حمل المصحف وورد وبي دي اف.

 حمل المصحف وورد وPDF.
القرآن الكريم وورد word doc icon||| تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

الجمعة، 23 سبتمبر 2022

ح25.و26. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

 

 ح25.و26. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

ح25.و26. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
وقرأ ابن مُحَيْصِن هنا وفي جميع القُرْآن « يَا قَوْمُ » مضموم الميم .

اولا:
ج25.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
وقرأ ابن مُحَيْصِن هنا وفي جميع القُرْآن « يَا قَوْمُ » مضموم الميم .
وتروى قراءة عن ابن كثيرٍ [ ووَجْهُهَا أنَّها ] لُغَةٌ في المُنَادى المضاف إلى يَاءِ المُتَكَلِّم كَقِرَاءة { [ قَالَ ] رَبِّ احكم بالحق } [ الأنبياء : 112 ] ، وقد تقدَّمَت هذه [ المسألة ] .
وقرأ ابن السمَيْفع : { يَاقَوْمِ ادْخُلُوا } بفتح الياء ، ورُوِيَ أنَّ إبراهيم - عليه السلام - لما صعد [ جَبَل لبنان ] ، فقال اللَّهُ تعالى له : « انظر فما أدركه بصرك فهو مقدس ، وهو ميراث لذريتك » .
والأرضُ المقدَّسَةُ هي الأرْضُ المطهَّرَةُ من الآفات؛ لأنَّ التَّقْدِيس هُو التَّطْهِيرُ ، وقال المُفَسِّرُون طهِّرَت من الشِّرك ، وجُعِلَت مَسْكَناً وقَرَاراً للأنْبِيَاء ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ تلك الأرْض لما أمَرهُمْ مُوسى بِدُخُولها ما كانَتْ مقدَّسة عن الشِّرْك ، وما كَانَتْ مَقرًّا للأنْبيَاء ، وقد يُجَابُ عَنْهُ بأنَّها كَانَتْ كذلك فيما قَبْل .
واختلفُوا في تلك الأرْض ، فقال عِكْرِمَةُ ، والسديُّ ، وابنُ زَيْد : هي أريحا .
وقال الكَلْبِيُّ : هي دمشق وفلسْطِين وبعض الأرْدُن ، وقال الضَّحَّاك : هي إيليَا وبَيْتُ المَقْدِسِ ، وقال مُجَاهِد : هي الطُّور وما حَوْلَه . وقال قتادةُ : هي الشَّامُ كُلُّها . وقال كَعْبٌ : وجَدْتُ في كتاب اللَّه المُنَزَّل [ أنَّ الشَّام ] كَنْزُ الله من أرْضِه ، وبِها كَثْرَةٌ من عِبَادِه .
وقوله : { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } يعني : في اللَّوْح المَحْفُوظِ أنَّها لكم مَسَاكِن .
وقال ابن إسحاق : وهب اللَّهُ لكم ، وقيل : جعلها لكم [ قال السديّ : أمَرَكُم الله بِدُخُولها ] .
فإن قيل : لم قال { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } ، ثم قال { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } [ المائدة : 26 ] .
فالجوابُ : قال ابنُ عبَّاس : كانت هِبَةً ثُمَّ حرَّمها عليهم بشُؤم تَمَرُّدِهِم وعِصْيَانِهم ، وقيل : اللَّفْظ وإن كان عامًّا لكنَّ المرادُ به الخُصُوصُ ، فكَأَنَّها كُتِبَتْ لِبَعْضِهِم ، وَحُرِّمَتْ على بَعْضِهِم .
وقيل : إنَّ الوَعْد بقوله : { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } مشروطٌ بقَيْد الطَّاعة ، فلما لم يُوجَد الشَّرْط لم يُوجَد المَشْرُوط .
وقيل : إنَّها مُحَرَّمةٌ عليهم أرْبَعِين سَنَة ، فلما مَضَى الأرْبَعُون حصل ما كتَبَ .
وفي قوله : { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } فَائِدَة ، وهي أنَّ القوم وإن كانُوا جبَّارِين ، إلاَّ أنَّ الله تعالى لمَّا وعد هؤلاءِ الضُّعَفَاء بأنَّ تلك الأرْضَ لهم ، فإن كانوا مُؤمنين مُقَرَّبين بصدْق الأنْبِيَاء ، عَلِمُوا قَطْعاً أنَّ اللَّه يَنْصُرهم عليهم ، فلا بُدَّ وأن يَعْزِمُوا على قتالهم من غير خَوْفٍ ولا جُبْن .
قوله : { وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ } فالجار والمجرور [ حال من فاعل « تَرتَدوا » أي : لا ترتدوا مُنقلبين ، ويجُوزُ أن ] يتعلَّق بِنَفْسِ الفَعْل قَبْلَهُ .
وقوله : « فَتَنْقَلِبُوا » فيه وجهان :
أظهرُهُمَا : أنَّهُ مَجْزُومٌ عَطْفاً على فِعْل النَّهْي .
والثاني : أنَّهُ منصُوبٌ بإضْمَار « أنْ » بعد الفَاءِ في جواب النَّهي .
و « خَاسِرِين » حالٌ .
وفي المَعْنَى وجهان :
أحدهما : لا يَرْجِعُوا عن الدِّين الصَّحيح في نُبُوَّة مُوسَى؛ لأنَّهُ - عليه السلام - لما أخْبَرَ اللَّه تعالى جعل تِلْكَ الأرْضَ لَهُم ، [ أو ] كان هذا وعْداً بأنَّ الله يَنْصُرهم عليهم ، فلو لَمْ يقْطعُوا بِهَذِه النُّصْرَة ، صارُوا شاكِّين في صِدْق مُوسى - عليه الصلاة والسلام - فيصيروا كافرين بالنُّبُوَّة والإلهِيَّة .
والثاني : لا ترجِعُوا عن الأرْضِ التي أمرتُم بِدُخُولِها إلى الأرْض الَّتِي خَرَجْتُم عنها ، يُرْوَى أنَّهُم عَزَمُوا على الرُّجُوعِ إلى مِصْر .
وقوله : « فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِين » أي : في الآخِرَة يَفوتُكُم الثَّواب ويَلْحَقُكُم العِقَابُ .
وقيل : تَرْجِعُون إلى الذِّلَّة ، وقيل : تُمَزَّقُون في التِّيه ، ولا تَصِلُون إلى شَيْءٍ من مَطَالبِ الدُّنْيَا ومَنَافِع الآخِرَة .
قوله : { قَالُوا ياموسى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ } والجبَّارُ : فعَّالٌ من جَبرهُ على الأمْرِ ، بمعنى : أجْبَرهُ عليه ، وهو الذي يُجْبِرُ النَّاس على ما يُرِيدُ ، وهذا اخْتِيَارُ الفَرَّاء والزَّجَّاج .
قال الفرَّاء : لا أسْمَع فعَّالاً من أفعل إلاَّ في حَرْفَيْن وهما : جَبَّارٌ من أجْبَر ، ودَرّاك من أدْرَكَ .
وقيل : مأخوذٌ من قَولِهِم : نَخْلةٌ جَبَّارَةٌ ، إذا كانت طَويلَةً مُرْتَفِعَةً لا تَصِلُ الأيْدِي إلَيْها ، ويُقَال : رَجُلٌ جَبَّارٌ ، إذا كان طَوِيلاً عَظِيماً قويّاً تَشْبِيهاً بالجبَّار مِن النَّخْلِ ، والقَوْمُ كانوا في غَايَةِ القُوَّة وعِظَمِ الإجْسَامِ ، بِحَيْثُ ما كَانَتْ أيْدِي قوم مُوسَى تَصِلُ إليهم ، فَسَموهم جَبَّارِين لِهذَا المَعْنى .
فصل
قال المُفَسِّرُون : لما خَرَجَ مُوسَى من مِصْر ، وعدَهُم الله - تعالى - إسكان أرْضِ الشَّام ، وكان بَنُوا إسرائِيل يُسَمُّون أرْضَ الشَّام أرْضَ المَوَاعِيد ، ثم بَعَثَ مُوسى - عليه السلام - اثْنَي عَشَر نَقِيباً من الأنبياء ، يَتَجسَّسُون لَهُمْ أحْوَال تلك الأرَاضي .
فلمَّا دَخَلُوا تلك الأمَاكِن رَأوْا أجْساماً عَظِيمَة ، قال المُفَسِّرُون : فأخذَهُم أحَدُ أولئك الجبَّارِين ، وجَعَلَهُم في كُمّهِ مع فَاكِهَةٍ كان قد حَمَلَها من بُسْتَانِه ، وأتى بهم المَلِك فَنَثَرَهُم بين يديه ، وقال مُتَعجباً للملك : هؤلاء يُرِيدُون قِتالَنا ، فقال المَلِكُ : ارْجِعُوا إلى صاحِبِكُم ، وأخْبِرُوه بما شَاهَدْتُم .
قال ابْنُ كَثِير : وهذه هذياناتٌ من وضْعِ جُهَّالِ بني إسائيل ، ولو كان هذا صَحِيحاً لكَان بَنُوا إسرائيل معذُورين في امْتِنَاعِهِم عن القتال ، وقد ذَمَّهُمُ اللَّهُ تعالى على مُخَالَفَتِهِم وتَرْكِ جِهَادِهِم ، وعَاقَبَهُم بالتِّيهِ ، ثمَّ انْصَرَف أولَئِكَ النُّقَبَاءُ إلى مُوسَى وأخْبَرُوه بالوَاقِعَة ، وأمَرَهُم أنْ يَكْتُمُوا ما شَاهَدُوهُ ، فلم يَقْبَلُوا قوله إلا رَجُلان مِنْهُم ، وهم : يُوشَعُ ابن نُون ، وكَالِب بن يُوقنا فإنهما سَهَّلا الأمْر ، وقالا : هي بلادٌ طَيِّبَةٌ كثيرة النعم والأقوام ، وإن كانت أجْسَامُهُم عَظِيمَة ، إلاَّ أنَّ قلوبَهُم ضَعِيفَةٌ .
وأما العَشْرُة البَاقِية فإنَّهم أوْقَعُوا الجُبْن في قُلُوب النَّاسِ حتَّى أظْهَرُوا الامْتِنَاع من غَزْوِهِم ، وقالُوا لِمُوسَى : { إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا ، فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلاا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ، فدَعا عَلَيْهم مُوسَى ، فعاقَبَهُم الله تعالى بأن أبْقَاهُم في التِّيهِ أرْبَعِين سنة .
وقالوا : وكَانَتْ مُدَّة غَيْبَة النُّقَبَاءِ المُتَجَسِّسِين أرْبعين يَوْماً ، فعُوقِبُوا بالتِّيهِ أرْبَعِين سنة .
قالوا : ومَاتَ أولَئِك العُصَاةُ بالتِّيهِ ، وأهْلِكَ النُّقَبَاءُ العَشْرَة في التِّيهِ بعُقُوبَةٍ غَلِيظَةٍ ، وقال بَعْضُهُم : إنَّ مُوسَى وهَارُون مَاتَا - أيضاً - في التِّيهِ .
وقال آخرون : إنَّ مُوسَى بَقِي ، وخرج مَعَهُ يُوشَعُ بن نُون وكَالِب ، وقاتَلَ الجبَّارِين وغَلَبَهُم ، ودَخَلُوا تلك البِلاَد .
ورُويَ أنَّهُ لم يَخْرُجْ من التِّيه [ أحدٌ ] ممن دَخَلهُ ، [ بل ] ماتوا كُلُّهُم في مُدَّةِ أربعين سنة ، ولَمْ يَبْقَ إلا ذَرَارِيهم يُوشعُ بن نُون وكالِب - عليهما الصلاة والسلام - .
قال المُفَسِّرُون : إنَّ بَني إسْرَائيل دَخَلُوا البريَّة عند سيناء في الشَّهْرِ الثالث من خُرُوجهم من « مِصْر » ، وكان خُرُوجُهُمْ في أوَّلِ السَّنَة التي شُرِعَت لَهُمْ ، وَهِيَ أوَّل فَصْلِ الرَّبيع ، فكأنَّهُم دَخَلُوا التِّيهَ في أوَّل فَصْلِ الصَّيْف .
قوله تعالى : { وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ } .
قالُوا هذا القول على سبيل الاسْتِبْعَاد ، كقوله تعالى : { وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط } [ الأعراف : 40 ] .
وقوله : « فإنَّا دَاخِلُون » أي : فإنَّا دَاخِلُون الأرْضَ ، فحذف المَفْعولَ لِلدلالَةِ عَلَيْه .
قوله : { قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ } هذا الجارُّ والمَجْرُور في محلِّ رَفْع صَفَةٍ ل « رَجُلاَن » ، ومَفْعُول « يَخَافُونَ » محذوفٌ تَقْدِيرُهُ : « يَخَافُون الله » ، أو يخافُون العَدُوّ [ ولكن ثَبَّتَهُمَا اللَّهُ تعالى ] بالإيمَان والثِّقَةِ به ، حتى قَالُوا هَذِه المَقَالة ، ويُؤيِّد التَّقْدير الأوَّل التَّصْرِيح بالمَفْعُول في قِرَاءة ابْن مَسْعُود « يَخَافُون اللَّه » ، وهذان [ التَّأوِيلاَن ] بِنَاء على ما هُوَ المَشْهُور عِنْد الجُمْهُور ، من كَوْنِ الرَّجُلَين القَائِلَيْن ذلك من قَوْمِ موسى ، وهما : يُوشَعُ بن نُون بن أفرائيم بن يُوسُف فتى مُوسَى ، والآخَر : كَالِب بن يوفنا خَتَنُ مُوسَى على أخْتِه مَرْيَم بِنْت عِمْران ، وكان من سِبْط يَهُوذَا .
وقيل : الرَّجُلان من الجَبَّارين ، ولكن أنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِما بالإيمَانِ حَتَّى قَالاَ هذه المقَالَة يُحَرِّضُونَهُم على قَوْمِهِم لِمُعَادَاتِهِم لهم في الدِّينِ وعلى هذا القَوْل فَيُحْتَمَل أن يكون المَفْعُولُ « يَخَافُون » كما تقدَّم ، أي : يَخَافُون اللَّه أو العَدو ، والمعنى كما تقدَّم ويُحْتَمَل أنَّ في المَفْعُول ضَمِيراً عَائِداً على المَوْصُولِ ، ويكون الضَّمِير المَرْفُوع في « يَخَافُون » ضَمِير بَنِي إسْرَائيل ، فالتَّقْدير : [ من ] الَّذِين يَخَافُهُمْ بُنُوا إسْرَائِيل .
وأيَّدَ الزَّمَخْشَرِيُّ هذا التَّأوِيل بِقرَاءة مَنْ قرأ « يُخافون » مَبْنِيًّا للمَفْعُول [ وبِقَوْلِه أيْضاً ] { أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا } ، فإنَّه قال : « وقراءة مَنْ قَرأ » يُخَافُون « بالضَّمِّ شاهدة له ، ولذلك أنْعَم الله عَلَيْهِما ، كأنَّه قيل : من المُخَوفين » انتهى .
والقِرَاءةُ المَذْكُورة مَرْوِيَّة عن ابْن عبَّاسٍ ، وابن جُبَيْر ، ومُجاهد ، وأبدى الزَّمَخْشَرِي - أيضاً - في هذه القِرَاءة احْتِمَالاً آخَر ، وهو أن تكُون من الإضَافَةِ ومعناه : من الَّذين يَخُوَّفُون من اللَّه بالتَّذْكِرة والمَوْعِظَة ، أو يُخَوِّفهم وَعِيد الله بالعقَابِ .
وتَحْتَمِلُ القِرَاءةُ - أيضاً - وجْهاً آخَر ، وهو : أن يكُون المَعْنَى : يُخَافون ، أي : يُهَابُون [ ويُوَقَّرُون ، ويُرْجَعُ ] إليهم لِفَضْلِهِم وخَيْرِهِم .
ومع هَذَيْن الاحْتِمَالين الأخِيرَيْن ، فلا تَرْجِيحَ في هذه القراءة لِكَون الرَّجُلَيْن من الجبَّارين [ أما قوله كذلك : { أنعم الله عليهما } ، أي : في كونه مرجّحاً أيضاً لكونهما من الجبارين ] فَغَيْرُ ظاهر ، لكون هذه الصِّفَة مُشْتَرَكَة بَيْن يُوشَع وكالب ، وبين غيرهما مِمَّن أنْعَمَ اللَّهُ عليه .
قوله : { أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا } في هذه الجُمْلَة خَمْسَة أوجُه :
أظهرها : أنَّها صِفةٌ ثانية فمحَلُّها الرَّفْع ، وجيءَ هنا بِأفْصَحِ الاسْتِعْمَالَيْنِ من كونه قدَّمَ الوَصْفَ بالجَارِّ على الوَصْفِ بالجُمْلَةِ لِقُرْبِهِ من المُفْرَد .
والثاني : أنها مُعْتَرَضَةٌ وهو - أيضاً - ظَاهِر .
الثالث : أنَّهَا حالٌ من الضَّمِير في « يَخَافُون » قال مَكِّي .
الرابع : أنَّها حالٌ من « رَجُلانِ » ، وجاءت الحالُ من النَّكِرَة ، لأنَّها تخصّصت بالوَصْف .
الخامس : أنَّها حال من الضَّمِير المُسْتَتِر في الجَارِّ والمَجْرُور ، وهو « مِن الَّذِين » لوُقُوعِهِ صِفَةً لموصُوف ، وإذا جَعَلْتَها حَالاً فلا بُدَّ من إضمار « قَدْ » مع المَاضِي ، على خلافٍ سلف [ في المسألة ] .
فصل
قوله : { ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب } مُبَالغةٌ في الوَعْدِ بالنَّصْر والظفر؛ كأنَّه قيل : مَتَى دَخَلْتُم باب بَلَدِهِم انْهَزَمُوا ، ولَمْ يَبْق منهم أحَدٌ ، وإنَّما جَزَمَ هذان الرَّجُلان في قولهما : { فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ } ؛ لأنَّهما كان عَارِفَيْن صِدْق مُوسى - عليه السلام - ، فلمَّا أخْبَرَهُم مُوسَى بأنَّ الله قال : { ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } [ فقد تبيّن أنَّهُ أوْعَدَهُم ] بأنَّ النُّصْرَة والغَلَبَةَ لَهُمْ ، ولِذَلك خَتَمُوا كلامَهُم بقولهم : { وَعَلَى الله فتوكلوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ، يعني : توكَّلُوا على اللَّه تعالى في حُصُول هذا النصر لكم إن كُنْتُم مُؤمنين بوجود الإله القَادِرِ ، ومُؤمِنِين بِنُبُوَّةِ مُوسَى - عليه السلام - .
قوله : { قَالُواْ : ياموسى ، إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا } [ « ما » ] مصْدَريَّة ظرفية و « دَامُوا » صِلَتُهَا ، وهي « دَامَ » النَّاقصة ، وخبرها الجارُّ بعدها ، وهذا الظَّرْفُ بَدَلٌ من « أبداً » وهُوَ بَدَلُ بَعْض من كُلّ؛ لأنَّ الأبَدَ يعمُّ الزَّمَن المُسْتَقْبَل كله ، ودوام [ الجَبَّارين ] فيها بَعْضه ، وظَاهِرُ عِبَارَة الزَّمَخْشَرِيِّ يُحْتَمَلُ أن يكُون بَدَلُ [ كُلٍّ ] من كُلٍّ أو عَطْف بَيَان ، والعَطْفُ قد يَقَعُ بَيْن النَّكِرَتَيْن على كلام فيه تقدَّم .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : « وأبَداً » تعليق للنَّفْي المُؤكَّد بالدَّهْر المُتَطَاولِ ، { مَّا دَامُواْ فِيهَا } : [ بيانُ الأمْر ] ، فهذه العَبَارَةُ تَحْتَملُ أنَّهُ بَدَلُ بَعْضٍ من كُلٍّ ، لأنَّ بَدَل البَعْضِ من الكُلِّ مُبَيِّنٌ للمُرَاد ، نحو : « أكَلْتُ الرَّغِيفَ ثُلُثَهُ » ، ويحتَملُ أن يكُون بَدَلَ كُلٍّ من كُلٍّ ، فإنَّه بيانٌ أيضاً للأوَّل ، وإيضَاحٌ له ، نحو : رَأيْتُ زَيْداً أخَاك ، ويحتمل أن يكُون عَطْفَ بَيَانٍ .
قوله : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ } [ في « وَرَبُّكَ » ] أرْبَعَةُ أوجه :
أحدها : أنَّه مرفوع عَطْفاً على الفاعِل المُسْتَتِر في « اذْهَبْ » ، وجازَ ذلِك للتَّأكِيد بالضَّمِير .
الثاني : أنَّه مَرفوع بِفَعْل مَحْذُوف ، أي : ولْيَذْهَبْ رَبُّكَ ، ويكون من عَطْفِ الجُمَل ، وقد تقدَّم [ لي نَقْلُ ] هذا القَوْل والرَّدُّ عليه ، ومُخَالَفَتُهُ لنَصِّ سِيبَويْه عند قَوْلِهِ تعالى :
{ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة } [ البقرة : 35 ] .
الثالث : أنَّهُ مُبْتَدأ ، والخبَرُ محذُوفٌ ، و « الواوُ » لِلْحَال .
الرابع : أنَّ « الواوَ » لِلْعَطْفِ ، وما بَعْدَها مُبْتَدَأ محذوفٌ والخَبَرُ - أيضاً - ولا مَحَلَّ لهذه الجُمْلَة من الإعْرَاب لِكَوْنِها دُعَاءً ، والتَّقْدِير : وَرَبُّكَ يُعِينُكَ .
قوله : { هَاهُنَا قَاعِدُونَ } « هُنَا » وَحْدَه الظَّرْفُ المَكَانِي الَّذِي لا يَنْصَرِفُ إلا بِجَرِّه؛ ب « مِنْ » و « إلَى » ، و « هَا » قَبْلَهُ للتَّنْبِيه كسَائِرِ أسْمَاء [ الإشارة ] وعامله « قَاعِدُون » ، وقد أجيز أن يكُون خَبَر [ « إنَّ » ] و « قاعدُون » خَبر ثانٍ ، [ وهُو بَعِيدٌ ] .
وفي غير القُرْآن إذا اجْتَمَع ظَرْفٌ يَصِحُّ الإخْبَارُ بِهِ مع وَصْفٍ آخَر ، ويَجُوزُ أن يُجْعَل الظَّرْفُ خَبَراً ، والوَصْفُ حالاً ، وأن يَكُون الخَبَرُ الوَصْفَ ، والظَّرْف مَنْصُوبٌ به كَهَذِه الآية .
فصل
قولهم : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ } فيه وُجُوهٌ :
أحدُهَا : لعلَّ القَوْم كانُوا مُجَسِّمَةً ، يجوِّزُون الذَّهَاب والمَجِيءَ على الله تعالى .
وثانيها : يُحْتَمَلُ ألاَّ يَكُون المُرَادُ حَقِيقَة الذهَاب ، بَلْ كَما يُقَالُ : كَلَّمْته فذهَبَ يُجِيبُنِي ، أي : يُريدُ أن يُجِيبَنِي ، فكأنَّهُم قالوا : كُن أنْتَ وَربُّكَ مُريدين لقتَالِهِمْ .
ثالثها : التَّقْدِير اذْهَبْ أنْتَ وَربُّكَ مُعِينٌ لَكَ بِزَعْمِكَ فأضْمَر خَبَر الابْتِدَاء .
فإن قيل : إذَا أضْمَرنا الخَبَرَ فَكَيْفَ يَجْعَل قوله : « فَقَاتِلا » خبراً أيضاً .
فالجَوَابُ : لا يَمْتَنِعُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَر .
رابعها : أرَادَ بقوله : « وَرَبُّكَ » أخُوه هَارُون ، وسمُّوه [ ربًّا ] لأنَّهُ كان أكبر من مُوسَى .
قال المُفَسِّرُون : قولهم : { اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ } ، إن قَالُوهُ على وَجْهِ الذهَاب من مَكَانٍ إلى مَكَانٍ فهو كُفْرٌ ، وإن قَالُوهُ على وَجْهِ التَّمَرُّدِ عن الطَّاعَةِ فهو فِسْقٌ ، ولقَدْ فَسَقُوا بهذَا الكلامِ لقوله تعالى في هذه القصة : { فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين } [ المائدة : 26 ] .
والمقْصُودُ من هذه القِصَّة : شَرْحُ حال هؤلاءِ اليَهُودِ ، وشِدَّة بُغْضِهِم [ وَغُلُّوهِمِ ] في المَنَازَعَةِ مع الأنْبِيَاءِ قَدِيماً ، ثُمَّ إنَّ مُوسى - عليه السلام - لمَّا سَمِع مِنْهُم هذا الكلام قال : { رَبِّ إِنِّي لاا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي } في إعْرَاب « أخي » سِتَّةُ أوْجُه :
أظهرها : أنَّهُ مَنْصُوبٌ عَطْفاً على « نَفْسِي » ، والمعنى : لا أمْلِكُ إلاَّ أخِي مع مِلْكِي لِنَفْسي دُونَ غَيْرنَا .
الثاني : أنَّّهُ مَنْصُوبٌ عَطْفاً على اسْمِ « إنَّ » ، وخَبَرُهَا محذوفٌ للدَّلالة اللَّفْظِيَّة عَلَيْه ، أي : وإنَّ أخِي لا يَمْلِكُ إلا نَفْسَه .
الثالث : أنَّهُ مرفوع عَطْفاً على مَحَلِّ اسم « إنَّ » ؛ لأنَّه يُعَدُّ استكمال الخَبر على خلافٍ في ذَلِك ، وإن كان بَعْضُهم قد ادَّعى الإجْمَاعَ على جَوَازه .
الرابع : أنَّهُ مَرْفُوع بالابْتِدَاء ، وخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ للدَّلالة المتقدِّمَة ، ويكون قد عَطفَ جُمْلَة غَيْرَ مُؤكَّدَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ مُؤكَّدَة [ ب « إنَّ » ] .
الخامس : أنَّه مَرْفُوعٌ عَطْفاً على الضَّمير المُستكِنِّ في « أمْلك » ، والتَّقْدير : ولا يَملِكُ أخي إلا نَفْسَه ، [ وجاز ذلك لِلْفَصْل بقوله : « إلاَّ نَفْسِي » ] وقال بهذا الزَّمَخْشَرِيُّ ، ومَكِّي ، وابنُ عطيَّة ، وأبُو البقاء ورَدّ أبُو حَيَّان هذا الوَجْهَ ، بأنَّه يلزم منه أنَّ مُوسَى وهَارُون لا يَمْلِكَان إلاَّ نَفْسَ مُوسَى فَقَطْ [ وَلَيْس المَعْنَى على ذَلِك ] ، وهذا الرَّدُّ لَيْس بِشَيْءٍ؛ لأنَّ القائِل بهذا الوَجْهِ صَرَّح بِتَقْديرِ المفعول بَعْد الفاعِلِ المَعْطُوف .
وأيضاً اللَّبْسُ مأمُونٌ ، فإن كلَّ أحِدٍ يَتَبادَرُ إلى ذِهْنِهِ أنَّهُ يَمْلِكُ أمْرَ نَفْسِهِ .
السادس : أنَّه مَجْرُورٌ عطفاً على « اليَاء » في « نَفْسِي » ، أي : إلاَّ نَفْسِي ونَفْس أخِي ، وهو ضعيفٌ على قَوَاعِدِ البَصْريِّين لِلْعَطْفِ على الضَّمِير المَجْرُور من غَيْر إعادَةِ الجَارِّ ، وقد تقدَّم ما فيه .
والحَسَن البَصْرِيُّ يقرأ بِفَتْح [ ياء ] « نَفْسِي » ، و « أخِي » .
وقرأ يوسُف بن دَاوُد وعُبَيْد بن عُمَيْر « فَافْرِق » بِكَسْرِ الرَّاء ، وهي لُغَةٌ : فَرَقَ يَفْرِق ك « يضرب » قال الراجز : [ الرجز ]
1949- يا رَب فَافْرِقْ بَيْنَهُ وبَيْنِي ... أشَدَّ ما فَرَّقْت بَيْنَ اثْنَيْنِ
وقرأ ابن السَّمَيْفَع « فَفَرِّقْ » مُضَعَّفاً ، وهي مُخَالِفَةٌ للرَّسْم و « بَيْنَ » معمولة ل « افْرُق » ، وكان من حَقِّها ألا تكرَّرَ في العَطْفِ ، تقُولَ : المَالُ بَيْن زَيْدٍ وعَمْرو ، وإنَّما كرِّرَت للاحْتِيَاج إلى تكررِ الجارِّ في العَطْفِ على الضِّمِير المَجْرُور ، وهو يُؤيِّد مَذْهَب البَصْريِّين .
فإن قيل : لم قال : { لاا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي } وكان مَعَهُ الرَّجُلان المَذْكُورَان؟ .
فالجواب : كأنَّه لم يَثِقْ بِهِمَا كُلَّ الوُثُوق لِمَا رَأى [ من ] إطباقِ الأكْثَرِين على التَّمَرُّد ، ولَعَلَّهُ إنَّما قَالَ ذَلِكَ تَقْلِيلاً لمن وَافَقَهُ ، أو يكُون المُرَادُ بالأخِ مَنْ يُؤاخِيهِ في الدِّين ، وعلى هذا يَدْخل الرَّجُلان .
والمُرادُ بقوله : { فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين } أي : افْصِلْ بَيْنَنَا وبَيْنَهُم ، بأنْ تَحْكُم لَنَا بما تَسْتَحِقُّ وتحْكُم عَلَيْهِم بما يَسْتَحِقُّون ، وهُوَ في مَعْنَى الدُّعَاء عَلَيْهِم ، أو يكون المَعْنَى : خَلِّصْنَا من صُحْبَتِهِم ، وهو كقوله : { نَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين } [ القصص : 21 ] .
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
قوله : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } أي الأرْضَ المقدسة مُحَرَّمة عَلَيْهم أبَداً ، لم يرد تَحْريم تَعَبُّد ، وقيل تَحْرِيم مَنْع . [ في ] قوله : « أرْبَعين سَنَةً » وجهان :
أظهرهما أنَّه منْصُوب ل « مُحَّرَمة » ، فإنَّه رُوِي في القِصَّة أنهم بعد الأرْبَعين دخلوها ، فيكون قد قَيّد تَحْريمها عَلَيْهم بهذه المُدَّة ، وأخْبَر أنَّهم « يَتيهُون » ، ولم يُبَيِّنْ كَميَّة التِّيه ، وعلى هذا فَفِي « يَتيهُون » احتمالان :
أحدهما : أنه مستَأنَفٌ .
الثاني : أنَّه حالٌ من الضَّمِير في « عَلَيْهِم » .
الوجه الثَّاني : أن « أرْبَعين » مَنْصُوب ب « يتيهُون » ، فيكون قَيّد التِّيه [ ب « الأرْبَعين » ] .
[ وأمَّا ] التَّحْريم فمطلق ، فيحتمل أن يكُون مُسْتَمِراً ، أو يكون مُنقْطِعاً وأنَّهَا أحلت لهم .
وقد قيل بِكُلٍّ من الاحتمالين ، رُوِي أنَّه لم يدخُلْها أحَدٌ ممَّن كان في التِّيهِ ، ولم يَدْخُلْها إلا أبْناؤُهُمَ [ وأمَّا الآبَاءُ فماتُوا ، وما أدْرِي ما الَّذي حَمَل أبَا مُحَمَّد بن عَطِيَّة على تَجويزه أن يكُون العَامِلُ في « أربعين » مُضْمَراً يفسره ] « يتيهُون » المتأخر ، ولا ما اضْطَرَّه إلى ذَلِك من مَانِعِ صِنَاعِي أو مَعْنَوِي ، وجَوَاز الوَقْف والابْتِدَاء بقوله : « عَلَيْهِمْ » ، و « يَتِيهُون » [ مفهوما ممَّا ] تقدم من الإعراب .
والتِّيه : الحَيْرة ، ومنه : أرْضٌ تَيْهَاء [ لِحَيرةٍ سَالكها ] قال : [ الطويل ]
1950- بتَيْهاءَ قَفْرٍ وَالمَطِيُّ كَأنَّهَا ... قَطَا الحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُها
ويقال : « تَاهَ يتيه وهو أتْيَهُ منه ، وتَاهَ يَتُوه وهو أتْوَهُ مِنْه » [ فقول من قال : يتيه ، وتوهْتُهُ ] من التَّدَاخل ، ومثله : « طَاحَ » في كونه سُمِع في عَيْنيه الوجهان ، وأن فيه التَّدَاخُلَ - أيضاً - فإنَّ من قال : « يَطِيحُ » قال : « طَوَّحْتُه » ، وهو « أطْوَحُ منه » .
واختَلفُوا في التِّيه ، قال [ الرَّبيع : ] مقدار ستة فَرَاسِخ ، وقيل : تِسْعة فَرَاسِخ في ثلاثين فَرْسخاً ، وقيل : سِتَّة فَرَاسِخ في اثْنَيْ عشر فرسخاً .
وقيل : كانوا ستمائة ألْفِ فارس .
فإن قيل : كيف يعقل بَقَاءُ هذا الجَمْع العظيمِ في هذا القَدْر الصَّغِير من المفَازَة أرْبَعِين سنة بحيث لا يَتَّفِقُ لأحدٍ منهم أن يَجِد طَرِيقاً إلى الخُرُوج عنها؟ ولو أنهم وضعُوا أعينَهُم على حركة الشَّمس أو الكواكب لَخَرجوا منها ، ولو كانُوا في البَحْر العَظِيم فكيف في المفازة الصغيرة؟ .
فالجواب فيه وَجْهَان : الأوَّل : أن انخراق العَادَات في زمن الأنْبِياء غير مُستبعد ، إذ لو فَتَحْنَا باب الاسْتِبْعَاد لزم الطَّعن في جميع المُعْجِزات ، وهو باطِلٌ .
الثاني : إذا جعلْنَا ذلك التَّحْريم تحريم تعبد ، زال السَّؤال؛ لأن الله تعالى حرَّم عليهم الرُّجوع إلى أوْطَانِهِم ، وأمرهم بالمكْثِ في تلك المفَازةِ أرْبعين سنة مع المشقة والمحنة جَزَاءً لهم على سُوء صنِيعِهم .
قال القُرْطُبِي : [ قال ] أبو علي : قد يكونُ ذلك بأن يحول الله الأرْضَ التي هم عليها إذا نَامُوا فيردَّهم إلى المكان الذي ابْتَدؤوا منه ، وقد يَكُون بغير ذلك من الاشتباه والأسْبَاب [ المَانِعَة من ] الخُرُوج عنها على طَريق المُعْجِزة الخارجة عن العَادَة .
قال بعضهم : إنَّ هارون وموسى لم يكُونَا فيهم ، والصَّحِيح : أنَّهما كانا فيهم ، ولم يكن لهما عُقُوبة لكن كما كَانَت النَّار على إبْرَاهيم بَرْداً وسَلاَماً وإنما كانت العقوبة لأولَئِك الأقْوام ، ومات في التِّيه كل من دَخَلها ممن جاز عشرين سنة غير يُوشَع وكالب ، ولم يدخل أريحاء أحَدٌ ممَّن قالوا : { إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ [ أَبَداً ] } [ المائدة : 24 ] فلما هَلَكُوا وانْقَضت الأربعون سنة ، وَنَشَأت [ النَّواشئ ] من ذراريهم ساروا إلا حرب الجبَّارِين ، واخْتَلَفُوا فيمن تولَّى الحرب وعلى يدي من كان الفتح فقيل : إنَّما فَتَح أريحاء موسى ، وكان يُوشع على مقدمته ، فسار موسى عليه السلام إليهم فيمن بقي من بني إسرائيل فدخلها يوشع ، فقالت الجَبَابِرَة ثم دَخَلَها موسى ، وأقام فيها ما شاء الله ، ثم قَبَضَهُ اللَّه إليه ، ولا يعلم قبره أحد ، وهذا أصَحُّ الأقوال . وقيل : إنما قاتل الجبَّارين يُوشع ، ولم يَسِر إليهم إلا بعد موت موسى - عليه السلام - ، وقالوا : مات مُوسى وهارون جميعاً في التِّيه .
قال القُرْطُبِيُّ : روى مُسْلِمٌ عن أبِي هُرَيْرَة قال : « أرْسَلَ اللَّهُ ملك المَوْتِ إلى مُوسَى - عليه الصلاة والسلام - ، فلما جاءَهُ ، صَكَّهُ وفَقَأ عَيْنَه ، فرجع إلى رَبِّه فقال : » أرْسَلْتَنِي إلى عَبْدٍ لا يُريد الموْتَ « ، قال : فَرَدَّ الله إلَيْه عَيْنَهُ ، وقال : ارجع إلَيْه وقل له : يضع يده على مَتْن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سَنَة . قال : » أي رب ثم مَهْ « ، قال : » ثم الموت « قال : » فالآن « ؛ فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدّسة رمية بحجر؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » فلو كنتُ ثَمَّ لأريتُكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثِيب الأحمر « فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم قد علم قبره ووصف موضعه ، ورآه فيه قائماً يصلي كما في حديث الإسراء ، إلا أنه يحتمل أن يكون أخفاه الله عن الخلق سواه ولم يجعله مشهوراً عندهم؛ ولعل ذلك لئلا يُعبد ، والله أعلم . ويعني بالطريق طريق بيت المقدس . ووقع في بعض الروايات إلى جانب الطُّور مكان الطريق . واختلف العلماء في تأويل لَطْم موسى عين مَلك الموت وفَقْئها على أقوال؛ منها : أنها كانت عيناً متخيلة لا حقيقة ، وهذا باطل ، لأنه يؤدّي إلى أن ما يراه الأنبياء من صور الملائكة لا حقيقة له .
ومنها : أنها كانت عيناً معنوية وإنما فقأها بالحجة ، وهذا مجاز لا حقيقة . ومنها : أنه عليه السلام لم يعرف ملك الموت ، وأنه رأى رجلاً دخل منزله بغير إذنه يريد نفسه فدافع عن نفسه فلطم عينه ففقأها؛ وتجب المدافعة في هذا بكل ممكن .
وهذا وجه حسن؛ لأنه حقيقة في العين والصّك؛ قاله الإمام أبو بكر بن خزيمة ، غير أنه اعترض عليه بما في الحديث؛ وهو أن ملك الموت لما رجع إلى الله تعالى قال : « يا رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت » فلو لم يعرفه موسى لما صدق القول من ملك الموت؛ وأيضاً قوله في الرواية الأخرى : « أجب ربك » يدلّ على تعريفه بنفسه . والله أعلم . ومنها : أن موسى عليه الصلاة والسلام كان سريع الغضب ، إذا غضب طلع الدّخان من قَلَنْسُوته ورفع شعرُ بدنه جبّته؛ وسرعة غضبه كانت سبباً لصَكِّه مَلَك الموت .
قال ابن العربي : وهذا كما ترى ، فإن الأنبياء معصومون أن يقع منهم ابتداء مثل هذا في الرضا والغضب . ومنها وهو الصحيح من هذه الأقوال : أن موسى عليه الصلاة والسلام عرف ملك الموت ، وأنه جاء ليقبض روحه لكنه جاء مجيء الجازم بأنه قد أُمِر بقبض روحه من غير تخيير ، وعند موسى ما قد نص عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من « أن الله لا يقبض روح نبي حتى يخيِّره » فلما جاءه على غير الوجه الذي أُعلم بادر بشهامته وقوة نفسه إلى أدبه ، فلطمه ففقأ عينه امتحاناً لملك الموت؛ إذ لم يصرح له بالتخيير . ومما يدل على صحة هذا ، أنه لما رجع إليه ملك الموت فخيره بين الحياة والموت اختار الموت واستسلم ، والله بغيبه أحكم وأعلم . هذا أصح ما قيل في وفاة موسى عليه السلام . وقد ذكر المفسرون في ذلك قصصاً وأخباراً الله أعلم بصحتها؛ وفي الصحيح غُنْيَة عنها . انتهى .
فصل
وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة ، فيروى أن يوشع رآه بعد موته في المنام فقال له : كيف وجدت الموت؟ فقال : « كشاة تسلخ وهي حية » .
وقوله : { فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين } أي لا تحزن .
[ والأسى : الحُزْن ، يقال : أسِي - بكسر العين - يَأسَى ، بفتحها ، ولامُ الكلمة تحتمل أن تكونَ من واوٍ ، وهو الظاهرُ لقولهم : « رجل أسْوان » بزنة سكران ، أي : كثير الحزن ، وقالوا في تثنية الأسى : أسوان ، وإنما قُلبت الواوُ في « أسِيَ » يَاءً لانكسار ما قبلَها ، ويُحْتمل أن تكون ياءً فقد حُكي « رجل أسْيان » أي كثيرُ الحزن ، فتثنيتُه على هذا « أسَيان » . والله أعلم بغيبه ] .
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)
واتل عليهم نبأ ابني آدم الآية .
في تعَلُّقِ هذه الآية بما قبلها وُجُوهٌ :
أحدها : أنه تعالى قال فيما تَقدَّمَ :
{ يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } [ المائدة : 11 ] فذكر أنَّ الأعْدَاءَ يُرِيدُونَ إيْقَاعَ الْبَلاَء بِهِمْ ، لَكِنَّهُ تعالى يَحْفَظُهُمْ [ بِفَضْلِهِ ] ويمنع أعداءهم من إيصالِ الشَّرِّ إلَيْهِمْ ، ثم ذكر قِصَصاً تَدُلُّ في أنَّ كُلَّ مَنْ خَصَّهُ اللَّهُ به - تعالى - من النِّعَمِ العظيمة في الدِّينِ والدُّنْيَا فإنَّ الناس يتنازعونه حسداً ، فَذَكَرَ قِصةَ النُّقَبَاءِ الاثْنَيْ عَشَرَ ، وأخذ الميثاق منهم ، ثم إنَّ اليهود نقضوا ذلك الميثاق حتى وقعوا في اللَّعْنِ والقساوة ، وذكر بعد شِدَّة إصْرَارِ النصارى على الكفر ، وقولهم ب « التَّثْلِيث » بعد ظهور الدَّلاَئِل الواضحة القاطعة على فساد اعْتِقَادِهِمْ ، وما ذلك إلا حسداً لمحمد صلى الله عليه وسلم فيما آتاه الله من الدِّينِ الْحَقِّ ثم ذكر قصَّة ابْنَيْ آدم ، وأنَّ أحدهما قتل الآخر حسداً على قَبُولِ قُرْبَانِهِ ، وكل هذه الْقَصَصِ دالَّةٌ على أنَّ كل ذي نِعْمَة محسود ، فلما كانت نِعَمُ الله على محمَّد صلى الله عليه وسلم أعْظَمَ النعم لم يبعد اتِّفَاق الأعداء على كَيْدِهِ ، فكان ذكر هذه القصص تسلية له فيما هدّده به اليَهُود من المكر والكَيد .
ثانيها : أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بقوله : { يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } [ المائدة : 15 ] .
وهذه القصص مَذْكورة في التَّوْراة .
وثالثها : أنَّها متعلِّقَة بقصة [ محاربة ] الجبَّارين ، أي : ذكِّروا اليَهُود بحديث ابْنَيْ آدم؛ ليعلموا أن سَبِيل أسْلاَفهم في النَّدامة والحسرة الحاصلة بسبب إقدامهم على المعاصي ، مثل سَبِيل ابْنَيْ آدم في نَدَامة أحَدهما على قَتْلِ الآخَر .
رابعها : أنه مُتَّصِل بحكاية قول اليَهُود والنَّصَارَى : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] أي : لا ينفعهم كَوْنُهُم أولاد الأنْبِيَاء مع كُفْرِهِم ، كما لم يَنْتَفِع ولد آدم بقَتْلِ أخيه بكون أبيه نَبِيّاً معظماً عند الله - تعالى - .
وخامسها : لما كَفَرَ أهل الكِتَاب بمحمَّد - عليه الصلاة والسلام - حَسَداً أخْبَرَهُم الله - تعالى - بخبر ابْنَيْ آدم ، وأنَّ الحسد أوْقَعَهُ في سُوءِ الخَاتِمة ، والمقصود منه التَّحْذِير عن الحَسَدِ .
الضَّمِير في « عَلَيْهِم » فيه قولان :
أحدهما : واتل على النَّاس .
والثاني : واتْلُ على أهل الكِتَاب .
وفي « ابْنَيْ آدَمَ » قولان :
أحدهما : أنها ابْنَا آدم لِصُلْبِهِ ، وهما : قَابِيل ، وهَابِيل ، وفي سبب [ وقوع ] المُنَازَعة بينهما قولان :
أحدهما : أنَّ هَابِيلَ كان صاحب غَنَمٍ ، وقابيلَ صاحب زَرْع فقرَّب كل واحد منهما قُرْبَاناً ، فطلب هابيل أحْسَنَ شاة كانت في غنمه وجعلها قرباناً ، وطلب قابيل شَرَّ حِنْطة كانت عنده وجعلها قُرْبَاناً ، فنزلت نارٌ مِنَ السَّمَاءٍ فَاحْتَمَلَتْ قُرْبَانَ هَابيلَ ولم تَحْتَمِل قُرْبان قابيل ، فعلم قابيل أنَّ الله تعالى قبل قُرْبَان أخِيهِ ولم يقبل قُرْبَانه ، فحَسَده وقصد قَتْلَهُ .
قال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : ولم يُحْتَمَلْ قربان قَابيل ، فَعَلِمَ قَابِيلُ أنَّ الله قَبِلَ قربان أخيه ولم يقبل قربانه؛ لأنَّه كان كافراً فقال قابيل لأخيه هابيل - وكان مُؤمِناً - : أتَمْشِي على الأرض يراك النَّاس أفْضَلَ مِنِّي به ، فَحَسَدَه وَقَصَدَ قَتْلَهُ .
وثانيهما : رُوِيَ أنَّ آدم - عليه السلام - كان يُولَدُ له [ في كل بطن ] غلام وجارية وكان يزوِّج [ تلك ] البِنْت من البَطْن بالغلام من بَطْن آخر ، فولد له قَابِيل [ وتوأمته ، ] قال الْكَلْبيُّ : وكان اسْمُهَا « إقْلِيمِياء » - ، وبعدهما هَابِيل وتَوْأمَته وكانت تَوْأمَةُ قابيل أحْسَنَ النَّاسِ وجهاً ، فأراد آدَم - عليه السلام - أن يُزَوِّجَهَا من هَابِيل ، فأبى قَابِيل وقال : أنا أحَقُّ بِهَا وهو أحق بأخته وليس هذا من اللَّه وَإنَّمَا هو رَأيُكَ ، فقال آدمُ - عليه السلام - لهما : قَرِّبَا قرباناً فأيُّكُمَا قبل قُرْبانه زَوَّجْتُها منه ، فَقَرَّبَا قُرْبَانَيْن ، فَقَبِلَ اللَّهُ قُرْبَانَ هَابِيلَ بأن أنْزل على قُرْبَانه ناراً فازداد قابيل حَسَداً له .
قال القُرْطُبِيُّ : وَرُوِيَ عن جَعْفَرٍ الصَّادِقِ - رَضي الله عَنْهُ - « أنَّ آدم - عليه السلام - لم يكن يُزَوِّجُ ابنته من ابنه ، ولو فعل ذلك ما رَغِبَ عنه النَّبي صلى الله عليه وسلم ، ولا كان دين آدم عليه السلام إلاَّ دين النبي صلى الله عليه وسلم . . . » ، وذكر قَصَّته . قال القُرْطُبِيُّ : وهذه القِصَّة عن جَعْفَرٍ ما أظُنُّهَا تَصِحُّ ، وأنه يزوِّجُ غلام هذا البَطْنِ إلى البَطْن الآخر ، بدليل قوله تعالى : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } [ النساء : 1 ] ، وهذا كالنصِّ ثم نسخ ذلك على ما تقدم بيانه في « سورة البقرة » وكان جميع ما ولدته حَوَّاءُ أربعين ولداً ذكراً ، وأنثى : عِشْرين بطناً أوَّلُهُم قابيل ، وتوأمته إقليمياء وآخرهم عَبْدُ المُغِيثِ ، ثم بارك الله في نسل آدم - عليه الصلاة والسلام - .
وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - : لم يمت آدم - عليه السَّلام - حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألْفاً .
والقول الثاني : وهو قول الْحَسَنِ والضَّحَّاك : أنَّ ابْنَيْ آدَمَ اللذين قَرَّبا القربان ما كانا ابْنَيْ آدم لِصُلْبِهِ ، وإنما كانا رَجُلَيْن من بني إسرائيل [ كانت بينهما خُصُومة ، ولم تكن القرابين إلا في بني إسرائيل ] ؛ لقوله تعالى في آخر القصَّة : { مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بني إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً } [ المائدة : 32 ] .
وصدور الذنب من ابني آدم ، لا يصلح أن يكون سَبَباً لإيجاب القِصَاص عليهم زَجْراً لهم عن المُعَاودَة إلى مثل هذا الذَّنب ، ويَدُلُّ عليه أيضاً أنَّ المقصود من هذه القِصَّة : بيان أنَّ اليَهُود من قديم الدَّهر مُصِرُّونَ على التَّمَرُّدِ والحسد حتى بلغ بهم هذا الحَسَد إلى أن أحدهما لما قَبِلَ اللَّهُ قربانه حَسَدَه الآخر وقتله ، ولا شكَّ أن هذا ذَنْبٌ عَظِيمٌ .
فإنَّ قَبُولَ الْقُرْبَانِ ممَّا يدل [ عليه أن صَاحِبَه ] حسن الاعتقاد [ وأنه ] مقبول عند اللَّه - تعالى - فَتَجِبُ المُبَالَغَةُ في تَعْظِيمه ، فلما أقدم على قَتْلِهِ [ وَقَتَلَهُ ] مع هذه الحالة دَلَّ ذلك على أنَّهُ قد بَلَغَ في الحَسَد أقصى الغايات ، وإذا كان المرادُ أنَّ الحسَد داءٌ قديمٌ في بَنِي إسْرَائِيلَ ، وجب أن يقال : [ هذان الرَّجلان ] كانا من بَنِي إسْرَائيلَ ، والصَّحيح الأول؛ لأنَّ القاتل جهل ما يَصْنَع بالمقَتُول ، حتى تعلَّم ذلك من عَمَل الغراب ولو كان من بَنِي إسرائيلَ لما خَفِي عليه هذا الأمْر - والله سبحانه أعلم - .
فصل
قوله تعالى : « بالحقِّ » فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدُها : أنه حَالٌ من فاعل « اتْلُ » أي : اتلُ ذلك حال كونك مُلْتَبساً بالحقِّ أي : بالصِّدق ، وموافقاً لما في التَّوْراة والإنْجِيل .
والثاني : أنه حال من مَفْعُوله وهي « نَبَأ » ، أي : اتلُ نبأهُمَا مُلْتَبساً بالصِّدْقِ مُوافِقاً لما في كُتُب الأوَّلين لتثبت عليهم الحُجَّةُ برسالتك .
الثالث : أنه صِفَةٌ لمصدر « اتْلُ » ، أي : اتْلُ ذلك تلاوةً مُلْتَبِسة بالحقِّ والصِّدٌ كافَّة .
وَالزَّمَخْشَرِيُّ به بدأ ، وعلى الأوْجُهِ الثلاثة ف « البَاءُ » للمُصَاحبة وهي متعلِّقَة بمحذُوف .
وقَرَأ أبُو عَمْرٍو بتسكين الميم من « آدَم » قبل بَاءِ « بالْحَقِّ » ، وكذا كل مِيمٍ قبلها مُتَحرك ، وبعدها بَاء ، ومعنى الكلام : واتْلُ عليهم نبأ ابْنَيْ آدم بالغَرض [ الصحيح ] ، وهو تَقْبِيح الحسد ، والبَغْي وقيل : لِيَعْتَبِرُو به لا لِيَحمِلُوهُ على اللَّعِبِ ، كالأقاصيص التي لا فائدة فيها ، وهذا يَدُلُّ على أنَّ المقصود من ذكر القصص العبرةُ لا مجرَّد الحكاية ، لقوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب } [ يوسف : 111 ] .
قوله تعالى : { إِذْ قَرَّبَا [ قُرْبَاناً ] } فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : وبه بدأ الزَّمخشريُّ ، وأبو البقاء : أن يكون متعلِّقاً بنفس النَّبأ ، أي : قصّتُهما ، وحديثهما في ذلك الوَقْت ، وهذا وَاضِح .
والثاني : أنه بَدلٌ من « نبأ » على حَذْف مضافٍ ، تقديره : « واتْلُ » عَلَيْهِم النَّبأ ذلك الوقت ، كذا قدَّره الزَّمَخْشَرِيُّ .
قال أبُو حَيَّان : « ولا يجُوز ما ذكر؛ لأن » إذْ « لا يُضَاف إليها إلا الزَّمانُ و » نبأ « ليس بزمان .
الثالث : ذكره أبُو البَقَاءِ [ أنه حال من » نبأ « [ وعلى هذا فيتعلق بِمَحذُوف ، لكنَّ هذا الوجه غَيْر وَاضِح .
قال أبو البَقَاء : ] ولا يجوز أن يكون ظرفاً ل » اتْلُ « ؛ قلت : لأنَّ الفعل مستقبل ، و » إذ « وقت ماضٍ ، فكيف يَتلاقَيَان؟ و » الْقُرْبَانُ « فيه احْتِمَالان :
أحدهما : وبه قال الزَّمَخْشَرِيُّ : » أنه اسم لما يُتَقَرَّبُ به ، كما أنَّ الْحُلْوَانَ اسم ما يُحَلَّى أو يُعْطى « .
يقال : « قَرَّبَ صَدَقةً وتقرَّب بها » ؛ لأن « تقرَّب » مطواع « قرَّب » .
قال الأصْمَعِيُّ : [ تقربوا ] « قِرْفَ القَمع » فيعدَّى بالباء حتى يكون بمعنى : قَرَّبَ ، أي : فيكون قوله : { إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً } يَطْلُبُ مُطَاوِعاً له ، والتَّقْدِير إذْ قَرَّبَاهُ ، فتقرَّبا بِهِ وفيه بُعْدٌ .
قال أبُو حَيَّان : « وليس تقرَّب بصدقة مطاوع » قَرَّب صدقة « لاتحاد فاعل الفعلين ، والمُطاوَعَةُ يَخْتَلِفُ فيها الفاعل يكونُ من أحدهما فعل ، ومن الآخَرِ انفعال ، نحو : كَسَرْتُه فانكسر ، وفَلَقْتُه فانْفَلَق ، فليس قَرَّبَ صَدَقَةً ، وتقرَّبَ بها ، من هذا البَابِ ، فهو غلط فَاحِشٌ » .
قال شهاب الدِّين : وفيما قاله الشَّيْخ نظر؛ لأنَّا نُسَلِّم هذه القاعدة .
والاحتمال الثاني : أن يكون في الأصْل مَصْدراً ، ثم أطلق على الشيء المُتقرّب به ، كقولهم « نَسْج اليَمَن » ، و « ضَرْب الأمير » .
ويُؤيِّد ذلك أنه لم يُثَنِّ ، والموضعُ موضعُ تَثْنِية؛ لأنَّ كلاً من قَابيل وهَابيل له قُرْبان يَخُصُّه ، فالأصل : إذ قَرَّبا قُرْبَانين ولأنه لم يُثَنِّ [ لأنه مصدر في الأصل ، وللقائل بأنه اسم ما يتقرّب به لا مصدر أن يقول : إنما لم يُثَنِّ ] ؛ لأن المعنى - كما قاله أبو عَلِيّ الفَارسيّ - : إذ قَرَّبَ كلُّ واحدٍ منهما قُرْبَاناً ، كقوله تعالى : { فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً } [ النور : 4 ] أي : كل واحد منهم .
قال ابن الخطيب : جَمَعَها في الفِعْل ، وأفرد الاسْم ليستدل بِفِعْلهما على أنَّ لكلِّ واحدٍ منهما قُرْباناً .
وقيل : إنَّ القُرْبَان اسم جنس فهو يَصْلُح للوَاحِد والعَدَد .
وقوله تعالى : { فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر } .
قال أكثر المُفَسِّرِين : كان علامَةُ القبول أن تأكله النَّار ، وقال مُجَاهد : علامة الردِّ أن تأكله النَّار .
وقيل : لم يكن في ذلك الوَقْتِ فقير يُدفَع إليه ما يتقرَّب به إلى الله - تعالى - ، فكانت تَنْزِلُ من السَّمَاء نار تأكلُهُ .
وإنما صار أحد القُرْبَانَيْن مقبولاً والآخر مردوداً؛ لأنَّ [ حصول ] التَّقوى شرط في قُبُول الأعْمَال لقوله تعالى هاهنا حِكَاية عن المُحِقِّ { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } ، وقوله تعالى فيما أمَرنا به من القُرْبان بالبدن : { لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ } [ الحج : 37 ] فأخبر أنَّ الذي يصل إليه لَيْس إلاَّ التَّقوى ، والتَّقْوى من صفات القُلُوبِ؛ لقوله - عليه السلام - : « التَّقْوى هَاهُنَا » وأشار إلى القَلْب .
وحقيقة التَّقْوى : أن يكون على خَوْف ووَجَل من تقصير نَفْسه في تلك الطَّاعَة .
وأن يكون في غَايَةِ الاحْتِرَاز من أن يَأتِي بتلك الطَّاعَة لغرض سوى مَرْضَاة الله تعالى .
وألاَّ يكون فيه شركة لِغَيْر الله تعالى .
قيل : إن قابيل جعل قُرْبَانه أرْدَأ ما كان عِنْده ، وأضْمَر في نفسه ألاَّ يُبَالي قُبِلَ أو لم يُقْبَلْ ، وأنه لا يزوِّج أخْتَه من أخِيه أبَداً .
وقيل : كان قابيل لَيْس من أهل التَّقْوى والطَّاعة فلذلك لم يَقْبَل اللَّهُ قُرْبانه .
قوله تعالى : « قال لأقْتُلَنَّك » ، أي : قال الذي لم يتقبل منه للمَقْبُول منه .
وقرأ الجمهور « لأقْتُلَنَّك » ، أي : قال الذي لم يتقبل منه للمَقْبُول منه .
وقرأ الجمهور « لأقتلنَّك » بالنون الشديدة ، وهذا جوابُ قسم مَحْذُوف وقرأه زيدٌ بالخفيفة .
قال أبُو حَيَّان : [ إنما يتقبل الله مَفْعُوله مَحْذُوف ] ، لدلالة المعنى عليه ، أي : قرابينهم وأعمالهم ويجُوزُ ألاَّ يراد له مَفْعُول ، كقوله تعالى { فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى } [ الليل : 5 ] ، هذه الجُمْلَة قال ابن عطيَّة : « قبلها كلام محذوف ، تقديرُه : لِمَ تَقْتُلني وأنا لم أجْنِ شيئاً ، ولا ذَنْبَ لي في تَقَبُّلِ الله قرباني بدون قربانك » ؛ وذكر كلاماً كثيراً .
وقال غيرُه : « فيه حذفٌ يَطُول » وذكر نحوه : ولا حَاجَة إلى تقدير ذلك كلّه؛ إذ المعاني مفهومَةٌ من فَحْوَى الكلام إذا قُدِّرَتْ قَصِيرةً كان أحْسَن ، والمعنى هنا : لأقْتُلَنَّك حَسَداً على تَقَبُّل قُرْبَانك ، فَعَرَّضَ له بأن سَبَبَ التَّقَبُّل التَّقْوى .
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ : « فإن قلت : كيف [ كان ] قوله : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } جوباً لقوله : » لأقْتُلَنَّكَ « ؟ .
قلت : لمَّا كان الحَسَدُ لأخيه على تَقَبُّل قربانه هو الذي حَمَلَهُ على توعُّده بالقَتْل ، قال : إنَّما أتَيْت من قبل نفسك لانْسِلاَخها من لِبَاسِ التَّقْوَى » انتهى .
وهذا ونَحْوه من تَفسِير المَعْنَى لا الإعْرَاب .
وقيل : إن هذه الجملة اعْتِرَاض بَيْن كلام القَاتِل وكلام المَقْتُول والضَّمِير [ في « قال » ] إنَّما يعود إلى الله تعالى ، أي : قال الله ذلك لِرَسُوله ، فَيَكُون قد اعْتَرض بقوله { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله } بين كلام قابيل وهو : « قال لأقْتُلَنَّكَ » ، وبين كلام هَابِيل وهو : « لَئِنْ بَسَطْتَ » إلى آخره ، وهو في غاية البُعْد لِتَنافُر النَّظْم .
و « اللاَّم » في قوله : « لَئِنْ بَسَطْتَ » هي المُوَطِّئة .
وقوله : { مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ } جوابُ القسم المَحْذُوف ، وهذا على القاعِدَة المُقَرَّرةِ من أنَّه إذا اجْتَمَع شَرْطٌ وقسمٌ أجِيبَ سابقُهما إلا في صُورة تَقدّم التَّنْبِيه عليها .
وقال الزَّمَخْشَرِي : « فإن قلت : لِم جاء الشَّرْط بلفظ الفِعْل ، والجزاء بلفظ اسم الفاعل ، وو قوله » لَئِنْ بَسَطْتَ « ، { مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ } ؛ قلت : ليفيد أنه لا يفعلُ هذا الوَصْفَ الشَّنِيع ، ولذلك أكَّدَهُ ب » الباء « المفيدة لِتَأكِيد النَّفْي » .
وناقَشَهُ أبُو حيَّان في قوله : [ إنَّ ] { مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ } جزاء للشَّرْط .
قال : لأنَّ هذا الجواب لِلقَسَم لا للشَّرط قال : « لأنه لو كان جواباً للشَّرط للزمته الفاء لِكَوْنه منفيًّا ب » ما « والأداة جَازِمة ، وللزِمَهُ أيضاً تلك القَاعِدة ، وهو كَوْنه لم يجب الأسْبَق منهما » وهذا ليس بشيء؛ لأن الزَّمَخْشَرِيَّ سماه جزاء للشَّرط لما كان دالاًّ على جزاء الشَّرْط ، ولا نَكِيرَ في ذلك [ ولكنه مُغْرى بأن يقال : قد اعترض على الزَّمَخْشَرِي ] .
وقال أيضاً : وقد خالف الزمخشريّ كلامه هنا بما ذكره في « البَقَرة » في قوله تعالى { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين } [ البقرة : 145 ] ، من كونه جعله جواباً للقسم سادًّا مسدّ جوابِ الشَّرْط ، وقد تقدَّم بحثه مَعَهُ هناك .
فصل في معنى الآية
ومعنى قوله « بَسَطْتَ » أي : مَددْتَ إليَّ يدكَ لِتَقْتُلَنِي ما أنَا بباسطٍ يدي إليْكَ لأقْتُلَكَ إنِّي أخافُ الله ربَّ العالمِين « قال عبدُ الله بن عمرو - رضي الله عنهما - : وايمُ الله إن كان المَقْتُول أشدَّ الرَّجُلَين ، ولكن مَنَعَهُ التَّحَرُّج أن يَبْسُطَ إلى أخيه يده ، وهذا في الشَّرْعِ جَائِز لمن أُريد قَتْلُهُ أن يَنْقَاد ويَسْتَسْلِم طلباً للأجْر ، كما فعل عُثْمان - رضي الله تعالى عنه - وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمحمَّد بن مسلمة - رضي الله عنه - » ألق كمك على وجهك وكن عبد الله المَقْتُول ولا تكن عبد الله القاتِل « .
وقال مجاهد : » كتب عليهم في ذلك الوَقْتِ إذا أراد رَجُلٌ قَتْلَ رجل أنَّه لا يَمْتَنِع ويصْبر « .
قوله تعالى : { إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي } ، فيه ثلاثة تأوِيلات :
أحدها : على حَذْفِ همزة الاستفهام تقديره : أإنِّي أريد؛ وهو استفهام إنكَار؛ لأن إرادة المَعْصِيَة قبيحَةٌ ، ومن الأنْبِيَاء أقبح؛ فهم معْصُومُون عن ذلك ، ويؤيِّد هذا التَّأويل قراءة من قرأ » أنَّى أريد « بفتح النون ، وهي » أنَّى « التي بمعنى » كَيْفَ « ، أي : كيف أريد ذلك .
والثاني : أنَّ » لا « محذوفةٌ تقديره : إني أريدُ أن لا تَبُوء ، كقوله تعالى : { يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] ، وقوله تعالى : { رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [ النحل : 15 ] ، أي ألاّ تضلّوا وألا تميد وهو مستَفِيضٌ وهذا أيضاً فرار من إثْبَات الإرَادَة له ، وضعَّفَ بعضهم هذا التَّأويل بقوله - عليه الصلاة والسلام - : » لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْماً إلاَّ كانَ على ابْنِ آدمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِها؛ لأنَّهُ أوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ « .
فثبت بهذا أن الإثْمَ حاصلٌ ، وهذا الَّذي ضعَّفه به غير لاَزِم؛ لأن قائِل هذه المقالة يقول : لا يلزم من عَدَمِ إرادَته الإثْم لأخيه عَدَم الإثم ، بل قد يريد عدمه ويَقَع .
الثالث : أن الإرادة على حَالها ، وهي : إمَّا إرادة مَجَازية ، أو حقيقيَّة على حَسَبِ اختلاف المُفسِّرين في ذلك ، وجَاءَت إرادة ذلك به لمعانٍ ذكرُها ، من جملتها :
أنَّه ظهرت له قَرائِن تدلُّ على قرب أجلهِ ، وأنَّ أخاه كافر ، وإرادة العُقُوبَة بالكافر حَسَنة .
وقوله : » بِإثْمِي « في مَحَلِّ نصبٍ على الحال من فاعل » تبُوء « أي : ترجعُ حاملاً له ومُلْتبساً به ، وقد تقدم نَظِيرُه في قوله { فَبَآءُو بِغَضَبٍ } [ البقرة : 90 ] وقالوا : لا بُدَّ من مُضافٍ ، فقدَّره الزَّمَخْشَرِيُّ » بمثلَ إثمي « قال : » على الاتِّسَاع في الكلام ، كما تقول : قرأت قراءة فلان ، وكتبت كِتَابَته « .
وقدَّره بعضهم « بإثْمِ قَتْلِي ، وإثم معصِيَتك التي لم يُقبل لأجلها قُرْبَانك ، وإثْم حسدك » .
وقيل : معناه إنِّي أريد أن تَبُوءَ بعقاب قَتْلي فتكون إرادة صَحِيحَة؛ لأنَّها موافقة لِحُكم الله - عزَّ وجلَّ- ، ولا يكون هذا إرادة للقَتْل ، بل لموجِبِ القتل من الإثْم والعِقَاب رُوِي أن الظَّالم إذا لم يَجِد يوم القِيَامة ما يرضي خَصْمَه ، أُخِذَ من سيِّئَات المَظْلُوم وحمل على الظَّالم ، فعلى هذا يَجُوز أن يُقَال : إنِّي أُريد أن تَبُوء بإثْمي في قَتْلِك ، وهذا يَصْلُح جواباً .
قوله « فَطَوَّعَتْ » الجمهورُ على « طَوَّعَتْ » بتشديد الواو من غير ألف بمعنى « سَهلت وبعثت » أي : جَعَلْته سهلاً ، تقديره : بعثت له نفسه أنَّ قتل أخيه طَوْعاً سهل عليه .
قال الزَّمَخْشَرِي : « وسَّعَتْه ويسَّرَتْه من طاعَ له المرْتَعُ إذ اتَّسع » انتهى .
وقال مجاهد : شجّعْتُه .
وقال قتادة : زيَّنْتُ له نفسه ، والتَّضْعيف فيه للتَّعْدِية؛ لأنَّ الأصل : طَاعَ له قَتْلُ أخيه ، أي : انْقَادَ من الطَّواعِية ، فعُدّي بالتَّضعيف ، فصار الفاعلُ مَفْعُولاً كحاله مع الهَمْزَة .
وقرأ الحسن ، وزَيْد بن علي وجماعة كثيرة « فَطَاوعتْ » ، وأبدى الزَّمَخْشَرِيُّ فيها احتِمَالَيْن :
أحدهما : أن يكُون ممَّا جاء فيه « فَاعَلَ » لغير مُشاركة بين شَيْئيْن ، بل بمعنى « فَعَّل » نحو : ضَاعَفْتُه وضَعَّفْته ، وناعَمْتُهُ ونَعَّمْتُه ، وهذان المثالان من أمثلة سِيبويه .
قال : « فجاءوا به على مثال عاقَبْتُه » .
قال : وقد تجيء : « فاعَلْتُ » لا تريدُ بها عمل اثْنَيْن ، ولكنَّهم بَنَوْا عليه الفِعْل كما بَنَوْه على « أفْعَلْتُ » ، وذكر أمْثِلَة منها : « عَافَاهُ اللَّه » ، وقَلَّ مَنْ ذكر أن « فَاعَل » يجيءُ بمعنى « فعّلْتُ » .
والاحتمال الثاني : أن تكون على بَابِهَا من المُشَاركة ، وهو أنَّ قَتْل أخيه كأنه دَعَا نَفْسَه إلى الإقْدَام عليه فَطَاوعته انتهى .
وإيضاحُ العبارة في ذلك أنْ يُقَال : جعَل القَتْل يدعو إلى نفسه لأجل الحسد الذي لَحِقَ قَابِيل ، وجعلت النَّفسُ تَأبى ذلك وتَشْمَئِزُّ منه ، فكُلٌّ منهما - أعني القَتْلَ والنَّفْسَ - كأنه يريد من صاحِبِه أن يُطِيعَه إلى أن غَلَبَ القَتْلُ النَّفسَ فطاوعته ، و « له » مُتعلِّق ب « طوَّعت » على القِرَاءتَيْن .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : و « له » لزيادة الرَّبْط ، كقولك : حَفِظْتُ لزيْد ماله . يعني أنَّ الكلام تامٌّ بِنَفْسه .
ولو قيل : فَطَوَّعَتْ نفسُه قَتْل أخيه ، كما كان كَذَلك في قولك « حَفِظْتُ مالَ زَيْد » فأتى بهذه « اللاَّم » لقوة رَبْط الكلام .
قال أبو البقاء : وقال قوم : طاوَعَتْ تتعدَّى بغير « لاَم » ، وهذا خَطَأٌ؛ لأنَّ التي تتعدى بغير اللاَّم تتعدى لِمَفْعُول واحد ، وقد عَدَّاهُ إلى قَتْلِ أخِيه .
وقيل : التَّقْدِير : طاوَعَتْه نفسه قَتْل أخيه ، فزاد « اللاَّم » وحذف « عَلَى » ، أي : زاد اللاَّم في المفعول به وهو « الهَاء » ، وحذف [ « على » الجارَّة ل « قَتْل أخِيه » ] .
قالت المُعْتَزِلَةُ : لو كان خالق الكلِّ هو الله لكان ذلك التَّزيين والتَّطْويع مُضافاً إلى الله - تعالى - لا إلى النَّفْس .
والجواب : أنَّ الأفعال لما استَنَدَت إلى الدَّوَاعي ، وكان فاعل تِلْك الدواعي هو الله فكان فاعل الأفْعَال كلها هو الله - تعالى - ثم قال تعالى « فَقَتَلَهُ » ، قيل : لم يَدْر قابيل كيف يَقْتُل هَابِيل .
قال ابن جُرَيْج : فتمثَّل له إبليس ، فأخذ طَائِراً ووضَع رأسَه على حَجَرٍ ، ثم شَدَخَ له حجرًا آخر ، وقَابيل يَنْظُر إلَيْه فعلَّمه القتل ، فرضَخَ قابيل رَأسَ هَابِيل بين حَجَرَيْن ، قيل : قتله وهو مُسْتَسْلِمٌ ، وقيل : اغْتَالَه وهو نَائِمٌ .
وكان لهابيل يوم قُتل عشرون سنة ، واخْتَلَفُوا في موضع قَتْله
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - على جبل ثَوْر ، وقيل : عند عقبة حراء ، وقيل : بالبَصْرَة عند موضع المَسْجد الأعْظَم ، فلمَّا قتله تركه بالعَرَاء ولم يدر ما يصنع به؛ لأنَّه كان أول ميِّت على وَجْهِ الأرْض من بَنِي آدم ، وقصده السِّباع فَحَمَلَه في جراب على ظَهْرِه أرْبَعِين يَوْماً .
وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : سَنَة حتى أروح ، وعَكَفَت عليه الطَّيْر والسِّبَاع تَنْظُر متى يرمي به فَتَأكله ثم قال : { فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين } : الحائرين .
قال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - خسر دُنْيَاه وآخِرته أما الدُّنْيَا : فإنه أسْخَطَ والديه ، وَبقِي مذمُوماً إلى يوم القِيَامة ، وأما الآخِرة : فهي العِقَابُ الدَّائِم العَظِيم .
قيل : إنَّ قابيل لما قتل أخاه [ هابيل ] ، هرب إلى عدن من أرْضِ اليمن ، فأتاه إبْليس فقال له : إنَّما أكلت النَّارُ قُرْبَان هَابِيل؛ لأنَّه كان يَخْدُم النَّار ويعبُدُها ، فإن عَبدت أنت أيضاً النَّار حصل مَقْصُودك ، فبنى بيت نَارٍ وهو أوَّل من عبد النَّار ، ورُوِي أنَّه لما قَتَلَهُ اسْوَدَّ جَسَدُهُ وكان أبْيَض ، فَسَألَهُ آدم عن أخِيه ، فقال : ما كُنْت عليه وَكِيلاً ، فقال : بل قَتَلْته ، ولذلك اسوَدَّ جَسَدُك ، ومكث آدَمُ بَعْدَه مائة سنة لم يضَحْكَ قطّ .
قال الزمخشري : روي أنَّه رَثَاهُ بِشِعْر ، وهو كَذِب بحت والأنبياء معْصُومون عن الشِّعر روى أنس - رضي الله عنه - قال : « سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن يوم الثلاثاء فقال : » يوم الدَّم فيه حاضَت حَوَّاء ، وفيه قتل ابنُ آدم أخَاه « .
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
قوله تعالى { فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي [ سَوْءَةَ أَخِيهِ ] } .
هذه « اللامُ » يجوز فيها وجهان :
أحدهما : أنَّها متعلِّقة ب « يبحث » ، أي : يَنْبُشُ ويُثِيرُ التُّراب للإراءة .
الثاني : أنها متعلِّقة ب « بَعَثَ » ، والمعنى : لِيُريَه الله ، أو ليريه الغراب ، و « كَيْفَ » معمُولة ل « يُوارِي » ، وجملة الاستفهام معلقة للرُّؤْية البَصَرية ، فهي في محلِّ المَفْعُول الثَّانِي سادةٌ مسدَّه؛ لأن « رأى » البصرية قبل تعدِّيها بالهَمْزة مُتَعَدِّية لواحد ، فاكتسبت بالهمزة آخر ، وتقدَّم نَظِيرُها في قوله تعالى : { أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى } [ البقرة : 260 ] ومعنى : « يَبْحَثُ » أي : يُفَتِّش في التُّرَاب بمنقارِه ويثيره ، ومنه سُمِّيت سورة « بَراءَة » البحوث؛ لأنها فَتَّشَت على المُنَافقين ، والسَّوْءَةُ المراد بها : ما لا يجُوز أن يَنْكَشِفَ من جَسَده ، وهي الفضيحة أيضاً ، قال : [ الخفيف ]
1951- . . ... يَا لَقَوْمِي لِلسَّوْءَة السَّوآءِ
ويجوز تخفيفها بإلقاء حَرَكَة الهَمْزة على الواو ، وهي قراءة الزُّهري ، وحينئذٍ لا يجوزُ قَلْبُ هذه الواو ألِفاً ، وإن صدق عليها أنَّها حرْف علّةٍ متحرك مُنْفَتِحٌ ما قبله؛ لأنَّ حركتها عَارِضة ، ومثلُها « جَيَل » و « توم » مُخَفَّفَيْ « جَيْألَ » و « تَوْءَم » ، ويجوزُ أيضاً قلبُ هذه الهمزة واواً ، وإدغامُ ما قبلها فيها تَشبيهاً للأصلي بالزَّائِد [ وهي لُغة ] يَقُولون في « شَيْء » و « ضَوْء » : شَيّ وضوّ ، قال الشَّاعر : [ البسيط ]
1952- وإنْ يَرَوْا سَيَّةً طَارُوا بِهَا فَرَحاً ... مِنِّي ومَا سَمِعُوا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوا
وبهذا قرأ أبُو جعفر .
قوله تعالى : « يَا ويْلَتَا » قلب يَاء المُتَكلم ألِفاً ، وهي لغة فاشيةٌ في المُنَادى المضاف إليها ، وهي إحدى اللُّغات السِّت ، وقد تقدم ذكرُها .
وقُرِئ كذلك على الأصْلِ وهي قِرَاءة الحسن البَصْرِيِّ .
والنِّدَاء وإن كان أصلُه لِمَنْ يتأتَّى منه الإقْبَالُ وهم العقلاءُ ، إلا أنَّ العرب تتجوَّز فتُنَادِي ما لا يَعْقِلُ . وهذه كلمة تُسْتَعمل عند وُقُوعِ الدَّاهِيَة العظيمة ولفظُهَا لفظ النِّداء ، كأن الوَيْل غير حَاضِر عِنْده ، والمعنى يا وَيْلَتَى احضُري ، فهذا أوانُ حُضُورك ، ومثله : { ياحسرة عَلَى العباد } [ يس : 30 ] ، { ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ } [ الزمر : 56 ] ، وأمال حمزة ، والكسائي ، وأبُو عمرو في رواية الدَّوْري ألف « حَسْرَتَا » ، والجمهور قرأ « أعَجَزْتَ » بفتح الجيم ، وهي اللُّغة الفَصِيحَة ، يقال : « عََجَزْت » بالفتح في الماضي ، « أعْجِزُ » بِكَسْرها في المُضَارع .
وقرأ الحسن ، وابن عبَّاس ، وابنُ مسعُود ، وطلحة بكسرها وهي لغة شاذَّة ، وإنَّما المشهور أن يُقَال : « عَجِزت المرأة » بالكَسْر أي كَبُرت عَجِيزتُهَا ، و « أن أكون » على إسْقَاط الخَافِض ، أي : عَنْ أنْ أكونَ ، فلما حُذِف جَرَى فيها الخلاف المَشْهُور .
قوله تعالى : « فَأوَارِيَ » .
قرأ الجمهورُ بنصب الياء ، وفيها تَخْرِيجان :
أصحهما : أنه عطف على « أكون » المنصوبة ب « أنْ » منتظماً في سِلْكِهِ ، أي : أعجَزْت عن كوني مُشْبِهاً للغُرَاب فَمُوَارياً .
والثاني : قاله الزمخْشَريُّ ، ولم يذكر غيره أنَّه منْصوب على جواب الاستفهام في قوله : « أعجَزْتُ » ، يعني : فَيَكونُ من باب قوله : { فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ } [ الأعراف : 53 ] .
ورده أبو البقاء بعد أن حَكَاهُ عن قَوْمٍ ، قال : وذكر بعضهم : أنه يجُوزُ أن يَنتصب على جواب الاستفهام؛ وليس بِشَيء ، إذ ليس المَعْنى : أيكون منِّي عجز فَمُواراة ، ألا ترى أن قولك : « أين بَيْتُكَ فأزُوركَ » معناه : لو عَرَفْتُ لزرتُ ليس المَعْنَى هنا « لو عَجَزت لوَاريت » .
قال شهاب الدين : وهذا الرَّدُ على ظاهره صَحِيحٌ .
وبَسْطُ عبارة أبي البَقَاء : أنَّ النُّحاة يَشْتَرِطون في جواز نَصْب الفعْلِ بإضمار « أنْ » بعد الأشياء الثمانية - غير النَّفْي - أن يَنحلَّ الكلامُ إلى شرطٍ وجَزَاء فإن انعقد منه شَرْط وجزاء صَحَّ النَّصْبُ ، وإلاَّ امتنعَ ، ومنه « أيْن بيتُك فأزُورَك [ أي ] إن عَرّفتني بَيْتَك أزُورَك » .
وفي هذا المقام لو حَلَّ منه شرط وجَزَاء لفسد المعنى؛ إذ يصير التَّقْدِيرُ : إنْ عَجَزْت وارَيْت ، وهذا ليس بِصَحِيح؛ لأنه إذاعَجز كيف يُوَارِي .
وردَّ أبو حيَّان على الزَّمخشريِّ بما تقدَّم ، وجعله غَلَطاً فاحِشاً وهو مَسْبُوقٌ إليه كما رأيت ، فأساءَ عليه الأدبَ بشيء نَقَلَهُ عن غيره الله أعلمُ بصحَّتِهِ .
وقد قرأ الفَيَّاض بن غَزْوَان ، وطلحة بن مصرف « بسكون الياء » ، وخرَّجها الزمخشري على أحد وجهين :
إمَّا القَطْع ، أي : فأنا أوَاري ، وإمَّا على التَّسْكِين في موضع النصب تخفيفاً .
وقال ابنُ عطيَّة : « هي لغة لتوالي الحركات » .
قال أبو حيَّان : « ولا يصلح أن تعلَّلَ القِرَاءة بهذا ما وُجِد عنه مندُوحَةٌ؛ إذ التَّسْكينُ في الفَتْحَة لا يجُوز إلاَّ ضرورة ، وأيضاً فلم تتوالَ حركات » .
وقوله « فَأَصْبَحَ » بمعنى « صَارَ » .
قال ابن عطيَّة : قوله : « أصْبَح » عبارة عن جميع أوْقَاتِه قيم بَعْض الزَّمان مكان كله ، وخُصَّ الصَّباحُ بذلك [ لأنه ] بَدْءُ النهار ، والانبعاث إلى الأمُور ، ومَظَنَّةُ النَّشَاط ، ومنه قولُ الرَّبِيع : [ المنسرح ]
1953- أصْبَحْتُ لا أحْمِلُ السِّلاحَ ولا .. . . .
وقول سعد بن أبي وقَّاص : ثم أصَبْحَت بنو [ أسد تعزرني على ] الإسلام إلى غير ذلك .
قال أبو حيَّان : وهذا التَّعْليل الذي ذكره؛ لكون « أصْبَح » عبارة عن جميع أوْقاته ، وإنما خصَّ الصَّبَاح لكونه بَدْءُ النَّهَار ليس بِجَيّد؛ لأن العرب اسْتَعْمَلَت « أضْحَى » و « بَاتَ » و « أمْسَى » بمعنى « صَار » ، وليس شيء منها بَدْء النَّهَار .
قال شهاب الدين : وكيف يُحْسِن أن يردَّ على أبي محمد بِمِثْل هذا ، وهُوَ لم يَقُل : إنها لمَّا أُقِيمَت مقام أوْقَاته للعلَّةِ الَّتي ذكرها تكونُ بمعنى « صَار » ، حتَّى يلزمَ بأخواتها نَاقِصة عليه ، وسيأتي الكلام على ذلك في « الحُجُرَات » عند قوله تعالى
{ فَتُصْبِحُواْ على مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [ الآية : 6 ] - إن شاء الله تعالى - .
فصل
فإن قيل : فِعْل الغُرَابِ صار سنَّة في دفن الخَلْقِ فَرْضاً على جميع النَّاس على الكِفَاية .
فالجواب : قال بعض المُفَسِّرين : لمَّا قتله ولم يدر ما يَصْنَع به بَعَثَ اللَّه غرابين فاقْتَتَلا ، فقتل أحدُهما الآخر فحفَر له بِمِنْقَاره ورجليه ، ثمَّ ألقاه في الحُفْرَة فتعلَّم قابيل ذلك ، وعَلِمَ أن الغُرَاب أكثر عِلْماً منه ، وعلم أنَّه إنما أقدم على قَتْل أخيه [ بسبب ] جهله وقلَّة معرفته فَنَدِم وتلهف . وقال الأصمُّ : لما قتله وتركه فَبَعَث اللَّه غُرَاباً يحثو التَّراب على المقْتُول ، فلما رأى القَاتِل أنَّ المقتول كيف يُكرمُهُ اللَّه بعد موته نَدِم وقال : يا وَيْلَتا ، وقال أبو مُسْلم : عادة الغُرَاب دفن الأشْيَاء فجاء غرابٌ ودفن شيئاً؛ فتعلَّم ذلك منه .
وقيل : إنَّه كان عالماً بكيْفِيَّة الدَّفن ، وأنه يبعد في الإنْسَان العَاقِل ألاَّ يُهْدَى إلى هذا القدر من العمل ، إلاَّ أنه لما قَتَلَهُ تركه بالعَرَاء ، فلما رَأى الغُرابَ يدفن الغُرابَ رقَّ قلبه ، وقال : إن هذا الغُراب لما قتل ذلك الآخر فبعد أن قَتَلَهُ أخْفَاه تحت الأرْض ، أفأكون أقلَّ شَفَقَة من هذا الغُراب؟! فجاء وحَثَى التُّراب على المَقْتُول ، فلما رأى أنَّ الله تعالى أكرمه حال حياته بقبول قُرْبَانه ، وأكرمه بعد مماته بأن بعث الغُراب ليدفنه تَحْتَ الأرْض ، علم أنَّه عظيم الدَّرجة عند الله تعالى؛ فتلهَّف على فِعْله ، وعَلِمَ أن لا قدرة له على التَّقَرُّب إلى أخيه إلاَّ بأن يَدْفِنَه في الأرض فلا جرم قال : { يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب } . فإن قيل : لفظ النَّدَم وضع للزُوم ، ومنه سُمِّي النَّدِيم نَدِيماً لأنه يُلازِمُ المَجْلس .
فالجواب أنَّه - عليه الصلاة والسلام - قال : { النَّدم تَوْبَة } وأجابوا عنه بوجوه :
أحدها : أنه لما تعلَّم الدَّفن من الغُرَاب صار من [ النَّادِمين على كونه حَمَلَهُ على ظهره سنة .
وثانيها : أنه صار من النَّادمين ] ؛ لأنَّه لم ينتفع بقتله ، وسخطَ عليه بسببه أبواه وإخوته ، وكان نَدمُه لهذه الأسْباب لا لِكَونِهِ مَعْصِية .
وثالثها : أنَّ ندمه كان لأجْل تركه بالعَرَاء استِخْفافاً به بعد قَتْله ، لأنَّ الغُرَاب لما قتل الغُرَاب ودفنه ، نَدِم على قساوة قَلْبه ، وقال : هذا أخِي وشقيقي ومَنْ لحمه مختلط بِدَمي ، فإذا ظهرت الشَّفَقَة من الغُرَاب ولم تظهر منِّي على أخِي ، كنت دون الغراب في الرَّحْمَة والشَّفَقة والأخْلاق الحميدة ، فكان نَدَمُه لهذه الأسْبَاب ، لا للخوف من الله - تعالى - ، فلذلك لَمْ يَنْفَعه النَّدم .
قال المُطَّلِب بن عَبْد اللَّه بن حِنْطَب : لمَّا قتل ابن آدَم أخَاهُ ، وجفَّت الأرض سَبْعَة أيَّام بما عليها ، ثمَّ شَرِبت الأرْضُ دَمَهُ كما تشرب الماء ، فنادَاه [ آدم ] : أين أخُوكَ هَابِيلُ؟ قال : ما أدري ما كنت عليه رَقِيباً .
فقال آدم : إن دم أخيك ليُنَادِيني من الأرْضِ . فلم قَتَلْتَ أخاكَ؟ قال : فأيْنَ دَمُه إن كنت قتلته؟ فحرّم اللَّه - عزَّ وجل - على الأرْض أن تَشْرَب بعده [ دماً ] أبداً ، وقيل لقابيل : اذْهَب طَرِيداً شريداً فزعاً مَرْعُوباً لا تأمَن من تراه ، فأخَذَ بيد أخته « إقْلِيما » وهَرَب بها إلى اليَمَن ، فأتاه إبليس فقال له : إنَّما أكَلَت النَّار قربان أخيك هَابيل؛ لأنَّه كان يعبُد النَّار فانْصِبْ أنت أيضاً ناراً ، وهو أوَّل من عَبَد النَّار قال مُجَاهد : فعلقت إحدى رِجْلَيْ قَابِيل إلى فخذهَا وسَاقِهَا ، وعلقت من يَوْمئذٍ إلى يومِ القِيَامة ، ووجهه إلى الشمس حيث ما دارت عليه ، في الصَّيْف حَظِيرةٌ من نار ، وفي الشِّتَاء حظيرةٌ من ثَلْج ، واتَّخَذَ أولاد قَابِيل آلات اللَّهْو ، وانهمكوا في اللَّهْو وشُرْبِ الخَمْر وعِبَادة النار والزِّنا والفَواحِش ، حتَّى غرقهم اللَّه بالطُّوفان أيَّام نوح - عليه السلام - وبقي نَسْلُ شِيث .
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
قوله : [ { مِنْ أَجْلِ ذلك } ] فيه وجهان :
أظهرهما : أنه متعلِّق ب « كَتَبْنَا » وذلك إشارةٌ إلى القَتْل ، و « الأجْل » في الأصْل هو : الجناية ، يقال : « أجَل الأمْر يأجل [ إجْلاً ] وأجْلاً وإجْلاَء ، وأجْلاَء » بفتح الهمزة وكسْرِها إذا جَنَاهُ وحْدَه ، مثل : أخَذَ يَأخُذُ أخْذاً .
ومنه قول زُهَيْرٍ : [ الطويل ]
1954- وَأهْلِ خِبَاءٍ صالحٍ ذَاتُ بَيْنهمْ ... قَدِ احْتَرَبُوا فِي عَاجِلٍ أنَا آجِلُهْ
أي : جَانِيه .
ومعنى قول النَّاس « فَعَلْتُه من أجْلِك ولأجلك » أي : بِسببك ، يعني : مِنْ أنْ جَنَيْتَ فِعْلَه وَأوْجَبْته ، وكذلك قولهم : « فَعَلْتُه مِنْ جَرَّائك » ، أصْلُهُ من أن جَرَرْتَهُ ، ثم صار يستعمل بمعنى السَّبَب .
ومنه الحديث « مِن جَرَّاي » أي : من أجْلِي .
و « من » لابتداء الغاية ، أي : نَشَأ الكَتْبُ ، وابتدى من جناية القَتْلِ .
ويجُوزُ حَذْفُ « مِنْ » واللاَّم وانتصاب « أجْل » على المَفْعُول له إذا استكمل الشُّروط له . قال : [ الرمل ]
1955- أجْلَ أنَّ اللَّهَ قَدْ فَضَّلَكُمْ .. . . .
والثاني : أجَازَ بعض النَّاس أن يكون مُتعلِّقاً بقوله : « من النَّادمين » أي : ندم من أجْلِ ذلك ، أي : قَتْلِهِ أخاه قال أبو البقاء : ولا تتعلَّقُ ب « النَّادمين » ؛ لأنَّه لا يحسن الابتداء ب « كَتَبْنَا » هنا ، وهذا الردُّ غير وَاضِح ، وأين عَدَمُ الحُسْنِ [ بالابتداء ] بِذَلك؛ ابتدأ الله - تعالى - إخْبَاراً بأنَّه كتب ذلك ، والإخْبَار مُتعلِّق بقصة ابْنَيْ آدم إلا أنَّ الظَّاهر خلافه كما تقدَّم .
[ والجمهور على فتح همزة « أجل » ، وقرأ أبو جعفر بكسرها ، وهي لغة كما تقدم ] ورُوي عنه حذفُ الهمزة ، وإلقاءُ حركتها وهي الكسرة على نون « مِنْ » ، كما يَنْقِل وَرْش فتحتها إليها ، والهاء في « أنَّه » ضمير الأمْر والشَّأن ، و « منْ » شرطيَّة مبتدأة ، وهِيَ وخَبَرُها في مَحَلِّ رفعٍ خبراً ل « أن » ، فإن قيل : قوله { مِنْ أَجْلِ ذلك } أي : من أجْل ما مَرَّ من قصَّة قَابِيل وهَابِيل كَتَبْنَا على بَنِي إسْرَائيل القصاص وذلك مُشْكِلٌ ، لأنه لا مُنَاسَبَة بين واقِعَة قَابِيل وهَابِيل ، وبين وُجُوب القِصَاص على بَنِي إسْرائيل .
فالجواب من وجهين :
أحدهما : ما تقدَّم نَقْلُهُ عن الحسن ، والضَّحَّاك : أنَّ هذا القَتْل إنما وقع في بَنِي إسْرَائيل ، لا بَيْنَ ولديْ آدم لصُلْبِه .
الثاني : أن « مِنْ » في قوله { مِنْ أَجْلِ ذلك } ليس إشارة إلى قصَّة قَابِيل وهَابِيل بَلْ هُو إشَارَةٌ إلى ما ذكر في القِصَّة من أنْوَاع المَفَاسِدِ الحاصلة بِسَبَب القتل المحرَّم ، كقوله « فأصْبَح من الخَاسِرين » ، و « أصْبَح من النَّادِمين » ، فقوله « أصبح من الخَاسِرِين » إشارةٌ إلى أنه حَصَل في قلبه أنْوَاع النَّدم والحسرة والحُزْن ، مع أنَّه لا دَافِع لذلك ألْبَتَّة .
فإن قيل : حُكْم القِصَاص ثَابتٌ في جميع الأمَم فما فَائِدَة تخْصِيصِه بِبني إسْرائيل؟ .
فالجواب : أنَّ وجوب القِصَاص وإن كان عاماً في جميع الأمَمِ ، إلا أنَّ التَّشْديد المَذْكور في حقِّ بَنِي إسْرائيل غير ثَابتٍ في جميع الأدْيَان؛ لأنَّه - تعالى - حكم هاهُنَا بأن قَتْل النفس جار مُجْرى قَتْل جَمِيع النَّاس ، فالمقصود منه : المُبَالَغَة [ في عقاب القتل العَمْد العدوان ، والمقصود من هذه المُبَالَغَة : أنَّ اليهُود مع عِلْمهم بهذه المُبَالغة العَظِيمة ] أقدَموا على قتل الأنبياء والرُّسل ، وذلك يدُلُّ على غاية قَسَاوَة قُلُوبهم ونِهَاية بُعْدهم عن طَاعَة الله ، ولما كان الغرض من ذكر هذه القصص ، تَسْلية الرَّسول في الواقعة التي ذكرْنا ، من أنَّهُم عزموا على الفتك برسُول اللَّه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وبأكابر الصَّحابة ، [ فكان تَخْصِيص ] بَنِي إسرائيل في هذه القِصَّة بهذه المُبَالغَة مُنَاسِباً للكَلاَم .
فصل
استدلَّ القَائِلُون بالقياس بهذه الآية على أنَّ أحْكَام الله تعالى قد تكون مُعَلَّلة؛ لأنَّه قال : { مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا } وهذا تَصْرِيح بأن كتبه تلك الأحْكَام معلَّلٌ بتلك المَعَانِي المُشَار إليها بقوله { مِنْ أَجْلِ ذلك } .
وقالت المُعتزلةُ :
دَلَّت هذه الآيةُ على أنَّ أحْكَام اللَّه معلّلة بمصالح العِبَاد ، وإذا ثَبَتَ ذلك امْتَنَع كونه خَالِقاً للكُفْر والقَبَائح ، مُريداً وقوعها مِنْهم؛ لأنَّ خلق القَبَائح وإراداتها يمنع من كونه تعالى مُرَاعياً للمصالح ، وذلك يُبْطِل التَّعْلِيل المَذْكُور في هذه الآية .
وأجاب القَائِلُون بأنَّ تعلِيلَ أحْكَام اللَّه مُحَالٌ بوجوه :
أحدها : أن العِلَّة إذا كانت قَدِيمة لزم قدم المَعْلُول ، وإن كانت مُحْدَثة وجب تَعْلِيلُها بعلَّة أخرى ولزم التَّسَلْسُل .
وثانيها : لو كان مُعَلَّلاً بِعِلَّة ، فوجود تلك [ العِلَّة ] وعدمها بالنِّسْبَة إلى اللَّه تعالى إن كان على السَّوِيَّة امتنع كونه عِلَّة ، وإن لم يَكُن فأحدهما به أوْلى ، وذلك يَقْتَضِي كونه مُسْتَفِيداً تلك الأوْلويَّة من ذلك الفِعْلِ [ فيكون ناقِصاً لذاته مُسْتَكْملاً بغيره وهو مُحَال .
وثالثها : ثبت توقف الفعل ] على الدَّوَاعي ، ويمتنع وقوع التَّسَلْسُل في الدَّواعي ، بل يجب انْتِهَاؤُها إلى الدَّاعية الأولَى التي حَدَثَت في العَبْد ، لا مِن العَبْد بل من الله تعالى ، وثبت أنَّ عند حُدُوث الدَّاعِية يجب الفعل . وعلى هذا التقدير : فالكُلّ من الله تعالى ، وهذا يَمْتَنِع من تَعْلِيل أفْعَال اللَّه وأحكامه برعاية المصالح ، وإذا ثبت امْتِنَاع تَعْليل أفعال اللَّه وأحكامه ثَبَتَ خلوّ ظاهر هذه الآية من المُتَشَابِهَات ، ويؤكِّده قوله تعالى : { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً } [ المائدة : 17 ] ، وذلك نصٌّ صَرِيحٌ في أنَّه يحسن من اللَّه كُلُّ شيء ، ولا يَتَوَقَّف خلقه وحُكْمُه على رعاية المَصْلَحة ألبتة .
قوله تعالى « بِغَيْر نَفْسٍ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه مُتَعَلِّقٌ بالقتل قَبْلها .
والثاني : أنَّه في مَحَلِّ حالٍ من ضمير الفاعل في « قتل » ، أي : قَتلها ظالماً ، ذكره أبو البقاء .
وقوله تعالى « أوْ فسادٍ » الجمهور على جَرِّهِ عَطْفاً على « نَفْس » المجرور بإضافة [ « غَيْر » إليها ] ، وقرأ الحسن بنصبه ، وفيه وجهان :
أظهرهُمَا : أنَّه منصوبٌ على المَفْعُول بعامل مضمر يَلِيقُ بالمَحَلِّ ، أي : أو أتى أو عَمِل فََسَاداً .
والثاني : أنه مصدرٌ ، والتقدير : أو أفْسَد فَسَاداً بمعنى إفساد فهو اسْمُ مَصْدَر ، كقوله : [ الوافر ]
1956- وَبَعْدَ عَطَائِكَ المائَةَ الرِّتَاعَا ... ذكره أبو البَقَاء .
و « في الأرض » متعلِّق بنفس « فَسَاد » ؛ لأنَّك تقول : « أفْسَد في الأرْض » إلاَّ في قراءة الحسن بنَصْبِه ، وخرَّجناه على النَّصْب على المَصْدرية ، كما ذكره أبُو البقاء ، فإنه لا يتعلَّق به؛ لأنه مصدر مُؤكِّد ، وقد نَصُّوا على أنَّ المؤكد لا يعمل ، فيكُون « في الأرضِ » متعلِّقاً بمحذُوف على أنه صِفَة ل « فساداً » والفاءُ في « فَكَأنَّمَا » في الموضعين جواب الشَّرْط واجِبَة الدُّخول ، و « ما » كافة لحرف التَّشْبيه ، والأحْسَن أن تسمى هُنَا مهيِّئة لوقوع الفِعْل بَعْدَهَا ، و « جَمِيعاً » : إمَّا حال أو تَوْكِيدٌ .
فصل
قال الزَّجَّاج : التقدير : من قتل نَفَساً بغير نَفْس أو فَسَاد في الأرْض ، وإنَّما قال تعالى ذلك؛ [ لأنَّ ] القَتْل يحل لأسْبَاب كالقصاص ، والكفر ، والزِّنا بعد الإحْصَان ، وقطع الطَّرِيق ونحوه ، فجمع تعالى هذه الوُجُوه كُلَّها في قوله تعالى { أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض } ثم قال : { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً } .
فإن قيل : كيف يكُون قتل النَّفْس الوَاحِدة مساوِياً للكُلِّ؟ فذكر المُفَسِّرُون له وُجُوهاً ، وهي مَبْنِيَّة على مُقَدِّمة ، وهي أنَّ تَشْبيه أحَد الشَّيْئَيْن بالآخَر ، لا يَقْتَضِي الحُكْم بمُشَابَهَتِهما من كلِّ الوُجُوه ، وإذا صحَّت المُقدِّمة ، فنقُول : الجواب من وجوه :
أحدها : [ المقصُود من تَشْبيه ] قَتْل النَّفْس الواحِدَة بقَتْل النُّفُوس : المُبَالغَة في تَعْظيم أمر القَتْل العَمْدِ العُدوان وتَفْخِيم شَأنه ، يعني : كما أنَّ قَتْل كلِّ الخَلْق أمر مستَعْظمٌ عند كلِّ أحَدِ ، فكَذَلِك يجب أن يكون قتل الإنْسَان الواحِد مستَعْظَماً منهياً ، فالمَقْصُود بيان مُشاركتهمَا في الاستِعْظَام ، لا بيان مُشاركتِهمَا في مقدار الاسْتِعْظام ، وكيف لا يكُون مُسْتعْظَماً وقد قال - تعالى - : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } [ النساء : 93 ] .
وثانيها : أنَّ جميع النَّاس لو عَلِمُوا من إنْسَان واحد أنَّه يقصد قَتْلَهم بأجْمَعِهِم ، فلا شكَّ أنهم يَدْفَعُونه دفعاً لا يُمْكِن تَحْصِيل مَقْصُوده ، فكذلِكَ إذا عَلِموا منه أنَّه يقصد قَتْلَ إنْسَان واحد [ مُعيَّن يجب أن ] يَجِدُّوا في دَفْعِه ، ويَجْتَهِدوا كاجْتِهَادهم في الصُّورة الأولى .
وثالثها : أنه لمَّا أقدم على القَتْلِ العَمْدِ العُدْوان فقد رجَّح داعِية الشَّهْوة والغضب على دَاعِيَة الطَّاعة ، ومتى كان الأمر [ كَذَلِكَ ] كانَ التَّرْجِيح حَاصِلاً بالنِّسبة إلى كلِّ واحد ، فكان في قلبه أنَّ كلَّ أحد نازعه في شيءٍ من مَطَالبه؛ فإنَّه لو قدر عليه لقتَلَهُ ، ونيَّة المؤمن في الخَيْرَات خَيْر من عَمَلِهِ ، فكذلك [ نِيَّة المؤمن في الشُّرور شرٌّ من عمله ، فيصير المَعْنَى : من يَقْتُل إنساناً قَتْلاً عمداً عُدْوَاناً فكأنَّمَا قَتَل جَمِيع النَّاس ] .
ورابعها : قال ابْنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - في رواية عِكْرِمة « مَنْ قتل نَبيّاً أو إمامَ عَدْلٍ ، فكأنَّما قتل النَّاسَ جَمِيعاً ومن أحْيَاها : من سَلِمَ من قتلها ، فكان كمن سَلِمَ من قَتْلِ النَّاس جَمِيعاً » .
وخامسها : قال مُجَاهِد : من قتل نَفْساً محرَّمة يَصْلَى النَّار بقتلها ، كما يصلاها لو قتل النَّاس جميعاً ، ومَنْ أحْيَاها : من سلم من قتلها ، فكان كمن سلم من قتْلِ النَّاس جَمِيعاً .
وسادسها : قال قتادة : أعْظَم اللَّه أجرَهَا وعظَّم وزرَها ، معناه : من استَحَلَّ قتل مُسْلِم بغير حَقِّه ، فكأنَّما قتل النَّاس جميعاً في الإثْم لا يَسْلَمُون منه ، ومن أحْيَاها وتورَّع عن قَتْلِها ، فكأنَّما أحْيَا النَّاس جَمِيعاً في الثَّواب لسلامتِهم منه .
وسابعها : قال الحسن : فكأنَّما قتل النَّاس جَمِيعاً ، يعني : أنَّه يَجِبُ عليه من القِصَاص بِقَتْلِها ، مثل الذي يجب عليه لو قتل النَّاسَ جَمِيعاً ، ومن أحْيَاها ، أي : عَفَا عَمَّنْ وَجَبَ عليه القِصَاص له ، فَلَمْ يَقْتُلْه فكأنَّما أحيا النَّاس جَمِيعاً ، قال سُليمان بن عَلِي : قلت للحَسَن : يا أبَا سَعِيد : أهِيَ لَنَا كما كانت لِبَني إسْرائيل؟ قال : والذي لا إله غيره ما كان دَمُ بَنِي إسرائيل أكرم على الله من دَمائِنا .
وإحْيَاء النَّفْس : هو تَخْلِيصُها من المُهْلِكَات كالحَرق ، والغَرَقِ ، والجُوعِ المُفْرط ، والبرد والحرِّ المُفْرطيْن .
ثم قال : { وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بالبينات ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذلك } ، أي : بعد مَجِيء الرُّسل وبعدما كَتَبْنَا عليهم تَحْريم القَتْل ، « لمُسْرِفُون » الذي هو خَبَر « إن » ولا تَمْنَعُ من ذلك لام الابتداء فاصِلَة بين العامل ومعمُوله المتقدِّم عليه؛ لأنَّ دخولها على الخَبَر على خِلاف الأصْل؛ إذ الأصْل دُخولُها على المُبْتَدأ ، [ وإنَّما منع منه دخول « إنَّ » و « ذلِكَ » إشارة إلى مجيء الرُّسُل بالبيِّنات ] .
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
لما ذكر تَغْلِيظ الإثْم في قَتْل النَّفس بغير حقٍّ ولا فساد في الأرض أتبعه بِبَيَان الفَسَاد في الأرْض .
وقوله تعالى : { إِنَّمَا جَزَآءُ الذين } : مُبْتَدأ وخبره « أنْ يُقَتَّلُوا » وما عطف عليه ، أي : إنَّما جَزاؤُهُمُ التَّقْتِيلُ ، أو التَّصلِيب ، أو النَّفْي .
وقوله : « يُحارِبُون اللَّه » ، أي : يُحَارِبون أولِيَاءه كذا قدَّرَه الجُمْهُور .
وقال الزَّمَخْشَريُّ : « يُحَارِبُون رسُول الله ، ومحاربة المُسْلِمِين في حكم مُحَارَبَتِه » .
يعني : أنَّ المقصود أنَّهم يُحَارِبون رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وإنما ذكر اسْم الله - تبارك وتعالى - تَعْظِيماً وتَفْخِيماً لمن يُحَارَبُ ، كقوله تعالى : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفتح : 10 ] ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك عند قوله تعالى : { يُخَادِعُونَ الله والذين آمَنُوا } [ البقرة : 9 ] .
فإن قيل : المُحَارَبة مع اللَّه - عزَّ وجل - غيْر مُمْكنة ، فيجب حَمْلُه على المحاربة مع أولياء اللَّه ، والمحاربةُ مع رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ممكِنَةٌ فلفظ { يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ } يَلْزَم أن يكون مَحْمُولاً على المجاز والحقيقة معاً فلفظ المحاربة بما نُسِبَت إلى الرَّسُول فلفظ المحاربة إذا نُسِبَت إلى اللَّه تعالى كان مَجَازاً ، لأن المُراد منه مُحَاربة أوْلِيَاء اللَّه ، وإذا نُسِبَتْ إلى الرَّسُول كانت حَقِيقَة ، وذلك مُمْتَنِعٌ .
فالجواب : إنَّما تحمل المُحاربة على مُخالفةِ الأمْرِ والتَّكْلِيفِ .
