حمل المصحف وورد وبي دي اف.

 حمل المصحف وورد وPDF.
القرآن الكريم وورد word doc icon||| تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

الجمعة، 23 سبتمبر 2022

ج41و42.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

 ج41و42.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني


ج41و42.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
قوله تعالى : { فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ } الآية : لا بُدَّ من الإضمار في هذه الآية في موضعين :
الأول : التقدير : قالوا : لئن أكلهُ الثئب ونحن عصبةٌ إنَّا إذاً لخاسرون فأذن له ، وأرسله معهم ، ثم يصتل به قوله تعالى : { فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ } .
الثاني : في جواب { فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ } أوجه :
أحدهما : أنه محذوف ، أي : عرفناه ، وأوصلنا إليه الطمأنينة ، وقدره الزمخشريُّ : « فعلوا به ما فعلوا من الأذى » وقدره غيره : عظمت فتنتهم ، وآخرون : جعلوه فيها ، وهذا أولى؛ لدلالة الكلام عليه .
الثاني : أن الجواب مثبت ، وهو قوله : { قَالُواْ يَأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا } [ يوسف : 17 ] أي : لمَّا كان كَيْتَ وكَيْتَ ، قالوا . وفيه بعد؛ لبعد الكلام من بعضه .
الثالث : أن الجواب هو قوله : « وأوْحَيْنَا » والواو فيه زائدة ، أي : فلما ذهبوا به أوحينا ، وهو رأي الكوفيين ، وجعلُوا من ذلك قوله تعالى : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } [ الصافات : 103 ] أي : تله ، « ونَاديْنَاهُ » ، وقوله عز وجل : { حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [ الزمر : 73 ] وقول امرىء القيس : [ الطويل ]
3064
فَلَمَّا أحَزْنَا سَاحةَ الحَيِّ وانْتحَى ... بِنَا بَطْنُ حِقْفٍ [ ذِي رُكامٍ عَقَنْقَلِ ]
تقدم أي فلما أجزنا انتحى وهو كثيرٌ عندهم بعد « لمَّا » .
قوله : « أن يَجعلُوهُ » « مَفْعُول » « أجْمعَوا » أي : عزمُو على أن يجعلوه؛ لأنه يتعدَّى بنفسه ، وب « عَلَى » فإنه يحتمل أن يكون على حذف الحرف ، وألاّ يكون ، فعلى الأول : يحتمل موضعه النصب والجرَّ ، وعلى الثاني : يتعين النَّصب ، والجمعل يجوز أن يكون بمعنى : الإلقاء ، وأن يكون بمعنى : التَّصيير فعلى الأول : يتعلَّق في « غَيَابةِ » بنفس الفعل قبله ، وعلى الثاني : بمحذُوف ، والفعل من قوله : « وأجْمَعُوا » يجوز أن يكُون معطوفاً على ما قبله ، وأن يكُون حالاً ، و « قَدْ » معه مضمرة عند بعضهم ، والضمير في « إليْهِ » الظاهر عوده على يوسف ، وقيل : يعود على يعقُوب عليه الصلاة والسلام .
وقرأ العامَّة : « لتُنَبئَنَّهُمْ » بتاء الخطاب ، وقرأ ابن عمر : بياء الغيبة ، أي : الله سبحانه وتعالى .
قال أبو حيَّان : « وكذا في بعض مصاحف البصرة » وقد تقدَّم أن النقط حادث فإن قال : مصحف حادث غير مصحف عثمان رضي الله عنه فليس الكلام في ذلك .
وقرأ سلاَّم : « لنُنَبئَنَّهُمْ » بالنون ، وهذا صفة لقولهم . وقيل : بدل . وقيل : بيان .
قوله : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } جملة حالية ، يجوز أن يكون العامل فيها « أوحينا » أي : أوحينا غليه من غير شعور إخوته بالوحي ، وأن العامل فيها « لتُنَبئَنَّهُمْ » أي تخبرهم وهم لا يعرفونكم لبعد المدة وتغير الأحوال .
فصل
في المراد بقوله : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ } قولان :
الأول : المراد منه الوحي والنبوة والرسالة ، وهو قول أكثر المحققين ، ثم اختلف هؤلاء في أنه عليه الصلاة والسلام هل كان في ذلك الوقت بالغاً أو كان صابياً؟ .
قال بعضهم : كان بالغاً وكان ابن سبع عشرة سنة . وقال آخرون : كان صغيراً إلا أن الله تعالى أكمل عقله وجعله صالحاً لقبول الوحي والنبوة كما في حق عيسى عليه الصلاة والسلام حين قالوا : { كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً } [ مريم : 29 ] فأجابهم بقوله : { قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً } [ مريم : 30 ] .
والقول الثاني : أن المراد بهذا الوحي : الإلهام ، كقوله { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى } [ القصص : 7 ] { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل } [ النحل : 68 ] . والأول أولى؛ لأنه الظاهر من الوحي .
فإن قيل : كيف يجعله نبياً في ذلك الوقت وليس هناك أحد يبلغه الرسالة؟ .
فالجواب : لا متنع أن يشرفه الله تعالى بالوحي ويأمره بتبليغ الرسالة بعد أوقات ويكون فائدة تقديم الوحي تأنيسه وزوال الغم والوحشة عن قلبه والفائدة في أخفاء ذلك [ الوحي ] عن إخوته : أنهم لو عرفوه فربما ازداد حسدهم فكانوا يقصدون قتله .
فصل
إنما حملنا كقوله تبارك وتعالى { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } بأنك يوسف ، أي : لا يعرفونك لبعد المدة وتغير الأحوال ، لأن هذا أمراً من الله تعالى ليوسف ف يأن يستر نفسه عن أبيه [ وأن لا يخبره بأحوال نفسه ، فلهذا السبب كتم أخبار نفسه عن أبيه ] طول تلك المدة مع علمه بوجد أبيه عليه خوفاً من مخالفة أمر الله تعالى ، فصبر على تجرع تلك المرارة ، وكان الله سبحانه قد قضى على يعقوب أن يوصل إليه تلك الغموم الشديدة والهموم العظيمة ليوصله إلى الدرجات العالية التي لا يمكن الوصل إليها إلا بتحصيل المحن الشديدة .
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
قوله تعالى : { وجآءوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ } الآية في « عِشَاءً » وجهان :
أصحهما : وهو الذي لا ينبغي أن [ يقال ] غيره أنه ظرف ، أي : ظرف زمان أي : جاءوا في هذا الوقت . قال أهل المعاني : جاءوا في ظلمة العشاء ليكونوا أجرأ على الاعتذار بالكذب . و « يَبْكُونَ » جملة حالية ، أي : جاءوه باكين .
والثاني : أن يكون « عِشَاءً » جمع عاشٍ ، كقَائِم وقِيَام .
قال أبو البقاء : « ويقرأ بضم العين ، والأصل : عُشَاة ، مثل : غازٍ وغزاة فحذفت الهاء وزيدت الألف عوضاً عنها ، ثم قلبت الألف همزة » .
وفيه كلام قد تقدم في آل عمران عند قوله { أَوْ كَانُواْ غُزًّى } [ آل عمران : 156 ] .
ويجوز أن يكون جمع فاعل على فعال ، كما جمع فَعِيل على فُعال ، لقرب ما بين الكسر والضم ، ويجوز أن يكون كنؤام ورباب وهو شاذ .
وهذه قراءة الحسن ، وهو من العشْوة . والعُشْوَة : هي الظلام . رواه ابن جني « عُشَاءً » بضم العين وقال : عشوا من البكاء . وقرأ الحسن : « عُشاً » على وزن « دُحَى » نحو غازٍ وغُزاة ، ثم حذفت منه تاء التأنيث [ كما حذفوا تاء التأنيث من ] « مَألِكَة » فقالوا : مَألِك ، وعلى هذه الأوجه يكون منصوباً على الحال . وقرأ الحسن أيضاً : « عُشَيًا » مصغراً .
و « نَسْتَبْقُ » نتسابق . والافتِعَال والتَّفاعُل يشتركان نحو قولهم : نَنْتَضِل ونتناضل ونرتمي ونترامى ، و « نَسْتَبِقَ » في محل نصب على الحال و « تَركْنَا » حال من نَسْتَبقُ و « قد » معه مضمرة عند بعضهم .
قال الزجاج : « يسابق بعضنا بعضاً في الرمي » ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : « لا سَبقَ إلاَّ في نصْلٍ أو خفِّ أو حافرٍ » يعنى بالنصل : الرمي وأصل السبق : الرمي بالسهم ، ثم يوصف المتراميان بذلك ، يقال : استبقا وتسابقا : إذا فعلا ذلك السبق ليتبين أيهما أسبق .
ويدل على صحة هذا التفسير ما روي في قراءة عبدالله : « إنَّا ذَهبْنَا نَنْضِلُ » وقال السدي ومقاتل : « نَسْتبِقُ » نشتد ونعدو .
فإن قيل : كيف جاز أن يستبقوا وهم رجال بالغون ، وهذا من فعل الصبيان فالجواب : أن الاستباق منهم كان مثل الاستباق في الخيل ، وكانوا يجربون بذلك أنفسهم ويدربونها على العدو ، لأنه كالآلات لهم في محاربة العدو ، وقوله « فأكلهُ الذِّئْبُ » قيل : أكل الذئب يوسف وقيل : عرَّضُوا ، وأرادوا أكل الذئب المتاع ، والأول أصح .
ثم قالوا : « ومَا أنْتَ بمُؤمٍ لنَا » ، أي بمصدق لنا . وقولهم « ولوْ كُنَّا صَادقينَ » جملة حالية ، أي : ما أنت بمصدق لنا في كل حال حتى في حال صدقنا لما غلب على ظنك في تهمتنا ببغض يوسف وكراهتنا له .
فإن قيل : كيف قالوا ليعقوب : أنت لا تصدق الصادقين؟ .
قيل : المعنى أنك تتهمنا في هذا الأمر؛ لأنك خفتنا في الابتداء ، واتهمتنا في حقه .
وقيل : المعنى لا تصدقنا؛ لأنه لا دليل لنا على صدقنا وإن كنا صادقين عند الله تعالى .
فصل
احتجوا بهذه الآية على أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق لقوله تعالى : { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } ، أي بمصدق .
روي أن امرأة تحاكمت إلى شريح فبكت ، فقال الشعبي : يا أبا أمية : أما تراها تبكي؟ قال : قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة كذبة لا ينبغي للإنسان أن يقضي إلا بالحق .
قوله تعالى : { وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } الآية « علَى قَمِيصهِ » في محل نصب على الحال من الدم .
قال ابو البقاء : « لأن التقدير : جاءوا بدم كذب على قيمصه » . يعنى أنه لو تأخر لكان صفة للنكرة . ورد الزمخشري هذا الوجه .
قال : فإن قلت : هل يجوز أن تكون حالاً متقدمة « .
قلت : لا ، لأن حال المجرور لا يتقدم عليه » .
وهذا الذي رد به الزمخشري أحد قولي النحاة ، قد صحح جماعة جوازه؛ وأنشد : [ الطويل ]
3065 . ...
فَلنْ يَذْهَبُوا فِرغاً بِفتْلِ حِبَالِ
وقول الآخر : [ الطويل ]
3066
لَئِنْ كَان بَرْدُ الماءِ هَيْمانَ صَادِياً ... ِ إليَّ حَبِيباً إنَّها لَحبِيبُ
وقول الآخر : [ الخفيف ]
3067
غَافِلاً تعْرِضُ المنِيَّةُ لِلمرْءِ ... فيُدْعَى ولاتَ حِينَ إبَاءُ
وقال الحوفيُّ : « علَى قَميصِهِ » : متعلقٌّ ب « جَاءُوا » ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ مجيئهم لا يصلحُ أن يكُونَ على القَميصِ .
وقال الزمخشري : « فإن قلت : » عَلى قَميصِهِ « ما محلهُ؟ قلتُ : محلُّهُ النَّصب على [ الظَّرفيةِ ] ، كأنَّه قيل : وجاءُوا فوقَ قَميصِه بدمٍ ، كما تقولُ : جَاءُوا على جِمالهِ بأحمال » .
قال أبو حيان : ولا يُسَاعدُ المعنى على نَصْبِ « عَلَى » على الظرفية ، بمعنى : فوق لأن العامل فيه إذ ذاك « جَاءُوا » وليس الفرق ظرفاً لهم [ بل يستحيل أن يكُون ظرفاً لهم ] .
وهذا الردُّ هو الذي ردَّ به على الحوفيِّ في قوله : إنَّ « عَلَى » متعلقة ب : « جَاءُوا » .
ثمَّ قال أبو حيان رحمه الله : « وأمَّا المثالُ الذي ذكره وهو : [ جاء ] على جماله بإحمالٍ ، فيمكنُ أن يكون ظرفاً للجانئي؛ لأنَّه تمكن الظرف فيه باعتبار تبدُّلهِ من حمل إلى حمل ، ويكُونُ » بأحْمالٍ « في موضع الحالِ ، أي : مصحوباً بأحمال » .
وقرأ العامَّةُ : « كَذبٍ » بالذَّال المعجمة ، وهو من الوصفِ بالمصادرِ ، فيمكنُ أن يكُون على سبيل المبالغةِ ، نحو : « رَجُلٌ عدْلٌ » .
وقال الفراء ، والمبرِّد والزجاج ، وابن الأنباريِّ : « بدمٍ كذبٍ » ، أي : مكذُوبٍ فيه ، إلا أنَّه وصف بالمصدر ، جعل نفس الدَّم كذباً؛ للمبالغة ، قالوا : والمفعُول ، والفاعل يسميان بالمصدر ، كما يقال : ماءٌ سكبٌ ، أ ي : مسكوبٌ ، والفاعل كقوله :
{
إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً } [ الملك : 30 ] ، ولما سُمِّيا بالمصدر سمي المصدرُ بهما ، فقالوا للعقل : المعقول ، وللجلد : المجلُود ، ومنه قوله تعالى : { المفتون } [ القلم : 6 ] أو على حذف مضاف ، إي : ذي كذبٍ ، ونسب فعل فاعله إليه .
وقرأ زيد بن عليٍّ : « كذِباً » بالنصب ، فاحتمل أن يكون مفعولاً من أجله ، واحتمل أن يكون مصدراً في موضع الحالِ ، وهو قليلٌ ، أعني : مجيء الحال من النكرة ، وقرأت عائشة الحسنُ [ رضي الله عنهما ] : « كّدِبٍ » بالدَّال المهملة .
قال صاحب اللَّوامحك « معناهُ : ذي كدب ، أي أثر؛ لأنَّ الكدِبَ هو بياضٌ ، يخرج في [ أظافير الشبان ] ويؤثر فيها ، فهو كالنقش ، ويسمى ذلك البياض : الفُوف ، فيكون هذا استعارة لتأثيرة في القميص ، كتأثير ذلك في الأظافر » .
وقيل : هو الدَّمُ الكدرُ ، وقيل : الطَّريُّ ، وقيل : اليابس .
فصل
قال الشعبيُّ : قصة يوسف كلُّها في قميصه ، وذلك أنَّهم لمَّا ألقوه في الجبّ ، نزعوا قميصه ، ولطَّخوهُ بالدَّم ، وعرضوه على أبيه ، ولمَّا شهد الشَّاهدُ قال : { وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } [ يوسف : 27-28 ] وقال : { اذهبوا بِقَمِيصِي هذا } [ يوسف : 93 ] ولما أتى البشيرُ إلى يعقوب بقميصه ، وألقى على وجهه ، فارتدَّ بصيراً .
قال القرطبِيُّ : « هذا مردودٌ ، فإنَّ القميص الذي جاءوا عليه بالدذَم غير القميص الذي قُدَّ ، وغيرُ القميص الذي أتى به البَشيرُ ، وقيل : إنَّ القميص الذي أتى به البَشيرُ إلى يعقوب ، فارتدَّ بصيراً هو القميص الذي قُدَّ مِنْ دُبُرٍ » .
فصل
قال بعض العلماءِ رضي الله عنهم : لمَّا أرادوا أن يجعلوا الدَّم علامة على صدقهم؛ قرن اللهُ بهذه العلامة علامةً تعارضُهَا ، وهي سلامةٌ القميص من التَّخريقِ ، إذْ لا يمكن افتراسُ الذِّئب ليوسف ، وهو لابسٌ القميس ، ويسلمُ القميص من التَّخريق ولمَّا تأمَّل يعقوب عليه السَّلام القميص لم يجدْ فيه خرقاً ، ولا أثراً ، استدلَّ بذلك على كذبهم ، وقال لهم : تزعُمُون أن الذِّئب أكله ، ولو أكلهُ لشقَّ قميصه .
فصل
استدلَّ العلماءُ بهذه [ الآية ] في إعمال الأمارات في مسائلَ من الفقهِ كالقسامةِ وغيرها ، كما استدلَّ يعقوب عليه الصلاة والسلام ت على كذكبهم بصحَّة القميص ، فيجبُ على النَّاظر أن يلحظ الآيات ، والعلامات إذا تعارضت ، فما ترجَّح منها قضى بجانب التَّرجيحِ ، وهي قُوَّة التُّهمةِ ، [ قال ابن الربي ] ولا خلاف في الحكم بها .
فصل
قال محمد بن إسحاقَ : اشتمل فعلهم على جَرائمَ من قطعيعةٍ الرَّحم وعُقوقِ الوالدِ ، وقلَّة الرًَّأفةِ الصَّغير الذي لا ذنْبَ له ، والغدر بالأمانة ، وترك العهد ، والكذب مع أبيهم وعفا اللهُ عنهم ذلك كلَّه حتى لا ييأس العبد من رحمة الله تعالى .
قال بعضُ العلماءِ : إنَّهم عزموا على قتله ، وعصمهم الله رحمة بهم ، ولو فعلوا لهلكوا .
قوله تعالى : { بَلْ سَوَّلَتْ } قبل هذه الجملة جلمة محذوفة تقديرها : لم يأكله الذِّئب بل سوَّلت ، أي : زيَّنتْ وسهّلتْ ، قاله ابنُ عباسٍ رضي الله عنه .
والتَّسويلُ : تقدير معنى في النَّفس مع الطَّمع في إتمامه .
قال الأزهريُّ : « كأن التسويلُ تفعيلٌ من سؤال الإنسان ، وهو أمنيتُه التي يطلبها ، فتزين لطالبها الباطل وغيره » . وأصله مهموزٌ على أنَّ العرب يستثقلون فيه الهمز .
قال الزمخشري : « سوَّلتْ : سهُلتْ من السَّولِ ، وهو الاسْتْخَاءُ » .
وإذا عرفت هذا فقوله : « بَلْ » ردُّ لقولهم : « أكَلهُ الذِّبُ » كأنه قال : ليس كما تقولون ، بل سولت لكم أنفسكم أمراً في شأنه ، أي : زيَّنَتْ لكم أنفسُكم أمراً غير ما تصفون .
واختلف في السَّبب الذي عرف به كونهم كاذبين ، فقيل : عرف ذلك بسبب أنَّه كان عيرف الحسد الشَّديدَ منهم في قلوبهم ، وقيلك كان عالماً بأنه حيٌّ ، لقوله ليوسف : { وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } [ يوسف : 6 ] وذلك دليلٌ قاطعٌ على كونهم كاذبين في ذلك الوقتِ .
وقال سعيدُ بن جبيرٍ رضي الله عنه : لما جاءُوا على قميصه بدم كذب ، وما كان مُخْرّقاً ، قال : كذبتم لو أكله الذِّب لخرق قميصه . وعن السدي أنه قال : إنَّ يعقوب عليه السلام قال : إنَّ الذِّئب كان رَحِيماً ، كيف أكل لحمه ، ولم يخرقْ قميصه؟ .
وقيل : إنه عليه الصلاة والسلام لما قال ذلك قال بعضهم : بل قتله اللصوصُ ، فقال : كيف قتلوه ، وتركوا قميصه ، وهم إلى القميص أحْوَجُ منه إلى قتله ، فلمَّا اختلفت أقوالهم؛ عرف بذلك كذبهم .
وقال القاضي : « لعلَّ غرضهم في نزع قميصه عند إلقائه في الجبّ أن يُلطِّخوهُ بالدَّم توكيداً لصدقهم؛ لأنَّهُ يبعدُ أن يفعلوا ذلك طمعاً في نفس القميص ، ولا بد في المعصية من أن يقرن بهذا الخذلان ، فلو خرقوه مع لطخِهِ بالدَّم ، لكان الإيهامُ أقوى ، فلما شاهد يعقوب عليه الصلاة والسلام القميص صحيحاً؛ علم كذبهم » .
قال عند ذلك : « فصَبْرٌ جميلٌ » يَجُوز أن يكون مبتدأ ، وخبره محذوف ، أي : صبرٌ جميلٌ أمثلُ بي ، ويجوز أن يكون خبراً محذوف المبتدأ ، أي : أمري صبرٌ جميلٌ قال الخليل : الذي أفعله صبر جميل . وقال قطربٌ : معناه فصبري صبرٌ جميلٌ .
وهل يجب حذف مبتدأ هذا الخبر ، أو خبر هذا المبتدأ؟ .
وضابطه : أن يكون مصدراً في الأصل بدلاً من اللفظ بفعله ، فعبارة بعضهم تقتضي الوُجوبَ ، وعبارةٌ آخرين تقتضي الجواز ، ومِنَ التصريح بخبر هذا النَّوع ، ولكنه في اصورةِ شعرٍ ، قوله : [ الطويل ]
3068
فقَالَتْ على اسْمِ اللهِ أمْرُكَ طاعَةٌ ... وإنْ كُنْتُ قَد كُلِّفتُ ما لَمْ أعَوَّدِ
وقول الشاعر : [ الرجز ]
3069
يَشْكُو إِليًَّ جَملِي طُول السُّرى ... صَبْرٌ جَميلٌ فكِلانَا مُبْتَلى
ويحتمل أن يكون مبتدأ أو خبراً كما تقدم .
وقرأ أبيّ وعيسى بن عمر : « فَصْبراً جَمِيلاً » نصباً ، ورويت عن الكسائي وكذكل هي في مصحف أنس بن مالكٍ رضي الله عنه وتخريجها على المصدر الخبري ، أي : أصبر أنا صبراً ، وهذه القراءة صعيفة إن خرجت هذا التَّخريج؛ لأنَّ سيبويه لا ينقاس ذلك عنده ، إلاَّ في الطَّلب ، فالأولى أن يجعل التَّقديرُ : أنَّ يعقوب رجع ، وأمر نفسه ، فكأنَّه قال : اصْبرِي يا نفسُ صبراً .
وروي البيت أيضاً بالرَّفعِ ، والنَّصب على ما تقدَّم ، والأمرُ فيه ظاهرٌ .
فصل
روى الحسنُ قال : سُئل النبيٌّ صلى الله عليه وسلم عن قوله « فَصبْرٌ جميلٌ » فقال عليه الصلاة والسلام : « صَبْرٌ لا شكْوَى فيهِ ، فمَنْ بثَّ لمْ يَصْبِرْ » ، ويدلُّ على ذلك قوله : { إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله } [ يوسف : 86 ] وقال مجاهدٌ « فَصبرٌ جَمِيلٌ » ، أي : من غير جزعٍ . وقال الثوريُّ : « من الصًّبْر ألاّ تُحدِّثَ بوجعك ، ولا بمُصيبتكَ » .
وقال ابنُ الخطيبِ : « وههُنا بحثٌ ، وهو أنَّ الصَّبْر على قضاءِ الله واجبٌ ، وأما الصَّبرُ على ظُلم الظَّالمِ ، فغيرُ واجبٍ ، بل الواجبُ إزالتهُ لا سيِّما في الضَّرر العائدِ إ لى الغير ، وههنا أنَّ إخوة يوسف قد ظهر كذبهم ، وخيانتهم ، فلم صبر يعقوب على ذلك؟ ولِمَ لَمْ يبالغ في التَّفتيش ، ولا البحث عنه ، ولا السّعي في تخيص يوسف من البليّة ، والشِّدَّة إن كان حيًّا ، وفي إقامة القصاص إن صحَّ أنهم قتلوه فثبت أنَّ الصَّبرَ في هذا المقام مذموم » .
ويُقوِّي هذا السُّؤال أنَّه عليه الصلاة والسلام كان عالماً بأنه حي؛ لأنَّهُ قال له : { وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } [ يوسف : 6 ] . الظَّاهر أنه إنَّما قال هذا الكلام من الوحي ، وإذا كان عالماً بأنَّه حيٌّ سليم؛ فكان من الواجب أن يسعى في طلبه .
وأيضاً : فإنَّ يعقوب عليه الصلاة والسلام كان رجلاً عظيم القدر في نفسه ، وكان من بيتٍ عظيم شريفٍ ، وأهلُ العالم كانوا يعرفونه ، ويعتقدون تعظيمه ، فلو بالغ في البحث ، والطلب لظهر ذلك ، واشتهر ، ولزال وجهُ التَّلبيسِ ، فما السَّبب في أنه عليه الصلاة والسلام مع شدَّة رغبته في حضورِ يوسف ، ونهاية حبِّه له لم يطلبه مع أنَّ طلبه كان من الواجبات؛ فثبت أنَّ هذا الصَّبر مذمومٌ عقلاً وشرعاً .
فالجواب أن نقول : إن الله سبحانه وتعالى منعه من الطَّلب تشديداً للمحنة عليه ، وتغليطاً للأمر عليه ، وأيضاً : لعلَّهُ عرف بقرائن الأحوال أنَّ أولاده أقوياء ، وأنَّهم لا يمكنونه من الطَّلب ، والفحص ، وأنَّه لو بالغ في البحثِ فربما أقدموا على إيذائه ، وأيضاً : لعلَّهن عليه الصلاة والسلام علم أنَّ الله ت تبارك وتعالى سيصون يوسف عليه الصلاة والسلام عن البلاءِ والمحنةِ ، وأن أمرهُ سيظهرُ بالآخرةِ ولم يرد هتْك ستر أولاده ، وإلقائهم في ألسنةِ النَّاس وذلك لأنَّ أحَد الولدينِ إذا ظلم أخاه ، وقع أبوه في العذابِ الشَّديدِ؛ لأنه إذا لم ينتقمْ؛ يحترق قلبه على الولد المظْلُوم ، وإن انتقم ، احترق قلبه على الولدِ المُنتقَم منه ، فلمَّا وقع يعقوب في هذه البلية رأى أنَّ الأصوب الصَّبرُ ، والسُّكونُ ، وتفويضُ الأَمْرِ بالكُليَّةِ إلى اللهِ تعالى .
فصل
قال ابنُ رفاعة « ينبغي لأهل الرَّاي أن يتَّهِمُوا رأيهم عند ظنّ يعقوب عليه الصلاة والسلام وهو نبيٌّ حين قال له بنوه : { إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذئب } [ يوسف : 17 ] فقال : { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً } [ يوسف : 18 ] فأصاب هنا ، ثمَّ لما قالوا له : { إِنَّ ابنك سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } [ يوسف : 81 ] ، قال : { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ } [ يوسف : 83 ] فلم يُصِبْ » .
فصل
قوله : « فَصْبرٌ جَميلٌ » يدل على أنَّ الصّبر قسمان :
أحدهما : جميلٌ ، والآخر : غيرُ جميلٍ ، فالصَّبرٌ الجميلُ هو : أن يعرف أنَّ مُنزِّلَ ذلك البلاء هو الله تعالى ثمَّ يعلم أنَّهُ سبحانه مالكُ المُلكِ ، ولا اعتراض على المالكِ في أنْ يتصرَّف في ملكه ، فيصيرُ استغراق قلبه في هذا المقام مانعاً من الشِّكايةِ .
وأيضاً : يعلمُ أن منزِّل هذا البلاءِ حليمٌ لا يجهلُ ، عالمٌ لا يغفلُ ، وإذَا كان كذلك ، فكان كلُّ ماصدر عنه حكمةً وصواباً ، فعند ذلك يسكتُ ولا يعترضُ .
وأمَّا الصَّبرُ غير الجميل : فهو الصَّبرُ لسائر الأغراض ، لا لأجل الرِّضا بقضاءِ الله سبحانه وتعالى والضَّابطُ في جميع الأقوال والأفعال والاعتقادات : أنه لكما كان لطلب عبودية الله تعالى كان حسناً وإلا فلا .
ثم قال : { والله المستعان على مَا تَصِفُونَ } أي : استعين بالله على الصَّبر على ما تكذبون .
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
قوله تعالى : { وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ } [ الآية : 19 ] واعلم أنه تعالى بيَّن كيف السَّبيلُ في خلاصِ يوسف من تلك المحنةِ فقال : { وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ } . قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنهما : أي قوم يسيرون من مدْين إلى مِصْرَ فأخطئوا الطريق ، وانطلقوا يهيمون على غير طريق ، فهبطوا على أرضٍ فيها جُبُّ يوسف ، وكان الجبُّ في قَفْرٍ بعيدٍ من العمرانِ لم يكن إلاّ للرُّعاةِ . وقيل : كان ماؤه مِلْحاً ، فعذُبَ حين ألقي يوسفُ فيه ، وأرسلوا واردهم الذي يردُ الماء ليستقي للقوم قال القُرطبيُّ : « فأرسَلُواْ وَارِدهُمْ » ذكَّر على المعنى ، ولو قال : فأرسلت واردها؛ لكان على لفظ « وجَاءَتْ » . والوَارِدُ : هو الذي يتقدَّمُ الرُّفقة إلى الماءِ فيهىء الأرْشيةَ ، والدَّلاء ، وكان يقال له : مالكُ بنُ دعر الخُزاعِيُّ « .
قوله : { فأدلى دَلْوَهُ } يقال : أدلَى دلوهُ ، أي : أرسلها في البِئْرِ ، ودلاَّها إذا أخرجها ملأى؛ قال الشاعر : [ الرجز ]
3070
لا تَقْلُواهَا وادْلُواهَا دَلْوَا ... إنَّ مَعَ اليَومِ أخاهُ غَدْوَا
يقال : أدْلَى يُدْلِي إدْلاءً : إذا أرسل ، وَدلاَ يَدلُوا دَلْواً : إذا أخرج وجذبَ ، والدَّلوُ معروفةٌ ، وهي مؤنثةٌن فتصغَّرُ على » دُليَّةِ « ، وتجمع على دلاءٍ ، أدلٍ والأصلُ : دِلاوٌ ، فقلبت الواو همزة ، نحو » كِسَاء « ، و » أدلوٌ « ، فأعلَّ إلال قاضٍ و » دُلُوو « بواوين ، فقلبا ياءين ، نحو » عِصِيّ « .
قوله : » يَابُشْرَايَ : ههنا محذوف ، تقديره : فأظهروا يوسف ، قرأ الكوفيون بحذف ياء الإضافة ، وأمال ألف « فُعْلَى » الأخوانِ وأمالها ورشٌ بين بين على أصله ، وعن أبي عمرو الوجهان ، ولكن الأشر عنه عدمُ الإمالةِ ، وليس ذلك من أصله عن ما قُرِّر في علم القراءاتِ ، وقرأ الباقون « يَا بُشْرَاي » مضافة إلى ياء المتكلِّم .
فصل
في قوله : « يابشراي » قولان :
الأول : أنَّها كلمةٌ تذكَّر عند البشارةِ ، كقولهم : يا عجبا من كذا ، وقوله : { ياأسفا عَلَى يُوسُفَ } [ يوسف : 84 ] وعلى هذا القول ففي تفسير النِّداء وجهان :
الأول : قال الزجاج « معنى النِّداء في هذه الأشياء : تنبيه المخاطلبين ، وتوكيد القصَّة ، فإذا قلت : يا عجباهُ ، فكأنك قلت : أعْجَبُوا .
الثاني : قال أبو عليٍّ : » كأنه يقول : يا أيتها البشرى هذا الوقت وقت ، ولو كنت ممَّن يخاطب لخوطبت ، ولأمرت بالحضورِ « .
واعلم أنَّ سبب البشارةِ : أنهم وجدوا غلاماً في غاية الحسن فقالوا : نَبيعهُ بثَمنٍ عظيم ، ويصيرُ ذلك سبباً للغناءِ .
والقول الثاني : قال السديّ : الذي نادى كان اسمُ صاحبهِ بُشْرَى فناداه فقال : يا بُشْرَاي ، كما تقول : » يَا زْيْدُ « .
وعن الأعمش أنه قال : دعا امْرأةً امسها بُشْرَى .
قال أبو علي الفارسيُّ إن جعلنا البشرى اسماً للبشارة ، وهو الوجه؛ جاز أن يكون في محلّ الرفع ، كما قيل : » يَا رجُلُ « لاختصاصه بالنِّداء ، وجاز أن يكون موضع نصب على تقدير : أنه جعل هذا النِّداء شائعاً في جنس البشرى ، ولم يخص كما تقول : يا رجُلاً ، و
{
ياحسرة عَلَى العباد } [ يس : 30 ] .
وقرأ ورش عن نافع : « يَا بُشْرَايْ » بسكون الياء ، وهو جمع بين ساكنين على غير حدِّه في الوصل ، وهذا كما تقدم في { عَصَايَ } [ طه : 18 ] وقال الزمخشري : « وليس بالوجهِ ، لما فيه من التقاءِ السَّاكنين على غير حدِّه إلاَّ أن يقصد الوقف » .
وقرأ الجحدريُّ ، وابن أبي إسحاق ، والحسن : « يَا بُشْرَيَّ » بقلب الألف ياءً وإغامها في ياء الإضافة ، وهي لغة هُذليَّةٌ ، تقدم الكلام عليها في البقرة عند قوله : { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ } [ البقرة : 38 ] .
وقال الزمخشري : « وفي قراءة الحسن : » يَا بُشْرَيَّ « بالياء مكان الألف جعلت الياءُ بمنزلة الكسرة قبل ياء الإضافة ، وهي لغةٌ للعرب مشهورةٌ ، سمعت أهل السروات في دعائهم يقولون : يا سيِّديَّ ، وموليَّ » .
قوله : « وأسَرُّوهُ » الظَّاهرُ أن الضمير المرفوع يعود على السَّيَّارة ، وقيل : هو ضمير إخوته ، فعلى الأول : أن الوارد ، وأصحابه أخفوا من الرفقةِ أنهم وجدوهُ في الجبّ ، وقالواك إن قلنا للسَّيَّارة التقطناه شاركونا ، وإن قلنا : اشتريناه سألونها الشّركة ، فلا يضرُّ أن نقول : إنَّ أهل الماءِ جعلوه بضاعة عندنا على أن نبيعه بمصر .
وعلى الثاني : نقل ابنُ عبَّاسٍ : رضي الله عنهما « وأسَرُّوهُ » يعني إخوة يوسف أخفوا كونه أخاهم ، بل قالوا : إنَّهُ عبدٌ لنا أبقَ منا ، ووافقهم يوسف على ذلك؛ لأنهم توعَّدوهُ بالقتلِ بلسانِ العِبرانيَّةِ .
و ( بضاعَةً ) نصب على الحال . قال الزَّجَّاج كأنه قال : « وأَسرّوه حال ما جعلُوه بضاعةً » ، وقيل : مفعول ثانٍ على إن يُضَمَّن « أَسَرُّوهُ » معنى صَيَّروه بالسِّرِّ .
والبضاعة : هي قطعةٌ من المالِ تعدُّ للتَّجارة من بضعت ، أي : قطعت ومنه : المبضعُ لما يقطع به .
ثم قال : { والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } والمعنى : أنَّ يوسف لما رأى الكواكبَ والشمس ، والقمر في النَّوم سجدتْ له ، وذكر ذلك؛ حسده إخوته ، فاحتالُوا في إبطال ذلك الأمر عليه ، فأوقعوه في البلاءِ الشَّديد ، حتى لا يتم له ذلك المقصود؛ فجعل الله تعالى وقوعه في ذلك البلاءٍ سبباً لوصوله إلى « مِصْرَ » ، ثمَّ تتابع الأمرُ إلى أن صار ملك مصر ، وحصل ذلك الذي رآه في النَّوم ، فكان العملُ الذي عمله إخوته دفعاً لذلك المطلوب ، صيَّره الله سبباً لحصولِ ذلك المطلوب ، ولهذا المعنى قال : { والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } .
قوله : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ } شَرَى بمعنى اشترى ، قال الشاعر : [ الطويل ]
3071
ولَوْ أنَّ هَذَا المَوْتَ يَقبَلُ فِذْيةً ... شَرَيْتُ أبَا زيْدٍ بمَا مَلكتْ يَدِي
وبمعنى : باع؛ قال الشاعر : [ مجزوء الكامل ]
3072
وشَريْتُ بُرْداً ليْتَنِي ... مِنْ بعْدِ بُردٍ كُنْتُ هَامَهْ
فإن قلنا : المراد من الشِّراء نفس الشراءِ ، فالمعنى : أنَّ القوم اشتروه ، وكانوا فيه من الزَّاهدينَ؛ لأنهم علموا بقرائن الأحوال أنَّ إخوة يوسف كذبُوا في قولهم : إنَّهُ عبدُ لنا ، وأيضاً عرفوا أنَّه ولدُ يعقوب ، فكرهوا أيضاً شراءه؛ خوفاً من الله تعالى من ظهور تلك الواقعة ، إلاَّ أنَّهُم مع ذلك اشتروه بالآخة؛ لأنُّهُم اشتروه بمثنٍ بخسٍ ، وطمعوا في بيعه بمثن عظيمٍ ، ويحتملُ أن يقال : إنهم اشتروه مع أنهم أظهرُوا من أنفسهم كونهم فيه من الزَّاهدين ، وغرضهم أن يتوصَّلُوا بذلك إلى تقلل الثَّمن ، ويحتمل أن يقال : إنَّ الإخوة لما قالوا : إنه عبدٌ أبق منا صار المشتري عديم الرغبة فيه .
قال مجاهدُ رحمه الله كانوا يقولون : لئلا يأبق .
وإن قلنا : إنَّ المراد من الشِّراء البيع ففي ذلك البائع قولان :
الأول : قال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما إنَّ إخوة يوسف لمَّا طرحوه في الجبّ ، ورجعوا عادوا بعد ثلاثٍ يتعرَّفُونَ خبره ، فلمَّا لم يروه في الجبّ ، ورأوا آثار السَّيارة طلبوهم ، فلمَّا رأوا يوسف قالوا : : هذا عبدٌ لنا أبق منا فقالوا لهم : فبيعوه منَّا ، فباعوه منهم ، وإنَّما وجب حملُ الشِّراء على البيع؛ لأن الضمير في قوله : « وشَرَوْهُ » وفي قوله : { وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين } عائدٌ إلى شيءٍ واحدٍ ، وإذا كان كذلك فهم باعوه؛ فوجب حملُ الشراء على البيع .
والثاني : أن بائع يوسف هم الَّذين اسْتَخْرجُوه من الجُبّ .
وقال محمد بن إسحاق : وربُّك أعلمُ أإخوته باعوه ، أم السيارة؟ .
والبَخْسق : النَّاقصُ ، وهو في الأصل مصدرٌ ، وصف به مبالغة .
وقيل : هو بمعنى مفعولٍ ، و « دَراهِمَ » بدلٌ من « بِثَمَنٍ » ، و « فِيهِ » متعلق بما بعده ، واغتفر ذلك للاتِّساعِ في الظروف ، والجار ، أو بمحذوف وتقدم [ البقرة : 130 ] مثله .
فصل
اعلم أنه تعالى وصف ذلك الثمن بصفات ثلاثٍ :
إحداها : كونه بخساً ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريدُ حراماً؛ لأنَّ ثمن الحُرَّ حرامٌ ، وقال : وكلٌّ بخس في كتابِ اللهِ نقصان إلاَّ هذا فإنهُ حرامٌ .
قال الواحدي : « سمي الحرامُ بخساً؛ لأن ناقصُ البركة » .
وقال قتادة : بخس : ظلم ، والظُّلمُ نقصان ، يقال : ظلمهُ ، أي : نقصهُ وقال عكرمةُ والشعبيُّك قليل . وقيل : ناقص عن القيمة نقصاناً ظاهراً وقيل : كانت الدَّراهمُ زيوفاً ناقصة العيارِ .
قال الواحديُّ : وعلى الأقوال كُلِّها ، فالبخسُ مصدرٌ وقع موصع الاسمِ ، والمعنى : بثمنٍ مبخُوسٍ .
وثانيها : قوله : { دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } قيل : تعدُّ عدًّا ، ولا توزن إلا أنهم كانوا يزنون إذا بلغ الأوقية ، وهي أربعون ويعدُّون ما دونها . فقيل للقليل معدودٌ ، لأن الكثير لا يعدُّ لكثرته ، بل يوزن قال ابن عباسٍ ، وابنُ مسعود ، وقتادةٌ رضي الله عنهم : كانت عشرين درهماً ، فاقتسموها درهمين درهمين إلا يهوذا ، فإنَّه لم يأخذ شيئاً .
الثالث : أن الذين اشتروه كانوا فيه مِنَ الزَّاهدين ، وقد سبق توجيه هذه الأقوال .
وقال مجاهدٌ والسديُّ : اثنين وعشرين درهماً .
فإن قيل : إنَّهم لما ألقوه في الجبِّ حسداًن فأرادوا تضييعه عن أبييه ، فلمَ باعوه؟ .
فالجواب : أنَّهم لعلَّهم خافوا أن تذكر السيارة أمره ، فيردوه إلى أبيه ، لأنَّه كان أقرب إليهم من مصر .
فإن قيل : هب أنَّهم أرادوا ببيعه أيضاً تبعيده عن أبيه؛ فلمَ أحلَّ له أخذ ثمنه « .
فالجواب : أن الذي اشترى يوسف كان كافراً ، وأخذُ مالِ الكافرِ حلالٌ .
وثالثها : قوله : { وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين } ومعنى الزُّهد : قلَّة الرغبة ، يقال زهد فلان في كذا إذا لم يرغب فيه ، وأصله من القلَّة ، يقال : رجلٌ زهيدٌ ، إذا كان قليل الجِدةِ ، وفيه وجوه :
الأول : أنَّ إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام باعوه؛ لأنهم كانوا فيه من الزَّاهدينَ
الثاني : أنَّ السيَّارة كانُوا فيه من الزَّاهدين؛ لأنَّهم التَقطُوهُ ، والملتَقِطُ يتهاونُ ، ولا يباللاي بأي شيءٍ يباعُ ، أو لأنَّهُم خافوا أن يظهر المستحق ، فينزعه من يدهم ، فلا جرم باعوه بالأوكس من الأثمان .
والضمير في قوله : » فِيهِ « يحتمل أن يعود إلى يوسف ، ويحتمل أن يعود إلى الثَّمن البَخْسِ .
فصل
قال القرطبيُّ : » في الآية دليلٌ على شراءِ الشَّيء الخطيرِ بالثَّمنِ اليسير ، ويكونُ البيع لازماً « .
قوله : { وَقَالَ الذي اشتراه } [ الآية : 21 ] اعلم أنَّه ثبت أنَّ الذي اشتراه [ إما ] من الإخوة ، وما من الواردين على الماء ذهب به إلى مصر وباعه .
قيل : إن الذي اشتراه هو العزيزُ ، كان اسمه » قطفير « ، وقيل : إطْفيرُ الذي يلي خزائن مصر ، والملك يومئذ : الرَّيَّان بنُ الوليدِ ، رجل من العماليق ، وقد آمن بيوسف ، ومات في حياةِ يوسف عليه الصلاة والسلام قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما دخلوا مِصْر تلقَى العزيز مالك بن دعرٍ فابتاع منه يوسف ، وهو ابنُ سبع عشرة سنة ، [ وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة ، وقيل : سبْع عشرة سَنَة ] ، واستوزره الرَّيان ، وهو ابن ثلاثين سنة ، وآتاه اللهُ العِلم ، والحُكم ، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، وتوفي ، وهو ابنُ مائة وعشرين سنة .
وقال الذي اشتراهُ من مصر لا مرأته قيل : كان اسمها زليخا وقيل : » راعيلُ « . قال ابن كثير : » الظّاهرُ أنَّ زليخا لقبها « .
قوله : » مِنْ مِصرَ « يجوز فيه أوجه :
أحدها : أن يتعلَّق بنفس الفعل قبله ، أي : اشتراه من مصر ، كقوله : اشْتَريْتُ الثَّوب من بغداد ، فهي لابتداء الغايةِ ، وقول أبي البقاءِ : أي : » فيها ، أو بها « لا حاجة إليه .
والثاني : أنه حالٌ من الضمير المرفوع في : » اشْتراهُ « فيتعلق بمحذوفٍ أيضاً .
وفي هذين نظرٌ؛ إذ لا طائل في هذا المعنى .
و » لامْرَأتهِ « متعلقٌ ت ب » قَالَ « فهي للتبليغ ، وليست متعلقة ب » اشْتراهُ « .
قوله : « أكْرمِي مَثوَاهُ » ، أي : منزله ، ومقامه عندك ، من قولك : ثويتُ بالمكان ، إذا أقمت فيه ، ومصدره الثَّواء ، والمعنى : اجعلي منزلته عندك كريماً حسناً مرضيًّا ، بدليل قوله تعالى : { إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } [ يوسف : 23 ] قال المحققون : أمر العزيز امرأته بإكرام مثواهُ دون إكرام نفسه ، يدلُّ على أنه كان ينظرُ إليه على سبيل الإجلال ، والتعظيم .
{
عسى أَن يَنفَعَنَآ } أي : نبيعه بالرِّبح إذا أردنا بيعه ، أو يكفينا إذا بلغ بعض أمورنا { أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً } نَتبنَّاهُ .
قال ابن مسعودٍ : « أفرْسُ النَّاس ثلاثة : العزيزُ في يوسف حيثُ قال لامرأته : { أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عسى أَن يَنفَعَنَآ } [ يوسف : 21 ] وابنة شعيب حين قالت لأبيها في موسى : { استأجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين } [ القصص : 26 ] ، وأبو بكر في عمر حين استخلفه » .
قوله : { وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ } الكاف كما تقدم في نظائره حالٌ من ضمير المصدر ، أو نعتٌ له ، أي : ومثل ذلك الإنجاء من الجبّ والعطف مكَّنا له ، أي : كما أنجيناه ، وعطفنا عليه العزيز مكَّنا له في أرض مصر ، أي : صار متمكناً من الأمرِ والنهي في أرض مصر ، وجلعناه على خزائنها .
قوله : { وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث } وهي تعبير الرُّؤيا . واللام في « ولنُعَلِّمُه » فيها أوجه :
أحدها : أن تتعلقَّق بمحذوف قبله ، أي : وفعلنا ذلك لنعلمه .
والثاني : أنها تتعلَّق بما بعده ، أي : ولنعلمه ، فعلنا كيت ، وكيت .
[
الثالث : أن يتعلَّق ب « مَكَّنَّا » على زيادة الواو ] .
قوله : { والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ } الهاء في « أمْرهِ » يجوز أن تعود على الجلالةِ أي : أنه تعالى : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ البروج : 16 ] لا يغلبه شيءٌ ، ولا يردُّ حكمهُ رادٌّ ، لا دافع لقضائه ، ولا مانع من حكمه في أرضه ، وسمائه . ويجوز أن تعود على يوسف ، أي : أنه يدبره ، ولا يكله إلى غيره ، فقد كادوه إخوته ، فلم يضروه بشيء { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أنَّ الأمر كله بيد الله .
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
قوله تعالى : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } الآية لما بيَّن تعالى أن إخوته لمَّا أساءوا إليه ثمَّ صبر على تلك الإساءة ، والشَّدائد مكَّنهُ اللهُ في الأرض ، ثم لما بلغ أشدهُ آتاه اللهُ الحكم ، والعلم ، والمقصود أن جميع ما قام به من النِّعمِ كان جزاء على صبره .
قوله : « أشدَّهُ » فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : وهو قولُ سيبويه : أنَّهُ جمع مفرده شدَّة ، نحو نعمة وأنعم .
الثاني : قول الكسائي أنَّ « أشدّه » مفردة : « شدَّ » بزنة « فعل » نحو : « صَكَّ » ، وأصكَّ « ويؤيدهُ قول الشاعر : [ الكامل ]
3073
عَهْدِي بِهَا شدَّ النَّهارُ كأنَّما ... خُضِبَ البَنَانُ ورَأسهُ بالعِظْلِم
والثالث : أنه جمعٌ لا واحد له من لفظه ، قاله أبو عبيدة ، وخالفه الناس في ذلكن وقد سمع » شدَّه وشُدَّ « وهما صالحانِ له ، وهو من الشدِّ ، وهو الرَّبطُ على الشيء ، والعقد عليه .
قال الراغب : وقوله تعالى : { حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } [ الأحقاف : 15 ] فيه تنبيهٌ على أنَّ الإنسان ، إذا بلغ هذا القرار استوى خلقه الذي هو عليه ، فلا يكادُ يزايله ، ما أحسن ما [ نبه له ] الشاعر حين قال : [ الطويل ]
3074
إذَا المَرْءُ وافَي الأرْبعينَ ولمْ يَكُنْ ... لَهُ دُونَ ما يَهْوَى حَياءُ و لا سِتْرُ
فَدعْهُ ولا تَنفِسْ عَليْهِ الَّذي مَضَى ... وإنْ جَرَّ أسَبابَ الحَياةِ لهُ العُمْرُ
والأّشدَّ : منتهى شبابه ، وشدَّته ، وقوَّته . قال مجاهدٌ عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما : ثلاثاً وثلاثين سنة . وقال السديُّ : ثلاثين سنة وقال الضحاكُ : » عشرين سنة « وقال الكلبيُّ : ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة .
وسئل مالكٌ رضي الله عنه عن الأشد قال : هو الحلم ، وقد تقدَّم الكلامُ على الأشد في سورة الأنعام عند قوه : { حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } [ الأنعام : 152 ] .
قوله : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً } فالحُكْمُ : النبوةُ ، والعلمُ : التفقَهُ في الدِّين ، وقيل : يعني : إصابة في القول ، وعلماً [ بتفاصيل ] الرُّؤيا . وقيل : الفرقُ بين الحكيمِ والعالمِ : أن العالم هو الذي يعلم الأشياء ، والحكيمُ : الذي يَحكمُ بما يوجبه العلمُ .
قوله : » وكَذِلكَ « إمَّا نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، أو حالٌ من ضمير المصدر ، وتقدَّم نظائره .
{
نَجْزِي المحسنين } قال ابنُ عبًّاسٍ رضي الله عنهما : المؤمنين ، وعنه أيضاً : المهتدين . وقال الضحاك : الصَّابرين على النَّوائب كما صبر يوسفُ .
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
قوله تعالى : { وَرَاوَدَتْهُ التي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ } [ الآية : 23 ] أعلم أنَّ يوسف عليه الصلاةوالسلام كان في غاية الجمال ، فملا رأته المرأةُ؛ طمعت فيه .
«
وَرَاوَدتْهُ » ، أي طالبته برفقٍ ولين قول ، والمُاردودَةُ : المصدرُ ، والرِّيادةُ : طلب النِّكاح ، يقال : وَاوَدَ فلانٌ جاريته عن نفسها ، وراودته عن نفسه ، إذا حاول كُلُّ واحدٍ منها الوطء ، ومشى رويداً ، أي : برفقٍ في مِشْيتهِ ، والرَّودُ : الرِّفقُ في الأمورِ ، والتَّأنِّي فيها ، وراودت المرأةُ في مشيها ترودُ رَوَدَاناً من ذلك .
والمِرْودةٌ هذه الآية منه ، والإرادة منقوله من رَادَ يَرُودُ إذا سعى في طلب حاجة ، وتقدَّم ذلك في البقرة : [ 26 ] .
وتعدى هنا ب « عَنْ » لأنه ضمن معنى خادعتهُ ، أي : خادعته عن نفسه ، والمفاعلة هنا من الواحدِ ، نحو : داويت المريض ، ويحتملُ أن تكون على بابها ، فإنَّ كلاًّ منهما كان يطلبُ من صاحبه شيئاً برفق ، هي تطلبُ منه الفعل ، وهو يطلبُ منها التَّرْكَ .
والتشديدُ في « غَلّقتْ » للتكثير لتعدُّدِ المحالِّ ، اي : أغلقت الأبواب وكانت سبعةً .
قال الواحدي : « وأصل هذا من قولهم في كلِّ فعل تشبث في شيء فلزمه قد غلق ، يقال : غلق في الباطل ، وغلق في غضبه ، ومنه غلق الرهن ثم يعدى بالألف ، فيقال : أغلق الباب إذا جعله بحيث يعسر فتحه ، والسبب في تغليق الأبواب أنَّ [ هذا الفعل ] لا يُؤتى به إلاَّ في المواضع المستُورةِ لا سيَّما إذا كان حراماً ، ومع الخوف الشديد » .
قوله : « هَيْتَ لَكَ » اختلف أهلُ النَّحو في هذه اللفظة ، هل هي عربيةٌ أم معربةٌ؟ .
فقيل : معربةٌ من القبطيَّة بمعنى : هلمَّ لك ، قاله السديُّ . وقيل : من السِّريانيَّة ، قاله ابن عبَّاس ، والحسن . وقيل : من العبرانية ، وأصلها : هَيْتَلخَ أي : تعاله فعربه القرآن ، قاله أبو زيدٍ الأنصاري . وقيل : هي لغة حورانيَّة وقعت [ إلى أهل ] الحجاز ، فتكلموا بها ، معناها : تعالى ، قاله الكسائي والفراء ، وهو منقولٌ عن عكرمة . والجمهور على أنَّها عربيةٌ .
قال مجاهدٌ : هي كلمةٌ حثِّ ، وإقبال . ثمَّ هي في بعض اللغات تتعيَّن فعلتيها وفي بعضها اسميتها ، وفي بعضها يجوز الأمران كما ستعرفه من القراءات المذكورة فيها .
فقرأ نافع ، وابن ذكوان : « هِيْتَ » بكسر الهاءِ ، وسكون الياءِ ، وفتح التَّاء .
وقرأ ابن كثير « هَيْتَ » بفتح الهاء ، وسكون الياء ، وتاء مضمومة . وقرأ هشام « هِئْتُ » بكسر الهاء ، وهمزة ساكنة ، وتاء مفتوحة ، أو مضمومة . وقرأ الباقون : « هَيْتَ » بفتح الهاء ، وياء ساكنة ، وتاء مفتوحة . فهذه خمسُ قراءاتٍ في السَّبعِ .
وقرأ ابن عباسٍ ، وأبو الأسود ، والحسنُ ، وابن محيصن بفتح الهاء ، وياء ساكنة وتاء مكسورة . وحكى النحاس : أنه قرىء بكسر الهاء والتاء بينهما ياء ساكنة .
وقرأ ابن عباس رضي الله عنه أيضاً : « هُيِيْتُ » بضمِّ الهاءٍ ، وكسر الياء بعدها ياء ساكنة ثم تاء مضمومة بزنة « حُيِيْتُ » .
وقرأ زيد بن علي ، وابن إبي إسحاق : بكسر الهاء ، وياء ساكنة ، وتاء مضمومة ، فهذه أربع قراءات في الشاذ ، فصارت تسع قراءات .
وقرأ السلمي ، وقتادة بكسر الهاء وضم التاء مهموزاً ، يعنى تهيأت لك ، انكره أبو عمرو ، والكسائي ، ولم يحك هذا عن العرب ، فيتعين كونها اسم فعلٍ في غير قراءة ابن عبَّاس « هُيِيْتُ » بزنة ، « حُيِيْتُ » وفي غير قراءة كسر الهاء سواء كمان ذلك بالياء ، أم بالهمز ، فمن فتح التاء بناها على الفتح تخفيفاً ، نحنو : أين ، وكيف ، ومن ضمَّها كابن كثيرٍ شبهها ب « حَيْثُ » ، ومن كسر فعلى أصل التقاء الساكنين ك : « جَيْر » ، وفتح الهاء ، وكسرها لغتان ، ويتعيَّن فعليتها في قراءة ابن عبَّاس « هُيِيْتُ » بزنة : « حُيِيْتُ » فإنها فيها فعل ماض مبني للمفعول مسند لضمير المتكلِّم من « هَيَّاتُ الشَّيءَ » .
ويحتمل الأمرين في قراءة من كسر الهاء ، وضمَّ التاء ، فتحتمل أن تكون فيه أسم فعل [ بنيت على ] الضم ، ك « حَيْثُ » ، وأن تكون فعلاً مسنداً لضمير المتكلم ، من : هاء الرَّجل يَهيءُ ، ك « جَاء يَجِيءُ » ، وله حينئذ معنيان :
أحدهما : أن يكون بمعنى : حسنت هيئته .
والثاني : أن يكون بمعنى تَهَيَّأ ، يقال : « هَيُئْتُ ، أي : حَسُنَتْ هَيْئتي ، أوْ تَهَيَّأتُ .
وجواز أبو البقاءِ : أن تكون » هِئْتَ « هذه من : » هَاءَ يَهَاءُ « ك » شَاءَ يَشَاءُ « .
وقد طعن جماعةٌ على قراءة هشام الَّتي بالهمز ، وفتح التَّاء ، فقال الفارسي : يشبه أن يكون الهمز وفتح التاء وهماً من الراوي؛ لأنَّ الخطاب من المرأة ليوسف ، ولم يتهيَّأ لها بدليل قوله : » وَرَاودَتْهُ « ، و » أنِّي لَمْ أخُنْهُ بالغَيْبِ « ، وتابعه على ذلك جماعة . وقال مكي بنُ أبي طالب : » يجبُ أن يكون اللفظ « هِئْتَ لي » أي : تهَيَّأتْ لِي ، ولم يقرأ بذلك أحدٌ ، وأيضاً : فإنَّ المعنى على خلافه؛ لأنَّه [ لم يزل ] يفرُّ منها ، وتباعد عنها ، وهي تراوده ، وتطلبه ، وتقدُّ قميصهن فكيف تخبر أنه تهيأ لها؟ « .
وأجاب بعضهم عن هذين الإشكالين بأن المعنى : تهيأ لي أمرك لأنها لم تكن تقدر على الخلوة به في كل وقت ، أو يكون المعنى : حَسُنَتْ هَيْأتُكَ . أو » لَكَ « متعلق بمحذوف على سبيل البيانِ ، كأنها قالت : القول لك ، أو الخطاب لك ، كهي في » سَقْياً لَكَ ورَعْياً لَكَ « .
قال شهابُ الدِّين : » واللاَّم متعلقة بمحذوف على كلِّ قراءة إلاَّ قراءة ثبت فيها كونها فعلاً ، فإنَّها حينئذ تتعلق بالفعل ، إذ لا حاجة إلى تقدير شيء آخر « .
وقال أبو البقاءِ : « والأضبهُ أن تكون الهمزةُ بدلاً من الياءِ ، أو تكون لغة في الكلمة التي هي اسم للفعل ، وليست فعلاً ، لأن ذلك يوجب أن يكون الخطاب ليوسف عليه الصلاة والسلام » . وهو فاسدٌ لوجهين :
أحدهما : أنَّهُ لم يَتهيَّأ لها ، وإنَّما تَهيَّأت لهُ .
الثاني : أنه قال : « لَكَ ، ولو أراد الخطاب لقال : » هِئْتَ لي « ، وتقدم جوابه وقوله : » إنَّ الهمزة بدلٌ من الياء « . هذا عكس لغة العرب ، إذ قد عهدناهم يبدلون الهمزة السَّاكنة ياء إذا انكسر ما قبلها ، نحو : » بِير « و » ذِيب « ولا يقبلون الياء المكسور ما قبلها همزة ، نحو : مِيل ، ودِيك ، وأيضاً : فإنَّ غيرهُ جعل الياء الصَّريحة مع كسر الهاء كقراءة نافع ، وابن ذكوان محتملة؛ لأن تكون بدلاً من الهمزة ، قالوا فيعودُ الكلامُ فيها ، كالكلام في قراءة هشامٍ .
واعلم أنَّ القراءة التي استشكلها الفارسي هي المشهورةُ عن هشامٍ ، وأمَّا ضمُّ التاء فغير مشهورٍ عنه .
ثمَّ إنَّهُ تعالى أخبر أنَّ المرأة لما ذكرت هذا الكلام ، قال يوسف عليه الصلاة والسلام { مَعَاذَ الله إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } » مَعاذَ اللهِ « منصوب على المصدر بفعل محذوفٍ ، أي : أعوذُ بالله معاذاً ، يقالُ : عَاذَ يعُوذُ عِيَاذاً [ وعِيَاذةً ] ، ومعاذاً ، وعوْذاً؛ قال : [ الطويل ]
3075
مَعاذَ الإلهِ أن تكُونَ كَظبْيةٍ ... ولا دُمْيةٍ ولا عَقِيلةِ ربْرَبِ
قوله » إنَّهُ « يجوز أن تكون الهاء ضمير الشَّأن ، ما بعده جملة خبرية له ، ومراده بربه : سيِّده ، ويحتمل أن تكون الهاء ضمير الباري تعالى ، و » ربِّي « يحتمل أن يكون خبرها ، و » أحسنَ « جملةٌ حاليةٌ لا زمةٌ ، وأن تكون مبتدأ ، » وأحْسنَ « جملة خبرية له ، والجلمة خبر ل » أنَّ « وقرأ الجحدريُّ ، وأبو الطفيل الغنوي » مَثْويَّ « بقلب الألف ياء ، وإدغامها ك » بُشْرَيَّ « و » هُدَيَّ « .
و : { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ } هذه الهاء ضمير الشأن ليس إلاَّ؛ » فعلى قولنا : إنَّ الضمير في قوله : { إِنَّهُ ربي } يعود إلى زوجها قطفير ، أي : إنه ربِّي سيِّدي ، ومالكي أحسن مثواي حين قال لها : { أَحْسَنَ مَثْوَايَ } ، فلا يليقُ بالعقل أن أجازيه على ذلك الإحسان بهذه الخيانة القبيحة وقيل : إنها راجعةٌ إلى الله تبارك وتعالى أي : أنَّ الله ربي أحسن مثواي ، أي : تولاَّنِي ، ومن بلاء الجبّ عافاني : { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } يعني : إن فعلتْ هذا فخنته في أهله بعدما أكرم مثواي ، فأنا ظالمٌ ، ولا يفلحُ الظالمُونَ .
وقيل : أراد الزناةح لانهم ظالمون لأنفسهم؛ لأنَّ عملهم يقتضي وضع الشيء في غير موضعه .
فصل
ذكر ابنُ الخطيبِ هاهنا سؤالات :
الأول : أن يوسف عليه الصلاة والسلام كان حراً ، وما كان عبداً ، فقوله : { إِنَّهُ ربي } يكون كذباً ، وذلك ذنبٌ وكبيرة .
والجواب : أنه عليه الصلاة والسلام أجرى هذا الكلام بحسب الظاهر على وفق ما كانوا يعتقدون فيه من كونه عبداً .
وأيضاً : إنَّه ربه ، وأنعم عليه بالوجوه الكثيرة ، فعنى بقوله : { إِنَّهُ ربي } كونه مربياً وهو من باب المعاريض الحسنةٍ ، فإنَّ الظَّاهرِ يحملونه على كونه ربًّا ، وهو كأنه يعني به أنه كان مربياً له ومنعماً عليه .
السؤال الثاني : ذكر يوسف عليه الصلاة والسلام في الجواب في كلامه ثلاثة أشياء :
أحدها : قوله : « مَعَاذ اللهِ » .
والثاني : قوله : { إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } .
والثالث : قوله : { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } فما وجه تعلُّق هذه الجوابات بعضها ببعض « .
والجواب : هذا الترتيب في غاية الحسنح لأن الأنقياد لأمر الله تعالى وتكاليفه أهم الأشياء لكثرة إنعامه ، ألطافه في حق العبدِ ، فقوله : { مَعَاذَ الله } إشارة أنَّ حقَّ اللهِ يمنعُ من هذا العملِ .
وأيضاً : حقوق الخلق واجبة الرعاية ، فلما كان هذا الرجل قد أنعم في حقّي ، فيثبحُ معاملة [ إنعامه ] بالإساءة .
وأيضاً : صونُ النَّفسِ عن الضَّرر واجب ، وهذه اللذَّة قليلة ، ويتبعها خزيٌ في الدُّنيا وعذابٌ في الآخرة ، وهذه اللذَّة القليلة إذا تبعها ضررٌ شديدٌ؛ ينبغي تركها والاحتراز عنها ، لقوله : { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } فهذه الجواباتُ الثلاثة مرتبة على أحسن وجوه : التريب .
السؤال الثالث : هل يدلُّ قوله عليه الصلاة والسلام » مَعاذَ اللهِ « على صحَّةِ القضاء والقدر؟ .
والجوةابُ : أنه يدل دلالة ظاهرة؛ لأنه طلب من الله أن يعيذهُ من العمل ، وتلك الإعاذة ليست عبارة من لفظ الفعل ، والقدرة وإزاحة الأعذار ، وإزالة الموانع وفعل الألطاف؛ لأن كل هذا قد فعله الله تعالى ، فيكونُ طلبه إمَّا طلباً لتحصيل الحاصل ، أو طلباً لتحصيل الممتنع ، وأنَّه محالٌ ، فلعمنا أنَّ تلك الإعاذة التي طلبها يوسف من الله تعالى لا معنى لها إلا أن يخلق فيه داعية جازمة في جانب الطاعة ، وأن ينزل عن قلبه داعية المعصية ، وهو المطلوبُ .
ويدلُّ على ذلك : أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وقع بصره على زينب قال : » يا مُقلِّبَ القُلوبِ ثَبِّتْ قَلبِي على دِينِك « وكان المراد منه تقوية داعية الطَّاعة ، وإزالة داعية المعصية ، فكذا وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام : » قَلْبُ المُؤمنِ بَيْنَ أصْبُعيْنِ من أصَابع الرَّحْمنِ « قال : والمراد من الأصعبين : داعية الفعل وداعية التَّركِ ، وهَاتَانِ الدَّاعيتانِ لاَ يَحْصُلانِ إلا بِخلْقِ الله تعالى وإلا لافْتقرَتْ إلى داعيةٍ أخرى ، ولزم التَّسلسلُ؛ فثبت أن قول يوسف عليه الصلاة والسلام : » مَعَاذَ اللهِ « من أدل الدَّلائلِ على صحَّة القول بالقضاءِ ، والقدرِ .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } [ الآية : 24 ] جواب » لولاَ ما تقدَّم عليها ، وقوله : « وهَمَّ بِهَا » عند من يجيز تقديم جواب أدوات الشرط عليها ، وإما محذوف لدلالة هذا عليه عند من لا يرى ذلك ، وقد تقدَّم تقريرُ المذهبين مراراً ، كقولهم : « أنْتَ ظَالمٌ إنْ فَعلْتَ » ، أي : فعلت ، فأنت ظالزٌ ، ولا تقول : إن « أنت ظَالمٌ » هو الجوابُ ، بل دلَّ عليه دليلٌ ، وعلى هذا فالوقف عند قوله : « بُرْهَانَ ربِّه » والمعنى : لولا رُؤيته برهان ربه لهمَّ بها ، لكنه امتنع همَّهُ بها لوجودِ رُؤية برهانِ ربِّه ، فلم يحصل منه همِّ ألبتَّة ، كقولك : لولا زيدٌ لأكرمتك ، فالمعنى : إنَّ الإكرام ممتنعٌ لوجود زيد ، وبهذا يتخلَّص من الإشكال الذي يورد ، وهو : كيف يليقُ بنبي أن يهم بامرأة .
قال الزمخشري : « فإن قلت : قوله » وهمَّ بِهَا « داخل تحت القسم في قوله : » وَلقَدْ هَمَّتْ بِهِ « أم خارج عنه؟ . قلت : الأمران جائزان ، و من حقِّ القارىء إذا قصد خروجه من حكم القسم ، وجعله كلاماً برأسه أن يقف على قوله : » ولقَدْ هَمَّتْ بِهِ « يبتدىء قوله : { وَهَمَّ بِهَا لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } ، وفيه أيضاً إشعارٌ بالفرقِ بين الهمَّينِ .
فإن قلت : لِمَ جعلت جواب » لَوْلاَ « محذوفاً يدلٌّ عليه : » هَمَّ بِهَا « ، وهلاَّ جعلته هو الجواب مقدماً؟ .
قلت : لأن » لوْلاً « لا يتقدم عليها جو ابها من قبل أنَّه في حكم الشرطِ ، وللشَّرطِ صدر الكلام ، وهو وما في حيِّزهِ مم الجملتين ، مثل كلمة واحدة ، ولا يجوزُ تقديمُ بعض الكلمة على بعضٍ ، وأما حذف بعضها إذا دلَّ عليه دليلٌ؛ فهو جاءزٌ » .
فقوله : « وأما حذف بعضها إلخ » جواب عن سؤال مقدرٍ ، وهو أنَّهُ إذا كان جواب الشَّرط مع الجملتين بمنزلة كلمةٍ؛ فينبغي أن لا يحذف منهما شيء؛ لأنَّ الكلمة لا يحذفُ منها شيء .
فأجاب بأنَّهُ يجوز إذا دلَّ دليل على ذلك ، وهو كما قال ، ثم قال : فإن قلتَ لمَ جعلتَ « لَوْلاَ » متعلقة ب « هَمَّ بِهَا » وحدة ، ولم تجعلها متعلقة بجلمة وقله : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } ؛ لأن الهمَّ لا يتعلق بالجواهر ، ولكن بالمعاني ، ولا بد من تقدير المخالطةِ ، والمخالطة لا تكون إلا من اثنين معاً ، فكأنه قيل : همَّا بالمخالطة لولا أن منع مانعٌ أحدهما؟
قلتُ : نعم ما قلت : ولكن الله سبحانه وتعالى قد جاء بالهمين على سبيل التفضيل حيث قال : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } اه .
والزجاج لم يرتض هذه المقالة ، أي : كون قوله : « لَوْلاَ » متعلقة ب « هَمَّ بِهَا » فإنه قال : ولو كان الكلام « لَهمَّ بِهَا » لكان بعيداً ، فيكف مع سُقوطِ الكلام؟ [ يعني ] الزجاج أنه : لا جائز أن يكون « هَمَّ بِهَا » جواباً ل : « لَوْلاَ » ؛ لأنه لو كان جوابها لاقترن باللاَّمِ؛ لأنه مُثبتٌ ، وعلى تقدير أنَّهُ كان مقترناً باللاَّم كان يبعد من جهة أخرى ، وهي تقديمُ الجواب عليها .
وجواب ما قاله الزجاجُ : ما تقدم عن الزمخشري من أن الجواب محذوفٌ مدلولٌ عليه بما تقدَّم .
وأما قوله : [ ولو كان ] الكلام : « ولهمَّ بِهَا » فغيرُ لازم؛ لأنَّه متى كان جواب « لَوْ » ، و « لَوْلاَ » مثبتاً جاز فيه الأمران : اللام وعدمها ، وإن كان الإتيانُ اللاَّم هو الأكثر .
وتابع ابنُ عطيَّة في هذا المعنى فقال : « قول من قال : إنَّ الكلام قد تمَّ في قوله : » ولقَدْ هَمَّتْ بِهِ « ، وأن جواب » لَوْلاَ « في قوله : » وهَمَّ بَهَا « ؛ وأنَّ المعنى : لولا أن رأى البرهان لهم بها ، فلم يهمَّ يوسف عليه الصلاة والسلام قال : وهذا قولٌ يردُّه لسان العرب ، وأقوال السَّلف » .
فقوله : « يردُّه لسانُ العرب » فليس كذلك؛ لأنَّ وزن هذه الآية قوله : { إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لولاا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا } [ القصص : 10 ] فقوله : { إِن كَادَتْ } أمَّا أن تكون جواباً عند من يرى ذلك ، وإمَّا أن يكون دالاً على الجواب ، وليس فيه خروجٌ عن كلامِ العربِ ، هذا ما ردَّ عليه أبو حيَّان .
وكأن ابن عطيَّة إنما يعني بالخروج عن لسان العرب تجرد الجواب من اللاَّم على تقدير جواز تقديمه ، والغرض أن اللاَّم لم توجد .
فصل
الهمُّ هو المقاربةٌ من الفعل من غير دخولٍ فيه ، فهَمُّهَا : عزمُها على المعصية ، وأما همُّه : فرُوِيَ عن أبن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه حلَّ الهميان ، وجلس منها مجلسَ الخاتنِ .
وعن مجاهد رحمه الله أنَّه حلّ سراويله ، وجعل يعالجُ ثيابه ، وهذا قولُ سعيد بن جبير ، والحسن ، وأكثر المتقدمين رضي الله عنهم .
وقيل غير ذلك .
وقال أكثرُ المتأخِّرين : إنَّ هذا لا يليقُ بحال الأنبياء عليه الصلاة والسلام وقالوا : تم الكلام عند قوله : « ولقد همَّتْ بِهِ » ، ابتدأ الخبر عن يوسف فقال : { وَهَمَّ بِهَا لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } على التَّقديمِ ، والتأخير ، أي : لولا أنه رأى برهان ربِّه لهم بها ، لكنه رأى البُرهان ، فلم يهمّ .
قال البغويُّ : « وأنكره النُّحاة ، وقالوا : إنَّ العربَ لا تُؤخِّرُ » لَوْلاَ « عن الفعلِ فلا يقولون : قُمْتُ لولا زيدٌ ، وهي تريدُ : لولا زيدٌ لقُمْتُ » .
وذكر ابنُ الخطيبِ : عن الواحديِّ أنه قال في البسيطِ : « قال المفسِّرُون : هم يوسف أيضاً بالمرأة همَّا صحيحاً ، وجلس منها مجلس الرجُل من المرأةِ فلمَّا رأى البُرهانَ من ربه؛ زالت كلُّ شهوة عنه .
قال أبُو جعفرٍ الباقرُ بإسناده عن عليِّ كرَّم الله وجهه أنه قال : طمعت فيه ، وطمع فيها « .
ثمَّ إنَّ الواحديَّ طول في كلمات عاريةٍ عن الفائدة في هذا الباب ، ولم يذكر فيما احتج به حديثاً صحيحاً يعوَّل عليه في هذه المقالة ، ورُويَ أنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام لمَّا قال : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } [ يوسف : 52 ] قال له جبريل عليه السلام : ولا جين هممت يَا يوسف فقال عند ذلك : » ومَا أبرِّىءُ نَفْسِي « .
وقال بعضُ العلماءِ رضي الله عنهم : الهمُّ همَّان :
همٌّ يخطرُ بالبالِ من غير أن يبرز إلى الفعل .
وهمٌّ يخطرُ بالبالِ ، ويبرز إلى الفعل ، فالأوَّلُ مغفورٌ ، والثاني : غير مغفورٍ إلا أنْ يشاءَ اللهُ ، ويشهدُ لذلك قوله تعالى : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } ، فهمُّه عليه الصلاة والسلام كان خُطُراً بالبال من غير أن يخرج إلى الفعلِ ، وهمُّها خرج إلى الفعل بدليل أنَّها { وَغَلَّقَتِ الأبواب وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] ، { وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ } [ يوسف : 25 ] .
ويشهد للثاني قوله عليه الصلاة والسلام » إذَا التَقَى المُسْلمَانِ بسيفَيْهِمَا فالقَاتِلُ والمقْتولُ في النَّار ، فَقيلَ يا رسُول اللهِ هَذا القَاتِلُ فمَا بَالُ المَقْتُولِ؟ قال : لأنَّه كَانَ حَرِيصاً عَلَى قَتْلِ صَاحِبهِ « .
قال ابن الخطيب : وقال المُحققُونَ من المُفسِّرين ، والمتكلِّمين : إنَّ يُوسفَ عليه الصلاة والسلام ت كان بَرِيئاً من العملِ البَاطلِ ، والهَمّ المُحرَّم ، وبه نقولُ ، وعنه نذبُّ ، والدلائل الدَّالةُ على وُجوبِ عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مذكورة مقرّرة ونزيد هاهنا وجوههاً :
الأول : أن الزِّنا من منكرات الكبائرِ ، الخيانةٌ في معرض الأمانةِ أيضاً من منكرات الذُّنوبِ وأيضاً : الصبيُّ إذا تربَّى في حجر الإنسان ، وبقي مكفيَّ المؤنةِ ، مصون العرضِ من أوَّلِ صباهُ إل زمان شبابه ، وكما قوَّته ، فإقدام هذا الصبي على إيصال أقبح أنواع الإساءة إلى ذلك المنعم المفضل من منكرات الأعمال ، وإذا ثبت هذا فنقول : إن هذه المعصية إذا نسبوها إلى يوسف عليه الصلاة والسلام كانت موصوفة بجميع الجهالات ، ومثلُ هذه المعصية إذا نسيت إلى أفسقِ خلقِ الله ، وأبعدهم من كلِّ حسنٍ ، لا ستنكف منه ، فكيف يجوز إسنادهُ إلى الرَّسولِ المُؤيّد بالمعجزات الباهرة مع قوله تعالى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء } وأيضاً فلا يليق بحكمة الله تعالى وذلك يدلُّ على أنَّ ما هيَّة السُّوء ، ما هية الفحشاء مصروفةٌ عنه ، والمعصية التي نسوها إليه أعظم أنواع السوء ، والفحشاء ، وأيضاً فلا يليق بحمة الله تعالى أن يحكي عن إنسان إقدامه على معصية ، ثم يمدحه ، ويثني عليه بأعظم المدائح والأثنية عقيب ما حكى عنه ذلك الذَّنب العظيم ، فإنَّ مثاله ما إذا حكى السطان عن بعض عبيده أقبح الذنوب ، وأفحش الأعمال ، ثم يذكره بالمدح العظيم ، والثناءِ البالغ عقيبه ، فإنَّ ذلك متسنكرٌ جدًّا ، فكذا هاهنا .
وأيضاًَ : فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام متى صدرت عنهم زلةٌ ، أو هفوةٌ؛ استعظموا ذلك ، وأتبعوه بإظهار النَّدامةِ ، والتوبة ، والتَّواضع ، ولو كان يوسف أقدم ههنا على هذه الكبيرة المنكرة ، لكان من المحال أن لا يتبعها بالتَّوبةِ ، والاستغفار ، ولو أتى بالتَّوبةِ لحكى الله ذلك عنه كما في سائر المواضع ، وحيثُ لم يقع شيءٌ من ذلك علمنا أنه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب ، ولا معصية .
وأيضاً : فكلُّ من كان له تعلق بهذه الواقعة ، فقد شهد ببراءة يوسف عليه الصلاة والسلام عن المعصية ، والذين لهم تعلق بهذه الواقعة : يوسف والمرأة وزوجها ، والنسوة الشهود ، ورب العالم ، وإبليس .
فأمَّا يوسف صلوات الله وسلامه عليه فأدَّعى أنَّ الذنب للمرأة وقال : { هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي } [ يوسف : 26 ] و { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } [ يوسف : 33 ] وأما المرأة ، فاعترفت بذلك ، وقالت للنسوة : { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ } [ يوسف : 32 ] وقالت : { الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } [ يوسف : 51 ] وأمَّا زوج المرأة فقوله : { إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا واستغفري لِذَنبِكِ } [ يوسف : 28 29 ] .
وأمَّا الشهود فقوله تعالى : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ } [ يوسف : 26 ] .
وأمَّا شهادة الله تعالى : فقوله : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين } [ يوسف : 24 ] فقد شهد الله تعالى في هذه الآية على طهارته أربع مرات .
أولها : قوله : { لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء } .
وثانيها : قوله : { لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء } .
والثالث : قوله : { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا } مع أنه تعالى قال : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا } [ الفرقان : 63 ] .
والرابع : قوله : « المُخْلصِينَ » ، وفيه قراءتا ، تارة باسم الفاعل ، وأخرى بسام المفعول وهذا يدلُّ على أنَّ الله تعالى استخلصه لنفسه ، وأصطفاه لحضرته ، وعلى كل [ وجه ] فإنَّه أدلُّ الألفاظ على كونه منزهاً عمَّا أضافوه إليه .
وأما إقرار إبليس بطهارته فقوله : { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } [ ص : 8283 ] فهذا إقرارٌ من إبليس بأنه ما أغواهُ ، وما أضله عن طريف الهدى ، فثبت بهذه الدَّلائل أنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام بريءٌ عمَّا يقوله هؤلاء .
وإذا عرفت هذا فنقول : الكلام على ظاهر هذه الآية [ يقع ] في مقامين :
المقام الأول : أن نقول : إنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام ما همَّ بها ، لوقله تعالى : { لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } ، وجواب « لَوْلاَ » ههنا مقدمٌ ، وهو كما يقالُ : قد كنت من الهَالكينَ لولا أنَّ فلاناً خلصك ، وطعن الزَّجاجُ في هذا الجواب من وجهين :
الأول : أن تقديم جواب « لَوْلاَ : شاذٌّ ، وغير موجود في الكلامِ الفصيحِ .
الثاني : [ أنَّ ] « لَوْلاَ » يجابُ جوابها باللاَّمِ ، فلو كان الأمرُ على ما ذكرتم لقال : ولقد همَّت به ، ولهم بها لوْلاَ .
وذكر غير الزجاج سؤالاً ثالثاً ، وهو : أنَّهُ لو لم يوجد الهمُّ لما كان لقوله : { لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } فائدة .
واعلم أنَّ ما ذكَرهُ الزجاجُ بعيدٌ؛ لأنَّا [ لا ] نُسلِّم أنَّ تأخير جواب « لَوْلاَ » حسنٌ جائزٌ ، إلا أنَّ جوازه لا يمنعُ من جواز تقديم هذا الجواب ، فكيف وقد نُقل عن سيبويه أنَّه قال : « إنَّهم يُقدِّمون الأهمَّ فالأهَمَّ » ، والذي همَّ بشأنه أعنى؛ فكان الأمر في جواز التقديم ، والتَّأخير مربوطاًً ذكرُ بشدَّة الاهتمام ، فأمَّا تعينُ بعض الألفافظِ بالمنع ، فذلك ممَّا لا يلييقٌ بالحكمةِ ، وأيضاً ذكر جوابِ « لَوْلاَ » باللاَّم جائزٌ ، وذلك يدلُّ على أنَّ ذكره بغير اللاَّم لا يجوزُ ، وممَّا يدل على فسادِ قول الزجاجِ قوله تعالى : { إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا } [ القصص : 10 ] .
وأما قوله : لو لم يوجد الهم لم يبق لقوله : { لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } فائدة .
فنقولُ : بل فيه أعظم الفوائدِ : وهو بيان أنَّ ترك الهمَّ بها ما كان لعدم رغبته في النسِّاءِ ، ولا لعدمِ قدرته عليهنَّ؛ بل لأجلِ أنَّ دلائل دين الله منعته عن ذلك العمل ، ثم نقول : الذي يدلُّ على أنَّ جواب : « لَوْلاَ » ما ذكرناه أن « لَوْلاَ » تستدعي جواباً ، وهذا المذكور يصلح جواباً له؛ فوجب الحكم بكونه جواباً له لا يقال : أنَّ نضمر له جواباً ، وهذا المذكور يصلح جواباً له؛ فوجب الحكم بكونه جواباً له لا يقال : إنَّا نضمر له جواباً ، وتركُ الجواب ذكر في القرآن ، فنقول : لا نزاع أنه ذكر في القرآن ، إلا أنَّ الأصل ألاّ يكون محذوفاً .
وأيضاً : فالجواب إنَّما يحسن تركه ، وحذفه ، إذا حصل في الملفوظ ما يدلُّ على تعيينه ، وههنا بعيد أن يكون الجواب محذوفاً؛ لأنَّه ليس في اللفظِ ما يدلُّ على تعيين ذلك الجواب ، فإن ههنا أنواعاً من الإضمارات ، يحسن إضمار كل واحد منها ، وليس إظمار بعضها أولى من إضمار البعض الباقي فظهر الفرقُ .
المقام الثاني : سلمنا أنَّ الهمّ قد حصل إلاَّ أنّا نقول : إن قوله : « وهمَّ بِهَا » لا يمكنُ حمله على ظاهره؛ لأنَّ تعليق الهمّ بذات المرأة مُحالٌ؛ لأنَّ الهمّ من جنس القصد ، والقصدُ لا يتعلق بالذَّوات؛ فثبت أنَّهُ لا بد من إضمار فعلٍ محذوف يجعل متعلق ذلك الفعل غير مذكور ، فهم زعموا أنَّ ذلك الفعل المضمر هو إيقاع الفاحشة بها ، ونحن نضمر شيئاً آخر يغاير ما ذكروه وهو من وجوه :
الاول : المراد أنه عليه الصلاة والسلام همَّ بدفعها عن نفسه ، ومنعها من ذلك القبيح؛ لأنَّ الهمَّ هو القصدُ ، وفجب أن يحمل في حق كُلِّ واحدٍ على القصدِ الذي يليقُ به ، فالأليقُ بالمرأة القصد إلى تحصيل اللَّذة ، والتَّمتُّع ، وأليق بالرسُولِ المعبوث غلى الخلقِ القصد إلى زَجْرِ العاصي عن معصيته ، وإلى الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر ،
يقال : هَمَمْتُ بفلان ، أي : قصدته ودفعته .
فإن قيل : فعلى هذا التدقير لا يبقى لقوله : { لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } فائدة قلنا : بل فيه أعظمُ الفوائد ، وبيانه من وجهين :
الأول : أنه تعالى أعلم يوسف أنه لو همَّ بدفعها لقتلته ، أو لكانت تأمر الحاضرين بقتله ، فأعلمه الله تعالى أنَّ الامتناع من ضربها أولى ، لصون النَّفس عن الهلاك .
الثاني : أنه صلى الله عليه وسلم لو اشتغل بدفعها عن نفسه ، فرُبَّما تعلقت به ، فكان يتخرق ثوبه من قُدَّام ، وكان في علم الله أنَّ الشَّاهد سيشهد أن ثوبه لو خرق من قدام ، لكان يوسف هو الخائنُ ، ولو كان ثوبه مخرَّقاً من خلفه لكانت المرأة هي الخائنة ، والله تعالى أعلمه بهذا المعنى ، فلا جرم لم يشتغل بدفعها عن نفسه ، بل ولَّى هارباً منها حتى صارت شهادةُ الشَّاهد حجَّة له على براءته عن المعصية .
الوجه الثاني في الجواب : أن يفسر الهَمُّ بالشَّهوةِ ، وهذا مستعملٌ في اللغة الشَّائعة ، يقولُ القائلُ فيما لا يشتهيه : لا يهمُّنِي هذا ، وفيما يشتهيه : هذا أحبُّ الأشياءِ إليّ ، فسمَّى الله شهوة يوسف همًّا .
والمعنى : لقد اشتهته ، واشتهاها لولا أن رأى برهان ربِّه لدخل ذلك العملُ في الوجود .
الثالث : أن يفسر الهمُّ بحديث النَّفس؛ وذلك لأنَّ المرأة الفائقة في الحسن والجمال ، إذا تزينت ، ونهيّأت للرَّجل الشَّاب القوي ، فلا بد أن يقع هناك بين الشهوة والحكمة ، وبين النفس ، والعقل محادثات ، ومنازعات ، فتارة تقوى داعيةُ الطبيعة والشهوة ، وتارة تقوى داعية العقل والحكمة ، والهمُّ عبارة عن محادثات الطبيعة ورؤية البرها عبارة عن جواذب العبودية ، ومثاله : أنَّ الرَّجل الصَّالح الصَّائم ف يالصيف الصَّائف ، إذا رأى الجلاب المبرِّد بالثَّلج ، فإن طبيعته تحمله على شربه إلا أنَّ دينه يمنعه منه ، فهذا لا يدلُّ على حصول الذنب ، بل كلما كانت هذه الحالة أشد كانت القوة في القيام بلوازم العبوديَّة أكمل ، فظهر بحمد الله صحَّة القول الذي ذهبنا إليه ، ولم يبق في يد الواحدي إلا مجرَّد التَّصلف ، وتعديد أسماءِ المفسرين ، ولو ذكر في تقرير ذلك القول شهبة لأجبنا عنها إلا أنَّه ما زاد عن الرواية عن بعض المفسِّرين .
واعلم أنَّ بعض الحشويَّة روى عن النبي المختار صلى الله عليه وسلم : « ما كّذبَ إبْراهِيمُ إلاَّ ثلاثَ كَذبَاتٍ » فقلت : الأولى ألاَّ تقبل مثل هذه الأخبار فقال على [ طريق ] الاستنكار : إن لم نقبله لزمنا تكذيبُ الرُّواةِ ، فقلت له : يا مسكينُ إن قبلناه لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه وإن رددناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة ، ولا شك أن صون إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه عن الكذب أولى من صون طائفةٍ من المجاهيل عن الكذب .
إذا عرفت هذا الأصل ، فنقولُ للواحدي : ومن الذي يضمنُ لنا أنَّ الذين نقولا هذه القول عن هؤلاء المفسرين كانوا صادقين ، أو كاذبين . والله أعلم .
فصل
اختلوفوا في البرهان ما هو؟ .
فقال المحققون المثبتون للعصمة : رُؤيةُ البُرهانِ على وجوهٍ :
الاول : أنه حجَّة الله تعالى في تحريم الزِّنا ، والعلمُ بما على الزَّاني من العذاب .
الثاني : أن الله تعالى طهَّر نفوس الأنبياء عن الأخلاق الذَّميمة ، بل نقول : إنه تعالى ، طهر نفوس المتصلين بهم عنها ، كما قال تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } [ الأحزاب : 33 ] والمراد برؤية البرهان : هو حصولُ ذلك الإخلاص ، وترك الأحوال الدَّاعية به إلى الإقدام على المنكرِات .
الثالث : أنه رأى مكتوباً في سقف البيت : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } [ الإسراء : 32 ] .
الرابع : أنًَّهُ النبوة المانعةُ من ارتكاب الفواحشِ ، ويدلُّ عليه أنَّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعثوا لمنع الخلقِ من القبائح ، فلو أنَّهم منعوا النَّاس عنها ، ثم أقدموا على أقبح أنواعها لدخلوا تحت قوله { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ] وايضاً : فإن الله تعالى عيَّر اليهود بقوله { أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة : 44 ] ما كان عيباً في حق اليهود ، كيف ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم المؤيد بالمعجزات .
وأمَّا الذين نسبوا المعصية إلى يوسف عليه الصلاة والسلام فذكروا في ذلك البرهان وجوهاً :
الأول : أنَّ المرأة قامت إلى صنم مكلَّلٍ بالدُّرِّ ، والياقوت في زاوية البيت ، فسترته بثوبٍ ، فقال يوسف عليه الصلاة والسلام ، [ ولم؟ قالت : أستحي من إلهي أن يراني على المعصية ، فقال يوسف : ] أتستحين من صنم لايسمعُ ، ولا يبصرُ ولا أستحي من إلهي القائمِ على كلِّ نفس بما كسبت ، فوالله لا أفعلُ ذلك أبداً ، قال هذا هو البُرهَانُ .
الثاني : نقلُوا عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّهُ تمثَّل له يعقوب ، فرآه عاضًّا على أصبعه يقول له : لا تعمل عمل الفُجَّار ، وأنت مكتوبٌ في زمرة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فاستحى منه . قالوا : وهو قول عكرمة ، ومجاهدٍ ، الحسن ، وسعيد بن جبير .
وروى سعيد بن جبير رضي الله عنه عن ابن عباس رضي الله عنهما تمثَّل له يعقوب ، فضرب في صدره فخرجت شهوته من أنامله .
الثالث : قالوا : إنَّه سمع في الهواء قائلاً : يا بْنَ يعقوب ، لا تكن كالطَّير له ريش ، فإذا زنا ذهب ريشه .
الرابع : نقلوا عن ابن عباس أن يوسف عليه الصلاة والسلام لم ينزجر بكلامِ يعقوب حتى ركضه جبريلُ ، فلم يبقَ به شيءٌ من الشَّهوة إلا خرج .
قال ابنُ الخطيب : « ولما ذكر الواحديُّ هذه الروايات تصلف وقال : هذا الذي ذكرنا قول أئمَّة التَّفسير الذين أخذوا التَّأويل عمن شاهدوا التنزيل فيقال له : إنَّك لا تأتينا ألبتة إلا بهذه التصلفات التي لا فائدة فيها ، فأين هذا من الحجة والدليل الذي ذكرناه ، وأيضاً : فإن ترادف الدلائل على الشَّيء الواحد جائزٌ وإنه عليه الصلاة والسلام كان ممتنعاً من الزِّنا بحسب الدَّلائل الأصلية ، فلما انضاف إليها هذه الزَّواجِر ازدادت قوةً .
وأيضاً : روي أن جبريل عليه الصلاة والسلام امتنع من دخول حجرة النبي المختار صلوات الله وسلامه عليه بسبب وقع هناك بغير علمه؛ قالوا : فامتنع جبريل عليه السلام من الدخول [ عليه ] أربعين يوماً ، وههنا زعموا أنَّ يوسف حين اشتغاله بالفاحشة ذهب إليه جبريل ، والعجب أيضاً أنَّهم زعموا أنه لم يمتنع عن ذلك العمل بسبب حضور جبريل عليه السلام ، ولو أنَّ أفسق الخلق ، وأكفرهم كان مشتغلاً بفاحشة ، فإذا دخل عليه رجلٌ في زِيّ الصَّالحين استحى منه؛ وترك [ ذلك ] العمل وهاهنا يعقوب عليه الصلاة والسلام عضّ على أنامله ، فلم يلتفت ، ثمَّ إنَّ جبريل عليه الصلاة والسلام على جلالة قدره دخل عليه ، فلم يمتنع أيضاً عن ذلك القبيح بدخوله حتى احتاج جبريل إلى أن ركضه على ظهره « .
فنسأل الله أن يصوننا عن الغي في الدين ، الخذلان في طلب اليقين .
فصل
والفرق بين السوء ، والفحشاء من وجهين :
الأول : أنَّ السوء : جناية اليد ، والفحشاء : الزِّنا .
الثاني : السُّوء : مقدمات الفاحشة من القُبلةِ ، والنَّظر بالشَّهوة . والفحشاءُ : هو الزنا .
قوله : » وكَذلِكَ « في هذه الكاف أوجه :
أحدها : أنَّها في محل نصبٍ ، وقدَّره الزمشخريُّ مثل ذلك التَّثبيتِ ثبَّتناه .
وقدَّرهُ الحرفيُّ أريناه البراهين بذلك ، وقدَّره ا بنُ عطيَّة : جرت أفعالنا ، وأقدارنا كذلك ، وقدره أبو البقاء : نراعيه كذلك .
الثاني : أن الكاف في محل رفع ، فقدَّره الزمخشريًّ ، وأبو البقاء : الأمر مثل ذلك ، وقدَّره أبنُ عيطةك عصمته كذلك . وقال الحوفيُّ : أمر البراهين بذلك ثمَّ قال : والنصب أجودُ لمطالبة حروف الجرّ للأفعال أو معانيها .
الثالث : أنَّ في الكلام تقديماً ، وتأخيراً ، وتقديره : همَّت به ، وهمَّ بها كذلك ثم قال : لولا أن رأى برهان ربه ، كذلك لنصرف عنه ما هم بها هذا نص ابن عطيَّة .
وليس بشيءٍ؛ إذْ مع تسليم جوازِ التَّقديم ، والتَّأخير لا معنى لما ذكره .
قال أبو حيَّان : وأقولُ : إنَّ التقديرك مثل تِلْك الرُّؤية ، أو مثل ذلك الرَّأي نري براهيننا ، لنصرف عنه ، فتجعل الإشارة إلى الرَّأي ، أو الرُّؤيةِ ، والنَّاصب الكاف مما دل عليه قوله : { لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } ، و » لِنَْرفَ « متعلق بذلك الفعل النَّاصب للكاف ، ومصدر » رَأى « » رُؤيةٌ ورأيٌ « ؛ قال : [ الرجز ]
3067
ورَأيُ عَيْنَيَّ الفَتَى أبَاكَا ... [ يُعْطِي الجَزيلَ فعَليْكَ ذَاكَا ]
وقرأ الاعمش « ليَصْرِفَ » بياء الغيبةِ ، والفاعل هو الله سبحانه وتعالى ، قوله تعالى : { المخلصين } قرأ هذه اللفظة [ حيث وردت ] إذا كانت معرفة بأل مكسورة اللام : ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر أي : الذين أخلصوا دينهم لله على اسم الفاعلِ ، والمفعول محذوفٌ ، والباقون بفتحها على أنَّه اسم مفعولٍ من أخصلهم الله ، أي : اجتباهم ، واختارهم ، وأخلصهم من كلِّ سوءٍ ، ويحتمل أن يكون لكونه من ذرية إبراهيم قال فيهم : { إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار } [ ص : 46 ] .
وقرأ الكوفيُّون في مريم { إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً } [ مريم : 51 ] بفتحِ اللاَّم بالمعنى المقتدِمِ والباقون بكسرها بالمعنى المتقدم .
قوله تعالى : { واستبقا الباب } [ الآية : 25 ] « البَابَ » منصوبٌ إمَّا على إسقاطِ الخافض اتّساعاً ، إذ أصلُ « اسْتبَقَ » أن يتعدَّى ب « إلى » ، وإما على تضمين « اسْتَبقَ » معنى ابتدر ، فينصب مفعولاً به . قوله تعالى : { وَقَدَّتْ } يحتمل أن تكون الجملة نسقاً على « اسْتبقَا » أي : استبق ، وقدت ، ويحتمل أن يكون في محل نصب على الحال ، أي : وقد قدَّت . والقدّ : الشَّقُّ مطلقاً ، قال بعضهم : القدُّ : فيما كان يشقُّ طولاً القطُّ : فيما كان يشقُّ عَرْضاً .
قال ابن عطية « وقرأت فرقة : وقَطّ » قال أبو الفضل بنُ حربٍ : رأيت في مصحب « وقطَّ مِنْ دبُرٍ » أي : شقَّ .
قال يعقوب : القطُّ في الجلدِ الصحيح ، والثوب الصحيح؛ وقال الشاعر : [ الطويل ]
3077
تَقُدُّ السَّلُوقيَّ المُضاعفَ نَسْجهُ ... وتُوقِدُ بالصفَّاحِ نَارَ الحُباحِبِ
فصل
قال العلماء رضي الله عنهم وهذا الكلامْ من اختصار القرآن المعجز الذي يجتمع فيه المعاني ، وذلك أنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام لما رأى برهان ربِّه ، خرج حينئذ هارباً ، وتبعته المرأة فتعلقت بقميصه من خلفه ، فجذبته إليها حتى لا يخرج « وقدَّتْ قَميصَهُ » [ أي ] : فشققته المرأة من دبر .
