الكبر .
فصل
قال قتادة : اشتكى سُقُوط الأضراس .
قوله : { واشتعل الرأس شَيْباً } أي : ابْيَضَّ شعر الرَّأس شيباً .
وفي نصب » شَيْباً « ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها -وهو المشهور- : أنه تمييزٌ منقولٌ من الفاعلية؛ إذ الأصل : اشتعل شيبُ الرَّأسِ ، قال الزمخشريُّ : » شبَّه الشَّيب بشُواظِ النَّار في بياضهِ ، وانتشاره في الشَّعْر ، وفُشُوِّه فيه ، وأخذه منه كُلُّ مأخذٍ باشتعالِ النَّار ، ثم أخرجه مخرج الاستعارةِ ، ثم أسند الاشتعال إلى مكانِ الشِّعْر ، ومنبته ، وهو الرَّأسُ ، وأخرج الشَّيب مُمَيَّزاً ، ولم يَضفِ لها بالبلاغةِ « انتهى ، وهذا من استعارة محسُوسٍ لمحسُوسٍ ، ووجه الجمع : الانبسَاطُ والانتشَارُ .
والثاني : أنه مصدرٌ على غيرِ الصَّدْرِ ، فإنَّ » اشْتَعَلَ الرَّأسُ « معناه » شَابَ « .
الثالث : أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحالِ ، شاَئِباً ، أو ذا شيب .
وأدغم السِّين في الشِّين أبو عمرٍ .
وقوله : » بِدُعائِكَ « فيه وجهان :
أحدهما : أنَّ المصدر مضافٌ لمفعوله ، أي : بُدعائي إيَّاك .
والمعنى : عوَّدتني الإجابة فيما مضى ، ولم تُخَيِّبْنِي .
والثاني : أنه مضافٌ لفاعله ، أي : لم أكن بدعائك لي إلى الإيمان شقيَّا ، أي : لما دعوتني إلى الإيمان ، آمنتُ ، ولم أشق .
قوله : { وَإِنِّي خِفْتُ الموالي } : العامَّةُ على » خِفْتُ « بكسر الخاء ، وسكون الفاء ، وهو ماضٍ مسندٌ لتاءِ المتكلِّم ، و » الموالِي « مفعولٌ به؛ بمعنى : أنَّ مواليهُ كانُوا شِرَارَ بني إسرائيل ، فخافهم على الدِّين ، قاله الزمخشريٌُّ .
قال أبو البقاء : » لا بُدَّ من حذفِ مضافٍ ، أي : عدم الموالي ، أو جَوْرَ الموالي « .
وقال الزهريُّ كذلك ، إلا انه سكَّن ياء » المَوالِي « وقد تقدّضمَ أنَّه قد تُقدَّر الفتحةُ في الياء ، والواو ، وعليه قراءة زيد بن عليٍّ { تُطْعِمُونَ أَهالِيكُمْ } [ المائدة : 89 ] .
وتقدَّم إيضاحُ هذا .
وقرأ عثمانُ بنُ عفَّان ، وزيدُ بن ثابت ، وابن عبَّاس ، وسعيد بن جبير ، وسعيد بن العاص ، ويحيى بنُ يعمر ، وعليُّ بنُ الحسبن في آخرين : « خَفَّتِ » بفتحِ الخاءِ ، والفاءِ مشددةً ، وتاء تأنيثٍ ، كُسرتْ؛ لالتقاءِ السَّاكنين ، و « المَوالِي » فاعلٌ به؛ بمعنى : دَرَجُوا ، وانقرضُوا بالموتِ .
قوله : « مِنْ وَرَائِي » هذا متعلِّقٌ في قراءة الجمهور بما تضمَّنَهُ الموالي من معنى الفعلِ ، أي : الذين يلون الأمْرَ بعدي ، ولا يتعلَّق ب « خَفَّتِ » بالتشديد ، فيتعلَّق يُرَادَ ب « وَرَائِي » معنى : خَلْفِي ، وبَعْدِي ، وأمَّا في قراءةِ « خَفَّتِْ » بالتشديد ، فيتعلَّق الظَّرْفُ بنفس الفعل ، ويكونُ « وَرَائِي » بمعنى قُدَّامي ، والمعنى : أنهم خفُّوا قدَّامهُ ، ودرجُوا ، ولم يبق منهم من به تقوٍّ واعتضادٌ ، ذكر هذين المعنيين الزمخشريُّ .
والمَوالِي : بنُو العمِّ يدلُّ على ذلك تفسيرُ الشَّاعر لهم بذلك في قوله : [ البسيط ]
3580- مَهْلاً ، بَنِي عمِّنَا؛ مَهْلاً موالينَا ... لا تَنْبُشُوا بَيْننا ما كان مَدْفُوناً
وقال آخر : [ الوافر ]
3581- ومَوْلى قد دفعتُ الضَّيْمَ عَنْهُ ... وقَدْ أمْسَى بمنزلةِ المَضِيمِ
وهو قولُ الأصمِّ .
وقال مجاهدٌ : العَصَبَة .
وقال أبو صالحٍ : الكلالة .
وقال ابنُ عبَّاس والحسن والكلبيُّ : الورثة .
وعن أبي مسلمٍ : المولى يرادُ به النَّاصرُ ، وابن العمِّ ، والممالك ، والصَّاحب ، وهو هنا من يقُوم بميراثه مقام الولد ، والمختار ، أنَّ المراد من الموالي الذين يخلفُون بعده ، إما في السِّياسة ، أو في المال ، أو في القيام بأمر الدِّين؛ وهو يدلُّ على معنى القُرْبِ والدُّنوِّ ، ويقالُ : وليته اليه ولْياً ، أي : دَنَوتُ منهُ ، وأوليْتُهُ إيَّاهُ ، وكُل ممَّا يليكَ ، وجلستُ ممَّا يليهِ ، ومنهُ الوَلْيُ ، وهو المطرُ الذي يلي الوسميَّ ، والوليَّة : البرذعةُ [ الَّتي ] تلي ظهْر الدَّابَّة ، ووليُّ اليتيم ، ووليُّ القتيل؛ لأنَّ من تولَّى أمراً ، فقد قرُبَ منه .
وقوله تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } [ البقرة : 144 ] من قولهم : ولاه بركنه ، أي جعله ما يليه ، وأما ولَّى عنِّي ، إذا أدبر ، فهو من باب تثقيل الحشو للسلْب ، وقولهم : فلان أولى من فلان ، أي : أحق؛ أفعل التفضيل من الوالي أو الولي ، كالأدنى ، والأقرب من الدَّاني ، والقريب ، وفيه معنى القرب أيضاً؛ لأنَّ من كان أحقَّ بالشيء ، كان أقرب إليه ، والمولى : اسمٌ لموضعِ الولي ، مالمرمى والمبنى : اسمٌ لموضعِ الرَّمي والبناءِ .
والجمهورُ على « وَرَائِي » بالمدِّ ، وقرأ ابنُ كثير -في رواية عنه- « وَرَايَ » بالقصر ، ولا يبعدُ ذلك عنه ، فإنه قد قصر { شُرَكَايَ } [ النحل : 27 ] في النَّحل؛ كما تقدَّم ، وسيأتي أنَّه قرأ { أَن رَّآهُ استغنى } في العلق [ الآية : 7 ] ؛ كأنه كان يُؤْثِرُ القصْر على المدِّ؛ لخفَّته ، ولكنَّه عند البصريين لا يجوزُ سعةً .
قوله : { وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً } أي : لا تَلِدُ ، والعَقْرُ في البدن : الجُرح ، وعقرتُ الفرس بالسَّيف ، ضربتُ قوائِمهُ .
قوله « مِنْ لدُنْكَ » يجوز أن يتعلق ب « هَب » ويجوزُ أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه حال من « وليًّا » لأنه في الأصل صفةٌ للنكِرةِ ، فقُدِّم عليها .
{ يَرِثُنِي وَيَرِثُ } : قرأ أبو عمرو ، والكسائيُّ بجزم الفعلين على أنَّهما جوابٌ للأمر؛ إذ تقديره : إن يهبْ ، والباقون برفعهما؛ على انَّهما صفةٌ ل « وليًّا » .
وقرأ عليٌّ -رضي الله عنه- وابنُ عبَّاسٍ ، والحسن ، ويحيى بن يعمر ، والجحدريُّ ، وقتادةُ في آخرين : « يَرِثُنِي » بياء الغيبة ، والرَّفع ، وأرثُ مسنداً لضمير المتكلِّم .
فصل فيما قرئ به من قوله : { يَرِثُنِي وَيَرِثُ }
قال صاحب « اللَّوامح » : « في الكلام تقديم وتأخيرٌ؛ يرثُ نُبُوَّتِي ، إنْ منُّ قبلهُ وأرِثُ مالهُ ، إن مات قبلي » . ونُقِلَ هذا عن الحسن .
وقرأ عليٌّ أيضاً ، وابنُ عبَّاس ، والجحدريُّ « يَرِثُني وارثٌ » جعلوه اسم فاعلٍٍ ، أي : يَرثُنِي به وارثٌ ، ويُسَمَّى هذا « التجريد » في علم البيان .
وقرأ مجاهدٌ « أوَيْرِثٌ » وهو تصغيرُ « وارِثٍ » والأصل : « وُوَيْرِثٌ » بواوين ، وجب قلبُ أولاهما همزة؛ لاجتماعهما متحركين أول كلمةٍ ، ونحو « أوَيْصِلٍ » تصغير « واصلٍ » والواوُ الثانيةُ بدلٌ عن ألفِ « فاعلٍ » و « أوَيْرِثٌ » مصروفٌ؛ لا يقال : ينبغي أن يكون غير مصروفٍ؛ لأنَّ فيه علتين : الوصفيَّة ، ووزن الفعل ، فإنه بزنة « أبَيْطِر » مضارع « بَيْطَرَ » وهذا ممَّا يكون الاسم فيه منصرفاً في التكبير ممتنعاً في التصغير ، لا يقالُ ذلك لأنه غلطٌ بيِّنٌ؛ لأنَّ « أوَيْرِثاً » وزنه فُويْعِلٌ ، لا أفَيْعلٌ؛ بخلاف « أحَيْمِر » تصغير « أحْمَرَ » .
وقرأ الزهريُّ : « وارثٌ » بكسر الواو ، ويعنون بها الإمالة .
قوله : « رَضِيًّا » مفعولٌ ثانٍ ، وهو فعيلٌ بمعنى فاعلٍ ، وأصله « رَضِيوٌ » لأنه من الرِّضوان .
فصل
معنى قوله : { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } أعطني من أبناء .
واعلم أنَّ زكريَّا -عليه السلام- قدَّم السؤال؛ لأمور ثلاثة :
الأول : كونه ضعيفاً .
والثاني : أن الله تعالى ما ردَّ دعاءه .
والثالث : كونُ المطلُوب سبباً للمنفعة في الدِّين ، ثم بعد ذلك صرَّح بالسُّؤال .
أمَّا كونه ضعيفاً ، فالضَّعيف : إمَّا أن يكون في الباطن ، أو في الظَّاهر ، والضَّعْف في الباطن أقوى من ضعف الظَّاهر ، فلهذا ابتدأ ببيان ضعف الباطن ، فقال : { وَهَنَ العظم مِنِّي } وذلك لأنَّ العظم أصلبُ أعضاء البدن ، وجعل كذلك المنتفعين :
الأولى : ليكون أساساً وعمداً يعتمد عليها بقيَّة الأعضاء؛ لأنَّها موضوعة على العظام ، والحاملُ يجبُ أن يكون أقوى من المحمول عليه .
الثاني : أنَّها في بعض المواضع وقاية لغيرها .
واحتج أصحابُ القول الأوَّل أنَّه إذا . . . أوّلاً ، ثم ردَّ بأنها تكونُ كغيرها من الأعضاء كعظام الصَّلف وقحف الرأس ، وما كان كذلك ، فيجبُ أن يكون صلباً؛ ليصبر على ملاقاة الآفاتِ ، ومتى كان العظم حاملٌ لسائر الأعضاء ، فوصولُ الضعف إلى الحامل موجبٌ لوصوله إلى المحمول ، فلهذا خصَّ العظم بالوهْنِ من بين سائر الأعضاء .
وأما ضعف الظاهر ، فلاستيلاء ضعف الباطن عليه ، وذلك ممَّا يزيدُ الدُّعاء تأكيداً؛ لما فيه من الارتكان على حول الله وقوته .
وأما كونهُ غير مردُود الدُّعاءِ ، فوجه توسله به من وجهين :
الأول : أنَّه إذا قبله أوَّلاً ، فلو ردَّه ثانياً ، لكان الردُّ محبطاً للإنعام الأول ، والمنعم لا يسعى في إحباط إنعامه .
والثاني : أنَّ مخالفة العادةِ تشقُّ على النَّفس ، فإذا تعوَّد الإنسانُ إجابة الدُّعاء ، فلو ردَّ بعد ذلك ، لكان ذلك في غاية المشقَّة ، والجفاء ممن يتوقع منه الإنعام يكون أشقَّ ، فكأنَّ زكريَّا -عليه السلام- قال : إنك إن رددَتَّنِي بعدما عودتَّني القُبول مع نهايةِ ضعفي ، كان ذلك بالغاً إلى النِّهاية القصوى في [ ألم ] القلب ، فقال : { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً } .
تقولُ العربُ : سعد فلانٌ بحاجته : إذا ظَفِر بها ، وشَقِي بها : إذا خَابَ ، ولم [ يَبْلُغْهَا ] .
وأمَّا كون المطلُوب منتفعاً به في الدِّين ، فهو قوله : { وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي } .
فصل في اختلافهم في المراد من قوله : { خِفْتُ الموالي }
قال ابن عباس والحسن : الموالي : الورثة وقد تقدم .
واختلفوا في خوفه من الموالي ، فقيل : خافهم على إفساد الدِّين .
وقيل : خاف أن ينتهي أمرُه إليهم بعد موته في مالٍ ، وغيره ، مع أنَّه عرف من حالهم قصورهم في العلم والقدرة عن القيام ببعضه .
وقيل : يحتمل أن يكون الله قد أعلمه أنَّه لم يبقَ من أنبياء إسرائيل نبيٌّ له أبٌ إلاَّ نبيٌّ واحدٌ ، فخاف أن يكون ذلك الواحدُ من بَني عمِّه ، إذا لم يكن له ولدٌ ، فسأل الله أن يهب له ولداً ، يكونُ هو ذلك النبيِّ ، والظاهرُ يقتضي أن يكون خائفاً في أمر يهتمُّ بمثله الأنبياء ولا يمتنع أن يكون زكريَّا كان إليه مع النبوة الربانيَّة من جهة الملك؛ فخاف منهم بعده على أحدهما أو عليهما .
وقوله : « خِفْتُ » خرج على لفظ أصل الماضي ، لكنه يفيد أنه في المستقبل أيضاً؛ كقول الرجل : قد خفتُ أن يكون كذا ، أي : « أنَا خَائِفٌ » لا يريدُ أنه قد زال الخوف عنه .
قوله : { وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً } أي : أنَّها عاقرٌ في الحال؛ لأنَّ العاقر لا يجوزُ [ أن تحبل في العادة ] ، ففي الإخبار عنه بلفظ الماضي إعلامٌ بتقادُمِ العهد في ذلكَ ، والغرضُ من هذا بيانُ استبعاد حصول الولدِ ، فكان إيرادهُ بلفظ الماضِي أقوى ، وأيضاً : فقد يوضعُ الماضي ، أي : مكان المستقبل ، وبالعكس؛ قال الله تعالى : { وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين } [ المائدة : 116 ] .
وقوله : { مِن وَرَآئِي } قال أبو عبيدة : من قُدَّامي ، وبين يديَّ .
وقال آخرون : بعد موتي .
فإن قيل : كيف علم حالهم من بعده ، وكيف علم أنَّهُمْ يقون بعده ، فضلاً عن أن يخاف شرَّهم؟ .
فالجوابُ : أنه قد يعرفُ ذلك بالأمارات والظنّ في حصول الخوف ، وربما عرف ببعض الأمارات استمرارهم على عادتهم في الفساد .
وقوله : { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } الأكثر على أنه طلب الولد ، وقيل : بل طلب من يقُوم مقامه ، ولداً كان ، أو غيره .
والأول أقربُ؛ لقوله تعالى في سورة آل عمران؛ حكاية عنه { رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } [ آل عمران : 38 ] .
وأيضاً : فقوله ها هنا « يَرُثُنِي » يؤيِّده .
وأيضاً : يؤيِّده قوله تعالى في سورة الأنبياء : { وَزَكَرِيَّآ إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً } [ الأنبياء : 89 ] فدلَّ على أنَّه سأل الولد؛ لأنَّه أخبر ها هنا أنَّ له مواليَ ، وأنَّه غيرُ منفردٍ عن الورثةِ ، وهذا إن أمكن حمله على وارثٍ يصلح أن يقوم مقامه ، لكنَّ حمله على الولد اظهرُ .
واحتجَّ أصحابُ القول [ الثالث ] بأنَّه لما بشِّر بالولد ، استعظمه على سبيل التعجُّب؛ وقال « أنَّى يكونُ لِي غلامٌ » ولو كان دعاؤُه لطلب الولد ، ما استعظم ذلك .
وأجيبَ بأنَّه -عليه السلام- سأل عمَّا يوهب له ، أيوهبُ له هو وامرأتهُ على هيئتهما؟ أو يوهبُ له بأن يُحَوَّلا شابَّيْن ، يُولد لمثلهما؟! وهذا يُحْكَى عن الحسن .
وقيل : إنَّ قول زكريَّا -عليه السلام- في الدُّعاء « وكَانتِ امْرَاتِي عاقراً » إنما سأل ولداً من غيرها أو منها؛ بأن يصلحها الله تعالى للولدِ ، فكأنَّه -عليه السلام- قال : أيسْتُ أن يكون لي منها ولدٌ ، فهبْ لي من لدنك وليًّا ، كيف شئت : إمَّا بأن تصلحها للولادةِ ، وإمَّا أن تهبهُ لي من غيرها ، فلمَّا بُشِّر بالغلام ، سأل أن يرزق منها ، أو من غيرها ، فأخبر بأنه يرزقه منها .
فصل في المراد بالميراث في الآية
واختلفُوا ما المرادُ بالميراثِ ، فقال ابنُ عبَّاس ، والحسنُ ، والضحاك : وراثةُ المالِ في الموضعين .
وقال أبو صالح : وراثةُ النبوَّةِ .
وقال السديُّ ، ومجاهدٌ ، والشعبيُّ : يَرِثُنِي المال ، ويرثُ من آل يعقوب النبوّة .
وهو مرويٌّ أيضاً عن ابن عباس ، والحسن ، والضحاك .
وقال مجاهدٌ : يرِثُنِي العلم ، ويرثُ من آل يعقُوب النبوَّة . واعلم انَّ لفظ الإرث يستعملُ في جميعها : أمَّا في المال فلقوله تعالى : { وَأَوْرَثْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب } [ غافر : 53 ] .
وقال -عليه الصلاة والسلام- : « العُلماءُ ورثةُ الأنبياءِ ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُوَرِّثُوا ديناراً ولا دِرْهَماً ، وإنَّما ورَّثُوا العِلْمَ » .
وقال تعالى : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } [ النمل : 16 ] وهذا يحتملُ وراثة الملك ، ووارثة النبوَّة ، وقد يقال : أورثَنِي هذا غمًّا وحزناً .
فصل في أولي ما تحمل عليه الآية
قال الزَّجاج : الأولى أن يحمل على ميراث غير المال؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام- : « نَحْنُ معاشِرَ الأنبياءِ -لا نُورَثُ ، مَا تَرَكْنَا صدقةٌ » ولأنه يبعدُ أن يشفق زكريَّا -وهو نبيٌّ من الأنبياء- أن يرث بنُو عمِّه مالهُ .
والمعنى : أنه خاف تضييع بني عمِّه دين الله ، وتغيير أحكامه على ما كان شاهدُه من بني إسرائيل من تبديل الدِّين ، وقتل من قُتل من الأنبياء ، فسأل ربَّه وليًّا صالحاً يأمنُه على أمَّته ، ويرثُ نُبوَّته وعلمه؛ لئلاَّ يضيع الدِّين .
قوله : { وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } ؛ الآلُ : خاصَّةُ الرجل الذي يئول أمرهم إليه ، ثم قد يئوُل أمرهم إليه لقرابةِ المقربين تارةً؛ وبالصحابة أخرى؛ كآل فرعون ، وللموافقة في الدِّين؛ كآل النبيَّ -عليه الصلاة والسلام- .
وأكثر المفسِّرين على أنَّ يعقوب هنا : هو يعقوبُ بنُ إسحاق بن إبراهيم -عليه السلام- لأنَّ زوجة زكريَّا -عليه السلام- هي أختُ مريم ، وكانت من ولد سليمان بن داود من ولد يهوذا بن يعقوب ، وأمَّا زكريا -عليه السلام- فهو من ولد هارون أخي موسى ، وهارون وموسى من ولد لاوي بن يعقوب بن إسحاق ، وكانت النبوة في سِبْط يعقوب؛ لأنَّه هو إسرائيلُ -عليه السلام- .
وقال بعضُ المفسِّرين : ليس المرادُ من يعقوب هاهنا ولد إسحاق بن إبراهيم ، بل يعقُوب بن ماثان ، [ أخو عمران بن ماثان ] ، وكان آلُ يعقوب أخوال يحيى بن زكريَّا ، وهذا قولُ الكلبيِّ ومقاتل .
وقال الكلبيُّ : كان بنُو ماثان رُءوس بني إسرائيل ومُلُوكهُم ، وكان زكريَّا رئيس الأحبار يومئذٍ ، فأراد أن يرثه حُبُورته ، ويرث بنو ماثان ملكهم .
فصل في تفسير « رضيًّا »
اختلفوا في تفسير « رَضِيًّا » فقيل : برًّا تقيًّا مرضيًّا .
وقيل : مرضيًّا من الأنبياء ، ولذلك استجاب الله له؛ فوهب له يحيى سيِّداً ، وحصُوراً ، ونبيًّا من الصَّالحين ، لم يعصِ ، ولم يهم بمعصية .
