حمل المصحف وورد وبي دي اف.

 حمل المصحف وورد وPDF.
القرآن الكريم وورد word doc icon||| تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

الجمعة، 23 سبتمبر 2022

ج39. وج40. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

  {ج39وج40.}كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

 


  {ج39وج40.}كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب  أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

 أولا : ج39.    
قوله : « غُمَّةً » يقال : غمٌّ وغُمَّةٌ ، نحو كَرْبٌ وكُربَةٌ 
قال أبو الهيثم : هو من قولهم : غمَّ علينا الهلالُ ، فهو مغمومٌ إذا التمسَ ، فلم يُرَ؛ قال طرفةُ بن العبد : [ الطويل ]
2920- لعَمْرُكَ ما أمْرِي عليَّ بغُمَّةٍ ... نَهَاري ولا لَيْلِي عليَّ بِسرمَدِ
وقال اللَّيث : يقال : هُو في غُمَّةٍ من أمره ، إذا لَمْ يتبيَّنْ لهُ .
قوله : { ثُمَّ اقضوا } مفعول « اقضوا » محذوف ، أي : اقضُوا إليَّ ذلك الأمر الذي تريدون إيقاعه بي؛ كقوله : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر } [ الحجر : 66 ] فعدَّاه لمفعول صريح .
وقرأ السَّري : « ثُمَّ أفْضُوا » بقطع الهمزة والفاء ، من أفْضى يُفضِي إذا انتهى ، يقال : أفضَيْتُ إليك ، قال تعالى : { وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ } [ النساء : 21 ] ، فالمعنى : ثُمَّ أفضُوا إليَّ سرَّكم ، أي : انتهوا به إليَّ ، وقيل : معناه : أسْرِعُوا به إليَّ ، وقيل : هو مِنْ أفْضَى ، أي : خَرَجَ إلى الفضاءِ ، أي : فأصْحِرُوا به إليَّ ، وأبرزُوه لي؛ كقوله : [ الطويل ]
2921- أبَى الضَّيْمَ والنُّعْمَانُ يَحْرِقُ نابهُ ... عليه فأفْضَى والسُّيُوفُ معاقِلُه
ولامُ الفضاءِ واوٌ؛ لأنَّه من فضا يَفْضُو ، أي : اتَّسعَ ، والمعنى : فأحكمُوا أمركُم ، واعزِمُوا وادعُوا شُركَاءَكُم ، أي : آلهتكُم ، فاستعينوا بها لتجتمع .
وروى الأصمعي ، عن نافع : « فأجمعُوا ذوي الأمر منكم » فحذف المضاف ، وجرى على المضاف إليه ما كان يجري على المضاف لو ثبت .
قال ابن الأنباري : المرادُ من الأمر هنا : وجوه كيدهم ، ومكرهم ، والتقدير : لا تتركوا مِن أمركُم شيئاً إلا أحضرتُمُوه . والمراد من الشركاء : إما الأوثان؛ لأنَّهم كانوا يعتقدون أنَّها تَضُرُّ وتنفعُ ، وإمَّا أن يكون المرادُ : من كان على مثل دينهم .
{ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً } أي : خفيًّا مبهماً ، من قولهم : غَمَّ الهلالُ على النَّاسِ ، أي : أشْكل عليهم ، فهو مغمومٌ إذا خفي . « ثُمَّ اقضُوا » أي : امضُوا ، « إليَّ » : بما في أنفسكم من مكروه وافرغوا منه ، يقال : قضى فلان : إذا مات ، وقضى دينه : إذا فرغ منه ، وقيل معناه : توجَّهُوا إليَّ بالقتل والمكروه ، وقيل : « فاقْضُوا ما أنتم قاضُون » كقول السَّحرة لفرعون « { فاقض مَآ أَنتَ قَاضٍ } [ طه : 72 ] .
قال القفال : ومجاز دُخُول كلمة » إلى « في هذا الموضع من قولهم : برئت إليك ، وخرجت إليك من العهد ، وفيه معنى الإخبار؛ فكأنَّه - تعالى - قال : ثم اقضُوا إليَّ ما يستقرُّ رأيكم عليه محكماً مفروغاً منه ، ثم لا تنظرون أي : لا تمهلون ولا تُؤخِّرُون .
وقد نظَّم القاضي هذا الكلام على أحسن الوجوه ، فقال : إنه - عليه الصلاة والسلام - قال في أول الأمر : فعلى الله توكلت؛ فإنِّي واثقٌ بوعد الله ، جازم بأنَّه لا يخلفُ الميعاد ، فلا تظُنُّوا أنَّ تهديدكم إيَّاي بالقتلِ والإيذاء يمنعني من الدُّعاء إلى الله ثم إنَّه - عليه الصلاة والسلام - أورد عليهم ما يدل على صحة دعواهُ ، فقال : { فأجمعوا أَمْرَكُمْ } كأنَّهُ يقول : اجمعوا ما تقدرُون عليه من الأشياء التي توجبُ حُصُول مطلوبكم ، ثم لم يقتصر على ذلك ، بل أمرهم أن يضُمُّوا إلى أنفسهم شركاءهم الذين كانوا يزعمون أنَّ حالهم يقوى بمكانتهم وبالتَّقَرُّب إليهم ، ثم لم يقتصر على هذين ، بل ضمَّ إليهما ثالثاً ، وهو قوله : { ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً } أراد أن يبلغوا فيه كل غايةٍ في المكاشفةِ والمجاهرة ، ثم لم يقتصر على ذلك ، بل ضمَّ إليها رابعاً ، فقال : { ثُمَّ اقضوا إِلَيَّ } والمراد : أن وجهوا كلَّ تلك الشُّرُور إليَّ ، ثم ضمَّ إلى ذلك خامساً ، وهو قوله : { لاَ تُنظِرُونَ } أي : عجِّلُوا ذلك بأشد ما تقدرون عليه من غير انتظار ، ومعلومٌ أنَّ مثل هذا الكلام يدل على أنه - عليه الصلاة والسلام - كان قد بلغ الغاية في التوكل على الله ، وأنَّه كان قاطعاً بأنَّ كيدهم لا يضرُّه ، ولا يصل إليه ، ومكرهم لا ينفذُ فيه .
قوله : { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ } أعرضتم عن قولي ، وقُبُول نُصْحِي ، { فَمَا سَأَلْتُكُمْ } على تبليغ الرِّسالة والدَّعوة { مِّنْ أَجْرٍ } جعل وعوض ، { إِنْ أَجْرِيَ } : ما أجري وثوابي ، { إِلاَّ عَلَى الله } .
قال المفسِّرُون : وهذا إشارةٌ إلى أنَّه ما أخذ منهم مالاً على دعواهُم إلى دين الله ، وكُلَّما كان الإنسانُ فارغاً من الطَّمع ، كان قوله أقوى تأثيراً في القلب .
قال ابن الخطيب : وعندي فيه وجه آخر : وهو أنَّه - عليه الصلاة والسلام - بيَّن أنه لا يخافُ منهم بوجهٍ من الوجوه ، وذلك لأنَّ الخوف إنَّما يحصل بأحد شيئين : إمَّا بإيصال الشَّر ، أو بقطع المنافع ، فبيَّن فيما تقدَّم أنه لا يخافُ شرَّهُم ، وبيَّن في هذه الآية أنَّه لا يخاف منهم بسبب أن يقطعُوا عنه خيراً؛ لأنَّه ما أخذ منهم شيئاً ، فكان يخافُ أن يقطعوا منه خيراً ، ثم قال : { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين } وفيه قولان :
الأول : أنكم سواء قبلتم دين الإسلام ، أو لم تقبلوا ، فأنا مأمورٌ بأن أكون على دين الإسلام .
الثاني : أنِّي مأمورٌ بالاستسلام لكلِّ ما يصل إليَّ لأجل هذه الدَّعوة ، وهذا الوجهُ أليق بهذا الموضع؛ لأنَّه لمَّا قال اقضُوا إليَّ بيَّن أنَّه مأمورٌ بالاستسلام لكلِّ ما يصل إليه .
قوله : { فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك } .
لمَّا حكى كلام نُوحٍ مع الكُفَّار ، ذكر - تعالى - ما آل أمرهم إليه : أمَّا في حقِّ نُوح وأصحابه ، فنجَّاهم وجعلهم خلائف ، أي : يخلفون من هلك بالغرق ، وأمَّا في حق الكفار فإنَّه - تعالى - أهلكهم وأغرقهم ، وهذه القصَّة إذا سمعها من صدَّق الرسول ومن كذب به ، كانت زجراً للمكذِّبين فإنهم يخافون أن ينزل بهم مثل ما نزل بقوم نُوح ، وتكون داعيةً للمؤمنين إلى الثَّبات على الإيمان؛ ليصلوا إلى مثل ما وصل إليه قوم نُوح .
قوله { فِي الفلك } يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق ب « نجَّيناه » ، أي : وقع الإنجاء في هذا المكان .
والثاني : أن يتعلَّق بالاستقرار الذي تعلَّق به الظرفُ ، وهو « معهُ » لوقوعه صلة ، أي : والذين استقرُّوا معه في الفلك ، وقوله : « وجَعلْنَاهُم » أي : صيَّرناهُم ، وجمع الضميرُ في « جَعلْنَاهُمْ » حملاً على معنى « مَنْ » ، و « خَلائِفَ » جمع خليفة ، أي : يخلفُون الغارقين .
قوله : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ } أي : من بعد نوحٍ ، { رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ } ولمْ يسمِّ الرسل ، وقد كان منهم هودٌ ، وصالحٌ ، وإبراهيمُ ، ولوطٌ ، وشعيبٌ ، { فَجَآءُوهُمْ بالبينات } ، وهي المعجزات الباهرة ، و « بالبيِّنَاتِ » متعلقٌ ب « فَجاءوهُمْ » أو بمحذوف على أنه حال أي : ملتبسين بالبينات ، { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } أي : أنَّ حالهم بعد بعثةِ الرسل ، كحالهم قبلها في كونهم أهل جاهلية .
قال القرطبيُّ : التقدير : بما كذَّب به قوم نُوحٍ من قبل ، وقيل « بِمَا كذَّبُوا بهِ » أيْ : من قبل يوم الذرِّ فإنه كان فيهم من كذَّب بقلبه ، وإن قال الجميعُ : بلى .
وقال النحاس : أحسن ما قيل في هذا : أنَّه لقوم بأعيانهم ، مثل : { أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 6 ] . و « بالبيِّنَاتِ » متعلق ب « جَاءوهُم » ، أو بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ ، أي : مُلتبسين بالبيِّناتِ .
وقوله : { لِيُؤْمِنُواْ } أتى بلام الجحود توكيداً ، والضَّمير في { كَذَّبُواْ } عائدٌ على من عاد عليه الضَّمير في كانُوا ، وهم قومُ الرُّسُل .
وقال أبُو البقاء ومكِّي : إنَّ الضمير في كانوا يعُود على قوم الرُّسُل ، وفي « كَذَّبُوا » يعود على قوم نوح ، والمعنى : فما كان قوم الرُّسُل ليؤمنوا بما كذَّب به قوم نُوح ، أي : بمثله ، ويجوز أن تكون الهاءُ عائدة على نوح نفسه ، من غير حذف مضافٍ ، والتقدير : فما كان قومُ الرُّسُل بعد نوح ليؤمنوا بنوحٍ؛ إذ لو آمنوا به ، لآمنوا بأنبيائهم .
و « مِنْ قَبْلُ » متعلقٌ ب « كَذَّبُوا » أي : من قبل بعثةِ الرُّسُل .
وقيل : الضَّمائرُ كُلُّها تعودُ على قوم الرسل بمعنى آخر : وهو أنَّهم بادرُوا رسلهم بالتكذيب ، كُلما جاء رسولٌ ، لجُّوا في الكفر ، وتمادوا عليه ، فلم يكونوا ليؤمنوا بما سبق به تكذيبهم من قبل لجِّهم في الكفر ، وتماديهم .
وقال ابن عطية : ويحتمل اللَّفظُ عندي معنى آخر ، وهو أن تكون « ما » مصدرية ، والمعنى : فكذَّبُوا رسلهم ، فكان عقابهم من الله أن لم يكونوا ليُؤمِنُوا بتكذيبهم من قبل ، أي : من سببه ومن جرَّائه ، ويُؤيِّد هذا التأويل : « كذلِكَ نَطْبَعُ » وهو كلام يحتاجُ إلى تأمُّل .
قال أبو حيان : والظَّاهر أنَّ « ما » موصولةٌ؛ ولذلك عاد الضميرُ عليها في قوله : { بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } ولو كانت مصدرية ، بقي الضمير غير عائدٍ على مذكور؛ فتحتاج أن يُتكلَّفَ ما يعود عليه الضمير .
قال شهاب الدِّين - رحمه الله - : « الشيخ بناه على قول جمهور النُّحاة : في عدم كونِ » ما « المصدريَّة اسماً؛ فيعُود عليها ضميرٌ ، وقد تقدَّم مراراً ، أنَّ مذهب الأخفش ، وابن السراج : أنَّها اسمٌ فيعود عليها الضمير » .
قرأ العامَّةُ : « نَطْبَع » بالنُّون الدَّالة على تعظيم المتكلِّم . وقرأ العبَّاس بن الفضل : بياء الغيبة ، وهو الله - تعالى -؛ ولذلك صرَّح به في موضعٍ آخر : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله } [ الأعراف : 101 ] . والكافُ نعتٌ لمصدر محذوف ، أو حالٌ من ذلك المصدر على حسب ما عرفته من الخلاف ، أي : مثل ذلك الطَّبع المحكم الممتنع زواله ، نطبع على قلوب المعتدين على خلق الله .
فصل
احتجَّ أهل السُّنَّة على أنَّه - تعالى - قد يمنع المكلَّلإ عن الإيمان بهذه الآية .
قالت المعتزلة : فقد قال - تعالى - : { بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 155 ] ولو كان هذا الطَّبع مانِعاً ، لما صحَّ هذا الاستثناء ، وقد تقدَّم البحث في ذلك عند قوله - تعالى - : { خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ } [ البقرة : 7 ] .
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)
قوله - تعالى - { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ موسى وَهَارُونَ } الآية .
قرأ مجاهد ، وابن جبير ، والأعمش : « إنَّ هذا لساحِرٌ » اسم فاعل ، والإشارةُ ب « هَذَا » حينئذٍ إلى موسى ، أشير إليه لتقدم ذكره ، وفي قراءةِ الجماعةِ ، المشارُ إليه الشَّيءُ الذي جاء به موسى ، من قلب العصا حيَّة ، وإخراج يده بيضاء كالشمس ، ويجوز أن يشار ب « هذا » في قراءة ابن جبير : إلى المعنى الذي جاء به موسى مبالغةً؛ حيث وصفُوا المعاني بصفاتِ الأعيانِ؛ كقولهم : « شِعْرٌ شَاعِرٌ » ، و « جَدَّ جَدُّهُ » .
فإن قيل : إنَّ القوم لمَّا قالوا : { إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } ، فكيف حكى موسى عنهم أنَّهُم قالوا : « أسِحْرٌ هذا » على سبيل الاستفهام؟ .
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أنَّ معمول « أتقولون » : الجملة من قوله : « أسِحْرٌ هذا » إلى آخره ، كأنهم قالوا : أجِئْتُمَا بالسِّحر تطلبان به الفلاح ، ولا يفلح السَّاحِرُون؛ كقول موسى - عليه الصلاة والسلام - للسحرة : { مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ } [ يونس : 81 ] .
والثاني : أنَّ معمول القول محذوفٌ ، مدلولٌ عليه بما تقدم ذكرهُ ، وهو { إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } .
ومعمولُ القول يحذف للدَّلالةِ عليه كثيراً ، كما يحذف القول كثيراً ، ويكون تقدير الآية : إن موسى - عليه الصلاة والسلام - قال لهم : { أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ } ما تقولون ، ثم حذف منه مفعول « أتقولون » لدلالة الحالِ عليه ، ثم قال : أسِحْرٌ هذا وهو استفهامٌ على سبيل الإنكار ، ثم احتجَّ على أنَّه ليس بسحرٍ ، بقوله : { وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون } ؛ ومثلُ الآية في حذف المقول قولُ الشاعر : [ الطويل ]
2922- لنَحْنُ الألَى قُلْتُمْ فأنَّى مُلِئْتُمُ ... بِرُؤيتنَا قبْلَ اهتِمَامٍ بكُمْ رُعْبَا
وفي كتاب سيوبيه : « متَى رَأيتَ أو قُلْتَ زيداً مُنْطلقاً » على إعمال الأول ، وحذف معمول القول ، ويجوز إعمالُ القول بمعنى الحكاية به ، فيقال : « متى رايت أو قلت زيد مُنطلقٌ » وقيل : القول في الآية بمعنى : العَيْب والطَّعْن ، والمعنى : أتَعِيبُونَ الحقَّ وتطعنُونَ فيه ، وكان من حقِّكم تعظيمُه ، والإذعانُ له ، من قولهم : « فلان يخافُ القالة » و « بين الناس تقاولٌ » إذا قال بعضهم لبعضٍ ما يسوؤه ، ونحو القولِ الذَِّكرُ في قوله : { سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ } [ الأنبياء : 60 ] وكلُّ هذا مُلخّص من كلام الزمخشريِّ .
قوله : « قَالُوا » يعني : فرعون وقومه ، « أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا » اللاَّمُ متعلقةٌ بالمجيء ، أي : أجِئْتَ لهذا الغرضِ ، أنكروا عليه مجيئهُ لهذه العلَّة ، واللَّفتُ : الليُّ والصَّرْفُ ، لفته عن كذا ، أي : صرفه ولواه عنه ، وقال الأزرهي : « لفَتَ الشَّيء وفتلهُ » : لواه ، وهذا من المقلوب .
قال شهاب الدِّين : « ولا يُدَّعى فيه قلبٌ ، حتى يرجع أحدُ اللفظين في الاستعمال على الآخر ، ولذلك لم يَجْعَلُوا جذبَ وجبذَ ، وحَمِدَ ومَدَحَ من هذا القبيل لتساويهما ، ومطاوعُ لَفَتَ : التفَت ، وقيل : انْفَتَلَ ، وكأنَّهُم استغْنَوا بمطاوع » فَتَل « عن مطاوع لَفَتَ ، وامرأة لفُوت ، أي : تَلْتفتُ لولدها عن زوجها ، إذا كان الولد لغيره ، واللَّفيتةُ : ما يغلظُ من القصيدة » والمعنى : أنَّهم قالوا : لا نترك الذي نحن عليه؛ لأنَّا وجدنا أباءنا عليه ، فتمسكُوا بالتقليد ، ودفعُوا الحُجَّة الظاهرة بمجرد الإصرار .
قوله : { وَتَكُونَ لَكُمَا الكبريآء فِي الأرض } الكبرياء : اسمُ « كان » ، و « لكم » : الخبر ، و « في الأرض » : جوَّز فيها أبو البقاء خمسة أوجه :
أحدها : أن تكون متعلقة بنفس الكبراي .
الثاني : أن يتعلق بنفس « تكون » .
الثالث : أن يتعلَّق بالاستقرار في « لكم » لوقوعه خبراً .
الرابع : أن يكون حالاً من « الكبرياء » .
الخامس : أن يكون حالاً من الضَّمير في « لَكُمَا » لتحمُّلِه إيَّاهُ « . والكبرياء مصدرٌ على وزن » فِعْلِيَاء « ، ومعناها : العظيمة؛ قال عديُّ بن الرِّقَاعِ : [ الخفيف ]
2923- سُؤدُدٌ غَيْرُ فَاحِشٍ لا يُدَانِي ... يه تجبَّارةٌ ولا كِبْرياءُ
وقال ابن الرّقيات يمدح مصعب بن الزبير : [ الخفيف ]
2924- مُلْكُهُ مُلْكُ رَأفَةٍ ليس فيه ... جَبَرُوتٌ مِنْهُ ولا كِبْرِيَاءُ
يعني : هو ليس عليه ما عليه المملوكُ من التجبُّر والتَّعظيم .
والجمهور على » تكون « بالتَّأنيث مراعاةً لتأنيث اللفظ .
وقرأ ابن مسعود ، والحسن ، وإسماعيل وأبو عمرو ، وعاصم - رضي الله عنهم - في روايةٍ : » يكون « بالياء من تحت؛ لأنَّه تأنيثٌ مجازيٌّ .
قال المفسِّرون : والمعنى : ويكون لكُما الملكُ والعزُّ في أرض مصر ، والخطابُ لموسى ، وهارون - عليهما الصلاة والسلام - .
قال الزَّجَّاج : سمى الملك كبرياء؛ لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا ، وأيضاً : فالنبيُّ إذا اعترف القوم بصدقه ، صارت مقاليدُ أرم أمته إليه؛ فصار أكبر القوم .
واعلم : أنَّ القوم لمَّا ذكروا هذين الشيئين في عدم اتِّباعهم ، وهما : التَّقليد ، والحرصُ على طلب الرِّياسة ، صرَّحُوا بالحكم ، فقالوا : { وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } ، ثم شرعُوا في معارضةِ معجزات موسى - عليه الصلاة والسلام - بأنواعٍ من السحر؛ ليظهر عند الناس أن ما أتى به موسى من باب السِّحْر ، فقال فرعون : { ائتوني بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ } .
قرأ الأخوان : سحَّار وهي قراءةُ ابن مُصرِّف ، وابن وثَّاب ، وعيسى بن عمر .
{ فَلَمَّا جَآءَ السحرة قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ } .
فإن قيل : كيف أمرهُم بالسِّحْر ، والسِّحر كفر ، والأمر بالكفر كُفْرٌ؟ .
فالجواب : أنَّه - عليه الصلاة والسلام - أمرهم بإلقاء الحِبال والعِصيّ؛ ليظهر للخلق أن ما أتوا به عملٌ فاسدٌ ، وسعيٌ باطلٌ ، لا أنَّه - عليه الصلاة والسلام - أمرهم بالسِّحْرِ؛ فلمَّا ألقوا حبالهم وعصيَّهُم ، قال لهم موسى : ما جئتم به هو السِّحْر ، والغرض منهُ : أنَّهم لمَّا قالُوا لموسى : إنَّ ما جئتَ به سحر ، فقال موسى - عليه الصلاة والسلام - : إنَّ ما ذكرتمُوه باطلٌ ، بل الحقُّ : أنَّ الذي جئتُم به هو السِّحر الذي يظهر بطلانه ، ثم أخبرهُم بأن الله يحق الحق ، ويبطل الباطل .
قوله : { مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر } قرأ أبو عمرو وحده : « آلسِّحر » بهمزة الاستفهام ، وبعدها ألف محضةٌ ، وهي بدل عن همزة الوصلِ الدَّاخلة على لام التعريف ، ويجوز أن تُسَهَّل بين بين ، وقد تقدَّم تحقيق هذين الوجهين في قوله : { ءَآلذَّكَرَيْنِ } [ الأنعام : 143 ] وهي قراءة مجاهد ، وأصحابه ، وأبي جعفر ، وقرأ باقي السبعة : بهمزة وصلٍ تسقُط في الدَّرْج ، فأمَّا قراءةُ أبي عمرو ، ففيها أوجه :
أحدها : أنَّ « ما » استفهاميَّة في محلِّ رفع بالابتداء ، و « جِئْتُمْ بِه » : الخبرُ ، والتقدير : أي شيءٍ جِئْتُم ، كأنَّه استفهام إنكار ، وتقليلٌ للشَّيءِ المُجاء به . و « السِّحْر » بدلٌ من اسم الاستفهام؛ ولذلك أعيد معه أداته؛ لما تقرَّر في كتب النحو ، وذلك ليساوي المبدل منه في أنَّه استفهامٌ ، كما تقول : كم مالك أعشرون ، أم ثلاثون؟ فجعلت : أعشرون بدلاً من كم ، ولا يلزم أن يضمر للسِّحر خبر؛ لأنَّك إذا أبدلته من المبتدأ ، صار في موضعه ، وصار ما كان خبراً عن المبدل منه ، خبراً عنه .
الثاني : أن يكون « السِّحْر » خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : أهُو السِّحْر .
الثالث : أن يكون مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : السحر هو ، ذكر هذين الوجهين أبو البقاء ، وذكر الثاني مكِّي ، وفيهما بعد .
الرابع : أن تكون « ما » موصولة بمعنى : الذي ، و « جئتم به » صلتها ، والموصولُ في محلِّ رفع بالابتداء ، والسِّحر على وجهيه من كون خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : الذي جئتم به أهُو السِّحْر؟ أو الذي جئتم به السحر هو؟ وهذا الضميرُ هو الرَّابط ، كقولك : الذي جاءك أزيدٌ هو؟ قاله أبو حيَّان .
قال شهاب الدِّ ] ن : قد منع مكِّي أن تكون « ما » موصولةً ، على قراءة أبي عمرو ، فقال : وقد قرأ أبو عمرو « » آلسحرُ « بالمدِّ ، فعلى هذه القراءة : تكون » ما « استفهاماً مبتدأ ، و » جِئْتُم بِهِ « : الخبر ، و » السّحر « خبرُ ابتداءٍ محذوف ، أي : أهو السِّحر؟ ولا يجوزُ أن تكون » مَا « بمعنى : » الَّذي « على هذه القراءة؛ إذ لا خبر لها . وليس كما ذكر ، بل خبرها : الجملةُ المقدَّرُ أحدُ جُزأيها ، وكذلك الزمخشري ، وأبو البقاء لمْ يُجِيزَا كونها موصولةً ، إلاَّ في قراءة غير أبي عمرو ، لكنَّهُمَا لم يتعرَّضَا لعدم جوازه .
الخامس : أن تكون » ما « استفهامية في محلِّ نصبِ بفعل مقدَّرٍ بعدها؛ لأنَّ لها صدر الكلام ، و » جِئْتُم به « مفسِّر لذلك الفعل المقدَّر ، وتكون المسألةُ حينئذٍ من باب الاشتغال ، والتقدير : أيُّ شيءٍ أتيتُم جِئْتُم به ، و » السِّحْر « على ما تقدَّم ، ولو قُرىء بنصب » السِّحْر « على أنَّه بدلٌ مِنْ » ما « بهذا التقدير ، لكان لهُ وجه ، لكنَّه لم يقرأ به فيما علمت ، وسيأتي ما حكاه مكِّي عن الفرَّاء من جواز نصبه لمدركٍ آخر ، لا على أنَّها قراءةٌ منقولةٌ عن الفرَّاء .
وأمَّا قراءةُ الباقين ، ففيها أوجهٌ :
أحدها : أن تكون « ما » بمعنى : « الذي » في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، و « جِئْتُم بِه » صلته وعائده ، و « السِّحرُ » خبرهُ ، والتقدير : الذي جئتم به السحر ، ويؤيِّد هذا التقدير ، قراءة أبيّ ، وما في مصحفه : « ما أتيتم به سِحْرٌ » ، وقراءة عبد الله بن مسعود والأعمش : « مَا جِئْتُمْ بِهِ سحْرُ » .
الثاني : أن تكون « ما » استفهامية في محلِّ نصبٍ ، بإضمار فعل على ما تقرَّر و « السِّحْر » خبر ابتداء مضمر ، أو مبتدأ مضمر الخبر .
الثالث : أن تكون « ما » في محلِّ رفع بالابتداء ، و « السِّحْر » على ما تقدَّم من كونه مبتدأ ، أو خبراً ، والجملة خبر « ما » الاستفهامية .
قال أبو حيَّان - بعد ما ذكر الوجه الأول - : « ويجوز عندي أن تكون في هذا الوجه استفهاميَّة في موضع رفع بالابتداء ، أو في موضع نصبٍ على الاشتغال ، وهو استفهامٌ على سبيل التَّحقير ، والتَّقليل لما جاؤوا به ، و » السِّحْر « خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، أي : هو السِّحْر » .
قال شهاب الدِّين : ظاهرُ عبارته : أنَّه لم يَرَ غيره ، حيث قال وعندي ، وهذا قد جوَّزه أبو البقاء ومكِّي .
قال أبو البقاء - لمَّا ذكر قراءة غير أبي عمرو - « ويُقْرَأ بلفظ الخبر ، وفيه وجهان » ، ثم قال : « ويجوزُ أن تكون » ما « استفهاميَّة ، و » السِّحْر « خبر مبتدأ محذوف » .
وقال مكِّي - في قراءة غير أبي عمرو ، بعد ذكره كون « ما » بمعنى : الذي - ويجوز أن تكون « ما » رفعاً بالابتداء ، وهي استفهامٌ ، و « جِئْتُم بهِ » : الخبر ، و « السِّحْر » خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو السِّحر ، ويجُوزُ أن تكون « ما » في موضع نصبٍ على إضمار فعلٍ بعد « ما » تقديره : أيُّ شيءٍ جئتم به ، و « السحرُ » : خبر ابتداء محذوف .
الرابع : أن تكون هذه القراءةُ كقراءة أبي عمرو في المعنى ، أي : أنَّها على نيةِ الاستفهامِ ، ولكن حذفت أداته للعلم بها .
قال أبو البقاء : ويقرأ بلفظِ الخبر ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّه استفهامٌ في المعنى أيضاً ، وحذفت الهمزة للعلم بها وعلى هذا الذي ذكره : يكونُ الإعرابُ على ما تقدَّم ، واعلم أنَّك إذا جعلت « ما » موصولة بمعنى : الذي ، امتنع نصبُها بفعلٍ مقدَّرٍ على الاشتغال .
قال مكِّي : ولا يجُوزُ أن تكون « ما » بمعنى : الذي ، في موضع نصْبٍ لأنَّ ما بعدها صلتها ، والصلةُ لا تعمل في الموصول ، ولا يكون تفسيراً للعامل في الموصول وهو كلامٌ صحيحٌ؛ فتلخَّص من هذا : أنَّها إذا كانت استفهامية ، جاز أن تكون في محلِّ رفع أو نصب ، وإذا كانت موصولة ، تعيَّن أن يكون محلُّها الرفع بالابتداء ، وقال مكي : وأجاز الفرَّاءُ نصب « السِّحْر » فجعل « ما » شرطاً ، وينصبُ « السِّحْر » على المصدر ، وتضمرُ الفاءُ مع { إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ } ، وتجعل الألف واللام في « السِّحْر زائدتين ، وذلك كلُّه بعيدٌ ، وقد أجاز عليُّ بن سليمان : حذف الفاءِ من جواب الشَّرط في الكلام ، واستدلَّ على جوازه بقوله - تعالى - : { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الشورى : 30 ] ، ولم يجزه غيره إلاَّ في ضرورة شعر .
قال شهاب الدِّين : وإذا مشينَا مع الفرَّاء ، فتكون » ما « شرطاً يُراد بها المصدرُ ، تقديره : أيَّ سحر جئتم به ، فإنَّ الله سيبطله ، ويُبَيِّن أنَّ » ما « يراد بها السحر قوله : » السِّحْر « ؛ ولكن يقلقُ قوله : » إنَّ نصب السِّحْر على المصدريَّة « فيكون تأويله : أنَّه منصوبٌ على المصدر الواقع موقع الحال؛ ولذلك قدَّره بالنَّكرة ، وجعل » أل « مزيدة فيه .
وقد نُقِلَ عن الفرَّاء : أنَّ هذه الألف واللام للتعريف ، وهو تعريف العهد ، قال الفرَّاء : » وإنَّما قال « السِّحر » بالألف واللاَّم؛ لأنَّ النَّكرة إذا أعيدتْ ، أعيدت بالألف واللاَّم « يعنى : أنَّ النَّكرة قد تقدَّمت في قوله : { إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } [ يونس : 76 ] ، وبهذا شرحهُ ابنُ عطيَّة .
قال ابن عطيَّة : والتعريف هنا في السحر أرْتَبُ؛ لأنَّه قد تقدَّم منكَّراً في قولهم : » إنَّ هذا لسحرٌ « ، فجاء هنا بلام العهد ، كما يقال أوَّل الرسالة : » سلامٌ عليك « .
قال أبو حيَّان » وما ذكراه هنا في « السِّحْر » ليس من تقدُّم النكرة ، ثُمَّ أخبر عنها بعد ذلك؛ لأنَّ شرط هذا أن يكون المعرَّفُ ب « أل » هو المنكر المتقدَّم ، ولا يكون غيره ، كقوله - تعالى - : { كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول } [ المزمل : 15 ، 16 ] .
وتقول : « زارنِي رجلٌ ، فأكرمتُ الرَّجُل » لمَّا كان إيَّاه ، جاز أن يُؤتَى بضميره بدلهُ ، فتقول : « فأكرمته » ، و « السِّحْر » هنا : ليس هو السحرَ الذي في قولهم : « إنَّ هذا لسحْرٌ » لأنَّ الذي أخبروا عنه بأنَّه سحرٌ ، هو ما ظهر على يدي موسى من معجزة العصا ، والسِّحْر الذي في قول موسى ، إنَّما هو سحرهُم الذي جاؤوا به ، فقد اختلف المدلولان ، إذ قالوا هم عن معجزة موسى ، وقال موسى عمَّا جاؤوا به؛ ولذلك لا يجُوز أن يؤتى هنا بالضَّمير بدل السِّحْر؛ فيكون عائداً على قولهم : لسحْرٌ « .
قال شهاب الدِّين : « والجوابُ : أنَّ الفرَّاء ، وبن عطيَّة إنَّما أرَادَا السِّحر المتقدِّم الذكر في اللفظ ، وإن كان الثَّاني هو غير عين الأول في المعنى ، ولكن لمَّا أطلق عليهما لفظ » السَّحْر « جاز أن يقال ذلك ، ويدلُّ على هذا : أنَّهم قالوا في قوله - تعالى - : { والسلام عَلَيَّ } [ مريم : 33 ] إنَّ الألف واللام للعهد؛ لتقدُّم ذكر السَّلام في قوله - تعالى - : { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ } [ مريم : 15 ] ، وإن كان السَّلامُ الواقعُ على عيسى ، هو غير السلام الواقع على يحيى؛ لاختصاص كلِّ سلام بصاحبه من حيث اختصاصه به ، وهذا النَّقْل المذكورُ عن الفرَّاء في الألف واللاَّم ، ينافى ما نقلهُ عنه مكِّي فيهما ، اللَّهُمَّ إلاَّ أن يقال : يحتمل أن يكون له مقالتان ، وليس ببعيدٍ؛ فإنَّه كُلَّما كثر العلمُ ، اتَّسعت المقالاتُ » .
قوله : { إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ } أي : سيهلكه ، ويظهر فضيحة صاحبه ، { إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين } أي : لا يقوِّيه ولا يكمِّله ، وقوله : « المُفْسدينَ » من وقوع الظَّاهر موقع ضمير المخاطب؛ إذ الأصلُ : لا يصلح عملكم؛ فأبرزهم في هذه الصِّفة الذَّميمة شهادة عليهم بها ، ثم قال : { وَيُحِقُّ الله الحق } أي : يظهره ويقوِّيه ، { بِكَلِمَاتِهِ } أي : بوعده موسى ، وقيل : بما سبق من قضائه وقدره ، وقرىء : « بكَلمتهِ » بالتوحيد ، وتقدَّم نظيره [ الأنفال : 7 ] .
قوله : { فَمَآ آمَنَ لموسى } الفاءُ للتَّعقيب ، وفيها إشعارٌ بأنَّ إيمانهم لم يتأخَّر عن الإلقاء ، بل وقع عقيبهُ؛ لأنَّ الفاء تفيد ذلك ، وقد تقدَّم توجيهُ تعدية « آمن » باللاَّم ، والضَّمير في « قَوْمِهِ » فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّه يعودُ على موسى؛ لأنَّهُ هو المُحدَّث عنه؛ ولأنَّه أقربُ مذكورٍ ، ولو عاد على فرعون ، لمْ يكرِّرْ لفظه ظاهراً ، بل كان التركيب : « على خوفٍ منه » وإلى هذا ذهب ابنُ عبَّاس ، وغيره ، قال : المراد مؤمني بني إسرائيل الذين كانُوا بمصر ، وخرجُوا معه .
قال ابن عبَّاس : لفظ الذُّريَّة يُعَبَّر به عن القوم على وجه التَّحقير والتَّصغير ، ولا سبيل لحمله على التقدير على وجه الإهانة ههنا؛ فوجب حمله على التصغير ، بمعنى : قلة العدد .
قال مجاهد : كانوا أولاد الذين أرسل إليهم موسى من بني إسرائيل ، هلك الآباء ، وبقي الأبناء .
وقيل : هم قوم نَجَوْا من قتل فرعون؛ وذلك أنَّ فرعون لما أمر بقتل أبْنَاءِ بني إسرائيل ، كانت المرأة في بني إسرائيل ، إذا ولدت ابناً وهبته لقبطيَّة ، خوفاً عليه من القتل ، فنشئُوا بين القبط ، وأسلمُوا في اليوم الذي غلب فيه موسى السَّحرة .
والثاني : أنَّ الضمير يعُود على فرعون ، ويُروى عن ابن عبَّاس أيضاً ، ورجَّح ابنُ عطيَّة هذا ، وضعف الأول ، فقال : وممَّا يضعفُ عود الضَّمير على مُوسى : أنَّ المعروف من أخبار بني إسرائيل ، أنهم كانوا قد فشتْ فيهم النبواتُ ، وكانُوا قد نالهُم ذلٌّ مفرط ، وكانوا يرجُون كشفهُ بظُهُورِ مولُود ، فلمَّا جاءهُم موسى أصْفَقُوا عليه وتابعُوه ، ولم يُحْفَظْ أنَّ طائفة من بني إسرائيل كفرتْ بمُوسَى ، فكيف تُعْطِي هذه الآيةُ أنَّ الأقلَّ منهم كان الذي آمَنَ؟ فالذي يترجَّحُ عودُه على فرعون ، ويؤيِّده أيضاً : ما تقدَّم من محاورة موسى وردِّه عليهم وتوبيخهم .
قيل : المراد بالذرية : أقوام كان آباؤهم من قوم فرعون ، وأمَّهاتُهُم من بني إسرائيل ، فجعل الرَّجُل يتبع أمَّهُ وأخوالهُ .
روي عن ابن عبَّاس : أنَّهم كانوا ستمائة ألفٍ من القبط .
قيل : سُمُّوا ذُرِّيَّة؛ لأنَّ آباءهم كانوا من القبط ، وأمهاتهم من بني إسرائيل ، كما يقال لأولاد فارس - الذين سقطوا إلى اليمن - : الأبناء؛ لأنَّ أمُّهاتهم من غير جنس آبائهم .
وقيل : المراد بالذُّرِّيَّة من آل فرعون : آسيةُ ، ومُؤمنُ آلِ فرعون ، وامرأته ، وخازنه ، وامرأةُ خازنه ، وماشطتها .
واعلم : أنَّه - تعالى - إنَّما ذكر ذلك تسلية لمحمَّد - عليه الصلاة والسلام -؛ لأنَّه كان يغتمُّ بسبب إعراض القوم عنه ، واستمرارهم على الكُفْر ، فبيَّن أنَّ له في هذا الباب أسوة بسائر الأنبياء؛ لأنَّ الذي ظهر من موسى كان في الإعجاز في مرأى العين أعظم ، ومع ذلك فما آمن منهم إلا ذرية .
قوله « عَلى خوفٍ » : حالٌ ، أي : آمنوا كائنين على خوف ، والضَّمير في « ومَلئِهِم » فيه أوجه :
أحدها : أنَّه عائدٌ على الذُّرية ، وهذا قولُ أبي الحسن ، واختيارُ ابن جرير ، أي : خوفٍ من ملأ الذرية ، وهم أشراف بني إسرائيل .
الثاني : أنه يعودُ على « قَوْمِهِ » بوجهيه ، أي : سواءٌ جعلنا الضمير في « قومِهِ » لمُوسى ، أو لفرعون ، أي : وملأ قوم موسى ، أو ملأ قوم فرعون .
الثالث : أن يعود على فرعون؛ لأنَّهم إنَّما كانُوا خائفين من فرعون ، واعترض على هذا؛ بأنَّهُ كيف يعودُ ضميرُ جمعٍ على مفرد؟ واعتذر أبو البقاء بوجهين :
أحدهما : أنَّ فرعون لمَّا كان عظيماً عندهم ، عاد الضَّمير عليه جمعاً ، كما يقول العظيم : نحن نأمُرُ ، وهذا فيه نظرٌ؛ لأنَّه لو ورد ذلك من كلامهم محْكِيّاً عنهم ، لاحتمل ذلك .
الثاني : أنَّ فرعون صار اسماً لأتباعه ، كما أنَّ ثمود اسمٌ للقبيلة كلها . وقال مكِّي وجهين آخرين قريبين من هذين ، ولكنَّهما أخلص منهما ، قال : إنَّما جمع الضميرُ في مَلَئهم؛ لأنَّه إخبار عن جبَّار ، والجبَّار يخبر عنه بلفظ الجمع ، وقيل : لمَّا ذكر فرعونُ ، عُلِمَ أنَّ معه غيرهُ ، فرجع الضَّميرُ عليه ، وعلى من معه .
وقد تقدم نحوٌ من هذا عند قوله : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس } [ آل عمران : 173 ] والمراد بالقائل الأول : نعيم بن مسعود؛ لأنَّه لا يخلُو من مساعدٍ لهُ على ذلك القول .
الرابع : أنْ يعود على مضافٍ محذوف وهو آل ، تقديره : على خوفٍ من آل فرعون ، ومَلئِهم ، قاله الفرَّاء ، كما حذف في قوله :
{ واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] .
قال أبو البقاء بعد أن حكى هذا ولم يعزُه لأحدٍ : « وهذا عندنا غلطٌ؛ لأنَّ المحذوف لا يعود إليه ضميرٌ ، إذ لو جاز ذلك ، لجاز أن يقول : » زَيْدٌ قاموا « وأنت تريد : غلمان زيد قامُوا » .
قال شهاب الدِّين : قوله : « لأنَّ المحذوف لا يعودُ إليه ضمير » ممنوعٌ ، بل إذا حذف مضافٌ ، فللعرب فيه مذهبان : الالتفات إليه ، وعدمُه وهو الأكثر ، ويدلُّ على ذلك : أنَّه قد جمع بين الأمرين في قوله : { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } [ الأعراف : 4 ] أي : أهل قرية ، ثم قال : { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] وقد حققت ذلك في موضعه المشار إليه ، وقوله : « لجازَ زيد قاموا » ليس نظيره ، فإنَّ فيه حذفاً من غير دليلٍ ، بخلاف الآية .
وقال أبو حيان - بعد أن حكى كلام الفرَّاء - : ورُدَّ عليه : بأنَّ الخوف يمكنُ من فرعون ، ولا يمكن سؤالُ القرية ، فلا يحذفُ إلاَّ ما دلَّ عليه الدَّليلُ ، وقد يقال : ويدلُّ على هذا المحذوف جمع الضمير في « ومَلئِهم » . يعني أنَّهم ردُّوا على الفراء ، بالفرق بين { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] وبين هذه الآية : بأنَّ سؤال القرية غير ممكنٍ ، فاضطررنا إلى تقدير المضاف ، بخلاف الآية فإنَّ الخوفَ تمكَّن من فرعون ، فلا اضطرار بنا يدُلُّنا على مضاف محذوف .
وجواب هذا : أنَّ الحذف قد يكون لدليلٍ عقلي أو لفظي ، على أنَّه قيل في { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] إنَّه حقيقةٌ ، إذ يمكن النبيُّ أن يسأل القرية؛ فتُجِيبه .
الخامس : أنَّ ثمَّ معطوفاً محذوفاً حذف للدَّلالةِ عليه ، والدَّليلُ عليه؛ كونُ الملك لا يكونُ وحده ، بل له حاشيةٌ ، وعساكرُ ، وجندٌ؛ فكان التقدير : على خوفٍ من فرعون ، وقومه ، وملئِهِم ، أي : ملأ فرعون وقومه ، وهو منقولٌ عن الفرَّاء أيضاً .
قال شهاب الدِّين : حذف المعطوف قليلٌ في كلامهم ، ومنه عند بعضهم ، قوله - تعالى - : { تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] أي : والبرد؛ وقول الآخر : [ الطويل ]
2925- كأنَّ الحصى من خلفها وأمَامِهَا ... إذَا حذفتْهُ رِجْلُها حذفُ أعْسَرَا
أي : ويدها .
قوله : « أن يفْتنَهُم » أي : يصرفهم عن دينهم ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنَّه في محلِّ جرٍّ على البدل من « فِرْعَون » ، وهو بدلُ اشتمالٍ ، تقديره : على خوفٍ من فرعون فتنة ، كقولك : « أعْجَبني زيد علمُهُ » .
الثاني : أنَّه في موضع نصب على المفعول به بالمصدر ، أي : خوف فتنته ، وإعمالُ المصدر المنوَّن كثيرٌ؛ كقوله : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14 ، 15 ] ، وقول الآخر : [ الطويل ]
2926- فَلوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ منْكَ ورهْبَةٌ ... عِقابَك قد كانُوا لنا بالمَوارِدِ
الثالث : أنَّه منصوبٌ على المفعول من أجله بعد حذف اللام ، ويجري فيها الخلافُ المشهورُ .
وقرأ الحسن ، ونبيح : « يُفْتِنَهم » بضمِّ الياءِ من « أفتن » وقد تقدَّم ذلك [ النساء : 101 ] .
قوله : { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض } أي : مُتكبِّر ، أو ظالمٌ ، أو قاهر ، و « فِي الأرض » متعلِّقٌ ب « عَالٍ » ؛ كقوله : [ الكامل ]
2927- فاعْمَدْ لِمَا تعلُو فما لك بالَّذي ... لا تَسْتطيعُ مِنَ الأمُورِ يَدَانِ
أي : لِمَا تَقْهَر ، ويجوز أن يكون « فِي الأرْضِ » متعلِّقاً بمحذوف؛ لكونه صفة ل « عَالٍ » فيكون مرفوع المحلِّ ، ويرجح الأول قوله : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض } [ القصص : 4 ] ثم قال : { وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين } : المجاوزين الحدَّ؛ لأنه كان عبداً ، فادَّعى الرُّبُوبيَّة ، وقيل : لأنه كان كثير القتل والتعذيب لمنْ يخالفُه ، والغرضُ منهُ : بيان السَّبب في كون أولئك المؤمنين خائفين .
قوله تعالى : { وَقَالَ موسى ياقوم إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله } الآية .
قوله تعالى : « فَعَليْهِ » جوابُ الشرط ، والشرط الثاني - وهو « إن كنتم مُسلمينَ » - شرطٌ في الأول ، وذلك أنَّ الشَّرطين متى لمْ يترتَّبا في الوجودِ ، فالشَّرطُ الثَّاني شرطٌ في الأول ، ولذلك يجب تقدُّمُه على الأول ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك [ البقرة : 38 ] .
قال الفقهاء : المتأخر يجب أن يكون متقدماً ، والمتقدِّم يجب أن يكون متأخراً ، مثاله قول الرَّجُلِ لامرأته : إن دخلت الدار ، فأنت طالقٌ إن كلمت زيداً ، والمشروط متأخِّر عن الشَّرطِ ، وذلك يقتضي أن يكون المتأخِّر في اللفظ ، متقدماً في المعنى ، وأن يكون المتقدم في اللفظ متأخراً في المعنى ، فكأنَّه يقول لامرأته : حال ما كلمت زيداً إن دخلت الدَّار ، فأنت طالقٌ ، فلو حصل هذا التعليقُ ، قيل : إن كلَّمَتْ زيداً لمْ يقع الطلاق .
قوله : { ن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله فَعَلَيْهِ توكلوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } يقتضي أن يكون كونهم مسلمين شرطاً؛ لأن يصيروا مخاطبين بقوله : { إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله فَعَلَيْهِ توكلوا } فكأنَّه - تعالى - يقول للمسلم حال إسلامه : إن كنت من المؤمنين بالله فعلى الله توكَّلْ ، والأمر كذلك؛ لأنَّ الإسلام عبارة عن الاستسلام ، وهو الانقياد لتكاليف الله ، وترك التمرد ، والإيمان عبارةٌ عن صيرورة القلب ، عارفاً بأن واجب الوُجُود لذاته واحدٌ ، وأنَّ ما سواه محدث مخلُوق تحت تدبيره ، وقهره ، وإذا حصلت هاتان الحالتان ، فعند ذلك يفوِّض العبدُ جميع أموره إلى الله - تعالى - ، ويحصُلُ في القلب نور التَّوكُّل على الله - تعالى - .
فصل
إنما قال : « فعليه توكَّلُوا » ولم يقل : « توكَّلُوا على اللهِ » ، لأن الأول يفيد الحصر ، كأنه - عليه الصلاة والسلام - أمرهم بالتَّوكُّل عليه ، ونهاهُم عن التوكُّلِ على الغير ، ثم بيَّن - تعالى - أنَّ موسى - عليه الصلاة والسلام - لمَّا أمرهم بذلك قبلوا قوله { فَقَالُواْ على الله تَوَكَّلْنَا } أي : توكُّلُنا عليه واعتمادنا ، ولم نلتفت إلى أحد سواه ، ثم اشتغلوا بالدعاء ، وطلبوا من الله شيئين :
أحدهما : أن قالوا : { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين } .
والثاني : { وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين } أما قولهم : { لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين } ففيه وجوه :
الأول : لا تفتن بنا فرعون وقومه؛ لأنك لو سلطَّتهُم علينا ، لوقع في قلوبهم أنَّا لو كنَّا على الحقِّ ، لما سلَّطتهُم علينا؛ فيصير ذلك شبهةً قويَّةً في إصرارهم على الكفر؛ فيكون ذلك فتنةً لهم .
الثاني : لو سلَّتهُم علينا ، لاستوجبُوا العقاب الشَّديد في الآخرة ، وذلك يكون فتنة لهم .
الثالث : أنَّ المراد بالفتنة المفتُون؛ لأنَّ إطلاق لفظ المصدر على المفعول جائز ، كالخلق بمعنى المخلوق والتقدير : لا تَجٍْعلْنا مفْتُونين بأنَّ ييقهَرُونا بالظُّلْمِ على أن ننصرف من هذا الدِّين الذي قبلناهُ ، ويؤكِّد هذا قوله : { فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ } [ يونس : 83 ] وأمَّا المطلوبُ الثاني ، فهو قوله : { وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين } .
وهذا يدلُّ على أنَّ اهتمامهم بأمر دينهم كان فوق اهتمامهم بأمر دنياهم؛ لأنَّا إذا حملنا قولهم : { لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين } [ يونس : 85 ] ، على تسليط الكفَّار عليهم وصيروة ذلك التسليط شبهة للكفار في أنَّ هذا الدِّين باطلٌ ، فتضرعوا إلى الله - تعالى - في صون الكُفَّار عن هذه الشُّبهة ، وتقديم هذا الدُّعاء على طلب النَّجاة لأنفسهم ، وذلك يدل على أن اهتمامهُم بمصالح أديانهم فوق اهتمامهم بمصالح أبدانهم .
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
قوله تعالى : { وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً } الآية .
لمَّا شرح خوف المؤمنين من الكُفَّار ، وما ظهر منهم من التَّوكُّل على الله ، أتبعه بأن أمر موسى ، وهارون باتخاذ المساجد ، والإقبال على الصَّلوات .
قوله { أَن تَبَوَّءَا } يجوز في « أنْ » أن تكون المفسِّرة؛ لأنَّه قد تقدَّمها ما هو بمعن القول وهو الإيحاء ، ويجوز أن تكون المصدريَّة ، فتكون في موضع نصب ب « أوْحَيْنَا » مفعولاً به ، أي : أوحينا إليهما التَّبَوُّء .
والجمهور على الهمزة في « تَبَوَّآ » وقرأ حفص « تَبَوَّيَا » بياء خالصة ، وهي بدلٌ عن الهمزة ، وهو تخفيفٌ غيرُ قياسي ، إذ قياسُ تخفيف مثل هذه الهمزة : أن تكون بين الهمزة والألف ، وقد أنكر هذه الرِّواية عن حفص جماعةٌ من القُرَّاءِ ، وخصَّها بعضهم بحالة الوقف ، وهو الذي لم يحكِ أبُو عمرو الدَّاني والشاطبي غيره ، وبعضهم يُطلق إبدالها عنه ياء وصلاً ووقفاً ، وعلى الجملة فهي قراءةٌ ضعيفةٌ في العربية ، وفي الرواية .
والتَّبَوُّؤُ : النزولُ والرجوعُ ، يقال : تبوَّأ المكان : أي : اتخذه مُبَوَّأ ، وقد تقدَّمت هذه المادة في قوله : { تُبَوِّىءُ المؤمنين } [ آل عمران : 121 ] والمعنى : اجعلا بمصر بيوتاً لقومكما ، ومرجعاً ترجعون إليه للعبادة .
قوله : « لِقَوْمِكُما » يجوزُ أن تكون اللاَّمُ زائدة في المفعول الأول ، و « بُيُوتاً » مفعول ثان ، بمعنى : بوِّآ قومكما بيوتاً ، أي : أنزلوهم ، وفعَّلَ وتَفَعَّلَ بمعنًى ، مثل « عَلَّقَهَا » و « تعلَّقها » قاله أبو البقاء ، وفيه ضعفٌ : من حيث إنَّه زيدت اللامُ ، والعاملُ غير فرع ، ولم يتقدم المعمُولُ .
الثاني : أنَّها غير زائدة ، وفيها حينئذٍ وجهان :
أحدهما : أنَّها حالٌ من « البُيُوتِ » .
والثاني : أنَّها وما بعدها مفعول « تَبَوَّءا » .
قوله « بِمِصْرَ » جوَّز فيه أبو البقاء أوْجُهاً :
أحدها : أنَّه متعلِّق ب « تَبَوَّءا » ، وهو الظَّاهرُ .
الثاني : أنَّه حالٌ من ضمير « تَبَوَّءا » ، واستضعفهُ ، ولمْ يُبَيِّنْ وجه ضعفه لوضوحه .
الثالث : أنَّها حالٌ من « البُيُوت » .
الرابع : أنَّهُ حالٌ من : « لِقَوْمِكُما » ، وقد ثنَّى الضمير في قوله : « تَبَوَّءَا » وجمع في قوله : « واجْعَلُوا » و « أقِيمُوا » وأفرد في قوله : « وبَشِّر » لأن الأول أمرٌ لهما ، والثاني لهما ولقومهما ، والثالث لمُوسى فقط؛ لأنَّ أخاهُ تبعٌ لهُ ، ولمَّا كان فعلُ البشارة شريفاً خصَّ به موسى ، لأنَّه هو الأصل ، وقيل : وبشِّر المؤمنين يا محمَّد .
فصل
قال بعضهم : المراد من البُيُوتِ : المساجد؛ لقوله : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ } [ النور : 36 ] وقيل : مطلق البيوت ، أمَّا الأوَّلُون ففسَّرُوا القبلة بالجانب ، الذي يستقبل في الصلاة ، أي : اجعلُوا بيوتكُم مساجداً ، تستقبلونها في الصَّلاة .
وقال ابن الأنباريِّ : المعنى : اجعلوا بيوتكم قبلاً ، أي : مساجد؛ فأطلق لفظ الواحد ، والمراد : الجَمْع ، ومن قال : المرادُ : مطلق البيوت ففيه وجهان :
أحدهما : قال الفراء : أي : اجعلوا بيوتكم إلى القبلة .
الثاني : المعنى : اجعلوا بيوتكم متقابلة ، والمراد منه : حصول الجمعيَّة ، واعتضاد البعض بالبعض .
واختلفوا في هذه القبلة أين كانت؟ ظاهر القرآن لا يدلُّ على تعيينها ، وروي عن ابن عبَّاس : كانت الكعبةُ قبلةَ مُوسى ، وكان الحسن يقول : الكعبة قبلةَ كلِّ الأنبياء ،
وإنما وقع العُدُول عنها بأمر الله - تعالى - في أيَّام الرسُول - عليه الصلاة والسلام - بعد الهجرة . وقال آخرون : كانت القبلة : بيت المقدس .
فصل
ذكر المُفَسِّرُون في كيفية هذه الواقعة وجوهاً :
أحدها : أن موسى ومن معه كانوا مأمورين في أول أمرهم ، بأن يُصَلُّوا في بيوتهم خُفيةً من الكُفَّار؛ لئلا يظهروا عليهم ، فيُؤذُوهُم ، ويفتنوهُم عن دينهم ، كما كان المؤمنون في أول الإسلام بمكة .
قال مجاهد : خاف موسى ومن معه من فرعون أن يصلُّوا في الكنائس الجامعة ، فأمروا أن يجعلوا في بيوتهم مساجد جهة الكعبة ، يُصَلُّون فيها سرّاً .
وثانيها : أنَّه لمَّا أرْسِلَ مُوسى إلى فرعون ، أمر فرعون بتخريب مساجد بني إسرائيل ، ومنعهم من الصلاة ، فأمرهُم الله - تعالى - باتِّخاذِ المساجد في بيوتهم ، رواه عكرمة ، عن ابن عبَّاس . وهو قول إبراهيم .
وثالثها : أنَّه تعالى لمَّا أرسل مُوسى إليهم ، وأظهر فرعون لهم العداوة الشديدة ، أمر الله - تعالى - موسى ، وهارون ، وقومهما باتِّخاذِ المساجد على رغم الأعداء ، وتكفَّل الله بصونهم عن شرِّ الأعداءِ .
قوله تعالى : { وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً } الآية .
لمَّا بالغ موسى في إظهار المعجزات ، ورأى القوم مُصرِّينَ على الجُحُود والعنادِ؛ دعا عليهم ، ومن حقِّ من يدعُو على الغير أن يذكُر سبب جرمه ، وجرمهم : كان حُبَّ الدنيا؛ فلأجله تركوا الدِّين؛ فلهذا قال - عليه الصلاة والسلام - : { رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحياة الدنيا } والزينة : عبارة عن الصحَّة ، والجمال ، واللباس ، والدوابِّ ، وأثاث البيت ، والمال ما يزيد على هذه الأشياء من الصَّامت ، والنَّاطق ، وقرأ الفضل الرَّقاشي « أئنَّكَ آتيْتَ » .
قوله : « ليُضِلُّوا » في هذه اللاَّم ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنَّها لامُ العلَّة ، والمعنى : أنَّك آتيتهُم ما آتَيْتَهم على سبيل الاستدراج ، فكان الإيتاءُ لهذه العلة .
والثاني : أنَّها لامُ الصَّيرورةِ والعاقبة؛ كقوله : { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] ، وقوله : [ الوافر ]
2928- لِدُوا للمَوْتِ وابنُوا لِلْخَرَابِ .. .
وقوله : [ الطويل ]
2929- ولِلْمَوْتِ تَغْذُو الولِدَاتُ سِخالَهَا ... كمَا لِخرابِ الدُّور تُبْنَى المسَاكِنُ
وقوله : [ البسيط ]
2930- ولِلْمنَايَا تُرَبِّي كُلُّ مرضِعَةٍ ... ولِلْخَرابِ يُجِدُّ النَّاسُ عُمْرَانَا
والثالث : أنَّها للدعاء عليهم بذلك؛ كأنه قال : ليثبتُوا على ما هم عليه من الضلال ، وليكونُوا ضُلاَّلاً ، وإليه ذهب الحسن البصريُّ ، وبدأ به الزمخشريُّ ، وقد استُبعدَ هذا التَّأويلُ بقراءة الكوفيين ، « لِيُضِلُّوا » بضمِّ الياء ، فإنه يبعد أن يدعُو عليهم بأن يُضِلُّوا غيرهم ، وقرأ الباقون بفتحها ، وقرأ الشعبيُّ بكسرها ، فوالى بين ثلاث كسرات إحداها في ياء .
وقال الجبائي : إنَّ « لا » مقدرةٌ بين اللاَّم والفعل ، تقديره : لئلاَّ يضلُّوا ، ورأي البصريين في مثل هذا تقدير : « كرَاهَةَ » ، أي : كراهة أن يضلُّوا .
فصل
احتج أهل السُّنَّة بهذه الآية على أنه - تعالى - يضلُّ الناس من وجهين :
أحدهما : أن اللام في « لِيضلُّوا » لام التَّعليل .
والثاني : قوله : { واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ } فقال - تعالى - : { قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا } قال القاضي : لا يجوز أن يكون المرادُ من الآية ما ذكرتُم لوجوه :
الأول : لأنَّه - تعالى - منزَّهٌ عن فعل القبائح ، وإرادة الكفر قبيحة .
وثانيها : أنَّه - تعالى - لو أراد ذلك ، لكان الكافرُ مطيعاً لله بكفره؛ لأنَّ الطاعة : هي الإتيان بمراد الأمر ، ولو كان كذلك ، لما استحقُّوا الدُّعاء عليهم .
وثالثها : لو جوَّزْنَا إرادة إضلال العباد ، لجوَّزْنَا أن يبعث الأنبياء بالدُّعاء إلى الضَّلالِ ، ولجاز أن يقوي الكذَّابين الضَّالين بإظهار المعجزات ، وفيه هدم الدِّين .
ورابعها : أنَّه لا يجوز أن يقول لموسى وهارون : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } [ طه : 44 ] ، وأن يقول : { وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين وَنَقْصٍ مِّن الثمرات لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } [ الأعراف : 130 ] ، ثم إنَّه - تعالى - إراد الضَّلال منهم ، وأعطاهم النِّعم لكي يضلُّوا ، وهذا كالمناقضة ، فلا بُدّ من حَمْلِ أحدهما على الآخر .
وخامسها : لا يجوز أن يقال : إن مُوسى دعا ربَّهُ بأن يُطْمِسَ على أموالهم؛ لأجل أن لا يؤمنوا ، مع تشدده في إرادة الإيمان . وإذا ثبت هذا؛ وجب تأويلُ هذه الكلمة ، وذلك من وجوه :
الأول : أنَّ اللاَّم في « لِيُضِلُّوا » : لامُ العاقبة كما تقدَّم ، ولما كانت عاقبة قوم فرعون ، هو الضَّلال ، عبَّر عن هذا المعنى بهذا اللفظ .
الثاني : أنَّ التقدير : لئلاَّ يضلوا ، كقوله : { يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] ، فحذف لدلالة المعقُول عليه ، كقوله - تعالى - : { بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة } [ الأعراف : 172 ] ، أي : لئلاَّ تقُولُوا .
الثالث : أن يكون موسى ذكر ذلك على وجه التَّعجُّبِ المقرُون بالإنكار ، أي : إنَّك أتيتهُم بذلك لهذا الغرض فإنَّهُم لا ينفقُون هذه الأموال إلاَّ فيه ، كأنَّه قال : أتيتهم زينةً وأموالاً لأجْلِ أن يُضلُّوا عن سبيلك ، ثم حذف حرف الاستفهام ، كما في قوله : [ الكامل ]
2931- كذَبَتْكَ عَيْنُكَ أمْ رأيْتَ بواسِطٍ ... غَلَسَ الظَّلامِ منَ الرَّبَابِ خَيَالاَ
والمرادُ : أكذبتك فكذا ههنا .
الرابع : أنَّ هذه لام الدُّعاء ، وهي لام مكسورة تجزم المستقبل ، ويفتتح بها الكلام ، فيقال : ليغفرُ الله للمؤمنين ، وليُعذِّب الله الكافرين ، والمعنى؛ ربنا ابتليهم بالضَّلال عن سبيلك .
الخامس : سلَّمنا أنَّها لامُ التَّعليل ، لكن بحسب ظاهر الأمر ، لا في نفس الحقيقة ، والمعنى : أنه - تعالى - لمَّا أعطاهم هذه الأموال ، وصارت سبباً لبغيهم وكفرهم ، أشبهت حال من أعطى المال لأجل الإضلال ، فورد هذا الكلامِ بلفظ التَّعليل لهذا المعنى .
السادس : أنَّ الضَّلال قد جاء في القرآن بمعنى : الهلاك ، يقال : ضلَّ الماءُ في اللَّبن ، أي : هلك ، فقوله : « ليضلُّوا عن سبيلك » أي : ليهلكوا ويموتوا ، كقوله - تعالى - : { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا } [ التوبة : 55 ] .
قال ابن الخطيب : واعلم : أنَّ الجواب قد تقدَّم مراراً ، ونُعيد بعضه ، فنقول : الذي يدُلُّ على أنَّ الإضلال من الله - تعالى - وجوه :
الأول : أنَّ العبد لا يقصدُ إلا حُصُول الهداية ، فلمَّا لمْ تحصُل الهداية بل حصل الضَّلال الذي لا يُريده ، علمنا أنَّ حصُوله ليس من العَبْدِ ، بل من الله - تعالى - .
فإن قالوا : إنَّه ظنَّ هذا الضَّلال هُدًى ، فلذلك أوقعه في الوُجُود فنقول : إقدامُه على هذا الجهل ، إن كان بجهل سابق ، فذلك الجهل السابق يكون حُصُوله لسبق جهل آخر ويلزمُ التسلسل وهو محال؛ فوجب أنَّ هذه الجهالات والضَّلالات لا بُدَّ من انتهائها إلى جهل أوَّلٍ ، وضلال أولٍ ، وذلك لا يمكن أن يكون بإحداث العبد؛ لأنَّه يكرهُه ويُريد ضدَّهُ؛ فوجب أن يكون من الله - تعالى - .
الثاني : أنَّه تعالى لمَّا خلق الخلق يُحِبُّون المال حُبّاً شديداً ، بحيث لا يمكنهُم إزالة هذا الحُبِّ عن النَّفْسِ ألبتَّة ، وكان حُصُول هذا الحُبِّ يوجب الإعراض عن خدمة الله وطاعته ، ويوجب التَّكبُّر عليه ، وترك اللُّزُوم؛ فوجب أن يكون فاعل هذا الكفر ، هو الذي خلق الإنسان مجبُولاً على حُبِّ هذا المال والجاه .
الثالث : أنَّ القُدْرة بالنِّسْبَة إلى الضِّدَّين على السَّويَّة ، فلا يترجَّحُ أحدُ الطَّرفين على الآخر إلاَّ بمرجِّح ، وذلك المُرجِّحُ ليس من العبد ، وإلا لعاد الكلام فيه ، فلا بُدَّ وأن يكون من الله - تعالى - ، وإذا كان كذلك ، كانت الهدايةُ والضلال من الله - تعالى - .
وإذا عرفت هذا ، فنقول : أما حملهم اللاَّم على لامِ العاقبة فضعيفٌ؛ لأنَّ موسى - عليه الصلاة والسلام - ما كان عالماً بالعواقب .
فإن قالوا : إنَّ الله تعالى أخبرهُ بذلك .
قلنا : فلمَّا أخبر الله عنهم أنَّهُم لا يُؤمِنُون ، كان صدور الإيمان منهم مُحَالاً؛ لأنَّ ذلك يستلزمُ انقلاب خبر الله كذباً ، وهو محال ، والمفضي إلى المُحال محال .
وأمّا قولهم : يحمل قوله : « لِيُضِلُّوا » على أنَّ المراد : لئلاَّ يُضِلُّوا ، كما ذكره الجبائي ، فأقول : إنَّه لمَّا فسَّر قوله - تعالى - : { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [ النساء : 79 ] نقل قراءة « فمنْ نفسِك » على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار ، ثم إنَّه استبعد هذه القراءة ، وقال : إنَّها تَقْتَضِي تحريف القرآن ، وتغييرهُ ، وتفتحُ تأويلات الباطنيَّة - والباطنية هم الملاحدة ، ويقال لهم : القرامِطَة ، والإسماعيلية القائلون : بأنَّ محمَّد بن إسماعيل نَسَخَ شريعة محمَّد بن عبد الله - ويقال لهم أيضاً : الناصرية أتباع محمد بن نصير ، وكان من غلاة الروافض القائلين بالألوهية على توهُّم الدرزية أتباع بنشكين الدرزي ، كان من موالي الحاكم أرسله إلى وادي تيم الله بن ثعلبة ، فدعاهم إلى ألوهية الحاكم ويسمونه بالبازي ، والغلام ، ويحلفون به ، ويقال لهم : الحرمية والمحمرة ، وهم الآن يعرفون بالتيامنة لإسكانهم وادي التيم ، ويقال لهم : الحرمية والمحمرة ، وهم الآن يعرفون بالتيامنة لإسكانهم وادي التيم ، ويقال لهم أيضاً : الفداوية والرافضة ، وهم يحرفون كلام الله - تعالى - ورسوله عن مواضعه ، ومقصودهم إنكار الإيمان وشرائع الإسلام ، ويظهرون لهذه الأمور حقائق يعرفونها ، فيقولون : إن الصلوات الخمس معرفة أسرارهم ، والصيام المفروض من كتمان أسرارهم ، وحج البيت زيارة شيوخهم ، ويدا أبي لهب أبو بكر وعمر ، والبناء العظيم والإمام المبين علي بن أبي طالب ، فهم لا تحل ذبائحهم لا يناكحونا ، وتجب مجاهدتهم؛ لأنهم مرتدون ، قاله ابن تيمية ، وبالغ في إنكار تلك القراءة .
وهذا الوجه الذي ذكرهُ هنا شرٌّ من ذلك؛ لأنَّه قلب النَّفي إثباتاً ، والإثبات نفياً ، وتجويزه بفتح باب ألاَّ يعتمد على القرآن لا في نفيه ، ولا في إثباته ، وحينئذٍ يبطل القرآن بالكُلِّيَّة ، وهذا بعينه هو الجواب عن قوله المراد فيه الاستفهام ، بمعنى : الإنكار ، فإنَّ تجويزهُ يوجبُ تجويز مثله في سائر المواضع ، فلعله - تعالى - إنما قال : { وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة } [ البقرة : 43 ] على سبيل الإنكار والتعجُّب ، ثم قال : { رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ } .
قال مجاهد : أهلكها ، والطَّمسُ : المَسْخُ .
وقال أكثر المفسرين : مسخها الله وغيَّرها عن هيئتها .
قال ابن عبَّاس : بلغنا أنَّ الدَّراهم والدَّنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها ، صحاحاً وأنصافاً ، وأثلاثاً ، وجعل سكنهم حجارة .
قال محمد بن كعب : « كان الرجل مع أهله في فراشه ، فصارا حجرين ، والمرأة قائمة تخبز فصارت حجراً » ودعا عمر بن عبد العزيز بخريطة فيها أشياء من بقايا أهل فرعون ، فأخرج منها البيضة منقوشة ، والجوزة مشقوقة وهي حجارة .
{ واشدد على قُلُوبِهِمْ } أي : أقسها واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان .
قال الواحدي : « وهذا دليلٌ على أنَّ الله يفعل ذلك بمن يشاء ، ولولا ذلك لما حسن من موسى هذا السُّؤال » .
قوله : « فَلاَ يُؤْمِنُواْ » يحتمل النَّصْبَ والجزمَ ، فالنَّصْب من وجهين :
أحدهما : عطفهُ على « لِيُضِلُّوا » .
والثاني : نصبه على جواب الدُّعاءِ في قوله : « اطْمِسْ » ، والجزم على أنَّ « لا » للدُّعاءِ ، كقولك : لا تُعذِّبْنِي يا ربِّ ، وهو قريبٌ من معنى : « لِيُضلُّوا » في كونه دعاءً ، هذا في جانب شبه النَّهي ، وذلك في جانب شبه الأمر ، و « حتَّى يروا » : غايةٌ لنفي إيمانهم ، والأولُ قول الأخفش ، والثاني بدأ به الزمخشري ، والثالث : قول الكسائي ، والفرَّاء؛ وأنشد قول الشاعر : [ الطويل ]
2932- فلا يَنْبَسِطْ منْ بَيْنِ عَيْنَيْكَ ... ولا تَلْقَنِي إلاَّ وأنفُكَ راغمُ
وعلى القول بأنه معطوفٌ على « ليُضِلُّوا » يكون ما بينهما اعتراضاً .
قوله : { قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا } : الضمير لمُوسى وهارُون .
قيل : كان موسى يدعو وهارون يُؤمِّن ، فنسب الدعاء إليهما؛ لأنَّ المؤمن أيضاً داعٍ؛ لأنَّ قوله : « آمين » أي : استجب .
وقيل : المراد موسى وحده ، ولكن كنًى عن الواحد بضمير الاثنين .
وقيل : لا يبعُد أن يكون كلُّ واحدٍ منهما ذكر هذا الدُّعاء؛ غاية ما في الباب أن يقال : إنَّما حَكَى هذا الدعاء عن موسى ، بقوله : { وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً } إلاَّ أنَّ هذا لا ينافي أن يكون هارون ذكر ذلك الدعاء أيضاً .
وقرأ السلمي ، والضحاك : « دَعواتُكُما » على الجمع .
وقرأ ابن السَّميفع : « قَدْ أجبتُ دعوتكما » بتاء المتكلم ، وهو الباري - تعالى - ، « دَعوتَكُمَا » نصب على المفعول به .
وقرأ الرِّبيع : « أجَبْتُ دعوتيكُما » بتاء المتكلم أيضاً ، ودعوتيكما تثنيةٌ ، وهي تدلُّ لمن قال : إنَّ هارون شارك موسى في الدُّعاء .
قوله : « فاسْتَقِيمَا » أي : على الدَّعوة والرِّسالة ، وامضيا لأمري إلى أن يأتيهم العذابُ ، قال ابن جريج : لبث فرعون بعد هذا الدُّعاء أربعين سنة .
« وَلاَ تَتَّبِعَانِّ » : قرأ العامَّةُ بتشديد التاء والنون ، وقرأ حفص بتخفيف النُّون مكسورة ، مع تشديد التَّاء وتخفيفها ، وللقُرَّاء في ذلك كلامٌ مضطربٌ بالنِّسبة للنَّقْلِ عنهُ .
فأمَّا قراءةُ العامَّة ، ف « لا » فيها للنَّهي ، ولذلك أكَّد الفعل بعدها ، ويضعفُ أن تكون نافية؛ لأنَّ تأكيد المنفيِّ ضعيفٌ ، ولا ضرورة بنا إلى ادِّعائه ، وإن كان بعضهم قد ادَّعى ذلك في قوله : { لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ } [ الأنفال : 25 ] لضرورةٍ دعتْ إلى ذلك هناك ، وقد تقدَّم تحريره في موضعه ، وعلى الصحيح تكون هذه جملة نهيٍ معطوفة على جملة أمرٍ .
قال الزجاج : « ولا تتَّبعانِّ » : موضعه جزم ، تقديره : و لاتتَّبِعَا ، إلاَّ أنَّ النُّون الشديدة ، دخلت على النهي مؤكدة وكسرت لسكونها ، وسكون النون التي قبلها ، فاختير لها الكسرة ، لأنها بعد الألف تشبه نون التثنية .
وأمَّا قراءة حفص ، ف « لاَ » : تحتمل أن تكون للنَّفي ، وأن تكون للنَّهْي .
فإن كانت للنفي ، كانت النون نون رفعٍ ، والجملة حينئذٍ فيها أوجه :
أحدها : أنَّها في موضع الحال ، أي : فاسْتقيمَا غيرَ مُتَّبِعيْنِ ، إلاَّ أنَّ هذا مُعترض بما قدَّمْتُه من أنَّ المضارعَ المفيَّ ب « لا » كالمثبت في كونه لا تباشره واو الحال ، إلاَّ أن يقدَّر قبلهُ مبتدأ ، فتكون الجملة اسميَّة أي : وأنتما لا تتَّبعَان .
والثاني : أنَّهُ نفيٌ في معنى النَّهي؛ كقوله - تعالى - : { لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله } [ البقرة : 83 ] .
الثالث : أنَّها خبرٌ محضٌ مستأنف ، لا تعلُّق له بما قبله ، والمعنى : أنَّهُمَا أخبرا بأنَّهما لا يتَّبعانِ سبيل الذين لا يعلمون .
وإن كانت للنَّهي ، كانت النون للتوكيد ، وهي الخفيفة ، وهذا لا يراه سيبويه ، والكسائي ، أعني : وقوع النون الخفيفة بعد الألف ، سواء كانت الألف ألف تثنية ، أو ألف فصلٍ بين نُون الإناث ، ونون التوكيد ، نحو « هل تضربنانِ يا نسوة » وقد أجاز يونس ، والفرَّاء : وقوع الخفيفة بعد الألف وعلى قولهما تتخرَّج القراءةُ ، وقيل : أصلها التشديد ، وإنَّما خففت للثقل فيها؛ كقولهم : « رُبَ » في « رُبَّ » .
وأمَّا تشديدُ التاء وتخفيفها ، فلغتان ، من اتَّبَع يتَّبع ، وتَبع يتْبَع ، وقد تقدَّم [ الأعراف : 175 ] هل هما بمعنى واحد ، أو مختلفان في المعنى؟ وملخصه : أنَّ تتبعه بشيءٍ : خلفه ، واتَّبعه كذلك ، إلاَّ أنه حاذاهُ في المشي واقتدى بِهِ ، وأتبعه : لحقهُ .
فصل
المعنى : لا تسلك طريق الجاهلين الذين يظنُّون أنه : متى كان الدعاء مُجاباً ، كان المقصُود حاصلاً في الحال ، فربما أجاب الله تعالى الإنسان في مطلوبه ، إلاَّ أنَّه يوصله إليه في وقته المقدَّر؛ فإنَّ وعد الله لا خلف له ، والاستعجال لا يصدر إلا من الجُهَّال؛ كما قال لنُوح - عليه الصلاة والسلام - { إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين } [ هود : 46 ] ، وهذا النَّهي لا يدلُّ على صدور ذلك من موسى - عليه الصلاة والسلام - كما أن قوله : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] لا يدل على صدور الشرك منه .
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
قوله تعالى : { وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَائِيلَ البحر } الآية .
قد تقدَّم الكلام في نظير الآية [ الأعراف : 138 ] ، وقرأ الحسن ، « وجوَّزْنَا : بتشديد الواو .
قال الزمخشري : وجوَّزْنَا : من أجَازَ المكان ، وجَاوَزهُ ، وجوَّزَهُ ، وليس من » جَوَّز « الذي في بيت الأعشى : [ الكامل ]
2933- وإذَا تُجَوِّزُها حِبَالُ قَبيلَةٍ ... أخَذَتْ مِنَ الأخْرَى إلَيْكَ حِبَالَهَا
لأنَّه لو كان منه لكان حقَّهُ أن يقال : وجَوَّزْنَا بني إسرائيل في البحر؛ كما قال : [ الطويل ]
2934- . ... كمَا جَوَّزَ السَّكِّيَّ في البَابِ فَيْتَقُ
يعني أنَّ فعَّل بمعنى فاعل وأفْعَل ، وليس التضعيفُ للتَّعدية ، إذ لو كان كذلك لتعدَّى بنفسه كما في البيت المشار إليه دون الباء .
وقرأ الحسن : » فاتَّبَعَهُمْ « بالتَّشديد ، وقد تقدَّم الفرقُ .
قال القرطبيُّ : يقالُ : تَبعَ ، وأتْبع بمعنى واحد إذا لحقهُ ، واتَّبَع - بالتَّشديد - إذا صار خلفهُ ، وقال الأصمعيُّ : يقال : أتبعه - بقطع الألف - إذا لحقه ، وأدْرَكَهُ ، واتَّبَعَه بوصل الألفِ - إذا اتَّبَع أثره وأدركهُ ، أو لم يدركهُ ، وكذلك قال أبُو زيدٍ ، وقرأ قتادة : » فأتبعهم « بوصل الألف وقيل : اتبعهُ - بوصل الألف في الأمْرِ - اقتدى به ، وأتبعه بقطع خيراً وشرّاً . هذا قولُ أبي عمرو . وقيل : بمعنى واحدٍ .
قوله : » بَغْياً وَعَدْواً « يجُوزُ أن يكونا مفعولين من أجلهما أي : لأجل البغيْ والعَدْوِ ، وشروط النَّصب متوفرةٌ ، ويجُوزُ أن يكونا مصدرين في موضع الحال أي : باغين متعدِّين .
وقرأ الحسنُ » وُعدواً « بضمِّ العين ، والدَّالِ المشدَّدةِ ، وقد تقدَّم ذلك في سُورة الأنعام [ الأنعام : 108 ] ، وقوله : » حتى إِذَآ « : غاية لاتباعه .
قوله : » آمَنتُ أَنَّهُ « قرأ الأخوان بكسر » إنَّ « وفيها أوجه :
أحدها : أنَّها استئنافُ إخبار؛ فلذلك كسرت لوقوعها ابتداء كلامٍ .
والثاني : أنَّه على إضمار القول أي : فقال إنَّهُن ويكون هذا القول مفسراً لقوله : » آمنتُ « .
والثالث : أن تكون هذه الجملة بدلاً من قوله : » آمنتُ « ، وإبدالُ الجملة الاسميَّة من الفعليَّة جائزٌ ، لأنَّها في معناها ، وحينئذٍ تكون مكسورة؛ لأنَّها محكيَّة ب » قَالَ « هذا الظاهرُ .
والرابع : أنَّ » آمنتُ « ضُمِّنَ معنى القول؛ لأنَّه قولٌ . وقال الزمخشريُّ : » كرَّر المخذولُ المعنى الواحد ثلاث مرَّاتٍ في ثلاثِ عباراتٍ حِرْصاً على القبول « .
يعني أنه قال : » آمنتُ « فهذه مرَّة ، وقال : { أَنَّهُ لاا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ } فهذه مرة ثانية . وقال : { وَأَنَاْ مِنَ المسلمين } فهذه ثالثةٌ ، والمعنى واحد .
وهذا جنوحٌ منه إلى الاستئناف في » إنَّه « . وقرأ الباقون بفتحها وفيها أوجه :
أحدها : أنَّها في محلِّ نصب على المفعول به أي : آمنتُ توحيد الله؛ لأنَّه بمعنى صدَّقْتُ .
الثاني : أنَّها في موضع نصب بعد إسقاط الجارِّ أي : لأنَّه .
الثالث : أنَّها في محلِّ جرٍّ بذلك الجارِّ وقد تقدَّم ما فيه من الخلاف [ يونس : 2 ] .
فصل
لمَّا أجاب الله دعاءهما ، أمر بني إسرائيل بالخروج من مصر ، وكان فرعونُ غافلاً عن ذلك؛ فلمَّا سمع بخروجهم « أتْبَعَهُمْ » أي : لحقهُم ، « بَغْياً وعَدْواً » أي : ظلماً واعتداءً . وقيل : بَغْياً في القولِ ، وعدواً في الفعل ، وكان البَحْرُ قد انفلق لموسى وقومه فدخلوا ، وخرجوا ، وأبقى الله تعالى ذلك الطريق يبساً ، ليطمع فرعون ، وجنودهُ في العُبُور ، فلمَّا دخل مع جمعه ، ودخل آخرهم ، وهمَّ أوَّلهم بالخروج ، انطبق عليهم البحرُ فلمَّا « أدْرَكَهُ الغرقُ » أي : غمره الماء ، وقرب هلاكه « قال آمَنْتُ » .
فإن قيل : إنَّ الإنسان إذا وقع في الغرق لا يمكنه أن يتلفَّظ بهذا اللفظ ، فكيف حكى الله عنه أنَّهُ ذكر ذلك؟ .
فالجوابُ من وجهين :
الأول : أنَّ الكلام الحقيقيَّ هو كلام النَّفْسِ لا كلام اللسان ، فذكر هذا الكلام بالنفس .
الثاني : أن يكون المرادُ بالغرق مقدماته .
فإن قيل : إنَّه آمن ثلاث مرات على ما تقدم عن الزمخشري ، فما السَّببُ في عدم القبولِ؟
فالجواب : من وجوهٍ :
أحدها : أنَّهُ إنَّمَا آمن عند نزول العذاب ، والإيمان في هذا الوقت غير مقبول ، قال تعالى : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [ غافر : 85 ] .
الثاني : إنَّما ذكر هذه الكلمة ليتوسَّل بها إلى دفع تلك البلية الحاضرة ، ولم يكن مقصودهُ بالكلمة الإقرار بوحدانية الله تعالى ، فلم يَكُنْ مُخْلِصاً .
وثالثها : أنَّ ذلك الإقرار كان تقليداً ، فإنهُ قال : { لاا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ } فكأنه اعترف بأنَّه لا يعرفُ الله ، وإنَّما سمع من بني إسرائيل أنَّ للعالم إلهاً ، فهو أقَرّ بذلك الإله الذي سمع بني إسرائيل يُقرُّونَ بوجوده ، وهذا محضُ التَّقليدِ ، وفرعون قيل إنَّهُ كان من الدَّهرية المنكرين لوجود الصَّانع ، ومثل هذا الاعتقاد الفاحش لا يزولُ إلاَّ بالحُجَّةِ القطعيَّة ، لا بالتَّقليد المحضِ .
ورابعها : أنَّ بعض بني إسرائيل لمَّا جاوزوا البحر عبدُوا العجل ، فلما قال فرعون : { آمَنتُ أَنَّهُ لاا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ } انصرف ذلك إلى العجلِ الذي آمنوا بعبادته ، فكانت هذه الكلمةُ في حقه سبباً لزيادة كُفْره .
وخامسها : أنَّ أكثر اليهُودِ يقولون بالتَّشبيه والتَّجْسِيم ، ولهذا اشتغلوا بعبادة العجل لظنِّهم أنَّهُ تعالى في جسد ذلك العجل ، فلمَّا قال فرعونُ : { آمَنتُ أَنَّهُ لاا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ } فكأنَّهُ آمن بالله الموصوف بالجسميَّة ، والحلول والنُّزول ، ومن اعتقد ذلك؛ فهو كافرٌ ، فلذلك ما صحَّ إيمانُهُ .
وسادسها : أنَّ الإيمان إنَّما يتمُّ بالإقرارِ بوحدانية الله ، والإقرار بنُبُوَّةِ موسى - عليه الصلاة والسلام - فلمَّا أقرَّ فرعونُ بالوحدانية ، ولمْ يقر بنبوَّةِ موسى لم يصحَّ إيمانه؛ كما لو قال الكافر ألف مرة : أشهد أن لا إله إلاَّ الله لم يصح إيمانه حتى يقول معه : وأشهدُ أنَّ محمداً رسول الله ، فكذا ههنا .
وسابعها : روى الزمخشري أنَّ جبريل - عليه السلام - أتى فرعون مُستفتياً : ما قولُ الأمير في عبدٍ نشأ من مالِ مولاهُ ونعمته ، فكفر بنعمته وجحد حقَّه ، وادَّعَى السِّيادة دونهُ؟ فكتب فرعون يقولك أبو البعاس الوليد بن مصعب : جزاء العبد الخارج على سيده ، الكافر بنعمته أن يغرق في البحر ، ثمَّ إنَّ فرعون لما غرق؛ رفع جبريل عليه السلام فتياه إليه .
قوله : « الآن » منصوبٌ بمحذوفٍ أي : آمَنْتَ الآن ، أو اتُؤمن الآن .
وقوله : « وقَدْ عَصَيْتَ » جملةٌ حالية ، تقدَّم نظيرها .
واختلفوا في قائل هذا الكلام ، فقيل : هو جبريلُ ، وإنَّما قال : { وَكُنتَ مِنَ المفسدين } في مقابلة قوله { وَأَنَاْ مِنَ المسلمين } . وقيل : القائلُ هو الله تعالى؛ لأنَّه قال بعدهُ : { فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ } إلى أن قال : { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } ، وهذا ليس إلاَّ كلام الله تعالى .
فإن قيل : ظاهرُ اللفظ يدلُّ على أنَّه إنَّما لم تقبل التوبة للمعصية المتقدمة ، والفساد السَّابق ، وهذا التعليلُ لا يمنعُ من قبول التوبةِ .
فالجوابُ من وجهين :
الأول : أنَّ قبول التَّوبةِ غير واجب عقلاً ، ويدُلُّ عليه هذه الآيةُ .
الثاني : أنَّ التعليل ما وقع لمجرَّد المعصية السَّابقة ، بل بتلك مع كونه من المفسدين .
فصل
روي أن جبريل - عليه السلام - أخذ يملأ فمه بالطِّين لئلاَّ يتوب غضباً عليه والأقربُ أنَّ هذا لا يصحُّ؛ لأنَّه في تلك الحالِ إمَّا أن يقال التكليف كان ثابتاً ، أو ما كان ثابتاً ، فإن كان ثابتاً لم يجز لجبريل أن يمنعه من التوبة ، بل يجبُ عليه أن يعينه على التوبةِ ، وعلى كُلِّ الطَّاعات ، لقوله تعالى : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان } [ المائدة : 2 ] وأيضاً ، فلو منعه بما ذكر لكانت التَّوبة ممكنةً؛ لأنَّ الأخرس قد يتوبُ بأن يندمَ بقلبه ويعزم على ترك معاودة القبيح ، فلا يبقى لما فعله جبريل فائدة ، وأيضاً لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر ، والرِّضا بالكفر كفر وأيضاً كيف يليق بالله تعالى أن يقول لموسى وهارون - عليهما الصلاة والسلام - { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } [ طه : 44 ] ثُمَّ يأمُرُ جبريل أن يمنعهُ من الإيمان .
فإن قيل : إنَّ جبريل إنَّما فعل ذلك من قبل نفسه لا بأمر الله ، فهذا يبطله قول جبريل : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } [ مريم : 64 ] وقوله تعالى في صفة الملائكة : { لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [ الأنبياء : 27 ] .
وإن قيل إنَّ التكليف كان زائلاً عن فرعون في ذلك الوقت ، فلا يبقى للفعل المنسوب لجبريل فائدة أصلاً .
قوله : { فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ } في « بِبدنِكَ » وجهان :
أحدهما : أنَّها باء المصاحبةِ بمعنى مصاحباً لبدنك ، وهي الدَّرْع ، فيكونُ « بِبدنِكَ » في موضع الحالِ .
قال المفسِّرُون : لمْ يُصدِّقُوا بغرقه ، وكانت لهُ دِرْعٌ تعرفُ فألقي بنجوة من الأرض ، وعليه درعهُ ليعرفوهُن والعربُ تطلقُ البدنَ على الدِّرع ، قال عمرو بن معد يكرب : [ الوافر ]
2935- أعَاذِل شِكَّتِي بَدِنِي وسَيْفِي ... وكُلُّ مُقلَّصٍ سَلِسِ القِيَادِ
وقال آخرُ : [ الوافر ]
2936- تَرَى الأبْدانَ فِيهَا مثسْبَغَاتٍ ... عَلى الأبْطَالِ واليَلَبَ الحَصِينَا
أراد بالأبدان : الدُّرُوع ، واليَلَبُ : الدروع اليمانية كانت تتخذ من الجلود يُخْرَزُ بعضها إلى بعض ، وهو اسم جنس ، الواحد : يَلَبَةٌ .
وقيل : بِبدنِكَ أيك عُرْيَان لا شيء عليه ، وقيل : بَدَناً بلا رُوحٍ .
والثاني : أن تكون سببيَّة على سبيل المجاز؛ لأنَّ بدنهُ سببٌ في تنجيته ، وذلك على قراءةِ ابن مسعود وابن السَّمَيْفَع « بِندَائِكَ » من النِّداءِ ، وهو الدُّعاء : أي : بما نادى به في قومه من كفرانه في قوله : { ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ } [ الزخرف : 51 ] { فَحَشَرَ فنادى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 23 ، 24 ] { ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي } [ القصص : 38 ] . وقرأ يعقوب « نُنْجِيكَ » مخففاً من أنجاه . وقرأ أبو حنيفة : « بأبْدانِكَ » جمعاً : إمَّا على إرادةِ الأدْرَاع ، لأنَّهُ كان يلبسُ كثيراً منها خوفاً على نفسه ، أو جعل كُلَّ جُزءٍ من بدنه بدناً كقوله : « شَابَتْ مَفارِقُهُ » ؛ قال : [ الكامل ]
2937- ... شَابَ المَفارِقُ واكتَسَيْْنَ قتيرَا
التَّنْحِيةِ أي : نُلْقيكَ فيما يلي البحر ، قال المفسرون : رماه إلى ساحل البحرِ كالثَّور . وهل تُنَجِّيك من النجاة بمعنى نُبْعِدك عمَّا وقع فيه قومُكَ من قَعْرِ البحر ، وهو تهكُّم بهم ، أو مِنْ ألقاه على نجوة أي : رَبْوة مرتفعة ، أو من النَّجاة ، وهو التَّرْكُ أو من النَّجاءِ ، وهو العلامة ، وكلُّ هذه معانٍ لائقة بالقصَّة ، والظَّاهرُ أنَّ قولهُ : { فاليوم نُنَجِّيكَ } خبرٌ محض . وزعمَ بعضُهُم أنَّه على نيَّة همزةِ الاستفهامِ ، وفيه بعدٌ لحذفها من غير دليلٍ ، ولأنَّ التلعليل بقوله « لِتكُون » لا يُناسِبُ الاستفهام . و « لِتَكُونَ » متعلقٌ ب « نُنَجِّيكَ » و « آيَةً » أي : علامة وقيل : عِبْرةً وعِظَةً ، و « لِمَنْ خَلْفكَ » في محلِّ نصبٍ على الحالِ من « آيَةً » لأنَّه في الأصل صفةٌ لها .
وقرأ بعضهم « لِمَنْ خلقك » آية كسائر الآيات . وقرئ « لِمَن خلَفكَ » بفتح اللاَّم جعله فعلاً ماضياً ، أي : لِمَنْ خلفكَ من الجبابرة ليتَّعظُوا بذلك . وقرىء « لِمَنْ خلقَكْ » بالقاف فعْلاً ماضياً ، وهو الله تعالى أي : ليجعلك الله آية له في عباده .
فصل
في كونه « لِمَنْ خلفه آيةً » وجوه :
أحدها : أنَّ الذين اعتقدُوا إلاهيته لمَّا لم يُشَاهدُوا غرقه كذَّبُوا بذلك ، وزعموا أنَّ مثله لا يموت ، فأخرجه الله تعالى بصورته حتى أبصروه وزالت الشُّبْهةُ عن قلوبهم .
الثاني : أنَّه تعالى أراد أن يشاهده الخلق على ذلك الذل والمهانة بعد ما سمعوا منه قوله : { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 24 ] ليكون ذلك زَجْراً للخَلْقِ عن مثل طريقته . الثالث : أنه تعالى لمَّا أغرقه مع جميع قومه ، ثُمَّ إنَّه تعالى ما أخرج أحداً منهم من قَعْر البَحْرِ ، بل خصَّهُ بالإخراج كان تخصيصه بهذه الحالة عجيبة دالة على قدرة الله تعالى ، وعلى صدق موسى - عليه الصلاة والسلام - في دعوة النبوَّةِ . الرابع : تقدم في قراءة من قرأ لمن خالقك بالقاف أي لتكون لخالقك آية كسائر آياته . ثم قال تعالى { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } والظَّاهرُ أنَّ هذا الخطاب لأمة محمد - عليه الصلاة والسلام - زجراً لهم عن الإعراض عن الدَّلائل ، وباعثاً لهم على التأمُّلِ فيها والاعتبار بها ، كما قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب } [ يوسف : 111 ] .
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
قال تعالى : { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بني إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ } الآية .
لمَّا ذكر خاتمة فرعون ذكر خاتمة بني إسرائيل ، فقال : « ولقدْ بوَّأنا » أي : أسكنا بني إسرائيل « مُبَوَّأ صِدْقٍ » أي : مكاناً محموداً . ويجُوزُ أن يكون « مُبَوَّأ صِدْقٍ » منصوباً على المصدر ، أي : بَوَّأناهم مُبَوَّأ صدقٍ ، وأن يكون مكاناً أي : مكان تبوُّء صدقٍ . ويجوز أن ينتصب « مُبَوَّأ » على أنَّه مفعولٌ ثانٍ كقوله تعالى : { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً } [ العنكبوت : 58 ] أي : لنُنْزلنَّهُمْ . ووصف المُبَوَّأ بكون صدقاً؛ لأنَّ عادة العربِ أنها إذا مدحتْ شيئاً أضافته إلى الصِّدْقِ ، تقولُ : رَجُلٌ صدقٌ ، وقدم صدقٍ ، قال تعالى : { رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ } [ الإسراء : 80 ] . والمراد بالمبوَّأ الصدق : قيل : « مصر » ، وقيل : الأردن وفلسطين وهي الأرض المقدسة { وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات } الحلال « فَمَا اخْتَلَفُوا » يعنى اليهود الذين كانُوا في عَهْدِ النبي صلى الله عليه وسلم في تصديقه وأنه نبيٌّ حقٌّ « حتَّى جاءَهمُ العِلْمُ » يعنى القرآن ، والبيان بأنه رسول الله صدق ودينه حق ، وسمى القرآن علماً؛ لأنه سببُ العِلْمِ ، وتسمية المُسَبَّبِ باسم السبب مجاز مشهور .
قال ابنُ عباس : هم قريظة والنَّضير وبنو قينقاع أنزلناهم منزل صدق : ما بين المدينة ، والشام ورزقناهم من الطيبات ، وهو ما في تلك البلادِ من الرطب ، والتمر الذي لا يوجد مثله في البلاد وقيل : المراد بني إسرائيل الذين نجوا من فرعون أورثهم الله جميع ما كان تحت أيدي قوم فرعون من الناطق ، والصامت ، والحرث ، والنسل ، كما قال : { وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا } [ الأعراف : 137 ] .
فصل
في كون القرآن سبباً لحدوث الاختلاف وجهان :
الأول : أنَّ اليهود كانوا يخبرون بمبعث محمدٍ - عليه الصلاة والسلام - ويفتخرون به على سائر النَّاس ، فلمَّا بعثه الله تعالى كذَّبوهُ حسداً ، وبغياً وإيثارااً لبقاء الرِّياسة ، وآمن به طائفةٌ منهم ، فبهذا الطريق كان سبباً لحدوث الاختلاف فيهم .