والاستباقُ : طلبُ السَّبْق ، أي : يجتهدُ كلُّ واحدٍ منهما أن يسبق صاحبهُ فإن سبق يوسف فتح الباب ، وخرج ، وإن سبقت المرأةُ أمسكتِ الباب لئلا يخرج فسبقها يوسف عليه السلام إلى الباب ، والمرأة تعدو خلفه ، فلم تصلْ إلا إلى دبر القميص ، فتعلقت به فقدته من خلفه ، فلمَّا خرجا « ألْفَيَا » ، أي : وجدا « سيِّدهَا » ، وإنما لم يقل سيدهما؛ لأنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام لم يكن مملوكاً لذلك الرجل حقيقة « لَدى البابِ » أي : عند البابِ ، والمرأة تقول لبعلها : سيِّدي .
فإن قيل : فالمرأةُ أيضاً ليست مملوكة لبعلها حقيقة .
فالجواب : أن الزَّوج لما ملك الانتفاع بالمرا’ من الوطء والخلوةِ ، والمباشرةِ ، والسفر بها من غير اختيارها أشبهت المملوكة ، فلذلك حسن إطلاقُ السيِّد عليه .
قال القرطبيُّ : « والقبط يسمون الزوج سيداً ، ويقال : ألفاه ، وصادفهُ ، وواله ووَالطَه ، ولاطَهُ ، وكلٌّ بمعنى واحدٍ » .
فعند ذلك ، خافتِ المرأةُ من التُّهمِ ، فبادرت إلى أن رمتْ يوسف عليه السلام بالعفلِ القبيح ، { وقالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً } يعنى الزِّنا ، ثم خافت عليه أن يقتل فقالت : { إلاَّ أن يُسجنَ } ، أي : يحبس ، { أوْ عذابٌ أليمٌ } أي : يُعَاقبُ بالضَّربِ .
قوله : « مَا جزاءُ » يجوز في « مَا » هذه أن تكون نافية ، وأن تكون استفهاميَّة ، و « مَنْ » يجوز أن تكون موصولة ، أو نكرة موصوفة .
قوله : « إلاَّ أن يُسْجنَ » خبر المبتدأ ، ولما كان « أن يُسْجنَ » في قوَّة المصدر عطف عليه المصدر ، وهو قوله : « أو عذابٌ » . و « أوْ » تحتملُ معانيها ، وأظهرها التنويع .
وقرأ زيد بن علي : ( أو عذاباً أليماً ] بالنصب ، وخرَّجه الكسائي على إضمار فعل ، أو أن يعذَّب عذباً أليماً .
قوله : « هِيَ » ولم يقل هذه ، ولا تلك ، لفرط استحايئه « وهو أدبٌ حسنٌ حيث أتى بلفظ الغيبة دون الحضور .
فصل
قال ابن اخلطيب : في الآية لطائف :
إحداها : أن حُبَّها الشَّديد ليوسف ، حملها على رعايةِ دقيقتين في هذا الموضع ، وذلك لأنهَّا بدأت بذكر السِّجن ، وأخرت ذكر العذاب؛ لأنَّ المحبَّة لا تسعى في إيلام المحبوب ، وأيضاً : لم تقل إنَّ يوسف يجب أن يقابل بهذين الأمرين ، بل ذكرت ذلك ذكراً كليًّا صوناً للمحبوب عن الذِّكر بالشر وأيضاً قالت : » إلاَّ أنْ يُسْجنَ « والمرادُ أن يسجن يوماً ، أو يومين ، أو أقل على سبيل التخفيف ، فأمَّا الحبسُ الدَّائمُ فإنَّه لا يعبِّر عنه بهذه العبارة ، بل يقال : يجبُ أن يجعل من المسجونين ، كما قال فرعون لموسى عليه الصلاة والسلام حين هدَّدُ { لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين } [ الشعراء : 29 ] وأيضاً : لما شاهدت من يوسف أنه استعصم ، مع أنه كان في عنفوان العمر ، وكمال القوة ، ونهاية الشهوة ، وعظم اعتقادها في طهارته ، ونزاهته ، فاستحيتْ أن تقول : إنَّ يوسف قصدني بالسُّوءِ ، ولم تجد من نفسها أن ترميهُ بالكذبِ ، وهؤلاء نسبُوا إليه هذا الذَّنب القبيحَ .
وأيضاً : يوسف عليه الصلاة والسلام أراد أن يضربها ، ويدفعها عن نفسه [ وكان ] ذلك بالنسبة إليها جارياً مجرى السُّوء ، فقولها { ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً } له ظاهر وباطن ، باطنه أنَّها التي أرادت السُّوء ، وظاهره دفعه لها ومنعها ، فأرادت بقولها : { ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً } فعل نفسها بقلبها ، أو في ظاهر الأمر ، أو همت أنه قصدني بما لا ينبغي ، ولما لطَّخت عرض يوصف بهذا الكلام؛ احتاج يوسف إلى إزالة هذه التهمة فقال : { هي راودتني عن نفسي } واعلم أنَّ العلاماتِ الكثيرة دالةٌ على صدق يوسف :
منها : أنَّ يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبداً لهم ، والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذه الحدّ .
ومنها : أنَّهم شاهدوا يوسف هارباً ليخرج ، والطالبُ للمرأة لا يخرج من الدَّار على هذا الوجه .
ومنها : أنهم رأوا المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه ، ويوسف لم يكن عليه أثر من آثار تزيين النَّفس .
ومنها : أنَّهم كانوا شاهدوا أحوال يوسف في المُدَّة الطَّويلة ، فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر .
ومنها : أنَّ المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح ، بل ذكرت كلاماً مجملاً ، وأما يوسف فإنَّه صرَّح بالأمر ، ولو كان مطاوعاً لها ، ما قدر على التَّصريح ، فإنَّ الخائنَ خائفٌ .
وكلُّ هذه الوجوه مما يقوِّي غلبة الظن ببراءة يوسف في هذه المسألة ، ثم إنَّه تعالى أظهر ليوسف دليلاً يقوي تلك الدَّلائل على براءته من الذَّنب ، وأن المرأة هي المذنبةن وهو قوله تعالى : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ } فقوله : « مِنْ أهْلِهَا » صفة ل : « شَاهِدٌ » ، وهو المسوغ لمجيء الفاعل من لفظ الفعل ، إذْ لا يجوزُ قام القائم ، ولا : قعد القاعدُ ، لعدم الفائدةِ .
واختلفوا في ذلك الشَّاهد على ثلاثةِ أقوالٍ :
الأول : أنه كان ابن عمَّها ، وكان رجلاً حكيماً ، واتَّفق في ذلك الوقت أنَّهُ كان ممع زوجها ، يريد أن يدخل عليها ، وفقال الحكيمُ : { إنْ كَانَ قَميصهُ قُدَّ مِنْ قُبلِ } ، فأت صادقة ، والرَّجلُ كاذبٌ ، { وإنْ كانَ قَمِيصهُ قُدَّ مِنْ دُبرٍ } ، فالرَّجلُ صادقٌ ، وأنت كاذبة فلما نظرُوا إلى القميصِ رأوا الشقَّ من خلفه ، قال ابن عمِّها : { إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } [ اي : من عَملكن ] ثم قال ليوسف : « أعْرِضْ عَنْ هَذَا » أي اكتمهُ ، وقال لها : { واستغفري لِذَنبِكِ } ، وهذا قولُ السدي ، وطائفة من المفسرين .
قال السُّهيلي : وهذا من باب الحكم بالأمارات ، وله أصلٌ في الشَّرعِ ، قال تعالى : { وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } [ يوسف : 18 ] حيثُ لا أثر لأنياب الذئب فيه ، وقال تعالى : { إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ } وقال عليه الصلاة والسلام في الحدّ : « انْظرُوا فإنْ جَاءَتْ بِهِ أبْيضَ خَالياً فَهُو للَّذي رُمِيَتْ بِهِ » .
قال السهيلي : كان عامر بن الظرف العدوانيُّ لا يكون بين العرب ثائر إلا تحاكموا إليه فيرضون بما يقضي به ، فتحاكموا إليه في ميراث خنثى بات ليلة ساهراً يرى ماذا يحم به؟ فرأته جارية له ترعى ، وكان اسمها سخيلة ، فقالت له : ما لك ، لا أبا لك اللَّيلة ساهِراً؛ فذكر لها ما هو مفكر فيه ، وقال : لعلها يكون عندها في ذلك شيء ، فقالت له : « اتْبَع القضاء المَبال » فقال : فرجتها والله يا سخيلة ، وحكم بذلك القول .
القول الثاني : منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ ، وسعيد بن جبيرٍ ، والضحاك رضي الله عنهم أن ذلك الشَّاهد كان صبيًّا في المهد ، أنطقه اللهُ .
قال ابن عبًّاس رضي الله عنه : تكلَّم في المهدِ ثلاثةُ صغارٍ : شاهدُ يوسف ، وعيسى ابن مريم عليه السلام ، وصاحبُ جريج الرَّاهب .
قال الجبائيُّ : القول الأول أولى لوجوه :
الأول : أنَّه سبحانه وتعالى لو أنطق الطفل بهذا الكلام ، لكان مجرد قوله : « إنَّها كَاذبةٌ » كافياً ، وبرهاناً قاطعاً؛ لأنَّه من المعجزات العجيبة الباهرة والاستدلال بتمزيق القميص من قُبُل ومن دُبُرٍ دليل ظنيّ ضعيف ، والعدول عن الحجَّة الواضحة القاطعة حال حصولها إلى الدلالة الظَّنية لا يجوزُ .
الثاني : أنه تبارك وتعالى قال : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ } يشيرُ بذلك إلى أنَّ شهادة الشَّاهد على قريبه ، أولى بالقبولِ من شهادته له؛ لأن الظاهر من حال القريب أن يشهد لقريبه ، لا أن يشهد عليه ، وهذا التَّرجيحُ إنما يُصَارُ إليه إذا كانت دلالة الشَّهادة ظنية ، وذلك إنَّما يكون في شهادة الرجل ، ولو يكون هذا القول صادراً من الصَّبي الذي كان في المهد ، لكان قوله حجَّة قاطعة ، ولا يتفاوتُ الحال بين أن يكون من أهلها ، وبين ألا يكون ، وحينئذٍ لا يبقى لهذا القيد وجه .
الثالث : أن لفظ الشَّاهد لا يقعُ في العرف ، إلا على من تقدَّمت معرفته بالواقعة ، وإحاطته بها .
القول الثالث : أن هذا الشاهد هو القميص ، قال مجاهد رضي الله عنه الشاهد : « قُدَّ قيمصه من دُبُر » ، وهذا في غاية الضعف؛ لأن القميص لا يوصف بهذا ولا ينسب إلى الأهل .
واعلم أنَّ القول الأول عليه إشكال ، وذلك أنَّ العلامة المذكورة لا تدلُّ قطعاً على براءة يوسف من المعصية؛ لأن من المحتملِ أنَّ الرجل قصد المرأة لطلب الزِّنا ، والمرأة غضبت عليه ، فهرب الرجل ، فعدتِ المرأةُ خلف الرجل ، وجذبته لقصد أن تضربه ضرباً وجيعاً ، فعلى هذا الوجه يكون قدُّ القميص من دبرٍ ، مع أنَّ المرأة تكون بريئة عن [ الذنب ] وأنَّ الرجل يكون مذنباً .
جوابه : أنَّا بيَّنا أنَّ علامات كذب المرأة كانت كثيرة بالغة مبلغ اليقين ، فضمّ إليها هذه العلامة الأخرى ، لا لأجل أن يُعوِّلُوا في الحكم عليها ، بل لأجل أن يكون ذلك جارياً مجرى المقدمات ، والمرجّحات .
قوله : « إنْ كَانَ . . . » هذه الجملة الشرطية ، إما معمولةٌ لقولٍ مضمر تقديره : « فقال » إن كان عند البصريين ، وإمَّا معمولة « لِشَهدِ » ؛ لأنه بمعنى القول عند الكوفيين . قوله « مِنْ دُبرٍ . . » ، و « مِنْ قُبُلٍ . . . » قرأ العامَّة جميع ذلك بضمتين ، والجر والتنوين ، بمعنى : من خلف ، من قدام ، أي : من خلف القميص ، وقدامه وقرأ الحسن ، وأبو عمرو في رواية بتسكين لعين تخفيفاً ، وهي لغة الحجاز ، وأسد ، وقرأ ابن يعمر ، وابن أبي إسحاق [ والعطاردي والجارود بثلاث ضمات ، وروي عن الجارود وابن أبي إسحاق وبن يعمر ] أيضاً بسكون العين وبنائها على الضم ووجه ضمهما : أنَّهم جعلوهما ك « قَبلُ ، وبعْدُ » في بنائها على الضم عند قطعهما عن الإضافة ، فجعلوهما غاية ، ومعنى الغاية : أن يجعل المضاف غاية نفسه ، بعد ما كان المضاف إليه غايته ، والأصل إعرابهما؛ لأنَّهما اسمان متمكنان ، وليسا بظرفين .
قال أبو حاتم : وهذا رديءٌ في العربية ، وإنما هذا البناء في الظروف .
وقال الزمخشري : « والمعنى : من قبل القميص ، ومن دُبرهِ ، وأما التنكيرُ فمعناه : من جهةٍ يقال لها قبلٌ ، ومن جهة يقال لها دبرٌ » وعن ابن أبي إسحاق : أنَّهُ قرأ « مِنْ قُبْلَ » ، و « مِنْ دُبْرَ » بالفتح كأنَّه جعلهما علمين للجهتين ، فمنعهما الصرف للعملية ، والتَّأنيث ، وقد تقدم [ البقرة : 235 ] الخلاف في « كان » الواقعة في حيز الشرط ، هل تبقى على معناها من المضي ، وإليه ذهب المبرِّدُ ، أم تنقلب إلى الاستقبال كسائر الأفعالِ ، وأنَّ المعنى على التَّبيينِ؟ .
قوله : « فَكذَبَتْ » ، و « صَدقَتْ » على إضمار « قَدْ » ، لأنها تقرب الماضي من الحالِ ، هذا إذا كان الماضي متصرِّفاص ، فأما إذا كان جامداً ، فلا يحتاجُ إلى « قَدْ » لا لفظاً ، ولا تقديراً .
قوله : { فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ } : أي : فلمَّا رأى زوجها قميصه قُدّ من دُبُرٍ؛ عرف خيانة امرأته ، وبراءة يوسف صلوات الله وسلامه عليه قال لها : « إنَّهُ » ، هذا الصَّنِيعُ ، أو قولك { ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً } { مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } وقيل : هذا من قول الشاهد .
فإن قيل : إنه تعالى قال : { وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً } [ الإنسان : 28 ] فكيف وصف كيد المرأة بالعظيم ، وأيضاً : فيكدُ الرِّجال قد يزيدُ على كيد النِّساءِ؟ .
فالجواب عن الأوَّل : أن خلقة الإنسان بالنِّسبة إلى خلقة الملائكة ، والسموات ، والكواكب خلقة ضعيفة ، وكيد النسوان بالنسبة إلى كيد البشر عظيمٌ؛ ولا منافاة بين القولين ، وأيضاً : فالنِّساءُ لهُنَّ من هذا الباب من المكرِ ، والحِيل ، ما لا يكون للرجال؛ لأنَّ كيدهنَّ في هذا الباب ، يورث من العار ما لا يورثه كيدُ الرَّجال .
ولما ظهر للقوم براءةٌ يوسف عن ذلك الفعل قال زوجها ليوسف : « أعْرِضٍ عَنْ هَذَا » الحديث ، فلا تذكرة لأحدٍ حتى لا ينتشر ، ولا يحصلُ العارُ العظيم وقيل : إنَّهُ من قول الشَّاهد . ثم قال للمرأة [ « واستغفري لِذنبكِ » إي : إلى الله { إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين } وقيل هذا من قول الشاهد ] « واسْتَغفِري » ، أي : اطلبي من زوجك المغفرة ، والصَّفح؛ حتَّى لا يعاقبك .
قال أبو بكرٍ الأصمُّ : إنَّ ذلك الزوج كان قليل الغيرةِ ، فاكتفى منها بالاستغفار وقيل : إنَّ الله تعالى عزَّ وجلَّ سلبه الغيرة لطفاً بيوسف ، حتى كفى بادرته وحلم عنها .
قال الزمخشري : « وإنما قال : { مِنَ الخاطئين } ؛ تغليباً للذكور على الإناث » ويحتملُ أن يقال : إنك من قبيل الخاطئين ، فمن ذلك القبيل جرى ذلك العرفُ فيك .
قال البغوي رحمه الله : تقديره : إنَّك من القوم الخاطئين ، ولم يقصد به الخبر عن النِّساء؛ بل قصد الخبر عن كُلِّ من يعفعلُ ذلك؛ كقوله تعالى : { وَكَانَتْ مِنَ القانتين } [ التحريم : 12 ] ، وبيانه قوله : { إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ } [ النمل : 43 ] .
قوله تعالى : « يُوسُفُ » ، منادى محذوفٌ منه حرفُ النداءِ . قال الزمشخريُّ : « لأنه منادى قريب مقاطن للحديث ، وفيه تقريبٌ له ، وتلطيفٌ بمحله » انتهى .
وكُلُّ منادي يجوز حذف حرفُ النِّداء منه ، إلا الجلالة المعظمة ، واسم الجنس غالباً ، والمستغاثَ ، والمندوب ، واسم الإشارة عند البصريين ، وفي المضمر إذا نودِيَ .
والجمهورُ على ضمِّ فاءِ يوسف عليه الصلاة والسلام ؛ لكونه مفرداً معرفةً ، وقرأ الأعمش بفتحها ، وقيل لم تثبت هذه القراءة عنه ، وعلى تقدير ثبوتها ، فقال أبو البقاء : فيها وجهان :
أحدهما : أن يكون أخرجه على أصل المنادى؛ كما جاء في الشِّعر : [ الخفيف ]
3078 . . ...
يَا عَدِيًّا لقَدْ وقَتْكَ الأوَاقِي
يريد بأصلِ المنادى : أنه مفعولٌ به ، فحقه النصب؛ كالبيت الذي أنشده ، واتفق أن يوسف لا ينصرف ، ففتحته فتحةُ إعرابٍ .
والثاني ، وجعله الأشبه : أن يكون وقف على الكلمة ، ثم وصل ، وأجرى الوصل مجرى الوقف؛ فألقى حركة الهمزة على الفاء ، وحذفها؛ فصار اللفظ بها : « يُوسفَ أعْرض » ؛ وهذا كما حي : « اللهُ أكبرَ ، أشْهَدَ ألاّ » ، بالوصلِ والفتح في الجلالةِ وفي « أكْبر » ، وفي أشْهد « ؛ وذلك أنه قدَّر الوقف على كل كلمة من هذا الكلم ، وألقى حركة الهمزة [ من ] كل من الكلمِ الثَّلاث ، على السَّاكن قبله ، وأجرى الوصل مجرى الوقف في ذلك .
والذي حكوه الناسُ ، إنَّما هو في » أكْبَر « خاصَّة؛ لأنَّها مظنة الوقف ، و تقدم ذلك في سورة آل عمران [ الآية : 1 ] .
ورىء » يُوسفُ أعْرضَ « بضمِّ الفاءِ ، و » أعْرضَ « فعلاً ماضياً ، وتخريجها أن يكون » يُوسفُ « مبتدأ ، و » أعْرضَ « جلمة من فعلٍ وفاعلٍ خبره .
قال أبو البقاءِ : » وفيه ضعفٌ؛ لقوله : « واسْتَغْفرِي » ، وكان الأشبه أن يكون بالفاء : « فاسْتَغفِري » .
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)
قوله تعالى : { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المدينة } الآية ، النسوة فيها أقوالٌ :
[
أشهرها ] : أنه جمعُ تكسير للقلَّة ، على فعلة؛ كالصبية والغلمة ، ونصَّ بعضهم على عدم أطَّرادها ، وليس لها واحدٌ من لفظها .
الثاني : أنها اسمٌ مفردٌ ، لجمع المرأة قاله الزمخشريُّ .
الثالث : أنَّها اسم جمعٍ؛ قاله أبو بكرٍ بنُ السَّراج رحمه الله ، وكذلك أخواتها ، كالصِّبيةِ ، والفِتْيَةِ .
وقيل : على كُلِّ قولٍ ، فتأنيثها غير حقيقي ، باعتبارِ الجماعةِ؛ ولذلك لم يلحق فعلها تاء التأنيث .
وقال الواحديُّ : تقديمُ الفعل يدعُو إلى إسقاطِ علامِ التأنيثِ ، على قياس إسقاط علامة التَّثنية ، والجمع .
والمشهورُ : كسر نونها ، ويجوز ضمُّها في لغةٍ ، ونقلها أبو البقاءِ عن قراءة ، قال القرطبي : وهي قراءة الأعمش ، والمفضل والسلمي .
وإذا ضُمَّتْ نونه ، كان اسم جمع بلا خلافٍ ، ويكسَّرُ في الكثرة على نسوانٍ ، والنساءُ : جمعٌ كثرةٍ أيضاً ، ولا واحداَ لَهُ مِنْ لفظه ، كذا قالهُ أبو حيَّان .
ومقتضى ذلك ألاَّ يكون النساءُ جمعاً لنسوةٍ؛ لقوله : لا واحِدَ له من لفظه .
و « فِي المَدينَةِ » يجوزُ تعلُّقه بمحذوفٍ ، صفةٍ ل « نِسْوةٌ » ، وهو ظاهرٌ ، ويقال : ليس بظاهرٍ .
فصل في عدد النسوة
في : إنَّهن خمسُ : امرأة حاجب الملك ، وامرأةُ صاحب دوابه ، وامرأةُ الخازن ، وامرأة السَّاقي ، وامرأة صاحب السِّجن ، قاله مقاتل .
وقال الكلبيُّ : أربعٌ؛ فأسقط امرأة الحاجب . والأشبه أنَّ تلك الواقعة شاعت في البلد ، واشتهرت ، وتحدث بها النساء ، والمراد بالمدينة : مِصْرُ ، وقيل : مدينة عَين شَمْسٍ .
قوله : « تُروادُِ » خبرُ « امْرأةُ العَزيزِ » ، وجيءَ بالمضارع ، تنبيهاً على أنَّ المراودة صارت سجيةً لها ، ودَيْدناً ، دون الماضي فلم يقلْ : رَاودتْ ، ولامُ الفتى ياءٌ؛ لقولهم : الفتيان ، وفتى ، وعلى هذا؛ فقولهم : الفُتُوَّة في المصدر شاذٌّ .
قال : « فَتَاهَا » ، وهو فتى زوجها؛ لأن يوسف كان عندهم في حكم المماليك ، وكان ينفذُ أمرها فيه .
وروى مقاتلٌ ، عن أبي عثمان النهدي ، عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال : « إنَّ امرأة العزيز استوهبتْ يوسف من زوجها ، فوهبهُ لها ، وقال : ما تصنعين به؟ قالت : اتخذه ولداً ، قال : هو لك؛ فربَّتُهُ حتى [ أيفع ] ، وفي نفسها منه ما في نفسها ، فكانت تتكشَّلإ له ، وتتزيَّن ، وتدعوه من وجه اللُّطفِ؛ فعصمه الله » .
قوله : { قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً } ، وهذه الجملة يجوز أن تكمون خبراً ثانياً ، وأن تكون مستأنفة ، وأن تكون حالاً؛ إمَّا من فاعل « تُرَاوِدُ » ، وإمَّا من مفعوله ، و « حُبًّا » تمييزٌ؛ وهو منقولٌ من الفاعليَّة ، وإذ الأصل : قد شغفها حبُّه .
والعامةُ على « شَغَفَهَا » بالغين المعجمة المفتوحمةِ ، بمعنى : خَرقَ شِغافَ قلبها ، وهو مأخوذٌ من الشِّغاف ، والشِّغاف : حجابُ القلب ، جليدةٌ رقيقةٌ ، وقيل : سويداءُ القلبِ .
فعلى الأول ، يقال : شَغفتُ فلاناً ، إذا أصبت شِغفافهُ؛ كما تقولُ : كبدتهُ إذا أصبتَ كبدَه ، فمعنى : « شَغَفَهَا حُبّاً » أي : خرق الحبُّ الجلدَ؛ حتَّى أصاب القلب ، أي : أنَّ حبَّه أحاط بقلبها ، مثل إحاطةِ الشِّغاف بالقلبِ ، ومعنى إحاطة ذلك الحبِّ بقلبها : هو أنَّ اشتغالها بحبه صار حجاباً بينها ، وبين كلِّ ما سوى هذه المحبَّة ، فلا يخطر ببالها سواه ، وإن قلنا : إنَّ الشِّغافُ سويداء القلبِ ، فالمعنى : أنَّ حبُّهُ وصل إلى سويداءِ قلبها .
وقيل : الشِّغافُ داء يصلُ إلى القلب مِنْ أجل الحبِّ ، وقيل : جليدةٌ رقيقةٌ يقال لها : لسانُ القلبِن ليست محيطةً به .
ومعنى : « شَغَفَ قلبَهُ » أي : خرق حجابهُ ، إذا أصابه؛ فأحرقه بحرارةِ الحبِّ ، وهو من شغف البعير بالهِناءِ ، إذا طلاهُ بالقطرانِ ، فأحرقهُ . [ والمشغوف من وصل الحب لقلبه ] قال الأعشى : [ البسيط ]
3079
يَعْصِي الوُشَاةَ وكَانَ الحُبُّ آونَةٌ ... مِمَّا يُزَّينُ للمَشْغُوفِ ما صَنَعَا
وقال النابغةُ الذبيانيُّ : [ الطويل ]
3080
وقَدْ حَالَ هَمٌّ دُونَ ذلِكَ والِجٌ ... مَكَانَ الشِّغافِ تَبْتغيِهِ الأصَابعُِ
وقرأ ثابت البناني : بكسر الغين ، وقيل : هي لغة تميم ، وقرأ أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وعليُّ بن الحسين ، وابنه محمدٌ ، وابنه جعفر والشعبي ، وقتادة رضي الله عنهم بتفحِ العين المهملةِ .
وروي عن ثابت البناني ، وأبي رجاء : كسر العين المهملة أيضاً ، واختلف الناسُ في ذلك : فقيل : هو من شغف البعير ، إذا هنأهُ ، فأحرقه بالطقرانِ ، قاله الزمخشريُّ؛ وأنشد : [ الطويل ]
3081 . . ...
كَمَا شَعَفَ المَهْنُوءةَ الرَّجلُ الطَّالِي
وهذا البيتُ لامرىء القيس : [ الطويل ]
3082
أتَقْتُلنِي وقدْ شَعَفْتُ فُؤادهَا ... كَما شَعَفَ المَهْنُوءةَ الرَّجلُ الطَّالِي
والناسُ إنما يروونهُ بالمعجمة ، ويسفرونه بأنه أصاب حبُّه شغاف قلبها ، أي : أحرقَ حجابهُ ، وهي جليدةٌ رقيقةٌ دونه ، كما شغف ، أي : كما أحرق ، وأراد بالمَهْنُوءةِ : المطليَّة بالهناءِ ، أي : القطران ، ولا ينشدونه بالمهملة ، وكشف أبو عبيدة عن هذا المعنى؛ فقال : « الشَّغف : إحراقُ الحُبِّ للقلب مع لذة يجدها؛ كما أنَّ البعير إذا طُلِيَ بالقطرانِ ، بلغ منه مثل ذلك ، ثم يَسْتَرْوحُ إليه » .
وقال أبو البقاء رحمه الله لما حكى هذه القراءة : « مِن قولِكَ : فلانٌ مشغوفٌ بكذا ، أي : مغرمٌ به » .
وقال ابنُ الأنباريِّ : « الشَّغفُ : رُءوسُ الجبالِ ، ومعنى شغف بفلانٍ : إذا ارتفع حبُّه إلى أعْلَى موضعٍ من قلبهِ » .
وعلى هذه الأقوال فمعناهما متقاربٌ ، وفرق بعضهم بينهمان فقال ابنُ زيدٍ : « الشَّغفُ يعني بالمعجمة في الحبِّ ، والشعف : في البغضِ » .
وقال الشعبيُّ : الشَّغَفُ ، والمشغوفُ بالغينِ منقوطة في الحبِّ ، والشَّعفُ : الجنونُ ، والمَشْعُوفُ : المَجنْونُ « .
قوله : { إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } ، أي : خطأ مبين ظاهر ، وقيل : معناه : إنَّها تركت ما يكون عليه أمثالها من العفاف والستر .
»
فلَّما سَمِعَتْ « راعيلُ » بِمكْرهِنَّ « ؛ بقولهنَّ ، وسمى قولهنَّ مكراً؛ لوجوه :
الأول : أنَّ النسوة ، إنما قلن ذلك؛ مكراً بها؛ لتُريهنَّ يوسف ، كان يوصف لهن حسنهُ وجماله؛ لأنَّهن إذا قلن ذلك ، عرضتْ يوسف عليهنَّ؛ ليتمهد عذرها عندهن .
الثاني : أنَّها أسرَّت إليهنَّ حبَّها ليوسف استكتمهُنَّ ، فأفشين ذلك السرَّ؛ فلذلك سمَّاه مكراً .
الثالث : أنهن وقعن في الغيبة ، والغيبة إنما تذكر على سبيل الخفيةِ ، فأشبهت المكر .
{
أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ } : قال المفسرون : اتخذت مأدبة ، ودعت جماعة من أكابرهن ، « وأعْتدَتْ » أي : أعدَّت « لهُنَّ مُتَّئاً » .
قرأ العامة : « مُتَّكئاً » بضم الميم ، وتشديد التاءِ ، وفتح الكاف والهمز ، وهو مفعولٌ به ، ب « أعْتَدتْ » أي : هيَّأتْ ، وأحضَرتْ .
والمُتَّكأ : الشيءُ الذي يتكأ عليه ، من وسادةٍ ونحوها ، والمُتَّكأ : مكان الاتِّكاءِ ، وقيل : طعام يُجزُّ جزًّا .
قال ابن عباسٍ ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد رضي الله عنهم : « مُتَّكَئاً ، أي : طعاماً ، سمَّاه » مُتَّكَئاً « ؛ لأنَّ أهل الطعامِ إذا جلسوا ، يتكئُون على الوسائدِ ، فسمى الطعامُ متكئاً؛ على الاستعارة » .
وقيل : « مُتَّكئاً » ، طعام يحتاج إلى أن يقطع بالسكِّين؛ لأنه إذا كان كذلك ، احتاج الإنسانُ إلى أن يتكىء عليه عند القطع .
وقال القتبي : يقالُ : اتكأنا عند فلانٍ ، أي أكلنا .
وقال الزمخشري : من قولك : اتكأنا عند فلانٍ ، طعمنا على سبيل الكناية؛ لأنه من دعوتهُ ليطعمَ عندك اتخذت له تكأةً يتكىءُ عليها؛ قال جميلٌ : [ الخفيف ]
3083
فَظَلِلْنَا بنِعْمَةٍ واتَّكأنَا ... وَشَرِبْنَا الحلالَ مِنْ قُلَلِهْ
فقوله : « وشَرِبْنَا » مرشحٌ لمعنى « اتَّكأنَا » : أكلنا .
وقرأ أبو جعفر ، والزهريُّ رحمهما الله : « مُتَّكأً » مشددة التاء ، دون همزٍ ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن يكون أصله : متكأ « كقراءة العامَّة ، وإنما خفف همزُهُ؛ كقولهم : » تَوضَّيْتُ « في توضَّأتُ ، فصار بوزن » مُتَّقى « .
والثاني : أن يكون » مُفْتَعَلاً « من أوكيتُ القِربَة ، إذا شدَدْتَ فَاهَا بالوكاءِ .
فالمعنى : أعْتدَتْ شيئاً يَشْتدِدْنَ عليه؛ إمَّا بالاتِّكاءِ ، وإمَّا بالقطْعِ بالسكِّين ، وهذا الثاني تخريجُ أبي الفتحِ .
وقرأ الحسن ، وابن هرمز : » مُتَّكاءً « بالتشديد والمد ، وهي كقراءةِ العامة ، إلاَّ أنه أشبع الفتحة؛ فتولد منها الألفُ؛ كقوله : [ الوافر ]
3084 . ...
ومِنْ ذمِّ الرِّجالَ بمُنْتزَاحِ
وقول الآخر : [ الكامل ]
3085
يَنْبَاعُ مِنْ ذِفْرَى أسيلٍ جَسْرَةٍ .. .
وقوله : [ الرجز ]
3086
أعُوذُ باللهِ من العَقرَابِ ... الشَّائِلاتِ عُقدَ الأذْنَابِ
بمعنى : بِمُنتزحٍ ، وينبع ، والعقرب الشَّائلة .
وقرأ ابن عباسٍ ، وابن عمر ، ومجاهدٌن وقتادة ، والضحاك ، الجحدري ، وأبان بن تغلب رحمهم الله : » مُتْكاً « بضمِّ الميم ، وسكون التاء ، وتنوين الكافِ ، وكذلك قرأ ابن هرمزٍ ، وعبدالله ، ومعاذ؛ إلاَّ أنهما فتحا الميم .
والمُتْكُ : بالضم والفتح : الأترجُ ، ويقال : الأترنج ، لغتان؛ وأنشدوا : [ الوافر ]
3087
نَشْرَبُ الإثْمَ بالصُّواعِ جِهَارَا ... وتَرَى المُتْك بَيْنَنا مُسْتَعَارَا
قيل : هو من متك ، بمعنى بَتَكَ الشيء ، أي : قطعه ، فعلى هذا يحتمل أن تكون الميم بدلاً من الباء ، وهو بدلٌ مطردٌ في لغة قومٍ ، ويحتمل أن تكون مادة أخرى وافقتم هذه .
وقيل : بالضمِّ : العسلُ الخالصُ عند الخليل ، والأترجُّ عند الأصمعيِّ ، ونقل أبو عمرو فيه اللغات الثلاث؛ أعني : ضمَّ الميم ، وفتحها ، وكسرها ، قال : وهو الشرابُ الخالصُ .
وقال المفضلُ : هو بالضم : المائدة ، أو الخمر ، في لغة كندةن وقال ابن عباس : هو الأترجُّ بالحبشة ، وقال الضحاك : الزَّمَاوْرَد ، وقال عكرمةك كل شيء يقطع بالسكين .
وقوله : « لهُنَّ مُتَّكَئاً » إما أن يريد : كُلَّ واحدةٍ متكئاً؛ ويدلُّ له قوله : { وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً } ، وإما أن يريد : الجِنْسَ .
والسِّكينُ : تذكرُ وتؤنث ، قاله الكسائي : والفراء ، وأنكر الأصمعي تأنثه ، والسكِّينةُ : فعلية من السكون ، قال الراغب : سُمي به لإزالة حركةِ المذبُوحِ بهِ ، فقوله : « وأتتْ » ، أي : أعطتْ { كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً } ، إما لأجل الفواكه ، أو لأجل قطع اللحم ، ثم أمرت يوسف عليه الصلاة والسلام بأن يخرج عليهن ، وأنه عليه الصلاة والسلام ما قدر على مخالفتها؛ خوفاً منها .
{
فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } ، الظاهرُ أنَّ الهاء ضميرُ يوسف ، ومعنى « أكْبَرنَهُ » أعظمنهُ ، ودهشن من حسنه ، وقيل : هي هاءُ السكتِ؛ قال الزمخشري .
وقيل : « أكْبَرْنَ » بمعنى : حِضْنَ ، والهاءُ للسَّكتِ؛ يقال : أكبرت المرأةُ : إذا حاضتْ ، وحقيقته : دخلت في الكبرِح لأنها بالحيض تخرج عن حدَّ الصِّغر إلى الكبرِ؛ فإنَّ أبا الطَّيب رحمه الله أخذ من هذا التفسير قوله : [ الطويل ]
3089
خَفِ الله واسْترْ ذَا الجَمالَ بِبُرقُعٍ ... فإنّْ لُحْتَ حاضتْ في الخُدورِ العَواتِق
وكون الهاء للسَّكتِ ، يردُّه ضم الهاءِ ، ولو كانت للسكتِ ، لسكنتن وقد يقال : إنه أجراها مجرى هاء الضمير ، وأجرى الوصل مجرى الوقف في إثباتها .
قال أبو حيَّان رحمه الله : « وإجماع القراء على ضم الهاء في الوصل ، دليلٌ على أنها ليست هاء السَّكت ، إذا لو كانت هاء السَّكت ، فكان من أجرى الوصل مجرى الوقف لم يضمّ الهاء » .
قال شهابُ الدِّين : « وهاءُ السَّكت قد تحرك بحركةِ هاء الضمير؛ إجراءً لها مجراها » ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في الأنعامِ ، وقد قالوا ذلك في قول المتنبيّ أيضاً : [ البسيط ]
3090
واحَرَّ قَلْبَاهُ مِمَّنْ قَلْبهُ شَبِمُ ... قإنه رُوي بضم الهاء في « قَلْبَاهُ » ، وجعلوها هاء السَّكتن ويمكن أن يكون « أكْبَرْنَ » بمعنى حضن ، ولا تكون الهاء للسكت؛ بل تجعل ضميراً للمصدر المدلول عليه بفعله ، أي : أكبرن الإكبار ، وأنشدوا على أنَّ الإكبار بمعنى الحيضِ ، قوله [ البسيط ]
3091
يَأتِي النِّساءَ على أطْهَارِهنَّ وَلاَك ... يَأتِي النِّساءً إذَا أكْبَرْنَ إكْبَارَا
قال الطبريُّ : البيت مصنوعٌ .
فصل في صفة يوسف الخلقية
روى أبو سعيد الخدريُّ رضي الله عنه : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«
رَأيْتُ ليلةُ أسْرِيَ بِي إلى السَّماء يُوسفَ ، كالقَمرِ ليْلةَ البَدْرِ » .
وقال إسحاقُ بنُ أبي فروة : « كان يوسفُ عليه الصلاة والسلام إذا سَار في أزِقََّةِ مِصر يُرى تَلألُوء وجْههِ على الجُدرانِ ، كمَا يُرَى نُورُ الشَّمس في الماءِ عَليْهَا » .
وقال عليه الصلاة والسلام في حديث الإسراء : « فَمَررْتُ بيُوسفَ فإذَا هُوَ قَدْ أعْطِي شَطْرَ الحُسنِ » .
قال العلماءُ رضي الله عنهم : معناه أنه كان على النِّصفِ من حسن آدم صلوات الله وسلامه عليه .
قال أبو العالية : « هَالهُنّ أمره إنَّهُن من دهْشتهِنَّ ، وحيْرتِهنَّ؛ قطَّعن أيْديهُنَّ ، وهُنَّ يَحْسبنَ أنَّهن يقطِّعْنَ الأرتجَ ، ولم يجدن الألَم؛ لشغلِ قلوبهنَّ بيوسف » .
وقال مجاهدٌ : ما أحْسَسْنَ إلا بالدَّمِن وذلك كنايةٌ عن الجرحِ ، لا أنَّهن ابنَّ أيديهنَّ ، كما قال قتادة .
وقيل : إنهن لما دهشن ، صارت المرأةُ منهن بحيثُ لا تميز نصاب السِّكين من حديدها؛ فكانت تأخذُ الجانب الحادِّ من تلك السكينة بكفِّها؛ فكان تحصل تلك الجراحةُ بكفها .
قال وهبٌ : ما تت جماعةٌ منهن .
قال ابن الخطيب : وعندي أنَّهُ يحتملُ وجهاً آخر ، وهو أنهنَّ إنَّما أكبرنه؛ لأنَّهن رأين عليه نُور النبوَّة ، وبهاء الرِّسالة وآثار الخضوع ، والإنابة ، وشاهدنَ منه معاني الهيْبَة ، والسكينة ، وهي عدمُ الالتفاتِ إلى المطعُومِ المنكُوحِ ، وعدم الاعتدادِ بهنَّ ، واقرانِ هذه الهيبة الإلهية ، بذلك الجمال العظيم ، فَتعجبن من تلك الحالةِ ، فلا جرم أكبرنه ، وعظمنهُ ، ووقع الرُّعبُ والمهابة في قولبهن ، وهذا عندي أولى .
فإن قيل : كيف يطابقُ على هذا التَّأويل قوله : « فَذلكُنَّ الَّذي لمتنَّني فيه » ؟ وكيف تصير هذه الحالة عذراً لها في قوَّة العشق ، وإفراط المحبَّة؟ .
قلت : تقرر أن المحبُوب متبوع ، فكأنَّها قالت لهُنَّ : هذا الخلق العجيب انضمَّ إليه هذه السيرةُ الملكية الطَّاهرة المطهرة . فحسنه يوجب الحب الشَّديد ، والسِّيرة الملكية توجب اليأسَ عن الوصول إليه ، فلهذا وقعت في المحبَّة والحسرةِ ، وهذا التأويل أحسنُ ، ويؤيده قولهم : { مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } .
قوله : « حَاشَا للهِ » عدَّها النحويون من الأدواتِ المترددة بين الحرفية والفعلية ، فإن جرَّت ، فهي حرفٌ ، وإن نصبت ، فهي فعلٌ ، هي من أدوات الاستثناء ، ولم يعرف سيبويه فعليَّتها ، وعرفها غيره ، وحكوا عن العرب : « غَفَرَ اللهُ لِي ، ولِمَنْ سَمِعَ دُعائِي ، حَاشَا الشَّيطانَ ، وابن أبي الأصْبَعِ » بالنصب ، وأنشدوا : [ الوافر ]
3092
حَشَا رَهْطَ النبيِّ فإنَّ مِنهُمْ ... بُحُوراً لا تُكدِّرُها الدِّلاءُ
بنصب « رَهْطَ » ، و « حَشَا » لغة في « حَاشَا » كما سيأتي .
قال الزمخشري : « حَاشَى » كلمةٌ تفيد التنزيه ، في باب الاستثناء ، تقول : أساء القوم حَاشَى زَيدٍ ، وقال : [ الكامل ]
3093
حَاشَى أبِي ثَوْبَانَ إنَّ بهِ ... ضَنًّا عَنِ المَلْحَاةِ والشَّتْمِ
وهي حرفٌ من حروف الجرِّ؛ فوضعت موضع التنزيه ، والبراءةٍ ، فمعنى حاشا للهِ : براءة الله ، وتنزيه الله ، وهي قراءة ابن مسعودٍ .
قال أبو حيَّان : وما ذكر أنها تفيد التنزيه في باب الاستثناء ، غير معروفٍ عند النحويين ، لا فرق في قولك : قَامَ القومُ إلاَّ زيداًن وقَامَ القوْمُ حَاشَا زيْد ولمَّا مثل بقوله : أساء القوم حاشا زيد ، وفهم من هذا التمثيل براءة زيدٍ من الإساءةِن جعل ذلك مستفاداً منها في كل موضعٍ ، وأما ما أنشده من قوله : [ الكامل ]
حَاشَا إبِي ثَوْبانَ ... البيت .
فهكذا ينشدهُ ابن عطيَّة ، وأكثر النحاة ، وهو بيتٌ ركَّبوا فيه صدر بيتٍ على عجز آخر من بيتين ، وهما : [ الكامل ]
3094
حَاشَى أبِي ثَوْبانَ إنَّ أبَا ... ثَوْبانَ لَيْسَ بِبَكْمَةٍ فَدْمِ
عَمرو بنِ عَبْدِ اللهِ إنَّ بِهِ ... ضنًّا عن المَلْحَاةِ والشَّتْمِ
قال شهابُ الدِّين : « قوله : » إنَّ المعنى الذي ذكره الزمخشريُّ لا يعرفه النحاة « ولم ينكروه؛ وإنما لم يذكروه في كتبهم؛ لأنَّ غالب : فَنِّهِمْ » صناعة الألفاظ دون المعاني ، ولما ذكروا مع أدوات الاستنثاءِ « لَيْسَ » ، و « لا يكُونُ » و « غَيْر » ، لم يذكروا معانيها . إذ مرادهم مساواتها ل « إلاَّ » في الإخراج ، وذلك لا يَمْنَع من زيادة معنى في تلك الأدوات « .
وزعم المبردُ ، وغيره كابن عطيَّة : أنَّها تتعينُ فعليتها ، إذا وقع بعدها حرف جرٍّ كالآية الكريمةن قالوا : لأن حرف الجرِّ لا يدخل على مثله إلا تأكيداً؛ كقوله : [ الوافر ]
3095 . . ...
وَلا لِمَا بِهِمْ أبَداً دَواءُ
وقول الآخر : [ الطويل ]
3096
فأصْبَحنَ لا يَسْألنَهُ عَن بِمَا بِهِ .. . . .
فيتعيَّن أن يكون فعلاً فاعله ضمير يوسف ، أي : حَاشَى يوسف ، و » للهِ « جارٌّ ومجرورٌ ، متعلق بالفعل قبله ، واللام تفيد العلَّة ، أي : حَاشَا يوسف أن يُقارِفَ ما رمته به؛ لطاعة الله ، ولمكانه منه ، أو لترفيع الله أن يرمى بما رمتهُ به ، أي : جَانَبَ المعصية؟ لأجل الله .
وأجاب النَّاسُ عن ذلك : بأنَّ » حَاشَا « في الآية الكريمة ، ليست حرفاً ولا فعلاً وإنَّما هي اسم مصدر بدلٌ من اللفظِ بفعله؛ كأنه قيل : تنزيهاً للهِ ، وبراءة له ، وإنما لم ينون؛ مراعاة لأصله الذي نقل منه ، وهو الحرف ، ألا تراهم قالوا : » مِنْ عَنْ يَمِينه « فجعلوا » عَنْ « اسماً ، ولم يعربوه ، وقالوا : » مِن عليه « فلم يثبتوا ألفه مع الضمر بل أبقوا » عَنْ « على بنائه ، وقلبوا ألف » عَلى مع المضمر؛ مراعاة لأصلها ، كذا أجاب الزمخشريُّ ، وتابعه أبو حيَّان ، ولم يَعزُ لهُ الجواب ، وفيه نظرٌ؛ أما قوله : « مراعاة لأصله » فيقتضي أنه نقل من الحرفيَّة ، إلى الاسمية ، وليس ذلك إلاَّ في جانب الأعلام ، يعني أنهم يُسمّون الشَّخص بالحرفِ ، ولهم ذلك مذهبان : الإعرابُ ، الحكايةٌ . أما أنهَم ينقلون الحرف إلى الاسم ، أي : يجعلونه اسماً ، فهذا غير معروف .
وأما استشهاده ب « عَنْ » ، و « عَلَى » فلا يفيده ذلك؛ لأنَّ « عَنْ » حال كونها اسماً بنيت ، لشبهها بالحرف في الوضع على حرفين ، لا أنَّها باقيةٌ على بنائها ، وأما قلب ألف « عَلَى » مع الضمير ، فلا دلالة فيه؛ لأنَّا عهدنا ذلك ، فيما هو ثابتُ الاسمية بالاتفاق كالذي ، والأولى أن يقال : الذي يظهرُ في الجواب عن قراءة العامَّة ، وأنها اسمٌ منصوبٌ كما تقدم ، ويدلُّ عليه قراءة أبي السَّمال : « حَاشاً للهِ » منصوباً منوناً ، ولكنهم أبدلوا التنوين ألفاً؛ كما يبدلونه في الوقف ، ثم إنهم أجروا الوصل مجرى الوقف ، كما فعلوا ذلك في مواضع كثيرةٍ ، تقدم منها جلمةٌ ، وسيأتي مثلها ، إن شاء الله تعالى .
وقيل : في الجواب عن ذلك : بل بُنِيَتْ « حَاشَا » في حال اسميتها؛ لشبهها ب « حَاشَا » في ح الِ حرفيَّتها ، لفظاً ومعنى ، كما بُنيَتْ « عَنْ » ، و « عَلَى » لما ذكرناه .
وقال بعضهم : إنَّ اللام زائدة ، وهذا ضعيف جدًّا بابه الشِّعر .
واستدلَّ المبرد وأتباعه على فعليتها ، بمجيء المضارع منها؛ قال النَّابغة الذبيانيُّ : [ البسيط ]
3097
وَلا أرَى فَاعِلاً في النَّاسِ يُشْبِههُ ... وَلا أحَاشِى من الأقْوامِ من أحَدِ
قالوا : تصرف الكلمةِ من الماضي إلى المستقبل ، دليلٌ على فعليتها ، لا محالة .
وقد أجاب الجمهور عن ذلك : بأنَّ ذلك مأخوذٌ من لفظ الحرف؛ كما قالوا : سوَّفت بزيدٍ ، ولو كيت له ، أي : قلت له : سوف أفعل ، وقلت له : لو كان ، ولو كان ، وهذا من ذلك ، وهو محتملٌ .
وممن رجح جانب الفعلية ، أبو علي الفارسي رحمه الله قال : « لا تَخْلُوا حَاشَى في قوله » حَاشَى للهِ « من أن يكون الحرف الجارُّ في الاستثناءِ ، أو يكون فعلاً على فاعل ، ولا يجوز أن يكون الحرف الجار؛ لأنه لا يدخل على مثله؛ ولأن الحروف لا يحذف منها ، إذا لم يكن فيها تضعيفٌ ، فثبت أنه فاعلٌ من » الحَشَا « الذي يراد به الناحية .
والمعنى : أنه صار في حشا ، أي : في ناحية ، وفاعل » حَاشَى « يوسف ، والتقدير : بعد من هذا الأمر؛ لله ، أي : لخوفهِ » .
فقوله : « حرفُ الجرِّ لا يدخل على مثله » مُسلَّمٌ ، ولكن ليس هو هنا حرفُ جرِّ ، كما تقدم تقريره .
وقوله : « لا يحذفُ من الحرفِ إلا إذا كان مُضَعَّفاً » ، ممنوعٌ ، ويدل له قولهم : « مُذْ » في « مُنْذُ » إذا جُرَّ بها ، فحذفوا عينها ولا تضعيف ، قالوا : ويدلَّ على أنَّ أصلها : « منذ » بالنون ، تصغيرها على « مُنَيْذ » وهذا مقررٌ في بابه .
وقرأ أبو عمرو وحده : « حَاشَا » بألفين الفٌ بعد الحاءِ ، وألفٌ بعد الشين ، في كلمتي هذه السورة وصلاً ، ويحذفها وقفاً؛ اتباعاً للرسم ، كما سيأتي ، والباقون بحذف الألف الأخيرة؛ وصلاً ، ووقفاً .
فأما قراءة أب عمرو ، فإنه جاء فيها بالكلمةِ على أصلها ، وأما الباقون : فإنهم ابتعوا في ذلك الرسم ، ولما طال اللفظُ ، حسن تخفيفه بالحذف ، ولا سيَّما على قول من يدَّعي فعليتها ، كالفارسيّ .
قال الفارسي : « وأما حذفُ الألف ، فعلى : لمْ يَكُ ، وَلا أدْرِ ، وأصَابَ النَّاس جهدٌ ، ولو تَرَ ما أهْلَ مَكَّة ، وقوله : [ الرجز ]
3098
وصَّانِي العَجَّاجُ فِيمَا وَصَّني ... في شعر رُؤبة ، يريد : لَمْ يكن ، ولا أدْرِي ، ولو ترى ، ووصَّاني » . وقال أبو عبيدة : رأيتها في الذي يقال له إنه الإمامُ مصحف عثمان رضي الله عنه « حَاشَ لله » بغير ألف ، والآخرى مثلها .
وحكى الكسائيُّ : أنه رآها في مصحف عبدالله ، كذلك . قالوا : فعلى ما قال أبُوا عبيد ، والكسائي : تُرجَّح هذه القراءةُ ، ولأن عليها ستةٌ من السبعةِ .
ونقل الفراء : أن الإتمام لغةُ بعض العرب ، والحذف لغة أهل الحجاز ، قال : ومِنَ العرب من يقول « حَاشَى زَيْداً » أراد « حَشَى لزيدٍ » ، فقد نقل الفراء : أنَّ اللغات الثلاثة مسموعةٌ ولكنَّ لغة أهل الحجازِ مُرجحةٌ عندهم .
وقرأ الأعمش ، في طائفة « حِشَى للهِ » بحذف الألفين ، وقد تقدم أنَّ الفراء حكاها لغة عن بعض العرب؛ وعليه قوله : [ الوافر ]
3099
حَشَى رَهْطَ النَّبيِّ . .. .
لبيت .
وقرأ أبي ، وعبد الله : « حَاشَى اللهِ » بجر الجلالةِ ، وفيها وجهان :
أحدهما : أن تكون اسماً مضافاً للجلالة ، نحو سبحان الله ، وهو اختيارُ الزمخشريِّ .
والثاني : أنه حرف استنثاءٍ ، جر به ما بعده؛ وإليه ذهب الفارسيُّ .
وفي جعله : « حَاشَا » حرف جرِّ مُراداً به الاستثناء ، نظرٌ ، إذْ لم يتقدم في الكلام شيءٌ يستثنى منه الاسم المعظَّم ، بخلاف : قام القومُ حَاشَا زيدٍ ، واعلم أنَّ النحويين لما ذكروا هذا الحرف ، جعلوه من المتردِّد بين الفعلية ، والحرفية كما عند من أثبت فعليّته ، وجعله في ذلك ك « خَلاَ » و « عَدَ » ، وهذا عند من أثبت حرفيته ، وكان ينبغي أن يذكروه من المتردد بين الاسمية ، والفعلية ، والحرفية ، كما فعلوا ذلك في « عَلَى » فقالوا : يتكون حرف جرٍّ في « عَلْكَ » ، واسماً في قوله : « مِنْ عَليْه » ، وفعلاً في قوله : [ الطويل ]
3100
عَلاَ زَيْدُنَا يوْمَ النَّقَا . . .
وإن كان فيه نظرٌ ، تلخيصه : أنَّ « عَلاَ » حال كونها فعلاً غيرُ « عَلَى » ، حال كونها غير فعلٍ؛ بدليل أنَّ الألف الفعلية منقلبةٌ عن واوٍ ، ويدخلها التصريفُ ، والاشتقاقُ دون ذينك .
وقد يتعلق من ينتصر للفارسي بهذا ، فيقول : لو كان « حَاشَا » في قراءة العامَّة اسماً ، لذكر ذلك النحويون عند ترددها بين الحرفية ، والفعلية ، فلمَّا لم يذكروه ، دلَّ على عدم اسميتها .
وقرأ الحسن : « حَاشْ » بسكون الشين ، وصلاً ووقفاً ، كأنه أجرى الوصل مجرى الوقف ، ونقل ابن عطية عن الحسن أنه قرأ : « حَاشَ الإله » قال محذوفاً من « حَاشَا » يعني أنه قرأ بحذف الألف الأخيرةِ ، ويدلُّ لى ذلك ، ما صرَّح به صاحبُ اللوامح ، فإنه قال : « بحذف الألف » ثم قال : وهذا يدلُّ على أنه حرف جرٍّ ، يجر به ما بعده . فأما الإله : فإنه فكَّه عن الإدغام ، وهو مصدرٌ أقيم مقام المفعول ، ومعناه : المبعودُ ، وحذف الألف من « حَاشَ » ؛ للتخفيف .
قال أبو حيَّان : « وهذا الذي قاله ابن عطية ، وصاحب اللوامح : من أنَّ الألف في » حَاشَا « في قراءة الحسنِ ، محذوفةٌ ، لا يتعيَّن إلاَّ أن ينقل عنه أنه يقف في هذه القراءة بسكون الشِّين ، فإنه لم ينقل عنه في ذلك شيء ، فاحتمل أن تكون الألف حذفت؛ لالتقاء الساكنين ، والأصل : حاشا الإله ، ثم نقل فحذف الهمزة ، وحرَّك اللام بحركتها ، ولم يعتدَّ بهذا التحريك؛ لأنه عارضٌ ، كما تحذف في نحو » يخشى الإله « ولو اعتد بالحركة لم يحذف الألف » .
قال شهابُ الدِّين رحمه الله : الظاهر أن الحسن يقف في هذه القراءة بسكون الشِّين ، ويستأنس له ، بأنه سكَّن الشين في الراوية الآخرى عنه ، فلما جيء بشيءٍ محتمل ، ينبغي أن يحمل على ما خرج به ، وقول صاحب اللّوامح : وهذا يدلُّ على أنه حرف جرٍّ بجرُّ به ما بعده ، لا يصحُّ؛ لما تقدم من أنَّه لو كان حرف جرٍّ ، لكان مُستثنى به ، ولم يتقدم ما يُسْتثنى منه بمجروره .
واعلم أنَّ اللام الداخلة على الجلالة ، متعلقةٌ بمحذوفٍ على سبيل البيانِ ، كهي في « سَقْياً لَكَ » ، و « رَعْياً لزيد » عند الجمهور ، وأما عند المبرد ، والفارسي : فإنها متعلقةٌ بنفس « حَاشَى » ؛ لأنها فعلٌ صريحٌ ، وقد تقدَّم أن بعضهم يرى زيادتها .
قال المفسِّرون : معنى قوله : « حَاشَى لله » أي : تنزَّه الله تعالى عن العجز ، حيث قدر على خلق جميلٍ مثله ، وقيلك معاذ الله أن يكون هذا بشراً .
قوله : « مَا هَذا بشراً » العامة على إعمال « ما » على اللغة الجازيَّة وهي اللغة الفُصْحَى ، ولغة تميم الإهمالُ ، وقد تقدَّم تخفيف هذا ، أول البقرة [ البقرة : 8 ] ، وما أنشده عليه من قوله : [ الكامل ]
3101
وأنا النذيرُ بحَرَّةٍ مُسْودًّةٍ .. . .
البيتين .
ونقل ابن عطيَّة : أنه لم يقرأ أحدٌ إلاَّ بلغة الحجاز ، وقال الزمخشري : ومن قرأ على سليقته من بني تميمٍ ، قرأ « بشرٌ » بالرفع ، وهي قراءة ابن مسعودٍ .
فادعاءُ ابن عطية ، أنه لم يقرأ به ، غير مسلم . وقرأ العامة : « بَشَرا » بفتح الباءِ على أنها كلمةٌ واحدةٌ ، ونصب ينزع حرفِ الخفض ، أيّ : بِبشَرٍ .
وقرأ الحسن ، وأبو الحويرث الحنفي : « بِشرَى » بكسر الباء ، وهي باءُ جرَّ ، دخلت على « شِرَى » فهما كلمتان ، جارٌّ ومجرورٌ ، وفيها تأويلات :
أحدهما : ما هذا بمُشْتَرَى ، فوضع المصدر موضع المفعول به ، ك « ضَرَبَ الأميرِ » .
الثاني : ما هذا بمباع ، فهو أيضاً مصدرٌ واقعٌ موقع المفعول به ، إلاَّ أنَّ المعنى مختلفٌ .
الثالث : ما هذا بثمنٍ ، يعنين أنه أرفعُ من أن يجري عليه شيءٌ من هذه الأشياء ، وروى عبدُ الوارث ، عن أبي عمرو كقراءة الحسن ، وأبي الحويرث ، إلاَّ أنه قرأ عنه إلا « مَلِك » بكسر اللام ، واحد الملوكِ ، نفو عنه ذُلَّ المماليك ، وأثبتوا له عزَّ المُلوكِ ، وذكر ابنُ عطية : كسْرَ اللام عن الحسنِ ، وأبي الحُوَيْرث .
وقال أبو البقاءِ : وعلى هذا قُرىء « مَلِك » بكسر اللام ، كأنه فهم أنَّ من قرأ بكسرِ الباءِ ، وقرأ بكسرِ اللام أيضاً؛ للمناسبة بين المعنيين ، ولم يذكر الزمخشريُّ هذه القراءة مع كسر الباء ألبتة؛ بل يفهم من كلامه أنَّه لم يطلْ عليها ، فإنه قال : وقُرِىء ما هذا بِشِرَى أي : ما هو بعبدٍ مملوكِ لئيمٍ ، « إنْ هَذَا إلاَّ ملكٌ كَريمٌ » ، تقول : « هذا بِشرَى » ، أي : حاصلٌ بِشرَى ، بمعنى مُشْترَى ، وتقولك هذا لك بِشرَى ، أو بِكِرَى « والقراءةُ هي الأولى؛ لموافقتها المصحف ، ومطابقة » بَشَر « ل » مَلِك « .
قوله » لموافقتها المصحف « يعني أنَّ الرَّسم : » بَشَراً « بالألفِ ، لا بالياءِ ، ولو كان المعنى على » بُشْرَى « لرسم بالياءِ ، وقوله : » ومُطابَقة بشراً الملك « ، دليلٌ على أنه لم يطلع على كسرِ اللامِ ، فضلاً عمن قرأ بكسرِ الباءِ .
فصل
في معنى قوله : { مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } وجهان :
أشهرهما : أن المقصود منه إثباتُ الحسن العظيم له ، قالوا : لأنه تعالى ركب في الطبائع أنَّ لا حيَّ أحسنُ من الملكِ ، كما ركَّب فيها أنَّ لا حيَّ أقبحُ من الشَّيطان ، ولذلك قال في صفة شجرةٍ جهنَّم : { طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين } [ الصافات : 65 ] وذلك لما تقرَّر في الطبائع ، أنَّ أقبح الأشياءِ ، هو الشيطانُ ، فكذا هاهنا ، تقرَّر في الطبائع أنَّ أحسن الأشياءِ ، هو الملكُ ، فلما أرادت النسوةُ المبالغة في وصفِ يوسف في الحسنِ ، لا جرم شبَّهنهُ بالملك ، وقلن : » إنْ هَذَا إلاَّ مَلكٌ كَرِيمٌ « على الله من الملائكة .
والوجه الثاني : قال ابنُ الخطيب : وهو الأقربُ عندي ، أن المشهور عند الجمهور ، أنَّ الملائكة مطهَّرون عن بواعثِ الشهوةِ ، وحوادث الغضب ، ونوازع الوهم ، والخيال ، فطعامهم توحيد الله ، وشرابهم الثناءُ على الله ، ثم إنَّ النسوة لما رأين يوسف ، لم يلتفتْ إليهن ، ورأين عليه هيبة النُّبوةِ ، وهَيْبة الرسالةِ ، وسيما الطَّهارة ، قلن : ما رأينا فيه أثراً من الشَّهوة ، ولا شيئاً من البشرية ، ولا صفة من الإنسانيةِ ، ودخل في الملائكة ، فإن قالوا : فإن كان المرادُ ما ذكرتم ، فكيف يتمهدُ عُذْرٌ المرأةِ عند النسوةِ؟ فالجواب قد سبق .
فصل فيمن احتج بالآية على أن الملك أفضل من البشر
احتج القائلون بأ الملك أفضلُ من البشر بهذه الآية فقالوا : لا شك أنهن إنما ذكرن هذا الكلام في مع رض تعظيم يوسف صلوات الله وسلامه عليه ، فوجب أم يكون إ خراجه من البشرية ، وإدخاله في الملكيِّة ، سبباً لتعظيم شأنه ، وإعلاء مرتبتة ، وإنما يكون كذلك ، إذا كان الملك أعلى حالاً من البشر .
ثم نقول : لا خلُوا إما أن يكون المقصودُ بيان كماله في الحسنِ الظاهر ، أو بيان كمال حُسْنِ الباطنِ الذي هو الخلق الباطن ، والأول باطلٌ لوجهين :
الأول : أنهن وصفنه بكونه كريماً؛ بحسب الأخلاق الباطنة ، لا بحسب الخلقةِ الظاهرة .
والثاني : أنا نعلمُ بالضرورة أنَّ وجه الإنسان لا يشبه وجوه الملائكةِ ألبتة ، وأما كونه بعيداً عن الشهوة ، والغضب ، معرضاً عن اللَّذات الجسمانية ، مُتوجِّهاً إلى عبوديةِ الله ، مستغرق القلبِ والرُّوحِ ، فهو مشتركٌ فيه بين الإنسان الكاملِ ، وبين الملائكةِ .
إذا ثبت هذا فنقول : تشبيه الإنسانِ بالملكِ ، في الأمرِ الذي حصلت المشابهةُ فيه على سبيلِ الحقيقة ، أولى من تشبيهه بالملك فيما لم تحصل فيه المشابهة ألبتة؛ فثبت أن تشبيه يوسف بالملك في هذه الآية ، إنَّما وقع في الخُلق الباطن ، لا في الصُّورة الظاهرةِ ، وإذا كان كذلك ، وجب أن يكون الملك أعلى حالاً من الإنسان في هذه الفضائل .
قوله : « فَذلِكُنَّ » مبتدأ ، والموصول خبره ، أشارت إليه إشارة البعيد ، وإن كان حاضراً؛ تعظيماً له ، ورفعاً منه لتُظهرَ عذرها في شغفها .
وجوَّز ابنُ عطية : « أن يكون » ذَلِكَ « إشارةٌ إلى حبِّ يوسف عليه الصلاة والسلام والضمير في » فِيهِ « عائدٌ على الحبِّ ، فيكون » ذَلِكَ « إشارةً إلى غَائبٍ على بابه » .
يعنى بالغائب : البَعيِدَ ، وإلا فالإشارةُ لا تكون إلاَّ لحاضرٍ مُطلقاً .
وقال ابن الأنباري : « أشارت بصيغةِ » ذَلِكَ « إلى يوسف بعد انصرافه من المجلسِ » .
وقال الزمخشري : « إنَّ النسوة كُنَّ قلن : إنها عَشقَتْ عبْدَها الكنْعَانيَّ ، فلمَّا رأينه ، وفعن في تلك الدَّهشة ، قالت : هذا الذي رأيتموهُ ، هو العبد الكنعاني الذي لمُتُنَّنِي فيه ، يعني : أنكَّن لم تصورنه بحقِّ صورتهن فلو حصلت في خيالكُنَّ صُرتهُ ، لتركتن هذه الملامةً » .
واعلم أنها لما أظهرت عذرها عند النسوة ، في شدَّة محبَّتها له ، كشف عن حقيقة الحال؛ فقالت : { ولقَدْ رَاوَدتُهُ عَنْ نَفسِهِ فاسْتَعْصمَ } وهذا تصريحٌ بأنه عليه الصلاة واسلام كان بريئاً من تلك التُّهمةِ .
وقال السديُّ : « فاسْتَعْصمَ » بعد حلِّ السَّراويل .
قال ابن الخطيب : « وما أدري ما الذي حمله على إلحاقِ هذه الزيادةِ الفَاسدةِ الباطلةِ بنص الكتاب؟! وذل أنَّها صرَّحتْ بما فعلت : { ولقَدْ رَاوَدتُهُ عَنْ نَفسِهِ فاسْتَعْصمَ } أي : فامتنع ، وإنما صرَّحت به؛ لأنها علمت أنه لا ملامة عليها منهنَّ ، وقد أصابهنَّ ما أصابهن ، من رُؤيته .
قوله : « فاسْتَعْصمَ » في هذه السين وجهان :
أحدهما : أنها ليست على بابها من الطلب ، بل « اسْتَفْعَل » هنا مبعنى « افْتَعَل » فاستعصم و « اعْتصَمَ » واحدٌ وقال الزمخشريُّ : « الاستعصام بناءُ للمبالغة يدلُّ على الامتناع البليغ ، والتحفُّظ الشَّديد ، كأنه في عصمةِ ، وهو مجتهدٌ في الزيادة فيها ، والاستزادة منها ، ونحوه : اسْتمْسَكَ ، واسْتوْسَعَ الفتقُ ، واسْتجْمَعَ الرَّأيُ ، واستفحل الخَطْبُ » فردّ السين إلى بابها من الطلبِ ، وهو معنّى حسنٌ ، ولذلك قال ابن عطية : « معناه طَلبَ العِصْمَةَ ، واسْتمْسَكَ بها وعصاني » قال أبو حيان : ذكره التَّصريفيَّون في « اسْتَعْصَم » : أنه موافقٌ ل « اعتصم » ، و « اسْتَفْعَلَ » فيه : موافق ل « افتعل » وهذا أجودُ من جعل « استعفل » فيه للطلبِ؛ لأن « اعْتَصَمَ » يدلُّ على اعتصامه ، وطلبُ المعصمةِ لا يدلُّ على حصولها ، وأما أنه بناءُ مبالغةٍ يدلُّ على الاجتهادِ في الاستزادة من العصمة ، فلم يذكر التصريفيون هذا المعنى ل « اسْتَفْعَلَ » ، وأما « اسْتَمْسكَ ، واسْتَجْمَعَ الرأي ، واسْتوْسَعَ الفَتْقُ ، ف » اسْتَفْعَل « فيه لموافقةِ » افْتَعَلَ « ، والمعنى : امتسك ، واتسع ، واجتمع ، وأما » اسْتَفْحَلَ الخَطْبُ « ف » فاستَفْعَلَ « فيه موافقة ل » تَفعَّل « أي : تفَحَّل الخطب نحو » استْتَكْبرَ وتَكبَّرَ « .
قوله : » مَا آمُرُهُ « في » مَا « وجهان :
أحدهما : مصدريةٌ .
والثاني : أنها موصولةٌ ، وهي مفعولٌ بها بقوله : » يَفْعَل « ، والهاءُ في » آمرُرُهُ « تحتمل وجهين :
أحدهما : العودُ على » مَا « الموصولة ، وإذا جعلناها بمعنى الذي .
الثاني : العودُ على يوسف .
ولم يجوِّز الزمخشريُّ عودها على يوسف إلا إذا جعلت » ما « مصدرية ، فإنه قال : فإنْ قلت : الضميرُ في : » مَا آمُرُهُ « راجعٌ إلى الموصول أم إلى يوسف؟ قلتُ : بل إلى الموصول ، والمعنى : ما آمرُ به ، فحذف الجار؛ كما في قوله : [ البسيط ]
3102
أمَرْتُكَ الخَيْرَ . . .
ويجوز أن تجعل » ما « مصدرية ، فيعود على يوسف ، ومعناه : ولئنْ لم يفعل أمري إيَّاه ، أي : موجبُ أمري ، ومُقْتَضَاهُ » .
وعلى هذا ، فالمفعولُ الأول محذوفٌ ، تقديره : ما آمره به ، وهو ضمير يوسف عليه السلام .
قوله : { وَلَيَكُوناً } قرأ العامة يتخفيف نون « وليَكُوناً » ، ويقفون عليها بالألف؛ إجراءً لها مجرى التنوين ، ولذلك يحذفونها بعد ضمةٍ ، أو كسرةٍ ، نحو : هل تقومون؛ وهل تقومين؟ في : هل تقومن؟ والنونُ الموجودة في الوقف ، نونُ الرفع ، رجعوا بها عند عدم ما يقتضي حذفها ، وقد تقرر فيما تقدَّم أنَّ نون التوكيدِ تثقَّلن وتخفف ، والوقفُ على قوله : « ليُسْجَنَنَّ » بالنُّونِ؛ لأنَّها مشددةٌ ، على قوله : « وليَكُوناً » بالألف؛ لأنها مخففةٌ ، وهي شبيهةٌ بنون الإعراب في الأسماءْ؛ كقولك : رأيتُ رجلاً ، وإذا وقفت قلت : رجلا ، بالألف ، ومثله :
{
لَنَسْفَعاً بالناصية } [ العلق : 15 ] .
و « مِنَ الصَّاغرينَ » من الأذلاَّءِ ، وقرأت فرقة بتشديدها وفيها مخالفةٌ لسوادِ المصحف؛ لكتبها فيه ألفاً؛ لأ ، الوقف عليها كذلك؛ كقوله : [ الطويل ]
3103
وإيَّاكَ والمَيْتَاتِ لا تَقْربنَّهَا ... ولا تَعْبُدِ الشَّيطانَ واللهَ فاعْبُدَا
أي : فاعْبُدونْ ، فأبدلها ألفاً ، وهو أحدُ الأقوالِ في قول امرىء القيس : [ الطويل ]
4104
قِفَا نَبْكِ ..
وأجرى الوصل مجرى الوقف .
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
قوله : { رَبِّ السجن } العامة على كسر الباء؛ لأنه مضافٌ لياء المتكلم ، اجتزىء عنها باكسرة ، وهي الفصحى ، و « السِّجنُ » : بكسر السين ، ورفع النُّون ، على أنَّه مبتدأ ، والخبر : « أحَبُّ » و « السِّجنُ » الحبسُن والمعنى : دخول السِّجنِ .
وقرأ بعضهم : « ربُّ السِّجنُ » بضمِّ الباءِ ، وجرِّ النون ، على أنَّ « ربُّ » مبتدأ و « السِّجن » خفض بالإضافة ، وأَحبُّ « : خبره ، والمعنى : ملاقاةُ صاحب السجن ، ومقاساته أحبُّ إليَّ .
وقرأ عثمان ، ومولاه طارق ، وزيد بن علي ، والمرهريُّ ، وابن أبي إسحاق ، وابن هرمز ، ويعقوب : بفتح السِّين ، وفي الباقي كالعامَّة .
والسِّجنُ : مصدرٌ ، أي : الحبسُ أحبُّ [ إليَّ ] ، و » إليَّ « متعلقٌ ب » أحَبُّ « ، وقد تقدم [ يوسف : 8 ] : وإنَّما هذان شرَّان ، فآثر أحد الشَّرينِ على الآخر .
فصل
الظَّاهر أنَّ النسوة لما سمعن هذا التهديد ، قلن له : لا مصحلة لك في مخالفة أمرها ، وإلاَّ وقعت في السِّجنِ وفي الصَّغار ، فعند ذلك اجتمع في حقِّ يوسف ، أنواع الترغيب في الموافقة :
أحدهما : أنَّ » زُلَيْخَا « كانت في غاية الحسن .
والثاني : أنها كانت على عزم أن تبذُل الكُّلَّ ليوسف ، إن طاوعها .
الثالث : أن النسوة اجتمعن عليه ، وكلُّ واحدةٍ منهم كانت ترغبه ، وتخوفه بطريقٍ غير طريقِ الأخرى ، ومكرُ النساءِ في هذا الكتاب شديدٌ .
الرابع : أنه عليه الصلاة والسلام كان خائفاً من شرِّها ، ومن إقدامها على قتله ، وإهلاكه .
فاجتمع في حقِّه جميع جهات الترغيب؛ على موافقتها ، وجميع جهات التَّخويف؛ على مخالفتها ، فخاف صلى الله عليه وسلم أن تؤثر هذه الأسباب الكثيرة فيه ، والوقوة البشريَّة لا تفي بحصول هذه القضية القوية؛ فعند ذلك التجأ إلى الله تعالى وقال : { رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ } وقدَّم محبته السِّجن وإن كانت معصية؛ لأنها أخفُّ ، وذلك أنه متى لزم ارتكابُ أحد قسمين ، كلِّ واحدٍ منهما يضرُّ ، فارتكابُ اقلِّ الضررين أولى؛ والأولى بالمرءِ أن يسأل الله العافية .
فإن قيل : كيف قال : » يَدْعُوننِي إليْهِ « وإنما دعتْه زُلَيْخَا خاصَّة؟ .
فالجواب : أضافهُ إليهنَّ؛ خُروجاً من التصريح إلى التعريض ، وأراد الجنس ، وقيل إنهن جميعاً دعونه إلى أنفُسهِنَّ ، وقيل أراد ترغيبهنّ له في مُطَاوعِتهَا .
فصل
{
وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ } قرأ العامة بتخفيف الباء ، من : صَبَا يَصْبُو ، أي : رقَّ شوقُه ، والصَّبْوة : الميلُ إلى الهوى ، ومنه » الصَّبَا « ؛ لأن النُّفوسَ تصبُّو إليها ، أي : تميِلُ إلى نسيمها ورَوْحِهَا ، يقال : صَبَا يَصْبُو صَبَاءً وصُبُوًّا ، وصَبِيَ يُصبْي صَباً ، والصِّبَا بالكسرة : اللَّهو ، واللَّعب .
وقرأت فرقةٌ » أصُبَّ « بتشديدهخا من صَبَيْتُ صَبَابَةً ، فأنا صبٌّ ، والصَّبابَةُ : رقَّةُ الشْوقِ ، وإفراطه؛ كأنه لفَرْطِ حُبِّه يَنْصَبُّ فِيمَا يَهْوَاه كما يَنصَبُّ المَاءُ .
فصل
احتجُّوا بهذه الآيةِ على أنَّ الإنسان لا ينصرفُ عن المعصية ، إلاَّ إذا صرفه الله عنها .
قالوا : لأن هذه الآية تدلُّ على أنه إنْ لم يصرفه عن ذلك القبيح ، وقع فيه . وتقريره : أنَّ الداعي إلى الفعل ، والترْكِ ، إن استويا ، امتنع الفعل؛ لأن الفعل أحدْ رجحان الطرفين ، ومَرْجُوحيَّة الطرفِ الآخرن وحصولهما حال استواء الطرفين جمع بين النقيضين؛ وهو محالٌ ، فإن حص الرجحانُ في أحد الطرفين ، فذلك الرجحانُ ليس من العبدِ ، وإلا لذهبت المراتب إلى غير نهايةٍ ، بل نقول : من الله تعالى ، فالصَّرفُ عبارةٌ عن جعله مَرْجُوحاً؛ لأنه متى صار مَرْجُوحاً ، صار ممتنع الوقوع؛ لأن الوقوع رجحانٌ ، فلو وقع في حالِ المرجوحةِ ، لحصل الرجحان حال حصولِ المرجوحيَّة ، وهو مقتضى حصول الجمع بين النقيضين؛ وهو محالٌ .
فثبت بهذا أنَّ انصراف العبد عن القبيح ليس إلا الله من الله .
وأيضاً : فإنَّه كان قد حصل في « يُوسفَ » جميعُ الأسباب المرغِّبةِ في المعصية ، وهو الانتفاعُ بالمالِ والجاه ، والتَّمتُّع بالمطعومِ ، فقد فويتْ دواعي الفعل ، وضعفت الدَّواعي المعارضة لدواعي المعصيةِ؛ إذْ لو لم يحصل هذا التعارضُ ، لحصل الترجيحُ للوقوع في المعصية خالياً عما يعارضه؛ وذلك يوجبُ وقوع الفعل ، وهو المراد من قوله { أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجاهلين } وفيه دليلٌ على أنَّ المؤمن إذا ارتكب ذنباً ، يرتكبه عن جهالةٍ .
قوله : { فاستجاب لَهُ رَبُّهُ } ، أجاب له ربُّهُ ، { فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ } ؛ وذلك يدلُّ على أنَّ الصارف عنه ، هو الله تعالى { إِنَّهُ هُوَ السميع } لدعائه ، { العليم } بمكرهن .
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
قوله : { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ } ، في [ فاعل « بدا » ] أربعةُ أوجه :
أحسنها : أنَّه ضميرٌ يعود على « السَّجْن » فتح السِّين ، أي : ظهر لهم حبسُه؛ ويدلُّ على ذلك اللَّفظ ب : السِّجْن « في قراءةِ العامَّة ، وهو بطريقِ اللازمِ ، ولفظ » السَّجْن « في قراءةِ العامَّة ، وهو بطريقِ اللازمِ ، ولفظ » السَّجْن « في قراءة من فتح السين .
والثاني : أنَّ الفاعل ضمير المصدر المفهوم من الفعل؛ وهو » بَدَا « ، أي : بدا لهُم بداءٌ ، وقد صرَّح الشاعرُ به قول قوله : [ الطويل ]
3105 . ...
بَدَا لَكَ فِي تِلْكَ القَلُوصِ بَدَاءُ
والثالث : أنَّ الفاعل مضمرٌ يدلُّ عليه السِّياقُ ، أي : لهم رأيٌ .
والرابع : أنَّ نفس الجملة من » لَيَسْجننَّهُ « هي الفاعل ، وهذا من أصولِ الكوفيين ، وهذا يَقْتضِي إسنادَ الفعلِ إلى فعلٍ آخر؛ واتفق النحاة على أنَّ ذلك لا يجوزٌ .
فإذا قلت : » خَرَجَ ضَرَبَ « ، لم يفذْ ألبتة ، فقدَّروا : ثمُّ بدا لهم سجنهُ ، إلاَّ أنه أقيمَ هذا الفعل مقام ذلك الاسم .
قال ابنُ الخطيب : الاسمُ قد يكون خبراً؛ كقولك : زيدٌ قائمٌ ، ف » قائم « اسمٌ وخبرٌ ، فعلمنا أنَّ كون الشيءِ خبراً ، لا ينافي كونه مخبراً عنه ، وفي هذا الباب شكوكٌ :
أحدها : أنَّا إذا قلنا : » ضَرَبَ فَعَلَ « ، والمخبر عنه بأنَّه فعل هو ضرب ، فالفعل صار مُخْبراً عنه .
فإن قالوا : المخبر عنه هو هذه الصيغةُ ، وهذه الصيغة اسم ، فنقول : فعلى هذا التقدير؛ يلزم أن يكون المخبر عنه بأنه فعل هو هذه الصيغة وهذه الصيغة اسم ، لا فعلٌ ، وذلك كذبٌ باطلٌ ، بل نقول : المخبر عنه بأنه فعلٌ : إن كان فعلاً ، فقد ثبت أنَّ الفعل يصحُّ الإخبار عنه ، وإن كان اسماً ، كان معناه : أنَّا أخبرنا عن الاسم بأنه فعلٌ ، وذلك باطلٌ .
و » حتَّى « : غاية لما قبله ، وقوله : » ليَسْجُنُنَّهُ « ؛ على قول الجمهور : جوابٌ لقسم محذوفٍ ، وذلك القسم وجوابه معمولٌ لقولٍ مضمرٍ ، وذلك القول المضمر في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، أي : ظهر لهم كذا قائلين : والله ، لنَسْجُننَّهُ حتَّى حينٍ .
وقرأ الحسن : » لتَسْجُنُنَّهُ « ، بتاء الخطاب ، وفيه تأويلان :
أحدهما : أن يكون خاطب بعضهم بعضاً بذلك .
والثاني : أن يكون خُوطبَ به العزيزُ؛ تعظيماً له .
وقرأ ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه : » عَتَّى « بإبدال حاءِ » حتَّى « عيناً ، وأقرأ بها غيره ، فبلغ ذلك عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه فكتب إليه : » إنَّ هَذَا القُرآنَ نَزلَ بلُغةِ قُريشٍ فأقْرىءِ النَّاس بُغتِهِمْ « وإبدالُ الحاءِ عيناً لغةٌ هُذيلٍ .
فصل في معنى الآية
المعنى : ثُمَّ بَدَا للعزيزِ ، وأصحابه في الرأي؛ وذلك أنَّهم أرادوا أن يقتصروا من أمر » يُوسفَ « على الإعراض عنه ، ثم بدا لهم أن يحبسُوه من بعد ما رأوا الآياتِ الدَّالة على براءةِ » يُوسفَ « من : قدِّ القميصِ ، وكلام الشَّاهِد ، وقطع النساءِ أيديهنَّ ، وذهابِ عقولهنَّ » ليَسْجُنُنَّهُ حتَّى حِينٍ « : إلى مُدَّةٍ يرون فيهَا رأيهم .
وقال عطاء عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم : إلى أن تنقطع قالة النَّاس ، قال عكرمةٌ : تِسْع سِنينَ ، وقال الكلبيُّ : خمس سنين .
قال السديُّك وذلك أنَّ المرأة قالت لزوجها : إنَّ هذا العبرانيَّ قد فَضحَنِي في الناس؛ يُخْبرهم بأنِّي رَاودْتُه عن نفسه ، فإمَّا أن تأذن لي أن أخرج ، فأعتذرَ إلى الناسِ ، وإما أن تحبسه ، فحبسه .
قال ابنُ عبَّاس عَثرَ يُوسفُ ثلاثَ عثراتٍ : حِينَ هَمَّ بها؛ فسُجِنَ ، وحين قال : { اذكرني عِندَ رَبِّكَ } [ يوسف : 42 ] ؛ { فَلَبِثَ فِي السجن بِضْعَ سِنِينَ } [ يوسف : 42 ] ، وحين قال لإخوته : { إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } [ يوسف : 70 ] ؛ { قالوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ } [ يوسف : 77 ] .
قوله : { وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانَ } يوسف : 36 ] قيل : هما غُلامانِ للملك الأكبر بمصر :
أحدهما : خَبَّازٌ ، صاحبُ طعامه .
والآخر : صاحبُ شَرابه ، غضب الملكُ عليهما فحَبسَهُما .
قوله : « قَالَ أحَدهُمَا » : مُسْتأنفٌ لا محلَّ له ، ولا يجوز أن يكون حالاً؛ لأنهما لم يقولا ذلك حال الدُّخولِ ، ولا جائزٌ أن تكون مقدَّرة؛ لأنَّ الدخول لا يَئُولُ إلى الرؤيا ، و « إنِّي » وما في حيِّزه : في محل نصبٍ بالقول .
و « أَرَانِي » : مُتعدِّيةٌ لمفعولين عند بعضهم؛ إجراءً للحلمية مجرى العلمية؛ فتكون الجملة من قوله : « أعْصِرُ » في محلِّ المفعول الثاني ، ومن منع ، كانت عنده في محلِّ الحالِ .
وجرت الحلمية مجرى العلمية أيضاً في اتحاد فاعلها ، ومفعولها ضميرين متَّصلين؛ ومنه الآيةٌ الكريمةُ؛ فإنَّ الفاعل المفعول مُتَّحدانِ في المعنى؛ إذ هما للمتكلِّم ، وهما ضميران متصلان ، ومثله : رأيتك في المنام قائماً ، وزيدٌ رآه قائماً ، ولا للمتكلِّم ، وهما ضميران متصلان ، ومثله : رأيتك في المنام قائماً ، وزيدٌ رآه قائماًن ولا يجوزُ ذلك في غير ما ذكر .
لا تقول : « أكْرَمتُنِي » ، ولا « أكرمتَك » ، ولا « زيدٌ أكْرمَهُ » ؛ فإ ، أردت بذلك ، قل : أكْرمْتُ نَفْسِي ، أو إيَّاي ونفسكَ ، أوْ [ أكْرَمْتَ ] إيَّاك ونفسهُ ، وقَدْ تقدَّم تحقيق ذلك .
وإذا دخلت همزةٌ النقل على هذه الحلمية ، تعدت لثالثٍ ، وتقدم هذا في قوله تعالى : { إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً } [ الأنفال : 42 ] .
والخَمْرُ : العِنَبُ ، أطلق عليه ذلك؛ مجازاً؛ لأنه آيلٌ إليه؛ كما يطلق الشيء على الشيء؛ باعتبار ما كان عليه؛ كقوله { وَآتُواْ اليتامى } [ النساء : 2 ] ، ومجاز هذا أقربُ ، وقيل : بل الخَمْرُ : العِنَبُ حقيقةً في لغةِ غسَّانٍ ، وإزْدِ عمان .
وعن المُعْتَمر : لقيتُ أعْرابياً حاملاً عنباً في وعاءٍ ، فقلتُ : ما تحمل؟ قال : خَمْراً .
وقراءة « أبيَّ » ، وعبدالله : « أعْصِرُ عِنَباً » ، لا تدلُّ على الترادف؛ لإرداتهما؛ لإرادتهما التفسير ، لا التلاوة ، وهذا كما في مصحف عبدالله : « فَوْقَ رأسِي ثَرِيداً » ، فإنه اراد التَّفسيرَ فقط .
و « تَأكُلُ الطَّيْرُ » : صفةٌ ل « خُبْزاً » ، و « فَوْقَ » يجوز أن يكون ظرفاً للحملِ ، وأن يتعلق بمحذوفٍ ، حالاً من « خُبْزاً » إلاّ أنه في الأصل صفة له ، والضمير في قوله « نَبِّئْنَا بِتَأويلهِ » : قال أبو حيَّان : « عائدٌ على ما قَصَّا عليه ، أجري مُجْرَى اسم الإشارةِ؛ كأنَّه قيل : تأويله ما رَأيْتَ » .
وقد سبقه إليه الزمخشريُّ ، وجعله سُؤالاً ، وجواباً ، وقال اغيره : إنَّما واحد الضمير؛ لأن كلَّ واحدٍ سأل عن رُؤياه؛ وكأن كلَّ واحد منهما قال : نبئنا مارأيتُ .
و « تُرْزَقانِهِ » صفةٌ ل « طَعَامٌ » ، وقوله « إلاَّ نَبَّأتُكُمَا » : استثناء مفرَّغٌ ، وفي موضِ الجملة بعدها وجهان :
أحدهما : أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، وساغ ذلك من النكرةِ؛ لتخصُهصا بالوصف .
الثاني : أن تكون في محلِّ رفعٍ؛ نعتاً ثانياً ل « طَعَامٌ » .
والتدقير : لا يأتيكما طعامٌ مرزوقٌ إلا حال كونه مُنَبَّاً بتأويله ، أو مُنَبَّاٌ بتأويله ، و « قَبْلَ : الظاهرُ أنَّها ظرفٌ ل » نَبَّأتُكُما « ، ويجوز أن يتعلق بتأويله ، أي : نبأتكما بتأويله الواقع قبل إتيانه .
فصل
قيل : إنَّ جماعة من أهل مصر ، أرادوا المكر بالملك ، فَضَمِنُوا لهذين الرجلين مالاً ، ليَسُمَّا الملك في طعامه ، وشرابه ، فأجابهم ، ثمَّ إن الساقي نكل عنه ، وقبل الخبازُ الرشوة فسمَّ الطَّعام ، فلما أحضروا الطعام ، قال السَّاقي : لا تأكلْ أيُّها الملك؛ فإنَّ الطعام مسمومٌ ، وقال الخبَّازُ : لا تشربْ أيها الملكُ؛ فإنَّ الشراب مسمومٌ ، فقال الملك للساقي : اشربْ ، فشربهُ فلم يضرُّه ، وقال للخبَّاز : كل من طعامك ، فأبى ، فجرَّب ذلك الطعام على دابَّة ، فأكلتهُ : فهلكتْ؛ فأمر الملك بحبسهما .
وكان يوسف حين دخل السِّجن ، جعل ينشر عمله ، ويقول : إنِّي أعبِّر الأحلام ، فقال أحدٌ الفتين لصاحبه : هلُمَّ فلنجرب هذا العبد العبرانيِّ ، فتراءيا له ، فسألاه من غير أن يكون رأياً شيئاً .
قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه : » مَا رَأيَا شَيْئاً وإنَّما تَحالَمَا ليُجَرِّبَا يُوسفَ « عليه السلام .
وقيل : بل رأيا حقيقة ، فرآهما يوسف عليه الصلاة والسلام وهما مهمومان ، فسألهما عن شأنهما ، فكذرا أنَّهما صاحبا الملك حبسهما وقد رأيا رؤية همَّتهما ، فقال يوسف صلوات الله وسلام عليه وعلى الأنبياء والمرسلين : قُصَّا عليَّ ما رأيتما! فقصَّا عليهن فعبَّر لهما ما رأياهُ ، وعرف حرفة كلِّ واحدٍ من منامه .
وتأويلُ الشَّيء : ما يرجعُ إليه ، وهو الذي يَئُولُ إليه آخرُ ذلك الأمر .
ثم قالا : { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين } : في أمر الدين ، أي : نراك تُؤثِرُ الإحسانَ ، وتأتي مكارمَ الأخلاق .
وقيل : { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين } في علم التعبير؛ وذلك أنَّه حين عبَّر لم يخطىء .
[
وقيل : إنه كان يعود مرضاهم ويوقّر كبيرهم ، فقالوا إنَّا لنراك من المحسنين في حقّ الأصحاب ] .
فصل في حقيقة علم التعبير
وحقيقة علم التَّعبير : أنه تعالى خلق جوهر النَّفس الناطقة ، بحيث يمكنها الصعودُ إلى عالم الأفلاكِ ، ومطالعةُ اللَّوحِ المحفوظِ ، والمانعُ لها من ذلك : اشتغالها بتدبير البدنِ ، فوقت يقلُّ هذا الاشتغال ، يقوى على هذه المطالعة ، فإن وقعت على حالةٍ من الأحوال ، ترك آثاراً مخصوصة مناسبة لذلك الإدراكِ الرَّوحاني ، إلى علم الخيال ، فالمعبِّر يستدلُّ بتلك الآثار الخيالية على تلك الإدراكات القلبيَّة .
قال صلوات الله وسلامه عليه : « الرُّؤيَا ثلاثةٌ : رُؤيَا ما يُحدِّثُ الرَّجلُ بِهِ نفسهُ ، ورُؤيَا تحدثُ من الشَّيطانِ ، ورُؤيَا جُزءٌ مِنْ ستَّةٍ وأرْبَعينَ جُزْءاً مِنَ النُّبوَّةِ » .
فصل
في قوله يوسف ما أحد قط الإ دخل عليّ من حبه بلاء ، أو في البلاء الذي حل بيوسف بسبب حب الناس له : رُويَ أنَّ الفتيين لمَّا رأيا يُوسُفَ ، قالا : لقد أحببناك حين رأيناك ، فقال لهما يوسفُ : ناشدتكما ، لا تُحِبَّاني؛ فواللهِ ما أحبَّنِي أحدٌ قط؛ إلاَّ دخل عليَّ مِنْ حبِّه بلاءٌ ، لقد أحَبَّتْنِي عمَّتي ، فدخل عليَّ بلاءٌ ، ثم أحبَّني أبِي ، فألقيتُ في الجبِّ ، وأحبَّتْنِي امرأةُ العزيز ، فحُبِسْتُ .
فلما قصَّا عليه الرؤية ، كره يوسفُ أن يعبِّر لهما ما سألاه ، لما علم ما في ذلك من المكروه على أحدهما ، فأعرض عن سؤالهما ، وأخذ في غيره ، من إظهار المعجزة ، والدُّعاءِ إلى التَّوحيدِ .
فقال : « لا يأتيكما طعام ترزقانه » قيلك أراد به في النوم ، أي لا يأتيكما طعام ترزقانه في نومكما ، إلاَّ نبأتكما بتأويله في اليقظةِ ، وقيل : أراد به في اليقظةِ؛ فقوله { لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ } في منازلكما تطعمانه ، وتأكلانه « إلاَّ نَبَّأتُكمَا » أخبرتكما « بتأويلهِ » بقدره ، ولو ، والوقت الذي يصلُ إليكما ، قبل أن يصل ، وأيَّ طعام أكلتم ، وكم أكلتم ومتى أكلتم .
وهذا مثلُ معجزةِ عيسى عليه الصلاة والسلام حيثُ قال : { وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } [ آل عمران : 49 ] .
فقال : هذا فعلُ القوَّافين والكهنةِ ، فمن أين لك هذا العلم؟ .
فقال : ما أنا بكاهنٍ ، وإنما ذلك العلمُ مما علَّمني ربِّي .
ثم قال : { إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ } ، وفي سؤالٌ :
وهو قوله : { إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله } يوهمُ أنه صلوت الله وسلامه عليه كان في هذه الملَّة؟ .
والجوابُ من وجوه :
الأول : أنَّ التَّرك عبارةٌ عن عدمِ التعرُّضِ للشيء ، وليس من شرطه أن يكون قد
كان خائضاً فيه .
والثاني : أن يقال : إنه عليه الصلاة والسلام كان عبداً لهم بحسب زعمهم ولعلَّه قبل ذلك كان لا يظهرُ التوحيد ، والإيمان؛ خوفاً منهم ، ثم إنَّه أظهره في هذا الوقت؛ فكان هذا جارياً مجرى تركِ ملَّة أولئك الكفرة بحسب الظاهر .
قوله : ( إني تركت ) يجُوز أن تكون هذه مستأنفة ، أخبر بذلك عن نفسه ، ويجوز أن تكون تعليلاً لقوله : { ذلك مما علمني ربي } ، أي : تركي عبادة غير الله ، سببٌ لتعليمه إيَّاي ذلك ، وعلى الوجهين لا محلَّ لها من الإعراب ، و « لا يُؤمِنُونَ » : صفةٌ ل « قومٍ » .
وكرَّر « هُمْ » في قوله : { وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ } ؛ قال الزخشريُّ : « للدَّلالة على أنهم خُصُوصاً كافرون بالآخرة ، وأنَّ غيرهم مؤمنون بها » .
قال أبُوا حيَّان : « وليستْ » هُمْ « عندنا تدلُّ على الخُصوصِ » .
قال شهابٌ الدِّينك « لم يَقل الزمخشريُّ إنها تدلُّ على الخُصُوصِ ، وإنَّما قال : » وتكرير « هُمْ » للدلالةِ على الخصوصِ « فالتكريرُ هو الذي أفاد الخصوص وهو معنٌى حسنٌ » .
وقيل : « كرَّر » هُمْ « ؛ للتوكيد .
وسكَّن الكوفيُّون الياء مِنْ : » آبَائِي « ، ورويت عن أبي عمرٍو ، وإبراهيم ، وما بعده : بدلٌ ، أو عطفٌ بيانِ ، أو منصوبٌ على المدح .
قوله { واتبعت مِلَّةَ آبآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } ، لمَّا أدَّعى النبوة ، وتحدَّى بالمعجزة وهوعلمُ التَّعبير قرَّر كونه من أهل النبوة ، وأنَّ أباه وأجداه كانوا أنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنَّ الإنسان متى ادَّعى حرفة أبيه وجده ، لم يستبعد ذلك منه ، وأيضاً : فكما أنَّ درجة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وإسحاق ، ويعقوب ، كان أمْراً مشهوراً في الدنيا ، فإذا ظهر أنَّه ولدهم ، عظَّموه ، ونظروا إليه بعينِ الإجلالِ؛ فكان انقيادهم له أتمَّ وتتأثر قلوبهم بكلامه .
فإن قيل : إنَّه كان نبيَّا ، فكيف قال : { واتبعت مِلَّةَ آبآئي } ، والنبيُّ لا بدَّ وأن يكون مختصاً بتشريعة نفسه؟ .
فالجواب : لعلَّ مراده أنَّ التوحيد كلا يتغيَّر ، ولعله كان رسُولاً من عند الله؛ إلاَّ أنه كان على شريعةِ إبراهيم صلوات الله وسلام عليه وعلى الأنبياء المرسلين .
قوله : { مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَيْءٍ } فيه سؤال :
وهو أنَّ حال كُلِّ من المكلفين كذلك؟ .
والجواب : ليس المراد بقوله : » مَاكَانَ لنَا « أنَّهُ حرَّم ذلك عليهم ، بل المرادُ أنه تبارك وتعالى طهَّره ، وطهر آباءه عن الكفر؛ كقوله { مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } [ مريم : 35 ] .
قوله : » مِنْ شيءٍ « يحوز أن يكون مصدراً ، أي : شيئاً من الإشراك ، ويجوزُ أن يكون واقعاً على الشِّرك ، أي : ما كان لنا أن نُشرِكَ شيئاً غيره من ملكِ ، أو إنسٍ ، أو جنٍّ ، فكيم بصنَم؟ .
و » مِنْ « [ مزيدة ] على التَّقديرين؛ لوجود الشرطين .