وقيل : « رَضِيًّا » في أمَّته لا يتلقَّى بالتَّكذيب ، ولا يواجهُ بالرَّدِّ .
فصل في الاحتجاج على خلق الأفعال
احتجوا بهذه الآية على مسألة خلق الأفعال؛ لأنَّ زكريَّا -عليه السلام- سأل الله تعالى أن يجعله رضيًّا؛ فدلَّ على أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى .
فإن قيل : المرادُ : أن يلطف به بضُرُوب الألطاف فيختار ما يصير به رضيًّا عنده ، فنسب ذلك إلى الله تعالى .
فالجوابُ من وجهين :
الأول : لو حملناه على جعل الألطاف ، وعندها يصير إليه المرء باختياره رضيًّا؛ لكان ذلك مجازاً ، وهو خلافُ الأصل .
الثاني : أنَّ جعل تلك الألطاف واجبةً على الله تعالى ، لا يجوزُ الإخلال به ، وما كان واجباً لا يجوزُ طلبهُ بالدُّعاء والتضرُّع .
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
قوله : { يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ } .
اختلفُوا في المنادي ، فالأكثرون على أنَّه هو الله تعالى؛ لأنَّ زكريَّا إنَّما كان يخاطبُ الله تعالى ، ويسأله بقوله : { رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي } ، وبقوله : { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً } وبقوله : « فهب لي » ، وبقوله بعده : { أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } ، فوجب أن يكون هذا النداءُ من الله تعالى ، وإلاّ لفسد [ المعنى و ] النَّظْم ، وقيل : هذا النداءُ من الملكِ؛ لقوله : { فَنَادَتْهُ الملاائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى } [ آل عمران : 39 ] .
وأيضاً : فإنه لمَّا قال : { عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } [ مريم : 8 ، 9 ] .
وهذا لا يجوزُ أن يكونَ كلام الله؛ فزجب أن يكون كلام الملكِ .
ويمكنُ أن يجاب بأنه يحتملُ أنَّه يحصل النداءان : نداءُ الله تعالى ، ونداءُ الملائكة .
ويمكنُ أن يكون قوله : { قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ } من كلام الله تعالى ، كما سيأتي ببيانه -إن شاء الله تعالى- .
[ في ] الكلام اختصار ، تقديره : استجاب الله دعاءهُ ، فقال : { يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ } : بولدٍ ، ويقال : زكريَّا « بالمد والقصر » ، ويقال : زكرَى أيضاً ، نقله ابن كثيرٍ .
فإن قيل : كان دعاؤهُ بإذنٍ ، فما معنى البشارة؟ وإن كان بغير إذنٍ؛ فلماذا أقدم عليه؟ .
فالجوابُ : يجوز أن يسأل بغير إذن ، ويحتمل أنَّه أذن له فيه ، ولم يعلمْ وقته ، فبُشِّر به .
قوله : « يَحْيَى » : فيه قولان :
أحدهما : أنه اسمٌ أعجميٌّ ، لا اشتقاق له ، وهذا هو الظاهرُ ، ومنعهُ من الصَّرف؛ للعلميَّة والعجمةِ ، وقيل : بل هو منقولٌ من الفعلِ المضارعِ ، كما سمَّوا ب « يَعْمُرَ » و « يعيشَ » و « يَمُوتَ » وهو يموت بنُ المُزرَّع .
والجملة من قوله : « اسْمُهُ يَحْيى » في محلِّ جرِّ صفة ل « غُلام » وكذلك « لم نجعلْ » و « سَمِيًّا » كقوله : « رَضيًّا » إعراباً وتصريفاً ، لأنَّه من السُّمُوِّ ، وفيه دلالةٌ لقول البصريين : أن الاسم من السموِّ ، ولو كان من الوسم ، لقيل : وسيماً .
فصل
قال ابن عباسٍ ، والحسنُ ، وسعيدُ بنُ جبيرٍ ، وعكرمةُ ، وقتادةُ : إنَّه لم يسمَّ أحدٌ قبله بهذا الاسم .
وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ ، وعطاء : لم نجعل له شبهاً ومثلاً؛ لقوله تعالى : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [ مريم : 65 ] أي : مثلاً .
والمعنى : أنه لم يكن له مثلٌ؛ لأنَّهُ لم يعصِ ، ولم يهُمَّ بمعصية قط؛ كأنَّه جواب لقوله { واجعله رَبِّ رَضِيّاً } فقيل له : إنَّا نُبشِّرُكَ بغلامٍ ، لم نجْعل له شبيهاً في الدِّين ، ومنْ كان كذلك ، كان في غايةِ الرضا .
وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّه يقتضي تفضيلُه على الأنبياءِ قبله؛ كآدَمَ ، ونوحٍ ، وإبراهيم ، وموسى ، [ وعيسى ] ؛ وذلك باطلٌ .
وقيل : لم يكن له مثلٌ في أمر النِّساء؛ لأنَّه كان سيِّداً وحصوراً .
وقال عليٌّ بنُ أبي طلحة ، عن ابن عبَّاس : لم تَلدِ العواقرُ مثلهُ ولداً . وقيل : لأنَّ كُلَّ الناس ، إنما يُسمُّونهم آباؤهم وأمهاتهم بعد دخولهم في الوجود ، وأما يحيى فإنَّ الله سمَّاه قبل دخوله في الوجود ، فكان ذلك من خواصِّه .
وقيل : لأنَّه ولدُ شيخٍ ، وعجوزٍ عاقرٍ .
فصل في سبب تسميته بيحيى
واختلفُوا في سبب تسميته بيحيى ، فعن ابن عبَّاس : لأنَّ الله أحيا به عقر أمه ، ويرد على هذا قصَّة إبراهيم ، وزوجته ، قالت : { ياويلتا أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً } [ هود : 72 ] فينبغي أن يكون اسمُ ولدهم يحيى .
وعن قتادة : لأنَّ الله تعالى أحيا قلبهُ بالإيمانِ والطَّاعة ، والله تعالى سمَّى المطيعَ حيًّا ، والعاصِيَ ميِّتاً؛ بقوله : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } [ الأنعام : 122 ] .
وقال : { إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 24 ] .
وقيل : لأنَّ الله تعالى أحياه بالطَّاعة؛ حتى لم يعص ، ولم يهُمَّ بمعصيةٍ .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ما مِنْ أحدٍ إلاَّ وقد عَصَى ، أو هَمَّ إلاَّ يحيى بنُ زكريَّا ، فإنَّه لَمْ يهُمَّ ولَمْ يَعْملهَا » وفي هذا نظر؛ لأنه كان ينبغي أن تسمى النبياء كلهم والأولياء ب « يحيى » .
وقال ابن القاسم بن حبيب : لأنه استشهد ، والشهداء أحياء عند ربهم ، قال تعالى : { بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ } [ آل عمران : 169 ] وفي ذلك نظر؛ لأنه كان يلزم منه أن يُسَمَّى الشهداءُ كلُّهم بيَحْيَى .
وقال عمرو بنُ المقدسيِّ : أوحى الله تعالى ، إلى إبراهيم -عليه السلام- أنه قُلْ لسارَّة بأنِّي مخرجٌ منها عبداً ، لا يَهُمُّ بمعصيةٍ اسمه حيى ، فقال : هَبِي لهُ من اسمكِ حرفاً ، فوهبته حرفاً من اسمها ، فصار يَحْيَى ، وكان اسمُها يسارة ، فصار اسمها سارة .
وقيل : لأنَّ يحيى أوَّلُ من آمن بعيسى ، فصار قلبه حبًّا بذلك الإيمانِ .
وقيل : إنَّ أمَّ يحيى كانت حاملاً به ، فاستقبلتها مريم ، وقد حملت بعيسى ، فقالت لها أمُّ يحيى : يا مريمُ ، أحاملٌ أنت؟ فقالت : لم تقولين؟ فقالت : أرى ما في بطني يسجُد لما في بطنك .
قوله : { قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } أي : مِنْ أين يكُون لي غرمٌ ، والغلامُ : هو الإنسانُ الذكر في ابتداءِ شهوته في الجماع ، ويكونُ في التلميذ ، يقال : غلامُ ثعلبٍ .
{ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً } . أي : وامرأتي عاقرٌ ، ولم يقل : عاقرةٌ؛ لأنَّ من كان على « فاعل » من صفة المؤنَّث ممَّا لم يكن للمذكَّر ، فإنَّه لا تدخل فيه الهاءُ ، كامرأةٍ عاقرٍ وحائضٍ .
قال الخليلُ : هذه صفاتُ المذكَّر ، وصف بها المؤنَّث ، كما وصف المذكَّر بالمؤنَّث؛ حيث قال : رجُلٌ نكَحةٌ ، ورُبَعَةٌ ، وغلامٌ نُفَعَةٌ .
قوله : « عِتيًّا » : فيه أربعةُ أوجه :
أظهرها : أنه مفعولٌ به ، أي : بلغتُ عتيًّا من الكبرِ ، فعلى هذا « مِنَ الكِبرِ » يجوز أن يتعلَّق ب « بَلغْتُ » ويجوز أن يتعلق بمحذوفٍ؛ على أنه حالٌ من « عِتيًّا » لأنه في الأصلِ صفةٌ له؛ كما قدرته لك .
الثاني : أن يكون مصدراً مؤكَّداً من معنى الفعل؛ لأنَّ بلوغَ الكبر في معناه .
الثالث : أنَّه مصدر واقعٌ موقع الحالِ من فاعل « بَلَغْتُ » أي : عاتياً ، ذا عتيٍّ .
الرابع : أنه تمييزٌ ، وعلى هذه الأوجه الثلاثة « مِنْ » مزيدةٌ ، ذكره أبو البقاء ، والأولُ هو الوجهُ .
والعُتُوُّ : بزنة فعولٍ ، وهو مصدر « عَتَا ، يَعْتُو » أي : يَبِسَ ، وصلُبَ ، قال الزمخشريُّ : « وهو اليُبْسُ والجساوةُ في المفاصلِ ، والعظام؛ كالعُودِ القاحل؛ يقال : عَتَا العُودُ وجسَا ، أو بلغتُ من مدارج الكِبرِ ، ومراتبه ما يسمَّى عِتيًّا » يريد بقوله : « أوْ بلغْتُ » أنه يجوزُ أن يكون مِنْ « عَتَا يَعْتُو » أي : فسد .
والأصلُ : « عُتُووٌ » بواوين ، فاستثقل واوان بعد ضمتين ، فكسرتِ التاءُ؛ تخفيفاً ، فانقلبت الواو الأولى ياءً؛ لسكونها وانكسار ما قبلها ، فاجتمع ياءٌ وواوٌ ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواوُ ياءً ، وأدغمت فيها الأولى ، وهذا الإعلالُ جارٍ في المفرد هكذا ، والجمع : نحو : « عِصِيّ » إلا أنَّ الكثير في المفرد التصحيح؛ كقوله : { وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً } [ الفرقان : 21 ] وقد يعلُّ كهذه الآية ، والكثيرُ في الجمع الإعلالُ ، وقد يصحَّحُ؛ نحو : « إنَّكُمْ لتنظرُونَ في نحوٍّ كثيرةٍ » وقالوا : فُتِيٌّ وفُتُوٌّ .
وقرأ الأخوان « عتيًّا » و { صِلِيّاً } [ مريم : 70 ] و « بِكِيّاً » [ مريم : 58 ] و { جِثِيّاً } [ مريم : 72 ] بكسر الفاء للاتباع ، والباقون بالضمِّ على الأصلِ .
وقرأ عبدُ الله بن مسعودٍ بفتح الأوَّل من « عتيًّا » و « صَليًّا » جعلهما مصدرين على زنة « فعيلٍ » كالعجيجِ والرَّحيلِ .
وقرأ عبد الله وأبي بم كعبٍ « عُسِيًّا » بضم العين ، وكسر السينِ المهملة ، وتقدم اشتقاقُ هذه اللفظة في الأعراف ، وتصريفها .
والعُتِيُّ والعُسِيُّ : واحدٌ .
يقال : عَتَا يَعْتُو عُتُوًّا ، وعتيًّا ، فهو عاتٍ ، وعَسَا يَعْسُو عُسُوًّا وعسيًّا فهو عَاسٍ ، والعَاسي : هو الذي غيرُه طولُ الزمانِ إلى حال البُؤس . وليل عاتٍ : طويل ، وقيل : شديدُ الظلمة .
فصل
في هذه الآية سؤالان :
أحدهما : لم تعجب زكريَّا -عليه الصلاة والسلام- بقوله : { أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } مع أنَّه هو الذي طلب الغلام؟ .
والسؤال الثاني : قوله : { أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } هذا التعجُّب يدل على الشك في قدرة الله تعالى على ذلك ، وذلك كفر ، وهو غير جائز على الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-؟ .
فالجوابُ عن الأول : أمَّا على قول من قال : ما طلب الولد ، فالإشكال زائلٌ ، وأمَّا على قول من قال : إنَّه طلب الولد ، فالجوابُ أن المقصود من قوله : { أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } هو البحث على أنه تعالى يجعلهما شابين ، ثم يرزقهما ، أو يتركهما شيخين ، ويرزقهما الولد ، مع الشيخوخة؟ ويدلُّ عليه قوله تعالى : { وَزَكَرِيَّآ إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ }
[ الأنبياء : 89 ، 90 ] .
وما هذا الإصلاحُ إلاَّ أنَّه تعالى أعاد قُوَّة الولادة .
وذكر السديُّ في الجواب وجهاً آخر ، فقال : إنَّه لمَّا سمع النداء بالبشارة جاءهُ الشيطان ، فقال : إنَّ هذا الصَّوت ليس من الله تعالى ، بل من الشيطانِ يسخر منك ، فلمَّا شكَّ زكريَّا قال : « ربّ ، أني يكُون لي غلامٌ » ، وغرض السدي من هذا أن زكريا -عليه السلام- لو علم أن المبشَّر بذلك هو الله تعالى ، لما جاز له أن يقول ذلك ، فارتكب هذا .
وقال بعضُ المتكلِّمين : هذا باطلٌ باتِّفاق؛ إذ لو جوَّز الأنبياءُ في بعض ما يردُ عن الله تعالى أنَّه من الشيطان ، لجوَّزوا في سائره ، ولزالتِ الثقة عنهم في الوحي ، وعنَّا فيما يوردُونه إلينا .
ويمكنُ أن يجاب عنه : بأنَّ هذا الاحتمال قائمٌ في أوَّل الأمر ، وإنَّما يزولُ بالمعجزةِ ، فلعلَّ المعجزةَ لم تكُن حاصلةً في هذه الصور ، فحصل الشَّك هنا فيه دون ما عداها .
والجوابُ عن السؤال الثاني من وجوه :
الأول : أن قوله : { إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسمه يحيى } .
ليس نصًّا في كون ذلك الغلام ولداً له ، بل يحتمل أن يكون زكريَّا -عيله الصلاة والسلام- راعى الأدب ، ولم يقل : هذا الغلام ، هل يكون ولداً لي ، أم لا ، بل ذكر أسباب حُصُول الولدِ في العادة؛ حتى أنَّ تلك البشارة ، إنْ كانت بالولد ، فإن الله تعالى يزيلُ الإبهام ، ويجعل الكلام صريحاً ، فلمَّا ذكر ذلك ، صرَّح الله تعالى بكون الولد منه ، فكان الغرضُ من كلام زكريَّا هذا ، لا شك أنه شاكًّا في قُدرة الله تعالى عليه .
الثاني : أنه ما ذكر ذلك للشك ، لكنْ على وجه التعظيم لقدرته ، وهذا كالرجل الذي يَرَى صاحبه قد وهب الكثير الخطير ، فيقول : أنَّى سمحت نفسك بإخراج مثل هذا من ملكك! تعظيماً وتعجُّباً .
الثالث : أن من شأن من بُشِّرَ بما يتمناه؛ أن يتولد له فرط السرور به عند أوَّل ما يرد عليه استثباتُ ذلك الكلام؛ إما لأن شدة فرحه به توجبُ ذهوله عن مقتضيات العقل والفكر ، وهذا كما أن امرأة إبراهيم عليه السلام بعد أن بشرت بإسحاق قالت { قَالَتْ ياويلتا أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ } [ هود : 72 ] فأزيل تعجبها بقوله : { أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله } [ هود : 73 ] ، وإما طلباً لالتذاذ بسماع ذلك الكلام مرة أخرى ، وإما مبالغةً في تأكيد التفسير .
قوله : « كَذِلكَ » : في محلِّ هذه الكاف وجهان :
أحدهما : أنه رفع على خبر ابتداءٍ مضمرٍ ، أي : الأمرُ كذلك ، ويكون الوقفُ على : « كَذَلِكَ » ، ثم يبتدأ بجملةٍ أخرى .
والثاني : أنها منصوبةُ المحلِّ ، فقدَّرهُ أبو البقاء ب « أفْعَلُ » مثل ما طلبتَ ، وهو كنايةٌ عن مطلوبه ، فجعل ناصبه مقدَّراً ، وظاهره أنه مفعولٌ به .
وقال الزمخشريُّ : « أو نصب ب » قَالَ « و » ذَلِكَ « إشارةٌ إلى مُبْهم يفسره » هُو عليَّ هيِّنٌ « ، ونحوه :
{ وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ } [ الحجر : 66 ] . وقرأ الحسن « وهُوَ عليَّ هيِّنٌ » ، ولا يخرَّج هذا إلا على الوجه الأول ، أي : الأمرُ كما قلت ، وهو على ذلك يُهونُ عليَّ .
وجهٌ آخرُ : وهو أن يُشارَ ب « ذَلِكَ » إلى ما تقدَّم من وعد الله ، لا إلى قولِ زكريَّا ، و « قَالَ » محذوفٌ في كلتا القراءتين . يعني قراءة العامَّة وقراءة الحسنِ -أي : قال : هُوَ عليَّ هيِّنٌ ، قال : وهُوَ عليَّ هيِّنٌ ، وإن شئت لمْ تنوهِ؛ لأنَّ الله هو المخاطب ، والمعنى أنه قال ذلك ، ووعدهُ وقوله الحقُّ « .
وفي هذا الكلام قلقٌ؛ وحاصله يرجع إلى أنَّ » قال « الثانية هي الناصبةُ للكاف .
وقوله : » وقَالَ محذوفٌ « يعني تفريعاً على أنَّ الكلام قد تمَّ عند » قال ربُّك « ويبتدأ بقوله : » هُوَ عليَّ هيِّنٌ « . وقوله : » وإنْ شِئْتَ لمْ تَنْوهِ « ، أي : لم تَنْوِ القول المقدَّر؛ لأنَّ الله هو المتكلِّمُ بذلك .
وظاهرُ كلام الطبريُّ : » ومعنى قوله « قال كذلكَ » أي : الأمران اللذان ذكرت من المرأةِ العاقر والكبرِ هو كذلك ، ولكن قال ربُّك ، والمعنى عندي : قال الملكُ : كذلك ، أي : على هذه الحال ، قال ربُّك ، هو عليَّ هيِّنٌ « انتهى .
وقرأ الحسن البصري » عَلَيَّ « بكسر ياء المتكلم؛ كقوله [ الطويل ]
3582 أ- عَليِّ لعمرٍو نِعْمَةٍ ... لِوَالِدِهِ ليْسَتْ بذاتِ عقَارِبِ
أنشدوه بالكسر . وتقدم الكلام على هذه المسألة في قراءة حمزة » بمُصْرِخيِّ « [ إبراهيم : 22 ] .
قوله : » وقَدْ خلقْتُكَ « هذه الجملة مستأنفةٌ ، وقرأ الأخوان » خَلقْنَاكَ « أسنده إلى الواحد المعظِّمِ نفسهُ ، والباقون » خلقْتُك « بتاء المتكلِّم .
وقوله : » ولَمْ يَكُ شَيْئاً « جملةٌ حاليةٌ ، ومعنى نفي كونه شيئاً ، أي : شيئاً يعتدُّ به؛ كقوله : [ البسيط ]
3582 ب- .. إذا رَأى غيْر شيءٍ ظنَّهُ رَجُلا
وقالوا : عجبتُ من لا شيءٍ ، ويجوز أن يكون قال ذلكَ؛ لأنَّ المعدومَ ليس بشيءٍ .
فصل
قيل : إطلاق لفظ » الهَيِّن « في حق الله تعالى مجاز؛ لأن ذلك إنما يجوزُ في حقِّ من يجوز أن يصعب عليه شيء ، ولكن المراد؛ أنه إذا أراد شيئاً كان .
ووجه الاستدلال بقوله تعالى { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } فنقول : إنه لما خلقه من العدم الصَِّرف والنفي المحضِ ، كان قادراً على خلق الذوات والصفات والآثار ، وأما الآن ، فخلق الولد من الشيخ والشيخة لا يحتاج فيه إلا إلى تبديل الصفات ، وإذا أوجده عن العدم ، فكذا يرزقه الولد بأن يعيد إليه وإلى صاحبته القوَّة التي عنها يتولَّد الماءان اللذان من اجتماعهما يُخلقُ الولد .
فصل
الجمهورُ على أنَّ قوله : » قال : كذلِكَ قال ربُّكَ « يقتضي أن القائلَ لذلك ملك مع الاعتراف بأن قوله { يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ } قول الله تعالى ، وقوله { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } قول الله تعالى ، وهذا بعيدٌ؛ لأنه إذا كان ما قبل هذا الكلام وما بعده قول الله تعالى ، فكيف يصحُّ إدرتجُ هذه الألفاظ فيما بين هذين القولين ، والأولى أن يقال : قائلُ هذا القول أيضاً هو الله تعالى؛ كما أن الملك العظيم ، إذا وعد عبده شيئاً عظيماً ، فيقول العبد : من أين يحصلُ لي هذا ، فيقول : إن سلطانكَ ضمِنَ لك ذلك؛ كأنه ينبه بذلك على أن كونه سلطاناً ممَّا يوجب عليه الوفاء بالوعد ، فكذا ههنا .
قوله : { قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } .
أي : اجعل لي علامة ودلالة على حمل امرأتي .
