حمل المصحف وورد وبي دي اف.

 حمل المصحف وورد وPDF.
القرآن الكريم وورد word doc icon||| تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

الجمعة، 23 سبتمبر 2022

ج57. و58. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

 

ج57..و58.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

 


اولا :

ج57..كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

 
واعلم أن أصحاب الهيئة قالوا : الشمس مركوزة في الفلك ، والفلك يديرها بدَوَران . وأنكره المفسرون الظَّاهِريُّونَ . واعلم أنه لا بعد في ذلك ( إن ) لم يقولوا بالطبيعة؛ فإن الله تعالى فاعل مختار إن أَراد أن يحركهما ( في الفلك وبالفلك ساكن يجوز ، وإن أراد أن يحركهما ) بحركة الفلك وهما ساكنان يجوز ولم يرد فيه نص قاطعٌ أو ظاهرٌ . واعلم أنه تعالى ذكر إيجاد الذوات بقوله : { خلق السموات والأرض } وذكر إيجاد الصفات بقوله : { وَسَخَّرَ الشمس والقمر } ثم قال : { الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } لما ذكر الخلق ذكر الرزق؛ لأن بقاء الخلق ببقائه ، وبقاء الإنسان بالرزق ، فقال المعبود إما أن يعبد لاستحقاق العبادة والأصنام ليست كذلك والله مستحقها وإما لكونه عظيم الشأن والله الذي خلق السماوات عظيم الشأن فله العبادة ، وإما لكونه يأمر الإحسان ، والله يَرْزُقُ الخَلْقَ فله الفضل والإحسان ، والامْتِنَان فله العبادة { إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٍ } يعلم مقادير الحاجات والأرزاق ، ولما قال : « يبسط الرزق » ذكر اعترافهم بذلك فقال : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله } يعني سبب الرزق ، وموجد السبب موجد المسبب فالرزق من الله .
قوله : { قُلِ الحمد لِلَّهِ } على ما أقروا به ، ولزوم الحجة عليهم { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } ( ينكرون التوحيد مع إقرارهم بأنه خالق لهذه الأشياء فقل الحمد لله على ظهور تناقضهم وأكثرهم لا يعقلون ) هذا التناقض ، وقيل : هذا كلام معترض في أثناء كلام ، فإنه قال : { بَلْ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } فذكر في أثناء هذا الكلام الحمد لذكر النعمة كقوله :
4031 - إنَّ الثَّمَانِينَ - وَبُلِّغْتَهَا - ... قَدْ أَحْوَجَتْ سَمْعِي إلَى تَرْجُمَان
قوله ( تعالى ) : { وَمَا هذه الحياة الدنيآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ } « اللهو » هو : الاستمتاع بلذّات الدنيا ، و « اللعب » ( الْعَبَثُ ) ، سميت بها ، لأنها فانية ، وقيل : « اللهو » الإعراض عن الحق ، و « اللعب » في الإقبال على الباطل .
فإن قيل : قال في الأنعام : { وَمَا الحياة الدنيآ } ( ولم يقل : « وَمَا هَذِهِ الحَيَاةُ » ) وقال ههنا : { وما هذه الحياة } فما فائدته؟
فالجواب : أن المذكور ( من قبل ههنا أمر الدنيا ، حيث قال : { فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا } فقال : هذه ، والمذكور قبلها ) هناك الآخرة حيث قال : { ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ } [ الأنعام : 31 ] فلم تكن الدنيا في ذلك الوقت في خاطرهم فقال : { وما الحياة الدنيا } .
فإن قيل : ما الحكمة في تقديمه هناك « اللعب » على « اللهو » وههنا أخر « اللعب » عن « اللهو » .
فالجواب : لما كان المذكور من قبل هناك الآخرة ، وإظهارها للحسرة ففي ذلك الوقت ببعد الاستغراق في الدنيا ، بل نفس الاشتغال بها فأخذ الأبعد ، وههنا لما كان المذكور من قبل الدنيا وهي خداعة تدعو النفوس إلى الإقبال عليها والاستغراق فيها ، اللهم إلا لمانعٍ يمنع من الاستغراق فيشتغل بها من غير استغراق ( بها ) ، أو لعاصم يعصمه فلا يستغل بها أصلاً ، فكان : ( ههنا ) الاستغراق أقرب من عدمه فقدم اللهو .
فإن قيل : ما الحكمة في قوله هناك : { وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ } [ يوسف : 109 ] [ النحل : 30 ] وقال هَهنا { وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان } ؟ .
فالجواب : لما كان الحال هناك حال إظهار الحسرة ما كان المكلف يحتاج إلى وازعٍ قويٍّ فقال : الآخرةُ خَيْر ولما كان الحال هنا حال الاستغال بالدنيا احتاج إلى وازع قوي فقال : لا حياة إلا حياة الآخرة .
قوله : { وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان } قدر أبو البقاء وغيره قبل المبتدأ مضافاً أي وإنَّ حَيَاةَ الدارِ الآخرة وإنما قدر ذلك ليتطابق المبتدأ والخبر والمبالغة أحسن و « واو » الحيوان ( عن ياءٍ ) عند سيبويه وأتباعه ، وإنما أبدلت واواً شذوذاً ، وكذلك في « حَيَاةٍ » علماً وقال أبو البقاء لئلا يلتبس بالتثنية يعني لو قيل : حَيَيَانِ - قال : ولم تقلب ألفاً لتَحَرُّكِهَا وانفتاح ما قبلها؛ لئلا يحذف إحدى الألفين وغير سيبويه حمل ذلك على ظاهره ، فالحياة عند لامُها « واو » . ولا دليل لسيبويه في « حَيِيَ » ؛ لأن الواو متى انكسر ما قبلها قلبت ياءً نحوُ : « عُدِيَ ، ودُعِي ، وَرَضِيَ » . ومعنى الآية : { وإن الدار الآخرة لهي الحيوان } أي الحياة الدائمة الباقية ، والحيوان بمعنى الحياة أي فيها الحياة الدائمة { لو كانوا يعلمون } أي لو كانوا يعلمون أنها الحيوان لما آثروا عليها الدنيا .
فإن قيل : ما الحكمة في قوله : في الأنعام { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ الأنعام : 32 ] وقال هنا { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } ؟
فالجواب : أن المُثْبَتَ هناك كون الآخرة ، ولأنه ظاهر لا يتوقف إلا على العقل والمثبت هنا أن لا حياة إلا حياة الآخرة . وهذا دقيق لا يُعْلَمُ إلا بِعِلْمِ نَافِعٍ .
فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
قوله : { فإذا ركبوا في الفلك } قال الزمخشري : « فإن قُلتَ » : بم اتصلَ قوله فَإذَا رَكبُوا في الفُلْك؟
قلتُ : بمحذوف دل عليه ما وصفهم ( به ) وشرح من امرهم معناه هم على ما وصفوا به من الشرك والغفلة فإذا ركبوا .
قوله : « دَعَوُا اللَّهَ » معناه : فإذا خافوا ( مِنَ ) الغرق دعوا الله مخلصين له الدين ، وتركوا الأصنام ، وهذا إشارة إلى تحقيق أن المانع من التوحيد هو الحياة الدنيا؛ لأنهم إذا انقطع رجاؤهم عن الدنيا رَجَعُوا إلى الفطرة الشاهدة بالتوحيد ووحدوا وأخلصوا ، وإذا نجاهم وأرجأهم عادوا إلى ما كانوا عليه من حب الدنيا ، وأشركوا لقوله : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } وهذا إخبار عنهم بأنهم عند الشدائد يقرون أن القادر على كشفها هو الله - عزّ وجلّ - وحده ، وإذا زالت عادوا إلى كفرهم ، قال عكرمة : كان أهل الجاهلية إذا ركبوا البحر حملوا معهم الأصنام فإذا اشتدت عليهم الريح ألقوها في البحر ، وقالوا : يا رب يا رب .
قوله : « ليَكْفُرُوا » فيه وجهان :
أظهرهما : أن اللام لام « كي » أي سَيُشْرِكُونَ لِيَكُونَ إشراكُهُم كفراً بنعمة لإنجاء « وَلِيَتَمَتَّعُوا » بسبب الشرك « فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ » وبال عملهم .
والثاني : أن تكون لام الأمر ، ومعناه التهديد والتوعيد ، كقوله : { اعملوا مَا شِئْتُمْ } [ فصلت : 40 ] أي ليجحدوا نعمة الله في إنجائه إياهم فسيعلمون فساد ما يعملون .
قوله : « وَلِيَتَمَتَّعُوا » ، قرأ ابو عمرو وابنُ عامر وعاصمٌ وورشٌ بكسرها ، وهي محتملة للأمرين المتقدمين ، والباقون بسكونها ، ( وهي ) ظاهرة في الأمر ، لإإن كانت الأولى للأمر فقد عطف أمراً على مثله ، وإن كانت للعلة فيكون عطف كلاماً على كلام ، فيكون المعنى لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر والتمتع بما يستمتعون به في العاجلة من غير نصيب في الآخرة وقرأ عبد الله فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ، وأبو العالية « فَيُمَتَّعُوا » بالياء من تحت مبنياً للمَفْعُولِ .
قوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً } وجه تعلقه بما قبله إن الإنسان يكون في البحر على أخوف ما يكون لا سيما غذا كان بيته في بلدٍ حصين فلما ذكر الله حال المشركين عند الخوف الشديد ورأوا أنفسهم في تلك الحالة راجعة إلى الله ذَكَّرَهُمْ حالهم عند الأمن العظيم وهي كونهم في مكة فإنها مدينتهم وبلدهم ، وفيها سُكْنَاهُمْ ، ومولدهم وهي حصين بحصن الله حيث من دخلها يمتنع من حصل فيها ، والحصول فيها يدفع الشرور عن النفوس يعني : إنكم في أخوف ما أنتم دعوتم الله وفي أتم ما حصلتم عليه كفرتم بالله ، وهذا متناقض ، لأن دعاءكم في ذلك الوقت على سبيل الإخلاص ما كان إلا لِقَطْعِكُم بأن النعمة من الله لا غير وهذه النعمة العظيمة التي حصلت ، وقد اعترفتم بأنها لا تكون إلا من الله فكيف تكفرون بها ، والأصنام التي قد ( قطعتم ) في حال الخوف أن لا أمن منها لها كيف أَمِنْتُمْ بها في حال الأمن؟ ثم قال : « أَفِبَالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ » ( قرأ العامة ) يؤمنون ويكفرون بياء الغيبة ، والحسن ، والسلمي بتاء الخطاب فيهما ، والمعنى : أفبالأَصْنَام والشياطين يؤمنون وبنعمة الله محمد والإسلام يكفرون؟
قوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افترى عَلَى الله كَذِباً } فزعم أن له شريكاً ، والظلم وضع الشيء في غير موضعه فإذا وضعه في موضع لا يمكن ذلك موضعه يكون أظلم ، لأن عدم الإمكان أقوى من عدم الحصول .
قوله : { أَوْ كَذَّبَ بالحق لَمَّا جَآءَهُ } أي بمحمد ، والقرآن لما جاءه { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ } وهذا استفهام تقرير ، كقوله :
4032 - أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايَا ... وَأَنْدَى العَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
والمعنى : أما لهذا الكافر المكذب مأوى في جهنم؟
قوله : « والَّذِينَ جَاهَدُوا » ( يجوز ) فيه ما جاز في « الذين آمنوا » أول السورة وفيه رد على ثَعْلَب حيث زعم أَنَّ جملة القسم لا تقع خبراً للمبتدأ ، والمعنى : والذين جاهدوا المشركين لنُصرة ديننا « لَنَهْدَينَّهُمْ سُبُلَنَا » لَنُثَبَتَنَّهُمْ على ما قاتلوا عليه وقيل : لنَزِيدنهم هدى ، كما قال : { وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى } [ مريم : 76 ] وقيل : لَنَهْدِيَنَّهُمْ لإصابة الطرق المستقيمة ، والطرق المستقيمة هي التي توصل إلى رضي الله - عزّ وجلّ - قال سفيان بن عيينة : إذا اختلفت الناس فانظروا ما عليه أهل الثغور ، فإن الله قال : { والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } وقيل : المجاهدة هي الصبر على الطاعات قال الحسن : أفصلُ الجهاد مخالفة الهوى ، وَقَالَ الفضيل بن عياض { والَّذِينَ جَاهَدُوا في إقامة السنة لنهدينهم سبيل الجنة } .
قوله : { وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين } من إقامة الظاهر مُقَام المضمر ، إظهاراً لشرفهم ، والمعنى لمع المحسنين بالنصر والمعونة في دنياهم ، وبالثواب والمغفرة في عقابهم .
روى أبو أمامة عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسناتٍ بعدد المؤمنين والمنافقين »
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)
قوله تعالى : { الم غُلِبَتِ الروم } وجه تعلق هذه السورة بما قبلها أن الله تعالى لما قال : { وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } وكان يجادل المشركين بنسبتهم إلى عدم العقل كما في قوله : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ البقرة : 18 ] وكان أهل الكتاب يوافقون النبي والإله كما قال : { وإلهكم وَاحِدٌ } [ العنكبوت : 46 ] وكانوا يؤمنون بكثير مما يقوله ، بل كثير منهم كانوا مؤمنين ( به ) كما قال : { فالذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يُؤْمِنُونَ بِهِ } [ العنكبوت : 47 ] أبغض المشركون أهل الكتاب وتركوا مراجعتهم وكانوا من قبل يراجعونهم في الأمور ، وكان بين فارس والروم قتال والمشركون يودون أن تغلب فارس الروم لأن أهل فارس كانوا مجوساً آمنين ، والمسلمين يَودُّون غلبة الروم على فارس لكونهم أهل كتاب فبعث « كسرى » جيشاً إلى الروم واستعمل عليهم رجلاً ( يقال له : شهريار وبعث « قيص » جيشاً واستعمل عليهم ) رجلاً يدعى يحانس ، فالتقيا باذْرِعاتَ ، وبُصْرَى ، وقال عكرمة : هي أذرعات وكسكر ، وقال مجاهد : أرض الجزيرة ، وقال مقاتل : الأردن وفلسطين هي أدنى الشام إلى أرض العرب والعجم فغلبت فارس الروم فبلغ ذلك المسلمين بمكة ، فشق ذلك عليهم وفرح به كفار مكة وقالوا للمسلمين : إنكم أهل الكتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أمّيُّون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من الرُّوم وإنكم إن قاتلتمونا لنَظْهَرَنَّ عليكم فأنزل الله هذه الآيات لبيان أن الغلبة لا تدل على الحق بل الله قد يريد في ثواب المؤمنين من يبتليه ، ويسلط عليه الأعادي ، وقد يختار تعجيل العذاب الأدنى العذاب الأكبر قبل يوم الميعاد .
فصل
قد تقدم أن كل سورة افْتُتِحَتْ بحروف التَّهَجِّي فَإِن في أولها ذكرَ الكتاب أو التنزيلَ أو القرآنَ ، كقوله : { الم . ذلك الكتاب } { المص . كتاب } { طه ما أنزلنا عليك القرآن } { الم . تنزيل الكتاب } { حم . تنزيل من الرحمن الرحيم } { يس . والقرآن } { ق . والقرآن } إلا هذه السورة وسورتين أخريين ذكرناهما في العنكبوت ، وذكرنا الحكمة منهما هناك . وأما ما يتعلق بهذه السورة فنقول : إن السورة التي في أوائلها التنزيل والكتاب والقرآن في أوائلها ذكر ما هو معجزة فقدمت عليها الحروف على ما تقدم بيانه في العنكبوت ، وهذه في أوائلها ذكر ما هو معجز وهو الإخبار عن الغيب ، فقدمت الحروف التي لا يعلم معناها ليتنبه السامع فيقبل بقلبه على الاستماع لما ترد عليه المعجزة ويفزع للاستماع .
قوله : { في أدنى الأرض } زعم بعضهم أن « أل » عوض عن الضمير ، وأن الأصل { فِي أَدْنَى أرْضهم } وهو قول كُوفي ، وهذا على قول إن الهرب كان من جهة بلادهم ، وأما من يقول : إنه من جهة بلاد العرب فلا يتأتى ذلك . وقرأ العامة « غُلِبَتْ » مبنياً للمفعول ، وعلي بن أبي طالب وأبو سعيد الخُدْري وابن عمر وأهل الشام ببنائه للفاعل .
قوله : { في أدنى الأرض } أي الروم من بعد غلب فارس إِيَّاهم . والغَلَبُ . والغَلَبَةُ « لُغْتَانِ » فعلى القراءة الشهيرة يكون المصدر مضافاً لمفعوله . ثم هذا المفعول إما أن يكون مرفوع المحل على أن المصدر المضاف إليه مأخذو من مبني ( للمفعول ) على خلاف في ذلك . وإما منصوب المحل على أن المصدر من مبني للفاعل ، والفاعل محذوف تقديره : من بعد أن غلبهم عدوهم وهم فارس ، وأما على القراءة الثانية فهو مضاف لفاعله .
قوله : « سَيَغْلِبُونَ » خبر المبتدأ ، و { مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ } متعلق به ، والعامة - بل نقل بعضهم الإجماع - على سيغلبون مبنياً للفاعل ، فعلى الشهيرة واضح أي من بعد أن غلبتهم فارس سيغلبون فارس ، وأما على القراءة الثانية فأخبر أنهم سيغلبون ثايناً بعد أن غلبوا أولاً ، وروي عن ابن عمر أنه قرأ ببنائه للمفعول . وهذا مخالف لما ورد في سبب الآية ، وما ورد في الأحاديث ، وقد يلائم هذا بعض ملاءمة من قرأ « غَلَبَتْ » مبنياً للفاعل ، وقد تقدم أن ابن عمر ممن قرأ ( بذلك ) . وقد خرج النحاس قراءة عبد الله بن عُمَر على تخريج حسنٍ ، وهو أن المعنى : وفارس من بعد غلبهم للروم سيغلبون إلا أن فيه إضمار ما لم يذكر ولا جرى سبب ذكره .
قوله : { فِي بِضْعِ سِنِينَ } متعلق بما قبله ، وتقدم تفسير البضع واشتقاقه في « يُوسُفَ » . وقال الفراء : الأصل في غلبهم غلبتهم بتاء التأنيث فحذلت للإضافة كإقامة ضرورة تدعو إليه ، وقرأ ابن السَّمَيفَع وأبو حيوة غلبهم فيحتمل أن يكون ذلك تخفيفاً شاذّاً ، وأن يكون لغة في المفتوح كالظَّعَنِ والظَّعْنِ .
فصل
قوله : { في أَدْنَى الأرض } أي أرض العرب ، لأن الألف واللام للعهد ، والمعهود عندهم أرضهم . فإن قيل : أي فائدة في ذكر قوله : { من بعد غلبهم } لأن قوله : « سيغلبون » بعد قوله : « غلبت الروم » لا يكون إلا من بعد الغلبة؟
فالجواب : فائدته إظهار القدرة وبيان أن ذلك بأمر الله لأن من غلب بعد غلبه لا يكون إلا ضعيفاً فلو كان غلبتهم بشوكتهم لكان الواجب أن يغلبوا قبل غلبهم فإذا غلبوا بعد ما غلبوا دل عليه أن ذلك بأمر الله ( فقال ) من بعد غلبهم فيتفكروا في ضعفهم ويتذكروا أنه ليس بقوتهم وإنما ذلك بأمر هو من الله ، وقوله : في أدنى الأرض لبيان شدة ضعفهم أي انتهى ضعفهم إلى أن وصل عدوهم إلى طرف الحجاز وكسروهم وهم في بلادهم ثم غلبوا حتى وصلوا إلى المدائن وبنوا هناك « الرومية » لبيان أن هذه الغلبة العظيمة بعد ذلك الضعف العظيم بإن الله تعالى .
فصل
قال : { فِي بِضْعِ سِنِينَ } وهو ما بين الثلاثة والعشرة فأبهم الوقت مع أن المعجزة في تعيين الوقت أتم لأن السنة والشهر واليوم والساعة كلها معلومة عند الله وبينها لنبيه ، وما أذن له في إظهاره لأن الكفار كانوا معاندين والأمور التي تقع في البلاد النائية تكون معلومة الوقوع بحيث لا يمكن إنكارها لكن وقتها يمكن الاختلاف فيه فالمعاند كان يتمكن من أن يرجف بوقوع الواقعة قبل الوقوع ليحصل الخلاف في كلامه ، ولَمَّا نزلت الآية خرج أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى الكفار فقال : فرحتم بظهور إخوانكم فلا تفرحوا فواللَّه لتَظْهَرَنَّ الرُّوم على فارسَ أخبرنا بذلك نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فقام إليه أُبَيُّ بن خلف الجُمَحِيّ فقال : كَذَبْتَ فقال : أنت أكذبُ يا عدوَّ اللَّهِ ( فقال اجعل بيننا ) أجلاً أن احبك عليه ، والمناحبة المراهنة على عشر قلائص مني وعشر قلائص منك فإن ظهرت الروم على فارس غرمت وإن ظهرت فارس غرمت ، وجعلوا الأجل ثلاث سنين فجاء أبو بكر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بذلك ، وذلك قبل تحريم القُمَار ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر ، وماده ( في الأجل ) فجعلها مائة قلوص ، إلى تسع سنين ، وقيل : إلى سبع سنين قال : قد فعلت وهذا يدل على علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بوقت الغَلَبَةِ ثم إنّ أبيّ بْنَ خلف خَشِيَ أن يخرج أبو بكر من مكة فأتاه ولزمه وقال ( أبيّ ) : أخاف أن تخرج من مكة فأقم لي كفيلاً فكفل له ابن عبد الله بن أبي بكر ، فلما أراد أبي بن خلف أن يخرج إلى أحد رآه عبد الله بن أبي بكر فلزمه وقال : والله لا أدَعُكَ حتى تُعْطِيَنِي كفيلاً فأطاه ، ثم خرج إلى أحد ثم رجع أبي بن خلف فمات بمكة من جراحته التي جرحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بارزه وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية ، وذلك عند رأس سبع سنين من مناحبتهم .
وقيل : كان يوم بدر ، قال الشعبي : لم تَمْض تلك المدة التي عقدوا المانحبة بينهم أهل مكة وصاحب قمارهم أبي بن خلف والمسلمون وصاحب قمارهم أبو بكر الصديق ، وذلك قبل تحريم القمار حتى غلبت الروم فارس ، وربطوا خيولهم بالمدائن وبنوا الرومية فقمر أبو بكر أبيّاً ، وأخذ مال الخطر من ورثته ، وجاء به يحمله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - تصدق به .
قوله : { مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ } العامة على بنائها ضمّاً لقطعهما على الإضافة وإرادتهما أي من قَبْلِ الغَلَبِ ومِن بَعْدِهِ أو من قبل كل أمر ومن بعده ، وإنما بني على الضم لما قطعت عن الإضافة لأن غير الضمة من الفتح والكسرة تشبيه بما يدخل إليهما وهو النصب والجر ، أما النصب ففي قولك : « جِئْتُ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ » .
وأما الجر ففي قولك : « من قبلِه ومن بَعْدِه » فبني عليه لعدم دخول مثلها عليه في الإعراب وهو الرفع ، وحكى الفراء كسرها من غير تنوين . وغلطه النحاس وقال : إنما يجوزُ من قبل ومن بعد يعني مكسوراً منوناً ، قال شهاب الدين : وقد قرىء بذلك ووجهه أنه لم ينو إضافتهما فَأَعْرَبَهُمَا كقوله :
4033 - فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ وَكُنْتُ قَبْلاً ... أَكَاد أَغُصُّ بِالمَاءِ القُرَاحِ
وقوله :
4034 - وَنَحْنُ قَتَلْنَا الأُسْدَ أُسْدَ خَفِيَّة ... فَمَا شَرِبُوا بَعْداً عَلَى لذَّةٍ خَمْرَا
وحكي من قبلٍ بالتنوين والجر ومن بعدُ بالبناء على الضم .
وقد خرج بعضهم ما حكاه الفراء على أنه قدر أن المضاف إيله موجود فترك الأول بحاله وأنشد :
4033 - . ... بَيْنَ ذِرَاعَيْ وَجَبْهَةِ الأَسَدِ
والفرق لائح ، فإن في اللفظ مثل المحذوف على خلاف في تقدير البيت أيضاً .
( فصل )
وعلى قراءة عبد الله بن عمر ، وأبي سعيد الخدري ، والحسين ، وعيسى بن عمر غَلَبَتِ الروم بفتح الغين واللام سيُغْلَبون بضم الياء وفتح اللام . قالوا : نزلت حين أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غلبة الروم فارساً في أدنى الأرض ( إليكم ) وهم من بعد غلبهم سيغلبون المسلمين في بضع سنين وعند انقضاء هذه المدة أخذ المسلمون في جهاد الروم والأول قول أكثر المفسرين وهو الأصح ولله الأمر من قبل وم نبعد أي من قبل دولة الروم على فارس ومن بعدها فأي الفريقين كان لهم الغلبة فهو بأمر الله وقضائه وقدره .
قوله : « ويَوْمَئِذٍ » أي إذ تغلبُ الروم فارساً ، والنصاب « ليوم » ( يفرح وقوله « بنصر الله ينصر » من التجنيس ، وقد تقدم آخر الكهف ، وقوله : بنصر الله « الظاهر تلقه » بيفرح ) . وجوز أبو البقاء أن يتعلق « بِيَنْصُرُ » وهذا فيه تفكيك للنَّظْمِ .
فصل
المعنى : يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله الروم على فارس . قال السدي : فرح النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون بظهورهم على المشركين يوم بدر ، فظهر أهل الكتاب على أهل الشرك { ينصر من يشاء وهو العزيز } الغالب « الرحيم » للمؤمنين .
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
قوله : « وَعْدَ اللَّهِ » مصدر مؤكد ناصبه مضمر أي وَعَدَهُم اللَّهُ ذلك وعداً بظهور الروم على فارسَ { لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ } وهذا مقدر لمعنى هذا المصدر ويجوز أن يكون قوله : { لا يخلف الله وعده } حالاً من المصدر فيكون كالمصدر الموصوف فهو مبين للنوع ( و ) كأنه قيل : وعد اله وعداً غير مخلف { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } .
قوله : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا } يعني أمر معايشهم كيف يكتسبون ويتَّجِرُونَ ومتى يغرسون قال الحسن : إن أحدهم لينقر الدرهم بطرف ظفره فيذكر وزنه ، ولا يخطىء وهو لا يحسن ( يصلي ) والمعنى أن علمهم منحصر في الدنيا بل لا يعلمون الدنيا كما هي وإنما يعلمون ظاهرها وهو ملاذها ، ولا يعلمون باطنها وهو مضارها ومتاعبها ولا يعلمون فناها { وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ } ساهون جاهلون بها لا يتفكرون فيها ، وذكرهم الثانية ليفيد أن الغفلة منهم وإلا فأسباب التذكر حاصلة .
قوله : « أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا » فقوله في أنفسهم ظرف للتفكّر ، وليس مفعولاً للتفكر ( ومتعلقه خلق ) السماوات والأرض ، والمعنى أن أسباب التفكر حاصلة وهي أنفسهم لو تفكروا فيها لعلموا وَحْدَانِيَّة الله ، وصدقوا بالحشر أما الوحدانية فلأن الله تعالى خلقهم في أحسن تقويم ، ومن يفكر في تشريح بدن الإنسان وحواسه رأى في ذلك حِكَماً كل واحدة منها كافية في معرفة كون الله فاعلاً مختاراً قادراً كاملاً عالماً ، ومن يكون كذلك يكون واحداً وإلا لكان عاجزاً عن إرادة شريكه ضد ما أراده وأما دلاله الإنسان على الحشر فلأنه إذا تفكر في نفسه يرى قُوَى مصائره إلى الزوال ، وأجزاء ماثلة إلى الانحلالِ وله فناء ضروري فلو لم يكن حياة أخرى لكان خلقه على هذا الوجه عبثاً وإليه الإشارة بقوله { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً } [ المؤمنون : 115 ] ، هذا ظاهر ، لأن من يفعل شيئاً للعبث ، فلو بالغ في أحكامه لضحك منه فأذن خلقه لذلك للبقاء ولا بقاء دون اللقاء بالآخرة فإذن لا بد من البعث . ثم إنه تعالى ذكر بعد دليل الأنفس دليل الأقطار فقال : { مَّا خَلَقَ الله السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق وَأَجَلٍ مُّسَمًّى } فقوله : « إلا بالحق » إشارة إلى وجه دلالتها على الوحدانية وقد بينا ذلك في قوله : { إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ } [ العنكبوت : 44 ] .
قوله : « ما خلق » « ما » نافية ، وفي هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنها مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها .
والثاني : أنها معلقة للتفكّر فتكون في محل نصب على إسقاط الخافض ويضعف أن تكون استفهامية بمعنى النفي ، وفيها الوجهان المذكوران . والباء في « بالحق » إما سببية ، وإما حالية لإقامة الحق ، وقوله : « وَأَجَلٌ مُسَمّىً تذكير بالأصل الآخر الذي أنكروه أي لوقت معلوم ، إذا انتهت إليه فنيت وهو يوم القيامة ، { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُون } لا يعلمون أنه لا بد بعد هذه الحياة من لقاء وبقاء .
قوله : « بلقاء » متعلق « بالكافرين » واللام لا تمنع من ذلك لكونها في خبر « إنَّ » .
فإن قيل : ما الحكمة في تقديمه ههنا دلائل الأنفس على دلائل الآفاق وقدم دليل الآفاق على دلائل الأنفس في قوله : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ } [ فصلت : 53 ] ؟
فالجواب : أن المفيد إذا أفاد فائدة يتذكرها على وجه جيد يختاره فإن مهمة السامع المستفيد فذاك ، وإلا يذكرها على وجه أبْيَنَ منه وينزل درجة فدرجة وأما المستفيد فإنه يفهم أولاً الأبين ثم يرتقي إلى فهم ذلك الأخفى الذي لم يكن فهمه فيفهمه بعد فهم الأبين المذكور آخراً فالمذكور من المفيد أخِراً مفهوم عند المستمع أولا ، إذا علم هذا فنقول ههنا ( الفعل ) كان منسوباً إلى السامع حيث قال : { أو لم يتفكروا في أنفسهم } فقال : « في أنفسهم » يعني فيما فهموه أولاً ولم يرتقوا إلى ما فهموه ثانياً ، وأما في قوله « سَنُرِيهِمْ » الأمر منسوباً إلى المفيد المسمع فذكر أولاً الآفاق ، فإن لم يفهموه فالأنفس ، لأن دلائل الأنفس لا ذهول للإنسان عنها ، وأما دلائل الآفاق فيمكن الذهول عنها ، وهذا الترتيب مراعىً في قوله تعالى : { الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ } [ آل عمران : 191 ] أي يعلمون الله بدلائل الأنفس في سائر الأحوال ويتفكرون في خلق السماوات والأرض بدلائل الآفاق .
فصل
وجه دلالة الخلق الحَقِّ على الوحدانية ظاهر ، وأما وجه دلالته على الحشر فلأن ( تخريب ) السموات وعدمها لا يعلم بالعقل إلا إمكانه ، وأما وقوعه فلا يعلم إلا بالسمع لأن الله قادر على إبقاء الحوادث أبداً كما أنه يبقي الجنة والنار بعد إحداثهما أبداً ، والخلق دليل إمكان العدم ، لأن المخلوق لم يَجِبْ له القِدَمُ فجاز عيله العدم ، فإذا أخبر الصادق عن أمر ممكن وجب على العاقل التصديق والإذعان؛ لأن العالم لما كان خلقه بالحق ينبغي أن يكون بعد هذه الحياة حياةٌ أخرى باقية لأن هذه الحياة ليست لَعباً ولهواً كما تبين بقوله : { وَمَا هذه الحياة الدنيآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ } [ العنكبوت : 64 ] ( وخلق السموات والأرض للهو واللعب عبث ، والعبث ليس بحق ) فخلق السماوات والأرض بالحق يدل على أنه لا بد بعد هذه الحياة الدنيا من الحياة .
فإن قيل : ما الفائدة في قوله ههنا : { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس } وقال من قبل : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } ؟ .
فالجواب : ( فائدته ) أنه من قبل لم يذكر دليلاً على الأصلين وههُنَا قَدْ ذكر الدلائل الراسخة والبراهين اللائحة ولا شك في أن الإيمان بعد الدليل أكثر من الإيمان قبل الدليل فبعد الدليل لا بد ( أن يؤمن ) من ذلك الأكثر جمع فلا يبقى الأكثر كما هو ، فقال بعد إقامة الدليل وإنَّ كَثِيراً ، وقال قبله : { ولكن أكثر الناس } لأنه بعد الدليل الذي لا يمكن الذهول عنه وهو السماوات والأرض لأن من البعيد أن يذهل الإنسان عن السماء التي فوقه ، والأرض التي تحته ، فلهذا ذكر ما يقع الذهول عنه وهو أمر أمثالهم ، وحكاية أشكالهم فقال : { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ } وقال في الدليلين المتقدمين « أَوَلَمْ يَرَوا » « أَوَلَم يَتَفَكَّروا » إذ لا حاجة هناك إلى السير بحضور النفس والسماء والأرض ، وقال ههُنا « أوَ لَمْ يَسِيرُوا فينظروا » ذكرهم بحال أمثالهم ، ومآل أشكالهم ثم ذكر أنهم أولى بالهلاك ، لأن من تقدم من « عَادٍ وَثُمودَ » كانوا أشدّ منهم قوة ، ولم ينفعهم قُوَاهم وكانوا أكثر مالاً وعمارةٌ ، ولم يمنعهم من الهلاك أَموالُهُمُ وحُصُونُهُمْ .
قوله : « وَأَثَارُوا الأَرْضَ » حَرَثُوهَا وقلبوها للزراعة ( ومنه « البَقَرَة تُثِيرُ الأَرْضَ » وقيل : منه سمي ثوراً ) ، وأنتم لا حراثة لكم ، « وعَمَرُوها أَكْثَرَ ممّا عَمَرُوهَا » أهل مكة ، قيل : قال ذلك لأنه لم يكن لأهل مكة حرث ، وقوله : « أكثر مما » نعت مصدر محذوف أي عمارة أكثر من عمارتهم . وقرىء : « وآثَارُوا » بألف بعد الهمزة وهي إشباع لفتح الهمزة .
قوله : { وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات } فلم يؤمنوا فأهلكهم الله ، { فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ } بنقص حقوقهم { ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } بِبَخْسِ حُقُوقِهِمْ .
قوله : « عَاقِبَةُ الذَّيِنَ » قرأ نافعٌ ، وابنُ كثيرٍ ، وأبو عمروٍ بالرفع ، والباقون بالنصب ، فالرفع على أنها اسم كان ، وذكر الفعل لأن التأنيث مجازي ، وفي الخبر حينئذ وجهان :
أحدهما : « السوءى » أي الفعلة السوءى والخَصْلَةُ السوءى .
والثاني : « أَنْ كَذَّبُوا » أي كان آخر أمرهم التكذيب فعلى الأول يكون في « أَنْ كَذَّبُوا » وجهان :
أحدهما : أنه على إسقاط الخافض إما لام العلة أي لأن كذبوا ، وإما باء السببية أي بأن كذبوا فلما حذف الحرف جرى القولان المشهوران بين الخليل وسيبويه في محل « أَنْ » . :
والثاني : أنه بدل من « السُّوءَى » أي ثم كان عاقبتهم التكذيب ، وعلى الثاني يكون « السوءى » مصدراً « لأساءوا » أو يكون نعتاً لمفعول محذوف أي أساء والفعلةَ والسُّوءَى ، و « السوءى » تأنيث « لِلأَسْوَأ » . وجوز بعضهم أن يكون خبر كان محذوفاً للإبهام ، و « السوءى » إما مصدر وإما مفعول كما تقدم أي اقْتَرَفُوا الخَطِيئَةَ السُّوءَى؛ أي كان عاقبتهم الدّمار . وأما النصب فعلى خبر كان ، وفي الاسم وجهان :
أحدهما : « السوءى » إن كانت الفعلة السوءى عاقبةَ المُسِيئينَ ، و « أَنْ كَذَّبُوا » على ما تقدم .
الثاني : أن الاسم « أَنْ كَذَّبُوا » و « السُّوءَى » على ما تقدم . المعنى : ثم كان عاقبة الذين أساءُوا السُّوءى يعني : الخلة التي تسوؤهم وهي النار ( وهي ) السُّوءَى اسم لجهنم كما أن الحُسْنَى اسم للجنة « أن كذبوا » أي لأن كذبوا ، وقيلك تفسير « السوءى » ما بعده ، وهو قوله : « أَنْ كَذَّبُوا » يعني : ثم كان عاقبة المسيئين التكذيب حَمَلَهُمْ تلك السيئات على أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون .
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)
قوله : { الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } أي يخلقهم ابتداء ثم يعيدهم بعد الموت أحياء ولم يقل : « يُعِيدُهُمْ » رد على الخلق ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؛ فيجزيهم بأعمالهم ، قرأ أبو بكر ، وأبو عمرو « يَرْجِعُونَ » - بالياء - والآخرون بالتاء .
قوله : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُبْلِسُ المجرمون } قرأ العامة « يُبْلِسُ » ببنائه للفاعل وهو المعروف يقال : أَبْلَسَ الرجل أي انقطعت حجته فكست وهو قاصر لا يتعدى ، قال العجاج :
4036 - يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْماً مُكْرَسَا ... قَالَ : نَعَمْ أَعْرِفُهُ وَأَبْلَسَا
وقرأ السُّلَمِيُّ : « يُبْلَسُ » مبنيّاً للمفعول ، وفيه بعدٌ ، لأن أبْلَسَ يتعدى ، وقد خُرِّجَتْ هذه القراءة على أن القائم مقام الفاعل مصدر الفعل ، ثم حذف ( المضافُ ، وأقيم ) المضاف إليه مُقَامَهُ ، إذ الأصل يُبْلَسُ إبْلاَس المجرمين ، و « يبلس » هو الناصب « ليَوْمَ تَقُومُ » و « يَوْمَئِذٍ » مضاف لجملة تقديرها يَوْمَئِذٍ يقوم وهذا كأنه تأكيد لفظي ، إذ يصير التقيدر يبلس المجرمون ( يوم تقوم الساعة ) .
فصل
قال قتادةُ والكَلْبِيُّ : المعنى يبلس المشركون من كل خير؛ وقال الفراء : ينقطع كلامهم وحججهم . وقال مجاهد : يفتضحون . ولم يكن لهم شركائهم أصنامهم التي عبدوها ليشفعوا لهم شفعاء ، { وَكَانُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ كَافِرِينَ } يتبرأون منها وتتبرأُ منهم .
قوله : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } أي بين أهل الجنة من أهل النار ، قال مقاتل : يتفرقون بعد الحساب إلى الجنة والنار فلا يجتمعون أبداً كما قال تعالى : { فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير } [ الشورى : 7 ] . قوله : { فَأَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ } وهي البستان الذي في غاية النضارة ، وقوله : « يُحْبَرُونَ » قال ابن عباس يكرمون . وقال قتادة ومجاهد : يُنَعمون ، وقال مجاهد وأبو عبيدة : يسرون ، والحَبْر والحُبُور السرور . وقيل الحَبْرة في اللغة كل نعمة حسنة والتَّحْبير التَّحْسِينُ يقال هو حسن الحِبرَ والسِّبر بكسر الحاء والسين وفتحهما وفي الحديث : « حَبْرْتُهُ لَكَ تَحْبِيراً » ، أي حسنت لك صوتي والقرآن تحسيناً ، وجاء في الحديث « يَخْرُجُ من النَّارِ رَجُلٌ ذَهَبَ حَبْرُهُ وسَبْرُهُ » فالمفتوح مصدر والمكسور اسم ، والروضة الجنة ، قيل : ولا تكون روضة إلا وفيها نبت ، وقيل : إلا وفيها ماء ، وقيل : ما كانت منخفضة ، والمرتفعة يقال لها : تُرعة ، وقيل : لا يقال لها روضة إلا وهي في مكان غليظ مرتفع . قال الأعشى :
4037 - ما رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الحَزْنِ مُعْشِبَةً ... خَضْرَاءَ جَادَ عَلَيْهَا مُسْبِلٌ هَطِلُ
وأصل رياضٍ رَواضٌ ، فقلبت الواو ياء على حدِّ حَوْصٍ وحِيَاضٍ ونكر الروضة للتعظيم ، وقال ههنا : يُحْبَرُونَ : بصيغة الفعل ولم يقل « مَحْبُرُونَ » وقال في الأخرى ( مُحْضَرُون ) بصيغة الاسم ولم يقل « يُحْضَرُونَ » لأن الفعل يدل على التجديد ، والاسم لا يدل عليه ، فقوله « يحبرون » يعني كل ساعة يأتيهم ما يسرون به ، وقوله « محضرون » أي الكفار في العذاب يبقون ( فيه ) مُحْضَرُونَ .
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)
قوله : { فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } أي سبحوا الله ، ومعناه صلوا عليه حين « تمسون » تدخلون في المساء ، وهو صلاة المغرب والعشاء « وحين تصبحون » أي تدخلون في الصباح وهو صلاة الصبح . { وَلَهُ الحمد فِي السماوات والأرض وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ } قال ابن عباس : يَحْمَدُهُ أهل السماوات والأرض ويصلون « وَعَشيّاً » أي صلوا لله عشياً؛ يعني صلاة العصر « وحِينَ تُظْهِرُونَ » أي تدخلون في الظهيرة وهي صلاة الظهر ، قال نافع الأزرق لابن عباس ، هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال : نعم وقرأ هاتَيْنِ الآيتين ، وقال : جمعت الآية الصلوات الخمس ومواقيتها . وروى أبو هريرة « أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال » مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحْمْدِهِ فِي يَوْم مائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وإنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ « ( وقال عليه السلامَ : » مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبحُ وَحِينَ يُمْسِي سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مائةَ مَرَّةِ لَمْ يَأْتِ أَحِدٌ يَوْمَ القِيَامَةِ بِأَفْضَلَ ممّا جَاءَ بِهِ إلاَّ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أوْ زَادَ عَلَيْهِ « ، وقالَ عليه السلام : » كَلَمَتانِ خَفِيفَتَانِ على اللِّسانِ ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ حَبيبَتَانِ عَلَى الرَّحمَن : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ الله العَظيم «
قوله : » تُمْسُونَ وتُصْبِحُونَ « تامَّاتٌ ) أي تدخلون في المساء والصباح كقولهم : إذا سَمِعْتَ بِسُرَى القَيْنِ فاعلم بأنه ( مُصْبِح ) أي مقيم في الصباح . والعامة على إضافة الظرف إلى الفعل بعده ، وقرأ عكرمة : » حِيناً « بالتنوين ، والجملة بعده صفة له ، والعائد حينئذ محذوف أي تُمْسُونَ فيه ، كقوله { واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ } [ لقمان : 33 ] . والناصب لهذا الظرف » سُبْحَانَ « لأنّه نائب عن عامله .
قوله : » وَعَشيّاً « عطف على » حين « وما بينهما اعتراض و » في السَّمَوَاتِ « يجوز أن يتعلق بنفس الحمد ( أي أن الحمد ) يكون في هذين الظرفين .
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
قوله : { يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي } . قد تقدم اختلاف القراء في تخفيف الميت وتثقيله وكذلك قوله « تُخْرَجُونَ » في سورة الأعراف ، و « كَذَلِكَ » نعت مصدر محذوف أي ومثل ذلك الإخراج العجيب تُخْرَجُونَ .
واعلم أن وجه تعلق إخراج احي من الميت والميت من الحي بما قبله هو أن عند الإصباح يخرج الإنسان من سُنَّةِ النَّوْم وهو النوم إلى سنة الوجود وهي اليقظة وعند العشاء يخرج الإنسان من اليقظة إلى النوم . واختلف المفسرون في قوله : { يخرج الحي من الميت } فقال أكثرهم يخرج الدجاجة من البيضة ، والبيضة من الدجاجة وكذلك الحيوان من النطفة والنطفة من الحيوان . وقيل : يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ثم قال : { وَيُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } وفي هذا معنى لطيف وهو أن الإنسان بالموت تبطل حواسه ، وأما نفسه الناطقة فتفارقه ، وتبقى بعده كما قال : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً } [ آل عمران : 169 ] لكن الحيوان نام متحرك حساس لكن النائم لا يتحرك ، ولا يُحس ، والأرض الميتة لا يكون فيها نماء ، ( ثم ) النائم بالانتباه يتحرك ويحس والأرض بعد موتها ( ينمو ) نباتها ، فكما أن تحريك ذلك الساكن وهذا الواقف سهل على الله ، كذلك إحياء الميت سهل على الله ، وإلى هذا أشار بقوله « وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ » .
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)
قوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ } مبتدأ أو خبر أي وم جملة علامات توحيده وأنه يبعثكم خلقكم واختراعكم و « من » لابتداء الغاية ، وقوله : « من تراب » أي خلق أصلنا وهو آدم من تراب ، ( أ ) وأنه خلقنا من نطفة والنطفة من الغذاء والغذاء إنما يتولد من الماء والتراب على ما تقدم شرحه { ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ } في الأرض . والترتيب والمهلة هنا ظاهران فإنهم يصيرون بشراً بعد أَطْوَارِ كثيرة و « تَنْتَشِرُونَ » حال .
و « إِذَا » هي الفُجَائِيَّة ، إلا أنَّ الفجائية أكثر ما تقع بعد الفاء؛ لأنها تقتضي التعقيب ووجه وقوعها ( مع ) « ثم » بالنسبة إلى ما يليق بالحالة الخاصة أي بعد تلك الأطوزار التي قَصَّها علينا في موضع آخر من كوننا نطفةً ثم علقةً ثم مُضْغَةً ( ثُمَّ عظماً مجرداً ) ثم عظماً مكسوّاً لحما ( فَاجَأ ) البشرية فالانتشار .
قوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } « مِنْ أَنْفُسِكُمْ » يعني من بني آدم ، وقيل خلق « حَوَّى » من ضِلَع آدم « لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا » . والصحيح أن المراد من جنسكم كما قال : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [ التوبة : 128 ] ويدل عليه قوله : « لِتَسْكُنُوا إلِيها » يعني أن الجنسين المختلفين لا يسكن أحدهما إلى الآخر ، أي لا يثبت نفسه معه ، ولا يميل قلبه إليه { وجعل بينكم مودة ورحمة } ( وقيل : مودة ) بالمجامعة : ( ورحمة ) للولد تَمَسُّكاً بقَوْلِهِ : { ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ } [ مريم : 2 ] ، وقيل : جعل بين الزوجين المودةَ ( والرحمة ) فهما يَتَوَادَّانِ ، وَيَتَرَاحَمَانِ وما من شيء أحبَّ إلى أحد من الآخر من غير رحم بينهما . { إِنَّ فِي ذَلِكَ } يحتمل أن يكون المراد منه إن في خلق الأزواج « لآيات » . ويحتمل أن يقال : « إنَّ في جعل المودة والرحمة بينهم آيات لقوم يتفكرون » في عظمة الله وقدرته .
قوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض } ثم لما أشار إلى دلائل الأنفس والآفاق ( ذكر ) ما هو من صفات الأنفس وهو قوله : « واخْتِلاَفَ ألْسِنَتِكُمْ » أي لغاتكم من عرب وعجم مع تنوع كل من ( الجنسين ) إلى أنواع شتى لا سيّما العجم ، فإن لغاتهم مختلفة ، وليس المراد بالألسنة الجوارح ، وقيل : المراد بالألسن اختلاف الأصوات ، وأما اختلاف الألوان فالمراد أبيضُ وأسودُ وأحمرُ وأنتم ولدُ رجلٍ واحد ، ( وامرأةٍ واحدة ) . وقيل : المراد باختلاف الألوان الذي بين ألوان الإنسان فإن واحداً منهم مع كَثْرة عددهم ، وصغر حجم قدودهم لا يشتبه بغيره ، والسموات مع غيرها وقلة عددها مشتبهات في الصورة { إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ } ، قرأ حفص بكسر اللام ، جعله جمع عَالِمٍ ضد الجاهل ونحوه : { وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون } [ العنكبوت : 43 ] والباقون بفتحها لأنها آيات لجميع الناس وإن كان بعضهم يَغْفُلُ عنها وقد تقدم أول الفاتحة الكلام في « العَالَمِينَ » ( قيل ) : هو جمع أو اسم جمع .
قوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بالليل والنهار } لما ذكر الأعراض اللازمة وهي الاختلاف ذكر الأعراض المفارقة ومن جملتها النوم بالليل والحركة بالنهار طلباً للرزق ( و ) قيل : في الآية تقديم وتأخير ليكون كل واحد مع ما يلائمه ، والتقدير ومن آياته منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار ، فحذف حرف الجر لاتصاله بالليل ، وعطفه عليه لأن حرف العطف قد يقوم مَقَامَ الجَارِّ ، والأحسن أن يجعل على حاله .
والنوم بالنهار مما كانت العرب تَعُدُّه نعمةً من الله ، ولا سيما في أوقات القَيْلُولَةِ في البلاد الحارة ، وقوله : { وابتغآؤكم مِّن فَضْلِهِ } أي منهما فإن كثير ما يكتسب الإنسان بالليل ، ويدل على الأول قوله تعالى : { وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } [ الإسراء : 12 ] وقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً } [ النبأ : 10 - 11 ] ، ثم قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } سماع تدبير واعتبار وقال ههنا : « لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ » ومن قبل : « لقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ » وقال : « لِلْعَالَمِينَ » لأن المنام بالليل ، والابتغاء يظّن الجاهل أو الغافل أنهما مما يقتضيه طبع الحيوان فلا يظهر لكل أحد كونهما من نعم الله ، فلم يقل آياتٍ للعالمين ، ولأن الأمرين الأولين وهو اختلاف الألسن والأولون من اللوازم والمنام والابتغاء من الأمور المفارقة فالنظر إليهما لا يدوم لزوالهما في بعض الأوقات ولا كذلك اختلاف الألسنة والألون فإنهما يدومان بدَوَام الإنسان فجعلها آيات عامة ، وأما قوله : « لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ » فإن من الأشياء ما يعلم من غير تفكر ، ومنها ما يكفي فيه مُجَرَّدُ الفكرة ، ومنها ما يحتاج بعض الناس في تفهمه إلى مثل حسيّة كالأشكال الهندسية ، لأن خلق الأرواح لا تقع لأحد أنه بالطبع إلا إذا كان جامد الفكرة ، فإذا تفكر علم كون ذلك الخلق آية ، وأما المنام والابتغاء فقد يقع لكثير أنهما من أفعال العباد ، وقد يحتاج إلى مرشد بغير فكرة فقال : « لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ » ويجعلون بالهم من كلام المرشد .
قوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً } لما ذكر العرضيات اللازمة للأنفس المفارقة ذكر العرضيات التي للآفاق .
قوله : « يُريكُمُ البَرْق » فيه أوجه أظهرها : الموافق لأخواته أن يكون جملة اسمية من مبتدأ وخبر إلا أنه حذف الحرف المصدري ، ولما حذف بطل عمله والأصل : ومن آياته أن يُرِيَكُمْ ، كقوله :
4038 - أَلاَّ أيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الوَغَى .. .
الثاني : أن « من آياته » متعلق « بيريكم » أو بمحذوف على أنه حال من البَرْقِ . والتقدير « يريكم البرق من آياته » فيكون قد عطف جملة فعليةً على جملة اسمية .
والثالث : أن « يريكم » صفة لموصوف محذوف أي ومن آياته ( آية ) يريكم البرق بها أو فيها البرق فحذف الموصوف والعائد عليها ومثله :
4039 - وَمَا الدَّهْرُ إلاَّ تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا ... أموت
أي منهما تارة أموت منها .
الرابع : أن التقدير : ومن آياته سحابٌ أو شيءٌ يريكم؛ فيريكم صفة لذلك المقدر ، وفاعل « يريكم » ضمير يعود عليه بخلاف الوجه قبله ، فإن الفاعل ضمير الباري تعالى .
فصل
المعنى يريكم البرقَ خوفاً للمسافرين من الصواعق ، وطمعاً للمقيمين في المطر وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون } .
فصل
قدم لوازم الأنفس على العوارض المفارقة ( حيث ذكر أولاً اختلاف الألسنة والألوان ثم المنام والأبتغاء ، وقدم في الآفاق العارضة المفارقة ) على اللوازم حيث قال : { يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ } وذلك لأن الإنسان متغير الحال ، فالعوارض فيها أغرب من اللوازم فقدم ما هو عجيب لكونه أدخلَ في كونهِ « آيةً » فإن الإنسان يتغير حاله بالكبر والصغر والصحة والسقم فله صوت يعرف به لا يتغير ول لون يتميز به عن غيره ، وهو متغير بذلك في الأحوال وذلك لا يتغير وهو آية عجيبة والسماء ( والأرض ) ثابتان لا يتغيران ثم نرى في بعض الأحوال أمطاراً هاطلةً ، وبُرُوقاً هائِلةً والسماء كما كانت والأرض كما كانت وذلك آية تدل على فاعل مختار يديم أمراً مع تغير المحلِّ ويُزِيل أمراً مع ثبات المحلِّ .
فصل
كما قدم السماء على الأرض قدم ما هو من السماء وهو البرق والمطر على ما هو من الأرض وهو الإنبات والإحياء وكما أن في إنزال المطر وإنبات الشجر منافعَ كذلك في تقديم الرعد والبرق على المطر منفعة وهي أن البرق إذا لاح فالذي لا يكون تحت كِنّ يخاف الابتلاء فيستعد له ، والذي له صهْريج ، أو مصنع يحتاج إلى ماء أو زرع يسوي مجاري الماء ، وأيضاً أهل البوادي لا يعلمون أن البلاد عشبة إن لم يكونوا قد رأوا البروقَ اللائحة من جانبٍ دُونَ جانبٍ ، واعلم أن دلائل البرق وفوائده وإن لم تظهر للمُقِيمينَ في البلاد فهي ظاهرة للبادين فلهذا جعل تقديم البرق على تنزيل الماء من السماء نعمة وآية .
فصل
أما كونه آيةً فلأن الذي فس السحاب ليس إلا ماءً وهواءً وخروج النار منهما بحيث يحرق الجبال في غاية البعد فلا بد له من خالق وهو الله . وقالت الفلاسفة : السحاب فيه كثافة ولطافة بالنسبة إلى الهواء أو الماء فالهَوَى ألطف منه والماء أكثف فإذا هبت الريحُ قويةً تحرك السحابُ فيَحْدُثُ صوت الرعد وتخرج منه النار ، كما أن النار تخرج من وَقْعِ الحَجَر على الحَديد فإن قيل : الحديد والحجر جسمان صُلْبَان ، والسحاب والريح جسمان ( لَيَنانٍ ) ( فنقول لكن حركة يد الإنسان ضعيفة ، وحركة الريح قوية تقلع الأشجار ) فنقول لهم الرعد والبرق ( أَمْرانِ ) حادثان لا بد لهما من مسبِّب ، وقد علم بالبرهان كونُ كلِّ حادث ( فهما ) من الله ثم نقول : ( هب ) أن الأمر كما يقولون فهبوب تلك الريح القوية من الأمور الحادثة العجيبة فلا بد لها من سبب وينتهي إلى واجب الوجود فهو آية للعاقل على قدرة الله كَيْفَمَا فَرَضْتُمْ .
فإن قيل : ما الحكمة في قوله ههنا : { آيات لقوم يعقلون } وقوله فيما تقدم : « لقوم يتفكرون؟ » فالجواب :
لما كان حدوث الولد من الوالد أمراً عادياً مطرداً قليل الاختلاف كان يتطرق إلى الأوهام العامية أن ذلك بالطبيعة لأن المطرد أقرب إلى الطبيعة ( من ) المختلف ، والبرق والمطر ليس أمراً دون وقت ، وتارة يكون قوياً ، وتارة يكون ضعيفاً فهو أظهر في العقل دلالة على الفاعل المختار ، فقال هو آية لمن له عقل وإن لم يتفكر تفكراً تاماً .
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)
قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ } قال ابن مسعود : قامتا على غير عُمُدٍ بأمره . واعلم أنه ذكر من لوزم المساء والأرض قيامهما فإن الأرض لثقلها يتعجب الإنسان من وقوفها وعدم نزولها وكون السماء في علوها معجب من علوها وثباتها من غير عمد ، وهذا من اللوازم ، فإن الأرض لا تخرج عن مكانه الذي فيه .
( فإن قيل : ) بأنها تتحرك في مكانها كالرَّحَاء ، ولكن اتفق العقلاء على أنها في مكانها ( لا تخرج عنه . وهذا آية ظاهرة لأن كونهما في الموضع الذي هما فيه ، وعلى الموضع الذي هما عليه ) من الأمور الممكنة وكونهما في غير ذلك الموضع جائز فكان يمكن أن يَخْرُجَا منه ، فلمّا لم يخرجا كان ذلك ترجيحاً للجائز على غيره وذلك لا يكون إلا بفاعل مختار ، وقالت الفلاسفة : كون الأرض في الكائن الذي هي فيه طبيعى لها لأنها أثقل الأشياء ، والثقيل يطلب المركز والخفيف يطلب المحيط وكون السماء في مكانها إن كانت ذات مكان فلذاتها ، فقيامها فيه لطبعها وأُجيبُوا بأنكم وافقتمونا بأن ما جاز على أحد المثلين جاز على المثل الآخر لكن مقعَّر الفلك لا يخالف مُحْدَبه في الطبع فيجوز حصول مقعره في موضع محْدبه وذلك بالخروج والزوال فإذن تطرق الزوال إليه عن المكان ممكن لا سيما على السماء الدنيا فإنها ليست محدّده للجهات على مذهبكم أيضاً والأرض كانت يجوز عليها الحركة الدورية كما تقول على السماء فعدمها وسكونها ليس إلا بفاعل مختار .
فصل
ذكر الله تعالى من كل باب أمرين : أما من الأنفس فقوله : « ( خلقكم ) وخلق لكم » واستدل بخلق الزوجين ومن الآفاق السماء والأرض ( فقال : « خلق السماوات والأرض » ) ومن لواز الإنسان اختلاف اللسان واختلاف الألوان ومن عوارض الآفاق البَرْقَ والأمطار ومن لوازمها قيام السماء والأرض؛ لأن الواحد يكفي للإقرار بالحق ، والثاني يفيد الاستقرار ومن هذا اعتبر شهادة شاهدين ، فإن قول أحدهما يفيد الظن ، ، وقول الآخر يفيد تأكيده ، ولهذا قال إبراهيم عليه ( الصَّلاَة و ) السلام : { بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ البقرة : 60 ] .
فصل
قوله : بأمره أي بقوله : « قوما » أو بإرادته قيامها؛ لأن الأمر عند المعتزلة موافقٌ للإرادة وعندنا ليس كذلك ولكن النزاع في أمر التكليف ، لا في أمر التكوين فإنا لا ننازعهم في أن قوله : « كُنْ فَيَكُونَ » و « كُونِي » و « كونوا » موافق للإرادة .
فإن قيل : ما الفائدة في قوله « ههنا » : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء } وقال قبله : { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ } [ الروم : 24 ] ( ولم يقل : أنْ يُرِيَكُم ) ليصير ( كالمصدر « بأن » ؟ ) .
فالجواب : أن القيام لما كان غير متغير أخرج الفعل بأن عن الفعل المستقبل ولم يذكر معه الحروف المصدرية .
فإن قيل : ما الحكمة في أنه ذكر ست دلائلَ وذكر في أربعةٍ منها : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ } [ الروم : 24 ] ولم يذكر الأولى وهو قوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ } [ الروم : 20 ] ولا في الآخر وهو قوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض } ؟ .
فالجواب : أما الأول فلأن قوله بعده : { ومن آياته أن خلق لكم } أيضاً دليل الأنفس فخلق السماء والأرض وخلق الأزواج من باب واحد على ما تقدم من أنه تعالى ذكر من كل باب أمرين للتقرير والتوكيد . فلما قال في الثانية : { إن في ذلك لآيات } كان عائداً إليهما ، وأما في قيام السماء والأرض فلأنه ذكر في الآيات السماوية أنها آيات للعالمين ولقوم يعقلون وذلك لظهور فلما كان في أول الأمر ظاهراً ففي آخر الأمر بعد سَرْدِ الدلائل يكون أظهر ( فلم يميز أحداً في ذلك عن الآخر ) . ثم إنه تعالى لما ذكر الدليل على القدرة والتوحيد ذكر مدلوله وهو قدرته على الإعادة فقال : { ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأرض إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } وجه العطف « بثم » و « بم تعلق » فمعناه أنه تعالى إذا بين لكم كمال قدرته بهذه الآيات بعد ذلك يخبركم ويعلمكم أنه إذا قال للعظام الرميمة اخرجوا من الأجداث يخرجون أحياء .
قوله : « مِنَ الأَرْضِ » فيه أوجه : أظهرها : أنه متعلق بمحذوف يدل عليه « يخرجون » أي خرجتم من الأرض ، ولا جائز أن يتعلق « بتَخْرُجُونَ » لأن ما بعد « إذا » لا يعمل فيما قبلها .
فصل
قَوْلُ القَائِل : « دعا فلانٌ فلاناً من الجبل » يحتمل أن يكون الدعاء من الجبل كما يقول القائلك يا فلانُ ( اصْعَدْ ) إلى الجبل ، ( فيقال : دَعَاهُ من الجبل ، ويحتمل أن يكون المدعوّ يُدْعَى من الجبل كما يقول القائل : يا فلانُ انزل من الجبل فيقال دعاه من الجبل ) ، ولا يخفى على العاقل أن الدعاء لا يكون من الرض إذا كان الداعي هو اللَّه ، والمدعوّ يدعى من الأرض ، يعني أنكم في الأرض فيدعوكم منها فتخرجون ، وَإِذا هي الفجائية ، قال أكثر العلماء معنى الآية : ثم إذا دعاكم دعوة إِذا أنتم تخرجون من الأرض .
فصل
قال ههنا : { إذا أنتم تخرجون } وقال في خلق الإنسان أولاً : { ثم إذا أنتم بشر تنتشرون } لأن هناك يكون خلقٌ وتقديرٌ وتدريجٌ حتى يصير التراب قابلاً للحياة فينفُخُ فيه روحَه فإذا هو بشر ، وأما في الإعادة فلا يكون تدريجٌ وتراخٍ بل يكون نداء وخروج ، فلم يقل ههنا : « ثُمَّ » .
قوله : { وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } قال ابن عباس : كل له مطيعون في الحياة والفناء والموت والبعث وإنْ عَصَوْا في العبادة . وقال الكلبي : هذا خاص لمن كان منهم مطيعاً . ولما ذكر الآيات التي تدل على القدرة على الحشر الذي هو الأصل الآخر والوحدانية التي هي الأصل الأول أشار إليهما بقوله : { وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض } ونفس السموات والأرض له وملكه فكُلٌّ له منقادون قانتون ، والشريك يكون منازعاً ، فلا شريك له أصلاً ، ثم ذكر المدلول الآخر فقال : { هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده } يخلقهم أولاً ، ثم يعيدهم بعد الموت للبعث .
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
قوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } في « أهون » قولان :
أحدهما : أنها للتفضيل على بابها وعلى هذا يقال : كيف يتصور التفضيل ، والإعادة والبداءة بالنسبة إلى الله تعالى على حد سواء؟ في ذلك أجوبة : أحدها : أن ذلك بالنسبة إلى اعتقاد البشر باعتبار المشاهدة من أن إعادة الشيء أهون من اختراعه لاحتياج الابتداء إلى إعمال فكر غالباً ، وإن كان هذا ( مُنْتَفِياً ) عن البارىء تعالى فخوطبوا بحسب ما أَلِفُوهُ .
الثاني : أن الضمير في « عليه » ليس عائداً على الله تعالى إنما يعود على الخلق أي والعود أَهْوَنُ عَلَى الخلق أي أسرع لأن البداء فيها تدريجٌ من طورٍ إلى طورٍ إلى أن صارت إنساناً والإعادة لا تحتاج إلى هذه التدريجات فكأنه قيل : وهو أَقْصَرُ عليه وأيسر وأقل انتقالاً والمعنى يقومون بصيحة واحد فيكون أهون عليهم من أن يكونوا نُطَفاً ثم عَلَقاً ثم مُضَغاً إلى أن يَصِيرُوا رجالاً ونساءً - وهي رواية الكلبي عن أبي صالحٍ عن ابن عباس .
الثالث : أن الضمير في « عليه » يعود على ( المخلوق بمعنى ) والإعادة أَهْوَنُ على المخلوق أي إعادته شيئاً بعد ما أنشأه هذه في عرف المخلوقين ، فكيف ينكرون ذلك في جانب الله تعالى ، والثاني : أن « أَهْوَن » ليست للتفضيل بل هي صفة بمعنى « هَيِّن » كقولهم « اللَّهُ أكبر » أي الكبير وهي رواية العَوْفِيِّ عن ابن عباس .
وقد يجيء « أفعل » بمعنى الفاعل كقول الفرزدق :
4040 - إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا ... بَيْتاً دَعائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ
أي عزيزة طويلة . والظاهر عود الضمير في « عليه » على الباري تعالى ليوافق الضمير في قوله : ( وله المثل الأعلى . قال الزمخشريُّ : « فإن قلت : لم أخرت الصلة في قوله { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } وقدمت في قوله ) : { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } [ مريم : 9 ] قلتُ : هنالك قصد الاختصاص وهو ( محزة ) فقيل : هو على هين وإن كان مستصعباً عندك أن يولد بين هِمٍّ وعاقر فذلك عليّ هين لا على غيري ، وأما هنا فلا معنى للاختصاص كيف والأمر مبيَّن على ما يعقلون من أن الإعادة أسهل من الابتداء فلو قدمت الصلة لتغير المعنى . قال أبو حيان : ومبنى كلامه على أن التقديم يفيد الاختصاص وقد تقدم منعه . قال شهاب الدين : الصحيح أنه يفيده . وتقدم جمع ذلك .
قوله : { وَلَهُ المثل الأعلى } يجوز أن يكون مرتبطاً بما قبله وهو قوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } أي قد ضربه لكم مثلاً فيما يسهل ويصعب . وإليه نحا الزجاج . أو بما بعده من قوله : { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [ الروم : 28 ] وقيل : المثل : الوصف أي الصفة العليا . قال ابن عباس : هي أنه { ليس كمثله شيء } وقال قتادة : هو أنه لا إله إلا هو .
قوله : » فِي السَّمَواتِ « يجوز أن يتعلق » بالأَعْلَى « أي أنه أعلى في هاتين الجهتين ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من » الأعلى « أو من » المثل « أو من الضمير في » الأعلى « فإنه يعود علىلمثل ، » وَهُوَ العَزِيزُ « في ملكه » الحَكِيمُ « في خلقه .
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)
قوله : { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ } أي بين لكم شبهاً بحالكم ذلك المثل من أنفسكم ، و « من » لابتداء الغاية في موضع الصفة « لِمَثَلاً » ، أي أخذ مثلاً وانْتَزَعَهُ من أقْرَبِ شيء منكم وهو « أنفسكم » ثم بين المثل فقال : { هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ } من المال ، والمعنى أن من يكون مملوكاً لا يكون شريكاً له في ماله فكيف يجوز أن يكون عباد الله شركاء له وكيف يجوز أن يكون لهم عظمة الله تعالى حتى يعبدوا .
قوله : « مِنْ شُرَكَاء » مبتدأ و « من » مزيدة فيه لوجود شرطي الزيادة ، وفي خبره وجهان : أحدهما : الجار الأول وهو « لَكُمْ » و « مِمَّا مَلَكَتْ » يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من « شركاء » ؛ لأنه في الأصل نعت نكرة قدم عليها ، والعامل فيه العامل في هذا الجار الواقع خيراً ، أو الخبر مقدر بعد المبتدأ ، و « فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ » « بشركاء » و « ما » في « مما » بمعنى النوع ، تقدير ذلك كله : هل شركاءُ فيما رزقناكم كائنونَ من النَّوْعِ الذي مَلَكتْهُ أيْمَانُكُمْ مستقرون لكم؟ « فكائنون » هو الوصف المتعلق به « ممَّا مَلَكتْ » ولما تقدم صار حالاً و « مستقرون » هو الخبر الذي تعلق به « لكم » .
والثاني : أن الخبر « مِمَّا مَلَكَتْ » و « لَكُمْ » متعلق بما تعلق به الخبر ، أو بمحذوف على أنه حال من « شركاء » أو بنفس « شركاء » كقولك : لَكَ في الدنيا محب « فلك » متعلق ( بِمُحِبٍّ ) وفي الدنيا هو الخبر . قوله : { وَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ } هذه الجملة جواب للاستفهام الذي بمعنى النفي « وَفِيهِ » متعلق « بسَوَاء » .
قوله : « تَخَافُونَهُمْ » فيه وجهان :
أحدهما : أنها خبر ثان « لأنتم » تقديره « فأنتم » مُسْتَوُونَ معهم فيما رزقناكم خائفوهم كخوف بعضهم بعضاً أيها السادة ، والمراد نفي الأشياء الثلاثة أعني الشركة والاستواء مع العَبِيد وخوفهم إياهم ، وليس المراد ثبوت الشركة ، ونفي الاستواء والخوف كما هو أحد الوجهين في قولك : مَا تَأْتِينَا فَتُحَدِّثَنَا بمعنى ما تأتينا محدِّثاً بل تأتينا ولا تحدثُنا بل المراد نفي الجميع كما تقدم . وقال أبو البقاء : { فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ } الجملة في موضع نصب على جواب الاستفهام أي هل لكم فتستووا أنتم . وفيه نظر كيف يجعل جملة اسمية حالة محل جملة فعليه ويحكم على موضع الاسمية بالنصب بإضمار ناصب ، هذا مما لا يجوز ولو أنه فسر المعنى وقال : إن الفعل لو حل بعد الفاء لكان منصوباً بإضمار « أَنْ » لكان صحيحاً ، ولا بد أيضاً أن يبين أن النصب على المعنى الذي قدمته من نفي الأشياء الثلاثة .
والوجه الثاني : أن « تَخافُونَهُمْ » في محل نصب على الحال من ضمير الفاعل في « سَوَاء » . أي فَسَاوَوْا خائفاً بعضُكُمْ من بعض مشاركَتَهُ له في المال أي إذا لم تَرْضوا أنه يشارككم عبيدكُم في المال فكيف تشركون بالله من هو مصنوع له؟ قاله أبو البقاء .
وقال ابن الخطيب معنى حَسَناً وهو أن بين المِثْلِ والمُمَثَّل به مشابهةٌ ومخالفةٌ ، فالمشابهة معلومة والمخالفة من وجوه :
أحدها : قوله : « مِنْ أَنْفُسِكُمْ » أي من نَسْلِكُمْ مع حقارة الأنفس ونقصِها وعجْزِهَا ، وقاسَ نفسه عليكم مع جلالتها وعظمتها وقدرتها وكمالها .