ثم قال : « ذلِكَ » أي : التَّوحيد والعلمُ { مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى الناس } ، بِمَا بيَّن لهم من الهدى؛ { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } نعم الله على الإيمان .
حُكِيَ أنَّ واحداً من أهْلِ السُّنَّةِ دخل على بشرِ بن المعتمر ، وقال له : يا هذا : هل تشكرُ الله على الإيمان أم لا؟ فإنْ قلت لا ، فقد خالفت الإجماع ، وإن شكرته ، فكيف تشكرُ على ما ليس فعلاً له؟ .
فقال له بشرٌ : إنَّا نشكرُ الله على أنه تعالى أعطانا : القدرة ، و العقل ، والآلة ، فيجبُ علينا أن نشكره على إعطاءِ القدرةِ والآلةِ ، فأمَّا أن نشكرهُ على الإيمان ، مع أنَّ الإيمان ليس فعلاً ، فذلك باطلٌ ، فدخل عليهم ثمامةُ بن الأشرسِ ، وقال : إنَّا لا نشكرُ الله على الإيمان ، بل اللهُ يشكرنا عليه؛ كما قال تعالى : { فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا } [ الإسراء : 19 ] فقال بشرٌ : « لمَّا صعب الكلامُ ، سهُلَ » .
قال ابن الخطيب : « واعلم أنَّ الذي اقترحه ثمامة باطلٌ؛ بنص هذه الآية؛ لأنَّه تعالى بين أن عدم الإشراك من فضل الله ، ثم بيَّن أنَّ أكثر الناس لا يشكُرون هذه النعمةَ ، وإنما ذكره على سبيل الذَّمِّ ، فدل هذا على أنه يجبُ على كل مؤمن أن يشكُر الله على نعمةِ الإيمانِ ، وحينئذٍ تقوى الحجَّةُ ، وتكمُل الدلالة » .
قال القاضي : قوله : ذلِكَ « إن جعلناه إشارة إلى التمسك بالتوحيدِ ، فهو من فضل الله تعالى لأنه إنما حصل بإلطافه ، وتسهيله ، ويحتملُ أن يكون إشارة إلى النبوة .
والجواب : أنَّ » ذَلِكَ إشارة إلى المذكورِ السابقِ ، وذلك هو تركُ الإشراكِ فوجب أن يكون ترك الإشراك من فضل الله تعالى والقاضي يصرفه إلى الإلطاف والتسهيل؛ فكان هذا تركاً للظاهر ، وأمَّا صرفه إلى النبوة ، فبعيدٌ؛ لأن اللفظ الدالَّ على الإشارة يجبُ صرفه إلى أقرب المذكورات ، وهو هنا عدمُ الإشراك .
قوله تعالى : { ياصاحبي السجن } : يجوزُ أن يكون من باب الإضافة للظروف؛ إذ الأصل : يا صاحبيّ في السِّجن ، ويجوز أن تكون من باب الإضافة إلى المشبه بالمعفول به ، والمعنى : يا سَاكِني السِّجن ، وذكر الصُّحبة ، لطُولِ مقامهما فيه؛ كقوله تعالى : { أَصْحَابُ النَّارِ } [ الأعراف : 44 50 ] .
وقوله : { أَمِ الله } ، هنا : متًّصلةٌ؛ عطفت الجلالة على « أرْبَابٌ » .
فصل
اعلم أنه عليه ا لصلاة والسلام لما أدَّعى النبوة في الآية الأولى ، وكان إثباتُ النبوة مبينًّا على إثبات الإلهيَّة ، لا جرم شرع في هذه الآيةِ في تقريرِ الإلهياتِ ، ولما كان أكثرُ الخلقِ مقرِّين بوجودِ الإله العالم القادر ، وإنما ا لشأنُ في أنهم يتخذُون أصناماً على صُورِ الأرواح الفكلية ، ويعبدونها ، ويتوقَّعُون حصول النَّفْعِ والضُّر منها ، لا جرم كان سعيُ أكثر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في المنع من هذه ، وكان الأمر على هذا إلى زمانِ يوسف صلوات الله وسلامه عليه وعلى الأنبياء والمرسلين .
فلهذا السبب ، شرع في ذكر ما يدلُّ على فسادِ العقول بعبادةِ الأصنام؛ فقال : { أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار } ، والمراد منه الاستفهام على سبيل الإنكارِ ، وتقريرُ فساد القول بعبادة الأصنام : أنه تعالى بيَّن أن كثرة الآلهةِ توجب الخلل والفاسد في هذا العالم؛ لقوله تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] فلمَّا قرَّر أنَّ كثرة الآلهة تُوجبُ الخلل والفساد ، وكونُ الإله واحدٌ ، يقتضي حصول الأنتظام ، وحسن الترتيب قال هاهنا : { أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار } .
وأما تقرير كون كثرةِ الآلهةِ ، توجب الخلل والفساد في العالم : إنَّه لو كان اثْنانِ أو ثلاثةُ ، لم نعلم من الذي خلقنا ، ورزقنا ، ودفع الآفاتِ عنَّا؛ فيقع الشِّرْكُ في أنَّا نعبدُ هذا أم ذاك .
ومعنى : كونهم متفرقين ، أي : شتَّى ، هذا من ذهب ، وهذا من فضةٍ ، وها من حديدٍ ، وهذا أعلى ، وهذا أوسط ، وهذا أدْنَى ، متباينون لا تضر ولا تنفعُ .
{
خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار } ، « الوَاحِدُ » : لا ثاني لهُ ، « القَهَّارُ » الغالبُ عل الكلِّ .
ثُمَّ عجز الأصنام ، فقال : { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً } أي : من دون الله ، وإنما ذكر بلفظ الجمعِ ، وقد ابتدأ الخطاب لاثنين؛ لأنه أراد جميع أهل السِّجن ، وكلَّ من هو على مثل حالهمَا من الشرك .
فإن قيل : لم سمَّاها أرباباً ، وليست كذلك؟ .
فالجوابك لا عتقادهم فيها أنَّها كذلك ، وأيضاً : الكلامُ خرج على سبيل الفرضِ ، والتقدير ، والمعنى : أنَّها إن كانت أرباباً ، فهي خيرٌ أم الله الواحدج القهار؟ .
فإن قيل : كيف يجوزُ التفاضلُ بين الأصنامِ ، وبين الله تعالى ، حتَّى قيل : إنها خيرٌ أم اللهِ؟ .
فالجوابُ : أنَّهُ خرج على سبيل الفرض ، والمعنى : لو سلمنا أنَّه حصل فيها ما يوجبُ الخير ، فهي خيرُ أم اللهُ الواحدُ القهار؟ .
قوله تعالى : { إِلاَّ أَسْمَآءً } ، إما أن يراد بها المسميات ، أو على حذف مضاف ، أي : ذواتُ المُسمَّيات ، و « سَمِّتُمُوهَا » ك صفةٌ ، وهي متعديةٌ لاثنين حذف ثانيهما ، أي : سَمَّيتُمُوها آلهة .
و « مَا أنْزَلَ » : صفةٌ ل : أسْمَاء « ، و » مِنْ « : زائدةٌ في : » مِنْ سُلطَانٍ « ، أي : حُجَّةٍ .
و » إن الحُكْمُ « : » إنْ « نافيةٌ ، ولا يجوز الإتباع بضمَّة الحاء؛ كقوله : { وَقَالَتِ اخْرُجْ } [ يوسف : 31 ] ، ونحو؛ لأنَّ الألف واللام كلمةٌ مستقلةٌن فهي فاصلةٌ بينهما .
فصل
قال في الآية : { أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار } ، وذلك يدلُّ على وجودِ هذه المسميات ، ثم قال في عقبه : { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ } ، وهذا يدلُّ على أنَّ المسمى غير حاصلٍ ، وبينها تناقضٌ .
والجوابُ : أنَّ الذوات موجودةٌ حاصلةٌ إلاَّ أنَّ المسمى بالإله غيرُ حاصلٍ؛ وبيانه من وجهين :
الأول : أن ذوات الأصنام ، وإن كانت موجودةً ، إلاَّ أنَّها غيرُ موصوفةٍ بصفاتِ الإلهية ، وإذا كان كذلك ، كان الشيءُ الذي هو مسمَّى بالإلهيَة في الحقيقة غير موجودٍن ولا حاصلٍ .
الثاني : رُوِيَ أنَّ عبدةً الأصنام مشبهةٌ ، فاعتقدوا أنَّ الإله هو النورُ الأعظمُ ، وأن الملائكة أنوارٌ صغيرةٌ؛ فوضعوا علَى صورة تلك الأنوارِ هذه الأرباب ، ومعبودهم في الحقيقةِ هو تلك الأنوارُ ، ثُمَّ إنَّ جماعة ممن يعبدون الأصنام ، قالوا : نحن لا نقولُ إنَّ هذه الأصنام آلهةٌ للعالم ، بمعنى أنَّها هي التي خلقت العالم ، إلاَّ أنَّا نسميها آلهةٌ نعبدها؛ لا عتقادنا أنَّ الله أمرنا بذلك .
فأجاب الله تعالى عنه ، فقال : أمَّا تسميتها بالآلهةِ ، فما أمر الله بذلك ، ولا أنزل في هذه التَّسمية حُجَّة ، ولا برهاناً ، وليس لغيرِ الله حكمٌ يجبُ قبوله ، ولا أمرٌ يجبُ إلزامهُ بل الحُكْمُ والأمرُ ليس إلاَّ للهِ .
ثم إنه تعالى : { أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } : لأنَّ العبادة نهايةُ التعظيم؛ فلا يليقُ إلاَّ بمن حصل منه : الخلقُ ، و الإحياءُ ، والعقلُ ، والرزقُ ، والهدايةُ ، ونَعمُ الله كثيرةٌ ، وإحسانه إلى الخلق غير متناهِ .
ثم قال تعالى : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } ، وذلك أنَّ أكثر الخلق ينسبون حدُوثَ الحوادثِ الأرضية إلى الاتصالاتِ الفلكية ، والمناسباتِ الكوكبيَّة؛ لأجل أنه تقرر في العقولِ أنَّ الحادثَ لا بُدَّ له من سببٍ ، فاعتبروا أحْوالَ الشمسِ في أرباع الفلكِ ، وربطُوا الفُصُول الأربعة بحركة الشمسِ .
ثم إنهم لما شاهدوا أحوال النَّباتِ والحيوان ، تختلفُ باختلافِ الفصول الأربعة غلب على طباع أكثرِ الخلقِ ، أنَّ المدبِّر [ لحدوث ] الحوادث في العالم ، هو الشمسُ والقمر ، وسائرُ الكواكب .
ثم إنه تعالى إذا وفَّق إنساناً حتَّى ترقَّى في هذه الدَّرجةِ ، وعرف أنَّها في ذواتها ، وصفاتها مُفتقرةٌ إلى موجودٍ ، مبدع قادرٍ ، قاهر ، عليم ، حكيمٍ ، فذلك الشخصًُ يكون في غاية النُّدرةِ؛ فلهذا قال : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } .
قوله « أمَرَ » يجوز أن يكون مستأنفاً ، وهو الظاهر ، وأن يكون حالاً ، و « قد » معه مرادة عند بعضهم .
قال أبو البقاءِ : وهو ضعيفٌ لعضف العامل فيه .
يعني بالعامل : ما تضمنه الجَارُّ في قوله « إلاَّ الله » من الاستقرار .
قوله تعالى : { ياصاحبي السجن أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي } ، العامَّة على فتح الياء ، من سقاه يسقيه ، وقرأ عكرمة في رواية « فيُسْقِي » بضم حرفِ المضارعة من « أسْقَى » وهما لغتان ، قال : سقاه ، وأسقاه ، وسيأتي أنَّهُما قراءتان في السبع ، و { نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } [ النحل : 66 ] ، هي هما بمعنَى أم بينهما فرقٌ؟ .
ونقل ابنُ عطيَّة ، عن كرمة ، والجحدريِّ : أنَّهما قرءا « فيُسْقَى ربُّهُ » مبنيًّا للمعفول ، ورفع « ربُّهُ » ، ونسبها الزمخشريُّ لعكرمة فقط .
فصل
اعلم أنه صلوات الله وسلامه عليه لما قرَّر التوحيد والنبوة ، عاد إلى الجواب عن السُّؤالِ الذي ذكر ، ففسَّر رُؤياهما ، فقال : { ياصاحبي السجن أَمَّآ أَحَدُكُمَا } ، وهو صاحبُ الشَّراب « فيَسْقِي ربَّهُ » : يعني الملك ، وأما الآخرُ : يعنى الخبَّاز ، فيدعوه الملكُ ، ويخرجه ، ويصلبه؛ فتأكل الطيرُ مِنْ رأسه .
قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه : « لمَّا سَمِعَا قول يوسف صلوات الله وسلامه عليه قالا : مَا رَأيْنَا شَيْئاً إنَّما كُنَّا نلعَبُ » ، قال يوسف : « قُضَيَ الأمْرُ الذي فِيهِ تَسْتفتيَانِ » .
فإن قيل : هذا الجوابُ الذي ذكره يوسف عليه الصلاة والسلام ذكره؛ بناءً على أنَّ الوحي من قب لالله تعالى أو نباءً على علم التَّعبير .
والأول باطلٌ؛ لأن ابن عباس رضي الله عنهما نقل أنَّما ذكره على سبيل التعبير ، وأيضاً قال الله : { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا } ، ولو كان ذلك التعبير مبنيًّا على الوحي ، كان الحاصلُ مه القطعُ واليقينُ ، لا الظنُّ والتَّخمينُ .
والثاني أيضاً باطلٌ؛ لأن علم التعبير مبنيٌّ على الظنِّ ، والقضاءُ : هو الإلزامُ الجزمُ والحكمُ البتُّ ، فكيف بني الجزم والقطع على الظنِّ والحسبانِ؟ .
والجواب : لا يبعد أن يقال : إنهما سألاه عن ذلك المنام ، صدقا فيه أو كذبا ، فإنَّ الله تعالى أوحى إليه أنَّ عاقبة كُلَّ واحدٍ منهما تكون على ذلك الوجهِ المخصوص ، فملا نزل الوحيُ بذلك الغيب عند ذلك السؤال ، وقع في الظنَّ أنَّه ذكره على سبيل [ التَّعبير ] .
ولا يبعد أيضاً أن يقال : إنه بنى ذلك الجواب على علم التعبير .
وقوله « قُضِيَ الأمْرُ الَّذي فِيهِ تَسْتفْتيانِ » ما عنى به أنَّ الذي ذكره واقعٌ لا محالة ، بل عنى أنَّ حكمه في تعبير ما سألاه عنه ذلك الذي ذكره .
قوله : « قُضِيَ الأمْرُ » قال الزمخشريُّ : « ما اسْتفْتَيَا في أمرٍ واحدٍ ، بل في أمرين مختلفين ، فما وجهُ التوحيدِ؟ قلتُ : المرادُ بالأمرِ ما أتهما به من سمِّ الملك ، وما يُجِنَا من أ جله ، والمعنى : فُرغَ من الأمر الذي عنه تسألان » .
قوله تعالى : { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ } ، فاعلُ « ظنَّ » : يجوزُ أن يكون يوسف عليه الصلاة والسلام إن كان تأويله بطريقِ الاجتهادِ ، وأن يكون الشَّرابي إن كان تأويله بطريقِ الوحي ، أو يكون الظنُّ بمعنى اليقين؛ كقوله تعالى : { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } [ البقرة : 46 ] و { إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ } [ الحاقة : 20 ] قال الزمخشريُّ . يعني أنه إن كان الظنُّ على بابه ، فلا يستقيمُ إسناده إلى يوسف؛ إلاَّ ان يكون تأويله بطريق الاجتهاد ، لأه منتى كان بِطَريقِ الوحْيِ ، كان يَقِيناً؛ فينسب الظنُّ حينئذٍ للشرابيّ لا ليوسف عليه الصلاة والسلام .
وأمَّا إذا كان الظنُّ بمعنى اليقينِ ، فيصح نسبتُه إلى يوسف عليه الصلاة والسلام إن كان تأويله بطريق الوحْيِ .
وذهب قتادة : إلى كونِ الظن على بابه وهو مسندٌ إلى يوسف إن كان تأويله بطريق الاجتهاد ، فإنه قال : « الظنُّ هو على بابه؛ لأنّ عبارة الرُّؤيا ظنٌّ » .
قوله : « مِنْهُمَا » ، يجوزُ أن يكون صفةً ل « نَاجٍ » ، وأن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ على أنَّهُ حالٌ من الموصول .
قال أبو البقاءِ : ولا يكونُ متعلقاً ب « نَاجِ » لأنَّه ليس المعنى عليه « قال شهاب الدين : لو تعلق ب » نَاجِ « لأفْهم أنَّ غيرهما نَجَا منهما ، أي : انفلت منهما ، والمعنى : أنَّ أحدهما هو النَّاجي ، وهذا المعنى الذي نبه عليه بعيدٌ توهُّمهُ .
والضميرُ في » فَأنْسَاهُ « ، يعودُ على الشرابيِّ ، وقيل : على يوسف؛ وهو ضعيفٌ .
فصل في الاختلاف فيمن أنساه الشيطان ذكر ربه
قال يوسف عليه الصلاة والسلام للناجي من الرجلين : { اذكرني عِندَ رَبِّكَ } ، إي : عند الملك ، أي : اذكرني عنده أنَّهُ مظلومٌ من جهة إخوته ، لما أخرجوه ، وباعوه ، ثم إنَّه مظلوم في هذه الواقعة؛ التي لأجلها حُبِسَ .
ثم قال تعالى : { فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ } قيل : أنْسَى الساقي ذكر يوسف للملك ، تقديره : فأنساه الشيطان ذكره لربه .
ورجَّح بعضُ العلماء هذا القول ، فقال : لو أنَّ الشيطان أنْسَى يوسف ذكر الله ، لما استحقَّ العقاب باللَّبثِ في السِّجْنِ؛ إذ النَّاسي غيرٌ مُؤاخذٍ .
وقد يجابُ عن ذلك بأنَّ النِّسيانَ قد يكونُ بمعنى التَّركِ ، فلما ترك ذكر اللهِ ، ودعاهُ الشَّيطانُ إلى ذلك ، عوقب .
وأجيب عن هذا الجواب بقوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } [ يوسف : 45 ] ، فدلَّ على أن النَّاسي هو السَّاقِي لا يوسف ، مع قوله تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الحجر : 42 ] ، فكيف يصحُّ أن يضاف نسيانه إلى الشيطان ، وليس له على الأنبياء سلطان؟ .
وأجيب عن هذا بأن النيسان لا عصمة للأنبياء عنه ، إلاَّ في وجه واحد وهو الخبرُ من الله تعالى ، فيما يلقَّونه؛ فإنَّهم مَعْصُومُون فيه ، وإذا وقع منهم النيسان حيثُ يجوزُ وقوعه ، فإنَّه ينسبُ إلى الشيطان؛ وذلك إنَّما يكونُ فميا أخبر الله عنهم ، ولا يجوز لنا نحن ذلك فيهم ، قال عليه السلام : » نَسِيَ آدمُ فنَسِيَتْ ذُريته « وقال : » إنَّما أنا بشرٌ ، أنْسَى كما تَنْسَوْن « .
وقال ابنُ عباس رضي الله عنهما وعليه الأكثرون : » أنسى الشيطانُ يوسف ذكر ربِّه؛ حتَّى ابتغى الفرج من غيره ، واستعان بمخلوقٍ؛ وتلك غفلة عرضتْ ليُوسفَ مِنَ الشَّيطانِ « .
»
فَلبِثَ « : مكث » في السِّجنِ بضْعَ سِنينَ « قال صلى الله عليه وسلم : » يَرْحَمُ اللهُ أخِي يُوسفَ؛ لوْ لَمْ يقُلْ : « اذْكرنِي عِنْدَ ربِّكَ » ؛ ما لبثَ فِي السِّجن « ومما يدلُّ على أنَّه المراد قوله : { فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ } ولو كان المراد الساقي لقال فأنساه الشيطان ذكر يوسف .
واعلم أنَّ الاستعانة بغيرِ الله في دفع الظلمن جائزةٌ في الشريعة ، لا إنكار عليه .
وإذا كان كذلك ، فلم صار يوسف عليه الصلاة والسلام مُؤاخذاً بهذا القدر؟ وكيف لا يصيرُ مؤاخذاً بالإقدام على الزِّنا؟ ومكافأة الإحسان بالإساءة [ أولى ] ؟ .
فلما رأينا الله أخذ يوسف بهذا القدرِ ، ولمْ يؤاخذه في تلك القضية ألبتَّة ، وما عابهُ ، بل ذكره بأعظمِ وجوهِ المدحِ والثناءِ علمنا أنَّهُ عليه الصلاة والسلام كان مُبَرًّأ ممَّا نسبوهُ إليهِ .
فصل في اشتقاق البضع وما يدل عليه
قال الزجاج : « اشتقاقُ الضْعِ من بَضعْتُ بمعنى قَطْعْتُ » .
قال النَّواوي : « والبِضْعُ بكسر الباء ، وقد تفتح : ومعناه القطعةُ من العدد » .
قال الفراء : لا تذكرُ إلاَّ مع عشرةٍ ، أو عشرينَ إلى التِّسعينَ؛ وذلك يقتضي أن يكون مخصوصاً بما بين الثلاثة إلى التسعةِ ، قال : وهكذا رأيتُ العرب يقولون ، وما رأيتهم يقولون : بضعٌ ومائةٌ ، قال : وإنما يقالُ نيِّفٌ مائة؛ والقرآنُ يردُّ عليه .
ويقال : بضعُ نسوة ، وبضعةُ رجالٍ .
روى الشعبيُّ رضي الله عنه « أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قيل لهُ : كم البِضْعُ؟ قال : مَا دُونَ العَشرة » .
وقال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما : « مَا دُونَ العشرة » .
وقال مجاهدٌ رضي الله عنه : مابين الثَّلاث إلى السَّبع .
وقيل إلى الخمسِ .
وقال قتادةُ رضي الله عنه : مابين الثَّلاث إلى التِّسعِ .
وأكثر المفسرين على أن البِضْعَ في هذه الآية سبعُ سنينَ ، وقد لبث قبلهُ خمس سنين فجملته ، اثنتا عشرة سنة .
قال ابن عبَّاسِ رضي الله عنهما : « لما تضرَّع يوسفُ صلوات الله وسلامه عليه لذلك الرجلِ ، كان قد قرُبَ وقتُ خروجه ، فلما ذكر ذلك لبث في السجن بعده سبع سنينَ » .
وقيل : البِضْعُك فوق الخمسةِ ودُون العشرة .
وقد تقدم عند قوله { بِضَاعَةً } [ يوسف : 19 ] ، والبَعْضُ قد تقدَّم أه من هذا المعنى ، عند ذكر البعوضةِ .
وفي المدَّة التي أقامها يوسف في السجن أقوالٌ :
أحدهما : قال ابنُ جريجٍ ، وقتادة ، ووهبُ بنُ منبِّه : أقام أيوبُ في البلاءِ سبعَ سنينَ ، وأقام يوسفُ في السِّجن سبع سنينَ .
وقال ابن عباسك اثنتَيْ عَشْرة سنة .
وقال الضحاكُ : أرْبع عشرة سنة .
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
قوله تعالى : { وَقَالَ الملك إني أرى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ } الآية .
اعلم أنَّه تعالى عزَّ وجلَّ إذا أرادَ شيئاً ، هيّأ أسبابه ، ولما دنا فرجُ يوسف عليه الصلاة والسلام رأى ملكُ مصر في النوم سبع بقراتٍ سمانٍ خرجن من نهرٍ يابسٍ ، ثم خرج عَقِيبَهُنَّ سبعُ بقراتٍ عجافٍ في غايةِ الهُزال ، فابتلعتِ العجافُ السِّمان ، ورأى سبعَ سُنبلاتٍ خُضرٍ ، قد انعقد حبُّها ، وسبعاً أخر يابساتٍ ، قد استحصدت ، فالتوتِ اليابساُ على الخضرِ حتَّى غلبْنَ عليها ، فلم يبق من خضرتها شيءٌ؛ فجمع الكهنة ، والسَّحرة ، والنجامة ، والمُعبِّرين ، وقصَّ عليهم رؤياه؛ وهو قوله { ياأيها الملأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ } ، أخلاط أحلامٍ مُشْتبهَةٌ أهاويلُ .
فصل
قال عليٌّ بنُ أبي طالب كرم الله وجهه : « المعز والبقر إذا دخلت المدينة ، فإن كانت سماناً ، فهي سِني رخاءٍ ، وإن كانت عجافاً ، كانت شداداً ، وإن كانت المدينة مدينة بحرٍ ، وأبَّان سفرٍ ، قدمت سفنٌ على عددها ، وحالها؛ وإلاَّ كانت فتناً مترادفةً كأنها وجوهُ البقر يشبه بعضها بعضاً؛ كما قال عليه الصلاة والسلام في الفتنِ : » كأنَّها صَياصِيُّ البقَرِ « ؛ لتشابهها ، إلاَّ أن تكون صفراً كلَّها ، فإنَّها أمراضٌ تدخل على النَّاس ، وإن كانت مختلفة الألوان شنيعة القرون ، كان الناسُ ينفرون منها ، أو كان النارُ والدخانُ يخرج من أفواهها؛ فإنها عسكر ، أو غارة أو عدوّ ، يضرب عليهم ، وينزلُ بساحتهم ، وقد تدلُّ البقرة على الزَّوجة ، والخادم ، والغلَّة والسَّنة : لما يكونُ فهيا من الغلَّةِ ، والولدِ ، والنباتٍ » .
قوله : « سِمَانٍ » ، صفةٌ ل « بَقَراتٍ » ، وهو جمعُ سمينةٍ ، ويجمع « سَمِين » أيضاً عليه يقال : رجالٌ سمانٌ ونساءُ سمان؛ كما يقال : رجالُ كرامٌ ونساءٌ كرامٌ ، و « السِّمن » : مصدر سَمِنَ يَسْمَنُ فهو سَمِينٌ ، فالاسمُ والمصدر ، جاءا على غير قاسٍ؛ إذا قياسهما « سَمَن » بفتح الميم فهو سَمِن بسكرها؛ نحو فَرِحَ فرحاً فهو فرح .
قال الزمخشريُّ : « فإن قلتَ : هل من فوقٍ بين إيقاع سمانٍ صفة للتمييز : وهو بقراتٍ دون المُميَّزِ : سَبْعَ بقرات سماناً؟ قلتُ : إذا أوقعتها صفة ل » بقَراتٍ « ، فقد قصدت إلى أن تميِّز السبع بنوعٍ من البقرات ، وهو السِّمان منهم ، لا بِجِنْسهِنَّ ، ولو وصفت السبع بها ، لقصدت إلى تمييز السبع بجنس البقراتِ لا بنوع منها ، ثم رجعت فوصفت المُميَّز بالجنس بالسمن .
فإن قلت : هلا قيل : » سبع عجافٍ « على الإضافة .
قلت : التمييز موضوع الجنسِ ، والعجافُ وصفٌ لا يقع البيان به وحده ، فإن قلت : فقد يقولون : ثلاثة فرسانٍ ، وخمسة أصحابٍ ، لبيانِ؛ قلتُ : الفارسُ ، والصاحبُ ، والرَّاكب ، ونحوها صفاتٌ جرت مجرى الأسماءِ؛ فأخذت حكمها ، وجاز فيها ما لم يجز في غيرها ، ألا تراك ألا تقول : عندي ثلاثةً ضخامٌ ولا أربعةٌ غلاظٌ .
فإن قلت : ذلك مما يشكل ، وما نحنُ بسبيله لا إشكال فيه ، ألا ترى أنه لم يقل : وبقرات سبع عجاف؛ لوقوع العلم بأن المراد البقرات قلت : ترك الأصل لا يجوز مع وقوع الاستغناء عما ليس بأصل ، وقد وقع الاستغناء عن قولك : سبع عجاف عمَّا تقترحهُ من التمييز بالوصف « انتهى .
وهي أسئلةٌ وأجوبةٌ حسنة ، وتحقيق السؤال الأول وجوابه : أنه يلزمُ من وصفِ التَّمييز بشيء وصف المميز به ، ولا يلزم من وصف المميز وصف التمييز بذلك الشيء؛ بيانه : أنك إذا قلت : » عندي أربعة رجالٍ حسانٍ « بالجر ، كان معناه : أربعةٌ من الرجال الحسانِ؛ فيلزُم حسنُ الإربعةِ؛ لأنهم بعض الرجالِ الحسانِ ، وإذا قلت : عندي أربعة رجالٍ حسانٌ برفع حسان كان معناه : أربعةٌ من الرجال حسان ، وليس فيه دلالة على وصف الرجال بالحسن .
وتحقيق الثاني وجوابه : أنَّ أسماء العدد لا تضافُ إلى الأوصاف إلا في ضرورة وإنما يجاء بها تابعة لأسماء [ العدد ] ؛ فيقال : عندي ثلاثةٌ قُرشيُّونَ ، ولا يقال ثلاثة قرشيِّين بالإضافة إلا في شعرٍ ، ثم أعترض بثلاثةٍ فرسانٍ ، وأجاب بجريانِ ذلك مجرى الأسماء .
وتحقيقُ الثالث : أنه إنَّما امتنع » ثلاثةُ ضخامٍ « ونحوه؛ لأنه لا يعلم موصوفه ، بخلاف الآية الكريمة ، فإنَّ الموصوف معلومٌ ، ولذلك لم يصرخ به .
وأجاب عن ذلك : بأنَّ الأصل عدم إضافةِ العددِ إلى الصِّفة كما تقدم ، فلا يترك هذا الأصل مع الاستغناء عنه بالفرع .
وبالجملةِ : ففي هذه العبارةِ قلقٌ ، هذا مُلخَّصُهَا .
ولم يذكر أبو حيَّان نصه ولا اعترض عليه ، بل لخًّص بعض معانيه ، وتركهُ على إشكاله .
فصل في اشتقاق » عجاف «
جمعُ عجفاء : عِجَاف والقياس : عُجْف؛ نحو : حَمْرَاء ، وحُمْر؛ حملاً له على سمانٍ؛ لأنَّه نقيضُه ، ومن دأبهم حملُ النظير على النظيرِ ، والنَّقيضِ على النقيض ، قاله الزمخشريُّ
والعَجَفُ : شدةُ الهزالِ الذي ليس بعده هزال؛ قال : [ الكامل ]
3106
عَمْرُو الَّذي هَشَمَ الشَّريدَ لقَوْمِهِ ... ورِجَالُ مَكَّة مُسْنِتُونَ عِجَافُ
قال الليث : العَجَفُ : ذهابُ السِّمن ، والفِعْلُ : عجف يَعجفُ ، والذَّكرُ : أعْجفُ ، والأنثى : عَجْفاء ، والجمع عِجَافٌ في الذكران والإناث .
وليس في كلام العربِ : أفْعَلُ ، وفعلاء ، وجمعها على : فِعَالٍ غَيْر أعْجفُ ، وعِجَاف ، هي شاذة حملوها على لفظ سمانٍ ، وعجافٍ؛ لأنهما نقيضان ، ومن عادتهم حملُ النَّظيرِ على النظير ، والنَّقيضِ على النَّقيضِ .
وقال الرَّاغب : هو من قولهم : نَصْلٌ أعجفُ ، أي : رقيقٌ .
وعَجَفَتْ نفسي عن الطَّعام وعن فلانٍ : إذا نبت عنهما ، وأعْجفَ الرَّجل أي : صارتْ [ إيله ] عِجَافاً .
»
وأخَرَ يَابِساتٍ « ، قوله : » وأخَرَ « نسقٌ على قوله » سَبْعَ « لا على » سُنْبُلاتٍ « ويكون قد حذف اسم العددِ ، من قوله : » وأخَرَ يَابِساتٍ « والتقدير : سَبْعاً أخَرَ ، وإنما حذف؛ لأنَّ التقسيم في البقرات نقيضُ التَّقسيم في السنبلات .
قال الزمخشريُّ : « فإن قلت : هل في الآية دليلٌ على أنَّ السنبلات اليابسة كانت كالخُضرِ؟ قلت : الكلامُ منبيٌّ على انصبابه إلى هذا العددِ في البقراتِ السِّمان والعجافِ ، والسنبلات الخضرِ ، فوجب أن يتناول معنى الأخر السبع ، ويكون قوله : » وأخَرَ يَابسَاتٍ « بمعنى : وسبعاً أخر » انتهى .
وإنَّما لم يَجُز عطفُ أخر على التمييز ، وهو « سُنْبُلاتٍ » ، فيكون أخر مجروراً لا منصًوباً؛ لأنه من حيثُ العطف عليه يكونُ من جملة مميز سبع ومن جهة كونه أخر يكون مبايناً لسبع فتدافعا ولو كان ترتيبُ الآية الكريمة سبع سُنبلآتٍ خُضرس ويابِساتٍ ، لصحَّ العطف ، ويكون من توزيع السنبلات إلى هذينِ الموضعين أعني : الاخضرار واليبس .
وقد أوضح الزمخشريُّ هذا حيث قال : « فإن قلتَ : هل يجوز أن يعطف قوله » وأخَرَ يَابسَاتٍ « على » سُنْبُلاتٍ خُضرٍ « ، فيكون مجرور المحلِّ؟ قلت : يؤدِّي إلى تدافع؛ وهو أنَّ عطفها على » سُنبُلاتٍ خُضرٍ « يقتضي أن يكون داخلاً في حكمها فيكون معها مميز السبع المذكور ، ولفظ » أخَر « يقتضي أن يكون غير السَّبْعِح بيانه تقول عنده سبعة رجال قيام وقعود بالجر فيصحّ لأنك ميَّزت السبعة برجالٍ موصوفين بالقيام والقعودِ على أنَّ بعضهم قيام ، وبعضهم قعودٌ ، فلو قلت : عنده سبعةٌ قيامٌ وآخرين قعودٌ؛ تدافع؛ ففسد » .
قوله للرُّؤيَا فيه أربعة أقوالٍ :
أحدهما : أن اللام فيه مزيدة ، فلا تعلق لها بشيء؛ وزيدت لتقدم المعمول مقوية للعامل؛ كما زيدت فيه إذا كان العامل فرعاً؛ كقوله تعالى : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107 ] ، ولا تزاد فيما عدا ذنبك إلا ضرورة؛ كقوله : [ الوافر ]
3107
فلمَّا أنْ تَوافَيْنَا قَلِيلاً ... أنَخْنَا للكَلاكِلِ فارْتَمَيْنَا
يريد : أنخنا الكلاكِلَ ، فزيدت مع فقدان الشرطين ، هكذا عبارة بعضهم يقول : إلا في ضرورة .
وبعضهم يقول : الأكثر ألاَّ تزاد ، ويتحرزُ من قوله تعالى { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] ، لأنَّ الأصل : ردفكُم ، فزيدتْ فيه اللامُ ، ولا تقدم ، ولا فرعيَّة ، ومن أطلق ذلك جعل الآية من باب التَّضمين ، وسيأتي في مكانه إن شاء الله تعالى ، وقد تقدم من ذلك طرفٌ جيدٌ .
الثاني : أن يضمَّن تعبرون معنى ما يتعدَّى باللام ، تقديره أي : إن كنتم تنتدبون لعبارةِ الرؤيا .
الثالث : أن يكون « للرُّؤيا » خبرُ « كنتم » ؛ كما تقول : « كان فلانٌ لهذا الأمرِ » ، أي : إذا استقلّ به متمكِّناً منه ، وعلى هذا فيكون في « تَعْبرُونَ » وجهان :
أحدهما : أنًَّهُ خبر ثانٍ ل « كُنْتُمْ » .
الثاني : أنه حالٌ من الضمير المُرتفعِ بالجار؛ لوقوعه خبراً .
الرابع : أن تتعلق اللام بمحذوفٍ على أنَّها للبيان؛ كقوله تعالى { وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين } [ يوسف : 20 ] تقديره : أعني فيه ، وكذلك هذا ، تقديره : أعني للرُّؤيا ، وعلى هذا يكون مفعولُ « تَعْبُرُونَ » محذوفاً تقديره : تعبرونها .
وقرأ أبو جعفر : الرُّيَّا [ وبابها الرؤيا ] بالإدغام؛ وذلك أنَّه قلب الهمزة واواً؛ لسكونها بعد ضمةٍ ، فاجتمعت « واوٌ » ، و « ياءٌ » وسبقت إحداهما بالسكون؛ فقلبت الواو ياء ، وأدغمت الياءُِ في الياءِ .
وهذه القراءة عندهم ضعيفةٌ؛ لأن البدل غير لازمٍ ، فكأنَّه لم يوجد واوٌ؛ نظراً إلى الهزة .
فصل في معنى « تعبرون »
يقال : عَبَرْتُ الرُّؤيَا أعبرها عبارة ، وعبَرةً بالتخفيف ، قال الزمخشريُّ : « وهو الذي اعتمدهُ الأثباتُ ، ورأيتهم يُنْكِرُونَ » عَبَّرتُ « بالتشديد ، والتَّعبير والمُعبِّر » قال : وقد عثرتُ على بيتٍ أشده المبرِّد في كتاب الكاملِ لبعضِ الأعرابِ : [ السريع ]
3108
رَأيتُ رُؤيَا ثُمَّ عبَّرتُهَا ... وكُنْتُ للأحْلامِ عَبَّارَا
قال وحقيقة تعبير الرؤيا : ذكرُ عاقبتها ، وآخر أمرها؛ كما تقول : عبرتُ النَّهر إذا قطتعهُ حتَّى تبلغ آخرَ عرضه .
قال الأزهريُّ : « مأخوذٌ من العُبْرِ ، وهو جانبُ النَّهر ، ومعنى عبرتُ النَّهرَ والطريق : قطعتهُ إلى الجانب الآخر ، فقيل لعابرِ الرؤيا : عابرٌ؛ لأنَّه يتأمل جانبي الرُّؤيا ، ويتفكرُ في أطرافها وينتقل من أحد الطَّرفين إلى الآخر » .
قال بعضُ أهل اللغة : العينُ ، والباءُ ، والراءُ ، تضعها العرب : لجوار الشيء ، ومضيفه ، وقلَّة تمكنه ، ولبثه ، وهو فعل ، يقال : عبر الرؤيا : أخرجها من حال النَّوم إلى حال اليقظةِ ، كعبور البحر من جانب إلى جانبٍ .
وناقة عبراء سفار ، أي : يقطعُ بها الطريق ويعبرُ .
والشِّعرى : العبُورُ؛ لأنها عبرت المجرَّة .
والاعتبارُ بالشيء : هو التَّمثيلُ بينه وبين حاكيه .
والعبرةُ : الدَّمعةٌ؛ لعبورها العين ، وخروجها من الجفنِ .
والعَنْبَرُ : منهح لأنَّ نونه زائدةٌ ، وهو عبر لحي طفاوة على الماء لا يعرف معدته .
والعَنْبَرُ أيضاً سمكةٌ في البحرِ ، والعنبرُ : اسمُ قبيلة ، والعنبرُ : شدَّة الشتاء .
قال بعضهم : ثلاثةُ أشياء لا يعرف معدنها :
أحدها : العَنْبَرُ يجيءُ ظفاؤه على وجه الماءِ .
وثانيها : المومياء بأرض فارس ، ومعناه : مُومٌ ، أي : شمعُ الماء لا يعرف من أين يجيءُ ، ولا من أين ينبع ، يُعْمَلُ له حوضٌ في البحر وينصب عليه مصفاة كالغربال يجري منه الماء ، وينبع منه تبقى المومياء؛ فتؤخذ إلى خزانة السُّلطان .
وثالثها : الكهلُ : وهو نوعٌ من الخَرزِ أصفر يطفو على وجهِ الماءِ في بحر المغرب وبحر طبرستان ، ولا يعرف معدنه .
قوله جلَّ وعلا : { أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ } ، خبر متبدإ مضمر ، أي : هي أضغاث ، يعنون : ما قصصته علينا ، والجملة منصوبةٌ بالقول .
والأضغاثُ : جمع ضِغْث بكسر الضاد وهو ما جمع من النبات ، سواءٌ كان جنساً واحداً ، أو أجناساً مختلطة .
قال بن الخطيب : بشرط أن يكون مما قام على ساقٍ ، وهو أصغرُ من الحزمة ، وأكبر من القبضة ، فمن مجيئه من جنسٍ واحدٍ ، قوله تعالى : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً } [ ص : 44 ] ، ويُروى أنه أخذ عثكالاً من نخلةٍ ، وفي الحديث : « أنَّه أتي بمريضٍ وحب عليْهِ الحدُّ ففعل به ذلِكَ » .
وقال ابن مقبل : [ الكامل ]
3109
خَودٌ كأنَّ فِراشَهَا وضِعَتْ بِهِ ... أضْغَاثُ ريْحَانٍ غَداةَ شَمالِ
ومن مجيئه من أخلاط النبات قولهم في أمثالهم : « ضِغثٌ على إبَّالةٍ » .
وقال الرَّاغب رحمه الله : الضَّغْثُ : قبضة ريحانٍ ، أو حشيشٍ ، أو قصبان ، وقد تقدم أنه أكثر من القبضةِ .
واستعمال الأضغاث هنا من باب الاستعارة ، فإن الرؤيا إذا كانت مخلوطةً من أشياء غير متناسبةٍ ، كانت شبهية بالضِّغثِ .
والإضافة في { أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ } ، إضافةٌ بمعنى « مِنْ » ، والتقدير : أضغاثُ من أحلام .
والأحلامُ : جمعُ حلم ، وهو الرؤيا ، والفعل منه حلمتُ أحلم ، بفتح اللام في الماضي وضهما في الغابر حُلُماً ، وحُلْماً : مثقلٌ ، ومخففٌ .
قوله تعالى : « بتأويل » الباء متعلقةٌ ب « عَالمِينَ » ، والباءُ في « بِعَالمِينَ » لا تعلق لها؛ لأنها زائدة إمَّا في خبر الحجازيَّة أو التَّميميَّة ، وقولهم ذلك يحتمل أن يكون نفياً للعلم بالرؤيا مطلقاً ، وأن يكون نفياً للعلم بتأويل الأضغاث منها خاصة دون المنام الصَّحيح .
وقال أبو البقاءِ : أي : بتأويل أضغاثِ الأحلام لا بد من ذلك؛ لأنَّهم لم يدَّعوا الجهل [ بتعبير ] الرؤيا انتهى .
وقوله « الأحلام » وإنَّما كان واحداً ، قال الزمخشريُّ : « كما تقولُ : فلان يركب الخيل ، ويلبسُ عمائمَ الخزِّ ، لمن لا يركبُ إلا فرساً واحداً ، ولا يتعمَّمُ إلاَّ بعمامةٍ واحدةٍ تأكيداً في الوصف ، ويجوز أن يكون قصَّ عليهم مع هذه الرؤيا غيرها » .
والتأويلُ : هو ما يَئُولُ الشيء إليه ، أي : يرجعُ الشيء إليه ، ومنه تأوَّل وهو معنى التفسير؛ لأنَّ التأويل تفسير اللفظ الراجع إلى المعنى .
فصل
اعلم أنه سبحانه وتعالى جعل هذه الرؤيا سبباً لخلاص يوسف صلوات الله وسلامه عليه من السِّجن؛ وذلك أنَّ الملك لمَّا رأى ذلك ، قلق واضطرب بسببه؛ لأنه شاهد أن الناقِصَ الضَّعيف استولى على الكاملِ ، فشهدت فطرته بأن هذا أمرُ عداوةٍ ومقدّرٍ بنوع من أنواع الشرِّ ، إلا أنه ما عرف كيفية الحالِ فيه .
والشيء إذا صار معلوماً من وجهٍ ، وبقي مجهُولاً من وجه آخر عظم شوقُ النفس إلى تمام تلك المعرفةِ ، وقويتِ المعرفةُ في إتمام الناقصِ لا سيِّما إذا كان الإنسان عظيمَ الشَّأنِ ، واسِعَ المملكةِ ، وكان ذلك الشيء دالاًّ علَى الشرِّ من بعض الوجوه ، فبهذا الطريق قوَّى الله داعية ذلك الملك في تحصيل العلم ، بتفسير هذه الرؤيا ، وأنه تعالى عجَّز المُعبِّرين الحاضرين عن جواب هذه المسألة؛ ليصير ذلك سبباً لخلاصِ يوسف عليه الصلاة والسلام من تلك المحنةِ .
واعلم أنَّ القوم ما نفوا عن أنفسهم كونهم عالمين بعلم التعبير؛ بل قالوا إنَّ علم التعبير على قسمين :
منه ما يكون الرؤيا فيه منتظمة ، فيسهلُ الانتقال من الأمور المتخيلةِ إلى الحقائق العقلية .
ومنه ما يكون مختلطاً مضطرباً ، ولا يكون فيه ترتيبٌ معلومٌ ، وهو المسمَّى بالأضغاث .
فقالوا : إنَّ رؤيا الملكِ من قسم الأضغاث ، ثُمَّ أخبرُوا أنهم غير عالمينَ بتعبير هذا القسم ، وفيه [ إبهام ] أنَّ الكامل في هذا العلم ، والمُتبحِّر فيه يهتدي إليها ، فعند هذه المقالة تذكَّر السَّاقي واقعة يوسف عليه الصلاة والسلام لأنه كان يعتقدُ فيه كونه مُتَبحِّراً في هذا العلم .
قوله : « وادَّكَرَ » فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّها جملة حالية ، إمَّا من الموصول ، وإما من عائده ، وهو فاعل نَجَا .
والثاني : أنها عطف على نَجَا فلا محل لها؛ لنسقها على ما لا محل له .
والعامَّةُ على ادَّكَرَ بدالٍ مهلمة مشدَّدة ، وأصلها : اذْتَكَرَ ، افْتَعَلَ ، من الذكر فوقعت تاءُ الافتعال بعد الدال؛ فأبدلت دالاً ، فاجتمع متقارن؛ فأبدل الأول من جنس الثاني ، وأدغم .
قال الزخشريُّ : وادَّكَرَ بالدال هو الفصيحُ .
وقرأ الحسن البصريُّ : بذالٍ معجمة . ووجَّهوها بأنه أبدل التَّاء ذالاً؛ من جنس الأولى ، وأدغم ، وكذا الحكمُ في مًُدِّكِر كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
والعامةُ : على ( أمة ) بضم الهمزة ، وتشديد الميم ، وتاء منونةِ ، وهي المدة الطويلة .
وقرأ الأشهب العقيليُّ : بكسر الهمزة؛ وفسَّروها بالنعمةِ ، أي : بعد نعمةٍ [ أنعم بها ] عليه؛ وهي خلاصه من السِّجن ، ونجاته من القَتلِ؛ وأنشد الزمخشريُّ لعديِّ : [ الخفيف ]
3110
ثُمَّ بَعْدَ الفَلاحِ والمُلْكِ والإمْمَةِ ... وارتْهُمُ هُناكَ القُبُورُ
وأنشد غيره : [ الطويل ]
3111
ألاَ لاَ أرَى ذَا أمَّةٍ أصْبَحَتْ بِهِ ... فَتتْرُكُه الأيَّامُ وهيَ كَماهِيَا
وقرأ ابن عبَّاس ، وزيدُ بنُ عليّ ، وقتادة ، الضحاك ، وأبو رجاء رضي الله عنهم « أَمَه » فتح الهمزة وتخفيف الميم منونة وهي المدة من الأمة وهو النيسان يقال أمِه يَأمَهُ أمَهَاً بفتح الميم وسكونها ، والسكون غير مقيسٍ؛ قال الشاعر : [ الوافر ]
3112
أمِهْتُ وكُنْتُ لا أنْسَى حَدِيثاً ... كَذاكَ الدَّهْرُ يُودِي بالعُقُولِ
وقرأ مجاهدٌ ، وشبل بن عزرة : بعد أمْه بسكون الميم ، وتقدَّم أنه مصدر ل « أَمِهَ » على غير قياسٍ .
قال الزمخشري : « ومن قرأ بسكون الميم ، فقد خُطِّىءَ » .
قال أبو حيَّان : « وهذه على عادته في نسبةِ الخطأ إلى القراء » .
قال شهابُ الدِّين رحمه الله : لَمْ يسنبْ إليهم خطأ؛ وإنما حكى أنَّ بعضهم خطَّأ هذا القارىء؛ فإنه قال : « خُطِّىءَ » بلفظ ما لم يسمَّ فاعله ولم يقل : فقد أخطأ ، على أنَّه إذا صحَّ أنَّ من ذكره قرأ بذلك فلا سبيل إلى نسبة الخطأ إليه ألبتَّة .
وبَعْدَ منصوب ب « ادَّكَرَ » وقوله أنَا أنَبِّئُكمْ هذه الجملة هي المحكية بالقول .
وقرأ العامة أنَبِّئُكُمْ من الإنْباءِ ، وقرأ الحسن أنا آتِيكُم مضارع أتى من الإتيانِ ، وهو قريب من الأول .
فصل
لمَّا اعترف الحاضرون بالعجز عن الجواب ، فذكر الشَّرابيُّ قول يوسف { اذكرني عِندَ رَبِّكَ }
[
يوسف : 42 ] ، { بَعْدَ أُمَّةٍ } بعد حينٍ ، بعد سَبْعِ سنينَ ، وذلك أنَّ الحينَ أنَّما يحصل عند اجتماع الأيام الكثيرة ، كما أن الأمة إنما تحصل عند اجتماع الجمع العظيم ، فالحين كان أمة من الأيام والسَّاعاتِ . فإن قيل : قوله { وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ } يدل على أنّ الناسي هو الشرابي ، وأنتم تقولونك إنَّ النَّاسي هو يوسف عليه السلام .
فالجواب : قال ابنُ الأنباري : ادَّكرَ بمعنى : ذَكَرَ وأخْبَر ، فهذا لا يدلُّ على سبقِ النسيان ، فلعلَّ الساقي إنما لم يذكر يوسف عليه السلام عند الملكِ ، خوفاً عليه من أن يكون ادِّكَاراً لذنبه الذي من أجله حُبس ، فترك للشر ، ويحتمل أن يكون حصل النسيانُ ليوسف صلوات الله وسلامه عليه [ وحصل ] أيضاً لذلك الشرابي .
رُوِيَ أنَّ الغلام جثا بين يدي الملك ، وقال إنَّ بالسجْنِ رجُلاً يُعبِّر الرؤيا .
«
فأرْسِلُون » خطابٌ ، إما للملك ، والجمع ، أو للملك وحده؛ على سبيل التعظيم ، وفيه اختصارٌ ، تقديره : فأرسلْنِي إيها الملكُ إليه ، فأرسله فأتى السِّجن .
قال ابن عباس رضي الله عنه : ولم يكن السجُ في المدينة .
فقال : يُوسُف ، أي : يا يُوسف « أيُّها الصِّديقُ » والصِّدِّيقُ : هو المبالغ في الصدقِ ، وصفهُ بهذه الصفة؛ لأنه لم يجرب عليه كذباً ، وقيل : لأنه مصدق في تعبير رؤياه ، وهذا يدلُّ على أنَّ الساقي الخباز لم يكذبا على يوسف في منامهما ، ولم يذكراه امتحاناً له ، كما زعم بعضهم ثم إنَّه أعاد السؤال باللفظ الَّذي ذكره الملكُ؛ فإن تعبير الرُّؤيا قد تخلتفُ باختلافِ الألفاظِ؛ كما هو مذكورٌ في علم التعبير لعَلِّي أرجعُ إلى النَّاس بفتواك؛ لأنه عجز سائرُ المُعبِّرين على جواةب ، فخاف أني يعجز هو أيضاً؛ فلهذا السبب قال : { لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون } منزلتك من العلم .
قوله : « تَزْرعُونَ » ظاهر هذا ، إخبار من يوسف عليه الصلاة والسلام بذلك .
وقال الزمخشريُّ : تَزْرعُونَ خبرٌ في معنى الأمر؛ كقوله { تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ } [ الصف : 11 ] ، وإنما خرج الأمر في صورة الخبر؛ للمبالغة في إيجاب المأمور به فيجعل كأنَّه وجد ، فهو مخبر عنه؛ والدليلُ على كونه في معنى الأمر قوله : { فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ } .
قال أبو حيان : ولا يدلُّ الأمر بتركه في سنبلة على أنَّ تَزْرعُونَ في معنى : ازْرَعُوا ، بل تَزْرعُونَ إخبار غيب ، وأمَّا فَذرُوهُ فهو أمرُ إشارةٍ بما ينبغي أن يفعلوه .
وهذا هو الظاهرُ ، ولا مدخل لأمر الله لهم بالزراعةِ ، لأنهم يزرعون على عادتهم أمرهم ، أو لم يأمرهم ، وإنما يحتاج إلى الأمر فيما لم يكن من عادة الإنسان أن يفعله كقوله في سُنبلهِهِ .
قوله دَأباً قرأ حفصٌ : بفتحِ الهمزة ، والباقون : بسكونها؛ وهما لغتان في مصدر : دَأبَ يدأبُ دأباً ، أي : دَاومَ على الشيء ولازمه .
وقيل : بجدٍّ ، واجتهادٍ؛ وهذا كما قالوا : ضأنُ وضَأن ، ومعَز ومَعْز : بفتحِ العين وسكونها .
قال أبو علي الفارسي : الأكثرون في « دَأبَ » الإسكانُ ، ولعلَّ الفتح لغةٌ وفي انتصابه أوجه .
أحدها : وهو قول سيبويه : أنه منصوبٌ بعفلٍ محذوفٍ ، تقديره : تدْأبُون دأباً .
والثاني : وهو قول أبي العبَّاس رضي الله عنه : أنه منصوبٌ ب : تَزْرعُونَ « ؛ لأنه من معناه ، فهو من باب : قعدت القُرْفُصَاء .
وفيه نظرٌ؛ لأنه ليس نوعاً خاصًا به بخلافِ القرفصاء مع القعودِ .
والثالث : أنه مصدر واقعٌ موقع الحال ، فيكون فيه الأوجه المعروفةُ ، إما للمبالغة وإما وقوعه موقع الصِّفة ، وإما على حذف مضاف ، أي : دائبين أو ذوي دأبٍ ، أو جعلهم نفس الدَّأب؛ مبالغة .
وقد تقدم الكلامُ على الدَّأب في » آل عمران « عند قوله ت عز وجل { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } [ آل عمران : 11 ] .
قوله : { فَمَا حَصَدتُّمْ } ، يجوز أن تكون شرطيَّة أو موصولة .
قوله : { فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ } أمرهم بترك الحنطةِ في النسبل؛ لتكون أبقى على الزمان ، ولا تفسد .
قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ } ، أي تدرسون قليلاً؛ للأكل ، أمرهم بحفظ الأكثر ، والأكل قدر الحاجة .
وقرأ أبو عبدالرحمن يَأكُلونَ بالغيبة ، أي : الناسُ ، ويجوز أن يكون التفاتاً .
فصل
قال القرطبيُّ : » هذه الآية أصلٌ في القول بالمصالح الشرعية التي هي حفظ للأديان ، والنفوس ، والعقول والأنساب ، والأموال ، فكل ما يضمن تحصيل شيء من هذه الأمور ، فهو مصلحةٌ وكل ما يفوت شيئاً منها ، فهو مفسدةٌ؛ ودفعه مصلحةٌ ، ولا خلاف أنَّ مقصود الشرائع إرشادُ النَّاس إلى مصالحهم الدُّنيويَّة ، ليحصل لهم التمكن من معرفة الله تعالى ، وعبادته [ الموصلتين ] إلى السعادةِ الأخرويَّة ، ومراعاةُ ذلك فضلٌ من الله ورحمة « .
قوله تعالى : { ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك سَبْعٌ شِدَادٌ } حذف المميز ، وهو الموصوف؛ لدلالة ما تقدَّم عليه ، ونسب الأكل إليهن ، مجازاً؛ كقوله : { والنهار مُبْصِراً } [ يونس : 67 ] لمَّا كان الأكل ، والإبصار فيهما ، جعلا كأنهما واقعان منهما ، مبالغة .
و » الشِّدادُ « : الصِّعابُ التي تشتدُّ على الناس؛ فلذلك سمَّى السنين المجدبة شداداً .
يَأكْلْنَ ، أي : يُفْنِين ، ويهلكن الطعام إلاَّ قليلاً ممَّا تُحْصِنُونك تحرزُونَ ، وتدَّخِرُونَ؛ للبذر .
»
والإحصانُ : الإحرازُ ، وهو [ إبقاء ] الشيء في الحصنِ ، يقال : أحْصَنَهُ إحصاناً ، إذا جعله في حِرْزٍ « .
قوله [ تعالى ] : { يُغَاثُ الناس } يجوز أن تكون الألف عن واوٍ ، وأن تكون عن ياءٍ : إما من الغوث ، وهو الفرج ، وفعله رباعي ، يقال : أغَاثَنا اللهُ إذَا أنْقذنَا من كرْبٍ أو غمٍّ ، ومعناه : يغاثُ الناسُ من كَرْبِ الجَدبِ .
وإما من الغيثِن وهو المطرُ ، يقال : أغْيَثَت الأرض ، أي : أمطرتْ ، وفعله ثلاثي ، يقال : أغَاثَنَا الله من الغَيْثِ ، وقالت اعرابيةٌ : غِثْنَا ما شِئْنَا ، اي : أمْطِرنا ما أردْنَا .
فصل
يقال : أسْنَتُوا ، أي : دخلوا في سنةٍ مجدبة : » وقال المفسِّرون : السبعة المتقدمةُ : هي الخصبُ وكثرةُ النِّعم ، والسَّبعة الثانية : هي القَحْطُ ، وهي معلومةٌ من الرؤيا ، وأمَّا حالُ هذه السنةِن فما حصل في ذلك المنام ما يدلُّ عليه ، بل حصل ذلك مِنَ الوَحْيِ « .
قال قتادةُ رحمه الله : زادهُ الله علمَ سنةٍ .
فإن قيل : لما كانت العِجافُ سَبْعاً ، دلَّ على أنَّ السنين المجدبة لا تزيدْ على هذا العدد ، ومن المعلوم أنَّ الحاصل بعد انقضاء القحطِ ، هو الخصبُ ، فكان هذا أيضاً من مدلُولاتِ المنامِ ، فلم قلتم : إنَّه حصل بالوحي والإلهام؟ .
فالجواب : هَبْ أنَّ تبدل القحْطِ بالخصب معلومٌ ، وأما تفصيلُ الحال فيه ، وهو قوله : { فِيهِ يُغَاثُ الناس وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } لا يعلمُ إلا بالوحي .
قوله يَعْصِرونَ قرأ الأخوان : « تَعْصِرُونَ » بالخطاب ، والباقون بياء الغيبة ، وهما واضحتان؛ لتقدم مخاطبٍ أو غائبٍن فكلُّ قراءةٍ ترجعُ إلى ما يليقُ بها .
و « يَعْصِرُونَ » يحتمل أوجهاً :
أظهرها : أنه من عصر العِنبِ ، والزيتونِ ، والسمسمِ ، ونحو ذلك .
والثاني : أنَّه من عصر الضَّرع ، إذا حلبه .
والثالث : أنه من العصرةِ ، وهي النجاةٌ ، والعُصْر : المنجي . وقال أبو زيد في عثمان رضي الله ع نه : [ الخفيف ]
3113
صَادِياً يَسْتغِيثُ غَيْرَ مُغاثٍ ... ولقَدْ كَان عُصْرةَ المَنجُودِ
[
ويعضدُ ] هذا الوجه مطابقة قوله : { فِيهِ يُغَاثُ الناس } يقال : عَصَرَه يَعْصِرهُ ، أي : أنجاه . وقرأ جعفر بن محمدٍ ، والأعرجك « يُعْصَرُونَ » بالياء من تحت ، وعيسَى بالتاءِ من فوقُ ، وهو في كلتا القراءتين مبني للمفعولِ ، وفي هاتين القراءتين تأويلان :
أحدهما : أنها من عصره ، إذا أنجاه : قال الزمخشريُّ : « وهو مطابق للإغاثةِ » .
والثاني : قاله قُطربٌ أنَّهما من الإعْصارِ ، وهو إمطار السحابةِ الماء؛ كقوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَآءً ثَجَّاجاً } [ النبأ : 14 ] ، وقال الزمخشريُّ : وقُرىء : « يُعْصَرُون ، تُمْطرُونَ » ، من أعصرتِ السَّحابةُ ، وفيه وجهان :
إمَّا أن يضمَّن أعصرت معنى مُطِرَت ، فيعدّى تعْدِيتَه ، وإما أن يقال : الأصلُ : أعْصِرَتْ عليهم ، فحذف الجار وأوصل الفعل إلى ضميرهم أو يسندُ الإعصارُ إليهم؛ مجازاً ، فجعلوا معصرين .
وقرأ زيد بن عليّ : « تِعِصّرُون » بكسر التاء ، والعين ، والصاد مشددة ، وأصلها يعْتَصِرُون ، فأدغم التاء في الصاد ، وأتبع العين للصادِ ، ثمَّ أتبعَ التاء للعين وتقدم [ تقريره ] في قوله { إِلاَّ أَن يهدى } [ يونس : 35 ] .
ونقل النقاشُ قراءة « يُعَصِّرُونَ » بضمِّ الياء ، وفتح العين ، وكسر الصّاد مشددة؛ من « عَصَّر » للتكثير ، وهذه القراءة ، وقراءة زيدٍ المقتدمة ، تحتملان أن يكونا من العصرِ للنبات ، أو الضَّرع ، أو النَّجاة؛ كقول الشاعر : [ الرمل ]
3114
لَوْ بِغيْرِ الماءِ حَلقِي شَرقٌ ... كُنْتُ كالغَصَّانِ بالمضاءِ اعتِصَارِي
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
قوله تعالى : { وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ } الآية .
اعلم أنَّ الساقي لما رجع إلى الملك ، وأخبره بما أفتاه يوسف من تأويل رؤياه ، وعرف الملك أنَّ الذي قاله كائنٌ قال ائتُونِي به ، فلمَّا جَاءه الرسُول قال : أجب الملكَ ، فأبى أن يخرج مع الرسول ، حتَّى تظهر براءته ، فقال للرسول : ارْجِعْ إلى ربِّكَ ، أي : سيِّدك ، قال عليه الصلاة السلام : « عَجِبْتُ مِن يُوسفَ وكَرمهِ وصَبْرهِ واللهُ يَغْفرُ لهُ حِينَ سُئِلَ عَنِ البَقراتِ العِجِافِ والسِّمانِ ، ولوْ كُنْتُ مَكانَهَ ما أخْبرْتُهمْ حتَّى أشْترطَ أنْ يُخْرِجُونِي ولقَدْ عِجِبْتُ منهُ حِينَ أتاهُ الرَّسولُ فقَال لَهُ : ارْجِعْ إلى ربِّك ، ولوْ كُنْتُ مَكَانَهُ ولَبِثْتُ في السِّحن طول ما لبِثَ لأسْرعْتُ إلى الإجَابةِ وبَادرتُهثم البَابَ » .
قال ابن الخطيب : الذي فعله يوسف عليه الصلاة والسلام ت من الصَّبر ، والتَّوقٌُّف إلى أن يفحص الملك عن حاله ، هو الأليقُ بالحزم والعقل ، وبيانه من وجوه :
الأول : أنه لو خرج في الحالِ ، فربما كان يبقى في قلب الملك أثر ما ، فلما التمس من الملكِ أن يفحص عن حال تلك الواقعةِ ، دلَّ ذلك على براءته من التهمةِ ، فبعد خروجه لا يقدر أحدٌ أن يلطِّخه بتلك الرذيلة ، وأن يتوصل بها إلى الطعن فيه .
والثاني : أن الإنسان الذي يبقى في [ السجن ] اثنتي عشرة سنةً ، إذا طلبه الملك ، وأمر بأخراجه ، فالظاهر أنه يبادرُ إلى الخروكج ، فحيث يخرج ، عرف منه أنه في نهايةِ العقلِ ، والصَّبر ، والثباتِ؛ وذلك [ يكون ] سبباً لاعتقادِ البراءةِ فيه عن جميع أنواع التهم ، وأن يحكم بأنَّ كلَّ ما قيل فيه ، كان كذباً .
الثالث : أن التماسهُ من الملك أن يفحص عن حاله من تلك النسوةِ ، يدل أيضاً على شدَّة طهارته ، إذ لو كان ملوثاً بوجه ما ، لكان يخاف أن يذكر ما سبق .
الرابع : أنه قال للشَّرابي : « اذكُرْنِي عندَ ربِّكَ » فبقي بسبب هذه الكلمة في السجن [ بضع ] سنين ، وهنا طلبهُ الملك فلم يلتفت إليه ، ولم يقمْ لطلبه وزناً ، واشتغل بإظهار براءته من التُّهمةِ ، ولعلَّه كان غرضه عليه الصلاة والسلام من ذلك ألاَّ يبقى في قلبه التفاتٌ إلى ردِّ الملك وقبوله ، وكان هذا العمل جارياً مجرى التَّلافي ، لما صدر منه من التوسُّلِ إليه ، في قوله : « اذْكُرنِي عِندَ ربِّك » ، وليظهر هذا المعنى لذلك الشرابي؛ فإنه هو الذي كان واسطةً في الحالين معاً .
قوله : { فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة } قرأ ابن كثير ، والكسائي : « فَسَلهُ » ، بغير همز ، والباقون : بالهمز؛ وهما لغتان .
والعامة على كسر نونِ « النِّسوةِ » وضمها عاصم في رواية أبي بكرٍ رضي الله عنهما وليست بالمشهورة ، وكذلك قرأها أبو حيوة .
وقرىء « اللاَّئِي » بالهمز ، وكلاهما جمع ل : « الَّتي » ، و « الخَطْبُ » : الأمْرُ والشَّأن الذي فيه خطرٌ؛ وأنشد [ الطويل ]
3115
ومَا المَرْءُ ما دَامتْ حُشَاشَةُ نَفْسهِ ... بمُدْرِك أطرْافِ الخُطوبِ ولا آلِ
وهو في الأصل مصدر : خَطَبَ يُخْطبُ وإنَّما يُخْطَبُ في الأمور العظام .
فصل ما في الآية من لطائف
أولها : أنَّ المعنى؛ قوله تعالى { فَاسْأَلْهُ } سئل الملك { مَا بَالُ النسوة } ليعلم براءتي من تلك التهمة إلا أنَّه اقتصر على سؤال الملك عن تلك الواقعة؛ لئلاًَ يشتمل اللفظ على ما يجرى مجرى أمر الملك بعمل أو فعلٍ .
وثانيها : أنَّه لم يذكر سيدته مع أنها التي سعت في إلقائه في السجن الطويل ، بل اقتصر على ذكر سائر النسوة .
وثالثها : أنَّ الظاهر أن أولئك النسوة نسبنه إلى عملٍ قبيحٍ عند الملك ، فاقتصر يوسف عليه الصلاة والسلام على مجرَّد قوله : { مَا بَالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } ، وما شكى منهم على سبيل التَّعيين ، والتفصيل .
ثم قال يوسف عليه الصلاة والسلام { إنّ ربي بكيدهن عليم } .
وفي المراد بقوله « إنَّ ربِّي » وجهان :
أحدهما : أنه هو الله تعالى فإنه هو العالم بخفيَّات الأمور .
والثاني : المراد به الملك ، وجعله ربًّا؛ لكونه مربِّياً ، وفيه إشارةٌ إلى كون ذلك الملك عالماً بمكرهنَّ وكيدهنَّ .
واعلم أنَّ كيدهن في حقه يحتمل وجوهاً :
أحدها : أنَّ كل واحدٍ منهن طمعت فيه ، فلما لم يجدن المطلوب أخذن يطعن فيه ، وينسبنه إلى القبيح .
وثانيها : لعلَّ كلَّ واحدةٍ منهمن بالغت في ترغيب يوسف في موافقته سيدته على مرادها ، ويوسف علم أنَّ مثل هذه الخيانة في حقِ السَّيِّد المنعم لا تجوزُ .
وثالثها : أنه استخرجد منهنَّ وجوهاً من المكرِ والحيل في تقبيح صورة يوسف عند الملك ، فكان المراد منهم اللفظ ذلك .
ثم إنه تعالى حَكَى أنَّ يوسف عليه السلام لما التمس من الملك ذلك ، أمر الملكُ بإحْضَارهنَّ ، وقال لهُّنَّ : « مَا خَطْبُكُنَّ » : ما شَأنُكُنَّ ، وأمركنَّ « إذْ رَاودتُّنَّ يوسف عَنْ نَفْسِهِ » ، وفيه وجهان :
الأول : أن قوله : « إذْ رَاودتُّنَّ يُوسفَ » ، وإن كان صيغة جمع ، فالمراد منها الواحد؛ كقوله جلَّ ذكره : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } [ آل عمران : 173 ] .
والثاني : أنَّ المراد منه خطابُ الجماعة ، ثم هاهنا وجهان :
الأول : أنَّ كلَّ واحدة منهنَّ روادتْ يوسف عن نفسه .
والثاني : أنَّ كلَّ واحدةٍ منهنَّ روادتْ يوسف؛ لأجل امرأة العزيز ، فاللفظ محتمل لكل هذه الوجوه .
وعند هذا السؤال { قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء } ، وهذا كالتأكيد؛ لما ذكرنا في أوَّل الأمر في حقه ، وهو قولهنَّ : { مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } [ يوسف : 31 ] .
وقوله « إذْ رَوادتنَّ » ، هذا الظرف منصوبٌ ب « خَطْبُكُنَّ » ؛ لأنه في معنى الفعل إذ المعنى : ما فعلتُنَّ ، وما أردتنَّ به في ذلك الوقتِ .
وكانت امرأةُ العزيز حاضرة ، وكانت تعلم أن هذه المناظرات ، والتفحصات ، إنما وقعت بسببها ، ولأجلها . وقيل : إ نَّ النسوة أقبلن على امرأة العزيز يقررنها .
وقيل : خَافتْ أن يَشْهدْنَ عليها؛ فأقرَّت ، وقالت : { الآن حَصْحَصَ الحق } أي : ظهر ، وتبيَّن : { أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين } ، في قوله : { هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي } [ يوسف : 26 ] .
هذه شهادةٌ جازمةٌ من تلك المرأة أنَّ يوسفَ صلوات الله وسلامه عليه راعى جانب العزيز حيثُ قال : { ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن } ؛ ولم يذكر تلك المرأة ألبتة؛ فعرفت المرأةُ أنَّهُ ترك ذكرها؛ رعايةً ، وتعظيماً لجانبها ، وإخفاءً للأمر عليها؛ فأرادت أن تكافئه على هذا الفعل الحسن ، فلا جرم كشفت الغطاء ، واعترفت بأنَّ الذنب كُلَّه من جانبها ، وأنَّ يوسف كان مُبَرّأ عن الكل .
حُكِيَ أنَّ امرأة جاءت بزوجها إلى القاضي ، فادَّعت عليه المهر ، فأمر القَاضِي أن يَكْشفَ عَنْ وَجْهِها؛ حتَّى يتمَكَّنَ الشُّهودُ من إقَامةِ الشَّهادةِ ، فقال الزَّوحُ : لا حَاجةَ إلى ذلِكَ؛ فإنِّي مقرٌّ بصَداقِهَا في دَعْواهَا ، فقالت المرأةُ : أكْرمْتَنِي إلى هذا الحد؟ اشْهَدُوا أنِّي أبْرَأتُ ذمَّتهُ من كُلِّ حقِّ لِي عليْهِ .
قوله « الآنَ » منصوب بما بعده ، و « حَصْحَصَ » معناه : تبيَّن وظهر بعد خفاءٍ ، قاله الخليل رحمه الله .
وقال بعضهم : هو مأخوذٌ من الحصَّة ، والمعنى : بانتْ حصَّةُ الحق من حصَّة الباطل ، كما تتميَّزُ حِصَصُ الأرَاضِي وغيرها ، وقيل : بمعنى ثبت واستقرَّ .
وقال الرَّاغب : « حَصْحَصَ الحقُّ » ، أي : وضَحَ ذلِكَ بانكِشافِ ما يُقهِره ، وحصَّ وحَصْحَصَِ ، نحو : كفَّ وكَفْكَفَ ، وكَبَّ وكَبْكَبَ ، وحصَّه : قطعهُ؛ إمَّا بالمباشرة وإمَّا بالحكمِ؛ فمن الأولِ قوله الشاعر : [ السريع ] .
3116
قَدْ حَصَّتِ البَيْضَةُ رَأسِي فَمَا .. . .
ومنه : رجلٌ أحَصّ : انقطع بعض شعره ، وامرأةٌ حصَّاءُ ، والحَصَّةُ : القطعة من الجملة ، ويستعمل استعمال النصيب .
وقيل : هو مِنْ حَصْحَصَ البعير ، إذا ألقى ثفناته؛ للإناخَةِ؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
3117
فَحَصْحَصَ في صُمِّ القَنَا ثَفِنَاتِهِ ... ونَاءَ بِسلمَى نَوْءَة ثُمَّ صَمَّمَا
قوله تعالى : « ذَلِكَ » خبرُ مبتدإٍ مضمرٍ ، أي : الأمرُ ذلك ، و « لِيَعْلمَ » ، متعلقٌ بضميرٍ ، أي : أظهر ذلك؛ ليعلم ، أو مبتدأ ، وخبره محذوفٌ ، أي : ذلك الذي صرَّحتُ به عن براءته ، أمرٌ من الله لا بُدَّ منه ، و « لِيَعْلمَ » متعلقُ بذلك الخبر ، أو يكون « ذَلِكَ » مفعولاً لفعلٍ مقدَّرٍ يتعلق به هذا الجار أيضاً ، أي : فعل الله ذلك ، أو فعلته أنا بتيسير الله .
قوله : « بِالغَيْبِ » يجوز أن تكون الباءُ ظرفية قال الزمخشريُّ : أي مكان الغيب ، وهو الخفاء ، والاستتارُ وراء الأباب السبعة المغلقةِ ، ويجوز أن تكون الباءُ للحالِ ، إمَّا من الفاعل ، على معنى : وأنا غائبٌ عنه خفي عن عينه .
وإمَّا من المعفولِ على معنى : وهو غائب عني خفي عن عيني .
«
وأنَّ اللهَ » نسقٌ على « أنِّي » ، أي : ليعلم الأمرينِ ، وهذا من كلام يوسف صلوات الله وسلامه عليه وبه بدأ الزمخشري ، كالمختار له .
وقال غيره : إنه من كلام امرأة العزيزِ ، وهو الظَّاهرُ .
فإن قلنا : هو من كلام يوسف عليه الصلاة والسلام فمتى قالهُ؟ .
وروى عطاءٌ ، عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم : أنَّ يوسف لما دخل على الملك ، قال « ذلكَ » ، وإنما ذكره بلفظِ الغيبة تعظيماً للملك عن الخطاب .
قال ابنُ الخطيب : « والأولى أنه صلوات الله وسلامه عليه إنما قال ذلك عند عود الرسول إليه ، لأنَّ ذكر هذا الكلام في حضرةِ الملك ، سوء أدبٍ » .
فإن قيل : هذه الخيانة لو وقعت ، كانت في حقِّ العزيزِ ، فكيف قال : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } ؟ .
فالجوابُ : قيل : المرادُ ذلك ليعلم الملك أنِّي لم أخنِ العزيز بالغيبِ ، فتكون الهاءُ في « أخُنْهُ » تعود على العزيز .
وقيل : إنَّه إذا خان وزيره ، فقد خانه من بعض الوجوه .
وقيل : إن الشرابي لما رجع إلى يوسف عليه السلام وهو في السجن ، قال : { ذلك لِيَعْلَمَ } ، العزيزُ { أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } .
ثم ختم الكلام بقوله : { وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين } ، ولعلَّ المراد منه : أني لو كنت خائناً ، لما خلَّصني الله من هذه الورطةِ ، وحيث خلصني منها ، ظهر أنِّي كنت بريئاً مما نسبوني إليه .
وإن قلنا : إن قوله : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } كلام امرأة العزيز ، فالمعنى : أني ولو أدخلت الذنب عليه عند حضوره ، لكنني لم أدخل الذنب عليه عند غيبته؛ لأني لم أقلْ فيه وهو في السجن خلاف الحقِّ ، ثم إنها بالغت في تأكيد هذا القول وقالت : { وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين } ، أيك لما أقدمتُ على الكيدِ ، والمكرِ ، لا جرم افتضحْتُ؛ فإنه لمَّا كان بريئاً ، لاجرم أظهره الله ، عز وعلا .
قال صاحبُ هذا القولِ : الي يدلُّ على صحَّتهِ : أنَّ يوسف صلوات الله وسلامه عليه ما كان حاضراً في ذلك الملجلس حتَّى يقال : لمَّا ذكرتِ المرأةُ قولها : { الآن حَصْحَصَ الحق أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين } ، ففي تلك الحالة قال يوسف : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } ، بل يحتاج فيه إلى أن يرجع الرسول عن ذلك المجلس إلى السجن ، ويذكر تلك الحكاية .
ثم إنَّ يوسف يقول ابتداء : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } ومثلُ هذا الوصل بين الكلامين الأجنبيين ، ما جاء ألبتة في نثر ولا نظم؛ فعلمنا أن هذا من تمام كلام المرأة .
قال القرطبي : وهو متصلٌ بقولِ امرأة العزيز : « الآنَ حَصْحَصَ الحقٌّ » أي : أقررتُ بالصدقِ؛ { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } بالكذب عليه ، ولم أذكره بسوءٍ ، وهو غائبٌ ، بل صدقتُ ، وزجرت عنه الخيانة ، ثم قالت : « ومَا أبرِّىءُ نَفسِي » ؛ بل أنا روادته وعلى هذا هي كانت مقرة بالصانع؛ ولهذا قالت : { إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
وقيل : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } ، مِنْ قولِ العزيز ، وإنِّي لم أغفل عن مجازاته على أمانته .
{
وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين } معناه : إنَّ الله لا يهدي الخائنين بكيدهم .
فصل
دلَّت هذه الآية على ظهارةِ يوسف صلوات الله وسلامه عليه من الذنب من وجوه :
الأول : أن الملك لما أرسل إلى يوسف صلوات الله وسلامه عليه وطلبه ، فلو كان يوسف متهماً بفعلٍ قبيحٍ ، وقد كان صدر منه ذنبٌ ، وفحشٌ؛ لاستحال بحسب العرفِ العادةِ ، أن يطلب من الملك أن يفحص عن تلك الواقعة ، وكان ذلك سعياً منه في فضيحةِ نفسه ، وفي حمل الأعداءِ على أن يبالغوا في إظهار عيوبه .
والثاني : أنَّ النسوة شهدن في المرة الأولى بطهارته ، ونزاهته ، { وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } [ يوسف : 31 ] ، وفي المرة الثانية : { حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سواء } .
والثالث : أنَّ امرأة العزيز اعترفت في المرة الأولى بطهارته ، حيثُ قالت : { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم } [ يوسف : 32 ] ، وفي المرة الثانية قولها : { الآن حصحص الحق أنا روادته عن نفسه وإنه لمن الصادقين } ، وهذا إشارةٌ إلى أنَّه صادقٌ في قوله : { هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي } [ يوسف : 26 ] .
والرابع قول يوسف { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } .
قال ابن الخطيب : « الحشويَّةُ يذكرون أنَّه لما قال هذا الكلام ، قال جبريل عليه السلام : ولا حين هَمَمْتَ ، وهذا من رواياتهم الخبيثة ، وما صحَّت هذه الرواية في كتابٍ معتمدٍ ، بل هم يلحقونها بهذا الموضع سعياً منهم في تحريفِ ظاهر القرآن » .
والخامس : قوله : { وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين } ، يقتضي أن الخائن لا بدَّ أن يفتضح ، فلو كان خائناً ، لوجب أن يفتضحح ولما خلصه الله من هذه الورطة ، دلَّ ذلك على أنه لم يكن من الخائنين .
ووجه آخر : وهو أنَّ ت في هذا الوقت تلك الواقعة صارت مندرسةً ، فإقدامه في قوله { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } ، مع أنَّهُ [ خانه ] بأعظم وجوه الخيانة وأقدم على فاحشةٍ عظيمةٍ ، وعلى كذبٍ عظيمٍ من غير أن يتعلق به مصلحة بوجهٍ ما ، والإقدامُ على مثل هذه الوقاحة من غير فائدة أصلاًح لا يليق بأحدٍ من العقلاءِ ، فكيف يليق إسناده إلى سيِّد العقلاء ، وقدوة الأصفياء ، فثبت أنَّ هذه الآية تدلُّ دلالة قطعيَّة على براءته مما يقول الجُهَّال .
قوله تعالى : { وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي } الآية اعلمْ أنَّ تفسير هذه الآية يختلف باخلاف ما قبلها؛ لأنَّه إن قلنا قوله { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } ، كلام يوسف ، كان هذا أيضاً كلام يوسف ، وإن قلنا : : إنه من تمام كلام المرأة ، كان هذا أيضاً كذلك ، وإذا قلنا : إنه من كلام يوسف عليه الصلاة والسلام ، فقالوا : إنه صلوات الله وسلامه عليه لما قال : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } ، قال جبريلُ عليه السلامُ ولا حين هَمَمْتَ ، فعند هذا ، قال يوسف عليه الصلاة والسلام : { وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء } ، أي : بالزِّنا ، { إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي } أي عصم ، { إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لِلْهمِّ الذي همَّ به ، « رَحِيمٌ » ، أي لو فعلته ، لتابَ عليَّ .
قال ابنُ الخطيب رحمه الله : « هذا ضعيفٌ؛ فإنَّا بينا في الآية الأولى برهاناً قاطعاً على براءته من الذنب » .
فإن قيل : ما جوابكم عن هذه الآية؟ .
فنقول : فيه وجهان :
الأول : أنه صلوات الله وسلامه عليه لما قال { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } ، كان ذلك جارياً مجرى المدحِ لنفسه ، وتزيكتها؛ وقال سبحانه { فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ } [ النجم : 32 ] فاستدركه على نفسه بقوله : { وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي } ، والمعنى : فلا أزكِّى نفسيح { إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء } ، ميَّالةٌ إلى القبائحِ ، راغبٌ في المعصيةِ .
الثاني : أنَّ الآية لا تدلُّ البتة على شيءٍ مما ذكروه؛ لأنَّ يوسف صوات الله وسلامه عليه لما قال : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } ، بيَّن أنَّ ترك الخيانة ما كان لعدمِ الرغبة ، ولعدم ميل النفس ، والطعبيةِ؛ لأنَّ النفس أمَّارة بالسوءِ ، توَّاقةٌ إلى اللذات ، فبيَّن بهذا الكلام أن ترك الخيانة ، ما كان لعدم الرغبةِ ، بل لقيام الخوف من الله تعالى .
وإذا قلنا : إنَّ هذا الكلام من بقية كلامِ المرأةِ ، ففيه وجهان :
الأول : { وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي } ، عن مراودته ، ومرادها تصديقُ يوسف في قوله : { هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي } [ يوسف : 26 ] .
والثاني : أنها لما قالت : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } ، قالت : { وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي } ، من الخيانة مطلقاً؛ فإنٍّي قد خنته حين أحلت الذنب عليه ، وقلت : { مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سواءا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ يوسف : 25 ] ؛ وأودعته في السِّجن ، كأنَّها أرادت الاعتذارَ مما كان .
فإن قيل : أيُّهما أولى ، جعل هذا الكلام كلاماً ليوسف ، أم جعله كلاماً للمرأة .
قلنا : جعله كلاماً ليوسف مشكل؛ لأنَّ قوله : « قالت امرأة العَزيزِ الآن حَصْحَصَ الحقٌّ » كلامٌ موصولٌ بغضه ببعضٍ إلى آخره ، فالقول بأنَّ بعضه كلام المرأةِ ، والبعض كلام يوسف ، تخلُّل الفواصل الكثيرة بين القولين ، وبين المجلسين بعيد .
فإن قيل : جعله كلاماً للمرأة مشكل أيضاً؛ لأن قوله { وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي } كلامٌ لا يحسنُ صدوره إلاَّ ممَّن احترز عن المعاصِي ، ثم يذكر هذا الكلام على سبيل النَّفس ، ولا يليق ذلك بالمرأةِ التي استفرغت جهدها في المعصية .
قوله : { إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي } فيه أوجهٌ :
أحدها : أنه مستثنى من الضمير المستكنِّ في « أمَّارةٌ » كأنه قيل : إن النفس لأمارةٌ بالسوءِ إلاَّ نفساً رحمها ربِّي ، فيكون أراد بالنفس الجنس؛ فلذلك ساغ الاستثناء منها؛ لقوله تعالى : { إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } [ العصر : 2 ، 3 ] وإلى هذا نحا الزمخشريُّ رحمه الله فإنه قال : « إلا البعض الذي رحمهُ ربِّي بالعصمة؛ كالملائكة » .
وفيه نظرٌ؛ من حيث إيقاع « ما » على من يعقل ، والمشهور خلافه .
قال ابن الخطيب : « ما » بمعنى « مَنْ » أي : إ لا من رحم ربي ، و « مَا » و « مَنْ » كلُّ واحدٍ منهما يقوم مقام الآخر؛ قال تعالى : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] ، وقال : { وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ } [ النور : 45 ] .
والثاني : أنَّ « مَا » في معنى الزمان؛ فيكون مستثنى من الزمنِ العامِ المقدر ، والمعنى : إنَّ النَّشفس لأمارة بالسوءِ في كل وقتٍ وأوانٍ ، إلاَّ وقت رحمة ربِّي إيَّاها بالعصمةِ . ونظره أبو البقاءِ بقوله : { وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } [ النساء : 92 ] ، وقد تقدَّم [ النساء : 92 ] أنَّ الجمهور لا يجيزون أن تكون « أنْ » واقعة موقع ظرف الزمان .
والثالث : أنه مستثنى من معفولِ « أمَّارةٌ » ، أي : لأمَّارة صاحبها بالسُّوءِ إلا الذي رحمه الله ، وفيه إيقاع « مَا » على العاقل .
والرابع : أنه استثناء منقطع ، قال ابن عطيَّة : وهو قول الجمهور . وقال الزمخشريُّ : ويجوز أن يكن استثناء منقطعاً ، أيك ولكن رحمةُ ربي التي تصرفُ الإساءة؛ كقوله : { وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا } [ يس : 43 ، 44 ] .
فصل في أن الإيمان والطاعات لا يحصلان للعبد إلا برحمة الله له
هذه الآية تدل على أن الطاعات والإيمان لا يحصلان إلا من الله تعالى؛ لقوله تعالى : { إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي } فدلَّ ذلك على إنَّ انصراف النفس من السوءِ لا يكون إلا برحمة الله ، ودلَّت الآية على أنَّ من حصلت تلك الحرمةُ له ، حصل ذلك الانصرافُ ، ولا يمكن تفسيرُ هذه الرحمة بإعطاءِ العقل ، والقدرةِ ، والألطافِ ، كما قاله القاضي رحمه الله ؛ لأنَّ كلَّ ذلك مشتركٌ بين الكافر والمؤمن ، فوجب تفسيرها بشيءٍ آخر ، وهو ترجيحُ داعية الطاعة على داعيةِ المعصيةِ .
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
قوله تعالى : { وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } .
لما تبيَّن للملكِ عذرُ يوسف وعرف أمانتهُ وعلمهُ ، قال : { ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } ، أي : أجعله خالصاً لنفسي .
قال القرطبيُّ : « انظر إلى قول الملكِ أولاً حين تحقَّق علمهُ : » ائتُونِي بِهِ « ، فقط فلمَّا فعل يوسف ما مفعل ، قال ثانياً { ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } والاستخلاصُ : طلب خلوصِ الشَّيء من شوائبِ الإشراكِ » .
قال القرطبي : « أسْتَخْلصهُ » جزم؛ لأنه جواب الأمرِ؛ وهذا يدل على أنَّ قوله : « ذلِكَ ليَعْلمَ » ، جرى في السجن ، ويحتمل أنه جرى عند الملك ، ثم قال في جلس آخر : « ائتُوني بِهِ » ؛ تأكيداً .
واختلفوا في هذال الملك ، فقيل : هو العزيز ، وقيل هو الملك الأكبر . وهذا هو الاظهر لوجهين :
الأول : لقول يوسف عليه الصلاة والسلام : { اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض } .
الثاني : أن قوله : { أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } يدلُّ على أنه قبل ذلك ، ما كان خالصاً له ، وكان خالصاً للعزيزن فدلَّ على أنَّ هذا الملك هو الملك الأكبر .
قوله : « فَلمَّا كَلَّمهُ » ، يجوز أن يكون الفاعل ضمير الملكِ ، والمفعول يوسف صلوات الله وسلامه عليه هو الظاهر؛ لأنَّ مجالس الملوكِ لا يحسنُ لأحدٍ أن يبدأ فيها بالكلام ، وإنما الملك هو الذي يبدأن ويجوز العكس ، وفي الكلام اختصارٌ تقديره : فجاء الرسول يوسفن فقال له : أجب الملك الآن .
فصل
رُوِيَ أنَّه قام ، ودعا لأهلِ السِّجن ، فقال : اللَّهُمَّ اعطف عليهم قلوب الأخيار ، ولا تعمِّ عليهم الأخبار ، فهم أعلمُ النَّاس بالأخبار في كل بلدٍ .
فلما خرج من السِّجن ، كتب على السجن : هذا قبرُ الأحياءِ ، وبيتُ الأحزانِ ، وتجربة الأصدقاءِ ، وشماتةُ الأعداءِ ، ثمَّ اغتسل ، وتنظَّف من درنِ السِّجن ، ولبس ثِياباً حسنة وقصد الملكَ .
وقال وهبٌ رحمه الله : كَانَ يوسفُ يومئذ ابن ثلاثين سنة ، ولما دخل عليه دعا ، وقال : اللهمَّ إني أسالك بخيرك من خيره ، وأعوذُ بعزَّتكَ وقُدرتِكَ من شرِّه ، ثمَّ سلَّم عليه العربيَّة ، فقال الملك : ما هذا اللسانُ؟ قال : لِسانُ عمِّي ، إسماعيل ، ثم دعا لهُ بالعِبرانِيّةِ ، فقال : ما هذا اللسانُ؟ قال : لِسانُ آبائي : إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، وكان الملك يتكلَّم بسبعين لساناً ، وكُلمَّا كَلَّمَ يوسف بلسانٍ ، أجابه بذلك اللسان؛ فأعجب الملك أمرهُ ، كان يوسف إذ ذاك ابن ثلاثين سنة ، فلما رآه الملكُ حدثاً شابًّا ، قال للشرابيك هذا هو الذي علم تأويل رُؤياي؟ قالك نعم ، فأقبل على يوسف ، فقال الملك : أحبُّ أن أسمع منك تأويل رؤياي شفاهاً .
فأجابه بذلك الجواب شفاهاً ، وشهد قلبه بصحته؛ فعند ذلك قال له الملك : { إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ } يقال : فلانٌ مكينٌ عند فلانِ ، بَيِّنُ المكانة ، أي : المنزلة ، وهي حالةٌ يتمكن بها صاحبها مما يريد ، وقوله : « أمِينٌ » أي : قد عرفنا أمانتكَ ، وبراءتك مما نسبت إليه .
واعلم أن قوله : « أمِينٌ » كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يحتاج إليه من الفضائلِ ، والمناقبِ؛ وذلك لأنَّه لا بُدَّ في كونه أميناً من القدرة والعلم ، أما القدرة؛ فلأن يحصل بها المكنةُ ، وأما العلم؛ فلأنَّ كونه متمكِّناً من أفعال الخيرِ لا يحصل إلاَّ به ، إذ لو لم يكن عالماً بما ينبغي ، وبما لا ينبغي ، لا يمكن تخصيص بيان ما ينبغي بالفعل ، ولا تخصيص ما لا ينبغي بالتِّرك؛ فثبت أنَّ كونه مكيناً لا يحصل إلاَّ بالقدرةِ والعلمِ ، وأما كونه أميناً ، فهو عبارةٌ عن كونه لا يفعل الفعل لداعي الشَّهوة ، وإنَّما يفعله لداعي الحكمةِ ، فثبت أنَّ كونه مكيناً أميناً يدلُّ على كونه قادراً ، وعلى كونه عالماً بمواضع الصًَّلاح ، والفسادِ ، وعلى كونه يفعل لداعي الحكمة ، لا لداعي الشَّهوة ، وكل من كان كذلك ، فإنَّه لا يصدر عنه فعلُ السُّوء والفحشاء .
ثم حكى سبحانه وتعالى أنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام قال في هذا المقام : { اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } قال المفسرون : لمَّا عبَّر يوسف رؤيا الملك بين يديه ، قال له الملك : فما ترى أيُّها الصديقُ؟ فقال : أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعاً كثيراً ، وتبني الخزائنن وتجمع فيها الطَّعام ، فإذا جاءت السنون المجدبةُ بعت الغلات ، فيحصل بهذا الطريق مالٌ عظيمٌ ، فقال الملك : ومن لي بهذا الشُّغل؟ فقال يوسف : { اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض } ، أي : على خزائن أرض مصر . أدخل الألف واللام على الأرض والمراد منه المعهود السابق .
روى ابنُ عبَّاسٍ رضي البله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال : « رحِمَ اللهُ أخي يوسف ، لو لَمْ يقُل : اجعلنِي على خَزائنِ الأرض لا ستَعْملهُ من سَاعتهِ لكنَّهُ لمَّا قال ذلِكَ أخَّرهُ عنهُ سنَةً » .
قال ابن الخطيب : « وهذا من العجائب؛ لأنه لما تأبَّى عن الخروج من السِّجن ، سهَّل الله عليه ذلك على أحسنِ الوجوه ، ولما سارع في ذكر هذا الالتماسِ ، أخَّر الله ذلك المطلوب عه ، وهذا يدلُّ على أنَّ ترك التَّصرفِن والتفويض إلى الله تعالى أولى .
فإن قيل : لِمَ طلب يوسف الإمارة ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال لعبدِ الرَّحمنِ بن سمُرة : » يَا عَبْدَ الرَّحمنِ : لا تَسْألِ الإمَارَةَ «
؟ .
وأيضاً : فكيف طلب الإمارة من سُلطانٍ كافرٍ؟ وأيضاً : لِمَ لَمْ يصبر مُدَّة فأظهر الرغبة في طلب الإمارة؟ وأيضاً : لم طلب أمر الخزائنِ في أوَّل الأمْرِ ، مع أنَّ هذا يورثُ نوع تهمةٍ؟ وأيضاً : كيف مدح نفسه بقوله : » إني حفيظ عليم « ؟ مع أنه تعالى قال : { فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ }
[
النجم : 32 ] ، وأيضاً ما الفائدة في قوله : « إنِّي حفيظٌ عليمٌ » ؟ ولِمَ لَمْ يقل : إن شاء الله تعالى ؛ لقوله تعالى { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } [ الكهف : 2324 ] ؟ .
فالجوابك أن الأصل في جواب هذه المسألةِ : أنَّ التَّصرف في أمور الخَلقِ كان واجباً عليه فجاز له أن يتوصل إليه بأي طريق كان إنما قلنا إن ذلك التصرف كان واجبابً عليه لوجوه :
الأول : أنه كان رسُولاً حقًّا من الله تعالى إلى الخلق ، والرسول تجب عليه مصالحُ الأمةِ بقدر الإمكانِ .
والثاني : أنه عليه الصلاة والسلام علمَ بالوحي أنًَّهُ سَيحْصُلُ القَحْطُ والضيقُ الشديد ، الذي ربَّما أفضى إلى هلاك الخلق ، فلعلَّه تعالى أمره بأن يدبِّر في ذلك الوقت ، ويأتي بطريقٍ في آجله يقلُّ ضَررُ ذلك القحْطِ في حق الخلق .
الثالث : أنَّ السَّعي في إيصال النفع إلى المُستضعفين ، ودفع الضرر عنهم أمرٌ مستحسنٌ في العقول .
وإذا ثبت هذا ، فنقولُ : إنه صلى الله عليه وسلم مكلَّفاً برعاية المصالح من هذه الوجوه ، و ما كان يمكنه رعايتها إلاَّ بهذا الطريق ، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا به ، فهو واجبٌ ، فكان هذا الطريق واجباً ، ولمَّا كان واجباً ، سقطتِ الأسئلة بالكلية .
وأما تركُ الاستثناءِ ، فقال الواحديُّ : « كان ذلك من خطيئةٍ أوجبتْ عُقوبةٌ وهو أنه تعالى أخَّر عنه حصول ذلك المقصودِ سنةً » .
قال ابنُ الخطيب : « لعلَّ السبب فيه أنه لو ذكر هذا الاستثناء ، لاعتقد الملكُ فيه أنه ذكره لعلمه بأنه لا قدرة له على ضبط هذه المصلحة كما ينبغي؛ فالأجل هذا المعنى ترك الاستثناء » .
وأما قوله لِمَ مَدحَ نفسه؟ فجوابه من وجوه :
الأولك لا نُسلِّمُ أنه مدح نفسه ، بل بيَّن كونه موصوفاً بهاتين الصفتين الوافيتين بحصولِ هذا المطلوبِ ، فاحتاج إلى ذكر هذا الوصفِ؛ لأنَّ الملك وإن علمَ كمالهُ في علومِ الدين ما كان عالماً بأنه يفي بهذا الأمر .
ثم نقول : هبْ أنَّه مدح نفسه ، إلاَّ أنَّ مدح النفس لا يكونُ مذموماً؛ إلا إذا قصد به الرجل التَّطاول ، والتفاخر ، والتوصل إلى ما لا يحلُّ ، وأمَّا على هذا الوجه ، فلا نسلِّم أنه يحرمُ ، وقوله تعالى { فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ } [ النجم : 23 ] ، والمراد منه : تزكيةٌ النفس وهو يعلمُ كونها غير زَكيَّةٍ؛ ويدلُّ عليه قوله تعالى بعده : { هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى } [ النجم : 23 ] أما إذا كان عالماً بأنه صدقٌ ، فهو غير ممنوعٍ منه ، والله أعلم .
وأما القول : ما الفائدة في وصف نفسه بأنه حفيظٌ عليمٌ؟ .
قلنا : إنه جار مجرى أن يقول : حفيظٌ بجميع الوجوه التي منها يمكن الرجل تحصيل المالِ ، وعليمٌ بالجهاتِ التي تصلح لأن يصرف المال إليها ، أو حفيظ للخزائن عليمٌ بوجوه مصَالِحهَا أو كاتبٌ حَاسِبٌ ، أو حفيظٌ لِمَا اسْتودَعْتَنِي ، عليمٌ بما وليتني ، أو حفيظ للحساب ، عليمٌ بالألسن ، أعلمُ لغة من يأتيني .