فصل
قال بعضُ المفسِّرين : طلب الآية لتحقيق البشارة ، وهذا بعيدٌ؛ لأن بقول الله تعالى قد تحقَّقت البشارةُ ، فلا يكون إظهار الآية أقوى في ذلك من صريح القول ، وقال آخرون : البشارةُ بالولدِ وقعت مطلقة ، فلا يعرف وقتها بمجرَّد البشارة ، فطلب الآية ليعرف بها وقت الوقوعِ ، وهذا هو الحق .
واتفقوا على أن تلك الآية هي تعذرُ الكلام عليه ، فإن مجرَّد السكوتِ مع القدرةِ على الكلام لا يكونُ معجزةً ، ثم اختلفوا على قولين :
أحدهما : أنه اعتقل لسانه أصلاً .
والثاني : أنه امتنع عليه الكلامُ مع القوم على وجه المخاطبة ، مع أنه كان متمكناً من ذكر الله ، ومن قراءة التوراة ، وهذا القولُ عندي أصحُّ؛ لأن اعتقال اللسان مطلقاً قد يكون لمرضٍ ، وقد يكون من فعل الله ، فلا يعرف زكريا عليه السلام أن ذلك الاعتقال معجزٌ إلا إذا عرف أنه ليس لمرض ، بل لمحضِ فعل الله تعالى مع سلامة الآلات ، وهذا مما لا يعرف إلا بدليل آخر ، فتفتقر تلك الدلالة إلى دلالة أخرى ، أما لو اعتقل لسانه عن الكلام ، مع القوم ، مع اقتداره على التكلم بذكر الله تعالى وقراءةِ التوراةِ ، علم بالضرورة؛ أن ذلك الاعتقال ليس لعلَّةٍ ومرضٍ ، بل هو لمحض فعل الله ، فيتحقق كونه آية ومعجزة ، ومما يقوي ذلك قوله تعالى : { آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } خص ذلك بالتكلم مع الناس؛ وهذا يدلُّ بطريق المفهوم؛ أنه كان قادراً على التكلم مع غير الناس .
قوله : « سَوِيًّا » : حالٌ من فاعل « تُكَلِّمَ » ، وعنابن عباس : أنَّ « سويًّا » من صفةِ الليالي بمعنى « كاملات » ، فيكونُ نصبه على النعت للظرف ، والجمهورُ على نصب ميم « تُكَلِّم » جعلوها الناصبة . وابن أبي عبلة بالرفع ، جعلها المخففة من الثقيلة ، واسمها ضميرُ شأنٍ محذوف ، و « لا » فاصلةٌ ، وتقدَّم تحقيقه .
وقوله : « أنْ سَبَّحُوا » : يجوز في « أنْ » أن تكون مفسِّرة ل « أوْحَى » ، وأن تكون مصدرية مفعولة بالإيحاء ، و « بُكْرَةً وعشِيًّا » ظرفا زمانٍ للتسبيح ، وانصرفت « بُكْرَةً » ؛ لأنه لم يقصدْ بها العلميَّةُ ، فلو قُصِدَ بها العلميةُ امتنعت من الصَّرف ، وسواءٌ قصد بها وقتٌ بعينه؛ نحو : لأسيرنَّ الليلة إلى بكرة ، أم لم يقصد؛ نحو : بكرةُ وقتُ نشاطٍ؛ لأنَّ علميَّتها جنسيَّةٌ؛ كأسامة ، ومثلها في ذلك كله « غُدوة » .
وقرأ طلحة « سَبِّحُوه » بهاءِ الكناية ، وعنه أيضاً : « سَبِّحُنَّ » بإسناد الفعل إلى ضمير الجماعة مؤكِّداً بالثقيلة ، وهو كقوله : { لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ } [ هود : 8 ] ، وقد تقدَّم تصريفه .
قوله تعالى : { فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب } ، وكان الناس من وراء المحراب ينتظرونه؛ أن يفتح لهم الباب ، فيدخلون ويصلون؛ إذ خرج عليهم زكريا متغيِّراً لونه ، فانكروه ، فقالوا : ما لك يا زكريا { فأوحى إِلَيْهِمْ } .
قال مجاهدٌ : كتب لهم الأرض ، { أَن سَبِّحُواْ } ، أي صلوا لله ، { بُكْرَةً } ، غدوة ، { وَعَشِيّاً } ، معنا أنه كان يخرج على قومه بكرة وعشياً ، فيأمرهم بالصلاة ، فلما كان وقتُ حمل امرأته ، ومنع الكلام خرج إليهم ، فأمرهم بالصلاة إشارة .
قوله عز وجل : { يايحيى } ، قيل : فيه حذف معناه : وهبنا له يحيى ، وقلنا له : يا يحيى ، { خُذِ الكتاب } ، يعني التوراة ، وقيل يحتمل أن يكون كتابتً خصَّ الله به يحيى ، كما خص الله تعالى الكثير من الأنبياء بذلك ، والأولى أولى؛ لأن حمل الكلام ههنا على المعهود السابق أولى ، ولا معهود إلا التوراة .
وقوله { يايحيى خُذِ الكتاب } يدلُّ على أن الله تعالى بلغ بيحيى المبلغ الذي يجوز أن يخاطبه بذلك ، فحذف ذكره؛ لدلالة الكلام عليه .
قوله : « بقُوَّة » حالٌ من الفاعل أو المفعول ، أي : ملتبساً أنت ، أو ملتبساً هو بقوَّة؛ وليس المراد بالقوة القدرة على الأخذ؛ لأن ذلك معلوم لكلَّ أحد ، فيجب حمله على معنى يفيد المدح ، وهو الجد والصبر على القيام بأمر النبوة ، وحاصلها يرجع إلى حصول ملكة تقتضي سهولة الإقدام على المأمُور به ، والإحجام عن المنهيِّ عنه .
قوله : { وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً } .
قال ابن عبَّاس : الحكم : النُّبوة « صَبِيًّا » ؛ وهوابن ثلاث سنين وقيل : الحكمُ فهم الكتاب ، فقرأ التوراة وهو صغيرٌ .
وقيل : هوالعَقْل ، وهو قولُ مُعَمَّر .
وروي أنه قال : ما للَّعبِ خُلِقْنا .
والأوَّل أولى؛ لأنَّ الله تعالى أحكم عقلهُ في صباه ، وأوحى إليه ، فإنَّ الله تعالى بعث عيسى ويحيى -عليهما الصلاة والسلام- وهما صبيَّانِ ، لا كما بعض موسى ومحمَّداً-عليهما الصلاة والسلام- وقد بلغا الأشُدَّ .
فإن قيل : كيف يعقلُ حصولُ العقل والفطنة والنُّبُوَّة حال الصِّبَا .
فالجوابُ : هذا السَّائِلُ إمَّا أن يمنع خرق العاداتِ ، أو لا يمنع منه ، فإن منع منه ، فقد سدَّ باب النبوات؛ لأنَّ الأمر فيها على المعجزات ، ولا معنى لها إلا خرق العاداتِ ، وإن لم يمنع منه ، فقد زال هذا الاستبعادُ؛ فإنَّه ليس استبعاد صيرورةِ الصَّبيِّ عاقلاً أشدَّ من استبعاد انشقاقِ القمر ، وانفلاق البحر ، و « صبيًّا » : حال من « هاء » آتيناه .
قوله « وحَنَاناً » : يجوز أن يكون مفعولاً به ، نسقاً على « الحُكْمَ » أي : وآتَيْنَاهُ تَحَنُّناً . والحنانُ : الرحمةُ واللّينُ ، وأنشد أبو عبيدة قول الحطيئةِ لعمر بن الخطَّاب : [ المتقارب ]
3583 أ- تَحَنَّنْ عَليَّ هدَاكَ المَلِيكُ ... فإنَّ لِكُلِّ مقامٍ مقَالا
قال : وأكثر استعماله مُثَنَّى؛ كقولهم : حَنَانَيْكَ ، وقوله :
3583 ب- . ... حَنانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أهْوَنُ من بعضِ
[ وجوَّز ] فيه أبو البقاء أن يكون مصدراً ، كأنَّه يريدُ به المصدر الواقع في الدعاء؛ نحو : سَقْياً ورَعْياً ، فنصبه بإضمار فعلٍ [ كأخواته ] ، ويجوز أن يرتفع على خبر ابتداءٍ مضمر؛ نحو : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } [ يوسف : 18 ] و { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } [ الأعراف : 46 ] في أحد الوجهين ، وأنشد سيبويه : [ الطويل ]
3584- وقَالَتْ حنانٌ مَا أتى بِكَ هَهُنَا ... اذُو نسبٍ أمْ أنْتَ بالحَيِّ عارفُ
وقيل لله تعالى : حنَّّانٌ ، كما يقال له « رَحِيمٌ » قال الزمخشريُّ : « وذلك على سبيل الاستعارةِ » .
فصل في المراد ب « حَنَاناً »
اعلم أن الحنان : أصله من الحنينن ، وهو الارتياحُ ، والجزع للفراق كما يقال : حنينُ النَّاقة ، وهو صوتها ، إذا اشتاقت إلى ولدها ، ذكره الخليل .
وفي الحديث : أنَّه -عليه الصلاة والسلام- كان يُصلِّي إلى جذع في المسجد ، فلمَّا اتَّخذ المنبر ، وتحوَّل إليه ، حنَّت تلك الخشبةُ ، حتَّى سُمِعَ حنينُها ، وهذا هو الأصل ، ثُمَّ يقال : تَحَنَّنَ فلانٌ على فلانٍ ، إذا [ تعطَّف ] عليه ورحمهُ .
واختلف الناس في وصف الله تعالى بالحنان ، فأجازه بعضهم ، وجعلهُ بمعنى الرَّؤُوف الرَّحيم ، ومنهم من أباه؛ لما يرجع إليه أصلُ الكلمة .
قالوا : ولم يصحُّ الخبر بهذه اللفظة في أسماء الله تعالى .
وإذا عرف هذا ، فنقولُ : في الحنانِ ها هنا وجهانِ :
الأول : أن نجعله صفةً لله تعالى .
والثاني : أن نجعله صفةُ ل « يحيى » ، فإن جعلناه صفة لله تعالى ، فيكونُ التقديرُ : وآتيناهُ الحكم حناناً ، أي : رحمةً منَّا .
ثم هاهنا احتمالات :
الأول : أن يكون الحنانُ من الله تعالى ل « يحيى » ، والمعنى : وآتيناه الحكم صبيًّا حناناً [ منَّا ] عليه ، أي : رحمة عليه ، « وزكَاةً » أي : وتزكيةً ، وتشريفاً له .
والثاني : أن يكون الحنانُ من الله تعالى لزكريَّا ، والمعنى : أنا استجبنا لزكريَّا دعوته بأن أعطيناه ولداً ثم آتيناه الحكم صبيًّا وحناناً من لدُنَّا على زكريا فعلنا ذلك « وزَكَاةً » أي : تزكيةُ له عن أن يصير مردود الدُّعاء .
الثالث : أن يكُون الحنانُ من الله تعالى لأمَّة يحيى -عليه السلام- والمعنى : آتيناه الحكم صبيًّا حناناً على أمَّته؛ لعظيم انتفاعهم بهدايته وإرشاده .
وإن جعلناه صفةً ليحيى -عليه السلام- ففيه وجوهٌ :
الأول : آتيناهُ الحكم والحنان على عبادنا ، أي والتعطُّف عليهم وحسن النَّظر لهم ، كما وصف محمَّداً - صلى الله عليه وسلم - بقوله :
{ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] وقوله : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ } [ آل عمران : 159 ] وقوله : « وزَكَاةً » أي : شفقةً ، ليست داعيةً إلى الإخلال بالواجب؛ لأنَّ الرأفة واللِّين ربَّما أورثا ترك الواجب؛ ألا ترى إلى قوله : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله } [ النور : 2 ] وقال : { قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } [ التوبة : 123 ] وقال : { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاائم } [ المائدة : 54 ] .
والمعنى : أنَّا جمعنا له التعطُّف على عباد الله ، مع الطَّهارة عن الإخلال بالواجبات ، ويحتمل أنَّا آتيناه التعطُّف على الخلق ، والطَّهارة [ عن المعاصي ] ، فلم يَعْص ، ولم يَهُمَّ بمعصية .
الثاني : قال عطاءُ بنُ أبي رباحٍ : { وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا } : تعظيماً من لدنا .
والمعنى : آتيناهُ الحكم صبيًّا؛ تعظيماً إذ جعلناه نبيًّا وهو صبيٌّ ، ولا تعظيم أكثر من هذا؛ ويدلُّ عليه ما رُوِيَ أنَّ ورقة بن نوفل مرَّ على بلالٍ ، وهو يعذب ، قد ألصقَ ظهرهُ برمضاء البطحاء ، وهو يقول : أحدٌ ، أحدٌ ، فقال : والذي نفسي بيده ، لئنْ قتلْتُمُوه ، لاتَّخذنَّهُ حناناً ، أي : مُعَظَّماً .
قوله : « مِنْ لَدُنَّا » صفةٌ له .
قوله : « وَزَكاةً » . قال ابن عباس : هي الطَّاعة ، والإخلاص .
وقال قتادةُ والضحاك : هو العملُ الصَّالح .
والمعنى : آتيناهُ رحمةً من عندنا ، وتحنُّناً على العبادِ؛ ليدعوهم إلى طاعة ربِّهم ، وعملاً صالحاً في إخلاص .
وقال الكلبيُّ : صدقة تصدَّق الله بها على أبويه ، وقيل : زكَّيناه بحُسْن الثَّناء ، أي كما يزكِّي الشهودُ الإنسان . وهذه الآيةُ تدلُّ على أن فعل العبد خلقٌ لله تعالى لأنه جعل طهارتهُ وزكاتهُ من الله تعالى ، وحملهُ على الألطاف بعيدٌ؛ لأنَّه عدولٌ عن الظَّاهرِ .
قوله : { وَكَانَ تَقِيّاً } مُخْلِصاً مُطِيعاً ، والتَّقيُّ : هو الذي يتقي ما نهى الله عنه [ فيجتنبه ] ، ويتقي مخالفة أمر الله ، فلا يهمله ، وأولى النَّاس بهذا الوصف من لم يعْصِ الله ، ولا همَّ بمعصيةٍ ، وكان يحيى -عليه الصلاة والسلام- كذلك .
فإن قيل : ما معنى قوله { وَكَانَ تَقِيّاً } وهذا حين ابتداء تكليفه .
فالجوابُ : إنَّما خاطب الله تعالى الرسُول بذلك وأخبر عن حاله حيث كان كما أخبر عن نعم الله تعالى عليه .
قوله : « وبَرًّا » : يجوز أن يكون نسقاً على خبر « كان » أي : كان تقيًّا برًّا . ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مقدَّر ، أي : وجعلناه برًّا ، وقرأ الحسن « بِرًّا » بكسر الباء في الموضعين ، وتأويله واضحٌ ، كقوله : { ولكن البر مَنْ آمَنَ } [ البقرة : 177 ] وتقدَّم تأويله ، و « بِوالِدَيْهَ » متعلقٌ ب « بَرًّا » .
و « عَصِيًّا » يجوز أن يكون وزنه « فَعُولاً » والأصل : « عَصُويٌ » ففعل فيه ما يفعل في نظائره ، و « فَعُولٌ » للمبالغة ك « صَبُور » ويجوز أن يكون وزنه فعيلاً ، وهو للمبالغة أيضاً .
فصل في معنى الآية
قوله : { وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ } أي : بارًّا لطيفاً بهما محسناً إليهما ، « ولمْ يكُن جبَّاراً عصيًّا » .
الجبَّار المتكبِّر .
وقال سفيان : الجبَّار الذي يضرب ويقتل على الغضب؛ لقوله تعالى : { أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض } [ القصص : 19 ] ؛ ولقوله تعالى : { وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } [ الشعراء : 130 ] والجبَّارُ أيضاً : القهار ، قال تعالى { العزيز الجبار } [ الحشر : 23 ] .
والعَصِيُّ : العاصِي ، والمراد : وصفة بالتواضع ، ولين الجانب ، وذلك من صفات المؤمنين؛ كقوله تعالى : { واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ الحجر : 88 ] وقوله تعالى : { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } [ آل عمران : 159 ] .
وقيل : الجبَّار : هو الذي لا يرى لأحدٍ على نفسه حقًّا . وقيل غير [ ذلك ] وقوله : « عصيا » وهو أبلغُ من العاصي ، كما أن العليمَ أبلغُ من العالم .
قوله : { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } .
قال محمد بن جرير الطبريُّ { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ } أي : أمانٌ من الله يوم ولد من أن تتناوله الشياطين ، كما تناولُ سائر بني آدم { وَيَوْمَ يَمُوتُ } أي : وأمانٌ عليه من عذاب القبر ، { وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } ي : ومن عذاب يوم القيامة .
وقال سفيان بن عيينة : أوحشُ ما يكونُ الإنسان في هذه الأحوال [ الثلاثة يوم يُولَدُ ] ، فيرى نفسه خارجاً [ مما كان فيه ، ويوم يموتُ ، فيرى يوماً ، لم يكن عاينهُ ، ويوم يبعثُ ، فيرى نفسهُ ] في محشرٍ عظيمٍ ، لم ير مثله ، فأكرم الله يحيى -عليه السلام- فخصَّه بالسلامة في هذه المواطن الثلاثة .
قال عبدُ الله بن نفطويه : { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ } أي : أوَّل ما رأى الدُّنيا ، { وَيَوْمَ يَمُوتُ } أي : أول يوم يرى فيه أمْرً الآخرة { وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } أوَّل يومٍ يرى فيه الجنَّة والنَّار .
فصل في مزية السلام على يحيى
السلام يمكن أن يكون من الله ، وأن يكون من الملائكة ، وعلى التقديرين ، فيدلُّ على شرفه وفضله؛ لأنَّ الملائكة لا يسَلَِّمون إلا عن أمر الله .
ويدلُّ على أن ليحيى مزية في هذا السلام على ما لسائر الأنبياء؛ كقوله تعالى : { سَلاَمٌ على نُوحٍ } [ الصافات : 79 ] { سَلاَمٌ على إِبْرَاهِيمَ } [ الصافات : 109 ] . وقال ليحيى : { يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } . وليس لسائر الأنبياء .
ورُوِي أن عيسى -عليه السلام- قال ليحيى -عليه السلام- : أنت أفضلُ منِّي؛ لأنَّ الله تعالى قال : سلامٌ عليك وأنا سلَّمتُ على عيسى؛ لأن عيسى معصومٌ ، لا يفعل إلا ما أمره الله به .
واعلم : أنَّ السَّلام عليه يوم ولد يكون تفضُّلاً من الله تعالى؛ لأنه لم يتقدَّمه عملٌ يكونُ ذلك السلام جزاءً له ، وأمَّا السَّلام عليه يوم يموتُ ، ويوم يبعثُ حيَّاً ، عملٌ يكونُ ذلك السلام جزاءً له ، وأمَّا السَّلام عليه يوم يموتُ ، ويوم يبعثُ حيًّا فيجوزُ أن يكُون ثواباً؛ كالمَدْح والتَّعْظِيم .
فصل في فوائد هذه القصة
في فوائد هذه القصَّة [ أمورٌ ] منها :
تعليمُ آداب الدعاء ، وهو قوله : « نِدَاءً خفيًّا » يدلُّ على أفضل الدعاء خفيةً ويؤكِّدهُ قوله تعالى :
{ ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } [ الأعراف : 55 ] ؛ ولأنَّ رفع الصوت مشعرٌ بالقوَّة والجلادةِ ، وإخفاءُ الصوت مشعرٌ بالضعف والانكسار ، وعمدة الدُّعاء الانكسار والتبرِّي عن حول النَّفس وقوَّتها ، والاعتمادُ على فضل الله تعالى وإحسانه .
ويستحبُّ أن يذكر في مقدِّمة الدعاء عجز النَّفس وضعفها؛ كقوله : { وَهَنَ العظم مِنِّي واشتعل الرأس شَيْباً } ثم يذكر نعم الله تعالى؛ كقوله : { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً } ويكون الدعاء لما يتعلق بالدين لا لمحض الدنيا ، كقوله : { وَإِنِّي خِفْتُ الموالي } وأن يكون الدُّعاء بلفظ : يا ربِّ .
كما ذكر فيها بيان فضل زكريَّا ، ويحيى -عليهما السلام- أما زكريَّا؛ فلتضرُّعه وانقطاعه إلى الله تعالى بالكليَّة ، وإجابة الله تعالى دعاءه ، وأن الله تعالى بشَّره ، وبشَّرته الملاشكةُ ، واعتقالُ لسانه عن الكلام دُون التَّسبيح .
وأمَّا يحيى؛ فلأنَّه لم يجعل له من قبلُ سميًّا ، وقوله { يايحيى خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً } ، وكونه رحيماً حناناً وطاهراً ، وتقيًّا ، وبرًّا بوالديه ، ولم يكن جبَّاراً ، ولم يعص قطٌّ ، ولا همَّ بمعصية ، ثم سلَّم عليه يوم ولد ، ويوم يموتُ ، ويوم يبعثُ حيًّا .
ومنها : كونُه تعالى قادراً على خلق الولد ، وإن كان الأبوان في نهاية الشيخوخة ردًّا على أهل الطَّبائع .
ومنها : أن المعدوم ليس بشيءٍ؛ لقوله : { وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } .
فإن قيل : المرادُ « ولم تَكُ شيئاً مَذْكُوراً » كما في قوله : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } [ الإنسان : 1 ] .
فالجوابُ : أنَّ الإضمار خلافُ الأصل ، وللخصم أن يقول : الآيةُ تدلُّ على أن الإنسان لم يكُن شيئاً مذكوراً ، ونحنُ نقولُ به؛ لأنَّ الإنسانَ عبارة عن جواهر متألِّفة قامت بها أعراضٌ مخصوصةٌ ، والجواهرُ المتألِّفة الموصوفة بالأغراض المخصوصة ليس ثابتة في العدمِ ، وإنَّما الثابتُ هو [ أعيانُ ] تلك الجواهر مفردة غير مركَّبة ، وهي ليست بالإنسان ، فظهر أن الآية لا دلالة فيها على المطلوب . ومنها أن الله تعالى ذكر هذه القصة في « آل عمران » ، وذكرها في هذه السورة ، فلنعتبر حالها في الموضعين ، فنقول : إن الله تعالى بيَّن في هذه السورة أنه دعا ربه ، ولم يبين الوقت ، وبينه في « آل عمران » بقوله تعالى : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً } [ آل عمران : 78 ] إلى أن قال : « هنالك دعا زكريا ربه قال : ربِّ هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء » ، والمعنى أن زكريا -عليه السلام- لما رأى خرق العادة في حق مريم ، دمع في حق نفسه ، فدعا ربه ، وصرح في « آل عمران » بأن المنادي هوالملائكة ، بقوله : { فَنَادَتْهُ الملاائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب } [ آل عمران : 39 ] ، والأظهر أن المنادي ههنا بقوله : « يا زكريا إنما نبشرك » هو الله تعالى ، وقد تقدم أنه لا منافاة بينهما .