والتقدير : إنَّما جزاء الذين يُخالِفُون أحْكامَ اللَّه تعالى وأحكام رسُولِه ، ويَسْعَوْن في الأرْض فَسَاداً كذا وكذا ، ومن يجز ذلك لم يَحْتَجْ إلى شيء من هذه التَّأوِيلات بل يقول تُحْمَلُ محاربتهم للَّه - تعالى - على مَعْنًى يَلِيق بها ، وهي المُخالفةُ مَجازاً ، ومحاربَتُهم لِرسُوله على المُقاتلةِ حَقِيقة . قوله : « فساداً » في نصبه ثلاثة أوجُه :
أحدها : أنه مَفْعُول من أجله ، أي يُحَاربُون ويسْعَون لأجل الفساد ، وشروط النَّصْبِ موجُودة .
الثاني : أنَّه مصدر وَاقع موقع الحَالِ : ويسْعَوْن في الأرْض مفسدين ، أو ذوي فساد ، أو جُعِلُوا نفس الفساد مُبالغةً ، ثلاثة مذاهب [ مشهورة ] تقدَّم تَحْرِيرها .
الثالث : أنه منْصُوب على المصدر ، أي : إنَّه نَوْع من العامل قبله ، فإنَّ معنى « يَسْعَوْن » هنا : يُفْسدُون وفي الحَقِيقة ، ف « فسادٌ » قائم مقام الإفساد [ والتقدير : ] ، ويفسدون في الأرْض بسعيهم إفْساداً .
و « فِي الأرْضِ » الظّاهر : أنه متعلِّق بالفِعْل قَبْلَه ، كقوله : { سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ } [ البقرة : 205 ] .
وقد أجيز أن يكون في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحَالِ؛ لأنَّه يجُوز أن لو تأخَّر عنه أن يكون صِفَةً له . وأجيز أن يتعلَّق أيضاً بنَفْس « فساداً » ، وهذا إنَّما يَتمشّى إذا جعلْنَا « فَسَاداً » حالاً .
أمَّا إذا جَعَلْنَاهُ مصدراً امتنع ذلك لِتَقَدُّمِهِ عليه ، ولأنَّ المؤكد لا يَعْمَل .
وقرأ الجمهور « أنْ يُقَتَّلُوا » وما بعده من الفِعْلَين بالتثقيل ، ومعناه : التَّكْثير بالنِّسْبَة إلى من تقعُ به هذه الأفْعَال .
وقرأ الحسن وابنُ مُحَيْصِن بِتَخْفِيفِهَا .
قوله تعالى « مِن خِلافٍ » في محلِّ نَصْبٍ على الحَالِ من « أيْدِيهِمْ » و « أرْجُلِهِمْ » أي : [ تقطع مختلف ] بمعنى : أن يقْطَع يَدَهُ اليُمْنَى ، ورجله اليُسرى .
والنَّفي : الطَّرْد .
و « الأرض » المراد بها هاهُنَا « ما يُريدُون الإقامَة بها ، أو يُراد من أرْضِهِمْ .
و » ألْ « عوض من المضاف إليه عِنْد من يَرَاهُ .
فصل
قال الضَّحَّاك : نزلت في قوم مِنْ أهْل الكتاب ، كان بَيْنهم وبين رسُول الله صلى الله عليه وسلم عَهْدٌ ، فَنَقَضُوا العَهْد وقطعُوا السَّبِيل وأفْسَدوا .
وقال الكَلْبِي : نزلت في قَوْم هِلال بن عُوَيْمر ، وذلك أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم واعد هلال بن عُوَيْمِر وهو أبو بُرْدَة الأسْلَمي ، على ألا يُعِينَهُ ولا يُعِين عليه ، ومن مرَّ بهلال بن عويمر إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فهو آمِنٌ لا يُهَاجُ ، فمرَّ قوم من بَنِي كِنَانَة يريدون الإسلام ، بِنَاس من أسْلَم من قَوْم هلال بن عويمر ، ولم يكن هلال شَاهِداً ، فَشَدُّوا عليهم فَقَتَلُوهم وأخَذُوا أمْوالهم ، فنزل جبريل بالقِصَّة .
وقال سعيد بن جبير : نزلت في نَاسٍ من عُرَيْنَة وعكل أتَوا النَّبِيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - وبايعوه على الإسلام وهم كَذَبة ، فَبَعَثَهُم النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - إلى إبل الصَّدقةِ فارْتَدُّوا ، وقتلوا الرَّاعِي واسْتَاقُوا الإبِل ، فبعث النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - من رَدَّهم وأمر بِقَطْع أيديهم وأرجُلهم ، وسَمْل أعْيُنِهم بمَسَامِير وكحلهم بها ، وطَرحهم في الحَرِّ يَسْتَسْقُون فلا يُسْقَون حتى ماتُوا .
قال أبو قِلابَة : هؤلاء قَتَلُوا وسَرَقُوا ، وحاربُوا الله ورسُولَهُ وَسَعَوْا في الأرْضِ فساداً ، فنزلت هذه نَسْخاً لِفْعِل النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فصارت السُّنَّة مَنْسُوخة بهذا القُرْآن العظيم ، ومن قال إنَّ السُّنَّة لا تُنْسَخُ بالقُرْآن قال : إنما كان النَّاسِخ لتلك السُّنَّة سُنَّة أخْرى : ونزل هذا القُرْآن العَظِيم مُطَابِقاً للسُّنَّة النَّاسخة .
وقال بعضهم : حُكُمُهم ثَابِت إلا السَّمل والمُثْلَة ، وروى قتادةُ عن ابن سيرين أنَّ ذلك قَبْل أن تَنْزِل الحُدُود .
قال أبو الزَّنَاد : ولما فعل رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ذلك بهم أنْزل اللَّه الحُدُود ، ونَهَاهُ عن المُثْلة فلم يَعُد ، وعن قتادةُ قال : بَلَغَنَا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم [ بعد ذلك كان يحثّ على الصَّدَقة ويَنْهَى عن المُثْلة ، وقال سليمان التَّيْمِي عن أنس : إنَّما سَمَل النبي - صلَّى الله ] عليه وعلى آله وسلَّم - أعْيُن هؤلاء؛ لأنَّهم سَمَلُوا أعْيُنَ الرُّعَاة .
وقال الليث بن سَعْد : نزلَت هذه الآيَةُ مُعَاتِبَةً لِرسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - وتَعْلِيماً له عُقُوبَتهم وقال : إنَّما جَزَاؤهم لا المُثْلَة ، ولذلك ما قَامَ النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - خَطِيباً إلا نَهَى عن المُثْلَة .
وقيل : نزلت هذه الآية في الَّذِين حُكي عنهم من بَنِي إسرائيل - أنَّهُم بعد أنْ غلظ عليهم عِقَابُ القَتْلِ العَمْدِ العُدْوان ، فهم مُسْرِفون في القَتْلِ ويُفْسِدون في الأرْض ، فمن أتى منهم بالقَتْلِ والفَسَادِ في الأرْضِ فَجَزَاؤهُم كذا وكذا .
وقيل : نزلت هذه الآية في قطَّاعِ الطَّرِيق من المُسْلِمين [ وهذا قول ] أكثر الفقهاء قالوا : والذي يدل على أنَّهُ لا يَجُوز حَمْلُ الآية على المُرْتَدِّين من وجوه :
أحدها : أنَّ قطع المرتدِّ لا يقف على المُحَاربة ، ولا على إظهار الفَسَاد في دار الإسلام ، والآية تَقْتَضِي ذلك .
وثانيها : لا يجوز الاقتصَار في المرتدِّ على قَطْعِ اليَدِ ، ولا على النَّفْي ، والآية تقتضي ذلك .
وثالثها : أن الآية تَقْتَضِي سقوط الحد بالتَّوْبة قبل القُدْرة؛ لقوله تعالى { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ } .
والمرتَدُّ يسقط حَدُّه بالتَّوبة قبل القُدْرة وبعدها ، فدلَّ على أن الآية لا تعلُّقَ لها بالمُرْتَدِّين .
ورابعها : أن الصَّلْب غير مشْرُوع في حق المُرْتَدِّ ، وهو مشروع هاهنا فوجَب ألا تكون الآية مُخْتَصَّة بالمرتدِّين .
وخامسها : أنَّ قوله تعالى : { الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً } يتناول كل من يُوصَف بهذه سواءً كان مُسْلِماً أو كافراً ، ولا يُقالَ : الآية نزلت في الكُفَّار؛ لأن العبرة بعُمُوم اللَّفْظ لا خُصوص السَّبَب ، فإن قيل : المُحَارِبُون هم الذين يَجْتَمِعُون ولهم مَنَعَةٌ ، ويَقْصدون المُسْلِمين في أرواحهم ودِمَائهم ، واتَّفَقُوا على أنَّ هذه الصِّفَة إذا حصلت في الصَّحَراء كانوا قُطَّاع الطَّريق ، وأما إن حصلت في الأمْصار ، فقال الأوْزَاعيُّ ومالِكٌ واللَّيْث بن سَعْد والشَّافِعِيّ : هم أيضاً قُطَّاع الطَّريق ، هذا الحدُّ عليهم ، قالوا : وإنَّهم في المُدُن يكونون أعْظَم ذَنْباً فلا أقَلَّ من المُسَاوَاة ، واحتَجُّوا بالآية وعُمُومها ، ولأنَّ هذا حدّ فلا يَخْتَلِفُ كَسَائِر الحدود [ وقال أبو حنيفة ومُحَمَّد : إذا حصل ذلك في المِصر لا يُقام عَلَيْه الحُدُود ] لأنه لا يلحقه الغَوْثُ في الغالِبِ فلا يتمكَّن من المغالبة ، فصار في حكم السَّارِق .
فصل
قوله تعالى في الآية { أَن يقتلوا أَوْ يصلبوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض } . اختلف العلماء في لفظة « أوْ » : فقال ابن عبَّاس في رواية الحسن ، وسعيد بن المسيب ، ومُجاهد ، والنَّخْعِي : إنَّها للتَّخْيير ، والمعنى : أنَّ الإمام مخيَّر في المُحَاربين ، إن شاء قَتَلَ ، وإن شَاء صَلَب ، وإن شاء قَطَعَ الأيْدِي والأرجل ، وإن شاء نَفَى ، وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - في رواية عطاء : « أوْ » هاهنا [ لَيْسَت ] للتَّخيير ، بل لبيانِ الأحْكَام وتَرْتِيبهَا .
قال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - في قُطَّاع الطريق إذا قتلوا وأخَذُوا المال : قُتِلُوا وصُلِبُوا ، وإذا قَتَلُوا ولم يأخُذُوا المال ، قُتِلُوا ولم يُصْلَبُوا ، وإذا أخَذُوا المال ولم يَقْتُلُوا؛ قُطِعَتْ أيْدِيهم وأرْجُلُهم ، وإذَا قَتَلُوا ولم يَأخذُوا المالَ قُتِلُوا وَلَمْ يُصْلَبُوا ، وإذا أخَذُوا المال ولم يَقْتُلُوا؛ قُطِعَتْ أيديهم وأرْجُلُهم من خلافٍ ، وإذا أخافُوا السَّبيل ، ولم يأخُذُوا مالاً؛ نُفُوا من الأرض ، وهذا قول قتادة [ والشَّافعي ، والأوْزَاعِيِّ ] ، وأصحاب الرَّأي .
واختَلَفُوا في كَيْفِيَّة القَتْلِ والصَّلْب ، فظاهر مَذْهَبِ الشَّافعيّ : أنه يُقْتَل ثم يُصْلَب ، وقيل : يُصْلب حيّاً ثم يُطْعَن حتى يموت مصْلُوباً ، وهو قول اللَّيْث بن سَعْد ، وقيل : يُصْلَب ثلاثة أيَّام ، ثم ينزل ثم يُقْتَل ، وإذا قَتَلَ يُقْتَلُ حتماً ، لا يسقط بعَفْو وَلِيّ الدَّم .
واختُلِفَ في النَّفْي : فقال سعيد بن جُبَيْر ، وعُمَرُ بن عَبْد العزِيز : أنَّ الإمام يطلبه ففي كُلِّ بلد يُوجَد ينفى عنه ، وقيل : يُطْلَبُون ليُقَام عليهم الحُدُود ، وهو قول ابن عبَّاس ، واللَّيث بن سَعْد ، وبه قال الشَّافعي ، وإسْحَاق .
وقال أبو حنيفة : النَّفْي هو : الحبس ، وهو اخْتِيَار أهْل اللُّغَة .
قالوا : لأن قوله { أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض } : إمَّا أن يكُون المُرَادُ به النَّفي من جميع الأرْضِ ، وذلك غير مُمْكِن مع بَقَاءِ الحياة ، [ وإمَّا ] أن يكون المُرَاد إخراجه من تلك البلدة إلى بَلْدَةٍ أخرى وهو غَيْر جَائِزٍ ، لأنَّه إمَّا أن يُنْفَى من بِلاد الإسْلام فَيُؤذيهم ، أو إلى بِلاد الكُفْر فيكون تَعْرِيضاً له بالرِّدَّة ، وذلك غَيْرُ جَائِزٍ ، فلم يَبْقَ إلاَّ أنْ يكُون المُراد من النَّفْي نَفْيهُ عن جميعِ الأرْض إلى مكانِ الحَبْس قالوا : والمَحْبُوس : قد يُسَمَّى منفياً من الأرض لأنه لا يَنْتَفِع بشيء من طَيِّبَات الدُّنيا ولذَّاتها ، ولا يرى أحَداً من أحبابه ، فصار منفياً عن اللَّذات والشَّهَوات والطَّيِّبات فكان كالمَنْفِي في الحقيقةِ ، ولما حَبَسُوا صالح بن عبد القُدُّوس على تُهْمَة الزَّندقة في حبس ضيقٍ وطال لَبْثه هُنَاك ذكر شِعْر منه : [ الطويل ]
1957- خَرَجْنَا مِنَ الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنَ اهْلِهَا ... فَلَسْنَا مِنَ الأمْوَاتِ فِيهَا ولا الأحْيَا
وقال - سامَحه اللَّه وعفا عنه وعنَّا - قوله : [ الطويل ]
1958- إذا [ جَاءنَا ] السَّجَّانُ يَوْماً لِحَاجَةٍ ... عَجِبْنَا وَقُلْنَا : جَاءَ هَذَا مِنَ الدُّنْيَا
قوله تعالى : { ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنيا } .
« ذلك » إشارةٌ إلى الجزاء المُتقدِّم ، وهو مُبْتَدأ .
وقوله : « لَهُمْ خِزْيٌ » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكُون « لهم » خبراً مُتقدِّماً ، و « خِزْي » مُبْتَدأ مُؤخَّر ، و « فِي الدُّنْيا » صِفَةٌ له ، فيتعلق بمحذُوف ، أو يتعلَّق بنفس « خِزْي » على أنَّه ظَرْفيَّة ، والجُمْلَة في محلِّ رفع خبر ل « ذَلِكَ » .
الثاني : أن يكون « خِزْي » خبراً ل « ذلك » ، و « لهم » مُتعلِّق بمحذُوف على أنَّه حال من « خِزْي » ؛ لأنَّه في الأصْل صِفَةٌ له ، فلمَّا قُدِّم انْتَصَب حالاً .
وأمَّا « في الدُّنْيَا » فيَجُوز فيه الوجهان المتقدِّمان من كونهِ صِفَةً ل « خزي » أو مُتعلِّقاً به ، ويجُوزُ فيه أن يكون مُتعلِّقاً بالاسْتِقْرَار الذي تعلَّق به « لَهُم » .
الثالث : أن يكون [ « لَهُمْ » ] خبراً ل « ذلك » و « خِزْي » فاعل ، ورفع الجار هنا الفاعل لمَّا اعْتَمَد على المُبْتدأ ، و « فِي الدُّنْيَا » على هذا فيه الأوْجُه الثلاثة .
فصل في شبهة للمعتزلة وردها
المراد بالخِزْي في الدُّنْيَا : الفَضِيحة والهَوَان والعَذَاب ، ولَهُمْ في الآخرة عَذَابٌ عَظِيم .
قالت المُعْتَزِلَةُ : دلَّت الآية [ على القَطْعِ بوَعِيد ] الفُسَّاق من أهْل الصَّلاة وعلى أنَّ عِقَابَهم قد أحْبَطَ ثوابهم؛ لأنَّه تعالى حَكَم بأنَّ ذلك لَهُمْ خِزْيٌ في الدُّنْيا وذلك يدل على أن اسْتِحْقَاقهم للذمِّ في الحَالِ ، وإذا اسْتَحَقُّوا الذَّم في الحالِ امْتَنَع اسْتِحْقَاقهم للمَدْح والتَّعْظيم؛ لأنَّ ذلك جَمْعٌ بين الضِّدِّيْن ، وإذا كان كذلِك ثَبَتَ القَطْع بوعيد الفُسَّاق ، وثَبَتَ القول بالإحْبَاط .
والجوابُ : لا نِزَاع بيننا وبَيْنَكم أنَّ هذا إنَّما يكون وَاقِعاً على جِهَة الخِزْي والاسْتِحْقَاقِ ، إذَا لَمْ يَتقدَّمه تَوْبة ، وإذا جازَ لكم [ أن تَشْتَرِطُوا هذا الحُكْم بِعَدَم التَّوْبة ] لِدَليل دَلَّ على اعْتِبَار هذا الشَّرْط ، فنحن أيضاً نشترط لهذا الحُكْم عدم العَفْو ، وحينئذٍ لا يَبْقَى الكلام إلاّ في أنَّهُ هل دَلَّ [ على أنَّه - تعالى - ] يَعْفُو عن الفُسَّاق أم لا؟ وقد تقدَّمت هذه المسْألة في سُورة البقرة عند قوله تعالى { بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته } [ البقرة : 81 ] .
قوله تعالى : { إِلاَّ الذين تَابُواْ } فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه مَنْصُوب على الاسْتِثْنَاء من المحاربين ، وللعُلَماء خلافٌ في التَّائِب من قُطَّاع الطَّريق ، هل تَسْقط عنه العُقُوبات كُلُّها ، أو عقوبة قَطْع الطَّريق فقط؟ .
وأما ما يتعَلَّق بالأمْوَال وقتل الأنْفُس ، فلا تسقط ، بل حُكْمُه إلى صاحِبِ المال ، وَوَلِيّ الدَّم ، والظَّاهر الأوّل .
الثاني : أنَّه مرفوع بالابْتِدَاء ، والخبر قوله : « فإنَّ الله غَفُورٌ رحيم » والعَائِد مَحْذُوف ، أي : غفور له؛ ذكر هذا الثَّاني أبُو البقاء . وحينئذٍ يكون استثناءً مُنْقَطِعاً بمعنى : لكن التَّائِب يُغْفَر لَهُ .
فصل
من ذَهَب إلى أنَّ الآية نَزَلَت في الكُفار قال : { إِلاَّ الذين تَابُواْ } : من شركهم : وأسْلَموا قبل أن تَقْدِروا عليهم فَلاَ سَبِيل عليهم بِشَيْءٍ من الحدُود ولا تَبِعَة عليهم فيما أصَابُوا في حال الكُفْر من دَمٍ أوْ مَال .
أما المُسْلِمُون المحاربون : فمن تاب منهم قبل القُدْرَة عَلَيْه ، وهو قبل أنْ يَظْفَر بِهِمُ الإمَام تَسْقُط عَنْهُ كل عُقُوبة وجبت حقاً لله تعالى ، ولا يَسْقُط ما كان من حُقُوق العِبَاد ، فإذا كان قد قَتَل في قَطْعِ الطَّريق يسقُطُ عنه بالتَّوْبة [ قبل القُدْرَة عليه ] تحتُّم القَتْل ، ويبقى عليه القِصَاصُ لولي القَتِيل إن شَاءَ عفا عنه ، وإن شَاءَ اسْتَوْفَاه ، وإن كان قد أخَذَ المال يَسْقُط عنه القَطْع ، وإن كان جمع بَيْنَهُما يسقط عنه تحتُّم القَتْل والصَّلْب ، ويجب ضَمَان المال .
وقال بعضهُم : إذا جاء تَائباً قبل القُدْرَة [ عليه لا يكون لأحد عليه تبعة في دم ولا مال إلاّ أن يوجد معه مال بعينه فيردّه إلى صاحبه .
روي عن علي رضي الله عنه في حارثة بن زيد كان خرج محارباً فسفك الدماء ، وأخذ الأموال ثم جاء تائباً قبل أن يقدر عليه فلم يجعل له عليه تبعة . أما من تاب بعد القدرة ] فلا يَسْقُط عنه شيء منها .
وقيل : كُلُّ عقُوبة تجب حقاً لِلَّه - تعالى - من عُقُوبَات قَطْع الطَّريق ، وقطع السَّرقة ، وحدِّ الزنا ، والشُّرب تَسْقُط بالتَّوْبة بكل حال كما تقدَّم والأكْثَرُون على أنَّها لا تَسْقُط .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
في كيفيَّة النَّظْمِ وجهان :
أحدهما : أنَّه لما أخبر رسُولَه صلى الله عليه وسلم أن قوماً من اليَهُود هَمُّوا أن يَبْسُطُوا أيديهم إلى الرَّسُول وإلى أصحابه بالغدر والمكر ، ومَنَعَهُم الله تعالى من مُرَادهم ، وشرح للرَّسُول شدَّة تَعَصُّبِهم على الأنْبِيَاء وإصْرَارهم على إيذَائهم ، وامتدَّ الكلامُ إلى هذا الموضع ، فعند هذا رَجَع إلى المَقْصُود الأوَّل وقال { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اتقوا الله وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة [ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ ] } ، كأنه قيل : قد عَرَفْتُمْ كمال جَسَارَةِ اليَهُودِ على المَعَاصِي والذُّنُوب ، وبُعْدهم عن الطَّاعَات الَّتِي هي الوَسَائِلُ للعبد إلى الرَّبِّ ، فكُونُوا يا أيُّها المُؤمِنُون بالضَّدِّ من ذلك فاتَّقوا معَاصِي اللَّه ، وتوسَّلُوا إليه بالطَّاعات .
والثاني : أنهم لما قالوا : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] .
أي : أبْنَاء أنبياء الله فكان افتخارهم بأعْمَال آبَائِهِم كأنَّه تعالى قال : « يا أيها الذين آمنوا [ اتّقوا الله ] ولتكن مفاخرتكم بأعمالكم لا بشرف آبائكم وأسلافكم ، فاتّقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة » .
في قوله تعالى : « إليه » ثلاثةُ أوجُه :
أحدها : أنه مُتعلِّق بالفِعْل قبله .
الثاني : أنه متعلِّق بنفس « الوَسيلَة » .
قال أبو البقاء : لأنَّها بمعنى المتوسَّل به ، فلذلك عَمِلَت فيما قبلها .
يعني : أنَّها ليست بِمَصْدَر ، حتى يمتَنِع أن يتقدَّم مَعْمُولها عليها .
الثالث : أنه مُتعلِّق بِمَحْذُوف على أنَّه حال من « الوَسِيلَة » ، وليس بالقَوِي .
و « الوسيلة » أي : القُرْبة ، فَعِيلَة مِنْ توسَّل إليه فلانٍ بكذا إذا تقرَّب إليه ، وجمعها : وَسَائِل .
قال لبيد : [ الطويل ]
1959- أرى النَّاسَ لا يَدْرُونَ ما قَدْرُ أمْرِهِمْ ... ألاَ كُلُّ ذِي لُبٍّ إلى الله وَاسلُ
أي : متوسّل ، فالوسِيلة هي التي يتوسَّلُ بها إلى المَقْصُودِ .
فصل
قال ابن الخطيب : التَّكْلِيفُ نوعان : ترك المَنْهِيَّات : وهو قوله تعالى « اتَّقُوا الله » ، وفعل الطَّاعات : وهو قوله { وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة } ، والتَّرك مُقَدَّم على الفِعْل بالذَّات؛ لأنه بَقَاء على العَدَم [ الأصلي ] ، والفعل إيجاد وتَحْصِيل ، والعَدَمُ سابق ، ولذلك قُدِّمَت التَّقْوى فإن قيل : لِمَ اختصّت الوسِيلَة بالفعل ، مع أنَّ ترك المَعَاصي قد يكون وَسِيلة؟
فالجوابُ : أن التَّرك بقاء على العدم ، وذلك لا يُمْكِن التَّوَسُّل به ، بل من دَعَتْهُ الشهْوة [ إلى فعل القَبِيح ] ، فتركه مرضاة اللَّه حصل التَّوسُّل إلى اللَّه بذلك الامْتِنَاع ، لكنَّه من باب الأفْعَال ، ولذلك قال المُحَقِّقُون : تَرْك [ الشَّيء ] عبارة عن فعل ضِدِّه .
ثم قال - تعالى - : { وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ، لمّا أمر بِتَرْك ما لا يَنْبَغِي بقوله : « اتَّقُوا اللَّه » وفعل ما يَنْبَغِي بقوله { وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة } وكل واحد منهما شاقٌّ ثَقِيل على النَّفْس فإن النَّفْس تَدْعُو إلى اللَّذَّات المَحْسُوسَة ، والعَقْل يدعو إلى خِدْمَة اللَّه وطاعتهِ والإعْرَاض عن المَحسُوسَات؛ فكان بَيْن الحَالَتيْن تضَادٌّ وتناف ، وإذا كان الأمْر كذلك فالانْقِيَادُ لقوله تعالى { وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة } من أشقِّ الأشْيَاء على النَّفْس وأشدها ثقلا على الطَّبع ، فلهذا أرْدَف ذلك التَّكْليف بقوله { وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ، ولمّا أرشد المُؤمِنِين في هذه الآية إلى معاقدِ الخَيْرَات ومَفَاتِح السَّعاداتِ ، أتْبَعَهُ بشرح حَالِ الكُفَّار .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
قد تقدم الكلام على « أنَّ » الواقعة بعد « لو » على أنَّ فيها مَذْهَبيْن .
و « لَهُمْ » خبر ل « أنَّ » ، و { مَّا فِي الأرض } اسمها ، و « جميعاً » توكيد لهُ ، أو حال منه و « مِثلَه » في نَصْبِه وجهان :
أحدهما : عطف على اسم « أن » وهو « مَا » الموصولة .
والثاني : أنه منصُوب على المَعِيَّة ، وهو رأي الزَّمخْشَرِي ، وسيأتي ما يرد على ذلك والجوابُ عنه .
و « معهُ » ظرف واقع موقع الحال .
[ « واللام » ] متعلِّقة بالاستِقْرَار الذي تعلَّق به الخبر ، وهو « لَهُمْ » .
و « به » و « مِنْ عذاب » متعلِّقان بالافْتِدَاء ، والضَّمير في « بِهِ » عائدٌ على « مَا » الموصولة ، وجيء بالضَّمِير مُفْرَداً وإن تقدَّمه شَيْئَان وهما { مَّا فِي الأرض } و « مِثْلَهُ » ، إما لتلازُمهمَا فهما في حُكْم شيء واحد؛ وإما لأنَّه حذف من الثَّانِي لدلالة ما في الأوَّل عليه ، كقوله رحمة الله عليه : [ الطويل ]
1960- . . ... فَإنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ
أي : لو أنَّ لهم ما في الأرض لِيَفْتَدُوا به ، ومثله معه ليفْتَدُوا به وإما لإجراء الضمير مُجْرَى اسم الإشارة ، كقوله : [ الرجز ]
1961- .. كَأنَّهُ فِي الجِلْدِ . . .
وقال بعضهم : ليفْتَدُوا بذلك المَال .
وقد تقدم في « البقرة » .
و « عذاب » بمعنى : تَعْذِيب بإضافته إلى « يَوْم » خرج « يَوْم » عن الظرفية ، و « مَا » نَافِية وهي جواب « لَوْ » ، وجاء على الأكْثَر من كونِ الجواب النَّفي بغير « لام » ، والجملة الامْتِنَاعية في محل رفع خبراً ل « إن » ، وجعل الزَّمَخْشَرِيُّ توحيد الضَّمير في « بِهِ » لمَدْرك آخر ، وهو أنَّ « الوَاو » في « ومِثْلَهُ » [ واو « مع » قال بعد أن ذكر الوجهين المتقدمين : ويجُوزُ أن تكُونَ الواوُ في « ومِثله » ] بمعنى « مَعَ » فيتوحد المَرْجُوع إليه .
فإن قُلْتَ : فبم يُنْصب المَفْعُول معه؟ .
قلت : بما تسْتَدْعِيه « لَوْ » من الفعل؛ لأن التَّقدير : لو ثبت أنَّ لَهُمْ ما في الأرض ، يعني : أنَّ حكم ما قبل المفعُول معه في الخَبَرِ والحَالِ ، وعود الضَّمِير حكمه لو لم يكن بعده مفعول معه ، تقول : « كُنْتُ وَزَيْدَاً كالأخِ » قال الشاعر : [ الطويل ]
1962- فَكَانَ وَإيَّاهَا كَحَرَّانَ لَمْ يُفِقْ ... عَنِ المَاءِ إذْ لاقَاهُ حَتَّى تَقَدَّدَا
فقال : « كَحَرَّان » بالإفْرَاد ولم يقُلْ : « كحرَّانَيْن » ، وتقول : « جَاءَ زَيْدٌ وهنْداً ضاحِكاً في داره » .
وقد اختار الأخْفَشُ أن يُعطى حُكْم المُتَعَاطفين ، يعني : فَيطَابق الخبر ، والحَال ، والضمير له ولما بَعْده ، فتقول : « كُنْتُ وَزيْداً كالأخوين » .
قال بعضهم : والصَّحِيح جوازه على قِلِّة .
وقد رد أبُو حيَّان على الزمخشري ، وطوَّل معه .
قال شهاب الدِّين : ولا بد من نَقْل نصِّه؛ قال : وقول الزمَخْشَرِي ويجُوزُ أن تكون « الواو » بمعنى « مع » ليس بِشَيْء؛ لأنَّه يصير التقدير : مع مثله معه ، أي : مع مِثْل ما في الأرْضِ [ مع ما في الأرض ] إن جعلت الضَّمِير في « مَعَه » عائِداً على « مَا » يكون معه حَالاً من « مِثْله » .
وإذا كان مَا في الأرض مع مثله كان مثله معه ضرورة ، فلا فائدة في ذكر « معه » لملازمة معيّة كل منهما للآخر .
وإن جعلت الضمير عائداً على « مثله » ، أي : مع مثله مع ذلك المثل ، فيكون المعنى مع مِثْلَيْنِ ، فالتَّعْبِير عن هذا المَعْنَى بتلك العِبَارة عَيِيٌّ؛ إذ الكلام المُنْتَظِم أن يكون التَّركيب إذا أُريد ذلك المعنى مع مِثْلَيْهِ .
وقول الزَّمَخْشَرِي : « فإن قُلْت » إلى آخِر الجواب [ هذا السؤال ] لا يرد؛ لأنَّا قد بَيَّنَّا فسادَ أن يكون « الوّاو » واو « مَعَ » ، وعلى تقدِير وُرودِه فهذا بناء منه على أنَّ [ « أن » ] إذا جاءت بعد « لَوْ » كانت في مَحَلِّ رفع بالفاعليّة ، فيكون التقدير على هذا لو ثَبَتَ كينونة ما في الأرْضِ مع مثله لهم لِيَفْتَدُوا به ، فيكون الضَّمِير عائِداً على « مَا » فقط .
وهذا الذي ذكره هو تَفْريعٌ منه على مذهَب المُبَرِّد في أنَّ « أن » بعد « لَوْ » في محل رفع على الفاعليَّة ، وهو مذهب مرجُوحٌ ، ومذهب سيبويه : أن « أنَّ » بعد « لَوْ » في محلِّ رفع مُبْتَدأ .
والذي يظهر من كلام الزَّمخْشَرِي هنا وفي تصانيفه أنَّهُ ما وَقَفَ على مذهب سيبويْه في هذه المسألة .
وعلى المفرع على مذهَب المُبَرِّد لا يجوز أن تكون « الوَاوُ » بمعنى « مَعْ » والعامِلَ فيها « ثَبَتَ » المقدَّرة لما تقدم من وجود لفظة « مَعَهُ » ، وعلى تقديره سُقُوطها لا يصحُّ؛ لأن « ثَبَتَ » ليس رَافِعاً ل « مَا » العائد عليها الضمير وإنما هو رَافِعٌ مصدراً مُنْسَبكاً من « أن » وما بعدها ، وهُو كونُ؛ إذ التقدير لو ثَبَتَ كون ما في الأرض جَمِيعاً لهم ومِثْله معه لِيَفْتدُوا به ، والضمير عَائِد على [ ما ] دُون الكوْنِ ، فالرَّافِع الفاعِل غير النَّاصب للمفعُول معه ، إذ لو كان إيَّاه للزم من ذلك وجود الثُّبُوت مُصَاحباً للمثل [ والمعنى على كينونة ما في الأرض مُصاحباً للمثل ، لا على ثُبُوت ذلك مُصَاحِباً للمثل ، ] وهذا فيه غُمُوض .
وبيانُهُ : أنَّك إذا قلت : « يُعْجِبُني قيام زَيْد وعَمْراً » ، جعلت « عمراً » مفعُولاً معه ، والعامِلُ فيه « يُعْجُبني » [ لزم ] من ذلك أن « عَمْراً » لم يَقُمْ ، وأعجبك القِيَامُ وعمرو .
وإن جَعَلْتَ العامل فيه القِيَام : كان عمرو قَائِماً ، وكان الإعْجَاب قد تعلَّق بالقيام مصاحباً لقيام عَمْرو .
فإن قلت : هلاّ كان « ومِثْلَهُ مَعَهُ » مفعولاً معه ، والعامِلُ فيه هو العَامِلُ في « لَهُمْ » ؛ إذ المَعْنَى عليه؟ .
قلت : لا يَصِحُّ ذلك لِمَا ذكرْنَاه من وجود « مَعَهُ » في الجُمْلَة ، وعلى تقديرِ سُقُوطِهَا لا يصحُّ؛ لأنَّهُم نَصُّوا على أنَّ قولك : « هَذَا لَكَ وأبَاك » ممنوع في الاختيار .
قال سيبويْه : وأما « هَذَا لَكَ وأبَاك » فَقَبيحٌ؛ لأنَّه لم يذكر فِعْلاً ولا حَرْفاً فيه معنى فعل حتى يَصِير كأنَّه قد تكلَّم بالفعل ، فأفْصَح سيبويه بأن اسْم الإشَارَة وحرف الجر المتضمن [ المعنى الاستقرار لا يعملان في المفعول معه وقد أجاز بعض النحويين في حرف الجر والظرف أن يعملا ] نحو « هذا لك وأباك » .
فقوله : « وأبَاكَ » يكون مفعُولاً مَعَهُ ، والعَامِلُ الاستِقْرَار في « لَكَ » . انتهى . ومع هذا الاعتراض الذي ذكره ، فقد يَظْهر عنه جوابٌ ، وهو أنَّا نقول : نختار أن يكون الضَّمِير في قوله : « مَعَهُ » عائداً على « مِثْله » ويَصِيرُ المعنى : مع مِثْلَين ، وهو أبْلَغُ من أن يكون مع مِثْل واحد .
وقوله : « تَرْكِيبٌ عَيِيٌّ » فَهْم قَاصِرُ ، ولا بُدَّ من جُمْلَةٍ محذُوفَة قَبْل قوله : { مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ } تقديره : وَبذَلُوه ، أو وافْتَدُوا به ، ليصِحَّ التَّرْتيب المذكُور؛ إذ لا يترتَّب على اسْتِقْرَار ما فِي الأرْض جَمِيعاً ومثله معه لهم عدم التَّقبُّل ، إنما يترتَّب عدم التَّقَبُّل على البَذلِ والافْتِدَاء والعامَّة على « تُقُبِّل » مبنياً [ للمفعول حذف فاعله لعظمته وللعلم به .
وقرأ يزيد بن قطيب : « ما تقبَّل » مبنياً للفاعل ] وهو ضميرُ البَارِي تبارك وتعالى .
قوله [ تعالى ] « ولَهُمْ عَذابٌ » مبتدأ وخبرُهُ مُقَدَّمٌ عليه ، و « ألِيمٌ » صفته بمعنى : مُؤلِمٌ ، وهذه الجُمْلَة أجَازُوا فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون حالاً ، وفيه ضَعْفٌ من حيث المعنى .
المعنى الثاني : أن تكون في مَحَلِّ رفع عَطْفاً على خَبَرِ « أن » أخبر عن الذين كفروا بخبرين لو استقرَّ لَهُمْ جَمِيعُ ما في الأرضِ مع مثله فَبَذلُوه ، لم يُتَقَبَّلْ مِنْهُم وأنَّ لهم عَذَاباً أليماً .
الثالث : أن تكون مَعْطُوفة على الجُمْلَة من قوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ } ، وعلى هذا فلا مَحَلَّ لها؛ لِعَطْفها على ما لا مَحَلَّ له .
وقوله تعالى : { يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ } كقوله تعالى : { يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } [ النساء : 28 ] وقد تقدَّم .
والجُمْهُور على « أن يَخرُجُوا » مَبْنيّاً للفاعل وقرأ يحيى بن وثَّاب ، وإبْرَاهيم النَّخْعي « يُخْرجُوا » مبنياً للمفعُول وهما واضحتان ، والمقصُود من هذا الكلام لُزُوم العذابِ لَهُمْ ، وأنَّهُ لا سَبيلَ لهُمْ إلى الخلاصِ مِنْهُ وإرادتهم إلى الخُرُوجِ تحْتَمِلُ وجهيْن :
الأوَّل : أنهم قصدوا وطلبُوا المخرج مِنْها ، كقوله تعالى
{ كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا } [ السجدة : 20 ] .
قيل : إذا [ لَفَحَتْهُم ] النَّار إلى فوق فهُنَاك يتمنُّون الخُرُوج .
وقيل : يَكادُون أن يخْرُجُوا من النَّار؛ لِقُوَّة النَّارِ ورفعها للمُعَذَّبين .
والثاني : أنهم يتمَنُّون ذلك ويريدُوه بِقُلُوبهم .
فصل
احتجَّ أهْلُ السُّنَّة بهذه الآية على أن الله تعالى يُخْرِج من النار من قال : لا إله إلا الله مُخْلِصاً؛ لأنَّه تعالى جعل هذا المعنى من تَهْديدات [ الكُفَّار ، وأنواع ما خَوَّفهم به ، ولولا أنَّ هذا المعنى يختصُّ بالكفار وإلا لم يكن لِتخصيص ] الكُفَّار به معنى ، ويؤكده قوله { وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } ، وهذا يفيد الحصر ، فكان المعنى : ولهم عذابٌ مقيمٌ لا لِغَيْرهم كما أن قوله { لَكُمْ دِينُكُمْ } [ الكافرون : 6 ] لا لغيركم ، فها هُنَا كذلك .
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
« و » في اتِّصالها وجهان :
الأوَّل : أنه لما أوْجَبَ في الآية المتقدِّمة قَطْع الأيْدي والأرْجُل عند أخذ المالِ على سبيل [ المحاربة ، بيَّن في هذه الآية أن أخذ المال على سبيل ] السَّرِقَة يُوجبُ قطع الأيدي ، والأرجُل أيضاً .
الثاني : أنَّهُ لما ذكر تَعْظِيم أمْر القَتْلِ حيث قال : { قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ [ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض ] فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } [ المائدة : 32 ] ذكره بعد الجنايات التي تُبيحُ القَتْلَ والإيلام فذكر :
أولاً : قطع الطريق .
وثانياً : من السَّرقة .
قوله تعالى : « والسَّارقُ والسَّارقَةُ » قرأ الجمهور بالرفع .
وعيسى بن عُمَر وابن أبي عبلة بالنَّصْبِ .
ونقل عن أبيّ : « والسُّرَّق والسُّرَّقة » بضم السِّين وفتح الرَّاء مُشَدَّدَتَيْن؛ قال الخَفَّاف : « وجدته في مُصْحَفِ أبَيّ كذلك » .
وممن ضبطهما بما ذكرت أبو عمرو ، إلاَّ أن ابن عطيَّة جعل هذه القِراءة تَصْحيفاً [ فإنَّه قال : « ويُشبهُ أنْ يكُون هذا تَصْحِيفاً ] من الضابط » . لأن قراءة الجماعة إذا كتبت : « والسّرق » : بغير ألف وافقت في الخط هذه ، قلت : ويمكن توجيه هذا القِرَاءة بأنَّ « السرق » جمع « سَارِق » ، فإنَّ فُعَّلا يَطّرد جَمْعاً لفاعِل صِفَةً ، نحو ضارِب وضُرَّب .
والدَّليل على أنَّ المراد الجمع قراءة عبد الله « والسَّارقون والسَّارقَات » بصيغتي جمع السلامة ، فدلَّ على أنَّ المُرَاد الجَمْع ، إلا أنه يَشْكُل في أنّ « فُعَّلا » يكُون من جمع : فاعِل وفاعلة تقول : نِسَاءٌ ضُرَّب ، كما تقول : رِجَالٌ ضُرَّب ، ولا يُدْخِلُون عليه تاء التَّأنِيث حيث يُرادُ به الإنَاثُ ، والسُّرَّقة هنا - كما رأيت - في هذه القراءة بِتَاءِ التَّأنيث ، حيث أُرِيد ب « فُعَّل » جمع فاعلة ، فهو مُشْكِلٌ من هذه الجِهَة لا يقال : إن هذه التَّاء يجوز أن تكُون لِتَأكِيد الجمع؛ لأنَّ ذلك محفُوظٌ لا يُقَاس عليه نحو : « حِجَارة » وأمَّا قِرَاءَةُ الجُمْهُور فَفِيهَا وجهان :
أحدهما : هو مذهَبُ سيَبوَيْه ، والمشهُور من أقوال البَصريِّين أن « السَّارِق » مبتدأ مَحْذُوف الخَبَر تقديرُهُ : « فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُم » أو فيما فَرَضَ - « السَّارِق » و « السَّارِقَة » أي : حُكم السَّارِق ، وكذا قوله : { الزانية والزاني فاجلدوا } [ النور : 2 ] .
ويكون قوله : « فَاقْطَعُوا » بياناً لذلك الحُكم المقدَّر ، فما بعد الفاء مُرْتَبِطٌ بما قَبْلَها ، ولذلك أتى بها فيه؛ لأنَّهُ هُوَ المَقْصُود .
ولو لم يَأتِ بالفَاءِ لَتوهّم أنه أجْنَبِيّ والكلامُ على هذا جُملتان : الأولى : خَبَريَّة ، والثَّانية : أمْرِيَّة .
والثاني : وهو مذهب الأخْفَش ، ونُقِلَ عن المُبَرِّد وجماعة كثيرة أنَّهُ مُبْتَدأ أيضاً ، والخبر الجُمْلَةُ الأمْرِية من قوله : « فاقْطَعُوا » ، وإنَّما دخلت الفاء في الخَبَر؛ لأنه يُشْبِهُ الشَّرْط؛ إذ الألِفُ واللاَّم فيه موصُولة ، بمعنى « الَّذِي » و « الَّتِي » والصفَةُ صلتُهَا ، فهي في قُوَّةِ قولك : « والذي سرق والتي سَرَقَت فاقْطَعُوا » ، وهو اختيار الزَّجَّاج .
وما يدلُّ على أنَّ المراد من الآيَة الشَّرْط والجزاء وُجُوه :
الأوَّل : أنه تعالى صَرَّح بذلك في قوله تعالى { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا } . وهذا يدلُّ على أنَّ القَطْع جزاءٌ على فِعْل السَّرِقة ، فوجَبَ أن يَعُمَّ الجَزَاء لعُموم الشَّرط .
والثاني : أن السَّرِقة جناية ، والقطع عُقُوبة ، فربط العُقُوبة بالجناية مناسب ، وذكر الحُكم عَقِيب الوَصْف المُنَاسب يدلُّ على أنَّ الوصْفَ عِلَّة لذلك الحُكم .
الثالث : أنّا إذا حملنا الآيَة على هذا الوجه كانت [ الآية ] مُفِيدة ، ولوْ حملْنَاها على سَارِقٍ مُعَيَّن صَارَت مُجْمَلة غير مفيدة ، فالأوَّل أوْلى .
وأجاز الزمَخْشَري الوجهَيْن ، ونسب الأوَّل لسيبَويه ، ولم يَنْسِبِ الثَّانِي ، بل قال : وَوَجْهٌ آخر ، وهو أن يَرْتفعَا بالابْتداء ، والخبر : « فَاقْطَعُوا » .
وإنما اخْتَارَ سيبوَيْه أنَّ خبره مَحْذوف كما تقدَّم تقديرُه دون الجُمْلَة الطَّلَبِيَّة بعده لوجْهَيْن :
أحدهما : النَّصْب في مثله هو الوجه في كلام العرب ، نحو : « زَيْداً فاضْرِبْهُ » لأجل الأمْرِ بعده .
قال سيبويه في هذه الآية : الوجْهُ في كلام العرب النَّصب ، كما تقول « زَيْداً فاضْرِبْه » ، ولكن أبتِ العَامَّةُ إلاَّ الرَّفع .
والثاني : دخول الفَاءِ في خَبَره ، وعنده أنَّ « الفَاء » لا تدخل إلا في خبر الموصُول الصَّرِيح ك « الذي » ، و « من » ، بشُرُوط أخر مذكورة في كُتُبِ النَّحْو ، وذلك لأنَّ الفَاء إنَّما دَخَلَتْ لِشَبَهِ المُبْتَدأ بالشَّرْط ، واشْتَرَطُوا أن تَصْلُح لأداة الشَّرْط من كَوْنِهَا جُمْلَة فعلية مستقبلة المَعْنَى ، أو ما يقوم مقامَها من ظَرْفٍ وشِبْهِهِ ، ولذلك إذا لم تَصْلُح لأداة الشَّرْط ، لم يَجُزْ دخول الفَاء في [ الخبر ، وصِلَةُ « أل » لا تَصْلُح لِمُبَاشرة أدَاةِ الشَّرْط فلذلك لا تدخل الفاء في ] خبرها ، وأيضاً ف « ألْ » وصلَتُها في حكم اسْمٍ واحدٍ ، ولذلك تَخَطَّاهَا الإعْرَاب .
وأما قِرَاءة عِيسى بن عمر ، وإبراهيم : فالنَّصْب بفعل مُضْمَرٍ يُفَسِّره العَامِل في سببيهما نحو : « زَيْداً فأكْرِمْ أخاهُ » ، والتقدير : « فعاقِبُوا السَّارِق والسَّارِقَة » تقدِّره فِعْلاً من معناه ، نحو « زَيْداً ضَرْبتُ غُلامه » ، أي : « أهَنْتُ زَيْداً » .
ويجُوز أن يقدَّر العامِل موافقاً لَفْظاً؛ لأنَّه يُسَاغ أن يُقَال : قطعت السَّارِق وهذه قراءة واضِحَة لمكان الأمر بعد الاسم المُشْتَغِل عَنْهُ .
قال الزَّمَخْشَرّيُّ : وفَضَّلها سيبوَيْه على قِرَاءَة العامَّة؛ لأجل الأمْر؛ لأن « زَيْداً فاضْرِبْه » أحْسَن من « زيدٌ فاضْرِبه » .
وفي نقله تَفْضيل النَّصْب على قراءة العامَّة نظر ، ويظهر ذلك بنصِّ سيبويه .
قال سيبويه : الوجْهُ في كلام العرب النَّصْب ، [ كما تقُول : « زيداً اضْرِبْه » ؛ ولكن أبت العامَّة إلا الرَّفع ، وليس في هذا ما يَقْتَضِي تَفْضِيل النَّصْب بل مَعْنى ] كلامه أن هذه الآية لَيْسَتْ من الاشتِغَال في شَيْء؛ إذ لو كان من باب الاشْتِغَال لكانَ الوَجْهُ النَّصب ، ولكن لم يقْرَأها الجُمْهُور إلا بالرَّفْع ، فَدَلَّ على أنَّ الآيَة محمولة على كلامين كما تقدَّم ، لا على كلامٍ واحد ، وهذا ظَاهِرٌ .
وقد رد ابن الخَطِيب على سيبويه بِخَمْسَةِ أوْجُه ، وذلك أنه فهم كما فهم الزَّمَخْشَرِيُّ من تفضيل النًّصْب ، فقال : الذي ذهب إليه سيبويه ليس بِشَيْء ، ويدل على فَسَادِه وُجُوه :
الأول : أنه طعنٌ في القِرَاءة المُتَوَاتِرَة المَنْقُولة عن الرَّسُول وعن أعْلام الأمَّة ، وذلك بَاطِلٌ قَطْعاً ، فإن قال سيبويه : لا أقُول : إنَّ القراءة بالرَّفْع غير جَائِزة ، ولكنِّي أقُول : قِرَاءة النَّصْب أوْلَى ، فنقول : رَدِيءٌ أيْضاً؛ لأن تَرْجِيح قِرَاءة لم يَقْرَأ بِها إلاَّ عيسَى بن عمر على قِرَاءَة الرَّسُول وجميع الأمَّة في عَهْد الصَّحابة والتَّابعين أمر مُنْكَر ، وكلام مَرْدُودٌ .
الثاني : لو كانت القراءة بالنَّصْب أوْلَى ، لَوَجَبَ أنْ يكون في القُرَّاء من يَقْرأ : { واللّذين يَأتيَانها مِنكُمْ فآذُوهُمَا } [ النساء : 16 ] ، بالنَّصْب ، ولمَّا لم يوجد في القُرَّاء من يقرأ كذلك ، عَلِمْنا سقوط هذا القَوْل .
الثالث : أنَّا إذا جَعَلْنَا « السَّارِق والسَّارِقة » مُبْتَدأ ، وخبره مُضمَر وهو الذي يقدِّره « فيما يُتلَى عليْكُم » بقي شيءٌ آخر يتعلَّق به الفاء في قوله : « فَاقْطَعُوا » .
فإن قال : الفاء تتعلَّق بالفعل الذي دلَّ عليه قوله : « والسَّارِق والسَّارِقَةُ » ، يعني : أنَّه إذا أتى بالسَّرِقة فاقْطَعُوا يَدَهُ .
فنقول : إذا احْتجت في آخِر الأمْر أنْ تَقُول : السَّارِق والسَّارِقة تقديره : « مَنْ سَرَقَ » ، فاذكر هذا أوَّلاً ، حتى لا تَحْتَاج إلى الإضْمَار الذي ذكرته .
الرابع : أنا إذا اخْتَرْنَا القراءة [ بالنصب لم يَدُلَّ ذلك على أنَّ السَّرِقة علةٌ لوجُوب القَطْع ، وإذا اخْتَرْنَا القِرَاءة بالرَّفْع ] أفادتِ الآيةُ هذا المَعْنَى ثم إنَّ هذا المعنى مُتأكد بقوله تعالى : { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا } ، فثَبَت أنَّ القراءة بالرَّفْعِ أوْلَى .
الخامس : أنَّ سيبويه قال : « وَهُم يُقَدِّمُون الأهَمَّ ، والذي هم بِبَيَانه أعْنَى » فالقِرَاءة بالرَّفْع تَقْتَضِي تقْديم ذكر كَوْنه سَارِقاً على ذِكْرِ وُجُوبِ القَطْع ، وهذا يَقْتَضِي أن يكُون أكبر العِنَايَةِ مَصْرُوفاً إلى شَرْح ما يتعلَّق بِحَال السَّارِق مِنْ حَيْثُ إنَّه سَارِقُ .
وأمَّا قراءة النَّصْبِ ، فإنها تَقْتَضِي أنْ تكُون العِنَايَةُ بِبَيانِ القَطْع أتم من العِنايَة بكونه سَارِقاً ، ومَعْلُوم أنَّه لَيْسَ كذلك ، فإنَّ المَقصُود في هذه الآية تَقْبِيحُ السَّرِقَة ، والمُبَالَغة في الزَّجْر عنها ، فثبت أنَّ القراءة بالرَّفْع هي المُتعينَة . انتهى ما زعَم أنه رَدّ على إمَام الصِّنَاعة ، والجواب عن الوجْهِ الأوَّل ما تقدَّم جواباً عمَّا قالهُ الزَّمَخْشَرِي [ وقد تقدَّم ] ، ويُؤيِّدُه نصُّ سيبويه ، فإنَّه قال : وقد يَحْسُن ويستَقِيمُ : « عَبْدُ الله فاضْرِبْه » ، إذا كان مَبْنِيّاً على مُبْتدأ مُظْهر أو مُضْمَر .
فأمَّا في المُظْهَر ، فقوله : « هَذَا زَيْدٌ فاضْرِبْه » وإن شِئْتَ لم تُظْهِر هذا ، ويعمل كعملِهِ إذا كان مُظْهراً ، [ وذلك ] قولُك : « الهِلال والله فانْظُرْ إليه » ، فَكَأنَّك قُلْت : « هذا الهِلالُ » ، ثُمَّ جِئْت بالأمْر .
ومن ذلك قول الشَّاعِر : [ الطويل ]
1963- وقَائِلَةٍ : خَوْلانُ فَانِكحْ فَتَاتَهُمْ ... وَأكْرُومةُ الحَيَّيْنِ خِلْوٌ كَمَا هِيَا
هكذا سُمِعَ من العربِ تُنْشِدُهُ ، يعني بِرَفْعِ « خَوْلان » ، فمع قوله : « يَحْسُن ويستقيم » كيف [ يكون ] طاعِناً في الرَّفْع؟ .
وقوله : « وإن قَالَ سيبويه . . . » الخ فسِيبَويْه لا يقول ذَلِكَ ، وكَيْفَ يَقُولُهُ ، وقد رَجح الرَّفع بما أوْضَحْتُهُ .
وقوله : « لَمْ يَقْرأ بها إلاَّ عيسى » لَيْس كما زَعَمَ بل قَرَأ بها جماعةٌ كإبْراهيم بن أبي عَبْلَة .
وأيضاً فهؤلاء لم يَقْرءُوهَا من تِلْقَاءِ أنْفُسِهِم ، بل نَقَلُوهَا إلى أنْ تَتّصل بالرَّسُول صلى الله عليه وسلم ، غاية ما في البَابِ أنَّها لَيْسَت في شُهْرَةِ الأولى .
وعن الثاني : أنَّ سيبويه لم يَدَّعِ تَرْجيحَ النَّصْب حتى يُلْزَم بما قَاله ، بل خَرَّج قراءة العامَّة على جُملتَيْن ، لما ذكرت لَكَ فيما تقدَّم من دُخُول الفاءِ ، ولذلك لمَّا مثَّل سيبويه جُمْلَة الأمْرِ والنَّهْي بعد الاسْمِ مثلهما عاريَتَيْن من الفَاء ، قال : وذلِكَ قولك : « زَيْداً اضْربْه » و « عَمْراً امرُر به » .
[ وعن ] الثالث : ما تقدَّم من الحِكْمَة المُقْتَضِيَة للْمَجِيء بالفاء ، وكونها رَابِطَةٌ للحكم بما قَبْلَه .
وعن الرابع : بالمنع أن يكون بَيْن الرَّفْع والنَّصب فَرْق ، بأنَّ الرَّفع يَقْتَضِي العِلَّة ، والنَّصْب لا يَقْتَضِيه ، وذلك أنَّ الآيَة من باب التَّعْلِيل بالوَصْفِ المرتَّب عليه الحُكْم ، ألا ترى أن قولك : « اقطع السَّارق » يفيد العِلَّة ، [ أي : إنَّه ] جعل عِلَّة القَطْع اتِّصافه بالسَّرِقة ، فهذا يُشْعِر بالعِلَّة مع التصريح بالنصب .
الخامس : أنهم يُقَدِّمون الأهَمَّ ، حيث اخْتَلَفَتِ النِّسْبَةُ الإِسْنَادية كالفاعل مع المفعول ، ولنسرد نصّ سيبويه ليتبين ما ذكرْنَاه .
قال سيبَوَيْه : فإن قدَّمْت المَفْعُول ، وأخَّرْت الفاعل جرى اللَّفظ كما جَرَى في « الأوَّل » ، يعني في « ضَرَب عَبْدُ الله زَيْداً » قال : « وذلك : ضَرَبَ زيداً عبد الله لأنَّك إنَّما أردت به مُؤخَّراً ما أرَدْت به مُقَدَّماً ، ولم تُرِدْ أن يَشْتَغِل الفِعْل بأوَّل منه ، وإن كان مُؤخَّراً في اللَّفْظ ، فمن ثَمَّ كان حَدُّ اللَّفْظِ أن يكون فيه مُقَدَّماً ، وهو عربي جيد كثير ، لأنهم يُقَدِّمُون الذي بَيَانُه أهَمُّ لهم ، وهم ببيانهِ أعْنَى ، وإن كانا جَمِيعاً يُهِمَّانِهم ويعنيانهم » . والآيَةُ الكَريمَةُ لَيْسَت من ذلك .
قوله : « أيْدِيهمَا » جمع واقعٌ موقِع التَّثْنِية : لأمْن اللَّبْس ، لأنَّهُ معلُوم أنَّه يقطع من كل سَارِق يَمِينه ، فهو من باب { صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] ، ويدلُّ على ذلك قراءة عبد الله : « فاقْطَعُوا أيْمَانَهُمَا » واشْتَرَط النَّحْوِيُّون في وُقُوع الجَمْعِ موقع التَّثْنِية شُرُوطاً ، من جملتها : أنْ يكون ذلك الجُزْء المُضَاف مُفْرَداً من صاحِبِه نحو : « قُلُوبكما » و « رُوس الكَبْشَيْنِ » لأمْنِ الإلْبَاس ، بخلافِ العَيْنَيْنِ واليَدين والرِّجليْن ، لو قلت : « فَقَأت أعينهما » ، وأنت تعني عينيهما ، و « كتَّفْت أيديهمَا » ، وأنت تعني « يديهما » لم يَجْزْ للَّبْسِ ، فلوْلاَ أنَّ الدَّلِيل دَلَّ على أنّ المُرَاد اليَدَان اليُمْنَيَان لما ساغَ ذلك ، وهذا مُسْتَفِيض في لِسانِهم - أعني وُقُوع الجَمْع مَوْقِع التَّثْنِيَة بِشُرُوطه - قال تعالى :
{ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] ، ولنذكر المسْألة ، فنقول : كُلُّ جزْأين أضيفا إلى كِليْهِما لفظاً أو تقديراً ، وكانا مُفْرَدَيْن من صَاحبيْهِمَا جاز فيهما ثلاثة أوجُه :
الأحسن : الجمع ، ويليه الإفْرَاد عند بَعْضِهم ، ويليه التَّثْنِية ، وقال بعضهم : الأحْسَنُ الجَمْع ، ثم التَّثْنِية ، ثم الإفْرَاد ، نحو : « قَطَعْتُ رُءُوس الكَبْشَيْن ، ورَأس الكَبْشَيْن ورَأسَي الكَبْشَين » .
وقال سامَحَهُ اللَّهُ وعَفَا عَنْهُ : [ السريع أو الرجز ]
1964- ومَهْمَهَيْنِ قَذَفَيْنِ مَرْتَيْن ... ظَهْرَاهُمَا مِثْلُ ظُهُورِ التُّرْسَيْنْ
فقولنا : « جزآن » تَحَرُّز من الشَّيئين المُنْفَصِلَيْن ، لو قلت : « قَبَضت دَرَاهِمكُمَا » تعني : دِرْهَمَيْكُما لم يَجُزْ لِلَّبْسِ ، فلو أمِنَ جَازَ ، كقوله : « اضْرِبَاه بِأسْيَافِكُمَا » « إلى مَضَاجِعِكُمَا » ، وقولنا : « أُضِيفَا » تحرُّز من تفرُّقِهِمَا ، كقوله : { على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى } [ المائدة : 78 ] ، وقولنا : « لَفْظاً » ، تقدَّم مِثَاله ، فإنَّ الإضافَة فيه لَفْظِيَّة .
وقولُنا : « أو تَقْدِيراً » نحو قوله : [ الطويل ]
1965- رَأيْتُ بَنِي البَكْرِيِّ فِي حَوْمَةِ الوَغَى ... كَفَاغِرَي الأفْوَاهِ عِنْدَ عَرينِ
فإن تقديره : كَفَاغِرين أفَواهَهُمَا .
وقولنا : « مُفَرَدَيْن » تحرُّز من العَيْنَين ونحوهما ، وإنما اخْتِير الجَمْعُ على التَّثْنِية ، وإن كان الأصْل لاسْتِثْقَال تَوَالي تَثْنِيَتَيْنِ ، وكان الجَمْع أوْلَى من المُفْرَد لِمُشَارَكَة التَّثْنِية ، وإن كان الأصْل لاسْتِثْقَال تَوَالي تَثْنِيَتَيْنِ ، وكان الجَمْع أوْلَى من المُفْرَد لِمُشَارَكَة التَّثْنِيَةِ في الضَّمِّ ، وبعده المُفْرد لعدم الثِّقَلِ ، هذا عِنْد بَعْضِهِم قال : لأنَّ التَّثْنِيَة لم ترد إلا ضرورةً ، كقوله - رحمةُ الله عليه - [ الطويل ]
1966- هُمَا نَفَثَا فِي فِيَّ مِنْ فَمَويْهمَا ... عَلَى النَّابحِ العَاوِي أشَدَّ رِجَامِ
بخلاف الإفْرَاد فإنَّه ورد في فَصِيح الكلام ، ومنه : « مَسَحَ أذنَيْهِ ظَاهِرَهُمَا وبَاطِنَهُمَا » .
وقال بعضهم : الأحسنُ الجَمْعُ ، ثم التَّثْنِيَة ، ثُمَّ الإفراد كقوله : [ الطويل ]
1967- حَمَامَةَ بَطْنِ الوَادِيَيْنِ تَرَنَّمِي ... سَقاكِ مِنَ الغُرِّ الغَوَادِي مَطِيرُهَا
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ : أيْدِيَهُمَا : يَدَيْهُمَا ، ونحوُهُ : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] اكْتَفَى بتثنيةِ المضافِ إليه عَنْ تَثنيةِ المضافِ ، وأُريد باليدين اليُمْنَيَان بدليلِ قراءةِ عبد الله : « والسَّارِقُونَ والسَّارِقَاتُ فاقْطَعُوا أيْمَانَهُمْ » وردَّ عليه أبو حيَّان بأنهما لَيْسا بِشَيْئَيْنِ ، فإن النوعَ الأوَّلَ مُطّرد فيه وضْعُ الجمعِ مَوْضِعَ التَّثْنِيَةِ ، بخلافِ الثاني فإنه لا يَنْقَاسُ ، لأن المتبادر إلى الذِّهْنِ من قولك : « قَطَعْتُ آذانَ الزَّيْدَيْن » : « أربعة الآذان » وهذا الردّ ليس بشيء؛ لأنَّ الدليل دَلَّ على أنَّ المرادَ اليمنيان .
فصل من أول من قطع في حد السرقة؟
قال القُرْطُبي : أولُ مَنْ حُكم بقطع [ اليد ] في الجاهليةِ ابنُ المُغِيرةِ ، فأمر الله بقطعِهِ في الإسلام ، فكان أول سارقٍ قطعه رسولُ الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في الإسلامِ ، مِنَ الرِّجَالِ الخِيَارَ بْنش عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَاف ومن النساء مُرَّة بنت سُفْيَانَ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ ، وقطع أبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - يَدَ الْفَتَى الذي سَرَقَ العِقْد ، وقطع عُمَرُ - رضي الله عنه - يدَ ابن سَمُرَة أخِي عَبْد الرَّحْمن بن سَمُرَة .
فصل لماذا بدأ الله بالسارق في الآية؟
قال القرطبيّ : بَدَأ الله بالسارقِ في هذه الآيةِ قَبْلَ السَّارقةِ ، وفي الزِّنَا بدأ بالزانيةِ ، والحكمةُ في ذلك أنْ يُقالَ : لما كان حُبُّ المالِ على الرجالِ أغلبُ ، وشهوةُ الاستمتاعِ على النساءِ أغْلَبُ بدأ بهما في الموضعين .
قوله تعالى : « جَزَاءً » فيه أرْبعةُ أوجُهٍ :
أحدُها : أنه منصوب على المصدر بفعلٍ مُقدَّرٍ ، أيْ : جازُوهما جزاء .
الثاني : أنَّهُ مصدرٌ [ أيضاً ] لكنه منصوبٌ على معنى نوعِ المصدرِ؛ لأنَّ قوله : « فاقْطَعُوا » في قُوَّةِ : جَازُوهما بقطع الأيْدِي جَزَاءً .
الثالث : أنَّه منصوبٌ على الحالِ ، وهذه الحال يحتملُ أن تكونَ من الفاعل ، أي : مجازين لهما بالقطع بسبب كسبهما ، وأنْ تكون من المضافِ إليه في « أيْدِيَهُمَا » ، أي : في حال كونهما مُجَازَيْن ، وجاز مجيء الحال من المضاف إليه ، لأنَّ المضاف جُزْؤهُ ، كقوله : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } [ الحجر : 47 ] .
الرابع : أنَّهُ [ مفعولٌ ] مِنْ أجْلِهِ ، أيْ : لأجْلِ الجزاءِ ، وشروطُ النصب موجودة .
و « نَكَالاً » منصوبٌ كما نُصِب « جَزَاءً » ولم يذكر الزمخْشريُّ فيهما غيرَ المفعولِ مِنْ أجْلِهِ .
قال أبُو حيان : « تبع في ذلك الزَّجَّاج » ، ثم قال : « وليس بجيِّدٍ إلاَّ إذا كان الجزاءُ هو النَّكالَ ، فيكون ذلك على طريقِ البدلِ ، وأمّا إذا كانا مُتَبَاينين ، فلا يجوزُ ذلك إلا بوَسَاطَةِ حَرْفِ العطفِ » .
قال شهابُ الدِّين : النَّّكالُ : نَوْعٌ من الجزاء فهو بدلٌ منه ، على أنّ الذي يَنْبغي أن يُقَال هنا إنَّ « جَزَاءٌ » مفعول من أجله ، العامل فيه « فاقْطَعُوا » ، فالجزاءُ عِلةٌ للأمر بالقطع ، و « نَكَالاً » مفعولٌ مِن أجْله أيضاً العامل فيه « جَزَاءً » ، والنَّكَالُ عِلّةٌ للجزاءِ ، فتكون العلةُ مُعَلَّلةً بِشَيْءٍ آخرٍ ، فتكون كالحال المتداخِلَةِ ، كما تقول : « ضربتُه تَأدِيباً له إحْسَاناً إلَيْه » ، فالتأدِيبُ علَّة للضرب ، والإحسانُ علة للتأديب ، وكلامُ الزمخشريِّ والزَّجاج لا يُنَافِي ما ذكرنا فإنَّه لا منافاة بين هذا وبين قولهما : « جزاءً » مفعولٌ مِنْ أجلْه ، وكذلك « نَكَالاً » فتأمّله ، فإنه وجه حسنٌ ، فطاح الاعتراض على الزمخشري والزَّجَّاج ، والتفصيلُ المذكورُ في قوله : « إلا إذا كان الجزاءُ هو النَّكَالَ » ، ثم ظفرتُ بعد ذلك بأنه يجوز في المفعول له
{ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ الله بَغْياً } [ البقرة : 90 ] أن يكون « بَغْياً » مفعولاً له ، ثم ذكروا في قوله : { أَن يُنَزِّلُ الله } [ البقرة : 90 ] أنه مفعولٌ له ناصبُه « بَغْياً » ، فهو علةٌ له ، صَرَّحُوا بذلك فَظَهَرَ ما قلت ولله الحمد .
و « بما » متعلق ب « جَزَاءً » ، و « ما » يجوزُ أنْ تكونَ مصدرية ، أي : بكسبهما ، وأنْ تكونَ بمعنى « الذي » ، والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ أي : بالذي كسباه ، والباءُ سَبَبِيَّةٌ .
فصل
قال بعضُ الأصُوليِّين : هذه الآيةُ مُجْمَلَةٌ مِنْ وُجُوهٍ :
أحدها : أنَّ الحكمَ مُعلّق على السرقةِ ، ومطلقُ السرقَةِ غيرُ مُوجِب القطع ، بَلْ لا بد أنْ تكونَ هذه السرقةُ سرقَةً لمقدارٍ مَخْصُوصٍ من المالِ ، وذلك القَدْرُ مذكورٌ في الآية ، فكانت الآيةُ مُجْملةً .
وثانيها : أنَّهُ تعالى أوْجب قطع الأيمانِ والشمائِلِ وبالإجماع لا يجبُ قطعُهما معاً فكانت الآيةُ مجملةً .
وثالثها : أن اليدَ اسمٌ يتناولُ الأصابعَ وحدها ، ويقعُ على الأصابع مع الكفِّ ، والسَّاعِدِ إلى المِرْفَقَيْنِ ، ويقعُ على كل ذلك إلى المنْكِبينِ ، وإذا كانَ لَفْظُ اليدِ مُحْتَمِلاً لِكُلِّ هذه الأقسامِ والتعيينُ غَيْر مذكورٍ في هذهِ الآيةِ فكانتْ مُجْمَلةً .
ورابعها : أن قوله : « فاقْطَعُوا » خطابٌ مع قومٍ ، فيحتملُ أنْ يكونَ هذا التكليفُ واقِعاً على مَجْموعِ الأمَّةِ ، وأنْ يكونَ واقعاً على طائِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ منهم ، وأنْ يكونَ على شَخْص مُعَين منهم ، وهو إمامُ الزمانِ كما ذهب إلَيْه الأكثرُون ، ولمّا لم يكن التعيينُ مَذْكوراً في الآية كانتْ مُجْملةً ، فثبتَ بهذه الوجُوهِ أنَّ هذه الآية مُجملةٌ على الإطلاقِ .
وقال قومٌ من المُحَقِّقِين : إنَّ الآية ليستْ مُجْمَلةً ألْبَتَة ، وذلك لأنَّا بَيَّنَّا أنَّ الألفَ واللامَ في قوله تعالى « والسارقُ والسارقةُ » قائمانِ مقام « الذي » والفاءُ في قوله « فاقْطَعُوا » للجزاءِ ، وكما أنَّ التقدير : الذي سَرَقَ فاقْطَعُوا يَدَهُ ، ثُمَّ تأكّدَ هذا بقوله تعالى : { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا } وذلك أنَّ الكَسْبَ لا بُدَّ وأنْ يكونَ المرادُ به ما تقدم ذِكرُهُ ، وهو السَّرِقَةُ ، فصار هذا الدليلُ على مَنَاطِ الحُكم [ ومتعلقه ] هو ماهية السرقة ، ومقتضاهُ أنْ يَعُمَّ الجزاءُ أينما حصل الشرطُ . اللهَّم إلاّ إذا قام دليلٌ مُنْفصِلٌ يَقْتَضِي تخصيصَ هذا العامِّ ، وأمّا قوله : « الأيْدِي » عامَّة ، فنقول : مُقْتضاه قطعُ الأيدي ، لكنَّه لما انعقَدَ الإجماعُ على أنه لا يجبُ قطعهُما معاً ، ولا الابتداءُ [ باليد ] اليُسْرى ، أخرجناه مِنَ الْعُمُومِ .
وأمَّا قوله : « لفظُ اليَدِ دَائرٌ بَيْنَ أشياء » .
فنقولُ : لا نُسَلِّمُ ، بل اليَدُ اسمٌ لهذا العُضْو إلى المنْكِبِ ولهذا السَّبَبِ قال تعالى : { فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق } [ المائدة : 6 ] ولولا دخولُ العَضُديْنِ في هذا الاسم ، وإلاَّ لما احتيج إلى التَّقييدِ بقوله « إلى المرَافِقِ » . فظاهرُ الآيةِ : يُوجِبُ قَطْعَ اليديْنِ من المنكِبَيْنِ كما هو قولُ الخوارج : إلاَّ أنَّا تركنا ذلكِ لدليلٍ مُنْفصل وأما قوله « رَابِعاً » يَحْتَمِلُ أن يكُونَ الخطابُ مع واحدٍ مُعَيَّنٍ .
قُلْنا : ظاهِرُه أنَّهُ خطابٌ مع [ كُل أحدٍ ] ، تُرِكَ العملُ بِهِ ، فلما صار مَخْصُوصاً بدليلٍ مُنْفَصِل فَيَبْقَى مَعمولاً به في الْبَاقِي فالحاصلُ أنَّا نقُولُ : الآيةُ عامةٌ صارت مَخْصُوصَةً بدلائِلَ مُنْفَصِلَة في بعضِ الصُّوَرِ ، فيبقى حُجَّة فيما عداهَا ، وهذا القولُ أوْلَى من القول بأنها مُجْملة لا تُفِيدُ فائدَةً أصْلاً .
فصل لماذا لم يحد الزاني بقطع ذكره؟
قال القُرطبي : جعل الله حدَّ السرقة قطعَ اليدِ لتناوُلها المالَ ، ولم يجعلْ حدَّ الزِّنَا قطعَ الذَّكرِ مع مُوافقَةِ الفاحشة به لأمورٍ :
أحدها : أن للسارقِ مثلَ يدِهِ التي قُطِعت ، فإن انْزَجَرَ بِها اعتاضَ بالباقية ، وليس للزَّانِي مثلُ ذكره ، إذا قُطِعَ ولم يعتض بغيره لو انْزَجَرَ بقطعِهِ .
الثاني : أنَّ الحدَّ زجرٌ للمحدودِ ولغيره ، وقطعُ يدِ السَّارقِ ظاهرٌ ، وقطعُ الذكرِ في الزنا باطنٌ .
الثالث : أنَّ قطع الذكرِ إبطال للنَّسْلِ وليس في قطع اليد إبطالٌ للنسلِ .
فصل
قال جمهورُ الفقهاءِ : لا يجبُ القطعُ إلا بشرطيْن : قدرُ النصابِ ، وأنْ تكونَ السرقةُ من حِرْزٍ .
قال ابن عباسٍ وابنُ الزُّبيْرِ والحسنُ البصريُّ - رضي الله عنهم - القدرُ غيرُ مُعْتبرٍ ، والقطعُ واجبٌ في القليلِ والكثيرِ ، والحرزُ أيضاً غَيْرُ مُعْتبرٍ ، وهذا قولُ داود الأصْفهاني وقولُ الخوارجِ ، وتمسكوا بعمومِ الآيةِ ، فإنَّه لم يُذْكَرْ فيها النصابُ ولا الحرزُ ، وتَخْصِيصُ عُمُومِ القرآنِ بخبرِ الواحدِ ، وبالقياسِ غيرُ جائزٍ ، واحتج الجمهورُ بأنه لا حاجة إلى القول بالتخصيصِ ، بل نقولُ إنَّ لفظ السرقةِ لفظٌ عربيٌّ ، ونحنُ بالضرورة ، نعلمُ أنَّ أهْلَ اللغَةِ لا يقُولُونَ لِمَنْ أخذَ حَبَّةً مِنْ حِنْطَة الغَيْرِ أو تبنةً واحدةً أو كِسْرةً صغيرةً أنَّهُ سرق مالهُ ، علمنا أنَّ أخذ مالِ الغيْرِ كيفما كان لا يُسَمَّى سرقَةً ، وأيْضاً فالسرقةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ مُسارقَةِ عيْنِ المالِكِ [ وإنَّما يُحْتَاجُ إلى مُسارقةِ عيْنِ المالِكِ ] لَوْ كان المسروقُ أمْراً يتعلقُ به الرغبةُ في مَحَلّ الشُّحِّ والضِّنَّةِ حتَّى يَرْغَب السارقُ في أخذِهِ ويتضَايَقُ المسروقُ مِنْه فِي دَفْعِهِ إلى الغَيْرِ ، ولهذا الطريق اعتبرنا في وُجوبِ القطعِ أخْذ المالِ مِنْ حِرْزِ المثل ، لأنَّ مَا لا يكُونُ موضُوعاً في الْحِرْزِ لا يُحْتَاجُ في أخْذِه إلى مُسَارقَة الأعْيُنِ ، فلا يُسَمَّى أخْذُه سَرِقَةً .
قال داودُ : نحن لا نُوجِبُ القطعَ في سرقة الجبَّةِ الواحدةِ ، بل في أقَلِّ شَيْءٍ يُسَمَّى مالاً ، وفي أقَلِّ شَيْءٍ يجري فيه الشُّحُّ والضِّنَّةُ ، وذلك لأن مقاديرَ القِلَّةِ والكثْرة غيرُ مَضْبُوطَةٍ ، فربَّما اسْتَحْقَر الملكُ الكبيرُ آلافاً مُؤلَّفَةً ، وربما اسْتَعْظَمَ الفقيرُ طسُّوجاً ، ولهذا قال الشافِعِيُّ - رضي الله عنه - : لو قال : لِفُلانٍ عليَّ مالٌ عَظِيمٌ ، ثم فسره بالحبةِ ، يقبل قوله فيه لاحتمالِ أنَّه كان عظيماً في نظره ، أو كان عظيماً عنده لغاية فَقرِهِ وشدةِ احتياجِهِ إليه ، ولما كانت مقاديرُ القِلَّةِ والكَثْرةِ غيْرَ مَضْبُوطةٍ ، وَجَبَ بِنَاءُ الحكمِ على أقل ما يُسَمَّى مالاً .
وليس لقائلٍ أنْ يَسْتَبْعِدَ ويقُولَ : كيف يجوزُ [ القطعُ في سرقةِ ] الطسوجة الواحدةِ ، فإنَّ الملحد قد جعلَ هذا طَعْناً في الشريعةِ فقال : اليدُ لما كانت قيمَتُها خَمسمائَةِ دينارٍ من الذَّهَبِ ، فكيف تُقْطَعُ لأجل القليلِ من المالِ؟ ثُم إنْ أجَبْنَا عن هذا الطعنِ ، بأنَّ الشرعَ إنما قطعَ يدهُ بسبب أنه تَحمَّل الدناءَةَ والخساسَةَ في سرقَةِ ذلك القدرِ القليلِ ، فلا يَبْعُدُ أنْ يعاقبه الشرعُ بسبب تلك الدناءَةِ بهذه العُقُوبةِ العظيمةِ ، وإذاً كَانَ هذا الجوابُ مَقْبُولاً مِنَّا في إيجابِ القطْعِ في القليلِ والكثيرِ ، قال : ومِمَّا يدلُ على أنَّهُ لا يجوزُ تخصيصُ عمومِ القرآنِ هَاهُنَا بخبرِ الواحدِ ، وذلك لأن القائلينَ بتخصيصِ هذا العمومِ اختلفُوا على وجوهٍ :
قال الشافعيُّ : يجبُ القطعُ في رُبْعِ دينارٍ ، وروى فيه قوله عليه الصلاة والسلام « لا قَطْعَ إلاَّ في رُبْعِ دينارٍ » وقال أبُو حنيفَةَ : لا يجبُ إلاَّ في عشرةِ دراهم مضرُوبة ، وروى قوله عليه الصلاة والسلام « لا قطع إلا في ثَمنِ المجَنِّ » قال : والظاهر أنَّ ثمن المجَنّ لا يكون أقلَّ من عشرة دراهم .
وقال مالكٌ وأحْمدُ وإسحاقُ : يُقدر بثلاثةِ دراهم أو رُبْعِ دينار وقال ابنُ أبِي لَيْلَى : مُقَدَّرٌ بخمسةِ دراهمَ ، وكلُّ واحدٍ من هؤلاءِ المجتهدين يطعنُ في الخبرِ الذي يرويه الآخرُ ، فعلى هذا التقدير : فهذهِ المُخَصصَاتُ صارتْ متعارِضةً ، فوجب ألاَّ يُلْتَفَتَ إلى شَيْءٍ مِنْها : ويُرْجع في معرفةِ حُكْمِ الله تعالى إلى ظاهرِ القرآنِ .
قال : وليس لأحدٍ أنْ يقول : إن الصحابة أجْمَعُوا على أنَّه لا يجبُ القطعُ إلاّ في مقدار مُعَيَّنٍ ، قال : لأنَّ الحسنَ البصريَّ كان يُوجِبُ القطعَ بمجردِ السَّرِقَةِ ، وكان يقولُ : احذر من قطع درهم ، ولو كان الإجماعُ مُنْعَقِداً لما خالف الحسنُ البصري فيه مع قربه من زمنِ الصحابةِ - رضي الله عنهم - ، وشدةِ احتياطِهِ فيما يتعلقُ بالدينِ ، فهذا تقريرُ مذهَبِ الحسنِ البصْرِيِّ ومذهبِ داوُدَ الأصْفَهانِي ، وأمَّا الفقهاءُ فقالوا : لا بُدَّ فِي وجوبِ القطعِ مِنَ الْقَدْرِ .
فقال الشافعيُّ : القطعُ في رُبْعِ دينارٍ فَصَاعِداً وهو نِصابُ السرقةِ ، وسائِرُ الأشياءِ تُقَوَّمُ بِهِ ، وقال أبُو حَنِيفَةَ والثَّوْرِيُّ لاَ يَجِبُ القطعُ في أقَل مِنْ عَشَرةِ دراهم مَضْرُوبة . ويُقَوَّم غيرُها به ، وقال مالكٌ وأحمدُ : رُبْعُ دينارٍ [ أو ] ثلاثةُ دَرَاهِمَ ، وقال ابنُ أبِي لَيْلَى : خَمْسةُ دراهِم ، وحجةُ الشافعي - رضي الله عنه - ما رُوِي عن عائشةَ - رضي الله عنها - أن رسولَ الله صلى الله عليه وعلى وآله وسلم قال : « القَطْعُ فِي رُبْعِ دينارٍ فَصَاعِداً » .
وحُجَّةُ مالكٍ - رضي الله عنه - ما رُوِيَ عَنْ نافعٍ عن ابن عُمَرَ - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قَطَعَ سارِقاً في مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثلاثةُ دَرَاهِمَ .
ورُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رضي الله عنه - أنَّهُ قطعَ السارقَ في أتْرُجَّةٍ قُوِّمَتْ بثلاثةِ دراهِمَ من صرف اثني عشر دينار ، واحْتَجّ أبو حَنيفَةَ - رضي الله عنه - بأنَّه قول ابن مسعُودٍ - رضي الله عنه - ، وبأن المجَنّ قيمتُهُ عَشَرةُ دراهِمَ ، واحتج ابنُ أبِي لَيْلَى - رحمه الله - بِما روى أبُو هُرَيْرَة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال : « لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقُ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ ، ويَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدهُ » .
قال الأعْمَشُ : كانوا يَرَوْنَ أنَّهُ بيضُ الحديد والحبلُ ، يرون أنه منها تُساوِي ثلاثةَ دراهم ، ويحتج بهذا مَنْ يرى القطع في الشيء القليلِ ، وعند الأكثرينَ محمولٌ على ما قاله الأعْمَشُ لحديثِ عائشةَ - رضي الله تعالى عنها - .
فإنْ قيل : إذا سرَقَ المالَ مِنَ السَّارِقِ ، فقال الشافِعيُّ : لا يُقْطَعُ لأنَّهُ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ مالكٍ ومِنْ غَيْرِ حِرْزٍ .
وقال أصحابُ مالكٍ : حُرْمةُ المالِكِ عليه لم تَنْقَطِعْ عنه ، وَيَدُ السارقِ كلا يد كالغاصب إذا سُرِقَ منه المالُ المغصُوب قُطع ، فإنْ قيل : حِرْزُهُ كَلاَ حِرْزٍ . فالجوابُ : الحرْزُ قائمٌ والمالِكُ قائمٌ ، ولم يَبْطُلِ الملك فيه .
فصل المذاهب فيما إذا كرر السارق السرقة
قال الشافعي : الرجل إذا سرق أولاً قطعت يده اليمنى ، وفي الثانية رجله اليسرى وإذا سرق في الثالثة تقطع يده اليسرى ، وفي الرابعة : رِجْلُهُ اليُمْنَى؛ لأنَّ السرقةَ عِلّةُ القطعِ وقد وُجدت وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه - وأحْمَدُ والثَّوْرِيُّ - رضي الله عنهم - : لا يُقْطَع في الثالثةِ والرابعةِ ، بلْ يُحْبَسُ .
فصل
قال أبُو حَنِيفَة والثَّوْرِيُّ : لا يُجْمَعُ بَيْنَ القَطْعِ والغُرْمِ ، فإن غُرّم فلا قَطْعَ ، وإن قُطِعَ سَقَطَ الغُرْمُ ، وقال الشافعي وأحمد - رضي الله عنهما - يُغرّم إنْ تلف المسروقُ ، وإنْ كان بَاقِياً رَدَّهُ .
وقال مَالِكٌ : يُقْطَع ] بِكُلِّ حالٍ ، ويُغرّم إنْ كان غَنِياً ، ولا يَلْزَمُه إن كان فقيراً ، واستدل الشافعي بقوله عليه الصلاة والسلام « على الْيَدِ مَا أخَذَتْ حَتَّى تُؤدِّيَهُ » ، ولأنَّ المسروقَ لَوْ كان بَاقِياً وَجَبَ رَدُّهُ بالإجْماعِ ، ولأنَّ حق الله لا يَمْنَعُ حَقَّ العبادِ ، بِدليلِ اجتماع الجزاءِ والقِيمةِ في الصَّيْدِ المَمْلُوكِ ، ولأنَّه بَاقٍ على مُلْكِ مالِكِه إلى وقْتِ القطع .
فإنْ قيل : الحِرْزُ عادة ما نُصِبَ لِحفْظِ الأموالِ ، وهو يَخْتَلِفُ في كُلِّ شَيْءٍ بحسبِ عَادَتِهِ .
قال ابنُ المُنْذرِ : لَيْسَ فِيهِ خَبَرٌ ثَابتٌ .
فالجوابُ : وإنْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ لا قَطْعَ لقولِهِ عليه الصلاةُ والسلامُ : « لا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ وَلاَ فِي حريسة جَبَلٍ ، وإذَا آواها المراحُ والحرزُ فالقطعُ فيما بلغ ثمنَ المجَنّ » وقال عليه الصلاةُ والسلامُ : « ليسَ على خائنٍ ولا مُنْتَهبٍ ولا مُخْتلِس قطعٌ » .
وإذا سَرَقَ من مالٍ فيه شُبْهَةٌ ، كالعبدِ المسروقِ في مالِ سَيِّده ، والولدِ من مال والدِهِ ، والوالدِ من مالِ ولدِهِ ، وأحدِ الشريكيْنِ من مالِ المشتركِ لا قَطْعَ عليه .
فصل فيما إذا اشترك جماعة في سرقة
إذا اشترك جماعةٌ في سرقَة نصابٍ مِنْ حِرْزٍ ، فلا يَخْلُو : إمَّا أنَّ بعضهم يَقْدِرُ على إخراجه أوْ لا يَقْدِرُ إلا بمعاونِتِهم ، فإنْ كان الأول فَقِيل : يُقْطَعُ ، وقيل : لا يُقطعُ ، وهو قولُ أبِي حَنيفَةَ والشافعي ، فإذا نَقَبَ واحدٌ الحِرْزَ وأخَذَ الآخرُ ، فإنْ كانَ انفردَ كل واحدٍ بِفعلِهِ دُونَ اتفاقٍ منهما ، فلا قطْع على واحدٍ منهما ، وإنْ تفاوتَا في النَّقْبِ وانفردَ أحدهما بالإخراجِ خاصةً ، فإنْ دخل أحدُهما وأخرجَ المتاعَ إلى باب الحرْزِ فأدخل الآخرُ يدَهُ فأخذه ، فعليه القطعُ ويُعاقبُ الأولُ ، وقيل : يُقْطعانِ وإنْ وضعه خارج الحِرْز فعليه القطعُ لا على الآخذِ .
فصل في حكم النبّاش
والقبرُ والمسجدُ حِرْزٌ فَيُقْطَعُ النَّباشُ عند الجمهور ، وقال أبُو حنيفةَ : لا يقطعُ؛ لأنَّه سرق مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ مالاً مُعَرَّضاً لِلتَّلفِ لا مالِكَ لَهُ؛ لأنَّ الميِّتَ لا يملِكُ .
فصل
قال الشافعي : - رضي الله عنه - لِلْمَوْلى إقَامةُ الحدِّ على ممَالِيكِه ، وقال أبُو حنيفة - رضي الله عنه - : لا يَمْلِكُ ذلكَ .
فصل في وجوب نصب إمام
احْتَجُّوا بهذه الآيةِ على أنَّهُ يجبُ على الأمَّة أن يُنَصِّبوا لأنفسهم إماماً مُعَيَّناً ، لأنَّهُ تعالى أوْجبَ بهذه الآيَة إقامَةَ الحدِّ على السُّرَّاق والزُّنَاةِ فلا بُدَّ مِنْ شَخْصٍ يكُونُ مُخَاطَباً بهذا الخطابِ ، وأجْمعتِ الأمةُ على أنَّه ليسَ لآحادِ الرعيَّةِ إقامةُ الحدودِ على الأحْرارِ الجُنَاةِ إلاَّ الإمامَ ، فلمَّا كان هذا تَكْلِيفاً جازِماً ، ولا يمكنُ الخروجُ مِنْ عُهْدَتِه ، إلا بِوُجودِ وجبَ نَصْبُهُ؛ لأنَّ ما لا يَأتي الواجبُ إلا به ، وكانَ مقدوراً للمُكلَّفِ فهو واجبٌ .
فصل
قالتِ المعتزلةُ : قوله تعالى : { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا } يَدُلُّ على تَعْلِيلِ أحْكامِ الله تعالى؛ لأنَّه صَريحٌ في أنَّ القطعَ إنَّما وجبَ مُعَلّلاً بالسرقَةِ .
وجوابُهُ ما تقدمَ في قوله { مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا } [ المائدة : 32 ] .
قوله تعالى { والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } والمعنى : عَزيزٌ في انْتِقامِهِ ، حكِيمٌ في شرائِعِهِ وتكالِيفِه ، قال الأصْمَعِيُّ : كنتُ أقرأُ سورةَ المائدة ومعي أعرابيٌّ . فقرأتُ هذه الآيَةَ فقلْتُ : واللَّه غفورٌ رحيمٌ ، سَهْواً فقال الأعرابيُّ : كلامُ من هذا ، فقلتُ : كلامُ الله ، فقال : أعِدْ ، فأعَدْتُ : والله غفور رحيمٌ ثُمَّ تَنَبَّهْتُ فقلتُ : « والله عزيزٌ حكيمٌ » فقال : الآنَ أصَبْتَ .
قُلْتُ : كيف عرفتَ؟ فقال : يا هذا ، عَزَّ فحكم فأمر بالقطْعِ ، فلَوْ غَفر ورحِمَ لما أمر بالقَطْعِ .
قوله تعالى : { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ } الجارُّ [ والمجرور في قوله : { مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ } ] متعلِّقُ ب « تاب » و « ظُلْم » مصدرٌ مضافٌ إلى فاعله ، أيْ : مِنْ بعد أنْ ظلمَ غَيْرَهُ بأخْذِ ماله .
وأجاز بعضُهم أنْ يكونَ مُضافاً للمفعولِ ، أيْ : مِنْ بعد أنْ ظلم نَفْسَهُ ، وفي جوازِ هذا نَظَرٌ؛ إذْ يصيرُ التقديرُ : مِنْ بَعْد أنْ ظلمه ، ولو صرَّحَ بهذا الأصل لم يجز؛ لأنَّهُ يؤدِّي إلى تَعَدِّي فعل المضمرِ إلى ضَمِيره المتصلِ ، وذلك لا يجوزُ إلا في بابِ : « ظَنّ وفَقَدَ وعدِمَ » ، كذلك قاله أبُو حيان .
وفي نظرِه نَظَرٌ؛ لأنَّا إذا حللنا المصدر لحرفٍ مَصْدرِيٍّ وفِعْلٍ ، فإنَّما يأتِي بعد الفعلِ بما يَصِحُّ تقديرُه ، وهو لفظُ النَّفْسِ ، أيْ : مِنْ بَعْد أنْ ظَلَمَ نَفْسه . انتهى .
فصل في معنى الآية
المعنى : { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ } سرقته « وَأصْلَحَ » العملَ ، « فإنَّ اللَّهَ » تعالى { يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } هذا فيما بينَهُ وبَيْنَ الله تعالى ، فأمَّا القطعُ فلا يَسْقُطُ بالتَّوْبةِ عند الأكْثرينَ .
قال مُجاهِدٌ : السارقُ لا توبة له ، فإذا قُطِعَ حصلتِ التوبةُ ، والصحيحُ : أن القطعَ جزاءٌ على الجِنايةِ لقوله تعالى : { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله } فلا بُدَّ مِنَ التَّوْبَةِ بَعْدُ ، وتوبَتُه الندمُ على ما مضَى والعزمُ على تركِهِ في المستقبلِ ، وهذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ مَنْ تاب من بعد ظلمه وأصْلح ، فإنَّ الله تعالى يقبلُ توبَتَهُ .
فإن قيل : قوله « وأصْلَحَ » يدلُّ على أنَّ مجردَ التوبةِ غيرُ مقبولٍ . فالجوابُ : المرادُ وأصلح التوبة بنيةٍ صادقةٍ وعزيمةً صحيحةً خاليةٍ عن سائرِ الأغْرَاضِ .
فصل في أن قبول التوبة غير واجب على الله تعالى
دَلَّتِ الآيةُ على أنَّ قبولَ التوبة غيرُ واجبٍ على الله تعالى ، لأنَّهُ يُمْدحُ بقبول التوبةِ ، والتمدُّحُ إنما يكونُ بفعل التَّفَضُّلِ والإحْسَانِ لا بأدَاءِ الوَاجِبَاتِ .
قوله تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض } الآية .
لما ذكر عقابَ السَّارِقِ ، ثُمَّ ذَكرَ أنَّهُ يقبلُ توبتَهُ إنْ تاب أرْدَفَهُ ببيان أنه يفعلُ ما يشاء ويَحْكُم ما يريدُ فيُعَذبُ من يشاءُ ، ويغفرُ لِمَنْ يشاءُ وإنَّما قدم التعذيبَ على المغفرةِ ، لأنَّهُ في مقابلةِ السرقةِ ، والسرقةُ مقدمةٌ على التوبةِ .
قال السديُّ والكَلْبِيُّ : يعذبُ مَنْ يشاءُ ممَّنْ ماتَ على كُفْرِهِ ، وقال ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما - : يعذبُ مَنْ يشاءُ على الصَّغيرةِ ، ويغفرُ لِمَنْ يشاءُ الكبيرةَ والله غفورٌ رحيمٌ .
قال القُرْطُبِيُّ : هذه الآيةُ خطابٌ للنبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أيْ : لا قرابة لأحدٍ بينه وبين الله تُوجِبُ المحاباةَ حتى يقول قائلٌ : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] ، والحدودُ تقامُ على كُلِّ مَنْ قارف حدًّا .
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
قد تقدم أنَّ « يَحْزُن » يُقْرأ بفتح الياءِ وضمِّها وأنهما لُغتانِ ، وهل هما بمعنًى ، أو بينهما فَرْقٌ .
والنَّهْيُ للنبيّ في الظاهرِ ، وهو مِنْ بابِ قوله : « لا أرَيَنَّك هاهُنَا » ، أي : لا تَتَعَاطَ أسباباً يحصلُ لك بها حُزْنٌ من جهتِهم ، وتقدم لك تحقيقُ ذلك مِرَاراً .
وقولُ أبي البقاءِ في « يَحْزُنْكَ » : « والجيدُ فتحُ الياءِ وضمُّ الزَّاي ، ويُقْرأ بِضَمِّ الياءِ ، وكسر الزَّاي مِنْ : أحْزَنَنِي وهي لغةٌ » - لَيْسَ بجيِّدٍ؛ لأنها قراءةٌ متواترةٌ ، وقد تقدَّم دليلُها في آل عمران [ الآية 76 ] . و « يسارعون » من المسارعة ، و « فِي الكفر » متعلقٌ بالفعل قبلهُ ، وقد تقدم نظيرُها في آل عمران . واعلمْ أنه تعالى خاطب النبيَّ عليه الصلاةُ والسلام بقوله تعالى : { ياا أَيُّهَا النبي } في مواضِعَ كثيرةٍ ، ولم يخاطِبْهُ بقوله : { ياأيها الرسول } إلاّ في موضِعَيْنِ في هذه السورة .
أحدهما : هاهُنا ، والثانية : { ياأيها الرسول بَلِّغْ } [ المائدة : 67 ] وهذا خطابُ تشريفٍ وتعظيمٍ .
واعلمْ أنه تعالى لما بيَّن بعضَ التكاليف والشرائعِ ، وكان قد علم من بعضِ النَّاسِ المسارعةَ إلى الكفرِ لا جَرَمَ صبَّر رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - على تَحَمُّلِ ذلك ، وأمرهُ بأنْ لا يَحْزنَ لأجلِ ذلك أيْ : لا تَهْتَمَّ ولا تُبَالِ بمسارعةِ المنافقينَ في الكفرانِ في موالاةِ الكُفارِ ، فإنهم لَنْ يُعْجِزُوا اللَّه شيئاً .
قوله تعالى : { مِنَ الذين قالوا } يجوزُ أنْ يكُون [ حالاً من ] الفاعل في « يسارِعُون » أيْ : يُسارعون حال كونهم بعضَ الذينَ قالُوا ، ويجوزُ أنْ يكون حالاً من نفسِ الموصُول ، وهو قريبٌ من مَعْنى الأولِ ، ويجُوزُ أن يكُونَ « منْ » بياناً لجنسِ الموصُولِ الأولِ ، وكذلك « من » الثانية ، فتكون تَبْييناً وتَقْسِيماً للذين يُسارعون في الكُفْرِ ، ويكون « سمَّاعُون » على هذا خَبَر مُبْتَدأ محذُوفٍ و « آمنَّا » منصوبٌ ب « قالوا » [ و « أفْواهِهمْ » متعلقٌ ب « قالوا » لا ب « آمَنَّا » ] بمعنى أنه لم يُجاوزْ قولهم أفْواهَهُمْ ، إنَّما نَطَقُوا بِهِ غير مُعْتقدِين له بقلوبهم . وقوله : { وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } جملةٌ حاليَّةٌ .
قال بعضُ المفسِّرين : فيه تقديمٌ وتأخيرٌ ، والتقديرُ : مِنَ الذينَ قالُوا : آمَّنا بأفْواهِهمْ ولَمْ تُؤمِن قُلُوبُهُم ، وهؤلاءِ هُم المنافِقُونَ .
قوله تعالى : { وَمِنَ الذين هِادُواْ } فيه وجهانِ :
أحدهما : ما تقدَّم ، وهو أنْ يكونَ مَعْطُوفاً على { مِنَ الذين قالوا } بَيَاناً وتَقْسِيماً .
والثاني : أن يكونَ خبراً مُقَدماً ، و « سمَّاعُونَ » مُبْتدأ ، والتقديرُ : { ومِنَ الذين هادُوا قومٌ سمَّاعُون } ، فتكونُ جملةً مستأنفة ، إلاَّ أن الوجه الأول مُرجَّح بقراءةِ الضَّحَّاكِ : « سمَّاعِينَ » على الذَّمِّ بِفِعْل محذوفٍ ، فهذا يدلُّ على أن الكلام لَيْسَ جُملةً مُسْتقلةً ، بل قوله : { مِنَ الذين قالوا } عطفٌ على { مِنَ الذين قالوا } .
وقوله « سماعُون » مِثالُ مُبالغَةٍ ، و « للْكَذِب » فيهِ وجهانِ :
أحدهما : أنَّ « اللامَ » زائدةٌ ، و « الكَذِبِ » هو المفعولُ ، أي : سمَّاعون الكذبَ ، وزيادةُ اللام هُنا مُطَّردة لكوْنِ العامل فَرْعاً ، فقوي باللام ، ومثلُه { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ البروج : 16 ] .
والثاني : أنَّها على بابها مِنَ التعليلِ ، ويكونُ مفعولُ « سمَّاعُونَ » مَحْذُوفاً ، أيْ : سَمَّاعُون أخْبَارَكُم وأحَادِيثَكُمْ لِيَكْذِبُوا فيها بالزيادَةِ والنَّقْصِ والتَّبْديلِ ، بأنْ يُرْجفُوا بِقَتْلِ المؤمنينِ في السَّرَايَا كما نقل من مخازيهم .
وقوله تعالى : { سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ } يجوزُ أنْ تكون هذه تكْرِيراً للأولى ، فعلى هذا يجوزُ أنْ يتعلَّق قوله : « لِقَومٍ » بنَفْس الكذبِ ، أيْ : يَسْمَعُونَ ليَكْذبُوا لأجْل قوْم [ ويجوزُ أن تتعلق اللامُ بنفس « سمَّاعون » أي : سمَّاعُونَ لأجل قومٍ لم يأتوك؛ ] لأنهم لبُغضِهِمْ لا يقربُونَ مَجْلِسكَ ، وهم اليهودُ ، و « لم يأتُوك » في محَلِّ جرٍّ؛ لأنَّها صفةٌ ل « قوم » .
فصل
ذكر الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ هاهُنَا وَجْهَيْنِ .
الأول : أنَّ الكلامَ إنَّما يتمُّ عند قوله « ومِنَ الَّذِينَ » ثُم يُبْتَدأ الكلامُ من قوله : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } [ وتقديرُ الكلامِ : لا يحْزُنْكَ الذين يُسارعُونَ في الكفر من المنافِقِينَ ومن اليهُود ، ثم بعد ذلك وصفَ الكل بكونهم سمَّاعين لقوم آخرين ] .
الوجهُ الثاني : أن الكلام تَمَّ عند قوله : { لَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } ثم ابْتَدَأ فقال : { وَمِنَ الذين هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } وعلى هذا التقدير : فقوله : « سمَّاعُون » صفةُ محذوفٍ والتقديرُ : ومن الذين هادُوا قومٌ سماعُون ، وقيل : خبرُ مُبتدأ محذوفٍ ، تقديرُه : هُم سمَّاعُونَ .
وحَكَى الزَّجَّاجُ في قوله تعالى « سمَّاعُون لِلْكذبِ » وجهين :
الأوَّلُ : معناه : قَائِلُون لِلْكَذبِ ، فالسمعُ يُستعملُ ، والمراد منه القبولُ كما تقول : لا تَسْمعْ من فلانٍ ، أيْ : لا تقبَلْ مِنْه ، ومِنه : « سَمِعَ الله لِمَن حمدَهُ » ، وذلك الكذبُ الذي يُقْبَلُونَهُ هو ما يقوله رؤساؤهُمْ من الأكاذِيبِ في دينِ الله تعالى ، وفي تحريفِ التوراةِ ، وفي الطعنِ في سيدنا محمد - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - .
والوجه الثَّانِي : أنَّ المرادَ مِنْ قوله « سَمَّاعُون » نَفْسُ السَّمَاعِ ، واللامُ في قوله « لِلْكَذِبِ » لامُ كَيْ أي : يَسْمعُون مِنْك لِكَيْ يَكذِبُوا علَيْكَ ، وذلك أنَّهُم كانوا يَسْمَعُون مِنَ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ثُم يَخْرُجون ويقُولونَ : سمعْنَا منه كذا وكذا ، ولم يَسْتَمِعُوا ذلك منه ، وأمَّا { لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } والمعنى أنهم أعْيُنٌ وجواسِيسُ لِقَوْم آخرينَ لَمْ يأتُوك ، ولم يحضرُوا عندَك لِيُبَلِّغُوا إليهم أخبارَك ، وهم بَنُوا قُرَيْظَةَ والنَّضِير .
قوله تعالى : « يُحَرِّفُونَ » يجوزُ أن يكونَ صِفَة لِ « سمَّاعُون » ، أيْ : سمَّاعون مُحَرِّفُونَ ، ويجوزُ أن يكونَ حالاً من الضميرِ في « سماعون » ويجوزُ أن يكون مُسْتأنَفاً لا مَحَلَّ لَهُ .
ويجوزُ أنْ يكونَ خَبَرَ مُبْتَدأ مَحْذُوفٍ أيْ : هُمْ مُحَرِّفُونَ .
ويجُوز أن يكُونَ في مَحَلِّ جَرِّ صِفَةً ل « قَوْمٍ » ، أيْ : لقوْمٍ مُحَرِّفِينَ .
و { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } تقدم في النِّساءِ [ الآية 46 ] .
و « يَقُولُون » ك « يُحَرِّفُونَ » ويجوزُ أنْ يكُونَ حالاً من ضمير « يُحرِّفُونَ » ، والجملةُ شَرْطِيَّةٌ مِنْ قوله : « إنْ أوتيتُمْ » [ مفعولة بالقول ، و « هذا » مفعول ثان ل « أوتيتم » ] فالأول قائمُ مقامَ الفاعل ، و « الفاء » جوابُ الشرطِ ، وهي واجِبة لعدمِ صلاحيَّةِ الجزاءِ لأنْ يكونَ شَرْطاً ، وكذلك الجملة من قوله : { وإن لم تؤتوه } .
فصل في معنى الآية
ومعنى { يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } أي : من بعد أن وضعه اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - في مواضعه ، أي فرض دينهُ ، وأحلَّ حلالهُ وحرَّم حرامهُ . قال المفسرون : « إِنَّ رجُلاً وامرأةً من أشراف خيبرٍ زنيا ، وكان حدُّ الزِّنا في التوراة الرَّجم ، فكرهت اليهودُ رجمهما لشرفهما ، فأرسلوا قوماً إلى رسول اللَّهِ - صلى اللَّهُ عليه وعلى آله وسلم - عن حُكمه في الزَّانيين إذا أُحصنا وقالوا : إن أمركم بالجلد فاقبلوا ، وإن أمركُم بالرَّجم فلا تقبلوا . فلمّا سألوا الرسول - عليه الصلاةُ والسلامُ - عن ذلك فنزل جبريل بالرجم فأبوا أن يأخُذُوا به ، فقال جبريلُ : اجعل بينك وبينهم ابن صوريَّا ووصفه له . فقال لهم رسولُ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وآله وسلم - : [ هل ] تعرفون شاباً أمردَ أبيض أَعوَرَ يسكن فدك يقال له : ابنُ صوريَّا؟ .
قالُوا : نَعَمْ ، قال : فأيُّ رَجُلٍ هو فيكُم قالوا : هو أعْلَمُ يَهُودِيٍّ بَقِيَ على وجه الأرضِ بما أنْزَل الله على موسى بن عمران في التَّوْرَاةِ قال : فأرْسلوا إليه . ففعلُوا فأتاهُمْ ، فقال له صلى الله عليه وعلى آله وسلم : أنْتَ ابنُ صُوريَّا قال : نَعَمْ ، فقال له عليه الصلاة والسلامُ : » أنْشُدُك الله الذي لا إلَهَ إلاَّ هُوَ الذي أنْزَل التوراةَ على مُوسَى ، وأخرجكم من مِصْرَ ، وفلق لكم البحرَ ، وأنجاكُمْ ، وأغْرقَ آل فِرْعوْنَ ، وظلل عليكم الغمامَ ، وأنزلَ عليكُمُ المَنَّ والسَّلْوَى ، ورفعَ فوْقَكُم الطُّور ، وأنْزَلَ عَلَيْكُم كتابَهُ فيه حلالُه وحرامُه هل تجدُون في كتابِكُم الرَّجْمَ على مَنْ أحْصِن .