وقال الكلبيُّ : « حفيظٌ بتقديره في السِّنين الخصبةِ ، عليم بوقت الجوعِ حين يقعُ في الأرض الجَدبةِ » .
فقال الملك : من أحقُّ به مِنْكَ فولاَّهُ ذلك ، وقال له : { إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ } ذُو مكانةٍ ومنزلةٍ ، أمينٌ على خزائنِ الأرض .
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
قوله تعالى : { وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض } الآية قال المفسرون : لما التمس من الملكم أن يجعله على خزائن الأرض ، لم يذكر الله عن الملك أنه قال : قد فعلتُ؛ بل قال : { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض } ؛ فقال المفسرون : ف يالكلام محذوفٌ تقديره : قال الملك : قد فعلت؛ لأنَّ تمكين الله له في الأرض يدلُّ على أن الملك قد أجابه ما سأل .
قال ابن الخطيب : « وما قالوه حسنٌ ، إلا أنَّ هاهنا ما هو أحسن منه ، وهو أنَّ ما أجابه الملك في عالم الظاهر ، وأمَّا المؤثر الحقيقيُّ ، فليس إلاَّ أنه تعالى هو الذي مكَّنه في الأرض ، وذلك؛ لأنَّ الملك كان متمكناً من القبول والرد فنسبة قدرته إلى القبول والرد على التَّساوي وما دام يبقى هذا التَّساوي ، يمتنعُ حصولُ القبولِ ، فلا بُدَّ وأن يرجح القبولُ على الردِّ في خاطر ذلك الملك؛ وذلك لأنَّ الترجيح لا يكونُ إلاَّ بمرجعٍ يخلقهُ الله تعالى وإذا خلق الله ذلك المرجح ، حصل القبولُ لا محالة ، فالتمكين ليوسف في الأرض ليس إلاَّ من خلق الله تعالى بمجموع القدرة والدَّاعية الجازمة التي عند حصولها ، يجب ُ ألاَّ يؤخَّر هذا السببُ ، فترك الله إجابة الملك ، واقتصر على ذكر التَّمكينِ الإلهي؛ لأنَّ المؤثِّر الحقيقيَّ ليس إلا هو » .
قوله : « وكَذلِكَ » الكافُ منصوبةٌ بالتمكين ، و « ذلِكَ » إشارةٌ إلى ما تقدم أي : ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا عليه في تقريبنا إياه من قلب الملكِ ، وإنجائنا إياه من غمِّ الحَبْس ، { مَكنا له في الأرض } .
ووله : « لِيُوسُف » يجوز في هذه اللام أن تكون متعلقة ب « مَكَّنَّا » على أن يكن مفعول « مَكَّنَّا » محذوفاً ، تقديره : مكنا ليسوف الامورَ ، أو على أن يكون المفعول به « حَيْثُ » ، كما سيأتي ، ويجوز أن تكون زائدة عند من يرى ذلك .
وقد تقدَّم أنَّ الجمهور يأبون ذلك إلاَّ في موضعين .
وقله « يَتَبَوَّأ » جملةٌ حاليةٌ من « يُوسفَ » ، و « مِنْهَا » يجوز أن تتعلَّق ب « يَتَبَوَّأ » ، وأجاز أبو البقاءِ : أن يتعلق بمحذوفٍ ، على أنَّها حالٌ من « حَيْثُ » ، و « حَيْثُ » يجوز أن يكون ظرفاً ل « يَتَبَوَّأ » ، ويجوز أن يكون مفعولاً به وقد تقدم تحقيقه في الأنعامِ .
وقرأ ابن كثير : « نَشَاءُ » بالنُّون على أنَّها نونُ العظة لله تعالى .
وجوَّز أبو البقاء : أن يكون الفاعل ضمير يوسف صلوات الله وسلامه عليه قال : « لأنَّ مشيئتهُ من مشيئةِ اللهِ عز وجل » ؛ وفيه نظرٌ؛ لأن نظم الكلام يأباهُ .
والباقون : بالياء على أنه ضمير يوسف ، ولا خلاف في قوله : « نُصِيبُ بِرحْمتِنَا من نَشاءُ » ، أنَّها بالنون .
وجوزَّ أبو حيَّان : أن يكون الفاعل في قراءة الياء ضمير الله تعالى ، ويكون التفاتاً . ومعنى « يَتَبَوَّأ منها » أي : ينزلُ مها حيث يشاء ويصنع فيها ما يشاء .
فصل
روى الزمخشريُّ : أنَّ الملك أخرج خاتم الملك ، ووضعه في أصعبه ، وقلَّده سيفه ، ووضع له سريراً من ذهب مُكَلَّلاً بالدُّرِّ والياقوت ، فقال يوسف عليه الصلاة والسلام أما السريرُ ، فأشدُّ به ملكك ، وأما الخاتمُ ، فأدبِّر به أمرك ، وأمَّا التَّاجُ ، فليس من لِباسِي ، ولا لِباسِ آبائي ، وجلس على السَّرير ، ودان له القومُ ، وأنَّ قُطْفِير زوج المرأةِ مات بعد ذلك ، وزُوج يوسف راعيل امرأة قطفير ، فلما دخل عليها قال : أليس هذاخيراً مما طلبتِ؟ فوجدها عذراء ، فأصابها ، فولدت له إفرائيم ، وميشا ، وأقام العدل بمصر ، وأحبه الرجال والنساء ، وأسلم على يديه الملك ، وكثير من النَّاس ، وفوَّض الملك أمر مصر إلى يوسف .
قال وهبٌ ، السديُّ ، وابن عبَّاس ، وغيرهم : ثم دخلت السنون المحصبة ، فأمر يوسف بإصلاح الزراع ، وأمرهم أن يتوسَّعُوا في الزراعةِ ، فلما أدركت الغلةُ أمر بها فجمعت ، ثم بنَى لها المخازن ، فجمعت فيها ف يتلك السنة غلةٌ ضاقت عنها المخازن؛ لكثرتها ، ثم جمع غلَّة كُلِّ سنةٍ كذلك ، حتى انقضتِ السبع المخصبة ، وجاءت السنونُ المجدبةُ ، فنزل جبريلُ عليه السلام وقال : يا أهلَ مِصْر : جوعوا فإنَّ الله سلَّط عليكم الجوع سبع سنين ، فجعل الناسُ ينادون : الجُوع الجُوع ، وأباع من أهل مصر في سنين القحط بالدراهم والدنانير في السنة الأولى ، وبالحليِّ والجواهر في السنة الثانية ، ثم بالدَّوابِّ ، ثم بالضياع ، ثم بالعقار ، ثم ترقَّى بهم حتَّى استرقَّهم؛ فقالوا : والله ، ما رأينا ملكاً أعظم ثباتاً من هذا ، فلما صار كلُّ الخلق عبيداً له ، قال : إنيِّ أشهدُ الله أنِّي اعتقتُ أهل مصر عن آخرهم ، ورددت عليهم أملاكهم ، وكاتن لا يبيعُ من أحدٍ ممن يطلب الطعام أكثر من حملٍ؛ لئلا يضيق الطعامُ عن الباقين .
فصل
قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما « نُصِيبُ بِرَحْمتِنَا مَن نشَاءُ » أي : بنِعْتِنَا .
{
وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } يعني الصابرينَ ، هذا في الدنيا ، { وَلأَجْرُ الآخرة } : ثواب الآخرة خير .
قال ابن الخطيب قوله تعالى : { وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } ؛ لأن إضافة الأجر إما أن تكون للعجزِ ، أو للجهلِ ، أو للبخلِ ، والكلُّ ممتنعٌ في حقِّ الله سبحانه وتعالى فكانت الإضاعة ممتنعة ، وهذه شهادةٌ من الله تعالى على يوسف أنَّه كان من المُحْسنِينَ ، ولو صدق بأنه جلس بين شعبها الأربع لامتنع أن يقال إنه كان من المحسنين؛ فهاهنا لزم إمَّا تكذيبُ الله في حكمه على يوسف أنَّه كان من المحسنين؛ وهو عينُ الكفرِ أو لزوم تكذيب ما روهُ بأنَّه جلس منها موضع الرجلِ من امرأته ، وهو عينُ الإيمانِ بالحقِّ .
واعلم أنَّ لفظ الخيرِ قد يستعملُ لكونِ أحدٍ الخيرينِ أفضل من الآخر؛ كما يقال : الجلابُ خيرُ من الماءِ ، وقد يستعمل لبيانِ كونه في نفسه خيراً من غير أن يكون المراد منه بيان التفضيل؛ كما يقال : « الثَّريدُ خيرٌ مِنْ عِند الله تعالى » .
يعني : الثَّريدُ خير من الخيراتِ حصل من الله .
وإذا ثبت هذا فنقول : قوله : { وَلأَجْرُ الآخرة } : إن حملناه على الوجه الأوَّل ، لزم أن تكون ملاذُّ الدنيا موصوفة بالخيرية أيضاً ، وإذا حملتْ على الوجه الثاني ، لزم أن يقال : منافع الآخرة خيرات ، ولا شكَّ أن قوله تعالى : { وَلأَجْرُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } ، شرح حال يوسف عليه الصلاة والسلام وجب أن يصدق في حقه أنَّه من { الذين آمنوا وكانوا يتقون } ، وهذا تنصيص من الله عز وجل أنه كان في الزمنِ السَّابق من المتقين ، وليس هاهنا زمنٌ سابقٌ ليوسف يحتاج إلى أنه كان فيه من المتَّقين ، إلاَّ الوقت الذي قال الله فيه : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } [ يوسف : 24 ] ، فكان هذا شهادة من الله تعالى على أنَّهُ عليه السلام كان في ذلك الوقت من المتَّقين .
وأيضاً : قوله تعالى : { وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } شهادة من الله عز وجل أنه عليه الصلاة والسلام من المحسنين ، قوله : { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين } [ يوسف : 24 ] وكل هذه التأكيدات تبطل ما رووهُ عنه ، والله أعلم .
فصل
قال القاضي رحمه الله : قوله : { وَلأَجْرُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } يدلُّ على بطلان قول المرجئةِ الذين يزعمون أنَّ الثواب يحصل في الآخرة لمن لمْ يتَّق الكبَائرِ .
وهذا ضعيفٌ؛ لأنا إن حلمنا لفظ « خَيْرٌ » على التَّفضيل ، لزم أن يكون الثَّواب الحاصل للمتقين أفضل ، ولا يلزمُ ألا يحصل لغيرهم أصلاً ، وإن حلمناه على أصل معنى الخيرِ ، فهذا يدلُّ على حصول هذا الخير للمتقين ، ولا يدلُّ على أنَّ غيرهم لا يحصل له هذا الخير ، والله أعلم .
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)
قوله : { وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ } الآية :
ورُوِيَ أنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام لا يشبعُ من طعامٍ في تلك الأيَّام؛ فقيل له : أتجوعُ ويبدِكَ خزائِنُ الأرض؟ فقال : أخافُ إن شبعتُ نسيت الجياع ، وأمر يوسفُ طبَّاخِي الملك أن يَجْعلُوا غذاءه نصف النهار؛ وأراد بذلك أن يذوق الملك طعم الجُوعِ ، ولا يَنْسَى الجَائعِينَ ، من ثمَّ جعل الملوكَ غذاءهم نصف النَّهار .
وعمَّ القَحْطُ البلاد حتَّى أصاب أرض كنعان وبلاد الشام . ونزل بيعقوب ما نزل بالنَّاس؛ فأرسل بنيه إلى مصر؛ للميرة ، وأمسك بنيامين أخا يوسف لأمه ، فذلك قوله تعالى : { وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ } وكانوا عشرة ، وكان منزلهم بالقُرياتِ من أرض فلسطين بغور الشام ، وكانوا أهل باديةٍ ، وإبل ، وشاء ، فقال لهم يعقوب : بلغنِي أنَّ بمصرَ مَلِكاً صالِحاً يبيعُ الطعامَ فتجهَّزوا ، واذهبُوا؛ لتَشْتَروا منه الطعام ، فقدوا على مصر ، فدخلوا على يوسف ، فعرفهم يوسفُ .
قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما ، ومجاهدٌ : عرفهم بأول ما نظر إليهم ، وهم ما عرفوه ألبتة .
وقال الحسنُك لَمْ يعْرِفهُمْ حتَّى تعرَّفُوا إليه . وكان كلُّ من وصل إلى بابه من البلادِ ، وتفَحَّصَ عنهُم ، وتعرَّف أحوالهم؛ ليعرف هل هُمْ إخوتهُ أمْ لاَ ، فلما وصل إخوة يوسف إلى باب داره تفحص عن أحوالهم فظهر له أنهم إخوته ، وأما كونهم ما عرفوه؛ فلأنه صلوات الله وسلامه عليه أمر حُجَّابُه بأنْ يُوقِفُوهم على البعد وما كان يتكلم معه إلاَّ بالواسطة أيضاً ، فمهابة الملكِ ، وشدةُ الحاجةِ ، توجِبُ كثرة الخوفِ .
وأيضاً : إنما رأوهُ بعد وُفُورِ اللَّحيةِ ، وتغير الزيِّ والهيئةِ؛ لأنَّهم رأوه جالساً على سريرٍ ، وعليه ثيابُ الحرير ، وفي عُنقِهِ طوقٌ من ذهبٍ ، وعلى رأسه تاجٌ من ذهبٍ ، وايضاً نسوا واقعة يُوسفَ؛ لطول المُدَّة ، ويقال : إنَّ من وقْتِ ما ألقوهُ في الجُبِّ إلى هذا الوقت أربعين سنةً ، وكلُّ واحدٍ من هذه الأسباب يَمْنَعُ حصول المعرفةِ لا سيّما عند اجتماعها .
قوله : { وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ } العامة على فتح الجيم وقرىء بكسرها ، وهما لغتان ، فيما يحتاجه الإنسان من زادٍ ومتاعٍ . منه : جِهَاز العرُوس ، وجِهازُ الميت .
قال الليثُ رحمه الله : جَهَّزْتُ القَوْمَ تَجْهِيزاً : إذا تكلَّفت لهُمْ جِهَازهُمْ للسَّفرِ ، وقال : وسمعت أهل البصرة يقولون : الجِهازُ بالكسر .
قال الأزهريُّ : « القراءُ كلُّهم على فتح الجيم ، والكسر لغةٌ ليست بجيدةٍ » .
فصل
قال المفسرون : حمل لكُلِّ واحدٍ منهم بعيراً ، أكرمهم بالنزُولِ وأعطاهم ما احتاجوا إليه؛ فذلك قوله تعالى : { وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائتوني بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ } ولم يقل بأخيكم بالإضافة؛ مبالغة في عدم تعرفه بهم .
ولذلك فرَّقوا بين مررت بغلامك ، وبغلام لك .
فإنَّ الأول يقتضي عرفانك بالغُلامِ ، وأنَّ بينك وبين مُخَاطِبك نوعُ عهدٍ .
والثاني لا يَقْتَضِي ذلك ، وقد تخبرُ عن المعرفةِ إخبار النكرةِ ، فتقول : قال رجلٌ كذا ، وأنت تعرفه؛ لصدقِ إطلاقِ النكرةِ على المعرفةِ .
واعلم أنَّهُ لا بُدَّ من كلامٍ سابقٍ يكون سبباً لعرفان يوسف صلوات الله وسلامه عليه ت [ وطلبه ل ] أخيهم ، وذكروا فيه وجوهاً :
الأول وهو أحسنها : أنَّ عادة يوسف عليه الصلاة والسلام مع الكلِّ أن يعطي كل احدٍ حمل بعيرٍ ، وكان إخوته عشرةً؛ فأعطاهم عشرة أحمال؛ فقالوا : إنَّ لنا أباً شيخاً كبيراً ، وأخاً آخر بقي معه ، وذكروا أنَّ أباهم لاجل كبر سنِّه ، وشدَّة حزنه لم يحضرْ ، وأنَّ أخاهم بقي في خدمةِ أبيه ، فلما ذكروا ذلك قال يوسف : هذا يدلُّ على أنَّ حبَّ أبيكم له أزيدُ من حُبَّه لكم ، وهذا شيءٌ عجيبٌّ! لأنكم مع جمالكم ، وعقلكم ، وأدبكم ، إذا كانت محبةُ أبيكم لذلك الأخ أكثر من محبته لكم ، دل هذا على أن ذلك أعجوبةٌ في العقلِ ، الفضلِ ، والأدبِ ، فائتُونِي به حتى أراهُ .
الثاني : لعلَّهم لما ذكروا أباهم ، قال يوسف : فَلِمَ تركتموه وحيداً فريداً؟ .
قالوا ما تركناه وحيداً بل بقي عنده واحد ، فقال لهم : ولِمَ استخلصه لنفسه؟
لأجل نقصِ في جسده؟ فقالوا : لا بل لأجلِ أنه يُحبُّه أكثر من محبته لسائرِ الأولادِ ، فقال : لما ذكرتم أن أباكم رجلٌ عالمٌ حكيمٌ ، ثم إنه خصَّه بمزيدِ المحبةِ ، وجب أن يكن زائداً عليكم في الفضلِ ، والكمالِ مع أنِّي أراكم فضلاء علماء حكماء؛ فاشتاقت نفسي إلى رؤية ذلك الأخ؛ فائتُونِي بهِ .
الثالث : قال المفسرون : ولما دخَلُوا عليه وكلَّمُوه بالعِبرانيَّةِ ، قال لهم : مَنْ أنتُمْ؟ وما أمركم؟ فإني أنكرتُ شأنكم؟ .
قالوا : قومٌ من أرضِ الشام رعاة ، أصابنا الجَهْد؛ فجِئْنَا نَمْتَارُ ، فقال : لعلكم جِئتُم عُيُونا تنظرون عَوْرَة بلادِي ، قالوا : معَاذ اللهِ! ما نحن بجَواسِيسَ؛ إنما نحنُ إخوةٌ بنو إبٍ واحدٍ ، وهو شيخٌ صدِّيقٌ يقال له يعقوب نَبِيٌّ من أنبياء الله تعالى ؟
قال : كم أنتم؟ قالوا : كُنَّا اثني عشر ، هلك مِنَّا واحدٌ ، وبقي واحدٌ مع الأب؛ يتسلَّى به عن ذلك الولدِ الذي هلك ، ونحن عشرةٌ .
قال : فمن يعلم أنَّش الذي تقولونه حق؟ .
قالوا : أيُّها الملك : إننَّا ببلادٍ لا يعرفنا فيها أحدٌ .
قال : فدعوا بعضكم عندي؛ رهينةً ، وائْتُونِي بأخٍ لكم ، ليبلغ لكم رسالة أبيكم إن كنتم صادقين .
فعند هذا أقرعوا بينهم؛ فأصبت القرعُة شمعون ، وكان أحسنهم رأياً في يُوسُفَ ، فخلفوه عنده .
ثم إنه تعالى حَكَى عنه أنَّه قال : { ألا ترون إني أوفي الكيل } ، أي : أوَفِّيه ، ولا أبخسُه ، وأزيدكم حمل بعيرٍ؛ لأجل أخيكم .
{
وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين } أي : خَيُْ المضيفين؛ لأنه أحسن إنزالهم ، وأحسن ضيافتهم .
قال ابنُ الخطيب رحمه الله : « وهذا الكلامُ يُضعِّفُ ما نُقِل عن المفسرين بأنَّه أتَّهَمَهُم ، ونسبهُم إلى أنَّهم جواسِيسَ ، ولم يشافههم بذلك الكلام فلا يليقُ به أن يقول لهم : { ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين } ، وأيضاً : بعيدٌ من يوسف مع كونه صديقاً ت أن يقول لهم : أتنم جواسيسُ وعيون ، مع أنه يعرف براءتهم عن هذه التُّهمةِ؛ لأن البُهْتَان لا يليق بحال الصديق .
ثم قال : { فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي } ، أي : ليس لكم عندي طعام أكيله لكم ، { وَلاَ تَقْرَبُونِ } أي : لا تقربوا داري وبلادي ، وكانوا في نهاية الحاجةِ إلى الطعام ، وما يمكنهم تحصيله إلاَّ من عنده ، فإذا منعهم من الحضورِ ، كان ذلك نهاية التَّخويف .
قوله : { وَلاَ تَقْرَبُونِ } يتحمل أن تكون « لا » ناهية؛ فيكون { تَقْرَبُونِ } مجزوماً ، ويحتمل أن تكون لا النافية ، وفيها وجهان :
أحدهما : أن يكون داخلاً في حيز الجزاءِ معطوفاً عليه ، فيكون أيضاً مجزوماً على ما تقدم .
والثاني : أنه نفي مستقل معطوفٍ على جزاءِ الشرطِ ، وهو خبرٌ ف يمعنى النَّهي؛ كقوله : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ } [ البقرة : 192 ] .
فصل
لما سَمِعُوا هذا الكلام من يوسف صلوات الله وسلامه عليه { قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ } ، أي : نطلبه ، ونجتهد في أن يرسله معنا ، { وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ } ما امَرْتنَا به ، والغرض من التكريرِ؛ التأكيد .
وقيل : « وإنا لفاعلون » أيْْ : كل ما في وسعنا من هذا الباب .
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)
قوله تعالى : { لِفِتْيَانِهِ } قرأ الأخوان ، وحفص : « لِفِتْيَانهِ » ، والباقون : « لِفِتْيَتهِ » قال أبو عليِّ الفارسيُّ رحمه الله : « الفِتْيَان جمعُ كثرة ، والفِتْيَةُ : جمعُ قلَّةٍ ، فالتكثير بالنسبة إلى المأمُورينَ ، والقلةُ بالنسبة إلى المُتنَاولينَ ، وفتًى : يجمعُ على فِتيَانٍ ، وفِتْيَة ، وقد تقدَّم هل فِعْلة في الجموع اسم جمعٍ ، أو جمعُ تكسير ، ومثله » أخ « ؛ فإنه جمع على أخوةٍ وإخوان؛ وهما لغتانح بمثل الصِّبيان والصِّبْيَة » .
فصل
اتفق الأكثرون على أنه عليه الصلاة والسلام أمر بوضعِ تلك البضاعة وهي ثمُ طعامهم ، في رحالهم بحيثُ لا يعرفون ذلك .
وقيل : إنَّهم كانوا عارفين به .
وهي ضعيفُ؛ لقوله : { لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } .
وذُكِر في السبب الذي لأجله أمر يوسف بوضع بضاعتهم في رحالهم وجوهاً :
أولها : أنَّهم إذ فتحُوا المتاع ، فوجدوا بضاعتهم فيهح علموا أنَّ ذلك كرمٌ من يوسف؛ فيبعثهم ذلك على العود إليه .
وثانيها : خاف ألاَّ يكون عندهم غيره؛ لأنَّه زمان قحطٍ .
وثالثها : رأى أنَّ أخذ ثمنِ الطّعامِ من أبيه ، وإخوته شدة حاجتهم إلى الطعام لؤمٌ .
ورابعها : قال الفراء رحمه الله : إنَّهم متى شاهدُوا بضاعتهم في رحالهم؛ فيحسبوا أنَّ وقع سهواً ، وهم أنبياء وأولاد أنبياء؛ فيحملهم ذلك على رد البضاعةِ؛ نفياً للغلطِ ولا يستحلُّون إمساكها .
وخامسها : أراد أن يُحسِنَ إليهم على وجهٍ لا يلحقهم منه عتب ، ولا منَّة .
وسادسها : قال الكلبيُّ : تخوَّف ألاَّ يكون عند أبيه من الورقِ ما يرجعون به مرة أخرى .
وسابعها : أنَّ مقصودهُ أن يعرفوا أنَّه لم يطلب أخاهم؛ لأجل الإيذاء والظلم؛ وإلا لطلب زيادةَ في الثمَّنِ .
وثامنها : أن يعرف أباه أنه أكرمهم ، وطلبهم بعد الإكرام؛ فلا يثقلُ على أبيه إرسالُ أخيه .
وتاسعها : أراد أن يكون ذلك المالُ معونةً لهم على شدَّة الزمن وكان يخافُ اللصوص من قطع الطَّريق ، فوضع الدَّراهم في رحالهم؛ حتى تبقى مخفية إلى أن يصلوا إلى أبيهم .
وعاشرها : أنه قالب مبالغتهم في الإساءة مبالغة في الإحسان إليهم .
وقوله : { يَرْجِعُونَ } يحتمل أن يكون متعدٍّياً ، وحذف مفعوله ، أي : يرجعون البضاعة؛ لأنه عرف دينهم ذلك ، وأن يكون قاصراً بمعنى يرجعون إلينا .
قوله تعالى : { فَلَمَّا رَجِعُوا إلى أَبِيهِمْ قَالُواْ ياأبانا مُنِعَ مِنَّا الكيل } فيه قولان :
أحدهما : أنَّهُم لما طلبوا الطعام لأبيهم وللأخ الباقي عند أبيهم ، منعوا منه .
والثاني : أنَّه منع الكيل في المستقبلِ ، وهو قول يوسف : { فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ } [ يوسف : 60 ] ، قال الحسنُ رحمه الله : معناه : يمنعُ منَّا الكيل إنْ لم نحمل أخانا معنا ، وهذا أولى؛ لأنه لم يمنعهُم الكيل؛ بل اكتالَ لهم ، وجهَّزهم ، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى : { فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ } ، والمراد بالكَيْلِ : الطعامُ؛ لأنه يكالُ .
قوله : « نَكْتَلْ » قرأ الأخوان : بالياءِ من تحتُ ، أي : يَكِيلُ أخونا .
والباقون بالنون ، أي : نَكِيلُ نحنُ ، وهو الطعامُ ، وهو مجزومٌ على جواب الأمرِ .
ويحكى أنَّه جرى بحضرةِ المتوكِّل ، أو وزيره ابن الزَّيات : بين المازنِيّ ، وابنِ السِّكيت مسألةٌ ، وهي : ما وزنُ « نَكْتَل » ؟ فقال يعقوبُ : نَفْتَل ، فَسَخِرَ بِهِ المازني وقال : إنَّما وزنُها نَفْتَعِل .
قال شهابُ الدِّين رحمه الله : « وهذا ليس بخطأح لأنَّ التَّصريفيين نصُّوا على أنَّه إذا كان في الكلمةِ حذفٌ أو قلبٌ حذفت في الزنة ، وقلبت ، فتقول في وزن : قُمْتُ ، وبعِْتُ : فُعْتُ ، وفِعْتُ ، ووزن » عِدَة « » عِلَة « ، وإن شئت أتيتَ بالأصل؛ فعلى هذا لا خطأ في قوله : وزن » نَكْتَلْ « : نَفْتَل؛ لأنه اعتبر اللفظ ، لا الأصل ، ورأيت في بعض الكتب أنَّ وزنها : » نَفْعَل « بالعينِ ، وهذا خطأٌ محضٌ ، على أنَّ الظاهر من أمر يعقوب أنه لم يتقنْ هذا ، ولو أتقنه لقال : وزنه على الأصل كذا ، وعلى اللفظ كذا ، ولذلك أنحى عليه المازنيُّ ، فلم يرد عليه بشيء » .
ثم قال سبحانه وتعالى : { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ضمنوا كونهم حافظين له : لما قالوا ذلك ، قال يعقوب عليه الصلاة والسلام { هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ } والمعنى : أنكم ذكرتم مثل هذا الكلام في يوسف ، وضمنتم لي حفظه حيث قلت : { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } وهاهنا ذكرتم هذا اللفظ بعينه ، فهل يكون هاهنا إلا ما كان هناك ، فكما لا يحصل الأمانُ هناك لا يحصلُ هنا .
قوله : { إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ } منصوبٌ على نعتِ مصدرٍ حذوفٍ ، أو على الحال منه إي : إلاَّ أئتماناً كائتمانه لكم على أخيه ، شبه ائتمانه لهم على هذه بائتمانه لهم على ذلك ، و « مِن قَبْلُ » متعلق ب « أمِنْتُكمْ » .
قال : { فالله خَيْرٌ حَافِظاً } ، قرأ الأخوان ، وحفص « حَافِظاً » وفيه وجهان :
أظهرهما : أنه تمييزٌ؛ كقوله : هو خيْرهُمْ رجُلاً ، واللهِ دَرُّهُ فَارِساً .
قال أبُو البقاءِ : « ومثلُ هذا يجُوزُ إضافته » وقد قرأ بذلك الأعمشُ : فاللهُ خيرُ حافظٍ « والله تعالى متَّصفٌ بأن حفظهُ يزيدُ على حفظِ غيره؛ كقولك : هُوَ أفضلُ عالمٍ
والثاني : أنه حالٌ ذَكَر ذلك الزمخشريُّ وأبُوا البقاءِ ، وغيرهما .
قال أبو حيَّان : وقد نقله عن الزمخشري وحده : » وليس بجيِّدٍ؛ لأنَّ فيه تقييدَ خيرٍ بهذه الحال « .
قال شهابُ الدِّين : » ولا محذُور ، فإنَّ هذه الحال لازمةٌ؛ لأنَّها مؤكدةٌ لا مبينةٌ وليس هذا بأول حال وردتْ لازمةً « .
وقرأ الباقون » حِفْظاً « ولم يجيزُوا فيهاغير التَّمييزِ؛ لأنَّهم لو جعلوها حالاً ، لكانت من صفة ما يصدقُ عليه » خَيْرٌ « ولا يصدقُ ذلك على ما يصدق عليه » خَيْرٌ « ؛ لأن الحفظ معنى من المعاني .
ومن يتأولُ : « زَيْدٌ عَدْلٌ » على المبالغةِ أو على حذفِ مضافٍ ، أو على وقوع المصدر موقع الوصفِ يجيزُ في « حِفْظاً » أيضاً الحاليَّة بالتأويلاتِ المذكورة ، وفيه تعسُّفٌ
وقرأ أبو هريرة : « خَيْر الحَافظينَ » ، وأرْحَمُ الرَّاحِمينَ « قيل : معناهُ : وثِقْتُ بكم في حفظِ يوسف ، فكان ما كان ، والآن أتوكَّلُ على الله في حفظ بِنيَامِينَ .
فإن قيل : لِمَ بعثه معهم وقد شاهد ما شاهد؟ .
فالجوابُ من وجوهٍ :
الأول : أنهم كبروا ، ومالُوا إلى الخبرِ والصَّلاحِ .
والثاني : أنه كان يشَاهِدُ أنَّه ليس بينهم و بين بنيامين من الحسدِ ، والحقدِ مثل ما كان بينهم وبين يوسف عليه السلام .
والثالث : أن ضرورة القَحْطِ أحوجتُه إلى ذلك .
الرابع : لعلَّه تعالى أوحى إليه ، ضمن له فحظه ، وإيصاله إليه ، فإن قيل : هل يدلُّ قوله : { فالله خَيْرٌ حَافِظاً } على أنَّه أذن في ذهاب بنياميَنَ في ذلك الوقت .
فقال الأكثرون : يدلُّ عليه . وقال آخرون : لا يدل عليه ، وفيه وجهان :
الأول : أنَّ التقدير : أنَّه لو أذن في خُروجهِ معهم ، لكان في حفظِ اللهِ تعالى لا في حفظهم .
الثاني : لما ذكر يُوسف صلوات الله وسلامه عليه قال : { فالله خَيْرٌ حَافِظاً } أي ليُوسُفَ؛ لأنه كان يعلم أنه حيٍّ .
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
قوله تعالى : { وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ } الآية : المتاعُ : ما يصلح لأن يُستمتع به ، وهو عامًّ في كلِّ ما يُسْتَمْتعُ به ، والمراد به ههنا : الطعامُ الذي حملوه ، ويجوز أن يرادُ به أوعيةُ الطعام ، { وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ } ، ثمن البضاعة .
{
رُدَّتْ إِلَيْهِمْ } ؛ قرأ الأكثرون بضمِّ الراء ، وقرأ علقمة ويحيى ، والأعمش : « رِدَّتْ » بكسر الرَّاءِ ، على نقل حركة الدَّال المدغمةِ إلى الراء بعد توهُّم خلوها من حركتها ، وهي لغةُ بني ضبَّة .
على أنَّ قطرُباً حكى عن العرب : نقل حركةِ العين إلى الفاء في الصحيح؛ فيقولون : ضِرْبُ زَيْد ، بمعنى : ضُرِبَ زيد ، و قد تقدم ذلك في قوله : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ } [ الأنعام : 28 ] في الأنعام .
قوله : « مَا نَبْغِي » في « مَا » هذه وجهان :
أظهرهما : أنها استفهاميةٌ ، فهي مفعولٌ مقدمٌ ، واجبُ التقديم؛ لأن لها صدر الكلام ، أي : أيَّ شيء نبغِي ، أعطانا الطعام على أحسنِ الوجوه ، فأي شيء نبغي وراء ذلك .
والثاني : أن تكون نافية ولها معنيان :
أحدهما : قال الزجاج رحمه الله : ما بقي لنا ما نطلبُ ، أي : بلغَ الإكرامُ إلى غايةٍ ، ما نَبْغِي وراءها شيئاً آخر . وقيل : المعنى أنَّه ردَّ بضاعتنا إلنا ، فنحن لا نَبْغِي عند رجوعنا إليه بضاعة أخرى ، فإنَّ هذه التي معنا كافية لنا .
والثاني : ما نَبْغِي ، من البَغْيِ ، أي : ما أفْتريْنا ، ولا كذبنا على هذا الملك في إكرامهِ وإحسانه .
قال الزمخشريُّ : « ما نَبْغِي في القولِ ، ومانتزيَّد فيما وصفنا لك من إحسانِ الملكِ » .
وأثبت القرأء هذه الياء في « نَبْغِي » وصلاً ووقفاً ، ولم يجعلوها من الزَّوائد ، بخلاف التي في الكهفِ ، في قوله عزَّ وجلَّ : { ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ } [ الكهف : 64 ] ، والفرقُ أنَّ « ما » هناك موصولةٌ ، فحذف عائدها ، والحذف يؤنس بالحذف .
وهذه عبارةٌ مستفيضة عند أهلِ هذه الصناعة؛ يقولون : التغييرُ يُؤنسُ بالتغيير ، بخلافها هنا ، فإنها : إما إستفهاميةٌ ، وإما نافيةٌ ، ولا حذف على القولين حتى يؤنس بالحذفِ .
وقرأ عبدالله ، وأبو حيوة ، وروتها عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم : « ما تَبْغِي » بالخطاب و « مَا » تحتملُ الوجهين أيضاً في هذه القراءةِ ، والجملة من قوله : « هَذِه بِضَاعَتُنَا » يحتملُ أن تكون مفسرةً لقولهم « مَا نَبْغِي » وأن تكون مستأنفة .
قوله « ونميرُ » معطوفةٌ على الجملة الاسميةِ ، وإذا كانت « مَا » نافية جاز أن تعطف على « نَبْغِي » فيكون عطف جملة فعلية على مثلها .
وقرأت عائشة ، وأبو عبد الرحمن رضي الله عنهما « ونُمِيرُ » من أمارهُ إذا جعل لَهُ المِيرَة ، يقال : مَارَهُ يَمِيرهُ ، وأمَارَهُ يُمِيرُه ، والمِيرَةُ : جَلْبُ الخَيْرِ؛ قال : [ الوافر ]
3118
بَعَثْتُكَ مَائراً فَمَكثْتَ حَوْلاً ... مَتَى يَأتِي غِيَاثُكَ مَنْ تُغِيثُ
والبعير لغة يقع على الذكر خاصة ، وأطلقه بعضهم على الناقةِ أيضاً وجعلهُ نظير « إنْسَانٍ » ويجوز كسر بائه إتباعاً لعينه ، ويجمع في القلَّة على أبعرة ، وفي الكثرة على بعران .
والمعنى : ونزدادُ كيل بعيرٍ بسبب حُضُور أخينا؛ لأنه كان يكيلُ لكل رجلٍ حمل بعير .
ثم قال : { ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ } قال مقاتل رحمه الله : ذلك كيلٌ يسير على هذا الرجل المحسن ، وحرصه على البذل ، وهو اختيار الزجاج .
وقيل : { ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ } ، أي قصير المدة ليس سبيل مثله أن تطول مدته بسبب الحَبْسِ والتَّأخير . وقيل : ذلك الذي يدفع إلينا بدُون أخينا شيئاً يسيراً قليلاً ، لا يكفينا وأهلنا؛ فابعثْ أخانا معنا؛ لكي يكثر ما نأخذه .
وقال مجاهدٌ : البعِيرُ ههنا الحمارُ ، « كَيْلُ بعيرٍ » أي : حِمْلُ حمار ، وهي لغة ، يقال للحَمير بَعِير ، وهم كانوا أصحاب حُمُر ، والأول أصحُّ؛ بأنه البعيرُ المعروف .
قوله تعالى : { قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ الله } الآية .
الموْثِق : مصدر بمعنى الثقةِ ، ومعناه : العَهْدُ الذي يُوثق به ، فهو مصدرٌ بمعنى المفعول ، يقول : لن أرسله معكم حتى تعطوني عهداً يوثقُ به
وقوله « مِنْ اللهِ » أيك عهداً موثوقاً به؛ بسبب تأكد الشهادة من الله ، أو بسببِ القسمِ بالله عليه .
والمَوْثِقُ : العهدُ المؤكَّد بالقسم ، وقيل : المؤكَّد بإشهادِ الله على نفسه .
قوله : { لَتَأْتُنَّنِي بِهِ } هذا جوابٌ للقسم المضمر في قوله « مَوْثِقاً » ؛ لأنَّ معناه حتى تحلفوا لي لتأتنني به .
قوله { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } في هذا الإستثناء أوجه :
أحدها : أنه منقطع ، قاله أبو البقاء . يعني فيكون تقدير الكلام : لكن إذا أحيط بكم خرجتم من عتبي ، وغضبي عليكم إن لم تَأتُوني به؛ لوضوحِ عُذْركُم .
والثاني : أنه متصلٌ ، وهو استثناء من المفعول له العام . قال الزمخشريُّ : « فإن قلت : أخبرني عن حقيقة هذا الاستثناءِ ، ففيه إشكالٌ . ؟ قلتُ : » أنْ يُحاطَ بِكُمْ « معفولٌ له ، والكلام المثبت ، الذي هو قوله » لتَأتُنَّنِي بهِ « في معنى النَّفي ، معناه : لا تَمْتنِعُون من الإتيان به؛ إلا للإحاطة بكم ، أو لا تمتنعون منه لعلةٍ واحدة وهي { أَن يُحَاطَ بِكُمْ } فهو استثناءُ من أعمِّ العامِّ في المفعول له ، والاستثناءُ من أعم العام لا يكونُ إلا في النفي وحده؛ فلا بُدَّ من تأويله بالنَّفي ، ونظيره في الإثبات المتأول بالنفي بمعنى النفي قولهم : أقْسَمْتُ باللهِ لما فعَلتَ وإلاَّ فعلتَ بزَيْدٍ يريد ما أطلب منك إلاًَّ الفعل » . ولوضوح هذا الوجه لم يذكره غيرهُ .
الثالث : أنه مستثنى من أعمَّ العام من الأحوال قال أبو البقاء : تقديرهك لتَأتُنَّنِي به على كلِّ حالٍ ، إلا في حالٍ ، إلا في حالِ الإحاطةِ بكم .
قال شهابُ الدِّين : « قد نصُّوا على أنَّ أنْ الناصبة للفعلِ ، لا تقعُ موقع الحال وإن كانت مُؤولةً بمصدرٍ ، يجوز أن تقع موقع الحالِ؛ لأنهم لم يَغتَفِرُوا في المؤولِ ما يَغْتفرونه في الصَّريح ، فيجيزون : جِئْتُك رَكْضاً ، ولا يجيزون : جِئْتُكَ أن أرْكُض وإنْ كانا في تأويله » .
الرابع : أنُّه مسثنى من أعمَّ العامِّ في الأزمان ، والتقدير : لتَأتُنَّنِي به في كل وقتٍ إلا في وقت الإحاطة بكم ، وقد تقدم [ البقرة : 258 ] الخلافُ في هذه المسألة ، وأنَّ أبا الفتح أجاز ذلك كما يجوزه في المصدر الصريح ، فكما تقول : « آتيك صِيَاحَ الدِّيك » يجوز أن تقول : آتيك أنْ يَصِيحَ الدِّيكُ ، جعل من ذلك قول تأبَّط شرًّا : [ الطويل ]
3119
وقَالُوا لهَا : لا تَنْكِحِيهِ فإنَّهُ ... لأوَّلِ نَصْلٍ أنْ يُلاقِيَ مَجْمَعَا
وقول أبِي ذُؤيبٍ الهُذليِّ : [ الطويل ]
3120
وتَاللهِ مَا إنْ شَهْلَةٌ أمُّ واحدٍ ... بأوْجَدَ مِنِّي أنْ يُهانَ صَغِيرُهَا
قال : تقديره : وقت ملاقاته الجمع ، ووقت إهانة صغيرها .
قال أبو حيَّان : « فعلى ما قاله يجوز تخريج الآية ، ويبقى { لَتَأْتُنَّنِي بِهِ } على ظاهره من الإثبات » .
قال شهابُ الدِّين رحمه الله : « الظَّاهر من هذا أنه استثناء مفرغ ، ومتى كان مُفرغاً وجب تأويله بالنفي » .
ومنع ابن الأنباري ذلك في « إنْ » وفي « مَا » أيضاً ، قال : « فيجوزُ أن تقول : خُروجُنَا صِيَاح الدِّيك ، ولا يجوز : خُرُوجنَا أن يَصِيحَ الدِّيكُ ، أوْ مَا يَصِيح الديك . فاغتفر في الصريح ما لم يغتفر في المؤوَّل ، وهذا قياسُ ما تقدم في منع وقوع أن وما في حيِّزها موقع الحالِ ، ولك أن تفرق بينهما بأنَّ الحال تلزم التنكير ، و » أنْ « وما في حيزها نصُّوا على أنها في رتبة المضمر في التعريف ، وذلك يغني عن وُقُوعِهَا موقع الحال ، بخلاف الظَّرف ، فإنه لا يشترط تنكيره ، فلا يمتنع وقوعُ » أنْ « وما في حيزها موقعه » .
فصل
قال الواحيُّ : للمفرسين في الإحاطةِ قولان :
الأول : معناه الهلاكُ . قال مجاهد : إلاَّ أن تموتوا كلكم فيكمون ذلك عذراً عندي ، والعرب تقول : أحيط بفلانٍ إذا قرب هلاكه .
قال الزمخشري : قال تعالى : { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } [ الكهف : 42 ] أي أصالبه ما أهلكه ، وقال تعالى : { وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ } [ يونس : 22 ] ، وأصله؛ أنَّ من أحاط به العدوُّ ، وانسدت عليه مسالكُ النجاةِ ، ودنا هلاكه؛ فقد أحيط به
والثاني : قال قتادة : ومعناه إلاَّ أن تَصِيرُوا مَغلُوبِين مَقْهُورين ، لا تقدرون على الرجوع .
{
فلما ءاتوه موثقهم } ، أي : أعطوه عهدهم . قال يعقوب صلوات الله وسلامه عليه { الله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } أي : شهيدٌ بمعنى شاهدٍ .
وقيل : حافظاً ، أي : أنه موكلٌ إليه هذا العهد فإن وفيتم به ، جازاكم خير الجزاءِ ، وإن غدرتم به ، كافأكم بأعظم العقوبات .
قوله تعالى : { وَقَالَ يابني لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ } الآية ، وذلك أنه كان يخافُ عليهم العين؛ لأنَّهم كانوا أعطوا جمالاً ، وقوة ، وامتداد قامة ، وكانوا ولد رجلٍ واحد ، فأمرهم أن يتفرَّقُوا في دخولها؛ لئلا يصابوا بالعين ، فإن العين حقٌّ ، ويدل عليه وجوه :
الأول : رُويَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يعوِّذُ الحسن فيقول :
«
أعُودُ بِكلمَاتِ اللهِ التّامةِ من كُلِّ شيْطَانٍ وهَامَّةٍ ، و من كُلِّ عَْنٍ لامَّةٍ » .
ويقول : هكذا يُعوذُ إبراهيم إسماعيل وإسحاق صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
ورُوِيَ عن عبادة بن الصَّامت رضي الله عنه قال : « دَخَلْتُ على رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في أوَّلِ النَّهارِ فَرَأيْتهُ شَديدَ الوَجع ، ثُمَّ عدت إليْهِ آخِرَ النَّهارِ فوَجَدتهُ مُعَافى ، فقال : » إنَّ جِبْريلَ عليه الصلاة والسلام أتَانِي فرقَانِي ، فقال : بسمِ اللهِ أرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيءٍ يُؤذِيكَ ، ومِنْ كُلِّ عَيْنٍ وحَاسدٍ اللهُ يَشْفِيكَ ، قال صلواتُ اللهِ وسلامُه عليْهِ فأفَقْتُ « .
»
وأتِيَ بابْنَي جَعْفَرٍ رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا غلماناً بيضاً ، فقيل : يا رسول الله « إنَّ العيْنَ تسرعُ إليْهِمَا ، أفأسْتَرقِي لهُمَا مِنَ العيْنِ ، فقال صلوات الله وسلامه عليه : نَعَم » .
«
ودخل رسول الله بيت أم سلمة رضي الله عنهما وعندها صَبِيٌّ يَشْتَكِي فقَالُوا يَا رَسُول اللهِ : أصَابَتْهُ العَيْنُ ، فقال صلى الله عليه وسلم : » ألا تَسْتَرقُونَ لَهُ مِنَ العَيْنِ « .
وقال صلى الله عليه وسلم : » العَيْنُ حقٌّ ولوْ كَانَ شَيءٌ يَسْبِقُ القَدرَ لسَبقَتِ العيْنُ القدرَ « .
وجاء في الأثرِ : » إن العين تُدخِلْ الرَّجُلَ القبر والجَمَل القِدْرَ « .
وقالت عائشة رضي الله عنهما : » كَانَ يَأمرُ العَائِنَ أنْ يَتوضَّأ ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ المَعِينُ الذي أصيبَ بالعَيْنِ « .
والذين أثبتُوا العين قالوا : إنه يبدو من العَيْنِ أجزاءُ ، فتتصل بالشيء المستحسن؛ فتُؤثِّر ، وتسري فيه ، كما يؤثر السُّم النار ، والنصوصُ النبويةُ نطقت به ، والتجاربُ من الزمن القديم ساعدت عليه .
وروى الزمخشري في كتاب » ربيع الأبْرارِ « ، قال الجاحظُ : علماءُ الفرس ، والهندِ ، وأطباءُ اليونانيين ، ودهاةُ العرب ، وأهل التجربة من نازلة الأمصار ، وحذَّاق المتكلمين ، يكرهُون الأكل بني يدي السٍّباع؛ يَخافُونَ عُيُونها؛ لِمَا فيها من النَّهم ، والشَّره ، ولما ينحلُّ عند ذلك من أجوافها من البخار الرَّديءِ ، وينفصل من عيونها إذا خالط الإنسان نقصه وأفسده ، وكانوا يكرهون قيام الخدم بالباب والأشربة على رُءُوسهِم مخافة العين ، وكانوا يأمرون بإشباعهم قبل أن يأكلوا ، وكانوا يقولون في الكلب السِّنورِ : إمَّا أن يطرد ، وإمَّا أن يشغل بما يطرح له ، قال : ونظيره : أن الرجل يضربُ الحية بعصاً؛ فيموتُ الضاربُ؛ لأنَّ السُّمَّ فصل من الحيةِ ، فسرى فيه حتى داخله ، ويديم الإنسانُ النظر إلى العين المحمرة؛ فيعتري عينه حمرة .
وعن الأصمعيِّ رحمه الله : أنَّ عَيُوناً كان يقول : إذا رأت الشَّيْ يعجبني ، وجدتُ حرارة تخرج من عيني .
وعنه : كان عندنا عيَّانان ، فمرَّ أحدهما بحوض من حجارةٍ ، فقال : بالله ، ما رأيت كاليوم مثله ، فانصدع فلقتين ، فصُبَّ ، فمرَّ عليه فقال : رأيتك تقل ما خزرت أهْلَكَ فيكَ ، فتَطَايَرَ أرْبعاً .
وسمع آخرُ صوت بولِ من وراء جدار فقال : إنَّك تراني كثير الشَّخب جيِّد البول ، قالوا : هذا آتيك ، قال : وانقطاع ظهراهُ ، فقيل : لا بأس فقال : لا يبولُ بعدها أبداً ، فما بال حتَّى مات .
وسمع صوت شخب بقرة فأعجبه ، فقال : أيتهُنَّ هذه ، فواروا بأخرى عنها؛ فهلكتا جميعاً ، المُورَى بها ، والمُورَى عنها .
والمنقولاتُ في هذا كثيرة؛ فثبت أنَّ الإصابة بالعين حقٌّ ، لا يمكن إنكارهُ .
قال القرطبيُّ : وإذا كان هذا معنى الآيةِ؛ فكيون فيها دليلٌ على التَّحرُّزِ من العين ، وواجب على كل مسلم إذا أعجبه شيء أن يبرك ، فإنه إذا دعا بالبركة صرف المحذور لا محالة ، ألا ترى لقوله صلوات الله وسلامه عليه : « ألاَ برَّكْتَ » فدلَّ على أنَّ العين لا تضرُّ ، ولا تعدوا إذا برَّك العَائِنُ ، وأنها إنَّما تعدو؛ إذا لم يبرك ، والتَّبْرِيكُ أن يقول : « تَبارَك اللهُ أحْسَنُ الخَالقينَ ، اللَّهُمَّ بَارِك فِيهِ » وإذا أصاب العائن بعينه؛ فإنَّه يُؤمَرُ بالاغتِسَالِ ، ويجبرُ على ذلك إن أبى؛ لأنَّ الأمر للوجوب ، ولا سيِّما هنا ، فإنَّه يخاف على المعين الهلاك ، ولا ينبغي لأحدٍ أن يمنع أخاهُ ما ينتفع به ، ولا يضرهُ هو ، ولا سيما غذا كان بسببه ، كان الجاني عليه .
قال القرطبيُّ : « مَنْ عُرِفَ بالإصاَبَةِ بالعيْنِ مُنِعَ مِنْ مُداخَلةِ النَّاس دفعاً للضَّرُورةِ » .
وقال بعضُ العلماءِ : يأَمره الإمامُ بلزوم بيته ، وإن كان فقيراً رزقه ما يقوم بهِ ، ويكفّ أذاه عن الناس .
وقيل : يُنفَى . والَّذي ورد في الحديث أنَّهُ لم ينفِ العَائن ، ولا أمره بِلزُومِ بيته ولا حبسه ، بل قالوا : يكونُ الرَّجُل الصَّالحُ عائناً ، وأنه لا يقدحُ فيه ، ولا يفسَّقُ به ومن قال : يحبس ، ويؤمر بلزوم بيته؛ فذلك للاحتياط ، ودفع ضرره .
قال الجبائيُّ : إنَّ أبناء يعقوب اشتهروا ، وتحدَّث النَّاسُ بهم ، وبحسنهم ، وكمالهم فقال : « لا تَدْخُلُوا » تلك المدينة « مِنْ بابِ واحدٍ » على ما أنتم عليه من العددِ ، والهيئة ، ولم يأمن عليهم حسد النَّاس ، أو قالك لم يأمن عليهم أن يخافهم الملك على ملكه ، فحيبسهم .
وهذا وجهٌ محتملٌ لا إنكار فيه إلاَّ أنَّ القول الأوَّل أولى؛ لأنَّه لا امتناع فيه بحسب العقلِ ، والعرف كما بيَّنا ، والمتقدِّمُون من المفسرين أطبقوا عليه ، فوجب المصيرُ إليه .
ونقل عن الحسنِ أنه قال : خاف عليهم العين ، فقال : { لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ } ثُمَّ رجع إلى علمه ، فقال : { وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ } ، وعرف أن العين ليست بشيء .
وكان قتادة يفسِّر الآية بإصابة العين ، ويقول : ليس في قوله : { وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ } إبطال له؛ لأن العين ، وإن صحّ فاللهُ قادر على دفع أثره .
وقال النَّخعيُّ : كان عالماً بأنَّ مالك مصر هو ولده يوسف إلاَّ أنَّ الله تبارك وتعالى ما أذن لهُ في إظهار ذلك ، فلمَّا بعث أولاده إليه ، وقال : { لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ } ، وكان غرضه أن يصل بنيامني إلى يوسف في وقت الخلوة ، وقوله : { وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ } فالإنسان مأمورٌ بأن يراعي الأسباب المُعتبرة في هذا العالم ، ومأمورٌ بأن يجزم بأنَّه لا يصل إليه إلاَّ ما قدره الله تعالى وأنَّ الحذر لا يُنْجِي من القدرِ ، فإنَّ الإنسان مأور بالحَذرِ عن الأشياءِ المُهلكةِ ، والأغذيةِ الضَّارةِ ، وبالسَّعي في تحصيل المنافع ، ودفع المضار بقدر الإمكان ، ثمَّ مع ذلك ينبغي أن يكن جازماً بأنَّه لا يصل إليه إلاَّ ما قدره الله ولا يحصل في الوجود إلاَّ ما أراد اللهُ ، فقوله عليه الصلاة والسلام { لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ } إشارة إلى رعاية الأسباب المعتبرة في هذا العالم ، وقوله { وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ } إشارة إلى عدم الالتفات إلى الأسباب وإلى الالتفات إلى التَّوحيدِ المحض ، والبراءة عن كُلِّ شيءٍ سوى الله تعالى .
فإن قيل : كيف السَّبيلُ إلى الجمعِ بين هذه القولين؟ .
فالجوابُ : أنَّ هذا السُّؤال غير مختصٍّ به ، فإنه لا نزاع في أنَّه لا بدَّ من إقامة الطَّاعات والاحْترازِ من السَّيئاتِ ، مع أنَّا نعتقدُ أنَّ السَّعيدَ من سعد في بطن أمه ، والشَّقي من شَقِيَ في بطن أمِّه ، فكذ هاهنا .
وأيضاً : نأكلُ ، ونشربُ ، ونحترزُ عن السموم ، وعن الدُّخولِ في النَّار ، مع أنَّ الموت والحياة لا يحصلان إلا بتقدير الله سبحانه وتعالى ، فكذا ههنا ، فظهر أنَّ السؤال ليس مختصًّا بهذا المقام ، بل هو بحثٌُ عن سرٍّ مسألة الخيرِ ، والشرِّ .
والحقُّ أن العبد يجبُ عليه أن يسعى بأقصى الجهد ، والقدرة ، وبعد السَّعي البليغ ، يعلم أنَّ كل ما يدخل في الوجود لا بُدَّ وأن يكن بمشيئة الله عزَّ وجلَّ وسابق حكمه ، وحكمته .
ثم إنَّهُ تعالى أكَّد هذا المعنى ، فقال : { إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ } ، وهذا من أدلِّ الدَّلائل على صحَّةِ القول بالقضاءِ ، والقدر؛ لأنَّ الحكم عبارة عن الإلزام والمنع ومنه سميت حكمة الدَّابَّة بهذا الاسم؛ لأنَّها تمنع الدَّابَّة من الحركاتِ الفاسدةِ والحكم إنَّما يمسى حكماً؛ لأنه يرجح أحد طرفي الممكنِ على الآخر ، بحيثُ يصيرُ الطَّرفُ « الآخر » ممتنع الحصولِ ، فبيَّن تعالى أنَّ الحكم ليس إلاَّ لله ، وذلك يدلُّ على أنَّ جميع الممكنات ترجع إلى قضائه ، وقدرته ، ومشيئته ، وحكمه إمَّا بواسطةٍ ، أو بغير واسطةٍ ، ولذلك فوَّض يعقوب أمرهُ إلى الله تعالى .
ثم قال : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } اعتمدت : { وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون } ، والمعنى : أنَّهُ لمَّا ثبت أنَّ الكُلَّ من الله تعالى ثبت أنَّهُ لا يتوكل إلاَّ على اللهِ سبحانه وتعالى .
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
قوله تعالى : { وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم } الآية في جواب « لمَّا » هذه ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنَّه الحملة المنفيَّةُ من قوله : { مَّا كَانَ يُغْنِي } ، وفيه حجَّةٌ لمن يدَّعي كون [ لمَّا ] حرفاً لا ظرفاً ، إذ لو كانت ظرفاً لعمل فيها جوابها ، إذْ لا يصلحُ للعمل سواه لكن ما بعد : « مَا » النَّافية لا يعمل فيها قبلها ، ولا يجوز حين قَامَ أبُوكَ مَا قَامَ أخُوكَ ، مع جوازِك لمَّا قَامَ أخُوكَ مَا قَامَ أبُوكَ .
والثاني : أنَّ جوابها محذوف ، فقدَّشره أبو البقاء رحمه الله : امتثلوا وقضوا حاجته ، وإليه نحا ابن عطيِّة أيضاً .
وهو تعسًّفٌ؛ لأَنَّ في الكلام ما هو جوابٌ صريحٌ كما تقدَّم .
والثالث : أنَّ الجواب هو قوله : « آوَى » قال أبو البقاء : « وهو جواب : » لمَّا « الأولى ، والثانية ، كقولك : لمَّا كلَّمْتُكَ أجَبْتَنِي ، وحسَّن ذلك أن دخولهم على يوسف صلوات الله وسلامه عليه تعقب دخولهم من الأبواب . يعنى أنَّ » آوَى « جواب الأولى ، والثانية ، وهو واضحٌ .
فصل
قال المفسرون : لمَّا قال يعقوبُ صلوات الله وسلامه عليه : { وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ } [ يوسف : 67 ] صدَّق الله يعقوب فميا قاله ، أي : وما كان ذلك التَّفيق يغني من الله من شيءٍ .
قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما : ذلك التَّفريق ما كان يرد من قضاء الله تعالى ولا أمراً قدره الله تعالى . وقال الزجاجك لو قدر أن يصيبهم لأصابهم ، و هم مُتفرِّقون كما يصيبهم ، [ وهم مجتمعون ] .
وقال ابنُ الأنباري : لو سبق في علم الله تعالى أنَّ العين تهلكهم عند الاجتماع؛ لكان تفرقهم كاجتماعهم ، وهذه كلمات متقاربة وحاصلها : أنَّ الحذر لا يدفع القدر .
وقوله : » مِنْ شيءٍ « يحتملُ النَّصب بالمفعولية ، والرفع بالفاعلية .
أمَّا الأول فهو كقولك : مَا رأيتُ من أحدٍ ، والتقدير : ما رَأيتُ أحداً ، كذا ههنا ، وتقدير الآية : أن تفرقهم ما كان يغني من قضاء الله شيئاً .
وأما الثَّاني : فكقولك : ما جَاءَنِي من أحدٍ وتقديره : ما جَاءنِي أحدٌ ، فيكون التقدير هنا : ما كان يغني عنهم من الله شيء مع قضائه .
قوله : إلاَّ حَاجةٌ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه استثناء منقطعٌن وتقديره : ولكن حاجة في نفس يعقوب قضاها ، ولم يذكر الزمخشريُّ غيره .
والثاني : أنه مفعولٌ من أجله ، ولم يذكر أبو البقاءِ غيره ، ويكون التقدير : ما كان يغني عنهم بشيء من الأشياء إلاَّ لأجل حاجة كانت في نفس يعقوب عليه السلام ، وفاعل : « يُغْنِي » ضمير التفريق المدلول عليه من الكلام المتقدِّم . وفيما أجازه أبو البقاءِ رحمه الله تعالى نظر من حيث المعنى لا يخفى على مُتأمِّلهِ . و « قَضَاهَا » صفة ل : « حاجة » .
فصل
قال بعضُ المفسرين : من تلك الحَاجةِ : خوفهُ عليهم من إصابةِ العينِ وقيل : خوفه عليهم من حسدِ أهل مصرَ ، وقيل : خوفه عليهم من أن يصيبهم ملكُ مصر بسُوءٍ .
ثم قال : { وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ } قال الواحدي : « مَا » مصدريَّة ، والهاء عائدةٌ إلى يعقوب صلوات الله وسلام عليه أي : وإنَّ يعقوب لذو علم للشيء الذي علمناه ، يعني : أنَّا لما علمناه شيئاً حصل له العلم بذلك الشيء .
والمراد بالعلم : الحفظُ ، أي : وإنه لذو حفظ لماعلمناه . وقيل : المراد بالعلم : العمل ، أي وإنه لذَوا عمل بفوائد ما علمناه .
ثم قال : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } مثل ما علم يعقوب ، لأنهم لم يسلكوا طريق إصابة العلم .
وقيل : لا يعلمون أنَّ يعقوب بهذه الصِّفة .
وقال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما : لا يعلم المشركون ما آلهم الله [ أولياءه ] . فالمراد ب : « أكْثرَ النَّاسِ » المشركون .
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)
قوله تعالى : { وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ } قالوا : هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به قد جئنا به ، فأكرمهم ، وأحسن إليهم ، وأجلس كل اثنين على مائدة ، فبقي بنيامين وحده ، فقال : لو كان أخي يوسف حيًّا لأجلسني معه فقال يوسف : بقي أخوكم وحيداً؛ فأجلسه معه على مائدته؛ فجعل يُؤاكلهُ فلما كان اللَّيل أمر لهم بمثل ذلكح فأمر أن ينزل كل اثنين منهم بيتاً ، وقال : هذا لا ثاني له أخذه معي ، فآواه إليه ، فلمَّا خلا به قال : ما اسمك؟ قال : بنيامين قال : وما بنيامين؟ قال : أبنْ المُيكلِ . وذلك أنَّه لما ولد؛ هلكت أمُّه ، قال : وما اسم أمك ، قال راحيل بن لاوي ، فلمَّا تأسُّفهُ على أخ له هلك ، فقال له أتحبُّ أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال : ومن يجدُ أخاً مثلَك ، ولكنَّك لم يلدك يعقوب ولا راحيلُ ، فَبكَى يوسف صلوات الله وسلامه عليه ، وسار إليه [ وعَانقَهُ ] .
و : { قَالَ إني أَنَاْ أَخُوكَ } قال وهبٌ : لم يُرِدْ أنه أخوه من النَّسب ، وإنَّما أراد به : إني أقُومُ لك مقَامَ أخيك في الإيناس ، لئلا تستوحش بالأنفراد .
والصحيحُ : ما عليه سائرٌ المسِّرين من أنَّهُ أراد تعريف النَّسب؛ لأنَّ ذلك أقوى في إزالة الوحشة ، وحصول الأنس ، والأصل في الكلام الحقيقة .
{
فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } قال أهل اللغة : تَبْتَئِسْ : تَفْتَعِل من البُؤسِ وهو الضَّررُ والشِّدةُ ، والابتِئَاس : اجتِلابُ الحُزْنِ والبُؤسِ .
وقوله : { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } من إقامتهم على حسدنا ، والحرص على انصراف وجه أبينا عنَّا .
وقال ابنُ إسحاق وغيره : « أخبره بأنَّه أخوه حقيقة ، واستكتمه ، وقال لهُ : لا تُبَالِي بكلِّ ما تراه من المكوره في تحيلي في أخذك منهم » .
وعلى هذا التَّأويل يحتمل أن يشير بقوله : { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } إلى ما يعمله فتيان يوسف من أمر السِّقاية ، ونحو ذلك .
وقيل : إنَّ يوسف صلوات الله وسلامه عليه ما بقي في قلبه شيءٌ من العداوةِ وصار صافياً لإخوته؛ فأراد أن يجعل قلب أخيه صافياً معهم أيضاً ، فقال : { فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي : لا تلتفت إلى صنيعهم فيم تقدَّم .
وقيل : إنما فعلوا بيوسف ما فعلوا حسداً لإقبال الأب عليه ، وتخصيصه بمزي الإكرام فخاف بنيامين أن يحسدوه ، بسبب تخصيص الملكِ له بالإكرام ، فآمنه منهم ، وقال ك لا تفتلت إلى ذلك ، فإنَّ الله قد جمع بيني وبينك .
وروى الكلبيُّ عن ابن عبَّاسٍ : رضي الله عنهما أنَّ إخوة يوسف عليه السلام : كانوا يُعيِّرُونَ يوسف ، أخاه بسبب أنَّ جدهما أبا أمَّهما كان يعبدُ الأصنام ، فإنَّ أمَّ يوسف أمرت يوسف بسرقة جونة كانت لأبيها ، فيها أصنام رجاء أن يترك عبادتها ، إذا فقدها ، فقال له : { فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي : من التَّعيير لنا مبما كان عليه جدّنا . اللهُ أعلم .
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
قوله تعالى : { فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السقاية فِي رَحْلِ أَخِيهِ } .
تقدَّم الكلامُ في الجهَازِ . أمَّا قوله : { جَعَلَ السقاي } فالعامة على : « جعلش » بلا واو قبلها ، وقرأ عبدُ الله « وَجَعَلَ » وهي تحتمل وجهين :
أحدهما : أن الجواب محذوفٌ .
والثاني : أنَّ الواو مزيدة في الجواب على رأي الكوفيين ، والأخفش .
قال أبو حيَّان : وقرأ عبدُ الله فيما نقل عن الزمخشري { وجعل السقاية في رحل أخيه } : أمْهَلهُمْ حتّى انطلقوا . { ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ } ، وفي نقل ابنِ عطيَّة : « وَجَعلَ » بزيادة واوٍ في : « جَعَلَ » دون الزيادة التي زادها الزمخشريُّ ، بعد قوله : « في رَحْل أخيهِ » فاحتمل أن تكون الواو زائدة على مذهب الكوفيِّين ، واحتمل أن يكون جواب : « لمَّا » محذوفاً تقديره : فقدها حافظها كما قيل : إنَّما أوحي إلى يوسف بأن يجعل السِّقاية فقطن ثمَّ إنَّ صاحبها فقدها فنادى برأيه فيما ظهر له ، ورجَّحهُ الطبريُّ ، وتفتيتش الأوعية يردُّ هذا القول .
قال شهابُ الدِّين : « لم ينقل الزمخشريُّ هذه الزِّيادة كلها قراءة عن عبدالله ، إنَّما جعل [ الزِّيادة ] المذكورة بعد قوله : » رحْلِ أخِيهِ « تقدير جواب من عنده ، وهذا نصُّه :
قال الزمخشريُّ : » وقرأ ابنُ مسعودٍ : وجَعَلَ السِّقاية « على حذف جواب » لمَّا « كأنه قيل : فلمَّا جهزهم بجهازهم ، وجعل السِّقاية في رحل أخيه؛ أمهلهم حتى انطلقوا ، ثمَّ أذَّن مؤذِّنٌ » فهذا من الزمخشريُّ إنما هو تقدير لا تلاوة منقولة عن عبدالله ، ولعلَّهُ وقع للشَّيخ نسخةٌ سقيمةٌ « .
فصل
قال الزمخشريُّ : » السِّقاية : مَشْربةٌ يُسْقَى بها وهِيَ الصواع « .
قيل : كَانَ يُسْقى بها الملكُ ، ثُمَّ جعلت صاعاً يكالُ به ، وقيل : كانت الدَّوابُّ تسقى بها ، ويُكَالُ بِهَا أيضاً ، وقيل : كانت من فضَّةٍ ، وقيل : كَانتْ من ذهَبٍ ، وقيل : كَانتْ مُرصَّعة بالجَواهرِ .
والأولى أن يقال : كان ذلِكَ الإنَاء شيئاً لهُ قِيمَة ، أمَّا إلى هذا الحدِّ الذي ذكروهُ فَلاً؟
فصل
روي أنَّ يوسف صلوت الله وسلامه عليه قال لأخيه : لا تُعْلِمهُمْ شيئاً ممَّا أعلمتك ، ثمَّ أوفى يوسف لإخوته الكيل ، وحمل لكلِّ واحدٍ بعيراً ، ولبنيامين بعيرٌ باسمه ، ثمَّ أمر بسقاية الملك ، فجعلت في رحل بنيامين .
قال السديُّ رحمه الله : لما قال له يوسف : { إني أَنَاْ أَخُوكَ } [ يوسف : 69 ] قال بنيامني : فأنا لا أفارقك ، فقال له يوسف : قد علمت اغتمام والدي بي ، وإذا أجلستك ، ازداد غمه ولا يمكنني هذا إلاَّ بعد أن أشهرك بأمر فظيع ، وأنسبك إلى ما لا يُحْمدُ ، قال لا أبالي فافعل ما بدا لك؛ فإني لا أفارقك ، قال : فإنِّي أدس صاعي في رحلك ، ثمَّ أنادي عليك بالسِّرقةِ ليتهيأ لي ردّك بعد تسريحك ، قال : فافعل .
فعند ذلك جعل السِّقاية في طعام أخيه بنيامين ، إمَّا بنفسه بحيثُ لم يطِّلعْ عليه أحدٌ ، أو أمر أحداً من بعض خواصه بذلك ، ثمَّ ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتَّى نزلوا منزلاً .
وقيل : حتَّى خرجوا من العمارة ، ثمَّ بعث خلفهم من استوقفهم ، وحبسهم .
{
ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ } نادى منادٍ : { أَيَّتُهَا العير } ، وهي القافلةُ التي فيها الأحمال ، يقال : أذَّن ، أي : أعلمَ .
وفي الفرق بين « أذَّنَ » ، و « آذَنَ » وجهان :
قال ابن الأنباريِّ : « أذن بمعنى أعلم إعلاماً بعد إعلام ، لأنَّ » فعَّل « يوجب تكرير الفعل ، قال : ويجوز أن يكون إعلاماً واحداً ، من قبل أنَّ العرب يجعل فعَّل بمعنى أفعل ، في كثير من المواضع » .
وقال سيبويه : الفرقُ بين أذنتُ وآذنْتُ معناه : أعلمتُ ، لا فرق بينهما والتَّأذينُ معناه : النِّداءُ ، والتَّصويتُ بالإعلام .
{
أَيَّتُهَا العير } منادى حذف منه حرف النِّداء ، والعير مؤنثٌ ، ولذلك أنث أي المتوصل بها إلى ندائه ، والعير فيها قولان :
أحدهما : أنها في الأصل جماعة الإبل ، سُمِّت بذلك؛ لأنها تعير ، أي : تذهب وتجيء به .
والثاني : أنَّها في الأصل قافلة الحمير؛ كأنها جمع عير ، والعِيرُ : الحِمارُ؛ قال الشاعر : [ البسيط ]
3121
ولاَ يُقِيمُ عَلى ضَيْمٍ يُرادُ بِهِ ... إلاَّ الأذَلانِ عَيْرُ الحيِّ والوَتِدُ
وأصلُ « عُيْرٌ » ، بضم العين ، ثمَّ فعل به ما فعل ب « بيض » ، والأصل [ بُيض ] بضم الأول ، ثم أطلق العير على كلِّ قافلة حميرٍ كُنَّ أو غيرها ، وعلى كلِّ فتقدير نسبة النداء إليها على سبيل المجاز؛ لأنَّ المنادى في الحقيقة أهلها ، ونظره الزمخشريُّ بقوله : « يَاخَيْل اللهِ ارْكبِي » ولو التفت لقال : اركَبُوا « . ويجوز أن يعبر عن أهلها بها للمجاورة ، فلا يكون من مجاز الحذف ، بل من مجاز العلاقة ، وتجمعه العرب قاطبةٌ على » عيرات « بفتح الياءِ ، وهذا ممَّا اتُّفق على شذوذِهِ؛ لأن فعلة المعتلة العين حقها في جمعها بالألف والتاء أن تسكن عينها ، نحو : قِيمَة وقِيمَات ، ودِيمَة ودِيمَات ، وكذلك » فِعْل « دون ياء إذا جمع حقه أن تسكن عينه؛ قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
3122
غَشِيتُ دِيَارَ الحيِّ بالبَكرَاتِ ... فعَارِمَةٍ فبُرْقَةِ العِيَراتِ
قال الأعلمُ الشَّنتمَرِيُّ : العِيرَات هنا موضع الأعيار ، وهي الحمر .
قال شهابُ الدِّين : » وفي عِيرَات « شذوذ آخر ، وهو جمعها بالألف ، والتَّاء مع جمعها على أعيار أيضاً جمع تكسيرٍ ، وقد نصُّوا على ذلك ، قيل : ولذلك لحن المتنبي في قوله : [ الطويل ]
3123
إذَا كَانَ بَعَث النَّاسِ سُيْفاً لِدوْلَةٍ ... فَفِي النَّاس بُوقاتٌ لهَا وطُبُولُ
قالوا : فجمع : » بُوقاً « على : » بُوقَات « مع تكسيرهم له على » أبْوَاق « .
وقال أبُو الهيثم : » كلُّ ما يسير عليه من الإبل ، والحمير ، والبغال فهو عير خلافاً لقول من قال : العيِرُ : الإبلُ خاصَّة « .
فإن قيلك هل كان ذلك النداء بأمر يوسف عليه السلام ، أو ماكان بأمره؟ فإن كان بأمره فكيف يليق الرًَّسُول الحق من عند الله أن يتهمهم وينسبهم إلى السرقة كذباً وبهتاناً؟ .
وإنْ لم يكن بأمره ، فهلا أظهر براءتهم عن تلك التُّهمةِ؟ .
فالجواب من وجوه :
الأول : ما تقدَّم من أنَّه صولات الله وسلامه عليه أظهر لأخيه أنَّه يوسف وقال : لا سبيل إلى حبسك هنا إلاَّ بهذه الحيلة ، فرضي أخوهُ بها ، ولم يتألم قلبه .
والثاني : أراد إنكم لسارقون يوسف من أبيه ، والمعاريض لا تكون إلا كذلك .
والثالث : أن [ المؤذن ] إنما نادى مستفهماً .
والرابع : هو الظاهر أنَّهم نادوا من عند أنفسهم؛ لأنهم طلبوا السِّقاية فلم يجدوها ، ما كان هناك غيرهم ، فغلب على ظنهم أنَّهم هم الَّذين أخذوها ، وليس في القرآن أنَّهم نادوا عن أمر يوسف صلوات الله وسلامه عليه .
وقيل : إنَّهم لما كانوا باعوا يوسف استجاز أن يقال لهم هذا ، وأنَّه عوقب على ذلك بأن قالوا : { فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ } [ يوسف : 77 ] .
وقيل : أراد أيتها العيرُ حالكم حال السارق ، والمعنى : إن شيئاً لغيركم صار عندكم ، من غير رضى الملك ، ولا علم له .
وقيل : إنَّ ذلك كان حيلة لاجتماع شمله بأخيه ، وفصله عنهم إليه ، وهذا بناءً على أنَّ بنيامين لم يعلم بدسّ الصَّاع في رحله ، ولا أخبره بنفسه .
وقيل : معنى الكلامِ : الاستهفام ، أي : أو إنكم لسارقون ، كقوله : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ } [ الشعراء : 22 ] والغرضُ ألا يعزى الكذب إلى يوسف .
فإن قيل : كيف رضي بنيامين بالقعود طوعاً ، وفيه عقوق الأب بزيادة الحزن ، ووافقه على ذلك يوسف؟ .
فالجواب : أنَّ الحزن كان قد غلب على يعقوب بحيث لا يؤثِّر فيه فقد بنيامين كل التأثير ، ألا تراهُ لما فقده قال : { يا أسفا على يوسف } ، ولم يعرج على بنيامين ولعلَّ يوسف إنَّما وافقه على القعود بوحي ، فلا اعتراض .
قوله : { وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ } هذه الجملة حاليةٌ من فاعل قالوا أي : قالوا : وقد أقبلوا ، أي : في حال إقبالهم عليهم .
{
مَّاذَا تَفْقِدُونَ } تقدم الكلام على هذه المسألة أوَّل الكتاب .
وقرأ العامة : « تَفْقِدُونَ » بفتح حرف المضارعة؛ لأن المستعمل منه « فَقَدَ » ثلاثياً وقرأ السلميُّ بضمةٍ من أفقدتُّه إذا وجدته مفقوداً كأحمدتهُ وأبخلته ، [ إذا ] وجدته محموداً وبخيلاً .
وضعَّف أبو حاتمٍ هذه القراءة ، ووجهها ما تقدَّم .
قوله : { نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك } « الصَّواعُك هو المِكْيَال ، وهو السِّقاية المتقدِّمة سمَّاه تارة والسِّقايةُ : وصفٌ .
وقيل : » ذُكِّرَ؛ لأَنَّه صاعٌ ، وأنْثَ لأنَّهُ سِقايَة .
والصّواع السّقاية : إناءٌ له رأسان في وسطه مقبض ، كان الملك يشربُ منه من الرَّأسِ الواحدة ويكالُ الطَّعام بالرَّأسِ الآخرِ .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : كلُّ شيء يُشربُ به فهو صُواعٌ؛ وأنشد : [ الخفيف ]
3124
نَشْرَبُ الخَمْرَ بالصُّواعِ جِهَاراً .. .
قيل : إنما كان الطعَّام بالصَّواع مبالغة في إكرامهم .
وقال مجاهدٌ ، وأبو صالح : الصُّواع الطرجهالة بلغة حميرٍ . وإنَّما اتخذ هذا الإناء مكيلاً لعزة ما يكال به في ذلك الوقت . وفيه قراءات كلُّها لغات في ذلك الحرف ، ويُذكِّر ، ويؤنَّث فالعامة : « صُوَاع » بزنة : « غُرَاب » ، العين مهملة ، وقرأ ابن جبير ، والحسن كذلك إلاَّ أنه بالغين المعجمة وقرأ يحيى بن يعمر كذلك؛ إلا أنه حذف الألف ، وسكن الواو ، وقرأ زيد بن عليِّ « صَوْغ » كذلك إلا أنه فتح الصَّاد ، وجعله مصدراً ل : « صَاغَ » يَصُوغُ . والقراءتان [ قبله ] مشتقان منه وهو واقع موقع مفعول . أي : مصوغ الملك .
وقرأ أبو حميرة وابن جبير والحسن رضي الله عنهم في رواية عنهما « صِواعَ » كالعامة إلا أنهم كسروا الفاء . وقرأ أبو هريرة ومجاهد رضي الله عنهما : « صَاع » بزنة بَاب وألفه كألفه في كونها منقلبة عن واو مفتوحة وقرأ أبو رجاء : « صَوْع » بزنة « قَوْس » .
وقرأ عبدالله بن عون كذلك إلا أنه ضم الفاء فهذه ثمان قراءات متواترة وواحدة في الشاذ .
قوله : { وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ } أي من الطعام ، { وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } .
قال مجاهد : الزعيم هو المؤذن الذي أذن ، والزعيم : الكفيل .
قال الكلبيُّ : الزَّعيمُ : هو الكفيل بلسانِ أهل اليمنِ .
روى أبو عبيدة عن الكسائيِّ : زعمْتُ بِهِ أزعُم زُعْماً وزَعَامَةً ، أي : تكفلت به .
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ الكفالة كانت صحيحة في شرعهم ، وقد حكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : « الزَّعيمُ غَارِمٌ » .
فإن قيل : هذه الكفالةُ شيءٌ مجهولٌ؟ .
فالجواب : حمل البعير من الطَّعام كان معلوماً عندهم ، فصحت الكفالةُ به إلاَّ أن هذه الكفالة ما لرد السَّرقة ، وهي كفالةٌ بما لم يجب؛ لأنَّه لا يحلُّ للسَّارقِ أن يأخذ شيئاً على ردّ السِّرقةِ ، ولعلّ مثل هذه الكفالة كانت تصحُّ عندهم .
فصل
قال القطربيُّ : « تجوز الكفالةُ عن الرِّجلُ؛ لأنَّ المؤذن هو الضَّامنُ وهو غير يوسف صلوات الله وسلامه عليه .
قال علماؤنا : إذا قال الرجلُ : تحمَّلتُ ، أو [ تكفلت ] أو ضمِنتُ ، أو أنا حميلٌ لكل أو زعيمٌ ، أو كفيلٌ ، أو ضامنٌ ، أو قبيلٌ ، أو لك عندي ، أو علي ، أو إليّ ، أو قبلي ، فذلك كلُّه [ حَمالةٌ ] لازمةٌ .
واختلفوا فيمن تكفل بالنفس ، أو بالوجه هل يلزمه ضمانُ المالِ » .
فقال الشافعيُّ رضي الله عنه في المشهور عنه ، وأحمد : مَن تكفَّل بالنَّفس لم يلزمه الحقٌّ الذي على المطلوب إن ماتَ .
وقال مالكُ ، والليثُ ، والأوزاعيُّ : إذا تكفل نفسه ، وعليه مال ، فإن لم يأت به غرم المال ، ويرجع به على المطلوب ، فإن اشترط ضمان نفسه ، أو وجهه ، وقال : لا أضمن المال ، فلا شيء عليه من المال « .
فصل
واختلفوا فيما إذا تكفَّل رجلٌ عن رجلٍ بمالٍ ، هل للطالب أن يأخذ من شاء منهما؟ .
فقال الأوزاعيُّ ، والشافعيُّ ، وأحمد ، وإسحاق : يأخذ من شاء منهما ، وهذا كان قولم مالكٍ ، ثمُّ رجع عنه فقال : لا يأخذُ من الكفيل إلاَّ أن يفلس الغريمُ ، أو يغيبُ؛ لأنَّ البداءة بالذي عليه الحق أولى إلاَّ أن يكون معدماً ، فإنَّه يأخذُ من الحميل؛ لأنه معذورٌ في أخذه في هذه الحالةِ ، وهذا قولٌ حسنٌ ، والقياسُ : أنَّ للرَّجُلِ مطالبة من شاء منهما .
وقال ابنُ أبي ليلى : إذا ضمن الرَّجلُ عن صاحبه مالاً؛ تحوَّل على الكفيل ، وبرىء الأصيل ، إلاَّ أن يشترط المكفول له عليهما أن يأخذ من أيهما شاء .
قوله « تاللهِ » التاء حرف قسم ، وهي عند الجمهور بدل من واو القسم ولذلك لا تدخل إلاَّ على الجلالة المعظمة ، أو الرب مضافاً للكعبة ، أو الرحمن في قول ضعيف ، ولو قلت : تالرحْمن « لم يجز ، وهي فرعُ الفرعِ . وهذا مذهب الجمهور .
وزعم السيهليُّ : أنهَّا أصلٌ بنفسها ، ويلازمها التَّعجب غالباً كقوله : ( تالله تفتأ تذكر يوسف ) .
وقال ابنُ عطيَّة : » والتَّاء في « تَاللهِ » بدلٌ من واو ، كما أبدلت في تراثٍ ، وفي التَّوراةِ ، وفي التخمة ، ولا تدخلُ التَّاء في القسم ، إلاَّ في المكتوبة ، من بين أسماء الله تعالى وغير ذلك لا تقول تالرحمنِ ، وتَا الرَّحيم « انتهى وقد تقدَّم أنَّ السُّهيليَّ خالف في كونها بدلاً من واوٍ .
وأمَّا قوله : » في التَّوراةِ « يريد عند البصريين ، وزعم بعضهم أنَّ التَّاء فيها زائدةٌ ، وأمَّا قوله » إلا في المكتُوبَةٍ « هذا هُوا المشهور ، وقد تقدَّم دخولها على غير ذلك .
قوله : » مَا جِئْنَا « يجوز أن يكون معلقاً للعلم ، ويجوز أن يضمن العلم نفسه معنى القسم فيجاب بما يجاب به القسم ، وقيل هذان القولان في قول الشاعر : [ الكامل ]
3125
ولقَدْ عَلمْتُ لتأتِينَّ مَنيِّتِي ... إنَّ المَنايَا لا تَطِيشُ سِهَامُهَا
قوله { وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ } يحتمل أن يكون جواباً للقسم فيكونون قد أقسموا على شيئين : نفي الفساد ، ونفي السَّرقة .
فصل
قال المفسرونك حلفوا على أمرين :
أحدهما : على أنهم ما جاءوا لأجل الفسادِ في الأرض؛ لأنَّه ظهر من أحوالهم وامتناعهم من التصرف في أموال النَّاس بالكليَّة لا بأكل ، ولا بإرسال في مزارع النَّاس حتَّى روي أ نهم كانوا يسدون أفواه دوابهم لئلا يفسد زرع النَّاس ، وكانوا مواظبين على أنواع الطَّاعات .
والثاني : أنهم ما كانوا سارقين ، وقد حصل لهم في شاهد قاطع ، وهو أنهم لما وجدوا بضاعتهم في رحالهم حملوها من بلادهم إلى مصر ، ولم يستحلُّوا أخذها والسارق لا يفعل ذلك ألبتَّة ، فلمَّا بينوا براءتهم من تلك التهمة قال أصحابُ يوسف صلوات الله عليه : { فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ } فأجابوه ، { قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ } قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما : كانوا يستعبدون في ذلك الزمان كُلَّ سارقٍ بسرقته ، فلذلك قالوا : { جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ } أي : فالسَّارقُ جزاؤه ، أي : فيسلم السَّارق إلى المسرُوق منه ، وكان سنة آل يعقوب في حكم السَّارق ، وكان حكم ملك مصر أن يضرب السَّارق ، ويغرمه قيمة المسروق ، فأراد يوسف أن يحبس أخاه عند فردَّ الحكم إليهم؛ ليتمكن من حبسه عنده على حكمهم .
قوله تعالى : { جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ } فيه أربعة أوجه :
أحدهما : أن يكون « جَزاؤهُ » مبتدأ ، و الضمير للسَّارق ، و « مَنْ » شرطيَّة أو موصولة مبتدأ ثاني ، والفاء جواب الشَّرط ، أو مزيدة في خبر الموصول لشبهه بالشَّرطِ و « مَنْ » وما في حيزها على وجهيها خبر المبتدأ الأوَّلِ ، قاله ابن عطيَّة ، وهو مردودٌ؛ لعدم رابط بين المبتدأ ، وبين الجملة الواقعة خبراً عنه ، هكذا ردَّه أبو حيَّان عليه .
وليس بظاهر؛ لأنَّه يجاب عنه بأن هذه المسألة من باب إقامة الظاهر مقام الضمير ويتَّضح هذا بتقدير الزمخشري رحمه الله فإنَّه قال : « ويجوز أن يكون » جَزاؤهُ « مبتدأ ، والجملة الشرطية كما هي خبره ، وعلى إقامة الظَّاهر فيها مقام المضمر ، والأصل : جزاؤه ، من وجد في رحله فهو هو ، فوضع الجزاء موضع » هو « كما تقول لصاحبك : مَنْ أخُوا زيدٍ؟ فيقول لك : من يقْعُد إلى جَنْبِهِ فهُوا هو يرجع الضمير الأول إلى : » مَنْ « ، والثاني إلى الأخِ ، فتقولُ : » فهو أخوه « مقيماً الظاهر مقام المضمر » .
وأبو حيان جعل هذا المحكيّ عن الزَّمخشري وجهاً ثانياً بعد الأوَّلِ ، ولم يعتقد أنه هو بعينه ، ولا أنه جوابٌ عما ردَّ به على ابن عطيَّة .
ثمَّ قال : « وضع الظَّاهر موضع المضمر للرَّبطِ ، وإنَّما هو فيصحٌ في مواضع التفخيم والتَّهويل ، وغير فصيح فيما سوى ذلك ، نحو : قام زيدٌ ، وينزه عنه القرآن .
قال سيبويه : » لو قلت : كان زيدٌ منطلقا زيدٌ « لم يكن حدُّ الكلام وكان ههنا ضعيفاً ، ولم يكن كقولك : مازيدٌ مُنْطكلقاً هُوَ؛ لأك قد استغنيت عن إظَهاره ، وإنَّما ينبغي لك أن تضمره » .
قال شهابُ الدِّين : ومذهبُ الأخفش أنَّه جائزٌ مطلقاً ، وعليه بنى الزمخشريُّ ، وقد جوَّز أبو البقاء ما توهم أنَّهُ جواب عن ذلك فقال :
والوجه الثالث : أن يكون « جَزاؤهُ » مبتدأ ، و « مَنْ وُجِدَ » متبدأ ثان ، و « هُوَ » مبتدأ ثالثُ ، و « جَزَاؤهُ » خير الثالث ، والعائدُ على المبتدأ الأول الهاء الأخيرة وعلى الثاني « هُوَ » انتهى .
وهذا الذي ذكره أبو البقاء لا يصح؛ إذ يصير التقدير : فالذي وجد في رحله جزاؤه الجزاء؛ لأنَّه جعل « هُوَ » عبارة عن المبتدأ الثاني ، وهو : { مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ } وجعل الهاء الأخيرة ، وهي التي في : « جَزاؤهُ » الأخير عائدةٌ على : « جَزاؤهُ » الأوَّل ، فصار التقدير كما ذكرنا .
الوجه الثاني من الأوجه المتقدمة : أن يكون : « جَزَاؤهُ » مبتدأ ، والهاء تعود على المسروق ، و { مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ } خبره ، و « مَنْ » بمعنى الذي ، والتقدير : جزاء الصّواع الذي وجد في رحله .
ولذلك كانت شريعتهم يسترق السَّارق؛ لذلك استفتوا في جزائه ، وقوله : { فَهُوَ جَزَاؤُهُ } متبدأ ، وخبر مؤكدٌ لمعنى الأولد ، ولما ذكر أبو حيَّان هذا الوجه ناقلاً له عن الزمخشريُّ ، قال : « وقال معناه ابنُ عطيَّة إلاَّ أنَّهُ جعل القول الواحد قولين ، قال : ويصحُّ أن يكون » مَنْ « خبراً على أن المعنى : جزاء السَّارق من وجد في رحله ، ويكون قوله : { فَهُوَ جَزَاؤُهُ } زيادة بيانٍ وتأكيد ، ثم قال : ويحتمل أن يكون التقدير : جزاؤه استرقاق من وجد في رحله ، ثم يؤكد قوله : { فَهُوَ جَزَاؤُهُ } ، وهذا القول هو الذي قبله غير أنَّهُ أبرز المضاف المحذوف في قوله : استرقاق من وجد في رحله ، وفيما قبله لا بدَّ من تقديره؛ لأنَّ الذَّات لا تكُون خبراً عن المصدرِ ، فالتَّقدير في القول قبله : جزاؤهُ أخذ من وجد في رحله أو استرقاقه ، هذا لا بُدَّ منه على هذا الإعراب .
وهذا ظاهره ، أنه جعل المقول الواحد قولين .
الوجه الثالث من الأوجه المتقدمة : أن يكون : » جَزاءهُ « خبر مبتدأ محذوف أي : المسئول عنه جزاؤه ، ثمَّ أفتوا بقولهم : { مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ } كما تقول : من يَسْتَفتِ ] في جزاء صَيْدِ المحرمِ جزاءُ صَيْدِ المحرمِ ، ثمَّ يقول : { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم } [ المائدة : 95 ] قاله الزمخشري .
قال أبو حيَّان : » وهو متكلف ، إذ تصير الجملة من قوله « المسئول عنه جزاؤه » على هذا التقدير ، ليس فيه كبير فائدة ، إذ قدلم علم من قوله : « فما جَزاؤهُ » أي الشيء المسئولُ عنه جزاء سرقته ، فأيُّ فائدة في نطقهم بذلك ، وكذلك القول في المثال الثَّاني الذي مثل به من قول المستفتي « .
قال شهابُ الدِّين : » قوله : « ليس فيه كبيرة فائدة » ممنوعٌ ، بل فيه فائدة الإضمار المذكور في علم البيان ، وفي القرآن أمثال ذلك « .
الوجه الرابع : أني كون » جَزَاؤهُ « مبتدأ ، وخبره محذوف ، تقديره : جزاؤه عندنا كجزائه عندكم ، والهاء تعود على السَّارق ، أو على المسروق ، وفي الكلام المتقدِّم دليل عليهما ، ويكون قوله : { مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ } على ما تقدَّم في الوجه الذي قبله وبها الوجه بدأ أبُوا البقاءِ رحمه الله ولم يذكره الشَّيخُ .
قوله : { كذلك نَجْزِي الظالمين } محل الكاف نصب إمَّا على أنَّها نعت لمصدر محذوفٍ ، إمَّا حال من ضميره ، أي : مثل ذلك الجزاء الفضيع نجزي الضالمين أي : إذا سرق استرق .
قيل : هذا من بقيَّة كلام أخوة يوسف صلوات الله وسلامه عليه .
وقيل : إنهم لما قالوا : { جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ } قال أصحاب يوسف : { كذلك نَجْزِي الظالمين } ماليس لهم فعلُهُ من سرقة مال الغير ، فعند ذلك قال لهم المؤذن : لا بُدَّ من تفتيش أوعيتكم ، فانصرف بهم إلى يوسف .
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)
{
فَبَدَأَ } يوسف : { بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ } لإزالة التُّهمة .
قرأ العامة : « وعَاءِ » بكسر الواو . وقرأ الحسن بضمها ، وهي لغةٌ نقلت عن نافع أيضاً ، وقرأ سعيد بن جبير : « مِنْ إعَاءِ أخيهِ » بإبدال الواو همزة وهي لغة هذيليَّة ، يبلدون من الواو المكسورة ، أوَّل الكلمة همزة ، فيقولون : إشاح وإسادة ، وإعاء في « وِشَاح ، ووِسَادة ، ووِعَاء » وقد تقدَّم ذلك في الجلالة المعظمة أول الكتاب .
والأوعية : جمع وِعَاء . هو كلُّ ما إذا وضع فيه أحاط به .
قوله تعالى : { ثُمَّ استخرجها } في الضمير المنصوب قولان :
أحدهما : أنَّه عائد على الصّواع؛ لأنَّ فيه التَّذكير ، والتَّأنيث ، كما تقدَّم .
وقيل : لأنه حمل على معنى الساقية . قال أبو عبيدٍ : قولك : « الصُّواعُ » يؤنَّث من حيُ هو سقاية ، ويذكَّر من حيث هو صواع .
قالوا : وكأنَّ أبا عبيد لم يحفظ في الصواع التَّأنيث .
وقال الزخشريُّ : « قالوا رجع بالتَّأنيث على السِّقاية » ثم قال : ولعلَّ يوسف كان يسمِّه سقاية ، وعبيدة صواعاً ، فقد وقع فيما يتَّصل به من الكلام سقاية ، وفيما يتَّصل بهم منه صواعاً « .
وهذا الأخيرُ أحسنُ .
والثاني : أنَّ الضمير عائد على السَّرقة .
وفيه نظرٌ؛ لأنَّ السرقة لا تستخرج إلا بمجاز .
فصل
قال قتادة : ذكر لنا أنه كان لا يفتح متاعاً ، ولا ينظرُ من وعاءٍ ألاَّ استغفر الله تعالى تائباً ممَّا قذفهم به ، حتى إذا لم يبق إلاَّ رحْلُ بنيامين قال : ما أظنُّ هذا أخذه ، فقال إخوتهُ : والله لا يتركُ حتَّى ينظر في رحله ، فإنه أطيبُ لنفسكن ولأنفسنا ، فلما فتحوا متاعه استخرجوه منه؛ فنكس إخوته رءوسهم من الحياء وقالوا : إنَّ هذه الواقعة عجيبةٌ ، إنَّ راحيل ولدت ولدين لصين ، وأقبلوا على بنيامين ، وقالوا : أيش الذي صنعتن فضحتنا ، وسوَّدت وجُوهنا ، يا بني راحيل لا يزال لنا منكم بلاءٌ [ حتى أخذت هذا الصواع ، فقال بنيامين : بل بنو راحيل لا يزال لهم منكم بلاء ] ذهبتهم بأخي ، ثم أهلكتموه في البريَّةن ثم تقولون لي هذاه الكلام ، قالوا له : كيف خرج الصُّواعُ من رحلك؟ فقال : وضع هذا الصوع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم ، قالوا : فأخذ بنيامين رقيقاً .
قوله : { كذلك كِدْنَا } الكلام فيك { كذلك كِدْنَا } [ 75 ] كالكلام فيما كان قبلها أيك مثل ذلك الكيد العظيم ، أيك كما فعلوا في الابتداء بيوسف من الكيد فعلنا بهمن وقد مقال يعقوب ليوسف صلوات الله وسلامه عليه { فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً } [ يوسف : 5 ] ، فكدنا ليوسف في أمرهم .
فالمراد من هذا الكيد : هو أنَّهُ تعالى ألقى ف يقلب أخوته : أن احكموا بأنَّ جزاء السَّارق هو أن يسترقَّ ، لا جرم لما ظهر الصُّواعُ في رحله؛ حكموا عليه بالاسترقاق؛ وصار ذلك سبباً لتمكُّنِ يوسف صلوات الله وسلام عليه من إمساكِ أخيه عند نفسه .
واعلم أنَّ الكيد يشعر بالحِيلةِ ، والخَديعة ، وذلك في حقل الله تعالى محال إلا أنَّه قد تقدم أصل معتبر في هذا الباب ، وهو أنَّ أمثال هذه الألفاظ في حق الله تعالى تحمل على نهايات الأغراض ، لا على بداياتها ، وتقرَّر ذلك عند قوله : { إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى } [ البقرة : 26 ] فالكيدُ : السَّعي في الحلية ، والخديعة ، ونهايته اشتغال الإنسان من حيث لا يشعر في أمرٍ مكروهٍ ، ولا سبيل له إلى دفعه ، فالكَيْدُ في حقِّ اله محمولٌ على هذا المعنى .
وقيل : المرادُ بالكيد ههنا : أنَّ أخوة يوسف سعوا في إبطال أمره ، والله نصرهُ وقوَّاه ، وأعلى أمرهُ .
قال القرطبي : قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما : « كِدْنَا » معناه : صنعنا . وقال القتبيُّ : دبَّرنا . وقال ابنُ الأنباري : أردنا؛ قال الشاعر : [ الكامل ]
3126
كَادَتْ وكِدْتُ وتِلْكَ خَيرٌ إرَادَةٍ ... لَوْ مِنْ عَهْدِ الصِّبَا ما قَدْ مَضَى
قوله : { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ } تفسير للكيد ، وبيان له ، وذلك أنه كان في زمان ملك مصر أن يغرَّم السَّارق مثلي ما أخذ لا أنه يستعبد .
فصل
قال القرطبيُّ : « في الآية دليلٌ على جواز التَّوصل إلى الأغراض بالحيل إذا لم تخالف شريعة ، ولا هدمت أصلاً خلافاً لأبي حنيفة رضي الله عنه في تجويز الحيل وإن خالفت الأصول ، وخرمت التحليل ، وأجمعوا على أنَّ للرَّجُلِ التَّصرف في ماله قبل حُلولِ الحوْلِ بالبيع ، والهبةِ إذا لم ينوا الفرارَ من الزَّكاةِ ، وأجمعوا على أنَّه إذا حال الحولُنو أظلَّ السَّاعِي أنه لا يحلّ له التّحيل ، ولا النُّقصانُ ولا أن يفرق بين مجتمع ولا أن يجمع بين متفرق » .