الثاني : أنَّ هذه الطائفة من بني إسرائيل كانوا قبل نزول القرآن كفاراً محضاً بالكلِّيَّة ، وبقوا على هذه الحالة حتَّى جاءهم القرآنُ ، فعند ذلك اختلفوا فآمن قومٌ وبقي قومٌ كفاراً . ثم قال : { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي : أنَّ هذا الاختلاف لا يمكن إزالته في دار الدنيا ، وإنَّما يقضى بينهم في الآخرة ، فيتميز المحق من المبطل .
قوله : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ } الآية .
قال الواحديُّ « الشَّك في اللغةِ ، ضمَّ بعض الشَّيءِ إلى بعضٍ ، يقال : شَكَكْتُ الصَّيْدَ إذا رميْتَه فنظمْتَ يدهُ إلى أو رجلهُ إلى رجله ، والشِّكائِكُ من الهوادج ما شُكَّ بعضها ببعضٍ والشِّكاكُ : البُيوتُ المُصطفَّة ، والشَّكائِكُ : الأدْعياءُ؛ لأنَّهم يشكون أنفسهم إلى قوم ليسوا منهم ، أي : يضُمُّون ، وشكَّ الرَّجُلُ في السِّلاحِ ، إذا دخل فيه وضمَّهُ إلى نفسه .
فإذا قالوا : شكَّ فلانٌ في الأمور أرادوا أنَّه وقف نفسه بين شيئين ، فيجوزُ هذا ويجوزُ هذا فهو يضم إلى ما يتوهمه شيئاً آخر خلافه « .
ولمَّا ذكر اختلافهم عندما جاءهم العلم ذكر في هذه الآية ما يُقَوِّي قلبه في صحَّة القرآن والنبوة .
وفي » إن « هذه وجهان :
أظهرهما : أنَّها شرطيةٌ ، واستشكلوا على ذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكُن في شكٍّ قط قال الزمخشريُّ : » فإن قلت : كيف قال لرسوله : « فإن كُنت في شكٍّ » مع قوله للكفرة : { وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } [ هود : 110 ] ؟ قلت : فرقٌ عظيم بين إثباته والتَّمثيل « . وقال أبو حيان : فإذا كانت شرطية فقالوا : إنَّها تدخلُ على الممكن وجوده أو المحقَّقِ وجوده ، المبهم زمن وقوعه ، كقوله تعالى : { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون } [ الأنبياء : 34 ] قال : » والذي أقوله إنَّ « إن » الشرطية تقتضي تعليق شيءٍ على شيءٍ ، ولا تستلزمُ تحقُّقَ وقوعه ولا إمكانه ، بل قد يكونُ ذلك في المستحيل عقلاً كقوله تعالى { إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } [ الزخرف : 81 ] ، ومستحيلٌ أن يكون له ولدٌ فكذلك مستحيلٌ أن يكون في شك ، وفي المستحيل عادة كقوله تعالى : { فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأرض } [ الأنعام : 35 ] لكنَّ وقوعها في تعليق المستحيل قليلٌ « .
ثم قال : » ولمَّا خفي هذا الوجه على أكثر النَّاس؛ اختلفوا في تخريج هذه الآية فقال ابن عطيَّة : الصَّواب أنَّها مخاطبةٌ له ، والمرادُ من سواه من أمته ممن يمكنُ أن يشُكَّ أو يعارض؛ كقوله : { ياا أَيُّهَا النبي اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين } [ الأحزاب : 1 ] وقوله : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] ويدلُّ على ذلك قوله في آخر السورة : { ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي } [ يونس : 104 ] وأيضاً لو كان شاكّاً في نبوة نفسه؛ لكان شك غيره في نبوته أولى ، وهذا يوجب سقوطُ الشريعة بالكلية ، وأيضاً فبتقدير أن يكون شاكّاً في نبوَّةِ نفسه ، فكيف يزول هذا الشك بإخبار أهل الكتاب عن نبوته مع أنهم كفار ، وإن كان قَدْ حصل فيهم مؤمن إلاَّ أن قوله ليس بحجة ، لا سيَّما وقد تقرَّر أنهم حرَّفُوا التوراة ، والإنجيل؛ فثبت أنَّ هذا الخطابَ وإن كان في الظَّاهر مع الرسول إلاَّ أنَّ المراد هو الأمة ، وعلى هذا فإنَّ الناس في زمانه كانوا فرقاً ثلاثة : المصدقون ، والمكذبون ، والمتوقفون في أمره الشَّاكون فيه ، فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب فقال : أيُّها الإنسان : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ } من الهدى على لسان محمد فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحَّة نُبوَّته « .
ولمَّا ذكر الله تعالى لهم ما يزيل الشَّك عنهم ، حذَّرهم من أن يلحقوا بالقسم الثاني ، وهم المكذِّبون ، فقال : { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله } [ يونس : 95 ] الآية .
وقيل : كنى بالشَّك عن الضِّيق .
وقيل : كنى به عن العجب ، وجه المجازِ فيه أنَّ كُلاًّ منهما فيه تردُّد ، وقال الكسائيُّ : إن كنت في شكٍّ أنَّ هذه عادتُهُم مع الأنبياء؛ فسلهم كيف صبر موسى - عليه السلام -؟ .
وقيل : إنه تعالى علم أنَّ الرسول لم يشك في ذلك ، إلاَّ أنَّ المقصود منه أنَّهُ متى سمع هذا الكلام فإنَّهُ يصرخ ويقول « يا ربّ لا أشك ، ولا أطلب الحجة من قول أهل الكتاب ، بل يكفيني ما أنزلته عليَّ من الدلائل الظاهرة » ونظيره قوله تعالى للملائكة : { أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } [ سبأ : 40 ] والمقصودُ أن يُصرِّحُوا بالجواب الحق ويقولوا : { سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن } [ سبأ : 41 ] .
وكقوله لعيسى - عليه الصلاة والسلام - { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله } [ المائدة : 116 ] والمقصود منه أن يصرح عيسى بالبراءة عن ذلك . وقيل : التقدير إنَّك لسيت بشاك البتة . ولو كنت شاكاً لكان لك طرق كثيرة في إزالة الشَّك كقوله تعالى { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] أي : أنه لو فرض ذلك الممتنع واقعاً؛ لزم فيه المحال الفلاني ، فكذا ههنا ، ولو فرضنا وقوع الشَّك فارجع إلى التَّوراةِ ، والإنجيل لتعرف بهما أنَّ هذا الشك زائل .
والوجه الثاني من وجهي إنْ أنَّها نافيةٌ . قال الزمخشري : « أي : فما كنتَ في شكٍّ فاسأل ، يعنى لا نأمرك بالسُّؤال لكونكَ شاكاً ، ولكن لتزداد يَقِيناً كما ازداد إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - بمعاينة إحياء الموتى » وهذا القول سبقه إليه الحسنُ البصريُّ والحسينُ بنُ الفضل ، وكأنَّهُ فرارٌ من الإشكال المتقدِّم في جعلها شرطية ، وقد تقدَّم جوابه من وجوهٍ .
قال القرطبي : قال أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزَّاهد : سمعت الإمامين : ثَعْلباً والمبرد يقولان : معنى : « فإن كُنتَ في شكٍّ » أي : قُلْ يا محمَّدُ للكافر : فإن كُنتَ في شكٍّ { فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ } .
وقال الفراء : أعْلمَ اللهُ أنَّ رسولهُ غير شاكٍّ ، لكنَّه ذكره على عادة العرب ، يقول الواحدُ لعبده : إن كنت عبدي فأطِعْني ، ويقول لولده افعل كذا إن كنت ولدي ، ولا يكونُ ذلك شكّاً .
وقال الفقيه : وقال بعضهم : هذا الخطاب لمنْ كان لا يقطعُ بتكذيب محمدٍ - عليه الصلاة والسلام - ولا بتصديقه بل كان في شكٍّ .
وقيل : المراد بالخطاب النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى : لو كنت ممَّن يلحقك شكٌّ فيما أخبرناك به ، فسألت أهل الكتاب لأزالوا عنك الشَّكَّ .
والمراد بالشَّك هنا : ضيق الصدر ، أي : إن ضاق صدرك بكفر هؤلاء فاصبر واسأل الذين يقرَؤونَ الكتابَ من قَبْلكَ ، يُخْبِرُوكَ صَبْرَ الأنبياء من قبلك على أذى قومهم وكيف كان عاقبة أمرهم . والشَّكُّ في اللغةِ : أصله الضِّيق ، يقال : شكَّ الثَّوب ، أي : ضمَّهُ بخلال حتى يصير كالوعاء ، فالشكُّ يقبض الصدر ، ويضمه حتَّى يضيق .
فصل
قال المُحَقِّقُون : المراد بالذين يقرءون الكتاب : المؤمنون من أهْلِ الكتابِ ، كعبد الله بن سلام ، وعبد الله بن صوريا ، وتميم الدارين وكعب الأحبار ، لأنَّهُم هم الذين يوثق بأخبارهم .
وقال بعضهم : المراد الكل سواء كانوا من المسلمين أم من الكُفَّار؛ لأنَّهم إذا بلغُوا عدد التواتر ، وقرؤوا آية من التَّوراة ، والإنجيل ، وتلك الآية دالة على البشارة بمقدمِ النبي صلى الله عليه وسلم فقد حصل الغرضُ .
وقرا يحيى ، وإبراهيم : الكتب بالجمع ، وهي مبنيةٌ أنَّ المراد بالكتاب الجنسٌ لا كتابٌ واحد . فإن قيل : إن كتبهم قد دخلها التَّحريفُ والتَّغييرُ ، فكيف يمكنُ التعويلُ عليها؟ .
فالجواب : أنهم إنما حرَّفُوها لإخفاء الآيات الدَّالة على نبوَّةِ محمدٍ - عليه الصلاة والسلام - ، فإن بقيت فيها آيات دالة على نبوته؛ كان ذلك من أقوى الدَّلائل على صحَّة نبوَّة محمد - عليه الصلاة والسلام - لأنَّها لمَّا بقيت مع توفر دواعيهم على إزالتها دلَّ ذلك على أنَّها كانت في غاية الظهور .
فصل
قيل : السؤالُ كان عن القرآن ، ومعرفة نُبوَّةِ الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - . وقيل : السؤال راجعٌ إلى قوله { فَمَا اختلفوا حتى جَآءَهُمُ العلم } والأول أولى؛ لأنَّه الأهمُّ . ولمَّا بين هذا الطريق قال : { لَقَدْ جَآءَكَ الحق مِن رَّبِّكَ } أي : ثبت عنده بالآيات والبراهين القاطعة أنَّ ما أتاك هو الحق : « فلا تكُوننَّ من المُمترينَ » أي : لا مدخل للمرية فيه { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله } أي : اثبت ، ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية ، وانتفاء التكذيب بآيات الله؟ وروي أنَّه عليه الصلاة والسلام قال عند نزوله : « لا أشُكُّ ولا أسْألُ بلْ أشهدُ أنَّهُ الحقُّ » .
ثم لمَّا فصَّل تعالى هذا التفصيل ، بيَّن أنَّ له عباداً ، قضى عليهم بالشَّقاءِ ، فلا تتغيَّر ، وعباداً قضى لهم بالشَّقاء ، فلا تتغيَّر ، وعباداً قضى لهم بالكرامة ، فلا تتغير ، فقال : { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ } .
قرأ نافعٌ وابن عامر كلمات على الجمع ، والباقون : بالإفراد . فكلمات بحسب الكثرة النوعية أو الصنفية وكلمة بحسب الجنسية . والمراد بهذه الكلمة : حكمُ الله بذلك ، وإخباره عنه ، وخلقه في العبد مجموع القدرة ، والدَّاعية الموجبة لحصول ذلك الأثر . واحتجُّوا بهذه الآية على صحَّة القول بالقضاءش والقدرِ . ثم قال : { وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } أي : أنهم لا يؤمنون ألبتَّة ، ولو جاءتهم الدَّلائل التي لا حدَّ لها ولا حَصْرَ؛ لأنَّ الدَّليل لا يهدي إلاَّ بإعانة الله ، فإذا لم تحصيل الإعانة ضاعت تلك الدَّلائل .
القصة الثالثة
قوله تعالى : { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ } الآية .
لمَّا بيَّن بقوله : { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ } أتبعه بهذه الآية؛ لأنَّها دالةٌ على أنَّ قوم يونس آمنوا بعد كفرهم ، وانتفعوا بذلك الإيمان ، فدلَّ ذلك على أنَّ الكُفَّار فريقان :
فريق ختم له بالإيمان .
وفريق ختم له بالكفر ، وكلُّ ما قضى الله به فهو واقعٌ .
قوله : « فلولا » لولا هنا تحضيضيةٌ ، وفيها معنى التَّوبيخ؛ كقول الفرزدق : [ الطويل ]
2938- تَعُدُّونَ عَقْرَ النَّيبِ أفْضَلَ مَجْدِكُمْ ... بَنِي ضَوْطَرَى لولاَ الكَمِيَّ المقنَّعا
وفي مصحف أبيِّ ، وعبد الله - وقرأ كذلك - فَهَلاَّ ، وهي نصٌّ في التحضيض وزعم عليُّ بنُ عيسى ، والنَّحَّاس أنَّ لولا تأتي بمعنى ما النَّافية ، وحملا على ذلك هذه الآية أي : ما كانت قرية نقله ابنُ قاسم ، وهو منقولٌ أيضاً عن الهرويِّ ، وكانت هنا تامة و « آمنت » صفة ل « قرية » ، وفنفعها نسق على الصِّفة .
قوله : « إلاَّ قَوْمَ يُونُسَ » فيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ استثناء منقطع ، وإليه ذهب سيبويه ، والكسائي ، والأخفش ، والفراء ، ولذلك أدخلهُ سيبويه في باب « ما لا يكون فيه إلاَّ النصب لانقطاعه » وإنما كان منقطعاً؛ لأنَّ ما بعد « إلاَّ » لا يندرجُ تحت لفظ « قرية » .
والثاني : أنَّه متصلٌ . قال الزمخشري : « استثناءٌ من القرى ، لأنَّ المراد أهاليها وهو استثناء منقطع بمعنى : ولكن قوم يونس ، ويجُوزُ أن يكون مُتَّصِلاً ، والجملةُ في معنى النَّفي كأنَّه قيل : ما آمنت قريةٌ من القرى الهالكة إلاَّ قوم يونس » .
وقال ابنُ عطيَّة : هو بحسب اللفظ استثناءٌ منقطعٌ ، وكذلك رسمه النَّحويون ، وهو بحسب المعنى متصلٌ لأنَّ تقديره : ما آمن أهل قريةٍ إلاَّ قوم يونس .
قال شهاب الدين : « وتقدير هذا المضاف هو الذي صحَّح كونه استثناء مُتَّصلاً » ، وكذلك قال أبو البقاء ومكي وابن عطية وغيرهم . وأمَّا الزَّمخشري فإنَّ ظاهر عبارته أنَّ المُصَحِّحَ لكونه متصلاً كونُ الكلام في معنى النَّفي ، وليس كذلك بل المسوِّغ كون القرى يُرادُ بها أهاليها من باب إطلاق المحلِّ على الحال ، وهو أحدُ الأوجه المذكورة في قوله { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] . وقرأ فرقة : « إلاَّ قومُ » بالرَّفع . قال الزمخشريُّ : وقُرىء بالرفع على البدل ، روي ذلك عن الجرمي ، والكسائي .
وقال المهدويُّ : « والرَّفْعُ على البدل من قَرْية » . فظاهر هاتين العبارتين أنَّها قراءةٌ منقولةٌ ، وظاهرُ قول مكِّي ، وأبي البقاء أنَّها ليست قراءة ، وإنَّما ذلك من الجائز ، وجعلا الرَّفع على وجهٍ آخر غير البدلِ ، وهو كون « إلاَّ » بمعنى « غير » في وقوعها صفةً .
قال مكي « ويجوزُ الرَّفعُ على أن تجعل إلا بمعنى » غير « صفة للأهْلِ المحذوفين في المعنى ، ثم يُعْرَب ما بعد إلاَّ بإعراب » غير « لو ظهرت في موضع » إلاَّ « . وقال أبو البقاء - وأظنه أخذه منه - : ولو كان قد قُرىء بالرَّفع لكانت إلاَّ فيه بمنزلة غير فيكون صفة ، وقد تقدم أن في نون يونس ثلاث لغات وقرئ بها .
فصل
قال البغويُّ : المعنى فلم تكن قرية؛ لأن في الاستفهام ضرباً من الجَحْدِ؛ أي : أهل قرية آمنت عند معاينة العذاب ، « فنفعها إيمانها » في حال اليَأسِ « إلاَّ قوم يونس » ، فإنَّه نفعهم إيمانهم في ذلك الوقت ، و « قوم » نصب على الاستثناء المنقطع ، أي : ولكن قوم يونس « لما آمنوا كشفْنَا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدُّنْيَا ، ومتعناهم إلى حين » ، وهي وقت انقضاء آجالهم ، واختلفوا في أنَّهُمْ هل رأوا العذاب عياناً فقال بعضهم : رأوا دليل العذاب . والأكثرون على أنَّهُم رأوا العذاب عياناً لقوله : { كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي } ، والكَشْفُ يكون بعد الوقوع ، أو إذا قرب قوله : « ولو شاء ربُّك » يا مُحمَّدُ « لآمن من في الأرض كلهم جميعاً » .
واعلم أنَّ هذه السُّورة من أوَّلها إلى هنا في بيان شبهات الكفار في إنكار النبوة ، والجواب عنها ، وكانت إحدى شبهاتهم؛ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يُهَدِّدهُم بنزول العذاب على الكُفَّار ، وبعد أتباعه أن الله ينصرهم ، ويعلي شأنهم ، ويقوي جانبهم ، ثمَّ إنَّ الكُفَّارَ ما رأوا ذلك؛ فجعلوا ذلك شبهة في الطَّعْنِ في نبوته ، وكانوا يبالغون في استعجال العذاب على سبيل السخرية ، ثم إن الله تعالى بيَّن أنَّ تأخير الموعود به لا يقدحُ في صحَّة الوعد ، ومن ثم ضرب لهذا أمثلة ، وهي قصَّة نوح - عليه السلام - وموسى - عليه السلام - إلى هاهنا ، ثم في هذه الآية بيَّن أنَّ جدَّ الرسول في دخولهم في الإيمان لا ينفعُ ، ومبالغته في تقريرِ الدلائل في الجواب عن الشبهات لا يفيدُ؛ لأن الإيمان لا يحصلُ إلا بخلق الله ، ومشيئته وإرشاده ، وهدايته ، إذا لم يحصل هذا المعنى لم يحصل الإيمانُ .
فصل
استدلُّوا بهذه الآية على أنَّ جميع الكائنات لا تحصلُ إلا بمشيئة الله تعالى؛ لأنَّ كلمة « لَوْ » تفيد انتفاء الشَّيء لانتفاء غيره ، فقوله : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً } يقتضي أنَّه ما حصلت تلك المشيئة ، وما حصل إيمانُ أهل الأرض بالكليَّة ، فدلَّ هذا على أنَّه تعالى ما أراد الكل ، وأجاب الجبائيُّ ، والقاضي وغيرهما أنَّ المراد مشيئة الإلجاء ، أي : لو شاءس الله أن يُلْجِئهُم إلى الإيمان لقدر عليه ، ولكنَّهُ ما فعل ذلك؛ لأنَّ الإيمان الصَّادر من العبد على سبيل الإلجاء لا ينفعه ، ولا يفيده فائدة ، ثم قال الجبائيُّ : ومعنى إلجاء الله تعالى إيَّاهُم إلى ذلك ، أن يُعَرِّفهم أنَّهُمْ لو حاولوا تركه حال الله بينهم وبين ذلك ، وعند هذا لا بُدَّ وأن يفعلوا ما ألجئوا إليه .
والجواب من وجوه :
أحدها : أنَّ الكافر لو كان قادراً على الكفر ، ولم يقدر على الإيمان ، فحينئذٍ تكونُ القدرة على الكفر مستلزمة للكفر ، فإذا كان خالق تلك القدرة هو الله تعالى لزم أنْ يقال : إنَّه تعالى خلق فيه قدرة مستلزمة للكفر؛ فوجب أن يقال : أراد منه الكفر ، وإن كانت القدرة صالحة للضِّدين ، فرجحان أحد الطَّرفين على الآخر - إن لم يتوقف على المرجح - فقد حصل الرجحانُ لا لمرجحٍ ، وهو باطلٌ ، وإن توقف على مرجح ، فذلك المرجحُ إمَّا أن يكون من العبد ، أو من الله ، فإن كان من العبد عاد التَّقْسِيمُ ولزم التسلسل ، وهو محالٌ ، وإن كان من الله ، كان مجموع تلك القدرة مع تلك الدَّاعية موجباً لذلك الكفر ، فإذا كان خالق القدرة والدَّاعية هو الله تعالى عاد الإلزام .
ثانيها : أن قوله : « ولو شاءَ ربُّكَ » لا يجوز حمله على مشيئة الإلجاء؛ لأنَّ النبي - عليه الصلاة والسلام - ما كان يطلب منهم إلاَّ إيماناً ينتفعون به في الآخرة ، فبيَّن تعالى؛ أنَّه لا قدرة للرَّسُولِ على تحصيل هذا الإيمان ، ثم قال : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً } فوجب أن يكون المرادُ /نه هذا الإيمان النَّافع حتى ينتظم الكلام ، وحمل اللفظ على مشيئة القهر والإلجاء لا يليقُ بهذا الموضع .
وثالثها : أنَّ الإلجاء إمَّا أن يكون بأن يظهر له آيات هائلة يعظم خوفه عند رؤيتها ، فيأتي بالإيمان عندها ، وإمَّا أن يكون بخلق الإيمان فيهم ، والأولُ باطلٌ؛ لأنه تعالى قال : { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } [ يونس : 96-97 ] وقال : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملاائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } [ الأنعام : 111 ] فبيَّن أنَّ إنزال الإيمان لا يفيدُ ، وإ ، كان المراد هو الثاني لم يكن هذا الإلجاء إلى الإيمان ، بل كان عبارة عن خلق الإيمان فيهم ، فيصير المعنى : ولو شاء ربك حصول الإيمان لهم لخلق الإيمان فيهم ، ثم يقال : لكنه ما خلق الإيمان فيهم ، فدلَّ على أنَّه ما أراد حصول الإيمان لهم ، وهو المطلوب . ثم قال : { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } أي : أنه : لا قدرة لك على التَّصرف في أحد .
قوله : « أفأنت » يجوز في « أنت » وجهان ، أحدهما : أن يرتفع بفعل مقدَّر مفسَّر بالظَّاهر بعده ، وهو الأرجحُ؛ لأنَّ الاسم قد ولي أدّاة هي بالفعل أولى .
والثاني : أنَّه مبتدأ والجملةُ بعده خبره ، وقد تقدَّم ما في ذلك من كون الهمزة مقدمة على العاطف أو ثمَّ جملةٌ محذوفةٌ كما هو رأي الزمخشري . وفائدة إيلاء الاسم للاستفهام إعلامٌ بأنَّ الإكراه ممكنٌ مقدورٌ عليه ، وإنَّما الشَّأنُ في المكره من هو؟ وما هو إلا هو وحده لا مشاركة فيه لغيره . و « حتَّى » غايةٌ للإكراه .
قوله : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ } كقوله : { أَنْ تَمُوتَ } [ آل عمران : 145 ] وقد تقدم في آل عمران [ 145 ] . والمعنى : ما ينبغي لنفس . وقيل : ما كانت لتؤمن إلاَّ بإذنِ الله .
قال ابن عبَّاسٍ : بأمر الله . وقال عطاءٌ : بمشيئة الله . وقيل : بعلم الله . « ويَجْعَلُ » قرأ أبو بكر عن عاصم بنون العظمة . والباقون : بياء الغيبةِ وهو الله تعالى . وقرأ الأعمش « ويجعلُ الرجز » بالزاي دون السين ، وقد تقدَّم هل هما بمعنى ، أو بينهما فرقٌ؟ [ الأعراف : 134 ] ثم قال : { عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ } أي : من الله أمره ونهيه .
فصل
احتجُّوا بقوله : { وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ } على أنَّ خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى ، وتقريره : أنَّ الرِّجْسَ قد يراد به : العملُ القبيحُ ، قال تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } [ الأحزاب : 33 ] والمراد من الرِّجْسٍ هنا : العملُ القبيحُ سواء كان كفراً أو معصية ، وبالتَّطهير : نقل العبد من رجس الكفر ، والمعصية إلى طهارة الإيمان ، والطَّاعة ، فلما ذكر الله تعالى فيما قبل هذه الآية أنَّ الإيمان إنَّما يحصلُ بمشيئة الله وتخليقه ، ذكر بعد أنَّ الرِّجْسَ لا يحصلُ إلاَّ بتخليقه . والرِّجْسُ الذي يقابلُ الإيمان ليس إلاَّ الكفر .
وأجاب أبو علي الفارسي النحوي عنه فقال : الرِّجْسُ ، يحتمل وجهين آخرين .
أحدهما : أن يكون المراد منه العذاب ، فيكون المعنى : يلحق العذاب بالذين لا يعقلون ، كقوله { وَيُعَذِّبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات } [ الفتح : 6 ] . الثاني : أنَّه تعالى حكم عليهم بأنَّهم نجس ، كما قال : { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] أي : أنَّ الطَّهارة الثابتة للمسلمين لم تحصل لهم .
وأجابُوا : أنَّ حمل الرجس على العذاب باطلٌ؛ لأنَّ الرِّجْسَ عبارة عن الفاسد المستقذر المستكره فحمل هذا اللفظ على كفرهم وجهلهم أولى من حمله على عذاب الله مع كونه حقّاً صِدْقاً صواباً . وأمَّا حمل الرِّجْسِ على حكم الله برجاستهم ، فهو في غاية البعد؛ لأنَّ حكم الله تعالى بذلك صفته ، فكيف يجوز أن يقال : إنَّ صفة الله رجسٌ ، فثبت أنَّ دلالة الآية على الكفر ظاهرةٌ .
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
قوله تعالى : { قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض } الآية .
لمَّا بيَّن في الآيات السَّالفة أنَّ الإيمان لا يحصلُ إلا بتخليق الله تعالى ومشيئته ، أمر بالنَّظَرِ والاستدلال في الدَّلائل فقال : « قُلِ انظروا » .
قرأ عاصم وحمزةُ « قُلِ انظُرُوا » بكسر اللام لالتقاء الساكنين ، والأصل فيه الكسر ، والباقون بضمها نقلوا حركة الهمزة إلى اللاَّمِ .
قوله : « مَاذَا » يجوز أن يكون « مَاذَا » كله استفهاماً مبتدأ ، و « فِي السماوات » خبرهُ أي : أيُّ شيءٍ في السَّمواتِ؟ ويجوزُ أن تكون « ما » مبتدأ ، و « ذَا » بمعنى الذي ، و « فِي السماوات » صلته وهو خبرُ المبتدأ ، وعلى التقديرين فالمبتدأ وخبره في محلِّ نصبٍ بإسقاطِ الخافض لأنَّ الفعل قبله معلقٌ بالاستفهام ، ويجوز على ضعفٍ أن يكون « ماذا » كله موصُولاً بمعنى « الَّذي » وهو في محل نصبٍ ب « انُظُروا » . ووجهُ ضعفه أنَّهُ لا يخلو : إمَّا أن يكون النظر بمعنى البصر فيعدَّى ب « إلى » ، وإمَّا أن يكون قلبيّاً فيُعَدَّى ب « في » ، وقد تقدَّم الكلامُ في « ماذا » .
فصل
المعنى : قل للمشركين الذين يسألونك عن الإيمانِ : { قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض } واعلم أنَّه لا سبيل إلى معرفةِ الله تعالى إلاَّ بالنَّظر في الدَّلائل . قال عليه الصلاة والسلام : « تفكَّرُوا في الخَلْقِ ولا تتفَكَّرُوا في الخالِق » والدَّلائل إمَّا أن تكون من عالمِ السموات ، أو من عالم الأرض ، أمَّا الدلائل السماوية ، فهي حركات الأفلاك والكواكب ومقاديرها ، وما يختص به كل واحد منها ، وأمَّا الدلائل الأرضية ، فهي النظر في أحوال العناصر العلوية ، وفي أحوال المعادن والنبات ، وأحوال الإنسان ، وينقسم كل واحد من هذه الأجناس إلى أنواع لا نهاية لها . ولو أنَّ الإنسان أخذ يتفكرُ في كيفية حكمة الله تعالى في تخليق جناح بعوضة لانقطع عقلهُ قبل أن يصل إلى أوَّل مرتبة من مراتب تلك الفوائد .
ثم لمَّا أمر بهذا التفكُّر بيَّن بعده أنَّ هذا التَّفكر والتَّدبر في هذه الآيات لا ينفعُ في حقِّ من حكم الله عليه في الأزلِ بأنَّه لا يؤمن فقال : { وَمَا تُغْنِي الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } .
قوله : « وَمَا تُغْنِي » يجوز في « ما » أن تكون استفهامية ، وهي واقعةٌ موقع المصدر أي : أيَّ غناءٍ تُغني الآيات؟ ويجوزُ أن تكون نافيةً ، وهو الظَّاهرُ .
وقال ابن عطية : ويحتملُ أن تكون « ما » في قوله : « وما تُغْنِي » مفعولة بقوله : « انظُرُوا » معطوفة على قوله : « مَاذَا » أي : تأمَّلُوا قدر غناء الآيات والنُّذُر عن الكُفَّار .
قال أبو حيان : وفيه ضعفٌ ، وفي قوله : معطوفةٌ على « ماذا » تجوُّزٌ ، يعنى أنَّ الجملة الاستفهامية التي هي « مَاذَا فِي السماوات » في موضع المفعول؛ لأنَّ « ماذا » وحدهُ منصوبٌ ب « انظُرُوا » فتكون « مَاذَا » موصلة ، و « انظُرُوا » بصرية لما تقدَّم من أنَّه لو كانت بصرية لتعدَّت ب « إِلَى » . و « النُّذُرُ » يجوزُ أن يكون جمع « نَذِير » ، المرادُ به المصدر فيكون التقدير : وما تُغْنِي الآياتُ والإنذارات ، وأن يكون جمع « نذير » مراداً به اسم الفاعل بمعنى منذر فيكون التقدير والمُنْذِرُونَ وهم الرُّسُلُ . وقرىء « وما يُغْنِي » بالياء .
قوله : { فَهَلْ يَنتَظِرُونَ } يعني : مشركي مكَّة إلاَّ مثلَ أيَّام الذين خلوا مضوا « من قَبلِهِمْ » من مُكَذِّبي الأمم . قال قتادةُ : « يعني وقائع الله في قوم نوح ، وعاد ، وثمود » والعربُ تُسمِّي العذاب والنِّعم أياماً ، كقوله : { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله } [ إبراهيم : 5 ] وكُلُّ ما مضى عليك من خَيْرٍ وشرٍّ فهو أيَّام ثم إنَّه تعالى أمره بأن يقول لهم { فانتظروا إِنَّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين } .
قوله : { ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا } قال الزمخشريُّ : هو معطوفٌ على كلامٍ محذوف يدلُّ عليه قوله : { إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ } [ يونس : 102 ] كأنَّه قيل : نُهلكُ الأمم ثم نُنَجِّي رسلنا ، معطوفٌ على حكايةِ الأحوالِ الماضية .
قرأ الكسائي في رواية « نصر » نُنْجِيط خفيفة ، والباقون : مشددة ، وهما لغتان ، وكذلك في قوله « نُنْجِ المُؤمنينَ » والمعنى : ننجي رسلنا ، والذين آمنوا معهم عند نزول العذابِ . معناه : نَجَّينَا ، مستقبلٌ بمعنى الماضي ، ونجَّيْنَا وأنْجَيْنَا بمعنى واحد « كذلِكَ » كما نَجَّيْناهم « حَقًّا » واجباً { عَلَيْنَا نُنجِ المؤمنين } .
قوله : « حقّاً » فيه أوجهٌ :
أحدها : أن يكون منصوباً بفعل مُقَدَّر أي : حقَّ ذلك حقّاً .
والثاني : أن يكون بدلاً من المحذوف النَّائب عنه الكافُ تقديره : إنجاء مثل ذلك حقّاً .
والثالث : ان يكون « كذلك » و « حقًّا » منصوبين ب « نُنْجِ » الذي بعدهما .
والرابع : أن يكون « كَذلِكَ » منصوباً ب « نُنَجي » الاولى ، و حقّاً ب « نُنْجِ » الثَّانية .
وقال الزمخشري : مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم ، ونهلك المشركين ، وحقّاً علينا اعتراضٌ ، يعني حقَّ ذلك علينا حقّاً .
وقرأ الكسائيُّ وحفصٌ « نُنْجي المؤمنين » مخففاً من أنجى يقال : أنْجَى ونجَّى .
كأنزل ونزَّل ، وجمهور القرَّاءِ لم ينقلوا الخلاف إلاَّ في هذا دون قوله : { فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ } [ يونس : 92 ] ودون قوله { ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا } [ يونس : 103 ] . وقد نقل أبو علي الأزهري الخلافَ فيهما أيضاً ، ورسِمَ في المصاحف بجيم دون ياء .
فصل
قال القاضي : قوله « حقًّا عليْنَا » المرادث به الوجوب؛ لأنَّ تخليصَ الرَّسُول - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - والمؤمنين من العذاب إلى الثَّواب واجبٌ ، ولولاهُ ما حسن من الله تعالى أن يلزمهم الأفعال الشَّاقَّة ، وهذا يجري مجرى قضاء الدَّين .
والجوابُ ، بأن نقُول : إنَّه حقٌّ بحسب الوعْدِ والحُكْمِ ، ولا نقُولُ إنَّهُ حقٌّ بحسب الاستحقاق لما ثبت أنَّ العبد لا يستحقُّ على خالقه شيئاً .
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
قوله تعالى : { قُلْ ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي } الآية .
لمَّا بالغ في ذكر الدليل أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بإظهار دينه ، وإظهار المباينة عن المشركين ، لكي تزول الشكوك والشبهات في أمره .
فإن قيل : كيف قال « في شكٍّ » وهم كافرون يعتقدون بطلان ما جاء به؟ .
قيل : كان فيهم شاكون ، فهم المرادُ بالآية ، أو أنَّهم لمَّا رَأوا الآياتِ اضطربوا ، وشكُّوا في أمرهم وأمر النبي - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - .
قوله : « فَلاَ أَعْبُدُ » جواب الشَّرط ، والفعلُ خبر ابتداء مضمر تقديره : فأنَا لا أعبدُ ، ولو وقع المضارعُ منفياً ب « لا » دون فاء لجزمَ ، ولكنَّه مع الفاءِ يرفع كما تقدَّم ذكره ، وكذا لوْ لمْ يُنْفَ ب « لا » كقوله تعالى : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } [ المائدة : 95 ] ، أي : فهو ينتقُم .
ثم قال : { ولكن أَعْبُدُ الله الذي يَتَوَفَّاكُمْ } يميتكم ، ويقبض أرواحكم .
فإن قيل : ما الحكمةُ في وصف المعبود ههنا بقوله : { الذي يَتَوَفَّاكُمْ } ؟ .
فالجواب : من وجوه :
الأول : أنَّ المعنى أني أعبدُ الله الذي خلقكم أولاً ، ثم يتوفَّاكم ثانياً ثم يعيدكم ثالثاً ، فاكتفى بذكر التوفي لكونه مُنَبِّهاً على البواقي .
الثاني : أنَّ الموت أشدُّ الأشياءِ مهابة ، فخص هذا الوصف بالذكر ههنا ، ليكون أقوى في الزَّجر والرَّدع .
الثالث : أنَّهم لمَّا استعجلوا نزول العذاب قال تعالى : { فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فانتظروا إِنَّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ } [ يونس : 102-103 ] وهذا يدلُّ على أنَّهُ تعالى يهلك أولئك الكفار ، ويبقي المؤمنين ويقوي دولتهم ، فلمَّا كان قريب العهد بذكر هذا الكلام لا جرم قال ههنا : { ولكن أَعْبُدُ الله الذي يَتَوَفَّاكُمْ } وهو إشارةٌ إلى ما قرَّره وبيَّنهُ في تلك الآية كأنه يقول : أعبد الله الذي وعدني بإهلاككم ، وإبقائي بعدكم .
قوله : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين } [ يونس : 72 ] ، قال الزمخشري : أصله بأن أكون ، فحذف الجارُّ ، وهذا الحذف يحتمل أن يكون من الحذف المطرد الذي هو حذفُ الحروفِ الجارَّة مع أن وأنَّ ، وأنْ يكون من الحذف غير المطَّرد؛ وهو كقوله : [ البسيط ]
2939- أَمَرْتُكَ الخَيْرَ .. . .
{ فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } [ الحجر : 94 ] يعني : بغيرِ المُطَّرد أنَّ حذف حرف الجر مسموعٌ في أفعالٍ لا يجوزُ القياسُ عليها ، وهي : أمَرَ ، واسْتَغْفَرَ ، كما تقدم [ الأعراف155 ] ، وأشار بقوله : « أمَرْتُكَ » إلى البيت المشهور : [ البسيط ]
2940- أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ مَا أمِرْتَ بِهِ ..
وقد قاس ذلك بعضُ النَّحويِّين ، ولكن يُشترط أن يتعيَّن ذلك الحرف ، ويتعيَّن موضعه أيضاً ، وهو رأي علي بن علي بن سليمان فيُجيز « بريتُ القلمَ السكين » بخلاف « صَكَكْتُ الحَجَرَ بالخشبةِ » .
قوله : « وأنْ أقِمْ » يجوز أن يكون على إضمار فعلٍ أي : وأوحي إليَّ أن أقم ، ثم لك في « أنْ » وجهان أحدهما : أن تكون تفسيريةً لتلك الجملةِ المقدَّرة ، كذا قاله أبو حيان ، وفيه نظرٌ ، إذا المفسَّرُ لا يجوز حذفه ، وقد ردَّ هو بذلك في موضع غير هذا ، والثاني : أن تكون المصدرية ، فتكون هي وما في خبرها في محلِّ رفع بذلك الفعل المقدر ، ويحتمل أن تكون « أنْ » مصدرية فقط ، وهي على هذا معمولةٌ لقوله : أمِرْتُ مراعى فيها معنى الكلام؛ لأنَّ قوله « أنْ أكُونَ » كون من أكوانِ المؤمنين ، ووصلْ « أنْ » بصيغة الأمْر جائزٌ ، كما تقَدَّم تحريره .
وقال الزمخشريُّ : فإن قلت : عطف قوله : « وأنْ أقِمْ » على « أنْ أكُون » فيه إشكالٌ؛ لأنَّ أنْ لا تخلو : إمَّا أن تكون التي للعبارة ، أو التي تكونُ مع الفعلِ في تأويل المصدر ، فلا يصحُّ أن تكون التي للعبارة ، وإن كان الأمر ممَّا يتضمَّنُ معنى القول؛ لأنَّ عطفها علىلموصولة ينافي ذلك ، والقولُ بكونها موصولة مثل الأولى لا يساعد عليه لفظ الأمْرِ وهو « أقِمْ » ؛ لأنَّ الصِّلة حقُّها أن تكون جملة تحتمل الصِّدق والكذب .
قلت : قد سوَّغَ سيبويه أن توصلَ « أنْ » بالأمْرِ والنَّهْيِ ، وشبَّه ذلك بقولهم : « أنت الذي تفعل » على الخطاب؛ لأنَّ الغرضَ وصلها بما تكونُ معه في تأويلِ المصدرِ ، والأمْرُ والنَّهْيُ دالاَّنِ على المصدر دلالة غيرهما من الأفعال .
قال شهاب الدين : وقد تقدَّم الإشكالُ في ذلك وهو أنَّه إذا قُدِّرت بالمصدر فاتت الدَّلالةُ على الأمْرِ والنَّهْي .
ورجَّحَ أبُو حيَّان كونها مصدرية على إضمار فعل كما تقدَّم تقريره قال : « ليزولَ قلقُ العطفِ لوجودِ الكافِ ، إذْ لوْ كانَ » وأنْ أقِمْ « عفطاص على » أنْ أكُونَ « لكان التَّركيبُ » وَجْهِي « بياء المتكلم ، ومراعاةُ المعنى فيه ضعفٌ ، وإضمارُ الفعل أكثر » .
قال ابنُ الخطيبِ : الوا في قوله : « وأنْ أقِمْ وجْهكَ » حرف عطف ، وفي المعطوف عليه وجهان :
الأول : أنَّ قوله : وأمِرْتُ أنْ أكُون قائم مقام قوله : وقيل لي كن من المؤمنين ثم عطف عليه « وأنْ أقِمْ وجْهَكَ » .
الثاني : أنَّ قوله « وأنْ أقِمْ وجْهَكَ » قائم مقام قوله : « وأمْرِتُ » بإقامة الوجه ، فيصير التقدير : وأمرت بأن أكون من المؤمنين ، وبإقامة الوجه للدِّين حنيفاً .
قوله : « حَنِيفاً » يجُوزُ أن يكون حالاً من « الدِّين » ، وأن يكون حالاً من فاعل « أقِمْ » أو مفعوله .
فصل
قال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - : معنى قوله : { وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً } أي : عملك . وقيل : استقم على الدِّين حنيفاً .
قال ابنُ الخطيبِ : « إقامة الوجه كناية عن توجيه العقل بالكليَّةِ إلى طلبِ الدِّين؛ لأنَّ من يريدُ أن ينظر إلى شيءٍ نظر استقصاءٍ فإنَّه يُقيم وجههُ في مقابلته بحيثُ لا يصرفه عنه؛ لأنَّه لو صرفهُ عنه ، ولو بالقليل ، فقد بطلت تلك المقابلة ، وإذا بطلت المقابلةُ اختلَّ الإبصار؛ فلهذا جعل إقامة الوجه كناية عن صرف العقل بالكليةِ إلى طلبِ الدِّين ، وقوله » حَنِيفاً « أي : مائلاً إليه ميلاً كليّاً ، معرضاً عن كُلِّ ما سواه إعراضاً كلياً » .
ثم قال : { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } وهذا لا يمكنُ أن يكون نهياً عن عبادة الأوثان؛ لأنَّ ذلك صار مذكوراً في قوله أول الآية : { فَلاَ أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } [ 104 ] فلا بُدَّ من حمل هذا الكلام على فائدة زائدة ، وهي أن من عرف مولاه فلو التفت بعد ذلك إلى غيره كان ذلك شركاً ، وهذا هو الذي تسميه أصحابُ القلوبِ بالشِّرك الخفيِّ . قاله ابنُ الخطيبِ .
قوله تعالى : { ولا تَدْعُ } يجُوزُ أن تكون هذه الجملة استئنافية ، ويجوز أن تكون عطفاً على جملة الأمر وهي : « أَقِمْ » فتكون داخلة في صلة « أنْ » بوجهيها ، أعني كونها تفسيرية أو مصدرية وقد تقدم .
وقوله : « مَا لاَ ينفعُك » يجوز أن تكون نكرةً موصوفةً ، وأن تكون موصولةً .
قوله : « فإنَّكَ » هو جوابُ الشَّرطِ و « إذَنْ » حرفُ جوابِ توسَّطتْ بين الاسم ، والخبرِ ، ورتبتها التَّأخيرُ عن الخبرِ ، وإنَّما وُسِّطتْ رعياً للفواصل . وقال الزمخشري : « إذَنْ » جواب الشَّرطِ وجوابٌ لسؤالٍ مقدَّر ، كأنَّ سائلاً سأل عن تبعة عبادة الأوثان .
وفي جعله « إذَنْ » جزاءً للشَّرطِ نظرٌ ، إذ جوابُ الشَّرطِ محصورٌ في أشياء ليس هذا منها .
فصل
المعنى : « ولا تَدْعُ » أي : ولا تعبد « مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكَ » إن أطعته : « ولا يَضُرُّكَ » إن عصيتهُ « فإن فعلْتَ » فعبدتَ غير الله ، أو لو اشتغلت بطلب المنفعة ، والمضرَّةِ من غير الله { فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظالمين } الضَّارين لأنفسهم ، الواضعين للعبادة في غير موضعها؛ لأنَّ الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير وضعه .
قوله تعالى : { وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ } الآية .
قوله : « وَإِنْ يَمْسَسْكَ » قد تقدَّم ما في ذلك من صناعة البديع في سورة الأنعام [ الأنعام : 17 ] . وقال هنا في جواب الشَّرط الأول بنفي عام ، وإيجاب ، وفي جواب الثاني بنفي عام دون إيجاب؛ لأنَّ ما أرادَه لا يردُّه رادٌّ ، لا هو ولا غيره ، لأنَّ إرادتهُ قديمةٌ لا تتغيَّرُ ، فلذلك لم يجىء التَّركيب فلا رادَّ لهُ إلاَّ هو ، هذه عبارةُ أبي حيَّان ، وفيها نظرٌ ، وكأنَّهُ يقولُ بخلاف الكَشْفِ فإنه هو الفاعلُ لذلك وحدهُ دون غيره بخلاف إرادته تعالى ، فإنَّهُ لا يتصوَّر فيها الوقوعُ على خلافها ، وهي مسألةٌ خلافيَّةٌ بين أهل السُّنَّةِ والاعتزال .
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : لم ذُكر المسُّ في أحدهما والإرادةُ في الثاني؟ قلت : كأنَّه أراد أن يذكر الأمرين جميعاً : الإرادة والإصابة في كُلِّ واحدٍ من الضُّر والخَيْر ، وأنَّه لا رادَّ لما يريده منهما ، ولا مُزيلَ لِمَا يُصيب به منهما ، فأوجز الكلام بأن ذكر المسَّ وهو الإصابةُ في أحدهما ، والإرادة في الآخر ليدُلَّ بما ذكر على ما ترك ، على أنَّه قد ذكر الإصابة في الخير في قوله : { يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ } [ يونس : 107 ] .
فصل
اعلم أنَّ الشيء إمَّا أن يكون ضارّاً ، وإمَّا أن يكون نافعاً ، وهذان القسمان مشتركان في اسم الخير ، ولمَّا كان الضر أمراً وجودياً ، والخير قد يكون أمراً عدميّاً ، لا جرم لم يذكر لفظ الإمساس فيه بل قال : { وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ } والآية دالَّة على أنَّ الضرَّ والخيْرض واقعان بقدرةِ الله وبقضائه ، فيدخل فيه الكفر ، والإيمان ، والطاعةُ ، والمعصيةُ ، والسرورُ والخيراتُ والآلامُ واللَّذاتُ .
ومعنى الآية : إن يُصبْكَ الله بضرٍّ أي : بشدَّة ، وبلاء فلا دافع لهُ إلاَّ هُوَ ، { وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ } رخاء ونعمة وسعة { فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ } لا دافع لرزقه ، { يُصَيبُ بِهِ } بكل واحدٍ من الضر والخير { مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغفور الرحيم } .
قال الواحديُّ : قوله : { وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ } من المقلوب ، معناه : وإن يرد بك الخَيْرَ ، ولكنَّه لمَّا تعلَّق كل واحد منهما بالإرادةِ جاز تقديم كل واحد منهما .
قال المفسِّرون : لمَّا بيَّن تعالى في الآية الأولى أنَّ الأصنامَ لا تضرّ ولا تنفعُ بيَّن في هذه الآية أنَّها لا تقدر على دفع الشَّر الواصل من الغير ، ولا على دفع الخير الواصل من الغير .
قوله تعالى : { قُلْ ياأيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الحق مِن رَّبِّكُمْ } الآية .
قوله : « مِن ربِّكم » يجوز أن يتعلَّق ب « جَاءَكُمُ » و « مِنْ » لابتداء الغاية مجازاً ، ويجُوزُ أن يكون حالاً من « الحَقِّ » .
قوله : فَمَنُ اهْتَدَى ومن ضلَّ يجوز أن تكون « مَنْ » شرطاً ، فالفاءُ واجبةُ الدُّخُولِ وأن تكون موصولة فالفاءُ جائزته .
فصل
المراد « بالحقّ » القرآن والإسلام { فَمَنُ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } أي : على نفسه .
قوله : { وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } أي : بِكَفِيلٍ يحفظ أعمالكم ، و « ما » يجوز أن تكون الحجازيَّة أو التميمية ، لخفاء النصب في الخبر .
قال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - هذه الآية نسختها آية القتال . ثمَّ قال تعالى : { واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ واصبر حتى يَحْكُمَ الله } [ يونس : 109 ] أمرهُ باتِّباعِ الوحي والتَّنزيل { حتى يَحْكُمَ الله } من نصرك وقهر عدوك وإظهار دينك { وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين } فحكم بقتل المشركين ، وبالجزيةِ على أهل الكتاب يعطونها { عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [ التوبة : 29 ] .
روي أبيّ بن كعب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَن قَرَأ سورة يونس - عليه الصلاة والسلام - أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدَّق بيونس وكذَّب به ، وبعدد من غرق مع فرعون » .
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
« كِتَابٌ » يجوز أن يكون خبراً ل : « ألف لام راء » ، أخبر عن هذه الأحرف بأنَّها كتابٌ موصوفٌ بكَيْتَ وكَيْتَ .
قال الزجاج : هذا غلطٌ؛ لأنَّ « الر » ليس هو الموصوف بهذه الصِّفة وحده قال ابنُ الخطيب : وهذا اعتراضٌ فاسدٌ؛ لأنَّه ليس من شرط كون الشَّيء مبتدأ أن يكون خبره محصوراً فيه ، ويجُوزُ أن يكون خبر ابتداءٍ مضمرٍ تقديره : ذلك كتابٌ .
قال ابن الخطيب : « وهذا عندي ضعيفٌ لوجهين » :
الأول : أنَّه على هذا التقدير يقعُ قوله : « الر » كلاماً باطلاً لا فائدة فيه .
والثاني : أنك إذا قلت : هذا كتابٌ ، فقولك : « هذا » يكون إشارة إلى الآيات المذكورات ، وذلك هو قوله : « الر » فيصير حينئذ « الر » مخبراً عنه بأنه { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } . وقد تقدم الكلام على ذلك عند قوله : { ذَلِكَ الكتاب } [ البقرة : 2 ] قوله : { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } في محلِّ رفع صفةً ل « كِتابٌ » ، والهمزةُ في « أُحْكِمَتْ » يجوز أن تكون للنَّقل من حَكُمَ بضمِّ الكافِ ، أي : صار حكيماً بمعنى جعلت حكيمةٌ ، كقوله : { تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم } [ لقمان : 2 ] . ويجوز أن يكونَ من قولهم : « أحْكمتُ الدَّابَّة » إذا وضعتَ عليها الحكمة لمنعها من الجماحِ؛ كقول جريرٍ : [ الكامل ]
2941- أبَنِي حَنيفَةَ أحْكمُوا سُفَهَاءكُمْ ... إنِّي أخافُ عليْكمُ أنْ أغْضَبَا
فالمعنى : أنَّها مُنِعَتْ من الفسادِ .
ويجوز أن يكون لغيرِ النَّقل ، من الإحكام وهو الإتقان كالبناءِ المحكمِ المرصفِ ، والمعنى : أنَّها نُظِمَتْ نظماً رصيناً متقناً .
ويجوز أن يكون قوله : « أحْكِمَتْ » أي : لم تُنسخْ بكتابٍ كما نُسِخت الكُتُبُ والشَّرائع بها .
قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - .
قوله : « ثُمَّ فُصِّلَتْ » « ثُمَّ » على بابها من التَّراخي؛ لأنَّها أحكمت ثُمَّ فُصِّلت بحسب أسبابِ النُّزُولِ .
وقرأ عكرمةُ والضحاكُ والجحدريُّ وزيدُ بنُ عليٍّ وابن كثير في رواية « فَصَلَتْ » بفتحتين خفيفة العين .
قال أبو البقاء : والمعنى : فرقَتْ ، كقوله : { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ } [ البقرة : 249 ] ، أي : فارق وفسَّرها غيرهُ ، بمعنى فصلتْ بين المُحِقِّ والمُبطلِ ، وهو أحسنُ .
وجعل الزمخشريُّ « ثم » للتَّرتيب في الإخبار لا لترتيب الوقوع في الزَّمانِ ، فقال : فإن قلت : ما معنى « ثُمَّ » ؟
قلت : ليس معناها التَّراخِي في الوقت ، ولكن في الحالِ ، كما تقولُ : هي محكمةٌ أحسن الإحكام ، مفصَّلةٌ أحسن التَّفصيل ، وفلانٌ كريمُ الأصل ، ثُمَّ كريمُ الفعل .
وقرىء أيضاً : « أحْكمتُ آياتِهِ ثُمَّ فصَّلتُ » بإسناد الفعلين إلى « تاءِ » المتكلم ، ونصب « آياته » مفعولاً بها ، أي : أحكمتُ أنا آياته ، ثم فصَّلتها ، حكى هذه القراءة الزمخشري .
فصل
قال الحسن : أحكمت بالأمْر والنَّهي ، ثم فصِّلت بالوَعْد والوعيد وقال قتادةٌ : أحْكمَها اللهُ فليس فيها اختلاف ولا تناقض .
وقال مجاهدٌ : « فُصِّلتْ » أي : فسرت وقيل : « فُصِّلَتْ » أي : أنزلت شيئاً فشيئاً كقوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ } [ الأعراف : 133 ] ، وقيل : جعلت فصولاً : حلالاً ، وحراماً ، وأمثالاً ، وترغيباً وترهيباً ومواعظ وأمراً ونَهْياً .
فصل
احتجَّ الجُبائي بهذه الآية على أنَّ القرآن محدثٌ مخلوق من ثلاثة أوجهٍ :
الأول : قال : المحكم هو الذي أتقنه فاعله ، ولولا أنَّ الله - تعالى - خلق هذا القرآن ، لَمْ يصحَّ ذلك؛ لأنَّ الإحكام لا يكون إلاَّ في الأفعالِ ، ولا يجوز أن يقال : كان موجُوداً غير محكم ، ثم جعله الله مُحْكَماً؛ لأنَّ هذا يقتضي في بعضه الذي جعله محكماً بأن يكون محدثاً ، ولم يقل أحدٌ بأنَّ القرآن بعضه قديمٌ وبعضه محدثٌ .
الثاني : أنَّ قوله : « فُصِّلَتْ » يدلُّ على أنَّه حصل فيه انفصالٌ وافتراق ، ويدلُّ على أنَّ ذلك الانفصال والافتراق إنَّما حصل بجعل جاعل .
الثالث : قوله تعالى : { مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } ، والمرادُ من عنده ، والقديمُ لا يقال : إنَّهُ حصل من عند قديم آخر؛ لأنَّهما إن كانا قديمين ، لم يكن القول بأنَّ أحدهما حصل من عند الآخر أولى من العكس .
وأجيب بأنَّ النُّعوت عائدةٌ إلى هذه الحُرُوفِ والأصواتِ ، ونحن معترفون بأنَّها مخلوقةٌ؛ وإنَّما الذي يُدَّعى قدمه أمر آخر سوى هذه الحروف والأصوات .
قوله : « مِن لَّدُنْ » أي : من عند ، يجُوزُ أن تكون صفة ثاينة ل « كِتَابٌ » وأن تكون خبراً ثانياً عند من يرى جواز ذلك ، ويجوز أن تكون معمولة لأحد الفعلين المتقدِّمين يعني : « أحْكِمَتْ » أو « فُصِّلَتْ » ويكون ذلك من باب التنازع ، ويكون من إعمال الثاني ، إذْ لوْ أعمل الأول لأضمر في الثاني ، وإليه نحا الزَّمخشري فقال : وأن يكون صلة « أحكمت » « فُصِّلتْ » ، أي : من عندهُ أحكامُها وتفصيلهُا ، والمعنى : أحكمها حَكِيمٌ وفصَّلها ، أي : شرَحَهَا وبيَّنَها خبيرٌ بكيفياتِ الأمورِ .
قال أبُو حيان : لا يريدُ أنَّ « مِنْ لدُن » متعلقٌ بالفعلين معاً من حيث صناعةُ الإعراب ، بل يريدُ أن ذلك من باب الإعمال ، فهي متعلقةٌ بهما من حيثُ المعنى ، وهو معنى قولِ أبي البقاء أيضاً : ويجُوزُ أن يكون مفعولاً ، والعاملُ فيه فُصِّلَتْ .
قوله : « أن لا تَعْبدُوا » فيه أوجهٌ :
أحدها : أن تكون أنْ المخففة من الثَّقيلة ، و « لا تَعْبُدُوا » جملة نهي في محلِّ رفعٍ خبراً ل « أنْ » المخففة ، واسمها على ما تقرَّر ضمير الأمر والشَّأن محذوفٌ .
والثاني : أنَّها المصدرية النَّاصبة ، ووصلت هنا بالنَّهي ، ويجوز أن تكون « لا » نافية ، والفعل بعدها منصوبٌ ب « أنْ » نفسها ، وعلى هذه التقادير ف « أنْ » : إما في محلِّ جرٍّ أو نصبٍ أو رفع ، فالجرُّ والنصبُ على أنَّ الأصل : لأنْ لا تعبدوا ، أو بأن لا تعبدوا ، فلما حذف الخافضُ جرى الخلافُ المشهور ، والعاملُ : إمَّا « فُصِّلتْ » وهو المشهورُ ، وإمَّا « أحْكِمَتْ » عند الكوفيين .
فتكون المسألة من باب الإعمال؛ لأنَّ المعنى : أحْكِمَتْ لئلاَّ تعبدُوا أو بأن لا تعبدُوا . ف « أنْ لا تعبدُوا » هو المفعول الثاني ل « ضمَّن » والأولُ قام قمام الفاعل .
والرفع فمن أوجه :
أحدها : أنَّها مبتدأٌ ، وخبرها محذوفٌ ، فقيل : تقديره : من النَّظر أن لا تعبدوا إلاَّ الله .
وقيل : تقديره : في الكتاب ألاَّ تبعدوا إلاَّ الله .
والثاني : خبر مبتدأ محذوف ، فقيل : تقديره : تفصيلُه ألاَّ تعبدوا إلا الله .
وقيل : تقديره : هي أن لا تعبدوا إلاَّ الله .
والثالث : أنه مرفوعٌ على البدل من « آياته » .
قال أبو حيَّان : وأمَّا من أعربه أنَّهُ بدلٌ من لفظ « آيات » أو من موضعها ، يعني : أنَّها في الأصْلِ مفعولٌ بها فموضعا نصبٌ ، وهي مسألة خلافٍ ، هل يجُوزُ أن يُراعَى أصلُ المفعولِ القائم مقام الفاعلِ ، فيتبع لفظهُ تارة وموضعهُ أخرى ، فيقال : ضُرِبَتْ هندٌ العاقلة بنصب العاقلة باعتبار المحلِّ ، ورفعها باعتبار اللفظ ، أمْ لا؟ .
مذهبان ، المشهور مراعاة اللفظ فقط .
الوجه الثالث : أن تكون مفسرة؛ لأنَّ في تفصيل الآيات معنى القول؛ فكأنَّه قيل : لا تعبدوا إلاَّ الله إذْ أمركم ، وهذا أظهرُ الأقوالِ ، لأنَّهُ لا يُحْوِجُ إلى إضمار .
قوله : « مِنْهُ » في هذا الضمير وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ يعودُ على الله تعالى ، أي : إنَّ لكم من جهة الله نذيرٌ وبشير ، نذير للعاصين ، وبشير للمطيعين .
قال أبو حيان : فيكون في موضع الصِّفةِ ، فيتعلقُ بمحذوفٍ ، أي : كائن من جهته ، وهذا على ظاهره ليس بجيِّد؛ لأنَّ الصفة لا تتقدَّمُ على الموصوفِ ، فيكف تجعل صفةً ل « نذير » ؟ وكأنَّه يريد أنه صفةٌ في الأصل لو تأخَّر ، ولكن لمَّا تقدَّم صار حالاً ، وكذا صرَّح به أبو البقاءِ ، فكان صوابه أن يقول : فيكون في موضع الحالِ ، والتقدير : كائناً من جهته .
الثاني : أنَّهُ يعودُ على الكتابِ ، أي : نذيرٌ لكم من مخالفته ، وبشيرٌ منه لمن آمن وعمل صالحاً وفي متعلق هذا الجارِّ أيضاً وجهان :
أحدهما : أنَّه حالٌ من نذير ، فيتعلَّق بمحذوفٍ كما تقدَّم .
والثاني : أنه متعلقٌ بنفس نذير ، أي : أنذركم منه ومن عذابه إن كفرتم ، وأبشركم بثوابه إن آمنتم .
وقدَّم الإنذار؛ لأنَّ التَّخويف أهمُّ إذ يحصل به الانزجارُ .
قوله : { وَأَنِ استغفروا } فيها وجهان :
أحدهما : أنَّها عطفٌ على « أن » الأولى ، سواء كانت « لا » بعدها نَفْياً أو نَهْياً ، فتعودُ الأوجهُ المنقولةُ فيها إلى « أنْ » هذه .
والثاني : أن تكون منصوبةً على الإغراءِ .
قال الزمخشريُّ في هذا الوجه : ويجوزُ أن يكون كلاماً مبتدأ منقطعاً عمَّا قبله على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم - إغراء منه على اختصاص الله - تعالى - بالعبادة ، ويدل عليه قوله : { إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } كأنه قال : ترك عبادةِ غير الله إنَّنِي لكم منهُ نذيرٌ كقوله تعالى :
{ فَضَرْبَ الرقاب } [ محمد : 4 ] .
قوله : { ثُمَّ توبوا } عطفٌ على ما قبله من الأمْرِ بالاستغفار ، و « ثُمَّ » على بابها من التَّراخي؛ لأنَّه يستغفرُ أولاً ثم يتوبُ ويتجرَّدُ من ذلك الذَّنب المُستغْفَرِ منهُ .
قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى « ثُمَّ » في قوله { ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ } ؟ قلت : معناه : استغفروا من الشرك ، ثم ارجعوا إليه بالطَّاعة ، أو استغفروا - والاستغفارُ توبةٌ - ثُمَّ أخْلِصُوا التَّوبة واستقيموا عليها ، كقوله : { ثُمَّ استقاموا } [ الأحقاف : 13 ] .
قال شهابُ الدِّين : قوله : « أو استغفروا » إلى آخره يعني أنَّ بعضهم جعل الاستغفار والتوبة بمعنى واحد ، فلذلك احتاج إلى تأويل « تُوبُوا » ب « أخْلِصُوا التَّوبة » .
قال الفراء : « ثُمَّ » ههنا بمعنى الواو ، أي : وتوبوا إليه ، لأنَّ الاستغفار هو التوبة والتوبة هي الاستغفار .
وقيل : وأن استغفروا ربَّكُم في الماضي ، ثُمَّ تُوبُوا إليه في المستأنف .
وقيل : إنَّما قدَّم الاستغفار أوَّلاً لأنَّ المغفرة هي الغرض المطلوب ، والتوبة هي السبب إليها ، فالمغفرة أول في المطلوب وآخر في السبب .
ويحتمل أن يكون المعنى استغفروهُ من الصَّغائر ، ثُمَّ تُوبُوا إليه من الكبائر .
قوله : « يُمَتِّعكُم » جوابُ الأمرِ . وقد تقدَّم الخلافُ في الجازمِ : هل هو نفسُ الجملةِ الطَّلبية أو حرفُ شرطٍ مقدر [ البقرة : 40 ] .
وقرأ الحسنُ وابنُ هرمز وزيد بنُ عليٍّ وابن محيصن « يُمْتِعُكُم » بالتخفيف من أمتع .
وقد تقدَّم أنَّ نافعاً وابن عامرٍ قرآ { فأُمْتِعُهُ قَلِيلاً } بالتخفيف كهذه القراءة [ البقرة : 126 ] .
قوله « متَاعاً » في نصبه وجهان :
أحدهما : أنَّه منصوبٌ على المصدر بحذفِ الزَّوائدِ ، إذ التقديرُ : تَمْتِيعاً ، فهو كقوله : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] .
والثاني : أن ينصب على المفعول به ، والمراد بالمتاع اسم ما يُتمتَّعُ به ، فهو كقولك : « متعت زيداً أثواباً » .
قال المفسِّرون : يعيشكم عيشاً في خفضٍ ودعةٍ وأمنٍ وسعةٍ « إلى أجلٍ مُسَمًّى » إلى حين الموتِ . فإن قيل : أليس أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : « الدُّنيا سِجْنُ المُؤمنِ وجنَّةُ الكافر »
؟ . وقال أيضاً : « خُصَّ البَلاءُ بالأنبياءِ ثُمَّ الأوْلياءِ فالأمْثَلِ فالأمْثَلِ » .
وقال تعالى : { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } [ الزخرف : 33 ] فدلَّت هذه النُّصوصُ على أنَّ نصيب المؤمن المطيع عدمُ الرَّاحة في الدُّنيا ، فكيف الجمع بينهما؟ .
فالجواب من وجوه :
الأول : أنَّ المعنى لا يُعذِّبهم بعذاب الاستئصال كما استأصَلَ أهلَ القوَّة من الكُفَّار .
الثاني : أنَّهُ تعالى يوصل إليهم الرزق كيف كان ، وإليه الإشارةُ بقوله : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ }
[ طه : 132 ] .
الثالث : أنَّ المشتغل بالعبادة مشتغلٌ بحب شيءٍ يمتنع تغيره وزواله وفناؤه ، وكلما كان تمكنه في هذا الطريق أتم كان انقطاعه عن الخلقِ أتمُّ وأكملُ ، وكلما كان الكمالُ في هذا البابِ أكثر كان الابتهاج والسرور أكمل؛ لأنَّهُ أَمِنَ من تغير مطلوبه ، وأَمِنَ من زوال محبوبه .
وأمَّا من اشتغل بحبِّ غير الله ، كان أبداً في ألمِ الخوفِ من فوات المحبوب وزواله؛ فكان عيشهُ منغَّصاً وقلبه مضطرباً ، ولذلك قال تعالى في حق المشتغلين بخدمته { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } [ النحل : 97 ] .
فإن قيل : هل يدل قوله { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } على أنَّ للعبدِ أجليْنِ ، وأنَّهُ يقع في ذلك التقديم والتَّأخير؟ .
فالجواب : لا ، ومعنى الآية أنَّهُ تعالى حكم بأنَّ هذا العبد لو اشتغل بالعبادة لكان أجله في الوقت الفلاني ، ولو أعرض عنها لكان أجله في وقت الفلاني ، ولو أعرض عنها لكان أجله في وقت آخر ، لكنَّهُ تعالى عالم بأنَّهُ يشتغل بالعبادة ، فلا جرم أنَّه كان عالماً بأنَّ أجله ليس إلاَّ في ذلك الوقتِ المعيَّنِ؛ فثبت أنَّ لكلَّ إنسانٍ أجلاً واحداً .
وسمى منافع الدُّنيا متاعاً ، تنبيهاً على حقارتهَا وقلَّتهَا ، وأنَّها مُنقضيةٌ بقوله تعالى { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } .
قوله : { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } « كُلَّ » مفعول أوَّل ، و « فَضلهُ » مفعولٌ ثانٍ .
وقد تقدَّم للسُّهيلي خلافٌ في ذلك . والضَّمير في « فَضْلَهُ » يجوز أن يعود على الله تعالى ، أي : يُؤتِي كُلَّ صاحبِ فضلٍ فضله ، أي : ثوابهُ ، وأن يعود على لفظِ « كُلّ » ، أي : يعطي كُلَّ صاحب فضلٍ جزاء فضله ، لا يبخَسُ منه شيئاً ، أي : جزاء عمله .
قال المفسِّرون : ويعطي كل ذي عمل صالح في الدنيا أجره وثوابه في الآخرة .
وقال أبو العالية : من كثرت طاعته في الدنيا زادت درجاته في الجنَّة؛ لأنَّ الدَّرجاتِ تكون بالأعمال .
وقال ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - : « مَنْ زادَتْ حسناتهُ على سيِّئاتهِ دخل الجنَّة ، ومن زادت سيئاته على حسناته ، دخل النَّارن ومن استوت حسناته وسيئاته ، كان من أهْلِ الأعرافِ ، ثم يدخلون الجنة » .
ثم قال : { وَإِن تَوَلَّوْاْ فإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } وهو يومُ القيامةِ .
وقرأ الجمهور « تَولَّوْا » بفتح التَّاءِ والواو واللاَّم المشدَّدة ، وفيها احتمالان :
أحدهما : أنَّ الفعل مضارعُ توَلَّى وحذف منه إحدى التاءين تخفيفاً نحو : « تَنَزَّلُ » .
وقد تقدَّم أيتهما المحذوفةُ ، وهذا هو الظَّاهر . ولذلك جاء الخطابُ في قوله : « عليْكُم » .
والثاني : أنَّه فعلُ ماضٍ مسند لضمير الغائبين ، وجاء الخطابُ على إضمار القولِ ، أي : فقل لهم : إنِّي أخاف عليكم ، ولولا ذلك لكان التركيب : فإنِّي أخاف عليهم .
وقرأ اليماني وعيسى بن عمر : « تُوَلُّوا » بضمِّ التَّاءِ ، وفتح الواوِ وضم اللام ، وهو مضارعُ « ولَّى » ؛ كقولك : زكَّى يزكِّي .
ونقل صاحب اللَّوامح عن اليماني وعيسى بن عمر : « وإن تُوُلُّوا » بثلاث ضمَّات مبنياً للمفعول ، ولمْ يُبين ما هو ولا تصريفه؟ وهو فعلٌ ماضٍ ، ولمَّا بُنِيَ للمفعولِ ضُمَّ أولهُ على الفاعل ، وضُمَّ ثانيه أيضاً؛ لأنَّه مفتتحٌ بتاءِ مطاوعةِ ، وكلُّ ما افتتح بتاءِ مطاوعةٍ ضُمَّ أوله وثانيه ، وضُمَّت اللام أيضاً ، وإن كان أصلها الكسر لأجْلِ واو الضمير ، والأصلُ « تُوُلِّيُوا » نحو : تُدحْرجُوا ، فاستثقلت الضَّمةُ على الياءِ ، فحذفت فالتقى ساكنان؛ فحذفت الياءُ ، لأنَّهما أولهما؛ فبقي ما قبل واو الضَّمير مكسوراً فضُمَّ ليُجانِسَ الضمير؛ فصار وزنهُ « تُفُعُّوا » بحذف لامه ، والواو قائمةٌ مقام الفاعل .
وقرأ الأعرجُ « تُولُوا » بضمِّ التاء وسكون الواو وضم اللام مضارع « أوْلَى » ، وهذه القراءةُ لا يظهرُ لها معنًى طائلٌ هنا ، والمفعول محذوفٌ يقدَّرُ لائقاً بالمعنى .
و « كَبِيرٍ » صفةٌ ل « يَوْمٍ » مبالغة لما يقع فيه من الأهوالِ .
وقيل : بل « كَبيرٍ » صفةٌ ل « عذابَ » فهو منصوبٌ ، وإنَّما خفض على الجوارِ؛ كقوله : « هذا جُحر ضبٍّ خربٍ » بجرِّ خَربٍ وهو صفةٌ ل « جُحْرٌ » ؛ وقول امرىء القيس : [ الطويل ]
2942- كأنَّ ثَبِيراً في عَرانينِ وبلهِ ... كَبيرُ أنَاسٍ في بِجاد مُزَمَّلِ
بجر « مُزَمَّل » وهو صفةٌ ل « كبير » . وقد تقدَّم البحثُ في ذلك في سورة المائدة .
ثم قال : { إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
وهذا فيه تهديدٌ وبشارة ، فالتَّهديد قوله { إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ } يدلُّ على أنَّ مرجعنا إليه ، وهو قادرٌ على جميع المقدورات لا دافع لقضائه ، ولا مانع لمشيئته ، والرُّجوع إلى الحاكم الموصوف بهذه الصفة مع العيوب الكثيرة والذُّنوب العظيمة مشكل ، وأمَّا البشارةُ ، فإنَّ ذلك يدلُّ على قدرة عالية وجلالة عظيمة لهذا الحاكم ، وعلى ضعف تام ، وعجز عظيم لهذا العبد ، والملك القادر القاهر الغالب إذا رأى أحداً أشرف على الهلاك؛ فإنهُ يخلصهُ من تلك الهلكة ، ومنه المثل المشهور « إذَا ملكْتَ فأسْجِعْ » .
أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
لمَّا قال : « وإن تولَّوْا » عن عبادة الله وطاعته ، بيَّن بعده صفة ذلك التولي فقال : { أَلا إِنَّهُمْ } يعني الكُفَّار { يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ } يقال : ثنيت الشَّيء إذا عطفته وطويته .
وقرأ الجمهور : بفتح الياء وسكون الثَّاء المثلثة ، وهو مضارع « ثَنَى يَثْني ثَنْياً » ، أي طوى وَزَوى ، و « صُدُورهم » مفعول به ، والمعنى : يَحْرفون صدورهم ووجوههم عن الحق وقبوله ، والأصل « يَثْنِيُونَ » فأُعِلَّ بحذف الضَّمةِ عن الياء ، ثُمَّ تحذفُ الياءُ لالتقاءِ الساكنين .
وقرأ سعيدُ بن جبير « يُثْنُون » وهو مضارع « أثْنَى » كأكرم .
واستشكل النَّاسُ هذه القراءة فقال أبُو البقاءِ : ماضيه أثنى ، ولا يعرفُ في اللغةِ ، إلاَّ أنْ يقال : معناه عرضُوها للانثناء ، كما يقال : أبعت الفرسَ : إذا عرضته للبيع .
وقال صاحبُ اللَّوامِحِ : ولا يعرفُ الإثناء في هذا الباب ، إلاَّ أن يرادَ به ، وجدتُهَا مثْنِيَّة ، مثل أحْمَدْتُه وأمْجَدْتُه ، ولعلَّه فتح النون ، وهذا ممَّا فعل بهم فيكون نصب « صُدُورَهُم » بنزع الخافض ، ويجُوزُ على ذلك أن يكون « صُدُورَهُم » رفعاً على البدل بدل البعض من الكُلِّ يعني بقوله : ولعلَّهُ فتح النُّونِ أي : ولعل ابن جبير قرأ ذلك بفتح نونِ « يُثْنَون » فيكون مبنياً للمفعول ، وهو معنى قوله : وهذا ممَّا فعل بهم أي وجدوا كذلك ، فعلى هذا يكونُ « صُدورهُم » منصُوباً بنزعِ الخافضِ ، أي : في صدورهم ، أي يوجدُ الثَّنْيُ في صدورهم ، ولذلك جوَّز رفعهُ على البدل كقولك : ضُربَ زيدٌ الظَّهْرُ . ومنْ جوَّز تعريف التمييز لا يبعدُ عنده أن ينتصب « صُدُورهُم » على التَّمييز بهذا التقدير الذي قدَّرهُ .
وقرأ ابنُ عبَّاسٍ ، وعليُّ بنُ الحسين ، وابناه زيد ، ومحمد ، وابنه جعفر ، ومجاهد ، وابن يعمر ، وعبد الرحمن بن أبزى ، وأبو الأسود « تَثنَوْني » مضارع « اثْنَوْنَى » على وزنِ « افْعَوْعَلَ » من الثَّنْي كاحْلَوْلى من الحَلاوةِ وهو بناءُ مبالغةٍ ، « صُدُورهُم » بالرَّفع على الفاعلية .
ونُقل عن ابن عباس وابن يعمر ومجاهد وابن أبي إسحاق : « يَثْنَوْنَى صدورهم » بالياءِ والتَّاءِ؛ لأنَّ التأنيث مجازيٌّ؛ فجاز تذكيرُ الفعل باعتبار تأويل فاعله بالجمع وتأنيثه باعتبار تأويل فاعله بالجماعةِ .
وقرأ ابنُ عبَّاس أيضاً وعروة وابن أبزى والأعمش « تَثْنَوِنُّ » بفتح التاء وسكون الثَّاء وفتح النون وكسر الواو وتشديد النون الأخيرة ، والأصل : « تَثْنَوْنِنُ » بوزن « تَفْعَوْعِلُ » من الثِّنُّ وهو ما هشَّ وضعف من الكَلأ ، يريد مطاوعة نوفسهم للثَّنْي كما يثنى الهَشُّ من النَّبات ، أو أ راد ضعف إيمانهم ومرض قلوبهم .
و « صدورهم » بالرَّفع على الفاعلية .
وقرأ مجاهدٌ وعروة أيضاً كذلك ، إلاَّ أنَّهما جعلا مكان الواو المسكورة همزة مكسورة فأخرجاها مثل « تطمئن » .
وفيها تخريجان :
أحدهما : أنَّ الواو قُلبتْ همزة لاستثقال الكسرة عليها ، ومثله إعاء وإشاح في وعاء ووشاح ، لمَّا استثقلوا الكسرة على الواوِ أبدلوها همزة .
والثاني : أن وكنه « تَفْعَيِيلٌ » من الثِّن وهو ما ضعف من النَّبات كما تقدَّم ، وذلك أنَّهُ مضارع ل « اثْنَان » مثل احْمَارَّ واصفارَّ ، وقد تقدَّم [ يونس : 24 ] أن من العرب من يقلبُ مثل هذه الألف همزة؛ كقوله : [ الطويل ]
2943- . . .. . . بالعَبِيطِ ادْهَأمَّتِ
فجاء مضارع « اثْنَأنَّ » على ذلك كقولك احْمَأرَّ يَحمَئِرُّ كاطمأنَّ يَطْمَئِنُّ .
وأمَّا « صُدورُهم » فبالرَّفع على ما تقدَّم .
وقرأ الأعمش أيضاً تَثْنَؤُونَ بفتح الياء وسكون المثلثة وفتح النون وهمزة مضمومة و واوٍ ساكنةٍ بزنة تَفْعَلُون كَتَرْهَبُون . صُدورَهُم بالنَّصْبِ .
قال صاحبُ اللَّوامِحِ : ولا أعرف وجهه يقال : « ثَنَيْتُ » ولم أسمعْ « ثَنَأتُ » ، ويجوز أنَّهُ قلب الياء ألفاً على لغةِ من يقول : « أعْطات » في « أعْطَيْتُ » ، ثُمَّ همز الألف على لغةِ من يقول : { ولا الضَّأْلين } [ الفاتحة : 7 ] .
وقرأ ابنُ عبَّاس أيضاً - رضي الله عنهما - « تَثْنَوِى » بفتح التَّاءِ وسكون المثلثة ، وفتح النُّونِ وكسر الواو بعدها ياءٌ ساكنةٌ بزنة « تَرْعَوِى » وهي قراءةٌ مشكلة جداً حتَّى قال أبو حاتم : وهذه القراءة غلطٌ لا تتجه ، وإنَّما قال إنَّها غلطٌ؛ لأنَّه لا معنى للواوِ في هذا الفعل إذ لا يقالُ : ثَنَوْتُهُ فانْثَوَى كرعَوْتُه ، أي : كففته فارعَوَى ، أي : فانكفَّ ، ووزنه افعلَّ كاحْمَر .
وقرأ نصرُ بنُ عاصمٍ وابنُ يعمر وابن أبي إسحاق « يَنْثُونَ » بتقديم النُّون السَّاكنة على المثلثة .
وقرأ ابنُ عباس أيضاً « لَتَثْنَونِ » بلام التأكيد في خبر « إنَّ » وفتح التَّاءِ وسكون المثلثة وفتح النون وسكون الواو بعدها نونٌ مكسورةٌ وهي بزنة « تَفْعَوْعِلُ » ، كما تقدَّم إلاَّ أنَّها حذفت الياء ، التي هي لامُ الفعل تخفيفاً كقولهم : لا أدْرِ وما أدْرِ . و « صُدورهم » ، فاعل كما تقدم .
وقرأ طائفة : « تَثنؤنَّ » بفتح التَّاءِ ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم نُون مفتوحةٍ ثم همزة مضمومةٍ ثم نون مشددة ، مثل تَقْرَؤنَّ ، وهو مِنْ ثَنَيْتُ ، إلاَّ أنَّه قلب الياءَ واواً؛ لأنَّ الضمة تُنافِرُهَا ، فجعلت الحركةُ على مُجانِسها ، فصار اللفظُ « تَثْنَوونَ » ثم قلبت الواوُ المضمومةُ همزة كقولهم : « أجُوه » في « وُجُوه » و « أقِّتَتْ » في « وقِّتَت » فصار « تَثْنَؤونَ » ، فلمَّا أكَّد الفعل بنونِ التَّوكيد حذفت نونُ الرَّفع فالتقى ساكنان : وهما واوُ الضمير والنون الأولى من نون التَّوكيد ، فحذفت الواو وبقيت الضَّمةُ تدلُّ عليها؛ فصار « تَثْنَؤنَّ » كما ترى و « صُدورَهُم » منصوب مفعولاً به فهذه إحدى عشرةَ قراءةً مضبوطة .
قوله تعالى : { لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ } فيه وجهان :
أحدهما : أنَّ هذه اللاَّم متعلقةٌ ب « يَثْنُونَ » كذا قاله الحوفيُّ ، والمعنى : أنَّهم يفعلون ثَنْي الصُّدور لهذه العلةِ . وهذا المعنى منقولٌ في التفسير ولا كلفة فيه .
والثاني : أنَّ اللاَّم متعلقةٌ بمحذوفٍ .
قال الزمخشريُّ : « لِيَسْتخُفُوا منهُ » يعنى ويريدون : ليستَخْفُوا من الله فلا يطلعُ رسوله والمؤمنون على ازْورَارهِمْ ، ونظيرُ إضمار « يريدون » لعود المعنى إلى إضماره الإضمارُ في قوله : { أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق } [ الشعراء : 63 ] معناه : « فضرب فانفلق » .
قال شهاب الدين : وليس المعنى الذي يقُودُنا إلى إضمار الفعل هناك كالمعنى هنا ، لأنَّ ثمَّ لا بد من حذف معطوفٍ يُضْطَر العقلُ إلى تقديره؛ لأنَّهُ ليس من لازم الأمْرِ بالضَّرْبِ إنفلاقُ البحر فلا بُدَّ أن يُتَعَقَّل « فضرب فانفلق » ، وأمَّا في هذه ، فالاستخفاف علةٌ صالحةٌ لثَنْيهم صدورهم ، فلا اضطرار بنا إلى إضمار الإرادةِ .
والضَّميرُ في « مِنْهُط فيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ عائدٌ على رسُولِ الله - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - وهو ظاهرٌ على تعلُّق اللاَّم ب » يَثْنُونَ « .
والثاني : أنَّهُ عائدٌ على الله تعالى كما قال الزمخشريُّ .
قوله : { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ } في هذا الظرف وجهان :
أحدهما : أنَّ ناصبهُ مُضْمَرٌ ، فقدَّره الزمخشري ب » يريدون « كما تقدم ، فقال : ومعنى ( ألا حين يستغشون ثيابهم ) : ويريدون الاستخفاء حين يشتغشون ثيابهم أيضاً كراهة لاستماع كلام الله ، كقول نُوحٍ { جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ واستغشوا ثِيَابَهُمْ } [ نوح : 7 ] ، وقدَّره أبو البقاء فقال : ( ألا حين يستغشون ثيابهم ) : يستخفون .
والثاني : أنَّ النَّاصب له » يَعْلَمُ « ، أي : ألا يعلم سرَّهُم وعلنهم حين يفعلون كذا ، وهذا معنى واضح ، وكأنَّهُم إنَّما جوَّزُوا غيره؛ لئلا يلزم تقييد علمه تعالى بسرِّهم وعلنهم بهذا الوقت الخاصِّ ، والله تعالى عالمٌ بذلك في كل وقت .
وهذا غيرُ لازم؛ لأنَّه إذا عُلِمَ سرُّهم وعلنهُم في وقت التَّغْشِية الذي يخفى فيه السرُّ فأولى في غيره ، وهذا بحسب العادةِ وإلاَّ فالله تعالى لايتفاوتُ علمهُ .
و » ما « يجُوزُ أن تكون مصدرية ، وأن تكون بمعنى » الذي « ، والعائدُ محذوفٌ ، أي : تُسِرُّونه وتُعْلِنُونه .
فصل
قال ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - نزلت في الأخنس بن شريقٍ ، وكان رجلاً حلو الكلام حلو المنظر ، يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحبُّ ، وينطوي له بقلبه على ما يكره .
فقوله : { يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ } أي يخفون ما في صدورهم من الشَّحْنَاءِ والعداوةِ .
قال عبدُ الله بنُ شداد : نزلت في بعض المنافقين ، كان إذا مرَّ بالنبي صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وظهره ، وطأطأ رأسه ، وغطَّى وجهه ، كي لا يراه النبي - صلوات الله وسلامه عليه - .
قال قتادة : كانوا يخفون صدورهم ، لكيلا يسمعُوا كلامَ الله ولا ذكره .
وقيل : كان الرَّجلُ من الكُفَّار يدخل بيته ، ويرخي ستره ، ويحْنِي ظهرهُ ، ويتغشَّى بثوبه ، ويقول : هل يعلمُ الله ما في قلبي .
وقال السُّدي : « يَثْنُونَ صُدورَهُمْ » أي : يُعرضُون بقلوبهم ، من قولهم : ثنيت عناني ليَسْتخْفُوا مِنهُ أي : من رسول الله - صلوات ا لله وسلامه عليه - .
وقال مجاهدٌ : من الله عز وجل .
{ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ } يغطون رؤوسهم بثيابهم و « ألا » كلمة تنبيه أي : ألا إنهم يستخفون حين يستغشون ثيابهم . ثم ذكر أنَّهُ لا فائدة لهم في استخفافهم فقال سبحانه : { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } .
قال الأزهري معنى الآية من أولها إلى آخرها : إنَّ الذين اضمرُوا عداوة رسُول الله صلى الله عليه وسلم لا يخفى علينا حالهم .
وروى محمد بن جرير عن محمد بن عباد بن جعفر - رضي الله عنه -؛ أنه سمع ابن عباس يقرأ { أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ } قال : كان أناسٌ يستحيون أن يَخلوا فينفضوا إلى السَّماء ، وأن يجامعوا نساءهم ، فيفضوا إلى السَّماءِ؛ فنزل ذلك فيهم .
لمَّا ذكر أنه : { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } أردفهُ بما يدلُّ على أنَّهُ تعالى عالمٌ بجيمعِ المعلومات وهو أنَّ رزق كلَّ حيوان إنَّما يصل إليه من الله؛ لأنَّه لو لم يكن عالماً بجيمع المعلُومات لما حصلت هذه المهمَّات .
قال الزجاجُ : الدَّابَّةُ : اسمٌ لكلِّ حيوان ، مأخوذ من الدَّبيبِ ، وبُنيتْ هذه اللفظة على هاء التأنيث ، هذا موضوعها اللُّغوي ، و « مِنْ » صلة ، { إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا } هو المتكفِّلُ بذلك فضلاً ، وهو إلى مشيئته إن شاء رزق وإن شاء لم يرزق . وقيل : « على » بمعنى « من » أي : من الله رزقها .
قال مجاهدٌ : ما جاءها من رزق فمن الله ، ورُبَّما لم يرزقها حتَّى تمُوت جُوعاً . { وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا } قال ابنُ مقسم : ويروى عن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - « مُسْتقرَّهَا » المكانُ الذي تأوي إليه ، وتستقرُّ فيه ليلاً ونهاراً « ومُسْتوْدعهَا » الموضع الذي تُدْفَنُ فيه إذا ماتت . وقال عبد الله بن مسعودٍ : المستقرُّ : أرحامُ الأمَّهات ، والمستودع : أصلابُ الآباء . ورواه سعيدُ بن جبيرٍ ، وعليُّ بن أبي طلحة ، وعكرمةُ عن ابن عبَّاس . وقيل : المستقر : الجنة أو النار ، والمستودع : القبر ، لقوله تعالى في صفة الجنة ، والنار { حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } [ الفرقان : 76 ] { سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } [ الفرقان : 66 ] .
{ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } . قال الزَّجَّاجُ : « معناه : كلُّ ذلك ثابتٌ في علم الله » .
وقيل : كل ذلك مثبت في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقها .
قوله : { مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا } يجوزُ أن يكونا مصدرين ، أي : استقرارها واستيداعها ، ويجوزُ أن يكونا مكانين ، أي : مكان استقرارها واستيداعها ، ويجوز أن يكون « مُستوْدعهَا » اسم مفعول لتعدِّي فعله ، ولا يجوز ذلك في « مُسْتَقَر » ؛ لأنَّ فعله لازمٌ ، نظيره في المصدرية قول الشاعر : [ الوافر ]
2944- ألَمْ تعْلَمْ مُسَرَّحِيَ القَوافِي .. .
أي : تَسْريحي .
و « كُلُّ » المضافُ إليه محذوفٌ تقديره : كُل دابةٍ ورزقها ومستقرُّها ومستودعُها في كتاب مبين .
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
لمَّا أثبت بالدَّليلِ المتقدم كونه عالماً بالمعلومات ، أثبت بهذا الدليل كونه قادراً على المقدورات وقد مضى تفسير { خَلَق السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أول يونس .
قوله : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء } قال كعب الأحبار - رضي الله عنه - : خلق الله - عزَّ وجلَّ - ياقوتةٌ خضراء ، ثمَّ نظر إليها بالهيبة فصار ماءً يرتعدُ ، ثمَّ خلق الرِّيح؛ فجعل الماء على متنها ، ثمَّ وضع العرش على الماء . وقال غيره : إنَّ الله - عزَّ وجلَّ - كان عرشه على الماء ، ثم خلق السموات والأرض ، وخلق القلم؛ فكتب به ما هو خالق وما هو كائن من خلقه .
قالت المعتزلةُ : في الآية دلالة على وجودِ الملائكة قبل خلق السموات والأرض ، لأن خلقهما : إمَّا أن يكون لمنفعة ، أو لا لمنفعة والثاني عبث ، فينبغي أنَّهُ خلقهما لمنفعة ، وتلك المنفعة إمَّا أن تكون عائدة على الله تعالى وهو محالٌ ، لكونه متعالياً عن النفع والضر؛ فلزم أن يكون نفعهما مختصٌّ بالغير ، فوجب كون الغير حيّاً؛ لأنَّ غير الحيِّ لا ينتفع ، وكلُّ من قال بذلك قال كان ذلك الحي من الملائكة .
فإن قيل : ما الفائدةُ في ذكر أنَّ عرشهُ كان على الماءِ قبل خلق السموات والأرض؟ .
فالجوابُ أنَّ فيه دلالةً على كمالِ القدرة من وجوه :
أحدها : أنَّ العرش مع كونه أعظم من السموات والأرض كان على الماءِ؛ فلولا أنه تعالى قادرٌ على إمساكِ الثَّقيل بغير عمدٍ لما صحَّ ذلك .
وثانيها : أنَّه تعالى أمسك الماءَ لا على قرار ، وإلاَّ لزم أن يكون أجسام العالمِ غير متناهية فدل على كمال القدرة .
وثالثها : أن العرش الذي هو أعظم المخلوقات قد أمسكه الله فوق سبع سموات من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه ، فدل على كمال القدرة .
قوله : « لِيَبْلُوَكُمْ » في هذه اللاَّم وجهان :
أحدهما : أنَّها متعلقةٌ بمحذوفٍ فقيل : تقديره : أعلم ذلك ليبْلُوكمْ ، وقيل : ثمَّ جملٌ محذوفةٌ والتقدير : وكان خلقةُ لهما لمنافع يعودُ عليكم نفعها في الدُّنيا دون الآخرة ، وفعل ذلك ليبلوكم .
وقيل : تقديره : وخلقكم ليبلوكم .
والثاني : أنها متعلقةٌ ب « خلقكم » .
قال الزمخشريُّ : أي : خلقهُنَّ لحكمةٍ بالغةٍ وهي أن يجعلها مساكن لعباده وينعم عليهم فيها بصنوف النِّعمِ ويُكلِّفهم فعل الطَّاعاتِ واجتناب المعاصي ، فمن شكر وأطاع أثابه ، ومن كفر وعصى عاقبة ، ولمَّا أشبه ذلك اختبارَ المختبر قال « ليبلُوَكمْ » ، يريد : ليفعل بكم ما يفعل المبتلي . واعلم أنه لمَّا بين أنه إنما خلق هذا العالم لأجل ابتلاء المكلَّفين وامتحانهم وجب القطع بحصول الحشر والنشر؛ لأنَّ الابتلاء والامتحان يوجب الرَّحمة والثَّواب للمحسن والعقاب للمسيء ، وذلك لا يتمُّ إلاَّ بالاعتراف بالمعادِ والقيامة ، فعند هذا خطاب محمداً صلى الله عليه وسلم وشرف ، وكرم ومجد وبجل ، وعظم ، وقال : { وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت لَيَقُولَنَّ الذين كفروا إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } أي : إنكم تنكرونَ هذا الكلام ، وتحكمون بفساد القول بالبعث .
قوله : { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ } مبتدأ وخبر في محلِّ نصبٍ بإسقاطِ الخافضِ؛ لأنَّهُ متعلقٌ بقوله « لِيَبْلُوكُمْ » .
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : كيف جاز تعليقُ فعل البلوى؟ قلتُ : لما في الاختبار من معنى العلم؛ لأنَّه طريقٌ إليه فهو ملابسٌ له كما تقولُ : انظر أيُّهم أحسنُ وجهاً ، واسمع أيُّهم أحسنُ صوتاً؛ لأنَّ النَّظر والاستماع من طرق العلم؛ لأنَّه طريقٌ إليه ، فهو ملابسٌ له ، وقد أخذه أبو حيَّان في تمثيله بقوله : « واسْتمِعْ » فقال : « لَمْ أعلمْ أحداً ذكر أنَّ » استمع « يعلق ، وإنما ذكروا من غير أفعال القُلُوب » سَلْ « ، و » انْظُر « وفي جواز تعليق » رَأى « البصرية خلاف » .
قوله : « ولَئِن قُلْتَ » هذه لامُ التَّوطئة للقسم ، و « ليَقُولنَّ » جوابه ، وحذف جوابُ الشَّرط لدلالة جواب القسم عليه ، و « إنَّكُم » محكيٌّ بالقول ، ولذلك كُسِرَت في قراءةِ الجمهور .
وقرىء بفتحها ، وفيها تأويلان ذكرهما الزمخشري :
أحدهما : أنها بمعنى « لَعَلَّ » قال : من قولهم : ائت السوق أنك تشتري لحْماً ، أي : لعلَّك ، أي : ولئنْ قلت لهم : لعلكم مبعوثون بمعنى توقَّعُوا بعثَكُم وظنُّوه ، ولا تَبُثُّوا القول بإنكاره ، لقالوا .
والثاني : أن تُضَمِّنَ قلت معنى : « ذكَرْتَ » يعني فتفتح الهمزة ، لأنَّها مفعولُ « ذَكَرْتَ » قوله : { إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ } قد تقدَّم أنَّه قُرىء « سِحْر » و « سَاحر » ، فمن قرأ « سِحْرٌ » ف « هذا » إشارةٌ إلى البَعْثِ المدلولِ عليه بما تقدَّم ، أو إشارةٌ إلى القرآن ، لأنَّهُ ناطقٌ بالبعثِ ومن قرأ « سَاحِر » فالإشارةُ ب « هذا » إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ويجوز أن يُرادَ ب « هذا » في القراءة الأولى النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، ويكون جعلوه سِحْراً مبالغةً ، أو على حذف مضاف ، أي : إلاَّ ذُو سحرٍ ، ويجوز أن يراد ب « سَاحِر » نفسُ القرآن مجازاً كقولهم : « شِعرٌ شاعرٌ » و « جَدَّ جَدُّهُ » .
فإن قيل : كيف يمكن وصفُ هذا القول بأنه سِحْرٌ؟
فالجواب : من وجوه .
أحدها : قال القفال : معناه أنَّ هذا القول خديعة منكم ، وضَعْتُمُوهُ لمنع الناس من لذَّاتِ الدنيا وإحرازاً لهم إلى الانقيادِ لكُم والدُّخُول تحت طاعتكم .
وثانيها : أن قولهم { نْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } معناه : أنَّ السِّحر أمرٌ باطلٌ ، قال تعالى حاكياً عن موسى - عليه الصلاة والسلام - { مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ } [ يونس : 81 ] .
وثالثها : أنَّ القرآن هو الحاكمُ بحصول البعثِ ، وطعنُوا في القرآن بكونه سِحْراً ، والطعن في الأصل عين الطعن في الفرع .
ورابعها : قراءة حمزة والكسائي « إن هذا إلاَّ ساحرٌ » والسَّاحرُ كاذبٌ .
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)
قال الحسنُ : حكم الله أنه لا يعذب أحداً من هذه الأمة بعذاب الاستئصال ، وأخَّر ذلك العذاب إلى القيامة؛ فلمَّا أخَّر عنهم ذلك العذاب قالوا على سبيل الاستهزاء : ما الذي حبسهُ عنَّا؟ .
وقيل : المرادُ بالعذاب : ما نزل بهم يوم بدرٍ .
وأصل « الأمَّة » الجماعة ، قال تعالى : { وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس } [ القصص : 23 ] وقوله : { وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ } [ يوسف : 45 ] ، أي : انقضاء أمة ، فكأنَّهُ قال : إلى انقراض أمةٍ ومجيء أخرى .
وقيل : اشتقاق الأمَّةِ من الأمِّ ، وهو القصد ، كأنَّهُ يعني الوقت المقصود بإيقاع الموعود فيه . { لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ } أي شيء يحبسه ، يقولون ذلك ، استعجالاً للعذابِ واستهزاءً ، يعنُون أنه ليس بشيء .
قوله : « لَيَقولُنَّ » هذا الفعلُ معربٌ على المشهورِ؛ لأنَّ النُّون مفصولةٌ تقديراً ، إذ الأصل : « لَيَقُولُوننَّ » النون الأولى للرفع ، وبعدها نونٌ مشددة ، فاستثقل توالي ثلاثةِ أمثال ، فحذفت نونُ الرفع؛ لأنَّها لا تدلُّ من المعنى على ما تدلُّ عليه نون التَّوكيد ، فالتقى ساكنان ، فحذفت الواوُ التي هي ضميرُ الفاعل لالتقائهما ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك .
و « مَا يَحْبِسُهُ » استفهامٌ ، ف « ما » مبتدأ ، و « يَحْبِسُهُ » خبره ، وفاعل الفعل ضميرُ اسم الاستفهام ، والمنصوبُ يعودُ على العذابِ ، والمعنى : أيُّ شيءٍ من الأشياء يحبسُ العذاب؟ قوله : « ألا يَوْمَ يَأتيهِمْ » « يَوْمَ » منصوبٌ ب « مَصْرُوفاً » الذي هو خبرُ « ليس » ، وقد استدلَّ به جمهور البصريين على جواز تقديم خبر « ليس » عليهما ، ووجهُ ذلك أنَّ تقديم المعمول يُؤذن بتقديم العامل ، و « يوم » منصوب ب « مَصْرُوفاً » وقد تقدَّم على « ليس » فليَجُزْ تقديمُ الخبر بطريق الأولى ، لأنَّه إذا تقدَّم الفرعُ فأولى أن يتقدَّم الأصلُ .
وقد ردَّ بعضهم هذا الدليل بشيئين :
أحدهما : أنَّ الظرف يُتوسَّعُ فيه ما لا يتوسَّع في غيره .
والثاني : أنَّ هذه القاعدة مُنْخرمةٌ ، إذ لنا مواضع يتقدَّمُ فيها المعمولُ ولا يتقدم فيها العاملُ ، وأورد من ذلك نحو قوله تعالى : { فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ } [ الضحى : 9 ، 10 ] ف « اليتيمَ » منصوبٌ ب « تَقْهَرْ » ، و « السَّائِل » منصوبٌ ب « تَنْهَرْ » وقد تقدَّما على « لا » النَّاهية ، ولا يتقدَّمُ العاملُ - وهو المجزومُ - على « لا » ، وللبحث في هذه المسألة موضعق أليقُ به .
قال أبُو حيَّان : وقد تتبَّعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقديم خبر « ليسَ » عليها ، ولا بمعموله إلاَّ ما دلَّ عليه ظاهرُ هذه الآية وقول الشاعر : [ الطويل ]
2945- فَيَأبَى فما يَزْدَادُ إلاَّ لجَاجَةً ... وكُنْتُ أبِيّاً في الخَنَى لسْتُ أقْدِمُ
واسمُ « ليس » ضميرٌ عائدٌ على « العذاب » ، وكذلك فاعل « يأتيهم » ، والتقدير : ألا ليس العذاب مصرُوفاً عنهم يوم يأتيهم العذاب .
وحكى أبو البقاءِ عن بعضهم أنَّ العامل في « يَوْمَ يأتيهم » محذوفٌ تقديره : أي : لا يصرفُ عنهم العذابُ يوم يأتيهم ، ودلَّ على المحذوف سياق الكلام .
قال : { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } وذكر « حَاقَ » بلفظ الماضي مبالغة في التَّأكيد والتقرير وأنَّ خبر الله تعالى واقعٌ لا محالة .
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
قوله تعالى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً } الآية .
لما ذكر أنَّ عذاب الكُفَّار وإن تأخَّر لا بد أن يحيق بهم ، ذكر بعدهُ ما يدلُّ على كفرهم ، وعلى كونهم مستحقين لهذا العذاب ، فقال : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان } . وقيل : المراد منه مطلق الإنسان؛ لأنَّه استثنى { إِلاَّ الذين صَبَرُواْ } ؛ ولأنه موافق لقوله تعالى : { إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ } [ العصر : 2 ، 3 ] { إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً } [ المعارج : 19 ] ولأنَّ مزاج الإنسان مجبولٌ على الضَّعف والعجز .
قال ابنُ جريج في تفسير هذه الآية : يا ابنَ آدم إذا نزلت بك نعمةٌ من الله ، فأنت كفورٌ ، وإذا نزعت منك فيئوسٌ قنوط .
وقيل : المرادُ به الكافر؛ لأنَّ الأصل في المفرد المعرف بالألف واللاَّم أن يعود على المعهود السَّابق إلاَّ أن يمنع مانع منه ، وههنا لا مانع؛ فوجب حمله على المعهود السابق ، وهو الكافر المذكور في الآية المتقدمة .
وأيضاً فالصِّفاتُ المذكورة في الإنسان هنا لا تليقُ إلاَّ بالكافر؛ لأنَّهُ وصفهُ بكونه كفوراً ، وهو تصريح بالكفر ، ووصفه عند وجدان الراحة بقوله : { ذَهَبَ السيئات عنيا } وذلك جزاءة على الله تعالى ، ووصفه بكونه فرحاً { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين } [ القصص : 76 ] وصفه بكونه فخوراً ، وذلك ليس من صفات أهل الدِّين . وإذا كان كذلك؛ وجب حمل الاستثناء المذكور في هذه الآية على الاستثناء المنقطع . واعلم أنَّ لفظ « الإذَاقة والذَّوق » يفيدُ أقل ما يوجدُ من الطَّعم ، فكان المراد أنَّ الإنسان بوجدان أقل القليل من الخير في العاجلة يقعُ في الكفر والطُّغيان وبإدراك أقل القليل من البلاءِ يقع في اليأس والقنوط ، قال تعالى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً } نعمة وسعة { ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ } سلبناها منه { إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } في الشِّدة كفور بالنعمة .
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ } قال الوَاحديُّ : النَّعْمَاء إنعام يظهر أثرهُ على صاحبه ، والضَّرَّاءُ مضرَّةٌ يظهر أثرها على صاحبها؛ لأنَّها أخرجت مخرج الأحوال الظاهرة نحو : حمراء وسوداء ، وهذا هو الفرق بين النِّعمةِ والنَّعماء ، والمضرة والضَّراء .
والمعنى : إذا أذقناه نعمة بعد بلاء أصابه : { لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عنيا } زالت الشَّدائدُ عنِّي ، إنَّهُ لفرحٌ فخورٌ أشر بطر ، والفرح : لذَّة في القلب بنيل المشتهى . والفخرُ : هو التطاول على الناس بتعديد المناقب ، وذلك منهيٌّ عنه .
فصل
اعلم أنَّ أحوال الدنيا أبداً في التَّغير والزَّوال ، والتحوُّل والانتقال ، فإمَّا أن يتحوَّل الإنسانُ من النِّعمة إلى المِحْنةِ أو العكس .
فأمَّا الأوَّلُ : فهو المراد بقوله عز وجل : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } [ هود : 9 ] أي أنه حال زوال تلك النعمة يصير يَئُوساً؛ لأنَّ الكافر يعتقدُ أنَّ السبب في حصول تلك النِّعمة سببٌ اتفاقي ، ثُمَّ إنه يستبعد حدوث ذلك الاتفاق مرة أخرى ، فلا جرم يسبعد تلك النعمة فيقع في اليأسِ .
وأمَّا المسلمُ ، فيعتقد أنَّ تلك النِّعمة إنَّما حصلت من فضل الله وإحسانه ، فلا ييأس ، بل يقول لعلَّه يؤخِّرها إلى ما هو أحسن ، وأكمل ممَّا كانت ، وأمَّا الإنسان يكونُ كفوراً حال تلك النعمة ، فإنَّ الكافر لمَّا اعتقد أنَّ حصولها كان على سبيل الاتفاق ، أو أنَّهُ حصلها بجدِّه واجتهاده ، فحينئذٍ لا يشتغل بشكرِ الله على تلك النِّعمة والمسلم يشكر الله تعالى .
والحاصلُ أنَّ الكافر يكون عند زوال النِّعمة يئوساً وعند حصولها كفوراً .
وأمَّا انتقال الإنسان من المحنة إلى النِّعمة ، فالكافرُ يكون فرحاً فخوراً؛ لأنَّ منتهى طبع الكافر هو الفوزُ بهذه السَّعادات الدُّنيوية ، وهو منكرٌ للسعادات الأخرويَّة .
قوله : « لفرحٌ » قرأ الجمهو بكسر الرَّاءِ ، وهو قياسُ اسم الفاعل من « فَعِلَ » اللاَّزم بكسر العين نحو : أشِرَ فهو أشِرٌ ، وبَطِرَ فهو بَطِرٌ ، وقرئ شاذاً « لَفَرُحٌ » بضمِّ الرَّاء نحو : يَقِظٌ ويَقُظٌ ، وندِس وندُس .
قوله : { إِلاَّ الذين صَبَرُواْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّهُ منصوبٌ على الاستثناء المتَّصل ، إذا المرادُ به جنس الإنسان لا واحدٌ بعينه .
والثاني : أنَّهُ منقطعٌ ، إذ المراد بالإنسان شخصٌ معينٌ ، وهو على هذين الوجهين منصوبُ المحلِّ .
والثالث : أنه مبتدأ ، والخبر الجملة من قوله : { أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ } وهو منقطعٌ أيضاً . والمعنى : أنَّ هؤلاء لا يكُونُون عند البلاء من الصَّابرين وعند الرَّاحةِ والخير من الشَّاكرين .
قال الفراء : هو استثناءٌ منقطع معناه : لكن الذين صبروا وعملوا الصَّالحات؛ فإنَّهم إن يأتهم شدة صبروا ، وإن نالوا نعمة شكروا .
ثم قال : { أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ } يجوزُ أن يكون « مَغْفِرةٌ » مبتدأ ، و « لهُم » الخبرُ ، والجملة خبر « أولئكَ » ، ويجوز أن يكون « لَهُم » خبر « أولئكَ » و « مَغْفِرَةٌ » فاعلٌ بالاستقرار . فجمع لهم بين شيئين :
أحدهما : زوال العقاب بقوله : « لَهُم مَغْفرةٌ » والثاني : الفوز بالثَّواب بقوله « وأجْرٌ كبيرٌ » .
قوله : « فَلَعَلَّكَ » الأحسنُ أن تكون على بابها من التَّرجِّي بالنسبة إلى المخاطب .
وقيل : هي للاستفهام كقوله - صلوات الله وسلامه عليه - « لعلَّنا أعْجلنَاكَ » .
فإن قيل : « فَلعَلَّك » كلمة شك فما فائدتها؟ .
فالجوابُ : أنَّ المراد منها الزَّجرُ ، والعرب تقول للرجلُ إذا أرادوا إبعاده عن أمر : لعلك تقدر أن تفعل كذا مع أنَّهُ لا شك فيه ، ويقول لولده : لعلك تقصر فيما أمرتك ، ويريد توكيد الأمر فمعناه لا تترك .
وقوله : « وضَائِقٌ » نسقٌ على « تَاركٌ » ، وعدل عن « ضيِّق » وإن كان أكثر من « ضائق » .
قال الزمخشريُّ : ليدُلَّ على أنَّهُ ضيِّق عارضٌ غيرُ ثابتٍ ، ومثله سيدِّ وجواد - تريد السِّيادة والجود الثَّابتين المستقرين - فإذا أردت الحدوث قلت : سائِدٌ وجائدٌ .
قال أبُو حيَّان : وليس هذا الحكمُ مختصّاص بهذه الألفاظ؛ بل كلُّ ما بني من الثلاثي للثبوتِ والاستقرارِ على غير فاعل رُدَّ إليه إذا أريد به معنى الحدوث تقول : حَاسِن وثَاقِل وسامِن في : « حَسُن وثقُلَ وسمُن » ؛ وأنشد قول الشاعر : [ الطويل ]
2946- بمَنْزِلَةٍ أمَّا اللَّئِيمُ فسَامِنٌ ... بهَا وكرامُ النَّاسِ بادٍ شُحُوبُهَا
وقيل : إنَّما عدل عن « ضيِّق » إلى « ضَائِقٌ » ليناسب وزن « تَارِكٌ » .
والهاءُ في « به » تعود على « بعض » . وقيل : على « ما » . وقيل : على التَّكذيب و « صَدْرُكَ » مبتدأ مؤخَّرٌ ، والجملةُ خبرٌ عن الكاف في « لعَلَّكَ » ؛ فيكون قد أخبر بخبرين :
أحدهما : مفرد ، والثاني : جملة عطفت على مفردٍ ، إذ هي بمعناه ، فهو نظير : « إنَّ زيداً قائمٌ ، وأبوه منطلقٌ » .
قوله : « أن يقُولُوا » في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ على الخلاف المشهور في « أنَّ » بعد حذف حرف الجرِّ أو المضاف ، تقديره : كراهة أو مخافة أن يقولوا ، أو لئلاَّ يقولوا ، أو بأن يقولوا .
وقال أبو البقاء : لأن يقُولُوا أي : لأن قالوا ، فهو بمعنى الماضي وهذا لا حاجة إليه ، وكيف يُدَّعى ذلك فيه ومعه ما هو نصٌّ في الاستقبال وهو الناصب؟ .
و « لَوْلاَ » تحضيضيةٌ ، وجملة التَّحضيض منصوبةٌ بالقول .
فصل
المعنى : فلعلَّك يا محمد تارك بعض ما يوحى إليك ، فلا تبلغة إيَّاهم ، وذلك أن كفار مكة قالوا : ائتِ بقرآن غير هذا ، ليس فيه سب آلهتنا ، فهمَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم - أن يدع آلهتهم ظاهراً؛ فأنزل الله تعالى : { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ } يعنى سب الآلهة : { وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ } أي : ولعلَّ يضيق صدرك { أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ } يصدِّقه ، قاله عبد الله بنُ أميَّة المخزُومي .
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّ رؤساء مكَّة قالوا : يا محمد : اجعل لنا جبال مكة ذهباً إن كنت رسولاً ، وقال آخرون : ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوتك ، فقال : لا أقدر على ذلك فنزلت هذه الآية .
وأجمع المسلمون على أنَّهث لا يجوزُ على الرسول - عليه الصلاة والسلام - أن يخُون في الوَحْي والتبليغ ، وأن يترك بعض ما يوحى إليه؛ لأنَّ تجويزه يُؤدِّي إلى الشَّك في كل الشرائع وذلك يقدحُ في النبوةِ ، وأيضاً فالمقصودُ من الرِّسالة تبليغ التكاليف ، والأحكام ، فإنه لم تحصل هذه الفائدة فقد خرجت الرسالة عن أن تفيد فائدتها .
وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون المرادُ من قوله : { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ } شيئاً آخر سوى أنه فعل ذلك . وذكروا فيها وجوهاً أخر ، قيل : إنَّهم كانوا لا يقبلون القرآن ويتهاونون به ، فكان يضيق صدر الرسول - عليه الصلاة والسلام - أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه ، فأهله الله لأداء الرِّسالة ، وطرح المبالاة بكلماتهم الفاجرة ، وترك الالتفات إلى استهزائهم ، والغرض منه التنبيه على أنه إذا أدَّى ذلك الوحي وقع في سفاهتهم ، وإن لم يُؤد ذلك وقع في ترك وحي الله - تعالى - وفي إيقاع الخيانةِ ، وأنه لا بد من تحمل أحد الضَّررين؛ فتحمل ضرر سفاهتهم أسهل من تحمل الخيانة في وَحْي الله ، والرغض من ذكر هذا الكلام : التنبيهُ على هذه الدقيقة؛ لأنَّ الإنسان إذا علم أنَّ كلَّ واحدٍ من طرفي الفعل والترك مشتملٌ على ضررٍ عظيم ، على أنَّ الضرر في جانب الترك أعظم وأقوى سهل عليه ذلك الفعل وخف .
فإن قيل : الكنز كيف ينزل؟
فالجواب : أنَّ المراد ما يكنز ، وجرت العادة على أنَّ المال الكثير يسمَّى كنزاً ، فقال القومُ : إن كنت صادقاً في أنَّك رسول الله الذي تصفه بالقدرة على كلِّ شيء وأنك عزيزٌ عنده فهلاَّ أنزل عليك ما تستغني به في مهماتك وتعين أنصارك ، وإن كنت صادقاً فهلاَّ أنزل الله معك ملكاً يشهد لك على صدق قولك ، ويعينك على تحصيل مقصودك وتزول الشبهة في أمرك ، فلمَّا لم يفعل لك ذلك فأنت غير صادقٍ ، فبيَّن الله تعالى أنَّهُ رسول ينذر بالعقاب ويبشر بالثَّواب وليس له قدرة على إيجاد هذه المطلوبات ، والذي أرسله هو القادرُ على ذلك فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ، ولا اعتراض لأحدٍ عليه .
ومعنى « وكيلٌ » : حفيظ أي : يحفظُ عليهم أعمالهم ، حتى يجازيهم بها ، ونظير هذه الآية ، قوله تعالى : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] إلى قوله : { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 93 ] .
قوله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } [ هود : 13 ] .
لمَّا طلبوا منه المعجز قال : معجزتي هذا القرآن ، فلمَّا حصل المعجز الواحد كان طلب الزِّيادة بغياً وجهلاً .
و في « أمْ » هذه وجهان :
أحدهما : أنها منقطعةٌ فتقدَّر ب « بَلْ » والهمزة ، فالتقدير : بل أتقولون افتراه . والضمير في « افتراهُ لما يوحى .
والثاني : أنَّها متصلة ، فقدَّروها بمعنى : أيكفرون بما أوحينا إليك من القرآن أم يقولون إنَّهُ ليس من عند الله؟
قوله » مِثْلِهِ « نعت ل » سُورٍ « و » مثل « وإن كانت بلفظ الإفراد فإنه يوصف بها المثنى والمجموع والمؤنث ، كقوله تعالى : { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } [ المؤمنون : 74 ] ويجوز المطابقة . قال تعالى : { وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ } [ الواقعة : 22 ، 23 ] وقال تعالى : { ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم } [ محمد : 38 ] .
قال ابن الخطيب : » مِثلِهِ « بمعنى » مثاله « حملاً على كُلِّ واحدة من تلك السور ، ولا يبعد أيضاً أن يكون المرادُ المجموع؛ لأنَّ مجموع السور العشرة شيء واحد . والهاء في » مِثْلِهِ « تعود لما يوحى أيضاً ، و » مُفْترياتٍ « صفة ل » سُورٍ « جمع » مُفْتراة « ك » مُصْطفيَات « في » مُصْطَفاة « فانقلبت الألفُ ياءً كالتثنية .
فصل
قال ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما - هذه السور التي وقع بها التَّحدي سور معينه ، هي سورة البقرة وآل عمران والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة ، ويونس وهود ، فقوله عز وجل : { فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } الإشارة إلى هذه السور وهذا فيه إشكال ، لأنَّ هذه السُّورة مكية ، وبعض السُّور المتقدمة مدنية ، فكيف يمكنُ أن يكون المراد هذه العشر عند نزول هذا الكلام؟ فالأولى أن يقال التحدي وقع بمطلق السور .
فإن قيل : قد قال في سورة يونس { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ } [ يونس : 38 ] وقد عجزوا عنهُ . فكيف قال { فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ } فهو كرجل يقول لآخر : أعطني درهماً؛ فيعجز ، فيقول : أعطني عشرة؟ .
فالجوابُ : قد قيل : نزلت سورة هودٍ أولاً ، وأنكر المبردُ هذا وقال : بل سورة يونس أولاً ، وقال : ومعنى قوله في سورة يونس : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ } [ يونس : 38 ] أي : مثله في الإخبار عن الغيب ، والأحكام ، والوعد والوعيد ، فعجزوا ، فقال لهم في سورة هودٍ : إن عجزتم عن الإتيان بسورة مثله في الإخبار ، والأحكام ، والوعد ، والوعيد ( فأتوا بعشر سور مثله ) من غير وعْدٍ ووعيدٍ ، وإنما هي مجرد بلاغة .
فصل
اختلفوا في الوجه الذي كان القرآن لأجله معجزاً ، فقيل : هو الفصاحةُ وقيل : الأسلوب ، وقيل : عدم التناقض ، وقيل : اشتمالهُ على الإخبار عن الغيوبِ ، والمختار عند الأكثرين أن القرآن معجز من جهة الفصاحة ، واستدلُّوا بهذه الآية ، لأنَّهُ لو كان إعجازه هو كثرة العلوم ، أو الإخابر عن الغيوب ، أو عدم التناقض لم يكن لقوله : « مفترياتٍ » معنى ، أمَّا إذا كان وجه الإعجاز هو الفصاحة صحَّ ذلك؛ لأنَّ فصاحة الفصيح تظهر بالكلام ، سواء كان الكلام صدقاً أو كذباً ، ثم إنه لمَّا قرر وجه التحدِّي قال : { وادعوا مَنِ استطعتم } واستعينوا بمن استطعتم { وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ } يا أصحاب محمد ، وقيل : لفظه جمع والمراد به الرسول - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه وحده - والمرادُ بقوله : { فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ } أي : الكفار ، يحتمل أنَّ من يدعونه من دون الله لمْ يَسْتَجِيبُوا .
قوله : { فاعلموا أَنَّمَآ أُنزِلِ } « ما » يجوز أن تكون كافة مهيئة ، وفي « أنزِلَ » ضميرٌ يعودُ على { مَا يوحى إِلَيْكَ } [ هود : 12 ] ، و « بعلْم » حال أي : ملتبساً بعلمه ، ويجوز أن تكون موصولة اسمية أو حرفية اسماً ل « أنّ » والخبرُ الجارُّ تقديره : فاعلموا أن تنزيله ، أو أن الذي أنزل ملتبسٌ بعلمٍ .
وقرأ زيد بن علي « نزَّل » بفتح النون والزاي المشددة ، وفاعل « نزَّل » ضميرُ الله تعالى ، و { وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ } نسقٌ على « أنَّ » قبلها ، ولكن هذه مخففةٌ فاسمها محذوفٌ ، وجملة النَّفي خبرها .
فصل
إن قلنا هذا خطاب للمؤمنين ، فالمعنى : ابقوا على العلم الذي أنتم عليه؛ لتزدادوا يقيناً وثبات قدمٍ ، على أنه منزَّل من عند الله .
وقوله : { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } أي : مخلصون ، وقيل : فيه إضمار ، أي : فقولوا أيُّها المسلمون للكفار : اعلموا أنَّما أنزل بعلم الله ، يعني القرآن .
وقيل : أنزله ، وفيه علمه ، وإن قيل : إن هذا الخطاب مع الكفار ، فالمعنى : إن الذين تدعونهم من دون الله ، إذا لم يستجيبوا لكم في الإعانة على المعارضة ، فاعلموا أيها الكفار؛ أن هذا القرآن ، إنما أنزل بعلمه ، فهل أنتم مسلمون ، فقد وقعت الحجة عليكم ، وأن لا إله إلا هو ، فاعلموا أنَّهُ لا إله إلا هُو .
{ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } لفظهُ استفهام ، ومعناه أمر ، أي : أسلموا .
قال بعض المفسِّرين : وهذا القول أولى؛ لأن القول الأول يحتاج فيه إلى إضمار القول ، وهذا لا يحتاج إلى إضمار ، وأيضاً : فعود الضمير إلى أقرب مذكور أولى ، وأيضاً : فالخطابُ الأول كان مع الكفار بقوله : { مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله } ، وأيضاً فالأول أمر بالثبات .
فإن قيل : أين يعلَّق الشرط المذكور في هذه الآية ، وأين ما فيها من الجزاء؟
فالجواب : أن القوم ادعوا كون القرآن مفترًى على الله تعالى ، فقال : لو كان متفرًى على الله تعالى ، لوجب أن يقدر الخلقُ على مثله ، ولما لم يقدروا عليه ، ثبت أنَّهُ من الله ، فقوله ( إنا أنزل بعلم الله ) : كنايةٌ عن كون من عند الله ، ومن قبله؛ كما يقول الحاكم : هذا الحكم جدير بعلمي .
فإن قيل : أي تعلُّق لقوله : { وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ } بعجزهم عن المعارضة؟ .
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أنه تعالى لمَّا أمر محمداً - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - بأن يطلب من الكفار ان يستعينوا بالأصنامِ في تحقيق المعارضة ثم ظهر عجزهم عنها فحينئذ ظهر أنَّها لا تنفعُ ولا تضرُّ في شيءٍ من المطالب ألبتة ، ومن كان كذلك ، فقد بطلت إلهيته ، فصار عجزُ القوم عن المعارضة بعد الاستعانة بالأصنام مبطلاً لإلهية الأصنام ، ودليلاً على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم ، فكان قوله : { وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ } إشارة إلى ظهور فسادِ إلاهيَّة الأصنام .
وثانيها : أنَّهُ ثبت في علم الأصول أنَّ القول بنفي الشَّريك عن الله من المسائل التي يمكن إثباها بقول الرَّسُول - صلوات الله وسلام عليه - فكأنَّهُ قيل : لمَّا ثبت عجزُ الخصوم عن المعارضة ثبت كون القرآن حقاً ، وثبت كون قول محمد صدقاً في دعوى الرِّسالةِ .
وإذا ثبت ذلك فأعلمهم يا محمد أن لا إله إلا هو ، واتركُوا الإصرار على الكفر ، واقبلوا الإسلام . ونظيره قوله تعالى - في سورة البقرة عند ذكر آية التحدِّي - { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [ البقرة : 24 ] .
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
قوله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا } الآية .
قيل : إنَّها مختصةٌ بالكُفَّار لقوله : { أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ هود : 16 ] وهذا ليس إلاَّ للكفار ، فيكون التقدير : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فقط ، أي : تكون إرادته مقصورةٌ على حُبِّ الدنيا وزينتها ، ومن طلب السعادات الأخرويَّة كان حكمه كذا وكذا .
واختلف القائلون بهذا القول فقال الأصم : المرادُ مُنْكِرُو البعث فإنَّهم ينكرون الغنائم من غير أن يؤمنوا بالآخرة .
وقال أنس - رضي الله عنه - : المرادُ اليهود والنَّصارى .
وقال القاضي : المراد من كان يريدُ بعمل الخير الحياة الدنيا وزينتها .
وعمل الخير قسمان :
العبادات وإيصال المنفعة إلى الحيوان كالبر ، وصلة الرَّحمِ ، والصَّدقة ، وبناء القناطر ، وتسوية الطرق ، ودفع الشر ، وإجراء الأنهار ، فهذه الأشياء إذا أتى بها الكافرُ لأجل الثناء في الدُّنيا ، فإنَّ بسببها تصل الخيرات والمنافع إلى المحتاجين ، وهي من أعمال الخير ، فقد تصدرُ من المسلم والكافر .
وأمَّا العباداتُ فإمَّا أن تكون طاعات بنيَّاتٍ مخصوصة ، فإذا لمْ يؤتَ بتلك النِّية ، وإنَّما أتى فاعلها بها طلباً لزينة الدنيا ، وتحصيل الرِّياء والسمعةِ؛ فلا تكونُ طاعةً ووجودها كعدمها بل هو شر منها .
وعلى هذا فالمرادُ منه الطَّاعات التي يصحُّ صدورها من الكفار .
وقيل : الآية على ظاهرها في العموم؛ فيندرج فيه المؤمنُ الذي يأتِي بالطَّاعات رياءً وسمعةً ويندرج فيه الكافرُ الذي هذا صفته .
ويشكلُ على هذا قوله في آخر الآية { أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار } إلاَّ إذا قلنا : إنَّ المراد : أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار بسبب الأعمال الفاسدة ، والأفعال الباطلة .
والقائلون بهذا القول أكَّدُوا قولهم بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - « تعوَّذُوا بالله من جُبِّ الحُزْنِ » قيل : وما جُبُّ الحُزنِ؟ قال : « وادٍ في جَهَنَّمَ يُلْقَى فيه القُرَّاء المُراءُونَ » .
وقال - صلوات الله وسلامه عليه - : « أشدُّ النَّاسِ عذاباً يوْمَ القيامةِ مَنْ يَرَى النَّاسُ فيه خَيْراً ولا خَيْرَ فِيهِ » .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا كَانَ يَوْمَ القيامةِ يُؤتى برجُلٍ جَمَعَ القرآنَ فيقالُ : ما عَمِلْتَ فيه؟ فيقولُ : يا رب قُمْتُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ ، والنَّهَارِ ، فيقُول الله - تبارك وتعالى - كذبْتَ بَلْ أرَدْتَ أن يقالَ : فلانٌ قارىءٌ ، وقدْ قِيل ذلِكَ ، ويُؤتى بصاحبِ المَالِ فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ ألَمْ أوسِّعْ عليكَ؟ فماذا عَمِلْتَ فيما آتَيْتُكَ؟ فيقُولُ : وصَلْتُ الرَّحِمَ وتصدَّقْتُ ، فيقُولُ : كذَبْتَ بَلْ أرَدْتَ أن يقال فلانٌ جوادٌ ، وقد قِيلَ ذلك ، ويُؤتى بمن قُتِلَ في سبيل الله فيقول : قاتَلْتُ في سَبِيل اللهِ حتَّى قُتِلْتُ ، فيقُولُ اللهُ عزَّ وجلَّ كذبْتَ بَلْ أرَدْتَ أن يقال : فلانٌ فارسٌ » .
ثم ضربَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم ركبتي وقال : « يا أبا هريرة أولئك الثَّلاثةُ أوَّلُ خَلْقٍ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْم القِيامَةِ » .
وقد روي أن أبا هريرة - رضي الله عنه - ذكر هذا الحديث عند معاوية - رضي الله عنه - . قال الراوي : فبكى حتَّى ظننا أنَّهُ هالك ثمَّ أفاق وقال : صدق الله ورسوله { مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } [ هود : 15 ] .
فصل
نقل القرطبيُّ عن بعض العلماء :
أنَّ معنى هذه الآية : هو قوله صلى الله عليه وسلم : « إنَّما الأعمالُ بالنِّياتِ » ، وهذا يدلُّ على من صام في رمضان لا عن رضمان لا يقعُ عن رمضان ، وتدلُّ على أن من توضَّأ للتبرد والتنظف لا يقعُ عن جهة الصَّلاةِ ، وكذلك كل من كان في معناه .
قوله : « نُوَفِّ » .
الجمهور على « نُوفِّ » بنون العظمة وتشديد الفاء من « وفَّى يُوفِّي » .
وطلحة وميمون بياءِ الغيبةِ ، وزيد بن علي كذلك ، إلاَّ أنَّه خفَّف الفاء من « أوْفَى يُوفِي » ، والفاعلُ في هاتين القراءتين ضميرُ الله تعالى .
وقرئ « تُوفَّ » بضم التاء ، وفتح الفاء مشددة من « وُفِّيَ يُوَفَّى » مبنياً للمفعول .
« أعْمَالهم » بالرَّلإع قائماً مقام الفاعل . وانجزم « نُوَفِّ » على هذه القراءاتِ لكونه جواباً للشَّرطِ ، كما في قوله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا } [ الشورى : 20 ] .
وزعم الفرَّاء أنَّ « كان » هذه زائدة ، ولذلك جزم جوابه ، ولعلَّ هذا لا يصحُّ ، إذ لو كانت زائدة لكان « يُرِيدُ » هو الشَّرط ، ولو كان الشَّرط ، لانجزم ، فكان يقال : « مَنْ كَان يُرِدْ » وزعم بعضهم أنه لا يؤتى بفعل الشَّرط ماضياً ، والجزاء مضارعاً إلاَّ مع « كان » خاصة ، ولهذا لم يجىء في القرآن إلا كذلك ، وهذا ليس بصحيح لوروده في غير « كان » ؛ قال زهير : [ الطويل ]
2947- ومَنْ هَابَ أسْبابَ المنَايَا يَنَلْنَهُ ... ولو رَامَ أسبابَ السَّمَاءِ بسُلَّمِ
وأمَّا القرآنُ فجاء من باب الاتفاق لذلك .
وقرأ الحسنُ « نُوفِي » بتخفيف الفاء وثبوتِ الياء من « أوْفَى » ، ثمَّ هذه القراءةُ محتملةٌ : لأن يكون الفعل مجزوماً ، وقُدِّر جزمه بحذفِ الحركةِ المقدرة؛ كقوله : [ الوافر ]
2948- ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي ... بِمَا لاقَتْ لبُونُ بَنِي زِيادِ
على أنَّ ذلك يأتي في السَّعةِ نحو : { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ } [ يوسف : 90 ] وسيأتي مُحَرَّراً في سورته ، ويحتمل أن يكون الفعل مرفوعاً لوقوع الشَّرط ماضياً؛ كقوله : [ الطويل ] .
2949- وإنْ شُلَّ ريْعَانُ الجَميعِ مَخَافَةً ... نَقُولُ جِهَاراً : ويْلَكُمْ لا تُنَفِّرُوا
وكقول زهير : [ البسيط ]
2950- وإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألةٍ ... يقُولُ لا غَائِبٌ مالِي ولا حَرِمُ
وهل يجوزُ الرفع؛ لأنه على نيَّة التقديم ، وهو مذهب سيبويه ، أو على نيَّة الفاءِ ، كما هو مذهب المبرد؛ خلافٌ مشهورٌ .
ومعنى { نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } أي : نُوفِّ إليهم أجور أعمالهم في الدنيا بسعةِ الرزق ودفع المكاره وما أشبهها .
{ وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } أي : في الدنيا لا ينقص حظهم .
« روى أنس - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرف ومجد وكرم وبجل وعظم قال : » إنَّ الله لا يَظْلِمُ المؤمنَ حَسَنَةً يُثاب عليْهَا الرزقَ في الدُّنيا ، ويُجْزَى عليها فِي الآخِرةِ ، وأمَّا الكَافِرُ فيُطْعَمُ بِحسنَاتِهِ في الدُّنْيَا حتَّى إذا أفْضَى إلى الآخرةِ لمْ تَكُنْ لهُ حَسَنَةٌ يُعْطَى بها خَيْراً « .
قوله تعالى : { أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا } في الدنيا { وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } هذه الآية إشارة إلى التَّخليد في النَّار ، والمؤمن لا يخلدُ ، لقوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] .
قوله : { وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا } يجوز أن يتعلَّق » فِيهَا « ب » حَبِطَ « والضميرُ على هذا يعودُ على الآخرة ، أي وظهر حبوطُ ما صنعوا في الآخرة ، ويجوزُ أن يتعلَّق ب » صَنَعُوا « فالضَّميرُ يعودُ على الحياةِ الدُّنيا كما عاد عليها في قوله : { نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } [ هود : 15 ] .
و » ما « في » مَا صَنَعُوا « يجوز أن تكون بمعنى الذي ، فالعائدُ محذوفٌ ، أي : الذي صنعوه ، وأن تكون مصدرية ، أي : وحبط صنعهم .
قوله : { وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } قرأ الجمهورُ برفع الباطل ، وفيه ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أن يكون » بَاطِلٌ « خبراً مقدماص ، و » مَا كانُوا يَعْمَلُون « مبتدأ مؤخَّر ، و » ما « تحتملُ أن تكون مصدرية ، أي : وباطلٌ كونهم عاملين ، وأن تكون بمعنى » الذي « والعائدُ محذوفٌ ، أي : يعملونه ، وهذا على أنَّ الكلام من عطف الجملِ ، عطف هذه الجملة على ما قبلها .
الثاني : أن يكون » باطل « مبتدأ ، و » مَا كانُوا يَعْمَلُون « خبرهُ ، قال مكي ، ولم يذكر غيره ، وفيه نظر .
الثالث : أن يكون » بَاطِلٌ « عطفاً على الأخبار قبله ، أي : أولئك باطلٌ ما كانوا يعملون و » ما كانُوا يَعْمَلُونَ « فاعلٌ ب » بَاطِلٌ « ، ويرجح هذا ما قرأ به زيد بن علي » وبَطَلَ ما كانُوا يَعملُونَ « جعله فعلاً ماضياً معطوفاً على » حَبطَ « .
وقرأ أبيّ وابن مسعود : » وبَاطلاً « .
قال مكيّ : » وهي في مصحفهما كذلك « .
ونقلها الزمخشري عن عاصم » وبَاطِلاً « نصباً ، وفيها ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنَّه منصوبٌ ب » يَعْمَلُون « و » ما « مزيدة ، وإلى هذا ذهب مكي ، وأبو البقاءِ وصاحب اللوامح ، وفيه تقديمُ معمولِ خبر » كان « على » كان « وهي مسألةُ خلافٍ ، والصحيحُ جوازها ، كقوله تعالى
{ أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } [ سبأ : 40 ] ، فالظاهرُ أنَّ « إيَّاكُمْ » منصوب ب « يَعْبُدُون » .
والثاني : أن تكون « ما » إبهامية ، وتنتصب ب « يَعْمَلُون » ومعناه : « باطلاً أي باطلٍ كانُوا يَعْمَلُون » .
والثالث : أن يكون « بَاطِلاً » بمعنى المصدر على بطل بُطلاناً ما كانوا يعملون ، ذكر هذين الوجهين الزمخشري ، ومعنى قوله « ما » إبهامية أنها هنا صفةٌ للنَّكرة قبلها ، ولذلك قدَّرها ب « باطلاً أيَّ باطلٍ » فهو كقوله : [ المديد ]
2951- . ... وحَديثٌ ما عَلَى قِصَرِهْ
و « لأمرٍ ما جدعَ قصيرٌ أنفهُ » ، وقد قدَّم هو ذلك في قوله تعالى : { مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً } [ البقرة : 26 ] .
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)
قوله تعالى : { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } الآية .
وتقدير تعلقهما بما قبلها : ( أفمن كان على بينة من ربه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها ) .
وقوله : { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه مبتدأ والخبر محذوفٌ ، تقديره : أفمن كان على هذه الأشياء كغيره ، كذا قدَّرهُ أبو البقاءِ ، وأحسن منه ( أفمن كان كذا كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها ) وحذف المعادل الذي دخلت عليه الهمزة كثيرٌ نحو : { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ } [ فاطر : 8 ] ، { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ } [ الزمر : 9 ] إلى غير ذلك ، وهذا الاستفهام بمعنى التقرير .
الثاني : - وإليه نحا الزمخشري - أن هذا معطوفٌ على شيءٍ محذوفٍ قبله ، تقديره : « أمن كان يريد الحياة الدنيا ، وزينتها كمن كان على بينةٍ » ، أي : لا يعقبونهم في المنزلة ولا يقاربونهم .
يريد : أن بين الفريقين تفاوتاً ، والمراد من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام ، وهذا على قاعدته من تقديره معطوفاً بين همزة الاستفهام ، وحرفِ العطفِ ، وهو مبتدأ أيضاً ، والخبر محذوفٌ كما تقدم تقريره .
قوله : « ويَتْلُوهُ » اختلفوا في هذه الضمائر ، أعني في « يَتْلوهُ » ، وفي « مِنْهُ » ، وفي « قَبْلِهِ » : فقيل : الهاء في « يَتْلُوهُ » تعودُ على « مَنْ » ، والمراد به النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، وكذلك الضميران في « مِنْهُ » ، و « قَبلهِ » ، والمراد بالشَّاهد لسانه صلى الله عليه وسلم والتقدير : ويتلو ذلك الذي على بيِّنةٍ ، أي : ويتلو محمَّداً - أي : صِدْقَ محمدٍ - لسانه « ومِنْ قَبْلِهِ » أي : قبل محمد صلى الله عليه وسلم .
وقيل : الشَّاهدُ جبريلُ - عليه الصلاة والسلام - والضميرُ في « مِنْهُ » لله - تعالى - ، وفي قبله للنبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : الشَّاهدُ الإنجيلُ ، و « كِتابُ مُوسَى » - عليه الصلاة والسلام - عطف عى « شاهدٌ » ، والمعنى : أنَّ التوراة والإنجيل يتلُوان محمداً في التَّصديق ، وقد فصل بين حرف العطف والمعطوف بقوله : « مِنْ قَبْلِهِ » ، والتقدير : شاهدٌ منهُ ، وكتابُ موسى من قبله ، وقد تقدَّم الكلامُ على الفصلِ بين حرفِ العطفِ ، والمعطوفِ مُشْبَعاً في النِّساءِ [ 58 ] .
وقيل : الضميرُ في « يتْلوهُ » للقرآن ، وفي « مِنْهُ » لمحمدٍ - صلوات الله وسلامه عليه - .
وقيل : لجبريل ، والتقدير : ويتلو القرآن شاهدٌ من محمدٍ ، وهو لسانهُ ، أو من جبريل والهاء في « مِنْ قبلِهِ » أيضاً للقرآن .
وقيل الهاءُ في « يَتْلُوهُ » تعودُ على البيانِ المدلولِ عليه بالبيِّنة .
وقيل : المرادُ بالشَّاهدِ إعجازُ القرآنِ ، فالضَّمائر الثلاثة للقرآن . وقيل غير ذلك .
وقرأ محمد بن السَّائب الكلبي « كِتابَ مُوسَى » بالنَّصْب وفيه وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ معطوفٌ على الهاءِ في « يَتْلوهُ » ، أي : يتلوه ، ويتلو كتابَ مُوسَى ، وفصل بالجارِّ بين العاطفِ والمعطوف .
والثاني : أنَّهُ منصوبٌ بإضمار فعلٍ . قال أبُو البقاء : « وقد تمَّ الكلامُ عند قوله » منهُ « و » كتابُ مُوسَى « ، أي : » ويتلُو كتابَ مُوسَى « فقدَّر فعلاً مثل الملفُوظ به ، وكأَنَّهُ لَمْ يَرَ الفصل بين العاطف والمعطوف ، فلذلك قدَّر فعلاً » .
و « إماماً ورحمةً » منصوبان على الحالِ من « كِتابُ مُوسَى » سواءً أقرىء رفعاً أم نَصْباً .
و « أولئك » إشارةٌ إلى مَنْ كان على بيِّنة ، جمع على معناها ، وهذا إن أريد ب « مَنْ كَانَ » النبيُّ وصحابته - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه ، ورضي عن صحابته أجمعين - وإن أريد هو وحدهُ فيجوزُ أن يكون عظَّمَهُ بإشارة الجمع كقوله : [ الطويل ]
2952- فإنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّساءَ سِواكُمُ .. . .
والهاءُ في « بِهِ » يجوزُ أن تعود على « كِتَابُ مُوسَى » وهو أقربُ مذكورِ . وقيل : بالقرآن ، وقيل : بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وكذلك الهاء في « بِهِ » الثانية .
و « الأحْزَابُ » الجماعةُ التي فيها غلظةٌ ، كأنَّهم لكثرتهم وصفوا بذلك ، وفيه وصفُ حمار الوحش ب « حَزَابِيَة » لغلظه . والأحزابُ جمع حِزب وهو جماعة النَّاس .
فصل
قيل : في الآية حذف ، والتقدير : « أفمن كان على بيَّنةٍ من ربِّهِ كمن يريدُ الحياة الدنيا وزينتها » ، أو من كان على بيِّنةٍ من ربه كمن هو في الضَّلالةِ .
والمرادُ بالذي هو عليه بيِّنةٍ : النبي - صلوات الله وسلامه عليه - . { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ } أي : يتبعه من يشهد له بصدقه .
واختلفوا في هذا الشَّاهد : فقال ابنُ عبَّاسٍ ، وعلقمة ، وإبراهيم ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك وأكثرُ المفسِّرين - رضي الله عنهم - : إنَّه جبريل - عليه الصلاة والسلام - وقال الحسنُ وقتادةُ : هو لسانُ رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وروى ابنُ جريج عن مجاهدٍ قال : هو ملك يحفظه ويسدده .
وقال الحسينُ بن ُ الفضلِ : هو القرآن ونظمه .
وقيل : هو عليّ بن أبي طالب - كرَّم الله وجهه - قال علي : « مَا مِنْ رجُلٍ من قريش إلاَّ ونزلت فيه آية من القرآن » ، فقال له رجلٌ : « أي شيء نزل فيك » ؟ قال : « ويَتْلُوهُ شاهدٌ مِنْهُ » .
وقيل : هو الإنجيلُ . و « مِنْ قَبْلِهِ » أي : من قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلم .
وقيل : من قبل نزول القرآن . { كِتَابُ موسى } أي : كان كتاب موسى { إَمَاماً وَرَحْمَةً } لمن اتَّبعهُ ، أي التَّوراة ، وهي مصدقةٌ للقرآن ، شاهدةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم { أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ } يعني : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
وقيل : أراد الذين أسْلَمُوا من أهل الكتاب .
{ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ } أي : بمحمَّد صلى الله عليه وسلم .
وقيل بالقرآن « مِنَ الأحزابِ » من الكفَّار وأهْلِ المللِ ، { فالنار مَوْعِدُهُ } اسمُ مكانِ وعده؛ قال حسَّانُ : [ البسيط ]
2953- أوْرَدْتُمُوهَا حِيَاضَ المَوْتِ ضَاحِيَةً ... فالنَّارُ مَوْعِدُهَا والمَوْتُ سَاقِيهَا
قال صلى الله عليه وسلم : والذي نفسُ محمدٍ بيدهِ لا يسمعُ بي أحدٌ من هَذِهِ الأمَّة ، ولا يَهُودِيّ ولا نَصْرانيّ ، ومات ولَمْ يؤمنْ بالَّذِي أرْسِلْتُ به إلاَّ كَانَ مِنْ أصْحابِ النَّارِ « .
{ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ } أي : شكٍّ ، و » المِرْيَة « بكسر الميم وضمِّها الشكُّ ، لغتان :
أشهرهما الكسرُ ، وهي لغة أهْلِ الحجازِ ، وبها قرأ الجمهور . والضَّمُّ لغةُ وتميم ، وبها قرأ السلمي وأبو رجاء وأبو الخطاب السَّدُوسي .
والمعنى : { فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ } أي : من صحَّة هذا الدِّين ، ومن كون هذا القرآن نازِلاً من عند الله - تعالى - .
وقيل : { فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ } من أنَّ موعد الكفار النَّارُ .
قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أولئك يُعْرَضُونَ على رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأشهاد هؤلاء الذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } الآية .
أورده في معرض المبالغة دليلاً على أنَّ الافتراء على الله - تعالى - أعظمُ أنواع الظُّلْمِ .
{ أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ } [ الأنعام : 21 ] يعنى : القرآن ، » أولَئِكَ « يعنى : الكاذبين والمكذبين .
{ يُعْرَضُونَ على رَبِّهِمْ } فيسألهم عن إيمانهم ، وخصَّهم بهذا العرض ، وإن كان العرضُ عاماً في كُلِّ العباد لقوله تعالى : { وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً } [ الكهف : 48 ] ؛ لأنهم يعرضون ، فيفتضحون بأن يقول الأشهاد عند عرضهم : { هؤلاء الذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ } فليحقهم من الخزي والنَّكالِ ما لا مزيد عليه .
و » الأشهادُ « جمعُ شاهد ، كصاحب وأصحاب ، أو جَمْعُ شهيد كشريف وأشْراف .
والمرادُ ب » الأشهادِ « قال مجاهدٌ هم الملائكة الحفظة .
وقال قتادةُ ، ومقاتلٌ : » الأشْهَادُ « النَّاس .
وقيل : الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - .
فإن قيل : إذا لمْ يجز أن يكون الله - تعالى - في مكان؛ فكيف قال { يُعْرَضُونَ على رَبِّهِمْ } فالجوابُ : أنَّهُم يُعْرضُونَ على الأماكنِ المعدَّة للحساب ، والسؤال ، ويجُوزُ أن يعرضوا على من شاء الله من الخلقِ بأمر الله من الملائكة والأنبياء والمؤمنين .
ثُمَّ لمَّا أخبر عن حالهم في عقاب القيامة أخبر أنَّهُم في الحال ملعونون عند الله - عزَّ وجلَّ- .
روى عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » إنَّ الله - تعالى - يُدْنِي المُؤمنَ يَوْمَ القيامةِ فيسْتُرهُ مِنَ النَّاسِ ، فيقُولُ : أي عَبْدِي أتعرفُ ذَنْبَ كذا وكذا؟ فيقول : نَعَمْ حتّى إذا قرَّرهُ بذُنُوبهِ ، قال : فإنِّي سترتُها عليْكَ في الدنيا ، وقد غفرتها لك اليوم ثُمَّ يُعْطَى كتابَ حسناتهِ ، وأمَّا الكُفَّار والمُنافقُون ، فيقُولُ الأشْهَادُ : هؤلاء الذين كذبُوا على ربِّهمْ ألا لَعْنَةُ الله على الظَّالمينَ « .
{ الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } يمنعون عن دين الله { وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } أي : إنَّهم كما ظلموا أنفسهم بالتزام الكفر ، والضَّلال ، فقد أضافُوا إليه المنع من الدِّين الحق ، وإلقاءِ الشُّبهِ وتعويج الدَّلائلِ المستقيمة؛ لأنه لا يقال في العاصي : يبغي عوجاً ، وإنما يقالُ ذلك في العالم بكيفيه الاستقامة وكيفية العوج بسبب إلقاء الشُّبهاتِ .
ثم قال : { وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ } .
قال الزَّجَّاجُ : « كرر كلمة » هُمْ « توكيداً لشأنهم في الكُفْرِ » .
{ أولئك لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ } .
قال الواحديُّ : « معنى الإعجاز المنع من تحصيل المراد ، يقال : أعجزني فلانٌ : أي : منعني من مرادي ، ومعنى { مُعْجِزِينَ فِي الأرض } أي : لا يمكنهم أن يهربُوا من عذابنا ، فإنَّ هربَ العبدِ من عذابِ الله - تعالى - محالٌ؛ لأنَّه - تعالى - قادرٌ على جميع الممكنات » .
وقال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - « سَابقين » .
وقال مقاتلٌ : « فائتين » .
{ فِي الأرض وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ } يعني أنْصَاراً يحفظونهم من عذابنا .
{ يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب } أي : يُزادُ في عذابهم . وقيل : تضعيف العذاب عليهم لإضلالهم الغير .
وقيل سبب تضعيف عذابهم أنَّهُم كفروا بالبَعْثِ والنشور .
قوله : { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع } يجوز في « ما » هذه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن تكون نافيةً ، نفى عنهم ذلك لمَّا لمْ يَنْتَفعُوا به ، وإن كانُوا ذوي أسماع وأبصار ، أو يكون متعلَّقُ السَّمْعِ والبصر شيئاً خاصاً .
والثاني : أن تكون مصدرية ، وفيها حينئذٍ تأويلان :
أحدهما : أنَّها قائمةٌ مقام الظرف ، أي : مُدة استطاعتهم ، وتكونُ « مَا » منصوبة ب « يُضاعَفُ » ، أي : لا يضاعفُ لهم العذابُ مُدة استطاعتهم السَّمْعَ والأبصار .
والثاني : أنَّها منصوبة المحلِّ على إسقاطِ حرف الجر كما يحذف من « أنْ » و « أنّ » اختيها ، وإليه ذهب الفرَّاءُ ، وذلك الجَارُّ متعلقٌ أيضاً ب « يُضَاعَفُ » أي : يضاعفُ لهم بكونهم كانوا يسمعون ، ويبصرون ، ولا ينتفعون .
والثالث : أن تكون « ما » بمعنى « الَّذي » ، وتكون على حذف حرف الجر أيضاً ، أي : بالذي كانوا ، وفيه بعدٌ لأنَّ حذف الحرفِ لا يطَّرد .
والجملة من قوله : « يُضاعَفُ » مستأنفة .
وقيل : إنَّ الضمير في قوله « مَا كَانُوا » يعودُ على « أوْليَاء » وهم آلهتهم ، أي : فما كان لهم في الحقيقةِ من أولياء ، وإن كانُوا يعتقدون أنَّهم أولياء ، فعلى هذا يكون { يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب } معترضاً .
فصل
احتجُّوا بهذه الآية على أنه سبحانه وتعالى قد يخلقُ في المكلف ما يمنعه من الإيمان .
روي عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أنَّهُ قال : إنَّه تعالى منع الكافرين من الإيمان في الدنيا وفي الآخرة .
أمَّا في الدنيا ففي قوله { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } .
وأمَّا في الآخرة ففي قوله - عز وجل - { وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } [ القلم : 42 ] .
ثم قال تعالى : { أولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ } أي : أنهم اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله ، فكان هذا الخسران أعظم وجوه الخسران .
{ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } يزعمون من شفاعة الملائكة والأصنام .
قوله : « لا جَرَمَ » في هذه اللفظةِ خلافٌ بين النحويين ، ويتلخصُ ذلك في خمسة أوجهٍ :
أحدها - وهو مذهبُ الخليل وسيبويه وجماهير النَّاس - أنََهُما رُكِّبتا من « لا » النَّافية و « جَرَم » وبُنيتَا على تركيبها تركيب خمسة عشر ، وصار معناهما معنى فعل وهو « حقَّ » فعلى هذا يرتفعُ ما بعدهما بالفاعليَّة ، فقوله - تعالى - : { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار } [ النحل : 62 ] أي : حق وثبت كون النَّار لهم ، أو استقرارها لهم .
الوجه الثاني : أنَّ « لا جَرَمَ » بمنزلة « لا رجُل » في كون « لا » نافية للجنس ، و « جَرَمَ » اسمها مبنيٌّ معها على الفتح ، وهي واسمها في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، وما بعدها خبر « لا » النافية ، وصار معناها : لا محالة ولا بُدَّ ، قاله الفرَّاءُ .
الثالث : - كالذي قبله - إلاَّ أنَّ « أنَّ » وما بعدها في محلِّ نصبٍ ، أو جرٍّ بعد حذف الجار ، إذ التقدير : لا محالةَ أنَّهُم في الآخرة ، أي : في خسرانهم .
الرابع : أنَّ « لا » نافيةٌ لكلام متقدم تكلَّم به الكفرةُ ، فردَّ الله ذلك عليهم بقوله : « لا » كما تُرَدُّ « لا » هذه قبل القسم في قوله - عزَّ وجلَّ - { لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد } [ البلد : 1 ] وقوله تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ النساء : 65 ] وقد تقدَّم تحقيقه ، ثم أتى بعدها بجملة فعلية ، وهي « جرم أنَّ لهُم كَذَا » ، و « جرم » فعل ماضٍ معناه « كسب » ، وفاعله مستتر يعودُ على فعلهم المدلول عليه بسياق الكلام ، و « أنَّ » وما في حيِّزها في موضع المفعول به ، لأنَّ « جَرَمَ » يتعدَّى إذْ هو بمعنى « كَسَبَ » ؛ قال الشاعر : [ الوافر ]
2954- نَصَبْنَا رَأْسَهُ فِي جِذْعِ نَخْلٍ ... بِمَا جَرَمَتْ يَدَاهُ ومَا اعْتَدَيْنَا
أي : بما كسبتْ يداهُ ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في المائدة [ 6 ] وجريمةُ القوم كاسبهم؛ قال : [ الوافر ]
2955- جَرِيمةُ نَاهِضٍ فِي رَأسِ نيقٍ ... تَرَى لِعظَامِ ما جَمَعَتْ صَلِيبا
فتقدير الآية : كَسَبَهُم - فعلهم أو قولهم - خسرانهم ، وهذا قول أبي إسحاق الزجاج ، وعلى هذا فالوقفُ على قوله « لا » ثم يبتدأ ب « جَرَمَ » بخلاف ما تقدَّم .
الوجه الخامس : أن معناها لا صدَّ ولا منع ، وتكون « جَرَمَ » بمعنى « القطع » تقول : جرمتُ أي : قطعت ، فيكون « جَرَمَ » اسمَ « لا » مبنياً معها على الفتح؛ كما تقدَّم ، وخبرها « أنَّ وما في حيِّزها ، أو على حذف حرف الجر ، أي : لا منع من خسرانهم؛ فيعودُ الخلافُ المشهور وفي هذه اللفظةِ لغاتٌ : فيقال : لا جِرمَ بكسر الجمي ، ولا جُرم بضمها ، ولا جَرَ بحذف الميم ، ولا ذا جرم ، ولا إنَّ ذا جرم ، ولا عن ذا جرم ، ولا أنْ جرم ، ولا ذُو جرم ، ولا ذا جر والله لا أفعل ذلك .
وعن أبي عمروٍ : { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار } [ النحل : 62 ] على وزن لا كرم ، يعني بضمِّ الراءِ ، ولا جرَ ، قال : « حذفُوه لكثرةِ الاستعمالِ كما قالوا : » سَو ترى « أي : سوف ترى » .
وقوله : { هُمُ الأخسرون } يجوز أن يكون « هُمُ » فصلاً ، وأن يكون توكيداً ، وأن يكون مبتدأ وما بعده خبره ، والجملةُ خبر « أنَّ » .
قوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وأخبتوا إلى رَبِّهِمْ } لمَّا ذكر عقوبة الكافرين وخسرانهم ، أتبعهُ بذكر أحوالِ المؤمنين ، والموصولُ اسم « إنَّ » ، والجملةُ من قوله { أولئك أَصْحَابُ الجنة } خبرها .
والإخْبَاتُ : الاطمئنان والتذلُّل ، والتَّواضع ، والخضوع ، وأصله من الخَبْتِ وهو المكانُ المطمئنُّ ، أي المنخفضُ من الأرض ، وأخْبَتَ الرَّجلُ : دخل في مكانٍ خبت ، كأنْجَدَ وأتهم إذا دخل في أحذ هذين المكانين ، ثُمَّ تُوُسِّعَ فيه فقيل : خَبَتَ ذكرهُ ، أي : خَمَدَ ، ويقال للشَّيءِ الدَّنيء الخبيث؛ قال الشاعر : [ الخفيف ]
2956- يَنْفَعُ الطَّيِّبُ القليلُ مِنَ الرِّزْ ... قِ ولا ينفعُ الكثيرُ الخَبِيتُ
هكذا ينشدون هذا البيت في هذه المادة ، الزمخشري وغيره .
والظَّاهرُ أن يكون بالثَّاءِ المثلثة ولا سيما لمقابلته بالطَّيِّب ، ولكن الظَّاهر من عباراتهم أنَّه بالتاء المثناة لأنَّهُم يسوقونهُ في هذه المادةِ ، ويدل على أنَّ معنى البيت إنما هو على الثَّاء المثلثة قول الزمخشري : « وقيل : التَّاءُ فيه بدل من الثَّاءِ » .
ومن مجيء « الخَبْت » بمعنى المكان المطمئن قوله : [ الوافر ]
2957- أفَاطِمُ لَو شَهِدْتِ ببطْنِ خَبْتٍ ... وقَدْ قَتَلَ الهزَبْرُ أخَاكِ بِشْرَا
وفي تركيب البيت قلقٌ ، وحلُّهُ : لو شهدتِ أخاك بشراً وقد قتل الهِزَبْرَ ، ففاعل « قتل » ضمير يعودُ على « أخاك » .
و « أخْبَت » يتعدَّى ب « إلى » كهذه الآية ، وباللاَّم كقوله تعالى : { فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ } [ الحج : 54 ] ومعنى الآية :
قال ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما - خافُوا .
وقال قتادةُ : تابُوا وقال مجاهدٌ : اطمأنُّوا .
وقيل : خشعُوا إلى ربِّهم . { أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
لمَّا ذكر الفريقين ذكر لهما مثالاً مطابقاً .
{ مَثَلُ الفريقين } مبتدأ ، و { كالأعمى } خبره ، ثُمَّ هذه الكاف يحتمل أن تكون هي نفس الخبر ، فتقدَّر ب « مثل » ، تقديره : مثلُ الفريقين مثل الأعمى .
ويجوزُ أن تكون « مَثَلُ » بمعنى « صفة » ، ومعنى الكافِ معنى « مِثْل » ، فيقدَّر مضافٌ محذوفٌ ، أي : كمثل الأعمى .
وقوله : { مَثَلُ الفريقين كالأعمى } يجوزُ أن يكون من باب تشبيه شيئين بشيئين ، فقابل العمى بالبصَرِ ، والصَّمَم بالسَّمْع ، وهو من الطِّباق ، وأن يكون من تشبيه شيءٍ واحد بوصفيه بشيءٍ واحدٍ بوصفيه ، وحينئذٍ يكون قوله : { كالأعمى والأصم } وقوله : { والبصير والسميع } من بابِ عطف الصفات؛ كقوله : [ المتقارب ]
2958- إلى المَلكِ القَرْمِ وابْنِ الهُمَامِ ... وليْثِ الكتيبَةِ في المُزْدَحَمْ
وقد أحسن الزمخشريُّ في التَّعبير عن ذلك فقال : شبَّه فريق الكافرين بالأعمى والأصم وفريق المؤمنين بالبصيرِ والسَّميعِ ، وهو من اللفِّ والطِّباق ، وفيه معنيان : أن يُشَبِّه الفريقين تشبيهين اثنين ، كما شبَّه امرؤُ القيس قلوبَ الطَّير بالحشفِ والعُنَّاب ، وأن يُشَبِّه بالذي جمع بين العمى والصَّمم ، والذي جمع بين البصرِ والسَّمعِ ، على أن تكون الواو في « والأصَمِّ » وفي « والسَّمِيع » لعطف الصِّفةِ على الصفة كقوله : [ السريع ]
2959- . . . الصْ ... صَابحِ فالغَانِمِ فالآيِبِ
يريد بقوله : « اللَّف » أنه لفَّ المؤمنين ، والكافرين اللَّذين هما مشبَّهان بقوله : « الفريقين » ولو فسَّرهما لقال : مثلُ الفريق المؤمن كالبصيرِ والسَّميع ، ومثلُ الكافر كالأعمى والأصم ، وهي عبارةٌ مشهورةٌ في علم البيان : لفظتان متقابلتان ، اللَّفُّ والنشرُ ، أشار لقول امرىء القيس : [ الطويل ]
2960- كأنَّ قُلُوبَ الطَّيْر رَطْباً ويَابِساً ... لَدَى وكْرِهَا العُنَّابُ والحَشَفُ البَالِي
أصلُ الكلامِ : كأنَّ الرَّطْبَ من قلوب الطَّيرِ : العُنَّابُ ، واليابس منها : الحَشَفُ ، فلفَّ ونشر ، وللّف والنشر في علم البيان تقسيمٌ كثير ، ليس هذا موضعه .
وأشار بقوله : « الصَّابح فالغانم » إلى قوله : [ السريع ]
2961- يَا وَيْحَ زيَّابةَ لِلْحَارثِ الصْ ... صَابِحِ فالغَانمِ فالآيِبِ
وقد تقدَّم ذلك في أول البقرة .
فإن قيل : لِمَ قدّضم تشبيه الكافر على المؤمن؟
فالجوابُ : لأنَّ المتقدِّمَ ذكر الكفَّار ، فلذلك قدَّم تمثيلهم .
فإن قيل : ما الحكمةُ في العدول عن هذا التركيب لو قيل : كالأعمى والبصير ، والأصم والسَّميع ، لتتقابل كلُّ لفظةٍ مع ضدها ، ويظهر بذلك التَّضادُّ؟ .
فالجوابُ : بأنَّه تعالى لمَّا ذكر انسدادَ العين أتبعهُ بانسدادِ الأذن ، ولمَّا ذكر انفتاح العين أتبعهُ بانفتاح الأذن ، وهذا التَّشبيهُ أحدُ الأقسام ، وهو تشبيهُ أمْرٍ معقول بأمر محسوس ، وذلك أنَّهُ شبَّه عمى البصيرة وصممها بعمى البصرِ وصمم السَّمع ، ذاك متردِّدٌ في ظُلمِ الضَّلالات ، كما أنَّ هذا مُتحير في الطُّرقاتِ .
قوله : مَثَلاً « تمييز ، وهو منقولٌ من الفاعليَّة ، والأصلُ : هل يستوي مثلهما ، كقوله تعالى { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 4 ] وجوَّز ابنُ عطية أن يكون حالاً ، وفيه بعدٌ صناعةً ومعنى؛ لأنَّه على معنى » مِنْ « لا على معنى » في « .
ثم قال : { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } مُنَبِّهاً على أنَّهُ يمكنه علاج هذا العمى وهذا الصَّمَم ، وإذا كان العلاجُ مُمْكناً ، وجب على العاقل أن يسعى في ذلك العلاج بقدر الإمكان .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } الآية .
اعلم أنَّه جرت عادته - تعالى - في القرآن بأنَّهُ إذا أورد على الكافر الدَّلائل أتبعها بالقصص ليُؤكِّد تلك الدَّلائل ، وقد بدأ بذكر هذه القصَّة ليُؤكِّد تلك الدَّلائل ، وقد بدأ بذكر هذه القصَّة في سورة يونس ، وأعادها ههنا لما فيها من زوائد الفوائد .
قوله { إِنَّي لَكُمْ } قرأ ابنُ كثير وأبو عمرو والكسائي بفتح همزة « إني » ، والباقون بكسرها .
فأمَّا الفتحُ فعلى إضمارِ حرفِ الجرِّ ، أي : « بأنِّي لَكُمْ » .
قال الفارسيُّ : في قراءةِ الفتح خروجٌ من الغيبةِ إلى المخاطبةِ .
قال ابن عطيَّة : وفي هذا نظر ، وإنَّما هي حكايةُ مخاطبته لقومه ، وليس هذا حقيقة الخروج من غيبةٍ إلى مخاطبة ، ولو كان الكلامُ أن أنذرهم ونحوه لصحَّ ذلك .
وقد قال بهذه المقالة - أعني الالتفات - مكي - فإنَّهُ قال : الأصل : بأنِّي ، والجارُّ والمجرور في موضع المفعول الثاني ، وكان الأصلُ : أنَّهُ ، لكنَّهُ جاء على طريق الالفتات .
ولكن هذا الالتفات غيرُ الذي ذكره أبو علي ، فإنَّ ذلك من غيبة إلى خطابٍ ، وهذا من غيبةٍ إلى تكلم وكلاهما غير محتاج إليه ، وإن كان قولُ مكي أقربَ .
وقال الزمخشري : الجارُّ والمجرور صلةٌ لحالٍ محذوفة ، والمعنى : أرسلناه ملتبساً بهذا الكلام ، وهو قوله : { إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } بالكسر ، فلمَّا اتصل بها الجارُّ فُتِح كما فتح « كأنَّ » والمعنى على الكسر في قولك « إنَّ زيداً كالأسد » ، وأمَّا الكسرُ ، فعلى إضمار القول ، أي : فقال ، وكثيراً ما يُضْمر ، وهو غني عن الشَّواهد .
و « النذيرُ » قيل : المرادُ به كونه مهدداً للعصاة بالعقاب ، ومن المبين كونه مبيناً ما أعد الله للمطيعين من الثواب ، وأنه يبين ذلك الإنذار على أكمل طرقه ، ثم بيَّن تعالى أنَّ ذلك الإنذار إنما هو بنهيهم عن عبادة غير الله ، والأمر بعبادته - جل ذكره -؛ لأنَّ قوله { أَن لاَّ تعبدوا إِلاَّ الله } استثناء من النَّهْي ، فهو يوجب نفي غير المستثنى ، وإيجاب المستثنى .
قوله : { أَن لاَّ تعبدوا } كقوله : { أَن لاَّ تعبدوا } في أول السورة ، ونزيد هنا شيئاً آخر ، وهو أنَّها على قراءةِ من فتح « أني » تحتملُ وجهين :
أحدهما : أن تكون بدلاً من قوله : « أنِّي لَكُم » ، أي أرْسلناهُ بأن لا تَعْبُدُوا .
والثاني : أن تكون مفسِّرة ، والمفسَّر بها : إمَّا « أرْسَلناهُ » وإما « نَذِيرٌ » .
وأمَّا على قراءة من كسر فيجوزُ أن تكون المصدرية وهي معمولةٌ ل « أرسلنا » ويجوزُ أن تكون المفسرة بحاليها .
قوله : « أليم » إسناد الألم إلى اليوم مجازٌ مثله؛ لأنَّ الأليمَ في الحقيقة هو المعذِّب ، ونظيرها قولك نهارُكَ صائمٌ .
قال أبُو حيَّان : « وهذا على أن يكون » ألِيم « صفةُ مبالغةٍ من » ألِمَ « وهو من كثر ألمه ، وإن كان » ألِيم « بمعنى : » مُؤلم « فنسبته لليوم مجازٌ وللعذاب حقيقة » .
فصل
قال ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - بعث نوح بعد أربعين سنة ، ولبث يَدعو قومه تسع مائة وخمسين سنة ، وعاش بعد الطُّوفانِ ستين سنة ، فكان عمره ألفاً وخمسين سنة .
وقال مقاتلٌ : بعث وهو ابن مائة سنة .
وقيل : بعث وهو ابن خمسين سنة .
وقيل : ابن مائتين وخمسين سنة ، ومكث يدعو قومه تسعمائة سنة ، وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة ، فكان عمره ألفاً وأربع مائة سنة .
قوله : { فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ } .
« المَلأُ » هم الأشراف والرُّؤساء . « مَا نَراكَ » يجوزُ أن تكون هذه الرُّؤيا قلبيةً ، وأن تكون بصريةً . فعلى الأول تكون الجملةُ من قولك : « اتَّبَعَكَ » في محلِّ نصب مفعولاً ثانياً ، وعلى الثَّاين في محل نصب على الحال ، و « قَدْ » مقدرةٌ عند من يشترط ذلك .
و « الأراذِلُ » فيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ جمع الجمع .
والثاني : جَمْعٌ فقط .
والقائلون بالأول اختلفوا فقيل : جمع ل « أرْذُلٍِ » ، و « أرْذُل » جمع ل « رَذْلٍ » نحو : كَلْب وأكْلُب وأكالب .
وقيل : بل جمع ل « أرْذَال » ، و « أرْذَال » جمع ل « رَذْل » أيضاً .
والقائلون بأنه ليس جمع جمع ، بل جمعٌ فقط قالوا : هو جمعٌ ل « أرْذل » ، وإنَّما جاز أن يكون جَمْعاً لأرذل لجريانه مَجْرَى الأسماءِ من حيث إنه هُجِر موصوفه كالأبْطَح والأبرق .
وقال بعضهم : هو جمع « أرْذَل » الذي للتفضيل ، وجاء جمعاً كما جاء { أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا } [ الأنعام : 123 ] و « أحاسنكم أخلاقاً » .
ويقال : رجل رَذْل ورُذَال ، ك « رَخْل » و « رُخَال » وهو المرغوبُ عنه لِردَاءتِهِ .
قال الواحديُّ : هُمُ الدُّونُ من كُلِّ شيءٍ في منظره وحالاته . والأصلُ فيه أن يقال هو أرْذَلُ من كذا فكثُرَ حتى قالوا : هو الأرْذَلُ ، فصارت الألف واللاَّم عوضاً عن الإضافة .
قوله : « بَادِيَ الرَّأي » قرأ أبو عمرو وعيسى الثَّقفيُّ « بَادِىءَ » بالهمز ، والباقون بياءٍ صريحة مكان الهمزة . فأما الهمزُ فمعناه : أول الرَّأي ، أي : أنَّه صادرٌ عن غير رويَّةٍ وتأمُّل ، بل من أولِ وهلةٍ . وأمَّا مَنْ لَمْ يهمز؛ فيحتمل أن يكون أصلُه كما تقدَّم ، ويحتملُ أن يكون من بدا يبدُو أي ظَهَر ، والمعنى : ظاهر الرَّأي دون باطنه ، أيك لوْ تُؤمِّل لعُرِفَ باطنه ، وهو في المعنى كالأولِ .
وفي انتصابه على كلتا القراءتين سبعةُ أوجهٍ :
أحدها : أنَّهُ منصوبٌ على الظَّرفِ وفي العامل فيه على هذا ثلاثة أوجه :
أحدها : « نَرَاكَ » ، أي : وما نَراكَ في أول رأينا ، على قراءة أبي عمرو ، أو فيما يظْهَر لنا من الرأي في قراءة الباقين .
والثاني - من الأوجه الثلاثة - : أن يكون منصوباً ب « اتَّبَعَكَ » ، أي : ما نَرَاكَ اتَّبعَكَ أول رأيهم ، أو ظاهر رأيهم ، وهذا يحتمل معنيين :
أحدهما : أن يريدوا اتبعوك في ظاهر أمرهم ، وبواطنهم ليست معك .
والثاني : أنَّهُم اتَّبعُوكَ بأول نظرٍ ، وبالرَّأي البَادِي دُونَ تَثَبُّت ، ولو تثبتُوا لما اتَّبَعُوك .
الثالث - من الأوجه الثلاثة - أنَّ العامل فيه « أرَاذِلُنَا » والمعنى : أراذِلُنَا بأولِ نظرٍ منهم أو بظاهر الرَّأي نعلم ذلك ، أي : إنَّ رزالتهم مكشوفةٌ ظاهرةٌ لكونهم أصحاب حرفٍ دنيَّة .
والرَّأي على هذا من رأي العين لا من رأي القلب ، ويتأكَّدُ هذا بما نُقل عن مجاهد أنَّهُ قرأ « إلاَّ الذينَ هُمْ أرَاذِلُنَا بادِيَ رَأي العَيْنِ » .
ثم القائل بكون « بَادِيَ » ظرفاً يحتاج إلى اعتذار ، فإنَّهُ اسمُ فاعلٍ وليس بظرفٍ في الأصلِ ، قال مكيّ : وإنَّما جاز أن يكون فاعل ظرفاً كما جاز ذلك في « فَعِيل » نحو : قَرِيب ومليء ، و « فاعل وفعيل » متعاقبان ك : رَاحِم ورَحِيم ، وعَالِم وعَلِيم ، وحسُن ذلك في « فَاعِل » لإضافته إلى الرأي ، والرأي يضاف إليه المصدر ، وينتصبُ المصدرُ معه على الظَّرْفِ نحو : « أمَّا جَهْدُ رأي فإنَّك منطلقٌ » أي : « في جَهْد » .
قال الزمخشريُّ : وانتصابه على الظَّرف ، أصله : وقْتَ حُدُوثِ أوَّلِ أمرهم ، أو وقتَ حدوثِ ظاهرِ رأيهم ، فحذفَ ذلك وأقم المضافُ إليه مقامه .
الوجه الثاني - من السَّبعة - : أن لا ينتصب على المفعول به ، حذف معه حرفُ الجر مثل : { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] .
وفيه نظرٌ من حيث إنَّه ليس هنا فعلٌ صالحٌ للتعدِّي إلى اثنين ، إلى ثانيهما بإسقاط الخافضِ .
الثالث من السَّبعة : أن ينتصب على المصدر ومجيء المصدر على فاعل أيضاً ليس بالقياس ، والعامل في هذا المصدر كالعامل في الظَّرف كما تقدَّم ، ويكون من باب ما جاء فيه المصدرُ من معنى الفعل لا من لفظه ، تقديره : رُؤية بدءٍ : أو ظهور ، أو اتباع بدءٍ أو ظهور ، أو رذالة بدءٍ .
الرابع من السبعة : أن يكون نعتاً ل « بَشَر » ، أي : ما نَراكَ إلاَّ بشراً مثلنا بادِيَ الرأي ، أي : ظاهرهُ ، أو مبتدئاً فيه . وفيه بعدٌ للفصل بين النَّعْتِ والمَنْعُوتِ بالجملة المعطوفة .
الخامس : أنَّهُ حالٌ من مفعول « اتَّبَعَكَ » ، أي : وأنت مكشوفُ الرَّأي ظاهرهُ لا قُوةَ فيه ، ولا حصانة لك .
السادس : أنه منادى والمراد به نوحٌ - عليه الصلاة والسلام - ، كأنَّهُم قالوا : يا بَادِي الرَّأي ، أي : ما في نفسك ظاهرٌ لكلِّ أحدٍ ، قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء به ، والاستقلال له .
السابع : أنَّ العامل فيه مضمر ، تقديره : أتقُولُ ذلك بادي الرَّأي ، ذكره أبُو البقاءِ ، والأصلُ عدم الإضمار مع الاستغناء عنه ، وعلى هذه الأوجه الأربعة الأخيرة هو اسمُ فاعلٍ من غير تأويلٍ ، بخلاف ما تقدَّم من الأوجه فإنَّهُ ظرفٌ أو مصدرٌ . واعلم أنَّك إذا نصبت « بَادِيَ » على الظرف أو المصدر بما قبل « إلاَّ » احتجْتَ إلى جوابٍ عن إشكال ، نصبت « بَادِيَ » على الظرف أوالمصدر بما قبل « إلاَّ » احتجْتَ إلى جوابٍ عن إشكال ، وهو أنَّ ما بعد « إلاَّ » لا يكون معمولاً لما قبلها ، إلاَّ إن كان مستثنى منه نحو : مَا قَامَ إلاَّ زيداً القومُ ، أو مستثنى نحو : قَامَ القومُ إلاَّ زيداً ، أو تابعاً للمستثنى منه نحو : ما جاءني أحَدٌ إلاَّ زيدٌ أخيرُ من عمرو و « بَادِي الرَّأي » ليس شيئاً من ذلك .
قال مكي : لو قلت في الكلام : ما أعْطَيْت أحَداً إلا زَيْداً درهماً؛ فأوقعت اسمين مفعولين بعد « إلاَّ » لم يَجُزْ؛ لأنَّ الفعل لا يصلُ ب « إلاَّ » إلى مفعولين ، إنَّما يصل إلى اسم واحدٍ كسائر الحروفِ ، ألا ترى أنَّك لو قلت : مررتُ بزيدٍ عمرو فأوصلت الفعل إليهما بحرفٍ واحدٍ لم يَجز ، ولذلك لو قلت : استوى الماءُ والخشبة الحائط فتنصب اسمين بواو « مع » لمْ يَجُزْ إلاَّ أن تأتيَ في جميع ذلك بواو العطف ، فيجوز وصولُ الفعل .
والجوابُ الذي ذكرهُ هو أنَّ الظروف يُتَّسع فيها ما لا يُتَّسع في غيرها ، وهذا جماعُ القولِ في هذه المسألة باختصارٍ .
والرَّأيُ : يجوزُ أن يكون من رُؤية العيْنِ أو من الفكرة والتَّأمُّل .
فصل
اعلم أنَّ الله - سبحانه وتعالى - حكى عن قوم نُوحٍ - عليه الصلاة والسلام - شُبُهَاتٍ :
الأولى : أنَّهُم قالوا : إنَّه بشرٌ مثلهم ، وأنَّ التفاوت الحاصل بين آحاد البشر يمتنع انتهاؤه إلى حيث يصير الواحد منهم وجب الطَّاعة لجميع العاملين .
الثانية : كونه ما اتبعه إلاَّ الأراذل من القوم كالحياكةِ ، وأصحاب الصنائع الخسيسة؛ فلو كنت صادقاً لاتبعك الأشراف والرؤساء ، ونظيره قوله تعالى في سورة الشعراء : { أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون } [ الشعراء : 111 ] .
الثالثة : قولهم : { وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } لا في العَقْلِ ولا في رعايةِ المصالحِ العاجلة ولا في قوَّةِ الجدلِ فإذا لم نشاهد فضلك في شيءٍ من هذه الأحوال الظاهرة؛ فكيف نعترف بفضلك في أشرف الدرجات .
واعلم أنَّ الشُّبْهَة الأولى لا تليقُ إلاَّ بالبراهمةِ الذين ينكرون نبوَّة البشر على الإطلاقِ ، وتقدَّم الكلامُ على « الملأ » وتقدم الكلام على الشبهة الأولى في الأنعام في الأعراف [ 66 ] .
واعلم أنَّه لو بُعِثَ إلى البشر ملكاً رسولاً لكانت الشبهةُ أقوى في الطَّعْنِ عليه في رسالته؛ لأنَّهُ يخطر بالبال أنَّ هذه المعجزة التي ظهرت على يدِ هذا الملك أتى بها من عند نفسه؛ لأنَّ قوَّتهُ أكمل؛ فلهذا ما بعث الله إلى البشر رسُولاً إلاَّ من البشر .
وأمَّا قولهم { وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا } فهذا أيضاً جهلٌ؛ لأنَّ الرِّفعة في الدِّين لا تكون بالحسبِ ولا بالمالِ ، ولا بالمناصب العاليةِ ، بل الفقر أهونُ على الدِّين من الغنى ، والأنبياء ما بعثُوا إلا لترْكِ الدُّنيا والإقبالِ على الآخرةِ ، فكيف يجعل الفقرُ في الدُّنيا طَعْناً في النبوةِ والرسالة .
وأمَّا قولهم : { وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } فهو أيضاً جهلٌ؛ لأنَّ الفضيلة المعتبرة عند الله - تعالى - ليست إلاَّ بالعلم والعمل ، فكيف اطَّلَعُوا على بواطن الخَلْق حتَّى عرفوا نفي هذه الفضيلة .
ثم قال لنُوح وأتباعه { بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } وهذا خطاب مع نوحٍ وقومه ، والمرادُ منه تكذيب نوح في دَعْوَى الرِّسالة .
وقيل : خطاب مع الأرَاذِلِ ، أي كذَّبُوهم في إيمانهم .
قوله تعالى : { قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن ربي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ } .
وهذا جوابٌ عن شبهتهم الأولى ، والمعنى : أنَّ حصول المساواةِ في البشريَّةِ لا يمنع من حصولِ المفارقةِ في صفةِ النبوة والرسالةِ ، وذكر الطَّريق الدَّال على إمكانه ، وهو كونهُ على بيِّنةٍ من معرفةِ الله وصفاته - سبحانه - وما يجبُ وما يمتنعُ وما يجوزُ { وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ } وهي إمَّا النبوة ، وإمَّا المعجزة الدَّالة على النبوَّة { فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } أي : صارت مظنة خفيت ، والتبست عليكم .
قوله : « مِّن ربي » نعتٌ ل « بَيِّنَة » ، أي : بَيِّنَةٌ من بيِّنات ربِّي .
قوله : « رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ » يجُوزُ في الجارِّ أيضاً أن يكون نعتاً ل « رَحْمَةً » وأن يكون متعلقاً ب « آتَانِي » .
قوله : « فَعُمِّيَتْ » قرأ الأخوان وحفص بضمِّ العين وتشديد الميم ، والباقون بالفتح ، والتخفيف . فأمَّا القراءة الأولى فأصلها : عماهَا اللهُ عليكم ، أي : أبْهمها عقوبة لكم ، ثُمَّ بُنِيَ الفعل لما لَمْ يُسَمَّ فاعله ، فحذف فاعله للعلم به وهو الله تعالى ، وأقيم المفعولُ وهو ضميرُ الرَّحْمَة مقامه ويدل على ذلك قراءةُ أبَيّ بهذا الأصل « فَعمَاهَا اللهُ عَليْكُم » .
ورُوي عنه أيضاً وعن الحسن وعليّ والسُّلمي « فَعَمَاهَا » من غير ذكرِ فاعلٍ لفظي .
وروي عن الأعمش وابن وثاب « وعُمِّيَتْ » بالواو دون الفاء .
وأمَّا القراءة الثانية فإنَّه أسْنَدَ الفعل إليها مجازاً .
قال الزمخشريُّ : فإذا قلتَ ما حقيقته؟ قلت : حقيقته أن الحجة كما جُعِلتْ بصيرةً ومُبْصرة ، قال تعالى : { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً } [ النمل : 13 ] جعلت عمياء ، قال تعالى : { فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } الآية؛ لأنَّ الأعمى لا يَهْتَدي ولا يَهْدِي غيرهُ ، فمعنى فَعَمِيتْ عليكم البيِّنةُ : فَلمْ تَهْدِكُم كما لو عَمِيَ على القوم دليلهم في المفازَةِ بَقُوا بِغَيْر هادٍ .
وقيل : هذا من باب القلبِ ، وأصلها فعَميتم أنتم عنها كما تقول : أدخلتُ القلنسوة في رَأسِي ، وأدخلت الخاتم في إصبعي ، وهو كثيرٌ ، وقد تقدَّم الخلافُ فيه ، وأنشدوا على ذلك : [ الطويل ]
2962- تَرَى النَّوْرَ فيها مُدْخلَ الظِّلِّ رَأسَه ..
قال أبُو علي : وهذا ممَّا يُقْلَبُ ، إذ ليس فيه إشكال ، وفي القرآن { فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } [ إبراهيم : 47 ] .
وبعضهم يخرِّجُ البيت على الاتِّساع في الظَّرْفِ .
وأمَّا الآيةُ ف « أخْلَفَ » يتعدَّى لاثنين ، فأنت بالخيار : أن تُضيفَ إلى أيِّهما شئتَ فليس من باب القَلْبِ .
وقد ردَّ بعضهم كون هذه الآية من باب المقلوب بأنه لو كان كذلك لتعدَّى ب « عَنْ » دُونَ « عَلَى » ، ألا ترى أنك تقولك « عَمِيتُ عن كذَا » لا « عَلَى كَذَا » .
واختلف في الضَّمير في « عُمِّيَتْ » هل هو عائدٌ على « البَيِّنة » ، أو على « الرَّحْمَة » ، أو عليهما معاً؟ .
وجاز ذلك - وإن كان بلفظ الإفراد - لأنَّ المراد بهما شيءٌ واحد ، وإذا قيل بأنه عائدٌ على « البيِّنة » فيكون قوله { وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ } جملة معترضة بين المتعاطفين ، إذ حقُّهُ ، { على بَيِّنَةٍ مِّن ربي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ } .
قال الزمخشريُّ : وآتَانِي رحْمَةً بإتيان البيِّنة ، على أنَّ البيِّنة في نفسها هي الرَّحمة ، ويجوزُ أن يُرَادَ بالبيِّنةِ المعجزة ، وبالرَّحمة النبوَّة .
فإن قلت : فقوله « فعُمِّيَتْ » ظاهر على الوجهِ الأوَّلِ فما وجهه على الوجه الثاني ، وحقُّه أن يقال : فَعَمِيتَا؟ قلت : الوجهُ أن يُقدَّرَ : فعُمِّيَتْ بعد البيِّنة ، وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره مرة . انتهى وقد تقدَّم الكلامُ على « أرأيْتُمْ » هذه في الأنعام ، وتلخيصهُ هنا أنَّ « أرأيتُم » يطلب « البيِّنة » منصوبةً وفعل الشَّرط يطلبها مجرورةً ب « عَلَى » فأعمل الثَّاني وأضمر في الأول ، والتقدير : أرأيْتُم البيِّنة من ربِّي إن كنتُ عليها أنلزِمُكمُوهَا ، فحذف المفعولُ الأوَّل ، والجملةُ الاستفهاميَّة هي في محلِّ الثاني ، وجواب الشرط محذوفٌ للدَّلالةِ عليه .
قوله : « أنُلْزمُكُمُوهَا » أتى هنا بالضَّميرين متصلين ، وتقدَّم ضميرُ الخطاب؛ لأنَّهُ أخص ، ولو جِيءَ بالغائب أولاً لانفصل الضَّميرُ وجوباً . وقد أجاز بعضهم الاتِّصال واستشهد بقول عثمان « أراهُمُني الباطل شَيْطَاناً » .
وقال الزمخشريُّ : يجوزُ أن يكون الثاني منفصلاً كقوله : « أنُلْزِمكم إيَّاهَا » ونحوه { فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله } [ البقرة : 137 ] ويجوز « فَسَيكفيك إيَّاهُمْ » ، وهذا الذي قاله الزمخشريُّ ظاهرُ قول سيبويه وإن كان بعضهم منعهُ .
وإشباعُ الميم في مثل التركيب واجبٌ ، ويضعف سكونها ، وعليه « أرَاهُمْني البَاطِل » .
وقال أبُو البقاءِ : وقرىء بإسكان الميم فراراً من توالي الحركات فقوله هذ يحتمل أن يكون أراد سكون ميم الجمع؛ لأنَّه قد ذكر ذلك بعدما قال : « ودخلتِ الواوُ هُنَا تتمَّةٌ للميم ، وهو الأصلُ في ميم الجمع ، وقرىء بإسكان الميم » انتهى .
وهذا إن ثبت قراءةً فهو مذهبٌ ليونس : يُجوَّزُ الدِّرهمَ أعطيتكه ، وغيره يأباه .
ويحتملُ أن يريد سكون ميم الفعل ، ويدلُّ عليه ما قال الزجاج .
أجمع النَّحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكانُ حركةِ الإعراب إلاَّ في ضرورة الشعر ، فأمَّا ما رُوي عن أبي عمرو فلم يضبطه عنه القراء ، وروى عنه سيبويه أنه كان يُخِفُّ الحركة ويختلسُها ، وهذا هو الحقُّ وإنما يجُوزُ الإسكانُ في الشعر نحو قول امرىء القيس : [ السريع ]
2963- فاليَوْمَ أشْرَبُ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ ..
وكذا قال الزمخشري أيضاً .
وحكى عن أبي عمرو إسكانُ الميم ، ووجهه أنَّ الحركة لم تكن إلاَّ خلسةً خفيفةً ، فظنَّها الرَّاوي سُكُوناً ، والإسكانُ الصَّريحُ لحنٌ عند الخليل ، وسيبويه ، وحُذَّاقِ البصرييين؛ لأنَّ الحركة الإعرابية لا يُسَوَّغ طرحها إلاَّ في ضرورة الشِّعْرِ .
قال شهابُ الدِّين : وقد حكى الكسائيُّ والفرَّاءُ : « أنُلُزِمْكُمُوهَا » بسكون هذه الميم ، وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك مُشْبَعاً في سورة البقرة [ 54 ] ، أعني تسكين حركةِ الإعرابِ فكيف تجعلونه لحْناً؟ .
و « ألزم » يتعدَّى لاثنين ، أولهما ضمير الخطاب ، والثاني ضمير الغيبة .
و { وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } جملة حالية ، يجوز أن تكون للفاعل ، أو لأحدِ المفعولين .
وقدَّم الجارَّ لأجْل الفواصل ، وفي الآية قراءاتٌ شاذَّةٌ مخالفةٌ للسَّواد أضْرَبْتُ عنها لذلك .
والمعنى : « أنلزمكم البينة ، وأنتم لها كَارهُون لا تُريدُونهَا » . قال قتادةُ : « لو قدر الأنبياء أن يُلزموا قومهُم لألزموا ، ولكن لم يقدروا » .
قوله تعالى : { وياقوم لاا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً } .
الضَّمير في « عَلَيْهِ » يجوزُ أن يعود على الإنذار والمفهوم من « نَذِيرٌ » ، وأن يعودَ على الدِّين الذي هو الملَّة ، وأن يعود على التَّبليغ .
وهذا جوابٌ على الشُّبهةِ الثانية ، وهي قولهم : اتَّبَعَك الأرَاذل ، فقال : أنا لا أطلبُ على تبليغِ الرِّسالةِ مالاً حتَّى يتفاوت الحالُ بسبب كون المستجيب فقيراً ، أو غنياً ، وإنما أجري علَى هذه الطاعة على رب العالمين ، وإذا كان كذلك فسواء كان غنياً أو فقيراً ، لم يتفاوت الحال في ذلك .
ويحتمل أنَّه قال لهم : إنكم لمَّا نظرتم إلى هذه الأمور وجدتُمُوني فقيراً ، وظننتم أنِّي إنما أتيت بهذه الأمور لأتوسَّل بها إلى أخذ أموالكم ، وهذا الظَّن منكم خطأ ، وإنِّي لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجْراً ، { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين } [ الشعراء : 109 ] .
قوله : { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الذين } قرىء « بطَاردٍ الذينَ » بتنوين « طارد » .
قال الزمخشري : على الأصل يعنى أنَّ أصل اسم الفاعل بمعنى الحال والاستقبال العملُ وهو ظاهرُ قول سيبويه .
قال أبُو حيَّان : يُمكن أن يقال : ألأصل الإضافةُ لا العَمَلُ ، لأنَّهُ قد اعتورهُ شَبَهَان :
أحدهما : الشبه بالمضارع وهو شبهٌ بغير جنسه .
والآخر : شبههُ بالأسماءِ إذا كانت فيه الإضافةُ؛ فكان إلحاقه بجنسه أولى .
وقوله : { إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } استئنافٌ يفيدُ التَّعليل ، وقوله : « تَجْهَلُون » صفةٌ لا بُدَّ منها إذ الإتيانُ بهذا الموصوفِ دون صفته لا يفيدُ ، وأتى بها فعلاً ليدلَّ على التَّجدُّد كلَّ وقتٍ .
فصل
قوله : { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الذين آمنوا } كالدَّليل على أنَّ القوم سألوه لئلاَّ يشاركوا الفقراءَ ، فقال صلى الله عليه وسلم : « ومَا أنَا بطارِدِ الذين آمنُوا » ، وأيضاً قولهم { وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا } كالدَّليل على أنَّهم طلبوا منه طردهم؛ فكأنَّهم يقولون لو اتَّبَعَك الأشراف لوافقناهم .
ثمَّ ذكر ما يوجب الامتناع من طردهم ، وهو أنَّهم ملاقُو ربِّهم ، وهذا الكلامُ يحتملُ وجوهاً :
منها : أنَّهُم قالوا إنَّهم منافقون فيما أظهروا فلا تغترَّ بهم؛ فأجاب بأنَّ هذا الأمر ينكشفُ عند لقاءِ ربِّهم في الآخرة .
ومنها : أنَّهُ جعله علَّة في الامتناع من الطَّرْدِ ، وأراد أنهم ملاقو ربِّهم ما وعدهم ، فإن طردتهم استخصموني في الآخرة .
ومنها : أنَّهُ نَبَّه بذلك على أنَّا نجتمع في الآخرة؛ فأعاقب على طردهم فلا أجد من ينصرني .
ثم بيَّن أنَّهم يَبْنُون أمرهُم على الجَهْلِ بالعواقب والاغترارِ بالظَّواهرِ فقال : { ولكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } .
ثم قال : { وياقوم مَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِن طَرَدتُّهُمْ } [ هود : 30 ] من يمنعني من عذاب الله { إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } تتَّعِظُونَ .
والمعنى : على أنَّ العقل والشرع تطابقا على تعظيم المؤمن التَّقي ، وإهانةِ الفَاجرِ ، فلو عظَّمْتُ الكافر وطردتُ المؤمن وأهنتهُ كنت على ضِدّ دين الله؛ فأسْتوْجبُ حينئذٍ العقابَ العظيمَ ، فمن الذي ينصُرُني من الله ، ومن الذي يُخَلِّصُني من عذابِ الله .
واحتجَّ قوم بهذه الآية على صُدُورِ الذَّنب من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فقالوا دلَّت الآيةُ على أنَّ طردَ المؤمنين لطلب مرضاة الكفار معصية ، ثم إن محمداً - صلوات الله وسلامه عليه - طرد المؤمنين لطلب مرضاة الكفار حتى عاتبه الله - عزَّ وجلَّ - في قوله : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي } [ الأنعام : 52 ] .
زالجوابُ : يحمل الطَّرد المذكور في هذه الآية على الطَّرد المطلق المؤبَّدِ ، والطَّرد المذكور في واقعة محمدٍ - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - على المُقيَّدِ في أوقاتٍ معينةٍ رعاية للمصلحة .
ثُمَّ أكَّدَ هذا البيان فقال : { وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله } فآتي منها ما تطلبون ، { وَلاَ أَعْلَمُ الغيب } فأخبركم بما تُريدُونَ .
وقيل : إنَّهم لمَّا قالوا لنوح : إنَّ الذين آمنُوا بك إنَّما اتَّبَعُوكَ في ظاهر ما ترى منهم ، فأجابهم نوح - عليه الصلاة والسلام - فقال : لا أقول لكم : عِنْدِي خزائن غيوب الله التي يعلم منها ما يضمره الناس ، ولا أعلم علم الغيب فأعلم ما يسرونه في نفوسهم ، فسبيلي قبول ما ظهر من إيمانهم ، { وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ } هذا جواب لقولهم : { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا } [ هود : 27 ] وقيل معناه : لا أقولُ إنِّي ملكٌ حتَّى أتعظَّمَ بذلك عليكم ، بل طريقي الخضوع والتَّواضع ، ومن كان طريقه كذلك فإنَّهُ لا يستنكفُ عن مخالطةِ الفقراءِ والمساكين .
واحتجَّ قوم بهذه الآية على تفضيل الملائكةِ على الأنبياء قالوا : لأنَّ الإنسان إذا قال : لا أدَّعي كذا وكذا ، إنما يحسنُ إذا كان ذلك الشيء أشرف من أحوال ذلك القائل . ثم أكَّدَ هذا البيان بطريق آخر فقال : { وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تزدري أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْراً } وهذا كالدلالة على أنهم يعيبون أتباعهم ، ويحتقرونهم ، فقال : لا أقولُ للذين يحتقرونهم : لن يؤتيهم الله خَيْراً ، أي : توفيقاً وإيماناً وأجراً { الله أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ } لأنَّ ذلك من باب الغَيْبِ لا يعلمه إلا الله ، فربَّما كان باطنهم كظاهرهم فيؤتيهم الله خير مُلكٍ في الآخرة؛ فأكون كاذباً فيما أخبرتُ به ، فإن فعلتُ ذلك كنتُ من الظَّالمينَ لنفسي .
وقوله : { وَلاَ أَعْلَمُ الغيب } الظَّاهرُ أنَّ هذه الجملة لا محلَّ لها عطفاً على قوله : { وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ } كأنَّه أخبر عن نفسه بهذه الجمل الثلاث . وقد تقدَّم في الأنعام أنَّ هذا هو المختار ، وأنَّ الزمخشري قال : « إنَّ قوله تعالى : { وَلاَ أَعْلَمُ الغيب } معطوفٌ على { عِندِي خَزَآئِنُ الله } أي : لا أقول : عندي خزائنُ الله ، ولا أقولُ : أنَا أعلمُ الغَيْبَ » .
قوله : « تَزْدَرِي » تفتعل من زَرَى يَزْرِي ، أي : حَقَرَ ، فأبدلت تاءُ الافتعال دَالاً بعد الزَّاي وهو مطرد ، ويقالك « زَرَيْتُ عَليْهِ » إذا عبته ، و « أزْرَيْتُ بِهِ » أي : قصَّرت به . وعائدُ الموصول محذوفٌ ، أي تَزْدَرِيهم أعينكم ، أي : تحتقرهم وتُقَصِّر بهم؛ قال الشاعر : [ الوافر ]
2964- تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيفَ فتزْدَرِيهِ ... وفِي أثْوابِهِ أَسَدٌ هَصُورُ
وقال الشارع أيضاً : [ الوافر ]
2965- يُبَاعدهُ وتزْدَريهِ ... حَليلتُهُ وينْهَرهُ الصَّغِير
واللاَّمُ في « للَّذينَ » للتَّعليل ، أي : لأجْلِ الذين ، ولا يجُوزُ أن تكون التي للتَّبليغ إذ لو كانت لكان القياس « لن يُؤتيكُم » بالخطاب .