وثانيها : قوله : { مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي عبيدكم لكم عليهم ملك اليمين والملك لها طَارِ ( ىء ) قابل للنقل والزوال ، أما النقل فالبيع وغيره ، وأما الزوال فبالعِتْقِ ومملوكه تعالى لا خروج له عن الملك فإذا لم يجز أن يكون مملوك يمينكم شريكاً لكم مع أنه يجوز أن يصير مثلكم من جميع الوجوه بل هو في الحال مثلكم في الآدميَّةِ حال الرق حتى أنكم ليس لكم تصرفٌ في روح وآدميته بقطع وقتل وليس لكم منعهم من العبادة وقضاء الحاجة فكيف يجوز أن يكون مملوك الله الذي هو مملوكه من جميع الوجوه وهو مباينله بالكلية شريكاً له؟!
وثالثه : قوله : « مما رَزَقَنْاكُمْ » يعني : الذي لكم هو في الحقيقة ليس لكم بل هو لِلَّه ومن رزقه حقيقة فإذا لم يجز أن يكون لكم شريط فيما هو لكم من حيث الاسم فكيف يجوز أن يكون له شريك فيما هو له من حيث الحقيقة .
ورابعها : قوله : { فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ } أي هل أنتم ومماليككم في شيء مما تملكون أنتم سواء ليس كذلك فلا يكون لله شريك في شيء؛ لأن كل شيء فهو لله وما تدعون إِلهيَّتَهُ لا يملكون شيئاً أصلاً ، ولا مِثْقَالَ ذرة خَرْدَلٍ فلا يُعْبَدُ لعظمته ولا لمنفعة تصل إليكم ( منهم ) منه ، وأيضاً فأنتم ومماليككم سواء ليس كذلك لأن المملوكَ ليس له عندكم حُرْمَةُ الأحرار ، وإذا لم يكن المملوك مع مساواته إياكم في الحقيقة والصفة عندكم حرمة فكيف يكون حال المماليك الذين لا مساواة بينهم وبين المالك بوجه من الوُجُوه ، وإلى هذا إشار بقوله : { تَخَافُونَهُمْ كَخِفَتُكُمْ أَنْفُسَكُمْ } انتهى . وإنما ذكرت هذا المعنى مبسوطاً لأنه مبين لما ذكرته من وجوه الإعراب . « كخفيفتكم » أي كَخِيفَةٍ مِثْل خِيفَتِكُمْ . والعامة على نصب « نفسكم » ، لأن المصدر مضاف لفاعله .
وقرأ ابْنُ أبي عبلةَ بالرفع على إِضافة المصدر لمفعول . اسْتَقْبَحَ بعضهم هذا إِذا وجد الفاعل . وقال بعضهم : ليس بقبيح بل يجوز إضافته إلى كل منهما إذا وجدا وأنشد :
4041 - أَفْنَى تِلاَدِي وَمَا جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبِ ... قَرْعُ القَوَارِير أَفْوَاهُ الأَبَارِيقِ
ينصب « الأفواه » و « رفعها » .
قوله : { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات } أي مثلُ ذلك التفصيل البين نفصل . وقرأ أبو عمرو - في رواية يُفَصِّل - بياء الغيبة رداً على قوله : « ضَرَبَ لَكُمْ » ، والباقون بالتكلم رداً على قوله « رَزَقْنَاكُمْ » والمعنى يبين بالآيات والدلائل والبراهيم القطعية والأمثلة : « لقوم يعقلون » ينظرون إلى هذه الدلائل بعقولهم ، والأمر لا يخفى بعد ذلك إلا على من لا يكون له عقل .
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
قوله : { بَلِ اتبع الذين ظلموا أَهْوَآءَهُمْ } أي لا يجوز أن يشرك مالك ممولكه ولكن الذين ظلموا أي أشركوا اتبعوا أهواءهم في الشرك { مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ } أي من غير دليل جهلاً بما يجب عليهم ، ثم بين أن ذلك بإرادة الله بقوله : { فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ الله } أي هَؤلاء أَضَلَّهم الله فلا هاديَ لهم فلا يحزنْك قَوْلُهُمْ ثم قال : { وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } مانعيهم يمنعونهم من عذاب الله - عز وجل - .
قوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً } أي أخلص دينك لله قال سعيد بن جبير : وقامة الوجه إقامة الدين . وقال غيره : سَدِّدُ عملَكَ . والوجه ما يتوجه إليه ، وقيل : أقبل بكُلِّكَ على الدين . عبر عن الذات بالوجه كقوله تعالى : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] أي ذاته بصفاته .
قوله : « حَنِيفاً » حال من فاعل « أقم أو من مفعوله ، أو من » الدِّين « ومعنى حنيفاً مائلاً إليه مستقيماً عليه ، ومِلْ عن كل شيء لا يكون في قلبك شيء آخر ، وهذا قريب من معنى قوله : { وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين } .
قوله : » فِطْرَةَ اللَّهِ « فيه وجهان :
أحدهما : أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة كقوله : { صِبْغَةَ الله } [ البقرة : 138 ] و { صُنْعَ الله } [ النمل : 88 ] .
والثاني : أنه منصوب بإضمار فعل . قال الزمخشري : وإنما أضمره على خطاب الجماعة لقوله : » مُنِيبِينَ إِلَيْهِ « وهو حال من الضمير في » الْزَمُوا « .
وقوله : { واتَّقُوهُ وأَقِيمُوا . . . وَلاَ تَكُونُوا } معطوف على هذا المضمر ، ثم قال : » أو عليكم فطرةَ الله « ورد أبو حيان بأن كلمة الإغراء لا تضمر ، إذ هي عِوَضٌ عن الفعل فلو حذفها لزم حذف العِوَضِ والمُعَوَّضِ عنه وهو إجحاف . قال شهاب الدين : هذا رأي البصريين وأما الكسائي وتباعه فيجيزون ذلك .
فصل
ومعنى فطرة الله : دين الله وهو التوحيد فإن الله فطر الناس عليه حيث أخرجهم من ظهر آدم وسألهم : { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } [ الأعراف : 172 ] وقال عليه السلام » مَا مِنْ مَوْلُودِ إِلاَّ وَهُوَ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ وَإِنَّمَا أَبَواهُ يُهَوِّدانِهِ ويُنَصِّرانه ويمجّسانه « ، فقوله : » على الفطرة « ، يعني على العهد الذي أخذه عليهم بقوله : { ألست بربكم قالوا بلى } وكل مولود في العالم على ذلك الإقرار وهي الفطرة التي وقع الخلق عليها وإن عبد غيره قال الله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله } [ الزخرف : 87 ] { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] ولكن لا عبرة بالإيمان الفِطْريِّ في أحكام الدنيا ، وإنما يعتبر الإيمان الشرعُ المأمور به ، وهذا قول ابن عباس وجماعة من المفسرين . وقيل : الآية مخصوصة بالمؤمنين وهم الذين فطرهم الله على الإسلام ، روي عن عبد الله بن المبارك قال معنى الحديث : إن كل مولود يولد على فِطرته أي على خلقته التي جُبِلَ عليها في علم الله تعالى من السعادة والشقاوة فكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليها وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لها فمن أمارات الشقاء أن يُولَد بين يَهْودِيَّيْنِ أو نَصْرَانِيِّيْنِ فيحملانه لشقائه على اعتقاده دينهما ، وقيل : معنى الحديث أن كل مولود في مَبْدأ الخلقة على الفطرة أي على الجبلّة السليمة والطبع المنهيّ لقبول الدين ، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها؛ لأن هذا الدين موجود حُسْنُهُ في العقول ، وإنما يَعْدِلُ عنه من يَعْدِلُ إلى غيره لآفة من النُّشوءِ والتقليد فمن يَسْلَمْ من تلك الآفات لم يعتقد غيره ، ذكر هذه المعاني أبو سليمان الخَطَّابيُّ في كتابه .
قوله : { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } فمن حمل الفِطرة على الدين قال معناه : لا تبديل لذين الله ، فهو خبر بمعنى النهي ، أي لا تُبَدِّلُوا التوحيد بالشرك . وقيل : هذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقال عكرمة ومجاهد : معناه تحريم إخصاء البهائم ، ثم قال : { ذَلِكَ الدين القيم } المستقيم الذي لا عوج فيه { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أن ذلكَ هُوَ الدينُ المستقيمُ .
قوله : « مُنِيبِينَ » حال من فاعل « الْزمُوا » المضمر كما تقدم ، أو من فاعل « أَقِمْ » على المعنى لأنه ليس يراد به واحدُ بعينه ، وإنما المراد الجميع ، وقيل : حال من « النَّاسِ » إِذَا أريد بهم المؤمنون ، وقال الزجاج بعد قوله : « وَجْهَكَ » معطوف تقديره « فَأَقِمْ وَجْهَكَ وأُمَّتَكَ » فالحال من الجميع ، وَجَازَ حذل المعطوف لدلالة « مُنِيبِينَ » عليه ، كما جاز حذفه في قوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ } أي والناسُ لدلالة : « إِذَا طَلَّقْتُمْ » عليه ، كذا زعم الزجاج ، في { ياا أَيُّهَا النبي } [ الطلاق : 1 ] وقيل : على خبر كان ، أي كُونُوا مُنِيبِينَ ، لدلالة قَوْلِهِ : « وَلاَ تَكُونُوا » .
فصل
معنى منيبين إليه أي مُقْبِلِينَ عليه بالتوبة والطاعة ، « وَاتَّقُوهُ » إي إِذَا أقبلتم عليه ، وتركتم الدنيا ، فلا تأمنوا فتتركوا عبادته بل خافوه وداوموا على العبادة « وأَقِيمُوا الصَّلاَةَ » ولا تَكُونُوا مِنَ المشركِينَ؛ بإِعادة العامل . وتقدم قراءتا « فَرَّقُوا ، وَفَارَقُوا » وتفسير « الشِّيَعِ » أيضاً . قوله : « فَرِحُونَ » الظاهر أنه خبر عن « كل حزب » ؛ وجوز الزمخشري أن يرتفع صفة « لكُلّ » قال : ويجوز أن يكون « من الذين » منقطعاً مما قبله ومعناه من المفارقين دينهم كل حزب فَرِحينَ بما لديهم ، ولكنه رفع « فَرِحِين » وصفاً لكل كقوله :
4042 - وَكُلُّ خَلِيلٍ غَيْرُ هَاضِمِ نَفْسِهِ .. . .
قال أبو حيان : قدر أولاً « فَرِحِينَ » مجروراً صفة « لِرَجُلٍ » وهو الكثر كقوله :
4043 - جَادَتْ عَلَيْهِ كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ ... فَتَرَكْنَ كُلَّ حَدِيقَةٍ كَالدَّرْهَمِ
وجاز الرفع نعتاً « لكُلّ » كقوله :
4044 - وَلِهَتْ عَلَيْهِ كُلُّ مُعْصِفَةٍ ... هَوْجَاءُ لَيْسَ لِلُبِّهَا زَبْرُ
وهو تقدير حسن .
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)
قوله : { وَإِذَا مَسَّ الناس ضُرٌّ } قَحْطٌ وشدّة ، { دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ } بالدعاء ، لما بين التوحيد بالدليل وبالمثل بين أن لهم حالة يعترفون بها ، وإن كانوا ينكرونه في وقت ما وهي حالة الشدة ، { ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً } ، خصْبٌ أو نعمة ، يعني إذا خلصناهم من تلك الشدة { إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } ، وقوله : « مِنْهُ » أي من الضر؛ لأن الرحمة غير مطلقة لهم إنما هي على ذلك الضر وحده ، وأما الضر المؤخر فلا يذوقون منه رحمة ويحتمل أن يكون الضمير في « منه » عائد إلى الله تعالى ، والتقدير ثم إذا أذاقهم اللَّهُ من فضله رحمةً خلصهم بها من ذلك الضر .
قوله : « إذَا فَريقٌ » هذه « إذا » الفُجَائِيَّة ، وَقَعَتْ جَوَابَ الشرطِ؛ لأنها كالفاء في أنها للتعقيب ولا يقع أول كلام ، وقد تجامعها الفاء زائدةً .
فإن قيل : ما الحكمة في قوله ههنا : { إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ } ، وقال في موضع : { فَلَمَّا نَجَاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشرِكُونَ } ولم يقل : فَرِيقٌ .
فالجواب : أن المذكور هناك غير معين ، وهو ما يكون من هَوْل البحر ، والتخلص منه بالنسبة إلى الخلق قليل ، والذي لا يشرك منهم بعد الخلاص فرقة منهم فهم في غاية القلة ، فلم يجعل المشركين فريقاً لقلة من خرج من الشرك وأما المذكور ههنا الضر مطلقاً فيتناول ضُرَّ البحر والأمراض والأهوال ، والمتخلص من أنواع الضر خلقٌ كثير بل جميع الناس يكونون قد وقعوا في ضر ما فتخلصوا منه والذي لا يبقى بعد الخلاص مشركاً من الناس يكونون قد وقعوا في ضر ما فتخلصوا منه والذي لا يبقى بعد الخلاص مشركاً من جميع الأنواع إذا جمع فهو خلق عظيم وهو جميع المسلمين فإنهم تخلصوا من ضُرّ ولم يبقوا مشركين ، وأما المسلمون فلم يتخلصوا من ضُرّ البحر بأجمعهم فلما كان الناجي من الضر المؤمن جمعاً كثيراً سمى الباقي فريقاً .
قوله : « لِيَكْفُرُوا » يجوز أن تكون لام « كي » وأن تكون لام الأمر ومعناه التهديد كقوله : { اعملوا مَا شِئْتُمْ } [ فصلت : 40 ] ثم خاطب هؤلاء الذين فعلوا هذا خطاب تَهْديدٍ فقال : « فَتَمَتَّعُوا » .
قرأ العامة بالخطاب فيه ، وفي « تَعْلَمُونَ » ، وأبو العالية بالياء فيهما ، والأول مبني للمَفْعُولِ . وعنه أيضاً « فَيَتَمَتَّعوا » بياء قبل التاء ، وعن عبد الله « فلْيَتَمَتَّعُوا » بلام الأمر ، والمعنى : فسوف تعلمون حالكم في الآخرة .
قوله : { أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً } أي بُرْهَاناً وحُجَّةً ، فإن جعلناهُ حقيقة كان يتكلم مجازاً ، وإن جعلناه على حذف مضاف أي ذا سلطان كان يتكلم حقيقة ، وقال أبو البقاء هنا : وقيل : هو جميع سليط كرغيف ورغفان انتهى .
قال شهاب الدين : وهذا لا يجوز لأنه كان ينبغي أن يقال فهم يتكلمون . و « فَهُوَ يَتَكَلَّمُ » جواب الاستفهام الذي تضمنته « أم » المنقطعة ، وهذا استفهام بمعنى الإِنكار أي ما أنزلنا بما يقولون سلطاناً ، قال ابن عباس : حجة وعُذْرا ، وقال قتادة : كتاباً يتكلم بما كانوا به يشركون « أي ينطق بشركهم » .
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)
قوله : { وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً } أي الخِصْب وكَثْرة المطر « فَرِحُوا بِهَا » يعني فرح البطر لما بين حال الشرك الظاهر شركه ، بين حال الشرك الذي دونه وهو من تكون عبادته للدنيا ، فإذا أعطاه رَضِيَ ، وإِذا منه سَخِطَ وقَنَطَ ، ولا ينبغي أن يكون كذلك بل ينبغي أن يعبد الله في الشدة وزالرخاء .
فإن قيل : الفرح بالرحمة مأمور به قال : { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } [ يونس : 58 ] وهَهُنَا ذمهم على الفرح بالرحمة .
فالجواب : هناك قال افْرَحُوا برحمة الله من حيث إنها مضافة إلى الله ، وهَهُنَا فرحوا بنفس الرحمة حتى لو كان المطر من غير الله لكان فرحهم به مِثْلَ فرحهم إذا كان مِنَ الله .
قوله : { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } أي الجَدْبُ وقلَّةُ المَطَر ، وقيل : الخوف والبَلاَء { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } من السيئات { إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } يَيأَسُوا من رحمة الله ، وهذا خلاف وصف المؤمنين فإنهم يشركونه عند النعمة ، ويرجُونَه عند الشدةِ .
قوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } ألم يعلموا أن الكل من الله فالمحق ينبغي أن لا يكون نظره إلى ما يُوجَد بل إِلى من يُوجد وهو الله ، فلا يكون له تبدل حال وإنما يكون عنده الفرح الدائم ولذلك قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } . قوله : { فَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ } من البرِّ والصلة ، و « المِسْكِين » بأن يُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ ، وابْنَ السَّبِيل « يعني المسافر ، وقيل : الضيف . وخص هذه الأصناف الثلاثة بالذكر دون بقية الأصناف الثمانية المذكورة في الصدقات ، لأنه أراد ههنا بيان من يجب الإحسان إليه على كل من له مال ، سواه كان زَكَوِيّاً أو لم يكن وساء كان قبل الحَوْلِ أم بعده؛ لأن المقصودَ هنا الشفقة العامة وهؤلاء الثلاثة يجب الإحسان إليهم وإن لم يكن للأنسان مالٌ زائد أما القريب فتجب نفقته عليه إذا كان له مالٌ وإن لم يَحُلْ عليه الحَوْلُ والمسكين كذلك ، فإن من لا شيءَ له إذا وقع في الحاجة حتى بلغ الشدة يجب على القادر دفع حاجته وإن لم يكن عليه زكاة ، والفقير داخل في المسكين لأن من أوْصَى للمساكين بشيء يُصْرَفُ إلى الفقير أيضاً وإذا نظرتَ إلى الباقين من الأصناف رأيتهم لا يجب صرف المال إليهم إلا على الذين وَجَبت الزكاةُ عليهم وقدم القريب لأن دفع حاجته واجبٌ سواء كان في مَخْمَصَةٍ أو لم يكن فلذلك قُدِّمَ على من لا يجب دفع حاجته من غير مال الزكاة إلا إذا كان في شدة ، وأما المسكين فحاجته ليست مختصة بموضع ، فقدم على من حاجته مختصة بموضعٍ دُونَ مَوْضِعٍ .
قوله : » ذَلِكَ خَيْرٌ « يحتمل أنْ يُرادَ : » خير من عنده « ، وأن يكون ذلك خير في نفسه { لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله } أي يطلبون ثواب الله مما يعملون { وأولئك هُمُ المفلحون } .
فإن قيل : كيف قال : { وأولئك هُمُ المفلحون } ؟ مع أن لِلإفلاح شرائطَ أخرى مذكورة في قوله : { قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ } ؟! .
فالجواب : كل وصف مذكور هنا يفيد الإفلاح ، وكذا الذي آتى المال لوجه الله يفيد الإفلاح اللَّهُمَّ إلا إذا وُجِدَ مانعٌ من ارتكاب محظورٍ أو تركِ واجبٍ .
فإن قيل : لِمَ لَمْ يذكُرْ غيره من الأفعال كالصلاة وغيره؟
فالجواب : الصلاة مذكورة من قبل وكذا غيرها في قوله : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً } [ الروم : 30 ] ، وقوله { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ واتقوه وَأَقِيمُواْ الصلاة وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين } [ الروم : 31 ] .
فإن قيل : قوله في البقرة : « فَأُولَئِكِ هُمُ المُفْلِحُونَ » إشارة إلى من أقام الصلاة وآتى الزكاة ، وآمن بما أنزل على الرسول وبما أنزل من قبل وبالآخرين فهو المفْلح ، وإذا كان المفلح منحصراً في « أولئك » فهذا خارج عنهم فكيف يكون مفلحاً؟! .
فالجواب : هذا هو ذاك لأن قوله : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً } أمر بذلك ، فإذا أتَى بالصلاة ، وآتى المال ، وأراد وجه الله ثبت أنه منم مُقِيمِي الصلاة ومُؤتِي الزكاة ومعترف بالآخرة .
وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
قوله : { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً } ، قرأ ابن كثير أَتَيْتُمْ مقصوراً ، وقرأ الآخرون بالمد أي أعْطَيْتُم ومن قصر فمعناه جِئْتم من رباً ومجيئهم ذلك على وجه الإعطاء كما تقول : أتيت خطأ ، وأتيت صواباً وهو يؤول في المعنى إِلى قول من مَدَّ .
قوله : « لِيَرْبُو » العامة على الياء تحت مفتوحة ، أسند الفعل لضمير « الرِّبَا » أي لِيَزْدادَ ، ونافعٌ ويعقوبٌ بتاءٍ من فوق مضمومةً خطاباً للجماعة ، قَالُوا وعلى الأول لامُ الكلمة ، وعلى الثاني كلمةٌ ، وعلى الثاني كلمةٌ ، ضميرُ الغائبينَ .
فصل
ذكر هذا تحريصاً يعني أنكم إذا طلب منكم واحد باثنين ( تَرْ ) غَبُونَ فيه وتُؤْثِرُونَهُ ، وذلك لا يربو عند الله فاختطاف أموال الناس والزكاة تنمُو عند الله كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ الصَّدَقَةَ تَقعُ في يَدِ الرَّحْمنِ فَتَرْبُوا حَتَّى تَصِيرَ مِثْلَ الجَبَلِ » فينبغي أَن يكون إقْدَامكُمْ على الزكاة أكثرَ واختلفوا في معنى الآية قال سعيد بين جبير ، ومجاهد وطاوس وقتادة والضحاك وأكثر المفسرين : هو الرجل يعطي عبده العطيَّة لِيُثيبَ أكثر منها ، فهذا جائز حلالاً ، ولكن لا يثاب عليه في الفقه فهو معنى قوله تعالى : { فَلاَ يَرْبُو عِندَ الله } وكان هذا حراماً على النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة لقوله تعالى : { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } [ المدثر : 9 ] أي لا تعطِ وتطلب أكثر مما أعطيتَ ، وقال النخعي : هو الرجل يعطي صديقة وقريبه ليكثر ماله ، ولا يريد به وجه الله . وقال الشعبي : هو الرجل يَلْتَزِقُ بالرجل فيجزيه ويسافر معه فيحصل له ربح ماله التماس عونه لا لوجه الله فَلاَ يَرْبُو عند الله؛ لأنه لم يُردْ به وَجْهَ الله { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍَ } أعطيتم من صدقة تريدون وجه الله .
قوله : { فأولئك هُمُ المضعفون } أي أصحاب الأضعاف ، قال الفراء : نحو مُسْمِن ومُعْطِشٍ أي ذي إبل سِمَانٍ وعِطَاشٍ ، وتقول العرب : القوم مُهْزِلُونَ ومُسْمِنُونَ ، إذا هَزِلَتْ وسَمِنَتْ ، فالمُضْعِفُ ذو الأضْعَافِ من الحسنات وقرأ « أبيّ » بفتح العين ، وجعله اسم مفعول . وقوله : ( « فَأُولَئِكَ هُمْ » قال الزمخشري : « التفات حسن كأنه قال لملائكته وخواص خلقه ) فأولئك الذين يريدون وجه الله بصدقاتهم » هم المُضْعِفُون « والمعنى هم المُضْعِفُونَ به لأنه من ضمير يرجع إلى ( » مَا انتهى ) يعني أن اسم الشرط مَتَى كان غير ظرف وَجَبَ عودُ ضميرٍ من الجواب عليه . وقد تقدم ذلك في البقرة عند : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } [ البقرة : 97 ] ثم قال : « ووجه آخر : وهو أن يكون تقديره فمُؤْتُوه فأولئك هم المضعفون ، والحذف لباقي الكلام من الدليل عليه » ، وهذا أسهل مأخذاً ، والأول أملأ بالفائدة .
قوله : { الله الذي خَلَقَكُمْ } يجوز في خبر الجلالة وجهان :
أظهرهما : أنه الموصول بعدها .
والثاني : أنه الجملة من قوله : { هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ } والموصول ( صفة ) للجلالة ، وقدر الزمخشري الرابط المبتدأ ، والجملة الرافعة ( خبراً ) فقال : « من ذلكم » هو الذي ربط الجملة بالمبتدأ ، لأن معناه من أفعاله . قال أبو حيان : والذي ذكره النحويون أن اسم الإشارة يكون رابطاً إذا أشير به إلى المبتدأ ، وأما ذلك هنا فليس بإشارة إلى المبتدأ لكنه شبيه بما أجازه الفراء من الرَّبْطِ بالمعنى وذلك في قوله : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ } [ البقرة : 234 ] قال : التقدير يَتَرَبَّصْنَ أزواجُهُمْ ، فقد الرابط بمضاف إلى ضمير « الذين » فحصل به الربط كذلك قدر الزمخشري « من ذلكم » من أفعاله بمضاف إلى الضمير العائد إلى المبتدأ .
قوله : « الَّذِي خَلَقَكُمْ » أوجدكم { رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ } جمع في هذه الآية بين الحشر والتوحيد ، أما الحشر فقوله : « يُحْيِيكُمْ » ، وأما الدليل فقدرته على الخلْق ابتداءً وأما التوحيد ، فقوله : { هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ } ثم قال : { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي سبحوه تسبحياً ونزهوه ولا تصفوه بالإشراك « . وقوله » : تَعَالَى « أي لا يجوز ذلك عليه .
قوله : » مِنْ شُرَكَائِكُمْ « خبر مقدم و » مِنْ « لِلتَّبْعيض » مَنْ يَفْعَلُ « هو المبتدأ ، و » ذلِكُمْ « متعلق بمحذوف ، لأنه حال من » شَيء « بعده فإنه في الأصل صفة له و » مِنْ « الثانية مزيدة في المفعول به؛ لأنه في حَيِّز النفي المستفاد من الاستفهام والتقدير ما الذي يفعل شيئاً مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شركائكم؟ .
وقال الزمخشري : » ومن الأولى والثانية كل واحدة مستقلة تأكيد لتعجيز شركائهم وتجهيل عبدتهم « .
وقال أبو حيان : ولا أدري ما أراد بهذا الكلام؟ وقرأ الأعمش » تشركون « بتاء الخطاب .
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)
قوله : { ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر } وجه تعلق الآية بما قبلها أن الشرك سبب الفساد كَمَا قَالَ تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] وإذا كان الشرك سببه جعل الله إظهارهم الشرك مورثاً لظهور الفساد ولو فعل ( بهم ) ما يقتضيه قولهم لفسدت السموات والأرض ، كما قال تعالى : { تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً } [ مريم : 90 ، 91 ] ولهذا أشار بقوله : { لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذي عَمِلُواْ } ، واختلفوا في قوله : { فِي البر والبحر } ، فقيل : المراد خوف الطوفان في البحر والبر ، وقيل : عدم إنبات بعض الأرض وملحة مياه البحار . وقيل : المراد قحط المطر وقلة النبات ، وأراد بالبرّ البوادي والمَفَاوِز وبالبحر المدائن والقُرَى التي على المِياه الجَارِيةِ .
قال عكرمة : العرب تسمي المِصْرَ بَحْراً تقول : أجدب البر وانقطعت مادة البحر .
قوله : « بما كسبت » أي بسب كسبهم ، والباء متعلقة « بظَهَرَ » أو بنفس الفساد . وفيه بُعْد ( والمعنى بشؤم ذنوبهم ) وقال ( ابن ) عَطِيَّة ، البر ظهر الأرض الأمصار وغيرها ، والبحر هو البحر المعروف ، والفساد قلة المطر يؤثر في البر والبحر أما تأثيره في البر فهو القحط وأما تأثيره في البحر فيخلوا أجواف الأصداف؛ لأن الصدف إذا جاء المطر يرتفع إلى وجه البحر ويفتح فاه فما يقع فيه من المطر صار لؤلؤاً . قال ابن عباس وعركمة ومجاهد : الفساد في البرِّ قتل أحد ابني آدم أخاه وفي البحر غَضْب الملك الجائر السفينة . وقال الضحاك : كانت الأرض خَضِرَةً مونقة لا يأتي ابن آدم بشجرة إلا وجد عليها ثمرةً وكان ما في البحر عَذْباً وكان لا يقصد الأسد البقر والغنم فلما قتل قابيلُ هابيلَ اقْشَعَرَّت الأرض وشَاكَتِ الأشجار ، وصار ماء البحر ملحاً زُعَاقاً وقصد الحيوان بعضه بعضاً . وقال قتادة : هذا قبل مَبْعَث النبي - صلى الله عليه وسلم - امتلأت الأرض ظلماً وضلالة فلما بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - رجع الراجعون من الناس { بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي الناس } من المعاصي « يعني كفار مكة » .
قوله : « لِيُذِيقَهُمْ » اللام للعلة متعلق « بظَهَرَ » ؛ وقيل : بمحذوف ، أي عَاقَبَهْمْ بذلك لِيُذِيقَهُمْ وقيل : اللام للصيرورة . وقرأ قُنْبُلُ : « لنُذِيقَهُمْ » بنون العظمة والباقون بياء الغيبة والمعنى : لنذيقهم عُقُوبة بعض الذي عملوا من الذنوب « لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ » عن الكفر وأعمالهم الخبيثة ، قوله : { قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض } لما بين حالهم بظهور الفساد في أحوالهم بسبب فساد أقوالهم بين لهم ضلال أمثالهم وأشكالهم الذين كانت أفعالهم كأفعالهم فقال : { قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلُ } أي قوم نوحٍ وعادٍ وثَمودَ لِيَ { َوْا مَنَازِلَهُمْ ومساكنهم خاوية { كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ } فأهلكوا بكفرهم .
قوله : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ القيم } لما ( نهى ) الكافرين عما هم عليه ، أمر المؤمنين بما هم عليه وخاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعلم المؤمن فضيلة من هو مُكَلَّفٌ به فإنه أمر بما شرف الأنبياء الدِّين القيم أي المستقيم وهو دين الإسلام .
قوله : { مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ } المرد مصدر « رَدَّ » و « من الله » يجوز أن يتعلق ب « يأتِي » أو بمحذوف يدل عليه المصدر أي لا يرده من الله أحَدٌ ، ولا يجوز أن يعمل فيه « مرد » لأنه كان ينبغي أن يُنَوَّنَ؛ إِذْ هُوَ من قَبِيل المُطَوَّلاَتِ ، والمراد يوم القيامة لا يقدر أحد على رده من الله هوغيره عاجز عن رده ، فلا بد من وقوعه . « يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ » أي يتفرقون فريق في الجنة ، وفريق في السعير ، ثم أشار إلى التفرق بقوله : { مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } أي وبال كفره { وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } أي يُوَطئُونَ المضاجعَ ويُسَوُّونها في القبور . قوله : « فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ » و « يَمْهَدُونَ » تقديم الجارين يفيد الاختصاص يعني أنَّ ضرر كفر هذا ، ومنفعة عمل هذا لا يتعداه ، ووحد الكناية في قوله : « فعليه » وجمعها في قوله : « فلأنفسهم » إشارة إلى أن الرحمة أعم من الغضب فتشمله وأهله وذريته ، وأما الغضب فمسبوق بالرحمة لازم لمن أساء وقال : « فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ » ولم يبين قوال في المؤمن : « فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ » تحقيقاً لكمال الرحمة ، لإإنه عند الخير بَيَّن بشارة وعند غير أشار إليه إشَارةً .
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
قوله : « لِيَجْزِيَ » في مُتَعَلَّقِهِ أوجه :
أحدها : « يمهدون » .
والثاني : « يَصِّدَّعُونَ » .
والثالث : محذوف . ( و ) قال ابن عطية : تقديره : « ذلك لِيَجْزِيَ » وتكون الإشارة إلى ( ما تقدر مِنْ ) قوله : « من كفَر ومَنْ عَمِلَ » .
هَذا قوله وجعل أبو حيان قسيم قوله : { الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } محذوفاً لدلالة قوله { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين } عليه هذا إذا علقت اللام ب « يَصَّدَّعُونَ » أو بذلك المحذوف ، قال : تقديره « ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله والكافرين بعدله » .
فصل
قال ابن عباس : { ليجزي الذين آمنوا وعملوا ليثيبهم الله أكثر من ثواب أعمالهم } .
قوله : { ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات } لما ذكر ظهور الفساد والهلاك بسبب الشرك ذكر ظهور الصلاح ولم يذكر أنه سببب العمل الصالح لأن الكريم لا يذكر لإحسانه عوضَاً ويذرك لإضراره سبباً لئلا يتوهم ( بِهِ ) الظلم فقال : { يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ } قيل : بالمطر كما قال تعالى : { بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } [ النمل : 63 ] ، أي قبل الفطرة ، وقيل مبشرات بصلاح الأَهْوِية والأحوال؛ فإن الرياح لو لم تَهُبّ لظهر الوباء والفساد وقرأ العامة : « الرياح » جميعاً لأجل « مبشرات » ، والأعمش بالإفراد ، وأراد الجنس لأجل « مبشرات » .
قوله : « وَلِيُذِقَكُمْ » إما عطف على معنى مبشرات لأأن الحال والصفة يُفْهما العلة فكان التقدير : « ليبشّر وليذيقكم » وإما أن يتعلق بمحذوف أي وليذيقكم أَرْسَلَها ، وإما أن يكون الواو مزيدة على رأي فتتعلق اللام بأن يرسل .
قوله : { وليذيقكم من رحمته } ( نعمته ) بالمطر أو الخَصْب « وَلَتْجِرِيَ الفُلْكُ » لما أسند الفعل إلى الفلك عقبه بقوله « بأَمْرِهِ » أي الفعل ظاهر عليه ولكنه بأمر الله ، والمعنى في ولتجري الفلك في البحر بهذه الرياح بأمره وكذلك لما قال : « وَلتَبْتَعوا » مسنداً إلى العباد ذكر بعده « مِنْ ( فَضْلِهِ ) .
أي لا استقلال لغيره بشيء ، والمعنى لتطلبوا من رزقه بالتجارة في البحر » ولعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ « هذه النعم .
فصل
قال تعالى : ؟هر الفساد - ليذيقهم بعض الذي عملوا » ( وقال ههنا : « وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ » فخاطبهم ههنا تشريفاً ، ولأن رحمته قريب من المحسنين والمحسنين قريب فيخاطب والمسمّى مُبْعَد فلم يُخَاطَبْ وقال هناك : { بَعْضَ الذي عَمِلُواْ } [ الروم : 41 ) فأضاف ما أصابهم إلى أنفسهم ، وأضاف ما أصاب المؤمن إلى رحمته فقال : « من رحمته » ؛ لأن الكريم لا يذكر لرحمته وإحسانه عوضاً فلا يقول أعطيتك لأنك فعلت كذا بل يقول هذا لك مني ، وأما ما فعلت من الحسنة فجزاؤه بعد عندي ، وأيضاً فلو قال : أرسلت بسبب فعلكم لا يكون بشارة عظيمة ، وأما إذا قال من رحمته كان غاية البشراة وأيضاً فلو قال : بما فعلتم لكان ذلك موهماً لنُقْصَان ثوابهم في الآخر ، وأما في حق الكفار فإذا قال بما فعلتم إنما عن نُقْصَانِ عقابهم وهو كذلك وقال هناك : « لعلهم يَرْجِعُونَ » وقال ههنا : ولعلكم تشكرون ، قالوا وإشارة إلى توفيقهم للشكر في النعم فعطف على النعم .
( قوله : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بالبينات } لما بين الأصلين ) بالبراهيم ذكر الأصل الثالث وهو النبوة فقال : { ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً } أي إرسالهم دليل رسالتك فإنهم لم يكن لهم شُغْلٌ غير شُغْلِكَ ولم يظهر عليهم غير ما أظهر عليك ، ومن آمن بهم كان له ( الانتصار ) ومن كَذَّبهم أَصَابَهُمْ البَوَارُ ، وفي تعلق الآية وجه آخر وهو أن الله لما بين بالبراهين ولم ينتفع بها الكفار سَلَّى قلب النبي عليه ( الصلاة و ) السلامَ وقال : حالك كحاكل من تقدمكم كان كذلك وجاءُوا بالبينات أيضاً : أي بالدلائل والدّلاَلاَتِ الواضحات على صدقهم وكان في قومهم كافرٌ ومؤمنٌ كما في قومك { فانتقمنا مِنَ الذين أَجْرَمُواْ } عذبنا الذين كذبوهم ونصرنا المؤمنين .
[ قوله : ] وَكَانَ حَقّاً ، وقف بعضهم على « حقاً » وابْتَدَأَ بما بعده فجعل اسم « كان » مضمراً فيها و « حقاً » خبرها ، أي وكان الانتقام حقّاً ، قال ابن عطية : وهذا ضعيف لأنه لم ( يَدْرِ ) قدر ما عرضه في نظم الآية يعني الوقف على « حقاً » ؛ وجعل بعضهم « حقاً » منصوباً على المصدر واسم كان ضمير ( الأمر والشأن ) و « علينا » خبر مقدم ، و « نصر » اسم مؤخر ، وجعل بعضهم « حقاً » خبرها و « علينا متعلق » بحقاً « ، أو بمحذوف صفة له ، فعلى الأول يكون بشارة للمؤمنين الذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - أي علينا نَصْرُكُمْ أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ ونصرهم إنجاؤهم من العذاب ، وعلى الثاني معناه وكان حقاً علينا؛ أي نصر المؤمنين كان حقاً علينا .
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
قوله : { الله الذي يُرْسِلُ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً } أي تنشره وتبْسطه في السَّمَاء كيف يشاء سيره يوماً أو يومين وأكثر على ما يشاء و « يَجْعَلُهُ كِسَفاً » قطعاً متفرقة ، « فَتَرَى الوَدقَ » المطر { يخرج من خلاله } وسطه { فَإِذَا أَصَابَ بِهِ } بِالوَدقِ { مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } أي يفرحون بالمطر .
قوله : { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ } أي وقد كانوا من قبل أن ينزل عليهم .
وقيل : وما كانوا ( إلا ) « مُبْلِسِينَ » أي آيسين .
قوله : « مِنْ قَبْلِهِ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه تكرير « لِمنْ قَبْلِ » الأولى على سبيل التوكيد .
والثاني : أن يكون غير مُكَرَّر؛ وذلك ( أن يجعل ) الضمي في « قبله » للسَّحَاب ، وجاز ذلك لأنه اسم جنس يجوز تذكيره وتأنيثه ، أو للريح فتتعلق ( « مِن » الثانية ) بيُنَزِّل . وقيل : يجوز عود الضمير على « كِسَفاً » كذا أطلق أبو البقاء ، وأبو حيان ، وهذه بقراءة من سَكَّنَ السِّينَ .
وقد تقدمت قراءات « كسفاً » في « سُبْحَانَ » . وقد أبدى الزمخشريُّ ابنُ عَطِيَّةَ ( فائدة التوكيد المذكور فقال ابن عطية ) أفاد الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإِبلاس إلى الاسْتِبْشَار ، وذلك أن قوله : { مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ } يحتمل الفُسْحَةَ في الزمان أي من قبل أن ينزل بكثيرٍ كالأيام ونحوه ، فجاء قوله : « مِنْ قَبْلِهِ » ( بمعنى ) أن ذلك متصلٌ بالمطر ، فهذا تأكيد مفيد . وقال الزمخشري : ومعنى التأكيد فيه الدلالة على أنَّ عَهْدَهُمْ بالمطر قد نَفَدَ فاستحكم بأسُهُم وتمادى إبلاسهم ، فكان استبشارهم على قدر اغتمامهم بذلك ، وهو كلام حسن ، إِلاَّ أنَّ أبَا حَيَّان لم يَرْتَضِهِ منهما فقال : ما ذكراه من فائدة التأكيد غير ظاهر فإنما هو لمجرد التوكيد ويفيد رفع المجاز انتهى .
قال شهاب الدين ولا أدري عَدَمُ الظُّهُورِ لِمَاذَا .
قال قُطْرُبٌ : وإنْ كَانُوا من قبل التَّنْزِيل من قبلِ المَطَرِ ، وقيل التقدير من قبل إنْزَالِ المَطَرِ من قبل أن يزرعوا ، ودل المطر على الزرع لأنه يخرج بسبب المطر ودل على ذلك قوله : « فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً » يعني الزرع قال أبو حَيَّانَ : وهذا لا يستقيم؛ ( لأن ) { مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ } متعلق « بمبلسين » ، ( ولا يمكنُ من قبل الزرع أن يتعلق « بمبلسين » ) ؛ لأن حَرْفَيْ جَرٍّ لا يتعلقان بعامل واحد إلا بوَسَاطَةِ حرف العَطْفِ ( أ ) والبَدَل ، وليس هنا عطف والبدل لا يجوز إذْ إنزالُ الغَيْثِ ليس هو الزرع ولا الزرع بعضه ، وقد يتخيل فيه بدل الاشتمال بتكلف إما لاشتمالِ ( الإنزال ) على الزرع بمعنى أن الزرع يكون ناشئاً عن الإنزال فكأن الإنزال مشتملٌ عليه ، وهذا على مذهب من يقول الأول مشتمل على الثاني .
وقال المبرد الثاني السَّحَاب؛ لأنهم لما رأوا السَّحاب كانوا راجين المَطَرَ انتهى يريد من قبل رؤية السحاب ويحتاج أيضاً إلى حرف عطف ليصح تعلق الحرفين بمبلسين . ( وقال الرُّمانِيُّ من قبل الإِرسال ) ، وقال الكِرْمَانِيُّ : من قبل الاسْتِبْشَار؛ لأنه قرنه بالإبلاس ، ولأنه ( مَنَّ ) عليهم بالاستبشار ويحتاج قولهما إلى حرف العطف لما تقدم ، وادعاء حرف العطف ليس بالسسهل فإن فيه خلافاً بعضهم يَقِيسُه ، وبعضُهم لا يَقِيسُه ، هذا كله في المفردات ، أما إذا كان في الجمل فلا خلاف في اقتياسه .
وفي حرف عبد الله بن مسعود : وإنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ ينزل عَلَيْهِمْ لَمُبُلِسِينَ غير مكرر .
قوله : { فانظر إلى آثَارِ رَحْمَةِ } قرأ أبنُ عامر والأخوانِ وحَفْصٌ بالجمع والباقون بالإفراد : ( وَسلاَّمٌ ) بكسر الهمزة ، وسكون الثاء وهي لغة فيه . وقرأ العامة « كَيْفَ يُحْيِي » بياء الغيبة ، أي أثر الرحمة فيمن قرأ بالإفراد ، ومن قرأ بالجمع فالفعل مسند لله تعالى وهو يحتمل في الإِفْرَادِ والجَحْدَرِيُّ وأَبو حَيْوَة وابْنُ السَّمَيْقع « تُحْيِي » بتاء التأنيث وفيها تخريجان أظهرهما : ان الفاعل عائد على الرحمة . والثاني : قاله أبو الفصل عائد على « أَثَرِ » وأنت « أثر » لاكتسابه بالإضافة التأنيث كنظائر ( له ) تقدمت ، وَرُدَّ عليه بأن شرط ذلك كون المضاف ( بمعنى المضاف ) إليه أو من سببه لا اجنبياً ، وهذا أجنبي و « كَيْفَ يُحْيِي » معلق « لأنْظُرْ » وهو في محل نصب على إسقاط الخافض . وقال أبو الفتح : الجملة من « كَيْفَ يُحْيي » في موضع نصب على الحال حملاً على المعنى انتهى . وكيف تقع جملة الطلب حالاً؟ وأراد برحمة الله هنا المطر أي انْظُرْ إلى حسن تأثيره في الأرض كيف يحيي الأرض بعد موتها؟! .
قوله : { إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْييِ الموتى } أي إن ذَلك الذي يُحيِي الأرض لمُحْيِي الموتى ، فأَتَى باللام المؤكدة لاسم الفاعل .
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
قوله : { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً } لما بين أنهم عند توقف الخير يكونون مُنِيبِينَ آيِسِينَ ، وعند ظهوره يكونون مستبشرين بين أن تلك الحالة أيضاً لا يدومون عليها بل لو أصاب زرعهم ريحٌ مفسِد لكفروا فهم متقلبون غير تأمِّين نظرهم إلى الحالة لا إلى المآلِ .
فصل
سمى النافعة رياحاً ، والضارة ريحاً لوجوه :
أحدها : أن النافعة كثيرة ألنواع كبيرة الأفراد ، فجمعها لأن في كل يوم وليلة ( تَهُبُّ ) نفحات من الرياح النافعة ، ( و ) لا تهب الريح الضارة في أعوام بل الضارة لا تهب في الدهور .
الثاني : أن النافعة لا تكون إلا رياحاً وأما الضارة فنفحة واحدة تقتل كريح السَّمُوم .
الثالث : جاء في الحديث « أن ريحاً هَبَّتْ فقال عليه ( الصلاة و ) السلام : » اللَّهم اجْعلها رِيَاحاً وَلاَ تَجْعَلْهَا رِيحاً « إشارة إلى قوله تعالى : { يُرْسِلُ الرياح بُشْرىً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } [ الأعراف : 57 ] وقوله : { يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ } [ الروم : 46 ] وإشارة إلى قوله تعالى : ف { أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم } [ الذاريات : 41 ] وقوله : { رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ تَنزِعُ الناس } [ القمر : 19 ، 20 ] .
فصل
معنى الآية ولئن أرسلنا ريحاً أي مُضرّة أفسدت الرزعَ فرأوه مصفراً بعد الخُضْرَة لظلّوا لصاروا من بعد اصفرار الزرع يكفرون يجحدون ما سلف من النعمة يعني أنهم يفرحون عند الخَصْب ، ولو أرسلت عذاباً على زرعهم ( جحدوا ) سالِفَ نعمتي .
قوله : » فَرَأَوْهُ « أي فرأوا النبات لدلالة السياق عليه أو على الأثر ، لأن الرحمة هي الغيث وأثرها هو النبات وهذا ظاهر على قراءة الإفراد ، وأما على قراءة الجمع فيعود على المعنى . وقيل : الضمير للسَّحَابِ . وقيل : للريح . وقرأ ( جَنَاح ) بْنُ حبيش مُصْفَاراً بألف و » لظلوا « جواب القسم الموطأ لَهُ » بِلَئِنْ « وهو ماض لفظاً مستقبل معنى ، كقوله : { مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ } [ البقرة : 145 ] والضمير في » من بعده « يعود على الاصفرار المدلول عليه بالصفة كقوله :
4045 - إِذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إِلَيْهِ .. .
أي السَّفَهُ ، لدلالة السفيه عَلَيهِ .
قوله ( تَعَالى : ) { فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى } لما علم رسوله وجوه الأدلة ووعد وأوعد ولم يزدهم دعاؤه إلا فراراً وكفراً وإصراراً ، قال : { فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى } وقد تقدم الكلام على نحو { فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ } إلى آخره في الأنبياء ، وفي النمل . واعلم أن إرشاد الميِّتِ محالٌ والمحالُ أبعد من الممكن ثم إرشاد الأصمِّ صعبٌ فإنه لا يسمع الكلام وإنما يفهم بالإشارة والفهام بالإشارة صعب ثم إرشاد الأعمى أيضاً صعب وإنك إذا قلت له الطريق على يمينك يدور إلى يمينه لكنه لا يبقى عليه بل يَحيد عن قرب ، وإرشاد الأصَمُ أصعب ولهذا تكون المعاشرة مع الأعمى أسْهَل من المعاشرة مع الأصم الذي لا يسمع لأن غايته الإفهامُ بالكلام وليس كلّ ما يفهم بالكلام يفهم بالإشارة ، فإن المعدومَ والغائب لا إشارة إليه فقال : { فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى } ( ثم قال : وَلاَ الصُمَّ وَلاَ تَهْدِي العُمْيَ ) وقال في الأصم : { إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ } ؛ ليكون أدخل في الامتناع لأن الأصمَّ وإن كان يَفْهِم فإنما يفهم بالإشارة ، ( فإِذَا وَلَّى لا يكون نظره إلى المشير فامتنع إفهامه بالإشارة أيضاً ) ثم قال : { وَمَآ أَنتَ بِهَادِ العمي عَن ضَلاَلَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا } لما نفى استماع الميت والأصم وأثبت إسماع المؤمن بآياته لزم أن يكون المؤمن حيّاً سميعاً وهو كذلك لأن المؤمنَ ينظر في البراهين ويسمع زواجر الوعظ فتظهر منه الأفعال الحسنة ويفعل ما يجب عليه فهم مسلمون مطيعون كما قال تعالى ( عهنم ) :
{ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [ البقرة : 285 ] .
قوله : { الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ } لما أعاد دليل الآفاق بقوله : { الله الذي يُرْسِلُ الرياح } [ الروم : 48 ] أعاد دليلاً من دلائل الأنفس أيضاً وهو خلق الآدمي وذكر أحواله فقال : { خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ } أي ( بأذى ضعف ) كقوله : { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } [ المرسلات : 20 ] ، وقرىء : « ضُعْف » بضم الضاد ، وفتحها ، فالضم لُغة قريش ، والفتح لغة تميم « » مِنْ ضَعْف « أي من نطفة . وتقدم الكلام في القراءتين والفرق بينهما في الأنفال ، { ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً } ( أي ) من بعد ضعف الطفولية شباباً وهو وقت القوة { ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً } هَرَماً » وَشَيْبَةً « والشيبة هي تمام الضعف { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } .
( فإن قيل : ما الحكمة في قوله ههنا : { وَهُوَ العليم القدير } ) فقدم العلم على القدرة ، وقولِهِ من قبل : { وَهُوَ العزيز الحكيم } والعزة إشارة إلى كما القدرة ، والحكمة إشارة إلى كمال العلم ، فقدم القدرة هناك على العلم؟! .
فالجواب أن المذكور هناك الإعادة { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المثل الأعلى فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم } لأن الإعادة بقوله : » كُنْ فَيَكُونَ « فالقدرة هناك أظهر وههنا المذكور الإبداء وهو أطوارٌ وأحوالٌ والعلم بكل حال حاصل فالعلم هَهُنا أظهر ثم إن قوله تعالى : { وَهُوَ العليم القدير } فيه تبشير وإنذار؛ لأنه إذا كان عالماً بأحوال الخلق يكون عالماً بأحوال المخلوق فإن علموا خيراً علمه ثم إذا كان قادراً فإذا علم الخير أثاب ، وإذا علم الشر عاقب ، ولما كان العلم بالأحوال قبل الإثابة والعقاب اللَّذَيْن هما بالقدرة ( والعلم ) قدم العِلم ، وأما الآية الأخرى فالعلم بتلك الأحوال قبل العقاب فقال : { وَهُوَ العزيز الحكيم } .
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58)
قوله : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون } يحلف المشركون « مَا لَبِثُوا » في الدنيا « غَيْرَ سَاعَةٍ » أي إلا ساعة ، لما ذكر الإعادة والإبداء ذكره بذكر أحوالها ووقتها .
قوله : « مَا لَبِثُوا » جواب قوله « يُقْسِمُ » وهو على المعنى؛ إذا لو حكى قولهم بعينه لقيل : ما لبثنا ، والمعنى أنهم استلقوا أجل الدينا لما عاينوا الآخرة . وقال مقاتل والكلبي : ما لبثوا في قبورهم غير ساعة كما قال : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا } [ النازعات : 46 ] وقوله : { يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ } [ الأحقاف : 35 ] .
قوله : « كَذَلِكَ » أي مثْلُ ذَلِكَ الإفك « كانَوا يُؤفَكُونَ » أي يصرفون عن الحق في الدنيا ، وقال الكلبي ومقاتل كذبوا في ( قبورهم ) قولهم غير ساعة كما كذبوا في الدنيا أن لا بعث ، والمعنى أن الله تعالى أراد يَفْضَحَهُمْ فحلفوا على شيء ( يتبين ) لأهل الجمع أنهم كاذبون ، ثم ذكر إنكار المؤمنين عليهم فقال : { وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ الله } أي فيما كتب الله لكم في سابق علمه في اللَّبث في القبور . وقيل : في كتاب الله في حُكْم الله أي فيما وعد به في كتابه من الحشر والبعث فيكون « في كتاب الله » متعلقاً « بلَبِثْتُم » وقال مقاتل وقتادة : فيه تقديم وتأخير معناه وقال الذين أوتوا العلم بكتاب الله والإيمان لقد لبثتم إلى يَوْم البَعْثِ .
و طفي « تَرِدُ بمعنى الباء [ و ] العامة على سكون عين » البَعْثِ « والحسن بفتحها ، وقرىء ، بكسرها ، فالمكسور اسم ، والمفتوح مصدر .
قوله : { فهذا يَوْمُ البعث } في الفاء قولان : اظهرهما : أنها عاطفة هذه الجملة على » لَقَدْ لَبِثْتُمْ « .
وقال الزمخشري هي جواب شرط مقدر كقوله :
4046 - فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا ... كأنه قيل : إن صحَّ ما قلتم إن » خرسان « أقصى ما يراد بكم وآن لنا أن نخلص وكذلك إن كنتم منكرين فهذا يوم البعث ، ويشير إلى البيت المشهور .
4047 - قالوا خُرَاسان أقْصَى ما يُرادُ بِنَا ... قُلْنَا القُفُول فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا
قوله : » لا تَعْلَمُونَ « أي البعث أي ما يراد بكم ( أو ) لا يقدر له مفعول أي لم يكونوا من أولي العلم وهو المَنْع .
فصل
اعلم أن الموعود بوعد إذا ضرب له أجل يستقل المدة ويريد تأخيرها ، فالمجرم إذا حُشِرَ عَلِمَ أن مصيره ( إلى النار يستقل مدة اللَّبْثِ ويخترا تأخير الحشر والإبقاء في الإبقاء ، والمؤمن إذا حُشِرَ عَلِمَ أن مصيره ) إلى الجنة فيستكثر المدة ولا يريد تأخيرها فيختلف الفريقان ويقول أحدهما : إن مدة لَبْثنا قليلٌ وإليه الإشارة بقوله : { وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ الله إلى يَوْمِ البعث } ونحن صرنا إلى يوم البعث ، وهذا يوم البعث { ولكنكم كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ } وقوعه في الدنيا يعني أن طلبكم ( التأخير لأنكم كنتم لا تعلمون البعث ولا تعترفون به ، فصار مصيركم إلى النار فتطلبون التأخير ولا ينفعكم العلم به الآن .
قوله : « فَيَوْمَئِذٍ » أي إِذْ يَشْفَعُ ذَلك يقولُ الذين أثوتوا العلمَ تلك المقالة « لا ينفع » هو الناصب ليومئذ قبله ، وقرأ الكوفيون هنا وفي غافر بالياء من تحت وافقهم نافعٌ على ما في غافر؛ لأن التأنيث مجازيّ ولأنه قد فصل أيضاً والباقون بالتأنيث فيهما مراعاةٌ للفظ .
قوله : { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } قال الزمخشري من قولك : أسْتَعْتَبَنِي فلانٌ فَأَعْتَبْتُهُ أي اسْتَرْضَانِي فَأَرضَيْتُهُ ، وذلك إذا كان جانياً ( عليه ) وحقيقة « أَعْتَبْتُهُ » أزلت عَتْبَهُ ألا ترى إلى قوله :
4048 - غَضِبَتْ تَمِيمٌ أن تقَتَّلَ عَامِرٌ ... يَوْمَ النِّسَارِ فَأُعْتِبُوا بالصَّيْلَمِ
كيف جعلهم غضاباً ، ثم قال : « فأُعْتِبُوا » أي أُزِيلَ غَضَبُهُمْ ، والغضب في معنى العتب والمعنى لا يقال ( لهم ) أرضوا ربكم بتوبة وطاعة ، ومثله قوله تعالى : { فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ } [ الجاثية : 35 ] . فإن قلتَ : كيف جعلوا غير مُسْتَعْتَبِين في بعض الآيات وغير مُعْتَبِينَ في بعضها وهو قوله : { وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ المعتبين } [ فصلت : 24 ] قلت : أما كونهم غي مُسْتَعْتَبِينَ فهذا معناه ، وأما كونهم غير معتبين فمعناه أنهم غيرُ راضينَ بما هم فيه فشُبِّهَتْ حالُهُمْ بحال قوم جُنِيَ عليهم فهم عاتبون على الجاني غير راضين ( منه ) فإن يستعتبو الله أي يسألون إزالة ما هم فيه فما هم من المُجَابِينَ انتهى . وقال ابن عطية ويستعتبون بمعنى يعتبون كما تقول يَمْلِكث ، ويَسْتَمْلِكُ ، والباب في « استفعل » طلب الشيء وليس هذا منه؛ لأن المعنى كان يفسد إذْ كان المفهوم منه ولا يُطْلَبُ منهم عُتْبَى ، قال شِهابُ الدِّين : وليس ( هذا ) فاسداً لما تقدم في قوله الزمخشري .
قوله : { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ } وهذا إشارة إلى إزالة الأعْذَار والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار وأنه لم يبقَ من جانب الرسول تقصيرٌ فَإن طلبوا شيئاً آخر فذاك عناد مَحْض لأن من كذَّب دليلاً لا يَصْعبُ عليه تكذيب الدلائل بل يا يجوز للمستدل أن يَشْرَع في دليل آخر بعد ذكره دليلاً جيِّداً مستقيماً ظاهراً لا إشكال عليه ، وعانده الخصم لأنه إما أن يعترف بوُرُودِ سُؤال الخَصْم عليه أو لا يعترف فإن اعترف يكون انقطاعاً وهو يَقْدَحُ في الدليل والمستدلّ إما أن يكون الدليل فاسداً وإما أن المستدل جاهل بوجه الدلالة والاستدلال وكلاهما لا يجوز الاعراف ( به ) من العلم فكيف من النبي عليه الصلاة والسلام وإن لم يعترف بكون الشُّرُوعِ في غيره يوهم أن الخَصم معاند فيحترز عن العناد في الثاني أكثر .
فإن قيل : فالأنبياء عليهم ( الصلاة و ) السلام ذكروا أنواعاً من الدلائل ، فنقول سردوها سَرْداً ثم فردوها فرداً فرداً ( كما ) يَقُولُ : الدليلُ عليه من وجوه : الأول : كذا ، والثاني : كذا ، والثالث : كذا .
وفي مثل هذا الواجب عدم الالتفات إلى عناد المعاند لأنه يريد تضييع الوقت كي لا يتمكن المُسْتَدِلُ مِن الإتيان بجميع ما وعد من الدليل فتَنْحَطُّ درجته وإلى هذا أشار بقوله : { وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ الذين كفروا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ } أي ما أنتم إلا على باطل ، ووحد في قوله : « جئْتَهُمْ » وجمع في قوله : « إنْ أَنْتُمْ » لنكتةٍ وهي أنه تعالى أخبر في موضع آخر فقال : { وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِكُلِّ آيَةٍ } أي جاءت بها الرسل فقال الكفار ما أنتم أيها المُدعُون الرسالة ( كلكم ) إلا كذا .
كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
قوله : « كَذَلك يَطْبَعُ » أي مثل ذلك الطبع يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ توحيد الله .
( فإن قيل : من لا يعلم شيئاً أيّ فائدة في الإخبار عن الطبع على قلبه؟
فالجواب : ) معناه أن من لا يعلم الآن فقد طبع على قلبه من قبل ، ثم إنه تعالى سَلَّى نبيه عليه ( الصلاة و ) السلام فقال : { فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } في نصرتك وإظهارك على عدوك وتبيين صدقك .
قوله : { وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الذين لاَ يُوقِنُونَ } العامة من الاسْتِخْفَافِ - بخاء مُعْجَمَةٍ وفاءٍ - ويعقوبُ ، وابنُ أبي إسحاق بحاء مهملة وقاف من الاسْتِحْقَاق . وابنُ أبي ( عبلة ) ويعقوبُ بتخفيف نون التوكيد والنهي من باب : لاَ أَرَينْكَ هَهُنَا .
فصل
المعنى ولا يَسْتَجْهِلَنَّكَ أي لا يَجْهَلَنَّكَ { الذين لا يوقون } على الجهل واتباعهم في البغي ، وقيل : لا يَسْتَحِقَّنَ رأيكَ وحِلْمَك الذين لا يؤمنون بالبعث والحساب ، وهذا إشارة إلى وجوب مُدَاومَةِ النبي - عليه السلام - على الدعاء إلى الإيمان ، فإنه لو سكت لَقَالَ الكافريون : إن ه متقلب قابل الرأي لا ثبات له .
روى أبو أمامة عن أبيِّ بْنِ كَعْبٍ قال : « قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم : » مَنْ قَرَأَ سُورَة الرُّومِ كان لَهُ من الاجر عشر حسناتٍ بعدد كُلّ مَلَك يُسَبِّح اللَّهُ بَيْنَ السَّمَاء والأرض وأَدْرَكَ ما صَنَعَ في يومه وليلته « رواه في تفسير والله أعلم ( وأحكم ) .
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)
قوله تعالى : { ألم . تلك آيات الكتاب الحكيم } تلك إشارة إلى غائب ، والمعنى آيات القرآن ( أي ) آيات الكتاب الحكيم . والحكيم ( قيل ) : فعيلٌ بمعنى مُفْعَل وهذا قليل . قالوا عَقَدْتُ اللَّبَنَ فَهُوَ عَقِيدٌ ، ( أو بمعنى فاعل ) أو بمعنى ذي الحكمة أو أصله الحكيمُ قائِلُهُ ( ثم ) حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مُقَامَهُ وهو الضمير المجرُور ، فانقلب مرفوعاً فاسْتَتَرَ في الصِّفة قاله الزمخشري ، وهو الحسن الصِّنَاعِة .
قوله : « هَدىً وَرَحْمَةً » العامة على النصب على الحال من « آيات » والعامل ما في اسم الإشارة من معنى الفعل او المَدْح . وحمزةُ بالرفع على خبر مبتدأ مضمر وجوز بعضهم أن يكون « هدى » منصوباً على الحال رفع « رحمة » . قال : ويكون رفعها على خبر ابتداء مضمر ، ( وجوز بعضم أن يكونَ هُدىً ) أي وهو رحمة وفيه بُعْدٌ .
فصل
قال في البقرة : ذَلِكَ الكِتَابُ ، ولم يقل : « الحَكِيمُ » وههنا قال : « الحَكِيمُ » ؛ لأنه لما زاد ذكرَ وصفٍ في الكتاب زاد ذكر أمر أحواله فقال هدى ورحمة وقال هناك : « هدى للمتقين » ، فقوله : « هدى » ( في مقابلة قوله : « الكتاب » وقوله : « ورحمة » ) مقابلة قوله « الحكيم » ووصف الكتاب بالحكيم على معنى ذو الحكمة كقوله تعالى : { فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ الحاقة : 69 ] أي ذات رضا وقال هناك « لِلْمُتَّقِينَ » وقال هنا : « للمُحْسِينِيَ » ؛ لأنه لما ذكر أنه هدى ولم يذكر شيئاً آخر قال : « لِلْمُتَّقِين » أي يهدى ( به ) من يتقي من الشرك والعناد ، وههنا زاد قوله : « وَرَحْمَة » فقال : « لِلْمُحْسِنِينَ » ؛ لأن رحمة الله قريبٌ من المحسنين وقال تعالى : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 26 ] فناسب زيادة قوله « وَرَحْمَة » ، ولأن المحسن يتقي ، ( وزيادة ) .
قوله : « الذين يقيمون » صفة أبو بدل أو بيان لما قبله ، أو منصوب أو مرفوع على القطع وعلى كل تقدير فهو تفسير للإحسان . وسئل الأصمعي عن الألمعي فنشد :
4049 - الأَلْمَعِيُّ الَّذِي يَظُنُّ بِكَ الظَّنْ ... نَ كَأَنْ قَدْ رَأَى وَقَدْ سَمِعَا
يعني أن الألمعي هو الذي إذا ظن شيئاً كان كمن رآه وسمعه كذلك المحسنون هم الذين يفعلون هذه الطاعات ومثله وسئل بعضهم عن الهلوع فلم يزد أن تلا : { وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً } [ المعارج : 19 - 20 ]
فصل
قال في البقرة : { الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة } [ البقرة : 3 ] ولم يقل هنا : الذين يؤمنون بالغيب؛ لأن المتَّقِيَ هو التارك للكفر ويلزم منه أن يكون مؤمناً ، والمؤمن هو الآتي بحقيقة الإيمان ، ويلزمه أن لا يكونَ كافراً ، فلما كان المتقي دالاً على المؤمن بالالتزام مدح بالإيمان هناك ، ولما كان المحسن دالاً على الإيمان بالتنصيص لم يصرح بالإيمان .
وتقدم الكلام على نظير قوله : { الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة } إلى قوله : « المُفْلِحُونَ » .
قوله : { وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث } لم ابين أن القرآن كتابٌ حيكمٌ يشتملُ على آياتِ حكيمة بين حال الكفار أنهم يَترُكُون ذلك ويشتغلون بغيره . قال مقاتل والكلبي : نزلت في النَّضْرِ بْنِ الحَارِث كان يَتَّجرُ فيأتي الحيرة ويشتري أخبار العجم ويحدث بها قريشاً ويقول : إن محمداً يحدثكم بحديث عاد وثمود وأنا أحدثكم بحديث « رُسْتم ، واسفِنْديَار » ، وأخبار الأكاسرة فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن ، فأنزل الله هذه الآية ، وقال مجاهد : يعني شراء القِيَانِ والمُغَنِّينَ ، ووجه الكلام على هذا التأويل من يشتري ذاتَ او ذَا لَهْوِ الحَدِيث ، قال عَليه ( الصلاة و ) السلام : « لا يحل ( تعليم ) المغنيات ولا بيعهن وأثمانهن حرام » وفي مثل هذا نزلت الآية { وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله } وما من رَجُلٍ يرفع صوته بالغناء إلاَّ بعث الله عليه شياطنين أحدهما على هذا المَنْكِبِ والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى هو الذي يسكت قال النحويون قوله : « لَهْوَ الحديث » من باب الإضافة بمعنى « مِنْ » ح لأن اللهو يكون حديثاً وغيرهَ فهو كباب ، وهذا أبلغ من حذف المضاف .
قوله : « لِيُضِلَّ » ( قرأه ابن كثير وأبو عمرو ) بفتح حرف المضارعة ، والباقون بضمه لمن « أَضَلَّ غَيْرَهُ » فمفعوله محذوف ، وهو مستلزم للضلال لأن من « أَضَلَّ » فقد « ضَلَّ » من غير عكس ، وقد تقدم ذلك في إبراهيم . قال الزمخشري هنا : فإن قلت : القراءة بالرفع بينة لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو أن يصد الناس عن الدخول في الإسلام واستماع القرآن ويضلهم عنه ، فما معنى القراءة بالفتح؟ قلت : معنيان :
أحدهما : ليثبت على ضلالة الذي كان عليه ولا يَصْدِفَ ويزيدَ فيه ويمده فإن المخذول كان شديد التمكّن في عداوة الدين وصد الناس عنه .
الثاني : ان موضع « ليضل » ( موضع ) من قِبَلِ أنَّ من « أَضَلَّ » كان ضالاًّ لا محالة ، فدل بالرَّدِيفِ على المَرْدُوفِ .
فصل
روي عن عبد الله بن مسعود وابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير قالوا : ( لهو ) الحديث هو الغناء ، والآية نزلت فيه ، ومعنى قوله : { مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث } أي يستبدل ويختار الغناء والمزامير والمعازف على القرآن ، وقال ابن جريح : هو الطبل ، وقال الضحاك : وهو الشرك ، وقال قتادة : حسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحقّ .
قوله : « بغير علم » حال أن يشتري بغير علم بأحوال التجارة حيث اشترى ما يخسر قيمة الدَّارَيْنِ .
قوله : « وَيَتَّخِذَهَا » قرأ الأحوان وحفص بالنصب أي بنصب الذَّال عطفاً على « لِيُضِلَّ » وهو علة كالذي قبله .
والباقون بالرفع عطفاً على « يَشْتَرِي » فهو صلة ، وقيل : الرفع على الاستئناف من غير عطف على الصلة ، والضمير المنصوب يعود على الآيات المتقدمة أو السبيل لأنه يُؤَنَّثُ ، أو الأحادث الدال عليها الحَدِيُ لأنه اسم جنس .
قوله : « أولَئِكَ لَهْمْ » حمل أولاً على لفظ « مَنْ » فأفرد ( ثم ) على معناها فجمع ثم على لفظها فأفرد في قوله : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا } وله نظائر تقدم التنبيه عليها في المائدة عند قوله : { مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ } [ المائدة : 6 ] . قال أبو حيان : ولا نعلم جاء في القرآن ما حمل على اللفظ ثم على المعنى ثم على اللفظ غير هاتين الآيتين ، قال شهاب الدين : ووجد غيرهما كما تقدم التنبيه عليه في المائدة . وقوله : « عَذَابٌ مُهِينٌ » أي دائم .
قوله : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا ولى مُسْتَكْبِراً } أي يشتري الحديث الباطل ، ويأتيه الحق الصُّرَاحُ مَجَّاناً فيعرض عليه .
قوله : { كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا } حال من فاعل « وَلَّى » أو من ضمير « مُسْتَكْبِراً » وقوله : { كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً } حال ثالثة أو بدل مما قبلها ، أو حال من فاعل « يَسْمَعْهَا » أو تبيين لما قبلها ، وجوز الزمخشري أن تكون جملة التنبيه استئنافيتين .
معنى { كأن لم يسمعها } شغل المتكبر الذي لا يلتفت إلى الكلام ويجعل نفسه كأنه غافلة ، وقوله : { كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً } أدخل في الإعراض { فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي مؤلم ، ووصفه أولاً بأنه « مهين » وهو إشارة إلى الدوام فكأنه قال : « مُؤْلِم دَائم » .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
قوله : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات . . . } الآية لما بين حال المُعْرِضِ عن سماع الآيات بين حال من يقبل على تلك الآيات بأنَّ لهم جناتِ النعيم . ولذلك عذاب مهين ووحد العذاب ، وجمع الجنات إشارة إلى أن الرحمة ( واسعة أكثر من الغضب ، وكّر « العذاب » وعرف « الجنات » إشارة إلى أن الرحمة ) تبين النعمة وتعرفها ولم يبين النعمة وإنما نبه عليها تنبيهاً .
وقوله : « خَالِدِينَ » حال ، وخبر « إِنَّ » الجملة من قوله : « لَهُمْ جَنَّاتٌ » والأحسن أن يجعل « لَهُمْ » هو الخبر وحده ، و « جَنَّاتٌ » فاعل به ، وقرأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ « خالدُونَ » بالواو فيجوز أن يكون هو الخبر والجملة أو الجارّ وحده حال ، ويجوز أن يكون ( « خالدون » ) خبراً ثانياً .
قوله : « وَعْدَ اللَّهِ » مصدر مؤكد لنفسه؛ لأن قوله : « لَهُمْ جَنَّاتٌ » في معنى وَعَدَهُم اللَّهُ ذَلِكَ ، و « حَقّاً » مصدر مؤكد لغيره ، أي لمضمون تلك الجملة الأولى ، وعاملها مختلف ، فتقدير الأولى وعد الله ذلك وعداً ، وتقدير الثاني : أُحِقُّ ذلك حَقّاً ، واعلم أنه « العزيز » في اقتداره « الحكيم » في أفعاله .