وقال في آل عمران { أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ } [ آل عمران : 40 ] فذكر أولاً كبر نفسه ، ثم عقر المرأة وهاهنا قال : { وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً } وجوابه : أنَّ الواو لا تقتضي الترتيب .
وقال في « آل عمران » : { وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر } [ آل عمران : 40 ] وقال هاهنا : { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً } وجوابه : أن ما بلغك فقد بلغته .
وقال في آل عمران : { آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً واذكر } [ آل عمران : 41 ] .
وقال هاهنا { ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } .
وجوابه : أنَّه دلَّت الآيتان على أنَّ المراد ثلاثة أيَّام ولياليهنَّ . والله أعلم .
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
قوله تعالى : { واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ } القصة .
اعلم أن الله تعالى إنَّما قدَّم قصَّة يحيى -عليه الصلاة والسلام- على قصَّة عيسى -عليه الصلاة والسلام- لأنَّ الولد أعني : لأن خلق الولد من شيخين فانيين أقربُ إلى مناهج العاداتِ من خلق الولد من الأب ألبتَّة ، وأحسنُ طُرُق التعليم والتفهيم الترقِّي من الأقرب فالأقرب ، وإلى الأصعب فالأصعب .
قوله : { إِذِ انتبذت } : في « إذ » أوجهٌ :
أحدها : أنَّها منصوبةٌ ب « اذْكُر » على أنَّها خرجت على الظرفية؛ إن يستحيلُ أن تكون باقيةً على [ مُضِيِّها ] ، والعاملُ فيها ما هو نصٌّ في الاستقبال .
الثاني : أنَّه منصوبٌ بمحذوفٍ مضافٍ لمريم ، تقديره : واذكر خبر مريم ، أو نبأها؛ إذا انتبذت ، ف « إذْ » منصوبٌ بذلك الخبر ، أو النبأ .
والثالث : أنه منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ ، تقديره : وبيَّن ، أي : الله تعالى ، فهو كلامٌ آخرُ ، وهذا كما قال سيبويه في قوله : { انتهوا خَيْراً لَّكُمْ } [ النساء : 171 ] وهو في الظرف أقوى ، وإن كان مفعولاً به .
والرابع : أن يكون منصوباً من « مريمَ » بدلُ اشتمال ، قال الزمخشريُّ : « لأنَّ الأحيان مشتملةٌ على ما فيها ، وفيه : أن المقصود بذكر مريم ذكر وقتها هذا؛ لوقوع هذه القصَّةِ العجيبةِ فيه » .
قال أبو البقاء -بعد أن حكى عن الزمخشريِّ هذا الوجه- : « وهو بعيدٌ؛ لأنَّ الزمان إذا لم يكن حالاً من الجثَّة ، ولا خبراً عنها ، ولا صفة لها لم يكن بدلاً منها » انتهى . وفيه نظرٌ؛ لأنه لا يلزمُ من عدم صحَّةِ ما ذكر عدمُ صحَّة البدلية؛ ألا ترى نحو « » سُلِبَ زيدٌ ثوبُهُ « لا يصحُّ جعله عن » زَيْد « ولا حالاً منه ، ولا وصفاً له ، ومع ذلك ، فهو بدل اشتمالٍ .
السادس : أنَّ » إذ « بمعنى » أن « المصدرية؛ كقولك : » لا أكْرِمُكَ إذ لم تُكْرِمْنِي « أي : لأنَّك لا تُكْرِمُني ، فعلى هذا يحسنُ بدلُ الاشتمال ، أي : واذكُرْ مريم انتباذهَا ، ذكره أبو البقاء .
وهو في الضعف غايةٌ . و » مكاناً « : يجوزُ ان يكون ظرفاً ، وهو الظاهرُ وأن يكون مفعولاً به على معنى : إذ أتتْ مكاناً . قوله : { انتبذت } الانتباذُ : افتعالٌ من النَّبْذ ، وهو الطَّرْح ، والإلقاء ، ونُبْذَة : بضمِّ النون ، وفتحها أي : ناحيةٌ ، وهذا إذا جلس قريباً منك؛ حتى لو نبذتَ إليه شيئاً ، وصل إليه ، ونبذتُ الشيء : رَمَيْتُهُ ، ومنه النَّبِيذُ؛ لأنَّه يطرح في الإنَاءِ .
ومنه المَنْبُوذ ، وهو أصله ، فصرف إلى » فعيل « ، ومنه قيل للَّقيطِ : منبوذٌ؛ لأنه رُمِيَ به .
ومنه النهيُ عن المُنَابذةِ في البيع ، وهو أن يقول : إذا نبذتُ إيلك الثَّوب ، أو الحَصَاة ، فقد وجب البَيْعُ فقوله : { انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } : تباعدتْ واعتزلتْ عن أهلها مكاناً في الدار ، ممَّا يلي المشرق ، ثم إنَّها مع ذلك اتَّخذت من دُون أهلها حِجاباً .
قال ابنُ عباسٍ : سِتْراً ، وقيل : جلست وراء جدارِ ، وقال نقاتلٌ : وراء جبل .
فصل
اختلف المفسِّرون في سبب احتجابها ، فقيل « إنها لمَّا رأت الحيضَ ، تباعدت عن مكان عبادتها تنتظرُ الطُّهْرَ لتغتسلَ ، وتعودَ ، فلما طهرتْ ، جاءها جبريل -عليه السلام- .
وقيل : طلبت الخلوة للعبادة .
وقيل : تبادعتْ لتغتسِل من الحيضِ ، مُحْتجِبة بشيءٍ يستُرها .
وقيل : كانت في منزلِ زَوْجِ أختها زكريَّا ، وفيه محراب تسكنه على حدةٍ ، وكان زكريَّا إذا خرج يغلقُ عليها ، فتمنَّت أن تجد خلوةً في الجبل؛ لتُفلِّي رأسها ، فانفرج السَّقفُ لها ، فخرجت في المشرقة وراء الجبل ، فأتاها الملكُ .
وقيل : عطِشَتْ؛ فخرجت إلى المفازةِ لتستسقي ، وكل هذه الوجوه محتملة .
واعلم أن المكان الشرقيَّ هو الذي يلي شرقيَّ بيت المقدس ، أو شرقيَّ دارها .
قال ابنُ عبَّاسٍ -رضيالله عنهما- : إنِّي لأعلمُ خلق الله ، لأيِّ شيءٍ اتَّخذت النصارى المشرق قبلةٌ؛ لقوله : { مَكَاناً شَرْقِياً } فاتَّخذُوا ميلاد عيسى قبلةً ، وهو قول الحسنِ -رحمه الله تعالى- .
قوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا } .
الجمهورُ على ضمِّ الراءِ من » رُوحِنَا « وهو ما يَحْيون به ، وقرأ أة حيوة ، وسهلٌ بفتحها ، أي : ما فيه راحةٌ للعبادِ ، كقوله تعالى : { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ } [ الواقعة : 89 ] وحكى النقاس : أنه قُرِئ » رُوحنَّا « بتشديد النُّون ، وقال : هو اسمُ ملكٍ من الملائكة .
قوله : » بَشَراً سويًّا « حالٌ من فاعل » تمَثَّل « وسوَّغ وُقُوعَ الحالِ جامدة وصفها ، فلمَّا وصفت النكرةُ وقعت حالاً .
فصل في المراد بالروح
اختلفوا في هذا الرُّوح ، فالأكثرون على أنَّه جبريل -صلوات الله عليه- لقوله تعالى : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } [ الشعراء : 193 ] وسُمِّي روحاً؛ لأنَّ الدِّين يحيى به .
وقيل : سُمِّي رُوحاً على المجازِ؛ لمحبته ، وتقريبه ، كما تقول لحبيبك : رُوحِي .
وقيل : المرادُ من الرُّوح : عيسى -صلوات الله عليه- جاء في صورة بشرٍ ، فحملت به ، والأول أصحُّ ، وهو أنَّ جبريل عرض لها في صُورةِ شابٍّ أمرد ، حسن الوجه ، جعد الشَّعْر ، سويِّ الخلق وقيل : في صُورة تربٍ لها ، اسمه يوسفُ ، من خدم بيت المقدس .
قيل : إنما تمثَّل لها في صورة بشر؛ لكي لا تنفر منه ، ولو ظهر في صورةِ الملائكة ، لنفرت عنه ، ولم تقدر على استماع كلامه ، وهاهنا إشكالات :
الأول : أنَّه لو جاز أن يظهر الملكُ في صورة الإنسان المعيَّن ، فحينئذ؛ لا يمكُننا القطع بأنَّ هذا الشخص الذي نراه في الحال هو زيدٌ الذي رأينا بالأمْس؛ لاحتمالِ أن الملك ، أو الجنِّي تمثَّل بصورته ، وفتحُ هذا الباب يؤدِّي إلى السَّفْسَطةِ ، ولا يقال : هذا إنَّما يجوز في زمانِ [ جواز ] البعثة ، فأما في زماننا فلا يجوز .
لنا أن نقول : هذا الفرقُ إنَّما يعلمُ بالدليل ، فالجاهلُ بذلك الدَّليل يجبُ ألا يقطع بأنَّ هذا الشخص الذي رآه الآن هو الذي رآه بالأمْسِ .
الثاني : أنه جاء في الأخبار أنَّ جبريل -صلوات الله عليه- شخصٌُ عظيمٌ جدًّا ، فذلك الشخصُ -كيف صار بدنهُ في مقدارِ جثَّة الإنسان ، وذلك يوجبُ تداخل الأجزاء ، وهو محالٌ .
الثالث : أنَّا لو جوَّزنا أن يتمثَّل جبريل -صلوات الله عليه- في صورة الآدمي ، فلم لا يجوز تمثُّله في صورة أصغر من الآدميِّ؛ كالذُّباب ، والبقِّ ، والبعُوضِ ، ومعلومٌ أن كلَّ مذهب جرَّ إلى هذا ، وهو باطلٌ .
الرابع : أن تجويزهُ يفضي إلى القدحِ في خبر التَّواتُر ، فلعلَّ الشخص الذي حارب يوم بدرٍ ، لم يكُن محمَّداً -صلوات الله عليه وسلامه- بل كان شخصاً يشبهه ، وكذا القولُ في الكُلِّ .
والجوابُ عن الأوَّل : أن ذلك التجويز لازمٌ على الكُلِّ؛ لأنَّ من اعترف بافتقار العالم إلى الصَّانع المُختار ، فقد قطع بكونه قادراً على أن يخلُق شخصاً آخر؛ مثل زيدٍ في خلقه وتخطيطه ، وإذا جوَّزنا ذلك ، فقد لزم الشكُّ في أنَّ زيداً المشاهد الآن هو الذي شاهدناه بالأمْسِ ، أم لا ، ومن أنكر الصَّانع المختار ، وأسند الحوادث إلى اتصالات الكواكب ، وتشكُّلات الفلك ، لزمه [ تجويزُ ] أن يحدث اتصالٌ غريبٌ في الأفلاك يقتضي حدوث شخصٍ ، مثل زيدٍ في كُلِّ الأمور ، وحينئذٍ يعود التجويزُ المذكُور .
وعن الثاني : أنَّه لا يمتنعُ أن يكون جبريلُ -عليه السلام- له أجزاءٌ أصليَّةٌ ، وأجزاءٌ فاضلةٌ ، فالأجزاءُ الأصليَّة قليلةٌ جدًّا؛ فحينئذ : يكون متمكِّناً من التشبُّه بصُورة الإنسان ، هذا إذا جعلناه جسمانيًّا ، فإذا جعلناهُ روحانيًّا ، فأيُّ استبعادٍ في أن يتنوَّع بالهَيْكَل العظيم ، وأخرى بالهيكل الصَّغير .
وعن الثالث : أنَّ أصل التجويز قائمٌ في العقل ، وإنما عرف فسادهُ بدلائل السَّمع ، وهو الجوابُ عن السؤال الرابع .
قوله : { قَالَتْ إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } .
أي : إن كان يرجى منك أن تتقي الله ، فإنِّي عائذةٌ به منك؛ لأنَّها علمتْ أن الاستعاذة لا تؤثِّرُ في التُّقى ، فهو كقول القائل : إن كنت مُسْلماً ، فلا تظلمني ، أي : ينبغي أن تكُون تقواك مانعاً لك من الفُجُور .
كقوله تعالى : { وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ البقرة : 278 ] .
أي : أنَّ شرط الإيمان يُوجب هذا؛ لا أنَّ الله تعالى يُخْشَى في حالٍ دون حالٍ .
وقيل : كان في ذلك الزَّمانِ إنسانٌ فاجرٌ يتبعُ النِّساء ، اسمه تقيٌّ ، فظنَّت مريمُ انَّ ذلك الشخص المشاهد هُو ذاك ، والأول أصحُّ . قوله : { إِن كُنتَ تَقِيّاً } جوابه محذوفٌ ، أو متقدِّم .
قوله تعالى : { لاًّهَبَ } : قرأ نافعٌ ، وأبو عمرو « ليَهَبَ » بالياء والباقون « لأهَبَ » بالهمزة ، فالأولى : الظاهرُ فيها أنَّ الضمير للرَّبِّ ، أي : ليهبَ الرَّبُّ ، وقيل : الأصلُ : لأهَبَ ، بالهمز ، وإنما قلبتِ الهمزةُ ياءً تخفيفاً؛ لأنها مفتوحةٌ بعد كسرةٍ ، فتتفِقُ القراءتان ، وفيه بعدٌ ، وأمَّا الثانية ، فالضميرُ للمتكلِّم ، والمراد به الملكُ ، وأسنده لنفسه؛ لأنه سببٌ فيه ويؤيده : أن في بعض المصاحف : « أمرني أن أهب لك » ؛ ويجوز أن يكون الضمير لله تعالى ، ويكون على الحكاية بقولٍ محذوف .
قوله تعالى : { قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً } .
فصل
لما علم جبريلُ -صلوات الله عليه- خوفها ، قال : { إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ } ليزول عنها ذلك الخوف ، ولكن الخوف لا يزولُ بمجرَّدِ هذا القول ، بل لا بدَّ من دلالةٍ تدلُّ على أنه كان جبريل -صلوات الله عليه- ، فيحتمل أن يكون قد ظهر معجزٌ ، عرفت به أنَِّه جبريلُ -صلوات الله عليه- ، ويحتمل أنَّها عرفت صفة الملائكة من جهة زكريَّا -صلوات الله عليه- فلمَّا قال لها : { إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ } أظهر لها من جسده ما عرفت به أنَّه ملكٌ؛ فيكونُ ذلك هو العلمَ ، والذي يظهر أنَّها كانت تعرفُ صفة الملك بالأمارات ، حين كان يأتيها بالرِّزْق في المحراب ، وقال لها زكريَّا : { يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله } [ آل عمران : 37 ] .
قوله : { غُلاَماً زَكِيّاً } ولداً صالحاً طاهراً من الذُّنوب .
{ قَالَتْ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } إنما تعجبت مما بشَّرها جبريلُ؛ لأنَّها قد عرفت بالعادة أنَّ الولادة لا تكونُ إلاَّ من رجُلٍ ، والعاداتُ عند أهل المعرفةِ معتبرةٌ في الأمُور ، وإن جوَّزنا خلاف ذلك في القدرة ، فليس في قولها هذا دلالةٌ على أنَّها لم تعلمْ أنَّه تعالى قادرٌ على خلق الولد ابتداءً ، وكيف ، وقد عرفت أنَّه تعالى خلق أبا البشر على هذا الحدِّ؛ ولأنَّها كانت منفردةً بالعبادة ، ومن يكونُ كذلك ، لا بُدَّ أن يعرف قدرة الله تعالى على ذلك .
فإن قيل : قولها { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } كافٍ في المعنى ، فلم قالت : { وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } فالجوابُ من وجهين :
أحدهما : أنها جعلت المسَّ عبارة عن النِّكاح الحلال؛ لأنَّه كنايةٌ عنه قال تعالى : { مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } [ البقرة : 237 ] والزِّنَا ، إنما يقال فيه : فجر بها ، أو ما أشبهه .
والثاني : أن إعادتها؛ لتعظيم حالها؛ كقوله تعالى : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى } [ البقرة : 238 ] وقوله تعالى : { وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] . فكذا هاهنا : إن من لم تعرف من النِّساء بزوجٍ ، فأغلظ أحوالها ، إذا أتت بولدٍ : أن تكُون زانيةً ، فأفردت ذلك البغْي بعد دخوله في الكرم؛ لأنَّه أعظُم ما في بابه .
قوله تعالى : « بَغْيًّا » : في وزنه قولان :
أحدهما -وهو قولُ المبرِّد- أنَّ وزنه « فُعُولٌ » والأصل « بَغُويٌ » فاجتمعت الياء ، والواو ، [ ففعل فيه ما هو معروفٌ ] ، قال أبو البقاء : « ولذلك لم تلحق تاءُ التأنيث؛ كما لم تلحقْ في صبُور وشكور » ونقل الزمخشريُّ عن أبي الفتح في كتابه « التمام » أنها فعيلٌ ، قال : « ولو كانت فُعولاً ، لقيل : بغُوٌّ ، كما يقال : فلان نهُوٌّ عن المنكر » ولم يعقبه بنكير ، ومن قال : إنها « فَعِيْلٌ » فهل هي بمعنى « فَاعِل » أو بمعنى « مَفْعُول » ؟ فإن كانت بمعنى « فاعل » فينبغي أن تكون بتاء التأنيث؛ نحو : امرأةٌ قديرةٌ وبصيرةٌ ، وقد أجيب عن ذلك : بأنها معنى النَّسب؛ كحائضٍ وطالقٍ ، أي ذات بغي ، وقال أبو البقاء ، حين جعلها بمعنى « فَاعِل » : « ولم تلحقِ التاءُ أيضاً؛ لأنها للمبالغةِ » فجعل العلة في عدم اللحاقِ كون للمبالغة؛ وليس بشيءٍ ، وإن قيل بأنَّها بمعنى « مَفْعُول » فعدمُ الياءِ واضحٌ .
وتقدم الكلامُ على قوله : { قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } وهو كقوله في آل عمران { كَذَلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ آل عمران : 47 ] لا يمتنعُ عليه ما يريدُ خلقه ، ولا يحتاجُ في إنشائه إلى الآلاتِ والموادِّ .
قوله : « ولنَجْعَلهُ » يجوز أن يكُون علَّةً ، ومُعَلَّلُهُ محذوفٌ ، تقديره : لنجعله آيةٌ للنَّاسِ فعلنا ذلك ، ويجوز أن يكون نسقاً على علةٍ محذوفةٍ ، تقديره : لنُبَيِّنَ به قدرتنا ، ولنجعله آيةً ، والضميرُ عائدٌ على الغلام ، واسم « كان » مضمرٌ فيها ، أي : وكان الغلام ، أي : خلقه وإيجاده أمراً مقضياً : أي لا بُدَّ منه .
والمرادُ ب « الآية » العلامةُ ، أي : علامة للنَّاسِ ، ودلالةً على قُدْرتنا على أنواع الخلق؛ فإنه تعالى خلق آدم -صلوات الله عليه وسلامه- من غير ذكر ولا أنثى ، وخلق حوَّاءمن ذكر بلا أنثى ، وخلق عيسى -صلوات الله عليه- من أنثى بلا ذكرٍ ، وخلق بقيَّة النَّاسِ من ذكرٍ وأنْثَى .
{ وَرَحْمَةً مِّنَّا } أي : ونعمةً لمنْ تبعه على دينه ، { وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً } محكوماً مفروغاً منه ، لا يُرَدُّ ، ولا يُبَدَّلُ .
قوله تعالى : { فَحَمَلَتْهُ فانتبذت } .
قيل : إنَّ جبريل -صلوات الله عليه وسلامه- رفع درعها ، فنفخ في جيبه ، فحملتْ حين لبستْ .
وقيل : نفخ جبريلُ من بعيدٍ ، فوصل الرِّيح إليها ، فحملت بعيسى في الحالِ .
وقيل : إنَّ النَّفْخة كانت في فيها ، فوصلت إلى بطنها .
وقيل : كان النَّافخُ هو الله تعالى؛ لقوله عزَّ وجلَّ : { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [ التحريم : 12 ] .
وظاهرهُ؛ يفيدُ أنَّ النافخَ هو الله تعالى؛ ولأنه تعالى قال : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ } [ آل عمران : 59 ] .
ومقتضى التشبيه حُصُول المُشابهة إلاَّ فيما أخرجه الدَّليل ، وفي حقِّ آدم النَّافخُ هو الله تعالى؛ لقوله عزَّ وجلَّ : { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [ الحجر : 29 ] فكذا هاهنا ، وإذا عرفت هذا ، ظهر أن في الكلام حذفاً ، تقديره : « فَنَفخَ فيها ، فحملتهُ » .
قيل : حملتْ ، وهي بنتُ [ ثلاثَ عشرة سنةً ] .
وقيل : بنتُ عشرين ، وقد كانت حاضتْ حيضتين قبل أن تحمل ، وليس في القرآن ما يدلُّ على شيء من هذه الأحوال .
قوله تعالى : { فانتبذت بِهِ } : الجارُّ والمجرورُ في محلِّ نصب على الحال ، أي : انتبذتْ ، وهو مصاحبٌ لها؛ كقوله : [ الوافر ]
3585- . ... تَدُوسُ بِنَا الجَمَاجِمَ والتَّرِيبا
والمعنى : اعتزلت ، وهو في بطنها؛ كقوله : { تَنبُتُ بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] أي : تنبتُ ، والدُّهْنُ فيها .