قال ابن صُوريّا : نَعَمْ ، والذي ذَكَّرْتَنِي به لَوْلاَ خشيةُ أنْ تحرقنِي التوراةُ إنْ كذبتُ أو غيَّرت [ أو بدلتُ ] ما اعترفتُ لك ، ولكن كيفَ هي في كتابكم يا مُحمدُ؟ قال : إذا شَهدَ أربعة رَهْطٍ عُدُول ، أنَّهُ قد أدْخَلَ فيها ذكرهُ كما يدخُلُ المِيلُ في المُكْحُلَةِ وجب عليه الرَّجْمُ ، فقال ابنُ صوريَّا : والَّذِي أنزلَ التوراةَ على مُوسى هكذا أنزلَ الله التوراة على موسى فقال له صلى الله عليه وعلى آله وسلم : [ فماذا كان ] أوَّل ما تَرَخّصْتُم به أمر الله عزَّ وجلَّ قال : كُنَّا إذا أخذنَا الشريفَ تركْنَاهُ ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحدَّ : فكثُرَ الزِّنَا في أشْرَافِنَا حتى زَنَى ابنُ عَمِّ [ مَلِكٍ ] لنا فلم نَرْجُمْهُ ، ثُم زَنَا رجلٌ آخرُ في أسوةٍ من النَّاس ، فأراد ذلك الملكُ رَجْمَه ، فقام دُونَه قَوْمُه ، فقالوا : واللَّه لا نرجُمُه حتى نرجُم فُلاناً ابن عَمِّ الملكِ . فقُلْنا : تعالَوْا نَجْتَمِعُ فنضعَ شَيئاً دون الرجمِ يكونُ على الشَّريفِ والوضيعِ ، فوضعْنَا الجلْدَ والتَّحْميمَ؛ وهو أنْ يُجْلَدَا أربعينَ جلْدةً بِحَبلٍ مَطْلِيٍّ بالقارِ ، ثم يُسَوَّد وُجُوهُهُمَا ، ثُمَّ يُحملا على حِمَاريْنِ وجوهُهُما من قبلِ دُبر الحمار ، ويطافُ بِهَما ، فجعلوا هذا مكان الرجم . فقال اليهودُ [ لابن صوريا ] : ما أسرع ما أخبرتَهُ به ، وما [ كُنتَ لما أثْنَيْنَا ] عليك بأهل ، ولكِنَّكَ كُنْتَ غائباً ، فكرهنا أن نَغْتَابَك ، فقال لهم ابن صوريا : إنَّه قد أنْشَدَني بالتوراةِ ، ولولا خشيةُ التوراةِ أنْ تُهلكني لما أخبرته ، فأمر بهما النبيُّ - صلى الله عليه وعلى وآله وسلم - فَرُجِمَا عند بابِ المسجدِ ، وقال : اللهم ، إنَّي أوَّلُ مَنْ أحْيَا أمرَكَ إذْ أمَاتُوهُ «
، فأنزل الله عزَّ وجل : { ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر } . فقولُه تعالى : { يُحَرِّفُونَ الكلم } جمع كَلِمَةٍ ، وذكر الكِنايةَ رَدّاً على لَفظها الكلم { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } أيْ : وضعُوا الجلدَ مكان الرجمِ .
وقيل : سببُ نزول هذه الآيةِ : أنَّ بَنِي النضير كان لهم فضلٌ على بَنِي قريظةَ ، فقال بَنُوا قريظةَ : يا محمدُ إخْوَانُنا بنو النضير وأبُونا واحدٌ وديننا واحدٌ ونبينا واحدٌ ، وإذا قتلُوا مِنَّا قتيلاً لم يقيدونَا ، وأعطونا ديتَهُ سَبْعينَ وَسْقاً من تَمْرٍ . وإذا قتلنا منهم قتلُوا القاتلَ ، وأخذوا مِنّا الضِّعْفَ مائةً وأربعين وسْقاً مِنْ تَمْرٍ . وإنْ كان القتيلُ امرأةً قتلُوا بها الرجُلَ مِنَّا ، وبالرجل منهم الرجليْن مِنّا ، وبالعبد حُراً مِنَّا ، وجراحاتُهم على الضَّعْفِ مِنْ جراحاتِنَا فاقْضِ بَيْننا وبينهم ، فأنزل الله هذه الآية ، والأولُ أصحُ لأنَّ الآية في الرَّجْمِ .
فصل
قال القرطبي : الجمهورُ على ردِّ شهادةِ الذِّمِّيِّ؛ لأنَّهُ ليس مِنْ أهلِهَا فلا تقبلُ على مسلم ، ولا على كافرٍ وقبِلَ شهادتهُم جماعة مِنَ الناسِ إذا لم يُوجدْ مسلمٌ ، على ما يأتي في آخر السورة .
فإنْ قِيل : قد حَكَمَ بشهادَتِهمْ ورجمَ الزَّانِيَيْنِ .
فالجوابُ : أنَّهُ إنَّما تقدم عليهم بما علم أنَّهُ حكمُ التَّوْراةِ ، وألزمهُم العملَ بِهِ على نحو ما عملت به بَنُو إسرائيلَ؛ إلْزَاماً للحجةِ عليهم ، وإظْهَاراً لتحريفهم وتغييرهم ، فكان منفذاً لا حَاكِماً .
قوله تعالى : { إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا } أيْ : إنْ أمرَكُم بحدِّ الجلدِ فاقبلوا ، وإنْ أمركُم بالرجم فلا تقبلُوا .
قوله تعالى : { وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ } « مَنْ » مفعولٌ مقدمٌ ، وهي شرطيةٌ .
وقوله : « فَلَنْ تَمْلِكَ » جوابُه ، و « الفاء » أيضاً واجبةٌ لما تقدم .
و « شيئاً » مفعولٌ به ، أو مصدرٌ ، و « مِنَ اللَّهِ » متعلقٌ ب « تَمْلكَ » .
وقيل : هو حالٌ من « شَيْئاً » ؛ لأنَّهُ صفتُه في الأصْلِ .
فصل
قوله تعالى : { وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ } أي : كفْرَهُ وضلالَهُ ، وقال الضحاكُ : هلاكَهُ .
وقال قتادةُ : عذابَهُ .
ولمّا كان لفظُ الفتنةِ مُحتملٌ لجميعِ أنواعِ المفاسدِ ، وكان هذا اللفظُ مذكُوراً عُقَيْبَ أنْواع كفرِهم التي شرحَها الله تعالى وجب أن يكُون المرادُ من هذه الفتنةِ تلك الكُفْرياتِ المذكُورة ، ويكونُ المعنى : ومَنْ يُرد الله كفره وضلالتهُ ، فلَنْ يقدِرَ أحدٌ على دفع ذلك عنه ، ثُمَّ أكَّدَ ذلك بقوله : { أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } .
قال أهلُ السُّنَّةِ : دلّت هذه الآيةُ على أن الله تعالى غيرَ مُريدِ إسلامِ الكافرِ ، وأنَّه لم يُطهرْ قلبَهُ مِنَ الشِّرْكِ ، ولوْ فعل ذلك لآمن .
وذكر المعتزلةُ في تعبير هذه الفِتْنَة وجوهاً :
أحدها : أنَّ الفتنة هي العذابُ . قال تعالى : { عَلَى النار يُفْتَنُونَ } [ الذاريات : 13 ] أيْ : يُعَذَّبُونَ ، فالمرادُ هنا : يُريد عذابَهُ لِكُفْره .
وثانيها : ومَنْ يُردِ الله فضيحتَهُ .
وثالثها : المرادُ الحكمُ بضلالهِ ، وتَسْمِيتِهِ ضَالاًّ .
ورابعها : الفتنَةُ : الاختبارُ؛ والمعنى : مَنْ يُرِدِ الله اختبارهُ [ فِيمَا يَبْتَليه ] من التكاليف فيتركُهَا ولا يقومُ بأدائِها ، فلَنْ تملِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ ثواباً ولا نفعاً .
وأمَّا قوله تعالى : { أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } فذكروا فيه وجوهاً :
أحدها : لم يردِ الله أنْ يهدي قلوبَهُم بالألطافِ؛ [ لأنه تعالى عَلِم أنه لا فائدةَ في تلكَ الألطافِ لأنَّها لا تنجحُ في قُلُوبِهم ] .
ثانيها : لم يُرد الله أن يطهرَ قلوبَهُم مِنَ الحَرَجِ والغَمِّ والوحشةِ الدَّالةِ على كُفْرِهم .
وثالثها : أنَّ هذه الاستعارةَ [ عبارةٌ ] عَنْ سُقوطِ وقْعَهِ عند الله ، وأنَّه غيرُ مُلتفتٍ إلَيْهِ بسببِ قُبْحِ أفعالِهِ ، وقد تقدم [ الكلامُ ] على هذه الوجوه .
قوله تعالى : « أولَئِكَ » : مبتدأ ، و { لَمْ يُرِدِ الله } جملةٌ فعليةٌ خبرُهُ .
ثُم قال تعالى : { لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ } وخزيُ المُنافقينَ الفَضيحةُ ، وهَتْكُ السَّتْرِ بإظْهَارِ نفاقِهمْ ، وخَوفِهم مِن القتْلِ ، وخزيُ اليهودِ : الجزْيَةُ ، وفَضِيحتُهم ، وظهورُ كذبِهِمْ ، في كِتْمانِ نَصِّ الله تعالى في إيجابِ الرَّجْمِ .
قوله تعالى { وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ } وهو الخلودُ في النَّارِ .
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
قوله : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } : يجُوزُ أن يكُونَ مُكَرَّراً للتَّوْكيدِ إنْ كان مِنْ وصف المنافقينَ ، وغَيْرَ مُكرَّرٍ إنْ كانَ مِنْ وصف بَنِي إسْرائيلِ .
وإعْرَابُ مفرداتِهِ تقدَّم ، ورفْعُه على خبرِ ابْتَداءٍ مُضْمَرٍ ، أيْ : هُمْ سمَّاعون .
وكذلك « أكَّالُونَ لِلسُّحْتِ » في « اللاَّمِ » الوجهانِ المذكورانِ في قوله : « لِلْكَذِبِ » .
و « السُّحْتُ » الحَرَامُ ، سُمِّي بذلك؛ لأنَّه يُذْهِبُ البَرَكَةَ ويَمْحَقُها ، يُقالُ : سَحَتَهُ اللَّهُ ، وأسْحَتَهُ : أيْ : أهْلكهُ وأذهَبَهُ .
قال الزَّجَّاجُ : أصلُهُ مِنْ : سَحَتُّهُ إذ اسْتَأصَلته ، قال تعالى : { فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } [ طه : 62 ] أيْ : يَسْتأصلهمْ ، أوْ لأنَّه مَسْحوتُ البَرَكَةِ .
قال الله تعالى : { يَمْحَقُ الله الربا } [ البقرة : 276 ] .
وقال اللَّيْثُ بنُ سَعْدٍ : إنَّهُ حرامٌ يحصلُ مِنْه العار .
وعن الفرَّاءِ : « السُّحْتُ » : شدَّةُ الجُوعِ ، يُقال : رجلٌ مَسْحُوتُ المعدة إذا كان أكُولاً ، لا يُلْفَى إلاَّ جائعاً أبداً وهو راجعٌ إلى الهلكة .
وقد قُرِئ قوله تعالى : « فَيُسْحِتَكُمْ » بالوجهين : مهن سَحَتُّهُ ، وأسْحَتُّهُ .
وقال الفرزدقُ : [ الطويل ]
1968- وعَضُّ زَمَانٍ يَا بْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ ... مِنَ المَالِ إلاَّ مُسْحَتاً أوْ مُجَلَّفُ
وقرأ نافعٌ وابنُ عامرٍ ، وعاصمٌ ، وحمزةُ : « السُّحْت » بضَمِّ السِّينِ وسكون الحاء ، والباقون بضمهما ، وزيد بن علي ، وخارجة بن مصعب عن نافع بالفتح وسكون الحاء ، وعبيد بن عمير بالكسر والسكون وقُرئ بفَتْحتيْنِ ، فالضمتانِ : اسمٌ للشيء المسحُوتِ ، والضمةُ والسكونُ تخفيفُ هذا الأصْلِ ، والفتحتانِ والكَسْرِ والسُّكُونِ اسمٌ له أيضاً .
وأمَّا المفتوحُ السينِ السَّاكن الحاءِ ، فمصدرٌ أُريدَ بِهِ اسمُ المفعولِ ، كالصَّيْد بمعنى المصيدِ ، ويجوزُ أنْ يكُونَ تَخْفِيفاً مِنَ المَفتُوحِ ، وهُوَ ضعيفٌ .
والمرادُ بالسُّحْتِ : الرَّشْوَةُ في الحُكْمِ ، ومَهْرُ البَغِيّ ، وعَسِيبُ الفَحْلِ ، وكَسْبُ الحجامِ ، وثَمنُ الكَلْبِ ، وثمنُ الخمرِ ، وثمنُ المَيْتَةِ ، وحُلوانُ الكَاهِنِ ، والاستعجالُ في المعصية ، رُوِيَ ذلك عَنْ عُمَرَ وعَليٍّ وابن عباسٍ وأبِي هُريرةَ ومجاهدٍ ، وزاد بعضهُم ، ونقص بعضهم .
وقال الأخْفَش : السُّحْتُ كُلُّ كَسْبٍ لا يَحقُّ .
فصل
قال الحسنُ : كان الحاكِمُ منهم إذا أتاهُ أحَدٌ برشْوَةٍ جعلها في كُمِّهِ ، فَيُريها إيَّاهُ ، وكان يَتَكلَّمُ بحاجتِهِ ، فَيُسْمعُ مِنْه ، ولا ينظرُ إلى خَصْمهِ ، فَيَسْمَعُ الكذبَ ، ويأكُلُ الرشْوَةَ .
وقال أيضاً : إنَّما ذلك في الحُكْم إذا رشوتَهُ ليحقَّ لك باطلاً ، أو يُبْطل عنك حقاً ، فأمَّا أنْ يُعْطِيَ الرجلُ الوالِيَ يَخافُ ظُلْمَهُ لِيَدْرَأ به عَن نفسه فلا بأسَ ، والسُّحْتُ هو الرَّشْوَةُ فِي الحكمِ على قول الحسن وسُفيانِ وقتادةَ والضَّحَّاكِ .
وقال ابنُ مسعودٍ - رضي الله عنه - هو الرشوةُ في كُلِّ شيْءٍ ، مَنْ يشفعُ شفاعَةً ليَرُدَّ بِهَا حَقًّا أو يدفَعَ بها ظُلْماً ، فأهدي له فَقَبِلَ ، فهو سُحْتٌ .
فقيل له : يا أبَا عَبْد الرَّحْمنِ ، ما كُنَّا نَرَى ذلك إلاَّ الأخْذَ على الحُكْمِ ، فقال : الأخذُ على الحُكْمِ كُفْرٌ؛ قال الله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون }
[ المائدة : 44 ] .
وقال بَعْضُهُم : كان فقراؤهُم يأخُذُونَ مِنْ أغْنِيائِهم مالاً ليقيمُوا على ما هُمْ عليه من اليَهُوديَّة ، فالفقراءُ كانُوا يسمعُونَ أكاذيبَ الأغنياءِ ، ويأكُلُونَ السُّحْتَ الذي يأخذوه مِنْهُم .
وقيل : سمَّاعُون للأكاذِيبِ التي كانوا يَنْسِبُونَها إلى التوراةِ ، أكَّالُونَ لِلرِّبَا لقوله تعالى : { وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ } [ النساء : 161 ] .
وقال عمرُ بن الخطَّابِ - رضي الله عنه - رَشْوَةُ الحاكم من السُّحْتِ . وعن رسُولِ الله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم أنَّه قال : « كُلُّ لَحْمٍ نبتَ بالسُّحْتِ فالنَّارُ أوْلَى به » قالُوا : يا رسولَ الله ، ومَا السُّحْتُ؟ قال : « الرشوةُ في الحُكْمِ » .
وعن ابْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - أيْضَاً أنَّهُ قال : السحتُ أنْ يَقْضِيَ الرجلُ لأخيه حَاجَةً ، فيُهْدِي إلَيْهِ هديَّةً فَيَقْبَلهَا .
وقال بعضُ العلماءِ : من السحتِ أنْ يأكلَ الرجلُ بجاهِهِ ، بأنْ يكون للرجل حاجةٌ عند السلطانِ ، فيسألَهُ أنْ يَقْضِيَها له ، فلا يَقْضِيَها له إلاَّ بِرشْوَةٍ يأخُذُها . انتهى .
وقال أبُو حَنيفَةَ [ - رضي الله عنه - ] : إذا ارْتَشَى الحاكمُ انعزَلَ في الوقْتِ ، وإنْ لم يُعزلْ بطلَ كُلُّ حُكْمٍ حَكَمَ به بَعْدَ ذلك .
قال القرطُبي : وهذا لا يجوزُ أن يُخْتلفَ فيه إنْ شاء الله؛ لأنَّ أخْذَ الرشوة فِسْقٌ والفاسِقُ لا يَنْفُذُ حُكْمُهُ .
قوله تعالى : { فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } .
خيَّره تعالى بَيْنَ الحُكْمِ وبَيْنَ الإعراضِ عنهم ، واختلفُوا فيه على قولَيْنِ :
الأولُ : أنَّهُ في أمرٍ خاصٍّ ، ثُم اختلف هؤلاءِ .
فقال ابنُ عباسٍ ، والحسنُ ، والزهريُّ - رضي الله عنهم - : إنَّهُ في أمر زنا المُحْصَنِ ، وقيل : في قَتيلٍ قُتل من اليهودِ في بَنِي قُرَيْظَةَ والنَّضِير كما تقدم ، فتحاكمُوا إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فجعل الدِّيَّةَ سَواءً .
وقيل : هذا التخييرُ مُخْتص بالمعاهدينَ الذين لا ذمَّةَ لهم ، فإن شاء حكم بينهم ، وإنْ شاء أعْرض عنْهُم .
والقول الثاني : أنَّ الآيةَ عامةٌ في كل مَنْ جاء من الكُفار ، ثم اختلفُوا : فمنهم من قال : إنَّ الحُكمَ ثابتٌ في سَائِرِ الأحكامَ غيرُ منسُوخٍ وهو قولُ النَّخَعِيِّ والشَّعْبِيِّ وقتادة ، وعطاء ، وأبِي بَكْرٍ الأصَمِّ ، وأبِي مُسْلِمٍ .
وحكامُ المسلمينِ بالخيارِ في الحُكم بين أهْل الكتابِ ، ومنهم مَنْ قال : إنه منسوخٌ بقوله تعالى : { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله } [ المائدة : 49 ] وهو قولُ ابن عباسٍ ، والحسنِ ، ومجاهد ، وعكرِمَة [ رضي الله عنهم ] ، ومذهبُ الشافعيِّ - رضي الله عنه - أنَّه يجبُ على حاكمِ المسلمينَ أنْ يحكمَ بينَ أهْل الذِّمَةِ إنْ تَحاكمُوا إليه ، لأنَّ في إمضاء حُكْمِ الإسلام علَيْهم صَغَاراً لَهُم .
فأمَّا المعاهدُ إلى مُدَّةٍ ، فلا يجبُ على الحاكمِ أنْ يحكمَ بينهم ، بل يتخيَّرُ في ذلك .
قال ابنُ عباس - رضي الله عنهما - : لم يُنْسَخْ مِنَ المائِدَةِ إلاَّ آيتَانِ : قوله تعالى : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله } [ المائدة : 2 ] نسخَهَا قوله : { فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] .
وقوله تعالى : { فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } نسخها قوله تعالى : { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله } [ المائدة : 49 ] فأمَّا إذا تحاكَمَ مسلمٌ وذميٌّ يجبُ علينا الحكمُ بَيْنَهُمَا بلا خلافٍ ، لأنَّهُ لا يجُوزُ للمسلم الانقيادُ لحكم أهْلِ الذِّمَّةِ .
ثُمَّ قال : { وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً } والمعنى أنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأسهل والأخف كالجلد مكان الرجم ، فإذا لم يحكم بينهم وأعرض عنهم شق عليهم ، وصاروا أعداءً لَهُ ، فبين تعالى أنَّهُ لا تَضره عداوتُهُمْ له .
ثُمَّ قال تعالى : { وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط } أيْ بالعَدْلِ : { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } أيْ : العادِلينَ .
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
قوله تعالى : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ } كقوله : { كَيْفَ تُحْيِي الموتى } [ البقرة : 260 ] وقد تقدم .
[ قولُه : ] « وعنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ » « الواوُ » للحالِ ، و « التوراة » يجوزُ أن تكون مُبْتدأ والظرفُ خَبَرُه ، ويجوزُ أنْ يكونَ الظرفُ حالاً ، و « التوراةُ » فاعلٌ بِهِ لاعتمادِهِ على ذِي الحالِ .
والجملةُ الاسميَّةُ أو الفعليَّةُ في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ .
وقوله : { فِيهَا حُكْمُ الله } ، « فيها » خَبَرٌ مقدمٌ ، و « حُكْمُ » مبتدأ ، أو فاعِلٌ كما تقدم في « التوراةِ » ، والجملةُ حالٌ من « التوراةِ » ، أو الجار وحدَهُ ، و « حُكْمُ » مصدرٌ مضافٌ لفاعلِهِ .
وأجاز الزمخشريُّ : ألاَّ يكون لها مَحَل من الإعراب ، بل هي مُبَيِّنةٌ؛ لأنَّ عندَهُم ما يُغنيهم عن التحكيمِ ، كما تقولُ : « عندك زيدٌ يَنْصَحُك ، ويُشيرُ عليك بالصَّوابِ ، فما تصنعُ بِغَيْره؟ » .
وقولُه تعالى : « ثُمَّ يَتولّونَ » معطوفٌ على « يُحَكِّمونَكَ » ، فهو في سياقِ التعجُّب المفهُومِ مِن « كَيْفَ » وذلك إشارةٌ إلى حُكْمِ الله الذي في التوراة ، ويجوزُ أن يَعُودَ إلى التحكيم والله أعلم .
فصل
هذا تعجُّبٌ من اللَّهِ لنبيه [ عليه الصلاةُ والسلامُ ] مِنْ تحكيمِ اليهُودِ إياهُ بعد علمهم بما في التوراةِ مِنْ حدِّ الزَّانِي ، ثُم تركِهِمْ قبولَ ذلك الحُكْم فيتعدلُونَ عما يعتَقدُونَه حُكْماً [ حقاً ] إلى ما يعتقدُونه باطِلاً طلباً للرخْصةِ فظهر جهلهم وعنادهُم من وُجُوه :
أحدُها : عُدُولُهُمْ عن حُكْمِ كتابِهِم .
والثاني : رجوعُهم إلى حكمِ مَنْ كانوا يعتقدون أنه مُبطلٌ .
والثالث : إعراضُهم عن حكمه بعد أن حكَّموه ، فبينَ الله تعالى حال جهلهم وعنادهم؛ لَئِلا يَغْتَرَّ مُغْترٌّ أنهم أهلُ كتابِ الله ومن المحافظِينَ على أمْر الله .
ثُمَّ قال تعالى : { وَمَآ أولئك بالمؤمنين } أيْ بالتوراةِ وإنْ كانوا يُظْهِرُون الإيمانَ بها ، وقِيلَ : هذا إخبارٌ بأنهم لا يُؤمنونَ أبَداً ، وهو خَبَرٌ عن المستأنفِ لا عَنِ الماضِي .
وقِيلَ : إنَّهمَ وَإنْ طلبُوا الحكمَ مِنْك فما هُم بمؤمِنينَ بِكَ ، ولا بالمعتقدينَ في صِحّةِ حُكْمكَ .
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
قوله تعالى : { إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } الآية .
قوله سبحانه : { فِيهَا هُدًى } يحتملُ الوجهَيْن المذكورَيْنِ في قوله : « وعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ » ، ف « هُدًى » مبتدأ أو فاعلٌ ، والجملةُ حالٌ من « التَّوْرَاةِ » .
وقوله : « يَحْكُمُ بِهَا » يجَوزُ أنْ تكونَ جُمْلةً مستأنفةً ، ويجوزُ أنْ تكونَ منصوبة المحلِّ على الحالِ ، إمَّا مِنَ الضَّمير في « فِيهَا » ، وإمَّا مِن « التَّوْرَاةِ » .
وقوله : « الَّذِينَ أسْلَمُوا » صِفَةٌ ل « النَّبِيُّونَ » ، وصفَهُم بذلك على سبيلِ المَدْح ، والثَّنَاء ، لا عَلى سبيلِ التَّفْصِيل؛ فإنَّ الإنبياءَ كُلَّهُمْ مُسْلِمُونَ ، وإنَّما أثْنَى عليهم بذلك ، كما تَجري الأوْصَافُ على أسماء الله تعالى .
قال الزَّمخشريُّ : أجْرِيَتْ على النَّبِيِّينَ على سبيلِ المدْحِ كالصفات الجارية على القديم - سبحانه - لا للتفصلة والتوضِيحِ ، وأُريدَ بإجرائها التَّعْرِيضُ باليهُودِ ، وأنَّهم بُعداءُ من مِلَّةِ الإسلامِ الذي هو دينُ الأنبياءِ كُلِّهم في القديم والحديثِ ، فإن اليهود بمعْزَلٍ عنها .
وقوله تعالى : { الذين أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ } منارٌ على ذلك ، أيْ : دليلٌ على ما ادَّعَاهُ .
فإن قُلْتَ : « هُدًى ونُورٌ » العطفُ يقتضِي المغايَرَة ، فالهُدَى مَحْمُولٌ على بيانِ الأحْكامِ والشرائع والتكالِيف ، والنُّورُ بيانُ التَّوْحيدِ ، والنُّبُوَّةِ ، والمَعَادِ .
وقال الزَّجَّاج : الهُدَى بيانُ الحُكْمِ الذي يستفتُونَ فيه النبيَّ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ، والنورُ بيانُ أنَّ أمرَ النبيِّ [ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ] حَقٌّ .
وقوله : { يَحْكُمُ بِهَا النبيون } يُريدُ الذين كانوا بعد مُوسى [ عليه السلام ] .
وقوله « الَّذِين أسْلَمُوا » أيْ : سلَّموا وانْقَادُوا لأمر الله كما أخبرَ عَنْ إبْرَاهِيم [ عليه السلامُ ] : { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين } [ البقرة : 131 ] ، وكقوله : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً } [ آل عمران : 83 ] .
وأراد بالنبيِّينَ الذين بُعِثُوا بعد مُوسى [ عليه وعليهم السلام ] لِيحكُمُوا بما في التوراةِ [ وقد أسلمُوا لحُكْمِ التوراةِ وحكمُوا بها ، فإنَّ من النبيين مَنْ لمْ يحكم بحكم التوراةِ منهم ] عيسى [ عليه الصلاة والسلام ] قال تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } [ المائدة : 48 ] .
وقال الحسنُ والزهري وعكرمةُ ، وقتادةُ والسديُّ : يحتملُ أنْ يكونُ المرادُ بالنبيين هُمْ مُحَمَّدٌ [ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ] حَكَمَ على اليهُودِ بالرجْمِ ، وكان هَذَا حُكْمَ التَّوْرَاةِ ، وذكره بلفْظِ الجمعِ تَعْظِيماً له كقوله تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ } [ النحل : 120 ] وقوله تعالى : { أَمْ يَحْسُدُونَ الناس } [ النساء : 54 ] لأنه كان قد اجتمعَ فِيه من خِصالِ الخيْرِ ما كان حَاصِلاً لأكثرِ الأنْبياء .
قال ابنُ الأنْبَارِي : هذا ردٌّ على اليهُود والنَّصارى [ لأنَّ بعضُهم كانوا يقولون : الأنبياءُ كلُهم يهودٌ أو نصارى ، فقال تعالى : ] { يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ } يَعْنِي : أنَّ الأنبياء ما كانوا مَوصُوفينَ باليهوديةِ والنصرانيَّةِ بَلْ كانوا مُسْلِمين لِلَّهِ مُنْقَادينَ لتكالِيفهِ .
وقولُه تعالى : { لِلَّذِينَ هَادُواْ } فيه وجهانِ :
أحدهما : أن النبيين إنما يحكُمون بالتورَاةِ لأجْلِهِمْ ، وفِيمَا بَيْنَهُم ، والمَعْنَى : يحكمُ بها النبيونَ الذين أسْلموا على الذين هَادُوا؛ كقوله تعالى : { وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الإسراء : 7 ] أيْ : فعليْهَا : وكقوله : { أولئك لَهُمُ اللعنة } [ الرعد : 25 ] أيْ : عليهم .
وقيل : فيه حَذْفٌ كأنه قال : للذين هادُوا وعلى الذين هَادُوا فحذَفَ أحدهما اخْتِصَاراً .
والثاني : أنَّ المعنى على التقديم والتأخِيرِ ، أيْ : إنَّا أنزلنَا التوراةَ فيها هُدًى ونُورٌ للذين هَادُوا يحكُمُ بها النبيونَ الذين أسْلَمُوا .
وتقدم تفسيرُ الربانيِّينَ ، وأمَّا الأحبارُ فقال ابنُ عباس وابن مسعود [ رضي الله عنهما ] : هُمُ الفُقَهاءُ .
واختلفَ أهْلُ اللُّغَةِ في واحِدِهِ قال الفرَّاءُ : إنَّه « حِبْرٌ » بكسر الحاءِ وسُمِّيَ بذلك لمكان الحِبر الذي يُكْتَبُ به؛ لأنَّه يكونُ صاحبَ كُتُبٍ ، وقال أبُو عُبَيْد : « حَبْر » بفتحِ الحاءِ ، وقال اللَّيْثُ : هو « حَبْرٌ » ، و « حِبْر » بفتح الحاء وكسرِهَا .
ونقل البَغوِيُّ : أنَّ الكسرَ أفْصَحُ ، وهو العالِمُ المُحكِمُ للشَّيْء .
وقال الأصمعِيُّ : لا أدْرِي أهُوَ الحِبْرُ أو الحَبْرُ ، وأنكرَ أبُو الهَيْثَمِ الكَسْرَ ، والفراءُ « الفَتْحَ » ، وأجاز أبُو عُبَيْد الوجْهَيْنِ ، واختار الفَتْحَ .
قال قُطْربٌ : هو مِنَ الحبر الذي هو بمَعْنَى الجمالِ بفتح الحَاءِ وكسْرِهَا وفي الحديث « يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ رَجُلٌ ذَهَبَ حَبَرهُ وسَبَرهُ » أي حُسْنُهُ وهَيْئَتُهُ ، ومنه التَّحْبِيرُ أي : التحسينُ قال تعالى : { وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ } [ الزخرف : 70 ] أي : يَفْرَحُون ويزينونَ ، وسُمِّيَ ما يكتبُ حبراً لتحْسِينهِ الخطَّ ، وقيل : لتأثيره وقال الكِسَائِيُّ ، والفرَّاءُ ، وأبُو عُبَيْدَةَ : اشتقاقُهُ من الحِبْرِ الذي يُكْتَبُ به .
وقيل : الرَّبَّانِيُّونَ هاهُنَا مِنَ النَّصَارَى ، والأحبارُ مِن اليهُودِ وقِيل : كلاهُمَا من اليُهودِ ، وهذا يقتضي كون الربانيِّينَ أعْلَى حالاً مِنَ الأحبار ، فيُشْبهُ أنْ يكونَ الربانِيُّون كالمجتهدينَ والأحبارُ كآحادِ العُلَماءِ .
قوله : « لِلَّذين هَادُوا » في هذه « اللاَّم » ثلاثةُ أقوالٍ :
أظهرُهَا : أنَّها متعلِّقةٌ ب « يَحْكُمُ » ، فعلى هذا مَعْنَاها الاخْتِصَاصُ ، وتشمل مَنْ يحكمُ لَهُ ، ومن يحكمُ عليْه ، ولهذا ادَّعَى بعضُهم أنَّ في الكلامِ حَذْفاً تقديرُه : « يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ للَّذينَ هَادُوا وعليْهِمْ » ذكره ابنُ عطيَّة وغيرُه .
والثاني : أنها متعلقة ب « أنْزَلْنَا » ، أيْ : أنزلْنَا التوراةُ للَّذين هادُوا يحكم بها النَّبِيُّونَ .
والثالثُ : أنها متعلقةٌ بِنَفْس « هُدًى » أيْ : هُدى ونُورٌ للذين هادُوا ، وهذا فيه الفَصْلُ بين المصَدْرِ ومعمُولِهِ ، وعلى هذا الوجْهِ يجوزُ أنْ يكونَ « للذين هَادُوا » صفة لِ « هُدًى ونُورٌ » ، أيْ : هُدًى ونُورٌ كائِنٌ للذين هادُوا وأوَّلُ هذه الأقوالِ هو المقصودُ .
قوله تعالى : « والرَّبَّانِيُّون » عطفٌ على « النبيُّونَ » أيْ : [ إنَّ الرَّبَّانِيِّين وقد تقدم تفسيرهم في آل عمران ] يحكمُونَ أيْضاً بمقْتضَى مَا فِي التَّوْرَاةِ .
قال أبُو البقاءِ : « وقِيل : الرَّبَّانيون » مَرْفُوعٌ « بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ ، أي : ويحكُمُ الربانيونَ والأحبار بِمَا اسْتُحْفِظُوا » انتهى .
يَعْنِي أنَّه لما اختلفَ متعلِّقُ الحكمِ غاير بَيْنَ الفعلينِ أيضاً ، فإن النبيينَ يحكُمُونَ بالتوراةِ ، والأحبارُ والربانيونَ يحكُمونَ بما استحفَظَهُمُ الله تعالى ، وهذا بعيد عن الصَّوَابِ؛ لأنَّ الذي استحَفَظَهُمْ هو مُقْتَضَى ما في التَّوْرَاةِ ، فالنبيُّونَ والربانِيُّون حاكِمُونَ بشيء واحدٍ ، على أنَّه سيأتي أنَّ الضَّمير في « اسْتُحْفِظُوا » عَائِدٌ على النَّبِيين فَمَنْ بعدهم .
قال ابنُ عبَّاسٍ وغيرُه : الربانيون يُرْشِدُونَ الناسَ بالعلمِ ، ويربونهم للصغارِ قَبْل كبار .
وقال أبُو رَزِين : الرَّبَّانِيُّونَ العلماءُ ، والحكماءُ ، وأمَّا الأحبار : فقال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - : هُمُ الفقهاء والحَبرُ والحِبرُ بالفتح والكسر : الرجلُ العالِمُ ، مأخُوذٌ من التَّحِبِيرِ ، والتَّحبر؛ فَهُمْ يُحبِّرون العِلْمَ ويُزَيِّنُونَهُ ، فهو مُحَبَّرٌ في صُدُورهم .
قال الجوهَرِيُّ : والحِبَر والحَبر واحد أحبار اليهود ، وهو بالكسْرِ أفْصحُ؛ لأنَّهُ يُجَمعُ على أفْعَالٍ دُونَ الفُعُولِ .
قال الفرَّاءُ : هُو حِبْرٌ بالكسْرِ ، يُقالُ ذلك للعَالِمِ .
وقال الثَّوْرِيُّ : سألْتُ الفرَّاءَ : لِمَ سُمِّيَ الحبْرُ حِبْراً؟ فقال : يُقال للعالم حِبرٌ وحَبرٌ ، فالمعنى مدادُ حبرهم ، ثم حذف كما قال : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] [ أيْ أهْلَ القَريةِ ] .
قال : فسألتُ الأصمعيَّ ، فقال : لَيْسَ هذا بشْيءٍ ، إنما سُمِّي حبْراً لِتَأثيرِه ، يُقالُ : على أسْنَانِهِ حِبْرٌ ، أيْ : صُفْرَةٌ أو سوادٌ .
وقال المبرِّدُ : وسُمِّيَ الحِبرُ الذي يُكْتَبُ به حِبْراً؛ لأنه يُحَبَّرُ به ، أيْ : يُحقَّقُ بِهِ .
وقال أبُو عُبَيْد : والذي عندي في واحدِ الأحبارِ أنَّه للحَبر بالفتح ، ومعْنَاه العالمُ بِتَحبِير الكلامِ ، والعلم تحسينه ، والحِبرُ بالكسر : الذي يُكْتَبُ به .
قوله تعالى : { بِمَا استحفظوا } أجازَ أبُو البقاءِ فيه ثلاثةُ أوْجهٍ :
أحدها : أنَّ « بِمَا » بدلٌ من قوله : « بِهَا » بإعادة العامل لِطُول الفَصْل ، قال : « وهو جائزٌ وإنْ لَمْ يَطُل » أيْ : يجوزُ إعادةُ العامِلِ في البَدَلِ ، وإن لم يَطُل .
قلتُ : وإنْ لم يُفْصَلْ أيضاً .
الثاني : أنْ يكُونَ مُتعلّقاً بفعْلٍ محذوفٍ : أيْ : وَيَحْكُم الربانيونَ بما اسْتُحفِظُوا ، كما قدمتُه عنه .
والثالث : أنَّه مفعولٌ به ، أيْ : يحكُمُونَ بالتوراة بسببِ اسْتِحْفَاظِهِمْ ذلك ، وهذا الوجهُ الأخيرُ هو الذي نَحَا إليه الزمخشريُّ؛ فإنه قال : « بِمَا اسْتُحْفِظُوا بِمَا سألَهُمْ أنبياؤهم حِفْظَهُ من التوراةِ ، أيْ : بسبب سُؤالِ أنبيائِهِمْ إيَّاهم أن يحفظُوه من التَّبْدِيلِ والتَّغْييرِ » ، وهذا على أنَّ الضميرَ يعُودُ على الربانِيين ، والأحبارِ ، دُونَ النَّبِيِّين ، فإنَّهُ قدَّرَ الفاعِلَ المحذُوفَ « النبيين » ، وأجاز أن يعودَ الضميرُ في « استحفِظُوا » على النبيينَ والربانيينَ والأحْبار ، وقدَّر الفاعل المنوبَ عنه : البَارِيَ تعالى ، أيْ : بِمَا اسْتَحْفَظَهُم اللَّه تعالى ، يعني : بما كَلَّفَهُمْ حِفْظَهُ .
وقوله تعالى : { مِن كِتَابِ الله } ؛ قال الزمخشريُّ : و « مِنْ » فِي { مِن كِتَابِ الله } للتَّبْيينِ ، يَعْنِي أنَّها لِبَيانِ جِنْس المُبْهَمِ في « بِمَا » فإنَّ « مَا » يجوزُ أنْ تكونَ موصُولَةً اسمِيَّةً بمعْنَى « الَّذِي » ، والعائِدُ محذوفٌ ، أيْ : بِمَا اسْتحْفظُوه ، وأنْ تكونَ مَصدريَّةً ، أيْ : باسْتِحْفَاظِهِمْ .
وجوَّزَ أبُو البقاءِ : أنْ تكونَ حالاً مِنْ أحَدِ شَيْئَيْنِ : إمَّا مِنْ « مَا » الموصُولَةِ ، أو مِنْ عَائِدها المحذُوفِ ، وفيه نظرٌ من حيثُ المعنى .
وقولُه : « وكانُوا » داخِلٌ في حَيِّز الصِّلةِ أيْ : وبكونِهِم شُهداءَ عليه ، أيْ : رُقَبَاءَ لئلاَّ يُبدل ، ف « عَلَيْهِ » متعلقٌ ب « شُهداءَ » ، والضميرُ في « عَلَيْه » يعودُ على « كِتابِ الله » وقيل : على الرسول عليه الصلاةُ والسلامُ ، أيْ : شُهداء على نُبُوَّتِهِ ورسالته .
وقيل : على الحُكْمِ ، والأوَّلُ هو الظاهِرُ .
قوله تعالى : { بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله } أي : استُودعوا . وحفظ كتاب الله على وجهين :
أحدهما : أن يُحفَظ فلا ينسى .
والثاني : أن يحفظ فلا يُضيع ، فإن كان استحفظوا من صلة الأحبار ، فالمعنى : العلماء بما استحفظوا .
وقال الزجاج : يحكمون بما استحفظوا .
قوله تعالى { وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ } أي : هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار كانوا شهداء على أن كل ما في التوراة حق وصدق من عند الله تعالى فلا جرم كانوا يمضون أحكام التوراة ، ويحفظونها عن التحريف والتغيير .
ثم قال تعالى : { فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون } لمَّا قرر أن النبيين والربانيين والأحبار ، كانوا قائمين بإمضاء أحكام التوراة من غير مبالاة ، خاطب اليهود الذي كانوا في عصر النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ، ومنعهم من التحريف والتغيير .
واعلم أن إقدام القوم على التحريف لا بد وأن يكون لخوف أو رهبة أو لطمع ورغبة ، ولما كان الخوف أقوى تأثيراً من الطمع قدم تعالى ذكره فقال : { فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون } والمعنى لا تحرفوا كتابي للخوف من الناس ، ومن الملوك والأشراف ، فتسقطوا عنهم الحدود الواجبة عليهم ، وتستخرجوا الحيل في إسقاط تكاليف الله عنهم ، ولما ذكر أمر الرهبة أتبعه بالرغبة فقال تعالى : { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } أي : كما نهيتكم عن تغيير أحكامي لأجل الخوف والرهبة فكذلك أنهاكم عن التغيير والتبديل لأجل الطمع في الجاه والمال والرشوة ، فإن متاع الدنيا قليل . ولما منعهم من الأمرين أتبعه بالوعيد الشديد ، فقال تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } وهذا تهديد لليهود في افترائهم على تحريف حكم الله في حد الزاني المحصن ، يعني أنهم لما أنكروا حكم الله المنصوص عليه في التوراة ، قالوا : إنه غير واجب فهم كافرون على الإطلاق بموسى والتوراة وبمحمد والقرآن وبعيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام .
فصل
قالت الخوارج : من عصى الله فهو كافر ، واحتجوا بهذه الآية ، وقالوا : إنها نص في أن كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر ، وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله ، فوجب أن يكون كافراً ، وقال الجمهور : ليس الأمر كذلك ، وذكروا عن هذه الشبهة أجوبة منها أن هذه الآية نزلت في اليهود فتكون مختصة بهم .
قال قتادة والضحاك : نزلت هذه الآيات الثلاث في اليهود دون من أساء من هذه الأمة .
وروى البراء بن عازب : أن هذه الثلاثة آيات في الكافرين ، وهذا ضعيف؛ لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وقال آخرون : المراد { من لم يحكم بما أنزل الله } كلام أدخل كلمة « من » في معرض الشرط فيكون للعموم ، وقولهم : من الذين سبق ذكرهم ، زيادة في النص ، وذلك غير جائز . وقال عطاء : هو كفر دون كفر .
وقال طاووس : ليس بكفر ينقل عن الملة ، ولا بكفر بالله واليوم الآخر . فكأنهم حملوا الآية على كفر النعمة لا على كفر الدين ، وهو أيضاً ضعيف ، لأن إطلاق لفظ الكافر إنما ينصرف إلى الكفر في الدين وقال ابن الأنباري : يجوز أن يكون المعنى ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلاً يضاهي أفعال الكفار ، وهذا أيضاً ضعيف لأنه عدول عن الظاهر .
وقال عبد العزيز : قوله « بما أنزل » صيغة عموم ، ومعنى « أنزل الله » أي : نص الله ، حكم الله في كل ما أنزله ، والفاسق لم يأت بضد حكم الله إلا في القليل من العمل ، أما في الاعتقاد والإقرار فهو موافق ، وهذا أيضاً ضعيف ، لأنه لو كانت هذه الآية [ وعيداً مخصوصاً ] لمن خالف حكم الله تعالى ، في كل ما أنزله الله لم يتناول هذا الوعيد اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله في الرجم ، وأجمع المفسرون أن هذا الوعيد يتناول اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله في واقعة الرجم ، فدلَّ على سقوط هذا الجواب .
وقال عكرمة : قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله } إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه ، أما من عرف بقلبه كونه حكم الله إلا أنه أتى بما يضاده ، فهو حاكم بما أنزل الله ، ولكنه تارك له فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية .
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
قوله تعالى { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قِصَاصٌ } .
أي كتبنا عليهم في التوراة حكم أنواع القصاص وهو أن حكم الزاني المحصن « الرجم » فغيَّروه وبدَّلوه ، وبيَّن أيضاً في التوراة : أن النفس بالنفس فغيَّروا هذا الحكم ففضلوا بني النضير على بني قريظة ، وخصصوا إيجاب القود ببني قريظة دون بني النضير فهذا أوجه النظم ، ومعنى « كتبنا » أي : فرضنا ، وكان شر القصاص أو العفو ، وما كان فيهم الدية والضمير في « عليهم » ل « الذين هادوا » . قوله تعالى : { أَنَّ النفس بالنفس } : « أن » واسمها وخبرها في محل نصب على المفعولية ب « كتبنا » ، والتقدير : وكتبنا عليهم أخْذَ النفس بالنفس .
وقرأ الكسائي « والعَيْنُ » وما عُطِفَ عليها بالرفع ، وقرأ نافع وحمزة وعاصم بنصب الجميع .
وقرأ أبو عمرو ، وابن كثير ، وابن عامر بالنصب فيما عد « الجُرُوح » فإنهم يرفعونها .
فأما قراءة الكسائي فوجَّهَهَا أبو علي الفارسي بثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون « الواو » عاطفة جملة اسمية على جملة فعلية ، فتعطف الجمل كما تعطف المفردات ، يعني أن قوله : « والعين » مبتدأ ، و « بالعين » خبره ، وكذا ما بعدها ، والجملة الاسمية عطف على الفعلية من قوله : « وَكَتَبْنَا » وعلى هذا فيكون ذلك ابتداء تشريع ، وبيان حكم جديد غير مندرج فيما كتب في التوراة .
قالوا : وليست مشركة للجملة مع ما قبلها لا في اللفظ ولا في المعنى .
وعَبَّرَ الزمخشري عن هذا الوجه بالاستئناف قال : « أو » للاستئناف ، والمعنى : فرضنا عليهم أن النفس مأخوذة بالنفس مقتولة بها ، إذا قتلها بغير حقٍّ ، وكذلك العين مَفْقُودة بالعين ، والأنف مَجْدُوع بالأنف ، والأذن مَصْلُومة أو مقطوعة بالأذن والسِّنّ مقلوعة بالسن ، والجُرُوح قصاص وهو المُقَاصَّة ، وتقديره : أن النفس مأخوذة بالنفس ، سبقه إليه الفارسي ، إلا أنه قدر ذلك في جميع المجرورات ، أي : والعين مأخوذة بالعين إلى آخره ، والذي قدَّرَه الزمخشري مناسب جداً ، فإنه قدر متعلَّق كل مجرور بما يناسبه ، فالقَقْء للعين ، والقَلْع للسن ، والصَّلْمُ للأذن ، والجَدْع للأنف ، إلا أن أبا حيّان [ كأنه ] غضَّ منه حيث قدَّر الخبر الذي تعلَّق به المجرور كوناً مقيداً ، والقاعدة في ذلك إنما يقدَّر كوناً مُطْلَقاً .
قال : « وقال الحوفي : » بالنفس « يتعلّق بفعل محذوف تقديره : يجب أو يستقر ، وكذا العين بالعين وما بعدها ، فقدَّر الكون المطلق ، والمعنى : يستقر قتلها بقتل النفس » ، إلا أنه قال قبل ذلك : « وينبغي أن يُحْمَلَ قول الزمخشري على تفسير المعنى لا تفسير الإعراب » ثم قال : فقدَّر - يعني : الزمخشري - ما يقرب من الكون المطلق ، وهو : « مأخوذ » ، فإذا قلت : « بعت الشياه شاةً بدرهم » ، فالمعنى : مأخوذة بدرهم ، وكذلك الحر بالحر أي : مأخوذ .
والوجه الثاني من توجيه الفارسيّ : أن تكون « الواو » عاطفة جملة اسمية على الجملة من قوله : { أن النفس بالنفس } . [ لكن من حيث المعنى لا من حيث اللفظ ، فإن معنى { كتبنا عليهم أن النفس بالنفس } قلنا لهم : إن النفس بالنفس ] فالجمل مندرجة تحت الكتب من حيث المعنى لا من حيث اللفظ .
وقال ابن عطية : « ويحتمل أن تكون » الواو « عاطفة على المعنى » وذكر ما تقدم ، ثم قال : ومثله لما كان المعنى في قوله تعالى : { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } [ الصافات : 45 ] يُمْنَحُون عطف « وحوراً عيناً » عليه ، فنظَّر هذه الآية بتلك لاشتراكهما في النظر إلى المعنى ، دون اللفظ وهو حَسَنٌ .
قال أبو حيان : وهذا من العطف على التوهم؛ إذ توهم في قوله : { أنَّ النفس بالنفس } : النفسُ بالنفسِ ، وضعَّفه بأن العطف على التوهم لا ينقاس .
والزمخشري نحا إلى هذا المعنى ، ولكنه عبَّر بعبارة أخرى فقال : [ الرفع للعطف ] على محلِّ « أن النفس » ؛ لأن المعنى : « وكتبنا عليهم النفسُ بالنفسِ » ، إما لإجراء « كتبنا » « مجرى » قلنا ، وإما أن معنى الجملة التي هي « النفس بالنفس » مما يقع عليه الكَتْبُ ، كما تقع عليه القراءة تقول : كتبتُ : الحمدُ لله وقرأت : سُورةٌ أنزلناها ، ولذلك قال الزَّجَّاج : « لو قرئ إن النفس بالنفس بالكسر لكان صحيحاً » .
قال أبو حيان : هذا الوجْهُ الثاني من توجيه أبي عليٍّ ، إلا أنه خرج عن المصطلح ، حيث جعله من العطف على المحل وليس منه ، لأن العطف على المحلِّ هو العطف على الموضعِ ، وهو محصور ليس هذا منه ، ألا ترى أنا لا نقول : { أن النفس بالنفس } في محل رفع؛ لأن طالبه مفقود ، بل « أن » وما في حيِّزهَا بتأويل مصدر لفظه وموضعه نَصبٌ؛ إذ التقدير : « كتبنا عليهم أخذ النفس » ، قال شهاب الدين : والزمخشري لم يَعْنِ أن « أن » وما في حيِّزهَا في محل رفع ، فعطف عليها المرفوع حتى يلزمه أبو حيان بأن لفظها ومحلَّها نصب ، إنما عَنى أن اسمها محلُّه الرفع قبل دخولها ، فراعَى العطف عليه كما راعاه في اسم « إن » المكسورة وهذا الرد ليس لأبي حيّان ، بل سبقه إليه أبو البقاء ، فأخذه منه .
قال أبو البقاء : « ولا يجوز أن يكون معطوفاً على » أنّ « وما عملت فيه في موضع نصب » انتهى .
وليس بشيء لما تقدم .
قال أبو شامة : فمعنى الحديث : قلنا لهم : النَّفْسُ بالنفسُ ، فحمل « العين بالعين » على هذا ، لأنَّ « أنَّ » لو حذفت لاستقام المعنى بحذفها كما استقام بثبوتها ، وتكون « النفس » مرفوعة ، فصارت « أن » هنا ك « إن » المكسورة في أن حذفها لا يُخلُّ بالجملة ، فجاز العَطْفُ على محل اسمها ، كما يجوز على محلِّ اسم المكسورة ، وقد حُمِلَ على ذلك :
{ أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ } [ التوبة : 3 ] .
قال ابن الحاجب : « ورسوله » بالرفع معطوف على اسم « أنَّ » وإن كانت مفتوحة لأنها في حكم المكسورة ، وهذا موضع لم ينبه عليه النحويون .
قال شهاب الدين : بلى قد نَبَّه النحويون على ذلك ، واختلفوا فيه ، فجوَّزه بعضهم ، وهو الصحيحُ ، وأكثر ما يكون ذلك بعد « علم » أو ما في معناه كقوله : [ الوافر ]
1969- وإلاَّ فاعْلَمُوا أنَّا وأنْتُمْ ... بُغَاةٌ ما بَقِينَا فِي شِقَاقِ
وقوله تعالى : { وَأَذَانٌ مِّنَ الله } [ التوبة : 3 ] الآية؛ لأن « الأذان » بمعنى الإعلام .
الوجه الثالث : أن « العين » عطف على الضمير المرفوع المستتر في الجار الواقع خبراً؛ إذ التقدير أنَّ النفس بالنفس هي والعينُ ، وكذا ما بعدها ، والجار والمجرور بعدها في محل نصب على الحال مبنيةً للمعنى؛ إذ المرفوع هنا مرفوع بالفاعلية لعطفه على الفاعل المستتر وضَعِّفَ هذا بأن هذه أحوال لازمة ، والأصل أن تكون منتقلةً ، وبأنه يلزم العَطْفُ على الضمير المرفوع المُتصل من غير فَصْلٍ بين المتعاطفين ، ولا تأكيدٍ ولا فَصْلٍ ب « لا » بعد حرف العطف كقوله : { مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } [ الأنعام : 148 ] وهذا لا يجوز عند البصريين إلا ضرورةً .
قال أبو البقاء : وجاز العطفُ من غير توكيد كقوله : { مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } [ الأنعام : 148 ] قال شهاب الدين : قام الفصْل ب « لا » بين حرف العطف ، والمعطوف مقام التوكيد ، فليس نظيره .
وللفارسي بحث في قوله : { مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } [ الأنعام : 148 ] مع سيبويه ، فإن سيبويه يجعل طول الكلام ب « لا » عوضاً عن التوكيد بالمنفصل ، كما طال الكلام في قولهم : « حضر القاضِيَ اليومَ امرأةٌ » .
قال الفارسي : « هذا يستقيم إذا كان قبل حرف العطفِ ، أما إذا وقع بعده فلا يَسُدُّ مسدَّ الضمير ، ألا ترى أنك لو قلت : » حضر امرأة القاضي اليوم « لم يُغْنِ طُولُ الكلام في غير الموضع الذي ينبغي أن يقع فيه » .
قال ابن عطية : « وكلام سيبويه متجه على النظر النحوي ، وإن كان الطول قبل حرف العطف أتَمَّ ، فإنه بعد حرف العطف مؤثر ، لا سيما في هذه الآية ، لأن » لا « ربطت المعنى؛ إذ قد تقدمها نفي ، ونفت هي أيضاً عن » الآباء « فيمكن العطف .
واختار أبو عبيد قراءة رفع الجميع ، وهي رواية الكسائي؛ لأن أنَساً - رضي الله عنه - رواها قراءة للنبي صلى الله عليه وسلم .
وروى أنس عنه - عليه الصلاة والسلام - أيضاً » أن النَّفسُ بالنَّفسِ « بتخفيف » أنْ « ورفع » النفس « ، وفيها تأويلان :
أحدهما : أن تكون » أنْ « مخفّفة من الثقيلة ، واسمها ضمير الأمر والشأن محذوف ، و » النفس بالنفس « مبتدأ وخبر ، في محل رفع خبراً ل » أن « المخففة ، كقوله :
{ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } [ يونس : 10 ] فيكون المعنى كمعنى المشدّدة .
والثاني : أنها « أنْ » المفسرة؛ لأنها بعد مَا هو بمعنى القول لا حروفه وهو « كتبنا » ، والتقدير : أي النفسُ بالنفس ، ورُجِّح هذا على الأول بأنه يلزم من الأول وقوع المخففة بعد غير العلم ، وهو قليل أو ممنوع ، وقد يقال : إن « كتبنا » لمّا كان بمعنى « قضينا » قَرُبَ من أفعال اليَقينِ .
وأما قراءة نافع ومن معه فالنَّصْبُ على اسم « أنَّ » لفظاً ، وهي النفس ، والجار بعده خبرُه .
و « قصاصٌ » خبر « الجروح » ، أي : وأن الجروح قصاص ، وهذا من عطف الجُمَلِ ، عطفت الاسم على الاسم ، والخبر على الخبر ، كقولك « إنَّ زيداً قائمٌ وعمراً منطلق » عطفت « عمراً » على « زيداً » ، و « منطلق » على « قائم » ، ويكون الكَتْبُ شاملاً للجميع ، إلاَّ أنَّ في كلام ابن عطية ما يقتضي أن يكون « قصاص » خبراً على المنصوبات أجمع ، فإنه قال : وقرأ نافع وحمزة وعاصم بنصب ذلك كلِّه ، و « قصاص » خبرُ « أنَّ » ، وهذا وإن كان يصدقُ أن أخْذَ النفس بالنفسِ والعين بالعينِ قصاص ، إلا أنه صار هنا بقرينة المقابلة مختصاً بالجروح ، وهو محل نظر .
وأما قراءة أبي عمرو ومن معه ، فالمنصوب كما تقدم في قراءة نافع ، لكنهم لم ينصبوا « الجروح » قطعاً له عما قبله ، وفيه أربعة أوجه : الثلاثة المذكورة في توجيه قراءة الكسائي ، وقد تقدم إيضاحه .
والرابع : أنه مبتدأ وخبره « قصاص » ، يعني : أنه ابتداء تشريعٍ ، وتعريف حكم جديد .
قال أبو علي : « فأمّا » والجروح قصاص « [ فمن رفعه يقْطَعُهُ عما قبله ، فإنه يحتمل هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرناها في قراءة من رفع » والعين بالعين « ، ويجوز أن يستأنف » والجروح قصاص « ] ليس على أنه مما كُتب عليهم في التوراة ، ولكنه على الاستئناف ، وابتداء تشريع » انتهى .
إلا أن أبا شامة قال - قبل أن يحكي عن الفارسي هذا الكلام - : « ولا يستقيم في رفع الجروح الوجه الثالث ، وهو أنه عطف على الضمير الذي في خبر » النفس « وإن جاز فيما قبلها ، وسَبَبُهُ استقامة المعنى في قولك : مأخوذة هي بالنفس ، والعين هي مأخوذة بالعين ، ولا يستقيم ، والجروحُ مأخوذة قصاص ، وهذا معنى قولي : لما خلا قوله : » الجروح قصاص « عن » الباء « في الخبر خالفَ الأسماءَ التي قبلها ، فخولف بينهما في الإعراب » .
قال شهاب الدين : وهذا الذي قاله واضح ، ولم يتنبه له كثير من المُعرِبين .
وقال بعضهم : « إنما رُفِعَ » الجروح « ولم يُنْصَبْ تَبَعاً لما قبله فَرْقاً بين المجمل والمفسر » . يعني أن قوله : « النَّفْسَ بالنفسِ ، والعينَ بالعينِ » مفسّر غير مجمل ، بخلاف « الجروح » ، فإنها مجملة؛ إذ ليس كل جرح يجري فيه قصاصٌ؛ بل ما كان يعرف فيه المساواة ، وأمكن ذلك فيه ، على تفصيل معروف في كتب الفقه .
وقال بعضهم : خُولِفَ في الإعراب لاختلاف الجراحات وتفاوتها ، فإذن الاختلاف في ذلك كالخِلافِ المُشَارِ إليه ، وهذان الوجهان لا معنى لهما ، ولا ملازمة بين مُخَالَفَةِ الإعراب ، ومخالفةِ الأحكام المُشَارِ إليها بوجهٍ من الوُجُوهِ ، وإنما ذكرتها تنبيهاً على ضعفها .
وقرأ نافع : « والأذْن بالأذْن » سواء كان مفرداً أم مثنى ، كقوله : { كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً } [ لقمان : 7 ] بسكون الذال ، وهو تخفيف للمضموم ك « عُنْق » في « عُنُق » والباقون بضمهما ، وهو الأصل ، ولا بد من حذف مضاف في قوله : « والجروحُ قصاص » : إمَّا من الأول ، وإمَّا من الثاني ، وسواء قُرئ برفعه أو بنصبه ، تقديره : وحكم الجروح قصاص ، أو : والجروح ذات قصاص .
والقِصَاصُ : المقُاصَّةُ ، وقد تقدم الكلام عليه في « البقرة » [ الآية 178 ] .
وقرأ أبيّ بنصب « النفس » ، والأربعة بعدها و « أن الجُرُوحُ » بزيادة « أن » الخفيفة ، ورفع « الجُرُوح » ، وعلى هذه القراءة يَتعيَّنُ أن تكون المخففة ، ولا يجوز أن تكون المفسرة ، بخلاف ما تقدَّم من قراءة أنس عنه عليه السلام بتخفيف « أن » ورفع « النفس » حيث جوزنا فيها الوجهين ، وذلك لأنه لو قدرتها التفسيرية [ وجعلتها معطوفة على ما قبلها فسد من حيث إن « كتبنا » يقتضي أن يكون عاملاً لأجل أنّ « أن » المشدّدة غير عامل لأجل « أنْ » التفسيرية ] . فإذا انتفى تسلّطه عليها انتفى تشريكها مع ما قبلها؛ لأنه إذا لم يكن عمل فلا تشريك ، فإذا جعلتها المُخَفَّفَةَ تسلَّطَ عمله عليها ، فاقتضى العمل التشريك في انصباب معنى الكَتْبِ عليهما .
فصل
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : أخبر الله تعالى بحكمه في التوراة ، وهو أن النفس بالنفس . الخ ، فما بالهم يقتلون بالنفس النفسين ، ويفقأون بالعين العينين ، والمعنى أن من قتل نفساً بغير قود قتله ، ولم يجعل الله لهم دية في نفس ولا جرح ، إنما هو العفو أو القصاص ، وأما الأطراف فكل شخصين جرى القصاص بينهما في النفس جرى القصاص بينهما في جميع الأطراف إذا تماثلا في السلامة ، وإذا امتنع القصاص في النفس امتنع أيضاً في الأطراف ، ولما ذكر حكم بعض الأعضاء ذكر الحكم في كلها فعمَّ بعض التخصيص فقال : « والجروح قصاص » ، وهو كل ما يمكن أن يختص فيه مثل الشفتين والذكر والأنثيين والألْيتيْنِ والقدمَيْنِ واليدين وغيرهما ، فأما ما لا يمكن القصاص فيه من رضّ لحم أو كسر عظم أو جرح يخاف منه التلف ، ففيه أرش؛ لأنه لا يمكن الوقوف على نهايته .
وقرأ أبيّ : « فهو كفارته له » ، أي : التصدق كفارة ، يعني الكفارة التي يستحقها له لا ينقص منها وهو تعظيم لما فعل كقوله : { فَأَجْرُهُ عَلَى الله } [ الشورى : 40 ] .
قوله تعالى : { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ } أي : بالقصاص المتعلق بالنفس ، أو بالعين أو بما بعدها ، فهو أي : فذلك التصدقُ ، عاد الضمير على المصدر لدلالة فعله عليه ، وهو كقوله تعالى : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ } [ المائدة : 8 ] .
والضمير في « له » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : وهو الظاهر : أنه يعود على الجاني ، والمراد به وَلِيّ القصاص أي : فالتصدق كَفَّارة لذلك المتصدق بحقه ، وإلى هذا ذهب كثير من الصحابة فمن بعدهم [ ويؤيده قوله تعالى في آية القصاص في البقرة وأن تعفوا أقرب للتقوى ] .
والثاني : أن الضمير [ يراد به ] الجاني ، [ والمراد بالمتصدق كما تقدم مستحق القصاص ، والمعنى أنه إذا تصدق المستحق على الجاني ] ، كان ذلك التصدق كفارة للجاني حيث لم يُؤاخذ به .
قال الزمخشري : « وقيل : فهو كفارة له أي : للجاني إذا تجاوز عنه صاحب الحق سقط عنه ما لزمه في الدنيا والآخرة » فأمّا أجر العافي فعلى الله قال الله تعالى : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله } [ الشورى : 40 ] وقال عليه الصلاة والسلام : « مَنْ تَصدَّقَ مِنْ جسدِهِ بِشَيءٍ كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقدرِهِ مِنْ ذُنُوبِهِ » وإلى هذا ذهب ابن عباس - رضي الله عنهما - في آخرين .
الثالث : أن الضمير يعود على المتصدق أيضاً ، لكن المراد الجاني نفسه ، ومعنى كونه متصدقاً ، أنه إذا جنى جناية ، ولم يعرف به أحد ، فعرف هو بنفسه ، كان ذلك الاعتراف بمنزلة التصدق الماحي لذنبه وجنايته قال مجاهد .
وَيُحْكَى عن عروة بن الزبير أنه أصاب إنساناً في طوافه ، فلم يعرف الرجل من أصابه ، فقال له عروة : « أنا أصبتك ، وأنا عروة بن الزُّبَيْرِ ، فإن كان يعنيك شيء فَهَا أنَا ذَا » وعلى هذا التأويل يحتمل أن يكون « تصدَّق » من الصدقة ، وأن يكون من الصِّدْق .
قال شهاب الدين : فالأول واضح ، والثاني معناه أن يتكلف الصدق؛ لأن ذلك مما يشق .
وقوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم } يجوز في « مَنْ » أن تكون شرطية ، وهو الظاهر ، وأن تكون موصولةً ، والفاء في الخبر زائدة لشبهه بالشرط .
و « هم » في قوله : « هم الكافرون » ونظائره فصل أو مبتدأ ، وكله ظاهر مما تقدَّم في نظائره .
فإن قيل : إنه ذكر أولاً قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون } [ المائدة : 44 ] وثانياً : « هم الظالمون » والكفر أعظم من الظلم . فلماذا ذكر أعظم التهديدات ، ثم ذكر بعده الأخف فأيُّ فائدة في ذلك؟ فالجواب : أن الكفر من حيث إنه إنكار لنعمة المولى وجحود لها ، فهو كفر ، ومن حيث إنه يقتضي إلقاء النفس في العقاب الدائم الشديد فهو ظلم للنفس في الآية الأولى ذكر ما يتعلق بتقصيره في حق نفسه والله أعلم .
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)
قوله تعالى : { وَقَفَّيْنَا على آثَارِهِم } الآية ، قد تقدم معنى « قفينا » وأنه من قَفَا يَقْفُو أي : تبع قفاه في البقرة [ الآية 87 ] وقوله تعالى : { على آثَارِهِم بِعَيسَى } كِلاَ الجارَّيْنِ متعلق به على تضمينه معنى « جئنا به على آثارهم قافياً لهم » .
وقد تقدم أيضاً أن التضعيف فيه ليس للتعدية لعلّة ذُكِرَتْ هناك ، وإيضاحها أنَّ « قَفَا » متعدٍّ لواحد قبل التضعيف ، قال تعالى : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [ الإسراء : 36 ] ف « ما » موصولة بمعنى « الذي » هي مفعول ، وتقول العرب : « قفا فلان أثر فلان » أي : تبعه ، فلو كان التضعيف للتعدّي لتعدى إلى اثنين ، فكان التركيب يكون : « ثم قفيناهم عيسى ابن مريم » ف « هم » مفعول ثانٍ ، و « عيسى » أول ، ولكنه ضُمِّن كما تقدم ، فلذلك تعدى بالباء ، و « على » قال الزمخشري « » قَفَّيْتُهُ « مثل : عَقَّبْتُهُ إذا أتبعته ، ثم يقال : » قَفَّيتُهُ بفلان « مثل : عَقَّبْتُه به : فتعديه إلى الثاني بزيادة » الباء « .
فإن قلت : فأين المفعول الأول؟
قلت : هو محذوف ، والظرف الذي هو » على آثارهم « كالسَّادِّ مسدَّه؛ لأنه إذا قَفَّى به على أثره ، فقد قَفَّى به إياه ، فكلامه هنا ينحو إلى أنَّ » قفَّيته « مضعفاً ك » قفوته « ثلاثياً ثم عدَّاهُ بالباء ، وهذا وإن كان صحيحاً من حيث إنَّ » فعَّل « قد جاء بمعنى » فعل « المجرد ك » قدَّرَ وقَدَرَ « ، إلا أنّ بعضهم زعم أن تعدية المتعدي لواحد لا يتعدَّى إلى ثانٍ بالباء ، لا تقول في » طعم زيد اللحم « : » أطعمت زيداً باللحم « ولكن الصواب أنه قليل غير ممتنع ، جاءت منه ألفاظ قالوا : » صَكَّ الحَجَرُ الحَجَرَ « ثم يقولون : صككت الحَجَر بالحجر ، و » دَفَعَ زيدٌ عَمْراً « ثم : دَفَعْتُ زيداً بعمرو : أي : جعلته دافعاً له ، فكلامه إما ممتنع ، أو محمول على القليل ، وقد تقدم في البقرة الإشارة إلى منع ادِّعاء حذف المفعول من نحو » قَفَّيْنَا « في البقرة [ الآية 87 ] .
وناقشه أبو حيان في قوله : » فقد قَفَّى به إياه « من حيث إنه أتى بالضمير المنفصل مع قدرته على المتصل ، فيقول : » قفيته به « .
قال : » ولو قلت : « زيدٌ ضربْتُ بسوط إياه » لم يَجُزْ إلا في ضرورة شعر ، بل ضربته بسوط « ، وهذا ليس بشيء ، لأن ذلك من باب قوله : { يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ } [ الممحنة : 1 ] { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ } [ النساء : 131 ] وقد تقدَّم تحقيقه .
والضمير في « آثارهم » : إمَّا للنبيين؛ لقوله : { يَحْكُمُ بِهَا النبيون } [ المائدة : 44 ] وإمَّا لِمَنْ كُتِبَتْ عليهم تلك الأحْكَامُ ، والأول أظهر؛ لقوله في موضع آخر : { برسلنا وقفَّينا بعيسى ابن مريم } .
و « مصدقاً » حال من « عيسى » .
قال ابن عطية : وهي حال مؤكّدة ، وكذلك قال في « مصدقاً » الثانية ، وهو ظاهرٌ فإن مَنْ لازم الرَّسول والإنجيل الذي هو كتاب إلهي أن يكونا مصدِّقَيْن .
و « لما » متعلّق به .
وقوله : « من التوراة » حال : إما من الموصول ، وهو « ما » المجرورة باللام ، وإما من الضمير المستكنّ في الظرف لوقوعه صِلَةً ، ويجوز أن تكُون لبيان جِنْسِ الموصول .
قوله تعالى : { وَآتَيْنَاهُ الإنجيل } يجوز فيها وجهان :
أحدهما : أن تكون عطفاً على قوله : « وَقَفَّيْنَا » فلا يكون لها مَحَلٌّ ، كما أن المعطوف عليه لا مَحَلَّ له ، ويجوز أن تكون في مَحَلِّ نصب على الحال عَطْفاً على « مصدقاً » الأوَّل إذا جعل « مصدقاً » الثاني حالاً من « عيسى » أيضاً كما سيأتي ، [ ويجوز أن تكون الجملة حالاً ] وإن لم يكن « مصدقاً » الثاني حالاً من « عيسى » .
قوله تعالى : « فيه هدى » يجوز أن يكون « فيه » وحده حالاً من الإنجيل ، و « هدى » فاعل به؛ لأنه لما اعتمد على ذِي الحَالِ رفع الفاعل ويجوز أن يكون « فيه » خبراً مقدّماً ، « وهدى » مبتدأ مؤخر ، والجملة حال ، و « مصدقاً » حال عَطْفاً على محل « فيه هدى » بالاعتبارين أعني اعتبار أن يكون « فيه » وَحْدَهُ هو الحال ، فعطفت هذه الحال عليه ، وأن يكون « فيه هدى » جملة اسمية محلُّها النصب ، و « مصدقاً » عطف على محلِّهَا ، وإلى هذا ذَهَبَ ابن عطية ، إلاّ أن هذا مرجوحٌ من وجهين :
أحدهما : أن أصل الحال أن تكون مفردة ، والجار أقرب إلى المفرد من الجمل .
الثاني : أن الجملة الاسمية الواقعة حالاً ، الأكثر أن تأتي فيها بالواو ، وإن كان فيها ضميرٌ - حتى زعم الفراء - وتبعه الزمخشري أن ذلك لا يجوز إلا شاذّاً ، وكونُ « مصدقاً » حالاً من « الإنجيل » هو الظاهر .
وأجاز مكي بن أبي طالب - وتبعه أبو البقاء - أن يكون « مصدقاً » ، الثاني حالاً أيضاً من عيسى « كُرِّرَ توكيداً .
قال ابن عطية : » وهذا فيه قَلَقٌ من جهة اتساق المعاني « .
قال شهاب الدين : إذا جعلنا » وآتيناه « حالاً منه ، وعطفنا عليها هذه الحال الأخرى ، فلا أدْرِي وجْه القلقِ من الحيثية المذكورة؟
وقوله : » وهدى « الجمهور على النَّصْبِ ، وهو على الحال : إمَّا من » الإنجيل « ، عطفت هذه الحال على ما قبلها ، وإمَّا من » عيسى « أي : ذا هُدًى وموعظة ، أو هادياً ، أو جعل نفس الهدى مبالغة .
وأجاز الزمخشري أن ينتصبا على المفعُولِ من أجْلِهِ ، وجعل العامل فيه قوله تعالى : « آتيناه » ، قال : وأنْ ينتصبا مفعولاً لهما لقوله : « وليحكم » كأنه قيل وللهدى وللموعظة آتيناه الإنجيل وللحكم .
وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون العامل فيه « قَفَّيْنَا » أي : قفينا للهدى والموعظة ، وينبغي إذا جعلا مفعولاً من أجله أن يُقدَّر إسنادهما إلى الله - تعالى - لا إلى الإنجيل ليصح النصب ، فإن شرطه اتحاد المفعول له مع عامله فاعلاً وزماناً ، ولذلك لما اختلف الفاعل في قوله : { وليحكم أهل الإنجيل } عُدِّي إليه باللام ، ولأنه خالفه أيضاً في الزمان ، فإن زمن الحكم مستقبل وزمن الأنبياء ماضٍ ، بخلاف الهداية والموعظة ، فإنهما مقارنان في الزمان للإيتاء .
و « للمقيمين » يجوز أن يكون صفة ل « موعظة » ، ويجوز أن تكون « اللام » زائدة مقوية ، و « المتقين » مفعول ب « موعظة » ، ولم تمنع تاءُ التأنيث من عمله؛ لأنه مبنيٌّ عليها؛ كقوله : [ الطويل ]
1970- . . وَرَهْبَةٌ ... عِقَابَكَ . . .
وقد تقدم الكلام على « الإنجيل » واشتقاقه وقراءةُ الحسن فيه بما أغنى عن إعادته .
وقرأ الضَّحَّاك بن مزاحم : « وهُدًى وموعِظَةٌ » بالرفع ، ووَجْهُهَا أنها خبر ابتداء مضمر ، أي : وهو هدى وموعظة .
فصل
قال ابن الخَطيبِ : هنا سؤالات :
الأول : أنه - تعالى - وَصَفَ عيسى ابن مريم بكونه مصدقاً لما بين يديه من التوراة ، وإنما يكون كذلك ، إذا كان [ عمله على شريعة التوراة ، ومعلوم أنه لم يكن ] كذلك فإن شريعة عيسى كانت مغايرة لشريعة موسى عليهما السلام ، ولذلك قال تعالى في آخر هذه الآية : { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَآ أَنزَلَ الله فِيهِ } [ المائدة : 47 ] فكيف الجمع بينهما؟
والجواب : كون عيسى عليه الصلاة والسلام مصدقاً للتوراة ، أقر بأنه كتاب منزل من عند الله تعالى ، وأنه كان حقًّا واجب العمل به قبل وُرُودِ النَّسْخِ .
الثاني : لم كرر كونه مصدقاً لما بين يديه؟
والجواب : ليس فيه تكْرَارٌ ، إلا أنَّ في الأول أنَّ المسيح يصدق التوراة ، وفي الثاني : الإنجيل يصدق التوراة .
الثالث : ما معنى وصفه الإنجيل بهذه الصفات الخمسة فقال « [ فيه ] هدى ونور ، ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين » ؟
والجواب : [ أن قوله ] « هدى » بمعنى أنه اشتمل على الدلائل الدَّالة على التوحيد والتنزيه ، وبراءة الله عن الصاحبة والولد ، والمثل والضد ، وعلى النبوة والمعاد فهذا هو المراد بكونه هدى .
وأما كونه نوراً [ فالمراد به كونه بياناً للأحكام الشرعية ولتفاصيل التكاليف ] .
وأما كونه هدى مرة أخرى ، فلأن اشتماله على البشارة بمحمد - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - سبب لاهتداء الناس إلى نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولمّا كان أشد وجوه المنازعة بين المسلمين وبين اليهود والنصارى في ذلك لا جرم أعاده الله مرة أخرى تنبيهاً على أن الإنجيل يدل دلالة ظاهرة على نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم . فكان هدى في هذه المسألة التي هي أشد المسائل احتياجاً إلى البيان والتقرير .
وأما كونه موعظة فلاشتمال الإنجيل على النصائح والمواعظ والزواجر البليغة المتأكدة ، وإنما خصها بالمتقين ، لأنهم هم الذين ينتفعون بها كقوله { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] .
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
قوله تعالى : { وَلْيَحْكُمْ } قرأ الجمهور بسكون « اللام » وجزم الفعل بعدها على أنها لام الأمر سُكِّنَتْ تشبيهاً ب « كَتْف » وإن كان أصلها الكسر ، وقد قرأ بعضهم بهذا الأصل .
وقرأ حمزة والأعمش ، بكسرها ونصب الفعل بعدها ، جعلها لام « كي » ، فنصب الفعل بعدها بإضمار « أن » على ما تقرر غير مَرّة ، فعلى قراءة الجمهور والشاذ تكون جملة مستأنفة .
وعلى قراءة حمزة يجوز أن تتعلق « اللام » ب « آتينا » ، أو ب « قفَّيْنَا » إن جعلنا « هدى وموعظة » مفعولاً لهما ، أي : قَفَّينا للهدى والموعظة وللحكم ، أو آتيناه الهدى والموعظة والحكم ، وإن جَعَلْنَاهما حالين معطوفين على « مصدقاً » تعلَّق « وليحكم » في قراءته بمحذوف دلَّ عليه اللفظ ، كأنه قيل : « وللحكم آتيناه ذلك » .
قال الزمخشري : فإن قلت : فإن نظمت « هدى وموعظة » في سِلْكِ « مصدقاً » فما تصنع بقوله : « وليحكم » ؟
قال شهاب الدين : أصنعُ به ما صنعت ب « هدى وموعظة » حيث جعلتهما مفعولاً لهما فأقدِّر : « وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله آتيناه إياه » .
وقال ابن عطية قريباً من الوجه الأول ، أعني كون « وليحكم » مفعولاً له عطفاً على « هدى » والعامل « آتيناه » الملفوظ به ، فإنه قال : وآتيناه الإنجيل ليتضمن الهدى والنور والتصديق ، وليحكم أهل الإنجيل .
قال أبو حيان : فعطف « وليحكم » على توهّم علةٍ ، ولذلك قال : « ليتضمن » وذكر أبو حيان قول الزمخشري السَّابق ، وجعله أقرب إلى الصواب من قول ابن عطية .
قال : لأنَّ الهدى الأول ، والنور والتصديق لم يؤت بها على أنها علّة ، إنما جيء بقوله : { فيه هدى ونور } على معنى كائناً فيه ذلك ومصدقاً ، وهذا معنى الحَالِ ، والحالُ لا تكون علةً ، فقوله : « ليتضمَّن كَيْتَ وكَيْتَ وليحكم » بعيد .
واختلف المفسرون في هذه الخواتم الثلاثة أعني : الكافرون الظالمون الفاسقون .
فقال القفال : صفات لموصوف واحد ، وليس في إفراد كل واحد من هذه الثلاثة باللفظ ما يوجب القدح في المعنى ، بل كما يقال : مَنْ أطاعَ اللَّهَ فَهُوَ البَرُّ ، ومن أطاعَ الله فهو المؤمنُ ، ومن أطاعَ الله فهو المُتَّقِي؛ لأنَّ كُلَّ ذلك صفاتٌ مُخْتَلِفَةٌ حاصِلةٌ لموْصُوفٍ واحدٍ وقال آخرون : الأوَّلُ في الْجَاحِدِ ، والثاني والثالث : في المُقِرِّ التاركِ ، وقال الأصم : الأوَّلُ والثاني في اليهُودِ ، والثالثُ في النَّصارى .
وقال الشَّعْبِيُّ : الأولى في المسلمين والثانيةُ في اليهودِ ، والثالثةُ : في النصارى ، لأنَّ قبلَ الأولى « فإنْ جَاءُوك فاحْكُم » ، و « كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ » ، و « يَحْكُمُ بها النَّبِيُّونَ » وَقَبْلَ الثانيةِ « وَكَتَبْنَا عَلَيْهِم » وهم اليهودُ ، وقَبل الثَّالِثَةِ « وَلْيَحكُمْ أهْلُ الإنجِيلِ » وهمُ النَّصارى ، فكأنَّه خَصَّ كُلَّ واحدةٍ بما يليه وهذا أحْسَنُهَا .
وقرأ أبَيٌّ : « وَأن ليحكُم » بزيادة « أنْ » وليْسَ موضِعَ زيادَتِهَا .
فصل
مَنْ قَرَا بِكَسْرِ اللامِ وفتحِ الميمِ جعل اللاَّم مُتعلقةً بقوله : « وآتيْنَاهُ الإنجيلَ » فيكونُ المعْنَى : آتيناهُ الإنجيلَ ليحكُم ، ومن قرأ بِجَزْمِ اللام والميمِ على سبيلِ الأمْرِ ففيه وجهان :
أحدهما : أن يكون التقديرُ : وقُلْنا : لِيَحْكُمْ أهْلُ الإنجيلِ ، فيكونُ هذا إخباراً عمَّا فرض الله عليهم في ذلك الوقْتِ ، وحذفُ القولِ كثيرٌ كقوله تعالى : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23 - 24 ] أيْ : يَقُولُونَ سلامٌ عليْكُم .
والثاني : أن يكونَ قوله : « وَلَيَحْكُمْ » ابتَدأ الأمْرَ للنَّصارى بالحُكْمِ بما في الإنجيلِ .
فإنْ قِيل : كيف يجُوزُ أن يُؤمَرُوا بالحُكْمِ بِمَا فِي الإنجيلِ بعد نزولِ القرآنِ؟
فالجوابُ من وُجُوه :
[ الأول : ليحكم أهلُ الإنجيل بما أنزل الله فيه من الدلائل الدالة على نبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم .
الثاني : وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه مما لم يصر منسوخاً بالقرآن .
الثالث : المرادُ وليحكمْ أهلُ الإنجيلِ بما أنزل الله فيه ] زجرهم عَنْ تحريفِ ما فِي الإنجيل وتَغْييرهِ كما فعله اليهودُ مِنْ إخفاءِ أحكامِ التَّوراةِ ، والمعنى : وَلْيُقِرّ أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه على الوجْهِ الذي أنزلَهُ من غَيْرِ تحريفٍ ولا تبديلٍ ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون الخارجون عن أمر الله عز وجل .
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
وهذا خطابٌ مع النَّبِي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - والمرادُ بالكتابِ القرآن العظيم .
والباءُ [ في « بالحَقِّ » ] يجوزُ أن تكونَ لِلْحَالِ مِنَ « الكتابِ » أيْ : مُلْتَبِساً بالحقِّ والصِّدْقِ ، وهي حالٌ مؤكدة ، ويجوزُ أن تكون حالاً من الفاعلِ أيْ : مُصَاحبينَ للحقِّ ، أو حالاً من « الكافِ » في « إليْكَ » أيْ : وأنت مُلْتَبِسٌ بالحَقِّ .
و « مِنَ الكتابِ » تقدم نظيرُه ، و « ألْ » في الكتابِ الأولِ للعَهْدِ ، وهو القرآنُ بلا خلافٍ ، وفي الثاني : يحتملُ أن تكونَ للجنْسِ ، إذ المُرادُ الكُتُبُ السماويَّة [ كما تقدم ] .
وجوَّز أبُو حيان : أنْ تكُون لِلْعَهد؛ إذ المرادُ نوعٌ معلُومٌ من الكتابِ ، لا كُل ما يقعُ عليه هذا الاسمُ ، والفرقُ بَيْنَ الوجهيْنِ أنَّ الأولَ يحتاجُ إلى حَذْفِ [ صفة ] أيْ : مِنَ الكتابِ الإلهِي ، وفي الثاني لا يحتاجُ إلى ذلِكَ؛ لأن العَهْدَ فِي الاسْمِ يتضمنُه بجميعِ صِفَاتِهِ .
قوله تعالى : « وَمُهَيْمِناً » الجمهورُ على كَسْرِ الميمِ الثانيةِ ، اسمُ فاعلٍ ، وهو حالٌ من « الكتاب » الأول لعطفِهِ على الحالِ منه وهو « مُصدِّقاً » ، ويجوزُ في « مُصَدِّقاً » و « مُهَيْمِناً » أنْ يَكُونَا حاليْنِ مِنْ كافِ « إلَيْكَ » ، وسيأتي تحقيقُ ذلك عند قراءةِ مجاهد رحمه الله .
« وعليْهِ » متعلقٌ ب « مُهَيْمِن » .
و « المهيمنُ » : الرَّقيبُ قال حسَّان : [ الكامل ]
1971- إنَّ الكتابَ مُهَيْمِنٌ لِنَبِيِّنَا ... والحَقُّ يَعْرِفُهُ ذَوُو الألْبَابِ
والحافِظُ أيْضاً قال : [ الطويل ]
1972- مَلِيكٌ عَلَى عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمنٌ ... لِعزَّتِهِ تَعْنُو الوُجُوهُ وتَسْجُدُ
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - « شاهِداً » وهو قولُ مُجاهدٍ وقتادَةَ والسديِّ والكِسَائِي ، وقال عِكْرِمَةُ : دالاً ، وقال سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ ، وأبُو عُبيدَةَ : مُؤتَمناً عليه . وقاله الكسائيُّ والحسنُ .
واختلفوا : هل هو أصل بِنَفْسِهِ ، أيْ : أنه ليس مُبْدَلاً مِنْ شيءٍ ، يقالُ : « هَيْمَنَ يُهَيْمِنُ فَهُو مُهَيْمِن » ك « بَيْطَرَ يُبَيْطِرُ فهو مُبَيْطر » .
وقال أبُو عُبَيْدة : لم تَجِئْ في كلامِ العرب على هذا البِنَاءِ إلا أربعةُ ألفاظٍ : « مُبَيْطِر ، ومُسَيْطِر ، ومُهَيْمن ، ومُحَيْمِر » .
وزاد أبُو القاسِمِ الزَّجَّاجيُّ في شرحه لخُطْبَةِ « أدَبِ الكاتبِ » لفظاً خامساً ، وهو مُبَيْقِر ، اسم فاعل من : بيقَر يُبَيْقِر أيْ : خرج من أفُقٍ إلى أفُقٍ ، أو لعب البُقَّيْرى وهي لعبةٌ مَعْرُوفةٌ للصِّبْيَان .
وقيل : إنَّ هاءَهُ مُبْدلةٌ من همزة ، وأنه اسمُ فاعلٍ من آمن غيرهُ مِنَ الخوفِ ، والأصْلُ « مُأَأْمِن » بهمَزْتَيْنِ أبدلَتِ الثانيةُ ياءً كراهِيةَ اجتماعِ همزتين ، ثُمَّ أبْدِلَتِ الأولَى هاءً ك « هراق وهراح ، وهَبرتُ الثوب » في : « أراق وأراح وأبرتُ الثوبَ » و « أيهاتَ وهَيْهَات » ونحوها ، وهذا ضعيفٌ فيه تكلُّفٌ لا حاجة إليه ، مع أنَّ له أبْنِيَةً يُمْكِن إلحاقهُ بها ك « مُبَيْطِر » وإخوانه ، وأيضاً فإنَّ هَمْزَةَ « مُأَأْمِن » اسمُ فاعلٍ من « آمَنَ » قاعدتُها الحذفُ فلا يُدَّعى فيها أنها أثبتت ، ثم أبدلت هاءً ، هذا ما لا نظيرَ له .
وقد سقط ابنُ قَُتَيْبَة سقطةً فاحِشَةً حيث زعم أن « مُهَيْمِناً » مُصَغَّرٌ ، وأنَّ أصلهُ « مُؤيْمِنٌ » تصغيرُ « مُؤمِن » اسمُ فاعلٍ ، ثُم قُلبتْ همزتهُ هاءً ك « هَرَاق » ، ويُعْزَى ذلك لأبِي العبّاس المُبَرّدِ أيضاً ، إلاَّ أنَّ الزَّجَّاج قال : « وهذا حسنٌ على طريق العربية [ وهُو مُوافقٌ لِمَا جَاءَ فِي التفسيرِ مِن أنَّ معنى » مُهَيْمِن « : مُؤمِنٌ » . وهذا الذي قالَهُ الزَّجَّاجُ واسْتَحْسَنَهُ ] أنكره الناسُ عليه ، وعلى المبرِدِ ، وعلى مَنْ تَبِعَهُما .
ولما بلغ أبَا العباسِ ثَعْلَباً هذا القولُ أنكرَهُ أشدَّ إنْكَارٍ ، وأنحى على ابن قُتَيْبَة ، وكتب إليه : أن اتَّقِ الله فإن هذا كُفرٌ أوْ ما أشبههُ ، لأنَّ أسماءَ الله - تعالى - لا تُصَغَّر ، وكذلك كل اسمٍ مُعَظَّم شَرْعاً .
وقال ابنُ عطيَّة : « إنَّ النقَّاش حَكَى أنَّ ذلك لمَّا بلغ ثعلباً فقال : إنَّ ما قال ابنُ قُتَيْبَة رَدِيءٌ باطِلٌ ، والوُثُوب على القرآنِ شديدٌ ، وهو ما سَمِعَ الحديثَ مِنْ قويٍّ ولا ضعيفٍ ، وإنَّما جمع الكتُبَ من هَوَسٍ غلبه » .
وقرأ ابنُ مُحيصن ومُجاهد : « وَمُهَيْمَناً » بفتح الميمِ الثانيةِ على أنَّه اسمُ مفعولٍ .
وقال أبُو البقاءِ : وأصلُ « مُهَيْمن » : مُؤيمنٌ؛ لأنه مُشْتَقٌّ من « الأمانة » ؛ لأنَّ المهيمنَ الشاهدُ ، وليس في الكلام « هَيْمَنَ » حتى تكُون « الهاء » أصْلاً ، وهذا الذي قالهُ ليس بِشَيءٍ لما تقدَّمَ مِنْ حِكايةِ أهْلِ اللُّغَةِ « هَيْمَنَ » ، وغايةُ مَا في البابِ أنهم لم يستعمِلُوه إلاَّ مَزِيداً فيه الياءُ ك « بَيْطَر » وبابِهِ ، بمعنى أنَّه حُوفِظَ عليه من التَّبْدِيلِ والتَّغْييرِ ، والفاعلُ هو الله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] أو الحافظُ لهُ في كُلِّ بلدٍ ، حتَّى إنَّه إذا غيَّرْتَ مِنْه الحَرَكَةَ تَنَبَّهَ لها الناسُ ، ورَدُّوا على قارئها بالصوابِ .
والضميرُ في « عَلَيْه » على هذه القراءةِ عائدٌ على الكتابِ الأولِ ، وعلى القراءة المشهورةِ عائدٌ على الكتاب الثاني .
وروى ابنُ أبِي نَجيح عَنْ مُجاهدٍ قراءتَهُ بالفتحِ ، وقال : « معناه : مُحَمدٌ مؤتمنٌ على القرآنِ » .
قال الطَّبرِيُّ : فعلى هذا يكون « مُهَيْمِناً » حالاً من « الكَافِ » في « إليْك » ، وطعنَ على هذا القولِ لوجود « الواو » [ في ] « ومهيمناً » ؛ لأنها عطفٌ على « مُصدِّقاً » ، و « مُصدِّقاً » حالٌ مِنَ « الكِتاب » لا حَالٌ مِنَ « الكَافِ » ؛ إذْ لَوْ كان حالاً مِنْها لكان التركيبُ : « لِمَا بَيْنَ يَدَيْكَ » بالكَافِ .
قال أبُو حيّان : وتأويلُه على أنَّه من الالتفات من الخطاب إلى الغَيْبَةِ بعيدٌ عَنْ نظم القرآن ، وتقديرُ : « وَجَعلْنَاكَ يا مُحمَّدُ مُهَيْمِناً » أبعدُ يعني : أنَّ هذيْنِ التَّأويلَيْنِ يَصْلُحَانِ أنْ يكُونَا جَوَابَيْنِ عن قول مجاهد ، لكنَّ الأولَ بعيد ، والثَّانِي أبعدُ مِنْه .
وقال ابن عطيَّة هنا بَعْدَ أن حَكَى قراءةَ مُجاهِدٍ وتفسيرَهُ محمداً - عليه السلام - أنَّه أمينٌ على القرآنِ : قال الطبريُ وقوله : « ومُهَيْمناً » على هذا حالٌ مِنَ « الكَافِ » في قوله : « إلَيْكَ » قال : « وهذا تأويلٌ بعيدُ المفهومِ » قال : « وغلط الطبرِيُّ في هذه اللَّفْظَةِ على مُجاهدٍ ، فإنه فَسَّرَ تأويلَهُ على قراءةِ النَّاسِ » مُهَيْمناً « بِفَتْحِ الميمِ الثانيةِ ، فَبَعُدَ التأويلُ ، ومجاهدٌ رحمه الله إنَّما يَقْرأ هو وابنُ مُحَيْصِن : » مُهَيْمَناً « بِفَتْحِ الميمِ الثَّانِيَةِ فهُوَ بناءُ اسم المفعولِ ، وهو حالٌ من » الكِتَابِ « معطوفٌ على قوله : » مُصَدِّقاً « ، وعلى هذا يتجه أنَّ المؤتَمَنَ عليه هو محمد - عليه السلام - » .
قال : « وكذلك مشى مَكيّ - رحمه الله- » .
قال شهابُ الدِّين : وما قاله أبُو محمدٍ ليس فيه ما يَرُدُّ على الطَّبريِّ ، [ فإنَّ الطبري ] اسْتَشْكَلَ كَوْنَ « مُهَيْمِناً » حالاً من « الكافِ » على قراءة مجاهدٍ ، وأيضاً فقد قال ابنُ عطية بعد ذلك : ويُحْتَملُ أنْ يكونَ « مُصدِّقاً ومُهَيْمِناً » حاليْنِ مِنَ « الكافِ » في « إلَيْكَ » ، ولا يخص ذلك قراءةَ مُجاهدٍ وحده كما زعم مَكّي ، فالناسُ إنما اسْتَشْكَلُوا كَوْنَهُمَا حالين من كافِ « إليك » لِقَلَقِ التركيبِ ، وقد تقدم ما فيه وما نقله أبُو حيَّان مِنَ التَّأويلينِ .
وقوله : « ولا يخص ذلك » كلامٌ صَحِيحٌ ، وإنْ كان مكِّيٌّ التَزَمَهُ ، وهو الظَّاهِرُ .
و « عَلَيْهِ » في مَوْضِعِ رَفْعٍ على قراءةِ ابنِ مُحَيْصن ، ومجاهدٍ لقيامِهِ مُقَامَ الفاعلِ ، كذا قاله ابنُ عَطِيَّةً .
قال شهاب الدين : هذا إذا جعلنا « مُهَيْمناً » حالاً من « الكتاب » ، أمَّا إذا جعلناه حالاً من كاف « إلَيْكَ » ، فيكون القائمُ مقام الفاعلِ ضَمِيراً مُسْتَتِراً يعُود على النبي - عليه السلام - ، فيكون « عليه » أيضاً في مَحَلِّ نَصْب ، كما لو قُرِئ به اسمُ الفاعل انتهى .
فصل معنى أمانة القرآن
ومعنى أمانةِ القرآنِ ما قال ابنُ جُرَيج : القرآنُ أمين على ما قبله من الكُتُبِ ، فما أخبر أهْلُ الكتابِ عن كِتَابِهِمْ ، فإنْ كان في القرآن فصدِّقوه ، وإلاَّ فَكَذِّبُوه .
قال سعيدٌ بن المُسيَّب والضَّحاك : قَاضِياً ، وقيل : إنَّما كان القُرْآن مُهَيْمِناً على الكُتُب؛ لأنه الكِتَاب الذي لا يَصِير مَنْسُوخاً ألْبَتَّةَ ، ولا يَتَطَرَّقُ إلَيْه التَّبْديل والتَّحْريف؛ لقوله تعالى :
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] .
وإذا كان كذلك كان شهادَة القُرْآن على التَّوْرَاة والإنْجيل والزَّبُور حقٌّ وصدقٌ باقيةٌ أبداً ، [ وكانت حقيقة هذه الكُتُب مَعْلُومة أبداً ] .
ومن قَرَأ بفتح الميمِ الثَّانِية ، فالمعنى أنه مشهودٌ عليه من عِنْد الله تعالى بأنَّه يَصُونُه عن التَّحْرِيف والتَّبْدِيلِ لقوله تعالى : { لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } [ فصلت : 42 ] ، والآيات المتقدِّمة .
قوله تعالى { فاحكم بَيْنَهُم } : يا محمد { بِمَآ أَنزَلَ الله } بين أهْلِ الكتاب إذا ترافعُوا إليك بالقُرآن ، والوَحْي ينزل عليك ، { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } ، أي : ولا تتحَرِفْ ، ولذلك عدَّاه ب « عَنْ » كأنَّه قيل : ولا تنحرف عمَّا جاءك من الحقِّ مُتَّبِعاً أهواءَهم .
روي أنَّ جماعة من اليهُود قالوا : تعالوا [ نذهب ] إلى محمد لعلَّنا نَفْتِنهُ عن دينه ، ثمَّ دَخَلُوا عليه وقالوا : يا مُحَمَّد قد عَرَفْتَ أنّا أحبار اليَهُود وأشْرَافُهم ، وأنّا إن اتَّبَعْنَاك اتَّبَعَك كلُّ اليَهُود ، وإنَّ بَيْنَنَا وبين خصُومِنا حُكُومة فَنُحَاكِمهم إلَيْكَ ، فاقْضِ لنا ونحْنُ نُؤمِنُ بك فأنزل الله تعالى هذه الآية - والله أعلم - .
فصل
تمسَّك من طعن في عِصْمَة الأنْبِيَاء عليهم الصلاة والسلام بهذه الآيةِ ، وقال : لولا جواز المَعْصِيَة عليهم لما قال الله تعالى : { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الحق } .
والجوابُ : أنَّ ذلِكَ مَقْدورٌ له ، ولكِنَّهُ لا يَفْعَله لمكان النَّهْي ، وقيل : الخِطَابُ له والمُرَاد غيره .
قوله تعالى : « عَمَّا جاءَك » فيه وجهانِ :
أحدهما - وبه قال أبو البقاء - أنَّهُ حال ، أي : عَادِلاً عمَّا جَاءَك ، وهذا فيه نَظرٌ من حيث إنَّ « عَنْ » حرف جرٍّ ناقِص لا يقع خَبَراً عن الجُثَّةِ ، فكذا لا يَقَعُ حالاً عنها ، وحرف الجر النَّاقِص إنَّما يتعلَّق بكَوْنٍ مُطْلق لا بكَون مُقَيَّد ، لكن المقيَّد لا يجوز حَذْفُهُ .
الثاني : أن « عَنْ » على بابِها من المُجَاوَزَةِ ، لكن بتضمين [ « تَتَّبعْ » ] معنى « تَتَزَحْزَحْ وتَنْحَرِفْ » ، أي : لا تَنْحَرِفْ مُتَّبِعاً كما تقدم .
قوله تعالى : « مِن الحقِّ » فيه أيْضاً وجهان :
أحدهما : أنَّه حالٌ من الضَّمِير المرفُوع في « جاءَك » .
والثاني : أنَّهُ حالٌ من نفس « مَا » الموصُولة ، فيتعلّق بمحذوفٍ ، ويجُوزُ أن تكون للبيان .
قوله [ تعالى ] : « لِكُلّ » : « كُلّ » مضافة لشيء محذوفٍ ، وذلك المَحذُوف يُحتمل أن يكون لَفْظَة « أُمّة » ، أي : لكل أمة ، ويراد بِهِم : جميعُ النَّاسِ من المُسْلِمِين واليَهُود والنَّصارى .
ويحتمل أن يكُون ذلك المَحْذُوف « الأنْبِيَاء » أي : لكلِّ الأنْبِياءِ المقدَّم ذِكْرُهم .
و « جَعَلْنَا » يُحْتَمل أن تكون مُتعدِّية لاثْنَين بمعنى صَيَّرْنَا ، فيكون « لكلِّ » مفعولاً مقدَّماً ، و « شِرْعَةً » مفعول ثانٍ .
وقوله : « مِنْكم » متعلِّق بمحذُوفٍ ، أي : أعْني مِنْكم ، ولا يجُوز أن يتعلَّق بمَحْذُوف على أنَّهُ صِفَة ل « كُلٍّ » لوجهين :
أحدهما : أنَّهُ يلزم منه الفَصْلُ بين الصِّفَة والموصُوف بقوله : « جعلنا » ، وهي جُمْلة أجْنَبيَّة ليس فيها تَأكِيد ولا تَسْدِيدٌ ، وما شأنه كذلِكَ لا يجُوزُ الفَصْلُ به .
والثاني : أنه يَلْزَمُ منه الفَصْلُ بين « جَعَلْنَا » ، وبين مَعْمُولها وهو « شرعة » قاله أبو البقاء ، وفيه نظر ، فإنَّ العامِلَ في « لِكُلٍّ » غير أجْنَبِيّ ، ويدلُّ [ على ذلك ] قوله : { أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ } [ الأنعام : 14 ] ، ففصل بين الجلالة وصِفَتِها بالعامِل في المَفْعُول الأوّل ، وهذا نَظِيرُهُ .
وقرأ إبراهيم النَّخعي ، ويَحْيى بن وثَّاب : « شَرْعَةً » بفتح الشِّين ، كأن المكسور للهيئَة ، والمفْتُوح مَصْدر .
والشِّرْعَةُ في الأصْل « السُّنَّة » ، ومنه : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين } [ الشورى : 13 ] ، أي : سن [ لكم وبيَّنَ ووَضَّحَ ] .
والشَّارع : الطريق ، وهو من الشَّريعة التي هي في الأصْلِ : الطَّريق المُوصِّلُ إلى الماء ، وقال ابن السِّكِّيت : الشَّرْع مصدر شَرَعْت الإهَاب ، أي : شَقَقْتُهُ وسَلَخْتُه ، وقيل : مأخوذٌ من الشُّروع في الشَّيء : وهو الدُّخُول فيه .
ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
1973- وفِي الشَّرَائِعِ مِنْ جلاَّنَ مُقْتنِصٌ ... بَالِي الثِّيَابِ خَفِيُّ الصَّوْتِ مُنْزَرِبُ
والشَّريعة : فَعِيلة بمعنى المَفْعُولة : وهي الأشيَاءُ التي أوْجب اللَّه تعالى على المكلَّفِين أن يشرعوا فيها ، والمِنْهاجُ مشتقٌّ من الطَّريق النَّهْج وهو الوَاضِح .
ومنه قوله : [ الرجز ]
1974- مِنْ يَكُ ذَا شَكٍّ فَهَذَا فَلْجُ ... مَاءٌ رَوَاءٌ وطريقٌ نَهْجُ
أي : وَاضِح ، يقال : طَرِيق مَنْهَج ونَهْج . وقال ابن عطية : منهاج مثال مُبالغة ، يعني قولهم : « إنَُّه لَمِنْحَارٌ بَوَائكَهَا » وهو حسنٌ ، [ وهل الشِّرْعَة ] والمنهاج بمعنى كقوله : [ الطويل ]
1975- . . ... وَهِنْدٌ أتَى مِنْ دُونِهَا النَّأيُ والبُعْدُ
[ الوافر ]
1976- . . ... وَألْفَى قَوْلَهَا كَذِباً وَمَيْنا
أو مُخْتَلفَان؟
فالشِّرْعَةُ : ابتداءُ الطَّريق ، والمِنْهَاج الطَّريق المستمِرُّ ، قاله المبرِّد ، أو الشِّرْعةُ : الطَّرِيق وَاضِحاً كان أو غَيْر وَاضِح ، والمنْهَاجُ : الطريق الوَاضِحُ فقط ، فالأوَّل أعمُّ . قاله ابن الأنباري ، أو الدِّين والدَّلِيل؟ خلافٌ مشهور .
فصل في معنى الآية
قال ابنُ عبَّاس ، ومُجَاهِد ، والحسن - رضي الله عنهم - معنى قوله : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } أي : سَبِيلاً وسُنَّة ، وأراد بهذا أن الشَّرَائع مختلِفَةٌ ولكلِّ أمَّة شرِيعة .
قال قتادة : الخِطَاب للأمُمِ الثَّلاث : أمَّة مُوسَى ، وأمَّة عيسى ، وأمَّة محمد - صلوات الله وسلامُهُ عليهم - لتقدُّم ذِكرهم .
فإن قيل : قد وردتْ آياتٌ تدلُّ على عدم التَّبَايُن في طريقة الأنبياء - عليهم السلام - كقوله تعالى : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً } [ الشورى : 13 ] إلى قوله تعالى : { أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } [ الشورى : 13 ] وقال تعالى { أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده } [ الأنعام : 90 ] ، وآياتٌ دلَّت على التَّبَايُن في هذه الآية فكيف الجَمْع؟
فالجواب : أنَّ الأوَّل يَنْصَرِفُ إلى أصُول الدِّيَانَاتِ .
والثاني ينصرف إلى الفُرُوع .
واحتجَّ أكثر العُلَمَاء بهذه الآية على أنَّ شرع من قبلنا لا يلزمنا؛ لأنَّها تدلُّ على أنَّ لكلِّ رَسُولٍ شريعَةٌ خاصَّةٌ .
قوله تعالى : { وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } ، أي : جماعة مُتَّفِقَة على شريعة واحِدة ، أو ذَوِي أمة واحدة ، أو دِين واحد لا اخْتِلاَف فيه .
قال أهل السُّنَّة : وهذا يدلُّ على أن الكُلَّ بِمَشِيئَةِ الله - تعالى - ، والمعتزِلَة : حَمَلُوهُ على مَشِيئَة الإلْجَاء .
قوله تعالى : « ولَكِنْ لِيَبْلُوكُمْ » متعلِّق بِمَحْذُوف ، فقدَّرَهُ أبو البقاء : « ولكن فرَّقكم لِيَبْلُوَكُم » .
وقدَّره غيره « ولكن لم يَشْأ جَعْلكم أمَّة واحِدة » .
قال شهاب الدين : وهذا أحْسَن؛ لدلالة اللَّفْظ والمعنى عليه .
ومعنى « لِيَبْلُوكُمْ » : ليختبركم ، « فِيمَا آتَاكُم » : من الكُتُب وبيَّن لكم من الشَّرائع ، فبيّن المُطِيع من العَاصِي ، والمُوَافِق من المُخَالِف ، « فاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ » فبادروا إلى الأعْمَال الصَّالحة قوله تعالى : { إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } استئناف في معنى التَّعْليل لاستِبَاقِ الخَيْرَاتِ .
وهذه الجُملة تحتمل أن تكُون من بَابِ الجملة الفعليَّة أو الجملة الاسميَّة ، كما تقدَّم في نظائره .
و « جَمِيعاً » حال من « كُمْ » في « مَرْجِعُكُمْ » ، والعامل في هذه الحال ، إمَّا المصْدر المضاف إلى « كُمْ » ، فإنَّ « كُمْ » يحتمل أن تكون فاعِلاً ، والمصدر يَنْحَلُّ لحرف مصدريٍّ ، وفعلٍ مبنيٍّ للفاعل ، والأصْلُ : « تُرْجَعُون جَمِيعاً » ، ويحتمل أن تكون مفعُولاً لم يُسَمَّ فاعِلُه ، على أنَّ المصدر يَنْحَلُّ لفعل مَبْني للمفعول ، أي : « يُرْجِعُكُم الله » ، وقد صرَّح بالمعْنَييْن في مواضع .
وإما أن يعمل فيها الاسْتِقْرارُ المقدَّر في الجارِّ وهو « إلَيْه » [ و « إليه مَرْجِعُكُمْ » يحتمل أن يكون من باب الجُمَل الفعليَّة ، أو الجُمل الاسميَّة ، وهذا واضح بما تقدَّم في نَظَائِره ] و « فَيَنَبِّئُكم » هنا من « نَبَّأ » غير مُتَضَمِّنَة معنى « أعْلَم » ، فلذلك تعدَّتْ لواحد بِنَفْسِها ، وللآخر بحرف الجرَّ .
والمعنى : فَيُخْبِركم بما لا تَشُكُّونَ معه من الجَزَاءِ الفاصِلِ بين محقكم ومُبْطِلِكُم ، والمُراد : أنَّ الأمر سيؤول إلى ما يُزِيل الشُّكُوك .
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
قوله تعالى : { وَأَنِ احكم } : فيه أربعةُ أوجه :
أحدها : أنَّ محلَّها النَّصب عَطْفاً على « الكِتَاب » ، أي : « وأنزلنا إليكم الحكم » .