قوله تعالى : { قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } .
قرأ ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - « جَدَلنا » كقوله : { أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } [ الكهف : 54 ] .
ونقل أبو البقاء أنه قرىء « جَدَلْتنا فأكْثَرْتَ جدلنا » بغير ألفٍ فيهما ، وقال : « هو بمعنى غلبتنا بالجَدلِ » .
وقوله : « بِمَا تَعِدُنَا » يجوزُ أن يكون « ما » بمعنى « الذي » ، فالعائدُ محذوفٌ ، أي : تَعدناه .
ويجوزُ أن تكون مصدرية ، أي : بوعدك إيَّانا .
وقوله : « إن كنت » جوابه محذوفٌ أو متقدِّمق وهو « فَأتِنَا » .
فصل
دلَّت هذه الآية على أنَّه - صلوات الله وسلامه عليه - كان قد أكثر في الجدال معهم وذلك الجدالُ كان في بيان التَّوحيد ، والنبوة ، والمعاد ، وهذا يدلُّ على أنَّ المجادلة في تقرير الدَّلائل وفي إزالةِ الشُّبُهاتِ حرفةُ الأنبياءِ ، وأنَّ التقليدَ والجَهْلَ والإصرار حرفةُ الكفَّار ، ودلَّت على أنَّهم استعجلوا العذاب الذي كان يعدهم به ، فقالوا : { فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } ثُمَّ إنه - عليه الصلاة والسلام - أجابهم بقوله :
{ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَآءَ } [ هود : 33 ] أي : أنَّ إنزال العذاب ليس إليَّ ، وإنما هو خلق الله فيفعله إن شاء ، وإذا أراد إنزال العذاب فإنَّ أحداً لا يعجزه ، أي : لا يمنعه .
ثم قال : { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي } إن أردتُ أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ، أي : يضلكم ، قوله : { إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ } قد تقدَّم حكم توالي الشرطين ، وأن ثانيهما قيد في الأوَّل ، وأنه لا بد من سبقه للأوَّل ، وقال الزمخشريُّ هنا : « إنْ كانَ اللهُ » جزاؤه ما دل عليه قوله : « لا يَنْفعُكم نُصْحِي » .
وهذا الدليل في حكم ما دلَّ عليه؛ فوصل بشرطٍ ، كما وصل الجزاء بالشَّرط في قوله : « إنْ أحْسَنْتَ إليَّ أحْسَنْتُ إنْ أمكنني » .
وقال أبو البقاء : حكمُ الشَّرطِ إذا دخل على الشَّرْطِ أن يكون الشَّرطُ الثَّاني والجواب جواباً للشَّرط الأول نحو : « إنْ أتَيْتَنِي إنْ كلَّمتَني أكْرَمْتُكَ » فقولك : « إنْ كَلَّمْتَني أكْرَمْتك » جوابُ « إنْ أتَيْتَني » جميعُ ما بعده ، وإذا كان كذلك كان الشَّرطُ الأول في الذِّكر مؤخَّراً في المعنى ، حتَّى إن أتاه ثم كلَّمه لم يجب الإكرام ، ولكن إن كلَّمه ثمَّ أتاهُ وجب الإكرام ، وعلَّةُ ذلك أنَّ الجواب صار معوَّقاً بالشَّرطِ الثاني ، وقد جاء في القرآن منه { إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي } [ الأحزاب : 50 ] .
قال شهابُ الدِّين : أما قوله : « إنْ وهبَتْ . . . إنْ أرادَ » فظاهرُهُ - وظاهرُ القصة المرويَّة - يدلُّ على عدم اشتراطِ تقدُّم الشَّرط الثاني على الأوَّلِ ، وذلك أنَّ إرادته - صلوات الله وسلامه عليه - للنكاح إنما هو مُرتَّبٌ على هبة المرأةِ نفسها له وكذا الواقعُ في القصَّة ، لمَّا وهبت أراد نكاحها ، ولمْ يُرْوَ أنه أراد نكاحها ، فوهبت ، وهو يحتاجُ إلى جوابٍ ، وسيأتي إن شاء الله - تعالى - في موضعه .
وقال ابنُ عطيَّة هنا وليس نُصْحِي لكم بنافع ، ولا إرادتي الخيرَ لكم مغنيةً إن أراد اللهُ - تعالى - بكم الإغواء ، والشرطُ الثاني اعتراض بين الكلام ، وفيه بلاغةٌ من اقتران الإرادتين ، وأنَّ إرادة البشر غيرُ مُغْنِيةٍ ، وتعلُّقُ هذا الشرط هو ب « نُصْحِي » وتعلُّقُ الآخر ب « لا يَنْفَعُ » .
وتلخص من ذلك أنَّ الشرط مدلولٌ على جوابه بقوله : « ولا يَنْفَعُكُمْ » لأنَّهُ عقبهُ ، وجواب الثاني أيضاً ما دلَّ على جواب الأول وكأنَّ التقدير : وإنْ أردت أنْ أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم فلا ينفعُكمْ نُصحِي . وهو من حيث المعنى كالشَّرط إذا كان بالفاءِ نحو : إنْ كان الله يريدُ أن يُغويكُم فإن أردتُ أن أنصح لكم ، فلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي .
وقرأ الجمهور : « نُصْحي » بضم النونِ ، وهو يحتملُ وجهين :
أحدهما : المصدريةُ كالشُّكر والكُفْر والثاني : أنه اسمٌ لا مصدرٌ .
وقرأ عيسى بن عمر « نَصْحي » بفتح النُّون ، وهو مصدرٌ فقط .
وفي غضون كلام الزمخشري : « إذا عرف اللهُ » وهذا لا يجوزُ؛ لأنَّ الله تعالى لا يسندُ إليه هذا الفعل ولا يوصف بمعناه ، وقد تقدَّم علةُ ذلك في غضون كلام أبي حيَّان وللمعتزليِّ أن يقول : لا يتعيَّن أن تكون « إنْ » شرطيةً بل هي نافيةٌ ، والمعنى : « ما كان اللهُ يريد أن يُغويكُمْ » .
قال شهابُ الدِّين : لا اظن أحداً يرضى بهذه المقالة .
فصل
دلَّت هذه الآية على أنَّ الله - تبارك وتعالى - قد يريدُ الكُفْرَ من العبدِ ، فإذا أرادَ اله منه ذلك امتنع صدور الإيمان منه؛ لأنَّ نوحاً - عليه الصلاة والسلام - قال : { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } .
قال شهابُ الدِّين : لا أظن أحداً يرضى بهذه المقالة .
فصل
دلَّت هذه الآية على أنَّ الله - تبارك وتعالى - قد يريدُ الكُفْرَ من العبدِ ، فإذا أرادَ الله منه ذلك امتنع صدور الإيمان منه؛ لأنَّ نوحاً - عليه الصلاة والسلام - قال : { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } .
قالت المعتزلةُ : ظاهرُ الآية يدلُّ على أن الله تعالى إذا أراد إغواء القوم لم ينتفعوا بنصح الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا مسلمٌ ، فإنا نعلم أنَّ الله - تعالى - لو أراد إغواء عبدٍ فإنَّه لا ينفعهُ نصح النَّاصحين ، لكن لم قلتم إنه تعالى أراد هذا الإغواء ، والنزاع ما وقع إلا فيه؟
بل نقول إنَّ نوحاً - عليه الصلاة والسلام - إنَّما ذكر هذا الكلام ليدل على أنَّهُ تعالى ما أغواهُم ، بل فوَّضَ الاختيار إليهم ، وبيانه من وجهين : الأول : أنه تعالى لو أراد إغواءهم لما بقي في النصح فائدة ، ولو لمْ يكنُ فيه فائدة لما أمره بنصح الكفار ، وأجمع المسلمون على أنه مأمورٌ بدعوة الكفار ونصيحتهم ، فعلمنا أنَّ هذا النُّصح لا يخلُو من الفائدة ، وإن لم يكن خالياً عن الفائدة وجب القطع بأنَّهُ تعالى ما أغواهم .
الثاني : لو ثبت الحكم عليهم بأنَّ الله تعالى أغواهم؛ لصار هذا عذراً لهم في عدم الإتيان بالإيمان ولصار نوح منقطعاً في مناظرتهم؛ لأنَّهم يقولون له : إنَّك سلمت أنَّ الله تعالى إذا أغوانا فإنَّه لا يبقى في نصحك ، ولا في اجتهادك فائدةٌ؛ فإذا ادَّعَيْتَ أنَّ الله تعالى أغوانا؛ فقد جعلتنا مغلُوبين ، فلمْ يَلْزَمْنَا قبول هذه الدعوة؛ فثبت أنَّ الأمر لو كان كما قالهُ الخصمُ؛ لصار هذا حجة للكافر على نُوح - عليه الصلاة والسلام -؛ فثبت بما ذكرنا أنَّ هذه الآية لا تدلُّ على قول المجبرة ، ثم إنَّهم ذكروا تأويلات :
الأول : أنَّ أولئك الكُفَّار مجبرة ، وكانوا يقولون إنَّ كفرهم بإرادة الله؛ فعند هذا قال نوحٌ - عليه الصلاة والسلام - إن نصيحَتي لا تنفعُكُم إن كان الأمرُ كما تقولون .
ومثاله : أن يعاقب الرَّجلُ ولدهُ على ذنبه ، فيقول الولد : لا أقدرُ على غير ما أنا عليه؛ فيقول الوالدُ : فلن ينفعك إذنْ نُصْحِي ، وليس المرادُ أنَّهُ يصدِّقهُ على ما ذكره ، بل على وجه الإنكار لذلك .
الثاني : قال الحسنُ : معنى « يُغْويكُم » أي : يُعَذِّبكم والمعنى : لا ينفعكم نُصْحِي اليوم إذا نزل بكُم العذابُ؛ فأمنتم في ذلك الوقت؛ لأنَّ الإيمان عند نُزُول العقابِ لا يقبلُ وإنَّما ينفعُكم نصحي إذا آمنتم قبل مُشاهدةِ العذابِ .
الثالث : قال الجُبائي : الغوايةُ هي الخيبة من الطَّلب بدليل قوله : { فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً } [ مريم : 59 ] ، أي : خيبة من خير الآخرة؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
2966- ... ومَنْ يَغْوَ لا يَعْدَمْ عَلى الغَيِّي لائِمَا
الرابع : أنه إذا أصرَّ على الكُفْرِ ، وتمادى فيه ، منعه الله الألطاف ، وفوَّضه إلى نفسه؛ فهذا شبيه بما إذا أراد إغواءهُ؛ فلهذا السَّبب حسن أن يقال : إنَّ الله أغواه ، هذا جملة كلامِ المعتزلةِ في هذا البابِ ، وتقدَّم الجوابُ عن أمثال هذه الكلمات ، فلا فائدة في الإعادة ، ثَم قال : { هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فيجازيكم بأعمالكم ، وهذا نهاية الوعيد والتهديد .
قوله : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } اختلقه ، وافتعله ، يعني نوحاً - عليه الصلاة السلام - قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - .
[ وقال مقاتلٌ - رضي الله عنه - : يعني محمَّداً صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه ] والهاء ترجع إلى الوحي الذي بلغه إليهم .
{ قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي } أي : إثْمِي ووبال جرمي ، والإجرامُ : كسب الذَّنب ، وهذا من باب حذف المضاف؛ لأنَّ المعنى : فعليَّ عقاب إجْرامي ، وفي الآية محذوفٌ آخر ، وهو أنَّ المعنى : إن كنتُ افتريتُه فعليَّ عقاب جرمي ، وإن كنتُ صادقاً وكذَّبْتُمونِي فعليكم عقاب ذلك التكذيب ، إلاَّ أنَّه حذف هذه البقية لدلالة الكلام عليه .
قوله : « فَعَلَيَّ إجْرَامِي » : مبتدأٌ وخبرٌ ، أو فعلٌ وفاعلٌ .
والجمهورُ على كسر همزة « إجْرَامِي » ، وهو مصدر أجْرَمَ ، وأجْرمَ هو الفاشي ، ويجوزُ « جَرَمَ » ثلاثياً وأنشدوا : [ الوافر ]
2967- طَرِيدُ عَشيرةٍ ورَهِينُ ذَنْبٍ ... بِمَا جَرَمَتْ يَدِي وجَنَى لِسَانِي
وقرىء في الشاذّ « أجْرَامِي » بفتحها ، حكاهُ النَّحَّاس ، وخرَّجه على أنَّه جمعُ « جُرْم » كقفل وأقْفَال ، واعلم أنَّ قوله { قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي } لا يدلُّ على أنَّهُ كان شاكّاً ، إلاَّ أنَّهُ قولٌ يقال على وجهِ الإنكارِ عند اليأس من القبولِ .
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
قوله تعالى : { وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ } الجمهور على « أوحِيَ » مبنياً للمفعول ، والقائمُ مقام الفاعل { أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ } أي : أوحِيَ إليه عدمُ غيمان بعض القوم .
وقرأ أبو البرهسم « أوْحَى » مبنياً للفاعل وهو الله - سبحانه وتعالى - ، « إنَّهُ » بكسر الهمزة وفيها وجهان :
أحدهما : - وهو أصلٌ للبصريين - أنَّهُ على إضمار القول .
والثاني : - وهو أصلُ للكوفيين - أنَّهُ على إجراء الإيحاء مُجْرَى القول .
قوله « فَلاَ تَبْتَئِسْ » هو تفتعل من البُؤسِ ، ومعناه الحزنُ في استكانة ، ويقال : ابتأسَ فلانٌ ، أي : بلغه ما يكرهه؛ قال : [ البسيط ]
2968- مَا يَقْسِمِ اللهُ أقْبَلَ غَيْرَ مُبْتَئِسٍ ... مِنْهُ وأقْعُدْ كَرِيماً نَاعِمَ البَالِ
وقال آخر : [ البسيط ]
2969- وكَمْ مِنْ خَليلٍ أوْ حَميمٍ رُزِئْتُهُ ... فَلَمْ نَبْتَئِسْ والرُّزْءُ فِيهِ جَلِيلِ
فصل
دلَّت هذه الآية على صحة القول بالقضاءِ والقدرِ؛ لأنَّه تعالى أخبر بأنهم لا يؤمنون بعد ذلك ، فلو حصل إيمانهم؛ لكان إمَّا مع بقاءِ هذا الخبر صدقاً ، ومع بقاء هذا العلم علماً ، أو مع انقلاب هذا الخبر كذباً ومع انقلابِ هذا العلم جهلاً .
والأولُ باطلٌ؛ لأنَّ وجود الإيمان مع أن يكون الإخبار عن عدمِ الإيمانِ صدقاً ، ومع كون العلم بعد الإيمان حاصلاً حال وجود الإيمان جمعٌ بين النَّقيضين .
والثاني أيضاً باطلٌ؛ لأنَّ انقلاب علم الله - تعالى - جهلاً وخبره كذباً محال ، ولما كان صدور الإيمان منهم لا بدَّ وأن يكون على أحد هذين القسمين ، وثبت أنَّ كلَّ واحدٍ منهما محالٌ كان صدور الإيمان منهم محالاً ، مع أنَّهم كانوا مأمورين به ، وأيضاً : فالقومُ كانُوا مأمورين بالإيمان ، ومن الإيمان تصديق الله تعالى - في كُلِّ ما أخبر عنه ، وقد أخبر أنَّهُ { . . . لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } فينبغي أن يقال : إنَّهم كانُوا مأمورين بأن يؤمنوا بأنَّهم لا يؤمنون ألبتة ، وذلك تكليفٌ بالجمع بين النَّقيضين .
قوله تعالى : { واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } .
« بأعْينِنَا » حالٌ من فاعل « اصْنَع » أي : محفُوظاً بأعيننا ، وهو مجازٌ عن كلاء الله له بالحفظ .
وقيل : المراد بهم الملائكة تشبيهاً لهم بعيون النَّاس ، أي : الذين يتفقَّدُونَ الأخبارَ ، والجمع حينئذٍ حقيقةٌ . وقرأ طلحةُ بنُ مصرف « بأعْيُنَّا » مدغمة .
فصل
قوله تعالى : { واصنع الفلك } الظَّاهر أنه أمر إيجاب؛ لأنَّه لا سبيل إلى صون روح نفسه ، وأرواح غيره من الهلاكِ إلا بهذا الطريق ، وصون النَّفْسِ من الهلاك واجب ، وما لا يتم الواجب إلاَّ به فهو واجبٌ ، ويحتملُ أن يكون أمر إباحةٍ ، وهو بمنزلة أن يتخذ الإنسانُ لنفسه داراً يسكنها ، أو يكون ذلك تعليماً له ولمن بعده كيفية عمل السفينة ، ولا يكونُ ذلك من باب ما لا يتمُّ الواجب إلاَّ به ، فإنَّ الله - تبارك وتعالى - خلَّص موسى وقومه من الطُّوفان من غير سفينةٍ ، وكان ذلك معجزة له .
وأما قوله : « بأعْيُنِنَا » فلا يمكنُ إجراؤه على ظاهره لوجوهٍ :
أحدها : أنه يقتضي أن يكون لله أعين كثيرة ، وهذا يناقض قوله تعالى : { وَلِتُصْنَعَ على عيني } [ طه : 39 ] .
وثانيها : أنَّهُ يقتضي أن يصنع الفلك بتلك الأعين ، كقولك : قطعت بالسكين ، وكتبت بالقلم ، ومعلوم أن ذلك باطل .
وثالثها : أنَّه - تعالى - مُنَزَّه عن الأعضاء ، والأبعاض؛ فوجب المصيرُ إلى التأويل ، وهو من وجوه :
الأول : معنى « بِأعْيُنِنَا » أي : بنزول الملك؛ فيعرفه بخبر السفينة ، يقال : فلان عين فلان أي : ناظر عليه .
والثاني : أنَّ من كان عظيمَ العنايةِ بالشيء فإنه يضع عينه عليه؛ فلمَّا كان وضع العين على الشَّيء سبباً لمبالغة الحفظ جعل العين كناية عن الاحتفاظ ، فلهذا قال المفسِّرون : معناه : بحفظنا إيَّاك حفظ من يراك ، ويملك دفع السُّوء عنك .
وحاصل الكلام أن عمل السَّفينة مشروط بأمرين :
أحدهما : أن لا يمنعه أعداؤه من ذلك العمل .
والثاني : أن يكون عالماً بكيفيَّة تأليف السَّفينة وتركيبها .
وقوله : « وَوَحْيِنَا » إشارة إلى أنَّه تعالى يوحي إليه كيفية عمل السَّفينة .
وقوله : { وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } فقيل : لا تطلب منِّي تأخير العذاب عنهم ، فإنِّي قد حكمتُ عليهم بهذا الحم ، فلمَّا علمَ نوحٌ ذلك دعا عليهم بعد ذلك وقال : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] . وقيل : « لا تُخَاطِبْنِي » في تعجيلِ العذابِ فإنِّي لمَّا قضيتُ عليهم إنزال العذاب في وقت معين كان تعجيله ممتنعاً .
وقيل : المرادُ ب « الذينَ ظلمُوا » بانه وامرأته .
قوله : { وَيَصْنَعُ الفلك } قيل : هذا حكايةُ حال ماضيه أي : في ذلك الوقت كان يصدق عليه أنه يصنع الفلك . وقيل : ألتقديرُ : وأقبل يصنع الفلك ، فاقتصر على قوله : « يَصْنَع » . قيل : إن جبريل أتى نُوحاً عليه السَّلام فقال : إنَّ ربَّك يأمُركُ أن تَصْنَعَ الفلك ، فقال : كيف أصنع ولست بنجَّارٍ؟ فقال : إنَّ ربَّك يقولُ : اصْنَعْ فإنَّكَ بعَيْنِي ، فأخذ القدوم ، وجعل يصنعُ ولا يخطئ . وقيل : أوحى الله إليه يجعلها مثل جُؤجُؤ الطَّائر .
روي أنَّ نوحاً - عليه الصلاة والسلام - لمَّا دَعَا على قومهِ وقال : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] استجاب الله دعاءه وأمره أن يَغْرِسَ شجرة ليعمل منها السفينة؛ فغرسها وانتظرها مائة سنة ، ثم نجَّرها في مائة سنة أخرى .
وقيل : في أربعين سنة ، وكانت من خشب الساج . وفي التوراة أنها من الصنوبر .
قال البغويُّ - رحمه الله - أمره أن يجعل طولها ثمانين ذراعاً ، وعرضها خمسين ذراعاً ، وأن يطلي ظاهرها وباطنها بالقارِ وقال قتادة : كان طولها ثلثمائة ذراع [ وعرضها خمسين ذراعاً .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - كان طولها ألفاً ومائتي ذراع في عرض ستمائة ذراع ] .
وقيل : ألف ذراعٍ في عرض مائة ذراعٍ .
واتفقوا كلهم على أنَّ ارتفاعها ثلاثون ذراعاً ، وكانت ثلاث طبقات كلُّ واحدة عشرة أذرع ، فالسفلى للدَّواب والوحوش ، والوسطى للنَّاس ، والعليا للطيور ، ولها غطاء من فوق يطبق عليها .
قال ابنُ الخطيب - رحمه الله - والذي نعلمه أنَّ السَّفينة كانت سعتها بحيث تسعُ المؤمنين من قومه ، ولما يحتاجون إليه ، ولحصول زوجين لكلّ حيوان؛ لأنَّ هذا القدر مذكور في القرآن ، فأما تعيينُ ذلك القدر فغير معلوم .
قوله : « وَكُلَّمَا مَرَّ » العاملُ في « كُلَّمَا » « سَخِرَ » ، و « قَالَ » مستأنف ، إذ هو جوابٌ لسؤال سائل . وقيل : بل العامل في « كُلَّما » « قال » ، و « سَخِرُوا » على هذا إمَّا صفة ل « مَلأ » ، وإمَّا بدلٌ مِنْ « مرَّ » ، وهو بعيدٌ جدّاً ، إذ ليس « سَخِرَ » نوعاً من المرور ، ولا هو هو فكيف يبدل منه؟ والجملةُ من قوله « كُلَّما » إلى آخره في محلِّ نصبٍ على الحالِ أي : يصنع الفلك والحالُ أنَّه كُلَّما مرَّ .
فصل
اختلفوا فيما كانوا لأجله يسخرون ، فقيل : إنهم كاوا يقولون له : كنت تدَّعي الرسالة ، فصرت نجَّاراً . وقيل : كانوا يقولون : لو كنت صادقاً في دعواك لكان إلهك يغنيك عن هذا العمل الشاق .
وقيل : إنَّهم كانُوا ما رَأوا السَّفينة قبل ذلك وما عرفوا كيفية الانتفاع بها ، فكانوا يتعجَّبُون منه ويسخرُون - وقيل : إنَّ تلك السَّفينة كانت كبيرة ، وكان يصنعها في موضع بعيد عن الماء جدّاً ، وكانوا يقولون له : ليس ههنا ماء ، ولا يمكنك نقلها لماءِ البحار ، فكانوا يُعدُّون ذلك من باب السخرية .
وقيل : إنَّه لمَّا طال مكثه فيهم ، وكان ينذرهم بالغرقِ ، وما شاهدُوا من ذلك المعنى خبراً ولا أثراً غلب على ظنونهم كذبه في ذلك النقل ، فلمَّا اشتغل بعمل السفينة ، سخرُوا منه ، وكل هذه الوجوه محتملة .
ثم إنَّه تعالى حكى عنه أنه كان يقول : { إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ } أي : مثل سخريتكُمْ إذا غرقتم في الدنيا ووقعتم في العذاب يوم القيامة . وقيل : إن حكمتم علينا بالجَهْلِ فيما نصنع فإنَّا نحكم عليكم بالجهلِ فيما أنتم عليه من الكفر ، والتَّعرض لسخطِ الله وعذابه ، فأنتم أولى بالسُّخرية مِنَّا .
فإن قيل : كيف تجُوزُ السخرية من النبي؟ .
فالجوابُ : هذا ازدواج للكلام يعنى : إن تَسْتجْهلوني فإنِّي أستجهلكم إذا نزل بكم العذاب .
وقيل : معناه : إن تَسْخَرُوا منَّا فسترون عاقبة سخريتكم .
وقيل : سمى المقابلة سخرية كقوله { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] .
قوله : { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } .
في « مَنْ » وجهان :
أحدهما : أن تكون موصولة .
والثاني : أن تكون استفهاميَّة ، وعلى كلا التقديرين ف « تَعْلَمُونَ » إمَّا من باب اليقينِ ، فتتعدَّى لاثنين ، وإمَّا من بابِ العرفان فتتعدَّى لواحد .
فإذا كانت هذه عرفانية و « مَنْ » استفهامية كانت « مَنْ » ، وما بعدها سادَّة مسدَّ مفعول واحد ، وإن كانت متعديةً لاثنين كانت سادَّة مسدَّ المفعولين وإذا كانت « تَعْلَمُونَ » متعديةً لاثنين ، و « مَنْ » موصولة كانت في موضع المفعول الأوَّلِ ، والثاني محذوفٌ قال ابن عطيَّة : « وجائزٌ أن تكون المتعدية إلى مفعولين ، واقتصر على الواحدِ » .
وهذه العبارةُ ليست جيِّدة؛ لأنَّ الاقتصار في هذا الباب على أحد المفعولين لا يجوز ، لما تقرَّر من أنَّهما مبتدأ وخبر في الأصل ، وأمَّا حذف الاختصار ، فهو ممتنعٌ أيضاً ، إذ لا دليل على ذلك . وإن كانت متعدِّية لواحدٍ و « مَنْ » موصولةٌ فأمرها واضحٌ .
قوله : « وَيَحِلُّ عليْهِ » أي : يجبُ عليه ، وينزل به « عذابٌ مقيمٌ » دائم . وحكى الزهراويُّ - رضي الله عنه - : « ويَحُلُّ » بضمِّ الحاءِ ، بمعنى يجبُ أيضاً .
قوله : { حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا } عذابنا ، أو وقته ، أو قولنا « كن » .
{ وَفَارَ التنور } اختلفوا في التَّنور : قال عكرمةُ والزهري : هو وجه الأرض ، أي نبعث الأرض من سائر أرجائها حتى نبعث التنانير التي هي محال النار وذلك أنَّه قيل لنوح : إذ رأيت الماء قدْ فَارَ على وجه الأرض ، فاركب السَّفينة أنت وأصحابك .
وروي عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال : التنور طلوع الفجر ، ونور الصَّباح وقيل : التَّنُّور أشرف مكان في الأرض وأعلاه . وقيل : « فَارَ التَّنُّورُ » يحتمل أن يكون معناه : اشتدَّ الحر كما يقالُ : حمي الوطيسُ .
ومعنى الآية : إذا رأيتَ الأمر يشتد والماء يكثر فانْجُ بنفسك ومن معك إلى السفينة .
وقال الحسنُ ومجاهدٌ والشعبيُّ : إنه التنور الذي يخبز فيه . وهو قول أكثر المفسِّرين ، ورواه عطيَّة عن ابن عبَّاس .
قال الحسنُ : كان تَنُّوراً من حجارةٍ ، كانت حواء تخبزُ فيه ، فصار إلى نُوح - عليه الصلاة والسلام - واختلفوا في موضعه فقال مجاهدٌ والشعبيُّ : إنَّه بناحية الكوفة وعن علي أنَّهُ في مسجد الكوفة . وقال مقاتلٌ بموضع يقال له : عين وَرْدة بالشَّام وقيل : عين بالهند .
قال الزمخشريُّ : « حتَّى » هي التي يُبْتَدَأ بعدها الكلام ، دخلت على الجملة من الشَّرطِ والجزاء ، ووقعت غاية لقوله { وَيَصْنَعُ الفلك } أي : وكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد والألف واللاَّم في « التَّنُّور » قيل : للعهدِ . وقيل : للجنس .
ووزن « تَنُّور » قيل : « تَفْعُول » من لفظ النور فقلبت الواوُ لأولى همزة لانضمامها . ثم حذفت تخفيفاً ، ثم شدَّدُوا النون كالعوضِ عن المحذوف ، ويعزى هذا لثعلب .
وقيل : وزنه « فَعُّول » ويعزى لأبي علي الفارسيِّ . وقيل : هو أعجميٌّ ، وعلى هذا فلا اشتقاقَ له . والمشهورُ أنَّه ممَّا اتفق فيه لغة العرب والعجم كالصَّابون .
ومعنى « فَارَ » أي : غلا قوة وشدة تشبيهاً بغليان القدر عند قوة النّضار ، ولا شبهة في أنَّ نفس التَّنور لا يفوزُ ، فالمرادُ : فار الماءُ في التَّنور .
قال اللَّيْثُ - رحمه الله - : « التَّنُّور عمَّت بكل لسان وصاحبه تنَّار قال الأزهريُّ : وهذا يدلُّ على أن الاسم يكون أعْجَميّاً فتعربه العرب ، فيصير عربيّاً ، والدليلُ على ذلك أنَّ الأل » تَنَرَ « ، ولا يعرفُ في كلام العرب » تنر « وهو نظير ما دخل في كلام العرب من كلام العجم الدِّيباج والدِّينار ، والسُّندس ، والإستبرق ، فإنَّ العرب تكلَّمُوا بها؛ فصارت عربيةً » . قيل : إنَّ امرأته كانت تخبز في ذل التنور ، فأخبرته بخروج الماءِ من ذلك التنور فاشتغل في الحالِ بوضع هذه الأشياء في السفينة .
قوله : { قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين } قرأ العامَّة بإضافة « كُل » ل « زَوْجَيْنِ » .
وقرأ حفص بتنوين « كُل » ، فأمَّا العامة فقيل : إنَّ مفعول « احْمِلْ » « اثْنَيْن » ، و « مِنْ » كُلِّ زَوْجَيْنِ « في محلِّ نصبٍ على الحالِ من المفعول؛ لأنه كان صفة للنَّكرة ، فلمَّا قُدِّم عليها نُصب حالاً وقيل : بل » مِنْ « زائدة ، و » كُل « مفعول به ، و » اثْنَيْن « نعت ل » زَوْجَيْن « على التَّأكيدِ ، وهذا إنَّما يتمُّ على قول من يرى زيادة » مِنْ « مطلقاً ، أو في كلامٍ موجب .
وقيل : قوله : » زَوْجَيْن « بمعنى العُمومِ أي : من كُل ما له ازدواجٌ ، هذا معنى قوله : { مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ } وهو قولُ الفارسيِّ وغيره .
قال ابنُ عطيَّة : ولو كان المعنى : احمل فيها من كل زوجين حاصلين اثنين ، لوجب أن يحمل من كُلِّ نوع أربعة ، والزوج في مشهور كلامهم للوحد ممَّا له ازدواجٌ .
قال - سبحانه وتعالى - : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } [ الذاريات : 49 ] ، ويقال للمرأة زوجٌ ، قال تعالى : { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ النساء : 1 ] يعني المرأة ، وهو زوجها ، وقال : { وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى } [ النجم : 45 ] فالواحدُ يقال له : زوجٌ ، قال تعالى : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين } [ الأنعام : 143 ] ، { وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين } [ الأنعام : 144 ] .
فالزَّوجان : عبارة عن كل اثنين لا يَسْتغني أحدهما عن الآخر ، يقال لكُلِّ واحدٍ منهما زوج ، يقال زوج خفٍّ ، وزوج نَعْلِ ، والمراد بالزَّوجين ههنا : الذَّكر والأنثى .
وأمَّا قراءة حفص فمعناها : من كلِّ حيوان أو من كلِّ صنف ، و » زَوْجَيْن « مفعولٌ به ، و » اثْنَيْنِ « نعتٌ على التأكيد ، كقوله { لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين } [ النحل : 51 ] ، و » مِنْ كُلّ « على هذه القراءة يجوز أن يتعلق ب » احْمِلْ « وهو الظَّاهرُ ، وأن يتعلق بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من » زَوْجَيْنِ « وهذا الخلاف والتخريج جاريان أيضاً في سورة » قَدْ أفْلَحَ « .
فصل
اختلفوا في أنه هل دخل في قوله : « زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ » غير الحيوانِ أم لا؟ فنقول فالحيوانُ مرادٌ ولا بد ، وأما النَّباتُ فاللفظ لا يدل عليه ، إلا أنه بقرينة الحال لا يبعد دخلوه لأنَّ الناس محتاجون إلى النبات بجميع أقسامه .
قال ابنُ الخطيب : « وروي عن ابن مسعودٍ أنه قال : لم يستطع نوحٌ أن يحمل الأسد حتَّى ألقيت عليه الحمى ، وذلك أنَّ نُوحاً - عليه الصلاة والسلام - قال : يا ربِّ فمن أين أطعم الأسد ، إذا حملته؟ قال الله - تعالى - : » فسوف أشغله عن الطعام فسلَّط الله عليه الحمى « وأمثال هذه الكلمات الأولى تركها ، فإنَّ حاجة الفيل إلى الطَّعام أكثر ، وليست به حُمَّى » .
وروى زيد بن أسلم عن أبيه مرسلاً أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لمَّا حمل نوح في السفينة من كُلِّ زوجين اثنين ، قال أصحابه : وكيف يطمئن ، أو تطمئن المواشي ، ومعنا الأسد ، فسلَّط الله عليه الحمى ، فكانت أوَّلُ حمى نزلت الأرض ، ثم شكوا الفأرة فقالوا : الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا ، فأوحى الله إلى الأسدِ ، فعطس الأسد فخرجت الهرة؛ فتخبأت الفأرة منها .
قوله : « وأهْلَك » نسقٌ على « اثْنَيْنِ » في قراءة من أضاف « كُل » ل « زَوْجَيْنِ » ، وعلى « زَوْجَيْنِ » في قراءة من نوَّن « كُل » وقوله : « إلاَّ من سبقَ » استثناءٌ متصل في موجب ، فهو واجب النَّصْبِ على المشهُور .
وقوله : « وَمَنْ آمَنَ » مفعول به نسقاً على مفعول « احْمِلْ » .
فصل
روي أنَّ نوحاً - عليه الصلاة السلام - قال يا رب : كيف أحملُ من كلِّ زوجين اثنين؟ فحشر الله - تعالى - إليه السباع والطير ، فجعل يضربُ بيده في كل جنس فيقع الذَّكرُ في يده اليمنى والأنثى في يده اليسرى ، فيجعلهما في السفينة .
والمراد بأهله : ولده وعياله { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول } بالهلاك يعني : امرأته واعلة وابنه كنعان .
« ومَنْ آمَنَ » يعنى : واحمل من آمن بك ، قال تعالى : { وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } . قال قتادةُ بنين سام وحام ويافث ونساؤهم .
وقال الأعمشُ : كانوا سبعة : نوحٌ وثلاثة بنين له وثلاثُ كنائن وقال ابن إسحاق : كانوا عشرة سوى نسائهم ، نوح وبنوه : سام وحام ويافث ، وستة أناس ممن كان به ، وأزواجهم جميعاً .
وقال مقاتل : كانوا اثنين وسبعين رجلاً وامرأةً ، وبنيه الثلاث ونساءهُم .
فجميعهم ثمانية وسبعون ، نصفهم رجال ، ونصف نساء .
وعن ابن عباسٍ : كان في سفينة نوح عليه السلام ثمانون رجلاً ، أحدهم جرهم ، يقال : إنَّ في ناحية « المَوْصِل » قريةً ، يقال لها : قريةُ الثَّمانين ، سمِّيت بذلك؛ لأنَّهم لما خرجوا من السَّفينة بنوها ، فسُمِّيت بهم .
قال مقاتلٌ : حمل نوحٌ معه جسد آدم ، فجعله معترضاً بني الرِّجال والنِّساء .
وقال الحسنُ : لم يحمل نوحٌ في السفينة إلاَّ ما يلد ويبيض فأما ما يتولَّد من الطين؛ فالحشرات ، والبقِّ ، والبعوض؛ فلم يحمل منه . ثم قال تعالى { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول } يعني : حكم الله عليه بالهلاك ، وهو ابنه ، وزوجته ، وكانا كافرين ، فأما ابنه فهو يام ، وتسميه أهل الكتاب : كنعان ، فهو الذي انعزل عنه ، أما امرأةُ نوحٍ ، فهي أمِّ أولاده كلهم : حام ، وسام ، ويافث ، وهو أدرك؛ انعزل ، وغرق ، وعابر ، وقد مات قبل الطوفان ، فقيل مع من غرق وكانت خمس سبق عليها القول بكفرها ، وعند أهل الكتاب أنها كانت في السفينة فيحتمل أنها ماتت بعد ذلك .
فإن قيل : الإنسان أشرف من سائر الحيواناتِ ، فما الفائدة من ذكر الحيوانات؟
فالجوابُ : أنَّ الإنسانَ عاقلٌ وهو لعقله كالمضطر إلى دفع أسباب الهلاكِ عن نفسه ، فلا حاجة إلى المبالغة في التَّرغيب فيه ، بخلاف السَّعْي في تخليص سائر الحيوانات؛ فلهذا وقع الابتداء به .
فإن قيل : الذين دخلوا السَّفينة كانوا جماعة فلم لم يقل قليلون كما في قوله : { إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ } [ الشعراء : 54 ] ؟ فالجواب : كلا اللفظين جائز ، والتقدير - ههنا - : وما آمن معه إلا نفر قليل .
فصل
احتجوا بقوله { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول } في إثبات الفضاءِ السَّابق والقدر الوجب ، لأنَّ قوله { سَبَقَ عَلَيْهِ القول وَمَنْ آمَنَ } يدلُّ على أنَّ من سبق عليه القول ومن آمَنَ لا يغيَّرُ عن حاله ، فهو كقوله - عليه الصلاة والسلام - : « السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقى في بطن أمه » .
قال تعالى : { وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مَجْرَاهَا } .
يجُوزُ أن يكون فاعلُ « قَالَ » ضمير نوح - عليه الصلاة والسلام - ، ويجوزُ أن يكون ضمير الباري - تعالى جل ذكره - أي : وقال الله لنوح ومنه معهُ . و « فِيهَا » متعلقٌ ب « ارْكَبُوا » وعُدِّي ب « في » لتضَمُّنه معنى « ادخلوا فيها راكبين » أو سيروا فيها .
وقيل : تقديره : اركبوا الماء فيها . وقيل : « في » زائدة للتَّوكيد .
والركوب : العلو على ظهر الشيءِ ، ومنه ركوب الدَّابة ، وركوب السَّفينة ، وركوب البحر ، وكل شيء علا شيئاً ، فقد ركبه ، ويقال : ركبه الدَّين . قال الليثُ - رحمه الله - : وتسمي العربُ من يركبُ السَّفينة : رُكَّابَ السَّفينة ، وأمَّا الركبانُ ، والأركُوبُ ، والرَّكْبُ : فركَّابُ الدَّوابِّ .
قال الواحدي : ولفظة « فِي » في قوله « ارْكَبُوا فيهَا » لا يجوز أن تكون من صلة الركوب؛ لأنَّه يقال : ركبت السفينة ولا يقال : ركبت في السَّفينة ، بل الوجهُ أن يقول مفعول « ارْكَبُوا » محذوف والتقدير : « اركبوا الماء في السَّفينة » .
وأيضاً يجوز أن تكون فائدة هذه الزيادة ، أنَّه أمرهم أن يكونوا في جوف الفلك لا على ظهرها فلو قال : اركبوها ، لتوهَّمُوا أنَّه أمرهم أن يكونوا على ظهر السَّفينة .
قال قتادةُ : ركبُوا السَّفينة يوم العاشر من شهر رجب؛ فسارُوا مائةً وخمسين يوماً ، واستقرَّتْ على الجُودي شهراً ، وكان خروجهم من السفينة يوم عاشوراء من المحرَّمِ .
قوله : { بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } .
يجوز أن يكون هذا الجار والمجرور حالاً من فاعل « اركبوا » أو من « ها » في « فيها » ويكونُ « مجراها » ، و « مرساها » فاعلين بالاستقرار الذي تضمَّنهُ الجارُّ لوقوعه حالاً . ويجوز أن يكون « بِسْمِ اللهِ » خبراً مقدَّماً ، و « مَجْراها » مبتدأ مؤخراً ، والجملة أيضاً حالٌ ممَّا تقدَّم ، وهي على كلا التقديرين حالٌ مقدرةٌ كذا أعربه أبو البقاء ، وغيره . إلاَّ أنَّ مكيّاً منع ذلك لخلو الجملة من ضمير يعود على ذي الحال إذا أعربنا الجملة أو الجارَّ حالاً من فاعل « ارْكَبُوا » قال : ولا يَحْسُنُ أن تكون هذه الجملة حالاً من فاعل « اركبُوا » ؛ لأنَّه لا عائد في الجملةِ يعودُ على الضمير في « اركبُوا » لأن المضمر في « بِسْمِ اللهِ » إنْ جعلته خبراً ل « مَجْراهَا » فإنَّما يعودُ على المبتدأ ، وهو مجراها ، وإن رفعت « مَجْرَاهَا » بالظَّرفِ لم يكن فيه ضمير الهاءِ في « مَجْراهَا » وإنما تعودُ على الضمير في « فِيهَا » .
وإذا نصبت « مَجْرَاهَا » على الظرف عمل فيه « بِسْمِ الله » وكانت الجملةُ حالاً من فعل « ارْكَبُوا » .
وقيل : بِسْمِ اللهِ « حال من فاعل » ارْكَبُوا « و » مَجْراهَا ومُرْسَاهَا « في موضع الظرف المكاني ، أو الزماني . والتقدير : اركبوا فيها مُسَمِّين موضع جريانها ، ورُسُوِّها ، أو وقت جريانها ورسوِّها .
والعامل في هذين الظرفين حينئذٍ ما تضمَّنه » بِسْمِ اللهِ « من الاستقرار ، والتقدير : اركبوا فيها مُتبرِّكين باسم الله في هذين المكانين ، أو الوقتين .
قال مكي : ولا يجوز أن يكون العاملُ فيهما » ارْكَبُوا « ؛ لأنه لم يُرِدْ : اركبُوا فيها في وقتِ الجَرْي ، والرسُوِّ ، إنَّما المعنى : سمُّوُا اسم الله في وقت الجَرْيِ والرُّسُوِّ .
ويجُوزُ أيضاً أن يكون » مَجْرَاهَا ومُرْسَاها « مصدرين ، و » بِسْمِ الله « حالٌ كما تقدَّم ، رافعاً لهذين المصدرين على الفاعليَّة أي : استقرَّ بسم الله إجراؤها ، وإرساؤها ، ولا يكونُ الجارُّ حينئذٍ إلاَّ حالاً من » هَا « في » فيها « لوجود الرابط ، ولا يكونُ حالاً من فاعل » اركبُوا « لعدم الرَّابط . وعلى هذه الأعاريب يكونُ الكلامُ جملةً واحدةً .
ويجوز أن يكون { بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } جملة مستأنفة لا تعلُّق لها بالأولى من حيث الإعراب ، ويكون قد أمرهم في الجملة الأولى بالرُّكُوب ، وأخبر أنَّ مجراها ومرساها باسم الله .
فجرت ، وإذا أراد أن ترسو قال : بسم الله .
قال بعضُ المفسِّرين : كان نوح عليه الصلاة والسلام إذا أراد إجراء السفينة قال : « بِسْمِ اللهِ مجرَاها » فتجري ، وإذا أراد أن ترسُو قال : « بِسْمِ الله مرْساهَا » فترسو ، فالجملتان محكيتان ب « قَالَ » .
وقرأ الأخوان وحفص « مَجْرَاها » بفتح الميم ، والباقون بضمها . واتَّفق السَّبعة على ضمِّ ميم « مُرْسَاها » . وقرأ ابن مسعود ، وعيسى الثقفي وزيد بن علي ، والأعمش « مَرْسَاها » بفتح الميم أيضاً .
فالضمُّ فيهما ، لأنهما من « أجْرَى وأرْسَى » ، والفتح لأنَّهُما من « جَرَتْ ورَسَتْ » وهما : إمَّا ظرفا زمان أو مكان أو مصدران على ما سبق من التقادير .
وقرأ الضحاك ، والنخعي ، وابن وثابٍ ، ومجاهدٌ ، وأبو رجاء ، والكلبي ، والجحدري ، وابن جندب مجريها ومرسيها بكسر الراء ، والسين بعدهما ياء صريحة ، وهما اسما فاعلين من « أجرى وأرسى » ، وتخريجهما على أنهما بدلان من اسم الله .
قال ابنُ عطيَّة وأبو البقاء ، ومكي : إنَّهما نعتان للهِ - تعالى - ، وهذا الذي ذكروه إنَّما يتمُّ على تقدير كونهما معرفتين بتمحض الإضافة ، وقال الخليلُ : « إنْ كُلَّ إضافةٍ غيرُ محضةٍ قد تُجعل محضة إلاَّ إضافة الصفةِ المشبهة ، فلا تتمحَّض » .
وقال مكي : « ولو جعلت » مَجْراهَا « ، و » مُرْسَاها « في موضع اسم الفاعل لكانت حالاً مقدرة ، ولجاز ذلك وكانت في موضع نصبٍ على الحال من اسم الله تعالى » .
والرُّسوُّ : الثَّبات ، والاستقرار ، يقال : رَسَا يَرْسُو وأرْسَيْتُهُ أنَا؛ قال : [ الكامل ]
2970- فَصَبرْتُ نفْساً عند ذلكَ حُرَّةً ... تَرْسُو إذَا نَفْسُ الجبانِ تَطَلَّع
أي : تَثْبُتُ وتَسْتَقِرُّ عندما تضطربُ وتتحرك نفسُ الجبان .
قوله : { إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } فيه سؤال ، وهو إن كان ذلك وقت إظهارِ الضر ، فكيف يليق به هذا الذكر؟ .
والجوابُ : لعل القوم الذين ركبوا السَّفينة اعتقدُوا في أنفسهم أنَّا إنَّما نجونا ببركةِ علمنا فالله تعالى نبَّههم بهذا الكلام لإزالة ذلك العجب ، فإنَّ الإنسان لا ينفكُّ من أنواع الزلاتِ وظلمات الشبهات ، وفي جميع الأحوال ، فهو محتاجٌ إلى إعانةِ الله ، وفضله ، وإحسانه ، وأن يكون غفوراً لذنوبه رحيماً لعقوبته .
قوله : « وهِيَ تَجْرِي » في هذه الجملةِ ، ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّها مستأنفةٌ ، أخبر الله تعالى عن السفينة بذلك .
والثاني : أنَّها في محلِّ نصب على الحالِ من الضَّمير المستتر في « بِسْمِ اللهِ » أي : جريانها استقرَّ بسم الله حال كونها جارية .
الثالث : أنَّها حالٌ من شيءٍ محذوفٍ تضَمَّنته جملةٌ دلَّ عليها سياقُ الكلامِ .
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : بم اتَّصل قوله : « وهِيَ تَجْرِي بهِمْ » ؟ قلت : بمحذُوفٍ دلَّ عليه قوله : « اركبُوا فيها بسْمِ الله » كأنَّهُ قيل : فركبوا فيها يقولون : « بسم الله وهي تجري بهم » .
وقوله « بِهِمْ » يجوزُ فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق ب « تَجْرِي » .
والثاني : أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ أي : تجري ملتبسةً بهم ، ولذلك فسَّرهُ الزمخشريُّ بقوله : « أي : تجْرِي وهُمْ فيها » .
وقوله : « كالْجِبَالِ » صفة ل « مَوْجٍ » .
فصل
قال ابن جرير ، وغيره : إنَّ الطُّوفان كان في ثالث عشر شهر آب في عادة القبطِ ، وإنَّ الماء ارتفع على أعلى جبل في الأرض خمسة عشر ذراعاً ، وهو الذي عند أهل الكتاب ، وقيل : ثمانين ذراعاً وعمَّ جميع الأرض طولاً وعرْضاً .
والمَوْجُ جمع « مَوْجة » والموج : ما ارتفع من الماءِ إذا اشتدَّ عليه الريح . وهذا يدلُّ على أنَّهُ حصل في ذلك الوقت رياح عاصفة .
فإن قيل : الجريانُ في الموج يوجب الغرقَ .
فالجوابُ : أنَّ الأمواجَ لمَّا أحاطت بالسَّفينة من جوانبها أشبهت تلك السَّفينة كأنَّها جرت في داخل الأمواج .
قوله تعالى : { ونادى نُوحٌ ابنه } الجمهور على كسْرِ تنوين « نوح » لالتقاء الساكنين .
وقرأ وكيع بضمِّه إتباعاً لحركةِ الإعراب ، واسترذلَ أبو حاتمٍ هذه القراءة ، وقال : « هي لغةُ سوءٍ لا تُعْرَفُ » .
وقرأ العامَّةُ : « ابنهُ » بوصل هاء الكناية بواو ، وهي اللغةُ الفصيحةُ الفاشية .
وقرأ ابنُ عباس بسكون الهاء . قال بعضهم : هذا مخصُوصٌ بالضَّرُورة؛ وأنشد : [ البسيط ]
2971- وأشْرَبُ الماء ما بِي نحوهُ عطشٌ ... إلاَّ لأنَّ عُيُونه سَيْلُ وَادِيهَا
وبعضهم لا يخُصُّه بها ، وقال ابن عطية : إنَّا لغةٌ لأزْد السَّراة؛ ومنه قوله : [ الطويل ]
2972- ... ومِطْوايَ مُشْتاقَانِ لَهْ أرِقَانِ
وقال بعضهم : « هي لغة عُقَيْل ، وبني كلاب » .
وقرأ السدي : « ابْنَاهُ » بألف وهاء السكت ، قال ابنُ جنِّي : « وهو على النّداء » .
وقال أبو البقاء : « ابناه » على الترثِّي وليس بندبة؛ لأنَّ النُّدبة لا تكونُ بالهمزة .
وهو كلامٌ مشكلٌ في نفسه ، وأين الهمزةُ هنا؟ إن عنى همزة النِّداء ، فلا نُسَلِّم أنَّ المقدَّر من حروفِ النِّداءِ هو الهمزةُ؛ لأنَّ النُّحاة نصُّوا على أنَّه لا يضمر من حروف النِّداءِ إلاَّ « يَا » لأنَّها أم الباب .
وقوله : « الترثِّي » هو قريبٌ في المعنى من الندبة .
وقد نصوا على أنَّه لا يجوزُ حذف [ حرف ] النداء من المندوب ، وهذا شبيهٌ به .
وقرأ عليٌّ - كرم الله وجهه - : « ابنها » إضافة إلى امرأته كأنه اعتبر قوله : « ليْسَ من أهلكَ » ، وقوله : « ابْنِي » و { مِنْ أَهْلِي } [ هود : 45 ] لا يدل له لاحتمالِ أن يكون ذلك لأجل الحنوّ ، وهو قول الحسن ، وجماعة .
وقرأ محمد بن عليّ ، وعروة بن الزبير : « ابْنَهَ » بهاء مفتوحة دون ألف ، وهي كالقراءةِ قبلها ، إلاَّ أنه حذف ألف « ها » مجتزئاً عنها بالفتحةِ ، كما تحذف الياءُ مُجْتَزأ عنها بالكسرة ، قال ابن عطيَّة : « هي لغةٌ » ؛ وأنشد : [ البسيط ]
2973- إمَّا تقُودُ بِهَا شَاةً فتأكُلُهَا ... أو أن تَبِيعَه في بَعْضِ الأرَاكِيبِ
يريد : تَبِيعهَا « فاجتزأ بالفتحةِ عن الألفِ ، كما اجتزأ الآخر عنها في قوله : - وأنشده ابن الأعرابي على ذلك - : [ الوافر ]
2974- فَلَسْتُ براجعٍ ما فَاتَ مِنِّي ... بِلَهْفَ ، ولا بِلَيْتَ ، ولا لَوَ انِّي
يريد : » يَا لَهْفَا « فحذف ، وهذا يخصُّه بعضهم بالضرورة ، ويمنع في السَّعة : » يا غُلامَ « في : يا غُلامَا .
وسيأتي في نحو { ياأبت } [ يوسف : 4 ] بالفتح : هل ثمَّ الفٌ محذوفة أم لا؟ وتقدَّم خلاف في نحو : يا ابن أمَّ ، ويا ابن عمَّ : هل ثمَّ ألفٌ محذوفة مجتزأٌ عنها بالفتحةِ أم لا؟ فهذا أيضاً كذلك ، ولكن الظَّاهر عدم اقتياسه ، وقد خطَّأ النَّحَّاسُ أبا حاتم في حذف هذه الألف ، وفيه نظر .
قوله : { وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ } جملةٌ في موضع نصب على الحالِ ، وصاحبها هو » ابْنَهُ « والحالُ تأتي من المنادى لأنَّه مفعولٌ به .
والمَعْزِل - بكسر الزاي - اسم مكن العزلة ، وكذلك اسم الزمان أيضاً ، وبالفتح هو المصدر . قال أبو البقاء : » ولمْ أعلم أحداً قرأ بالفتح « .
قال شهابُ الدِّ ] ن : لأنَّ المصدر ليس حاوياً له ولا ظرفه؛ فكيف يقرأ به إلاَّ مجازٍ بعيد؟ .
وأصله : من العَزْل ، وهو التَّنحية ، والإبعاد تقول : كنت بمعزلٍ عن كذا ، أي : بموضع قد عُزِل منه ، قيل : كان بمعزلٍ عن السفينة ، لأنه كان يظنُّ أنَّ الجبل يمنعه من الغرق .
وقيل : كان بمعزل عن أبيه وإخوته وقومه ، وقيل : كان في معزل من الكفار كأنَّه انفرد عنهم فظنَّ نوحٌ أنَّ ذلك محبة لمفارقتهم .
فصل
اختلفوا في أنه هل كان ابناً له؟ فقيل : كان ابنه حقيقة لنصِّ القرآن ، وصرفُ هذا اللفظ إلى أنَّهُ رباه ، فأطلق عليه اسم الابن لهذا السَّبب ، صرف للكلام عن حقيقته إلى مجازه من غير ضرورة ، والمخالفُ لهذا الظَّاهر إنَّما خالفهُ استبعاداً لأن يكون ولد الرسول كافراً ، وهذا ليس ببعيد؛ فإنَّه قد ثبت بنصِّ القرآن أنَّ والد الرسول - عليه الصلاة والسلام - كان كافراً ، فكذلك ههنا .
فإن قيل : لمَّا دَعَا وقال : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] فكيف نادى ابنه مع كفره؟ .
فالجواب من وجوه :
الأول : أنَّهُ كان ينافقُ أباه؛ فظنَّ نوحٌ أنَّهُ مؤمنٌ؛ فلذلك ناداه ، ولولا ذلك لما أحب نجاته .
الثاني : أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يعلمُ أنه كافرٌ لكن ظنَّ أنه لمَّا شاهد الغرق ، والأهوال العظيمة فإنَّهُ يقبل الإيمان ، فكان قوله : { يابني اركب مَّعَنَا } كالدَّلائلِ على أنَّهُ طالبٌ منه الإيمان ، وتأكد هذا بقوله : { وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين } أي : تابعهم في الكفر ، واركب مع المؤمنين .
الثالث : أنَّ شفقة الأبوة لعلَّها حملته على ذلك النداء ، والذي تقدَّم من قوله : { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول } [ هود : 40 ] كان كالمجمل ، فلعلَّه جوَّز ألاَّ يكون هو داخلاً فيه .
وقيل : كان ابن امرأته ، ويدلُّ عليه ما تقدَّم من القراءة .
وقال قتادة : سألت الحسن عنه فقال : والله ما كان ابنه فقلت : إنَّ الله - تعالى - حكى عنه أنه قال : { إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي } [ هود : 45 ] وأنت تقولُ : ما كان ابناً له ، فقال : لَمْ يقل : إنَّ ابني منِّي ، وإنَّما قال : من أهلي ، وهذا يدلُّ على قولي .
وقيل : ولد على فراشه ، قالوا : لقوله تعالى في امرأة نوح ، وامرأة لوط { فَخَانَتَاهُمَا } [ التحريم : 10 ] .
قال ابن الخطيب : وهذا قول خبيثٌ يجب صون منصب الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - عن هذه الفضيحةِ لا سيما هو على خلاف نصِّ القرآن .
وأمَّا قوله تعالى : { فَخَانَتَاهُمَا } [ التحريم : 10 ] فليس فيه أنَّ تلك الخيانة كانت بالسَّبب الذي ذكروه .
قيل لابن عباس - رضي الله عنه - : كيف كانت تلك الخيانةُ ، فقال : كانت امرأة نوح تقول : زَوْجي مجنونٌ ، وامرأة لوط تدلُّ الناس على ضيفه ، إذا نزلُوا به ، ويدلُّ على فسادِ هذا القول قوله تعالى : { الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ } [ النور : 26 ] وقوله : { والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين } [ النور : 3 ] .
قوله : { يابني اركب مَّعَنَا } قرأ البزيُّ ، وقالون ، وخلاَّد بإظهار باء « ارْكَب » قبل ميم « مَنَعَنَا » والباقون بإدغامها في الميم ، وقرأ عاصم هنا « يَا بُنَيَّ » بفتح الياء . وأمَّا في غير هذه السُّورة فإنَّ حفصاً عنه فعل ذلك . والباقون : بسكر الياء في جميع القرآن إلا ابن كثير؛ فإنَّهُ في الأول من لقمان ، وهو قوله : { يابني لاَ تُشْرِكْ بالله } [ لقمان : 13 ] فإنَّه سكَّنهُ وصْلاً ووقْفاً ، وفي الثاني كغيره أنَّهُ يكسر ياءه ، وحفص على أصله من فتحه . وفي الثالث وهو قوله : { يابني أَقِمِ الصلاة } [ لقمان : 17 ] اختلف عنه فروى البزي كحفصٍ ، وروى عنه قنبل السُّكون كالأول . هذا ضبط القراءة .
وأمَّا تخريجها فمن فتح فقيل : أصلها : « يَا بُنَيَّا » بالألف فحذفت الألفُ تخفيفاً ، اجترأ عنها بالفتحةِ كما تقدَّم . وقيل : بل حذفت لالتقاءِ الساكنين؛ لأنَّهما وقع بعدها راءُ « ارْكَبْ » وهذا تعليلٌ فاسدٌ جدّاً ، بدليل سقوطها في سورة لقمان في ثلاثة مواضع حيث لا ساكنان . وكأنَّ هذا المُعلَّل لم يعلمْ بقراءةِ عاصم في غير هذه السورة ، ولا بقراءة البزِّي في « لقمان » ، وقد نقل ذلك أبو البقاءِ ولمْ ينكرهُ . وكذلك قال الزمخشريُّ أيضاً .
وأمَّا من كسر فحذفت الياءُ أيضاً : إمَّا تخفيفاً وهو الصحيحُ ، وإما لالتقاء الساكنين ، وقد تقدَّم فسادهُ . وأمَّا من سكَّن فلما رأى من الثِّقَلِ مع مطلق الحركةِ ، ولا شكَّ أنَّ السُّكونَ من أخفِّ الحركاتِ ، ولا يقالُ : فلمَ وافق ابنُ كثير غير حفص في ثاني لقمان ، ووافق حفصاً في الأخيرة في رواية البزي عنه ، وسكَّن الأول؟ لأنَّ ذلك جمع بين اللغات ، والمفرَّق آتٍ بمحالٍ .
وأصلُ هذه اللفظة بثلاث ياءات : الأولى للتَّصغير ، والثانيةُ لامُ الكلمة ، وهل هي ياءٌ بطريق الأصالةِ أو مبدلةٌ من واوٍ؟ خلافٌ تقدَّم تحقيقُه أول الكتاب في لام « ابن » ما هي؟ والثالثة ياءُ المتكلِّم مضافٌ إليها ، وهي التي طرأ عليها القلبُ ألفاً ثم الحذفُ ، أو الحذفُ وهي ياءٌ بحالها .
فصل
لمَّا حكى عن نوح أنَّه دعا ابنه إلى رُكوبِ السَّفينة حكى عن ابنه أنَّهُ قال : { سآويا إلى جَبَلٍ } سأصير وألتَجِىءُ إلى جبل { يَعْصِمُنِي مِنَ المآء } يمنعني من الغرقِ ، وهذا يدل على أنَّ الابنَ كان مُصِرّاً على الكفر ، فعند هذا قال نوحٌ : { لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله } أي : من عذابِ الله { إِلاَّ مَن رَّحِمَ } . وههنا سؤال :
وهو أن الذي رحمه الله معصومٌ ، فكيف يحسن استثناء المعصوم من العاصم؟
والجواب من وجوه :
الأول : أنَّهُ استثناءٌ منقطع ، وذلك أن تجعل « عَاصماً » على حقيقته ، و « مَنْ رَحِمَ » هو المعصوم ، وفي « رَحِمَ » ضميرٌ مرفوعٌ يعودُ على الله تعالى ، ومفعولهُ ضميرُ الموصولِ وهو « مَنْ » حذف لاستكمالِ الشروطِ ، والتقديرُ : لا عاصم اليوم ألبتة من أمر الله ، لكن من رحمه الله فهو معصوم .
الثاني : أن يكون المراد ب « مَنْ رَحِمَ » هو الباري تعالى كأنه قيل : لا عاصم اليومَ إلاَّ الرَّاحمَ .
الثالث : أنَّ عاصماً بمعنى معصُوم ، وفاعل قد يجيءُ بمعنى مفعول نحو : { مَّآءٍ دَافِقٍ } [ الطارق : 6 ] أي : مَدْقُوق؛ وأنشدوا : [ المتقارب ]
2975- بَطِيءُ القيامِ رَخِيمُ الكَلاَ ... مِ أمْسَى فُؤادِي بِهِ فَاتِنَا
أي : مَفْتُوناً ، و « مَنْ » مرادٌ بها المعصومُ ، والتقدير : لا معصوم اليوم من أمْرِ الله إلاَّ من رحمه الله فإنَّه يُعْصَمُ .
الرابع : أن يكون « عاصم » هنا بمعنى النَّسب ، أي : ذا عِصْمَة نحو : لابن وتامر ، وذو العصمة ينطلق على العاصم وعلى المعصوم ، والمراد به هنا المعصوم .
وهو على هذه التَّقادير استثناءٌ متصلٌ ، وقد جعله الزمخشريُّ متصلآً لمدرك آخر ، وهو حذفُ مضافٍ تقديره : لا يعصمك اليوم مُعْتَصمٌ قط من جبلٍ ونحوه سوى مُعْتَصمٍ واحدٍ ، وهو مكان من رحمهم الله ونجاهم ، يعني في السفينة .
وأمَّا خبرُ « لا » فالأحسنُ أن يجعل محذوفاً ، وذلك لأنَّهُ إذا دلًَّ عليه دليلٌ؛ وجب حذفه عند تميم ، وكثر عند الحجاز ، والتقدير : لا عاصم موجودٌ .
وجوَّز الحوفيُّ وابنُ عطيَّة أن يكون خبرها هو الظرف وهو اليوم . قال الحوفيُّ : ويجوز أن يكون « اليَوْمَ » خبراً فيتعلَّق بالاستقرار ، وبه يتعلق « منْ أمْرِ اللهِ » .
وقد ردَّ أبو البقاءِ ذلك فقال : فأمَّا خبرُ « لا » فلا يجوزُ أن يكون « اليَوْمَ » ؛ لأنَّ ظرف الزَّمان لا يكون خبراً عن الجُثَّة ، بل الخبرُ « مِنْ أمْرِ الله » و « اليَوْمَ » معمولُ « مِنْ أمْرِ اللهِ » .
وأمَّا اليَوْمَ « و » مِنْ أمْرِ الله « فقد تقدَّم أنَّ بعضهم جعل أحدهما خبراً ، فيتعلقُ الآخر بالاستقرار الذي يتضمَّنه الواقعُ خبراً ، ويجوزُ في » اليَوْمَ « أن يتعلق بنفس » مِنْ أمْرِ الله « لكونه بمعنى الفعل .
وجوَّز الحوفيُّ أن يكون » اليَوْمَ « نعتاً ل » عَاصِمَ « وهو فاسدٌ بما أفسدَ بوقوعه خبراً عن الجُثَّة .
وقرىء » إلاَّ مَنْ رُحِمَ « مبنيّاً للمفعول ، وهي مقويِّيةٌ لقول من يدعي أنَّ » مَنْ رَحمَ « في قراءةِ العامَّة المرادُ به المرحوم لا الرَّاحم ، كما تقدَّم تأويلهُ . ولا يجوزُ أن يكون » اليوْمَ « ولا » مِنْ أمْرِ الله « متعلقين ب » عَاصم « وكذلك الواحد منهما؛ لأنَّه كان يكون الاسمُ مطوَّلاً ، ومتى كان مُطَوَّلاً أعرب ، ومتى أعرب نُوِّن ، ولا عبرة بخلاف الزجاج حيثُ زعم أنَّ اسم » لا « معربٌ حذف تنوينه تخفيفاً .
ثم قال سبحانه وتعالى : { وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج فَكَانَ } فصار { مِنَ المغرقين } .
روي أنَّ الماءَ علا على رؤوس الجبالِ قدر أربعين ذراعاً ، وقيل : خمسة عشر ذراعاً .
قوله تعالى : { وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ } قيل : هذا مجاز ، لأنَّها موات . وقيل : جعل فيها ما تُمَيَّز به . والذي قال إنَّه مجازٌ قال : لو فُتِّشَ كلام العرب والعجم ما وُجِدَ فيه مثل هذه الآية على حسن نظمها ، وبلاغة وصفها ، واشتمال المعاني فيها .
والبلعُ معروفٌ . والفعل منه مكسُورُ العين ومفتوحها : بَلِعَ وبَلَعَ حكاهما الكسائي والفراء .
قيل : والفصيحُ » بَلِعَ « بكسر اللام » يَبْلَع « بفتحها . والإقلاعُ : الإمساك ، ومنه » أقْلَعَت الحُمَّى « . وقيل : أقلع عن الشيء ، أي : تره وهو قريبٌ من الأول . والغَيْضُ : النقصان ، يقال : غاض الماءُ يغيضُ غَيَْضاً ، ومغاضاً إذا نقص ، وغضته أنا . وهذا من باب فَعَلَ الشيءُ وفعلتهُ أنا . ومثله فغر الفَمُ وفغرته ، ودلع اللسانُ ودلعتهُ ، ونَقَصَ الشَّيء ونقَصْتُه ، وفعله لازم ومتعد ، فمن اللازم قوله تعالى : { وَمَا تَغِيضُ الأرحام } [ الرعد : 8 ] ، أي : تَنْقُص . وقيل : بل هو هنا مُتعدٍّ وسيأتي ، ومن المتعدِّي هذه الآيةُ؛ لأنَّه لا يُبْنَى للمفعول من غير واسطة حرف جر إلاَّ المتعدِّ ] بنفسه .
والجُودِيُّ : جبلٌ بعينه بالموصل ، وقيل : بل كلُّ جبلٍ يقال له جُوديٌّ ، منه قول عمرو بن نفيل : [ البسيط ]
2976- سُبْحانَهُ ثُمَّ سُبْحَاناً نَعُوذُ بِهِ ... وقَبْلَنَا سَبَّحَ الجُودِيُّ والجُمُدُ
قال شهابُ الدين : ولا أدري ما في ذلك من الدَّلالةِ على أنَّهُ عامٌّ في كلِّ جبلٍ .
وقرأ الأعمش وابنُ أبي عبلة بتخفيف ياء » الجُودِيْ « .
قال ابنُ عطيَّة : وهما لغتان : والصَّوابُ أن يقال : خُفِّفَتْ ياءُ النَّسَب ، وإن كان يجوزُ ذلك في كلامهم الفَاشِي .
قوله » بُعْداً « منصوبٌ على المصدر بفعل مقدَّر ، أي : وقيل : ابعدُوا بُعْداً ، فهو مصدرٌ بمعنى الدعاء عليهم نحو : جَدْعاً ، يقال : بَعِد يَبْعَد بَعَداً إذا هلك ، قال : [ الطويل ]
2977- يَقُولُونَ لا تَبْعَدْ وَهُمْ يَدْفِنُونَهُ ... ولا بُعْدَ إلاَّ ما تُوارِي الصَّفَائِحُ
واللاَّمُ إمَّا أن تتعلق بفعلٍ محذوفٍ ، ويكونُ على سبيل البيانِ كما تقدَّم في نحو « سَقْياً لَكَ وَرَعْياً » ، وإمَّا أن تتعلق ب « قيل » ، أي : لأجلهم هذا القول .
قال الزمخشري : ومجيءُ إخباره على الفعل المبني للمفعول للدَّلالة على الجلال والكبرياء ، وأنَّ تلك الأمُور العظام لا تكونُ إلاَّ بفعل فاعلٍ قادرٍ ، وتكوين مكوِّنٍ قاهرٍ ، وأنَّ فاعل هذه الأفعال واحد لا يشاركُ في أفعاله ، فلا يذهبُ الوهمُ إلى أن يقول غيره : يا أرضُ ابلعي ماءك ، ولا أن يقضي ذلك الامر الهائل إلاَّ هو ، ولا أن تستوي السفينة على الجُوديِّ ، وتستقر عليه إلاَّ بتسويته وإقرارهِ ، ولما ذكرنا من المعانِي والنُّكَث استفصَح عُلماءُ البيانِ هذه الآية ، ورقصُوا لها رُءوسَهُم لا لتجانس الكلمتين وهما قوله : « ابلَعِي وأقلعي » ، وذلك وإن كان الكلامُ لا يخول مِنْ حُسْنٍ فهو كغير الملتفتِ إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللُّبُّ وما عداها قشورٌ .
فصل
في هذه الآية ألفاظٌ كل واحد منها دال على عظمةِ الله - تعالى - .
فأولها : قوله : « وقِيلَ » وهذا يدلُّ على أنَّهُ سبحانه في الجلال والعظمة بحيثُ أنَّهُ متى قبل لم ينصرف الفعل إلاَّ إليه ، ولم يتوجَّه الفكرُ إلاَّ إلى ذلك الأمر؛ فدلَّ هذا الوجهُ على أنَّهُ تقرر في العقول أنَّهُ لا حاكمَ في العالمين ولا متصرف في العالم العلوي والسفلي إلاَّ هُوَ .
وثانيها : قوله : { ياأرض ابلعي مَآءَكِ وياسمآء أَقْلِعِي } فإنَّ الحسَّ يدلُّ على عظمة هذه الأجسامِ ، والحقُّ - تعالى - مستولٍ عليها متصرف فيها كيف شاء وأراد ، فصار ذلك سبباً لوقوف القوَّة العقليَّة على كمالِ جلالِ الله - تعالى - وعلوّ قدره وقدرته وهيبته .
وثالثها : أَنَّ السَّماء والأرض من الجمادات ، فقوله : « يَا أرضُ وَيَا سَمَاءُ » مشعرٌ بحسب الظَّاهر على أنَّ أمره وتكليفه نافِذٌ في الجمادات ، وإذا كان كذلك حكم الوهم بأنَّ نفوذ أمره على العقلاء أولى ، وليس المرادُ منه أَنَّهُ تعالى يأمرُ الجمادات فإنَّ ذلك باطل ، بل المراد أنَّ توجيه صيغة الأمر بحسب الظَّاهر على هذه الجمادات القويَّة الشديدة يقرّر في الوهم قدر عظمته وجلاله تقريراً كاملاً .
ورابعها : قوله : { وَقُضِيَ الأمر } ومعناه : أنَّ الَّذي قضى به وقدَّره في الأزل قضاء جزماً فقد وقع ، ذلك يدلُّ على أنَّ ما قضى اللهُ - تعالى - به فهو واقعٌ في وقته وأنه لا دافع لقضائه ، ولا مانع من نفاذ حكمه في أرضه وسمائه .
فإن قيل : كيف يليق بحكمة الله - تعالى - أن يغرق الأطفال بسبب جُرم الكبار؟ .
فالجواب من وجهين :
الأول : قال أكثر المفسِّرين : إنَّ الله - تعالى - أعقم أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة ، فلمْ يغرق إلاَّ من بلغ سِنُّه أربعين سنة .
ولقائل أن يقول : لو كان ذلك لكان آية عجيبة قاهرة ظاهرة ، ويبعدُ مع ظهورها استمرارهم على الكفر ، وأيضاً فهبْ أنَّ الأمر كما ذكرتم فما قولكم في إهلاكِ الطَّيْرِ الوحش مع أنَّه لا تكليف عليها ألبتَّة .
الجوابُ الثاني : أنه لا اعتراض على الله - تعالى - في أفعاله : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } [ الأنبياء : 23 ] وأجاب المعتزلةُ بأنَّ الإغراقَ في الحيوانات والأطفال كإذنه في ذبْحِ هذه البهائم وفي استعمالها في الأعمال الشاقة .
وقوله : { وَقُضِيَ الأمر } أي : فرغ منه ، وهو هلاك القوم .
وقوله : { واستوت عَلَى الجودي } أي : استوت السَّفينة على جبلٍ بأرضِ الجزيرةِ بقرب الموصل يقال له الجُودي . قيل : استوت يَوْمَ عاشوراء .
{ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين } قيل : هذا من كلام اللهِ - تعالى - قال لهم ذلك على سبيل اللَّعْنِ والطَّرْدِ . وقيل : من كلام نوح وأصحابه؛ لأنَّ الغالب ممَّن سلم من الأمر الهائل بسبب اجتماعهم مع الظلمةِ فإذا هلكوا ونجا منهم قال مثل هذا الكلام .
قال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - : لمَّا عرف نوحٌ - عليه الصلاة والسلام - أنَّ الماءَ قد نضب هبط إلى أسفل الجودي فابتنى قرية وسماها ثمانين بعدد من كان معه من المؤمنين؛ فأصبحوا ذات يومٍ ، وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة إحداها لغة العربِ ، فكان بعضهم لا يفقه كلام بعض ، فكان نُوح - عليه الصلاة والسلام - يعبر عنهم .
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
قوله تعالى : { وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ } الآية .
قوله : « فَقَالَ » عطفٌ على « نَادَى » . قال الزمخشريُّ : فإن قلت : وإن كان النداءُ هو قوله « رَبّ » فكيف عطف « فقال رَبّ » على « نَادَى » بالفاء؟ قلت : أريد بالنداء إرادةُ النداء ، ولو أريد النداء نفسه لجاء - كما جاء في قوله { إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً } [ مريم : 3 ] - { قَالَ رَبِّ } [ مريم : 4 ] بغير فاء .
فصل
تقدَّم الكلامُ في أنَّهُ هل كان ابناً له أم لا؟ فقوله : { رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي } وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي { وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق } لا خلف فيه { وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين } حكمت على قوم بالنَّجاةِ وعلى قوم بالكُفْر والهلاك؛ قال الله : { يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } واعلم أنَّه لمَّا ثبت بالدليل ، أنه كان ابناً له ، وجب أن يكون المراد : ليس من أهل دينك . وقيل : ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك .
قوله : { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } : قرأ الكسائيُّ « عَمِلَط فعلاً ماضياً ، و » غيرَ « نَصْباً .
والباقون : » عَمَلٌ « بفتح الميمِ وتنوينه على أنه اسمٌ ، و » غَيْرُ « بالرَّفع .
فقراءةُ الكسائي : الضميرُ فيها يتعيَّنُ عودهُ على ابنِ نوحٍ ، وفاعل » عَمِلَ « ضميرٌ يعودُ عليه أيضاً ، و » غَيْرَ « مفعولٌ به . ويجوزُ أن يكون نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، تقديره : عمل عملاً غير صالح كقوله { واعملوا صَالِحاً } [ المؤمنون : 51 ] . وقيل : إنه ذو عمل باطل فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه .
وأمَّا قراءةُ الباقين ، ففي الضَّمير أربعة أوجهٍ :
أظهرها : أنَّه عائدٌ على ابن نوح ، ويكونُ في الإخبار عنه بالمصدر المذاهب الثلاثة في » رجل عدل « ، و » زيْدٌ كرمٌ وجُودٌ « .
والثاني : أنه يعودُ على النداء المفهوم منق وله : » ونَادَى « أي : نداؤك وسؤالك .
وإلى هذا ذهب أبو البقاء ومكيٌّ والزمخشريُّ . وهذا فيه خطرٌ عظيمٌ ، كيف يقال ذلك في حقِّ نبي من الأنبياءِ ، فضلاً عن أول رسول أرسل إلى أهل الأرض بعد آدم - عليهما الصلاة والسلام -؟ ولمَّا حكاه الزمخشريُّ قال : » ليسَ بذاك « ولقد أصاب . واستدلَّ من قال بذلك أنَّ في حرف عبد الله بن مسعود إنَّه عملٌ غيرُ صالحٍ أن تسألني ما لَيْسَ لك به علمٌ وهذا مخالفٌ للسَّواد .
الثالث : أنَّهُ يعودُ على ركوب ابن نوح المدلول عليه بقوله : » اركب مَعَنَا « .
الرابع : أنَّهُ يعودُ على تركه الرُّكُب ، وكونه مع المؤمنين ، أي : إنَّ تركه الركوبَ مع المؤمنين وكونه مع الكافرين عملٌ غير صالح ، وعلى الأوجه لا يحتاج في الإخبار بالمصدر إلى تأويلٍ؛ لأنَّ كليهما معنى من المعاني ، وعلى الوجه الرابع يكون من كلام نوح - عليه الصلاة والسلام - ، أي : إنَّ نوحاً قال : إنَّ كونك مع الكافرين وتركك الركوبَ معنا عمل غيرُ صالح ، بخلاف ما تقدَّم فإنَّه من قول الله تعالى فقط ، هكذا قال مكيٌّ وفيه نظرٌ ، بل الظَّاهرُ أنَّ الكلَّ من كلام الله تعالى .
وقال الزمخشريُّ : فإن قلت : هلاَّ قيل : إنَّه عملٌ فاسدٌ . قلت : لما نفاه عن أهله نفى عنه صفتهم بلفظ النفي التي يستبقى معها لفظ المنفي ، وآذن بذلك أنَّه إنَّما أنْجَى من أنْجَى لصلاحهم لا لأنَّهم أهلك .
قوله : { فَلاَ تَسْأَلْنِي } قرأ نافع وابن عامرٍ « فلا تَسْألنِّ » بتشديدِ النون مكسورة من غير ياء . وابن كثير بتشديدها مع الفتح ، وأبو عمرو والكوفيون بنونٍ مكسورةٍ خفيفة ، وياءٍ وصلاً لأبي عمرو ، ودون ياء في الحالين للكوفيين . وفي الكهف { فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ } [ الكهف : 70 ] قرأه أبو عمرو والكوفيون كقراءتهم هنا ، وافقهم ابنُ كثير في الكهف ، وأما نافعٌ وابنُ عامر فكقراءتهما هنا ولابن ذكوان خلافٌ في ثبوتِ الياءِ وحذفها ، وإنَّما قرأ ابن كثير التي في هود بالفتح دون التي في الكهفِ؛ لأنَّ الياء في هود ساقطة في الرسم؛ فكانت قراءته بفتح النون محتملةً بخلاف الكهف فإنَّ الياء ثابتةٌ في الرَّسْمِ ، فلا يوافق فيها فتحها . وقد تقدَّم خلافُ ابن ذكوان في ثبوت الياء في الكهفِ .
فمن خفَّف النون ، فهي نونُ الوقاية وحدها ، ومن شدَّدها فهي نون التوكيد .
وابنُ كثير لم يجعل في هود الفعل متصلاً بياء المُتكلم ، والباقون جعلوه . فلزمهم الكسرُ . وقد تقدَّم أنَّ « سَأَلَ » يتعدَّى لاثنين أوَّلهما ياء المتكلم ، والثاني { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } .
قوله : « أن تكون » على حذف حرف الجر ، أي : مِنْ أن تكون أو لأجْلِ أن ، وقوله : { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } يجوزُ في « بِهِ » أن يتعلَّق ب « عِلْم » .
قال الفارسيُّ : ويكون مثل قوله : [ الرجز ]
2978- كَانَ جَزائِي بالعَصَا أنْ أجْلَدَا ... ويجوز أن يتعلَّق بالاستقرار الذي تعلَّق به « لَكَ » ، والباء بمعنى « في » ، أي ما ليس لك به علمٌ . وفيه نظرٌ .
ثم قال : { إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين } يعني أن تدعو بهلاك الكفار ، ثم تسأل نجاة كافر { قَالَ رَبِّ إني أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } وهذا إخبار بما في المستقبل وهو العزم على الترك .
قوله : { وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي } لم تمنع « لا » من عمل الجازم كما لم تمنعْ من عمل الجارِّ في نحو : « جِئْتُ بلا زادٍ » قال أبو البقاء : « لأنَّها كالجزء من الفعل وهي غيرُ عاملةٍ في النَّفْي ، وهي تنفي ما في المستقبل ، وليس كذلك » مَا « فإنَّها تنفي ما في الحالِ؛ فلذلك لمْ يَجُزْ أن تدخُل » إنْ « عليها » .
قوله : { قِيلَ يانوح } الخلافُ المتقدم في قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ } [ البقرة : 13 و 91 ] وشبهه عائدٌ هنا ، أي : في كونِ القائم مقام الفاعلِ الجملة المحكيةَ أو ضمير مصدرِ الفعل .
قوله : « بِسَلاَمٍ » حالٌ من فالع « اهْبِطْ » أي : مُلْتَبساً بسلامٍ . و « مِنا » صفةٌ ل : « سَلام » فيتعلق بمحذوفٍ أو هو متعلقٌ بنفس « سلام » ، وابتداءُ الغاية مجازٌ ، وكذلك « عَلَيْكَ » يجوز أن يكون صفة ل « بَركات » أو متعلقاً بها .
ومعنى « اهْبِطْ » انزل من السفينة ، وعدهُ عند الخروج بالسَّلامة أولاً ، ثم بالبركةِ ثانياً .
والبركة : ثبوت الخير ومنه بروك البعير ، ومنه البركةُ لثبوت الماء فيها ، ومنه { تَبَارَكَ الله } [ الأعراف : 54 ] أي : ثبت تعظيمه وقيل : البركةُ ههنا هي أنَّ الله - تعالى - جعل ذريته هم الباقين إلى يوم القيامة ، ثم لمَّا بشَّرهُ بالسَّلامة والبركةِ شرح بعده حال أولئك الذين كانوا معه فقال : { وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ } قيل : المرادُ الذين معه ، وذرياتهم ، وقيل : ذريَّة من معهُ .
قوله { مِّمَّن مَّعَكَ } يجوز في « مَنْ » أن تكون لابتداء الغاية ، أي : ناشئة من الذين معك ، وهم الأمم المؤمنون إلى آخر الدَّهْر ، ويجوز أن تكون « مِنْ » لبيان الجنس ، فيراد الأمم الذين كانُوا معه في السفينة؛ لأنَّهم كانوا جماعاتٍ .
وقُرِىء « اهْبُط » بضمِّ الباءِ ، وقد تقدَّم أول البقرة ، وقرأ الكسائيُّ - فيما نُقِل عنه - « وبركة » بالتوحيد .
قوله : « وأمم » يجوزُ أن يكون مبتدأ ، و « سَنُمَتِّعُهُمْ » خبره ، وفي مسوغ الابتداء وجهان :
أحدهما : الوصفُ التقديري ، إذ التقديرُ : وأممٌ منهم ، أي : ممَّن معك كقولهم : « السَّمْن منوان بدرهم » ف « مَنَوان » مبتدأٌ وصفَ ب « منه » تقديراً .
والثاني : أنَّ المسوِّغ لذلك التفصيلُ نحو : « النَّاسُ رجلان : رجلٌ أهَنْتُ ، وآخرُ أكْرَمْتُ » ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]
2979- إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفهَا انحَرفَتْ لهُ ... بِشِقٍّ وشِقٍّ عندنَا لَمْ يُحَوَّلِ
ويجوز أن يكون مرفوعاً بالفاعلية عطفاً على الضَّمير المستتر في « اهْبِطْ » وأغنى الفصل عن التأكيد بالضَّمير المنفصل ، قاله أبو البقاء . قال أبو حيَّان : وهذا التقديرُ والمعنى لا يصلحان ، لأنَّ الذين كانُوا مع نوح في السَّفينةِ إنَّما كانُوا مُؤمنين؛ لقوله : { وَمَنْ آمَنَ } ولم يكُونُوا كُفَّاراً ومؤمنين ، فيكون الكفار مأمورين بالهبوطِ ، إلاَّ إنْ قُدِّرَ أنَّ من المؤمنين من يكفر بعد الهبوطِ ، وأخبر عنهم بالحال اليت يؤولُون إليها فيمكن على بُعْدٍ . وقد تقدَّم أنَّ مثل ذلك لا يجُوزُ ، في قوله { اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ } [ البقرة : 35 ] لأمرٍ صناعي ، و « سَنُمَتِّعُهُمْ » على هذا صفةٌ ل « أمم » ، والواوُ يجوز أن تكون للحال قال الأخفشُ : كما تقولُ : كلَّمْتُ زيداً وعمرٌو جالس « ويجُوزُ أن تكون لمجرَّدِ النَّسَق .
واعلم أنَّهُ سبحانه أخبر بأنَّ الأمم النَّاشئة الذين كانوا مع نوحٍ لا بدَّ وأن ينقسمُوا إلى مؤمنٍ وكافرٍ .
ثم قال : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب } وقد تقدَّم الكلامُ فيها عند قوله { ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب } [ آل عمران : 44 ] في آل عمران . و « تلك » في محلِّ رفع على الابتداء ، و { مِنْ أَنْبَآءِ الغيب } الخبر ، و « نُوحِيهَا إليْكَ » خبر ثان .
قوله : { مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ } يجوزُ في هذه الجملةِ أن تكون حالاً من الكاف في « إليك » وأن تكون حالاً من المفعول في « نُوحيهَا » وأن تكون خبراً بعد خبر .
والمعنى : ما كنت تعلمُها أنت يا محمدُ ولا قومك ، أي : إنَّك ما كنت تعرفُ هذه القصة وقومك أيضاً ما كانوا يعرفونها ، كقول الإنسان لآخر : لا تعرف هذه المسألة لا أنت ولا أهل بلدك .
فإن قيل : أليس قد كانت قصة الطوفان مشهورة عند أهل العلم؟ .
فالجواب : أنها كانت مشهورة بحسب الإجمال ، أمَّا التَّفاصيلُ المذكورة فما كانت معلومة .
ثم قال تعالى : « فاصْبِرْ » يا محمد أنت وقومك على أولئك الكفار « إنَّ العافيةَ » آخر الأمر والنّصر والظّفر « لِلْمُتَّقين » .
فإن قيل : إنَّه ذكر هذه القصة في سورة يونس ثم أعادها ، فما فائدة هذا التكرار؟ .
فالجوابُ : أنَّ القصة الواحدة قد ينتفعُ بها من وجوه ، ففي السورةِ الأولى كان الكفار يستعجلُون نزول العذاب ، فذكر - تعالى - قصة نوح وبيَّن أنَّ قومه كانُوا يكذبُونه بسبب أنَّ العذابَ ما كان يظره ثُمَّ في العاقبةِ ظهر ، فكذا في واقعة محمد - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - ، وفي هذه السورة ذكر القصة لبيان أنَّ إقدامَ الكُفَّار على الإيذاء ، والإيحاش كان حاصلاً في زمن نُوح ، فلمَّا صبر نال الفتح والظفر ، فكن ، يا مُحمَّدُ ، كذلك لتنال المقصود ، فلمَّا كان الانتفاعُ بالقصة في كُلِّ سُورة من وجهٍ لم يكن تكريرها خالياً عن الفائدةِ .
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58)
قوله تعالى : { وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً } القصَّةُ : معطوفان على قوله : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ } [ هود : 25 ] في عطف مرفوع على مرفوع ومجرور ، كقولك : ضرب زيدٌ عمراً ، وبكرٌ خالداً وليس من باب ما فُصِل فيه بين حرفِ العطفِ والمعطوفِ بالجارِّ والمجرور نحو : « ضَرَبْتُ زيداً ، وفي السُّوق عَمْراً » فيجيءُ الخلافُ المشهورُ .
وقيل : بل هو على إضمار فعلٍ ، أي : وأرْسَلْنَا هوداً ، وهذا أوفق لطولِ الفصلِ .
و « هوداً » بدلٌ أو عطفُ بيان لأخيهم .
وقرأ ابنُ محيصنٍ « يَا قَوْمُ » بضم الميم ، وهي لغةُ بعضهم يبنُون المضاف للياء على الضَّم كقوله تعالى : { قَالَ رَبِّ احكم } [ الأنبياء : 112 ] بضمِّ الياء ، ولا يجوز أن يكون غير مضافٍ للياءِ كما سيأتي في موضعه إن شاء الله .
وقوله : { مِّنْ إله غَيْرُهُ } تقدّضم في الأعراف .
فصل
كان هود أخاهم في النسب لا في الدِّين؛ لأنه كان من قبيلةِ عادٍ ، وهم قبيلةٌ من العربِ بناحية اليمنِ ، كما يقالُ للرَّجُلِ : يا أخا تميم ، ويا أخا سليمٍ ، والمرادُ رجلٌ منهم .
فإن قيل : إنَّه تعالى قال في ابن نُوح { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } [ هود : 46 ] فبيَّن أنَّ قرابة النَّسبِ لا تفيدُ إذا لم تَحْصُلْ قرابةُ الدِّين ، وههنا أثبت هذه الأخوة مع الاختلاف في الدِّين ، فما الفرقُ بينهما؟ .
فالجوابُ : أنَّ المراد من هذا الكلام استمالة قوم محمدٍ صلى الله عليه وسلم ؛ لأنَّ قومهُ كانُوا يستبعدُون في محمدٍ صلى الله عليه وسلم مع أنَّهُ واحدٌ من قبيلتهم أن يكون رسولاً إليهم من عند الله ، فذكر الله تعالى أنَّ هوداً كان واحداً من عاد ، وأنَّ صالحاً كان واحداً من ثمود ، لإزالة هذا الاستبعاد .
{ قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله } [ الأعراف : 65 ] وحدُوا الله ، ولا تعبدُوا غيرهُ .
فإن قيل : كيف دعاهم إلى عبادةِ قبل إقامةِ الدَّلالة على ثبوت الإله تعالى؟ .
فالجواب : أنَّ دلائل ثُبوتِ وجود الله تعالى ظاهرة ، وهي دلائلُ الآفاق والأنفس ، وقلَّما تُوجد في الدنيا طائفة ينكرون وجود الإله؛ ولذلك قال تبارك وتعالى في صفة الكفار : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ لقمان : 25 ] .
ثم قال : « إنْ أنتُمْ » ما أنتم « إلاَّ مُفْتَرُونَ » كاذبُون في إشراككم .
ثم قال : { ياقوم لاا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً } أي : على تبليغ الرسالة جُعْلاً { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الذي فطرني } وهذا عينُ ما ذكره نوح - عليه الصلاة والسلام - .
قرأ نافع ، والبزي بفتح ياء « فَطَرني » ، وأبو عمرو وقنبل بإسكانها . ومعنى « فَطَرني » خلقني ، { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أني مصيبٌ في المنع من عبادة الأوثان .
ثم قال : { وياقوم استغفروا رَبَّكُمْ } آمنوا به ، والاستغفارُ - ههنا - بمعنى الإيمان .
وقال الأصمُّ : { استغفروا رَبَّكُمْ } أي : سلُوه أن يغفر لكم ما تقدَّم من شرككم ، ثم توبوا من بعده بالنَّدم على ما مضى ، وبالعزمِ على أن لا تعودوا إلى مثله ، فإذا فعلتُم ذلك فالله يكثرُ النّعْمَة عليكم .
======================================
ج40.


ج40. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
قوله : { يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً } نصب « مِدْرَاراً » على الحالِ ، ولم يُؤنِّثْهُ وإن كان من مُؤثَّث لثلاثةِ أوجهٍ :
أحدها : أنَّ المراد بالسَّماء السحاب ، فذكَّر على المعنى .
الثاني : أنَّ مفعالاً للمبالغةِ فيستوي فيه المذكَّر والمؤنث ك : صَبُور ، وشكُور ، وفعيل .
الثالث : أنَّ الهاءَ حذفت من « مِفْعَال » على طريقِ النَّسَب قاله مكيٌّ ، وقد تقدَّم إيضاحه في الأنعام .
والمعنى : يُرسل عليكم المطر متتابعاً مرةً بعد أخرى في أوقات الحاجةِ . { وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ } أي : شدة مع شدَّتكم . وقيل : المراد بالقوَّة : المال وذلك أنَّ الله تعالى لمَّا بعث هوداً إليهم ، وكذَّبُوهُ حبس الله المطر عنهم ثلاث سنين ، وأعقم أرحام نسائهم ، فقال لهم هودٌ : إنْ آمنتم بالله أحْيَا اللهُ بلادَكم ورزقكم المالَ ، والولدَ ، فذلك قوله تعالى : { يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً } والمِدْرَارُ : بالكسر الكثير الدرّ وهو من أبنية المبالغة .
فإن قيل : إنَّ هوداً - عليه الصلاة والسلام - قال : لو اشتغلتم بعبادةِ الله لانفتحت عليكم أبوابُ الخيرات الدنيوية ، وليس الأمرُ كذلك لقوله - عليه الصلاة والسلام - « خُصَّ البلاءُ بالأنبياءِ ثُمَّ الأولياءِ ثُمَّ الأمثلِ ، فالأمْثل » فكيف الجمعُ بينهما؟ وأيضاً فقد جرتْ عادةُ القرآنِ بالتَّرغيب في الطَّاعاتِ بسبب ترتيب الخيرات الدنيويَّة ، والأخرويَّةِ عليها ، فأمَّا التَّرغيبُ في الطَّاعَاتِ لأجل ترتيب الخيرات الدنيوية عليها؛ فذلك لا يليقُ بالقرآن .
فالجوابُ : لمَّا كثر التَّرغيب في سعاداتِ الآخرة لم يتغيَّر بالتَّرغيب أيضاً في خير الدنيا بقدر الكفايةِ .
قوله : { إلى قُوَّتِكُمْ } يجوز أن يتعلق ب « يَزِدْكُم » على التَّضمين ، أي : يُضيف إلى قُوَّتكم قُوَّةً أخرى ، أو يجعل الجار والمجرور صفة ل « قُوَّة » فيتعلَّق بمحذوفٍ .
وقدَّرهُ أبو البقاءِ : « مُضافةً إلى قُوَّتِكُم » ، وهذا يأباهُ النحاةُ ، لأنَّهُم لا يقدِّرُون إلاَّ الكون المطلق في مثله ، أو تجعل « إلى » بمعنى « مع » أي : مع قُوَّتكم ، كقوله : { إلى أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ] .
ثم قال : { وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ } أي : ولا تدبروا مشركين مصرِّين على الكفر .
{ قَالُواْ ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ } ببرهانٍ وحُجَّةٍ واضحةٍ على ما تقول . والباء في « بيِّنَةٍ » يجوزُ أن تكون للتَّعدية؛ فتتعلَّق بالفعل قبلها أي ما أظهرت لنا بينةٌ قط .
والثاني : أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها حالٌ؛ إذ التقديرُ : مُسْتقراً أو مُلتبساً ببيِّنةٍ .
قوله : { وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ } أي : وما نترك آلهتنا صادرين عن قولك ، فيكون « عَنْ قَوْلِكَ » حالٌ من الضمير في « تَارِكي » ويجُوزُ أن تكون « عَنْ » للتَّعْليل كهي في قوله تعالى : { إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ } [ التوبة : 114 ] ، أي : إلاَّ لأجل موعدةٍ . والمعنى هنا : بتاركي آلهتنا لقولك ، فيتعلَّق بنفس « تاركي » .
وقد أشَارَ إلى التعليل ابنُ عطية ، ولكنَّ المختار الأول ، ولم يذكُر الزمخشريُّ غيره .
قوله : { وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } بمصدِّقين .
{ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسواء } الظَّاهر أن ما بعد « إلاَّ » مفعولٌ بالقول قبله ، إذ المرادُ : إن نقُولُ إلاَّ هذا اللفظ فالجملةُ محكيةٌ نحو قولك « ما قُلْتُ إلاَّ زيدٌ قائمٌ » . قوال أبُو البقاءِ : « الجملةُ مفسرةٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، التقدير : إن نقول إلاَّ قولاً هو اعتراكَ ، ويجُوزُ أن يكون موضعها نصباً ، أي : ما نذكر إلاَّ هذا القول » .
وهذا غيرُ مرضٍ؛ لأنَّ الحكاية بالقولِ معنى ظاهر لا يحتاج إلى تأويلٍ ، ولا إلى تضمين القولِ بالذِّكْرِ .
وقال الزمخشريُّ : « اعْتراكَ » مفعول « نَقُول » و « إلاَّ » لغوٌ ، أي : ما نقُولُ إلاَّ قولنا « اعْتَرَاكَ » . انتهى .
يعنى بقوله : « لغوٌ » أنَّهُ استثناءٌ مفرَّغ ، وتقديره بعد ذلك تفسيرُ معنى لا إعراب ، إذا ظاهرُهُ يقتضي أن تكون الجملةُ منصوبةً بمصدرٍ محذوفٍ ، ذلك المصدرُ منصوبٌ ب « تَقُول » هذا الظَّاهرُ .
ويقال : اعتراهُ يعتريه إذا أصابه ، وهو افتعل من عراه يَعْرُوه ، والأصلُ : اعترو مِنْ العَرْو ، مثل : اغتَزَو من الغَزْو ، فتحرَّك حرفُ العلَّة وانفتح ما قبله فقُلب ألفاً ، وهو يتعدَّى لاثنين ثانيهما بحرفِ الجرِّ .