فصل
قال ابنُ العربيّ : قال بعضُ الشَّافيعة : في قوله تعالى : { وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض } [ يوسف : 21 ] دليل على وجه الحيلة إلى المباح ، واستخراجِ الحقوق ، وهذا وهمٌ عظيم ، وقوله تعالى : { وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض } [ يوسف : 21 ] قيل فيه : لمَّا مكَّنا ليوسف ملك نفسه عن امرأة العزيز مكَّنَّا له ملك الأرض عند العزيز ، وهذا لا يشبهُ ما ذكروهُ .
قال الشعفوي : ومثله قوله : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ } [ ص : 44 ] هذا ليس حيلة ، إنما هو حمل [ اليمين ] على الألفاظ ، أو على المقاصد .
قوله : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } فيه وجهان :
أحدهما : أنه استنثاءٌ منقطعٌ تقديره : ولكن بمشيئة الله أخذه في دينٍ غير دينِ الملكِ ، وهو دينُ آلِ يعقوب أنَّ الاسترقاق جزاءُ للسَّارقِ .
قال ابن عبَّاس رضي الله عنه : « فِي دِين الملِكِ » أي في سلطانه .
{
إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } أي : أنَّ يوسف لم يتمكن من حبس أخيه في حكم الملك لولا ما كدنا له بلطفنا ، حتى وجد السبيل إلى ذلك ، وهو ما جرى على [ السنة ] الإخوة أنَّ جزاء السارق الاسترقاق فحصل مراد يوسف بمشيئة الله .
والثاني : أنَّه مفرغ من الأحوال العامَّة ، والتقدير : ما كان ليأخذه من كلِّ حالٍ إلا في حال التباسه بمشيئة الله عزَّ وجلَّ أي : إذنه في ذلك .
وكلاُ ابن عطيَّة محتملٌ فإنه قال والاستثناء حكاية حال ، والتقدير : إلاَّ أن يشاء ما وقع من هذه الحيلة .
قوله : { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ } تقدَّم القراءتان فيها في الأنعام [ الأنعام : 83 ] .
وقرأ يعقوب بالياء من تحت « يَرْفعُ : ، و » يَشاءُ « والفاعل الله تعالى .
وقرأ عيسى البصري » نَرْفَعُ « بالنون » دَرجَاتٍ « منونة ، و » يَشَاءُ « بالياء .
قال صاحبُ اللَّوامحُ : » وهذه قراءة مرغوبٌ عنها تلاوة ، وجملة ، وإن لم يمكن إنكارها « .
قال شهابُ الدِّين رحمه الله : » وتوجيهها : أنَّهُ التفت في قوله « يَشَاءُ » من التَّكلُّم إلى الغيبةِ ، والمراد واحدٌ « .
قوله : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } قرأ عبدالله بن مسعود : ( وفوق كل ذي عالم ) . وفيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون » عَالِم « هنا مصدراً ، قالوأ : مثل الباطل فإنَّهُ مصدر فهي كالقراءة المشهورة .
الثاني : أنَّ ثمَّ مضافاً محذوفاً ، تقديره : وفوق كل ذي مسمى عالمٍ؛ كقوله : [ الطويل ]
3127
إلى الحَوْلِ ثمَّ اسْمُ السَّلامِ عَليْكُمَا ... أي : مُسمَّى السِّلام .
الثالث : أنَّ » ذو « زائدة؛ كقوله الكميت : [ الطويل ]
3128 . . .
ذَوِي آلِ النَّبيِّ . . .
فصل
قوله : { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ } بالعلم كما رفعنا درجة يوسف على إخوته والمعنى : أنه خصَّه بأنواع العلوم .
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ العلم أشرف المقامات ، وأعلى الدَّرجات لأنه تعالى لما هدى يوسف إلى هذه الحيلة مدحه لأجل ذلك فقال : { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ } .
ثم قال : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ } على إلى أن ينتهي العلم إلى الله عز وجل فالله فوق كلِّ عالمٍ .
والمعنى : أنَّ إخوة يوسف كانوا علماء فضلاء ، إلاَّ أنَّ يوسف كان زائداً عليهم في العلم .
واحتجَّ المعتزلةُ بهذه الآيةِ على أنَّهُ تعالى عالم لذاته؛ لأنَّه لو كان عالماً بالعلم ، لكان ذا علم ، ولو كان كذلك لحصل فوقه عليهم تمسكاً بهذه الآية .
قال ابن الخطيب : » وهذا باطلٌ؛ لأن أصحابنا قالوا : دلَّت سائر الآيات على إثبات العلم باللهِ تعالى وهو قوله : { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } [ لقمان : 34 ] { أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } [ النساء : 166 ] ، { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ } [ البقرة : 255 ] ، { وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } [ فاطر : 11 ] وإذا وقع التَّعارضُ ، فنحن نحملُ الآية التي تمسَّك بها الخصمُ على واقعة يوسف وإخوته ، غاية ما في الباب أنه يوجب تخصيص عموم إلا أنَّه لا بد من المصير إليه؛ لأن العالم مشتقٌّ من العلم ، والمشتقُّ منه مفردٌ ، وحصول المركب بدون حصول المفرد محالٌ في بديهة العقلِ ، فكان التَّرجيحُ من جانبنا « .
قوله : { فَقَدْ سَرَقَ } الجمهور على « سرقَ » مخففاً مبنيًّا للفاعل ، وقرأ أحمدُ بن جبير الأنطاكيُّ ، وابن شريحٍ عن الكسائيِّ ، والوليد بن حسان عن يعقوب في آخرين : « سُرِّقَ » مشدداً مبينًّا للمفعول أي : نسب إلى السرقة؛ لأنَّهُ ورود في التَّفسيرِ : أنَّ عمته ربته ، فأخذاهُ أبوه منها؛ فشدت في وسطه منطقة كانوا يتوارثونها من إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه ففتشوا فوجودها تحت ثيابه ، فقالت : هو لي ، فأخذته كما في شريعتهم ، ومن هنا تعلم يوسف وضع السِّقاية في رحل أخيه ، كما فعلت به عمَّتهُ ، وهذه القراءة منطبقةٌ على هذا .
وقال سعيدُ بن جبيرٍ : كان لجدِّهِ أبي أمه صنمٌ يعبده ، فأخذه سراً ، وكسره وألقاهُ في الطَّريق .
وقال مجاهدٌ : أخذ بيضةً من البيتِ فأعطاها سائلاً . وقيل : دجاجة وقال وهبٌ رحمه الله : كان يُخبىءُ الطَّعام من المائدة للفقراء فقالوا للملك : إنَّ هذا ليْسَ بغَريبٍ منهُ ، فإنَّ أخاهُ الَّذي هلك كان أيضاً سارقاً ، أي إنَّا لسنا على طريقته ، ولا على سيرته ، وهو وأخوه مختصان بهذه الطَّريقةِ؛ لأنهما من أم أخرى .
قوله : « فأسرَّها » قال بعضهم : الضَّمير المنصوب مفسَّر لسياق الكلام ، أي : فأسرَّ الحزازة التي حصلت له من قولهم : { فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ } ؛ كقوله : [ الطويل ]
3129
أمَاوِيَّ ما يُغْنِي الثَّراءُ عَنِ الفَتَى ... إذَا حَشْرجَتْ يَوْماً وضَاقَ بِهَا الصَّدرُ
فالضمير في « حَشْرَجَتْ » يعود على النَّفسِ ، كذا ذكرهُ أبو حيَّان .
وقد جعل بعضهم البيت ممَّا فُسِّر فيه الضمير بذكْرِ ما هُو كلُّ لصاحبِ الضَّمير ، فلا يكُونُ ممَّا فُسِّر فيه بالسِّياقِ .
وقال الزخشريُّ إضمارٌ على شريطةِ التَّفسيرِ ، يفسره « أنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً » وإنَّما أنَّث؛ لأن قوله : « شَرٌّ مَكَاناً » جملة ، أو كلمة على تسميتهم الطَّائفة من الكلام كلمة ، كأنَّه قيل : فأسر الجملة ، أو الكلمة التي هي قوله : { أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } قال : لأن قوله : { أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } بدل من « أسَرَّها » .
قال شهابُ الدِّينك وهذا عند من يبلد الظاهر من المضمر في غير المرفوع؛ نحو ضَرَبتهُ زيداً ، والصحيح وقوعه؛ كقوله : [ الرجز ]
3130
فَلاَ تَلُمْهُ أنْ يَخَافَ البَائِسَا ... وقرأ عبدالله وابنُ أبِي عبلة : « فأسَرَّهُ » بالتَّذكيرِ قال الزخشريُّ « يريد القول ، أو الكلام » .
وقيل : في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ ، وتقديره : قال في نفسه : { أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } وأسرَّها أي هذه الكلمة .
قال شهاب الدين : ومثل هذا ينبغي ألاَّ يقال ، فإنَّ القرآن ينزَّهُ عنه و « مَكَاناً » تتميز ، أي : منزلة من غيركم ، والمعنى : أنتم شرٌّ منزلاً عند الله ممن رميتموه بالسَّرقةِ في صنيعكم بيوسف؛ لأنه لم يكن من يوسف سرقة حقيقة ، وخيانتكم حقيقة .
وقد طعن الفارسيُّ رحمه الله على كلام الزمخشريِّ من وجهين :
الأول : قال الإضمارُ على شريطة التفسير يكون على ضربين :
أحدهما : أن يفسَّر بمفردٍ ، كقولنا : نِعْمَ رجُلاً زيدٌ ، ففي : « نعم » ضمير فاعلها و « رَجُلاًُ » تفسير لذلك الفاعل المضمر .
والآخر : أن يفسر بجملة ، وأصلُ هذا يقع به الابتداء ، كقوله : { فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الذين كَفَرُواْ } [ الأنبياء : 97 ] و { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] والمعنى : القصَّة شاخصة أبصار الذين كفروا والأمر : الله أحد ، ثمَّ إنَّ العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر تدخل عليه أيضاً ، كقوله { إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً } [ طه : 74 ] { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار } [ الحج : 46 ] .
وإذا عرفت هذا فنقول : نفس المضمر على شريطة التَّفسير في كلا الجملتين متَّصلٌ بالجملة التي فهيا الإضمار ، ولا يكون خارجاً عن تلك الجملة ، ولا مبايناً لها ، وههنا التفسير منفصل عن الجملة الَّتي حصل فيها الإضمار؛ فوجب ألاَّ يحسن .
والثاني : أنَّهُ تعالى قال : { أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } وذلك يدل على أنه ذكر ذكر ذلك الكلام ، ولو قلنا : إنَّهُ صلوات الله وسلامه عليه أضمر هذا الكلام لكان قوله : { أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } كذباً .
قال ابن الخطيب : « وهذا الطَّعنُ ضعيفٌ من وجوه :
الأول : لا يلزمُ من حسن القسمين الاولين قبح قسمٍ ثالثٍ .
وأما الثاني : فلأنا نحملُ ذلك على أنه صلوات الله وسلامه عليه قال ذلك على سبيل الخفيبة ، وبهذا [ التقسيم ] سقط السُّؤالُ .
والوجه الثاني : وهو أنَّ الضمير في قوله : » فأسَرَّهَا « عائدٌ إلى الإجابة ، كأنَّهم لما قالوا : { فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ } أسرَّ يوسف عليه السلام إجابتهم في نفسه في ذلك الوقت ، ولم يبدها لهم في تلك الحالة إلى وقتٍ ثانٍ ، ويجوز أن يكون إضماراً للمقالة ، والمعنى : أسرَّ يوسف مقالتهم ، والمراد من المقالةِ متعلق تلك المقالة؛ كما يرادُ بالخلقِ الملخوقُ ، وبالعِلْمِ المَعْلُوم ، يعني : أسرَّ يوسف كيفية تلك السَّرقة ، و لم يبين لهم أنها كيف وقعت ، وأنه ليس فيها ما يوجب الطَّعن » .
رُوِيَ عن ابن عبَّاس رضي الله عنه أنه قال : عُوقِبَ يوسف ثلاث مرَّاتِ : لأجْلِش همِّه بها؛ فعُوقِبَ بالحَبْسِ ، وبقوله : { اذكرني عِندَ رَبِّكَ } [ يوسف : 42 ] ؛ عوقب بالحبل الطَّويل ، وبقولهك « إنَّكُم لسَارقُونَ » ح عوقب بقوله : { فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ } .
ثم قال : { أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } ، أي : أنتم شرٌّ منزلة عند الله ، بما أقدمتم عليه من ظلم أخيكم ، وعقوق أبيكم؛ ثم بعتموه بعشرين درهماً ، ثمَّ بعد المدَّة الطويلة ، والزَّمان المديد ، ما زال الحقدُ والغضبُ عن قلوبكم؛ فرميتموه بالسَّرقة ، { والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ } ، أي : إن سرقة يوسف كانت لله رضا؛ فلا توجب عود الذمِّ ، واللَّوم إليه .
=========================================
ج42.
ج42. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)
قوله تعالى : { ياأيها العزيز إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً } الآية .
اعلم : أنهم لمَّا قالوا : { إن سرق فقد سرق أخ له من قبل } ، أحبُّوا موافقته ، والعدول إلى طريق الشَّفاعة ، وأنهم ، وإن كانوا قد اعترفوا بأن حكم الله في السارق أن يستعبد ، إلاَّ أنَّ العفو وأخذ الفداء كان أيضاً جائزاً؛ فقالوا : { ياأيها العزيز إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً } ، في السنِّ ، ويجوز أن يكون في القدر ، والدِّين؛ لأن قولهم : « شَيْخاً » يعلم منه كبر سنه ، وإنَّما ذكروا ذلك؛ لأنَّ كونه ابناً لرجلٍ كبير القدرِ يوجب العفو [ والصفح ] .
قوله : مَكانَهُ « فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّ » مَكَانهُ « : نصب [ على الظرف ] ، والعامل فيه : » خُذْ « .
والثاني : أنه ضمَّن » خُذْ « معنى : » اجْعَلْ « ، فيكونُ : » مَكَانهُ « في محلٌ المفعول الثاني .
واقل الزمخشريُّ : » فخُذْ بدله على جهةِ الاسترهانِ؛ حتَّى نردّ الفداء إليك ، أو الاستعباد « .
ثم قالوا : { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين } ، لو فعلت ذلك .
وقيل : من المحسنين إلينا في توفية الكيل ، وحسن الضِّيافة ، وردِّ البضاعة .
وقيل : من المحسنين في أفعالك ، وقيل : لما اشتدّ القحطُ على القوم ، ولم يجدوا ما يشترون به من الطَّعام ، وكانوا يبيعون أنفسهم ، فصار ذلك سبباً لصيرورة أكثر أهل مصر عبيداً له ، ثم أعتق الكُلّ قالوا : { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين } إلى عامة النَّاس بالإعتاق ، فكن محسناً أيضاً إلى هذا الإنسان بالإعتاق من هذه المحنة .
فقال يوسف : { مَعَاذَ الله } أي أعوذ بالله معاذاً { أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ } أي أعوذُ باللهِ أن نأخذ بريئاً بمذنب .
قال الزجاج : » موضع « إنْ » نصب ، والمعنى : أعوذُ باللهِ من أخذِ أحدٍ بيغره ، فلمَّا سقطت كلمة : « مَنْ » تعدَّى الفعل « .
وقوله : { إِنَّآ إِذاً } حرف جواب وجزاء ، تقدَّم الكلام [ النساء : 67 البقرة : 14 ] على أحكامها .
والعنى : لقد تعدّيت ، وظلمت ، إن إخذت بريئاً بجُرمٍ صدر من غيره ، فقال : { مَعَاذَ الله أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ } ولم يقل : » مَنْ سَرَقَ « تحرُّزاً من الكذب .
فإن قيل : هذه الواقعةُ من أوَّلها إلى آخرها ، تزوير وكذب ، فكيف يجوز ليوسف مع رسالته الإقدام على التَّزوير ، وإيذاء النَّاس من غير ذنب لا سيَّما ويعلم أنَّهُ إذا حبس أخاه عنده بهذه التُّهمةِ فإنه يعظمُ حزنُ إبيه ، ويشتدُّ غمُّه ، فكيف يليقُ بالرسول المعصوم المباغلة في التَّزويرِ إلى هذا الحدّ؟! .
فالجواب : لعلَّه تعالى أمره بذلك تشديداً للمحنة على يعقوب ، ونهاه عن العفوِ والصَّفح ، وأخذ البدل ، كما أمر تعالى صاحب موسى عليه الصلاة والسلام بقتل من لو بَقِي لَطَغَى وكفَر .
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)
قوله : { فَلَمَّا استيأسوا } « اسْتَفْعَلَ » هنا بمعنى « فَعِلَ » المجرَّد يقال : يَئِسَ ، واسْتَيْأس [ بمعنى ] نحو « عَجِبَ واسْتَعْجَبَ ، وسَخِرَ ، واسْتَخَرَ .
وقال الزمخشري : وزيادة التَّاء والسِّين في المبالغة نحو ما مرَّ في : » اسْتَعْصَمَ « وقرأ البزيُّ عن ابن كثير بخلاف عنه : » اسْتَأيَسُوا « بألف بعد التاء ثم ياء وكذلك في هذه السورة : { وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله } [ يوسف : 87 ] إنَّه لا يَيْأسُ { حتى إِذَا استيأس الرسل } [ يوسف : 110 ] ، وفي الرعد : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ } [ الرعد : 31 ] الخلاف واحد .
فأمَّا قرأءة العامة : فهي الأصل ، إذ يقال : يَئِسَ ، فالفاء ياء ، والعين همزة وفيه [ لغة ] أخرى ، وهي القلبُ [ الرعد : 31 ] بتقديم العين على الفاءِ ، فيقال : أيِسَ ، ويدلُّ على ذلك شيئان :
أحدهما : المصدر الذي هو اليأسُ .
والثاني : أنَّه لو لم يكن مقلوباً للزم قلبُ الياءِ ألفاً ، لتحركها ، وانفتاح ماقبلها ، ولكن منع من ذلك كون الياءِ في موضع لا تعلُّ فيه ما وقعت موقعه ، وقراءة ابن كثير من هذا ، ولما قلب الكلمة أبدل من الهمزة ألفاً لسكونها بعد فتحة ، إذ صارت كهمزة رأس ، وكأس ، وإن لم يكن من أصله قلب الهمزة السَّاكنة حتىعلَّةِ وهذا كما تقدَّم أنه يقرأ » القرآن « بالألف ، وأنَّه يحتملُ أن يكون نقل حركة الهمزة ، وإن لم يكن من أصله النقل .
قال أبو شامة بعد أن ذكر هذه الكلمات الخمسِ الَّتي وقع فيها الخلافُ » وكذلك رسمت في المصحف ، يعني كما قرأها البزيُّ يعنى بالألف مكان الياءِ ، وبياء مكان الهمزة « .
وقال أبو عبدالله : واختلفت هذه الكلمات في الرَّسم ، فرسم : » يَأيَس « ، » ولا تَأيسُوا « بألف ، ورسم الباقي بغير ألف .
قال شهابُ الدين : » وهذا هو الصَّوابُ ، وكأنَّه غفلة من أبي شامة « .
ومعنى الآية : » فلمَّا أيسُوا من يوسف أن يجيبهم إلى ما سألوا « .
وقال أبو عبيدة : » اسْتَيْأسُوا « : استيقنوا أنَّ الأخ لا يرد إليهم .
قوله : { خَلَصُواْ نَجِيّاً } قال الواحديُّ : يقال : خلص الشَّيء يخلصُ خلوصاً إذا انفصل من غيره ، ثم فيه وجهان :
أحدهما : قال الزجاج ، خلصوا : أي : انفردوا ، وليس معهم أخوهم .
وقال الباقون : تميزوا عن الأجانب ، وهذا هو الأظهر ، أي : خلا بعضهم ببعضٍ يتناجون ويتشاورون لا يخالطهم غيرهم .
وأمَّا قوله : » نَجِيًّا « حال من فاعل : » خَلصُوا « أي : اعتزلوا في هذه الحالِ وإنَّما أفردت الحال ، وصاحبها جمع ، إمَّا لأن النَّجيَّ فعيلٌ بمعنى مفاعل كالعشير والخليط بمعنى المُخالِط والمُعاشِر ، كقوله { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } [ مريم : 52 ] أي : مناجياً وهذا في الاستعمال يفرد مطلقاً ، يقال : هُم خَليطُكَ وعَشِيرتُك ، أي : مخالطوك ومعاشروك وإما لأنَّه صفة على فعيل بمنزلة صَدِيق ، وبابه يوحد ، لأنه يزنة المصارد كالصَّهيل ، والوجيب والذَّميل ، وإمَّا لأنه مصدرٌ بمعنى التَّناجي كما قيل : النَّجْوى بمعناه ، قال تعالى :
{
وَإِذْ هُمْ نجوى } [ الإسراء : 47 ] ، وحينئذ يكون فيه التأويلات المذكورات في : « رجُلٌ عدلٌ » وبابه ، ويحمع على « أنْجِيَة » ، وكان من حقِّه إذا جعل وصفاً أن يجمع على « أفْعِلاء » ، ك « غَنِيّ » ، وأغْنِيَاء « و » شَقِيّ ، وأشْقِيَاء « ؛ ومن مجيئه على » أنجِيَة « قول الشاعر : [ الرجز ]
3131
إنِّي إذَا ما القَوْمُ كَانُوا أنْجِيَهْ ... واضْطَرَبَ القَوْمُ اضطِرابَ الأرْشِيَهْ
هناك أوصيني ولا تُوصِي بِيَهْ ... وقول لبيد : [ الكامل ]
3132
وشَهِدْتُ أنْجِيةً الأفَاقةِ عَالِياً ... كَعبي وَأرْدَافُ المُلوكِ شُهُودُ
وجمعه كذلك يقوي كونه جامداً ، إذ يصيرُ كرغيب ، وأرغِفَة .
وقال البغويُّ : النَّجِي يصلحُ للجماعة ، كما قال ههنا ، وللواحد كما قال : { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } [ مريم : 52 ] وإنما جاز للواحد والجمع؛ لأنه مصدر جعل نعتاً كالعدل ، ومثله النَّجوى يكونُ اسماً ، ومصدراً ، قال تعالى { وَإِذْ هُمْ نجوى } [ الإسراء : 47 ] أي : مُتنَاجِين ، وقال حل ذكره { مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ } [ المجادلة : 7 ] وقال في المصدر { إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان } [ المجادلة : 10 ] .
قال ابن الخطيب : » وأحسنُ الوجوه أن يقال : إنَّهم تمحَّضُوا تناجياً؛ وأنَّ من كمل حصول أمرٍ من الأمُورِ فيه وصف بأنَّه صار غير ذلك الشَّيء فلما أخذوا في التَّناجي على غاية الجدِّ؛ صاروا كأنهم في أنفسهم صاروا نفس التَّناجِي في الحقيقة « .
»
قالَ كَبيرُهمْ « في العقل ، والعلم لا في السنِّ ، وهو » يَهُوذَا « ، قاله ابن عباسٍ ، والكلبي .
وقال مجاهدٌ : شمعون ، وكانت له الرِّئاسةُ على إخوته .
وقال قتادة ، والسديُّ ، والضحاك : وهو روبيلُ ، كان أكبرهم في السنِّ ، وهو الذي نهاهم عن قتل يوسف عليه السلام .
{
أَلَمْ تعلموا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً } : عهداً : { مِّنَ الله } ، وأيضاً : نحنُ متَّهمُونَ بواقعة يوسف .
قوله { وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ } في هذه الآية وجوه ستة :
أظهرها : أنَّ » مَا « مزيدة فيتعلَّق الظَّرف بالعفل بعدها ، والتقدير : ومن قبل هذا فرَّطتم ، أي : قصَّرتم في حقِّ يوسف ، وشأنه ، وزيادة » مَا « كثيرة ، وبه بدأ الزمخشري وغيره .
الثاني : أن تكون » مَا « مصدرية في محلِّ رفع بالابتداء ، والخبر الظَّرف المتقدم قال الزمخشريُّ : على أنَّ محل المصدر الرَّفع بالابتداء ، والخبر الظرف وهو » مِنْ قَبْلُ « ، والمعنى : وقع من قبل تفريطكم في يوسف عليه الصلاة والسلام وإلى هذا نحا ابنُ عطيَّة أيضاً فإنَّه قال : ولا يجوز أن يكون قوله : » مِنْ قَبْلُ « متعلقاً ب : » مَا فَرَّطْتُمْ « ، وأنَّ » مَا « تكون على هذا مصدرية ، والتقدير : ومن قَبْلِ تفريطكم في يوسف واقعٌ ، أو مستقرٌ وبهذا المقدر يتعلق قوله : » مِنْ قَبْلُ « .
قال أبو حيَّان : هذا وقول الزمخشريُّ راجعان إلى معنى واحد ، وهو أن » مَا فرَّطتُمْ « يقدَّرُ بمصدرٍ مرفوع بالابتداء ، و : » مِنْ قَبْلُ « في موضع الخبر وذهلا عن قاعدة عربيَّة ، وحقَّ لهما أن يذهلا وهي أنَّ هذه الظروف التي هي غايات إذا بُنيت لا تقع أخباراً للمبتدأ جرَّت ، أو لم تجرَّ ، تقول : يومُ السَّبت مُباركٌ والسَّفر بعدهُ ، ولا تقول : والسَّفر بَعد و » عَمْرٌو وزيْدٌ خَلفهُ « ولا يجوز : عمرٌو وزيدٌ خلف ، وعلى ما ذكراه يكون : » تَفْريطُكُم « مبتدأ ، و » مِنْ قَبْلُ « خبر وهو مبنيُّ وذلك لا يجوز ، وهو مقررٌ في علم العربيِّة » .
قال شهابُ الدِّين : « قوله : » وحُقًّ لهُمَا أنْ يَذْهَلا « تحامل على هذين الرجلين ، وموضعهما من العلم معروفٌ ، وأمَّا قوله : » إنَّ الظرف المقطوع لا يقعُ خبراً « ، فمسلَّم ، قالوا : لأنَّه لا يفيد ، وما لا يفيد ، لا يقع خبراً ، ولذا لا يقع صفة ، ولا صلة ، ولا حالاً والآية الكريمةُ من هذا القبيل لو قلت : » جاء الذي قبل « أو » مررت برجل قبل « لم يجز لما ذكرت .
ولقائلٍ أن يقول : إنَّما امتنع ذلك؛ لعدم الفائدة ، وعدم الفائدة لعدم العلم بالمضافِ إليه المحذوف ، فينبغي إذا كان المضاف إليه معلوماً مدلولاً عليه أن يقع ذلك الظَّرف المضاف إلى ذلك المحذوف خبراً ، وصفة ، وصلة ، وحالاً والآية الكريمة من هذا القبيل ، أعني ممَّا علم فيه المضاف إليه كما مرَّ تقريره » .
ثمَّ هذا الرَّد الذي ردّ به أبو حيَّان سبقه إليه أبو البقاءِ ، فقال : « وهذا ضعيف؛ لأن » قَبْل « إذا وقعت خبراً أو صلة لا تقطع عن الإضافة لئلا تبقى ناقصة » .
الثالث : أنها مصدرية أيضاً ، في محل رفع بالابتداء ، والخبر هو قوله « فِي يُوسفَ » أي : وتفريطكم كائن ، أو مستقر في يوسف ، وإلى هذا ذهب الفارسي كأنه استشعر أن الظرف المقطوع لا يقعُ خبراً؛ فعدل إلى هذا ، وفيه نظر؛ لأنَّ السِّياق ، والمعنى يجريان إلى تعلق : « فِي يُوسفَ » ب « فَرَّطْتُمْ » ، فالقولُ بما قاله الفارسي يؤدِّي إلى تهيئة العامل [ للعمل ] ، وقطعه عنه .
الرابع : أنَّها مصدرية أيضاً ، ولكن محلها النَّصب على أنَّها منسوقة على « إنَّ أباكُمْ قد أخَذَ » أي : ألم تعلموا أخذ أبيكم الميثاق ، وتفريطكم في يوسف .
قال الزمخشري : « كأنه قيل : ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقاً ، وتفريطكم من قبل في يوسف » وإلى هذا ذهب ابن عطية أيضاً .
قال أبو حيَّان : « وهذا الذي ذهبا إليه ليس بجيِّد؛ لأنَّ فيه الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف الذي هو حرفٍ واحدٍ ، وبين المعطوف؛ فصار نظير : ضَربْتُ زيداً ، وبِسَيفٍ عمراً ، وقد زعم الفارسيُّ أنه لا يجوز ذلك إلاَّ في ضرورة الشِّعر » .
قال شهابُ الدِّين : هذا الرَّدُّ سبقه إليه أبُو البقاءِ ، ولم يرتضه وقال : « وقيل : هو ضعيفٌ؛ لأنَّ فيه الفصل بين حرفِ العطفِ ، والمعطوفِ ، وقد بينا في سورة النِّساء أن هذا ليس بشيء » .
قال شهاب الدين : « يعني أنَّ منع الفصل بين حرفِ العطفِ ، والمعطوفِ ليس بشيءِ ، وقد تقدَّم إيضاحُ هذا ، وتقريره في سورة النساء ، كما أشار إليه أبو البقاء » .
ثمَّ قال أبو حيَّان : « وأمَّا تقديرُ الزمخشري : وتفريطكم من قبل في يوسف؛ فلا يجوز؛ لأن فيه تقديم معمول المصدر المنحل لحرف مصدري ، والفعل عليه ، وهو لا يجوز » .
وقال شهابُ الدِّين : « ليس في تقدير الزمخشريِّ شيء من ذلك؛ لأنَّه لمَّا صرح بالمقدر أخَّر الجارين ، والمجرورين عن لفظ المصدر المقدَّر كما ترى ، وكذا هو في سائر النسخ ، وكذا ما نقله عنه الشيخ بخطهِ ، فأين تقديمُ المعمولِ على المصدر ولو رد عليه ، وعلى ابن عطيَّة بأنه يلزمُ من ذلك تقديمُ معمولِ الصِّلةِ على الموصول لكان ردًّا واضحاً ، فإنَّ : » مِنْ قَبْلُ « متعلق » فَرَّطْتُمْ « ، وقد تقدَّم الكلامُ على ما المصدرية ، وفيه خلافٌ مشهورٌ » .
الخامس : أن تكون مصدرية أيضاً ، ومحلها النصب عطفاً على اسم : « أنَّ » أي : ألم تعلموا أنَّ أباكم ، وأن تفريطكم من قبل في يوسف ، وحينئذٍ يكون في خبر « أنَّ هذه المقدرة وجهان :
أحدهما : هو : » مِنْ قَبْلُ « .
والثاني : هو » فِي يُوسَفُ « واختاره أبو البقاء ، وقد تقدَّم ما في كلِّ منهما ، ويردُّ على هذا الوجه الخامس ما ردَّ به على ما قبله من الفصل بين حرف العطف ، والمعطوف ، وقد عرف ما فيه .
السادس : أن تكون موصولة اسمية ، ومحلُّها الرفع ، والنَّصب علكى ما تقدَّم في المصدريَّة .
قال الزمخشريُّ : يعنى ومن قبل هذا ما فرطتموه ، أي : قدَّمتموهُ في حقِّ يوسف من الجنايةِ ، ومحلُّها الرَّفع ، أو النَّصب على الوجهين .
يعنى بالوجهين رفعها بالابتداء ، وخبرها » مِنْ قبل « ، ونصبها على مفعولِ » ألمْ تَعْلمُوا « ، فإنَّهُ لم يذكر في المصدرية غيرهما ، وقد تقدَّم ما اعترض به عليهما ، وما قيل في جوابه .
فتحصل في » مَا « ثلاثة أوجه :
الزيادة ، وكونها مصدرية ، أو بمعنى الذي ، وأن في محلها وجهين : الرفع ، أو النصب .
قوله تعالى : { فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض } برح هنا تامة ، ضمنت معنى أفارقُ ف : » الأرْضَ « معفول به ، ولا يجوز أن تكون تامَّة من غير تضمين؛ لأنها إذا كانت كذلك؛ كان معناها : ظهر أو ذهب ، ومنه : بَرحَ الخفاءُ ، أي : ظهر ، أو ذهب ، ومعنى الظهور لا يليق ، والذهابُ لا يصلُ إلى الظَّرف المخصوص إلاَّ بواسطةِ » في « : تقول : » ذَهَبْتُ في الأرضِ « ولا يجوز ذهبتُ الأرْضَ ، وقد جاء شيءٌ لا يقاس عليه .
وقال ابو البقاء : « ويجوز أن يكون ظرفاً » .
قال شهابُ الدِّين : « يحتمل أن يكون سقط من النُّسخِ لفظ » لاَ « ، كان : » ولا يجوز أن يكون ظرفاً « .
واعلم أنه لا يجوز في » أبْرَحَ « هنا أن تكون ناقصة؛ لأنَّه لا ينتظم من الضمير الذي فيها ، وما » من الأرض « مبتدأ أو خبرٌ ، ألا ترى أنَّك لو قلت : أنَا الأرض لم يجز من غير » فِي « بخلاف » أنَا في الأرْضِ وزيدٌ في الأرْضِ « .
قوله : { أَوْ يَحْكُمَ الله } في نصبه وجهان :
أظهرهما : عطفه على : » يَأذَنَ « .
والثاني : أنه منصوبٌ بإضمار » أنْ « في جواب النَّفي ، وهو قوله : { فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض } أي : لنْ أبْرحَ الأرْضَ إلاَّ أن يحكم ، كقولهم : لالزَمنَّكَ أوْ تَقْضِيَنِي حقِّي ، أي : إلا أن تَقْضِيَنِي .
قال أبو حيَّان : » ومَعْنَاهُ ومعنى الغية مُتقَارِبَان « .
قال شهابُ الدِّين : » وليْسَ المعنى على الثَّاني ، بل سِياقُ المعنى على عطفه على « بَأذَنَ » فإنه غيًّا الأمر بغايتين : أحداهما خاصة ، وهي إذْنُ أبيه والثانية عامة؛ لأنَّ إذن أبيه له في الانصراف هو من حكم الله عزَّ وجلَّ « .
فصل
اعلم أنَّهم لما أيسوا من تخليصه ، وتناجوا فميا بينهم ، قال كبيرهم : { أَلَمْ تعلموا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً } أي : عهداً { مِّنَ الله وَمِن قَبْلُ } هذا فرَّطتم في شأن يوسف ، ولم تحفظوا عهد أبيكم ، { فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض } التي أنا بها ، وهي أرض مصر ، فلن أفارق أرض مصر { حتى يَأْذَنَ لي أبيا } في الانصراف إليه والخروج مهنا { أَوْ يَحْكُمَ الله لِي } بالخروج منها بردّ أخي إليّ ، أو خروجي ، وترك أخي ، أو بالانتصاف ممَّن أخذ أخي .
وقيل : أو يحكم الله لي بالسَّيفن وأقاتلهم واسترد أخي { وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين } ؛ لأنه لا يحكم إلا بالعدل ، والحق ، فحينئذ تفكَّروا في الأصوب ماهو؟ فظهر لهم أنَّ الأصوب هو الرُّجوع ، وأن يذكروا لأبيهم كيفية الواقعة ، فقال الأخ المحتبس بمصر لإخوته : { ارجعوا إلى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ ياأبانا إِنَّ ابنك } بنيامين » سَرَقَ « .
قرأ العامة : » سَرَقَ « مبنيًّا للفاعل مخففاً ، وابن عباس ، وأبو رزين ، والضحاك ، والكسائي في رواية » سُرِّقَ « بضمِّ السِّين ، كسر الرَّاء مشدداً مبنيًّا للمفعول يعني : نسب إلى السَّرقة ، كما يقال : خَوَّنته ، أي : نسبته إلى الخِيانةِ ، قال الزجاج : » سُرِّقَ « يحتمل معنيين :
أحدهما : علم منه السرقة ، والآخر : اتهم بالسَّرقة .
قال الجوهريُّ : » والسَّرِق والسَّرِقة بكسر الراء فيهما هو اسم الشيء المسروق ، والمصدر : سَرَق ، يَسْرِق ، َرَقاً بفالتح « .
وقرأ الضحاك : » سَارِق « جعله اسم فاعل .
{
وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } فإنَّا رأينا أخراج صاع من متاعه . وقيل : معناه { وَمَا شَهِدْنَآ } أي : ما كانت منَّا شهادة في عمرنا على الشَّيء إلاَّ بما علمنا ، وليست هذه الشَّهادة منَّا ، إنَّما هو خبرٌ عن صنيعِ ابنكَ بزعمهم .
فإن قيل : كيف حكموا عليه بأنَّه سرق من غير بينة ، لا سيَّما وقد أجابهم بالنَّفي فقال : الذي جعل الصَّواع في رحلي ، وهو الذي جعل البضاعة في رحالكم؟ فالجواب من وجوهٍ :
أحدها : أنهم شاهدوا أنَّ الصواع كان موضوعاً في [ محلٍّ ] لم يدخله غيرهم ، فلمَّا شاهدوا إخراج الصواع من رحله؛ غالب على ظنهم أنَّه هو الذي أخذ الصواع .
وأما قوله : « وضَعَ الصُّواعَ في رحْلِي الذي وضع البِضاعَة في رحالكم » فالفرق ظاهرٌ؛ لأنهم لمَّا رجعوا بالبضاعة إليهم اعتروفا بأنهم هم الذين وضعوها في رحالهم ، وأمَّا الصُّواع ، فلم يعترف أحدٌ بأنه هو الذي وضع الصُّواعَ؛ فلهذا غلب على ظنونهم أنه سرق؛ فشهدوا بناء على غلبة الظَّنِّ ، ثمَّ بينوا أنهم غيرُ قاطعين بهذا الأمر بقوله : { وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } .
وثانيها : تقدير الكلام : { إِنَّ ابنك سَرَقَ } في قول الملك ، وأصحابه ، ومثله كثيرٌ في القرآن ، قال تعالى : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] أي : عند نفسك وأمَّا عندنا فلا فكذا هاهنا .
وثالثها : أنَّ ابنك ظهر عليه ما يشبه السَّرقة ، ومثل هذال المعنى قد يسمَّى سرقة ، فإن إطلاق أحد الشَّيئين على الشبيه الآخر جائزٌ ، مثله في القرآن { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] .
ورابعها : أنهم ما كانوا أنبياء في ذلك الوقت ، فلا يبعد أن يقال : إنهم ذكروا هذا الكلام على سبيل المجازفة ، لا سيَّما ، و قد شاهد سائرهم ذلك .
وخامسها : قراءة ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه المتقدمة « سُرِّقَ » أي : نسب إلى السَّرقة ، فهذه لا تحتاجُ إلى تأويلٍ ، إلاَّ أنه تقدَّم أنَّ أمثال هذه القراءة لا تدفعُ السَّؤال؛ لأنَّ الإشكال إنَّما يندفعُ إذا كانت القراءة الأولى باطلة ، وهذه القراءة حقّ أمَّا إذا كانت الأولى حقّ ، كان الإشكال باقياً صحَّت القراءة ، أو لم تصحّ ، فلا بدّ من الرجوعِ إلى أحدِ الوجوه المذكورة .
فصل
دلَّ قولهم : { وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } على أنَّ الشَّهادة غير العلم؛ لأن هذا الكلام يقتضي كون الشَّهادةِ مغايرة للعلم ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : « إذَا عَلمْتَ مثلَ الشَّمْسِ فاشْهَدْ » . . . وليست الشَّهادةٌ عبارةً عن قوله « اشْهَد » ؛ لأنه إخبار عن الشَّهادة ، والأخبار عن الشَّهادة غير الشهادة .
وإذا ثبت هذا؛ فنقول : الشَّهادةُ عبارةٌ عن الحكم الذِّهنيِّ وهو الذي يسميه المتكلمون ب « الكلام » النفسي « .
فصل
قال القرطبيُّ : تضمنت هذه الآية جواز الإشهاد بأيّ [ وجه ] حصل العلمُ بها فإنَّ الشَّهادة مرتبطةٌ بالعلم عقلاً وشرعاً ، فلا تسمعُ إلاَّ ممَّن علم ، ولا تقبلُ إلاَّ منهم ، وهذا هو الأصل في الشَّهادات .
ولهذا قال أصحابنا : شهادة الأعمى جائزة ، وشهادة المستمع جائزةٌ ، وشهادة الأخرس إذا فهمت إشارته جائزة ، وكذلك الشَّهادة على الخطّ أي : إذا تبيَّن أنه خطُّه ، أو خطُّ فلان صحيحةٌ ، فكلُّ من حصل كله العلم بشيء؛ جاز أن يشهد به ، وإن لم يشهدهُ المشهودُ عليه . قال الله تعالى : { إِلاَّ مَن شَهِدَ بالحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ الزخرف : 86 ] وقال عليه الصلاة والسلام : « ألاَ أخْبِرُكمْ بِخيْرِ الشُّهداءِ؟ الذي يأتِي بشهادة قَبْل أنْ يُسْألَها » .
قوله تعلى : { وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } قال مجاهدٌ وقتادة : وما كنا نعلم أنَّ ابنك يسرق ، ويصيِّر أمرنا إلى هذا ، ولو علمنا بلك ما ذهبنا به معنا ، وإنَّما قلنا : ونحفظ أخانا مما لنا إلى حفظه من سبيل .
وقال عكرمة : لعلَّ الصُّواع دفن في اللَّيلِ ، فإنَّ الغيب هو اسم لليل على بعض اللغات .
وقيل : رأيناهم أخرجوا الصواع من رحله ، أمَّا حقيقة الحالِ ، فغير معلومة لنا ، فإن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى .
وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما ما كنا لليله ، ونهاره ، ومجيئه ، وذهابه حافظين .
وقيل : إنَّ يعقوب عليه الصلاة والسلام قال لهم : فهبْ أنه سرق ، ولكن كيف علم الملكُ أن شرع بني إسرائيل أنَّه من سرقَ يُسترقُّ بل أنتم ذكرتموه له لغرض لكم ، فقالوا عند ذلك : إنَّا ذكرنا له هذا الحكم قبل أن نعلم أنّ هذه الواقعة نقع فيها ، فوله : { وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } أي : ما كنا نعلم أن الواقعة تصبينا .
فإن قيل : فهل يجوز من يعقوب أن يخفي حكم الله؟ .
فالجواب : لعلَّ ذلك الحكم كان مخصوصاً بما إذا كان المسروق منه مسلماً ، فلهذا أنكر ذلك الحكم عند الملك الذي ظنَّه كافراً .
قوله تعالى : { واسأل القرية } يحتمل ثلاثة أوجهٍ :
أشهرها : أنه على حذف مضافٍ ، أي : واسألْ أهل القرية ، وأهل العِير ، وهو مجازٌ شائعٌ ، قاله ابن عطيِّة وغيره .
وقال أبو عليِّ الفارسي : ودافع جواز هذا في اللغةِ كدافعِ الضَّرورات ، وجاحد المحسوسات ، وهذا على خلافٍ في المسألةِ ، هل الإضمار من باب المجازِ ، أو غيره؟ المشهور أنه قسم منه ، وعليه اكثر النَّاسِ .
قال أبو المعالي : قال بعض المتكلمين : « هذا من الحذف ، وليس من المجاز إنَّما المجازُ لفظة استعيرت لغير ما هي له ، قال : وحذف المضاف هو عينُ المجاز وعظمه ، هذا مذهب سيبويه وغيره ، وحكي أنَّه قول الجمهور » .
وقال ابن الخطيب : إن الإضمار ، والمجاز [ قسمان لا قسيمان ] ، فهما متباينان .
الثاني : أنَّه مجاز ، ولكنه من باب إطلاق اسم المحل على الحال للمجاورة كالرواية .
الثالث : أنَّه حقيقة لا مجاز فيه ، ولذلك قال أبو بكر الأنباري :
المعنى : واسْألِ القرية والعير؛ فإنَّها تجيبك ، وتذكر لك صحَّة ما ذكرنا؛ لأنك من أكابر الأنبياء ، فيجوز أن ينطق الله لك الجماد ، والبهائم .
وقيل : إنَّ الشيء إذا ظهر ظهوراً تامًّا كاملاً فقد يقال فيه : سل السماءَ والأرض وجميع الأشياء عنه ، والمراد أنه بلغ في الظُّهور إلى الغاية حتَّى لم يبق للشكِّ فيه مجالٌ ، والمراد من القرية : مصر ، وقيل : قرية على باب مصر قال ابن عباس رضي الله عنه : هي قرية من قرى مصر ، كانوا ارتحلوا منها .
وأما قوله : { والعير التي أَقْبَلْنَا فِيهَا } أي القافلة التي كُنَّا فيها .
قال المفسِّرون : كان صحبهم قوم من الكنعانيين من جيران يعقوب .
قال ابنُ إسحاق : عرف الأخ المحتبس بمصر أنَّ إخوته أهل تهمة عند أبيهم لمَا كانوا صنعوا في أمر يوسف عليه السلام ، فأمرهم أن يقولوا هذا لأبيهم .
ثم إنَّهم لما بالغوا في التَّأكيد ، والتقرير قالوا : { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } يعنى سواء نسبتنا إلى التُّهمة ، أم لم تنسب؛ فنحن صادقون ، وليس غرضهم أن يثبتوا صدق أنفسهم؛ لأنَّ هذا يجري جرى إثبات الشيء بنفسه ، بل الإنسان ، إذا قدم ذكر الدَّليل القاطع على صحَّة الشيء ، فقد يقول بعده : وأنَّا صادق في ذلك ، يعني فتأمل فيما ذكرته من الدَّلائل ، والبينات .
فصل
قال القرطبي : « دلَّت هذه الآية على أنَّ كل من كان على حقٍّ ، وعلم أنه قد يظن به أنَّه على [ خلاف ] ما هو عليه ، أو يتوهم أن يرفع التُّهمة ، وكلَّ ريبةٍ عن نفسه ويصرِّح بالحق الذي هو عليه ، حتَّى لا يبقى متكلِّم ، وقد فعل هذا نبينا عليه الصلاة والسلام بقوله للرجلين اللَّذين مرًّا ، وهو قد خرج مع صفيَّة بن حييّ من المسجد : » على رسلكما ، إنّما هي صفيّة بن حييّ « ؛ فقالا : سبحان الله! وكبر علهيما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إنَّ الشَّيطَان يَجْرِي مِنَ آدم مُجْرَى الدَّم ، وإِنِّي خَشِيتُ أن يَقْذِفَ في قُلوبِكُمَا شرًّا ، أو قال : شَيْئاً « متفرقٌ عليه .
فإن قيل : كيف استجاز يوسف أن يعمل هذا بأبيه ، ولم يخبره بمكانه ، ويحبس أخاه مع علمه بشدّة وجد أبيه عليه ، ففيه معنى العقوق ، وقطيعة الرَّجمِ ، وقلَّة الشَّفقةِ؟ .
فالجواب : أنَّه فعل ذلك بأمر الله عزَّ وجلَّ أمره به ليزيد في بلاءِ يعقوب ، فيضاعف له الأجر ، ويلحقه في الدَّرجةِ بآبائه الماضين .
وقيل : إنَّه لم يظهر نفسه لإخوته؛ لأنَّه لم يأمن أن يدبِّروا في أمره تدبيراً ، فيكتموه عن أبيه ، والأول أصح .
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
قوله : { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً } هذا الإضراب لا بدَّ له من كلامٍ قبله متقدم عليه يضرب هذا عنه ، والتقدير : فرجعوا إلى إبيهم ، وذكروا له ما قال كبيرهم ، وفقال يعقوب : ليس الأمر كما ذكرتم حقيقة ، { بل سولت } : زيَّنَتْ { لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً } أي حمل أخيكم إلى مصر ، وليس المراد منه الكذب كواقعة يوسف .
وقيل : { سولت لكم أنفسكم } أنَّه سرق ، ما سرق .
{
فصبر جميل } وتقدَّم الكلام على نظيره ، وقال هناك : { والله المستعان على ما تصفون } وقال ههنا { عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً } .
قال بعضهم : يعنى يوسف ، وبنيامين ، وأخاهم المقيم بمصر .
وإنَّما حكم بهذا الحكم؛ لأنَّه لما طال حزنه وبلاؤه علم أنَّ الله سيجعل له فرجاً ومخرجاً عن قريب ، فقال ذلك على سبيل حسن الظنِّ برحمة الله تعالى .
وقيل : لعلَّه كان قد أخبر من بعد محنته بيوسف أنه حي ، أو ظهرت له علامات على ذلك .
ثم قال : { إِنَّهُ هُوَ العليم الحكيم } العليم بحقائقِِ الأمْرِ ، الحكيم فيها على الوجه المطابق للفضل ، والإحسان .
وقيل : العليم بحزني ، ووجدي على فقدهم ، الحكيم في تدبير خلقه .
قوله تعالى : { وتولى عَنْهُمْ وَقَالَ ياأسفا عَلَى يُوسُفَ وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن فَهُوَ كَظِيمٌ } الآية .
لما سعم يعقوب كلام بنيه ، ضاق قلبه ، وهاج حزنهُ على يوسف ، فأعرض عنهم : { وقال يا أسفى على يوسف } يا حزنا على يوسف .
والأسفُ : أشدُّ الحُزْنِ ، وإنما عظم حزنهُ على مُفارقةِ يوسف عند هذه الواقعة لوجوه :
الأول : أنَّ الحزن القديم الكامل إذا وقع عليه حزن آخر كان أوجع ، قال متمّم بن نويرة : [ الطويل ]
3133
فَقَالَ أتَبْكِي كُلَّ قَبْرٍ رأيتَهُ ... لِمَيْتٍ ثَوَى بَيْنَ اللِّوى والدَّكَادِكَ
فقُلْتُ لَهُ : إنَّ الأسَى يَبْعَيُ الأسَى ... فدَعْنِي فَهذَا كُلُّهُ قَبْرُ مَالِكِ
وذلك؛ لأنه كلما رأى قبراً تجدَّ عليه حزنه على أخيه مالك ، فلاموهُ؛ فأجاب : إنَّ الأسى يبعث الأسى .
الثاني : أنَّ ينيامين ، ويسوف كانا من أمٍّ واحدة ، وكانت المشابهة بينهما في الصِّفة متقاربة ، فكان يعقوب عليه الصلاة والسلام يتسلّى برؤيته عن رؤية يوسف عليه السلام ، فلما وقع ما وقع ، زال ما يوجبُ السَّلوة ، فعظم الألم .
الثالث : أنَّ المصيبة بيوسف كانت أصل مصائبه الَّتي عليها ترتب سائر المصائب ، فكان الأسفُ عليه أسفاً على الكُلِّ .
الرابع : أنَّ هذه المصائب كانت أسبابها جارية مجرى الأمور المعلومةِ ، فلم يبحث عنها يوسف صلوات الله وسلامه عليه فهو عليه السلام كان يعلمُ كذبهم في السَّببِ الذي ذكروه ، وأما السَّببُ الحقيقي ، فلم يعلمه .
وأيضاً : أنه عليه الصلاة والسلام كان يعلم حياة هؤلاء ، وأمَّا يوسف فما كان يعلم أنَّه حي ، أو ميت ، فلهذه الأسباب عظم حزنه على مفارقته .
قوله : { ياأسفا } الألف منقلبة عن ياء المتكلم ، وإنَّما قلبت ألفاً؛ لأنَّ الصَّوت معها أتم ، ونداؤه على سبيل المجازِ ، كأنَّه قال : هذا أوانُك فاحضر ، نحو : « يَا حَسْرَتَا » .
وقيل هذه ألف الندبة ، وحذفت هاء السَّكت وصلاً .
قال الزمخشريُّ : والتَّجانس بين لفظتي الأسف ، ويوسف ممَّا يقعُ مطبوعاً غير متعمل فيملح ، ويبدع ، ونحوه : { اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ } [ التوبة : 38 ] { يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } [ الأنعام : 26 ] { يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ } [ الكهف : 10 ] { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } [ النمل : 22 ] .
قال شهابُ الدِّين : ويسمَّى هذا النَّوع تجنيس التَّصريف ، وهو أن تشترك الكلمتان في لفظ ، ويفرق بينهما بحرف ليس في الأخرى ، وقد تقدَّم [ الأنعام : 26 ] .
وقرأ ابن عباسٍ ، مجاهدٌ « مِنَ الحَزَن » بفتحتين ، وقتادة بضمتين والعامة بضمة فسكون .
فالحُزْن ، والحَزَن ، كالعُدْمِ ، والعَدَم ، والبُخْل والبَخَل ، وأمَّا الضمتان فالثانية إتباعٌ . وقال الواحديُّ : اختلفوا في الحُزْنِ ، الحَزَن ، فقال قومٌ : الحُزْن : البُكاء والحَزَن ضد الفرحِ ، وقال قومٌ : هما لغتان ، يقال : أصَابهُ حُزْنٌ شديدٌ وحَزنٌ شديدٌ ، إذا كان في مواضع النَّصب ، فتحوا الحاء ، والزَّاي كقوله : { تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع حَزَناً } [ التوبة : 92 ] ، وإذا كان في موضع الرفع ، والخفض فبضم الحاءِ ، كقوله : { مِنَ الحزن } وقوله : { إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله } قال : هما في موضع رفع بالابتداء .
و « كَضِيمٌ » يجوز أن يكون مبالغة بمعنى فاعل ، وأن يكون بمعنى مفعول ، كقوله : { وَهُوَ مَكْظُومٌ } [ القلم : 48 ] وبه فسَّرهُ الزمخشريُّ ، فإن كان بمعنى الكَاظِم فهو الممسكل على حزنه فلا يظهره ، وإن كان بمعنى المكظُومِ ، فقال ابنُ قتيبةك « معناه المملوء من الهمّ ، والحزن مع سدّ طريق نفسه المصدور ، من كَظَمَ السِّقاء ، إذا اشتدّ على ملئه ، ويجوز أن يكون بمعنى مَمْلُوء من الغيظِ على أولاده » .
فصل
تقدَّم الكلام على الأسفِ ، وأمَّا قوله : { وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن } فقيل : إنَّه لما قال : { ياأسفا عَلَى يُوسُفَ } غلبه البُكَاءُ ، وعند غلبةِ البُكاءِ يكثرُ الماء في العين ، فتصير العينُ كأنها ابيضَّت من بياض ذلك الماءِ ، فقوله : { وابيضت عَيْنَاهُ } كناية عن غلبة البكاءِ . رواه الواحدي عن ابن عبَّاسٍ . وقال مقاتلٌ : كناية عن العمى ، فلم يبصر بهما شيئاً حتى كشفهُ اللهُ تعالى بقميص يوسف عليه الصلاة والسلام بقوله : { فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً } [ يوسف : 93 ] ، وقال : { فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير أَلْقَاهُ على وَجْهِهِ فارتد بَصِيراً } [ يوسف : 96 ] : ولأنَّ الحزن الدَّائم ، يوجب البكاء الدائم وهو يوجب العمىح لأنَّه يوجب كُدُورة على سوادِ العين .
وقيل : ما عمي ، ولكنَّه صار بحيثُ يدرك إدراكاً ضعيفاً؛ كما قال : [ الطويل ]
3134
خَلِيليَّ إنِّي قَدْ غَشِيتُ مِنَ البُكَا ... فهَلْ عِنْدَ غَيْرِي مُقلَةٌ اسْتَعِيرُهَا
قيل : ما صحَّت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ، وتلك المدة ثمانون سنةن وما كان على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب عليه الصلاة والسلام .
قولهك « تَفْتَؤ » هذا جواب القسم في قوله : « تَاللهِ » وهو على حذف لا أي : لا تفتؤ كقول الشَّاعر : [ البسيط ]
3135
تَاللهِ على الأيَّامِ ذُو حَيَدٍ ... بمُشْمَخرِّ بِهِ الظَّيَّانُ والآسُ
أي : لا تبقى ، ويدلُّ على حذفها : أنَّهُ لو كان مثبتاً؛ لاقترن بلام الابتداء ونون التَّوكيد معاً عند البصريين ، أو إحداهما عن الكوفيين ، وتقول : واللهِ أحبُّك : تريد لأحبك ، وهو من التَّوريةِ ، فإن كثيراً من النَّاس يتبادر ذهنه إلى إثباتِ المحبَّة ، و « تَفْتَأ » هنا ناقصة بمعنى لا تزال .
قال ابنُ السِّكيت : « ما زِلتُ أفعله ، ما فَتِئت أفعلهُ ، ما بَرحْتُ أفْعَلُه ، ولا يتكلم بهنَّ إلاَّ في الجحد » .
قال ابن قتيبة : « يقال : مَا فترت ومَا فَتِئت ، لغتان ، ومعناه : ما نسيته ، وما انقطعتْ عنه » ، وإذا كانت ناقصة؛ فهي ترفع الاسم ، وهو الضمير ، وتنصب الخبر ، وهو الجملة من قوله : « تَذْكرُ » أي : لا تزالُ ذاكراً له ، يقال : ما فَتِىء زيدٌ ذاهباً؛ قال أوس بن حجرٍ : [ الطويل ]
3136
فَمَا فَتِئَتْ حَتَّى كَأنَّ غُبَارهَا ... سُرَادِقُ يَوْمٍ ذِي ريَاحٍ تُرَفَّعُ
وقال أيضاً : [ الطويل ]
3137
فَمَا فَتِئَتْ خَيلٌ تَثوبُ وتدَّعِي ... ويَلحَقُ منهَا لاحِقٌ وتُقطَّعُ
وعن مجاهدٍ : لا تفتر؛ قال الزمخشريُّ : كأنه جعل الفُتُوء ، والفُتُورَ أخوين ، كما تقدَّم عن ابنِ قتيبة ، وفيهما لغتان : « فَتَأ » على وزن « ضَرَبَ » ، و « أفْتَأ » على وزن « أكْرَمَ » ، ويتكون تامَّة بمعنى : « سَكَنَ وأطْفَأ » كذا قاله ابنُ مالكٍ .
وزعم أبُو حيَّان : أنه تصحيفٌ منه ، وإنَّما هي فَثَأ بالثَّاءِ المثلثة ، ورسمت هذه اللَّفظة « تَفْتَؤ » بالواو ، والقياس « تَفْتَأ » بالألفن وكذلك يوقف لحمزة بالوجهين اعتباراً بالخطِّ ، والقياس .
قوله : « حَرَضاً » : الحَرَضُ : الإشفاءُ على الموت ، يقال منه : حَرَضَ الرَّجلُ يحرُض حرضاً بفتح الرَّاء ، فهو حرض بكسرهَا ، فالحرض مصدر من هذه المادَّة فيجيء في الآية الأوجه التي في « رجُلُ عدلٌ » كما تقدم .
ويطلق المصدر من هذه المادَّة على : « الحُثث » إطلاقاً شائعاً؛ ولذلك يستوي فيه المفرد ، والمثنى ، والمجموع ، والمذكر ، والمؤنث ، تقول : هو حرضٌ ، وهما حرضٌ وهُم حَرَضٌ ، وهي حَرَضٌ ، وهُنَّ حَرَضٌ؛ ويقال : رجلٌ حُرُضٌ بضمتين ، نحو : جُنُب ، وشُلْل . ويقال : أحْرَضهُ كذا ، أي أهلكهُ؛ قال : [ البسيط ]
3138
إنِّي أمرؤُ لجَّ بِي حُبِّ فأحْرَضنِي ... حتَّى بَلِيتُ وحتَّى شَفَّنِي السَّقمُ
فهو مخرض . . قال الشَّاعر : [ الطويل ]
3139
أرَى المَرْءَ كالأذْوَادِ يُصْبحُ مُحْرَضاً ... كإحْرَاضِ بكرٍ في الدِّيارِ مَريضِ
وقرأ بعضهم « حَرِضاً » بكسر الرَّاء .
وقال الزمخشريُّ : « وجاءت القراءة بهما جميعاً » يعنى بفتح الراء ، وكسرها .
وقرأ الحسن : « حُرُضاً » بضمتين ، وقد تقدَّم أنه ك : « جُنُبٍ ، وشُلُلٍ » ، وزاد الزمخشريُّ : وغُرُب « .
وقال الراغب : الحَرَض : ما لا يعتدُّّ به ، ولا خيرَ فِيهِ ، ولذلك يقال لمن أشرف على الهلاك : حَرَض ، قال تعالى : { حتى تَكُونَ حَرَضاً } [ يوسف : 85 ] ، وقد أحرصهُ كذا قال الشَّاعر : [ البسيط ]
3140
إنِّي امْرُؤٌ لجَّ بِي همٌّ فأحْرَضْنِي ... والحُرْضَة : من لا يأكل إلاَّ لحم الميسر لنذالتهِ ، والتَّحريضُ : الحثُّ على الشَّيء بكثرة التَّزيينِ ، وتسهيل الخطب فيه ، كأنَّه إزالة الحرض نحو : قَذَّيتُه ، أي : أزلتُ عنه القَذَى ، وأحرضتهُ : أفسدتهُ ، نحو : أقذيتهُ : إذا جعلت فيه القَذَى « انتهى » .
والحُرُضُ : الأشنانُ ، لإزالته الفساد ، والمِحْرضَة : وعاؤه ، وشذوذها كشذوذ : مُنْخُل ، ومُسْعُط ، ومُكْحُلة .
وحكى الواحديُّ عن أهل المعاني : أنَّ أصل الحَرَض : فساد الجسم ، والعقل للحزن ، والحبِّ ، وقولهم : حرَّضتُ فلاناً على فلانٍ ، تأويله : أفسدته وأحميته عليه ، قال الله تعالى : { حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال } [ الأنفال : 65 ] .
وإذا عرفت هذا فوصف الرَّجُل بأنه حرض إمَّا أن يكون المراد منه : ذو حرض فحذف المضاف ، أو المراد منه : أنَّه لما تناهى في الفسادِ ، والضعفح فكأنَّه صار عين الحرض ، ونفس الفسادِ ، وأمَّا الحَرِض بكسر الراء فهو الصِّفة كما قرىء بها وللمفسِّرين فه عباراتُ :
أحدها : الحَرَض ، والحَارِضُ ، وهو الفساد في جسمه ، وعقله .
وثانيها : قال نافع بن الأزرق : سئل ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما فقال : الفاسد الرَّأي .
وثالثها : أنه هو الذي يكون لا كالأحياء ، ولا كالأموات .
وذكر أبو روق أنَّ أنس بن مالك قرأ : { حتى تَكُونَ حَرَضاً } بضمِّ الحاء وسكن الرَّاء .
ثم قال تعالى : { أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين } من الأموات ، والمعنى : لا تزال تذكر يوسف بالحزن ، والبكاء عليه حتى تصير بحث لا تنتفع بنفسك ، أو تموت من الغمّ ،
وأرادوا بذلك منعه من كثرةِ البُكاءِ ، والأسف .
فإن قيل : لم حلفوا على ذلك مع أنَّهم لم يعلموا ذلك قطعاً؟ .
فاالجواب : أنَّهم بنوا الأمر على الظَّاهر .
قال المفسِّرون : القائل هذا الكلام ، وهوقوله : { تالله تفتؤ تذكر يوسف } هم إخوة يوسف ، وقال بعضهم : ليسوا الإخوة ، بل الجماعة الذين كانوا في الدَّار من أولاده وخدمه ، فقال يعقوب عليه الصلاة والسلام : { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله } والبَثُّ : أشدُّ الحزن ، كأنَّه لقوته لا يطاق حمله ، فيبثه الإنسان ، أي : يفرِّقه ، ويذيعه وقد تقدَّم [ آل عمران : 186 ] أنَّ أصل هذه المادَّة الدلالة على الانتشار ، وجوَّز فيه الرَّاغب هنا وجهين :
أحدهما : أنه مصدر في معنى المعفولِ ، قال : « أي : غمّي الذي يبثه عن كتمانٍ ، فهو مصدر في تقدير مفعول ، أو يعني غمِّي الذي بثَّ فكري ، فيكون في معنى الفاعل » .
وقرأ الحسن وعيسى « وحَزَنِي » بفتحتين ، و قتادة بضمتين ، وقد تقدم .
فصل
المعنى : أن يعقوب عليه السلام لما رأى غلظتهم ، قال : إنَّما أشكو شدَّة حزني إلى الله ، وسمَّى شدَّة الحزن بثًّا؛ لأنَّ صابحه لا يبصر عليه حتى يبثه ، أي : [ يظهره ] .
وقال الحسن : بَثِّي ، اي : حاجتي ، والمعنى : أنَّ هذا الذي أذكره لا أذكره معكم ، وإنَّما أذكره في حضرةِ الله تعالى والإنسان إذا ذكر شكواه إلى الله تعالى كان ف يزمرة المحققين .
وروي أنَّهُ قيل له : يا يعقوبك ما الذي أذهب بصرك ، وقوَّص ظهرك؟ قال : أذهب بصري بكائي على يوسف ، وقوس ظهري حزني على أخيه؛ فأوحى الله إليه : أتشكوني وعزتي لا أكشف ما بك حتى تدعوني ، فعند ذلك قال : { إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله } ثم قال : { وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي : أعلمُ من رحمته وأحسانه ما لا تعلمون ، وهو أنَّه تعالى يأتيني بالفرج من حيث لا أحتسبه ، وهو إشارة إلى أنه كان يتوقَّع رجوع يوسف إليه ، وذكروا لسبب هذا التوقع وجوهاً :
أحدها : أنَّ مالك الموت أتاهُ فقال له : يا مالك الموت! هل قبضت روح ابني يوسف قال : لا يا نبيَّ الله ، ثمَّ أشار إلى جانب مصر ، وقال : اطلبهُ هاهنا .
وثانيها : أنه علم من رؤيا يوسف عليه السلام أنَّها صادقةٌ ، وأنا وأنتم سنسجد له .
وثالثها : لعلَّه تعالى أوحى إليه أنَّه سيوصله إليه ، ولكنَّه تعالى ما عيَّن الوقت؛ فلهذا بقي في القلب .
ورابعها : قال السديُّ : لما أخبره بنوه بسيرة الملك ، وحاله في أقواله ، وأفعاله؛ طمع أن يكون هو يوسف ، وقال : لا يبعدُ أن يملك الكفَّار مثلُ هذا .
وخامسها : علم قطعاً أن بنيامين لا يسرقُ ، وسمع أنَّ الملك ما آذاه ، ولا ضربه؛ فغلب على [ ظنه ] أنَّ ذلك الملك هو يوسف عليه السلام ، فعند ذلك قال : { يا بني اذهبوا تحسّسوا من يوسف وأخيه } أي : استقصوا خبره بحواسِّكم ، والتَّحَسُّسُك لطب الشَّيء بالحاسَّة .
قال ابنُ الأنباريِّ « يقالُ : تَحَسَّسْتُ عن فلانٍ ، ولا يقال : من فلان ، وقيل : ههنا من يوسفح لأنه أقيم : » مِنْ « مقام : » عَنْ « قال : ولا يجوز أن يقال : » مِنْ « للتعبيض ، والمعنى : تحَسَّسُوا خبراً من أخبار يوسف ، واستعملوا بعض أخبار يوسف فذكرت كلمة » مِنْ « لما فيها من الدلالة على التبعيض » .
والتحسُّسُ : يكون في الخيرِ والشَّر ، وقيل : بالحاء في الخير ، وبالجيم في الشَّر ، ولذلك قال هاهنا : « فتَحَسَّسُوا » ، وفي الحجرات : { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } [ الحجرات : 12 ] .
وليس كذلك فإنه قد قرىء بالجميم هنا .
ثم قال : { وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله } وتقدَّم الخلاف في قوله : { وَلاَ تَيْأَسُواْ } .
وقرأ الأعرج : « ولا تَيْسُوا » وقرأ العامة : « رَوْحِ اللهِ » بالفتح ، وهو رحمته وتنفيسه .
قال الأصمعيُّ رحمه الله « الرَّوحُ ما يجدهُ الإنسان من نسيم الهوى ، فيسكن إليه ، وتركيب الرَّاء ، والواو ، والحاء يفيد الحركة ، وهو الاهتزازُ ، فكلُّ ما يهتزُّ له الإنسان ، ويلتذُّ بوجوده فهو روح » .
قال ابن رضي الله عنهما : { لا تيأسو من روح الله } أي من رحمته وعن قتادة من فضل الله ، وقيل : مِن فَرِجِِ اللهِ .
وقرأ الحسن ، وعمر بن عبدالعزيز ، وقتادة رضي الله عنهم بضمِّ الراء .
قال الزمخشريُّ : « لا تَيْأسوا ، أي : من رحمته التي يحيى بها العباد » .
وقال ابن عطية : وكأن معنى هذه القراءة لا تيأسوا من حي معه روح الله الذي وهبه فإن من بقي روحه يرجى؛ ومن هذا قول الشاعر : [ الطويل ]
3141 . ...
وفِي غَيْرِ من قَدْ وَارتِ الأرضًُ فاطْمَعِ
ومن هذا قول عبيد بن الأبرص : [ مخلع البسيط ]
3142
وكُلُّ ذِي غيبَةٍ يَئُوبُ ... وغَائِبُ المَوتِ لا يَئُوبُ
وقرأ أبي : مِنْ رحْمةِ اللهِ ، و « عِنْدَ اللهِ » : « مِنْ فضلِ الله » تفسير لاتلاوة .
وقال أبو البقاء : « والجمهور على فتح الرَّاء ، وهو مصدر في معنى الرَّحمة إلا أنَّ استعمال الفعل منه قليل ، وإنِّما يستعمل بالزِّيادة ، مثل أراح ، ويقرأ بضمِّ الرَّاء ، وهي لغةٌ فيه ، وقيل : هو اسم للمصدر ، مثل الشُّربِ والشَّرب » .
ثم قال : { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون } قال ابن عبَّاس : إن المؤمن من من الله على خير يرجوه في البلاءِ ، ويحمده في الرَّخاء . واعلم أنَّ اليأس من رحمة الله لا يحصلُ إلاَّ إذا اعتقد الإنسان أنَّ إله العالم غير قادر على الكمالِ ، أو غير عالم بجميع المعلوماتِ ، أو ليس بكريمٍ ، بل هو بخيلٌ ، وكل واحد من هذه الثلاثة يوجب الكفر ، والمعنى : أنَّ اليأس لا يحصل إلاَّ لمن كان كافراً ، والله أعلم .
فصل
روي عن عبدالله بن يزيد بن أبي فروة : أنَّ يعقوب كتب كتاباً إلى يوسف عليه الصلاة والسلام حين حبس بنيامين :
«
من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله صلوات الله وسلامه عليه إلى ملك مصر ، أما بعد :
فإنا أهلُ بيتٍ ، وكل بناء البَلاءُ ، أما جدّي إبراهيم عليه الصلاة والسلام فشُدَّتْ يداه ، ورجلاه ، وألقي في النَّار؛ فجلعها الله عليه برداً وسلاماً ، وأمَّا أبي فشدَّت يداه ورجلاه ، ووض السِّيكن على قفاه؛ ففداه الله ، وأمَّا أنا فكان لي ابنٌ ، وكان أحبَّ أولادي إليّ ، فذهب به إخوته إلى البرِّيةِ ، ثم أتوني بقيمصه ملطّخاً بالدَّم ، فقال : أكله الذِّئب؛ فذهبت عيناي ، ثمَّ كان لي ابن ، وكان أخاه من أمه ، وكنت أتسلى به ، وأنِّك حبسته ، وزعمتَ أنَّه سرق ، وأنَّا أهل بيتٍ لا نسرقُ ، ولا نَلِدُ سَارقاً ، فإن ردَدْتَهُ عليّن وإلاَّ دَعوتُ علَيْكَ دعْوة تُدرِكُ السَّابعَ من وَلدِك » .
فلما قرأ يوسف لم يتمالك البُكاء ، [ وعيل ] صبره ، وأظهر نفسه على ما يأتي إن شاء الله تعالى .
قال ابن الخطيب : في الآية سؤالات :
الأول : أنَّ بلوغ يعقوب في محبة يوسف إلى هذا الحدِّ العظيم لا يليقُ إلا لمنْ كان غافلاً عن الله تعالى ؛ لأنَّ من عرف اللهِ؛ أحبه ، من أحبَّ اللهَ لم يتفرغْ قلبه بحب شيءٍ سوى اللهِ تعالى وأيضاً : القلبُ الواحدُ لا يسع الحب المستغرب لشيئين ، فلمَّا كان قلبه مستغرقاً ف يحبّ ولده؛ امتنع أن يقال : إنَّه كان مستغرقاً في حبّ الله تعالى ؟ .
السؤال الثاني : أنّضه عند استيلا ء الحزن الشَّديد عليه؛ كان من الواجب عليه أن يشتغل بذكر اللهِ تعالى والتفويض ، والتَّسليم لقضائه .
وأما قوله : { يا أسفا على يوسف } ، فذلك لا يليقُ بأهل الدِّين والعلم فضلاً عن أكابرِ الأنبياء صلواتا لله وسلامه عليهم أجمعين؟ .
السؤال الثالث : لا شكّ أن يعقوب عليه الصلاة والسلام ت كان من أكابر الأنبياء وكان أبوه ، وجده ، وعمه كلهم من أكابر الأنبياء المشهورين في جميع الأنبياء ومن كان كذلك ، ثم وقعت له و اقعةٌ هائلة في أعزِّ أولاده ، لم تبق تلك الواقعة خفيَّة ، بل لا بدَّ ، وأن تبلغ في الشُّهرة إلى حيث يعرفها كل أحدٍ ، لا سيما ، وقد انقضت المدَّة الطويلة فيها ، وبقي يعقوب على حزنه الشديد ، وأسفه العظيم ، وكان يوسف في مصر ، وكان يعقوب في بعض [ بوادي ] الشَّام قريباً من مصر ، فمع قرب المسافة يمتنع بقاء هذه الواقعة خفية .
السؤال الرابع : لِمَ لَمْ يبعث يوسف إلى يعقوب ويعلمه أنَّه من الحياة صلاة الله عليهما وفي السِّلامة ولا يقال : إنه كان يخاف إخوته؛ لأنه بعد أن صار ملكاً قاهراً يمكنه إرسال الرسول إليه ، وإخوته ما كانوا يقدرون على دفع رسوله؟ .
السؤال الخامس : كيف جاز ليوسف عليه الصلاة والسلام أن يضع الصَّواعَ في وعاءٍ أخيه ، ثم يستخرجه ويلصقُ به تهمة السرقة مع أنَّه كان بريئاً عها .
السؤال السادس : كيف رغب في إلصاق هذه التُّهمة له ، وحبسه عند نفسه مع أنَّهُ كان يعلم أنه يزداد حزن أبيه ويقوى؟ .
والجواب عن الأول : أنَّ مع مثل هذه المحبة الشَّديدة يكون كثير الرُّجوع إلى الله تعالى كثير الاشتغال بالدُّعاء ، والتضرُّع ، وذلك يكون سبباً لكما الاستغراق وعن الثاني : أنَّ الداعية الإنسانية لا تزول في الحياة العاجلة ، فتارة كان يقول { يا أسفى على يوسف } وتارة كان يقول : { فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون } وأما بقية الأسئلة ، فالقاضي أجاب عنها فقال : هذه الوقائعُ الَّتي نقلت إلينا إمَّا أن يمكن تخريجها على الأحوال المعتادة أو لايمكن ، فإن كان الأوَّل ، فلا إشكالَ وإن كان الثاني فنقول : كان الزَّمان زمان الأنبياء ، وخرق العادة في ذلك الزمان غير مستبعدٍ ، فلم يمتنع أن يقال : إنَّ بلدة يعقوب مع أنها كانت قريبة من بلدة يوسف عليه الصلاة والسلام ولكن لم يصل خبر أحدهما إلى الآخر على سبيل يقتضي العلم .
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
قوله تعالى : { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ ياأيها العزيز } الآية اتفق المفسِّرون على أنَّ هنا محذوفاً ، وتقديره : فخرجوا راجعين إلى مصر ، ودخلوا على يوسف ، فقالوا : يا أيُّها العزيزُ .
فإن قيل : إذا كان يقعوب أمرهم أن يتحسسوا من يوسف وأخيه ، فلم عادوا إلى الشكوى؟ .
فالجواب : أنَّ المتحسِّسَ يصل إلى مطلوبه بجميع الطُّرقِ ، والاعترافِ باِلعجز ، وضموا رقَّة الحال ، وقلَّة المال ، وشدَّة الحاجة ، وذلك ممَّا يرقِّقٌ القلب ، فقالوا : نُجرِّبهُ في هذه الأمورِ ، فإن قلبه لنا ذكرنا له المقصود ، وإلا سكتنا ، فلهذا قدَّموا ذكر فقالوا : « أيُّها العزيزُ » والعزيزُ : الملكُ القادرُ الممتنع : « مسَّنَا وأهْلنَا الضُرُّ » وهو الفقر ، والحاجة ، وكثرة العيال وقلَّة الطَّعام ، وعنوا بأهلهم من خلفهم .
قوله : « مُزجَاةٍ » أي مدفوعة يدفعها كلُّ أحدٍ عنه لزهادته فيها ، ومنه : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً } [ النور : 43 ] أي : يسوقها بالريح؛ وقال حاتم [ الطويل ]
3143
لِيًَبْكِ على مِلحَان ضَيْفٌ مُدفَعٌ ... وأرْمَلةٌ تُزْجِي مَعَ اللَّيْلِ أرْمَلاَ
ويقال : أزْجيتُ رَدِيء الدرهم فزُجِي ، ومنه استعير زَجَا الجِرَاح تزْجُوا زجاً وجراح زَاج . وقول الشاعر : [ البسيط ]
3144
وحَاجَةٍ غَيْرِ مُزْجاةٍ مِن الحَاجِ ... أي : غير يسيرة يمكنُ دفعها ، وصرفها لقلَّة الاعتداد بها ، فألف « مُزجَاةٍ » منقلبة عن واو .
فصل
وإنَّما وصفوا تلك البضاعة بأنها مزجاة إمَّا لنقصها ، أو لدناءتها أو لهما جميعاً ، قال بعضهم : المُزْجَاةُ القليلة . وقيلك كانت رَدِيئةً .
وقال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما كانت دراهم رديئة لا تقبل في ثمن الطَّعام وقيل : أمتعة رديئة . وقيل : متاع الأعراب الصُّوفُ والسَّمْن . وقيل : الحبة الخضراء ، وقيل : الأقط ، وقيل : النعال والأدم ، وقيل : سويق المقل .
وقيل : إنَّ الدَّراهم كانت منوقشة عليها صورة يوسف ، والدَّراهم الَّتي جاؤا بها ، ما كان فيها صورة يوسف .
وإنَّما سيمت البضاعة القليلة الرَّديئة مزجاة ، قال الزجاج : من قولهم : فلانٌ يزْجِي العَيْشَ ، أي : يدفع الزَّمان بالقليلِ ، أي : إنَّا جئنا ببضاعة مزجاة ندافع بها الزَّمان ، وليست مما ينتفعُ بها ، وعلى هذا فالتقديرُ ببضاعة مزجاةٍ ندافع بها الأيام .
قال أبو عبيد : إنَّما قيل للدَّراهم الرّّديئةِ مزجاة؛ لأنَّها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممَّن ينفقها ، قال : وهي من الإزجاء ، والإزجاء عند العرب : الدَّفعُ .
وقيل : مزجاة ، أي : مؤخرة مدفوعة عن الإنفاقِ لا يقبل مثلها إلاَّ من اضطر ، واحتاج إليها لفقد غيرها ممَّا هو أجود مها .
وقال الكلبيُّ : « مزجاة لغة العجم ، وقيل : هي من لفظ القِبْطِ » .
قال ابن الأنباريي : لا ينبغي أن يجعل لفظ عربي معروف الاشتقاق منسوباً إلى القبط .
وقرأ حمزة والكسائي : « مُزْجَاةٍ » بالإمالة؛ لأن اصله الياء ، والباقون بالفتح والتفخيم .
ثمَّ لما وصفوا شدَّة حالهم ، ووصفوا بضاعتهم بأنها مزجاة قالوا له : « فأوْفِ لنَا الكيْلَ : يجوز أن يراد به حقيقة من الآلة ، وأن يراد به الكيل ، فيكون مصدراً ، والمعنى إنَّا نريدٌ أن نقيم النَّاقص مقام الزَّائد أو نقيم الرَّديء مقام الجيِّد .
{
وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ } : أي تفضل علينا بما بين الثمنين الجيّد ، والرَّديء ، وسامحنا ولا تنقصنا .
وقال ابن جريج ، والضحاك ، أي : تصدَّق علينا بردِّّ أخينا لنا : { إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين } يثيب المتصدقين .
قال الضحاك : لم يقولوا : إنَّ الله يجزيك؛ لأنَّهم لم يعلموا أنَّه مؤمنٌ .
وسُئل سفيان بن عيينة : هل حرمت الصدقة على نبيّ من الأنبياء سوى نبيِّنا صلوات الله وسلامه عليه ؟ .
قال سفيان : ألم تسمع قوله : { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين } .
يريد : أنَّ الصَّدقة كانت حلالاً لهم ، وأنكر الباقون ذلك ، وقالوا : حالُ الأنبياء وحالُ أولادِ الأنبياء في طلب الصَّدقة سواء؛ لأنَّهم يأنفون من الخضوع إلى المخلوقين ويغلب عليهم الانقطاع إلى الله ، والاستغناء به عمَّنْ سواه .
وروي عن الحسنِ ومجاهدٍ : أنَّهما كرها أن يقول الرَّجل في دعائه : اللَّهُمَّ تصدَّق علينا ، قالوا : لأنَّ الله لا يتصدَّق ، وإنَّما التَّصدُّق بمعنى الثَّواب ، وإنما يقول اللَّهُمَّ أعطني وتفضَّل علينا .
فصل
قال القرطبيُّ : « استدلًَّ العلماء بهذه الآية على أنَّ أجرة الكيال على البائع ، لقولهم ليسوف عليه الصلاة والسلام » فأوْفِ لَنَا الكَيْلَ « فكان يوسفُ هو الذي يكيل ، وكذلك الوزَّانُ ، العدَّادُ وغيرهم؛ لأنَّ الرَّجُلَ إذا باع عدّة من طعامه معلومة ، وأوجب العقد عليه؛ وجب عليه أن يبرزها ، ويُمَيِّز حقَّ المشتري من حقِّه إلا إن كان المبيعُ فيه معيناً صبره ، أو ما ليس فيه حق موفيه ، فيخلي ما بينه وبينه ، وما جرى على المبيع فهو ضمان المبتاع ، وليس كذلك ما يتعلَّق به حقُّ موفيه من كيل أو وزنٍ ، ألا ترى : أنَّه لا يستحقُّ البائع الثمن إلاَّ بعد التَّوفية ، كذلك أجرة النقد على البائع أيضاً؛ لأنَّ المتباع الدَّافع لدراهمه يقول : إنَّها طيبة فأنت الذي تدّعي الرَّداءة ، فانظر لنفسك ، فيقع له فكان الأجرُ عليه ، وكذلك لا يجبُ أجرة القاطع على من يجب عليه القصاص لأنه لا يجب عليه أن يقطع نفسه ، ولا أن يمكن من ذلك طائعاً؛ ألا ترى أنَّ فرضاَ عليه أن يفدي يده ، ويصالح عليه ، إذا طلب المقتص ذلك .
وقال الشَّافعيُّ : إن الأجرة على المقتص منه كالبائع؛ لأنَّه يجب عليه تسليم يده .
فصل
روي : أنهم لما قالوا : { مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر } وتضرَّعُوا إليه ، أدركته الرِّقَّة ، فارفضَّ دمعه ، فباح الذي كان يكتمُ ، فقال : { هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ } وقيل : دفعوا إليه كتاب يعقوب ، فلما قرأ الكتاب ارتعدت مفاصله واقشعرَّ جلدهُ ، ولانَ قلبه ، وكثر بكاؤه؛ فصرح بأنه يوسف .
قوله : { هَلْ عَلِمْتُمْ } يجوز أن تكون استفهامية للتَّوبيخ ، وهو الأظهر وقيل : هو خبر و » هَلْ « بمعنى » قَدْ « .
وقال الكلبيُّ : « إنما قال : { هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ } حين حكى لإخوته أنَّ مالك بن دعر قال : إنِّي وجدت غلاماً في بئر من حلاعه كَيْتَ وكيْتَ فأبتعته بكذا وكذا درهماً ، فقالوا أيُّها الملك : نحن بِعْنَا ذلك الغلام منه؛ فغاظ يوسف عليه السلام ذلك ، وأمر بقتلهم ، فذهبوا بهم ليقتلوهم ، فولى يَهُوذا وهو يقول : كان يعقوب قد حزن لِفقْدِ واحدة منَّا حتَّى كفَّ بصره ، فكيف إذا أتاهُ قتل بنيه كلِّهم ، ثم قالوا له : إن فعلت ذلك ، فابعثْ بأمتعتنا إلى أبينا ، فإنَّه بمكان كذا وكذا ، فذلك حين رحمهم وبكى ، وقال ذلك القول » .
وفي هذه الآية تصديق قوله تعالى : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [ يوسف : 15 ] ، وأمَّا قوله : « وَأخِيهِ » فالمراد ما فعلتم من تعريضه للغمِّ بسبب إفراده عن أخيه لأبيه وامِّه ، وأيضاًك كانوا يؤذونه ، ومن جملة الإيذاء ، قالوا في حقه : { إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ } [ يوسف : 77 ] وأما قوله : { إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ } فهو يجرى مجرى الغدرِ لهم كأنه قال : أنتم أقدمتم على ذلك الفعل القبيح المنكر حال كونكم من حالة الصِّبا ، وفي جهالة الغرور ، يعني : والآن لستُم كذلكن ونظيره قوله تعالى : { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم } [ الانفطار : 6 ] وقيل : إنما ذكر تعالى ذلك الوصف ليكون ذلك جارياً مجرى الجواب ، فيقول العبدُ : يا ربِّ غرَّنِي كرَمُكَ ، فكذا ههنا إنَّما قال لهم يوسف ذلك الكلام إزالة للخجل عنهم ، وتخفيفاً للأمر عليهم .
وقيل : المعنى : إذ أنتم جاهلون بما يئول إليه أمر يوسف صلوات الله وسلامه عليه . فإن قيل : كيف قال : { مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ } ، ولم يكن منهم إلى أخيه شيء ، ولم يسعوا في حبسه؟ .
قيل : هو قولهم حين أخرجوا الصواع من رحله ، ما رأينا منكم يا بني راحيل إلاَّ البلاء .
وقيل : تفريقهم بينه ، وبين أخيه يوسف ، وكانوا يؤذونه بعد فقد يوسف .
قوله : « أئِنَّكَ » قرأ ابن كثير ، وأبو جعفر : « إنَّكَ » بهمزة واحدة على الخبر والباقون بهمزتين استفهاماً ، وقد تقدَّم قراءتهم في هاتين الهمزتين تخفيفاً ، وتسهيلاً وغير ذلك ، فأمَّا قراءة ابن كثير ، فيحتمل أن تكون خبراً محضاً واستبعد هذا من حيث تخالف القراءتين مع أنَّ القائل واحد .
وقد أجيب عن ذلك بأنَّ بعضهم قاله استفهاماً ، وبعضهم قاله خبراً ، ويحتمل أن يكون استفهاماً حذف منه الأداة لدلالة السِّياق ، والقراءة الأخرى عليه ، وقد تقدَّم نحو هذا في الإعراب .
وقرأ أبيّ ( أَوَأَنْتَ يوسف ) فمن قرأ بالاستفهما قالوا : إنَّ يوسف لما قال لهم : { هل علمتم ما فعلتم } تبيَّنوا يوسف ، فأبصروا ثناياه كاللّؤلؤ المنظُوم .
وروى الضحاكُ عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما لما قال هذا القول تبسَّم فرأوْا ثناياه كاللّؤلؤن فشبهوه بيوسف ، ولم يعرفوه ، فقالوا استفهاماً : { أَإِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ } ويدلُّ على أنه استفهام قوله : « أنَا يُوسفُ » ، وإنَّما أجابهم عما اسْتَفْهَمُوا عنه ، ومن قرأ على الخبر فحجته ما روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه قال : إنَّ أخوة يوسف لم يعرفوه حتّى وضع التَّاج عن رأسه ، كان في قرنه شامة وكان لإسحاق ، ويعقوب مثلها تشبه التَّاج عرفوه بتلك العلامة .
وقال ابن إسحاقك « كان يتكلَّم من وراء ستر ، فلما قال : { هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ } رفع الحجاب فعرفوه » وقيل : قالوه على التَّوُّهمِ .
«
واللام في : » لأنْتَ « لام الابتداء ، و » أنْتَ « مبتدأ ، و » يُوسفُ « خبره والجملة خبر » إنَّ « ويجوز أن تكون » أنْتَ « فصلاً ، ولا يجوز أن يكن تأكيداً لاسم » إنَّ « لأنَّ هذه اللام لا تدخل على التوكيد » .
وقرأ أبي : ( أئنك أو أنت يوسف ) وفيها وجهان :
أحدهما : قال أبُوا الفتح : إنَّ الأصل : أئنك لغير يوسف ، أو أنت يوسف فحذف خبر « إن » لدلالة المعنى عليه .
والثاني : ما قاله الزمخشريُّ : المعنى : أئنَّك يوسف ، أو أنت يوسف فحذف الأول لدلالته ، وهذا كلام متعجب مستغرب لما يسمع ، فهو يكرِّر الاستثبات فقال : { أَنَاْ يُوسُفُ وهذا أَخِي } وإنَّما صرَّح بالاسم تعظيماً لما نزل به من ظلم إخوته ، وما عوضه الله من الظَّفر والنَّصر ، فكأنه قال : أنا الذي ظلمتموني على أعظم الوجوه ، والله أوصلني إلى أعظم المناصب ، أنا ذلك العاجزُ الذي قصدتم قتله ، وإلقاءه في الجبِّ ، ثمَّ صرتُ كما ترون ، ولهذا قال : « وهَذا أخِي » مع أنَّهم كانوا يعرفونه؛ لأن مقصوده أن يقول : وهذا أيضاً كان مظلوماً كما كنت ، ثم إنه صار منعماً عليه من قبل الله كما ترون . { قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَآ } قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنه بكلِّ عزِّ في الدنيا والآخرة . . وقيل : بالجمع بيننا بعد الفرقة .
قوله : { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ } قرأ قنبل « يتقي » بإثبات الياء وصلاً ووقفاً ، والباقون بحذفها فيهما .
فأمَّا قراءة الجماعة فواضحة؛ لأنَّه مجزومٌ ، وأمَّا قراءة قنبلٍ ، فاختلف فيها النَّاس على قولين :
أحدهما : أنَّ إثبات حرف العلَّة في الجزم لغة لبعض العرب؛ وأنشدوا : [ الوافر ]
3145
أَلَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي ... بِمَا لاقَتْ لبُونُ بَنِي زِيَادِ
وقول الآخر : [ البسيط ]
3146
هَجَوْتَ زبَّات ثُمذَ جِئتَ مُعْتَذِراً ... مِنْ هَجْوِ زبَّان لَمْ تَهْجُوا ولَمْ تَدعِ
وقول الآخر : [ الرجز ]
3147
إذَا العَجُوزُ غَضِبَتْ فَطلِّقِ ... ولا تَرضَّاهَا ولا تَملَّقِ
وقول الآخر : [ الرجز ]
3148
إنِّي إذَا مَا ما القَوْمُ كَانُوا أنْجِيَهْ ... واضْطَربَ القَوْمَ اضطرابَ الأرْشِيَهْ
هُنَاكَ أوْصِينِي ولا تُوصِي بِيَهْ
ومذهب سيبويه : أنَّ الجازم بحذف الحركة المقدرة ، وأنَّما تبعها حرف العلَّة في الحذف تفرقة بين المرفوع ، والمجزوم .
واعترض عليه : بأنَّ الجازم يبين أنَّه مجزوم ، وعدمه يُبيِّنُ أنه غيرُ مجوزم .
وأجيب : بأنه ف بعض الصُّورِ يلتبس فاطرد الحذف ، بيانه : أنَّك إذا قلت « زُرْنِي أعْطِتكَ » بثبوت الياءِ ، احتمل أن يكون « أعْطِيكَ » جزاء الزيارة ، وأن يكون خبراً مستأنفاً ، فإذا قلت : « أعْطِكَ » بحذفها تعين أن يكون جزاء له؛ فقد وقع اللَّبس بثبوت حرف العلِّة ، وفقد بحذفه ، فيقالُ : حرف العلَّة يحذف عند الجازمِ لا به .
ومذهب ابنِ السَّراجك أنَّ الجازم أثَّر في نفس الحرف فحذفه ، وفيه البحثُ المتقدم .
والثاني : أنَّه مرفوعٌ غير مجزومٍ و « مَنْ » موصولةٌ ، والفعل صلتها؛ فلذلك لم يحذف لامه .
واعترض على هذا بأنَّهُ قد عطف عليه مجزوم وهو قوله : « ويَصْبِرْ » فإنَّ قُنْبُلاً لم يقرأ إلا بإسكان الرَّاء .
وأجيب عن ذلك : بأنَّ التَّسكين لتوالي الحركات ، وإن كان من كلمتين كقراءة أبي عمرو { يَنصُرْكُمُ } [ آل عمران : 160 ] ، و { يَأْمُرَكُمْ } [ آل عمران : 80 ] ، وأجيب أيضاً : بأنه جزم علكى التوهم يعني لما كانت « مَنْ » الموصولة تشبه « مَنْ » الشرطية ، وهذه العبارة فيها غلظ على القرآن ، فينبغي أن يقال فيها مراعاة للشَّبهة اللَّفظي ، ولا يقال للتَّوهُّم .
وأجيب أيضاً : بأنه سكن للوقف ثم أجرى الوصل مُجْرَى الوقف .
وأجيب أيضاً : بأنه إنما جزم حملاً ل « مَنْ » الموصولة على « مَنْ » الشَّرطيَّة؛ لأنَّها مثلها ف يالمعنى ، ولذلك دخلت [ الفاء ] في خبرها .
قال شهابُ الدِّين : وقد يقالُ على هذا : يجوز أن تكون « مَنْ » شرطيَّة ، وإنَّما ثبتت الياء ، ولم تجزم « من » لشبهها ب « مَنْ » الموصولة ثمَّ لم يعتبر هذا الشبه في قوله : « ويَصْبِرْ » ، فلذلك جزمه ، إلاَّ أنه يبعد من جهة أنَّ العامل لم يؤثر فيما بعده ، ويليه ، ويؤثر فيما هو بعيد منه ، وقد تقدَّم الكلام على مثل هذه المسألة أوَّل السُّورة في قوله : { يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } [ يوسف : 12 ] .
وقوله : { فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ } الرَّابطُ بين جملة الشَّرط ، وبين جوابها : إمَّا العموم في « المُحْسِنيِنَ » ، وإمَّا الضمير المحذوف ، أي : المحسنين منهم ، وإمَّا لقيام : « ألْ » مقامه ، والأصل : محسنيهم ، فقامت « ألْ » مقام ذلك الضَّمير .
فصل
معنى الآية : من يتَّق معاصي الله ، ويصبر على أذى النَّاسِ .
وقيل : من يتَّق بأداء الفرائض ، واجتناب المعاصي ويصبر على ما حرم الله عليه .
وقال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنه : يتّقي في الزِّنا ، ويصبر على العُزوبةِ ، وقال مجاهدٌ : يتقي المعصية ، ويصبر على السجن .
{
فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } قال ابن الخطيب : « واعلم أنَّ يوسف عليه السلام وصف نفسه في هذا المقام الشَّريف بكونه متقِياً ، و لو أنه أقدم على المعصية كما قالوه في حق زليخا ، لكان هذا القول كذباً منه ، وذكر الكذب في مثل هذا المقام الذي يؤمن فيه الكافر ، ويتوب فيه العاصي لا يليق بالعقلاء » .
قوله : { تالله لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنَا } أي تفضَّل عليك ، والإيثارُ : التفضيل بأنواع جميع العطايا ، آثرهُ يُؤثِرهُ إيثَاراً ، وأصله من الأثر ، وهو تتبع الشيء ، فكأنه يَسْتقْصٍي جميع أنواع المَكارمِ ، وفي الحديث : « سَتكُون بعدي أثرةٌ » أي : يستأثر بعضكم على بعض ، ويقال : اسْتأثَر بكذا ، أي : اختص به ، واستأثر اللهُ بفلان ، كناية عن اصطفائه له .
وقال الشاعر : [ الرجز ]
3149
واللهُ اسْماكَ سُماً مُبَاركَا ... آثَركَ الله بِهِ إيثَاركَا
قال الأصمعيُّ : يقالُ : آثَرَكَ الله إيثاراً ، أي : فضَّلك ، والمعنى : لقد فضلك الله علينا بالعلمِ ، والعملِِ ، والحسنِ ، والملكِ .
فصل
احتجَّ بعضهم بهذه الآية على أنَّ إخوة يوسف ما كانوا أنبياء؛ لأنَّ جميع المناصب المغايرة لمنصب النبوة كالعدم بالنِّسبة لمنصب النُّبوة لما قالوا : { تالله لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنَا } ، وعلى هذا يذهب سؤال من يقول : آثره عليهم بالملك ، وإن شاركوه في النبوة؛ لأنَّا بيَّنا أنَّ سائر المناصب لا تعتبر في جنب منصب النُّبوًَّة .
ثم قالوا : { وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ } والخَاطِىءُ : هو الذي أتى بالخطيئة عمداً وهذا هو الفرقُ بين الخَاطىءِ ، ولهذا يقالُ للمُجْتهدِ الذي لمْ يُصِبْ أنَّهُ مخطىءٌ ، ولا يقال : إنه خاطىءٌ .
فصل
أكثر المفسرين على أن الذي اعتذروا منه هو إقدامهم على إلقائه في الجُبِّ وبيعه وتبعيده عن أبيه .
وقال أبو عليّ الجبائيٌّ : لم يعتذروا من ذلك؛ لأنَّ ذلك كان منهم قبل البلوغ ، فلا يكون ذنباً ، فلا يعتذر منه ، وإنَّما اعتذروا من حيثُ إنهم أخطئوا بعد ذلك بأن لم يظهروا لأبيهم ما فعلوه ليعلم أنَّه حي ، وأنَّ الذِّئب لم يأكله .
وأجاب ابنُ الخطيب عن ذلك : « بأنَّه لا يجوز أن يقال : إنهم أقدموا على ذلك الفعل في زمن الصِّبا؛ لأنه من البعيد في [ مثل ] يعقوب جمعاً غير بالغين من غير أن يبعث معهم رجلاً عاقلاً يمنعهم عمَّا لا ينبغي ، ويحملهم على ما ينبغي » .