{ مَكَاناً قَصِيّاً } : بعيداً من أهلها .
قال ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- : أقصى أقصى الوادي ، وهو وادي بيت لحم؛ فراراً من قومها أن يُعَيِّروها بولادتها من غير زوج .
واختلفوا في علَّة الانتباذِ؛ فروى الثعلبيُّ في « العَرَائِسِ » عن وهب قال : إنَّ مريم لمَّا حملتْ بعيسى -صلوات الله عليه- كان معها ابن عمٍّ لها يُسمَّى « يُوسُفَ النَّجَّار » ، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند « جَبَلِ صُهْيُون » ، وكانت مريمُ ويوسفُ يخدمان ذلك المسجدَ ، ولا يعلمُ من أهل زمانهما أحدٌ أشدُّ اجتهاداً منهما ، وأوَّلُ من عرف حمل مريم يوسفُ ، فتحير في أمرها ، فكلَّما أراد أن يتَّهمها ، ذكر صلاحها ، وعبادتها ، وأنَّها لم تغبْ عنه ساعةً قطُّ؛ فقال : إنَّه قد وقع في نفسي من أمرِك شيءٌ ، وقد حرصتُ على كتمانِهِ ، فغلبني ذلك ، فرأيتُ أنَّ الكلام فيه أشفى لصدْرِي فقالت : قُلْ قَوْلاً جَمِيلاً .
قال : أخبرني يا مريمُ ، هَلْ يَنْبُتُ زَرْعٌ بِغَيْرِ بِذْرٍ؟ وهلْ تَنْبُتُ شَجَرةٌ من غَيْرِ غَيْثٍ؟ وهَلْ يَكُونُ ولدق من غَيْرِ ذكرٍ؟ قالتْ : نَعَمْ ، ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ الله تعالى أنْبَتَ الزَّرْعَ يوْمَ خلقهُ مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ ، وهذا البَذْرُ إنَّما حصل مِنَ الذي أنْبَتَهُ من غَيْرِ بَذْرٍ .
ألم تعلم أنَّ الله أنْبتَ الشَّجَرَةَ بغير غَيْثٍ ، وبالقُدْرَةِ جعل الغَيْثَ حياةُ الشَّجرةِ ، بعدمَا خَلَقَ الله كُلَّ واحدٍ مِنْها على حدةٍ؟ أو تقُول : إنَّ الله لا يقدرُ على أنْ يُنْبِتَ الشَّجرة حتَّى استعان بالماءِ ، ولوْلاَ ذلكَ ، لَمْ يَقْدِرْ على إنباتها؟! .
قال يُوسفُ : لا أقُولُ هذا ، ولكنِّي أقُولُ : إنَّ الله تعالى قادرٌ على مَا يَشَاءُ ، فيقُول : كُنْ فَيَكُونَ ، فقالت لهُ مريمُ : أو لَمْ تعلمْ أنَّ خلق آدَمَ وامْرأتهُ حوَّاء من غير ذكرٍ ، ولا أنثى ، فعندهُ زالتِ التُّهْمَةُ عن قلبهِ ، وكان ينُوبُ عنها في خدمةِ المسجدِ؛ لاستيلاءِ الضَّعْف عليها؛ بسبب الحَمْلِ ، وضيق القَلْبِ ، فلمَّا قرُبَ نفاسُها ، أوحى الله تعالى إليها أن اخْرُجي من أرض قومكِ؛ لئلاَّ يقتُلُوا ولدكِ ، فاحتملها يوسفُ إلى أرْضِ مِصْر على حمار لهُ ، فلمَّا بلغتْ تلك البلادَ ، وأدْركهَا النِّفاسُ ، فألجأها إلى أصلِ نخلةٍ ، وذلك في زمانِ بردٍ ، فاحتضنتها ، [ فوضعت ] عندها .
وقيل : إنَّها استحيت من زكريَّا ، فذهبت إلى مكانٍ بعيدٍ ، لئلاَّ يعلم بها زكريَّا ، صلوات الله عليه- .
وقيل : لأنَّها كانَتْ مشهورةً في بني إسرائيل بالزُّهدِ؛ لنذْرِ أمِّهَا ، وتشاجَّ النبياءِ في تربيتها ، وتكفُّل زكريَّا بِهَا ، وكان الرِّزْقُ يأتيها من عند الله تعالى ، فلمَّا كانت في نهايةِ الشُّهرةِ اسْتَحيتْ من هذه الواقعةِ ، فذهَبتْ إلى مكانٍ بعيدٍ .
وقيل : ثمانية أشهر ، وكان ذلك آية أخرى؛ لأنَّه لم يعش ولدٌ لثمانية أشهر إلاَّ -عيسى- صلوات الله عليه- .
وقيل : لأنَّها كانَتْ مشهورةً في بني إسرائيل بالزُّهدِ؛ لنذْرِ أمِّهَا ، وتشاحَّ النبياءِ في تربيتها ، وتكفُّل زكريَّا بِهَا ، وكان الرِّزْقُ يأتيها من عند الله تعالى ، فلمَّا كانت في نهايةِ الشُّهرةِ اسْتَحْيتْ من هذه الواقعةِ ، فذهَبتْ إلى مكانٍ بعيدٍ .
وقيل : خافت على ولدها من القَتْل ، لو ولدته بين أظهرهم . وكلُّ هذه الوجُوهِ محتملةٌ ، وليس في القرآن ما يدلُّ على شيءٍ منها .
فصل في بيان حمل مريم
اختلفُول في مدَّة حملها ، فرُوي عن ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- أنَّها تسعة أشهر؛ كسائر النسِّاء في الغالب .
وقيل : ثمانية أشهر ، وكان ذلك آية أخرى؛ لأنَّه لم يعش ولدٌ يولدُ لثمانية أشهر إلاَّ عيسى « صلوات الله عليه- .
وقال عطاءٌ ، وأبو العالية ، والضحاك : سبعةُ أشهر وقيل : ستَّةُ أشهر .
وقال مقاتلُ بنُ سليمان : ثلاثُ ساعاتٍ ، حملت به في ساعةٍ ، وصُوِّر في ساعةٍ ، ووضعته حين زالتِ الشَّمْسِ من يومها .
وقال ابنُ عبَّاس : كان الحَمْل والولادةُ في ساعةٍ واحدة ، ويدلُّ عليه وجهان :
الأول : قوله : { فَحَمَلَتْهُ فانتبذت بِهِ } { فَأَجَآءَهَا المخاض } { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ } ، والفاء : للتعقيب؛ فدلَّت هذه الفاءاتُ على أنَّ كلَّ واحدٍ من هذه الأحوال حصل عقيبَ الآخَرِ من غير فصْلٍ؛ وذلك يوجبُ كون مدَّة الحَمْل ساعةً واحدة لا يقال : انتباذها مكاناً قصيًّا كيف يحصُل في ساعةٍ واحدةٍ؛ لأنَّا نقول : السُّدي فسَّر بأنَّها ذهبت إلى أقصى موضع في جانب محرابها .
الثاني : أنَّ الله تعالى قال في وصفه { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ آل عمران : 59 ] ، فثبت أن عيسى -صلواتُ الله عليه- كما قال الله تعالى : » كُنْ « فكان ، وهذا مما لا يتصوَّر فيه مدَّةُ الحمل ، إنَّما يتصوَّر مُدَّة الحمل في المتولِّد عن النُّطفة .
والقَصيُّ : البعيدُ .
يقال : مكانٌ قاصٍ ، وقَصِيٌّ بمعنى واحدٍ؛ مثل : عاصٍ وعَصِيٍّ .
قوله تعالى : { فَأَجَآءَهَا } : الأصلُ في » جَاءَ « : أنْ يتعدَّى لواحدٍ بنفسه ، فإذا دلت عليه الهمزة ، كان القياسُ يقتضي تعدِّه لاثنين ، قال الزمخشريُّ : » إلاَّ أنَّ استعماله قد تغيَّر بعد النَّقْل إلى معنى الإلجاء ، ألا تراك لا تقول : جئتُ المكانَ ، وأجاءنيه زيدٌ؛ كما تقولُ : بلغتهُ وأبلغنيه ، ونظيرهُ « آتى » حيثُ لم يستعمل إلا في الإعطاء ، ولم تقل : أتيتُ المكان وآتانيه فلانٌ « .
وقال أبو البقاء : الأصلُ » جَاءَهَا « ثم عُدِّي بالهمزة إلى مفعولٍ ثانٍ ، واستعمل بمعنى » ألْجَأها « .
قال أبو حيَّان : قوله : إنَّ » أجَاءَهَا « [ استعمل ] بمعنى » ألْجَأهَا « يحتاجُ إلى نقل أئمةِ اللغة المستقرئين لذلك من لسانِ العرب ، والإجاءةُ تدلُّ على المُطلقِ ، فتصلحُ لما هو بمعنى » الإلْجَاءِ « ولما هو بمعنى » الاختيار « كما تقول : » أقَمْتُ زَيْداً « فإنه يصلحُ أن تكون إقامتك لهُ قَسْراً أو اختياراً ، وأمَّا قوله : » ألا تراكَ لا تقُولُ « إلى آخره ، فمن رأى أنَّ التعدية بالهمزة قاسٌ ، أجاز ذلك ، وإن لم يسمعْ ، ومن منع ، فقد سمع ذلك في » جَاءَ « فيجيزُ ذلك ، وأمَّا تنظيهُ ذلك ب » أتى « فليس تنظيراً صحيحاً؛ لأنَّه بناهُ على أنَّ همزته للتعدية ، وأنَّ أصله » آتى « بل » آتى « ممَّا بُنِي على » أفْعَل « ولو كان منقولاً من » أتى « المتعدِّي لواحد ، لكان ذلك الواحدُ هو المفعول الثاني ، والفاعل هو الأوَّل ، إذا عدَّيته بالهمزة ، تقولُ : » أتى المالُ زيداً « و » آتى عمروٌ زيداً المالَ « فيختلفُ التركيبُ بالتعدية؛ لأنَّ » زَيْداً « عند النحويِّين هو المفعول الأول ، و » المال « هو المفعولُ الثاني ، وعلى ما ذكره الزمخشريُّ ، كان يكون العكس ، فدلَّ على أنَّه ليس ما قاله ، وأيضاً ، ف » أتى « مرادفٌ ل » أعْطَى « ، فهو مخالفٌ من حيثُ الدلالة في المعنى ، وقوله : » ولمْ تَقُل : أتَيْتُ المكانَ ، وآتانيه « هذا غيرُ مسلمٍ ، بل تقول : : أتَيْتُ المَكَانَ » كما تقول : « جِئْتُ المكانَ » وقال الشاعر : [ الوافر ]
3586- أتَوْا نَارِي فَقُلْتُ منُونَ أنتُمْ ... فقالُوا الجِنُّ قُلتُ عَمُوا ظَلامَا
ومن رأى التعدية بالهمزةِ قياساً ، قال : « آتانيه » قال شهاب الدين : وهذه الأبحاثُ التي ذكرها الشيخُ -رحمه الله- معه ظاهرةُ الأجوبة ، فلا نُطَوِّلُ بذكرها .
وقرأ الجمهورُ « فأجَاءَهَا » أي : ألْجَأهَا وساقها ، ومنه قوله : [ الوافر ]
3587- وجَارٍ سَارَ مُعْتَمِداً إليْكُمْ ... أجَاءَتْهُ المخَافَةُ والرَّجَاءُ
وقرأ حمَّادُ بن سلمة « فاجَأهَا » أي : ألْجَأهَا وساقها ، ومنه قوله : [ الوافر ]
3587- وجَارٍ سَارَ مُعْتَمِداً إليْكُم ... أجَأءَتْهُ المخَافَةُ والرَّجَاءُ
وقرأ حمَّادُ بن سلمة « فاجَأهَا » بألفٍ بعد الفاء ، وهمزة بعد الجيم ، من المفاجأة ، بزنة « قابلها » ويقرأ بألفين صريحتين؛ كأنهم خَفَّفُوا الهمزة بعد الجيمِ ، وبذلك رُويتْ بَيْنَ بَيْنَ .
والجمهورُ على فتح الميم من « المَخَاض » وهو وجعُ الولادةِ ، ورُوِيَ عن ابن كثير بكسر الميم ، فقيل : هما بمعنى ، وقيل : المفتوجُ : اسمُ مصدر؛ كالعطاءِ والسلامِ ، والمكسورُ مصدرٌ؛ كالقتال واللِّقاء ، والفعالُ : قد جاء من واحد؛ كالعقابِ والطِّرَاقِ ، قاله أبو البقاء ، والميم أصليةٌ؛ لأنه من « تَمخَّضتِ الحامِلُ تَتَمخَّضُ » .
و « إلى جذْعِ » يتعلق في قراءة العامَّة ب « أجَاءَهَا » أي : ساقها إليه .
وفي قراءة حمَّاد بمحذوفٍ ، لأنه حالٌ من المفعول ، أي : فاجأها مستندةً إلى جذْع النَّخْلةِ .
فصل في معنى الآية
المعنى : ألْجَأهَا المخاض ، وهو وجعُ الولادةِ إلى جذْعِ النَّخْلَة؛ لتستند إليها ، وتتمسَّك بها عمد وجع الولادة ، وكانت نخلة يابسةً في الصحراء في شدَّة الشِّتاء ، ولم يكُن لها سعفٌ ، ولا خُضْرة ، والتعريف فيها : إمَّا أن يكون من تعريف الأسماء الغالبة؛ كتعريف النّضجم [ والصَّعق ] أو كانت تلك الصَّحراء كان فيها جذْع نخلة مشهورٌ عند النَّاس .
فإن قيل : جذعُ النَّخْلة فهم منه ذلك دون سائره ، وإمَّا يكون تعريف الجنْسِ ، أي : إلى جذْعِ هذه الشَّجرة خاصَّةً؛ كأنَّ الله تعالى أرشدها إلى النَّخْلة؛ ليُطعمَها منها الرُّطب الذي هو أشبه الأشياء موافقة للنُّفساء ، ولأنَّ النخلة أشدُّ الأشياء صَبْراً على البَرْد ، ولا تُثْمِرُ إلاَّ عند اللِّقاح ، وإذا قُطِعَ رأسُها ، لم تُثْمِرْ ، فكأنَّ الله تعالى قال : كما أنَّ الأنثى لا تلدُ إلاَّ مع الذَّكر ، فكذا النَّخلة لا تُثْمِر إلا باللِّقاح ، ثم إنَّه أظهر الرُّطب من غيْر اللِّقَاح؛ ليدلَّ ذلك على جواز ظُهُور الولد من غير ذكر .
{ قَالَتْ ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا } تمنَّت الموت .
فإن قيل : كيف تمنَّت الموت مع أنها كانت تعلم أنَّ الله تعالى بعث جبريل -صلوات الله عليه- ووعدها بأنْ يجعلها وولدها آيةً للعالمين .
فالجوابُ من وجوه :
الأول : تمنَّت الموت استحياءً من النَّاس ، فأنْسَاها الاستحياء بشارة الملائكة بعيسى -صلوات الله عليه- .
الثاني : أنَّ عادة الصَّالحين -رضي الله تعالى عنهم- إذا وقعُوا في بلاءٍ : أن يقُولُوا ذلك ، كما رُوِيَ عن أبي بكر -رضي الله عنه- أنه [ نظر إلى طائرٍ ] على شجرة ، فقال : طُوبى لَكَ ، يا طَائِر؛ تقعُ على الشَّجرِ ، وتأكُلُ من الثَّمَر ، وددت أنِّي ثمرةٌ يَنْقُرهَا الطَّائِرُ .
وعن عُمر -رضي الله عنه- أنَّه أخذ تبنة من الأرض ، فقال : يا لَيْتَنِي هذه التَّبْنَةُ ، يا بَيْتَنِي لم أكُنْ شيئاً .
وعن عليٍّ كُرِّم وجهه يوم الجمل : لَيْتَنِي مِتُّ قبل هذا اليومِ بعشرين سنة .
وعن بلالٍ -رضي الله عنه- : ليت بلالاً لم تلدهُ أمهُ .
فثبت أنَّ هذا الكلام يذكُرُه الصَّالحون عند اشتداد الأمْرِ عليهم .
الثالث : -لعلَّها قالت ذلك؛ لئلاَّ تقع المعصيةُ ممن يتكلَّم فيها ، وإلاَّ فهي راضيةٌ بما بُشِّرَتْ به .
قوله تعالى : « نَسْياً » الجمهور على النون وسكون السين ، وبصريح الياء بعدها ، وقرأ حمزة وحفص وجماعة بفتح النون ، فالمكسور « فِعْل » بمعنى « مَفْعُولٍ » كالذَّبح والطَّحن ، ومعناه الشيء الحقيرُ الذي من شأنه أن ينسى؛ كالوتد ، والحبلِ ، وخرقةِ الطَّمْثِ ، ونحوها . تمنت لو كانت شيئاً تافهاً لا يؤبه له من حقّه أن ينسى عادة .
قال ابن الأنباري -رحمه الله- : « من كسر فهو اسمٌ لما يُنسى ، كالنَّقص؛ اسمٌ لما ينقصُ ، والمفتوحُ : مصدرٌ يسدُّ مسدَّ الوصف » وقال في الفرَّاء : هما لغتان؛ كالوَتْر والوِتْر ، والكسرُ أحَبُّ إليَّ « .
وقرأ محمدُ بنُ كعب القرظيُّ » نِسْئاً « بكسر النون ، والهمزةُ بدل الياء ، وروي عنه أيضاً ، وعن بكر بن حبيب السهميِّ فتحُ النون مع الهمزة ، قالوا : وهو من نسأتُ اللَّبن ، إذا صببت فيه ماءً ، فاستهلك فيه ، فالمكسورُ أيضاً كذلك الشيء المستهلك ، والمفتوحُ مصدرٌ؛ كما كان ذلك من النِّسيانِ .
ونقل ابن عطيَّة عن بكر بن حبيبٍ » نَساً « بفتح النون ، والسين ، والقصر؛ ك » عَصاً « ، كأنه جعل فعلاً بمعنى مفعولٍ؛ كالقبضِ بمعنى المقبوض .
و « منْسِيًّا » نعتٌ على المبالغة ، وأصله « مَنْسُويٌ » فأدغم ، وقرأ أبو جعفرٍ ، والأعمشُ « مِنْسيًّا » بكسر الميم؛ للاتباع لكسرة السين ، ولم يعتدُّوا بالساكن؛ لأنه حاجزٌ غير حصينٍ؛ كقولهم : « مِنْتِنٌ » و « مِنْخِرٌ » ، والمقبرة والمحبرة .
قوله تعالى : { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ } : قرأ الأخوان ، ونافع ، وحفص بكسر ميم « مِنْ » وجرِّ « تحتها » على الجار والمجرور ، والباقون بفتحها ، ونصب « تحتها » فالقراءةُ الأولى تقتضي أن يكون الفاعلُ في « نَادَى » مَكراً ، وفيه تأويلان :
أحدهما : هو جبريلُ ، ومعنى كونه « مِنْ تحتها ، أنه في مكانٍ أسفل منها؛ ويدلُّ على ذلك قراءةُ ابن عبَّاس » فناداها ملكٌ من تحتها « فصرَّح به .
ومعنى كونه أسفل منها : إما أن يكونا معاً في مكانٍ مستوٍ ، وهناك مبدأ معيَّنٌ ، وهو عند النَّخْلة ، وجبريلُ بعيدٌ عنها ، فكل من كان أقرب ، كان فوق ، وكُلُّ من كان أبعد ، كان تحت ، وبهذا فَسَّر الكلبيُّ قوله تعالى : { إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } [ الأحزاب : 10 ] .
ولهذا قال بعضهم : ناداها من أقصى الوادي .
وقيل : كانت مريم على أكمةٍ عاليةٍ ، وجبريل أسفل؛ قاله عكرمة .
ورُوِيَ عن عكرمة : أنَّ جبريل ناداها من تحتِ النخْلَة .
و » مِنْ تَحْتهَا « على هذا فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلِّقق بالنداء ، أي : جاء النداء من هذه الجهة .
والثاني : أنه حالٌ من الفاعل ، أي : فناداها ، وهو تحتها .
وثاني التأويلين : أنَّ الضمير لعيسى ، أيك فناداها المولودُ من تحتِ ذيلها ، والجارُّ فيه الوجهان : من كونه متعلَّقاً بالنداء ، أو بمحذوفٍ على انه حالٌ ، والثاني أوضحُ .
والقراءة الثانية : تكونُ فيها » مَنْ « موصولةً ، والظرفُ صلتها ، والمرادُ بالموصول : إمَّا جبريلُ ، وإمَّا عيسى .
وقرأ زئرٌّ ، وعلقمةُ : » فَخَاطَبَهَا « مكان » فَنَادَاها « .
فصل في اختلافهم في المنادي
قال الحسنُ وسعيدُ بن جبيرٍ : إنَّ المنادي هو عيسى -صلوات الله عليه- وقال ابنُ عبَّاسٍ والسديُّ ، وقتادةُ ، والضحاكُ ، وجماعةٌ : إنَّه جبريل -صلوات الله عليه- وكانت مريمُ على أكمة [ وجبريل ] وراء الأكمةِ تحتها .
وقال ابن عيينة ، وعاصمٌ : المنادي على القراءة بالفتح وهو عيسى ، وعلى القراءة بالكسر هو الملكُ ، والأوَّل أقربُ لوجوهٍ :
الأول : أن قوله : { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ } بفتح الميم إنَِّما يستعملُ إذا كان قد عُلِم قبل ذلك أنَّ تحتها أحداً ، والذي عُلِمَ كونه تحتها هو عيسى -صلوات الله عليه- فوجب حملُ اللفظ عليه ، وأما قراءة كسر الميم ، فلا تقتضي كون المنادي » جبريل « صلواتُ الله عليه .
الثاني : أنَّ ذلك الموضع موضعُ اللَّوْث والنَّظر إلى العورة ، وذلك لا يليقُ بالملائكةِ .
الثالث : ان قوله » فَنَدَاهَا « فعلٌ ، ولا بُدَّ أن يكون فاعله قد تقدَّم ذكره ، والذي تقدَّم ذكره هو جبرائيل ، وعيسى -صلوات الله عليهما- ، إلا أنَّ ذكر عيسى أقربُ؛ لقوله عزَّ وجلَّ : { فَحَمَلَتْهُ فانتبذت } والضمير عائدٌ إلى المسيح ، فكان حمله عيله أولى .