والثاني : أنَّها في محلِّ جرٍّ عَطْفاً على « بالحقِّ » ، أي : « أنزلناه بالحق وبالحكم » وعلى هذا الوجْهِ فيَجُوزُ في محلِّ « أنْ » النَّصْب والجرّ على الخلافِ المَشْهُور .
والثالث : أنَّها في محلِّ رفع على الابتداء ، وفي تقدير خَبَرهِ احتمالان :
أحدهما : أن تقدِّره مُتَأخِّراً ، أي : حكمك بما أنْزَل اللَّه أمْرُنا أو قولنا .
والآخر : أن تقدِّره متقدِّماً أي : ومِن الواجِبِ أن احكُم أي : حُكْمُك .
والرابع : أنَّهَا تَفْسِيريَّة .
قال أبُو البقاء : « وهو بعيدٌ؛ لأنَّ » الواو « تَمْنَع من ذلك ، والمعنى يفسد ذلِك؛ لأنَّ » أن « التَّفْسِيريَّة يَنْبَغِي أن يَسْبِقَها قولٌ يُفسَّر بِهَا » ، أما ما ذَكَرَهُ من مَنْع « الواو » أن تكُون « أنْ » تَفسيريَّة فَوَاضِحٌ .
وأمَّا قوله : « يَسْبِقُها قوْل » إصلاحُهُ أن يقول : « مَا هُو بمعنى القَوْل لا حُرُوفه » ، ثم قال : ويمكن تَصْحِيحُ هذا القول بأن يكون التَّقدير : وأمَرْنَاك ، ثم فسَّر هذا الأمْر ب « احْكُمْ » ، ومنع الشَّيْخ من تصحيح هذا القَوْل بما ذكرهُ أبو البقاء ، قال : لأنَّه لم يُحْفَظ من لِسَانهم حذف الجُمْلَة المُفسَّرَة ب « أن » وما بعدها ، وهو كما قال . وقراءتَا ضمِّ نُونِ « أن » وكَسْرِهَا واضحتَان ممَّا تقدَّم في البَقَرَة : الضمَّة للإتبَاع ، والكَسْر على أصْل التِقَاء السَّاكِنَيْن .
والضَّمِير في « بَيْنَهُم » : إمَّا لليهُود خَاصَّة ، وإمَّا لِجَمِيع المُتَحَاكِمين .
فإن قيل : قالوا : هذه الآية نَاسِخَةٌ للتَّخْيِير في قوله : { فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ } [ المائدة : 42 ] ، وأعَادَ ذِكْر الأمْر بالحُكْمِ بعد ذِكْرِه أوَّلاً : إما للتَّأكيد ، وإمَّا لأنَّهما حُكْمَان أمَر بهما جَمِيعاً؛ لأنَّهمُ احْتَكموا إليه في زِنَا المُحْصَن ، ثُمَّ احْتَكَمُوا إليه في قتلٍ كائنٍ فيهِم .
قوله تعالى : { واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ الله إِلَيْكَ } قال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - : يردُّوكَ إلى أهْوائِهِم .
وقد ذكرنا أنَّ اليهُود اجْتَمَعُوا وأرادُوا إيقاعَهُ في تَحْرِيفِ دينهِ فعصمَهُ اللَّه عن ذلك ، فإن كلَّ من صُرِفَ من الحقِّ إلى الباطِلِ فقد فُتِن ، ومنه قولُهُ تعالى : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ } [ الإسراء : 73 ] والفِتْنَةُ هاهنا : المَيْلُ عن الحقِّ والإلْقَاء في الباطِل ، وكان - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - يقول : « أعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا » ، قال : هو أن يَعْدِلَ عن الطَّرِيق .
قال العُلَمَاءُ - رضي الله عنهم - : هذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الخَطَأ والنِّسْيَان جائِزٌ على الرُّسُل؛ لأن الله قال : { واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ الله إِلَيْكَ } ، والتَّعَمُّد في مثل هذا غير جائز على الرُّسل فلم يَبْقَ إلا الخَطَأ والنسيان .
قوله تعالى : « أن يفْتِنُوكَ » فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ مفعول من أجلِهِ ، أي : احْذَرْهُمْ مخافةَ أن يَفْتِنُوك .
والثاني : أنَّها بدل من المفعُول على جهة الاشْتِمَال ، كأنَّه [ قال ] : واحذرهُم فِتْنَتَهُمْ ، كقولك : « أعجَبني زَيْدٌ عِلْمُه » .
وقوله تعالى : « فإن تَوَلَّوْا » .
قال ابنُ عطيَّة : قبله محذُوفٌ يَدُلُّ عليه الظَّاهِر ، تقديره : « لا تَتَّبعْ واحْذَر ، فإن حكَّمُوك مع ذَلِك ، واسْتقامُوا لك فَنِعمَّا ذلك وإن تولَّوا فاعْلَمْ » .
ويحسُنُ أن يقدَّر هذا المحذُوف المعادل بعد قوله : « لَفَاسِقُون » ، والذي يَنْبَغِي ألاَّ يُقَال : في هذا النَّوْع ثَمَّ حذف؛ لأنَّ ذلك من بَابِ فَحْوَى الخِطَابِ ، والأمْر فيه واضِحٌ .
فصل
المعنى : « فإن تَولَّوْا » : أعرضوا عن الإيمَان ولَمْ يَقْبَلُوا حُكْمَكَ ، { فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم } أي : فاعْلَم أن إعْراضهم من أجْلِ أن يُرِيد الله أن يعجِّل لهم العُقُوبَة في الدُّنْيَا ، بأن يُسَلِّط عَلَيْهِم ويُعذِّبَهُم في الدُّنْيَا [ بالقَتْلِ والجَلاَء ] ، وخصَّ تعالى بَعْضَ الذُّنُوب؛ لأنَّ القَتْل جُوزُوا به في الدُّنْيَا بِبَعْضِ ذُنُوبهم ، وكانت مُجَازَاتهم بالبعض كَافِياً في إهلاكهم ، { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس } ، يعني : اليَهُود . « لفاسقون » لمتمردّون في الكُفْرِ ومُعْتَدُون فيه .
قوله تعالى : « أفَحُكْمَ » : الجمهور على ضمِّ الحاء ، وسُكُون الكَافِ ونَصْبِ الميم ، وهي قِرَاءَة واضِحَةٌ .
و « حُكْمَ » مَفْعُول مقدَّم ، و « يَبْغُون » فعل وفاعل ، وهو المْستفْهَم عَنْه في المَعْنَى .
و « الفاء » فيها القَوْلان المشهوران : هل هي مُؤخَّرة عن الهَمْزة وأصلُهَا التَّقدِيم ، أو قَبْلَها جملة عَطَفَتْ ما بعدها عليها تقديره : أيعدِلُون عن حُكْمِكَ فَيَبْغُونَ حُكْمَ الجاهليَّة؟
وقرأ ابن وثَّاب ، والأعْرج ، وأبو رجَاء ، وأبو عبد الرَّحمن برفع الميمِ ، وفيها وجهان :
أظهرهما - وهو المَشْهُور عند المُعربين - : أنه مُبْتَدأ ، و « يَبْغُون » خبره ، وعائِدُ المبتدأ محذُوفٌ تقديرُه : « يَبْغُونَهُ » حَمْلاً للخبر على الصِّلَة ، إلا أنَّ بعضهُم جَعَلَ هذه القِرَاءة خَطَأ ، حتى قال أبُو بكر بن مُجَاهِد : « هذه القراءةُ خَطَأ » ، وغيره يَجْعَلُهَا ضَعِيفَة ، ولا تَبْلُغ دَرَجَةَ الخَطَأ .
قال ابن جنِّي في قول ابن مُجاهد : لَيْس كذلك ، ولكنَّه وَجْهٌ غَيْرُه أقْوى منه ، وقد جَاءَ في الشِّعْر ، قال أبو النَّجْم : [ الرجز ]
1977- قَدْ أصْبَحَتْ أمُّ الخِيَارِ تَدَّعِي ... عَلَيَّ ذَنْباً كُلُّهُ لَمْ أصْنَعِ
أي : لم أصْنَعْهُ .
قال ابن عطيَّة : وهكذا الرِّواية ، وبها يَتِمُّ المَعْنى الصَّحِيح؛ لأنَّه أراد التبَرُّؤ من جَمِيع الذُّنُوبِ ، ولو نَصب « كُل » لكان ظَاهِر قوله أنَّه صنع بَعْضَه ، وهذا الذي ذكره ابن عطيَّة معنى صَحيح نصَّ عليه أهل علم المعاني والبيان ، واستَشْهَدُوا على ذلك بقوله - عليه السلام - « حين سأله ذُو اليَديْن ، فقال : » أقصرت الصَّلاةُ أمْ نَسِيتَ؟ فقال : « كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ »
أراد - عليه السلام - انتفاء كلِّ فردٍ فردٍ ، وأفَادَ هذا المَعْنَى تقديم « كُلّ » ، قالوا : ولو قال : « لَمْ يَكُن كُلُّ ذَلِك » لاحتمل الكلام أنَّ البعض غير مَنْفِي ، وهذه المَسْألَةُ تُسَمَّى عموم السَّلْب ، وعكسها نحو : « لَمْ أصْنَع كلَّ ذلك » يُسمَّى سَلْبَ العُمُوم ، وهذه مسألة مُفِيدَةٌ ، وإن كان بَعْضُ النَّاسِ قد فَهِم عن سيبويه غير ما [ ذكرت لك ] .
ثُمَّ قال ابن عطيَّة : وهو قَبِيحٌ - يعني : حذف العَائِد من الخَبَرِ - وإنَّما يُحْذَف الضَّمِير كثيراً من الصِّلَةِ ، ويحذف أقَلّ مِنْ ذلك من الصِّفَة ، وحذْفُه من الخبر قَبِيحٌ .
ولكنَّه رجَّح البَيْتَ على هذه القِرَاءةِ بِوَجْهَيْنِ .
أحدهما : أنَّه ليس في صَدْرِ قوله [ ألِف ] استفهام تَطْلُب الفعل ، كما هي في « أفَحُكْمَ » .
والثاني : أن في البيت عِوَضاً من « الهَاء » المحذُوفَة ، وهو حَرْف الإطلاَق أعني « اليَاء » في « اصنَعِي » ، فتضعف قِرَاءة من قَرَأ « أفحكمُ الجاهلِيَّة يَبْغُونَ » ، وهذا الَّذي ذكره ابن عطيَّة في الوجهِ الثَّانِي كلام لا يُعْبَأ به .
وأمَّا الأوَّل فَقَرِيبٌ من الصَّواب ، لكنه لم يَنْهَضْ في المنع ولا في التَّقْبِيح ، وإنَّمَا يَنْهَضُ دليلاً على الأحْسَنِيّةِ ، أو على أنّ غَيْرَه [ أوْلى ] .
وهذه المسألَةُ ذكر بعضُهُم الخِلاف فيها بالنِّسْبَة إلى نَوْع ، ونفي الخِلاف عنها ، بل حكي الإجْمَاع على الجوازِ بالنِّسْبَة إلى نوع آخر ، فحكي الإجْمَاع فيما إذا كان المُبْتَدأ لفظ « كل » ، أو ما أشبَهَهَا في العُمُوم والافْتِقَار ، فأمَّا « كُل » فنحو : « كلُّ رَجُلٍ ضَرَبْت » ، ويقوِّيه قراءة ابن عَامِر : « وكُلٌّ وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى » [ النساء : 95 ] ويريد بما أشْبَه « كُلاًّ » نحو : « رَجُلٌ يَقُولُ الحَقَّ انْصُرْ » ، أي : انْصُرْهُ ، فإنه عامٌّ يفتَقِرُ إلى صِفَة ، كما أنَّ « كلاً » عامة ، وتَفْتَقِرُ إلى مُضَافٍ إلَيْه .
قال : « وإذا لم يكن المُبْتَدأ كذلك ، فالكُوفِيُّون يَمْنَعُون حذْفَ العَائِد ، بل يَنْصُبُون المتقدِّم مَفْعُولاً به ، والبصريُّون يُجِيزُون : » زَيْدٌ ضَرَبْتُ « أي : ضربْتُهُ » ، وذكر القراءة .
وتعالى بعضهم فقال : « لا يجُوزُ ذلك » ، وأطلق ، إلا في ضرورةِ شِعْر كقوله : [ السَّريع ]
1978- وخَالِدٌ يَحْمَدُ سَادَاتُنَا ... بِالحَقِّ ، لا يُحْمَدُ بِالبَاطِلِ
قال : « لأنَّهُ يُؤدِّي إلى تَهْيِئَةِ العامل لِلْعَمَل ، وقطعه عَنْهُ » .
والوجه الثاني من التوجيهين المتقدِّمَيْن : أن يكون « يَبْغُون » ليس خبراً لِلْمُبْتَدأ ، بل هو صِفَةُ لموصُوفٍ محذُوفٍ ، وذلك المحذوفُ هو الخَبَرُ ، والتَّقْدير : « أفحكم الجاهلية حُكمٌ يَبْغُون » ، وحذفُ العَائِد هنا أكثر ، لأنه كما تقدَّم يكثر حذفُه من الصِّلة ، ودونَهُ من الصِّفَةِ ، ودونَهُ من الخَبَرِ ، وهذا ما اخْتَارَهُ ابن عطيَّة ، وهو تَخْرِيجٌ مُمْكن ، ونظَّرَهُ بقوله تعالى :
{ مِّنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ } [ النساء : 46 ] ، أي : « قومٌ يُحَرِّفُون » يعني : في حذف موصوف ، وإقامة صِفَته مُقَامه وإلا فالمَحْذُوف في الآية المُنَظَّرِ بها مُبْتَدأ ، ونظَّرها أيْضاً بقوله : [ الطويل ]
1979- وَمَا الدَّهْرُ إلاَّ تَارتَانِ : فَمِنْهُمَا ... أمُوتُ وأخْرى أبْتَغِي العَيشَ أكْدَحُ
أي : تارةً أمُوت فيها .
وقال الزَّمَخْشَرِي : وإسقاطُ الرَّاجع عنه كإسْقاطِهِ في الصِّلة ، كقوله : { أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً } [ الفرقان : 41 ] ، وعن الصِّفَةِ « في النَّاس رجلان : [ رجُلٌ ] أهنْتُ ، ورجُلٌ أكرمت » أي : رجل أهَنْتُهُ ورجل أكرمْتُه .
وعن الحال في نحو : « مررتُ بِهِنْد يَضْرِبُ زَيْدٌ » .
قال أبو حيَّان : « إنْ عنى التَّشْبيه في الحَذْفِ والحُسْن ، فليس كذلك لما تقدَّم [ ذكره ] ، وإن عنى في مُطْلَقِ الحَذف فَمُسَلَّم » .
وقرأ الأعمش وقتادة : « أفَحَكَمَ » بفتح الحَاء والكاف ، ونصب الميم ، وهو مفردٌ يُرَادُ به الجِنْس؛ لأنَّ المعنى : أحُكَّامَ الجاهليَّة ، ولا بدَّ من حذفِ مُضافٍ في هذه القراءة ، هو المصرَّح به في المُتواتِرة تقديره : أفَحْكْمَ حُكَّامِ الجاهليَّة .
والقُرَّاءُ غير ابن عَامِرٍ على « يَبْغُونَ » بياء الغَيْبَةِ نَسَقاً على ما تقدَّم من الأسْمَاء الغَائِبَة ، وقرأ هو بِتَاءِ الخِطَاب على الالتِفَاتِ؛ ليَكُون أبلغ في زَجْرِهِمْ وردْعِهِمْ ومُبَاكتتهِ لهم ، حيث واجهَهُم بهذا الاستفهام الذي يأنَفُ منه ذَوُو البَصَائِر .
والمعنى أنَّ هذا الحُكْم الذي يَبْغُونَه إنَّما يحكم به حُكَّام الجاهليَّة .
فصل
وفي الآية وجهان :
الأول : قال مُقَاتِل : « كان بَيْنَ قُرَيْظَة والنَّضِير دَمٌ في الجاهليَّة ، فلما بُعِثَ النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - واحتكَمُوا إليه ، فقال بَنُوا قُرَيْظَة [ يا رسُول الله إن ] بني النَّضِير إخْوَانُنَا ، أبُونا واحِدٌ وكِتَابُنَا واحِدٌ ونبيُّنا واحد ، فإن قتل بنُو النَّضِير منَّا قَتِيلاً ، أعطونا سَبْعِين وَسقاً من تَمْرٍ ، وإنَّا إن قتلْنَا وَاحِداً أخَذُوا منَّا مائة وأربعين وسقاً ، وأرُوش جِرَاحَاتِنَا على النِّصْف من أرُوش جراحاتِهِم ، فاقضِ بَيْنَنا وبَيْنَهُم ، فقال - عليه السلام - : » وإنِّي أحْكُم [ أنَّ دِمَاء القرظي ] وفاءٌ من دم النَّضَري ، والنَّضَري وفاءٌ من دمِ القُرظِي ، ليْسَ لأحدهمَا فَضْل على الآخر في دم ولا عَقْلٍ ولا جراحةٍ « فَغَضِبَ بنُو النَّضِير وقالُوا : لا نرضى بِحُكْمِكَ فإنَّك عَدُوٌّ لَنَا ، فَأنْزَل اللَّه تعالى هذه الآية .
وقيل : إنَّهُمْ كانوا إذا وَجَبَ الحكمُ على ضُعَفَائِهِم ألْزَمُوهُم إيَّاه ، وإذَا وجبَ على أقْوِيَائِهِم لم يَأخُذُوهُم به فَمَنعهم اللَّه من ذلِكَ بهذه الآية .
والثاني : أنَّهُم يَبْغُون حُكْمَ الجاهليَّة ، الَّتِي هي محضُ الجهل وصريح الهوى .
ثم قال تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } ، فقوله - سبحانه وتعالى - : » حُكْماً « نصب على التَّمْييزِ ، و » اللاَّم « في قوله تعالى : » لِقَوْم « فيها ثلاثةُ أوجُه :
أحدها : أن يتعلّق بنفس » حُكْماً « ؛ إذ المعنى : أنَّ حكم الله للمؤمن على الكَافِر .
والثاني : أنَّها للبيان فتتعلَّق بمحْذُوف ، كَهِي في « سقياً لَكَ » و « هَيْتَ لَكَ » ، وهو رأي الزَّمَخْشَرِي ، وابنُ عطيَّة قال شيئاً قَرِيباً منه ، وهو أنَّ المعنى : « يُبَيِّنُ ذلِكَ ويُظْهِره لِقَوْم » .
الثالث : أنَّها بمعنى « عِنْد » ، أي : عند [ قَوْمٍ ] ، وهذا لَيْسَ بِشَيْء . ومتعلَّقُ « يُوقِنُون » يجُوزُ أن يُرادَ ، وتقديرُه : يُوقِنُونَ باللَّهِ وبحُكْمهِ ، أو بالقُرْآن ، ويجُوزُ ألاَّ يُرَاد على مَعْنَى [ وقُوع الإيقان ] ، وإليه مَيْلُ الزَّجَّاج ، فإنَّهُ قال : « يُوقِنُون » : « يَتَبَيَّنُون عدل اللَّهِ في حُكْمِهِ » فإنَّهم [ هم الذين ] يَعْرِفُون أنَّه لا أحَد أعْدَل من اللَّهِ حُكْماً ، ولا أحْسَن مِنْهُ بَيَاناً .
فصل
قال القرطُبِيّ : روى سُفْيَان بن عُيَيْنَة ، عن ابن أبِي نُجَيْح ، عن طَاوُوس قال : كان إذا سألُوه عن الرَّجُل يُفَضِّل بعض ولده على بَعْضِ يَقْرأ هذه الآية { أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ } ، فكان طاووس يقول : لَيْس لأحدٍ أنْ يُفَضِّل بَعْضَ ولدِه على بعضٍ ، فإن فعل لا ينفذُ ويفسخ ، وبه قال أهْلُ الظَّاهِرِ ، وهو مَرْوِيٌّ عن أحْمد بن حَنْبَل - رضي الله عنه - ، وكرهه الثَّوْري ، وابن المُبَارَك وإسْحَاق فإن فَعلَ ذلك أحد نُفِّذَ ولم يُرَدّ ، وأجاز ذلك مَالِك والثَّوْرِي ، وابن المُبَارَك وإسْحَاق فإن فَعلَ ذلك أحد نُفِّذَ ولم يُرَدّ ، وأجاز ذلك مَالِك والثَّوْرِي واللَّيْث والشَّافِعِي وأصحاب الرَّأي ، واستَدَلُّوا بِفِعْلِ الصِّدِّيق - رضي الله عنه - في نَخْلَةِ عائِشَةٍ دون سائر ولدِه ، واستدَلَّ الأوَّلُون بقوله - عليه الصلاة والسلام - لبَشِير : [ « ألَكَ ولد سِوَى هذا » ؟ قال : نعم ، فقال « أكُلّهم وهَبْتَ لهُ مِثْلَ هذا » ، فقال : لا ، قال ] « فلا تُشهدْني إذَنْ فإنِّي لا أشْهَدُ على جَوْرٍ » ، وفي رِوَاية « إنِّي لا أشْهَدُ إلاَّ على حَقٍّ » .
قالُوا : ومَا كان جَوْراً وغير حقٍّ فهو بَاطِل لا يجُوز ، وقوله : « أشْهِدْ على هذا غَيْرِي » ليس إذْناً في الشَّهَادَة ، وإنَّما هُوَ زَجْرٌ عَنْهَا؛ لأنَّه - عليه السلام - قد سمَّاها [ جَوْراً ] وامتنع من الشَّهَادَة فيه ، فلا يُمْكِن أن يَشْهَد أحَدٌ من المُسْلِمين ، وأمَّا فعل أبِي بَكْرٍ - رضي الله عنه - فلا يُعَارضُ به قول النَّبي - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ولعلَّه كان [ قد ] نحل أولادهُ كُلَّهم مثل ذلك .
فإن قيل : الأصْلُ تصرُّف الإنْسَان في مَالِهِ مُطْلَقاً ، قيل له : الأصل الكُلِّي والواقِعَة المُعَيَّنَةُ المُخَالِفَة لذلك الأصل لا تعارض بَيْنَهُمَا كالعُمُوم والخُصُوصِ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
اختلفوا في نُزُول هذه الآية ، وإن كان حُكمُهَا عامًّا لجميع المؤمنين ، فقال قومٌ : نزلت في عبادة بن الصَّامتِ - رضي الله عنه - ، وعبد الله بن أبي ابن سلُول - لعنهُ الله - ، وذلك أنَّهما اخْتَصَما ، « فقال عُبَادة : إن لي أوْلِيَاء من اليَهُود كثير عَدَدَهُم شديدةٌ شوْكَتُهُم ، وإنِّي أبرأ إلى الله - تعالى - وإلى رسُوله من ولايتهِم وولايَة اليَهُود ، ولا مولى لي إلا الله - عزَّ وجلَّ - ورسوله . فقال عبدُ الله - لعنه الله - : لكنِّي لا أبرأ مِنْ ولايَة اليَهُود لأنِّي أخاف الدَّوَائر ولا بُدَّ لِي مِنْهُم فقال النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - : يا أبا الحُبَاب ما نفذت من ولاية اليَهُود على عُبَادة بن الصَّامِت فهو لك دُونه قال : إذْن أقْبَل » فأنزل اللَّه - تعالى - هذه الآية .
وقال السُّدِّيُّ : لمَّا كانت وقعة [ أُحُد ] اشتدَّتْ على طائِفَةٍ من النَّاس ، وتَخوَّفُوا أن يُدَال عليهم الكُفَّار ، فقال [ رَجُلٌ ] من المُسْلِمين : أنَا ألْحَقُ بِفلانٍ اليهُودِيّ ، وآخذ منه أماناً إنِّي أخافُ أن يُدالَ علينا اليَهُود .
وقال رجُل آخَر : أما أنا فألْحَقُ بفُلانٍ النَّصْرَانِيِّ من أهْلِ الشَّام ، وآخُذ منه أمَاناً ، فأنْزَل الله هذه الآية نَهْياً لَهُمَا .
وقال عكرمة : نزلت في أبِي لُبَابة بن عبد المُنْذِر بَعَثَهُ النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - إلى بني قُرَيْظَة حين حَاصَرَهُم ، فاسْتَشَارُوه في النُّزول ، وقالوا : ماذا يَصْنَعُ بنا إذا نَزَلْنَا فجعل إصْبَعَهُ على حَلْقِه أنَّه الذَّبح ، أي : يَقْتُلكُمْ ، فنَزَلَتْ هذه الآية؛ ومعنى لا تتَّخِذُوهُمْ أي : لا تَعْتَمِدُوا على اسْتِنْصَارِهِم ، ولا تتودَّدُوا إلَيْهِم .
قوله : { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } مُبْتَدأ وَخَبَر ، وهذه الجُمْلَة لا مَحَلَّ لها؛ لأنها مُسْتَأنفة ، سيقَتْ تعليلاً للنَّهْي المتقدِّم .
وزعم الحوفيّ أنها في محلِّ نصب نعتاً ل « أَولياء » ، والأوَّل هو الظّاهر ، والضَّمير في « بَعْضِهِم » يعود على اليهُود والنَّصارى على سَبِيل الإجْمَالِ ، والقرينة تبين أن بعض اليهود أولياء بعض ، وأن بعض النصارى أولياء بعض [ وبهذا التقرير لا يحتاج كما زعم بعضهم إلى تقدير محذوف يصح به المعنى ، وهو : بعض اليهود أولياء بعض ، وبعض النصارى أولياء بعض ] .
قال : لأن اليهود لا يتَوَلَّوْنَ النصارى ، والنصارى لا يتولَّوْن اليهود ، وقد تقدم جوابه .
قوله تعالى : { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ } فيوافقُهُم ويُعينُهم ، « فإنَّهُ مِنْهُم » قال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - : يعني كانوا مِثْلَهُم فهذا تَغْلِيظٌ من الله وتشديدٌ في [ وجوب ] مجانبة المُخالِفِ في الدِّين ، ونَظِيره قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي } [ البقرة : 249 ] ، وهذه الآية تدلُّ على مَنْع إثْبَات المِيرَاث للمُسْلِم من المرتَدِّ .
ثم قال تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } رُوِي عن أبي مُوسى الأشْعَري - رضي الله عنه - أنَّه قال : قُلْتُ لعمر بن الخَطّاب - رضي الله عنه - إن [ لي كاتباً ] نَصْرانياً .
قال : مَا لَكَ قاتلَك اللَّه؟ ألا اتَّخْذَت حَنِيفاً ، أما سَمِعْت قول الله - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } .
قلت : لَهُ دينُهُ ولي كِتَابتُه قال : لا أكرمُهم إذ أهَانَهُم الله ، ولا أعزُّهُم إذ أذَلَّهُم ، ولا أدْنِيهِمْ إذ أبْعدَهَمُ الله .
قلت : لا يَتِمُّ النُّصْرة إلاَّ به ، فقال : مَاتَ النَّصْرَانِيُّ والسَّلام ، يعني : هَبْ أنَّهُ مات فَمَا تَصْنَعَ بَعْدَهُ ، فما تعمله بعد موْتِهِ فاعْمَلْهُ الآنَ ، واستعن عنهُ بِغيْرِه .
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
قوله تعالى : { فَتَرَى الذين } : الجمهورُ على « تَرَى » بتاء الخطاب ، و « الذين » مفعُول ، فإن كانت الرُّؤيَة بَصَرِيَّةً أو عرفانية - فيما نقله أبُو البقاء وفيه نظر - فتكون الجُمْلَة من « يُسَارِعُون » في محلِّ نصبٍ على الحال من الموصُول ، وإن كانت قَلْبِيَّةً ، فيكون « يُسَارِعُون » مفعولاً ثانياً .
وقرأ النَّخْعِي ، وابن وثَّاب « فَيَرَى » باليَاء وفيها تَأويلان :
أظهرهما : أنَّ الفاعِل ضمير يَعُود على الله تعالى ، وقيل : على الرَّأي من حيث هُو : و « يُسَارِعون » بحالتها .
والثاني : أن الفاعل نفس الموصُول ، والمفعول هو الجملة من قوله : « يسارعون » ، وذلك على تأويل حذْفِ « أنْ » المصدريَّة ، والتقدير : ويرى القوم الذين في قُلُوبهم مَرَضٌ أن يُسَارِعُوا ، فلما حُذِفَتْ : « أنْ » رُفِعَ الفِعْلُ؛ كقوله : [ الطويل ]
1980- ألاَ أيُّهَذَا الزَّاجِرِي أحْضُرُ الوَغَى .. . .
فصل
أجاز ابْنُ عطيَّة حذف « أن » المصدريّة ، إلا أنَّ هذا غير مَقِيسٍ؛ إذ لا تُحْذَفُ « أن » عند البصريين إلا في مواضع مُحفُوظة .
وقرأ قتادةُ والأعْمش : « يُسْرِعُونَ » من أسْرَعَ . و « يَقُولُون » في محل نَصْب [ على الحالِ من فاعل « يُسَارِعُون » ، و « نَخْشَى » في محل نَصْبٍ بالقَوْل ، و « أنْ تُصِيبنَا » في محلِّ نَصْبٍ ] بالمفعُول أي : « نَخْشَى إصابَتَنَا » ، والدَّائرة صفة غَالِبة لا يذكر موصُوفها ، والأصل : دَاوِرَة؛ لأنَّها من دار يَدُور .
قال الواحدي : الدَّائرة من دَوَائِر الزَّمن ، كالدَّولة والدَّوَائِل تَدُولُ قال الشاعر : [ الرجز ]
1981- يَرُدُّ عَنْكَ القَدَرَ المَقْدُورَا ... أوْ دَائِرَاتِ الدَّهْرِ أنْ تَدُورَا
يعني بدور الدَّهر : هو الدَّائِرة من قَوْم إلى قَوْم .
فصل
المُرَاد بقوله تعالى { الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } هم المُنَافِقُون يعني : عبد الله بن أبَيّ وأصحابه - لعنهم الله - « يُسَارِعُون [ فيهم » أي : في ] مودَّة اليَهُود ونَصَارى نَجْران؛ لأنَّهم كانوا أهل ثرْوَة ، وكانوا يُعِينُونَهُم على مُهِمَّاتِهِم ، ويُقْرِضُونَهُم .
ويقول المَنَافِقُون : إنَّما نُخَالِطُهم لأنّا نَخْشَى أن تُصِيبنَا دَائِرَةٌ قال ابن عباس - رضي الله عنهما - والزَّجَّاج : أي : نَخْشَى ألا يَتِمَّ الأمْرُ - لمحمَّد - عليه الصلاة والسلام - ، فيدُور الأمْر كما كان قبل ذلك . وقيل : نَخْشَى أن يدُور الدَّهْر علينا بِمَكْرُوه من جَدْب أو قَحْط ، فلا يُعْطُون المِيَرة والقَرْض .
قوله : { فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح } ، « أن يَأتِي » في محلِّ نَصْبٍ إمَّا [ على ] الخبر ل « عسى » ، وهو رأي الأخْفَش ، وإمَّا على أنَّهُ مَفْعُول به ، وهو رأيُ سيبوَيْه لئلاَّ يلزم الإخْبَار عن الجُثَّةِ بالحدَثِ في قولك : « عَسَى زَيْدٌ أن يَقُوم » .
وأجاز أبو البقاء أن يكون « أنْ يأتِي » في محلِّ رفعٍ على البَدَلِ من اسْمِ « عسى » ، وفيه نظر .
فصل
قال المُفَسِّرُون - رحمهم الله - : عسى من اللَّه واجِب؛ لأنَّ الكَرِيم إذا طَمِعَ في خَيْر فعله ، وهو بِمَنْزِلَةِ الوَعْدِ؛ لتعلُّق النَّفْسِ به ورَجَائِها له ، قال قتادةُ ومُقَاتِل : فَعَسَى اللَّه أن يَأتِي بالقَضَاء الفَصْل من نَصْر مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم - على من خَالَفَهُ .
وقال الكَلْبِي والسُّدِّيُّ : فتح « مَكَّةَ » ، وقال الضَّحَّاك : فتح قُرَى اليَهُود مثل خَيْبَر وفدك .
{ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ } .
قال السُّدِّي : هي الجِزْيَة ، وقال الحَسَن : إظْهَار أمر المُنَافِقِين والأحبار بأسْمَائهم والأمر بِقَتْلِهِم ، وقيل : الخَصْبُ والسَّعَة للمُسْلِمِين ، وقيل : إتْمَام أمْر محمَّد - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، وقيل : { هذا عذابٌ أليم } .
وقيل : إجْلاء بَنِي النَّضِير ، « فَيُصْبِحُوا » أي : هؤلاء المُنَافِقِين { على مَآ أَسَرُّواْ في أَنْفُسِهِمْ } مِنْ مُوالاة اليَهُود ودسِّ الأخْبَار إليْهم « نَادِمِين » وذلك لأنهم كانوا يشكُّون في أمْرِ رسُول اللَّه - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، ويقولون : الظَّاهِر أنَّهم لا يتمُّ لهم أمْر ، وأن الدولة والغلبَة تصير لأعْدَائه .
قوله تعالى : « فَيُصْبِحُوا » فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّه منصوب عَطْفاً على « يأتي » المَنْصُوب ب « أنْ » ، والذي يُسَوِّغُ ذلك وُجُود « الفَاء » السَّبَبِيَّة ، ولولاَهَا لم يَجُزْ ذلك؛ لأن المعطُوف على الخبر خبر ، و « أنْ يَأتِي » خبر « عَسَى » ، وفيه راجعٌ عائِدٌ على اسْمِهَا .
وقوله : « فَيُصْبِحُوا » ليس فيه ضَمِيرٌ يَعُود على اسْمِهَا ، فكان من حَقِّ المسألة الامْتِنَاع ، لكن « الفَاء » للسسببِيَّة ، فجعلت الجُمْلَتَيْن كالجملة الواحِدة ، وذلك جَارٍ في الصِّلة نحو : « الذي يطير فيَغْضَبُ زَيْدٌ الذُّبابُ » .
والصِّفة نحو : « مررت بِرَجُلٍ يَبْكِي فَيَضْحَكُ عَمْرو » ، والخبر نحو : « زيدٌ يبكي فيضحَكُ خالد » ، ولو كان العَاطِفُ غير « الفَاء » لم يجُزْ ذلك .
والثاني : أنه منْصُوب بإضْمَار « أنْ » بعد الفَاءِ في جواب التَّمَنِّي قالوا : « لأن » عَسَى « تَمَنٍّ وتَرَجٍّ في حَقّ البَشَر » .
{ على مَآ أَسَرُّواْ } متعلِّق ب « نَادِمِين » ، و « نَادِمِين » خَبر « أصْبَح » .
قوله تعالى : « ويَقُولُ » : قرأ أبُو عمرو ، والكُوفِيُّون بالواو قَبْلَ « يَقُول » والباقُون بإسْقَاطِها ، إلا أنَّ أبا عمرو نَصَب الفِعْلَ بعد « الوَاوِ » ، وروى عنه عَلِيُّ بن نَصْر : الرَّفع كالكُوفِيِّين ، فتحصَّلَ فيه ثلاث قراءات : « يَقُولُ » من غير واو [ « ويقول » بالواوِ والنَّصْب ، ] « ويقول ] بالواو والرَّفع ، فأمَّا قِرَاءة من قرأ » يَقُول « من غير واوٍ فهي جُمْلَة مُسْتأنَفَةٌ سِيقَتْ جواباً لِسُؤالٍ مُقَدَّر ، كأنه لمَّا تقدَّم قوله تعالى : { فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح } إلى قوله » نَادِمِين « ، سأل سَائِلٌ فقال : ماذا قال المُؤمِنُون حِينَئِذْ؟ فأجيب بِقَوْله تعالى : { وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ } إلى آخره ، وهو واضح ، و » الواو « سَاقِطَةٌ في مصاحِفِ » مَكَّةَ « و » المدينَةِ « و » الشَّام « ، والقارئُ بذلك هو صاحِبُ هذه المصاحِف ، فإن القَارِئين بذلك ابن كَثِير المَكِّي ، وابنُ عَامِر الشَّاميُّ ، ونافع المدنِي ، فقراءتُهُمْ موافقة لَمصَاحِفِهم [ وليس في هذا أنهم إنما قرأوا كذلك لأجل المصحف فقط ، بل وافقت روايتهم مصاحفهم ] على ما تَبيَّن غير مَرَّة ، وأما قِرَاءة » الواو « والرَّفع فواضحةٌ أيْضاً؛ لأنَّها جملة ابْتُدِئَ بالإخْبَارِ بِهَا ، فالواو اسْتِئنَافِيَّة لمجرَّدِ عَطْفِ جُمْلة على جُمْلة ، و » الواو « ثابِتَةٌ في مصاحِفَ » الكُوفَة « و » المشرق « ، والقارئُ بذلك هو صَاحِبُ ذلك المُصْحف ، والكلام كما تقدَّم أيضاً .
قال الواحدي - رحمه الله - : وحَذْف « الواو » هاهنا كإثباتها ، وذلك أنَّ في الجُمْلَة المعطُوفَة ذكراً من المَعْطُوف عليْهَا ، فإن الموصُوفيه بِقَوْله تعالى « يُسَارِعُونَ فِيهِمْ » ، هم الَّذِين قال فيهم المُؤمِنُون : { أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله } ، فلما حَصَل في كل وَاحِدَة من الجُمْلَتَيْن ذكر من الأخْرَى حسن العَطْفُ بالواوِ وبِغَيْرِ الواو ، ونَظِيرُه قوله تعالى : { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] لما كان في كلِّ واحدةٍ من الجُمْلَتيْن ذِكْر ما تقدَّم ، عنى ذلك أن حَذْفَ الواوِ وذكرهَا جائِزٌ .
وأمَّا قِرَاءة أبي عَمْرو فهي الَّتِي تَحْتَاج إلى فَضْل نظر .
واخْتَلَفُوا في ذلك على ثلاثةِ أوجُه :
أحدُهَا : أنه منصُوب عَطْفاً على « فَيُصْبِحُوا » على أحد الوَجْهَيْن المذكُوريْن في نَصْب « فَيُصْبِحُوا » ، وهو الوجهُ الثَّاني ، أعْني : كَوْنَهُ مَنْصُوباً بإضْمَار في جواب التَّرَجِّي بعد « الفَاء » ، إجراءً للتَّرَجِّي مُجْرَى التَّمَنِّي ، وفيه خلافٌ بين البَصْرِيِّين والكوفيِّين ، فالبَصريُّون يَمْنَعُونَهُ ، والكوفِيُّون يجيزُونَهُ مستدِلِّين على ذلك بقراءة نَافِع { لَعَلَّهُ يزكى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذكرى } [ عبس : 3 : 4 ] بِنَصبِ « تَنْفَعَهُ » وبقراءة عَاصِم في رواية حَفْصٍ : { لعلي أَبْلُغُ الأسباب أَسْبَابَ السماوات فَأَطَّلِعَ } [ غافر : 36 ، 37 ] بنصب « فأطَّلِع » ، وسيأتي الجوابُ عن الآيتين في مَوْضِعِه .
وهذا الوجه - أعني : عَطْفَ « ويقُول » على « فَيُصْبِحوا » - قاله الفَارِسيُّ وجماعة ، ونقله ابن عطيَّة ، وذكره أبو عَمْرو بن الحَاجِب .
قال شهاب الدِّين أبُو شَامة بعد ذِكْرِه الوجهَ المُتقدِّم : « وهذا وجه جَيِّد أفادنيهِ الشَّيْخ أبو عَمْرو بن الحَاجِب ، ولم أره لِغَيْره ، وذكروا وُجُوهاً كلها بعيدة مُتعسِّفة » انتهى .
قال شهاب الدِّين : وهذا - كما رأيت - مَنْقُول مَشْهُود عن أبي عَلِيّ الفارسيِّ ، وأمَّا ما استجاد به هذا الوجْهَ فإنما يتَمشَّى على قَوْل الكُوفيِّين ، وهو مرْجوحٌ كا تقرَّر في علم النَّحْو .
الثاني : أنه منصُوب عَطْفاً على المصدر قبْله ، وهو الفَتْح كأنَّه قيل : { فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح } ، وبأن يقول ، أي : { وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ } ، وهذا الوجْه ذكره أبُو جعفر النَّحَّاس ، ونَظَّرُوه بقوْل الشاعر : [ الوافر ]
1982- للبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقَرَّ عَيْنِي ... أحَبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ
وقول الآخر : [ الطويل ]
1983- لَقَدْ كَانَ في حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتُهُ ... تَقَضِّي لُبانَاتٍ وَيَسْأمَ سَائِمُ
وهذا مردودٌ من ثلاثةِ أوْجُه :
أحدها : أنه يُؤدِّي ذلك إلى الفَصْل بين أبْعَاض الصِّلةِ بأجْنَبِيٍّ ، وذلك لأنَّ الفَتْحَ على قول مَؤوَّل ب « أن » والفعل تقديره : أن يَأتِي بأن يفتح ، وبأنْ يقول ، فيقعُ الفصلُ بقوله « فَيُصبِحُوا » وهو أجنبي؛ لأنَّه مَعْطُوف على « يأتي » .
الثاني : أن هذا المصْدر - وهو الفَتْح - ليس يُرادُ به انحلاله لحرفٍ مصدري وفعل ، بل المراد به مَصْدَر غير مُرادٍ به ذلك ، نحو : يُعْجِبُنِي ذكاؤك وعِلْمُك .
الثالث : أنه وإن سُلِّمَ انحِلاله لحرف مَصْدري وفعل ، فلا يكون المعنى على : « فعسى اللَّه أن يأتي بأنْ يقولَ الذين آمنوا » ، فإنه نابٍ عنه نُبُوّاً ظاهراً .
الثالث - من أوجُه نَصْب « ويقول » - : أنه منصوبٌ عَطْفاً على قوله : « يَأتي » أي : فَعَسَى اللَّه أن يأتي بأنْ يقولَ ، وإلى هذا ذهب الزَّمَخْشَرِي ، ولم يَعْتَرِض عليْه بِشَيْء .
وقد رُدَّ ذلك بأنَّهُ يلزَمُ عَطفُ ما لا يجُوزُ أن يكُون خبراً على ما هُوَ خَبَر ، وذلك أن قوله : « أن يأتي » خبر « عَسَى » وهو صحيحٌ؛ لأن فيه رابطاً عائِداً على اسم « عَسَى » [ وهو ضمير الباري تعالى ، وقوله : « ويقول » ليس فيه ضمير يعود على اسم « عسى » ] فكيف يَصِحُّ جعلُهُ خبراً؟ وقد اعتذر من أجاز ذَلِك عنه بثلاَثَةِ أوْجُه :
أحدها : أنه من بَابِ العَطْف على المَعْنَى ، والمعنى : فَعَسى أنْ يأتي الله بالفَتْح ، وبقولِ الذين آمَنُوا ، فتكون « عَسَى » تامَّة؛ لإسنادها إلى « أنْ » وما في حَيِّزهَا ، فلا تحتاجُ حينئذٍ إلى رابطٍ ، وهذا قرِيبٌ من قولهم : « العطْفُ على التَّوهُّم » نحو : { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين } [ المنافقون : 10 ] .
الثاني : أنَّ « أنْ يَأتِيَ » بَدَلٌ من اسْمِ الله - تعالى - لا خبر ، وتكون « عَسَى » حينئذٍ تامَّة ، وكأنه قِيل : فعسَى أن يَقُول الذين آمَنُوا ، وهذان الوَجْهَان مَنقُولان عن أبِي عَلِيٍّ الفارسيّ ، إلا أنَّ الثَّاني لا يَصحُّ؛ لأنهم نَصُّوا على أن « عَسَى » و « اخْلَوْلَق » و « أوْشَكَ » من بين سَائِر أخَوَاتِهَا يجُوزُ أن تَكُون تامّةً ، بشرط أن يكُون مَرْفُوعُها : « أنْ يَفعل » ، قالوا : ليُوجَدَ في الصُّورة مُسْندٌ ومُسْنَدٌ إليه ، كما قالوا ذَلِكَ في « ظَنّ » وأخواتها : إنَّ « أنْ » و « أنَّ » تسدُّ مَسدَّ مَفْعُوليها .
والثالث : أن ثَمَّ ضميراً مَحْذُوفاً هو مُصَحِّحٌ لوُقُوع « وَيَقُول » خبراً عن « عَسَى » ، والتقدير : ويقول الذين آمَنُوا به ، أي : بِاللَّه ، ثم حذف للعلْم به ، ذكر ذلك أبو البقاء .
وقال ابن عطيَّة بعد حكايته نَصْبَ « ويقُولَ » عَطْفاً على « يَأتيَ » : « وعندي في مَنْع » عسى الله أنْ يقُول المُؤمِنُون « نظرٌ؛ إذ اللَّه - تعالى - يُصَيِّرهم يقولون ذلك بِنَصْرهِ وإظْهَارِ دينه » .
قال شهاب الدِّين : قول ابن عطيَّة في ذلك ، قول أبِي البَقَاء في كونه قدَّره ضَمِيراً عائداً على اسم « عَسَى » يَصِحُّ به الرَّبط ، ويعضُ النَّاس يكثرُ هذه الأوْجُه ، ويُوصِلُهَا إلى سَبْعَة وأكثر ، وذلك باعْتِبَار تَصْحيح كُلِّ وَجْه من الأوَّجُه الثلاثة التي تقدَّمت ، ولكن لا يَخْرج حاصلها عن ثلاثة ، وهو النَّصْب : إما عطفاً على « أنْ يَأتِي » ، وإما على « فَيُصْبِحُوا » ، وإمَّا على « بالفَتْح » وقد تقدم تَحقِيقُهَا .
قوله - تعالى - : { جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } في انتصَابِه وجهان :
أظهرهما : أنَّه مصدر مؤكدٌ ناصبُهُ « أقْسَمُوا » فهو مِنْ مَعْناه ، والمعنى : أقْسَمُوا إقسامَ اجتهادٍ في اليَمِين .
والثاني : - أجازه أبو البقاء وغيره - أنه منصُوب على الحَالِ كَقَوْلهم : « افعل ذلك جَهْدَك » أي : مُجْتَهِداً ، ولا يُبَالي بِتَعْرِيفه لَفْظاً ، فإنه مُؤوَّل بِنَكِرة على ما تقدَّم ذكره ، والمعنى هُنَا : « وأقسموا بالله مجتهدين في أيمانهم » .
قوله تعالى : « إنَّهُم لمَعَكُمْ » هذه الجُمْلَة لا مَحَلَّ لها من الإعراب ، فإنها تَفْسِيرٌ وحكاية لِمَعْنَى القَسَم لا لألْفَاظِهِم؛ إذ لو كانَت حِكَاية لألْفَاظِهِم لَقِيلَ : إنَّا مَعَكُم ، وفيه نَظَرٌ؛ إذ يجُوز لك أن تقول : « حَلَفَ زيد لأفْعَلَن » أو « ليفْعَلَنَّ » ، فكما جَازَ أنْ تقول : ليفعلن جاز أن يقال : « إنَّهُمْ لَمَعكُم » على الحِكَاية .
فإن قيل : الفائدة في أنَّ المؤمنين يقولون هذا القول : هو أنَّهم يتعجَّبُون من حال المُنَافِقِين ، عندما أظهروا المَيْل إلى مُوالاة اليَهُود والنَّصَارى ، وقالوا : إنَّهم كانوا يُقسِمُون باللَّه جَهْدَ أيْمانهم أنَّهُم مَعَنَا ومن أنْصَارنا ، والآن كيف صاروا مُوالِين لأعْدَائِنَا مُحِبِّين للاختلاط بهم والاعتضاد بهم؟
قوله تعالى : { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } فيها أوجه :
حدها : أنَّها جملة مُسْتَأنَفَة ، والمقصُود بِهَا الإخْبَار من البَارِي - تعالى - بذلك .
الثاني : أنها دُعَاءٌ عليهم بذلك ، وهو قولُ الله - تعالى - نحو : { قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ } [ عبس : 17 ] .
الثالث : أنها في محلِّ نَصْبٍ؛ لأنَّها من جملة قوْلِ المُؤمنين ، ويحتمل معنييْن كالمَعْنَيَيْن في الاسْتِئْنَاف ، أعني : كونَهُ إخْبَاراً أو دُعَاءً .
الرابع : أنَّها في محلِّ رفع على أنَّها خبر المُبْتدأ ، وهو « هؤلاء » ، وعلى هذا فيحتمل قوله « الَّذين أقْسَمُوا » وَجْهَيْن :
أحدهما : أنَّه صفة لاسْم الإشارة ، والخبر : « حَبِطَتْ أعْمَالُهُمْ » .
والثاني : أن « الَّذِين » خَبَر أوَّل ، و « حَبِطَتْ » خبر ثانٍ عند من يُجِيزُ ذلك ، وجعل الزمخْشَرِيّ « حَبِطَت أعمَالهم » مفهمة للتَّعجُّب .
قال : وفيه معنى التَّعجُّب كأنَّه قيل : « ما أحَبَطَ أعْمَالَهُم ما أخْسَرَهُمْ » ، وأجاز مع كونه تعجُّباً أن يكون من قولِ المؤمنين ، فيكون في محلِّ نَصْب ، وان يكون من قَوْلِ الباري - تعالى - لكنَّه أوَّل التَّعَجُّبَ في حقِّ الله - تعالى - بأنه تَعْجِيبٌ ، قال : « أوْ مِنْ قول الله - عز وجلَّ - شهادة لهم بِحُبُوطِ الأعْمَال ، وتعْجِيباً من سُوءِ حالِهِمْ » والمعنى : ذهب ما أظْهَرُوه من الإيمان ، وبطل كُلُّ خَيْرٍ عَمِلُوه؛ لأجل أنَّهم الآن أظْهرَوا مُوالاة اليَهُود والنَّصَارى فأصْبَحوا خَاسِرِين في الدُّنْيَا والآخرة ، [ أمَّا في الدُّنْيا فلذهَاب ما عَمِلُوا ولم يَحْصُل لهم شيء من ثَمَرتِهِ ، وأمَّا في الآخرة ] فلاسْتِحْقَاقِهم اللَّعْن والعذاب الدائم ، وقرأ أبُو واقد والجرَّاح « حَبَطت » بفتح « الباء » ، وهما لُغَتَان ، وقد تقدَّم ذلك .
وقوله تعالى : « فأصْبَحُوا » وجه التسبب في هذه الفاء ظاهر .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
قوله : « مَنْ يَرْتَدَّ » « مَنْ » شرطيَّة فقط لِظُهُور أثَرِها .
وقوله تعالى : « فَسَوْفَ » جوابها وهي مُبْتَدأة ، وفي خَبَرِها الخِلافُ المَشْهُور وبظاهره يتمسَّكُ مَنْ لا يَشْتَرِطُ عَوْدَ الضَّمِير على اسْمِ الشَّرْط من جُمْلَة الجواب ، ومن الْتَزَم ذلك قدَّر ضَمِيراً مَحْذُوفاً تقديره : « فسوْفَ يأتي الله بِقَوْم غَيْرهم » ، ف « هُمْ » في « غَيْرهم » يعُود على « مَنْ » على مَعْناها .
وقرأ ابنُ عامرٍ ، ونافع : « يَرْتَدِد » بداليْن .
قال الزَّمَخْشَري : « وهي في الإمَام - يعني رسم المُصْحَفِ - كذلك » ، ولم يتبين ذلك ، ونَقَل غَيْرُهُ أنَّ كل قَارِئ وافَق مُصْحَفَه ، فإنَّها في مَصَاحِف « الشَّام » و « المدينة » : « يَرْتَدِدْ » بدالين ، وفي البَاقِية : « يَرْتَدَّ » ، وقد تقدَّم أنَّ الإدغام لغة « تمِيم » ، والإظهَار لغة « الحِجاز » ، وأن وجه الإظْهَار سكون الثَّانِي جَزْماً أو وَقْفاً ، ولا يُدْغَمُ إلا في مُتَحَرِّك ، وأنَّ وجه الإدْغَام تحْرِيك هذا السَّاكن في بَعْضِ الأحْوَال نحو : رُدَّا ، ورُدُّوا ، ورُدِّي ، ولم يَرُدَّا ، ولم يَرُدُّوا ، واردُدِ القوم ، ثم حُمِل « لم يَرُدَّ » ، و « رُدَّ » على ذلك ، فَكَأنَّ التَميميّين اعتبروا هذه الحركة العارضة ، والحِجازيِّين لم يَعْتَبِرُوها .
و « مِنْكُم » في محلِّ نصب على الحال من فاعل « يَرْتَدّ » ، و « عَنْ دينهِ » متعلِّق ب « يَرْتدَّ » .
قوله : « يحبُّهم » في محلِّ جر؛ لأنها صفةٌ ل « قَوْم » ، و « يُحِبُّونه » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه معطوف على ما قَبْلَهُ ، فيكُون في محلِّ جرِّ أيضاً ، فوصفهم بِصفتين : وصفهم بكونه تعالى يُحِبُّهم ، وبكوْنِهِم يُحِبُّونَه .
والثاني : أجازه أبُو البقاءِ أن يكُون في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من الضَّمِير المنصُوب في « يُحِبُّهم » ، قال : تقديره : « وهُمْ يُحِبُّونَهُ » .
قال شهاب الدِّين : وإنما قدَّر أبُو البقاءِ لفظة « هُمْ » ليخرج بذلك من إشْكال ، وهو أنَّ المُضارع المُثْبَت متى وَقَعَ حالاً ، وجبَ تجرُّدُه من « الواو » نحو : « قُمْتُ أضْحَكُ » ولا يجوز : « وأضْحَكُ » وإن وَرَدَ شيءٌ أوِّلَ بما ذَكَرَهُ أبُو البقاء ، كقولهم : « قُمْتُ وأصُكُّ عَيْنَه » .
وقوله : [ المتقارب ]
1984- . . ... نَجَوْتُ وَأرْهَنُهُمْ مَالِكَا
أي : وأنَا أصُكُّ ، وأنا أرهَنُهم ، فتؤوَّل الجملة إلى جُمْلة اسميَّة ، فيصحُّ اقترانها بالواو ، ولكن لا ضَرُورةَ في الآيَة الكريمَة تدعو إلى ذلك حتَّى يُرْتَكَب ، فهو قولٌ مَرْجُوحٌ .
وقدمت محبَّة الله - تعالى - على مَحبتهم لشرفِها وسَبْقِهَا؛ إذ مَحَبَّتُهُ - تعالى - لهم عِبَارة عن إلْهامهم فِعْلَ الطَّاعةِ ، وإثابته إيَّاهُم عليها .
فصل
روى الزَّمخشري : أنَّه كان أهْلُ الرِّدَّة إحدى عشرة فرقة في عهد رَسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم - بنو مدُلج [ ورئِيسُهم ] وهو « عَيْهَلة بن كعب » لقبه « ذُو الخِمَار » وهو الأسْوَد العَنْسي وكان كاهِناً - ادّعى النُّبُوّة باليمن ، واستولى [ على بلادِها ] وأخرج عُمَّال رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - مثل مُعَاذِ بن جَبَل وساداتِ اليمن ، فأهلكه الله على يد « فَيْرُوز الدَّيْلَمِي » ، فقتله وأخبر رسُول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم- ] من الغد ، وأتَى خَبَرُه في آخِر رَبِيع الأوَّل ، وبنو حنيفَة : قوم « مُسَيْلِمَة الكَذَّاب » ادَّعى النُّبُوَّة ، وكتب إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - : « من مسيلمة رسُول الله إلى محمَّد رسول الله ، أما بعد : فإن الأرْض نصفُهَا لك ونِصْفُها لِي » ، فأجاب - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - من محمَّد إلى مُسَيْلمة الكذَّاب أما بعد : { إِنَّ الأرض للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } [ الأعراف : 128 ] فحارَبَهُ أبو بكر - رضي الله عنه - بجُنُود المُسْلِمين رضي الله عنهم - وقُتل على يَدِ وَحْشِيٍّ قاتل حَمْزة وقال : قَتَلْتُ خير النَّاسِ في الجاهليَّة ، وشرَّ النَّاسِ في الإسلام أراد في جاهليَّته وفي إسلامه .
وبنو أسَد : قوم طُلَيْحة بن خُوَيْلِد ادّعى النُّبوة ، فبعَثَ رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - خالداً فانْهَزَم بعد القِتَال إلى الشَّام ، ثمَّ أسْلَم ، وحَسُن إسلامه في عَهْد أبِي بكر - رضي الله عنه- ، وفِزَارة : قوم عُيَيْنَة بن حِصْن ، وغَطَفَان : قوم قُرَّة بن سلمة القُشَيْري ، وبنو سَلِيم : قوم فُجاءَة بن عبد يَالِيل ، وبنو يَرْبُوع : قوم مَالِك بن نُوَيْرة ، وبعض بني تَمِيم : قوم سجاح بِنْت المُنْذِر التي ادَّعت النُّبُوَّة ، وزوجت نفسها من مُسَيْلمة الكَذَّاب ، وكِنْدة : قوم الأشعَث بن قَيْس ، وبنو بكر بن وَائِل ب « البحرين » ، وقوم الحَطْم ابن زَيْد ، وكُفِيَ أمْرُهم على يد أبِي بكر - رضي الله عنه - وفرقةَ واحدةُ على عهد عُمَر - رضي الله عنه - غسان قوم جبلة بن الأيْهَمِ ، وذلِك أنَّ جبلة أسلم على يد عُمَر رضي الله عنه كان يَطُوفُ ذاتَ يومٍ جارًّا رداءَهُ ، فوطئ رَجُلٌ طرَفَ رِدائِه فغَضِبَ فَلَطَمُه ، فتظلَّم إلى عمر - رضي الله عنه - ، فقضى بالقِصَاص عليه ، فقال : أنّا أشْتَرِيها بألْفٍ ، فأبي الرَّجُل ، فلم يَزَل يزيد في الفِدَاءِ حتى بلغ عَشْرَة آلاَف فأبى الرجل إلا القِصَاص ، فاسْتَنْظَره [ عُمر ] فأنْظَرَهُ فَهَرَب إلى الرُّوم وارتد .
ومعنى الآية : يا أيُّها الذين آمنُوا من يتول منكم الكُفَّار ، فَيَرْتَدَّ عن دينه ، فليعلم : أنَّ الله تعالى يأتي بِقَوْم آخَرِين يتدينوا بهذا الدِّين على أبْلَغ الوُجُوه .
وقال الحسن : عَلِمَ اللَّهُ أنَّ قوماً يَرْجِعُون عن الإسْلام بعدَ مَوْت نَبِيِّهِم ، فأخْبَرَهُم بأنه سَيَأتِي الله بِقَوْم يُحِبُّهُم ويُحِبُّونَهُ . وعلى هذا التقدير : تكون هذه الآيَةُ إخْباراً عن الغَيْبِ ، وقد وقع المخبر على وِفْقِه ، فيكون مُعْجِزاً .
واخْتَلَفُوا في القَوْم مَنْ هُم؟
فقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة والضَّحَّاك وابن جُرَيْج : أبو بكر وأصحابه - رضي الله عنهم - الَّذين قاتلوا أهْلَ الرِّدَّة ، قالت عائشة - رضي الله عنها - مات رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، وارتدَّ من العرب قوم [ واشْتَهَر ] النِّفَاق ، ونزل بِأبي ما لوْ نزل بالجبال الرَّاسِيَات لهاضها ، وذلك بأن النَّبِيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - لما قبض ارتدَّ عامَّة العرب إلا أهْل مَكَّة والمدِينَة . والبَحْرين من عَبْد القَيْس ، ومنع بعضهم الزَّكاة ، وهمَّ أبُو بَكْر بقتالهم ، فكره ذلك أصْحَاب رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - .
وقال عمر - رضي الله عنه - : كيف نُقَاتِلُ النَّاس ، وقد قال رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - : « أمرت أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولوا : لا إله إلا الله محمُّد رسولُ الله ، فمن قَالَهَا فقدْ عَصَم مِنَّي ماله ونَفْسَهُ ، إلا بحقِّه ، وحِسَابُهُ على اللَّه » فقال أبُو بكر - رضي الله تعالى عنه - : « واللَّهِ لأقَاتِلنَّ من فرق بين الصَّلاة والزَّكاة ، فإن الزَّكاة حقُّ المَال ، واللَّه لَوْ مَنَعُونِي عنَاقاً كانُوا يُؤدُّونَها إلى رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، لقاتَلْتُهُم على مَنْعِها » .
قال أنس - رضي الله عنه - : كَرِهَت الصَّحابة - رضي الله عنهم - قتال مانِعِي الزَّكاة ، وقالوا أهْل القِبْلة ، فتقلَّد أبُو بكر سَيْفَهُ ، وخرج وحده ، فلم يَجِدُوا بُدًّا من الخروج على أثره .
قال ابن مسعود : كَرِهْنَا ذلك في الابتدَاء ، ثم حَمِدْناهُ عليه في الانتهاء ، قال أبو بكر ابن عيَّاش : سمعت أبا حُصَيْن يقول : ما وُلِدَ بَعْد النَّبِيِّين مَوْلُود أفْضَل من أبِي بَكْر - رضي الله عنه - ، لقد قام مَقَامَ نَبَيٍّ من الأنْبِيَاء في قتال أهْلِ الرِّدَّة .
وقال السُّديُّ : نزلت الآية في الأنْصَار؛ لأنَّهُم الذين نَصَرُوا الرَّسُول وأعانُوه على إظْهَار الدِّين .
وقال مُجَاهِد : نزلتْ في أهل « اليَمَن » .
وقال الكلبي : هُمْ أحْيَاء من اليمن ، ألْفان من النَّخْع ، وخمسة آلافٍ من كِنْدة وبجيلة ، وثلاثة آلاف من أفناء النَّاس ، فجَاهَدُوا في سَبِيل الله يوم القَادِسيَّة في أيَّام عُمر - رضي الله عنه - ، وروي مَرْفوعاً أن النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - « لما نزلَتْ هذه الآية ، أشار إلى أبِي مُوسَى الأشْعَرِيّ وقال : » هُمْ قَوْمُ هَذَا « ، وقال آخَرُون : هم الفُرْسُ؛ لأنه رُوِي أنَّ النَّبِيَّ - صلًّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - لمّا سُئِلَ عن هذه الآية ضَرَبَ يَدَهُ على عَاتِق سَلْمَان الفارسيِّ وقال : هذا وَذَوُوُه ، ثمَّ قال : لو كان الدِّين معلَّقاً بالثُّرَيَّا لنالَهُ رِجَالٌ من أبْنَاء فَارِس » .
وقال قوم :
إنَّهَا نزلت في عَلِيٍّ - رضي الله عنه -؛ لأنَّه - عليه الصلاة والسلام - « لما دفع الراية إلى عَلِيّ قال : لأدْفَعَنَّ الرَّاية إلى رَجُلٍ يحبُّ الله ورسُوله » .
قوله تعالى : { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } .
هاتان أيضاً صِفَتَان ل « قَوْم » ، واستدلَّ بعضُهم على جواز تَقْدِيم الصِّفَة غير الصَّريحة على الصِّفَة الصَّريحة بهذه الآية ، فإن قوله تعالى : « يُحِبُّهم » صِفةٌ وهي غير صَرِيحةٌ؛ لأنَّها جملة مؤوَّلة بمفْرَد ، وقوله : « أذلّة - أعزّة » صِفتَان صريحَتَان؛ لأنَّهُمَا مفردتان ، وأما غيره من النَّحْوِيِّين فيقول : متى اجْتَمَعَت صِفَةٌ صَرِيحة ، وأخرى مؤوَّلة وَجَبَ تقدِيم الصَّريحة ، إلاَّ في ضرورة شِعْرٍ ، كقول امْرِئ القيس : [ الطويل ]
1985- وَفَرْعٍ يُغَشِّي الْمَتْنَ أسْوَدَ فَاحِم ... أثيثٍ كقِنْوِ النَّخْلَةِ المُتَعَثْكِلِ
فقدَّم قوله : « يُغَشِّي » - وهو جملة - على « أسْوَد » وما بعده ، وهُنَّ مفردات ، وعِند هذا القَائِل أنه يُبْدَأ بالمُفْرَد ، ثم بالظَّرْف أو عديله ، ثم بالجُمْلة ، وعلى ذلك جاء قوله تعالى : { وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ } [ غافر : 28 ] { وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } [ الأنعام : 155 ] .
قال أبو حيَّان : وفيها دليل على بطلان من يَعْتَقِد وجوب تَقْديم الوصْفِ بالاسْمِ على الوَصْف بالفِعْل إلا في ضَرُورَة ، ثُمَّ ذكر الآية الآخرى .
قال شهاب الدين : وليْسَ في هاتين الآيتين الكَرِيمتين ما يَرُدُّ قول هذا القَائِل ، أمَّا هذه الآية فيحتمل أن يكون قوله تعالى : « يُحِبُّهُم ويُحِبُّونَه » جملة اعتراض ، لأنَّ فيها تأكيداً وتَشدِيداً للكلام .
وجملة الاعْتِرَاض تقع بين الصِّفة ومَوْصُوفها ، كقوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [ الواقعة : 76 ] ف « عَظِيم » صفة ل « قَسَم » ، وقد فصل بينهما بقوله : « لَوْ تَعْلَمُون » ، فكذلك فصل هنا بين « بِقَوْم » ، وبين صفتهم وهي « أذِلَّة - أعِزَّة » بقوله : « يُحِبُّهم ويُحِبُّونه » ، فعلى هذا لا يكون لها مَحَلٌّ من الإعراب .
وأمَّا { وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } [ الأنعام : 155 ] فلا نسلّم أن « مباركٌ » صفة ، ويجوز أن يكون [ خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو مُبارك ] ولو استدلَّ على ذلك بآيتين غير هاتَيْن لكان أقْوى ، وهما قوله تعالى : { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ } [ الأنبياء : 2 ] ، { وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرحمن مُحْدَثٍ } [ الشعراء : 5 ] فقدَّم الوصف بالجار على الوَصْفِ بالصَّرِيح ، وكذا يحتمل أن يُقَال : لا نسلِّم أن « مِنْ رَبِّهم » و « مِنَ الرَّحْمن » صفتان لجواز أن يكونا حاليْنِ مُقدَّمين من الضَّمِير المسْتَتِر في « مُحْدَث » أي : مُحَدث إنزالهُ حال كَوْنه من رَبِّهِم .
و « أذلَّة » جمع ذَلِيل بمعنى متعطّف؛ ولا يُرَادُ به الذليل الذي هو ضعيف خَاضِعٌ مُهَان : ولا يجوز أن يكُون جمع « ذَلُول » ؛ لأن ذَلُولاً يجمع على « ذُلُل » لا على أذِلَّة ، وإن كان كلام بَعْضِهِم يوهِمُ ذلك .
قال الزَّمَخْشَرِي : ومن زَعَم أنَّه من « الذُّل » الذي هو نَقِيضُ الصُّعُوبة ، فقد غَبِيَ عن أن « ذَلُولاً » لا يُجْمَع على « أذِلَّة » .
و « أذلَّة » و « أعِزَّة » جمعان ل « ذلل » و « عَزِيز » وهما مِثَالا مُبَالَغَة ، وعدَّى « أذلّة » ب « على » وإن كان أصْلُه أن يتعدّى باللاَّم لما ضُمِّن من معنى الحُنُوِّ والعطف ، والمعنى : عَاطِفين [ على المؤمنين ] على وجه التَّذَلُّل والتَّواضُع ، ويجُوزُ أن يكون المعنى أنَّهُم مع شَرَفِهم وعلو طَبَقَتِهِم وفَضْلِهِم على المُؤمنين خافِضُون لهم أجنحتهم؛ كقوله تعالى : { أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] ذكر هَذَيْن الوَجْهَيْن الزَّمخْشَري .
قال أبو حيَّان : قيل : « أو لأنَّه على حَذْفِ مضافٍ ، التَّقدير : على فَضْلِهِم على المُؤمِنِين ، والمعنى : أنَّهُمْ يَذِلُّون ، ويَخْضَعُون لمن فُضِّل عَلَيْه مع شَرَفِهِم وعلو مَكَانتهم » .
وذكر آيَة الفَتْح ، وهذا هو قَوْلُ الزَّمَخْشَرِي بعينه ، إلا أن قوله : « عَلى حَذْفِ مُضَافٍ » يوهم حَذْفه ، وإقامَةِ المُضَاف إليه مَقَامَه ، وهنا حَذفَ « عَلَى » الأولى ، وحذف المُضَاف إليه ، والمُضَاف معاً .
قال شهابُ الدِّين : ولا أدْرِي ما حَمَلَهُ على ذلك؟ ووقع الوصف في جانب المَحبَّة بالجُمْلَة الفِعْلِيَّة ، لأنَّ الفِعْل يَدُلُّ على التَّجَدد والحُدُوثِ وهو مُنَاسِب ، فإن مَحَبَّتَهُمْ لله - تعالى - تَجَدُّدُ طاعَاتِه وعبادَتِه كُلَّ وقت ، ومحبَّةُ اللَّه إياهم تجد ثوابه وإنْعامه عليهم كُلَّ وَقْت ، ووقع الوَصْفُ في جَانِبِ التَّواضُع للمُؤمنين والغِلْظَةِ على الكَافِرين بالاسْمِ الدَّال على المُبَالَغة ، دلالة على ثُبُوتِ ذَلِك واسْتِقْرَاره ، وأنه عَزِيزٌ فِيهِم ، والاسْم يدلُّ على الثُّبُوت والاسْتِقْرار ، وقدم الوصْفَ بالمحبَّة مِنْهم المتعلّق بالمؤمنين على وَصْفِهم المتعلِّق بالكَافرين؛ لأنه آكَدُ وألْزَمُ منه ، ولِشَرفِ المُؤمِن أيْضاً ، والجُمْهُور على جَرِّ « أذلَّةٍ » - « أعِزَّةٍ » على الوصف كما تقدَّم .
قال الزَّمَخْشري : « وقُرِئ » أذِلَّةً وأعِزَّةً « بالنَّصْب على الحَالِ » .
قلت : الذي قرأ « أذلَّةً » ، هو عبد الله بن مَسْعُود - رضي الله عنه - ، إلا أنَّه قرأ بَدَل « أعِزَّة » : « غُلظَاءَ على الكَافِرِين » وهو تفسيرٌ ، وهي حال من « قَوْم » ، وجازَ ذلك ، وإنْ كان « قَوْم » نَكِرة لقُرْبِهِ من المَعْرِفة؛ إذ قد تُخَصَّصُ بالوَصْف .
فصل
معنى « أذِلَّة » أي : أرقَّاء رحماء ، كقوله تعالى : { واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة } [ الإسراء : 24 ] من قولهم دابَّه ذَلُولٌ ، أي : تَنْقَادُ سَهْلةً ، وليْسَ من الذُّل في شَيْءٍ { أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } يُعَادُنهم ويُغَالِبُونهم ، من قولهم : عَزَّه إذا غَلَبَه .
قال عطاء : { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين } كالولد لِوَالده والعَبْد لسَيِّدِه : أعزَّة على الكَافِرِين كالسَّبُع على فَرِيسَتِه .
قوله تعالى : « يُجَاهِدُون » يحتمل ثلاثة أوْجُه :
أحدها : أن يكُون صِفَةً أخرى ل « قوم » ، ولذلك جاء بِغَيْر واو ، كما جاءت الصِّفَتان قَبْلَهُ بِغَيْرها .
الثاني : أنه في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من الضَّمِير المُسْتَكِنِّ في « أعِزَّة » ، أي : يَعُزُّون مُجَاهِدِين .
قال أبُو البقاء : وعلى هذا فيجُوز أن تكون مِنَ الضَّمير في « أذلَّة » ، أي : يَتَواضَعُون للمُؤمنين حال كَوْنِهِم مُجاهدين ، أي : لا يَمْنَعُهم الجِهَادُ في سَبيلِ اللَّه من التَّواضُع للمُؤمِنِين ، وحاليَّتُهَا من ضمير « أعِزَّة » أظْهَرُ من حاليَّتها ممَّا ذكرت ، وذلك لَمْ يَسُغْ أن يَجْعَل المسْألة من التَّنازُع .
الثالث : أن يكون مُسْتَأنفاً ، سِيقَ للإخْبار بأنّهم يُجَاهِدُون في نُصْرَةِ دينِ اللَّه تعالى .
قوله تعالى : « ولا يَخَافُون » فيه أوجه :
أحدها : أن يكُون مَعْطُوفاً على « يُجَاهِدُون » فتجري فيه الأوْجُه السَّابقة فيما قَبْله .
الثاني : أن تكُون « الواوُ » للحَالِ ، وصاحب الحال فاعل « يُجَاهِدُون » ، قال الزَّمَخْشَرِي : « أي : يُجَاهِدُون » وحالهم في المُجَاهَدَةِ غَيْرُ حَالِ المُنافِقِين « .
وتَبِعَهُ أبو حيَّان ولم يُنْكِر عليه ، وفيه نَظَر؛ لأنهم نَصُّوا عَلَى أن المُضَارع المَنْفِي ب » لاَ « أو » مَا « كالمُثْبَتِ في أنَّه [ لا يجوزُ أن ] تباشِرَه واو الحَال ، وهذا كما تَرَى مضارع مَنْفِيٌّ ب » لاَ « ، إلاَّ أن يُقَال : إن ذلك الشَّرْط غير مُجْمَعٍ عليه ، ولكن العِلَّةَ التي مَنَعُوا لها مُبَاشَرة » الواو « للمُضَارع المُثْبت موجودة في المُضَارع المَنْفِي ب » لاَ « و » مَا « ، وهي أنَّ المُضَارع المُثْبَتَ بِمَنْزِلة الاسْمِ الصَّرِيح ، فإنَّك إذا قُلْتَ : » جاء زَيْد يَضْحَكُ « كان في قُوة » ضَاحِكاً « و » ضَاحِكاً « لا يجوز دخول » الوَاو « عليه ، فكذلكَ ما أشْبَهَه وهُوَ في قُوَّتِهِ ، وهذه مَوْجُودة في المَنْفِي ، فإن قولك : » جَاءَ زَيْدٌ يَضْحَكُ « في قوَّة » غَيْر ضَاحِكٍ « و » غيْر ضاحك « لا تَدْخل عليه الواو [ إلاَّ أنَّ هذا يُشْكِلُ بأنَّهم نَصُّوا على أنَّ المنفي ب » لَمْ « و » لَمَّا « يجُوز فيه دخول الواو ، مع أنَّه في قولك : » قَامَ زيدٌ لَمْ يَضْحَكْ « بمنزلة » غَيْرِ ضَاحِك « ] ومن دخول الواو ، وقوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم } [ البقرة : 214 ] ونحوه .
الثالث : أن تكون » الواوُ « للاستِئْنَاف ، فيكون ما بَعْدَها جُمْلةً مُسْتَأنَفَةً مُسْتَقِلَّة بالإخْبار ، وبهذا يَحْصُلُ الفَرْق بين هَذَا الوَجْهِ ، وبين الوَجْهِ الذي جُوِّزَت فيه أن تكون » الوَاو « عَاطِفَةً ، مع اعْتِقَادِنا أن » يُجَاهِدُون « مستَأنفٌ ، وهو وَاضِح .
و « اللَّوْمَةُ » : المرَّة من اللَّوْمِ .
قال الزمخشري : « وفيها وفي التَّنْكِير مبالغتان ، كأنَّه قيل : » لا يخافُون شيئاً قط من لَوْم أحَد من اللُّوَّام « ، و » لومة « مصدر مُضاف لِفاعِلِه في المعنى .
فإن قِيلَ : هل يجُوزُ أن يكُونَ فاعِلُهُ مَحْذُوفاً ، أي : لا يَخَافُون لَوْمَة لائِمٍ إيَّاهم؟
فالجوابُ أنَّ ذلك لا يجُوز عند الجُمْهُور؛ لأنَّ المصدر المحدُودَ بتاء التَّأنيثِ لا يَعْمَل ، فلو كان مَبْنيّاً على التَّاء عمل ، كقوله : [ الطويل ]
1986- فَلَوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ مِنْكَ وَرَهْبَةٌ ... عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا بِالْموَارِدِ
فأعمل » رَهْبَة « ؛ لأنه مَبْنِيٌّ على » التَّاء « ، ولا يجُوز أن يعمل المَحْدُود بالتَّاءِ إلا في قَليلٍ في كلامهم؛ كقوله : [ الطويل ]
1987- يُحَايِي بِه الْجَلْدُ الَّذِي هُوَ حَازِمٌ ... بِضَرْبَةِ كَفَّيْهِ المَلاَ وَهْوَ رَاكِبُ
يصف رَجُلاً سقى رَجُلاً مَاءً فأحْيَاهُ به ، وتيمّم بالتُّراب .
والمَلاَ : التُّراب ، فنصب » المَلاَ « ب » ضَرْبة « ، وهو مصدر محدُود بالتَّاء وأصل » لاَئِم « : لاَوِم؛ لأنه من اللَّوْم ، فَأعِلَّ ك » قََائِم « .
فصل في معنى الآية
المعنى لا يخافُون في نُصْرة دِين اللَّه لَوْمة النَّاس ، وذلك [ أنَّ ] المُنافِقِين يُرَاقِبُون الكفَّار ويَخَافُون لَوْمَهُم .
وروى عُبَادة بن الصَّامِت ، قال : بايَعنا رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - على السَّمْع والطَّاعة ، وأن نَقُوم للَّه وأن نقُول الحَقَّ حيث ما كُنَّا لا نخاف في اللَّهِ لَوْمَة لائِم .
قوله تعالى : » وذلك « في المُشَار إليه ثلاثةُ أوجه :
أظهرُها : أنه جَمِيع ما تقدَّم من الأوْصَاف التي وُصِفَ بها القَوْم ، من المحبّةِ ، والذِّلَّة ، والعِزَّة ، والمُجَاهدة في سبيل الله ، وانتِفَاء خوف اللاَّئِمَة من كل أحَدٍ ، واسْمُ الإشارَة يَسُوغُ فيه ذلك ، أعْنِي : أنه يقع بِلَفْظِ الإفْرَاد مُشَاراً به لأكثر مِنْ وَاحدٍ ، وقد تقدَّم تَحْقِيقُهُ في قوله تعالى : { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] .
والثاني : أنَّه مشار به إلى حُبِّ اللَّه لهم ، وحُبِّهم لَهُ .
والثالث : أنَّه مشارٌ به إلى قوله : » أذِلَّةٍ « ، أي : لِينُ الجَانِب ، وترك التَّرَفُّع ، وفي هذين تَخْصِيصٌ غير وَاضِح ، وكأنَّ الحَامِل على ذلك من مَجِيء اسمِ الإشَارَةِ مُفْرَداً .
و » ذَلِك « مبتدأ ، و » فَضْلُ الله « خبرُه .
و » يُؤتِيهِ « يحتمل ثلاثة أوجُه :
أظهرُهَا : أنه خَبَرٌ ثانٍ .
والثاني : أنه مُسْتَأنف .
والثالث : أنَّه في مَحَلِّ نصب على الحَالِ ، كقوله تعالى : { وهذا بَعْلِي شَيْخاً } [ هود : 72 ] .
فصل
ومعنى الكلام : أنَّ الوصف بالمحبَّة ، والذلَّة ، والعِزَّة ، والمُجاهَدَةِ ، وانتِفَاء خَوْفِ اللاَّئمة حصل بِفَضْل اللَّه - تعالى - ، وهذا يدلُّ على أنَّ طاعَات العِبَاد مَخْلُوقة للَّه تعالى ، والمعْتَزِلَةُ يَحْمِلُونه على فِعْل الألْطَاف وهو بعيد؛ لأنَّ فعل الألْطَاف عامٌّ في حقِّ الكُلِّ ، فلا بدَّ في التَّخْصِيصِ من مَزِيدِ فَائِدة .
ثم قال - عزَّ وجلَّ - : { والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } ، قالوا : فالوَاسِع إشَارَة إلى كمال المُقْدرة . والعَلِيم إشارةٌ إلى كمال العِلْم ، ومن هذا صِفَتُه - سُبْحَانه وتعالى - ، فلا يُعْجِزُه أنَّه سيجيء بأقْوَام هذا شأنْهُم .
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
لمَّا نَهَى عن مُوالاةِ الكُفَّار في الآيَات المُتقدِّمة بيَّن هاهُنَا من يجب مُوالاته .
قوله { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله } مُبْتَدأ وخبر .
و « رَسُولُه » و « الَّذين » عَطْف على الخبر .
قال الزَّمَخْشَرِي : قد ذُكِرَتْ جماعةُ فهلاَّ قيل : « إنَّما أوْلِياؤُكم » ؟
وأجاب أنَّ الولاية بِطَرِيق الأصَالَة للَّه - تعالى - ثم نظم في سلك إثْباتها لِرَسُوله وللمُؤمِنين ، ولَوْ جِيءَ به جَمْعاً ، فقيل : « إنَّما أوْلِيَاؤُكم » لم يكن في الكلام أصْل وتبع .
قال شهاب الدِّين : ويحتمل وَجْهاً آخر ، وهو أن « وَلي » بِزِنَةِ « فَعِيل » ، و « فَعِيل » قد نصَّ عليه أهْلُ اللِّسَان أنَّهُ يقع لِلْواحد والاثْنَين والجماعة تَذْكيراً وتأنِيثاً بلفظ واحدٍ ، يُقَال : « الزَّيْدُون صَدِيق » و « هِنْد صَدِيق » ، وهذا مِثْله غاية ما فِيهِ أنَّهُ مقدَّم في التَّرْكِيب ، وقد أجَابَ الزَّمَخْشَرِي وغَيْره في قوله تعالى : { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ } [ هود : 89 ] وذكر وَجْهَ ذلك ، وهو شَبَهُهُ بالمصادر ، وسَيَأتِي تحقِيقُه - إن شَاء اللَّه تعالى - .
وقرأ ابُن مسعُود : « إنَّما مولاكم الله » ، وهي تَفْسِير لا قِرَاءة .
فصل في سبب نزول الآية
روى ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّها نَزَلت في عُبَادَة بن الصَّامِت - رضي الله عنه - وعبد الله بن أبيِّ ابن سلُول - لَعَنَهُ اللَّه - ، حين تَبَرأ عُبَادة من اليَهُود وقال : أتوَلَّى الله ورسوله والذين آمَنُوا ، فنزل فِيهِم من قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ } [ المائدة : 51 ] ، إلى قوله تعالى : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ } يَعْني : عُبَادة بن الصَّامِت وأصْحَاب رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، وقال جَابِر بن عبد الله - رضي الله عنهما - : جاء عَبْدُ الله بن سلام - رضي الله عنه - إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فقال : يا رسول الله : « إن قَوْمنا قُرْيَظَة والنَّضِير قد هَجَرُونا وفَارَقُونا وأقْسَمُوا ألاَّ يُجَالِسُونا » فنزلت هذه الآية الكريمة ، فَقَرأهَا عليه رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فقال : يا رسول الله رَضِينا باللَّه وبرسُوله وبالمُؤمنين أوْلياء ، وعلى هذا التَّأويل أراد بقوله - تعالى - : « وَهُمْ رَاكِعُون » صلاة التَّطَوُّع باللَّيْل والنَّهَار .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - والسُّديُّ - رحمه الله - : قوله تعالى : { والذين آمَنُواْ الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَهُمْ رَاكِعُونَ } ، أراد به على بن أبي طالب - رضي الله عنه - مرَّ به سَائِلٌ وهو رَاكِعٌ في المَسْجِد فأعطاه خاتمه ، وقال جُوَيْبِر عن الضَّحَّاك في قوله تعالى : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ } [ قال : هم المُؤمِنُون بعضهم أوْلِيَاء بعض ، وقال أبو جعفر محمد بن علي البَاقِر : { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } نزلت ] في المُؤمنين ، فقيل له : إن ناساً يقولون : إنَّها نزلت في عَلِيٍّ - رضي الله تعالى عنه - قال : هو من المُؤمنين .
قوله تعالى : { الذين يُقِيمُونَ الصلاة } فيه خَمْسَة أوْجُه :
أحدها : أنَّهُ مَرْفُوع على الوَصْف ، لقوله تعالى : « الَّذِين آمَنُوا » .
وصف المؤمنين بإقام الصلاة ، وإيتاء الزَّكاة ، وذكر هَاتَيْن العبادَتيْن دون سَائِر فُروع الإيمان؛ لأنَّهما أفْضَلُهُمَا .
الثاني : أنَّه مرفوع على البَدَل من « الَّذِين آمَنُوا » .
الثالث : أنه خَبَرُ مُبْتَد مَحْذُوف ، أي : هُمُ الذين .
الرابع : أنه عَطْف بَيَان لما قبله؛ فإنَّ كل ما جاز أنْ يَكُون بدلاً جاز أن يكون بَيَاناً ، إلا فيما اسْتُثْنِيَ كما تقدَّم .
الخامس : أنه مَنْصُوب بإضمار فِعْل ، وهذا الوجه والَّذِي قَبْله من باب القَطْعِ عن التَّبِعيَّة .
قال أبو حيَّان - بعد أن نَقَل عن الزَّمَخْشَرِي وَجْهَي البدل ، وإضمار المُبْتَدأ فقط - : « ولا أدْرِي ما الَّذِي مَنَعَهُ من الصِّفة ، إذ هو المُتَبَادَرُ إلى الذِّهن ، ولأنَّ المُبْدَلَ منه على نِيَّةِ الطَّرْح؛ وهو لا يصحُّ هنا؛ لأنَّه هو الوَصْف المترتِّبُ عليه صحّة ما بعده من الأوْصَاف » .
قال شهاب الدِّين : لا نسلِّم أنَّ المتَبَادر إلى الذِّهْنِ الوَصْف ، بل البَدَل هو المُتبَادر ، وأيضاً فإن الوَصْف بالموصول على خِلاف الأصْل؛ لأنَّه مؤوَّل بالمُشْتَقِّ وليس بمُشْتَقٍّ ، ولا نُسلِّم أن المُبْدَل مِنْه على نِيَّة الطَّرْح ، وهو المَنْقُول عن سِيبوَيْه .
قوله : « وَهُمْ رَاكِعُون » في هذه الجُمْلَة وجهان :
أظهرهما : أنَّها معطوفة على ما قَبْلَها من الجُمَلِ ، فتكون صِلَةً للمْوصُول ، وجاء بهذه الجملة اسميَّةً دون ما قَبْلَها ، فلم يَقُلْ : « يَرْكَعُون » اهتماماً بهذا الوَصْف ، لأنَّه أظهر أرْكَان الصلاة .
والثاني : أنَّها « واو » الحال ، وصاحبُها هو واو « يُؤتُون » .
والمراد بالرُّكُوع الخُضُوع أي : يُؤتُون الصَّدَقة ، وهم مُتُواضِعُون للفُقَراء الَّذين يتصَدَّقُون عليهم .
ويجُوز أن يُراد به الرُّكُوع حَقِيقةً؛ كما تقدَّم عن عَلِيّ - رضي الله عنه - .
وقال أبو مُسلمِ : المراد من الرُّكوع : الخُضُوع ، أي : يُصَلُّون ويَركَعُون وهم مُنْقَادُون خَاضِعُون لجميع أوَامِرِ اللَّه ونواهيه .
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
« ومن يَتَولَّ » « مَن » شَرْط في محلِّ رفع بالابْتداء .
وقوله تعالى : { فَإِنَّ حِزْبَ الله } جُمْلَة واقعة خبر المُبْتَدأ ، والعائد غير مَذْكُور لكوْنِهِ مَعْلُوماً ، والتَّقْدِير : فهو غَالِبٌ لكونه من جُنْدِ الله ، فيحتملُ أن يكُون جواباً للشَّرْط ، وبه يحتجُّ من لا يَشْتَرِط عَوْد ضَمِير على اسْمِ الشَّرْط إذا كان مُبْتَدأ .
ولقائل أن يقول : إنَّما جاز ذَلِك؛ لأنَّ المُرَاد بحزب الله هو نَفْسُ المُبْتَدأ ، فيكون من بَابِ تكْرَار المُبْتَدأ بمعناه ، وفيه خِلاف ، فالأخْفَش يُجِيزُهُ ، فإن التقدير : ومن يَتَولَّ اللَّه ورسُولَهُ والذين آمنوا فإنه غالب ، فوضع الظَّاهر موضع المُضْمَر لفائدة ، وهي التَّشْرِيف بإضافة الحِزْب إلى اللَّه - تعالى - ، ويحتملُ أن يكُون الجوابُ مَحْذُوفاً ، لدلالة الكلام عَلَيْه ، أي : ومن يتولَّ اللَّه ورسوله والَّذِين آمنُوا يَكُنْ من حِزْب الله الغَالِب ، أو يُنْصَر ونحوه ويكون قوله : { فَإِنَّ حِزْبَ الله } دالاًّ عليه ، وعلى هَذَيْن الاحتمَالَيْن ، فلا دِلَة في الآية على عدم اشْتِرَاط عَوْدِ ضمير على اسْم الشرط .
وقوله : { فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون } في محلِّ جَزْم إنْ جَعَلْناه جواباً للشَّرْط ، ولا محلَّ له إن جعلْنَاهُ دالاًّ على الجواب .
وقوله « هُمْ » يحتمل أنْ يكُون فَصلاً ، وأن يكُون مُبْتَدأ .
و « الغَالِبُون » خبره والجُمْلَةُ خبر « إن » ، وقد تقدَّم الكلام على ضَمِير الفَصْل .
و « الحِزْب » : الجماعة فيها غِلْظَةٌ وشدَّة ، فهو جماعة خَاصَّة ، وهو في اللّغَة : أصْحَاب الرَّجُل الَّذين يكُونُون معه على رَأيه ، وهم القَوْم الَّذِين يَجْتَمِعُون لأمر حَزَبَهُمْ ، وللمُفسرين فيه عِبَارات ، فقال الحَسَن : جُنْدُ الله وقال أبو رَوْق : أوْلِيَاء الله ، وقال أبو العَالِية : شِيعَتُه ، وقال بعضهم : أنْصَار الله ، وقال الأخْفَش : حِزْب الله الذين يَدِينُون بدينِهِ ويُطيعُونَه ويَنْصُرُونه .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)
لما نهى في الآية الأولى عن اتَّخَاذِ اليَهُود والنَّصَارى أوْلِيَاء ، نهى هُنَا عن جَمِيع مُوالاَةِ الكُفَّار على العُمُوم ، ف « الَّذِين » وصلتُهُ هو المَفْعُولُ الأوّلِ لقوله « لا تتَّخِذُوا » ، والمفعُول الثاني : هو قوله « أولِيَاء » ، و « دِينُكُم » مَفْعُول ل « اتَّخذُوا » ، و « هُزُواً » مفعول ثان ، وتقدَّم ما في « هُزْءاً » من القِراءَات والاشْتِقَاق .
قوله تعالى : { مِّنَ الذين أُوتُواْ } فيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ في محلِّ نَصْبٍ على الحَالِ ، وصاحِبُها فيه وجهان :
أحدها : أنَّهُ الموصول الأوَّل .
والثاني : أنَّه فاعل « اتَّخَذُوا » والثاني من الوَجْهَيْن الأوَّلين : أنه بيانٌ للموصُول الأوَّل ، فتكون « مِن » لِبَيَان الجِنْس .
وقوله تعالى : « مِنْ قَبْلكم » متعلِّق ب « أوتُوا » ؛ لأنَّهم أوتُوا الكِتَاب قَبْلَ المُؤمِنين ، والمُرَاد بالكِتَاب : الجِنْس .
وقوله تعالى : « مِنْ قَبْلكم » متعلِّق ب « أوتُوا » ؛ لأنَّهم أوتُوا الكِتَاب قَبْلَ المُؤمِنين ، والمُرَاد بالكِتَاب : الجِنْس .
فصل
قال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - كان رِفاعة بن زَيْد بن التَّابُوت ، وسُوَيْد بن الحَارِث قد أظهرا الإسْلام ثم نافَقَا ، وكان رِجَالٌ مِنَ المُسْلِمين يوادُّونَهُما ، فأنْزل اللَّه - تعالى - هذه الآية ، ومعنى تَلاَعُبِهم واستهْزَائِهِم ، إظْهَار ذلك باللِّسَان مع الإصْرَارِ على الكُفْر في القَلْبِ ، ونَظِيرُه قوله في ذَلِك في سُورة « البقرة » : { وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا } [ آية : 14 ] إلى قوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } [ آية : 14 ] ، والمعنى : أنَّ القَوْم لمَّا اتَّخَذُوا دينكُمْ هُزُواً ولَعِباً وسُخْرِية ، فلا تتَّخِذُوهم أوْلِيَاء وأنْصَاراً وأحْبَاباً ، فإن ذلك الأمْرَ خَارجٌ عن العَقْلِ والمرُوءَة .
قوله تعالى : « والكُفَّار » قرأ أبُو عَمْرو والكِسَائي : « والكُفَّارِ » بالخَفْض ، والباقُون بالنَّصْب ، وهما واضِحَتَانِ ، فَقِرَاءة الخَفْضِ عَطْفٌ على المَوْصُول المَجْرُور ب « مِنْ » ، ومعناها : أنَّه نَهَاهم أن يتَّخِذُوا المُسْتَهْزِئين أوْلِيَاء ، وبَيَّنَ أن المُسْتَهْزِئين صِنفان : أهلُ كتاب متقدِّم ، وهم اليَهُود والنَّصارى ، وكفارٌ عَبَدة أوْثَان ، وإن كان اسم الكُفْر ينطلقُ على الفَرِيقين ، إلا أنَّه غَلَبَ على عَبَدَةِ الأوْثان : الكُفَّار ، وعلى اليهُود والنَّصارى : أهْل الكِتَاب .
وقال تعالى : { لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب } [ البينة : 1 ] ، وقال تعالى : { مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين } [ البقرة : 105 ] ، اتَّفقوا على جر « المُشْركين » عَطْفاً على أهْل الكِتَاب ، ولم يَعْطف على العَامِل الرَّافع قاله الواحدي .
يعني [ بذلك ] : أنَّه أطلق الكُفَّار على أهْلِ الكِتَاب ، وعلى عبدةِ الأوْثَانِ المُشْرِكِين ، ويدلُّ على أنَّ المُرَاد بالكُفَّار في آية المَائِدة « المُشْرِكُون » ، قراءة عبد الله « ومِنَ الَّذِين أشْرَكُوا » ورُجِّحت قراءة أبِي عَمْرو أيضاً بالقُرْب ، فإن المَعْطُوف عليه قرِيب ، ورُجِّحَتْ أيضاً بقراءة أبَيّ « وَمِنَ الكُفَّار » بالإتْيَان ب « مِنْ » .
وأما قراءة البَاقِين ، فوَجْهُهَا أنَّه عطف على المَوْصُول الأوَّل ، أي : لا تَتَّخذُوا المُسْتَهْزِئين ، ولا الكُفَّار أوْلِيَاء ، فهو كقوله تعالى : { لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين } [ آل عمران : 28 ] ، إلاَّ أنه ليس في هذه القراءة تَعَرُّضٌ للإخْبَار باسْتِهْزَاء المُشْرِكين ، وهم مُسْتَهْزِئُون أيْضاً ، قال تعالى : { إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين } [ الحجر : 95 ] فالمراد به : مُشْرِكوا العرَب ، ولوضوح قِرَاءة الجرِّ قال مَكي بن أبِي طالب : « ولولا اتِّفَاقُ الجماعةِ على النَّصْب ، لاخترتُ الخَفْض لقوَّته في المَعْنى ، ولِقُرْب المَعْطُوف من المَعْطُوف عليه » .
ثم قال تعالى : { اتقوا الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ، والمعنى ظاهِر .
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
[ الضَّمير في « اتَّخَذُوها » يجُوزُ ] أن يعودُ على الصَّلاة وهو الظَّاهِر ، ويجُوز أن يَعُود على المَصْدَرِ المفهُوم من الفِعْل ، أي : اتَّخَذُوا المُنَاداة ، ذكره الزَّمَخْشَرِي ، وفيه بُعْدٌ؛ إذ لا حاجة مع التَّصْريح بما يَصْلُح أن يَعُود عليه الضَّمِير ، بخلافِ قوله تعالى : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } [ المائدة : 8 ] .
فصل
قال الكلبي : كان مُنَادِي رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، إذا نَادَى إلى الصَّلاة وقام المُسْلِمُون إليها ، قالت اليَهُود : قاموا لا قَامُوا ، وصلُّوا لا صلُّوا على طريق الاسْتهْزَاء وضَحِكوا ، فأنْزَل اللَّه هذه الآية الشَّرِيفة ، وقال السُّدِّي : نزلت في رَجُلٍ من النَّصَارى بالمدِينة ، كان إذا سَمِعَ المُؤذِّن يقول : أشْهَدُ أن محمَّداً رسُول الله - قال : حُرق الكَاذِبُ ، فدخل [ خادمه ] ذاتَ لَيْلَة بنارٍ وهو وأهْله نِيَام فتطايَرَتْ منها شَرارة ، فاحْتَرَق البَيْتُ وأهْلُه .
وقال آخَرُون : إن الكُفَّار لما سَمِعُوا الأذَان حَسَدُوا المُسْلِمين ، فَدَخلُوا على رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - وقالُوا : يا محمَّد : لقد ابتدَعْتَ شَيْئاً لم يُسْمَع به فيما مَضَى من الأمَمِ ، فإن كنت تَدَّعي النُّبُوة فقد خَالَفْت فيما أحْدَثَت الأنبياء قَبْلَك ، ولو كان فيه خَيْراً لكان أولى النَّاس به الأنبياء ، فمن أين لك صياحٌ كصياحِ العير ، فما أقبح من صوت ، وما أسْمَج من أمْر ، فأنْزَل الله هذه الآية ، ونزل : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله } [ فصلت : 33 ] قالوا : دلَّت هذه الآيةُ على ثُبُوت الأذَان بِنَصِّ الكِتَاب لا بالْمَنام وحْدَه .
قال القُرْطُبِي : قال العُلَمُاء - رضي الله عنهم - ولم يكن الأذَانُ بمكَّة قَبْل الهِجْرة ، وإنما كانوا يُنَادُون « الصَّلاة جَامِعَة » ، فلما هَاجَر النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، وصُرفت القِبْلَة إلى الكَعْبَة أمِرَ بالأذَان ، وبقي « الصَّلاة جَامِعَة » للأمر ، وكانَ النبي - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - قَدْ أهمَّه أمر الأذانِ حتى أُرِيَهُ عبد الله بن زَيْد ، وعُمر بن الخطاب وأبُو بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنهم - وقد كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - سمع الأذَان ليلة الإسْرَاء إلى السَّمَاء ، وأما رُؤيا عبد اللَّه بن زَيْد وعمر - رضي الله عنهما - فمشهورة ، وأمر النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - بلالاً فأذَّن بالصَّلاة أذانَ اليَوْم ، وزَادَ بلالٌ في الصُّبْح « الصَّلاة خَيْرٌ من النَّوْمِ » ، فأقرَّها رسولُ الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، وليست فيما رَآه الأنْصَاري ، ذكره ابن سعْد عن بن عمر - رضي الله عنهما - ، ثمَّ ذكر الدَّارَقُطْنِيُّ؛ أن الصِّدِّيق - رضي الله عنه - أري الأذان ، وأنَّه أخبر النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، وأنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - أمر بِلالاً بالأذَانِ قَبْل أن يُخْبِرَه عَبد الله بن زَيْد ، ذكره الدَّارقُطْنِي في كتاب « المدبج » لَهُ في حَدِيث النَّبِي - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - عن أبِي بَكْر الصِّدِّيق - رضي الله عنه .
قوله تعالى : « ذَلِكَ بأنَّهُم » مُبْتَدأ وخبر ، أي : ذَلِك الاسْتِهْزَاء مُسْتِقِرٌّ؛ بسبب عدم عَقْلِهِم .
======================================================
ج26.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
لما حكى عنهم أنهم اتَّخَذُوا دِين الإسلام هُزُواً ولعِباً ، فقال : ما الذي تَجِدُون فيه ممَّا يُوجِب اتَّخَاذه هُزُواً ولعباً؟
قوله تعالى : « هل تَنْقِمُون » : قراءة الجُمْهُور بكسر القَافِ ، وقراءة النَّخْعي ، وابن أبي عَبْلَة ، وأبي حَيْوَة بِفَتْحها ، وهاتان القِرَاءتَانِ مفرَّعَتَان على المَاضِي ، وفيه لُغَتَان : الفُصْحَى ، وهي التي حَكَاهَا ثَعْلَب في « فَصِيحه » : نَقَم بفتح القَاف ، يَنْقِم بِكَسْرها .
والأخرى : نَقِم بكسر القاف يَنْقَمُ بفَتْحِها ، وحكاها الكَسَائي ، ولم يَقْرأ في قوله تعالى : { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ } [ البروج : 8 ] إلا بالفتح .
قال الكسّائِي : « نقِم » بالكسر لُغَةً ، ونَقَمْتُ الأمْر أيضاً ، وَنَقِمْتُهُ إذا كَرِهْته ، وانْتَقَم اللَّه منه إذا عَاقَبَه ، والاسم منه : النِّقْمة ، والجمع نَقِمَاتٌ ونَقِمٌ مثل كَلِمة وكَلِمَات وكَلِم ، وإن شِئْت سَكَّنت القَافَ ، ونَقَلْت حَرَكَتَها إلى النُّون فقلت نِقْمة ، والجَمْع : نِقَم ، مثل نِعْمة وَنِعَم ، نقله القرطبي وأدغم الكسَائِي لام « أهَلْ » في تَاء « تَنْقِمُون » ، وَلِذَلِكَ تُدْغَمُ لام « هَلْ » في التَّاء والنُّون ووافقه حَمْزة في التَّاء والثَّاء وأبُو عَمْرٍو في « هَلْ تَرَى » في موضعَيْن .
فصل
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : أتى رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - نَفَرٌ من اليَهُود : أبو يَاسِر بن أخْطَب ، ورَافِع بن أبي رَافِع وغيرهما ، فَسَألُوه : عمَّن يُؤمِن به من الرُّسُل ، فقال : { اا آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } [ البقرة : 136 ] ، إلى قوله : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ البقرة : 136 ] فلما ذكر عيسى - عليه الصلاة والسلام - جَحَدُوا نُبُوتَهُ ، وقالُوا : والله ما نَعْلَمُ أهْلَ دِينٍ أكْثَر خَطَأ في الدُّنْيَا والآخِرَة مِنْكُم ، ولا دِيناً شرًّا من دينكُمْ ، فأنْزَل الله هذه الآية الكريمة .
قوله تعالى : { إِلاَّ أَنْ آمَنَّا } ، مفعول ل « تَنْقِمُون » بمعنى : تَكْرَهُون وتَعِيبُون ، وهو استِثْنَاء مُفَرَّغٌ .
و « مِنَّا » متعلِّق به ، أيْ : ما تَكْرَهُون من جِهَتِنَا ، إلاَّ الإيمَان وأصل « نَقَمَ » أن يتعدَّى ب « عَلَى » ، نقول : « نَقَمْتُ عليْهِ كذا » وإنَّما عُدِّيَ هُنَا ب « مِنْ » لِمَعْنًى يَأتي .
وقال أبُو البَقَاء : و « منَّا » مفعول « تَنْقِمُون » الثَّاني ، وما بَعْد « إلاَّ » هو المَفعُول الأوَّل ، ولا يجُوز أن يكُون « منَّا » حالاً من « أنْ » والفِعْل لأمْرين :
أحدهما : تقدُّمُ الحالِ على « إلاَّ » .
والثاني : تقدم الصِّلَة على الموْصُول ، والتَّقْدِير : هل تَكْرَهُون مِنَّا إلاَّ إيماننا . انتهى .
وفي قوله : مَفْعُول أوَّل ، ومفعول ثَان نَظَر؛ لأنَّ الأفْعَال الَّتِي تتعدَّى لاثْنَيْن إلى أحدهما بِنَفْسِها ، وإلى الآخَرِ بحَرْف الجرِّ مَحْصُورة ك « أمر » ، و « اخْتَار » ، و « استغْفَرَ » ، و « صَدَّق » و « سَمَّى » ، و « دَعَا » بمعناه ، و « زَوَّج » ، و « نَبَّأ » ، و « أنْبَأ » ، و « خَبَّر » ، و « أخْبَر » ، و « حَدَّث » غير مُضَمَّنَةٍ معنى « أعْلَم » ، وكلُّها يَجُوز فيها إسْقَاط الخَافِضِ والنَّصب ، ولَيْسَ هذا مِنْها .
وقوله : « ولا يجُوز أن يكُونَ حالاً » يعني : أنَّه لو تَأخَّر بعد « أن آمَنَّا » لَفْظَة « مِنّا » ، لجاز أن تكون حَالاً من المصْدر المؤوَّل من « أنْ » وصلَتِها ، ويَصِير التَّقْدِير : هل تكرهون إلاَّ الإيمان في حال كونه « منا » ، لَكِنَّهُ امتنع من تقدُّمِهِ على « أنْ آمنَّا » للوجهين المذكورين .
أحدهما : تقدُّمه على « إلاّ » ويعني بذلك : أن الحال لا تتقدم على « إلاَّ » .
قال شهابُ الدِّين : ولا أدري ما يمنع ذلك لأنه إذا جعل « مِنَّا » حالاً من « أن » و « ما » في حيزها كان حال الحال مقدراً ، ويكونُ صاحب الحال محصوراً ، وإذا كان صاحب الحال محصوراً وَجَبَ تقديم الحال عليه ، فيقال : « مَا جَاءَ رَاكِباً إلاَّ زَيْدٌ » ، و « ما ضَربْتُ مَكْتُوفاً إلا عَمْراً » ، ف « راكباً » و « مكتوفاً » حالان مقدمان وجوباً لحصر صاحبيهما فهذا مثله .
وقوله : « [ والثاني : تقدُّم الصلة على الموصول ] لم تتقدَّم صلة على موصول .
بيانه : أنَّ الموصول هو » أنْ « ، والصلة » آمَنَّا « ، و » منَّا « ليس متعلّقاً بالصلة ، بل هو معمول لمقدَّر ، ذلك المقدر في الحقيقة منصوب ب » تنقمون « ، فَمَا أدْرِي ما توهمه حتى قال ما قال؟
على أنه لا يجوز أن يكون حالاً ، لكن لا لما ذكر؛ بل لأنه يؤدي إلى أنه يصير التقدير : » هَلْ تَنْقِمُونَ إلا إيماننا منا « فمن نفس قوله : » إيماننا « فهم أنَّه منَّا ، فلا فائدة فيه حينئذٍ .
فإن قيل : تكون حالاً مؤكدة .
قيل : هذا خلاف الأصل ، وليس هذا من مَظَانِّهَا ، وأيضاً فإنَّ هذا شبيه بتهيئة العامل للعمل ، وقطعه عنه ، فإن » تَنْقِمُونَ « يطلب هذا الجار طلباً ظاهراً .
وقرأ الجمهور » وما أنزل إلَيْنَا وما أنزل [ مِنْ قَبْل ] « بالبناء للمفعول فيهما ، وقرأ أبو نهيك : » أنْزل ، وأنْزل « بالبناء للفاعل ، وكلتاهما واضحة .
فصل
المعنى : قُلْ لأهل الكتاب : لِمَ اتخذتم هذا الدين هزواً ولعباً ، ثم قال على سبيلِ التعجب : هل تجدون في هذا الدين إلا الإيمان بالله؟! فهو رَأسُ جميع الطاعات ، وإلاَّ الإيمان بمحمد ، وبجميع الأنبياء فهو الحق والصدق؛ لأنه إذا كان الطريق إلى تصديق بعض الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في ادعاء الرسالة والنبوة هو المعجزة .
ثم رأينا أن المعجز حصل على يدي محمد - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فوجب الإقرار بكونه رسولاً ، فأمَّا الإقرار بالبعض وإنكار البعض فذلك تناقض ومذهب باطل .