قوله : { لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ } عليكم يجوز أن يكون خبر « لاَ » و « اليَوْمَ » يحتمل أن يتعلق بما تعلَّق به هذا الخبر أي : لا تثريب مستقرٌ عليكم ويجوز أن يكون « اليَوْمَ » خبر « لاَ » ، و « عَليْكُمْ » متعلق بما تعلق به هذا الظرف ويجوز أن يكون : « عليكم » صفة لاسم : « لا » ، و « اليَوْمَ » خبرها أيضاً ولا يجوز أن يتعلق كل من الظرف ، والجار ب : « تَثْرِيب » ؛ لأنه يصيرُ مطولاً شبيهاً بالمضاف ومتى كان كذكل أعرب ونُوِّن ، نحو : « لا خَيْراً من زَيْدٍ عندكَ » ويزيدُ عليه الظرف بأنه يلزم الفصل بين المصدر المؤول بالموصول ، ومعموله بأجنبي وهو : « عَليْكُمْ » لأنه إما خبر وإما صفة .
وقد جوَّز الزمخشريُّ : أن يكون الظَّرف متعلقاً ب : تَثْرِيبَ « فقال : فإن قلنا : بم يتعلق » اليوم « ؟ قلت : بالتثريب ، أو بالمقدر في » عَليْكُم « من معنى الاستقرار أو ب : يَغْفِرُ » ، فجعله أنه متعلق ب « تَثْرِيب » وفيه ما تقدَّم .
وقد أجرى بعضهم الاسم العامل مجرى المضاف لشبهه به ، فنزع ما فيه من تنوين أو نون؛ وجعل الفارسيُّ من ذلك قول الشاعر : [ الطويل ]
3150
أرَانِي ولا كُفْرانَ للهِ أيَّةً ... لِنفْسِي لقَدْ طَالبْتُ غَيْرَ مُنِيلِ
قال : فإية منصوب ب : « كُفْرانَ » أي : أكفر الله أية لنفسي ، ولا يجوز أن تنصب « أيَّةً » ب : « أوَيْتُ » مضمراً ، لئلا يلزم الفصل بين مفعولي : « أرَى » بجملتين أي : ب « لاَ » ، وما في خبرها ، وب « أوَيْتُ » المقدرة ، ومعنى « أوَيْتُ » رققت وجعل منه بانُ مالكٍ ما جاء في الحديث : « لا صُمْتَ يومٌ إلى اللَّيلِ » برفع « يَوْمٌ » على أنه مرفوعٌ بالمصدر المنحل لحرف مصدريّ ، وفعل مبني للمعفول وفي بعض ما تقدَّم خلافٌ ، وأمَّا تعليقه بالاستقرار المقدَّر فواضح ، ولذلك وقف أكثرُ القراء عليه ، وابتدأ ب : « يَغفِرُ اللهُ لكُمْ » وأما تعليقه ب : « يَغْفِرُ » فواضحٌ أيضاً ولذلك وقف بعض القراء على : « عَليْكُمْ » ، وابتدأ : « اليَوْم يغفرُ اللهُ لكُمْ » وجوَّزوا أن يكون خبر : « لا » محذوفاً ، و « عَلَيْكُمْ » ، و « اليَوْمَ » كلاهما متعلقان بمحذوف آخر يدلُّ عليه : « تَثْريبَ » ، والتقدير : لا تثريبَ يتثرب علكيم اليوم كما قدروا في : { لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله } [ هود : 43 ] لا عاصم يعصمُ اليوم .
قال أبو حيَّان : « لو قيل به لكان قويًّا » ، وقد يفرَّق بينهما : بأنّ هنا يلزم كثرة المجاز ، وذلك أنَّك تحذف الخبر ، وتحذف هذا الذي تعلق به الظرف وحرف الجر ، وتنيب الفعل إليه ، لأنَّ التثريب لا يثرب إلا مجازاً ، كقولهم : « شِعرٌ شاعرٌ » بخلاف : « لا عَاصِمَ يَعْصِم » فإن نسبة الفعل إلى العاصم حقيقة ، فهناك حذف شيءٍ واحد من غير مجاز ، وهنا حذف شيئين مع مجاز .
والتَّثْرِيبُ : العَتبُ ، والتَّأنيب ، وعبَّر بعضهم عنه بالتَّعيير من عيَّرته بكذا إذا عتَبْته وفي الحديث : « إذَا زَنَتْ أمَةٌ أحدكُم ، فليَجْلدْهَا ، ولا يُثرِّبْ » أي : لا يعيِّر ، وأصله من الثَّرب ، وهو ما تغشى الكرش من الشَّحم ، ومعناه : إزالةٌ الثَّرب ، كما أنَّ التَّجليد إزالةٌ الجلدِ ، فإذا قلت : ثرَّبتُ فلاناً ، فكأنَّنك لشدَّة عتبك له أزلت ثربه ، فضرب مثلاً في تزيق الأعراض .
وقال الرَّاغب : « ولا يُعْرَفُ من لفظه إلاَّ قولهم : الثَّرْبُ ، وهو شحمةٌ رقيقةٌ وقوله تعالى : { ياأهل يَثْرِبَ } [ الأحزاب : 13 ] يصحُّ أن يكون أصله من ذها الباب ، والياء فيه مزيدية » .
فصل
قال المفسريون : التَّثْريبُ : التَّوبيخُ ، قال عطاءٌ الخراسانيُّ : طلب الحوائج إلى الشَّباب أسهل منها إلى الشيُّوخ ألا ترى إلى قول يوسف عليه الصلاة والسلام « لا تَثْريب عَليْكُمْ » ، وقول يعقوب عليه الصلاة والسلام { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي } [ يوسف : 98 ] .
واعلم أنَّا إذا جعلنا : « اليَوْمَ » متعلِّقاً ب : « لا تَثْريبَ » أي : لا أثرِّبُكمُ اليوم وهو اليوم الذي مظنته التَّثريب ، فما ظنُّكم بسائر الأيَّام ، ويحتمل أنِّي حكمت في هذا اليوم ألاّ تثريب مطلقاً؛ لأنَّ قوله : « لا تَثْرِيبَ » نفي للماهيَّة ، ونفي الماهيَّة يقتضي نفي أفراد جميع الماهية ، فكان ذلك مفيداً للنَّفي المتناول لكلِّ الأوقات والأحوال .
ثمَّ إنَّه أزال عنهم ملامة الدُّنيا طلب من اللهِ أن يزيل عنهم عقاب الآخرةِ ، فدعا لهم بقوله : { يَغْفِرُ الله لَكُمْ } .
وإن قلنا : « اليَوْمَ » متعلق بقوله : { يَغْفِرُ الله لَكُمْ } كأنه لما نفى الذَّنب عنهم مطلقاً بشَّرهم بأنَّ الله يغفر ذنبهم في ذلك اليوم ، وذلك أنَّهم لما خجلوان واعترفوا وتابوا ، فالله تعالى قَبِلَ توتبهم ، وغفر ذنوبهم؛ فلذلك قال : { اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ } .
«
روي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بعِضَادتي الكعبة يوم الفتحِ وقال لقريش : ما تَرونَ؟
قالوا : خيراً أخٌ كريمٌ ، وابنُ أخٍ كريمٍ ، وقد قدرتَ ، قال : أقُولُ ما قَالَ أخي يوسف : » لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ « » .
وروي أنَّ أبا سفيان لما جاء ليًسلم ، قال لهُ العبَّاس رضي الله عنه : « إذا أتيت رسُول الله صلى الله عليه وسلم فاتْلُ عليه : { قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ } ففعل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم غفر الله لَكَ ولمن علَّمك » .
وروي : أنَّ أخوة يوسف لما عرفوه أرسلوا إليه : إنَّا نستحي منك لما صدر منَّا من الإساءة إليك ، فقال يوسف : إنَّ أهل مصر لو ملكت فيهم ، فإنهم ينظرون إليَّ بالعين الإولى ، ويقولون : سبحان الذي بلغ عبداً بِيعَ بِعشرينَ درهماً ما بلغ ، ولقد شَرُفتُ بإتيانكم ، وعظُمتُ في العيون لما جئتم ، علم النَّاس أنكم إخوتي ، وأنِّي من حفدةِ إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثم سألهم عن أبيه ، فقال : ما فعل أبي من بعدي قالوا : ذهبت عيناه؛ فأعطاهم قميصه وقال : { اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً } أي يعيده مبصراً ، وقيل : يأتيني بصيراً .
قال الحسنُ رضي الله عنه : لم يعلم أنه يعود بصيراً إلا بالوحي؛ لأنَّ العقل لا يدلُّ عليه وقال الضحاك : كان ذلك القميص من نسيج الجنَّة .
وعن مجاهدٍ : أمره جبريل صلوات الله عليه أن يرسل قميصه ، وكان ذلك القميص قميص إبراهيم عليه الصلام وذلك أنه جُرِّد من يثابه ، وألقي في النَّار عرياناً ، فآتاه جبريل بمقيص من حرير الجنَّة ، فألبسه إياه ، فكان ذلك عند إبراهيم فلما مات إبراهيم عليه السلام ورِثهُ إسحاق ، فلما مات إسحاق ورثهُ يعقوب ، فلمَّا شبَّ يوسف عليه السلام جعل ذلك يعقوب في قصبةٍ من فضة وسد رأسها ، وعلقها في عنقه لما كان يخافُ عليه من العين كانت لا تفارقه ، فلمَّا ألقى في الجُبِّ عُرياناً جاءهُ جبريلُ عليه السلام وعلى يوسف ذلك التَّعويذُ؛ فأخرج القميص منه ، وألبسه ، ففي ذلك الوقت جاءهُ جبريل ، وقال : أرسل ذلك القميص فإنَّ فيه ريحَ الجنَّة لا يقع على مبتلى ، ولا سقيم إلا عُوفِي ، فدفع يوسف ذلك القميص إلى إخوته ، وقال : { فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً } أي : مبصرا وإنَّما أفرد بالذِّكر تعظيماً له ، وقال في الباقين : { وائتوني بأهلكم أجمعين } .
قال ابن الخطيب : « ويمكن أن يقال : لعلَّ يوسف علم أنَّ أباهُ ما صدر أعمى إلاَّ من كثرة البكاءِ ، وضيق القلبت ، وذلك يضعفُ البصر ، وإذا ألقي عليه قميصه ، فلا بد وأن ينشرح صدره ، وأن يحصل في قلبه الفرحُ الشديد ، وذلك يقوِّي الرُّوحَ ، ويزيلُ الضَّعف عن القوى فحينئذ يقوى بصره ، ويزول عنه ذلك ، فهذا القدرُ ممَّا يُمِكنُ معرفته بالقلبِ فإنَّ القوانين الطبيَّة تدلُّ على صحَّة هذا المعنى » .
قوله : « بِقَمِيصِي » يجوز أن يتعلَّق بما قبله على أنَّ الباء معدِّية كهي في « ذَهَبتُ بهِ » وأن تكون للحال فتتعلق بمحذوف ، أي : اذهبوا معكم بقميصي ، و « هَذَا » نعتٌ له ، أو بدلٌ ، أو بيانٌ ، و « بَصِيراً » حالٌ ، و « أجْمَعِينَ » توكيد له ، وقد أكد بِهَا دُون كل ، ويجوز أن تكون حالاً .
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
قوله : { وَلَمَّا فَصَلَتِ العير } يقال : فَصَل فلانٌ عن فلانٍ فُصُولاً إذا خرج من عنده ، و « فَصَلَ » كذا إذا أنفذ ، و « فَصَلَ » يكون لازماً ، ومتعديًّا ، فإن كان لازماً فمصدره فصولاً ، وإن كان متعدياً فمصدره فصلاً .
قال المفسرونك لما توجَّه العير من مصر إلى كنعان ، قال يعقوب لمن كان عنده من ولد ولده : { إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ } قال مجاهدٌ : أصاب يعقوب ريحُ القميص من مسيرة ثلاثة أيامٍ .
وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه من مسيرة ثماني ليال .
وقال الحسنُ : كان بنيهما ثمانون فرسخاً ، وقال مجاهد : هبَّ ريح يوسف فصفق القميص؛ ففاحت روائح الجنَّة في الدُّنيا ، واتَّصلت بيعقوب عليه الصلاة والسلام فعلم أنَّه ليس في الدنيا من ريح الجنَّة إلاَّ ما كان من ذلك القميص فمن ثمَّ قال : { إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ } وروي أنَّ ريح الصِّبا استأذنت ربَّها أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشيرُ .
واعلم أنَّ وصول تلك الرائحة إلى يعقوب من هذه المسافة البعيدة أمر مناقض للعادة فكان ذلك معجزة ، ولكن لمن منهما؟ والأقرب أنَّها ليعقوب حيثُ أخبروه عنه ، ونسبوه إلى ما لا ينبغي؛ فظهر الأمر كما قال؛ فكانت معجزة لهُ .
قال أهل المعاني : إنَّ الله تعالى أوصل ريح يوسف عند انقضاء مدَّة المحنة ومجيء وقت الروح والفرج من المكانِ البعيدِ ، ومنع من وصولِ خبره إليه مع قرب إحدى البلدين من الأخرى في مدَّة ثمانين سنة ، وذلك يدلُّ على أنَّ كلَّ سهلٍ فهو في زمنِ المحنةِ صعبٌ ، وكلَّ صعبٍ في زمنِ الإقبال سهلٌ ، ومعنى : { إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ } : أشم ، وعبَّر عنه بالوجود؛ لأنه وجدان له بحاسة الشَّمِّ .
قوله : { لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ } التَّفنيدُ : الإفسادُ ، يقال : فنَّدت فلاناً ، أي : أفدستُ رأيه ورددته . قال الشاعر : [ البسيط ]
3150
ب يَا صَاحبيَّ دَعَا لَوْمِي وتَفْنِيدِي ... فَليْسَ مَا فَاتَ مِنْ بِمَرْدُودِ
ومنه : أفْنَدَ الدَّهرُ فلاناً؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
3151
دَِ الدَّهْرُ يَفْعَلُ ما أرَاد فإنَّهُ ... إذَا كُلِّفَ الإفْنادَ بالنَّاسِ أفْنَدا
والفَنَدُ : الفسادُ؛ قال النابغة : [ البسيط ]
3152
إلاَّ سُليْمان إذْ قَالَ الإلهُ لَهُ ... قُمْ فِي البَريِّيةِ فاحْدُدْهَا عنِ الفَندِ
والفِنْدُ : شمراخ : « يقالُ : شَيْخٌ مفنَّدٌ ، ولا يقال : عجُوزٌ مُفنَّدة؛ لأنَّها لم تكن في شبيبتها ذات رأي فتفنَّد في كبرها وهو غريبٌ » .
وجواب « لَوْلاَ » الامتناعية محذوفٌ ، تقديره : لصَدَّقْتُمونِي ويجوز أن يكون تقديره : لأخبرتكم .
قال ابنُ الأنباريّ : « أفْنَدَ الرَّجلُ : إذا انْحَرفَ ، وتغيَّر عَقْلهُ ، وفند إذا جهل ونسب ذلك إليه » .
وعن الأصمعيِّ قال : إذا كثر كلامٌ الرَّجلِ من خرفٍ فهو الفَنَد والتَّفنيد .
فصل
قال المفسرون : « لَوْلاَ أن تُفنِّدُون » تسفهون ، وعن ابن عبَّاس رضي الله عنه : تَجْهلُون ، وقال الضحاك : تَهْرَمُون ، تقولون : شَيْخٌ كبيرٌ قد خرفَ ، وذهب عقلهُ .
«
قَالُوا » : يعني أولاد أولاده { إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ القديم } أي في ذهاب عن طريق الصَّواب .
وقال ابن عبَّاس ، وابن زيدٍ ، لفي خطئك الماضي من حُبِّ يوسف لا تنساه .
وقال مقتالٌ الضَّلالُ هنا الشَّقاءُ ، يعني : شقاء الدُّنيا ، أي : إنَّك في شقائك القديم بما تُكَابدُ من الأحزان على يوسف .
وقال قتادة : لفي حُبِّك القديم لا تنساه ، ولا تذهل عنه ، قال قتادة : لقد قالوا كلمة [ غليظة ] لم يجز قولها لنبي الله عليه الصلاة والسلام .
وقال الحسن : إنَّما خاطبوه بذلك ، لاعتقادهم أنَّ يوسف قد مَاتَ . { فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير } وهو المبِّر ، في موضع : « أنْ » قولان :
أحدهما : لا محلَّ لها من الإعراب ، فقد تذكَّر تارة كما هنا ، وقد تحذف كقوله : { فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع } [ هود : 74 ] .
والثاني : قال البصريُّون : هي في موضع رفعٍ بفعلٍ تقديره : فلمَّا ظهر أن جاء البشر أي : ظهر على البشير؛ فأضمر الرَّافع .
وقال جمهورُ المفسِّيرين البشيرُ هو يهوذا قال : أنا ذهبتُ بالقميص مُلطَّخاً بالدَّم ، وقلت : إنَّ يوسف أكلهُ الذِّئبُ ، فأذهب اليوم بقميصه ، وأخبره أنه حي فأفرحهُ كما أحزنته ، وقيل : البشيرُ مالكُ بنُ دُعْرٍ .
قوله : « ألقاهُ » الظَّاهرُ أنَّ الفاعل هو ضمير البشير ، وقيل : هو ضمير يعقوب وفي « بَصِيراً » وجهان :
أحدهما : حال ، أي : يرجع في هذا الحال .
والثاني : أنَّه خبرها؛ لأنَّها بمعنى صار عند بعضهم ، و « بَصِيراً » من بصُر بالشيء ك « ظَرِيف » من « ظَرُفَ » .
وقيل : هو مثالُ مبالغةٍ ، ك « عَلِيم » وفيه دلالة على أنَّه لم يذهب بصره بالكلِّية ومعنى الارتداد : انقلابُ الشَّيء إلى حالٍ كان عليها .
وقوله : { فارتد بَصِيراً } أي صيَّرهُ اللهُ بصيراً ، كما يقال : طالت النَّخلة والله أطالها .
قال بعضهم : إنه كان قد عمي بالكلية ، فجعله اللهُ بصيراً في هذا الوقت .
وقال آخرونك بل كان ضعف بصره من كثرة البكاءِ والحزن ، فلمَّا ألقوا القميص على وجهه ، وبشَّره بحياةِ يوسف عليه الصلاة والسلام عظم فرحه وانشرح صدرهُ وزالت أحزانه فعند ذلك قَوي بصره ، وعادت قُوَّته بعد الضَّعف ، وقال : { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } من حياة يوسف من جهة رُؤيَاه ، وهو أنَّ الله يجمع بيننا ، وهو إشارةٌ إلى قوله : { قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ يوسف : 86 ] .
روي أنَّه قال للبشير : كيف حاله؟ قال : إنَّه ملكُ مصر ، قال : ما أصنعُ بالملك ، على أي دين تركته؟ قال : على دين الإسلام ، قال : الآن تمَّت النِّعمة . ثمَّ إن أولاد يعقوب أخذوا يعتذرون ، و { قَالُواْ ياأبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي } فوعدهم بأنه يستغفر لهم .
قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما : أخَّر الاستغفار لهم إلى وقتِ السَّحر ، وهو الوقت الذي يقول الله فيه : { هل من داع فأستجيب له } .
وروي عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما رواية أخرى : أنَّه أخَّر الاستغفار إلى ليلة الجمعة؛ لأنَّها أوفق الأوقات لرجاءِ الإجابة .
وقيل : أخَّر الاستغفار ليعلم هل تابوا حقيقة أم لا؟ وهل أخلصوا في التَّوبة أم لا؟ .
وقيل : استغفر لهم في الحالِ ، ومعنى : { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ } أي أداوم على الاستغفار في المستقبل .
وروي : أنه كان يستغفر لهم في كلِّ ليلةِ جمعةٍ في نيّق وعشرين سنة .
روي أنَّ يوسف بعث مع البشير إلى يعقوب مائتي راحلة ، وجهازاً كثراً ، لياتوا بيعقوب وأهله وولده ، فخرجوا وهم اثنان وسبعون ما بين رجل وامرأة ، فلمَّا دنا من مصر كلَّم يوسف الملك الذي فوقه ، فخرج يوسف ، والملك في أربعة آلاف من الجُندِ ، وركب أهل مصر معهما فتلقوا يقعوب ، وهو يتوكأ على يهوذا ماشياً؛ فنظر إلى الجبل ، وإلى الناس فقالوا : يا يهوذا : هذا فرعون مصر؟ قال : لا هذا ابنُك يوسفُ ، فلمَّا تدانيا ذهب يوسف يبدأ بالسَّلام ، فقال جبريل عليه السلام : لا حتّى يبدأ يعقوب بالسلام ، فقال يعقوب : السَّلام عليك .
قال الثوريُّ : لما التقَى يعقوب ويوسف صلوات الله وسلامه عليهما عانق لك واحد منهما صاحبه وبكيا ، فقال يوسف : يا أبتِ! بكيت عليَّ حتى ذهب بصرك ، ألم علم أنَّ القيامة تجمعنا؟ قال : بلى يا بُنَيّ ، ولكن خشيت أن تسلب دينك ، فيحال بيني وبينك .
قيل : دخل يعقوب وولده مصر ، وهم اثنان وسبعون ما بين رجل ، وامرأة ، وخرجوا منها مع موسى ، والمقاتلون ستمائة ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلاً يوى الصبيان والشيوخ .
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
قوله : { فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ } الآية قال أكثر المفسرين المراد : أبوه خالته « ليَّا » وكانت أمه قد ماتت في نفاسها بنيامين وقال الحسنُ : أبوه وأمه ، وكانت حية .
وروي : أنَّ الله تعالى أحيَا أمّه حتَّى جاءت مع يعقوب إلى مصر حتَّى سجدت له تحقيقاً لرؤيا يوسف .
وقيل : إن الخالة أم كما أنَّ العم أبٌ ، قال تعالى : { إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [ البقرة : 133 ] ، ومعنى { آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ } ضمهما إليه ، واعتنقهما .
فإن قيل : ما معنى دخولهما عليه قبل دخولهم مصر؟ .
فالجواب : أنَّهُ حين استقبلهم أنزلهم في خيمة ، أو بيت هناك ، فدخلوا عليه وضم إليه أبويه وقال : { ادخلوا مِصْرَ إِن شَآءَ الله آمِنِينَ } ، أي : أقيموا بها آمنين ، سمَّى الإقامة دخولاً؛ لاقتران أحدهما بالآخر .
قال السديُّ في هذا الاستثناء قولان :
الأول : أنه عائدٌ إلى الأمن إلى الدخول ، والمعنى : ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله ، كقوله تعالى : { لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ } [ الفتح : 27 ] .
وقيل : إنَّه عائدٌ إلى الدُّخول كما تقدَّم .
وقيل : « إنْ » هنا بمعنى : « إذْ » يريدُ : إ ن شاء الله ، كقوله : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 139 ] أي : إذ كنتم مؤمنين .
ومعنى قوله : « آمِنينَ » أي على أنفسكم ، وأموالكم ، وأهليكم لا تخافون أحداً ، وكان فيما سلف يخافون ملك مصر ، وقيل : آمنين من القحطِ والشّدة وقيل آمنين من أن يضرهم يوسف بالجرم السالف .
{
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ } من باب التَّغليب ، يريد : أباه وأمه أو خالته { عَلَى العرش } قال أهل اللغة : العرشُ : السَّريرُ الرَّفيعُ ، قال تعالى : { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } [ النمل : 23 ] .
والرفع : هو النقل إلى العلو ، و « سُجَّداً » حال .
قال أبو البقاء : « حال مقدرةٌ؛ لأنَّ السجود يكن بعد الخُرُورِ » .
فإن قيل : إن يعقوب عليه السلام ، كان أبا يوسف فحقُّه عظيم ، قال تعالى : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] فقرون حق الوالدين بحق نفسه ، وأيضاً : فإنَّه كان شيخاً كبيراً [ والشاب ] يجبُ عليه تعظيم الشيخ وأيضاً : كان من أكابر الأنبياء ، ويوسف ، وإن كان نبياً إلا أن يعقوب كان أعلى حالاً منه .
وأيضاً : فإن جدّ يعقوب ، واجتهاده في تكثير الطّاعات أكثر من جد يوسف ، واجتماع هذه الجهات الكثيرةِ يوجب المبالغة في خدمة يعقوب ، فكيف استجاز يوسف أن يسجد له يعقوب؟ .
فالجواب من و جوه :
الأول : روى عطاءٌ عن ابن عبَّاسٍ : أنَّ المراد بهذه الآية أنهم خرُّوا سجداً لأجل وجدانه ، فكيون سجود شكر لله تعالى لأجل وجدانه يوسف ، ويدلُّ عليه قوله تعالى : { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً } .
وذلك يشعر بأهم صعدوا على السرير ، ثمَّ سجدوا لله ، ولو أنهم سجدوا ليوسف لسجدوا له قل الصُّعود على السَّرير؛ لأنَّ ذلك أدخل في التَّواضع .
فإن قيل : هذا التَّأويلُ لا يطابق قوله : { ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ } [ يوسف : 100 ] .
والمراد منه قوله : { إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] قيل : معناه لأجلي ، لطلب مصلحتي ، وللسعي في إعلاء منصبي ، وإذا احتمل هذا سقط السؤال .
الثاني : أن يقال : إنهم جعلوا يوسف كالقبلة وسجدوا لله شكراً لنعمته .
وهذا تأويلٌ حسنٌ ، فإنه يقال : صليت للكعبة كما يقال : صليتُ إلى الكعبة؛ قال حسَّانُ رحمه الله : [ البسيط ]
3153
ألَيْسَ أوَّل من صَلَّى لِقبْلتِكُمْ ... وأعْرَفَ النَّاس بالآثَارِ والسُّنَنِ
فدلَّ على أنَّه يجوز أن يقال : فلانٌ صلَّى للقلبةِ ، فكذلك يجوز أن يقال : سجد لِلْقِبْلةِ .
وقوله : { وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً } أي جعلوه كالقبلة ثمَّ سجدوا لله شكراً لنعمة وجدانه .
الثالث : التَّواضع يسمى سجوداًح كقوله : [ الطويل ]
3154 . ...
تَرَى الأكْمَ فِيهَا سُجَّداً للحَوَافِرِ
فالمراد هنا التَّواضعُ ، وهذا يشكلُ بقوله تعالى : { وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً } والخرور مشعر بالإتيان بالسُّجود على أكمل الوجوه .
وأجيب : بأنَّ الخرور يعني به المرور فقط ، قال تعالى : { لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } [ الفرقان : 73 ] يعنى : لم يمروا .
الرابع : أن يقال الضمير في قوله : { وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً } عائد إلى إخوته وإلى سائر من كان يدخل عليه لأجل التَّهنئةِ ، والتقدير : ورفع أبويه على العرش مبالغة في تعظيمها ، وأمَّا الإخوةُ وسائر الدَّاخلين ، فخروا له ساجدين .
فإن قيل : هذا لا يلائم قوله : { ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ } .
فالجواب : أن يعتبر الرُّيؤيا لا يجب أن يكون مطابقاً للرُّؤيا بحسب الصُّورةِ ، والصِّفة من كُلِّ الوجوه ، فسجودُ الكواكب والشَّمس والقمر معبر بتعظيم الأكابر من النَّاس ولا شك أنَّ ذهاب يعقوب من كنعان مع أولاده إلى مصر نهاية التعظيم له ، فكفى هذا القدر من صَّحة الرُّؤيا ، فأمَّا كون التَّعبير مساوياً في الصُّورةِ والصِّفة ، فلم يوجبه أحد من العقلاءِ .
الخامس : لعلَّ الفعل الدَّال على التَّحية في ذلك الوقت ، كان هو السُّجودُ وكان مقصودهم من السجود تعظيمه ، ثمَّ نسخ ذلك في شرعنا .
وهذا بعيد؛ لأنَّ المبالغة في التَّعظيم كانت أليق بيوسف منها بيعقوب ، فلو كان الأمر كما قلتم ، لكان من الجواب أن يسجد يوسف ليعقوب عليه الصلاة والسلام .
السادس : لعلَّ إخوته حملتهم الأنفة ، والاستعلاءُ على ألاّ يسجدو له على سبيل التَّواضع ، وعلم يعقوب أنهم إن لم يفعلوا ذلك لصار ذلك سبباً لثوران النَّفس ، وظهور الأحقاد القديمة بعد كُمونِها ، فيعقوب عليه الصلاة والسلام مع جلالته وعظم قدره بسبب الأوبة والشَّيخوخة ، والتَّقدُّم في الدِّين ، والعلم ، والنبوة فعل ذلك السُّجود حتَّى تصير مشاهدتهم لذلك سبباً لزوال تلك الأنفة ، والنفرة عن قلوبهم .
السابع : لعلَّ الله تعالى أمر يعقوب بتلك السَّجدة لحكمة خفية لا يعلمها إلا هو [ كما أمر الملائكة بالسجود لآدم صلوات الله وسلامه عليه لحكمة لا يعلمها إلا هو ] ، ويوسف ما كان راضياً بذلك في قلبه إلا أنَّه لما علم أنَّ الله أمره بذلك سكت .
ثم إنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام لما رأى هذه الحالة : { وَقَالَ ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً } ، وهي قوله : { إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً } [ يوسف : 4 ] وهاذ يقوّي الجواب السَّابع .
والمعنى : أنَّه لا يليق بمثلك على حالتك ، في العلم ، والدين ، والنبوة أن تسجد لولدك إلا أنَّ هذا أمر أمرت به ، وأن رؤيا الأنبياء حقٌّ ، كما أنَّ رؤيا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذبح ولده كان سبباً لوجوب ذلك الذبح عليه في اليقظةِ ، لذلك صارت هذه الرُّؤيا التي رآها يوسف سبباً لوجوب السُّجودِ على يعقوب .
قوله : { مِن قَبْلُ } يجوز أن يتعلق ب « رُؤيَايَ » أي تأويل رؤياي في ذلك الوقت ويجوز أن يكون العامل فيه : « تأوِيلُ » ؛ لأن التَّأويل كان من حين وقوعها هكذا والآن ظهر له ، ويجوز أن يكون حالاً من : « رُؤيَايَ » قاله أبو البقاء .
وقد تقدَّم أنَّ المقطوع عن الإضافة لا يقع حالاً .
قوله : { قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً } حال من : « رُؤيَايَ » ، ويجوز أن تكون مستأنفة وفي « حَقًّا » وجوه :
أحدها : أنه حال .
والثاني : أنه مفعول ثانٍ .
والثالث : أنه مصدر مؤكد لفعل من حيث المعنى ، أي : حقَّقها ربي حقاً بجعله .
قوله : « أحْسنَ بِي » « أحْسنَ » أصله أن يتعدَّى بإلى ، قال تعالى : { وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ } [ القصص : 77 ] فقيل : ضمن معنى : « لَطفَ » متعدّياً بالباءِ ، كقوله تعالى : { وبالوالدين إِحْسَاناً } وقول كثير عزَّة : [ الطويل ]
3155
أسِيئِي بِنَا ، أو أحْسِنِي لا مَلُومةً ... لَديْنَا ولا مَقْليَّةً إنْ تَقلَّتِ
وقيل : بل يتعدى بها أيضاً ، وقيل : هي بمعنى « إلى » وقيل : المفعول محذوف . تقديره : أحسن صنعه بِى ، ف : « بي » متعلقة بذلك المحذوف ، وهو تقدير أبي البقاءِ .
وفيه نظرٌ؛ من حيث حذف المصدر ، وإبقاء معموله ، وهو ممنوع عند البصريين .
و « إذْ » منصوب ب « أحْسَنَ » ، أو المصدر المحذوف ، قاله أبو البقاء وفيه النظر المتقدِّمُ .
والبَدْوُ : ضد الحضارة ، وهو من الظُّهورِ ، بَدَا يَبْدُوا : إذ سكن البادية .
يروى عن عمر رضي الله عنه : « إذَا بَدوْنَا جَفوْنَا » أي : تخلقنا بأخلاق البدويين .
قال الواحديُّ : البدو بسيطٌ من الأرض يظهرُ فيه الشخص من بعيدٍ ، أصله من بَدَا يَبْدُوا بَدْواً ، ثم سمي المكان باسم المصدر ، ويقال : : بَدْوٌ وحَضَرن وكان يعقوب وولده بأرض كعنان أهل مواشٍ وبريَّةٍ .
وقال ابن عبَّاس رضي الله عنه : [ كان يعقوب قد تحوَّل إلى بدا وسكنها ] ومنها قدم على يوسف ، وبها مسجد تحت جبلها .
قال ابن الأنباري « بدا » اسم موضع معروف ، ياقل : بين شعيب عليه السلام وبدا ، وهما موضعان ذكرهما جميعاً كثيرٌ : [ الطويل ]
3156
وأنْتِ الَّتِي حَبَّبْتِ شَعْباً إلى بَدَا ... إليَّ وأوْطَانِي بِلادٌ سِواهُمَا
والبدو على هذا القول معناه : قصد هذا الموضع الذي يقال له بدا ، يقال : بَدَا القَوْمُ بدواً إذا أتوا بَدَا ، كما يقال : غَارَ القوم غَوْراً ، إذا أتوا الغُوْر ، وكان معنى الآية : وجاء بكم من قصد بدا ، وعلى هذا القول كان يعقوب ، وولده حضريِّين ، لأن البدو لم يرد به البادية لكن عني به قصد بدا .
فصل
اعلم أن قوله { ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً } وهو قوله : { إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً } [ يوسف : 4 ] ، { وَقَدْ أَحْسَنَ بي } أنعم عليَّ { إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السجن } ولم يقل من الجُبّ مع كونه أشدّ من السجن استعمالاً للكرم كيلا تخجل إخوته بعدما قال : { لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ اليوم } [ يوسف : 92 ] ولو ذكر الجبّ كان تثريباً لهم؛ ولأن نعمة الله عليه في أخراجه من السجن أعظم؛ لأنَّه بعد الخروج من الجُبّ صار إلى العبودية والرق وبعد الخروج من السجن صار الملك ولأنه لما خرج من الجُب وقع في المضار بسبب تهمة المراة ، ولما خرج من السِّجن ، وصل إلى أبيه وإخوته وزالت عنه التُّهمة .
وقال الواحديُّ : « النِّعمة في إخراجه من السجن أعظم؛ لأنَّ دخوله في السجن كان بسبب ذنب هَمَّ به ، وهيا ينبغي أن يحمل على ميل الطبع ، ورغبة النَّفس ، وهذا وإن كان في محل العفو في حقّ غيره إلا أنه كان سبباً للمؤاخذة في حقه؛ لأنَّ حسناتِ الأبرار سيئاتُ المقربين » .
فصل دلَّت هذه الآية على أنَّ فعل العبد خلق الله تعالى ؛ لأنَّه أضاف إخراجه من السجن إلى [ الله تعالى ] ومجيئهم من البدو إليه ، وهذا صريحٌ في أن فعل العبد فعل الله تعالى فإن حملوه على أن المراد أن ذلك إنَّما حصل بإقدار الله ، وتدبيره ، فذلك عدولٌ عن الظَّاهر .
ثم قال : { مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان } أفسد وأغوى ، وأصله من نَزَغَ الرَّاكض الدَّابة حملها على الجَرْي إذا نخسها .
احتجَّ الجبائيُّ ، الكعبيُّ ، والقاضي أبو إسحاق بهذه الآية : على بُطلانِ الجبر قالوا لأنه تعالى ، أخبر عن يوسف ت عليه الصلاة والسلام أنه أضاف الإحسان إلى الله تعالى وأضاف النَّزْغَ إلى الشِّيطان ، ولو كان ذلك أيضاً من الرحن ، لوجب أن لا ينسب إلا إليه كما في النعمة .
الجواب : أنَّ إضافة هذا القول إلى الشيطان مجاز؛ لأنَّ عندكم الشِّيطان لا يتمكنَّن من الكلام الخفيّ ، كما أخبر الله عنه ، فقال : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي }
[
إبراهيم : 22 ] فظاهر القرآن يقتضي إضافة هذا الفعل إلى الشيطان مع أنه ليس كذلك ، وأيضاً : فإن كان إقدام المرءِ على المعصية بسبب الشِّيطان ، فإقدام الشيطان على المعصية إن كان بسبب شيطان آخر؛ لزم التسلسل وهو محالٌ ، وإن لم يكن بسبب شيطان آخر ، فليقل مثله في حق الإنسان ، فثبت أن إقدام المرء على الجهل والفسق بسب الشيطان وليس بسبب نفسه لأن أحداً لا يميل طبعه إلى اختيار الجهل الفسق الذي يوجب وقوعه في الذَّم في الدُّنيا ، وعذاب الآخرة ولما كان وقوعه في الكفر ، والفسق لا بد له من موقع ، وقد بطل القسمان لم يبق إلا أن يقال : ذلك من الله تعالى ويؤيد ذلك قوله : { أَخْرَجَنِي مِنَ السجن وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ البدو } وهذا صريحٌ في أنَّ الكل من الله تعالى .
ثم قال : { إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ } « لطيف » أصله أن يتعدَّى بالباء ، وإنَّما يتعدى بللاَّم لتضمنه معنى مدبر ، أي : أنت بلطفك لما تشاءُ .
والمعنى : أنه ذو لطف لما يشاء ، وقيل : بمن يشاء ، وحقيقته أللُّطفِ : الذي يوصل الإحسان إلى غيره بالرفق .
والمعنى : أن اجتماع يوسف ، وإخوته مع الأُلْفِ ، والمحبَّة ، وطيب العيشِ ، وفراغ البال كان في غاية البُعدِ عن العقول ، إلا أنه تعالى لطيفٌ ، فإذا أراد حصول شيءٍ سهل أسبابه ، فحصل ، وإن كان في غايةِ البعدِ عن الحصولِ .
{
إِنَّهُ هُوَ العليم الحكيم } يعني أنَّ كونه لطيفاً في أفعاله إنَّما كان لأنه عليم بجميع الاعتبارات الممكنة التي لا نهاية لها ، فيكون عالماً بالوجه الذي يسهل تحصيل ذلك الصعب .
فصل
اختلفوا في مقدار الوقت ما بين الرُّؤيا واجتماعهم . فقيل : ثمانون سنة ، وقيل : سبعون ، وقال الأكثرون : أربعون ، ولذلك يقولون : إنَّ تأويل الرُّؤيا إنَّما صحَّت بعد أربعين سنة . وقيل : ثماني عشرة سنة وبقي في العبودية ، والملك ، والسجن ثمانين سنة ، ثمَّ وصل إليه أقاربه ، وعاش بعد ذلك ثلاثاً وعشرين سنة . وقال : أقام يعقوبُ بمصر عند يوسف أربعاً وعشرين سنة ، ثم مات بمصر ، فلما حضرته الوفاة أوصى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفن عد أبيه إسحاق ، ففعل يوسف ومضى به حتَّى دفنه بالشَّام ، ثم رجع إلى مصر .
قال سعيد بن جبيرٍ : نُقل يعقوب في تابوت من ساج إلى بيت المقدس فوافق ذلك يوم مات عيصُو ، فدفنا في قبرٍ واحدٍ ، وكانا ولدا في بطنٍ واحدٍ ، وكان عمرهما مائة وسبعة وأربعين سنة ، وعاش يوسف بعد ذلك عشرين سنة ، وقيل : ستين سنة ومات وهو ابن مائة عشرين سنة ، وفي التوراة مائة وعشرين ، وولد له إفرائيم ، وميشا وولد لإفرائيم نو ، ولاوي ، ويوشع فتى موسى عليه الصلاة والسلام ورحمة امرأة أيوب عليه الصلاة والسلام وأنه تمنى الموت . وقيل : ما تمنَّاه نبيُّ قبله ، ولا بعده فتوفَّاه الله طيباً طاهراً ، فتخاصم أهل مصر في دفنه كل أحد يحبُّ أن يدفنه في محلتهم ، فرأوا أن الأصلح أن يعمل له صندوقاً من مرمر ، ويجعلوه فيه ، ويدفنوه في النِّيل ليمر الماء عليه ، ويصل إلى مصر ، وبقي هناك إلى أن بعث موسى عليه الصلاة والسلام ، فأخرج عظمه من مصر ، ودفنه عند أبيه .
قوله تعالى : { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك } الآية قرأ عبد الله : ( آتيتن وعملتن ) بغير ياء فيهما . وحركة ابنُ عطية أن أبا ذر قرأك « أتَيْتَنِي » بغير ألف بعد الهمزة ، و « مِن » في « مِنَ المُلْكِ » ، وفي : « مِنْ تَأويلِ » للتبعيض والمفعول محذوف أي : عظيماً من الملك ، فهي صفة لذلك المحذوف . وقيل : زائدة . وقيل : لبيان الجنس ، وهذان بعيدان . و « فَاطِرَ » يجوز أن يكون نعتاً ل « ربِّ » ويجوز أن يكون بدلاً أو بياناً ، أو منصوباً بإضمار أعني أو نداء ثانياً .
فصل
لما جمع الله شمل يوسف عليه الصلاة والسلام عَلِمَ أنَّ نعيم الدُّنيا لا يدوم فسأل الله حسن العاقبة ، فقال : { رب قد ءاتيتني من الملك } يعني ملك مصر ، والملك اتساع المقدور لمن له السياسة ، والتدبير . { وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحاديث } يعني تعبير الرؤيا .
قوله : { فَاطِرَ السماوات والأرض } يعني : يا فاطر السموات والأرض ، أي : خالقهما قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما : ما كنت أدري ما معنى الفاطر حتى احتكم إليَّ اعرابيان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فَطرتَهَا وأنا ابْتدأت حَفْرهَا .
وقل أهلُ اللغة : أصلُ الفَطْر : الشَّقُّ ، يقال : فطرت نابُ البعير ، إذا بدا ، وفطرتُ الشَيء ، فانفطر ، إذا شَقَقْتهُ ، فانشقَّ ، وتفطَّرتِ الأرض بالنَّبات والشَّجر بالورق ، إذا تصدَّعتْ .
هذا أصله في اللغة ، ثمَّ صارت عبارة عن الإيجاد؛ لأنَّ ذلك الشيء في حال عدمه كأنَّه في ظلمة وخفاءٍ ، فلمَّا دخل في الوجود ، صار كأنَّه انشقَّ ، وخرج ذلك الشيء منه .
{
تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين } أي : اقبضني إليك مسلماً ، وألحقين بالصالحين يريد بآبائي النبيين .
قال قتادة : لم يسأل نبيٌّ من الأنبياء الموت إلا يوسف ، وبه قال جماعة من المفسرين .
وقال ابن عباس رضي الله عنه في رواية عطاء : يريد : إذا توَفَّيْتني ، فتوفَّني على الإسلام .
فصل
دل قوله { تَوَفَّنِي مُسْلِماً } على أنَّ الإيمان من الله؛ لأنَّه لو كان من العبد ، لكان تقديره : كأنَّه يقول : افعل يا مَنْ لا يَفْعَل .
قالت المعتزلة : إذا كان الفعل من الله ، فكيف يجوزُ أن يقال للعبد : افعل مع أنَّك لست فاعلاً؟ فيقال لهم : إذا كان تحصيل الإيمان ، وابقاؤه من العبد لا من الله ، فكيف يطلب ذلك من الله تعالى .
قال الجبائي والكعبي : معناه : أطلب اللُّطف في الإقامة على الإسلام إلى أن أموت عليه ، وهذا الجواب ضعيفٌ ، لأن السؤال وقع عن الإسلام ، فحمله على اللطف عدول عن الظاهر ، وأيضاً : فكُلّ ما كان في مقدور الله من الإلطاف ، فقد فعله ، كان طلبه من الله محالاً .
فإن قيل : الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يعلمون أنَّهم يموتون لا محالة على الإسلام ، فكان هذا الدُّعاء طلباً لتحصيل الحاصل ، وأنَّه لا يجوز .
فالجواب : أن كمال حال المسلم : أن يستسلم لحكم الله على وجه يستقرُّ قلبه على ذلك الإسلام ، ويرضى بقضاء الله ، وتطمئن النفس ، وينشرح الصدر في هذا الباب ، وهذه حالةٌ زائدة عن الإسلام الذي هو ضدُّ الكفر ، والمطلوب هاهنا هو الإسلام بهذا المعنى .
فإن قيل : إن يوسف عليه الصلاة والسلام كان من أكابر الأنبياء ، والصَّلاح أول درجات المؤمنين؛ فالواصل إلى الغية كيف يليق به أن يطلب البداية؟ .
قال ابن عبَّاس رضي الله عنه وغيره : يعني ب « آبَائهِ » : إبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
والمعنى : ألحقني بهم في ثوابهم ، ودرجاتهم ، ومراتبهم .
«
روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، عن جبريل عليه السلام عن ربِّ العزَّة قال : » مَنْ شغلهُ ذِكرِي عَن مَسْألتِي أعْطَيتهُ أفضلَ ما أعْطِي السَّائلين « .
فلهذا من أراد الدعاء ، لا بُدَّ وأن يقدِّم عليه الثَّناء على الله تعالى فههنا يوسف عليه الصلاة والسلام لمَّا أراد الدعاء قدَّم عليه الثناء ، فقال { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحاديث فَاطِرَ السماوات والأرض أَنتَ وَلِيِّي فِي الدنيا والآخرة } ثم دعا عقبه ، فقال : { تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين } وكذلك فعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال : { الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 78 ] إلى قوله : { يَوْمَ الدين } [ الشعرا : 82 ] فهذا ثناءٌ ثمَّ قال : { رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً } [ الشعراء : 83 ] إلى آخر كلامه .
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)
قوله تعالى : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب } الآية « ذَلِكَ » : مبتدأ و { مِنْ أَنْبَآءِ الغيب } : خبره ، و « نُوحِيهِ » : حالٌ ، ويجوز أن يكون خبراً ثانياً ، أو حالاً من الضمير في الخبر ، وجوز الزمخشري : أن يكون موصولاً بمعنى : الذي ، وتقدَّم نظيهر ، والمعنى : ذلك الذي ذكرت من أنباء الغيب نوحيه إليك ، وما كنت يا محمَّد عند أولاد يعقوب ، { إِذْ أجمعوا أَمْرَهُمْ } أي عزموا على إلقاء يوسف في الجبِّ ، وما كنت هناك ، ذكره على وجه التَّهكُّم ، وتقدَّم الكلام على هذا اللفظ عند قوله : { فأجمعوا أَمْرَكُمْ } [ يونس : 71 ] وقوله : { وَهُمْ يَمْكُرُونَ } أي : بيوسف والمقصود من هذا إخبار عن الغيبن فكيون معجزاً؛ لأنَّ محمداً صلوات الله وسلامه عليه لم يطالع الكتب ، ولم يتلمذْ لأحد ، ما كانت بلدته بلدة العلماء؛ فإتيانه بهذه القصَّة الطويلة ، على وجه لم يقع فيها تحريف ، ولا غلطٌ من غير مطالعةٍ ، و لاتعلم ، كيف لا يكون معجزاً؟ .
روي أن اليهود وقريشاً سألوا رسو الله صلى الله عليه وسلم عن قصَّة يوسف؛ فلما أخبرهم على موافقة التَّوراة لم يسلموا ، فحزن النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، فقيل : إنهم لا يؤمنون ، ولو حرصت على إيمانهم .
قوله { وَهُمْ يَمْكُرُونَ } : حال ، { وَلَوْ حَرَصْتَ } معترض بين « مََا » وخبرها ، وجواب مقدَّماً عليها ، فلا يجوز أن يقال : « قُمْتُ لو قمُتَ » .
وقال الفراء في « المصادر » : حَرَصَ يَحْرِصً حِرْصاً ، وفي لغة أخرى : حَرِصَ يَحْرَصُ حَرْصاً ، ومعنى الحَرْص : طلب الشيء بأقصى ما يكون من الاجتهاد ، { إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } : حالٌ .
قوله { وَمَا تَسْأَلُهُمْ } على تبليغ الرِّسالة ، والدُّعاء إلى الله عزَّ وجلَّ « مِنْ أجْرٍ » جعلوا خبر « إن » هو « مَا » أي : القرآن ، « إلاَّ ذِكْرٌ » : عظة وتذكير « للْعَالمِينَ » .
ثم قال : « وَكَأيِّنْ » : وكم ، « من آيةٍ » : عبرة ودلالة ، { فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا } : لا يتفكرون فيها ولا يتعبرون .
واعلم : أن دلائل التَّوحيد ، والعلم ، والقدرة ، والحكمة والرحمة لا بد وأن تكون من أمور محسوسة ، وهي : إما الأجرام الفلكيَّة ، وإما الأجرام العنصرية .
أما الأجرام الفلكيَّة فهي قسمان : إما الأفلاك ، وإما الكواكب .
فأما الأفلاك فقد يستدل بمقاديرها المعينة على وجود الصَّانع ، وقد يستدل بكون بعضها فوق بعضه أو تحته ، وقد يستدلُّ بحركتها ، إمَّا بسرعة حركتها ، وإمَّا باختلاف جهة تلك الحركات .
وأمَّا الأجرام الكوكبيَّة ، فتارة تدلُّ على وجود الصَّانع بمقاديرها ، وأجرامها ، وحركاتها في سرعتها وبطئها ، وتارة بألوانها وأضوائها ، وتارة بتأثيراتها في حصول الأضواء والظلال .
وأما دلائل الأجرام العنصرية : فإمَّا أن تكون مأخوذة من بسائطها ، وهو البر والبحر ، وإما مأخوذ من [ المواليد ] ، وهي أقسام :
أحدها : العلويِّة كالرعد ، والبرق ، والسَّحاب ، والمطر ، والثلج ، والهواء ، وقوس قُزَح .
وثانيها : المعادن على اختلاف طابعئها وصفاتها ، وكيفياتها .
وثالثها : النَّبات وخاصيَّة الخشب والورق بخصوصه .
ورابعها : اختلاف حال الحيوانت في أشكالها ، وطبائعها ، وأصواتها ، وخلقها .
وخامسها : تشريح أبدان الناس ، وتشريح القوى الإنسانية ، وبيان المنافع الحاصلة منها ، ومن هذا الباب أيضاً قصص الأولين والملوك الذين استولوا على الأرض ، وقهروا العباد ، وخربوا البلاد . ماتوا ولم يبق لهم في الدنيا خبر ، ثم بقي الوزرُ والعقاب عليهم ، قال ابن الخطيب : فلهذا ضبط أنواع هذه الدَّلائل .
فصل
الجمهور على جر الأرض عطفاً على السموات ، والضمير في « عَلَيْهَا » للآية ، فيكون « يمُرُّون » صفة للآية ، وحالاً لتخصُّصها بالوصف بالجر .
وقيل : يعود الضمير في « عَليْهَا » للأرض فيكون « يمُرُّون عليها » حالاً منها .
وقال أبو البقاء : وقيل : منها ومن السَّموات ، أي : يكون الحال من الشيئين جميعاً ، وهذا لا يجوز؛ إذا كان يجب أن يقال : عليهما ، وأيضاً : فإنهم لا يمرُّون في السَّماوات إلا أن يراد : يمرّون على آياتها ، فيعود المعنى على عود الضمير للآية ، وقد يجاب عن الأول بأنه من باب الحذف؛ كقوله تعالى : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] .
وقرأ السديُّ : « والأرْضَ » بالنَّصب ، ووجهه أنه من باب الاشتغال ، ويفسَّر الفعل بما يوافقه معنى ، أي : يطوفون الأرض ، أو يسلكون الأرض .
«
يمُرُّون علَيْهَا » كقولك : زَيْداً مررتُ بِهِ ، وقرأ عكرمة ، وعهمرو بن فايد : « والأرْضُ » على الابتداء ، وخبره الجملة بعده ، والضمير في هاتين القراءتين يعود على الأرض فقط .
قوله { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } والمعنى : أنَّهم كانوا مقرِّين بوجود الإله ، قال تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ الزمر : 38 ] إلا أنَّهم كانوا [ يُثْبِتُون ] له شريكاً في العبودية .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : نزلت في تلبية المشريكن من العرب ، كانوا يقولون : « لَبِّيكَ اللَّهُمَّ لبَّيْكَ ، لبَّيْكَ لا شريكَ لَكَ إلاَّ شرِيكاً هو لَكَ تمْلِكهُ ومَا مَلَك » .
وعن عطاء رضي الله عنه هذا في الدعاء ، قال تعالى : { وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } [ يونس : 22 ] { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } [ العنكبوت : 65 ] .
وعن ابن عبَّاس : إن أهل مكة قالوا : الله ربَّنا لا شريك له ، والملائكة بناتُه ، فلم يوحِّدوا بل أشركوا ، وقالت اليهود : ربُّنا الله وحده ، وعزيزٌ ابن الله ، وقالت النصارى : الله وحده ، والمسيح ابن الله .
واحتجت الكرامية بهذه الآية على أن الإيمان : عبارة عن الإقرار باللسان فقط؛ لأنه تعالى حكم بكونهم مؤمنين مع أنَّهم مشركون ، وذلك يدلُّ على أن الإيمان عبارةٌ عن مجرَّد الإقرار ، وجوابه معلُوم .
قوله تعالى : { أفأمنوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ الله } : عقوبة تغشاهم ، وتنبسط عليهم ، وتغمرهم .
{
أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً } .
قرأ أبو حفص ، ومبشر بن عبدالله : { أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً } بالياء من تحت؛ لأنه مؤنَّث مجازي؛ وللفصل أيضاً ، و « بَغْتَةً » : نصب على الحال ، يقال : بغَتهُمُ الأمْرُ بغتاً وبَغْتَةً ، إذا فاجأهم من حيث لم يتوقَّعوا .
وقوله : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } الناصب لقوله : « بغْتَةً » .
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
قوله : { قُلْ هذه سبيلي } الآية .
قل يا محمد هذه الدعوة التي أدعو إليها ، والطريقة التي أنا عليها ومثله : { ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ } [ النحل : 135 ] والسَّبيل في أصل اللغة : الطريق ، ثم شبهوا بها التعبُّدات؛ لأن الإنسان يمر عليها إلى الجنَّة .
قوله : { أَدْعُو إلى الله } يجوز أن يكون مستأنفاً ، وهو الظاهر ، وأن يكون حالاً من الياءِ ، و { على بَصِيرَةٍ } حال من فاعل « أدْعُوا » أي : أدعوا كائناً على بصيرةٍ .
وقيل : تمَّ الكلام عند قوله : { أَدْعُو إلى الله } ثم استأنف { على بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتبعني } .
قوله { وَمَنِ اتبعني } عطفٌ عليه ، أي : على فاعل « أدْعوا » ولذلك أكد بالضمير المنفصل ، ويجوز أني كون متبدأ ، والخبر محذوف ، أي : ومن اتَّبعني يدعو أيضاً ، ويجوز أن يكون « عَلَى بَصِيرةٍ » : خبراً مقدماً ، و « أنَا » : مبتدأ مؤخر ، و « مَنِ اتَّبعَنِي » عطف عليه أيضاً ، ومفعول « أدْعُوا » يجوز أن لا يراد ، أي : أنا من أهل الدُّعاء إلى الله ، ويجوز أن يقدَّر : أن أدعواالناس . وقرأ عبدالله : « هذَا سَبِيلِي » بالتَّذكيرن وقد تقدَّم [ الأنعام : 55 ] أنه يذكَّر ويؤنَّث .
فصل
والمعنى : أدْعُوا إلى شالله على بصيرةٍ على يقين ، والبصيرةُ : هي المعرفة التي يميز بها بين الحقِّ والباطل ، وهي الحجَّة والبرهان ، « أنَا ومَنِ اتَّبعَنِي » : آمَنَ بي ، وسار في طريقي ، وسيرهُ : اتِّباع الدَّعوة إلى الله عزَّ وجلَّ .
قال الكلبيُّ ، وابنُ زيد : حقٌّ على من اتَّبعه أن يدعو إلى ما دعى إليه ويذكِّر بالقرآن .
قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه : يعني : أصحاب رسُول الله صلى الله عليه وسلم كانوا على أحسن طريقةٍ ، وأقدص هداية معدن العلم ، وكنز الإيمان وجند الرَّحمن .
قال عليه الصلاة والسلام : « العُلمَاءُ أمَناءُ الرُّسلِ على عِبَادهِ ، حيثُ يَحْفَظُونَ ما يدْعُونَ إليْهِ » .
ثم قال { وَسُبْحَانَ الله } أي : وقل : سبحان الله تنزيهاً عمَّا يشركون .
{
وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين } الذين اتَّخذوا من الله ضدًّا وندًّا . وهذه الآية تدلُّ على أنَّ علم الأصول حرفة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، وأن الله تعالى ما بعثهم إلى الخلقِ إلا لأجلها .
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً } الآية : وهذا يدلُّ على أنَّه ما بعث رسولاً إلى الخلق من النِّسوان ، ولا من أهل البادية ، وقال عليه الصلاة والسلام : « مَنْ بَدَا جَفَا » .
قول : « نُوحِي » العامة معلى « يُوحَى » بالياء من تحت مبنيًّا للمفعول .
وقرأ حفص : « نُوحِي » بالنون ، وكسر الحاء مبنيًّا للفاعل ، اعتبارا بقوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَا } [ النحل : 43 ] وكذكل قرا ما في النحل ، وأوَّل الأنبياء ، ووافقه الاخوان على قوله : { نوحي إِلَيْهِمْ } في الأنبياء على ما سيأتي إن شاء الله تعالى والجملة صفة ل « رِجَالاً » و { مِّنْ أَهْلِ القرى } صفة ثانيةٌ ، وكان تقديم هذه الصِّفة على ما قبلها أكثر استعمالاً ، لأنَّها أقرب إلى المفرد ، وقد تقدَّم تحريره في المائدة .
فصل
قوله : { مِّنْ أَهْلِ القرى } أي من أهل الأمصار دون أهل البوادي؛ لأن أهل الأمصار أعقل وأفضل وأعلم وأحلم .
قال الحسن : لم يبعث الله نبيًّا من أهل البادية ولا من الجن ولا من الملائكة وقيل إنما لم يبعث من أهل البادية لغلظهم وجفاهم كا تقدَّم .
{
أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض } يعني : [ هؤلاء ] المشركين المكذبين ، { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ } : آخر أمر ، { الذين مِن قَبْلِهِمْ } يعنى : الأمم المكذِّبين فيعتبروا ، { وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتقوا } يقول سبحانه وتعالى : هذا فعلنا بأهل ولا يتنا وطاعتنا أن نُنجِّهم عند نزول العذاب ، وما في الدرار الآخرة لهم خير ، فترك ذلك اكتفاء به لدلالة الكلام عليه ، والمعنى : ولدار الحالِ الآخرة .
وقيل : هو إضافة الشيء إلى نفسه؛ كقوله : { إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين } [ الواقعة : 95 ] ، وكقولهم : يومُ الخَميِسِ ، وربيعُ الآخر ، { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } فتؤمنون ، قرأ نافع ، وابن عامرٍ ، ورواية عن عاصم : « تَعْقِلُون » بتاء الخطاب ، والباقون بياء الغيبة .
قوله تعالى : { حتى إِذَا استيأس الرسل } الآية .
ليس في الكلام شيء يكون ، « حتَى » غاية له؛ فلذلك اختلفوا في تقدير شيءٍ يصحُّ حلعه مغيًّا ب « حتَّى » .
فقدره الزمخشري : ما أرسلنا من قبلكَ رجالاً ، فتراخى نصرهم حتَّى .
وقدره القرطبيُّ : ما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالاً ، ثم لم نعاقب أممهم بالعقاب حتَّى إذا .
وقدره ابن الجوزي : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً ، فدعوا قومهم فكذَّبوهم ، فطال دعاؤهم ، وتكذيب قومهم حتَّى إذا ، وأحسنها المقدم .
وذكر ابن عطيَّة شيئاً من معنى قوله : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ } فقال : ويتضمن قوله « أفَلمْ يَسِيرُوا » إلى من قبلهم ، أنَّ الرُّسل الذين بعثهم الله تعالى من أهل القرى دعوهم ، فلم يؤمنوا حتى نزلت به المُثُلاث ، فصبروا في حيِّز من يعتبر بعاقبته؛ فلهذا المضمَّن حسن أن تدخل « حتَّى » في قوله : « حتَّى إذَا » .
قال أبو حيان : ولم يتلخًّص لنا من كلامه شيء يكون ما بعد « حتَّى » غاية لهُ؛ لأنَّه علَّق الغاية بما ادَّعى أنَّه فهم ذلك من قوله : « أفَلمْ يَسِيرُوا » ، قال شهاب الدِّين : قوله : « دَعوهُمْ فَلم يُؤمِنُوا » هو المُغَيَّا .
قوله { وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } قرأ الكوفيُّون : « كُذِبُوا » بالتخفيف ، والباقون بالتثقيل .
فأما قراءة التَّثقيل ، فاضطربت فيه الأقوال : فرُوِي إنكارها عن عائشة رضي الله عنها قالت : « مَعاذَ اللهِ؛ لمْ تَكُنِ الرسُل لتظُنَّ ذلِكَ بِربِّهَا » وينبغي ألاَّ يصحَّ لك عنها؛ لتواتر هذه القراءة ، وقد وجَّهت بأربعة [ أوجه ] :
أحدها : أن الضمير في « وظَنُّوا » عائدٌ على المرسل إليهم؛ لتقدُّمهم في قوله : { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ } ولأنَّ الرسل تستدعي مرسلاً إليهم ، والضمير في « أنَّهُمْ » و « كُُذِبُوا » عائد على الرسل والمعنى : وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا ، أي : كذَّبهم من أرسلوا غليه بالوحي ، وينصرهم عليهم .
الثاني : أن الضمائر الثلاثة عائدة على الرسل .
قال الزمخشري في تقديره هذا الوجه : « حتَّى إذا اسْتَيئَسُوا من النَّصر ، وظنوا أنهم قد كذبوا ، أي كذَّبتهم أنفسهم حين حدَّثتهم أنهم ينصرون ، أو رجاؤهم؛ لقولهم : رَجاءٌ صادقٌ ، ورجاءٌ كاذبٌ ، والمعنى : أن مدَّة التَّكذيب والعداوة من الكفَّار ، وانتظار ، وتوهَّموا أن لا نصر لهم في الدنيا؛ فجاءهم نصرنا » انتهى .
فقد جعل الفاعل المقدر : إما « أنْفُسُهم » ، وإما « رَجَاؤهم » ، وجعل الظَّنَّ بمعنى : التَّوهُّم ، فأخرجه عن معناه الأصليِّ ، وهو يرجِّحُ أحد الطرشفين ، وعن مجازه ، وهو استعماله في المتيقين .
الثالث : أن الضمائر كلَّها عائدة على الرسل ، والظنُّ على بابه من التَّرجيح ، وإلى هذا نحا ابنُ عبَّاسٍ ، وابن مسعود ، وابن جبير ، وقالوا : والرُّسُل بشر؛ فضعفوا ، وساء ظنُّهُم .
وهذا لا ينبغي أن يصحَّ عن هؤلاء : فإنها عبارة غليظة على الأنبياء ، وحاشا الأنبياء من ذلك ، ولذلك ردَّت عائشة ، وجماعة كثيرة هذا التأويل ، وأعظموا أن ينسبوا الأنبياء إلى شيء من ذلك .
قال الزمخشريُّ : « إن صحَّ هذه عن ابن عبَّاس ، فقد أراد بالظَّنِّ؛ ما يخطر بالبالِ ، ويهجُس في القلب من شبه الوسوسة ، وحديث النَّفس على ما عليه البشريِّة ، وأما الظَّنُ الذي هو ترجيح أحد الجائزين عل الآخر؛ فغير جائزٍ على رجلٍ من المسلمين ، فما بالُ رُسل الله الذين هم أعرف بربِّهم » .
قال شهاب الدِّين : « ولا يجوز أيضاً أن يقال : خطر ببالهم شبه الوسوسة ، فإن الوسوسة من الشيطان ، وهم معصومون منه » .
وقال الفارسي أيضاً : « إن ذهب ذاهبٌ إلى أن المعنى : ظن الرُّسل الذين وعد الله أممهم على لسانهم قد كذبوا؛ فقد أتى عظيماً لا يجوز أن ينسب مثله إلى الأنبياء ، ولا إلى صالح عباد الله ، وكذلك من زعمك أنَّ ابن عبَّاس ذهب إلى أن الرسل قد ضعفوا ، [ فظنوا ] أنهم قد أخلفوا؛ لأن الله لا يخلف الميعاد ، ولا مبدِّل لكلماته » .
وقد روي عن ابن عباس أيضاً ، أنه قال : معناه : وظنوا حين ضعفوا وغلبوا؛ أنهم قد أخفلوا ما وعدهم الله به من النصر ، وقال : وكانوا بشراًح وتلا قوله تعالى : { وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول } [ البقرة : 214 ] .
الرابع : أن الضمائر كلَّها ترجع إلى المرسل إليهم أي : وظنَّ المرسل إليهم أنَّ الرسل قد كذبوهم فيما ادَّعوه من النبوة ، وفيما يوعدون به من لم يؤمن بهم من العقاب قبل ، وهذا هو المشهور من تأويل ابن عباس ، وابن مسعود ، وابن جبير ، ومجاهد ، قالوا : « و لايجوز عود الضمائر على الرسل؛ لأنَّهم معصومون » .
ويحكى : أنَّ ابن جبير حين سئل عنها ، فقال : نعم ، حتَّى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدِّقوهم ، وظنَّ المرسل إليهم أن الرُّسل قد كذبوهم؛ فقال الضحاك بن مزاحم وكان حاضراً : « لَوْ رحَلْتُ فِي هَذه إلى اليَمنِ كَانَ قَلِيلاً » .
وأمَّا قراءة التشديد فواضحة ، وهو أن تعود الضمائر كلها على الرسل ، أي : وظنَّ الرُّسل أنهم قد كذبهم أممهم فيما جاءوا به؛ لطول البلاءِ عليهم .
وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت : « إنَّهُم أتْبَاعُ الأنْبيَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا بِربهم وصدَّقُوا ، طَالَ عَليهِمُ البَلاءُ واسْتأخَرَ عَنْهُم النَّصْر ، حتَّى إذَا اسْتَيْأسَ الرُّسلُ ممَّن كذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ ، وظنَّتِ الرُّسلُ أنَّهُمْ قَد كذَّبُوهُم ، جَاءَهُمْ نَصْرُ اللهِ عِندَ ذلِكَ » .
وبهذا يتَّحد معنى القراءتين ، والظَّن هنا يجوز أن يكون على بابه ، وأن يكن بمعنى : اليقين ، وأن يكن بمعنى : التوهُّم كما تقدَّم .
وقرأ ابن عبَّاس ، ومجاهد ، والضحاك رضي الله عنهم : « كَذبُوا » بالتخفيف مبنيًّا للفاعل ، والضمير على هذه القراءة في « وظنُّوا » عائدٌ على الأمم ، في أنَّهُم قد كذبوا ، عائد على الرسل ، أي : ظنَّ المرسلُ إليهم أنَّ الرسل قد كذبوهم فيما وعدوهم به من النَّصر ، أو من العقاب .
ويجوز أن يعود الضمير في « ظَنُّوا » على الرسل ، وفي « أنَّهُمْ قَدْ كذِبُوا » على المرسل إليهم ، أي : وظنَّ الرسل إنَّ الأمم كذبتهم فميا وعدهم به من أنَّهم لا يؤمنون به ، والظنُّ هنا بمعنى : اليقين واضح .
ونقل أبو البقاء : « أنه قرىء مشدّداً مبنياً للفاعل ، وأوله : بأن الرسل ظنّوا أن الأمم قد كذبوهم » .
وقال الزمخشري بعد ما حكى قراءة المبني للفاعل : « ولو قرىء بها مشددة لكان معناه : وظن الرسل أن قومهم قد كذَّبُوهم فيما وعدوهم » فلم يحفظها قراة ، وهي غريبة ، وكان قد جوَّز في القراءة المتقدمة : أن الضَّمائر كلَّها تعود على الرُّسل ، وأن يعود الأول على المرسل إليهم وما بعده على الرسل أنهم قد كذبوا فيما حدَّثوا به قومهم من النُّصرة : إمَّا على تأويل ابن عبَّاس ، وإمَّا على أنَّ قومهم إذا لم يروا لموعدهم أثراً ، قالوا لهم : قد كذبتمونا ، فيكونون كاذبين عند قومهم ، أي : وظنَّ المرسل إليهم أنَّ الرسل قد كذبوا « .
وقوله « جَاءَهُمْ » : جواب الشِّرط ، وتقدَّم الكلام في « حتَّى » هذه ما هِي؟ . أي : لمَّا بلغ الحال إلى الحدِّ المذكور؛ جاءهم نصرنا .
فإن قيل : لم يجر ذكر المرسل إليهم فيما سبق ، فكيف يحسن عود الضَّمير إليهم؟ .
فالجواب : ذكر الرسل يدلُّ على ذكر المرسل إليهم ، أو يقول : إن ذكرهم جرى في قولهم : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ } ويكون الضمير عائداً عل الذين من قبلهم ، من مكذِّبي الرسل .
قوله : { فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ } قرأ عاصمٌ ، وابن عامر بنون واحدة ، وجيم مشددة ، وياء مفتوحة؛ على أنَّه فعلٌ ماضي مبنيٌّ للمفعول ، و « مَنْ » : قائمة مقام الفاعل ، والباقون بنونين ثانيتهما ساكنة والجيم خفيفة ، والياء الساكنة على أنه مضارع أنْجَى ، و « مَنْ » مفعوله ، الفاعل ضمير المتكلم المعظم نفسه على الاستقبال ، على معنى : فنفعل بهم ذلك ، وهه حكاية حالٍ ، ألا ترى أنَّ القصَّة فيما مضى ، وإنَّما حكى الحالح كقوله تعالى { هذا مِن شِيعَتِهِ وهذا مِنْ عَدُوِّهِ } [ القصص : 15 ] إشارة إلى الحاضر ، والقصَّة ماضية .
وقرأ الحسن ، والجحدريُّ ، ومجاهد في آخرين كقراءة عاصم ، إلا أنَّهم سكَّنوا الياء ، والأجود في تخريجها ما تقدَّم ، وسكِّنت الياء تخفيفاً ، كقراءة : { تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } [ المائدة : 89 ] وقد سكِّن الماضي الصَّحيح ، فكيف بالمعتلِّ؟
كقوله : [ مجزوء الرمل ]
3157 ...
قَدْ خُلِطْ بِجُلْجُلانْ
وتقدم من أمثاله .
وقيل : الأصل « نُنْجِي » بنونين؛ فأدغم النون في الجيم ، وليس بشيء؛ إذا النون لا تدغم في الجيم على أنَّه قد قيل بذلك في قوله : { نُنجِي المؤمنين } [ الأنبياء : 88 ] كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
وقرأ جماعة كقراءة الباقين إلا أنَّهم فتحوا الياء ، قال ابن عطيَّة : « رواها ابن عبيرة ، عن حفص ، عن عاصم ، وهي غلط من ابن هبيرة » .
قال شهابُ الدِّين : « توهَّم ابن عطيِّة أنه مضارع باقٍ على رفعة ، فأنكر فتح لامه وغلَّط راويها ، وليس بغلط؛ وذلك أنه إذا وقع بعد الشرط والجزاء معاً مضارع مقرون بالفاء ، جاز فيه أوجه :
أحدهما : نصبه بإضمار » أن « بعد الفاء ، وقد تقدَّم عند قوله : { وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ } [ البقرة : 284 ] إلى أن قال : » فَيَغْفِر « قرىء بنصبه ، وقد تقدم توجيهه ، ولا فرق بين أن تكون أداة الشرط جازمة كآية البقرة ، أو غير جازمة كهذه الآية .
وقرأ الحسن أيضاً » فنُنَجِّي « بنونين ، والجيم مشددة ، والياء ساكنة مضارع » نَجَّى « مشددة للتكثير ، وقرأ هو أيضاً ونصر بن عاصم ، وأبو حيوة : » َفَنَجَا « فِعْلا ماضياً مخففاً ، و » مَنْ « فاعله .
ونقل الدَّاني : أنه قرأ لابن محيصن كذلك ، إلا أنه شدِّد الجيم ، والفاعل ضمير النَّصر ، و « مَنْ : مفعوله ، ورجح بعضهم قراءة عاصم؛ بأن المصاحف اتفقت على كتبها » فَنُجِّيَ « بنون واحدة ، نقله الداني ، ونقل مكي : أن أكثر المصاحب عليها ، فأشعر هذا بوقوع الخلاف في الرَّسم ، ورجَّح أيضاً : بأنَّ فيها مناسبة لما قبلها من الأفعال الماضية ، وهي جارية على طريقة كلام الملوك والعظماء ، منحيث بناء الفعل [ للمعفول ] .
وقرأ أبو حيوة : » يَشَاءُ « بالياء ، وتقدَّم أنه قرأ » فَنَجَا « ، أي : فنجا من يشاء الله نجاته ، وهم المؤمنون المطيعون .
قوله : { وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا } : عذابنا ، وقرأ الحسن » بَأسهُ « والضمير لله ، وفيها مخالفة للشواذُ ، » عَنِ القومِ المُجْرمينَ « أي : المشركين .
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
قوله : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ } أي : في خبر يوسف وإخوته ، « عِبْرَةٌ » : موعظة « لأولِي الألبابِ » .
قرأ أبو عمرو في رواية عبد الوارث ، والكسائيُّ في رواية الأنطاكي : « قِصَصِهِمْ » بكسر القاف هو جمع قصَّة ، وبهذه القراءة رجَّح الزمخشري عود الضمر في « قَصصِهمْ » في القراءة المشهورة على الرسل وحدهم .
وحكى غيره : أنه يجوز أن يعود على الرسل ، وعلى يوسف وإخوته جميعاً كما تقدم .
قال أبو حيان : « ولا ينصره يعني هذه القراءة ؛ إذ قصص يوسف ، وأبيه ، إخوته تشتمل على قصص كثيرة ، وأنباء مخلفة » .
فصل
الاعتبار : عبارة عن العبور من الطريق المعلومة إلى الطريق المجهولة ، و المراد منه : التأمُّل والتَّفكر ، ووجه الاعتبار بقصصهم أمور :
أحدها : أنَّ الذي قدر على إعزاز يوسف عليه الصلاة والسلام ، بعد إلقائه في الجبِّ وإعلائه بعد سجنه ، وتمليكه مصر بعد أن كانوا يظنون أنه عبد لهم وجمعه مع أبيه وإخوته على ما أحبَّ بعد المدة الطويلة؛ لقادرٌ على إعزاز محمد صلى عليه وسلم ، وإعلاء كلمته .
وثاينها : أن الأخبار عنه إخبارٌ عن الغيب ، وفكان معجزة دالَّة على صدق محمد صلوات الله وسلامه عليه .
وثالثها : أنه قال في أوَّل السورة : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص } [ يوسف : 3 ] ثم قال هنا : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب } وذلك تنبيه على أن حسن هذه القصَّة ، إنَّما هو لأجل حصول العبرة منها ، ومعرفة الحكمة والقدرة .
فإن قيل : لم قال : { عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب } مع أن قوم محمد صلى الله عليه وسلم كانوا ذوي عقول وأحلام ، وقد كان الكثير منهم لم يعتبرْ؟ .
فالجواب : أنَّ جميعهم كانوا متمكِّنين من الاعتبار ، والمراد من وصف هذه القصَّة بكونها عبرة كونها بحيث يتعبرها العاقل .
قوله { مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى } في « كَانَ » ضمير عائدٌ على القرآن ، أي : ما كان القرآن المتضمن لهذه القصَّة الغريبة حديثاُ مختلقاً .
وقيل : بل هو عائدٌ على القصص ، أي : ما كان القصص المذكور في قوله : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ } .
وقال الزمخشري : « فإن قلت : فإلام يرجع الضمير في : { مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى } فيم قرأ بالكسر؟ قلت : إلى القرآن أي : ما كان القرآن حديثاً .
قال شهاب الدين : » لأنه لو عاد على « قِصَصِيهم » بكسر القاف؛ لوجب أن يكون « كَانَتْ » بالتاء « لإسناد الفعل حينئذ إلى ضمير مؤمث ، وإن كان مجازيًّا .
قوله : { ولكن تَصْدِيقَ } العامة عل نصب » تصيدقَ « والثلاثة بعده ، على أنَّها منسوقة على خبر » كان « أي : ولكن كان تصديق .
وقرأ حمدان بن أعين ، وعيسى الكوفي ، وعيسى القفي : برفع » تَصْديقَ « وما بعده ، على أنَّها أخبار لمبتدأ مضمر ، أي : ولكن هو تصديق ، أي : الحديث ذو تصديق ، وقد سمع من العرب مثل هذا بالنصب والرفع؛ قال ذو الرمَّة : [ الطويل ]
3158
ومَاك كَانَ مالِي من ثُراثٍ وَرِثتهُ ... ولا دِيةً كَانتْ ولا كَسْبَ مَأثَم
ولكِنْ عَطاءُ اللهِ من كُلِّ رحْلَةٍ ... إلى كُلِّ مَحْجُوبِ السُّرادقِ خِضْرمِ
وقال لوطُ بن عبيدالله : [ الطويل ]
3159
وإنِّي بَحمْدِ الله لا مَالَ مُسلمٍ ... أخَذْتُ ولا مُعطِي اليَمينِ مُخالفِ
ولكنْ عَطاء اللهِ منْ كُلِّ فَاجرٌ ... قَصِيِّ المحَلِّ مُعْورٍ للمَقَارِفِ
يروى : « عَطاءَ الله » في البيتين منصوباً على : « ولكن كان عطاء الله » ومرفوعاً على : « ولكن هُو عطاءُ الله » .
قال الفراء والزجاج : « ونصي » تَصْديقَ « على تقدير : ولكن كان تصديق الذي بين يديه ، كقوله تعالى : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله } [ الأحزاب : 40 ] ثم قالا : ويجوز رفعه في قياس النحو على معنى : ولكن هو تصديق الذي بين يديه؛ فكأنَّهما لم يطَّلعا على أنهما قراءة .
فصل
معنى الآية : أن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يصحُّ منه أن يفترى هذه القصَّة ، بحيث تكون مطابقة لها من غير تفاوت .
وقيل : إن القرآن ليس بكذب في نفسه؛ لأنَّه لا يصحُّ أن يفترى ، ثم أكَّد كونه غير مفترى بقوله : { ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ } وهو إشارة إلى أنَّ هذه القصَّة وردت موافقة لما في التوراة ، وسائر الكتب الإلهيَّة ، ثم وصفه بأن فيه : { وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ } .
قيل : كل شيء في واقعة يوسف مع أبيه ، وإخوته .
وقيل : يعود على كلِّ القرآن؛ كقوله تعالى : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ } [ الأنعام : 38 ] .
والأولى : أن يجعل هذا الوصف وصفاً لكلِّ القرآن ، ويكون المراد ما تضمَّنه من الحلال ، والحرام ، وسائر ما يتَّصل بالدِّين .
قال الواحدي : » وعلى هذين التفسرين جميعاً؛ فهو من العام الذي أريد به الخاصُّ؛ كقوله تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [ الأعراف : 156 ] يريد : وسعت كل شيء أن يدخل فيها ، { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } [ النمل : 23 ] .
ثمَّ وصفه بكونه هدّى في الدنيا ، وسبباً لحصول الرحمة في القيامة ، { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } خصَّهم الله بالذِّكرح لأنَّهم الذين انتفعوا به ، كقوله تعالى { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] .
وروى أبيُّ بن كعب رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرَّف كرَّم وبجَّل وعظَّم : « عَلِّموا أرقَّاءكُمْ سُورَةَ يُوسُفَ عليه الصلاة والسلام ، فإنَّهُ أيُّما مسلم تلاها ، وعلَّمَها أهْلهُ ومَا مَلكَتْ يَمِينهُ ، هَوَّنَ اللهُ عَليْهِ سَكرَاتِ المَوْتِ ، وأعْطَاهُ القُوَّة أن لا يَحْسُدَ مُسْلِمَا » .
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
قوله تعالى : { لامار تِلْكَ آيَاتُ الكتاب } قال ابن عبَّاس : معناه أنا الله أعلمُ .
وقال أيضاً في رواية عطاءٍ : أنَا اللهُ الملكُ الرَّحمنُ . وأمالها أبو عمرو والكسائي وفخمها عاصم ، وجماعةٌ .
قوله { تِلْكَ آيَاتُ } يجوز في « تِلْكَ » أن تكون مبتدأ ، والخبر « آيَاتُ » ، والمشار إليه آيات السُّورةِ ، والمراد ب « الكِتَابِ » : السُّورةُ .
وقيل : إشارة إلى ما قصَّ عليه من أنباء الرسل ، وهذا الجملة لا محلَّ لها إن قيل : إن « المر » كلامٌ مستقلٌّ ، أو قصد به مجرَّد التنبيه ، وفي محل رفع على الخبر إن قيل : « المر » مبتدأ ، ويجوز أن يكون « تِلْكَ » خبراً ل « المر » و { آيَاتُ الكتاب } بدل ، أو بيان ، وتقدم تقريرُ هذا أوَّل الكتابِ .
قوله : { والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ } يجوز في أوجه :
أحدها : أن يكون مبتدأ ، و « الحَقُّ » خبره .
الثاني : أن يكون مبتدأ و « مِنْ ربِّكَ » خبره ، وعلى هذا ف « الحَقُّ » خبر مبتدأ مضمر ، أي هو الحق .
الثالث : أن « الحَقَّ » خبر بعد خبرٍ .
الرابع : أن يكون « مِن ربِّك الحقُّ » كلاهما خبر واحد ، قاله أبو البقاءِ ، والحوفيُّ وفيه بعد ، إذ ليس هو مثل : « حُلْوٌ حَامضٌ .
الخامس : أن يكون » الَّذي « صفة للكتاب .
قال أبو البقاءِ : » وادخلت الواو في لفظه ، كما أدخلت في « النَّازِلينَ والطيبين » يعني أنَّ الواو تدخل على الوصف ، والزمخشري يجيزهن ويجعل الواو في ذلك تأكيداً ، وسيأتي إن شاء الله تعالى في الحجر في قوله { إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] .
وقوله : ( في النزالين والطيبين ) يشير إلى بيت الخرنقِ بنت هفّان في مدحها لقومها : [ الكامل ]
3160
لا يَبْعدَنْ قَوْمِي الَّذينَ هُمُ ... سُمُّ العُداةِ وَآفةُ الجُزْرِ
النَّازِلينَ بِكُلِّ مُعتَركٍ ... والطَّيبينَ مَعَاقِدَ الأُزْرِ
فعطف « الطَّيبين » على « النَّازلينَ » وهما صفتان لقومٍ معينين ، إلاَّ أن القوم بين الآية ، والبيت واضحٌ ، من حيث إنَّ البيت فيه عطف صفةٍ على مثلها ، والآية ليست كذلك .
وقال أبو حيَّان : أن تكون الآية مما عطف [ فيه ] وصف على مثله ، فقال : وأجاز الحوفي أيضاً أن يكون « والَّذِي » في موضع رفع عطفاً على « آيَاتُ » ، وأجاز هو ، وابن عطيَّة : أن يكون « والَّذي » في مضع خفضٍ ، وعلى هذين الإعرابين ، يكون « الحقُّ » خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو الحق ، ويكون « والَّذي » ممَّا عطف فيه الوصفُ على الوصفِ ، وهما لشيءٍ واحدٍ ، كما تقول : جاءني الظريف العاقلُ ، وأنت تريدُ شخصاً واحداً ، من ذلك قول الشاعر : [ المتقارب ]
3161
إلى المَلكِ القَرْمِ وابنِ الهُمَامِ ... ولَيْثِ الكَتِيبةِ في المُزْدَحَمْ
قال شهابُ الِّدين : وأين الوصف المعطوف عليه؛ حتى نجعله مثل ابيت الذي أنشده .
السادس : أن يكون « الَّذي » مرفوعاً نسقاً على « آيَاتُ : كما تقدَّمت حكايته عن الحوفي . وجوَّز الحوفي أيضاً : أن يكون » الحقُّ « نعتاً ل » الَّذي « حال عطفه على » آيَاتُ الكِتَابِ « .
فتلخَّص في » الحق « خمسة أوجه .
أنَّهُ خبرٌ أوَّل ، أو ثان ، أو هو ما قبله ، أو خبراً لمبتدأ مضمر ، أو صفة ل » الَّذي « إذا جعلناه معطوفاً على » آيَاتُ « .
فصل
قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه : أراد ب : الكِتابِ » القرآن ومعناه : هذه آيات الكتاب ، يعني : القرآن ، ثمَّ ابتدأ ، وهذا القرآن { والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحق ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ } وهذا زجرٌ وتهديدٌ .
وقال مقاتلُ : نزلت في مشركي مكَّة حين قالوا : إنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم يقوله من تلقاء نفسه فردَّ قولهم .
فصل
تمسَّك نفاةُ القياس بهذه الآية وقالوا : الحكمُ المستنبطُ بالقياس غير ما نزل من عند الله تعالى وإلاَّ لكان من لم يحكم به كافر ، لقوله تعالى { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون } [ المائدة : 44 ] ، وبالإجماع لا يكفرُ ، فثبت أنَّ الحكم المثبت بالقياس غير نازلٍ من عند الله تعالى ، وإذا كان كذلك ، وجب ألاَّ يكون حقًّا ، وإذا لم يكن حقًّا ، وجب أن يكون باطلاً ، لقوله تعالى : { فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال } } [ يونس : 32 ] وأجيبك بأن الحكم المثبت بالقياس نازل أيضاً؛ لأنَّه تعالى أمر العملِ بالقياسِ ، فكان الحكمُ الَّذي دلَّ عليه القياس نازلاً من عند الله تعالى .
قوله تعالى { الله الذي رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } [ الآية : 2 ] لما ذكر انَّ أكثر النَّاس لا يؤمنون ، ذكر عقبهُ ما ديلُّ على صحَّة التَّوحيد ، والمعاد ، وهو هذه الآية .
قوله : « اللهُ » قال الزَّمخشريُّ : « اللهُ » مبتدأ ، و { الذي رَفَعَ السماوات } خبره بدليل قوله تعالى : { وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض } ويجوز أن يكون { الذي رَفَعَ السماوات } صفة ، وقوله : { يُدَبِّرُ الأمر يُفَصِّلُ الآيات } خبراً « .
وقوله : » بِغَيْرِ عمدٍ « هذا الجار في محلِّ نصب على الحال من » السَّمواتِ « أي : رفعها خالية من عمدٍ ، ثمَّ في هذا الكلام وجهان :
أحدهما : انتفاء العمدِ ، والرؤية جميعاً ، أي : لا عمد؛ فلا رؤية ، يعني : لا عمد لها؛ فلا ترى ، وإليه ذهب الجمهور .
والثاني : أنَّ لهما عمداً ، ولكنها غير مرئيَّة .
وعن ابن عبَّاسٍ : ما يدريك أنّضها بعمدٍ لا ترى ، وإليه ذهب مجاهد وهذا قريب من قولهم : » مَا رأيتُ رجُلاً صالحاً « ، ونحو : { لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } [ البقرة : 273 ] [ الطويل ]
3162
على لا حِبٍ لا يُهْتَدَى بِمنَارِهِ ..
وقد تقدَّم هذا ، إذا قلنا : إنَّ « تَروْنَهَا » صفة أمَّا إذا قلنا : إنَّها مستأنفةٌ كما سيأتي؛ فيتعيّن أن لا عمد لها .
والعامة على فتح العين ، والميم ، وهو اسم جمع ، وعبارة بعضهم : أنه جمع نظراً إلى المعنى دون الصناعة ، وفي مفرده احتمالان :
أحدهما : أنَّه عماد مثل « إهَاب وأهُب » .
والثاني : أنه عمودٌ ، كأدِيم وأدُم ، وقَضِيتم وقُضُم ، كذا قاله أبو حيَّان : وقال أبو البقاءِ : « جمع عماد ، أو عمود مثل : إدِيم وأدُم ، وأفِيق وأفُق ، وإهَاب وأهُب ، ولا خامس لها » ، فجعلوا فعلاً كفعيل في ذلك .
وفيه نظر؛ لأنَّ الأوزان لها خصوصية ، فلا يلزمُ من جمع « فعيل » وعلى كذا أن يجمع عليه « فعول » ، فكان ينبغي أن ينظروه بأن : « فَعُلاً » جمع على « فَعَل » ، ثم قول أبي البقاءِ « ولا خامس لها » يعني أنه لم يجمع على : « فُعُل » إلاَّ هذه الخمسة « عِمادٌ وعَمُودٌ وأدِيمٌ وأفِيقٌ وإهَابٌ » .
وهذا الحصرُ ممنوعٌ لما تقدَّم من نحو : قَضِيمٌ وقُضُمٌ ، ويجمعان في القلَّة على أعمدة . وقرأ أبو حيوة ، ويحيى بن وثاب : « عُمُد » بضمتين ، ومفرده يحتمل أن يكون عِمَاداً ، كشِهَاب ، وشُهُب ، وكِتَاب ، وكُتُب ، وأ ، يكون عَمُوداً ، كرسُولٍ ، ورُسُل وقد قرىء في السبع : { فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ } [ الهمز : 9 ] بالوجهين .
وقال ابن عطية في « عَمَد : اسم جمع عمود ، والباب في جمعه » عُمُد « بضم الحروف الثلاثة ، كرسول ورُسُلٌ .
قال أبو حيان : » وهذا وهمٌ ، وصوابه : بضمِّ الحرفين؛ لأنَّ الثالث هو حرف الإعراب ، فلا يعتبر ضمه في كيفية الجمعِ « .
والعِمَادُ والعَمود : ما يعمدُ به ، أي : يسند ، ويقال : عمدت الحائطَ أعمدهُ عَمْداً ، أي : أدْعمتهُ ، فاعْتمدَ الحائطُ على العِمَادِ ، والعَمَدُ : الأساطينُ قال النابغة : [ البسيط ]
3163
وخَيِّسِ الجِنَّ إنِّي قَدْ أذِنْتُ لَهُمْ ... يَبْنُونَ تَدْمُرَ بالصُّفَّاحِ والعَمدِ
والعَمْدُ : قصد الشيء ، والاستناد إليهن فهو ضدُّ السَّهو ، وعمودُ الصُّبْحِ : ابتداءُ ضوئهِ تشبيهاً بعمُودِ الحديدِ في الهَيئةِ ، والعُمْدَة : ما يُعْتمدُ عليه من مالِ وغيرهِ والعَمِيدُ : السَّيِّد الذي يعمدهُ النَّاسُ ، أي : يَقْصدُونَهُ .
قوله » تَرَوْنَها « في الضَّمير المنصُوب وجهان :
أحدهما : أنَّهُ عائدٌ على : » عَمَدٍ « ، وهو أقرب مذكورٍ ، وحينئذ تكون الجملة في محل جر صفة ل » عَمَدٍ « ، ويجيء فيه الاحتمالانِ المتقدِّمانِ من كون العمد موجودة لكنَّها لا ترى ، أو غير موجودة ألبتََّة .
والثاني : أنَّ الضَّمير عائد على » السَّمواتِ « ، ثمَّ في هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنَّها مستأنفة لا محلَّ لها ، أي : استشهد برؤيتهم لها لذلك ، ولم يذكر الزمخشري غيره .
والثاني : أنها في محل نصب على الحال من هاء : » تَرَوْنهَا « وتكون حالاً مقدرة؛ لأنها حين رفعها لم نكن مخلوقين ، والتقدير : رفعها مرئية لكم .
وقرأ أبي : « تَرَوْنهُ » بالتَّذكير مراعة للفظ « عَمَدٍ » إذ هو اسمُ جمع ، وهذه القراءة رجح بها الزمخشري كون الجملة صفة ل « عَمَدٍ » ، وزعم بعضهم أن « تَرَوْنَهَا » خبر لفظاً ، ومعناه الأمر ، أي روها ، وانظروا إليها لتعتبروا بها ، وهو بعيد؛ ويتعين على هذا أن يكون مستأنفاً ، لأن الطَّلب لا يقع صفة ، ولا حالاً .
و « ثُمَّ » في « ثُمَّ اسْتَوَى » لمجرَّدِ العطف لا للترتيبح لأنَّ الاستواء على العرشِ غير مرتب على رفع السموات .
قوله : { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } علا عليه : { وَسَخَّرَ الشمس والقمر } لمنافع خلقه ، فهما مقهوران يجريان على ما يريد الله عزَّ وجلَّ .
قال ابن عبَّاسٍ : للشَّمس مائة وثمانون منزلاً كُلَّ يوم لها منزلٌ ، وذلك يتمُّ في ستَّة أشهرٍ ، ثم تعود مرة أخرى إلى واحدٍ منها في ستَّة أشهر أخرى ، وكذلك للقمر ثمانية وعشرون منزلاً ، فهذا هو المراد من قوله سبحانه وتعالى : { كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى } .
وتحقيقه : أن الله قدَّر لكلِّ واحدٍ من هذه الكواكب سيراً خاصًّا إلى جهة خاصَّة بمقدارٍ خاص من السُّرعةِ ، والبُطءِ ، وإذا كان كذلك؛ لزم أن يكون لها بحسب كلِّ لحظة لمحة حالة أخرى لم تكن حاصلة قبل ذلك .
وقيل : المراد بقوله : { كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى } كونها متحركين إلى يوم القيامة فتنقطع هذه الحركات كما وصف تعالى في قوله : { إِذَا الشمس كُوِّرَتْ } [ التكوير : 1 ] { إِذَا السمآء انشقت } [ الانشقاق : 1 ] و { إِذَا السمآء انفطرت } [ الإنفطار : 1 ] { وَجُمِعَ الشمس والقمر } [ القيامة : 9 ] كقوله تعالى : { ثُمَّ قضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ } [ الأنعام : 2 ] .
قوله : { يُدَبِّرُ الأمر يُفَصِّلُ الآيات } قرأ العامة هذين الحرفين بالياء من تحت جرياً على ضمير اسم الله تعالى وفيهما وجهان :
أظهرهما : أنهما مستأنفان للإخبار بذلك .
والثاني : أنَّ الاولى حالٌ من فاعل « سخَّر » ، والثاني حالٌ من فاعل : « يُدبِّرُ » .
وقرأ النخعي ، وأبان بن تغلب : ( ندبر الأمر نفصل ) بالنون فيهما ، والحسن والأعمش : « نُفَصِّلُ » بالنون « يُدبِّرُ » بالياء .
قال المهدويُّ : لم يختلف في : « يُدبِّرُ » يعني أنَّه بالياء ، وليس كما ذكر لما تقدَّم عن النخعي ، وأبان بن تغلب .
فصل
قوله : { يُدَبِّرُ الأمر } يقضيه وحده ، وحمل كل واحد من المفسرين التَّدبير على نوع آخر من أحوال العالم ، والأولى حمله على الكل ، فهو يدبِّرهم بالإيجاد ، والإعدامِ والإحياءِ ، والإماتةِ ، والاعِدتمادِ ، والانقيادِ ، ويدخل فيه إنزال الوحي ، وبعث الرسلَ وتكليف العبادِ ، وفيه دليلٌ عجيبٌ على كمال القدرةِ والرحمة؛ لأنًَّ هذا العالم من أعلى العرش إلى أطباق الثَّرى يحتوي على أجناسٍ ، وأنواع لا يحيطُ بها إلا الله تعالى .
والدليل المذكور على تدبير كلِّ واحدٍ بوصفه في موضعه وطبيعته ، ومن المعلوم أنَّ من اشتغل بتدبير شيءٍ ، فإنَّهُ لا يمكنه تدبير شيء آخر ، فإنه لا يشغله شأنٌ عن شأن ، وإذا تأمَّل العاقل في هذه الآية علم أنَّهُ تعالى يدبِّر عالم الأجسام ويدبر عالم الأرواح ، ويدبر الكبير كما يدبر الصغير ، ولا يشغله شأن عن شأن ، ولا يمنعه تدبيرٌ عن تدبير ، وذلك يدل على أنه في ذاته ، وصفاته ، وعلمه ، وقدرته غير مشابه للمخلوقات ، والممكنات .
قوله { يُفَصِّلُ الآيات } يبين الدلالات الدَّالة على إلا هيته ، وعلمه ، وحكمه .
واعلم أنَّ الدَّلائل الدالَّة على وجود الصَّانع قسمان :
أحدهما : الموجودات الباقية الدائمةُ كالأفلاكِ ، والشمس ، والقمر ، والكواكب وهذا القسم تقدَّم ذكره .
والثاني : الموجودات الحادثة المتغيرة ، وهي الموتُ بعد الحياة ، والفقرُ بد الغنى ، والهرم بعد الصحَّة ، وكون الأحمق في أهنأ العيش ، والعاقل في أشد الأحوال ، فهذا النَّوعُ من الموجودات ، والأحوال دلالتها على وجود الصَّانع الحكيم ظاهرةٌ .
فقوله : { يُفَصِّلُ الآيات } إشارة إلى أنَّه يحدث بعضها عقيب بعض على سبيل التمييز ، والتفصيل .
ثم قال : { لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } لكي توقنوا بوعده ، وتصدِّقوا .
واعلم أنَّ الدلائل الدالة على وجود الصَّانع الحكيم تدلُّ ايضاً على صحَّة القول بالحشرِ والنشر؛ لأنَّ من قدر على خلق هذه الأشياء ، وتدبيرها على عظمها ، وكثرتها فبأن يقدر على الحشر ، والنشر أولى .
وروي أنَّ رجلاً قال لعليِّ بن أبي طالبٍ كرَّم الله وجهه : كيف يحاسب الله الخلق دفعة واحدة؟ قال : كما يرزقهم الآن دفعة واحدة ، وكما يسمعُ نداءهم ويجيب دعاءهم الآن دفعة واحدة .
واعلم أنَّهُ تعالى كما قدر على بقاء الأجرام الفلكيِّة ، والنيرات الكوكبية في الجو العالي ، وكما يمكنه تدبير ما فوق العرش إلى ما تحت الثَّرى لا يشغله شأنٌ عن شأنٍ ، كذلك يحاسبُ الخلق بحيث لا يشغله شأنٌ عن شأنٍ .
واعلم أنَّ لفظ « اللِّقاءِ » يدل على رؤية اللهِ تعال وقد تقدَّم تقريره .