والمعنى : أنَّك شَتَمْتَ آلهتنا ، فجعلتكَ مجنوناً ، وأفسدت عقلك ، ثم قال لهم هودٌ : { إني أُشْهِدُ الله } على نفسي { واشهدوا } يا قومي { أَنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ } من دُونهِ ، يعنى : الأوثان .
قوله : { أَنِّي برياء } يجوزُ أن يكون من بابِ الإعمال؛ لأنَّ « أشْهِدُ » يطلبه ، و « اشْهَدُوا » يطلبه أيضاً ، والتقديرُ : أشهدُ الله على أنِّي بريءٌ ، واشهدُوا أنتم عليه أيضاً ، ويكون من باب إعمال الثاني؛ لأنَّهُ لو أعمل الأول لأضمر في الثاني ، ولا غرو في تنازع المختلفين في التعدِّي واللزوم .
و « مِمَّا تُشْرِكُونَ » يجوز أن تكون « ما » مصدريةً ، أي : من إشراككم آلهةٌ من دُونه ، أو بمعنى « الَّذي » ، أي : من الذين تشركونه من آلهةٍ من دونه ، أي : أنتم الذين تجعلُونها شركاء .
وقوله : « جَمِيعاً » حالٌ من فاعل « فَكِيدُونِي » ، وأثبت سائرُ القرَّاء ياء « فَكِيدُونِي » في الحالين ، وحذفوها في المرسلات .
وهذا نظيرُ ما قاله نوح - عليه الصلاة والسلام - لقومه : { فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ } [ يونس : 71 ] إلى قوله : { وَلاَ تُنظِرُونَ } [ يونس : 71 ] .
وهذه معجزةٌ قاهرةٌ؛ لأنَّ الرَّجُل الواحدَ إذا أقبل على القوم العظام ، وقال لهم : بالغُوا في عداوتي ، وفي إيذائي ، ولا تؤجلون فإنَّه لا يقُولُ هذا إلاَّ إذا كان واثقاً من الله بأنَّهُ يحفظه ، ويصونه عن كيد الأعداءِ ، وهذا هو المراد بقوله : { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ } أي : اعتمادي على الله ربِّي وربِّكُم .
{ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ } قال الأزهريُّ : « النَّاصيةُ عند العربِ : مَنْبِتُ الشَّعر في مقدم الرأس ، ويسمَّى الشعر النَّابتُ هناك أيضاً ناصية باسم منبته » .
ونصَوْتُ الرَّجلَ : أخذتُ بناصيته ، فلامُها واو ، ويقال : ناصَاة بقلبِ يائها ألفاً ، وفي الأخْذِ بالنَّاصية عبارةٌ عن الغلبة والتَّسلُّط وإن لم يكن آخذاً بناصيته ، ولذلك كانُوا إذا منُّوا على أسيرٍ جزُّوا ناصيته ليكون ذلك علامة لقهره ، والعربُ إذا وصفُوا إنساناً بالذلة ، والخضوع قالوا : ما ناصية فلان إلاَّ بيد فلان ، أي : إنَّه مطيعٌ له .
ومعنى « آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ » قال الضحاكُ : « مُحْيِيهَا ومُمِيتها » . وقال الفرَّاء : « مالكها والقادر عليها » وقال القتيبيُّ : « بقهرها » .
{ إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } يعني : وإن كان ربِّي قادراً عليهم فإنه لا يظلمهم ، ولا يعملُ إلا بالإحسان والعدل ، فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته .
وقيل : معناه دين ربِّي صراط مستقيم . وقيل : فيه إضمار ، أي : إن ربي يحثكم ويحملكم على صراط مستقيم .
« فإن تولَّوْا » أي : تتولَّوا فحذف إحدى التَّاءين ، ولا يجُوزُ أن يكون ماضياً كقوله : « أبْلَغْتُكُم » ولا يجُوزُ أن يُدَّعى فيه الالتفات ، إذ هو ركاكةٌ في التَّركيب ، وقد جوَّز ذلك ابنُ عطية فقال : « ويُحْتَمل أن يكون » تَولَّوا « ماضياً ، ويجيءُ في الكلام رجوعٌ من غيبةٍ إلى خطابٍ » .
قال شهابُ الدِّين : « ويجُوزُ أن يكون ماضياً لكن لمَدْرَكٍ آخر غير الالتفات : وهو أن يكون على إضمار القولِ ، أي : فقل لهم : قد أبْلَغْتَكم ، ويترجَّح كونه بقراءة عيسى الثقفي والأعرج » فإن تُولُّوا « بضمِّ التَّاءِ واللام ، مضارع » ولَّى « ، والأصل : تُوَلِّيُوا فأعِلّ .
وقال الزمخشريُّ : » فإن قلت : الإبلاغ كان قبل التَّولِّي ، فكيف وقع جزاءً للشَّرْطِ؟ .
قلت : معناه ، وإن تتولَّوا لم أعاتِبْ على تفريط في الإبلاغ ، وكنتم محجوبين بأنَّ ما أرسلتُ به إليكم قد بلغكم فأبيتم إلاَّ التَّكذيب « .
قوله : » وَيَسْتَخْلِفُ « العامَّةُ على رفعه استئنافاً . وقال أبو البقاءِ : هو معطوفٌ على الجوابِ بالفاءِ . وقرأ عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - بتسكينه ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن يكون سُكِّن تخفيفاً لتوالي الحركات .
والثاني : أن يكون مجزوماً عطفاً على الجواب المقترن بالفاءِ ، إذ محلُّه الجزمُ وهو نظيرُ قوله : { فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ } [ الأعراف : 186 ] وقد تقدَّم تحقيقه ، إلاَّ أنَّ القراءتين ثمَّ في المتواتر .
والمعنى : إن تتولوا أهلككم الله ، ويستبدلُ قوماً غيركم أطوع منكم يُوحِّدُونه ويعبدُونهُ .
قوله : » ولا تَضُرُّونهُ « العامَّةُ : على النُّون؛ لأنَّه مرفوعٌ على ما تقدم ، وابن مسعودٍ بحذفها ، وهذا يُعيِّن أن يكون سكونُ » يَسْتَخْلف « جزماً ولذلك لم يذكر الزمخشريُّ غيره؛ لأنَّهُ ذكر جزم الفعلين ، ولمَّا لم يذكر أبو البقاءِ الجزم في » تَضُرُّونَهُ « جوَّز الوجهين في » يَسْتَخْلف « .
و « شيئاً » مصدرٌ ، أي : شيئاً من الضَّرر .
والمعنى : أنَّ إهلاككم لا ينقصُ من ملكه شيئاً ، لأنَّ وجودكم وعدمكم عنده سواء .
وقيل : لا تضرونهُ شيئاً بتوليكم وإعراضكم ، إنما تضرُّون أنفسكم { إِنَّ رَبِّي على كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } أي : يحفظ أعمال العباد حتى يجازيهم عليها . وقيل : يحفظني من شركم ومكركم . وقيل : حفيظ من الهلاكِ إذا شاء ، ويهلك إذا شاء .
قوله : { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } أي : عذابنا ، وهو ما نزل بهم من الريحِ العقيمِ ، عذَّبهم الله بها سبع ليال ، وثمانية أيَّام ، تدخلُ في مناخرهم وتخرجُ من أدْبَارهم وتصرعهم على الأرض على وجوههم حتى صارُوا { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ] .
{ نَجَّيْنَا هُوداً والذين آمَنُواْ مَعَهُ } وكانُوا أربعة آلاف « بِرَحْمَةٍ مِنَّا » بنعمة مِنَّا . وقيل : المراد بالرحمة : ما هداهُم إليه من الإيمان . وقيل : المرادُ أنَّهُ لا ينجو أحد ، وإن اجتهد في الإيمان والعمل الصالح إلاَّ برحمةٍ من الله تعالى .
ثم قال : { وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } فالمرادُ بالنَّجاةِ الأولى : هي النَّجَاةُ من عذاب الدُّنيا ، والنَّجاةُ الثانية من عذاب القيامةِ .
والمرادُ بقوله : « ونَجَّيْنَاهُم » أي : حكمنا بأنَّهُم لا يستحقون ذلك العذاب الغليظ .
وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
ولما ذكر قصة عاد خاطب قوم محمدٍ صلى الله عليه وسلم فقال : { وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } وهو إشارة إلى قبورهم وآثارهم كأنه قال : سِيحُوا في الأرض فانظرُوا إليها واعتبروا .
قوله : « جَحَدُوا » جملةٌ مستأنفة سيقت للإخبار عنهم بذلك ، وليْسَتْ حالاً ممَّا قبلها ، و « جَحَدَ » يتعدَّى بنفسه ، ولكنه ضُمِّنَ معنى « كَفَر » ، فيُعدَّى بحرفه ، كما ضمَّن « كَفَر » معنى « جَحَدَ » فتعدَّى بنفسه في قوله بعد ذلك : « كَفَرُوا ربَّهُمْ » .
وقيل : إنَّ « كَفَر » ك « شَكَر » في تعدِّيه بنفسه تارةً وبحرفِ الجر أخرى .
واعلم أنَّه تعالى وصفهم بثلاث صفاتٍ .
الأولى : قوله : { جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } أي : جحدوا دلائل المعجزات على الصِّدقِ ، أو حجدُوا دلائل المحدثات على وجودِ الصانع الحكيمِ .
والثانية : قوله : { وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ } ومعناه : أنهم إذا عصوا رسُولاً واحداً؛ فقد عصوا جميع الرُّسُلِ لقوله : { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } [ البقرة : 258 ] .
والثالثة : قوله : { واتبعوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } والمعنى : أنَّ السَّفلة كانُوا يقلدون الرؤساء في قولهم { مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } [ المؤمنون : 33 ] .
وتقدَّم اشتقاقُ « الجبّار » [ المائدة : 22 ] . والعَنِيدُ والعَنُود والمُعَاند : المنازع المعارض قاله أبو عبيدٍ وهو الطَّاغي المتجاوزُ في الظُّلم من قولهم : « عَنَدَ يَعْنِد » إذا حاد عن الحقِّ من جانبٍ إلى جانب . ومنه « عندي » الذي هو ظرف؛ لأنه في معنى جانب ، من قولك : عندي كذا ، أي : في جانبي .
ثم قال : { وَأُتْبِعُواْ فِي هذه الدنيا لَعْنَةً } أي : أردفُوا لعنة تلحقهم ، وتصاحبهم في الدنيا وفي الآخرة . واللعنة : هي الإبعادُ ، والطَّردُ عن الرَّحمةِ .
ثم بيَّن السَّبب في نزول هذه الاحوال فقال : { ألاا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ } أي : كفروا بربهم فحذف الباء . وقيل : هو من باب حذف المضافِ ، أي كفروا نعمة ربِّهم .
ثم قال : { أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ } قيل : بُعْداً من رحمةِ الله ، وقيل : هلاكاً . وللبعد معنيان :
أحدهما : ضدَّ القربِ ، يقال منه : بَعُدَ يَبْعُدُ بُعْداً .
والآخر : بمعنى الهلاك فيقال منه : بَعِد يَبعِدُ بَعَداً وبَعُداً .
فإن قيل : اللعن هو البُعْدُ ، فلمَّا قال : { وَأُتْبِعُواْ فِي هذه الدنيا لَعْنَةً وَيَوْمَ القيامة } فما فائدةُ قوله : { أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ } ؟ .
فالجواب : كانوا عاديَيْن .
فالأولى هم قوم هود الذين ذكرهم الله في قوله { أَهْلَكَ عَاداً الأولى } [ النجم : 50 ] .
والثانية أصحاب إرم ذات العمادِ .
وقيل : المبالغة في التَّنْصيصِ تدلُّ على مزيد التأكيد .
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
قوله تعالى : { وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً } القصة .
الكلامُ على أوَّلها كالذي قبلها . والعامَّةُ على منع « ثمُود » الصَّرْف هنا لعلَّتين : وهما العلمية والتَّأنيث ، ذهبُوا به مذهب القبيلة ، والأعمش ويحيى بن وثاب صَرَفاه ، ذهبا به مذهب الحي ، وسيأتي بيان الخلافِ إن شاءَ الله تعالى .
قوله : { هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض } يجُوزُ أن تكون « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ ، أي ابتداء إنشائكم منها إمَّا إنشاءُ أصلكم ، وهو آدم - صلوات الله وسلامه عليه - .
قال ابنُ الخطيب : « وفيه وجهٌ آخر وهو أقربُ منه؛ وذلك لأنَّ الإنسان مخلوقٌ من المنيّ ومن دم الطمث ، والمنيُّ إنما تولد من الدَّم ، فالإنسان مخلوق من الدَّم ، والدَّم إنما تولد من الأغذية ، والأغذيةُ إما حيوانية وإما نباتية ، والحيوانات حالها كحال الإنسان؛ فوجب انتهاء الكل إلى النبات والنبات أنما تولد من الأرض؛ فثبت أنه تعالى أنشأنا من الأرض » .
أو لأن كل واحد خلق من تربته؛ أو لأن عذائهم وسبب حياتهم من الأرض .
وقيل : « من » بمعنى « في » ولا حاجة إليه .
قوله : { واستعمركم فِيهَا } أي جعلكم عمَّارها وسكانها . قال الضحاكُ : « أطَالَ أعماركم فيها » . وقال مجاهدٌ : أعمركم من العمرى . أي جعلها لكم ما عِشْتُمْ . وقال قتادةُ - رضي الله عنه - : « اسكنكم فيها » . قال ابنُ العربي : « قال بعضُ علمائنا : الاستعمارُ : طلبُ العمارة ، والطلب المعلق من الله - تعالى - على الوجوب ، قال القاضي أبو بكرٍ : تأتي كلمة استفعل في لسانِ العربِ على معانٍ منها : استفعل بمعنى : طلبُ الفعل كقوله : اسْتَحْمَلْتُه أي : طلبت من حملاناً ، وبمعنى اعتقد؛ كقوله : استسهلت هذا الأمر اعتقدته سهلاً ، أو وجدتُه سهلاً ، واستعظمتهُ أي : وجدته عظيماً ، وبمعنى أصبت كقوله : استجدته أي : أصبته جيداً ، وبمعنى » فَعَلَ « ؛ كقوله : قرَّ في المكانِ ، واستقر ، قالوا وقوله : [ { يَسْتَهْزِءُونَ } [ الأنعام : 5 ] و { يَسْتَسْخِرُونَ } [ الصافات : 14 ] منه ، فقوله تعالى : { واستعمركم فِيهَا } أي : خلقكم لعمارتها ، لا على معنى : استجدته واستسهلته ، أي : أصبته جيداً ، وسهلاً ، وهذا يستحيل ] في حقِّ الخالق ، فيرجع إلى أنَّه حلق لأنه الفائدة؛ وقد يعبّر عن الشيء بفائدته مجازاً ، ولا يصحّ أن يقال إنه طلبٌ من الله لعمارتها ، فإن هذا لا يجوز في حقه » ويصحُّ أن يقال : استدعى عمارتها ، وفي الآية دليل على الإسكان والعُمْرَى .
ثم قال : { فاستغفروه ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ } وقد تقدَّم تفسيره . { إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ } أي : أقربُ بالعلم والسمعِ « مجيب » دعاء المحتاجين بفضله ، ورحمته .
ولمَّا قرَّر صالح هذه الدلائل { قَالُواْ ياصالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذا } أي : كُنَّا نَرْجُو أن تكون سيّداً فينا . وقيل : كُنَّا نَرْجُو أن تعُود إلى ديننا ، وذلك أنَّهُ كان رجلاً قوي الخاطر وكان من قبيلتهم ، فقوي رجاؤهُم في أن ينصر دينهم ، ويقرِّرُ طريقتهم ، فلمَّا دعاهم إلى الله وترك الأصنام زعموا أنَّ رجاءهم انقطع منه فقالوا : { أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } من الآلهة ، فتمسَّكُوا بطريق التقليد .
ونظير تعجُّبهم هذا ما حكاهُ الله - تعالى - عن كفَّار مكَّة في قولهم : { أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ ص : 5 ] .
قوله : { وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ } مما تدعونا إليه مريب هذا هو الأصل ، ويجوز « وإنَّا » بنونٍ واحدةٍ مشدَّدة كما في السورة الأخرى [ إبراهيم : 9 ] . وينبغي أن يكون المحذوفُ النُّونَ الثَّانية من « إنَّ » ؛ لأنَّه قد عُهد حذفها دون اجتماعها مع « ن » ، فحذها مع « ن » أولى ، وأيضاً فإنَّ حذف بعض الأسماءِ ليس بسهلٍ وقال الفرَّاءُ : « مَنْ قال » إنَّنَا « أخرج الحرف على أصله؛ لأنَّ كتابة المتكلمين » نَا « فاجتمع ثلاثُ نونات ، ومن قال : » إنا « استثقل اجتماعها؛ فأسقط الثالثة ، وأبقى الأوليين » انتهى . وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك .
قوله : « مُرِيبٍ » اسم فاعل من « أرَاب » يجوز أن يكون متعدِّياً من « أرابهُ » ، أي : أوقعه في الرِّيبة ، أو قاصراً من « أرابَ الرَّجلُ » أي : صار ذا ريبة . ووصف الشَّكُّ بكونه مُريباً بالمعنيين المتقدمين مجازاً .
والشَّك : أن يبقى الإنسان متوقفاً بين النَّفْي والإثبات ، والمُريب : هو الذي يظن به السوء والمعنى : أنَّهُ لَمْ يترجَّحْ في اعتقادهم فساد قوله وهذا مبالغةٌ في تزييف كلامهِ .
قوله : { أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً } تقدَّم نظيره [ يونس : 50 ] ، والمفعول الثَّاني هنا محذوف تقديره : أأعْصيه ويدل عليه « إنْ عَصَيْتُه » . وقال ابنُ عطيَّة : هي مِنْ رؤيةِ القَلْبِ ، والشَّرطُ الذي بعده وجوابه يَسُدُّ مسدَّ مفعولين ل « أرَأيْتُم » .
قال أبُو حيَّان : « والذي تقرَّر أنَّ » أرَأيْتَ « ضُمِّن معنى » أخْبِرْنِي « ، وعلى تقدير أن لا يُضَمَّن ، فجملةُ الشَّرط والجواب لا تسدُّ مسدَّ مفعولي » عَلِمْتُ « وأخواتها » .
قوله : { إِن كُنتُ على بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي } ورد بحرف الشَّك ، وكان على يقين تام في أمره إلاَّ أنَّ خطاب المخالف على هذا الوجه أقرب إلى القبُولِ؛ فكأنه قال : قدِّرُوا أنِّي على بيِّنةٍ من ربِّي وأنِّي نبيٌّ على الحقيقةِ ، وانظُرُوا إن تابعتكم ، وعصيتُ أمر ربِّي ، فمن يمنعني من عذابِ الله فما تزيدُونَنِي على هذا التقدير غير تَخْسِير .
قوله : « غَيْرَ تَخْسِير » الظاهرُ أنَّ « غَيْرَ » مفعولٌ ثانٍ ل « تَزِيدُونَنِي » .
قال أبُو البقاءِ : « الأقْوَى هنا أن تكُون » غير « استثناءً في المعنى ، وهو مفعولٌ ثانٍ ل » تَزِيدُونَنِي « ، أي : فمَا تَزِيدُونَنِي إلاَّ تَخْسِيراً .
ويجوز أن تكون « غير » صفةً لمفعولٍ محذوفٍ ، أي شيئاً غير تخسير ، وهو جيد في المعنى .
ومعنى التَّفْعِيل هنا النسبةُ ، والمعنى : غير أن أخسركُم ، أي : أنسبكم إلى التَّخْسير ، قال الزمخشريُّ .
قال الحسنُ بن الفضلِ : لم يكنْ صالح في خسارةٍ حتى قال : { فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ } وإنَّما المعنى : فما تَزِيدُونَنِي بما تقُولُون إلا نسبتي إيَّاكم إلى الخسارةِ .
والتفسيقُ والتَّفْجِيرُ في اللغة : النسبة إلى الفِسْقِ والفُجُور ، فكذلك التَّخْسيرُ هو النسبة إلى الخُسرانِ .
وقيل : هو على حذف مضافٍ ، أي : غير بضارِّه تخسيركم ، قالهُ ابن عبَّاسٍ .
قوله تعالى : { وياقوم هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً } الآية .
« لَكُمْ » في محلِّ نصبٍ على الحالِ من « آيةً » ؛ لأنَّهُ لو تأخَّرَ لكان نَعْتاً لها ، فلمَّا قُدِّم انتصب حالاً .
قال الزَّمخشريُّ : فإن قلت : بِمَ تتعلَّقُ « لَكُمْ » ؟ قلتُ : ب « آيَةٌ » حالاً منها متقدمة ، لأنَّها لو تأخَّرت لكانت صفة لها ، فلما تقدَّمت انتصبت على الحالِ .
قال أبُو حيَّان : وهذا متناقضٌ لأنَّهُ من حيثُ تعلق « لكُم » ب « آية » كان معمولاً ل « آية » وإذا كان معمولاً لها امتنع أن يكون حالاً منها ، لأنَّ الحال تتعلَّقُ بمحذوفٍ .
قال شهابُ الدِّين - رحمه الله - : ومثلُ هذا كيف يعترض به على مثلِ الزمخشري بعد إيضاحه المعنى المقصود بأنه التعلُّقُ المعنويُّ؟ .
و « آيةً » نصب على الحالِ بمعنى علامة ، والنَّاصبُ لها : إمَّا « ها » التَّنبيه ، او اسمُ الإشارة ، لما تضمَّناهُ من معنى الفعل ، أو فعلٍ محذوف .
فصل
اعلم أنَّ العادة فيمن يدَّعي النبوة عند قوم يعبدون الأصنام لا بُدَّ وأن يطلبوا منه معجزة ، فطلبوا منه أن يخرج ناقة عشراء من صخرةٍ معينةٍ ، فدعا صالحٌ؛ فخرجت ناقة عشراء ، وولدت في الحال ولداً مثلها .
وهذه معجزة عظيمة من وجوه :
الأول : خلقُهَا من الصَّخْرة .
وثانيها : خَلْقُها في جوف الجبل ثم شق عنها الجبل .
وثالثها : خلقها على تلك الصُّورة دفعة واحدة من غير ولادة .
ورابعها : أنَّهُ كان لها شرب يوم .
وخامسها : أنه كان يحصلُ منها لبنٌ كثير يكفي الخلق العظيم .
ثم قال : { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله } من العشب ، والنبات ، فليس عليكم مؤنتها .
وقرىء « تأكلُ » بالرفع : إمَّا على الاستئناف ، وإمَّا على الحالِ .
{ وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء } ، ولا تصيبوها بعقر « فيَأخُذَكُمْ » إن قتلتموها « عذابٌ قريبٌ » يريد اليوم الثالث .
{ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ } لهُم صالح : { تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ } أي : في دياركم ، فالمراد بالدَّار : البلد ، وتُسَمَّى البلاد بالدِّيار ، لأنَّه يدار فيها ، أي : يتصرف ، يقال : ديار بكر أي : بلادهم .
وقيل : المراد بالدِّيار : دار الدُّنيا ، وقيل : هو جمع « دارة » كساحة وساحٍ وسُوحٍ ، وأنشد ابنُ أبي الصَّلْت : [ الوافر ]
2980- لَهُ دَاعٍ بِمَكَّة مُشْمَعِلٌّ ... وآخَرُ فوْقَ دَارَتِهِ يُنَادِي
فصل
قال القرطبيُّ : « استدلَّ العلماءُ بتأخير الله العذاب عن قوم صالح ثلاثة أيام على أنَّ المسافر إذا لمْ يُجمع على إقامة أربع ليالٍ قصر؛ لأنَّ الثلاثة أيام خارجة عن حكم الإقامة » .
والتَّمتع : التَّلذُّذ بالمنافع والملاذ . { ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } ، [ أي : غير كذب ] .
قوله : « مَكْذُوب » يجُوزُ أن يكون مصدراص على زنة مفعولٍ ، وقد جاء منه أليفاظ نحو : المَجْلود والمعقُول والمَيْسُور والمَفْتُون ، ويجوزُ أن يكون اسم مفعولٍ على بابه ، وفيه حينئذٍ تأويلان :
أحدهما : غير مكذوبٍ فيه ، ثم حذف حرف الجر فاتَّصل الضَّمير مرفُوعاً مستتراً في الصِّفة ومثله « يَوْمٌ مَشْهُودٌ » وقول الشاعر : [ الطويل ]
2981- ويَوْمَ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وعَامِراً ... قَلِيلٌ سِوَى الطَّعْنِ النِّهَالِ نوافِلُه
والثاني : أنه جُعِل هو نفسُه غير مكذوب؛ لأنَّه قد وُفي به ، فقد صُدِّق .
فصل
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : « لمَّا أمهلهم ثلاثة أيَّام ، قالوا وما علامةُ ذلك؟ قال : تصبحوا في اليوم الأوَّلِ وجوهكم مصفرة ، وفي اليوم الثاني مُحْمَرة وفي اليوم الثالث مسودة ، ثم يأتيكم العذابُ في اليوم الرَّابع فكان كما قال » .
فإن قيل : كيف يُعقل أن تظهر هذه العلامات مطابقة لقول صالحٍ ، ثم يبقون مصرين على الكفر؟ فالجواب : ما دامت الأمارات غير بالغة إلى حدِّ اليقينِ لم يمتنع بقاؤهم على الكفر وإذا صارت يقينيَّة قطعيَّة ، فقد انتهى الأمرُ إلى حدِّ الإلجاء ، والإيمان في ذلك الوقت غير مقبول .
قوله { فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } أي : عذابنا ، وتقدَّم الكلامُ على مثله .
قوله : { ومِنْ خِزْيِ } متعلِّقٌ بمحذوفٍ ، أي : ونجَّيْنَاهم من خزي . وقال الزمخشريُّ : فإن قلت : علام عطف؟ قلت : على « نَجَّيْنَا » ؛ لأنَّ تقديره : ونجَّيناهم من خزي يومئذٍ كما قال : { وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ هود : 58 ] أي : وكانت التنجيةُ من خزي . وقال غيرهُ : « إنَّه متعلقٌ ب » نَجَّيْنَا « الأول » .
وهذا لا يجُوزُ عند البصريين غير الأخفش؛ لأنَّ زيادة الواو غيرُ ثابتة .
وقرأ نافعٌ والكسائيُّ بفتح ميم « يومئذٍ » على أنَّها حركةُ بناءٍ لإضافته إلى غير متمكن؛ كقوله : [ الطويل ]
2982- عَلَى حينَ عَاتَبْتُ المشيبَ على الصِّبَا ... فقُلْتُ ألمَّا أصْحُ والشَّيبُ وَازعُ
وقرأ الباقون : بخفض الميم .
فمن قرأ بالفتح فعلى أنَّ « يَوْم » مضاف إلى « إذْ » ، و « إذْ » مبني ، والمضاف إلى المبني يجوزُ جعله مبنياً ، ألا ترى أنَّ المضاف يكتسب من المضاف إليه التعريف فكذا ههنا ، وأمَّا الكسرُ : فالسَّبب فيه أنَّهُ يضاف إلى الجملة من المبتدأ والخبر ، تقولُ : « جئتك إذ الشَّمس طالعة » ، فلمَّا قطع عنه المضاف إليه نون ليدل التنوين على ذلك ثمَّ كسرت الذَّال لسكونها وسكون التنوين .
وأما قراءةُ الكسر فعلى إضافة « الخِزْيِ » إلى « اليوم » ، ولم يلزم من إضافته إلى المبني أن يكون مبنيّاً لأنَّ إضافته غير لازمة .
وكذلك الخلافُ جارٍ في { سَأَلَ سَآئِلٌ } [ المعارج : 11 ] .
وقرأ طلحة وأبانُ بن تغلب بتنوين « خِزْي » و « يَوْمَئِذ » نصب على الظَّرف ب « الخِزْي » ، وقرأ الكوفيون ونافع في النَّمل { مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ } [ الآية : 89 ] بالفتح أيضاً ، والكوفيون وحدهم بتنوين « فَزَعٍ » ونصب « يَومئذ » به .
ويحتملُ في قراءة من نوَّن ما قبل « يومئذ » أن تكون الفتحةُ فتحة إعرابٍ ، أو فتحة بناء ، و « إذْ » مضافةٌ لجملة محذوفة عُوِّض عنها التَّنوينُ تقديره : إذا جاء أمرنا .
وقال الزمخشريُّ : ويجوزُ أن يراد يومُ القيامة ، كما فُسِّرَ العذاب الغليظ بعذاب الآخرة .
قال أبُو حيان : وهذا ليس بجيِّدٍ؛ لأنه لم يتقدَّم ذكرُ يومِ القيامة ، ولا ما يكونُ فيها ، فيكون هذا التَّنوين عوضاً عن الجملةِ التي تكون يومَ القيامةِ .
قال شهابُ الدِّينِ - رحمه الله - : قد تكونُ الدَّلالةُ لفظيةً ، وقد تكون معنويةً ، وهذه من المعنوية .
والخِزْي : الذّل العظيم حتى يبلغ حدَّ الفضيحة كما قال الله تعالى في المحاربين : { ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنيا } [ المائدة : 33 ] .
ثم قال : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القوي العزيز } وإنَّما حسن ذلكن لأنَّه تعالى بيَّن أنه أوصل العذاب إلى الكافر وصان أهل الإيمان عنه ، وهذا لا يصحُّ إلاَّ من القادر الذي يقدر على قَهْرِ طبائع الأشياءِ ، فيجعل الشَّيء الواحد بالنِّسبة إلى إنسان بلاء وعذاباً ، وبالنسبة إلى إنسان آخر راحة وريحاناً .
قوله : { وَأَخَذَ الذين } : حُذِفت تاءُ التَّأنيث : إمَّا لكونِ المؤنث مجازياً ، أو للفصلِ بالمفعولِ أو لأنَّ الصَّيحة بمعنى الصياح ، والصَّيْحةُ : فعله يدل على المرَّة من الصِّياح ، وهي الصوتُ الشديدُ : صاح يصيح صِيَاحاً ، أي : صوَّت بقوة .
قال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - : المُرادُ الصَّاعقة . وقيل : صحية عظيمة هائلةٌ سمعوها فهلكوا جميعاً فأصبحوا جاثمين في دورهم .
وجثومهم : سقوطهم على وجوههم .
وقيل : الجثومُ : السُّكون ، يقالُ للطَّيْرِ إذا باتَتْ في أوكارها إنها جثمت ، ثم إنَّ العرب أطلقوا هذا اللفظ على ما لا يتحرك من الموات .
فإن قيل : ما السَّببُ في كون الصَّيْحةِ موجبة للموت؟ .
فالجوابُ من وجوه : أحدها : أنَّ الصَّيحة العظيمة إنما تحدثُ عن سببٍ قوي يوجب تموج الهواء ، وذلك التموج الشديد ربما يتعدَّى إلى صمخ الإنسان فيُمزق غشاء الدِّماغِ فيورُ الموت .
وثانيها : أنَّه شيء مهب فتحدث الهيبة العظيمة عند حدوثها والأعراض النَّفسانية إذا قويت أوجبت الموت .
وثالثها : أنَّ الصَّيحة العظيمة إذا حدثت من السحاب فلا بد وأن يصحبها برقٌ شديدٌ محرق ، وذلك هو الصَّاعقة التي ذكرها ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - .
ثم قال تعالى : { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ } كأنَّهُم لم يُوجدوا . والمغنى المقام الذي يقيمُ الحي فيه يقال : غني الرَّجُلُ بمكان كذا إذا أقام به .
قوله : { أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ } قرأ حمزة وحفص هنا { أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ } ، وفي الفرقان : { وَعَاداً وَثَمُودَاْ } [ الآية : 38 ] وفي العنكبوت : { وَعَاداً وَثَمُودَ } [ الآية : 37 ] ، وفي النجم : { وَثَمُودَ فَمَآ أبقى } [ الآية : 51 ] جميعُ ذلك بمنع الصرف ، وافقهم أبو بكر على الذي في النَّجْم .
وقوله : { أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ } منعه القراء الصرفَ إلاَّ الكسائيَّ فإنَّهُ صرفه ، وقد تقدَّم أنَّ من منع الصرف جعله اسماً للقبيلةِ ، ومن صرف جعله اسماً للحيِّ ، أو إلى الأبِ الأكبرِ؛ وأنشد على المنع : [ الوافر ]
2983- ونَادَى صالحٌ يَا ربِّ أنْزِلْ ... بآلِ ثمُودَ مِنْكَ غداً عَذَابَا
وأنشد على الصَّرف قوله : [ الطويل ]
2984- دَعَتْ أمُّ عَمْرٍو أمْرَ شرٍّ عَلِمْتُهُ ... بأرْضِ ثمُودٍ كُلِّهَا فأجَابَهَا
وقد تقدَّم الكلامُ على اشتقاق هذه اللفظة في سورةِ الأعراف .
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
قوله : { وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى } القصة .
قال النحويون : دخلت كلمة « قَدْ » ها هنا لأنَّ السَّامع لقصص الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يتوقع قصة بعد قصة ، و « قَدْ » للتوقع ، ودخلت اللاَّم في « لَقَدْ » تأكيداً للخبر .
فصل
لفظ « رُسُلُنَا » جمع وأقله ثلاثة ، فهذا يدلُّ على أنهم كانوا ثلاثة ، والزَّائِدُ على هذا العددِ لا يثبتُ إلاَّ بدليل آخر ، وأجمعُوا على أنَّ الأصلَ فيهم كان جبريلُ - عليه السَّلامُ - .
قال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - : « كانوا ثلاثة جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وهم المذكورون في الذَّاريات { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } [ الذاريات : 24 ] وفي الحجر { وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } [ الحجر : 51 ] .
وقال الضحَّاكُ : » كانوا تسعة « . وقال محمد بن كعب - رضي الله عنه - » كان جبريل ومعه سبعة « وقال السُّديُّ : » أحد عشر ملكاً « وقال مقاتل : » كانوا اثني عشر ملكاً على صور الغلمان الوضاء وجوههم « .
» بالبشرى « بالبشارة بإسحاق ويعقوب وقيل : بسلامة لوطٍ ، وأهلاك قومه .
قوله : { قَالُواْ سَلاَماً } : في نصبه وجهان :
أحدهما : أنَّه مفعولٌ به ، ثم هو محتملٌ لأمرينِ :
أحدهما : أن يراد قالوا هذه اللفظ بعينه ، وجاز ذلك لأنَّه يتضمَّن معنى الكلام .
الثاني : أنَّهُ أراد قالوا معنى هذا اللفظ ، وقد تقدَّم نحو ذلك في قوله تعالى : { وَقُولُواْ حِطَّةٌ } [ البقرة : 58 ] .
وثاني الوجهين : أن يكون منصوباً على المصدر بفعل محذوفٍ ، وذلك الفعلُ في محلِّ نصب بالقول ، تقديره : قالوا : سَلَّمْنَا سلاماً ، وهو من باب من ناب فيه المصدرُ عن العامل فيه ، وهو واجب الإضمار .
قوله : » سَلاَمٌ « في رفعه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ مبتدأ وخبره محذوفٌ ، أي : سلامٌ عليكم .
والثاني : أنَّه خبر مبتدأ محذوف أي : أمْرِي أو قَوْلِي سلام .
وقد تقدَّم أنَّ الرفع أدلُّ على الثُّبوتِ من النَّصْبِ [ الفاتحة : 2 ] ، والجملة بأسرها - وإن كان أحد جزأيها محذوفاً - في محلِّ نصب بالقول؛ كقوله : [ الطويل ]
2985- إذَا ذَقْتُ فَاهَا قُلْتُ : طَعْمُ مُدَامَةٍ .. . .
وقرأ الاخوان : » قَالَ سِلْم « هنا وفي سورة الذَّاريات بكسر السين وسكون اللاَّم .
ويلزم بالضرورة سقوطُ الألف ، قال الفرَّاءُ : » هُما لغتان كحِرْم وحَرَامٍ وحِلٍّ وحلالٍ « ؛ وأنشد [ الطويل ]
2986- مَرَرْنَا فَقُلْنَا : إيهِ سِلْمٌ فَسلَّمْتْ ... كَمَا اكْتَلَّ بالبَرْقِ الغَمَامُ اللَّوَائِحُ
يريد : سلامٌ؛ بدليل : فسلَّمَتْ .
وقال الفارسي : » السِّلْم « بالكسر ضد الحربِ ، وناسبَ ذلك لأنَّهم لمَّا امتنعوا من تناول ما قدَّمهُ إليهم ، أنكرهم ، وأوجس منهم خيفة ، فقال : أنا سِلْم ، أي : مُسَالمكم غيرُ محارب لكم ، فلم تمتنعوا من تناول طعامي؟
قال ابنُ الخطيب - رحمه الله - : وهذا بعيدٌ؛ لأنَّ على هذا التقدير ينبغي أن يكون تكلُّم إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - بهذا اللفظ بعد إحضار الطَّعام ، والقرآن يدل على أنَّ هذا الكلام قبل إحضار الطَّعام؛ لأنَّه تعالى قال : { قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } والفاءُ للتَّعقيب ، فدلَّ على أنَّ مجيئَهُ بالعجل الحنيذِ بعد السَّلام .
فصل
أكثر ما يستعمل « سلامٌ عليكم » منكّراً؛ لأنَّهُ في معنى الدُّعاءِ كقولهم : خير بين يديك .
فإن قيل : كيف جاز الابتداء بالنَّكرةِ؟ .
فالجوابُ : إذا وصفت جاز ، فإذا قلت : « سلامٌ عليكم » فالتَّنكير هُنا يدلُّ على الكمال والتَّمام ، فكأنه سلام كامل تام عليك ، ونظيره قوله تعالى : { سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي } [ مريم : 47 ] وقوله : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ يس : 58 ] وقوله : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23 ، 24 ] .
وأما قوله : { والسلام على مَنِ اتبع الهدى } [ طه : 47 ] فالمراد منه الماهية والحقيقة .
قال ابنُ الخطيب : قوله : « سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ » أكملُ من قوله : « السَّلامُ عليْكُم » ؛ لأنَّ التَّنْكيرَ يُفيدُ المبالغة والتَّمام ، والتعريف لا يفيدُ إلاَّ الماهية .
قوله : « فَمَا لَبِثَ » يجُوزُ في « ما » هذه ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنَّها نافيةٌ ، وفي فاعل « لَبِثَ » حينئذٍ وجهان :
أحدهما : أنَّه ضميرُ إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أي : فَمَا لَبِثَ إبراهيم ، وإن جاء على إسقاطِ الخافض ، فقدَّرُوه بالباء و ب « عَنْ » وب « في » ، أي : فمَا تأخَّر في أنْ ، أو بأن ، أو عن أن .
والثاني : أنَّ الفاعل قوله : « انْ جَاءَ » ، والتقدير : فَما لبثَ ، أي : ما أبْطَأ ولا تأخَّر مجيئُه بعجل سمين .
وثاني الأوجه : أنَّها مصدريةٌ .
وثالثها : أنَّها بمعنى الذي . وهي في الوجهين الأخيرين مبتدأ ، وإن جاء خبرهُ على حذفِ مضاف تقديره : فلُبْثُه - أو الذي لبثه - قَدْرَ مجيئه .
قال القرطبيُّ : قوله : « أنْ جَاءَ » معناه : حتَّى جَاءَ .
والحَنِيذُ : المَشْوِيُّ بالرَّضْفِ في أخدود كفعل أهل البادية يشوون في حفرةٍ من الأرض بالحجارة المُحَمَّاة ، يقال : حَنَذْتُ الشَّاة أحْنِذُهَا حَنْذاً فهي حَنِيذ ، أي : مَحْنُوذة .
وقيل : حَنيذ بمعنى يَقْطُرُ دَسَمُه من قولهم : حَنَذْتُ الفرس ، أي : سُقْتُه شَوْطاً أو شَوْطَيْن وتضع عليه الجُلَّ في الشمس ليعرق .
ثم قال : { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ } أي : إلى العِجْلِ . وقال الفرَّاءُ : إلى الطَّعامِ وهو العجل .
قوله : « نَكِرَهُمْ » أي : أنكرهم ، فهما بمعنى واحد؛ وأنشدوا : [ البسيط ]
2987- وأنكَرَتْنِي ومَا كَانَ الذي نَكِرَتْ ... مِنَ الحَوادثِ إلاَّ الشَّيْبَ والصَّلعَا
وفرَّق بعضهم بينهما فقال : الثلاثي فيما يُرَى بالبصرِ ، والرباعي فيما لا يُرَى من المعاني ، وجعل البيت من ذلك ، فإنَّها أنكرتْ مودَّتهُ وهي من المعاني التي لا تُرَى ، ونكِرَتْ شَيْبَتَهُ وصلعهُ ، وهما يُبْصرانِ؛ ومنه قول أبي ذؤيبٍ : [ الكامل ]
2988- فَنَكِرْتَهُ فَنَفَرْتُ وامْتَرَسَتْ بِهِ ... هَوْجَاءُ هَادِيَةٌ وهَادٍ جُرْشَعُ
والإيجاس : حديث النَّفس ، وأصله من الدُّخُول كأنَّ الخوف داخلهُ .
وقال الأخفش : « خَامَر قلبه » . وقال الفرَّاء : « اسْتَشْعَرَ وأحسَّ » .
والوَجَسُ : ما يَعْتَرِي النفس أوائل الفزع ، ووجس في نفسه كذا أي : خطر بها ، يَجِسُ وَجْساً ووُجُوساً ووَجِيساً ، ويَوْجَسُ ويَجِسُ بمعنى يسمعُ؛ وأنشدوا على ذلك وقله : [ الطويل ]
2989- وَصَادِقَتَا سَمْعِ التَّوجُّسِ للسُّرَى ... لِلَمْحِ خَفِيٍّ أو لِصَوْتٍ مُنَدَّدِ
و « خفية » مفعول به أي : أحس خيفة أو أضمر خيفة .
فصل
اعلم أنَّ الأضياف إنَّما امتنعوا عن الطَّعام؛ لأنهم ملائكةٌ ، والملائكةُ لا يأكلون ، ولا يشربون ، وإنَّما أتوهُ في صورة الأضياف ، ليَكونوا على صفة يحبها؛ لأنه كان يحب الضيافة ، وأمَّا إبراهيم ، فإما أن يقال : إنه ما كان يعلم أنهم ملائكة بل كان يعتقدُ أنهم من البشر ، أو يقال : إنَّه كان عالماً بأنهم ملائكة ، فعلى الأول فسببُ خوفه أمران :
أحدهما : أنَّهُ كان ينزل في طرف من الأرض بعيداً عن النَّاس ، فلما امتنعوا عن الأكل ، خاف أن يريدوا به مكروهاً .
والثاني : أنَّ من لا يعرفه إذا حَضَر ، وقدَّم إليه طعاماً ، فإن أكل حصل الأمن ، وإن لم يأكل ، حصل الخوفُ .
وإن كان عارفاً بأنَّهم ملائكة ، فسبب خوفه أمران :
أحدهما : أنه خاف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله تعالى عليه .
والثاني : أنه خاف أن يكون نزولهم لتعذيب قومه .
والأول أقرب؛ لأنَّهُ سارع إلى إحضار الطعام ، ولو عرف كونهم من الملائكة لما فعل ذلك ، ولما استدلَّ بترك الأكل على حصول الشَّرِّ ، وأيضاً : فإنَّهُ رآهم في صورة البشر ، قالوا : لا تخف يا إبراهيم ، إنَّا ملائكة الله ، أرسلنا إلى قوم لوط .
فصل
في هذه القصَّة دليل على تعجيل قرى الضيف ، وعلى تقديم ما يتيسَّر من الموجود في الحال ، ثم يُتبِعُهُ بغيره ، إن كان له جدةٌ ، ولا يتكلَّف ما يَضُرُّ به ، والضيافة من مكارم الأخلاق ، وإبراهيم أوَّل من أضاف ، وليست الضيافةُ بواجبة عند عامة أهل العلم؛ قال - عليه الصلاة والسلام - : « مَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ ، ومَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ ، فلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ » .
وإكرام الجار ليس بواجب ، فكذلك الضَيْفُ ، وفي الضيافة الواجبة يقولُ - عليه الصلاة والسلام - : « لَيْلَةُ الضَّيْفِ حَقٌّ . »
وقال ابن العربيِّ : وقد قال قَوْمٌ : إنَّ الضيافة كانَتْ واجبةً في صدْر الإسلام ، ثم نُسِخَتْ .
فصل
اختلفوا في المخاطب بالضِّيافة ، فذهب الشافعيُّ ، ومحمد بنُ عبد الحكم إلى أنَّ المخاطب بها أهل الحضر والبادية . وقال مالكٌ : ليس على أهل الحضر ضيافة .
قال سُحْنُون : إنَّما الضِّيافةُ على أهْلِ القُرى ، وأمَّا أهل الحضر ، فالفُنْدُق ينزل فيه المسافرُ؛ لما روى ابنُ عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الضِّيافةُ عَلَى أهْلِ الوَبَرِ ، ولَيْسَتْ عَلَى أَهْلِ المَدَرِ » .
قال القرطبيُّ : « قال أبوعمر بن عبد البرِّ : وهذا حديثٌ لا يصحُّ » قال ابنُ العربي : « الضيافة حقيقة فرض على الكفاية » .
فصل
ومن أدب الضيافة أن يبادرَ المضيف بالأكل؛ لأنَّ كرامةَ الضَّيْفِ التعجيل بتقديم الضِّيافة ، كما فعل إبراهيمُ - عليه الصلاة والسلام - ولما قبضوا أيديهم نكرهم إبراهيم فإذا أكل المضيف ، طاب نفس الضَّيف للأكل .
قوله : { وامرأته قَآئِمَةٌ } في محلِّ نصب على الحالِ من مرفوع : « أرْسِلْنَا » .
وقال أبو البقاءِ : من ضمير الفاعل في « أرْسِلْنَا » . وهي عبارةٌ غيرُ مشهورة ، إذ مفعول مَا لَمْ يُسَمَّ فاعلهُ لا يطلقُ عليه فاعلٌ على المَشْهُورِ ، وعلى الجملةِ فجعلها حالاً غير واضح بل هي استئناف إخبار ، ويجوزُ جعلها حالاً من فاعل « قالُوا » أي : قالوا ذلك في حال قيام امرأته ، وهي ابنة عم إبراهيم .
وقوله : « وَهِي قَائمةٌ » أي تخدمُ الأضياف؛ وإبراهيم جالس معهم ، يؤكد هذا التأويل قراءة ابن مسعود : « وامرأته قائمةٌ وهو قاعِدٌ » .
قوله : « فَضَحِكَتْ » العامَّةُ على كسر الحاء وقرأ محمد بن زياد الأعرابي - رجل من مكة - بفتحها وهي لغتان ، يقال : ضَحِكَ وضَحَكَ ، وقال المهدويُّ : « الفتح غير معروف » ، والجمهورُ على أنَّ الضَّحكَ على بابِهِ .
واختلف المفسِّرون في سببه فقال القاضي : إنَّ إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - لما خاف قالت الملائكة { لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ } فعظم سرورها بسبب سرورهِ ، وفي مثل هذه الحالة قد يضحك الإنسان ، فكان ضحكها بسبب قول الملائكة لإبراهيم « لا تَخَفْ » فكان كالبشارة فقيل لها : نجعل هذه البشارة أيضاً بحصول الولد الذي كنتم تطلبونه من أوَّلِ العُمر إلى هذا الزَّمان ، وقيل : لمَّا كانت عظيمة الإنكار على قوم لوط لكفرهم وعملهم الخبيث ، فلما أخبروا أنهم جاءوا لإهلاكهم ، لحقها السُّرور ، فضحكت .
وقيل : بشَّرُوها بحصول مطلق الولد فضَحِكَتْ إمَّا تعَجُّباً فإنَّهُ يقالُ : إنَّها كانت في ذلك الوقت بنت تسع وتسعين سنة وإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ابن مائة سنة ، وإمَّا على سبيل السُّرور ، ثم لمَّا ضحكت بشَّرها الله - تعالى - بأنَّ ذلك الولد هو إسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب .
وقيل : إنَّها ضحكت من خوف إبراهيم من ثلاثة نفر حال ما كان معه حشمه وخدمه .
وقيل : هذا على التقديم والتأخير تقديره : وامرأته قائمة فبشَّرناها بإسحاق ، فضحكت سروراً بتلك البشارة ، فقدَّم الضَّحكَ ، ومعناه التَّأخير ، يقالُ ضحكت الأرنب ، بمعنى : حَاضَتْ .
وقال مجاهدٌ وعكرمة : « ضَحِكَتْ » بمعنى : حَاضَتْ . وأنكره أبو عبيدة ، وأبو عبيد ، والفرَّاء .
قال ابنُ الأنباري : « هذه اللُّغة إن لم يَعْرِفها هؤلاء فقد عرفها غيرهم ، حكى اللُّيثُ - رحمه الله - في هذه الآية » فَضَحِكَتْ « طمثت ، وحكى الأزهريُّ - عن بعضهم - أنَّ أصلهُ : من ضحاك الطَّلعةِ ، يقال : ضَحِكَت الطلعة إذا انشقت ، وأنشدوا : [ المتقارب ]
2990- وضِحْكُ الأرَانبِ فَوْقَ الصَّفَا ... كَمِثْلِ دَمِ الجَوْفِ يَوْمَ اللِّقَا
وقال آخر : [ الطويل ]
2991- وعَهْدِي بِسَلْمَى ضَاحِكاً في لُبانةٍ ... ولَمْ يَعْدُ حقّاً ثَدْيُهَا أن تُحَلَّمَا
أي : حَائِضاً .
وضَحِكت الكافُورَةُ : تَشَقَّقَتْ . وضَحِكَت الشَّجَرةُ : سَالَ صَمْغُهَا ، وضَحِكَ الحَوْضُ : امتلأ وفاض وظاهرُ كلام أبي البقاءِ أن « ضَحَكَ » بالفتح مختصٌّ بالحيْضِ فإنَّه قال : « بِمَعْنَى حَاضَتْ يقال : ضَحَكَت الأرنب بفتح الحَاء » .
قوله : { وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } قرأ ابنُ عامر وحمزة وحفص عن عاصم بفتح الباء ، والباقون برفعها .
فأمَّا القراءةُ الأولى فاختلفوا فيها ، هل الفتحةُ علامةُ نصبٍ أو علامة جرٍّ؟ والقائلون بأنَّها علامةُ نصب اختلفوا ، فقيل : هو منصوبٌ عطفاً على قوله : « إسْحَاق » . قال الزمخشريُّ : كأنَّهُ قيل : وَوَهَبْنَا لهُ إسحاقَ ، ومنْ وراءِ إسْحَاق يعقوب على طريقة قوله : [ الطويل ]
2992- مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحينَ عَشِيرَةً ... ولا نَاعبٍ .
يعنى أنَّهُ عطف على التَّوهم فنصب ، كما عطف الشَّاعرُ على توهُّم وجود الباء في خبر « ليس » فجرَّ ، ولكنه لا ينقاس .
وقيل : منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ ، أي : وَوَهَبْنَا يعقوب وهو على هذا غيرُ داخلٍ في البشارة ورجَّحه الفارسي .
وقيل : هو منصوبٌ عطفاً على محلِّ « بإسحاقَ » ؛ لأنَّ موضعهُ نصب كقوله : « وَأَرْجُلَكُمْ » بالنصب عطفاً على { بِرُؤُوسِكُمْ } [ المائدة : 6 ] .
والفرقُ بين هذا والوجه الأول : أنَّ الأول ضمَّن الفعل معنى : « وَهَبْنَا » توهُّماً ، وهنا باقٍ على مدلوله من غير توهُّم .
ومن قال بأنه مجرورٌ جعله عطفاً على « بإسحاقَ » والمعنى : أنَّها بُشِّرت بهما .
وفي هذا الوجه والذي قبله بحثٌ : وهو الفَضْلُ بالظَّرْفِ بين حرف العطف ، والمعطوف ، وقد تقدَّم ذلك مستوفى في النِّساءِ .
ونسب مكي الخفض للكسائي ثم قال : « وهو ضعيفٌ إلاَّ بإعادة الخافض؛ لأنَّك فصلت بين الجار والمجرور بالظَّرف » . قوله : « بإعادة الخافض » ليس ذلك لازماً ، إذ لو قدِّم ولم يفصلْ لم يلتَزِم الإتيان به .
وأمَّا قراءةُ الرَّفْع ففيها أوجه :
أحدها : أنَّه مبتدأ وخبره الظَّرف السَّابق فقدره الزمخشريُّ « موجود أو مولود » وقدَّره غيره ب : كائن ولمَّا حكى النَّحاسُ هذا قال : « الجملة حالٌ داخلةٌ في البشارة أيك فبشَّرناها بإسحاق مُتَّصلاً به يعقُوبُ » .
والثاني : أنَّه مرفوعٌ على الفاعلية بالجارِّ قبله ، وهذا يجيء على رأي الأخفش .
والثالث : أن يرتفع بإضمارِ فعلٍ أي : ويحدث من وراء إسحاق يعقوب ، ولا مدخل له في البشارة .
والرابع : أنه مرفوعٌ على القَطْع يَعْنُونَ الاستئناف ، وهو راجعٌ لأحَدِ ما تقدَّم من كونه مبتدأ وخبراً ، أو فاعلاً بالجارِّ بعدهُ ، أو بفعل مقدر .
وفي لفظ « وَرَاء » قولان :
أظهرهما : وهو قولُ الأكثرين أنَّ معناه « بَعْد » أي : بعد إسحاق يعقوب ولا مدخل له في البشارة .
والثاني : أنَّ الوراء : ولد الولد .
فصل
ذكر المفسِّرون أنَّ « إسحاق » ولدَ ولأبيه مائة سنة بعد أخيه إسماعيل بأربع عشرة سنة وكان عمر أمه سارة حين بُشِّرَتْ به تسعين سنة . وذكر أهلُ الكتاب أنَّ إسحاق لمَّا تزوج ربقة بنت شاويل في حياة أبيه كان عمره أربعين سنة ، وأنَّها كانت عَاقِراً فدعا الله لها فحملتْ فولدت غلامين تَوْءَمَيْنِ؛ أولهما سمَّوهُ عيصو ، وتسمية العرب « العِيصَ » وهو والدُ الرُّوم الثانية ، والثاني خرج وهو آخذ بعقب أخيه فسمَّوهُ يعقوب ، وهو إسرائيل الذي ينسبُ إليه بنو إسرائيل .
قوله : { قَالَتْ ياويلتا } الظَّاهرُ كون الألف بدلاً من ياء المتكلم ولذلك أمالها أبو عمرو وعاصم في روايةٍ ، وبها قرأ الحسن « يَا وَيْلَتِي » بصريح الياء . وقيل : هي ألف الندبة ، ويوقفُ عليها بهاء السَّكْتِ . وكذلك الألف في « يَا وَيْلَتَا » و « يَا عَجَبَا » .
قال القفال - رحمه الله - : أصلُ الوَيْل هو الخِزْيُ ، ويقال : وَيلٌ لفلان ، أي الخزي والهلاك .
[ قال سيبويه : « وَيْح » زجر لمنْ أشرف على الهلاكِ ، و « وَيْل » ] لمن وقع فيه .
قال الخليلُ : ولَمْ أسْمَعْ على مثاله إلاَّ « وَيْح » ، و « وَيْد » ، و « وَيْه » ، وهذه كلمات متقاربة في المعنى .
قوله : « أَأَلِدُ » قرأ ابنُ كثير ونافع وأبو عمر « آلد » بهمزة ومدة ، والبقاون : بهمزتين بلا مدٍّ وقوله : { وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً } الجملتان في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعل « ألِدُ » أي : كيف تقعُ الولادة في هاتينِ الحالتين المنافيتين لها؟ .
والجمهورُ على نصب « شَيْخاً » وفيه وجهان :
المشهورُ أنَّهُ حالٌ ، والعاملُ فيه : إمَّا التَّنْبيهُ وإما الإشارةُ . وإمَّا كلاهما .
والثاني : أنه منصوبٌ على خبر التَّقريب عند الكوفيين ، وهذه الحالُ لازمةٌ عند من لا يَجْهَل الخبر ، وأمَّا من جهله فهي غير لازمة .
وقرأ ابنُ مسعُود والأعمش وكذلك في مصحف ابن مسعود « شَيْخٌ » بالرَّفْع ، وذكروا فيه أوجهاً : إمَّا خبرٌ بعد خبر ، أو خبران في معنى خبر واحد نحو : هذا حلو حامض ، أو خبر « هَذَا » و « بَعْلي » بيانٌ ، أو بدلٌ ، أو « شيخٌ » بدلٌ من « بَعْلي » ، أو « بَعْلِي » مبتدأ و « شَيْخٌ » خبره ، والجملة خبر الأول ، أو « شَيْخٌ » خبر مبتدأ مضمر أي : هو شيخٌ .
والشَّيْخُ يقابله عجوزٌ ، ويقال : شَيْخَة قليلاً؛ كقوله : [ الطويل ]
2993- وتَضْحَكُ مِنِّ ] شَيْخَةٌ عَبْشمِيَّةٌ .. . .
وله جموعٌ كثيرة ، فالصَّريحُ منها : أشياخ وشُيُوخ وشِيخان ، وشِيخَة عند من يرى أنَّ فعلة جمعٌ لا اسم جمع كغِلْمَة وفِتْيَة .
ومن أسماءِ جمعه : مَشِيخَة وشِيَخَة ومَشْيُوخاً .
وبَعْلُهَا : زوجها ، سُمِّي بذلك لأنَّهُ قيِّمُ أمرها .
قال الواحدي : وهذا من لَطِيفِ النَّحو وغامضه فإنَّ كلمة « هذا » للإشارة ، فكان قوله { وهذا بَعْلِي شَيْخاً } قائمٌ مقام أن يقال : أشير إلى بَعْلِي حال كونه شَيْخاً .
والمقصُودُ : تعريف هذه الحالة المخصوصة وهي الشَّيْخُوخة .
ثم قال : { إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ } .
فإن قيل : كيف تعجَّبَتْ من قُدْرَةِ الله - تعالى - والتَّعجُّبُ من قدرةِ الله يدلُّ على الجهْلِ بقُدْرةِ الله تعالى؛ وذلك يوجبُ الكُفْرَ؟ .
فالجواب : أنَّها إنَّما تعجبت بحسب العُرْفِ والعادة لا بحسب القدرة ، فإنَّ الرَّجُلَ المسلم لو أخبره رجلٌ آخرُ صادقٌ بأنَّ الله - تعالى - يقلبُ هذا الجبل إبْرِيزاً ، فلا شكَّ أنه يتعجب نظراً إلى العادةِ لا استنكاراً للقدرةِ .
ثم قالت الملائكةُ : { قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله } أي : لا تعجبي مِنْ أمْرِ الله ، فإنَّ الله إذا أراد شيئاً كان .
قوله : { رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت } أي : بيت إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - والمعنى : رحمةُ الله عليكم متكاثرة ، وبركاته عندكم متواليةٌ متعاقبة ، وهي النبوة ، والمعجزات القاهرةُ ، فإذا خرق الله العادةَ في تخصيصكُم بهذه الكراماتِ العاليةِ الرَّفيعةِ ، فلا تعجبي من ذلك . وقيل : هذا على معنى الدُّعاءِ من الملائكة .
وقيل : على معنى الخَيْرِ والرَّحْمَةِ والنعمة . و « البركاتُ » جمع البركة وهي ثبوت الخَيْرِ .
فإن قيل : ما الحكمةُ في إفرادِ الرَّحمةِ وجمع البركات ، وكذلك إفراد السَّلام في التشهد وجمع البركات؟ .
فالجواب : قد تقدَّم في سورة البقرة عند قوله : { أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } [ البقرة : 157 ] .
وقال ابن القيِّم - هنا - إنَّ السلام إمَّا مصدرٌ محضٌ ، فهو شيءٌ واحدٌ ، فلا معنى لجَمْعِهِ ، وإمَّا اسمٌ من أسماء الله - تعالى - فيستحيل أيضاً جمعه ، وعلى التقديرين لا سبيل لجمعه .
وأمَّا الرَّحمةُ فمصدرٌ كما تقدَّم ، وأمَّا البركةُ : فإنها لمَّا كانت تتجدَّدُ شيئاً بعد شيءٍ كان لفظ الجمع أولى بها؛ لدلالتها على المعنى المقصود بها ، ولهذا جاءت في القرآن كهذه الآية ، وكذلك السَّلام في التشهُّدِ ، وهو قوله : السَّلام عليكم أيُّها النبيُّ ورحمة الله وبركاته .
وقوله : « عَلَيْكُم » حكى سيبويه « عَلَيْكم » بكسر الكافِ لمجاورتها الياء نقله القرطبي وفيه دليل على أنَّ الأزواجَ من أهلِ البيتِ .
قوله : « أهْلَ البيتِ » في نصبه وجهان :
أحدهما : أنه مُنَادَى .
والثاني : أنه منصوبٌ على المدح . وقيل : على الاختصاص ، وبين النَّصبين فرقٌ : وهو أنَّ المنصوب على المدح لفظٌ والمنصوبُ على الاختصاصِ لا يكونُ إلا لمدحٍ ، أو ذمٍّ ، لكن لفظه لا يتضمَّنُ بوضعه المدحَ ، ولا الذَّم؛ كقوله : [ الرجز ]
2994- بِنَا تَمِيماً يُكْشَفُ الضَّبَابُ ... كذا قاله أبو حيَّان ، واستند إلى أنَّ سيبويه جعلهما في بابين ، وفيه نظرٌ . ثم قال : إنه حميدٌ مجيدٌ ، فالحميد : المحمود ، والمجيدُ : فعيل ، مثال مبالغة من مَجَد يَمْجُد مَجْداً ومَجَادَة ، ويقال : مَجُد ك : شَرُف وأصله : الرِّفْعَة .
وقيل : من مَجَدتِ الإبلُ تَمْجُدُ مَجَادَةً ومَجْداً ، أي : شَبِعَتْ؛ وأنشدوا لأبي حيَّة النَّمَيْرِي : [ الوافر ]
2995- تَزيدُ على صواحبها وليْسَتْ ... بِمَاجِدةِ الطَّعامِ ولا الشَّرابِ
[ أي ] : ليست بكثيرة الطَّعام ولا الشَّرابِ .
وقيل : مَجَد الشَّيءُ : أي : حَسُنَتْ أوصافُهُ .
وقال الليثُ - رحمه الله - : « أمْجَدَ فلانٌ عطاءهُ ومجَّدهُ أي : كثَّرَهُ » .
والمجيدُ : المَاجدُ ، وهو ذُو الشَّرفِ والكرمِ .
قوله : { فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع } ، أي : الفزعُ؛ قال الشَّاعرُ : [ الطويل ]
2996- إِذَا أخَذَتْهَا هِزَّةُ الرَّوْعِ أمْسَكَتْ ... بِمَنْكِبِ مِقدامٍ على الهَوْلِ أرْوَعَا
يقال : رَاعَهُ يَرُوعُه ، أي : أفزعهُ؛ قال عنترةُ : [ الكامل ]
2997- ما رَاعَنِي إِلاَّ حَمُولةُ أهْلِهَا ... وسْطَ الدِّيارِ تَسَفُّ حبَّ الخِمْخِمِ
وارتاع : افتعل منه؛ قال النابغة : [ البسيط ]
2998- فارْتَاعَ مِنْ صَوْتِ كلاَّبٍ فَبَاتَ لَهُ ... طَوْعَ الشَّوامِتِ مِنْ خَوْفٍ ومِنْ صَرَدِ
وأمَّا الرُّوعُ - بالضمِّ - فهي النَّفْسُ لأنَّها محلُّ الرَّوْعِ . ففرَّقُوا بين الحالِّ والمَحَلِّ؛ وفي الحديث : « إِنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعي » .
قوله : { وَجَآءَتْهُ البشرى } عطف على « ذَهَبَ » ، وجوابُ « لمَّا » على هذا محذوفٌ أي : فلمَّا كان كيت وكيت اجترأ على خطابهم ، أو فطن لمجادلتهم ، وقوله : « يَجَادِلُنَا » على هذا جملةٌ مستأنفةٌ ، وهي الدَّالَّةُ على ذلك الجواب المحذوف .
وقيل : تقديرُ الجواب : أقبل يُجَادلنا ، أو أخذ يُجَادلُنَا ، ف « يُجَادِلُنَا » على هذا حالٌ من فاعل « أقبل » .
وقيل : جوابها قوله : « يُجَادلُنَا » وأوقع المضارع موقع الماضي .
وقيل : الجوابُ قوله : { وَجَآءَتْهُ البشرى } والواوُ زائدةٌ . وقيل : « يُجَادِلُنَا » حال من « إبراهيم » ، وكذلك قوله : { وَجَآءَتْهُ البشرى } و « قَدْ » مقدرةٌ . ويجُوزُ أن يكون « يُجَادِلُنَا » حالاً من ضمير المفعول في « جَاءءَتْهُ » . و « فِي قَوْمِ لُوطٍ » أي : في شأنهم .
قوله : { فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع } .
هذا أوَّلُ قصة قوم لوط ، والمعنى : أنَّهُ لمَّا زال الخوف وحصل السُّرورُ بسبب مجيء البُشْرَى بحصول الولد ، أخذ يُجَادلنا أي : رسلنا ، بمعنى : يكلمنا؛ لأنَّ إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - لا يجادل ربه ، إنَّما يسأله ويطلب إليه بدليل مدحه عقيب الآية بقوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ } ولو كان جدلاً مذموماً لما مدحه بهذا المَدْح العظيم ، وكانت مجادلته أن قال للملائكة : أرأيتم لو كان في مدائنِ لوطٍ خمسون رجلاً من المؤمنين أتهلكونها قالوا : لا .
قال : أو أربعون . قالوا : لا .
قال : أو ثلاثون . قالوا لا . حتَّى بلغ العشرة .
قالوا : لا . قال : أرأيتم لو كان فيها رجلٌ مسلم أتهلكونها؟ قالوا : لا . فعند ذلك { قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته } [ العنكبوت : 32 ] .
ثم قال تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ } .
والحليم : الذي لا يتعجَّلُ بمكافأة من يؤذيه ، ومن كان كذلك فإنَّه يتأوَّهُ إذا شاهد وصول الشَّدائد إلى الغير فلمَّا رأي مجيء الملائكة لإهلاك قوم لُوط عظم حزنهُ ، وأخذ يتأوَّهُ فوصفه ، الله - تعالى - بأنَّهُ مُنِيبٌ؛ لأنَّ من ظهرت منه هذه الشفقة العظيمةُ على الخلق فإنَّهُ يتُوبُ ويرجع إلى الله - تعالى عزَّ وجلَّ - في إزالة ذلك العذابِ ، أو يقال : من كان لا يَرْضَى بوقوع غيره في الشَّدائد ، فبأن لا يرضى بوقوع نفسه فيها أولى ، ولا طريق لتخليصِ النَّفْسِ من عذاب الله والوقوع فيه إلا بالتوبةِ والإنابةِ ، فقالت الرُّسُلُ عند ذلك لإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - : { يإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هاذآ } أي : أعرض عن هذا المقال ، ف { إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ } ، أي : عذابُ ربِّك وحُكم ربِّك { إِنَّهُمْ آتِيهِمْ } : نازلٌ بهم { عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } ، أي : غير مصروف عنهم .
قوله : { آتِيهِمْ عَذَابٌ } يجوز أن يكون جملة من مبتدأ وخبر في محلِّ رفع خبراً ل « إنَّهُمْ » ، ويجوز أن يكون « آتِيهِمْ » الخبر « عَذابٌ » المبتدأ ، وجاز ذلك لتخصُّصِه بالوصفِ ، ولتنكير « آتِيهِمْ » ؛ لأنَّ إضافته غيرُ محصنةٍ .
ويجُوزُ أن يكون « آتِيهِمْ » خبر « إنَّ » ، و « عذابٌ » فاعلٌ به ، ويدلُّ على ذلك قراءةُ عمرو بن هرم « وإنَّهُمْ أتاهُمْ » بلفظ الفعل الماضي .
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
قوله تعالى : { وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً } قال ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - : انطلقُوا من عند إبراهيم إلى « لُوطٍ » [ و ] بين القريتين أربعة فراسخَ ، ودخلوا عليه على صورة غلمان مرد حسان الوجوه .
قوله : { سياء بِهِمْ } فعلٌ مبنيٌّ للمفعول ، والقائمُ مقامَ الفاعل ضمير « لُوطٍ » من قولك : « سَاءَنِي كَذا » أي : حصل لي سُوءٌ ، و « بِهِمْ » متعلقٌ به ، أي : بسببهم ، يقال : سؤته فسيء كما يقال : سَرَرْتُه فَسُرَّ ، ومعناهُ : سَاءَهُ مَجِيئُهم وسَاءَ يَسُوءُ فعل لازم .
قال الزجاجُ : « أصله » سُوىءَ بِهِمْ « إلاَّ أنَّ الواو أسكنت ونقلت كسرتها إلى السين » .
و « ذَرْعاً » نصبٌ على التَّمييز ، وهو في الأصل مصدر ذرع البعير يذرع بيديه في سيره إذا سار على قدر خطوه ، اشتقاقاً من الذِّراع ، تُوسِّع فيه فوضع موضع الطَّاقة والجهد . فقيل : ضاقَ ذَرْعُه ، أي طاقته؛ قال : [ البسيط ]
2999- . . ... فاقْدِرْ بِذرْعِكَ وانْظُرْ أيْنَ تَنْسَلِكُ
وقد يقعُ الذِّراعُ موقعهُ؛ قال : [ الوافر ]
3000- إذَا التَّيَّازُ ذُو العضلاتِ قُلْنَا ... إلَيْكَ إلَيْكَ ضَاقَ بِهَا ذِرَاعا
قيل : هو كنايةٌ عن ضيق الصَّدْرِ .
وقوله : « عَصِيبٌ » العَصِبُ والعَصبْصَبُ والعَصُوب : اليومُ الشَّديدُ الكثيرُ الشَّرَّ ، الملتفُّ بعضه ببعض قال : [ الوافر ]
3001- وكُنْتَ لِزازَ خَصْمِكَ لَمْ أعَرِّدْ ... وَقَدْ سَلكُوكَ في يومٍ عَصِيبِ
وعن أبي عبيدة : « سُمِّي عصيباً؛ لأنَّه يعصبُ النَّاسَ بالشَّرِّ » . كأنَّه عصب به الشَّر والبلاء أي : حشدوا والعِصَابةُ : الجماعةُ من النَّاس سُمُّوا بذلك لإحاطتهم إحاطة العصابة .
والمعنى : أنَّ لوطاً لمَّا نظر إلى حسن وجوههم ، وطيب روائحهم ، أشفق عليهم من قومه أن يقصدوهم بالفاحشةِ ، وعلم أنَّه سيحتاجُ إلى المدافعة عنهم ، فلذلك ضاق بهم ذَرْعاً أي : قَلْباً .
يقال : ضَاقَ ذَرْعُ فلان بكذا ، إذا وقع في مكروهٍ ، ولا يطيقُ الخُروج منه .
قوله : { وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ } « يُهْرَعُونَ » في محلِّ نصب على الحال . والعامَّةُ على « يُهْرَعُونَ » مبنياً للمفعول . وقرأ فرقة بفتح الياء مبنيّاً للفاعل من لغة « هَرَع » والإهراعُ : الإسْراعُ .
ويقالُ : هو المَشْيُ بين الهرولة والجمز .
وقال الهرويُّ : هَرَعَ وأهرع : استحث .
وقيل : « الإهراعُ : هو الإسْرَاع مع الرّعدة » .
قيل : هذا من باب ما جاء بصيغةِ الفاعلِ على لفظِ المفعولِ ، ولا يعرف له فاعل نحو : أولع فلان ، وأرْعِدَ زَيْدٌ ، وزُهي عمرٌو من الزهو .
وقيل : لا يجوزُ ورود الفاعل على لفظ المفعول ، وهذه الأفعالُ عرف فاعلوها . فتأويلُ أولع فلانٌ أي : أولعهُ حبُّه ، وأرْعدَ زيدٌ أي : أرعده غضبه ، وزُهي عَمْرٌو أي : جعله ما لهُ زاهياً ، وأهرع خوفه ، أو حرصه .
فصل
روي أنَّه لمَّا دخلت الملائكةُ دار لوط - عليه السلام - مضت امرأته فقالت لقومه : دخل دارنا قوم ما رأيت أحسن منهم وجوهاً ولا أطيب منهم رائحة ف « جَاءَهُ قَوْمُهُ » مسرعين { وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات } أي : من قبل مجيئهم إلى لوطٍ كانوا يأتون الرِّجال في أدبارهم ، فقال لهم لوطٌ - عليه السلام - : حين قصدوا أضيافه فظنوا أنهم غلمان { ياقوم هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } يعني : بالتزويج .
قوله : { هؤلاء بَنَاتِي } جملةٌ برأسها ، و { هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } جملةٌ أخرى ، ويجُوزُ أن يكون « هؤلاءِ » مبتدأ ، و « بَنَاتِي » بدلٌ أو عطفُ بيان ، وهُنَّ مبتدأ ، و « أطْهَرُ » خبره ، والجملة خبر الأول . ويجوز أن يكون « هُنَّ » فصلاً ، و « أطْهَرُ » خبر : إمَّا ل « هَؤلاءِ » ، وإمَّا ل « بَنَاتِي » والجملةُ خبر الأوَّلِ .
وقرأ الحسنُ وزيدُ بنُ عليّ ، وسعيدُ بنُ جبير ، وعيسى بن عمر ، والسُّدي « أطْهَرَ » بالنَّصْب ، وخُرِّجَتْ على الحالِ ، فقيل : « هؤلاءِ » مبتدأ ، و « بَنَاتِي هُنَّ » جملة في محلِّ خبره ، و « أطْهَرَ » حال ، والعاملُ : إمَّا التَّنبيهُ وإمَّا الإشارةُ .
وقيل : « هُنَّ » فصلٌ بين الحالِ وصاحبها ، وجعل من ذلك قولهم : « أكثر أكْلِي التفاحة هي نضيجةً » ومنعه بعضُ النحويين ، وخرج الآية على أنَّ « لَكُم » خبر « هُنَّ » فلزمه على ذلك أن تتقدَّم الحالُ على عاملها المعنويِّ ، وخرَّج المثل المذكور على أنَّ « نَضِيجَةٌ » منصوبة ب « كَانَ » مضمرة .
فصل
قال قتادةُ - رحمه الله - : « المرادُ بناته لصلبه » ، وكان في ذلك الوقت تزويج المسلمة من الكافر جائزاً كما زوَّج النبي - صلوات الله البرّ الرحيم وسلامه عليه دائماً أبداً - ابنته من عُتْبة بن أبي لهبٍ ، وزوج ابنته الأخرى من أبي العاص بن الربيع قبل الوحي ، وكانا كافرين .
وقال الحسنُ بن الفضل : عرض بناته عليهم بشرط الإسلام .
وقال مجاهدٌ وسعيدُ بن جبير : أراد نساءهم ، وأضاف إلى نفسه؛ لأنَّ كُلَّ نبيٍّ أبو أمته وفي قراءة أبي بن كعب « { النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } [ الأحزاب : 6 ] وهو أب لهم » وهذا القول أولى؛ لأنَّ إقدام الإنسان على عرض بناته على الأوباش والفُجَّار أمر مستعبدٌ لا يليقُ بأهل المروءةِ ، فكيف بالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -؟ وأيضاً فبناته من صلبه لا تكفي للجمع العظيم ، أمَّا بناتُ أمته ففيهن كفاية للكُلِّ ، وأيضاً : فلم يكن له إلاَّ بنتان ، وإطلاق البنات على البنتين لا يجوز؛ لما ثبت أنَّ أقلَّ الجمع ثلاثة؛ وقال بعضهم ذكر ذلك على سبيل الدفع لا على سبيل التحقيق .
فإن قيل : ظاهرُ قوله : { هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } يقتضي كون عملهم طاهراً ، ومعلوم أنَّهُ فاسدٌ؛ ولأنه لا طهارة في نكاح الرَّجُل .
فالجوابُ : هذا جارٍ مجرى قولنا : الله أكبرُ ، والمرادُ : أنَّهُ كبيرٌ ، وكقوله : { أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم } [ الصافات : 62 ] ولا خير فيها ، ولمَّا قال أبو سفيان يوم أحد اعْلُ هُبَلُ اعلُ هُبَلُ ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم أعلى وأجلُّ ولا مقاربة بين الله والصنم .
قوله : { وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي } قرأ أبُو عمرو ونافع بإثبات ياء الإضافة في « تُخْزُونِ » على الأصل والباقون بحذفها للتخفيف ودلالة الكسر عليها .
والضَّيفُ في الأصل مصدرٌ كقولك : رجالٌ صومٌ ، ثم أطلق على الطَّارق لميلانه إلى المُضِيف ، ولذلك يقعُ على المفردِ والمذكر وضدِّيهما بلفظٍ واحدٍ ، وقد يثنى فيقال : ضيفان ، ويجمع فيقال : أضياف وضُيُوف كأبيات وبُيُوت وضيفان كحوض وحِيضان .
والضَّيف قائمٌ هنا مقام الأضياف ، كما قام الطفل مقام الأطفال في قوله : { أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء } [ النور : 32 ] .
فصل
قال ابنُ عباسٍ : المرادُ : خافوا الله ، ولا تفضحوني في أضيافي ، يريد : أنَّهُم إذا هجمُوا على أضيافه بالمكروه لحقته الفضيحةُ .
وقيل : معناه لا تخجلوني فيهم؛ لأنَّ مضيف الضَّيْفِ يلحقهُ الخجلُ من كُلِّ فعل قبيحٍ يتوجه إلى الضَّيف ، يقال : خزي الرجل إذا استحيا .
ثم قال : { أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } أي : صالح سديدٌ يقول الحق ، ويرد هؤلاء الأوباش عن أضيافي . وقال عكرمةُ : رجل يقول : لا إله إلاَّ الله .
وقال ابن إسحاق : رجل يأمُرُ بالمعروفِ ، وينهى عن المنكر .
{ قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ } يا لوطُ { مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ } ، أي : لسن أزواجاً لنا فنستحقهنّ بالنكاح . قيل : ما لنا في بناتك من حاجةٍ ، ولا شهوةٍ . وقيل : { مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ } لأنك دعوتنا إلى نكاحهن بشرط الإيمان ، ونحنُ لا نجيبك إلى ذلك ، فلا يكون لنا فيهن حقٌّ .
قوله : « مِنْ حقٍّ » يجوز أن يكون مبتدأ ، والجارُّ خبره ، وأن يكون فاعلاً بالجارِّ قبله لاعتماده على نفي ، و « مِنْ » مزيدةٌ على كلا القولين .
قوله : « ما نُرِيدُ » يجُوزُ أن تكون « ما » مصدرية ، وأن تكون موصولة بمعنى « الَّذي » . والعلم عرفانٌ؛ فلذلك يتعدَّى لواحدٍ أي : لتعرف إرادتنا ، أو الذي نريده . ويجوزُ أن تكون « ما » استفهامية ، وهي معلقة للعلم قبلها .
والمعنى : إنك لتعلم ما نريد من إتيان الرِّجال .
قوله : « لَوْ أنَّ » جوابها محذوفٌ تقديره : لفعلتُ بكم وصنعتُ كقوله : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ } [ الرعد : 31 ] قوله : « أَوْ آوِي » يجوز أن يكون معطوفاً على المعنى ، تقديره : أو أنِّي آوي ، قاله أبُو البقاءِ ويجوزُ أن يكون معطوفاً على « قُوَّةً » ؛ لأنه منصوبٌ في الأصل بإضمارِ أن فلمَّا حذفت « أنْ » رفع الفعلُ كقوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ } [ الروم : 24 ] .
واستضعف أبو البقاءِ هذا الوجه بعدم نصبه . وقد تقدَّم جوابه . ويدلُّ على اعتبار ذلك قراءةُ شيبة ، وأبي جعفر : « أوْ آوِيَ » بالنصب كقوله : [ الطويل ]
3002- ولوْلاَ رجالٌ منْ رِزَامٍ أعِزَّةٍ ... وآلُ سُبَيْعٍ أو أسُوءكَ عَلْقَمَا
وقولها : [ الوافر ]
3003- للُبْسُ عَبَاءَةٍ وتقرَّ عَيْنِي ... أحَبُّ إليَّ من لُبْسِ الشُّفُوفِ
ويجوز أن يكون عطف هذه الجملةِ الفعلية على مثلها إن قدَّرت أنَّ « أنَّ » مرفوعة بفعل مقدرٍ بعد « لَوْ » عند المبرد ، والتقدير : ول يستقر - أو يثبت - استقرار القوة أوْ آوي ، ويكون هذان الفعلان ماضيي المعنى؛ لأنَّهما تقلب المضارع إلى المُضيِّ .
وأمَّا على رأي سيبويه في كون أنَّ « أنَّ » في محلِّ الابتداء ، فيكون هذا مستأنفاً .
وقيل : « أوْ » بمعنى « بل » وهذا عند الكوفيين .
و « بِكُمْ » متعلق بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من « قُوَّة » ، إذ هو في الأصلِ صفةٌ للنكرة ، ولا يجوزُ أن يتعلق ب « قُوَّةً » لأنها مصدرٌ .
والرُّكْنُ بسكون الكافِ وضمها الناحية من جبلٍ وغيره ، ويجمع على أركان وأرْكُن؛ قال : [ الرجز ]
3004- وَزَحْمُ رُكْنَيْكَ شَدِيدُ الأرْكُنِ ... فصل
المعنى : لو أنَّ لي قوة البدنِ ، أو القوَّة بالأتباع ، وتسمية موجب القوة بالقوَّة جائز قال تعالى : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل } [ الأنفال : 60 ] والمراد السلاح . { أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ } أي : موضع حصين ، وقيل : أنضم إلى عشيرةٍ مانعةٍ .
فإن قيل : كيف عطف الفعل على الاسم؟ .
فالجوابُ قد تقدَّم .
قال أبُو هريرة - رضي الله عنه - : « ما بعث الله بعده نبيّاً إلاَّ في منعة من عشيرته » . « وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : » يَرْحَمُ اللهُ لُوطاً لقد كَانَ يَأوي إلى رُكْنٍ شديدٍ « .
قال ابنُ عبَّاسٍ والمفسِّرُون - رضي الله عنهم - : أغلق لوطٌ بابه ، والملائكة معه في الدَّار وهو يناظرهم ويناشدهم من وراءِ البابِ ، وهم يُعَالجُونَ سور الجدار ، فلما رأت الملائكةُ ما يلقى لوطٌ بسببهم : { قَالُواْ يالوط } إنَّ ركنك شديدٌ { إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يصلوا إِلَيْكَ } بسوءٍ ومكروه فإنا نحولُ بينهم وبين ذلك ، فافتح الباب ، ودعنا وإيَّاهم؛ ففتح الباب ودخلوا ، واستأذن جبريلُ - عليه الصلاة والسلام - ربه - عزَّو جلَّ - في عقوبتهم فأذن لهُ - فقام في الصُّورة اليت يكون فيها؛ فنشر جناحيه ، وعليه وشاح من دُرٍّ منظوم ، وهو براق الثَّنايا ، أجلى الجبين ، ورأسه مثل المرجان كأنَّه الثلج بياضاً ، وقدماه إلى الخضرة ، فضرب بجناحيه وجوههم فطمس أعينهم فأعماهم فصاروا لا يعرفون الطَّريق ، فانصرفوا وهم يقولون : النَّجاة النَّجاة في بيت لوطٍ أسحرُ قوم في الأرض ، سحرونا ، وجَعلوا يقولون : يا لوطُ كما أنت حتى تصبح ، وسترى ما تلقى منَّا غداً ، فقال لوطٌ للملائكةِ : متى موعد هلاكهم؛ فقالوا : الصُّبح ، قال : أريدُ أسرع من ذلك فلو أهلكتموهم الآن ، فقالوا { أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ } .
قوله : « فَأَسْرِ » قرأ نافعٌ وابنُ كثيرٍ : ( فأسر بأهلك ) هنا وفي الحجر ، وفي الدخان ( فاسر بعبادي ) ، وقوله : ( أن اسر ) في طه والشعراء ، جميع ذلك بهمزة الوصل تسقط درجاً وتثبتُ مكسورة ابتداء .
والباقُون : « فأسْرِ » بهمزة القطع تَثْبتُ مفتوحةً درجاً وابتداء ، والقراءتان مأخوذتان من لغتي هذا الفعل فإنَّهُ يقال : سَرَى ، ومنه { والليل إِذَا يَسْرِ } [ الفجر : 4 ] ، وأسْرَى ، ومنه : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ } [ الإسراء : 1 ] وهل هما بمعنى واحدٍ أو بينهما فرقٌ؟ خلافٌ فقيل : هما بمعنى واحدٍ ، وهو قولُ أبي عبيدٍ .
وقيل : أسْرَى لأولِ الليل ، وسرى لآخره ، وهو قولُ اللَّيْثِ - رحمه الله - وأمَّا « سَارَ » فمختص بالنَّهار ، وليس مقلُوباً من « سَرَى » .
فإن قيل « السُّرى » لا يكون إلاَّ بالليل ، فما الفائدةُ في قوله : { بِقِطْعٍ مِّنَ الليل } قال : هو آخر الليل سحر وقال قتادةُ : بعد طائفة من اللَّيلِ .
وتقدم في سورة يونس .
ثم قال : { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } في الالتفات وجهان :
أحدهما : نظر الإنسان إلى ما وراءه ، فيكونُ المرادُ أنه كان لهم في البلد أموال نهوا عن الالتفات إليها .
والثاني : أنَّ المراد بالالتفات الانصرافُ؛ كقوله تعالى : { أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا } [ يونس : 78 ] أي : لتصرفنا والمراد نهيهم عن التَّخلُّفِ .
قوله : { إِلاَّ امرأتك } قرأ ابنُ كثير ، وأبو عمرو برفع « امْرأتُكَ » والباقون بنصبها . وفي هذه الآية كلامٌ كثيرٌ . أمَّا قراءةُ الرَّلإع ففيها وجهان :
أشهرهما - عند المعربين - أنَّه على البدل من « أحد » وهو أحسنُ من النَّصب ، لأنَّ الكلام غيرُ موجب .
وهذا الوجهُ ردَّهُ أبو عبيد بأنه يلزمُ منه أنَّهُم نُهُوا عن الالتفاتِ إلاَّ المرأة ، فإنَّها لم تُنْه عنه ، وهذا لا يجُوزُ ، ولوْ كان الكلامُ « ولا يَلْتَفِت » برفع « يَلْتَفتْ » يعني على أن تكون « لا » نافيةً ، فيكون الكلامُ خبراً عنهم بأنَّهُم لم يلتفتُوا إلاَّ امرأته فإنَّها تلتفتُ لكان الاستثناء بالبدليَّة واضحاً ، لكنَّهُ لم يقرأ برفع « يَلْتَفِتُ » أحد .
واستحسن ابنُ عيطة هذا الإلزامَ من أبي عبيدٍ .
وقال : « إنَّه واردٌ على القول باستثناءِ المرأة من » أحد « سواءً رفعت المرأة أو نصبتها » .
وهذا صحيحٌ ، فإنَّ أبا عبيد لم يُرد الرفع لخصوصِ كونه رفعاً ، بل لفسادِ المعنى ، وفسادُ المعنى دائر مع الاستثناء من « أحد » ، وأبو عبيد يخرِّجُ النصب على الاستثناء من « بِأَهْلِكَ » ولكنَّهُ يلزمُ من ذلك إبطالُ قراءة الرَّفع ، ولا سبيل إلى ذلك لتواتُرها .
وقد انفصل المبرِّدُ عن هذا الإشكال الذي أورده أبو عبيد بأنَّ النَّهْيَ في اللفظ ل « أحَد » وهو في المعنى للوط - عليه الصلاة والسلام - ، إذ التقدير : لا تدعْ منهم أحداً يلتفتُ ، كقولك لخادمك : « لا يَقُمْ أحَدٌ » النَّهْيُ ل « أحد » وهو في المعنى للخادم ، إذ المعنى : لا تدعْ أحداً يقومُ .
فآل الجوابُ إلى أنَّ المعنى لا تدعْ أحداً يلتفتُ إلاَّ امرأتك فدعها تلتفتُ ، هذا مقتضى الاستثناء كقولك : « لا تدَعْ أحَداً يقوم إلاَّ زيداً معناه : فدعهُ يقوم . وفيه نظرٌ ، إذ المحذور الذي قد فرَّ منه أبو عبيد موجودٌ هو أو قريب منه هنا .
والثاني : أنَّ الرفع على الاستثناءِ المنقطع .
وقال أبو شامة : قراءةُ النَّصب أيضاً من الاستثناء المنقطع ، فالقراءتان عنده على حدِّ سواء ، ولنسرُدْ كلامه قال : » الذي يظهرُ أنَّ الاستثناء على كلتا القراءتين منقطع ، لم يقصدْ به إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ، ولا من المنهيين عن الالتفات ، ولكن استؤنف الإخبار عنها ، فالمعنى : لكن امرأتكَ يجري لها كذا وكذا ، ويؤيدُ هذا المعنى أنَّ مثل هذه الآية جاءت في سورة الحجرِ ، وليس فيها استثناءٌ ألبتَّة ، قال تعالى : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ } [ الحجر : 65 ] الآية .
فلم تقع العنايةُ في ذلك إلاَّ بذكر من أنجاهم الله تعالى ، فجاء شرح حالِ امرأته في سورة [ هود ] تبعاً لا مقصوداً بالإخراج ممَّا تقدَّم ، وإذا اتَّضح هذا المعنى عُلم أنَّ القراءتين وردتا على ما تقتضيه العربية في الاستثناء المنقطع ، وفيه النصبُ والرفعُ ، فالنَّصب لغةُ أهلِ الحجاز ، وعليه الأكثر ، والرَّفعُ لغةُ تميم ، وعليه اثنان من القراء « .
قال أبُو حيَّان : » هذا الذي طوَّل به لا تحقيق فيه ، فإنَّه إذا لم يقصد إخراجها من المأمُور بالإسراء بهم ، ولا من المنهيِّين عن الالتفاتِ ، وجعل اسثناءً منقطعاً ، كان من المنقطع الذي لمْ يتوجَّهْ عليه العاملُ بحالٍ ، وهذا النَّوعُ يجبُ فيه النَّصْبُ على كلتا اللغتين وإنَّما تكون اللغتان فيما جاز توُّهُ العامل عليهن وفي كلا النوعين يكون ما بعد « إلاَّ » من غير الجنس المستثنى ، فكونه جاز فيه اللغتان دليل على أنَّهُ يتوجَّه عليه العاملُ وهو أنه قد فرض أنه لم يقصد بالاستثناء إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ولا من المنهيِّين عن الالتفاتِ؛ فكان يجبُ فيه إذ ذاك النَّصْبُ قولاً واحداً .
قال شهابُ الدِّين : « أمَّا قوله : » إنَّه لم يتوجَّه عليه العامل « ليس بمسلَّم ، بل يتوجَّهُ عليه في الجملة ، والذي قاله النُّاة ممَّا لم يتوجَّه عليه العاملُ من حيثُ المعنى نحو : ما زاد إلاَّ ما نقص ، وما نفع إلاَّ ما ضرَّ ، وهذا ليس من ذاك ، فكيف يعترض به على أبي شامة؟ » .
وأمَّا النصب ففيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّهُ مستثنى من « بأهلكَ » ، واستشكلُوا عليه إشكالاً من حيث المعنى : وهو أنه يلزمُ ألاَّ يكون سرى بها ، لكن الفرض أنه سرى بها يدلُّ عليه أنَّها التفتت ، ولو لم تكن معهم لما حسن الإخبار عنها بالالتفات ، فالالتفاتُ يدل على كونها سرت معهم قطعاً .
وقد أجيب عنه بأنه لم يَسْرِ هو بها ، ولكن لمَّا سرى هو وبنتاه تبعتهم فالتفتت ، ويؤيِّد أنَّه استثناء من الأهل ما قرأ به عبدالله وسقط من مصحفه ، « فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقطْعٍ من اللَّيْلِ إلاَّ امرأتك » ولم يذكر قوله { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } .
والثاني : أنَّهُ مستثنى منْ « أحد » وإن كان الأحسنُ الرّفع إلاَّ أنَّهُ جاء كقراءة ابن عامرٍ : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } [ النساء : 66 ] ، بالنَّصْبِ مع تقدُّم النفي الصَّريح .
وهناك تخريجٌ آخرُ لا يمكن هنا .
والثالث : أنه مستثنى منقطعٌ على ما تقدَّم عن أبي شامة .
وقال الزمخشري : « وفي إخراجها مع أهله روايتان ، روي أنَّه أخرجها معهم ، وأمر أن لا يلتفت منهم أحدٌ إلاَّ هي ، فلمَّا سمعتْ هدَّة العذاب التفتت وقالت : يا قوماه ، فأدركها حجرٌ فقتلها ، وروي أنه أمر بأن يخلِّفها مع قومها فإنَّ هواها إليهم ولم يَسْرِ بها ، واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين » .
قال أبُو حيَّان : « وهذا وهمٌ فاحشٌ ، إذْ بَنَى القراءتين على اختلاف الروايتين من أنَّه سرى بها أو لم يسر بها وهذا تكاذبٌ في الإخبار ، يستحيلُ أن تكون القراءتان - وهما من كلام الله تعالى - يترتبان على التَّكاذُبِ » .
قال شهابُ الدِّين : « وحاش لله أن تترتب القراءتان على التَّكاذُبِ ، ولكن ما قاله الزمخشري صحيحٌ ، الفرض أنَّهُ قد جاء القولان في التفسير ، ولا يلزم من ذلك التَّكاذبُ؛ لأنَّ من قال إنَّه سرى بها يعني أنَّها سرتْ هي بنفسها مصاحبةً لهم في أوائل الأمر ، ثمَّ أخذها العذابُ فانقطع سُراها ، ومن قال إنَّه لم يسر بها ، أي : لَمْ يأمرها ، ولم يأخذها ، وأنَّهُ لم يدُم سراها معهم بل انقطع فصحَّ أن يقال : إنَّهُ سرى بها ولم يَسْرِ بها ، وقد أجاب النَّاسُ بهذا ، وهو حسنٌ » .
وقال أبو شامة : « ووقع لي في تصحيح ما أعربه النحاةُ معنى حسنٌ ، وذلك أن يكون في الكلام اختصار نبَّه عليه اختلاف القراءتين فكأنَّهث قيل : فأسر بأهلك إلاَّ امرأتك ، وكذا روى أبو عبيد وغيره أنها في مصحف عبد الله هكذا ، وليس فيها : » ولا يلتفتْ منكمْ أحَدٌ « فهذا دليلٌ على استثنائها من السُّرَى بهم ثم كأنه سبحانه وتعالى قال : فإن خرجتْ معكم وتَبعتْكُم - غير أن تكون أنت سريتَ بها - فانْهَ أهلك عن الالتفات غيرها ، فإنَّها ستلتفت فيصيبها ما أصاب قومها ، فكانت قراءة النَّصب دالَّة على المعنى المتقدم ، وقراءةُ الرَّفعِ دالَّةٌ على المعنى المتأخر ، ومجموعهما دالٌّ على جملة المعنى المشروح » .
وهو كلامٌ حسنٌ شاهدٌ لما ذكرته .
قوله : { إِنَّهُ مُصِيبُهَا } الضَّميرُ ضمير الشَّأنِ ، « مُصِيبُهَا » خبرٌ مقدَّم ، و « مَا أصَابَهُمْ » مبتدأ مؤخَّر وهو موصولٌ بمعنى « الذي » ، والجملة خبرُ « إنَّ » ؛ لأنَّ ضمير الشَّأنِ يُفسَّر بجملةٍ مصرَّحٍ بجزأيها .
وأعرب أبو حيان : « مُصِيبُهَا » مبتدأ ، و « مَا أصَابهُمْ » الخبر وفيه نظرٌ من حيثُ الصَّناعة : فإنَّ الموصول معرفة ، فينبغي أن يكون المبتدأ : « مُصِيبُهَا » نكرةً؛ لأنه عاملٌ تقديراً فإضافتهُ غير محضةٍ ، ومن حيث المعنى : إنَّ المراد الإخبار عن الذي أصابهم أنه مُصيبها من غير عكس ويجوز عند الكوفيين أن يكون « مُصِيبُهَا » مبتدأ ، و « ما » الموصولةُ فاعلٌ لأنَّهم يجيزون أن يفسَّر ضميرُ الشَّأن بمفرد عاملٍ فيما بعده نحو : « إنَّهُ قائمٌ أبواك » .
قوله : { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ } أي : موعد إهلاكهم . وقرأ عيسى بن عمر « الصُّبُح » بضمتين فقيل : لغتان ، وقيل : بل هي إتباعٌ ، وقد تقدَّم البحثُ في ذلك [ الأنعام : 96 ] .
قوله : { فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } قيل : المراد حقيقتهُ ، وقيل : المرادُ بالأمر العذابُ ، قال بعضهم : لا يمكن حملهُ هنا على العذاب؛ لأن قوله : { فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا } ، فالجعل هو العذاب فكان الأمر شرطاً ، والعذاب الجزاءُ ، والشرط غير الجزاء ، فالأمر غير العذاب ، فدلَّ على أن الأمر هو ضدُّ النهي؛ ويدل على ذلك قول الملائكة : { إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ } [ هود : 70 ] فدل على أنَّهم أمروا بالذهاب إلى قوم لوط بإيصال العذاب إليهم .
فإن قيل : لو كان كذلك ، لقال : « فلما جاء أمرنا ، جعلوا عاليها سافلها » ، لأن الفعل صدر عن المأمور .
فالجواب : أن فعل العبد فعل الله تعالى ، وأيضاً : فالذي وقع إنَّما وقع بأمْر الله ، وبأقداره ، فلا يمتنع إضافته إلى الله تعالى؛ فكما يحسُنُ إضافتهُ إلى المباشرين ، يحسنُ إضافته إلى المسَبِّب .