الرابع : أنَّ عيسى -صلوات الله عليه- لو لم يكُن كلَّمها ، لما علمتْ أنه ينطقُ ، ولما كانت تُشيرُ إلى عيسى بالكلام .
فصل في معنى الآية على القولين
من قال : المُنادِي : هو عيسى ، فالمعنى : أنَّ الله تعالى أنطفه لها حين وضعتهُ تطبيباً لقلبها ، وإزالةً للوحشة عنها؛ حتى تشاهد في أوَّل الأمْر ما بشَرها به جبريل -صلوات الله عليه- من عُلُوِّ شأن ذلك الولد .
ومن قال : المنادي هو جبريلُ -صلوات الله عليه- قال : إنه أرسل إليها؛ ليناديها بهذه الكلمات؛ كما أرسل إليها في أوَّل الأمْر؛ تذكيراً للبشارات المتقدمة .
قوله : « ألاَّ تَحْزَنِي » يجوز في « أنْ » أن تكون مفسرةً؛ لتقدُّمها ما هو بمعنى القول ، و « لا » على هذا : ناهيةٌ ، حذف النون للجزم؛ وأن تكون الناصبة ، و « لا » حينئذٍ نافيةٌ ، وحذفُ النُّون للنَّصْب ، ومحلُّ « أنْ » إمَّا نصب ، أو جرٌّ؛ لأنها على حذفِ حرفِ الجرِّ ، أي : فَنَادَاهَا بكذا ، والضميرُ في « تحتها » : إمَّا لمريم -صلوات الله عليها- وإمَّا للنَّخلة ، والأول أولى؛ لتوافق الضميرين .
قوله تعالى : [ « سَرِيًّا » ] يجوز أن يكون مفعولاً أوَّل ، و « تَحْتك » مفعولٌ ثان؛ لأنها بمعنى صيَّر « ويجوز أن تكون بمعنى » خلق « فتكون » تَحْتَكِ « لغواً .
والسَّرِيُّ : فيه قولان :
أحدهما : إنه الرَّجُلُ المرتفع القدر ، من » سَرُوَ يَسْرُو « ك » شَرُفَ ، يَشْرَفُ « فهو سريٌّ ، وأصله سَرِيوٌ؛ فأعلَّ سيِّدٍ ، فلامهُ واوٌ ، والمراد به في الآية عيسى ابنُ مريم -صلوات الله عيله- ، ويجمعُ » سريٌّ « على » سراة « بفتح السين ، وسُرَواء؛ كظرفاء ، وهما جمعان شاذَّان ، بل قياسُ جمعه » أسْرِيَاء « كغَنِيِّ ، وأغنياء ، وقيل : السَّرِيُّ : من » سَرَوْتُ الثَّوبَ « أي : نزعتهُ ، وسروتُ الجُلَّ عن الفرس ، أي : نزعتهُ؛ كأنَّ السريَّ سرى ثوبه؛ بخلاف المُدَّثِّر ، والمُتزمِّل ، قاله الراغب .
والثاني : أنه النَّهْر الصغير ، ويناسبه » فكُلِي واشْرَبِي « واستقاقه من » سَرَى ، يَسْرِي « لأن الماء يَسْري فيه ، فلامه عهلىىهذا ياء؛ وأنشدوا للبيدٍ : [ الرجز ]
3588- فَتَوسَّطَا عُرْضَ السَّريِّ فصَدَّعا ... مَسْجُورةً مُتَجَاوِزاً قُلاَّمُهَا
فصل
قال الحسن ، وابن زيدٍ : السَّريُّ هو عيسى ، والسَّريُّ : هو النَّبيلُ الجليلُ .
يقال : فلانٌ من سرواتِ قومه ، أي : من أشرافهم ، وروي أن الحسن رجع عنه .
وروي عن قتادة وغيره : أن الحسن تلا هذه الآية وإلى جنبه حُمَيْد بن عبد الرَّحمن الحَميريُّ -رضي الله عنه- : { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } .
فقال : إن كان لسربًّا ، وإن كان لكريماً ، فقال له حميدٌ : يا أبا سعيد ، إنما هو الجدول ، فقال له الحسنُ » مِنْ ثمَّ [ تُعْجِبُنِي مُجَالستُكَ « ] .
واحتجَّ من قال : هو النَّهر « بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن السَّريِّ ، فقال -صلوات الله عليه وسلامه- هو الجدولُ » وبقوله سبحانه وتعالى : { فَكُلِي واشربي } فدلَّ على أنَّه على أنَّه النَّهر؛ حتى ينضاف الماءُ إلى الرُّطب ، فتأكل وتشرب .
واحتجَّ من قال : إنَّه عيسى بأنَّ النهر لا يكون تحتها ، بل إلى جنبها ، ولا يجوزُ أن يكون يُجابُ عنه بأن المراد أنَّه جعل النَّهر تحت أمرها يجري بأمرها ، ويقف بأمرها؛ لقوله : { وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتيا } [ الزخرف : 51 ] لأنَّ هذا حمل اللفظ على مجازه ، ولو حملناه على عيسى ، لم يحتج إلى هذا المجاز .
وأيضاً : فإنَّه موافقٌ لقوله : { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } [ المؤمنون : 50 ] .
وأجيب : بما تقدَّم أن المكان المستوي ، إذا كان فيه مبدأٌ معيَّنٌ ، فكلُّ من كان أقرب منه ، كان فوق ، وكل من كان أبعد منه ، كان تحت .
فصل في التفريع على القول بأن السريّ النهر
إذا قيل : إنَّ السَّرِيَّ : هو النَّهْر ، ففيه وجهان :
الأول : قال ابنُ عبَّاس -رضي الله عنهما- : إنَّ جبرائيل -صلواتُ الله عليه وسلامه -ضرب برجله الأرض .
وقيل : عيسى؛ فظهرت عينُ ماءٍ عذبٍ ، وجرى .
وقيل : كان هناك ماءٌ جارٍ؛ والأول اقربُ؛ لأن قوله { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } يدلُّ على الحدوث في ذلك الوقت؛ ولأنَّ الله تعالى ذكرهُ تعظيماً لشأنها ، وذلك لا يدلُّ إلا على الوجه الذي قلناه .
وقيل : كان هناك نهرٌ يابسٌ أجرى الله فيه الماء ، وحيث النخلة اليابسة ، فأورقتْ ، وأثمرتْ ، وأرطبتْ .
قال أبو عبيدة والفَّراء : السَّريُّ : هو النَّهْرُ مطلقاً .
وقال الأخفشُ : هو النَّهْرُ الصَّغير .
قوله تعالى : { وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة } : يجوز أن تكون الباءُ في « بِجِذْعٍ » زائدة ، كهي في قوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] [ وقوله ] :
3589- . . .. . . . لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ
وأنشد الطبريُّ -رحمة الله تعالى- : [ الطويل ]
3590- بِوَادٍ يمانٍ يُنْبِتُ السِّدْرَ صدْرُهُ ... وأسْفَلُهُ بالمَرْخِ والشَّبَهَانِ
أي : ينبت المرخ أي : هُزِّي جذْعَ النَّخلةِ .
أو حركي جذْعَ النَّخلة . قال الفرَّاء : العربُ تقول : هزَّهُ ، وهزَّ به ، وأخذ الخطام وأخذ بالخطام ، وزوَّجتُك فلانة ، وبفُلانةٍ ويجوز أن يكون المفعول محذوفاً ، والجارُّ حالٌ من ذلك المحذوف ، تقديره : وهُزِّي إليك رُطباً كائناً بجذع النخلة ، ويجوز أن يكون هذا محمولاً على المعنى؛ إذ التقدير : هُزِّي الثمرةَ بسبب هزِّ الجِذْع ، أي : انفُضِي الجِذْع ، وإليه نحا الزمخشريُّ؛ فإنه قال : « أو افْعَلِي الهَزَّ » ؛ مقوله : [ الطويل ]
3591- ... يَجْرَحْ فِي عَراقِيبِهَا نَصْلِي
قال أبو حيَّان : وفي هذه الآية ، وفي قوله تعالى : { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } [ القصص : 32 ] ما يردُّ على القاعدة المقرَّرةِ في علم النَّحو : من أنَّه لا يتعدَّى فعلُ المضمرِ المتَّصل إلى ضميره المتَّصلِ ، إلاَّ في باب « ظنَّ » وفي لَفْظَتَيْ « فَقَدَ ، وعدِمَ » لا يقالُ : ضربْتُكَ ، ولا ضَرَبْتُني ، أي : ضَربْتَ أنْتَ نَفْسَكَ ، وضَربْتُ أنَا نفسي ، وإنما يؤتى في هذا بالنَّفْسِ ، وحكمُ المجرور بالحرف المنصوب؛ فلا يقال : هَزَزْتَ إليك ، ولا زيدٌ هزَّ إليه؛ ولذلك جعل النحويُّون « عَنْ » و « عَلَى » اسمين في قول امرئ القيس : [ الطويل ]
3592- دَعْ عَنْكَ نَهْباً صيحَ في حُجُراتِهِ ... ولكِنْ حدياً ما حَدِيثُ الرَّواحِلِ
وقول الآخر : [ المتقارب ]
3593- هَوِّنْ عليمَ فإنَّ الأمُورَ ... بكَفِّ الإلهِ مقاديرُهَا
وقد ثبت بذلك كونهما اسمين؛ لدُخُولِ حرفِ الجرِّ عليهما في قوله : [ الطويل ]
3594- غَدَتْ من عليْهِ بعدما تمَّ ظمؤهَا ... تَصِلُ وعن قَيْضٍ بِبَيْدَاءَ مَجْهَلِ
وقول الآخر : [ البسيط ]
3595- فَقُلْتُ للرَّكْبِ لمَّا أن عَلا بِهِمُ ... مِنْ عَنْ يمينِ الحُبَيَّا نظرةٌ قَبْلُ
وأمَّا « إلى » فحرفٌ بلا خلافٍ ، فلا يمكنُ فيها أن تكون اسماً؛ ك « عَنْ » و « عَلَى » ثم أجاب : بأنَّ « إليكِ » في الآيتين لا تتعلقُ بالفعل قبله ، إنما تتعلَّقُ بمحذوفٍ على جهةِ البيان ، تقديره : « أعني إليك » قال : « كما تأولوا ذلك في قوله : { إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } [ الأعراف : 21 ] في أحد الأوجه » .
قال شهاب الدين -رضي الله تعالى عنه- : وفيه ذلك جوابان آخران :
أحدهما : أن الفعل الممنوع إلى الضمير المتصل ، إنما هو من حيث يكون الفعلُ واقعاً بذلك الضمير ، والضمير محلٌّ له؛ نحو : « دَعْ عنْكَ » و « هوِّنْ عليْكَ » وأمَّا الهزُّ والضمُّ ، فليسا واقعين بالكاف ، فلا محذور .
والثاني : أنَّ الكلام على حذف مضافٍ ، تقديره : هُزِّي إلى جهتك ونحوك واضمم إلى جهتك ونحوك .
فصل في المراد بجذع النخلة
قال [ القفال ] : الجِذْعُ من النَّخلة : هو الأسفل ، وما دُون الرَّأس الذيىعليه الثَّمرة .
وقال قطربٌ : كُلُّ خشبة في أصل شجرة ، فهي جذعٌ .
قوله : « تُسَاقِطْ » قرأ حمزةُ « تَسَاقَطْ » بفتح التاء ، وتخفيف السين ، وفتح القاف ، والباقون -غير حفص- كذلك إلا أنَّهم شدَّدُوا السِّين ، وحفصٌ ، بضم التاء ، وتخفيف السين ، وكسر القاف .
فأصلُ قراءةِ غير حفص « تتساقطْ » بتاءين ، مضارع « تَساقَطَ » فحذف حمزة إحدى التاءين تخفيفاً؛ نحو : { تَنَزَّلُ } [ القدر : 4 ] و { تَذَكَّرُونَ } [ الأنعام : 152 ] ، والباقون أدغمُوا في السِّين ، وقراءة حفص مضارعُ « سَاقَطَ » .
وقرأ الأعمش ، والبراء [ بنُ عازبٍ ] « يَسَّاقَطْ » كالجماعة ، إلا أنه بالياء من تحتُ ، أدغم التاء في السِّين؛ إذ الأصلُ : « يتساقَط » فهو مضارعُ « اسَّاقَطَ » وأصله « يَتَساقَطُ » فأدغمَ ، واجتلبتْ همزة الوصل؛ ك « ادَّارَأ » في « تَدَارَأ » .
ونْقل عن أبي حيوة ثلاثُ قراءاتٍ :
وافقهُ مسروقٌ في الأولى ، وهي « تُسْقِطْ » بضم التاء ، وسكون السين ، وكسر القاف من « أسْقَطَ » .
والثانية : كذلك إلا أنه بالياء من تحتُ .
الثالثةُ كذلك إلاّض أنه رفع « رُطَباً جَنِيًّا » بالفاعلية .
وقُرِئَ « تَتَسَاقَط » بتاءين من فوقُ ، وهو أصل قراءة الجماعة ، وتَسْقُط ويَسْقُط ، بفتح التاء والياء ، وسكون السين ، وضمِّ القاف ، فرفعُ الرطب بالفاعلية ، وتعطي من الأفعال ما يوافقه في القراءات المتقدمة ، ومن قرأ بالتاء من فوق ، فالفعل مسندٌ : إمَّا للنَّخلة ، وإمَّا للثمرةِ المفهومة من السياق ، وإمَّا للجذْعِ ، وجاز تأنيثُ فعله؛ لإضافته إلى مؤنَّث؛ فهو كقوله : [ الطويل ]
3596- ... كَمَا شَرقَتْ صَدْرُ القناةِ مِن الدَّمِ
وكقراءة { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة } [ يوسف : 10 ] ومن قرأ بالياء من تحت ، فالضميرُ للجذْعِ ، وقيل : للثَّمر المدلول عليه بالسيِّاق .
وأمَّا نصب « رُطَباً » فلا يخرجُ عن كونه تمييزاً ، أو حالاً موطِّئة ، إن كان الفعل قبله لازماً ، أو مفعولاً به ، إن كان الفعل متعدِّياً ، [ والذَّكِيُّ ] يردُّ كلَّ شيءٍ إلى ما يليقُ به من القراءات ، وجوَّز المبرِّد في نصبه وجهاً غريباً : وهو أن يكون مفعولاً به ب « هُزِّي » وعلى هذا ، فتكون المسألةُ من باب التنازع في بعض القراءات : وهي أن يكون الفعل فيها متعدِّياً ، وتكون المسألةُ من إعمال الثاني ، للحذف من الأوَّل .
وقرأ طلحة بن سليمان « جنيًّا » بكسرِ الجيم إتباعاً لكسرةِ النون .
والرُّطبُ : اسم جنسٍ برطبة؛ بخلاف « تُخَم » فإنَّه جمعٌ لتخمة ، والفرقُ : أنهم لزمُوا تذكيرهُ ، فقالوا : هو الرطبُ ، وتأنيث ذاك ، فقالوا : هي التُّخَمُ ، فذكَّرُوا « الرُّطَب » باعتبار الجنس ، وأنَّثُوا « التُّخَمَ » باعتبار الجمعيَّة ، وهو فرقٌ لطيفٌ ، ويجمعُ على « أرطابٍِ » شذوذاً كربع وأرباع ، والرُّطب : ما قطع قبل يبسه وجفافه ، وخصَّ الرُّطب بالرُّطبِ من التَّمر ، وأرطبَ النَّخْلُ؛ نحو : أتْمَرَ وأجْنَى .
والجَنِيُّ : ما طاب ، وصلح للاجتناء ، وهو « فَعِيلٌ » بمعنى مفعول أي رُطَباً مَجنيًّا ، وقيل : بمعنى فاعلٍ ، أي : طريًّا ، والجنى والجنيُّ أيضاً : المُجْتَنَى من العسلِ ، وأجْنَى الشَّجَرُ : أدْرَكَ ثمرهُ ، وأجنتِ الأرضُ : كَثُرَ جناها ، واستعير من ذلك « جنى فلانٌ جنايةً » كما استعير « اجْتَرَمَ جَريمَةً » .
فصل في معنى الآية
المعنى جمعنا لك بين الشُّرب والأكل .
قال عمروُ بنُ ميمُون : ليس شيءٌ خيرٌ من الثَّمر والرُّطب ، ثم تلا هذه الآية .
وقال بعضُ العلماءِ : أكْلُ الرُّطبِ والثَّمرةِ للمرأةِ الَّتي ضربها الطَّلق يُسَهِّل عليها الولادة .
قال الرَّبيعُ بنُ خيثمٍ « ما للنُّفساءِ عندي خيرٌ من الرُّطب ، ولا للمرضِ خيرٌ من العسل .
قالت المعتزلةُ : هذه الأفعال الخارقةُ للعادةِ كانت معجزة لزكريَّا وغيره من الأنبياء؛ وهذا باطلٌ؛ لأنَّ زكريَّا -صلوات الله عليه وسلامه- ما كان له علمٌ بحالها ومكانها ، فكيف بتلك المعجزات؟ بل الحقُّ أنها كانت كراماتٍ لمريم ، أو إرهاصاً لعيسى- صلوات الله عليهما- ، لأنَّ النَّخلة لم تكُن مثمرةً ، إذا ذاك؛ لأن ميلادهُ كان في زمان الشتاء ، وليس ذاك وقت ثَمر .
قوله تعالى : { وَقَرِّي عَيْناً } : نصب » عًيْناً « على التمييز منقولٌ من الفاعل؛ إذ الأصل : لتقرَّ عينُك ، والعامَّة على فتح القاف من » قَرِّي « أمراً من قرَّت عينهُ تَقَرَّ ، بكسر العين في الماضي ، وفتحها في المضارع .
وقُرئ بكسر القاف ، وهي لغةُ نجدٍ؛ يقولون : قرَّت عينهُ تقرُّ ، بفتح العين في الماضي ، وكسرها في المضارع ، والمشهورُ : أن مكسور العين في الماضي ل « العَيْنِ » ، والمفتوحها في « المَكَان » يقال : قررتُ بالمكانِ اقرُّ به ، وقد يقال : قررتُ بالمكانِ بالكسر ، وسيأتي ذلك في قوله تعالى { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } [ الأحزاب : 33 ] .
وفي وصف العين بذلك تأويلان «
أحدهما : أنَّه مأخوذٌ من » القُرّ « وهو البردُ : وذلك أنَّ العين ، إذا فرح صاحبها ، كان دمُعها قارًّا ، بارداً ، وإذا حزن ، كان حارًّا؛ ولذلك قالوا في الدعاء عليه : » أسْخَنَ اللهُ عيْنَهُ « وفي الدعاء له : » أقر اللهُ عيْنه « وما أحلى قول أبي تمَّام -رحمه الله تعالى- : [ الطويل ]
3597- فأمَّا عُيُونُ العاشِقينَ فأسْخِنَتْ ... وأمَّا عُيونُ الشَّامتينَ فقرَّتِ
والثاني : أنه مأخوذٌ من الاستقرار ، والمعنى : أعطاه الله ما يسكِّنُ عينه فلا تطمحُ إلى غيره .
المعنى : فكلي من الرطب واشربي من النهر » وقرّي عيناً « وطيبي نفساً ، وقدَّم الأكل على الشرب؛ لأن حاجة النُّفساء ، إلى الرُّطب أشدُّ من احتياجها إلى شرب الماء؛ لكثرة ما سال منها من الدَّم ، قيل : » قَرِّي عيْناً « بولدك عيسى ، وتقدَّم معناه .
فإن قيل : إن مضرَّة الخوف أشدُّ من مضرَّة الجُوع والعطشِ؛ لأنَّ الخَوْفَ ألمُ الرُّوح ، والجُوع ألمُ البدنِ ، وألم الرُّوح أقوى من ألم البدنِ ، يروى أنَّه أجيعتْ شاةٌ ، فقُدِّم إليها علفٌ ، وعندها ذئبٌ ، فبقيت الشَّاة مدَّة مديدة لا تتناول العلف ، مع جوعها؛ خوفاً من الذئب ، ثم كسر رجلها ، وقدم العلفُ إليها ، فتناولت العلف ، مع ألم البدن؛ فدلَّ ذلك على أنَّ ألم الخوف أشدُّ من ألم البدنِ ، وإذا كان كذلك ، فلم قدَّم دفع ضرر الجُوع والعطش على دفع ضرر الخوف؟ .
فالجوابُ : لأنَّ هذا الخوف كان قليلاً؛ لأنَّ بشارة جبريل -صلوات الله عليه- كانت قد تقدَّمت ، فما كانت تحتاجُ إلى التَّذكرة مرَّة أخرى .
قوله تعالى : { فَإِمَّا تَرَيِنَّ } دخلت » إن « الشرطيةُ على » ما « الزائدةِ للتوكيد ، فأدغمتْ فيها ، وكتبتْ متَّصلة ، و » تَرَينَّ « تقدَّم تصريفه .
أي : » أن تري « ، فدخلت عليه نونُ التَّوكيد ، فكسرتِ الياءُ ، لالتقاء الساكنين .
معناه : فإمَّا ترينَّ من البشر أحداً ، فسألك عن ولدكِ والعامَّةُ على صريح الياء المكسورة ، وقرأ أبو عمروٍ في رواية » ترَئِنَّ « بهمزة مكسورة بدل الياء ، وكذلك رُوي عنه » لتَرؤنَّ « بإبدالِ الواو همزةً ، قال الزمخشري : » هذا من لٌغةِ من يقولُ : لبَأتُ بالحَجِّ ، وحلأتُ الَّسويقَ « -يعني بالهمز- وذلك لتآخ بين الهمز وحروف اللِّين » وتجَرَّأ ابنُ خالويه على أبي عمروٍ؛ فقال : « هو لَحْنٌ عند أكْثَرِ النَّحويِّين » .
وقرأ أبو جعفر قارئُ المدينةِ ، وشيبةُ ، وطلحةُ « تَرَيْنَ » بياءٍ ساكنة ، ونون خفيفة ، قال أبن جني : « وهي شاذَّةٌ » .