قوله تعالى : { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } قرأ الجمهور : « أنَّ » مفتوحة الهمزة .
وقرأ نعيم بن ميسرة بكسرها .
فأمَّا قراءة الجمهور فتحتمل « أنَّ » فيها أن تكون في محل رفع ، أو نصب ، أو جر ، فالرفع من وجه واحد ، وهو أن تكون مبتدأ ، والخبر محذوف .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : « والخبر محذوف ، أي : فسقكم ثابت معلوم عندكم؛ لأنكم علمتم أنَّا على الحق ، وأنْتُمْ على الباطل ، إلا أن حب الرئاسة ، وجمع الأموال لا يدعكم فتنصفوا » .
فقدر الخبر متأخراً .
قال أبُو حيَّان : ولا ينبغي أن يُقَّدَرَ الخبر إلا مقدماً؛ لأنه لا يبتدأ ب « أن » على الأصح إلا بعد « أمَّا » انتهى .
ويمكن أن يقال : يُغْتَفَرُ في الأمور التقديرية ما لا يغتفر في اللفظية ، لا سيما أنَّ هذا جارٍ مجرى تفسير المعنى ، والمراد إظهار ذلك الخبر [ كيف ] يُنْطَقُ به؛ إذْ يقال : إنه يرى جواز الابتداء ب « أنَّ » مطلقاً ، فحصل في تقدير الخبر وجهان بالنسبة إلى التقديم والتأخير .
وأمَّا النَّصْبُ فمن ستَّةِ أوجه :
أحدها : أن يُعْطَفَ على « أن آمنَّا » واستشكل هذا التخريج من حيث إنه يصير التقدير : هل تكرهون إلا إيماننا ، وفسق أكثركم ، وهم لا يعترفون بأن أكثرهم فاسقون حتى يكرهونه .
وأجاب الزمخشري وغيره عن ذلك بأن المعنى : « وما تنقمون منا إلا الجمع بين إيماننا ، وبين تمرُّدكم ، وخروجكم عن الإيمان ، كَأنَّه قِيلَ : وما تنكرون منا إلا مخالفتكم حَيْثُ دخلنا في دين الإسلام وأنتم خارجون منه » .
ونقل الواحدي عن بعضهم أن ذلك من باب المُقَابَلَة والازدواج ، يعني أنه لما نقم اليهود عليهم الإيمان بجميع الرسل ، وهو مما لا يُنْقَمُ ذَكَرَ في مُقَابلته فسقَهُمْ ، وهو مما يُنْقَم ، ومثل ذلك حَسًنٌ في الازدواج ، يقول القائل : « هل تنقم مني إلا أن عفوت عنك ، وأنَّكَ فاجر » فيحسن ذلك لإتمام المعنى بالمقابلة .
وقال أبُو البقاء : والمعنى على هذا : إنكم كرهتم إيماننا وامتناعكم ، أي كرهتم مخالفتنا إياكم وهذا كقولك للرجل : « ما كرهت مني إلا أني مُحَبَّبٌ للناس ، وأنك مبغض » ، وإن كان لا يعترف بأنه مبغض .
وقال ابن عطية : { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } هو عند أكثر المتأوِّلين معطوف على قوله : « أنْ آمنَّا » ، فيدخل كونهم فاسقين فيما نَقَمُوهُ وهذا لا يتجه معناه .
ثم قال بعد كلام : « وإنَّمَا يَتَّجِهُ على أن يكون معنى المحاورة : هل تنقمون منا إلا مجموع هذه الحال من أنا مؤمنون وأنتم فاسقون ، ويكون { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } مما قرره المخاطب لهم ، وهذا [ كما ] يقول لمن يخاصم : » هل تنقم عليَّ إلا أن صدقت أنا ، وكذبت أنت « ، وهو لا يُقِرُّ بأنه كاذب ، ولا ينقم ذلك ، لكن معنى كلامك : هل تنقم إلا مجموع هذه الحال » وهذا هو مجموع ما أجاب به الزَّمَخْشَرِيُّ والواحِديُّ .
الوجه الثاني من أوجه النصب : أن يكون معطوفاً على « أنْ آمنَّا » أيضاً ، ولكن في الكلام مضاف محذوف لصحة المعنى ، تقديره : « واعتقاد أنَّ أكثركم فاسقون » وهو معنى واضح ، فإنَّ الكفار ينقمون اعتقاد المؤمنين أنهم فاسقون .
الثالث : أنه منصوب بفعل مقدر ، تقديره : هل تنقمون منا إلا إيماننا ، ولا تنقمون فسق أكثركم .
الرابع : أنه منصوب على المعيَّة ، وتكون « الواو » بمعنى « مع » تقديره : « وما تنقمون منا إلا الإيمان مع أن أكثركم فاسقون » .
ذكر جميع هذه الأوجه أبُو القَاسِمِ الزَّمَخْشَرِيُّ - رحمه الله - .
الخامس : أنه منصوب عَطْفاً على « أنْ آمنَّا » ، و « أن آمنَّا » مفعول من أجله فهو منصوب ، فعطف هذا عليه ، والأصل : « هل تنقمون إلا لأجل إيماننا ، ولأجل أن أكثركم فاسقون » ، فلمَّا حذف حرف الجر من « أنْ آمنَّا » بقي منصوباً على أحد الوجهين المشهورين ، إلا أنه يقال هنا : النصب هنا ممتنع من حيث إنَّهُ فُقِد شرطٌ من المفعول له ، وهو اتحاد الفاعل ، والفاعل هنا مختلف ، فإن فاعل الانتقام غير فاعل الإيمان ، فينبغي أن يُقَدَّر هنا محلُّ « أنْ آمنَّا » جراً ليس إلاَّ ، بعد حذف حرف الجر ، ولا يجري فيه الخلاف المشهور بين الخَلِيلِ وسيبَويْهِ في محل « أنْ » إذَا حذف منها حرف الجر ، لعدم اتحاد الفاعل .
وأجِيبَ عن ذلك بأنَّا وإنْ اشترطنا اتحاد الفاعل فإنَّا نجوِّزُ اعتقادَ النصب في « أنْ » و « أنَّ » إذا وقعا مفعولاً من أجله بعد حذف حرف الجر لا لكونهما مفعولاً من أجله ، بل من حيث اختصاصهما من حيث هما بجواز حذف حرف الجر لطولهما بالصلة وفي هذه المسألة بخصوصها خلاف مذكور في بابه ، ويدُلُّ على ذلك ما نقله الواحدي عن صاحب « النَّظْم » ، فإنَّ صاحب « النظم » ذكر عن الزجاج معنًى ، وهو : هل تكرهون إلا إيماننا على دينكم ، وهذا معنى قول الحسنِ : نقمتم علينا .
قال صاحب « النَّظْمِ » : فعلى هذا يجب أن يكون موضع « أن » في قوله : { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } نَصْباً بإضمار « اللام » على تأويل « ولأنَّ أكْثَرَكُمْ » ، والواو زائدة ، فقد صرح صاحب النظم بما ذكرناه .
الوجه السادس : [ أنه ] في محل نَصْب على أنه مفعول من أجله ل « تنقمون » والواو زائدةٌ كما تقدَّم تقريره عن الزمخشري .
[ وهذا الوجه الخامس يحتاج إلى تقرير ] ليفهم معناه ، قال أبُو حيَّان بعد نقله الأوجه المتقدمة : « ويظهر وجه آخر [ لعلَّه ] يكون الأرجح ، وذلك أن » نَقَمَ « أصله أنْ يتعدى ب » على « تقول : » نَقَمْتُ عَلَيْه « ، ثم تبني منه [ افتعل إذ ذاك ] ب » من « ويضمَّن معنى الإصابة بالمكروه ، قال تعالى : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } [ المائدة : 95 ] ، ومناسبة التضمين فيها أنَّ مَنْ عاب على شخص فعله ، فهو كاره له ، ومصيبه عليه بالمكروه ، فجاءت هنا » فَعَل « بمعنى » افْتَعَل « ك » قدر « و » اقتدر « ، ولذلك عُدِّيت ب » من « دون » على « التي أصلها أن تتعدى بها ، فصار المعنى : وما تنالون منا ، وما تصيبوننا بما نكره ، إلا أنْ آمَنَّا ، [ أي : إلاَّ لأنْ آمنا ، ] فيكون » أن آمنَّا « مفعولاً من أجله ، ويكون { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } معطوفاً على هذه العلة ، وهذا - والله أعلم - سبب تعديته ب » من « دون » على « انتهى ما قاله ، ولم يصرح بكون حينئذٍ في محلِّ نصب أو جرٍّ ، إلاَّ أن ظاهر حاله أن يُعتقَدَ كونه في محل جرٍّ ، فإنه إنَّمَا ذكر في أوجه الجر .
وأمَّا الجَرُّ فمن ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه عطف على المؤمن به .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : » أي : وما تنقمون منَّا إلا الإيمان بالله ، وما أنزل ، وبأن أكْثرَكُمْ فِاسِقُونَ « وهذا معنى واضح ، قال ابن عطية : » وهذا مستقيمُ المعنى؛ لأن إيمان المؤمنين [ بأنَّ ] أهل الكتاب المستمرين على الكفر بمحمدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فَسَقَةٌ هو مما ينقمونه « .
الثاني : أنَّهُ مجرورٌ عَطْفاً على علّةٍ محذوفة ، تقديرها : ما تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم وفسقكم ، واتباعكم شهواتكم ، ويدلُّ عليه تفسير الحسن البصري » لفسقكم نقمتم علينا ، ويروى لفسقكم تنقمون علينا الإيمان « ، [ ويروى » لفسقهم نقموا علينا الإيمان « . عطفاً على محل » أن آمنا « إذا جعلناه مفعولاً من أجله ، واعتقدنا أن » أن « في محل جر ] .
الثالث : أنَّهُ في محل جر بعد حذف الحرف وقد تقدم ذلك في الوجه الخامس ، فقد تحصَّل في قوله تعالى : » وأن أكثركم « أحد عشر وجهاً وجهان في حالة الرفع بالنسبة إلى تقدير الخبر ، هل يُقَدَّرُ مُقدَّماً وجوباً أو جوازاً؟ وقد تقدم ما فيه ، وستة أوجه أنها على الاستئناف ، أخبر أن أكثرهم فاسقون ، ويجوز أن تكون منصوبة المحلِّ لعطفها على معمول القول ، أمر نبيه - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - أن يقول لهم : { هل تنقمون منا } إلى آخره ، وأن يقول لهم : إنَّ أكثركم فاسقون ، وهي قراءة [ جليَّة ] واضحة .
فصل
وتفسير المعنى على وجوه الإعْرَاب المتقدمة . قال ابن الخطيب فإن قيل : كيف تنقم اليهود على المسلمين وكون أكثرهم فاسقين .
فالجواب أنه كالتعريض؛ لأنهم لم يتبعوهم على فسقهم أي : أنْ آمَنَّا ، وما فسقنا مثلكم وهو كقولهم : « ما تنقم مني إلا أنِّي عفيف ، وأنت فَاجِرٌ » ، على وجه المقابلة ، أو لأن أحد الخصمين إذا كان متصفاً بصفات حميدة وخصمه بضد ذلك كان ذكر صفات الخير الحميدة مع صفات خصمه الذميمة أشد تأثيراً ونكاية مِنْ ألاَّ يذكر الذميمة ، فتكون الواو بمعنى « مع » أو هو على حذف مضاف أيْ : واعتقاد أن أكثركم فاسقون ، والمعنى : بأن أكثركم فاسقون نقمتم الإيمان علينا .
أو تعليل معطوف على محذوف كأنه قيل : نقمتم لقلة إنصافكم ولأن أكثركم فاسقون .
فصل
اليهود كلهم فُسَّاقٌ وكُفَّارٌ فَلِمَ خُصَّ الأكثر بوصف الفسق؟ فالجواب من وجهين :
الأول : يعني أنْ أكثركم إنَّمَا يقولون [ ما يقولون ] ويفعلون ما يفعلون طلباً للرياسة ، والجاه وأخذ الرشوة ، والتقرب إلى الملوك ، فإنَّهُمْ في دينهم فُسَّاقٌ لا عُدولٌ ، فإن الكافر المبتدع قد يكون عادلاً في دينه ، وفاسقاً في دينه ، ومعلومٌ أن كلهم ما كانوا كذلك فلهذا خص أكثرهم بهذا الحكم .
الثاني : ذكر أكثرهم لِئلاَّ يظن أن من [ آمن منهم داخل في ذلك ] .
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
قوله تعالى : { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ } : قرأ الجمهور ، « أنَبِّئُكُمْ » بتشديد الباء من نبأ ، وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب « أنْبِئُكُمْ » بالتخفيف من أنبأ وهما لغتان فصيحتان والمخاطب في « أنبئكم » فيه قولان :
أحدهما : وهو الذي لا يعرف أهل التفسير غيره - أن المراد به أهل الكتاب الذين تقدم ذكرهم .
والثاني : أنه للمؤمنين .
قال ابن عطية : ومشى المفسرون في هذه الآية على أن الذين أمرَ أن يقول لهم : « هل أنبئكم » هم اليهود والكفار ، والمتخذون ديننا هُُزُواً ولعباً . قال ذلك الطبري ، ولم يسند في ذلك [ إلى ] متقدم شيئاً ، والآية تحتمل أن يكون القول للمؤمنين . انتهى .
فعلى كونه ضمير المؤمنين واضحٌ ، وتكون « أفْعَلُ » التفضيل أعني « بِشَرّ » على بابها؛ إذ يصير التقدير : قل هل أنبئكم يا مؤمنون بشر من حال هؤلاء الفاسقين ، أولئك أسلافهم الذين لعنهم الله ، وتكون الإشارة بذلك إلى حالهم ، كذا قدره ابن عطية ، وإنما قدَّرَهُ مضافاً ، وهو حال ليصح المعنى ، فإن ذلك إشارة للواحد ، ولو جاء من غير حذف مضاف لقيل : بشر من أولئكم بالجمع .
قال الزمخشري : « ذلك » إشارة إلى المنقوم ، ولا بد من حذف مضاف قبله أو قبل « من » تقديره : بِشَرٍّ من أهل ذلك ، أو دين من لعنه [ الله ] انتهى .
ويجوز ألاَّ يقدر مضاف محذوف لا قَبْلُ ولا بَعْدُ ، وذلك على لغة من يشير للمفرد والمثنى والمجموع تذكيراً وتأنيثاً بإشارة الواحد المذكر ، ويكون « ذلك » إشارة إلى الأشخاص المتقدمين الذين هم أهل الكتاب ، كأنه قيل : بشرٍّ من أولئك ، يعني أن السَّلف الذي لهم شرٌّ من الخَلَفِ ، وعلى هذا يجيء قوله : « مَنْ لَعَنَه » مفسراً [ لنفس « ذلك » وإن كان ضمير أهل الكتاب وهو قول عامة المفسرين فيشكل ويحتاج إلى جواب ] ووجه الإشكال أنه يصير التقدير : هل أنبئكم يا أهل الكتاب بِشَرٍّ من ذلك ، و « ذلك » يرادُ به المنقوم ، وهو الإيمان ، وقد علم أنه لا شَرَّ في دين الإسلام ألبتة ، وقد أجاب الناس عنه ، فقال الزمخشري عبارةً قرر بها الإشكال المتقدم ، وأجاب عنه بعد أن قال : فإن قلت : المثوبة مختصة بالإحسان ، فكيف وقعت في الإساءة؟ قلت : وضعت موضع عقوبة ، فهو كقوله : [ الوافر ]
1988- . ... تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
ومنه { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] ، وتلك العبارة التي ذكرتها [ لك ] هي أن قال : « فإن قلت : المُعَاقب من الفريقين هم اليهود ، فلمَ شورك بينهم في العقوبة؟
قلت : كان اليهود - لعنوا - يزعمون أن المسلمين ضالُّون مستوجبون للعقوبة ، فقيل لهم : مَنْ لعنه الله شَرٌّ عقوبة في الحقيقة ، فاليقين لأهل الإسلام في زعمكم ودعواكم » .
وفي عبارته بعض علاقة وهي قوله : « فَلِمَ شورك بينهم » أي : بين اليهود وبين المؤمنين .
وقوله : « من الفريقين » يعني بهما أهل الكتاب المخاطبين ب « أنبئكم » ، ومَنْ لعنه الله وغضب عليه ، وقوله : « في العقوبة » ، أي : التي وقعت المثوبة موقعها ، ففسرها بالأصل ، وفسَّر غيره المثوبة هنا بالرجوع إلى الله - تعالى - يوم القيامة ، ويترتب على التفسيرين فائدة تظهر قريباً .
قال القرطبي : المعنى فبشِّر من نقمكم علينا ، وقيل : من شر ما تريدون لنا من المكروه ، وهذا جواب لقولهم : « ما نعرف ديناً أشرَّ من دينكم » .
و « مَثُوبَةً » نصبٌ على التمييز ، ومميَّزُها « شَرٌّ » ، وقد تقدَّم في البقرة الكلامُ على اشتقاقها ووزنها ، فَلْيُلْتَفَتْ إليه . قوله تعالى : « عِنْدَ الله » فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلقٌ بنفس « مَثُوبَةٌ » ، إن قُلْنا : إنها بمعنى الرجوع؛ لأنك تقول : « رَجَعْتُ عِنْدَهُ » ، والعندية هنا مجازية .
والثاني : أنه متعلِّق بمحذوف؛ لأنه صفة ل « مَثُوبَةً » ، وهو في محلِّ نصبٍ ، إن قلنا : إنها اسمٌ مَحْضٌ وليستْ بمعنى الرجوعِ ، بل بمعنى عقوبة .
وقرأ الجمهورُ : « أنَبِّئُكُمْ » بتشديد الباء من « نَبَّأ » ، وقرأ إبراهيم النَّخَعِيُّ ويحيى بْنُ وثَّابٍ : « أنْبِئُكُمْ » بتخفيفها من « أنْبَأَ » ، وهما لغتان فصيحتان ، والجمهور أيضاً على « مَثُوبَة » بضم الثاء وسكون الواو ، وقرأ الأعرَجُ وابن بُرَيْدَة ونبيح وابن عمران : « مَثْوبة » بسكون الثاء وفتح الواو ، وجعلها ابن جِنِّيّ في الشذُوذِ؛ كقولهم « فَاكِهَةٌ مَقْودَةٌ للأذَى » ، بسكون القاف وفتح الواو ، يعني : أنه كان من حقِّها أن تُنْقَلَ حركةُ الواو إلى الساكن قبلها ، وتُقْلب الواوُ ألفاً ، فيقال : مَثَابَة ومقادَة كما يقال : « مَقَام » والأصل : « مَقْومٌ » .
قوله تعالى : « مَنْ لَعَنَهُ » في محلِّ « مَنْ » أربعةُ أوجه :
أحدها : أنه في محلِّ رفع على خبر مبتدأ مضمرٍ ، تقديره : هُوَ مَنْ لَعنَهُ الله فإنه لما قال : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك } ، فكأنَّ قَائِلاً قال : من ذلك؟ فقيل : هو من لَعَنَهُ الله .
ونظيرُهُ قوله تعالى : { قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم النار } [ الحج : 72 ] أي : هو النار .
وقدَّر مكيٌّ قبله مضافاً محذوفاً ، قال : « تقديرُه : لَعْنُ مَنْ لَعَنَهُ الله » ، ثم قال : وقيل : « مَنْ » في موضعِ خَفْضٍ على البدلِ من « بِشَرٍّ » بدلِ الشيء من الشَّيْء ، وهو هو ، وكان ينبغي له أن يقدِّرَ في هذا الوجه مضافاً محذوفاً؛ كما قدَّره في حالة الرفع؛ لأنه إنْ جَعَلَ « شَرًّا » مراداً به معنًى ، لزمه التقديرُ في الموضعين ، وإن جعله مراداً به الأشخاصُ ، لزمَهُ ألاَّ يُقَدَّر في الموضعَيْن .
الثاني : أنه في محل جر ، كما تقدَّم بيانُه عن مكيٍّ والمعنى : أنبئكم عن من لَعَنَهُ الله .
الثالث : أنه في محلِّ نصبٍ على البَدَل من محل « بِشَرٍّ » .
الرابع : أنه في محلِّ نصبٍ على أنه منصوبٌ بفعل مقدَّر يدل عليه « أنَبِّئُكُمْ » ، تقديره : أعَرِّفُكُمْ من لَعَنَهُ الله ، ذكره أبو البقاء ، و « مَنْ » يُحْتَملُ أن تكون موصولةً ، وهو الظاهرُ ، ونكرةً موصوفةً ، فعلى الأوَّل : لا محلَّ للجملة التي بعدها ، وعلى الثاني : لها محلٌّ بحسب ما يُحْكَمُ على « مَنْ » بأحد الأوجه السابقة ، وقد حمل على لفظها أولاً في قوله « لَعَنَهُ » و « عَلَيْهِ » ، ثم على معناها في قوله : « مِنْهُمُ القِرَدَة » ، ثم على لفظها في قوله : « وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ » ثم على لفظها في قوله : « أولَئِكَ » ، فجَمَع في الحمل عليها أربعَ مرَّاتٍ .
و « جَعَلَ » هنا بمعنى « صَيَّرَ » فيكون « مِنْهُمْ » في محل نصب مفعولاً ثانياً ، قُدِّم على الأول فيتعلق بمحذوف ، أي : صَيَّر القردةَ والخنازيرَ كائِنِينَ منهم ، وجعلها الفارسيُّ في كتاب « الحُجَّة » له بمعنى « خَلَقَ » ، قال ابن عطية : « وهذه منه - رحمه الله - نزعةٌ اعتزاليَّة؛ لأن قوله : » وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ « ، تقديره : ومن عَبَد الطَّاغُوت ، والمعتزلةُ لا ترى أن الله تعالى يُصَيِّرُ أحَداً عابد طاغُوتٍ » انتهى ، والذي يُفَرُّ منه في التَّصْييرِ هو بعينه موجودٌ في الخَلْق .
وجعل أبو حيان قوله تعالى { مَن لَّعَنَهُ الله } إلى آخره - مِنْ وَضْعِ الظاهرِ موضعَ المضْمَر؛ تنبيهاً على الوصف الذي به حصل كونهم شرًّا مثوبةً ، كأنه قيل : قل هَلْ أنبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلك عند الله مَثُوبَةً؟ أنتم ، أيْ : هُمْ أنْتُمْ ، ويَدُلُّ على هذا المعنى قوله بعدُ : { وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا آمَنَّا } [ المائدة : 61 ] ، فيكون الضميرُ واحداً ، وجعل هذا هو الذي تقتضيه فصاحةُ الكلام ، وقرأ أبيُّ بْنُ كَعْبٍ وعبد الله بْنُ مَسْعُود - رضي الله عنهما - : « من غضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَجَعَلهُمْ قِرَدَةً » وهي واضحةٌ .
فصل
المُرادُ { مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ } يعني : اليَهُودَ ، { وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة } : وهم أصْحَابُ السَّبْتِ ، و « الخَنَازِير » : وهم كُفَّارُ مائِدة عيسى - عليه الصلاة والسلام - ، ورُوِي [ عن ] عَلِيّ بن أبي طَلْحَة عن ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - أنَّ الممسُوخِين مِنْ أصْحَاب السَّبْت فشبابُهُم مُسِخُوا قِرَدَةً ، وَمَشَايِخُهُمْ مُسِخُوا خَنَازِيرَ .
قوله تعالى : « وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ » في هذه الآية أربعٌ وعشرون قراءة ، اثنتان في السَّبْعِ ، وهما « وعَبَدَ الطَّاغُوت » على أنَّ « عَبَدَ » فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للفاعل ، وفيه ضميرٌ يعودُ على « مَنْ » ؛ كما تقدَّم ، وهي قراءة جمهور السَّبْعة [ غيرَ حَمْزة ] أي : جعل منهم من « عَبَدَ الطَّاغُوتَ » أي : أطَاعَ الشَّيْطَان فيما سَوَّل له ، ويؤيده قراءة ابن مسعُودٍ « وَمَنْ عَبَدُوا الطَّاغُوتَ » .
والثانية : « وَعبُدَ الطَّاغُوتِ » بضم الباء ، وفتح الدال ، وخَفْض الطاغوتِ ، وهي قراءةُ حمزة - رحمه الله - والأعْمَشِ ويحيى بْنِ وثَّاب؛ وتوجيهُها كما قال الفارسيُّ وهو أن « عَبُداً » واحدٌ يُرادُ به الكَثْرةُ ، كقوله تعالى : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ } [ النحل : 18 ] وليس بجَمْعِ « عَبْدٍ » ؛ لأنه ليس في أبنيةِ الجَمْعِ مثلُه ، قال : « وقد جاءَ على فعُلٍ؛ لأنه بناءٌ يُرَادُ به الكثرةُ والمبالغةُ في نحْوِ يَقُظٍ وندُسٍ؛ لأنه قد ذهب في عبادة الطاغوت كلَّ مذْهَبٍ ، وبهذا المعنى أجاب الزمخشريُّ أيضاً ، قال - رحمه الله تعالى - : معناه الغُلُّو في العبوديَّة؛ كقولهم : » رَجُلٌ حَذُرٌ وفَطُنٌ « للبليغ في الحَذَر والفطْنة؛ وأنشد لِطَرَفَة : [ الكامل ]
1989- أبَنِي لُبَيْنَى ، إنَّ أمَّكُم ... أمَةٌ ، وَإِنَّ أبَاكُمُ عَبُدُ
قد سَبَقُهمَا إلى هذا التوجيهِ أبو إسْحَاق ، وأبو بَكْر بنُ الأنْبَارِيِّ ، قال أبو بَكْرٍ : » وضُمَّتِ الباءُ للمبالغةِ؛ كقولهم للفَطِن : « فَطُنٌ » وللحَذِر : « حَذُرٌ » ، يَضُمُّون العين للمبالغةِ؛ قال أوس بن حُجْرٍ : [ الكامل ]
1990- أبَنِي لُبَيْنَى ، إنَّ أمَّكُمُ ... أمَةٌ ، وإنَّ أبَاكُمُ عَبُدُ
بضمِّ الباء « . ونَسَب البيت لابن حُجْر ، وقد تقدَّم أنه لطرفة ، ومِمَّنْ نَسَبه لطرفة الشيخُ شهابُ الدينِ أبو شَامَةَ .
وقال أبو إسحاق : ووجْهُ قراءةِ حمزة : أنَّ الاسم بُني على » فَعُلٍ « ؛ كما تقول : » رَجُلٌ حَذُرٌ « ، وتأويلُه أنه مبالغٌ في الحَذَرِ ، فتأويلُ » عَبُدٍ « : أنَّه بلغَ الغايةَ في طاعة الشيطانِ ، وكأنَّ هذا اللفظ لفظٌ واحدٌ يَدُلُّ على الجَمْعِ؛ كما تقول للقوم » عَبُدُ العَصَا « تريدُ : عَبيدَ العَصَا ، فأخذ أبو عليّ هذا ، وبَسَطَهُ . ثم قال » وجاز هذا البناءُ على عَبْدٍ؛ لأنه في الأصلِ صِفَةٌ ، وإن كان قد استُعْمِلَ استعمالَ الأسماءِ ، لا يُزيله ذلك عن حُكْمِ الوصْفِ ، كالأبْطَحِ والأبْرَقِ استُعْمِلاَ استعمال الأسماء حتَّى جُمِعَا جَمْعَهَا في قولهم : أبَارِق وأبَاطِح كأجَادِل ، جَمْع الأجْدَل ، ثم لم يُزِلْ ذلك عنهما حكم الصفة؛ يَدُلُّكَ على ذلك مَنْعُهم له الصَّرْف؛ كأحْمَرَ ، وإذا لم يَخْرج العبدُ عن الصفة ، لم يمتنعْ أنْ يُبنَى بناءَ الصفات على فَعُلٍ ، نحو : يَقُظٍ « .
وقال البَغَوِي : هُمَا لُغَتَانِ : » عَبْد « بجزم الباء ، و » عَبُد « بضمها ، مثل سَبْع ، وَسَبُع .
وطعن بعض الناس على هذه القراءة ، ونسب قارئها إلى الوهْم؛ كالفراء ، والزجاج ، وأبي عُبَيْدٍ ، ونصيرٍ الرازيِّ النحويِّ صاحب الكسائيِّ؛ قال الفرَّاء : » إنما يجوز ذلك في ضرورةِ الشِّعْرِ - يعني ضمَّ باء « عَبُدٍ » - فأمَّا في القراءة فَلاَ « ، وقال أيضاً : » إنْ تكنْ لغةً مِثْلَ حَذُرٍ وعَجُلٍ ، جاز ذلك ، وهو وجهٌ ، وإلاَّ فلا تجوزُ في القراءة « ، وقال الزَّجَّاج : » هذه القراءةُ ليستْ بالوجهِ؛ لأنَّ عَبُداً على فَعُلٍ ، وهذا ليس من أمثلةِ الجَمْعِ « ، وقال أبو عُبَيْدٍ : » إنما معنى العَبُدِ عندهم الأعْبُدُ ، يريدون خَدَم الطَّاغوتِ ، ولم نجدْ هذا يَصِحُّ عند أحدٍ من فصحاء العرب أن العَبْدَ يقال فيه عَبُدٌ ، وإنما عَبْدٌ وأعْبُدٌ « ، وقال نصيرٌ الرزايُّ : » هذا وَهْمٌ مِمَّن قرأ به ، فليتَّق الله مَنْ قرأ به ، وليسألْ عنه العلماء حتى يُوقَفَ على أنه غير جائز « .
قال شهاب الدين : قد سألوا العلماءَ عن ذلك ووجدوه صحيحاً في المعنى بحمد الله تعالى ، وإذا تواتر الشيءُ قرآناً ، فلا التفاتَ إلى مُنْكِره؛ لأنه خَفِيَ عليه ما وَضَح لغيره .
وقَدْ ذَكَرُوا في تَوْجِيه هذه القِرَاءة وُجُوهاً : مِنْهَا ما تقدَّمَ [ من أنَّهم ] ضَمُّوا البَاءَ للمبالَغَة ، كقولِهِم : « حَذُر » و « فَطُن » ومنها ما نقله البَغَوِي وغيره : أنَّ « العبْد » و [ « العبُد » ] لغتان كقولهم سَبْع ، وسَبُع .
ومنها : أن العَبْد جمعه عِبَاد ، والعِبَادُ جَمْعُ عُبُد ، كثِمَار وَثُمُر ، فاستثقلوا ضَمَّتَيْن مُتَواليتيْن فأبْدِلت الأولى فَتْحَة .
ومنها : يحتمل أنهم أرادوا أعْبُد الطَّاغُوت ، مثل فَلْسٍ وأفْلُسٍ ثم [ حُذِفَتِ « الهَمْزَةُ » ونقلت حَرَكَتُها إلى « العَيْن » .
ومنها : أنه أراد : وعبدةَ الطَّاغُوت ، ثم ] حذفت الهاء وضم الباء لِئَلاَّ يُشْبِه الفِعْلَ . وأمَّا القراءاتُ الشاذَّةُ فقرأ أبَيٌّ : « وعَبَدُوا » بواو الجمع؛ مراعاةً لمعنى « مَنْ » ، وهي واضحةٌ ، وقرأ الحسنُ البصريُّ في رواية عبَّادٍ : « وعَبْدَ الطَّاغُوتَ » بفتح العين والدال ، وسكون الباء ، ونصب التاء من « الطَّاغُوتَ » ، وخرَّجها ابن عطية على وجهيْنِ أحدهما : أنه أراد : « وعَبْداً الطَّاغُوتَ » ، فحذف التنوينَ من « عَبْداً » ؛ لالتقاء الساكنين؛ كقوله : [ المتقارب ]
1991- . . ... وَلاَ ذَاكِرِ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلا
والثاني : أنه أراد « وعَبَدَ » بفتح الباء على أنه فِعْلٌ ماضٍ؛ كقراءة الجماعة ، إلا أنه سكَّن العينَ على نحوِ ما سكَّنها في قول الآخر : [ الطويل ]
1992- وَمَا كُلُّ مَغْبُونٍ وَلَوْ سَلْفَ صَفْقُهُ .. . . .
بسكون اللام ، ومثله قراءةُ أبي السَّمَّال : { وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ } [ المائدة : 64 ] بسكون العين ، قال شهاب الدين : ليس ذلك مثل « لُعْنُوا » ؛ لأنَّ تخفيف الكسْرِ مقيسٌ؛ بخلاف الفتح؛ ومثلُ « سَلْفَ » قولُ الآخر : [ الرمل ]
1993- إنَّمَا شِعْرِيَ مِلْحٌ ... قَدْ خُلِطْ بجُلْجُلاَنِ
من حيث إنه خَفَّف الفَتْحة . وقال أبو حيان - بعد أن حكى التخريج الأوَّل عن ابن عطية - : لا يَصِحُّ؛ لأنَّ عَبْداً لايمكنُ أن ينصبَ الطاغوتَ؛ إذ ليس بمصدرٍ ولا اسمِ فاعلٍ ، فالتخريجُ الصحيحُ أن يكون تخفيفاً من « عَبَدَ » ك « سَلْفَ » في « سَلَفَ » ، قال شهاب الدين : لو ذكر التخريجَيْن عن ابن عطيَّة ، ثم استشكل الأولَ ، لكان إنصافاً؛ لئلا يُتَوَهَّم أن التخريج الثاني له ، ويمكن أن يقال : إنَّ « عَبْداً » لِما في لفظه من معنى التذلل والخضوعِ دَلَّ على ناصبٍ للطاغوت حُذِفَ ، فكأنه قيل : مَنْ يعبدُ هذا العَبْدَ؟ فقيل : يَعْبُدُ الطاغوتَ ، وإذا تقرَّر أنَّ « عَبْدَ » حُذِفَ تنوينُه فهو منصوبٌ عطْفاً على القِردَةِ ، أي : وجعلَ منْهُمْ عَبْداً للطَّاغوتِ .
وقرأ الحسنُ أيضاً في روايةٍ أخرى كهذه القراءة ، إلا أنه جَرَّ « الطَّاغُوت » وهي واضحةٌ ، فإنه مفرد يُرادُ به الجنسُ أضيفَ إلى ما بعده ، وقرأ الأعْمَشُ والنخَعِيُّ وأبو جعفر : « وعُبِدَ » مبنيًّا للمفعول ، « الطَّاغُوتُ » رفعاً ، وقراءة عبد الله كذلك ، إلا أنَّه زاد في الفعل تاء التأنيث ، وقرأ : « وعُبِدَتِ الطَّاغُوتُ » والطاغوتُ يذكَّر ويؤنَّث؛ قال تعالى : { والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا } [ الزمر : 17 ] وقد تقدَّم في البقرة [ الآية : 25 ] ، قال ابن عطية : « وضَعَّفَ الطبريُّ هذه القراءةَ ، وهي متجهةٌ » ، يعني : قراءةَ البناءِ للمفعولِ ، ولم يبيِّنْ وجهَ الضعفِ ، ولا توجيهَ القراءة ، ووجهُ الضعْفِ : أنه تخلو الجملة المعطوفة على الصِّلَةِ من رابطٍ يربُطُها بالموصولِ؛ إذ ليس في « عُبِدَ الطَّاغُوتُ » ضميرٌ يعودُ على « مَنْ لَعَنَهُ الله » ، لو قلت : « أكْرَمْتُ الذينَ أهَنْتَهُمْ وضُرِبَ زَيْدٌ » على أن يكون « وضُرِبَ » عطفاً على « أكْرَمْتُ » لم يَجُزْ ، فكذلك هذا ، وأمَّا توجيهُها ، فهو كما قال الزمخشريُّ : إنَّ العائدَ محذوفٌ ، تقديرُه : « وعُبِدَ الطَّاغُوتُ فِيهِمْ أوْ بِيْنَهُمْ » .
وقرأ ابن مسعُود في رواية عبد الغفَّار عن علقمة عنه : « وعَبُدَ الطَّاغُوتُ » بفتح العين ، وضمِّ الباء ، وفتحِ الدالِ ، ورفعِ « الطَّاغُوتُ » ، وفيها تخريجان :
أحدهما : - ما ذكره ابن عطية - وهو : أن يصيرَ له أنْ عُبِدَ كالخُلُقِ والأمْرِ المعتاد المعروفِ ، فهو في معنى فَقُهَ وشَرُفَ وظَرُفَ ، قال شهاب الدين : يريد بكونه في معناه ، أي : صار له الفِقْهُ والظَّرْفُ خُلُقاً معتاداً معروفاً ، وإلاَّ فمعناه مغايرٌ لمعاني هذه الأفعال .
والثاني : - ما ذكره الزمخشري - وهو : أنْ صارَ معبوداً من دونِ الله ك « أمُرَ » ، أي : صَارَ أميراً ، وهو قريبٌ من الأوَّلِ ، وإنْ كان بينهما فرقٌ لطيفٌ .
وقرأ ابن عبَّاس في رواية عِكْرِمة عنه ومُجَاهِد ويحيى بن وثَّاب : « وَعُبُدَ الطَّاغُوتِ » بضم العين والباء ، وفتح الدال وجر « الطَّاغُوتِ » ، وفيها أقوال :
أحدها : - وهو قول الأخفش - : أنَّ عُبُداً جمع عَبِيدٍ ، وعَبِيدٌ جَمْعُ عَبْدٍ ، فهو جمعُ الجمعِ ، وأنشد : [ الرمل ]
1994- أنْسُبِ الْعَبْدَ إلى آبَائِهِ ... أسْوَدَ الْجِلْدَةِ مِنْ قَوْمٍ عُبُدْ
وتابعه الزمخشريُّ على ذلك ، يعني أنَّ عَبِيداً جمعاً بمنزلة رَغيفٍ مفرداً فيُجْمَعُ جمعُه؛ كما يُقال : رَغِيفٌ ورُغُفٌ .
الثاني - وهو قولُ ثَعْلَب - : أنه جمعُ عَابِدٍ كشَارِفٍ وشُرُفٍ؛ وأنشد : [ الوافر ]
1995- ألاَ يَا حَمْزَ للشُّرُفِ النِّوَاءِ ... فَهُنَّ مُعَقَّلاتٌ بِالْفِنَاءِ
والثالث : أنه جَمْعُ عَبْدٍ؛ كسَقْفٍ وسُقُفٍ ورَهْنٍ ورُهُنٍ .
والرابع : أنه جمع عبادٍ ، وعبادٌ جمعُ « عَبْدٍ » ، فيكونُ أيضاً جمعَ الجَمْع؛ مثل « ثِمَار » هو مع « ثَمَرَةٍ » [ ثم يُجْمَعُ على « ثُمُرٍ » ] ، وهذا؛ لأنَّ « عِباداً » و « ثِمَاراً » جمعَيْن بمنزلة « كِتَابٍ » مفرداً ، و « كِتَاب » يجمع على « كُتُب » فكذلك ما وازَنَه .
وقرأ الأعمَشُ : « وعُبَّدَ » بضمِّ العين وتشديد الباء مفتوحةً وفتحِ الدَّال ، « الطَّاغُوتِ » بالجرِّ ، وهو جمع : عَابدٍ؛ كضُرَّبٍ في جمعِ ضَاربٍ ، وخُلَّص في جمع خالصٍ .
وقرأ ابنُ مسعود أيضاً في رواية علقمة : « وعُبَدَ الطَّاغُوتِ » بضمِّ العين وفتحِ الباء والدالِ ، و « الطَّاغُوتِ » جَرًّا؛ وتوجيُهها : أنه بناءُ مبالغةٍ ، كحُطَمٍ ولُبَدٍ ، وهو اسْمُ جِنْسٍ مفردٍ يُرَادُ به الجَمْعُ ، والقولُ فيه كالقول في قراءةِ حمزة ، وقد تقدَّمَتْ .
وقرأ ابن مَسْعُودٍ في رواية عَلْقمَةَ أيضاً : « وعُبَّدَ الطَّاغُوتَ » بضمِّ العين ، وبشد الباء مفتوحة ، وفتح الدال ، ونصب « الطَّاغُوت » ؛ وخرَّجها ابن عطية على أنها جمعُ عَابِدٍ؛ كضُرَّبٍ في جمع ضارِبٍ ، وحَذَف التنوين من « عُبَّداً » ؛ لالتقاء الساكنين؛ كقوله : [ الطويل ]
1996- . . ... وَلاَ ذَاكِر اللَّهَ إلاَّ قَلِيلاَ
قال : « وقد تقدَّمَ نَظِيرُهُ » ، يعني قراءةَ : « وَعَبْدَ الطَّاغُوتَ » بفتح العين والدال ، وسكونِ الباءِ ، ونصبِ التاء ، وكان ذَكَر لها تخريجَيْن ، أحدُهما هذا ، والآخرُ لا يمكنُ ، وهو تسكينُ عين الماضي ، وقرأ بُرَيدة الأسلَمِيُّ فيما نقلَه عنه ابنُ جريرٍ « وعَابِدَ الشَّيْطَان » بنصب « عَابِدَ » وجَرِّ « الشَّيْطَانِ » بدلَ الطَّاغُوتِ ، وهو تفسيرٌ ، لا قراءةٌ ، وقرأ أبو واقدٍ الأعْرَابِيُّ : « وعُبَّادَ » بضمِّ العين وتشديد الباءِ بعدها ألف ونصبِ الدال ، والطَّاغُوتِ بالجرِّ ، وهي جمعُ عابدٍ؛ كضُرَّابٍ في ضاربٍ .
وقرأ بعضُ البصْريِّين : « وعِبَادَ الطَّاغُوتِ » بكسر العين ، وبعد الباء المخفَّفة ألف ، ونصْبِ الدال ، وجَرِّ « الطَّاغُوتِ » ، وفيها قولان :
أحدهما : أنه جمعُ عابدٍ؛ كقَائِمٍ وقيَامٍ ، وصَائِمٍ وصيَامٍ .
والثاني : أنها جمعُ عَبْد؛ وأنشد سيبَوَيْهِ : [ الوافر ]
1997- أتُوعِدُنِي بِقَوْمِكَ يَا بْنَ حَجْلٍ ... أُشَابَاتٍ يُخَالُونَ الْعِبَادَا
قال ابن عطية : « وقد يجوزُ أن يكونَ جَمْعَ » عَبْدٍ « ، وقلَّما يأتي » عِبَاد « مضافاً إلى غير الله تعالى ، وأنْشَد سيوَيْهِ : » أتُوعِدُنِي « البيتَ ، قال أبو الفتْحِ : يريد عبادَ آدم - عليه السلام - ولو أراد عِبَاد [ الله ] فليس ذلك بشَيْءٍ يُسَبُّ به أحدٌ ، فالخَلْقُ كُلُّهُمْ عِبَادُ الله » قال ابن عطيَّة : « وهذا التعليقُ بآدَمَ شاذٌ بعيدٌ ، والاعتراضُ باقٍ ، وليس هذا مِمَّا تَخَيَّلَ الشاعرُ قَصْدَهُ ، وإنما أرادَ العَبِيدَ ، فساقَتْه القافيةُ إلى العِبَادِ؛ إذ قد يُقَالُ لِمَنْ يملكه مِلْكاً مَّا ، وقد ذكر أن عربَ الحِيرةِ سُمُّوا عِبَاداً؛ لدخولهم في طاعةِ كِسْرَى ، فدانَتْهم مملكتُه » ، قال شهاب الدين : قد اشْتَهَرَ في ألسنةِ الناسِ أن « عَبْداً » المضافَ إلى الله تعالى يُجْمَعُ على « عِبَاد » وإلى غيره على « عَبِيد » ، وهذا هو الغالبُ ، وعليه بَنَى أبو محمَّد .
وقرأ عَوْنٌ العقيليُّ في رواية العبَّاس بْنِ الفَضْل عنه : « وعَابِدُ الطَّاغُوتِ » بضمِّ الدالِ ، وجَرِّ الطاغوت؛ كضَاربِ زَيْدٍ ، قال أبو عمرو : تقديرُه : « وهُمْ عَابِدُ الطَّاغُوتِ » ، قال ابن عطية : « فهو اسمُ جنْسٍ » ، قلت : يعني أنه أرادَ ب « عابد » جماعةً ، قلتُ : وهذه القراءةُ يجوز أن يكونَ أصلُها « وَعَابِدُو الطَّاغُوتِ » جَمْعَ عابد جمع سلامةٍ ، فلمَّا لَقِيتِ الواوُ لامَ التعريفِ ، حُذِفَتْ لالتقاء الساكنين ، فصار اللفظُ بدالٍ مضْمُومةٍ؛ ويؤيِّدُ فَهْمَ هذا أنَّ أبا عَمْرو قدَّر المبتدأ جَمْعاً ، فقال : « تقديرُه : هُمْ عَابِدُو » ، اللهم إلا أنْ ينقلُوا عن العقيليِّ أنه نَصَّ على قراءتِه أنها بالإفراد ، أو سمعُوهُ يقف على « عَابِد » ، أو رَأوْا مصحفَه بدالٍ دونَ واوٍ؛ وحينئذٍ تكونُ قراءته كقراءةِ ابن عبَّاس : « وعَابِدُوا » [ بالواو ] ، وعلى الجملة ، فقراءتُهما متَّحِدةٌ لفظاً ، وإنَّما يَظْهَرُ الفَرْقُ بينهما على ما قالُوه في الوقْفِ أو الخَطِّ .
وقرأ ابن عبَّاس في روايةٍ أخرى لعكْرِمَةَ : « وعَابِدُوا » بالجمْعِ ، وقد تقدَّم ذلك ، وقرأ ابن بُرَيْدَةَ : « وعَابِدَ » بنصب الدالِ؛ كضَارِبِ زَيْدٍ ، وهو أيضاً مفرد يُرادُ به الجِنْسُ ، وقرأ ابن عبَّاس وابن أبي عَبْلَة : « وعبدَ الطَّاغُوت » بفتحِ العينِ والباءِ والدالِ ، وجَرِّ « الطَّاغُوتِ » ؛ وتخريجُها : أنَّ الأصلَ : « وَعَبَدَةَ الطَّاغُوتِ » وفاعِل يُجْمَعُ على فَعَلَة ، كَفَاجِرٍ وفَجَرَةٍ ، وكَافِرٍ وكَفَرةٍ ، فحُذِفَتْ تاءُ التأنيثِ للإضافة؛ كقوله : [ الرجز ]
1998- قَامَ وُلاَهَا فَسَقوْهُ صَرْخَدَا ... أي : وُلاتُهَا؛ وكقوله : [ البسيط ]
1999- . . ... وأخْلَفُوكَ عِدَ الأمْرِ الذِي وَعدُوا
أي : عدةَ الأمرِ ، ومنه : { وَإِقَامَ الصلاة } [ الأنبياء : 73 ] أي : إقامةِ الصلاة ، ويجوزُ أن يكون « عبد » اسم جنسٍ لعابدٍ؛ كخَادِمٍ وخدمٍ ، وحينئذ : فلا حَذْفَ تاء تأنيثٍ لإضافة ، وقُرِئ : « وعبَدَةَ الطَّاغُوتِ » بثبوت التاء ، وهي دالَّةٌ على حَذْفِ التاء للإضافة في القراءةِ قبلها ، وقد تقدَّم توجيُهها أنَّ فَاعِلاً يُجْمَعُ على « فَعَلَةٍ » كَبَارٍّ وبررَةٍ ، وفَاجِرٍ وفَجَرَةٍ .
وقرأ عُبْيدُ بْنُ عُمَيْر : « وأعْبُدَ الطَّاغُوتِ » جمع عَبْدٍ ، كفَلْسٍ وأفْلُس ، وكَلْبٍ وأكْلُبٍ ، وقرأ ابن عبَّاس : « وعَبِيدَ الطَّاغُوتِ » جمعَ عَبْدٍ أيضاً ، وهو نحو : « كَلْبٍ وكَلِيبٍ » قال : [ الطويل ]
2000- تَعَفَّقَ بِالأرْطَى لَهَا وَأرَادَهَا ... رِجَالٌ فَبَذَّتْ نَبْلَهُمْ وَكَلِيبُ
وقُرئ أيضاً : « وعَابِدِي الطَّاغُوتِ » ، وقرأ عبد الله بن مسعُود : « ومَنْ عَبَدُوا » ، فهذه أربعٌ وعشرون قراءة ، وكان ينبغي ألاَّ يُعَدَّ فيها : « وعَابِدَ الشَّيْطَانِ » ؛ لأنها تفسيرٌ ، لا قراءة . وقال ابن عطيَّة : « وقد قال بعضُ الرواة في هذه الآية : إنها تجويزٌ ، لا قراءة » يعني : لَمَّا كَثُرت الرواياتُ في هذه الآية ، ظَنَّ بعضُهم؛ أنه قيل على سبيلِ الجَوَاز ، لا أنها منقولةٌ عن أحَدٍ ، وهذا لا ينبغي أنْ يُقال ، ولا يُعْتقدَ؛ فإنَّ أهلَها إنما رَوَوْهَا قراءةً تَلَوْهَا على مَنْ أخَذُوا عنه ، وهذا بخلاف و « عَابِدَ الشَّيْطَانِ » ، فإنَّه مخالفٌ للسَّوَاد الكريم .
وطريقُ ضبْطِ القراءةِ في هذا الحَرْفِ بعدما عُرِفَ القُرَّاء : أن يقال : سبع قراءاتٍ مع كَوْنِ « عَبَدَ » فعلاً ماضياً ، وهي : وعَبَد ، وعَبَدُوا ، ومَنْ عَبَدُوا ، وعُبِدَ ، وعُبِدَت ، وعَبُدَ ، وعَبْدَ في قولنا : إنَّ الباء سَكَنَتْ تخفيفاً ، ك « سَلْفَ » في « سَلَفَ » ، وتِسْعُ قراءاتٍ مع كونه جمعَ تكسِيرٍ ، وهي : وعُبُدَ ، وعُبَّدَ ، مع جَرِّ الطاغوتِ ، وعُبَّدَ مع نصبه ، وعُبَّاد ، وعَبَدَ على حَذْفِ التاءِ للإضافةِ ، وعَبَدَةَ ، وأعْبُد ، وعَبِيدَ ، وستٌّ مع المفْرَدِ : وعَبُدَ ، وعُبَدَ ، وعَابِدَ الطَّاغُوتِ ، وعَابِدُ الطاغوتِ بضم الدال ، وعَابِدَ الشيطانِ ، وعَبْدَ الطَّاغُوتِ ، وثِنتان مع كونه جمع سلامة : وعَابِدُوا بالواو ، وعَابِدِي بالياء ، فعلى قراءةِ الفِعْلِ يجُوزُ في الجملةِ وجهان :
أحدهما : أن تكون معطوفةً على الصِّلة قبلها ، والتقدير : مَنْ لَعَنَهُ الله وعَبَدَ الطَّاغُوتَ .
والثاني : أنه ليس داخلاً في حَيِّز الصلةِ ، وإنما هو على تقديرِ « مَنْ » ، أي : ومن عَبَدَ؛ ويدُلُّ له قراءةُ عبد الله بإظهارِ « مَنْ » ، إلاَّ أنَّ هذا - كما قال الواحديُّ - يؤدِّي إلى حَذْفِ الموصولِ وإبقاءِ صلتِه ، وهو ممنوعٌ عند البصريِّين ، جائزٌ عند الكوفيين ، وسيأتي جميعُ ذلك في قوله تعالى : { وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ } [ العنكبوت : 46 ] ، أي : وبالذي أُنْزِلَ ، وعلى قراءةِ جمع التكسير ، فيكون منصوباً عطفاً على القِرَدَةِ والخَنَازِيرِ ، أي : جَعَل منهمُ القِرَدَةَ وعِبَادَ وعُبَّادَ وعَبِيدَ ، وعلى قراءةِ الإفراد كذلك أيضاً ، ويجوزُ النصبُ فيها أيضاً من وجهٍ آخر ، وهو العطفُ على « مَنْ » في { مَن لَّعَنَهُ الله } ، إذا قلنا بأنه منصوبٌ على ما تقدَّم تحريرُه قبلُ ، وهو مرادٌ به الجنْسُ ، وفي بعضها قُرئ برفعه؛ نحو : « وعَابِدُ الطَّاغُوتِ » ، وتقدَّم أن أبا عمرو يُقَدِّر له مبتدأ ، أي : هُمْ عَابِدُو وتقدَّم ما في ذلك .
قال شهاب الدين : وعندي أنه يجوزُ أن يرتفع على أن معطوفٌ على « مَنْ » في قوله تعالى { مَن لَّعَنَهُ الله } ؛ ويَدُلُّ لذلك : أنهم أجازوا في قراءةِ عبد الله : « وَعَابِدُوا » بالواوِ هذين الوجهَيْن ، فهذا مثله ، وأما قراءة جمع السلامة ، فمن قرأ بالياء ، فهو منصوبٌ؛ عطفاً على القردةِ ، ويجوزُ فيه وجهان آخران :
أحدهما : أنه منصوبٌ عطفاً على « مَنْ » في { مَن لَّعَنَهُ الله } إذا قلنا : إنَّ محلَّها نصبٌ كما مَرَّ .
والثاني : أنه مجرورٌ؛ عطفاً على { مَن لَّعَنَهُ الله } أيضاً ، إذا قُلْنا بأنَّها في محلِّ جرٍّ بدلاً من « بِشَرٍّ » ؛ كما تقدَّم إيضاحُه ، وهذه أوجهٌ واضحةٌ عَسِرةُ الاستنباطِ ، والله أعلمُ .
ومَنْ قرأ بالواو فرفعه : إمَّا على إضمار مبتدأ ، أي : هُمْ عَابِدُوا الطَّاغُوتِ ، وإمَّا نَسَقٌ على « مَنْ » في قوله تعالى : { مَن لَّعَنَهُ الله } كما تقدَّم .
فصل
قِيلَ : الطَّاغُوتُ الْعِجْل ، وقيل : الأحْبَارُ ، وكلُّ مَنْ أطاعَ أحَداً فِي مَعْصِيَةٍ فَقَدْ عَبَدَه .
واحْتَجُّوا بهذه الآية على أنَّ الكُفْرَ بِقَضَاءِ اللَّهِ ، قالُوا : لأنَّ تقديرَ الآيَة : وجَعَلَ اللَّهُ منهم من عَبَدَ الطَّاغُوت ، وإنَّما يُعْقَلُ معنى هذا الجَعْل ، إذا كانَ هُوَ الذي جعل فيهم تِلْكَ العِبَادَةَ ، إذْ لوْ كَانُوا هُمُ الجَاهِلُون لكَانَ اللَّهُ تعالى [ ما ] جعلهم عَبَدَة الطَّاغُوت ، بلْ كَانُوا هُمُ الذين جعلوا أنْفُسَهُم كذلك وذلك خِلافُ الآية .
قالتِ المُعْتَزِلَة : مَعْنَاه أنَّهُ تعالى حَكَمِ عليهم بذلك كَقوْلِهِ تعالى : { وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً } [ الزخرف : 19 ] وقد تقدَّمَ الكلامُ فيه .
[ قوله تعالى : « أولئك شَرٌّ » مبتدأ وخبر ، و « مكاناً » نصب على التمييز ، نَسَب الشَّر للمكان وهو لأهله ، كنايةً عن نهايتهم في ذلك ] كقولهم : فلانٌ طَوِيلُ النِّجَادِ كَثِيرُ الرَّمَادِ ، وحَاصِلُهُ يرجع إلى الإشَارَةِ إلى الشَّيْءِ بذكرِ لوَازِمِه وتَوَابِعِهِ و « شَرّ » هنا على بابه من التفضيل ، والمفضَّلُ عليه فيه احتمالان :
أحدهما : أنهم المؤمنون ، فإن قيل : كيف يُقال ذلك ، والمؤمنون لا شَرَّ عنْدَهُمْ ألبتة؟ فالجواب من وجهين :
أحدهما : - ما قاله النحاس - أنَّ مكانَهم في الآخرة شَرٌّ مِنْ مكانِ المؤمنين في الدُّنيا؛ لِمَا يلحقُهم فيه من الشَّرِّ ، يعني : من الهمومِ الدنيويةِ ، والحاجةِ ، والإعسارِ ، وسماعِ الأذَى ، والهَضْمِ من جانبهم ، قال : « وهذا أحسنُ ما قيل فيه » .
والثاني : أنه على سبيلِ التنازُلِ والتسليم للخَصْم على زعمه؛ إلزاماً له بالحُجَّة ، كأنه قيل : شَرٌّ من مكانِهِمْ في زعْمِكُمْ ، فهو قريبٌ من المقابلة في المعنى .
والثاني من الاحتمالين : أنَّ المفضَّل عليه هم طائفةٌ من الكفارِ ، أي : أولئكَ الملعونَون المغضُوبُ عليهم المجعُولُ منهم القردةُ والخنازيرُ العابدُونَ الطَّاغوت - شرٌّ مكاناً من غيرهم مِنَ الكفرة الذين لم يَجْمَعُوا بَيْنَ هذه الخصَالِ الذَّميمة .
قوله تعالى : { وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السبيل } أي : طريق الحقِّ .
قال المُفَسِّرون : لمَّا نزلت هذه الآيَةُ عيَّر المسلمُون أهْلَ الكِتَاب ، وقالُوا : يا إخْوَان القِرَدَةِ والخَنَازِير ، فافْتَضَحُوا ونَكَّسُوا رؤُوسَهم قال الشَّاعِر : [ الرجز ]
2001- فَلَعْنَةُ اللَّهِ على اليَهُودِ ... إنَّ اليَهُودَ إخْوَةُ القُرُودِ
وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)
قوله تعالى : { وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا آمَنَّا } : الضميرُ المرفوعُ لليهودِ المعاصرينَ؛ فحينئذ : لا بُدَّ من حذفِ مضافٍ ، أي : وإذا جاءَكُمْ ذريتُهم ، أو نَسْلُهم؛ لأنَّ أولئك المجعولَ منهم القردَةُ والخنازيرُ ، لم يَجِيئُوا ، ويجوزُ ألاَّ يقدَّر مضافٌ محذوفٌ؛ وذلك على أن يكونَ قولُه { مَن لَّعَنَهُ الله } [ المائدة : 60 ] إلى آخره عبارةً عن المخاطَبِينَ في قوله تعالى : { يَا أَهْلَ الكتاب } [ المائدة : 19 ] ، وأنه مِمَّا وُضِع فيه الظاهرُ موضعَ المضْمَرِ ، وكأنه قيل : أنْتُمْ ، كذا قاله أبو حيان ، وفيه نظرٌ؛ فإنه لا بدَّ من تقدير مضافٍ في قوله تعالى : { وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة } [ المائدة : 60 ] ، تقديره : وجعل من آبائِكُمْ أو أسْلافِكُمْ ، أو مِنْ جِنْسِكُمْ؛ لأن المعاصِرِينَ ليسوا مجعولاً منهم بأعيانِهِم ، فسواءٌ جعله مِمَّا ذكر أم لا ، لا بُدَّ من حذف مضاف .
قوله تعالى : { وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر } هذه جملةٌ حاليةٌ ، وفي العامل فيها وجهان :
أحدهما - وبه بدأ أبو البقاء - : أنه « قَالُوا » ، أي : قالُوا كذا في حَالِ دخولهم كفرةً وخُرُوجهم كفرةً ، وفيه نظرٌ؛ إذ المعنى يأبَاهُ .
والثاني : أنه « آمَنَّا » ، وهذا واضحٌ ، أي : قالوا آمنَّا في هذه الحالِ ، و « قَدْ » في « وَقَدْ دَخَلُوا » « وَقَدْ خَرَجُوا » لتقريب الماضِي من الحال ، وقال الزمخشريُّ : « ولمعنى آخرَ ، وهو : أنَّ أماراتِ النفاقِ كانَتْ لائحةً عليهم؛ فكان الرسولُ - عليه السلام - متوقِّعاً لإظهار الله تعالى - ما كتموه ، فدَخَلَ حرفُ التوقُّعِ ، وهو متعلِّقٌ بقوله » قَالُوا آمَنَّا « ، أي : قالوا ذلك وهذه حالهم » ، يعني بقوله : « وهُو متعلِّقٌ » ، أي : والحال ، وقوةُ كلامه تُعْطِي : أنَّ صاحبَ الحالِ وعاملَها الجملةُ المَحْكِيَّة بالقَوْل ، و « بالكُفْرِ » متعلقٌ بمحذُوفٍ؛ لأنه حالٌ من فاعلِ « دَخَلُوا » ، فهي حال من حال ، أي : دَخَلُوا ملتبسين بالكُفْر ، أي : ومعهُمُ الكُفْرُ؛ كقولهم : « خَرَجَ زَيْدٌ بِثيَابِهِ » ، وقراءةِ من قرأ : { تَنبُتُ بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] ، أي : وفيها الدُّهْنُ؛ ومنه ما أنشدَ الأصمعيُّ : [ الطويل ]
2002- وَمُسْتَنَّةٍ كَاسْتِنَانِ الْخَرُو ... فِ قَدْ قَطَعَ الحَبْلَ بِالْمِرْوَدِ
أي : ومِرْوَدُهُ فيه ، وكذلك « بِهِ » أيضاً حالٌ من فاعل « خَرَجُوا » . فالبَاءُ في قوله تعالى : { دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } ، يُفيدُ أنَّ الكُفْرَ معهم حالةَ الدُّخُولِ والخُرُوجِ من غيْرِ نُقْصَانٍ ، ولا تَغْيِير ألْبَتَّة ، كما تَقُولُ : « دَخَلَ زَيْدٌ بِثَوْبِهِ وخَرَجَ » أي : ثوْبُهُ حال الخُرُوجِ ، كما كَانَ حَالَ الدُّخُول . وقوله : « وَهُمْ » مبتدأ ، و « قَدْ خَرَجُوا » خبرُه ، والجملةُ حالٌ أيضاً عطفٌ على الحالِ قبلَها ، وإنما جاءتِ الأولَى فعليَّةً والثانيةُ اسميةً؛ تنبيهاً على فرطِ تهالِكهم في الكُفْرِ؛ وذلك أنهم كان ينبغي لهم ، إذا دخلُوا على الرسول - عليه الصلاة والسلام - أنْ يُؤمنُوا؛ لِما يَرَوْن من حُسْنِ شيمته وهَيْبَته ، وما يظهرُ على يديهِ الشريفة من الخوارقِ والمعجزاتِ؛ ولذلك قال بعض الكَفَرَةِ : « رَأيْتُ وَجْهَ مَنْ لَيْسَ بِكَذَّابٍ » ، فلمَّا لم يَنجَعْ فيهم ذلك ، أكَّد كفرهم الثاني بأنْ أبْرَز الجملة اسميةً صدْرُها اسمٌ ، وخبرها فعلٌ؛ ليكون الإسنادُ فيها مرتين ، وقال ابن عطية : « وقوله : » وَهُمْ « تخليصٌ من احتمالِ العبارةِ أن يدخُلَ قومٌ بالكُفْرِ ، ثم يؤمنوا ، ويخرجَ قومٌ ، وهم كَفَرَة ، فكان ينطبِقُ على الجميع ، وهم قد دخلوا بالكفر ، وقد خَرَجوا به ، فأزال اللَّهُ الاحتمال بقوله : { وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } ، أي : هُمْ بأعيانهم » ، وهذا المعنى سبقه إليه الواحديُّ ، فبسطه ابن عطيَّة ، قال الواحديُّ : { وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } أكَّد الكلام بالضَّمير ، تعييناً إياهم بالكفر ، وتمييزاً لهم عن غيَرِهِمْ ، وقال بعضهم : معنى « هُم » التأكيدُ في إضافة الكُفْر إليهم ، ونَفْيِ أن يكون من الرسولِ ما يوجبُ كفرَهُمْ؛ مِنْ سوءِ معاملته لهم ، بل كان يلطفُ بهم ويعاملُهم أحسنَ معاملةٍ ، فالمعنَى : أنهم هم الذين خَرَجُوا بالكُفْر باختيار أنفُسِهِمْ ، لا أنَّكَ أنْتَ الذي تسبَّبْتَ لبقائِهم في الكُفْر ، وقال أبو البقاء : « ويجوز أن يكون التقديرُ : وقد كانوا خرجُوا به » ، ولا معنى لهذا التأويلِ ، والواوُ في قوله تعالى : { وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون عاطفةً لجملةِ حالٍ على مثلها .
والثاني : أن تكونَ هي نفسُها واوَ الحال؛ وعلى هذا : يكونُ في الآية الكريمة حجةٌ لمن يُجِيزُ تعدُّدَ الحال لذي حالٍ مفردٍ من غير عطف ، ولا بدل إلا في أفعلِ التفضيل ، نحو : « جَاءَ زَيْدٌ ضَاحِكاً كَاتِباً » ؛ وعلى الأول : لا يجوزُ ذلك إلا بالعطفِ أو البدلِ ، وهذا شبيهٌ بالخلاف في تعدُّد الخبر .
قوله تعالى : « وإذا جَاءُوكم » يعني : هؤلاء المُنَافِقِين وقيل : هُم الذين آمَنُوا بالذي أنْزِلَ على الَّذِين آمَنُوا وجْهَ النَّهار ، دَخَلوا على النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، وقالوا : آمَنَّا بِكَ وصدَّقْنَاك فيما قُُلْتَ ، وهُمْ يُسِرُّون الكُفْر .
{ وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } أي : دخلوا كافِرِين وخرَجُوا كافِرِين ، واللَّه أعلَمُ بما يَكْتُمُون ، والغرض منه : المُبَالَغَةُ فِيمَا في قُلُوبِهِم من الجدِّ والاجتِهَادِ في المكر بالمُسْلِمِين ، والكَيْدِ والبُغْضِ والعَداوَةِ لهم .
قالت المُعْتَزِلَةُ : إنَّه تعالى أضَافَ الكُفْرَ إليْهِم حالَتَي الدخُول والخُرُوج على سبيل الذَّمِّ ، وبالَغَ في تَقْرِيرِ تِلْكَ الإضَافَةِ بقوله : { وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } ، فدلَّ هذا على أنَّه من العَبْدِ لا من اللَّه تعالى .
والجوابُ : المُعارضَةُ بالْعِلْمِ والداعي .
وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)
قوله : « وترى » : يجوز أن تكون بصريَّةً ، فيكون « يُسَارِعُونَ » حالاً ، وأن تكون العلميَّةَ أو الظنيَّة ، فينتصب « يُسَارعُونَ » مفعولاً ثانياً ، و « مِنْهُمْ » في محلِّ نصب؛ على أنه صفةٌ ل « كَثِيراً » فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي : كائناً منهم ، أو استقرَّ منهم ، وقرأ أبو حيوة : « العِدْوان » بالكسر ، و « أكْلِهِمُ » هذا مصدرٌ مضافٌ لفاعله ، و « السُّحْتَ » مفعولُه ، وقد تقدَّمَ ما فيه .
فصل
الضَّميرُ في « مِنْهُمْ » لليهُود ، والمُسَارعة في الشَّيْءِ الشُّرُوعُ فيه ، والمُراد بالإثْمِ الكذِب ، وقيل : المَعَاصِي ، والعُدْوَان الظُّلْم ، وقيل : الإثْمُ ما يخْتَصُّ بهم ، والعُدْوانُ ما يتعدَّاهُمْ إلى غيرهم ، وقيل : الإثْمُ ما كتمُوا من التَّوْراة ، والعُدْوان ما زَادُوا فيها ، « وأكْلِهِمُ السُّحْتَ » الرِّشْوَة .
وقوله تعالى : « كَثِيراً مِنْهُم » لأنَّهمُ كُلُّهُمْ ما كانُوا يَفْعَلُون ذَلِكَ ، لَفْظ المُسارعة إنما [ يُسْتَعْمَلُ ] في أكْثَرِ الأمْر في الخَيْرِ ، قال تعالى : { وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات } [ آل عمران : 114 ] وقال تعالى : { نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات } [ المؤمنون : 56 ] فكان اللاَّئِقُ بهذا الموضِعِ لفظ العَجَلَةِ .
فإن قيل : إنَّه تعالى ذكر المُسارعة [ الفائدة؛ وهي أنَّهم ] كانوا يُقْدِمُون على هَذِهِ المُنْكَرَات [ كأنهم مُحِقُّون ] فيها وقد تقدَّم حُكْمُ « مَا » مع بِئْسَ ونِعْمَ .
لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
و « لولا » : حرفُ تحضيض ومعناه التوبيخ أي : هلاَّ ، وقرأ الجَرَّاحُ وأبُو وَاقِدٍ : « الرِّبِّيُّونَ » مكان الرَّبَانِيِّين ، قال الحسن - رحمه الله - : « الرَّبَانِيُّون عُلَمَاءُ أهل الإنجيل ، والأحْبَار عُلَمَاءُ أهْل التَّوْرَاة » ، وقال غيره : كُلُّهُم في اليهُود؛ لأنَّه مُتَّصِل بذكرهم ، والمعنى : أنَّ اللَّه اسْتَبْعَدَ من عُلَمَاءِ أهْلِ الكتاب أنَّهُمْ ما نهوا سَفَلتهم وعَوامَّهُم عن المَعَاصِي ، وذلك يُدُلُّ على أنَّ تَرْكَ النَّهْي عن المنكر بمنزلة مُرْتَكِبِهِ؛ لأنَّهُ تعالى ذَمَّ الفَرِيقَيْنِ في هَذِهِ الآيَةِ على لَفْظٍ واحدٍ ، بل نقُول : أنَّ ذَمَّ تَارِك النهي عن المُنْكَر أقْوَى؛ لأنَّه قال في المُقْدِمِين على الإثْمِ والعُدْوان وأكلهم السُّحْت : { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ المائدة : 62 ] وقال في العُلَمَاء التَّاركِين للنَّهْي عن المنكر : { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } والصُّنْعُ أقوى مِنَ العَمَلِ؛ فإنَّما العمل يُسَمَّى صِناعَةً ، إذا صَارَ مُسْتَقِرّاً راسخاً مُتَمَكِّناً ، فجعل [ حُرْمَ ] العامِلين ذَنْباً غير رَاسخٍ ، وذنب التَّارِكِين للنهْي المُنْكر ذَنْباً راسِخاً ، والأمْرُ في الحقيقَة راسخاً كذلك؛ لأنَّ المعْصِيَة مرضُ الرُّوح ، وعلاجُه العِلْمُ باللَّه وبصفَاتِهِ وبأحْكَامِه ، فإذا حَصَل هذا العِلْم ولم تزل المعْصِيَة ، كان كالمَرِيض الذي يعالج بأدويته ، قَلَّ فيها الشِّفَاءُ ، ومثل هذا المرض صَعْبٌ شديد لا يَكَادُ يَزُولُ ، وكذلك العَالِمُ إذا أقْدَم على المعْصِيَة دَلّ على أنَّ مرض فَقْد الإيمَان في غايَةِ القُوَّةِ والشِّدَّةِ .
رُوِيَ عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال : هِيَ أشَدُّ آية في القُرْآن ، وعَنِ الضَّحَّاك : ما في القُرآن آية أخْوَفُ عِنْدِي مِنْهَا .
وقرأ ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - « بِئْسَمَا » بغير لام قسم ، و « قَوْلِهِمْ » مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه ، و « الإثْمَ » مفعولُه .
والظاهر أن الضمير في « كانُوا » عائدٌ على الأحْبَار والرُّهْبَان ، ويجوز أن يعودَ على المتقدِّمين .
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
في هذه الحكاية قولان :
أحدهما : أنه خبر محض ، وزعم بعضهم أنه على تقدير همزة استفهام ، تقديره : « أيد الله مغلُولة » ؟ قالوا ذلك لمَّا قَتَّر عليهم معيشتهم ، ولا يحتاج إلى هذا التقدير .
قال ابنُ الخطيب : في هذا الموْضِع إشكَالٌ ، وهُو أنَّ اللَّه تعالى حكى عن اليَهُودِ أنَّهُمْ قالوا ذَلِك ، ولا شَكَّ في أنَّ اللَّهَ تعالى صَادِقٌ في كُلِّ ما أخْبَر عنه ، ونرى [ اليهُود ] مُطبقِين مُتَّفِقِين على أنَّا لا نَقُولُ ذلكَ ولا نعْتَقدهُ ، والقولُ : بأنَّ { يَدُ الله مَغْلُولَةٌ } باطل بِبَديهَةِ العَقْل؛ لأنَّ قَوْلَنَا : اللَّهَ اسمٌ لموْجُودٍ قديم ، قادرٍ على خَلقِ العَالم وإيجَادِه وتكوينه ، وهذا الموجُود يَمْتَنِعُ أن تكون يدُهُ مَغْلُولة مُقيَّدة قَاصِرَة ، وإلاَّ فَكَيْفَ يُمْكِنُه ذلك مع قُدْرته النَّاقِصَة حِفْظ العَالم وتدبيره . إذا ثَبَتَ هذا فقد حَصَل الإشْكال في كَيْفِيَّة تَصْحيح هذا النَّقْل وهذه الرِّواية فَنَقُول فيه وُجُوهٌ :
الأوَّل : لَعَلَّ القَوْم إنَّما قالوا هذا القَوْل على سَبِيلِ الالتزام؛ فإنَّهُم لمَّا سَمِعُوا قوله تعالى : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً } [ البقرة : 245 ] قالوا : لو احْتَاج إلى القَرْضِ لكَانَ فَقِيراً عاجِزاً [ فلما حكموا بأنَّ الذي يسْتَقْرِضُ من عبادهَ شَيْئاً فقيرٌ مُحْتَاج مَغْلُولُ اليديْن ، لا جرم حكى اللَّهُ عَنْهُم هذا الكلام ] .
الثاني : لعَلَّ القوم لمَّا رأوا أصْحَاب الرَّسُول عليه الصلاة والسلام في غَايَةِ الشِّدَّةِ والفَقْرِ والحَاجَةِ ، قالُوا ذلك على ذلك سَبيلِ السُخْرِيَةِ والاسْتِهزاء .
قالوا : إنَّ إله مُحَمَّدٍ فَقِير مَغْلُولُ اليَدِ ، فَلما قالوا ذلك حَكَى اللَّه تعالى عَنْهُمْ هذا الكلام .
الثالث : قال المُفَسِّرُون - رحمهم الله - : كانُوا أكثر النَّاسِ مالاً وثَرْوَة ، فلما بَعَثَ اللَّهُ محمداً - صلَّى اللَّه عليه وعلى آله وسلم - فكذبَّوُه ضَيَّقَ اللَّهُ عليهم المَعيشَةَ ، فعند ذلك قالت اليَهُود : { يَدُ الله مَغْلُولَةٌ } أي : مَقْبُوضَةٌ من العَطَاءِ على جِهَةِ الصِّفَةِ بالبُخْلِ ، والجاهلُ إذا وقع في البلاءِ والشِّدَّة والمِحْنَة يقول مثل هَذِه الألْفَاظ .
الرابع : لعلَّه كان فيهم مِمَّن كان على مَذْهَبِ الفَلْسَفَة ، وهو أنَّهُ مُوجِبٌ لذاتِه ، وأنَّ حدوث الحوادث عنه لا يمكن إلا على نَهْجٍ واحدٍ وهو أنَّهُ تعالى غير قادر على إحْداثِ الحوادِثِ على غير الوُجُوه الَّتِي عليها تقع ، فَعَبَّرُوا عن عَدَمِ الاقْتِدَار على التَّغْيِير والتبْدِيل بغلِّ اليَد .
الخامس : قال بعضهم : المراد منه - هو قَوْلَ اليَهُود أنَّ اللَّه تعالى لا يعذِّبُنَا إلا قدْرَ الأيَّامِ التي عَبدْنَا فيها العِجْلَ - إلاَّ أنهم عبَّروا على كونه تعالى غير مُعَذِّبٍ لهم إلاَّ هذا القدر من الزمان بهذه العبارة الفاسدة ، واسَتْوجَبُوا اللَّعن بِسَبَبِ فساد العِبَادَة ، وعدم رِعَايَة الأدَب ، وهذا قول الحسن .
قال البغوي بعد أن حَكَى قولَ المُفَسِّرين ، ثم بعده قول الحَسَن : والأوَّلُ أوْلَى لمعنى قول المفسرين لِقَوْله تعالى بَعْدَ ذلك : { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } .
وقوله : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ } يحتمل الخبرَ المَحْضَ ، ويحتمل أن يُرادَ به الدعَاءُ عليهم أي : أمْسَكَتْ أيْديهم عن الخَيْرَات ، والمعنى : أنَّه - تعالى - يُعَلِّمُنَا الدُّعَاءَ عليهم ، كما عَلَّمَنَا الدُّعَاءَ على المُنافقين في قوله تعالى : { فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً } [ البقرة : 10 ] فإن قيل : كان يَنْبَغي أن يُقَال : « فَغُلَّتْ أيديهم » .
فالجَوَاب : أنَّ حَرْفَ العَطْف وإنْ كان مُضْمَراً إلا أنَّهُ حُذِفَ لفائدة ، وهي أنَّه لما حُذِفَ كان قوله « غُلَّتْ أيْدِيهم » كالكلام المبتدأ به ففيه [ زيادة ] قُوَّة؛ لأنَّ الابْتِدَاء بالشَّيْء يَدلُّ على شِدَّةِ الاهْتِمَام به وقُوَّة الاعْتِنَاء ، ونَظِيرُه في الحَذْفِ والتَّعْقِيب قوله تعالى { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قالوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً } [ البقرة : 67 ] ولَمْ يَقُل : فقالوا أتَتَّخِذنَا .
وقيل : هو من الغلِّ يوم القِيَامَةِ في النَّار كقوله تعالى : { إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ والسلاسل } [ غافر : 71 ] .
« ولُعِنُوا » عُذِّبوا « بما قالوا » فَمِنْ لَعْنِهم - أنَّهُ مَسَخَهُمْ قردة وخَنَازِير ، وضُرِبَت عليهمُ الذِّلَّة والمَسْكَنَة في الدُّنْيا ، وفي الآخِرَة بالنَّار .
قوله تعالى : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } .
وفي مصحف عبد الله : « بُسُطَانِ » يقال : « يَدٌ بُسُطٌ » على زنة « نَاقَةٌ سُرُحٌ » ، و « أحُدٌ » و « مِشْيَةٌ سُجُحٌ » ، أي : مبسوطة بالمعروف ، وقرأ عبد الله : « بَسِيطَتَانِ » ، يقال : يَدٌ بسيطةٌ ، أي : مُطْلَقَةٌ بالمَعْرُوف .
[ وغَلُّ ] اليدِ وبَسْطُهَا هنا استعارةٌ للبُخْل والجودِ ، وإن كان ليس ثَمَّ يدٌ ولا جارحة ، وكلامُ العربِ ملآنُ من ذلك ، قالتِ العربُ : « فلانٌ يُنْفِقُ بِكِلْتَا يَدَيْهِ » ؛ قال : [ الطويل ]
2003- يَدَاكَ يَدَا مَجْدٍ ، فَكَفٌّ مُفِيدَةٌ ... وَكَفٌّ إذَا مَا ضُنَّ بِالْمَالِ تُنْفِقُ
وقال أبو تمام : [ الطويل ]
2004- تَعَوَّدَ بَسْطَ الكَفِّ حَتَّى لَوَ أنَّهُ ... دَعَاهَا لقَبْضٍ لَمْ تُطِعْهُ أنَامِلُهْ
وقد استعارت العربُ ذلك حيثُ لا يدَ ألبتة ، ومنه قولُ لبيدٍ : [ الكامل ]
2005- .. إذْ أصْبَحَتَ بِيَدِ الشَّمَالِ زِمامُهَا
وقال آخر : [ الكامل ]
2006- جَادَ الحِمَى بَسْطُ اليَدَيْنِ بوابِلٍ ... شَكَرَتْ نَدَاهُ تِلاعُهُ ووِهَادُهُ
وقالوا : « بَسَطَ اليأسُ كفَّيْهِ في صَدْرِي » ، واليأسُ معنًى ، لا عينٌ ، وقد جعلوا له كفَّيْنِ مجازاً ، قال الزمخشريُّ : « فإن قلتَ : لِم ثُنِّيَتِ اليدُ في { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } ، وهي في { يَدُ الله مَغْلُولَةٌ } مفردةٌ؟ قلتُ : ليكونَ ردُّ قولهم وإنكارُه أبْلَغ وأدلَّ على إثبات غايةِ السَّخَاءِ له ، ونَفْيِ البُخْلِ عنه ، وذلك أنَّ غايةَ ما يبذله السَّخِيُّ مِنْ ماله بنفسِه : أن يعطيَه بيديه جميعاً ، فبنى المجازَ على ذلك » .
فصل
اعلم أنه قد وَرَدَ في القرآن آياتٌ كثيرة ناطِقَةٌ بإثْبَات اليد ، فتارَةً ذكر اليد من غير بيان عددٍ كقوله تعالى : { يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [ الفتح : 10 ] ، وتارةً ذكر اليدين كما في هذه الآية ، وفي قوله تعالى لإبليس عليه اللعنة { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ }
[ ص : 75 ] ، وتارة أثْبَت الأيْدي قال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً } [ يس : 71 ] ، وإذا عرف هذا فَنَقُولُ : اختفت الأمَّةُ في تَفْسِير يد اللَّه تعالى .
فقالت المُجَسِّمَةُ : إنَّها عُضْو جُسْمَانِيٌّ كما في حقِّ كُلِّ أحدٍ ، واحتَجُّوا بقوله تعالى : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } [ الأعراف : 195 ] ذكر ذلك قد جاء في إلاهيَّةِ الأصنامِ ، لأجل أنَّهُ ليْسَ لَهَا شيءٌ من هذه الأعْضَاء ، فلو لم يَحْصُل لِلَّهِ هذه لزمَ القَدْحُ في كونه إلهاً ، فلما بَطُل ذلك ، وَجَبَ إثْبَات هذه الأعْضَاء له ، قالوا : واسمُ اليد موضوع لِهَذا العُضْو ، فَحَمْلُه على شيء آخر ترك للُّغَة ، وإنَّه لا يجُوزُ .
والجوابُ عنه : أنَّه تعالى ليس بِجِسْمٍ؛ لأنَّ الجسم لا ينفَكُّ عن الحَرَكَةِ والسُّكُون وهما مُحْدَثَانِ ، وما لا يَنْفَكُّ عن المُحْدَثِ فَهُو مُحْدَثٌ ، ولأنَّ كُلَّ جسم فهو مُتَنَاهٍ في المِقْدَار ، وكلّ ما كان متناهياً في المقدار فهو محدثٌ ، ولأنَّ كلَّ جسم فهو مؤلَّفٌ من الأجزاء ، وكلّ ما كان كذلك افتقر إلى ما يؤلِّفُهُ ويُركِّبُهُ ، وكلّ ما كان كذلك فهو مُحْدَثٌ ، فَثَبت بهذه الوجوه أنَّه يمتنع كونه تعالى جِسْماً ، فيمتَنِعُ أنْ يكون عُضْواً جُسْمَانِياً .
وأما جمهور المُوَحِّدين فلهُمْ في لَفْظِ اليَدِ قولان :
أحدهما : قول من يقول : إنَّ القرآن لمَّا دلَّ على إثْبَات اليد للَّه آمنَّا باللَّه ، والعقْل دلَّ على أنَّه يمتنع أن يكون يدُ الله عبارة عن جِسْم مخْصُوصٍ وعضو مُرَكَّب من الأجزاء والأبْعَاض آمنَّا به ، فأمَّا أنَّ اليد ما هي وما حَقِيقَتُهَا ، فقد فَوَّضْنَا مَعْرِفَتَها إلى الله تعالى ، وهذه طَرِيقَةُ السَّلَفِ .
[ وثانيهما : قَوْلٌ المُتكَلِّمِين فقالوا : اليدُ تذكر في اللُّغَة على وُجُوهٍ :
أحدُها : الجَارِحَة ] .
وثانيها : النِّعْمَةُ : نقول : لفلان يد أشكُرُه عليها .
وثالثها : القُوَّةُ : قال تعالى : { أُوْلِي الأيدي والأبصار } [ ص : 45 ] فسَّرُوهُ بِذِي القُوَّةِ والعُقُول .
وحكى سيَبَويْه أنَّهُم قالوا : « لا يَدَ لَكَ بِهَذا » والمعنى : سلب كمال القُدْرَة .
رابعها : المِلْك فقال في هذه الصِّفَة : في يَدِ فُلان ، أي : في مِلْكِه قال تعالى : { الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } [ البقرة : 237 ] أي : يملِكُ ذلك . وخامسها : شِدَّةُ العِنَايَة والاخْتِصَاص ، قال : { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ ص : 75 ] ، والمراد : تخصيص آدم - عليه الصلاة والسلام - بهذا التَّشْرِيف ، فإنَّه تعالى الخالق لجميع المخلوقات ، ويُقَال : « يدي رَهْنٌ لك بالوَفَاء » إذا ضمنت له شَيْئاً .
وإذا عُرِفَ هذا فَنَقُول : اليد في حقِّ اللَّه تعالى مُمْتَنِعٌ أن تكون الجارِحَة ، وأما سائر المعاني فكُلُّهَا حَاصِلَة .
وها هنا قَوْلٌ آخر : وهو أنَّ أبا الحسن الأشْعَرِي زعم في بَعْضِ أقواله : أنَّ اليد صِفَةٌ قائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّه تعالى ، وهي صِفَةٌ سِوى القُدْرَة ، ومنْ شَأنِها التَّكْوِين على سَبِيل الاصْطِفَاءِ .
قال : ويدلُّ عليه أنَّه تعالى جعل وقوع خلق آدم بيده عِلة الكَرَامة لآدم واصْطِفَائه ، فلو كانت اليدُ [ عبارة ] عن القُدْرَةِ لامْتَنَع كونُه - عليه الصلاة والسلام - اصطُفِيَ؛ لأنَّ ذلِكَ في جَميعِ المخْلُوقَات ، فلا بُدَّ من إثْبَاتِ صِفَةٍ أخْرى وراءَ القُدْرة يقع بها الخَلْقُ والتَّكْوين على سبيلِ الاصْطِفَاء ، وأكْثَرُ العُلَمَاء زَعَمُوا : أنَّ اليد في حقِّ اللَّه تعالى عِبَارَة عنِ القُدْرة وهذا مُشْكِلٌ؛ لأنَّ قُدْرةَ اللَّه واحِدَةٌ ، ونصُّ القُرْآن نَاطِقٌ بإثْبَات اليدين تارَةً وبإثْبَاتِ الأيْدي تارةً أخْرَى ، وإن فَسَّرْتُمُوها بالنِّعْمة ، فَنَصُّ القُرْآن ناطِقٌ بإثبات اليديْن ، ونعم الله غير محدُودَةٍ ، لقوله تعالى :
{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ } [ النحل : 18 ] .
والجوابُ : إن اخْتَرْنَا تفسير اليد بالقُدْرَة ، كان الجوابُ عن الإشْكَال المذكُور : أنَّ القوْم جعلوا قولهم : { يَدُ الله مَغْلُولَةٌ } كناية عن البُخْلِ ، فأجيبوا على وِفْقِ كلامهم ، فقيل : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } ، أي : ليس الأمْرُ على ما وَصَفْتُمُوه من البُخْلِ ، بل هو جوادٌ على سَبيلِ الكمال ، وأنَّ من أعْطَى بيده فَقَدْ أعْطَى عطاءً على أكْمَل الوُجُوهِ .
وأمَّا إن اخترنَا تفسير اليد بالنِّعْمَةِ ، كان الجوابُ عن الإشْكَال المذْكُور من وجهين :
الأول : أنَّ التَّثْنِيَةَ بحسَبِ الجِنْسِ يُدخِلُ تحت كُلِّ واحدٍ من الجِنْسَيْنِ أنْوَاع لا نِهَاية لها نِعْمَة الدنيا ونعمة الدين ، ونعمة الظاهر ونعمة الباطن ، ونعمة النفع ونعمة الدفع ، ونعمة الشدة ونعمة الرخاء .
الثاني : أنَّ المُرادَ بالتَّثْنِيَةِ المُبَالَغَةُ في وَصْفِ النِّعْمة ، ألا ترى قولك « لَبَّيْكَ » ، معناه : مُساعدةٌ بعد مُسَاعَدة ، وليس المراد [ منه طاعتين ] ولا مُساعدتَيْن ، فكذلك الآيَة معناها : أنَّ النِّعْمَة مُتَظَاهِرَةٌ مُتَتَابِعَةٌ ، ليْسَت كما ادَّعَى اليَهُودُ أنَّهَا مَقْبُوضَةٌ مُمْتَنِعَة .
قوله : { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } في هذه الجملة خمسةُ أوجه :
أحدها - وهو الظاهر - : أنْ لا محلَّ لها من الإعراب؛ لأنها مستأنفة .
والثاني : أنها في محلِّ رفع؛ لأنها خبر ثان ل « يَدَاهُ » .
والثالث : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضميرِ المستكنِّ في « مَبْسُوطَتَانِ » ؛ وعلى هذين الوجهين؛ فلا بُدَّ من ضمير مقدَّرٍ عائدٍ على المبتدأ ، أو على ذي الحال ، أي : ينفقُ بهما ، وحذفُ مثل ذلك قليلٌ ، وقال أبو البقاء : { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } مستأنفٌ ، ولا يجوزُ أن يكون حالاً من الهاء - يعني في « يَدَاهُ » -؛ لشيئين :
أحدهما : أنَّ الهاءَ مضاف إليها .
والثاني : أنَّ الخبر يفْصِل بينهما ، ولا يجوز أن تكون حالاً من اليدين؛ إذ ليس فيها ضمير يعود إليهما . [ قال شهاب الدين ] : قوله : « أحدهما : أنَّ الهاء مضاف إليها » ليس ذلك بمانع؛ لأن الممنوع إنما هو مجيءُ الحَالِ من المضافِ إليه ، إذا لم يكن المضافُ جزءاً من المُضافِ إليه ، أو كجزئه أو عاملاً فيه ، وهذا من النوع الأول ، فلا مانع فيه ، وقوله : « والثاني : أن الخبر يفصلُ بينهما » هذا أيضاً ليس بمانعٍ ، ومنه : { وهذا بَعْلِي شَيْخاً } [ هود : 72 ] إذا قلنا : إن « شَيْخاً » حالٌ من اسم الإشارة ، والعامل فيه التنبيه .
وقوله : « إذْ ليسَ فيها ضميرٌ » قد تقدَّم أن العائِدَ يُقَدَّر ، أي : ينفق بهما .
الرابع : أنها حالٌ من « يدَاهُ » وفيه خلافٌ - أعني مجيءَ الحالِ من المبتدأ - ووجه المنع : أنَّ العامل في الحالِ هو العالمُ في صاحبهَا ، والعاملُ في صاحبها أمرٌ مَعْنَوِيٌّ لا لفظيٌّ ، وهو الابتداء ، وهذا على أحد الأقوال في العاملِ في الابتداء .
الخامس : أنها حالٌ من الهاء في « يَدَاهُ » ، ولا اعتبارَ بما منعه أبو البقاءِ؛ لما تقدَّم من تَصْحيح ذلك .
و « كَيْفَ » في مثل هذا التركيب شرطيةٌ؛ نحو : « كيْفَ تكُونُ أكُونُ » ومفعولُ المشيئة محذوفٌ ، وكذلك جوابُ هذا الشرط أيضاً محذوفٌ مدلولٌ عليه بالفعل السابق ل « كَيْفَ » ، والمعنى : يُنْفِقُ كما يشاءُ أنْ يُنْفِقَ يُنْفِقُ ، ويبسطُ في السَّماء ، كَيْفَ يشاء أنْ يَبْسُطَهُ يَبْسُطُهُ ، فحذف مفعول « يَشَاءُ » وهو « أنْ » وما بعدها ، وقد تقدَّم أن مفعول « يشَاء » و « يُريد » لا يُذْكران إلا لغرابتهما ، وحذفَ أيضاً جواب « كَيْفَ » وهو « يُنْفِقُ » المتأخرُ ولا جائزٌ أن يكون « يُنْفِق » المتقدمُ عاملاً في « كَيْفَ » ، لأنَّ لها صدر الكلامِ ، وما له صدرُ الكلام لا يعمل فيه إلا حرفُ الجر أو المضاف .
وقال الحوفيُّ : « كَيْفَ » سؤالٌ عن حال ، وهي نصبٌ ب « يَشَاء » ، قال أبو حيان : « ولا يُعْقَلُ هنا كونُها سُؤالاً عن حال » ، وقد تقدم الكلامُ عليها مشبعاً عِنْدَ قوله : { يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ } [ آل عمران : 6 ] .
فصل
ومعنى { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } أي : يَرْزُق كيف يُريد وكيف يشاءُ ، إن شاء قَتَّر ، وإن شاء وَسَّعَ . وقال تعالى : { وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ } [ الشورى : 27 ] .
وقال تعالى : { يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ } [ الرعد : 26 ] .
وقال عزَّ وجلَّ : { قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير } [ آل عمران : 26 ] ، وهذه الآية ردّ على المعتزلة؛ لأنَّهُم قالوا : يَجِبُ على اللَّه إعْطَاء الثَّوَاب للمُطِيع ، ويجبُ عليه ألاَّ يُعاقِبَهُ ، فَهَذَا المَنْعُ والقَيْدُ يَجْري مُجْرَى الغلّ ، فهم في الحقيقة [ قائلون بأنَّ يَدَ الله مَغْلُولة ] .
وأمَّا أهْلُ السُّنَّةِ - رضي الله عنهم - [ فهُمُ ] القَائِلُونَ : بأنَّ المُلْكَ مُلْكُهُ ، وليس لأحدٍ عليه اسْتِحْقَاقٌ ولا اعتِرَاضٌ ، كما قال تعالى : { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً } [ المائدة : 17 ] فقوله تعالى : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } لا يسْتَقِيم إلا على هذا المَذْهَبِ .
قوله تعالى : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً } والمراد بالكثير : علماء اليهود ، يعني : ازدَادُوا عند نُزُولِ ما أنْزِل إليك من رَبِّكَ من القرآنِ والحُجَجِ غُلُواً في الكُفْرِ والإنكَار ، كما يُقال : « ما زادَتْكَ الموْعِظَةُ إلا شَرّاً » ، وهم كُلَّما نزلت آيةٌ كَفَرُوا بها فازْدَادُوا طُغْيَاناً وكُفْراً .
وقيل : إقامَتُهُمْ [ على الكُفْر ] زِيَادَةٌ مِنْهُمْ في الكُفْر .
قوله تعالى : « ما أنْزِلَ » « مَا » هنا موصولةٌ اسميَّة في محلِّ رفع؛ لأنها فاعل بقوله : « ليزِيدَنَّ » ، ولا يجوزُ أن تكون « مَا » مصدريةً ، و « إلَيْكَ » قائمٌ مقام الفاعل ل « أُنْزِلَ » ، ويكون التقديرُ : « وليَزِيدَنَّ كَثِيراً الإنْزَالُ إلَيْكَ » ؛ لأنه لم يُعْلَمْ نفسُ المُنَزَّلِ ، والذي يزيدُهُمْ إنما هو المُنَزَّلُ ، لا نفسُ الإنزال ، وقوله : « مِنْهُمْ » صفةٌ ل « كَثِيراً » فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، و « طًغْيَاناً » مفعولٌ ثان ل « يَزيد » .
فصل
دلّ هذا الكلامُ على أنَّه تعالى لا يُرَاعى مصالح الدِّين والدُّنيا؛ لأنَّه تعالى عَلِمَ أنَّهم يَزْدَادُون عند إنْزالِ تِلْك الآيَاتِ ، [ كفراً وضلالاً ، فلو كانَتْ أفعَالُه مُعَلَّلَة برعاية المصالِحِ للعباد ، لامْتَنَع عليه إنْزَال تلك الآيات ] فلما أنْزَلَهَا عَلِمْنَا أنَّهُ تعالى ما يُرَاعي مصالح العِبَادِ ، ونظيرُه قوله تعالى : { فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] ، فإن قالوا : عَلِمَ اللَّه تعالى من حَالِهِم سواءً أنْزَلَهَا أو لم يُنْزِلْها ، فإنَّهُم يأتون بتلكِ الزِّيَادة من الكُفْرِ ، فلهذَا حَسُن منه تعالى إنْزَالُها .
قلنا : فَعلى هذا التَّقْدير لم يكن ذلك الازْديَادُ لأجل تِلكَ الآيات ، وهذا يقتضي أن تكون إضافة ازدِيَاد الكفر إلى إنْزال تِلْكَ الآياتِ بَاطِلاً ، وذلِكَ تكذيبٌ لنَصِّ القُرْآن .
قوله تعالى : { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء } الضمير في « بَيْنَهُم » يجوز أن يعود على اليَهُود والنَّصَارى؛ لتقديم ذكرهم ، ولاندراج الصِنْفَيْن في قوله تعالى : { يَا أَهْلَ الكتاب } [ المائدة : 19 ] ، ويجُوزُ أن يعُودَ على اليَهُود وحْدَهُم ، لأنَّهُم فِرَقٌ مُخْتَلِفَةٌ ، فعلى هذين قال الحسن ومجاهد : يعني بين اليَهُود والنَّصارى ، لأنَّ ذكرهم جرى في قوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى } [ المائدة : 51 ] ، وقيل : بين فِرَق اليهُود ، فإنَّ بعضهم جَبْرِيَّةٌ ، وبعضَهم قَدَرِيَّةٌ ، وبعضهم [ مُوَحِّدَة ] وبعضهم مُشَبِّهَة ، وكذلك بين فرقِ النَّصَارى كالمَلْكَانِيَّة والنَّسْطُوريَّةِ واليَعْقُوبِيَّةِ .
فإن قيل : فهذا المعنى حَاصِلٌ بين فرقِ المُسْلمين ، فكيف يمكن جعلهُ عَيْباً في اليَهُودِ والنَّصَارى؟
فالجواب : أنَّ هذه البدَعَ إنَّما حدثَتْ بعدَ عصر الصَّحَابةِ والتَّابعين ، أما في ذلك الزَّمَانِ فلم يكن شَيءٌ من ذَلِك ، فلا جَرَمَ حَسُنَ جَعْل ذلك عَيْباً في اليَهُود والنَّصَارى .
ووجْهُ اتِّصَال هذا الكلام بما قَبْلَهُ : أنَّه تعالى بيَّن أنَّهُم إنَّما يُنْكِرُون نُبُوَّتَه بعد ظُهُور الدَّلائِلِ على صِحَّتِها لأجل الحَسَدِ ، ولأجل حُبِّ الجَاه والمال والسَّعادة ، فلمَّا رجَّحُوا الدُّنْيَا على الآخِرَة لا جَرَم حَرَمهم سعادَة الدِّين ، فلذلك حَرمَهم سَعَادةَ الدُّنْيَا؛ لأنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُم مُصِرٌّ على مذهبه ، ومُبَالِغٌ في نصرته ، ويَطْعَنُ في كل ما سِوَاه من المذاهِب تَعْظِيماً لِنَفْسِه وتَرْويجاً لمذهَبِهِ ، فصار ذلك سَبَباً لوقوع الخُصُومَة الشَّدِيدَة بين فرقِهم ، انْتَهى الأمر فيه إلى أنَّ بَعْضَهُم يُكَفِّر بَعْضاً .
وقوله تعالى : { إلى يَوْمِ القيامة } متعلِّقٌ ب « ألقَيْنَا » ، ويجوز أن يتعلَّق بقوله : « والبغْضَاءَ » ، أي : إنَّ التباغُضَ بينهم إلى يوم القيامة ، ولا يجوزُ أن يتعلَّقَ بالعداوةِ؛ لئلا يَلْزَم الفصْلُ بين المصدَرِ ومعموله بالأجنبيِّ ، وهو المعطوفُ؛ وعلى هذا : فلا يجوزُ أن تكون المسألةُ من التنازُع؛ لأن شرطه تسلُّطُ كلٍّ من العاملَيْن ، والعاملُ الأولُ هنا لو سُلِّط على المتنازع فيه ، لم يَجُزْ للمحذورِ المذكور ، وقد نَقَل بعضُهُمْ : أنه يجوز التنازُعُ في فعلي التعجُّبِ مع التزامِ إعمال الثاني؛ لأنه لا يُفْصَل بين فعْلِ التعجُّبِ ومعموله ، وهذا مثلُه ، أيْ : يُلْتَزَمُ إعمالُ العامل الثاني ، وهو خارجٌ عن قياسِ التنازُعِ ، وتقدَّم لك نظيره ، والفرقُ بين العداوة والبغضاء : أن العداوَةَ كلُّ شيء مشتهرٌ يكون عنه عَمَلٌ وحَرْبٌ ، والبغضاءُ لا تتجاوزُ النفُوسَ ، قاله ابن عطيَّة وقال أبو حيان : « العداوة أخَصُّ من البغضاء؛ لأنَّ كلَّ عَدُوٍّ مُبْغَضٌ ، وقد يُبْغَضُ مَنْ لَيْس بعدُوٍّ » .
قوله تعالى : { كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله } ، وهذا نوْع آخر من أنْوَاع المِحَنِ في اليهُود ، وهو أنَّهُم كلّما همُّوا بأمر من الأمُور جُعِلوا فيه خَاسِرِين خَائِبِين مَقْهُورين مَغْلُوبين .
قال المفسرون : يعني اليهود أفسدوا وخَالَفُوا حُكْمَ التَّوْراة ، فبعث الله عليْهم بُخْتَنَصَّرَ ثُمَّ أفْسَدُوا فَبَعَثَ عَلَيْهَم طيطوس الرُّومِي ، ثم أفْسَدُوا فَسَلَّطَ اللَّهُ عليهمُ المجُوسَ ، ثم أفسدوا فبعث الله عليهمُ المُسْلِمين .
وقيل : كُلَّمَا أجْمَعُوا أمْرَهُمْ ليُفْسِدوا أمْرَ محمَّدٍ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وأوْقَدُوا ناراً لِمُحاربته أطْفَأهَا اللَّهُ ، فردَّهم وقَهَرَهُم ونصر دينَهُ ونبيَّهُ ، وهذا قول الحَسَن وقال قتادة : هذا عامٌّ في كل حرب طَلَبْتَهُ اليهود ، فلا تَلْقَى اليهود في بلد إلا وجَدْتَهُم من أذَلِّ النَّاسِ .
قوله تعالى : « لِلْحَرْبِ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلقٌ ب « أوْقَدُوا » ، أي : أوقدوها لأجْلِ الحرب .
والثاني : أنه صفة ل « نَاراً » فيتعلَّق بمحذوف ، وهل الإيقادُ حقيقةٌ أو مجازٌ؟ قولان . و « أطْفَأهَا الله » جواب « كُلَّمَا » ، وهو أيضاً حقيقةٌ أو مجازٌ؛ على حسب ما تقدَّم ، والحربُ مؤنثةٌ في الأصل مصدر وقد تقدَّم الكلام عليها في البقرة ، وقوله : « فَسَاداً » قد تقدَّم نظيره [ الآية 33 من المائدة ] ، وأنه يجوز أن يكون مصدراً من المعنى؛ وحينئذ لك اعتباران : أحدهما : ردُّ الفعل لمعنى المصدر ، والثاني : ردُّ المصدر لمعنى الفعْلِ ، وأن يكون حالاً ، أي : يَسْعَوْن سعيَ فسادٍ ، أو : يُفْسِدُونَ بسعيهم فَسَاداً ، أو : يَسعوْن مُفْسِدين ، وأن يكون مفعولاً من أجله ، أي : يَسْعَوْنَ لأجْلِ الفساد والألف واللام في « الأرض » يجوزُ أن تكون للجنس وأن تكون للعهد .
ثم قال : { والله لاَ يُحِبُّ المفسدين } ، وهذا يدُلُّ على أنَّ السَّاعي في الأرْضِ بالفَسَاد مَمْقُوتٌ عِنْدَ اللَّهِ .
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
وقد تقدَّم الكلام على نَظِير قوله : « وَلَوْ أنَّ » .
واعلم أنَّهُ تعالى لما بالغَ في ذَمِّهِمْ وتهجين طريقهِم ، بيَّن أنهم لو آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - واتقَوْا لكفَّرنَّا عنهم سَيِّئاتِهِمْ ، ولأدْخلْنَاهُمْ جَنَاتِ النَّعِيم .
فإن قيل : الإيمانُ وحدهُ سبب مسْتَقِلٌّ [ باقتضاء تكفير ] السَّيِّئَاتِ ، وإعْطَاء الحَسَناتِ ، فلم ضمَّ إلَيْه شَرْطٌ آخر وهُو التَّقْوَى .
فالجوابُ : أنَّ المُراد كَوْنه آتياً الإيمان لِغَرَض التَّقْوى ، والطَّاعة لا لغرضٍ آخر من الأغْرَاض العَاجِلَة كما يفعله المُنَافِقُون .
قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل } الآية لما بيَّن تعالى في الآية الأولى أنَّهُم لو آمَنُوا لفَازُوا بسَعَادة الآخِرة ، بيَّن في هذه الآية أيْضاً ، أنَّهُمْ لو آمَنُوا لفَازُوا بسَعَادةِ الدُّنْيَا ووجدُوا طَيِّبَاتِهَا وخَيْرَاتِها ، وفي إقَامَةِ التَّوْرَاةِ والإنْجِيل ثلاثةُ أوْجُه :
أحدها : أن يعملوا بما فيهما من الوَفَاءِ بالعُهُودِ ، ومن الإقْرَار باشْتِمَالهما على الدَّلائل الدَّالَّة على بَعْثَةِ محمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - .
وثانيها : أنَّ المراد إقامَةُ أحْكَامِهِمَا وحُدُودِهمَا ، كما يُقَال : أقامَ الصَّلاة إذا قام بِحُدُودِهَا وحُقوقِهَا ، ولا يُقَال لمن لم يُوَفِّ بشَرَائِطها أنَّهُ أقَامها .
وثالثها : [ أنَّ المراد ] جعلوهما نصْبَ أعيْنِهِم ، لئلاَّ يَزِلُّوا في شَيْء من حدُودِهِمَا .
وقوله تعالى : { وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ } يعني : القُرْآن وقيل : كتب أنبياء بني إسرائيلَ مثل كُتُبِ شُعَيْبٍ ، وكتاب حَيقُوق ، وكتاب دَانْيَال ، فإنَّ هذه الكتب مملوءة من البشَارَة بِمَبْعَثِ محمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - .
قوله تعالى : { لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ } : مفعولُ الأكْلِ هنا محذوفٌ اقتصاراً ، أيْ : لوُجِدَ منهم هذا الفعلُ ، و « منْ فوقِهِمْ » متعلِّقٌ به ، أي : لأكَلُوا من الجهَتَيْنِ ، وقال أبو البقاء : « إنَّ » مِنْ فوْقِهِمْ « صفةٌ لمفعول محذوفٍ ، أي : لأكَلُوا رِزْقاً كَائِناً مِنْ فَوْقِهِمْ » .
فصل
اعلم أنَّ اليهود لما أصَرُّوا على تَكْذِيب سيِّدنا محمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - أصابَهُمُ القَحْطُ والشِّدَّةُ ، وبلغُوا إلى حيث قالوا : { يَدُ الله مَغْلُولَةٌ } [ المائدة : 64 ] ، فبيَّن اللَّه لَهُمْ أنَّهُم لو تركوا ذَلِك الكُفْر لانْقَلَب [ الأمر ] وحصل الخَصْبُ والسَّعَة .
قوله تعالى : { لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } .
قيل : المراد منه المُبالغُة في شرْحِ السَّعَةِ والخَصْب ، والمعنى : لأكلوا أكلاً مُتَّصِلاً كثيراً ، كما يُقال : « فلان في الخَيْرِ مِنْ فَوْقِهِ إلى قَدَمِهِ » يريدُ كَثْرَةَ الْخَيْرِ عنده؛ قالَهُ الفَرَّاءُ .