قوله : { عَالِيَهَا سَافِلَهَا } مفعولا الجعل الذي بمعنى التَّصْيير ، و « سِجِّيلٍ » قيل : هو في الأصل مركَّب من « سنك وكل » وهو بالفارسيَّة حجر وطين فعُرِّب ، وغُيِّرت حروفهُ ، كما عرَّبُوا الدِّيباج والدِّ ] وان والاستبرق . وقيل : « سِجِّيل » اسمٌ للسَّماء ، وهو ضعيفٌ أو غلطٌ ، لوصفه ب « مَنْضُودٍ » . وقيل : من أسْجَلَ ، أي : أرسل فيكون « فِعِّيلاً » ، وقيل : هو من التسجيل ، والمعنى : أنه ممَّا كتب الله وأسجل أن يُعذَّب به قوم لوط ، وينصرُ الأول تفسيرُ ابن عبَّاسٍ أنَّهُ حجرٌ وطين كالآجر المطبوخ وعن أبي عبيدة هو الحجر الصُّلب . وقيل : « سِجِّيل » موضع الحجارةِ ، وهي جبالٌ مخصوصة . قال تعالى : { مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } [ النور : 43 ] .
قال الحسن : كان أصل الحجر هو الطين فشددت .
و « مَنضُودٍ » صفةٌ ل « سِجِّيلٍ » . والنَّضد : جعلُ بعضهُ فوق بعضٍ ، ومنه { وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ } [ الواقعة : 29 ] أي : متراكب ، والمراد وصفُ الحجارة بالكثرة .
« مُسَوَّمَةً » نعتٌ ل « حِجَارة » ، و حينئذ يلزمُ تقدُّمُ الوصف غير الصَّريح على الصَّريح لأنَّ « مِنْ سِجِّيل » صفةٌ ل « حِجَارة » ، والأولى أن يجعل حالاً من « حِجَارة » ، وسوَّغ مجيئها من النكرة تخصُّص النكرة بالوصف .
والتَّسْويم : العلامةُ . قيل : عُلِّم على كُلِّ حجرٍ اسمُ من يرمي به وتقدَّم اشتقاقُه في آل عمران [ 14 ] في قوله : { والخيل المسومة } وقال الحسنُ والسديُّ : كان عليها أمثال الخواتيم . قال أبو صالحٍ : رأيتُ منها عند أم هانىء ، وهي حجارة فيها خطوط حمرٌ على هيئة الجَزْع . وقال ابنُ جريجٍ : كان عليها سيماء لا تشبه حجارة الأرض .
و « عِنْدَ » إمَّا منصوبٌ ب « مُسَوَّمَةً » ، وإمَّا بمحذوفٍ على أنَّها صفةٌ ل « مُسَوَّمَةً » .
وقله : « ومَا هِيَ » الظَّاهرُ عودُ هذا الضمير على القرى المهلكة . وقيل : يعودُ على الحِجَارة وهي أقربُ مذكور . وقيل : يعودُ على العُقوبةِ المفهومة من السِّياقِ ، ولَمْ يُؤنِّثْ « بِبَعيدٍ » إمَّا لأنَّهُ في الأصل نعتٌ لمكانٍ محذوف تقديره : وما هي بمكانٍ بعيدٍ بل هو قريبٌ ، والمرادُ به السَّماء أو القُرَى المهلكة ، أي : وما تلك القرى المهلكة من كفَّار مكة - ببعيدٍ؛ لأنَّ تلك القرى في الشَّام ، وهي قريب من مكَّة ، وإمَّا لأنَّ العقوبة والعقاب واحدٌ ، وإمَّا لتأويل الحجارة بعذابٍ أو بشيءٍ بعيدٍ ، والمراد بالآية كفار مكة ، أي أنه تعالى يرميهم بهذه الحجارة .
قال أنس بن مالك سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عن هذا فقال : « مَا مِنْ ظالمٍ إلاَّ وهو بمعرض حجرِ يسقطُ عليه من ساعةٍ إلى ساعةٍ » .
وقال قتادةُ وعكرمةُ : يعنى ظالمي هذه الأمة ، والله ما أجار اللهُ منها ظالماً . روي : أنَّ الحجر اتَّبع شُذَّاذهم ومسافريهم أين كانوا في البلادِ ، ودخل رجلٌ منهم الحرم ، فكان الحجرُ معلقاً بين السَّماء والأرض أربعين يوماً حتى خرج؛ فأصابه فأهلكه .
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
قوله تعالى : { وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } القصة .
أي : وأرسلنا إلى ولد مدين وهو اسم ابن إبراهيم - عليه السلام - ، ثم صار اسماً للقبيلةِ .
وقال كثير من المفسِّرين : مَدْيَنُ اسم مدينة ، وعلى هذا فتقديره : وأرسلنا إلى أهل مدين ، فحذف « أهل » ، كقوله : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] أي : أهل القرية .
واعلم أنَّ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - أول ما يبدؤون بالدعوة إلى التَّوحيد ، ولذلك قال شعيبٌ - عليه الصلاة والسلام - : { ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ } ثم بعد الدَّعوة إلى التوحيد يشرعون في الأهم ، فالأهم ، ولما كان المتعادُ في أهل مدينَ البَخْسَ في المكيالِ والميزان ، دعاهم إلى تركِ هذه العادة ، فقال : { وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان } .
قوله : « وَلاَ تَنْقُصُوا » : « نَقَصَ » يتعدَّى لاثنين ، إلى أولهما بنفسه ، وإلى ثانيهما بحرف الجرِّ؛ وقد يحذفُ؛ تقولُ : نَقَصْتُ زيْداً من حقِّه ، وحقَّهُ ، وهو هنا كذلك ، إذ المرادُ : ولا تنْقصُوا النَّاس من المكيالِ ، ويجوز أن يكون متعدِّياً لواحدٍ على المعنى .
والمعنى : لا تُقَلِّلُوا وتُطَفِّفُوا ويجُوز أن يكون « المِكْيَال » مفعولاً أول ، والثاني محذوفٌ ، وفي ذلك مبالغة ، والتقدير : ولا تنقصُوا المكيال والميزان حقَّهما الذي وجب لهما ، وهو أبلغُ في الأمر بوفائهما .
قوله تعالى : { إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ } قال ابنُ عبَّاسٍ : موسرين في نعمة . وقال مجاهدٌ : كانوا في خصب وسعةٍ؛ فحذَّرهم زوال النعمة ، وغلاء الأسعار ، وحلول النقمة إنْ لم يتُوبُوا .
{ وإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } يحيطُ بكم فيهلككم .
قال ابنُ عبَّاسٍ : أخافُ : أي : أعلم .
وقال غيره : المراد الخوف؛ لأنه يجوز أن يتركُوا ذلك العمل خشية حُصُولِ العذابِ .
قوله : « محيطٍ » صفة لليوم ، ووصف به من قولهم : أحاط به العدوُّ ، وقوله : { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } [ الكهف : 42 ] .
قال الزمخشري : إنَّ وصف اليوم بالإحاطة أبلغُ من وصفِ العذاب بها قال : لأنَّ اليوم زمانٌ يشتمل على الحوادث ، فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمُعَذَّبِ ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه .
وزعم قومٌ : أنه جُرَّ على الجوار؛ لأنَّهُ في المعنى صفةٌ للعذاب ، والأصلُ : عذاب يوم مُحيطاً وقال آخرون : التقدير : عذابُ يومٍ محيطٍ عذابُه . قال أبو البقاءِ : وهو بعيدٌ؛ لأنَّ محيطاً قد جرى على غير من هو له ، فيجب إبرازُ فاعله مضافاً إلى ضمير الموصوف .
واختلفوا في المراد بهذا العذاب : فقيل : عذاب يوم القيامةِ . وقيل : عذاب الاستئصال في الدنيا؛ كما هُو في حق سائر الأمم .
والأقربُ دخولُ كل عذاب فيه ، وإحاطة العذاب بهم كإحاطة الدَّائرة بما فيها .
قوله : { وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط } أي : بالعدل .
فإن قيل : وقع التَّكرار ههنا من ثلاثة أوجه ، فقال : { وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان } ثم قال { أَوْفُواْ المكيال والميزان } ، وهو عين الأول ، ثم قال : { وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ } ، وهو عين الأوَّل ، فما فائدة التَّكرارِ؟ .
فالجواب من وجوه :
الأول : أن القوم كانوا مُصرِّين على ذلك العمل ، فمنع منه بالمبالغة في التأكيد ، والتكرارُ يفيد التَّأكيد وشدّة العناية والاهتمام .
الثاني : قوله : { وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان } نهي عن التنقيص ، وقوله : { أَوْفُواْ المكيال والميزان } أمر بإيفاء العدل ، والنَّهْي عن الشيء أمر بضده ، وليس لقائل أن يقول النَّهي ضد الأمر ، فكان التكرير لازماً من هذا الوجه ، لأنَّا نقول : الجوابُ من وجهين :
أحدهما : أنَّهُ تعالى جمع بين الأمر بالشَّيء ، وبين النهي عن ضده للمبالغة ، كما تقولُ : صل قرابتك ، ولا تقطعهم؛ فدلَّ هذا الجمعُ على غاية التَّأكيد .
وثانيهما : ألا نُسَلم أنَّ الأمر كما ذكرتم؛ لأنَّهُ يجُوزُ أن ينهى عن التنقيص وينهى أيضاً عن أصلِ المعاملة ، فهو تعالى منع من التنقيص وأمر بإيفاء الحقِّ ، ليدلَّ ذلك على أنَّهُ تعالى لم يمنع من المعاملات ، ولم ينه عن المبايعات ، وإنَّما منع في الآية الأولى من التَّنقِيصِ ، وفي الأخرى أمر بالإيفاء ، وأما قوله ثالثاً : { وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ } فليس بتكرير لأنَّهُ تعالى خصَّ المنع في الآية الأولى بالنُّقصان في المكيالِ والميزان . ثم إنَّهُ تعالى عمَّ الحكم في جميع الأشياء ، فدل ذلك على أنها غير مكررة ، بل في كل واحدة فائدة زائدة .
الوجه الثالث : أنه تعالى قال في الآية الأولى : { وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان } وفي الثانية قال : { أَوْفُواْ المكيال والميزان } والإيفاءُ : عبارة عن الإتيان به على الكمالِ والتَّمام ، ولا يحصلُ ذلك إلاَّ إذا أعطى قدراً زائداً على الحق ، ولهذا المعنى قال الفقهاءُ : إنَّهُ تعالَى أمر بغسل الوجه وذلك لا يحصلُ إلاَّ عند غسل كلّ جزء من أجزاء الرَّأس .
فالحاصلُ : أنه تعالى نهى في الآية الأولى عن النُّقصان ، وفي الثانية أمَرَ بإعطاء شيءٍ مِنْ الزيادة ، فكأنَّه تعالى نهى أولاً عن سعي الإنسان في أن يجعل مال غيره ناقصاً ليحصل له تلك الزيادة ، وفي الثانية أمر بأن يسعى في تنقيص مال نفسه ليخرج مالهُ من غير العوض .
وقوله : « بالقسط » يعني : بالعدلِ ، ومعناه الأمر بإيفاء الحقِّ بحيث يحصلُ معه اليقين بالخُروجِ عن العهدةِ ، فالأمرُ بإيتاء الزِّيادةِ على ذلك غيرُ حاصل .
والبخس : هو النَّقْضُ .
ثم قال : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } .
فإن قيل : العثوُّ : الفسادُ التَّامُّ ، فقوله : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } جار مجرى قولك : ولا تفسدُوا في الأرض مفسدين .
فالجوابُ من وجوه :
الأول : أن من سعى في إيصال الضَّرر إلى الغير ، فقد حمل ذلك الغير على السعي إلى إيصال الضرر إليه فقوله : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } ولا تسعوا في إفسادِ مصالح الغير ، فإنَّ ذلك في الحقيقة سعي منكم في إفساد مصالح أنفسكم .
والثاني : أن يكون المرادُ من قوله : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } مصالح الأديان والشرائع .
ثم قال : { بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } العامَّة على تشديد ياء « بقيَّة » . وقرأ إسماعيلُ بن جعفر - من أهل المدينة - بتخفيفها قال ابنُ عطيَّة : « هي لغةٌ » .
وهذا لا ينبغي أن يقال ، بل يقال : إنْ لم يقصد الدَّلالةُ على المبالغة جيء بها مخففة وذلك أنَّ « فِعَل » بكسر العين إذا كان لازماً فقياسُ الصِّفة منه : « فَعِل » بكسر العين نحو : سَجيَت المرأة فهي سجيَة فإن قصدت المبالغة قيل : سجيَّة ، لأنَّ فعيلاً من أمثلة المبالغة فكذلك « بقيَّة وبقِية » أي : بالتَّشديد والتَّخفيف .
قال المفسِّرون « بقيَّةُ اللهِ » هي تقواه . قال ابنُ عباسٍ : ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيلِ والوزن خيرٌ ممَّا تأخذونه بالتطفيف . وقال مجاهدٌ : « بقيَّةُ اللهِ » يعنى طاعة الله خير لكم من ذلك القدر القليل؛ لأنَّ منفعة الطَّاعة تبقى أبداص .
قوله : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } قال ابنُ عطيَّة - رحمه الله - : « وجوابُ هذا الشَّرط متقدِّمٌ » يعنى : على مذهب من يراهُ لا على مذهب جمهور البصريِّين .
وإنَّما شرط الإيمان لكونه خيراً لهُمْ؛ لأنهم إن كانوا مؤمنين مقرِّين بالثَّواب والعقابِ عرفوا أنَّ السَّعي في تحصيل الثَّواب وفي الحذر من العقابِ خير لهم من السَّعي في تحصيل ذلك القليل .
والمعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط؛ فدلَّ ظاهرُ الآية على أنَّ من لم يحترز عن هذا التطفيف لا يكون مُؤمناً .
قوله : { وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } أي : إنِّي نصحتكم ، وأرشدتكم إلى الخير ، وما عليّ منعكم من هذا الفعل القبيح . وقيل : لمَّا قال لهم : إنَّ البخس والتطفيف يزيل النعم عنكم ، وأنا لا أقدر على حفظها عليكم في تلك الحالة؛ قالوا له : { أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ } قرأ حمزةُ والكسائيُّ وحفص عن عاصم ، « أصلاتُكَ » بغير واو . والباقون بالواو على الجمع .
قوله : { أَوْ أَن نَّفْعَلَ } العامَّةُ على نون الجماعةِ ، أو التعظيم في « نَفْعلُ » و « نشاءُ » .
وقرأ زيد بنُ عليّ ، وابنُ أبي عبلة والضحاك بنُ قيس بتاءِ الخطاب فيهما . وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة الأول بالنون والثاني بالتاء ، فمن قرأ بالنون فيهما عطفه على مفعول « نَتْرُكَ » وهو « ما » الموصولةُ ، والتقدير : أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبدُ آباؤنا ، أو أنْ نتركَ أن نفعل في أموالنا ما نشاءُ ، وهو بخسُ الكيل والوزن المقدَّم ذكرهما . و « أوْ » للتنويع أو بمعنى الواو ، قولان ، ولا يجوز عطفه على مفعول « تأمُركَ » ؛ لأنَّ المعنى يتغيَّرُ ، إذ يصير التقديرُ : أصلواتُك تأمُرك أن تفعل في أموالنا .
ومن قرأ بالتاء فيهما جاز أن يكون معطوفاً على مفعول « تأمُركَ » ، وأن يكون معطوفاً على مفعول « نترك » ، والتقديرُ : أصلواتك تأمرك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاءُ أنت ، أو أن نترك ما يعبدُ آباؤنا ، أو أن نترك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاء أنت .
ومن قرأ بالنُّون في الأوَّلِ وبالتَّاءِ في الثاني كان : « أن تفعل » معطوفاً على مفعول : « تأمُرُكَ » فقد صار ذلك ثلاثة أقسام ، قسمٍ يتعيَّنُ فيه العطفُ على مفعول : « نَتْرُكَ » وهي قراءةُ النُّونِ فيهما ، وقسم يتعيَّنُ فيه العطفُ على مفعول « تأمُرك » ، وهي قراءةُ النُّون في « نفعلُ » والتاء في « تشاء » ، وقسمٍ يجوزُ فيه الأمْران وهي قراءةُ التاء فيهما .
والظَّاهرُ من حيثُ المعنى في قراءة التَّاء فيهما ، أو في « تشاء » أنَّ المراد بقولهم ذلك هو إيفاءُ المكيال والميزان؛ لأنه كان يامرهم بهما .
وقال الزمخشريُّ : « المعنى : تأمرك بتكليف أن نترك ، فحذف المضاف لأنَّ الإنسان لا يؤمرُ بفعل غيره » .
واعلم أنَّ قوله : { أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ } إشارة إلى أنه أمرهم بالتوحيد . وقوله : { أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } إشارة إلى أنه أمرهم بترك البخس .
فصل
قيل : المرادُ بالصلاة هنا الدِّين والإيمان؛ لأنَّ الصلاة أظهر شعائر الدين؛ فجعلوا ذكر الصَّلاة كناية عن الدِّين . وقيل : أصل الصلاة الاتِّباعُ ، ومنه أخذ المصلِّي من خيل المسابقة ، وهو الذي يتلو السابق؛ لأنَّ رأسه يكون على صلوي السَّباق ، وهما ناحيتا الفخذين ، والمعنى : دينُك يأمرك بذلك . وقيل : المرادُ هذه الأفعال المخصوصة ، روي أنَّ شُعَيْباً كان كثير الصَّلاةِ ، وكان قومه إذا رأوه يصلي يتغامزون ويتضاحكُون ، فقصدوا بقولهم : أصلاتُكَ تأمرك السخرية والاستهزاء .
{ إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد } .
قال ابن عباس : أرادوا السَّفيه الغاوي؛ لأنَّ العرب قد تصف الشيء بضده فيقولون : للديغ سليم ، وللفلاة مفازة .
وقيل : قالوه على وجهِ الاستهزاء ، كما يقال للبخيل الخسيس « لو رآكَ حاتمٌ ، لسجد لك » ، وقيل : الحليم ، الرشيد بزعمك .
وقيل : على الصِّحَّة أي : إنَّكَ يا شعيبُ فينا حليم رشيد لا يحصل بك شقّ عصا قومك ، ومخالفة دينهم ، وهذا كما قال قومُ صالح : { قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذا } [ هود : 62 ] .
قوله : « أَرَأَيْتُمْ » قد تقدَّم مراراً [ يونس : 50 ] . وقال الزمخشريُّ هنا : فإنْ قلت : أين جوابُ « ارأيْتُم » وما له لم يثبتْ كما ثبت في قصَّة نوح ، وصالح؟ قلتُ جوابهُ محذوفٌ ، وإنَّما لم يثبتْ؛ لأنَّ إثباته في القصتين دلَّ على مكانه ، معنى الكلام ينادي عليه ، والمعنى : أخبروني إن كنت على حجة واضحةٍ ويقين من ربِّي ونبيّاً على الحقيقة ، أيصحُّ أن لا آمركم بترك عبادةِ الأوثان والكفِّ عن المعاصي ، والأنبياءُ لا يبعثُون إلاَّ لذلك؟ .
قال أبُو حيَّان : وتسميةُ هذا جواباً ل « أرَأيتُمْ » ليس بالمصطلح ، بل هذه الجملةُ التي قدَّرها في موضع المفعول الثّضاني ل « أرَأَيْتُم » لأنَّ « أرَأَيْتُمْ » إذا ضُمِّنَتْ معنى أخبرني تعدَّت إلى مفعولين ، والغالبُ في الثاني أن يكون جملة استفهامية ينعقدُ منها ، ومن المفعول الأوَّل في الأصل جملةٌ ابتدائية كقول العربِ : « أرأيتك زيداً ما صنع » وقال الحوفيُّ : « وجوابُ الشَّرط محذوفٌ لدلالة الكلام على تقديره : أأعدلُ عمَّا أنا عليه » .
وقال ابنُ عطيَّة : « وجوابُ الشَّرط الذي في قوله : » إنْ كُنتُ « محذوفٌ تقديره أضلُّ كما ضللتُمْ ، أو أترك تبليغ الرسالة ، ونحو هذا ممَّا يليقُ بهذه المُحاجَّة » .
قال أبُو حيان : وليس قوله : « أضَلَّ » جواباً للشَّرط؛ لأنَّه إن كان مثبتاً فلا يمكنُ أن يكون جواباً لأنه لا يترتب على الشَّرط ، وإن كان استفهاماً حذف منه الهمزة فهو في موضع المفعول الثاني ل « أرأيْتُمْ » وجوابُ الشَّرْطِ محذوفٌ يدلُّ عليه الجملة السَّابقة مع متعلَّقها .
فصل
المعنى { أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي } بصيرة وبيان من ربِّي { وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً } حلالاً .
قيل : كان شعيب كثير المالِ الحلال .
وقيل : الرزق الحسنُ : العلم والمعرفة أي : لما أتاني جميع هذه السَّعادات ، فهل ينبغي لي مع هذه النعم أن أخُونَ في وحيه ، أو أنْ أخالفَ أمره ونهيه ، وإذا كان العزّ من الله ، والإذلال من الله ، وذلك الرزقُ إنَّما حصل من عند الله فأنا لا أبالي بمخالفتكم ، ولا أفرحُ بموافقتكم ، وإنَّما أكون على تقرير بدين الله وإيضاح شرائعه .
قوله : { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ } قال الزمخشريُّ : خالفني فلان إلى كذا : إذا قصده وأنت مُولِّ عنه ، وخالفني عنه إذا ولَّى عنه وأنت قاصده ، ويلقاك الرجل صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقولُ : « خالفَنِي إلى الماءِ » ، يريد أنه ذاهب إليه وارداً ، وأنا ذاهبٌ عنه صادراً ، ومنه قوله تعالى : { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتُكم عنها لأستبدَّ بها دُونَكُم .
وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ معنى حسنٌ لطيف ، ولم يتعرَّض لإعراب مفراداته؛ لأن بفهم المعنى يفهم الإعراب .
فيجوزُ أن يكون قوله : « أنْ أخَالِفَكُمْ » في موضع مفعول ب « أُرِيدُ » ، أي : وما أريد مُخالفتكُم ، ويكون « فاعل » بمعنى « فعل » نحو : جاوتُ الشَّيء وجُزْته ، أي : وما أريد أن أخالفكم ، أي : أكون خلفاً منكم .
وقوله : { إلى مَآ أَنْهَاكُمْ } يتعلَّق ب « أخَالِفَكُمْ » ، ويجُوزُ أن يتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ حال ، أي : مائلاً إلى ما أنهاكم عنه ، ولذلك قدَّر بعضهم محذوفاً يتعلَّقُ به هذا الجارُّ تقديره : وأميل إلى أن أخالفكم ، ويجُوزُ أن يكون « أنْ أخالِفكثمُ » مفعولاً من أجله ، وتتعلق « إلى » بقوله « أريدُ » بمعنى : وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه .
ولذلك قال الزجاج : وما أقصد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه .
ويجوزُ أن يرادَ بأن أخالفكم معناه من المخالفةِ ، وتكون في موضع المفعول به ب « أُرِيد » ، ويقدَّر مائلاً إلى .
والمعنى : وما أريدُ فيما آمركم به وأنهاكم عنه : { إِلاَّ الإصلاح مَا استطعت } .
قوله : { مَا استطعت } يجوزُ ما « مَا » هذه الوجوه :
أحدهما : أن تكون مصدرية ظرفية أي : مدة استطاعتي .
والثاني : أن تكون « ما » موصولة بمعنى « الذي » بدلاً من « الإصلاح » والتقديرُ : إن أريدُ إلاَّ المقدارَ الذي أستطيعه من الصَّلاح .
الثالث : أن يكون على حذفِ مضاف ، أي : إلاَّ الإصلاحَ إصلاحَ ما استطعتُ ، وهو أيضاً بدلٌ .
الرابع : أنَّها مفعول بها بالمصدر المعرَّف ، أي : إنَّ أريدُ إلاَّ أن أصلح ما استطعت إصلاحُه؛ كقوله : [ المتقارب ]
3006- ضَعِيفُ النِّكايَةِ أعداءَهُ ... يَخَالُ الفِرَارَ يُراخِي الأجَلْ
ذكر هذه الأوجه الثلاثة الزمخشريُّ ، إلاَّ أنَّ إعمال المصدر المعرَّف قليلٌ عند البصريين ، ممنوعٌ إعمالهُ في المفعول به عند الكوفيين ، وتقدَّم الجارَّان في « عليهِ » و « إليهِ » للاختصاص أي : عليه لا على غيره ، وإليه لا إلى غيره .
فصل
اعمل أنَّ القوم كانوا قد أقرُّوا إليه بأنَّهُ حليمٌ رشيدٌ؛ لأنَّهُ كان مشهوراً بهذه الصفة ، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال لهم : إنَّكُم تعرفون من حالي أني لا أسعى إلاَّ في الإصلاح وإزالة الفسادِ ، فلمَّا أمرتكم بالتَّوحيدِ وترك إيذاء النَّاس؛ فاعلموا أنَّهُ دينٌ حق وأنه لي غرضي منه إيقاع الخصومة ، وإثارة الفتنةِ ، فأنتُم تعرفون أني أبغض ذلك الطريق ، ولا أسْعَى إلاَّ إلى ما يوجب الصلاح بقدر جهدي وطاقتي ، وذلك هو الإبلاغ والإنذار وأما الإجبارُ على الطَّاعة فلا أقدرُ عليه ، ثمَّ أكَّد ذلك بقوله : { وَمَا توفيقيا إِلاَّ بالله } والتوفيق تسيهل سبيل الخير « عليْهِ توكَّلْتُ » اعتدمت « وإلَيْهِ أنيبُ » أرجع فيما ينزله علي من النَّوائِبِ ، وقيل : في المَعَادِ .
قوله : { لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } العامَّةُ على فتح ياءِ المضارعة من « جرم » ثلاثيًّا . وقرأ الأعمشُ وابنُ وثابٍ بضمها من « أجرم » وقد تقدَّم [ هود 22 ] أنَّ « جَرَمَ » يتعدَّى لواحدٍ ولاثنين مثل : كسب ، فيقال : جَرَمَ زيدٌ مالاً نحو : كَسَبَهُ ، وجرمْتُه ذَنْباً ، أي : كسبته إياه فهو مثلُ كسب؛ وأنشد الزَّمشري على تعدِّية لاثنين قوله : [ الكامل ]
3007- ولَقَدْ طَعَنْتُ أبَا عُيَيْنَةَ طَعْنَةً ... جَرَمَتْ فَزارضةُ بعدهَا أنْ يَغْضَبُوا
فيكون الكاف والميم هو المفعول الأول .
والثاني : هو « أنْ يصيبكُم » أي : لا تَكْسِبَنَّكُم عداوتي إصابة العذاب وقد تقدًَّم أنَّ جَرَمَ وأجْرم بمعنى ، أو بينهما فرق .
ونسب الزمخشريُّ ضمَّ الياءِ من أجرم لابن كثير .
والعامَّةُ أيضاً على ضمِّ لام « مِثْلُ » رفعاً على أنَّه فاعل « يُصِيبَكُم » وقرأ مجاهدٌ والجحدريُّ بفتحها وفيها وجهان :
أحدهما : أنَّها فتحةُ بناء وذلك أنَّه فاعل كحاله في القراءة المشهورة ، وإنَّما بُني على الفتح؛ لإضافته إلى غير متمكن؛ كقوله تعالى :
{ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [ الذاريات : 23 ] وكقوله : [ البسيط ]
3008- لَمْ يَمْنَعِ الشُّرْبَ مِنْهَا غَيْرَ أنْ نَطَقَتْ ... حضمَامَةٌ في غُصُونٍ ذاتِ أوْقَالِ
وقد تقدَّم تحقيقُ هذه القاعدة في الأنعام [ الأنعام : 94 ] .
والثاني : أنه نعتٌ لمصدر محذوف فالفتحة لإعراب ، والفاعل على هذا مضمرٌ يفسره سياقُ الكلام ، أي : يصيبكم العذاب إصابة مثل ما أصاب .
فصل
والمعنى : لا يكسبنكم « شِقَاقِي » خلافي : « أنْ يُصِيبكم » عاب الاستئصال في الدنيا « مِثْلُ ما أصَابَ قوم نُوح » من الغرقِ ، وقوم هود من الريح ، وقوم صالح من الصَّيْحة والرَّجْفةِ ، وقوم لوط من الخسْفِ .
قوله : { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ } أتى ب « بَعِيد » مفراداً وإن كان خبراً عن جمع لأحد أوجهٍ : إمَّا لحذف مضاف تقديره : وما إهلاك قوم ، وإمَّا باعتبار زمانٍ ، أي : بزمانً بعيد ، فإنَّ إهلاك قوم لُوط أقرب الإهلاكات التي عرفها النَّاس في زمان شعيب ، وإمَّا باعتبار مكان ، أي : بمكان بعيد؛ لأنَّ بلاد قوم لوطٍ قريبة من مدين ، وإمَّا باعتبار موصوفٍ غيرهمان أي : بشيءٍ بعيد ، كذا قدّره الزمخشريُّ ، وتبعه أبو حيَّان ، وفيه إشكالٌ من حيثُ إنَّ تقديرهُ بزمانٍ يلزم منه الإخبارُ بالزَمان عن الجُثَّةِ . وقال الزمخشريُّ أيضاً ويجوز أن يُسَوِّي في « قَرِيب » و « بَعِيد » و « قَلِيل » و « كَثير » بين المذكِّر والمؤنَّث لورودها على زنةِ المصادر التي هي كالصَّهيل ، والنَّهيق ونحوهما .
ثم قال : { واستغفروا رَبَّكُمْ } أي : من عبادة الأوثان ، ثُمَّ تُوبُوا إلى الله - عزَّ وجلَّ من البَخْس والنُّقصان { إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ } بأوليائه : « وَدُودٌ » الوَدُود : بناءُ مبالغة من ودَّ الشيء يوَدُّدُ وُدًّا ، وودَاداً ، ووِدَادَةً ووَدَادَةً أي : أحبًّه وآثره .
والمشهورُ « وَدِدْت » بكسر العين ، وسمع الكسائي « وَدَدْت » بفتحها ، والوَدُودُ بمعنى فاعل أي : يَوَدّ عباده ويرحمهم .
وقيل : بمعنى مفعولٍ بمعنى أنَّ عبادهُ يحبُّونه ويُوادُّون ألياءهُ ، فهم بمنزلة « المُوادِّ » مجازاً .
قال ابنُ الأنباري : الوَدُودُ- في أسماءِ الله تعالى- المُحِبُّ لعبادِهِ ، من قولهم : وَدِدْتُ الرَّجُلَ أوَدُّهُ .
قال الأزهريُّ - في « شرح كتاب أسماء الله الحسنى » - : ويجوزُ أن يكون « وَدُوداً فعُولاً بمعنى مفعول ، أي : إنَّ عبادهُ الصَّالحين يودونه لكثرة إفضاله وإحسانه على الخلق .
قال ابن الخطيب : واعلم أنَّ هذا التَّرتيب الذي رعاه شعيبٌ في ذكره الوجوه الخمسة ترتيبٌ لطيفٌ .
لأنَّهُ ذكر أولاً أنَّ ظهور البيِّنةِ له وكثرة الإنعام عليه في الظَّاهر والباطن يمنعه من الخيانة في وحي الله ، ويصده عن التَّهاون في تبليغه .
ثم بيًَّن ثانياً أنَه مواظب على العمل بهذه الدَّعوة ، ولو كانت باطلةً لما اشتغل هو بها مع اعترافهم بكون حَلِيماً رشيداً .
ثم بيَّن صحته بطريق آخر ، وهو أنَّه كان معروفاً بتحصيل موجبات الصلح ، والصَّلاح وإخفاء موجبات الفتنِ ، فلو كانت هذه الجعوة باطلة لما اشتغل بها ، ثمَّ لمَّا بيَّن صحة طريقته أشار إلى نفي المعارض وقال : لا تحملكم عداوتي على مذهبٍ ودين تقعُون بسببه في العذاب الشَّديد من الله ، كما وقع فيه أقوام الأنبياء المتقدمين ، ثم إنََّه لمَّا صحَّح مذهب نفسه بهذه الدلائل عاد إلى تقرير ما ذكره أولاً وهو التوحيد والمنع من البخس بقوله : { ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ } ثم بيَّن لهم أنَّ سبق الكفر والعصية منهم لا ينبغي أن يمنعهم ن الإيمان والطَّاعة؛ لأنَّه تعالى رحيمٌ ودودٌ يقبلُ الإيمان من الكافر والفاسق؛ لأنَّ رحمته بعباده وحبه لهم يوجبُ ذلك ، وهذا تقرير في غاية الكمال .
قوله : { قَالُواْ ياشعيب مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ } .
قيل : المعنى : ما نفقه كثيراً ممَّا تقولُ؛ لأنَّهُم كانوا لايلقون إليه أفهامهم لشدَّة نفورهم من كلامه ، كقوله : { وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } [ الأنعام : 25 ] وقيل : إنَّهم فهموه ، ولكنَّهم ما أقامُوا له وزناً ، فذكروا هذا الكلام على سبيل الاستهانة ، كقول الرَّجل لمنْ لم يعْبَأ بحديثه : ما أدري ما تقولُ .
وقيل : ما ندري حصة الدَّليل الذي ذكرته على صحَّةِ التوحيد والنُّبوةِ والبعث ، وما جيبُ من ترك الظُّلمِ والسرقة .
فصل
استدلُّوا بهذه الآية على أنَّ الفقه : اسمٌ لعلم مخصوص ، وهو معرفة غرض المتكلم من كلامه؛ لأنه أضاف الفقه إلى القولِ ، ثم صار اسماً لنوع مُعيَّن من علوم الدين ، وقيل : إنَّه اسم لملطلق الفهم ، يقال : اوتي فلانٌ فقهاً في الدِّين ، أي : فَهْماً . قال عليه الصلاة والسلام : « يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ » أي : يفهمه تأويله .
ثم قال : { وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً } قيل : الضَّعيفُ الذي تعذر عليه منعُ القوم عن نفسه .
وقيل : هو الأعمى بلغة حمير وهذا ضعيفٌ؛ لنه ترك للظاهر بغير دليل ، وأيضاً فقوله : « فِينَا » يُبءطل هه الوجوه؛ لأنَّهم لو قالوا : إنَّا لنراك أعْمَى فِينَا كمان فاسداً؛ لأنَّ الأعمى أعْمَى فيهم وفي غيرهم ، وأيضاً قولهم بعد ذلك « ولَوْلاَ رهْطُكَ لرجَمْناكَ » فنفوا عنه القُوَّة التي أثبتوها في رهطه وهي النُّصرة؛ فوجب أن تكون القوة التي نفوها عنه هي النُّصرة .
واستدلّ بعضُ العلماءِ بهذه الآية على تجويزِ العمى على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام- . وذلك اللَّفظ لا يدلُّ عليه ، لما بيَّناه .
قال بعضُ المعتزلةِ : لا يجوزُ العَمَى على الأنبياء ، فإنَّ الأعْمَى لا يمكنه التَّجوز عن النَّجاسات ، ولأنه يخل بجواز كونه حاكماً وشاهداً؛ فلأنْ يُمْنَع من النبوَّةِ أوْلَى .
قوله : { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ } جماعةُ الرجل . وقيل : الرَّهْط والرَّاهط لما دُون العشرة من الرَّجالِ ، ولا يقعُ الرَّهْطُ ، والعَصَب ، والنَّفَر ، إلاَّ على الرِّجالِ .
وقال الزمخشريُّ : « من الثَّلاثة إلى العشرة ، وقيل : إلى السِّبعةِ » ، ويجمع على « أرْهُط » و « أرْهُط » على « أرَاهِط » ؛ قال : [ مجزوء الكامل ]
3009- يا بُؤسَ لِلْحَرْبِ الَّتِي ... وَضَعَتْ أرَاهِطَ فاسْتَراحُوا
قال الرُّمَّانِيُّ : وأصلُ الكلمة من الرَّهْط ، وهو الشدُّ ، ومنه « التَّرْهيطُ » وهو شدَّة الأكل والرَّاهِطَاء اسم لجحر من جِحَرة اليَرْبُوع؛ لأنَّه يتوثَّقُ به ويَحْيَا فيه أولاده .
فصل
المعنى : ولولا حرمة رهطك عندنا لكونهم على ملتنا لرجمناك .
والرَّجْمُ في اللغة : عبارة عن الرّمي ، وذلك قد يكونُ بالحجارة عند قصد القتل ، ولمَّا كان هذا الرَّجم سبباً للقتل سموا القتل رَجْماً ، وقد يكون بالقول الذي هو القَذْفُ كقوله تعالى : { رَجْماً بالغيب } [ الكهف : 22 ] وقوله : { وَيَقْذِفُونَ بالغيب } [ سبأ : 53 ] ، وقد يكُونُ بالشَّتم واللعن ، ومنه الشيطان الرجيم ، وقد يكون بالطرد ، قال تعالى : { رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ } [ الملك : 5 ] فعلى هذه الوجوه يكون المعنى : لقتلناك ، أو لشتمناك وطردناك .
قوله : { وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } قال الزمخشريُّ « وقد دلّ إيلاءُ ضميره حرف النَّفي على أنَّ الكلام واقعٌ في الفاعل لا في المفعول كأنَّهُ قيل : وما أنت بعزيز علينا بل رَهْطُك هم الأعزَّة علينا؛ فلذلك قال في جوابهم : » أرَهْطي أعزُّ عليْكُم مِنَ اللَّهِ « ولو قيلَ : » ومَا عَزَزْتَ عليْنَا « لم يصحَّ هذا الجوابُ » .
والمعنى : أنك لمَّ لمْ تكن علينا عزيزاً ، سهل علينا الإقدامُ على قتلك وإيذائك .
واعلم أنَّ الوجوه التي ذكروها ليست مانعةً لما قرره شعيبٌ من الدَّلائل ، بل هي جارية مجرة مقابلة الدلي والحدة بالشتم والسَّفاهة .
قوله : { ياقوم أرهطي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ الله واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً }
اعمل أنَّهم لمَّا خوَّفُوه بالتقتل ، وزعمُوا أنهم إنَّما تركوا قتله رعاية لجانب قومه .
قال : أنتم تزعمون أنَّكم تركتم قَتْلي إكارماً لرَهْطِي ، فالله تعالى أولى أنْ يتبع أمرهُ ، أي : حفظكم إيَّاي رعاية لأمر الله أولى من حفظكم إيَّاي رعياة لحقِّ رهطي .
قوله : { واتخذتموه } يجوزُ أن تكون المتعدية لاثنين .
أوهما : « الهاء »
والثاني : « ظِهْرِيًّا » ويجوز أن يكون الثاني هو الظَّرفُ و « ظِهْريًّا » حالٌ ، وأن تكون المتعدية لواحدة؛ فيكون « ظِهْرِيًّا » حالاً فقط .
ويجوز في « وَراكُم » أن يكون ظرفاً للاتخاذ ، وأن يكون حالاً من ظِهْريًّا « ، والضمير في » اتِّخَذْتُمُوهُ « يعودُ على الله؛ لأنَّهم يجهلون صفاته ، فجعلوه أي : جعلوا أوامره ظِهْريًّا ، أي : منبوذةً وراء ظهورهم .
والظَّهْرِيُّ : هو المنسوبُ إلى » الظَّهْر « والكسر من تغييرات النسب كقولهم في النسبةِ إلى » أمْس « ، » وإمْسِيّ « بكسر الهمزة ، وإلى الدَّهْر : دُهْرِيّ بضم الدَّالِ .
وقي : الضَّميرُ يعودُ على العصيان ، أي : واتخذتم العصيان عوناً على عداوتِي ، فالظَّهْرِيُّ على هذا بمعنى المُعين المُقَوِّي .
ثم قال : { إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } أي : عالم بأحوالكم ، فلا يخفى عليه شيء منها .
قوله تعالى : { وياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ } الآية .
المكانةُ : الحالةُ التي يتمكن بها صاحبها من عمله ، أي اعملوا حال كونكم موصوفين بغاية المكنة والقدرة ، وكل ما في وسعكم ، وطاقتكم من إيصال الشر إليَّ فإني أيضاً عاملٌ بقدر ما آتانِي الله من القدرة . « سَوْفَ تَعْلَمُونَ » أيُّنا الجاني على نفسه ، والمخطي في فعله .
قوله : { مَن يَأْتِيهِ } تقدَّم نظيرهُ في قصة نوح . قال ابنُ عطيَّة - بعد أن حكى عن الفرَّاء أن تكون موصولة مفعولةً ب « تَعْلَمُون » - : « والأوَّلُ أحسنُ » ثم قال : « ويقْضَى بصلتها أن المعطوفة عليها موصولة لا محالة » .
وهي قوله : { وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ } .
قال أبُو حيَّان : « لا يتعيَّن ذلك ، إن من الجائزِ أن تكون الثَّانية استفهاميَّة أيضاً معطوفةً على الاستفهاميَّة قبلها ، والتقديرُ : سوف تعلمُونَ أيُّنَا يأتيه عذابٌ ، وأيُّنَا هو كاذبٌ » .
قال الزمشخريُّ : فإن قُلت : أيُّ فرقٍ بين إدخالِ الفاءِ ونزعها في « سَوْفَ تَعْلَمُونَ » ؟ .
قلت : إدخالُ الفاءِ وصلٌ ظاهرة بحرفٍ موضوع للوصل ، ونزْعُهَا وصلٌ خفيُّ تقديريٌ بالاستئناف الذي هو جوابٌ لسُؤالٍ مقدَّر كأنهم قالوا : فماذا يكون إذا عملنا نحنُ على مكانتنا ، وعملت أنت عما مكانتك؟ فقيل سوف تعلمُون ، فوصل تارةً بالفاءِ ، وتارةً بالاستئناف للتَّفنُّن في البلاغةِ ، كما هو عادةُ البُلغاءِ من العربِ ، وأقوى الوصلين وأبلغُهُما الاستئنافُ « .
ثم قال : { وارتقبوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ } أي : وانتظرُوا العذاب إنّي معكُم منتظرٌ . والرقيب : بمعنى الرَّاقب من رقبه كالضَّريب والصَّريم بمعنى الضَّارب والصَّارم ، أو بمعنى المراقب ، أو بمعنى المرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمترفع .
قوله تعالى : { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } الآية .
قال الزمخشريُّ : فإن قتل : ما بالُ ساقتي قصة عاد وقصة مدين جاءتا بالواو ، والسَّاقتان الوسطيان بالفاءِ؟ قلت : قد وقعت الوسيطان بعد ذكر الوعدِ ، وذلك قوله : { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح } [ هود : 81 ] { ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [ هود : 65 ] فجاء بالفاء التي للتسبُّب كما تقولُ : » وعدته فلما جاء المعيادُ كان كَيْتَ وكَيْتَ « ، وأمَّا الأخريان فلم تقعا بتلك المنزلة ، وإنَّما وقعتا مبتدأتين فكان حقُّهما أن تعطفها بحرف الجمع على ما قبلهما ، كما تُعطفُ قصةٌ على قصَّةٍ » .
قوله : { نَجَّيْنَا شُعَيْباً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا } .
روى الكلبي عن ابن عبَّاس قال : لَمْ يُعذب الله أمتين بعذاب واحدٍ إلاَّ قوم شعيب وقوم مصالح ، فأمَّا قوم صالح؛ فأخذتم الصحيةُ من تحتهم ، وقوم شعيبٍ أخذتهم من فوقهم .
وقوله : { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } يحتملُ أن يكون المرادُ منه ، ولما جاء وقت أمرنا ملكاً من الملائكة بتلك الصَّيْحة ، ويحتمل أن يكون المرادُ من الأمر العذاب ، وعلى التدقرين فأخبر الله أنّه نجَّى شُعَيْباً ومن معه من المؤمنين .
وفي وله : { بِرَحْمَةٍ مِّنَّا } وجهان :
الأول : أنَّه تعالى إنَّما خلَّصه من ذلك العذاب لمحض رحمته ، تنبيهاً على أنَّ كلَّ ما يصل إلى العبد ليس إلاَّ بفضلِ الله ورحمته .
والثاني : أنَّ المراد من الرَّحمةِ الإيمان والطَّاعة وهي أيضاً وهي أيضاً ما حصلت إلاَّ بتوفيق الله .
ثم قال : { وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ } وعرَّف « الصَّيحة » بالألف واللاَّم إشارة إلى المعهود السَّابق وهي صيحةُ جبريل { فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ } تقدم الكلام على ذلك [ هود : 67 ، 68 ] وإنَّما ذكر هذه اللفظة ، وقاس حالهم على ثمود؛ لأنه تعالى عذَّبهم بمثل عذاب ثمود .
قوله : { كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } العامَّةُ : على كسر العين من « بَعِدَ يَبْعَد » بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع بمعنى هلك؛ قال : [ الطويل ]
3010- يقُولُون لا تَبعَدوَهُم يَدْفنُونهُ ... ولا بُعْدَ إلاَّ ما تُواري الصَّفَائِحُ
أرادت العربُ أن تفرقَ بين المعنيين بتغيير فقالوا : « بَعْد » بالضمِّ ضد القرب ، و « بَعِد » بالكسر ضد السَّلامة ، والمصدرُ البَعَدُ بالفتح في العين .
وقرأ السُّلمي وأبو حيوة « بَعْدت » بالضم أخذه من ضدِّ القرب؛ لأنَّهُم إذا هلكوا فقد بعدوا ، ومن هذا قولُ الشَّاعر : [ الكامل ]
3011- مَنْ كَانَ بَيْنَكَ في التُّرابِ وبَيْنَهُ ... شِبْرانِ فهُوَ بغايةِ البُعْدِ
وقال النَّحَّاسُ : المعروفُ في اللغةِ : بَعِدَ يَبْعَد بَعَداً وبُعْداً ، وإذا هلك ، وبَعْد يَبْعُدُ في ضدِّ القُرْب .
وقال ابنُ قتيبة : بَعِدَ يَبْعد إذا كان بعده هلكهة ، وبَعُد يَبءعُد إذا نأى فهو موافقٌ للنحاس .
وقال المهدوي : « بَعُد » يستعمل في الخَيْرِ والشّر ، و « بَعِد » في الشرِّ خاصة .
وقال ابنُ الأنباري : مِنَ العرب مَنْ يُسَوِّي بين الهلاكِ والبُعْدِ والذي هو ضدُّ القرب ، فيقولُ فيهماك بَعُدَ يَبْعثدُ ، وبَعِدَ يَبْعَدُ؛ وأنشدوا قول مالكٍ : [ الطويل ]
3012- يقُولُونَ لا تَبْعَدْ وهُمْ يَدْفِنُونِني ... وأيْنَ مَكَانَ البُعْدِ إلاَّ مَكَانِيَا
قيل : يروى « لا تَبْعُدْ » بالوجهين .
وفي هذه الآية نوعٌ من علم البيان يسمَّى الاستطراد ، وهو أن تمدحَ شيئاً أوتذُمَّه ، ثم تأتي آخر الكلام بشيءٍ هو غرضكَ في أوَّلِه ، قالوا : ولم يَأتِ في القرآن غيره ، وأنشدوا في ذلك قول حسان : [ الكامل ]
3013- إنْ كُنْتِ كاذِبَة الذي حَدَّثْتِنِي ... فَنَجَوْتِ مَنْجى الحَارِثِ بن هشام
تَرَك الأحِبَّةَ أن يَقاتِلَ دونَهُمْ ... ونَجَا بِرَأسِ طِمِرَّة ولِجَامِ
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } القصة .
قيل : المراد ب « الآيات » التَّوارة مع ما فيها من الشَّرائع والأحكام ، ومن السُّلطان المبين المعجزات الباهرةِ .
وقيل : المرادُ ب « الآيات » المعجزات ، وبالسُّلطانِ الحجَّة كقوله : { إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بهاذآ } [ يونس : 68 ] وقوله : و { مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ } [ يوسف : 40 ] وقيل : المرادُ بالسلطان المبين : العصا؛ لأنَّها أبهرُ الآيات ، وذلك أنَّ الله تعالى أعطى موسى تسع آيات بينات ، وهي : العصا ، واليدُ البيضاءُ ، والطُّوفان ، والجرادُ والقُمَّلُ ، والضَّفادعُ ، والدمُ ونقصٌ من الثمرات والأنفس ، ومنهم من أبدل نقص الثمرات والأنفس بإظلال الجبل وفلق البحر واختلفوا في تسمية الحُجَّة بالسلطان ، فقيل : لأنَّ صاحب الحُجَّة يقهر من لا حجَّة له عند النَّظر كما يقهر السُّلطان غيره .
وقال الزَّجّاج : السُّلطان هو الحُجَّةُ ، وسُمِّي السلطان سلطاناً؛ لأنه حُجَّة الله في أرضه ، واشتقاقه من السَّليط الذي يُستضاء به ، ومنه قيل للزَّيت السَّليط . وقيل : مشتقٌ من التَّسليط ، والعلماءُ سلاطين بسبب كمالهم في القُوَّةِ العلميَّةِ ، والملوك سلاطين بسبب قدرتهم ومكنتهم ، إلاَّأنَّ سلطنة العلماءِ أكمل ، وأبقى من سلطنة الملوك؛ لأنَّ سلطنة العلماءِ لا تقبل النَّسخ والعَزْل ، وسلطنة الملوك تقبلهما ، وسلطنة العلماء من جنس سلطنة الأنبياء وسلطنة الملوك من جنس سلطنة الفراعنةِ ، وسلطنة الملوك تابعة لسلطنة العلماء .
فإن قيل : إذا حملتم الآيات على المعجزات والسُّلطان على الدَّلائل ، ولامُبين أيضاً معناه كونه سبباً للظهورن فما الفرقُ بين هذه المراتبِ الثَّلاثِ؟ .
فالجوابُ : أنَّ الآيات اسم للقدر المشترك بين العلامات التي تفيد الظَّنْ ، وبين الدَّلائل التي تفيد اليقينَ ، وأمَّا السُّلطانُ فهو اسمٌ لما يُفيد القطع واليقين .
وكانت معجزةُ موسى هكذا ، فلا جرم وصفها الله تعالى بأنَّها سلطانٌ مبين .
ثم قال : { إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } أي : جماعته . { فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْن } قيل : أمره إياهم بالكفر بموسى ، وقيل : الأمر الطريق .
ثم قال : { وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } أي : بمُرشدٍ إلى خيرٍ .
وقيل : ذو رشد؛ لأنَّهُ كان دهريًّا نافياً للصَّانع وللمعاد ، فلهذا كان خالياً عن الرشد بالكليَّةِ .
ثم وصفه فقال : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة } يقالُ : قدمَ فلانٌ فلاناً بمعى تقدَّمهُ ، ومنه قادمة الرَّجُل كما يقالُ : قدَّمهُ بمعنى تقدَّمهُ ، ومنه : مقدَّمة الجيش .
والمعنى : أنَّ فرعون كان قُدوةً لقومه في الضَّلال حال ما كانوا في الدنيا ، وكذلك مقدمهم إلى النَّار ، وهم يتبعونه ويجُوزُ أن يكون معنى قوله : { وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } أي : وما أمره بصالحٍ حميد العاقبةِ ، ويكون قوله : « يَقْدمُ قومُه » تبييناً لذلك وإيضاحاً ، أي : كيف يكون أمره رشيداً مع أنَّ عاقبته هكذا؟ .
قوله : { فَأَوْرَدَهُمُ } يجوزُ أن تكون هذه المسألةُ من باب الإعمال ، وذلك أنَّ « يقدمُ » يصلح أن تسلَّط على « النَّارِ » بحرف الجر ، أي : يقدمُ قومه إلى النَّار ، وكذا : « أوْرَدهُم » يصحُّ تسلّثطه عليها أيضاً ، ويكون قد أعمل الثاني للحذفِ من الأوَّل ، ولو أعمل الأوّل لتعدَّى ب « إلى » ولأضمر في الثاني ، ولا محلَّ ل « أوْرَدَ » لاستئنافه ، وهو ماضٍ لفظاً مستقبلٌ معنى؛ لأنَّهُ عطف على هو نص في الاستقبال .
والهمزةُ في « أوْرَدَ » للتعدية؛ لأنَّه قبلها يتعدَّى لواحدٍ ، قال تعالى : { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ } [ القصص : 23 ] .
وقيل : أوقع المستقبل بلفظ الماضي هنا لتحققه . وقيل : بل هو ماض على حقيقته ، وهذا قد وقع وانفصل وذلك أنَه أوردهم في الدُّنيا النَّار . قال تعالى : { النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [ غافر : 46 ] وقيل : أوردهم موجبها وأسبابها ، وفيه بعدٌ لأجْلِ العطف بالفاءِ .
والوِرْد : يكون مصدراً بمعنى الوُرُود ، ويكون بمعنى الشيء المُورَد كالطِّحن والرِّعي .
ويُطلق ايضاً على الواردِ ، وعلى هذا إنْ جعلت الورد مصدراً أو بمعنى الوارد فلا بدَّ من حذفِ مضاف تقديرهُ : وبئس مكانُ الورد المورود ، وهو النَّارُ ، وإنَّما احتيج إلى هذا التقدير؛ لأنَّ تَصَادُقَ فاعل « نِعْمَ » و « بِئْسَ » ومخصوصهما شرطٌ ، لا يقال : نِعْمَ الرَّجُلُ الفرس . وقيل : بل المورود صفة للوردِ ، والمخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ تقديره : بئس الوردُ المورود النَّارُ ، جوَّز ذلك أبُو البقاءِ ، وابنُ عطيَّة ، وهو ظاهر كلام الزمخشري .
وقيل : التقديرُ : بئس القومُ المورودُ بهم هم ، فعلى هذا « الورد » المرادُ به الجمعُ الواردُون ، قال تعالى : { وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً } [ مريم : 86 ] والمورود صفةٌ لهم ، والمخصوصُ بالذَّمِّ الضميرُ المحذوف وهو « هم » ، فيكونُ ذلك للواردين لا لموضع الورد كذا قالهُ أبو حيَّان وفيه نظرٌ من حيث إِنَّه : كيف يراد بالورد الجمع الواردُون ، ثم يقولُ : والمورودُ صفةٌ لهم؟ .
وفي وصف مخصوص « نِعمَ » و « بِئْسَ » خلافٌ بين النَّحويين منعه ابن السَّراج وأبو علي .
قال الواحديُّ : لفظ « النار » مؤنث ، ينبغي أن يقال : وبئست الورد المورود ، إلاَّ أنَّ لفظ « الورد » مذكر؛ فكان التَّذكيرُ والتَّأنيثُ جائزين ، كما تقولُ : نعم المنزلُ دارك ، ونعمت المنزل دارك ، فمن ذكَّر عن المنزل ومن أنَّث عن الدَّار .
فصل
والمعنى : أدخلهم النَّار وبئس المدخلُ المدخولُ؛ وذلك لأنَّ الورد إنَّما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد ، والنَّار ضدُّه .
ثم قال : { وَأُتْبِعُواْ فِي هذه لَعْنَةً } أي : أنَّ اللَّعن من الله ، والملائكة ، والأنبياء ملتصقٌ بهم في الدُّنيا والآخرة لا يزولُ عنهم ، كقوله : { وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ المقبوحين } [ القصص : 42 ] .
ثم قال : { بِئْسَ الرفد المرفود } والكلامُ فيه كالذي قبله . وقوله : { وَيَوْمَ القيامة } عطفٌ على موضع « في هَذِه » والمعنى : أنَّهُم ألحِقُوا لعنةً في الدُّنيا وفي الآخرة ، ويكونُ الوقف على هذا تامًّا ، ويبتدأ بقوله « بِئْس » .
وزعم جماعةٌ أنَّ التَّقسيم : هو أنَّ لهم في الدُّنيا لعنةً ، ويوم القيامةِ بِئْس ما يرفدُون به ، فهي لعنةٌ واحدةٌ أولاً ، وقبح إرفاد آخراً . وهذا لايصحُّ؛ لأنه يُؤدّي إلى إعمال « بِئْسَ » فيما تقدم عليها ، وذلك لا يجُوزُ لعدم تصرُّفها؛ أمَّا لو تأخَّر لجاز؛ كقوله : [ الكامل ]
3014- ولَنْعْمَ حَشْوُ الدِّرْعِ أنتَ إذَا ... دُعِيِتْ نَزالِ ولُجَّ في الذُّعْر
وأصلُ الرِّفْد كمال قال الليثُ : العطاءُ والمعونةُ ، ومنه رفاده قريش ، رَفَدْتُه أرْقِدهُ رِفْداً بكسر الرَّاء وفتحها : أعْطَيته وأعنته . وقيل بالفت مصدر ، وبالكسر اسم ، كأنَّهُ نحو : الرِّعْي والذِّبْح ويقال : رفَدْت الحائِطَ ، أي : دَعَمْتُه ، وهو من معنى الإعانةِ .
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
قوله : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ القرى نَقُصُّهُ } الآية .
« ذلك » إشارة إلى الغائبِ ، والمرادُ منه ههنا الإشارة إلى القصص المتقدمة ، وهي حاضرة إلاَّ أنَّ الجواب عنه تقدَّم في قوله : { ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ البقرة : 2 ] .
ولفظ « ذلك » إشارة إلى الواحد والجماعة ، كقوله : { لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] .
ويحتمل أن يكون ذلك الذي ذكرناهُ هو كذا وكذا .
قال الزمخشريُّ : « ذلك » مبتدأ ، و « نقُصُّهُ عليْكَ » خبرٌ بعد خبر ، أي ذلك المذكور بعض أنباء القرى مقصوص عليك وقال شهابُ الدِّين : يجُوزُ أن يكون « نَقُصُّه » خبراً و « مِنْ أنباء » حال ، ويجوزُ العكسُ ، قيل : وثمَّ مضافٌ محذوف ، أي من أنباءِ أهل القرى ، ولذلك أعاد الضمير عليهم في قوله : « ومَا طَلمْنَاهُم » .
ثم قال : ويجُوزُ في « ذلك » أوجه :
أحدهما : أنَّه مبتدأ كما تقدم [ هود : 49 ] .
والثاني : أنَّهُ منصوبٌ بفعلٍ مقدر يفسِّره « نَقُصُّه » فهو من باب الاشتغال ، أي : نقُصُّ ذلك في حال كونه من أنباء القرآن وقد تقدَّم في قوله : { ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ } [ يوسف : 44 ] أوجه ، وهي عائدةٌ هنا .
قوله : { مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ } « حصيدٌ » مبتد محذوفُ الخبر ، لدلالة خبر الأوَّلِ عليه ، أي : ومنها حصيد ، وهذا لضرورة المعنى .
و « الحَصِيدُ » بمعنى المحصودِ ، وجمعه : حَصْدَى وحِصَادٌ مثل : مريضٌ ومَرْضَ ومِرَاضٌ ، وهذا قول الأخفشِ ، ولكن باب « فَعِيل » ، و « فَعْلَى » أن يكون في العقلاء؛ نحو : قَتِيل وقَتْلَى . والضميرُ في « مِنْهَا » عائدٌ على القرى ، شبه ما بقي من آثار القرى وجدارنها بالزرع القائم على ساقة ، وما عقا منها وبطل بالحصيد .
والمعنى : أنَّ تلك القرى بعضها بقي منه شيء وبعضها هلك وما بقي منه أثر ألبتَّة .
قال بعضُ المفسرين : القائمُ : العامر ، والحصيدُ : الخرابُ : وقيل : القائمُ ما بقيت حيطانه ، وسقطت سقوفهن وحصيد : انمحى أثره . وقال ماقتلٌ : قائم يرى له أثر ، وحصيد لا يرى له أثر .
ثم قال : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ } بالعذاب والإهلاك : { ولكن ظلموا أَنفُسَهُمْ } بالكُفْر والمعصية وقيل : الذي نزل بالقوم ليس بظلم من الله ، بل هو عدلٌ وحكمةٌ؛ لأنَّ القوم أولاً أنفسهم بإقدامهم على الكفر والمعاصي ، فاستوجبوا بتلك الأعمالِ من الله العذاب .
وقال ابن عباس : وما نقصناهم في الدنيا من النعم والرزق ، ولكن نُقِصُوا حظ أنفسهم حيثُ استخفُّوا بحقوقِ الله تعالى .
{ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ التي يَدْعُونَ مِن دُونِ الله مِن شَيْءٍ } أي : ما نفعتهم تلك الآلهة في شيء ألبتة .
قوله : { لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ } أي : عذاب ربك .
قال الزمخشريُّ : « لمَّا » منصوب ب « أغْنَتْ » وهو بناءً منه على أنَّ « لمَّا » ظرفية .
والظَّاهر أنَّ « مَا » نافية ، أي : لم تُغْن . ويجوز أن تكون استفهاميةً ، و « يَدْعُونَ » حكاية حال ، أي : التي كانُوا يدعُون ، و « مَا زادُهُمْ » الضًَّميرُ المرفوع للأصنام ، والمنصوبُ لعبدتها وعبَّر عنهم بواو العقلاء؛ لأنهم نزَّلُوهم منزلتهم .
والتَّتبِيْتُ : التَّخسيرُ ، يقالُ : تبَّ الرجلُ غيره إذا أوقعه في الخسران . يقال تَبَّبَ غيره وتبَّ هو بنفسه ، فيستعمل لازماً ومتعدياً ، ومنه « تَبَّتْ يدا أبيِي لهبٍ وتبَّ » .
وتَبَّيْتُهُ تَتْبِيباً ، أي : خسَّرته تَخْسِيراً قال لبيدٌ :
3105- ولقَدْ بَلِيتُ وكُلُّ صاحبِ جدَّةٍ ... لِبِلًى يعُودُ وذاكُمُ التَّتْبِيبُ
وقيل : التَّتْبيب : التَّدْمير . والمعنى : أنَّ الكفار يعتقدون في الأصنام أنها تنفعُ وتدفع المضار ، ثم أخبر أنَّهُم عند الحاجِة إلى المُعين ما وجدُوا فيها شيئاً لا جلب نفعٍ ، ولا دفع ضرٍر ، وإنَّما وجدُوا ضدَّ ذلك ، وهذا أعظم الخسران .
قوله : { وكذلك } خبرٌ مقدَّم ، و « أخْذُ » مبتدأ مؤخر ، والتقدير : ومثلُ ذلك الأخْذِ أي : أخْذِ الله الأمم السَّالفة أخذُ ربك .
و « إذا ظرفُ متحِّض ، ناصبه المصدر قبله ، وهو قريبٌ من حكاية الحالِ ، والمسألةُ من بابِ التنازع فإنَّ الأخذ يطلب » القُرَى « ، و » أخْذ « الفعل أيضاً يطلبها ، وتكون المسألة من إعمال الثاني للحذف من الأوَّلِ .
وقرأ عاصمٌ وأبو رجاء والجحدريُّ » أَخَذَ ربك ، إذا أخذَ « جعلهُما فعلين ماضيين ، و » رَبُّك « فاعل وقرأ طحلةُ بن مصرف كذلك إلاَّ أنَّهُ ب » إذَا « .
قال ابن عطيَّة وهي قراءةٌ متمكنة المعنى ، ولكن قراءة الجماعةِ تُعْطِي الوعيد ، واستمراره في الزَّمانِ ، وهوالباب في وضع المستقبل موضع الماضي .
وقوله : » وهِيَ ظالمةٌ « جملةٌ حاليّة . والضميرُ في » وهِيَ ظالمةٌ « عائد إلى القُرَى ، وهو في الحقيقة عائد إلى أهلها ، كقوله : { وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً } [ الأنبياء : 11 ] { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } [ القصص : 58 ] .
ثم لمَّا بيَّن كيفية أخذ الأمم الظَّالمة أكَّده بقوله : { إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } فوصف ذلك العذاب بالإيلامِ وبالشدَّةِ .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
ثم قال : { إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة } قال القفال : تقرير الكلام أن يقال : إنَّ هؤلاء إنَّما عذبُوا في الدُّنيا لتكذيبهم الأنبياء ، وإشراكهم بالله ، فإذا عُذِّبوا في الدُّنيا على ذلك وهي دارُ العملِ ، فلأنْ يُعذَّبُوا عليه في الآخرة التي هي دارُ الجزاءِ ، كان أولى . وهذا قولُ كثير من المفسِّرين .
قال ابنُ الخطيب : وعلى هذا الوجه الذي ذكره القفالُ يكونُ ظهور عذاب الاستئصال في الدُّنيا دليلاً على أنَّ القول بالقيامة والبعث حقٌّ ، وظاهرُ الآية يقتضي أنَّ العلم بأنَّ القيامة حق كالشرط في حصول الاعتبار بعذاب الاستئصال ، وهذا المعنى كالمضاد لما ذكره القفال؛ لأنَّ القفال يجعل العمل بعذابِ الاستئصال أصلاً للعلم بأنَّ القيامة حق؛ فبطل ما ذكره القفالُ ، والأصوبُ عندي أن يقال : العلم بأنَّ القيامة حق موقوف على العلم بأنَّ لوجود السموات والأرض فاعل مختار لا موجب بالذَّاتِ ، وما لم يعلم الإنسان أنَّ إله العالم فاعل مختار وقادر على كل الممكمنات ، وأنَّ جميع الحوادث الواقعة في السموات والأرض لا تحصلُ إلا بتكوينه وقضائه ، لا يمكنه أن يعتبر بعذابِ الاسئصال؛ لأنَّ الذين يذهبون إلى انَ المؤثَر في وجود هذا العالم موجبٌ بالذَّات ، لا فاعلٌ مختارٌ ، يزعمون أنَّ هذه الأحوال التي ظهرت في أيَّام الأنبياء؛ كالغرق ، والخسق ، والمسخ ، والصَّيْحة كلها إنما حدثت بسبب قرانات الكواكب وإيصال بعضها ببعض ، وإذا كان الأمرُ كذلك ، فحينئذٍ لا تكون حصولها دالاًّ على صدق الأنبياء .
فأما المؤمن بالقيامة؛ فلا يتم له ذلك الإيمانُ إلا إذا اعتقد أنَّ إله العالم فاعل مختار ، وأنه عالمٌ بجمعي الجزيئات ، وإذا كذلك لزم القطعُ بأن حدوث هذه الوقائع العظيمة إنَّما كان بسبب أنَّ إله العالم خلقها وأوجدها لا بسبب طوالع الكواكب واتصالاتها ، وحينئذ يسمع هذه القصص ، ويستدلّ بها على صدق الأنبياء؛ فثبت بذلك صحة قوله : { إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة } .
قوله تعالى : { ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ } « ذلك » : إشارة إلى يوم القيامة المدلول عليه بالسياق من قوله : { عَذَابَ الآخرة } و « مَجْموعٌ » صفةٌ ل « اليوم » جرت على غير من هي له ، فلذلك رفعت الظَّاهر وهو « الناس » وهذا هو الإعراب نحو : « مَررْتُ برجُلٍ مضروبٍ غلامهُ » .
وأعرب ابن عطيَّة « النَّاس » مبتدأ مؤخراً ، و « مَجْمُوعٌ » خبره مقدماً عليه . وفيه ضعف إذ لو كان كذلك لقيل : مجموعون ، كما يقالُ : النَّاسُ قائمون ومضربون ، ولا لليوم ، أي : النَّاس مجموع له ، و « مَشْهُودٌ » متعيِّنق لأن يكون صفة فكذلك ما قبله .
وقوله : { مَّشْهُودٌ } من باب الاتِّساعِ في الظرف بأن جعلهُ مشهوداً ، وإنَّما هو مشهودٌ فيه؛ وهو كقوله : [ الطويل ]
3016- ويَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وعَامِراً ... قَليلٌ سِوَى الطَّعْنِ النِّهالِ نَوافِلُهْ
والأصلُ : مشهودٌ فيه ، وشهدْنَا فيه ، فاتُّسِع فيه بأنْ وصل الفعلُ إلى ضميره من غير واسطة ، كما يصلُ إلى المفعول به .
قال الزمخشريُّ : « فإن قتل : أيُّ فائدة في أن أوثر اسمُ المفعول على فعله؟ قلت : لما في اسم المفعول من دلالته على ثبات معنى الجمع لليوم ، وأنَّهُ لا بدَّ أن يكون ميعاداً مضروباً لجمع النَّاس له ، وأنَّه هو الموصوفُ بذلك صفة لازمة » قال ابنُ عبَّاسٍ : يشهده البر والفاجرُ . وقيل : يشهده أهلُ السموات وأهلُ الأرضِ .
قوله : { وَمَا نُؤَخِّرُهُ } الضَّميرُ يعود على « يَوْم » .
وقال الحوفيُّ : « على الجزاءِ » وقرأ الأعمش : « ومَا يُؤخِّره » - بالياء - أي : الله تعالى « إلاَّ لأجَلٍ معدُودٍ » وكل ما له عدد ، فهو متناهٍ ، وكل ما كان متناهياً ، فلا بُدَّ أن ينفي ، فتأخير القيامة ينتهي إلى وقت لا بد وأن يقيم اله القيامة فيه ، وكُلُّ ما هو آتِ قريب .
قوله : { يَوْمَ يَأْتِ } قرأ أبو عمرو والكسائيُّ ونافعٌ « يَأتِي » بإثبات الياءِ وصْلاً وحذفها وقْفاً .
وقرأ ابنُ كثير بإثباتها وصْلاً ووقفاً وباقي السبعة : قرءوا بحذفها وصلاً ووقْفاً .
وقد وردتْ المصاحفُ بإثباتها وحذفها : ففي مصحف أبيّ إثباتُها ، وفي مصحق عثمان حذفها ، وإثباتها هو الوجه؛ لأنَّها لامُ الكلمة ، وإنَّما حذفُوها في القوافي ، والفواصل ، لأنَّها محلُّ وقوف وقالوا : لا أدْرِ ، ولا أبَالِ .
وقال الزمخشريُّ « والاجتزاءُ بالكسرة عن الياءِ كثيرةٌ في لغةِ هذيلٍ » .
وأنشد ابنُ جريرٍ في ذلك : [ الرجز ]
3017- كَفَّاكَ كَفٌّ ما تُليقُ دِرْهَمَا ... جُوداً وأخْرَى تُعْطِ بالسِّيْفِ الدَّما
والنّاصبُ لهذا الظرف فيه أوجه :
أحدها : أنه « لا تكلَّمُ » والتقديرُ : لا تكلَّمُ نفسٌ يوم يأتي ذلك اليوم . وهذا معنى جيد لا حاجة إلى غيره .
الثاني : أن ينتصب ب « اذْكُر » مقدراً .
والثالث : أن نتصب بالانتهاءِ المحذوف في وله : { إِلاَّ لأَجَلٍ } أي : ينتهي الأجل يوم يأتي .
والرابع : أنَّهُ منصوبٌ ب « لا تكلَّمُ » مقدَّراً ، ولا حاجة إليه .
والجملةُ من قوله : « لا تكلَّمُ » في محلِّ نصب على الحال من ضمير اليوم المتقدم في « مَشْهُود » أو نعتاً له لأنه نكرة . والتقدير : لا تكلَُّ نفسٌ فيه إلاَّ بإذنه ، قاله الحوفيُّ .
وقال ابن عطيَّة : « لا تكلَّمُ نفسٌ » يصحُّ أن تكون جملة في موضع الحال من الضَّمير الذي في « يَأتِ » وهو العائدُ على قوله : { وَذَلِكَ يَوْمٌ } ، ويكون على هذا عائدٌ محذوف تقديره : لا تكلمُ نفسٌ فيه ، ويصحُّ أن يكون قوله : { لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ } صفةً لقوله : { يَوْمَ يَأْتِ } .
وفاعل « يَأتِ » فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ ضميرُ « يَوْم » المتقدِّم .
والثاني : أنَّه ضمير الله تعالى كقوله :
{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله } [ البقرة : 210 ] وقوله : « أوْ يَأتِي ربُّكَ » .
والضميرُ في قوله : « فَمِنْهُمْ الظاهرُ عودهُ على » النَّاس « في قوله : { مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس } وجعله الزمخشريُّ عائداً على أهل الموقف وإن لمْ يذكرُوا ، قال : لأن ذلك معلومٌ ، ولأنَّ قوله : { لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ } يدلُّ عليه » وكذا قال ابنُ عطية .
وقوله : { وَسَعِيدٌ } خبره محذوف : أي : ومنهم سعيدٌ ، كقوله : { ذَمِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ } [ هود : 100 ] .
فصل
هذه الآية توهم المناقضة لقوله { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا } [ النحل : 111 ] ولقوله { هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 35- 36 ] وقوله : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] .
والجواب : قال بعضهم : إنَّهُ حيثُ ورد المنعُ من الكلامِ ، فهو محمولٌ على الجوابات الصَّحيحة؛ قال تعالى : { لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً } [ النبأ : 38 ] وقيل : إنَّ ذلك اليوم يوم طويل ، وله مواقف ، ففي بضعها يجادلُون عن أنفسهم ، وفي بعضها يختم على أفواههم ، وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم .
وقيل : ورد المنع عن الكلام مطلقاً ، وورد مقيداً بالإذن فيحمل المطلق على المقيِّد .
قوله : { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } قال الزمخشريُّ : الضميرُ في قوله : « مِنْهُمْ » لأهل الموقف ولمْ يذكرُوا؛ لأنَه مفهومٌ ، ولأنَّ قوله : { لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } يدلُّ عليه؛ ولأنه مذكورٌ في قوله : { مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس } .
واستدلَّ القاضي بهذه الآية على فساد القول بأنَّ أهل الأعراف لا في الجنة ولا في النَّارِ .
وجوابه : أنَّ الأطفال والمجانين أيضاً خارجون عن هذا التَّقسيم؛ لأنَّهُم لا يحاسبُون ، فلم لا يجوزُ أيضاً أن يقال : إنَّ أصحاب الأعراف خارجون عنه أيضاً؛ لأنهم لا يحاسبون لأنَّ الله - تعالى - علم من حالهم أنَّ ثوابهم يساوي عذابهم ، فلا فائدة في حسابهم .
واستدلَّ القاضي أيضاً بهذه الآية على أنَّ كلَّ من حضر عرضه القيامة فلا بد وأن يكون ثوابه زائداً أو عذابه ، فأمَّا من كان ثوابه مساوياً لعقابه ، فإنَّه وإن كان جائزاً في العقل ، إلا أن هذا النص يدلُّ على انَّهُ غيرُ موجودٍ .
وأجيب بأنَّ تخصيص هذين القسمين بالذِّكر لا يدلُّ على نفي القسم الثالث؛ لأنَّ أكثر الآيات مشتملةٌ على ذكر المؤمن والكافر ، وليس فيه ذك ثالث لا يكون مؤمناً ولا كافراً مع أنَّ القاضي أثبته ، فإذا لم يلزمْ من عدم ذكر الثالث عدمه فكذلك لا يلزمُ من عدم ذكر هذا الثالث عدمه .
فصل
« روى أبو عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه - قال : خرجناعلى جنازة ، فبينما نحنُ بالبقيع إذْ خرج رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وبيده مخصرةٌ ، فجاء ، فجلس ، ثم نكت بها الأرض ساعة ، ثم قال : » ما مِنْ نفس منفُوسةٍ إلاَّ قد كُتِبَ مكانُها من الجنّة ، أو النَّار ، وإلاَّ قد كُتبتْ شقيَّةً ، أو سعيدةً « قال : فقال رجلٌ : أفلا نتكلُ على كتابنا يا رسول الله وندعُ العمل؟ قال : » لا ، ولكن اعملوا فكُلٌّ ميسرٌ لما خلق لهُ ، وأمَّا أهلُ الشقاء فسييسرون لعمل أهل الشقاء ، وأمَّا أهلُ السَّعادة فسييسرون لعمل أهل السعادة «
ثم تلا : { فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى وَكَذَّبَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى } [ الليل : 5- 10 ] .
قوله : { فَأَمَّا الذين شَقُواْ } الجمهورُ على فتح الشين؛ لأنَّهُ من « شَقى » فعلٌ قاصر وقرأ الحسن بضمها فاستعمله متعدِّياً ، فيقال : شقاهُ الله ، كما يقالُ : أشقاء الله وقوله : { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ } في هذه الجملة احتمالان :
أحدهما : أنَّها مستأنفةٌ ، كأنَّ سائلاً سأل حين أخبر أنَّهُم في النَّار : ماذا يكون لهم؟ فقيل : لهم كذا .
والثاني : أنها منصوبةُ المحلِّ ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : أنَّهُ الضميرُ في الجرِّ والمجرور وهي « فَفِي النَّار » .
الثاني : أنها حالٌ من « النَّار » و « الزَّفير » بمنزلة ابتداء صوت الحمار ، والشّهيق « آخره قال رؤبة : [ الرجز ]
3018- حَشْرَجَ في الصَّدْرِ صَهِيلاً أوْ شَهَقْ ... حتَّى يُقالَ نَاهِقٌ وما نَهَقْ
وقال ابن فارس : الزَّفيرُ ضد الشَّهيق؛ لأنَّ الشَّهيق ردُّ النَّفَس والزَّفير : إخراجُ النَّفس من شدَّة الحزنِ مأخوذة من الزَّفْرِ وهو الحِمْل على الظَّهْرِ ، لشدَّته .
وقال الزمخشري نحوه؛ وأنشد للشَّمَّاخِ : [ الطويل ]
3019- بَعِيدٌ مَدَى التَّطْريبِ أوَّلْ صوْتِهِ ... زفيرٌ ويتلوهُ شهيقٌ مُحَشْرِجُ
وقيل الشَّهيقُ : النَّفس الممتدُّ ، مأخوذٌ من قولهم : » جبلٌ شاهقٌ أي : عالٍ « .
وقال اللَّيْثُ : الزَّفير : أن يملأ الرَّجُلُ صدرهُ حال كونه في الغمِّ الشَّديد من النَّفس ويخرجهُ ، والشَّهيق أن يخرج ذلك النَّفس ، وهو قريبٌ من قولهم : تنفَّس الصعداء .
قال ابن الخطيب : إنَّ الإنسان إذا عظم غمه انحصر روح قلبه في داخل القلبن فتقوى الحرارةُ وتعظم ، وعند ذلك يحتاجُ الإنسان إلى النفس القوي لأجل أن يستدخل هواء بارداً حتى يقوى على تريوح تلك الحرارة ، فلهذا السَّببب يعظم في ذلك الوقتِ استدخال الهواء في داخل الصَّدْرِ ، وحينئذٍ يرتفع صدره ، ولمَّا كانت الحرارةُ الغريزيةُ ، ولاروح الجوانيُّ محصُوراً في داخل القلبِ؛ أستولت البرودةُ على الأعضاءِ الخارجة؛ فرُبَّما عجزت آلات النفس عن دفع ذلك الهوى فيبقى ذلك الهواء الكثير منحصراً في الصدر .
فعلى قول الأطباء : الزَّفير : هو استدخالُ الهواءِ الكثير لترويح الحرارة الحاصلة في القلب بسبب انحصار الروح فيهن والشَّهيق : هو إخراج ذلك الهواء عند مجاهدة الطَّبيعة في إخراجه ، وكلُّ من هاتين الحالتين تدل على كرب شديد .
وقال أبُو العالية والربيع بن أنس : الزَّفير في الحلق ، والشَّهيق في الصدر وقيل : الزَّفيرُ للحمار والشهيق للبغل . وقال ابن عباس : الزَّفيرُ الصوت الشديد ، والشَّهيق الصوت الضعيف وقال الضحاك ومقاتلٌ : الزَّفير أول صوت الحمار والشهيق آخره ، إذا ردَّهُ في صدره وقال الحسنُ : الزَّفيرُ لهيبُ جهنّم يرفعهم بقوته حتى إذا وصلُوا إلى أعلى جهنم ، وطمعوا في أن يخرجوا منها ضبربتهُم الملائكة بمقامع من حديد وردوهم إلى الدرك الأسقل من جهنَّم ، وهو قوله تعالى :
{ كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا } [ السجدة : 20 ] فارتفاعهم في النَّار وهو الزَّفير ، وانحطاطهم مرة أخرى هو الشهيق .
وقال أبو مسلم : الزَّفيرُ ما يجتمع في الصَّدْرِ من النَّفس عند البكاء الشَّديد فيقطع النفس ، والشهيقُ هو الصَّوت الذي يظهرُ عند اشتداد الكرب ، وربما تبعه الغشية ، وربما حصل عقيبه الموت . وروي عن ابن عبَّاس في قوله : { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } أي : ندامةً ونفساً عالياً وبكاء لا ينقطع وحزناً لا يندفع .
قوله : { خَالِدِينَ } منصوبٌ على الحال المقدرة .
قال شهاب الدِّينِ : « ولا حاجَة إلى قولهم » مقدّرة « ، وإنَّما احتاجُوا إلى التقدير في مثل قوله : { فادخلوها خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] ؛ لأنَّ الخلود بعد الدُّخول ، بخلافه هنا » .
قوله : { مَا دَامَتِ } « ما » مصدرية ظرفية ، أي : مدَّة دوامهما . و « دَامَ » هنا تامةٌ ، لأنَّها بمعنى : بَقِيت .
فصل
اختلفوا في تأويل هذا ، قالت طائفة منهم الضحَّاك : المعنى ما دامت سمواتْ الجنَة والنَّار وأرضهما ، والسماء كل ما علاك وأظلك ، والأرض ما استقر عليه قدمك ، قال تعالى : « وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حين نشاء » وقيل : أراد السِّماء والأرض المعهودتين في الدنيا؛ وأجرى ذلك على عادة العرب في الإخبار عن دوام الشيء وتأبيده ، كقولهم : « لا آتيك ما جنَّ ليلٌ ، أو سَالَ سيلٌ ، وما اختلفَ اللَّيلُ والنهار » .
وعن ابن عباس- رضي الله عنهما- : أنَّ جميع الأشياء المخلوقة أصلها من نُور العرش ، وأنَّ السموات والأرض في الآخرة تردَّان إلى النور الذي أخذتا منه ، فهما دائمتنان أبداً في نور العرش .
فصل
قال ابن الخطيب : قال قوم : إنَّ عذاب الكفَّار منقطعٌ ، وله نهاية ، واحتجُّوا بالقرآن والمعقول ، أما القرآنُ فبآيات منها هذه الآيةن والاستدلال بها من وجهين :
أحدهما : قوله : { مَا دَامَتِ السماوات والأرض } يدل على أنَّ مدة عقابهم مساوية لمدَّة بقاءِ السموات والأرض ، ثم توافقنا على أنَّ مدة بقاءِ السموات والأرض متناهية؛ فلزم أن تكون مدة عقاب الكفار منقطعة .
والثاني : قوله : { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } استثناءٌ من مدَّةِ عقابهم ، وذلك يدلُّ على أنَّ زوال ذلك العقاب في وقت هذا الاستثناء ، ومنها قوله تعالى : { لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً } [ النبأ23 ] بيَّن تعالى أنَّ لبثهم في ذلك العقاب لا يكون إلاَّ أحقاباً ، والأحقابُ معدودة .
وأمَّا العقلُ فمن وجهين :
الأول : أنَّ معصية الكافر متناهيةٌ ، ومقابلة الجرم المتناهي بعذابٍ لا نهاية له ظلم وإنَّهُ لا يجوزُ .
الثاني : أنَّ ذلك العقاب ضرر خال عن النَّفع فيكون قبيحاً .
بيان خلوه عن النفع أن ذلك النفع لا يجوزُ أن يرجع إلى الله تعالى تعاليه عن النَّفع والضَّرر ، ولا إلى ذلك العقاب؛ لأنَّهُ في حقِّه ضربٌ محض ، ولا إلى غيره؛ لأن أهل الجنَّة مشغولون بلذاتهم ، فلا فائدة لهم في الالتذاذِ بالعقابِ الدَّائم في حقِّ غيرهم؛ فثبت أنَّ ذلك العذاب ضرر خال عن جميع النَّفْعِ؛ فوجب أن لا يجوز
وهذا قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة وأنس بن مالك رضي الله عنهم- وذهب إلي الحسنُ البصريُّ وحمَّادُ بنُ سلمة وبه قال عليُّ بن طلحة وجماعة من المفسِّرين ، رواه عنهم ابنُ تيمية .
وأما الجمهورُ الأعظمُ من الأمَّةِ ، فقد اتفقوا على أنَّ عذاب الكافر دائمُ ، وعند هذا احتاجوا إلى الجواب عن التمسُّكِ بهذه الآيةِ ، فذكروا جوابين :
أحدهما : قالوا المرادُ سماوات الآخرة وأرضها ، قالوا : والدليلُ على أنَّ في الآخرة سماء وأرضاً قوله تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات } [ إبراهيم : 48 ] وقوله : { وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ } [ الزمر : 74 ] وأيضاً : لا بدَّ لأهْل الآخرة ممَّا يقلهم ويُظلهم؛ وذلك هو الأرض والسَّموات .
ولقائل أن يقول : التشبيه إنما يصحُّ ويجوزُ إذا كان حال المشبه به مقرراً معلوماً ، فيشبه غيره به تأكيداً لثبوت الحكم المشبه ، ووجود السَّموات والأرض في الآخرة غير معلوم ، وبتقدير أن يكون وجوده معلوماً إلاَّ أنذَ بقاءهما على وجه لا يفنى ألبتَّة غير معلوم ، فإذا كان تشبيه عقاب الأشقياء به في الدَّوام بهما كلاماً عديم الفائدة : أقصى ما في الباب أن يقال : لمَّا ثبت بالقرآن وجود سموات وأرض في الآخرة ، وثبت دوامهما؛ وجب الاعترافُ به ، وحينئذٍ يحسُنُ التَّشبيه ، إلاّ أنَّا نقُولُ : لمَّا كان الطَّريقُ في إثبات دوام سموات أهل الآخرة ، ودوام أرضهم هو السَّمعُ ، ثُمَّ السمعُ دالَّ على دوام عقاب الكافر ، فحينئذ الدَّليلُ الذي دلَّ على ثبوت الحم في الأصل حال بعينه في الفرع ، وفي هذه الصورة أجمعُوا على أنَّ القياس ضائعٌ والتَّشبيه باطلٌ ، فكذا ههنا .
الوجه الثاني- في الجواب- قالوا : إنَّ العرب يُعبِّرون عن الدَّوام والأبد بقولهم : لا آتيك ما دامت السموات والأرض ، وقولهم : ما اختلف الليل والنهار ، وما طَمَا البَحرُ ، وما أقام الجبل وأنَّهُ تعالى خاطب القوم على عرفهم في كلامهم ، فلمَّا ذكروا هذه الأشياء بناءً على اعتقادهم أنَّها باقية أبداً ، علمنا أنَّ هذه الألفاظ في عرفهم تُفيدُ الأبد والدَّوام .
ولقائل أن يقول : هل تسلمون أنَّ قول القائل : { خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء الله } يمنع من بقائها موجودة بعد فناء السموات؟ أو تقولون : إنَّه لا يدلُّ على هذا المعنى ، فإن كان الأوَّل؛ فالإشكال لازم؛ لأنَّ النصَّ لمَّا دل على أنَّهُ يجبُ أن تكون مدة مقامهم في النار مساوية لمدة بقاءِ السموات والأرض ، ويمنع ، من حصولِ بقائهم في النَّارِ بعد فناءِ السموات ، وثبت أنَّهُ لا بدُّ من فناء السموات ، فعند هذا يلزمكم القول بانقطاع ذلك العقابِ ، وإن قلتم إنَّ هذا لا يمنع من بقائهم في النَّارِ بعد فناءِ السَّمواتِ والأرض ، فلا حاجة بكم إلى هذا الجواب ألبتَّة ، فثبت أنَّ هذا الجواب على كلا التقريرين ضائعٌ .
قال : والحقُّ عندي أنَّ المفهوم من الآية أنَّه متى كانت السَّموات والأرض دائمتينن كان كونهم في النَّار باقياً ، وهذا يقتضي أنه كلما حصل الشرطُ حصل المشروط ، ولا يقتضي أنَّهُ إذا عدم الشرط أن يعدم المشرو « ، ألا ترى أنَّا نقول : إن كان هذا إنسان فهو حيوان ، فإذا قلنا : لكنَّهُ إنسان ، فإنه ينتج أنَّهُ حيوان ، أمَّا إذا قلنا لكنَّه ليس بإنسان لم ينتج أنَّه ليس بحيوان؛ لأن يثبتُ في علم المنطق أنَّ استثناء نقيض المقدمة لا ينتج شيئياً ، فكذا ههنا إذا قلنا : متى دامت السموات والأرض دام عقابهم ، فإذا قلنا : لكن السموات والأرض دائمة لزم أن يكون عقابهم حاصلاً ، أمَّا إذا قلنا : لكنه ما بقيت السَّموات والأرض لم يلزم عدم دوام عقابهم .
فإن قالوا : إذا كان العقابُ حاصلاً سواء بقيت السَّموات ، أو لم تبقَ ، لم يبقَ لهذا التَّشبيه فائدة .
قلنا : بل فيه أعظم الفوائد ، وهو أنه يدلُّ على بقاءِ ذلك العذاب زماناً دائماً طويلاً ، لا يحيط العقلُ بطوله وامتداده ، فأمَّا أنه هل يحصلُ له آخر أم لا؟ فذلك يُستفادُ من دليلٍ آخر .
وأمَّا الشبهة وهي تمسّكهم بقوله تعالى : { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } فذكروا عنه أجوبة :
أحدهما : قال ابن قتيبة وابنُ الأنباري والفرَّاء هذا استثناء استثناه الله تعالى ، ولا يفعله ألبتَّة ، كقولك : والله لأضربنك إلاِّ أن أرى غير ذلك ، وعزيمتك أن تضربه .
ولقائل أن يقول : هذا ضعيفٌ؛ لأنه إذا قال : لأضربنك إلاَّ أن أرى غير ذلك ، معناه : لأضربنك إلاَّ إذا رأيت أن الأولى تركُ الضربِ ، وهذا لايدلُّ ألبتَّة على أنَّ الرُّؤية قد حصلت أم لا؟ بخلاف قوله : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } فإن معناه الحكم بخلودهم فيها إلاَّ المدة التي شاء ربك ، فهاهنا اللفظُ يدلُّ على أنَّ هذه المشيئة قد حصلت جزماً ، فكيف يحصلُ قياس هذا الكلام على ذلك الكلام .
وثانيها : قال الزمخشريُّ : فإن قلت : ما معنى الاستثناءِ في قوله تعالى : { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } وقد ثبت خلود أهل الجنَّة والنَّار في الأبد من غير استثناء؟ قلت : هو استثناء من الخلودِ في عذاب أهل النَّار ، ومن الخود في نعيم أهل الجنَّة ، وذلك أنَّ أهل النَّار لا يُخلَّدون في عذابها وحده ، بل يُعذَّبُون بالزَّمهرير ، وبأنواعٍ آخر من العذاب ، وبما هو أشدُّ من ذلك وهو سخط الله عليهم ، وكذا أهل الجنة لهم مع نعيم الجنة ما هو أكثر منه كقوله : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] والدَّليل عليه قوله : { عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [ هود : 108 ] وفي مقابله قوله : { إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107 ] أي : يفعلُ بهم ما يردث من العذاب ، كما يعطي أهل الجنَّة ما لا انقطاع له .
قال أبو حيَّان : ما ذكره في أهل النّارِ قد يتمشَّى؛ لأنَّهم يخرجون من النَّارِ إلى الزَّمهرير فيصيح الاستثناء ، وأمَّا أهلُ الجن!ة ، فلا يخرجون من الجنَّة ، فلا يصحُّ فيهم الاستثناء .
قال شهاب الدين : والظَّاهرُ أنَّهُ لا يصحُ فيهما؛ لأنَّ أهل النَّارِ مع كونهم يُعذَّبُون بالزَّمهرير هم في النَّار أيضاً .
وثالثها : أنَّه استثناء من الزَّمان الدَّال عليه قوله : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض } .
والمعنى : إلاَّ الزمان الذي شاء الله فلا يُخَلَّدون فيها .
ورابعها : إنه استثناءٌ من الضمير المستتر في الجارِّ والمجرورِ ، وهو قوله : « فَفِي النَّارِ » و « فَفِي الجنَّة » لأنه لمَّا وقع خبراً تحمَّل ضمير المبتدأ .
وخامسها : أنه استثناء من الضَّمير المستتر في الحالِ وهو : { خَالِدِينَ } ، وعلى هذين القولين تكون « ما » واقعةً على من يعقل عند من يرى ذلك ، أو على أنواع من يعقلُ كقوله : { مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] والمرادُ ب « مَا » حينئذٍ العصاةُ من المؤمنين في طرف أهل النار ، وأمَّا في طرف أهل الجنَّة فيجوز أن يكونوا هم ، أو أصحابُ الأعراف؛ لأنهم لم يدخلُوا الجنَّة لأولِ وهلةٍ ، ولا خُلِّدُوا فيها خلودَ من دخلها أولاً .
وسادسها : قال ابنُ عطيَّة : قيل : إنَّ ذلك على طريق الاستثناء الذي ندبَ الشَّارعُ إلى استعماله في كُلِّ كلامٍ ، فهو كقوله : { لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ } [ الفتح : 27 ] استثناء في واجب ، وهذا الاستثناء هو في حكم الشَّرط ، كأنه قال : إن شاء الله؛ فليس يحتاج أن يوصف بمتَّصلٍ ، ولا منقطع .
وسابعها : هو استثناءٌ من طول المُدَّةِ ، ويروى عن ابن مسعدٍ وغيره أنَّ جهنم تخلُوا من النَّاس وتخفق أبوابها فذلك قوله تعالى : { إِلاَّ مَا شَآءَ } وهذا مردُودٌ بظواهر الكتاب والسُّنة ، وما ذكر عن ابن مسعودٍ فتأوليه : أنَّ جهنَّم في الدَّرك الأعلى ، وهي تخلون العصاة المؤمنين ، هذا على تقدير صحَّة ما نُقِل عن ابنِ مسعُودٍ .
وثامنها : أنَّ « إلاَّ » حرفُ عطفٍ بمعنى الواو ، والمعنى : وما شاء ربُّكَ زائداً على ذلك .
وتاسعها : أنَّ الاستثناء منقطعٌ ، فيقدَّرُ ب « لكن » أو ب « سوى » ، ونظروه بقولك : « لي عليك ألفا درهم ، إلاَّ الألف التي كنت أسلفتك » أي : سوى تلك ، فكأنه قالك خالدينَ فيها ما دامتِ السمواتُ والأرضُ سوى ما شاء ربُّك زائداً على ذلك .
وقيل : سوى ما أعدَّ لهم من عذابٍ غير عذابِ النار كالزمخرير ونحوه .
عاشرها : أنه استثناءٌ من مدَّة السموات والأرض التي فرضت لهم في الحياة الدنيا .
وحادي عشرها : أنَّهُ استثناءٌ من البرزخ الذي يبين الدنيا والآخرة .
وثاني عشرها : أنَّهُ استثناءٌ من المسافات التي بينهم في دُخُولِ النَّار ، إذا دخولهم إنَّما هو زُمَراً بعد زُمَر .
وثالث : عشرها : أنَّه استثاءٌ من قوله : « فَفِي النَّارِ » كأَّنَّه قال : إلاَّ ما شاءَ ربُّك من تأخُّر قوم عن ذلك ، وهذا مرويُّ عن أبي سعيد الخدري وجابر .
ورابع عشرها : أنَّ « إلاَّ ما شاء » بمنزلة : كما شاء؛ كقوله : { مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } [ النساء : 22 ] ، أي : كما سلف .
وخامس عشرها : أن معناه : لو شك ربُّك ، لأخرجهم منها ، ولكنه لا يشاءُ؛ لأنَّه حكم لهم بالخُلود ، فتكون « ما » نافية .
وسادس عشرها : أنَّه استثناء من قوله : { فَفِي النار } و { فَفِي الجنة } ، أي : إلاَّ الزَّمان الذي شاءهُ الله فلا يكون في النَّار ولا في الجنَّة ، ويمكن أن يكون هذا الزَّمانُ المستثنى هو الزَّمانُ الذي يفصلُ فيه بين الخلق يوم القيامة إذا كان الاستثناءُ من الكون في النَّار ، أو في الجنَّة؛ لأنه زمانٌ يخلُو فيه الشَّقيُّ والسَّعيدُ من دخُولِ النَّار والجنة ، وأمَّا إذا كان الاستثناءُ من الخلودِ فيمكن ذلك بالنسبة إلى أهل النار ، ويكوز الزَّمانُ المستثنى هو الزمانُ الذي فات أهل النار العصاةً من المؤمنين الذي يخرجُون من النَّار ويدخُلون الجنَّة ، فلسُوا خالدين في النار ، إذ قد أخرجوا منها وصارُوا إلى الجنَّة ، وهذا مرويُّ عن قتادة والضَّحاك وغيرهما والذين شقُوا على هذا شامل للكافر والعصاة هذا في طرفِ الأشقياء العصاة ممكنٌ ، وأمَّا في الطَّرف الآخر فلا يتأتَّى هذا التأويل فيه ، إذ ليس منهم من يدخلُ الجنة ثمَّ لا يخلَّد فيها .
قال أبو حيَّان : يمكنُ ذلك باعتبار أن يكون أريد الزَّمان الذي فات أهل النَّار العُصاة من المؤمنون فيها الجنَّة وخُلَّدوا فيها صدق على العصاةِ المؤمنين وأصحابِ الأعراف أنهم ما خُلِّدُوا في الجنة تخليدَ من دخلها لأوَّلِ وهلة .
ثم قال : { إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } وهذا يحسُ انطباقه على هذه الآية إذا حملنا الاستثناء على إخراج الفسَّاق من النَّارِ ، كأنَّه تعالى يقول : اظهرتُ القهر والقدرة ، ثم أظهرتُ المغفرة والرَّحمة؛ لأنَّي فعالٌ لما أريدُ ، وليس لأحد عليَّ حكم ألبتَّة .