قال شهاب الدين : لأنَّه كان ينبغي أن يؤثِّر الجازمُ ، فيحذف نون الرفع؛ كقُول الأفوهِ : [ السريع ]
3598- إمَّا تَرَيْ رَأسِي أزْرَى بِهِ ... ماسُ زمانٍ ذِ انتِكاثٍ مَئُوس
ولم يؤُثِّر هنا شذوذاً ، وهذا نظيرُ قول الآخر : [ البسيط ]
3599- لولا فَوارِسُ مِنْ نُعْمٍ وأسْرتِهِمْ ... يَوْمَ الصُّليْفاءِ لمْ يُوفونَ بالجَارِ
فلم يعمل « لَمْ » وأبقى نون الرَّفع . و « من البشر » حالٌ من « أحَداً » لأنه لو تأخَّر ، لكان وصفاً ، وقال أبو البقاء : « أو مفعول » يعني متعلِّق بنفس الفعل قبله .
قوله تعالى : « فَقُولِي » بين هذا الجواب ، وشرطه جملةٌ محذوفةٌ ، تقديره : فإمَّا ترينَّ من البشر أحداً ، فسألك الكلام ، فقُولي ، وبهذا المقدَّر نخلصُ من إشكالٍ : وهو أنَّ قولها « فَلَنْ أكَلِّمَ اليومَ إنسيًّا » كلامٌ؛ فيكون ذلك تناقضاً؛ لأنها قد كلَّمت إنسيًّا بهذا الكلامِ ، وجوابه ما تقدَّم .
ولذلك قال بعضهم : إنَّها ما نذرتْ في الحال ، بل صبرتْ؛ حتَّى أتاها القَوْمَ ، فذكرت لهم : { إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً } .
وقيل : المرادُ بقوله « فقٌولي » إلى لآخره ، أنه بالإشارة ، وليس بشيء؛ بل المعنى : فلن أكلِّم اليوم إنسيًّا بعد هذا الكلامِ .
وقرأ زيدُ بن عليٍّ « صِيَاماً » بدل « صوماً » وهما مصدران .
فصل في معنى صوماً
معنى قوله تعالى : « صَوْماً » : أي صمتاً ، وكذلك كان يقرأ ابن مسعُود -رضي الله عنه- ، والصَّوم في اللُّغة ، الإمْسَاك عن الطَّعام والكلام .
قال السديُّ : كان في بني إسرائيل من إذا أراد أن يجتهد ، صام عن الكلام ، كما يصوم عن الطَّعام ، فلا يتكلَّم حتَّى يُمْسِيَ .
قيل : كانت تُكَلِّمُ الملائكة ، ولا تكلِّم الإنْسَ .
قيل : أمرها الله تعالى بنذر الصَّمْت؛ لئلاَّ تشرع مه من اتَّهَمَهَا في الكلام؛ لمعنيين :
أحدهما : أن كلام عيسى -صلوات الله عليه- أقوى في إزالةِ التُّهمَة من كلامهما ، وفيه دلالةٌ على أنَّ تفويض [ الأمر ] إلى الأفضلِ أولى .
الثانية : كراهةُ مجادلة السُّفهاء ، وفيه أنَّ السُّكُوت عن السَّفيه واجبٌ ، ومن أذلِّ الناس سفيهٌ لم يجد مسافهاً .
قوله تعالى : { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ } : « به » في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل « أتَتْ » ، [ أي : أتَتْ ] مصاحبة له؛ نحو : جاء بثيابه ، أيك ملتبساً بها ، ويجوز أن تكون الباءُ متعلقة بالإتيان ، وأمَّا « تَحْملُه » فيجوز أن يكون حالاً ثانية من فاعل « أتَتْ » ويجوز أن يكون حالاً من الهاء في « به » وظاهر كلام أبي البقاء : أنَّها حالٌ من ضمير مريم وعيسى معاً؛ وفيه نظرٌ .
قوله تعالى : شَيْئاً « مفعولٌ به ، أي : فعلِت شيئاً ، أو مصدرٌ ، أي : نوعاً من المجيءِ غريباً ، والفَرِيُّ : العظيمُ من الأمر؛ يقال في الخَيْر والشرِّ ، وقيل : الفَرِيُّ : العجيبُ ، وقيل : المُفْتَعَلُ ، ومن الأول ، الحديثُ في وصف عمر -رضي الله عنه- : » فَلَمْ أرَ عَبْقرِيًّا يَفْرِي فريَّهُ « والفَرِيُ : قطعُ الجلد للخَرْزِ والإصلاح ، والإفْرَاء : إفساده ، وفي المثل : جاء يَفْرِي الفَرِيَّ ، أي : يعمل العمل العظيم؛ وقال : [ الكامل ]
3600- فلأنْتَ تَفْرِي ما خَلقْتَ وبَعْ ... ضُ القَوْمِ يَخْلقُ يَخْلقُ ثُمَّ لا يَفْري
وقرأ أبو حيوة فيما نقل عنه ابنُ خالويه « فَرِيئاً » بالهمز ، وفيما نقل ابن عطية « فَرْياً » بسكون الراء .
وقرأ عمر بن لجأ « ما كَانَ أباَك امْرُؤ سَوْءٍ » جعل النكرة الاسم ، والمعرفة الخبر؛ كقوله : [ الوافر ]
3601- ... يَكُونُ مِزاجَهَا عَسَلٌ ومَاءُ
وقوله : [ الوافر ]
3062- ... ولا يَكُ مَوْقفٌ مِنْكِ الوَداعَا
وهنا أحسنُ لوجودِ الإضافةِ في الاسم .
فصل في كيفية ولادة مريم وكلام عيسى لها ولقومه
قيل : إنَّها ولدته ثم حملته في الحال إلى قومها .
وقال ابنُ عباس ، والكلبيُّ : احتمل يوسفُ النَّجَّار مريم ، [ وابنها ] عيسى إلى غارٍ ، ومكثَ أربعين يوماً؛ حتَّى طهرتْ من نفاسها ، ثم حملته مريمُ إلى قومها ، فكلَّمها عيسى في الطَّريق؛ فقال : يا أمَّاه ، أبشري؛ فإنِّي عبد الله ، ومسيحه ، فلما دخلت على أهلها ومعها الصَّبِيُّ ، بكَوْا ، وحَزِنُوا ، وكانُوا أهل بيت صالحين؛ فقالوا { يامريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } عظيماً مُكراً .
قال أبو عبيدة : كُلُّ أمرٍ فائق من عجب ، أو عملٍ ، فهو فَرِيٌّ؛ وهذا منهم على وجه الذَّمِّ ، والتوبيخ؛ لقولهم بعده : { ياأخت هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } .
قوله تعالى : { ياأخت هَارُونَ } يريدون : يا شبيهة هارون ، قال قتادةُ ، وكعبٌ ، وابنُ زيدٍ ، والمغيرة بنُ شعبة -رضي الله عنهم- : كان هارُون رجلاً صالحاً مقدِّماً في بني إسرائيل ، رُوِيَ أنَّهُ تبعَ جنازتهُ يوم مات أربعُون ألفاً ، كلُّهم يسمَّى هارون من بني إسرائيل سوى سائر النّاس ، شبَّهُوها به على معنى أنَّنا ظننَّا أنَّك مثلهُ في الصَّلاح ، وليس المرادُ منه الأخُوَّة في النَّسب؛ كقوله سبحانه وتعالى : { إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين } [ الإسراء : 27 ] .
روى المغيرةُ بنُ شعبة -رضي الله عنه- قال : لما قدمتُ [ خراسان ] سالُوني ، فقالوا : إنَّكم تقرءون : { ياأخت هَارُونَ } وموسى قبل عيسى بكذا وكذا ، فلمَّا قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتهُ عن ذلك ، فقال : إنَّهم كانُوا يُسمَّون بأنبيائهم والصَّالحين قبلهم .
قال ابن كثيرٍ : وأخطأ محمَّد بن كعبٍ القرظيُّ في زعمه أنَّها أختُ موسى وهارون نسباً؛ فإنَّ بينهما من الدُّهُور الطَّويلة ما لا يخفى على من عندهُ أدنى علم ، وكأنَّه غرَّه أنَّ في التَّوراة أن مريم -أخت موسى ، وهارون- ضربت بالدُّفِّ يوم نجَّى الله موسى وقومه ، وغرقَ فرعونُ وجُنودُه ، فاعتقد أنَّ هذه هي تلك ، وهذا في غاية البُطلان ومخالفةٌ للحديث الصحيح المتقدِّم .
وقال الكلبيُّ : كان هارونُ أخا مريم من أبيها ، وكان أمثل رجُل في بني إسرائيل .
وقال السُّديُّ : إنَّما عنوا به هارُون أخا موسى ، لأنَّها كانت من نسله ، كم يقال للتميميِّ : يا أخا تميمٍ ، ويا أخا همدان ، أي : يا واحداً منهم .
وقيل : كان هاروُن فاسقاً في بني إسرائيل مُعْلِناً بالفِسْقُ ، فشبَّهوها به . وقول الكلبيّ أقربُ؛ لوجهين :
الأول : أن الأصل في الكلام الحقيقةُ؛ فيحملُ الكلامُ على أخيها المسمَّى ب « هارُونَ » .
الثاني : أنها أضيفت إليه ، ووُصف أبواها بالصَّلاح؛ وحينئذ يصيرُ لتوبيخُ أشدَّ ، لأنَّ من كان حال أبويه وأخيه هذا الحال ، يكونُ صدور الذَّنْبِ منه أفحش .
ثم قالوا : { مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ } .
قال ابن عبَّاس : أي : زانياً ، « وما كانَتْ أمُّك » حنَّة « بغيَّا » أي : زانية ، فمن أين لك هذا الولدُ .
قوله تعالى : { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ } : الإشارةُ معروفةٌ تكون باليد والعين وغير ذلك ، وألفها عن ياءٍ ، وأنشدوا لكثيرٍ : [ الطويل ]
3603- فقُلْتُ وفي الأحشاءِ داءٌ مُخامِرٌ ... ألا حبَّذا يا عزُّ ذَاكَ التَّشايرُ
قوله تعالى : { مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً } في « كَانَ » هذه أقوالٌ :
أحدها : أنها زائدةٌ ، وهو قولُ أبي عبيدٍ ، أي : كيف نُكَلِّمُ من في المهد ، و « صَبِيَّا » على هذا : نصبٌ على الحالِ من الضمير المستتر في الجارُ والمجرورِ الواقع صلة ، وقد ردَّ أبو بكرٍ هذا القول- أعني كونها زائدة- بأنها لو كانت زائدة ، لما نصبت الخبر ، وهذه قد نصبْ « صَبيَّا » وهذا الردُّ مرودٌ بما ذكرتُه من نصبه على الحال ، لا الخبر .
الثاني : أنها تامَّةٌ بمعنى حدوث ووجد ، والتقدير : كيف نكلمُ من وجد صبيَّا ، و « صبيَّا » حال من الضمير في « كان » .
الثالث : أنها بمعنى ضار ، أي : كيف نكلِّم من صار في المهد صبيَّا ، و « صَبِيَّا » على هذا : خبرها؛ فهو كقوله : [ الطويل ]
3604- .. قَطَا الحَزْنِ قد كَانَتْ فِرَاخَاً بُيُوضُهَا
الرابع : أنها النَّاقضةُ على بابها من دلالتها على اقتران مضمونِ الجملة بالزمان الماضي ، من غير تعرُّضٍ للانقطاع؛ كقوله تعالى : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 96 ] ولذلك يعبَّر عنها بأنَّها ترادفُ « لَمْ تَزلْ » قال الزمخشريُّ : « كان » لإيقاع مضمون الجملة في زمانٍ ماض مبهمٍ صالح للقريبِ والبعيد ، وهو هنا لقريبة خاصَّة ، والدَّالُّ عليه معنى الكلام ، وأنه مسوقٌ للتعجُّب ، ووجه آخر : وهو أن يكون « نُكَلِّمُ » حكاية حالٍ ماضيةٍ ، أي : كيف عُهِدَ قبل عيسى أن يكلم النَّاس في المهد حتى نُكلمه نحنُ؟
وأمَّا « مَنْ » فالظاهرُ أنَّها موصولةٌ بعني الذي ، وضعفٌ جعلها نكرة موصوفة ، أي : كيف نكلِّم شخصاً ، أو مولوداً ، وجوَّز الفرَّاء والزجاج فيها أن تكون شرطيَّة ، و « كان » بمعنى « يَكُنْ » وجوابُ الشرطِ : إمَّا متقدِّمٌ ، وهو « كَيْفَ نُكَلِّمُ » أو محذوفٌ ، لدلالةِ هذا عليه ، أي : من يكن في المهدِ صبياً ، فكيف نُكلِّمُهُ؟ فهي على هذا : مرفوعة المحلِّ بالابتداءِ ، وعلى ما قبله : منصوبته ب « نُكَلِّمُ » وإذا قيل بأنَّ « كان » زائدةٌ؛ هل تتحمَّلُ ضميراً ، أم لا؟ فيه خلافٌ ، ومن جوَّز ، استدلَّ بقوله : [ الوافر ]
3605- فكَيْفَ إذا مررْت بدارِ قومٍ ... وجيرانٍ لنَا كَانُوا كِراَم
فرفع بها الواو ، ومن منع ، تأوَّل البيت ، بأنَّها غيرُ زائدةٍ ، وأنَّ خبرها هو « لنا » قُدِّم عليها ، وفصل بالجملة بين الصفة ، والموصوف .
وأبو عمرو يدغمُ الدال في الصاد ، والأكثرون على أنه إخفاء .
فصل في مناظرة مريم لقومها
لمَّا بالغوا في توبيخ مريم سكتت ، وأشارت إلى عيسى ، أن كلِّمُوه .
قال ابنُ مسعود : لمَّا لم يكُن لها حجَّةٌ ، أشارتْ إليه؛ ليكون كلامهُ حُجَّةً لها ، أي : هو الذي يُجيبُكُم ، إذا ناطَقْتُمُوه .
قال السديُّ : لما أشارتْ إليه؛ ليكون كلامُه حجَّة ، غضبُوا ، وقالوا : لسُخْريتُهَا بنا أشدُّ من زناها ، و { قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً } ، والمهدُ : هو حجرها .
وقيل : هو المهدُ بعينه .
والمعنى : كيف نكلِّم صبيِّا سبيلهُ أن ينام في المهد؟!
قال السديُّ : فلما سمعَ عيسى - صلوات الله عليه- كلامهم ، وكان يرضعُ ، ترك الرَّضاع ، وأقبل عليهم بوجهه ، واتَّكأ على يساره ، وأشار بسبَّابة يمينه ، فقال : { إِنِّي عَبْدُ الله } .
وقيل : كلَّمهم بذلك ، ثم لم يتكلَّم؛ حتى بلغ مبلغاً يتكلَّم فيه الصبانُ ، وقال وهبّ : أتاها زكريَّا- عليه الصلاة والسلام- عند مناظرتها اليهُود ، فقال لعيس : انْطِقْ بحُجَّتِكَ ، إن كنت أمرتَ بها ، فقال عيسى عند ذلك وهو ابنُ أربعين يوماً- وقال مقاتلٌ : بل هو يوم ولد- : إنَّي عبد الله ، أقرَّ على نفسه بالعُبوديَّة لله- عزَّ وجلَّ- أول ما تكلَّم لئلا يتَّخذ إلهاً ، وفيه فوائد :
الأولى : أن ذلك الكلام في ذلك الوقت : كان سبباً لإزالةِ الوَهْم الذي ذهب إليه النَّصارى؛ فلا جرم : أوَّل ما تكلَّم ، قال : { إِنِّي عَبْدُ الله } .
الثانية : أن الحاجة في ذلك الوقت ، إنَّما هو نفي تُهْمة الزِّنا عن مريم ، ثم إنَّ عيسى -صلوات الله عليه- لم ينصَّ على ذلك ، وإنَّما نصَّ على إثبات عبوديَّة نفسه ، كأنَّه جعل إزالة التُّهْمَة عن الله تعالى أولى من إزالة التُّهمة عن الأمِّ؛ فلهذا : أوَّلُ ما تكلَّم إنما تكلَّم بقوله : { إِنِّي عَبْدُ الله } .
الثالثة : أنَّ التكلُّم بإزالة التُّهْمَة عن [ الله تعالى ] يفيد إزالةَ التُّهمة عن الأمِّ؛ لأنَّ الله تعالى لا يخص الفاجرة بولدٍ في هذه الدرجة العالية ، والمرتبة العظيمة ، أمَّا التكلُّم بإزالةِ التُّهْمَة عن الأمِّ ، فلا يفيدُ إزالة التُّهْمَة عن [ الله تعالى ] ، فكان الاشتغالُ بذلك هاهنا أولى .
فصل في إبطال قول النصارى
في إبطال قول النصارى وجوه :
الأول : أنَّهُم وافقونا على أنَّ ذاته -سبحانه وتعالى- لم تحلَّ في ناسُوت عيسى ، بل قالوا : الكلمةُ حلَّت فيه ، والمرادُ من الكلمة العلمُ ، فنقول : العلمُ ، لما حصل لعيسى ، ففي تلك الحالةِ : إمَّا أن يقال : إنَّه بقيَ في ذاتِ الله تعالى ، أو ما بقي .
فإن كان الأوَّل ، لزِمَ حُصُول الصِّفَة الواحدة في مَحَلَّيْنِ ، وذلك غير معقول ، ولأنَّه لو جاز أن يقال : العلمُ الحاصلُ في ذات عيسى هو العلمُ الحاصلُ في ذاتِ الله بعينه ، فلم لا يجوزُ في حقِّ كلِّ واحدٍ ذلك حتى يكون العلمُ الحاصلُ لكُلِّ واحدٍ هو العلمُ الحاصلُ لذات الله تعالى؟ وإن كان الثاني ، لزم أن يقال : إنَّ الله تعالى لا يبقى عالماً بعد حلول علمه في عيسى ، وذلك ممَّا لا يقوله عاقلٌ .
قال ابنُ الخطيب :
وثانيها : مناظرة جرت بيني وبين بعض النَّصارى ، فقلتُ له : هل تُسلِّم أنَّ عدم الدَّليل لا يدُلُّ على عدم المدلول ، أمْ لا؟ فإن أنكرت ، لزمكَ لا يكون الله قديماً؛ لأنَّ دليل وجُودِهِ هو العامُ ، فإذا لَزِمَ من عدمِ الدَّليل عدمُ المدلول ، لزِمَ من عدم العالم في الأزل عدم الصانع في الأزل ، وإن سلَّمت أنَّه لا يلزمُ من عدم الدَّليل عدمُ المدلول ، فنقولُ : إذا جوَّزْتَ اتحادَ كلمة الله بعيسى أو حُلولها فيه ، فكيف عرفت أنََّ كلمة الله تعالى م حلَّتْ في زيْدٍ وعمرٍ؟ بل كيف عرفتَ أنَّها ما حلّت في هذه الهرَّة ، وفي هذا الكلب؟ فقال : إنَّ هذا السُّؤال لا يليقُ بك؛ لأنَّا إنَّما أثبتنا ذلك الاتحاد ، أو الحلول ، بناءً على ما ظهر على يد عيسى من إحياء الموتى ، وإبراءِ الأكمه ، والأبرصِ ، فإذا لم نجدْ شيئاً من ذلك ظهر على يد غيره ، فكيف نثبت الاتحادَ ، أو الحُلُول؟ فقلتُ له : إنِّي عرفتُ بهذا الكلام أنَّكَ ما عرفتَ أوَّل الكلامِ؛ لأنَّك سلَّمْتَ لي أنَّ عدم الدليل لا يدلُّ على عدم المدلُول ، وإذا كان هذا الحُلولُ غير ممتنعٍ في الجملة ، فأكثر ما في هذا الباب أنَّه وُجِدَ ما يدلُّ على حصُوله في حقّ عيسى ، ولم يوجد ذلك الدَّليلُ في حقِّ زيدٍ وعمرو ، ولكن عدم الدليل لا يدلُّ على عدم المدلول لا يدلُّ على عدم المدلُول؛ فلا يلزمُ من عدم ظهورِ هذه الخوارق على يد زيدٍ وعمرٍو ، وعلى السِّنَّوْرِ والكلبِ عدمُ ذلك الحُلُول ، فثبت أنَّك مهما جوَّزْت القول بالاتِّحاد ، والحلول ، لزمك تجويزُ حُصُول ذلك الاتحادِ ، والحُلُُول ، فثبت أنَّك مهما جوَّزْت القول بالاتِّحاد ، والحلول ، لزمك تجويزُ حُصُولُ ذلك الاتحادِ ، والحُلُول في حقِّ كلِّ أحد ، بل في حق كل حيوان ونباتٍ ، ولكنَّ المذهب الذي يسُوقُ [ قائلهُ ] إلى مثل هذا [ القول ] الركيك ، يكُون باطلاً قطعاً ، ثم قلتُ [ له ] وكيف دلَّ إحياءُ الموتى ، وإبراءُ الأكمهِ ، والأبرصِ على ما قلت؟ أليس انقلابُ العصا ثعباناً أبعد من انقلاب الميِّت حيًّا ، فإذا ظهر على يد مُوسى ، ولم يدلُّ على إلهيته ، فبأن لا يدلَّ هذا على إلهيَّة عيسى أولى .
وثالثها : أن دلالة أحوال عيسى على العبوديَّة أقوى من دلالتها على الربوبيَّة؛ لأنَّه كان مجتهداً في العبادة ، والعبادةُ لا تليقُ إلا بالعبد ، وأنَّه كان في نهاية البُعْد عن الدُّنْيَا ، والاحترازِ عن أهلها حتى قالت النصارى : إنَّ اليهُود قتلُوه ، ومن كان في الضعف هكذا ، فكيف يليقُ به الرُّبُوبيِّة؟ .
ورابعها : أن المسيح : إمَّا أن يكون قديماً ، أو محدثاً ، والقولُ بقدمه باطلٌ؛ لأنَّا نعلمُ بالضَّرورةِ أنَّه وُلدَ ، وكان طفلاً ، ثم صار شابًّا ، وكان يأكُل ويَشْرب ، ويعرضُ له ما يعْرِضُ لسائر البشر ، وإنْ كان مُحْدِثاً ، كان مخلوقاً ، ولا معنى للعبوديَّة إلاَّ ذلك .