قوله : { خَلَقَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ } وهذا تبيين لقوّته وحكمته ، وقد تقدم الكلام على نظيرها في الوعد . واعلم أن أكثر المفسرين قال : إن السموات مبسوطةً كصُحُفٍ مستوية لقوله تعالى : { يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ } [ الأنبياء : 104 ] . وقال بعضهم : إنها مستديرة وهو قول ( جميع ) المهندسين والغزاليُّ - رحمه الله - قال ونحن نوافقهم على ذلك فإن لهم عليها دليلاً من المحسوسات ومخالفة الحسّ لا يجوز وإن كان في الباب خبر نؤوله بما يحتمله فضلاً من ( أن ) ليس في القرآن والخبر مما يدل على ذلك صريحاً بل ما يدل عليه الاستدارة كقوله تعالى : { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ الأنبياء : 33 ] « والفلك » اسم لشيء مستدير بل الواجب ان يقال : إن السماء سواء كانت مستديره أو صفحةً مستقيمة هو مخلوق بقدر الله لا بإيجاب وطبع ( وتقدم ) الكلام على نظير الآية إلى قوله : « كَرِيم » . والكريم الحسن ، أو ذي كرم لأنه يأتي كثيراً من غير حساب أو مُكْرِم مثل نَقِيصٍ للمُنْقِص .
قوله : { هذا خَلْقُ الله } يعني هذا الذي ذكرت مما يُعَايِنُونَ خلق الله { فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ } من آلهتكم التي تعبدونها وتقدم « ماذا » الاستفهام في البقرة . { بَلِ الظالمون فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي بين ، أو مبين للعاقل أنه ضلال ، والمراد بالظالمين المشركين الواضعين العبادة في غير موضعها .
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة } لقمان قيل : أعجمي وهو الظاهر فمنعه للتعريف والعجمة الشخصية ، وقيل : عربي مشتق من اللّقْم وهو حينئذ مُرَجَّل لأنه لم يبق له وضعٌ في النكرات ومنعه حينئذ للتعريف وزيادة الألف والنون ، والعامل في « إذ » مضمر .
قال ابن إسحاق لقمانُ هو نَاعور بن ناحثور بن تَارخ ، وهو آزر ، وقال وهب كان ابن أخت أيوب وقال مقاتل : ذكر أنه كان ابن خالة أيوب ، وقال الواقدي : كان قاضياً في بني إسرائيل واتفق العلماء على أنه كان حكيماً ولم يكن نبياً إلا عكرمة فإنه قال كان نبياً وانفرد بهذا القول وقال بعضهم خُيِّرَ لُقْمَانُ : هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض فتحكم بين الناس بالحقّ فأجاب الصوت وقال : إن خَيَّرَنِي ربي قبلت العافية ولم أقبل البلاء وإن عزم علي فسمعاً وطاعة فإني أعْلَمُ إن فعل بي ذلك أعاننين وعصمني فقال الملائكة بصوت لا يراهم لِمَ يا لقمانُ؟ قال : لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها يغشاه الظلم من كل مكان أن يعن فبالحري أن ينجو وإن أخطأ أخطا طريق الجنة ومن يكن في الدنيا ذليلاً خير من أن يكون شريفاً ، ومن يختر الدنيا على الآخرة تُغْنه الدنيا ولا يصيب الآخرة فتعجب الملائكة من حسن مَنْطِقِ فقام من نومه فأعطي الحكمة فانْتَبَه وهو يتكلم بها ثم نودي داود بعده فقبلها ولم يشترط ما اشترط لقمان فهوى في الخطيئة غير مرة ، كُلّ ذلك بعفو الله عنه وكان لقمان تؤازره الحكمة ، قال خالد الربعي : كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً ، وقال سعيد بن المسيب : كان خياطاً ، وقيل : كان راعِيَ غنم ، فروي أنه لقيه رجل وهو يتكلم بالحكمة فقال : ألستَ فلاناً الراعيَ فبم بَلَغْتَ ما بَلَغْتَ؟ قال : بصدق الحديث ، وأداء الأمانة وترك ما لا يَعْنِينِي ، وقال مجاهد : كان عبداً أسود عظيم الشَّفَتَيْنِ مُشَقَّقَ القَدَمَيْنِ ، وقال الحسن : اعتزل لقمان الناس فنزل ما بين الرقّة ( وبيت ) المقدس لا يخالطهم ، وقال أبو جعفر : كان لقمانُ الحبشيُّ عبداً لرجل فجاء به إلى السوق ليبيعه فكَانَ كلما جاء إنسانٌ يشريته قال له لقمان : ما تصنع بي ( فاعل فيقول : أصنع بك كذا وكذا فيقول : حاجتي إليك أن لا تَشْتِرِيَنِي حتى جاء رجل فقال له : ما تصنع بي ) قال أُصَيِّرُك بواباً على بابي فقالك أنت اشتري فاشتراه وجاء به إلى جاره قال : وكان لمولاه ثلاثُ بناتٍ يَبْغِين في القرية ، وأراد أن يخرج إلى ضيعةً له فقال له : إني أَدْخَلْتُ إليهن طعامَهُنَّ وما يَحْتَجْنَ إليه فإذا خرجت فأغلق الباب واقعد من ورائه ولا تفتحه حتى أحضر قال : ففعل فَخَرَجْنَ إليه فإذا خرجت فأغلق الباب واقعد من ورائه ولا تفتحه حتى أحضر قال : ففعل فَخَرَجْنَ إليه كما كُن يَخْرُجُنْ فقلن ( له ) : افتح الباب فأبى ( عليهن ) فَسَجَنَّه فَغَسَل الدم وجلس ، فلما قدم مولاه لم يخبره ( ثم عاد فأغلق الباب فجئن إليه فقلن له : افتح الباب فأبى فَشَجَجْنَه ورجَعنَ فغسل الدم وجلس فلما جاء مولاه لم يخبره ) قال : فقالت الكبرى : وما بال هذا العبد الحبشي أولى بطاعة الله - عز وجل - مني والله لأتوبَنَّ فتَابَتْ ، ( وقالت ) الصغرى : ما بال هذا العبد الحبشيّ وهذه الكبرى أولى بطاعة الله - عز وجل - مني والله لأتوبَنَّ فَتَابَتْ فقالت الوسطى : ما بال هَاتَيْن وهذا العبد الحبشي أولى بطاعة الله مني والله لأتوبن فتابت فتُبْنَ إلى الله تعالى وكُنَّ عَوَابِدَ القرية فقال غُوَاةُ القرية ما بال هذا العبد الحبشيّ وبنات فلان أولى بطاعة الله - عز وجل - منّا فتابوا ، وعن مكحول : أن لقمانَ كان بعداً حبشياً لرجل من بني إسرائيل وكان مولاه يلعب بِالنَّرْدِ ويخاطر عليه ، وكان على بابه نهرٌ جارٍ فلعب يوماً بالنَّرْدِ على أن من قهر صاحبه شرب الماء الذي في البحر كله أو افتدى منه فقمر سيد لقمان فقال له القامر : اشرب ما في النهر كله وإلا فافتديه فقال سَلْنِي الفداء فقال : عينيك أَفْقَأهُما أو جميع ما تملك فقال : أمْهِلْنِي يوماً قال لك ذلك .
فأمسى كئيباً حزيناً فكلمه لقمان فأعرض عنه فأعاد عليه القول فأعرض عنه فقال أخبرني فلعل لك عندي فرجاً فأخبره فقال : إذا قال لك الرجلُ اشرب ما في النهر فقل له أشرب ما بين حفتي النهر أو المد ( فإنه ) يقول لك ما بين حفتي النهر فقل له احبس عني المد حتى أشرب ما بين الحفتين فإنه لا يستطيع وتكون قد خرجت مما ضمنته له فعرف الرجل أنه قد صدق فطابت نفسه ، فلما أصبح الرجل جاء فقال أَوْفِ لي شرطي فقال له نعم أشرب ما بين الضفتين أو المد فقال ما بين الضفتين قال فاحبس عني المد قال كيف أستطيع فخصمه قال فأعتقه مولاه فأكرمه الله تعالى وكان يختلف إلى داودَ - عليه السلام - يقتبس منه فاختلف إليه سنة وداود يتخذ درعاً يسأله ما هذا ولم يخبره داود حتى فرغ منها ولَبِسَها على نفسه فقال عند ذاك : الصمت حكمة .
فصل
لما بين الله تعالى فساد اعتقاد المشركين في عبادة من لا يَخْلٌُ شَيْئاً قوله : { هذا خَلْقُ الله فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ } [ الروم : 11 ] بين أن المشرك ظالم ضالٌّ ذكر ما يدل على أن ضلاله وظلمهم نقيض الحكمة إن لم يكن هناك نبوة وذكر حكاية لقمان فقال : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة } . ( والحكمة ) عبارة عن توفيق العمل بالعلم ، فإن أريد تَحْدِيدُها بما يدخل فيه حكمة الله فنقول : حصول العلم على وفق المعلوم .
قوله : « أَنْ اشْكُرْ » هذه « أن » المفسرة ، فسر الله إيتاء الحكمة بقوله : { أَنِ اشكر للَّهِ } ثم بين أن الشكر لا يشفع إلا الشاكر بقوله : { وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } وبين أن من كفر لا يتضرر غير الكافر ، فقال : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ } أي غير محتاج إلى شكره ، وقدم الشكر على الكُفْرَانِ ههنا وقال في الروم : { مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } [ الآية : 44 ] لأن الذكر في الروم كان للترهيب ولذلك قال : { يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ } [ الروم : 43 ] فقدم التخويف ، وههنا الذكر للترغيب؛ لأن وعظ الأب للابن يكون بطريق اللطف . والوعد .
قوله : { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ } هذا عطف على ما تقدم والتقدير آتينا لقمان الحكمة حين جعلناه شاكراً في نفسه ، وحين جعلناه واعظاً لغيره .
قوله : « يا بُنَيَّ » قرأ ابن كثير بإسكان الياء وفتحها حفصٌ والباقون بالكسر { لاَ تُشْرِكْ بالله } بدأ في الوعظ بالأهم وهو المنع من الإشراك وقال : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } ، أما أنه ظلم فلأنه وضع النفس الشريفة المكرمة في عبادة الخسيس ، فوضع العبادة في غير موضعها .
قوله : { وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ } لما منعه من العبادة لغير الله والخدمة قريبٌ منها في الصورة بين أنها غير ممتنعة بل هي واجبة لغير الله ( في بعض الصور ) كخدمة الأبوين ثم بين السبب فقال : « حَمَلَتْهُ أُمُّهُ » يعني لله على العبد نعمة الابتداء بالخلق ونعمة الإبقاء بالرزق أي صارت بقدرة الله سبب وجود فإنها حملته وبرضاه حصل التربية والبقاء .
قوله : { وَهْناً على وَهْنٍ } يجوز أن ينتصب على الحال من ( أُمُّهُ ) أي ضَعْفاً على ضعف . وقال ابن عباس : شدة عل شدة ، وقال مجاهد : مشقة بعد مشقة وقال الزجاج : المرأة إذا حَمَلَتْ توَالَى عليها الضعف والمشقة ، وقيل : الحمل ضعف والوضع ضعف ، وقيل : منصوب على إسقاط الخافض أي في وهنٍ . قال أبو البقاء : « وعلى وهن » صفة له « الوَهْناً » . وقرأ الثَّقَفِي وأبو عمرٍو - في رواية - وَهَنا على وَهَنٍ - بفتح الهاء فيهما - فاحتمل أن تكونا لغتين كالشَّعْرِ والشَّعرِ ، واحتمل أن يكون المفتوح مصدر « وَهِنَ » بالكسر يَوهَنُ وَهناً .
قوله : « وفصاله » قرأ الجَحْدِرِيُّ وقتادةُ وأبُو رَجَاء والحسنُ « وفَصْلُهُ » دون ألف - أي وفِطامُهُ في عامين .
فإن قيل : وصى الله بالوالدين ، وذكر السبب في حق الأم مع أن الأب وجد منه الحشر من الأم لأنه حمله في صلبه سنين ورباه بكسبه سنين فهو أبلغ .
فالجواب : أن المشقة الحاصلة للأم أعظم فإن الأبَ حمله خلفة لكونه من جملةِ جَسَدِهِ ، والأم حملته ثقلاً آدميّاً مودع فيها وبعد وضعه وتربيته ليلاً ونهاراً وبينهما ما لا يخفى من المشقة .
قوله : « أَنْ اشْكُرْ » في « أن » وجهان :
أحدهما : أنها مفسرة .
والثاني : أنها مصدرية في محل نصب « وصّينا » قاله الزجاج ، لما كان الوالدان سببَ وجود الولد والموجد في الحقيقة للولد والوالدين هو الله أمر بأن يشكر قبلهما . ثم بين الفرق بين « إِلَيَّ المَصِيرُ » أي المرجع ، قال سفيان بن عيينة في هذه الآية من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله ، ومن دعا للوالدين في أَدْبَار الصَّلَوَاتِ الخَمْس فقد شكر الوالدين .
قوله : { وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا } يعني أن خدمتهما واجبة ، وطاعتهما لازمة ما لم يكن فيها ترك طاقة الله فإن أفضى إليه فلا تُطِعْهُما ، وتقدم تفسير الآية في العنكبوت . وقوله : « مَعْرُوفاً » صفة لمصدر محذوف أي صِحَاباً مَعْروفاً وقيل : الأصل : بمعروف .
قوله : { واتبع سبيل من أناب إليّ } أي دين من أقبل إلى طاعتي وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عطا عن ابن عباس : يريد : أبا بكر ، وذلك انه حين أسلم أتاه عثمانُ وطلحة والزبير وسعدُ بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عَوْف وقالوا له : ( لقد ) صَدَّقْتَ هذا الرجل وآمنت به قال نعم هو صادق فآمنوا ثم حملهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أسلموا وهؤلاء لهم سابقة الإسلام أسلموا بإرشاد أبي بكر قال الله ( تعالى ) : { واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } يعني أبا بكر .
قوله : « إِلَي » متعلق « بأَنَاب » ثم « إِليَّ » متعلق بمحذوف لأنه خبر « مرجعكم » فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تعملون . قيل : نزلت هاتان الآيتان في سَعْدِ بْنِ أبي وَقَّاص وأمِّه ، وقيل : الآية عامة .
قوله : { يابني إِنَّهَآ } هذا الضمير يرجع إلى الخطيئة ، وذلك أن ابنَ لقمان قال لأبيه : يا أبت إنْ عملت الخطيئةَ حيث لا يراني أحد كيف يعلمها ( الله ) ؟ فقال : { يابني إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ } . قوله : « إِنْ تَكُ » الضمير ضمير القصة ، والجملة الشريطة مفسرة ( للضمير ) ، وتقدم أن نافعاً يقرأ مِثْقَال بالرفع على أن كَانَ تامة وهو فاعلها وعلى هذا فيقال : لم ألحقت فله تاء التأنيث؟ قيل : لإضافته إلى مؤنث؛ ولأنه بمعنى « زِنَةُ حَبَّةٍ » ، وجوز الزمخشري في ضمير « إِنَّهَا » أن تكون للحبة من السيئات والإحسان في قراءة من نصب « مِثْقَال » . وقيل : الضمير يعود على ما يفهم من سياق الكلام أي إنَّ التي سألتَ عنها ( إنْ تَكُ ) ، قال المفسرون : إنه سأل أباه أرأيت الحَبَّةَ تقع في مغاص البحر يعلمها الله؟ .
قوله : « فتكن » الفاء لإفادة الاجتماع يعني إن كانت صغيرة ومع صغرها تكون خفيةً في موضع حريز كالصَّخْرَةِ لا تخفى على الله لأن الفاء للاتصال بالتعقيب وقرأ عبد الكريم الجَحْدَريُّ « فَتكِنَّ » بكسر الكاف ، وتشديد النون مفتوحة أي فتستقر .
وقرأ مُحَمَّدُ بْنُ أبي مُحَمَّد البَعْلَبَكِّيِّ : فَتُكَنَّ ، إِلا أنه مبنيٌّ للمجهول ، وقتادة « فَتَكِنْ » بكسر الكاف وتخفيف النون مضارع « وَكَنَ » أي استقر في وَكْنِهِ ووَكْرِهِ .
فصل
الصخرة لا بد وأن تكون في السموات أو في الأرض فما الفائدة من ذكرها؟ قال بعض المفسرين المراد بالصخرة صخرة عليها الثَّوْرُ وهي لا في الأرض ولا في السماء ، ( وقال الزمخشري : فيه إضمار تقديره إن تَكُنْ في صخرةٍ أو في موضع آخَرَ في السموات أو في الأرض ) . وقيل : هذا من تقديم الخاصّ وتأخر العام ، وهو جائز في مثل هذا التقسيم ، وقيل : خفاء الشيء يكون بطرق منها أن يكون في غاية الصِّغَرِ ، هذه الأمور فلا يخفى في العادة فأثبت الله الرؤية والعلم مع انتفاء الشرائط فقوله : { إنْ تَكُ مثقال حبة من خردل } إشارة إلى الصغر ، وقوله : { تَكُنْ فِي صَخْرَةٍ } إشارة ( إلى الحِجَاب ، وقوله : « فِي السَّمَوَاتِ » إشارة إلى البُعد ، فإنها أبعدُ الأبعاد ، وقوله : « أَوْ فِي الأَرْضِ » إشارة ) إلى الظلمة فإن جوْف الأرض أظلمُ الأماكن ، وقوله : { } أبلغ من قول القائل : يعلمه الله لأن من يظهر له شيء ( ولا يقدر على إظهاره لغيره يكون حاله في العلم دونَ حال من يَظْهَرُ له الشيء ) ويُظْهِرُهُ لغيره فقوله : { يَأْتِ بِهَا الله } أي يظهرها ( للإشهار ) { إِنَّ الله لَطِيفٌ } نافذ القدرة ، « خَبِيرٌ » عالم ببواطن الأمور ، روي في بعض الكتب أن هذه آخر كلمة تكلم بها لقمانُ فانشقتْ مرارتُه من هَيْبَتِهَا فمات ، قال الحسن : معنى الآية هو الإحاطة بالأشياء صغيرها وكبيرها .
قوله : { يابني أَقِمِ الصلاة } لما منعه من الشرك وخوفه بعلم الله وقدرته أمره بما يلزم من التوحيد وهو الصلاة وهي العبادة لوجه الله مخلصاً وبهذا يعلم أن الصلاة كانت في سائر الملل غير أن هيئاته اختلفت . وقوله : { وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَنِ المنكر } أي إذا كملت أنت في نفسك بعبادة الله فكمل غيرك فإن شغل الأنبياء رتبتهم عن العلماء هو أن يكملوا في أنفسهم ويكملوا غيرهم { واصبر على مَآ أَصَابَكَ } عين من الأذى لأن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يؤذى فأمره بالصبر عليه .
فإن قيل : كيف قدم ( في ) وصيته لابنه الأمر بالمعروف على النهي عن المنكر وحين أمر ابنه قدم النهي عن المنكر على الأمر بالمعروف فقال : { لاَ تُشْرِكْ بالله } ثم قال : « أَقِم الصَّلاَةَ » ؟ .
فالجواب : أنه كان يعلم أن ابنه معترفٌ بوجودِ الإله فما أمره بهذا المعروف بل نهاه عن المنكر الذي يترتب على هذا المعروف ، وأما ابنه فأمره أمراً مطلقاً والمعروف يقدم على المنكر .
قوله : { مِنْ عَزْمِ الأمور } يجوز أن يكون عزم بمعنى مفعول أي من مَغْزُماتِ الأمور أو بمعنى عازم كقوله : { فَإِذَا عَزَمَ الأمر } [ محمد : 21 ] وهو مجاز بليغ ، وزعم المبرد أن العين تبدل حاء فيقال « حَزْم ، وعَزْم » والصحيح أنهما مادات مختلفتان اتفقا في المعنى ، والمراد من الآية أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى ( فيهما ) من الأمور الواجهة التي أمر الله تعالى بها ويعزم عليها لوجوبها .
قوله : « وَلاَ تُصَعِّرْ » قرأ ابن كثير وابنُ عامر وعاصمٌ « تُصَاعِرْ » بألف وتخفيف العين ، والباقون بالألف وتشديد العين ، والرسم يحتملهما ، فإنه رسم بغير ألف ، وهما لغتان لغةُ الحجاز التخفيف وتميم التثقيل فمن التثقيل قوله :
4050 - وَكُنَّا إِذَا الجَبَارُ صَعَّرَ خَدَّهُ ... أَقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَيُقَوَّمُ
ويقال أيضاً : تَصَعَّر ، قال :
4051 - ... أقَمْنَا لَهُ مِنْ خَدِّه المُتَصَعِّر
وهو من الميل ، وذلك أن المتكبر يميل بِخَدِّهِ تكبراً كقوله { ثَانِيَ عِطْفِهِ } [ الحج : 9 ] . قال أبو عبيدة : أصله من الصَّعَرِ داء يأخذ الإبل في أعناقها فتميل وتَلْتَوِي؛ يقال : صَعَّرَ وجهه وصاَعَرَ إذا مال وأعرض تكبُّراً ، ورجل أصْعَرُ أي مائل العنق ، وتفسير اليَزِيدِيّ له بأنه التَّشَدُّق في الكلام لا يوافق الآية هنا ، قال ابن عباس : يقول لا تتكبر فتحتقر الناس وتعرض عنهم وجهك إذا كلموك ، وقال مجاهد : هو الرجل يكون بينك وبين إحْنَةٌ فتلقاه فيعرض عنك بوجهه ، وقال عكرمة : هو الذي إذا سلم عليه لوى عُنُقَه تكبراً ، وقال الربيع بن أنس وقتادة ولا تحتقر الفقراء ليكون الغنيّ والفقير عندك سواء ، واعلم أنه لما أمره بأن يكون كاملاً في نفسه مكملاً لغيره فكان يخشى بعدها من أمرين :
أاحدهما : التكبر على الغير لكونه مكملاً له .
والثاني : التبختر في المشي لكونه كاملاً في نفسه فقال : { وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ } تكبراً { وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً } أي خُيَلاَءَ { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } في نفسه « فَخُورٍ » على الناس بنفسه .
قوله : « واقْصِدْ » ( هذا قاصر ) بمعنى اقْتَصِدْ واسلُك الطريقة الوسطى بين ذلك قَوَاماً أي ليكن مشيك قصداً لا تخيلاً ولا إسراعاً . وقال عطاء : امشِ بالوَقَار والسكينة لقوله : { يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً } [ الفرقان : 63 ] .
( وقُرِىءَ ) « وأَقْصِدْ » بهمزة قطعٍ من أَقْصَدَ إذا سَدَّدَ سهمه للرَّمْيَةِ .
قوله : { واغضض مِن صَوْتِكَ } من تَبْعيضيَّه ، وعند الأخفش يجوز أن تكون زائدة ، ويؤيده قوله { يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ } [ الحجرات : 3 ] . وقيل : « من صوتك » صفة لموصوف محذوف أي شيئاً من صوتك ، وكان الجاهلية يتمدحون برفع الصوت ، قال : [ من المتقارب ] :
4052 - جَهِيزَ الكَلاَمِ جَهِيرَ العُطَاسِ ... جَهِيرَ الرُّوَاءِ جَهِيرَ النّعَمْ
والمعنى أَنْقِصْ من صوتك ، وقال مقاتل : اخفض من صوتك .
فإن قيل : لِمَ ذكر المانع من رفع الصوت ولم يذكر المانع من سرعة المشي؟ .
فالجواب : أن رفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصِّمَاخ بقوته ، وربما يخرقُ الغِشَاء الذي داخل الأذن ، وأما سرعة المشيء فلا تؤذي وإن أذت فلا يؤذي غير في طريقه والصوت يبلغ من على اليمين وعلى اليسار ولأن اللمس يؤذي آلة اللمس والصوت يؤذي آلة السمع ، وآل السمع على باب القلب فإن الكلامَ ينتقلُ من السمع إلى القلب ولا كذلك اللمس وأيضاً فلأن قبيحَ القول أقبح من قبيح الفعل وحسنه أحسن لأن اللسان تَرْجُمانُ القلب .
قوله : « إِنَّ أَنْكَرَ » قيل : أنكر مبنيٌّ من مبنيٍّ للمفعول نحو : « أشْغَلُ مشنْ ذَاتِ النّْيَيْنِ » ، وهو مختلف فيه ووحد « صوت » لأنه يراد به الجنس ولإضافته لجمع ، وقيل : يحتمل أن يكون « أنكر » من باب « أطوع له من بنانه » ومعناه أشدّ طاعةً . فإن « أفْعَلَ » لا يجيء ( في ) « مُفْعَل ولا في » مفْعُول « ولا في باب العيوب إلا ما شَذَّ كقولهم » أَطْوَعُ مِنْ كَذَا « للتفضيل على مُطِيع و » أَشْغَلُ مِنْ ذَاتِ النِّحْيَيْن و « أحْمَقُ ( مِنْ فُلانُ » ) من باب العيوب ، وعلى هذا فهو من باب « أفعل » كأَشْغَلَ في باب مَفْعُولٍ فيكون للتفضيل على المنكر . أو نقول هو من باب « أَشْغَل » مأخوذ من نُكِرَ الشيءُ فهو مَنْكُورٌ ، وهذا أنْكَرُ مِنْه ، وعلى هذا فله معنى لطيف وهو أن كل حيوان قد يفهم من صوته بأنه يصيح من ثِقَل أو تعب كالبَعير أو لغير ذلك والحمار لو مات تحت الحمل لا يصيح ولو قتل لا يصيح وفي بعض أوقات عدم الحاجة يصيح وينهقُ بصوتٍ مُنْكَر ( فيمكن ) أن يقال : هو من نكير كأَحَدَّ من حَدِيدٍ .
فإن قيل : كيف يفهم كونه أنكر الأصوات مع أن حزَّ المِنْشَار بالمبرد ودق النحاس بالحديد أشد صوتاً؟!
فالجواب من وجهين :
الأول : أن المراد أنكر أصوات الحيوانات صوتاً الحميرُ فلا يَردُ السؤال .
الثاني : أن الآمر بمصلحة وعبادة لا ينكر صوته بخلاف صوت ( الحمير ) .
فصل
قال مقاتل : اخْفِضْ مِنْ صوتك { إِنَّ أَنكَرَ الأصوات } أقبح الأصوات { لَصَوْتُ الحمير } أوله زَفيرٌ ، وآخره شهيقٌ وهما صوت ( أهل النار ) وقال موسى بن أعين سمعت سفيان الثوري يقول في قوله تعالى : { إن أنكر الأصوات لصوت الحمير } قال صياح كل شيء تسبيح لله تعالى إلا الحمار وقال جعفر الصادق في قوله تعالى : { إِنَّ أَنكَرَ الأصوات لَصَوْتُ الحمير } قال : هي العطسة القبيحة المنكرة ، قال وهب تكلم لقمان اثْنَي عشَرَ ألْف كلمةٍ من الحكمة أدخلها الناس في كلامهم ومن حكمه : قال خالد الريعي كان لقمان عبداً حبشياً فدفع ( له ) مولاه إليه شاة فقال اذبحها فأتِنِي بأطيبِ مُضْغَتَيْنِ مِنْها فأتاه باللِّسان والقَلْب فسأله مولاه فقال : ليس شيء أطْيَبَ منهما إذا طابا ولا أخبثَ منهام إذا خَبُثَا .
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ . . . } الآية ( أي ) سخر لأجلكم ما في السماوات والقمرَ والنجومَ مسخراتٍ بأمره وفيها الفوائد لعباده وسخر ما في الأرض لأجل عباده .
قوله : { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ } قرأ نافعٌ وأبُو عَمْروٍ وحفصٌ ( نِعَمَهُ ) جمعُ نِعْمَةٍ مضافاً لها الضمير « فظَاهِرةً » حال منها ، والباقون « نِعْمَةً » بسكون العين ، وتنوين تاء التأنيث ، اسم جنس يراد به الجمع كقوله : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] و [ النحل : 18 ] فظاهرةً ( نعت ) لها ، وقرأ ابن عباس ويحيى بن عمارة « وأصْبَغَ » بأبدال السين صاداً وهي لغة كلْبٍ ، يفعلون ذلك مع الغَيْنِ والخَاءِ والقَافِ ، وتقدم نظير هذه الجمل كلها في البقرة .
فصل
قال عكرمة عن ابن عباس النعمة الظاهر الإسلام ، والقرآن ، والباطنة ما ستر عليك من الذنوب ، ولم يعجل عليك بالنقمة ، وقال الضحاك : الظاهرة حُسْن الصورة وتسويةُ الأعضاء ، والباطنة المعرفة ، وقال مقاتل : الظاهرة تسوية الخِلْقَة ، والرزق ، والإسلام والباطنة : ما ستر عليك من الذنوب وقال الربيع الظاهرة الجوارح ، والباطنة القلب ، وقيل : الظاهرة تمام الرزق والباطنة حُسْنُ الخُلُق ، وقال عطاء : الظاهرة تخفيف الشرائع ، والباطنة الشفاعة ، وقال مجاهد : الظاهرة ظهور الإسلام والنصر على الأعداء والباطنة الإمداد بالملائكة ، وقيل : الظاهرة الإمداد بالملائكة والباطنة إلقاء الرعب في قلوب الكفار ، وقال سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : الظاهرة : اتِّباع الرسول والباطنة محبته .
قوله : { وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله ( بِغَيْرِ عِلْمٍ } نزلت في النضر بن الحَرثِ ، وَأُبيِّ بن خلف وأشباههم كانوا يجادلون النبي - صلى الله عليه وسلم - ) وفي صفاته { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا } بين أن مجادلتهم مع كونها من غير علم فهي في غاية القُبْح ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يَدعوهُم إلى كلام الله وهم يأخذون بكلام آبائهم وبين كلام الله وكلام العلماء بَوْنٌ عظيمٌ فكيف ما بين كلام الله وكلام الجهال؟ ثم قال : { أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ إلى عَذَابِ السعير } ، جواب « لو » محذوف ومجازه : يدعوهم فيتبعونه أي يتبعون الشيطان وإن كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير ، والمعنى أن الله يدعوهم إلى الثواب ، والشيطان يدعوهم إلى العذاب وهم مع هذا يتبعون ( الشيطان ) وقد تقدم الكلام على « أَوَ لَوْ » ونَحوهِ .
قوله : { وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله } قرأ عَليٌّ ( والسُّلَمِيُّ ) « يُسَلِّمْ » بالتشديد ، لما بين حال المشرك والمجادل في الله بين حال المستسلم المسلم لأمر الله وقوله : « وَهُو مُحْسِنٌ » أي لله يعني يخلص دينه لله ويفوض أمره إليه وهو محسن في عمله { فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى } أي اعتصم بالعهد الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه لأن أوثق العُرَى جانب الله ، فإن كل ما عداه هالك منقطع وهو باقٍ لا انقطاع له { وإلى الله عَاقِبَةُ الأمور } يعني فقد استمسك بالعروة التي توصله إلى الله لأن عاقبةَ كُلِّ شيء إليه .
فإن قيل : كيف قال هَهُنَا : { وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله } ( فعداه « بإلى » وقال في البقرة : { بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ } [ الآية : 112 ] ) فعداه باللاّم؟ فقال الزمخشري : أَسْلَمَ لِلّه أي إلى الله يعني أنَّ « أَسْلَمَ » يتعدى تارة « باللام ، وتارة » بإلى « قال تعالى : { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ } [ النساء » : 79 ] وقال : { كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً } [ المزمل : 15 ] ثم قال : { وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عملوا } ( لما بين حال المسلم رجع إلى بيان حال الكافر وقال : { من كفر فلا يحزنك } ) أي لا تحزن إذا كفر كافر ، فإن من يكذبْ وهو مقطوعٌ بأن صدقه بين عن قرب لا تحزن بل قد يتوب المكذب عن تكذيبه ، وأام إذا كان لا يرجو ظهور صدقه فإنه يتألم من التكذيب فقال : { فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ } فإن المرجعَ إليَّ { فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عملوا } فيَنْخَجلون ثم قال { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } أي لا يخفى عليه سرُّهُمْ وعلانيتُهم فينبئهم بما أسَرَّتهُ صدورهم .
قوله : « نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً » أي نمهلهم ليتمتعوا بنعم الدنيا قليلاً إلى انقضاء آجالهم « ثُمَّ نضطرّهم » نُلجئهم ونردهم في الآخرة { إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ } وهو عذاب النار .
قوله : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله . . . } الآية لما استدل بخلق السموات بغير عمد ، وبنعمه الظاهرة والباطنة بين أنهم يعترفون بذلك ولا ينكرونه وهذا يقتضي أن الحمد كله لله لأن خالق السماوات والأرض محتاج إليه كلّ من في السماوات والأرض ، وكون الحمد كله لله يقتضي أن لا يعبد غيره لكنهم لا يعلمون هذا ، ووجه آخر وهو أن الله تعالى لما سلى قَلْبَ النبي - عليه السلام - بقوله : { فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عملوا } أي لا تحزن على تكذيبك فإن صدقَك وكذبهم يتبين عن قريب وهو رجوعهم إلينا بل لا يتأخر إلى ذلك اليوم بل يتبين قبل يوم القيامة بأنهم يعترفون بأن خالق السموات والأرض هو الله ، ثم قال في دعوى الوحدانية وتبيين كذبهم في الشرك { قُلِ الحمد لِلَّهِ } على ( ظهور ) صدقك وكذبهم { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي ليس لهم علم يمنعهم من تكذيبك مع اعترافهم بما يوجب تصديقك ، وعلى هذا يكون « لاَ يَعْلَمُونَ » استعجالاً للفعل مع القطع عن المفعول بالكلية ، كما يقال : فُلاَنٌ يَعْطِي وَيمْنَعُ ولا يكون ضميره من يعطي بل يريد أن له عطاءً ومعاً فكذلك ههنَا قال : « لاَ يَعْلَمُونَ » أي ليس لهم علم ، وعلى الأولى يكون « لا يعلمون » ( له مفعول مفهوم ) وهو أنهم لا يعلمون أن الحمدَ كُلَّه لله وعلى الثاني هو كقول القائل : فلانٌ لا علم لهَ بكذا .
قوله : لا علم له وكذا قوله : فلان لا ينفعُ زيداً ولا يضره دون قوله : « فلان لاَ يَضْرُّ وَلاَ يَنْفَعُ » .
قوله تعالى : { لِلَّهِ مَا فِي السماوات والأرض } ذكر ما يلزم منه وهو أن يكون له ما فيهما { إِنَّ الله هُوَ الغني الحميد } أي إن الكل لله وهو غير محتاج إليه غير منتفع به وخلق منافعها لكم ، فهو غني لعدم حاجته « حميد » مشكور ( لدفعه ) حوائجكم بها .
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
قوله : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ . . . } الآية . لما قال : لله ما في السماوات والأرض أوهم تناهي ملكه لانحصار ما في السموات والأرض فيهما وحكم العَقْلِ الصريح بتناهيهما بين أن في قدرته وعلمه عجائبَ لا نهاية لها فقال : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ } يكتب بها والأبحر مداد لا تغني عجائب صنع الله ، قال المفسرون نزل بمكة قوله تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح } [ الإسراء : 85 ] ، إلى قوله : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } [ الأسراء : 85 ] فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه أحبار اليهود فقالوا « يا محمد : بلغنا أنك تقول : وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ، أفَعَنَيْتَنَا أَمْ قَوْمَكَ؟ فقال - عليه السلام - : كلا قد عنيت . قالوا : ألست تتلو فيما جاءك إنا أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هي في علم الله قليلٌ ، وقد أتاكم ما إن عملتم به انتفعتم قالوا يا محمد : كيف تزعم هذا علم قليل وخير كثير » ؟ فأنزل الله هذه الآية . وقال قتادة : إن المشركين قالوا : إن القرآن وما يأتي به محمد يوشك أن ينفدَ فينقطع فنزلت : ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلامٍ « . ووحَّد الشجرة ، وجمعَ الأقلام ولم يقل : ولو أن ما في الأرض من الأشجار أقلام ولم يقل من شجرة قَلَم إشارةً إلى التكثير يعني لو أن بعدد كُلِّ شجرة فإن قلت : لم يقيل : من شجرة بالتوحيد؟ قلت : أريد تفصيل الشجرة وتَقَصِّيها شجرةً شجرةً حتى لا يبقى من جنس الشجرة واحدة إلا قد بريت أقلاماً . قال أبو حيان : وهو من وقوع المفرد موقع الجمع والنكرة موضع المعرفة كقوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } [ البقرة : 106 ]
قال شهاب الدين : وهذا يذهب بالمعنى الذي أبداه الزمخشري .
قوله : » والبَحْرُ « قرأ أبو عمرو بالنصب ، والباقون بالرفع ، فالنصب من وجهين :
أحدهما : العطف على اسم » أنَّ « أي ولو أنَّ البحرَ ، و » يَمُدُّهُ « الخبر .
والثاني : النصب بفعل مضمر يفسره » يمده « . والواو حنيئذ للحال ، والجملة حالية ، ولم يحتج إلى ضمير رابط بين الحال وصاحبها للاستغناء عنه بالواو ، والتقدير : ولو أَنَّ الَّذي في الأرض حَالَ كونِ البحر ممدوداً بكذا . وأما الرفع ، فمن وجهين :
أحدهما : العطف على » أن « وما في حيّزها ، وقد تقدم في » أَنَّ « الواقعة بعد » لو « مذهبان مذهب سيبويه الرفع على الابتداء ، ومذهب المبرد على الفاعلية بفعل مقدر وهما عائدان هنا . فعلى مذهب سيبويه يكون تقدير العطف ولو أَنَّ البحرَ ، إلا أن أبا حيان قال : إنه لا يلي المبتدأ اسماً صريحاً إلا في ضرورة كقوله :
4053 - لَوْ بِغَيْرِ المَاءِ حَلْقِي شَرِقٌ ..
وهذا القول يؤدي إلى ذلك ، ثم أجاب بأنه يغتفر في المعطوف عليه كقولهم : « رُبَّ رَجُلٍ وَأَخِيهِ يَقُولاَنِ ذَلِكَ » وعلى مذهب المبرد يكون تقديره ولو ثبتَ البحرُ ، وعلى التقديرين يكون « يمُدُّهُ » جملة حالية من البحر .
والثاني : أن « البحر » مبتدأ ( ويمده ) الخبر والجملة حالية كما تقدم في جملة الاشتغال ، والرابط الواو ، وقد جعله الزمخشري سؤالاً وجواباً وأنشد :
4054 - وَقَدْ أَغْتَدِي والطَّيْرُ في وُكُنَاتِهَا .. . .
و « مِنْ شَجَرَةٍ » حال ، إما من الموصول ، أو من الضمير المستتر في الجار الواقع صلة ، و « أَقْلاَم » خبر « أَنَّ » ، قال أبو حيان : وفيه دليل على من يقول كالزمخشري ومن تعصب له من العجم على أن خَبَر أنَّ الواقعة بعد « لو » لا يكون اسماً البتة لا جامداً ولا مشتقاً بل يتعين أن يكون فعلاً وهو باطل وأنشد :
4055 - ولَوْ َنَّهَا عُصْفُورَةٌ لَحَسِبْتُهَا ... مُسَوَّمَةً تَدْعُو عُبَيْداً وَأَزْنَمَا
وقال :
4056 - ما أطْيَبَ العَيْشَ لَوْ أنَّ الفَتَى حَجَرٌ تَنْبُو الحَوَادِثُ عَنْهُ وَهْوَ مَلْمُومُ ... وقال :
4057 - وَلَوْ أَنَّ حَيّاً فَائِبُ المُوْتِ فَإِنَّهُ ... أَخُو الحَرْبِ فَوْقَ القَارِحِ العُدْوَان
قال : وهو كثير في كلامهم ، قال شهاب الدين : وقد تقدم أن هذه الآية ونحوهَا يبطل ظاهر قول المتقدمين في « لو » أنها حرف امتنا لامتناع إذ يلزم محذور عظيم وهو أن ما بعدها إذا كان مُثْبَتاً لفظاً فهو مُثْبَتٌ معنى وبالعكس ، وقوله : مَا نَفِدت منفي لفظاً فلو كان مثبتاً معنى فسد المعنى ، فعليك بالالتفات إلى أول البقرة . وقرأ عبدُ الله : « وبَحْرٌ » بالتنكير وفيه وجهان معروفان ، وسوغ الابتداء بالنكرة وقوعقها بعد واو الحال وهو معدود من مسوغات الابتداء بالنكرة ، وأنشدوا :
4058 - سَرَيْنَا وَنَجْمٌ قَدْ أَضَاءَ فَمُذْ بَدَا ... مُحْيَّاكَ أخْفَى ضَوْؤُهُ كُلَّ شَارِقِ
وبهذا يظهر فساد قول من قال : إن في هذه القراءة يتعين ( القول بالعطف على « أن » كأنه يوهم أنه ليس ثَمَّ مُسَوِّغ ، وقرأ عبد الله وأبيّ « تَمُدُّهُ » بالتأنيث لأجل « سبعةٍ » والحَسَنُ ، وابن هُرْمُز ، وابن مِصْرِفٍ « يُمِدُّهُ » بالياء من تحت مضمومة وكسر الميم من أَمَدَّهُ وقد تقدم اللغتان في آخر الأعراف وأوائل البقرة ، والأل واللام في البحر لاستغراق الجنس أي ( وكل ) بحرٍ مدادٍ .
فصل
المعنى والبحر يمده ، أي يَزيدُه ، وينصب فيه من بعده أي من بعد خلقه سبعةُ أَبْحُر ، وهذا إشارة إلى بحارٍ غير موجودة يعني لو مدت البحار الموجودة سبعة أبحر أخرى ، وقوله : « سبعة » ليس لانحصارها في سبعة وإنما الإشارة إلى المدد والكثرة ، ولو بألفِ بحْر ، وإنما خُصّت السبعةُ بالذكر من بين الأعداد لأنها عدد كثير يحصر المعدود في العادة ، ويدل على ذلك وجوه :
الأول : أن المعلوم عند كل أحد لحاجته إليه هو الزمان والمكان فالزمان منحصر في سبعة أيام ، ولأن الكواكب السيارة سبعة ، والمنجمون ينسبون إليها مراراً فصارت السبعة كالعدد الحصر للمُكْثراتِ الواقعة في العادة فاستعملت في كُلِّ كَثِيرٍ .
الثاني : أن في السبعة معنّى يخصها ولذلك كانت السماواتُ سبعاً ، والأرضينَ سبعاً ، ( وأبواب جهنم سبعاً ) ، وأبواب الجنة ثمانية لأنها الحسنى وزيادة فالزيادة هي الثامن؛ لأن العرب عند الثامن يزيدون واواً ، يقول الفراء : إنها واو الثمانية وليس ذلك إلا للإستئناف؛ لأن العدد تم بالسبعة . واعلم أن في الكلام اختصاراً تقديره : ولَوْ أَنَّ ما فِي الأَرْضِ من شجرةٍ أقلامٌ والبحر يَمُدُّه مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبحُرٍ يكتب بها كلام الله ما نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ .
قوله : « كلمات الله » قال الزمخشري : فإن قلتَ : الكلماتُ جمعُ قلَّةٍ ، والموضوع موضع تكثير فهلا قِيلَ : كَلِمٌ؟ قلتُ : معناه أن كلماته لا يقع بكتبها البحار يكفي بِكَلِمِهِ ، يعني أنه من باب التنبيه بطريق الأولى . ورده أبو حيان بأن جمع السلامة متى عرف « بأل » ( غير العهدية ، أو أضيف عَمَّ ) . قال شهاب الدين : للناس خلاف في « أل » هل تعم أو لا؟ وقد يكون الزمخشري مِمَّنْ لا يرى العموم ولم يزل الناس يشكون في بَيْت حَسَّانَ - رضي الله عنه - :
4059 - لَنَا الجَفَنَاتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ بالضُّحَى .. . . .
ويقولون : كيف أتى بجمع القلة في مقام المدح ولم لم يقل « الجفان » وهو تقرير لما قاله الزمخشري ، واعتراف بأن « أل » لا تؤثر في جمع القلة تكثيراً . ثم قال تعالى : { إِنَّ الله عَزِيزٌ } أي كامل القدرة لا نهاية لمقدوراته « حَكِيمٌ » كامل العلم لا نهاية لمعلوماته ، وهذه الآية على قول عطاء بن يسار مدنية ، وعلى قول غيره مكية .
قوله : { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } لما بين كمال قدرته وعلمه ذكر ما يبطل استبعادهم لحشر فقال : { خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } ، فقوله : « إِلا كَنَفْسٍ » خبر « مَا خَلْقُكُمْ » والتقدير : إِلا كَخَلْقِ نفس واحدة وبعثها لا يتعذر عليه شيء { إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ } « سميع » لما يقولون « بصير » بما يعملون فإذا كان قادراً على البعث ومحيطاً بالأقوال والأفعال وجب الاحتراز الكامل ، وقوله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل } في النظم وجهان :
الأول : أن الله تعالى لما قال : { ألم تر أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض } على وجه العموم ذكر منها بعض ما فيها على الوجه المخصوص بقوله : { يُولِجُ الليل فِي النهار } وقوله : { وَسَخَّرَ الشمس والقمر } إشارة إلى ما في السموات .
الثاني : أن الله تعالى لما ذكر البعث فكان من الناس من يقوله : { وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر } [ الجاثية : 24 ] والدهر هو بالليالي والأيام فقال الله تعالى هذه الليالي والأيام التي يَنْسُبون غليها الموت والحياة هي بقدرة الله فقال : ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ثم قال : إن ذلك باختلاف مسير الشمس فتارة تكون القَوْس التي هي فوق الأرض أكبر من التي تحت الأرض فكيون الليل أقصر والنهار أطور وتارة ( يكون ) العكس ( فيكون بالعكس ) ، وتارة يتساويان ( فيتساويان ) فقال ( تعالى ) : { وَسَخَّرَ الشمس والقمر } يعني إن كنتم لا تعرفون بأن هذه الأشياء كلها من الله فلا بد من الاعتراف بأنها بأسْرِهَا عائدة إلى الله فالآجال إن كانت بالمدّدِ والمدد يسيِّر الكواكب فسير الكواكب ليس إلا بالله وقدرته .
فصل
قال : « يُولج » بصيغة الفعل المستقبل وقال في الشمس والقمر « وسخَّر » بصيغة الماضي؛ لأن إيلاج الليل في النهار أمر يتجدد كل يوم وتسخير الشمس والقمر أمر مستمر كما قال تعالى : { حتى عَادَ كالعرجون القديم } [ يس : 39 ] وقال ههنا : « إلى أَجَلٍ » وفي الزمر « لأَجِلٍ » ؛ لأن المعنيين لائقان بالحرفين فلا عليك في أيهما وقَعَ . قال الأكثرون : هذا خطاب للنبي - عليه السلام - والمؤمنين ، وقيل : عام ، ثم قال : { وَأَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي لما كان الليلُ والنهارُ محلَّ اأفعال بين أن ما يقع في هذين الزمانين اللذين هما بتصرف الله لا يخفى على الله ، وقرأ أبو عمرو في رواية - { وأنَّ اللَّهَ بِمَا يَعملون } - بياء الغيبة ، والباقون بتاء الخطاب . قوله : { وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل } أي ذلك الذي ذكرت ، لتعلموا أن الله هو الحق { وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل } أي الزائل يقال : بطل ظله ، إذ زال { وَأَنَّ الله هُوَ العلي } أي في ذاته .
قوله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْرِي فِي البحر بِنِعْمَةِ الله } لما قال ألم تر أن الله يولج الليل في النهار وسخر الشمس والقمر ذكر آية سماوية وأشار إلى السبب والمسبِّب ذكر بعده آية أرضية وأشار إلى السبب والمسبب بقوله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْرِي فِي البحر } وقوله : « بِنِعْمَةِ اللَّهِ » أي الريح التي هي بأمر الله { لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ } يعني يريكم بإجرائها « بِنِعْمَةِ اللَّهِ » بعض آياته وعجائبه { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } على أمر الله « شَكُور » على نعمه .
قوله : { وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل } لما قال : إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكلّ صَبَّارٍ ذكر أن الكُلَّ معترف به غير أن البصير يدركه أولاً ومن في بصيرته ضعف لا يُدْرِكُه أولاً فإذا غَشِيَه موج ووقع في شدة اعترف بأن الكل للَّه ودعاه مخلصاً . وقوله : « كالظلل » قال مقاتل : كالجبال ، وقال الكلبي : كالسحاب .
والظلل جمع الظُّلَةِ شبه بها الموج في كثرتها وارتفاعها ، وجعل الموج وهو واحد كالظُّلَلِ وهو جمع لأن الموج يأتي منه شيء بعد شيء وقوله : { دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } أي يتركون كل من دعوهم { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر } أي نجاهم من تلك الشدة فمنهم من يبقى على تلك الحالة ووصفهم بقوله : « فَمنْهُمْ مُقْتَصِدٌ » أي عدل موف في البر بما عاهَدَ اللَّهَ عليه في البحر من التوحيد له يعني على إيمانه . قيل : نزلت في عكرمةَ بْنِ أبي جهل هَرَبَ عام الفتح في البحر فجاءهم ريح عاصف فقال عكرمةُ : لئن أنجاني الله من هذا الأمر لأرجعن إلى محمد ولأضع يَدِي في يده . فسكنت الريح فرجع عكرمة إلى مكة فأسلم وحسن إسلامه ، وقال مجاهد : مقتصد في القول أي من الكفار لأن منهم من كان أشد قولاً من بعض .
فإن قيل : ما الحكمة في قوله في العنكبوت : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } [ العنكبوت : 65 ] وقال ههنا : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } ؟! .
فالجواب : لما ذكر ههنا امراً عظيماً وهو الموج الذي كالجبال بقي أثر ذلك في قلوبهم فخرج منهم مقتصد أي في الكفر وهو الذي انزجر بعض الانزجار ، ومقتصد في الإخلاص فيبقى معه شيء منه ولم يبق على ما كان عليه من الإخلاص ، وهناك لم يذكر مع ركوب البحر معانيه مثل ذلك الأمر فذكر إشراكهم حيث لم يبق عندهم أُر .
قوله : { وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ } في مقابلة قوله تعالى : { إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ } يعني يعترف بها الصبار والشكور ، ويجحدها الختَّارُ الكفور فالصّبَّار في موازنة الختار لفظاً ومعنى ، والكفور في موازنة الشكور أمَّا لفظاً فظاهر ، وأما معنى فلأن الختار هو الغدار الكثير الغدر ، أو شديد الغدر مثال مبالغة من الخَتْر وهو أشد الغدر ( قال الأعشى ) :
4060 - بِأَبْلَقِ الفَرْدِ مِنْ تَيْمَاءَ مَنْزِلَهُ ... حِصْنٌ حَصِينٌ وجارٌ غَيْرُ خَتَّارِ
وقال عمرو بن معديكرب :
4061 - فَإِنَّكَ لَوْ رأَيْتَ أَبَا عَمرٍو ... مَلأتَ يَدَيْكَ مِنْ غَدْرٍ وَخَتْرِ
وقالوا : « إنْ مَدَدَتْ لَنَأ مِنْ غَدْرٍ مَدَدْنَا لَكَ بَاعاً منْ خَتر » والغدر لا يكون إلا من قلة الصبر لأن الصبور إن لم يعقدْ مع أحد لا يُعْهَدُ منه الإضرار فإنه يصبر ويفوض الأمر إلى الله ، وأما الغدار فيعاهدك ولا يصبر على العهد فينقضه وأما أن الكفور في مقابلة الشكور معنى ظاهر .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
قوله تعالى : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ } لما ذكر الدلائل من أول السورة إلى آخرها وعظ بالتقوى فقال : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي } لا يقضي ، ولا يغني { وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً } . قال ابن عباس : كل امرىء تهمه نفسه ، واعلم أنه تعالى ذكر شخصين في غاية الشفقة والحنان والحُنُوِّ وهو الوالد والولد ، فاستدل بالأولى على الأعلى فذكر الوالد والولد جميعاً لأن من الأمور ما يبادر الأب إلى تحمُّلِهِ عن الولد كدَفْع المال ، وتَحَمُّل الآلام والولد لا يبادر إلى تحمله عن الوالد ( مثل ما يبادر الوالد إلى تحمله عن الولد ) ، ومنها ما يبادر الولد إليه كالإهانة فإن من يريد ( إحضار ) والد آخر عند والٍ أو قاضٍ يهُونُ على الابن أن يدفع الإهانة عن والده ويحضر هو بدله وإذا انتهى الأمر إلى الإيلام يهون على الأب أن يدفع الألم عن ابنه وستحمله هو بنفسه . فقوله : { لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ } في دفع الآلام { وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً } في دفع الإهانة ثم قال : { إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } أي إن هذا اليوم الذي هذا شأنه هو كائن لأن الله وعد به ووعده حق ، وقيل : وعد الله حق بأنه لا يجزي والدٌ عن ولده لأنه وعد بأن لا تَزر وازرةٌ وزر أخرى ووعد الله حق { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا } أي لا تغتروا بالدنيا فإنها زائلة لوقوع اليوم المذكور بالوعد الحق .
{ وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور } يعني الشيطان يزين في عينه الدنيا ويؤمله يقول : إنك تحصل بها الآخرة أو تلتذ بها ثم تتوب فَتجْتَمِع لك الدنيا والآخرة فنهاهم عن الأمرين .
قوله : « وَلاَ مَوْلُودٌ » دوزوا فيه وجهين :
أحدهما : أنه مبتدأ ، وما بعده الخبر .
والثاني : أنه معطوف على « وَالدٌ » وتكون الجملة صفة له . وفيه إشكال وهو أنه نفى عنه أن يَجْزِي ثم وصفه بأنه جازٍ ، وقد يجاب عنه : بأنه وإن كان جازياً عنه في الدنيا فليس جازياً عنه يوم القيامة ، ( فالحالان ) باعتبار زمنين . وقد منع المَهْدَوِيُّ أن يكون مبتدأ ، قال لأن الجملةَ بعده صفة له فيبقى بلا خبر ، ولا مسوغ غير الوصف ، وهو سهو لأن النكرة متى اعتمدت على نفي سَاغَ الابتداء بها ، وهذا من أشهر مسوغاته ، وقال الزمخشري : فإن قلت : ( قوله ) { وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً } هو وارد على طريق من التوكيد لم يرد عليه ما هو معطوف عليه قلتُ : الأمر كذلك لأن الجملة الاسمية آكد من الفعلية ، وقد انضم إلى ذلك قوله : « هُو » وقوله : « مَوْلُودٌ » قال : ومعنى التوكيد في لفظِ المولود أن الواحد منهم لو شفع للوالد الأدنى الذي ولد منه لم يقبل منه ، فضلاً أن يشفع لمن فوقه مِنَ أجداده؛ لأن الولد يقع على الولد وولد الولد بخلاف المولود فإنه الذي ولد منك قال : والسبب في مجيئه على هذا السَّنَنِ أن الخطابَ للمؤمنين وعلْيتهِمْ قبض آباؤهم في الكفر فأريد حسم أَطْمَاعِهِمْ وأطماع الناس فيهم .
والجملة من قوله « لاَ يَجْزِي » صفة ( ليوم ) ، والعائد محذوف أي ( فِيهِ ) فحذف برُمَّته أو على التدريج ، وقرأ عكرمة « لاَ يُجْزَى » مبنياً للمفعول ، وأَبُوا السَّمَّالِ ، وأبو السّوّار لا يُجْزىء بالهمز من « أجْزَأَ عَنْهُ » أي أغنى ، وقوله « شيئاً » منصوب على المصدر وهو من الإعمال ، لأن « يَجْزِي » و « جَازٍ » يَطْلُبَانِهِ ، والعامل « جَازٍ » على ما هو المختار للحذف من الأول .
قوله : « فَلاَ تَغُرَّنَكُمْ » العامة على تشديد النون ، وابنُ أبي إسْحَاق وابنُ أبي عَبْلَةَ ويعقوبُ بالتخفيف وسَمَّاك بنُ حَرْبٍ « الغُرُور » - بالضم - وهو مصدر ، والعامة بالفتح صفة مبالغة كَشَكُورٍ صفة مبالغة كَشَكُورٍ وفسر بالشيطان على أنه يجوز أن يكون المضموم مصدراً واقعاً وصفاً للشيطان .
قوله تعالى : { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة . . . } الآية ، نزلت في الوارثِ بن حارثَة محارب بن خصفة « أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - من البادية فسأله عن الساعة ووقتها ، وقال إن أرضنا أَجْدَبَتْ فمتى ينزل الغيث؟ وتركت امرأتي حُبْلَى فمتى تلد؟ وقد علمت أَيْنَ ولدت فبأي أرض أموت؟ فأنزل الله هذه الآية روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : » مَفَاتِيحُ الغَيْبِ خَمْسٌ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ علمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ « قال ابن الخطيب : قال بعض المفسِّرينَ : إن الله تعالى نفى ( علم ) أمور خمسة عن غيره بهذه الآية وهو كذلك لكن المقصودَ ليس ذلك لأن اللَّهَ يعلمُ الجوهر الفرد والطوفان وتقلب الريح من المشرِق إلى المغرب كَمْ مرةً ويعلم أين هُوَ ولا يعلمه غيره ويعلم أنه ( ذَرَّهُ ) في بَريَّة لا يسلكها أحد ولا يعلمها غيره فلا وجه لاختصاص هذه الأشياء بالذكر وإنَّ الحق فيه أن نقول لما قال : اخْشَوا يوماً لا يجْزي والد عن ولده وذكر أنه كائن بقوله : { إن وعد الله حق } كأن قائلاً قال : فمَتَى يكون هذا اليوم؟ فأجيب بأن هذا العلم مما لَمْ يَحْصُل لغير الله ولكن هو كائن .
قوله : » مَاذَا تَكْسبُ « يجوز أن تكون » ما « استفهامية فتعلق الدراية ، وأن تكونَ موصولة فينتصب بها ، وقد تقدم حكم » مَاذَا « أول الكتاب وتكرر في غَضونِهِ .
قوله : { بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } « بأَيِّ أَرْضٍ » متعلق « بتَمُوتُ » وهو متعلق للدراية فهو في محل نَصْبٍ ، وقرأ أُبَيُّ بن كعب وموسى الأهوازيّ « بأية أرض » على تأنيثها ، وهي لغة ضعيفة كتأنيث « كُلّ » حيث قالوا : كُلُّهُنَّ ( فَعَلْنَ ذَلِكَ ) والمشهور بأيِّ أرض؛ لأن الأرض ليس فيها من علامات التأنيث شيء ، وقيل : أراد بالأرض المكان . نقله البغوي والباطن فيه بمعنى في أي ( في ) أرضٍ نحو : زَيْدٌ بِمَكَّةَ أي فيها ، ثم قال : { إِنَّ الله عَلَيمٌ خَبِيرٌ } لما خصص أولاً علمه بالأشياء المذكورة بقوله : { إن الله عنده علم الساعة } ذكر أن علمه غير مختصّ بل هو عليم ملطقاً بكل شيء وليس علمه بظاهر الأشياء فقط بل هو خبير بظواهر الأشياء وبواطنها .
روى الثعلبي عن أُبَيِّ بن كعب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرََأ سُورَةُ لُقْمَان كان له لقمانُ رفيقاً يوم القيامة وأعْطِيَ من الحسنات عشراً بعدد من عَمِلَ بالمعروف ونَهَى عن المنكر »
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)
قوله : { الم تَنزِيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ } .
في « تنزيل » خمسة أوجه :
أحدها : أنه خبر « الم » ، ( لأن الم ) يراد به السورة وبعض القرآن ، و « تَنْزِيلُ » بمعنى منزل ، والجملة من قوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } حال من « الكِتَابِ » . والعامل فيها « تَنْزِيلُ » لأنه مصدر . و « مِنْ رَبِّ » متعلق به أيضاً . ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في « فِيهِ » ؛ لوقوعه خبراً ، والعامل فيه الظرف ، أو الاستقرار .
الثاين : أن يكون « تَنْزِيلُ » مبتدأ و { لا ريب فيه } خبره . « وَمِنْ رَبِّ » حال من الضمير في « فيه » ولا يجوز حينئذ أن يتعلق ب « تنزيل » ؛ لأن المصدر قد أخبر عنه فلا يعمل . ومن يتسع في الجار لا يبالي بذلك .
الثالث : أن يكون « تنزيل » مبتدأ أيضاً و « من رب » خبره ، و « لا ريب » حال من مُعْتَرِض .
الرابع : أن يكون « لا ريب » و « من رب العالمين » خبرين ل « تَنْزِلُ » .
الخامس : أن يكون « تَنْزيلُ » خبر مبتدأ ( مضمر ) ، وكذلك « لا ريب » ، وكذلك « من رب » فتكون كل جملة مستقلة برأسها .
ويجوز أن يكون حالين من « تنزيل » ، وأن يكون « من رب » هو الحال و « لا ريب » معترض وأول البقرة مرشد لهذا .
وجوز ابن عطية أي يكون { مِن رَّبِّ العالمين } متعلقاً ب « تنزيل » . قال : على التقديم والتأخير . ورده أبو حيان : بأنا إذا قلنا : { لاَ رَيْبَ فيه } اعتراض لم يكن تقديماً وتأيخراً بل لو تأخر لم يكن اعتراضاً . وجوز أيضاً أن يكون متعلقاً بلا ريب فيه من جهة رب العالمين وإن وقع شك الكفرة فذاك لا يراعى ، قال مقاتل : لا شك فيه أنه تنزيل من رب العالمين .
قوله : « أَمْ يَقُولُونَ » هي المنقطعة ، والإضراب للانتقال لا للإبطال ، وقيل : الميم صلة أي أَيَقُولُونَ افْتَرَاهُ .
وقيل : فيه إضمار مجازه فهل يؤمنون أم يقولون افتراه . وقوله : { بَلْ هُوَ الحق } إضراب ثانٍ ولو قيل : بأنه إضرابُ إبطالٍ لنفس « افتراه » وحده لكان صواباً وعلى هذا يقال : كل ما في القرآن إضراب وهو انتقال إلا هذا فإنه يجوز أن يكون إبطالاً لأنه إبطال لقولهم ، أي ليس هو كما قالوا مُفْتَرى بل هو الحق . وفي كلام الزَّمَخْشَرِي ما يرشد إلى هذا فإنه قال : والضمير في « فيه » راجعٌ إلى مضمون الجملة كأنه قيل لا ريبَ في ذلك أي في كونه من رب العالمين ويشهد لواجهته : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } ؛ لأن قولهم مفترىً إنكار لأن يكون من رب العالمين وكذلك قوله : { بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبِّكَ } وما فيه من تقرير أنه من الله وهذا أسلوب صحيحٌ محكَمٌ .
قوله : « مِنْ رَبِّكَ » حال من « الحَقِّ » والعامل فيه محذوف على القاعدة وهو العامل في « لِتُنْذِرَ » ويجوز أن يكون العامل في : « لتنذر » غيره أي أنْزَلَهُ لِتُنْذِرَ .
قوله : { قَوْماً مَا أَتَاهُمْ } الظاهر أن المفعول الثاني للإنذار محذوف ، و « قوماً » هو الأول ، إذ التقدير : لتنذر قوماً العقابَ و « مَا أتَاهُمْ » جملة منفية في محل نصب صفة « لقوماً » يريد الذين في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام . وجعله الزمخشري كقوله : { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ } [ يس : 6 ] فعلى هذا يكون « من نذير » هو فاعل « أَتَاهُمْ » و « من » مزيدة فيه و « مِنْ قَبْلِكَ » صفة « لِنَذير » ، ويجوز أن يتعلق « مِنْ قَبْلِكَ » « بأَتَاهُمْ » . وجوز أبو حيان أن تكون « ما » موصولة في الموضعين والتقدير : لتنذر قوماً العقاب الذي أتاهم من نذير من قبلك و « مِنْ نَذِيرٍ » متعلق « بأَتَاهُمْ » أي أتاهم على لسان نذير من قبلك وكذلك { لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم } أي العقاب الذي أنذرَهُ آباؤُهُمْ ، « فما » مفعولة في الموضعين ، و « أنذر » يتعدى إلى اثنين قال الله تعالى : { فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً } [ فصلت : 13 ] وهذا القول جارٍ على لظواهر القرآن قَالَ تَعَالَى : { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } [ فاطر : 24 ] { أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } [ المائدة : 19 ] هذا الذي قال ظاهر ، ويظهر أن في الآية الأخرى وجهاً آخر وهو أن تكون « ما » مصدرية تقديره لتنذر قوماً إنذَار آبائهم لأن الرسل كُلَّهُمْ متفقون على كلمة الحق .
فصل
المعنى بل هو يعني القرآن الحق من ربك لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبْلِكَ . قال قتادة : كانوا أمةً لم يأتهم نذير قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - ( قال ابن عباس ومقاتل : ذاك في الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ) « لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ » .
قوله : { الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } لما ذكر الرسالة ، وبين ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد وإقامة الدليل فقال : { خَلَقَ السماوات والأرض } ، ( واللَّهُ مبتدأ ، وخبره « الَّذِي خَلَقَ » يعني الله هو الذي خلق السموات ) ولم يخلقها إلا واحد فلا إله إلا واحدٌ . وقد تقدم الكلام في معنى قوله « ستة أيام » .
قوله : { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } اختلف العلماء في هذه الآية ونظائرها على قولين :
أحدهما : ترك التعرض إلى بيان المراد .
والثاني : التعرض إليه . والأول أسلم؛ لأن صفة الاستواء مما لا يجب العلم بها فمن لم يتعرض إليه لم يترك وابجاً ومن تعرض إليه فقد يخطر فيعتقد خلاف ما هو عليه فالأول غاية ما يلزمه أنه لا يعلم ، والثاني يكاد يقع في أن يكون جاهلاً وعدم العلم والجهل المركب كالسكوت والكذب ولا شك أن السكوتَ خيرٍ من الكذب وأيضاً فإنه أقرب إلى الحكمة لأن من يطالع كتاباً صنفه إنسانٌ وكتب له شرحاً والشارحُ دون والمصنِّف فالظاهر أنه لا يأتي على جميع ما أتى عليه المصنف ولهذا كثيراً ما نرى أن الإنسان يورد الإشكالات على المصنَّف المتقدم ثم يجيء من ينصر كلام المصنِّفِ ويقول : لم يرد المصنف هذا وإنما أراد كذا وكذا ، وإذا كان حال الكتب الحادثة التي تكتب من علم قاصر هكذا فما ظنك بالكتاب العظيم الذي فيه كل حكمة كيف يجوزُ أن يدعي جاهلٌ أني علمت كل سر في هذا الكتاب؟ فلو ادعى عالم أني علمت كل سر وكل فائدة يشتمل عليها الكتاب الفُلاَنِيّ يستقبح منه ذلك فكيف من يدعي أنه علم كل ما في كتاب الله؟
( وَلَيْسَ لقائلٍ أن يقول : بأن الله بين كل ما أنزله ) ؛ لأن تأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز . ولعل في القرآن ما لا يحتاج إليه أحد غيرَ نبيه فبين له لا لغيره .
وإذا ثبت هذا علم أن في القرآن ما لا يعلم ، وهذا أقرب إلى ذلك ( الذي ) لا يعلم للتشابه البالغ الذي فيه . قوله : { مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } . لما ذكر أن الله خالق السموات والأرض قال بعضهم : نحن معترفون بأن خالق السموات والأرض واحد هو إله السموات والأرض وهذا الأصنام صور كواكب منها نصرتنا وقوتنا .
وقال آخرون : هذه صورة ملائكة شفعاء لنا عند الله ، فقال تعالى : لاَ إله غير الله ، ولا نصرة من غير الله ، ولا شفاعة إلا بإذْن الله فعبادتكم لهذه الأصنام باطلة ضائعة .
ثم قال : « أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ » ما علمتموه من أنه خالق السموات والأرض ، وخالق لهذه الأجسام العِظَام ، لا يقدر عليه مثل هذه الأصنام حتى ينصروكم وتكون لها شفاعة .
قوله : { ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } لما بين الخلق بين الأمر كما قال تعالى : { أَلاَ لَهُ الخلق والأمر } [ الأعراف : 54 ] يحكم الأمر ، وينزل القضاء ، والقدر من السماء إلى الأرض . وقيل : ينزل الوحي مع جبريل - عليه السلام - بالأمر .
قوله : { يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض } العاملة على بنائه للفاعل . وابن أبي عبلة على بنائه للمفعول . والأصل يعْرُجُ بِهِ ، ثم حذف الجار فارتفع الضمير واستتر . وهو شاذ يصلح لتوجيه مثلها ، والمعنى : أن أمره ينزل من السماء على عباده ويعرج إليه أعمالهم الصالحة الصادرة على موافقة ذلك الأمر .
قوله : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ } ( أي في يوم واحد يعني نزول وعروج العمل في مسافة ألف سنة مِمَّا تَعُدُّونَ ) ، وهو بين السماء والأرض فإن مسافته خمْسُمِائَةِ سنةٍ ( فينزل في مسيرة خمسمائة سنة ويعرج في خمسمائة سنة فهو مقدار ألف سنة ) يقول لو سار أحد من بني آدم لم يقطعه إلا في ألأف سنة والملائكة يقطعونه في يوم واحد هذا في وصف عروج الملائكة من الأرض إلى السماء وأما قوله : { تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [ المعارج : 4 ] أراد مدة المسافة من الأرض إلى سدرة المنتهى التي هي مقام جبريل - عليه السلام - يسير جبريل والملائكة الذين معه من أهل مقامه مسيرةَ خَمْسِين ألف سنة في يوم واحد من أيام الدنيا . قاله مجاهد والضحاك ، وقيل : إن ذلك إشارة إلى امتداد نفاذ الأمر وذلك لأن من نفذ أمره غَايَةَ النَّفاذ في يوم أو يومين وانقطع لا يكون مثل من ينفذ أمره في سنينَ متطاولةٍ ، فقوله : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } ، يعني يدبر الأمر في زمان يوم منه ألف سنة فكم يكون شهر منه ( وكَمْ تكونُ سنة ) منه وكم يكون دهر منه ، وعلى هذا فلا فرق بين هذا وبين قوله : { مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } لأن ذلك ( إذا كان إشارة إلى دوام إنفاذ الأمر ، فسواء يُعَبَّر بألفِ سنةٍ أو بخمسينَ ألفَ سنةٍ ) لا يتفاوت إلا أن المبالغة بالخمسين أكثر ، وسيأتي بيان فائدتها في موضعها إن شاء الله تعالى . وقيل : ألفُ سنة وخمسونَ ألفَ سنةٍ كلها في القمة يكون على بعضهم أطول ، وعلى بعضهم أقصر معناه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض مدة أيام الدنيا ثم يعرج أي يرجع الأمر والتدبير إليه بعد فناء الدنيا وانقطاع أمر الأمراء أو حكم الحكماء في يوم مقداره ألأف سنة وهو يوم القيامة فأما قوله { خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } فإنه أراد على الكافر يجعل ذلك اليوم عليه مقدار خمسين ألف سنة وعلى المؤمن دون ذلك حتى جاء في الحديث أنه يكون على المؤمن كقدر صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا ، وقال إبراهيم التيميّ ( لا ) يكون على المؤمن ( إلا ) كما بين الظُّهْر والعَصْر ، ويجوز أن يكون هذا إخباراً عن شدته ومشقته وهوله ، وقال ابْنُ أبي مليكَةِ : دخلت أنا وعبد الله بن فَيْرُوزَ علي ابن عباس فسألناه عن هذه الآية وعن قوله : { خمسين ألف سنة } فقال ابن عباس : أيام سماها الله لا أدري ما هي أكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم .
قوله : « مِمَّا تَعُدّونَ » العاملة على الخطاب ، والحَسَنُ ، والسُّلميُّ ، وابْنُ وَثَّابٍ والأعْمَشُ بالغيبة ، وهذا الجار صفة « لأَلْفٍ » أو « لِسَنَةٍ » .
قوله : « ذَلِكَ عَالِمُ » العامة على رفع « عالم » و « العزيزُ » و « الرَّحِيمُ » ، على أن يكون « ذلك » مبتدأ ، و « عالم » خبره و « العَزِيزُ والرَّحِيمُ » خبران أو نعتان أو « العزيز الرحيم » مبتدأ وصفة . و « الَّذِي أَحْسَنَ » خبره ، أو « العَزِيزُ الرَّحيم » خبر مبتدأ مضمر . وقرأ زيدُ ( بن علي ) بجر الثلاثة وتخريجها على إشكالها : أن يكون « ذَلِكَ » إشارة إلى الأمر المدبَّر ، ويكون فاعلاً ( ليَعْرُجُ ) ، والأوصاف الثلاثة بدل من الضمير في « إلَيْهِ » أيضاً . وتكون الجلمة بينهما اعتراضاً .
قوله : « الَّذِي أَحْسَن » يجوز أن يكون تابعاً لما قبله في قراءتي الرفع والخفض ، وأن يكون خبراً آخر وأن يكون خبر مبتدأ مضمر ، وأن يكون منصوباً على المدح .
قوله : « خَلقَهُ » قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابنُ عامر : بسكون اللام ، والباقون بفتحها فأما الأولى ففيها أوجه :
أحدها : أن يكون « خَلْقَهُ » بدلاً من : « كُلَّ شَيْءٍ » بدل اشتمال والضمير عائد على « كل شيء » وهذا هو المشهور .
الثاني : أنه بدل من كل . والضمير في « هذا » عائد على « الباري » تعالى ، ومعنى « أحسن » حسن لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما يقتضيه الحكمة ، فالمخلوقات كلها حسنة .
الثالث : أن يكون « كُلَّ شَيْءٍ » مفعولاً أول ، و « خَلْقَهُ » مفعولاً ثانياً ، على أن يضمن « أحسن » معنى أعْطَى وَألْهَمَ . قال مجاهد : وأعطى كل جنس شَكْلَهُ ، والمعنى خلق كل شيء على شكله الذي خص به .
الرابع : أن يكون « كُلَّ شَيْءٍ » مفعولاً ثانياً قُدِّمَ و « خَلْقَهُ » مفعولاً أول أُخِّرَ على أن يضمن « أحْسَنَ » معنى ألْهَمَ وعَرَّفَ .
قال الفراء : ألهم كل شيء خلقه فيما يحتاجون إليه فيكون أعلمهم ذلك . ( وقال أب البقاء : ضمن « أحْسَنَ » معنى « عَرَّف » وأعرف على نحو ما تقدم إلا أنه لا بُدَّ أن يجعل الضمير ) لِلَّه تعالى ، ويجعل الخلق بمعنى المخلوق أي عرف مخلوقاتهِ كُلَّ شيء يحتاجون إليه فيؤول المعنى إلى معنى قوله : { أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } [ طه : 50 ] .
الخامس : أن تعود الهاء على « الله » تعالى وأن يكون « خَلْقَهُ » منصوباً على المصدر المؤكد لمضمون الجملة كقوله : { صُنْعَ الله } [ النمل : 88 ] ، وهو مذهب سيبويه أي خَلَقَهُ خَلْقاً ، ورُجِّحَ على بدل الاشتمال بأن فيه إضافة المَصْدَر إلى فاعله ، وهو أكثر من إضافته إلى المفعول وبأنه أبلغ في الامتنان لأنه إذا قال : { أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ } كان أبلغ من { أحسن خلق كل شيء } ؛ لأنه قد يحسن الخلق وهو المحاولة ولا يكون الشيء في نفسه « حسناً » وإذا قال : { أحْسَنَ كُلَّ شَىْء } اقتضى أن كل ( شيء ) خلقه حسن بمعنى أنه وضع كل شيء في موضعه .
وأما القراءة الثانية « فخَلَقَ » فيها فعل ماض ، والجملة صفة للمضاف أو أو المضاف إليه فتكون منصوبة المحل أو مجرورته .
قوله : « وَبَدَأ » العاملة على الهمز . وقرأ الزُّهْرِيُّ « بَدَأ » بألف خالصة وهو خارج عن قياس تخفيفها إذ قياسه بَيْنَ بَيْنَ على أنَّ الأخفش حَكَى قريباً . وجوز أبو حيان أن يكون من لغة الأنصار ، يقولون في « بَدَا » بكسرها وبعدها ياء كقول عبد الله بن رواحة الأنصاري .
4062 - بِاسْمِ الإِلَهِ وَبِهِ بَدِينَا ... وَلَوْ عَبَدْنَا غَيْرَهُ شَقِينَا
قال : وطيىء تقول في تُقَى تُقَاء ، قال : فاحتمل أن تكون قراءة الزهري من هذه اللغة أصله « بَدِي » ثم صار « بَدَأ » ، قال شهاب الدين : فتكون القراءة مركبة من لُغَتَيْنِ .
فصل
{ ذلك عَالِمُ الغيب والشهادة } يعني ذلك الذي صنع ما ذكر من خلق السموات والأرض عالم ما غاب عن الخلق وما حضر « العَزِيرُ الرَّحِيمُ » لما بين أنه عالم ذكر أنه « عزيز » قادر على الانتقام من الكفرة « رَحِيمٌ » واسع الرحمة على البررة { الذي أحسن كل شيء خلقه } أي أحسن خَلْقَ كلِّ شيء . قال ابن عباس : أتقنه وأحكمه وقال مقاتل : علم كيف يخلق كل شيء من قولك : فلانُ يُحْسِنُ كذا ، إذا كان يعلمه . وقيل : خلق كل حيوان على صورة لم يخلق البعض على صورة البعض فكل حيوان كامل في خلقه حسن ، وكل عضو من أعضائه مقدر بما يصلح معاشه . واعلم أنه تعالى لما ذكر الدليل على الوحدانية من الآفاق بقوله : { خلق السموات والأرض وما بينهما } أتبعه بذكر الدليل الدال عليها من الأنفس فقال : { الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين } يعني آدم ، ويمكن أن يقال : الطين ماء وتراب مجتمعان ، والأأدمي أصله مَنِي ، والمَنِي أصله غذاءٌ ، والأغذية إما حيوانية وإما نباتية ( والحيوانية ترجع إلى نباتية ) والنبات وجوده بالماء والتراب الذي هو الطين { ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ } أي جعل ذريته من نطفة سميت سلالة؛ لأنها تَنْسَلُّ من الإنسان ، هذا على التفسير الأول؛ لأن آدم كان من طين ، ونسله من سلالة { مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } أي ضعيف وهو نطفة الرجل « ثُمَّ سَوَّاهُ » سوى خلقه { وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ } يعني آدم؛ لأن كلمة « ثُمَّ » للتراخي فتكون التسوية بعد جعل النسل من سلالة ، وذلك بعد خلق آدم ، ثم عاد إلى ذريته فقال : { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار } ( أي جعل لكم بعد أن كنتم نطفاً السمع والأبصار ) والأفئدة { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } يعني لا تشكرون رب هذه النعم فتوحدونه ، فقوله { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع } هذه التفات من ضمير ( غائب ) مفرد في قوله : « نَسْلَهُ » إلى آخره إلى خطاب جماعة .
وفي هذا الخطاب لطيفة وهي أن الخطاب يكون مع الحي فلما قال : { وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ } خاطبه من بعد وقال : « وَجَعَلَ لَكُمْ » .
فإن قيل : الخطاب واقع قبل ذلك كما في قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ } [ الروم : 20 ] .
فالجواب : هناك لم يذكر الأمور المترتبة وهي كون الإنسان طيناً ثم ماء مَهِيناً ، ثم خَلْقاً مسوى بأنواع القوى فخاطبه في بعض المراتب دون بعض .
فإن قيل : ما الحكم في ذكر المصدر في السمع وفي البصر والفؤاد الاسم ، ولهذا جَمَعَ الأبْصَارَ ، والأفئدةَ ولم يجمع السمعَ؛ لأن المصدر لا يجمع؟
فالجواب : أن السمع قوةٌ واحدة ولها مَحِلٌّ واحد وهو الأذن ولا اختيار لها فيه فإن الصوت من أي جانب كان يصل إليه ولا قدرة للأذن على تخصيص السمع بإدراك البعض دُونَ البعض ، وأمَّا الإبصار فَمَحِلّهُ العين ولها فيه اختيار فإنها تتحرك إلى جانب المَرْئِيّ دون غيره ، وكذلك الفؤاد محل الإدراك وله نوعُ اختيار يلتف إلى ما يريد دون غيره ، وإذا كان كذلك فلم يكن للمحل في السمع تأثير ، والقوة مستبدة فذكر القوة في العين والفؤاد؛ ( لأن للمحل نوع اختيار ، فذكر المحل لأن الفعل مسند إلى المختار ألا ترى أنك ) تقول : سَمِعَ زَيْدٌ ، ورأى عمرو ، ولا تقول : « سَمِعَ أذنُ زَيْدٍ » ولا « رأى عَيْنُ عَمْرو » إلا نادراً لأن المختار هو الأصل وغيره آلته ، فالسمع أصل دون محله لعدم له لاختيار له والعين كالأصل وقوة الإبصار آلتها والفؤاد كذلك وقوة الفهم آلته فذكر في السمع المصدر الذي هو القوة ، وفي الإبصار والأفئدة الاسم الذي هو مَحِلّ القوة ولأن السمع قوة واحدة لها محل واحد ولهذا لا يسمع الإنسان في زمان واحد كلامين على وجه يضبطها ويرى في زمان واحد صورتين فأكثر ويُتْقِنُهُمَا .
قوله تعالى : « أَئِذَا ضَلَلْنَا » تقدم خلاف القراء في الاستفهامين ، والواو للعطف على ما سبق فإنهم قالوا محمد ليس برسول ، والله ليس بواحد وقالوا : الحشر ليس بممكن ، فالعامل في « إذا » محل تقديره « نُبْعَثُ أو نَخْرُجُ » لِدَلاَلَةِ : « خَلْقِ جَدِيدٍ » عليه ولا يعمل فيه « خَلْقٍ جَدِيدٍ » ؛ لأن ما بعد « إنَّ » والاستفهام لا يعمل فيما قبلهما ، وجواب « إذاً » محذوف إذا جعلتها شرطية . وقرأ العامة « ضَلَلْنَا » بضاد معجمة ، ولام مفتوحة بمعنى ذَهَبْنَا ، وضِعْنَا من قولهم : ضَلَّ اللبنُ في الضرع وقيل : غُيِّبْنَا ، قال النابغة :
4063 - فآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنِ جَلِيَّة ... وَغُودِرُ بالجُولاَنِ حَزمٌ وَنَائِلُ
والمضارع منهذا : يَضِل بكسر العين وهو كثير ، وقرأ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وابنُ مُحَيْصنٍ وأَبُو رَجَاءٍ : بكسر اللام وهي لغة العالية ، والمضارع من هذا يَضَلُّ بالفتح ، وقرأ علي وأبو حَيْ ( وَة ) « ضُلِّلْنَا » بضم الضاد وكسر اللام المشددة من « ضَلَّلَهُ » بالتشديد ، وقرأ عَلِيٌّ أيضاً وابن عباس والحسن والأعمش وأبان بن سعيد : « صَلَلْنَا » بصاد مهملة ، ولام مفتوحة ، وعن الحسن أيضاً صَلِلْنَا بكسر اللام .
وهما لغتان ، يقال : صَلَّ اللحمُ بفتح الصاد وكسرها لمجيء الماضي مَفْتُوحَ العين ومَكْسُورَها ، ومعنى صَلَّ اللَّحْمُ أنْتَنَ وتَغيَّرتَ رَائِحَتُهُ ويقال أيضاً : أَصَلَّ بالألف قال :
4064 - تُلَجْلِجُ مُضْغَةً فِيهَا أنِيضُ ... أَصَلَّتْ فَهيَ تَحْتَ الكَشْحِ دَاءُ
وقال النحاس : لا يعرف في اللغة « صَلَلْنَا » ولكن يقال : صَلَّ اللَّحْمُ وأَصَلَّ ، وخَمَّ وأَخَمَّ وقد عَرَفَها غَيْرُ أَبِي جَعْفَر .
فصل
قال في تكذيبهم بالرسالة : « أَمْ يَقُولُونَ » بلفظ المستقبل وقال في تكذيبهم بالحشر : « وَقَالُوا » بلفظ الماضي؛ لأن تكذيبهم بالرسالة لم يكن قبل وجوده ، وإنما كان حال وجوده فقال : « يَقُولُونَ » يعني هم فيه . وأما إنكار الحشر فكان سابقاً صادراً منهم ومن آبائهم فقال : « وَقَالُوا » وصرح بقولهم في الرسالة فقال : « أَمْ يَقُولُونَ » وفي الحشر فقال : { وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا } ولم يصرح بقولهم في الوحدانية؛ لأنهم كانوا مصرين في جميع الأحوال على إنكار الحشر والرسالة وأما الوحدانية فكانوا يعترفون بها في بعض الأحوال في قوله : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ لقمان : 25 ] فلم يقل : قالوا إن الله ليس بواحد وإن كانوا قالوه في الظاهر .
فإن قيل : إنه ذكر الرسالة من قبل وذكر دليلها ( وهو التنزيل الذي لا ريب فيه وذكر الوحدانية وذكر دليلها وهو ) خَلْقُ السماوات والأرض وخَلْقُ الإنسان من طين ، ولما ذكر إنكارهم الحشرَ لم يذكر الدليل؟
فالجواب : أنه ذكر دليله أيضاً وهو أن خلق الإنسان ابتداءً دليل على قدرته على الإعادة ولهذا استدل ( تعالى ) على إمكان الحشر بالخلق الأول كما قال : { ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] وقوله : { قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ يس : 79 ] وأيضاً خلق السماوات والأرض كما قال : { أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بلى } [ يس : 81 ] .
قوله : { أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } استفهام إنكاري أي إننا كائنونَ في خلق جديد أو واقعون فيه { بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ } إضراب عن الأول يعني ليس إنكارهم لمجرد الخلق ثانياً بل يكفرون بجميع أحوال الآخرة حتى لو صدقوا بالخلق الثاني لما اعترفوا بالعذاب والثواب . أو يكون المعنى لم ينكروا البعث لنفسه بل لكفرهم بلقاء الله فإنهم كَرِهُوهُ فأنكروا المُفْضي إلَيْهِ ، ثم بين لهم ما يكون ( من الموت إلى العذاب ) فقال : « قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ » يقبض أرواحكم { مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ } أي وكل بقبض أرواحكم وهو عزرائيلُ ، ( والتَّوَفِّي ) استيفاء العدد معناه أنه يقبض أرواحهم حتى لا يبقى أحد من العدد الذي كُتِبَ عليه الموت .
فصل
روي أن ملك الموت جعلت له الدنيا مثل راحة اليد يأخي منها صاحبها ، ما أحب من غير مشقة فهو يقبض أنفُسَ الخَلْقِ من مشارق الأرض ومغربها ، وله أعوان من ملائكة الرحمة وأعوان من ملائكة العذاب ، وقال ابن عباس : خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب ، وقال مجاهد : جعلت الأرض مثل طِسْتٍ يتناول منها حيث شاء .
قوله : { ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } أي تصيرون إليه أحياء فيجزيكم بأعمالكم ، وقرأ العامة : تُرْجَعُونَ ببنائه للمفعول ، وزيد بن علي : ببنائه للفاعل .
قوله : « وَلَوْ تَرَى » في « لو » هذه وجهان :
أحدهما : أنها لِمَا كان سَيَقَعُ لوقوعه غيره . وعبَّر عنها الزمخشري بامتناعٍ لامْتِنَاع ، وناقشه أبو حيان في ذلك . وقد تقم تحقيقه أول البقرة ، وعلى هذا جوابها محذوف أي لرأيت أمر فظيعاً .
والثاني : أنها للتمني . قال الزمخشري كأنه قيل : وليتك ترى . وفيها إذا كانت للتمنِّي خلافٌ على تقتضي جواباً أم لا ، وظاهر تقدير الزمخشري هنا أنه لا جواب لها .
قال أبو حيان : والصحيح أن لها جواباً وأنشد :
4065- فَلأَوْ نُبِشَ المِقَابِرُ عَنْ كُلَيْبٍ ... فَيُخْبِرَ بالذَّنَائِبِ أَيُّ زِيرِ
بِيَوْمِ الشَّعْثَمَيْنِ لقَرَّ عيْناً ... وَكِيْفَ لِقَاءُ مَنْ تَحْتَ القُبُورِ
قال الزمخشري : ولو تجيء في معنى التمني كقولن : « لو تأتيني فتحدثني » ( كما تقول ) : « لَيْتَكَ تَأتِيني فَتُحَدِّثَنِي » قال ابن مالك : أن أراد به الحذف أي وَدِدْتُ لو تأتني فتحدثني فصحِيح وإن أراد أنها موضوعة له فليس بصحيح ، إل لو كانت موضوعة له لم يجمع بينها وبينه كما لم يجمع من « ليت » والتمني ، ولا « لعل وأترجّى » ، ولا « إلا » وأستثني ، ويجوز أن يجمع بين « لو » وأتمنى تقول ( تَمَنَّيتُ لَوْ فَعَلْتُ كذا ) ، والمخاطب يحتمل أن يكون - النبي صلى الله عليه وسلم - شفاء لصدره ، فإنهم كانوا يؤذونه بالتكذيب ، ويحتمل أن يكون عاماً ، و « إذْ » على بابها من المضي؛ لأن « لو » تصرف المضارع للمضي ، وإنما جيء هنا ماضياً لتحقق وقوعه نحو : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] . وجعله أبو البقاء مما وقع فيه « إذ » مَوْقع « إذَا » . ولا حاجة إليه . والمراد بالمجرمين المشركين .
قوله : « نَاكِسُوا » العامة على أنه اسم فاعل مضاف لمفعوله تخفيفاً ، وزيدُ بن علي « نَكِسُوا » فعلاً ماضياً « رُؤُوسَهُمْ » مفعول به ، والمعنى مُطَأطِئُون رُؤُوسِهِمْ .
قوله : « رَبَّنا » على إضمار القول ، وهو حال أي قائلينَ ذلك ، وقدره الزمخشري يَسْتَغيثُونَ بقولهم ، وإضمار القول أكْثَرُ .
قوله : « أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا » يجوز أن يكون المفعول مقدراً أي أ [ صرنا ما كنّا نكذب وسمعنا ما كنا ننكر . ويجوز أن لا يقدر أي صِرْنَا بُصَرَاءَ سَمِيعِينَ فارْجِعْنَا ( إلى الدنيا ) نَعْمَل صِالِحاً « يجوز أن يكون » صالحاً « مفعولاً به ، وأن يكون نعت مصدر ، وقولهم » إنَّا مُوقِنُونَ « أي إنا آمنا في الحال ، ويحتمل أن يكون المراد أنهم ينكرون الشرك كقولهم : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] .
وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
قوله : { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } رشدها وتوفيقها للإيمان ، وهذا جواب عن قولهم : ربنا أبَصْرنَا وَسَمِعْنَا وذلك أن الله تعالى قال : إني لو رجعتكم إلى الإيمان لهديتكم في الدنيا ، ولما لم أهدكم في الدنيا تبين أني ما أردتُ وما شئت إيمانكم فلا أردكم ، وهذا صريح في الدلالة على صحة مذهب أهل السنة حيث قالوا إن الله تعالى ما أراد الإيمان من الكافر ، وما شاء منه إلا الكُفْرَ .
قوله : { ولكن حَقَّ القول مِنِّي } وجب القول ( مني ) وهو قوله تعالى : { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ } . { فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ } قال مقاتل : إذا دخلوا النار قال لهم الخزنة : { فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هاذآ } أي تركتم الإيمان به في الدنيا . « لِقَاءَ يَوْمِكُمْ » ( يجوز فيه أوجه :
أحدها : أنها من التنازع لأن « ذُوقُوا » يطلب « لِقَاء يَوْمِكُمْ » و « نَسِيتُمْ » يطلبه أيضاً أي ذُوقُوا عَذَابَ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ ) هذا بما نَسِيتُمْ عذاب لقاء يومكم هذا ويكون من إعمال الثاني عند البصريين ومن إعمال الأول عند الكوفيين ، والأول أصح لللحذف من الأول؛ إذ لو عمل الأول لأضمر في ( الثاني ) .
الثاني : أن مفعول « ذُوقُوا » محذوف أي ذُوقُوا العذاب بسبب نِسْيَانِكم لقاءَ يومكم ، ( و « هذا » على هذين الإعرابين صفة « ليَوْمِكُمْ » .
الثالث : أن يكون مفعول « ذُوقُوا » « هَذَا » والإشارة به إلى العذاب ، والباء سببية أيضاً أي فذوقها هذا العذاب بسبب نِسْيَانكم لقاء يومكم ) ، وهذا ينبو عنه الظاهر ، قال ابن الخطيب « هذا » يحتمل ثلاثة أوجه : أن يكون إشارة إلى اللقاء ( وأن يكون إشارة إلى اليوم ) ، وأن يكون إشارة إلى العذاب ، ثم قال : « إنَّا نَسِينَاكُمْ » تركناكم غيرَ ملتفت إليكم { وَذُوقُواْ عَذَابَ الخلد بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } من الكفر والتكذيب .
قوله : { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الذين إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً } سقطوا على وجوههم ساجدين { وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } ، قيل : سلموا بأمر ربهم . وقيل : قالوا سُبْحَانَ الله وبحمده { وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } عن الإيمان به والسجود له .
قوله : { تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع } يجوز في « تَتَجَافَى » أنْ يكون مستأنفاً ، وأن يكون حالاً وكذلك « يَدْعُونَ » إذا جعل « يَدْعُون » حالاً احتمل أن يكون حالا ثانية ، وأن يكون حالاً من الضمير في « جنوبهم » ؛ لأن المضارع خبرٌ ، والتجافي الارتفاع ، وعبر به عن ترك النوم ، قال ابن رواحة :
4066 - نَبِيٌّ تَجَافَى جَنْبُهُ عَنْ فِرَاشِهِ ... إذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ المَضَاجِعُ
والمعنى يرتفع ( وينبو ) جنوبهم عن المضاجع جمع المضْجَع وهو المَوْضِع الذي يَضْطَجِعُ عليه يعني الفراش وهم المتهجدون بالليل الذين يقيمون الصلاة ، قال أنس : نزلت فينا مَعْشَرَ الأنصار ، كنا نصلي المغرب الصلاة فلا نرجع إلى رحالنا حتى نُصَلِّيَ العشاءَ مع - النبي صلى الله عليه وسلم - .
( وعن أنس : أيضاً قال : نَزَلَتْ في أناسٍ من أصحابِ النّبي صلى الله عليه وسلم ) كانوا يُصَلُّونَ من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء وهو قول أبي حَازِمٍ ، ومُحَمَّد بْنِ المُنْكَدِر ، وقال في صلاة الأوابين وهو مروي عن ابن عباس . وقال عطاء : هم الذين لا ينامون حتى يصلوا العشاء الآخر والفجر في جماعة ، ( وقال صلى الله عليه وسلم : « مَنْ صَلَّى العِشَاء في جماعة ) ( كَانَ كَقِيَام نِصْفِ لَيْلَةٍ ومن صلى الفجر في جماعة ) كان كقيام ليلة » ، والمشهور أن المراد منه صلاة الليل ، وهو قول الحَسَنِ وجماعة ومجاهد ، ومَالِك والأوْزَاعِي وجماعة لقوله عليه ( الصلاة و ) السلام : « أفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمضَانَ شِهْرُ اللَّهِ المُحَرَّمُ ، وأفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الفَرِيضَةٍ صَلاَةُ اللَّيْلِ ، وقال عليه ( الصلاة و ) السلام- : » إن فِي الجَنَّةِ غُرَفاً يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنها وباطنُها من ظاهِرها أَعَدَّهَا اللَّهُ لِمَنْ أَلاَنَ الكَلاَمَ ، وأَطْعَمَ الطَّعَامَ ، وَتَابَعَ الصِّيَامَ ، وَصَلَّى باللَّيْلِ والنَّاسُ نِيَامٌ «
( قوله ) : » خَوْفاً وَطَمعاً « إام مفعول من أجله وإمّا حالان ، ( وإما ) مصدران لعامل مقدر .
قال ابن عباس : خَوْفاً من النار وطمعاً في الجنة ، { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } . قيل : أراد به الصدقة المفروضة وقيل : عام في الواجب والتطوع .
قوله : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } قرأ حمزة » أُخْفِي « فعلاً مضارعاً مسنداً لضمير المتكلم فلذلك سكنت ياؤه ( لأنه ) مرفوع ، ويؤيده قراءة ابن مسعود : » مَا نُخْفِي « بنون العظمة ، والباقون » أُخِفِيَ « ماضياً مبنياً للمفعول ، ( فَمِن ) ثمَّ فُتِحَتْ ياؤه ، وقرأ محمد بن كعب » أَخْفَى « ماضياً مبنياً للفاعل ، وهو اللَّهُ تعالى ، يؤيدها قراءة الأعمش و [ » مَا ] أَخْفَيْتُ مسنداً للمتكلم . و « ما » يجوز أن تكون موصولة أي لا يعلم الذي أخفاه الله ، وفي الحديث : « مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ » وأن تكون استفهامية معلقة « لتَعْلَمَ » فإن كانت متعدية لاثنين سدت مسدهما أو لواحد سدت مسده .
قوله : { مِّنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } قرأ عبد الله ، وأبو الدرداء وأبو هريرةَ « من قُراتِ أَعْيُنٍ » جمعاً بالألف والتاء ، و « جزاءً » مفعولٌ له ، أو مصدر مؤكد لمعنى الجملة قبله ، إذا كانت « ما » استفهامية فعلى قراءة ( مَنْ قرأ ما ) بعدها فعلاً ماضياً يكون في محل رفع بالابتداء ، والفعل بعدها الخبر ، وعلى قراءة من قرأ مضارعاً يكون مفعولاً مقدماً و « مِنْ قُرَّةِ » حال من « ما » والمعنى مَا يُقِرُّ الله به أعينهم { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } قال ابن عباس : هذا مما لا تفسير له .
قال بعضهم : أخفوا أعمالهم فأخفى الله ثوابهم .
قوله : { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً } نزلت في عليِّ بْن أبي طالب ، والوليدِ بن عقبة بن أبي معيط أخِي عثمان لأمه وذلك أنه كان بينهما تنازع فقال الوليد بن عقبة لِعَلِيٍّ : اسْكُتْ فإنك فاسق فأنزل الله عزّ وجلّ : { أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يَسْتَوونَ } ولم يقل لا يستويان لأنه لم يرد مؤمناً واحداً ولا فاسقاً واحداً بل أراد جميع المؤمنين وجميع الفاسقين . قوله : « لا يستوون » مستأنف؛ روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتمد الوقف على قوله « فاسقاً » ثم يبتدىء : « لا يَسْتَوونَ » .
قوله : { أَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } لما ذكر أن المؤمن والفاسق لا يستويان بطريق الإجمال بين عدم استوائهما على سبيل التفصيل فقال : { أَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ جَنَّاتُ المأوى } قرأ طلحةُ « جنة المأوى » بالإفراد ، والعامة بالجمع ، أي التي يأوي إليها المؤمنون . وقرأ أبو حيوة نُزْلاً - بضم وسكون - وتقدم تحقيقه آخر آل عمران ، { وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النار كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار } وهذا إشارة إلى حال الكافر ، واعلم أن العمل الصالح له مع الإيمان تأثير فلذلك قال : { آمنوا وعملوا الصالحات } ، وأما الكافر فلا التفات إلى الأعمال معه فلهذا لم يقل : « وأما الذين فسقوا وعملوا السيئات » ؛ لأن المراد من « فَسَقُوا » كفروا ، ولو جعل العقاب في مقابلة الكفر والعمل لظن ( أن ) مجرد الكفر ( لا ) عقاب عليه .
قوله : { الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ } صفة لعذاب ، وجوز أبو البقاء أن يكون صفة للنار قال : وذكر على معنى الجَحِيم والحَريق .
قوله : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ العذاب الأدنى دُونَ العذاب الأكبر } قال أبيُّ بنُ كَعْبٍ والضَّحَّاكُ والحَسَنُ وإبْرَاهيمُ : العذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها وهو رواية الوَالبِيِّ عن ابن عباسٍ ، وقال عكرمة عنه : الحدود ، وقال مقاتل : الجوع سبع سنين بمكة حتى أكلوا الجيف والعظام والكلاب . وقال ابن مسعود : هو القتل بالسيف يوم بدر وهو قول قتادة والسدي . وأما العذاب الأكبر وهو عذاب الآخرة فإن عذاب الدنيا لا نسبة له إلى عذاب الآخرة .
فإن قيل : ما الحكمة في مقابلته « الأدنى » « بالأكبر » ، « والأدنى » إنما هو في مقابلة « الأقصى » « والأكبر » إنما هو مقابله « الأصغر » ؟
فالجواب : أنه حصل في عذاب الدنيا أمران : أحدهما : أنه قريب والآخر : أنه قليل صغير ، وحصل في عذاب الآخرة أيضاً أمران ، أحدهما : انه بعيد والأآخر أنه عظيم كبيرٌ لكن العرف في عذاب الدنيا هو أنه الذي يصلح التخويف به فإن العذاب العاجل وإن كان قليلاً فلا يَحْتَرِزُ عنه بعض الناس أكثر مما يَحْتَرِزُ من العذاب الشديد إذا كان آجلاً ، وكذا الثواب العاجل قد يَرْعَبُ فيه بعض الناس ويستبعد الثوابَ العظيم الآجل .
وأما في عذاب الآخرة فالذي يصلح للتخويف هو العظيم والكبير ( لا ) البعيد لِمَا بينا فقال في عذاب الدنيا الأدنى ليحترز العاقل عنه ولو قال : « وَلَنُذِيقَنَّهُمْ من العذاب الأصغر » ما كان يحترز عنه لصغره وعدم فَهْم كونه عاجلاً ، وقال في عذاب الآخرة الأكبر لذلك المعنى ولو قال : مِنَ العَذَابِ الأبعد الأقْصَى ( لما حصل ) التخويف به مثل ما يحصل بوصفه بالكِبَر .
قوله : « لعلهم يرجعون » إلى الإيمان يعني مَنْ بَقِي منهم بعد « بدر » .
فإن قيل : ما الحكمة في هذا الترجي وهو على الله تعالى محال؟
فالجواب : فيه وجهان :
أحدهما : معناه لنذيقنهم إذاقة الراجين كقوله : « إنَّا نَسِنَاكُمْ » يعني تركناكم كما يترك الناس ( حيث لا يلتفت إليه ) أَصْلاً كَذلِكَ ههنا .
والثاني : نذيقهم العذاب إذاقة يقول القائل : لعلهم يرجعون بسببه .
والثاني : نذيقهم العذاب إذاقة يقول القائل : لعلهم يرجعون بسببه .
قوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ } ( أي من ذكر بآيات الله ) من النعم أولاً ، والنِّقَم ثانياً ولم يؤمنوا ، فلا أظلَمُ منهم أَحدٌ .
قوله : { ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ } هذه أبعد ما بين الرُّتْبَتَيْنِ معنىً ، وشبهها الزمخشري بقوله :
4067 - وَمَا يَكْشِفُ الغَمَّاء إلاَّ ابْنُ حُرَّةٍ ... يَرَى غَمَرَاتِ المَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا
قال : استبعد ( أن يزور ) غمرات الموت بعد أن رآها وعرفها ، واطلع على شدتها .
قوله : { إِنَّا مِنَ المجرمين } ( يعني المشركين ) « مُنْتَقِمُونَ » .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
قوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب } لما قرر الأصول الثلاثة عاد إلى الأمثل الذي بدأ به وهو الرسالة المذكورة في قوله : { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ } [ السجدة : 3 ] وقال : إنَّكَ لَسْتَ بدْعاً مِنَ الرُّسُلِ بل كان قبلك رسلٌ مثلُك ، وذكر موسى لقربه ( من ) النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ووجود من كان على دينه إلزاماً لهم ، وإنما لم يختر عيسى - عليه ( الصلاة و ) السلام ( للذكر ) والاستدلال لأن اليهود ما كانوا يوافقون على نبوّته ، وأما النصارى فكانوا يعترفون بنُبُوَّة عيسى عليه السلام فتمسك بالمجمع عليه .
قوله : { فَلاَ تَكُنْ فِي مَرْيَةٍ } قرأ الحسن بالضم وهي لُغَةٌ ، وقوله : « مِنْ لِقَائِهِ » في الهاء أقوال :
أحدها : أنها عائدة على « مُوسَى » والمصدر مضاف لمفعوله أي من لقائِكَ مُوسى ليلةَ الإسراء . وامْتَحَنَ المبردُ الزجاجَ في هذه المسألة فأجاب بما ذكر ، قال ابن عباس وغيره : المعنى فلا تكن في شَكٍّ من لقاء موسى فإنك تراه وتلقاه ، روى ابن عباس « عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسري بي مُوسىَ رَحُلاً آدَمَ طُوالاً جَعْداً كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ ، وَرَأَيْتُ عِيسَى رَجُلاً مَرْبُوعاً إلى الحُمرةِ والبَيَاض سَبْطي الرأس ، ورأيتَ مالِكاً خَازِنَ النَّارِ والدَّجَّال في آيات أَراهَنَي اللَّهُ إيَّاهُ »
والثاني : أن المضير يعود على « الكتاب » وحينئذ يجوز أن تكون الإضافة للفاعل أي من لقاء الكتاب لموسى أو للمفعول أي من لقاء موسى الكتاب لأن اللقاءَ يصح نسبته إلى كل منهما ، لأن من لقيك فقد لقيته .
قال السدي المعنى فلا تكن في مِرْيَةٍ من لقائه أي تلقى موسى كتاب الله بالرضا والقبول .
الثالث : أي يعود على الكتاب على حذف مضاف أي من لقاء مثل كتاب موسى .
الرابع : أنه عائد على ملك الموت لتقدم ذكره .
الخامس : عوده على الرجوع المفهوم من قوله : { إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } [ السجدة : 11 ] أي لأنك في مرية من لقاء الرجوع .
السادس : أنه يعود على ما يفهم من سياق الكلام مِمَّا ابتلي ب موسى من البلاء والامْتِحَان ، قاله الحسن . أي لا بدّ ان يلقى ما لقي موسى من قومه فاختار موسى عليه السلام لحكمة وهي أن أحداً من الأنبياء لم يؤذِهِ من قومه إلا الذين لم يؤمنوا ، وأما الذين آمنوا به فلم يخالفوه غير قوم موسى عليه السلام فإن من لا آمن به آذاه كفرعون ( وغيره ) ومن آمن به من بني إسرائيل أيضاً ( آذاه ) بالمخالفة وطلب أِياء مثل رؤية الله جهرة وكقولهم : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلاا } [ المائدة : 24 ] . وأظهر هذه الأقوال أن الضمير إما لموسى وإما للكتاب ، ثم بين ( أن له هداية غير عادية عن المنفعة كما أنه لم تحل هداية موسى حيث جعل الله كتاب موسى هدى ) وجعل منهم أئمة يهدون كذلك يجعل كتابك هدى ويجعل من أمتك صاحبة يهدون كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :
« أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُم اهْتَدَيْتُمْ » ، ثم بين أن ذلك يحصل بالصبر فقال : { ولَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } .
فصل
« لَمَّا صَبَرُوا » قرأ الأخوان بكسر اللام وتخفيف الميم ، على أنها لام الجر و ( « ما » ) مصدرية ، والجار متعلق بالجعل أي جعلناهم كذلك لصبرهم ولإيقانهم ، والباقون بفتحها وتشديد الميم . وهي « لمَّا » التي تقتضي جواباً وتقدم فيها قولا سيبويه والفارسي ، والمعنى حين صبروا على دينهم وعلى البلاء من عدوهم بمضّرَ .
قوله : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } هذا يصلح أن يكون جواباً لسؤال وهو أنه تعالى لما قال : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ } فكان لقائل أن يقول : كيف يَهْدُونَ وهم اختلفوا وصاروا فِرَقاً والحق واحد؟ فقال ( الله ) يبين المبتدع من المتبع كما يبين المؤمن من الكافر يوم القيامة .
قوله : { أَوَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ } بتبين لهم { أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ } لما أعاد ذكر الرسالة أعاد ذكر التوحيد وقال : { أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ } وقوله { يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ } أي مساكن المُهْلَكِينَ ( لدلالة على حالتهم ) وأنتم تمشون فيها وتبصرونها { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ } آيات الله وعِظَاته واعتبر السمع لأنهم ما كان لهم قوة الإدراك بأنفسهم والاستنباط بعقولهم فقال : « أفلا يسمعون » ( يعني ) ليس لكم درجة المتعلم الذي يسمع الشيء ويفهمه .
قوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ المآء إِلَى الأرض الجرز } قرىء الجُرْز - بسكون الراء - وتقدم أول الكهف . وهي الأرض اليابسة الغليظة التي لا نبات فيها ، قال ابن عباس : هي أرض باليمن ، وقال مجاهد : هي أرض بأنين . والجرز هو القطع فكأنها المقطوع عنها الماء والنبات . لما بين الإهلاك وهو الإماتة بين الإحياء ليكون إشارة إلى أن الضرر والنفع بيد الله ثم قال : { فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ } من العشب والتبن « وأَنْفُسُهُمْ » من الحبوب والأقوات ، وقدم الأنعام على الأنفس في الأكل لوجوه :
الأول : أن الزرع أول ما ينبت للدوابِّ ولا يصلح للإنسان .
الثاني : أن الزرع غذاء للدواب لا بدّ منه وأما غذاء الإنسان فقد يصلح للحيوان فكان الحيوان يأكل الزرع ثم الإنسان يأكل من الحيوان .
قوله : « أَفَلاَ يُبْصِرُونَ » قرأ العامة بالغيبة ، ( وابن مسعود ) بالخطاب التفاتاً .
وقال تبصرون لأن الأمر ( يرى ) بخلاف حال الماضي فإنها كانت مسموعة . ثم لما بين الرسالة والتوحيد بّن الحشر فقال : { وَيَقُولُونَ متى هذا الفتح إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } قيل : أراد بيوم الفتح يوم القيامة الذي فيه الحكم بين العابد قال قتادة : قال أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - للكفار : إنّ لنا يوماً ننعم فيه ونستريح ويحكم الله بيننا وبينكم فقالوا استهزاء : { متى هذا الفتح } أي القضاء والحكم .
وقال الكلبي : يعني فتح مكة ، وقال السدي : يوم بدر لأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقولون لهم إن الله ناصرنا ومظهرنا عليكم فيقولون متى هذا الفتح .
فصل
« يوم الفتح » منصوب « لاَ يَنْفَعُ » و « لا » غير مانعة من ذلك . وقد تقدم فيها مذاهب والمعنى يوم الفتح يوم القيامة لا ينفع الذين كفروا إيمانُهُمْ . ومن حمل الفتح على فتح مكةوالقتل يوم بدر قال معناه لا ينفع الذين كفروا إيمانهم إذا جاءهم من العذاب وقُتِلُوا { وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ } أي لا يُمْهِلُونَ بالإعادة إلى الدنيا ليؤمنوا ، ثم لما بين أن الدلالة لم تنفعهم قال : « فَأَعْرَضْ عَنْهُمْ » قال ابن عباس : نسختها آية القتال .
قوله : { وانتظر إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ } العامة على كسر الظاء من « مُنْتَظِرٍ » اسم فاعل ، والمفعولُ من « انْتَظَر » ومن « مُنَْظِرُونَ » محذوف أي انتظر ما يَحُلُّ بهم إنهم منتظرون ( على زَعْمِهمْ ما يحل بك . وقرا اليَمَانِيُّ : « مُنْتَظَرُونَ » اسم مفعول .
قيل : المعنى انتظر موعدي لك بالنصر إنهم منتظرون بك حوادث الزمان .
وقيل : انتظر عذابنا فيهم إنهم منتظرون ذلك وعلى هذا فلا فرق بين الانتظار . وقيل : انتظر عذابهم بنفسك إنهم منتظرونه بلفظهم استهزاءاً كما قالوا : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ } [ الأعراف : 70 ] .
فصل
روى أبو هريرة قال : « كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر يوم الجمعة { الم . تَنْزِيل } و { هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ } »
وعن جابر قال : « كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينام حتى يقرأ تَبَارَكَ . والم . تنزيل ، ويقول : هما يَفْضُلاَن عَلَى كُلِّ سُورةٍ في القرآن سبعينَ سَنَةً ، ومن قرأهما كُتِبَ له سَبْعُونَ حَسَنَةً ، ومُحِيَ عنه سَبْعُونَ سَيِّئَةً ، ورُفِعَ له سَبْعُونَ دَرَجَةً »
وروى الثعلبي عن ابن عباس عن أُبَيٍّ بن كعب « أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : مَنْ قَرَأَ سورة { الم . تَنْزِيلُ } أَعْطِيَ من الأجْرِ كَمَنْ أَحْيَا لَيْلَةَ القَدْرِ »
والله أعلم .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
قوله تعالى : { ياا أَيُّهَا النبي اتق الله } اعلم أن الفرق ين نداء المنادى بقوله : « يَا رَجُلُ » ويايُّهَا الرَّجُل ، أن قوله : « يَا رَجُل » يدل على النداء ، وقوله : « يا أيها الرجل » يدل على ذلك ويُنْبِىءُ عن خطر المادى له أو غفلة المنادى فقوله : « يأيها » لا يجوز حمله على غفلة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن قوله : « النبي » ينافي الغفلة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خبيرٌ ، فلا يكون غافلاً ، فيجب حمله على خَطَر الخَطْب .
فإن قيل : الأمر بالشيء لا يكون إلا عند عدم اشتغال المأمور بالمأمورية إذْ لا يصلح أن ( يكون ) يقال للجالس : اجلس وللساكت اسْكُتْ والنبي - عليه الصلاة والسلام - كان متقياً فما الوجه في قوله « اتق الله » ؟ .
فالجواب : أنه أمر ( بالمدينة ) بالمداومة فإنه يصح أن يقال للجالس : اجلس ههنا إلى أن يأتيك ويقال للساكت قد أصبت فاسكت تسلم أي دُمْ على ما أنت عليه ، وأيضاً من جهة العقل أن الملك يتقي منه عباده على ثلاثة أوجه بعضهم يخاف من عقابه وبعضهم يخاف من قطع ثوابه وثالث يخاف من احتجابه فالنبي - عليه ( الصلاة و ) السلام لم يؤمر بالتقوى بالأول ولا بالثاني ، وأما الثالث : فالمخلص لا يأمنه ما دام في الدنيا فكيف والأمور البدنية شاغلة فالآدَميُّ في الدنيا تارة مع الله والأخرى مقبل على ما لا بد منه وإن كان معه الله وإلى هذا أشار بقوله : { إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ } [ الكهف : 110 ] يعني برفع الحجاب عني وقت الوحي ثم أعود إليكم كأني منكم فأُمِرَ بتقوى توجب استدامة الحضور ، وقال المفسرون : نزلت في أبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبي الأعور عمرو بن أبي ( رأس المنافقين ) بعد قتال أحد وقد أعطاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - قولهم الأمان على أن يكلموه فقام ( معهم ) عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح ، وطُعْمَةُ بن أُبَيْرِق فقالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ارفض ذكر آلهتنا اللاتَ والعُزَّى ومَنَاةَ وقل إن لها شفاعةً لمن عبدها وندعك وربَّك فشق على النبي - صلى الله عليه وسلم - قولهم فقال عمر : يا رسول اللَّهِ ائذنْ لي في قتلهم . فقال : إني قد أعطيتهم الأمان . فقال عمر : اخرجوا في لعنة الله وغضبه وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر أن يُخْرِجَهُمْ من المدينة فأنزل الله : { ياا أَيُّهَا النبي اتق الله } أي دُم على التقوى كما يقول ارجل لغيره وهو قائم : « قُمْ قائماً » أي اثبتْ قائماً ، وقيل : الخطاب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد الأمة ، وقال الضحاك معناه : اتق الله ولا تَنْقُضِ العهد الذي بينك وبينهم .
قوله : { وَلاَ تُطِعِ الكافرين } أي من أهل مكة يعني أبا سفيان ، وعكرمة وأبا الأعور ، والمنافقين من أهل المدينة عبد الله بن أبي ، وطعمة { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً ( حَكِيماً } بخلقه قبل أن يخلقهم حكيماً فيما دبره لهم
فإن قيل : لم خص الكافر والمنافق بالذكر مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ينبغي أن لا يطع أحداً غير الله؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أن ذكر الغير لا حاجة إليه لأن غيرهما لا يطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - الأتِّباع ولا يتوقع أن يصير النبي - صلى الله عليه وسلم - مطيعاً له بل يقصد اتباعه ولا يكون عنده إلا مطاعاً .
الثاني : أنه ( تعالى ) لما قال : { } منعه ( من ) طاعة الكل لأن كل من طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - طاعته فهو كافر أو منافق لأن من يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر إيجاب معتقداً أنه لو لم يفعله يعاقبه بحق يكون كافراً .
قوله : { واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ } وهذا يقدر ما ذكره أولاً من أنه عليم حكيم فاتباعه واجب .
قوله : { بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } وبعده { بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيراً } قرأهما أبو عمرو بياء الغيبة ، والباقون بتاء الخطاب أما الغيبة ( في الأولى ) فلقوله « الكافرين والمنافقين » وأما الخطاب فلقوله : « يأيها النبي » لأن المراد هو وأمته وخوطب بالجمع تعظيماً ( له ) كقوله :
4068 - فَإِنْ شئْتَ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ .. .
وجوز أبو حيان أن يكون التفاتاً يعني ( عن ) الغائبين ( و ) الكافرين والمنافقين ( وهو بعيد ) وأما ( الغيبة ) في الثاني فلقوله { إذ جاءتكم جنود } وأما الخطاب فلقوله { يأيها الذين آمنوا } . قوله : { وتوكل على الله } أي ثق بالله يعني إن توهمت من أحد فتوكل على الله فإنه كافيك { وكفى بالله وَكِيلاً } حافظاً لك ، وقيل : كفيلاً برزْقكَ . قوله { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ « نزلت في أبي يَعْمُرَ ( و ) جميل بن مَعْمَرٍ الفِهْرِي وكان رجلاً لبيباً حافظاً لما يسمعه فقالت قريش : ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلا وله قلبان وكان يقول : لي قلبان أعقِلُ بكُلِّ واحد منهما أَفْضَلُ من عقل محمد فلما هزم الله المشركين يوم بدر انهزم أبو مَعْمَرُ فَلَقِيَهُ أبو سفيان وإحدى نعليه بيده والأخرى في رجله فقال له : يا أبا معمر ما حال الناس؟ قال : انهزموا قال فما لك إحدى نعليك ( في يدك ) والأخرى في رجلك . قال أبو معمر : ما شعرت إلا أنهما في رجلي فعلموا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نَعْلَهُ في يده .
وقال الزُّهْرِيُّ ومقتل : هذا مَثَلٌ ضربه الله للمظاهر من امرأته والمتبنيّ ولد غيره يقول : فكما لا يكون لرجل قلبان فذلك لا يكون امرأة المظاهر أمه حتى يكون لها ابناً ولا يكون ولداً واحداً من رَجُلَيْنِ . ( قال الزَّمخشري ) : قوله : { وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ } أي ما جعل الله لرجل قلبين كما لم يجعل لرجلين أمين ولا لابن أَبَوَيْنِ ، ( وقوله : { وما جعل أزواجكم اللائي « ) قرأ الكوفيونَ وابن عامر اللائي ههنا وفي سورة الطلاق بياء ساكنة بعد همزة مكسورة وهذا هو الأصل في هذا اللفظ لأنه جميع » التي « معنى وأبو عمرو والبَزِّيُّ اللائي بيان ساكنة وصلاً بعد ألف محضة في أحد وجيهيها ، ولهما وجه آخر سيأتي ، ووجه هذه القراءة أنهما حذفا الياء بعد الهمزة تخفيفاً ثم ابدلاً الهمزة ياء وسكناها ليصيرورتها ياء مكسوراً ما قبلها ( إلاَّ أنَّ هذا ليس بقياس وإِنما القياس جعل الهمزة بين بين ) .
( قال أبو علي : لا يُقْدَمُ على مثل هذا البدل إلا أن يُسْمَعَ ) . قال شهاب الدين : قال أبو عمرو بن العلاء إنها لغة قُريش التي أمر الناس أن يقرءوا بها . وقال بعضهم : لم يبدلوا وإنما كتبوا فعبر عنهم القرآن بالإبدال . وليس بشيء . وقال أبو علي : » أو غير بإظهار أبي عمرو اللاَّئي يَئِسْنَ يدل على أنه يشهد ولم يبدل « وهذا غير لازم لأن البدل عارض فلذلك لم يدغم وقرأها ورش بهمزةٍ مُسَهَلَةٍ بَيْنَ بَيْنَ ، وهذا الذي زعم بعضهم أنه لم يصح عنهم غيره وهو تخفيف قياس ، وإذا وقفاو سكنوا الهمزة ومتى سكنوها استحال تسهيلها بين بين لزوال حركتها فتقلب ياءً لوقوعها ساكنةٌ بعد كسرة وليس ( هذا ) من مذهبهم تخفيفها فتقر همزة ، وقرأ قُنْبُل وورش بهمزة مكسورة دون ياء حذف الياء واجتزأ عنها بالكسرة وها الخلاف بعينه جارٍ في المجادلة أيضاً والطلاق .
قوله : » تَظَاهَرُونَ « قرأ عاصمٌ تُظَاهِرُونَ بضم التاء وكسر الهاء بعد ألف ، مضارع » ظَاهَرَ « وابن عامر » تَظَّاهَرون « بفتح التاء والهاء وتشديد الظاء مضارع » تَظَاهَرَ « والأصل » تَتَظَاهَرُونَ « بتاءين فأدغم . والأخوان كذلك إلا أنهما خففا الظاء والأصل أيضاً بتاءين ( إلا أنهما ) حذفا إحداهما ، وهما طريقان في تخفيف هذا النحو إما الإدغام وإما الحذف وقد تقدم تحقيقه في نحو تَذّكر وتَذَّكَّرون مخففاً ومثقلاً وتقدم نحوه في البقرة أيضاً . والباقون » تَظَّهرُونَ « بفتح التاء والحاء ( وتشديد الظاء ) والهاء دون ألف ، والأصل » تَتَظَهَّرُونَ « بتاءين فأدغم نحو » تذكرون « وقرأ الجميع في المجادلة كقراءتهم في قوله : { والذين يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ } [ المجادلة : 2 ، 3 ] إلا الأخوين ، فإنهما خالفا أصلهما هنا فقرءا في المجادلة بتشديد الظاء كقراءة ابن عامر .
والظهار مشتق من الظَّهْر ، وأصله أن يقول الرجل لامرأته : « أنْتَ عَلَيَّ كظَهْرِ أُمِّي » وإنما لم يقرأ الأخوان بالتخفيف في المجادلة لعدم المسوِّغ له وهو الحذف؛ لأن الحذف إنما كَان لاجتماع مثلين وهما التاءان وفي المجادلة ياء من تحت وتاء مِن فوق فلم يجتمع مثلان فلا حذف فاضطر إلا الإدغام ، وهذا ما قرىء به متواتراً ، وقرأ ابن وثاب « تَظهَّرُونَ » بفتح التاء والظاهء مخففة وتشديد الهاء والأصل : تَتَظَهَّرُونَ مضارع « تَظَهَّر » مشدداً ، فحذف إحدى التاءين ، وقرأ الحسن « تُظَهِّرُونُ » بضم التاء وفتح الظاء مخففة وتشديد الهاء مكسورة مضارع « ظَهَّرَ » مشدداً وعن أبي عمرو « تَظْهَرُونَ » بفتح التاء والهاء وسكون الظاء مضارع « ظَهَرَ » مخففاً وقرأ أُبَيٌّ - وهي في مصحفه كذلك - تَتَظَهَّرُونَ - بتاءين فهذه تسع قراءات ، أربعٌ متواترة ، وخمسٌ شاذة ، وأخذ هذه الأفعال من لفظ « الظَّهْرِ » كأخذ « لَبَّى » من التَّلْبِيَةِ ، و « أفف » من أُفّ . وإنما عدي « بمن » لأنه ضمن معنى التباعد كأنه قيل : يَتَبَاعَدُونَ من نسائهم بسبب الظهار كما تقدم في البقرة في تعدية الإيلاء ( بِمِنْ ) .
فصل
الظهار أن يقول الرجل لامرأته : أَنْتِ عَلَيَّ كظهرِ أمي ، فقال الله تعالى : مَا جَعَلَ اللَّهُ نِسَاءَكُمْ اللاتي تقولون لهم هذا في التحريم كأمهاتكم ولكنه منكر وزور . وفيه كفارة يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى في سورة المُجَادَلَة .
قوله : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } ( يعني ) ما جعل من تبنّيتموهم أبناءكم ، ( نسخ ) التبني ، وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يتبنى الرجل فيجعله كالابن يدعوه الناس إليه ويرث ميراثه ، « وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعتق زيد بن حارثة بن شراحبيل الكلبي وتبناه قبل الوحي وآخى بينه وبين حمزة بن عبد المطلب » فلما تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينتب بنت جحش وكانت تحت زيدِ بن حارثة قال المنافقون تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عن ذلك فأنزل الله هذه الآية ، ونسخ التبني . واعلم أن الظهار كان في الجاهلية طلاقاً حتى كان للزوج ان يتزوج بها من جديدٍ .
قوله : « ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ » مبتدأ وخبر أيْ دعاؤكم الأدعياء أبناء مجدر قول لسان من غير حقيقة ، والأَدْعِيَاءُ جمع دَعِيٍّ بمعنى مَدْعُوٍّ فعيل بمعنى مفعول وأصله دَعِيوٌ فأدغم ولكن جمعه على أَدْعِيَاء غير مقيس؛ لأن « أفعلاء » إنما يكون جمعاً لفَعِيل المعتل اللام إذا كان بمعنى فاعل نحو : تَقِيّ وأَتْقِيَاء ، وغَنِيّ وأَغنياء ، وهذا وإن كان فعيلاً معتل اللام إلا أنه بمعنى مفعول فكان قياس جمعه على فَعْلَى كقَتِيل وقَتْلَى ، وجَرِيح ، وَجَرْحَى ، ونظير هذه ( الآية في ) الشذوذ ، قولهم : أَسِيرٌ وأُسَرَاء ، والقياس : أَسْرَى ، وقد سمع فيه الأصل .
واعلم أن الله تعالى قال ههنا { ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهَكُمْ } وقال في قوله : { وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ } [ التوبة : 30 ] يعني نسبة الشخص إلى غير الأب قول لا حقيقة له ولا يخرج من قلب ولا يدخل أيضاً في قلب ، فهو قول بالفم مثل أصوات البهائم .
قوله : { والله يَقُولُ الحق } أي قوله الحق { وَهُوَ يَهْدِي السبيل } أي يرشد إلى سبيل الحق وهذا إشارة إلى أنه ينبغي للعاقل أن يكون قوله إما من عقل أو شرع فإذا قال : فلانٌ بنُ فلان ينبغي أن يكون عن حقيقة أو شرع بأن يكون ابنه شرعاً وإن لم تعلم الحقيقة كمن تزوج بامرأةٍ فولدت لِستةِ أشْهُرٍ ولداً وكانت الزوجة من قبل زوجة شخص آخر يحتمل أن يكون الولد منه فإنا نلحقه بالزوج الثاني لقيام الفراش ونقول : إنه ابنه شرعاً ، وفي الدَّعِيِّ لم توجد الحقيقة ولا ورد الشرع به لأنه لا يقول إلا الحق وهذا خلاف الحق ، لأن أباه مشهور ظاهر وأشار فيه من وجه آخر إلى أن قولهم هذه زوجة الابن فتحرم فقال الله هي لك حلال فقولهم لا اعتبار له لأنه بأفواههم كأصوات البهائم وقوله الحقّ فيجب اتباعه وهو يهدي السبيل فيجب اتباعه لكونه حقاً ولكونه هادياً .
قوله : { ادعوهم لآبَآئِهِمْ } ( أي الذين ولدوهم { هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله } أي أعدل قال عبد الله بن عِمران زيد بن حارثة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن ادْعُوْهُمْ لآبائهم هو أقسط عند ) الله . واعلم أن قوله : هو أقسط أي دعاؤهم لآبائهم فهو مصدر قَاصِرٌ لدلالة فعله عليه كقوله : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } [ المائدة : 8 ] قال ابن الخطيب وهو يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون ترك الإضافة للعموم أي اعدلوا كل كلام كقولك الله أكبر .
الثاني : أن يكون ما تقدم مَنْوِيّاً كأنه ( قال ) : ذلك أقسط من قولكم هو ابن فلان ثم تمم الإرشاد فقال : { فَإِن لَّمْ تعلموا آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدين } أي قولوا لهم إخواننا فإن كانوا مُجَرَّدِينَ فقولوا موالي فلان ثم قال : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ } أي قبل النهي فنسبتموه إلى غيره .
قوله : { ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } يجوز في « ما » وجهان :
أحدهما : أن تكون مجرورة المحل عطف على ( « ما » ) المجرورة قبلها بفي ، والتقدير : ولكن الجناح فيما تعمدته .
الثاني : أنها مرفوعة المحل بالابتدءا والخبر محذوف ، تقديره تؤاخذون به أو عليكم في الجُنَاح ونحوه .
قوله : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } المغفرة هي أن يستر القادر قَبِيحَ مَنْ تَحْتِ قدرته حتى أنَّ العبد إذا ستر عيب سيده مخافةَ عقابه لا يقال غفر له والرحمة هي أن يميل بالإحسان إلى المرحوم لعجز المرحوم لا لعوض فإن من مال إلى إنسان قادر كالسلطان لا يقال رحمه وكذلك من أحسن إلى غيره رجاءً في خيره أو عوضاً عما صدر منه آنفاً من الإحسان لا يقال : رحمه إذا علم هذه فالمغفرة إذا ذكرت قبل الرحمة يكون معناها أنه ستر عيبه ثم رآه مفلِساً عاجزاً فرحمه وأعطاه ، وإذا ذكرت المغفرة بعد الرحمة وهو قليل يكون معناها أنه مال إليه لعجزه فترك عقابه ( ولم ) يقتصر عليه بل ستر ذنوبه .
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
قوله : { النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ } أي من بعضهم ببعض في نفوذ حكمه ووجوب طاعته عليهم وقال ابن عباس ( وقتادة ) وعطاء يعني إذا دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى بهم من طاعة أنفسهم . وقال ابن زيد . النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم فيما قضى بينهم كما كنت أولى بعبدك فيما قضيت عليه ، وقيل : أولى بهم في الحمل على الجهاد وبَذْلِ النفس دونه ، وقيل : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج إلى الجهاد فيقول قومٌ : نذهب فنَسْتَأْذِنُ من آبائنا وأمهاتنا . فنزلت ( الآية ) ، وروى أبو هريرة « أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : » مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلاَّ أَنَا أَوْلَى بِهِ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ اقرْءَوا إنْ شِئْتُمْ : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } فَأَيُّمَا مؤمِن مَاتَ وتَرَكَ مالاً فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا وَمَنْ تَرَكَ دُنْيا أو ضياعاً فَلْيأْتني فَأَنَا مَوْلاَهُ « قوله : » وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ « أي مثل أمهاتهم وهو أب لهم وهن أمهات المؤمنين في تعظيم حقهن وتحريم نكاحهن على التأبيد لا في النظر إليهن ، والخلوة بهن فإنه حرام في حقهن كما في حق الأجانب قال الله تعالى : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } [ الأحزاب : 33 ] ولا يقال لبناتهن هن أخوات للمؤمنين ولا لإخوانهن وأخواتهن أخوال المؤمنين وخالاتهم وقال الشافعي : تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنه - وهي أخت أم المؤمنين ، واختلفوا في أنهن هل كن أمهات النساء المؤمنات ، قيل : كن أمهات المؤمنين جميعاً وقيل : كن أمهات المؤمنين دون النساء .
روى الشعبِيُّ عن مسروق أن امرأة قالت لعائشة يا أمه فقالت : لست لك بأم إنما أنا أمُّ رِجَالِكُمْ فدل هذا على أن معنى هذه الأمومة تحريم نكاحهن .
فصل
قال ابن الخطيب : هذا تقرير آخر ، وذلك لأن زوجة النبي - عليه السلام - ما جعلها الله في حكم الأم إلا لقطع نظر الأمة عما تعلق به غرض النبي - عليه السلام - فإذا تعلق خاطره بامرأة شاركت زوجاته في التعلق فحرمت مثل ما حرمت أزواجه على غيره . فإن قيل : كيف قال : وأزواجه أمهاتهم وقال من قبل : { ما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم } فأشار إلى أن غير من ولدت لا تصير أمّاً بوجه ، ولذلك قال في موضع آخر { إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ } [ المجادلة : 2 ] ؟ .
فالجواب : أن قوله تعالى في الآية المتقدمة : { والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } جواب عن هذا والمعنى أن الشرع مثل الحقيقة ولهذا يرجع العاقل عند تعذر اعتبار الحقيقة إلى الشريعة كما أن امرأتين ( إذا ) ادَّعَتْ كل واحدة ولداً ( بعينه ( ولم يكن لهما بينة وحلفت إحداهما دون الأخرى حكم لها بالولد فعلم أن عند عدم الوصول إلى الحقيقة يرجع إلى الشرع بل في بعض المواضع ( على المندوب ) تغلبُ الشريعة على الحقيقة فإن الزاني لا يجعل أباً لولدِ الزنا وإن كان ولده في الحقيقة وإذا كان كذلك فالشارع له الحكم فقول القائل : هذه أمي قول ( يفهم ) لا عن حقيقة ولا يترتب عليه حقيقة وأما قول الشارع فهو حق فله أن يتصرف في الحقائق كم يشاء ، ألا ترى أن الأم ما صارت أمَّا إلا بخلق الله الولد في رحمها ولو خلقه في جوف غيرها لكانت الأم غيرها فإذا كان الذي يجعل الم الحقيقة أمَّا فله أن يسمى أي امرأة أمَّا ويعطيها حكم الأمومة .
على الابن لأن الزوجية تحصل الغيرة فإن تزوج بمن كان تحت الأب يُفْضي إلى قطع الرحم والعقوق ولكن النبي - عليه الصلاة والسلام - يربي في الدنيا والأخرة فوجب أن يكون زجاته مثل زوجات الآباء .
فإن قيل : فَلِمَ لم يقل إن النبي أبوكم ويحصل هذا المعنى أو لم يقل أزواج أبيكم .
فالجواب : ان الحكمة فيه هو النبي ( عليه السلام ) ( مما بينا ) أنه إذا أراد زوجة واحدٍ من الأمة وجب عليه تركها ليتزوج بها النبي - عليه ( الصلاة و ) السلام - فلو قال : أنت أبوهم لحرم عليه زوجات المؤمنين على التأبيد ، ولأنه لام جعل أولى بهم من أنفسهم والنفس مقدمة على الأب لقوله ( - عليه السلام- ) : « ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ » ولذلك فإن المحتاج ( إلى القوت ) لا يجب عليه صرفه إلى ( الأب ويجب عليه صرفه إلى ) النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم إن أزواجه لهم حكم أزواج الأب حتى لا تحرم أولادهن على المؤمنين ولا أخواتهن ولا أمهاتهن وإن كان الكل يحرمن في الأم الحقيقة والرضاعة .
قوله : { وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله } يعني في الميراث قال قتادة : كان المسلمون يتوارثون بالهجرة قال الكلبي : إخاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الناس كان يُؤاخِي بين رجلين فإِذا مات أحَدُهُما وَرِثَهُ الأخَرُ دون عصبته حتى نزلت هذه الآية : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } في حكم الله من المؤمنين الذين آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم والمهاجرين يعني ذوي القرابات بعضهم أولى بميراث بعض من أن يرثوا بالإيمان والهجرة فنسخت هذه الآية الموارثة بالمؤاخاة والهجرة فصارت بالقَرَابة وبعضهم يجوز فيه وجهين :
أحدهما : أن يكون بدلا من أولو .
والثاني : أنه مبتدأ ، وما بعده خبر ، والجملة خبر الأول .
قوله : { فِي كِتَابِ الله } يجوز أن يتعلق « بأُولِي » إلا أن أفعل التفضيل يعمل في الظرف ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الضمير في أولو والعمل فيها أولو لأنها شبيهة بالظرف ولا جائز أن يكون حالاً ( من أولو ) للفصل بالخَبَرِ ولأنه لا عامل فيها .
قوله : « مِنَ المُؤْمِنِينَ » يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنها « من » الجارة المفضول كهي في « زَيْدٌ أَفْضَلُ مِنْ عَمْروٍ » والمعنى وأولو الأرحام أولى بالإرث من المؤمنين والمهاجرين الأجانب .
والثاني : أنها للبيان جيء بها بياناً لأولى الأرحام فيعتلق بمحذوف أي ( أَعْنِي ) والمعنى وأولو الأرحام من المؤمنين أولى بالإرْثِ من الأَجانب .
قوله : { إِلاَّ أَن تفعلوا } هذا استثناء من غير الجنس وهو مستثنى من معنى الكلام وفحواه إذا التقدير وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في الإرث وغيره لكن إذا فعلتم مع غيرهم من أوليائكم خيراً كان لكم ذلك وعدى تفعلوا ( بإلى ) لتضمنه معنى تدخلوا ، وأراد بالمعروف الوصية للذين تولونه من المُعاقِدِينَ يعني إن أوْصَيْتُم فغير الوارثين أولى وإذا لم تُوصُوا فالوارثون أولى بميراثكم وذلك أن الله لما نسخ التوارث بالحلف والهجرة وأباح أن يوصي ( لمن يتولاه ) بما أحب ثُلُثَ ماله . قال مجاهد : أراد بالمعروف المعرفة وحفظ الحُرْمَة بحق الإيمان والهجرة يعني وأولو الأرحام من المُؤِمِنِينَ والمهاجرين أولى ببعض أي لا توارث بين المسلم والكَافِرِ ولا بين المهاجر وغير المهاجر { إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً } أي إلا أن تَعْرِضُوا لذوي قُرَابَاتِكُمْ بشيء وإن كانوا من غير أهل الإيمان والهجرة وهذا قول عطاءٍ وقتادةَ وعكرمة .
فإن قيل : أي تعلق للميراث والوصية بما تقدم .
فالجواب : قال ابن الخطيب وجوابه من وجهين :
أحدهما : أن غير النبي في حال حياته لا يصير إليه مال الغير وبعد وفاته لا يصير ماله لغير ورثته والنبي - عليه السلام - في حال حياته كان يصير له مال الغير إذا أرادوه ولا يصير ماله لوَرثَتِهِ بعد وفاته فكأن الله تعالى عوض النبي عن قطع ميراثه بقدرته بأن له تملك مال الغير وعوض المؤمنين بأن ما تركه النبي يرجع إليهم حتى لا يكون حرج على المؤمنين في أن النبي ( عليه السلام ) إذا أراد شيئاً يصير له ثم يموت ويبقى لورثته فيفوت عليهم ، ولا يرجع إليهم فقال الله تعالى : { وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } يعني التوارث بينكم فيصير مال أحدكم لغيره بالإرث والنبي لا توارث بينه وبين أقاربه فينبغي أن يكون له بدل هذا وهو أنه أولى في حياته بما في أيديكم .
الثاني : أن الله تعالى ذكر دليلاً على أن النبي عليه السلام أولى فيصير أولى من قريبه فكأنه بالواقع قطع الإرث وقال هذا مالي لا ينتقل عني إلا لمن أريده فكذلك جعل الله تعالى لنبيه من الدنيا ما أراده ثم ما يفضل منه يكون لغيره ثم قال : { كَانَ ذَلِكَ فِي الكتاب مَسْطُوراً } مكتوباً .
قال القرطبي : أراد بالكتاب القرآن وهو آية المواريث والوصية وقيل : اللوح المحفوظ .
قوله : { وإذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين ميثاقهم } الآية وجه تعلق هذه الآية بما قبلها هو أن الله تعالى لما أمر النبي عليه السلام بالاتقاء وقال : { يا أيها النبي اتق الله } وأكده بالحكاية التي خشي ( فيها ) منهم ، خفّف عنه لكي لا يخشى أَحداً غيره وبين أنه لم يرتكب أمراً يوجب الخشية بقوله : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } وأكده بوجه آخر فقال : « وإذْ أَخَذْنَا » كأنه قال : اتق الله ولا تخف أاحداً واذكر أن الله ( أخذ ميثاق ) النبيين في أنهم بلغون رسالات الله ولا يمنعهم من ذلك خوف ولا طمع والمراد من الميثاق العهد الذي بينه في إرسالهم وأمرهم بالتبليغ وأن يصدق بعضهم بعضاً قال مقاتل : أخذنا ميثاقهم على أن يدعوا الناس إلى عبادته ، ويصدق بعضهم بعضاً وينصحوا لقومهم . قوله : « وإذْ » يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون منصوباً « باذكر » أي اذْكُرْ إِذْ أَخَذْنَا « .
والثاني : أن يكون معطوفاً على مَحَلِّ : » في الكتاب « فيعمل فيه » مَسْطُوراً « أي كان مسطوراً في الكتاب ( و ) وقت أَخِذِنا . قوله : { وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ } خص هؤلاء الخمسةَ بالذكر لأنهم أصحاب الكتب والشرائع وأولو العزم من الرُّسُلِ ، وقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه أولهم في كتاب الله ، » كما قال صلى الله عليه وسلم : كُنْتُ أَوَّلَ النبيّين في الخَلْقِ ، وآخِرَهم في البَعْثِ « قال قتادة وذلك قول الله عز وجل : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } فبدأ به - صلى الله عليه وسلم - قال ابن الخطيب : وخص بالذكر أربعة من الأنبياء وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، لأن موسى وعيسى كان لهما في زمان نبينا قوم وأمه فذكرهما احتجاجاً على قومهما ، وإبراهيم ( عليه الصلاة والسلام ) يقولون بفضله ( وكانوا يتبعونه في الشعائر ، ونوحاً لأنه كان أصلاً ثانياً للناس حيث وجد الخلق منه بعد الطوفان ) ، وعلى هذا لو قال قائل : فآدم كان أولى بالذكر من نوح فنقول : خلق آدم كان للعمارة ونبوته كانت مثل الأبوّة للأولاد ولهذا لم يكن في زمانه إهلاك قوم ولا تعذيب ، وأما نوحٌ فكان مخلوقاً للنبوة وأرسل للإنزال ولما كذّبوه أهلك قومه وأغرقوا ، وأما ذكرعيسى بقوله : عيسى ابن مريم والمسيح ابن مريم؛ فهو إشارة إلى أنه لا أب له ، إذ لو كان لوقع التعريفُ به .