قوله : { وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ }
قرأ الأخوان حفصٌ « سُعِدُوا » بضمِّ السين . والباقون بفتحها ، فالأولى من قولهم : عسده اللَّهُ ، أي : أسعدهُ حكى الفرَّاءُ عن هذيل أنها تقولُ : سعده الله بمعنى أسعده .
وقال الجوهريُّ : سَعِد فهو سَعِيد ك : سَلِمَ فهو سليم وسُعِد فهو مسعود . وقال ابن القشيري : ورد سعده الله فو مسعود ، وأسْعَده فهو مُسْعَد .
وقيل : يقال : سعده وأسْعده فهو مسعُود ، استغنوا باسم مفعول الثلاثي .
وحكي عن الكسائي أنَّه قال : هما لغتنان بمعنى يعني : فعل وأفعل . وقال أبو عمرو ابن العلاءِ : يقال : سُعِدَ الرجلُ ، كما يقال : أسعده الله وقال بعضهم : احتجَّ الكسائيُّ بقولهم : « مَسْعو » قيل : ولا حُجَّة فيه؛ لأنه يقال : مكان مسعود فيه ثم حذف « فهي » وسُمِّي به .
وكان عليُّ بن سليمان يتعجَّب من قراءة الكسائي « سُعِدوا » مع علمه بالعربيَّةِ ، ولعجبُ من تعجُّبه .
قال مكيُّ : قراءةُ حمزة والكسائي « سُعدِدوا » بضمِّ السِّين حملاً على قوله : « مسعود » وهي لغةٌ قليلة شاذةٌ ، وقولهم : « مسود » ، إنَّما جاء على حذف الزَّواد : كأنَّهُ من أسعده الله ، ولا يقالك سعده الله ، وهو مثل قولهم : أجنَّهُ الله فهو مجنون ، أتى على جَنَّةُ الله ، وإن كان لا يقال ذلك ، كما لا يقال : سعده الله . وضمُّ السين بعيدٌ عند أكثر النحويين إلا على حذف الزوائد وقال أبو البقاء : وهذا غيرُ معروفٍ في اللغةِ ، ولا هو مقيسٌ .
فصل
قال ابنُ الخطيب : الاستثناءُ في اباب السُّعداءِ يجبُ حمله على كل الوجوهِ المذكورة فيما تقدَّم ، وها هنا وجه آخر ، وهو أنُ ربما اتفق لبعضهم أن يرفع من الجنَّة إلى المنازل الرَّفيعة التي لا يعلمها إلاَّ الله تعالى ، لقوله : { وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ } [ التوبة : 72 ] إلى أن قال : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] .
قوله : { عَطَآءً } نُصِبَ على المصدر المؤكذ من عنى الجملة قبله؛ لأن قوله : ففِي الجنَّةِ خالدينَ « يقتضي إعطاءً وإنعاماً فكأنَّهُ قيل : يعطيهم عطاءً ، و » عطاء « اسم مصدر والمصدر في الحقيقة الإعطاء على الأفعال ، أو يكونُ على حذف الزَّوائد ، كقوله : { والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] ، أو منصوب بمقدَّرِ موافق له ، أي : فنبتُّم نباتاً ، وكذلك هنا ، يقال : عطوتُ معنى : تناولتُ . و » غَيرَ مجذُوذِ « نعته ، والمجذوذُ : المقطوع ، ويقال لفُتات الذَّهب والفضَّة والحجارة جُذاذ من ذك ، وهو قريب من الجدِّ وبالمهلة في المعنى ، إلاَّ أنَّ الرَّاغب جعل جدَّ بالمهملة بمعنى : قطع الأرض المستوية ، ومنه : جدَّ في سيره يَجِدُّ جدًّا ، ثم قال : » وتُصُوِّر من جددتث الأرض القطعُ المُجرد ، فقيل : جددتُ الثوبَ إذا قطعته على وجه الإصلاح ، وثوبٌ جديد أصله المقطوع ، ثم جعل الكل ما أحدث إنشاؤه « والظَّاهر أنَّ الماتدتين متقاربتان في المعنى ، وقد ذكرت لها نظائر نحو : عتا وعثَا ، وكتب وكثب .
فصل
قال ابن زيد : أخبرنا الله بالذي يشاء لأهل الجنَّة ، فقال : { عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } ولم يخبر بالذي يشاءُ لأهل النَّار .
وقال ابن مسعود : ليأتينَّ على جهنَّم زمان ولي فيها أحدٌ ، وذلك بعدما يلبثوا فيها أحقاباً وعن أبي هريرة مثلهُ ، وقد تقدَم ، ومعناه عند أهل السُّنة : ألاَّ يبقى فيها أحدٌ من أهل الإيمان ، وأما مواضع الكافر فممتلئه أبداً .
قوله : { فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ } أي : شك » مِمَّا يعبدُ هؤلاءِ « لما شرح أقاصيص عبدة الأوثان ، وأتبعه بأحوال الأشقياء ، وأحوال السعداء شرح للرسول - عليه الصلاة والسلام- أحوال الكفار من قومه ، فقال : » فلا تَكُ في مريةٍ ممَّا يعبدُ هؤلاءِ « وحذف النون؛ لكثرة الاستعمال؛ ولأنَّ النون إذا وقعت طرف الكلام ، لم يبق عند التلفظ به إلا مجرّد الغنَة ، فلا جرم أسقطوه و » ما « في » مِمَّا يعبُدُونَ « و » مِمَّا يعبدُ آباؤنَا « مصدرية ، ويجوز أن تكون الأولى اسمية دون الثانية ، والمعنى أنَّهُم ضلال » ما يعبدون إلاَّ كما يعبد « ، وفيه إضمار ، أي : كما كان يعبدُ آباؤهُمْ من قبل ، » وإنَّا لمُوفُّوهُم نَصِيبهُم « حقَّهم من الجزاء » غير منقُوص « ويحتمل أن يكون المراد أنهم ، وإن كفروا ، وأعرضوا عن الحقِّ ، فإنا موفوهم نصيبهم من الرِّزق والخيرات الدنيويَّة ، ويحتمل أن يكون المراد : إنَّا لموفُّوهم نصيبهم من إزاحة العذر وإظهار الدلائل وإرسال الرسُل وإنزال الكتب .
قوله « غير منقُوصٍ » حالٌ من « نَصِيبهُم » وفي ذلك احتمالان :
أحدهما : أن تكون حالاً مؤكِّدة؛ لأن لفظ التوفيه يشعرُ بعدم النقص ، فقد استفيد معناها من عاملها ، وهو شأنُ المؤكدة .
والثاني : أن تكون حالاً مبنة .
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : كيف نُصب « غيْر منقُوصٍ » حالاً من النَّصب المُوفَّى؟ قلتُ : يجوز أن يُوفَّى ، وهو ناقصٌ ، ويوفَّى وهو كامل؛ ألا تراك تقولُ : « وفَّيْتُه شطر حقَّه ، وثُلثَ حقِّه ، وحقِّه كاملاً وناقصاً » فظاهر هذه العبارة أنها مبنيةٌ ، إذ عاملها محتمل لمعناها ولغيره . إلا أن أبا حيَّان قال : هذه مغلطة ، إذا قال : « وفيته شطر حقِّه » فالتوفية وقعتْ في الشَّطْر ، وكذا في الثُلُث ، والمعنى : أعطيته الشطر والثلث كاملاً لم أنقصه شيئاً ، وأما قوله : « وحقِّه كاملاً وناقصاً » فلا يقالُ لمنافاته التَّوفية . قال شهابُ الدِّين : « وفي منع الشيخ أن يقال : » وفِّيْتُه حقِّه ناقصاً « نظرٌ ، إذ هو شائعٌ في تركيبات النَّاس المعتبر قولهم؛ لأ المراد بالتَّوفيه مطلقُ التَّأدية » .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ } الآية .
لمَّا بيَّن إصرار كُفَّار مكَّة على إنكارِ التَّوحيدِ ، وبيَّن إصرارهم على إنكار نُبُوَّةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وتكذبيهم بكتابة ، بيَّن أنَّ هؤلاء الكُفَّار كانوا على هذه السيرة الفاجرةِ ، مع كل الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام- ، وضرب لذلك مثلاً ، وهي إنزالُ التوراة على موسى فاختلفوا فيه فقبله بعضهم وأنكره بعضهم ، وذلك يدلُّ على أنَّ عادة الخلق هكذا .
قوله : { فاختلف فِيهِ } أي : في الكتابِ ، و « في » على بابها من الظَّرفية ، وهو هنا مجاز ، أي : في شأنه . وقيل : هي سببية ، أي : هو سببُ اختلافهم ، كقوله تعالى : { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } [ الشورى : 11 ] أي : يُكثِّرهم بسببه . ومعنى اختلافهم فيه : أي : فمن مصدق به ومكذب كما فعل قومك بالقرآن ، يُغَزِّي نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم .
وقيل : « فِي » بمعنى « عَلَى » ويكون الضًَّمير لموسى - عليه الصلاة والسلام- أي : فاختلف عليه « ولْولاَ كملةٌ سبقتْ من ربِّكَ » في تأخير العذاب عنهم : « لقُضِيَ بينَهُم » أي : لعذَّبُوا في الحالِ ، لكن قضاؤه أخَّر ذلك عنهم في دنياهم .
وقيل : معناه أنَّ الله إنَّما يحكم بين المختلفين يوم القيامة ، وإلاَََّ لكان الواجب تمييز المُحقِّ من المبطل في دار الدنيا .
وقيل : المعنى ولولا أنَّ رحمته سبقت غضبه ، وإلاَّ لقضي بينهم . ثم قال : { وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } يعني أنَّ كفَّار مكَّة لفي شكِّ من هذا القرآن « مُريبٍ » من أراب إذا حصل الرِّيب لغيره ، أو صار هو في نفسه ذا رَيْب ، وقد تقدَّم .
قوله تعالى : { وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُم } الآية .
هذه الآية الكريمة ممَّا تكلم النَّاس فيها وحديثاً ، وعسر على أكثرهم تلفيقها وتخريجاً فقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر عن عاصم « وإنْ » بالتخفيف ، والباقون بالتشديد . وأمَّا « لمّا » فقرأها مشدَّدةً هنا وفي « يس » وفي سورة الزخرف ، وفي سورة الطارق ، ابن عامر وعاصمٌ وحمزة ، إلاَّ أنَّهُ عن ابن عامر في الزخرف خلافاً ، فروى عنه هشامٌ وجهين ، وروى عنه ابن ذكوان التخفيف فقط ، والباقون قرءوا جميع ذلك بالتخفيف ، وتلخَّص من هذا أنَّ نافعاً وابن كثير قرأ « وإنْ » و « لمَا » مخففتين ، وأنَّ أبا بكر عن عاصم خفَّف « إنْ » وثقَّل « لمَّا » وأنَّ ابن عامر وحمزة حفصاً عن عاصم شدَّدُوا « إنَّ » و « لمَّا » معاً ، وأن أبا عمرو والكسائي شدَّدَا « إنَّ » وخففا « لما » فهذه أربعُ مرات للقراءة في هذين الحرفين ، هذا في المتواتر .
وأمَّا في الشَّاذ فقد قرئ أربعُ قراءاتٍ أخر :
إحداهما : قراءة أبي والحسن وأبان بن تغلب « وإنْ كلٌّ » بتخفيفها ، ورفع « كل » ، و « لمَّا » بالتشديد .
الثانية : قراءة اليزيدي وسليمان بن أرقم « لمَّا » مشددة منونة ، لمْ يتعرَّضُوا لتخفيف « إنَّ » ولا تشديدها .
الثالثة : قراءة الأعمش وهي في حرف ابن مسعود كذلك : « وإنْ كلٌّ » بتخفيف « إن » ورفع « كل » .
الرابعة : قال أبو حاتم : الذي في مصحف أبي « وإنْ من كلّ إلاَّ ليُوفِّينهُمْ » وقد اضطرب الناسُ فيه اضطراباً كثيراً ، حتى قال أبو شامة وأمّا هذه الآية فمعناها على هذه القراءات من أشكل الآيات؛ قال شهاب الدين فأمَّا قراءةُ الحرميين ففيها إعمال « إن » المخففة ، وهي لغةٌ ثانيةٌ عن العرب . قال سيبويه : « حدَّثنا من نثقُ به أنَّه سمع من العرب من يقول : » إنْ عمراً لمُنْطلقٌ « ؛ كما قالوا : [ الهزج ] .
3020- . . ... كَانْ ثَدْيَيْهِ حُقَّان
قال : وَوَجْهُه من القياس : أنَّ » إنْ « مُشبهةٌ في نصبها بالفعل ، والفعلُ يعمل محذُوفاً كما يعمل غير محذوفٍ ، نحو : » لَمْ يكُ زيداً مُنطلقاً « » فلا تكُ في مريةٍ « وكذلك : لا أدْر .
قال شهابُ الدٍّين : وهذا مذهبُ البصريين ، أعني : أنَّ هذه الأحرف إذا خُفِّف بعضها جاز أن تعمل ، وأن تهمل ك : » إنْ « والأكثرُ الإهمالُ ، وقد أجمع عليه في قوله : { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [ يس : 32 ] وبعضها يجبُ إعماله ك » أنْ « بالفتح ، و » كأنْ « ولكنَّهُما لا يعملان في مظهر ولا ضمي بارز إلا ضرورة ، وبعضها يجب إهماله عند الجمهور ك » لكن « .
وأمَّا الكوفيون فيُوجبون الإهمال في » إن « المخففةِ ، والسَّماعُ حُجَّةٌ عليهم؛ بدليل هذه القراءة المتواترة؛ وقد أنشد سيبويه على إعمال هذه الحروف مخففة قول الشَّاعر : [ الطويل ]
3021- . . ... كَأنْ طبيةٌ تَعْطُو إلى وِارقِ السَّلم
وقال الفراء : لم نسمع العربَ تُخفِّفُ وتعملُ إلا مع المكنيِّ؛ كقوله : [ الطويل ]
3022- فلو أنْكِ في يومِ الرَّخاءِ سألتني ... طلاقكِ لمء أبْخَلْ وأنتِ صديقُ
قال : » لأنَّ المكني لا يظهرُ فيه إعرابٌ ، وأمَّا مع الظاهر فالرفع « وقد تقدَّم ما أنشدهُ سيبويه ، وقول الآخر : [ الرجز ]
3023- كأنْ وريديهِ رشاءُ خُلْبِ ... الرَّشاء : الحَبْلُ . والخُلْبُ : اللِّيفُ هذا ما يتعلق ب » إنْ « .
وأمَّا » لما « في هذه القراءة فاللاَّمُ فيها هي لامُ » إنْ « الدَّاخلةُ في الخبر ، » ومَا « يجوز أن تكون موصولة بمعنى » الذي « واقعةً على ما يعقلُ ، كقوله تعالى : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] ، فأوقع » ما « على العاقل ، واللاَّمُ في » ليُوفِّينَّهُمْ « جوابُ قسم مضمر ، والجملةُ من القسم وجوابه صلةٌ للموصولِ ، والتقديرُ : وإن كلاًّ للذين والله ليُوفِّينَّهُمْ ، ويجوز أن تكون » ما « نكرةً موصوفة ، والجملة القسمية وجوابها صفةٌ ل » ما « والتقدير وإنْ كلاًّ لخلقٌ أو لفريقٌ والله ليوفينَّهم .
والموصولُ وصلته أو الموصوفُ وصفته خبرٌ ل « إنْ » .
وقال بعضهم : اللاَّمُ الأولى هي الموِّطئة للقسم ، ولمَّا اجتمع اللاَّمان واتفقا في اللفظ فصل بينهما ب « ما » ، كما فصل بالألف بين النُّونين في « يَضْربانِّ » وبين الهمزتين؛ نحو : آأنْت ، فظاهرُ هذه العبارة أنَّ « ما » هنا زائدٌ جيء بها للفصل ، إصلاحاً للفظ ، وعبارةُ الفارسي مؤذنةٌ بهذا ، إلاَّ أنَّهُ جعل اللاَّم الأولى لام « إنْ » فقال : العُرْفُ أن تدخل لام الابتداء على الخبرِ ، والخبرُ هنا هو القسمُ ، وفيه لامٌ تدخل على جوابه ، فلمَّا اجتمع اللاَّمان ، والقسمُ محدوفٌ واتفقا في اللفظ وفي تلقي القسم ، فصلوا بينهما ب « مَا » كما فصلُوا بين « إنَّ » واللاَّم وقد صرَّح الزمخشريُّ بذلك فقال : واللاَّم في « لما » موطئةٌ للقسم ، و « ما » مزيدةٌ .
وقال أبُو شامة : واللاَّمُ في « لما » هي الفارقةُ بين المخفَّفةِ من الثقيلة والنَّافية . وفي هذا نطرٌ؛ لأنَّ الفارقة إنَّما يؤتى بها عند التباسها بالنَّافية ، والالتباسُ إنَّما يجيءُ عند إهمالها؛ نحو : إن زيدٌ لقائمٌ وهي في الآية الكريمة معملةٌ ، فلا التباسَ بالنَّافية ، فلا يقال : إنَّها فارقةٌ .
فتلخص في كلِّ من « اللاَّم » ، و « ما » ثلاثة أوجه :
أحدهما : في اللام أنها للابتداء الدَّاخلةِعلى خبر « أن » .
الثاني : لام موطئة للقسم .
الثالث : أنها جواب القسم كررت تأكيداً . وأحدهما في « ما » : أنها موصولة . الثاني : أنها نكرة الثالث : أنها مزيدة للفصل بين اللاَّمين . وأمَّا قراءة أبي بكر ففيها أوجه :
أحدهما : قولُ الفرَّاءِ وجماعة من نحاة البصرة ، والكوفة ، وهو أنَّ الأصل « لمِنْ مَا » بكسر الميم على أنَّها « مِنْ » الجارة ، دخلت على « ما » الموصولة ، أو الموصوفة ، كما تقرَّر ، أي : لمن الذين الله ليوفِّينَّهُم ، أو لمنْ خلقٍ والله ليوفِّينَّهُمْ ، فلمَّا اجتمعت النونُ ساكنة قبل ميم : « ما » وجب إدغامها؛ فقُلبتُ ميماً وأدغمت ، فصار اللفظ اللفظ ثلاثة أمثال ، فخففت الكلمة بحذف إحداها ، فصار اللفظ كما ترى « لمَّا » قال نصر بن علي الشيرازي : « وصل » مِنْ « الجارَّة ب » مَا « فانقلبت النُّونُ أيضاً ميماً للإدغام ، فاجتمعت ثلاثُ ميمات ، فحذفت إحداهُنَّ فبقى » لمَّا « بالتشديد » . قال : و « ما » هنا بمعنى « مَنْ » وهو اسمٌ لجماعة النَّاسِ ، كما قال تعالى : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] أي : من طاب ، والمعنى : وإنْ كلاًّ من الذين ليوفينَّهم ربُّك أعمالهم ، أو جماعة ليوفِّينَّهُم ربُّك أعمالهم .
وقد عيَّن المهدويُّ الميم المحذوفة فقال : « حذفت الميم المكسورة ، والتقدير : لمنْ خلق ليوفينَّهم » .
الثاني : قول المهدويّ ومكي : أن يكون الأصل : « لمَنْ مَا » بفتح ميم : « مَنْ » على أنَّها موصولة ، أو موصوفة ، و « ما » بعدها مزيدةٌ ، قال : فقلبت النون ميماً ، وأدغمت في الميم التي بعدها ، فاجتمع ثلاثُ ميماتن فحذفت الوسطى منهنَّ ، وهي المبدلةُ من النون ، فقيل : « لمَّا » قال مكي والتقديرُ : وإن كلاًّ لخلقٌ لوفينَّهُم ربك أعمالهم ، فترجعُ إلى معنى القراءة الأولى بالتخفيف ، وهذا الذي حكاه الزجاج عن بعضهم فقال : زعم بعضُ النَّحويين أن اصلهُ « لمَنْ مَا » ثُم قلبت النُّونُ ميماً ، فاجتمعت ثلاثُ ميمات فحذفت الوسطى قال : وهذا القولُ ليس بشيءٍ؛ لأنَّ « مَنْ » لايجوزُ بعضها؛ لأنَّها اسمٌ على حرفين .
وقال النحاسُ : قال أبو إسحاق : هذا خطأ؛ لأنَّهُ تحذف النونُ من « مَنْ » فيبقى حرفٌ واحد وقد ردَّه الفارسيُّ أيضاً فقال : إذ لم يقو الإدغام على تحريك السَّاكن قبل الحرفِ المدغم في نحو : « قدم مالك » فأن لا يجوز الحذفُ أجدرُ قال : على أنَّ في هذه السورة ميماتٍ اجتمعتْ في الإدغام أكثر ممَّا كانت تجتمع في « لمنْ مَا » ولمْ يحذف منها شيءٌ ، وذلك في قوله تعالى : { وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ } [ هود : 48 ] فإذا لم يحذف شيءٌ من هذا فأنْ لا يحذف ثم أجدرُ .
قال شهابُ الدين : اجتمع في « أمم ممَّن معك » ثمانيةُ ميماتٍ ، وذلك أنَّ « أمماً » فيها ميمان وتنوين ، والتنوين يقلب يميماً لإدغامه في ميم « مِنْ » ومعنا نونان : نونُ « مِنْ » الجارة ، ونون « مَنْ » الموصولة فيقلبان أيضاً ميماً لإدغامها في الميم بعدهما ، ومعنا ميم « طمعك » فتحصَّل معنا خمسُ ميماتٍ ملفوظِ بها ، وثلاثٌ منقلبةٌ إحداهما عن تنوين ، واثنتان نون ، واستدلَّ الفراءُ على أنَّ أصل « لمَّا » « لِمنْ ما » بقول الشَّاعر : [ الطويل ]
3024- وإنَّا لمِمَّا نَضْرِبُ الكَبْشَ ضرْبة ... عَلى رأسِهِ تُلْقِي اللِّسانَ مِنَ الفَمِ
وقول الآخر : [ الطويل ]
3052- وإنِّي لمِمَّا أصْدِرُ الأمْرَ وجْهَهُ ... إذَا هُوَ أعْيَا بالسَّبيلِ مَصادِرُهْ
وقد تقدَّم في آل عمران في قراءة من قرأ : { وإذا أخذ الله ميثاق النبين لمَا آتيتكم } [ الآية : 81 ] بتشديد « لمَّا » أنَّ الأصل : « لمن ما » ففعل فيه ما تقدَّم ، وهذا أحدُ الأوجه المذكورة في تخريج هذا الحرف هناك في سورته ، فالتفت إليه . وقال أبو شامة : وما قاله الفرَّاء استنباطٌ حسنٌ ، وهو قريبٌ من قولهم في قوله { لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي } [ الكهف : 38 ] إنَّ أصله : لكنم أنا ثُمَّ حذفت الهمزةُ ، وأدغمت النون في النُّون ، وكذا في قولهم : أمَّا أنت منطلقاً انطلقت ، قالوا المعنى لأن كنت منطلقاً . وفيما قاله نظرٌ ، لأنَّهُ ليس فيه حذفٌ ألبتَّة ، وإنَّما كان يحسنُ التنظيرُ أن لو كان فيما جاء به إدغامٌ حذف ، وأمَّا مجرَّدُ التَّنظير بالقلب والإدغام فغيرُ طائلِ ، ثم قال أبو شامة : وما أحسن ما استخرج الشَّاهد من البيت يعني : الفرَّاء ، ثَم الفراء أراد أن يجمع بين قراءتي التَّخفيف والتَّشديد من « لمَّا » في معنى واحد ، فقالك « ثُمَّ تُخفَّفُ ، كما قرأ بعضُ القرَّاءِ { والَغْ يَعِظُكُم } [ النحل : 90 ] بحذف الياء عند الياء؛ أنشدني الكسائيُّ : [ الوافر ] .
3026- وأشْمَتَّ العُداةَ بِنَا فأضْحَوْا ... لَدَيْ يَتباشَرُونَ بِمَا لَقِينَا
فحذفت ياؤه لاجتماع الياءات « . قال شهابُ الدِّين : الأولى أن يقال : حذفت ياءُ الإضافة من » لَدَيّ « فبقيت الياءُ السَّاكنةُ قبلها المنقلبةُ عن الألف في » لَدَى « وهو مثلُ قراءةِ من قرأ { يا بُنَيْ } [ هود : 42 ] بالإسكان على ما سبق ، وأمَّا الياءُ من » يَتَبَاشرُونَ « فثابتةٌ لدلالتها على المضارعة .
ثم قال الفرَّاءُ : [ الرجز ]
3027- كأنَّ مِنْ آخِرِهَا إلقَادِمِ ... يريد : إلى القادمِ؛ فحذف اللاَّم وتوجيهُ قولهم من آخرها إلقادم أنَّ ألف » إلى « حذفت لالتقاءِ الساكنينِ ، وذلك أنَّ ألف » إلى « ساكنةٌ ، ولام التَّعريف من القادم ساكنة ، وهمزة الوصل حذفت درجاً ، فلما التقيا حذف أولهما فالتقى لامان : لام » إلى « ولام التعريف ، فحذفت الثانية على رأيه ، والأولى حذف الأولى؛ لأنَّ الثانية دالة على التعريف ، فلم يبق من حرف » إلى « غير الهمزة فاتصلت بلام » القادمِ « فبقيت الهمزة على كسرها؛ فلهذا تلفظ بهذه الكلمة » مِنْ آخرِهَا إلقادِمِ « بهمزة مكسورة ثابتةً درجاً؛ لأنها همزة قطع . قال أبُو شامة : وهذا قريبٌ من قولهم : » مِلْكذبِ « و » عَلْماءِ بنُو فُلانٍ « و » بَلْعَنْبَرِ « يريدون : من الكذبِ ، وعلى الماءِ بنُو فُلانٍ ، وبنُو العَنْبرِ ، قال شهابُ الدين - رحمه الله- : يريدُ قوله : [ المنسرح ]
3028- أبْلِغْ أبَا دَخْتَنُوسَ مألُكَة ... غَيْرُ الذي قَد يُقَالُ مِلْكَذبِ
المأكلة : الرِّسالة ، وقول الآخر : [ الطويل ]
3029أ- فَمَا سَبَقَ القَيْسِيُّ مِنْ سُوءِ فعلهِ ... ولكِنْ طَفَتْ عَلْمَاءِ غُرْلَةُ خَالدِ
الغُرْلة القُلفة ، وقول الآخر : [ الخفيف ]
3029ب- نَحْنُ قَوْمٌ مِلْجِينِّ في زيِّ ناسٍ ... فَوْقَ طَيْرِ لَهَا شُخُوصُ الجِمالِ
يريد : مِن الجنِّ . قال التبريزي في شرح الحماسة : وهذا مقيسٌ ، وهو أن لام التعريف ، إذا ظهرت في الاسم حذف الساكنُ قبلها؛ لأن الساكن لا يدغم في الساكن؛ تقول : أكلتُ مالخُبْزِ ، ورَكْبَتْ مِلخَيْلِ ، وحَملتُ مِلْجَمَلِ .
وقد ردَّ بعضهم قول الفرَّاء بأنَّ نون » مِنْ « لا تحذف إلاَّ ضرورة ، وأنشد : [ المنسرح ]
3030- . .. . . ملْكَذب
الثالث : أنَّ أصلها » لمَا « بالتَّخفيف ، ثمَّ شددت ، وإلى هذا ذهب أبو عثمان ، قال الزَّجَّاج : » وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنَّا لَسنَا نُثَقِّل ما كان على حرفين ، وأيضاً فلغةُ العربِ العكس من ذلك يُخَفِّفُون ما كان مُثَقَّّلاً نحو : « رُبَ » في « رُبَّ » وقيل : في توجيه إنَّه لمَّا وقف عليها شدَّدها ، كما قالوا : رأيتُ فرجًّا ، وقصبًّا ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ، وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ التَّضعيف إنَّما يكونُ في الحرف إذا كان آخراً ، والميمُ هنا حشوٌ؛ لأنَّ الألف بعدها ، إلاَّ أن يقال : إنَّه أجرى الحرف المتوسط مجرة المتأخِّر؛ كقوله : [ الرجز ]
3031- مِثْلَ الحَريقِ وَافَقَ القَصَبَّا ... يريد : القَصَبَ ، فلمَّا أشبع الفتحة تولَّدت منها ألفٌ ، وضعَّف الحرف؛ وكذلك قوله : [ الرجز ]
3032- بِبَازلٍ وجْنَاءَ أوْ عَيْهَلِّي ... كأنَّ مَهْواهَا عَلى الْكَلْكَلِّ
شدَّد اللام مع كونها حشْواً بياء الإطلاقِ ، وقد يُفرَّق بأنَّ الألف والياء في هذين البيتين في حكم الطَّرح؛ لأنَّهما نَشَآ من حركةٍ بخلاف ألف : « لمَّا » فإنَّها أصليةٌ ثابتةٌ ، وبالجملة فهُو وجهٌ ضعيفٌ جدًّا .
الرابع : أنَّ أصلها « لمًّا » بالتنوين ثم بين منهُ « فَعْلى » فإن جعلت ألفهُ للتَّأنيث ، لم تصرفه ، وإنْ جعلتها للإلحاق صرفتهُ ، وذلك كما قالوا في « تَتْرى » بالتنوين وعدمه ، وهو مأخوذ من قولك : لَمَمْتُهُ : أي جمعتُهُ ، والتقدير : وإن كُلاًّ جميعاً لويفينَّهُمْ ، ويكون « جَميعاً » فيه معنى التوكيد ك « كل » ، ولا شكَّ أنَّ « جميعاً » يفيدُ معنى زائداً على « كل » عند بعضهم قال : ويدلُّ على ذلك قراءة من قرأ : « لمَّا » بالتنوين .
الخامس : أنَّ الأصل « لمًَّا » بالتنوين أيضاَ ، ثمَّ أبدل التنوين ألفاً وقفاً ، ثم أجري الوصل مجرى الوقف ، وقد منع من هذا الوجه أبو عبيدة قال : لأنَّ ذلك إنَّما يجوز في الشعر يعني إبدال التنوين ألفاً وصلاً إجراءً لهُ جرى الوقف ، وسيأتي توجيه قراءة « لمَّا » بالتنوين .
وقال ابنُ الحاجبِ : « استعمالُ » لمَّا « في هذا المعنى بعيد ، وحذفُ التنوين من المُنْصَرف في لاوصل أبعدُ ، فإن قيل : » لمَّا « فعلى من اللَّمِّ ، ومُنِعَ الصرف لأجل ألف التأنيث ، والمعنى فيه مثل معنى » لمَّا « المُنْصَرف فهو أبعدُ ، إذ لا يعرفُ » لمَّا « فعلى بهذا المعنى ولا بغيره ، ثم كان يلزمُ هؤلاء أن يميلوا كمن أمال ، وهو خلافُ الإجماع ، وأن يكتبوها بالياء ، وليس ذلك بستقيم » .
السادس : أنَّ « لمَّا » زائدة كما تزاد « إلا » قالهُ أبو الفتح وغيره ، وهذا وجهٌ لا اعتبار به ، فإنَّه مبنيُّ على وجهٍ ضيف أيضاً ، وهو أنَّ « إلاَّ » تأتي زائدة . _@_ السابع : أنَّ « إنْ » نافيةٌ بمنزلة « ما » ، و « لمَّا » بمعنى « إلاّ » فهي كقوله : { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } [ الطارق : 4 ] أي : ما كلُّ نفس إلاَّ عليها { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ } [ الزخرف : 35 ] أي : ما كل ذلك إلا متاع . واعترض على هذا الوجه بأنَّ « إنْ » النافية لا تنصبُ الاسم بعدها ، وهذا اسمٌ منصوبٌ بعدها وأجابَ بعضهم عن ذلك بأنَّ « كلاًّ » منصوبٌ بإضمار فعلٍ ، فقدَّرهُ قومٌ منهم أبو عمرو ابنُ الحاجبِ : وإن أرى كلاًّ ، وإن أعلمُ ونحوه ، قال : ومِن هنا كانتْ أقلَّ إشكالاً من قراءة ابن عامر لقبولها هذا الوجه غيرُ مُسْتبعدٍ ذلك الاستعباد وإنْ كان في نَصْبِ الاسم الواقعِ بعد حرف النًَّفِي استبعادٌ ، ولذلك اختلف في مثل : [ الوافر ]
3033- ألاَ رَجُلاً جزاهُ اللَّهُ خَيْراً ... يَدُلُّ عَلى مُحَصِّلةٍ تَبِيتُ
هل هو منصوب بفعل مقدَّر ، أو نوِّن ضروةً؟ فاختار الخليلُ إضمار الفعلِ ، واختار يونس التنوين للضَّرورة ، وقدَّرهُ بعضهم بعد « لمَّا » من لفظ : « ليُوفِّينَّهُم » ، والتقدير : وإن كلاً إلاَّ ليوفِّينَّ ليُوفِّينَّهم . وفي هذا التقدير بعدٌ كبيرٌ أو امتناع؛ لأنَّ ما بعد « إلاَّ » لا يعمل فيما قبلها ، واستدل على مجيء : « لمَّا » بمعنى : « إلاَّ » بنصِّ الخليل وسبويه على ذلك ونصره الزَّجَّاج . قال بعضهم : وهي لغةُ هذيل ، يقلولون : سألتك بالله لمَّا فعلت أي : إلاَّ فعلت .
وأنكر الفرَّاء وأبو عبيدة وردود : « لمَّ » بمعنى : « إلاًّ » قال أبو عبيدٍ : « أمَّا من شدَّد » لمَّا « بتأويل » إلاَّ « فلمْ نجدْ هذا في كلام العربِ ، ومن قال هذا لزمهُ أن يقول : قام القوم لمَّا أخاك ، يريدُ : إلاَّ أخاكَ ، وهذا غيرُ موجودٍ » وقال الفرَّاءُ : « وأمَّا من جعل » لمَّا « بمنزلة » إلاَّ « فهو وجهُ ضعيفٌ ، وقد قالت العربُ في اليمين : بالله لمَّا قمت عنا ، وإلاَّ قمت معنا ، فأمَّا في الاستثناء فلم تقله في شعر ، ولا غير غيره ، ألا ترى أنَّ ذلك لو جاء لسمعت في الكلام : ذهب النَّاسُ لمَّا زيداً » فأبو عبيد أنكر مجيء « لمَّاط بمعنى » إلاَّ « مُطلقاً ، والفراء جوَّز ذلك في القسم خاصةً ، وتبعه الفرسي في ذلك ، فقال- في تشديد » لمَّا « ههنا- : » لا يصلحُ أن تكونَ بمعنى « إلاَّ » ، لأنَّ « لمَّا » هذه لا تفارق القسم « وردَّ النَّاس قوله بما حكاه الخليل وسيبويه ، وبأنَّها لغة هُذيْل مطلقاً ، وفيه نظرٌ ، فإنَّهُمْ لمَّا حكوا لغة هذيل حكوها في القسم كما تقدّضم من نحو : نشدتك بالله لمَّا فعلت ، وأسألك بالله لمَّا فعلت . وقال أبو علي أيضاً مستشكلاً لتشديد : » لمَّا « في هذه الآية على تقدير أنَّ » لمَّا « بمعنى » إلاَّ « لا تختص بالقسم ما معناه : أنَّ لتشديد : » لمَّا « في هذه الآية على تقدير أنَّ » لمَّا « بمعنى » إلاَّ « لا تختص بالقسم ما معناه : أنَّ تشديد » لمَّا « ضعيفٌ سواء شدَّدت » إن « أم خفَّفت ، قال : » لأنَّه قد نُصِبَ بها « كلاً » ، وإذا نصب بالمُخَفَّفةِ كانت بمنزلة المثقلة ، وكا لا يَحْسُن : إنَّ زيداً إلاَّ منطلق؛ لنَّ الإيجابَ بعد نفي ، ولم يتقدَّم هنا إلاَّ إيجاب مؤكدة ، فكذا لا يحسن : إنَّ زيداً لمَّا منطلق ، لأنَّهُ بمعناه ، وإنَّما ساغ : نشدتُك الله إلاَّ فعلت ، ولمَّا فعلت؛ لأنَّ معناه الطَّلب ، فكأنَّهُ قال : ما أطلبُ منك إلاَّ فِعْلك ، فحرفُ الن َّفي مرادٌ مثل
{ تَالله تَفْتَأُ } [ يوسف : 85 ] ، ومثَّل ذلك أيضاً بقولهم : « شرُّ أهرُّ ذا ناب » أي : ما أهرَّه إلاَّ شرُّ ، قال : « وليس في الآية معنى النَّفي ولا الطَّلب » .
وقال الكسائي : لا أعرف وجه التَّثقيل في « لمَّا » قال الفرسيُّ : ولم يبعد فيما قال وروي عن الكسائي أيضاً أنَّه قال : اللَّهُ عزَّ وجلَّ أعلمُ بهذه القراءة ، لا أعرفُ لها وجهاً . _@_ الثامن : قال الزَّجَّاجُ : قال بعضهم قَوْلاً ، ولا يجوز غيره : أنَّ « لمَّا » في معنى « إلاَ » مثل { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } [ الطارق : 4 ] ثمَّ أتبع ذلك بكلام طويل مشكل حاصلهُ يرجع إلى أنَّ معنى « إنْ زيدٌ لمنطلق : ما زيدٌ إلاَّ منطلق » ، فأجريتَ المشددة كذلك في المعنى إذا كانت اللام في خبرها ، وعملها النَّصيب في اسمها باقٍ بحالة مشددة ومخففة ، والمعنى نفيٌ ب « إنْ » وإثباتٌ باللاَّم التي بمعنى « إلاَّ » و « لمَّا » بمعنى « إلاَّ » ، وقد تقدَّم إنكارُ أبي عليّ على جواز « إلاَّ » في مثل هذا التركيب ، فكيف يجُوزُ « لمَّا » التي بمعناها؟ . وأمَّا قراءةُ ابن عامر وحمزة وحفصل ففيها وجوه :
أحدهما : أنَّها « إنَّ » المشددة على حالها ، فلذلك نصب ما بعدها على أنَّه اسمها ، وأمَّا « لمَّا » فالكلامُ فيها كما تقدَّم من أنَّ الأصل « لَمِنْ مَا » بالكسر ، أو لَمَنْ مَا « بالفتح ، وجميع تلك الأوجه المذكورة تعودُ هنا ، والقولُ بكونها بمعنى » إلاَّ « مشكلٌ كما تقدَّم تحريره عن أب علي وغيره . الثاني : قال المازنيُّ : إنَّ » هيا لمخففة ثقلت : وهي نافيةٌ معنى « مَا » كما خففت « إنَّ » ومعناها المثقلة ، « ولمَّا » بمعنى « إلاَّ » وهذا قولٌ ساقطٌ جدًّا لا اعتبار به ، لأنَّهُ لم يُعْهَدْ تثقيلُ « إنْ » النافية ، وأيضاً ف « كلاًّ » بعدها منصوبٌ ، والنافيةُ لا تنصبُ .
قال أبُو عمرو بنُ الحاجب- في أماليه- : « لمَّا » هذه هي الجازمة فحذف فعلها للدَّلالةِ عليها ، لما ثبت من جوازِ حذف فعلها في قلوهم : « خرجتُ ولمَّا ، وسافرتُ ولمَّا » وهو سائغٌ فصيح ، ويكونُ المعنى : وإنَّ كُلاً لمَّا يهملوا أو يتركُوا لما تقدَّم من الدَّلالةِ عليه من تفصيل المجموعين بقوله : { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [ هود : 105 ] ، ثمَّ فصَّل الأشقياءَ والسُّعداء ، ومجازاتهم ثُمَّ بيَّن ذلك بقوله : { لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ } قال : « وما أعرفُ وجهاً أشبهَ من هذا ، وإن كانت النفوسُ تَسْتبعدُهُ من جهة أنَّ مثلهُ لمْ يردْ في القرآن » ، قال : « والتَّحْقِيقُ يَأبَى استعادهُ » .
قال شهابُ الديِّن : وقد نصَّ النَّحويون على أنَّ « لمَّا » يحذفُ مجزومها باطِّرادٍ ، قالوا : لأنَّها لنفي قَدْ فعل ، وقد يحذف بعدها الفعل؛ كقوله : [ الكامل ]
3034- أفِدَ التَّرْحُّلْ غَيْرَ أنذَ رِكَابنَا ... لمَّا تزلْ بِرحَالِنَا وكأنْ قَدِ
أي : وكأن قد زالت ، فكذلك منْفيهُ ، وممَّن نصَّ عليه الزمخشريُّ ، على حذف مجزومها ، وأنشد يعقوب على ذلك في كتاب « معانِي الشِّعر » قول الشَّاعِر : [ الوافر ]
3035- فَجِئْتُ قُبُورَهُمْ بَدْءاً ولمَّا ... فَنادَيْتُ القُبورَ فَلَمْ يُجِبْنَهْ
قال : « قوله : » بَدْءاً « أي : سيّداً وبدءُ القوم سيِّدهم ، وبدءُ الجزُور خيرُ أنْصِبَائِهَا » .
قال : وقوله : « ولمَّا » أي : ولمّا أكُنْ سيِّداً إلاَّ حين ماتُوا ، فإنِّي سدتُ بعدهم؛ كقول الآخر : [ الكامل ]
3036- خَلَتِ الدِّيَارُ فَسُدْتُ غَيْرَ مُسَوَّد ... ومن العناءِ تفرُّدِى بالسُّؤدُدِ
ما نِلْتُ ما قَدْ نِلْلتُ إلاَّ بَعْدَمَا ... ذَهَبَ الكِرامُ وسَادَ عَيْرُ السَّيِّد
قال ونظير السُّكُوتِ على « لمَّا » دون فعلها السكُّوتُ على « قَدْ » دون فعلها في قول النابغة : [ الكامل ]
3037- أفِدَ التًّرَحُّلُ . .. . . .
قال شهابُ الدِّين : وهذا الوجهُ لا خصوصية لهُ بهذا القراءة ، بل يَجِيءُ في قراءة من شدَّد « لمَّا » سواءً شدَّد « إن » أو خففها .
وأمَّا قراءةُ أبي عمرو ، والكسائي فواضحةٌ جدًّا ، فإنَّها « إنَّ » المشدَّدة عملت عملها ، واللاَّم الأولى لام الابتداء الدَّاخلة على خبر « إنَّ » ، والثانية جواب قسم محذوف ، أي : وإنَّ كلاًّ للذين والله ليوفِّينَّهُم ، وقد تقدَّم وقوعُ « ما » على العُقلاء؟ِ مُقرَّرا ، ونظيرُ هذه الآية : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ } [ النساء : 72 ] غير أنَّ اللاَّم في « لمنْ » داخلةٌ على الاسم ، وفي « لمَّا » داخلة على الخبر . وقال بعضهم : « مَا » هذه زئادةٌ زيدت للفصل بين اللامين ، لام التَّوكيد ، ولام القسم ، وقيل : اللاَّم ُ في « لمَّا » موطئة للقسم مثل اللاَّم في قوله تعالى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] والمعنى : وإنَّ جميعهم واللَّه ليُوفِّينَّهُم ربُّك أعمالهُم من حُسْنٍ وقُبْحٍ وإيمانٍ وجحودٍ .
وقال الفرَّاء عند ذكر هذه الآية- : جَعَلَ « مَا » اسماً للنَّاس كما جاز { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] ثم جعل اللاَّم التيفيها جواباً ل « إنَّ » وجعل اللاَّم التي في « ليُوفِّينَّهُمْ » لاماً دخلت على نيَّةِ يمينٍ فيما بين « مَا » وصلتها ، كما تقول : هذا من ليَذْهبنَّ ، وعندي ما لغيرهُ خيرُ منه ، ومثله : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ } [ النساء : 72 ] .
ثم قال بعد ذلك ما يدلُّ على أنَّ اللاَّم مكررةٌ فقال : إذا عجَّلت العربُ باللاَّم في غير موضعها أعادوها إليه ، نحو : إنَّ زيداً لإليك لمُحْسِنٌ؛ ومثله : [ الطويل ]
3038- ولَوْ أنَّ قَوْمِي لمْ يكُونُوا أعِزَّة ... لبَعْدُ لقَدْ لا قَيْتُ لا بُدَّ مَصْرَعَا
قال : أدخلها في « بَعْد » وليس بموضعها ، وسمعت أبا الجرَّاحِ يقولُ : « إنِّي ليحمد الله لصالحٌ » .
وقال الفارسيُّ- في توجيه القراءة- : « وجهُهَا بيِّن وهو أنَّه نصب » كُلاًّ « ب » إنَّ « وأدخل لام الابتداء في الخبر ، وقد دخلت في الخبرِ لامٌ أخرى ، وهي التي يُتلقَّى بها القسم ، وتختصُّ بالدُّخُول على الفعل ، فلمَّا اجتمعت اللاَّمان فُصِل بينهما كما فُصِل بين » إنَّ « واللاَّم فدخلتها وإن كانت زائدة للفصل ، ومثله في الكلام : إن زيداً لينطلقنَّ » .
فهذا ما تلخَّص من توجيهات هذه القراءات الأربع ، وقد طعن بعضُ النَّاس في بعضها بِمَا لا تحقق له ، فلا ينبغي أن يلتفت إلى كلامه .
قال المبردُ- وهي جرأةٌ منه- « هذا لحنٌ » يعين تشديد « لمَّا » قال : « لأنَّ العرب لا تقول : إنَّ زيداً لمَّا خارجٌ » وهو مردودٌ عليه .
قال أبو حيان : وليس تركيبُ الآية كتركيب المثال الذي قال وهو : إنَّ زيداً لمَّا خارج ، هذا المثالُ لحنٌ . قال شهابُ الدِّين : إن عنى أنَّهُ ليس مثله في التركيب من كل وجه فمُسلَّم ، ولكن ذلك لا يفيدُ فيما نحن تصدده ، وإن عنى أنه ليس مثله في كونه دخلت « لمَّا » المشددة على خبر « إنَّ » فليس كذلك ، بل هو مثلُه في ذلك ، فتسليمُهُ اللَّحْنَ في المثال المذكور ليس بصوابٍ؛ لأنه يستلزم ما لا يجوز أن يقال .
وقال أبو جعفرٍ : القراءةُ بتشديدهما عند أكثر النَّحويين لحنٌ ، حكي عن محمد بن يزيد أنه قال : إنَّ هذا لا يجوز ، ولا يقال : إنَّ زيداً إلا لأضربنَّه ، ولا « لمَّا لأضربنَّه » قال : وقال الكسائي : « اللَّه أعلم لا أعرف لهذه القراءة وجهاً » وقد تقدم ذلك ، وقتدم أيضاً أنَّ الفرسي قال : كما لا يحسن : إنَّ زيداً إلاَّ لمنطلق؛ لأنَّ « إلاَّ » إيجاب بعد نفي ، ولم يتقدَّم هنا إلاَّ إيجابٌ مؤكَّد ، فكذا لا يحسن : إنَّ زيداً لما منطلق ، لأنه بمعناه ، وإنَّما ساغ نشدتك بالله لمَّا فعلت . . . إلى آخر كلامه . وهذه أقوالٌ مرغوبٌ عنها؛ لأنَّها معارضة للمتواتر القطعي .
وأمَّا القراءات الشَّاذة فأوَّلها قراءةُ أبي ومن تبعه « وإنْ كلٌّ لمَّا » بتخفيف « إنْ » ورفع « كل » على أنَّها « إن » النافية « وكل » مبتدأ ، و « لمَّا » مشددة بمعنى « إلاَّ » ، و « ليُوفِّينَّهُم » جوابُ قسمٍ حذوف ، وذلك القسم وجوابه خبر المبتدأ وهي قراءةٌ جليَّة واضحةٌ كما قرؤوا كلُّهّم { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ } [ يس : 32 ] ومثله { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ } [ الزخرف : 35 ] ، ولا التفاتَ إلى قول من نفى أنَّ « لمَّا » بمنزلةِ « إلاَّ » فقد تقدَّمت أدلته .
وأما قراءةُ اليزيدي وابن أرقم « لمَّا » بالتشديد منونة ف « لمَّا » فيها مصدرٌ من قولهم : « لمَمْتُه- أي : جمعته - لمَّا » ومنه قوله تعالى : { وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً } [ الفجر : 19 ] ثم في تخريجه وجهان :
أحدهما : ما قاله أبو الفتح ، وهو أن يكون منصوباً بقوله : « ليُوفِّينَّهُمْ » على حدِّ قولهم : قياماً لأقومنَّ؛ وقعوداً لأقَعدنَّ ، والتقديرُ : توفيةً جامعةً لأعمالهم ليوفينهم ، يعني أنه منصوبٌ على المصدر الملاقي لعامله في المعنى دون الاشتقاق .
والثاني : ما قالهُ أبو علي الفارسي وهو : أن يكون وصفاً ل « كُلّ » وصفاً بالمصدر مبالغة ، وعلى هذا فيجبُ أن يقدَّر المضافُ إليه « كل » نكرةً ، ليصحَّ وصفُ « كل » بالنَّكرةِ ، إذْ لو قُدِّر المضافُ معرفة لتعرَّفتْ « كل » ، ولو تعرَّفت لامتنع وصفُها بالنَّكرةِ ، فلذلك قُدِّر المضافُ إليه نكرة ، ونظيره قوله تعالى : { وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً } [ الفجر : 19 ] فوقع « لمَّا » نعتاً ل « أكْلاً » وهو نكرةٌ .
قال أبو علي : ولا يجوز أن يكون حالاً؛ لأنه لا شيء في الكلام عاملٌ في الحالِ . وظاهرُ عبارة الزمخشري أنَّهُ تأكيدٌ تابعٌ ل « كلاًّ » كما يتبعها أجمعون ، أو أنَّهُ منصوبٌ على النَّعت ل « كُلاًّ » فإنه قال : « وإنْ كلاًّ لمًّا ليُوفِينَّهُمْ » كقوله : « أكْلاً لمًّا » والمعنى : وإن كلاًّ ملمومين بمعنى : مجموعين ، كأنه قيل : وإن كلاًّ جميعاً كقوله تعالى : { فَسَجَدَ الملاائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [ الحجر : 30 ] انتهى لا يريدُ بذلك أنَّهُ تأ : يدٌ صناعيُّ ، بل فسَّر معنى ذلك وأراد : أنَّهُ صفةٌ ل « كُلاًّ » ولذلك قدَّرهُ : بمجموعين ، وقد تقدَّم في بعض توجيهات « لمَّا » بالتَّشديد من غير تنوين ، أنَّ المنون أصلا ، وإنَّما أُجري الوصلُ مجرى الوقف ، وقد عُرف ما فيه وخبر « إنْ » على هذه القراءة هي جلمة القسمِ المقدَّرِ وجوابه سواءَ في ذلت تخريجُ أبي الفتح وتخريجُ شيخه .
وأمَّا قراءةُ الأعمشِ فواضحةٌ جداًّ ، وهي مفسَّرةٌ لقراءة الحسنِ المتقدَّمة ، لولا ما فيها من مخالفة سوادِ الخط .
وأمَّا قراءةُ ما في مصحفِ أبي كما نقلها أبُو حاتم ف « إنْ » فيها نافية ، و « مِنْ » زائدةٌ في النَّفي ، و « كل » مبتدأ ، و « ليُوفِّينَّهُم » مع قسمة المقدَّر خبرها ، فتؤول إلى قراءة الأعمش التي قبلها ، إذ يصيرُ التقديرُ بدون « مِنْ » : « وإنْ كلٌّ إلاَّ ليُوفِّينَهُم » والتنوين في « كلاً » عوضٌ من المضافِ إليه قال الزمخشري : يعني : وإنَّ كُلُّهُم ، وإنَّ جميع المختلفين فه . وقد تقدَّم أنَّهُ على قراءةِ « لمًّا » بالتنوين في تخريج أبي عليّ لهُ ، لا يقدَّر المضافُ إليه « كل » إلاّ نكرةً لأجْلِ نعتها بالنَّكرةِ .
التوكيد ب « إنَّط وب » كُلّ « وبلام الابتداءِ الدَّاخلة على خبر » إنَّ « وبزيداة » ما « عل رأي ، وبالقسم المقدَّر وباللاَّم الواقعة جواباً له ، وبنون التوكيد ، وبكونها مشددة ، وإردافها بالجملة لاتي بعدها من قوله { إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } فإنَّه يتضمَّنُ وعيداً شديداً للعاصي ، ووعداً صالحاً للطَّائع .
وقرأ العامَّةُ : « يَعْمَلُون » بياء الغيبة ، جرياً على ما تقدَّم من المختلفين ، وقرأ ابنُ هرمز « بِمَا تعملُونَ » بالخطابِ ، فيجُوزُ أن يكون التفاتاً من غيبة إلى خطابِ ، ويكونُ المخاطبون الغيب المتقدِّمين ، ويجوز أن يكون التفاتاً إلى خطاب غيرهم .
فصل
معنى الآية : أنَّ من عجلت عقوبته ، ومن أخرت ومن صدَّق الرُّسل ، ومن كذَّب فحالهم سواء في أنَّهُ تعالى يوفيهم أجر أعمالهم في الآخرة ، فجمعت الآية الوعد ، والوعيد فإنَّ توفية جزاء الطاعات وعدٌ عظيمٌ ، وتوفية جزاءِ المعاصي وعيدٌ عظيمٌ ، وقوله : { إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } توكيد للوعْدِ والوعيد ، فإنَّه لمَّا كان عالماً بجميع المعلومات كان عالماً بمقادير الطَّاعات والمعاصي ، فكان عالماً بالقدر اللاَّئق بكل عمل من الجزاءِ ، فحينئذٍ لا يضيع شيء من الحقوق وذلك نهاية البيان .
قوله تعالى : { فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ } الآية .
لمَّا شرح الوعد الوعيد قال لرسوله « فاسْتقِمْ كما أمِرْتَ » وهذه كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يتعلَّق بالعقائدِ والأعمال ، سواء كان مختصَّا به ، أو متعلقاً بتبليغ الوحي وبيان الشَّرائع ، ولا شكَّ أنَّ البقاء على الاستقامة الحقيقيَّة مشكلٌ جدًّا .
قال ابنُ الخطيب : وأنا أضربُ لذلك مثلاً يقربُ صعوبة هذا المعنى إلى العقل السَّليم ، وهو انَّ الخطَّ المستقيم الفاصل بين الظِّلِّ وبين الضَّوء جزء واحد لايقبلُ القسمة في العرض ، وذلك الخط ممَّا لا يدركه الحس ، فإنَه إذا قرب طرف الظل من طرف الضَّوءِ اشتبه البعضُ بالبعض في الحسّ ، فلم يقع الحس على إدراك الخط بعينه بحيثُ يتميز عن كلِّ ما سواهُ .
وإذا عرفت هذا في المثال فاعرف مثاله في جميع أبواب العبودية .
فأولها : معرفة الله وتحصيل هذه المعرفة على وجه يبقى العقل مصوناً في طرف الإثبات عن التَّشبيه ، وفي طرف النَّفي عن التَّعطيل في غاية الصعوبة ، واعتبر سائر مقامات المعرفة من نفسك ، وأيضاً فالقوَّة الغضبية والقوّةُ الشهوانية حصل لك واحد منهما طرفُ إفراط وتفريط ، وهما مذمومان ، والفاصلُ هو المتوسط بينهما بحيثُ لا يميلُ إلى أحدِ الجانبين ، والوقوفُ عليه صعبٌ؛ فثبت أنَّ معرفة الصِّراط المستقيم في غاية الصُّعوبة ، لا جرم قال ابنُ عبَّاسِ- رضي الله عنه- : ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرَّف وكرم وبجَّل ومجَّد وعظَّم- في جميع القرآن آية أشق من هذه ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : « شيبَّني هُود وأخواتها » وروى عن بعضهم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ، فقلت لهُ : روي عنك أنك قلت : « شَيَّبَتْنِي هُود وأخواتُها » فقال : نَعَمْ « قلت : وبأي آية؟ فقال : قوله : » فاسْتَقِمْ كما أمِرْتَ « .
قوله : { كَمَآ أُمِرْتَ } الكافُ في محلِّ النصب ، إمَّا على النَّعت لمصدرٍ محذوفٍ ، كما هو المشهورُ عند المعربين قال الزمخشريُّ : أي اسْتقم استقامةً مثل الاستقامةِ الَّتِي أمرتَ بها على جادًّة الحقِّ غير عادلٍ منها . وإمَّا على الحالِ من ضميرِ ذلك المصدر .
واستفعل هنا للطَّلب ، كأنه قيل : اطلب الإقامة على الدِّين ، كما تقول : استغفر أي : اطلب الغفران .
قوله : { وَمَن تَابَ مَعَكَ } في « مَنْ » وجهان ، أحدهما : أنَّهُ منصوب على المفعول به ، كذا ذكره أبو البقاء ويصير المعنى : استقم مصاحباً لمنْ تاب مُصاحباً لك ، وفي هذا المعنى نقوٌّ عن ظاهر اللفظ .
والثاني : أنَّهُ مرفوعٌ فإنَّه نسقٌ على المستتر في « اسْتَقمْ » ، وأعنى الفصلُ الجارِّ عن تأكيده بضميرٍ منفصل في صحَّةِ العطف ، وقد تقدَّم هذا البحث في قوله : { اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ } [ البقرة : 25 ] ، وأنّ الصحيح أنَّهُ من عطف الجمل لا من عطف المفرادات ، ولذلك قدَّرهُ الزمخشريُّ فاستقم أنتَ ، وليستقم من تاب مَعَكَ ، فقدَّر الرافع له فعلاً لائقاً برفعه الظَّاهر .
وقال الواحدي : محلها ابتداء تقديره : ومن تَابَ معكَ فلْيَستقِمْ
فصل
معنى الآية : { فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ } على دين ربِّك ، والعمل به ، والدُّعاء إليه ، كما أمرت ، { وَمَن تَابَ مَعَكَ } أي : مَنْ معك فليَسْتَقِيمُوا ، قال عمرُ بنُ الخطاب- رضي الله عنه- : الاستقامةُ أن تَسْتَقِيمَ على الأمْرِ والنَّهْي ، ولا تروغ روغان الثَّعلب .
روى هشام بن عُروة عن أبيه عن سفيان بن عبدِ الله الثَّقفي- رضي الله عنه- قال : « قلتُ يا رسُول الله قُلْ لِي فِي الإسلامِ قَوْلاُ لا أسْألُ عنهُ أحداً بعدك ، قال : » قُلْ آمنْتُ باللَّهِ ثم اسْتٌقِمْ « .
فصل
هذه الآية أصلٌ عظيم في الشَّريعة ، وذلك أنَّ القرآن لمَّا ورد بترتيب الوضوء في اللفظ وجب اعتبار الترتيب فيه ، لقوله : { فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ } ، ولمَّا » ورد الأمرُ في الزَّكاةِ بأداء الإبل من الإبل ، والبقرِ من البقرِ وجب اعتبارها ، وكذا القولُ في كل ما ورد أمرُ الله به .
قال ابنُ الخطيبِ : وعندي أنه لا يجوزُ تخصيص النصِّ بالقياسِ؛ لأنَّهُ لمَّا دلَّ عموم النَّص على حكم وجب العمل بمقتضاه ، لقوله تعالى- : { فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ } فالعملُ بالقياسِ انحراف عنه .
ثم قال : { وَلاَ تَطْغَوْاْ } أي : لا تجوزوا أمري ولا تعصوني وقيل : لا تغلُوا فتزيدُوا على أمرت ونهيت والطُّغيان : تجاوز الحدًّ . وقيل : لا تطغوا في القرآن فتحلُّوا حرامهُ وتحرِّمُوا حلالهُ وقال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما- : « تواضعوا لله ولا تتكبورا على أحد » { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } قرأ العامَّة « تَعْمَلُونَ » بالتَّاء « جرياً على الخطابِ المتقدم .
وقرأ الحسن والأعمش وعيسى الثقفيُّ بياء الغيبة ، وهو التفاتٌ من خطابٍ لغيبةٍ عكس ما تقدَّم في { إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
قوله تعالى : { وَلاَ تركنوا } قرأ العامَّةُ بفتح التَّاءِ والكاف ، والماضي من هذا « رَكِن » بكسر العين ك « عَلِمَ ، وهذه الفصحى ، كذا قال الأزهريُّ وقال غيره : » وهي لغةُ قريش « وقرأ أبو عمرو في رواية : » تِرْكَنُوا « بكسر حرف المضارعة وقد تقدَّم ذلك في قوله : » نَسْتعِينُ « .
وقرأ قتادةُ ، وطلحةُ ، والأشهب ، ورويت عن أبي عمرو » تَرْكُنُوا « بضمِّ العين وهو مضارع » رَكَنَ « بفتحها ك : قَتَلَ يَقْتُل ، وقال بعضهم : هو من التَّداخُلِ ، يعني من نطق ب » رَكَنَ « بكسر العين قال : » يَرْكُن « بضمها ، وكان من حقِّه أن يفتحَ ، فلمذَا ضمّ علمنا أنه استغنى بلغةِ غيره في المضارع عن لغته ، وأمَّا في هذه القراءةِ فلا ضرورة بنا إلى ادِّعاءِ التَّداخُل ، بل ندَّعي أنَّ من فتح الكاف أخذه من : » رَكِنض « بالكسرِ ، ومن ضمَّها أخذه من » رَكَنَ « بالفتح ، ولذلك قال الراغبُ : » والصحيحُ أن يقال : رَكِنَ يَرْكَنُ ورَكَنَ يَرْكُنُ بالكسر في الماضي مع الفتح في المضارع ، وبالفتح في الماضي مع الضمِّ في المضارع « وشذَّ أيضاً قولهم : رَكَن يَرْكَن بالفتح فيهما ، وهو التداخل؛ فتحصًّل من هذا أنَّه قال : » رَكِنَ « بكسر العين وهي اللغة العالية كا تقدَّم ، و » ركَنَ « بفتحها ، وهي لغة قيس وتميم ، وزاد الكسائيُّ : » ونَجْد « وفي المضارع ثلاثٌ : الفتحُ ، والكسرُ ، والضمُّ . وقرأ ابنُ أبي عبلة : » تُرْكَنُوا « مبنياً للمفعول من : أرْكَنَهُ إذا أمالهُ ، فهو من باب » لا أرَيَنَّكَ ههنا « و { فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ } الأعراف : 2 ] وقد تقدم .
والرُّكُونُ : المَيْلِ ، ومنه الرُّكْنُ للاستنادِ إليه .
قوله : { فَتَمَسَّكُمُ } منصوبٌ بإضمار » أنْ « في جوابِ النهي . وقرأ ابنُ وثاب وعلقمةُ ، والأعمشُ في آخرين » فَتِمَسَّكُمُ « بكسر التَّاءِ .
قوله : { وَمَا لَكُمْ } هذه الجملةُ يجوزُ أن تكون حاليةً ، أي : تَمَسَّكم حال انتفاءِ ناصركم .
ويجوز أن تكون مستأنفة و » مِنْ أولياءَ « » مِنْ « فيه زائدةٌ ، إمَّا في الفاعل ، وإمَّا في المبتدأ ، لأنَّ الجارَّ إذا اعتمد على أشياءَ- أحدها النَّفيُ- رفع الفاعل .
قوله : { ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } العامَّةُ على ثبوتِ نُون الرَّفعِ؛ لأنه مرفوع ، إذ هو من باب عطف الجمل ، عطف جملة فعلية على جملة اسميةَ . وقرأ زيد بن علي - رضي الله عنهما- بحذف نون الرفع ، عطفه على » تمسَّكُم « ، والجملةُ على ما تقدَّم من الحاليةِ أو الاستئناف ، فتكون معترضةً ، وأتى ب » ثمَّ « تنبيهاً على تباعد الرُّتْبَة .
فصل
معنى الآية : قال ابن عبَّاسٍ- رضي الله عنهما- : » ولا تميلُوا « .
والرُّكُونُ : هو المحبَّة والميل بالقلب . وقال أبو العاليةِ : لا ترضوا بأعمالهم .
وقال السدي : لا تداهِنُوا الظَّلمة .
وعن كرمة : لا تطيعوهم وقيل لاتسكنوا إلى الذين ظلمُوا « فتَتَمسَّكُم » ، فتصيبكم « النَّارُ وما لَكُم من دُونِ الله من أولياءَ » أي : ليس لكم أولياء ولا أعوان يخلصونكم من عذاب الله ، ثُمَّ لا تجدُوا من ينصركُمْ .
قوله تعالى : { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار } الآية .
لمَّا أمره بالاستقامة أردفهُ بالأمر بالصَّلاة ، وذلك يدلُّ على أنَّ أعظم العبادات بعد الإيمان بالله هو الصلاة .
قوله : { طَرَفَيِ النهار } ظرفٌ ل « أقِم » ويضعف أن يكون ظرفاً للصلاة ، كأنه قيل : أي أقم الصَّلاة الواقعة في هذين الوقتين ، والطرف ، وإن لم يكن ظرفاً ، ولكنَّه لمَّا أضيف إلى كلها على الظرف لمَّّا أضيفت إليه ، وإن كانت ليست موضوعة للظَّرفية .
وقرأ العامَّةُ « زُلَفاً » بضمِّ الزاي ، وفتح اللام ، وهي جمعُ « زُلْة » بسكون اللام ، نحو : غُرَف في جمع غُرفة ، وظُلَم في جمع ظُلمه . وقرأ أبو جعفر وابنُ أبي إسحاق بضمها ، وفي هذه القراءةِ ثلاثةُ أوجه :
أحدهما : أنَّهُ جمع « زُلْفَة » أيضاً ، والضَّمُّ للإتباع ، كما قالوا : بسْرة وبُسُر بضم السين إتباعاً لضمَّة الباء .
الثاني : أنَّهُ اسمٌ مفرد على هذه الزِّنةِ ك : عُنُق .
الثالث : أنه جمعُ « زَلِيف » قال أبو البقاءِ : « وقد نُطِف به » ، يعني أنَّهم قالوا زَليف ، و « فعيل » يجمعُ على « فُعُل » نحو : رَغِيف ورغف ، وقَضِيب وقضُب .
وقرأ مجاهدٌ وابنُ محيصنٍ بإسكان اللاَّم وفيها وجهان :
أحدهما : أنَّهُ يحتمل أن تكون هذه القراءةُ مخفَّفةً من ضمِّ العين فيكون فهيا ما تقدَّم .
والثاني : أنَّهُ سكونُ أصلٍ من باب اسم الجنس نحو : بُسْرة وبُسْ من غير إتباع .
وقرأ مجاهد وابن محيصنٍ وأيضاً في رواية : « وزُلْفَى » بزنة : « حُبْلَى » جعلوها على صفةِ الواحدة المؤنثة اعتباراً بالمعنى؛ لأنَّ المعنى على المنزلة الزُّلفى ، أو الساعة الزُّلْفَى ، أي : القريبة .
وقد قيل : إنَّه يجوز أن يكون أبدلا التنوين ألفاً ثم أجرياص الوصل مجرى الوقف فإنَّهُما يقرآن بسكون اللاَّم وهو محتملٌ .
وفي انتصاب : « زُلَفاً » وجهان :
أظهرهم : أنه نسقٌ على « طَرفي » فينتصب الظَّرف ، إذ المراد بها ساعات الليل القريبة .
والثاني : أن ينتصب انتصابَ المفعول به نسقاً على الصَّلاة .
قال الزمخشريُّ- بعد أن ذكر القراءات المتقدمة- : وهو ما يقرب من آخر النَّهار ومن الليل ، وقيل : زُلَفاً من الليل وقُرْباً من الليل ، وحقُّها على هذا التفسير أن تعطف على الصلاة ، أي : أقم الصلاة طرفي النَّهار ، وأقم زُلفاً من اللَّيل على معنى صلوات تقرَّبُ بها إلى الله تعالى في بعض الليل .
والزُّلفةُ : أول ساعات الليل ، قاله ثعلبُ . وقال الأخفش وابنُ قتيبة : « الزلف : ساعات الليل وآناؤه ، وكلُّ ساعة منه زلفة » فلم يخصصاه بأوَّلِ الليلِ؛ وقال العداد : [ الرجز ]
3039- ناجٍ طواهُ الأيْنُ ممَّا وجَفَا ... طَيَّ اللَّيَالِي زُلَفاً فزُلفَا
سماوةَ الهلالِ حَتَّى احقوْقَفا ... وأصلُ الكلمة من « الزُلْفَى » والقرب ، يقال : أزْلفه فازْدلفَ ، أي : قربَّهُ فاقتربَ قال تعالى : { وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين } [ الشعراء : 64 ] وفي الحديث : « ازْدَلِفُوا إلى الله بركعتيْنِ » .
وقال الرَّاعب : والزُّلفةُ : المَنْزِلَةُ والحُظْوة ، وقد استعملت الزُّلفة في معنى العذابِ كاستعمال البشارة ونحوها ، والمزالِفُ : المراقي : وسُمِّيت ليلة الزدلفة لقربهم من منى بعد الإفاضة . وقوله : « من اللَّيل » صفةٌ ل « زُلَفاً » .
فصل
معنى « طَرَفَي النَّهارِ » أي : الغداوة والعشي . قال مجاهدٌ- رحمه الله- : طرفا النهار الصبح ، والظهر ، والعصر « وزُلفاً من اللَّيْل » يعني : صلاة المغرب والعشاء .
وقال الحسنُ : طرفا النَّهارِ : الصبح ، والظهر والعصر « وزُلفاً من اللَّيل » المغرب والعشاء وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- : طرفا النهار الغداوة والعشي ، يعني صلاة الصبح والمغرب .
فصل
قال ابن الخطيب - رحمه الله- : « الأشهر أنَّ الصلوات التي في طرفي النهار هي الفجر والعصر ، وذلك لأنَّ أحد طرفي النهار طُلوعُ الشَّمس ، والطَّرف الثاني غروب الشمس .
فالأول : هو صلاة الفجر .
والطرف الثاني لا يجوز أن يكون صلاة المغرب؛ لأنها داخلة تحت قوله : { وَزُلَفاً مِّنَ الليل } فوجب حملُ الطَّرفي الثاني على صلاة العصر .
وإذا تقرَّر هذا كانت الآية دليلاً على قول أبي حنيفة- رضي الله عنه- في أنَّ التنوير بالفجرِ أفضل ، وفي أنَّ تأخير العصر أفضل؛ لأنَّ ظاهر الآية يدلُّ على وجوب إقامة الصَّلاة في طرفي النهار ، وبينا أنَّ طرفي النهار هم الزمان الأول لطلوع الشمس ، والزَّمان الثَّاني لغروب الشمس ، وأجمعت الأمة على أنَّ إقامة الصَّلاة في ذلك الوقت من غير ضرورة غير مشروعة فقد تعذَّر العملُ بظاهر الآية ، فوجب حلمه على المجاز ، وهو أن يكون المرادُ : إقامة الصلاة في الوقت الذي يقرب من طرفي النهار؛ لأنَّ ما يقرب من الشَّيءِ يجوزُ أن يطلقَ عليه اسمه ، وإذا كان كذلك فكل وقتٍ كان أقرب لطلوع الشمسِ ، وإلى غروبها كان أقربُ إلى ظاهر اللفظ ، وإقامة صلاة الفجر عند التنوير أقرب إلى وقت الطُّلوع من إقامتها عند التغليس ، وكذلك إقامة صلاة العصر عندما يصير ظل كل شيء مثليه ، أقرب إلى وقت الغروب من إقامتها عندما يصير ظلُّ كل شيءٍ مثله ، والمجازُ كلَّما كان أقرب إلى الحقيقة ، كان حملُ اللفظ عليه أولى .
فصل
قال أبو بكر الباقلاني - رضي الله عنه- : إنَّ الخوارجَ تمسَّكُوا بهذه الآية في إثبات أنَّ الواجب ليس إلاَّ الفجر والعشاء من وجهين :
الأول : أنَّهُمَا واقعان على طرفي النهار؛ فوجب أن يكون هذا القدر كافياً .
فإن قيل : قوله { وَزُلَفاً مِّنَ الليل } يوجب صلوات أخرى .
قلت : لا نُسلِّمُ ، فإنَّ طرفي النهار موصوفان بكونهما زُلفاً من اللَّيْلِ ، فإن ما لا يكون نهاراً يكون ليلاً غاية ما في الباب أنَّ هذا يقتضي عطف الصفة على الموصوف ، وذلك كثير في القرآن والشعر .
الوجه الثاني : أنه تعالى قال : { إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } وهذا يقتضي أنَّ من صلًَّى طرفي النَّهار كان إقامتهما كفارة لكلّ ذنب ، فبتقدير أن يقال : إنَّ سائرَ الصلوات واجبة إلاَّ أنَّ إقامتها يجب أن تكون كفارة لترك سائر الصلوات ، وهذا القولُ باطلٌ بإجماع الأمَّةِ فلا يلتفتُ إليه .
فصل
قيل قي قوله تعالى : { وَزُلَفاً مِّنَ الليل } أنه يقتضي الأمر بإقامة الصلاة في ثلاث زلفٍ من الليل؛ لأنَّ أقلَّ الجمع ثلاثة ، والمغربُ والعشاءُ وقتان؛ فجيب الحكمُ بوجوب الوتر .
قوله : { إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } قال ابن عبَّاسِ : إنَّ الصَّلوات الخمس كفارة لسائر الذُّنوب بشرط الجتناب الكبائر ووري عن مجاهدٍ - رحمه الله - : « إنَّ الحسنات هي قول العبد : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر .
وروي أنَّها نزلت في أبي اليسر ، قال : أتتني امرأة تبتاع تَمْراً ، فقلتُ لها إنَّ في بتي تَمراً أطيب من هذا؛ فدخلت معي في البيت ، فأهويت إليها فقبَّلتُهَا ، فأَيْتُ أبا بكر- رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين- فذكرتُ ذلك له فقال : اسْتُرْ على نفسك وتب ، فأتيتُ عمر - رضي الله عنه- فقالك اسْتُرْ على نفسك وتُب فلم أصْبِرْ ، فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرتُ ذلك ، فقال : » أخلفت غازياً في سبيل الله في أهلهِ بمثلِ هذا؟ « حتَّى تمنَّى أنَّهُ لمْ يكُنْ أسلم إلاَّ تلك السَّاعة حتَّى ظنَّ أنَّهُ من أهْلِ النَّارِ فأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى أوحي إليه { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار } الآية ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ألِهذا خاصة أم للناس عامة؟ قال : » بَلْ للنَّاسِ عامَّة « وعن أبي هريرة - رضي الله عنه- أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : » الصَّواتُ الخمسُ ، والجمعةُ إلى الجمعةِ ، ورمضانُ إلى رمضان مُكفّراتٌ ما بينهُنَّ إذا اجتُنِبت الكبائِرَ « .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال : » أرأيتُم لوْ أنَّ نهراً بباب أحكمْ يغتَسِلُ فيه كلَّ يومٍ خمسَ مرَّاتٍ ، هل يبْقَى من دَرَنِهِ شيءٌ « ؟ قالوا : لا ، قال : » فذلِكَ مثلُ الصَّلواتِ الخمسِ ، يَمْحُوا اللَّهُ بهنَّ الخطايا « .
فصل
احتجَّ من قال إنَّ المعصية لا تضرُّ مع الإيمان بهذه الآية؛ لأنَّ الإيمان أشرفُ الحسنات ، وأجلها ، وأعظمها ، ودلَّت الآية على أنَّ الحسنات تذهبُ السيئات ، والإيمان يذهب الكفر الذي هو أعلى درجة في العصيان؛ فلأن يذهب المعصية التي هي أقل درجة أولى ، فإن لم يفد إزالة العقاب بالكلية فلا أقلَّ من أن يفيد إزالة العقابِ الدَّائم المؤبَّد .
ثم قال تعالى : { ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ } أي : ذلك الذي ذكرناه ، وقيل : إشارة إلى القرآن » ذِكْرَى « موعظة ، » للذَّاكرينَ « أي : لمن ذكره » واصْبِرْ « يا محمَّدُ على ما تلقى من الأذى .
وقيل : على الصَّلاة ، نظيرهُ : قوله تعالى : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا } [ طه : 132 ] { فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } في أعمالهم ، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما- » يعني المصلِّينَ « .
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
قوله تعالى : { فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ } من الآية .
لمَّا بيَّن أنَّ الأمم المتقدمين حلَّ بهم عذاب الاستئصال ، بيَّن أنَّ السبب فيه أمران :
الأول : أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد في الأرض ، فقال : { فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ } ، « لوْلاَ » تخضيضيه دخلها معنى التَّفجُّع عليهم ، وهو قريبٌ من مجاز قوله تعالى : { ياحسرة عَلَى العباد } [ يس : 30 ] وما يروى عن الخليل- رحمه الله- أنه قال : كل ما كان في القرآن من « لَوْلاَ » فمعناه « هَلاَّ » إلاَّ التي في الصافات « لوْلاَ أنَّهُ » ، لا يصحُّ عنه لورودها كذلك في غير الصافات { لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ } [ القلم : 49 ] { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ } [ الإسراء : 74 ] { وَلَوْلاَ رِجَالٌ } [ الفتح : 25 ] .
و « مِنَ القُرونِ » يجوز أن يتعلَّق ب « كان » ؛ لأنَّها هنا تامَّة ، إذا المعنى : فهلاَّ وُجِد من القُرونِ ، أو حدث ، أو نحو ذلك ، ويجُوزُ أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من : « أُولُوا بقيَّةٍ » لأنه لو تأخَّر عنه لجاز أن يكون نعتاً لهُ ، و « مِن قَبْلِكُم » حالٌ من « القُرُون » و « يَنْهَون » حالٌ من « أولوا بقيَّة » لتخصُّصه بالإضافةِ ، ويجوز أن يكون نعتاً ل « أُولُوا بقيَّّةٍ » وهو أولى .
ويضعفُ أن تكون « كان » هذه ناقصة لبُعْد المعنى من ذلك ، وعلى تقديره يتعيَّن تعلُّق « من القُرونِ » بالمحذُوف على أنَّهُ حالٌ؛ لأنَّ « كَانَ » النَّاقصة لا تعملُ عند جمهورالنُّحاةِ ، ويكون « يَنْهَوْنَ » في محلِّ نصب خبراً ل « كان » .
وقرأ العامَّةُ « بقيَّة » بفتح الباء وتشديد الياءِ ، وفيها وجهان :
أحدهما : أنَّها صفةٌ على « فَعِيلة » للمبالغةِ ، بمعنى « فاعل » ؛ وذلك دخلت التَّاءُ فيها ، والمرادُ بها حينئذٍ الشيء وخياره ، وإنَّما قيل لجنْدِه وخياره : « بقيَّة » في قولهم : فلان بقيةُ النَّاس ، وبقيةُ الكرام؛ لأنَّ الرَّجُل يستبقى ممَّا يخرجه أجوده وأفضله والرجل يبقى بعده ذكر جوده وفضله؛ وعليه حمل بيتُ الحماسِة : [ البسيط ]
3040- إنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ تَأتينِي بقِيَّتُكُمْ .. . .
وفي المثل : « في الزَّويا خبايا ، وفي الرِّجالِ بَقايَا » .
والثاني : أنَّها مصدرٌ بمعنى البقوى قال الزمخشريُّ ويجوزُ أن تكون البقيَّة بمعنى البَقْوَى كالتقيَّة بمعنى التَّقوى ، أي : فهلا كان منهم ذوو إبقاءٍ على أنفسهم ، وصيانةٍ لها من سخطِ الله وعقابه . والمعنى : فهلاّ كان منهم أولوا مراقبة وخشية من انتقام الله .
وقرأت فرقةٌ « بَقِيَة » بتخفيفِ الياءِ ، وهي اسمٌ فاعل من بقي ك : شَجِيَة من شَجِي ، والتقدير أولُوا طائفةِ بقيةِ أي : باقية وقرأ أبو جعفرٍ وشيبة « بُقْية » بضمِّ الفاء وسكون العين .
وقُرِئَ « بَقْيَة » على المرَّة من المصدر . و « فِي الأرْضِ » متعلقٌ بالفسادِ ، والمصدرُ المقترن ب « أل » يعمل المفاعيل الصريحة فكيف في الظروف؟ ويجوزُ أن يتعلَّق بمحذُوفٍ عل أنه حالٌ من « الفَسادِ » .
فصل
المعنى : فهلاَّ « كان مِنَ القُرونِ » التي أهلكناهم ، « مِن قَبْلكُمْ » أولُوا تمييز وقيل : أولُوا طاعة وقيل : أولُوا خير ، يقال : فلانٌ على بقيَّةٍ من الخير إذا كان على خصلة محمودة . و « ينْهَوْنَ عن الفسادِ في الأرضِ » أي : يقُومُون بالنَّهْي عن الفسادِ ، ومعناه جحداً ، أي : لم يكن فيهم أولُو بقية .
قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً } فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون استثناء منقطعاً؛ وذلك أن يحمل التخضيض على حقيقته ، وإذا حُمل على حقيقته تعين أن يكون الاستثناءُ منقطعاً لئلاَّ يفسد المعنى .
قال الزمخشريُّ : معناه : ولكن قليلاً ممَّن أنْجينَا من القرون نهوا عن الفساد ، وسائرهُم تاركون النَّهي ثم قال : فإن قلت : هل لوقوع هذا الاستثناء متصلاً وجهٌ يحملُ عليه؟ قلتُ : إن جعلتهُ متَّصلاً على ما هو عليه ظاهرُ الكلام كان المعنى فاسِداً؛ لأنَّهُ يكون تحضيضاً لأولي البقية على النَّهي عن الفساد إلاَّ للقليل من النَّاجين منهم ، كما تقولُ : هلا قرأ قومك القرآن إلاَّ الصلحاء منهم ، تريدُ استثناء الصُّلحاء من المحضَّضينَ على قراءة القرآن . فيَئُول الكلام إلى أنَّ الناجين لم يحضُّوا على النَّهْي عن الفاسد ، وهو معنَّى فاسدٌ .
والثاني : أن يكون متًّصِلاً ، وذلك بأن يؤوَّل التحضيض على قراءة القرآن بمعنى النَّفي ، فيصحَّ ذلك؛ إلاَّ أنَّهُ يُؤدِّي إلى النصب غير الموجب ، وإن كان غير النصب أولى .
قال الزمخشري : فإن قلت : في تحضيضهم على النَّهي عن الفاسد معنى نفيه عنهم ، فكأنَّهُ قيل : ما كان من القُرُونِ أولُوا بقية إلاَّ قليلاً كان استثناءً متصلاً ومعنى صحيحاً ، وكان انتصابهُ على أصل الاستثناء ، وإن كان الأفصحُ أن يرفع على البلد .
ويؤيد أنَّ التحضيض هنا في معنى النَّفْي قراءةُ زيد من عليّ « إلاَّ قليلٌ » بالرفع ، لاحظ معنى النَّفي فأبدل على الأفصحِ ، كقوله : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [ النساء : 66 ] .
وقال الفراء : المعنى : فلمْ يكن؛ لأنَّ في الاستفهام ضَرْباً من الجَحْدِ سمَّى التَّحضيض استفهاماً .
ونُقل عن الأخفش أنه كان يرى تعيُّن اتصال هذا الاستثناء كأنَّهُ لحظَ النَّفْيَ و « مِنْ » في : « مِمَّنْ أنْجَيْنَا » للتبعيض . ومنع الزمخشريُّ أن تكون للتعيضي بل للبيانِ فقال : حقُّها أن تكون للبيانِ لا للتبعيض؛ لأنَّ النَّجاة إنَّما هي للنَّاهينَ وحدهم ، بدليل قوله : { أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } [ الأعراف : 165 ] .
فعلى الأول يتعلق بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل « : قَلِيلاً » .
وعلى الثاني : يتعلق بمحذوف على سبيل البيان ، أي : أعني .
قوله : { واتبع الذين ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ } هذا السببُ الثاني في نزولِ عذاب الاستئصال .
قرأ العامَّةُ : « اتَّبَعَ » بهمزة وصلٍ وتاءِ مشددةٍ ، وياءٍ ، مفتوحتين ، فعلاً ماضياً مبنياً للفاعل وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ معطوفٌ على مضمرٍ .
والثاني : أنَّ الواو للحالِ لا للعطفِ ، ويتَّضحُ ذلك بقول الزمخشري فإن قلت : علام عطف قوله : { واتبع الذين ظَلَمُواْ } ؟ قلت : إن كان معناه : واتَّبعُوا الشَّّهواتِ كان معطوفاً على مضمرٍ؛ لأنَّ المعنى : إلاَّ قليلاً ممَّنْ أنجينا منهم نُهُا عن الفسادِ ، واتَّبع الذين ظلمُوا شهواتهم ، فهو عطفٌ على « نُهُوا » وإنْ كان معناه : واتَّبعُوا جزاءَ الإترافِ ، فالواو للحال ، كأنَّه قيل : أنْجَيْنَا القليل ، وقد اتتبع الذين ظلموا جزاءهم .
فجوز في قوله : « مَا أتْرِفُوا » وجهين :
أحدهما : أنَّه مفعول من غير حذف مضافِ ، و « مَا » واقعة على الشَّوات وما بطرُوا بسببه من النِّعم .
والثاني : أنَّهُ على حذف مضاف ، أي : جزاء ما أتْرِفُوا ، ورتَّب على هذين الوجهين القول في « واتَّبَع » .
والإتْراف : إفعالٌ من التَّرف وهو النِّعمة ، يقال : صبيُّ مترفٌ ، أي : مُنْعَم البدن ، وأتْرِفُوا نَعِمُوا وقيل : التَّرفُّهُ : التوسُّع في النِّعمةِ .
وقال مقاتلٌ : « أتْرِفُوا » خُوَّلُوا .
وقال الفراء : عُوِّدُوا ، أي : واتَّبع الذين ظلمُوا ما عُوِّدُوا من النَّعيم ، وإيثار اللذات على الآخرة .
وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي ، وأبو جعفر « وأتْبعَ » بضم همزة القطع وسكون التَّاءِ وكسر الباء مبنيَّا للمعفول ، ولا بدَّ حينئذِ من حذف مضاف ، أي : أتبعُوا جزاء ما أترفُوا فيه .
و « ما » يجوز أن تكون معنى « الذي ، وهو الظَّاهرُ لعودِ الضمير في » فيه « عليه ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : جزاء إترافهم .
قوله » وكانُوا مُجْرمينَ « كافرين وفيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أن تكون عطفاً على » أْرِفُوا « إذا جعلنا » ما « مصدرية ، أي : اتَّبعوا إترافهم وكونهم مجرمين .
والثاني : أنه عطفٌ على » اتَّبَعَ « ، أي : اتَّبَعُوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك ، لأنَّ تابعَ الشَّواتِ مغمورٌ بالآثامِ .
الثالث : أن يكون اعتراضاً وحكماً عليهم بأنَّهُم قومٌ مجرمون ذكر ذلك الزمخشريُّ .
قال أبو حيَّان : » ولا يُسَمَّى هذا اعتراضاً في اصطلاح النَّحْو؛ لأنه آخرُ آيةٍ ، فليس بين شيئين يحتاج أحدهما إلى الآخر « .
قوله تعالى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ } الآية .
في » لِيُهْلِكَ « الوجهان المشهوران ، وهما : زيادة اللام في خبر : » كان « دلالةً على التَّأكيد- كما هو رأي الكوفيين- أو كونها متعلقة بخبر » كان « المحذوف ، وهو مذهبُ البصريي ، و » بِظُلْمِ « متعلق ب » يُهْلِكَ « والباءُ سببيةٌ ، وجوَّز الزمخشريُّ أن تكون حالاً من فاعل » لِيُهْلِكَ « ، وقوله » وأهْلُهَا مُصْلِحُون « جملة حالية .
فصل
قيل : المرادُ بالظلم هنا : الشرك ، قال تعالى : وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ
{ إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] والمعنى : أنه تعالى لا يهلك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم ، ولهذا قال الفقهاءُ : إنَّ حقوق الله مبناها على المسامحِة ، وحقوق العباد بمناها على التَّضييقِ ولاشح ، ويقالُ : إنَّ الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظُّلم ، ويدلُّ على هذا التأويل أنَّ قوم هود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب إنَّما نزل بهم عذابُ الاستئصال ، لما حكى الله تعالى عنهم من إياءِ النَّاس وظلم الخلق وهذا تأويل أهل السنة وقالت المعتزلة : إنَّهُ تعالى لو أهلكهم حال كونهم مصلحين لكان ظلماً ، ولمَّا كان متعالياً عن الظلم ، لا جرم أنَّهُ إما يهلكهم لأجل سُوء أفعالهم .
وقيل : معنى الآية : أنَّهُ لا يُهلكُهُمْ بظلم منه ، وهم مُصْلِحثونَ في أعملاهم ، ولكن يهلكهم بكفرهم وركوبهم السَّيئات ، وهذا بمعنى قول المعتزلة .
ثم قال تعالى : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً } كلهم على دين واحدٍ ، { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } على أديان شتَّى ، من يهوديِّ ، ونصرانيِّ ، ومجوسيِّ ، ومشركِ ، ومسلم ، وقد تقدم الكلام على ذلك .
قوله : { إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } ظاهرهُ أنه متَّصلٌ ، وهو استثناءٌ من فاعل « يَزالُون » ، أو من الضَّمير في « مُختلفينَ » وجوَّز الحوفي أن يكون استثناءً منقطعاً ، أي : لكن من رحمَ ، لم يختلفُوا ، ولا ضرورة تدعُوا على ذلك .
قوله : « ولذلِكَ » في المشار إليه أقوال كثيرة .
أظهرها : أنَّهُ الاختلافُ المدلولُ عليه ب « مُخْتلفينَ » ؛ كقوله : [ الوافر ] .
3041- إذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إلَيْهِ ... وخَالفَ والسَّفِيهُ إلى خِلافِ
رجع الضَّمير في « إليه » على السَّفة « ، ولا بدَّ من حذف مضافٍ على هذا ، أي : ولثمرة الاختلاف خلقهم ، واللام في الحقيقةِ للصَّيروةِ ، أي : خلقهم ليصير أمرهم إلى الاختلاف .
وقيل : المرادُ به الرحمة المدلول عليها بقوله : » رَحِمَ « وإنَّما ذكرَّ ذهاباً بها إلى الخير وقيل : المرادُ به المجموعُ منهما ، وإليه نحا ابنُ عباس -رضي الله عنهما- : كقوله : { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] وقيل : إشارةٌ إلى ما بعده من قوله : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ ، وهو قولٌ مرجوحٌ؛ لأنَّ الأصل عدمُ ذلك .
فصل
قال الحسنُ وعطاء : وللاختلاف خلقهم قال أشهب : سألتُ مالكاً رحمه الله - عن هذه الاية فقال : خلقهم ليكون فريقٌ في الجنَّةِ وفريقٌ في السَّعير . قال أبو عبيدة : الذي أختاره قول من قال : خلق فريقاً لرحمته ، وفريقاُ لعذابه ، ويُؤيده قوله تعالى : » وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين « .
وقوله صلى الله عليه وسلم : » خلق الله الجنَّة وخلق لها أهلاً ، وخلق النَّار وخلق لها أهلاً « .
وقال ابن عباس- رضي الله عنهما- ومجاهدٌ ، وقتادة ، والضحاك رضي الله عنهم : وللرَّحمةِ خلقهم ، يعني الذين رحمه وقال الفراء : خلق أهل الرَّحْمةِ ، وأهل الاختلاف للاختلاف ومحصول الآية أنَّ أهل الباطلِ مختلفُون ، وأهل الحقِّ متَّفقُون ، فخلق أهل الحق للاتفقا ، وأهل الباطل للاختلاف .
وذهبت المعتزلةُ إلى قولِ ابن عبَّاسٍ ، وهو أنَّهُ خلقهم للرَّحمةِ ، قالوا : ولا يجوز أن يقال : وللاختلاف خلقهم لوجوه :
الأول : أنَّ عود الضَّمير إلى أقرب المذكورين ألوى من عوده إلى أبعدهما :
والثاني : لو خلقهم للاختلاف وأراد منهم ذلك لام يجز أن يعذبهم عليه ، إذا كانوا مطيعين له بذلك الاختلاف .
الثالث : أنَّا إذ فسرنا الآية بالرحمةِ مطابقاً لقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] .
فإن قيل : لو كان المراد ، وللرَّحمة خلقهم لقال : ولتك خلقهم ، ولم يقل : وللك خلقهم قلنا : إن تأنيث الرَّحمةِ لي حقيقيًّا ، فكان محمولاً على الفضل والغفرانِ ، كقوله : { هذا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي } [ الكهف : 98 ] وقوله : { إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين } [ الأعراف : 56 ] .
فصل
احتج من قال بأنَّ الهداية والإيمان لا يحصل إلاَّبخلقِ الله تعالى بهذه الآية ، وذلك لأنَّها تدلُ على أنَّ زوال الاختلاف في الدِّين لا يحصلُ إلاَّ لمنْ خصَّهُ الله برحمته ، وتلك الرحمة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل ، وإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وإزاحة العذر ، فإن كُلَّ ذلك حاصل للكفار ، فلم يبق إلاَّ أن يقال : تلك الرحمة هو أنَّ الله - تعالى - يخلق فيه تلك الهداية والمعرفة .
قوله تعالى : { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ }
قال القاضي معناه : إلا من رحم ربُّك بأن يصير من أهل الجنة ، والثواب فيرحمه الله بألطافه وتسهيله ، وهذان الجوابان في غاية الضعف .
أمَّا الأولُ فلأنَّ قوله تعالى : { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } بأن يصير من أهل الجنة ، يفيدُ أنَّ ذلك الاختلاف إنما زال بسبب هذه الرحمة؛ فوجب ان تكون هذه الرَّحمة جارية مجرة السَّّبب المتقدم على زوال هذا الاختلاف ، والثَّواب شيء متأخر عن زوال هذا الاختلاف ، فالاختلاف جارٍ مجرى السبب له فحملُ هذه الرَّحمة على الثَّواب لا يجوزُ .
وأمَّا الثاني- وهو حملُ هذه الرَّحمة على الألطافِ التي فعلا في حقِّ المؤمن- فهي مفعولة أيضاً في حقِّ الكافر ، وهذه الرحمة أمر اختص به المؤمن؛ فوجب أن يكون شيئاً زائداً عل تلك الألطاف ، وأيضاً فحصول الألطاف هل يوجبُ رجحان وجود الإيمان على عدمه أم لا يوجبه؟ فإن لم يوجبه كان وجود تلك الألطاف وعدمها ، بالنسبة غلى حصول هذا المقصود سيان ، فلم يكُ لطفاً منه ، وإذا وجب تلك الألطاف وعدمها ، بالنسبة إلى حصول هذا المقصود سيان ، فلم يكُ لطفاً منه ، وإذا وجب الرُّجحان فقد ثبت في العقليات أنه متى حصل الرجحان ، فقد وجب حينئذٍ أن يكون حصول الإيمان من الله ، وما يدل على أنَّ حصول الإيمان لا يكون إلاَّ بخلق الله تعالى؛ لأنَّهُ ما لم يتميز الإيمان عن الكفر ، والعمل عن الجهلِ امتنع القصد إلى تكوين الإيمان والعلم ، وهذا الامتياز إنما يحصلُ إذا علم كون احد هذين الاعتقادين مطابقاً للمعتقد ، وكون الآخر ليس كذلك ، وإنَّما يصح هذا العلم إذاعرف ذلك المعتقد كيف يكون ، وهذا يوجب أنَّهُ لا يصح من العبدِ القصد إلى تكوين العلم بالشيء إلا بعد أن كان عالماً ، وذلك يقتضي تكوين الكائن وتحصيل الحاصل وهو محالٌ ، فثبت أنَّ زوال الاختلاف في الدِّين ، وحصولِ العلم والهداية لا يحصل إلاَّ بخلق الله تعالى .
ثم قال تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } وتم حكم ربك { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ } فقوله : « أجْمَعِينَ » تأكيد ، والأكثر أن يسبق ب « كُل » وقد جاء هنا دونها .
والجنَّةُ والجِنُّ : قيل : واحد ، والتاء فيه للمبالغة .
وقيل : الجنَّةُ جمع جِنّ ، وهو غريبٌ ، فيكون مثل « كَمْءِ » للجمع ، و « كَمْأة » للواحد .
قوله تعالى : { وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ } الآية .
لمَّا ذكر القصص الكثيرة في هذه السورة ، ذكر في هذه الآية نوعين من الفائدة .
أحدهما : تثبيت الفؤاد على أداء الرِّسالة ، وعلى الصَّبر واحتمال الأذى؛ وذلك لأنَّ الإنسان إذا ابتلي بمحنة وبلية ، فإذا رأى له فيه مشاركاً خف ذلك على قلبه؛ كما يقال : المصيبة إذا عمت خفت ، فإذا سمع الرسول صلى الله عليه وسلم هذه القصص ، وعلم أنَّ حال جميع الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- مع أتباعهم هكذا ، سهل عليه تحمل الأذى من قومه ، وأمكنه الصبر عليه .
والفائدة الثانية : قوله { وَجَآءَكَ فِي هذه الحق وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ } .
قوله تعالى : { وَكُلاًّ نَّقُصُّ } في نصبه أوجه :
أحدها : أنه مفعولٌ به ، والمضاف إليه محذوفٌ ، عوض منه التنوين ، تقديره : وكلُّ نبأ نقصُّ عليك .
و « مِنْ أنباءِ » بيانٌ له أو صفةٌ إذا قُدِّر المضاف إليه نكرة .
وقوله : { مَا نُثَبِّتُ بِهِ } يجوز أن يكون بدلاً من : « كُلاًّ » وأن يكون خبر مبتدأ مضمر : أي : هو ما نُثَبِّتُ ، أو منصوبٌ بإضمار أعني .
الثاني : أنه منصوبٌ على المصدر ، أي : كلَّ اقتصاصٍ نقصُّ ، و « مِنْ أنباءِ » صفةٌ : أو بيان ، و « ما نُثَبتُ » هو مفعول « نَقُصُّ » .