فإن قيل : المعنيُّ بالالهيَّة أنَّه حلَّت فيه صفةُ [ الإلهيَّة ، قلنا : ] هب أنَّه كان كذلك ، لكنَّ الحالَّ هو صفة الإلهِ ، والمسيح هو المحل ، والمحلُّ محدثٌ مخلوقٌ ، فالمسيحُ عبدٌ محدثٌ ، فكيف يمكنُ وصفه بالإلهيَّة؟ .
وخامسها : أنَّ الولد لا بُدَّ وأن يكون من جنس الوالد ، فإن كان لله تعالى ولدٌ ، فلا بُدَّ أن يكُون من جنسه ، فإذاً قد اشتركا في بعض الوجوه ، فإن يتميَّز أحدهما عن الآخر بأمر مَّا ، فكلُّ واحدٍ منهما هو الآخر ، وإن حصل الامتيازُ ، فما به الامتيازُ غيرُ ما به الاشتراكُ؛ فيلزمُ وقوعُ التَّركيب في ذاتِ الله تعالى ، وكلُّ مركَّب مُمْكِنٌ ، [ فالواجب ] ممكنٌ؛ هذا خلفٌ ، هذا على الاتِّحاد ، والحلول .
فإن قيل : قالوا : معنى كونه إلهاً أنَّه سبحانهُ خصَّ نفسه أو بدنهُ بالقُدرة على خلق الأجسام ، والتصرُّف في هذا العالمِ ، فهذا أيضاً باطلٌ؛ لأنَّ النصارى نقلُوا عنه الضَّعف والعَجْز ، وأنَّ اليهود قتلُوه ، فلو كان قادراً على خَلْق الأجسام ، لما قَدَرُوا على قَتْله ، بل كان هو يقْتُلُهم ويَخْلَقُ لنفسه عَسْكَراً يذُبُّون عنه .
فإن قيل : قالُوا : معنى كونه إلهاً أنَّه اتَّخذه ابناً لنفسه؛ على سبيل التشريف ، وهو قد قال به قومٌ من النصارى ، يقال لهم الآريوسية ، وليس فيه كثير خطأ إلاَّ في اللفظ .
قوله تعالى : { آتَانِيَ الكتاب } قيل : معناه : سيُؤتيني الكتاب ، ويجعلني نبيًّا .
روى عكرمةُ عن ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- « أنَّ هذا إخبارٌ عمَّا كتبَ له في اللَِّوْح المحفُوظ؛ كما قيل للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : متى كُنْتَ نبيًّا؟ قال : » كُنْتُ نبيًّا ، وآدمُ بَيْنَ الرُّوحِ والجسدِ « وعن الحسن -رضي الله عنه- أنَّه ألهمَ التوراة ، وهو في بطن أمِّه .
وقال الأكثرون : إنه أوتيَ الإنجيل ، وهو صغيرٌ طفلٌ ، وكان يعقلُ عقل الرِّجال .
فمن قال : الكتابُ : هو التَّوراة ، قال : لأنَّ الألف واللاَّم للعهد ، ولا معهود حينئذٍ إلاَّ التوراة ، ومن قال : الإنجيلُ ، قال » الألفُ واللاَّم للاستغراق ، وظاهرُ كلام عيسى -صلوات الله عليه- أنَّ الله تعالى آتاه الكتاب ، وجعله نبيًّا ، وأمره بالصَّلاة والزَّكاة ، وأن يدعو إلى الله تعالى ، وإلى دينه ، وشريعته من قبل أن يكلِّمهم ، وأنه تكلَّم مع أمَّه وأخبرها بحاله ، وأخبرها بأنَّه يكلِّمهم بما يدلُّ على براءتها ، فلهذا أشارتْ إليه بالكلامِ .
قال بعضهم : أخبر أنَّه نبيٌّ ، ولكَّنه ما كان رسولاً؛ لأنَّه في ذلك الوقت ما جاء بالشَّريعة ، ومعنى كونه نبيَّا : رفيعُ القدر عالي الدرجة؛ وهذا ضعيف لأنَّ النَّبيَّ في عرف الشَّرع هو الذي خصَّه الله بالنبوَّة وبالرِّسالة ، خصوصاً إذا قرن إليه ذكر الشَّرع ، وهو قوله : { وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة } ثم قال : { وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ } .
وقال مجاهدٌ -رضي الله عنه- معلِّماً للخَيْر .
وقال عطاءٌ : أدعُو إلى الله ، وإلى توحيده وعبادته .
وقيل : مُباركاً على من اتَّبعني .
روى قتادةُ أنَّ امرأةً رأتهُ ، وهو يحيى الموتى ، ويُبْرِئ الأكمه والأبرص ، فقالت : طُوبَى لبطن حملك ، وثدي أرضعت به ، فقال عيسى مجيباً لها : طُوبَى لمن تلا كتابَ اللهِ واتبعَ ما فِيهِ ، وعملَ بِهِ ، ولمْ يَكُنْ جبَّاراً شَقِيَّاً .
قوله تعالى : { أَيْنَ مَا كُنتُ } يدلُّ على أن حاله لم يتغيَّر كما قيل : إنَّه عاد إلى حالِ الصِّغَر ، وزوالِ التَّكْلِيف .
قوله : { وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة } : هذه شرطيةٌ ، وجوابها : إمَّا محذوفٌ مدلولٌ عليه بما تقدَّم : أي : أينما كُنْتُ ، جعلني مباركاً ، وإمَّا متقدِّمٌ عند من يرى ذلك ، ولا جائزٌ أن تكون استفهاميةٌ؛ لأنَّه يلومُ أن يعمل فيها ما قبلها ، وأسماءُ الاستفهامِ لها صدرُ الكلامِ ، فيتعيَّنُ أن تكون شرطيةٌ؛ لأنها منحصرةٌ في هذين المعنيين .
ثم قال : { وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة } أي ، أمرني بهما .
فإن قيل : لم يكُن لعيسى مالٌ ، فكيف يؤمرُ بالزَّكاة؟ قيل : معناه : بالزَّكاة ، لو كان له مالٌ .
فإن قيل : كيف يُؤمَرُ بالصَّلاة والزَّكاة ، مع أنَّه كان طفلاً صغيراً ، والفلمُ مرفوعٌ عن الصَّغير؛ لقوله- صلوات الله عليه وسلامه- : « رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاثٍ » الحديث .
فالجوابُ من وجهين :
الأول : أنَّ قوله : { وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة } لا يدلُّ على أنَّه تعالى أوصاهُ بأدائهما في الحالِ ، بل بعد البُلُوغِ ، فيكونُ المعنى على أنَّه تعالى أوصَانِي بأدائهما في وَقْت وجوبهما عليَّ ، وهو وقتُ البُلُوغِ .
الثاني : لعلَّ الله تعالى ، لمَّا انفصل عيسى عن أمِّه- صلوات الله عليه- صيَّرهُ بالغاً ، عاقلاً ، تامَّ الخلقة؛ ويدلُّ عيه قوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ } [ آل عمران : 59 ] فكما أنَّه تعالى خلق آدم- صلواتُ الله عليه وسلامه- تامَّا كاملاً دفعةً ، فكذا القولُ في عيسى صلوات الله عليه وهذا أقربُ إلى ظاهر اللَّفْظ ، لقوله : { مَا دُمْتُ حَيّاً } فإنَّه يفيدُ أنَّ هذا التَّكليف متوجِّه عليه في جميع زمانِ حياته ، ولكن لقائل أن يقول : لو كان الأمرُ كذلك ، لكان القومُ حين رأوهُ ، فقد رأوه شخصاً كامل الأعضاء ، تامَّ الخِلْقَة ، وصدورُ الكلام عن مثل هذا الشخص لا يكونُ عجباً؛ فكان ينبغي ألاَّ يَعْجَبُوا .
والجوابُ أن يقال : إنَّه تعالى جعله مع صِغَرِ جثَّته قويَّ التركيب ، كامِلَ العَقْلِ ، بحيثُ كان يمكنه أداءُ الصَّلاة والزَّكاة ، والآيةُ دالَّة على أنَّ تكليفه لم يتغيَّر حين كان في الأرض ، وحين رُفع إلى السَّماء ، وحين ينزل مرَّة أخرى؛ لقوله { مَا دُمْتُ حَيّاً } .
قوله تعالى : { مَا دُمْتُ حَيّاً } « ما » مصدريةٌ ظرفيةٌ ، وتقدمُ « ما » على « دام » شرطٌ في إعمالها ، والتقدير : مُدَّة دوامِي حيَّاً ، ونقل ابن عطيَّة عن عاصم ، وجماعةٍ : أنهم قرءُوا « دُمْنُ » بضم الدَّالِ ، وعن ابن كثيرٍ ، وأبي عمرو ، وأهْلِ المدينة : « دِمْتُ » بكسرها ، وهذا لم نره لغيره ، وليس هو موجوداً في كتب القراءات المتواترة والشاذَّة الموجودة الآن ، فيجوزُ أن يكون اطَّلَعَ عليه في مصنف غريبِ ، ولا شكَّ أنَّ في « دَامَ » لغتين ، يقالُ : دمت تدوُمُ ، وهي اللغةُ الغاليةُ ، ودمتَ تدامُ؛ كخِفْتَ تخَافُ ، وتقدم نظيرُ هذا في مَاتَ يَمُوتُ ومَاتَ يَمَاتُ .
قوله تعالى : { وَبَرّاً بِوَالِدَتِي } : العامَّةُ على فتح الباء ، وفيه تأويلان :
أحدهما : أنه منصوبٌ نسقاً على « مباركاً » أي : وجعلني برَّا .
والثاني : أنَّه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ ، واختير هذا على الأوَّلِ؛ لأنَّ فيه فصلاُ كثيراً بجملةِ الوصيَّةِ ومتعلَّقها .
قال الزمخشريُّ : جعل ذاتهُ برَّا؛ لفَرْط برِّه ، ونصبه بفعل في معنى « أوْصَانِي » وهو « كَلَّفَنِي » لأنَّ أوْصَانِي بالصَّلاة ، وكلَّفَنِي بها واحدٌ .
وقُرئ « برَّا » بكسر الباء : إمَّا على حذفِ مضافٍ ، وإمَّا على المبالغة في جعله نفس المصدر ، وقد تقدَّم في البقرة : أنه يجوز أن يكون وصفاً على فعلِ ، وحكى الزَّهْراوِيُّ ، وأبو البقاء أنه قُرِئَ يكسر الباء ، والراء ، وتوجيهه : أنه نسقٌ على « الصَّلاة » أي : وأوصاني بالصَّلاة وبالزَّكَاة ، وبالبرِّ ، أو البرّ .
فصل فيما يشير إليه قوله « وبرَّا بوالدتي »
قوله : { وَبَرّاً بِوَالِدَتِي } إشارةٌ إلى تنزيه أمِّه عن الزِّنا؛ إذ لو كانت زانيةٌ ، لما كان الرسُول المعصومُ مأمُوراً بتعظيمها وبرِّها؛ لأنه تأكَّد حقَّها عليه؛ لتمحض إذ حقها لا والد له سواها .
قوله تعالى : { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً } يدلُّ على أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى؛ لأنَّه لما أخبر أنه تعالى ، جعله برًّا ، وما جعله جبَّاراً ، إنما يحسن لو أنَّ الله تعالى جعل غيره جبَّاراً ، وجعله [ غير ] برٍّ بأمِّه؛ فإن الله تعالى ، لو فعل ذلك بكلِّ أحدٍ ، لم يكُن لعيسى مزيَّةً تخصيصٍ بذلك ، ومعلومٌ أنه -صلواتُ الله عليه وسلامهُ- إنما ذكر ذلك في معرضِ التخصيصِ ، ومعنى قوله : { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً } أي ما جعلني جبَّاراً متكبرِّاً ، بل أنا خاضعٌ لأمِّي ، متواضعٌ لها ، ولو كنتُ جبَّاراً متكبِّراً ، بل أنا خاضعٌ لأمِّي ، متواضعٌ لها ، ولو كنتُ جبَّاراً ، كنتُ عاصياً شقياً .
قال بعضُ العلماء : لا تجد العاق إلا جباراً شقياً ، وتلا : { وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً } ولا تجد سيّئ الملكة إلا مختالاً فخُوراً ، وقرأ : { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } [ النساء : 36 ] .
قوله تعالى : { والسلام عَلَيَّ } : الألف واللام في « السَّلام » للعهدِ؛ لأنه قد تقدم لفظه في قوله -عزَّ وجلَّ- : { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ } [ الآية : 15 ] فهو كقوله :
{ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول } [ المزمل : 15 ، 16 ] أي : ذلك السلامُ الموجَّه إلى يحيى مُوجَّهٌ إليَّ ، وقال الزمخشريُّ -رحمه الله- : « والصحيحُ أن يكون هذا التعريفُ تعريضاً باللعنةِ على متَّهِمِي مريم -عليها السلام- وأعدائها من اليهُود ، وتحقيقه : أنَّ اللاَّم لاستغراق الجنس ، فإذا قال : وجنسُ السَّلام عليَّ خاصَّة ، فقد عرَّض بأنَّ ضدَّه عليكم ، ونظيره قول موسى -صلوات الله عليه وسلامه- : { والسلام على مَنِ اتبع الهدى } [ طه : 47 ] .
يعني : أنَّ العذاب على من كذَّب ، وتولَّى ، وكان المقام مقام اللَّجاج والعِنَاد ، فيليق به هذا التعريضُ » .
فصل في الفرق بين السلام على يحيى ، والسلام على عيسى
رُوِيَ أن عيسى -صلواتُ الله عليه وسلامه- قال ليحيى : أنت خيرٌ منِّي؛ سلِّم الله عليك ، وسلَّمتُ على نفسي . وأجاب الحسنُ ، فقال : إن تسليمهُ على نفسه تسليمُ الله؛ لأنَّه إنَّما فعله بإذن الله .
قال القاضي : السَّلام عبارةٌ عمَّا يحصُل به الأمانُ ، ومنه السَّلامةُ في النِّعم ، وزوال الآفاتِ ، فكأنَّه سأل ربَّه ما أخبر الله تعالى أنه فعل بيحيى ، وأعظمُ احتياجِ الإنسانِ إلى السَّلامة في هذه الأحْوالِ الثلاثة ، وهي يومُ الولادةِ ، أي : السَّلامة عند الولادة من طَعْن الشَّيطان ، ويومُ الموت ، أي : عند الموت من الشَِّرك ، ويومُ البعث من الأهوال .
قال المفسِّرون : لمَّا كلَّمهم عيسى بهذا ، علمُوا براءةَ مريم ، ثم سكت عيسى -صلوات الله عليه وسلامه- ، فلَم يتكلَّم بعد ذلك حتّى بلغ المدَّة التي يتكلَّم فيها الصِّبْيَان .
قوله : « يومَ ولدتُ » منصوبٌ بما تضمنَّه « عَليَّ » من الاستقرار ، ولا يجوزُ نصبه ب « السَّلام للفَصْلِ بين المصدرِ ومعمولهِ ، وقرأ ويدُ بنُ عليٍّ » وَلَدَتْ « جعله فعلاً ماضياً مسنداً لضمير مريم ، والتاءُ للتأنيث ، و » حَيَّا « حالٌ مؤكِّدةٌ .
فصل في الرد على اليهود والنصارى
اعلم أن اليهُود والنَّصارى يُنْكِرُونَ أنَّ عيسى -صلوات الله عليه- تكلَّم في زمانِ الطفوليَّة؛ واحتجُّوا بأنَّ هذا من الوقائعِ العجيبة ، التي تتوافرُ الدَّواعِي على نقلها ، فلو وجدت ، لنُقلتْ بالتَّواتر ، ولو كان كذلكَ ، لعرفهُ النَّصارى ، لا سيَّما وهم أشدُّ النَّاسِ بحثاً عن أحواله ، وأشدُّ النَّاسِ غُلُوَّا فيه؛ حتَّى ادعوا كونهُ إلهاً ، ولا شكَّ أنَّ الكلام في الطفوليَّة من المناقب العظيمة ، فلمَّا لم يعرفه النصارى مع شدَّة الحبِّ ، وكمالِ البَحْثِ عنه ، علمنا أنَّه لم يُوجَدْ؛ ولأنَّ اليهود أظهرُوا عداوتهُ حين ادَّعى النُّبُوَّة والرسالة ، فلو أنَّه - صلوات الله عليه- تكلَّم في المَهْدِ ، لكانت عداوتهم معه أشدَّ ، ولكان قصدهم قتله أعظم ، فحيثُ لم يحصُل شيءٌ من ذلك ، علمنا أنَّه ما تكلَّم .
وأمَّا المسلمُون ، فاحتجُّوا بالعَقْل على أنه تكلَّم ، فقالوا : لولا كلامه الذي دلَّهم على براءة أمِّه عن الزِّنا ، لما تركُوا إقامة الحدِّ عليها ، ففي تَرْكِهِمْ لذلك دلالةٌ على أنَّه- صلوات الله عليه- تكلَّم في المَهْدِ .
وأجابُوا عن الشُّبْهة الأولى بأنَّه ربَّما كان الحاضرُون عند كلامه قليلين؛ فلذلك لم يشتهر .
وعن الثاني : لعلَّ اليهُود ما حَضَرُوا هناك ، وما سَمِعُوا كلامهُ ، وإنَّما سَمِعَ كلامهُ أقاربهُ؛ لإظهارِ براءَة أمّه؛ فلذلك لم يَشْتَغِلُوا بقَتْلِه .
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)
قوله تعالى : { ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ } : يجوز أن يكون « عِيسَى » خبراً ل « ذلك » ويجوز أن يكون بدلاً ، أو عطف بيان ، و « قَوْلُ الحقِّ » خبره ، ويجوز أن يكون « قَوْلُ الحقِّ » خبر مبتدأ مضمرْ ، أي : هو قولُ ، و « ابْنُ مَرْيَم » يجوز أن يكُونَ نعتاً ، أو بدلاً ، أو بياناً ، أو خبراً ثابتاً .
وقرأ عاصمٌ ، وحمزةُ ، وابنُ عامر « قَوْلَ الحقِّ » بالنَّصب ، والباقون بالرفع ، فالرفع على ما تقدَّم ، قال الزمخشري - رحمه الله- : « وارتفاعه على أنَّه خبرٌ ، بعد خبرٍ ، أو بدلٌ » . قال أبو حيَّان : « وهذا الذي ذكرُهُ لا يكُونُ إلاَّ على المجازِ في قولِ : وهو أن يراد به كلمةٌ اللهِ ، لأنَّ اللفظ لا يكُونُ الذَّات » .
والنَّصْبُ : يجوزُ فيه أن يكون مصدراً مؤكَّداً لمضمُون الجملة؛ كقولك : « هُوَ عَبْدُ الله الحقَّ ، لا الباطِلَ » أي : أقولُ قول الحقِّ ، فالحقُّ الصِّدقُ ، وهو من إضافةِ الموصوف إلى صفته ، أي : القول الحقَّ؛ كقوله : { وَعْدَ الصدق } [ الأحقاف : 16 ] أي : الوعد الصِّدق ، ويجوز أن يكون منصوباً على المَدْحِ ، إن أريد بالحقِّ الباري تعالى ، و « الَّذِي » نعتٌ للقول ، إن أريد به عيسى ، وسُمِّي قولاً كما سُمّي كلمةً ، لأنه عنها نشأ .
وذلك أنَّ الحق هو اسمُ الله تعالى ، فلا فرق بين أن نقول : عيسى هو كلمة الله ، وبين أن نقول : عيسى قولُ الحقِّ .
وقيل : هو منصوبٌ بإضمار « أعْنِي » وقيل : هو منصوبٌ على الحالِ من « عيسَى » ويؤيِّد هذا ما نُقِلَ عن الكسائيَّ في توجيهِ الرفعِ : أنه صفةٌ لعيسى .
وقرأ الأعمشُ « قالُ » برفع اللاَّم ، وهي قراءةُ ابن مسعودٍ أيضاً ، وقرأ الحسن « قُولُ » بضم القاف ، ورفع اللام وكذلك في الأنعام { قَوْلُهُ الحق } [ الأنعام : 73 ] ، وهي مصادر لِ « قالَ » يقالُ يَقُولُ قَوْلاً وقُولاً؛ كالرَّهْبِ ، والرُّهْب ، وقال أبو البقاء : « والقَالُ : اسمٌ للمصدر؛ مثلُ : القِيلِ ، وحُكِيَ » قُولُ الحقِّ « بضمّ القاف؛ مثل » الرُّوحِ « وهي لغةٌ فيه » . قال شهاب الدين : الظاهرُ أنَّ هذه مصادرُ كلُّها ، ليس بعضها اسماً للمصدر ، كما تقدَّم تقريره في الرَّهْبِ والرَّهَبِ والرُّهْبِ .
وقرأ طلحةُ والأعمشُ « قالَ الحقُّ » جعل « » قَالَ « فعلاً ماضياً ، و » الحَقُّ « فاعلٌ ، والمرادُ به الباري تعالى ، أي : قَالَ الهُ الحَقُّ : إنَّ عيسى هو كلمةُ الله ، ويكونُ قوله » الَّذِي فيهِ يَمْتُرُونَ « خبراً لمبتدأ محذوف .
وقرأ عليُّ بنُ أبي طالب- كرم الله وجهه- والسلميُّ ، وداودُ بنُ أبي هندٍ ، ونافعٌ ، والكسائيُّ في رواية عنهما [ » تَمْتَرُونَ « بتاء ] الخطاب ، والباقون بياءِ الغيبة ، وتَمْتَرُون : تَفْتَعِلُون : إمَّا من المريةِ ، وهي الشَّكُّ ، وإمَّا من المراء ، وهو الجدالُ .

 قلت المدون التالي بمشيئة الله ج49وج50.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدجال يستغل ازمات الناس من الجوع ونقص الطعام والمياه في دعوتهم الباطلة لعبادتهم إياه والايمان به

  بياناته الشخصية     المسيح الدجال ليس خوارق إنما هو دجل وكذب قلت المدون ان الأ أزمة الاقتصادية الحادثة الان في كل دول العالم والمجاعة المت...