قوله : » مِيثَاقاً غَلِيظاً « هو الأول ، وإنما كرر لزيادة صفته وإيذانا بتوكيده ، قال المفسرون : عهداً شديداً على الوفاء بما حملوا . قوله : » ليسألَ « فيها وجهان :
أحدهما : أنها لام كي أي أخذنا ميثاقهم ليسأل المؤمنين عن صدقهم والكافرين عن تكذيبهم فاستغنى عن الثاني بذكر مُسَبِبَّهِ وهو قوله : » وأَعَدَّ « ومفعول صدقهم محذوف أي صِدْقِهِمْ عَهْدَهُمْ ، ويجوز أن يكون » صِدْقِهِم « في معنى تصديقهم ومفعوله محذوف أيضاً أي عن تصديقهم الأنْبِيَاءَ .
قوله : « وأَعَدَّ » يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون معطوفاً على ما دل عليه « لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ » ؛ إذ التقدير : فأثاب الصادقين وأعد للكافرين . والثاني : أنه معطوف على « أَخَذْنَا » ح لأن المعنى أن الله أكد على النبياء الدعوة إلى دينه لإثابة المؤمنين وأعد للكافرين ، وقيل : إنه حذف من الثاني ما أثبت مُقَابِلُهُ في الأول ، ومن الأول ما أثبت مقابلهُ في الثاني والتقدير : ليسأل الصادقين عن صدقهم فأثابهم ويسأل الكافرين عما أجابوا رُسُلَهُمْ { وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً } .
فصل
قال المفسرون : المعنى أخذنا ميثاقهم لكي يسأل الصادقين عن صدقهم يعني النبيين عن تبليغهم الرسالة والحكمة في سؤالهم مع علمه أنهم صادقون بتبكيت من أرسلوا إليهم . وقيل : ليسأل الصادقين عن علمهم بالله عز وجل ، وقيل : ليسأل الصادقين بأفواههم عن صدقهم بقلوبهم .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ . . . } الآية وهذا تحقيق لما سبق من الأمر بتقوى الله بحث لا يبقى معه خوف من أحد وذلك حين حُوصِرَ المسلمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيام الخَنْدَق ، واجتمع الأحزاب واشتد الأمر على الأصحاب حيث اجتمع المشركون بأسرهم واليهود بأجمعهم ، ونزلوا على المدينة وعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - الخَنْدَق وكان الأمر في غاية الشدة والخوف بالغاً إلى الغاية والله دفع القوم عنهم من غير قتال وآمَنَهُمْ من الخوف فينبغي أن لا يخاف العبدُ غَيْرَ ربه فإنه القادر على كل الممكنات فكان قادراً على أن يقهر المسلمين بالكفار مع أنهم ضعفاء كما قهر الكافين بالمؤمنين مع قوتهم وشوكتهم .
قوله : « إذْ جَاءَتْكُمْ » يجوز أن يكون منصوباً « بنعمة » أي النعمة الواقعة في ذلك الوقت ، ويجوز أن يكون منصوباً باذْكُرُوا على أن يكون بدلاً من « نعمة » بدل اشتمال ، والمراد بالجنون الأحزاب وهم قريش وغَطفَان ، ويهود قُرَيْظَةَ والنَّضِير { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً } وهي الصَّبَا ، قال عكرمة : قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب : انطلق بنصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت الشمالُ إن الحرَّّة لا تَسْرِي بالليل فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا وروى مجاهد عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - « قال : » نُصِرتُ بالصَّبَا وأهلكَتْ عَادٌ بالدَّبورِ «
قوله : { وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } قرأ الحسن بفتح الجيم ، والعامة بضمها ، و » جُنَوداً « عطفاً على » ريحاً « و » لَمْ تروها « صفة لهم ، وروي عن أبي عمرو ، وأبي بكر » لم يَرَوْهَا « بياء الغيبة ، وهم الملائكة ولم تقاتل الملائكة يومئذ فبعث الله عليهم تلك اليلة ريحاً باردة فقلعت الأوتاد وقطعت أطنا الفَسَاطِيطِ وأطفأت النيرانَ وأَكْفَأت القُدُورَ ، وجالت الخيل بعضها في بعض وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم حتى كان سيد كل حي يقول : يا بني فلان هَلُمَّ إليَّ فإذا اجتمعوا عنده قال : النَّجَا النَّجَا أتيتم لما بعث الله عليهم من الرعب فانهزموا من غير قتال . { وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } وهذا إشارة إلى أنه الله علم التجاءكم إليه وجاءكم فضله فنصركم على الأعداء عند الاستعداد والقصة مشهورة .
قوله : » إِذْ جَاؤُوكُمْ « بدل من » إذْ « الأولى ، والحناجر جمع » حَنْجَرَةٍ « وهي رأس الغَلْصَمَةِ والغَلْصَمَة منتهى الحُلْقُومِ ، والحلقوم مجرى الطعام والشراب ، وقيل : الحلقوم مَجْرَى النفس والمريء الطعام والشراب وهو تحت الحلقوم وقال الرَّاغِبُ : رَأْسُ الغَْصَمَةِ من خارج .
قوله : » الظُّنُونا « قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر بإثبات ألف بعد نون » الظُّنُون « ولام الرسول في قوله :
{ وَأَطَعْنَا الرسولا } [ الأحزاب : 66 ] ولام السبيل في قوله : { فَأَضَلُّونَا السبيلا } [ الأحزاب : 67 ] وصلاً وَوَقْفاً موافقة للرسم؛ لأنهن رسمن في المصحف كذلك وأيضاً فإن هذه الألف تشبه هاء السكت لبيان الحركة ، وهاء السكت تثبت وَقْفاً للحاجة إليها وقد ثبتت وصلاً إجراءً للوصل مُجْرَى الوقف كما تقدم في البقرة والأنعام فكذلك هذه الألف ، وقرأ أبو عمرو وحمزةُ بحذفها في الحالين؛ لأنها لا أصل لها وقولهم : أجريت الفواصل مُجْرَى القوافي غير معتدٍّ به لأن القوافيَ يلتزم الوقف عليها غاباً ، والفواصل لا يلزم ذلك فيها فلا تُشَبَّهُ بها ، والباقون بإثباتها وقفاً وحذفها وصلاً إجراء للفواصل مُجْرَى القوافي في ثبوت ألف الإطلاق كقوله :
4069 - اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِالوَفَاءِ وَبِالعَدْلِ ... وَوَلَّى المَلاَمَةَ الرَّجُلاَ
وقوله :
4070 - أَقِلِّي اللَّوْمَ عَاذِلَ وَالعِتَابَا ... وَقُولِي إِنْ أَصَبْتُ لَقَدْ أَصَابَا
ولأنها كهاء السكت وهي تثبت وقفاً وتحذف وصلاً ، قال شهاب الدين : « كذلك يقولون تشبيهاً للفواصل بالقوافي وأنا لا أحب هذه العبارة فإِنها منكرة لفظاً » . ولا خلاف في قوله : { وَهُوَ يَهْدِي السبيل } أنه بغير ألف في الحالين .
فصل
المعنى إذْ جَاؤُوكُمْ من فوقكم أي من فوق الوادي من قبل المَشْرِق وهم « أَسَدٌ » ، وغَطَفَان عليهم مالكُ بن عَوْف النَّضرِيّ ، وعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْن الفزَاريّ في ألفٍ من غَطَفَانَ ومنهم طلحةُ بن خُوَيْلد الأسَدِيّ في بني أسد ، وحُيَيّ بن أَخْطَبَ في يهودِ بني قُرَيْظَةِ { وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ } أي من بطن الوادي من قِبَلِ المَغْرب وهم قُرَيْشٌ وكِنَانَةُ عليهم أبُو سُفْيَانَ بنُ حَرْبٍ ومن معه وأبو الأعور بن سُفْيَانَ السُّلَمِي من قبل الخندق ، وكان الذي جر غزوة الخندق فيما قيل إجلاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَنِي النَّضِير من ديارهم { وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار } مالت وشَخِصَتْ من الرعب ، وقيل : مالت عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى عدوها { وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر } فزالت عن أماكنها حتى بلغت الحُلُوق من الفَزَع ، وهذا على التمثيل عبر به عن شدة الخوف . قال الفراء معناه أنهم جَبنُوا ، سبيل الجَبَان إذا اشتد خوفه أن تَنْتَفِخَ رِئَتُهُ فإذا انتفخت الرئة رفعت القلب إلى الحنجرة ولهذا يقال للجبال : انتفخ سحره؛ لأن القلب عند الغضب يندفع وعند الخوف يجتمع فيتقلص بالحنجرة وقد يفضي إلى أن يَسُدَّ مخرج النفس فلا يقدر المرء ( أن ) يتنفس ويموت من الخوف . { وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا } وهو اختلاف الظنون ، فظن المنافقون استئصال محمد وأصحابه وظن المؤمنون النصر والظفر لهم .
فإن قيل : المَصْدَرُ لا يُجْمَعُ فما الفائدة من جمع الظنون؟
فالجواب : لا شك أنه منصوب على المصدر ولكن الاسم قد يجعل مصدراً كما يقال : « ضَرَبْتُهُ سِيَاطاً » و « أَدَّبْتُهُ مِرَاراً » فكأنه قال : ظَنَنْتُمْ ظَنّاً جاز أن يكون مصيبين فإذا قال : ظُنُوناً بين أن فيهم من كان ظنه كاذباً لأن الظنون قد تكذب كلها ، وقد تكذب بعضها إذا كانت في أمر واحد كما إذا رأى جمع جسماً من بعيد فظنه بعضهم أنه زيدٌ ، وآخرونَ أنه عمرو ، وآخرون أنه بكرٌ ، ثم ظهر لهم الحق قد يكونون كلهم مخطئين والمرئي شجر أو حجر ، وقد يكون أحدهم مصيباً ولا يمكن أن يكونوا كلهم مُصِيبِين في ظنونهم ، فقوله : « الظُّنون » فادنا ان فيهم من أخطأ الظن ، ولو قال : { تظنون بالله ظناً } ما كان يفيد هذا ، والألف واللام في « الظنون » يمكن أن تكون للاستغراق مبالغة بمعنى تظنون كل ظن ، ولأن عند الأمر العظيم كل أحد يظن شيئاً ، ويمكن أن تكون الألف واللام للعهد أي ظنونهم المعهودة؛ لأن المعهود من المؤمن ظن الخير بالله كما قاله عليه ( الصلاة و ) السلام :
« ظُنُّوا باللَّهِ خَيْراً » ومن الكافر الظن السوء كقوله تعالى : { ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ } [ ص : 27 ] وقوله : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } [ الأنعام : 148 ] .
قوله : « هُنَالِكَ » منصوب « بابْتُلِيَ » . وقيل : « بتَظُنُّونَ » واستضعفه ابن عطية وفيه وجهان :
أحدهما : أنه ظرف مكان بعيد أي في ذلك المكان الدحْضِ وهو الخَنْدق .
والثاني : أنه ظرف زمان ، وأنشد بعضهم على ذلك :
4071 - وَإِذَا الأُمُورُ تَعَاظَمَتْ وَتَشَاكَلَتْ ... فَهُنَاكَ يَعْتَرِفُونَ أَيْنَ المَفْزَعُ
« وَزُلْزِلُوا » قرأ العامة بضم الزاي الأولى ، ( وكسر الثانية على اصل ما لم يسم فاعله ، وروى غير واحد عن « أبي عمرو » كسر الأولى ) ، وروى الزمخشري عنه إشمامها كسراُ ، ووجه هذه القراءة أن يكون أتبع الزاي الأولى للثانية في الكسر ولم يعتد بالساكن لكونه غير حصين كقولهم : مِبين - بكسر الميم - والأصل ضمها .
قوله : « زِلْزَالاً » مصدر مُبَيِّن للنوع بالوصف والعامة على كسر الزاي ، وعيسى ، والجَحْدَرِيّ فتحاها وهما لغتان في مصدر الفعل المضعف إذا جاء على « فعلال » نحو : « زَلْزَال ، وقَلقالَ وصَلْصَال ، وقد يراد بالمفتوح اسم الفاعل نحو : صَلْصَال بمعنى مُصَلْصِلٌ بمعنى » مُزَلْزِل « .
فصل
قال المفسرون : معنى ابتلي المؤمنون اختبر المؤمنون بالحَصْرِ والقتال ليبين المخلص من المنافق ، والابتلاء من الله ليس لإبانة الأمر له بل لحكمة أخرى وهي أن الله تعالى عالم بما هم عليه لكنه أراد أظهار الأمر لغيره من الملائكة والأنبياء كما أن السيد إذا علم من عبده المخالفة عزم على معاقبته على مخالفته ، وعنده غير من العبيد أو غيرهم فيأمره بأمر عالماً بأنه مخالف لكي يتبين الأمر عند الغير فيقع المعاقبة على أحسن الوجوه حيث لا يقع لأحد أنه يظلم ، وقوله : { وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً } أي أزعجوا وحركوا حركة شديدة فمن ثبت منهم كان من الذين إذا ذكر الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ .
ثم قال : { وَإِذْ يَقُولُ المنافقون } معتب بن قُشَيْر ، وقيل : عبد الله بن أبي وأصحابه { والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } شك وضعف اعتقاد { مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } وهذا تفسير الظنون وبيان لها ، فظن المنافقون أن ما قال الله ورسوله كان زوراً ووعدهما كان غروراً حيث ظنوا بأن الغلبة واقعة لهم يَعِدُنَا محمدٌ فَتْحَ قُصُرِ الشام وفارسَ وأحدنا لا يستطيع أن يجاوز رحله هذا والله الغرور .
قوله : { وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ } أي من المنافقين « وهم أوس بن قيظي وأصحابه » { ياأهل يَثْرِبَ } يعني المدينة ، قال أبو عبيد ( ة ) : يَثْرِبُ : اسم أرض ومدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ناحية منها ، وفي بعض الأخبار : « أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تمسى المدينةُ يَثْرِبَ ، وقال : هي طابة » كأنه كره هذه اللفظة ، وقال أهل اللغة : يثرب اسم المدينة ، وقيل : اسم البقعة التي فيها المدينة ، وامتناع صرفها إما للعلمية والوزن أو للعلمية والتأنيث ، وأما يَتْرَب - بالتاء المثناة وفتح الراء فموضع ضع آخر باليمن ، قال الشاعر :
4072 - وَعَدْتَ وَكَانَ الخُلْفُ مِنْكَ سَجِيَّةً ... مَواعِيدَ عُزْقُوب أَخَاء بِيَتْرَبِ
وقال :
4073 - وَقَدْ وَعَدْتُكَ مَوْعِداً لوقت ... مواعيد عرقوب أخاه بيترب
{ لاَ مُقَامَ لَكُمْ } قرأ حفصٌ ، وأبو عبد الرحمن السُّلَمِيّ بضم الميم ، ونافعٌ وابنُ عامر بضم ميمة أيضاً في الدخان في قوله : { إِنَّ المتقين فِي مَقَامٍ } [ الدخان : 51 ] ولم يختلف في الأولى أنه بالفتح وهو « مقام كريم » والباقون بفتح الميم في الموضعين ، والضم والفتح مفهومان من سورة مريم عند قوله : { خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } [ مريم : 73 ] فمعنى الفتح لا مكان لكم تنزلون به وتقيمون فيه . ومعنى الضم لا إقامة لكم فارجعوا إلى منازلكم عن اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : عن القتال إلى منازلكم . { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النبي } هم بنو حارثة وبنو سلمة { إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } أي خالية ضائعة ، وهي مما يلي العدو ويخشى عليها السُّراق .
قوله : « عَورةٌ » أي ذاتُ عورة ، وقيل : منكشفة أي قصيرة الجُدْرَان للسارق وقال الشاعر :
4074 - لَهُ الشِّدَّةُ الأُولَى إِذَا القَرْنُ أَعْوَرَا ... وقرأ ابن عباس وابنَ يَعْمُرَ وقتادةُ وأبو رجاء وأبو حَيْوَة وآخرون : عَورة بكسر الواو وكذلك { وَمَا هِيَ بِعَورَةٍ } ، وهما اسم فاعل ، يقال : عَوِرَ المنزلُ : يَعْوِرُ عَوَراً وعَوِرَة فهو عَوِرٌ ، وبيوتٌ عَوِرَةٌ ، قال ابن جني : تصحيح الواو شاذ ، يعني حيث تحركت وانفتح ما قبلها ولم تقلب ألفاً ، وفيه نظر لأن شرط ذاك في الاسم الجاري على الفعل أن يعتل فعله نحومَقَامٍ ومَقَالٍ ، وأما هذا ففعله صحيح نحو عَوِرَ ، وإنما صح الفعل وإن كان فيه مقتضى الإعلال لِمَدْرَكٍ آخر وهو أنه في معنى ما لا يعلم وهو « أعور » ولذلك لم نتعجب من « عور » وبابه ، وأعْوَرَّ المَنْزِلُ : بدت عَوْرَتُهُ ، واعورَّ الفارس بدا منه خلله للضَّرْبِ قال الشاعر :
4075 - مَتَى تَلْقَهُمْ لَمْ تَلْقَ فِي البَيْتِ مُعْوَراً ... وَلاَ الصَّيْفَ مَسْجُوراً ولاَ الجَارَ مُرْسَلاً
ثم كذبهم الله تعالى فقال : { وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً } .
قوله : { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا } ولو دخل عليهم المدينة أو البيوت يعني هؤلاء الجيوش الذين يريدون قتالهم وهم الأحواب « مِنْ أقْطَارِهَا » جوانبها . وفيه لغة وتروى : أَفْتَار - بالتاء - . والقُطْرُ : الجانب أيضاً ومنه قَطَرْتُهُ أي أَلْقَيْتُهُ على قطره فَتَقَطَّرَ أي وقع عليه قال :
4076 - قَدْ عَلِمَتْ سَلْمَى وَجَاراتُها ... مَا قَطَّرَ الفَارِسَ إِلاَّ أَنَا
وفي المثل : « الانفِضَاضُ يُقَطِّرُ الجَلَب » تفسيره أن القوم إذا انفضوا أي فني زادهم احتاجوا إلى جَلْب الإِبل ، وسمي القَطْرُ قطراً لسقوطه .
قوله : « ثُمَّ سُئِلُوا » قرأ مجاهد « سُويِلُوا » بواو ساكنة ثم ياء مكسورة « كقُوتِلُوا » . حتى أبو زيد : هما يَتَسَاوَلاَن بالواو ، والحسن : سُولُوا بواو ساكنة فقط فاحتملت وجهين :
أحدهما : أن يكون أصلها : سيلوا كالعامة ، ثم خففت الكسرة فسكنت كقولهم في ضَرب - بالكسر - ضرب بالسكون فسكنت الهمزة بعد ضمة فقلبت واواً نحو : بُوسٍ في بُؤْسٍ .
والثاني : أن يكون من لغة الواو ، ونقل عن أبي عمرو أنه قرأ سِيلُوا بياء ساكنة بعد كسرة نحو : قِيلوا .
قوله : « لأتَوْهَا » قرأ نافعٌ وابنُ كثير بالقصرب بمعنى لَجَاؤُوهَا وغَشوهَا ، والباقون بالمد بمعنى لأعطوها ومفعوله الثاني محذوف تقديره : لآتوها السائلين . والمعنى ولو دخلت البيوت أو المدينة من دميع نواحيها ثم سئل أهلها الفتنة لم يمتنعوا من إعطائها ، وقراءة المد يستلزم قراءة القصر من غير عكس بهذا المعنى الخاص .
قوله : « إِلاَّ يَسيراً » أي إلا تَلَبُّثاً أو إلا زماناً يسيراً . وكذلك قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً } [ الأحزاب : 16 - 18 ] أي إلا تَمَتُّعاً أو إلا زمانا قليلاً .
فصل
دلت الآية على أن ذلك الفرار والرجوع ليس لحفظ البيوت لأن من يفعل فعلاً لغرض فإذا فاته الغرض لا يفعله فقال تعالى هم قالوا بأن رجوعنا عنك لحفظ بيوتنا ولو دخلها الأحزاب وأخذوها منهم لرجعوا أيضاً فليس رجوعهم عنك إلا بسبب كفرهم وحبهم الفتنة وهي الشرك ، { مّوَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ } أي ام تلبثوا بالمدينة أو البيوت « إلاَّ يَسِيراً » وأن المؤمنين يُخْرِجُونَهُمْ قاله الحسن ، وقيل : ما تلبثوا أي ما احْتَبَسُوا عن الفتنة - وهي الشرك - إلا يسيراً ولأسرعوا للإجابة إلى الشرك طيّبةً به أنفُسُهم وهذا قول أكثر المفسِّرين .
قوله : { وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ الله مِن قَبْلُ } أي من قبل غزوة الخندق { لاَ يُوَلُّونَ الأدبار } عدوهم أي لا ينهزمون قال يزيد بن رومان : هم بنو حارثة هموا يوم الخندق أن يَقْتَتِلُوا مع بني سلمة ، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله أن لا يعودوا لمثلها ، وقال قتادة : هم ناس كانوا قد غابوا عن واقعة بدر ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والفضيلة وقالوا لئن أَشْهَدَنَا اللَّهُ قتالاً لَنُقَاتِلَنَّ فساق الله إليهم ذلك وقال مقالت والكلبي :
« هم سبعون رجلاً جاءوا بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة وقالوا اشترط لنفسك ولربك ما شئتَ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأولادكم قالوا : وإذا فعلنا ذلك ( فما لنا يا رسول الله؟ قال : لكم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة ، قالوا : قد فعلنا فذلك ) عهدهم » ، وهذا القول ليس بمَرْضِيٍّ؛ لأن الذين بايعوا ليلة العقبة كانوا سبعين لم يكن فيهم شَاكٌّ ولا مَنْ يقول مثل هذا القول وإنما الآية في قوم عاهدوا الله أن يقاتلوا ولا يَفِرُّوا فَنَقَضُوا العهد . وهذا بيان لفساد سريرتهم وقبح سيرتهم لنقضهم العهود فإنهم قبل ذلك تخلفوا وأظهروا عذراً ونَدَماً ثم هددهم بقوله : { وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولاً } أي مَسْؤُولاً عنه .
قوله : « لاَ يُوَلُّونَ » جواب لقوله : « عَاهَدُوا » لأنه في معنى : « أقسموا » وجاء على حكاية اللفظ فجاء بلفظ الغيبة ولو جاء على حكاية المعنى لقيل : لا يُولِّي ، والمفعول الأول محذوف أي يولون العدو الأدبار . وقال أبو البقاء : ويقرأ بالتشديد تشديد النون وحذف الواو على تأكيد جواب القسم . قال شهاب الدين : ولا اظن هذا إلا غلظاً منه وذلك أنه إما أن يُقْرأ مع ذلك بلا النافية أو بلام التأكيد ، والأول لا يجوز لأن المضارع المنفي بلا لا يؤكد بالنون إلا ما نَدَرَ مما لا يقاس عليه والثاني فاسد المعنى .
قوله : « إنْ فَرَرْتُمْ » جوابه محذوف لدلالة النفي قبله عليه أو متقدم عند من يرى ذلك .
قوله : { وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } إذَنْ جواب وجزاء ، ولما وقعت بعد عاطف جاءت على الأكثر وهو عدم إعمالها ولم يشذّ هنا ما شَذَّ في الإسراء ، فلم يقرأ بالنصب ، والعامة بالخطاب في « تُمَتَّعُونَ » . وقرىء بالغيبة .
فصل
المعنى : « قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ المَوْتِ أَو القَتْلِ } الذي كتب عليكم لأن من حضر أجله مات أوقتل { وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } أي لا تمتعون بعد الفِرار إلا مدة آجالكم وهي قليل . وهذا إشارة إلى ان الأمور مقدرة لا يمكن الفرار مما قدره الله لأنه كائن لا محالة فلو فررتم لما دمتم بل لا تمتعون إلا قليلاً وهو ما بقي من آجالكم فالعاقل لا يرغب في شيء قليل يفوت عليه شيئاً كثيراً .
قوله : { مَنْ ذَا الَّذِي } تقدم في البقرة ، قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة ولا عصمة إلا من السوء؟ قلت : معناه أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة ، فاختصر الكلام وأجْرِيَ مُجْرَى قوله :
مُتَقَلِّداً سيفاً وَرُمْحاً ... أو حمل الثاني على الأول لما في العِصْمَةِ من معنى المنع قال أبو حيان : أما الوجه الأول فيه حذف جملة لا ضرورة تدعو إلى حذفها ، والثاني هو الوجه لا سيما إذا قدر مضاف محذوف أي يمنعكم من مُرَادِ الله ، قال شهاب الدين : وأين الثاني من الأول ولو كان معه حذف جُمَلٍ .
فصل
المعنى من ذا الذي يمنعكم من الله إن أراد بكم سوءاً هزيمة أو أراد بكم رحمة نُصْرَةً ، وهذا بيان لما تقدم من قوله : { لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار } وقوله : { وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } تقرير لقوله : { مَن ذَا الذي يَعْصِمُكُمْ مِّنَ الله } أي ليس لكم شفيع أي قريب ينفعكم ولا نصير ينصركم ويدفع عنكم السوء إذا أتاكم .
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
قوله : { قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ } المثَبِّطين الناس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { والقآئلين لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا } ارجعوا إلينا ودعوا محمداً فلا تشهدوا معه الحرب فإنا نخاف عليكم الهلاك ، قال قتادة : هم ناس من المنافقين كانوا يُثَبِّطُونَ أنصار النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولون لإخوانهم : إن محمداً وأصحابه لو كانوا ( لحماً لالْتَهَمُهمْ ) أبو سفيان وأصحابه دعوا الرجل فإنه هالك . وقال مقاتل : نزلت في المنافقين فإنّ اليهود أرسلوا إلى المنافقين قالوا ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سُفْيَانَ ومَنْ مَعَهُ فإنهم إن قَدِرُوا عليكم في هذه المرة لم يَسْتَبْقُوا منكم أحداً وإنّا نشفق عليكم أنتم إخواننا وجيراننا هَلُمَّ إلينا فأقبل عبد الله بن أبيٍّ وأصحابُه على المؤمنين يُعَوِّقُونَهُمْ ويُخَوِّفُونَهُمْ بأبي سفيان وبمن معه قالوا : لئن قدروا عليكم لم يستبقوا منكم أحداً ما ترجون من محمد ، ما عنده خير ما هو إلا أن يقتلنا ههُنَا انطلقوا بنا إلى إخواننا يعني اليهود فلم يزدد المؤمنون بقول المنافقين إلا إيماناً واحتساباً .
قوله : « هَلُمَّ » ( تقدّم ) الكلام فيه آخر الأنعام . وهو هنا لازم ، وهناك مُتَعَدٍّ لنصبه مفعوله وهو « شُهَدَاءَكُمْ » بمعنى أَحْضِرُوهُمْ ، وههنا بمعنى « احْضَرُوا » وتَعَالوا ، وكلام الزمخشري هنا مؤذن بأنه متعد أيضاً وحُذِفَ مفعوله ، فإنه قال : « وهَلُمُّوا إِلَيْنَا » أي قربوا أنفسكم إلينا ( قال ) : « وهي صوت سمي به فعل متعد مثل : احضَر وقَرْبْ » ، وفي تسميته إياه صوتً نظر إذا أسماء الأصوات محصورة ليس هذا منها . ولا يجمع في لغة الحجاز ويجمع في غيرها فيقال للجماعة : هَلُمُّوا وللنساء هَلْمُمْنَ .
قوله : { وَلاَ يَأْتُونَ البأس } الحرب « إِلاَّ قَلِيلاً » رياء وسمعة أي لا يقاتلون معكم ويتعللون عن الاشتغال بالقتال وقت الحضور معكم ولو كان ذلك القليل لكان كثيراً .
قوله : « أَشِحَّةً » العامة على نصبه وفيه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب على الشَّتْمِ .
والثاني : على الحال وفي العامل فيه أوجه :
أحدها : « وَلاَ يَأْتُونَ » قاله الزجاج .
الثاني : « هَلُمَّ إِلَيْنَا » . قاله الطبري .
الثالث : « يعوقون » مضمراً ، قاله الفراء .
الرابع : « المُعَوِّقِينَ » .
الخامس : « القَائِلِينَ » ورد هذان الوجهان الأخيران بأن فيهما الفصل بين أبعاض الصلة بأجنبي ، وفي الرد نظر لأن الفصل بين أبعاض الصلة من متعلقاتها ، وإنما يظهر الرد على الوجه الرابع لأنه قد عطف على الموصول قبل تمام صلته فتأمله فإنه حسن وأما « وَلاَ يَأْتُونَ » فمُعْتَرِضٌ والمُعْتَرِضُ لا يمنع من ذلك . وقرأ ابن أبي عبلة أَشِحَّةٌ بالرفع على خبر ابتداء مضمر أي هم أشحة وأشحة جمع « شَحِيحٍ » وهو جمع لا ينقاس؛ إذ قياس « فَعِيل » الوصف الذي عينه ولامه من واد واحد أن يجمع على أفعلاء نحو خَلِيلٍ وأَخِلاَّء وَظنِينٍ وأَظِنَّاء ، وضَنين وأَضِنَّاء ، وقد سمع أشِحَّاء وهو القياس .
والشُّحُّ البخل ، وقد تقدم في آل عمران .
فصل
المعنى أشحة عليكم بخلاء بالنفقة في سبيل الله والنصرة ، وقال قتادة بخلاء عند الغنيمة وصفهم الله بالبخل والجبن فقال : { فَإِذَا جَآءَ الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ } في الرؤوس من الخوف والجبن { كالذي يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت } أي كَدَوَرَانِ عين الذين يغشى عليه من الموت وذلك أن من قَرُبَ من الموت وغَشِيَتْهُ أسبابه يذهب عقله ويشخص بصره فلا يطرِفُ ، واعلم أن البخل شبيه الجبن فلما ذكر البخيل بين سببه وهو الجبن لأن الجبان يبخل بماله ولا ينفقه في سبيل الله لأنه لا يتوقع الظفر فلا يرجو الغنيمة فيقول هذا إنفاق لا بدل له فيتوقف فيه ، وأما الشجاع فيتيقن الظفر والاغتنام فيهون عليه إخراج المال في القتال طمعاً فيما هو أضعاف ذلك .
قوله : « يَنْظُرُونَ » في محل ( نصب ) حال من مفعول « رَأَيْتَهُمْ » لأن الرؤية بصرية .
قوله : « تدور » إما حال تانية وإما حال من « يَنْظُرُونَ » « كالَّذِي يُغْشَى » يجوز فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون حالاً من : « أَعْنهم » أي تدور أعينهم حال كونها مشبهة عين الذي يغشى عليه من الموت .
الثاني : أنه نعت مصدر مقدر لقوله « ينظرون » تقديره : ينظرون إليك نظراً مثلَ نظرِ الذي يغشى عليه من الموت ويؤيده الآية الأخرى : { يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت } [ محمد : 20 ] المعنى يحسبون أي هؤلاء المانفِقُونَ يحسبون الأحزاب يعني قريشاً وغَطَفَانَ واليهود « لَمْ يذهبُوا » لم ينصرفوا عن قتالهم من غاية الجبنِ عند ذهابهم كأنهم غائبون حيث لا يقاتلون كقوله : { وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قاتلوا إِلاَّ قَلِيلاً } { وَإِن يَأْتِ الأحزاب } أي يرجعون إليهم للقتال بعد الذهاب { يودوا لو أَنهم بادون في الأعراب } من الخوف والجبن .
( قوله ) : « بَادُونَ » هذه قراءة العامة جمع « باد » وهو المُقيم بالبادية يقال : بَدَا يَبْدُوا بداوةً إذا خرج إلى البَادِيةٍ ، وقرأ عبدُ الله وابنُ عباس وطلحةُ وابنُ يَعْمُرَ بُدَّى - بضم الباء وفتح الدال مشدّدة - مقصوراً كَغَازٍ وغُزّىً ، وسَارٍ وسُرّىً . وليس بقياس ، وإنما قياسه في بادٍ وبُداةٍ ، كقَاضٍ وقُضَاةٍ ، ولكن حمل على الصحيح كقولهم : « ضُرَّب » . وروي عن ابن عباس قراءة ثانية بزنة « عُدّىً » وثالثة : « بَدَوا » فعلاً ماضياً .
( قوله ) : « يَسْأَلُونَ » يجوز أن يكون مستأنفاً ، وإن يكون حالاً من فاعل « يَحْسَبُونَ » والعامة على سكون السين بعدها « همزة » ، ونقل ابن عطية عن أبي عمرو وعاصم بنقل حركة الهمزة إلى السين كقوله :
{ سَلْ بني إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم } [ البقرة : 211 ] وهذه ليست بالمشهورة عنهما ، ولعلها نقلت عنهام ذاشة ، وإنا هي معروفة بالحسن والأمش ، وقرأ زيدُ بنُ عَلِيٍّ والجَحْدَرِيُّ وقتادةُ والحَسَنُ « يَسَّاءلُونَ » بتشديد السين والأصل « يَتَسَاءَلُونَ » فأدغم ، أي يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً .
فصل
{ يسألون عن أبنائكم } أخباركم ، وما آل إليه أمركم « وَلَوْ كَانُوا » يعني هؤلاء المنافقين { فِيكُمْ مَّا قاتلوا إِلاَّ قَلِيلا } . أي يقاتلون قليلاً يقيمون به عذرهم فيقولون : قد قَاتَلْنَا ، قال الكَلْبَيُّ : « إِلاَّ قَلِيلاً » أي رمياً بالحجارة . وقال مقاتل : إلاَّ رياءً وسُمْعَةٌ من غير احتساب .
( قوله ) تعالى : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } قرأ عاصم : « أُسْوَةٌ » بضم الهمزة حيث وَقَعَتْ هذه اللفظة والباقون بكسرها . وهما لغتان كالغُدْوَةِ والغِدْوَةِ والقُدْوَةِ والقِدْوةِ والأُسْوة بمعنى الاقتداء أي قدوة صالحة ، وهي اسمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ المَصْدَرِ وهو « الايتساء » فالأسوة من الايتساء كالقُدْوَة من الاقْتِدَاء ، وائْتَسَى فُلانٌ بِفُلاَنٍ أي اقْتَدَى به ، وأسوة اسم « كان » وفي الخبر وجهان :
أحدهما : هو « لكم » فيجوز في الجار الآخر وجوه : التعلق بما يتعلق به الخبر ، أي بمحذوف على أنه حال من « أُسْوَةٍ » ؛ إذ لو تأخر لكان صفةً أو « بكان » على مذهب من يَرَاهُ .
الثاني : أن الخبر هو : « فِي رَسُولِ اللَّهِ » و « لَكُمْ » على ما تقدم في « رسول الله » أو يتعلق بمحذوف على التبيين أَعْنِي لَكُمْ .
قوله : { لِّمَن كَانَ يَرْجُو } فيه أوجه :
أحدها : أنه بدل من الكاف في « لَكُمْ » قاله الزمخشري ، ومنعه أبو البقاء ، وتابعه أبو حيان ، قال أبو البقاء : وقيل : هو بدل من ضمير المُخَاطَبِ بإعادة الجارِّ ، ومنع منه الأكثرون؛ لأن ضمير المخاطب لا يبدل منه . وقال أبو حيان : قال الزمخشري بدل من « لكم » كقوله : { استضعفوا لِمَنْ آمَنَ } [ الأعراف : 75 ] . قال : ولا يجوز على مذهب جمهور البصريين أن يبدل من ضمير المتكلم ولا من ضمير المخاطب بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة وأجاز ذلك الكوفيون والأخفش وأنشد :
4077 - بِكُمْ قُرَيْشٍ كُفِينَا كُلَّ مُعْضِلَةٍ ... وأَمَّ نَهْجَ الهُدَى مَنْ كَانَ ضِلّيلاً
قال شهاب الدين : لا نسلم أن هذا بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة ، بل بدل بعض من كل باعتبار الواقع لأن الخطاب في قوله : « لكُم » أعمّ مِن : « مَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وغَيْره » ثم خصص ذلك العموم لأن المتأَسِّيَ به عليه ( الصلاة و ) السلام في الواقع إنما هو المؤمنون ويدل عليه ما قلته ظاهر تشبيه الزمخشري هذه الآية بآية الأعراف ، وآية الأعراف البدل فيها بدل كل من كل ومجابٌ بأنه إنما قصد التشبيه في مجرد إعادة العامل .
والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة « لحَسَنَةٍ » .
والثالثك أن يتعلق بنفس « حسنة » قالهما أبو البقاء ، ومنع أن يتعلق بأسوة قال : لأنها قد وصفت و « كَثِيراً » أي ذِكْراً كَثِيراً .
فصل
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة أي قدوة صالحة أن تنصروا دين الله وتؤازروا الرسول ولا تتخلفوا عنه وتصبروا على ما يصيبكم كما فعل هو إذا كسرت رُبَاعِيَّتُهُ ، وجرح وَجْهُهُ وقتل عمه ، وأوذي بَضُروبٍ من الأذى فواساكم مع ذلك بنفسه فافعلوا أنتم كذلك أيضاً ، واستنوا بسنته { لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر } قال ابن عباس لمن كان يرجو ثواب الله . وقال مقاتل : يخشى الله واليوم الآخر أي يخشى يوم البعث الذي فيه جزاء الأعمال وذكر الله كثيراً في جميع المواطن على السراء والضراء ، ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب فقال : { وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب } لما بين حال المنافقين ذكر حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب وهو أنهم لما رأوا الأحزاب قالوا تسليماً لأمر الله وتصديقاً بوعده وهو قولهم : { هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ } ، وقولهم { وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ } ليس بإشارة إلى ما وقع فإنهم كانوا يعرفون صدق الله قبل الوقوع وإنما هو إشارة إلى بشارة وهو أنهم قالوا : { هذا مَا وَعَدَنَا الله } وقد وقع صدق الله في جميع ما وعد فيقع الكل مثل فتح مكة وفتح الروم وفارس { وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } ( عند وجوده ووعد الله إياهم ما ذكر في سورة البقرة : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة } [ الآية : 214 ] إلى قوله : { إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] فالآية تتضمن أن المؤمنين يلحقهم مثل ذلك البلاء فلما ) ( رأوا الأحزاب وما أصابهم من الشدة قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً ) أي تصديقاً لله وتسليماً له .
قوله : { وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ } من تكرير الظاهر تعظيماً لقوله :
4078 - لاَ أَرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيءٌ .. .
ولأنه لو أعادهما مضمرين لجمع بين اسم الباري تعالى واسم رسوله في لفظة واحدة فكان يقال : « وصدقا » ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد كره ذلك ورد على من قال حيث قال : مَنْ يُطِع اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى فقال له بئس خطيبُ القوم أنتَ قل : ومن يعص الله ورسوله قصداً إلى تعظيم الله . وقيل إنما رد عليه لأنه وقف على « يَعْصِهِمَا » وعلى الأولى استشكل بعضهم قوله : « حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُما » فقد جمع بينهما في ضمير واحد وأجيب : بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعرف بقدر الله منا فليس لنا أن نقول كما يقال .
قوله : « وَمَا زَادهم » فاعل « زادهم » ضمير الوعد أي وما زادهم وعد الله أو الصدق .
وقال مكي ضمير النظر لأن قوله « لما رأى » بمعنى لما نظر . وقال أيضاً : وقيل ضمير الرؤية ، وإنما ذكر لان تأنيثها غير حقيقي ولم يذكر غيرهما ، وهذا عجيب منه حيث حجَّروا واسعاً مع الغنية عنه . وقرأ ابن أبي عبلة « وما زادوهم » بضمير الجمع ، ويعود للأحزاب لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرهم أن الأحزاب يأتيهم بعد عشر أو تسع .
قوله : { مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ } ووفوا به .
قوله : « صدقوا » صدق يتعدى لاثتين لثانيهما بحرف الجر ، ويجوز حذفه ومنه المثل : « صَدَقَنِي سِنَّ بَكْرة » أي في سن . والآية يجوز أن تكون من هذا ، والأول محذوف أي صدقوا الله فيما عاهدوا الله عليه ، ويجوز أن يتعدى لواحد كقولك « صَدَقِنِي زَيْدٌ ، وكَذَبَنِي عَمْرٌوا » أي قال لي الصدق وقال الكذب ، ويكون المعاهد عليه مصدوقاً مجازاً كأنهم قالوا للشيء المعاهد عليه لنوفين بك وقد فعلوا و « ما » بمعنى الذي ، ولذلك عاد عليها الضمير في « عليه » ، وقال مكي « ما » في موضع نصب « بصدقوا » وهي والفعل مصدر تقديره « صَدَقُوا » العهد أي وفوا به . وهذا يرده عود المضير إلا أن الأخفس وابن السراج يذهبان إلى اسمية « ما » المصدرية .
( قوله ) : « قَضَى نَحْبَهُ » النحب ما التزمه الإنسان واعتقد الوفاء به قال :
4079 - عَشِيَّةَ فَرَّ الحَارِثيُّونَ بَعْدَمَا ... قَضَى نَحْبَهُ فِي مُلْتَقَى القَوْمِ هَوْبَرُ
وقال :
4080 - بِطَخْفَةَ جَالَدْنَا المُلُوكَ وَخَيْلُنَا ... عَشِيَّةَ بَسْطَامٍ جَرَيْنَ عَلَى نَحْبِ
أي على أمر عظيم ، ولهذا يقال : نحب فلان أي نذر نذراً التزمه ويعبر به عن الموت كقولهم « قَضَى أجله » لما كان الموت لا بد منه جعل كالشي الملتزم والنجيب البكاء معه صوت .
فصل
قال المفسرون معنى { صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ } أي وفوا بعهدهم الذي عاهدوا الله « فَمِنْهُمْ نَحْبَهُ » أي فرغ من نذره ووفاه بعهده فصبر على الجهاد وقاتل حتى قتل والنحيب النذر قال القُرطبي : مَنْ قَضَى نحبه أجله فقتل على الوفاء يعني حمزة وأصحابه ، وقيل : قضى نحبه أي بذل جهده في سبيل الوفاء بالعهد من قول العرب « نحب فلان في سيره يومه وليلته أجمع » إذ مد فلم ينزل { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } الشهادة يعني من بقي من المؤمنين ينتظرون أحد أمرين إما الشهادة أو النصر { وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } بخلاف المنافقين فإنهم قالوا : لا نولي الأدبار وبدلوا قولهم وولوا أدبارهم .
قوله : « لِيَجْزِيَ اللَّهُ » فيه وجهان :
أحدهما : أنها لام العلة .
والثاني : أنها لام الصيرورة ، وفيما يتعلق به أوجه إما « بصَدَقَوا » وإام « بزَادَهُمْ » وإما بمَا بَدَّلُوا وعلى هذا قال الزمخشري : جعل المنافقون كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بتبديلهم كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم لأن كلا الفريقين مسوقٌ إلى عاقبته من الثواب والعقاب فكأنهما استويا في طلبهما والسعي لتحصيلها ، والمعنى ليجزي الله الصادقين بصدقهم أي جزاء صدقهم وهو الوفاء بالعهد .
{ وَيُعَذِّبَ المنافقين إِن شَآءَ } أي الذين كذبوا وأخلفوا ، وقوله : « إنْ شَاءَ » ذلك فيمنعهم من الإيمان أو يتوب عليهم إن أراد ( « واو » ) وجواب إن شاء مقدر وكذلك مفعول « شاء » أي إن شاء تعذيبَهم عَذَّبهم ، فإن قيل : عذبهم متحتم فكيف يصح تعليقه على المشيئة وهو قد شاء تعذيبهم إذا ماتوا على النفاق؟! . فأجاب ابن عطية بأن تعذيب المنافقين ثمرة إدامتهم الإقامة على النفاق إلى موتهم ، والعقوبة موازية لتلك الإقامة وثمرة التوبة تركهم دون عذاب فهما درجتان إقامة على نفاق ، أو توبة منه وعنهما ثمرتان تعذيب أو رحمة فذكر تعالى على جهة الإيجاز واحدةً من هاتين وواحدة ( من هاتين ) ما ذكر على ما ترك ذكره ، ويدل على أن معنى قوله : « ليُعَذِّب » ليديم على النفاق ، قَوْلُهُ : « إنْ شَاءَ » ومعادلته بالتوبة وحرف « أو » . قال أبو حيان وكان ما ذكر يؤول إلى أن التقدير : ليقيموا على النفاق فيموتوا عليه إن شاء فيعذبهم أو يتوب عليهم فيرحمهم فحذف سبب التعذيب وأثبت المسبَّب وهو التعذيب ، وأثبت سبب الرحمة والغفران وحذف المسبب وهو الرحمة والغفران ، وقال ابن الخطيب إنما قال ذلك حيث لم يكن قد حصل ما بين النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إيمانهم وآمن بعد ذلك ناس { وكان الله غفوراً } حيث ستر ذنبهم و « رحيماً » حيث رحمهم ورزقهم الإيمان فيكون هذا فيمن آمن بعده . أو نقول « ويعذب المنافقين » مع أنه كان غفوراً رحيماً لكثرة ذنوبهم وقوة جرمهم ولو كان دون ذلك لغفر لهم ثم بين بعض ما جزاهم الله على صدقهم فقال : { وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ } وهم قريش وغطفان ردّهم بغيظهم لم تُشْفَ صدورهم بنيل ما أرادوا لم ينالوا خيراً « ظفراً » وَكَفَى اللَّهُ المؤمنين القِتَال بالملائكة والريح أي لم يحوجهم إلى القتال { وكان الله قوياً } في ملكه غير محتاج إلى قتالهم « عزيزاً » في انتقامه قادراً على استئصال الكفار .
قوله : « بغَيْظِهِمْ » يجوز أن تكون الباء سببية وهو الذي عبر عنه أبو البقاء بالمفعول أي أنها مُعَدِّية .
والثاني : أن تكون للمصاحبة فتكون حالاً أي مَغِيظِينَ .
قوله : { لم ينالوا خيراً } حال ثانية أو حال من الحال الأولى فهي متداخلة ، ويجوز أن تكون حالً من الضمير المجرور بالإضافة .
وجوز الزمخشري فبها أن تكون بياناً للحال الأولى أي مستأنفة ، ولا يظهر البيان إلا على البدل والاستئناف بعيد .
قوله : « وَأَنْزَلَ الذينَ » أي أنزل الله الذين « ظَاهَرُوهُمْ » أي عاونوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين وهم بنو قريظة .
قوله : { مِّنْ أَهْلِ الكتاب } بيان للموصول فيتعلق بمحذوف ، ( ويجوز أن يكون حالاً ) « من صَياصِيهِمْ » متعلق « بأنزل » و « من » لابتداء الغاية ، والصياصي جمع صِيصِيَةٍ وهي الحصون والقلاع والمعاقل ويقال لكل ما يمتنع به ويتحصن « صِيصِيَةٌ » ومنه قيل لقَرْن الثَّوْرِ ولشوكة الديك : صِيصِيَة ، والصّيَاصِي أيضاً شوك الحكة ، ويتخذ من حديد قال دُرَيْدُ بنُ الصِّمَّةِ :
4081 - . . ... كَوَقْعِ الصَّيَاصِي في النَّسِيجِ المُمَدَّدِ
قوله : { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب } حتى سلموا أنفسهم للقتل وأولادهم ونساءهم للسبي .
قوله : « فريقاً تقتلون » منصوب بما بعده وكذلك « فريقاً » منصوب بما قبله ، والجملة مبينة ومقررة لقذف الرعب في قلوبهم والعامة على الخطاب في الفعلين ، وابن ذكوان - في رواية - بالغيبة فيهما ، واليماني بالغيبة في الأول فقط ، وأبو حيوة « تَأْسُرُونَ » بضم السين .
فإن قيل : ما فائدة التقديم المفعول في الأول حيث قال : تقتلون وتأخيره حيث قال « وتأسرون فريقاً؟! .
فالجواب : قال ابن الخطيب إن القائل يبدأ بالأهم فالأهم والأقرب فالأقرب والرجال كانوا مشهورين وكان القتل وارداً عليهم والأسراء كانوا هم النساء والذَّرَارِي ولم يكونوا مشهورين ولاسبي والأسر أظهر من القتل لأنه يبقى فيظهر لكل أحد أنه أسير فقدم من المحلَّين ما هو أشهر على الفعل القائم به ومن الفعلين ما هو أشهر قدمه على المحل الخفي ووجه آخر وهو أن قوله » فريقاً تقتلون « فعل ومفعول والأصل في الجمل الفعلية تقديم الفعل على المفعول والفاعل أما أنها جملة فعلية فلأنها لوكانت اسمية لكان الواجب في » فريق « الرفع ، كأنه يقول فريق منهم تقتلونهم ( فلما نصب كان ذلك بفعل مضمير يفسره الظاهر تقديره : » تقتلون فريقاً تقتلون « ) والحامل على مثل هذا الكلام شدة الاهتمام ببيان المفعول ، وههنا كذلك لأنه تعالى لما ذكر حال الذين ظاهروهم وأنه قد قذف في قلوبهم الرعب فلو قال : تقتلون أوهم أن يسمع السامع مفعول » تقتلون « سبق في قلوبهم الرعب إلى سمعهم فيستمع إلى تمام الكلام ، وإذا كان الأول فعلاً ومفعولاً قدم المفعول لفائدة عطف الجملة الثانية عليها على الأصل ( فعدم ) تقديم الفعل لزوال موجب التقديم إذ عرف حالهم وما يجيء بعده يكون مصروفاً إليهم فلو قال بعد ذلك : » وَفَريقاً تأسرون « فمن سمع » فريقاً « ربما يظن أنه يقال فيهم يطلقون أو لا يقدرون عليهم فكان تقديم الفعل ههنا أولى وكذا الكلام في قوله : { وَأَنزَلَ الذين ( ظَاهَرُوهُم ) } ( ظَاهَرُوهُمْ ) وقوله : » قذف « ، فإن قذف الرعب قبل الإنزال لأن الرعب صار سبيل الإنزال ولكن لما كان الفرح في إنزالهم أكثر قدم الإنزال على قذف الرعب والله أعلم .
فصل
فريقاً تقتلون هم الرجال قيل : كانوا ستمائة ، و « تأسرون فريقاً » وهم النساء والذراري ، قيل : كانوا سبعمائة وخمسين ، وقيل تسعمائة { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا } بعد؛ قال ابن زيد ومقاتل يعني خيبر وقال قتادة . كنا نحدث أنها مكية ، وقال الحسن : فارس والروم وقيل : القلاع وقال عكرمة : كل أرض تفتح إلى يوم القيامة .
قوله : « لم تَطَئُوها » الجملة صفة « لأرضاً » والعامة على همزة مضومة ثم واو ساكنة ، وزيد بن علي « تَطَوْهَا » بواو بعد طاء مفتوحة ووجهها أنها كبدلِ الهمزة ألفاًعلى الإسناد كقوله :
4082 - إنَّ الأُسُودَ لَتُهْدَى في مَرَابِضِهَا .. . . .
فلما أسنده للواء التقى ساكنان محذوف أولهما نحو « لم تَرَوْهَا » وهذا أحسن من أن تقول ثم أجرى الألف المبدلة من الهمزة مجرى الألف المتأصلة فحذفها جزماً لأن الأحسن هناك أن لا يحذف اعتداداً بأصلها ، واستشهد بعضهم على الحذف بقول زهير :
4083 - جَرِيء مَتَى يُظْلَمُ يُعَاقَبْ بظُلْمِهِ ... سَرِيعاً وإِلا يُبْدَ بالظُّلْمِ يَظْلِم
قوله : { وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } هذا يؤكد قول من قال : إن المراد من قوله { وأرضاً لم تطؤوها } ما يؤخذ بعد من بني قريظة لأن الله تعالى لما ملكهم تلك البلاء ووعدهم بغيرها دفع استبعاد من لا يكون قوي الاتكال على الله تعالى وقال أليس الله ملككم هذه فهو على كل شيء قدير يملككم غيرها ، روى أبو هريرة - « أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : » لا إله إلا الله وحده ، أعزَّ جنده ، ونصر عبده ، وغلب الأحزاب وحدَه ، فلا شيء بعده . «
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)
قوله تعالى : { ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا } الآية وجه التعلق ( هو ) أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وإلى هذا أشار عليه ( الصلاة و ) السلام بقوله : « الصَّلاَةَ وَمَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ » ، فاللَّه ( تعالى لما ) أرشد نبيه إلى ما يتعلق بجانب التعظيم لله بقوله : { يأيها النبي اتق الله } [ الأحزاب : 1 ] ذكره ما يتعلق بجانب الشفقة وبدأ بالزوجات فإنهن أولى الناس بالشفقة ولهذا قَدَّمَهُنَّ في النفقة .
فصل
قال المفسرون : سبب نزلو هذه الآية نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ( سَأَلْنَهُ ) عن عرض الدنيا ( شيئاً ) وطلبن منه زيادة في النفقة وآذينه بغيرة بعضهن على بعض فهجرهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآلى أن لا يقربهن شهراً ولا يخرج إلى أصحابه فقالوا ما شأنه وكانوا يقولون طلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه فقال عمر : لأعلَمنَّ لكم شأنه قال : فدخلت على رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت يا رسول الله : أطلقتهن قال : لا ، فقلت : يا رسول الله إني دخلت المسجد والمسلمون يقولون طلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن قال : نعم إنْ شِئْتَ فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه ونزلت هذه الآية : { وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [ النساء : 83 ] فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر وأنزل الله آية التخيير وكانت تحت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ تسعُ نسوة خمسٌ من قريش عائشةُ بنت أبي بكرن وحفصةُ بنت عمر ، وأمُّ حبيبةَ بنتُ أبي سفيانَ وأمّ سلمةَ بنت أمية ، وسودةُ بنت زَمْعة وغير القرشيات زينب بنتُ جحش الأسدية ، وميمونةُ بنت الحارث الهلالية وصفية بنت حُيَيّ بن أخطب الخَيْبريَّة وجُوَيْرِيةُ بنت الحارث المُصْطَلِقيَّة ، فلما نزلت آية التخيير بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعائشة وكانت أحبهن إليه فخيرها فقرأ عليها ( القرآن ) فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة . ورُؤي الفرح في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتابعنها على ذلك ، قال قتادة فلما اخْتَرْن الله ورسوله شكرهن الله على ذلك وقصره عليهن فقال : { لاَ تَحِلُّ لَكَ النِّسَاْءُ مِنْ بَعْدُ } . وعن جابر بن عبد الله قال : « دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد الناس جلوساً ببابه لم يؤذن لواحد منهم قال : فأذن لأبي بكر فدخل ثم اقبل عمر فاستأذن فأذن له فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - جالساً حوله نساؤه واجماً ساكناً قال : فقال : لأقولَنَّ شيئاً أُضْحِكُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فَوَجأْتُ عنقها فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : هن حولي كما ترى يسألنني النفقة فقام أبو بكر إلى عائشة يَجَأُ عُنُقَها وقام عمر إلى حفصة يَجَأُ عنقها كلاهما يقول : تسألن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً أبداً ليس عنده ثم اعتزلهن شهراً أو تسعاً وعشرين يوماً ثم نزلت هذه الآية : { ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ } حتى بلغ { لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً } قال : فبدأ بعائشة فقال : يا عائشة إني أعرض عليك أمراً لا أحب أن تعجلي حتى تستشيري أبويك ، قالت : وما هو يا رسول الله فتلا عليها الآية فقالت : أفيك يا رسول الله أستشير أَبَويَّ بل اختار الله ورسوله والدار الآخرة وسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت ، قال : لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها أنّ الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً مبشراً »
، ورى الزهري « أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهراً » قال الزهري : فأخبرني عروة « عن عائشة قالت : فلما مضت تسعٌ وعشرونَ أعُدُّهن دخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : بدأ بي فقلت : يا رسول الله إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهراً وإنك دخلت من تسع وعشرين أعدهن فقال : إن الشهر تسع وعشرون »
فصل
اختلف العلماء في هذا الخيار هل كان ذلك تفويض الطلاق إليهن حتى يقع بنفس الاختيار أم لا؟ فذهب الحَسَنُ وَقَتَادة وأكثر أهل العلم إلى أنه لم يكن تفويض للطلاق ، وإنما خيرهن على أنهن إذا اخترن الدنيا فارقهن لقوله تعالى : { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ } ويدل عليه أنه لم يكن جوابهن على الفور فإنه قال لعائشة : « لا تعجلي حتى تَسْتَشَيري أبوَيْك » وفي تفويض الطلاق يكون الجواب على الفور . وذهب آخرون إلى أنه كان تفويضَ طلاق ولو اخترن أنفسهن كان طلاقاً ، واختلف العلماء في حكم التخيير فقال عمر وابن مسعود وابن عباس إذا خير رجلٌ امرأته فاختارت زوجها لا يقع شيء ، ولو اختارت نفسها وقع طلقة واحدة وهو قول عمر بن عبد العزيز وابنُ أبي ليلى وسفيان والشافعي وأصحاب الرأي إلا ان عند أصحاب الرأي تقع طلقةٌ بائنةً إذا اختارت نفسها ، وعند الآخرين رجعيةٌ ، وقال زيد بن ثابت : إذا اختارت الزوج يقع طلقة واحدةً وإذا اختارت نفسها فثلاثٌ وهو قول الحسن ، وروايةً عن مالك .
وروي عن علي أيضاً أنها إذا اختارت زوجها يقع طلقة واحدة وإذا اختارت نفسها فطلقة ثانية ، وأكثر العلماء على أنها إذا اختارت زوجها لا يقع شيء لما روت عائشة قالت : « خيرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاخترنا الله ورسوله فلم يعد ذلك شيئاً »
قوله : « أُمَتَّعْكُنَّ وأُسَرِّحْكُنَّ » العامة على جزمهما ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه مجزوم على جواب الشرط ، وما بين الشرط وجوابه معترض ، ولا يضر دخول الفاء على جملة الاعتراض ومثله في دخول الفاء قوله :
4084 - وَاعْلَمْ فَعِلْمُ المَرْءِ يَنْفَعهُ ... أَنْ سَوْفَ يَأْتِي كُلُّ مَا قُدِرَا
يريد : واعلم أن سوف يأتي .
والثاني : أن الجواب قوله « فتعالين » و « أمتعكن » جواب لهذا الأمر ، وقرأ زيد بن علي « أُمْتِعْكُنَّ » ، بتخفيف التاء من « أمته » وقرأ حُمَيْد الحَزَّاز « أُمَتِّعُكُنَّ وَأُسَرِّحُكُنَّ » بالرفع فيهما على الاستئناف و « سَرَاحاً » قائم مقام التَّسريح .
فصل
قال ابن الخطيب : وههنا مسائل منها هل كان هذا التخيير واجباً على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أم لا والجواب أن التخيير كان قولاً واجباً من غير شك لأنه إبلاغ للرسالة لأن الله تعالى لما قال ( له ) : « قل لهم » صار من الرسالة ، وأما التخيير معنى فمبني على أن الأمر للوجوب أم لا ، والظاهر أنه للوجوب ومنه أن واحدة منهم لو اختارت الفراق هل كان يصير اختيارها فراقاً . والظاهر أنه لا يصير فراقاً وإنما تبيين المختارة نفسها فإنه من جهة النبي عليه السلام لقوله : { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } ومنها أن واحدة منهن لو اختارت نفسها وقلنا إنها لا تبين إلا بإبانة النبي - صلى الله عليه وسلم - فهل كان يجب على النبي عليه ( الصلاة و ) السلام الطلاق أم لا؟ الظاهر نظراً إلى منصبه عليه ( الصلاة و ) السلام أنه كان طلاقاً لأن الخُلْفَ في الوعد من النبي غير جائز بخلاص أحدنا فإنه لا يلزمه شرعاً الوفاء بما يعد ، ومنها أن المطلقة بعد البينونة هل كانت تحرم على غيره أم لا؟ والظاهر أنها لا تحرم وإلا لم يكن التخيير ممكناً لها من التمتع بزينة الدنية ومنها أن من اختارت الله ورسوله هل كان يحرم على النبي عليه ( الصلاة و ) السلام طلاقها أم لا؟ الظاهر الحرمة نظراً إلى منصب الرسول عليه السلام على معنى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يمتنع منه أصلاً لا بمعنى أنه لو أتى به لعُوقِب أو لعُوتِبَ .
قوله : { أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ } أي من عمل صالحاً منكن كقوله تعالى : { وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله وَهُوَ مُحْسِنٌ } [ لقمان : 22 ] والأجر العظيم : الكثير الزائد في الطول وفي العرض وفي العمق حتى لو كان زائداً في الطول يقال له طويل ولو كان زائداً في العرض يقال له : عريض وكذلك العميق فإذا وجدت ( منه ) الأمور الثلاثة قيل عظيم ، فيقال : جبل عظيم إذا كان عالياً ممتداً في الجهات ، وإن كان مرتفعاً حيث يقال : جبل عال .
=================
ج58. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
إذا عُرف هذا فأجر الدنيا في ذاته قليل وفي صفاته غير خال عن وجهة قبح لما في مأكوله ومشروبه من الضرر وغيره ، وأيضاً فهو غير دائم ، وأجر الآخرة كثير خالٍ عن جهات القبح دائم فهو عظيم .
قوله تعالى : { يانسآء النبي مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ . . . } الآية العامة على « يأت » بالياء من تحت حملاً على لفظ « مَنْ » لأن « مَنْ » أداة تقوم مقام الاسم يعبر به عن الواحد والجمع ( و ) المذكر والمؤنث ، وزيدُ بن علي ، والجَحْدَريُّ ، ويعقوب بالتاء من فوق حملاً على معناها لأنه يرشح بقوله : « منْكُنَّ » حال من فاعل « يأْتِ » وتقدم القراءة في « مبينة » بالنسبة لكسر الياء وفتحها ، في النساء .
قوله : « يضاعف » قرأ عمرو « يَضَعَّف » - بالياء من تحت وتشديد العين مفتوحة على البناء للمفعول - العذابُ بالرفع لقيامة مقام الفاعل ، وقرأ ابن كثير وابن عامر « يُضَعِّف » - بنون العظمة وتشديد العين مكسورة على البناء للفاعل - العَذَابَ بالنصب على المفعول به وقرأ الباقون « يُضَاعَف » من المفاعلة مبنياً للمفعول العذابُ بالرفع لقيامه مقام الفاعل ( وقد ) تقدم توجيه التضعيف والمضاعفة في سورة البقرة .
فصل
قال ابن عباس المراد هنا بالفاحشة النشوز وسوء الخلق ، وقيل : هو كقوله تعالى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] . واعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خير نساءه واخترن الله ورسوله أدبهن الله وهددهن بالتوقي عما يسوء النبي ويقبح بهن من الفاشحة التي هي أصعب على الزوج من كل ما يأتي به زوجته وأوعدهن بتضعيف العذاب وفيه حكمتان .
إحدهما : أن زوجة الغير تعذب على الزنا بسبب ما في الزنا من المفاسد وزوجة النبي تعذب إن أتت به لذلك ليذاء قلبه والإزراء بمَنْصِبِه وعلى هذا بنات النبي عليه السلام كذلك ولأن امرأة لو كانت تحت النبي عليه السلام وأتت بفاحشة تكون قد اختارت غير النبي على النبي ويكون ذلك الغير خيراً عندها من النبي وأولى والنبي أولى من النفس التي هي أولى من الغير فقد نزلت منصب النبي مرتبتين فتعذب من العذاب ضعفين .
وثانيهما : أن هذا إشارة إلى شرفهن ، لأن الحرة عذبها ضعف عذاب الأمة إظهاراً لشرفها ونسبة النبي إلى غيره من الرجال نسبة السادات إلى العبيد لكونه أولى بهم من أنفسهم فكذلك زوجاته اللائي هن أمهات المؤمنين ، وأم الشخص امرأة حاكمة عليه واجبة الطاعة وزوجته مأمورة محكومة له وتحت طاعته فصارت زوجة الغير بالنسبة إلى زوجة النبي عليه السلام كالأَمَةِ بالسنبة إلى الحرة ، واعلم أن قول القائل من يفعل ذلك في قوة قوله : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } من حيث إن ذلك ممكن الوقوع في أول النظر ولا يقع في بعض الصور جزماً وفي بعض ( يقعُ ) جزماً ، وفي البعض يتردد السامع في الأمرين ، فقوله تعالى : { مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ } من القبيل الأولى فإن الأنبياء صار الله زوجاتهم عن الفاحشة ثم قال : { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً } أي ليس كونكن تحت النبي عليه السلام وكونكنّ شريفات جليلات مما يدفع العذاب عنكن فليس أمر الله كأمر الخلق حيث يتعذر عليهم تعذيب الأعزة بسبب كثرة أوليائهم وأعوانهم وشفعائهم وإخوانهم .
قوله : { وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ } أي يطع الله ورسوله وهذا بيان لزيادة ثوابهن كما بين زيادة عقابهن { نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } في مقابلة قوله : { يضاعف لها العذاب ضعفين } وفيه لطيفة وهي أن عند إيتاء الأجر ذكر الموفي وهو الله وعند العذاب لم يصرح بالعذاب فقال : « يضاعف » وهذا إشارة إلى كمال الرحمة والكرم . قوله : { وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَآ } قرأ الأخوان « ويَعْمَلْ ويُؤْتِ » - بالياء من تحت فيهما ، والباقون « وتعمل » بالتاء من فوق و « نُؤْتها » بالنون ، فأما الياء في « ويعمل » فلأجل الحمل على لفظ « من » وهو الأصل والتاء من فوق على معناها إذا المراد بها مؤنث ويرشح هذا قتدم لفظ المؤنث وهو « منكنّ » ومثله قوله :
4085 - وإِنَّ مِنَ النِّسْوَانِ مَنْ هِيَ رَوْضَةٌ .. .
لما تقدم قوله « من النِّسْوان » يرجع المعنى فحمل عليه ، وأما « يؤتها » بالياء من تحت فالضمير لله تعالى لقتدمه في « لله ورسوله » وبالنون فهي نون العظمة ، وفيه انتقال من الغيبة إلى التكلم ، وقرأ الجَحْدَريُّ ويعقوبُ وابن عامر - في رواية - وأبو جعفر وشيبة : « تَقْنُتْ » بالتاء من فوق حملاً على المعنى وكذلك « وَتَعْمَلْ » . وقال ابو البقاء : إن بعضهم قرأ « وَمَنْ تَقْنُتُ » بالتأنيث حملاً على المعنى وَيَعْمَلْ بالتذكير حملاً على اللفظ قال : فقال بعض النحويين : هذا ضعيف لأن التذكير أصل فلا يجعل تبعاً للتأنيث وما عللوه به قد جاء مثله في القرآن قال تعالى : { خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا } [ الأنعام : 139 ] .
فصل
معنى أجْرَهَا مَرَّتَيْن أي مثل أجر غيرها ، قال مقاتل : مكان كل حسنةٍ عشرون حسنةً { وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً } يعني الجنة ، ووصف رزق الآخرة بكونه كريماً مع أن الكرم لا يكون وصفاً إلا للرزاق ، وذلك إشارة إلى أن الرزق في الدنيا مقدر على أيدي الناس ، التاجر يسترزق من السوقة ، والعاملين والصناع من المتعلمين والملوك من الرعية منهم ، فالرزق في الدنيا لا يأتي بنفسه وإنما هو مستمر للغير يمسكه ويرسله إلى الأغيار ، وأما في الآخرة فلا يكون له ممسك ومرسل في الظاهر فهو الذي يأتي بنفسه فلأجل هذا لا يوصف في الدنيا بالكريم إلا الرازق وفي الآخر يوصف بالكريم نفس الرزق .
قوله : { يانسآء النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء } قال الزمخشري : « أحد » في الأصل يعني وَحَد وهو الواحد ، ثم وضع في النفي العام مستوياً فيه المذكر والمؤنث ، والواحد وما وراءه والمعنى لستن كجماعة واحدة من جماعة النساء ( أي ) إذا تَقَصَّيْتُ جماعات النساء واحدةً واحداةً لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة . ومنه قوله عز وجل { والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } [ النساء : 152 ] يريد بين جماعة واحدة منهم تسوية بين جميعهم في أنهم على الحق البين . قال أبو حيان أما قوله : « أحَد » في الأصل بمعنى « وحد » وهو الواحد فصحيح ، وأما قوله : وضع إلى قوله وما وراءه . فليس بصحيح ، لأن الذي يستعمل في النفي العام مدلوله غير مدلول واحد لأن « واحد » ينطلق على شيء اتصف بالوحدة « وأَحَداً » المستعمل في النفي العام مختص بمن يعقل ، وذكر النحويون أن مادَّته همزةٌ وحاءٌ ودالٌ ومادة « أحد » بمعنى واحد واو وحاء ودال فقد اختلفا مادة ومدلولاً ، وأما قوله : « لَسْتُنَّ كجماعة واحدة » فقد قلنا إن معناه ليست كل واحدة منكن فهو حكم على كل واحدة لا على المجموع من حيث هو مجموع ، وأما { وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } فيحتمل أن يكون الذي يستعلم في النفي العام ولذلك جاء في سياق النفي فعم وصلحت التثنية للعموم ، ويحتمل أن يكون « أحدٌ » بمعنى « واحد » وحذفَ معطوفٌ ، أي بين أحدٍ وأحدٍ ( كما قال : )
4086 - فَمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْر لَوْ جَاءَ سَالِماً ... أبُو حَجَرٍ إِلا لَيَالٍ قَلاَئِلُ
أي بين الخير وبيني انتهى ، قال شهاب الدين « أما قوله فإنهما مختلفان مدلولاً ومادة فمسَلَّم ، ولكن الزمخشري لم يجعل أحداً الذي أصله واحد - بمعنى أحد المختص بالنفي ، ولا يمنع أن » أحداً « الذي أصله » واحد « أن يقع في سياق النفي ، وإنما الفارق بينهما أن الذي همزته أصل لا يستعمل إلا في النفي كأخواته في غريب ، وكَيْتَع ودَابِر ، وتامر والذي أصله واحد يجوز أن يستعمل إثباتاً ونفياً وأيضاً المختص بالنفي مختص بالعقلاء ، وهذا لا يختص ، وأما معنى النفي فإنه ظاهر على ما قاله الزمخشري من الحكم على المجموع ولكن المعنى على ما قاله أبو حيان أوضح وإن كان خلاف الظاهر » .
قوله : « إن اتَّقَيْتُنَّ » في جوابه وجهان :
أحدهما : أنه محذوف لدلالة ما تقدم عليه أي إِن اتَّقَيْتُنَّ اللَّهُ فَلَسْتُنَّ كَأَحدٍ ، فالشرط قيد في نفي أن يشبَّهْنَ بأحد من النساء .