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : المراد « مِنْ فَوْقِهِمْ » نُزُول المَطَرِ ، و { وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } خرُوج النَّبَات كقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض } [ الأعراف : 96 ] ، وقيل : الأكل من فَوْقٍ كَثْرَة الأشْجَار المُثْمِرة ، ومن تَحْتِ الأرْجُل الزُّروع المغلة ، وقيل : يَرْزُقُهم الله تعالى الجِنَانَ البَالِغَةَ الأشْجَار المُثْمِرة ، ومن تَحْتِ الأرْجُل الزُّروع المغلة ، وقيل : يَرْزُقُهم الله تعالى الجِنَانَ البَالِغَةَ الثِّمَار ما يَنْزِلُ مِنْهَا من رُؤوس الشَّجر ، ويلتقطون ما تساقَطَ على الأرض مِنْ تَحْت أرجلهم ، وهذا إشارة إلى ما جَرَى على اليَهُود من بَني قُرَيْظَة وبني النَّضِير ، من قطع نَخِيلهِمِ ، وإفساد زُرُوعهم وقوله تعالى : « مِنْهُمْ » خبر مقدَّم ، و « أمَّةٌ » فاعلاً بالجار ، وقوله : « { مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ } تنويعٌ في التفصيل ، فأخبر في الجملة الأولى ، بالجارِّ والمجرور ، ووصف المبتدأ بالاقتصادِ ، ووصف المبتدأ في الجملة الثانية ب » مِنْهُمْ « ، وأخبر عنهم بأنَّهم من جملة أهل الكتاب؛ فإنَّ الوصف ألزمُ من الخبر؛ فإنهم إذا أسلموا ، زالَ عنهم هذا الاسمُ ، وأما الطائفة الثانية ، فإنهم وصفوا بكونهم من أهْلِ الكتاب؛ فإنَّ الوصفَ ألزمُ ، وهم كفَّار فهم منهم ، وأخبر عنهم بالجملة الذَّمِّيَّة ، فإنَّ الخبر ليس بلازمٍ ، وقد يُسْلِمُ منهم ناسٌ ، فيزول عنهم الإخبارُ بذلك .
فصل
المُراد بالأمَّة المُقْتَصِدَة : مؤمِنُو أهْلِ الكِتَاب ، كعَبْدِ اللَّهِ بنْ سلام من اليَهُود والنَّجَاشِيِّ من النَّصَارى ، « مُقْتَصِدَة » أي : عادِلَةٌ غير غَالِية ولا مقصِّرة ، والاقتصادُ في اللُّغَة : الاعتِدَال في العمل من غير غُلُوِّ ولا تَقْصِير .
وقيل : المُرَاد بالأمَّةِ المقْتَصِدَةِ : كُفَّارُ أهل الكتاب الذين يكنون عُدُولاً في دينهِم ، ولا يكون فيهم عِنَادٌ شديدٌ ولا غِلْظَةٌ ، كما قال تعالى : { وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } [ آل عمران : 75 ] .
قوله تعالى : { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ } ، وفيه معنى التعجُّبِ ، كأنَّه قيل [ كثير ] منهم ما أسْوَأ عََمَلَهم .
والمراد بهم : الأجْلاف المُبْغِضُون ، مثل كَعْبِ بن الأشْرفِ وأصحابه و « سَاءَ » هذه يجوزُ فيها ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أن تكون تعجباً؛ كأنه قيل : ما أسوأ عملهُمْ ، ولم يذكُرِ الزمخشريُّ غيره ، ولكن النحاة لمَّا ذكروا صيغَ التعجُّبِ لم يَعُدُّوا فيها « سَاءَ » ، فإن أراد من جهةِ المعنى ، لا من جهة التعجُّب المبوبِ له في النحوِ فقريبٌ .
الثاني : أنها بمعنى « بِئْسَ » فتدلُّ على الذَّمِّ؛ كقوله تعالى : { سَآءَ مَثَلاً القوم } [ الأعراف : 177 ] .
وقال البَغَوِي : بئس ما يَعْمَلُون ، بِئْس شَيْئاً عملهم .
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : عملوا بالقَبِيحِ مع التَّكْذِيب بالنَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - .
وعلى هذين القولين ف « سَاء » غيرُ متصرِّفة ، لأن التعجُّب وباب المدح والذمِّ لا تتصرَّفُ أفعالُهما .
الثالث : أن تكون « سَاء » المتصرِّفة؛ نحو : سَاءَ يَسُوءُ ، ومنه : { لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ } [ الإسراء : 7 ] { سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ } [ تبارك : 27 ] ، والمتصرِّفةُ متعديةٌ؛ قال تعالى : { لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ } [ الإسراء : 7 ] فإن قيل فأيْنَ مفعولُ هذه؟ قيل : هو محذوفٌ ، تقديرُه : ساء عَملُهُم المؤمنين ، والَّتِي بمعنى « بِئْسَ » لا بدَّ لها من مميِّز ، وهو هنا محذوفٌ ، تقديره : سَاءَ عَمَلاً الذي كَانُوا يَعْمَلُونَهُ .
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
قوله تعالى : { ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } الآية : ناداه المولى سبحانه بأشْرَفِ الصِّفَات البشرية ، وقوله : { بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } [ وهو قد بَلَّغَ!! ] فأجابَ الزمخشريُّ بأن المعنى : جميعَ ما أُنزِلَ إليْكَ ، أي : أيَّ شيءٍ أُنْزِلَ غير مُرَاقِبٍ في تبليغِهِ أحَداً ، ولا خائفٍ أنْ يَنَالَكَ مَكْرُوهٌ ، وأجاب ابن عطية بقريبٍ منه ، قال : « أمَر الله رسوله بالتبليغِ على الاسْتِيفَاءِ والكمالِ؛ لأنه كان قَدْ بَلَّغَ » ، وأجاب غيرُهما بأنَّ المعنى على الديمومة؛ كقوله : { ياا أَيُّهَا النبي اتق الله } [ الأحزاب : 1 ] { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ } [ النساء : 136 ] .
وقوله : « مَا » يحتمل أن تكون اسميةً بمعنى « الَّذِي » ولا يجوز أن تكون نكرةً موصوفةً؛ لأنه مأمورٌ بتبليغ الجميعِ كما مَرَّ ، والنكرةُ لا تَفِي بذلك؛ فإن تقديرها : « بَلِّغْ شَيْئاً أُنْزِلَ إليْكَ » ، وفي « أُنْزِلَ » ضميرٌ مرفوعٌ يعودُ على ما قام مقام الفاعلِ ، وتحتملُ على بُعْدٍ أن تكون « مَا » مصدريَّةً؛ وعلى هذا؛ فلا ضمير في « أُنْزِلَ » ؛ لأنَّ « مَا » المصدرية حرفٌ على الصَّحيح؛ فلا بُدَّ من شيءٍ يقومُ مقامَ الفاعلِ ، وهو الجارُّ بعده؛ وعلى هذا : فيكونُ التقديرُ : بَلِّغِ الإنْزَالَ ، ولكنَّ الإنزالَ لا يُبَلَّغُ فإنه معنى ، إلا أن يُراد بالمصدر : أنه واقعٌ موقع المفعول به ، ويجوز أن يكون المعنى : « اعلم بتبليغ الإنْزَالِ » ، فيكونُ مصدراً على بابه .
والمعنى أظهر تَبْلِيغَهُ ، كقوله تعالى : { فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } [ الحجر : 94 ] .
فصل
روي عن مَسْروق [ قال ] : قالتْ عائِشَةُ - رضي الله عنها - : « من حدَّثَكَ أنَّ مُحَمَّداً - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - كتَم شَيئاً ممّا أنْزل الله ، فقد كذب » وهو سبحانه وتعالى يقول : { ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } الآية .
ورُوِيَ عن الحسن : أنَّ الله لمَّا بَعَثَ رسولَهُ ، وعرف أنَّ مِنَ النَّاس من يُكَذِّبُه ، فَنَزَلَتْ هذه الآية ، وقيل : نَزَلَتْ في عيب من اليَهُود وذلك أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - دَعَاهُم إلى الإسلام ، فقالوا : أسْلَمْنَا قَبْلَكَ ، وجعلوا يَسْتهْزِئُون بِهِ فَيَقُولُون : تريد أن نَتَّخِذَكَ حَنَاناً كما اتَّخَذَ النَّصَارى عِيسى حَنَاناً ، فلمَّا رأى النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ذلك سَكَت ، فنزَلَتْ هذه الآية ، فأمَرَهُ أنْ يقُولَ لأهْلِ الكِتَاب : { لَسْتُمْ على شَيْءٍ } [ المائدة : 68 ] الآية .
وقيل : بلِّغ الإنْزَال ما أُنْزِلَ إليك من الرَّجْمِ والقِصَاصِ في قصَّةِ اليهود ، وقيل : نَزَلَتْ في أمرِ زَيْنَب بِنْتِ جَحْشٍ ونِكَاحها .
وقيل : نزلت في الجِهَاد وذلك أنَّ المُنَافِقِين كَرِهوه ، كما قال تعالى : { فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القتال رَأَيْتَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت }
[ محمد : 20 ] فكرهَهُ بَعْضُ المُؤمِنين .
قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كفوا أَيْدِيَكُمْ } [ النساء : 77 ] الآية ، وكان النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - يمسك في بعض الأحَايِين عن الحثِّ عن الجهاد لِمَا يَعْلمُ من كَرَاهَةِ بعضهم فأنزَلُ اللَّهُ تعالى هذه الآية ، والمَعْنَى : بَلِّغْ واصْبِر على تَبْلِيغ ما أنْزَلَهُ إلَيْك من كَشْفِ أسْرَارهم وفَضَائحِ أفعالهم ، فإنَّ الله تعالى يَعْصِمُك من كَيْدِهِم ومَكْرِهِم ، وقيل : نزلتَ في حجَّة الوَدَاع ، لمَّا بيَّن الشَّرائِع والمَنَاسِكَ قال : هل بلَّغْتُ؟ قالُوا : نَعَمْ قال : اللَّهُم فاشْهَدْ ، وقِيلَ : لمَّا نزلَتْ آيَة التَّخْيِير وهِيَ قوْلُه تعالى : { ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا } [ الأحزاب : 28 ] فلم يَعْرِضْهَا عليهنَّ خَوْفاً من اختيارِهِنَّ للدُّنْيَا فنزلت .
قوله تعالى : { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } ، أي : وإنْ لم تفعل التبليغ ، فحذف المفعول به ، ولم يقل : « وإن لم تبلّغْ فما بلّغتَ » لما تقدَّم في قوله تعالى : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } في البقرة [ آية : 24 ] ، والجوابُ لا بُدَّ أن يكون مغايراً للشرط؛ لتحصُل الفائدةُ ، ومتى اتَّحدَا ، اختلَّ الكلامُ ، لو قلتَ : « إنْ أتَى زيدٌ ، فقدْ جَاءَ » ، لم يَجُزْ ، وظاهرُ قوله : « وإنْ لَمْ تَفْعَلْ ، فما بَلَّغْتَ » اتحادُ الشرطِ والجزاء ، فإن المعنى يَئُولُ ظاهراً إلى قوله : وإن لم تفعل ، لم تفعل ، وأجاب الناسُ عن ذلك بأجوبةٍ؛ أسَدُّها : ما قاله الزمخشريُّ ، وقد أجاب بجوابَيْنِ :
أحدهما : أنه إذا لم يمتثلْ أمر اللَّهِ في تبليغِ الرِّسالاتِ وكتَمَها كُلَّها؛ كأنه لم يُبْعَثْ رَسُولاً - كان أمراً شنيعاً لا خَفَاء بشناعته ، فقيل : إنْ لم تُبَلِّغْ أدنَى شيء ، وإن كلمةً واحدةً ، فكنْتَ كمَنْ رَكِبَ الأمر الشنيعَ الذي هو كتمانُ كُلِّهَا ، كما عَظَّمَ قَتْلَ النفْسِ في قوله : { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً } [ المائدة : 32 ] .
والثاني : المراد : وإنْ لَمْ تَفْعَلْ ذلك ، فلك ما يُوجِبُ كتْمَانَ الوَحْي كلِّه من العقابِ ، فوضَع السَّبَبَ مَوْضِعَ المُسَبِّبِ؛ ويؤيده : « فأوْحَى الله إليَّ : إنْ لَمْ تُبَلِّغْ رسَالاَتِي ، عَذَّبْتُكَ » .
وأجاب ابن عطية : أي : وإنْ تركْتَ شيئاً ، فقد تركْتَ الكلَّ ، وصار ما بَلَّغْتَ غيرَ معتدٍّ به ، فمعنى « وإنْ لَمْ تَفْعَلْ » : « وإنْ لَمْ تَسْتَوْفِ » ؛ ونحوُ هذا قولُ الشاعر : [ الطويل ]
2007- سُئِلْتَ فَلَمْ تَبْخَلْ ، وَلَمْ تُعْطِ نَائِلاً ... فَسِيَّان لا حَمْدٌ عَلَيْكَ وَلاَ ذَمُّ
أي : فلم تُعْطِ ما يُعَدُّ نَائِلاً ، وإلاَّ يتكاذَبِ البيتُ ، يعني بالتكاذُب أنه قد قال : « فَلَم تَبْخَلْ » فيتضمَّن أنه أعطى شيئاً ، فقوله بعد ذلك : « ولَمْ تُعْطِ نَائِلاً » لو لم يقدِّر نَائِلاً يُعْتَدُّ به ، تكاذَبَ ، وفيه نظرٌ؛ فإن قوله « لَمْ تَبْخَلْ وَلَمْ تُعْطِ » لم يتواردا على محلٍّ واحد؛ حتَّى يتكاذَبا ، فلا يلزمُ من عدمِ التقدير الذي قدَّره ابن عطية كَذبُ البيت ، وبهذا الذي ذكرتُه يتعيَّنُ فسادُ قولِ مَنْ زعَمَ أنَّ هذا البيتَ مِمَّا تنازعَ فيه ثلاثةُ عواملَ : سُئِلْتَ وتَبْخَلْ وتُعْطِ ، وذلك لأن قوله : « وَلَمْ تَبْخَلْ » على قولِ هذا القائلِ متسلِّطٌ على طائِل ، فكأنه قيل : فلم تَبْخَلْ بطائلٍ ، وإذا لم يبخَلْ به ، فقد بذله وأعطاه ، فيناقضُه قوله بعد ذلك « ولَمْ تُعْطِ نَائِلاً » .
وقد أفسد ابنُ الخطيب جواب ابنِ عطيَّة فقال : « أجَابَ الجمهُور ب » إنْ لَمْ تُبَلِّغْ وَاحِداً مِنْهَا ، كُنْت كَمَنْ لَمْ يُبَلِّغْ شَيْئاً « ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ مَنْ ترك البعضَ وأتَى بالبعض ، فإن قيل : إنه ترك الكلَّ ، كان كذباً ، ولو قيل : إن مقدار الجُرْمِ في ترك البعْضِ مثلُ الجرم في ترك الكل ، فهذا هو المُحالُ الممتنعُ؛ فسقط هذا الجوابُ ، والأصحُّ عندي : أن يقال : خرج هذا الجوابُ على قانون قوله : [ الرجز ]
2008- أنَا أبُو النَّجْمِ وشِعْرِي شِعْرِي ... ومعناه : أنَّ شِعْرِي قد بلغَ في الكمالِ والفصَاحَةِ والمتانَةِ إلى حيْثُ متى قيل : إنه شِعْري ، فقد انتهى مدحُه إلى الغايَةِ التي لا يُزَادُ عليها ، وهذا الكلامُ يفيد المبالغةَ التامَّةَ من هذا الوجهِ ، فكذا هنا ، كأنه قال : فإن لم تبلِّغْ رسالاتِه ، فما بلَّغْتَ رسالاته ، يعني : أنه لا يمكنُ أن يوصَفَ ترْكُ التبليغِ بتهديدٍ أعظمَ من أنه ترك التبليغ ، فكان ذلك تنبيهاً على غايةِ التهديد والوعيد » .
قال أبو حيان : « وما ضعَّفَ به جوابَ الجُمْهور لا يُضَعَّفُ به؛ لأنه قال : » فإنْ قيل : إنه تركَ الكُلَّ ، كان كذباً « ، ولم يقولوا ذلك ، إنما قالوا : إنَّ بعضها ليس أوْلَى بالأداء مِن بعضٍ ، فإن لم تُؤدِّ بعضها ، فكأنَّك أغْفَلْتَ أداءَها جميعَها ، كما أن مَنْ لم يؤمِنْ ببعضها كان كَمَنْ لم يؤمنْ بكلِّها؛ لإدلاءِ كلٍّ منها بما يُدْلِي به غيرُها ، وكونُها كذلك في حكْمِ شيءٍ واحدٍ ، والشيءُ الواحدُ لا يكون مبلَّغاً غير مبلَّغ ، مُؤمَناً به غيرَ مؤمنٍ به؛ فصار ذلك التبليغُ للبعضِ غير معتدٍّ به » ، قال شهاب الدين : وهذا الكلام الأنِيقُ ، أعني : ما وقع به الجواب عن اعتراضِ الرَّازِيِّ كلامُ الزمخشري أخَذَه ونقله إلى هنا ، وتمامُ كلام الزمخشريِّ : أن قال بعد قوله : « غَيْرَ مُؤمَنٍ » ، وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - : « إنْ كَتَمْتَ آيَةً لَمْ تُبَلِّغْ رِسَالاَتِي » ، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « بَعَثَنِي الله بِرِسَالاتِهِ ، فَضِقْتُ بِهَا ذَرْعاً ، فأوْحَى الله إلَيَّ : إنْ لَمْ تُبَلِّغْ رِسَالاتِي ، عَذَّبْتُكَ وضَمِنَ لِي العِصْمَةِ؛ فقَوِيتُ » ، قال أبو حيَّان : « وأما ما ذكر من أن مقدار الجُرْمِ في تَرْكِ البعْضِ مثلُ الجُرْم في ترك الكلِّ مُحالٌ ممتنعٌ ، فلا استحالة فيه؛ لأن الله تعالى أن يرتِّب على الذنْبِ اليسيرِ العقابَ العظيمَ ، وبالعكس ، ثم مَثَّلَ بالسارقِ الآخِذِ خفيةً يُقْطَعُ ويُرَدُّ ما أخَذَ ، وبالغاصبِ يُؤخَذُ منه ما أخذ دونَ قَطْعٍ » .
وقال الواحديُّ : أي : إنْ يَتْرُك إبلاغَ البعْضِ ، كان كَمَنْ لَمْ يُبَلِّغْ؛ لأنَّ تَرْكه البعضَ مُحْبِطٌ لإبلاغِ ما بلَّغَ ، وجُرْمَهُ في كتمانِ البعضِ كجُرْمِهِ في كتمان الكلِّ؛ في أنه يستحقُّ العقوبة من ربِّهِ ، وحاشا لرسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أن يكتُمَ شيئاً مِمَّا أوْحَى الله تعالى إليه ، وقد قالت عائشةُ - رضي الله عنها - : « مَنْ زَعَمَ أنَّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَتَمَ شَيْئاً من الوحْي ، فقَدْ أعْظَمَ عَلى الله الفِرْيَةَ ، والله تعالى يقول : { ياأيها الرسول بَلِّغْ } ، ولو كَتَم رسُول الله صلى الله عليه وسلم شَيْئاً من الوحْيِ ، لَكَتَمَ قولَهُ تعالى : { وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ } [ الأحزاب : 37 ] الآية » ، وهذا قَريبٌ من الأجوبة المتقدِّمة؛ ونظيرُ هذه الآيةِ في السؤالِ المتقدِّم الحديثُ الصحيحُ عن عُمر بن الخطَّاب - رضي الله تعالى عنه - : « فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتَهُ إلى الله ورسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى الله ورسُولِه » فإنَّ نفس الجواب هو نفسُ الشرطِ ، وأجابوا عنه بأنه لا بد من تقديرٍ تحْصُلُ به المغايرةُ ، فقالوا : « تقدِيرُهُ : فمنْ كانَتْ هجرتُهُ إلى الله ورسُولِهِ نيَّةً وقصْداً فهجرتُه إلى الله ورسُولِهِ حُكْماً وشَرْعاً ، ويمكنُ أن يأتِيَ فيه جوابُ الرَّازِيِّ الذي اختاره .
وقرأ نافعٌ وابن عامر وعاصمٌ في رواية أبي بَكْر : » رِسَالاَتِهِ « جَمْعاً ، والباقون : » رِسَالَتَهُ « بالتوحيد ، ووجهُ الجمْع : أنه عليه السَّلام بُعِثَ بأنْواعٍ شتَّى من الرسالة؛ كأصول التوحيد ، والأحكام على اختلاف أنواعها ، والإفرادُ واضحٌ؛ لأنَّ اسمَ الجنس المضافَ يَعُمُّ جميعَ ذلك ، وقد قال بعض الرسُلِ : { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي } [ الأعراف : 62 ] ، وبعضُهم قال : { رِسَالَةَ رَبِّي } [ الأعراف : 79 ] ؛ اعتباراً للمعنيين .
قوله تعالى : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } أي : يَحْفَظُكَ ، ويمنعُكَ من النَّاسِ .
» رُوِيَ أنَّه - عليه الصلاة والسلام - نزل تَحْتَ شَجَرَةٍ في بَعْضِ أسْفَارِه وعلق سَيْفَه عليها ، فأتَاه أعْرَابِيٌّ - وهو نَائِمٌ - ، فأخذ سَيْفَهُ واخْتَرَطَهُ ، وقال : يا مُحَمَّدُ من يَمْنَعُك مِنِّي؟ فقال : « اللَّهُ » فرعدت يَدُ الأعْرَابِيِّ ، وسقطَ من يده ، وضرب برأسه الشَّجَرة حتى انْتَثَر دِمَاغُهُ « ، فأنزل اللَّهُ تعالى { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } .
فإن قيل : كيْفَ الجَمْعُ بين هذه الآية وبين ما رُوِيَ أنَّه شُجَّ في وجْهِه يوم أحد وكسرت رَبَاعِيَّتُهُ ، وأوذي بِضُرُوبٍ من الأذَى .
فالجواب من وجوه :
فقيل : يَعْصِمُك من القَتْلِ ، فلا يَصِلُوا إلى قَتْلِك .
وقيل : نزلَتْ هذه الآية بعدمَا شُجَّ رَأسُهُ يَوْم أُحُدٍ؛ لأنَّ سورة المائدة من آخر ما نزل من القُرْآن .
والمُراد ب » النَّاس « هاهنا : الكفار لقوله : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } .
وعن أنَسٍ رضي الله عنه :
» كان رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - يَحْرُسُه سَعْدٌ وحُذَيْفَة حتى نَزَلتْ هذه الآية ، فأخْرَجَ رَأسَهُ مِنْ قُبَّةِ أديمٍ فقال : « انْصَرِفُوا أيُّهَا النَّاسُ فَقَدْ عَصَمَنِي مِنَ النَّاسِ » .
وقيل : المُراد والله يَخُصُّكَ بالعِصْمَة من بين النَّاسِ؛ لأنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - معصُومٌ { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } .
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
لمَّا أمره الله بالتَّبْلِيغ فقال : قل يا أهْلَ الكِتَابِ من اليَهُود والنَّصَارى لَسْتُمْ على شَيْءٍ من الدِّين ، ولا في أيْدِيكم شَيْءٌ من الحقِّ والصَّوَاب ، كما تقول : هذا لَيْسَ بِشَيْءٍ ، إذا أرَدْتَ تَحْقِيره .
وقوله تعالى : { حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً } ، وقد تقدَّم الكلام على نظيرِه ، والتَّكْريرُ للتَّأكيد .
وقوله : { فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين } فيه وجهان :
أحدهما : لا تأسَفْ عليهم بسبب طغيانهم وكُفْرِهم ، فإنَّ ضرر ذلك راجعٌ إليهم ، لا إلَيْكَ ولا إلى المُؤمنين .
والثاني : لا تأسَفْ بسبب نُزُولِ اللَّعْن والعذابِ عليهم فإنَّهُمْ من الكَافِرِين المُسْتَحِقِّين لِذَلك .
وروى ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله تعالى عنهما - « أنَّ جماعَةً مِنَ اليَهُود قالوا : يا مُحَمَّد ألَسْتَ تُقِرُّ أنَّ التَّوْرَاة حَقٌّ مِنْ عند اللَّهِ تَعَالى؟ قال : بلى ، قالُوا : فإنَّا مُؤمِنُون بها ، ولا نُؤمِن بِغَيْرها » ، فنَزَلَتْ هذه الآية .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
قرأ الجمهور : « والصَّابئُونَ » بالواو ، وكذلك هو في مصاحِفِ الأمْصَار ، وفي رفعه تسعة أوجه :
أحدها : وهو قول جمهورِ أهلِ البصرة : الخليل وسيبويه وأتباعهما أنه مرفوعٌ بالابتداء وخبرُه محذوفٌ؛ لدلالةِ خبر الأول عليه ، والنيةُ به التأخيرُ ، والتقديرُ : إنَّ الذينَ آمَنُوا والذينَ هَادُوا مَنْ آمَنَ منهم إلى آخره والصَّابِئُونَ كذلك ، ونحوه : « إنَّ زَيْداً وعمرٌو قائمٌ » ، [ أي : إنَّ زَيْداً قائِم وعمرٌو قائمٌ ] ، فإذا فعَلْنا ذلك ، فهل الحذفُ من الأول أي : [ يكونُ ] خبرُ الثاني مثبتاً ، والتقديرُ : إنَّ زَيْداً قائِمٌ وعمرٌو قائمٌ ، فحذف « قائمٌ » الأول ، أو بالعكس؟ قولان مشهوران ، وقد وَرَد كلٌّ منهما؛ قال : [ المنسرح ]
2009- نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ والرَّأيُ مُخْتَلِفُ
أي : نحنُ راضُونَ ، وعكْسُه قوله : [ الطويل ]
2010- فَمَنْ يَكُ أمْسَى بالمدِينَةِ رَحْلُهُ ... فَإنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ
التقدير : وقيارٌ بها كذلِكَ ، فإن قيل : لِمَ لا يجوزُ أنْ يكونَ الحذفُ من الأول أيضاً؟ فالجوابُ : أنه يلزم من ذلك دخولُ اللامِ في خَبَر المبتدأ غيرِ المَنْسُوخِ ب « إنَّ » ، وهو قليلٌ لا يقع إلا في ضَرُورة شِعْرٍ ، فالآيةُ يجوزُ فيها هذا التقديران على هذا التخْريج ، قال الزمخشريُّ : « والصَّابئُونَ : رفعٌ على الابتداء ، وخبرُه محذوفٌ ، والنيةُ به التأخير عمَّا في حَيِّز » إنَّ « من اسمها وخبرها؛ كأنه قيل : إنَّ الذين آمَنُوا والذينَ هَادُوا والنَّصارى حُكْمُهُمْ كَذَلِكَ والصَّابِئُونَ كذلكِ؛ وأنشد سيبويه شاهداً على ذلك : [ الوافر ]
2011- وَإلاَّ فاعْلَمُوا أنَّا وأنْتُمْ ... بُغَاةٌ مَا بَقِينَا في شِقَاقِ
أي : فاعلموا أنَّا بُغاةٌ وأنْتُمْ كذلك » ثم قال بعد كلامٍ : « فإنْ قلْتَ : فقوله » والصَّابئُونَ « معطوفٌ لا بدَّ له من معطوفٍ عليه ، فما هو؟ قلت : هو مع خبره المحذوفِ جملةٌ معطوفة على جملة قوله : { إِنَّ الذين آمَنُواْ } إلى آخره ، ولا محلَّ لها؛ كما لا محلَّ للتي عطفتْ عليها ، فإن قلتَ : فالتقديمُ والتأخيرُ لا يكون إلا لفائدةً ، فما هي؟ قلتُ : فائدتُه التنبيهُ على أن الصابئين يُتابُ عليهم ، إنْ صحَّ منهم الإيمانُ والعملُ الصالحُ ، فما الظنُّ بغيرهم؟ وذلك أنَّ الصابئين أبينُ هؤلاءِ المعدُودِينَ ضَلاَلاً وأشدُّهم عِتِيّاً ، وما سُمُّوا صابئين إلا أنهم صَبَئُوا عن الأديان كلِّها ، أي : خَرَجُوا؛ كما أن الشاعر قدَّمَ قوله : » وأنْتُمْ « ؛ تنبيهاً على أن المخاطبينَ أوغلُ في الوصْفِ بالبغْيِ من قومِه ، حيثُ عاجلَ به قبل الخبر الذي هو » بُغاةٌ « ؛ لئلا يدخُلَ قومُه في البغيِ قبلهم مع كونهم أوغلَ فيه منهم وأثبتَ قدماً ، فإن قُلْتَ : فلو قيل : » والصَّابئينَ وإيَّاكُمْ « ، لكان التقديمُ حاصلاً ، قلت : لو قيل هكذا لم يَكُنْ من التقديم في شيء؛ لأنه لا إزالةَ فيه عن موضعه ، وإنما يُقال مقدَّمٌ ومؤخَّرٌ للمُزَالِ لا للقارِّ في مكانه ، وتجْرِي هذه الجملة مَجْرَى الاعتراض » .
الوجه الثاني : أنَّ « إنَّ » بمعنى « نَعَمْ » فهي حرفُ جوابٍ ، ولا محلَّ لها حينئذ ، وعلى هذا فما بعدها مرفوعُ المحلِّ على الابتداء ، وما بعده معطوفٌ عليه بالرفعِ ، وخبرُ الجميعِ قوله : « مَنْ آمَنَ » إلى آخره ، وكونُها بمعنى « نَعَمْ » قولٌ مرجوحٌ ، قال به بعضُ النحْويِّين ، وجعل من ذلك قوله تعالى : { إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ } [ طه : 63 ] في قراءةِ من قرأهُ بالألف ، وفي الآية كلامٌ طويلٌ يأتي - إنْ شاء الله تعالى - في موضعه ، وجعل منه أيضاً قول عبد الله بْنِ الزُّبَيْر : « إنَّ وصاحبهَا » جواباً لمنْ قال له : « لَعَنَ الله ناقَةً حَمَلَتْنِي إلَيْكَ » ، أي : نَعَمْ وصاحِبهَا ، وجعل منه قول الآخر : [ الكامل ]
2012- بََرَزَ الغَوَانِي فِي الشَّبَا ... بِ يَلُمْنَنِي وألُومُهُنَّهْ
ويَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلاَ ... كَ وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إنَّهْ
أي : نَعَمْ ، والهاءُ للسكْتِ ، وأجيبَ : بأنَّ الاسم والخبر محذوفان في قول ابن الزُّبَيْرِ ، وبقي المعطوفُ على الاسمِ دليلاً عليه ، والتقديرُ : إنَّها وصاحِبُهَا ملعونَانِ ، وتقدير البيتِ : إنَّهُ كذلِكَ ، وعلى تقدير أَنْ تكون بمعنى « نَعَمْ » ، فلا يَصِحُّ هنا جعلُهَا بمعناها؛ لأنها لم يتقدَّمْها شيءٌ تكونُ جواباً له ، و « نَعَمْ » لا تقعُ ابتداءَ كلامٍ ، إنما تقع جواباً لسؤالٍ ، فتكونُ تصديقاً له ، ولقائل أن يقول : يجوزُ أن يكُونَ ثَمَّ سُؤالٌ مقدَّرٌ ، وقد ذَكرُوا ذلك في مواضِعَ كثيرةٍ منها قوله تعالى : { لاَ أُقْسِمُ } [ القيامة : 1 ] { لاَ جَرَمَ } [ هود : 22 ] ، قالوا : يُحتملُ أن يكونَ ردّاً لقائلِ كَيْتَ وكَيْتَ .
الوجه الثالث : أن يكون معطوفاً على الضَّميرِ المستكنِّ في « هَادُوا » أي : هَادُوا هم والصَّابئُونَ ، وهذا قول الكسائيِّ ، ورَدَّه تلميذُهُ الفرَّاء والزَّجَّاج . قال الزَّجَّاج : « هو خطأٌ من جهتَيْن » :
إحداهما : أن الصابئ في هذا القولِ يشاركُ اليهوديَّ في اليهوديَّة ، وليس كذلك ، فإن الصابئ هو غيرُ اليهوديِّ ، وإن جُعِلَ « هَادُوا » بمعنى « تَابُوا » من قوله تعالى : { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] لا من اليهوديَّة ، ويكون المعنى : تابوا هم والصابئون ، فالتفسيرُ قد جاء بغير ذلك؛ لأنَّ معنى « الَّذِينَ آمَنُوا » في هذه الآية؛ إنما هو إيمانٌ بأفواهِهِم؛ لأنه يريد به المنافقين؛ لأنه وصفُ الذين آمَنُوا بأفواههمْ ولم تؤمِنْ قلوبُهُمْ ، ثم ذكر اليهودَ والنصارى ، فقال : مَنْ آمَنَ منهُمْ بالله ، فله كذا ، فجعَلَهُمْ يهوداً ونصارى ، فلو كانوا مؤمنين ، لم يحتجْ أنْ يقال : « مَنْ آمَنَ ، فَلَهُمْ أجْرُهُمْ » ، وأُجِيبَ بأن هذا على أحدِ القولينِ ، أعني : أنَّ « الَّذِينَ آمَنُوا » مؤمنُونَ نفاقاً ، ورَدَّهُ أبو البقاء ومكي بن أبي طالبٍ بوجه آخر ، وهو عدمُ تأكيدِ الضمير المعْطُوفِ عليه ، قال شهاب الدين : هذا لا يلزمُ الكسائيَّ من حيث إنه قال بقولٍ تردُّه الدلائلُ الصحيحةُ ، والله أعلم ، وهذا القولُ قد نقله مكيٌّ عن الفرَّاء ، كما نقله غيره عن الكسائيِّ ، وردَّ عليه بما تقدَّمَ ، فيحتملُ أن يكونَ الفرَّاء كان يوافق الكسائيَّ ، ثم رجَع ، ويحتمل أن يكون مخالفاً له ، ثم رجع إليه ، وعلى الجُمْلةِ ، فيجوز أن يكونَ له في المَسْألة قولان .
الوجه الرابع : أنه مرفوعٌ نسقاً على محلِّ اسم « إنَّ » ؛ لأنه قبل دخولها مرفوعٌ بالابتداء ، فلمَّا دخلَتْ عليه ، لم تُغَيِّر معناه ، بل أكدَتْهُ ، غايةُ ما في الباب : أنها عَمِلَتْ فيه لفظاً ، ولذلك اختصَّتْ هي و « أنَّ » بالفتح ، ولكن على رأي بذلك ، دون سائر أخواتها؛ لبقاء معنى الابتداء فيها ، بخلاف « لَيْتَ ولعلَّ وكَأنَّ » ، فإنه خرج إلى التمنِّي والتَّرَجِّي والتشبيه ، وأجرى الفراء الباب مُجْرًى واحداً ، فأجاز ذلك في لَيْتَ ولعلَّ ، وأنشد : [ الرجز ]
2013- يَا لَيْتَنِي وأنْتِ يَا لَمِيسُ ... فِي بَلَدٍ لَيْسَ بِهَا أنِيسُ
فأتى ب « أنْتِ » ، وهو ضميرُ رفع نسقاً على الياء في « لَيْتَنِي » ، وهل يَجْري غيرُ العطْفِ من التوابع مَجْرَاهُ في ذلك؟ فذهَبَ الفرَّاء ويونُسُ إلى جوازِ ذلك ، وجعلا منه قوله تعالى : { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق عَلاَّمُ الغيوب } [ سبأ : 48 ] فرفعُ « علاَّم » عندهما على النعْتِ ل « رَبِّي » على المحلِّ ، وحكوا « إنَّهُمْ أجْمَعُونَ ذَاهِبُونَ » ، وغلَّط سيبويه مَنْ قال من العرب : « إنَّهُمْ أجْمَعُونَ ذَاهِبُونَ » ، وأخذ الناس عليه في ذلك من حيْثُ إنه غَلَّط أهْلَ اللسان ، وهم الواضعُون أو المتلقُّون من الواضعِ ، وأجيبَ بأنهم بالنسبة إلى عامَّة العرب غالطُونَ ، وفي الجملة : فالناسُ قد رَدُّوا هذا المَذهبَ ، أعني : جواز الرفع عطفاً على محلِّ اسم « إنَّ » مطلقاً ، أعني قبل الخبر وبعده ، خَفِيَ إعرابُ الاسم أو ظهر ، ونقل بعضهم الإجماع على جوازِ الرفْعِ على المحلِّ بعد الخبر ، وليس بَشْيء ، وفي الجملة : ففي المسألةِ أربعةُ مذاهبَ : مذهبُ المحقِّقين : المنعُ مطلقاً ، مذهبُ بعضهم : التفصيلُ قبل الخَبَر؛ فيمتنعُ ، وبعده؛ فيجوز ، ومذهب الفراء : إنْ خَفِيَ إعرابُ الاسمِ ، جاز ذلك؛ لزوال الكراهية اللفظية ، وحُكِيَ من كلامهم : « إنَّكَ وَزَيْد ذَاهِبَانِ » ، الرابع : مذهب الكسائيِّ : وهو الجوازُ مطلقاً؛ ويستدلُّ بظاهر قوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ } الآية ، وبقول ضَابِىءٍ البُرْجُمِيِّ : [ الطويل ]
2014- فَمَنْ يَكُ أمْسَى بالمَدينةِ رَحْلُهُ ... فَإنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ
وبقوله : [ البسيط ]
2015- يَا لَيْتَنَا وَهُمَا نَخْلُو بِمَنْزِلَةٍ ... حَتَّى يَرَى بعْضُنَا بَعْضاً وَنَأتَلِفُ
وبقوله : [ الوافر ]
2016- وَإلاَّ فاعْلَمُوا أنَّا وأنْتُمْ ..
وبقوله : [ الرجز ]
2017- يَا لَيْتَنِي وأنْتِ يَا لَمِيسُ ... وبقولهم : « إنَّكَ وَزَيْدٌ ذَاهِبَانِ » ، وكلُّ هذه تَصْلُحُ أن تكونَ دليلاً للكسائيِّ والفراء معاً ، وينبغي أن يُوردَ الكسائيُّ دليلاً على جوازِ ذلك مع ظهور إعراب الاسم؛ نحو : « إنَّ زَيْداً وعَمْرو قائِمَانِ » ، وردَّ الزمخشريُّ الرفع على المحلِّ؛ فقال : « فإنْ قلتَ : هلاَّ زَعَمْتَ أن ارتفاعه للعطْفِ على محَلِّ » إنَّ « واسمها ، قلتُ : لا يَصِحُّ ذلك قبل الفراغ من الخَبَرِ ، لا تقول : » إنَّ زَيْداً وعمرٌو مُنْطَلِقَانِ « ، فإنْ قلتَ : لِمَ لا يَصِحُّ والنيةُ به التأخيرُ ، وكأنك قلتَ : إنَّ زَيْداً مُنْطلقٌ وعمرٌو؟ قلتُ : لأني إذا رفعته رفعتُه على محلِّ » إنَّ « واسمها ، والعاملُ في محلِّهما هو الابتداء ، فيجب أن يكون هو العاملَ في الخَبَرِ؛ لأنَّ الابتداء ينتظم الجزأيْنِ في عمله ، كما تنتظِمُها » إنَّ « في عملها ، فلو رَفَعْتَ » الصَّابِئُونَ « المنويَّ به التأخيرُ بالابتداء ، وقد رفعت الخبر ب » إنَّ « ، لأعْمَلْتَ فيهما رافعيْن مختلفين » ، وهو واضحٌ فيما رَدَّ به ، إلاَّ أنه يُفْهِمُ كلامُه أنه يُجيزُ ذلك بعد استكمال الخَبَر ، وقد تقدَّم أنَّ بعضهم نقل الاجماع على جوازه .
وضعَّف ابنُ الخطيب ما قاله الزَّمَخْشَرِيُّ ، قال : هذا الكلام ضَعِيفٌ وبَيَانُه من وجوه :
الأوَّل : أنَّ هذه الأشْيَاء التي يُسَمِّيها النَّحْويُّونَ : رَافِعَةً وناصبةً ، ليس معناهُ أنَّهَا كذلك لذَوَاتها ولأعْيَانِها ، فإنَّ هذا لا يقوله عاقل ، بل المراد أنَّهُمَا مُعَرَّفانِ بحسَبِ الوضْعِ والاصْطِلاَح لهذه الحركات ، واجْتِمَاع المُعَرَّفَات الكَثيرَة على الشَّيْءِ والوَاحِدِ غير مُحَالٍ ، ألا ترى أنَّ جَمِيع أجْزَاء المُحْدَثَاتِ دَالَّةٌ على وُجُودِ اللَّه تعالى؟
الثاني : أنَّ هذا الجواب بناءٌ على أنَّ كلمة « إنَّ » مُؤثِّرة في نَصْبِ الاسْم ورفْعِ الخبر ، والكُوفِيُّونَ يُنْكِرون ذلك ، ويقولون : لا تَأثِير لهذا الحَرْفِ في رَفْعِ الخَبَرِ ألْبَتَّةً .
الثالث : أنَّ الأشْيَاء الكَثِيرة إذا عُطِفَتْ بَعْضُهَا على بَعْض ، فالخَبَرُ الوَاحِدُ لا يكُونُ خَبَراً عنهم؛ لأنَّ الخبر عن الشَّيْءِ إخبارٌ عن تَعْريف حالِهِ وبيان صِفَتِهِ ، ومن المُحَال أن يكون حالُ الشَّيء وَصِفَتُهُ عينُ حَالِ الآخَرِ وعيْنُ صفتِهِ ، لامتناع قيام الصِّفة الواحدة للذَّوات المُخْتَلِفَة ، وإذا ثَبَتَ هذا ظهر أنَّ الخَبَر ، وإنْ كان في اللَّفْظِ واحِداً ، لكنَّه في التقدير مُتَعَدِّدٌ ، وإذا حصل التَّعَدُّدُ في الحقيقةِ ، لم يمتنع كَوْنُ البَعْضِ مرتَفِعاً بالخَبَر ، وبَعْض بالابْتِدَاء بهذا التَّقْدير ، ولم يلزم اجْتِمَاعُ الرَّافِعَيْن على مَرْفُوعٍ واحدٍ .
والذي يُحَقِّقُ ذلك أنَّهُ سَلَّم أنَّ بعد ذَكْرِ الاسْمِ وخَبَرهِ جَازَ الرَّفْعُ والنَّصْبُ في المَعْطُوفِ عليه ، ولا شكَّ أنَّ هذا المَعْطُوفَ إنَّما جَازَ ذَلِكَ فيه؛ لأنَّا نُضْمِرُ له خَبَراً ، وحَكَمْنَا بأنَّ ذلك الخَبَرَ المُضْمَر مُرْتَفِعٌ بالابْتِدَاء .
وإذا ثَبَت هذا فَنَقُول : إن قبل ذكر الخبر إذا عَطَفْنَا اسماً على اسم ، حكم صَريح العَقْل ، بأنَّهُ لا بُدَّ من الحُكْمِ بتقدير الخَبَرِ ، وذلك إنَّما يحصل بإضمار الأخْبَار الكَثِيرَة ، وعلى هذا التقديرِ يَسْقُطُ ما ذكر من الإلْزَام .
الوجه الخامس : قال الواحديُّ : « وفي الآية قولٌ رابعٌ لهشام بن معاوية : وهو أنْ تُضْمِرَ خبرَ » إنَّ « ، وتبتدئ » الصَّابِئُونَ « ، والتقدير : » إنَّ الذينَ آمَنُوا والذين هَادُوا يُرْحَمُونُ « على قولِ من يقولُ : إنَّهم مسْلِمُونَ ، و » يُعَذِّبُونَ « على قولِ من يقول : إنهم كفَّار ، فيُحْذَفُ الخبرُ؛ إذ عُرِف موضِعُه؛ كما حُذِف من قوله :
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر } [ فصلت : 41 ] ، أي : يُعَاقَبُونَ « ثم قال الواحديُّ : وهذا القولُ قريبٌ من قولِ البصريِّينَ ، غيرَ أنَّهم يُضْمِرُون خبر الابتداءِ ، ويجعلُونَ » مَنْ آمَنَ « خبرَ » إنَّ « ، وهذا على العكْسِ من ذلك؛ لأنه جعل » مَنْ آمنَ « خبر الابتداء ، وحذفَ خبرَ » إنَّ « ، قال شهاب الدين : هو كما قال ، وقد نَبَّهْت على ذلك في قَوْلِي أولاً : إنَّ مِنْهُم مَنْ يُقَدِّر الحذف من الأوَّلِ ، ومنهم مَنْ يَعْكِسُ .
الوجه السادس : أنَّ » الصَّابِئُونَ « مرفوعٌ بالابتداء ، وخبرُه محذوفٌ؛ كمذهب سيبويه والخليلِ ، إلا أنه لا يُنْوى بهذا المبتدأ التأخيرُ ، فالفرقُ بينه وبين مذهب سيبويه نيةُ التأخيرِ وعدمُها ، قال أبو البقاء : » وهو ضعيفٌ أيضاً؛ لما فيه من لزومِ الحذْفِ والفصلِ « ، أي : لِما يلزمُ من الجَمْع بين الحذفِ والفَصْلِ ، ولا يَعْنِي بذلك؛ أنَّ المكان من مواضع الحذف اللازمِ؛ لأنَّ القرآن يلزمُ أنْ يُتْلَى على ما أُنْزِلَ ، وإنْ كان ذلك المكان في غيره يجوزُ فيه الذكرُ والحذفُ .
الوجه السابع : أنَّ » الصَّابِئُونَ « منصوبٌ ، وإنما جاء على لغةِ بني الحرثِ وغيرهمُ الذين يَجْعَلون المثنَّى بالألفِ في كل حال؛ نحو : » رأيْتُ الزَّيْدَانِ ، ومَرَرْتُ بالزَّيْدَانِ « نقل ذلك مكي بن أبي طالب وأبو البقاء ، وكأنَّ شبهةَ هذا القائلِ على ضَعْفِها؛ أنه رأى الألف علامةَ رفعِ المثنَّى ، وقد جُعِلَتْ في هذه اللغةِ نائبةً رفعاً ونصباً وجرًّا ، وكذا الواو هي علامةُ رفعِ المجموعِ سلامةً ، فيبقى في حالةِ النصْب والجرِّ؛ كما بَقِيت الألفُ ، وهذا ضعيفٌ ، بل فَاسدٌ .
الوجه الثامن : أنَّ علامةَ النصب في » الصَّابِئُونَ « فتحةُ النون ، والنونُ حرفُ الإعراب ، كهي في » الزَّيْتُونِ « و » عُرْبُونٍ « ، قال أبو البقاء : » فإنْ قيلَ : إنما أجاز أبو عليٍّ ذلك مع الياءِ ، لا مع الواوِ ، قيل : قد أجازه غيرُه ، والقياسُ لا يدفعُهُ « ، قال شهاب الدين : يشير إلى مسألة ، وهو : أن الفارسيَّ أجازَ في بعضِ جموعِ السَّلامة ، وهي ما جَرَتْ مجرى المكسَّرِ كَبنينَ وسِنينَ؛ أن يَحُلَّ الإعرابُ نونها؛ بشرطِ أن يكونَ ذلك مع الياءِ خاصَّةً دونَ الواوِ ، فيقال : » جاءَ البَنِينُ « ؛ قال : [ الوافر ]
2018- وَكَانَ لَنَا أبُو حَسَنٍ عَلِيٌّ ... أباً بَرًّا ونَحْنُ لَهُ بَنِينُ
وفي الحديث : » اللَّهُمَّ ، اجْعَلْهَا عَلَيهِمْ سِنيناً كَسِنين يُوسُفَ « ؛ وقال : [ الطويل ]
2019- دَعَانِيَ مِنْ نَجْدٍ فإنَّ سنينَهُ ... لَعِبْنَ بِنَا شِيباً وَشَيَّبْنَنَا مُرْدَاً
فأثْبَتَ النونَ في الإضافةِ ، فلمَّا جاءت هذه القراءةُ؛ ووجِّهتْ بأن علامة النصب فتحةُ النونِ ، وكانَ المشْهُورُ بهذا القولِ إنما هو الفارسيُّ ، سأل أبو البقاء هذه المسألة ، وأجاب بأنَّ غيره يُجيزُهُ حتَّى مع الواو ، وجعل أنَّ القياسَ لا يأباه ، قال شهاب الدين : القياسُ يأباه ، والفرقُ بين حال كونه بالياء وبين كونه بالواوِ ظاهرٌ قد حَقَّقْته في » شَرْحِ التَّسْهِيلِ « ، نعم ، إذا سُمِّي بجمعِ المذكرِ السالمِ ، جاز فيه خمسةُ أوجه :
أحدها : أنْ يُعْرَبَ بالحركاتِ مع الواوِ ، ويصيرَ نظيرَ » الذون « ، فيقال : » جَاءَ الزَّيْدُونُ ورَأيْتُ الزَّيْدُونَ ومَرَرْتُ بالزَّيْدُونِ « ، ك » جَاءَ الذُونُ ورَأيْتُ الذونَ ومَرَرْتُ بالذونِ « ، هذا إذا سُمِّيَ به ، أمَّا ما دام جمعاً ، فلا أحْفَظُ فيه ما ذكره أبو البقاءِ ، ومن أثْبَتَ حجةٌ على مَنْ نَفَى ، لا سيما مع تقدُّمِه في العلمِ والزمان .
الوجه التاسع : قال مكيٌّ : « وإنما رفع » الصَّابِئُونَ « ؛ لأن » إنَّ « لم يظهر لها عملٌ في » الَّذينَ « فبقي المعطوفُ على رفعه الأصليِّ قبل دخول » إنَّ « على الجملة » ، قلت : وهذا هو بعينه مذهَبُ الفراء ، أعني : أنه يجيز العطف على محلِّ اسم « إنَّ » إذا لم يظهر فيه إعرابٌ ، إلا أن عبارة مَكيٍّ لا توافق هذا ظاهراً .
قال ابنُ الخطيبِ مُعَلِّلاً قول الفرَّاء : أن « إنَّ » ضعيفةٌ في العَمَلِ هاهنا ، وبيانُهُ مِنْ وجوه :
الأوَّلُ : أنَّ كلمة « إنَّ » لم تَعْمَلْ إلاَّ لكوْنِهَا مُشابِهَة للفِعْل ، ومعلُومٌ أنَّ المشابَهَة بين الفِعْلِ والحَرْفِ ضَعِيفَةٌ .
الثاني : أنَّها ، وإن كانَت تَعْمَل في الاسمِ فقط ، أمَّا الخَبَر ، فإنَّه يبقى مَرْفُوعاً ، لِكَوْنِه خَبَرَ المُبْتَدَأ ، وليس لهذا الحرف في رَفْعٍ الخَبَرِ تَأثيرٌ ، وهذا مَذْهَبُ الكُوفيِّين .
والثالث : أنَّهَا إنما يَظْهَرُ أثَرُهَا في تَغْيير الأسْمَاءِ أمَّا الأسماءُ الَّتِي لا تَتَغيَّرُ عند اختلافِ العوامل ، فلا يظهر أثَرُ هذا الحرف فيها ، والأمر هاهُنا كذلك؛ لأنَّ الاسمَ هاهُنَا هو قوله « الَّذِين » وهذه الكَلِمَةُ لا يظهر فيها أثَرُ النَّصْبِ والرَّفْعِ والخَفْضِ .
وَإذا ثبت هذا فَنَقُولُ : إذَا كان اسم « إنَّ » بحيث لا يَظْهَرُ فيه أثَرُ الإعراب ، فالَّذِي يُعْطَفُ عليه يجُوز النَّصْبُ فيه على إعْمَال هذا الحَرْفِ ، والرَّفْعُ على إسْقَاطِ عَمَلِه ، فلا يَجُوز أن يُقَال : « إنَّ زيداً وعَمْراً قَائِمَان » لأنَّ زيْداً ظهر فِيهَا أثَرُ الإعراب ، ويجُوزُ أن يُقَال : « إنَّ هؤلاءِ إخْوتكَ يُكْرِمُونَنَا ، وإنَّ قَطَامَ وهِنْد عِنْدنَا » والسَّبَبُ في جَوَازِ ذلك أنَّ كَلِمَة « إنَّ » كانَتْ في الأصْلِ ضعيفَةُ العَمَل ، فإذَا صارت بِحَيْثُ لا يَظْهَرُ لَهَا أثَرٌ في اسمهَا صَارَتْ في غاية الضَّعفِ ، فجاز الرَّفْعُ بِمُقْتَضَى الحُكْم الثَّابِتِ قبل دخول هذا الحَرْفِ عليه ، وهو كَونُهُ مُبْتَدأ ، فهذا تَقْرِير قول الفرَّاء ، وهو مَذْهَبٌ حَسَنٌ ، وأولى من مذهَبِ البصْرِيِّين؛ لأن الَّذي قالوه يَقْتَضِي أنَّ كلام الله على التَّرْتِيب الَّذِي وردَ عليه ليس بصحيح ، وإنَّمَا تَحصُل الصِّحَّة عند تَفْكيكِ هذا النَّظْمِ ، وعلى قوْلِ الفرَّاءِ فلا حاجَةَ إليه ، فكَانَ ذلك أوْلَى .
وقرأ أبيُّ بن كعْبٍ ، وعثمان بنُ عفان ، وعائشةُ ، والجحْدَرِيُّ وسعيدُ بن جُبَيْرٍ ، وجماعة : « والصَّابئينَ » بالياء ، ونقلها صاحب « الكَشَّاف » عن ابن كثيرٍ ، وهذا غير مشهُور عنه ، وهذه القراءةُ واضحةُ التخريج؛ عطفاً على لفظِ اسْم « إنَّ » ، وإن كان فيها مخالفةٌ لسوادِ المصْحَفِ ، فيه مخالفةٌ يسيرةٌ ، ولها نظائرُ كقراءة قُنْبُلٍ عن ابن كثيرٍ : { سراط } [ الفاتحة : 5 ] وبابه بالسين ، وكقراءة حمزة إيَّاهُ في روايةٍ بالزَّاي ، وهو مرسومٌ بالصَّاد في سائر المصاحِف ، ونحو قراءة الجميع : { إيلافهم } [ قريش : 1 ] بالياء ، والرسم بدونها في الجميعِ ، وقرأ الحسن البصريُّ والزهريُّ : « والصَّابيُون » بكسر الباء بعدها ياءٌ خالصة ، وهو تخفيف للهمزة ، كقراءة من قرأ : { « يستهزيون } [ الأنعام : 5 ] بخلوص الياء ، وقد تقدَّم قراءة نافعٍ في البقرة [ الآية 62 ] .
وأما » النَّصَارى « ، فهو منصوب عطْفاً على لفظ اسمِ » إنَّ « ، ولا حاجة إلى ادِّعاء كونه مرفوعاً على ما رفع به » الصابئُونَ « ؛ لكلفةِ ذلك .
قوله تعالى : » مَنْ آمَنَ « يجوز في » مَنْ « وجهان :
أحدهما : أنها شرطيةٌ ، وقوله : » فلا خَوْفٌ « إلى آخره جوابُ الشرط ، وعلى هذا ف » آمَنَ « في محل جزمٍ بالشرط ، و » فلا خَوْفٌ « في محلِّ جزمٍ بكونه جوابه ، والفاءُ لازمةٌ .
والثاني : أن تكون موصولةً والخبر » فلا خوفٌ « ، ودخلت الفاءُ لشبهِ المبتدأ بالشرطِ ، ف » آمَنَ « على هذا لا محلَّ له؛ لوقوعه صلةً ، و » فَلا خَوفٌ « محلُّه الرفعُ لوقوعه خبراً ، والفاءُ جائزةُ الدخولِ ، لو كان في غير القرآن ، وعلى هذين الوجهين ، فمحلُّ » مَنْ « رفعٌ بالابتداء ، ويجوز على كونها موصولةً : أن تكون في محلِّ نصب بدلاً من اسم » إنَّ « وما عُطِف عليه ، أو تكون بدلاً من المعطوفِ فقط ، وهذا على الخلافِ في » الَّذِينَ آمَنُوا « : هل المرادُ بهم المؤمنونَ حقيقةً ، أو المؤمنونَ نِفَاقاً؟ وعلى كلِّ تقدير من التقادير المتقدِّمة ، فالعائدُ من هذه الجملة على » مَنْ « محذوفٌ ، تقديرُه : » مَنْ آمن مِنْهُمْ « ؛ كما صَرَّح به في موضعٍ آخر ، وتقدَّم إعرابُ باقي الجُمْلَةِ فيما مَضَى .
فصل في معنى الآية
معنى قوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ } ، أي : باللِّسَان وقوله تعالى : { مَنْ آمَنَ } بالقَلْبِ ، وعلى هذا فالمُرَادُ بِهِم : المنافقون ، وقيل : إنَّ الذين على حقيقةِ الإيمان { مَنْ آمَنَ بالله } أي : ثبتَ على الإيمان باللَّه واليومِ الآخر وعمل صالحاً فلا خَوْفٌ عليهم ولا هم يَحْزَنُون .
ولهذا التكرير فائدتان :
الأولى : أن المُنَافِقِين كانوا يَزْعُمُون أنَّهُم مُؤمِنُون ، فأخْرَجَهُمْ بهذا التكرير عن [ وعد ] عدمِ الخَوْف ، وعدمِ الحزن .
والثاني : أنَّهُ تعالى ذكر لَفْظَ الإيمان ، والإيمانُ يدخل تحته أقسامٌ : فأشرفُها : الإيمان باللَّهِ واليوم الآخر ، فكرره تنبيهاً على أنَّ هذيْنِ القسمَيْن أشْرَف أقْسَام الإيمان .
وقد تقدَّمَ في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ } [ المائدة : 35 ] كلامٌ يناسب هذا الموضع .
واعلم أنَّه لما بَيَّنَ أن أهل الكِتاب ليسُوا على شَيء ما لم يُؤمِنُوا بيَّن أنَّ هذا الحُكْمَ عامٌّ في الكُلِّ ، وأنَّهُ لا يَحْصُلُ لأحدٍ فضيلة إلاَّ إذا آمَنَ باللَّهِ واليَوْمِ الآخَرِ ، وعَمِلَ صَالِحاً .
قالت المُعَتزِلَة : إنَّه تعالى شرَطَ عدمَ الخَوْفِ والحُزْن بالإيمان والعَمَلِ الصَّالح ، والمشروط بالشَّيء عدم عند عدمِ الشَّرْطِ ، فإنْ لم يَأتِ مع الإيمان بالعملِ الصَّالِح ، فإنَّه يحصل له الخَوْفُ والحزن ، وذلكَ يَمْنَعُ من العَفْوِ عن صاحبِ الكَبيرَة .
والجواب : أنَّ صاحِبَ الكَبيرَةِ لا يقطعُ بأنَّ الله يَعْفُو عنه لا مَحَالَة ، فكان الخَوْفُ والحزن حاصِلاً قبل إظهَارِ العَفْو والله أعلم .
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
والمقصودُ : بيان عُيُوب بني إسرائيل ، وشدَّة تَمَرُّدهم عن الوفاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ ، وهذا مُتعلِّقٌ بأوَّلِ السُّورة ، وهو قولُه تعالى : { أَوْفُواْ بالعقود } [ المائدة : 1 ] .
قوله تعالى : { كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ } : قد تقدَّم الكلامُ [ الآية 20 من البقرة ] على « كُلَّمَا » مشبَعاً ، فأغْنَى عن إعادته ، وقال الزمخشريُّ : « كُلَّمَا جاءَهُمْ رسولٌ » جملةٌ شرطيةٌ وقعت صفةٌ ل « رُسُلاً » ، والراجعٌ محذوفٌ ، أي : « رسولٌ منهُمْ » ، ثم قال : « فإنْ قلتَ : أينَ جوابُ الشرط ، فإنَّ قوله : { فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } ناب عن الجواب؛ لأنَّ الرسولَ الواحدَ لا يكون فريقَيْن؛ ولأنه لا يحسُن أن تقول : » إنْ أكْرَمْتَ أخِي ، أخَاك أكْرَمْتُ « ؟ قلتُ : هو محذوفٌ؛ يَدُلُّ عليه قوله : { فَرِيقاً كَذَّبُواْ ، وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } ، كأنه قيل : كلما جاءهم رسولٌ ، ناصَبُوه ، وقوله : » فَرِيقاً كَذَّبُوا « جوابٌ مستأنفٌ لقائلٍ يقول : كيف فعلُوا برسُلِهِمْ؟ » قال أبو حيان : « وليس » كُلَّمَا « شرطاً ، بل » كُلَّ « منصوبٌ على الظرف و » مَا « مصدريةٌ ظرفيةٌ ، ولم يجزم العربُ ب » كُلَّّمَا « أصلاً ، ومع تسليم أن » كُلَّمَا « شرط؛ فلا يمتنع؛ لما ذكر ، أمّا الأول؛ فلأنَّ المرادَ ب » رَسُول « الجنسُ لا واحدٌ بعينه ، فيصحُّ انقسامُه إلى فريقَيْن؛ نحو : » لا أصْحَبُكَ ما طَلَع نَجْمٌ « أي : جنس النجوم ، وأما الثاني؛ فيعني أنه لا يجوزُ تقديمُ معمولِ جوابِ الشرط عليه » . وهذا الذي منعه إنما منعه الفرَّاءُ وحدَه ، وأما غيرُه ، فأجاز ذلك ، وهذا مع تسليم أنَّ « كُلَّمَا » شرط ، وأمَّا إذا مشينا على أنَّها ظرفيةٌ ، فلا حاجة إلى الاعتذارِ عن ذلك ، ولا يمتنعُ تقديمُ معمولِ الفعلِ العاملِ في « كُلَّمَا » تقول : « كُلَّمَا جِئْتَنِي أخَاكَ أكْرَمْتُ » ، قال شهاب الدين : هذا واضحٌ من أنها ليستْ شرطاً ، وهذه العبارةُ تكثُرُ في عبارة الفقهاءِ دُونَ النُّحَاةِ ، وفي عبارة أبي البقاء ما يُشْعر بما قاله الزمخشريُّ ، فإنه قال : « وَكَذَّبُوا » جواب « كُلَّمَا » و « فَرِيقاً » مفعول ب « كَذَّبُوا » ، و « فَرِيقاً » منصوب ب « يَقْتُلُونَ » ، وإنما قدَّمَ مفعول « يَقْتُلُونَ » لتواخي رؤوس الآي ، وقدَّم مفعولَ « كَذَّبُوا » مناسبةً لما بعده .
قال الزمخشريُّ : « فإنْ قلت : لِمَ جِيءَ بأحد الفعلَيْن ماضياً ، وبالآخر مضارعاً؟ قلتُ : جِيء ب » يَقْتُلُونَ « على حكايةِ الحالِ الماضية؛ استفظاعاً للقتلِ ، واستحضاراً لتلْكَ الحالِ الشنيعةِ؛ للتعجُّبِ منها » . انتهى ، وقد يقال : فلِمَ لا حُكِيَتْ حالُ التكْذيبِ أيضاً ، فيُجَاءُ بالفعْلِ مضارعاً لذلك؟ ويجَابُ بأنَّ الاستفظاع في القتلِ وشناعَتِهِ أكثرُ من فظاعةِ التكذيبِ ، وأيضاً؛ فإنه لمَّا جيء به مضارعاً ناسب رؤوس الآي .
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
قرأ حمزةُ والكسائيُّ وأبو عمرو « تَكونُ » برفع النون ، والباقون بنصبها ، فمنْ رفع ف « أنْ » عنده مخفَّفةٌ من الثقيلة ، واسمها ضميرُ الأمرِ والشأنِ محذوفٌ ، تقديرُه ، أنهُ ، و « لاَ » نافية ، و « تَكُونُ » تامة ، و « فِتْنَةٌ » فاعلها ، والجملةُ خبر « أن » ، وهي مفسِّرةٌ لضميرِ الأمرِ والشأن ، وعلى هذا ، ف « حَسِبَ » هنا لليقين ، لا للشكِّ؛ ومن مجيئها لليقين قولُ الشاعر : [ الطويل ]
2020- حَسِبْتُ التُّقَى والْجُودَ خَيْرَ تِجَارةٍ ... رَبَاحاً إذَا مَا المَرْءُ أصْبَحَ ثَاقِلا
أي : تيقَّنْتُ؛ لأنه لا يليقُ الشكُّ بذلك ، وإنما اضْطُرِرْنَا إلى جعلها في الآية الكريمة بمعنى اليقين؛ لأنَّ « أن » المخففةَ لا تقع إلا بعد يقينٍ ، فأمَّا قوله : [ البسيط ]
2021- أرْجُو وَآمُلُ أنْ تَدْنُوْ مَوَدَّتُهَا ... وَمَا إخَالُ لَدَيْنَا مِنْكَ تَنْوِيلُ
فظاهرُه : أنها مخفَّفةٌ؛ لعدم إعمالها ، وقد وقعت بعد « أرْجُو » و « آمُلُ » وليسا بيقينٍ ، والجوابُ من وجهين :
أحدهما : أنَّ « أنْ » ناصبةٌ ، وإنما أُهْمِلَتْ؛ حَمْلاً على « مَا » المصدريَّة؛ ويَدُلُّ على ذلك أنها لو كانت مخفَّفَةً ، لفُصِلَ بينها وبين الجملة الفعليةِ بما سنذكره ، ويكون هذا مثل قولِ الله تعالى : { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } [ البقرة : 233 ] ؛ وكقوله : [ البسيط ]
2022- يَا صَاحِبَيَّ فَدَتْ نَفْسِي نُفُوسَكُمَا ... وَحَيْثُمَا كُنْتُمَا لُقِّيتُمَا رَشَدَا
أنْ تَحْمِلا حَاجَةً لِي خَفَّ مَحْمَلُهَا ... تَسْتوَجِبَا نِعْمَةً عِنْدِي بِهَا وَيَدَا
أنْ تَقْرَآنِ عَلَى أسْمَاءَ وَيْحَكُمَا ... مِنِّي السَّلامَ وألاَّ تُشْعِرا أحَدَا
فقوله : « انْ تَقْرآنِ » بدلٌ من « حَاجَة » ، وقد أهْمَلَ « أنْ » ؛ ومثلُه قوله : [ مجزوء الكامل ]
2023- إنِّي زَعِيمٌ يَا نُوَيْ ... قَةُ إنْ نَجَوْتِ مِنَ الرَّزَاحِ
وَنَجَوْتِ مِنْ وَصَبِ الْعَدْوْ ... وِ مِنَ الغُدُو إلى الرَّوَاح
أنْ تَهْبِطِينَ بِلاَدَ قوْ ... مٍ يَرْتَعُونَ مِنَ الطِّلاحِ
وكيفما قُدِّر فيما ذكرته من الأبيات ، يلزم أحد شذوذَيْنِ قد قيل باحتمال كلٍّ منهما : إمَّا إهمالُ « أنْ » ، وإمَّا وقوعُ المخفَّفة بعد غير علمٍ ، وعدمُ الفصل بينها ، وبين الجملة الفعليَّة .
والثاني من وجهي الجواب : أنَّ رجاءَهُ وأملَهُ قويَا حتَّى قربا من اليقينِ ، فأجراهما مُجْراهُ في ذلك .
وأما قول الشاعر : [ الخفيف ]
2024- عَلِمُوا أنْ يُؤمَّلُونَ فَجَادُوا ... قَبْلَ أنْ يُسْألُوا بأعْظَمِ سُؤلِ
فالظاهرُ أنها المخفَّفة ، وشَذَّ عدمُ الفصْلِ ، ويحتملُ أن تكون الناصبة شذَّ وقوعُها بعد العلْمِ ، وشذَّ إهمالُها ، ففي الأوَّلِ شذوذٌ واحدٌ ، وهو عدم الفصلِ ، وفي الثاني شذوذَانِ : وقوعُ الناصبةِ بعد العلمِ ، وإهمالُها حَمْلاً على « مَا » أختِها .
وجاءَ هنا على الواجب - عند بعضهم - أو الأحسنِ - عند آخرين - وهو الفصلُ بين « أن » الخفيفةِ وبين خبرها ، إذا كان جملة فعليةً متصرفةً غير دعاءٍ ، والفاصلُ : إمَّا نفي كهذه الآية ، وإمَّا حرفُ تنفيس؛ كقوله تعالى :
{ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى } [ المزمل : 20 ] ، ومثله : « عَلِمْتُ أنْ سوْفَ تقُومُ » ، وإمَّا « قَدْ » ؛ كقوله تعالى : { وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا } [ المائدة : 113 ] ، وإمَّا « لَوْ » - وهي غريبةٌ -؛ كقوله : { وَأَلَّوِ استقاموا } [ الجن : 16 ] { أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب } [ سبأ : 14 ] . وتحرَّزْتُ بالفعلية من الاسمية؛ فإنها لا تحتاج إلى فاصل؛ كقوله تعالى : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } [ يونس : 10 ] ، وكقوله : [ البسيط ]
2025- فِي فِتْيَةٍ كَسُيُوفِ الهِنْد قَدْ عَلِمُوا ... أنْ هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى ويَنْتَعِلُ
وبالمتصرِّفةِ من غيرِ المتصرِّفة؛ فإنه لا تحتاج إلى فاصلٍ؛ كقوله تعالى : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى } [ النجم : 39 ] { وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ } [ الأعراف : 185 ] ، وبغير دعاءٍ من الواقعةِ دعاءً؛ كقوله تعالى : { أَنَّ غَضَبَ الله } [ النور : 9 ] في قراءة نافعٍ .
ومَنْ نصب « تَكُونَ » ف « أنْ » عنده هي الناصبة للمضارعِ ، دخلت على فعلٍ منفيٍّ ب « لاَ » ، و « لاَ » لا يمنعُ أن يعملَ ما قبلها فيما بعدها من ناصبٍ ، ولا جازم ، ولا جارٍّ ، فالناصبُ كهذه الآية؛ والجازم كقوله تعالى : { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ } [ الأنفال : 73 ] { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله } [ التوبة : 40 ] ، والجارُّ نحو : « جِئْتُ بِلا زادٍ » .
و « حَسِبَ » هنا على بابها من الظَّنِّ ، فالناصبة لا تقعُ بعد علْم ، كما أنَّ المخففة لا تقع بعده غيرِه ، وقد شَذَّ وقوعُ الناصبةِ بعد يَقِينٍ ، وهو نصٌّ فيه كقوله : [ البسيط ]
2026- نَرْضَى عَنِ النَّاسِ إنَّ النَّاسَ قَدْ عَلِمُوا ... ألاَّ يُدانِيَنَا مِنْ خَلْقِهِ بَشَرُ
وليس لقائلٍ أن يقول : العلمُ هنا بمعنى الظَّنِّ؛ إذ لا ضرورة تدعو إليه ، والأكثرُ بعد أفعالِ الشكِّ النصبُ ب « أنْ » ، ولذلك أُجْمِع على النصْب في قوله تعالى : { أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا } [ العنكبوت : 2 ] ، وأمَّا قوله تعالى : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ } [ طه : 89 ] فالجمهورُ على الرفع؛ لأن الرؤية تقعُ على العلْمِ .
والحاصل أنه متى وقَعَتْ بعد علْمٍ ، وجبَ أن تكونَ المخفَّفةَ ، وإذا وقعت بعد ما ليس بعلمٍ ولا شكٍّ ، وجَبَ أن تكونَ الناصبةَ ، وإن وقعت بعد فعْلٍ يحتملُ اليقينَ والشك جاز فيها وجهان باعتباريْنِ : إنْ جعلناه يقيناً ، جعلناها المخففةَ ورفعنا ما بعدها ، وإن جعلناه شكّاً جعلناها الناصبةَ ونصبْنَا ما بعدها ، والآيةُ الكريمةُ من هذا الباب ، وكذلك قوله تعالى : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ } [ طه : 89 ] وقوله : { أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا } [ العنكبوت : 2 ] لكن لم يُقرأ في الأولى إلا بالرفعِ ، ولا في الثانية إلا بالنصْب ، لأن القراءة سنةٌ متبعة ، وهذا تحريرُ العبارة فيها ، وإنما قلنا ذلك؛ لأن بعضهم يقول : يجوزُ فيها بعد أفعال الشكِّ وجهان ، فيوهمُ هذا أنه يجوزُ فيها أن تكونَ المخفَّفةَ ، والفعلُ قبلها باقٍ على معناه من الشكِّ ، لكن يريد ما ذكرتُه لك من الصلاحيةِ اللفظيةِ بالاعتبارين المتقدمَيْن ، ولهذا قال الزمخشريُّ : « فإنْ قلْتَ : كيف دخَلَ فعلُ الحُسْبَانِ على » أن « التي هي للتحْقِيق؟ قلْتُ : نَزَّل حسبانَهم؛ لقوَّته في صدورِهِمْ منزلةَ العلْمِ » والسببُ المقتضي لوقوعِ المخفَّفةِ بعد اليقين ، والناصبةِ بعد غيره ، وجواز الوجهَيْن فيما تردَّد بين الشَّكِّ واليقينِ : ما ذكروه ، وهو « أن » المخفَّفة تَدُلُّ على ثباتِ الأمر واستقراره؛ لأنها للتوكيدِ كالمشدَّدة ، والعلمُ وبابُه كذلك ، فنَاسَبَ أنْ تُوقِعَها بعد اليقين للملائمةِ بينهما ، ويدلُّ على ذلك وقوعُها مشدَّدةً بعد اليقين؛ كقوله تعالى :
{ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين } [ النور : 25 ] { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة : 106 ] { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض } [ البقرة : 107 ] إلى غير ذلك ، والنوعُ الذي لا يدلُّ على ثبات واستقرارٍ تقع بعده الناصبة؛ كقوله تعالى : { والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي } [ الشعراء : 82 ] { نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ } [ المائدة : 52 ] { فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا } [ الكهف : 80 ] { أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ } [ المجادلة : 13 ] إلى غير ذلك ، والنوعُ المحتملُ للأمرين تقع بعده تارة المخففةُ ، وتارةً الناصبةُ؛ كما تقدَّم من الاعتبارَيْنِ ، وعلى كلا التقديرين ، أعني : كونها المخففةَ أو الناصبةَ ، فهي سادَّةٌ مسدَّ المفعوليْنِ عند جمهورِ البصْريين ، ومسدَّ الأولِ ، والثاني محذوفٌ عند أبي الحسن ، أي : حَسِبُوا عدمَ الفتنةِ كائناً أو حاصلاً ، وحكَى بعض النحويِّين أنه ينبغي لِمَنْ رفع أن يَفْصِلَ « أنْ » من « لاَ » في الكتابة؛ لأنَّ الهاء المضْمَرة حائلةٌ في المعنى ، ومن نصب ، لم يَفْصِلْ لعدمِ الحائل بينهما ، قال أبو عبد الله : « هذا ربَّما ساغَ في غير المُصْحفِ ، أمَّا المُصْحَفُ ، فلَم يُرْسَمْ إلا على الاتِّصَال » . انتهى ، وفي هذه العبارة تجوُّزٌ؛ إذ لفظُ الاتصالِ يُشْعِرُ بأنْ تُكْتَبَ « أنلا » فتوصل « أنْ » ب « لاَ » في الخطِّ ، فينبغي أن يقال : لا تُثْبَتُ لها صورةٌ ، أو تُثْبتُ لها صورةٌ منفصلة .
فصل
اختَلَفُوا في الفِتْنَةِ فقِيلَ : هِيَ العَذَابُ أي : وظنُّوا ألا يكون عذابٌ ، وقيل : هي الابْتِلاءُ والاخْتِبَارُ بالقَحْطِ ، والوَبَاء ، والقَتْلِ والعَدَاوَةِ ، والبَغْضَاءِ فيما بَيْنَهُم ، وكُلُّ ذلك قد وقعَ بِهِم ، وكُلُّ واحدٍ من المُفَسِّرين حَمَل الفِتْنَةَ على واحدٍ من هذِهِ الوُجُوه .
واعلم أنَّ حُسْبَانَهُمْ ألاَّ تقع فِتْنَةٌ يحتمل وجهين :
إمَّا أنهم كانوا يَعْتقدُون أنَّ الواجِبَ عليْهِم في كل رَسُول جَاءَ بِشَرْعٍ آخَر؛ أنَّه يجب عَلَيْهِم قَتْلُه وتَكْذِيبُه .
وإمَّا أنهم وإن اعْتَقَدُوا في أنْفُسِهِم كَوْنهم مُخْطِئِين في ذلك التَّكْذِيب والقَتْلِ ، إلاَّ أنَّهُم كانوا يَقُولُون : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] وكانوا يعتقدون أنَّ نُبُوَّةَ أسْلاَفهم وآبَائِهم تَدْفَعُ عَنْهُم العذاب الذي يَسْتَحِقُّونَهُ بِسَببِ ذلِكَ القَتْلِ والتَّكْذِيب .
قوله تعالى : { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } أي : فَعَمُوا عن الحقِّ فلم يُبْصِرُوا « وصَمُّوا » بعد مُوسَى { ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ } ببعْثَ عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - وقيل : عَمُوا وَصمُّوا في زَمَان زَكريَّا ، ويحيى ، وعيسى - عليهم الصلاة والسلام - ، ثم تاب اللَّهُ على بعضهم ، حيْثُ آمَنَ بعضُهُم به ثمَّ عمُوا وصمُّوا كثيرٌ منهم في زَمَانِ مُحَمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، بأنْ أنْكَرُوا نُبُوَّتَه ورِسَالَتَهُ ، وإنَّما قال « كثيرٌ مِنْهُم » ؛ لأنَّ أكثرَ اليهُود وإنْ أصَرُّوا على الكفر بمُحَمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، إلاَّ أنَّ جَمْعاً آمَنُوا به كَعَبْدِ اللَّه بن سلام وأصحَابِه .
وقيل : عَمُوا حين عَبَدُوا الْعِجْلَ ، ثمَّ تَابُوا عَنْهُ فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِم ، ثمَّ عَمُوا وصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُم بالتعَنُّتِ ، وهو طَلَبُهُم رُؤيَةَ اللَّهِ جَهْرَةً ، ونُزُولَ الملائِكة .
وقال القَفَّال : ذَكَرَ اللَّهُ تعالى في سُورةِ بَنِي إسْرائيل ما يجُوزُ أنْ يكُونَ تَفْسيراً لِهَذِه الآية ، فقالَ تعالى : { وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً } [ الإسراء : 4 ، 5 ، 6 ] ، فهذا في معنى « فَعَمُوا وصمَّوا » ثم قال تعالى { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً } [ الإسراء : 7 ] فهذا في معنى قوله « فَعَمُوا وصَمُّوا » .
قوله تعالى : { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } في هذا التركيب خمسة أوجه :
أحدها : أنَّ الواوَ علامةُ جمع الفاعلِ ، كما يَلْحق الفعل تاءُ التأنيث؛ ليدلَّ على تأنيثِ الفاعل ، ك « قَامَتْ هِنْدٌ » ، وهذه اللغة جاريةٌ في المثنى وجمع الإناث أيضاً ، فيقال : « قَامَا أخَواكَ ، وقُمْنَ أخَوَاتُكَ » ؛ كقوله : [ الطويل ]
2027- .. وَقَدْ أسْلَمَاهُ مُبْعَدٌ وحَمِيمُ
وقوله : [ الطويل ]
2028- ولَكِنْ دِيَافِيٌّ أبُوهُ وأمُّهُ ... بِحَوْرَانَ يَعْصِرْنَ السَّليطَ أقَارِبُهْ
واستدلَّ بعضُهم بقوله - عليه السلام - : « يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ ملائِكَةٌ » ، ويعبِّر النحاة عن هذه اللغةِ بلغةِ « أكَلُونِي البَرَاغِيثُ » ، ولكنَّ الأفصحَ ألاَّ تلحقَ الفعلَ علامةٌ ، وفرَّق النحويُّون بين لحاقِهِ علامةَ التأنيث ، وعلامةَ التثنية والجمع؛ بأنَّ علامةَ التأنيث ألزمُ؛ لأن التأنيث في ذاتِ الفاعلِ بخلافِ التثنيةِ والجمعِ؛ فإنه غيرُ لازمٍ .
الوجه الثاني : أنَّ الواوَ ضميرٌ عائدٌ على المذكورينَ العائد عليهم واو « حَسِبُوا » ، و « كَثِيرٌ » بدلٌ من هذا الضمير ، كقولك : « إخْوَتُكَ قَامُوا كَبِيرُهُمْ وصَغِيرُهُمْ » ونحوه . والإبْدَال كَثيرٌ في القُرْآنِ قال تعالى : { الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } [ السجدة : 7 ] .
وقال تعالى : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } [ آل عمران : 97 ] .
الوجه الثالثك أن الواو ضمير أيضاً ، و « كَثِيرٌ » بدلٌ منه ، والفرقُ بين هذا الوجه والذي قبله : أن الضمير في الوجْهِ الأوَّلِ مفسَّرٌ بما قبلَه وهم بنو إسْرائِيلَ ، وأمَّا في هذا الوجه ، فهو مفسَّرٌ بما بعده ، وهذا أحدُ المواضع التي يُفَسَّر فيها الضميرُ بما بعده ، وهو أن يُبْدَلَ منه ما يفسرهُ ، وهي مسألةُ خلافٍ ، وقد تقدَّم تحريرها .
الوجه الرابع : أن الضمير عائدٌ على مَنْ تقدَّم ، و « كَثِيرٌ » خبر مبتدأ محذوف ، وقدَّره مكي تقديرين : أحدهما : قال : « تقديرُه العُمْيُ والصُّمُّ كثيرٌ منهم » ، والثاني : العَمَى والصَّمَمُ كثيرٌ منهم؛ ودلَّ على ذلك قوله : { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ } ، فعلى تقديره الأوَّل : يكون « كَثِيرٌ » صادقاً عليهم و « مِنْهُمْ » صفة ل « كَثِير » ؛ وعلى التقدير الثاني : يكون « كَثِيرٌ » صادقاً على العَمَى والصَّمَمِ لا عليهِمْ ، و « مِنْهُمْ » صفةٌ له بمعنى أنه صادرٌ منهم ، وهذا الثاني غيرُ ظاهرٍ ، وقدَّره الزمخشريُّ فقال : « أولَئِكَ كَثِيرٌ منهم » .
الوجه الخامس : أنَّ « كَثيرٌ » مبتدأ والجملةُ الفعليَّة قبله خبرٌ ، ولا يُقالُ : إنَّ الفعلَ متى وقع خبراً ، وجبَ تأخيرُه؛ لأنَّ ذلك مشروطٌ بكونِ الفاعل مستتراً؛ نحو : « زَيْدٌ قَامَ » ؛ لأنه لو قُدِّم ، فقيل : « قَامَ زَيْدٌ » ، لألبس بالفاعل ، فإن قيلَ : وهذا أيضاً يُلْبِس بالفاعلِ في لغة « أكَلُونِي البَراغيثُ » ، فالجواب : أنها لغةٌ ضعيفةٌ لا نبالي بها ، وضعَّفَ أبو البقاء هذا الوجه بمعنًى آخَرَ ، فقال : « لأنَّ الفعل قد وقَعَ في موضِعِه ، فلا يُنْوَى به غيرُه » ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّا لا نُسَلِّم أنه وقع موقعه ، وإنما كان واقعاً لو كان مجرَّداً من علامةٍ ، ومثلُ هذه الآيةِ أيضاً قوله تعالى : { وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ } [ الأنبياء : 3 ] .
والجمهورُ على « عَمُوا وصَمُّوا » بفتح العين والصاد ، والأصل : عَمِيُوا وصَمِمُوا؛ كَشَرِبُوا ، فأعِلَّ الأولُ بالحذفِ ، والثَّاني بالإدغامِ ، وقرأ يحيى بن وثَّاب وإبراهيم النخعي بضم العين والصاد وتخفيف الميم من « عَمُوا » ، قال الزمخشريُّ : « على تقدير عَمَاهُمُ الله وصَمَّهُمْ ، أي : رَمَاهُمْ وضَرَبَهُمْ بالعَمَى والصَّمَمِ؛ كما يقال : نَزَكْتُهُ إذا ضَرَبْتَهُ بالنَّيْزَكِ ، وركَبْتُهُ إذا ضَرَبْتَهُ بِرُكْبَتِكَ » ، ولم يعترضْ عليه أبو حيان - رحمه الله - ، وكان قد قال قبل ذلك بعد أن حكى القراءة : « جَرَتْ مَجْرَى زُكِمَ الرجُلُ ، وأزْكَمَهُ الله ، وحُمَّ وأحَمَّه الله ، ولا يقال : زَكَمَهُ الله ولا حَمَّهُ؛ كما لا يقال : عَمَيْتُهُ ولا صَمَمْتُه ، وهي أفعالٌ جاءت مبنيَّةً للمفعول الذي لم يُسَمَّ فاعلُه ، وهي متعدِّيةٌ ثلاثيةٌ ، فإذا بُنيتْ للفاعلِ ، صارتْ قاصرةً ، فإذا أردت بناءَها للفاعلِ متعدِّيةً ، أدخَلْتَ همزة النقْلِ ، وهي نوعٌ غريبٌ في الأفعال » . انتهى ، فقوله : « كمَا لا يُقَالُ عَمَيْتُهُ ولا صَمَمْتُهُ » يقتضي أن الثلاثيَّ منها لا يتعدَّى ، والزمخشريُّ قد قال على تقدير : « عَمَاهُمُ الله وصَمَّهُمْ » فاستعملَ ثلاثيَّةُ متعدِّياً ، فإن كان ما قاله أبو حيان صحيحاً ، فينبغي أن يكون كلام الزمخشريِّ فاسداً أو بالعكس .
وقرأ ابن أبي عَبْلة « كَثِيراً » نصباً؛ على أنه نعتٌ لمصدر محذوف ، وتقدم غيرَ مرَّة أنه عند سيبويه حالٌ ، وقال مكي : « ولو نَصَبْتَ » كَثِيراً « في الكلام ، لجازَ أن تجعله نعتاً لمصدر محذوف ، أي : عَمى وصَمَماً كثيراً » ، قلت : كأنه لم يطَّلِعْ عليها قراءةً ، أو لم تَصِحَّ عنده؛ لشذُوذها .
وقوله : « فَعَمُوا » عطفَه بالفاء ، وقوله : { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ } عطفه ب « ثُمَّ » ، وهو معنى حسنٌ؛ وذلك أنهم عَقِيبَ الحُسْبَانِ ، حصل لهم العمى والصَّمَمُ من غير تَرَاخٍ ، وأسند الفعلين إليهم ، بخلافِ قوله : { فَأَصَمَّهُمْ وأعمى أَبْصَارَهُمْ } [ محمد : 23 ] ، لأنَّ هذا فيمن لم يَسْبِقْ له هدايةٌ ، وأسند الفعل الحسنَ لنفسِه في قوله : { ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ } ، وعطف قوله : « ثُمَّ عَمُوا » بِحَرْفِ التراخِي؛ دلالةً على أنهم تمادَوْا في الضَّلال إلى وقْتِ التوبة .
فصل في معنى العمى والصّمم
المُرَادُ بهذا العمى والصّمم الجَهْلُ والكُفْرُ ، وإذا كان كذلِكَ فنقول : فَاعِلُ هذا الجَهْلِ إمَّا أن يكون هو اللَّهُ - تعالى - أو العَبْدُ .
فالأول : يُبْطِلُ قول المُعْتَزِلَةِ .
والثاني : بَاطِل؛ لأنَّ الإنسان لا يَخْتَارُ ألْبَتَّةَ تَحْصِيلَ الجَهْلِ والكُفْرِ لِنَفْسِهِ .
فإن قيل : إنَّمَا اختاروا ذلك؛ لأنَّهُمْ ظَنُّوا أنَّهُ علمٌ .
قلنا : هذا الجَهْلُ يسبقه جَهْلٌ آخَر ، إلاَّ أنَّ الجهالات لا تتَسَلْسَلُ ، بل لا بد من انْتِهائِهَا إلى الجَهْلِ الأوَّل ، ولا يجوز أنْ يَكُون هو العَبْدُ لِما ذَكَرْنَا فوَجَب أن يكون فاعله هو اللَّهُ تعالى .
ثُمَّ قال تعالى : { والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي : مِنْ قَتْل الأنْبيَاء وتكْذِيب الرُّسُلِ المقصود منه التَّهْدِيد .
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)
لمَّا تكلم مع اليهود شَرَعَ في الكلام هَاهُنا مع النَّصارى .
فحكى عَنْ فَريقٍ مِنْهُم أنَّهُمْ قالوا : { إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ } وهذا قول المَلْكَانِيَّة واليَعْقُوبِيَّة؛ لأنهم يَقُولُون : إنَّ مَرْيم ولدَت إلهاً ، ولعلَّ معنى هذا المَذْهَب أنَّهُمْ يقولون : إنَّ الله تعالى حَلَّ في ذَاتِ عيسى واتّحد بِذاتِ عيسى ، ثم حكى - سبحانه وتعالى - عن المسيح أنَّهُ قال : { يا بني إِسْرَائِيلَ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ } ، وهذا تنبيه على ما هُوَ الحُجَّةُ القَاطِعَةُ على فسَاد قول النَّصَارى؛ وذلك لأنَّه - عليه الصَّلاةُ والسلام - لم يُفَرِّقْ بينه وبين غيره ، في أنَّ دلائل الحُدُوثِ ظَاهِرَةٌ عليه ، ثم قال تعالى : { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة وَمَأْوَاهُ النار وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } ومعْنَاهُ ظاهرٌ واحتَجَّ أهْلُ السُّنَّةِ بهذا على أنَّ عِقَابِ الفُسَّاقِ لا يكون مُخَلَّداً قالوا : لأنَّه تعالى جَعَل أعظم أنواع الوعيدِ والتَّهْديد في حَقِّ المُشْرِكينِ ، وهو أنَّ اللَّه - تعالى - حَرَّم عليهم الجَنَّة ومأوَاهُمُ النَّار ، وأنَّهُ ليس لهم نَاصِرٌ يَنْصُرهُم ، ولا شَافِعٌ يَشْفَعُ لهُمْ ، فلو كان حال الفُسَّاقِ من المُؤمنين كَذَلِك لما بَقِي لتهْدِيدِ المُشركين على شِرْكِهِم بهذَا الوعيد فائدة .
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)
معناه أحدُ الثلاثةِ ، ولذلك منع الجمهورُ أن يُنْصَبَ ما بعده ، لا تقولُ : ثَالِثٌ ثلاثةً ، ولا رَابعٌ أربعةً؛ قالوا : لأنه اسمُ فاعلٍ ، ويعملُ عَمَلَ فعله ، وهنا لا يقع موقعَه فعلٌ؛ إذ لا يقال : رَبَّعْتُ الأرْبَعَةَ ، ولا ثَلَّثْتُ الثلاثةَ ، وأيضاً : فإنه أحدُ الثلاثة؛ فيلزم أن يعمل في نَفْسِهِ ، وأجاز النصْبَ بمثلِ هذا ثَعْلَبٌ ، وردَّه عليه الجمهورُ بما ذُكِرَ ، أمَّا إذا كان من غيرِ لَفْظِ ما بعده ، فإنه يجوزُ فيه الوجْهَان : النصبُ ، والإضافة؛ نحو : رَابعٌ ثلاثةً ، وإن شئْتَ : ثَلاثَةٍ ، واعلم : أنه يجوز أن يُشتقَّ من واحد إلى عَشَرَةٍ صيغةُ اسمِ فاعلٍ؛ نحو : « وَاحِد » ، ويجوز قلبه فيقال : حَادِي وثَانِي وثالِث إلى عَاشِر ، وحينئذٍ : يجوز أن يستعملَ مفرداً؛ فيقال : ثَالِثٌ ورَابعٌ؛ كما يقال : ثلاثةٌ وأربعةٌ من غير ذكرِ مفسِّرٍ ، وأن يستعمل استعمالَ أسماءِ الفاعلينَ؛ إنْ وقع بعده مغايرُهُ لفظاً ، ولا يكونُ إلا ما دونهُ برتْبةٍ واحدةٍ؛ نحو عَاشِرُ تِسْعَةٍ ، وتَاسِعُ ثَمَانِيَةٍ ، فلا يجامعُ ما دونَه برتبتين؛ نحو : عَاشِرُ ثمانِيَةٍ ، ولا ثَامِنُ أرْبَعَةٍ ، ولا يُجامِعُ ما فوقه مطلقاً ، فلا يقال : تَاسِعُ عشرةٍ ولا رَابعُ ستَّةٍ .
إذا تقرَّر ذلك فيعطى حكم اسم الفاعل؛ فلا يعملُ إلا بشروطه ، وأمَّا إذا جامع موافقاً [ له لفظاً ] وجبتْ إضافتُه؛ نحو : ثَالثُ ثلاثةٍ ، وثَاني اثْنَيْنِ ، وتقدَّم خلاف ثَعْلَبٍ ، ويجوز أن يُبْنَى أيضاً من أحَدَ عشر ، إلى تِسْعَة عشر ، فيقال : حَادِي عشرَ وثالثَ عشرَ ، ويجوز أنْ يُستعمل مفْرداً؛ كما ذكرنا ، ويجوز أن يُسْتَعْمَل مجامعاً لغيره ، ولا يكونُ إلا موافقاً ، فيقال : حَادِي عشر أحدَ عشرَ ، وثالثَ عشرَ ثلاثةَ عشرَ ، ولا يقالُ : ثالثَ عشرَ اثْنَيْ عشرَ ، وإن كان بعضُهم خالفَ ، وحكمُ المؤنثِ كحكْمه في الصفَاتِ الصريحةِ ، فيقال : ثَالِثَة ورابعة ، وحادية عشْرَةَ ، وثَالِثَة عشْرَةَ ثلاثَ عَشْرَة ، وله أحكامٌ كثيرة مذكورة في كُتب النَّحْو . فصل في تفسير قول النصارى « ثالث ثلاثة »
هذا قول المَرْقُوسِيَّة : وفيه طريقان : أحدهما : قول المُفَسِّرين : وهو أنَّ النَّصَارى يقولون : الإلهِيَّة مشتركة بَيْنَ اللَّه ومرْيَم وعيسَى ، وكُلُّ واحد من هؤلاء إله .
ويؤكد ذَلِكَ قوله تعالى : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله } [ المائدة : 116 ] فقوله : « ثَالِثُ ثلاثَةٍ » أي : أحَد ثلاثة ، وواحد من ثلاثةِ آلهةٍ ، يَدُلُّ عليه قوله تعالى في الرَّدِّ عليهم : { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ إله وَاحِدٌ } . قال الواحديُّ والبَغَوِي : من قال : إنَّ اللَّه تعالى ثَالِثُ ثلاثةٍ ، هُو لَمْ يُرِدْ ثالثُ ثلاثةِ آلهة ، فإنَّه ما مِنْ شَيْءٍ إلاَّ واللَّه ثالثُهُ بالعِلْم ، قال تعالى : { مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] .
وقال النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - لأبي بكرٍ : « ما ظَنُّكَ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا » .
الطريق الثاني : أنَّ المُتَكَلِّمين حكوا عن النَّصَارى أنَّهُمْ يقولون : جَوْهَرٌ واحدٌ : ثلاثةُ أقْسَام : أبٌ ، وابْنٌ ، ورُوحُ القُدُس ، وهذه الثَّلاثَةُ إلهٌ واحِدٌ ، كما أنَّ الشَّمْس اسمٌ يتناوَلُ القُرْصَ والشُّعَاع والحَرَارَة ، وعنُوا بالأبِ الذَّات ، وبالابْنِ الكَلِمَة ، وبالرُّوحِ الحَيَاة ، وأثْبَتُوا الذَّاتَ والكَلِمَة والحَيَاة .
وقالوا : إنَّ الكَلِمَة التي هي كلامُ اللَّه اخْتلطَتْ بِجِسْمِ عيسَى اخْتِلاطَ الماءِ بالخَمْر ، واختلاط الماءِ باللَّبْن .
وزعمُوا أنَّ الأبَ إلهٌ ، والابْنَ إله ، والرُّوح إلهٌ ، والكُلُّ إلهٌ وهذا بَاطِلٌ بيديهَةِ العقْلِ ، فإنَّ الإلهَ لا يكونُ إلاَّ واحِداً ، والواحِدُ لا يكونُ ثلاثةٌ ، وليس في الدُّنْيا مقالةٌ أشَدَّ فَسَاداً ، وأظْهَر بُطْلاناً من مقالَةِ النَّصارى - لعنهُمُ اللَّهُ تعالى - .
قوله تعالى : { وَمَا مِنْ إله } « مِنْ » زائدةٌ في المبتدأ؛ لوجود الشرطين ، وهما كونُ الكلام غير إيجابٍ ، وتنكيرُ ما جرَّتْهُ ، و « إلهٌ » بدل من محلِّ « إلهٍ » المجرورِ ب « مِنْ » الاستغراقية؛ لأن محلَّه رفعٌ كما تقدَّم ، وما إلهٌ في الوجُودِ إلاَّ إلهٌ مُتَّصِفٌ بالوحْدَانية ، قال الزمخشريُّ : « مِنْ » في قوله : « مِنْ إلهٍ » للاستغراقِ ، وهي المقدَّرةُ مع « لاَ » التي لنفي الجنْسِ في قولك : « لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ » والمعنى : وما مِنْ إلهٍ قَطُّ في الوجُود إلاَّ إلهٌ مُتَّصِفٌ بالوحدانيَّة ، وهو الله تعالى « ، فقد تحصَّل مِنْ هذا أنَّ » مِنْ إلهٍ « مبتدأ ، وخبرُه محذوفٌ ، و » إلاَّ إلَهٌ « بدلٌ على المحلِّ ، قال مكي : » ويجوزُ في الكلام النصبُ : « إلاَّ إلهاً » على الاستثناء « ، قال أبو البقاء : » ولو قُرئَ بالجرِّ بدلاً من لَفْظ « إلهٍ » ، لكان جائزاً في العربيَّة « ، قال شهاب الدين : ليس كما قال؛ لأنه يلزمُ زيادةُ » مِنْ « في الواجبِ؛ لأن النفي انتقضَ ب » إلاَّ « ، لو قلت : » ما قَامَ إلاَّ مِنْ رَجُلٍ « ، لم يَجُزْ فكذا هذا ، وإنما يجوزُ ذلك على رأي الكوفيين والأخفش؛ فإنَّ الكوفيين يشترطون تنكيرَ مجرورها فقط ، والأخفشُ لا يشترط شيئاً ، قال مكي » واختار الكسائيُّ الخفضَ على البدل من لفظ « إلهٍ » ، وهو بعيدٌ؛ لأنَّ « مِنْ » لا تُزَاد في الواجبِ « ، قال شهاب الدين : ولو ذهبَ ذاهبٌ إلى أنَّ قوله » إلاَّ إلهٌ « خبر المبتدأ ، وتكونُ المسألةُ من الاستثناءِ المفرَّغِ ، كأنه قيل : ما إلَهٌ إلاَّ إلَهٌ مُتَّصِفٌ بالواحدِ ، لما ظهر له منعٌ ، لكنِّي لم أرَهُمْ قالوه ، وفيه مجالٌ للنظر .
ثم قال تعالى : { وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
قال الزَّجَّاجُ : معناه : ليمسن الذين أقامُوا على هذا الدِّين؛ لأنَّ كثيراً منهم تَابُوا عن النَّصْرانيَّةِ ، فخصَّ الذين كفروا لِعِلْمهِ أنَّ بعضَهُمْ يُؤمِنُ .
قوله : « لَيَمَسَّنَّ » جوابُ قَسَم مَحْذُوفٍ ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ؛ لدلالةِ هذا عليه ، والتقديرُ : واللَّهِ ، إنْ لَمْ يَنْتَهُوا لَيَمَسَّنَّ ، وجاء هذا على القاعدَةِ التي قَرَّرْتُهَا : وهو أنه إذا اجتمعَ شرطٌ وقَسَمٌ أُجيبَ سابقُهما ما لم يسبقْهُمَا ذو خَبَرٍ ، وقد يجابُ الشرطُ مطْلقاً ، وقد تقدَّم أيضاً : أن فعلَ الشرطِ حينئذٍ لا يكون إلا ماضياً لفظاً ومعنًى لا لفظاً كهذه الآية ، فإنْ قيلَ : السابقُ هنا الشرطُ؛ إذ القسمُ مقدَّرٌ ، فيكونُ تقديرُه متأخِّراً ، فالجوابُ أنه لو قُصِدَ تأخُّرُ القسَمِ في التقدير ، لأجيبَ الشرْطُ ، فلمَّا أُجِيبَ القسمُ ، عُلِمَ أنه مقدَّرُ التقديمِ ، وعبَّر بعضهم عَنْ هذا ، فقال : لامُ التوطئةِ للقسمِ قد تُحْذَفُ ويُراعَى حكمُها؛ كهذه الآيةَ؛ إذ التقدير : « ولَئِنْ لَمْ » كما صرَّح بهذا في غير موضع؛ كقوله : { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون } [ الأحزاب : 60 ] ؛ ونظيرُ هذه الآية قوله : { وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ } [ الأعراف : 23 ] { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 121 ] ، وتقدَّم أنَّ هذا النوع من جواب القسمِ يجبُ أن يُتلقَّى باللام وإحدى النونَيْنِ عند البصريِّين ، إلاَّ ما استثني ، كما تقدَّمَ ، قال الزمخشريُّ : « فإنْ قلت : فهلاَّ قيل : لَيَمسُّهُمْ عذابٌ ، قلتُ : في إقامة الظاهر مقامَ المضْمَرِ فائدةٌ ، وهي تكريرُ الشهادة عليهم بالكُفْر » .
وقوله : « مِنْهُمْ » في محلِّ نصبٍ على الحال ، قال أبو البقاء : إمَّا من « الَّذِينَ » ، وإمَّا من ضمير الفاعل في « كَفَرُوا » ، قلتُ : لم يتغيَّر الحكمُ في المعنى؛ لأن الضميرَ الفاعِلَ هو نَفْسُ الموصُولِ ، وإنما الخلافُ لفظيٌّ ، وقال الزمخشريُّ : « مِنْ » في قوله تعالى : { لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ } للبيان كالتي في قوله : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] قال شهاب الدين : فعلى هذا يتعلقُ « مِنْهُمْ » بمحذوفٍ ، فإن قلتَ : هو على جعله حالاً متعلقٌ أيضاً بمحذوف ، قلت : الفرقُ بينهما أنَّ جَعْلَهُ حالاً يتعلَّقُ بمحذوفٍ ، ذلك المحذوفُ هو الحالُ في الحقيقة ، وعلى هذا الوجه يتعلَّقُ بفعلٍ مفسِّرٍ للموصولِ الأول ، كأنه قيل : أعني منهُمْ ، ولا محلَّ ل « أعْنِي » ؛ لأنها جملةٌ تفسيريةٌ ، وقال أبو حيان : « و » مِنْ « في » مِنْهُمْ « للتبعيض ، أي : كائناً منهُمْ ، والربطُ حاصلٌ بالضمير ، فكأنه قيل : كَافرُهُمْ ، وليسوا كلهم بَقُوا على الكُفْر » . انتهى ، يعني : هذا تقديرٌ لكونها تبعيضيةً ، وهو معنى كونها في محلِّ نصبٍ على الحال .
وقوله تعالى : « أفَلا يَتُوبُونَ » : تقدَّم نظيره مراراً ، وأنَّ فيه رأيين : رأيُ الجمهور : تقديمُ حرفِ العطف على الهمزة تقديراً ، ورأيُ أبي القاسِمِ : بقاؤه على حاله وحذفُ جملةٍ معطوفٍ هذا عليها ، والتقديرُ : أيثبُتُونَ على كُفرِهِمْ ، فلا يتُوبُونَ ، والاستفهامُ فيه قولان :
أظهرهما : أنه للتعجب من حالهم : كَيْفَ لا يتوبُونَ ويستغفُرونَ من هذه المقالةِ الشَّنعاء؟
والثاني : أنه بمعنى الأمر ، وهو رأي ابن زياد الفَرَّاء؛ كأنه قال : تُوبُوا واسْتَغْفِرُوا من هاتيْنِ المقالتيْنِ؛ كقوله تعالى :
{ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] . وكلامُ ابن عطيَّة يُفْهِم أنه للتحضيضِ ، قال : « رَفَقَ جَلَّ وعلا بهمْ بتحضيضهِ إياهُمْ على التوبة وطلب المغفِرَةِ » ، يعني بذلك من حيث المعنى ، وإلاَّ فَفَهْمُ التحضيض من هذا اللفظ غيرُ مُسَلَّم ، وكيف يُعْقَلُ أنَّ حرف العطفِ فصلَ بين الهمزة و « لا » المفهمةِ للتحضيض؟ [ فإنْ قلت ] :
هذا إنما يُشْكِلُ على قولنا : إنَّ « ألاَ » التحضيضية بسيطةٌ غيرُ مركَّبةٍ ، فلا يُدَّعى فيها الفصلُ بحرفِ العطف ، أما إذا قلنا : إنها همزةُ الاستفهام دَخَلَتْ على « لا » النافيةِ ، وصارَ معناهما التحضيضَ ، فلا يَضُرُّ الفصلُ بحرف العَطْف؛ لأنه عُهِد في « لا » النافيةِ الداخلِ عليها همزةُ الاستفهام ، فالجواب : أنه لا يجوزُ مطلقاً؛ لأنَّ ذلك المعنى قد انسلخ وحدثَ معنى آخرُ ، وهو التحضيضُ؛ فلا يلزم من الجوازِ في الأصْلِ الجوازُ بعد حدوثِ معنى جديد .
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
وهذا كقوله تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ } [ آل عمران : 144 ] . و « قَدْ خَلَتْ » صفةٌ له كما في الآيةِ الأخرى ، وتقدَّم معنى الحصر أي : ما هُو إلاَّ رسول من جنسِ الذين مَضَوْا من قَبْلِهِ ، وليْسَ بإله ، كما أنَّ الرُّسُل الذين مَضَوْا لم يكونوا آلهَةً ، وجاء بالبَيِّنَات من اللَّهِ كما أتَوْا بأمْثَالِهَا ، وإنَّ إبراءَ عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام الأكْمَهَ والأبْرَصَ ، وإحْيَاء الموتى فبإذْنِ اللَّهِ على يدهِ من اللَّه ، كما أحيا مُوسَى العَصَا ، وجعلها حَيَّة تَسْعَى ، وفُلِقَ له البحر ، وضرب الحَجَرَ فانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً ، وإن كان خلقَهُ من غير ذكرٍ ، فقد خلق اللَّهُ - تعالى - آدَمَ من غَيْرِ ذكرٍ ولا أنْثَى .
وقوله تعالى : « وأمُّهُ صدِّيقةٌ » ابتداءٌ وخبرٌ ، ولا محلَّ لهذه الجملة من الإعراب ، و « صِدِّيقةٌ » تأنيثُ « صدِّيق » ، وهو بناءُ مبالغةٍ ك « فعَّال » و « فَعُول » ، إلا أنه لا يعملُ عمل أمثلةِ المبالغة ، فلا يقال : « زَيْدٌ شِرِّيبٌ العسلَ » ؛ كما يقال : « شرَّابٌ العَسَل » ، وإن كان القياس إعماله ، وهل هو مِنْ « صَدَقَ » الثلاثيِّ ، أو من « صَدَّقَ » مضعَّفاً؟ القياسُ يقتضي الأولَ ، لأنَّ أمثلةَ المبالغةِ تطَّرِدُ من الثلاثي دون الرباعيِّ ، فإنه لم يَجيء منه إلا القليلُ ، وقال الزمخشري : « إنه من التَّصْديقِ » ، وكذا ابنُ عطية ، إلا أنَّه جعله محتملاً ، وهذا واضحٌ لقوله : { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا } [ التحريم : 12 ] ، فقد صرَّح بالفعل المسند إليها مضعَّفاً ، وعلى الأول معناه أنَّها كثيرةُ الصِّدْقِ .