{
وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض } [ الآية : 3 ] لما قرر الدلائل السماوية أردفها بتقرير الدلائل الأرضية فقال : { وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض } بسطها ، قال الأصم : المد : البسط إلى ما لا يدرك منتهاه فقوله : { مَدَّ الأرض } ليشعر بأنَّه تعالى جعل حجم الأرض حجماً عظيماً ، لا يقع البصر على منتهاه ، وقال قومٌ كانت الأرض مكورة فمدَّها ، ودحاها من مكَّة من تحت البيت ، فذهبت كذا وكذا وقال آخرون : كانت مجتمعة عند بيت المقدس ، فقال لها : اذهبي كذا ، وكذا .
قال ابن الخطيب : وهذا القول إنَّما يتمٌّ إذا قلنا : الأرض مسطحةٌ لا كرةٌ وأصحاب هذا القول ، احتجوا عليه بقوله تعالى : { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [ النازعات : 30 ] وهو مشكل من وجهين :
الأول : أنَّه ثبت بالدليل أنَّ الأرض كرةٌ ، فإن قالوا : قوله تعالى : مد الأرض ينافي كونها كرة .
قلنا : لا نسلم؛ لأنَّ الأرض جسم عظيم ، والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان لكم قطعة منها تشاهدُ كالسَّطح ، والتَّفاوت الحاصل بينه ، وبين السَّطح ، لايصحلُ إلاَّ في علم الله تبارك وتعالى إلا في قوله تعالى
{
والجبال أَوْتَاداً } [ النبأ : 7 ] مع أن العالم من النَّاس يستقرُّون عليه ، فكذلك هنا .
والثاني : أنَّ هذه الآية إنَّما ذكرت ليستدلّ على وجود الصَّانع؛ والشروط فيه أن يكون ذلك أمراً مشاهداً معلوماً ، حتى يصح الاستدلال به على وجود الصانع لأنَّ الشيء إذا رأيت حجمه ، ومقداره ، صار ذلك الحجم ، وذلك المقدار عبرة؛ فثبت أنَّ قوله : { مَدَّ الأرض } إشارة إلى أنه تعالى هو الذي جعل الأرض مختصة بمقدار معيَّن لا يزيدُ ولا ينقص ، والدليل عليه أن كون الأرض أزيد مقداراً ممَّا هو الآن ، وأنقص منه أمر جائز ممكن في نفسه ، فاختصاصه بذلك المقدار المعيَّن لا بدَّ وأن يكون بتخصيص مخصَّصِ ، وتقدير مقدِّرٍ .
قوله : { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ } وهي الجبالُ الثَّوابت ، وقاعدة هذا الوصف لا تطَّرد إلا الإناث إلا أن المكسر مما لا يعقل يجري مجرى جمع الإناث ، وأيضاً كثرة استعماله الجوامد ، فجمع حائط حوائطن وكاهل كواهل . وقيل : هو جمع راسية ، والهاء للمبالغة ، والرسوُّ : الثبوت ، قال الشاعر : [ الطويل ]
3164
بِهِ خَالدَاتٌ مَا يرِمْنَ وهَامِدٌ ... وأشْعَثُ أرْسَتْهُ الوَلِيدةُ بالفِهْرِ
فصل
قال بان عباس رضي الله عنه : كان أبو قبيسٍ أوَّل جبلٍ وضع على وجه الأرض .
واعلم أنَّ الاستدلال بوجود الجبال على وجود الصَّانع القادر الحكيم من وجوه :
أولها : أنَّ طبيعة الارض واحدة ، فحصول الجبل في بعض جوابنها دون البعضِ لا بدّ وأن يكون بتخليق القادر العليم .
قالت الفلاسفة : الجبال إنّضما تولّدت من البخارات؛ لأنَّ البخارات كانت في هذا الجانب من العالمِ ، كان تتولدُ في البحر طيناً لزجاً ، ثم يقوى فيه تأثير الشمس؛ فينقلب حجراً كما نشاهده ، ثمَّ إنَّ الماء كان يفور ويقلّ؛ فلهذا السببت تولّدت هذه الجبالُ وإنما حصلت هذه الجبالُ في هذا الجانب من العالمك لأن في الدّهر الأقدم كان حضيض الشمس في جانب الشمال ، والشمس متى كانت في حضيضها كانت أقرب إلى الأرض ، فكانل التسخين أقوى ، وشدّة والسُّخونة توجب انجذاب الطوبات ، فحين كان الحضيض في جانب الشمالِ ، كان البخارُ في جانب الشمال ، ولما انتقل الأوج إلى جانب الشمال ، والحضيض إلى جانب الجنوب انتقلت البحار إلى جانب الجنوب فبقيت هذه الجبالُ في جانب الشمال ، وهذا ضعيفٌ من وجوه :
الأول : أنَّ حصول الطِّين في البحر أمر عام ، ووقوع الشَّمس عليها أيضاً أمر عامٌّ ، فلم حصل هذا الجبل في بعض الجوانب دون العبضِ؟ .
الثاني : أنَّا نشاهدُ بعض الجبال كأنَّ تلك الأحجار موضوعة أقساماً كأن البنَّاءَ بناه من لبِنَاتٍ كثيرة موضوع بعضها فوق بعضٍ ، ويبعدُ حصول مثل هذا التركيب من السَّبب الذي ذكروه .
الثالث : أنَّ أوج الشَّمس الآن قريب من أوَّل السَّرطان ، فعلى هذا من أوَّل الوقت الذي انتقل أوجُ الشمس إلى الجانب الشَّمالي مضى قريباً من تعسة آلاف سنة ، وبهذا التقدير : أنَّ الجبال في هذه المدَّة الطويلة كانت في التفتت ، فوجب أن لايبقى من الأحجار شيءٌ ، لكن ليس الأمرُ كذلك؛ فعلمنا أنَّ السب بالذي ذكروه ضعيف .
الوجه الثاني من الاستدلال بأحوال الجبالِ على وجود الصَّانع : ما يحصلُ فيها من المعادن ، ومواضع الجواهر النفيسة ، وما يحصل فيها من معادن الدخان ومعادن النفط ، والكبريت ، فتكون طبيعة الأرض واحدة ، وكون الجبل واحداً في الطَّبع وكون تأثير الشمس واحداً في الكل يدلُّ ظاهراً على أنَّ بتدقير قادر قاهر متعال عن مشابهة المحدثات .
الوجه الثالث من الاستدلال بأحوال الجبال : وذلك أنَّ بسببها تتولدُ الأنهار على وجه الأرض؛ لأنَّ الحجر جسمٌ صلبٌ ، فإذا تصادعت الأبخرة من قعْرِ الأرض ، ووصلت إلى الجبال انحبست هناك ، فلا تزال تتكامل ، فيحصل بسبب الجبل مياه عظيمة ثمَّ إنَّها لكثرتها ، وقوتها تثقب ، وتخرج ، وتسيل على وجه الأرض ، فمنفعة الجبال في تولدِ الأنهارِ هو من هذا الوجه ، ولهذا السَّبب ما ذكره الله الجبال إلاَّ وذكر بعدها الأنهار في أكثر الأمر كهذه الآية ، وقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً } [ المرسلات : 27 ] .
فصل
قال القرطبي : في هذه الآية ردٌّ على من زعم أنَّ الأرض كالكرةِ لقوله : { مَدَّ الأرض } ، ورد على من زعم أن الأرض تهوي أبداً بما عليها ، وزعم ابنُ الرَّوانديُّ : أنَّ تحت الأرض جسماً صاعداً كالرِّيحِ الصعادة ، وهي منحدرة فاعتدل الهاوي ، والصعَّاعدي في الجرم والقوة فتوافقا .
وزعم آخرون : أن الأرض مركبة من جسمين .
أحدهما : منحدرٌ ، والآخر : مصدع فاعتدلا ، فلذلك وقفت ، والذي عليه المسلمون ، وأهل الكتاب القول بوقوف الأرض ، وسكونها ، ومدِّها ، وأنَّ حركتها إنَّما تكونُ في العادةِ بزلزلةٍ تصيبها والله أعلم .
قوله : { وَمِن كُلِّ الثمرات } يجوز فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يتعلق ب « جَعَلَ » [ بعده ] ، أي : وجعل فيها زوجين اثنين من كلِّ صنفٍ من أصناف الثمرات ، وهو ظاهرٌ .
والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنَّه حالٌ من : « اثْنَيْنِ » ؛ لأنَّه في الأصل صفة لهُ .
الثالث : أن يتمَّ الكلام على قوله : { وَمِن كُلِّ الثمرات } فيتعلق ب « جَعَلَ » الأولى على أنه من باب عطف المفردات ، يعني عطف على معمول « جعل » الأولى تقديره : أنه جعل في الأرض كذا ، وكذا ومن كل الثمرات .
قال أبو البقاء : ويكون « جَعل » الثاني مستأنفاً ، و « يُغْشِي اللَّيْلَ » تقدَّم الكلام فيه ، وهو إمَّا مستأنفٌ ، وإمَّا حال من فاعل الأفعال .
فصل
المعنى : ومن كلِّ الثمرات جعل فيها زوجين ، أي : صنفين اثنين : أصفر ، وأحمر ، وحلواً ، وحامضاً .
وهذا النوعُ الثالث في الاستدلال بعجائب خلقة النبات .
واعلم أن الحبَّة إذا وقعت في الأرض ربت وكبرت؛ فبسبب ذلك ينشقُّ أعلاها وأسفلها ، فيخرج من الشق الأعلى الشجرة الصَّاعدة ، ويخرج من الشق الأسفل العروق الغائصة في الأرض ، وهذا من العجائب؛ لأنَّ طبيعة تلك الحبَّة واحدة وتأثير الطبائع ، والأفلاك ، والكواكب فيها واحد ، ثم إنه يخرد من الجانب الأعلى من تلك الحبَّة جرمٌ صاعدٌ إلى الهواء ، ومن الجانب الأسفل جرمٌ غائصٌ في الأرض ، ومن المحال أن يتولَّد من الطبيعة الواحدة طبيعتان متضادتان ، فعلمنا أنَّ ذلك إنَّما كان بتدبير المدبِّر العليم الحكيمِ لا بسبب الطَّبع ، والخاصة ، ثم إنَّ الشجرة النَّامية في تلك الجهة بعضها يكون خشباً ، وبعضها يكون نوراً ، وبعضها يكون ثمرة ، ثم إن تلك الثمرة أيضاً يحصل فيها أجسامٌ مختلفة الطَّبائع مثل الجوز ففيه أربعة أنواع من القشور ، فالقشرة الأعلى ، وتحته القشرة الخشبية ، وتحته القشرة المحيطة باللبَّ ، وتحت تلك القشرة قشرة أخرى في غاية الرَّقة تمتازُ عمَّا فوقها حال كون الجوز واللوز رطباً وأيضاً : فقد يحصل في الثمرة الواحدة الطبائع المختلفة فالأترجد قشرهُ جارّ يابس ولحمه وماؤه حارّان رطبان؛ فثبت أنَّ هذه الطَّبائع المختلفة من الحبة الواحدة مع تساوي تأثيرات الطبائع ، وتأثيرات الأنجم ، والأفلاك على زعم من يدعيه لا بد وأن يكون بتدبير العليمِ القدير .
فإن قيل : الزَّوجان لا بدَّ وأن يكونا اثنين ، فما الفائدة في قوله : « زَوْجيْنِ اثْنَيْنِ » ؟ .
فالجواب : أنه تعالى أوَّل ما خلق العالم ، وخلق فيه الأشجار ، خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط ، فلو قال : « زَوْجَيْنِ » لم يعلم أنَّ المراد النوع ، أو الشخص فلما قال : « اثْنَيْنِ » علمنا أنه تعالى أوَّل ما خلق من كل زوجين اثنين [ لا أقل ولا أزيد ، والحاصل أن الناس فيهم الآن كثرة ، إلا أنهم ابتدءوا من زوجين اثنين ] بالشَّخص وهما : آدم وحواء عليهما السلام وكذلك القول في جميع الأشجار ، والزروع ، والله أعلم .
النوع الرابع : الاستدلال بأحوال الليل ، والنهار ، وإليه الإشارة بقوله : { يُغْشِي الليل النهار } وقد سبق الكلام فيه فأغنى عن الإعادة .
ثم قال تعالى : { إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } فيستدلون ، والتَّفكر : تصرف القلب في طلب المعاني .
قوله : { وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ } العامة على رفع : « قِطَعٌ » « وجَنَّاتٌ » إمَّا على الابتداء ، وإما على الفاعلية بالجار قبله .
وقرىء « قِطَعاً متَجَاورَاتٍ » بالنصب ، وكذلك هي في بعض المصاحف على إضمار جعل . وقرأ الحسن : « وجَنَّاتِ » بكسر التَّاءِ وفيها أوجهٌ :
أحدها : أنه جر عطفاً على « كُلِّ الثَّمراتِ » .
الثاني : أنه نصب نسقاً على : « زَوحَيْنِ اثْنَينِ » قاله الزمخشري .
الثالث : أنه نصبه نسقاً على : « رَواسِيَ » .
الرابع : أنه نصبه بإضمار جعلن وهو أولى لكثرة الفواصل في الأوجه قبله .
قال أبو البقاء : ولم يقرأ أحد منهم « وزَرْعاً » بالنصب « .
قوله : { وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ } قرأ ابن كثيرٍن وأبو عمرو ، وحفص : بالرفع في الأربعة ، والباقون بالخفض ، فالرفع في « زَرْعٌ ونَخِيلٌ » للنسق على « قِطَعٌ » وفي « صِنْوانٌ » لكونه تابعاً ل « نَخِيلٌ » ، و « غَيْرُ » لعطفه عليه .
وعاب أبو حيَّان على ابن عطيَّة قوله : « عطفاً على : قِطَعٌ » . قال : وليست عبارة محررة؛ لأنَّ فيها ما ليس بعطفٍ ، وهو « صِنوانٌ » « .
قال شهابُ الدين : » ومثل هذا [ غير معيب ] ؛ لأنَّه عطف محقق غاية ما فيه أنَّ بعض ذلك تابع ، فلا يقدحُ في هذه العبارة ، والخفض مراعاة ل « أعنابٍ » « .
وقال ابن عطيَّة : » عطفاً على « أعْنابٍ » ، وعابها أبو حيان بما تقدَّم وجوابه ما تقدَّم .
وقد طعن قومٌ على هذه القراءة ، وقالوا : ليس الزَّرعُ من الجنَّات ، وروي لك عن أبي عمر .
وقد أجيب عن ذلك : بأنَّ الجنَّة احتوت على النَّخيل ، والأعناب ، لقوله تعالى { جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً } [ الكهف : 32 ] .
وقال أبو البقاءِ : « وقيل : المعنى ، ونبات زرع فعطفه على المعنى » .
قال شهاب الدين : « ولا أدري ما هذا الجوابُ؛ لأنَّ الذي يمنعُ أن يكون الجنة من الزَّرعِ بمعنى أن يكون من نبات الزَّرعِ ، وأي فرق » . والصنوان : جمع صنوٍ كقنوان جمع قنو ، وقد تقدَّم تحقيق هذا التّنبيه في الأنعام .
و « الصِّنْوُ » : الفرع يجمعه وفرعاً آخر أصل واحد ، وأصله المثل ، وفي الحديث : « عمَّ الرَّشجل صِنْوُ أبيه » ، أي : مثله؛ أو لأنهما يجمعهما أصل واحدٌ والعامة على كسر الصاد .
وقرأ السلميُّ ، وابن مصرف ، وزيد بن عليٍّ : بضمها ، وهي لغة قيسٍ ، وتميم كذئب ، وذُؤبان .
وقرأ الحسنُ ، وقتادة : بفتحها ، وهو اسم جمعٍ لا جمع تكسير؛ لأنه لس من أبنية « فعلان » ، ونظير « صنْوان » بالفتح « السَّعْدَان » هذا جمعه في الكثرةِ ، وأمَّا القلَّة ، فيجمع على « أصْنَاء » ك « جَمَل ، وأجْمَال » .
قوله : { يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ } قرأ ابنُ عامرٍ ، وعاصمٌ « يُسْقَى » بالياء من تحت أي يسقى بما ذكرنا ، والباقون بالتاء من فوق مراعاة للفظ ما تقدَّم ، وللتأنيث في قوله « وجَنَّاتٍ » ، ولقوله : « بَعْضَهَا » .
قوله « ونُفَصِّلُ » قرأة بالياء من تحت مبنيًّا للفاعل : الأخوان ، والباقون بنون العظمة ، ويحيى بن يعمر ، وأبو حيوة : « يُفَضَّلُ » بالياء منبيًّا للمفعول و « بَعضُهَا » رفعاً .
وقال أبو حاتم : وجدته كذلك في مصحف يحيى بن يعمر ، وهو أوَّل من نقط المصاحف ، وتقدَّم [ الخلاف ] في الأكل في البقرةِ .
وفي « الأكلٍ » وجهان :
أظهرهما : أنَّه ظرفٌ [ ل « نُفَضِّلُ » ] .
والثاني : أنه حال من « بَعْضِهَا » ، أي : نُفَضِّلُ بعضها مأكولاً ، أي : وفيه الأكل ، قاله أبو البقاءِ .
وفيه بعد جهة المعنى ، والصناعة .
فصل
قوله : { وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ } قال الأصمُّ : أرضٌ قريبةٌ من أرض أخرى واحدة طيبة ، وأخرى سبخة ، وأخرى رملة ، وأخرى حصباء وحصى ، وأخرى تكون حمراء ، وأخرى تكونُ سوداء .
وبالجملة : فاختلافُ بقاع الأرضِ في الارتفاع ، والانخفاضِ ، والطبعِ ، والخاصيةِ أمر معلوم .
«
وجَنَّاتٍ » بساتين : { مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ } تقدَّم الكلام على الصنو ، والصنوان ، وهي النخلات يجمعهن أصلٌ واحد ، « وغيْرُ صِنْوانٍ » هي النَّخلةُ المنفردةُ بأصلها .
قال المفسريون : الصنوان : المجتمع ، وغير الصنوان متفرق ، ولا فرق في الصنوانِ ، والقنوان بين التثنية والجمع إلاَّ في الإعرابِ ، وذلك أنَّ النُّونَ في التثنية مكسورةٌ غير منونة وفي الجمع منونة .
{
يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ } والماء : جسم رقيق مائع به حياة كلِّ نامٍ .
{
وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل } في الثَّمر ، والطَّعم ، جاء في الحديث : « ونُفصِّلُ بعضهَا على بَعْضٍ في الأكلِ » قال : « الفارسي والدقلُ الحلوُ والحَامضُ » .
قال مجاهد : كمثل بني آدم صالحهم وخبيثهم وأبوهم واحد .
وحكى الواحديُّ عن الزجاج : أنَّ الأكل : الثَّمر الذي يؤكل ، وحكى عن غيره أنَّ الأكل : المهيّأ للأكل .
قال ابنُ الخطيب : « وهاذ أولى؛ لقوله تعالى في صفة الجنة : { أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا } [ الرعد : 35 ] : وهو عامٌّ في جميع المطعومات » .
قال الحسن : هذا مثلٌ ضرب لقلوب بني آدم ، كانت الأرض طينة واحدة في يد الرحمن ، فسطحها؛ فصارت قطعاً متجاورات ، فينزل عليها الماءُ من السَّماءِ فتخرج هذه زهرتها ، وشجرتها ، ونباتها ، وثمرها ، وتخرجُ هذه سبخها وملحها وخبيثها ، وكلٌّ يصقى بماء واحد ، كذلك النًّاسُ خلقوا من آدم عليه الصلاة والسلام فتنزل عليهم من السَّماءِ تذكرة ، فترق قلوب قوم ، فتخشع ، وتقْسُو قلوب قوم فتلهو .
قال الحسنُ : والله ما جالس القرآن أحدٌ ، إلاَّ قام من عنده بزيادة ، أو نقصان ، قال الله تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً } [ الإسراء : 82 ] { إِنَّ فِي ذلك } الذي ذكر : { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } .
فصل
قال ابنُ الخطيب : المقصُودُ من هذه الآية : إقامة الدَّلالة على أنه لا يجوز أن يكون حدوث الحوادث في هذا العالم لأجل الاتصالات الفلكية الحركات الكوكبية من وجهين :
الأول : أنه جعل الأرض قطعاً مختلفة في الماهيَّة والطبيعة ، وهي مع ذلك متجاورةٌ ، فبعضها سبخةٌ ، وبضعها طيِّبةٌ ، وبعضها صلبة وبعضها حجريةٌ ، وبعضها رمليةٌ ، وتأثير الشمس ، وتأثير الكواكب في تلك القطع على السَّويَّة؛ فدلَّ ذلك على أن اختلافها في صفاتها بتقدير العليم القدير .
الثاني : أنَّ القطعة الواحدة من الأرض تسقى بماءٍ واحدٍ ، ويكون تأثير الشمس فيها [ متساوياً ] ، ثمَّ إنَّ تلك الثمار تجيءُ مختلفة في اللَّون ، والطَّعم ، والطَّبيعة ، والخاصية؛ حتى أنَّك قد تأخذ عنقوداً واحداً من العنب ، فتكون جميع حبَّاته ناضحة حلوة إلاَّ حبة واحدة منه ، فإنها تبقى حامضة يابسة ، ونحن نعلم بالضرورة أن نسبة الطبائع والأفلاك إلى الكل على السوية ، بل نقول ههنا ما هو أعجب منه ، وهو أنَّه يوجد في بعض أنواع الورد ما يكون في أحد وجهيه في غاية الحمرة ، والوجه الثاني في غاية السَّواد ، مع أنَّ ذلك الورد يكون في غاية الرقة والنُّعومة ، ويستحيل أن يقال : وصل تأثير الشمس إلى أحد طرفيه دون الثاني ، وهذا يدلُّ دلالة [ قطعية ] على أنَّ الكل بتقدير الفاعل المختار لا بسبب الأتصالات الفلكيَّة ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : { يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل } ، ولهذا قال : { إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } .
فصل
قال القرطبي : وهذا الآية تدلُّ على بطلان القول بالطبع ، إذا لو كان ذلك بالماء ، والتراب ، والفاعل له الطبيعة؛ لما وقع الاختلاف .
وذهب الكفرةُ لعنهم الله إلى أنَّ كلَّ حادث يحدث من نفسه لا من صانع وادعوا ذلك في الثِّمار الخارجة من الأشجار ، وأقرُّوا بحدوثها ، وأنكروا الأعراض ، وقالت فرقةُ بحصول الثِّمار لا من صانع ، وأثبتوا للأعراض فاعلاً .
والدَّليل على أنَّ الحادث لا بد له من محدثٍ : أنَّه يحدثُ في وقت ، ويحدث ما هو من جنسه في وقت آخر ، فلو كان حدوثه في وقته لاختصاصه به؛ لوجب أن يحدث في وقته كل ما هو من جنسه ، وإذا بطل اختصاصه بوقته صح أنَّ اختصاصه لأجل مخصص خصصه به ، لولا تخصيصه إيَّاه لم يكن حدوثه في وقته أولى من حدوثه قبل ذلك أو بعده .
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
قوله : { وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ } الآية لما ذكر الدَّليل على معرفة المبدأ ذكر بعده ما يدلُّ على المعادِ .
قال ابن عبَّاس رضي الله عهما : « إنْ تعجب من تكذيبهم إيَّاك بعد ما حكموا عتليك بأنَّك من الصَّادقين ، فهذا عجبٌ » .
وقيل : إن تعجب يا محمَّدُ من عبادتهم ما لا يملك لهم ضرًّا ، ولا نفعاً بعد ما عرفوا الدلائل الدِّالة على التوحيد ، فهذا عجبٌ .
وقيل : تقدير الكلام : وإن تعجب يا محمد صلوات الله عليه فقد تعجبت في موضع العجب ، لأنهم لما اعترفوا بأنه تعالى مدبِّر السموات ، والأرضيين ، وخالق الخلق أجمعين ، وأنَّه هو الذي رفع السموات بغير عمدٍ ترونها ، وأنَّه الذي سخر الشَّمس ، والقمر على وفق مصالح العباد ، وهو الذي أظهر في العالم أنواع العجائب ، والغرائب ، فمن كانت قدرته وافية بهذه الأشياء العظيمة ، كيف لا تكون وافية بأعادة الإنسان بعد موته؛ لأنَّ القادر على الأقوى يكون قادراً على الأضعفِ بطريق الأولى ، وهذا تقرير موضع التَّعجُّب .
قوله : { فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ } يجوز فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه خبر مقدم ، و « قَوْلُهمْ » مبتدأ مؤخَّرٌن ولا بد من حذف [ صفة ] لتتمْ الفائدة ، أي : فعجب أي عجب ، أو غريب ، ونحوه .
الثاني : أنه مبتدأ ، وسوَّغ الابتداء ما ذكر من الوصف المقدر ، ولا يضر حنيئذٍ كون خبره معرفة ، هذا كما أعرب سيبويه : كم مالك وخير من أقصد رجلاً خير منه أبوه مبتدأين لمسوغ الابتداء بهما ، وخبرهما معرفةٌ ، قاله أبو حيَّان .
وللنزاع فيه مجال؛ على أنَّ هناك علّة لا تتأتى هنا ، وهي : أنَّ الذي حمل سيبويه على ذلك من المسألتين أن أكثر ما تقع موقع « كَمْ » ، وخبر « مَا » هو مبتدأ؛ فلذلك حكم عليهما بحكم الغالب بخلاف ما نحنُ فيه .
الثالث : أنَّ « عَجَبٌ » مبتدأ بمعنى معجب ، و « قَوْلُهمْ » فاعل به ، قاله أبو البقاء .
ورد عليه أبو حيَّان : بأنهم نصُّوا على أنَّ « فعلاً وفعَلة وفُعْلاً » ينوبُ عن « مَفْعُول » في المعنى ، ولا يعمل عمله ، فلا تقول : « مَرَرْتُ بِرجُل [ ذبح ] كَبْشَهُ ولا غَرَفَ مَاءهُ ولا قَبضَ مالهُ ، وأيضاً فإنَّ الصفات لا تعمل إلاَّ إذا اعتمدت على أشياء مخصوصة وليس منها هنا شيء .
والعَجَبُ : تغير النَّشفس برؤية المستبعد في العادة .
وقال القرطبيُّ : العَجَبُ تغير النفس بما يخفى أسبابه .
قوله تعالى : { أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } يجوز في هذه الجملة الاستفهامية وجهان :
أظهرهما : أنَّها منصوبة المحل لحكايتها بالقول .
والثاني : أنَّها ، وما في حيزها في محل رفع بدلاً من : » قَوْلهِمْ « وبه بدأ الزمخشريُّ وعلى هذا فقولهم بمعنى مقولهم ويكونُ بدل كُلِّ؛ لأنَّ هذا هو نفس » قَوْلُهُم « ، و » إذَا « هنا ظرفٌ محضٌ ، وليس فيها معنى الشَّرط ، والعاملُ فيها مقدر يفسره { لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } تقديره : أئذا كُنَّا تراباً نبعث ، أو نحشر ، ولا يعمل فيها : { خَلْقٍ جَدِيدٍ } ؛ لا ، ما بعد » إذَا « لا يعملُ فيما قبلها ، ولا يعمل فيها » كُنَّا « لأضافتها إليها .
واختلف القراء في هذا الاستفهام المكرر اختلافاً منتشراً ، وهو في أحد عشر موضعاً في تسع سور من القرآن ولا بد من تعيينها ، [ وبيان ] مراتب القرَّاء فيها ، فإن ضبطها عسر ليسهل ذلك بعون الله تعالى .
فأولها : ما في هذه السورة .
والثاني ، والثالث : الإسراء وهما : { أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } [ الإسراء : 49 ] موضعان .
الرابع في المؤمنون : { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } [ المؤمنون : 82 ] .
الخامس في النمل : { أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ } [ النمل : 67 ] .
السادس في العنكبوت : { لَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ العالمين أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال } [ العنكبوت : 28 ، 29 ] .
السابع في « الم » السجدة : { أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ السجدة : 10 ] .
الثامن ، والتاسع في الصافات موضعان [ الصافات : 16 ] .
العاشر : في الواقعة : { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } [ الواقعة : 47 ] .
الحادي عشر في النازعات : { أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً } [ النازعات : 10 ، 11 ] .
فهذه هي المواضع الختلف فيها ، وأمَّا ضبط الخلاف فيها بالنِّسبة إلى القراء فيه طريقان :
أحدهما : بالنِّسبةإلى ذكر القرَّاءِ .
والثاني : بالنسبة إلى ذكر السُّور .
فاعلم أنَّ هذه المواضعِ تنقسم قسمين : قسم منها سبعة مواضع لها حكم واحد ، وقسم منها أربعة مواضع ، لكلِّ منها حكم على حدته .
أمَّا القسمُ الأوَّل فمنه في هذه السورة ، والثاني ، والثالث في : « سُبْحَانَ » والرابع : في « المؤمنون » ، والخامس : في « الم » السجدة ، والسادس ، والسابع : في الصافات وحكمها : « أنَّ نافعاً ، والكسائي يستفهمان في الأول ، ويخبران في الثاني ، وأن ابن عامر يخبر في الأول ، ويستفهم في الثاني ، والباقين يستفهمون في الأول والثاني .
وأما القسم الثاني ، فأوله ما في سورة النمل ، وحكمه : أن نافعاً يخبر عن الأول ، ويستفهم في الثاني ، وأن ابن عامر والكسائي بعكسه ، وأن الباقين يستفهمون فيهما .
الثاني : ما في العنكبوت ، وحكمه : أن نافعاً ، وابن كثير ، وابن عامر ، وحفصاً يخبرون في الأول ، ويستفهمون في الثاني ، والباقون ، يستفهمون فيهما .
الثالث : ما في سورة الواقعة ، وحكمه : أن نافعاً ، والكسائي يستهفمان في الأول ، ويخبران في الثاني ، والباقون يستفهمون فيهما .
الرابع : ما في سورة النازعات ، وحكمه : أن نافعاً وابن عامر والكسائي يستفهمون في الأول ، وخبرون في الثاني ، والبقاين يستفهمون فيهما .
وأما الطريق الآخر بالنسبةإلى القراء؛ فإنهم فيها على أربع مراتب :
الأول : أن نافعاً قرأ بالاستفهام في الأول ، وبالخبر في الثاني ، إلا في النمل والعنكبوت فإنه العكس .
المرتبة الثانية : أنَّ ابن كثير ، وحفصاًم قرآ بالاستفهام في الأول والثاني إلا الأول من العنكبوت فقرآه بالخبر .
المرتبة الثالثة : أنَّ ابن عامرٍ قرأ بالخبر في الأوَّل ، والاستفهام في الثَّاني إلا في النمل ، والواقعة ، والنازعات ، فقرأ في النمل ، والنازعات بالاستفهام في الأول ، وبالخبر في الثاني ، وفي الواقعة بالاستفهام فيهما .
المرتبة الرابعة : الباقون وهم : أبو عمرو ، وحمزة ، وأبو بكر رضيه الله عنهم أجمعين قرءوا بالاستفهام في الأول ، والثاني ، ولم يخالف أحدٌ منهم أصله .
قال شهاب الدين : « وإنما ذكرت هذين الطريقين لعسرهما ، وصعوبة استخراجهما من كتب القراءات .
فأمَّا وجه قراءة من استفهم في الأوَّل ، والثاني؛ فقصد المبالغة في الإنكار ، فأتى به في الجملة الأولى ، وأعاده في الثانية تأكيداً له ، ووجه من أتى به مرة واحدة : حصول المقصود به؛ لأنَّ كل جملة مرتبطة بالأخرى ، فإذا أنكر في إحداها حصل الإنكارُ في الأخرى ، وأمَّا من خالف أصله في شيءٍ من ذلك ، فلاتباع الأثر » .
فصل
هذا الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومعناه : أنَّك تعجبُ من إنكارهم النَّشأة الأخرى مع إقرارهم باتبداءِ الخلق ، فعجب أمرهم ، وكان المشركون ينكرون البعث مع إقرارهم بابتداء الخلق من الله عزَّ وجلَّ وحقد تقرَّر في القلوب أنَّ الإعادة أهون من الابتداء ، فهذا موضع العجب .
ثم قال : { أولئك الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ } وهذا يدلُّ على أنَّ من أنكر البعث والقيامة فهو كافرٌ ، وإنما لزم من إنكار البعثِ الكفر بالله تعالى؛ لأنَّ إنكار البعث لا يتمُّ إلا بإنكار القدرة ، والعلم ، والصدق ، وأما إنكار القدرة فكقوله : الله غير قادر على الإعادة ، وأما إنكار العلم فكقوله : الله غير عالم بالجزيئات ، فلا يمكنه تمييز المطيع عن العاصي ، وأمَّا إنكار الصِّدق فكقولهم : إنَّه أخبر عنه ، ولكنه لا يفعل؛ لأنَّ الكذب جائز عليه ، وكل ذلك كفرٌ بالله تعالى .
ثم قال : { وَأُوْلَئِكَ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ } قال الأصمُّ : المراد بالأغلالِ : كفرهم وذلهم ، وانقيادهم للأصنام ، ونظيره قوله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً } [ يس : 80 ] ؛ وقال الشاعر : [ البسيط ]
3165 . . ...
لَهُمْ عَنِ الرُّشْدِ أغْلالٌ وأقْيَادُ
ويقال للرَّجلُ : هذا غلٌّ في عنقك للعمل الرَّديء ، معناه : أنَّه [ ملازم ] لك ، وأنت مُجازًى عليه بالعذابِ .
قال القاضي : هذا وإن كان محتملاً؛ لكن حمل اللفظ على الحقيقة أولى .
قال ابن الخطيب : « أقول على نصرة الأصم ، بأن ظاهر الآية يقتضي حصول الأغلال في أعناقهم في الحالِ ، وذلك غير حاصل ، فإنهم يحملون هذا اللفظ على أنًَّه سيحصل هذا المعنى ، ونحنُ نحمله على أنه حاصلٌ من الحالِ ، والمراد بالأغلال ما ذكره فكلُّ واحدٍ منا تارك للحقيقة من بعض الوجوه ، فلمَ كَانَ قولكم أقوى؟ » .
وقيل : المعنى : أنَّهُ تعالى يجعل الأغلال في أعناقهم يوم القيامة ، ويدلُّ عليه قوله تعالى :
{
إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ } [ غافر : 71 ] إلى قوله : { ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ } [ غافر : 72 ] .
ثم قال : { وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدونَ } والمراد منه التَّهديد بالعذاب المخلد المؤبّد ، وذلك يدلُّ على أنَّ العذاب المؤبَّد ليس إلا للكفَّار؛ لأن قولهم : { هُمْ فِيهَا خَالِدونَ } يدلُّ على أنَّهم هم الموصوفون بالخُلودِ لا غيرهم فدل على أنَّ أهل الكبائر لا يخلدون في النَّارِ .
فإن قيل : العجبُ هو الذي لا يعرف بسبب ، وذلك في حق الله تعالى محالٌ ، فكيف قال : « فعجَبٌ قَولُهُمْ » ؟ .
فالجواب : المعنى : فعجب عنك .
فإن قيل : قرأ بعضهم : « بَل عَجِبْتُ » بإضافة العجب إلى نفسه .
فالجواب : أنَّا قد بيَّنا أنَّ مثل هذه الألفاظ يجبُ تنزيهها عن مبادىْ الأعراض ويجب حملها على نهايات الأعراض ونهاية التعجب أن الإنسان إذا تعجّب من الشيء أنكره ، فكان التعجب في حقِّ الله تعالى محمولاً على الإنكار .
قوله تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة } وعلم أ ، النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يهددهم تارة بعذاب القايمة ، وتارة بعذاب الدنيا ، والقوم كلَّما هددهم بعذاب القيامة ، أنكروا القيامة ، والبعث ، والنشر كما تقدَّم في الآية الأولى ، وكلما هددهم بعذاب الدنيا استعجلوه ، وذلك أنَّ مشركي مكَّة كانوا يطلبون العقوبة بدلاً من العافية استهزاء منهم يوقلون : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] .
قوله « قَبْلَ الحَسَنةِ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلقٌ بالاستعجالِ ظرفاً لهُ .
والثاني : أنه متعلق بمحذوفٍ على أنَّه حال مقدرة من السيئة ، قاله أبو البقاء . قوله : « وقَدْ خَلتْ » يجوز أن تكون حالاً وهو الظاهر ، ويجوز أن تكون مستأنفة .
والعامة على فتح الميم ، وضم المثلثة الواحدة مثله ، ك « سَمُرَة » وسَمْرَات « و » صَدُقَة وصَدُقَات « وهي العقوبة الفاضحة .
قال ابن عباس : » العقوبات المتأصلاتُ كمثلات قطع الأذن ، والأنف ، ونحوهما « .
سُمَّيت بذلك لما بين العقاب ، والمعاقب عليه من المماثلة ، كقوله تعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ، ولأخذها من المثال بمعنى القصاصِ .
يقال : أمثلتُ الرَّجل من صاحبه ، وأقصصته بمعنى واحدٍ ، أو لأخذها من ضربِ المثل لعظم شأنها .
وقرأ ابن مصرف » المَثْلات « بفتح الميم ، وسكون الثاء ، وقيل : وهي لغة الحجاز في مثله .
وقرأ ابن وثاب : بضم الميم ، وسكون الثاء ، وهي لغة تميم .
وقرأ الأعمش ، ومجاهد بفتحهما ، وعيسى بن عمرو ، وأبو بكر في رواية بضمهما .
فأما الضم ، والإسكان : فيجوز أن يكون أصلاً بنفسه لغة ، وأن يكون مخففاً في من قراءة الضم ، والإسكان نحو » العُشْر في العَشَر « وقد عرف ما فيه .
قال ابنُ الأنباري : » المَثُلَة : العقوبة المبينة في المعاقب شيئاً ، وهو تغيير تبقى الصورة معه قبيحة ، وهو من قولهم : مثل فلانٌ بفلانٍ : إذا قبح صورته إمَّا بقطع أنفه ، أو أذنه ، أو سمل عينيه ، أو بقر بطنه؛ فهذا هو الأصل ، ثم يقال للعار الباقي والخزي الدائم اللازم مُثْلَه « .
وقال الواحدي : « وأصل هذا الحرف من المثل الذي هو الشبه ، ولما كان الأصل أن يكون العقاب مشابهاً للمعاقب عليه ، ومماثلاً له سمي بهذا الاسم » .
والمعنى : يستعجلونك بالعذابِ الذي لم نعاجلهم به ، وقد علموا ما نزل من عقوباتنا بالأمم الخالية ، أفلا يعتبرون بها .
ثم قال { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ } وهذا يدلُّ على أنه سبحانه وتعالى قد يعفو عن صاحب الكبيرة قبل التوبةن لأن قوله : { لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ } ، أي : حال اشتغالهم بالظم كما يقال : رأيت الأمير على أكله ، أي حال اشتغاله بالأكل ، وهذا يقتضي كونه تعالى غافراً للناس حال اشتغالهم بالظلم ، ومعلوم أنَّ حال اشتغال الإنسان بالظلم لا يكون تائباً؛ فدلَّ هذا على أنه تعالى قد يغفر الذُّنوب قبل الاشتغالِ بالتوبة ، وترك العمل بهذا الدليل في حق الكفر؛ فوجب أن يبقى معمولاً به في حق غير الكفرة ، وهو المطلوبُ .
ويقال : إنَّهُ تعالى لم يقتصر على قوله : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ } بل عطف عليه قوله : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب } ؛ فوجب أن يحمل الأول على أصحاب الكبائر ، ويحتمل الثاني على الكفَّار .
قال المفسريون : « لَذُو مَغْفرةٍ » لذو تجاوز عن المشركين إذا آمنوا وعن المذنبيين إذا تابوا .
وقال ابن عبَّاس رضي الله عنهما : أرجى آية في القرآن هذه الآية : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب } إذا أصرُّوا على الكفر .
وروى حمّضاد بن سلمة عن عليِّ بن زيد عن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى قال : لما نزلت : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لَوْلاَ عَفْوُ اللهِ ورَحْمتهُ وتَجاوُزهُ لمَا هَنأ أحَدا عَيْشٌ ولوْلاَ عِقابهُ ووَعِيدهُ وعَذابَهُ لاتَّكلَ كُلُّ أحدٍ » .
فإن قيل : لِمَ لا يجوز أن يكون المراد : لذو مغفرة لأهل الصَّغائر لأجل أنَّ عقوبتهم مكفرة ، ثم نقول : لم لا يجوز أن يكون المراد إنَّ ربك لذو مغفرة إذا تابوا ، وأنه تعالى إنَّما لا يعجل العقاب إمهالاً لهم في الإتيان بالتَّوبة ، فإن تابوا فهو ذو مغفرة لهم ، ويكون المراد من هذه المغفرة [ تأخير العقاب ] إلى الآخرة ، بل نقول : يجب حمل اللفظ عليه؛ لأنَّ القوم طلبوا تعجيل العذاب ، فجيب أن تحمل المغفرة على تأخير العذاب حتى ينطبق الجواب على السُّؤال .
ثم يقال : لِمَ لا يجوز أن يكون المراد بقوله : { لَذُو مَغْفِرَةٍ } إمهالهم بالتَّوبة ، ولا يعجل بالعقوبة ، فإن تابوا ، فهو ذو مغفرة ، وإن لم يتوبوا؛ فهو شديد العقاب؟ .
فالجواب عن الأوَّل : أن تأخير العذاب لا يمسى مغفرة ، وإلاَّ لوجب أن يقال : إن الكفار كلهم مغفور لهم؛ لأنَّ الله تعالى أخَّر عقابهم إلى الآخرة .
وعن الثاني : أنَّ الله تمدَّح بهذا ، التَّمدُّح إنما يصحل بالتفضيل ، أما أداء الواجب ، فلا تمدح فيه ، وعندكم يجب غفران الصغائر .
وعن الثالث : أن ظاهر الآية يقتضي حصول المغفرة؛ فسقطت الأسئلةُ .
قوله : { على ظُلْمِهِمْ } حال من « النَّاسِ » والعامل فيها ، قال أبو البقاءِ « مَغْفرةٍ » يعني : أنه هو العامل في صاحبها .
قوله تعالى : { وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لولاا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } الآية شلما بين تعالى أنَّهم طعنوا في النبوة بسبب طعنهم في الحشر والنشر ثم طعنوا في النبوَّة أيضاً بسبب طعنهم في صحَّة ما ينذرهم به من نزول العذابِ ، بين أيضاً أنهم طعنوا في نبوَّته ، وطلبوا منه المعجزة .
والسَّببُ في كونهم أنكروا كون القرآن معجزة : أنهم قالوا هذا كتابٌ مثلُ سائر الكتب ، وإتيان الإنسان بتصنيف معين لا يكون معجزاً ، وإنَّما يكون المعجز مثل معجزات موسى .
واعلم أنَّ من الناس من زعم أنَّهُ لم يظهر معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم سوى القرآن ، قالوا : لأن هذا الكلام إنَّما يصحُّ إذا طعنوا في كونِ القرآنِ معجزاً ولم يظهر معجزاً غيره؛ لأنه لو ظهر معجزة مغيره لم يحسن أن يقال : { لولاا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } وهذا يدلُّ على أنه عليه الصلاة والسلام ما كان له معجزة سوى القرآنِ .
والجواب : عنه من وجهين :
الأول : لعلََّ المراد منه طلب معجزات سوى المعجزات التي شاهدوها من حينين الجزع ، ونبع الماء من بين أصابعه ، وإشباع الخلق الكثير الطعام القليل؛ فطلبوا منه معجزاتن قاهرة غير هذه ، مثل : فلقِ البَحْرِ لموسى ، وقلب العصا ثُعْبَاناً .
فإن قيل : فما السبب في أنَّ ا لله منعهم ، وما أعطاهم؟ .
فالجواب : أن الله تعالى لما أظهر المعجزة الواحدة ، فقد تَمَّ الغرض ، فيكون طلب الثاني تحكماً ، وظهور القرآن معجزةم ، فما كان من ذلك حاجة إلى معجزات آخر .
وأيضاً : فلعلَّه تعالى علم أنَّهم يصرُّون على العناد بعد ظهور المعجزة الملتمسة وكونهم يصيرون حينئذٍ يستوجبون عذاب الاستئصال ، فلهذا السبب ما أعطاهم ملطوبهنم ، وقد بين الله تعالى ذلك بقوله : { وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } [ الأنفال : 23 ] فبيَّن أنَّه لم يعطهم مطلوبهم ، لعلمه أنَّهم لا ينتفعون به .
وأيضاً : ففتح هذا الباب يفضي إلى ما لا نهاية له ، وهو أنَّه كلَّما أتى بمعجزة جاء آخر ، وطلب معجزة أخرى ، وذلك يوجب سقوط دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهو باطلٌ .
والوجه الثاني : لعلَّ الكفار قالا ذلك قبل مشاهدة سائر المعجزات .
ثم قال : « إنَّما أنْتَ منذرٌ » مخوف .
قوله : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّ هذا الكلام مستأنف مستقبل من مبتدأ ، وخبر .
والثاني : أنَّ « لكُلِّ قَوْمٍ » متعلقٌ « هَادٍ » ، و « هاد » نسق على « مُنْذِرٌ » ، أي : إنَّما أنت منذرٌ وهادٍ لكل قوم ، وفي هذا الوجه الفصل بين حرف العطف ، والمعطوف بالجار وفيه خلاف تقدم .
ولما ذكر أبو حيان هذا الوجه ، لم يذكر هذا الإشكال ، ومن عادته ذكره ردًّا به على الزمخشري .
الثالث : أنَّ « هادٍ » خبر مبتدأ محذوفٍ ، تقديره : إنَّما أنت منذرٌ ، وهو لكلِّ قوم هادٍ ، ف « لكُلِّ » متعلقٌ به أيضاً .
ووقف ابن كثير على « هَادٍ » [ الرعد : 33 ] [ الزمر : 23 ، 36 ] و « واقٍ » حيث وقعا ، وعلى « والٍ » ن و « باقٍ » [ النحل : 96 ] [ الرعد : 34 ، 37 ] في النحل بإثبات الياء ، وحذفها الباقون .
ونقل ابن مجاهد عنه : أنه يقف بالياء في جميع الياءات . ونقل عن ورش : أنَّه خير في الوقف بين الياء ، وحذفها .
والباب : هو كل منقوصٍ منونٍ غير منصرف ، واتفق القراء على التوحيد في « هَادٍ » .
فصل
إذا جعلنا « ولكُلِّ قوم هادٍ » كلاماً مستأنفاً ، فالمعنى : أنَّ الله تعالى خصَّ كلَّ قوم بنبيٍّ ، ومعجزة تلائمهم ، فَلمَّا كان الغالب في زمن موسى عليه السلام السحر؛ جعل معجزته ما هو أقرب إلى طريقتهم ، ولما كان الغلب في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام الطب ، جعل معجزته ما كان من تلك الطريقة ، وهي إحياء الموتى ، وإبراء الأكمة ، والأبرص ، ولما كان الغالبُ في زمان محمد صلى الله عليه وسلم الفصاحة ، والبلاغة جعل معجزته ما كان لائقاً بذلك الزمان ، وهو فصاحة القرآن ، فلمَّا لم يؤمنوا بهذه المعجزة مع أنَّها أليق بطبائهم ، فبأن لا يؤمنون بباقي المعجزات أولى ، هذا تقرير القاضي ، وبه ينتظم الكلام .
وقيل : المعنى أنهنم إذا جحدوا كون القرآن معجزة لا تضيق قلبك بسببه ، و « إنَّما أنْتَ مُنذِرٌ » ، أي ما عليك إلاَّ الإنذار ، وأمَّا الهداية فليست عغليك ، فإنَّ : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } قادر على هدايتهم .
والمعنى : إنَّ الهداية من الله .
فصل
قيل : المنذر ، والهادي شيءٌ واحدٌ ، والتقدير : إنَّما أنتَ مُنذِرٌ { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } منذر على حدةٍ ، ومعجزة كل واحد غير معجزة الآخر .
وقيل : المنذر محمد صلى الله عليه وسلم والهادي : هو الله تعالى قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والضحاك .
وقال عكرمة : الهادي محمد صلى الله عليه وسلم يقول : أنت منذر ، وأنت هاد لكل قوم ، أي : داع .
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
قوله تعالى : { الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى } الآية في النَّظم وجوهٌ :
أحدها : أنَّ الكفار لما طلبوا آيات أخر غير ما أتى به الرسول عليه الصلاة والسلام بين أنَّه تعالى عالم بجميع المعلومات ، فلو علم من حالهم أنهم إنما طلبوا الآية الآخرى للاسترشاد ، وطلب البيان أظهرها ، وما منعها ، لكنه تعالى عالم أنهم لم يقولوا ذلك إلا لمحض العناد؛ فلذلك منعهم ، ونظيره قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الغيب للَّهِ } [ يونس : 20 ] ، وقوله : { إِنَّمَا الآيات عِندَ الله } [ العنكبوت : 50 ] .
وثانيها : أنه تعالى لما قال : { وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ } [ الرعد : 5 ] في إنكار البعث بسبب أنَّ أجزاء أبدان الحيوانات تتفرَّق ، وتختلط بعضها ببعض ، ولا يتميَّز ، فبين الله تعالى أنه إنما لم يتميز في حق من لا يكون عالماً بجميع المعلومات فأمّضا من : { يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } كيف لا يميزها؟ .
وثالثها : أنَّه متصلٌ بقوله : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة } [ الرعد : 6 ] .
والمعنى : أنه تعالى عالم بجميع المعلومات ، فهو إنَّما ينزل العذاب بحسب ما يعلم كونه مصلحة فيه .
قوله : { الله يَعْلَمُ } يجوز في الجلالة وجهان :
أحدهما : أنَّها خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو الله ، وهذا على قول من فسَّر « هادٍ » بأنه هو الله [ تعالى ، فكان هذه الجملة تفسير له ، وهذا [ ما ] عنى الزمخشري بقوله : وأن يكون المعنى : هو الله ] تفسيراً ل « هادٍ » على الوجه الأخير ، ثم ابتدأ فقال : « يَعْلمُ » .
والثاني : أنَّ الجلالة مبتدأ « ويَعْلمُ » خبرها ، وهو كلامٌ مستأنفٌ مستقلٌّ .
قال أبو حيَّان ، « و » يَعْلمُ « هاهنا متعدية إلى واحدٍ؛ لأنَّه لا يراد هنا النسبة إنَّما المراد تعلق العلم بالمفردات » .
قال شهاب الدين رحمه الله : « وإذا كانت كذلك ، كانت غير فائتة » وقد تقدَّم أنه لا ينبغي أنه يجوز نسبة هذا إلى الله عزَّ وجلَّ وتقدم تحقيقه في الأنفال فالتفت إليه .
قوله : « مَا تَحْمِلُ » « مَا » تحتمل ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن تكون موصولة أسمية ، والعائد محذوف ، أي : ما تحمله .
والثاني : أن تكون مصدرية ، فلا عائد .
والثالث : أن تكون استفهامية ، وفي محلها وجهان :
أحدهما : أنها في محلِّ رفع بالابتداء ، و « تَحْمِلُ » خبره ، والجملة معلقة للعلم .
والثاني : أنها في محلِّ نصب ب « تَحْمِلُ » قاله أبو البقاء .
وهو أولى؛ لأنَّه لا يحتاج إلى حذف عائد لا سيَّما عند البصريين؛ فإنهم لا يجيزون زيداً ضَرَبتُ .
ولم يذكر أبو حيان غير هذا ، ولم يتعرض لهذا الاعتراض .
و « مَا » في قوله : { وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ } محتملة للأوجه المتقدِّمة و « غاض ، وزاد » سمع تعدِّيهما ، ولزومهما ، ولك أن تدَّعي حذف العائد على القول بتعديهما ، وأن تجعلهما مصدريّة عل القول بمصدريتها .
فصل
إذا كانت « مَا » موصولة فالمعنى : أنه تعالى يعلم ما تحمل كل أنثى من الولد أهو ذكرٌ ، أم أثنى ، أم ناقصٌ ، وحسنٌ ، أم قبيحٌ ، وطويلٌ ، أم قصيرٌ أو غير ذلك من الأحوال .
وقوله سبحانه : { وَمَا تَغِيضُ الأرحام } الغيضُ : النقصان سواء كان لازماً ، أو متعدياً فيقال : غاض الماء وغضته أنا ، ومنه قوله تعالى : { وَغِيضَ المآء } [ هود : 44 ] والمعنى : ما تغضيه الأرحام إلاَّ أنه حذف الرَّافع .
و « مَا تَزْدادُ » ، أي تأخذه زيادة ، تقول : أخذت منه حقي ، وازددت منه كذا ، ومنه قوله تعالى : { وازدادوا تِسْعاً } [ الكهف : 25 ] .
ثم اختلفوا فيما تفيضه الرحم ، وما تزداده على وجوهٍ :
الأول : عدد الولد فإنَّ الرَّحم قد يشتمل على واحدٍ ، وعلى اثنين ، وثلاثة ، وأربعة .
يروى أن شريكاً كان رابع أربعة في بطن أمه .
الثاني : عند الولادة قد تكون زائدة ، وقد تكون ناقصة .
الثالث : [ مدة الولادة ] قد تكون تسعة أشهر [ فأزيد ] إلى سنتين عند أبي حنيفة رحمه الله وإلى أربع عند الشافعي رضي الله عنه ، وإلى خمس عند مالكٍ رضي الله .
قيل : إنَّ الضحاك ولد لسنتين ، وهرم بن حيان بقي في بطن أمِّه أربع سنين ، ولذلك سميي هرماً .
الرابع : الدم؛ فإنه تارة يقلُّ ، وتارة يكثرُ .
الخامس : ما ينقصُ بالسَّقط من غير أن يتم ، وما يزداد بالتَّمامِ .
السادس : ما ينقصُ بظهور دم الحيض؛ لأنَّه إذا سال الدَّم في وقت الحمل ضعف الولد ، ونقص بمقدار ذلك النقصان ، وتزداد أيام الحمل ، لتصير هذه الزيادة جابرة لذلك النُّقصان .
قال ابن عبَّاس رضي الله عنه : « كلَّما سال الحيضُ في وقت الحمل يوماً ، زاد في مدَّة الحمل يوماً ، ليحصل الجبرُ ، ويعتدلُ الأمر » .
وهذا يدلُّ على أنَّ الحامل تحيضُ ، وهو مذهب مالكٍ ، وأحد قولي الشَّافعي لقول ابن عباس في تأويل هذه الآية : إنَّه حيض الحبالى ، وهو قول عائشة رضي الله عنها وأنها كانت تفتي النِّساء الحوامل إذا حضن أن يتركن الصَّلاة .
وقال المخالف : لو كانت الحاملُ تحيض مكان ما تراه المرأة من الدَّم حيضاً ، لما صحَّ استراءُ الأمة بحيضة ، وهذا بالإجماع .
السابع : أن دم الحيض فضلة تجتمع في [ بطن ] المرأة ، فإذا امتلأت عروقها من تلك الفضلات؛ فاضت ، وخرجت ، وسالت من دواخل تلك العروض ، ثم إذا سالت تلك المواد ، امتلأت تلك العروض مرَّة أخرى .
هذا كلُّه إذا قلنا : إن « ما : موصولة .
فإذا قلنا : إنَّها مصدرية : فالمعنى أنَّه تعالى يعلمُ حمل كلَّ شيءٍ ، ويعلم غيض الأرحام ، وازديادها لا يخفى عليه شيء من ذلك ، ولا أوقاته ، وأحوالهن .
ثم قال : { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } يحتمل أن يكون المراد بالعنديَّة : العلم ومعناه : أنَّه تعالى يعلم كمية كل شيء ، وكيفيته على الوجه المفصل المبين ومتى كان الأمر كذلك امتنع وقوع التغيير في تلك المعلومات ، ويحتمل أن يكون المراد من العنديَّة أنه تعالى خصَّص كل حادث بوقت معين ، وحال معينة بمشيئة الأزليَّة وإرادته السرمدية .
وعند حكماء الإسلام : أنه تعالى وضع أشياء كلّيّة ، وأودع فيها قوى ، وخواصَّ ، وحركها بحيث يلزم من حركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة أحوال جزيئة متعينة ومناسبات مخصوصة [ مقدرة ] ، ويدخل في هذه الآية أفعالُ العبادِ ، وأحوالهم ، وخواطرهم ، وهي من أدلِّ الدَّلائلِ على بطلان قول المعتزلةِ .
قوله : « عِنْدَهُ » يجوز أن يكون مجرور المحل صفة ل « شَيْءٍ » ، أو مرفوعة صفة ل « كُلُّ » ، أو منصوبة ظرفاً لقوله : « بِمقْدارٍ » ، أو ظرفاً للاستقرار الذي تعلق به الجار لوقوعه خبراً .
قوله : { عَالِمُ الغيب } يجوز أن يكون مبتدأ ، وخبره : « الكَبيرُ المتعَالِ » ، وأن يكون خبراً لمبتدأ محذوفٍ ، أي : هو عالمٌ .
وقرأ زيد بن عليى « عَالِمَ » نصمباً على المدحِ .
ووقف ابنُ كثير ، وأبو عمرو في رواية على ياءِ « المُتعَالِ » وصلاً ووقفاً ، وهذا هو الأشهر في لسانهم ، وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً لحذفها في الرَّسم .
واستسهل سيبويه حذفها الفواصل ، والقوافي ، ولأنَّ « ألْ » تعاقب التنوين ، فحذفت معها إجراء لها مجراها .
فصل
قال ابن عباس رضي اكلله عنه : يريد علم ما غاب عن خلقه وما شاهدوه .
قال الواحديُّ : « فعلى هذا » الغَيْب « مصدر يرادُ به الغائب ، والشهادة أراد بها الشَّاهد » .
واختلفوا في المراد بالغائب ، والشَّاهد؛ فقيل : المراد بالغائب : [ المعدوم ] ، وبالشَّاهد : الموجود . وقيل : الغائب مالا يعرفه الخلق .
واعلم أنَّ المعلومات قسمان : المعدمات ، والموجودات .
والمعدومات منهنا معدوماتٌ يمتنع وجودها ، ومعدومات لا يمتنع وجودها .
والموجودات قسمان : موجودات يمتنع عدمها ، وموجودات لا يمتنع عدمها ، وكل واحدٍ من هذه الأقسام الأربعة له أحكام ، وخواص ، والكل معلوم لله تعالى .
قال إمامُ الحرمين : الله تعالى معلوماتٌ لا نهاية لها وله في كل واحد من تلك المعلومات معلومات أخرى لا نهاية لها؛ لأن الجوهر الفرد يعلم الله تعالى من حاله أنه يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل ، وموصوف بأوصاف لا نهاية لها على البدل ، وهو تعالى عالمٌ بكلِّ الأحوال على التفصيل وكل هذه الأقسام داخلة تحت قوله : { عَالِمُ الغيب والشهادة } .
ثم قال : « الكَبِيرُ المُتعَالِ » وهو تعالى يمتنع أن يكون كبيراً بحسب الجثَّة والمقدار؛ فوجب أن يكون كبيراً بحسب القدرة الإلهيَّة ، و « المُتعَالِ » المتنزه عن كلِّ ما لا يجوز عليه في ذاته ، وصفاته .
قوله تعالى : { سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ } .
في « سَواءٌ » وجهان :
أحدهما : أنه خبرٌ مقدمٌ ، و : « مَنْ اسرَّ » ، و « مَنْ جَهرَ » هو المبتدأ ، وإنما لم يثن الخبر؛ لأنَّه في الأصل مصدر ، وهو ههنا بمعنى متسوٍ ، و « مِنكُمْ » على هذا حالٌش من الضمير المستتر في « سَواءٌ » ؛ لأنه بمعنى مستوٍ .
قال أبو البقاء : « ويضعف أن يكون حالاً من الضمير في » أسرَّ « ، و » جَهَرَ « لوجهين :
أحدهما : تقديم ما في الصلة على الموصول ، أو الصِّفة على الموصوف .
والثاني : تقديم الخبر على » مِنْكُم « وحقُّه أن يقع بعده » .
قال شهابُ الدِّين رحمه الله : « وحقُّه أ ، يقع بعده يعني : بعدهُ ، وبعد المبتدأ ، ولا يصير كلامه لا معنى له » .
والثاني : أنه مبتدأ وجاز الابتداء به لوصفه بقوله : « مِنْكُم » .
وأعرب سيبويه : « سواءٌ » عليه الجهر والسِّر كذلك ، وقول بن عطيَّة : إنَّ سيبويه ضعَّف ذلك بأنه ابتداء بنكرة غلط عليه .
قال ابنُ الخطيب : لفظ « سواء » يطلب اثنين ، تقول : « سواء زيد ، وعمرو » ، ثم فيه وجهان :
الأول : أنَّ « سواءٌ » مصدر ، والمعنى : ذو سواء ، كما تقول : عدل زيد وعمرو ، أي : ذو عدلٍ .
الثاني : أن يكون « سواءٌ » بمعنى مستوٍ ، وعلى هذا التقدير ، فلا حاجة إلى الإضمار ، إلا أنَّ سيبويه يستقبحُ أن يقال : مستو زيد وعمرو؛ لأنَّ اسماء الفاعل إذا كانت نكرة لا يبتدأ بها .
ولقائلٍ أن يقول : بل هذا الوجه أول؛ لأنَّ حمل الكلام عليه يغني عن التزامِ الإضمار الذي هو خلاف الأصل .
قوله : { وَسَارِبٌ بالنهار } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون معطوفاً على « مُسْتَخْفٍ » ، ويراد ب « مَنْ » حينئذ اثنان ، وحمل المبتدأ الذي هو لفظ « هُوَ » على لفظها ، فأفرده ، والخبر على معناها فثناه .
والوجه الثاني : أن يكون عطفاً على « من هُوَ » في « ومَنْ هُو مُسْتخْفٍ » لا على : مُستَخفٍ « وحده .
ويوضح هذين الوجيهن ما قاله الزمخشريُّ قال : » فإن قلت : كان حق العبارةِ أن يقال : ومن هو مستخف باللَّيل ، ومن هو ساربٌ بالنَّهار حتَّى يتنول معنى الاستواء المستخفي ، والسارب ، وإلا فقد تناول واحد هو مستخف وسارب .
قلت : فيه وجهان :
أحدهما : أن قوله : « سَارِبٌ » عطف على : « مَنْ هُو مُسْتَخْفٍ » [ لا على : : مُسْتَخْفٍ « .
والثاني : أنَّه عطف على : » مُسْتَخْفٍ « إلا أنَّ : » مَنْ « في معنى الاثنين؛ كقوله : [ الطويل ]
3166 ...
نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطحِبَانِ
كأنه قيل : سواء منكم اثنان مستخف بالليل ، وسارب بالنَّهار « .
قال شهابُ الدِّين : وفي عبارته بقوله : كان حق العبارة كذا سوء أدب ، وقوله كقوله : » نَكُنْ مِثلَ مَنْ يا ذئب « يشير إلى البيت المشهور في قصة بعضهم مع ذئبٍ يخاطبه : [ الطويل ]
3167
تَعَشَّ فإنْ عَاهَدْتَنِي لا تَخُونُنِي ... نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئبُ يَصْطحِبَانِ
وليس في البيت حملٌ على اللفظ والمعنى ، وإنَّما فيه حملٌ على المعنى فقط ، وهو مقصوده .
وقوله : » وإلا فقد تناتول واحدٌ هو مستخق وسارب « لو قال بهذا قائل لأصاب الصَّواب وهو مذهب ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد ذهبا إلى أن المستخفي والسَّاب شخص واحد يستخفي بالليل ، ويسرب بالنَّهار ، ليري تصرفه في النَّاس .
الثالث : أن يكون على حذف » مَنْ « الموصولة ، أي : ومن هو سارب ، وهذا إنَّما يتمشى عند الكوفيين ، فإنهم يجيزون حذف الموصول ، وقد استدلالهم على ذلك .
والسَّاربُ : اسم فاعل من » سَرَبَ ، يَسْرُبُ « ، أي : تصرف كيف يشاء؛ قال : [ الكامل ]
3168
أنَّى سَربْتِ وكُنْتِ غَيرَ سَرُوبِ ... وتُقرَّبُ الأحلامُ غَيْرَ قَريبِ
وقال آخر : [ الطويل ]
3169
وكُلُّ أنَاسٍ قَاربُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ... ونَحْنُ خَلعْنَا قَيْدُهُ فهو سَارِبُ
أي : متصرف كيف توجَّه ، ولا يدفعه أحدٌ عن مرعى قومه بالمنعة ، والقوة .
فصل
معنى الكلام : أي : يستوي في علم الله المسر في القول ، والجاهر به . وفي المستخفي ، والسَّارب وجهان :
الأول : يقال : أخفيت الشيء أخفيه فخفي ، واستخفى فلان من فلان ، أي : توارى واستتر منه .
والسَّارب : قال الفراء والزجاج : أي : ظاهر بالنهار في سربه ، أي : طريقه يقال : خلا له سربه ، أي : طريقه ، والسَّرب بفتح السِّين ، وسكون الراء الطريق .
وقال الأزهري : » تقول العرب : سَربتِ الإبلُ تسرب سَرَباً ، أي : مضت في الأرض ظاهرة حيث شاءت « .
فمعنى الآية : سواء كان الإنسان مستخفياً في الظُّلماتِ ، وكان ظاهراً في الطرقاتِ فعلم الله تعالى محيطٌ بالكلِّ .
قال ابن عباس : » سواء ما أضمرته القلوب ، أو أظهرته الألسنة « .
وقال مجاهد : سواء من أقدم على القبائح في ظلمات الليل ، ومن أتى بها في النهار الظاهر على سبيل التَّوالي .
وقال ابن عباس أيضاً : » هو صاحب ريبة مستخسف بالليل ، وإذا خرج النهار أرى النَّاس أنه بريء من الإثم « .
والقول الثاني : نقل الواحدي عن الأخفش ، وقطرب قال : المستخفي : الظاهر والسارب : المتواري ، ومنه يقال : خفيت الشيء ، أي : أظهرته ، وأخفيت الشيء أي : استخرجته ، ويسمى النَّبَّاش : المستخفي ، والسَّارب : المتواري ، أي : الداخل سرباً ، وانسرب الوحش : إذا دخل في السِّرب ، أي : في كناسه .
قال الواحديُّ : » وهذا الوجه صحيح في اللغة إلا أنَّ الأول هو المختارُ لإطباق أكثر المفسرين عليه ، وأيضاً : فالليل يدلُّ على الاستتار ، والنهار على الظهور « .
قوله : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ } الضمير فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه عائد على « مِنْ » المكررة ، أي : لمن أسرّ القول ، ولمن جهر به ولمن استخفى : « مُعَقباتٌ » ، أي : جماعة من الملائكة يعقب بعضهم بعضاً .
الثاني : أنه يعود على « مِنْ » الأخيرة ، وهو قول ابن عبَّاسٍ .
قال ابن عطية : والمعقبات على هذا : حرسُ الرجل وجلاوزته الذين يحفظونه ، قالوا : والآية على هذا في الرؤساء الكفار ، واختاره الطبريُّ وآخرون إلاَّ أنَّ المارودي ذكر على هذا التأويل : أنَّ الكلام نفي ، والتقدير : لا يحفظونه ، وهذا ينبغي ألاّ يمسع ألبتة ، كيف يبرز كلام موجب ، ويراد به نفي ، وحذف « لا » إنما يجوز إذا كان المنفي مضارعاً في جواب قسم ، نحو { تَالله تَفْتَأُ } [ يوسف : 85 ] وقد تقدَّم تحريره وإنّضما معنى الكلام كما قال المهدويُّ : يحفظونه من أمر الله في ظنه ، وزعمه .
الثالث : أن الضمير في « لهُ » يعود على الله تعالى وفي « يَحْفظُونَهُ » للبعد أي : للهِ ملائكة يحفظون العبد من الآفات ، ويحفظون عليه أعماله قاله الحسن رضي الله عنه .
الرابع : عود الضميرين على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وإن لم يجر له ذكر قريب ، ولتقدُّم ما يشعر به في قوله : « لوْلاَ أنْزِلَ عليْهِ » .
و « مُعقِّباتٌ » جمع معقب بزنة مفعل ، من عقب الرجل إذا جاء على عقب الآخر؛ لأن بعضهم يعقبُ بعضاً ، أو لأنَّهم يعقبون ما يتكلَّم به .
وقال الزمخشري : « والأصل : معتقبات ، فأدغمت التاء في القاف ، كقوله : { وَجَآءَ المعذرون } [ التوبة : 90 ] فلا يتعيَّن أن يكون أصله » المُتعذِّرُون « وقد تقدَّم توجيهه ، وأنه لا يتعيَّن ذلك فيه .
وأما قوله : ويجوز » مُعِّبات « بكسر العين ، فهذا لا يجوز؛ لأنه بناه على أن أصله : معتقبات ، فأدغمت التاء في القاف ، وقد بيَّنا أن ذلك وهم فاحشٌ وفي » مُعَقِّباتٌ « احتمالان :
أحدهما : أن يكون معقبة بمعنى معقب ، والتَّاء للمبالغة ، كعلاَّمة ، ونسَّابة . أي : ملك معقب ، ثم جمع هذا كعلامات ، ونسَّابات .
والثاني : أن يكون معقبة صفة لجماعة ، ثم جمع هذا الوصف ، وذكر ابنُ جريرٍ : أن معقبة جمع معقب ، وشبه ذلك ب » رَجُلٍ ، ورجالٍ ، ورِجَالاتٍ « . قال أبو حيَّان : وليس كما ذكر ، إنما ذلك ك » جَمَلٍ ، وجِمَالٍ ، وجمالاتٍ « ومعقب ، ومعقبات إنَّما هو كضارب ، وضاربات .
ويمكن أن يجاب عنه : بأنه يمكن أن يريد بذلك أنَّه أطلق من حيث الاستعمال على جمع معقب ، وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث » معقب « ، فصار مثل : » الواردة « للجماعة الذين يريدون ، وإن كان أصله للمؤنثة من جهة أنَّ جموع التَّكسير في العقلاء تعامل معاملة المؤنثة في الإخبار ، وعود الضَّمير ، ومنه قولهم : الرِّجحالُ وأعضادها ، والعلماء ذاهبةٌ إلى كذا ، وتشبيهنه ذلك برجل ، ورجالات من حيث المعنى لا الصناعة » .
وقرأ أبي ، وإبراهيم ، وعبيد الله بن زيادٍ : له معاقيب .
قال الزمخشريُّ : « جمع معقب ، أو معقبة ، والياء عوضٌ من حذف إحدى القافين في التكسير » .
ويوضح هذا ما قاله ابنُ جنِّي؛ فإنه قال : « مَعَاقِيب » تكسير مَعْقِب بسكون العين ، وكسر القاف ، ك « مُطْعِم ، مطاعم » و « مَقْدِم ، ومَقَادِيم » ، فكأن « مُعْقباً » جمع على معاقبة ، ثم جعلت الياء في « معاقيب » عوضاً من الهاء المحذوفة في « مُعَاقبةٍ » .
فصل
قال : المعقب من كلِّ شيء ما خلف يعقب ما قبله ، ويجوز أن يكون عقبه ، إذا جاء على عقب ، والمعنى في كلا الوجهين واحد .
والتَّعقيب : العود بعد البدءِ ، وإنَّما ذكر بلفظ التَّأنيث؛ لأن واحدها معقب وجمعه معقبة ، ثم جمع المعقبة معقبات ، كقولك : رجالات مكسر ، وقد تقدَّم .
وفي المراد ب « المعقبات » قولان :
أشهرهما : أن المراد الحفظة ، وإنَّمام وصفوا بالمعقبات ، إما لأجل أن ملائكة اللَّيل تعقب ملائكة النَّهار ، وبالعكس ، وإما لأجل أنهم يعقبون أعمال العباد ويتبعونها بالحفظ ، والكتابة ، وكل من عمل عملاً ثم معاد إليه؛ فقد عقَّبهُ .
فعلى هذا المراد من المعقبات : ملائكة الليل ، والنَّهار ، قال تعالى جلًَّ ذكره { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ } [ الانفطار : 10 ، 11 ، 12 ، 13 ] .
قوله : { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ } يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنَّه صفة ل « مُعقِّباتٌ » ويجوز أن يتعلق ب : مُعقِّباتٌ « ، و » مِنْ « لابتداء الغاية ، ويجوز أن تكون حالاً من الضمير الذي هو الظرف الواقع خبراً والكلامم على هذه الأوجه تام عند قوله : { وَمِنْ خَلْفِهِ } .
وقد عبَّر ِأبو البقاء ، رحمه الله عن هذه الأوجه بعبارة مشكلة ، وهي قوله : { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ } يجحوز أن يكون صفة ل » مُعقِّباتٌ « ، وأن يكون ظرفاً ، وأن يكون حالاً من الضمير الذي فيه ، فعلى هذا يتمُّ الكلام عنده » انتهى « .
ويجوز أن يتعلق ب » يَحْفَظُونَه « أي : يحفظونه من بين يديه ، ومن خلفه .
فإن قيل : كيف يتعلَّق حرفان متحدان لفظاً ومعنى بعاملٍ واحدٍ ، وهما » مِنْ « الداخلة على » بَيْنِ « و » مِنْ « الداخلة على : » أمْرِ اللهِ « ؟ .
فالجواب : أنَّ » مِنْ « الثانية مغايرة للأولى في المعنى كما ستعرفه .
قوله : » يَحْفَظُونهُ « يجوز أن يكون صفة ل » مُعقِّباتٌ « ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير المستكن في الجار الواقع [ خبراً ] ، و » مِنْ أمْرِ اللهِ « متعلق به ، و » مِنْ « إمَّا للسَّببِ أي : بسبب أمر الله .
ويدل له على قراءة عليِّ بن أبي طالبٍ ، وابن عبَّاسٍ ، وزيد بن عليّ ، وعكرمة رضي الله عنهم : بأمر الله .
وقيل : المعنى على هذا يحفظون عمله بإذن الله ، فحذف المضاف .
قال ابن الأنباري : كلمة « مِنْ » معناها الباء ، وتقديره : يحفظونه بأمر الله وإعانته ، والدَّليل عليه : أنه لا بد من المصير إليه؛ لأنَّه لا قدرة للملائكة ، ولا لأحد من الخلقِ على أن يحفظوا أحداً من أمر الله ، ممَّا قضاه الله عليه؛ وإمَّا أن تكون على بابها .
قال أبُو البقاء : « مِنْ أمْرِ اللهِ » من الجنِّ ، والإنس ، فتكون « مِنْ » على بابها .
«
يعني : أن يراد بأمر الله : نفس ما يحفظ منه كمردة الإنس ، والجن ، فتكون » مِنْ « لابتداء الغاية » .
ويجوز أن تكون بمعنى « عَنْ » ، وليس عليه معنى يليق بالآية الكريمة ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنَّه صفة ل : « مُعقِّباتٍ » أيضاً فيجيء الوصف بثلاثة أشياء في بعض الأوجه المتقدمة بكونها { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } وبكونها « يَحفظه » ، وبكونها « مِنْ أمْرِ اللهِ » ولكن يتقدَّم الصوف بالجملة على الوصف بالجار ، وهو جائزٌ فصيحٌ ، وقد ذكر الفراء فيه وجهين :
الأول : أنه على التَّقديم ، والتأخير ، والتقدير : له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه .
قال شهاب الدِّين رحمه الله : « والأصل عدم ذلك مع الاستغناء عنه » .
والثاني : أن فيه إضماراً ، أي : ذلك الحفظ من أمر الله ، أي : ممَّا أمر الله به ، فحذف الاسم ، وأبقى خبره ، كما يكتب على الكيس : ألفان ، والمراد الذي فيه ألفان .
فصل
ذكر المفسرون : أن للهِ ملائكة يتعاقبون بالليل ، والنهار؛ فإذا صعدت ملائكمة الليل جاء في عقبها ملائكة النهار ، وإذا صعدت ملائكة النَّهار ، جاء في عقبها ملائكة الليل .
لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال « يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ باللِّيلِ ومَلائكِةٌ بالنَّهارِ يَجْتمِعُونَ عِنْدَ صلاةِ الفَجْرِ وصلاةِ العَصْرِ ، ثُمَّ يَعْرجُ الَّذينَ باتُواة فيكُم؛ فيَسْألهُم وعو أعملُ بِهِم : كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادي؟ فَيقُولُون : تَركْنَاهُم ، وهُمْ يُصَلُّونَ ، وأتَيْنَاهُمْ ، وهُمْ يُصَلُّون » .
وقوله : { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } يعنى من قدام ، هذا استخفى باللَّيل والسَّارب بالنَّهار ، ومن وراء ظهره يحفظونه من أمر الله يعني بإذنِ الله ما لم يجىء القدر ، فإذا جاء القدر خلوا عنه .
وقيل : يحفظونه ممَّا أمر الله به من الحفظ عنه .
قال مجاهدٌ : ما من عبدٍ إلا وله ملك وكلٌ به يحفظه في نومه ويقظته من الجنِّ والإنس ، والهوام .
وقيل : المراد بالآية الملكين القاعدين على اليمين ، وعلى الشمال يكتبان الحسنات والسيئات « يحفظونه » أي يحفظون عليه ، « من أمر الله » يعني الحسنات والسيئات قال الله تعالى :
{
مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق . 18 ] .
وقال عبدالرحمن بن زيد : نزلت هذه الآية في عامر بن الطُّفيل وأربد بن ربيعة ، وكانت قصَّتهما على ماروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : « أقبل عامر بن الطُّفيل ، وأربد بن ربيعة ، وهما عامريان يريدان رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو جالس في المسجد في نفرٍ من أصحابه ، فدخلا المسجد ، فاسْتشْرَفَ الناسُ لجمالِ عامرٍ ، وكان أعورَ ، وكان من أجمل النَّاس ، فقال رجل : يا رسول الله هذا عامر بن الطُّفيل قد أقبل نحوك فقال : دعه؛ فإن يرد الله به خيراً يهده ، مفأقبل حتى قام عليه ، فقال : يا محمد ما لي إن أسلمت؛ فقال صلى الله عليه وسلم : لك ما للمسلمين ، وعليك ما على المسلمين ، قال : تجعلي لي الأمر بن بعدك؛ قال : ليس ذلك إليَّ ، إنما ذلك إلى الله عز وجل يجعله حيث يشاءُ ، فقال : تجعلني على الوبر والمدرِ ، قال : لا ، قال : فما تجعلي لي؟ قال أجعل لك أعنَّة الخيل تغزُو عليها قال : أوليس ذلك لي اليوم ، قم معي أكلمك ، فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عامر أوصى إلى أربد بن ربيعة : إذا رأيتني أكلمه فدُرْ من خلفه ، فاضربه بالسيف ، فجعل يخاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويراجعه ، فدار أربدُ من خلف النبي ليضربه ، فاخترط من سيفه شبراً ، ثمذَ حبسه الله عزَّ وجلَّ عنده ، فلم يقدر على سلّه ، وجعل عامرُ يومىء إليه ، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أربد وما يصنع بسيفه ، فقال : » اللَّهُمَّ أكْفِنِيهما بِمَا شِئْتَ « فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم مصحوٍ صائفٍ ، فأحرقته ، وولّى عامر بنُ الطفيل هارباً ، وقال : يا محمد! دعوت ربك فقتل أربد ، والله لأملأنَّها عليك خيلاً جرداً ، وفتياناً مرداً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » يَمْنَعُكَ اللهُ مِنْ هذا ، وأبْناءُ قيْلة « يريد الأوس ، والخزرج؛ فنزل عامرٌ بيت امرأة سلوليّة فلما أصبح ، ضم عليه سلاحه ، وقد تغير لونه ، فخرج يركض في الصحراء ويقول : ابرز يا ملك الموت ، ويقول الشِّعر ، ويقول : واللات لئن أصبح لي محمداً وصاحبه يعني ملك المت لأنفذتهما برمحي؛ فأرسل الله تبارك وتعالى ملكاً فلطمه بجناحه ، فأذراه في التراب ، وخرجت على ركبته في الوقت غدة عظيمة ، فعاد إلى بيت السلولية ، وهو يقول : » غُدَّةٌ كغُدةِ البَعيرِ ، ومَوْتٌ في بَيْتِ سَلُوليَّة « ، ثم دعا بفرسه ، فركبه ، ثمَّ أجراه حتَّى مات على ظهره ، فأجاب الله دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقُتلَ عامرٌ بالطعن ، وأربد بالصَّاعقة » ، وأنزل الله في هذه القصَّة : { سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بالليل وَسَارِبٌ بالنهار لَهُ مُعَقِّبَاتٌ } يعنى للرسول صلى الله عليه وسلم معقبات يحفظونه من بين يديه ومن خلفه من أمر الله ، يعنىم : تلك المعقبات من أمر الله ، وفيه تقديرم وتأخير .
ونقل عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما واختاره أبو مسلم الأصفهاني رحمه الله أن المراد يستوي في علم الله السرُّ ، والجهر ، والمستخفي في ظلمة اللَّيل والسارب بالنهار المستظهر بالمعاونين ، والأنصار ، وهم الملوك ، والأمراء فمن لجأ إلى الله فلن يفوِّت الله سبحانه وتعالى أمره ، ومن سار نهاراً بالمعقبات ، وهم الأحراس والأعوان الذين يحفظونه لم ينجه حراسه من الله تعالى والمعقب هو العون؛ لأنه إذا نصر هذا وذاك؛ فلا بد وأن ينصر ذاك هذا؛ فنصر كل واحد منهما معاقبة لنصرة الآخر؛ فهذه المعقبات لا تخلص من قضاء الله ، وقدره ، وهم وإن ظنُّوا أنهم يخلصون مخدومهم من أمر الله ، ومن قضائه؛ فإنهم لا يقدرون على ذلك ألبتَّة .
والمقصود من الكلام : بعث السلاطين ، والأمراء ، والكبراء على أن يطلبوا الخلاص من المكاره من الله ، ويعلولوا على حفظه وعصمته ولا يعولوا في دعفها على الأعوان والأنصار؛ ولذلك قال تعالى جل ذكره بعده : { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } .
قال القرطبي : « قيل : إن في الكلام نفياً محذوفاً تقديره : لا يحفظونه من أمر الله تعالى ذكره الماورديُّ .
قال المهدوي : ومن ج عل المعقٍِّبات : الحرس ، فالمعنى : م يحفظونه من أمر الله على ظنه ، وزعمه .
وقيل : سواء من أسر القول ، ومن جهر ، فله حراس ، وأعوان يتعاقبون عليه ، فيحملونه على المعاصي ، و » يَحْفظُونَهُ « من أن ينجع فيه وعظٌ .
قال القشيريُّ : وهذا لا يمنع الرب من الإمهال إلى أن يحق العذابل ، وهو إذا غير هذا العاصي ما بنفسه بطول الإصرار ، فيصير ذلك سبباً للعقوبة ، فكأنه الذي يحل العقوبة » .
وقال عبدالرحمن بن زيد : « المعقِّبات : ما تعاقب من أمر الله تعالى وقضائه في عباده » .
قال الماورديُّ : « ومن قال بهذا القول ، ففي تأويل قوله : { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله } وجهان :
أحدهما : يحفظونه من الموت ما لم يأت أجله ، قاله الضحاك .
الثاني : يحفظونه من الجنِّ ، والهوام المؤذية ، ما لم يأت قدرٌ ، قاله أبو أمامة ، وكعب الأحبار رضي الله عنهما فإذا جاء القدر خلوا عنه؟ .
قوله : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ } : من العافية والنعمة { حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } من [ الحالة الجميلة ] فيعصون ربَّهم .
قال الجبائي ، والقاضي : هذه الآية تدلُّ على مسألتين :
الأولى : أنَّه سبحانه لا يعاقبُ أطفال المشركين بذنوب آبائهم؛ لأنَّهم لم يغيِّروا ما بأنفسهم من نعمه ، فيغير الهلن حالهم من النِّعمة إلى العذاب .
الثانية : قالوا : الآية تدلُّ على بطلان قول المجبرة : إنَّه تعالى ابتدأ العبد بالضَّلال ، والخذلان أوَّل ما يبلغ؛ لأنَّ ذلك أبلغ في العقاب ، مع أنَّه ما كان منه تغيير .
قال ابن الخطيب : « والجواب أن ظاهر الآية يدل على أن فعل الله تعالى في التغيير يترتب على فعل العبد ، وقوله { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } [ التكوير : 29 ] يدلُّ على أن فعله مقدم على فعل العبد ، فوقع التَّعارض .
وقوله تعالى : { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ } يدلُّ على أنَّ العبد غير مستقل بالفعل ، فلو كان العبد مستقلاً بتحصيل الإيمان ، ولكان قادراً على ردّ ما أراد الله تعالى من كفر ، وحينئذٍ بطل قوله : { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ } ؛ فثبت أنَّ الآية السابقة ، وإن أشعرب بمذهبهم إلا أن هذا من أقوى الدلائل على مذهبنا .
روى الضحاك عن ابن عبَّاس رضي الله عنه : لم تغن المعقبات شيئاً وقال عطاء عنه : لا رادّ لعذابي ، و لاناقض لحكمي : { وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } ، أي : ليس لهم من دون الله من يتولاهم ، ويمنع قضاء الله عنهم ، أي : مال هم والٍ يتولَّى أمرهم ، ويمنع العذاب عهم .
قوله : { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ } » العامل في « إذَا » محذوف لدلالة جوابها عليه تقديره : لم يرد أو وقع ، أو نحوهما ، ولا يعمل فيها جوابها؛ لأنَّ ما بعد الفاء لا يعملُ فيما قبلها .
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
قوله تعالى : { هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق } الآية لما خوَّف العباد بإنزال ما لا مرد له ، أتبعه بذكر هذه الآية المشتملة على قدرة الله تعالى وحكمته ، وهي تشبه النعم والإحسان من بعض الوجوه ، وتشبه العذاب ، والقهر من بعض الوجوه .
قوله : « خوفاً وطمعاً » يجوز أن يكونا مصدرين ناصبهما محذوف ، أي : يخافون خوفاً ، ويطمعون طمعاً ، ويجوز أن يكونا مصدرين في موضع نصب على الحالِ ، وفي صاحب الحال حينئذ وجهان :
أحدهما : أنه مفعول : « يُرِيكُمْ » الأول ، أي : خائفين طامعين ، أي : تخافون صواعقه وتطمعون في مطره ، كما قال المتنبي : [ الطويل ]
3170
فَتًى كالسَّحابِ الجُونِ يُخْشَى ويُرْتَجَى ... يُرجَّى الحَيَا مِنهَا وتُخْشَى الصَّوعِقُ
والثاني : أنَّه البرق ، أي : يريكموه حالَ كيف ذا خوفٍ وطمعٍ ، إذ هو ف ينفسه خوف وطمع على المبالغة ، ولمعنى كما تقدَّم .
ويجوز أن يكون مفعولاً من أجله ، ذكره أبو البقاء ، ومنعه الزمخشريُّ لعدم اتِّحادِ الفاعل ، يعني أنَّ « الإرادة » وهو الله تعالى غير فاعل الخوف ، والطمع ، وهو ضمير المخاطبين ، فاخلتف فاعل الفعل المعلل ، وفاعل العلة وهذا يمكن أن يجاب عنه : بأنَّ المفعول في قوَّة الفاعل ، فإن معنى « يُرِيكُم » يجعلكم رائين ، فتخافون ، وتطمعون .
ومثله ف يالمعنى قوله النابغة الذبياني : [ الطويل ]
3171
وحَلَّتْ بُيوتِي في يَشفاعٍ مُمنَّعٍ ... تَخالُ بهِ رَاعِي الحَمُولةِ طَائِرَا
حِذَاراً على الاَّتَنالَ مَقادَتِي ... ولا نِسْوتِي حتَّى يَمُتْنَ حَرائِرَا
ف « حذارا » مفعول من أجله ، فاعله هو المتكلم ، والفعل المعلل الذي هو : « حَلَّت » فالعه « بُيُوتِي » فقد اختلف الفاعل ، قالوا : لكن لما كان التقدير : وأحللت بيوتي حذاراً صحَّ ذلك . وقد جوَّز الزمخشريُّ ذلك أيضاً على حذف مضاف فقال : « إلاَّ على تقدير حذف مضاف ، أي : إرادة خوفٍ ، وطمع ، وجوَّزه ، أيضاً على أن بعض المصادر ناب عن بعض . يعني أن الأصل : يريكم البرق إخافة ، وإطماعاً » .
فإنَّ المرئي ، المخيف ، والمطمع هو الله تعالى فناب خوف عن أخافة ، وطمع عن إطماع ، نحو : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] على أنه قد ذهب ابن خروف ، وجماعة على أنَّ اتحاد الفعل ليس بشرط .
فصل
في كون البرق خوفاً وطمعاً وجوه :
قيل : يخاف منه نزول الصَّواعق ، وطمع في نزول الغيثِ . وقيل : يخافُ المطر من يتضرر به كالمسافر ، ومن في جرابه التمر والزبيب ، والحب ، ويطمع فيه من له فيه نفعٌ .
وقيل : يخاف منه في غير مكانه ، وأمانه ، يطمع فيه إذا كان في مكانه وأمانه ، ومن البلدان إذا مطروا ، قحطوا ، وإذا لم يمطروا خصبوا .
قال ابن الخطيب : « البرقُ جسمٌ مركبٌ من أجزاء رطبة مائية ، ومن أجزاء هوائية ولا شك أنَّ الغالب عليه الأجزاء المائية ، والماء جسمٌ باردٌ رطبٌ ، والنَّار جسم حار يابس فظُورُ الضدِّ من الضد التام على خلافِ العقل ، فلا بد من صانع مختاار يظهر الضدّ من الضدّ » .
ثم قال : « ويُنْشِىءُ السَّحاب الثِّقَال » بالمطر ، ويقال : أنشأ الله السحابة ، فنشأت ، أي : أبدأها فبدأت .
قال الزمخشري : « السَّحابُ : اسم جنس الواحدة سحابة ، والثقال : جمع ثقيلة؛ لأنَّك تقول : سحابةٌ ثقيلةٌ وسحابٌ ثِقَال ، كما تقول : امرأةٌ كريمة ، ونساءٌ كِرام » .
وقال البغوي : « السَّحاب جمع ، واحدتها : سحابة ، ويقال في الجمع : سُحُبٌ وسَحَائِبُ أيضاً ، قال عليٌّ : السحاب غربال الماءِ » .
فصل
قال ابن الخطيب : « وهذا من دلائل القدرة والحكمة ، وذلك لأنَّ هذه الأجزاء المائية إمَّا أن يقال : حدثيت في جو جو الهواءِ أو تصاعدت من وجه الأرض ، فإن كان الأوَّل وجب أن يكون [ حدوثها ] بأحداث محدث حكيم قادر ، وهو المطلوب ، وإن كان الثاني هو أن يقال : تلك الأجزاء تصاعدت من الأرض ، فلمَّا وصلت إلى الطبقة الباردة من الهواء بردت ، فثقلت ، فرجعت إلى الأرض .
فنقول : هذا باطلٌ؛ لأن الأمطار مختلفة ، فتارة تكمون القطرات كبيرة ، وتارة تكون صغيرة ، وتارة تكون متقاربة ، وأخرى تكون متباعدة ، وتارة تطول مدة نزول المطر ، وتارة تقصر واختلاف الأمطار في هذه الصفِّات مع أنَّ طبيعة الأرض واحدة ، وطبيعة الشمس واحدة فلا بد وأن يكون تخصيص الفاعل المختار ، وأيضاً فالتَّجربة دلَّت على أنَّ للدعاءن والتَّضرع في نزول الغيث أثراً عظيماً كما في الاستسقاء ومشروعيته ، فعلمنا أنَّ المثؤر فيه [ قدرة ] الفاعل لا الطبيعة ، والخاصية » .
قوله : { وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ } قال أكثر المفسرين : الرَّعدُ اسم ملكٍ يسوقُ السَّحاب ، والصوت المسموع تسبيحه .
قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه : « مَنْ سَمِعَ صوتَ الرَّعدِ فقال : سُبْحانَ الَّذي يُسبِّحُ الرَّعْدُ بحَمْدهِ والمَلائِكةُ مِنْ خِيفتهِ وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قدير ، فإنْ أصَابهُ صَاعِقةٌ فَعَلى دِينه » .
وعن ابن عبَّاس : أنَّ اليهود سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الرَّعدِ ما هو؟ . فقال صلى لله عليه وسلم « ملكٌ من الملائكةِ وُكِلَ بالسَّحابِ معهُ مخَارِيق من نَارِ يسُوقُ بِهَا السَّحابَ حيثُ شَاء اللهُ ، قالوا : فَمَا الصَّوتُ الذي نَسْمَع؟ قال : زَجْرةُ السَّحابِ » .
وعن الحسن : أنَّه خلق من خلق اكلله ليس بملكٍ .
قال ابن الخطيب : « فعلى هذا القولِ : الرَّعدُ هو الملكُ الموكل بالساحب ، وذلك الصَّوت يسمّى بالرَّعدِ ، ويؤكد هذا ما روي عن النبيِّ صلى الله عليه سلم أنه قال : » إنَّ اللهَ يُنشِىءُ السَّحاب ، فتَنْطِقُ أحسنَ النُّطقِ وتَضحَكُ أحسن الضِّحكِ فنُطقه الرَّعدُ وضِحْكهُ برق « .
وهذا القول غير مستبعد؛ لأن عند أهل السنة البينة ليست شرطاً لحصولِ الحياة ، فلا يبعد من الله تعالى أن يخلق الحياة ، والعلم ، والقدرة ، والنُّطق في أجزاء السَّحاب ، فيكون هذا الصوت المسموع فعلاً له ، وكيف يستبعد ذلك ، ونحن نرى أنَّ السمندل يتولد في النَّار ، والضفادع تتولّد في الماءِ ، والدُّوجة العظيمة ربما تولدت في الثلوج القديمة ، وأيضاً : فإذا لم يبعد تسبيحُ الحِبالِ في زمن داود صلوات الله وسلامه عليه ولا تسبيح الحصى في زمن محمد صلى الله عليه وسلم فكيف يبعدُ تسبيحُ السَّحاب؟ .
وعلى هذا القول ففي هذا المسموع قولان :
أحدهما : أنه ليس بملك؛ لأنَّه عطف عليه الملائكة فقال : { والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ } المعطوف عليه مغايرٌ للمعطوف .
والثاني : لا يبعد أن يكون من جنس الملائكة ، وإنَّما أفرده بالذِّكر تشريفاً كقوله تعالى : { وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] وقوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } [ الأحزاب : 7 ] .
وقيل : الرعدُ اسم لهذا الصوت المخصوص ، ومع ذلك فإنَّه يسبحُ ، قال تعالى { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ } [ الإسراء : 44 ] .
وقيل : المراد من كون الرَّعد مسبحاً ، أن من يسمع الرَّعد فإنَّه يسبح الله تعالى فلهذا المعنى أضيف التسبيح إليه .
قوله : { والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ } ، أي : الملائكة يسبحون من خيفة الله ، وخشيته ، وقيل : أراد بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد جعل الله تعالى له أعواناً ، فهم خائفون خاضعون طائعون .
قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما : « خائفون من الله لا كخوف بني آدم ، فإنَّ أحدهم لا يعرف من على يمينه ، ومن على يساره لا يشغله عن عبادة الله طعامٌ ، ولا شراب ولا شيء » .
قال ابن الخطيب : « والمحققون من الحكماء يقولون : إنَّ هذه الآثار العلوية إنَّما هي تتمُّ بقوى روحانية فكليَّة ، فللسّضحاب روح معيَّن في الأرواح الفلكيَّة يدبره ، وكذا الرِّياح ، وسائر الآثار العلوية ، وهذا عين ما قلنا : إنَّ الرعد اسمٌ لملك من الملائكة يسبِّح الله تعالى .
فالذي قاله المفسِّرون بهذه العبارة ، هو عين ما ذكره المحققون من الحكماء ، فيكيف يليق بالعاقل الإنكار؟ » .
قوله : { وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ } كما أصاب أربد بن ربيعة .
«
الصَّواعِقَ » جمع صاعقة ، وهي العذاب المهلك ينزل من البرقِ ، فتحرق من تصيبه وتقدَّم الكلام عليه في أوَّل البقرةِ .
قال المفسرون : نزلت هذه الآية في عامر الطُّفيل ، وأربد بن ربيعة أخي أسد بن ربيعة كما قدمنا .
واعلم أنَّ أمر الصاعقة عجيبٌ جدًّا؛ لأنَّها نارٌ تتولَّد في السَّحاب ، وإذا نزلت من السَّحاب فربما غاصت في البحرِ ، وأحرقت الحيتان .
قال محمدُ بن عليّ الباقر : « الصَّاعقة تصيبُ المسلم ، وغير المسلمِ ، ولا تصيب الَّذاكر » .
قوله : { وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله } يجوز أن تكون الجملة مستأنفة أخبر عنهم بذلك ويجوز أن تكون حالاً .
وظاهر كالام الزمخشري أنَّها حال من مفعول « تَصِيبُ » فإنَّه قال : « وقيل : الواو للحال ، أي : يصيب بها من يشاء في حال جدالهم » وجعلها غيره : حالاً من مفعول « يَشَاء » .
فصل
معنى الكلام : أنه تعالى بيَّن دلائل العلم بقوله : { يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى } [ الرعد : 8 ] ، ودلائل كمال القدرة في هذه الآية ، ثم قال تعالى : { وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله } يعنى أنَّ الكفار مع ظهور هذه الدلائل يجادلون في الله .
قيل : المراد بها الرَّد على الكافر يعني أربد بن ربيعة الذي قال : أخبرنا عن ربِّنا ، أهو من نحاسٍ ، أم من حديد ، أم من درٍّ ، أم من ياقوت ، أم من ذهب؟ فنزلت الصاعقة من السماء؛ فأحرقته .
وقيل : المراد جدالهم في إنكار البعث ، وقيل المراد الرد على جدالهم في طلب سائر المعجزات .
وقيل : المراد الرد عليهم في استنزال عذاب الاستئصال .