والثاني : أن جوابه قوله « فَلاَ تَخْضَعْنَ » والتقوى على بابها ، وجوز أبو حيان على هذا أن يكون « اتَّقَى » بمعنى اسْتَقْبَلَ أي استقبلتن أحداً فلا تُلِنَّ له القول ، واتَّقَى بمعنى استقبل معروف في اللغة ، وأنشد :
4087 - سَقَطَ النَّصِيفُ ولم تُرِد إِسْقَاطَهُ ... فَتَنَاوَلَتْهُ واتَّقَتُنَا بِاليَدِ
أي واستقبلتنا باليد قال : « ويكون على هذا المعنى أبلغ من مدحهن؛ إذ لم يعلق فضيلتهن على التقوى ولا على نهيه عن الخضوع بها إذْ هنّ متقيات لله في أنفسهن ، والتعليق يقتضي ظاهره أنهن لسن متحليات بالتقوى ، قال شهاب الدين : هذا خروج عن الظاهر من غير ضرورة وأما البيت فالاتِّقاءُ أيضاًعلى بابه أي صانت وجهها بيدها عنا .
قوله : » فَيَطْمَعَ « العامة على نصبه جواباً للنهي ، والأعرج بالجزم فيكسر العين لالتقاء الساكنين وروي عنه وعن أبي السَّمَّال وعيسى بن عمر وابن مُحَيْصِن بفتح الياء وكسر الميم ، وهذا شاذ حيث توافق الماضي والمضارع في حركة . وروى عن الأعرض أيضاً أنه قرأ بضم الياء وكسر الميم من » أَطْمَع « وهي تحتمل وجهين :
أحدهما » أن يكون الفاعل ضميراً مستتراً عائداً ععلى الخضوع المفهوم من الفعل و « الذي » مفعوله أي لا تخضعن فيطمع الخضُوع المريضَ القلبِ ، ويحتمل أن يكون « الذي » فاعلاً ، ومفعوله محذوف أي فيطمع المريض نفسه .
فصل
قال ابن عباس : معنى لسْتُنَّ كأحد من السناء يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات أنتن أكرم عليّ ، وثوابكن أعظم لَدَيَّ ، ولم يقل كواحد لأن الأحد عام يصلح للواحد ، والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث ، قال تعالى : { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } [ البقرة : 285 } وقال : { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [ الحاقة : 47 ] وقوله : « إِنْ اتَّقَيْتُنَّ » الله فأطعتنّه ولما منعهن من الفعل القبيح منعهن من مقدماته وفي المحادثة مع الرجال فقال : { فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول } أي تُلِنَّ القولَ للرجال ، ولا ترفضن الكلام { فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } أي فسق وفجور وشهوة ، وقيل : نِفاق أي لا تقولن قولاً يجدُ منافقٌ أو فاجرٌ به سبيلاً إلى المطامع فيكُنَّ والمرأة مندوبة إلى الغلظة في المقالة إذا خاطبت الأجانب لقطع الأطماع { وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } أي ذكر الله وما تحتجن إليه من الكلام مما يوجب الدين والإسلام بتصريح أو بيان من غير خضوع .
قوله : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } قرأ نافعٌ وعاصمٌ بفتح القاف والباقون بكسرها ، فأما الفتح فمن وجهين :
أحدهما : أنه أمر من قَرِرْتُ - بكسر الراء الأولى - في المكان أَقَرُّ به - بالفتح - فاجتمع راءان في : « اقرَرْنَ » فحذفت الثانية تخفيفاً ، ونقلت حركة الراء الأولى إلى القاف فحذفت همزة الوصل استغناء عنها فصار « قَرْنَ » على وزن « فَعْنَ » فإن المحذوف هو اللام لأنه حصل أخرى ساكنة فحذفت الأولى لالتقاء الساكنين ، ووزنه على هذا « فَلْنَ » فإن المحذوف هو العين ، وقال أبو علي : أبدلتِ الراءُ الأولى ياءً ونقلت حركتها إلى القاف ، فالتقى ساكنان فحذفت الياء لالتقائهما ، فهذه ثلاثة أوجه في توجيه أنها أمر من « قَررتُ بالمكانِ » .
والوجه الثاني : أنها أمر من « قَارَ - يَقَارُ- » كخَافَ يَخَافُ إذا اجتمع ، ومنه « القَارَةُ » لاجتماعها ، فحذفت العين لالتقاء الساكنين ، فقيل : « قِرْنَ » « كخِفْنَ » ووزنه على على هذا أيضاً : فلْنَ ، إلا أن بعضهم تكلم في هذه القراءة من وجهين :
أحدهما : قال أبو حاتم يقال : قَرَرْتُ بالمَكانِ - بالتفح - أَقِرُّ به - بالكسر - وقِرَّت عَيْنُهُ - بالكسر - تَقَرُّ - بالفتح - فكيف تقرأ وقرن بالفتح؟! والجواب عن هذا أنه قد سمع في كل منهما الفتح والسكر ، حكاه أبو عبيد ، وتقدم ذلك في سورة مَرْيَمَ .
الثاني : سلمنا أنه يقال قَرِرْتُ بالمكان - بالكسر - أَقَرُّ به - بالفتح - وأن الأمر اقْرَرْنَ إلا أنه لا مسوغ للحذف ، لأن الفتحة خفيفة ، ولا يجوز قياسه على قولهم « ظلت » في « ظللت » قال تعالى : { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } [ الواقعة : 65 ] و { ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً } [ طه : 97 ] وبابه ، لأن هناك شيئين ثقيلين التضعيف والكسرة ( فحسن الحذف وأما هنا فالتضعيف فقط ) ، والجواب أن المقتضي للحذف إنما هو التكرار ويؤيد هذا أنهم لم يحذفوا مع التكرار ووجود الضمة وإن كان أثقل نحو « اغضضن أبْصَارَكُنَّ » وكان أولى بالحذف فيقال : غَضْنَ لكن السماع خلافه قال تعالى : { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } [ النور : 31 ] على أن ابن مالك قال : إنه يحذف في هذا بطريق الأولى . أو نقول : إن هذه القراءة إنما هي من « قَارَ - يَقَارُ » بمعنى اجتمع وهو وجه حسن بريء من التكلف فيندفع اعتراض أبي حاتم وغيره لولا أن المعنى على الأمر بالاستقرار لا بالاجتماع . وأما الكسر فمن وجهين أيضاً :
أحدهما : أنه أمر من قَرَّ في المكان - بالفتح - في الماضي والكسر في المضارع ، وهي اللغة الفصيحة ، ويجيء فهيا التوجيهات الثلاث المذكورة أولاً ، أما حذف الراء الثانية أو الأولى أو إبدالُها ياءً وحذفها كما قاله الفارسيّ ، ولا اعتراض على هذه القراءة لمجيئها على مشهور اللغة ، فيندفع اعتراض أبي حاتم ، ولأن الكسر ثقيل فيندفع الاعتراض الثاني ومعناها مطابق لما يراد بها من الثبوت والاستقرار .
الوجه الثانيك أنها أمر من « وَقَرَ » أي ثبت واستقر ومنه « الوَقَار » وأصله اوْقِرْنَ فحذفت الفاء - وهو الواو - واستغني عن همزة الوصل فبقي « قِرْنَ » ، وهذا كالأمر من وعد سواء ، ووزنه على هذا « عِلْنَ » ، قال البغوي : الأصح أنه أمر من « الوقار » قولك من الوعد « عِدْنَا » ، ومن الوصل « صِلْنَا » .
وهذه الأوجه المذكورة إنما يهتدي إليها من مَرِنَ في علم التصريف وإلا ضاق به ذَرْعاً .
قوله : « تَبَرُّجَ الجَاهِلِيةِ » مصدر تشبيهيّ أي مثل تبرج والتبرج الظهور من البُرْجِ لظهوره ، وقد تقدم ، وقرأ البزِّيُّ : « ولا تبرجن » بإدغام التاء في التاء ، والباقون بحذف إحداهما وتقدم تحقيقه في البقرة في : « وَلاَ تَيَمَّمُوا » .
فصل
قال المفسرون وقرن أي الزمْنَ بيوتكنّ من قولهم : قررت بالمكان أقر قراراً يقال : قررت : أقر وقررت : أقر ، وهما لغتان ، لإن كان من الوقار أي كن أهل وقار وسكون من قولهم : وَقَر فُلان يَقِر وُقُوراً إذا سكن واطمأن ، و « لا تبرجن » قال مجاهد وقتادة التبرج هو التكسر والتغنج ، وقال ابن أبي نُجَيح : وهو التبختر ، وقيل : هو إظهار الزينة ، وإبراز المحاسن لرجال « تَبَرُّجَ الجَاهِلية الأولى » قال الشعبي : هي ما بين عيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم - وقال أبو العالية : هي بين داود وسليمان - عليهما السلام - ، وكانت المرأة تلبس قميصاً من الدر غير مخيط الجانبين فيرى حلقها فيه ، وقال الكلبي : كان ذلك في زمن نمروذ ، وكانت المرأة تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه ، وتمشي وسط الطريق ليس عليها شيء غيره ، وتعرض نفسها على الرجال ، وروى عِكْرَمةُ عن ابن عباس أنه قال : الجاهلية الأولى أي فيما بين نوح وإدريس وكانت ألف سنة وإن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل وكان رجال الجبل صباحاً وفي النساء دمامة ، وكان نساء السهل صباحاً وفي الرجال دمامة ، وإن إبليس أتى رجلاً من أهل السهل وأجر نفسه منه فكان يخدمه واتخذ شيئاً مثل الذي يزمر به الرعاء فجاء بصوت لم يسمع مثله فبلغ ذلك من حولهم فانتابوهم يسمعون إليه واتخذه عيداً يجتمعون إليه في السنة فتتبرج النساء للرجال وتتزين الرجال لهن ، وإن رجلاً من أهل الخيل هجم عليهم في عيدهم فرأى النساء وصباحتهن فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك فنزلوا معهم فظهرت الفاحشة فذلك قوله : { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى } ، وقيل : الجاهلية الأولى ما ذكرنا والجاهلية الأخرى قوم يفعلون مثل فعلهم في آخر الزمان ، وقيل : قد تذكر الأولى وإن لم يكن لها أخرى كقوله تعالى : { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأولى } [ النجم : 50 ] ولم يكن لها أخرى .
قوله : { وَأَقِمْنَ الصلاة وَآتِينَ الزكاة وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ } يعني ليس التكليف في النهي وحده حتى يحصل بقوله : { وَلاَ تَخْضَعْنَ . وَلاَ تَبَرَّجْنَ } بل في النهي وفي الأوامر فأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله فيما أمر به ، ونهى عنه { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس } قال مقاتل : الرجس : الإثم الذي نهى الله النساء عنه ، وقال ابن عباس يعني عمل الشياطين وما ليس لله فيه رضا .
وقال قتادةُ يعني السوء ، وقال مجاهد : الرِّجْس : الشَّكُّ .
قوله : « أَهْلَ البَيْتِ » فيه أوجه : النداء والاختصاص ، إلا أنه في المخاطب أقل منه في المتكلم وسمع « بِكَ اللَّهَ نَرْجُو الفَضْلَ » ، والأكثر إنما هو في التكلم كقولها :
4088 - نَحْنُ بَنَاتُ طَارِقْ ... نَمْشِي عَلَى النَّمارِقْ
( وقوله : )
4089 - نَحْنُ - بَنِي ضَبَّة - أَصْحَابُ الجَمَلْ ... المَوْتُ أَحْلَى عِنْدَنَا مِنَ العَسَلْ
( و ) « نَحْنُ العَرَبَ أَقْرَى النَّاسِ لِلضَّيْفِ » ( و ) : « نَحْنَ مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ لاَ نُورثُ » أو على المدح أي أمدحُ أهلَ البيت ، واختلف في أهل البيت ، فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنهم نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهن في بيته ، وتلا قوله : { واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله } وهو قول عكرمة ومقاتل . وذهب أبو سعيد الخدري وجماعة من التابعين منهم مجاهد وقتادة غيرهم إلى أنهم عليّ ، وفاطمة ، والحسن والحسين ، لما روت عائشة قالت : « خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غَداةٍ وعليه مرط مرجَّل من شعر أسود فجلست فأتت فاطمة فأدخلها فيه ثم جاء علي فأدخله فيه ثم جاء حسين فأدخله فيه ، ثم قال : » إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتَ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «
وروت أم سلمة قالت : » في بيت أنزل : إنَّما يريدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ قال : فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فاطمة وعلي والحسين والحسن فقال : هؤلاء أهل بيتي . فقلت : يا رسول الله أما أنا من أهل البيت قال : بلى إن شاء الله ، وقال زيد بن أرقم : أهل بيته من حرم الصدقة بعده ، آل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل عباس ، قال ابن الخطيب : والأولى أن يقال : هم أولاده وأزواجه والحسن والحسين ، وعليّ منهم لأنه كان من أهل بيته لمعاشرته بنت النبي عليه ( الصلاة و ) السلام وملازمته له «
قوله : { واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله } يعني القرآن والحكمة ، قال قتادة يعني السنة ، وقال مقاتل : أحكام القرآن ومواعظه ، و { من آيات الله } بيان للموصول فيتعلق » بأعني « ويجوز أن يكون حالاً إما من الموصول ، وإما من عائده المقدر فيتعلق بمحذوف أيضاً { إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً } بأوليائه » خَبِيراً « بجميع خلقه .
قوله : { إِنَّ المسلمين والمسلمات } قال مقاتل : قالت أم سلمة بنت أبي أمية ، ونسية بنت كعب الأنصارية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه نَخْشَى أن لا يكون فيهن خير فنزلت فيهن هذه الآية ، ويروى أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - قلن : يا رسول الله ذكر الرجال في القرآن ولم يذكر النساء بخير فما فينا خير نذكر إنا نخاف أن لا تقبل منا طاعة ، فأنزل الله هذه الآية ، ورُوِيَ
« أن أسماء بنت عميسٍ رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب فدخلت على نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : هل نزل فينا شيء من القرآن قلن : لا فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله إن السناء لفي خيبة وخسارة ، قال وممَّ ذلك؟ قالت : لأنهن لا يذكرن بخير كما تذكر الرجال » فأنزل الله - عز وجل - : { إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين } المطيعين « والقَانِتَاتِ والصَّادِقينَ » في إيمانهم ، وفيما سرهم وساءهم { والصَّادِقَاتِ والصَّابِرِينَ « على أمر الله » والصَّابِرَاتِ والخَاشِعِينَ « المتواضعين » والخَاشِعَاتِ « . وقيل : أراد به الخشوع في الصلاة ومن الخشوع أن لا يلتفت » والمُتَصَدِّقينَ « مما رزقهم الله { والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فُرُوجَهُمْ } عما لا يحِل » والحَافِظَاتِ « . وحذف مفعول الحافظات لتقدم ما يدل عليه والتقدير : والحَافِظَاتِها وكذلك : والذاكرات ، وحسن الحذف رُؤُوس الفواصل { والذاكرين لله كثيراً والذاكرات } ، قال مجاهد : لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيراً حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً . وروي » أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال سبق المفردون ، قالوا : وما المفردُونَ؟
قال : الذاكرون الله كثيراً والذاكرات « قال عطاء بن أبي رباح من فوض أمره إلى الله عز وجل فهو داخل في قوله : { إِنَّ المسلمين والمسلمات } ومن أقر بأن الله ربه ، ومحمداً رسوله ، ولم يخالف قلبُه لسانه فهو داخل في قوله : » والمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِنَاتِ « ومن أطاع الله في الفرض ، والرسول في السنة فهو داخل في قوله : » والقَانِتِينَ والقَانِتَاتِ « ومن صان قوله عن الكذب فهو داخل في قوله : » والصَّادِقِينَ والصَّادِقَاتِ « ومن صَبَرَ على الطاعة وعن المعصية وعلى الرزية فهو داخل في قوله : » والصابرين والصابرات « ومن صلى ولم يعرف من يمينه عن يساره فهو داخل في قوله : » والخَاشِعِينَ والخَاشِعَاتِ « ومن تصدق في كل أسبوع بدرهم فهو داخل في قوله : » والمُتَصَدِّقِينَ والمُتَصَدِّقَاتِ « ، ومن صام في كل شهر أيام البيض الثالثَ عَشَر ، والخَامِسَ عَشَر فهو داخل في قوله : » والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ « ز ومن حفظ فرجه فهو داخل في قوله » والحَافِظِينَ فُرُوجهُمُ والحَافِظَاتِ « ومن صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله : { والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } وغلب المذكرعلى المؤنث في » لهم « ولم يقل : » لهن « ( لشرفهم ) .
قوله : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ } نزلت الآية في زينبَ بنت جحش الأسدية ، وأخيها عبد الله بن جحش وأمها أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى زيداً في الجاهلية بعُكَاظَ ، فأعتقه وتبناه ، فلما خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينت رضيت وظنت أنه يخاطبها لنفسه فلام علمت أنه يخطبها لزيد أبت وقال : أنا ابن عمتك يا رسول الله فلا أرضاه لنفسي وكانت بيضاءَ جميلةً فيها حدة وكذلك كره أخوها ذلك فانزل الله عز وجل : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة } يعني عبد الله بن جحش وأخته زينت { إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً } وهو نكاح زيدٍ لزينبَ { أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ } . والخيرة الاختيار أي يريد غير ما أراد الله ويمتنع مما أمرالله ورسوله .
قوله : { أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة } أن يكون « هو اسم كان ، والخبر الجار متقدم وقوله : { إِذَا قَضَى الله } يجوز أن يكون محْض ظرف معموله الاستقرار الذي تعلق به الخبر ، أي وما كان مستقراً لمؤمن ولا مؤمنةٍ وقت قضاء الله كَوْنُ خيرة وأن تكون شرطية ويكون جوابها مقدراً مدلولاً عليه بالنفي المتقدم . وقرأ الكوفيون وهِشَامٌ » يكون « - بالياء من أسفل؛ لأن » الخِيرَةَ « مجازيُّ التأنيث ، وللفصل أيضاً ، والباقون بالتاء من فوق مراعاةً للفظها ، وقد تقدم أن » الخِيَرَةَ « مصدر » تَخَيَّرَ « » كالطَّيرِةِ « من » تَطَيَّرَ « ، ونقل عيسى بن سُلَيْمَانَ أنه قرىء الخِيرَة - بسكون الياء - و » مِنْ أَمْرِهِمْ « حال من الخيرة ، وقيل : » من « بمعنى » في « وجمع الضمير في » أمرهم « وما بعده لأن المراد بالمؤمن والمؤمنة الجنس . وغلب المذكر على المؤنث ، وقال الزمخشري : » كان من حق الضمير أن يُوَحَّدَ كما تقول : مَا جَاءَنِي مِنْ رَجُلٍ وَلا امْرَأَةٍ إلاَّ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ كَذَا « قال أبو حيان : » وليس بصحيح؛ لأن العطف بالواو ، فلا يجوز ذلك إلا بتأويل الحذف « .
قوله : { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً } أخْطَأَ خَطَأً ظَاهِراً . فلما سمعا ذلك رضيا بذلك وسلما وجعلت أمرها بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليها عَشْرَةَ دَنَانِيرٍ وستِّينَ دِرْهَماً وخِماراً ودِرْعاً وَإِزَاراً وملْحَفَةً وخَمْسِينَ مُدّاً مِن الطَّعَامِ وثلاثينَ صاعاً من تَمْرٍ .
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
قوله : { وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ } وهو زيد بن حارثة أنعم الله عليه بالإِسلام « وأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ » بالتحرير والإِعتاق .
قوله : « أَمْسِكْ عَلَيْكَ » نص بعض النحويين على أن « على » في مثل هذا التركيب اسم قال : لئلا يتعدى فعل المضمر المتصل إلى ضمير المتصل في غير باب « ظَنَّ » وفي لفظتي : فَقَدَ وعَدِمَ وجعل من ذلك :
4090 - هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنَّ الأُمُ ... ورَ بِكَفِّ الإِلَهِ مَقَادِيرُهَا
وكذلك حكم على « عن » في قوله :
4091 - [ ف ] دَعْ عَنْكَ نَهبْاً صِيحَ في حجَرَاتِهِ ... وقد تقدم ذلك مُشْبَعاً في النَّحل في قوله : { وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ } ، وفي قوله : { وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة } [ مريم : 25 ] ( وقوله ) : { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } [ القصص : 32 ] .
قوله : « وَتُخْفِي » فيه أوجه :
أحدها : أنه معطوف على « تقول » أي وإِذْ تَجْمَعُ بَيْنَ قَوْلِكَ كَذَا وإِخْفَاءِ كَذَا وخَشْيَةِ الناس قاله الزمخشري .
الثاني : أنها واو الحال أي تقول كذا في هذه الحالة ، قاله الزمخشري أيضاً ، وفيه نظر حيث إنه مضارع مثبت فكيف تباشره الواو؟ وتخريجه « قُمْتُ وَأَصُكُّ عَيْنَهُ » أعني على إضمار مبتدأ .
الثالث : أنه مستأنف قاله الحوفي ، وقوله : { والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } تقدم مثله في بَرَاءَةَ .
فصل
قال المفسرون إن الآية نزلت في زَيْنَبَ بنتِ جَحْش ، وذلك « أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما زوج » زينب « من » زَيْد « مكثَتْ عنده حيناً ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى زيداً ذات يوم لحاجة فأبصر زينب قائمة في دِرْع وخِمَار ، وكانت بيضاء وجميلة ذات خُلُق من أتمِّ نساء قريش فوقعت في نفسه ، وأعجبه حسنها فقال : سبحان الله مقلِّبَ القلوب وانصرف فلما جاء زيد ذكرت ذلك له ، ففطن زيد فألقي في نفس زيد كراهتها في الوقت فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن أريدُ أن أفارق صاحبتي قال : ما لك أَرَابَكَ منها شيء قال : لاَ واللَّهِ يا رسول الله ما رأيت منها إلا خيراً ، ولكنها تتعظم عَلَيَّ لشرفها وتؤذيني بلسانها . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوجَكَ يعني زينب بنت جحش واتَّقِ اللَّهِ في أمرها ثم طلَّقَها زيدٌ » ، فذلك قوله عز وجل : { وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ } بالإسلام وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالإعتاق وهو زيد بن حارثة { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله } فيها ولا تفارقها { وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ } أي تُسرُّ في نفسك ما الله مظهره أي كان في قلبه لو فارقها تزوجها . وقال ابن عباس : حبها ، وقال قتادة : وَدَّ أنه لو طلقها « وَتَخْشَى النَّاسَ » قال ابنُ عباس والحسن : تستحييهم ، وقيل : تخاف لائمةَ الناس أن يقولوا أمرَ رجلاً بطلاق امرأته ثم نكحها ، { والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } .
قال عمر وابن مسعود وعائشة : ما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية هي أشد عليه من هذه ( الآية ) . وروي عن مسروق قال : قالت عائشة : لو كتم النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً مِمَّا أوحي إليه لكتم هذه الآية : { وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ } وروي عن سفيانَ بْن عُيَيْنَةَ عن عليِّ بن جُدْعَانَ قالك سألني عليّ بن الحُسَيْنِ زَيْنُ العابدين ما يقول الحَسَنُ في قوله : { وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه } قال : قلت : ( تقول ) : « لَمَّا جاء زيد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له : يا نبي إني أريد أن أطلق زينب فأعجبه ذلك قال : أمسك عليك زوجك واتق الله » فقال علي بن الحسين ليس كذلك كان الله قد أعلمه أنها ستكون من أزواجه وأن زيداً سيطلقها فلما جاء زيد قال : أريد أن أطلقها قال له : أمْسِكْ عليك زوجك فعاتبه الله وقال : لِمَ قُلْتَ : أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك وهذا هو الأولى ولأليق بحال الأنبياء وهو مطابق للتلاوة لأن الله تعالى أعلم أنه يبدي ويظهر ما أخفاه ولم يظهر غير تزويجها منه فقال : « زَوَّجْنَاكَهَا » فلو كان الذي أضمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محبتها أو إرادة طلاقها لكان يظهر ذلك لأنه لا يجوز أنه يخبر أنه يُظْهِرُه ثم يكتمه فلا يظهره فدل على أنه لا يجوز أن يخبر أنه يُظْهِرُهُ ثم يكتمه فلا يظهره فدل على أنه إنما عوتب على إخفاء ما أعلمه الله أنها ستكون زوجة له ، وإنما أخفاه استحياء أن يقول لزيد : إن الذي تحتك في نِكَاحِكَ ستكون امرأتي وهذا حسن وإن كان الآخرَ وهو أنه أخفى محبتها أو نكاحها لو طلقها لا يقدح في حال الأنبياء؛ لأن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه من مثل هذه الأشياء ما لم يقصد فيه المأثم؛ لأن الوُدَّ ومَيْلَ النفس من طبع البشر ، وقوله : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله } أمر بالمعروف وهو خشية الإثم فيه وقوله : { والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } لم يرد به أنه لم يكن يخشى الله فيما سبق فإنه عليه ( الصلاة و ) السلام قد قال : « أَنَّا أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ » ولكن المعنى الله أحَقُّ أنْ تَخْشَاهُ وَحْدَهُ ، ولا تخشى أحداً معه وأنت تخشاه وتخشى الناس أيضاً ، فلام ذكر الخشية من الناس ذكر أن الله احق بالخشية في عموم الأحوال وفي جميع الأشياء .
قوله : { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا } ، « وطراً » مفعول « قضى » ، والوَطَرُ الشهوة والمحبة قاله المبرد وأنشد :
4092 - وَكَيْفَ ثَوَائِي بالمَدِينَةِ بَعْدمَا ... قَضَى وَطَراً مِنْهَا جَمِيلُ بْنُ معْمَرِ
وقال أبو عبيدة : الوَطَرُ : الأَرَبُ والحَاجَةُ ، وأنشد الربيعُ بن ضبع الفزَارِيُّ .
4093 - وَدَّعَنَا قَبْلَ أن نُوَدِّعَهُ ... لَمَّا قَضَى مِنْ شَبَابِنَا وَطَرَا
وقرأ العامة : « زَوَّجْنَاكَهَا » ، وقرأ علي وابناه الحَسَنَان - رضي الله عنهم ، وأرضاهم - « زَوَّجْتُكَهَا » ، بتاء المتكلم و « لِكَيْلأاَ » متعلق « بزوجناكها » . وهي هنا ناصبة فقط لدخول الجار عليها ، واتصل الضميران بالفعل ، لاختلافهما رتبةً .
فصل
المعنى فلما قصى زيد منها حاجة من نكاحها زوجناكها ، وذكر قضاء الوطر ليعلم أن زوجة المتبنَّى تَحِلُّ بعد الدخول بها إذا طلقت وانقضت عدتها؛ لان الزوجة ما دامت في نكاح الزوج فهي تدفع حاجته وهو محتاج إليها فلم يقض منها الوطر بالكلية ولم يستغن عنها ، وكذلك إذا كانت في العدة لها بها تعلق لأجل شُغْلٍ الرحم فلم يقض منها بعد وطر ، فإذا طلقت وانقضت عدتها استغنى عنها ولم يبق له معها تعلق فقضى منها الوطر . قال أنس : كانت زينب تَفْتَخِرُ على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - زَوَّجَكثنَّ أَهَالِيكُنَّ ، وَزَوَّجَنِي اللَّهُ مِنْ فَوْق سَبْعِ سَمَاوَاتٍ ، وقال الشعبيُّ : كانت زينب تقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - إِني لأُدِلُّ عَلَيْك بثلاث ما من نسائك امرأة تُدِلُّ بهن ، جَدِّي وَجدُّك واحد ، وإني أَنْكَحنِيكَ اللَّهُ فِي السَّمَاءِ وإنَّ السفيرَ لِجِبْرِيل .
قوله : { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ } إثم { } فالأدعياء جمع أَدءعَى وهو المتبنَّى بخلاف امرأة ابن الصلب لا تحِل للأب { وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً } أي قضاء الله ماضياً وحكمه نافذاً ، وقد قضى في زينب أن يتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
قوله : { مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ } أي فيما أحل الله له .
قوله : « سُنَّةَ اللَّهِ » منصوب على المصدر ك { صُنْعَ الله } [ النمل : 88 ] و { وَعْدُ الله } [ الزمر : 20 ] أو اسم وضع موضع المصدر أو منصوب « بِجَعَلَ » أبو بالإِغراء أي فعليه سنة الله ، قاله ابن عطية ورده أبو حيان بأن عامل الإغراء لا يحذف ، وبأن فيه غغراء الغائب وما ورد منه مؤول على نُدُوره نحو : « عَلَيْهِ رَجُلاً لَيْسَني » . قال شهاب الدين : وقد ورد قوله عليه السلام : « وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ » فقيل : هو إغراء ، وقيل : ليس به وإنما هو مبتدأ وخبر ، والباء زائدة في المبتدأ وهو تخريج فاسد المعنى ، لأن الصوم ليس واجباً على ذلك . وقال البغوي : نصب بنزع الخافض أي كَسُنَّةِ اللَّهِ .
فصل
المراد بسنة الله في الذين خلوا من قبل أي في الأنبياء الماضين أن لا يؤاخذهم بما أحل لهمن قال الكلبي ومقاتل : أراد داود حين جمع بينه وبين المرأة التي هَوِيَهَا فكذلك جمع بين محمد وبين زينب ، وقيل أراد بالسنة النكاح ، فإنه من سنة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - { وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً } ، وقول ثانياً : { وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً } لطيفة وهي أن الله تعالى لما قال : « زَوَّجْنَاكَهَا » قال : { وكان أمر الله مفعولاً } ، أي تزويجنا زينت إياك كان مقصوداً مَقْضِيّاً مُرَاعىً ، ولما قال : { وكان أمر الله قدراً مقدوراً } أشار إلى قصة داود حين افتتن بامرأة « أوريا » قال : { وكان أمر الله قدراً مقدوراً } أي كان ذلك حكماً تبعياً .
قوله : « الذين يبلّغون » يجوز أن يكون تابعاً « لِلَّذِينَ خَلَوا » وأن يكون مقطوعاً عنه رفعاً ونصباً على إضمار : « هم » أو أعْنِي ، أو أمْدَحُ .
فصل
المعنى إنَّ الذين يبلغون رسالات الله كانوا أيضاً رُسُلاً مِثْلَكَ ، ثم ذكر حالهم بأنهم جرّبوا الخشية ووجدوها فيخشون الله ولا يخشون أحداً سواه فصار كقوله : « فَبِهُدَاهُم اقْتَدِه » ولا يخسى قَالة الناس فإنهم ليسوا بمهتمين فيما أحل الله لهم وفرض عليهم ، { وكفى بالله حَسِيباً } حافظاً لأعمال خلقه ومحاسبتهم فلا يُخْشَى غَيْرُهُ .
قوله : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } لما تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب قال الناس : إن محمداً تزوج امرأة انبه فأنزل الله - عز وجل - { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } يعني زيد بن حارثة أي ليس أبا أاحد من رجالكمالذين لم يلده فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إياها . فإن قيل : أليس أنه كان له أبناء القاسمُ والمطهرُ ، وإبراهيم ، والطَّيِّبُ ، وكذلك الحَسَنُ ، الحُسَيْنُ ، قال - عليه ( الصلاة و ) السلام - : « إن ابني هذا سيد
؟ » فالجواب : هؤلاء كانوا صغاراً ولم يكونوا رجالاً ، والصحيح أنه أراد أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُم الذي لم يلده .
قوله : { ولكن رَّسُولَ الله } العامة على تخفيف « لكن » ونصب « رسول » ، ونصبه إما على إضمار « كَانَ » لدلالة « كان » السابقة عليها ، أي ولكن كَانَ ، وإما بالعطف على « أَبَا أَحَدٍ » : والأول أليق؛ لأن « لكن » ليست عاطفة لأجل الواو ، فالأليق بها أن تدخل على الجمل « كبل » التي ليست عاطفة . وقرأ أَبُو عَمْروٍ - في رواية - بتشديدها ، على أن « رسول الله » اسمها وخبرها محذوف للدلالة ، أي ولكن رسول الله هُوَ أي محمد ، وحذف خبرها سائغ وأنشد :
4094 - فَلَوْ كُنْتَ ضبّيّاً عَرَفْتَ قَرَابَتِي ... وَلَكِنَّ زِنْجِيّاً عَظِيمَ المَشَافِرِ
أي أنت ، وهذا البيت يروونه أيضاً « ولكن زِنْجِيٌّ » بالرفع ، شاهداً على حذف امسها ، أي « ولكنك » .
وقرأ زيد بن علي ، وابن أبي عبلة بتخفيفها ورفع « رسول » على الابتداء ، والخبر مقدر أي هو ، أو بالعكس أي ولكن هُوَ رَسُولُ كقوله :
4094 - وَلَسْت الشَّاعِرَ السِّفْسَافَ فِيهِمْ ... وَلَكن مِدْرَهَ الحَرْبِ العَوَانِ
أي ولكن أنا مدره .
قوله : « وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ » قرأ عاصم بفتح التاء والباقون بسكرهان فالفتح اسم للآلة التي يختم بها كالطَّابَع والقَالَب ، لما يطبع به ، ويقلب فيه هذا هو المشهور ، وذكر أبو البقاء فيه أَوْجُهاً أُخَرَ منها أنه في معنى المصدر قال : كذا ذكر في بعض الأعاريب ، قال شهاب الدين : وهو لغط محض كيف وهو مُحْوِجٌ إلى تَجَوُّزٍ أو إضْمار ، ولو حكى هذا في خَاتِم - بالكسر - لكان أقرب ، لن قد يجيء المصدر على فاعل وفاعلة وسيأتي ذلك قريباً ، ومنها أنه اسم بمعنى « آخَرَ » ومنها أنه فعل ماض مثل « قَاتَل » فيكون « النَّبِيِّينَ » مفعولاً به ، قال شهاب الدين : ويؤيد هذا قراءة عبد الله المتقدمة . وقال بعضهم هو بمعنى المفتوح يعني بمعنى آخرهم لأنه قد ختم النبيين فهو خَاتم .
فصل
قال ابن عباس : يريد لو لم أَختم به النبيين لجعلت له ابناً يكون من بعده نبيّاً ، وروى عطاء عن ابن عباس : أن الله تعالى لما حكم أنه لا نبي بعده لم يُعْطِهِ ولداً ذكراً يصير رَجُلاً ، وقيل : من لا نبي بعده يكون أشفق على أمته وأهدى لهم إذ هو كالوالد لولد ليس له غيره . { وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيما } أي علمه بكل شيء دخل فيه أن لا نبي بعده ، فعلم أن من الحكمة إكمال شرع محمد عليه ( الصلاة و ) السلام أن زوجه بزوجة دعيِّه تكميلاً للشرع ، وذلك من حيث إنَّ قول النبي - صلى الله عليه وسلم - يفيد شرعاً لكن إذا امتنع هو عنه يفيد في بعض النفوس نُفْرة ، ألا ترى أنه ذكر بقوله ما فهم منه حِلّ أكل الضَّبِّ ، ثم لما لم يأكله بَقِيَ في النفوس شيء ، ولما أكل لحم الجمل طاب أكله ، مع أنه في بعض الملل لا يؤكل وكذلك الأرنب ، روى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « مَثَلِي ومَثَلُ الأنبياء كَمَثَلِ قَصْرِ أُحْكِمَ بُنْيَانُهُ تُرِكَ مِنْهُ مَوْضِعُ لَبِنَةٍ فَطَافَ بِهِ النُّظَّارُ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ حُسْنِ بِنَائِهِ إِلاَّ مَوْضِعَ تِلْكَ اللَّبِنَةِ لاَ يُجِيبُونَ سِوَاهَا فَكُنْت أنَا مَوْضِع تِلْكَ اللَّبِنَةِ خُتِمَ بِهِ البُنْيَانُ ، وَخُتِمَ بِي الرُّشْدُ » ، وقال - عليه ( الصلاة و ) السلام : « إنَّ لِي أسْمَاءَ أَنَا مُحَمَّدٌ ، وَأَنَا أَحْمَدُ ، وَأَنَا الماحِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الكُفْرَ ، وَأَنَا الحَاشِرُ الَّذِي يَحْشُرُ اللَّهُ النَّاسَ عَلَى قَدَمِيَ وأَنَا العَاقِبُ » والعاقِبُ الذَّي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
قوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً } قال ابن عباس : لم يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل حدّاً معلوماً ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر فإنه لم يجعل له حداً ينتهي إليه ولم يعذر أهله في تركه إلا مغلوباً على عقله وأمرهم به في الأحوال كلها ، فقال : { فاذكروا الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِكُمْ } [ النساء : 103 ] وقال : { اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً } أي بالليل والنهار ، والبرِّ والبحر والصحة والسِّقَم في السر والعلانية وقال مجاهد : الذكر الكثير أن لا ينساه أبداً { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي صلوا له بكرة يعني صلاة الصبح و « أصيلاً » يعني صلاة العصر ، وقال الكلبي : « وأصيلاً » صلاة الظهر والعصر والعشاء ، وقال مجاهد معناه : قولوا : سبحانَ اللَّهِ والحمدُ لله ولا إله إلا الله واللَّه أكبر ولا حَوْلَ ولا قوة إلى بالله فعبر بالتسبيح عن أخواته ، وقيل : المراد من قوله : « ذكْراً كَثيراً » هذه الكلمات يقولها الطاهرُ والخبيثُ والمحدث .
قوله : { هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ } الصلاة من الله الرحمة ، ومن الملائكة الاستغفار للمؤمنين فذكر صلاته تحريضاً للمؤمنين على الذكر والتسبيح ، قال السدي : قالت بنو إسرائيل لموسى : أيصلي ربنا؟ فكَبُرَ هذا الكلام على موسى فأوحى الله إليه قل لهم : إنِّي أصلي وإن صلاتي رحمتي وقد وسعت رحمتي كُلَّ شيء . وقيل : الصلاة من الله هي إشاعة الذكر الجميل له في عباده ، وقيل : الثناء عليه . قال أنس : لما نزلت إن الله وملائكته يصلون على النبي قال أبو بكر : ما خَصَّك الله يا رسول الله بشرف إلا وقد أشركنا فيه فأنزل الله عز وجل هذه الآية .
قوله : « ومَلاَئِكَتُهُ » إما عطف على فاعل « يصلي » ، وأغنى الفصل بالجار عن التأكيد بالضمير ، وهذا عند من يرى الاشتراك أو القدر المشترك أو المجاز؛ لأن صلاة الله غير صلاتهم . وإما مبتدأ وخبره محذوف ، أي « وملائكته يصلون » وهذا عند من يرى شيئاً مما تقدم جائزاً إلا أن فيه بحثاً ، وهو أنهم نصوا على أنه إذا اختلف مدلولاً الخبرين فلا يجوز حذف أحدهما لدلالة الآخر عليه وإن كانا بلفظ واحد ، فلا تقول : « زَيْدٌ ضَاربٌ وَعَمرٌو » يعني وعمرو ضاربٌ في الأرضِ أي مُسِافِرٌ .
فصل
الصلاة من الله رحمة ، ومن الملائكة استغفار ، فقيل : إن اللفظ المشترك يجوز استعماله في مَعْنَيَيْهِ معاً وكذلك الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ جائز . قال ابن الخطيب : وينسب هذا القول للشافعي رحمه الله ، وهو غير بعيد؛ وذلك لأن الرحمة والاستغفار مشتركان في العناية بحال المرحوم والمستغفر له والمراد هو القدر المشترك فتكون الدلالة واحدة ، ثم قال : { لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور } أي من ظلمةِ الكفر إلى نور الإيمان يعنى ( أنه ) برحمته وهدايته ودعاء الملائكة لكم أخرجكم من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان .
{ وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } وهذا بشارة لجميع المؤمنين وأشار بقوله : « يصلي عليكم » أن هذا غير مختص بالسامعين وقت الخطاب . قوله : « تَحِيَّتُهُمْ » يجوز أن يكون مصدراً مضافاً لمفعوله ، وأن يكون مضافاً لفاعله ومفعوله على معنى أن بعضهم يُحَيِّي بعصاً ، فيصح أن لا يكون الضكير للفاعل والمفعول باعتبارين لا أنه يكون فاعلاً ومفعولاً من وجهٍ واحد وهو قول من قال : { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } [ الأنبياء : 78 ] أنه مضاف للفاعل والمفعول .
فصل
المعنى تحيةُ المؤمنين يَوْمَ يلقونه أي يرون الله سلام أي يسلم اللَّهُ عليهم ويسلمهم من جميع الآفات ، وروي عن البراب بن عازب قال : تحيتهم يوم يلقونه سلام يعني ملك الموت لا يقبض روح مؤمن إلا سلم عليه . وعن ابن مسعود قال : إذا جاء ملك يقبض روح المؤمن قال : رَبُّكَ يُقْرِئُكَ السلام ، وقيل : تسلم عليهم الملائكة تبشرهم حين يخرجون من قبورهم ثم قال : { وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً } يعني الجنة .
فإن قيل : الإعداد إنما يكون مِمَّن لا يقدر عند الحاجة إلى الشيء عليه ، وأما الله تعالى فغير محتاج ولا عاجز فحيث يلقاه ( و ) يؤتيه ما يرضى به وزيادة فما معنى الإعداد من قبل؟ .
فالجواب : أن الأعداد للإكرام لا للحاجة .
قوله : { ياأيها النبي إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً } أي شاهداً للرسل بالتبليغ « وَمُبَشِّراً » لمن آمن بالجنة و « نَذِيراً » لمن كذب بالنار « فشاهداً » حال مقدرة ، أو مقارنة لقرب الزمان { وَدَاعِياً إِلَى الله } إلى توحيده وطاعته ، وقوله « بِإِذْنِهِ » حال أي ملتبساً بتسهيله ، ولا يريد حقيقة الإذن لأنه مستفاد من « أَرْسَلْنَاكَ » .
قوله : « وَسِرَاجاً » يجوز أن يكون عطفاً على ما تقدم ، إما على التشبيه ، إما على حذف مضاف أي ذا سراج ، وجوز الفَرَّاءُ أن يكون الأصل : وتالياً سراجاً ، ويعني بالسِّراج القرآن ، وعلى هذا فيكون من عطف الصفات وهي لذات واحدة ، لأن التالي هو المرسل . وجوز الزمخشري أن يعطف على مفعول « أَرْسَلْنَاكَ » وفيه نظر لأن السراج هو القرآن ولا يوصف بالإرسال بل بالإنزال إلاَّ أن يقال : إنه حمل على المعنى كقوله :
4096 - فَعَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارِداً ... [ حَتَّ شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا ]
وأيضاً فيغتفر في الثواني ما لا يغفتر في الأوائل ، وقوله : « مُنِيراً » لأنه يهتدى به كالسِّراج يستضاء به في الظلمة . واعلم أنَّ في قوله : « سِرَاجاً » ولم يقل : إنه شمس مع أن الشمس أشد إضاءة من السراج فائدةً وهي أن نور الشمس لا يؤخذ منه شيء ، والسراج يؤخذ منه أنوار كثيرة إذا انطفى الأول يبقى الذي أخذ منه وكذلك إن غاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كُلُّ صحابي كذلك سراجاً يؤخذ منه نور الهداية كما قال عليه ( الصلاة و ) السلام :
« أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ » وفي هذا الخبر لطيفة وهي أن النبي عليه ( الصلاة و ) السلام لم يجعل أصحابه كالسرج وجعلهم كالنجوم لأن النجم لا يؤخذ منه ( نور ) بل له في نفسه نور إذا غرب لا يبقى نور مستفاد منه فكذلك الصحابي إذا مات فالتابعي يستنير بنور النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو جعلهم كالسِّراج والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان سراجاً كان للمجتهد أن يَسْتَنِيرَ بمَنْ أراد منهم ، ويأخذ النور مِمَّن اختار وليس كذلك فإن مع نص النبي - صلى الله عيه وسلم - لا يُعْمَل بقول الصَّحابيِّ بل يؤخذ النور من النبي ولا يؤخذ من الصحابي ، فلم يجعله سراجاً .
قوله : « وَبَشِّر المُؤْمِنِينَ » عطف على مفهوم تقديره : « إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً ومُبَشراً فاشْهَدْ وبَشِّرْ } ولم يذكر » فاشهد « للاستغناء عنه ، وأما البشارة فذكرت إشارة للكرم ، ولأنها غير واجبة لولا الأمر . وقوله { بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً } كقوله تعالى : { وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً عَظِيماً } والعظيم والكبير متقاربان .
قوله : { وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين } تقدم تفسيره أو السورة ، وهو إشارة إلى الإِنذار يعني خالفهم ورُدَّ عليهم .
قوله : » وَدَعْ أَذَاهُمْ « يجوز أن يكون » أَذَاهُمْ « مضافً لمفعوله أي اترك أذاك لهم ، أي عقابك إياهم .
قال الزجاج : لا تجازهم عليه ، وهذا منسوخ بأيةِ السيف ، ويجوزم أن يكون مضافاً لفاعله أي اترك ما أَذَوْكَ به فلا تؤاخذهم حتى تُؤْمَر أي دعه إلى الله فإنه يعذبهم بأيديكم وبالنار وبين هذا قوله تعالى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وكفى بالله وَكِيلاً } أي حافظاً .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
قوله : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات . . . } الآية وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن الله تعالى في هذه السورة مكارم الأخلاق وأدب نبيه على ما تقدم والله تعالى أمر عباده المؤمنين بما أمر به نبيه فكلما ذكر لنبيّه مكرمةٌ ، وعلَّمَه أدباً ذكر للمؤمنين ما يناسبه ، ولما بدأ الله تعالى في تأديب النبي - عليه الصلاة والسلام - ذكر ما يتعلق بجانب الله تعالى بقوله : { ياا أَيُّهَا النبي اتق الله } [ الأحزاب : 1 ] وثنى بما يتعلق بجانب من هو تحت يده من أزواجه بقوله : بعده { ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ } [ الأحزاب : 28 ، 52 ] وثلث بما يتعلق بجانب العامة بقوله : { ياأيها النبي إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً } [ الأحزاب : 45 ] كذلك بدأ في إرشاد المؤمنين بما يتعلق بجانب الله فقال : { ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً } [ الأحزاب : 41 ] ثم ثنى بما يتعلق بجانب من تحت أيديهم بقوله : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات } ثم كما ثلث في تأديب بجانب الأمة ثَلَّث في حق المؤمنين بما يتعلق بهم فقال بعد هذا : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي } [ الأحزاب : 53 ] وبقوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 56 ] فإن قيل : إذا كان هذا إرشاداً إلى ما يتعلق بجانب من هو خواص المرء فلم خص المطلقات اللاتي طلقن قبل المسيس؟ .
فالجواب : هذا إرشاد إلى أعلى درجات المكرمات ليعلم منها ما دونها ، وبيانه أن المرأة إذا طلقت قبل المسيس لم يحصل بينهما تأكد العهد ، ولهذا قال تعالى في حق المَمْسُوسَة : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } [ النساء : 21 ] فإذا أمر الله ( تعالى ) بالتمتع والإحسان مع من لا مودة بينه وبينهما فلما ظنك بمن حصلت المودة بالنسبة إليها بالإفضاء أو حصل تأكدها بحصول الولد بينهما ، وهذا كقوله تعالى : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } [ الإسراء : 32 ] لو قال : لا تضربهما ولا تشتمهما ظن أنه حرام لمعنى مختص بالضرب أو الشتم ، فأما إذا قال : { لا تقل لهما أف } علم من معانٍ كثيرةٍ فكذلك ههنا لما أمرنا بالإحِسان مع من لا مودة معها علم منه الإِحسان مع الممسوسة ومن لم تطلق بعدُ ومن ولدت عنده منه .
قوله : « ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ » إن قيل : ما الفائدة بالإتيان « بثُمَّ » وحكم من طلقت على الفور بعد العقد كذلك؟ فالجواب : أنه جرى على الغالب . وقال الزمخشري : نفى التوهم عمن عسى يتوهم تفاوت الحكم بين أن يطلقها قريبة العهد بالنكاح وبين أن يبعُدَ عهدها بالنكاح وتتراخى بها المرأة في حُبَالَة الزوج ثم طلّقها . قال أبو حيان : واستعمل « عسى » صلة لمن وهو لا يجوز . « قال شهاب الدين » يخرج قوله على ما خرج عليه قول الآخَر :
4097 - وَإِني لَرَامٍ نَظْرَةً قِبَلَ الَّتِي ... لَعَلِّي - وَإِنْ شَطَّتْ نَوَاهَا - أَزُورُهَا
وهو إضمار القول ، وفي هذه الآية دليل على أن تعليق الطلاق قبل النكاح لا يصح ، لأن الله تعالى رتب الطلاق على النكاح بكلمة « ثم » وهي للتراخي حتى ( و ) لو قال لأجنبية : إِذَا نَكَحْتُكَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، أو كل امرأة أتزوجها فهي طالق فنكح ، لا يقع الطلاق ، وهو قول عَلِيٍّ ، وابنِ مسعود ، وجابر ، ومعاذٍ ، وعائشةَ . وبه قال سعيد بن أبي المسيب ، وعُرْوَةُ ، وشُرَيْحٌ ، وسعيد بنُ جبير ، والقاسمُ ، وطاوسٌ والحسنُ ، وعكرمةُ ، وعطاءُ بن يَسَارِ ، والشّعبيُّ ، وقتادةُ ، وأكثر أهل العلم . وبه قال الشافعيُّ ، وأحمدُ . وروى عن ابن مسعود أنه قال : يقع الطلاق وهو قول إبراهيم النَّخَعِيِّ وأصحابِ الرأي ، وقال ربيعةُ ومالكٌ والأوزاعِيُّ : إن عين امرأةً يقع ، وإن عم فلا يقع ، ورى عكرمة عن ابن عباس قال : كذبوا على ابن مسعود إن كان قالها فزلة من عالم في الرجل يقول : إن تزوجت فلانة فهي طالق ، يقول الله تعالى : { إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } ولم يقل : « إِذَا طَلَقْتُمُوهنَّ ثُمَّ نَكَحْتُمُوهُنَّ » وروى عطاء عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « لاَ طَلاَقَ قَبْلَ النِّكَاحِ »
قوله : { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } تجامعوهن { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } أي تحصونها وتستوفونها بالأقراء والأشهر ، « فتعتدونها » صفة « لعدة » وتعتدونها تفتعلونها إما من العَدَد ، وإما من الاعْتِدَادِ أي تحتسبونها أو تستوفون عددها من قولك : عَدَّ الدَّرَاهِمَ فَاعْتَدَّهَا أي استوفى عددها ، نحو : كِلْتُهُ فَاكْتَالَهُ ، ووَزنتهُ فاتَّزَنَهُ ، وقرأ ابن كثير - في رواية - وأهل مكة بتخفيف الدال وفيها وجهان :
أحدهما : أنها من الاعتداد وإنما كرهوا تضعيفه فخفَّفوه؛ قاله الرازي ، قال : ولو كان من الاعتداء الذي هو الظلم لضعف ، لأن الاعتداء يتعدى « بعلى » . قيل : ويجوز أن يكون من الاعتداء وحذف حرف الجر أي تَعْتَدُونَ عَلَيْهَا أي على العدة مجازاً ، ثم تعتدونها كقوله :
4098 - تَحِنُّ فَتُبْدِي مَا بِهَا مِنْ صَبَابِةٍ ... وَأُخْفِي الَّذِي لَوْلاَ الأَسَى لَقَضَانِي
أي لقَضَى عَلَيَّ ، وقال الزمخشري : وقرىء تَعْتَدُونَهَا مخففاً أي تعتدون فيها كقوله :
4099 - ويَوْم شَهِدْنَاهُ سُلَيْمَى وَعَامراً ... قَلِيل سِوَى الطَّعْنِ النَّهَال نَوَافِلُهْ
وقيل : معنى تعتدونها أي تعتدون عليهن فيها ، وقد أنكر ابن عطية القراءة عن ابن كثير وقال : غلط ابن أبي بزة عنه ، وليس كما قال .
والثاني : أنها من العدوان ( والاعتداء ) وقد تقدم شرحه ، واعتراض أبي الفضل عليه بأنه كان ينبغي أن يتعدى « بعلى » وتقدم جوابه ، وقرأ الحسن « تعْتدونها » - بسكون العين وتشديد الدال - وهو جمع بين ساكنين على ( غير ) حديهما .
فصل
دلت هذه الآية على أن العدة حق الزوج فيها غالب وإن كان لا يَسْقُطُ بإسقاطه؛ لما فيه من حق الله تعالى .
ثم قال : « فَمَتِّعُوهُنَّ » أي أعطُوهُنَّ ما يستمتعن به قال ابن عباس : هذا إذا لم يكن سمى لها صداقاً فلها المتعة ، وإن كان فرض لها صداقاً فلها نصف الصداق ولا متعة لها ، وقال قتادة : هذه الآية منسوخة بقوله : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [ البقرة : 237 ] ، قيل : إنه عام وعلى هذا فهل هو أمر وجوب أو أمر استحباب؟ فقيل : للوجوب فتجب المتعة مع نصف المهر ، وقيل : للاستحباب فيستحب أن يمتعها مع الصداق بشيء ، ثم قال : { وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } أي خلوا سبيلهن بالمعروف من غير ضرار ، وقيل : السراح الجميل : أن لا يطالبها بما آتاها .
قوله تعالى : { ياأيها النبي إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } أي مهورهن { وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } وقوله : { مِمَّآ أَفَآءَ الله عَلَيْكَ } رد عليك من الكفار بأن تَسْبِي فتملك ، وهذا بيان لما ملكت ، وليس هذا قيداً بل لو ملكت يمينه بالشراء كان الحكم كذا ، وإِنَّما خرج مَخْرَج الغالب . واعلم أنه ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما هو أولى فإن الزوجة التي أُوتِيَتْ مهرها أطيب قلباً من التي لم تؤت والمملوكة التي سَبَاها الرجل بنفسه أطهر من التي اشتراها الرجل لأنه لا يدري كيف حالها ، ومن هاجرت من أقارب النبي - صلى الله عليه وسلم - معه أشرف ممن لم تهاجِر ، وقال بعضهم : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان يستوفي ما لا يجب له والوطء قبل إيتاء الصداق غير مستحق وإن كان حالاً لنا وكيف والنبي عليه الصلاة والسلام إذا طلب شيئاً حرم الامتناع على المطلوب؟ والظاهر أن الطالب في المرة الأولى إنما هو الرجل لحياء المرأة فلو طلب النبي - صلى الله عليه وسلم - من المرأة التمكين قبل المهر للزم أن يجب وأن لا يجب وهو محال ولا كذلك أحدنا ويؤكد هذا قوله : { وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } يعني حينئذ لا يبقى لها صداق فتصير كالمستوفية مهرها .
واعلم أن اللاتي يملكت يمينه مثل صفية ، وجُوَيْريَة ، ومَارِيَة { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ } يعني نساء قريش { وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ } يعني نساء بني زُهْرَة { اللاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ } إلى المدينة فمن لم تهاجر معه منهم لم يجز له نكاحها ، روى أبو صالح عن أم هانىء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فتح مكة خطبني لإنزل الله هذه الآية فلم أحل له لأني لم أكن من المهاجرات وكنت من المطلقات ، ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل .
قوله « وامرْأَةً » العامة على النصب وفيه وجهان :
أحدهما : أنها عطف على مفعول « أَحْلَلْنا » أي وأحْلَلْنَا لك امرأة ً موصوفة بهذين الشرطين ، قال أبو البقاء وقد رد هذا قوم ، وقالوا : « أَحْلَلْنا » ماضٍ ، و « إنْ وَهَبَتْ » - وهو صفة للمرأة - مستقبل ، « فأحللنا » في موضع جوابه ، وجواب الشرط لا يكون ماضياً في المعنى ، قالك وهذا ليس بصحيح لأم معنى الإحلال ههنا الإعلام بالحل إذا وقع الفعل على ذلك كما تقول : « أَبَحْتُ لَكَ أَنْ تُكَلِّمَ فُلاَناً إِنْ سَلَّمَ عَلَيْكَ » .
والثاني : انه ينتصب بمقدر تقديره : « ويُحِلُّ لك امرأةً » .
قوله : « إنْ وَهَبَتْ ، إِنْ أَرَادَ » هذا من اعتراض الشرط على الشرط ، والثاني هو قيد في الأول ولذلك نعربه حالاً ، لأن الحال قيد ، ولهذا اشترط الفقهاء أن يتقدم الثاني على الأول في الوجود . فلو قال : إن أَكَلْتُ إنْ رَكِبْتُ فأنتِ طالقٌ ، فلا بد أن يتقدم الركوب على الأكل ، وهذا له تحقق الحالية والتقييد كما ذكرنا ، إذ لو لم يتقدم لخلا جزء من الأكل غير مقيد بركوب فلهذا اشترطنا تقدم الثاني وقد مضى تحقيق هذا وأنه يشترط أن لا تكون ثَمَّ قرينة تمنع من تقدم الثاني على الأول كقوله : « إنْ تَزَوَّجْتُك إِنْ طَلَّقْتُكِ فعَبْدِي حُرٌّ » ( لأنه ) لا يتصور هنا تقديمُ الطلاق على التَّزويج .
قال شهاب الدين : وقد عرض لي إشكال على ما قاله الفقهاء بهذه الآية وذلك أن الشرط الثاني هنا لا يمكن تقدمه في الوجود بالنسبة إلى الحكم الخاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا أنه لا يمكن عقلاً ، وذلك ان المفسرين فسروا قوله تعالوا : « إنْ أَرَادَ » بمعنى قبل الهِبَة لأن بالقبول منه ( عليه الصلاة و ) السلام يتم نكاحه وهذا لا يتصور تقدمه على الهبة إذ القبول متأخر ، وأيضاً فإن القصة كانت على ما ذكرته من تأخر إرادته من هِبَتها وهو مذكور في التفسير ، وأبو حيان لما جاء إلى ههنا جعل الشرط الثاني متقدماً على الأول على القاعدة العامة ، ولم يسشكل شيئاً مما ذكرته ، وقد عرضت هذا الإِشكال على جماعة من أعيان زماننا فاعترفوا به ولم يظهر عن جواب إلا ما قدمته من أنه ثم قرينة مانعة من ذلك كما مثلته آنفاً ، وقرأ أبو حيوة « وامْرَأَةٌ » بالرفع على الابتداء ، والخبر مقدر ، أي أَحْلَلْنَا لَكَ أَيْضاً . وفي قوله : { إِنْ أَرَادَ النبي } التفات من الخطاب إلى الغيبة بلفظ الظاهر تنبيهاً على أن سبب ذلك النبوة ، ثم رجع إلى الخطاب فقال : « خَالِصَةً لَكَ » ، وقرأ أبي والحسن وعيسى « أَنْ » بالفتح ، وفيه وجهان :
أحدها : أنه بدل من « امرأة » بدل اشتمال قاله أبو البقاء ، كأنه قيل : وأحْلَلْنَا لك هِبَةَ المَرْأَةِ نَفْسَهَا لَكَ .
قوله : « خالصة » العامة على النصب وفيه أوجه :
أحدها : أنه منصوب على الحال من فاعل « وَهَبَتْ » أي حال كونها خالصةً لك دُونَ غَيْرِكَ .
الثاني : أنها حال من « امرأة » لأنها وصفت فتخصصت ، وهو بمعنى الأول ، وإليه ذهب الزجاج .
الثالث : أنها نعت مصدر مقدر أي هبة خالصة فنصبها « بوَهَبَتْ » .
الرابع : أنها مصدر مؤكد « كوَعْدَ اللَّهِ ، قال الزمخشري : والفاعل والفاعلة في المصادر غير عزيزين كالخَارجِ والقَاعِدِ ، والكاذِبَةِ والعَافِيَةِ يريد بالخارج ما في قول الفرزدق :
4100 - . . ... وَلاَ خَارِجاً مِنْ فِيَّ زُورُ كَلاَمِ
وبالقاعد ما في قولهم : » أَقَاعِداً وَقَدْ سَارَ الرَّكْبُ « ، وبالكاذبة ما في قوله تعالى : { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } [ الواقعة : 2 ] ، وقد أنكر أبو حيان عليه قوله : » غير عزيزين « وقال : بل هما عزيزان ، وما ورد متأول ، وقرىء : » خَالِصَةٌ « بالرفع ، فإن كانت » خالصة « حالاً قدر المبتدأ » هي « أي المرأة الواهبة ، وإن كانت مصدراً قدر فتلك الحالة خالصة ، و » لك « على البيان أي أعني لك نحو : » سَقْياً لَكَ « .
فصل
المعنى : أحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها لك بغير صداق ، فأما غير المؤمنة فلا تَحِلُّ له إذا وهبت نفسها منه ، واختلفوا في أنه هل كان يحِل للنبي - صلى الله عليه وسلم - نكاح اليهودية والنصرانية ، فذهب أكثرهم إلى أنه كان لا يحل له ذلك لقوله : » وامرأة مؤمنة « وأول بعضهم الهجرة في قوله : » هَاجَرْنَ مَعَكَ « يعني على الإسلام أي أسلمن معك ، فيدل ذلك على أنه لا يحل نكاح غير المسلمة . وكان نكاح ينعقد في حقه بمعنى الهبة من غير ولي ولا شهود ولا مَهْرٍ ، وكان ذلك من خصائصه عليه ( الصلاة و ) السلام - لقوله تعالى : { خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين } كالزيادة على الأدب ووجوب تخيير النساء من خصائص لا مشاركة لأحد معه ، واختلفوا في انعقاد النكاح بلفظ الهبة في حق الأمة ، فقال سعيد بن المسيب والزهري ومجاهد وعطاء : لا ينعقد إلا بلفظ النكاح أو التزويج ، وبه قال ربيعة ومالك والشافعي ، ومعنى الآية أنّ إباحة الوطء بالهبة وحصول التزويج بلفظها من خواصه عليه السلام . وقال النخعيُّ وأبو حنيفةَ وأهلُ الكوفة ينعقد بلفظ الهبة والتمليك وأن معنى الآية أن تلك المرأة صارت خالصة لك زوجةً من أمهات المؤمنين ولا تحل لغيرك أبداً بالتزويج وأجيب بأن هذا التخصيص بالواهبة لا فائدة فيه فإن أزواجه كلهن خالصات له ، وما ذكرناه ( يتبين ) للتخصيص فائدة .
فصل
اختلفا في التي وهبت نفسها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل كانت عنده امرأة منهن فقال عبد الله بن عباس ومجاهد : لم يكن عند النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة وهبت نفسها منه ولم يكن عنده امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين ، وقوله » وَهَبَتْ نَفْسَهَا « على طريق الشرط والجزاء ، وقيل : بل كانت موهوبة واختلفوا فيها ، فقال الشعبي : هي زينب بنت خزيمة الهلالية يقال لها : أم المساكين ، وقال قتادة : هي ميمونة بنت الحارث ، وقال علي بن الحسين والضحاك ومقاتل : أمّ شريك بنت جابر من بني أسد ، وقال عروة بن الزبير : هي خولة بنت حكيم من بني سُلَيْم .
قوله : { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا } أوجبنا على المؤمنين « فِي أَزواجِهِمْ » من الأحكام أن لا يتزوجوا أكثر من أربع ولا يتزوجوا إلا بولي وشهود ومهر { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } أي ما أوجبنا من الأحكام في ملك اليمين ، وإنما ذكر هذا لئلا يحمل واحدٌ من المؤمنين نفسه على ما كان النبي عليه السلام فإن له في النكاح خصائصَ ليست لغيره ، وكذلك في السَّرَارِي .
قوله : « لِكَيْلاَ » يتعلق « بخالصة » وما بينهما اعتراض و « مِنْ دُونِ » متعلق « بخالصة » كما تقول : خَلَص مِنْ كَذَا .
فصل
قال المفسرون : هذا يرجع إلى أول الآية أي أحللنا لك أزواجَك وما ملكت يمينك والموهبة { لكيلا يكون عليك حرج } { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } يغفر الذنوب جميعاً ويرحم العبيد .
قوله : « تُرْجِي » أي تؤخر { مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤويا إِلَيْكَ } أي تضم إِلَيْكَ « مَنْ تَشَاءُ » واختلف المفسرون في معنى الآية فأشهر الأقاويل أنه في القسم بينهن وذلك أن التسوية بينهن في القسم كان واجباً عليه ، فلما نزلت هذه الآية سقط عنه وصار الاختيار إليه فيهن . قال أبو رزين وابنُ زيد نزلت هذه الآية حين غار بعض أمهات المؤمنين على النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلب بعضهن زيادة النفقة وهجرهن النبي - صلى الله علي وسلم - شهراً حتى نزلت آية التخيير فأمره الله - عز وجل - أن يُخَيرَهُن بين الدنيا والآخرة وأن يخلي سبيل من اختارت الدنيا ، ويمسك من اختارت الله ورسوله والدار الأخرة على أنهن أمهات المؤمنين فلا يُنكحن أبداً وعلى أنه يؤوي إليه من يشاء منهن ويرجي من يشاء فيرضين به قَسَم لهن أو لم يقسم أو قسم لبعض دون بعض أوفضل بعضهن على بعض في النفقة والقسمة فيكون الأمر في ذلك إليه يفعل كيف يشاء وكان ذلك من خصائص فرضين بذلك واخترنه على هذا الشرط وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام بالنسبة إلى أمته نسبة السّيد المطاع والرجل وإن لم يكن نبياً فالزوجة في ملك نكاحه والنكاح عليها فكيف زوجات النبي بالنسبة غليه فإذن هن كالمملوكات له ولا يجب القسم بين المملوكات . والإرجاء التأخير والإيواء الضم ، واختلفوا في أنه هل أخرج أحداً منهن عن القسم فقيل : لم يخرج أحداً بل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع ما جعل الله من ذلك يسوي بينهن في القسم إلا سَوْدَةَ فإنها رَضِيَتْ بترك حقها من القَسْم وجعلت نوبتها لعائشةَ ، وقيل : أَخْرَجَ بعضهن ، روى جرير عن منصور عن أبي رَزِين قال : لما نزلت آية التخيير أَشفَقْنَ أَنْ يُطَلِّقَهُنَّ ، فقلن يا رسول الله : اجعل لنا من نفسك ومالك ما شئتَ ودَعْنَا على حالنا فنزلت هذه الآية فأرجأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعضهن وآوى إليه بعضهن فكان ممن آوى عائشةُ وحفصةُ وزينبُ وأمُّ سلمة وكان يقسم بينهن سواءً ، وأرجأ منهن خمساً : أمَّ حبيبة ، وميمونَة ، وسودةَ ، وصفيةَ ، وجُورَيْرِية فكان يقسِمُ لهن ما شاء .
وقال مجاهد : ترجى من تشاء منهن يعني تعزل من تشاء منهنّ بغير طلاق وترد إليك من تشاء بعد العزل بلا تجديد عقد ، وقال ابن عباس : تطلق من تشاء منهن وتُمْسك من تشاء وقال الحسن : تترك نكاح من شئت وتنكح من شئت من تشاء من أمتك وقال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خَطب امرأة لم يكن لغيره خِطْبَتُهَا حتى يتركها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيل : تَقْبَلُ من تشاء من المؤمنات اللاتي يهبن أنفسهن لك فتؤويها إليك وتَتْرُكُ من تشاء فلا تقبلها ، روى هشامٌ عن أبيه قال : كانت خَوْلَةٌ بنتُ حَكِيم من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت عائشة : أما تستحي المرأة انت تَهَب نفسها للرجل فلما نزلت { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ } قالت : يا رسول الله . ما أرى ربُّكَ إلاّ يُسارع في هَوَاكَ .
قوله : « وَمَن ابْتَغَيْتَ » يجوز في « من » وجهان :
أحدهما : أنها شرطية في محل نصب بما بعدها وقوله : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } جوابها ، والمعنى من طلبتها من النسوة اللاتي عزلتهن فليس عَليك في ذلك جناح .
والثاني : أن تكون مبتدأة ، والعائد محذوف وعلى هذا فيجوز في « مَنْ » أن تكون « موصولة » وأنْ تكون شرطية ، و { فلا جناح عليك } خبر ، أو جواب أي التي ابتغيها . ولا بد حينئذ من ضمير راجع إلى اسم الشرط من الجواب أي في ابتغائها وطلبها ، وقيل : في الكلام حذف معطوف تقديره : ومن ابتغيتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ وممن لم تعزل سواء ، لا جناح عليك كما تقول : « مَنْ لَقِيَكَ ممَّن لَمْ يَلْقكَ جميعُهم لَكَ شَاكرٌ » يريد من لقيك ومن لم يلقك وهذا في إِلغاز .
قوله : « ذَلِكَ » أي التفويض إلى مشيئتك { أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ } أي أقرب إلى قرة أعينهن ، والعامة « تَقَرَّ » مبنياً للفاعل مسنداً « لأعينهن » وابن مُحِيْصِن « » تُقرّ « من » أقر « - رباعياً - وفاعله ضمير المخاطب ( و ) » أَعْيُنُهُنَّ « رفع لقيامه مقام الفاعل وتقدم معنى » قرة العين « في مريم .
قوله : « كُلُّهن » العامة على رفعه توكيداً لفاعل « يَرْضِيْنَ » ، وأبو إياس بالنصب توكيداً لمفعول « آتَيْتَهُنَّ » .
فصل
قال المفسرونَ لا جناح عليك لا إثم عليك ، أباحَ له ترك القَسْم لهن حتى إنه ليُرجِي من يشاء في نوبتها وَيَطَأ من يشاء منهن في غير نوبتها ويرد إلى فراشه من عزلها تفضيلاً له على سائر الرجال { ذلك أدنى أن تقر أعينهنّ وَلاَ يَحْزَنَّ } أي ذلك التخيير الذي خيرتك في صحبتهن أقرب إلى رضاهن ، وأطيب لأنفسهن وأقل لحزنهن إذا علمن أن ذلك من الله عز وجل ، { وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ } أعطيتهن من تقريب وإرجاء وعزل وإيواء { والله يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ } من أمر النساء والميل إلى بعضهن { وَكَانَ الله عَلِيماً حَلِيماً } أي إن أضمرت خلاف ما أظهرت فالله يعلم ضمائر القلوب فإنه عليم وإن لم يعاقبْهن في الحال فلا يغتررن فإنه حليم لا يعجل .
قوله : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء } قرأ أبو عمرو « لا تَحِلُّ » بالتأنيث اعتباراً باللفظ والباقون بالياء لأنه جنس والمفصل أيضاً ، وقوله « مِنْ بَعْدُ » أي من ( بعد ) اللائي نصصنا لك على إحْلاَلَهِنَّ كما تقدم ، وقيل : من بعد إباحة النساء المسلمات دون الكِتَابِيَّات .
فصل
قال المفسرون : من بعد أي من بعدهن : قال ابن الخطيب : والأولى أن يقال لا تحل لك النساء من بعد اختيارهن الله ورسوله ورضاهن بما تؤتيهن من الوصل والهجران ، وقال ابن عباس وقتادة : من بعد هؤلاء التسعة خيرتهن فاخترنَك ، وذلك ان النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خيرهن فاخْترن الله ورسوله شكر الله لهن ، وحُرِّمَ عليه السناء سواهن ونهاه عن تطليقهن وعن الاستبدال بهن ، واختلفوا في أنه هل أبيح له النساء نم بعد ، قالت عائشة : ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أحل له النساء . وقال أنس : مات على التحريم ، وقال عكرمة : معنى الآية لا تحل لك النساء إلا اللاتي أحللنَا لك أزواجَك ، الآية ثم قال : لا تحل لك النساء من بعد اللاتي أحللنا لك بالصفة التي تقدم ذكرها .