وقوله تعالى : { كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام } لا محلَّ له؛ لأنه استئنافٌ وبيان لكونهما كسائر البشرِ في احتياجهما إلى ما يحتاج إليه كلُّ جِسْمٍ مُولدٍ ، والإلهُ الحقُّ سبحانه وتعالى منزَّهٌ عن ذلك ، وقال بعضهم : « هو كنايةٌ عن احتياجهما إلى التَّغَوُّطِ » وهُو ضعيفٌ مِنْ وُجُوه :
الأول : أنَّهُ ليْسَ كُلُّ من أكل أحْدَث ، فإنَّ أهل الجَنَّةِ يأكلون ولا يُحْدِثُون .
الثاني : أنَّ الأكْلَ عبارةٌ عن الحاجَةِ إلى الطَّعَامِ وهذه الحاجَةُ من أقْوى الدَّلائلِ على أنَّهُ ليس بإله ، فأي حَاجَةٍ إلى جَعْلِهِ كِنَايَةً عن شَيْءٍ آخر؟
الثالث : أنَّ الإله هو القادِرُ على الخَلْقِ والإيجَادِ ، فلو كانَ إلهاً لقدر على دَفْعِ ألَم الْجُوعِ عن نَفْسِهِ بِغَيْرِ الطَّعَامِ ، فلمَّا لم يقدر على دَفْعِ الضَّررِ عن نَفْسِه ، كيف يُعْقَلُ أن يكُون إلهاً للعالمين؟!
والمقصودُ من هذا : الاستِدلاَلُ على فَسَادِ قَوْلِ النَّصَارَى ، فإنّ من كان له أمٌّ فقد حَدَثَ بَعْدَ أن لَمْ يكُنْ ، وكلُّ من كان كذلك كان مَخْلُوقاً لا إلهاً ، وكُلُّ من احْتَاجَ إلى الطَّعَام أشَدَّ الحاجَةِ لَمْ يكن إلهاً؛ لأنَّ الإله هُوَ الَّذِي يكونُ غَنِيّاً عن جَمِيعِ الأشْيَاء ، وبالجُمْلَةِ فسادُ قولِ النَّصَارى أظْهَرُ من أن يُحْتَاجَ فيه إلى دَليلٍ .
قوله تعالى : « كَيْفَ » منصوب بقوله : « نُبَيِّنُ » بعده ، وتقدم ما فيه في قوله تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } [ البقرة : 28 ] وغيره ، ولا يجوز أن يكون معمولاً لما قبله؛ لأن له صدر الكلام ، وهذه الجملة الاستفهامية في محلِّ نصبٍ؛ لأنها معلِّقةٌ لفعل قبلها ، وقوله : { ثُمَّ انظر أنى يُؤْفَكُونَ } كالجملةِ قبلَها ، و « أنَّى » بمعنى « كَيْفَ » ، و « يُؤفَكُونَ » ناصبٌ ل « أنَّى » ويُؤفَكُونَ : بمعنى يُصْرَفُونَ .
وفي تكرير الأمر بقوله : « انْظُرْ » « ثُمَّ انْظُرْ » دلالةٌ على الاهتمام بالنظرِ ، وأيضاً : فقد اختلف متعلَّقُ النظريْنِ؛ فإنَّ الأولَ أمرٌ بالنظَرِ في كيفية إيضاح الله تعالى لهم الآياتِ ، وبيانها؛ بحيث إنه لا شكَّ فيها ولا ريب ، والأمرُ الثاني بالنَّظَر في كونهم صُرِفُوا عن تدبُّرها والإيمان بها ، أو بكونِهِم قُلِبُوا عمَّا أريدَ بهم ، قال الزمخشريُّ : « فإنْ قلت : ما معنى التراخي في قوله : » ثُمَّ انْظُرْ « ؟ قلت : معناه ما بين التعجُّبَيْنِ ، يعني : أنه بيَّن لهم الآياتِ بياناً عجباً ، وأنَّ إعراضهم عنها أعْجَبُ منه » . انتهى ، يعني : أنه من باب التراخِي في الرُّتَبِ ، لا في الأزمنةِ ، ونحوه { ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 ] وسيأتي .
فصل في معنى الإفك
يُقَالُ : أفَكَهُ يأفِكُهُ إفْكاً إذا صَرَفَهُ ، والإفْكُ : الكَذِبُ؛ لأنَّهُ صَرْفٌ عَنِ الحَقِّ ، وكُلُّ مَصْرُوفٍ عَنِ الشَّيْء مأفوكٌ عنه .
وقد أفَكَت الأرْضُ ، إذا صُرِفَ عَنْهَا المَطَرُ .
والمعنى : كَيْف يصرفون عن الحَقِّ؟
قال أهْلُ السُّنَّةِ : دلَّتِ الآيَةُ على أنَّهُمْ مَصْرُوفُون عن تَأمُّلِ الحَقِّ ، والإنْسَان يمتنع أن يَصْرِفَ نَفْسَهُ عن الحقِّ والصِّدْق إلى البَاطِلِ والجَهْلِ والْكَذِب ، لأنَّ العاقل لا يختار لِنَفْسِه ذلك ، فَعَلِمْنَا أنَّ الله تعالى صَرَفَهُمْ عن ذلك .
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
وهذا دَلِيلٌ أيضاً على فَسَادِ قول النَّصارَى وذلك من وُجُوهٍ :
الأوَّلُ : أنَّ اليَهُود كانوا يعادُونَ عيسى - عليه الصلاة والسلام - ، ويَقْصُدُونَهُ بالسُّوءِ ، فما قَدرَ على إضْرَارِهِمْ ، وكان له أيضاً أنْصَارٌ وصَحَابَةٌ يُحِبُّونَهُ ، فما قَدَرَ على إيصَالِ نَفْعٍ من منَافِعِ الدُّنْيَا إليْهِمْ ، والعاجِزُ عن الإضْرار والنَّفْعِ كَيْفَ يُعْقَلُ أن يكُون إلهاً؟!
الثاني : أن مذْهَبَ النَّصَارى - لعنهم اللَّهُ - : أنَّ اليهود صَلَبُوه ومَزَّقُوا أضْلاَعَهُ ، ولما عَطِشَ وطلبَ الماءَ مِنْهُم صبُّوا الخَلَّ فِي مَنخريْهِ ، ومن كان في الضَّعْفِ هكذَا ، كَيْفَ يُعْقَل أن يكُون إلهاً؟!
الثالث : أنَّ إلهَ العالم يَجِبُ أنْ يكُون غَنِيًّا عن كل ما سواهُ مُحْتَاجاً إليه ، فلو كان عيسَى كذلك لامْتَنَعَ كَوْنُهُ مَشْغُولاً بعبادة الله تعالى؛ لأنَّ الإله لا يَعْبُدُ شَيْئاً ، إنَّمَا العبد هو الذي يَعْبُدُ الإله ، فلما عُرِفَ بالتَّوَاتُرِ أنَّهُ كانَ مُوَاظِباً على الطَّاعَات والعبادَاتِ ، عَلِمْنَا أنَّهُ كان يفعلها لكونه مُحْتَاجاً في تَحْصِيل المَنَافِعِ ، ودفْعِ المضَارِّ إلى غيره ، ومن كان كذلك كيْفَ يَقْدِرُ على إيصال المَنَافِعِ إلى العِبَادِ ، ودَفْعِ المضارّ عنهم؟! وإذَا كان كذِلكَ كان عَبْداً كَسَائِرِ العَبيدِ ، وهذا هو عَيْنُ الدَّليلِ الذي حَكَاهُ اللَّهُ تعالى عن إبراهيم - عليه السلام - حيث قال : { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } [ مريم : 42 ] .
قوله تعالى : { مَا لاَ يَمْلِكُ } : يجوزُ أن تكون « مَا » بمعنى « الَّذِي » ، وأن تكون نكرةً موصوفةً ، والجملةُ بعدها صلةٌ ، فلا محلَّ لها ، أو صفةٌ ، فمحلُّها النصبُ ، وفي وقوع « مَا » على العاقلِ هنا؛ لأنه أُريد به عيسَى وأمُّه وجوهٌ :
أحدها : أنه أُتِي ب « مَا » مراداً بها العاقلُ؛ لأنها مبهمةٌ تقعُ على كل شيء ، كذا قاله سيبويه ، أو أُريد به النوعُ؛ كقوله : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] ، أي : النوع الطَّيِّبَ ، أو أُريدَ به العاقلُ مع غيره؛ لأنَّ أكثر ما عبد من دون اللَّهِ غيرُ عاقلٍ؛ كالأصنامِ والأوثانِ والكواكبِ والشَّجَرِ ، أو شبهُهُ على أولِ أحواله؛ لأنه في أولِ حاله لا يُوصفُ بعقلٍ ، فكيف يُتَّخَذ إلهاً معبوداً؟
قوله تعالى : { والله هُوَ السميع العليم } « هو » : يجوزُ أن يكون مبتدأ ثانياً ، و « السَّميعُ » خبرُه ، و « العَلِيمُ » خبرٌ ثانٍ أو صفةٌ ، والجملة خبرُ الأوَّل ، ويجوزُ أن يكون فَصْلاً ، وقد عُرِفَ ما فيه ، ويجوزُ أن يكونَ بدلاً ، وهذه الجملةُ الظاهرُ فيها : أنها لا محلَّ لها من الإعراب ، ويحتمل أن يكون في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من فاعلِ « تَعْبُدونَ » ، أي : أتعبُدُونَ غير الله ، والحالُ أن الله هو المستحقُّ للعبادة؛ لأنه يَسْمَعُ كلَّ شيء ويعلمه ، وإليه ينحو كلامُ الزمخشريِّ؛ فإنه قال : { والله هُوَ السميع العليم } متعلِّق ب « أتَعْبُدُونَ » ، أي : أتشركون بالله ولا تَخْشَوْنَهُ ، وهو الذي يسمَعُ ما تقولُونَ ويعلَمُ ما تعتقدُونَ؟ أتعبدون العاجزَ ، واللَّهُ هو السميعُ العَلِيم؟ . انتهى ، والرابطُ بين الحالِ وصاحبها الواوُ ، ومجيء هاتين الصفتين بعد هذا الكلام في غاية المناسبة؛ فإنَّ السميع يسمع ما يُشْكَى إليه من الضُّرِّ وطلب النفْعِ ، ويعلم مواقعهما كيف يكُونَانَ؟
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)
لما تكلَّمَ أوَّلاً على أباطيلِ اليهُودِ ، ثم تكلَّم ثانياً على أباطيلِ النَّصَارى ، وأقَامَ الدَّلائل على بُطْلانِها وفسادِهَا ، فعند هذا خاطب مجمُوعَ الفريقَيْنِ ، فقال تعالى : { ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ } ، أي : لا تتجاوَزُوا الحَدَّ ، والغُلُوَّ نَقيضُ التَّقْصِير ، ومعْنَاهُ : الخُرُوجُ عَنِ الحَدِّ .
قوله تعالى : « غَيْرَ الحَقِّ » : فيه خمسة أوجه :
أحدها : أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : لا تَغْلُوا في دينكُمْ غُلُوًّا غَيْرَ الحقِّ ، أي : غُلُوًّا باطلاً ، ولم يذكر الزمخشريُّ غيره .
الثاني : أنه منصوبٌ على الحال من ضمير الفاعلِ في « تَغْلُوا » ، أي : لا تَغْلُوا مُجاوِزينَ الحَقَّ ، ذكره أبو البقاء .
الثالث : أنه حالٌ من « دينكُمْ » ، أي : لا تغلُوا فيه وهو باطلٌ ، بل اغْلُوا فيه وهُوَ حَقٌّ؛ ويؤيِّد هذا ما قاله الزمخشريُّ؛ فإنه قال : « لأنَّ الغُلُوَّ في الدين غُلُوَّانِ : حقٌّ؛ وهو أنْ يُفْحَصَ عن حقائقه ، ويُفَتَّشَ عن أباعدِ معانيه ، ويُجْتَهَد في تحصيله حُجَجه ، وغُلُوٌّ باطلٌ؛ وهو أن يتجاوز الحقَّ ويتخطَّاه بالإعْرَاضِ عن الأدلَّة » .
الرابع : أنه منصوبٌ على الاستثناء المتَّصل .
الخامس : على الاستثناء المنقطع ، ذكر هذين الوجهين أبو حيان عن غيره ، واستبعدَهُما؛ فإنه قال : « وأبعد من ذهب إلى أنها استثناءٌ متَّصِلٌ ، ومن ذهب إلى أنها استثناءٌ منقطعٌ ، ويقدِّره ب » لَكِنَّ الحقَّ فاتَّبِعُوهُ « قال شهاب الدين : والمستثنى منه يَعْسُرُ تعيينُه ، والذي يظهر فيه : أنه قوله تعالى : » في دينكُمْ « ؛ كأنه قيل : لا تَغْلُوا في دينكُم إلا الدِّينَ الحقَّ ، فإنه يجوز لكم الغلوُّ فيه ، ومعنى الغلُوِّ فيه ما تقدَّم من تقرير الزمخشريِّ له .
وذكر الواحديُّ فيه الحالَ والاستثناء ، فقال : وانتصابُ » غَيْرَ الحَقِّ « من وجهين :
أحدهما : الحالُ والقَطْعُ من الدِّينِ؛ كأنه قيل : لا تَغْلُوا في دينِكُمْ مخالِفيَن للحَقِّ؛ لانهم خالَفُوا الحقَّ في دينهمْ ، ثم غلوْا فيه بالإصْرارِ عليه .
والثاني : أن يكون منصوباٌ على الاستثناء ، فيكون » الحَقّ « مستثنًى من المَنْهِيِّ عن الغلوِّ فيه؛ بأنْ يجوزَ الغلوُّ فيما هو حقٌّ على معنى اتباعه والثبات عليه ، وهذا نصٌّ كما ذكرنا من أنَّ المستثنى هو » دِينُكُمْ « .
وتقدَّم معنى الغُلُوِّ في سورة النساء [ الآية 171 ] فظاهرُ هذه الأعاريب المتقدِّمةِ : أنَّ » تَغْلُوا « فعلٌ لازمٌ ، وكذا نصَّ عليه أبو البقاء ، إلا أن أهل اللغةِ يفسِّرونهُ بمعنى متعدٍّ؛ فإنهم قالوا : معناه لا تتجَاوَزُوا الحدَّ ، قال الراغب : الغُلُوُّ تجاوزُ الحَدِّ ، يقال ذلك إذا كان في السِّعْرِ » غَلاَءً « ، وإذا كان في القَدْرِ والمنزلةِ » غُلُوًّا « ، وفي السهم » غَلْواً « ، وأفعالها جميعاً غَلاَ يَغْلُو؛ فعلى هذا : يجوز أن ينتصب » غَيْرَ الحَقِّ « مفعولاً به ، أي : لا تتجاوَزُوا في دينكُمْ غير الحقِّ ، فإنْ فسَّرنا » تَغْلُوا « بمعنى تتباعَدُوا من قولهم : » غَلاَ السَّهْمُ « ، أي : تباعدَ كان قَاصِراً ، فيحتمل أن يكون من قال بأنه لازمٌ ، أخذه من هذا لا من الأوَّل .
فصل في معنى الآية
قال بعضُ المُفَسِّرين : معنى قوله « غَيْرَ الحَقِّ » أي : في دينِكُمُ المُخالِف للحَقِّ؛ لأنَّهُمْ خَالَفُوا الحقَّ في دينهِمْ ، ثُمَّ غَلَوْا فيه بالإصْرَار عَليْه .
وقال ابْنُ الخَطيبِ : مَعْنَى الغُلُّو الباطل : أن تَتَكَلَّفَ الشُّبَهَ وإخْفَاءَ الدَّلائلِ ، وذلك الغُلُوُّ أنَّ اليهُودَ - لعنُهُم اللَّهُ - نَسَبُوا سَيِّدنَا عيسَى - عليه الصلاة والسلام - إلى الزِّنَا وإلى أنَّهُ كَذَّابٌ والنَّصارى - لعنهم اللَّهُ - ادَّعَوا فيه الإلَهِيَّةِ .
قوله تعالى : { وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ } الآية .
الأهْوَاء : جمْعُ الهَوَى ، وهو ما تَدْعُو إلَيْه شهوةُ النَّفْسِ .
والمراد هَاهُنَا : المذاهِبُ الَّتِي تدعو إليها الشَّهْوةُ دُونَ الحُجَّة .
قال الشَّعْبِيُّ : ما ذكر اللَّهُ بلفظ الهوى في القُرآن إلاَّ ذَمَّهُ .
قال تعالى : { وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله } [ ص : 26 ] ، { واتبع هَوَاهُ فتردى } [ طه : 16 ] ، { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى } [ النجم : 3 ] ، { أَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ } [ الفرقان : 43 ] .
قال أبُو عُبَيْدٍ : لم نجدِ الهوى يوضع إلا في مَوْضِعِ الشَّرِّ ، لا يقال : فلانٌ يَهْوَى الخَيْر ، إنما يقال : يريدُ الخَيْر ويُحِبُّهُ .
وقال بعضُهم : الهَوَى إلهُ يعبدُونَهُ من دُونِ اللَّهِ .
وقيل : سُمِّي الهَوَى هَوى؛ لأنَّهُ يَهْوِي بَصَاحِبِه في النَّارِ وأنْشَدُوا في ذَمِّ الهَوَى قوله : [ الكامل ]
2029- إنَّ الهَوَى لَهُوَ الْهَوَانُ بِعَيْنِهِ ... فَإذَا هَوِيتَ فَقَدْ لَقِيتَ هَوَانَا
وقالَ رَجُلٌ لابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهُمَا - : الحَمْدُ لِلَّهِ الذي جَعَل هَوَايَ على هواك ، فقال ابنُ عبَّاس : « كُلَّ هوى ضلالةٌ » .
قوله تعالى : { وَأَضَلُّواْ كَثِيراً } في نصب « كثيراً » وجهان :
أحدهما : أنه مفعولٌ به ، وعلى هذا أكثرُ المتأوِّلين؛ فإنهم يفسِّرونه بمعنى : وأضلُّوا كَثِيراً مِنْهُمْ أو مِنَ المُنَافِقِينَ .
والثاني : أنه منصوبٌ على المصدرية ، أي : نعت لمصدرٍ محذوف ، أي : إضلالاً كثيراً ، وعلى هذا ، فالمفعولُ محذوف ، أي : أضَلُّوا غَيْرَهُمْ إضْلالاً كَثِيراً .
فصل
اعلم أنَّهُ تعالى وَصَفَهُمْ بثلاثِ دَرَجَات في الضَّلالِ ، فَبَيَّنَ أنَّهُم كانوا ضَالِّين من قبل .
والمراد رُؤسَاء الضَّلالةِ من فَرِيقَيِ اليهُود والنَّصَارى لِمَا تَبَيَّنَ ، والخطاب لِلَّذِين في عَصْرِ النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، نُهُوا عن اتِّباعِ أسلافِهِم فيما ابْتَدَعُوه بأهْوَائِهِم ، فتبيَّن أنهم كانوا مُضِلِّينَ لغيرهم ، ثم ذكروا أنَّهُمْ استَمَرُّوا على تلك الحَالَةِ ، حتى أنَّهم الآن ضَالُّون كما كَانُوا ، ولا نجد حالةً أقْرَبَ إلى البُعْدِ من اللَّه تعالى ، والقُرْب من عِقَابِ اللَّهِ من هذه الحالة - نعُوذُ باللَّه منها - .
ويحتَملُ أن يكُون المُرَاد أنَّهُم ضَلُّوا وأضَلُّوا ، ثمَّ ضلُّوا بسبب اعتقادِهِمْ في ذلك الإضلال أنَّهُ إرشادٌ إلى الحقِّ ، ولمَّا خَاطَبَهُمْ بهذَا الخطابِ وصَفَ أسلافهم ، فقال تعالى : { لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بني إِسْرَائِيلَ على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ } .
قال أكثر المفسِّرِين : يعني أهْلَ « أيلة » لمَّا اعْتَدُوا في السَّبْتِ قال داوُدُ : « اللَّهُمَّ الْعَنْهُم واجْعلْهُم آيَةً » فَمُسِخُوا قِرَدَةً ، وأصحاب المائدة لما أكلُوا من المائدة ، ولم يُؤمِنُوا ، قال عيسى - عليه السلام - : اللَّهُمَّ العَنْهُم كما لَعَنْتَ أصْحَابَ السَّبْتِ ، فأصْبَحُوا وقد مسخوا خنازير ، وكانوا خمسَةَ آلافِ رَجُلٍ ما فيهمُ امْرأةٌ ولا صَبِيٌّ .
قال بعضُ العُلَماء : إنَّ اليَهُود كانُوا يفْتَخِرُون بأنَّهُم من أوْلاد الأنْبِيَاء ، فَذَكَر اللَّهُ هذه الآيَة؛ لتَدُلَّ على أنَّهُمْ مَلْعُونِين على ألْسِنَةِ الأنْبِيَاءِ - عليهم الصلاة والسلام - .
وقيل : إنَّ داوُد وعيسى - عليهما الصلاة والسلام - بَشَّرَا بِمُحَمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، ولعنَا من يُكَذِّبُه وهو قولُ الأصَمِّ .
قوله تعالى : { مِن بني إِسْرَائِيلَ } : في محلِّ نصْبٍ على الحال ، وصاحبُها : إمَّا « الَّذينَ » وإمَّا واو « كَفَرُوا » وهما بمعنى واحدٍ ، وقوله : { على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى } المرادُ باللسانِ الجارحةُ ، لا اللغةُ ، كذا قال أبو حيان ، يعني : أنَّ الناطِقَ بلعْنِ هؤلاء لسانُ هذيْن النبيَيْنِ ، وجاء قوله « عَلَى لِسَانِ » بالإفرادِ دون التثنيةِ والجَمْعِ ، فلم يَقُلْ : « عَلَى لِسَانَيْ » ولا « عَلَى ألْسِنَةِ » لقاعدةٍ كليةٍ ، وهي : أن كلَّ جزأيْنِ مفردَيْنِ من صاحبيهما ، إذا أُضِيفَا إلى كليهما من غير تفريقٍ ، جازَ فيهما ثلاثةُ أوجه : لفظُ الجمعِ - وهو المختارُ - ، ويليه التثنيةُ عند بعضهم ، وعند بعضهم الإفرادُ مقدَّمٌ على التثنية ، فيقال : « قطَعْتُ رُءُوسَ الكَبْشَيْنِ » ، وإنْ شئْتَ : رَأسَي الكَبْشَيْن ، وإن شئْتَ : رَأسَ الكَبْشَيْنِ ، ومنه : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] .
فقولي « جُزْأيْن » : تحرُّزٌ من شيئين ليْسَا بجزأيْن؛ نحو : « دِرْهَمَيْكُمَا » ، وقد جاء : « مِنْ بُيُوتِكُمَا وعَمَائِمِكُمَا وأسْيَافِكُمَا » لأمْنِ اللَّبْسِ .
وبقولي : « مُفْردَيْنِ » : من نحو : « العَيْنَيْنِ واليَدَيْنِ » ، فأمَّا قوله تعالى : { فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا } [ المائدة : 38 ] ففُهِم بالإجْماعِ .
وبقولي : « مِنْ غَيْرِ تَفريقٍ » : تحرُّزٌ من نحو : قطعْتُ رَأسَ الكَبْشَيْنِ : السَّمِين والكَبْشِ الهَزيلِ؛ ومنه هذه الآية ، فلا يجوزُ إلا الإفرادُ ، وقال بعضهم : « هُوَ مُخْتَارٌ » ، أي : فيجوز غيرُه ، وقد مضى تحقيقُ هذه القاعدةِ .
قال شهاب الدين : وفي النفسِ من كونِ المرادِ باللسان الجارحةَ شيءٌ ، ويؤيِّد ذلك ما قاله الزمخشريُّ؛ فإنه قال : « نَزَّلَ اللَّهُ لَعْنَهُمْ في الزَّبُورِ على لسانِ دَاوُدَ ، وفي الإنجيلِ على لسانِ عيسى » ، وقوةُ هذا تأبَى كونه الجارحةَ ، ثم إنِّي رأيتُ الواحديَّ ذكر عن المفسِّرين قولين ، ورجَّح ما قلته؛ قال - رحمه الله - : « وقال ابن عبَّاس : يريد في الزَّبُور وفي الإنجِيلِ ، ومعنى هذا : أنَّ اللَّهَ تعالى لَعَنَ في الزَّبُور من يكْفُرُ مِنْ بني إسرائيل ، وكذلك في الإنجيلِ ، وقيل : على لسان دَاوُدَ وعيسَى؛ لأنَّ الزبورَ لسانُ داوُدَ ، والإنجيلَ لسانُ عيسى » ، فهذا نصٌّ في أن المراد باللسانِ غيرُ الجارحَةِ ، ثم قال : « وقال الزَّجَّاج : » وجائزٌ أن يكون داوُدُ وعيسَى عَلِمَا أنَّ محمَّداً نَبِيٌّ مبعوثٌ ، وأنهما لَعَنَا من يَكْفُرُ به « ، والقول هو الأوَّل ، فتجويزُ الزجَّاجِ لذلك ظاهرٌ أنه يرادُ باللسانِ الجارحةُ ، ولكن ليس قولاً للمفسِّرين ، و » عَلَى لسانِ « متعلِّقٌ ب » لُعِنَ « قال أبو البقاء : » كما يُقال : جَاءَ زَيْدٌ على فَرَسٍ « ، وفيه نظرٌ؛ إذ الظاهر أنه حالٌ ، وقوله : » ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا « قد تقدَّم نظيره ، وقوله : » وَكَانوا يَعْتَدُونَ « في هذه الجملةِ الناقصةِ وجهان :
أظهرهما : أن تكون عطفاً على صلةِ » مَا « وهو » عَصَوْا « ، أي : ذلك بسبب عصيانِهم وكونهم معتدين . والثاني : أنها استئنافيةٌ ، أي : أخبر الله تعالى عنهم بذلك ، قال أبو حيان : » ويُقَوِّي هذا ما جاءَ بعده كالشَّرْحِ له ، وهو قولُه : كانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ « .
كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
قوله تعالى : { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ } التَّنَاهِي هاهُنَا له مَعْنَيَانِ :
أحدهما : الذي عَلَيْه الجُمْهُور أنَّهُ تَفَاعُل من النَّهي أي : كان لا ينهى بَعْضُهُم بَعْضاً .
روى ابنُ مسعُود - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - قال : « كَانَ فِيمَنْ كانَ قَبْلَكُم مِنْ بَني إسْرَائِيلَ إذا عَمِلَ العَامِلُ بالخَطِيئَةِ نَهَاهُ النَّاهِي تعذيراً ، فَإذَا كَانَ مِنَ الغَدِ جَاءَ لَهُ وواكلَهُ وشَارَبَهُ ، كَأنَّهُ لَمْ يَرَهُ على الخَطِيئَةِ بالأمْسِ ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُم ضَرَبَ قُلُوبَ بَعْضِهِم عَلَى بَعْضِ ، وجَعَلَ مِنْهُم القِرَدَةَ والخَنَازِيرَ ، ولَعَنَهُمْ على لِسَانِ دَاوُدَ وعيسَى ابْنِ مَريمَ ، ذَلِكَ بِمَا عَصوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ والَّذِي نَفْسِي بِيَدهِ لَتَأمُرُنَّ بالمَعْرُوفِ ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكر ولتأخُذُنَّ عَلَى يَدِ السَّفِيهِ ولَتأطرنَّه على الحقِّ أطْراً أوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ وَيَلْعَنُكُم كَما لَعَنَهُم » .
المعنى الثاني : التَّنَاهِي بمعنى الانتِهَاء ، يُقَال : انْتَهَى الأمر ، وتَنَاهَى عَنْهُ إذا كَفَّ عَنْه .
وقوله تعالى : { عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ } : متعلِّقٌ ب « يَتَناهَوْنَ » و « فَعَلُوهُ » صفةٌ ل « مُنْكَرٍ » ، قال الزمخشريُّ : « ما معنى وصفِ المنكرِ ب » فَعَلُوهُ « ، ولا يكونُ النَّهْيُ بعد الفِعْلِ؟ قلتُ : معناه لا يتناهَوْنَ عن معاودةِ منْكَرٍ فعَلُوهُ ، أو عن مِثْلِ مُنْكَر فَعلُوهُ ، أو عن منْكرٍ أرادُوا فِعْلَهُ ، كما ترى أماراتِ الخَوْضِ في الفسْقِ وآلاتِه تُسوَّى وتُهَيَّأُ ، ويجوز أن يُرادَ : لا ينتهون ولا يمتنعونَ عن مُنْكَرٍ فعلُوه ، بل يُصِرُّونَ عليه ويُداوِمُونَ ، يقال : تناهَى عن الأمر وانتهى عنه ، إذا امتنع منه » .
وقوله تعالى : « لَبِئْسَمَا » : و « بِئْسَمَا قَدَّمَتْ » قد تقدَّم إعرابُ نظيرِ ذلك [ الآية 9 في البقرة ] ؛ فلا حاجة إلى إعادته ، وهنا زيادةٌ أخرى؛ لخصوصِ التركيب يأتي الكلامُ عليها .
قوله تعالى : { ترى كَثِيراً مِّنْهُمْ } قيل : مِنَ اليَهُود كَعْبُ بنُ الأشْرَف ، { يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ } مُشْرِكي مَكَّةَ حين خَرَجُوا إليهم يجيشون على النَّبِي - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - .
وقال ابنُ عبَّاس والحَسَنُ ومُجَاهِد - رضي الله عنهم - : « مِنْهُمْ » يعني المُنَافِقِين يَقُولُون لِلْيَهُود : « لِبِئْسَ ما قدَّمَتْ لَهُمْ أنْفُسُهُمْ » ، بِئسَ مَا قَدَّموا من العَملِ لمعَادِهِم في الآخِرَة .
قوله تعالى : { أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ } في محلِّه أوجهٌ :
أحدها : أنه مرفوعٌ على البدلِ من المخصُوصِ بالذمِّ ، والمخصوصُ قد حُذِفَ ، وأُقيمَتْ صفتُه مقامه ، فإنك تُعْرِبُ « مَا » اسماً تامّاً معرفةً في محلِّ رفعٍ بالفاعلية بفعلِ الذمِّ ، والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ ، و { قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ } جملةٌ في محلِّ رفع صفةً له ، والتقديرُ : لَبِئْسَ الشيءُ شَيءٌ قَدَّمَتْهُ لَهُمْ أنْفُسُهمْ ، ف { أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ } بدلٌ من « شَيْء » المحذوفِ ، وهذا هو مذهبُ سيبويه؛ كما تقدَّم تقريرُه .
الثاني : أنه هو المخصوصُ بالذمِّ ، فيكونُ فيه الثلاثةُ أوجه المشهورة :
أحدها : أنه مبتدأٌ ، والجملةُ قبله خبرُه ، والرابطُ على هذا العمومُ عند مَنْ يَجْعَلُ ذلك ، أو لا يحتاج إلى رابط؛ لأن الجملةَ عينُ المبتدأ .
الثاني : أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ؛ لأنك لمَّا قلت : « بِئْسَ الرَّجُلُ » قيل لك : مَنْ هو؟ فقلتَ : فلانٌ ، أي : هُوَ فلانٌ .
الثالث : أنه مبتدأ ، خبرُه محذوفٌ ، وقد تقدَّم تحريرُ ذلك ، وإلى كونه مخصوصاً بالذمِّ ذهب جماعةٌ كالزمخشريِّ ، ولم يذكر غيره ، قال : { أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ } هو المخصوصُ بالذمِّ؛ كأنه قيل : لبِئْسَ زادُهُمْ إلى الآخرة سخطُ اللَّهِ تعالى عليْهِمْ ، والمعنى : مُوجِبُ سُخط الله « ، قال شهاب الدين : وفي تقدير هذا المضاف من المحاسنِ ما لا يَخْفَى على متأمِّلِهِ؛ فإنَّ نفسَ السُّخْطِ المضاف إلى الباري تعالى لا يقالُ هو المخصوصُ بالذمِّ ، إنما المخصوصُ بالذمِّ أسبابُه ، وذهبَ إليه أيضاَ الواحديُّ ومكي وأبو البقاء ، إلاَّ أنَّ أبا حيان بعد أنْ حكى هذا الوجه عن أبي القاسم الزمخشريِّ قال : » ولَمْ يَصِحَّ هذا الإعرابُ إلا على مذهبِ الفرَّاءِ والفارسيِّ في جَعْلِ « مَا » موصولةً ، أو على مذهب من يجعلُ « مَا » تمييزاً ، و « قَدَّمَتْ لَهُمْ » صفتها ، وأمَّا على مذهبِ سيبويه ، فلا يتأتَّى ذلك « ثم ذكر مذهبَ سيبويه .
والوجه الثالث من أوجه » أنْ سَخِطَ « : أنه في محلِّ رفع على البدلِ من » مَا « ، وإلى ذلك ذهب مكي وابنُ عطية ، إلا أن مكِّيًّا حكاه عن غيره ، قال : » وقيل : في موضعِ رفع على البدلِ من « مَا » في « لَبِئْسَ » على أنها معرفةٌ « ، قال أبو حيان - بعد ما حكى هذا الوجه عن ابن عطيَّة - : » ولا يَصِحُّ هذا ، سواءٌ كانت « مَا » تامَّةً أو موصولةً؛ لأنَّ البدلَ يَحُلُّ محلَّ المبدل منه ، و « أنْ سَخِطَ » لا يجوزُ أنْ يكونَ فاعلاً ل « بِئْسَ » ؛ لأنَّ فاعل « بِئْسَ » لا يكونُ أن والفِعْلَ « وهو إيرادٌ واضحٌ كما قاله .
الوجه الرابع : أنه في محلِّ نصْبٍ على البدلِ من » مَا « ، إذا قيل بأنها تمييزٌ ، ذكر ذلك مكي وأبو البقاء ، وهذا لا يجوزُ ألبتة؛ وذلك لأنَّ شرطَ التمييز عند البصريين أن يكون نكرةً ، و » أنْ « وما في حيِّزها عندهم من قبيل أعرف المعارفِ؛ لأنَّها تُشْبِهُ المُضْمَرَ ، وقد تقدم تقريرُ ذلك ، فكيف يَقعُ تمييزاً؛ لأنَّ البدلَ يَحُلُّ محلَّ المبدَلِ منه؟ وعند الكوفيين أيضاً لا يجوزُ ذلك؛ لأنَّهم لا يُجيزون التمييزَ بكلِّ المبدَلِ منه؛ وعند الكوفيين أيضاً لا يجوزُ ذلك؛ لأنَّهم لا يجيزون التمييزَ بكلِّ معرفةٍ خُصُوصاً أنْ والفعل .
الخامس : أنه في محلِّ نصبٍ على البدل من الضمير المنصوب ب « قَدَّمَتْ » العائدِ على « مَا » الموصولةِ أو الموصوفة؛ على حسبِ ما تقدَّم ، والتقديرُ : قدَّمَتْهُ سُخْطَ الله؛ كقولك : « الذي رَأيْتُ زَيْداً أخُوكَ » وفي هذا بحثٌ يذكَرُ في موضعه .
السادس : أنه في موضع نصب على إسقاط الخافض؛ إذ التقديرُ : لأنْ سخطَ ، وهذا جارٍ على مذهب سيبويه والفراء؛ لأنهما يَزْعُمان أنَّ محل « أنْ » بعد حذْفِ الخافض في محلِّ نصب .
السابع : أنه في محلِّ جرٍّ بذلك الخافضِ المقدَّرِ ، وهذا جارٍ على مذهبِ الخليلِ والكسائيِّ؛ لانهما يَزْعُمان أنَّها في محل جرٍّ ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك غيرَ مرَّةٍ ، وعلى هذا ، فالمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ ، أي : لَبِئْسَمَا قدَّمَتْ لَهُمْ أنفُسُهُمْ عَملُهُمْ أو صُنْعُهُمْ ، ولامُ العلَّةِ المقدَّرة معلَّقَةٌ إمَّا بجملةِ الذمِّ ، أي : سببُ ذَمِّهِمْ سُخْطُ اللَّهِ عليهم ، أو بمحذوفٍ بعده ، أي : لأنْ سخطَ اللَّهُ عليْهِمْ كَانَ كَيْتَ وكَيْتَ .
و « تَرَى » يجوز أنْ تكونَ مِنْ رؤية البَصَر ، ويكونُ الكثيرُ المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأن تكونَ العلميَّةَ ، والكثيرُ على هذا أسلافُهم ، فمعنى « تَرَى » : تَعْلَمُ أخبارَهم وقصَصَهم بإخبارنا إيَّاك ، فعلى الأوَّل يكون قوله « يَتَوَلَّوْن » في محلِّ نصبٍ على الحال ، وعلى الثَّاني يكون في محلِّ نصبٍ على المفعول الثاني .
قوله تعالى : « ولو كانوا » : الظاهرُ أنَّ اسم « كَانَ » وفاعل « اتَّخَذُوهُمْ » عائدٌ على « كَثِيراً » من قوله : « { ترى كَثِيراً مِّنْهُمْ } ، والضميرُ المنصوب في » اتَّخَذُوهمْ « يعودُ على » الَّذِينَ كَفَرُوا « في قوله : { يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ } .
والمعنى : لوْ كانُوا يُؤمِنُون باللَّه ، والنَّبِيِّ ، وهو مُوسَى عليه الصلاة والسلام ، وما أُنْزِلَ إليهِ ما اتَّخَذُوا المُشْركين أوْلِيَاء؛ لأنَّ تَحْريمَ ذلك مُتَأكدٌ في التَّوْرَاة ، وفي شَرْع مُوسَى صلى الله عليه وسلم ، فلمَّا فَعَلُوا ذلك ، ظَهَرَ أنَّهُ لَيْسَ مُرَادُهُمْ تَقْرِير دين مُوسى - عليه الصلاة والسلام - بل مرادُهُمُ الرِّياسَةُ والجَاهُ ، ويسعونَ في تَحْصيلهِ بأيِّ طريقٍ قدروا عليه ، وبهذا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بالفِسْقِ ، فقالَ تعالى : { ولكن كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } .
وأجاز القفَّالُ أن يكون اسم » كَانَ « يعودُ على » الَّذِينَ كَفَروا « ، وكذلك الضميرُ المنصوبُ في » اتَّخَذُوهُمْ « ، والضميرُ المرفوعُ في » اتَّخَذُوهُمْ « يعودُ على اليهود ، والمرادُ بالنبيِّ [ محمدٌ ] صلى الله عليه وسلم والتقديرُ : ولو كان الكافرون المُتَولَّوْنَ مؤمنينَ بمحمَّدٍ والقرآنِ ، ما اتخذَهُمْ هؤلاء اليهودُ أولياءَ ، والأولُ أوْلَى؛ لأن الحديثَ عن كثيرٍ ، لا عن المتولَّيْنَ ، وجاء جواب » لَوْ « هنا على الأفصحِ ، وهو عدمُ دخولِ اللام عليه؛ لكونه منفيًّا؛ ومثله قول الآخر : [ البسيط ]
2030- لَوْ أنَّ بالعْلمِ تُعْطَى مَا تَعِيشُ به ... لَمَا ظَفِرْت مِنَ الدُّنْيَا بِثُفْرُوقِ
وقوله تعالى : { ولكن كَثِيراً مِّنْهُمْ } هذا الاستدراكُ واضحٌ بما تقدَّم ، وقوله تعالى : » كَثِيراً « هو من إقامةِ الظاهرِ مقام المضمر؛ لأنه عبارةٌ عن » كَثِيراً منهم « المتقدِّم؛ فكأنه قيل : تَرَى كثيراً مِنْهُمْ ، ولكنَّ ذلك الكَثِيرَ ، ولا يريدُ ، ولكنَّ كثيراً من ذلك الكَثِيرِ فَاسِقُون .
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
لما ذكرَ عداوةَ اليهُودِ للمُسْلِمِين ، فلذَلِكَ جَعَلَهُمْ قُرناءَ للمشركين في شدَّةِ العداوةِ ، بل نَبَّه على أنَّهُمْ أشدُّ في العداوةِ من المُشْركين ، لكونه - تعالى - قدَّم ذكرَهُم على ذِكْر المُشْرِكِين .
وقال - عليه الصلاة والسلام - : « ما خَلاَ يَهُودِيانِ بِمُسْلِمٍ إلاَّ هَمَّا بِقَتْلِهِ » ، وذكر تعالى أنَّ النَّصارى ألَيْنَ عِرِيكَة مِنَ اليهُودِ ، وأقْرَبَ إلى المُسْلِمِين منهم ، والمقصود من بَيَانِ هذا التَّفَاوُتِ تَخْفِيفُ أمْرِ اليَهُود على الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - و « اللاَّمُ » في قوله : « لتَجدنَّ » هي لامُ القسم .
وقد تقدّم إعْرَابُ هذا في نحو قوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ } [ البقرة : 96 ] ، فأغْنَى عن إعادته وقال ابنُ عطيَّة : « اللامُ للابْتداءِ » ، وليس بشيء ، بل هي لامٌ يُتلَقَّى بها القسمُ ، و « أشدَّ النَّاسِ » مفعولٌ أوَّل ، و « عَدَاوَةً » نصب على التمييز ، و « لِلَّذِينَ » متعلِّقٌ بها ، قَوِيَتْ باللامِ؛ لمَّا كانت فَرْعاً في العمل على الفعل ، ولا يَضُرُّ كونُها مؤنثةً بالتاء؛ لأنها مبنيةٌ عليها؛ فهي كقوله : [ الطويل ]
2031- . . . وَرَهْبَةٌ ... عِقَابَكَ . . .
ويجوزَ أن يكون « لِلَّذِينَ » صفةً ل « عَدَاوَةً » فيتعلَّقَ بمحذوف ، و « اليَهُودَ » مفعولٌ ثانٍ ، وقال أبو البقاء : « ويجوزُ أن يكون » اليهُودَ « هو الأولَ ، و » أشَدَّ « هو الثاني » وهذا هو الظاهرُ؛ إذ المقصودُ أنْ يخبرَ الله تعالى عن اليهودِ والمشركينَ بأنَّهم أشدُّ الناسِ عداوةً للمؤمنين ، وعن النصارى بأنهم أقربُ الناس موَدَّةً لهم ، وليس المرادُ أنْ يخبرَ عن أشدِّ الناسِ وأقْرَبِهِمْ بكَوْنِهِم من اليهودِ والنصارى ، فإنْ قيل : متى استوَيَا تعْرِيفاً وتنْكيراً ، وجبَ تقديمُ المفعولِ الأول وتأخيرُ الثاني؛ كما يجب في المبتدأ والخبرِ ، وهذا من ذاك ، فالجوابُ : أنه إنما يجب ذلك حيث ألْبَسَ ، أما إذا دَلَّ دليلٌ على ذلك ، جاز التقديمُ والتأخيرُ؛ ومنه قول : [ الطويل ]
2032- بَنُونَا بَنُو أبْنَائِنَا ، وبَنَاتُنَا ... بَنُوهُنَّ أبْنَاء الرِّجَالِ الأبَاعِدِ
ف « بَنُو أبْنَاء » هو المبتدأ ، و « بَنُونَا » خبره؛ لأنَّ المعنى على تشبيهِ أولادِ الأبناء بالأبناء؛ ومثلُه قول الآخر : [ البسيط ]
2033- قَبِيلَةٌ الأمُ الأحْيَاءِ أكْرَمُهَا ... وَأَغْدَرُ النَّاسِ بالجِيرَانِ وَافِيهَا
« أكْرمُهَا » هو المبتدأ و « الأمُ الأحْيَاءِ » خبرُه ، وكذا « وَافِيهَا » مبتدأ و « أغْدَرُ النَّاس » خبره ، والمعنى على هذا ، والآيةُ من هذا القبيلِ فيما ذكرنا وقوله : « والذينَ أشْرَكُوا » عطفٌ على اليَهودِ ، والكلامُ على الجملة الثانيةِ كالكلام على ما قبلها .
فصل
تَقْدِيرُ الكلام قَسَماً : إنَّكَ تَجِدُ اليَهُودَ والمُشْرِكينَ أشَدّ عَدَاوةً مع المُؤمنين ، وقدْ شَرَحْتُ لك أنَّ هذا التَّمَرُّدَ والمَعْصِيَة عادةٌ قَدِيمَةٌ ، ففرِّغْ خَاطِرَك عنهم ، ولا تُبَالِ بمكْرِهِم وكيْدهِم .
وقوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى } .
قال ابُن عباسٍ وسعيد بن جبير وعطاء والسُّدِّيُّ - رضي الله عنهم - المُرادُ به : النَّجَاشِي وقومه الذين قَدِمُوا من الحَبَشَةِ ، وآمَنُوا به ، ولم يُرِدْ جَمِيعَ النَّصارى؛ لأنَّهُمْ في عَداوتِهِم للمُسْلِمين ، كاليَهُودِ في قَتْلِهمْ المُسْلِمِين وأسْرِهِمْ ، وتَخْريبِ بلادِهِمْ ، وهَدْمِ مَسَاجِدِهِمْ ، وإحْرَاقِ مَصَاحِفِهِمْ ، ولا كَرَامَةَ لَهُمْ ، بَل الآيَةُ فيمَنْ أسْلَمَ مِنْهُم .
وقال آخرون : مَذْهَبُ اليَهُود الفَاسِد ، أنَّهُ يَجِبُ إيصَالُ الشّرِّ إلى من يُخَالِفُهُمْ في الدِّين بأيِّ طريقٍ كان ، فإن قَدَرُوا على القَتْل فذلِكَ ، وإلاَّ فنهب المالِ والسَّرِقَة ، أو بِنَوْع من المَكْرِ والكَيْدِ والحِيلَةِ ، وأمَّا النَّصَارى فليس مذهبهم ذلك ، بل الإيذَاءُ في دينهم حَرَامٌ فهذا وَجْهُ التَّفاوُتِ ، ثمَّ ذكر - سبحانه - سَبَبَ التَّفَاوُتِ ، فقال { ا ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً } .
فإن قِيلَ : لِم أسند تسمية النَّصَارى إليهم ، بقوله تعالى : { الذين قالوا إِنَّا نصارى } ؛ ولمَّا ذكر اليهود سمَّاهم بقوله تعالى : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود } ولم يُسْنِدِ التَّسْمِيّةَ إلَيْهم .
فالجوابُ : لأنَّ تسميتهم باليَهُود إن كانت لِكَوْنِهِمْ من أوْلادِ يَهُوذَا بْنِ يَعقُوبَ فَهِيَ تسْمِيَةٌ حَقِيقَةٌ أيضاً ، وإن كانت من التَّحَرُّكِ في دِرَاسَتِهِمْ ، فكذلك أيْضاً ، والنَّصَارَى فَهُم الذين سَمُّوا أنفُسَهُمْ حين قال لهم عيسَى - عليه الصَّلاة والسَّلام - : { مَنْ أنصاري إِلَى الله قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنصَارُ الله } [ الصف : 14 ] ، فلذلك أسْنَدَ التَّسْمِيَة إليْهِم ، وإنْ كانوا إنَّمَا سُمُّوا نصارَى؛ لأنَّهُمْ كانوا يَسْكُنُون قَرْيَةً يقال لها : « نَاصِرَة » ، فكُلُّهُمْ لمْ يكُونُوا سَاكِنِين فيها ، بَلْ بعضُهُم أوْ أكثرُهُمْ ، فالحقيقة لم تُوجَدْ فيهم .
وقد تقدَّمَ الكلامُ في تَسْمِيَتهِم عند قوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ } [ الآية : 62 ] في البقرة .
قوله تعالى : « ذَلِكَ بأنَّ » مبتدأ وخبرٌ ، وتقدم تقريره ، و « مِنْهُمْ » خبر « أنَّ » ، و « قِسِّيسِينَ » اسمها ، وأن واسمُها وخبرها في محلِّ جرِّ بالباء ، والباءُ ومجرورُها ههنا خبر « ذَلِكَ » ، والقِسِّيسِينَ جمع « قِسِّيس » على فَعِّيلٍ ، وهو مثالُ مُبالغة ك « صدِّيقٍ » ، وقد تقدَّم ، وهو هنا رئيسُ النصارى وعابدُهُمْ ، وأصلُه من تَقَسَّس الشَّيْء ، إذا تَتَّبَعَهُ وطلبَهُ باللَّيْلِ ، يقال : « تَقَسَّسْتُ أصْواتَهُم » ، أي : تَتَبَّعْتهَا باللَّيْلِ ، ويُقال لرئيس النصارى : قِسٌّ وقِسِّيسٌ ، وللدليلِ بالليلِ : قَسْقَاسٌ وقَسْقَسٌ ، قاله الراغب ، وقال غيرُه : القَسُّ بفتح القاف تَتَبُّعُ الشيءِ ، ومنه سُمِّيَ عالم النصارى؛ لتتبُّعِه العِلْمَ ، قال رُؤبَةُ بْنُ العَجَّاجِ : [ الرجز ]
2034- أصْبَحْنَ عَنْ قَسِّ الأذَى غَوَافِلاَ ... يَمْشِينَ هَوْناً خُرُداً بَهَالِلا
ويقال : قَسَّ الأثَرَ وقصَّهُ بالصَّاد أيضاً ، ويقال : قَسٌّ وقِسٌّ بفتح القاف وكسرها ، وقِسِّيس ، وزعم ابن عطية أنه أعجميٌّ مُعَرَّبٌ ، وقال الواحديُّ : « وقد تكلَّمتِ العربُ بالقسِّ والقِسِّيسِ » وأنشد المازنيُّ : [ الرجز ]
2035- لَوْ عَرَفَتْ لأيْبُلِيِّ قَسِّ ... أشْعَثَ في هَيْكَلِهِ مُنْدَسِّ ... حَنَّ إليها كَحَنين الطَّسِّ ...
وأنشد لأميةَ بْنِ الصَّلْتِ : [ البسيط ]
2036- لَوْ كانَ مُنْفَلِتٌ كَانَتْ قَسَاوِسَةٌ ... يُحْييهِمُ اللَّهُ فِي أيْديهِمُ الزُّبُرُ
هذا كلامُ أهل اللغة في القِسِّيسِ ، ثم قال : « وقال عروةُ بْنُ الزُّبيرِ : ضَيَّعَتِ النصارى الإنجيلَ وما فيه ، وبَقِيَ منهمْ رَجُلٌ يقالُ له قِسِّيسٌ » يعني : بقي على دينه لم يُبَدِّلْهُ ، فمَنْ بَقِيَ على هديه ودينه ومذهبه ، قيل له : « قِسِّيسٌ » ، وقال قطربٌ : القَسُّ والقِسِّيسُ : العَالِمُ بلغة الرُّوم؛ قال وَرَقَةُ : [ الوافر ]
2037أ- بِمَا خَبَّرْتَنا مِنْ قَوْلِ قَسٍّ ... مِنَ الرُّهْبَانِ أكْرَهُ أنْ يَبُوحَا
فعلى هذا : القَسُّ والقِسِّيسُ مما اتفق فيه اللغتان ، قلتُ : وهذا يُقَوِّي قول ابن عطيَّة ، ولم ينقلْ أهلُ اللغة في هذا اللفظ « القُسّ » بضم القاف ، لا مصدراً ولا وصْفاً ، فأما قُسُّ بْنُ سَاعِدَةَ الإيَادِيُّ ، فهو عَلَمٌ ، فيجوز أن يكون مِمَّا غُيِّرَ بطريق العلمية ، ويكون أصلُه « قَسٌّ » أو « قِسٌّ » بالفتح أو الكسر؛ كما نقله ابن عطية ، وقُسُّ بْنُ ساعدَةَ كان أعلم أهْلِ زمانِهِ ، وهو الذي قال فيه عليه السلام : « يُبْعَثُ أمَّةً وَحْدَهُ » ، وأمَّا جمعُ قِسِّيسٍ ، فجمعُ تصحيحٍ؛ كما في الآية الكريمة ، قال الفراء : « ولو جُمِعَ قَسُوساً » ، كان صواباً؛ لأنهما في معنًى واحدٍ « ، يعني : قِسًّا » و « قِسِّيساً » ، قال : ويُجْمَعُ القِسِّيسُ على « قَسَاوِسَة » جمعوه على مثال المَهَالبَة ، والأصلُ : قَسَاسِسَة ، فكثُرت السِّينَاتِ فأُبْدِلت إحداهُنَّ واواً ، وأنشدوا لأميَّة : [ البسيط ]
2037ب- لَوْ كَانَ مُنْفَلِتٌ كَانَتْ قَسَاوِسَةٌ .. . .
قال الواحديُّ : « والقُسوسَة مصدرُ القِسِّ والقِسِّيس » ، قلت : كأنه جعل هذا المصدر مشتقًّا من هذا الاسْمِ؛ كالأبُوَّة والأخُوَّة والفُتُوَّة من لفظ أبٍ وأخٍ وفَتًى ، وتقدم أن القَسَّ بالفتحِ في الأصْل هو المصدرُ ، وأنَّ العالِمَ سُمِّيَ به مبالغةً ، قال شهاب الدين : ولا أدري ما حملَ مَنْ قال : إنه معرَّب مع وجودِ معناه في لغة العربِ كما تقدم؟ .
والرُّهْبَانُ : جمعُ رَاهِبٍ؛ كَرَاكِبٍ ورُكْبَانٍ ، وفَارِسٍ وفُرْسانٍ ، وقال أبو الهيثمِ : « إنَّ رُهْبَاناً يكُونُ واحِداً ويكون جَمْعاً » ؛ وأنشد على كونه مفرداً قول الشاعر : [ الرجز ]
2038- لَوْ عَايَنَتْ رُهْبَانَ دَيْرٍ في القُلَلْ ... لأقْبَلَ الرُّهْبَانُ يَعْدُو ونَزَلْ
ولو كان جمعاً ، لقال : « يَعْدُونَ » و « نَزَلُوا » بضمير الجمع ، وهذا لا حُجَّة فيه؛ لأنه قد عاد ضميرُ المفْرَدِ على الجَمْعِ الصريحِ؛ لتأوُّله بواحدٍ؛ كقوله تعالى : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } [ النحل : 66 ] ، فالهاء في « بُطُونِهِ » تعود على الأنعامِ؛ وقال : [ الرجز ]
2039- وَطَابَ ألْبَانُ اللِّقَاحِ وَبَرَدْ ... في « بَرَدَ » ضميرٌ يعودُ على « ألْبَان » ، وقالوا : « هو أحْسَنُ الفِتْيَانِ وأجملُه » ؛ وقال الآخر : [ الرجز ]
2040- لَوْ أنَّ قَوْمِي حِينَ أدْعُوهُمْ حَمَلْ ... على الجِبَالِ الشُّمِّ لانْهَدَّ الْجَبَلْ
إلى غير ذلك مِمَّا يطولُ ذكرُه ، ومن مجيئه جمعاً الآيةُ ، ولم يَرِدْ في القرآنِ الكريمِ إلا جَمْعاً؛ وقال كثيرٌ : [ الكامل ]
2041- رُهْبَانُ مَدْيَنَ والَّذِينَ عَهِدتهُمْ ... يَبْكُونَ مِنْ حَذَرِ العِقَابِ قُعُودَا
لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ كَلاَمَهَا ... خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعاً وَسُجُودَا
قيل : ولا حُجَّة فيه؛ لأنه قال : « والَّذِينَ » فيُحتمل أنَّ الضمير إنما جُمِعَ؛ لأجلِ هذا الجمعِ ، لا لكونِ « رُهْبَانٍ » جمعاً ، وأصرحُ من هذا قولُ جريرٍ : [ الكامل ]
2042- رُهْبَانُ مَدْيَنَ لَوْ رَأوْكِ تَنَزَّلُوا ... والعُصْمُ مِنْ شَعَفِ العَقُولِ الفَادِرِ
قال أبو الهيثم : وإنْ جُمِعَ الرُّهْبَانُ الواحدُ « رَهابين ورَهَابَنَة » ، جاز ، وإنْ قلت : رَهَبانِيُّونَ كان صواباً؛ كأنك تَنْسُبُه إلى الرَّهْبَانِيَّة ، والرَّهْبَانِيَّةُ من الرَّهْبَةِ ، وهي المخافةُ ، وقال الراغب ، « والرُّهْبَانُ يكون واحداً وجمعاً ، فمنْ جعلهُ واحداً ، جَمعه على رَهَابِينَ ، ورهابِنَةُ بالجمع أليقُ » ، يعين : أن هذه الصيغةَ غَلَبَتْ في الجمع كالفَرَازِنَة والمَوَازِجَة والكَيَالِجَة ، وقال الليث : « الرَّهْبَانِيَّةُ مصدرُ الراهبِ والتَّرَهُّب : التعبُّد في صَوْمَعَة » ، وهذا يُشْبِهُ الكلام المتقدِّم في أن القُسُوسَة مصدرٌ من القَسِّ والقسِّيس ، ولا حاجةَ إلى هذا ، بل الرَّهْبَانِيَّةُ مصدرٌ بنفسِها من الترهُّبِن وهو التعبُّد أو من الرَّهَبِ ، وهو الخوفُ ، ولذلك قال الراغب : « والرهبانيَّةُ غُلُوُّ مَنْ تحمَّلَ التعبُّدَ مِنْ فَرْطِ الرَّهْبة » ، وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادة في قوله : { وَإِيَّايَ فارهبون } [ البقرة : 40 ] .
وعِلَّةُ هذا التَّفَاوُتِ : أنَّ اليَهُودَ مخْصُوصُون بالحِرْصِ الشَّديد على الدُّنْيَا ، قال : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ } [ البقرة : 96 ] لِقُرْبِهِمْ في الحِرْصِ بالمُشرِكِين المنكِرينَ للمَعَادِ ، والحِرْصُ مَعْدِنُ الأخلاقِ الذَّمِيمَةِ ، لأن من كان حَرِيصاً على الدُّنيا طرح دينه في طَلَبِ الدُّنْيا ، وأقدمَ على كل مَحْظُورٍ مُنْكَرٍ بسببِ طلبِ الدُّنْيَا ، فلا جَرَم تشْتَدُّ عداوَتُهُ مع كُلِّ مَنْ نَالَ مَالاً وَجَاهاً ، وأمَّا النَّصَارى ، فإنَّهُمْ في أكْثَرِ الأمْرِ مُعْرِضُون عَنِ الدُّنْيَا ، مُقْبِلُون على العِبَادَةِ ، وتَرْكِ طلبِ الرِّياسة والتكبُّرِ والتَّرفُّعِ ، وكُلُّ مَنْ كان كذلِكَ ، فإنَّه لا يَحْسُدُ النَّاس ولا يُؤذِيهم ، بل يكون ليِّن العَرِيكَة في طلبِ الحقِّ ، سَهْل الانقِيَاد له ، فَهَذَا هو الفَرْقُ بين هذيْنِ الفرِيقَيْن ، وهو المرادُ بقوله تعالى : { ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } .
وفيه دقِيقَةٌ نافِعَةٌ في طَلب الدِّينِ ، وهو أنَّ كُفْرَ النَّصَارى أغْلَظ من كُفْرِ اليَهُود؛ لأنَّ النَّصَارى يُنَازِعُون في الإلهيَّات والنُّبُوَّاتِ ، واليَهُودُ : لا ينازِعُون إلاَّ في النُّبُوَّاتِ ، ولا شَكَّ أن الأوَّل أغْلَظَ؛ لأنَّ النَّصَارى مع غِلَظِ كُفْرِهم ، لم يشْتَدَّ حِرْصُهُم على طلبِ الدُّنْيَا ، بل كان في قَلْبِهِم شَيْءٌ من المَيْلِ إلى الآخِرَة ، شَرَّفَهُم اللَّه بقوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى } .
وأمَّا اليهودُ مع أنَّ كُفْرَهُم أخفُّ مِنْ كُفْرِ النَّصَارى ، طردهم اللَّهُ وخصَّهُم بمزيدِ اللَّعْنَة ، وما ذلِكَ إلاَّ بسببِ تَهَالُكِهِمْ على الدُّنيا ، ويُؤيِّد ذلِكَ قولُهُ - عليه الصلاة والسلام - :
« حُبُّ الدُّنيا رَأسُ كُلِّ خَطِيئةٍ » .
فإن قيل : كيف مدَحَهُم اللَّه تعالى بذلك ، مع قوله تعالى : { وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها } [ الحديد : 27 ] ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - : « لا رَهْبَانِيَّة في الإسلام » ؛ فالجواب : أنَّ ذَلِكَ صار مَمْدُوحاً في مُقابلةِ اليهُودِ في القَسَاوَةِ ، والغِلْظَةِ ، ولا يَلْزَمُ من هذا كونُهُ مَمْدُوحاً على الإطلاق .
قوله تعالى : { وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } نسقٌ على « أنَّ » المجرورةِ بالباء ، أي : ذلك بما تقدَّم ، وبأنَّهم لا يستكبرون .
فصل
المراد بقوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى } يَعْنِي : وفْدَ النَّجَاشِي الذين قدمُوا مع جعفر ، وهم السَّبْعُون ، وكانوا أصْحاب الصَّوامعِ .
وقال مُقَاتِل والكَلْبِي : كَانُوا أرْبَعينَ رَجُلاً ، اثنَانِ وثلاثُون من الحَبَشَةِ ، وثمانِيَةٌ من الشَّام . وقال عطاء : كانوا ثَمَانِين رجُلاً ، أرْبَعُون مِنْ أهْلِ نَجْرَان من بَنِي الحارثِ بن كَعْب ، واثنان وثلاثُون من الحَبَشَةِ ، وثمانِيَة رُومِيُّون مِنْ أهْلِ الشَّام .
وقال قتادة : نزلت في ناسٍ من أهْلِ الكتابِ ، كانُوا على شَرِيعَةٍ من الحقِّ مِمَّا جَاءَ بِه عيسى - عليه السلام - ، فلمَّا بُعِثَ محمَّدٌ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - صَدَّقوه ، وآمَنُوا به ، فأثْنَى اللَّهُ عليهم بقوله : تعالى : { ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً } أي : عُلَمَاء .
قال قُطْرُب : القِسُّ والقِسِّيسُ : العَالِمُ بِلُغَةِ الرُّومِ .
قوله تعالى : « وإذَا سَمِعُوا » « إذَا » شرطيةٌ جوابُها « تَرَى » ، وهو العاملُ فيها ، وهذه الجملةُ الشرطيةُ فيها وجهان :
أظهرهما : أنَّ محلَّها الرفعُ؛ نسقاً على خبر « أنَّهُم » الثانية ، وهو « لا يَسْتَكْبِرُونَ » ، أي : ذلك بأنَّ منهم كذا ، وأنهم غيرُ مستكْبرينَ ، وأنهم إذا سمعُوا : فالواو عطفتْ مُفْرَداً على مثله .
والثاني : أنَّ الجملةَ استئنافية ، أي : أنه تعالى أخْبَرَ عنهم بذلك ، والضميرُ في « سَمِعُوا » ظاهرُه : أنْ يعود على النصارى المتقدِّمين؛ لعمومهم ، وقيل : إنما يعودُ لبعضِهمْ ، وهم مَنْ جاء من « الحبشةِ » إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم .
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - في روايَةِ عطاء : يريد النَّجاشي وأصحابه ، قرأ عليْهِمْ جَعفرُ بالحبَشَةِ « كهيعص » فأخَذَ النجاشِيُّ نَبْتَةً من الأرض ، وقال : واللَّه ما زَادَ على ما قال في الإنْجِيلِ مِثْل هذه مثلاً ، فما زالوا يَبْكُون ، حتى فََرَغَ جَعْفَرُ من القراءة ، واختارَه ابْنُ عَطِيَّة ، قال : « لأنَّ كل النصارى ليسوا كذلك » .
و « مَا » في « مَا أنْزِلَ » تحتملُ الموصولةَ ، والنكرةَ الموصوفة ، وقوله تعالى : « تَرَى » بصَريَّةٌ ، فيكون قوله { تَفِيضُ مِنَ الدمع } جملةً في محلِّ نصبٍ على الحالِ .
وقرئ شاذًّا : « تُرَى » بالبناء للمفعول ، « أعْيُنُهُمْ » رفعاً ، وأسند الفيض إلى الأعين؛ مبالغةً ، وإن كان الفائضُ إنَّمَا هو دمعها لا هِيَ؛ كقول امرئِ القيسِ : [ الطويل ]
2043- فَفَاضَتْ دُمُوعُ العيْنِ مِنِّي صَبَابَةً ... عَلَى النَّحْرِ حَتَّى بَلَّ دَمْعِيَ مِحْمَلِي
والمرادُ : المبالغةُ في وصفهم بالبكاءِ ، أو يكونُ المعنى أنَّ أعينَهُمْ تمتلئُ حتى تفيضَ؛ لأنَّ الفيضَ ناشئٌ عن الامتلاءِ؛ كقوله : [ الطويل ]
2044- قَوَارِصُ تَأتِينِي وَتَحْتَقِرُونَهَا ... وَقَدْ يَمْلأ المَاءُ الإنَاءَ فَيُفْعَمُ
وإلى هذين المعنَيَيْن نحا الزمخشريُّ؛ فإنه قال : « فإنْ قلت : ما معنى { تَفِيضُ مِنَ الدمع } ؟ قلتُ : معناه تَمْتَلِئُ من الدمْع حتَّى تفيضَ؛ لأنَّ الفيضَ أنْ يتملئَ الإناءُ حتَّى يَطْلُعَ ما فيه من جوانبه ، فوضَعَ الفيضَ الذي هو من الامتلاءِ موضعَ الامتلاء ، وهو من إقامةِ المسبَّب مُقام السَّبَب ، أو قصدت المبالغةَ في وصفهم بالبكاء ، فجعلْتَ أعينهم ، كأنها تفيضُ بأنفسها ، أي : تسيلُ من الدمعِ؛ من أجلِ البكاءِ ، من قولك ، دَمَعتْ عَيْنُهُ دَمْعاً » .
قوله تعالى « مِنَ الدَّمْعِ » فيه أربعةُ أوجه :
أحدها : أنه متعلِّقٌ ب « تَفِيضُ » ، ويكون معنى « مِن » ابتداء الغاية ، والمعنى : تَفِيضُ من كثرة الدمع .
والثاني : أنه متعلِّقٌ بمحذوف؛ على أنه حالٌ من الفاعلِ في « تَفِيضُ » قالهما أبو البقاء ، وقَدَّر الحالَ بقولك : « مَمْلُوءَةً من الدَّمْعِ » ، وفيه نظر؛ لأنه كونٌ مقيَّدٌ ، ولا يجوزُ ذلك ، فبقيَ أن يُقَدَّرَ كوناً مطلقاً ، أي : تفيضُ كائنةً من الدمْعِ ، وليس المعنى على ذلك ، فالقولُ بالحاليةِ لا ينبغي ، فإن قيل : هل يجوزُ عند الكوفيين أن يكون « مِنَ الدَّمْعِ » تمييزاً؛ لأنهم لا يَشْترطُونَ تنكيرَ التمييز ، والأصل : تفيض دمعاً؛ كقولك : « تَفَقَّأ زَيْدٌ شَحْماً » ، فهو من المنتصب عن تمام الكلام؟ قيل : إن ذلك لا يجوزُ ، لأنَّ التمييز ، إذا كان منقولاً من الفاعلية ، امتنع دخولُ « مِنْ » عليه ، وإن كانت مقدَّرة معه ، فلا يجوز : « تَفَقَّأ زَيْدٌ من شَحْمٍ » ، وهذا - كما رأيت - مجرورٌ ب « مِنْ » ؛ فامتنع أن يكون تمييزاً ، إلا أن الزمخشريَّ في سورة براءة [ الآية 92 ] جعله تمييزاً في قوله تعالى : { تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع } ، ولا بدَّ من نقلِ نصِّه لتعرفه؛ قال - رحمه الله تعالى - : { تَفِيضُ مِنَ الدمع } كقولك : « تَفِيضُ دَمْعاً » ، وهو أبلغُ من قولِك : يفيضُ دَمْعُها؛ لأنَّ العينَ جُعِلَتْ كأنها دمعٌ فائضٌ ، و « مِنْ » للبيان؛ كقولك : « أفديكَ مِنْ رَجُلٍ » ، ومحلُّ الجارِّ والمجرور النصبُ على التمييز « ؛ وفيه ما قد عرفْتَه من المانِعَيْنِ ، وهو كونُه معرفةً ، وكونُه جُرَّ ب » مِنْ « وهو فاعلٌ في الأصْل ، وسيأتي لهذا مزيدُ بيانٍ؛ فعلى هذا : تكونُ هذه الآية الكريمةُ كتلك عنده ، وهو الوجهُ الثالث .
الرابع : أنَّ » مِنْ « بمعنى الباء ، أي : تفيضُ بالدمْعِ ، وكونُها بمعنى الباء رأيٌ ضعيفٌ ، وجعلوا منه أيضاً قوله تعالى : { يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ } [ الشورى : 45 ] أي : بِطَرْفٍ؛ كما أنَّ الباءَ تأتي بمعنى » مِنْ « ؛ كقوله : [ الطويل ]
2045- شَرِبْنَ بِمَاءِ البَحْرِ ثُمَّ ترفَّعَتْ ... مَتَى لُجَجٍ خُضْرٍ لَهُنَّ نَئِيجُ
أي : مِنْ مَاء البَحْرِ .
قوله : { مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق } « مِنْ » الأولَى لابتداءِ الغاية ، وهي متعلقةٌ ب « تَفِيضُ » ، والثانيةُ يُحْتملُ أن تكونَ لبيانِ الجنس ، أي : بَيَّنَتْ جنس الموصولِ قبلَها ، ويُحتملُ أن تكون للتبعيضِ ، وقد أوضح الزمخشريُّ هذا غايةَ الإيضاح؛ قال - رحمه الله - : « فإنْ قلتَ : أيُّ فَرْقٍ بين » مِنْ « و » مِنْ « في قوله : { مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق } ؟ قلتُ : الأولَى لابتداء الغاية؛ على أنَّ الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحقِّ ، وكان من أجله وبسببه ، والثانيةُ : لبيان الموصول الذي هو » ما عَرَفُوا « ، وتحتمل معنى التبعيض؛ على أنهم عرفوا بعض الحقِّ ، فأبكاهم وبلغ منهم ، فكيف إذا عرفوه كلَّه ، وقرَءُوا القرآن ، وأحاطُوا بالسنة » . انتهى ، ولم يتعرَّض لما يتعلَّق به الجارَّان ، وهو يمكن أنْ يُؤخَذَ من قوةِ كلامه ، ولْنَزِدْ ذلك إيضاحاً ، و « مِن » الأولى متعلِّقةٌ بمحذوفٍ؛ على أنها حال من « الدَّمْع » ، أي : في حالِ كونه ناشئاَ ومبتدئاً من معرفةِ الحقِّ ، وهو معنى قول الزمخشريِّ؛ على أنَّ الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحقِّ ، ولا يجوزُ أن يتعلَّق ب « تَفِيضُ » ؛ لئلا يلزم تعلُّقُ حرفَيْن مُتَّحِدَيْن لفظاً ومعنًى بعامل واحد؛ فإنَّ « مِنْ » في « مِنَ الدَّمْعِ » لابتداءِ الغاية؛ كما تقدَّم ، اللهم إلا أن يُعتقد كونُ « مِنْ » في « مِنَ الدَّمْعِ » للبيانِ ، أو بمعنى الباء ، فقد يجوز ذلك ، وليس معناه في الوضُوحِ كالأول ، وأمَّا « مِنَ الحَقِّ » فعلى جعله أنها للبيان تتعلَّقُ بمحذوف ، أي : أعْنِي من كذا ، وعلى جعله أنَّها للتبعيض تتعلَّق ب « عَرَفُوا » ، وهو معنى قوله : « عَرَفُوا بَعْضَ الحقِّ » .
وقال أبو البقاء في « مِنَ الحَقِّ » : إنه حالٌ من العائد المحذوف على الموصولِ ، أي : مِمَّا عرفوه كائناً من الحق ، ويجوزُ أن تكون « مِنْ » في قوله تعالى : « مِمَّا عَرَفُوا » تعليليةً ، أي : إنَّ فَيْضَ دمعهم بسبب عرفانِهِمُ الحقَّ؛ ويؤيِّدُه قول الزمخشري : « وكان من أجله وبسببه » ، فقد تحصل في « من » الأولى أربعةُ أوجه ، وفي الثالثةِ ضعفٌ ، أو منعٌ؛ كما تقدَّم ، وفي « مِن » الثانية أربعةٌ أيضاً : وجهان بالنسبة إلى معناها : هل هي ابتدائية أو تعليليةٌ؟ ووجهان بالنسبة إلى ما تتعلًَّق به : هل هو « تَفِيضُ » ، أو محذوفٌ؛ على أنها حالٌ من الدمع ، وفي الثالثة : خمسةٌ : اثنان بالنسبة إلى معناها : هل هي بيانيةٌ أو تبعيضيةٌ؟ وثلاثةٌ بالنسبة إلى متعلَّقها : هل هو محذوفٌ ، وهو « أعْنِي » ، أو نفسُ « عَرَفُوا » ، أو هو حالٌ ، فتتعلَّق بِمَحْذُوفٍ أيضاً؛ كما ذكره أبو البقاء .
وقوله تعالى : { ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق } ، يَدُلُّ على أنَّ الإخلاصَ والمعرفةَ بالقَلْبِ مع القولِ تكُونُ إيماناً .
قوله تعالى : « يَقُولُون » الآية . فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه مستأنفٌ ، فلا محلَّ له ، أخبر الله تعالى عنهم بهذه المقالةِ الحسنةِ .
الثاني : أنها حال من الضمير المجرور في « أعْيُنَهُمْ » ، وجاز مجيءُ الحال من المضاف إليه؛ لأنَّ المضافَ جزؤهُ؛ فهو كقوله تعالى : { مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً } [ الحجر : 47 ] .
الثالث : أنه حالٌ من فاعل « عَرَفُوا » ، والعاملُ فيها « عَرَفُوا » ، قال أبو حيان لمَّا حكى كونه حالاً : « كذا قاله ابن عطية وأبو البقاء ، ولم يُبَيِّنا ذا الحال ، ولا العامل فيها » ، قال شهاب الدين : أمَّا أبو البقاء ، فقد بَيَّنَ ذا الحال ، فقال : « يَقُولُونَ » حالٌ من ضمير الفاعل في « عَرَفُوا » ، فقد صرَّح به ، ومتى عُرِفَ ذو الحال ، عُرِفَ العالمُ فيها؛ لأنَّ العامل في الحال هو العامل في صاحبها ، فالظاهرُ : أنه اطَّلع على نسخةٍ مغلوطةٍ من إعراب أبي البقاءِ سَقَطَ منها ما ذكرته لك ، ثم إنَّ أبا حيان ردَّ كونها حالاً من الضمير في « أعْيُنَهُمْ » ؛ بما معناه : أن الحالَ لا تَجيءُ من المضافِ إليه ، وإن كان المضافُ جُزْأهُ ، وجعله خطأ ، وأحال بيانه على بعضِ مصنَّفاته ، ورَدَّ كونها حالاً أيضاً من فاعل « عَرَفُوا » ؛ بأنه يلزمُ تقييدُ معرفتهم الحقَّ بهذه الحال ، وهم قد عرفوا الحقَّ في هذه الحالِ وفي غيرِها ، قال : « فالأوْلَى : أن يكون مستأنفاً » ، قال شهاب الدين : أمَّا ما جعله خطأ ، فالكلام معه في هذه المسألة في موضوعٍ غَيْرِ هذا ، وأمَّا قوله : « يَلْزَمُ التَّقييدُ » ، فالجوابُ : أنه إنما ذُكِرَتْ هذه الحالُ؛ لأنَّها أشرفُ أحوالهم ، فَخَرَجَتْ مخرجَ المدحِ لهم ، وقوله تعالى : « رَبَّنا آمَنَّا » في محلِّ نصب بالقول ، وكذلك : « فاكْتُبْنَا » إلى قوله سبحانه : « الصَّالِحِينَ » .
فصل
المعنى : يَقُولُون ربَّنَا آمنَّا بما سَمِعْنَا وشَهِدْنَا بأنَّهُ حقٌّ ، { فاكتبنا مَعَ الشاهدين } يريد : أمَّةَ مُحَمَّدٍ - عليه الصلاة والسلام - لقوله - تعالى - : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس } [ البقرة : 143 ] .
وقيل : كُلُّ مَنْ شَهِدَ من أنْبِيَائِك ومُؤمِنِي عِبَادك بأنَّكَ لا إله غَيْرك .
قوله تعالى : { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله وَمَا جَآءَنَا مِنَ الحق وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القوم الصالحين } : « مَا » استفهاميَّةٌ في محلِّ رفع بالابتداء ، و « لَنَا » جارٌّ ومجرورٌ خبرهُ ، تقديرُه : أيُّ شيءٍ اسْتَقَرَّ لنا ، و « لا نُؤمِنُ » جملة حالية ، وقد تقدَّم الكلام على نظير هذه الآية ، وأنَّ بعضهم قال : إنها حالٌ لازمةٌ لا يتمُّ المعنى إلا بها؛ نحو :
{ فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] ، وتقدَّم ما قلتُه فيه ، فأغْنَى ذلك عن إعادته ، وقال أبو حيان هنا : « وهي المقصودُ وفي ذكرهَا فائدةُ الكلامِ؛ وذلك كما تقول : » جَاء زَيْدٌ رَاكِباً « لِمَنْ قال : هَلْ جَاءَ زَيْدٌ مَاشِياً أو رَاكِباً؟ » .
فصل
قوله : « وَمَا جَاءَنَا » في محلِّ « مَا » وجهان :
أحدهما : أنه مجرور نسقاً على الجلالة ، أي : بالله وبِمَا جَاءَنَا ، وعلى هذا فقوله : « مِنَ الحَقِّ » فيه احتمالان :
أحدهما : أنه حالٌ من فاعل « جَاءَنَا » ، أي : جاء في حال كونه من جِنْسِ الحقِّ .
والاحتمال الآخر : أن تكونَ « مِنْ » لابتداء الغاية ، والمرادُ بالحقِّ الباري تعالى ، وتتعلَّقُ « مِنْ » حينئذ ب « جَاءَنَا » ؛ كقولك : « جَاءَنَا فلانٌ مِنْ عِنْدِ زَيْدٍ » .
والثاني : أنَّ محلَّه رفعٌ بالابتداء ، والخبر قوله : « مِنَ الحَقِّ » ، والجملةُ في موضع الحال ، كذا قاله أبو البقاء ، ويصيرُ التقدير : وما لَنَا لا نُؤمِنُ بالله ، والحالُ أنَّ الذي جاءنا كَائِنٌ من الحَقِّ ، و « الحقُّ » يجوز أن يُرادَ به القرآنُ؛ فإنه حقٌّ في نفسه ، ويجوزُ أن يُرادَ به الباري تعالى - كما تقدمَ - والعاملُ فيها الاستقرارُ الذي تَضَمَّنَهُ قولُه « لَنَا » .
قوله : « وَنَطْمَعُ » في هذه الجملة ستَّة أوجه :
أحدها : أنها منصوبة المحلِّ؛ نسقاً على المحكيِّ بالقول قبلها ، أي : يقولُونَ كذا ويقولون نطمعُ وهو معنًى حسنٌ .
الثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير المستتر في الجارِّ الواقعِ خبراً وهو « لَنَا » ؛ لأنه تضمَّنَ الاستقرارَ ، فرفع الضمير وعملَ في الحال ، وإلى هذا ذهب الزمخشري؛ فإنه قال : « والواوُ في » ونَطْمَعُ « واوُ الحال ، فإن قلتَ : ما العاملُ في الحال الأولى والثانية؟ قلتُ : العاملُ في الأولى ما في اللام من معنى الفعلِ؛ كأنه قيل : أيُّ شيءٍ حَصَل لنا غَيْرَ مؤمِنينَ ، وفي الثانية معنى هذا الفعل ، ولكن مقيَّداً بالحال الأولى؛ لأنك لو أزَلْتَها ، وقلت : » مَا لَنَا وَنَطْمَعُ « ، لم يكنْ كلاماً » . قال شهاب الدين : وفي هذا الكلام نظرٌ ، وهو قولُه : « لأنَّكَ لَوْ أزَلْتَه . . . إلى آخره » ؛ لأنَّا إذا أزَلْنَاها وأتَيْنَا ب « نَطْمَعُ » ، لم نأتِ بها مقترنةً بحرفِ العطف ، بل مجرَّدة منه؛ لنحلَّها محلَّ الأولى؛ ألا ترى أنَّ النحويين إذا وضَعُوا المعطوفَ موضعَ المعطُوف عليه ، وضعوه مجرَّداً من حرفِ العطف ، ورأيتُ في بعض نسخ الكشَّافِ : « مَا لَنَا نَطْمَعُ » من غير واوٍ مقترنةٍ ب « نَطْمَعُ » ولكن أيضاً لا يَصِحُّ؛ لأنك لو قلت : « مَا لَنَا نَطْمَعُ » كان كلاماً؛ كقوله تعالى :
{ فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] ، ف « نَطْمَعُ » واقعٌ موقعَ مفردٍ هو حال ، كما لو قلت : مَا لَكَ طَامِعاً ، وما لَنَا طَامِعِين ، وردَّ عليه أبو حيان هذا الوجه بشيئينِ : أحدهما : أن العامل لا يقتضي أكثر من حالٍ واحدة ، إذا كان صاحبُه مفرداً دون بدل أو عطف ، إلا أفعل التفضيل على الصَّحيح .
والثاني : أنه يلزم دخولُ الواو على مضارعٍ مُثْبَتٍ . وذلك لا يجُوز إلا بتأويل تقدير مبتدأ ، أي : ونحْنُ نَطْمَعُ .
الثالث : أنها في محل نصبٍ على الحال من فاعل « نُؤمِنُ » ، فتكون الحالان متداخلَتَيْنِ ، قال الزمخشريُّ : « ويجوز أن يكون » ونَطْمعُ « حالاً من » لا نُؤمِنُ « على معنى : أنهم أنْكَرُوا على أنفسهم؛ أنهم لا يوحِّدون الله ، ويطمعُون مع ذلك أن يَصْحَبُوا الصالحين » ، وهذا فيه ما تقدَّم من دخول واو الحال على المضارع المثْبَت ، وأبو البقاء لمَّا أجاز هذا الوجْهَ ، قدَّر مبتدأ قبل « نَطْمَعُ » ، وجعل الجملةَ حالاً من فاعل « نُؤمِنُ » ؛ ليخلصَ من هذا الإشكال؛ فقال : ويجوزُ أن يكون التقديرُ : « ونَحْنُ نَطْمَعُ » ، فتكون الجملةُ حالاً من فاعل « لا نُؤمِنُ » .
الرابع : أنها معطوفةٌ على « لا نُؤمِنُ » ، فتكون في محلِّ نصبٍ على الحال من ذلك الضمير المستترِ في « لَنَا » ، والعاملُ فيها هو العاملُ في الحال قبلها .
فصل
فإن قيل : هذا هو الوجه الثاني المتقدِّم ، وذكرت عن أبي حيان هناك؛ أنه منع مجيء الحالين لِذِي حالٍ واحدةٍ ، وبأنه يلزمُ دخولُ الواو على المضارع ، فما الفرقُ بين هذا وذاك؟ فالجوابُ : أنَّ الممنوع تعدُّدُ الحالِ دُونَ عاطف ، وهذه الواوُ عاطفةٌ ، وأنَّ المضارع إنما يمتنعُ دخولُ واوِ الحال عليه ، وهذه عاطفةٌ لا واوُ حالٍ؛ فحَصَلَ الفرقُ بينهما من جهة الواو؛ حيثُ كانت في الوجه الثاني واوَ الحال ، وفي هذا الوجه واو عطف ، ولَمَّا حكى الزمخشريُّ هذا الوجه ، أبدى له معنيين حسنين؛ فقال - رحمه الله - : « وأن يكون معطوفاً على » لا نُؤمِنُ « على معنى : وما لنا نَجْمَعُ بَيْنَ التثْليثِ وبين الطَّمَع في صُحْبَةِ الصَّالحينَ ، أو على معنى : ومَا لَنَا لا نَجْمَعُ بينهما بالدُّخُولِ في الإسلام؛ لأنَّ الكَافِرَ ما ينبغي له أن يطمعَ في صُحْبَة الصَّالحِينَ » .
الخامس : أنها جملة استئنافية ، قال أبو حيان : الأحسنُ والأسهلُ : أن يكون استئناف إخبارٍ منهم؛ بأنهم طامعون في إنعام الله عليهم؛ بإدخالهم مع الصالحين ، فالواوُ عطافةٌ هذه الجملة على جملة { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ } ، قال شهاب الدين : وهذا المعنى هو ومعنى كونها معطوفةً على المَحْكيِّ بالقول قبلها - شيءٌ واحدٌ - فإن [ فيه ] الإخبار عنهُمْ بقولهم كَيْتَ وكَيْتَ .
السادس : أن يكون « وَنَطْمَعُ » معطوفاً على « نُؤمِنُ » ، أي : وما لنا لا نَطْمَعُ ، قال أبو حيان هنا : « ويظهر لي وجهٌ غيرُ ما ذكرُوه ، وهو أن يكون معطوفاً على » نُؤمِنُ « ، التقديرُ : وما لَنَا لا نُؤمِنُ ولا نَطْمَعُ ، فيكونُ في ذلك إنكارٌ لانتفاءِ إيمانهمْ وانتفاءِ طمعهِمْ مع قدرتهم على تحصيل الشيئين : الإيمان والطَّمع في الدخول مع الصالحين » ، قال شهاب الدين : قوله : « غَيْرُ ما ذَكَرُوهُ » ليس كما ذَكَرَهُ ، بل ذكر أبو البقاء فقال : « ونَطْمَعُ » يجُوزُ أن يكون معطوفاً على « نُؤمِنُ » ، أي : « وما لَنَا لا نَطْمَعُ » ، فقد صرَّحَ بعطفه على الفعل المنفيِّ ب « لاَ » ، غايةُ ما في الباب أن الشيخَ زاده بَسْطاً .
والطَّمَعُ قال الراغب : « هو نزوعُ النَّفْسِ إلى الشَّيْءِ شَهْوَةً له » ، ثم قال : « ولَمَّا كَانَ أكْثَرُ الطَّمَعِ من جهةِ الهوى ، قيل : الطَمَعُ طَبعٌ والطمعُ يدنِّسُ الإهَابَ » ، وقال أبو حيان : « الطمعُ قَرِيبٌ من الرَّجَاءِ يقال منه طَمِعَ يَطْمَعُ طَمعاً » ؛ قال تعالى : { خَوْفاً وَطَمَعاً } [ السجدة : 16 ] وطماعةً وطماعيةً كالكراهِيَة؛ قال : [ الطويل ]
2046- .. طَمَاعِيَةً أنْ يَغْفِرَ الذَّنْبَ غَافِرُهْ
فالتشديدُ فيها خطأٌ ، واسمُ الفاعِلِ منه طَمِعٌ ك « فَرِحٍ » و « أشرٍ » ، ولم يَحْكِ أبو حيان غيرَه ، وحكى الراغب : طَمِعٌ وطَامِعٌ ، وينبغي أن يكون ذلك باعتبارين؛ كقولهم « فَرِحٌ » لمن شأنه ذلك ، و « فَارِحٌ » لمن تجدَّد له فَرَحٌ .
قوله : « أنْ يُدْخِلَنَا » ، أي : « في أنْ » فمحلُّها نصبٌ أو جرٌّ؛ على ما تقدَّم غير مرة . و « مَعَ » على بابها من المصاحبة ، وقيل : هي بمعنى « في » ولا حاجة إليه؛ لاستقلال المعنى مع بقاءِ الكلمة على موضوعها .
فصل
قال المُفَسِّرُون - [ رحمهم الله ] - إنَّ اليَهُودَ عَيَّرُوهم ، وقالُوا لَهُمْ : لِمَ آمَنْتُم؟ فأجابُوهُم بِهَذا .
والمراد : يدْخِلُنَا ربُّنَا مع القَوم الصَّالحِيِنَ جَنَّتَهُ ، ودارَ رِضوانه قال - تعالى - : { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ } [ الحج : 59 ] ، إلا أنه حَسُنَ الحَذْف لِكَوْنه مَعْلُوماً .
قوله تعالى : { فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ } [ المائدة : 85 ] .
وقرأ الحسن : « فآتاهُمُ اللَّهُ » : من آتاه كذا ، أي : أعطاهُ ، والقراءةُ الشهيرةُ أوْلَى؛ لأنَّ الإثابةَ فيها مَنْبَهَةٌ على أنَّ ذلك لأجْلِ عملٍ؛ بخلاف الإيتاء؛ فإنه يكونُ على عملٍ وعلى غيره ، وقوله تعالى : « جَنَّاتٍ » مفعولٌ ثانٍ ل « أثَابَهُمْ » ، أو ل « آتاهُمْ » على حسب القراءتَيْنِ . و { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } في محلِّ نصبٍ صفةً ل « جَنَّاتٍ » . و « خَالِدِينَ » حالٌ مقدرةٌ .
فإن قيل : ظَاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ على أنَّهُم إنَّما اسْتَحَقُّوا ذلك الثَّوابَ بمُجَرَّدِ القوْلِ؛ لأنَّهُ - تعالى - قال : { فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ } ، وذَلِكَ غير مُمْكِن؛ لأنَّ مُجَرَّدَ القَوْلِ لا يُفيدُ الثَّوَابَ .
فالجوابُ مِنْ وجهين :
الأوَّلُ : أنَّهُ قد سَبَقَ من وَصْفِهِم مَا يدلُّ على إخلاصِهِمْ فيما قالوا وهُو المعرفَةُ ، وذلك قوله - تعالى - : { مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق } ، وكُلَّما حصلتِ المعْرِفَةُ والإخْلاصُ وكمَال الانْقِيَادِ ، ثُمَّ انْضَافَ إليْه القَوْلُ ، لا جَرَمَ كمل الإيمان .
الثاني : روى عطاءُ عن ابْن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - أنَّه قال : قوله - تعالى - : « بِمَا قَالُوا » يُرِيدُ بما سَألُوا ، يعني قولهُمْ : « فاكتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِين » .
فصل
دَلَّتِ الآيَةُ على أنَّ المُؤمِنَ الفَاسِقَ لا يُخَلَّدُ في النَّارِ من وجْهَيْن :
أحدهما : أنَّهُ - تعالى - قال : { وذلك جَزَآءُ المحسنين } ، وهذا الإحْسَانُ لا بُدَّ وأنْ يكُونَ هُوَ الذي تقدَّم ذِكْرُه من المَعْرِفَةِ ، وهُوَ قوله - تعالى - : { مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق } ، ومِنَ الإقْرَارِ به ، وهو قولُهُ - تعالى - : { فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ } ، وإذا كَانَ كَذَلِك فإمَّا أنْ يُقال : إنَّ هذه الآيَةُ دالَّةٌ على أنَّ المعرفة ، وهُوَ إقرارٌ يوجِبُ هذا الثَّواب ، فإمَّا أنْ يُنقل من الجَنَّةِ إلى النَّارِ ، وهذا بَاطِلٌ بالإجْمَاع ، أو يُقَال : يُعاقَبُ على ذَنْبِهِ ، ثمَّ يُنْقَلُ إلى الجَنَّةِ ، وهُوَ المَطْلُوب .
الثاني : أنَّهُ - تعالى - قال : { والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أولئك أَصْحَابُ الجحيم } ، فقولُهُ تعالى : { أولئك أَصْحَابُ الجحيم } يُفِيدُ الحصر ، أي : أولَئِكَ أصْحَابُ الجحيمِ لا غَيْرهِم ، والمُصَاحِبُ للشَّيءِ المُلازِم له الذي لا يَنْفَكُّ عَنْهُ ، وهذا يقتضي تَخْصِيصُ الكُفَّارِ بالدَّوَام .
قوله تعالى : « وذَلِكَ جَزَاءُ » مبتدأ وخبرٌ ، وأُشِيرَ ب « ذَلِكَ » إلى الثواب أو الإيتاء ، و « المُحْسنين » يُحتمل أن يكون من باب إقامةِ الظاهرِ مُقامَ المضمرِ ، والأصل : « وذَلِكَ جَزَاؤهُمْ » ، وإنما ذُكِر وصفُهم الشريفُ مَنْبَهَةً على أن هذه الخَصْلَةَ محصِّلة جزائِهِمْ بالخَيْرِ ، ويُحْتَمَلُ أن يرادَ كلُّ مُحْسِنٍ ، فيندرجُون اندراجاً أوليًّا .
والمُرَادُ بالمُحْسِنينَ : المُوَحِّدين المُؤمِنِين .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
لما اسْتَقْصَى في المُنَاظَرَةِ مع اليَهُودِ والنَّصَارى ، عَادَ إلى بيان الأحْكَامِ ، وذكر منها جُمْلَةً :
أوَّلُهَا : ما يتعلَّقُ بالمطَاعِمِ والمَشَارِب واللَّذَاتِ ، وهي هَذِه الآيَةُ ، والمراد بالطَّيِّبَاتِ : ما تَشْتَهِيهِ النُّفُوسُ ، وتميلُ إلَيْه القُلُوب وفيه قولان :
الأول : قال المُفَسِّرون - [ رحمهم الله ] - « ذكَّرَ النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - النَّاسَ يَوْماً في بَيْتِ عُثْمَانَ بنِ مَظْعُونٍ - رضي الله عنه - فوَصَفَ القِيَامَة ، وبالغ في الإنْذَارِ والتَّحْذِيرِ ، فَرَقَّ له النَّاسُ وبَكَوْا ، فاجْتَمَعَ عَشْرَةٌ مِنَ الصَّحَابَة - رضي الله عنهم أجمعين - وهُمْ : أبُو بَكْر ، وعَلِيُّ بنُ أبِي طالبٍ ، وعبْدُ الله بن مَسْعُود ، وعَبْدُ الله بن عُمَر ، وأبُو ذَرٍّ الغِفَاري ، وسَالِم مَوْلى أبِي حُذَيْفَة والمِقْدَادُ بنُ الأسْوَد ، وسَلْمَان الفَارِسِي ، ومَعْقِلُ بنُ مقرّن - رضي الله عنهم - ، وتَشاوَرُوا على أنْ يَتَرَهَّبُوا ، ويَلْبِسُوا المُسُوحَ ، ويُجْبُوا مَذَاكِيرهِمْ ، ويصُومُوا الدَّهْرَ ، ويقُومُوا اللَّيْل ، ولا ينَامُونَ على الفُرُش ، ولا يَأكُلُونَ اللَّحْمَ والوَدَكَ ، ولا يَقْرَبُون النِّسَاء والطِّيب ، ويَسِيحُوا في الأرْض ، وحَلَفُوا على ذَلِكَ ، فَبَلَغ النَّبِيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - [ ذلك ] ، فأتَى دَارَ عُثْمَانَ بن مَظْعُونٍ الجُمحِي ، فَلَمْ يُصَادِفْهُ ، فقالَ لامْرَأتِهِ أمِّ حَكِيم بِنْت أبِي أمَيَّة - واسمُهَا » الحَوْلاَء « ، وكانت عطَّارَة - : أحقٌّ ما بَلَغَنِي عن زَوْجِكِ وأصْحَابِه؟ فَكَرِهَتْ أنْ تَكْذِبَ ، وكَرِهَتْ أنْ تُبْدِيَ على زَوْجِهَا ، فَقَالَتْ : يا رسُول اللَّهِ : إن كانَ أخْبَرَكَ عُثْمَانُ فَقَدْ صَدَقَ ، فانْصَرَفَ رسُول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فلَّما دَخَلَ عُثْمَانُ أخْبَرَتُهُ بذلك ، فأتى رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - هُوَ وأصْحَابهُ ، فقالَ لَهُمُ رسُولُ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - : ألَمْ أُنَبَّأْ أنَّكُم اتَّفَقْتُمْ على كَذَا وكَذَا ، قَالُوا : بَلَى يا رسُول اللَّهِ ، ما أرَدْنَا إلا الخَيْرَ ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : إنِّي لَمْ أؤمَرْ بِذلِكَ ، ثُمَّ قال : إنَّ لأنْفُسِكُمْ عَلَيْكُمْ حقًّا ، فصُومُوا وأفْطِرُوا ، وقُومُوا ونَامُوا ، فَإنِّي أقُومُ وأنَامُ ، وأصُومُ وأفْطِر ، وآكُل اللَّحْم والدَّسم ، وآتِي النِّسَاء ، فَمَنْ رَغِب عن سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي . ثمَّ جمع إليه النَّاس وَخَطَبَهُمْ فقَالَ : ما بَالُ أقْوَامٍ حَرَّمُوا النِّساء والطَّعام ، والطِّيب والنَّوم ، وشهوات الدُّنيا؟! أما إنِّي لَسْتُ آمُرُكُمْ أنْ تكُونُوا قِسِّيسِينَ ورُهْبَاناً ، فإنَّه ليْسَ في دِينِي تَرْكُ اللَّحْمِ ، ولا اتِّخاذ الصَّوَامِعِ ، وأنَّ سِيَاحةَ أمَّتِي الصَّومُ ، ورهبَانِيَّتُهُمُ الْجِهَادُ ، اعبُدُوا اللَّه ولا تُشْرِكُوا به شَيْئاً ، وحجُّوا واعتَمِرُوا وأقِيموا الصَّلاة وآتُوا الزَّكاة ، وصُومُوا رمضَانَ ، واستَقِيمُوا يستقمْ لَكُمْ ، فإنَّمَا هَلَكَ من كان قَبْلَكُم بالتَّشْديدِ ، شَدَّدُوا على أنْفُسِهِم ، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِم ، فأُولَئِكَ بَقَايَاهُمْ فِي الدِّيَار والصَّوَامِعِ » ، فأنْزَلَ اللَّهُ هذه الآيَة .
وعن عُثْمَانَ بنِ مَظْعُون - رضي الله تعالى عنه
« - أنَّه أتَى النَّبِيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فقال : ائْذَنْ لنا في الاخْتِصَاء ، فقال رسول اللَّهِ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم : ليس منا من خَصَى أو اخْتَصَا ، إنَّ خِصَاءَ أمَتِّي الصِّيَامُ ، فقال يا رسُولَ اللَّه : ائْذَنْ لنا في السِّيَاحَةِ ، فقال : إنَّ سِيَاحَةَ أمَّتِي الجِهَادُ في سَبيلِ اللَّه ، قال يا رسُول اللَّه : ائْذَنْ لنا في التَّرَهُّبِ فقال : إنَّ تَرَهُّبَ أمَّتِي الجُلُوسُ في المَسَاجِدِ ، وانْتِظَار الصَّلاة » .
وعلى هذا ظَهَر وجه النَّظْم بين هذه الآية ، وبَيْنَ ما قَبْلَها ، وذلك أنَّهُ تعالى مدحَ النَّصَارى ، بأنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِين ورُهْبَاناً ، وعادَتُهُم الاحْتِرَازُ عَنْ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا ولذَّاتِها ، فلمَّا مَدَحَهم أوْهَمَ ذلك المدحُ ترغيب المسلمين في مِثْلِ تِلْكَ الطَّريقَةِ ، فَذَكَرَ تعالى عَقِيبَهُ هذه الآيَة ، إزالةً لذلك الوَهْمِ؛ ليظْهَرَ لِلْمُسْلِمِين أنَّهُمْ ليْسُوا مَأمُورين بِتِلْكَ الطَّرِيقَةِ؛ واللَّه أعلم .
فإن قيل : ما الحكْمَةُ في هذا النَّهْي؟ ومن المعْلُومِ أنَّ حبَّ الدُّنْيَا مُسْتَوْلٍ على الطَّبَاع والقُلُوبِ ، فإذا تَوَسَّع الإنْسَانُ في اللَّذَّاتِ والطَّيِّبَاتِ : اشتدَّ مَيْلُهُ إليها وعَظُمَتْ رَغْبَتُهُ فيها ، وكُلَّمَا أكْثر التَّنْعِيم ودَامَ كان ذلك المَيْلُ أقْوَى وأعْظَم ، وكُلَّمَا ازدَادَ المَيْلُ قوَّةً ورغْبَةً ، ازدَادَ حِرْصُهُ في طَلَبِ الدُّنْيَا ، واسْتِغْرَاقُهُ في تحصيلهَا ، وذلك يمنعه عن الاستغراقِ في مَعْرِفَةِ اللَّهِ - تعالى - وطاعَتِهِ ، ويمنَعُهُ عن طلب سَعَادَات الآخِرَةِ ، وأمَّا إذا أعْرَضَ عن لَذَّاتِ الدُّنيا وطيِّبَاتها ، فكُلَّمَا كَانَ ذَلِكَ الإعْرَاض أتَمَّ وأدْوَمَ ، كان ذلك المَيْلُ أضْعَف ، وحينئذٍ تتفرَّغُ النَّفْسُ لطَلَبِ مَعْرِفَةِ اللَّه تعالى ، والاسْتِغْرَاق في خدمَتِهِ ، وإذا كان الأمْرُ كَذَلِكَ فما الحكمة في نَهْيِ اللَّهِ تعالى عَنِ الرَّهْبَانِيَّة؟ .
فالجواب من وجوه :
الأولُ : أنَّ الرَّهْبَانِيَّة المفرطة ، والاحتِرَاز التَّامَّ عن الطَّيِّبَاتِ واللَّذَّاتِ ، ممَّا يوقع الضَّعْفَ في الأعْضَاء الرَّئِيسيَّة - التي هي القَلْبُ والدِّمَاغُ - ، وإذا وَقَعَ الضَّعْفُ فيهما اخْتلت الفِكْرَة وتَشَوَّش العَقْلُ .
ولا شَكَّ أنَّ أكْمَل السَّعَاداتِ وأعظمَ القُرُبَات ، إنَّما هو مَعْرِفَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وتعالى ، فإذَا كانتِ الرَّهْبَانِيَّةُ الشَّديدةُ مِمَّا يوقع الخَلَلَ في ذلِكَ ، لا جَرَمَ وقعَ النَّهْي عَنْهُ .
الثاني : سَلَّمنَا أنَّ اشْتِغَال النَّفْسِ باللَّذاتِ يَمْنَعُهَا عن الاشْتِغَال بالسَّعَادَاتِ العَقْلِيَّة ، ولكن في حقِّ النُّفُوسِ الضَّعِيفَةِ أمَّا النُّفُوسُ المسْتَعْلِيَةُ الكامِلَةُ ، فإنَّه لا يَكُونُ اشتِغَالُها في اللَّذاتِ الحِسِّيَّةِ مانِعاً من الاشْتِغَالِ بالسَّعَادَات العَقْلِيَّة ، فإنَّا نُشَاهِدُ بعض النُّفُوس قد تكون ضَعِيفَة ، بِحَيْثُ متى اشْتَغَلَتْ بِمُهِمٍّ امْتَنَعَ عليها الاشْتِغَالُ بِمُهِمٍّ آخر ، وكُلَّما قَويَتِ النَّفسُ كانت هذه الحَالَةُ أكْمَل ، وإذا كانَ كذَلِكَ ، فالمرادُ الكَمَالُ في الوَفَاءِ بالجهَتَيْنِ .
الثالث : أنَّ من اسْتَوْفَى اللَّذَاتِ الحِسِّيَّةَ ، وإن غرضُهُ بذلك الاسْتِعَانَة على استِيفَاء اللَّذَّاتِ العَقْلِيَّةِ ، فإنَّ مجاهَدَتَهُ أتَّمُّ مِنْ مُجَاهَدَة من أعْرَض عَنِ اللَّذَاتِ الحِسَّيَّةِ .
الرابع : أنَّ الرَّهْبَانِيَّةِ مع المُواظَبَةِ على المَعْرِفَةِ والمَحَبَّةِ والطَّاعة ، فإنَّه عِمَارةُ الدُّنْيَا والآخِرَة ، فكانَتْ هَذِهِ الحال أكْمَل القول .
الثاني في تفْسِير هذه الآية ذَكَرَهُ القَفَّال - [ رحمه الله ] - وهو أنَّهُ تعالى قال في أوَّل السُّورةِ :
{ أَوْفُواْ بالعقود } [ المائدة : 1 ] فبيَّنَ أنَّهُ لا يجُوزُ استحلاَلُ المُحرَّمِ ، كذلك لا يجُوزُ تَحْرِيمُ المُحَلَّلِ ، وكانت العرب تُحرِّمُ من الطَّيِّبَاتِ ما لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ تعالى ، وهو : البَحيرة ، والسَّائِبَةُ ، والوَصِيلةُ ، والحامُ ، وكانُوا يُحَلِّلُون المَيْتَةَ والدَّمَ وغيْرهما ، فأمَرَ اللَّه تعالى أن لا يُحرِّمُوا ما أحَلَّهُ اللَّهُ ، ولا يُحَلِّلُوا ما حَرَّمهُ اللَّهُ ، حتى تَدْخُلوا تَحْتَ قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود } [ المائدة : 1 ] .
فقوله تعالى : { لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ } يحتمل وُجُوهاً :
الأول : ألا تَعْتَقِدُوا تَحْرِيمَ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ .
وثانيها : لا تُظْهِرُوا باللِّسان تَحرِيمَ ما أحلَّ الله لَكُمْ .
وثالثها : لا تَجْتَنِبُوهَا اجْتِنَاباً يُشبِهُ الاجْتِنَابَ عن المُحَرَّمَاتِ ، فهذه الوُجُوه الثلاثَةُ مَحْمُولَةٌ على الاعتِقَاد والقول والعَملِ .
ورابعها : لا تُحَرِّمُوا على غَيْرِكم بالفَتْوَى .
وخامسها : لا تَلْتَزِمُوا تحريمها بِنَذْرٍ أو يَمِينٍ ، ونَظِيرُهُ قوله تعالى : { ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ } [ التحريم : 1 ] .
وسادسها : أن يخلطَ المغصُوبَ بالمَمْلُوكِ اختِلاَطاً لا يُمْكِنُهُ التَّمْيِيزُ ، وحينئذٍ يَحْرُمُ الكُلُّ ، ذلك الخَلْطُ سببٌ لتحريم ما كان حلالاً ، وكذلِكَ إذا خَلَطَ النَّجِسَ بالطَّاهِر ، فالآيَةُ مُحْتَمِلَةٌ لكُلِّ هذه الوجوه ، ولا يَبْعُدُ حَمْلُهَا على الكُلِّ .
قوله - تعالى - : { وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين } فقيل : لا تجاوزُوا الحلال إلى الحرام ، وقيل : لا تُسْرِفُوا وقيل : هو جَبُّ المذاكيرِ ، وجعل تَحْرِيم الطَّيِّبَات اعتِدَاءً وتَعَدٍّ عما أحلَّهُ اللَّهُ ، فنهى عن الاعتِدَاء؛ ليدخل تَحْتَ النَّهْيِ عن تحريمهَا .
قوله تعالى : { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً } .
في نصب « حَلاَلاَ » : ثلاثة أوجه :
أظهرُها : أنه مفعولٌ به ، أي : كُلُوا شَيْئاً حلالاً ، [ وعلى هذا الوجه ، ففي الجَارِّ ، وهو قوله : « مِمَّا رَزَقَكُمْ » وجهان :
أحدهما : أنه حالٌ من « حَلاَلاً » ؛ ] لأنه في الأصل صفةٌ لنكرَةٍ ، فلمَّا قُدِّم عليها ، انتصبَ حالاً .
والثاني : أنَّ « مِنْ » لابتداء الغاية في الأكْل ، أي : ابتدِئُوا أكْلَكُمْ الحلالَ من الذي رزَقَهُ الله لكُمْ .
الوجه الثاني من الأوجه المتقدِّمة : أنه حالٌ من الموصول أو من عائده المحذوف ، أي : « رَزَقَكُمُوهُ » فالعاملُ فيه « رَزَقَكُمْ » .