الثالث : كما تقدم ، إلاَّ أنه يجعل « ما » صلة ، والتقدير : وكلاًّ نقصُّ من أبناءِ الرُّسُل نُيَبِّتُبه فؤادك ، كذا أعربه أبو حيان وقلا : كَهِي في قوله : { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [ الأعراف : 3 ] .
الرابع : أن يكون « كُلاًّ » منصوباً على الحال من « ما نُثَبِّتُ » وهي في معنى : « جَمِيعاً » وقيل : بل هي حال من الضمير في « بِهِ » وقيل : بل هي حالٌ من « أنْبَاء » وهذان الوجهان إنما يجوزان عند الأخفش ، فإنَّهُ يجيزُ تقديم حال المجرورِ بالحف عليه؛ كقوله تعالى : { والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [ الزمر : 67 ] في قراءة من نصب « مَطويَّاتٍ » وقول الآخر : [ الكامل ]
3042- رَهْطُ ابْنِ كُوزِ مُحْقِبِي أدْراعِهِمْ ... فِيهِمْ ورهْطُ رَبِيعةَ بْنِ حُذَارِ
والمعنى : وكل الذي تحتاجُ إليه من أبناء الرسل ، أي : من أخبارهم ، وأخبار الأمم نقصها عليك؛ لنثبت به فؤادك؛ لنزيدك يقيناً ، ونقوي قلبك ، وذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعها كان في ذلك تقوية لقلبه على الصَّبْرِ لأذى قومه .
{ وَجَآءَكَ فِي هذه الحق } قال الحسنُ وقتادةُ : في هذه الدنيا وقال الأكثرون : في هذه السورة خص هذه السورة تشريفاً ، وإن كان قد جاءه الحق في جميع السور .
وقيل : في هذه الآية .
والمراد به « الحق » البراهين الدَّالة على التَّوحيدِ والعدلِ والنبوة ، « مَوْعظةٌ » أي : وجاءتك موعظة « وذكْرى للمُؤمنينَ » والمرادُ ب « الذكرى » الأعمال الباقية الصالحة في الدَّار الآخرة .
وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
ثم قال تعالى : { وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ } .
وهذا تهديدٌ ووعيدٌ؛ لأنَّه تعالى لمَّا بالغ في الإعذار والإنذار والتَّرغيب والتَّرهيب ، أبتع ذلك بأن قال للرسول - صلوات الله وسلامه عليه- { وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } ولم تؤثر فيهم هذه البيانات البالغة : { اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ } وهذا عين ما حكاه عن شعيب- عليه السلام- أنه قال لقومه { وارتقبوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ } [ هود : 93 ] . والمعنى : افعلوا كلَّ ما تقدرُون عليه في حقِّي من الشر ، فنحن أيضاً عاملون .
وقوله : « اعملُوا » وإن كان صيغته صيغة أمر ، إلاَّ أنَّ المراد به التَّهديد ، كقوله : { واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } [ الإسراء : 4 ] وكقوله : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] « وانتَظِرُوا » ما يعدكم الشيطان من الخذلان ف « إنَّا مُنتَظِرُونَ » ما وعدنا الرَّحمن من أنواع الغفران والإحسان ، قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما- : « وانتَظِرُوا » اهلاك ف « إنَّا مُنتَظِرُونَ » لكم العذاب وقيل : « انتظرُوا » ما يحلُّ بنا من رحمة الله « إنَّا مُنتضِرُونَ » ما يحل بكم من نقمته .
ثم إنَّه تعالى ذكر خاتمة شريفة عالية جامعة لكل المطالب الشَّريفة فقال : { وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض } [ هود : 123 ] أي : علم ما غاب من العبادِ ، أي : أن علمه نافذ في جمعي الكفليات والجزئيات ، والمعدومات ، والموجودات { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّه } في المعاد .
قرأ نافع وحفص « يُرجَع » بضم الياءِ وفتح الجيم ، أي : يرد . وقرأ الآخرون بفتح الياء وكسر الجيم ، أي : يعودٌ الأمرُ كلُّه إليه حتَّى لا يكون للخلق أمر { فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وثق به { وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } قرأ نافع وابن عامر وحفص « تَعْمَلُون » بالخطاب ، لأنَّ قبله « اعْمَلُوا » والباقون بالغيبة رجوعاً على قوله : { لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } وهذا الخلاف أيضاً في آخر النمل .
قال كعبُ الإحبار : خاتمة التَّوارة خاتمة سورة هود روى عكرمة عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما- قال أبو بكر - رضي الله عنه- : يا رسول الله قد شبت ، فقال صلى الله عليه وسلم « شَيَّبتْنِي هُودٌ والواقعةُ ، والمرسلاتُ ، وعمَّ يتَساءَلُون ، وإذا الشَّمسُ كُوِّرَتْ » ويروى : « شَيَّبتْنِي هودٌ وأخواتها » ويروى : « شَيَّبتْنِي هودٌ وأخواتها الحاقَّةُ ، والواقعةُ ، وعمَّ يتساءَلُون ، وهل أتاكَ حديث الغاشيةِ » .
قال الحكيم : الغزع يورث الشَّيْب ، وذلك أنَّ الفزع يذهل النفس فينشف رطوبة الجسدِ ، وتحت كُلِّ شعره منبع ، ومنه يعرق ، فإذا انتشف الفزغُ رطوبته يبست المنابع؛ فَيبس الشَّعر وابيض ، كما ترى الزَّرعَ بسقائه ، فإذا ذهب سقاءهُ يبس فابيض ، وإنَّما يبيض شعر الشيخ لذهاب رطوبته ويُبْس جلده ، فالنفس تذهل بوعيد الله بالأهوال؛ فتبل وينشَّف ماءها ذلك الوعيد والهول الذي جاء به ، ومنه تشيب؛ قال تعالى :
{ يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً } [ المزمل : 17 ] وقال الأصمُّ : ما حلَّ بهم من عاجل أمر الله ، فأهلُ اليقين إذا اتلوها تراءى على قلوبهم من ملكهِ وسلطانهِ البطش بأعدائهِ ، فلو ماتُوا من الفزع لحق له ، ولكن الله - تبارك وتعالى- يلطف بهم في الأيان حتَّى يقرؤوا كلامهُ ، وكذلك لآخر آية في سورة هود ، فإنَّ تلاوة هذه السُّورة ما يكشف لقلوب العارفين سلطانهُ وبطشهُ ما تذهل منه النفوس ، وتشيب منه الرءوس .
قال القرطبيُّ : وقيل : إنِّ الذي شَيَّبَ النبي صلى الله عليه وسلم من سورة « هود » قوله تعالى : { فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ } [ هود : 112 ] وقال عمرو بن أبي عمرو العبادي : قال يزيد بن أبان رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقرأت عليه سورة هود ، فلمَّا ختمتها قال لي « يا يزيدُ قرأت فأيْنَ البُكاء » واسند أبو محمد الدَّارمي في مسنده عن كعب -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اقْرؤُوا سُورة هود يوم الجمعة » والله أعلم .
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)
قوله تعالى : { الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين } قد تقدم الكلام على قوله : { الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين } في أول سورة يونس ، فالإشارة ب « تِلْكَ » إلى آيات هذه السورة على الابتداء اةلخبر .
وقيل : « الر » اسم للسورة ، أي : هذه السورة المسمَّاة : { الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين } والمراد ب « الكِتَاب » : القرآن ، وأما قوله : « المُبِين » فيحتمل أن يكون من بانَ ، بمعنى : ظهر ، أي : المبين حلاله ، وحرامه ، وحدوده ، وأحكامه قال قتادة رحمه الله : « المبين والله بركته ، وهداه ورشده » .
وقال الزجاج : « من أبَان بمعنى : أظهر ، أي : أبان الحقَّ من الباطل ، والحلال من الحرام ، وقصص الأولين والآخرين » . ويحتمل أن يكون من البينونة بمعنى : التَّفريق ، أي : فرَّق بين الحق والباطل ، والحلال والحرام .
قوله تعالى : { إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } يعنى : الكتاب ، في نصب : « قُرْآناً » ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون بدلاً من ضمير « أنْزلْنَاهُ » أو حالاً موطئة منه ، والضمير في : « أنْزَلْنَاهُ » على هذين القولين يعود على الكتاب ، وقيل : « قُرْآناً » مفعول به ، والضمير في « أنْزَلْنَاهُ » ضمير المصدر ، و « عربياً » نعت للقرآنِ ، وجوَّز أبو البقاء : أن يكون حالاً من الضمير في : « قُرْآناً » إذا تحمَّل ضميراً ، يعنى : إذا حعلناهُ حالاً مؤولاً بمشتقِّ ، أي : أنزَلنَاه مُجْتمعاً في حال كونهِ عَربيًّا
والعربيّ منسُوب إلى العرب؛ لأنَّه نزل بلغتهم ، وواحد العرب : عربيٌّ ، كما أن واحد الرُّوم : رُومِيٌّ ، أي : أنزلناه بلغتكم ، لكي تعلمُوا مَعانيَهُ ، وتفهَمُوا ما فيه ، و « عَرَبَة » بفتح الرَّاء ناحية دار إسماعيل عليه السلام قال الشاعر : [ الطويل ]
3043 وعَرْبَةُ أرْضٍ مَا يُحِلُّ حَرامَهَا ... مِنَ النَّاسِ إلاَّ اللَّوذَعِيُّ الحُلاحِلُ
سكن راءها ضرورة؛ فيجوزُ أن يكون العربي منسُوباً إلى هذه البقعة .
فصل
احتج الجُبَّائيُّ بهذه الآية : على كون القرآن مخلوقاً ، لقوله تعالى : { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ } والقديم لا يجوزُ إنزالهُ وتحويله من حالٍ إلى حالٍ؛ ولأنَّه تعالى وصفهُ بكونه : « عَرَبيًّا » والقديم لا يكون عربيًّا؛ ولأنَّ قوله تعالى { إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } يدلُّ على أنَّه سبحانه وتعالى قادرٌ على أن ينزله لا عربيًّا؛ ولأنَّ قوله : { تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين } يدلُّ على أنَّه مركبٌ من الآيات والكلمات ، والمركَّبُ محدثٌ .
قال ابن الخطيب : « والجواب عن هذه الوجوه أن نقول : المركَّب من الحروف والكلمات محدثٌن وذلك لا نزاع فيه ، إنَّما الذي ندَّعي قدمه شيء آخر ، فسقط هذا الاستدلال » .
قوله : { لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } : قال الجبائي : « كلمة » لعَلَّ « نحملها على اللاَّم ، والتقدير : إنَّا أنزلناهُ قُرآناً عربيًّا لتعقلُوا معانيه في أمْر الدِّين ، إذ لايجوز أن يراد ب » لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ « : الشَّكح لأنَّه على الله تعالى محالٌ ، فثبت أنَّ المراد : لكي تعرفوا الأدلَّة ، وذلك يدلُّ على أنَّهُ سبحانه وتعالى ت أراد من كلِّ العباد أن يعقلوا توحيده ، وأمر دينه ، من عرف منهم ، ومن لم يعرف » . قال ابن الخطيب : « والجواب : هَبْ أنَّ الأمْر كمَا ذَكْرتُمْ ، إلاَّ أنَّهُ يدلُّ على أنه تعالى أنزل هذه السورة وأراد منهم معرفة كيفيَّة هذه القصَّة ، لكن لِمَ قلتم : إنَّها تدلُّ على أنه تعالى أراد من الكُلِّ الإيمان والعمل الصالح » ؟ .
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
قوله تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص } الآية .
{ نَحْنُ نَقُصُّ } : مبتدأ وخبر ، والقاصُّك الذي يتتبَّعُ الآثار ويأتي بالخبر على وجهه ، قال تعالى : { وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ } [ القصص : 11 ] ، أي : أتَّبعي أثره ، { فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً } [ الكهف : 64 ] ، أي اتِّباعاًنن وسميت الحكايةَ قصصاً؛ لأنَّ الذي يقصُّ الحديث ، يذكرُ تلك القصَّة شيئاً فشيئاً ، كما يقال : تلا القرآنَ إذا قرأهُ؛ لأنَّه يتلُو ، أي : يتبعُ ما حَفِظَ مِنهُ آيةً بعد آيةٍ ، والمعنى : نُبين لكَ أخبارَ الأممِ السَّالفةِ ، والقرُونِ الماضية .
روى سعدُ بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه قال : لمَّا أنْ نَزلَ القُرآنُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتَلاهُ عَليْهِمْ زمَاناً ، فقالوا : يَا رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لوْ حَدَّثتنَا ت فأنْزَل اللهُ عز وجل ذكره { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث } [ الزمر : 23 ] فقالوا : يا رسول الله ، لو ذكرتنَا ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله } [ الحديد : 16 ] .
قوله : { أَحْسَنَ القصص } في انتصابه وجهان :
أحدهما : أن يكُونَ منصُوباً على المفعول به ، وذلك إذا جعلتَ القصص مصدراً واقعاً موقع المفعول ، كالخلقِ بمعنى : المخلُوقِ ، أو جعلته فعلاً بمعنى : مفعُول ، كالقَبْضِ ، والنَّقْضِ بمعنى : المَقْبُوض ، والمَنْقُوض ، أي : نقصُّ عليك أحسن الأشياءِ المقتصةن فيكون معنى قوله : { أَحْسَنَ القصص } : لِمَا فيه من العبرة ، والنُّكتة ، والحكمةِ ، والعجائب التي ليست في غيرها .
فإحدى الفوائد في هذه القصة : أنه لا دافع لقضاءِ الله ، ولا مانع من قدر الله ، وأنَّهُ تعالى إذا قضى لإنسان بخير؛ فلو اجتمع العالمُ ، لمْ يقدروا على دفعه .
والفائدة الثانية : أنََّهَا تدلُّ على أنَّ الحسد سببُ الخُذلانِ ، والنُقصَانِ .
والفائدة الثالثة : أنَّ الصَّبر مفتاحُ الفرج ، كما في حقِّ يعقُوب عليه الصلاة والسلام؛ فإنَّه لما صبر ، نال مقصُوده ، وكذلك يُوسُف صلوات الله وسلامه عليه .
والوجه الثاني : أن يكون منصوباً على المصدر المبين ، إذا جعلتَ القصص مصدراً غير مراد به المفعُول ، ويكون المقصُوص على هذا محذوفاً ، أي : نقُصُّ عليك أحسن الاقتصاص .
وعلى هذا؛ فالحسنُ يعُود إلى حسن البيان ، لا إلى القصَّة ، والمراد بهذا الحسن : كون هذه الألفاظ فصيحة بالغة في الفصاحة إلى حدِّ الإعجاز ، ألا ترى أنَّ هذه القصَّة مذكورةٌ في كمتب التَّواريخ ، مع أنَّ شيئاً منها لا يشبه هذه السورة في الفصاحة ، والبلاغة .
و « أحْسَنَ » : يجوز أن يكون : أفعل تفضيل على بابها ، وأن يكُون لمُجرَّد الوصف بالحسن ، وتكون من باب إضافة الصِّفة لموصوفها ، أي : القصص الحسن .
قال العلماء رضي الله عنهم : ذكر الله أقاصيصَ الأنبياء في القرآن ، وكرَّرها بمعنى واحدٍ ، في وجوهٍ مختلفة ، بألفاظ متباينة على درجات المبالغة ، وقد ذكر قصة يوسف عليه الصلاة والسلام ولم يكرِّرها؛ فلم يقدر مخالفٌ على معارضة ما تكرر ، ولا على معارضة غير المتكرِّر .
فصل
قال القرطبي : وذكر العُلماءُ لكَوْنِ هذه القصَّة أحسنَ القصصِ وجوهاً :
أحدها : أنه ليست قصَّة في القرآن تتضمنُ من العبر والحكم ، ما تتضمن هذه القصَّة؛ لقوله تعالى في آخرها { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب } [ يوسف : 111 ] .
وثانيها : لحُسن مجاوزة يوسف إخوته ، وصبْرِه على أذاهُم ، وعفوه عنهُم بعد التقائهم عن ذكر فعلهم ، وكرمه في العفو عنهُم ، حتَّى قال : { لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ اليوم } [ يوسف : 92 ] .
وثالثها : أن فيها ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصَّالحين ، والملائكة ، والجنِّ ، والشياطين ، والإنس ، والطيرِ ، وسير الملوكِ ، والمماليكِ ، والتُّجارِ ، والعلماءِ ، والجهال ، والرِّجال ، والنِّساء وحيلهنَّ ومكرهنَّ ، وذكر التَّوحيد ، والفقهِ ، والسِّير ، وتعبيرِ الرُّؤيا ، والسِّياسةِ ، والمعاشرةِ ، وتدبير المعاشِ ، وجُمَل الفوائد تصلُح للدِّين والدُّنيا .
ورابعها : أنَّ فيها ذكر الحبيب ، والمحبُوب ، وسيرهما .
وخامسها : أنَّ « أحْسنَ » هنا بمعنى : أعجب .
وسادسها : سُمِّيت أحسن القصص؛ لأنَّ كل من ذكر فيها كان مآله إلى السَّعادة ، وانظُر إلى يوسف ، وأبيه وإخوته ، وامرأة العزيز ، قيل : والملكُ أيضاً أسلم بيُوسُف ، وحسن إسلامهُ ، ومستعبر الرؤيا ، والسَّاقي ، والشَّاهد فيما يقال ، فما كان أمْر الجَمِيع إلاَّ إلى خير ، والله تعالى أعلم .
قوله : { بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } « الباء سببيَّة » ، وهي متعلقةٌ ب « نَقُصُّ » و « مَا » مصدريَّة ، أيك بسبب إيحائنا « .
قوله : { هذا القرآن } يجوز فيه وجهان :
أظهرهما : أن ينتصب على المفعولية ب » أَوْحَيْنَا « .
والثاني : أن تكون المسألة من باب التنازع ، أعني : بَيْن » نَقُصُّ « وبين » أوْحَيْنَا « فإن كلاًّ منهما يطلب » هذا القُرآنَ « وتكون المسألةُ من إعمال الثاني ، وهذا إنما يتأتَّى على جعلنا » أحْسنَ « : منصوباً على المصدر ، ولم يقدَّر ل » نَقُصُّ « مفعولاً محذوفاً .
قوله : { وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين } [ يوسف : 3 ] تقدّم إعراب نظيره ، والمعنى : قد كنت من قبله ، أي : من قبل وحينان لمن الغافلين ، أي : لمن الساهين عن هذه القصَّة لا تعلمُهَا .
وقيل : لمن الغافلين : عن الدِّين والشَّريعة قبل ذلك ، كقوله تعالى : { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان } [ الشورى : 52 ] .
قال بعض المفسرين : سمى قصَّة يُوسف خاصَّة أحسن القصص؛ لما فيها من العبر ، والحكم ، والنُّكتِ ، والفوائد التي تصلْح للدِّين والدُّنيا ، من سير الملوكِ ، والمماليكِ ، والعلماء ، ومكرِ النِّساء ، والصبْر على أذى الأعداء ، وحسن التَّجاوزِ عنهم بعد الالتقاء ، وغير ذلك من الفوائد .
قال خالد بن معدان : » سورة يوسف ، وسورة مريم يتفكَّه بهما أهل الجنَّة في الجنَّة « .
وقال عطاء رحمه الله : » لا يَسْمع سُورةَ يُوسف محْزُونُ إلا استراح لهَا « .
قوله تعالى : { إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ } الآية .
رُوِي أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين : سلْوا محمَّداً لم انتقل يعقوب من الشَّام إلى مصر؟ وعن كيفيَّة قصَّة يوسف؟ فأنز الله تعالى هذه السورة .
وفي العامل في « إذْ » أوجهٌ :
أظهرها : أنه منصُوب ب « قَالَ يَا بُنَيَّ » أي : قال يعقوب : يا بني وقت قول يُوسف لهُ : كَيْتَ وكَيْتَ ، وهذا أسهل الوجوه؛ إذ فيه إبقاء « إذْ » كونها ظرفاً ماضياً .
وقيل : الناسب له : « الغَالفينَ » قاله مكيٌّ .
وقيل : هو منصوبٌ ب « نَقُصُّ » أي : نقصُّ عليك وقتَ قوله كَيْتَ وكَيْتَ ، وهذا فيه [ إخراج ] « إذْ » عن المضيِّ ، وعن الظرفيَّة ، وإن قدَّرت المفعول محذوفاً ، أي : نقصُّ عليك الحال وقت قوله ، لزم أخراجها عن المضيِّ .
وقيل : هو منصوب بمضمر ، أي : اذكُر .
وقيل : هو منصُوب على أنَّه بدل من « أحسن القصص » بدل اشتمال .
قال الزمخشري : « لأنَّ الوقت يشتمل على القصص وهو المقصوص » و « يُوسفُ » اسم عبرانيٌّ ، ولذلك لا ينصرف ، وقيل : هو عربيٌّ ، فقال الزمخشريُّ : « الصَحيحُ أنه اسم عبرانيٌّ؛ لأنه لو كان عربيًّا ، لانصرف » وسئل أبو الحسن الأقطع عن الأسف فقال : « الأسف في اللغة : الحُزن ، والأسف : العَبْد ، واجتمعا في يوسف؛ فسُمِّي بهما » .
روي ابن عمر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : « الكَرِيمُِ ابنُ الكَريمِ ابْنِ الكريمِ ابن الكريم ، يُوسف بنُ يعقُوبَ بنِ إسحاقَ بنِ إبْراهيمَ صَلواتُ اللهِ وسلامه عليهم أجمعين » .
قوله : « يَا أبَتِ » قرأ ابن عامر : بفتح التَّاء ، والباقون بكسرها ، وهذه التَّاء عوض عن ياء المتكلم؛ ولذلك لا يجوز الجمع بينهما .
وهذا مختصٌّ بلفظتين : يا أبَتِ ويَا أمَّتِ ، ولا يجُوز في غيرهما من الأسماء ، لو قلت : « يَا صَاحِبتِ » لم يجُز ألبتَّة؛ كما اختصَّت لفظة الأم والعم بحكم في نحو : « يا ابْنَ أمَّ » ويجوز الجمع بين هذه التَّاء ، وبين كلِّ من الياءِ والألفِ ضرورةً؛ كقوله : [ الرجز ]
3044 يَا أبَتَا عَلَّكَ أوْ عَسَاكَا ... وقول الآخر : [ المتقارب ]
3045 أيَا أبَتَا لا تَزْلْ عِنْدنَا ... فإنَّا نَخافُ بأنْ تُخْتَرَمْ
وقول الآخر : [ الطويل ]
3046 أيَا أبَتِي لا زلْتَ فينَا فإنَّمَا ... لنَا أمَلٌ فِي العَيْشِ ما دُمْتَ عَائِشَا
وكلامُ الزمخشريِّ يؤذن بأنَّ الجمع بين التَّاء والألفِ ليس ضرورةً؛ فإنَّه قال : « فإن قلت : فما هَذه الكسْرة؟ قلتُ : هي الكسْرة الَّتي كَانتْ قبل الياءِ في قولك : » يا أبي « قد زُحلقَتْ إلى التاء؛ لاقتضاء تاءِ التَّأنيث أن يكُون ما قبْلَها مفتوحاً .
فإن قلت : فما بالُ الكسرة لم تَسْقُطْ بالفَتْحَة الَّتي اقْتَضَتْهَا التَّاء ، وتبقَى التَّاءُ ساكنةً؟ .
قلت : امتنع ذلك فيها؛ لأنَّها اسم ، والأسماءُ حقُّها التحريكُ؛ لأصالتها في الإعراب ، وإنما جاز تسكينُ الياء ، وأصلها أن تحرَّك تخفيفاً؛ لأنها حرف لين ، وأما التاء ، فحرفٌ صحيحٌ ، نحو كافِ الضمير؛ فلزم تحريكها .
فإن قلت : يشبه الجمع بين هذه التَّاء وبين هذه الكسرة الجمع بين العوض والمعوَّض منه؛ لأنَّها في حكم الياء ، إذا قلت : يا غُلام ، فكَمَا لا يَجُوز : « يا أبتي » لا يجوز « يا أبتِ » قلت : الياءُ والكسرة قبلها شيئان ، والتَّاء عوض من أحد الشيئين ، وهو الياء ، والكسرة متعرَّض لها؛ فلا يجمع بين العوض والمعوَّض منه ، إلا إذا جُمِعَ بين التَّاء والياء لاغير؛ ألا ترى إلى قولهم : « يَا أبَتَا » مع كونِ الألف فيه بدلاً من الياءِ ، كيف جاز بينها وبين التاء ، ولم يعدَّ ذلك جمعاً بين العوض والمعوَّض منه؟ فالكسرة أبعد من ذلك .
فإن قلت : قد دلَّت الكسرة في « يا غُلام » على الإضافة؛ لأنَّها قرينة الياءِ ولصيقتها ، فإن دلَّت على مثل ذلك في : « يا أبت » فالتَّاء الَمعوَّة لغو ، وجودها كعدمها .
قلت : [ بل ] حالها مع التَّاء كحالها مع الياءِ إذا قلت : « يا أبِي » .
وكذا عبارة أبي حيَّان ، فإنه قال : وهذه التَّاء عوض من ياءِ الإضافة فلا تجتمعان ، وتجامع الألف التي هي بدل من التاء ، كما قال : [ الرجز ]
3047 يَا أبَتَا عَلَّكَ أوْ عَسَاكَا ... وفيه نظر؛ من حيث إن الألف كالتاء لكونها بدلاً منها ، فينبغي أن لا يجمع بينهما ، وهذا تاء أصلها للتأَنيث .
قال الزمخشريُّ : « فإن قلتك ما هذه التَّاء؟ قلتك تاءُ التأنيث وقعت عوضاً من ياء الإضافة ، والدَّليل على أنَّها تاء التَّأنيث : قلبُهَا هاءً في الوقف » .
قال شهاب الدِّين : وما ذكرهُ من كونها تقلب هاءً في الوقف ، قرأ به ابنُ كثير ، وابن عامرٍ ، والباقُون وقفوا عليها بالتَّاء ، كأَنَّهم أجروها مجرى تاء الإلحاق في « بِنْت وأخْت » وممن نصَّ على كونهخا للتَّأنيث : سيبويه؛ فإنه قال : « سَألْت الخليل عن التَّاء في : » يَا أبتِ « فقال : هي بِمنزِلَة التَّاء في تاء » يا خالة وعمَّة « يعنى : أنَّها للتَّأنيث » ويدلُّ أيضاً على كونها للتأنيث : كتبُهم إيَّاها هاءً ، وقياس من وقف بالتَّاء : أن يكُبهَا تاء ، ك « بِنْت وأخْت » .
ثم قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز إلحاق تاءِ التَّأنيث بالمذكَّر؟ .
قلت : كما جاز نحو قولك : حمامة ذكر ، وشاةٌ ذكر ، ورجل ربعة ، وغلامٌ يفعة قلت : يعني : أنها جيء بهَا لمُجرَّد تأنيث اللفظ ، كما في الأسماء المستشهد بها .
ثم قال الزمخشري : « فإن قلت : فلم ساغ تعويض تاءِ التأنيث من ياءِ الإضافة؟ .
قلت : لأن التأنيث والإضافة تناسبان؛ في أنَّ كل واحدٍ منهما زيادة مضمومة إلى الاسم في آخره » .
قال شهاب الدين : « وهذا قياسٌ بعيدٌ لا يعمل به عند الحُذاق ، فإنَّه يسمَّى الشَّبه الطَّردِي ، أي : أنه شَبَهٌ في الصُّورة » .
وقال الزمخشري : « إنه قرىء » يَا أبتِ « بالحركات الثلاث :
فأما الفتح والكسر فقد تقدَّم ذكر من قرأ بهما .
وأما الضم فغريبٌ جدًّا وهو يشبه من يبني المنادى المضاف لياء المتكلِّم على الضمِّ؛ كقراءة من قرأ : { قَالَ رَبِّ احكم بالحق } [ الأنبياء : 112 ] بضم الباء ، وسيأتي توجيهها هناك إن شاء الله تعالى ولما قلنا : إنَّه مضافٌ للياءِ ، ولم نجعله مفرداً من غير إضافةٍ . وقد تقدَّم توجيهُ كسر هذه التَّاء بما ذكره الزمخشريُّ من كونها هي الكسرة التي قبل الياء زحلقت إلى التاء وهذا أحدُ المذهبين .
والمذهبُ الآخر : أنَّها كسرة أجنبيَّة ، جيء بها لتدُلَّ على الياءِ المعوَّض منها . فأما الفتح ففيه أربعة أوجه ، ذكر الفارسي منها وجهين :
أحدهما : أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف المنقلبة عن الياءِ؛ كما اجتزَأ عنها الآخرْ بقوله : [ الوافر ]
3048 ولَسْتُ بِراجِعٍ ما فَاتَ منِّي ... بِلهْفَ ولا بِليْتَ ولا لَوَنِّي
وكما اجتزأ بها في : » يَا بْنَ أمَّ « و » يَا بْنَ عَمّ « .
والثاني : أنه رخم بحذف التاء ، ثم اقحمت التَّاءُ مفتوحة؛ كقول النابغة الجعديِّ : [ الطويل ]
3049 كِلِينِي لِهمِّ يا أمَيْمةَ نَاصبِ ... وليْلٍ أقَاسيهِ بَطيءِ الكَواكبِ
بفتح تاء أميمة .
الثالث : ما ذكره الفرَّاء ، وأبو عبيدة ، وأبو حاتم ، وقطرب في أحد قوليه : وهو أن الألف في : » يَا أبَتَا « للنُّدبة ، ثم حذفها مجتزئاً عنها بالفتحة ، وهذا قد ينفع في الجواب بين العوض والمعوض منه ، ورد بعضهم هذاح بأنَّ المضع ليس موضع نُدبة .
الرابع : أن الأصل » يا أبَة « بالتنوين ، فحذف التنوين ، لأنَّ النداء بابُ حذفٍ ، وإلى هذا ذهب قطرُب في القول الثاني .
وردَّ هذا : بأ ، التَّنوين لا يحذف من المنادى المنصُوب نحو : » يَا ضَارِباً رجُلاً « .
وقرأ أبو جعفر : » يا أبِي « بالياءِ ولم يعوض منها التَّاء ، وقرأ الحسن ، والحسين ، وطلحة بن سليمان ، رضي الله عنهم » أحَدَ عَشَر « بسُكُون العين؛ كأنهم قصدّوا التنبيه بهذا التَّخفيفِ على أنَّ الاسمين جُعِلا اسماً واحداً .
قوله { والشمس والقمر } يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن تكون الواو عاطفة ، وحينئذ : يحتمل أن يكُون من باب ذكر الخاصِّ بعد ذكر العام تفصيلاً له؛ لأن الشَّمس والقمر دخلا في قوله : { أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً } فهذا كقوله : { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] بعد قوله : » ومَلائِكتهِ « ويحتمل أن لا تكون كذلك ، وتكون الواوُ لعطف المغايرة؛ فيكون قد رأى الشمس والقمر زيادة على ال » أحَدَ عَشَرَ « ومن جملتها الشمس والقمر ، وهذان الاحتمالان نقلهما الزمخشريُّ .
والوجه الثاني : أن تكون الواو بمعنى : » مَعَ « إلا أنَّه مرجوحٌ؛ لأنَّه متى أمكن العطف من غير ضعفٍ ، ولا أخلال بمعنى ، رُجِّح على المعيَّة؛ وعلى هذا فيكون كالوجه الذي قبله ، بمعنى : أنه رأى الشمس ، والقمر زيادةً على الأحد عشر كوكباً .
قوله : { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أنَّها جملة كُرِّرت للتوكيد؛ لما طال الفصل بالمفاعيل ، كما كُرِّرت « أنكُم » في قوله تعالى : { أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } [ المؤمنون : 35 ] . كذا قالهُ أبو حيَّان ، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى .
والثاني : أنه ليس [ بتأكيد ] ، وإليه نحا الزمخشريُّ؛ فإنه قال : « فإن قلت : ما معنى تكرار » رَأيْتُمْ « ؟ قلتُ : ليس بتكرار؛ إنَّما هو كلام مُستأنَف على تقدير سؤال وقع جواباً له؛ كأنَّ يعقُوب عليه الصلاة والسلام قال لهُ عند قوله : { إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر } كيف رأيتها؟ سائلاً عن حال رؤيتها ، فقال : ( رأيتهم لي ساجدين ) وهذا أظهر؛ لأنَّه متى دار الكلام بين الحمل على التأكيد والتأسيس ، فحمله على التَّأسيس أولى » .
و « سَاجِدينَ » : صفة جُمِعَ جَمْ العقلاء ، فقيل : لأنَّه لما عاملهُم معاملة العقلاء في إسناد فعلهم إليهم ، جمعهم جمع العقلاء ، فقيل : لأنَّ الشيء قد يعامل مُعالمة شيء آخر ، إذا شاركه في صفةٍ ما؛ كما قال في صفة الأصنام : { وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [ الأعراف : 198 ] ، وكقوله عز وجل : { ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ } [ النمل : 18 ] .
والرُّؤية هنا : مناميَّة ، وقد تقدم أنَّها تنصب مفعولين؛ كالعلميَّة؛ وعلى هذا قد حذف المعفول الثاني من قوله : { رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً } ، ولكن حذفه اقتصاراً ممتنع ، فلم يبق إلا اختصاراً ، وهو قليلٌ ، أو ممتنع عند بعضهم .
وقال بعضهم : إن إحداهما من الرُّؤية ، والأخرى من الرُّؤيا .
قال القفَّال : ذكر الرُّؤية الأولى؛ ليدل على أنَّه شاهد الكواكبِ ، والشَّمس والقمر ، والثانية؛ ليدل لا على مشاهدة كونها ساجدة لهُ .
فصل
ذكر المفسرون : أنَّ يوسف عليه السلام رأى في المنام أحد عشر كوكباً ، والشمس والقمر يسجدون لهُ ، كان لهُ احد عشر من الإخوة يُسْتضاء بهم؛ كما يُسْتضاء بالنُّجوم ، ففسَّر الكواكب : بالإخوة ، والشمس والقمر : بالأب والأم ، والسجُود : بتواضعهم له ، ودخولهم تحت أمره ، وإنما حملنا الرُّؤية على رُؤية المنام؛ لأن الكواكب لا تسجُج في الحقيقَةن ولقول يعقوب عليه الصلاة والسلام : { لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ } .
وقال السديُّ : « القمر : خالته ، والشَّمسُ : أبُوه؛ لأن أمَّه راحِيل كانت قد ماتت » .
وقال ابن جريج : القَمَر : أبُوه ، والشَّمسُ أمُّه؛ لأن الشمس مؤنثة ، والقمر مذكَّر .
وقال وهب بن مُنبِّه رضي الله عنه : « إن يُوسفُ عليه الصلاة والسلام ت رأى وهو ابنُ سبع سنين ، إحدى عشرة عصاً طوالاً كانت مركُوزة في الأرض كهيئة الدَّائرة ، وإذا عَصاً صغيرة وثبت عليها حتى اقتلعتها ، فذكر ذلك لأبيه؛ فقال : إيَّاك أن تذكر هذا لإخوتك ، ثمَّ رأى وهو ابن اثنتي عشرة سنة ، الشَّمس ، والقمر والكواكب ، تسجُد له؛ فقصَّها على أبيه؛ فقال : لا تذكرها له فيَكيدُوا لَك كَيْداً » .
روى الزمخشريُّ : رحمه الله : « أن يهُودِيًّا جاء إلى النبيِّ صلى الله عليه سولمن فقال يا محمَّد : أخبرني عن النُّجُوم التي رآهُن يوسف ، فسكت النبي عليه الصلاة والسلام ؛ فنزل جبريل عليها لسلام فأخبره بذلك؛ فقال عليه الصلاة والسلام لليهوديَّ : إن أخبرتك بذلك هل تسلم؟ قال : نَعمْ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم : حرثان ، والطارق والذيال ، وقابس ، وعمودان ، والفليق ، والمصبح ، والقرع ، والضروح ووثاب ، وذو الكتفين رآها يوسف ، والشمس والقمر [ نَزلْنَ ] من السَّماء ، وسجدن لهُ ، فقال اليهوديُّ : أي والله إنَّها لأسماؤها » .
واعلم ان كثيراً من هذه الأسماء غير مذكورة في الكتب المصنفة في صُور الكواكب .
فصل
زعمت طائفةٌ من العلماء : أ ، ه لم يكن في أولاد يعقُوب نبيٌّ غير يُوسف عليه الصلاة والسلام وباقي إخوته لم يوح إليهم ، واستدلُّوا بظاهر ما ذُكر من أفعالهم ، وأحوالهم في هذه القصَّة ، ومن استدلَّ على نُبوتهم ، استدلَّ قوله تعالى : { آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط } [ البقرة : 136 ] وزعم أنَّ هؤلاء : هم الأسباط ، وهذا استدلال ضعيفٌ؛ لأن المراد بالأسباط : شُعوب بني إسرائيل ، ما كان يوجد فيهم من الأنبياء الذين نزل عليهم الوحي ، وأيضاً : فإنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام هو المخصُوص من بين إخوته بالنبوة والرسالة؛ لأنَّه نصَّ على نُبوَّته ، والإيحاء إليه في آيات من القرآن ولم ينصَّ على أحد إخوته سواه؛ فدلَّ على ما ذكرنا .
فصل
في الآية دليل على تحذير المسلم أخاهُ المسلم ، ولا يكُون ذلك داخلاً في معنى الغيبة؛ لأنَّ يعقُوب قد حذَّر يوسف أن يقُصَّ رُؤياه على إخوته؛ فيَكِيدُوا لهُ كيْداً ، وفيها أيضاً : دليل على جواز ترك إظهار النِّعمة عند من يخشى غائلته حسداً ، وفيها أيضاً : دليلٌ على مع رفة يعقُوب عليه الصلاة والسلام بتأويلِ الرُّؤيا؛ فإنه علم من تأويلها : أنَّه سيظهر عليْهم .
قوله { لاَ تَقْصُصْ } قرأ حفص : « يا بُنيَّ » بفتح الياء ، والباقون بكسرها ، وقرأ العامة : بفك الصادين ، و هي لغةُ الحجاز ، وقرأ زيد بن عليك بصادٍ واحدةٍ مشددة ، والإدغام لغة تميم ، وقد تقدَّم تحقيق هذا في المائدة ، عند قوله : { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ } [ المائدة : 54 ] والرُّؤيا مصدر كالبُقْيَا .
وقال الزمخشريٌّ : « الرُّؤيا بمعنى : الرُّؤية ، إلا أنَّها ختصةٌ بما كان في النَّوم دون اليقظة ، فُرِّق بينهما بحرفي التأنيث؛ كما قيل : القربة والقربى » .
وقرأ العامَّة : « الرُّؤيا » مهموزة من غير إمالة ، وقرأها الكسائيُّ في رواية الدُّوريِّ عنه بالإمالةِ : وأما ( الرؤيا ) [ يوسف : 100 ] : و « رُؤيَاي » الاثنتان في هذه السورة ، فأمالهما الكسائيُّ من غير خلافِ في المشهور ، وأبو عمرو يبدل هذه الهمزة واواً في طريق السوسيِّ .
وقال الزمخشري : وسمع الكسائيُّ : « رُيَّايَ وريَّاكَ » بالادغام ، وضم الرَّاء ، وكسرها ، وهي ضعيفة؛ لأن الواو في تقدير الهمزة؛ فلم يقو إدغامها؛ كما لم يقو إدغام « اتَّزَر » من الإزراِ ، و « اتَّجرَ » من « الأجْر » .
يعنى : أن العارض لا يعتدُّ به ، وهذا هو الغالبُ ، وقد اعتدَّ القراء بالعارض في مواضع يأتي بعضها إن شاء الله تعالى نحو قوله : « رِئْياً » في قوله : { أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً } [ مريم : 74 ] عند حمزة ، و { عَاداً الأولى } [ النجم : 50 ] وأما كسر « ريَّاكَ » فلئلا يُؤدِّي إلى ياء ساكنة بعد ضمَّة ، وأما الضمُّ فهو الأصل ، والياء قد استهلكت بالإدغام .
قوله « فيَكِيدُوا » : منصُوب في جواب النَّهي ، وهو في تقدَير شرطٍ وجزاءٍ ، وذلك قدَّره الزمخشريُّ بقوله : « إن قصَصْتهَا عليْهِم كادُوكَ » .
و « كَيْداً » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه مصدر مؤكدٌ ، و على هذا ففي اللام في قوله : « لَكَ » خمسة أوجه :
أحدها : أن يكون « يَكيدُ » ضمن معنى ما يتعدَّى باللاَّم؛ لأنَّه في الأصل يتعدَّى بنفسه ، وقال : { فَكِيدُونِي جَمِيعاً } [ هود : 55 ] والتقدير : فيحتالوا لك بالكيد .
قال الزمخشري مقدِّراً لهذا الوجه : « فإن قلت : هلا قيل : فَيَكيدُوكَ » كما قيل : الفعل المضمَّن ، فيكون آكد وأبلغ في التَّخويف ، وذلك نحو : فيَحْتالُوا لك؛ ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر « .
الوجه الثاني من أوجه اللاَّم : أن تكون اللاَّم معدية ، ويكون هذا الفعل ممَّا يعتدَّى بحرف الجرِّ تارة ، وبنفسه أخرى؛ ك » نَصَحَ « و » شَكَرَ « كذا قالهُ أبو حيَّان ، وفيه نظر؛ لأنَّ ذلك باب لا ينقاس ، إنَّما يقتصر فيه على ما ذكره النُّحاة ، ولم ْ يذكُروا منه كَادَ .
والثالث : أن تكون اللاَّمُ زائدة في المفعول به؛ كزيادتها في قوله : { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] ، قاله أبو البقاء؛ وهو وضعيفٌ؛ لأن اللام لا تزاد إلا بأحد شرطين : تقديم المعمول ، أو كون العامل فرعاً .
الرابع : أن تكون اللام للعلَّة ، أي : فيَكِيدوا لأجْلِك؛ وعلى هذا فالمفعُول محذوفٌ اقتصاراً ، أو اختصاراً .
الخامس : أن تتعلَّق بمحذُوف؛ لأنَّها حالٌ من » كَيْداً « إذ هي في الأصل يجوز أن تكون صفة له لو تأخَّرت .
الوجه الثاني من وجهي » كَيْداً « : أن يكون مفعولاً به ، أي : فيصنعوا لك كيداً ، أي : أمراً يكيدُونك به ، وهو مصدر في موضع الاسم ، ومنه : { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ } [ طه : 64 ] ، أي : ما تكيدُون به؛ ذكره أبو البقاء ، وعلى هذا ففِي اللاَّم في : » لَكَ « وجهان فقط : كونُها صفة في الأصل ، ثم صارت حالاً ، أو هي للعلَّة ، وأما الثلاثة الباقية ، فلا تتأتَّى بعد ، فامتناعها واضحٌ .
ثمّ قال : { إِنَّ الشيطان لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } أي : يزيِّن لهم الشيطان ، ويحملهم على الكيد بعداوته القديمة .
فصل
قال أبو سلمة : كنت أرى الرُّؤيا تهُمُّنِي ، حتى سمعتُ أبا قتادة يقول : كنت أرى الرُّؤيا ، فتُمْرضُنِي ، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « الرُّؤيا الصَّالحة من الله ، فإذا رأى أحَدكُمْ ما يُحِبُّ ، فلا يُحدِّثْ به إلاَّ من يحبُّ ، وإذا رَأى ما يكرهُ ، فلا يُحدِّثْ به ، وليتفُل عن يساره ، وليَتَعوَّذْ باللهِ من الشيطانِ الرَّجيم ، من شر ما رأى فإنَّها لنْ تَضْره » وقال صلى الله عليه وسلم : « الرُّؤيا جُزءٌ من أربعينَ أو ستَّة وأربعينَ جُزءاً من النُّبوَّةِ ، وهيَ على رجل طائرْ فإذا حدَّث بها وقعتْ » . قال الراوي : وأحسبه قال : « لاتُحدِّثْ بِهَا حَبِيباً ، أوْ لَبِيباً » .
قال الحكماء : الرؤيا الرَّديئة يظهرُ تعبيرُها عن قُرب ، والرُّؤيا الجيَّدة ، إنَّما يظهر تعبيرُها بعد حين ، قالوا : والسَّبب فيه أنَّ رحمة الله تقتضي ألاَّ يحصل الإعلام بوصُول الشَّر ، إلا عند قُرب وصُوله حتى يقل الحُزْنُ ، والغَمُّ الحاصِل بسبب توقُّعِه ، وأمَّا الإعلام بالخير ، فإنه يحصُل متدِّماً على ظهوره ، بزمانٍ طويلٍ؛ حتى يكون السُّرورُ الحاصِل بسبب توقُّع حصُولهِ كَثِيراً .
فصل
قال القرطبيُّ : « الرُّؤيا حالةٌ شريفة ، ومنزِلةٌ رفيعَةٌ ، قال صلى الله عليه وسلم : » لَمْ يَبقَ بعدي من المبشراتِ إلاَّ الرُّؤيا الصَّالحة ، يَراهَا [ الرجل ] الصَّالحُ ، أو ترى له « وقال صلى الله عليه وسلم : [ أصْدقُكم رُؤيَا ، أصدقكُمْ حَديثاً ، وحكم صلى الله عليه وسلم ] بأنَّها جزءٌ من ستَّةٍ وأرْبعينَ جُزءاً من النُّبوَّة وروي : من سبعين ، وروي : من [ تسعة ] وأرْبعينَ ، وروي : من خَمسِينَ جُزءاًن ورويك من ستَّةٍ وعشْرينَ جُزءاً من النُبوَّةِ ، وروي : من أرْبعينَ ، والصحيح : حديث السِّت والأربعين ، ويتلوه في الصِّحة حديث السَّبعين .
فإن قيل : إن يوسف عليه الصلاة والسلام ت كان صغيراً ، والصغير لا حكم لفعله ، فكيف يكون لرُّؤياه حكم ، حتى يقول له أبو : { لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ } .
فالجواب : أن الرُّؤيا إدراكُ حقيقةٍ ، فتكون من الصَّغير كما يكُون منه الإدراك الحقيقيُّ في اليقظة ، وإذا أخبر عمَّا رأى في اليقظة ، صدق؛ فكذلك إذا أخبر عمَّا رأى في المنامِ ، ورُوِي : أن يوسف عليه الصلاة والسلام كان ابن اثنتي عشر سنة .
فصل
في الآية دليلٌ على أن الرُّؤيا لا تقصُّ على غير شقيق ولا ناصح ، ولا على امرىءٍ لا يحسن التأويل فيها .
وروى الترمذيُّ : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » الرُّؤيا برجْل طائرْ ، ما لَمْ يحدِّث بها صَاحبُهَا ، فإذا حدَّث بها ، وقعتْ ، فلا تُحدِّثُوا بهَا إلا عارفاً ، أو مُحبًّا ، أوْ ناصحاً « .
قوله { وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } الكاف في موضع نصب ، أو رفع .
فالنَّصبُ إما على الحال من ضمير المصدر المقدَّر ، وقد تقدم أنه رأي سيبويه ، وإمَّا على النعت لمصدر محذوف ، والمعنى : مثل ذلك الاجتباء العظيم يجتبيك .
والرَّفع على أنَّه خبر ابتداء مضمر ، يعني : الأمر كذلك ، وقد تقدم نظيره .
قوله : { وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث } مستأنف ليس داخلاً في حيِّز التشبيه ، والتقدير : وهو يعلمك ، والأحاديث : جمع تكسير ، فقيل : لواحد ملفوظٍ به ، وهو « حَدِيث » ولكنَّه شذَّ جمعه على : أحاديث ، وله أخوات في الشُّذُوذ؛ كأباطيلنو أقَاطِيع ، وأعَارِيض ، في « بَاطل وقَطيع وعَروض » .
[ وزعم ] أبو زيد : « أن لهَا واحداً مقدراً ، وهو » أحْدُوثة « ونحوه ، وليس باسم جمع؛ لأن هذه الصِّغة مختصًّة بالتكسير ، وإذا كانوا قد التزمُوا ذلك فيما لم يصرح له مفردٌ من لفظه ، نحو : » شَماطِيط « ، و { أَبَابِيلَ } [ الفيل : 3 ] ففي أحاديث أولى » .
ولهذا ردَّ على الزمخشري قوله : « وهي اسمُ جمع للحديث ، وليس بجمع أحدوثة » بما ذكرنا ، ولكن قوله : « ليس بجمع أحدُوثة » صحيح؛ لأن مذهب الجمهُور خلافه ، على أنَّ كلامه قد يُريد به غير ظاهره من قوله : « اسم جمع » .
فصل
قال الزجاج : الاجتباء مشتقٌّ من جببتُ الشيء : إذا أخلصته لنفسِك ، ومنه : جَبُبت الماء في الحوض ، والمعنى : كما رفع منزلتك بهذه الرُّؤيَا العظيمة الدَّالة على الشَّرفِ والعز ، كذلك يَجْتَبِيك ربُّك ، ويصْطَفِيك ربُّك بالنُّبوَّة .
وقيل : بإعلاء الدَّرجة ( ويعلمك من تأويل الأحاديث ) : يريد تعبير الرُّؤيا ، وسُمِّي تأويلاً؛ لأنَّه يئول أمره إلى ما رأى في منامه ، والتأويل : ما يئول إليه عاقبة الأمْر ، كان عليه الصلاة والسلام غاية في علم التَّعبير .
وقيل : في تأويل الأحاديثِ في كتبه تعالى ، والأخبار المرويَّة عن الأنبياء المتقدمين عليهم الصلاة والسلام .
وقيل : الأحاديث : جمع « حَدِيث » ، والحديث هو الحَادثُ ، وتأويلُها : مآلهُا ومآل الحوادث إلى قُدرَة الله تعالى ، وتكوينه ، وحكمته ، والمراد من تأويل الأحاديث : كيفية الاستدلالِ بأصناف المخلوقات على قدرة الله تعالى وحمته ، وجلاله .
قوله : { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } يجوز أن يتعلق « عَليْكَ » ب « يُتِمُّ » وأن يتعلق ب « نِعْمتَهُ » ، وكرَّر « عَلَى في قوله : » وعَلى آلِ « لتمكنِ العطف على الضمير المجرورنن وهذا مذهبُ البصريِّين .
وقوله { مِن قَبْلُ } أي : من قبلك : واعلم : أنَّ من فسر الاجتباء بالنُّبوَّة ، لا يمكِنُه أن يفسِّر إتمام النِّعمة ههنا بالنبوة ، وإلا لزم التكرارن بل يفسر إتمام النِّعمة ههنا : بسعادات الدنيا والآخرة .
أما سعادات الدنيا؛ فالإكثار من الولدِ ، والخدمِ ، والأتباع ، والتَّوسُّع في المال والجاه ، والجلال في قلوب الخلقِ ، وحسن الثَّناء وَالحمد ، وَأما سعادات الآخرة ، فالعُلُوم الكثيرةن والأخلاق الفاضلة .
وقيل : المراد من إتمام النِّعمة : خلاصته من المحن ، ويكون وجه التَّشبيه ب » إبراهيم وإسحاق عليهما الصلاة والسلام « وهو إنعام الله تعالى على إبراهيم بإنجائه من النَّارن وعلى ابنه إسحاق بتخليصه من الذَّبح
وقيل : إن إتْمَام النَّعمة هو : وصْل نعم الدُّنْيَا بنِعَم الآخرة؛ بأن جعلهُم في الدُّنيَا أنبياء مُلُوكاً ، ونقلهُم عنها إلى الدَّرجات العُلَى في الآخرة .
وقيل : : إتمام النِّعمة على إبراهيم : خُلَّتهُ ، ونعلى إسحاق بأخراج يعقُوب والأسباط من صلبه .
ومن فسر الاجتباء : بالدَّرجات العالية؛ فسَّر : إتمام النِّعمة : بالنُّبوَّة؛ لأنَّ الكمال المطلق ، والتَّمام المطلق في حقَّ البشرِ ليْس إلاَّ النُّبوَّة ، يدلُّ عليه قوله تعالى : { وعلى آلِ يَعْقُوبَ } أي : على أولاده؛ لأن أولاده كلهم كانُوا أنبياء ، وقوله : { كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ } والنِّعمة التَّامة التي بها حصل امتياز إبراهيم وإسحاق من سائر النَّاس ليس إلا النبوة؛ فوجب أن يكون المرادُ بإتمام النِّعمة : هو النبوة ، وعلى هذا فيلزم الحكم بأنَّ أولاده يعقوبكلهم كانوا أنبياء؛ كقوله تعالى : { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعلى آلِ يَعْقُوبَ } .
فإن قيل : كيف يجوز أن يكُونُوا أنبياء ، وقد أقدموا على ما أقدمُوا عليه في حقِّ يُوسُف عليه السلام ؟ .
فالجواب : أنَّ ذلك وقع قبل النبوَّة ، العصمة ، إنَّما تثبتُ في وقتِ النُّبوَّة ، لا قبلها .
قوله { إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ } « يجُوز أن يكونا بدلاً من » أبَويْكَ « أو عطف بيان ، أو على إضمار أعني » ، ثم لما وعد عليه الصلاة والسلام بهذه الدرجات الثلاث ، ختم [ الآية ] بقوله : { إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } فقوله « عَلِيمٌ » إشارة إلى قوله : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] ، وقوله : « حَكِيمٌ » إشارة إلى أنه مقدَّس عن العبث ، فلا يضع النبوة إلا في نفسٍ قُدسيَّة ط
فإن قيل : هذه البشارات التي ذكرها يعقوب هل كان قاطعاً بصحَّتها ، أم لا؟ فإن كان قاطعاً بصحَّتها ، فيكف حزن على يوسف؟ وكيف جاز أن يشتبه عليه أنَّ الذئب أكلهُ؟ وكيف خاف عليه من إخوته أن يهلكوه؟ وكيف قال لإخوته : { وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ } [ يوسف : 13 ] مع علمه بأن الله تعالى سيُنَجِّيه ، ويبعثُه رسولاً؟ .
وإن قلت : إنه عليه الصلاة والسلام ما كان عالماً بهذه الأحوال ، فكيف قطع بها؟ وكيف حكم بوقوعها جزماً من غير تردُّدٍ؟ .
فالجواب قال ابنُ الخطيب : « لا يبعُد أن يكون : قوله : { وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } مشروطاً بألا يكيدُوه؛ لأن ذكر ذلك قد تقدَّم ، وأيضاً : فيبعُد أن يقال : إنه عليه الصلاة والسلام سيصلُ إلى هذه المناصب ، إلا أنه لا يمتنعُ أن يقع في المضايق الشديدة ، ثم يتخلَّص منها ، أو يصل إلى تلك المناصب ، وكان خوفه بهذا السَّبب ، ويكُون معنى قوله : { وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب } [ يوسف : 13 ] الزَّجز عن التهاون في حقِّه وإن كان يعلم أن الذئب لا يصل إليه » .
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)
قوله تعالى : { لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ } الآية .
قال الزمخشري : « أسماء إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام يهوذا ورُوبيل ، وشمعُون ، ولاوي ، وزبالون ، ويشجر ، وأمهم : ليا بن ليان ، وهي ابنة خال يعقوب ، وولد له من سريتين تسمى إحداهما زلفة والأخرى بلهة أربعة أولاد : دان ، ونفتالي ، وجاد وآشر ، فلما توفيت » ليا « تزوج يعقوب أختها راحيل ، فولدت له يوسف وبنيامين » .
قوله تعالى قرأ ابن كثير « آية » بالإفراد ، والمراد بها : الجِنْس ، والباقون الجمع تصريحاً بالمراد؛ لأنها كانت علامات كثيرة ، وزعم بعضهم : أن ثمَّ معطوفاً محذوفاً ، تقديره : للسَّائلين ولغيرهم ، ولا حاجة إليه ، و « للسَّائلِينَ » : متعلقٌ بمحذوفٍ نعتاً ل « آياتٌ » .
فصل
معنى : { آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ } أنه عبرة للمتعبرين؛ فإنها تشتمل على حسد إخوة يوسف ، وما آل إليه أمرهم من الحسدن وتشتمل على صبر يوسف عن قضاء الشُّهُود ، وعلى الرقِّ والسِّجن ، ما آل إليه أمرهُ من الوُصول إلى المراد ، وغير ذلك .
وقيل : { آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ } ، أي دلالة على نُبُوَّة الرسول صلوات الله وسلام عليه .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما دخل حبر من اليهُود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمع منه [ قراءة ] سورة يوسف ، فعاد إلى اليهودِ ، فأعلمهم أنَّه سمع كما في التَّوراة ، فانطلق نفرٌ منهم ، فسَمِعُوا كما سَمِع؛ فقالوا له : من علَّمك هذه القصَّ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : « الله عَلَّمَنِي » فنزلت : { لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ } .
قال ابن الخطيب : « وهذا الوجه عندي بعيد؛ لأن المفهوم من الآية : أن في واقعة يُوسف عليه الصلاة والسلام ت آياتٌ للسَّائلينَ ، وعلى ما قلناه : ما كانت الآيات في قصَّة يُوسف ، بل كانت في إخبار محمَّد صلى الله عليه وسلم عنها ، من تعلُّم ولا مطالعة .
الثاني : أن أكثر أهل مكَّة كانُوا أقارب الرَّسُول عليه الصلاة والسلام ، وكانُوا يُنْكِرُون نُبوَّته ، ويظهرُون العداوة الشَّديدة معهُ بسبب الحسد ، فذكر الله تعالى هذه القصَّة ، وبيَّن أنَّ إخوة يُوسُف بالغُوا في إيذائه لأجل الحسد ، وبالآخرة إن الله نصره ، وقواه ، وجعلهم تحت يده ، ومثل هذه الواقعة إذا سمعها العاقل ، كانت زاجرة له عن الإقدام على الحسد .
الثالث : أن يعقُوب عليه الصلاة والسلام لما عبر رُؤيا يُوسُف ، وقع ذلك التَّعبير ، ودخل في الوُجُود بعد ثمانين سنة ، فكذلك أن الله تعالى ت كما وعد مُحمَّداً صلى الله عليه وسلم بالنَّصر والظفر ، كان الأمر كما قدَّره الله تعالى لا كما سعى فيه الأعداء في إبطال أمره » .
قوله : { لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا } اللام في « ليُوسفُ » : لام الابتداء أفادت توكيداً لمضمون الجملة ، وأرادُوا أنَّ زيادة محبَّته لهما أمر ثابتٌ لا شبهة فيه « وأخُوهُ » ك هو بنيامين ، وإنَّما قالوا : « وأخُوهُ » وهُمْ جَمِيعاً إخوة؛ لأن أمُّهُمَا كانت واحدة ، و « أحَبُّ » أفعل تفضيلن وهو مبنيٌّ من « حُبَّ » المبنيِّ للمفعُول ، وهو شاذٌّ ، وإذا بنيت أفعل التَّفضيل ، من مادَّة الحُبِّ والبغضِ ، تعدَّى إلى الفاعل المعنوي ب « إلى » وإلى المفعول المعنوي ب « اللام ، أو ب » في « فإذا قلتَ : زيدٌ أحبُّ إِليَّ من بكرٍ ، تعني : أنك تحبُّ زيداً أكثر من بكر ، فالمُتكلِّم هو الفاعل ، وكذلك : » هو أبغضُ إليَّ منْهُ « أنت المبغض ، وإذا قلت : زيدٌ أحبُّ إليَّ من عمرو ، أو أحَبُّ فيَّ مِنهُ ، أي : إنَّ زيداً يُحِبُّني أكثر من عمْرِو؛ قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
3050 لعَمْرِي لَسعْدٌ حَيْثُ حُلِّتْ دِيَارهُ ... أحَبُّ إليْنَا مِنْكَ فافرَسٍ حَمِرْ
وعلى هذا جاءت الآية الكريمة؛ فإن الإب هو فاعل المحبَّة .
و » أحَبُّ « : خير المبتدأ ، وإنَّما لم يطابق؛ لما عرفت من حكم أفعل التَّفضيل .
وقيل : اللاَّم في : » ليُوسُفُ « : جواب القسم ، تقديره : والله ليُوسف وأخُوه ، والواوُ في : » ونَحْنُ عُصْبَةٌ « : للحال ، فالجملة بعدها في محلِّ نصب على الحال ، والعامة على رفع » عُصْبةٌ « خبراً ل » نَحْن « .
وقرأ أمير المؤمنين رضي الله عنه بنصبها على أنَّ الخبر محذوف ، والتقدير : ونحن نرى أو نجتمع ، فتكون » عُصْبَةٌ « حالاً ، إلا أنَّه قليلٌ جدًّا؛ وذلك لأنَّ الحال لا يسدُّ مسدَّ الخبر إلا بشُروطٍ ذكرها النُّحاة ، نحو : ضربي زيداً قَائِماً ، وأكثر شُربِي السُّويق مَلْتُوتاً .
قال ابن الأنباري : » هذا كما تقُولُ العربُ : إنَّمَا العَامريُّ عمَّتهُ ، أي : يتعمم عِمَّته « .
قال أبو حيَّان : » وليس مثله؛ لأن « عُصْبَةٌ » ليس بمصدر ولا هيئة ، فالأجود أن يكون من باب : حُكمُكَ مُسمَّطاً « .
قال شهاب الدِّين : » ليس مراد ابن الأنباري إلاَّ التشبيه؛ من حيث إنه حذف الخبر ، وسدَّ شيءٌ آخر مسدَّه في غير المواضع المُنقَاس فيها ذلكن ولا نظر لكون المنصُوب مصدراً أو غيره « .
وقال المبرد : هو من باب : » حُكمُك مُسمًّطاً « أي : لك حكمك مسمَّطاً ، قال الفرزدقُ :
3051 يا لهْذَمُ حُكْمُكَ مُسَمَّطاً ... أراد لك حكمك مُسمَّطاً .
قال : واستعمل هذا فكثُر حتى حذفَ استخفافاً؛ لعلم ما يريد القائل؛ كقولك : الهلال والله ، أي : هذا الهلال ، والمُسَمَّط : المرسل غير المردُودِ وقدره غير المبرِّد : حكمُك ثبت مُسمَّطاً ، وفي هذا المثال نظر؛ لأن النَّحويِّين يجعلُون من شرط سدِّ الحالِ مسدّ الخير : أن لا يصلُح جعل الحالِ خبراً لذلك المبتدأ ، نحو : ضَرْبِي زيداً قائماً ، بخلاف : » ضَرْبِي زيْداً شديدٌ « فإنَّها ترفع على الخبريَّة ، وتخرُج المسألة من ذلك ، وهذه الحال ، أعني : » مُسَمَّطاً « يصلح جعلها خبراً للمبتدأ ، إذ التقدير : حكم مرسل لا مردودٌ ، فيكون هذا المثل على ما تقرَّر من كلامهم شاذًّا .
والعُصْبَة : ما زاد على العشرة ، عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما ؛ وعنه : مابين العشرة إلى الأربعين .
وقيل : الثلاثة نفر ، فإذا زادت على ذلك إلى تسعة؛ فهو رهطٌ ، فإذا بلغُوا العشرة فصاعداً ، فعُصْبَة .
وقيل : مابين الواحد إلى العشرة .
وقيل : من عشرة إلى خمسة عشر .
وقيل : ستة . وقيل : سَبْعَة . والمادَّة تدلُّ على الإحاطة من العصابة؛ لإحاطتها بالرَّأس .
فصل
بيَّنُوا السبب الذي لأجله قصدوا إيذاء يوسف : وهو أن يعقُوب عليه الصلاة والسلام كان يفضِّل يوسف وأخاه على سائر أولاده في الحبِّ ، فتأذَّوا منه لوجوه :
أحدها : كانوا أكبر منه سنًّا .
وثانيها : أنَّهم كانوا أكثر قوَّة ، وأكثر قياماً بمصالح الأب منهما .
وثالثها : أنَّهم القائمون بدفع المضار والآفات ، والمشتغلُون بتحصيل المنافع والخيرات ، وإذا كانُوا كذلك لا جرم قالوا : { إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } .
قال ابن الخطيب : « وها هنا سؤالات :
السؤال الأول : أن من المعلُوم أن تفضيل بعض الأولاد على بعض ، يُورِث الحقد والحسد ، وهما يورثان الآفات ، فملا كان يعقُوب عليه الصلاة والسلام عالماً بذلك ، فلم أقدم على التفضيل؟ وأيضاً : فالأسنُّ ، والأعلم ، والأنفع مقدَّم ، فلم قلب هذه القضية؟ .
فالجوابك أنَّه عليه الصلاة والسلام ما فضلهما على سائر أولاده إلا في المحبَّة ، والمحبَّة ليست في وسع البشر ، فكان معذُوراً فيه ، ولا يلحقه بسبب ذلك لومٌ ، قال عليه الصلاة والسلام : » اللَّهُمَّ هذا قسمِي فيمَا أملكُ ، فلا تَلُمنِي فيمَا لا أمْلك « حين كان يحبُّ عائشة رضي الله عنها .
السؤال الثاني : أن أولاد يعقوب كانوا قد آمنوا بكونه رسُولاً حقًّا من عند الله ، فكَيْفَ اعتَرضُوا؟ وكيْفَ زَيَّفُوا طريقتهُ وطعنُوا في فعلِهِ؟ وإن كانُوا مُكذِّبينِ بنُبوته ، غير مقرِّين بكونه رسًُولاً حقًّا من عند الله ، فهذا مُوجِبُ تكفيرهم؟ .
والجواب : أنَّهُم كانوا مُؤمِنين بنبوَّة أبيهم ، مُقرين بكونه رسُولاً حقًّا من عند الله ، إلاَّ أنَّهُم لعلَّهم جوَّزُوا من الأنبياء أن يفعلوا أفعالاً مخصوصة بمجرد اجتهادهم ، ثم إنَّ الاجتهاد أدَّى إلى تخطئة أبيهم في ذلك الاجتهادح وذلك لأنَّهم كانوا يقولون : هما صبيان ما بلغا العقل الكامل ، ونحن متقدِّمُون عليهما في السنِّ ، والعقل ، الكفاية ، والمنفعة ، وكثرة الخدمة ، والقيام بالمهمات ، فإصراره على تقديم يوسف علينا ، يخالف هذا الدَّليل ، وأما يعقُوب عليه الصلاة والسلام فلعله كان يقُول : زيادة المحبَّة ليست في الوسع والطَّاقة ، فليس لله عليًّ فيه تكليفٌ ، وأما تخصيصهما بمزيد البرِّ ، فيحتمل أنه كان لوجوه :
أحدها : أن أمَّهُمَا ماتتْ وهم صغار .
وثانيهما : أنه كان يرى فيه من آثار الرُّشد ، والنَّجابة ما لم يجدْ في سائر الأولاد ، والحاصل : أن هذه المسألة كانت اجتهاديَّة ، وكانت بميْل النَّفس ، وموجبات الفطرة ، فلا يلزم من وقوع الاختلاف فيها طعن أحد الخصمين في دين الآخرِ ، أو في عرضه .
السؤال الثالث : أنهم نسبُوا أباهم إلى الضَّلال المبين ، وذلك مبالغة في الذمِّ والطَّعن ، ومن بالغ في الطَّعن في الرسُول كفر ، لا سيَّما إذا كان الطّاعن ابناً؛ فإن حقَّ الأبُوَّة يُوجِب مزِيد التَّعظِيم .
والجواب : المُراد من الضلال : غير رعاية مصالحِ الدِّين ، لا البعد عن طريق الرُّشد ، والصواب .
السؤال الرابع : أن قولهم : { لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا } محضُ الحسد ، والحسد من أمهات الكبائر ، لا سيَّما وقد أقدموا بسبب ذلك الحسد على تضييع ذلك الأخ الصالح ، وإلقائه في ذلِّ العبوديَّة ، وتبعيده عن الأب المشفقِ ، والقوا أباهم في الحُزن الدائم ، والأسف العظيم ، وأقدموا على الكذب ، وأتوا بهذه الخصالِ المذمُومَة وكل ذلك يقدح في العصمة .
والجواب : أن المعتبر عصمة الأنبياء في وقت حًصول النُّبوَّة ، فأمَّا قبلها فذلك غير واجب « .
{ اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً } الآية .
في نصب » أرْضاً « ثلاثة أوجه :
أحدهاك أن تكون منصوبة على إسقاط الخافض تخفيفاً ، أي : في أرض؛ كقوله : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم } [ الأعراف : 16 ] ، وقول الشاعر : [ الكامل ]
3052 لَدْنٌ بِهَزِّ الكفِّ يَعْسِلُ مَتنُهُ ... فِيهِ كَمَا عَسلَ الطَّريقَ الثَّعلبُ
وإليه ذهب ابن عطيَّة .
قال النَّحاس : » إلا أنَّه في الآية حسن كثيراً؛ لأنَّه يتعدى إلى مفعولين ، أحدهما بالحرف ، فإذا حذفت الحرف ، تعدَّى الفعل إليه « .
والثاني : النصب على الظرفيَّة .
قال الزمخشريُّ : » أرْضاً منكُورة مجهولة بعيدة عن العمران ، وهو معنى تنكيرها ، وأخلائها من النَّاسِ؛ ولإبهامِها من هذا الوجه ، نُصِبت نصب الظُّروف المُبْهَمة « .
وردَّ ابن عطيَّة هذا الوجه فقال : » وذلك خطأ؛ لأن الظَّرف ينبغي أن يكون مُبهماً ، وهذه ليست كذلك ، بل هي أرض مقيَّدة بأنَّها بعيدةٌ ، أو قاصية أو نحو ذلك ، فزال بذلك إبهامُهَا ، ومعلُوم أن يوُسف لم يَخْل من الكون في أرض ، فتبيَّن أنَّهم أرادُوا أرضاً بعيدة ، غير التي هو فيها قريبة من أبيه « .
واسَتحْسَن أبو حيَّان هذا الرَّد ، وقال : » وهذا الردُّ صحيحٌ ، لو قلت : « جَلستُ داراً بعيدة ، أوْ مكاناً بعيداً » لم يصحَّ إلا بواسطة في ولا يجوز حذفها ، إلا في ضرورة شعرٍ ، أو مع « دخلْت » على الخلاف في « دَخلت » أهي لازمة أم متعدِّية « .
وفي الكلامين نظر؛ إذ الظَّرف المُبْهَم : عبارة عمَّا ليس له حُدُود تحصرهن ولا أقطار تحويه ، و » أرضاً « في الآية الكريمة من هذا القبيل .
الثالث : أنها مفعول ثان ، وذلك أن معنى : » اطْرحُوهُ « أنزلوه ، و » أنزلوه « يتعدى لاثنين ، قال تعالى :
{ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً } [ المؤمنين : 29 ] وتقولن : أنزلت زيداً الدَّارَ . والطَّرح : الرَّميُ ، ويعبرُ به عن الاقتحام في المخاوف؛ قال عروة بن الوردِ : [ الطويل ]
3053 ومَنْ يَكُ مِثْلِي ذا عِيالٍ ومُقْتِراً ... مِنَ المَالِ يَطرَحْ نَفسَهُ كُلَّ مَطْرحِ
والمعنى : اطرحُوه إلى أرض تبعُد من أبيه ، وقي : في أرض تأكله السِّباعُ .
و « يَخْلُ لكُمْ » جوابٌ الأمر ، وفيه الإظهار والإدغام ، وتقدَّم تحقيقها عند قوله { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً } [ آل عمران : 85 ] .
قوله : { وَتَكُونُواْ } يجُوز أن يكُون مجزوماً نسقاً على ما قبله ، أو منصوباً بإضمار « أن » بعد الواو في جواب لأمر .
فصل
اعلم : أنَّه لما قوي الحسد ، وبلغ النِّهاية ، قالوا : لا بُدَّ من تبعيد يُوسف من أبيه ، وذلك لا يحصل إلا بأحد طريقين : القتل ، أو التَّغريب ، ثم ذكروا العلَّة فيه ، وهي قوله : { يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } أي : أنَّ يوسف شغله عنَّا ، وصرف وجهه إليه ، فإذا فقده ، أقبل علينا بالميل والمحبَّة ، { وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ } أي : من بعد قتل يوسف ، { قَوْماً صَالِحِينَ } : أي : نتُوب بعد قتلهِ .
وقيل : يصلُح شأنكم ، تتفرغوا لإصلاح شأن أمَّهاتكُم ، واختلفُوا في قائل هذا القول .
فقيل : شَاورُوا أجْنَبياً؛ فأشار عليهم بقتله ، ولم يقُل ذلك أحدٌ من إخوته .
وقيل : القائل بعض إخوته ، واختلفوا فيه .
فقال وهب : شمعون ، وقال كعب : دان ، وقال مقاتل : رُوبيل .
فإن قيل : كيف يليق هذا بهم ، وهم أنبياء؟
فأجاب بعضهم : بأنَّهم كانوا في هذا الوقت مراهقين لم يبلُغوا ، وهذا ضعيفٌ؛ فإنه يبعد في مثل يعقُوب أن يبعث جماعة من الصِّبيان من غير أن يكون معهم قائمٌ عاقلٌ يمنعهم من القبائح .
وأيضا : فإنَّهم قالوا : { وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ } وهذا يدلُّ على أنَّهُم قب النبوَّة لا يكونوا صالحين ، وذلك يُنَافِي كونهم من الصِّبيان ، وأيضاً : قولهم : { ياأبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ } [ يوسف : 97 ] والصغير لا ذنب له .
فأجاب بعضهم : بأنَّ هذا من باب الصَّغائر ، وهذا أيضاً ضعيفٌ؛ لأن إيذاء الأبِ الذي هو نبيٌّ معصوم ، والكيد معهُ ، والسعي في إهلاك الأخ الصَّغير ، فكل واحدٍ من ذلك من أمَّهات الكبائر ، بل الجواب الصحيح : أنَّهم ما كانُوا أنبياء ، وإن كانوا أنبياء ، إلا أن هذه الواقعة أقدموا عليها قبل النبوة .
ثم إنَّ قائلاً منهم قال : { لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ } .
قيل : إنه رُوبيل ، وكان ابن خالة يُوسُف ، وكان أحسنُهم رأياً فيه؛ فمنعهم من قتله ، وقيل : يهُوذا ، وكان أقدمهم في الرَّأي والفضلِ ، والسِّنِّ ، وهو الصحيح .
قوله : « فِي غَيَابَةِ » قرأ نافع : « غَيابَات » بالجمع في الحرفين من هذه السُّورة ، جعل ذلك المكان أجزاء ، وسمَّى لك جزءٍ غيابة؛ لأن للجُبِّ أقطاراً ونواحِي ، فيكون فيها غيابات ، والباقون : بالإفراد؛ لأن المقصُود : موضع واحد من الجُبِّ يغيب فيه يوسف ، وابن هُرْمز كنافع ، إلا أنَّه شدَّد الياء ، والأظهر في ههذه القراءة : أن يكُون سُمِّي باسم الفاعل الذي للمبالغة ، فهو وصف في الأصل ، وألحقه الفارسي بالاسم الجائي على فعَّال ، نحو ما ذكره سيبويه من الفيَّاد قال ابن جني : « ووجدت من ذلك الفخَّار : للخَزَف » .
وقال صاحب اللَّوامح : « يجوز أن يكو على » فعَّالات « كحمَّامات ، ويجوز أن يكون على » فيْعَالات « ، كشَيْطَانَات ، جمع شَيْطَانَه ، وكلٌّ للمبالغة » .
وقرأ الحسن : « في غَيَبةِ » بفتح الياء ، وفيه احتمالان :
أحدهما : أن يكون في الأصل مصدراً؛ كالغلبة .
والثاني : أن يكون جمع غائب ، نحو : صَانِع وصنَعَة .
قال أبو حيَّانك « وفي حرف أبيَّ : » في غيْبَةِ « بسكون الياء ، وهي ظلمة الرَّكيَّة » .
قال شهاب الدين : « والضبط أمر حادثٌ ، فكيف يعرفُ ذلك من المصحف ، وتقدَّم نحو ذلك ، والغيابة ، قال الهروي : شبه لجف أو طاقٍ في البئر فُويْق الماء يغيب ما فيه عن العُيُون » .
وقال الكلبيُّ : « الغيابة تكون في قَعْر الجُبِّ؛ لأَنَّ اسفله واسعٌ ، ورأسه ضيِّق ، فلا يكاد النَّاظر يرى ما في جوانبه » .
وقال الزمخشري : « هي غورة ، وما غب منه عن عين النَّاظر ، وأظلم من أسفله » .
قال المنخل : [ الطويل ]
3054 فإنْ أنَا يَوْماً غَيَّبَتْنِي غَيَابَتِي ... فَسِيرُوا بسَيرِي في العَشِيرةِ والأهْلِ
أراد : غيابة حُفرته التي يدفن فيها ، والجبُّ : البشر الذي لم تُطْوَ ، وسمِّي بذلك : إما لكونه مَحْفُوراً في جبُوب الأرض ، أي : ما غلظ منها؛ وإما لأنه قطعَ في الأرضِ والجبُّ : القطعُ ، ومنه : الجبُّ في الذَّكر؛ قال الأعشى : [ الطويل ]
3055 لَئِنْ كُنْتَ في جُبِّ ثَمانِينَ قَامَةً ... ورُقِّيتَ أسْبَابَ السَّماءِ بسُلَّمِ
ويجمع على جُنُبٍ ، وجِبَاب ، وأجْبَاب .
فصل
والألف واللام في « الجُبِّ » تقتضي المعهُود السَّابق ، واختلفوا فيه :
فقال قتادة : هو جُبُّ بئر بيت المقدِس ، وقيل : بأرض الأرْدُن .
وقال مقاتل : هو على ثلاثة فراسِخ من منْزِل يعقُوب ، وإنَّما عيَّنوا ذلك الجُبَّ؛ للعلَّة التي ذكروها ، وهي قوله : « يَلتَقطهُ بَعْضُ السَّيارةِ » لأن تلك البِئْر كانت معروفة يَردُونَ عليها كثيراً ، وكانوا يعلمُون أنَّه إذا طُرِحَ فيها ، كان إلى السَّلامة أقْرب؛ لأن السيارة إذا ورَدُوهَا ، شاهدوا ذلك الإنسان فيهن فيخرجوه ، ويذهبوا به فكان إلقاءه فيها أبعد عن الهلاك .
قوله « يَلتَقِطْهُ » قرأ العامَّةك « يَلْتَقِطْهُ » بالياء من تحت ، وهو الأصلُ وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وأبو رجاء ، وقتادة : بالتَّاء من فوقح للتَّأنيثِ المعنويِّن والإضافة إلى مؤنَّث ، وقالوا : قُطِعَت بعضُ أصَابعه .
قال الشَّاعر : [ الوافر ]
3056 إذَا بَعْضُ السِّنينَ تَعرَّقَتْنَا ... كَفَى الأيْتامَ فقدَ أبِي اليَتِيمِ
وتقدَّم الكلام بأوسع من هذا في الأنعام والأعراف [ الأنعام : 160 الأعرافَ : 56 ] .
والإلتِقَاط : تناول الشيء المطروح ، ومنه : اللُّقطَة واللَّقِيط؛ قال الشاعر : [ الرجز ]
3057 ومَنْهَلٍ ورَدْتهُ التِقَاطَا .. . . .
قال ابن عرفة : الالتقاط وجود الشيء على غير طلب ، ومنه قوله تعالى { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة } أي : يجده من غير أن يحتسب .
فصل
اختلفوا في الملقوط فقيل : إن أصله الحرية؛ لغلبة الأحرار على العبيد ، وروي الحسين بن علي رضي الله عنهما قضى بأن اللقيط حُرٌّ ، وتلا قوله تعالى : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } [ يوسف : 20 ] وهذا قوله عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويروى عن علي وجماعته ، وقال إبراهيم النخعي : إن نوى رقه فهو مملوك ، وإن نوى الاحتساب فهو حر .
فصل
والسيَّارة : جمع سيَّار ، وهو مثال مبالغة ، وهُمُ الجماعة الذين يسيرون في الطريق للسَّفَر ، وقال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما : يريد : المارَّة ، ومفعول « فَاعِلينَ » محذُوف ، أي : فاعلين ما يحصل به غرضكم . وهذا إشارة إلى أن الأولى : أن لا تفعلوا شيئاً من ذلك ، وأما إن كان ولا بد ، فاقتصروا على هذا القدر ، ونظيره قوله تعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [ النحل : 126 ] يعني : الأولى ألاَّ تفعلوا ذلك .
قوله تعالى : { قَالُواْ يَأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ } الآية .
« تَأمَنَّا » حال وتقدَّم نظيره ، وقرأ العامَّة : تأمنَّا بالإخفاء ، وهو عبارة عن تضعيف الصَّوت بالحركة ، والفصل بين النُّونين؛ لا لأن النون تسكن رأساً؛ فيكون ذلك إخفاءً ، لا إدغاماً .
قال الدَّاني : « وهو قول عامَّة أئِمَّتنا ، وهو الصواب؛ لتأكيد دلالته وصحَّته في القياس » .
وقرأ بعضهم ذلك : بالإشمام وهو عبارة عن ضمِّ الشفتين ، إشارة إلى حركة الفعل مع الإدغام الصَّريح ، كما يشير إليها الواقف ، وفيه عسر كثير ، قالوا : وتكون الإشارة إلى الضمة بعد الإدغام ، أو قبل كماله ، والإشمام يقع بإزاء معانٍ هذا من جملتها .
ومنها : [ إشراب ] الكسرة شيئاً من الضمِّ [ نحو قيل ، { وَغِيضَ } [ هود : 44 ] وبابه ، وقد تقدم في أول سورة البقرة ] .
ومنها إشمام أحد الحرفين شيئاً من الآخر؛ كإشمام الصاد زاياً في { الصراط } [ الفاتحة : 6 ] ، { وَمَنْ أَصْدَقُ } [ النساء : 87 ، 122 ] وبابهما ، وقد تقدم في الفاتحة ، والنساء ، فهذا خلط حرف بحرف ، كما أن ماقبلهُ خلطُ حركة بحركةٍ .
ومنها : الإشارة إلى الضَّمَّة في الوقف خاصَّة ، وإنما يراه البصير دُون الأعمى ، وقرأ أبو جعفر : الإدغام الصَّريح من غير إشمام ، وقرأ الحسن ذلك : بالإظهار مبالغة في بيان إعراب الفعل . وللمحافظة على حركة الإعراب ، اتَّفق الجمهُور على الإخفاء ، أو الإشمام ، كما تقدَّم تحقيقه .
وقرأ ابن هرمز : « لا تَأمُنَّا » بضم الميم ، نقل حركة النُّون الأولى عند إرادة إداغمها ، بعد سلب الميم حركتها ، وخط المصحف بنون واحدة ، ففي قراءة الحسن مخالفة لها . وقرأ أبو رزين ، وابن وثَّابٍ : « لا تِيْمَنًّا » بكسر حرف المضارعة ، إلا أنَّ ابن وثَّاب سهَّل الهمزة .
قال ابو حيَّانك « ومجيئُه بعد » مَا لَكَ « والمعنى : يرشد إلى أنَّه نفيٌ لا نهي ، وليس كقولهم : » ما أحْسَنًّا « في التعجُّبح لأنه لو أدغم ، لالتبس التَّعجب بالنَّفْي » .
قال شهاب الدِّين : وما أبْعَد هذا عن توهُّم النَّهي ، حتى ينُصَّ عليه بقوله : « لالتبس بالنَّفْي الصحيح » .
فصل
هذا الكلام يدلُّ على أن يعقوب عليه الصلاة والسلام كان يخافُهم على يُوسف ، ولولا ذلك ، لما قالوا هذا القول .
واعلم : أنَّهم لما أحكمُوا العزم ، أظهروا عند أبيهم أنَّهم في غاية المحبَّة ليوسُف ، ونهاية الشفقة عليه ، كانت عادتهم أن يغيبُوا عنه مُدَّة إلى الرَّعين فسألوه إرساله معهم ، كان يعقُوب عليه الصلاة والسلام يحب تطيب قلب يوسف ، فاغترَّ بقولهم ، وأرسلهُ معهم حين قالوا له : { وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ } والنُّصْح هنا : القيام بالمصلحة .
وقيل : البرُّ والعطف ، أي : عَاطِفُون عليه قَائِمُون بمصلحته ، نحفظه حتَّى نردهُ إليك .
قيل للحسن : أيَحْسُد المُؤمن؟ قال : ما أنْسَاك ببَنِي يعقوب ، ولهذا قيل : الأب جلاَّبٌ ، والأخ سَلاَّب ، وعند ذلك أجمعوا عل التًَّفريق بينه وبين ولده بضرب من الاحتيال ، وقالوا ليعقوب عليه الصلاة والسلام { مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ } .
وقيل : لما تفاوضوا وافترقوا على راي المتكلِّم الثاني ، عادوا إلى يعقوب عليه الصلاة والسلام وقالوا هذا القول ، إذ فيه دليلٌ على أنَّهُم سألوه قبل ذلك أن يخرج معهم يوسف ، فأبى .
قوله : { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } في : « يرْتَعْ ويَلعَبْ » أربع عشرة قراءة :
أحدها : قراءة نافع : بالياء من تحت ، وكسر العين .
الثانية : قراءة البزِّي ، عن ابن كثيرٍ : « نَرْتَعِ ونلعب » بالنُّون وكسر العين .
الثالثة : قراءة قنبل ، وقد اختلف عليه ، فنقل عه ثُبُوت الياء بعد العين وصلاً ووقفاً ، وحذفها وصلاً ووقفاً ، فيوافق البزِّي في أحد الوجهين عنه ، فعنه قراءتان .
الخامسة : قراءة أبي عمرو ، وابن عامر : « نَرتَعْ ونَلعَبْ » بالنُّون ، وسكون العين ، والباء .
السادسة : قراءة الكوفيين : « يَرْتَعْ ويَلعبْ » بالياء من تحت وسكون العين والباءِ .
وقرأ جعفر بن محمد : « نَرْتَعْ » بالنُّون ، « ويَلْعَبْ » بالياء ، ورُويت عن ابن كثيرٍ .
وقرأ العلاء بن سيابة : « يَرْتَعِ ويَلْعَبُ » بالياء فيهما ، وكسر العين وضمّ الباء .
وقرأ أبو رجاء كذلك ، إلا أنَّه بالياء من تحت فيهما .
والنخعي ويعقوبك « نَرْتَع » بالنون ، « ويَلْعَب » بالياء .
وقرأ مجاهدٌ ، وقتادةُ ، وابن محيصِن : « يَرْتَعْ ويَلْعَب » بالياء ، والفعلان في هذه القراءات كلها مبنيان للفاعل .
وقرأ زيد بن علي : « يُرْتَع ويُلْعَب » بالياء من تحت فيهما مبنيين للمعفول .
وقرىء : « نَرْتَعِي ونَلْعَبُ » بثبوت الياء ، ورفع الباء .
وقرأ ابن أبي عبلة : « نَرْعَى ونَلْعَب » .
فهذه اربع عشرة قراءة منها ستٌّ في السَّبع المتواتر وثمان في الشواذٍّ .
فمن قرأ بالنُّون ، فقد أسند الفعل إلى إخوة يوسف .
سُئل أبو عمرو بن العلاء : كيف قالوا : نلعب وهم أنبياء؟ قال : كان ذلك قبل أن يُنَبِّئهُم الله عزَّ وجلَّ .
قال ابن الأعرابي : الرَّتْع : الأكل بشدة ، وقيل : إنه الخَصْبُ .
وقيل : المراد من اللَّعب : الإقدام على المُباحات ، وهذا يوصف به الإنسان ، كما رُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لجابر : « هَلاَّ بِكْراً تُلاعِبُهَا وتُلاعِبُك » .
وقيل : كان لعبهم الاستباق ، والغرض منه : تعليم المحاربة ، والمقاتلة مع الكُفَّار ، ويدلُّ عليه قولهم : « إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتبِقُ » وإنما سمَّوه لعباً؛ لأنه في صُورة اللَّعِب .
وأما من قرأ بالياءِ ، فقد أسند الفعل إليه دونهم ، فالمعنى : أنه يبصر رَعْي الإبلِ؛ لتيدرَّب بذلك ، فمرَّة يرتع ، ومرَّة يلعب؛ كفعل الصِّبيان .
ومن كسر العين ، اعتقد أنه جزم بحذف حرف العلَّة ، وجعلهُ مأخُوذاً من يفتعِل من الرَّعي؛ كيَرْتَمِي من الرَّمْي ، ومن سكن العين ، واعتقد أنه جزم بحذق الحركة ، وجعلهُ مأخوذاً من : رَتَعَ يَرْتَعُ ، إذا اتَّسع في الخِصْب قال :
3058 ... وإذَا يَحْلُولَهُ الحِمَى رَتَعْ
ومن سكَّن الباء جعلهُ مَجزُوماً ، ومن رفعها ، جعله مرفوعاً على الاستئناف ، أي : وهو يلعبُ ، ومن غاير بين الفعلين ، فقرأ بالباء من تحت في « يَلْعَب » دون « نَرْتَع » ؛ فلأن رَعْياً ، إذا أكلته فالارتعاء للمواشِي ، وأضافوه إلى أنفسهم؛ لأنه السَّبب ، والمعنى : نرتع إبلنا ، فنسبُوا الارتعاء والقيام بحفظ المال إلى أنفسهم؛ لأنهم بالغون .
ومن قرأ : « نُرْتع » رُباعياً ، جعل مفعُوله محذوفاً ، أي : يَرْعى مَواشينا ، ومن بناها للمفعول ، فالوجه : أنه أضمر المفعُول الذي لم يُسمَّ فاعله ، وهو ضمير الغدِ ، والأصل :
نُرْتَع فيه ، ونُلعَبُ فيه ، ثم اتسع فيه؛ فحذف حرف الجرِّ ، فتعدى إليه الفعل بنفسه ، فصار نُرْتعه ونَلْعَبُه ، فلما بناهُ للمفعول ، قام الضمير المنصُوب مقام فاعله ، فانقلب مرفوعاً فاستتر في رافعه ، فهو في الاتِّساع كقوله : [ الطويل ]
3059 ويَوْمٍ شَهِدْنَا سَلِمياً وعَامِراً .. . .
ومن رفع الفعلين ، جعلهما حالين ، وتكون مقدَّرة ، وأمَّا إثبات الياء في « نَرْتَعي » مع جزم « يَلْعَب » وهي قراءة قنبل ، فقد تجرَّأ بعضُ النَّاس وردَّها .
وقال ابن عطيَّة : هي قراءة ضعيفةٌ لا تجوز إلا في الشِّعْر ، وقيل : هي لغة من يجز بالحركة المقدَّرة ، وأنشد :
3060 ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي .. . . .
وقد تقدَّمت هذه المسألة .
و « نَرْتَع » يحتمل أن يكون وزنه : « نَفْتَعِل من الرَّعْي وهي أكلُ المرعى؛ كما تقدَّم ، ويكون على حذف مضاف ، أي : نرتع مواشينا ، أو من المراعاة للشيء؛ قال : [ الخفيف ]
3061 تَرْتعِي السَّفحَ فالكَثِيبَ فَذا قَارِ ... فَروضَ القَطَا فَذاتَ الرِّئالِ
ويحتمل أن يكون وزنه » نَفْعَل « من رَتَعَ يَرْتَع : إذا أقام في خصب وسعة ، ومنهُ قول الغضبان بن القبعثرى : » القَيْدُ والرَّتعة وقِلَّة المَنعَة « ؛ وقال الشاعر : [ الوافر ]
3062 أكُفْراً بَعْدَ ردِّ المَوْتِ عَنِّي ... وبَعدَ عَطائِكَ المِائة الرِّتاعَا
قوله : { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } جلمة حالية ، والعاملُ فيها أحد شيئين : إمَّا الأمر ، وإمَّا جوابه .
فإن قيل : هل يجوز أن تكون المسألة من الإعمال؛ لأن كلاًّ من العاملين يصح تسلُّطه على الحال؟ .
فالجواب : لا يجُوز ذلك؛ لأنَّ الإمال يستلزم الإضمار ، والحالُ لا تضمر؛ لأنَّها لا تكون إلا نكرةً ، أو مؤولةً بها .
قوله : { أَن تَذْهَبُواْ بِهِ } فاعل : « يَحْزُنُنِي » ، أي : يَحْزُننِي ذهابُكم ، وفي هذه الآية دلالة على أنَّ المضارع المقترن بلام الابتداء لا يكون حالاً ، والنُّحاة جعلوها من القرائن المخصصة للحال ، ووجه الدلالة : أنَّ « أن تذْهَبُوا » مستقبل؛ لاقترانه بحرف الاستقبال ، وهي وما في حيِّزها فاعل ، فلو جعلنا « ليَحْزُنُنِي » حالاً ، لزم سبق الفعل لفاعله ، وهو مُحل وأجيبَ عن ذلك بإنَّ الفاعل في الحَقيقَة مقدَّر ، حذف هو وقام المضاف إليه مقامه ، والتقدير : ليَحْزُوننِي توقع ذهابكم ، وقرأ زيد بن علي وابن هرمز ، وابن محيصن : « ليَحْزُنِّي » بالإدغام .
وقرأ زيد بن علي : « تُذْهِبُوا بِهِ » بضم التَّاء من « أذْهَبَ » وهو كقوله : { تَنبُتُ بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] في قراءة من ضمَّ التَّاء ، فتكون التاء زائدة أو حالية .
والذئبُ يُهْمز ولا يُهْمزُ ، وبعدم الهمز قرأ السُّوسيُّ ، والكسائيُّ ، وورش ، وفي الوقف لا يهمزه حمزة ، قالوا وهو مشتقٌّ من : تَذاءَبتٍ الرِّيحُ إذَا هَبَّت من كُلِّ جهةٍ؛ لأنه يأتي كذلك ، ويجمع على ذائب ، وذُؤبان ، وأذْؤبح قال : [ الطويل ]
3063 وأزْوَرَ يَمْشِي في بلادٍ بَعيدَةٍ ... تَعَاوَى بِهِ ذُؤبَانُهُ وثَعالِبُهْ
وأرضٌ مذْأبة : كثيرة الذِّئاب ، وذُؤابةٌ الشَّعر؛ لتحرُّكها ، وتقلبها من ذلك .
وقوله : { وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ } : جملة حاليَّة ، العامل فيها : « يَأكلهُ » .
فصل
لما طلبوا منه إرسال يوسف عليه السلام معهم اعتذر إليهم بشيئين :
أحدهما : ليُبَيِّن لهم أنَّ ذهابهم به مما يُحزنُه؛ لأنه كان لا يصبر عنه ساعةً .
والثاني : خَوْفه عليه من الذِّب إذا غفلوا عنه برعهيم ، أو لعبهم أو لقلة اهتامهم به .
فقيل : إنه رأى في النَّوم أن الذِّئب شدَّ على يوسف فكان يحذره ، فألأجل هذا ذكر ذلك . وقيل : إن الذِّئاب كانت كثيرة في أرضهم ، فلما قال بعقوب عليه الصلاة والسلام هذا الكلام ، أجابوه بقولهم : { لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ } وفائدة اللام في « لَئِنْ » من وجهين :
أحدهما : أن كلمة « إنْ » تفيد كون الشِّرط مستلزماً للجزاء ، أي : إن وقعت هذه الواقعة ، فنحن خاسرون ، فهذه اللام خلت؛ لتأكيد هذا الاستلزام .
والثاني : قال الزمخشري رحمه الله « هذه اللام تدلُّ على إضمار القسم ، [ تقديره : ] والله لئن أكلهُ الذئب ، لكنَّا خاسرين » .
والواوُ في : « ونَحْنُ عُصْبَةٌ » واو الحال؛ فتكون الجملة من قوله : « وَنحْنُ عُصْبةٌ » : جملة حاليَّة . وقيل : معترضة ، و { إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ } جواب القسم ، و « إذاً » : حرف جواب ، وحذف جوابُ الشرط ، وقد تقدَّم الكلام فيه مشبعاً .
فصل
ونقل أبو البقاء : أنه قرىء « عُصْبَةً » بالنصب ، وقدر ما تقدم في الآية الأولى . في المراد بقولهم : { إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ } وجوه : الأول : [ عاجزون ] ضعفاء ، نظيره قوله تعالى : { وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } [ المؤمنون : 34 ] أي : لعاجزون .
الثاني : أنهم يكونون مستحقِّين لأن يدعى عليهم بالخسارة والدَّمار ، وأن يقال : أخسرهُم الله ، ودمَّرهُم حين أكل الذِّئب أخاهُم وهم حاضرون عُصبةٌ : عشرةٌ تعصب بهم الأمُور ، تكفي الخطوب بمثلهم .
الثالث : إذا لم نقدر على حفظ أخينا ، فقد هلكت مواشينا ، وخسرنا .
الرابع : أنَّهم كانوا قد أتبعوا أنفسهم في خدمة أبيهم ، واجتهدوا في القيام بمهمَّاته ، ليفوزوا منه بالدعاء والثناء ، فقالوا : لو قصَّرنا في هذه الخدمة ، فقد أحبطنا كل تلك الأعمال ، وخسرنا كمل ما صدر منَّا من أنواع الخدمة .
فإن قيل : إنَّ يعقُوب عليه الصلاة والسلام اعتذر بعذرين : شدة حبِّه ، وأكل الذئب له ، فلم أجابُوا عن أحدهما دون الآخر؟
فالجواب : أن حقدهم ، وغيظهم كان بسبب المحبَّة ، فتغافلوا عنه .

قلت المدون التالي هو 41.و42. بمشيئة الله الواحد

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدجال يستغل ازمات الناس من الجوع ونقص الطعام والمياه في دعوتهم الباطلة لعبادتهم إياه والايمان به

  بياناته الشخصية     المسيح الدجال ليس خوارق إنما هو دجل وكذب قلت المدون ان الأ أزمة الاقتصادية الحادثة الان في كل دول العالم والمجاعة المت...