قول لأبي بن كعب : لو مات نساء النبي - صلى الله عيله وسلم - كان يحل له أن يتزوج ، قال : ( و ) ما يمنعه من ذلك؟ قيل : قوله عز وجل : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ } قال : إنما أحَلَّ اللَّهُ ضَرْباً من النساء فقال : { ياأيها النبي إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } قال : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ } ( و ) قال أبو صالح : أمر أن لا يتزوج أعرابية ولا غريبة ويتزوج من نساء قومه من بنات العم والعمة والخال والخالة إن شاء ثلاثمائة . وقال مجاهد : معناه لا تحل لك اليَهُودِيَّاتُ بعد المسلمات { وَلاَ أَنْ تَبَدَّلَ } بالمسلمات غيرهن من اليهود والنصارى يقول : لا تكون أم المؤمنين يهودية ولا نصرانية { إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } أحلَّ له ما ملكت يمينه من الكتابيات أن يَتَسرى بهنَّ؛ وروي عن الضحاك معنى { وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ } ولا أن تبدل بأزواجك اللاتي هي في حبالك أزواجاً غيرهن بأن تطلق فتنكح غيرهن فحرم عليه طلاق النساء اللواتي كن عنده وجعلهن أمهات المؤمنين وحرمهن على غيره حين اخترنه ، فأما نكاح غيرهن فلم يمنع عنه .
وقال ابن زيد في قوله : { وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } كانت العرب في الجاهيلة يتبادلونَ بأزواجهم يقول الرجل : بادِلْنِي بامرأتك وأبادِلك بأمْرأتي ، تنزل لي عن امرأتك وانزل لك عن امرأتي ، فأنزل الله - عز وجل - { وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } يعني تبادل بأزواجك غيرك بأن تعطيه زوجتك وتأخذ زوجته { إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } لا بأس أن تبادل بجاريتك ما شئت ، فأما الحَرَائِرُ فلا ، روى عطاء بن يَسَارِ عن أبي هُرَيْرَةَ قال : « دخل عُيَيْنَةُ بن حصن على النبي - صلى الله عليه وسلم - بغير إذن وعنده عائشة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - يا عيينة أين الاستئذانُ؟ قال يا رسول الله : ما استأذنت على رجل من مضر منذ أدركت ، ثم قال : مَنْ هذه الحميراء التي جنبك؟ فقال : هذه عائشة أم المؤمنين فقال عيينة : أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله قد حرم ذلك فلما خرج قالت عائشة : من هذا يا رسول الله؟ قال : هذا أحمق مُطَاع وإنه على ما تَرَيْن لسيدُ قومه » قوله : « وَلَوْ أَعْجَبَكَ » كقوله : « أَعْطُوا السَّائِلَ وَلَوْ على فَرَسٍ » أي في كل حال ولو على هذه الحال المنافية قال الزمخشري : قوله « حسنهن » في معنى الحال .
فصل
معنى { ولو أعجبك حسنهن } أي ليس لك أن تطلق أحداً من نسائك وتنكح بدلها أخرى ولو أعجبك جمالها . قال ابن عباس يعني أسماء ينت عميْس الخَثْعَمِيَّة امرأة جعفر بن أبي طالب فلما استشهد جعفر أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يَخْطِبَها فنهي عن ذلك . وقال بعض المفسرين ظاهر هذا ناسخ لما كان قد ثبت له عليه ( الصلاة و ) السلام من أنه إذا رأى واحدة فوقعت في قلبه مَوْقِعاً كانت تحرم على الزوج ويجب عليه طلاقها . وهذه مسألة حكمية وهي أن النبي عليه ( الصلاة و ) السلام وسائر الأنبياء في أول النبوة يشتد عليها برحاء الوحي ثم يستأنسون به فينزل عليهم وهم متحدِّثون مع أصحابهم لا يمنعهم من ذلك مانع ، ففي أول الأمر أحل الله من وقع في قلبه تفريغاً لقلبه ، وتوسعاً لصدره لئلا يكون مشغول القلب بغير الله ، ثم لما استأنس بالوحي نسخ ذلك إما لقوله عليه ( الصلاة و ) السلام الجمع بين الأمرين ، وإما لأنه بدوام الإنزال لم يبق له مألوفٌ من أمور الدنيا فلم يبق له التفات إلى غير الله فلم يبق له حاجة إلى إخلاء المتزوّج بمن وقع بصره عليه .
قوله : { إِلاَّ مَا مَلَكَتْ } فيه أوجه :
أحدها : أنه مستثنى من النساء فيجوز فيه وجهان : النصب على أصل الاستثناء والرفع على البدل وهو المختار ، والثالث : أنه مستثنى من « أزواج : قاله أبو البقاء ، فيجوز أن يكون في موضع نصب على أصل الاستثناء ، وأن يكون في موضع جر بدلاً مِن » هُنَّ « ( على ) اللفظ ، وأن يكون في موضع نصب بدلاً مِن » هُنَّ « على المحل ، وقال ابن عطية إن كانت ( ما ) مصدرية فهي في موضع نصب لأنه من غير الجنس وليس بجيد؛ لأنه قال بعد ذلك والتقدير : إلا ملك اليمين ، و » ملك « بمعنى مملوك انتهى . وإذا كان بمعنى مملوك صار من الجنس وإذا صار من الجنس لم يكن منقطعاً على أنه على تقدير انقطاعه لا يتحتم نصبه ، بل يجوز عند تميم الرفْعُ بدلاً والنصب على الأًل كالمتصل بشرط صحة توجه العامل إليه كما تقدم تحقيقه ، وهذا يمكن توجه العامل إليه ، ولكن اللغة المشهورة لغةُ الحِجَاز وهو لزوم النصب في المنقطع مطلقاً ، كما ذكره أبو محمد آنفاً .
فصل
قال ابن عباس ملك بعد هؤلاء مَارِيَة ، و { وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً } حافظاً عالماً بكل شيء قادراً عليه ، وفي الآية دليل على جواز النظر إلى من يريد نكاحها من النساء ، روي عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - » إِذَا خَطبَ أَحَدُكُمْ المَرْأَةَ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِها فَلْيَفْعَلْ «
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي } الآية قال أكثر المفسرين : نزلت هذه الآية في شأن وليمة زينبَ حين بنى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما روى ابن شِهَابٍ قال : أخبرني أنسُ بنُ مالك أنه كان ابن عَشْرِ سنينَ فقدِم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة قال : فكانت ام هانىء تواظبُني على خدمةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فخدمته عَشْر سنينَ وتوفي وانا ابن عشرينَ فكنت أعلمَ الناس بشأن الحِجاب حين أنزل وكان أول ما أنزل في مْبْتَنَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بزينبَ بنتِ جحشٍ أصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - بها عروساً فدعا القوم وأَصابوا من الطّعام ثم خرجوا وبَقِيَ رَهْطٌ منهم عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأطالوا المُكْثَ فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وخرج وخرجت معه لكي يخرجوا فمشى النبي - صلى الله عليه وسلم - فمشيت حتى جاء عتبة حُجْرَة عائشةَ ثم ظن أنهم قد خرجوا فرجَع فرَجَعْتُ معهم حتى إذا دخل على زينب فإذا هم جلوس لم يخرجوا فرجَع النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجعت معه حتى إذا بلغ عتبة حجرة عائشة فظن أنهم قد خرجوا فرَجَع ورجعت معه فإذا هم قد خرجوا فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بيني وبينه بالسِّتر - فأنزل الله الحجاب ، ( و ) قال أبو عثمان واسمه الجَعد عن أنس ( قال ) فدخل - يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت وأرخى الستر وإني لفي الحجرة وهو يقول : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ } إلى قوله : { والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق } وروي عن ابن عباس أنها نزلت في ناسٍ من السلمين كانوا يتحيَّنون طعام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيدخلون عيله قبل الطعام إلى أن يدرك ثم يأكلون ولا يخرجون وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتأذَّى بهم فنزلت الآية { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي } . وروى ابنُ شِهابٍ عن عروة عن عائشة أن أزواج النبي - صلى الله عيه وسلم - كُنَّ يَخْرُجْنَ باللَّيْلِ إذَا تَبَرَّزْنَ إِلَى المَنَاصِع وهو صَعِيدٌ أَفْيَحُ فكان عمر يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - احجبْ نِسَاءَكَ فلم يكن رسولُ الله يفعل فخرجت سُوْدةُ بنتُ زمعة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلةً من الليالي عشاءً وكانت امرأة طويلة فناداها عمر : قد عرفناك يا سَوْدَةُ حرصاً على أن تنزل آيةُ الحجاب فأنزل الله الحجاب ، وعن أنس قال : قال عمر : وافَقَنِي ربي في ثلاثة ، قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فأنزل الله :
{ واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [ البقرة : 125 ] ، وقلت يا رسول الله : إنه يدخل عليك البرُّ الفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحِجاب فأنزل الله آية الحجاب قال : بلغني ما آذين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساؤه قال : فدخلت عليهن فجعلت استقربهن واحدة واحدة قلت : والله لَتَنْتَبِهْنَ أوْ لَيُبَدِّلنَّه الله أزواجاً خَيْراً منْكُنَّ حت أتيت على زينب فقالت : يا عُمَرُ : ما كان في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يعظ نساءه حتى تَعِظَهُنَّ أنت قال : فخرجت فأنزل الله : { عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ } [ التحريم : 5 ] الآية
قوله : { إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ } فيه أوجه :
أحدها : أنها في موضع نصب على الحال تقديره إِلاَّ مَصْحُوبِينَ بالإِذن .
الثاني : أنها على إسقاط باء السبب تقديره : « إلا بِسبِب الإذن لكم » كقوله « فَأَخْرَجَ بِهِ » أي بسببه .
الثالث : أنه منصوب على الظرف قال الزمشخري : { إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ } في معنى الظرف تقديره : إلا وقت أن يؤذن لكم و « غَيْرَ نَاظِرينَ » حال من « لاَ تَدْخُلُوا » وقع الاسثناء على الحال والوقت معاً كأنه قيل : لا تدخلوا بيوت النبي إلا وَقْتَ الإذْنِ ولا تدخلوا إلاَّ غَيْرَ ناظرين إناه ، ورد أبو حيان الأول بأن النحاة نصوا على أن « أنْ » المصدرية لا تقع مَوْقِعَ الظرف ، لا يجوز : « آتِيكَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ » وإن جاز ذلك في المصدر الصريح نحو : « آتِيكَ صِيَاحَ الدِّيكَ » ، ورد الثاني بأنه لا يقع بعد « إلا » في الاستثناء إلا المستثنى أو المستثنى منه أو صفته ولا يجوز فيما عَدَا هذا عند الجمهور ، وأجاز ذلك الكسائي والأخفش أجازا « مَا قَامَ القوْمُ إِلاَّ يَوْمَ الجُمُعَةِ ضَاحِكِينَ » و « إلَى طَعَام » متعلق ب « يُؤْذَن » لأنه بمعنى إلاَّ أنْ يَدْعُوا إلى طعام ، وقرأ العامة غَيْرَ ناظرين - بالنصب على الحال - كا تقدم ، فعند الزمخشري ومن تابعه العامل فيه « يُؤْذَنَ » وعند غيرهم العامل فيه مقدر تقديره ادخلوا غير ناظرين ، وقرأ ابن أبي عبلة « غَيْرِ » بالجر صفة لطعام واستضعفها الناس من أجل عدم بروز الضمي لجَرَيَانه على غير مَنْ هو له فكان من حقه أن يقال : غَيْرَ ناظرين إناه أنتم ، وهذا رأي البصريين ، والكوفيونَ يجيزون ذلك إن لم يُلْبِسْ كهذه الآية ، وقد تقدمت هذه المسألة وفروعها وما قيل فيها ، وهل هذا مختص بالاسم أو يجري في الفعل خلاف مشهور قلّ من يَضْبِطُهُ .
قوله : « إِنَاهُ » قرأ العامة « إِنَاهُ » مفرداً أي نضجه ، يُقَالُ : أنَى الطَّعامُ إنّى ، نحوُ : قَلاَهُ قلّى ، أي غير منتظرين إِدْرَاكَهُ وَوَقْتَ نُضْجِه ويقال : أنَى الحميمُ إذا انتهى حُرُّهُ ، وأنَى أَنْ يَفْعَلَ كَذَا أي حان إِنَى بكسر الهمزة مقصورةً؛ وقرأ الأعمش « آناءه » جمعاً على أفْعَالٍ ، فأبدلت الهمزة الثانية ألفاً والياء همزة لتطرفها بعد ألف زائدة فصار في اللفظ « كآناء » من قوله : « وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ » وإن كان المعنى مختلفاً ، قال البَغَويُّ : إذا فتحت الهمزة مَدَدْتَ فقلت : الآناء وفيه لغتان أَنَى يأْنِي ، وآنَ يَئِينُ مثل : حَانَ يَحِين .
قوله : { وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ } أكلتم « فَانْتَشِرُوا » تفرقوا واخرجوا من منزله .
فصل
قال ابن الخطيب قوله : { إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ } إِما أن يكون فيه تقديم وتأخير تقديره « وَلاَ تَدْخُلُوا إلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ » فلا يكون منعاً من الدخول في غير وقت الطعام بغير الإذن وإما أن لا يكون فيه تقديم وتأخير فكيون معنى : ولا تدخلوا إلا أ يؤذن لكم إلى طعام فيكون الإذن مشروطاً بكونه إلى طعام فإن لم يؤنذن إلى طعام فلا يجوز الدخول فلو أذن لواحد في الدخول لاستماع كلام لا لأكل طعام لا يجوز فنقول المراد هو الثاني ليعم النهي عن الدّخول ، وأما كونه لا يجوز إلا بإذن إلى طعام فلما تقدم في سبب النزول أن الخطاب مع قوم كانوا يَتَحَيَّنُونَ حين الطعام ويدخلون من غير إذن فمنعوا من الدخول في وقتهم بغير إذن ، والأولى أن يقال المراد هو الثاني لأن التقديمَ والتأخيرَ خلافُ الأصل . وقوله : « إلى طعام » من باب التخصيص بالذكر فلا يدل على نفي ما عداه لا سيما إذا علم أن غيره مثله فإن من جازَ دخول بيته بإذنه إلى طعامه ، جاز دخوله إلى غير طعامه فإن غير الطعام يمكن وجوده مع الطعام فإن من الجائز أن يتكلم معه وقت ما يدعوه إلى الطعام ويَسْتَعِينُه في حوائجه ويعلمه ممِا عنده من العلوم مع زيادة الطعام فإن رضي بالكل فرضاه بالبعض أقرب إلى العقل فيصير من باب : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } [ الإسراء : 23 ] وقوله : { غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } أي لا تنظروا وقت الطعام فإنه ربما لا يَتَهَيَّأ .
فصل
لا يشترط في الإذن التصريح به بل إذا حصل العلم بالرضا جاز الدخول ولهذا قال : « إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ » من غير بيان فاعل فالآذن إن كان الله أو النبي أو العقل المؤيد بالدليل جاز والنقل دال عليه حيث قال : { أَوْ صَدِيقِكُمْ } [ النور : 61 ] فلو جاء الرجل وعلم أنّ لا مانع في البيت من يكشف أو بحضور غير محرم أو علم خلو الدار من الأهل وهي محتاجة إلى إطفاء حريق فيها أو غير ذلك جاز الدخول وفي معنى البيت موضع مباح اختاره شخص لعبادته او اشتغاله بشغل فيأتيه أحد ويطيل المكث عنده .
قوله : { وَلاَ مُسْتَأنِسِينَ } يجوز أن يكون منصوباً عطفاً على « غَيْر » أي لا تدخلوها غَيْرَ ناظِرينَ ولا مُسْتَأْنسين والمعنى ولا طالبين الأُنسَ لِلْحَديث ، وكانوا يجلسون بعد الطعام يتحدثون طويلاً فَنُهُوا عن ذلك .
قوله : « لِحَدِيثٍ » يحتمل أن تكون لام العلة أي مستأنسين لأجل أن يحدث بعضكم بعضاً وأن تكون المقوية للعامل لأنه قرع أي ولا مستأنسين حديثَ أَهْل البَيْت أو غيرهم .
قوله : « إنَّ ذَلَكُمْ » أي إن انتظارَكم واسْئنَاسكم فأشير إِليهما إِشارة الواحد كقوله { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] أي إن المذكور .
قوله : « فيستحيي منكم » قرىء « لا يَسْتَحِي » بياء واحدة ، والأخرى محذوفة ، واختلف فيها هل هي الأولى أو الثانية وتقدم ذلك في البقرة ، وأنها رواية عن ابن كثير وهي لغة تميم يقولون اسْتَحَى يَسْتَحِي مثل : اسْتَقَى يستقي .
قوله : { والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق } أن لا يترك تأديبكم وهذا إشارة إِلى أنّ ذلك حق وأدب ، ثم ذكر أدباً آخر فقال : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } أي من وراء سِتْر ، فبعد آية الحجاب لم يكن لأحد أن ينظر إلى امرأةٍ من نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُنْتقِبة كانت أو غير مُنْتَقِبة { ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } من الريب لأن العين روزنة القلب فإذا لم تر العين لا يشتهي القلب ، فأما وإن رأت العين فقد يشتهي القلب وقد لا يشتهي ، فالقلب عند عدم الرؤية أطهر وعدم الفتنة حينئذ أظهر .
قوله : { وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً } نزلت في رجلٍ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لئن قُبِضَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنكحن عائشةَ . قال مقاتل بنه سليمان : هو طلحة ابن عُبَيْد الله فأخبر اللَّه عز وجل - أن ذلك مُحَرَّم وقال : { إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً } . وروى مَعْمَرٌ عن الزهري أن العالية بنتَ ظبيان التي طلق النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجت رجلاً وولدت له وذلك قبل تحريم أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - على الناس .
قوله : { إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ } الآية نزلت فيمن أضمر نِكَاحَ عائشةَ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيل : قال رجل من الصحابة ما بالنا نمنع الدخول على بنات أعمامنا فنزلت هذه الآية ، ولما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأقارب ونحن أيضاً نكلمهن من وراء حجاب فأنزل الله - عز وجل - { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ في آبَآئِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآئِهِنَّ وَلاَ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ أَخَوَاتِهِنَّ } أي لا إثم عليهنّ في ترك الاحتجاب عن هؤلاء « وَلاَ نِسَائِهِنَّ » قيل : أراد به نساء المُسْلمات حتى لا يجوز للكتبيات الدخول عليهن .
وقيل : هو عام في المسلمات والكتبيات وإنَّمَا قال : « وَلاَ نِسَائِهِنَّ » لأنهن من أجناسهن ، وقد الآباء لأن اطلاعهم على بناتهم أكثر ، وكيف وهم رأوا جميع بدن البنات في حال صغرهن ثم الأبناء ثم الإخوة وذلك ظاهر ، إنما الكلام في بني الإخوة حيث قدمهم الله عليه على بنات الأخواتِ لأن بني الأخوات آباؤهم في بني الإخوة حيث قدمهم الله عليه على بنات الأخواتِ لأن بين الأخوات آباؤهم ليس المحارم خالات أبنائهم وبني الإخوة آباؤهم محارم أيضاً ، ففي بني الأخوات مفسدة ما وهي أن الابن ربما يحكي خالته عند أبيه وهو ليس بمحرم ولا كذلك بنوة الإخوة . فإن قيل : لم يذكر الله تعالى من المحارم الأعمام والأخوال ولم يقل : ولا أعمامهن ولا أخوالهن؟ .
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أن ذلك معلوم من بني الإخوة وبني الأخوات لأن من علم أن بني الأخ للعمّات محام علم أن بنات الأخ عند آبائهم وهم غير محارم وكذلك الحال في ابن الخال .
قوله : { وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } ذكر هذا بعد الكل ، فإن المفسدة في التكشف لهم ظاهرة ، واختلفوا في عبد المرأة هل يكون محرماً لها فقيل يكون لها لقوله : { وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } ، وقيل : المراد من كان دون البلوغ .
قوله : « واتَّقِينَ » عطف على محذوف أي امْتَثِلْنَ ما أُمرْتُنِ بِهِ واتَّقِينَ اللَّهَ أن يراكنّ غير هؤلاء ، وقوله : { إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً } في غاية الحسن في هذا الموضع لأن ما سبق إشارة إلى جواز الخلوة بهم والتكشف لهم فقال إن الله شاهد عند اختلاء بعضكم ببعض فخلوتكم مثل ملئكم بشهادة الله فاتقوا الله فإنه شهيد على أعمال العباد .
قوله : { إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي } العامة على نصب « الملائكة » نَسَقاً على اسم « إن » و « يُصَلُّونَ » هل هو خبر عن « اللَّه وملائكته » أو عن « الملائكة » فقط ، وخبر الجلالة محذوف لتغاير الصلاتين خلاف . وقرأ ابن عباس وُرَويت عن أبي عمرو : وَمَلاَئِكَتُهُ رفعاً فيحتمل أنْ يكون عطفاً على محل اسم « إِنَّ » عند بعضهم ، وأن يكون مبتدأ والخبر محذوف وهو مذهب البصريين ، وقد تقدم فيه بحث نحو : زَيْدٌ ضَارِبٌ وعَمْرٌو أي ضَارِبٌ فِي الأَرْضِ .
فصل
لما أمر بالاستئذان وعدم النظر إلى نسائه احتراماً له كمل بيان حرمته وذلك أن حالاته منحصرة في حالتين حالة خلوة فذكر ما يدل على احترامه في تلك الحالة بقوله : { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي } وحالة بكونه في ملأ والملأ إما الملأ الأعلى وإما الملأ الأدنى أما احترامه في الملأ الأعلى فإن الله وملائكته يصلون عليه ، وأما احترامه في الملأ الأدنى فقوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } .
فصل
قال ابن عباس : أراد أنّ الله يرحم النبي والملائكة يدعون له ، وعن ابن عباس أيضاً : يصلون يزكون ، قويل : الصلاة من الله الرحمة ، ومن الملائكة الاستغفار . وقال أبو العالية : صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة وصلاة الملائكة الدعاء ، روى عبد الرحمن بنُ أَبي لَيْلَى قال : « لَقِيَنِي كعْب بن عُجْرَةَ فقال : ألا أُهْدِي لك هديّة سمعتُها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت بلى فأهدها إليَّ قال : قلنا يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم فكيف نصلي عليك؟ قال : » قولوا اللَّهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبْرَاهيم إنك حميد مجيد « وروى أبو حُمَيْد السَّاعِدِيّ » أنهم قالوا يا رسول الله : كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولوا : اللَّهم صلِّ على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد « وروى ابن مسعود قال : » قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ القِيَامَةِ أَكْثَرهُمْ عَلَيَّ صَلاَةَ » وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - « أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : » مَنْ صَلأَّى عَلَيَّ وَاحِدةً صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْراً « ، وروى عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - » أنه جاء ذات يوم والبِشْرُ في وجهه فقال : « إِنِّي جَاءَنِي جبريلُ فقال : أَمَا يُرْضِيكَ يا محمد أن لا يُصَلِّي عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِكَ إِلاَّ صَلَّيْتُ عَلَيْهِ عَشْراً وَلاَ يُسَلِّمُ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِكَ إِلاَّ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ عَشْراً » وروى عامر بن ربيعة « أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول » مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً صَلَّت المَلاَئِكَةُ عَلَيْهِ مَا صَلَّى عَلَيَّ فليقلّ العَبْدُ مِنْ ذَلِكَ أوْ لِيُكْثِرُ « وروى عبد الله بن مسعود قال : » قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إنَّ لِلَّه مَلاَئِكَةً سَيَّاحِينَ في الأَرْضِ يُبَلِّغُونَ عَنْ أُمَّتِي السَّلاَمَ »
فصل
دلت الآية على وجوب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الأمر للوجوب ولا تجب في غير التشهد فتجب في التشهد وكذلك قوله : « وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً » أمر فيجب السلام ولم يجب في غير الصلاة فيجب فيها وهو قولنا في التشهد : السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ ، وذكر في السلام المصدر للتأكيد ، ولم يُؤكد الصلاة لأنها كانت مؤكدة بقوله : { إن الله وملائكته يصلون على النبي } .
فإن قيل : إذا صلى الله وملائكته عليه فأي حاجة به إلى صلاتنا؟
فالجواب : أن الصلاة عليه ليس لحاجة إليها وإلا فلا حاجة إلى صلاة الملائكة مع صلاة الله عليه ، وإنما هو إظهاره وتعظيمه ( كما أن الله تعالى ) وجب علينا ذكر نفسه ولا حاجة له إليه وإنما هو لإظهاره وتعظيمه منا شفقة علينا ليثيبنا عليه ولهذا قال عليه ( الصلاة و ) السلام : « ومن صلى علي واحدة صلى الله عليه عشراً »
قوله ( تعالى ) : { إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله } فيه أوجه أي يقولون فيه ما صورته أذى وإن كان تعالى لا يلحقه ضرر ذلك حيث وصفوه بما لا يليق بجلاله من اتخاذ الأنداد ونسبة الولد والزوجة إليه ، قال ابن عباس هم اليهود والنصارى والمشركون ، قال عليه ( الصلاة و ) السلام « يقول الله تعالى : » شَتَمَنِي عَبْدِي يَقُولُ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً وَأَنَا الأَحَدُ الصَّمَدُ لَمْ أَلِدُ وَلَم أَولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كفواً أَحَدٌ « ، وقال عليه ( الصلاة و ) السلام » قال الله تعالى : يُؤذِيني ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهرَ وأَنَا الدَّهرُ بِيدِي الأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ « ، وقيل : يؤذون الله : يلحدون في أسمائه وصفاته ، وقال عكرمة : هم أصحاب التصاوير ، روى أبو هريرة قال : » سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : « قال الله تعالى : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ يَخْلُقُ كَخَلْقِي فليخلقوا ذَرَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ شَعِيرَةً »
ويحتمل أن يكون على حذف مضاف أي أولياء الله كقوله : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] أي أهل القرية قال عليه ( الصلاة و ) السلام : « قال الله تعالى : » مَنْ عَادَى لِي وَلِيّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ « وقال : » مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيَّاً فَقَدْ بَارَزَنِي بِالمُحَارَبَةِ « ومعنى الأذى هو مخالفة أمر الله وارتكاب معاصيه وذكره على ما يتعارفه الناس بينهم والله عز وجل منزه عن أن يلحقه أذى من أحد ، وقال بعضهم أتى بالجلالة تعظيماً ، والمراد يؤذون رسولي كقوله : { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفتح : 10 ] وأما إيذاء الرسول فقال ابن عباس : هو أنه شُجَّ في وجهه وكُسِرت رُبَاعِيّتُه ، وقيل : ساحر شاعر معلم مجنون ، ثم قال : { لَعَنَهُمُ الله فِي الدنيا والآخرة } واللعن الطرد ، وهذا إشارة إلى بعد لا رجاء للقرب معه ، لأن البعيد في الدنيا يرجو القرب في الآخرة فإذا خاب في الآخرة فقد خاب وخسر . ثم إنه تعالى لم يحصر جزاءه في الإبعاد بل أوعده بالعذاب المهين فقال : » وَأَعَدَّ لَهُمْ « وهذا يفيد التأكيد؛ لأن السيد إذا عذب عبده حالة الغضب من غير إعداد يكون دون ما أعد له قيداً وغلاًّ .
قوله : { والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات بِغَيْرِ مَا اكتسبوا } أي من غير ما عملوا ما أوجب أذاهم ، وقال مجاهد : يقعون فيهم ويرمونهم بغير كلام ، وقيل : إن من جُلِدَ مائة على شرب الخمر أو حُدَّ أربعين على لعب النَّرْد فقد أوذي بغير ما اكتسب .
قوله : « فَقَد احْتَمَلُوا » خبر « والذين » ودخلت الفاء لشبه الموصول بالشرط .
وقوله : { بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِينا } قال مقاتل : نزلت في علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كانوا يؤذونه ويسمعونه وقيل : نزلت في شأن عائشة ، وقال الضحاك والكلبي : نزلت في الزّناة ( الذين ) كانوا يتشمون في طريق المدينة يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن فيغمزون المرأة فإِن سكتت اتبعوها وإن زجرتهم انتهوا عنها ولم يكونوا يطلبون إلا الإماء ولكن كانوا لا يعرفون الحرة من اَمَةِ؛ لأن زي الكل كان واحداً يخرجن في دِرْع وخمار الحرة والأمة فشكَوا ذلك إلى أزواجهن فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية : { والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات } الآية ، ثم نهى الحرائر أن يتشبهن بالإِماء فقال - عز وجل - { ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ } .
فإن قيل : البهتان هو الزور ، وهو لا يكون إلا في القول ، والإيذاء قد يكون بغير القول ، فمن آذى مؤمناً بالضرب أو أخذ ماله لا يكون قد احتمل بهتاناً؟
فالجواب : أن المراد : والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بالقول لأن الله تعالى أراد أظهار شرف المؤمنين لأنه لما ذكر أن من آذى الله ورسوله لعن ، وإيذاء الله أن ينكر وجوده أو يشرك به من لا يبصر لا يسمع وذلك قول فذكر إيذاء المؤمنين بالقول وعلى هذا خص إيذاء القول بالذكر لأنه أعم؛ لأنه الإنسان لا يقدر أن يؤذي الله بما يؤلمه من ضرب أو أخذ مال ويؤذيه بالقول وكذا الغائب لا يمكن إيذاؤه بالفعل ويمكن إيذاؤه بالقول بأن يقول فيه ما يصل إليه فيتأذى ، ووجه آخر في الجواب بأن يقال : قوله بعد ذلك : وإثْماً مُبِيناً ، كأنه استدرك فكان قوله احتمل بهتاناً إن كان بالقول ، وَإِثْماً مبيناً ما كان الإيذاء .
قوله : « يُدْنِينَ » كقوله { قُل لِّعِبَادِيَ . . . الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ . . } [ إبراهيم : 31 ] و « مِنْ » للتَّبْعِيض ، و « الجَلاَبِيبُ » جمع « الجِلْبَابِ » وهو المَلاَءَةُ التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار ، قال ابن عباس و ( أبو ) عبيدة من نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههنّ بالجلابيب أقْرَبُ إلى عِرْفَانِهِنَّ أي أدنى أن يعرفن أنهن حرائر « فَلاَ يُؤْذَيْنَ » لا يتعرض لهن ، ويمكن أن يقال : المراد يعرفن أنهن لا يَزْنينَ لأن من تستر وجهها مع أنه ليس بعورة لا يطمع فيها أنها تكشف عورتها فيُعْرَفْنَ أنهنَّ مستوراتٌ لا يمكن طلب الزنا منهن . { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } قال أنس : مرت بعمر بن الخطاب جارية مقنَّعة فعلاها بالدرَّة ، وقال : يا لَكَاعِ أتتشبّهين بالحَرَائِرِ أَلْقِي القِنَاعَ .
قوله : { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } لما ذكر حال المشركين الذي يؤذون الله ورسوله والمجاهر الذي يؤذي المؤمنين ذكر حال المُسِرِّ الذي لا يظهر الحق ويظهر الباطل وهو المنافق ولما كان المذكور من قبلُ أقواماً ثلاثةً نظر إلى أمورِ ثلاثة وهم المُؤْذُونَ لله والمُؤْذُونَ للرسول ، والمؤذون للمؤمنين ذكر للمسرين ثلاثة نظراً إلى اعتبار أمور ثلاثة :
أحدها : المنافق الذي يؤذي الله سرّاً .
والثاني : الذي في قلبه مرض وهو الذي يؤذي المؤمن باتباع نِسَائِهِ .
والثالث : المرجف الذي يؤذي النبي عليه ( الصلاة و ) السلام بالإرجاف بقوله : غُلِبَ محمد ، وسيخرج من المدينة وسيؤخذ ، وهؤلاء وإِنْ كانوا قوماً واحداً إلاَّ أنَّ لهم ثلاث اعتبارات وهذا لقوله تعالى : { إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات } حيث ذكر أصنافاً عشرة وكلهم يوجد في واحد بالشخص لكنه كثير الاعتبار فقال : { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون } أي عن نفاقهم { والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } يعني الزناة ، { والمرجفون فِي المدينة } بالكذب وذلك أن ناساً منهم كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُوقِعُونَ في الناس أنهم قتلوا وهزموا ويقولون قد أتاكم العدو ونحوه ، وقال الكلبي : كانوا يحبون أن تشيع الفاحشةُ في الذين آمنوا وَيفْشُو الأخبار .
قوله : « لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ » أي لنُحَرِّشَنَّكَ وَلنُسَلِّطَنَّكَ عليهم لِتُخْرِجَهُمْ من المدينة { ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ } لا يساكنونك فيها أي في المدينة « إلاَّ قَلِيلاً » حتى يخرجوا منها ، وقيل : لنسلطنهم عليهم بقتلهم ونخرجهم من المدينة .
قوله : « الاَّ قَلِيلاً » أي إِلاَّ زماناً قليلاً ، أو إلا جوَاراً قليلاً ، وقيل : « قليلاً » نصب على الحال من فاعل « يجاورونك » أي إِلا أَقِلاَّءَ أَذِلاَّء بمعنى قَلِيلِينَ ، وقيل : قيلاً منصوب على الاستثناء أي لا يجاور إلا القليل منهم على أذل حال وأقله .
قوله : « مَلْعُونِينَ » حال من فاعل « يُجَاوِرُونَكَ » قاله ابن عطية ، والزمخشري وأبو البقاء ، قال ابن عطية لأنه بمعنى مُنَتَفَوْنَ منها مَلْعُونينَ ، وقال الزمخشري : دخل حرف الاستثناء على الحال والظرف معاً كما مر في قوله : { إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ } وتقدم بحث أبي حيان معه ، وهو عائد هنا ، وجوز الزمخشري أن ينتصب على الشَّتْم؛ وجوز ابن عطية أن يكون بدلاً من « قليلاً » على أنه حال كما تقدم تقريره ، ويجوز أن يكون « ملعونين » نعتاً ، ل « قليلاً » على أنه منصوب على الاستثناء من واو « يجاورونك » كما تقدم تقريره ، أي لا يُجَاوِرُكَ مِنْهُمْ أَحَدٌ قَلِيلاً ملعوناً ، ويجوز أن يكون منصوباً « بأُخِذُوا » الذي هو جواب الشرط نحو : خَيْراً إِنْ تَأْتِنِي تُصِبْ ، وقد منع الزمخشري من ذلك فقال : ولا يصح أن يَنْتَصِبَ « بأخذ » لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيها قبلها ، وهذا منه مشيء على الجَارَّةِ ، وقوله ما بعد كلمة الشرط يشتمل فعل الشرط والجواب ، فأما الجواب فتقدم حكمه وأما الشرط فأجاز الكسائيّ أيضاً تقديم معموله على الأداة ، نحو : « زَيْداً إنْ تَضْرِبْ أُهِنْكَ » فتلخص في المسألة ثلاثة مذاهب المنع مطلقاً ، الجواز مطلقاً ، التفصيل يجوز تقديم معمولي الجواب ، ولا يجوز تقديم معمولي الشرط وهو رأي الفراء .
قوله : « وَقُتِّلُوا » العامة على التشديد ، وقرىء بالتخفيف . وهذه يردها مجيء المصدر على التفعيل إلا أن يقال : جاء على غير مصدره ، وقوله : « سُنَّةَ اللَّهِ » تقدم نظيرها .
قوله : « مَلْعُونينَ » مطرودين من باب الله وبابك ، وإذا خرجوا لا يَنْفَكُّونَ عن الذلة ولا يجدون ملجأً بل أينما يكونون يؤخذون ويقتلون ، وهذا ليس بِدْعاً بل هو سنة جارية وعادة مستمرة تفعل بالمكذبين { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً } أي ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يتبدل وينسخ فإن النسخ يكون في الأقوال أما الأفعال إذا وقعت والأخبار لا تنسخ .
قوله : { يَسْأَلُكَ الناس عَنِ الساعة قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله } لما بين حالهم في الدنيا أنهم يُلْعَنُونَ ويُهَانُونَ ويُقْتَلُونَ أراد أن يبين حالهم في الآخرة ، فذكرهم بالقيامة وما يكون لهم فيها فقال : { يَسْأَلُكَ الناس عَنِ الساعة قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله } أي إن وقت القيامة علمه عند الله لا يبين لهم فإِن الله أخفاها لحكمةٍ وهي امتناع المكلف عن الاجتراء وخوفهم منها في كل وقت .
قوله : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة } الظاهر أن « لعل » تعلق كما تعلق التمني و « قريباً » خبر كان على حذف موصوف أي شيئاً قريباً ، وقيل : التقدير : قيام الساعة فروعيت « الساعة » في تأنيث « يكون » ورُوعِيَ المضاف المحذوف في تذكير « قريباً » وقيل : « قريباً » أكثر استعماله استعمال الظرف فهو هنا ظرف في موضع الخبر . وقال ابن الخَطِيب : فَعِيلٌ يستوي فيه المذكَّر والمؤنث قال تعالى : { إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين } [ الأعراف : 56 ] أي لعلَّ الساعةَ تكون قريبةً .
فصل
المعنى أي شيء يعلمك أمر الساعة ومتى يكون قياماه أي أنت لا تعرفه لعل الساعة تكون قريباً . وهذا إشارة إلى التخويف ، ثم قال : { إِنَّ الله لَعَنَ الكافرين وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً } أي كما أنهم ملعونون في الدنيا عندكم فكذلك هم يلعنون عند الله وأعد لهم سعيراً كما قال : { لَعَنَهُمُ الله فِي الدنيا والآخرة وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } مطيلين المكث فيها مستمرين ، وقوله « فِيهَا » أي في السعير لأنها مؤنثة ، أو لأنه في معنى « جهنم » { لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } حال ثانية ، أو من « خَالِدِينَ » لا يجدون ولياً ولا نصيراً أي لا صديق يشفع لهم ، ولا ناصر يدفع عنهم .
قوله : « يَوْمَ » معمول « لِخالدين » أو لمحذوف ، أو « لنصير » أو « لاذْكُرْ » أو لِ « يقولون » بعده ، وقرأ العامة تُقَلأَّبُ - مبنيّاً للمفعول ( و ) وُجُوهُهُمْ رفع على ما لم يسم فاعله ، وقرأ الحسن وعيسى والرؤاسي - بفتح التاء - أي تَتَقَلَّب ( و ) وُجُوهُهُمُ فاعل به ، وأبو حيوة نُقَلِّبُ بالنون أي نحن ( و ) وُجُوهَهُمْ بالنصب . وعيسى تُقَلّب - بضم التاء وكسر اللام - أي السعيرُ أو الملائكةُ وُجُوهَهُمْ بالنصب على المفعول به « يَقُولُون » حال و « يَا لَيْتَنَا » مَحْكيّ .
قوله : { تقلب وجوههم في النار } ظهراً لبطن كانا يسحبون لعيها يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولَ في الدنيا .
قوله : « سَادَتَنا » قرأ ابنُ عامر في آخرينَ بالجمع بالألف والتاء ، قال البغوي على جَمْع الجَمْع ، والباقون « سَادَتَنا » على أنه جمع تكسير غير مجموع بألف وتاء ، ثم « سادة » يجوز أن يكون جمعاً لسيّد ولكن لا ينقاص لأن « فيْعلاً » لا يجمع على « فَعَلَةٍ » وسادة فعلة ، إذ الأصل سَوَدَةٌ ، ويجوز أن يكون جمعاً لسائد نحو : فَاجِر وفَجَرَةٍ وكَافِر وكَفَرَةٍ ، وهو أقرب إلى القياس مما قبله ، وابن عامر جمع هذا ثانياً بالألف والتاء وهو غير مقيس أيضاً نحو : بُيُوتَات ، وجَمَالاَتٍ .
فصل
لما بين أنه لا شفيع لهم يدفع عنهم العذاب بين أن بعض أعضائه أيضاً لا يدفع العذاب عن البعض بخلاف عذاب الدنيا فإن الإنسان يدفع عن وجهه الضربة اتِّقاءً بيده فإن من يقصد رأسه ووجهه يجعل يده جُنَّة لوجهه ووقاية له يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول في الدنيا فيندمون حيث لا تنفعهم الندامة ثم يقولون { رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا } أي أطعنا السادة بدل طاعة الله وطاعة الرسول « فأَضَلُّونَا السَّبِيلاً » . { فَأَضَلُّونَا السبيلا } قرأ عاصم « كبيراً - بالباء الموحدة - والباقون بالمثلثة وتقدم معناهما في البقرة ، والمراد بضعفين من العذاب أي ضِعْفَيْ عَذَابِ غَيْرِهِمْ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين آذَوْاْ موسى } الآية لما بين أن من يؤذي الله ورسوله يُلعن ويعذب ، وكان ذلك إشارة إلى أن الإيذاء كفر أرشد المؤمنين إلى الامتناع من الإيذاء الذي هو دونه وهو لا يروث كفراً وهو من لم يرض بقسمة النبي عليه ( الصلاة و ) السلام وبحكمه ( بالفَيءِ لِبَعْض ) فقال : لا تكونوا كالذين آذوا موسى قال بعضهم : إيذاؤهم لموسى بنسبة عيب في بَدَنِهِ ، وقيل : إن قارون قال لامرأة : قولي إِن موسى قد وقع في فاحشةٍ والإيذاء المذكور في القرآن كاف وهو قولهم : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلاا } [ المائدة : 24 ] وقولهم : { لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ } [ البقرة : 61 ] إلى غير ذلك فقال للمؤمنين : لا تكونوا أمثالهم إذا طلبكم الرسول للقتال لا تقولوا اذهب أنت وربك فقاتلا وإذا أمركم الرسول بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وقوله : { فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ } على الأول ظاهر لأنه أبرز جسمه لقومه فرأوه وعلموا فساد اعتقادهم ونطقت المرأة بالحق وأمر ملائكته حتى عبروا بهارون عليهم فرأوه غير مجروح فعلموا براءة موسى - عليه الصلاة واسلام - عن ما رموه بهوعلى الثاني فبرأه الله مما قالوا أي أخرجه عن عهدة ما طلبوا بإِعطائه البعض إياهم وإظهاره عدم جواز البعض وقطع حُجَجهم ثم ضرب عليهم الذّلَّةُ والسمكنة وغضب عليهم .
قوله : « عِنْد اللَّهِ » العامة على « عند » الظرفية المجازية ، وابن مسعود والأعمش وأبو حَيْوة « عبداً » مِن العبودية « لله » جار ومجرور وهي حسنة قال ابن خالويه صَلَّيْت خلف ابن شُنْبُوذ في رمضان فسمعته يقرأ بقراءة ابن مسعود هذه قال شهاب الدين : وكان مولعاً بِنَقْل الشاذة ، ومَا في « مِمَّا قَالُوا » إمَّا مصدرية ، وإما بمعنى الذي ، « وَجِيهاً » كريماً ذَا جاهٍ ، يقال وَجُهَ الرَّجُلُ يَوْجهُ وَجَاهَة فَهُوَ وَجيهٌ إذا كَانَ ذَا جَاهٍ وقَدْرٍ . قال ابن عباس : كان خَظِيّاً عند الله لا يَسْأَلُ شيئاً إلاّ أعطاه وقال الحسن : اكن مستجاب الدعوة ، وقيل : كان محبباً مقبولاً ، واختلفوا فيما أُوذِيَ به موسى فروى أبُو هُرَيْرَةَ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إنّ موسى كان رجلاً حَيِياً سَتْراً لا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ استحياء منه فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ من بني إسرائيل فقال : ما يستتر هذا التَّسَتُّر إلا من عيب بجلده إما بَرَص ، وإما أدرة ، وإمّا آفةٍ ، وإن اللَّهَ أراد أن يُبْرِئَهُ مما قالوا فخلا يوماً وحده فخلع فوضَع يثابَهُ على حجر ثم اغْتَسَلَ فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وإن الحجر إدا بثوبه فأخذ موسى عصاه وطلب الحَجَر فجعل يقولُ ثوبي حَجَرٌ ، ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عُرْيَاناً أحْسَنَ ما خلق الله وَأَبْرَأَةُ مِمَّا يَقُولُونَ وقام الحجر فأخذ ثوبه واستتر وطفق بالحجر يضربه بعصاه فواللَّه إن بالحجر لنَدْباً من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خَمْساً
وقيل : لما مات هارون في التيه ادَّعوا على موسى أنه قتله فأمر الله الملائكة حتى مروا به على بني إسرائيل فعرفوا أنه لم يقتله ولم يروا ببدنه جرحاً ، وقال أبو العالية : إن قارون استأجر امرأة لتقذف موسى بنفسها على رأس الملأ فعصمه الله وبرأ موسى وأهْلَكَ قَارُون ، ورَوَى أبُو وَائلٍ قال : سمعت عبد الله قال : « قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - قَسْماً فقال رجل إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه ثم قال » يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى أَوذِيَ بأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ «
قوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } . قال ابن عباس : صواباً ، وقال قتادة عدلاً ، وقال الحسن : صِدْقاً ، وقيل : مستقيماً ، وقال عكرمة : هو قول لا إله إلا الله { يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } ، قال ابن عباس : يتقبل حسناتكم ، وقال مقاتل : يزكي أعمالكم { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } ؛ لأن النجاة من العذاب تعظيم بعظم العذاب فإن من أراد أن يضرب عبده سوطاً ثم نجا منه لا يقال : فاز فوزاً عظيماً ، ويحتمل أنه أراد بالفوز العظيم الثواب الكبير الدائم الأبديّ .
قوله : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال } وهذا إما حقيقة وإما تمثيل وتخييل . وأراد بالأمانة الطاعة والفرائض التي فرضها الله على عباده عرضها على السموات والأرض والجبال على أنهم إن أدوها أثابهم وإن ضَيَّعُوهَا عذبهم ، قاله ابن عباس . وقال ابن مسعود : الأمانة أداءُ الصَّلَوَاتِ وإيتاءُ الزكاة وصَوْمُ رَمَضَانَ وحَجُّ البيت وصدقُ الحديث وقضاءُ الدِّيْنِ والعدلُ في المِكيال والميزانِ وأشدُّ من هذا كلَّه الودائعُ . وقال مجاهد : الأمانة الفرائض وحدود الدين . وقال أبو العالية : ما أُمِرُوا به ونهوا عنه ، وقال زيد بن أسلم : هي الصوم والغسل من الجنابة وما يخفى من الشرائع . وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : أول ما خلق الله من الإنسان فرجه وقال : هذه أمانة اسْتَوْدَعْتُكَها فالفرج أمانة والأذنُ أمانة والعينُ أمانة واليدُ أمانة والرِّجْلُ أمانة ولا إيمان لمن لا أمانة لَهُ ، وقيل : هي أمانات الناس والوفاء بالعهود فحق كل مؤمن أن لا يغشَّ مؤمناً ولا معاهداً في شيء قليلٍ ولا كثير . وهذه رواية الضَّحاك عن ابن عباس وجماعة من التابعين ، وأكثر السلف أن الله عرض هذه الأمانة على السمواتِ والأرض والجبال فقال لهن : أَتَحْمِلْنَ هذِه الأَمَانَةَ بما فيها؟ قُلْنَ : وما فيها؟ قال : إن أَحْسَنْتُنَّ جُوزيتُنَّ وإنْ عَصَيْتُنَّ عُوقِبْتُنَّ فقلن : لا يا رب نحن مسخّرات لأمرك لا نريد ثواباً ولا عقاباً وقُلْنَ ذَلِكَ خَوْفاً وخشية وتعظيماً لله خوفاً أن لا يقوم بها لا معصية ومخالفة وكان العرض عليهن تخييراً لا إلزاماً ولو الزمهن لم يمتَنِعْنَ من حملها والجمادات فيها خاشعة لله - عز وجل - ساجدة له كما قال تعالى للسموات والأرض .
{ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] وقال في الحجارة : { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله } [ البقرة : 74 ] ، وقال : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب . . . } [ الحج : 18 ] الآية . وقال بعضهم : ركَّب الله ( عز وجل ) فيهن العقل والفهم حين عرض الأمانة عليهن حتى عقلْنَ الخطاب وأجبن بما أجبن . وقيل : المراد من العرض على السموات والأرض هو العرض على أهل السموات عرضها على من فيها من الملائكة وقيل : المراد المقابلة أي قابلنا الأمانة مع السموات فرجحت الأمانةُ وهي الدين والأول أصح ، وهو قول أكثر العلماء .
قوله : « فأبين » أتى بضمير هذه كضمير الإناث لأن جمع التكسير غير العاقل يجوز فيه ذلك وإن كان مذكراً وإنما ذكرنا ذلك لئلا يتوهم أنه قد غلب المؤنث - وهو السموات - على المذكر وهو البجال . واعلم أنه لم يكن إباؤهن كإباء إبليس في قوله تعالى : { أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين } [ الحجر : 31 ] ؛ لأن السجود هناك كان فرضاً وههنا الأمانة كانت عرضاً والإباء هناك كان استكباراً وههنا استصغاراً لقوله تعالى : « وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا » أي خفن من الأمانة أن لا يؤدينها فيلحقهن العقاب « وحَمَلَهَا الإِنْسَانُ » يعني آدم عليه السلام فقال يا آدم : إني عرضت الأمانة على أهل السموات والأرض والجبال فلم تُطِقْهَا فهل أنت آخذها بما فيها؟ فقال يا رب : وما فيها؟ قال : إن أحْسَنْتَ جُوزيت وإنْ أَسَأْتَ عوقبتَ فتحملها آدم عليه السلام . فقال الله تعالى أما إذْ تحمّلتها فسأعنيك أجْعَلُ لبصرك حجاباً فإذا خشيت فاغلق وأجْعَلُ لفرجك ستراً فإذا خشيت فلا تكشفه على ما حرمت عليك قال مجاهد : فما كان بين أن تحملها وبين أن أخرج من الجنة إلا مقدارَ ما بين الظهر إلى العصر { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } قال ابن عباس : ظلوماً لنفسه جهولاً بأمر الله وما احتمل من الأمنانة وقال مقاتل : ظلوماً لنفسه جهولاً بعاقبة ما تحمل . وذكر الزجاج وغيره نم أهل المعاني في قوله : « وَحَمَلَهَا الإنْسَان » قولاً ، فقالوا : إن الله ائْتَمَنَ آدم وأولاده على شيء وائتمن أهل السماوات والأرض والجبال على شيء فالأمانة في حق بني آدم ما ذكرنا من الطاعة والقيام بالفرائض والأمانة في حق السموات والأرض هي الخضوع والطاعة لما خلقهم له ، { فَأَبَيْنَ أنْ يحملنها } أي أدين الأمانة يقال فلان لم يتحمل الأمانة أي يخون فيها « وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ » أي خان فيها ، ويقال : فلان حمل الأمانة أي أثم فيها بالخيانة قال تعالى :
{ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ } [ العنكبوت : 13 ] ، { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } حكي عن الحسن على هذا التأويل أنه قال : « وحملها الإنسان » يعني الكافر والمنافق حمل الأمانة أي خان ، والأول قول السلف .
قوله : « لِيُعَذِّبَ » متعلق بقوله : « وحَمَلَهَا » فقيل : هي لام الصيرورة لأنه لم يحملها لذلك ، وقيل : لام العلة على المجاز لما كانت نتيجة حمله ذلك جعلت كالعلة الباعثة .
فصل
قال مقاتل : { لِّيُعَذِّبَ الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات } بما خانوا الأمانة ونقضوا الميثاق . ثم قال : { وَيَتُوبَ الله عَلَى المؤمنين والمؤمنات } ، قرأ الأعمش برفع « ويتوب » على الاسئناف أي يهديهم ويرحمهم بما أدوا من الأمانة ، وقال ابن قتيبة عرضنا الأمانة ليظهر نفاقُ المنافق وشرك المشرك فيعذبهما الله ويظهر إيمان المؤمن فيتوب الله عليه أي يعود عليه بالرحمة والمغفرة إن حصل منه تقصير في الطاعات ، وعطف المشرك على المنافق ولم يُعِدْ اسمه تعالى فلم يقل : « ويُعَذِّبَ اللَّهُ المُشْرِكين » وعند التوبة أعاد اسمه وقال : { ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات } ولو قال : يتوب على المؤمنين والمؤمنات كان المعنى حاصلاً ولكنه أراد تفضيل المؤمن على المنافق فجعله كالكلام المستأنف ويجب هناك ذكر الفاعل فقال « ويتوب الله » ثم قال : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } لما ذكر في الإنسان وصفين الظلوم والجهول ذكر من أوصافه وصفين فقال : { وكان الله غفوراً رحيماً } أي كان غفوراً للظالم رحيماً على الجهول .
روى الثَّعْلَبِيُّ عن أبي أُمَامَةَ عن أبيِّ بن كعب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الأَحْزَاب وَعَلَّمَهَا أَهْلَهُ وَمَا مَلَكَتْ يمِينُه أُعْطِيَ الأَمَانَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ »
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
قوله تعالى : { الحمد للَّهِ الذي لَهُ مَا فِي السماوات } اعلم أن السور المفتوحة بالحمد خمسٌ ، سورتان منها في النصف الأول وهما الأنعام والكهف وسورتان في النصف الأخير وهما هذه سورة الملائكة ، والخامسة وهي سورة فاتحة الكتاب تقرأ مع النصف الأخير . والحكمة فيها أن نعم الله مع كثرتها وعدم قدرتنا على إحصائها منحصرة في قسمين نعمةِ الإيجاد ونعمة الإبقاء فإن الله خلقنا أولاً برحمته وخلق لنا ما نقوم به وهذه النعمة توجد مرة أخرى بالإعادة فإنه خلقنا مرةً أخرى ويخلق لنا ما ندوم به فلنا مرةً أخرى ويخلق لنا ما ندوم به فلنا حالتان الإبداء والإعادة وفي كل حالة له تعالى علينا نعمتان نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء فقال في النصف الأول : « الْحَمْدُ لِلَّهِ الِّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ والأرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ » إشارة إلى الشكر على نعمة الإيجاد ، ويدل عليه قوله تعالى : « الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِين » فأشار إلى الإيجاد الأول وقال في السورة الثانية : « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أنْزَالَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلُ لَهُ عِوَاجاً قِيَماً لِيُنْذِرَ » فأشار إلى الشكر على نعمة الإبقاء فإن الشرائع بها البقاء ولولا شرع يُنْقاد له لا تّبع كُلُّ واحدٍ هواه ووقعت المنازعات وأدت إلى التقاتل والتّفاني وقال ههنا : « الحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَهُ مَا هِي السَّمَواتِ والأرْضِ » إشارة إلى نعمةِ الإيجاد الثاني دليل قوله : { وَلَهُ الحمد فِي الآخرة } [ سبأ : 1 ] وقال في الملائكة : { الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات والأرض } [ فاطر : 1 ] إشارة إلى نعمة الإبقاء بدليل قوله تعالى : { جَاعِلِ المَلاَئِكَةِ رُسُلاً } اي : يوم القيامة يرسلهم الله مسلمين على المسلمين كما قال تعالى : { وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة } [ الأنبياء : 103 ] وقال تعالى عنهم : { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] وفاتحة الكتاب لما اشتملت على ذلك نعمتين أشار بقوله : { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } [ الفاتحة : 2 ] إلى النعمة العاجلة ، وأشار بقوله : « مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ » إلى النعمة الآجلة ، فرتب الافتتاح والاختتام عليهما .
فإن قيل : قد ذكرتم أن الحمد ههنا إشارة إلى النعم التي في يالآخرة فلماذا ذكر الله السموات والأرض؟
فالجواب : أن نعم الآخرة غير مرئية فذكر الله النعم المرئية وهي ما في السموات وما في الأرض ثم قال : « وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ » لتنقاس نعم الآخرة بنعم الدنيا ويعلم فضلها بدوامها .
قوله : « الَّذِي لَهُ » يجوز فيه أن يكون تابعاً وأن يكون مقطوعاً نصباً ورفعاً على المحد فيهما و « مَا فِي السَّمَاواتِ » يجوز أن يكون فاعلاً به وهو الأحسن وأن يكون متبدأ .
قوله : « فِي الآخِرَةِ » يجوز أن يتعلق بنفس الحَمْدِ ، وأن يتعللق بما تعلق به خبره ( وَهُو الحَكِيمُ ) يجوز أن يكون معترضاً إذا أعربنا « يَعْلَمُ » حالاً مؤكدة من ضمير الباري تعالى ، ويجوز أن يكون « يَعْلَمُ » مستأنفاً ، وأن يكون حالاً من الضمير في « الخَبِير » .
فصل
له ما في السموات وما في الأرض مِلْكاً وخَلْقاً وله الحمد في الآخرة كما و له في الدنيا؛ لأن النعم في الدين كلها منه وقيل : احمد في الاخرة هو حمد أهل الجنة كما قال تعالى : { وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن } [ فاطر : 34 ] و { الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } [ الزمر : 74 ] وهو الحكيم الخبير فالحكمة هي العلم الذي يتصل به الفعل فإن من يعلم أمراً ولا يأتي بما يناسب علمه لا يقال له حكيم ، والفاعل الذي فعله على وفق العلم وهو الحكيم ، والخبير هو الذي يعلم عواقب الأمور وبواطنها ، فقوله حكيم أي في ابتداء الخلق كما ينبغي وخبير أي بالانتهاء يعلم ما يصدر من المخلوق وما لا يصدر فهو حكيم في الابتداء خبير في الانتهاء ثم بيّن كمال خيره بقوله : { يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِي الأرض } أي ما يدخل فيهما من الماء والأموات وما يخرج منها من النبات والأموات إذا حشروا .
قوله : « وَمَا يَنْزِلُ » العامة على « يَنْزِلُ » مفتوح اياء مخفف الزاي مسندٌ إلى ضمير « مَا » وعَليُّ- رضي الله عنه - والسُّلَميُّ بضمها وتشدشد الزاي أي الله تعالى . والمراد الأمطار والملائكة والقرآن . « وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا » من الكلام الطيب لقوله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب } [ فاطر : 10 ] والملائكة والأعمال الصالحة لقوله : { والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] وقدم : { مَا يَلْجُ فِي الأرض } على : { وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء } ؛ لأن الحبة تُبْذَرُ أولاص ثم تسقي ثانيا . وقال : { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } ولم يقل : « مَا يَعْرُج إليها » إشارة إلى بقول الأعمال الصالحة لأن كلمة : « إلَى » للغاية فلو قال وما يعرج إليها لفم الوقوف عند السموات فقلك وما يعرد فيها ليفهم نفوذها فيها وصعودها منها ولهذا قال في الكلم الطيب : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب } لأن الله هو المنتهى ولا مرتبة فوق الوصول إليه ثم قال : { وَهُوَ الرحيم الغفور } رحيم عند الإنزلا حيث ينزل الرزق من المساء غفور عندما يعرج إليه الأرواح والأعيان والأعمال . ثم بين أن هذه النعمة التي يستحق الله بها الحمد هي نعمة الآخرة أنكرها قَوْمٌ فقال : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة } قوله : « بَلَى » جواب لقولهم : « لاَ تَأتينَا » وما بعدها قسمٌ على ذلك . وقرأ العامة : لتأتِيَنَّكُمْ بالتأنيث ، وقرا ( طَلْقٌ ) بالياء فقيل : ( أي ) البعث . وقيل : على معنى الساعة أي اليوم . قال الزمخشري وره أبو حيان بأنه ضرورة كقوله :
4101- ... وَلاَ أرْضَ أبْقَلَ إبْقَالَهَا
وليس مثله ، وقيل : ( أي ) الله بمعنى أمره . ويجوز على قياس هذا الوجه أن يكون : « عالم » فاعلاً لِتَأتِيَنَّكُمْ في قراءة مَنْ رفعه .
قوله : « عَالِمُ » قرأ الأخَوانِ : عَلاَّم على صيغة المبالغة وخفضه نعتاً ل « ربِّي » او بدلاً منه .
وهو قليل؛ لكونه مشتقاً . ونافعُ وابْنُ عَامرٍ عالمٌ بالرفع على هُوَ عالم ، او على أنه مبتدأ وخبره « لاَ يَعْزُبُ » أو على أن خبره مضمر أي : هو ذكره الحَوفيّ . وفيه بعد ، والباقون عالم بالخفض على ما تقدم وإذا جعل نعتاً فلا بدّ من تقدير تعريفه . وقد تقدم أن كل صفة يجوز أن تتعرف بالإضافة إلى الصفة المشبهة ، وتقدمت قراءتا « يَعْزُب » في يُونُسِ .
فصل
اعمل أن الله تعالى ردَّ على مُنْكِري الساعة فقال : { قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } فأخر بإيتيانها وأكدها باليمين .
فإن قيل : إنهم يقولون لا ريب أو إن كانوا يقولون به لكن المسألة الأصولية لا تثبت باليمين فأجاب عن هذا بأنه لم يقتصر على اليمين بل ذكر الدليل وهو قوله : { لِّيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } . وبيان كونه دليلاً هو أن المسيء قد يبقى في الدنيا مدة مديدة في اللذات العاجلة ويموت عليها والمحسن قد يدوم في الدنيا في الآلام الشديدة ويموت فيها فلولا دار تكون للجزاء لكان الأمر على خلاف الحكمة .
قوله : { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض } فيه لطيفة وهي أن الإنسان له جسم وروح ، فالأجسام أجزاءها في الأرض والأرواح في السماء فقوله : { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات } إشارة إلى علمه بالأرواح ، وقوله : { وَلاَ فِي الأرض } إشارة إلى عمله بالأجسم فإذا علم الروح والأجسام قدر على جمعها فلا اسبعاد في الإعادة .
قوله : « وَلاَ أَصْغَرُ » العامة على رفع « أصْغَر وأَكْبَر » وفيه وجهان :
أحدهما : الابتداء ، والخبر قوله « إلاَّ فِي كِتَابٍ » .
والثاني : النَّسَق على « مِثْقَالِ » وعلى هذا فيكون : « إلاَّ فِي كِتَابٍ » تأكيداً للنفي في : « لاَ يَعْزُبُ » كأنه قال لكنه في كتاب مبين وقرأ قتادة والأعمش ورويت عن أبي عمرو ونافع أيضاً بفتح الراءين . وفيها وجهان :
أحدهما : أنها « لا » التبرئة وبني اسمها معها ، والخبر قوله : « إلاَّ فِي كِتَابٍ » .
والثاني : النسق على « ذَرَّةٍ » وتقدم في يونس أن حمزة قرأ بفتح رَاءِ « أَصْغَر » وأَكْبَر « وهنا وافق على الرفع وتقدم البحث هناك .
قال الزمخشري : فإن قلتَ : هَلاَّ جَازَ عطفُ : » وَلاَ أصْغَر « على » مِثْقَالِ « وعطف » وَلاَ أَكْبَر « على ذرة؟
قُلْتُ : يأبي ذلك حرف الاستثناء إلاا إذا جعلت الغيب اسماً للخفيات قبل أن تكتب في اللوح المحفوظ لأنها إثبات في اللوح نوع من البُرُوزِ عن الحجاب على معنى أنه لا ينفصل عن الغيب شيء ولا يُزَال عنه إلا مسطوراً في اللوح .
قال أبو حيان : ولاَ يُحْتَاج إلى هذا التأويلٍ إذ جعلنا الكتاب ليس اللوح المحفوظ ، وقرأ زيد بن علي بخفض راء أصغر وأكبر وهي مشكلة جداً ، وخرجت على أنهما في نية الإضافة ، إذ الأصل : « ولا اصغره ولا أكبره » وما لا ينصرف إذا أضيف انجر في موضع الجر ثم حذف المضاف إليه ونوي معناه فترك المضاف بحاله وله نظائر كقولهم :
4102- بَيْنَ ذِرَاعِيْ وَجَبْهَةِ الأَسَدِ ... 4103- يَا تَيْمَ تَيْم عَدِيِّ ... على خلاف . وقد يفرق بأن هناك ما يدل على المحذفو لفظاً بخلافِ هنا .
وقد ردّ بعضهم هذا التخريج لوجود « من » ؛ لأنَّ « أفعل » متى أضيف لم يجامع « مِنْ » وأجيب عن ذلك بوجهين :
أحدهما : أن ( مِنْ ) ليست متعقة « بأفعل » بل محذوف على سبيل البيان؛ لأنه لما حذف المضاف إليه أبهم المضاف فبين « بمن » ومجروها أي أعني من ذلك .
والثاني : أنه مع تقديره للمضاف إليه نوي طرحه ، فلذلك أتى « بِمن » ويدل على ذلك أنه قد ورد التصريح بالإضافة مع وجود « من » قال الشاعر :
4101- نَحْنُ بِغَرْسِ الوَدِيِّ أعْلَمُنَا ... مِنَّا بِرَكْضِ الجِيادِ في السُّدَفِ
وخرج على هذين الوجهين إلى التعليق بمحذوف وإما نية طرح المضاف إليه وهذا كما احتاجوا إلى تأويل الجمع بين « أل » ومن في أفعل كقوله :
4105- ولَسْتُ بالأكْثَرِ مِنْهُمْ حَصَى .. . .
وهذه توجيهات شذوذ ويكفي فيها مثل ذلك .
فصل
قوله : { وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ } إشارة إلى أن مثقال لم يذكر للتحديد بل الأصغر منه لا يعزب .
فإن قيل : فأيُّ حاجة إلى ذلك الأكبر وإنَّ من علم الأصغر من الذرة لا بدّ وأن يعلم الأكبر؟
فالجواب : لما كان الله تعالى أراد بينان إثبات الأمور في الكتاب فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهمٌ أنه يثبت الصغائر لكونها محل النّسيان وأما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته فقال الإثبات في الكبائر ليس كذلك فإن الأكبر فيه أيضاً مكتوب ثم لما بين علمه بالصغائر والكبائر ذكر أن جميع ذلك وإثباته للجزاء فقال : { لِّيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } .
قوله : « لِيَجْزِيَ » فيه أوجه :
أحدهما : أنه متعلق ( بلا ) وقال أبو البقاء و ( يعزب ) بمعنى لا يعزب أي يُحْصِي ذلك ليجزي . وهو حس أو بقوله : « ليأتِيَنًّكُمْ » أو بالعامل في قوله : « إلاَّ فِي كَتَابٍ » اي إلا استقر ذلك « في كتاب مبين » لِيَجْزِيَ .
فصل
اعمل أنه تعالى ذكر منهم أمرين الإيمانَ والعملَ الصالح وذكر لهم أمرين المغفرةَ والرِّزْقَ الكريمة فالمغفرة جزاء الإيمان فكل مؤمن مفغور له لقوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 116 ] وقوله عليه ( الصلاة و ) السلام :
« يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إله إلاَّ اللَّهَ ومَنْ ( في ) قَلْبِهِ وزنُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمانٍ » .
والرزق الكريم مرتب على العمل الصالح وهذا مناسب فإن من عمل لسيد كريم عملاً فعند فراغه من العمل لا بدّ وأن ينعم عليه . وتقدم وصف الرزق بالكريم أنه بمعنى ذَا كرم أو مُكْرِم أو لأنه من غير طلب بخلاف رزق الدنيا فإنه إن لم يُطْلَبْ ويتسبب إليه لا يأتي .
فإن قيل : ما الحكمة في تَمييزِهِ الرزق بوصفه بأنّه كريمٌ ولم يضف المغفرة؟
فالجواب : لأنَّ المغفرة واحدة وهي للمؤمنين وأما الرزق فمنه شجرة الزَّقّوم والحَميم ومن الفواكهُ والشَّرَاب الطهور فميز الرزق لحصول الانقسام فيه ولم يميز المغفرة لعدم الانْقِسَام فيها .
فصل
قوله : { أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون ذلك لهم جزاء فيوصله إليه لقوله : « ليَجْزِي الَّذِينَ آمَنُو » .
وثانيهما : أن يكون ذلك لهم واللَّهُ يجزيهم بشيء آخر لأن قوله : « أُلَئكَ لَهُمْ » جُملة ( تامة اسمية ، وقوله تعالى : « لِيَجْزيَ الَّذِينَ آمَنُوا » جملة ) فعلية مستقلة وهذا أبلغ في البشارة من قول القائل : لِيَجْزِيَ الَّذين آمنوا وعملوا الصالحات رزقاً « .
فصل
اللام في » ليجزي « ومعناه الآخرة للجزاء .
فإن قيل : فما وجه المناسبة؟
فالجواب : أن الله تعالى أرد أن لا يقطع ثوابه فجعل للمكلف داراً باقيةً تكون ثوابه واصلاً إليه فيها دائماً أبداً وجعل قبلها داراً فيه الآلام والأسقام وفيها الموت ليعلم المكلق مقدار ما يكون فيه في الآخرة إذا نسبه إلى ما قبله .
قوله : » والِّذِين سَعَوْا « يجوز فيه وجهان :
أظهرهما : أنه مبتدأ و » أولئك « ( و ) ما بعده خبره .
والثاني : أنه عطف على الذي قبله أي ويجزي الذين سعوا ويكون » أُلَئِكَ « الذي بعده مستأنفاً و » أُلَئِكَ « الذي قبله وما في خبره معترضاً بين المُتَعَاطِفَيْن .
قوله : { والذين سَعَوْا في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ } أي في إبطال أَدِلَّتِنَا مُعَاجِزِينَ يحسبون أنهم يَفُوتُونَنَا وقد تقدم في الحج قراءتا معاجزين . وعلم أنه تعالى لما بين حال المؤمنين يوم القيامة بين حال الكافرين والمراد بهم الذين كذبوا بآياتنا وقوله : » مُعَاجِزِينَ « أي سَعَوا في إبْطَالِهَا لأن المكذّب آتٍ بإخفاء آياتِ بيناتٍ فيحتاج إلى السعي العظيم والجدّ البليغ ليروّج كَذِبَهُ لعله يُعْجز المتمسك به .
قوله : { أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ } قرأ ابنُ كثير وحفصٌ هنا وفي الجاثية ألِيمٌ بالرفع والباقون بالخفض . فالرفع على أنه نعت » لعَذَابِ « والخفض على أنه نعت » لرجزٍ « إلا أن مَكِّيَّا ضعف قراءة الرفع واستبعدها قال : لأن الرّجز هو العذاب فيصير التقدير عذاب أليم من عذاب وهذا المعنى غير ممكن قال : والاختيار خَفْضُ » أليم « لأنه أصحّ في التقدير والمعنى إذ تقديره لهم عذابٌ من عذابٍ أليم أي هذا الصِّنف من أصناف العذاب ، لأن العاب بعضه آلم من بعض وأجيب : بأن الرجز مطلق العذاب فكأنه قيل : لهم هذا الصنف من العذاب من جنس العذاب ، وكأن أبا البقاء لَحَظَ هذا حيث قال : وبالرفع صفة لعذاب ، والرِّجْز مطلق العذاب .