الثالث : أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوف ، أي : أكْلاً حلالاً ، وفيه تجوُّزٌ .
وقال : { كلوا مما رزقكم الله } ولَمْ يَقُلْ : ما رزقكم؛ لأنَّ « مِنْ » للتَّبْعِيضِ ، فكأنَّه قال : اقْتَصِرُوا في الأكْلِ على البَعْضِ واصرفُوا البَقِيَّةَ إلى الصَّدقَاتِ والخَيْرَاتِ ، وأيضاً إرْشَاد إلى تَرْكِ الإسْرَاف ، كقوله : { وَلاَ تسرفوا } [ الأعراف : 31 ] .
قال عبدُ الله بن المُبَارَك - رضي الله عنه - : الحَلاَلُ ما أخَذْتَهُ من وجهه ، والطَّيِّبُ : ما غُذِيَ وأنْمِي .
فأمَّا الجَوَامِدُ : كالطِّينِ والتُّرَابِ وما لا يُغذِّي ، فمكرُوه إلاَّ على وجْهِ التَّدَاوِي .
قالت عَائِشَة - رضي الله عنها - : « كان النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - يُحِبُّ الحَلْوَاءَ والعَسَلَ » .
قوله تعالى : « اتَّقُوا اللَّهَ » تأكيد للوصيَّةِ بما أمَرَ به ، وزادَهُ تَأكِيداً بقوله تعالى : { الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } ؛ لأنَّ الإيمان به يُوجِبُ التَّقْوَى في الانْتِهَاء .
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
وهذا النَّوْعُ الثَّانِي من الأحْكام المذْكُورَةِ ، ووَجْهُ المُنَاسَبَةِ بَيْنَ هذا الحُكْم والَّذِي قَبْلَهُ حتى حَسُنَ ذِكْرُهُ عَقِيبَهُ ، أنَّا ذكرنَا أنَّ سبب نزول الآية : أنَّ قوماً من الصَّحابَةِ - رضي الله عنهم أجمعين - حرَّموا على أنْفُسِهِمُ المطاعِمَ والمَلاَذَّ ، واخْتَارُوا الرَّهْبَانِيَّةَ ، وحَلَفُوا على ذلك ، فلما نَهَاهُمُ اللَّهُ تعالى عنْ ذلك قالُوا : يا رسُول اللَّه ، فَكَيْفَ نَصْنَعُ بأيْمَانِنَا؟ فأنْزَلَ اللَّهُ هذه الآيَة ، وقدْ تقدَّم إعرابُ نَظيرهَا في البَقَرةِ واشْتِقَاق مُفْرَدَاتِها .
قوله تعالى : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان } .
قرأ حمزة والكسائيُّ وأبو بكْرٍ عن عاصم : « عَقَدتُمْ » بتخفيف القاف دون ألف بعد العين ، وابن ذَكْوَان عن ابن عامر : « عَاقَدتُّمْ » بزنة « فاعَلْتُمْ » والباقون : « عَقَّدتُّمْ » بتشديد القاف ، فأمَّا التخفيفُ ، فهو الأصل ، وأمَّا التشديدُ ، فيحتمل أوجهاً :
أحدها : أنه للتكثير؛ لأنَّ المخاطبَ به جماعةٌ .
والثاني : أنه بمعنى المجرَّدِ ، فيوافِقُ القراءة الأولى ، ونحوه : قَدَّرَ وقَدَرَ .
والثالث : أنه يَدُلُّ على توكيد اليمين ، نحو : « واللَّهِ الَّذِي لا إلهَ إلاَّ هُوَ » .
والرابع : أنه يدلُّ على تأكيد العزم بالالتزام .
الخامس : أنه عِوَضٌ من الألف في القراءة الأخرى ، وقال شهاب الدين : ولا أدري ما معناه ولا يجوز أن يكون لتكرير اليمين ، فإنَّ الكفارةَ تَجِبُ ولو بمَرَّةٍ واحدةٍ .
وقد تَجَرَّأ أبو عُبَيْدٍ على هذه القراءةِ وزيَّفَها ، فقال : « التشديدُ للتكريرِ مرةً من بعد مرَّة ، ولستُ آمَنُ أن تُوجِبَ هذه القراءةُ سقوطَ الكفَّارةِ في اليمينِ الواحدة؛ لأنها لم تُكَرَّرْ » . وقد وَهَّموه الناسُ في ذلك ، وذكروا تلك المعاني المتقدِّمة .
وأجَاب الواحِدِي بوجْهَيْن :
الأول : أنَّ بعضَهُم قال : عَقَدْتُم بالتَّخفيفِ وبالتَّشْديدِ واحدٌ في المعنى .
والثاني : هَبْ أنَّها تُفِيدُ التكرير ، كَمَا في قوله تعالى : { وَغَلَّقَتِ الأبواب } [ يوسف : 23 ] ، إلاَّ أنَّ هذا التكريرَ يحصل بأن يَعْقِدَهَا بقَلْبِهِ ولِسَانِه ، ومتَى جَمَعَ بَيْنَ القَلْبِ واللِّسَانِ فَقَدْ حَصَلَ التَّكْرِيرُ ، أمَّا لَوْ عُقِدَ اليَمِينُ بأحَدِهِمَا دُونَ الآخَر لَمْ يَكُن منعقداً لَهَا فَسَلِمَتِ القِرَاءَةُ تِلاوَةً ولِلَّهِ الحَمْدُ .
وأمَّا « عَاقَدَتْ » ، فيُحتملُ أن تكون بمعنى [ المجرَّد نحو ] : « جَاوَزْتُ الشَّيْءَ وَجُزْتُهُ » ، وقال الفارسيُّ : « عَاقَدتُمْ » يحتمل أمرين :
أحدهما : أن يكون بمعنى « فَعَلَ » ، كطَارَقْتُ النَّعْلَ ، وعَاقَبْتُ اللِّصَّ .
والآخر : أن يُرَادَ به « فاعَلْتُ » التي تقتضي فاعلين؛ كأن المعنى : بما عَاقَدتُّمْ علَيْهِ الأيْمَانَ ، عَدَّاه ب « عَلَى » لمَّا كان بمعنى عَاهَدَ ، قال : { بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله } [ الفتح : 10 ] ؛ نحو : { نَادَيْتُمْ إِلَى الصلاة } [ المائدة : 58 ] ب « إلَى » ، وبابُها أن تقول : نَادَيْتُ زَيْداً؛ نحو : { وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور } [ مريم : 52 ] لمَّا كانت بمعنى دَعَوْتُ إلى كذا ، قال : { مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله } [ فصلت : 33 ] ثم اتُّسِعَ فحُذِفَ الجارُّ ، ونُقِلَ الفعلُ إلى المفعْول ، ثم حُذِفَ من قوله :
{ فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } [ الحجر : 94 ] ، قال شهاب الدين : يريد - رحمه الله - أن يبيِّنَ معنى « المُفَاعَلَةِ » ، فأتى بهذه النظائر للتضمين ، ولحذفِ العائدِ على التدريج ، والمعنى : بِمَا عَاقَدتُّمْ عليه الأيْمَانَ ، وعاقَدَتْكُمُ الأيْمَانُ عليه ، فنَسَبَ المعاقَدَةَ إلى الأيْمَانِ مجازاً ، ولقائل أن يقول : قد لا نَحْتَاجُ إلى عائدٍ حتَّى نحتاجَ إلى هذا التكلُّفِ الكثير ، وذلك بأن نجعل « مَا » مصدريةً ، والمفعولُ محذوفٌ ، تقديرُه : بِمَا عَاقَدتُّمْ غيْرَكُمُ الأيْمَانَ ، أيْ : بمُعَاقدتِكُمْ غيرَكُمُ الأيْمَانَ ، ونخلُصُ من مجازٍ آخر ، وهو نسبةُ المعاقدةِ إلى الأيمان؛ فإنَّ في هذا الوجه نسبة المعاقَدَةِ للغَيْرِ ، وهي نسبةٌ حقيقية ، وقد نَصَّ على هذا الوجه - جماعةٌ .
قالُوا : « مَا » مَعَ الفِعْلِ بِمَنْزِلةِ المصْدَرِ ، ولكِن يُؤاخِذُكُم بِعَقْدِكُمْ ، أوْ بِتَعْقِيدِكُمْ ، أو بِمُعَاقَدَتِكُم الأيْمَان إذا خنتم ، فحذف وقتاً لمؤاخَذَة؛ لأنَّه مَعْلُومٌ ، أو يَنْكُثُ ما عَاقَدْتُمْ ، فَحَذَفَ المُضَافَ .
وقد تعقَّبَ أبو حيان على أبي عليٍّ كلامَهُ؛ فقال : « قوله : إنَّه مثل » طارَقْتُ النَّعْلَ « و » عَاقَبْتُ اللِّصَّ « ، ليس مثله؛ لأنَّك لا تقول : طَرَقْتُ ولا عَقَبْتُ ، وتقول : عاقدتُّ اليمينَ ، وعقدُّهَا » ، وهذا غيرُ لازم لأبي عليٍّ؛ لأنّ مرادَه أنه مثلُه من حَيْثُ إنَّ « المُفَاعَلَةَ » بمعنى أن المشاركة من اثنين منتفيةٌ عنه؛ كانتفائها من عاقَبْتُ وطارَقْتُ ، أمَّا كونُه يقالُ فيه أيضاً كذا ، فلا يضُرُّه ذلك في التشبيه ، وقال أيضاً : « تقديرُه حذف حَرْفِ الجرِّ ، ثم الضمير على التدرُّج - بعيدٌ ، وليس بنظيرِ : { فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } [ الحجر : 94 ] ؛ لأن » أمَرَ « بتعدَّى بنفسِه تارةً ، وبحرف الجرِّ أخرى ، وإن كان الأصلُ الحَرْفَ ، وأيضاً ف » مَا « في » فَاصْدَعْ بِمَا « لا يتعيَّن أن تكون بمعنى » الَّذي « بل الظاهر أنها مصدريَّةٌ ، [ وكذلك ههنا الأحسنُ : أن تكون مصدريةً ] لمقابلتها بالمصْدرِ ، وهو اللَّغْوُ » .
قال الوَاحِدِي : يُقَالُ : عَقَدَ فلانٌ اليمينَ والعهدَ والحبلَ عَقْداً ، إذَا وكَّده وأحْكَمَهُ ، ومثل ذلك أيضاً « عَقَّدَ » بالتَّشْديد إذا وكَّدَ ، ومثله : عَاقَد بالألفِ .
وقد تقدم الكلامُ في سورة النِّساء عند قوله تعالى : { والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } [ الآية : 33 ] و « عاقَدت » ، وذُكِرَ في هذه ثلاثُ قراءاتٍ في المشْهُور ، وفي تِيكَ قراءتانِ ، وقد تقدم في النساء أنه رُوِيَ عن حمزة : « عَقَّدَتْ » بالتشديد فيكون فيها أيضاً ثلاثُ قراءاتٍ ، وهو اتفاقٌ غريبٌ ، فإنَّ حمزة من أصحابِ التخفيفِ في هذه السورة ، وقد رُوِيَ عنه التثقيلُ في النساء .
والمرادُ بقوله : « عقَّدتم ، وعاقَدْتُم » أي : قَصَدْتُم وتَعمَّدْتُم ، وتقدَّم الكلامُ على ذلك في سُورةِ البَقَرةِ .
قوله تعالى : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ } مبتدأ وخبر ، والضميرُ في « فَكَفَّارتُهُ » فيه أربعةُ أوجه :
أحدها : أنه يعودُ على الحِنْثِ الدَّالِّ عليه سياقُ الكلام ، وإنْ لم يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ ، أي : فكفَّارةُ الحِنْثِ .
الثاني : أنه يعود على « مَا » إنْ جَعَلْنَاهَا موصولةً اسميَّةً ، وهو على حذف مضافٍ ، أي : فكفارة نُكْثِهِ ، كذا قدَّره الزمخشريُّ .
والثالث : أنه يعودُ على العَقْدِ؛ لتقدُّمِ الفعْلِ الدالِّ عليه .
الرابع : أنه يعود على اليمين ، وإن كانت مؤنثة؛ لأنها بمعنى الحَلْفِ ، قالهما أبو البقاء ، وليسا بظاهَرْين .
و « إطْعَامُ » مصدرٌ مضافٌ لمفعوله ، وهو مقدَّرٌ بحرفٍ وفعلٍ مبنيٍّ للفاعل ، أي : فكفَّارته أن يُطْعِمَ الحَانِثُ عشرة ، وفاعلُ المصدرِ يُحْذَفُ كثيراً ، ولا ضرورة تدعو إلى تقديره بفعلٍ مبنيٍّ للمفعولِ ، أي : أن يُطْعَمَ عشرةٌ؛ لأنَّ في ذلك خلافاً تقدَّم التنبيه عليه؛ فعلى الأول : يكونُ محلُّ « عشرة » نصباً؛ وعلى الثاني : يكون محلُّها رفعاً على ما لم يُسَمَّ فاعلُهُ ، ولذلك فائدةٌ تَظْهر في التابع ، فإذا قلت : « يُعْجِبُنِي أكْلُ الخُبْزِ » فإن قدَّرته مبنياً للفاعل ، فتتبع « الخُبْز » بالجرِّ على اللفظ ، والنَّصْبِ على المحلِّ ، وإنْ قَدَّرْتَه مبنيًّا للمفعول ، أتْبَعْتَهُ جرًّا ورفعاً ، فتقول : « يُعْجِبُني أكْلُ الخُبْزِ والسَّمْنِ والسَّمْنَ والسَّمْنُ » ، وفي الحديث : « نَهَى عن قَتْلِ الأبْتَرِ وذُو الطُّفَيَتَيْنِ » برفع « ذُو » على معنى : أنْ يُقْتَلَ الأبْتَرُ ، قال أبو البقاء : « والجَيِّدُ أن يُقَدَّرَ - أي المصدرُ - بفعلٍ قد سُمِّي فاعلُه؛ لأنَّ ما قبله وما بعده خطاب » ، يعني : فهذه قرينةٌ تُقَوِّي ذلك؛ لأنَّ المعنى : فكفَّارَتُهُ أنْ تُطْعِمُوا أنْتُمْ أيها الحَالِفُونَ ، وقد تقدم أنَّ تقديره بالمبنيِّ للفاعلِ هو الراجحُ ، ولو لم تُوجَدُ قرينةٌ؛ لأنه الأصلُ .
قوله تعالى : « مِنْ أوسطِ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه في محلِّ رفعِ خبراً لمبتدأ محذوفٍ يبيِّنه ما قبله ، تقديرُه : طعامُهُمْ مِنْ أوسطِ ، ويكون الكلامُ قد تَمَّ عِنْدَ قوله : « مَسَاكِينَ » ، وسيأتي له مزيد بيان قريباً إن شاء الله تعالى .
والثاني : أنه في موضعِ نصْبٍ؛ لأنه صفةٌ للمفعول الثاني ، والتقديرُ : قوتاً أو طعاماً كائناً من أوسطِ ، وأما المفعولُ الأوَّل فهو « عَشَرَة » المضافُ إليه المصدرُ ، و « مَا » موصولةٌ اسميَّةٌ ، والعائدُ محذوفٌ ، أي : من أوْسَطِ الذي تطعمُونَهُ ، وقَدَّره أبو البقاء مجروراً ب « مِنْ » ، فقال : « الَّذِي تُطْعَمُونَ مِنْهُ » ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ من شرط العائد المجرورِ في الحذف : أنْ يتَّحِدَ الحرفانِ والمتعلَّقانِ ، والحرفان هنا ، وإن اتفقا وهما « مِنْ » و « مِنْ » إلا أنَّ العامل اختلف؛ فإنَّ « مِن » الثانيةَ متعلِّقةٌ ب « تُطْعِمُون » ، والأولى متعلِّقةٌ بمحذوفٍ ، وهو الكون المطلقُ؛ لأنها وقعت صفة للمفعول المحذوف ، وقد يقالُ : إنَّ الفعلَ لَمَّا كان مُنْصَباً على قوله : « مِنْ أوْسَطِ » ، فكأنه عاملٌ فيه ، وإنما قدَّرْنَا مفعولاً لضرورة الصِّناعة ، فإن قيل : الموصولُ لم ينجرَّ ب « مِنْ » إنما انجرَّ بالإضافةِ ، فالجوابُ : أنَّ المضافَ إلى الموصول كالموصولِ في ذلك؛ نحو : « مُرَّ بِغُلامٍ الَّذي مَرَرْتُ » .
و « أهلِيكُمْ » مفعولٌ أول ل « تُطْعِمُونَ » ، والثاني محذوفٌ؛ كما تقدم ، أي : تُطْعِمُونَهُ أهْلِيكُمْ ، و « أهْلِيكُمْ » جمعُ سلامةٍ ، ونَقَصَهُ من الشروط كونُه ليس عَلَماً ولا صفةً ، والذي حسَّن ذلك : أنه كثيراً ما يُستعملُ استعمال « مُسْتَحِقٌّ لِكَذَا » في قولهم : « هُوَ أهْلٌ لِكَذَا » ، أي : مُسْتَحِقٌّ له ، فأشبه الصفاتِ ، فجُمِعَ جمعَها ، وقال تعالى : { شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا } [ الفتح : 11 ] { قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [ التحريم : 6 ] ، وفي الحديث : « إنَّ لله أهلينَ » قيل : يا رسُول الله : مَنْ هُمْ؟ قال : « قُرَّاء القرآن هم أهلُو الله وخاصَّتُه » ، فقوله : « أهلُو الله » جمعٌ حُذِفَتْ نونُه للإضافة ، ويُحتمل أن يكون مفرداً ، فيكتب : « أهْلُ الله » ، فهو في اللفظِ واحدٌ .
وقرأ جَعْفَرٌ الصَّادقُ : « أهَالِيْكُمْ » بسكونِ الياء ، وفيه تخريجانِ :
أحدهما : أنَّ « أهَالِي » جمعُ تكسيرٍ ل « أهْلَة » ، فهو شاذٌّ في القياس؛ ك « لَيْلَةٍ وليالٍ » ، قال ابنُ جِني : « أهَالٍ » بمنزلةِ « لَيَالٍ » واحدها أهلاَة ولَيْلاَة ، والعربُ تقول : أهْلٌ وأهْلَة؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
2047- وَأهْلَةِ وُدٍّ سُرِرْتُ بِوُدِّهِمْ .. .
وقياسُ قولِ أبي زيدٍ : أن تجعله جمعاً لواحدٍ مقدَّرٍ؛ نحو : أحَادِيث وأعَارِيض ، وإليه يشير قولُ ابن جنِّي : « أهالٍ بمنزلة ليالٍ واحدُها أهلاة وليْلاَة » ، فهذا يحتمل أن يكونَ [ بطريق ] السماعِ ، ويحتملُ أن يكون بطريقِ القياس؛ كما يقول [ أبو زيد .
والثاني : أنَّ هذا اسمُ جمعٍ ل « أهْلٍ » قال الزمخشريُّ : « كَالليالي في جمع لَيْلَة والأرَاضِي في جمع أرْضٍ » ] . قوله « في جَمْعِ لَيْلَةٍ ، وجمعِ أرضٍ » أرادَ بالجمعِ اللغويَّ؛ لأنَّ اسمَ الجمع جمعٌ في المعنى ، ولا يريد أنه جمعُ « لَيْلَة » و « أرْض » صناعةً؛ لانه قد فَرَضَه أنه اسمُ جمعٍ ، فكيف يجعلُه جمعاً اصطلاحاً؟ .
وكان قياسُ قراءةِ جعفرٍ تحريكَ الياءِ بالفتحة؛ لخفَّتها ، ولكنه شَبَّه الياء بالألف ، فقدَّر فيها الحركةَ ، وهو كثيرٌ في النظْمِ؛ كقول النابغة : [ البسيط ]
2048- رَدَّتْ عَلَيْهِ أقَاصِيهِ وَلَبَّدَهُ ... ضَرْبُ الوَلِيدَةِ بِالْمِسْحَاةِ في الثَّأدِ
وقول الآخر : [ الرجز ]
2049- كَأنَّ أيْديهِنَّ بِالْقَاعِ القَرِقْ ... أيْدِي جَوَارٍ يَتَعَاطَيْنَ الوَرِقْ
وقد مضى ذلك .
فصل
اختَلَفُوا في قَدْرِ هذا الإطعامِ ، فقالَ قَوْمٌ : يُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ مُداً من طعام بمُدِّ النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - وهو رَطلٌ وثُلُثٌ مِنْ غالبِ قُوتِ البَلْدَة ، وكذَلِكَ في جَمِيعِ الكفَّارَاتِ ، وهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثابتٍ ، وابْن عبَّاس ، وابن عُمَر - رضي الله عنهم - ، وبه قال سعيدُ بْنُ المُسَيِّب والحَسَن والقَاسِم ، وسُلَيْمَان بنُ يَسَار ، وعطاء ، والشَّافِعيُِّ - رضي الله تعالى عنهم - وقال أهْلُ العِرَاقِ : عليه لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّانِ - وهو نصف صاع ، ويُرْوَى ذلِكَ عَنْ عُمَرَ وعَلِيٍّ - رضي الله عنهما - .
وقال أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - : إنْ أطعم من الحِنْطَةِ فنِصْفُ صَاعٍ ، وإنْ أطعم من غيرها فصاعٌ ، وهو قول الشَّعْبِيِّ ، والنَّخْعِيِّ ، وسعيد بن جُبَيْرٍ ، ومُجَاهِد ، والحكم - رحمهم الله - ولو غدَّاهم وعشَّاهُمْ لا يجُوزُ ، وجوَّزهُ أبُو حنيفةَ - رضي الله عنه - ، ويُروَى ذَلِكَ عن عليٍّ - رضي الله عنه - ، ولا يَجُوزُ الدَّرَاهِمُ و الدَّنَانِيرُ ، ولا الخُبْزُ ، والدَّقِيقُ ، بل يَجِبُ إخْرَاجُ الحَبِّ إليْهِم ، وجوَّز أبُو حنيفةَ - رضي الله عنه - كُلَّ عشرةٍ إلى مسكينٍ واحدٍ في عشرة أيام ولا يَجُوزُ أن يُصرَف إلا إلى مُسْلِمٍ حر مُحْتَاج ، فإن صُرِفَ إلى ذِمِّيٍّ أوْ عَبْدٍ أو غَنِيٍّ لَمْ يَجُزْ ، وجوَّز أبُو حنيفةَ صرْفَهُ إلى أهْلِ الذَّمَّةِ ، واتَّفَقُوا على أنَّ صَرْفَ الزَّكَاةِ إلى أهْلِ الذَّمَّة لا يَجُوزُ .
فصل
واختلفُوا في الوسط .
فقيل : مِنْ خَيْر قُوتِ عيالِكُمْ ، والوسَطُ : الخُبْزُ [ وتقدم في البقرة في ] قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } [ البقرة : 143 ] .
وقال عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ : الأوْسَطُ الخُبْزُ والْخَلُّ ، والأعلى الخُبْزُ واللَّحْم ، والأدْنَى الخُبْزُ البحْتُ ، والكُلُّ يُجْزِئُ .
قوله تعالى : « أوْ كِسْوَتُهُمْ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه نَسَقٌ على « إطْعَام » ، أي : فكفارتُه إطعامُ عشرةٍ أو كسْوَة تلك العشرة .
والثاني : أنه عطفٌ على محلِّ « مِنْ أوْسَط » [ وهو أن يكون « مِنْ أوسط » خبراً لمبتدأ محذوفٍ يدُلُّ عليه ما قبله ، تقديرُه : طعامُهُمْ مِنْ أوْسَط ] ، فالكلامُ عنده تامٌّ على قوله « عَشرةِ مساكِينَ » ، ثم ابتدأ إخباراً آخر بأن الطعام يكونُ من أوسط كذا وأمَّا إذا قلنا : إنَّ « مِنْ أوْسَطِ » هو المفعولُ الثاني ، فيستحيل عطف « كِسْوَتُهُمْ » عليه؛ لتخالفهما إعراباً .
وقرأ الجمهور : « كِسْوتُهُمْ » بكسر الكاف . وقرأ إبراهيمُ النخعيُّ وأبو عبد الرحمن السُّلَمِيُّ وسعيدُ بنُ المُسَيِّب بضمِّها ، وقد تقدَّم في البقرة [ الآية 233 ] أنهما لغتان في المصدر ، وفي الشيء المَكْسُوِّ ، قال الزمخشريُّ : « كالقِدْوَة في القُدْوَة ، والإسْوَة في الأسْوَة » إلا أن الذي قرأ في البقرة بضَمِّها هو طلحة فلم يذكُرُوه هنا ، ولا ذكَرُوا هؤلاء هناك .
وقرأ سعيدُ بن جُبَيْر وابنُ السَّميفع : « أوْ كأسْوتِهِمْ » بكاف الجر الداخلة على « أُسْوَة » قال الزمخشريُّ : « بمعنى : أو مِثْلُ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ ، إسْرَافاً أو تَقْتيراً ، لا تُنْقصونَهُمْ عن مقْدارِ نفقتِهِمْ ، ولكنْ تواسُونَ بينهم ، فإنْ قُلْتَ : ما محلُّ الكافِ؟ قلتُ : الرفعُ ، تقديرُه : أو طعَامُهُمْ كأسوتِهِمْ ، بمعنى : كَمِثْلِ طعامهم ، إن لَمْ يُطْعِمُوهُم الأوْسَطَ » . انتهى ، وكان قد تقدم أنه يجعل « مِنْ أوسَطِ » مرفوع المحلِّ خبراً لمبتدأ محذوف ، فتكونُ الكاف عنده مرفوعةً؛ عطفاً على « مِنْ أوْسَطِ » ، وقال أبو البقاء قريباً من هذا؛ فإنه قال : « فالكاف في موضعِ رفعٍ أي : أو مِثْلُ أسْوَةِ أهْلِيكُمْ » ، وقال أبو حيان : « إنه في موضع نصْبٍ عطفاً على محلِّ : مِنْ أوْسطَ » ؛ لأنه عنده مفعولٌ ثان ، إلاَّ أنَّ هذه القراءة تنفي الكسْوةَ من الكَفَّارةِ ، وقد أجمعَ الناسُ على أنها إحدى الخصَالِ الثلاثِ ، لكن لصاحب هذه القراءة أن يقول : « اسْتُفيدتِ الكسْوةُ من السُّنَّةِ » ، أمَّا لو قام الإجماعُ على أن مستندَ الكسْوَة في الكفَّارة من الآية؛ فإنه يَصِحُّ الردُّ على هذا القارئ .
والكِسْوَةُ في اللُّغَةِ معناهُ اللِّبَاسُ ، وهو كُلُّ ما يُكْتَسَى بِه .
فصل
كُلُّ مَنْ لَزمتْهُ كَفَّارَةُ يمينٍ فهُوَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ أطْعَمَ عشْرَة مساكين ، وإن شاءَ كَسَاهُم ، وإن شاء أعْتَقَ رقبَةً ، فإن اخْتَارَ الكِسْوَة ، فاخْتَلَفُوا في قدرهَا ، فذهبَ قَوْمٌ إلى أنَّهُ يَكْسُوا كُلَّ مِسْكينٍ ثوباً واحداً مِمَّا يَقَعُ عليه اسم الكِسْوَةِ ، إزَارٌ ، أوْ رِدَاءٌ ، أو قميصٌ ، أو سراويل ، أو عمامة مقَنَّعَة ، أو كِسَاء أو نَحْوها ، وهُو قولُ ابن عبَّاس والْحَسَن ومُجاهد وعطاء وطاوُس - رضي الله عنهم - ، وإليه ذهبَ الشَّافِعيُّ - رضي الله عنه - .
وقال مالك - رضي الله عنه - : يَجِبُ لِكُلِّ إنسان ما يجُوزُ فيه صلاتُهُ ، فيكْسُوا الرجُلَ ثَوْباً والمرْأةُ ثَوْبَيْن دِرْعاً وخِمَاراً .
وقال سَعِيدُ بنُ المُسَيِّبُ : « لِكُلِّ مِسْكِينٍ ثَوْبَان » .
قوله تعالى : { أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } عطف على « إطعامُ » وهو مصدر مضاف لمفعوله ، والكلامُ عليه كالكلام على [ « إطعامُ ] عشرَةِ » من جوازِ تقديره بفعلٍ مبنيٍّ للفاعل أو للمفعول وما قيل في ذلك ، [ وقوله : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } كقوله في النساء : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ } [ النساء : 92 ] ] ، وقد تقدَّم ذلك .
فصل
المُرَادُ بالرَّقَبَةِ الجملة .
قيل : الأصْلُ في هذا المجازِ ، أنَّ الأسِير في العربِ كان يجمع إلى رقبتِهِ بحبْلٍ ، فإذا أطلقَ حلَّ ذلك الحَبْل ، فسُمِّيَ الإطلاقُ مِنَ الرَّقبَةِ فَكُّ رقبة ، وأجازَ أبُو حنيفَةَ والثَّوْرِي إعْتَاقُ الرَّقَبَةِ الْكَافِرَة في جَميعهَا ، إلاَّ كَفارَة القَتْل؛ لأنَّ اللَّه تعالى قَيَّدَ الرَّقَبة فيها بالإيمان ، قُلْنَا : المُطْلَقُ يُحْمَلُ على المُقَيَّدِ ، كما أنَّ اللَّهَ تعالى قَيَّدَ الشَّهَادَة بالعَدَالَةِ في موضعٍ فقال تعالى : { وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ } [ الطلاق : 2 ] ، وأطلق في موضعٍ فقال تعالى : { واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ } [ البقرة : 282 ] ، ثم العدالةُ مشروطةٌ في جميعها حَمْلاً للمُطْلَقِ على المُقَيَّدِ ، كذلك هذا .
ولا يجُوزُ إعْتَاقَ المُرْتَدِّ بالاتِّفَاقِ عن الكَفَّارة ، ويُشْتَرَطُ أن يكونَ سليمَ الرِّقِّ ، حتَّى لو أعْتَقَ عن كَفَّارتِهِ مُكَاتباً ، أوْ أمَّ ولدٍ ، أوْ عبداً اشْتَراه بِشَرْطِ العَتْقِ ، أو اشْتَرَى قَرِيبَهُ الذي يُعْتَقُ عليه بِنيَّةِ الكَفَّارة يعتق ، ولا يجُوزُ عن الكفَّارة .
وجوَّز أصْحَابُ الرَّأي عِتْق المُكَاتِبِ إذَا لَمْ يَكُنْ أدَّى شيئاً من النُّجُومِ ، وعِتْق القَرِيبِ عن الكَفَّارة .
ويُشترطُ أن تكُون الرَّقَبَةُ سليمةً من كُلِّ عَيْبٍ يَضِرُّ بالعمل ضَرَراً بَيِّناً ، حتَّى لا يجُوزُ مَقْطُوع إحْدَى اليَدَيْنِ ، أو إحْدَى الرِّجْلَيْن ، ولا الأعمَى ، ولا الزَّمِن ، ولا المجْنُونُ المُطْبَقُ ، ويجُوزُ الأعْوَرُ ، والأصَمُّ والمقْطُوعُ الأُذَنَيْنِ ، والأنْفِ؛ لأنَّ هذهِ العُيُوبَ لا تَضِرُّ بالعَمَلِ إضْرَاراً بَيِّناً وعند أبي حنيفَة - رضي الله تعالى عنه - كُلُّ عَيْبٍ يُفَوَّتُ جِنْساً من المَنْفَعَةِ يَمْنَعُ الجَوازَ ، حَتَّى جوَّزَ مَقْطُوعَ إحْدَى اليَدَيْن ، ولم يجوِّز مَقْطُوعَ إحْدى الأذُنَيْنِ .
فصل
معنى الواجب المخيَّر : هُوَ أنَّهُ لا يَجِبُ عليه الإتْيان بكُلِّ واحدٍ من هذه الثلاثةِ ، ولا يجُوزُ له تَرْكُ جَميعها ، ومتى أتى بأيِّ واحدٍ من هذه الثلاثةِ خَرَجَ عن العُهْدَة ، فإذا اجْتَمَعَتْ هذه القُيُود الثلاثةُ ، فذلك هو الواجِبُ المُخَيَّرُ .
وقال بعض الفُقَهَاءِ : الواجِبُ واحدٌ لا بِعَيْنِه ، وهذا الكلامُ يَحْمِلُ أمْرَيْن :
الأوَّلُ : أنْ يُقَال : الواجِبُ عليه أن يُدخِلَ واحداً من هذه الثلاثة لا بِعَيْنِهِ ، وهذا مُحَالٌ في العُقُولِ؛ لأنَّ الشَيْء الذي يَكُونُ مُعَيَّناً في نَفْسِه يَكُونُ مُمْتَنِع الوُجُودِ لذاتِهِ ، وما كان كذلك ، فإنَّهُ لا يَرِدُ به التَّكْلِيف .
والثاني : أن يُقَال : الوَاجِبُ عليه واحدٌ مُعَيَّنٌ في نَفْسِهِ وفي عِلْم الله تعالى ، إلاَّ أنَّهُ مَجْهُولُ العيْنِ عند الفاعلِ ، وذلك أيْضاً مُحَالٌ؛ لأنَّ كون ذلك الشَّيْء واجباً بِعَيْنِه في عِلْم الله تعالى هو أنَّهُ لا يجُوزُ تَرْكُهُ بِحَالٍ ، واجْتَمَعتِ الأمَّةُ على أنَّهُ يجُوزُ له تركُهُ بتَقْييدِ الإتْيَان بِغَيْرِه ، والجَمْعُ بَيْنَ هذيْنِ القوْلَيْن جمعٌ بين النَّفي والإثْبَات ، وهُو مُحَال ، وتمامُ هذا البَحثِ مَذْكُورٌ في أصُولِ الفِقْه .
فإنْ قِيلَ : أيُّ فائدةٍ لِتَقْدِيمِ الإطعامِ على العِتْقِ مع أنَّ العتقَ أفْضَلُ؟ فالجوابُ من وُجُوه :
أحدها : أنَّ المقصُودَ مِنْهُ التَّنْبِيه على أنَّ هذه الكَفَّارَة وَجَبَتْ على التَّخْيِير لا عَلَى التَّرْتيب ، لأنها لوْ وَجَبَتْ على التَّرْتِيبِ لوجَبَتِ البدَايَةُ بالأغْلَظِ .
وثانيها : قدَّم الإطعام؛ لأنَّه أسْهَلُ ، ولكَوْنِ الطَّعامِ أعمّ وُجُوداً ، والمقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ على أنَّهُ تعالى يُراعِي التَّخْفِيفَ والَّسْهِيلَ في التَّكالِيفِ .
وثالثها : أنَّ الإطعامَ أفْضَلُ؛ لأن الحُرَّ الفَقِيرَ قَدْ لا يَجِدُ طعاماً ، ولا يكونُ هُنَاكَ مَنْ يُعْطِيه الطَّعام ، فَيقعَ في الضُّرِّ .
وأمَّا العَبدُ فَيَجِبُ على مَولاَهُ إطعامُهُ وكِسْوَتُهُ .
قوله تعالى : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ } إذا عَجزَ الذي لَزِمَتْهُ كفَّارةُ اليمينِ عَنِ الإطْعَامِ ، أو الْكِسْوَةِ ، أو تَحْرِيرِ رقبةٍ ، يجبُ عليهِ صوْمُ ثلاثةِ أيَّامٍ ، والعاجزُ ألا يَفْضُل من مالهِ عن قُوتِهِ ، وقُوتِ عيالِهِ وحاجَتِهِ ما يُطْعِمُ ، أو يَكْسُو ، أو يَعْتِقُ ، فإنَّهُ يصومُ ثلاثة أيام ، وقال بعضهم : إذا مَلكَ ما يمكنه الإطْعَامُ ، وإنْ لم يَفضُل عن كِفَايتِهِ ، فليس له صِيَامٌ ، وهو قوْلُ الحَسَن ، وسعيد بن جُبَيْر .
واختلفُوا في وجوب التَّتَابعُ في هذا الصِّيَام ، فذهب جماعةٌ إلى أنَّه لا يجب فيه التَّتَابُعُ ، بل إنْ شاء تابع وإن شاء فرَّقَ ، والتَّتَابعُ أفْضَلُ ، وهُو أحد قولي الشَّافِعِيِّ - رضي الله عنه - .
وذهب قوم إلى وُجوبِ التَّتَابع فيه ، قِيَاساً على كَفَّارةِ القَتْلِ والظِّهَارِ ، وهو قَوْلُ الثَّوْرِي وأبي حنيفةَ - رضي الله تعالى عنهما - وتدلُّ عليه قِرَاءة ابن مَسْعُود - رضي الله تعالى عنه - « فصِيَام ثلاثةِ أيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ » .
وأُجِيبُ : بأنَّ القراءةَ الشَّاذَّةَ مردُودَةٌ ، إذ لَوْ كانَتْ قُرْآناً ، لنُقِلَتْ نَقْلاً مُتَوَاتراً ، ولو جوَّزنا في القُرْآن ألا ينقل متواتراً ، لَزِمَ طَعْن الرَّوَافِضِ والملاحِدَة في القُرْآن ، وذلك بَاطِلٌ ، فعِلمْنَا أن القراءة الشَّاذَّة مردُودةٌ ، فلا تَصْلحُ أنْ تكون حُجَّةً .
وأيضاً نُقِلَ عن أبَيِّ بن كعب أنَّهُ قرأ : « فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَر مُتَتَابِعَات » ، مع أنَّ التَّتَابع هُناكَ ما كان شَرْطاً وأجابُوا عَنْهُ أنَّهُ رُوِي عن النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - « أنَّ رَجُلاً قال لَهُ : عَلَيَّ أيَّامُ رمضانَ أفَأقْضِيهَا مُتفَرِّقاتٍ ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : » أرأيْتَ لوْ كَانَ عَلَيْكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَ الدِّرْهِمَ بِالدِّرْهَم أمَا كان يُجْزِيك؟ قال : بلَى قال : فاللَّه تعالى أحَقُّ أن يَغْفِرَ ويَصْفَحَ « وهذا الحَدِيثُ وإن وَقَعَ جواباً عن هذا السُّؤال في صَوْم رمضان ، إلاَّ أنَّ لَفْظَهُ عامٌّ ، وتَعْلِيلُهُ عَامٌّ في جَميعِ الصِّيَامَاتِ ، وقد ثبتَ في الأصُولِ أنَّ العِبْرة بعُمُوم اللَّفْظِ لا بِخُصُوصِ السبب ، فهذا من أقوى الدَّلائلِ على جَوازِ التَّفْرِيق هاهُنَا .
قوله تعالى : { ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } ، ذلك إشارةٌ إلى ما تقدَّم من الإطْعَام والكِسْوَة ، وتحْرِيرِ الرَّقَبَة يُكفِّر عنكم حِنْثَ اليَمِين وقْتَ حَلْفِكُمْ و » إذَا حَلَفْتُمْ « قال أبو البقاء : » منصوبٌ على الظَّرْف وناصبُه « كَفَّارة » ، أي : ذلك الإطعامُ ، أو ما عُطِفَ عليه يُكَفِّر عنْكُمْ كَفَّارةُ « ، لكان صحيحاً بمعنى تلك الأشياء ، أو التأنيث للكفَّارة ، والمعنى : » إذَا حَلَفْتُمْ حَنْثْتُم ، فترك ذِكْرَ الحِنْثِ؛ لوقوع العلْمِ بأن الكفَّارة ، إنما تَجِبُ بالحِنْثِ بالحَلِفِ لا بنَفْسِ الحَلِفِ ، كقوله تعالى : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [ البقرة : 184 ] أي : فأفْطَرَ « . ؟ ولا بد من هذا الذي ذكره الزمخشريُّ ، وهو تقديرُ الحِنْثِ ، ولذلك عِيبَ على أبي البقاء قوله : » العَامِلُ في « إذَا » كفارةُ أيْمانِكُمْ؛ لأن المعنى : ذلك يُكَفِّرُ أيْمَانكُمْ وَقْتَ حَلْفِكُمْ « ، فقيل له : الكفَّارةُ ليستْ واقعةً في وقْتِ الحَلْفِ ، فكيف يَعْمَلُ في الظرْفِ ما لا يقعُ فيه؟ وظاهرُ الآية أنَّ » إذَا « متمحِّضَة للظرفيَّةِ ، وليس فيها معنى الشرطِ ، وهو غيرُ الغالبِ فيها ، وقد يجوزُ أن تكون شرطاً ، ويكونُ جوابُها محذوفاً على قاعدةِ البصريِّين يدُلُّ عليه ما تقدَّم ، أو هو نفسُ المتقدِّم عند أبي زَيْدٍ والكوفيين ، والتقدير : إذا حَلَفْتُمْ وحَنِثْتُم ، فذلك كفارةُ إثْمِ أيْمَانِكُمْ؛ كقولهم : » أنْتَ ظَالِمٌ إنْ فَعَلْتَ « .
فصل
اخْتَلَفُوا في تقديم الكَفَّارة على الحنْثِ؛ فذَهَبَ قَوْمٌ إلى جَوَازِهِ لقَوْل النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - : « من حَلَفَ بِيَمِينٍ ، فَرأى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا ، فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ، وَلْيَفْعَل الذي هُو خَيْر » وهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَر ، وابْنِ عبَّاس وعائِشَة - رضي الله عنهم - وبه قال الحَسَنُ وابنُ سيرين ، وإليه ذهبَ مالِكٌ ، والأوْزَاعِيُّ ، والشَّافعيُّ - رضي الله عنهم - ، إلاَّ أنَّ الشَّافعيَّ يقُولُ : إن كَفَّرَ بالصَّوْمِ قبل الحنْثِ لا يَجُوزُ ، لأنه بدَنِيٌّ ، إنَّمَا يجوزُ الإطْعَامُ والكسْوَة والعِتْقُ؛ لأنَّه مَالِيٌّ ، فأَشْبَه تَعْجِيلَ الزَّكَاةِ ، كما يجُوزُ تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ على الحَوْل ، ولا يجُوزُ تَعْجِيلُ صَوْمِ رمضانَ .
قالوا : وقوله : « إذَا حَلَفْتُم » فيه دَقِيقَةٌ ، وهو التَّنْبِيهُ على أنَّ تقْدِيم الكَفَّارة قبْل اليَمِين لا يجُوز ، وأمَّا بعد اليمين وقبل الحنْثِ فيجُوز ، لانعِقَادِ سببها وهو اليمينُ ، فصارت كمِلْكِ النِّصاب .
وقال أبو حنيفةَ - رضي الله عنه - : لا يجُوزُ تقديم الكَفَّارَة على الحنْثِ .
قوله تعالى : { واحفظوا أَيْمَانَكُمْ } قيل : المرادُ به تَرْكُ الحَلْفِ ، أي : لا تحلِفُوا ، وقِيل : المُرَادُ تَقْلِيلُ الأيْمان ، أي : لا تُكثِروا مِنْهَا .
قال الشَّاعر : [ الطويل ]
2050- قَليلُ الأَلايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ ... فإنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الألِيَّةُ بَرَّتِ
والصحيحُ : أنَّ المُرَادَ : حِفْظُ اليمينِ على الحنْثِ ، هذا إذا لم يكن حلف بِيَمينِهِ على ترْكِ مَنْدُوبٍ أو فعلٍ مكرُوهٍ ، فإن حَلَفَ على تَرْكِ مَنْدُوبٍ أو فِعْلِ مَكْرُوهٍ ، فالأفْضَلُ أن يُحنِثَ نَفْسَهُ ويُكَفِّر للحَدِيثِ المُتقدِّم .
قوله تعالى : « كَذِلِكَ » هذه الكاف نعتٌ لمصدر محذوف عند جماهير المُعْربين ، أي : يبيِّن الله آياته تبييناً مثل ذلك التبيين ، وعند سيبويه أنه حالٌ من ضميرِ ذلك المصْدَرِ على ما عُرِفَ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)
هذا هو النَّوْعُ الثَّالثُ من الأحْكَامِ المذكُورَةِ هُنَا ، ووجهُ اتِّصاله بما قبله ، أنَّه - تعالى - قال : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ } [ المائدة : 87 ] ، إلى قوله تعالى : { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً } [ المائدة : 88 ] ، ثم كان من جُمْلَةِ الأمُورِ المستَطَابَة للجُمْهُورِ الخَمْرُ والمَيْسِرُ ، فبيَّن الله - تعالى - أنَّهُمَا غير دَاخِلَيْن في المُحَلَّلات ، بل في المُحرَّمَات ، وقد تقدَّم بَيَانُ الخَمْرِ والمَيْسِر في سُورة البَقرَة [ البقرة 219 ] ، وبيان الأنْصَاب والأزلام في أوَّل هذه السُّورة [ المائدة 3 ] .
وفي اشتِقَاقَ الخَمْرِ وجهان :
أحدهما : سُمِّيَ خَمْراً لِمُخَامَرَته العقل ، أي : خَالَطَتْهُ فَسَتَرَتْهُ .
الثاني : قال ابنُ الأعْرَابِي : تُرِكَتْ فاخْتَمَرَتْ ، أي : تَغَيَّر رِيحُهَا .
فصل
قال القُرْطُبِي : تحريمُ الخَمْرِ كان بالتَّدْرِيج ونَوازِلَ كَثِيرة ، لأنَّهُمْ كانوا مُولَعِينَ بشُرْبِهَا ، وأوَّلُ ما نزلَ في أمْرِهَا : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } [ البقرة : 219 ] ، أي : في تِجَارَتِهِم ، فلما نَزلَتْ هذه الآيةُ تركَهَا بَعْضُ النَّاس ، وقالُوا : لا حَاجَةَ لنا فِيمَا يَشْغَلُنَا عَنِ الصلاة ، وشَرِبَهَا بَعْضُهُمْ في غَيْرِ أوقاتِ الصَّلاة ، حتى نَزَلَتْ هذه الآيَةُ ، فصارتْ حَرَاماً عَلَيْهم ، وذلك في ستة ثلاث من الهِجْرَة بعد وَقْعَةِ أُحُد .
قوله تعالى : « رجسٌ » : خبرٌ عن هذه الأشياء المتقدِّمة ، فيقال : كيف أخبر عن جَمْع بمفردٍ؟ فأجاب الزمخشريُّ بأنه على حَذْف مضافٍ ، أي : إنما شأنُ الخَمْرِ ، وكذا وكذا ، ذكر ذلك عند تعرُّضِه للضَّميرِ في « فاجْتَنِبُوهُ » كما سيأتي ، وكذا قدَّره أبو البقاء ، فقال : « لأنَّ التقدير : إنما عَمَلُ هذه الأشياء » . قال أبو حيان بعد حكايته كلامَ الزمخشريِّ : ولا حاجة إلى هذا ، بل الحكم على هذه الأربعة نفسها أنَّها رِجْسٌ أبلغُ من تقدير هذا المضاف؛ كقوله : { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] ، وهو كلامٌ حسن ، وأجاب أبو البقاء أيضاً بأنه يجوزُ أن يكونَ « رِجْسٌ » خبراً عن « الخَمْر » ، وحُذِفَ خبرُ المعطوفاتِ؛ لدلالةِ خبر الأولِ عليها ، قال شهاب الدين : وعلى هذا : فيجوزُ أن يكونَ خبراً عن الآخر ، وحُذِفَ خبرُ ما قبله؛ لدلالةِ خبر ما بعده عليه؛ لأنَّ لنا في نحو قوله تعالى : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] هذين التقديرين ، وقد تقدَّم تحقيقُهما مراراً .
والرجسُ قال الراغب : « هو الشيْءُ القَذِرُ ، رجلٌ رِجْسٌ ، ورِجَالٌ أرْجَاسٌ » ، ثم قال : « وقيل : رِجْسٌ ورِجْزٌ للصَّوْت الشديد ، يقال : بَعِيرٌ رَجَّاسٌ : شديدُ الهدير ، وغمامٌ راجِسٌ ورجَّاسٌ : شديدُ الرعْد » ، وقال الزجَّاج : هو اسمٌ لكلِّ ما استُقْذِرَ من عمل قبيحٍ ، يقال : رَجِسَ ورَجَسَ بكسر الجيم وفتحها يَرْجُسُ رِجْساً إذا عمل عملاً قبيحاً ، وأصله من الرَّجْسِ بفتح الراء ، وهو شدة صوت الرعد؛ قال : [ الرجز ]
2051- وَكُلُّ رَجَّاسٍ يَسُوقُ الرَّجْسَا ... وفرَّق ابن دُرَيْدٍ بين الرِّجْسِ والرِّجْزِ والرِّكْسِ ، فجعل الرِّجْسَ : الشرَّ ، والرِّجْزَ : العذابَ ، والرِّكْسَ : العَذِرةَ والنَّتْنَ ، ثم قال : « والرِّجْسُ يقال للاثْنَيْنِ » ، فتحصَّلَ من هذا؛ أنه اسمٌ للشيءِ القَذِرِ المنتنِ ، أو أنه في الأصل مصدرٌ .
وقوله تعالى : { مِّنْ عَمَلِ الشيطان } في محلِّ رفعٍ؛ لأنه صفةٌ ل « رِجْس » .
وهذا أيْضاً مُكَمِّلٌ لكونِهِ رجْساً؛ لأنَّ الشَّيطان نَجْسٌ خَبِيثٌ؛ لأنه كَافِرٌ ، والكَافِرُ نَجسٌ لقوله تعالى { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] والخبيث لا يَدْعُو إلاَّ إلى الخَبِيثِ لقوله تعالى : { الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ } [ النور : 26 ] والهاء في « فَاجْتَنِبُوهَ » تعودُ على الرِّجْس ، أي : فاجتنبُوا الرِّجْسَ الذي أخْبَرَ به مما تقدَّم من الخَمْر وما بعدها ، وقال أبو البقاء : « إنها تعود على الفِعْلِ » ، يعني الذي قدَّره مضافاً إلى الخَمْر وما بعدها ، وإلى ذلك نحا الزمخشريُّ أيضاً ، قال : « فإنْ قلتَ : إلامَ يَرْجِعُ الضميرُ في قوله : فاجتنبُوهُ؟ قلت : إلى المضافِ المحذوفِ ، أو تعاطيهمَا ، أو ما أشبه ذلك ، ولذلك قال : رِجْسٌ من عَمَلِ الشَّيْطَانِ » ، وقد تقدَّم أن الأحْسَنَ : أن هذه الأشياء جُعِلَتْ نفسَ الرِّجْسِ مبالغةً .
قوله تعالى : « فِي الخَمْرِ » : فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه متعلق ب « يُوقِعَ » ، أي : يُوقعَ بينكم هذين الشيئينِ في الخمر ، أي : بسبب شرْبها ، و « في » تفيد السسببيةَ؛ كقوله عليه السَّلام : « إنَّ امرأةً دخلتِ النَّارَ في هِرَّةٍ » .
الثاني : أنها متعلِّقة بالبغضاء؛ لأنه مصدر معرف ب « ألْ » .
الثالث : أنه متعلقٌ ب « العداوة » ، وقال أبو البقاء : « ويجوزُ أن تتعلَّق » في « بالعداوة ، أو ب » البَغْضَاء « ، أي : [ أنْ ] تَتَعادَوْا وأنْ تَتَبَاغَضُوا بسبَبِ شُرْبِ الخَمْرِ » ؛ وعلى هذا الذي ذكره : تكونُ المسألةُ من باب التنازعِ ، وهو الوجهُ الرابع ، إلاَّ أنَّ في ذلك إشكالاً ، وهو أنَّ من حقِّ المتنازعين؛ أن يصلُحَ كلٌّ منهما للعملِ ، وهذا العاملُ الأولُ ، وهو العداوة ، لو سُلِّط على المتنازعِ فيه ، لزم الفصلُ بين المصدر ومعموله بأجنبيٍّ وهو المعطوف ، وقد يقال : إنه في بعضِ صُورِ التنازع يُلْتَزَمُ إعمالُ الثاني ، وذلك في فِعْلَي التعجُّبِ ، إذا تنازعا معمولاً فيه ، وقد تقدَّمَ مُشْبَعاً في البقرة .
فصل في مفاسد الأشياء المذكورة في الآية
اعلم أنَّه تعالى لمّا أمَرَ باجْتِنَابِ هذه الأشياءِ ، ذكر فِيهَا نوعَيْنِ من المَفْسَدَة :
الأول : ما يتعلَّقُ بالدُّنْيَا وهُوَ قولُهُ تعالى { إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر } .
والثاني : المَفْسَدَةُ المُتعلِّقَةُ بالدِّين ، وهو قولُهُ تعالى : { وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة } .
فأمَّا شَرْحُ هذه العداوة [ والبغضاء أولاً في الخَمْر ثمَّ في المَيْسِر ] : وأمَّا الخَمْرُ ، فاعْلَم : أنَّ الظَّاهر فيمَنْ يَشْرَبُ الخَمْرَ ، أنَّه يَشْرَبُهَا مع جَمَاعةٍ ، ويكونُ غَرَضُهُ الاسْتِئْنَاس برُفَقَائِهِ ، ويفرحُ بِمُحَادثَتِهمْ ، ويكون بذلك الاجْتِمَاع تأكيدُ المَحَبَّةِ والألْفَةِ ، إلاَّ أنَّ ذلِكَ في الأغْلَبِ ينقلبُ إلى الضِّدِّ؛ لأنَّ الخَمْرَ يُزيلُ العَقْلَ ، وإذا أزَالَ العَقْلَ اسْتَوْلَتِ الشَّهْوَةُ والغَضَبُ من غير مُدَافَعَةِ العقل ، وعند اسْتِلائِهما تَحْصُلُ المُنازَعَةُ بين أولَئِكَ الأحْبَاب ، وتِلْكَ المُنَازَعَةُ رُبَّما أدَّتْ إلى الضَّرْبِ والقَتْلِ ، والمُشافَهَةِ بالفُحْشِ ، وذلك يُورِثُ أشَدَّ العداوةِ والبَغْضَاء ، كما فعل الأنْصَارِيُّ الذي شَجَّ رأسَ سَعْد بن أبي وقّاص بلحي الجَمَل .
ورُوِيَ أن قَبيلَتَيْنِ من الأنْصَارِ شَرِبُوا الخَمْرَ ، وانْتَشَوْا فَعَبَث بعضُهم على بَعْض ، فلما [ صَحَوْا رأى بعضُهُم في وجْهِ ] بعْضٍ آثَار ما فَعلُوا ، وكانوا إخْوَةً ليْسَ في قُلُوبِهِمْ ضَغَائِن ، فجعل بَعْضُهُم يقُولُ : لو كان أخي بي رَحيماً ما فعل بِي هذا ، فحدثَتْ بَيْنَهُم الضَّغَائِنُ ، فالشَّيطان يُسَوِّلُ أنَّ الاجتماعَ على الشُّرْبِ يوجِبُ تَأكِيدَ الألْفَةِ والمَحَبَّةِ بين الأخوة ، فينْقَلِبُ الأمْرُ ، وتحصُلُ العداوَةُ والبَغْضَاءُ .
وأمَّا المَيْسِرُ ، ففيه بإزَاءِ التَّوْسِعَةِ على المُحْتَاجِينَ من الإجْحَافِ بأرْبَابِ الأمْوالِ؛ لأنَّ من صارَ مَغْلُوباً في القُمَارِ مَرَّةً ، دَعَاهُ ذلك إلى اللِّجَاحِ فيه ، يَرْجُو بذلِكَ إلى أنْ يَصِيرَ غَالِباً ، وقد يتَّفِقُ أنَّه لا يَحْصُلُ لَهُ ذلك ، إلى أن لا يَبْقَى لَهُ شيءٌ من المَالِ ، وإلى أن يُقَامِرَ على لحْيَتِهِ وأهْلِهِ وَوَلَدِهِ .
قال قتادةُ : كان الرَّجُلُ يُقامِرُ على الأهْلِ والمالِ ، ثم يَبْقَى مَسْلُوبَ الأهْل والمالِ ، ولا شكَّ أنَّه يَبْقَى بعد ذلك فَقِيراً مِسْكِيناً ، ويصيرُ من أعْدَى الأعْدَاءِ لأولئكَ الذين غلبُوه ، فَظَهَر أنَّ الخَمْرَ والمَيْسِر سبَبَانِ عَظِيمَان في إثَارَةِ العَدَاءِ والبغْضَاءِ بين النَّاسِ ، والعداوةُ والبَغضَاءُ تُفْضِي إلى أحْوالٍ مَذْمُومَةٍ من الهرَج والمَرجِ والفِتَنِ ، وذلك مُضَادٌّ لمصالِحِ العِبَادِ .
فلو قِيلَ : لما جمع الخَمْرَ والمَيْسر مع الأنْصَاب والأزلامِ ، ثم أفرَدَهُمَا في آخر الآية .
قلنا : لأنَّ لهذه الآيَةِ خِطَابٌ مع المُؤمنين ، لقوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر } والمقصُودُ نَهْيُهُم عن الخَمْرِ والميْسِر ، وإنَّما ضمَّ الأنْصَابَ والأزْلاَم إلى الخَمْرِ والميْسِرِ ، إظهاراً أنَّ هذه الأرْبَعَة مُتَقَارِبةٌ في القُبْح والمفْسَدَة ، فلما كان المَقْصُودُ من الآيَةِ النَّهْي عن الخَمْرِ والميْسِر ، لا جَرَم أفَردهُمَا في آخِرِ الآيَةِ بالذِّكْرِ .
قال شهاب الدين : ويظهرُ شيءٌ آخرُ ، وهو أنه لم يُفْردِ الخَمْرَ والميْسِرَ بالذِّكْر [ آخراً ] ، بل ذَكَرَ مَعهُمَا شيئاً يَلْزَمُ منه عدمُ الأنصاب والأزلام [ فكأنه ] تكملة ذكر الجميع ، بيانه أنه قال : « في الخَمْرِ والميسِرِ ويَصُدُّكُمْ عنْ ذِكْرِ الله » بعبادة الأنْصَاب أو بالذبحِ عليها للأصنام على ما علم تفسيره أوَّلَ السُّورة ، و « عن الصلاةِ » باشتغالِكم بالأزْلام ، وقد تقدَّم فَذِكْرُ الله والصَّلاة مُنَبِّهَانِ على الأنْصَاب والأزلام .
وأمَّا النَّوع الثَّانِي من المفاسِد الموجُودة في الخَمْرِ والميْسِر : المفَاسِدُ المتعلِّقةُ بالدِّينِ ، وهو قوله تعالى : { وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة } ، أمَّا كَوْنُ شُرْبِ الخَمْرِ يَمْنَعُ عن ذِكْرِ اللَّه وعن الصَّلاة ، فظاهرٌ؛ لأنَّ شُرْبَ الخَمْرِ يُورِثُ الطَّربَ واللَّذَّة الجُسْمَانيَّة ، والنَّفسُ إذا اسْتَغْرَقَت في اللَّذَّات الجُسْمانِيَّة ، غَفلَتْ عن ذِكْرِ اللَّه وعن الصَّلاة ، وأمَّا كونُ الميْسِر مانِعاً عن ذكر اللَّه وعن الصلاة ، إنْ كانَ غَالِباً صارَ استغراقُهُ في لذَّةِ الغلبَةِ من أنْ يَخْطُر بِبَالِه شيءٌ سِوَاه ، وإن صَارَ مَغْلُوباً صار شِدَّة اهتمامِه بأنْ يحْتَال بحِيلَةٍ ، حتَّى يَصِيرَ غَالِباً مَانِعاً من أنْ يَخْطُرَ بِبَالِهِ شَيءٌ سواه ، ولا شكَّ أنْ هذه الحالةَ مما يَصُدُّ عَنْ ذِكرِ اللَّهِ وعن الصَّلاة ، ولمَّا بيَّن تعالى اشْتِمَال شُرْبِ الخَمْرِ ، واللَّعِب بالميْسِر على هذه المفاسِدِ العَظِيمَةِ في الدِّينِ ، قال تعالى { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } .
فصل
قال القُرْطُبِي : فَهِمَ الجُمْهُورِ من تَحْرِيم الخَمْرِ ، وإطلاقِ الرِّجْس عليها ، والأمْر باجْتِنَابِهَا ، الحكم بِنَجَاسَتِهَا ، وخَالَفَهُمْ في ذلك رَبيعَةُ ، واللَّيْثُ بنُ سَعْد ، والمُزَنِيُّ ، وبَعْضُ المُتَأخِّرِين من البَغْدَادِيِّين والقَرَويِّين ، وقالُوا : إنَّها طَاهِرَةٌ وأنَّ المُحرَّمَ إنما هو شُربُهَا؛ لأنَّ المَيْسِر والأنْصَاب والأزْلامَ ليسوا بِنَجسٍ ، فكذلِكَ الخَمْرُ ، ولجواز سَكْبِهَا [ في ] طُرُقِ المدينَةِ ، مع نَهْيِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - عن التَّخَلِّي في الطريق .
قوله تعالى : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } هذا الاستفهامُ فيه معنى الأمر ، أي : انْتَهُوا .
رُوِيَ أنَّه لمَّا نزلَ قوْلُ اللَّهِ تعالى : { لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى } [ النساء : 43 ] قال عُمَر بنُ الخطَّابِ - رضي الله تعالى عنه - : « اللَّهُمَ بيِّن لَنَا في الخَمْرِ بَيَاناً شافياً » فلما نَزَلَتْ هذه الآيَةُ قال عُمَرُ - رضي الله عنه - : « انْتَهَيْنَا يا رَبِّ ، انْتَهَيْنَا يَا ربِّ » ويدلُّ على أن المراد منه الأمر أيضاً : عطفُ الأمر الصَّريحِ عليه في قوله « وأطيعُوا » ، كأنه قيل : انتهوا عن شُرْبِ الخَمْرِ ، وعن كذا ، وأطِيعُوا ، فمجيءُ هذه الجملةِ الاستفهاميةِ المصدَّرة باسْم مُخْبَرٍ عنه باسمِ فاعلٍ دالٍّ على ثبوتِ النهي واستقراره - أبلغُ من صريح الأمر .
قال ابنُ الخطيب : وإنما حَسُنَ هذا المجازُ؛ لأنَّ الله تعالى ذمَّ هذه الأفعالَ ، وأظْهَرَ قُبْحَهَا للمُخَاطَبِ ، فلما استفهم بَعْدَ ذَلِكَ عن تَرْكِهَا ، لم يَقْدِر المُخَاطبُ إلاَّ على الإقْرَارِ بالتَّرْكِ ، وكأنَّه قِيلَ لَهُ : أتَفْعَلُه وقَدْ ظَهَر من قُبحهِ ما ظَهَر؛ فصار { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } ؛ جَارِياً مُجْرَى تنصِيصِ اللَّهِ تعالى على وُجُوبِ الانْتِهَاءِ ، مَقْرُوناً بإقْرَارِ المُكَلَّفِ بوجوبِ الانْتِهَاءِ .
واعلم : أنَّ هذه الآيةُ دالَّةٌ على وُجوبِ تحريم شُرْبِ الخَمْرِ من وُجُوهٍ :
أحدها : تَصْدِيرُ الجُمْلَة ب « إنَّما » وهي لِلْحَصْرِ ، فَكَأنَّهُ قال : لا رِجْسَ ولا شَيءَ من أعْمَالِ الشَّيْطَانِ إلاَّ هذِهِ الأربَعَةُ .
وثانيها : أنَّهُ تعالى قَرَنَ الخَمْرَ والميْسِر بِعبَادةِ الأوْثَان ، ومنه قولُهُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « شَارِبُ خَمْرٍ كَعَابدٍ وثَنٍ » .
وثالثها : قال « لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون » ، جعلَ الاجْتِنَاب من الفلاحِ ، وإذا كان الاجْتِناب فَلاَحاً ، كان الارْتِكَابُ خَيْبَةً .
ورابعها : ما تقدَّم من اشْتِمَال الاسْتِفْهَامِ على المَنْفِي .
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)
وخامسها : قوله تعالى بعد ذلك : { وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول واحذروا } وظاهرُ الأمْرِ بالطَّاعَةِ ، فيما تقدَّم ذكرُه من أمرهم بالاجْتِنَابِ عَنِ الخمْرِ والميْسِر .
وقوله « واحْذَرُوا » أي : احْذَرُوا عن مُخَالَفتهِمَا في هذا التَّكْلِيفِ .
وسادسها : قوله تعالى : { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ } ، وهذا تَهْدِيد عَظِيمٌ ووعيدٌ شَدِيدٌ في حقِّ من خَالَفَ في هذا التَّكْلِيفِ ، وأعْرَضَ عن حُكْمِ اللَّهِ تعالى؛ لأنَّ مَعْنَاه إنْ تَوَلَّيْتُم فالحُجَّةُ قد قَامَتْ عَلَيْكُمْ ، والرَّسُول قد خَرَجَ عن عُهْدَةِ التَّبْلِيغِ والإعْذَارِ ، فأمَّا ما وراء ذلِكَ من عِقَابِ من خَالَفَ هذا التَّكْلِيف وأعرض ، فذَلِكَ إلى اللَّهِ تعالى ، وهذا تَهْديدٌ عظيمٌ ، وهذا نصٌّ صَرِيحٌ في أنَّ كلَّ مُسكرٍ حرَامٌ؛ لاشْتِمَالِهِ على ما تَشْتَمِلُ عليه الخَمْرُ .
قال - عليه الصَّلاة والسلام - : « كلّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وإن حتماً على اللَّهِ أنْ لا يَشْرَبَهُ عبْدٌ في الدُّنيا إلاَّ سَقَاهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَة من طِينَةِ الخَبَالِ ، هَلْ تَدْرُونَ مَا طِيْنَةُ الخَبَالِ؟ » قلنا : لا . قال : « عَرَقُ أهْلِ النَّارِ » ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : « مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فِي الدُّنْيَا ، ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا في الآخِرَةِ » .
وعن ابن عُمَرَ - رضي الله عنهما - أنَّهُ قال : أشْهَدُ أنِّي سَمِعْتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - وهو يقُولُ : « لَعَنَ اللَّهُ الخَمْرَ وشَاربَهَا وساقِيهَا وبَائِعَهَا ومُبْتَاعَهَا وعاصِرهَا ومُعْتَصِرهَا وحَامِلَهَا والمحمولةَ إلَيْه وآكِلَ ثَمَنِهَا » .
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
سبَبُ نزولِ هذه الآيَةِ : أنَّ الصَّحابَةَ - رضي الله عنهم - أجمعين ، لمَّا نزلَ تَحْريمُ الخَمْرِ ، قالوا : يا رسُول اللَّهِ كَيْفَ بإخوَانِنَا الَّذِين مَاتُوا وهم يَشْرَبُونَ الخَمْرَ ، ويأكُلُون من مالِ الميْسِر؛ فنزلت هذه الآيةُ ، والمعنى لا إثْمَ عليْهم؛ لأنَّهُم شَرِبُوها حال ما كَانَتْ مُحَلَّلَةً ، وهذه الآيةُ مُشَابِهَةٌ لقوله تعالى في نَسْخِ القِبْلَةِ من بَيْتِ المقْدِسِ لِلْكَعْبَةِ : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [ البقرة : 143 ] أي : أنَّكُم حين اسْتَقْبَلْتُمْ بَيْتَ المَقْدِس ، اسْتَقْبَلْتُمُوه بأمْرِي ، فلا أضَيِّعُ ذلك .
قوله تعالى : { إِذَا مَا اتقوا } : ظرفٌ منصوبٌ بما يُفْهَمُ من الجملة السابقة ، وهي : « لَيْسَ » وما في حَيِّزها ، والتقدير : لا يَأثَمُونَ ، ولا يُؤاخَذُونَ وقْتَ اتِّقائهم ، ويجوزُ أن يكون ظَرْفاً محْضاً ، وأن يكونَ فيه معنى الشرط ، وجوابه محذوفٌ ، أو متقدِّمٌ على ما مَرَّ .
فصل
الطعَامُ في الأغْلَبِ من اللُّغَةِ خلاف الشَّرَاب ، ولذلك يُقَالُ : الطعم خلافُ الشُّرْب ، إلاَّ أن اسم الطعام يقعُ على المَشْرُوبات ، كقوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني } [ البقرة : 249 ] ، وعلى هذا يجُوزُ أن يكون قوله : « فِيمَا طَعِمُوا » أي : شَرِبُوا الخَمْرَ ، ويجوزُ أن يَكُونَ معنى الطَّعْمِ راجعاً إلى التَّلَذُّذِ بما يُؤكَلُ ويُشْرَبُ .
وقد تقُولُ العربُ : تطعّم حتى تطعم أي : ذُق حتى تَشْتَهِيَ ، فإذا كانَ مَعْنَى الكَلِمَة راجِعاً إلى الذَّوقِ ، صَلُحَ لِلْمأكُولِ والمشْرُوبِ معاً .
فإن قيل : إنهُ تعالى شَرَطَ نَفْيَ الجناح بِحُصُولِ التَّقْوَى والإيمان مرَّتَيْن ، وفي المَرَّةِ الثَّالِثَةِ : بحُصُولِ التَّقْوَى والإحْسَان .
وللنَّاس في هذا قولان :
أحدهما : أنَّ هذا من باب التوكيد ، ولا يَضُرُّ حرفُ العطف في ذلك؛ كقوله تعالى : { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ التكاثر : 3 ، 4 ] ، حتى إنَّ ابن مالكٍ جعل هذا من التوكيدِ اللفظيِّ المبوبِ له في النحو .
والثاني : أنه للتأسيس ، إلا أنَّه جعل التغايُرَ حاصلاً بتقديرِ المتعلّقاتِ .
واختلفُوا في تَفْسِير هذه المراتبِ الثَّلاثةِ على وجوه :
أحدها : قال الأكْثَرُونَ : الأوَّل : عَمَلُ الاتِّقَاء .
والثاني : دوامُ الاتِّقاء والثبَات عليه .
والثالث : اتقاء ظُلم العباد مع ضم الإحسان إليه .
وثانيها : أن الأول اتِّقَاء جميع المعاصِي قَبْلَ نُزُول هذه الآيَة .
والثاني : اتِّقَاء الخَمْرِ والميْسِر وما في هذه الآية .
والثالث : اتِّقَاء ما يَجِبُ تَحْرِيمُهُ بعد هذه الآية [ وهذا قول الأصَمِّ ] .
وثالثها : اتَّقُوا الكُفْرَ ثمَّ الكبائِر ، ثُمَّ الصَّغَائر .
ورابعها : قال القفَّال - رحمه الله تعالى - : التَّقْوى الأولى عبارةٌ عن الاتقاء من القَدْحِ في صِحَّةِ النَّسْخِ؛ وذلك لأنَّ اليَهُود يقولُون : النَّسخ يدُلُّ على البداء ، فأوْجَبَ على المُؤمنين عند سمَاع تَحْرِيم الخَمْر ، بَعْدَ أنْ كانَتْ مُبَاحَة أنْ يَتَّقوا عن هذه الشُّبْهَةِ الفَاسِدَةِ .
والتقوى الثانية : الإتْيَان بالعَمَلِ المُطَابِق لهذه الآيَة وهي الاحتِرَاز عن شُرْبِ الخَمْرِ . والتقوى الثالثة : عِبَارة عن المُداومةِ على التَّقْوى المَذْكُورَةِ في الأولى والثانِية ، ثم يَضُمُّ إلى هذه التَّقْوى الإحسَان إلى الخَلْقِ .
وخامسها : أنَّ المَقْصُود من هذا التَّكْرير التَّأكيدُ ، والمُبالغَةُ في الحَثِّ على الإيمانِ ، فإن قيل : لِمَ شرطَ دَفْعِ الجُنَاحِ عن تناوُلِ المطْعُومات بِشَرْط الإيمان والتَّقْوى؛ مع أنَّ المَعْلُوم أن من لم يُؤمِن ومن لَمْ يتَّقِ ، ثُمَّ تناول شَيْئاً من المُبَاحَاتِ فإنَّه لا جُناح عليْه في ذلك التَّنَاوُلُ ، بل إنما عليه جُنَاحٌ في تَرْكِ التَّقْوى والإيمَان ، إلاَّ أن ذلك لا تعلُّق له بِتَنَاوُل ذلِكَ المُبَاح ، فذكرُ هذا الشَّرْط في هذا المَعْرِض غَيْرُ جَائِزٍ .
فالجوابُ : لَيْسَ هذا اشْتِرَاطٌ ، بل لِبَيَانِ أنّ أولَئِكَ الأقْوَام الذين نَزَلَتْ فيهِمْ هذه الآيَةُ ، كَانُوا على هذه الصِّفَةِ ثَنَاءً عَلَيْهِم ، وحَمْداً لأحْوَالهم في الإيمَان والتَّقْوَى والإحْسَان . ومثَالُهُ أنْ يُقال لك : « هَلْ عَلَى زَيْدٍ فيما فَعَل جُنَاحٌ » ، وقد عَلِمْتَ أنَّ ذلك الأمْرَ مُبَاحٌ؛ فتقول : ليس على أحَدٍ جُنَاح في المُبَاحِ إذا اتَّقَى المَحَارِمَ وكان مُؤمِناً مُحْسِناً ، تريدُ أنَّ زَيْداً إنْ بَقِي مُؤمِناً مُحْسِناً ، فإنَّه غير مُؤاخَذٍ بما فَعَل .
فصل
قال ابن الخطيب : زَعَم بَعْضُ الجُهَّال : أنَّ [ اللَّه ] تعالى لمَّا بيَّن في الخَمْرِ أنَّها مُحَرَّمَةٌ عِنْدَما تكُون مُوقِعَةً لِلْعَدَاوَة والبَغْضَاء ، وصَادَّة عن ذِكْرِ اللَّه وعن الصَّلاة ، بيَّن في هذه الآيَةِ أنَّه لا جُنَاح على من طَعمَها ، إذا لم يَحْصُل مَعَهُ شَيْءٌ من تلك المفاسِدِ ، بل حَصَّل أنْواع المَصَالِح من التَّقْوَى والطَّاعَة والإحْسَانِ إلى الخَلْقِ ، قالوا : ولا يُمْكِنُ حَمْلُه على أحْوالٍ من شُرْب الخَمْرِ قبل نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيم؛ لأنه لو كان المُرَادُ ذلك لقالَ : ما كان جُنَاحٌ على الَّذِين طَعِمُوا ، كما ذكر مِثْل ذلك في آيَة تحْويل القِبْلَةِ ، فقال : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [ البقرة : 143 ] ولكنه لم يَقُلْ ذلك ، بل قال : { لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } ، إلى قوله تعالى : { إِذَا مَا اتقوا وَآمَنُواْ } ، وهذا للمُسْتَقْبَلِ لا لِلْمَاضِي ، وهذا القولُ مردودٌ بإجْماعِ الأمَّةِن وقولهم : إنَّ كَلِمَة « إذَا » للمُسْتَقبلِ ، فجوابه : ما رَوَى أبُو بَكْر الأصَمّ - رحمه الله - أنَّه لمَّا نزل تَحْرِيم الخَمْرِ ، قال أبُو بكر - رضي الله عنه - : يا رسُول الله كيف بإخْوانِنَا الَّذِين ماتُوا ، وقد شَرِبُوا الخَمْرَ ، وفَعَلُوا القُمَار ، وكيف بالغائبين عَنَّا في البُلْدانِ لا يَشْعُرونَ أنَّ اللَّهَ حرَّم الخَمْرَ وهم يَطْعَمُونَهَا؛ فأنْزَلَ اللَّهُ هذه الآيَة ، لكن في حَقِّ الغَائِبين الذين لَمْ يَبْلُغْهُم هذا النَّصُّ .
قوله تعالى : { والله يُحِبُّ المحسنين } أي : أنَّه تعالى ما جَعَلَ الإحْسَان شَرْطاً في نَفْيِ الجُنَاح فقط ، بل وَفِي أنْ يحبَّهُ اللَّهُ ، وهذا أشْرَفُ الدرَجَات .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)
اللام جواب قسم محذوفٍ ، أي : واللَّهِ ، ليَبْلُونَّكُمْ ، وقد تقدَّم أنه تَجِبُ اللامُ وإحدى النونَيْن في مثل هذا الجواب واللام في « لَيْبلونَّكُمْ » مفتوحة لالتقاء الساكنين . قوله تعالى : « بِشَيءٍ » متعلِّقٌ ب « لَيَبلُونَّكُمْ » أي : لَيَخْتبرنَّكُمْ بشيءٍ؛ وقوله تعالى : « مِنَ الصَّيْدِ » : في محلِّ جرٍّ صفةً ل « شَيْء » فيتعلَّقُ بمحذوف ، و « مِن » الظاهرُ أنها تبعيضيةٌ؛ لأنه لم يُحَرِّم صيدَ الحلال ، ولا صيدَ الحِلِّ ، ولا صيد البْحرِ ، وقيل : إنها لبيان الجِنْسِ ، وقال مكيٌّ : « وقيل » مِنْ « لبيان الجنس ، فلما قال » بِشَيء « لم يُعْلَمْ من أي جنْسٍ هو : فبيَّن ، فقال : » مِنَ الصَّيْدِ « ؛ كما تقولُ : لأعْطِيَنَّكَ شَيْئاً مِنَ الذَّهَب » ، وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء ، ثم قال : « وقيل : إنَّها للتبعيض » ، وكونُها للبيان فيه نظرٌ؛ لأنَّ الصَّحيحَ أنها لا تكونُ للبيان ، والقائلُ بأنها للبيان يُشْترطُ أنْ يكونَ المُبَيَّنُ بها معرَّفاً بألِ الجنسيَّة؛ كقوله : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] ، وبه قال ابن عطيَّة أيضاً ، والزَّجَّاج هو الأصل في ذلك ، فإنه قال : وهذا كما تقولُ : « لأمْتَحِنَنَّكَ بِشَيْءٍ مِنَ الرِّزْقِ » ، وكما قال تعالى : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] .
والمرادُ بالصَّيْد : المَصِيدُ ، لقوله تعالى : { تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } والصَّيْدُ إذا كان بِمَعْنَى المصدرِ يكون حدثاً ، وإنما يُوصفُ بِنَيْلِ الأيْدِي والرِّمَاحِ ما يكونُ عَيْناً .
قوله تعالى : « تَنَالُهُ » في محلِّ جر؛ لأنَّه صفةٌ ثانيةٌ ل « شَيْء » ، وأجاز أبو البقاء أن يكون حالاً : إمَّا من الصَّيْد ، وإمَّا من « شَيْء » ، وإن كان نكرة؛ لأنه قد وُصِفَ فتخصَّصَ ، واستبعدَ أبو حيان جَعْلَه حالاً من الصَّيْد ، ووجهُ الاستبعادِ : أنه ليس المقصودَ بالحديثِ عنه ، وقرأ الجُمْهُور : « تَنَالُهُ » بالمنقوطةِ فوقُ؛ لتأنيثِ الجمع ، وابنُ وثَّاب والنخعي بالمنقوطةِ من تحْتُ؛ لأنَّ تأنيثه غيرُ حقيقيٍّ .
فإن قيل : نزلتْ هذه الآيةُ عام « الحُدَيْبِيَةِ » ، وكانوا مُحْرِمِينَ ابتلاهُمُ اللَّه بالصَّيْد ، وكانت الوُحُوش تَغْشَى رحالَهُم من كَثْرَتِها ، فهمُّوا بأخْذِهَا ، فنَزَلَتْ هذه الآيَةُ أي : لَيَخْتَبِرَنَّكُمْ .
وفائِدَةُ البَلْوَى : إظْهَارُ المُطِيعِ من العَاصِي ، وإنَّما بَعَّضَ الصَّيْد؛ لأنه ابتلاهُم بِصَيْدِ البَرِّ خاصَّةً ، وقيل : صَيْد الإحْرامِ دونَ صَيْدِ الإحلالِ .
وقوله تعالى : « تَنَالُهُ أيْدِيكُمْ » يعني : الفَرْخَ والبَيْضَ ، وما لا يَقْدِرُ أن يضِرَّ من صِغَارِ الصَّيْدِ ، و « رِمَاحُكُمْ » يعني : الكِبَار من الصَّيْدِ « لِيَعْلَمَ اللَّهُ » قاله الواحدي وغيره ، وقال مُقَاتِل بن حيان : كانت الوُحُوشُ والطَّيْر تَغْشَاهُم في رِحَالِهِم ، حتى يَقْدِرُون على أخْذِهَا بالأيدي ، وصَيْدِهَا بالرِّمَاحِ .
وقال بعضهم : هذا غَيْر جَائزٍ؛ لأن الصَّيْد المُتوحِّش هو المُمْتَنِعُ دون ما لاَ يَمْتَنِع .
« ليَعْلَمَ اللَّهُ » قيل : اللامُ متعلِّقةٌ ب « لَيَبْلُونَّكُمْ » ، والمعنى : ليتميَّزَ أو ليظهر لكم ، وقد مضى تحقيقُه في البقرة ، وأنَّ هذه تسمَّى لام كي ، وقرأ بعضهم : « لِيُعْلِمَ » بضم الياء وكسر اللام من « أعْلَمَ » ، والمفعول الأوَّل على هذه القراءة محذوفٌ ، أي : لِيُعْلِمَ اللَّهُ عِبَادَهُ ، والمفعول الثاني هو قوله : « مَنْ يَخَافُهُ » فَ « أعْلَمَ » منقولةٌ بهمزة التعدية لواحدٍ بمعنى « عَرَفَ » وهذا مجازٌ؛ لأنَّه - تعالى - عَالِمٌ لَمْ يَزَلْ ولا يَزَالُ ، واخْتَلَفُوا في معناه ، فَقِيلَ ، يعامِلُكُم مُعَامَلَةَ من يَطْلُبُ أنْ يَعْلَمَ ، وقيل : لِيظهر المَعْلُوم ، وهو خَوْفُ الخَائِفِ ، وقيل : هذا بِحَذْفِ المُضَافِ والتَّقْدِيرٌ : لِيَعْلَمَ أوْلِيَاءُ اللَّهِ من يَخَافُهُ بالغَيْبِ ، وقِيلَ : ليرى اللَّه لأنَّهُ قَدْ عَلِمَهُ .
وقوله تعالى : « بالغَيْبِ » أي : يَخَافُ اللَّه ولمْ يَرَه ، كقوله تعالى : { الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب } [ الأنبياء : 49 ] أي : يَخَافُون ، فلا يَصْطَادُون في حال الإحرامِ ، وكقوله تعالى : { الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب } [ البقرة : 3 ] ، وقيل : معنى يَخَافُهُ بالغَيْبِ أي : بإخلاصٍ وتحْقِيقٍ ، ولا يختلف الحالُ بسِبَبِ حضُورِ واحدٍ أو غَيْبَتِهِ ، كما في حقِّ المُنَافِقِين الذين { إِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكْمْ } [ البقرة : 14 ] . قوله تعالى : « بالغَيْبِ » في محلِّ نصب على الحال من فاعل « يَخَافُهُ » ، أي : يخافُه مُلْتَبِساً بالغيبِ ، وقد تقدَّم معناه في البقرة [ الآية 3 ] .
والمعنى : من يخافُهُ حال كونهِ غَائباً عن رُؤيتِهِ ، كقوله تعالى : { مَّنْ خَشِيَ الرحمن بالغيب } [ ق : 33 ] .
وجوَّز أبو البقاء ثلاثة أوجه :
أحدها : ما ذكرناه .
والثاني : أنه حالٌ مِنْ « مَنْ » في « مَنْ يَخَافُهُ » .
والثالث : أنَّ الباءَ بمعنى « في » ، والغيب مصدرٌ واقعٌ موقع غائبٍ ، أي : يخافه في المكانِ الغائب عن الخَلْقِ ، فعلى هذا يكونُ متعلِّقاً بنفْسِ الفعل قبله ، وعلى الأوَّلَيْن يكونُ متعلِّقاً بمحذوفٍ على ما عُرِف .
قوله تعالى : { فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : اصْطَادَ بعد تَحْرِيمِهِ ، فله عذابٌ أليمٌ ، والمراد : عذابُ الآخرة ، والتَّعْزيرُ في الدُّنْيَا .
قال ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما - : هذا العذابُ هَوْ أنْ يُضَرب ظَهْرُهُ وبَطْنُهُ ضرباً وجيعاً ، ويُنْتَزَع ثِيَابُه .
قال القَفَّالُ : وهذا غير جائزٍ؛ لأن اسم العذابِ قد يقعُ على الضَّرْبِ ، كما سُمِّيَ جَلْدُ الزَّانِيين عذاباً { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا } [ النور : 2 ] ، وقال تعالى : { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب } [ النساء : 25 ] وقال تعالى حَاكياً عن سُلَيْمان - عليه السلام - في الهُدْهُدِ { لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً } [ النمل : 21 ] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
في المرادِ بالصَّيْدِ قولان :
الأوَّلُ : الذي توحَّشَ ، سواءً كان مَأكُولاً أو لم يَكُنْ ، فعلى هذا المُحْرِم إذا قتل سَبُعاً لا يُؤكَلُ لَحْمُهُ ضَمِن ، ولا يجاوزُ به قِيمَة شَاةٍ ، وهو قولُ أبِي حنيفةَ - رضي الله عنه - .
وقال زُفَر : [ يجب ] قيمَتُهُ بَالِغاً ما بَلَغَ .
الثاني : أنَّ الصَّيْدَ هو ما يُؤكَل لَحْمُهُ ، فعلى هذا لا يجبُ الضَّمانُ ألْبَتَّةُ في قَتْلِ السَّبُع ، وهو قولُ الشَّافعيِّ [ - رضي الله عنه - ] وغيره ، وحكم أبو حنيفةَ - رضي الله عنه - أنَّه لا يَجِبُ الجَزَاءُ في قَتْلِ الفواسِقِ الخَمْس ، وفي قَتْل الذِّئْبِ ، واسْتَدَلَّ الشافعيُّ بقوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً } [ المائدة : 96 ] ، فأحلَّ الصَّيْدَ خَارِجَ الإحْرَام ، فَثَبَت أنَّ الصيد هو ما أحِلَّ أكْلُهُ .
وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « خَمْسٌ فواسقٌ يُقْتَلن في الحلِّ والحَرَم : » الغُرَابُ ، والحدَأةُ ، والحَيَّةُ ، والعقرَبُ ، والكَلْبُ العَقُورُ « وفي روايةٍ » والسَّبُع العَادِي « ، فوصَفُوهَا بِكَوْنِهِا فواسق ، فدل على أنّ كونهَا فواسِق عِلَّة لِحِلِّ قَتْلِها .
ومعنى كونِها فواسِق كونُها مُؤذِيَة ، والأذَى في السِّبَاع أقْوى مِنْهَا ، فوجَبَ جَوَازُ قَتْلِهَا .
قوله تعالى : { وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } : في محلِّ نصب على الحال من فاعل » تَقْتُلُوا « ، و » حُرُمٌ « جمع حرام ، وحرامٌ يكون للمُحْرِمِ ، وإنْ كان في الحلِّ ، ولِمَنْ في الحرمِ ، وإنْ كان حلالاً ، وهما سيَّان في النهي عن قتل الصيد وهل يدخل فيه المحرمُ بالعُمْرة؟ فيه خلافٌ ، وهذه الآيةُ نَزَلَتْ في رَجُلٍ يُقَالَ لَهُ : أبو اليَسَرِ شدَّ على حِمَارٍ وَحْشِيٍّ وهو مُحْرِمٌ فَقَتلَهُ ، وهذا يَدُلُّ على المنْعِ من القَتْلِ ابتداء ، والمَنْعُ مِنْه تَسَبُّباً ، فَلَيْسَ لهُ أنْ يتعَرَّضَ للصَّيْد ما دامَ مُحْرِماً ، لا بالسِّلاح ولا بالجَوارِحِ من الكلابِ والطَّيْرِ ، سواء كان الصَّيْدُ صَيْد الحِلِّ أو الحَرَمِ ، وأمَّا الحلالُ فلَهُ أنْ يَتَصيَّدَ في الحلِّ وفي الحَرَم .
قوله تعالى : » مِنْكُمْ « في محل نصبٍ على الحال من فاعل » قَتَلَهُ « ، أي : كائناً منْكُمْ ، وقيل : » مِنْ « للبيان ، وليس بشيء؛ لأنَّ كُلَّ من قتل صَيْداً حكمُه كذلك ، فإن قُلْتَ : هذا واردٌ أيضاً على جعله حالاً ، فالجواب : لم يُقْصَدْ لذلك مفهومُ؛ حتَّى إنه لو قتله غيرُكُمْ ، لم يكن عليه جزاءٌ؛ لأنَّه قصد بالخطابِ معنًى آخرَ ، وهو المبالغةُ في النهي عن قَتْلِ الصيد .
قوله : » مُتَعَمِّداً « حالٌ أيضاً من فاعل » قَتَلَهُ « ، فعلى رأي مَنْ يُجَوِّز تعدُّدَ الحال ، يُجيز ذلك هنا ، ومن منع يقول : إنَّ » مِنْكُمْ « للبيانِ؛ حتَّى لا تتعدَّد الحالُ ، و » مَنْ « يُجَوِّزُ أنْ تكونَ شرطيةً ، وهو الظاهرُ ، وموصولةً ، والفاءُ لشبهها بالشرطيةِ ، ولا حاجةَ إليه وإنْ كانوا فعلوه في مواضع .
قوله تعالى : « فَجَزَاءٌ » الفاءُ جوابُ الشرطِ أو زائدةٌ؛ لشبه المبتدأ بالشرط؛ فعلى الأوَّل : الجملةُ بعدها في محلِّ جزمٍ؛ وعلى الثاني : في محلِّ رفعٍ ، وما بعد « مَنْ » على الأولِ في محلِّ جزمٍ؛ لكونه شرطاً؛ وعلى الثاني : لا محلَّ له لكونه صلةً ، وقرأ الكوفيُّون : « فَجَزاءٌ مثلُ » بتنوين « جَزَاء » [ ورفعه ] ورفع « مِثْلُ » ، وباقي السبعة برفعه مضافاً إلى « مِثْل » ، ومحمَّد بن مُقاتِل بتنوين « جَزَاءً » ، ونصبه ، ونصب « مِثْلَ » ، والسُّلَمِي برفع « جَزَاءٌ » منوناً ، ونصب « مِثل » ، وقرأ عبد الله « فَجَزَاؤهُ » برفع « جَزَاء » مضافاً لضمير « مِثْل » رفعاً .
فأمَّا قراءةُ الكوفيِّين فواضحةٌ لأنَّ « مِثْل » صفةٌ ل « جَزَاء » ، أي : فعليْه « جَزَاءٌ » موصوفٌ بكونه « مِثْلَ ما قَتَلَهُ » أي مماثله .
قالوا : ولا يَنْبَغِي إضافَةُ جزاءٍ إلى المثْلِ ، ألا ترى أنَّهُ ليْسَ عليْه جَزَاءُ مثل ما قتلَ في الحقيقَةِ ، إنَّمَا عليه جَزَاءُ المقْتُولِ لا جَزَاء مثل المقَتُول الذي لم يَقْتُلْه .
وجَوَّز مكي وأبو البقاء وغيرُهما أنْ يرتفعَ « مِثْل » على البدلِ ، وذكر الزجَّاج وجْهاً غريباً ، وهو أن يرتفع « مِثْلُ » على أنه خبرٌ ل « جَزَاءٌ » ، ويكونُ « جزَاءٌ » مبتدأ ، قال : « والتقديرُ : فجزاءُ ذلك الفعلِ مِثْلُ ما قتل » ؛ قال شهاب الدين : ويؤيِّد هذا الوجه قراءةُ عبد الله : « فَجَزَاؤُهُ مِثْلُ » ، إلاَّ أن الأحسنَ أن يقدِّر ذلك المحذوف ضميراً يعودُ على المقتول ، لا أنْ يُقَدِّره : « فَجَزَاءُ ذلك الفِعْلِ » و « مِثْلُ » بمعنى مماثل قال مكيٌّ : قاله الزمخشريُّ ، وهو معنى اللَّفْظِ ، فإنَّها في قُوَّةِ اسم فاعل ، إلاَّ أنَّ مَكِّيًّا تَوَهَّم أن « مِثْلاً » قد يكون بمعنى غير مماثل؛ فإنه قال : « ومثل » في هذه القراءة - يعني قراءة الكوفيين - بمعنى مُمَاثِل ، والتقديرُ : فَجَزَاءٌ مُمَاثِلٌ لما قَتَل ، يعني في القيمةِ ، أو في الخِلْقَةِ؛ على اختلافِ العلماء ، ولو قَدَّرْتَ مِثْلاً بعيْنِهِ لا جَزَاءٌ مِثْلُه؛ لأنه إذا ودى جزاءً مثل المقْتُولِ ، صار إنما ودى جزاء ما لم يُقْتَلْ؛ لأنَّ مثل المقتولِ لم يَقْتُلْهُ ، فصَحَّ أن المعنى : فعليه جزاءٌ مماثِلٌ أبداً ، فكيف يقول « ولَوْ قَدَّرْتَ مِثْلاً على لفْظه؟ » وأيضاً فقوله : « لصار المعنى إلى آخره » هذا الإشكالُ الذي ذكره لا يُتَصَوَّرُ مجيئُه في هذه القراءة أصْلاً ، وإنما ذَكَرَهُ الناسُ في قراءةِ الإضَافَة؛ كما سيأتي ، وكأنه نَقَلَ هذا الإشكالَ من قراءةِ الإضافةِ إلى قراءةِ التنوين .
وأمَّا قراءة باقي السَّبْعة ، فاستبعَدَهَا جماعةٌ ، قال الواحِدِيُّ : « ولا ينبغي إضافةُ الجزاءِ إلى المثلِ؛ لأنَّ عليه جزاءَ المقتولِ لا جزاءَ مِثلِه ، فإنه لا جزاءَ عليه لَمَّا لم يقتلْه » .
وقال مكيٌّ بعد ما تقدَّم عنه : « ولذلك بَعُدَت القراءةُ بالإضافة عند جماعةٍ؛ لأنها تُوجِبُ جزاءً مثلَ الصيْدِ المقْتُولِ » ولا التفاتَ إلى هذا الاستبعادِ؛ فإنَّ أكثر القراء عليها ، وقد أجاب الناسُ عن ذلك بأجْوبةٍ سديدةٍ ، لمَّا خفيتْ على أولئكَ طَعنُوا في المُتَوَاتِرِ ، منْها : أنَّ « جَزَاء » مصدرٌ مضافٌ لمفعوله؛ تخفيفاً ، والأصلُ : فعليه جزاءٌ مِثْلُ ما قَتلَ ، أي : أن يَجْزِيَ مثل ما قتلَ ، ثم أُضيفَ ، كما تقول : « عَجِبْتُ مِنْ ضَرْبٍ زَيْداً » ثم « مِنْ ضَرْبٍ زَيْدٍ » ذكر ذلك الزمخشريُّ وغيره ، وبَسْطُ ذلك؛ أنَّ الجزاءَ هنا بمعنى القضاء ، والأصلُ : فعليه أن يُجْزَى المقتولُ من الصيْدِ مثله من النَّعَمِ ، ثم حُذِف المفعولُ الأوَّلُ؛ لدلالة الكلامِ عليه ، وأُضيفَ المَصْدَرُ إلى ثانيهما؛ كقولك : « زَيْدٌ فَقِيرٌ ويُعْجِبُنِي إعْطَاؤُكَ الدِّرْهم » ، أي : إعطاؤكَ إيَّاه ، ومنها : أنَّ « مِثْل » مُقْحَم؛ كقولهم : « مِثْلُكَ لا يَفْعَلُ ذَلِكَ » ، [ أي : أنْتَ لا تفعَلُ ذلك ] وأنَا أكْرِمُ مثلك أيْ : أنا أكْرِمُكَ ، ونحو قوله تعالى : { فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ } [ البقرة : 137 ] أي : بِمَا آمَنْتُمْ به ، وكقوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] ، والتقديرُ ليس كهو شيءٌ ف « مِثْل » زائدةٌ . وقوله تعالى : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات } [ الأنعام : 122 ] ، ومِنْهَا أن يكونَ المعنى « فَجَزَاءٌ من مِثْلِ ما قَتَلَ من النَّعَم » كقولك : « خَاتِمُ فضَّة » أي : « خاتمٌ من فضةٍ » ، وهذا خلاف الأصْلِ فالجوابُ ما تقدَّم و « مَا » يجوزُ أن تكون موصولةً اسميَّة ، أو نكرةً موصوفةً ، والعائدُ محذوفٌ على كلا التقديرين ، أي : مثلُ ما قَتَلَهُ من النَّعَمِ .
فَمَنْ رفع « جَزَاء » ففيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه مرفوع بالابتداء ، والخبرُ محذوفٌ ، تقديرُه : فعليه جزاء .
والثاني : أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف ، تقديرُه : فالواجبُ جزاء .
والثالث : أنه فاعلٌ بفعل محذوف ، أي : فيلزَمُه الجزاءُ ، أو يَجِبُ عليه جزاءٌ .
الرابع : أنه مبتدأ وخبره « مِثْل » ، وقد تقدَّم أن ذلك مذهبُ أبي إسْحَاق الزجَّاج ، وتقدم أيضاً رفع « مِثْل » في قراءة الكوفيين؛ على أحدِ ثلاثةِ أوجه : النعْتِ ، والبدلِ ، والخبرِ؛ حيث قلنا : « جَزَاء » مبتدأٌ عند الزجَّاج .
وأمَّا قراءةُ « فَجَزَاؤه مِثْلُ » ، فظاهرةٌ أيضاً ، وأمَّا قراءة « فَجَزَاءٌ مِثْلَ » برفع « جَزَاءٌ » وتنوينه ، ونصب « مِثْل » ، فعلى إعمال المصدر المنوَّنِ في مفعوله ، وقد تقدَّم أنَّ قراءة الإضافة منه ، وهو نظيرُ قوله تعالى : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14 - 15 ] وفاعلُه محذوف ، أي : فجزاءُ أحدِكُمْ أو القاتلِ ، أي : أنْ يُجْزَى القاتلُ للصَّيْدِ ، وأما قراءة : « فَجَزَاءً مِثْلَ » بنصبهما ف « جَزَاءً » منصوبٌ على المصدر ، أو على المفعول به ، و « مِثْلَ » صفتُه بالاعتبارين ، والتقدير : فَلْيَجْزِ جَزَاءً مِثْلَ ، أو : فَلْيُخْرِجْ جَزاءً ، أو فليُغَرَّمْ جَزَاءً مِثْلَ .
قوله : « مِنَ النَّعَمِ » فيه ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أنه صفةٌ ل « جَزَاء » مطلقاً ، أي : سواءً رُفِعَ أم نُصِبَ ، نُوِّن أم لم يُنَوَّنْ ، أي : إنَّ ذلك الجزاءَ يكونُ من جنسِ النَّعَمِ ، فهذا الوجهُ لا يمتنع بحالٍ .
الثاني : أنه متعلق بنفسِ « جَزَاء » ؛ لأنه مصدرٌ ، إلا أنَّ ذلك لا يجوزُ إلا في قراءة من أضاف « جَزَاء » إلى « مثْل » ، فإنه لا يلزمُ منه محذورٌ؛ بخلافِ ما إذا نَوَّنْتَهُ ، وجعلتَ « مِثْلَ » صفته ، أو بدلاً منه ، أو خبراً له؛ فإنَّ ذلك يمتنع حينئذ ، لأنَّك إنْ جَعلْتَه موصوفاً ب « مِثْل » كان ذلك ممنوعاً من وجهين :
أحدهما : أنَّ المصدرَ الموصوفَ لا يعملُ ، وهذا قد وُصِفَ .
والثاني : أنه مصدر ، فهو بمنزلةِ الموصولِ ، والمعمولُ من تمامِ صلته ، وقد تقرَّر أنه لا يُتْبَعُ الموصولُ إلا بعد تمام صلته؛ لئلا يلزمَ الفصلُ بأجنبيٍّ ، وإنْ جعلْتَه بدلاً ، لَزِم أن يُتْبَعَ الموصولُ قبل تمام صلته ، وإنْ جَعَلْتَه خبراً ، لزم الإخبارُ عن الموصولِ قبل تمامِ صلته ، وذلك كلُّه لا يجوزُ .
الثالث : ذكره أبو البقاء وهو أنْ يكون حالاً من عائدِ الموصولِ المحذوفِ؛ فإنَّ التقدير : فجزاءً مثل الذي قتله حالَ كونه من النَّعَم ، وهذا وَهْمٌ؛ لأن الموصوف بكونه من النَّعم ، إنما هو جزاءُ الصيد المقتولِ ، وأمَّا الصيد نفسُه ، فلا يكونُ من النعم ، والجمهورُ على فَتْحِ عَيْن « النَّعَم » ، وقرأ الحسن بسكُونها ، فقال ابنُ عطيَّة : « هي لغةٌ » ، وقال الزمخشريُّ : استثقَلَ الحركةَ على حرفِ الحلق ، كما قالوا : « الشَّعْرُ » في « الشَّعَرِ » .
فصل
اخْتَلَفُوا في هذا العَمْد : فقال قَوْمٌ : هو تَعَمُّدُ قتْل الصَّيْد مع نسْيَان الإحْرَام ، أمَّا إذا قَتَلَهُ عَمْداً وهو ذَاكِرٌ لإحْرَامِهِ ، فلا حُكْمَ عليه ، وأمْرُهُ إلى اللَّهِ تعالى؛ لأنَّه أعْظَمُ مِنْ أنْ يكون له كفَّارةٌ ، وهو قوْلُ مُجَاهِد والحَسَن .
وقال آخَرُون : هُنَاكَ فَرْقٌ بين أن يَعْمَدَ المُحْرِمُ قَتْلَ الصَّيْد ذاكراً لإحْرَامِهِ ، فعليه الكَفَّارَةُ ، واخْتَلَفُوا فيمَا لو قَتَلَهُ خَطَأً ، فذهَبَ أكْثَرُ الفُقَهَاء إلى أنَّ العَمْدَ والخَطَأ وَاحِدٌ في لُزُومِ الكَفَّارَةِ .
قال الزُّهرِي : على المُتَعَمِّدِ بالكِتَاب ، وعلى المُخْطِئ بالسُّنَّةِ وقال سَعِيدُ بن جُبَيْر : لا تجبُ كفَّارةُ الصَّيْد بِقَتْلِ الخَطَأ ، وهُوَ قول دَاوُد .
فصل
المُرَادُ بالمِثْلِ ما يَقْرُبُ من الصَّيدِ المقْتُولِ شَبَهاً من حيث الخِلْقَةِ ، لا من حَيْثُ القِيمَة .
وقال محمَّدٌ بنُ الحسنِ : الصَّيدُ ضرْبَانِ : مَا لَهُ مِثلٌ ، وما لا مِثْلَ له .
فما له مثلٌ يُضْمَنُ بِمِثْلِه من النَّعَمِ ، وما لا مِثْلَ لَهُ يُضْمَنُ بالقِيمَة .
وقال أبو حَنيفَةَ وأبو يُوسُف : المِثْلُ الواجبُ هو القِيمَةُ .
فصل
إذا قَتَل المُحْرِمُ الصَّيْدَ وأدَّى جَزاءَه ، ثم قتل صَيْداً آخَر لَزِمَه جَزَاء آخَر ، وقال دَاوُدُ : لا يَجِبُ ، وحجَّةُ الجُمْهُورِ هذه الآيَةُ ، فإنَّ ظَاهِرَهَا يقْتَضِي أن يكُون علَّةُ وُجُوب الجَزَاءِ هو القَتْلُ ، فوجَبَ أنْ يتكرَّر الحُكْمُ بِتكْرَارِ العِلَّةِ ، فإن قيل : إذا قَالَ الرَّجُل لِنِسَائِهِ من دَخَلَتْ مِنْكنَّ الدَّارَ فِهِي طَالِقٌ ، فدخلت واحِدَةٌ مرَّتَيْنِ ، لم يقع الطَّلاق مرَّتَيْن .
فالجوابُ أنَّ القَتْلَ عِلَّة لوُجُوبِ الجَزَاء ، فيلْزَمُ تكْرَار الوُجُوبِ لِتكْرارِ العِلَّةِ ، وأمَّا دُخُولُ الدَّارِ فهو شَرْطٌ لوُقُوعِ الطَّلاق ، فلَمْ يَلْزَم تكْرَارُ الحُكْم عند تكْرارِ الشَّرْط ، واحْتَجَّ داوُدُ بقوْلِهِ تعالى : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } فجَزَاءُ العَائِدِ الانْتِقَامُ لا الكَفَّارةُ .
قوله : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ } في موضع نصْبٍ على الحال منه ، أو على النَّعْتِ ل « جَزَاء » فيمَنْ نَصَبه ، وخصَّصَ أبو البقاء كونه صفةً بقراءةِ تنوين « جَزَاء » ، والحالَ بقراءةِ إضافته ، ولا فرقَ ، بل يجوزُ أنْ تكون الجملةُ نعتاً أو حالاً بالاعتبارين؛ لأنه أذا أُضيفَ إلى « مِثْل » ، فهو باقٍ على تنكيرِه؛ لأنَّ « مِثْلاً » لا يتعرَّفُ بالإضافة ، وكذا خَصَّصَ مكي الوصفَ بقراءةِ إضافةِ الجزاء إلى « مِثْل » فإنه قال : « ومِنَ النَّعَم في قراءةِ مَنْ أضافَ الجَزَاء إلى » مِثْل « صفةً ل » جَزَاء « ، ويَحْسُنُ أنْ تتعلَّق » مِنْ « بالمصدر ، فلا تكونُ صفةً ، وإنما المصدرُ مُعَدى إلى » مِنَ النَّعَمِ « ، وإذا جعلته صفةً ، ف » مِنْ « متعلِّقةٌ بالخبرِ المحذوف ، وهو فَعَلَيْهِ » ، وفي هذا الكلامِ نظرٌ مِنْ وجهَيْن :
أحدهما : قد تقدَّم ، وهو التخصيصُ بقراءةِ الإضافة .
والثاني : أنه حين جعل « مِنَ النَّعَم » صفةً عَلَّقها بالخبرِ المحذوفِ لِمَا تضمَّنه من الاستقرار؛ وليس كذلك؛ لأنَّ الجارَّ ، إذا وقعَ صفةً تعلَّقَ بمحْذوفٍ ، ذلك المحذوفُ هو الوصفُ في الحقيقةِ ، وهذا الذي جعله متعلَّقاً لهذه الصفةِ ليس صفةً للموصوف في الحقيقةِ ، بل هو خبرٌ عنه؛ ألا ترى أنك لو قلت : « عِنْدِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ » أنَّ « مِنْ بَنِي » متعلِّقٌ بوصفٍ محذوفٍ في الحقيقة ، لا بقولِكَ « عِنْدِي » ، ويمكن أن يُقال - وهو بعيدٌ جِدًّا - إنه أراد التعلُّقَ المعنويَّ؛ وذلك أنَّ العاملَ في الموصوفِ عاملٌ في صفته ، و « عَلَيْهِ » عاملٌ في « جَزَاء » ، فهو عاملٌ في صفته ، فالتعلُّقُ من هذه الحَيْثِيَّةِ ، ولكن إنما يتأتَّى ذلك حيث جعلنا الخبرَ عاملاً في المبتدأ ، أو قلنا : إنَّ الجارَّ يرفع الفاعلَ ، ولو لم يعتمدْ وإنما ذكر هنا التوجيهاتِ؛ لأنَّ القائلين بذلك مِمَّنْ لا يُلْغَى قولهم بالكلية .
قلت المدون التالي بمشيئة الله هو ج27و28.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدجال يستغل ازمات الناس من الجوع ونقص الطعام والمياه في دعوتهم الباطلة لعبادتهم إياه والايمان به

  بياناته الشخصية     المسيح الدجال ليس خوارق إنما هو دجل وكذب قلت المدون ان الأ أزمة الاقتصادية الحادثة الان في كل دول العالم والمجاعة المت...