وسئل الحسن عن قوله : { وَيُرْسِلُ الصواعق } الآية قال : كان رجلٌ من طواغيت العرب بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم يقرّ بدعوته إلى الله ورسوله ، فقال لهم : أخبروني عن رب محمدٍ ، هذا الذي تدعُوني إليه ، مِمَّ هو « من ذهبٍ ، أو فضةٍ ، أو حديدٍ أو نحاس؟
فاستعظم القوم مقالته ، فانصرفوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله : ما رأينا رجُلاً أ : فر قلبا ، ولا أعتى على الله منه ، فقال : صلى الله عليه وسلم : » ارجعوا إليه « فرجعوا إليه؛ فجعل لايزيدهم على مثل مقالته الأولى ، وقال : أجيب محمداً إلى رب لا أراه ، ولا أعرفه! وانصرفوا ، وقالوا : يا رسول الله : ما زادنا على مقالته الأولى ، وأخبث . فقال صلى الله عليه وسلم : » ارجعوا إليه « ، فرجعوا إليه ، فبينما هم عنده ينازعونه ويدعونه ، وهو يقول هذه المقالة ، إذا ارتفعت سحابة ، فكانت فوق رءوسهم ، فرعدت ، وبرقت ورمت بصاعقة؛ فأحرقت الكافر ، وهم جلوسٌ ، فجاءوا يسعون؛ ليخبروا رسول الله صلى الله عليه سلم؛ فاستقبلهم قومٌ من أصحاب رسول الله صلى لله عليه وسلم فقالوا : » احْترَقَ صَاحبُكُم « فقالوا : من أين علمتم؟ فقالوا : أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم { وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله وَهُوَ شَدِيدُ المحال } .
قوله : { وَهُوَ شَدِيدُ المحال } هذه الجملة حال من الجلالة الكريمة ، ويضعف استنأفها .
وقأ العام : بكسر الميم وهو القوَّة والإهلاكُ .
قال عبدالمطلب : [ الكامل ]
3172
لا يَغْلبَنَّ صَلِبُهُمْ ... ومِحَالُهُمْ عَدواً مِحَالَك
وقل الأعشى : [ الخفيف ]
3173
فَرْغُ نَبْغٍ يَهتزٌ في غُصُنِ المَجْدِ ... عَظيمُ النَّدى شديدُ المحالِ
والمحال أيضاً : أشدُّ المكايدة ، والممكارة ، يقال : ما حله ، ومنه تمحَّل فلان بكذا أي : تكلَّف له استعمال الحيلة .
وقال أبو زيدٍ : هو النِّقمةُ . وقال ابن عرفة : هو الجدالُ ، وفيه على هذا مقابلة معنوية كأنه قيل : وهم يجادلون في الله ، وهو شديد المحالِ .
وقال عليٌّ رضي الله عنه : شديد الأخذ .
وقال ابن عباسٍ رضي الله عنه شديد المحال . وقال الحسن : نشديد الحقدِ .
قالوا : وهذا لايصح للحقد؛ لأن الحقد لا يمكن في حق الله تعالى إلاَّ أنَّه تقدم أنَّ أمثال هذه الكلمات إذا وردت في حقِّ الله تعالى فإنَّها تحمل على نهايات الأغراض لا شعلى مبادي الأعراض ، فيكون المراد بالحقد ههنا : هو أنه تعالى يريد إيصال الشَّر إليه ، مع أنه أخفى عنه تلك الإرادة .
وقال مجاهدٌ : شديد القوَّة . وقال أبو عبيدة : نشديد العقوبة .
وقيل : شديد المكرِ ، والمحال ، والمماحلة ، والمماكرة ، والمغالبة .
واختلفوا في ميمه : فالجمهور على أنَّها أصلية من المحل ، وهو المكر ، والكيد ، وزنها فعال : كمِهَاد .
وقال القتبيُّ : إنَّه من الحيلةِ ، وميمه مزيدة ، ك « مكان » من الكون ، ثم يقال : تمكنت ، وقد غلَّطه الأزهريُّ ، وقال : لو كان : « مِفْعَلاً » من الحيلة لظهرت الواو ، مثل : مرودةٍ ، ومحولٍ ، ومحودٍ . وقرأ الأعرج والضحاك بفتحها والظاهر أنه لغة في المكسورة ، وهو مذهب ابن عباس رضي الله عنه فإنه فسره بالحول كما تقدم ، وفسره غيره : بالحيلة .
وقال الزمخشري : « وقرأ الأعرج بفتشح الميم على أنه مفعل من : من حال يحول محالاً إذا احتال ، ومنه : » أحْوَل مِنْ ذئْبٍ « أي : أشد حيلة ، ويجوز أن يكون المعنى شديد الفقار ، ويكون مثلاً في القوة ، والقدرة كما جاء : فساعد الله أشد ، وموساه أحد؛ لأن الحيوان إذا اشتد محاله كان منعوتاً بشدة القوَّة ، والإضطلاع بما يعجز عنه غيره ألا ترى إلى قولهم : فقَرَتْهُ الفَواقِر ، وذلك أنَّ الفقار عمود الظَّهر ، وقوامه » .
قوله : { لَهُ دَعْوَةُ الحق } من باب إضافة الموصوف إلى صفة ، والأصل له الدعوة الحق ، كقوله { وَلَدَارُ الآخرة } [ يوسف : 109 ] على أحد الوجيهن .
وقال الزمخشري فيه وجهان :
أحدهما : أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيضُ الباطل ، كما يضاف الكلمة إليه في قوله : « كَلمةُ الحَقُّ » .
الثاني : أن تضاف إلى « الحقِّ » الذي هو « لله » على معنى : دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب .
قال أبو حيَّان : « وهذا الوجه الثاني لا يظهر؛ لأنه مآله إلى تقدير : لله دعوة الله ، كما تقول : » لزيد دعوة زيد « ، وهذا التركيب لا يصحُّ » .
قال شهاب الدين : « وأين هذا ممَّا قاله الزمخشريُّ حتى يرد عليه به » ؟ .
فصل
معنى قوله : « دَعْوةُ الحقِّ » ، أي لله دعوة الصدق .
قال عليُّ : دَعْوةُ الحقِّ : التَّوحيد . وقال ابن عباس رضي الله عنه شهادة أن لا إله إلا الله . وقيل : الدُّعاء بالإخلاص عند الخوف ، فإنَّه لا يدعى فيه إلا أياه « ، كما قال : { ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 67 ] .
قال الماورديُّ : وهو أشبه لسياق الآية؛ لأنه قال : { والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ } يعنى الأصنام : { لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ } ، أي لا يجيبون لهم دعاء ، ولا يسمعون لهم نداء .
{
إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المآء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ } . ضرب الله عزَّ وجلَّ الماء مثلاً لما يأتيهم من الإجابة لدعائهم .
قوله : { والذين يَدْعُونَ } يجوز أن يراد ب « الَّذينَ » المشركون ، فالواو في : « يَدعُونَ » عائدة ، ومفعوله محذوف ، وهو الأصنام ، والواو في « لا يستجيبون » عائدة على مفعول « تَدْعَونَ » المحذوف ، وعاد عليه الضمير كالعقلاء لمعاملتهم إيّاه معاملتهم ، والتقدير : والمشركون الذي يدعون الأصنام لا تستجيب لهم الأصنام وإلا استجابة كاستجابة باسط كفيه أي : كاستجابة الماء من بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه ، والماء جماد ، ولا يشعر ببسط كفيه ، ولا بعطشه ، ولا يقدر أن يجيبه ، ويبلغ فاه ، قال معناه الزمخشريُّ .
وما ذكره أبو البقاء قريب من هذا ، وقدر التقدير المذكور ، قال : « والمصدر في هذا التقدير مضاف إلى المفعول ، كقوله : { لاَّ يَسْأَمُ الإنسان مِن دُعَآءِ الخير } [ فصلت : 49 ] وفاعل هذا المصدر مضمر ، وهو ضمير الماءِ أي : لا يجيبونهم إلا كما يجيب الماء باسط كفيه إليه ، والإجابة هنا كناية عن الانقياد » .
وقيل : ينزلون في قلَّة فائدة دعائهم لآلهتهم منزلة من أراد أن يغرق الماء بيده؛ ليشرب ، فيبسطها ناشراً أصابعه ، ولم تصل كفاه إلى ذلك الماء ، ولم يبلغ مطلوبه من شربه .
قال الفراء : المراد بالماء هاهنا : البئر؛ لأنَّها معدن الماءِ ، ويجوز أن يراد ب « الَّذينَ » الأصنام أي : والآلهة ، والذين يدعونهم من دون الله لا يستجيبون لهم بشيءٍ إلا استجابة ، والتقدير : كما تقدَّم في الوجه قبله .
وإنَّما جمعهم جمع القعلاء؛ إمَّا للاختلاط ، لأنَّ آلهتهم عقلاء وجماد ، وإمَّا لمعاملتهم إيَّاها معاملة العقلاء في زعمهم ، قالوا : الواو في « يَدعُونَ » للمشركين والعائد المحذوف للأصنام ، وكذا واو : « يَسْتَجِيبون » .
وقرأ اليزيديُّ عن أبي عمرو : « تَدْعُونَ » بالخطاب : « كبَاسِطٍ كَفَّيْهِ » بالتنوين وهي مقوية للوجه الثانين ، ولم يذكر الزمخشريُّ غيره .
قوله : « ليَبْلُغَ » في : « بَاسط » ، وفاعل : « يَبلُغَ » ضمي الماء؟
قوله : { وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ } في « هُوَ » ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه ضمير الماءِ ، والهاء في : « بِبَالغِه » للفم ، أي : وما الماء ببالغ فيه .
الثاني : أنه ضمير الفم ، والهاء في « بِبالغِهِ » للماء ، أي : وما الفم ببالغ الماء إذ كل واحد منهما لا يبلغ الآخر على هذه الحالِ ، فنسبةُ الفعلِ إلى كل واحد وعدمه صحيحان .
الثالث : أن يكون ضمير الباسط ، والهاء في : « بِبالغِهِ » للماء ، أي : وما باسط كفيه إلى الماء ببالغ الماء .
ولا يجوز أن يكون « هُوَ » ضمير « البَاسط » ، وفاعل « بِبَالغهِ » مضمراً والهاء في « بِبَالغهِ » للماء؛ لأنَّه حينئذٍ يكون من باب جريان الصِّفة على غير من هي له ، ومتى كان كذلك لزم إبراز الفاعل ، فكان التركيب هكذا : وما هو ببالغ الماء ، فإن جعلنا الضمير في « ببَالغهِ » للماء؛ جاز أن يكون : « هُوَ » ضمير الباسط كما تقدَّم تقريره .
والكاف في « كباسط » إما نعت لمصدر محذوف ، وإما حال من ذلك المصدر ، كما تقدم تقريره .
وقال أبو البقاء : « والكاف في » كَباسطِ « إن جعلتها حرفاً كان فيها ضمير يعودُ على الموصوف المحذوف ، وإن جعلتها اسماً لم يكن فيها ضمير » .
قال شهابُ الدِّين : « وكون الكاف اسماً في الكلام ، لم يقل به الجمهور ، بل الأخفش . ويعني بالموصوف ذلك المصدر ، والذي قدره فيما تقدَّم » .
ثم قال : { وَمَا دُعَآءُ الكافرين } أصنامهم : { إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } يضلّ عنهم إذا احتاجوا إليه ، كقوله تعالى : { وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ } [ فصلت : 48 ] .
وعن ابن عباس رضي الله عنه : { وَمَا دُعَآءُ الكافرين } ربهم : { إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } ؛ لأن أصواتهم محجوبة عن الله عزََّ وجلَّ .
وقيل : { إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } ؛ في ضياع لا منفعة فيه؛ لأنَّ الله لم يجبهم ، وإن دعوا الآلهة لم تستطع إجابتهم .
قوله : { وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض } الآية في المراد بهذا السجود قولان :
أحدهما : السجود بوضع الجبهة على الأرض ، وعلى هذا القول ، ففيه وجهان : د
أحدهما : أنَّ اللفظ ، وإن كان عامًّا إلا أنَّ المراد المؤمنون ، فبعضهم يسجدُ لله طوعاً بنشاط ، وبضعهم يسجد لله كرهاً لصعوبة ذلك عليه ، ويتحمل مشقَّة العبادة .
وقيل : المراد بقوله : « طَوعاً » الملائكة ، والمؤمنون ، و « كَرْهاً » المنافقون ، والكافرون الذين أكرهوا على السجود بالسَّيف .
والثاني : أنَّ اللفظ عام .
فإن قيل : ليس المراد : { مَن فِي السماوات والأرض } يسجد لله؛ لأن الكفَّار لا يسجدون .
فالجواب من وجهين :
الأول : أن المعنى أنه يجب على كلٍّ من في السموات ، والأرض أن يعترف بعبودية الله ، كما قال : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ الزمر : 38 ] .
والقول الثاني : أنَّ السُّجود عبارة عن الانقياد ، والخضوع ، وترك الامتناع ، كلُّ من في السموات ، والأرض ساجد لله بهذا المعنى؛ لأنَّ قدرته ، ومشيئته نافذة في الكُل .
قوله : { طَوْعاً وَكَرْهاً } إمَّا معفول من أجله ، وإمَّا حال ، أي : طائعين ، كارهين وإمَّا منصوب على المصدر المؤكد بفعل مضمر .
قوله : { وَظِلالُهُم بالغدو والآصال } قرأ أبو مجلز : والإيصال ، بالياء قبل الصَّاد وخرَّجها ابن جني على أنه مصدر « آصل » ، كضارب ، أي : دخل في الأصيل ، كأصبح أي : دخل في الصَّباح ، و « ظِلالُهمْ » عطف على « من » ، و « بِالغُدوِّ » متعلق ب « يَسْجدُ » والباء بمعنى « فِي » ، أي : في هذين الوقتين .
قال المفسرون : كل شخص سواء كان مؤمناً ، أو كافراً فإنَّ ظله يسجد لله .
قال مجاهد : ظل المؤمن يسجد لله طوعاً ، وهو طائع ، وظل الكافر يسجد لله كرهاً وهو كاره .
وقال الزجاج : « جاء في التفسير أن الكافر يسجد لغيرِ الله ، وظله يسجد لله » .
وعند هذا قال ابن الأنباري : لا يبعد أن يخلق تعالى للظلال عقولاً ، وأفهاماً تسجد بها ، وتخشع كما جعل للجبال أفهاماً حتى اشتغلت بتسبيح الله وظهر اسم التجلي فيها ، كما قال تعالى : { فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً } [ الأعراف : 143 ] .
قال القشيري رحمه الله : « وفي نظر؛ لأن الجبل عين ، فيمكنُ أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة ، وأمَّا الظلال ، فآثار وأعراض ، ولا يتصور تقدير الحياة لها » .
وقيل : المراد من سجود الظلال [ ميلانها ] من جانب إلى جانب ، وطولها بسبب انحطاطِ الشمس ، وقصرها بسبب ارتفاع الشمس ، وهي منقادة [ مستسلمة ] في طولها ، وقصرها وميلها من جانب إلى جانب ، وإنَّما خص الغدو ، والآصال بالذِّكر؛ لأنَّ الظلال إنما تعظم ، وتكثر في هذين الوقتين « .
و » الآصَال « جمع الأُصُل ، والأُصل : جمع الأصيل ، وهو ما بين العصر إلى غروب الشمس .
وقيل : » ظِلالُهمْ « ، أي : أشخاصهم بالغدو ، والآصال بالبكر والعشايا .
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
قوله تعالى : { قُلْ مَن رَّبُّ السماوات والأرض } الآية لما بيَّن أنَّ كل من في السَّموات ، والأرض ساجد لله بمعنى كونه خاضعاً له؟ ، عدل إلى الرَّد على عبدة الأصنام فقال : { قُلْ مَن رَّبُّ السماوات والأرض قُلِ الله } ولمَّا كان هذا الجواب يقرّ به المسئولُ ويعترف به ، ولا ينكره ، أمره عليه الصلاة والسلام أن يكون هو الذاكر لهذا الجواب تنبيهاً على أنهم لا ينكرونه ألبتَّة .
قال القشيري : « ولا يبعد أن تكون الآية واردة فيمن لا يعترف بالصانع ، أي : سلهم عن خالق السموات والأرض؛ فإنه يسهل تقرير الحجة عليهم ويقربُ الأمر من الضرورة ، فإن عجز الجماد ، وعجز كل مخلوق عن خالق السموات ، والأرض معلوم » ؟
ولما بين الله أنَّه هو الرب لكلِّ الكائنات [ قاله له ] : قل لهم على طريق الإلزام للحجة فلم اتخذتم من دونه أولياء ، وهي جمادات ، وهي لا تملكُ لأنفسها نفعاً ، ولا ضرًّا ، ولما كانت عاجزة عن تحصيل المنفعة [ لأنفسها ، ودفع المضرة عن نفسها ، فلأن تكون عاجزة عن تحصيل المنفعة ] لغيرها ، ودفع المضرة عن غيرها بطريق الأولى ، وإذا كانت عاجزة عن ذلك كانت عبادتها محض العبث ، والسَّفه ، ولما ذكر هذه الحجة الظاهرة بين أنَّ الجاهل بمثل هذه الحجة لا يساوي العالم بها .
فقال : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظلمات والنور } قرأ الأخوان ، وأبو بكر عن عاصم : « يَسْتَوِي » بالياء من تحت ، والباقون بالتاء من فوق ، والوجهان واضحان باعتبار أن الفاعل مجازي التَّأنيث ، فيجوز في فعله التذكير ، والتأنيث ، كنظائر له مرت . وهذه مثل ضربه اللهُ سبحانه وتعالى للكفَّار؟
قوله : « أمْ هَلْ » هذه أم المنقطعة ، فتقدر ب « بل » ، والهمزة عند الجمهور ، وب « بل » وحدها عند بعضهم ، وقد تقدَّم تحريره ، وهذه الآية قد يتقوى بها من يرى تقديرها ب « بَلْ » فقط بوقوع : « هَلْ » بعدها ، فلو قدَّرناها ب « بَلْ » والهمزة لزم اجتماع حرفي معنى؛ فتقدرها ب « بل » وحدها ، « ولا » تقويةٌ له ، فإن الهمزة قد جامعت : « هَلْ : في اللفظ ، كقوله الشاعر : [ البسيط ]
3173 ...
أهَلْ رَأوْنَا بِوادِي القُفِّ ذي الأكَمِ
فأولى أن يجامعها تقديراً .
ولقائل أن يقول : لا نسلم إنَّ : » هَلْ « هذه استفهاميَّة ، بل بمعنى : » قَدْ « ، وإليه ذبله جماعةٌ ، وإن لم تجامعها همزة ، كقوله تعالى : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر } [ الإنسان : 1 ] أي : قد أتى ، فههنا أولى ، والسماع قد ورد بوقوع : » هَلْ « بعد : » أم « وبعدمه . فمن الاول هذه الآية ، ومن الثاني : ما بعدها من قوله : » أمْ جَعلُوا « .
وقد جمع الشاعر بين الاستعمالين في قوله : [ البيسط ]
3175
هَلْ مَا عَلمْتَ ومَا اسْتُودعْتَ مكْتومُ ... أمْ حَبْلُهَا إذ نَأتْكَ اليَوْمَ مَصرُومُ
أمْ هَلْ كثيرٌ بَكَى لمْ يَقْضِ عَبرتَهُ ... إثْرَ الأحِبَّة يَوْمَ البَيْنِ مَشْكُومُ
فصل
قوله : { هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير } كذلك لايستوي المؤمن ، والكافر : { أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظلمات والنور } اي كما لا تستوي الظلمات والنور ، لايستوي الكفر ، والإيمان .
قوله : { أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ } الجملة من قوله : « خَلقُوا » صفة ل : « شُرَكاءَ » ، { فَتَشَابَهَ الخلق عَلَيْهِمْ } ، أي : اشتبه ماخلقوه بما خلقه الله عزَّ وجلَّ فلا يدرون ما خلق الله ، وما خلق آلهتهمخ .
والمعنى : أنَّ هذه الأشياء الَّتي زعموا أنها شركاء لله ليس لها خلق يشبه خلق الله حتَّى يقولوا : إنها تشارك الله في الخالقيَّة؛ فوجب أن تشاركه في الإلهيَّة بل هؤلاء المشركون يعلمون بالضرورة أنَّ هذه الأصنام لم يمصدر عنها فعلٌ ، ولا خلق ، ولا أثر ألبتة ، وإذا كان كذلك كان حكمهم بكونها شركاء لله في الإلهيَّة محض السَّفه ، و الجهل .
فصل
قال ابن الخطيب : « زعمت المعتزلة أنَّ العبد يخلق حركات ، وسكنات مثل الحركات ، والسكنات التي يخلقها الله ، وعلى هذا التقدير : فقد { جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ } والله تعالى إنما ذكر هذه الآية في معرض الذَّم ، والإنكارِ؛ فدلت على أنَّ العبد لا يخلق أفعال نفسه » .
قال القاضي : « نحن وإن قلنا : » إنَّ العبد يخلق إلاَّ أنَّا لا نطلق القول بأنه يخلق كخلق الله؛ لأن أحداً ما يفعل كقدرة الله ، وإنما يفعل لجلب منفعة ، ودفع مضرة ، والله تعالى منزه عن ذلك؛ فثبت أنَّ بتقدير كون العبدِ خالقاً إلا أنَّه لا يكون خلقه كخلق الله ، وأيضاً : فهذا الإلزامُ للمجبرة أيضاً؛ لأنَّهم يقولون عين ما هو خلق الله تعالى فهو كسبٌ للعبد ، وفعلٌ له ، وهذا عين الشرك؛ لأنَّ الإله ، والعبد في ذلك الكسب كالشريكين اللذين لا مال لأحدهما إلا وللآخر فيه أيضاً نصيبٌ ، وهو أنه ، تعالى إنَّما ذكر هذا الكلام عيباً للكفَّار أن يقولوا : إنَّ الله تعالى خلق هذا الكفر فينا؛ فلم يذمنا ، ولم ينسبنا للجهل ، والتقصير ، مع أنه حصل فينا بغير فعلنا ، ولا باختيارنا « .
والجواب عن الأول : هو أنَّ لفظ الخلق عبارة عن الإخراج من العدم إلى الوجود ، أو عبارة عن التقديرين ، وعلى الوجهين : فبتقدير أن يكون العبد محدثاُ ، فإنه لا بد أن يكون حادثاً ، أما قوله : والعبد وإن كان خالقاً إلاَّ أنه ليس خلقه كخلق الله تعالى .
قلنا : الخلق عبارةٌ عن الإيجاج التكوين والإخراج من العدم إلى الوجود ، ومعلومٌ أنَّ الحركة الواقعة بقدرة العبد لما كانت مثلاً للحركة الواقعة بقدرة الله تعالى كان أحد المخلوقين مثلاً للمخلوق الثاني ، وحينئذ يصحُّ أن يقال : إنَّ هذا الذي هو مخلوقٌ للعبد مثل لما هو مخلوق لله تعالى ، ولا شك في حصول المخالفة في سائر الاعتبارات ، إلاَّ أنَّ حصول المخالفة في سائر الوجوه لا يقدح في المماثلة من هذا الوجه ، وهذا القدر يكفي في الاستدلال .
وأما قوله : « هذا لازم على المجبرة حيث قالوا : إنَّ فعل العبد مخولق لله تعالى » .
فنقول : هذا غير لازم؛ لأنَّ هذه الآية [ دالة ] على أنَّه لا يجوز ِأن يكون العبد مثلاً كخلق الله تعالى ونحن لا نثبت للعبد خلقاً ألبتَّة ، فكيف يلزمنا ذلك؟ .
وأما قوله : « لو كان فعل العبد خلقاً لله لما حسن ذمُّ الكفَّار على هذا المذهب » .
قلنا : حاصلة يرجع إلى أنَّه لما حصل الوجود ، وجب أن يكون العبد مستقلاً بالفعل وهنو منقوض؛ لأنَّه تعالى ذمَّ أبا لهب على كفره مع أنَّه علم منه أنَّه يموت على الكفر ، وخلاف المعلوم محال الوقوع .
قوله : { قُلِ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الواحد القهار } وهذا يدلُّ على أنَّ فعل العبد مخولق لله تعالى ؛ لأنَّ فعل العبد شيء ، فوجب أن يكون خالقه هو الله تعالى وأيضاً : فقوله : { وَهُوَ الواحد القهار } لا يقال فيه : إنه تعالى واحد في أي المعاني ، بل الواحد في الخالقية؛ لأن المذكور السابق هو الخالقية ، فوجب أن يكون المراد هو الواحد في الخالقية ، القهار لكل ما سواه .
فصل
زعم جهم أن الله تعالى لا يقع عليه اسم الشيء .
قال الخطيب : « وهذا الخلاف ليس إلا في اللفظ ، وهو أن اسم الشيء هل يقع عليه أم لا؟ فزعم قوم أنهن لا يقع ، وجوّزه قومٌ » .
واحتج المانعون : بأنه لو كان شيئاً لوجب أن يكون خالقاً لنفسه ، لقوله تعالى : { خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [ الزمر : 62 ] وذلك محالٌ؛ فثبت أنه لا يقع عليه اسم الشيء ، ولا يقال : إنَّ هذا عام دخله التخصيص؛ لأنَّ العام المخصوص إنَّما يحسن إذا كان المخصوص أقل من الباقي ، وأحسن منه ، كما يقال : هذه الرُّمَّانة مع أنَّه سقطت حبات ما أكلها ، وههنا ذات الله أعلى الموجودات ، وأشرفها ، فكيف يمكن ذكر اللفظ العام الذي يتناوله مع كون الحكم مخصوصاً في حقِّه .
واستدلُُّوا أيضاً بقوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] ٍ والمعنى : ليس مثل مثله شيء ، ومعلوم أن كل حقيقة [ فإنها ] مثل مثل نفسها ، فالباري تعالى مثل مثل نفسه مع أنه تعالى نصَّ على أنَّ مثل مثله ليس بشيء ، فهذا تنصيصٌ على أنه تعالى غير مسمى باسم الشيءِ .
واستدلُّوا أ يضاً بقوله تعالى :
{
وَللَّهِ الأسمآء الحسنى فادعوه بِهَا } [ الأعراف : 180 ] قالوا : دلَّت على أنه لا يجوز أن يدعى الله إلا بالأسماء الحسنى ، ولفظ الشيء يتناول أحد الموجودات ، فلا يكون هذا اللفظ مشعراً بمعنى حسن؛ فوجب ألاَّ يجو دعاء الله بهذا اللفظ .
وتمسك من جوَّز إطلاق هذه التسمية عليه بقوله تعالى : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 19 ] .
وأجاب الألولون : بأنَّ هذا سؤال متروك الجواب ، وقوله : { قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 19 ] مبتدأ مستقل بنفسه لا تعلق له بما قبله .
فصل
تمسَّك المعتزلة بهذه الآية في أنَّه تعالى عالم لذاته لا بالعلم وقادر لذاته لا بالقدرة ، وقالوا : لأنه لو حصل لله تعالى علم ، وقدرة وحياة لكانت هذه الصفات إمَّا أن تحصل يخلق الله تعالى أو لا تحصل بخلق الله والأول باطل ، وإلا لزم التسلسل ، والثاني باطلٌ؛ لأنََّ قول الله تعالى : { خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [ الزمر : 62 ] يتناول الذات ، والصفات حكمنا بدخول التخصيص في ذات الله تعالى ؛ فوجب أن يبقى على عمومه في سائر الأشياء ، والقرآن ليس هو الله؛ فوجب أن يكون مخلوقاً لدخوله في هذا العموم .
والجواب أن يقال : أقصى ما في الباب أنَّ الصِّيغة عامة؛ لأن تخصيصها في حق صفات الله تعالى بالدلائل العقليَّة .
قوله تعالى : { أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً } الآية لما شبَّه المؤمن والكافر ، والإيمان ، والكفر بالأعمى ، والبصير ، والظلمات ، والنور ، ضرب للإيمان ، والكفر مثلاً آخر فقال : { أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً } « أنْزلَ » يعني الله : { مِنَ السمآء مَآءً } يعني المطر « فَسَالتْ » من ذلك الماء : { أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } أي : في الصغر ، والكبر { فاحتمل السيل } الذي حدث من ذلك الماء : { زَبَداً رَّابِياً } الزّبد : الخبث الذي يظهر على وجه الماء وكذلك على وجه القدر « رَابِياً » أي : عالياً مرتفعاً فوق الماءِ ، فالماءُ الصًّافي الباقي هو الحق ، والذاهب الزائل الذي يتعلق بالأشجار ، وجوانب الأودية هو الباطل .
وقيل : هذا مثل القرآن : { أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً } وهو القرآن ، والأودية : قلوب العباد ، يريد : ينزل القرآن ، فيحتمل منه القلوب على قدر اليقينِ ، والعقل والشك وكما أنَّ الماء يعلوهُ زيدٌ ، والأجساد يخالطها خبثٌ ، ثمَّ إنَّ ذلك الزبد ، والخبث يذهب ، ويضيع ، ويبقى جوهر الماء ، وجوهر الأجساد السبعة ، كذلك ههنا بيانات القرآن يختلط بها شكوك وشهبات ، ثمَّ إنها تزول بالآخرة وتضيع ويبقى العلم والدين والحكمة في العاقبة كذلك ههنا؟
قوله : « أوْديَةٌ » جمع وادٍ ، وجمع فال على أفعلة ، قال أبو البقاءِ : « شاذٌّ ، ولم نسمعه في غير هذا الحرف . ووجهه : أنَّ فاعلاً قد جاء بمعنى فعيل ، وكما جاء فعيل وأفعلة كَجرِيب وأجْرِبَة كذلك فاعل » .
قال شهابُ الدين : « قد سمع فَاعِلَة ، وأفْعِلَة في حرفين آخرين :
أحدهما : قولهم جَائِر وِأجْوِرَة .
والثاني : نَادجٍ وأنْجِيَة » .
وقال الفارسي : « أودية : جع واد ولا نعلم فاعلاً جمع على أفْعِلَة ، قال : » ويشبه أن يكون ذلك لتعاقب فاعل ، وفعيل على الشيء الواحد ، كعَالِم وعَلِيم ، وشَاهِد وشَهِيد ، ونَاصِر ونَصِير ، ووزن فاعل يجمع على أفعالٍ كصاحب وأصحابٍ ، وطائرْ وأطيارٍ ، [ ووزن ] فعيلٍ يجمع على أفْعِلَة كجَرِيبٍ ، وأجْرِبَة ، ثم لما حصلت المناسبة المذكورة بين فاعل ، وفعيل لا جرم يجمع الفاعل جمع العفيل ، فيقال : وادٍ وأودية ، ويجمع الفعيل على جمع الفاعل فيقال : يَتِيمٌ وأيْتامٌ ، وشَرِيفٌ وأشْرافٌ « .
وقال غيره : ن ظير وادٍ ، وأوْدِيَة : نادٍ ، وأنْديَة للمجالس وسمي وادِياً : لخروجه وسيلانه ، والوادي على هذا اسم للماء السَّائل .
وقال أبو علي : » سَالتْ أوْديةٌ « فيه توسع ، أي : يسالُ ماؤها فحذف ، ومعنى » بِقدَرِهَا « أي : بقدر مياهها؛ لأنَّ الأودية ما سالت بقدرِ نفسها » .
قوله : « بِقَدِرهَا » فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلقٌ ب : سَالَتْ « .
والثاني : أنَّه متعلق بمحذوف؛ لأنه صفةٌ للأودية .
وقرأ العامة بفتح الدال ، وزيد بن عليّ ، والأشهب العقيلي ، وأبو عمرو في رواية بسكونها ، وقد تقدَّم في البقرة .
قال الواحدي رحمه الله : القَدْرُ والقَدَر : مبلغ الشَّيء ، يقال : كم قَدْر هذه الدَّراهم وقَدَرُهَا ومِقْدَارُها؟ أي : كم بلغ في القدر وما يكون مساوياً لها في الوزن فهو قَدرُوهَا » .
والمَعنى : بدقرها ، من الماء فإن صغر الوادي قل الماء ، وإن اتَّسع الوادي كثر الماء .
و « احْتَمَلَ » بمعنى حَمَلَ فافتعل بمعنى المجرَّرد ، وإنَّما نكَّر الأودية ، وعرف السيل؛ لأنَّ المطر ينزلُ في البقاع على المناوبة ، فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض ، وعرف السي؛ لأنه قد فهم من الفعل قبله ، وهو قوله : « فَسَالَتْ » ، وهو لو نُكِّر لكان نكرة ، فلمَّا أعيد أعيد بلفظ التَّعريف نحو « رَأْتَ رجُلاً فأكْرَمْتُ الرَّجُلَ » .
والزَّبدُ : وضرُ الغليان وخبثه؛ قال النابغة : [ البسيط ]
3176
فَمَا الفُرَاتُ إذا هَبَّ الرِّياحُ لَهُ ... تَرْمِي غَوارِبهُ العِبْرَيْنِ بالزَّبدِ
وقيل : هو ما يحمله السِّيل من غثاءٍ ونحوه ، وما يرمى به ضَفَّتاه من الحباب ، وقيل : هو ما يطرحه الوادي إذا [ سال ] ماؤه ، وارتفعت أمواجه ، وهي عباراتٌ متقاربةٌ .
والزَّبدُ : المستخرج من اللَّبن . قيل : هو مشتقٌّ من هذه لمشابهته إيَّاه في اللون ، ويقال : زبدته زبداً ، أي : أعطيته مالاً كالزَّبدِ يضرب به المثل في الكثرةِ ، وفي الحديث : « غُفِرتْ ذُنوبهُ ، ولوْ كَانتْ مِثْلَ زَبدِ البَحْرِ » .
وقوله تعالى : « رَابِياً » قال الزجاج : طافياً عالياً فوق الماءِ « .
وقال غيره : زائداً بسب انتفاخه ، يقال : رَبَا يربُوا إذا زاد .
قوله { وَمِمَّا يُوقِدُونَ } هذا الجار خير مقدم ، و » زَبدٌ « مبتدأ ، و » مثْلُهُ « صفة المبتدأ ، والتقدير : ومن الجواهر التي هي كالنُّحاسِ ، والذهب ، والفضة زبد ، أي : خبثن مثله ، أي : » مِثْل زبدِ الماءِ « .
و « مِنْ » في قوله : { وَمِمَّا يُوقِدُونَ } تحتمل وجهين :
[
أحدهما ] : أن تكون لابتداء الغاية ، أي : ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماءِ .
والثاني : أنَّها للتبعيض بمعنى : وبعض زبد ، هذا مثل آخر .
فالأول : ضرب المثل بالزَّبد الحاصل من المثال ، ووجه المماثلة : أنَّ كلاَّ منهما ناشىء من الأكدار .
وقرأ الأخوان ، وحفص : « يُوقدُون » بالياء من تحت ، أي : النَّاس ، والباقون بالتاء من فوق على الخطاب ، و « عَليْهِ » متعلق ب : « تُوقِدُونَ » .
وأمَّا « فِي النَّار » ففيه وجهان :
أحدهما : أنَّه متعلق ب « تُوقِدُونَ » وهو قول الفارسي ، والحوفي ، وأبي البقاء .
والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوف ، أي : كائناً ، أو ثابتاً ، قاله مكيٌّ ، وغيره ومنعوا تعلُّقه ب « يُوقِدُونَ » ؛ لأنهم زعموا أنَّه لا يوقد على الشَّيء إلا وهو في النَّار ، وتعليق حرف الجر ب « تُقِدُونَ » يقتضي تخصيص حال من حال أخرى ، وهذ غيرُ لازمٍ .
قال أبو علي رحمه الله تعالى : وقد يُوقَدُ على الشَّيء ، وِإن لم يكن في النَّار ، كقوله تعالى : { فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين } [ القصص : 28 ] فالطينُ لم يكن [ فيها ] ، وإنَّما يصيبه لهبها ، وأيضاً : فقد يكون ذلك على سبيل التَّوكيد ، كقوله تعالى : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] . والمراد بالحيلةِ : الذهب ، والفضة ، والمتاع : كل ما يتمتع به .
قوله : « ابْتِغاءَ حِليَةةٍ » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه مفعول من أجله .
والثاني : أنه مصدر في موضع الحالِ ، أي : مبتغين حلية ، و « حِليَةٍ » مفعولٌ [ في ] المعنى ، « أوْ مَتاعٍ » نسق على « حِيلْيةٍ » .
فالحِليَةُ : ما تتزين به . والمتَاعُ : ما يقضون به حوائجهم كالمساحي من الحديد ونحوها .
قوله : « جُفَاءً » حالٌ ، والجفاء : قال ابن الأنباري : المتفرق ، يقال : جفأتِ الرِّح السَّحاب ، أي : قطعته وفرقته ، وقال الفراء : الجفاءُ : الرَّمي ، والاطراحُ .
يقال : جَفَا الوادي ، أي : غُثَاءه يجفوهُ : جفاءً ، إذا رماه ، والجفاء اسم للمجتمع منه [ المنضمّ ] بعضه إلى بعض ، ويقال : جفَأتِ القِدرُ بزُبْدِهَا تَجْفَأ ، وحفاءُ السَّيل : زبده ، وأجْفَأ وأجْفَلَ وباللام قرأ رؤبة بن العجاج .
قال أبو حاتم : لا يقرأ بقراءة رؤبة؛ لأنَّه كان يأكل الفأر ، يعني أنه أعرابي جاف وقد تقدم ثناء الزمخشري عليه أوَّل البقرة ، وذكروا فصاحته ، وقد وجَّهوا قراءته بأنها من أجفأت الرِّح الغيم ، أي : فرقته قطعاً ، فهي في المعنى كقراءة العامة بالهمزة .
وفي همزة « جَفَأ » وجهان :
أظهرهما : أنها أصل لثبوتها في تصاريف هذه المادة .
والثاني : أنه بدل من واو ، وكأنه مختار أبي البقاء .
وفيه نظر؛ لأن مادة « جَفَا يَجْفُو » لا يليقُ معناها ، والأصل : عدم الاشتراك .
فصل
المعنى : أنَّ الباقي الصَّافي من هذه الجواهر مثل الحق ، والزَّبد الذي لا ينتفعُ به مثل الباطل ، فأمَّا الزَّبد الذي علا السيل والفلز ، فيذهب جفاء ، أي : ضائعاً باطلاً ، والجفاء ، ما رمى به الوادي من الزَّبد ، والقدر إلى جنباته .
والمعنى : أنَّ الباطل ، وإن علا في وقت فإنه يضمحلُّ ، ويبقى الحق ظاهراً لا يشوبه شيء من الشُّبهات .
قوله : { كذلك يَضْرِبُ الله } الكاف في محل نصب ، أي : مثل ذلك الضَّرب يضربُ .
قيل : إنَّما تمَّ الكلام عند قوله : { كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال } ثم استأنف الكلام بقوله تعالى : { لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ الحسنى } وملحه الرفع بالابتداء ، و « للذين » خبره ، وتقديره : لهم الخصلة الحسنى ، أو الحالة الحسنى .
وقيل : متصل بما قبله ، والتقدير : كأنه الذي يبقى ، وهو مثل المستجيب ، والذي يذهب جفاء مثل الذي لا يستجيب ، ثمَّ بين الوجه في كونه مثلاً ، أي : لمن يستجيب « الحُسْنَى » وهي الجنَّة ، ولمن لا يستجيب الحسرة والعقوبة .
وفيه وجه آخر : وهو أنَّ التقدير : كذلك يضرب الله الأمثال للذين استجابوا لربهم الحسنى ، أي : الاستجابة الحسنى .
واعلم أنه تعالى ذكر هاهنا أحوال السعداء ، وأحوال الأشقياء ، أما أحوال السعداء ، فهي قوله جل ذكره : { لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ الحسنى } ، أي : أنَّ الذين أجابوه إلى ما دعاهم إليه من التوحيد ، والتزام الشرائع ، فلهم الحسنى .
قال ابن عبَّاس : « الحُسْنَى » الجنَّة .
وأمَّا أحوال الأشقياء ، فهي قوله عزَّ وجلَّ : { والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ } ، أي لبذلوا ذلك يوم القيامة افتداءً من النار .
قوله : { لِلَّذِينَ استجابوا } فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه متعلقٌ ب « يَضْرِبُ » ، وبه بدأ الزمخشري قال : « أي : كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا؛ وللكافرين الذين لم يستجيبوا ، و » الحُسْنَى « صفة لمصدر » اسْتَجَابُوا « ، أي : استجابوا الاستجابة الحسنى ، وقوله { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض } كلام مبتدأ في ذكر ما أعدّ لغير المستجيبين » .
قال أ بو حيان : « والتفسير الأول أولى » يعني به أن « لِلَّذينَ » خبرٌ مقدمٌ و « الحُسْنَى » متبدأ مؤخَّر كما سيأتي .
إيضاحه قال : « لأن فيه ضرب الأمثال غير مقيد بمثل هذين ، والله تعالى قد ضرب أمثالاً كثيرة في هذهي وفي غيرهما؛ ولأنَّ فيه ذكر ثواب المتسجيبين بخلاف قول الزمخشري ، فكما ذكر ما لغير المستجيبين من العقاب ذكر للمستجيبين من الثواب؛ ولأن تقديره : الاستجابة الحسنى مشعرٌ بتقييد الاستجابةِ وما قبلها ليس نفي الاستجابة مطلقاً ، إنما مقابلها نفي الاستجابة الحسنى ، والله سبحانه وتعالى قد
نفى الاستجابة مطلقاً ، ولأنه على قوله يكون قوله : { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً } كلاماً مفلتا ممَّا قبله ، أو كالمفلتِ ، إذ يصير المعنى : كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين ، والكافرين لو أنَّ لهم ما في الأرض ، فلو كان التركيب بحذفِ رابط » لو « بما قبلها زال التفلت ، وأيضاً : فتوهم الاشتراك في الضمير ، وإن كان تخصيص ذلك بالكافرين معلوماً » .
قال شهاب الدين : « قوله : » لأن فيه ضرب الأمثال غير مقيَّد « ليس ف يقول الزمخشري ما يقتضي التّقييد ، وقوله : لأن فيه ذكر ثواب المستجيبين إلى آخر ما ذكره الزمخشري أيضاً . على أن يؤخذ من فحواه ثوابهم ، وقوله : » والله تعالى نفي الاستجابة مطلقاً « ممنوع ، بل نفى تلك الاستجابة الأولى لا يقال : فثبتت لنا استجابة غير حسنى؛ لأنَّ هذه الصفة لا مفهوم لها ، إذ الواقع أنَّ الاستجابة لله لا تكون إلا حسنى .
وقوله : » يصيرُ مُفْلتاً « كيف يكون مع قولِ الزمخشريِّ مبتدأ في ذكر ما أعدَّ لهم ، وقوله » وأيضاً فيتوهَّم الاشتراك « كيف يتوهّم هذا بوجه من الوجوه؟ وكيف يقول ذلك مع قوله : وإن كان تخصيصُ ذلك بالكافرين معلوماً؟ فإذا علم كيف يتوهَّم؟ » .
والوجه الثاني : : أن يكون « لِلَّذينَ » خبراً مقدماً ، والمبتدأ « الحُسْنَى » ، و { والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ } مبتدأ ، و خبره الجملة الامتناعيَّة بعده .
وإنَّما خصَّ بضرب الأمثال الذين استجابوا لانتفاعهم دون غيرهم ومفعول « افتَدَوا » محذوف ، تقديره : لا فتدوا به أنفسهم ، أي : جعلوه فداء أنفسهم من العذاب ، والهاء في « بِهِ » عائد إلى : « مَا » في قوله : « مَافي الأرضِ » .
ثم قال : { أولئك لَهُمْ سواء الحساب } .
[
قال الزجاج : وذلك لأن كفرهم أحبط أعمالهم .
وقال إبراهيم النخعي رضي الله عنه : سوء الحساب ] أن يحاسب الرجل بذنبه كله ، ولا يغفر له منه شيء « ومَأوَاهُمٍ » في الآخرة : { جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد } والفراشُ ، أي : بئس ما مهد لهم .
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
قوله تعالى : { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق } الآية قد تقدَّم تقرير القولين في « أفَلمْ » وهو نظيرُ « أفَمَنْ » ، ومذهب الزمخشريِّ فه بعد هنا .
والمعنى : أنَّ العالم بالشَّيء كالبصير ، والجاهل به كالأعمى ، وليس أحدهما كالآخر ، لأن الأعمى إذا مشى من غير قائدٍ ، فرُبَّما وقع في المهالك ، أو أفسد ما كان في طريقهن من الأمتعة النافعة ، وأمَّا البصير ، فإنه يكون آمناً [ الهلاك ] ، والإهلاك .
قيل : نزلت في حمزة ، وأبي جهلٍ ، وقيل : في أبي عمَّار ، وأبي جهلٍ ، فالأوَّل حمزة ، أو عمَّار ، والثاني : أبو جهل ، وهو الأعمى ، أي : لا يستوي من من يبصر الحق ويتبعه ، ومن لا يبصره ، ولا يتبعه . { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ } يتعظ { أُوْلُواْ الألباب } ذوو العقول .
{
الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله } بما أمرهم به ، وفرضه عليهم ، ولا يخالفونه . ويجوز أن يكون قوله : { الذين يُوفُونَ } صفة ل « أولي الألباب » ، ويجوز أن يكون صفة لقوله عز وجل : { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق } .
وقيل : { الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله } مبتدأ : و { أولئك لَهُمْ عقبى الدار } خبره لقوله تعالى : { والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله } [ الرعد : 25 ] أولئك لهم اللعنة . وهذه الآية من أوَّلها إلى آخرها جملة واحدة شرطيَّة ، وشرطها مشتملٌ على قيودٍ .
القيد الأول قوله : { الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله } قال ابن عباسٍ رضي الله عنه : يريد الذين عاهدهم حين كانوا في صلب آدم صلوات الله وسلامه عليه : { وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } [ الأعراف : 32 ] وقيل : المراد ب « عَهْدِ اللهِ » كل أمرٍ قام الدليل على صحَّته .
والقيد الثاني : قوله سبحانه : { وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق } ، وهذا قريبٌ من الوفاء بالعهد؛ فإن الوفاء بالعهد قريب من عدم نقض الميثاق؛ فهما متلازمان .
وقيل : الميثاق ما وثقه المكلف على نفسه من الطاعات كالنذر ، والوفاء بالعهد ما كلف العبد به ابتداء .
وقيل : الوفاءُ بالعهدِ : عهد الربوبيَّة ، والعبودية ، والمراد بالميثاق : المواثيق المذكورة في التوراة والإنجيل وسائر الكتب الإلهية على وجوب الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم عند ظهوره .
وقيل : المراد من الوفاء بالعهد : أن لا يغدر فيه ، قال عليه أفضل الصلاة والسلام : « مَنْ عَاهدَ اللهَ فَغَدرَ كَانَ فِيهِ خَصْلةٌ مِنَ النِّفاقِ » .
القيد الثالث : قوله تعالى : { والذين يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ } .
قيل : أراد به الإيمان بجميع الكتب والرسل ، و : { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] .
وقال الأكثرون : المراد صلة الرَّحم .
فِإن قيل : الوفاء بالعهد ، وترك نقض الميثاقِ اشتمل على وجوب الإتيان بجميع المأمورات ، والاحتراز عن كل المنهيات . فما الفائدة في ذكر هذه القيود بعدهما؟
فالجواب من وجهين :
[
الأول ] : ذكر ذلك لئلا يظنَّ طانٌّ أنَّ ذلك ، فيمابينهن ، وبين ربه ، فلا جرم أفرد ما بينه ، وبين العباد ، بالذكر .
والثاني : أنه تأكيدٌ ، وفي [ تفسير ] هذه الصِّلة وجوه :
أحدهما : صلة الرَّحم ، قال صلوات الله وسلامه عليه حاكياً عن ربِّه عز وجل أنا الرَّحمنُ ، وهِيَ الرَّحمُ شققتُ لها اسماً من اسْمِي فمنْ وصلها وصلتهُ ومن قَطهَا [ قَطَعْتُهُ ] قال تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض وتقطعوا أَرْحَامَكُمْ } [ محمد : 22 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : « ثَلاثَةٌ يَأتِينَ يَوْمَ القِيامة لها ذَلَق : تأتي الرَّحِمُ تقول : أيْ ربِّ قُطِعْتُ ، والأمَانَةُ تقول : أي ربِّ تُركت ، والنِّعمة تقول : أي ربِّ كُفِرْتُ » .
وثانيها : المراد صلة محمدٍ صلى الله عليه وسلم ومؤازرته ونصرته في الجهادِ .
وثالثاً : رعاية جميع الحقوق الواجبة للعباد ، فيدخل فيه صلة الرَّحم ، وأخوة الإيمان قال تعالى : { إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ } [ الحجرات : 10 ] ويدخل في هذه الصلة أيضاً إمدادهم بالخيرات ، ودفع الآفات بقدر الإمكان ، وعيادة المرضى ، وشهود الجنائز ، وإفشاء السلام والتبسم في وجوههم ، وكف الأذى عنهم ، ويدخل فيه كل حيوان حتى الهرة ، والدجاجة .
القيد الرابع : قوله : « وَخْشَوْنَ ربَّهُمْ » معناه : أنَّ العبد ، وإن قام بكُلِّ ما جَاءَ عليه من تعظيم الله ، والشفقة على خلق الله إلا أنه لا بد من وأن تكون الخشية من الله عز وجل والخوف منه مستويان .
والفرق بين الخشية ، والخوف : أنَّ الخشية أن تخشى وقوع خلل إمَّا بزيادةٍ ، أو نقصٍ فيما يأتي به ، والخوفُ : هو مخافة الهيبة والجلال .
القيد الخامس : قوله عز وجل : { وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ } .
وهذا القيد هو المخافة من سوءِ الحسابِ ، وهو خوف الجلال ، والعظمة ، والمهابة ، وإلا لزم التكرار .
القيد السادس : قوله تعالى : { وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِمْ } .
قال ابن عبَّاسِ رضي الله عنهما : « عَلى أمْرِ اللهِ » . وقال عطاء : « على المصائب » . وقيل : على الشَّهوات .
واعلم أنَّ العبد قد يصبر لوجوه :
إما أن يصبر ليقال : ما أصبره ، وما أشد قوته على تحمل النَّوائب .
وإما أن يصبر لئلا يعاب على الجزع .
وإما أن يصبر لئلا تحصل شماتة الأعداء ، وإما أن يصبر لعلمه أنَّ الجزع لا فائدة فيه .
فإذا كان أتى بالصَّبر لأحد هذه الوجوه ، لم يكن داخلاً في كمالِ النفس ، أمَّا إذا صبر على البلاء لعلمه أن البلاء قسمة القاسم الحكيم العلام المنزه عن العبث ، الباطل ، والسَّفه وأنَّ تلك القسمة مشتملةٌ على حكمةٍ بالغةٍ ، ومصلحةٍ راجحةٍ ، ورضي بذلك؛ لأنَّه لا اعتراض على المالك في تصرُّفه في ملكه ، فهذا هو الذي يصدق عليه أنه صبر ابتغاء وجه ربه؛ لأنه صبر لمجرَّد طلب رضوان الله .
القيد السابع : قوله تعالى : { وَأَقَامُواْ الصلاة } واعلم أنَّ الصَّلاة ، والزَّكاة ، وإن كانتا داخلتين في الجملة الأولى ، إلاَّ أنه تعالى أفردهما بالذِّكر تنبيهاً على كونهما أشرف سائر العبادات ، ولا يتمنع دخول النَّوافل فيه أيضاً .
القيد الثامن : قوله تعالى : { وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } قال الحسنُ رضي اكلله عنه : المراد الزكاة المفروضة فِإن لم يتَّهم بتركها أدَّاهَا سرًّا ، وإن اتهم بتركها فالأولى أداؤها في العلانية . وقيل : السرُّ : ما يؤديه بنفسه ، والعلانية : ما يؤديه إلى الإمام .
وقيل : العلانية : الزكاة ، والسر : صدقة التَّطوع .
القيد التاسع : قوله تعالى : { وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة } قيل : إذا أتوا المعصية ، درءوها ، أو دفعوها بالحسنة .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : « يدفعون بالصَّالح من العمل السيّىء من العمل ، وهو معنى قوله تعالى : { إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } [ هود : 14 ] .
وقال صلوات الله وسلامه عليه لمعاذ بن جبلٍ رضي الله عنه : » إذا عَملْتَ سَيِّئةً فاعْمَلْ بِجَنْبهَا حَسَنةً تَمْحُهَا ، السِّرُّ بالسِّرِّ ، والعَلانيةُ بالعَلانِيَة « .
وقيل : لا تقابلوا الشَّر بالشَّر ، بل قابلوا الشَّر بالخير ، كما قال تعالى : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } [ الفرقان : 72 ] { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [ الفرقان : 63 ] قال الحسن : إذا حرموا أعطوا ، وإذا ظلموا عفوا ، وإذا قطعوا وصلوا .
قال عبدالله بن المبارك رضي الله عنه : » فهذه ثماني خلال مشيرة إلى ثمانية أبواب الجنَّة « .
واعلم أنَّ هذه القيود هي القيودُ المذكورة في الشَّرط ، وأمَّا القيودُ المذكورة في الجزاء ، فهي قوله تعالى : { أولئك لَهُمْ عقبى الدار } ، أي عاقبة الدار ، وهي الجنَّة .
قال الواحديُّ : » العُقْبَى كالعاقبة ، ويجوز أن يكون مصدراً كالشُّورى والقُربى والرُّجعى ، وقد يجيء مثل هذا أيضاً على « فَعْلَى » كالنَّجْوى والدَّعوى وعلى « فِعْلَى » كالذِّكرى والضِّيزى ، ويجوز أن يكون اسماً وهو هاهنا مصدر مضاف إلى الفاعل ، والمعنى : أولئك لهم أن تعاقب أحوالهم الدار التي هي الجنة « .
قوله : » أؤْلئِكَ « مبتدأ ، و » عُقْبَى الدَّارِ « يجوز أن يكون مبتدأ خبره الجار قبله والجملة خبر » أوْلئِكَ « ، يجوز أن يكون » لهم « خبر » أولئك « و » عقبى « فاعل بالاستقرار . قوله : » جنات عدن « يجوز أن يكون بدلاً من » عُقْبَى « وأن يكون بياناً ، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر ، وأن يكون متبدأ خبره » يَدْخُلونهَا « .
وقرأ النخعي : » جَنَّة « بالإفراد ، وتقدم الخلاف في { يَدْخُلُونَهَا } [ الرعد : 13 ] والجملة من » يَدْخُلونَهَا « تحتمل الاستئناف أو الحالية المقدرة .
قوله : » ومَنْ صَلَحَ « يجوز أن يكون مرفوعاً عطفاً على الواو ، وأغنى الفصل بالمفعول عن التأكيد بالضمير المنفصل ، وأن يكون منصوباً على المفعول معه ، وهو مرجوح .
وقرأ ابن أبي عبلة » صَلُحَ « بضم اللام ، وهي لغة مرجوحة .
قوله : { مِنْ آبَائِهِمْ } في محل الحال من » مَنْ صَلَحَ « و » مِنْ « لبيان الجنس .
وقرأ عيسى الثقفي : « ذُرِّيتَهُم » بالتوحيد؟
فصل
قوله تعالى : { جَنَّاتُ عَدْنٍ } هو القيد الثاني ، وقد تقدم الكلام في { جَنَّاتُ عَدْنٍ } عند قوله { وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ } [ التوبة : 72 ] .
والقيد الثالث : هو قوله « ومَنْ صَلَحَ » قال ابن عباس : يريد من صدق بما صدقوا به وإن لم يعلم مثل أعمالهم .
وقال الزجاج : « بين تعالى أن الأنتساب لا تنفع إذا لم يحصل معه أعمال صالحة » ، بل الآباء والأزواج والذريات لا يدخلون الجنة إلا بالأعمال الصاحلة .
قال الواحدي : « والصحيح ما قاله ابن عباس؛ لأن الله تعالى جعل من ثواب المطيع سروره بحضور أهله في الجنة ، وذلك يدل على أنهم يدخلونها كرامة للمطيع ، الآتي بالأعمال الصالحة ، ولو دخلوها بأعمالهم الصالحة لم يكن في ذلك كرامة للمطيع ، فلا فائدة في الوعد به ، إذ كل من كان صالحاً في عمله فهو يدخل الجنة » .
قال ابن الخطيب : « وهذه الحجة ضعيفة؛ لأن المقصود بشارة المطيع بكل ما يزيده سروراً وبهجة ، فإذا بشر الله المكلف أنه إذا دخل الجنة يجد أباه وأولاده ، فلا شك يعظم سروره بذلك وهذا الذي قاله وإن كان فيه مزيد سرور ، لكنه إذا علم أنهم إنما دخلوا الجنة إكراماً له كان سروره أعظم وبهجته أتم » .
قوله : « وأزْوَاجُهُمْ » ليس فيه ما يدل على التمييز بين زوجة وزوجة ، ولعل الأولى من مات عنها أو ماتت عنه ، قاله ابن الخطيب .
وفيه نظر؛ لأنه لو مات عنها فتزوجت بعده غيره لم تكن من أزواجه ، بل الأولى أن يقال : إن من ماتت في عصمته فقط .
والقيد الرابع : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ } [ قيل : من أبواب الجنة ، وقيل : من أبواب القصور ، وقال الأصم : من كل باب ] من أبواب البر كباب الصلاة وباب الزكاة وباب الصبر ، يقولون : نعم ما أعقبكم الله بهذه الدار .
فصل
تمسّك بعضهم بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر فقال : ِإنه سبحانه ختم مراتب سعادات البشر بدخول الملائكة عليهم على سبيل التحية والإكرام والتعظيم والسلام ، فكانوا أجل مرتبة من البشر لما كان دخولهم عليهم موجباً علو درجتهم وشرف مراتبهم ، ألا ترى أن من عاد من سفره أو مرضه فعاده الأمير والوزير والقاضي والمفتي فتعظم درجته عند سائر الناس فكذا هاهنا .
قوله : { سَلاَمٌ عَلَيْكُم } الآية قال الزجاج : « ههنا محذوف تقديره والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ويقولون : سلام عليكم ، فأضمر القول ههنا؛ لأن في الكلام دليلاً عليه والجملة محكية بقول مضمر والقول المضمر حال من فاعل » يَدخُلون « أي يدخلون قائلين . قوله » بِمَا صَبرْتُمْ « متعلق بما تعلق به » عَلَيْكُمْ « .
قال ابن الخطيب : متعلق بمحذوف ، أي : أن هذه الكرامات التي ترونها إنما حصلت بصبركم و « ما » مصدرية ، أي : سبب صبركم ، ولا يتعلق ب « سَلامٌ » ، لأنه لا يفصل بين المصدر ومعموله بالخبر قاله أبو البقاء .
وقال الزمخشري : « ويجوز أن يتعلق ب » سَلامٌ « أي : نسلم عليكم ونكرمكم بصبركم » .
ولما نقله عنه أبو حيان لم يعترض عليه بشيء . والظاهر أنه لا يعترض عليه بما تقدم لأن ذلك في المصدر المؤول بحرف مصدري وفعل هذا المصدر ليس من ذلك ، والباء إما سببية كما تقدم ، وإما بمعنى بدل أي : بدل صبركم ، أي : بما احتملتم مشاق الصبر؟
وقيل : « بمَا صَبَرتُم » خبر مبتدأ مضمر ، أي : هذا [ الثواب ] الجزيل بما صبرتم .
وقرأ الجمهور : « فَنِعْمَ » بكسر النون وسكون العين ، وابن يعمر بالفتح والكسر وقد تقدم أنها الأصل؛ كقوله : [ الرمل ]
3177 ..
نَعِمَ السَّاعُون في الأمْرِ الشُّطُرْ
وابن وثاب بالفتح والسكون ، وهي تخفيف الأصل ، ولغة تميم تسكين عين فعل مطلقاً والمخصوص بالمدح محذوف ، أي : الجنة .
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
قوله : { والذين يَنقُضُونَ } مبتدأ ، والجملة من قوله { أولئك لَهُمُ اللعنة } خبره ، والكلام في « اللعنة » تقدم في « عُقْبَى الدَّارِ .
ولما ذكر صفة السعداء وما يترتب عليها من الأحوال الشريفة ، ذكر صفة الأشقياء وما يترتب عليها من الأحوال المخزية ، وابتع الوعد بالوعيد فقال عز وجل { والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ } وقد تقدم أن عهد الله ما ألزم عباده مما يجب الوفاء به وهذا في الكفار ، والمراد من نقض العهد : ألا ينظر في الأدلة وحينئذ لا يكون العمل بموجبها أو ينظر ويعلم صحتها ثم يعاند فلا يعمل بعمله أو ينظر في الشبهة فيعتقد خلاف الحق ، والمراد من قوله : » مِن بَعْدِ ميثاقهِ « أن وثق الله تلك الأدلة وأحكامها .
فإن قيل : العهد لا يكون إلا مع الميثاق ، فما فائدة اشتراطه بقوله : { مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ } ؟ .
فالجواب : لا يمتنع أن يكون المراد بالعهد هو ما كلف العبد به والمراد بالميثاق الأدلة؛ لأنه تعالى قد يؤكد [ العهد ] بدلائل أخر سواء كانت تلك المؤكدات دلائل عقلية أو سمعية .
ثم قال { وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ } فيدخل فيه قطع كل ما أوجب الله وصله مثل : أن يؤمنوا ببعض الأنبياء ويكفرون ببعض ، ويقطعون وصل الرسول بالموالاة والمعاونة ، ووصل المؤمنين ووصل الأرحام وسائر ما تقدم .
ثم قال : { وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض } إما بالدعاء إلى غير دين اكلله وإما بالظلم كما في النفوس والأموال وتخريب البلاد ثم قال : { أولئك لَهُمُ اللعنة } وهي الإبعاد من خيري الدنيا والآخرة { وَلَهُمْ سواء الدار } وهي جنهم .
قوله { الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ } الآية لما حكى عن ناقضي العهد في التوحيد والنبوة بأنهم ملعونين ومعذبون في الآخرة فكأنه قيل : لو كان أعداء الله لما أنعم عليهم في الدنيا؟ فأجاب الله تعالى عنه بهذه الآية وهو أنه تعالى يبسط الرزق على البعض ، وبسط الرزق لا تعلق له بالكفر والإيمان ، فقد يوجد الكافر موسعاً عليه دون المؤمن ، والدنيا دار امتحان .
قال الواجي : » ومعنى القدر في اللغة : قطع الشيء على مساوة غيره من غير زيادة ولا نقصان « .
وقال المفسرون في معنى » يَقْدرُ « ههنا : يضيق ، لقوله { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [ الطلاق : 7 ] ومعناه : أنه يعطيه بقدر كفايته لا يفضل عنه شيء .
وقرأ زيد بن علي : » ويَقْدُر « بضم العين .
قوله : » وفَرِحُوا « هذا استئناف إخبار . وقيل : بل هو عطف على صلة » الذين « قبل .
وفيه نظر؛ من حيث الفصل بين أبعاض الصلة بالخبر ، وأيضاً : فإن هذا ماض وما قبله مستقبل ولا يدعي التوافق في الزمان إلا أن يقال : المقصود استمرارهم بذلك أو أن الماضي متى وقع صلة صلح [ للماضي ] والاستقبال .
قوله « فِي الآخِرَةِ » ، أي في جنب الآخرة .
«
إلاَّ مَتاعٌ » وهذا الجار في موضع الحال تقديره : وما الحياة القريبة الكائنة في جنب الآخرة إلا متاع ولا يجوز تعلقه بالحياة ولا بالدنيا لأنهما لا يقعان إلا في الآخرة .
ومعنى الآية : أن [ مشركي ] مكة أشروا وبطروا ، والفرح : لذة في القلب بنيل المشتهى وفيه دليل على أن الفرح بالدنيا حرام محال { وَمَا الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ مَتَاعٌ } أي قليل ذاهب .
قوله : { وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } ألآية اعلم أن كفار مكمة قالوا : يا محمد فأجابهم الله بقوله { إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } .
وبيان كيفية هذا الجواب من وجوه :
أحدها : كأنه يقول : إن الله أنزل عليه آيات ظاهرة ومعجزات قاهرة ، لكن [ الإضلال ] والهداية من الله فأضلهم عن تلك الآيات وهدى إليها آخرين ، فلا فائدة في تكثير الآيات والمعجزات .
وثانيها : أنه كلام يجري مجرى التعجب من قولهم ، وذلك لأن الآيات الباهرة المتكاثرة التي ظهرت على رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام كانت أكثر من أن تصير مشتبه على العاقل فلما طلبوا بعدها آيات أخر كان في موضع التعجب والاستنكار ، فكأنه قيل لهم : ما أعظم عنادكم { إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ } من كان على صنيعكم من التصميم على الكفر فلا سبيل إلى هدايتكم وإن نزلت كل آية : « ويَهْدِي » من كان على خلاف صنيعكم .
وثالثها : لما طلبوا سائر الآيات والمعجمزات فكأنه قال لهم : لا فائدة في ظهور الآيات والمعجزات ، فإن الإضلال والهداية من الله تعالى فلو حصلت الآيات الكثيرة ولم تحصل الهداية من الله فإنه لم يحصل الانتفاع بها .
ورابعها : قال الجبائي : المعنى : أنه يضل من يشاء عن رحمته وثوابه عقوبة له على كفره فلستم ممن يجيبه الله تعالى إلى ما يسأل لاستحقاقكم الإضلال عن الثواب { ويهدي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } ، أي : يهدي إلى جنته من [ تاب ] وآمن . قال : وهذا يبين أن الهدى هو الثواب من حيث إنه عقبه بقوله : « من أناب » ، أي : من تاب .
والهدى الذي يفعله بالمؤمن هو الثواب؛ لأنه يستحقه على إيمانه وذلك يدل على أنه تعالى إنما يضل عن الثواب بالعقاب لا عن الدين بالكفر على ما ذهب إليه من خالفنا هذا تمام كلام الجبائي .
والضمير في « إليه » عائد على الله ، أي : إلى دينه وشرعه . وقيل على الرسول صلوات الله وسلامه عليه . وقيل : على القرآن .
قوله : { الذين آمَنُواْ } يجوز فيه خمسة أوجه :
أحدها : أن يكون مبتدأ خبره الموصول الثاني وما بينهما اعتراض .
الثاني : أنه بدل من « مَنْ أنَابَ » .
والثالث : أنه عطف بيان له .
الرابع : أنه خبر مبتدأ مضمر .
الخامس : أنه منصوب بإظمار فعل .
فصل
قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا سمعوةا القرآن خشتع قلوبهم واطمأنت .
فإن قيل : أليس قال في سورة الأنفال : { إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } [ الأنفال : 2 ] والوجل ضد الاطمئنان ، فكيف وصفهم هنا بالاطمئنان؟ .
فالجواب من وجوه :
أحدها : أ ، هم إذا ذكروا العقوبات ولم يأمنوا أن [ يقربوا ] المعاصي فهناك الوجل وإذا ذكروا ما وعد الله به من الثواب والرحمة سكنت قلوبهم ، فإن أحد الأمرين لا ينافي الآخر؛ لأن الوجل هو بذكر العقاب والطمأنينة بذكر الثواب .
وثانيها : أن المراد أن يكون القرآن معجزاً يوجب حصو الطمأنينة لهم في كون محمد صلى الله عليه وسلم نبياً حقاً من عند الله ، ولما شكوا في أنهم أتوا بالطاعات كاملة فيوجب حصول الوجل في قلوبهم .
وثالثها : أنه حصل في قلوبهم أنهم هل أتوا بالطاعات الموجبة للثواب أم لا؟ وهل احترزوا عن المصعية الموجبة للعقاب أم لا؟ .
وقيل : الوجل عند ذكر الله : الوعيد والعقاب ، الطمأنينة عند ذكر الله عزّ وجل : الوعد والثواب ، فالعقاب توجل إذا ذكرت عدل الله وشدة حسابه ، وتطمئن إذا ذكرت فضل الله وكرمه { أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب } تسكن قلوب المؤمنين ويستقر فيه اليقين .
قال ابن عباس رحمه الله : « هذا في الحلف ، يقول : إذا حلف السملم بالله على شيء تسكن قولب المؤمنين إليه » .
قوله { بِذِكْرِ الله } يجوز أن يتعلق ب « تَطْمئِنُّ » فتكون الياء سببية ، أي : بسبب ذكر الله .
وقال أبو البقاء : ويجوز أن مفعولاً به ، أي : الطمأنينة تحصل لهم بذكر الله .
الثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من « قلوبهم » ، أي : تطمئن وفيها ذكر الله .
قوله : { الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } فيه أوجه :
أن يكون بدلاً من « القُلوب » على حذف مضاف أي : قلوب الذين أمنوا وأن يكمون بدلاً من « مَنْ أنَابَ » ، وهذا على قول من لم يجعل الموصول الأول بدلاً من « مَنْ أنَابَ » وإلا كان يتوالى بدلان ، وأن يكون مبتدأ ، و « طُوبَى » جملة خبرية ، وأن تكون خبر مبتدأ مضمر ، وأن يكون منصوباً بإضمار فعل ، والجملة من « طُوبى لَهُمْ » على هذين الوجهين حال مقدرة ، والعامل فيها ءامَنُوا « و » عَمِلُوا : .
قوله « طُوبى لَهُم » وتاو « طُوبَى » منقلبة عن ياء ، لأنها من الطيب وإنما قلبت لأجل الضمة قبلها ، كموسر وموقن من اليسر واليقين واختلفوا فيها ، فقيل : هي اسم مفرد مصدري ، كبُشْرَى ورُجْعَى من طَابَ يطِيبُ .
وقيل : بل هي جميع طيبة ، كما قالوا : كوسى في جمع كيسة ، وضُوقَى في جمع ضِيقَة .
ويجوز أن يقال : طِيبى ، بكسر الباء ، وكذلك الكِيسَى والضِّيقَى . وهل هي اسم شجرة بعينها أو اسم للجنة بلغة الهند أو الحبشة؟ .
وجاز الابتداء ب « طُوبَى » إما لأنها علم لشيء بعينه ، وإما لأنها نكرة في معنى الدعاء ، كسلام عليك ، وويل لك ، كذا قال سيبويه .
وقال ابن مالك رحمه الله : « إنه يلتزم رفعها بالابتداء ، ولا يدخل عليها نواسخه » وهذا يرد عليه : أن بعضهم جعلها في هذا الآية منصوبة بإضمار فعل ، اي : وجعل لهم طوبى ، وقد تأيد ذلك بقراءة عيسى الثقفي « وحُسْنَ مآبٍ » بنصب النون ، قال : إنه معطوف على « طُوبَى » وأنها في موضع نصب .
قال ثعلب : و « طُوبَى » على هذا مصدر ، كما قال : « سقيا » .
وخرج هذه القراءة صاحب اللوامح على النداء ، كيا أسَفَى على الفوت ، يعنى أن « طُوبَى » مضاف للضمير معه واللام مقحمة؛ كقوله : [ البسيط ]
3178 . . ...
يَا بُؤسَ لِلجَهْلِ ضَرَّاراً الأقْوامِ
وقوله : [ مجزوء الكامل ]
3178
يَا بُؤسَ لِلحَرْبِ الَّتِي ... وضَعْتْ أرَاهِطَ قاستراحُوا
ولذلك سقط التنوين من « بُؤسَ : كأنه قيل : يا طيبا ، أي : ما أطيبهم وأحسن مآبهم .
قال الزمخشري : » ومعنى « طُوبَى لَكَ » : أصحبت خيراً ، و « طيبا » ومحلها النصب أو الرفع ، كقولك : طيبا لك وطيبٌ لك ، وسلاماً لك وسلام لك والقراءة ف يقوله « وحُسن مَآبٍ » بالنصب والرفع يدل على محلها ، واللام مفي « لَهُمْ » للبيان مثلها في « سقيا لك » فهذا يدل على أنها تتصربف ، ولا يلزم الرمفع بالابتداء .
وقرأ مكوزوة الأعرابي : « طِيبَى » بكسر الطاء لتسليم الياء ، نحو : بيض ومعيشة .
وقرىء : « وحُسْنَ مَآبٌ » بفتح النون ورفع « مآبٌ » على أنه فعل ماض ، أصله حَسُنَ فنقلت ضمة العين إلى الفاء قصداً للمدح ، كقوله : حسن ذا أدب ، و « مَآبُ » فاعله .
فصل
قال ابن عباس رضي الله عنهما : طوبى ، فرح لهم وقرة عين .
وقال عكرمة : نعم ما لهم . وقال قتادة : حسنى لهم .
وقال معمر عن قتادة : هذه كلمة عربية ، يقول الرجل : طوبى لك ، أي : أصبت خيراً .
وقال إبراهيم رحمه الله : خير لهم وكرامة . وقال الفراء : وفيه لغتان : تقول العرب : طوباك ، وطوبى لك ، أي لهم الطيب « وحُسْنَ مَآبٍ » أي : حسن المنقلب .
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : « طُوبَى : اسم الجنة بالحبشية .
وقال الربيع : البستان بلغة الهند . وقال الزجاج : العيش الطيب لهم وروي عن أبي أمامة وأبي هريرة وأبي الدرجاء قالوا : طوبى شجرة في الجنة تظل الجنان كلها وقيل فيها غير ذلك .
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
قوله : { كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ } الكاف في محل نصب كانظائرها .
قال الزمخشري : « مثل ذلك الإرسال أرسلناك يعن : إرسالا ً له شأن » .
وقيل : الكاف متعلقة بالمعنى الذي قبله في قوله : { إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } [ الرعد : 27 ] ، أي كما أنفذ الله هذا كذلك أرسلناك .
وقال ابن عطية : « الذي يظهر لي أن المعنى كما أجرينا العادة بأن الله يضل ويهدي لا بالآيات المقترحة فكذلك فعلنا أيضاً في هذه الأمة أرسلناك إليها بوحي لا بأيآت مقترحة » .
وقال أبو البقاء : وكذلك : « الأمر كذلك » فجعلها في موضع رفع .
وقال الحوفي : الكاف للتشبيه في موضع نصب ، أي : كفعلنا الهداية والإضلال والإشارة بذلك إلى ما وصف به نفسه من أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء وتكون الكاف للتشبيه .
قال ابن عباس والحسن رضي الله عنهم أي : أرسلناك كما أرسلنا الأنبياء قبلك .
وقيل : كما أرسلنا إلى أمم وأعطيناهم كتباً تتلى عليهم كذلك [ أعطيناك ] هذا الكتاب وأنت تتلوه عليهم .
قوله : « قَد خَلتْ » جملة في محل جر صفة ل « أمَّة » ، و « لِتَتْلُ » متعهلق ب « أرْسلْنَاك » والمعنى : أنه فسر كيف أرسله فقال : { في أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ } أي : أرسلناك في أمة قد تقدمها أمم وهم آخر الأمم وأنت آخر الأنبياء « لتتلو » لتقرأ عليهم الذي أوحينا إليك وهو الكتاب العظيم .
قوله : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ } يجوز أن تكون هذه الجملة استئنافية ، وأن تكون حالية والضمير في « وهم يكفُرون » عائد على « أمَّة » من حيث المعنى ، ولو عاد على لفظها لكان التركيب : وهي تكفر .
وقيل : الضمير عائد على « أمَّة » وعلى « أممٍ » . وقيل : عائد على الذين قالوا : « لوْلاَ أنْزِلَ » .
فصل
قال قتادة ومقاتل وابن جريح : الآية مدنية نزلت في صلح الحديبية وذلك أن سهل بن عمرو لما جاءوا واتفقوا على أن يكتبوا كتاب الصلح ، فقال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه لعلي كرم الله وجهه : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم . قالوا لا نعرف إلى الرحمن إلا صاحب اليمامة يعنون : مسليمة الكذاب ، اكتب كما كممنت تكتب : باسمك اللهم فهذا معنى قوله : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن } والمعروف أن الآية مكية ، وسبب نزولها : أن أبا جهل سمع النبي س صلى الله عليه وسلم وهو في الحجر يدعو الله يا رحمن فرجع إلى المشركين ، وقال : إن محمداً يدعو إلهين : يدعو الله ويدعو الرحمن إلهاً آخر يسمى الرحمن ، ولا نعرف الرحمن إلاّ رحمن اليمامة فنزلت هذه الآية ، ونزل قوله تعالى :
{
قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى } [ الإسراء : 110 ]
وروى الضحاك عن ابن عباس : أنها نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم : « اسجدوا للرحمن » ، قالوا : وما الرحمن؟ قال الله تعالى : « قل لهم يا محمد إن الرحمن الذي أنكرتم معرفته هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت » اعتمدت « وإليه متاب » أي : توبتي ومرجعي .
فصل
اعلم أن قوله { يَكْفُرُونَ بالرحمن } أنا إن حملناه على هذه الروايات كان معناه : يكفرون بإطلاق هذا الاسم على الله تعالى لا أنهم كفروا بالله تعالى وقال آخرون : بل كفروا بالله إما جحداً له ، وإما لإثباتهم الشركاء معه . قال القاضي : وهذا القول أليق بالظاهر؛ لأن قوله تعالى { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن } يقتضي أنهم كفروا بالله وهو المفهوم به فكان المفهوم هو دون اسمه تعالى .
قوله : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال } [ الرعد : 31 ] نزلت في نفر من مشركي مكة منهم : أبو جهل بن هشام وعبدالله بن أمية المخزومي جلسوا في فناء الكعبة فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض عليهم الإسلام ، فقال عبدالله بن أمية المخزومي : إن سرك أن نتبعك فسيِّر لنا جبال مكة بالقرآن فأذهبها حتى تنفسح علنيا فإنها أرض ضيقة لمزارعنا ، واجعل لنا فيها عيوناً وأنهاراً لنغرس الأشجار ونزرع ، فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حيث سخر له الجبال تسبح معه ، أو [ سخر لنا الريح ، فنركبها إلى الشام والبلاد لميرتنا وحوائجنا ، ونرجع في يومنا؛ فقد ] سخر ا لريح لسليمان صلوات الله وسلامه عليه كما زعمت فلست على ربك بأهون من سليمان ، أو أحْي لنا جدك قصي ، أو من شئت من موتانا نسأله عن أمرك ، أحق ما تقول أوة باطل فقد كان عيسى يحيي الموتى ، ولست بأهون على الله منه ، فأنزل الله عز وجل { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض } [ الرعد : 31 ] أي : شققت فجلعت أنهاراً وعيوناً { أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى } [ الرعد : 31 ] .
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
قوله : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ } جوابها محذوف ، أي : لكان هذا القرآن ، لأنه في غاية ما يكون من الصحة ، واكتفى بمعرفة السامعين من مراده؛ كقوله الشاعر : [ الطويل ]
3180
فأقْسِمُ لو شَيءٌ أتَاناَ ... سِواكَ ولكِنْ لَمْ نَجْدْ عنْكَ مَدْفَعَا
أراد : لرددناهن ، وهذا معنى قول قتادة : قالوا : لو فعل هذا بقرآن قبل قرآنكم لفعل بقرآنكم .
وقيل : تقديره لما آمنوا .
ونقل عن الفراء : جواب « لو » هي الجملة من قوله { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن } [ الرعد : 30 ] وفي الكلام تقديم وتأخير وما بينهما اعتراض ، وتقدير الكلام : وهم يكفرون بالرحمن لو أن قرآناً سيرت به الجبال كأنه قيل : لو سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم الموتى به لكفروا بالرحمن ولم يؤمنوا لما سبق من علمنا فيهم ، كقوله : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملاائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا } [ الأنعام : 111 ] وهذا في الحقيقة دال على الجواب .
وإنما حذفت التاء شفي قوله { أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى } وثبتت في الفعلين قبله؛ لأنه من باب التغليب ، لأن الموتى تشمل المذكر والمؤنث .
قوله { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا } أصل اليأتس : قطع الطمع عن الشيء والقنوط منه ، واختلف الناس فه ههنا ، فقال بعضهم هو هنا على بابه ، والمعنى أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان الكفار من قريش ، وذلك أنهم لما سألوا هذه الآيات طمعوا في إيمانهم وطلبوا نزول هله الآيات ليؤمن الكفار ، وعلم الله أنهم لا يؤمنون فقال : أفلم ييأس الذين آمنوا من آيات الكفار ، أي : ييأس من إيمانهم قال الكسائي .
وقال الفراء : « أوقع الله للمؤنين أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً فقال : أفلم ييأسوا علماً » يقول : يؤيسهم العلم ، فكان فيهم العلم مضمراً كما تقول في الكلام : « يئست منك إن لا تفلح » كأنه قال : علمه علماً ، قال : فيئست بمعنى علمت ، وإن لم يكن سمع فإنه يتوجه لذلك بالتأويل « .
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون اليأس في هذه الآية على بابه وذلك لأنه لما أبعد إيمانهم في قوله عز وجل { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ } على [ التأويلين ] في المحذوف المقدر ، قال في هذه الآية » أفلمْ يَيْأسٍ « المؤمنون من إيمان هؤلاء علماً منهم { أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً } .
وقال الزمخشري : » ويجوز أن يتعلق { أَن لَّوْ يَشَآءُ الله } ب « آمَنَوا » على أو لو يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ولهداهم « .
وهذا قد سبقه إليه أبو العباس رضي الله عنه .
وقال أبو حيان : ويحتمل عندي وجه آخر غير الذي ذكروه ، وهو : أن الكلام تام عند قوله تعالى { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا } إذ هو تقرير ، أي : قد يئس المؤمنون من إيمان هؤلاء المعنادين ، و { أَن لَّوْ يَشَآءُ الله } جواب قسم محذوف ، أي : وأقسم أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ، ويدل على هذا القسم [ وجود ] » أنْ « مع » لَوْ « في قول الشاعر : [ الوافر ]
3181
أمَا واللهِ أن لوْ كُنَْ حُرًّا ... وما الحُرِّ أنْتَ ولا العَتِيقِ
وقول الآخر : [ الطويل ]
3182
فأقْسِمُ أن لَوِ التَقيْنَا وأنتمُ ... لكَانَ لكُم يَوْمٌ مِنَ الشَّر مُظْلِم
وقد ذكر سيبويه أن « أن » تأتي بعد القسم ، وجعلها ابن عصفور رابطة للقسم بالجملة المقسم عليها ، وقال بعضهم بل هو ههنا بمعنى « عَلِمَ » و « تَبيَّن » .
قال القاسم بن مَعنٍن وهو من ثقاب الكوفيين : هي من لغة هوازن .
وقال الكلبي : هي لغة حي من النَّخع ، ومنه قول رباح بن عدي : [ الطويل ]
3183
ألَمْ يَيأسِ الأقْوامُ أنِّي أنَا ابنهُ ... وإن كُنْتُ عن أرْضِ العَشِيرةِ نَائِيا
وقول سحيم بن وثيل الرياحي : [ الطويل ]
4184
أقُولُ لهُمْ بالشِّعْبِ إذ يَأسِرُونَنِي ... ألمْ تَيأسُوا أنِّي ابنُ فارسِ زَهْدمِ
وقول الآخر : [ الكامل ]
3185
حتَّى إذَا يَئسَ الرُّماةُ فأرْسَلُوا ... غُضْفاً دَواجِنَ قافِلاً أعْصامُهَا
ورد الفراء هذا وقال : « لم أسمع » يَئِسْتُ « بمعنى عَلْمتُ » .
وردَّ عليه بأن من حفظ حجة على من لكم يحفظ ، ويدل على ذلك : قراءة علي وابن عباس وعكرمة وابن أبي مليكة والجحدري وعلي بن الحسين وابنه زيد وجعفر بن محمد وابن يزيد المدني وعبدالله بن يزيد ، وعلي بن بذيمة : ( أفلم يتبين ) من : « تبينت كذا » إذا عرفته ، وقد افترى من قال : إنما كتبه الكاتب وهو ناعس ، كان أصله : « أفلم يتبين » فسوى هذه الحروف [ فتوهَّم ] أنها سين .
قال الزمخششري : « وهذا ونحوه مما لا يصدق في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وكيف يخفى هذا حتى يبقى بين دفتي الإمام ، وكان متقلباً في أيدي أولئك الأعلام المحتاطين في دين الله المهيمنين عليه ، لا يغفلون عن جلائله ودقائقه خصوصاً عن القانون الذي إليه المرجع ، والقاعدة التي عليها المبنى ، هذه والله فرية ما فيها مرية » .
وقال الزمخشري أيضاً : « وقيل : إنما استعمل اليأس بمعنى العلم؛ لأن الآيس عن الشيء عالم بأنه لا يكون ، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف ، والنيسان في معنى الترك لتضمنه ذلك » .
وتحصل في « أنْ » قولان :
أحدهما : أنها « أن » المخففة من الثقيلة ، فأسمها ضمير الشأن ، والجملة الامتناعية بعدها خبرها ، وقد وقع الفصل ب « لو » و « أن » وما في حيزها إن علقنا ب « ءامنوا » يكون في محل نصب ، أو جر على الخلاف بين الخليل وسيبويه ، إذا أصلها الجر بالحرف ، أي : آمنوا بأن لو يشاء الله ، وإن علقناها ب : يَيْأس « على أنه بمعنى علم كانت في محل نصب لسدها سمد المفعولين .
والثاني : رابطة بين القسم والمقسم عليه ، كما تقدم .
فصل
قال المفسرون : إن أصحاب رسول الله صلوات الله وسلامه عليه لما سعموا كلام المشركين طمعوا في أن يفعل الله تعالى ما سألوا فيؤمنوا ، فنزل { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا } يعني الصحابة من إيمان هؤلاء ، يعني : الم ييأسوا وكل من علم شيئاً ييِأس عن خلافه .
يقول : ألم يؤيسهم العلم { أَن لَّوْ يَشَآءُ الله } .
فصل
احتج أهل السنة بقوله : { أَن لَّوْ يَشَآءُ الله } وكلمة « لَوْ » تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، والمعنى : أنه تعالى ما شاء هداية جميع الناس والمعتزلة تارة يحملون هذه المشيئة على مشيئة الإلجاء ، وتارة يحملون هذه المشيئة على مشيئة الهداية إلى طريق الجنة ، ومنهم من يجري الكلام على الظاهر ، ويقول : إنه تعالى ما شاء هداية جميع الناس لأنه ما شاء هداية الأطفال والمجانين فلا يكون مبايناً لهداية جميع الناس ، وقد تقدم الكلام على هذه المسألة مراراً .
قوله تعالى : { وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ } ألآية قيل : أراد جميع الكفار؛ لأن الوقائع الشديدة [ التي وعقت لبعض الكفار من القتل والسبي ، أوجب حصول الغم ] في قلوب الكل .
وقيل : أراد بعض الكفار وهم جماعة معينون ، فتكون الألف واللام للعهد ، والمعنى لا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا من كفرهم وأعمالهم القبيحة « قارِعَةٌ » أي : نازلة وداهيةٌ تقرعهم من أنواع البلاء أحياناً بالجدب وأحياناً بالسلب وأحياناً بالقلب .
يقال : قرعه أمر إذا أصابه ، والجمع قوارع ، والأصل في القرع : الضرب أي : لا يزال الكافرون تصيبهم داهية مهلكة من صاعقة كما أصاب أربد ، أو من قتل أو أسر أو جدب أو غير ذلك من العذاب والبلاء كما نزل يخاطب المستهزئين من رؤساء المشركين .
وقال ابن عباس رضي الله عنه : أراد كفار قريش يصيبهم بما صنعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم من العداوة والتكذيب بأن لايزال يبعث السرايا فتغير حول مكة وتختطف منهم وتصيب من مواشيهم « .
قوله » أوْ تَحُلُّ « يجوز أن يكون فاعله ضمير الخطاب ، أي : تحل أنت يا محمد وأن يكون ضمير القارعة ، وهذا أبين ، أي : تصيبهم قارعة أو تحل القارعة ، وموضعها نصب عطف علىخبر » يَزالُ « .
وقرأ ابن جبير ومجاهد : » أوْ يَحُلُّ « بالياء من تحت ، والفاعل على ما تقدم إما ضمير القارعة وإنما ذكر العفل؛ لأنها بمعنى العذاب ولأن التاء للمبالغة ، والمراد : قارع وإما ضمير الرسول صلوات الله وسلامه عليه أتى به غائباً ، وقرأ أيضاً : » مِن دِيَارهِمْ « جمعاً ، وهي واضحة .
المعنى : أو تحل القارعة أو أنت يا محمد صلوات الله وسلامه عليك بجيشك قريباً من دراهم كما حل بالحديبية { حتى يَأْتِيَ وَعْدُ الله } وهو فتح مكة ، وكان قد وعده ذلك . وقيل : يوم القيامة .
{
إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } والغرض منه : [ تقوية ] قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإزالة الحزن عنه وتسليته .
فصل
قال القاضي : قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } يدل على بطلان قول من يجوز الخلف على الله تعالى في ميعاده ، وهذه الآية وإن كانت واردة في حق الكفار إلا أن العبرة بمعموم اللفظ لا بخصوص السبب وعمومه يتناول كل وعيد ورد في حق [ الفساق ] من العناد .
والجواب : أن الخلق غير ، وتخصيص العموم غير ، ونحن لا نقول بالخلف ، ولكننا تخصص عمومات الوعيد بالآيات الدالة على العفو .
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)
قوله تعالى : { وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ } الآية لما طلبوا المعجزات من الرسول صلوات الله وسلامه عليه على سبيل الاستهزاء ، وكان يتأذى من تلك الكلمات ، فأِنزل الله تعالى هذه الآية تسلية له وتصبيراً على سفاهتهم فقال : إن أقوام سائر الأنبياء عليه الصلاة والسلام استهزؤوا بهم كما أن قومك يستهزئون بك { فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } أمهلتهم وأطلت لهم المدة بتأخير [ العقوبة ] { ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ } عاقبتهم في الدنيا بالقتل ، وفي الآخرة بالنار { فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } لهم؟ .
والإملاء : الإمهال وإن تركوا مدة من الزمان في خفض وأمن كالبهيمة يملى لها ف يالمرعى ، ومنه الملوان وهو الليل والنهار؟
قوله : { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ } « مَنْ » موصولة ، وصلتها « هُو قَائِمٌ » والموصول مرفوع بالابتداء ، وخبره محذوف تقديره : كمن ليس كذلك من شركائهم التي لا تضر ولا تنفع ، ودل على هذا المحذوف ، قوله { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ } ونحوهن قوله { أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } [ الزمر : 22 ] تقديره : كمن قسا قبله .
يدل عليه أيضاً { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله } [ الزمر : 22 ] وإنما حسن حذفه كون الخبر مقابلاً للمبتدأ ، وقد جاء مبيناً ، كقوله { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } [ النحل : 17 ] { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى } [ الرعد : 19 ] .
والمعنى : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ، أي : حافظها ورازقها وعالم بها ومجازيها بما علمت ، وجوابه محذونف ، تقديره : كمن ليس بقائم بل عاجز عن نفسه .
قوله { وَجَعَلُواْ للَّهِ } يجوز أن يكون استئنافاً ، وهو الظاهر ، جيء به للدلالة على الخبر المحذوف كما تقدم تقريره .
وقال الزمخشري : « يجوز أن تقدر ما يقع خبر للمبتدأ ويعطف عليه : » وجَعَلُوا « وتمثيله : أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه » جعلوا لهُ « وهو الله تعالى أي : وهو الذي يستحق العبادة » .
قال أبو حيان : « وفي هذا التوجيه إقامة الظاهر مقام المضمر في قوله تعالى { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ } أي : له ، وفيه حذف الخبر غير المقابل ، وأكثر ما جاء الخبر مقابلاً » .
وقيل : الواو للحال ، والتقدير : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت موجودة والحال أنهم جعلوا له شركاء ، فأقيم الظاهر وهو « اللهُ » مقام المضمر تقريراً للإلهية وتصريحاً بها ، قاله صاحب العقد .
وقال ابن عطية : « ويظهر أن القول مرتبط بقوله { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ } كان التقدير : أفمن له القدرة والوحدانية ، ويجعل له شريك أهل ينتقم ويعاقب أم لا؟ » .
وقيل : « وَجَعلُوا » عطف على « استُهْزِىءَ » بمعنى : وقد استهزؤوا وجعلوا .
وقال أبو البقاء : « هو معطوف على » كَسبَتْ « أي : ويجعلهم لله شركاء » ولما قر هذه الحجة زاد في الحجاج فقال : « قُلْ سمُّوهُمْ » وإنما يقال ذلك في الأمر المستحقر الذي بلغ في الحقارة إلى ألا يذكر ، ولا يوضع له اسم فعند ذلك يقال : سمه إن شئت ، يعني أنه [ أخس ] من أن يسمى ويذكر ، ولكن إن شئت أن تضع له أسماً فافعل ، وقيل : « سموهم » : أي : صفوهم ، ثم انظروا : هل هي أهلٌ أن تعبد؟ على سبيل التهديد ، والمعنى : سواء سيمتموهم باسم الآلهة أو لم تسموهم فإنها في الحقارة بحيث لا تستحق أن يلتفت العاقل إليها ، ثم زاد في الحجاج .
قوله { أَمْ تُنَبِّئُونَهُ } « أمْ » هذه منقطعة مقدرة ب « بل » والهمزة والاستفهام للتوبيخ بل أتنبؤنه شركاء لا يعلمهم في الأرض و نحوه { قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض } [ يونس : 18 ] فجعل الفاعل ضميراً عائداً على الله ، والعائد على « ما » محذوف تقديره : بما لا يعلمه الله ، وقد تقدم في تلك الآية : أن الفاعل ضمير يعود على « ما » وهو جائز هنا أيضاً .
قوله « أمْ بِظاهِرِ » أنها منقعطة . والظاهر هنا ، قيل : الباطن؛ وأنشدوا : [ الطويل ]
3186
اعَيَّرْتنَا ألْبانهَا ولحُومَهَا ... وذلِكَ عَارٌ يَا ابْنَ رَيْطة ظَاهِرُ
أي : باطن .
وفسره مجاهد : بكذب ، وهو موافق لهذا .
وقيل : « أمْ » متصلة ، أي : تنبئونه بظاهر لا حقيقة له .
والمعنى : أم يخبرون الله بأمر يعلمونه وهو لايعمله ، فإنه لا يعلم لنفسه شريكاً وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها وإن لم يكن له شريك التبة؛ لا ، هم ادعوا أن له شريكاً في الأرض لا في غيرها أم تموهو بظاهر من القول لا حقيقة له وهو كقوله { ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ } [ التوبة : 30 ] .
ثم إنه تعالى بعد هذا الحجاج بيّن طريقتهم ، فقال على وجه التحقير لما هم عليه { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ } .
قال الواحدي : « معنى » بَلْ « ههنا كأنه يقول : دع ذلك زين له مكرهم لأنه تعالى لما ذكر الدلائل على فساد قولهم فكأنه يقول : دع ذلك الدليل فإنه لا فائدة فيه ، لأن زين لهم كفرهم ومكرهم فلا ينتفعون بذكر هذه الدلائل » .
فصل
قالت المعتزلة : لا شبهة في أنه إنما ذكر ذلك لأجحل أن يذمَّهم به وإذا كان كذلك امتنع أن يكون ذلك المزين هو الله تعالى ، فلا بد إما أن يكون شياطين الإنس وما شياطين الجن .
قال ابن الخطيب رحمه الله : وهذا التأويل ضعيف من وجوه :
الأول : أنه إن كان المزين هو أحد شياطين الإنس أو الجن فالمزين لذلك الشيطان إن كان شيطاناً آخر لزم التسلسل ، وإن كان هو الله فقد زال السؤال .
والثاني : أن أفعال القلوب لا يقدر عليها إلا الله عز وجل .
والثالث : أنا دللنا على أن ترجيح الداعي لا يحصل إلا من الله عز وجل وعند حصوله يجب الفعل .
قوله { وَصُدُّواْ عَنِ السبيل } قرأ الكوفيون ويعقوب « وصُدَّوا » مبنياً للمفعول ، وفي غافر { وَصُدَّ عَنِ السبيل } [ غافر : 37 ] كذلك ، وابقي السبعة مبنيّين للفاعل ، و « صد : جاء لازماً ومتعدياً ، فقراءة الكوفية من التعدي فقط ، وقراءة الباقين : يحتمل أن تكون من المتعدي ومفعوله محذوف ، أي : صدوا غيرهم أو أنفسهم ، وأن يكون من اللازم ، أي : أعرضوا وتولوا .
وقرأ ابن وثاب : » وصِدُّوا عَن السَّبيال « بكسر الصاد ، وهو مبني للمفعول أجراه مجرى » قِيلَ « و » بِيعَ « فهو كقراءة : { رُدَّتْ إِلَيْنَا } [ يوسف : 65 ] . قوله : [ الطويل ]
3187
ومَا حِلَّ مِنْ جَهْلِ حُبَا حُلمَائِنَا .. .
وقد تقدم . فأما قراءة المبني للمعفول ، فعند أهل السنة : أن الله صدهم . المعتزلة وجهان :
قيل : الشيطان وبعضهم لبعض ، هو قول أبي مسلم رحمه الله . ومن فتح الصاد : يعني الكفار أعرضوا إن كان لازماً ، وصدوا غيرهم إن كان متعدياً . وحجة القراءة الأولى مشاكلتها لما قبلها من بناء الفعل للمفعول ، وحجة القراءة الثانية قوله جل ذكره { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ } [ محمد : 11 ] ثم مقال : { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } .
وتمسك أهل السنة بهذه الآية من وجوه : أحدها : قوله { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ } وقد تقدم بالدليل أن المزين هو الله تعالى . وثانيها : قوله { وَصُدُّواْ عَنِ السبيل } بضم الصاد ، وبينا ِأيضاً أن ذلك الصاد هو الله تعالى .
وثالثها : قوله سبحانه وتعالى : { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } ، وهو صريح في المقصود ، ثم قال تعالى : { لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الحياة الدنيا } بالقتل والأسر { وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَقُّ } أي : أشد { وَمَا لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ } مانع يمنعهم من العذاب . وقال الواحي : أكثر القراء وقفوا على القاف من غير إثبات ياء ، مثل قوله عز وجل { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [ غافر : 33 ] وكذلك { مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ } [ الرعد : 37 ] وهو الوجه؛ لأنه يقال في الوصل : » هادٍ ووالٍ وواقٍ « محذوف الياء لسكونها والتقائها مع التنوين ، فإذا وقفت انحذف التنوين في الوقف في الرفع والجر ، والياء [ كانت ] انحذفت ف يالوصل فيصادف الوقف الحركة التي كسرت فتحذف كما يحذف سائر الحركات التي يوقف عليها ، فيقال : » هَاد « و » وَال « و » وَاق « .
وابن كثير يقف بالياء ، ووجهه ما حكى سيبوبه : أن بعض من يوثق به من العرب يقفون بالياء ، وقد تقدم .

قلت المدون التالي هو ج43.و44.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدجال يستغل ازمات الناس من الجوع ونقص الطعام والمياه في دعوتهم الباطلة لعبادتهم إياه والايمان به

  بياناته الشخصية     المسيح الدجال ليس خوارق إنما هو دجل وكذب قلت المدون ان الأ أزمة الاقتصادية الحادثة الان في كل دول العالم والمجاعة المت...