فصل
قال قتادة : الرجز أسوأ العذاب فيكون « مِنْ » لبَيَان الجِنْس كقولك : خَاتَمٌ مِنْ فِضَّةٍ . قال ابن الخطيب : قال هناك : لَهُمْ رِزْقٌ كَريمٌ ولم يقدر بمن التبغيضية فلم يقل : لهم نصيبٌ من رزقٍ ، ولا رزق من جنس كريم ، وقال ههنا « لهم عذابٌ مِنء رجزٍ أليم » بلفظة صالحة للتبعيض ، وذلك إشارة إلى سَعَةِ الرحمة وقله الغضب وقال هناك : « لَهُمْ مغَفْرَةٌ » ثم قال : { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [ الأنفال : 4 ] وههنا لم يقل إلا : « لَهُمْ عَذَابٌ » فزادهم هناك الرزق الكريم ، وههنا لم يزدهم على العذاب وفيما قاله نظر ، لقوله تعالى في موضع آخر : { زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب } [ النحل : 88 ] .
قوله : { وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم } فيه وجهان :
أحدهما : أنه عطف على « لِيَجْزِيَ » قال الزمخشري : أي وليعلم الذين أوتوا العلم عند مجيء الساعة . وإنما قيده بقوله عند مجيء الساعة لأنه علق : « ليجزي » بقوله : « لَتَأتِيَنَّكُمْ » فبنى هذا عليه وهو من احسن ترتيبز
والثاني : أنه مستأنف أخبر عنهم بذلك « و الَّذِي أُنْزِلَ » هو المفعول الأول وهُو فَصْلٌ و « الْحَقَّ » مفعول ثانٍ ، لأن الرؤية عِلْميَّة وقرا ابنُ أَبي عَبْلَةَ الْحَقُّ بالرفع على أن خبر « هُوَ » والجملة في موضع المفعول الثاني وهي لغة تميم يجلعون ما هو فل مبتدأ وخبر و « مِنْ رَبِّك » حال على القراءتين .
فصل
لما لين حال من يسعى في التكذيب في الآخرة بين حاله في الدنيا وهو أن سَعْيَه باطل فإن من أُوتِيَ علماً لا يعتبر تكذيبه وهو يعلم أن ما أنزل إلى محمد عليه ( الصلاة و ) السلام حق وصدق وقوله : هُوَ الحَقّ يفيد الحصر أي ليس الحق إلا ذلك وأم قول المكذب فباطل بخلاف ما إذا تنازع خَصْمَان والنزاع لفظي فيكون قوله كل واحد حقاً في المعنى ، قال المفسرون : { وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم } يعني مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سَلام وأصْحَابه { الذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الحق } يعني القرآن هو الحق يعني أنه من عند الله .
قوله : { ويهدي } فيه أوجه :
أحدها : أنه مستأنف وفي فاعل احتمالان : أظهرهما : أنَّه ضمير « الَّذِي » وهو القرآن والثاني : ضمير الله تعالى ويتعلق هذا بقوله : { إلى صِرَاطِ العزيز الحميد } إذ لو كان كذلك لقيل : إلى صِراطِهِ ويجاب بأنه من الالتفات ومن إبراز المضمير ظاهراً تنبيهاً على وصفه بهاتين الصِّفَتَيْنِ .
الوجه الثاني : أنه معطوف على موضع « الحق » و « ان » معه مضمرة تقديره هو الحق والهداية .
الثالث : أنه عطف على « الحق » عَطْفَ فعل على اسم لأنه في تأويله كقوله تعالى : { صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ } [ الملك : 19 ] أي : وقَابِضَاتٍ كما عطف الاسم على الفعل بمعناه كقوله :
4106- فَألْفْيْتُهُ يَوْمًا يُبِيرُ عَدُوَّهُ ... وَمُجْرٍ عَطَاءً يَسْتَخِفُّ المَعابِرَا
كأنه قيل : وليروه الحق وهادياً .
الرابع : أن « ويهدي » حال من « الَّذِي أُنْزِلَ » ولا بدّ من إضمار مبتدأ أي وهو يهدي كقوله :
4107- . ... نَجَوْتُ وَأرَهْنُهُمْ مَالِكاً
وهو قليل جداً ، ثم قال : { إلى صِرَاطِ العزيز الحميد } وهاتان الصفتان يفيدان الرهبة والرغبة فالعزيز يفيد التخويف والانقام من المكذب والحميد يفيد الترغيب في الرحمة للمصدق .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
قوله : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ } لما بين حالة المكذب بالساعة ورد عليه بقوله : { قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } [ سبأ : 3 ] ثم بين ما يكون بعد إتيانها من جزاء المؤمن على عمله الصالح وجزاء الساعي في تكذيب الآيات بالتعذيب على السيئات وبين حال الكافر والمؤمن بعد قوله عليه ( الصلاة و ) السلام- « بَلَى وَرَبِّي لَتَأتِيَنَّكُمْ » فقلا المؤمن الذي أنزل إليك من ربك الحق وهو يهدي وقال الكافر المنكر للبعث متعجباً : { هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ } يخبركم يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم - وهذا كقول القائل في الاستبعاد : جاء رجل يقول : إنَّ الشمسَ تَطْلُعُ من المَغْرِب؛ إلى غير ذلك من المحاولات .
فصل
إذَا مُزِّقْتُم « إذا » منصوب بمقدر أي تُبْعَثُون وتُحْشَرُون وَقْتَ تمزيقكم لدلالة : { إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } عليه ولا يجوز أن يكون العامل « يُنَبِّئُكُمْ » لأن التنْبِيئَة « لأن التنْبِئَة لم تقع ذلك الوقت ولا » خَلْقٍ جَدِيدٍ « لأن ما بعد » إنَّ « لا يعمل فيما قبلها . ومن توسع في الظرف أجازه هذا إذا جعلنا » إذَا « ظَرفاً محضاً ، فغن جعلناه شرطاً كان جوابها مقدراً أي تبعثون وهو العامل في » إذَا « عند جمهور النحاة . وجوَّز الزجاج أن تكون معمولة لمُزِّقتُهْم ، وجعله ابن عطية خطأ وإفساداً للمعنى ، قال أبو حيان : وليس بخطأٍ ولا إفساد .
وقد اختلف في العامل في » إذا « الشرطية ، والصحيح أن العامل فيها فعلُ الشرط كأخواتها من أسماء الشرط وقال شهاب الدين : والجمهور على خلافِهِ ثم قال أبو حيان : والجملة الشرطية تحتمل أن تكون معمولة » لِيُنَبِّئُكُمْ « لأن في معنى : يقول لكم إذا مزقتم تُبْعَثُونَ ، ثم أكد ذلك بوقوله : { إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } ويحتمل أن يكون : { إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ } معلقاً » لِيُنَبِّئُكُمْ « سادًّا مسد المفعولين ولوللا اللام لفتحت » أن « وعلى هذا فحملة الشرط اعتراض ، وقد مَنَعَ قوم التلعيقَ في » اعلم « وبابها والصحيح جوازه ، قال :
4108- حَذَارِ فَقَدْ نُبِّئْتَ إنَّكَ لَلَّذِي ... سَتُجْزَى بِمَا تَسْعَى فَتَسْعَد أو تَشْقَى
وقرأ زيْدُ بْنُ عليِّ بإبدال الهمزة ياء ، وعنه يُنْبِئُكُمْ مِنْ » أَنْبَأَ « كأكْرَمَ و » مُمَزَّق « فيه وجهان :
أحدهما : أنه اسم » مصدر « وهو قياس كلّ ما زاد على الثلاث أن يجئ مصدره وزمانه ومكانه على زنة اسم مفعوله أي كُلَّ تَمْزِيقِ .
والثاني : أنه ظرف مكان ، قاله الزمخشري ، أي كل تمزيق من القبور وبطون الوحش والطير ، ومن مجئ مُفَعَّل مجيء التَّفْعِيل قوله :
4109- ألَمْ تَعْلَمِي مُسَرِّحِي القَوافي ... فَلاَ عيَّا بِهِنَّ وَلاَ اجْتلاَبَا
أي تسريحي ، والتمزيق التخريق والتقطيع ، يقال ثَوبٌ مُمَزَّقٌ ومَمْزَّقٌ ويقال : مزَّقَهُ فهو مَازِقٌ ومَزِقٌ أيضاً قال :
4110- أتَانِي أَنَّهُمْ مَزِقُونَ عِرْضِي .. . . .
وقال الممزق العبدي- وبه سمي المُمَزَّقُ- :
4111- فَإن كُنْتُ مَأكُولاً فَكُنْ خَيْرَ آكِلِ ... وَإلاَّ فَأدْرِكْنِي وَلَمَّا أُمَزَّقِ
أي ولما أبْلَى وأَفْنَى ، و « جَدِيد » عند البصريين بمعنى فاعل يقال : جَدَّ الشَّيْءُ فَهُوَ جَادّ وجَدِيدٌ وعند الكوفيين بمعنى مَفْعُول من جَدَدْتُهُ أي قَطَعْتُهُ .
فصل
المعنى أن الكفار قالوا لقومهم متعجبين : إن محمداً يقول : إنكم إذا مِتَّمْ ومزقتم كل تمزيق وصرتم تراباً إنكم لفي خلق جديد أي تخلقون خلقاً جديداً .
( قوله ) « أَفْتَرى » هذه همزة الاستفهام وحذفت لأجلها همزة الوصل فلذلك ثبتت همزة الهمزة وصلاً وابتداء . قال البغوي : هذه ألف استفهام دخلت على ألف الوَصْل فلذلك نُصِبَ « عَلَى اللَّهِ كَذِباً » وبهذه الآية استدل الجَاحِظُ على أن الكلام ثلاثة أقسام صِدق وكَذِب ولا صدق ولا كذب ووجه الدلالة عنه على القسم .
الثالث : أن قوله « بِهِ » جُنَّةٌ « لا جائز أن يكون كذباً لأنه قسيم الكذب وقسيم الشيء غيره ولا جائز أن يكون صدقاً لأنهم لم يعتقدوه فثبت قسم ثالث . وأجيب عنه بأنَّ المعنى : أَمْ لَمْ يَفْتَر ، ولكن عبر عن هذا بقولهم : » أَمْ بِهِ جِنَّةٌ « ؛ لأن المجنون لا افتراء له والظاهر في » أم « هذه أنها متصلة لأنها تقدر بأيِّ الشَّيْئَين ويجاب بأحدهما لأنه قيل : أي الشيئين واقع افتراؤه الكذب أم كونه مجنوناً ولا يضر كونها بعدها جملة لأن الجملة بتأويل المفرد كقوله :
4112- لاَ أُبَالِي أَنَبَّ بالحَزْن تَيْسٌ ... أَمْ جَفَانِي بظَهْرِ غَيْب اللَّئِيمِ
ومثل قوله الآخر :
4113- لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وإنْ كُنْتُ دَارِياً ... شُعَيْثُ بْنُ سَهْم أمْ شُعَيْثُ بْنُ مِنْقِرِ
لأن » منقر « خبر لا نعت كذا أنشده بعضهم مستشهداً على أنها جملة وفيه حذف التنوين بما قبل » ابن « وليس بصفة ، وهذا إشارة إلى البحث المتقدم في سوة التوبة .
فصل
قوله : { أفترى عَلَى الله كَذِباً } يحتمل أن يكون من تمام قول الكافر أولاً اي من كلام القائلين : » هَلْ نَدُلُّكُمْ « ويحتمل أن يكون من كلام الامع المجيب للقائل : » هَلْ نَدُلّكُمْ « كأن السامع لما قيل له : هل ندلكم على رجل قال له وهو يفتري على الله كذباً إن كان يعتقد خلافه » أَوْ بِهِ جُنَّةٌ « مجنون؟ إن كان لا يعتقد خلاف ، وفي هذا لطيفة وهي أن الكافر لاَ يَرْضَى بأن يظهر كذبه ولهذا قسم ولم يجزم بأنه مفترٍ بل قال مفتر أو مجنون احترازاً من أن يقول قائل : كَيْفَ يقول بأنه مفترٍ مع أنه جاز أن يظن أن الحق ذلك ، وظن الصدق ينع تسمية القائل مفترياً وكاذباً في بعض المواضع إلا ترى أن من يقول : جَاءَ زيد فإذا تبين أنه لم يجئ وقيل له : لم كذبتَ؟ يقول : ما كذبتُ وإنما سمعت من فلانٍ فظننت أنه صادق فيدفع الكذب عن نفسه بالظن فهم احترزوا عن تبيين كذبهم فكل عاقل بنبغي أن يحترز عن ظهور مرة أخرى رداً عليهم فقال : { بَلِ الذين . . .
. فِي العذاب } في مقابلة قولهم : { أفترى عَلَى الله كَذِباً } .
وقوله : « فِي الضِّلال البَعِيد » عن الحق في الدنيا ، وهذا في مقابلة قولهم : « بِهِ جِنَّة » وكلاهما مناسب اما العذاب فلأن نسبة المكذب إلى الصادق مؤذٍ ، لأنه شهادة عليه بأنه يستحق العذاب فجعل العذاب عليهم حيث نسبوا العذاب إلى البرئ وأما المجنون فلأن نسبة الجنون إلى العاقل دونه في الإيذاء فإنه لا يشهد عليه بأنه يعذب وإنما ينسبه إلى عدم الهداية فبين أنَّهُم هم الضالون ، ثم وصل ضلالهم بالبعد لأن من يسمي المهتديَ ضَالاً يكون أضلّ ، والنبي عليه ( الصلاة و ) السلام ( كان ) هادي كل مهتد .
قوله : « أفَلَمْ » فيه الرأيان المشهوران ، قدّره الزمخشري أَعَمَوْا فَلَمْ يَرَوْا ، وغيره يدِّعِي أن الهمزة مقدم على حرف العطف .
قوله : « مِنَ السَّمَاءِ » بيان للموصول ، فيتعلق بمحذوف ، ويجوز أن يكون حالاً فيتعلق به أيضاً قيل : ( و ) ثمَّ حال محذوفة تقديره : أفَلَمْ يَرَوْا إلَى كَذَا مَقْهُوراً تَحْتَ قُدْرَتِنَا ، أو مُحِيطاً بِهِمْ فَيَعْلَمُوا أنَّهُمْ حَيْثُ كَانُوا فإنَّ أرضي وسمائي محيطةٌ بهم لا يخرجون من أقطارها وأنا القادرُ عليهم .
قوله : « إنْ نَشَأ » قرأ الأخَوانِ يَشَا يَخْسِفْ يُسْقِطْ بالياء في الثلاثة ، والباقون بنون العظمة فيها ، وهم واضِحَتَان ، وأدغم الكسائي قال الفارسي : وذلك لا يجوز لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء فلا يدغم فيها وإن كان الباء يدغم فيها نحو : اضْرِب فُلاَناً كما تدغم الباء في الميم كقولك : اضْرِب مالكاً وإن كانت الميم لا تدغم في الباء نحو : اضْمُمْ بكراً؛ لأن الباء انحطت عن الميم يفقد الغُنَّةِ ، وقلا الزمخشري : وليست بالقوية ، وهذا لا ينبغي لأنها تواترت .
فصل
لما ذكر الدليل بكونه عالم الغيب وكونه جازياً على السِّيئات والحسنات ذكر دليلاً آخر فيه التهديد والتوحيد فأما دليل التوحيد فذكره السماء والأرض فإنهما يدلان على الوحدانية كما تقدم مراراً ويدلان على الحشر والإعادة لأنهما يدلان على كمال القدرة بقوله تعالى : { أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بلى } [ يس : 81 ] وأما التهديد فقوله : { إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السمآء } أي نجعل عين نافعهم ضارهم بالحق والكشف ثم قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ } أي : فيما يرون من السماء والأرض آية تدل على قدرتنا على البعث { لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيب } تائب راجع الله بقلبه . ثم إنه تعالى لما ذكر من ينيب من عباده ذكر منهم من أناب وأصاب ومن جملتهم دَاوُد كما قال تعالى عنه : { فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } [ ص : 24 ] .
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً } فقوله : « مِنَّا » إشارة إلى بيان فضل داود لأن قوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ منّا فضلاً } مستقبل بالمفهوم وتام كما يقول القائل : آتَى الملك زيداً خلعةً ، فإذا قال القائل : آتاه منه خلعَةً يفيد أنه كان من خاصِّ ما يكون له فكذلك إيتاء الله الفضل عام لكن النبوة من عنده خاص بالبعض ، ونطيره قوله تعالى : { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ } [ التوبة : 21 ] فإنَّ رحمه الله واسعةٌ تصلُ إلى كل أحد لكن رحمته في الآخرة على المؤمنين رحمه من عنده لخواصِّه ، والمراد بالفضل النبوة والكتاب ، وقيل : الملك ، وقيل : جمعي ما أوتِيَ من حُسْن الصوت وتَلْيِين الحديد وغير ذلك مما خُصَّ به .
قوله : « يَا جِبَالُ » محكيّ بقول مضمر ، ثم إن شئت قدرته مصدراً ويكون بدلاً من « فضلاً » على جهة تفسيره به كأنه قيل : آتيناهُ فضلاً قولَنَا يَا جبالُ ، وإن شئت جعلته مستأنفاً .
قوله : « أَوِّبي » العامة على فتح الهمزة ، وتشديد الواو ، أمراً من التَّأويب وهو التَّرجيع ، وقيل : التسبيح بلغة الحَبَشَة ، وقال القُتَيْبيُّ : أصله من التأويل في السير وهو أن يسير النهار كله ، وينزل ليلاً كأنه قال : أدْأَبِي النَّهار كُلَّهُ بالتسبيح معه ، وقال وهب : نوحي معه ، وقيل : سيري معه ، وقيل : سيري معه ، والتضعيف يُحتمل أن يكون للتكثير ، واختار أبو حيان أن يكون للتعدي قال : لأنهم فَسَّروه برجع مع التسبيح ، ولا دليل فيه لأنه دليل معنى .
وقرأ ابنُ عباس والحَسَنُ وقتادةُ وابنُ أبي إسحاق : أُوبِي بضم الهمزة أمراً من آبَ يَؤُوبُ أي ارجع معه بالتسبيح .
قوله : « والطير » العامة على نصبه وفيه أوجه :
أحدهما : أنه عطف على محل جبال لأنه منصوب تقديراً .
الثاني : أنه مفعول معه قاله الزجاج . ورد عليه بأنه قبله لفظ « معه » ولا يقتضي العامل أكثرَ من مفعول معه واحد إلا بالبدل أو العطف لا يقال : جَاءَ زَيْدٌ مَعَ بَكْرٍ مَعَ عَمْروٍ قال شهاب الدين : وخلافهم في تَقَصِّيه حالين يقتضي مجيئه هنا .
الثالث : أنه عطف على « فضلاً » ، ولا بدّ من حذف مضاف تقديره آتيناه فضلاً وتَسْبِيح الطير .
الرابع : أنه منصوب بإضمار فعل أي سَخَّرْنَا لَهُ الطَّيْرَ . قاله أبو عمرو ، وقرأ السُّلَميُّ والأعرجُ ويعقوبُ وأبو نوفل وأبو يَحْيَى وعاصمٌ - في رواية - والطَّيْرُ بالرفع ، وفيه أوجه : النسق على لفظ « الجبال » وأنشد :
4114- أَلاَ يَا زَيْدُ وَالضَّحَّاكُ سِيرَا ... فَقَدْ جَوزتُمَا خَمَرَ الطَّرِيق
بالوجهين ، وفي عطفِ المفرف بأل على المنادى المضموم ثلاثة مذاهب ، الثاني : عطفه على الضمير المستكن في « أَوِّبِي » وجاز ذلك ، للفصل بالظرف ، والثالث : الرفع على الابتداء والخبر مضمير أي والطيرُ كذلك أي مؤوبةٌ .
فصل
لم يكن الموافقون له في التأويب منحصراً في الطير والجبال ولكن ذكر الجبال لأن الصخور للجُمُود والطير للنفور وكلاهما مستبعد منه الموافقة ، فإذا وافقه هذه الأشياء فغيرها أولى ثم إن من الناس من لم يوافقه وهم القاسية قلوبهم التي هي أشَدّ قسوة .
قال المفسرون كان داود إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصَدَاها وعكفت الطير على من فوقه فصدى الجبال الذي يسمعه الناس اليوم من ذلك وقيل : كان داود إذا تخلل الجبال فسبح اله جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح . وقيل : كان داود إذا لحقه فتور أسمعه الله تسبيح الجبال تنشيطاً له .
قوله : « وَأَلَنَّا » عطف على « آتَيْتَا » وهو من جملة الفَضْل ، قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يعطف على « قلنا » في قوله { ياجبال أَوِّبِي . وَأَلَنَّا } .
فصل
ألان الله تعالى له الحديد حتى كان في يده كالشمع والعجين يعمل منه ما يشاء من غير نار ولا ضرب مِطْرَقَةٍ وذلك في قدرت الله يسير ، روي أنه طلب من الله أن يغنيه عن أكل مال بيت المال فألان الله له الحديدَ وعلمه صنعة اللَّبُوس وهي الدرع وأنه أول من اتخذها . وإنما اختار الله له ذلك لأنه وقاية للروح التي هي من أمره وتحفظ الآدمي المكرم عند الله من القتل ، فالزَّرَّاد خيرمن القوَّاس والسَّيَّاف وغيرهما؛ لأن القوس والسيف وغيرهما من السلاح رُبَّمَا يستعمل في قتل النفس المحرمة ، بخلاف الدَّرع قال عليه ( الصلاة و ) السلام : « كَانَ دَاوُدُ لاَ يَأكُلُ إلاَّ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ » .
قوله : { أَنِ اعمل } فيه وجهان :
أظهرهما : أنها مصدرية على حذف الجر أي لأَنْ .
والثاني : قاله الحَوْفيُّ وغيره إنها مفسرة لقوله : { وَأَلَنَّا لَهُ الحديد أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ } ورد هذا بأن شرطها تقدم بما هو بمعنى القول ولم يتقدم إلا « أَلَنَّا » ، واعتذر بعضهُم عن هذا بأن قَدَّر ما هو بمعنى القول أي وأَمَرْنَاهُ أَنْ اعْمَلْ . ولا ضرورة تدعو إلى ذلك ، وقرئ : « صَابِغَاتٍ » لأجل الغين وتقديم تقديره في لقمان عند « وأسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ » .
فصل
معنى « سابغات » أي كوامل واسعات طوالاً تسحب في الأرض . وذكر الصفة ويعلم منها الموصوف .
قوله : { وَقَدِّرْ فِي السرد } والسرد : نسيج الدُّرُوع يقال لصانعه : السَّرَّاد « الزَّرَّاد .
والمعنى قدر المسامير في حلق الدروع أي لا تجعل المسامير غلاظاً فتكسر الحَلَق ولا دقاقاً فتُغَلْغِل فيها . ويقال السرد المسمار في الحَلَقة ، يقال : درع مسْرُودَة أي مَسْمُورَة الحَلَق . قودر في السَّرد أي اجعله على القصدِ وقدْرِ الحاجة ، ويحتمل أ ، يقال السَّرد هو عمل الزرد .
وقوله : { وَقَدِّرْ فِي السرد } أي إنكم غيرمأمور به أمر إيجاب إنما هو اكتساب والكسب ( إنما ) يكون بقدر الحاجة وباقي الأيام والليالي للعبادة فقدر في ذلك العمل ولا تشغل جميع أوقاتك بالكسب بل حصل به القوت فحسب .
ويدل عليه قوله تعالى : { واعملوا صَالِحاً } أي لستم مخلوقين إلا للعمل الصالح فاعملوا ذلك وأكثروا منه ولاكسب فقدروا فيه ثم أكد طلب الفعل الصالح بقوله : { إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } يريد بهذا والكسب فقدروا فيه ثم أكد طلب الفعل الصالح بقوله : { إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } يريد بهذا داود وآله ، ثم لما ذكر المنيب الواحد منيباً آخر وهو سليمانُ كقوله تعالى : { وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ } [ ص : 34 ] ذكر ما ساتفاد من الإنابة وهو قوله تعالى : { وَلِسُلَيْمَانَ الريح } العامة على النصب بإضمار فعل ، أي سَخَّرنَا لِسُلَيْمانَ ، وأبو بكر بالرفع على الابتداء ، والخبر في الجار قبله أو محذوف ، وجوز أبو البقاء أن يكون فاعلاً يعني بالجار ، وليس بقويّ لعدم اعتماده وكان قد وافقه في الأنبياء غيره ، وقرأ العامة الرِّيحَ بالإفراد . والحَسَنُ وأبو حَيْوَةَ ، وخالدُ بْنُ إلْيَاسَ الرِّيَاح جمعاً . وتقدم في الأنبياء أن الحسن يقرأ مع ذلك بالنصب وهنا لم ينقل له ذلك .
فإن قيلَ : الواو في قوله : « وَلِسُلَيْمَانَ » للعطف فعلى قراءة الرفع يصير عطفاً للجملة الاسمية على فعلية وهو لا يجوز أوْ لاَ يَحْسُنُ؟
فالجواب : أنه لما بين حال داود فكأنه قال : لما ذكر لداود ولسليمان الريح وإما على النصب على قوله : { وَأَلَنَّا لَهُ الحديد } ( كأنه قال وألنا لداودَ الحديدَ ) وسخرنا لسليمان الريح .
قوله : { غُدُوُّهَا شَهْرٌ } مبتدأ وخبر ولا بد من حذف مضاف أي غُدُوُّهَا مَسِيرةُ شَهرٍ أو مقدارُ غُدُوِّهَا شَهْرٌ ، ولو نصب لجاز ، إلا أنه لم يُقْرأ بها فيما علمنا ، وقرأ ابن أبي عبلة غَدْوَتُهَا ورحتُها على المرّة ، والجملة إما مستأنفة ، وإما في محلِّ حالٍ .
فصل
المعنى غُدُوُّ تلك الريح المستمرة له مسيرةُ شهر ، وسير رواحها شهر فكانت تسير به في يوم واحد مسيرةَ شهرين . قال الحسن : كان يَغْدُو من دمشقَ فيقيل بإصطخر _وبينهما مسية شهر ، ثم يَرُوحُ من إصطخر فيبيت بكَابُل ) وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع وقيل : كان يتغذى بالرِّيِّ ويتعشى بسمرقَنْدَ .
فإن قيل : ما الحكمة في قوله في الجبال معَ داوُودَ الجِبَالَ وفي الأنبياء وفي هذه السورة فقال : يا جبال أوبي معه وقال في الريح هناك وههنا : لسليمان باللام؟
فالجواب : أن الجبال لما سبَّحت شَرفت بذكر الله فلم يُضِيفْها إلى داود بلام الملك بل جعلها معه كالمصاحب والريح لم يذكر تسبيحها فجعلها كالمملوكة لَهُ .
قوله : { مَنْ يَعْمَلُ } أي أذبْنَا له عين النُّحاس . والقِطْرُ : النحاسُ قال المفسرون : أجريت له عين النحاس ثلاثة أيام بلياليها كجَرْي المياه . وكان بأرضِ اليمن .
وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله لسليْمَانَ .
قوله : { } يجوز أن يكون مرفوعاً بالابتداء وخبره في الجار قبله أي مِنَ الجِنِِّ مَنْ يَعْمَلُ وأن يكون في موضع نصب بفعل مقدر أي وسَخَّرْنَا لَهُ مَنْ يَعْمَلُ و « مِنَ الجِنِّ » يتعلق بهذا المقدر ، أو بمحذوف على أنه حال أو بيان ، و « بإذن » حال أي مُيسّراً بإذن ربه ، والإذن مصدر مضاف لفاعله ، وقرئ : « وَمَنْ يَزُغْ » بضم الياء من أَزَاغَ ومفعوله محذوف أي يَزُغْ نَفْسَهُ ، أي يُمِيلُها و « مِنْ عَذَابٍ » لا بتداء الغاية أو للتبعيض .
فصل
قال ابن عباس : سخر الله الجنَّ لسليمانَ وأمرهم بطاعته فيما يأمرهم به ، ومن يزُغ يعدل منهم من الجن عن أمرنا الذي أمرنا به من طاعة سليان نُذِقْه مِنْ عَذَابِ السَّعير في الآخرة ، وقيل : في الدنيا وذلك أن الله وكل بهم ملكاً بيده سَوْطٌ من نارٍ فمن زاغ منهم عن أمر سليمان ضربه ضربةً أحْرَقَتْهُ .
قوله : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ } مفسر لقوله : « مَنْ يَعَمَلُ » و « مِنْ مَحَارِيبَ » بيان ل « مَا يَشَاءُ » والمراد بالمحاريب : المساجد والأبنية المرتفعة ، وكان مما عملوا له بيت المقدس ، ابتدأه داود ورَفَعَهُ قامةَ رجُل فأوحى إليه أني لم أقضِ ذلك على يدك ولكن ابن لك أملكه بعدك اسمُه سليمانُ أقضي تمامه على يده ، فلما توفاه الله استخلف سليمان فأحب إتمام بناء بيت المقدس فمجمع الجن والشياطين وقسَّم عليهم الأعمال فخص كل طائفة منهم بعمل يستصلحه له فأرسل الجن والشياطين في تحصل الرُّخَام والمِيهَا الأبيْضَ من معادِنه وأمر ببناء المدينة بالرُّخام والصّفاح وجعلها اثْنَيْ عَشَرَ رَبَضاً وأنزل على كل ربض منها سبطاً من الأسباط وكانوا اثنى عشر سبطاً ، فلما فرغ من بناء المدينة ، ابتدأ في بناء المسجد فوجه الشياطين فِرَقاً فِرَقاً يستخرجون الذهبَ والفضةَ والياقوتَ من معادنها والدرِّ الصِّافِيَ من البحر وفرقاً يقلعون الجواهرَ من الحجارة من أماكنها وفرقاً يأتونه بالمِسْكِ والعَنْبَر وسائر الطّيب من أماكنها فأتى من ذلك بشيء لا يُحصيه إلا الله عزّ وجلّ . ثم أحضر الصُّنَّاع وأمرهم بنحتِ تلك الحجارة المرتفة وتصييرها ألواحاً وإصاحاً تلك الجواهر وثَقَّبَ الياقوتَ واللآلئَ فبنى المسجد بالرُّخَام الأبيض والأصفر والأخضر وعمَّده بأساطين المِيهَا الصَّافي وسقَّفه بألواح الجَوَاهر الثمينة وفَصَّصَ سُقُوفَه وحِيطَانِهُ باللآلىء واليواقيت وسائر الجواهر وبسط أرضه بألواح الفَيْرُوزَج فلم يكن يومئذ في الأرض بين أبهرُ ولا أنورُ من ذلك المسجد كان يضيء في الظلمة كالقَمر ليلةَ البدر ، فلما فرغ منه جمع أحْبَار بين إسرائيل وأعلمهم أنه بناه لله وأن كل شيء فيه خالص لله ، واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيداً ، روى عبدُ الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « لمَّا فَرَغَ سُلَيْمَانُ مِنْ بِنَاء بَيْتِ المَقْدِس سَأَلَ رَبَّهُ ثَلاثَا فَأَعْطَاه اثْنَتَين وَأنَا أرْجُو أنْ يَكُونَ أَعْطَاهُ الثُّالثَةَ سَألَ حُكْماً يُصَادِفُ حُكْمَهُ فأعطاه إياه ، وَسَأَلَهُ مُلْكاً لاَ يَنْبغَي لأَحدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأَعْطَاهُ ، وَسَأَلَهُ أنْ لاَ يَأتِيَ هذَا البَيْتَ أحَدٌ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ إلاَّ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبه كَيَوْم وَلَدَتْهُ أُمُّهُ وَأَنَا أَرْجُوا أنْ يَكُون قَد أَعْطَاهُ ذَلِكَ »
قَالُوا : فَلَمْ يَزَلْ بَيْتُ المقدس على ما بناه سليمان حتى غزاه بخنتصَّر فخرَّب المدينة وهَدَمَها ونقَضَ المَسْجِد وأخذ ما كان في سقوفه وحِيطَانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر إلى دار مملكته من أرض العراق وبنى الشيطان لسليمان باليمن حصوناً كثيرة وعجيبة من الصخر .
قوله : { وَتَماثِيلَ } وهي النقوش التي تكون في الأبنية . وقيل : صور من نُحَاس وصفر وشَبَهٍ وزُجَاج ورُخَام . قيل : كانوا يُصَوِّرون السِّباع والطيور . وقيل : كانوا يتخذون صور الملائكة والأنبياء والصالحين في المساجد ليراها الناس فيزداودوا عبادة ولعلها كانت مباحة في شريعتهم كما أن عيسى كان يتخذ صُوراً من طينٍ فينفخ فيها فيكون طيراً .
قوله : { وَجِفَانٍ كالجواب } الجِفَانُ القِصَاعُ ، وقرأ ابن كثير بإثبات ياء « الجَوَابِ » وصلاً ووقفاً وأبو عمرو وورشٌ بإثباتها وصلاً وحذفها وقفاً . والباقون بحذفها في الحالين و « كَالْجَوَابِ » صفة « لِجفَانٍ » والجِفَانُ جمع جَفْنَة ، والجَوَابِي جمعُ جَابيةٍ كَضاربة وضَوَارب والجابية الحَوْض العظيمُ سميت بذلك لأنه يُجْبي إليها الماءُ ، أي يجمع وإسناد الفعل إليها مجاز لأنه يُجْبَى فيها كما قيل : خَابِيَة ، لما يُخبَّأُ فيها قال الشاعر :
4115- بِجِفَانٍ تَعْتَرِي نَادِيَنَا ... مِنْ سَدِيفٍ حِينَ هَاجَ الصِّنَّبِرْ
كَالْجَوابِي لاَ تَنِي مُتْرَعَةً ... لِقِرَى الأضْيَافِ أوْ لِلمُحْتَضرْ
وقال الأعشى :
4116- نَفَى الذَّمَّ عَنْ آلِ المُحَلِّقِ جَفْنَةٌ ... كَجَابِيةِ الشَّيْخِ العِرَاقيِّ تَفْهَقُ
وقال الأفوه :
4117- وَقُدُورِ كَالرُّبَا رَاسِيَة ... وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِي مُتْرَعَه
قيل : كان يقعد على الجفنة الواحدة ألف رجل يأكلون منها .
فصل
وقُدُورٍ راسِيَات ثابتات لها قوائم لا يحرِّكْنَ عن أماكنها ولا يبدلن ولا يعطلن وكان يصعد إلهيا بالسلاليم وكانت باليمن .
قوله : { اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً } في « شكراً » أوجه :
أحدهما : أنه مفعول به أي اعملُوا الطَّاعَةَ سميت الصلاة ونحوها شكراً لسدِّها مَسَدَّهُ .
الثاني : أنه مصدر من معنى « اعْمَلُوا » كأنه قي : اشْكُرُوا شكراً بعَمَلِكُمْ أو اعملوا عَمَلَ شُكْر .
الثالث : أنه مفعول من أجله أي لأجل الشكر كقولك : جِئْتَكَ طَمَعاً ، وعبدت الله رجاء غُفْرَانه .
الرابع : أنه مصدر موقع الحال أي شَاكِرينَ .
الخامس : أنه منصوب بفعل مقدر من لفظه تقديره واشْكُرُوا شُكْراً .
السَّادس : أنه صفة لمصدر اعملوا تقديره اعلمُوا عملاً شكراً أي ذَا شُكْرٍ قال المفسرون : معناه اعملوا يا آل داود بطاعة الله شكراً له على نعمة ، والعم أن كما قال عقيب قوله ( تعالى ) { َنِ اعمل سَابِغَاتٍ } { واعملوا صَالِحاً } قال عقيبَ ما تعمله الجن له اعملا آل داود شكراً إشارة إلى ما تقدم من أنه لا ينبغي أن يجعل الإنسان نفسه مستفرقةً في هذه الأشياء ، وإنما يجب الإكثار من العمل الصالح الذي يكون شُكْراً .
قوله : « وَقَلِيلٌ » خبر مقدم « ومِنْ عِبَادي » صفة له ، « والشَّكُورُ » مبتدأ المعنى أن العامل بطاعتي شكراً لنعمتي قليلٌ . قيل : المراد من آل داود هو داود نفسه ، وقيل : داود وسليمان وأهل بيته .
فصل
قال جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمان : سمعت ثابتاً يقول : كان داود نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من ساعات الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائمٌ يُصَلِّي .
قوله : { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت } أي على سليمان ، قال أهل العلم : كان سليمان- عليه السلام- يتحرز ببيت المقدس السَّنَّة والسَّنَتَيْنِ والشهر والشهرين ، وأقل من ذلك وأكثر يدخل فيه طعامه وشاربه فأدخله في المرة التي مات فيها وكان بدء ذلك أنه كان لا يصبح يوماً إلا نَبَتَتْ في محرابه ببيت المقدس شجرة فيسألها ما اسمك؟ فتقول اسمي كذا فيقول : لأن شيء أنت؟ فتقول : لكذا وكذا فيأمرها فتقطع فَإنْ كَانَتْ تنبت لغرس غرسها وإن كانت لدواء كتبه حتى نبتت الخروبة فقال لها ما أنت؟ قال الخرّوبة قال : لأي شيء نَبَتْت؟ قالت : لخراب مَسْجِدِك فقال سليمان : ما كان الله ليجزيه وأنا حي أنت الذي على وَجْهِك هلاكي وخراب بيت المقدس فنزعها وغرسها في حائط له ثم قال : اللَّهُمَّ عَمَّ على الجنِّ موتى حتى يعمل الناس أن الجن لا يعلمون الغيب وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعملمون من العيب أشياء ويعلمون ما في غد ، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئاً على عصاه فمات قائماً وكان للمحراب كوى بني يديه وخلفه فكانت الجن تعمل تلك الأعمال فيحسبونه حياً فلا ينكرون خروجه إلى الناس لطول صلاته فمكثوا يأبون له بعد موته حولاً كاملاً حتى أكلت الأَرَضَةُ عَصَا سُلَيْمَان فخرَّ ميتاً فعلموا بموته ، قال ابن عباس : فشكرت الجن الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب فذلك قوله : { مَا دَلَّهُمْ على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ } « تَأكل منسأته » أي عصاه .
قوله : « تَأكُلُ » إما حال ، أو مستأنفة وقرأ ابن ذَكْوَان منسأْتَهُ - بهمزة ساكنة ونافع وأبو عمرو بألف محضفة ، والباقون بهمزة مفتوحة ، والمِنْسَأةُ اسم آلة من نَسأَهُ أي أخَّرَهُ كالمكسحة والمِكْنَسة من نسأتُ الغنم أي زجرتها وستقتها ، ومنه : نَسَأَ اللَّهُ في أجَلِهِ أي أَخَّره وفيها الهمزة وهو لغة تميم وأنشد :
4118- أَمِنَ أَجْل حَبْلٍ لاَ أَبَاكَ ضَرَبْتَهُ ... بمِنْسَأَةٍ قَدْ جَرَّ حَبْلُكَ أَحْبُلاَ
( والألف ) وهو لغة الحجاز وأنشد :
4119- إذَا دَبَبْتَ عَلَى المِنْسَأةِ مِن كِبَرٍ ... فَقَد تَبَاعَدَ عَنْكَ اللَّهْوُ وَالْغَزَلُ
فأما بالهمزة المفتوحة فهي الأصل لأن الاشتقاق يشهد له والفتح لأجل بناء مِفْعَلَةٍ كمِكَنَسَةٍ وأما سكونها ففيه وجهان :
أحدهما : أنه أبدل الهمزة ألفاً كما أبدلها نافع وأبو عمرو وسيأتي ، ثم أبدل هذه الألف همزة على لغة من يقول العَأَلَمُ والخَأتَمُ وقوله :
4120- .. وخِنْدِفٌ هَامَةُ هَذَا العَألَمِ
ذكره ابن مالك قال شهاب الدين وهذا لا أدري ما حمله عليه كيف نعتقد أنه هرب من شيء ثم يعود إليه وأيضاً فإنهم نصُّوا على أنه إذا أبدل من الألف همزة فإن ان لتلك الألف أصل حركت هذه الهمزة بحركة أصل الألف .
وأنشد ابن عصفور على ذلك :
4121- وَلَّى نَعَامُ بَنِي صَفْوَانَ زَوْزَأَةً .. . .
قال : الأصل زَوْزاةٌ وأصل هذا : زَوْزَوَةٌ ، فلما أبدل من الألف همزة حركها بحركة الواو ، إذا عرف هذا فكان ينبغي أن تبدل هذه الألف همزة مفتوحة لأنها عن أصل متحرك وهو الهمزة المتفوحة فتعود إلى الأول وهذا لايقال .
الثاني : أنه سكن الفتحة تخفيفاً والفتحة قد سكنت في مواضع تقدم التنبيه عليها وشواهدها ، ويحسنه هنا أن الهَمْزَة تشبه حروف العلة ، وحرف العلة يستثقل عليه الحركة من حيث الجملة وإن كان لا تستثقل الفتحة لخفتها ، وأنشدوا على تسكين همزتها :
4122- صَرِيعُ خَمْرٍ قَامَ مِنْ وَكْأتِهِ ... كَقوْمَةِ الشَّيْخِ إلَى مِنْسأتِهِ
وقد طعن قوم على القراءة ونسبوا راويها إلى الغلط قالوا : لأن قياس تخفيفها إنما هو تَسْهيلُها بَيْنَ بَيْنَ وبه قرأ ابنُ عامر وصاحباهُ فظن الراوي أنهم سكنوا وضعفها أيضاً بأنه يلزم سكون ما قبل تاء التأنيث وما قبلها واجب الفتح إلا الألف وأما قراءة الإبدال فقيل : هي غير قياسية يعنون أنها ليست على قياس تخفيفها إلا أن هذا مردود بأنها لغة الحجاز ثابتة فلا يلتفت لمن طعن ، وقد قال أبو عمرو وكفى به : أنا لا أهمزها لأني لا أعرف لها اشتقاقاً ، فإن كانت مما لا يهمز فقد احتطت وإن كانت تهمز فقد يجوز لي ترك الهمز فيما يهمز ، وهذا الذي ذكره أبو عمرو أحسن ما يقال في هذا ونظائره . وقرئ مَنْسَأتَه بفتح الميم مع تحيق الهمز ، وإبدالها ألفاً وحذفها تخفيفاً وقرئ مِنْسَاءَتِهِ نزنة منعالته كقولهم : مِيضَأةٌ ومِيضَاءَةٌ ولكها لُغات ، وقرأ ابن جبير من ساته فَصَل « مِنْ » وجعلها حرف جر وجعل « ساته » مجرورة بها والسَّاةُ والسِّيَةُ هنا العَصَا وأصلها يَدُ القَوْس العليا والسفلى يقال : سَاةُ القَوْسِ مثلُ شَاةٍ وسِئَتُها فسمِّيت العصا بذلك على وجه الاستعا ة والمعنى تأكل من طرف عصاه . ووجه بذلك- كما جاء في التفسير - أنه اتَّكأ على عصا خضراء من خروب والعصا الخضراء متى اتُّكِيءَ عليها تصير كالقَوْس في الاعْوِجاج غالباً . و « سَأَة » فَعَلَة نحو قحَة وقحة والمحذوف لامهما وقال ابن جني : سمي العصا منسأة لأنها تسوء وهي فَلَة والعين محذوفة قال شهاب الدين : وهذا يقتضي أن تكون القراءة بهمزة ساكنة والمنقول أن هذه القراءة بألف صريحة ولأبي الفتح أن يقول أصلها الهمزة ولكن أُبْدِلَتْ .
قوله : « دَابَّةُ الأرض » فيه وجهان :
أظهرهما : أن الأرض هذه المعروفة والمراد بدابة الأرض الأَرَضة دُوَيبَّة تأكل الخَشَب .
والثاني : أن الأرض مصدر لقولك أَرَضَيتِ الدابَّة الخَشَبَة تَأرِضُهَا أَرْضاً أي أكلتها فكأنه قيل : دابة الأكل يقال : أرَضَت الدَّابَّةُ الخَشَبَة تَأرُضُها أَرْضاً فأرِضَتْ بالكسر تَأْرَضُ هي بالفتح أيضاً وأكَلت الفَوَازجُ الأسْنَانَ تَأكُلُها أكْلاً فَأَكِلَتْ هي بالكسر تَأكَلُ أكَلاً بالفتح .
ونحوه أيضاً : جِدِعَتْ أَنْفُهُ جَدَعاً فجُدِعَ هو جَدَعاً بفتح عين المصدر ، وقرأ ابن عباس والعباس بن الفضل بفتح الراء وهي مقوية المصدرية في القرءاة المشهورة وقيل : الأَرَضُ بالفتح ليس مصدراً بل هو جمع أرَضَةٍ وهذا يكون من باب إضافة العام إلى الخاص لأن الدابة أعم من الأرضة وغيرها من الدوّابِّ .
قوله : { فَلَمَّا خَرَّ } أي سقط الظاهر أن فاعله ضمير سليمان عليه - الصلاة و ) السلام ، وقيل : عائد على الباب لأن الدابة أكلته فوقع وقيل : بل أكلت عبتة الباب وهي الخارّة وينبغي أن لا يصحَّ؛ إذ كان التركيب خرَّتْ بتاء التأنيث و : أبْقَلَ إبْقَالَها ضرورة ، أو نادر تأويلها بمعنى العَوْد أندر منه .
قوله : { تَبَيَّنَتِ } العامة على نيابته للفاعل مسنداً للجنِّ وفيه تأويلاتٌ .
أحدهما : أنه على حذ مضاف تقديره تَبَيَّنَ أمْرُ الجِنِّ أي ظَهَرَ وبَانَ و « تَبَيَّنَ » يأتي بمعنى « بَانَ » لازماً كقوله :
4123- تَبَيَّنَ لِي أَنَّ القَمَاءَةَ ذِلَّةٌ ... وأَنَّ أَعِزَّاء الرِّجَالِ طِيَالُهَا
فلما حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وكان مما يجوز تأنيث فعله ألحقت علامة التأنيث ( به ) .
وقوله « { أَن لَّوْ كَانُواْ } بتأويل المصدر مرفوعاً بدلاً من الجنِّ والمعنى ظهر كونُهم لو علموا الغيب ما لبثوا في العذاب أي ظَهَرَ جَهْلُهُمْ .
الثاني : أن تبين بمعنى بان وظهر أيضاً والجنِّ والمعنى ظهر كونُهم لو علموا الغيب ما لبثوا في العذاب أي ظَهَرَ جَهْلُهُمْ .
الثاني : أن تبين بمعنى بان وظهر أيضاً والجنّ فاعل . ولا حاجة إلى حذف مضاف و » أَنْ لَوْ كَانُوا « بدل كما تقدم والمعنى ظهر الجن جهلهم للناس لأنهم كانوا يوهمون الناس بذلك كقولك : بَانَ زَيْدٌ جَهْلُهُ .
الثالث : أن تَبَيَّنَ هنا متعدِّ بمعنى أدْرَكَ وعَلم وحينئذ يكون المراد » بِالجِنِّ « ضَعَفَتُهُمْ وبالضمير في » كانوا « كبارُهم ومَرَدَتُهُمْ و » أنْ لَّوْ كَانُوا « مفعول به ، وذلك أن المردة ( و ) الرؤساء من الجن كانوا يوهمون ضعفاءهم أنهم يعلمون الغيب فلما خَرَّ سليمانُ مَيْتاً كما ادعوا ما مَكَثُوا في العذاب ، ومن مجيء » تَبَيَّنَ متعدياً بمعنى أدْرَكَ قوله :
4124- أفَاطِم إنِّي مَيِّتٌ فَتَبَيِّنِي ... وَلاَ تَجْزَعِي كُلُّ الأَنَامِ يَمُوتُ
وفي كتاب أبي جَعْفَر ما يقتضي أن بعضم قرأ : « الجنَّ » بالنصب وهي واضحة أي تبينت الإنسُ الجِنَّ ، و « أن لو كانوا » بدل أيضاً من « الجن » ، قال البغوي : قرا ابنُ مسعود وابنُ عباس تبينت الإنس أن لو كان الجنُّ يَعْلَمُونَ الغيب ما لبثوا في العذاب المهين أي علمت الإنسُ وأيقنت ذلك وقرأ ابنُ عباس ويعقوب تُبُيِّنَتِ الجِنُّ على البناء للمفعول وهي مؤيدة لما نقله النَّحَّاس وفي الآية قراءاتٌ كثيرةٌ أضْرَبْتُ علها لمخالفتها الشواذ وأن « في » أن لو « الظاهر أنها مصدرية مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن و » لو « فاصلة بينهما وبين خبرها الفعليّ وتقدم تحقيق ذَلك كقوله :
{ وَأَلَّوِ استقاموا } [ الجن : 16 ] و { أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ } [ الأعراف : 100 ] وقال ابن عطية : وذهب سيبويه إلى أَنَّ « أَنْ » لا موضع لها من الإعراب إنما هي مؤذنة بجواب ما يَنْزِلُ مَنْزِلَة القسم من الفعل الذي معناه التحقيق واليقين لأن هذه الأفعال التي هي تحققت وتيقنت وعلمت ونحوها تحلّ مَحَلّ القسم فما لبثوا جواب القسم لا جواب « لو » وعلى الأقولا الأُول يكون جوابها . قال شهاب الدين : وظاهر هذا أنها زائدة لأنهم نصوا على اطِّرَادِ زيادتها قبل لو في حَيِّز القَسَم .
وللناس خلاف هل الجواب لِلَوء أو للقسم . والذي يقتضيه القياس أن يجاب أسبقهما كما في اجتماعه مع الشرط الصريح ما لم يتقدمهما ذُو خَبَر كما تقدم بيانه .
وتقدم الكلام والقراءات في سبأ في سورة النمل .
فصل
المعنى أن سليمان لما سقط ميتاً تَبَيَّنَت الجِنُّ أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين أي التَّعَب والشقاء مسخرين لسليمان وهو ميت يظنونه حياً أراد الله بذلك أن يعلم الجن أنهم لا يعلمون الغيب لأنهم كانوا يظنون أنهم يعلمون الغيب لغلة الجهل عليهم وذكر الزُّهْريُّ أن معنى تَبَيَّنّت الجِنُّ أي ظهرت وانكشفت الجن للإنس أي ظهر لهم أمرهم أنهم لا يعلمون الغيب لأنهم كانوا قد شبهوا على الإنس ذلك ، ويؤيد هذا قراءة ابن مسعود وابن عباس المتقدمة ، وقوله : { مَا لَبِثُواْ فِي العذاب المهين } يدل على أن المؤمنين من الجنِّ لم يكونوا في التسخير ، لأن المؤمن لا يكون في زمان النَّبِيِّ في العذاب المهين .
فصل
رُوِيَ أن سليمان كان عمره ثلاثاً وخمسينَ سنة ومدة ملكه أربعونَ سنة ومَلَكَ يَوْمَ مَلَكَ وهو ابن ثلاثَ عَشْرَة سَنَةً وابتدأ في بناء بين المقدس لأربع سنين مضين من ملكه .
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
( قوله ) تعالى : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَة } قرأ حمزة وحفص مَسْكَنِهِمْ بفتح الكاف مفرداً ، والكسائي كذلك إلا أنه كسر الكاف والباقون مَسَاكِنِهِمْ جمعاً فأما الإفراد فلعدم اللبس لأن المراد الجمع كقوله :
4125- كُلُوا في بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا .. .
والفتح هو القياس لأن الفعل متى ضمت عين مضارعة أو فتحت جاء المفعل منه زماناً أو مكاناً أو مصدراً بالفتح والكسر مسموع على غير قياس ، وقال أبو الحسن : كسر الكاف لغة فاشيةٌ وهي لغة الناس اليوم والكسر لغة الحجاز وهي قليلة وقال الفراء : هي لغة يمانية فَصِيحةٌ .
و « مسكنهم » يحتمل أن يراد به المكان ، وأن يراد به المصدر أي السُّكْنَى ، ورجح بعضهم الثاني ، قال : لأن المصدر يشمل الكل ، فليس فيه وَضْعُ مفرد مَوْضع جمع بخلاف الأول فإن فيه وَضْعَ المفرد مَوْضِعَ الجمع ، كما تقرر ، لكن سيبويه يأباه إلاَّ ضَرُورةً كقوله :
4126- . . ... قَدْ عَضَّ أَعْنَاقَهُمْ جلدُ الجَوَامِيس
أي جلود ، وأما الجمع فهو الظاهر لأن كل واحد مسكن ، ورسم في المصاحف دون ألف بعد الكاف فلذلك احتمل القراءات المذكورة .
فصل
لما بين حال الشاكرين لِنِعَمِهِ بذكر داود وسليمان وبيَّن حال الكافرين بأنْعُمهِ ، بحكاية أهل « سبأ » وقرئ سَبَأ بالفتح على أنه اسم بُقْعَة ، وبالجر مع التنوين على أنه اسم قبيلة ، وهو الأظهر لأن الله جعل الآية لسبأ والظاهر هو العاقل لا المكان فلا يحتاج إلى إضمار الأهل ، وقوله « آية » أي من فضل ربهم دلالةً على وحدانيتنا وقدرتنا وكانت مساكنهم بمأرب من اليمن واسم سَبَأ عبد شمس بن يشجُب بن يَعْرُب بن قَحْطَان وسمي ( سبأ ) لأنه ول من سبأ من العرب .
قال السُّهَيْليّ : ويقال : إنه ول من تبرج ، وذكر بعضهم أنه كان مسلماً وكان له شعر يشير فيه بوجود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ( يعني سليمان عليه الصلاة والسلام ) :
4127- سَيَمْلكُ بَعْدنا ملكاً عَظِيماً ... نَبِيُّ لاَ يرخِّصُ في الحَرَامِ
وَيملِكُ بَعْدُ منهم مُلُوك ... يدينون العباد بغير دامِ
وَيملِكُ بعده منهم ملوك ... يصيرُ الملك فينا باقتِسام
وَيملك بَعْدَ قَحْطَانَ نَبِيُّ ... نفى جنته خير الأنام
يسمى أحمدَ يَا لَيْتَ أنّي ... أُعَمَّر بعد مَبْعثَهِ بعَامِ
فأعضُدُه وأحبُوه بنَصْرِي ... بكُلّ مُدَجَّج وبِكُلِّ رَامِي
مَتَى يَظْهَرْ فكُونوا ناصِرِيهِ ... ومن يلقاه يُبْلِغْه سَلامِي
روى ابن عباس قال سأل فروة بن مسيك الغطيفي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سبأ ما هو؟ أكان رجلاً أو امرأة أو أرضاً؟ قال : بل هو رجل من العرب ولد عشرة من لاولد فسكن اليمن منهم ستة وبالشام منهم أربعة فأما الذين تيامنوا فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحِمير فقال رجل وما أنمار؟ قال : الذين منهم خثْعم وبجيلة ، وأما الذين تشامُوا فلَخم وجُذام وعاملة وغسان ، ولما هلكت أموالهم وخربت بلادهم تفرقوا في غور البلاد ونجدها أيدي سبا شَذَر مذر ، فلذلك قيل لكلّ متفرقين بعد اجتماع : « تَفَرَّقُوا أَيَادي سَبَا » فنزلت طوائف منهم الحجاز فمنهم خُزَاعة نزلوا بظاهر مكة ومنهم الأوسُ والخَزْرج نزلوا بيثرب فكانوا أول من سكنها ثم نزلت عندهم ثلاث قبائل من اليهود بنو قَيْنُقَاع وبنو قُرَيْظَة والنَّضير فخالفوا الأوس والخزرد وأقاموا عندهم ونزلت طوائف أُخَرُ منهم الشام وهم الذين تنصروا فيما بعد وهم غَسَّان وعامِلة ولخم وجذام وتنوخ وتغلب وغيرهم ، و « سبأ » يجمع هذه القبائل كلها .
والجمهور على أن جميع العرب ينقسمون إلى قسمين فحطانية وعَدْنَانيَّة ، فالقحطانية شَعْبَان سبأ وحَضْرَمَوْتَ والعَدْنَانيَّة شعبان ربيعةُ ومُضَر وأما قُضَاعَةُ فمختلف فيها فبعضهم نسبها إلى قَحْطَان وبعضهم إلى عدنان ، وقيل : إن قحطان أول من قيل له : أنْعِمْ صباحاً ، وأبَيْتَ اللَّعْنَ قال بعضهم : إن جميع العرب ينتسبون إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما ( الصلاة و ) السلام وليس بصحيح فإن إسماعيل نشأ بين جرهم بمكة وكانوا عرباً . والصحيح أن العرب العاربة كانوا قبل إسماعيل منهم عاد وثمود وطسم وجديس وأَهم وجرهم والعماليق يقال : إن « أهم » كان ملكاً يقال إنه أول من سقَّف البيوت بالخشب لامنشور وكانت الفرس تسميه آدم الأصغر وبنوه قبيلة ، يقال لها : وَبَار هلكوا بالرمل انثال عليهم فأهلكهم وطمَّ ( مناهلهم ) وفي ذلك يقول بعض الشعراء :
4128- وَكَرَّ دَهْرٌ عَلَى وَبَارِ ... فَهَلَكت عَنْوَةً وَبَارُ
قوله : « جنتان » فيه ثلاثة أوجه :
الرفع على البدل من « آية » وأبد مُثَنَّى من مفرد لأن هذا المفرد يصدق على هذا المثنى وتقدم في قوله : { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } [ المؤمنون : 50 ] .
الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر . وضعف ابن عطية الأول ولم يبينه . ولا يظهر ضعفه بل قوته وكأنه توهم أنهما مختلفان إفراداً أو تثنية فلذلك ضعف البدل عنده والله أعلم .
الثالث - وإليه نحا ابن عطية - أن يكون جنتان متبدأ وخبره « عَنْ يَمِينٍ وشِمَالٍ » .
وردَّة أبو حيان بأنه ابتداء بنكرة من غير مسوغ واعْتُذِرَ عنه بأنه قد يعتقد حذف صفة أي جَنَّتَانِ لهم أو جنتان عَظِيمَتان فيصح ما ذهب إليه وقرأ ابن أبي عبلة جنتين بالياء نصباً على خبر كان واسمها « آية » .
قإن قيل : اسم كان كالمبتدأ ولا مسوغ للابتداء به حتى يجعل اسم كان والجواب أنه يخصص بالحال المتقدمة عليه وهي صفته في الأصل ألا ترى أنه لو تأخر « لِسَبأٍ » لكان صفة « لآية » في هذه القراءة .
قوله : « عَنْ يَمينٍ » إما صفة لجنتان أو خبر مبتدأ مضمير أي هما عن يمين قال المفسرون أي عن يمين الوادي وشماله .
وقيل : عن يمين من أتاها وشماله وكان لهم وادٍ قد أحاط الجنتان بذلك الوادي .
قال الزمخشري : أيَّةُ آيَةٍ في جنتين مع أن بعض بلاد العراق فيها ألف من الجِنَان؟ وأجاب بأن المراد لكل واحد جنتين أو عن يمين أيديهم وشمالهم جماعات من الجنان ولإيصال بعضها ببعض جعلها جنة واحدة .
قوله : « كُلُوا » على إضمار القول أي قَالَ اللَّه أو المَلَكُ كُلُوا من رزق ربكم .
وهذه إشارة إلى تكميل النعمة عليهم واشكروا له على ما رزقكم من النعمة فإن الشكر لا يطلب إلا على النعمة المعتبرة أي اعملوا له بطاعته . قوله « بَلْدَةٌ » أي بَلْدَتثكُمْ بلدةً ( طيبة ) وربكم « رَبُّ غَفُورٌ » والمعنى أن أرض سبأ بلدة طيبة ليست مسبخة .
قال ابن زيد : لم ير في بلدتهم بَعُوضَة ولا ذُبابٌ ولا بُرْغُوثٌ ولا حيَّة ولا عقربٌ ولا وباءٌ ولا وَخَم وكان الرجل يمر ببلدهم وفي ثيابه القمل فيموت القمل كلها من طيب الهواء ، فذلك قوله : { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ } أي طيبة الهَوَاءِ « ورب غفور » قال مقاتل : وربكم إنشَكَرْتُمْ فيما رزقكم رب غفور للذنوب . وقيل ورب غفور أي لا عقاب عليه ولا عذاب في الآخرة وقرأ رويس بنصب « بلدةٍ ، وَرَب » على المدح أو اسكنوا أو اعبدوا وجعله أبو البقاء مفعولاً به والعامل فيه « اشْكُرُوا » وفيه نظر؛ إذ يصير التقدير اشكروا لربكم رَبًّا غفوراً ، ثم إنه تعالى لما بين ما كان من جانبه ذكر ما كان من جانبهم فقال : « فَأَعْرَضُوا » من كمال ظلمهم ، الإعراض بعد إبانة الآية كقوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ } [ السجدة : 22 ] قال وهب : أرسل الله إلى سبأَ ثلاثةَ عَشَرَ نبياً فدعوهم إلى الله وذكروهم نعم الله عليهم وأنذروهم عقابه فكذبوهم وقالوا ما نعرف لله عزّ وجلّ علينا نعمةً ، فقولوا لربكم فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع فذلك قوله عزّ وجلّ : فَأَعْرَضُوا ، ثم ذكر كيفية الانتقام منهم كما قال تعالى : { إِنَّا مِنَ المجرمين مُنتَقِمُونَ } [ السجدة : 22 ] وكيفيته أنه تعالى أرسل عليهم سيلاً غرَّق أموالهم وخَرَّب دُورَهُمْ .
قوله : { سَيْلَ العرم } العَرِمُ فيه أوجه :
أحدهما : أنه من باب إضافة الموصوفِ لصفته في الأصل إذ الأصل : السَّيْلُ العَرِمُ ، والعَرِمُ الشديد وأصله من العَرَامَة ، وهي الشَّراسَةُ والصعوبة وعَرِمَ فُلاَنٌ فَهُوَ عارِمٌ وَعرِم وعُرَام الجَيْشِ منه .
الثاني : أنه من حذف الموصوف وإقامة صفته مُقامه تقديره فأرسلنا عليهم سَيْلَ المَطَرِ العَرِمِ أي الشديد الكثير .
الثالث : أن العَرِم اسم للبناء الذي يجعل سداً وأنشد ( قول الشاعر ) :
4129- مِنْ سَبَأِ الحَاضِرين مَأْرِبَ إذْ ... يَبْنُونَ مِنْ سَيْلِهِ العَرِمَا
أي البناء القوي . قال البغوي : العَرَمْ والعَرَمُ والعَرِمُ جمع عَرَمَةٍ وهي السد الذي يحبس الماء .
الرابع : أن العَرِم اسم للوادي الذي كان فيه الماء نفسه .
وقال ابن الأعرابي : العرم السيل الذي لا يطاق وقيل : كان ماء أحمر أرسله الله عليهم من حيث شاء .
الخامس : أنه اسم للجرذ وهو الفأر . وقيل : هو الخُلْدُ وإنما أضيف إليه؛ لأنه تسبب عنه إذ يروى في التفسير أنه قرض السدّ إلى أن انفتح عليهم فغرقوا به . وعلى هذه الأقوال الثلاثة تكون الإضافة إضافةً صحيحة معرفة نحو : غُلاَمُ زَيْدٍ ، أي سيل البناء أو سيل الوادي الفُلاَنيّ أو سيل الجُرْذِ . وهؤلاء هم الذين ضربت العرب بهم المثل للفُرْقة فقالوا « تَفَرَّقُوا أَيْدِيَ سَبَا » . وقد تقدم .
فصل
قال ابن عباس ووهب وغيرهما : كان ذلك السد بَنَتْهُ بَلْقِيسُ وذلك أنهم كانوا يقتتلون على ماء واديهم ، فأمرت بواديهم فسد بالعرم وهو المُسَنَّاة بلغة حمير فسكت ما بين الجبلين بالصخور وجعلت له أبواباً على عدة أنهار هم يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء وإذا استغنوا سَدُّوا فإذا جاء المطر اجتمع إليه ماء أودية اليمن فاحتبس السيل من وراء السَّدِّ فأمرت بالباب الأعلى يفتح فجرى ماؤه في البركة فكانوا يسقون من بالباب الأعلى ( ثم ) من الثاني ثم من الثالث الأسفل فلا ينفذ الماء حتى يَثوبَ الماءُ من السنة المقبلة فكانت تَقْتَسمثه بينهم على ذلك فبقُوا على ذلك بعدها مدة فلمَّا طَغَوْا وكَفَرُوا سلَّط الله عليهم جُرْذاً يسمَّى الخُلْدَ فنقب السد من أسفله فغَرَّق الماء جنانهم وخرب أرضهم .
قوله : { بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْن } قد تقدم في البقرة أن المجرور بالباء هو الخارج ، والمنصوب هو الداخل؛ ولهذا غَلطَ مَنْ قال من الفقهاء : فلو أبدل ضاداً بظاءٍ بطلت صلاته بل الصواب أن يقول : ظاءً بضادٍ .
قوله : { أُكُلٍ خَمْطٍ } قرأ أبو عمرو بإضافة « أُكُلٍ » إلى « خَمْطٍ » والباقاون بتنوينه غير مضاف ، وقد تقدم في البقرة أن ابْنَ عَامِرٍ ، وأبَا عمرو والكوفيِّينَ يضمون كاف « أكل » غير المضاف لضمير المؤنثة وأنَّ نافعاً وابنَ كثير يسكنونها بتفصيل هناك تقدم تحريره فيكون القراء هنا على ثلاث مراتب ، الأولى لأبي عمرو أُكُلِ خمطٍ بضم كاف أكل مضافاً « لخمط » .
الثانية : لنافع وابن كثير بتسكين كافة وتنوينه .
الثالثة : للباقين ضم كافة وتنوينه فمن أضاف جعل الأكل بمعنى الجَنَى والثَّمَر .
والخمط قيل : شجر الأَراكَ وثمره يقال له : البَريرُ . ( و ) هذا قول أكثر المفسرين وقيل : كل شجر ذي شوك وقال المبرد والزجاج : كل نبت أخذ طعماً من مَرَارَةٍ حتى لا يمكن أكله فهو خَمْط وقال ابن الأعرابي : الخمط ثمرة شجرة يقال لها : فَسْوَة الضَّبْغ على صورة الخَشْخَاش لا ينفتع به . قال البغوي : من جعل الخمط اسماً للمأكول فالتنوين في « أكل » حسن ومن جعله أصلاً وجعل « الأُكُل » ثمرة فالإضافة فيه ظاهرة والتنوين سائغ تقول العرب في بُسْتَان فلان أعنابُ كَرْمٍ وأعنابٌ كَرْمٌ يترجم الأعناب بالكرم لأنها منه .
قوله : { وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرِ } معطوفان على « أكل » لا على « خمط » لأن المخط لا أكل له ، وقال مكي : لمَّا لَمْ يَجُز أن يكون الخمط نعتاً للأكل؛ لأن الخَمْطَ اسم شجر بعينه ولا بدلاً؛ لأنه ليس الأول ولا بعضه وكان الجنى والثمر من الشجر أضيف على تقدير « مِنْ » كَقولك : « هذَا ثَوْبُ خَزِّ » . ومن نون فيحتمل أوجهاً :
الأول : أنه جعل « خمطاً » وما بعده إما صفة « لأكُل » قال الزمخشري : أو وصف الأكل بالخمط كأنه قيل : ذَوَاتَىْ أُكُلٍ بشيع . قال أبو حيان : والوصف بالأسماء لا يَطَّرِدُ وإن كان قد جَاءَ منه شيءٌ نحو قولهم : « مَرَرْت بقَاعٍ عَرْفَج كُلّهٍ » .
الثاني : البدل من « أكل » قال أبو البقاء : وجُعِلَ خَمْطاً أُكُلاً لمجاورته إياه ، وكونِهِ سبباطً له إلا أن الفارسيَّ ردَّ كونه بدلاً قال : لأنَّ الخَمْطَ ليس بالأكل نفسه ، وقد تقدم جواب أبي البقاء ، وقد أجاب بعضهم عنه وهو منتزع من كلام الزمخشري أي أنه على حذف مضاف تقديره ذواتي أكُلِ خمطٍ قال : والمحذوف هو الأول في الحقيقة .
الثالث : أنه عطف بيان وجعله أبو عليِّ أحسن ما في الباب ، قال : كأنه بين أن الأكل هذه الشجرة ، إلا أن عطف البيان لا يُجيزُه البصريون في النَّكرات إنما يَخصُّونَه بالمعارف والأثْلُ هو الطَّرْفَاءُ . قويل : شجر يشبه الطرفاء وقيل : نوع من الطرفاء ولا يكون على ثمرة إلا في بعض الأوقات يكون عليه شيء كالعَفْص أصغر منه في طعمه وطبعه ، والسِّدْرُ شجر معروف وهو شجر النَّبْقِ يُنْتَفَعُ به ولا يصلح ورقه لشيءٍ ، وقال بعضهم : السِّدْرُ سِدْرَانِ سِدْرٌ له ثمرة عَفءصَة لا يؤكل ولا ينتفع بورقه . والمراد بالآية الأوّل . وقال قتادة : كان شَجَرُهُمْ خيرَ الشَّجَر فصيره الله من شر الشَّجر بأعمالهم .
قوله : « قَلِيل » نعت ل « سدر » وقيل : نعت « لأُكُل » وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون نعتاً « لخمط » و « أَثْل » و « سِدْرٍ » وقرئ « وَأَثْلاً وشَيْئاً » بنصبهما عطفاً على « جنَّتَيْنِ » ثم بين ( الله ) تعالى أن ذلك ( كان ) مجازاة لهم على كفرانِهم فقالك { جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نجزيا } بذلك الجزاء « إلاَّ الكَفُور » .
قوله : { وَهَلْ نجزيا } قرأ الأَخَوَانِ وحفصٌ نُجَازِي بنون العظمة وكسر الزاي لقوله : « جَزَيْنَاهُمْ » أي ( نحن ) ( وهل نُجَازِي هَذَا الجَزَاءَ ) إلا الكفور مفعول به والباقون بضم الياء وفتح الزاي مبنياً للمفعول إلا الكفور رفع على ما لم يسم فاعله ومسلم بن جُنْدُب « يُجْزَى » للمفعول إلاَّ الكَفُور رفعاً على ما تقدم وقرئ « يَجْزِي » مبنياً للفاعل وهو اللَّهُ تَعَالى « الكَفُورَ » نصباً على المفعول به .
فصل
قال مجاهد : يجازي أي يعاقب ويقال في العقوبة وفي التوبة يجزى . قال الفراء : المؤمن يجزى ولا يجازى أي يُجْزَى الثوابَ بعَملِهِ ولا يكأفَأُ بسيِّئَاته . وقال بعضهم : المجازاة يقال في النعمة والجزاء في النقمة لكن قوله تعالى : { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفْرُوا } يدل على أن « يَجْزي » في النَّقمة ولعل من قال ذلك أخذه من المجازاة مفاعلة وهي في أكثر الأمر يكون منا بين اثنين يؤخذ من كل واحد جزاء في حق الآخر وفي النعمة لا تكون مجازاة لأن الله مبتدِئٌ بالنعم .
قوله : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التي بَارَكْنَا فِيهَا } بالماء والشجر وهي قُرَى الشام « قُرًى ظَاهِرَةً » متواصلة أي يظهر بعضها لبعضها يرى سواد القرية من القرية الأخرى لقربها منها فكان شَجَرُهُمْ من اليمن إلى الشام فكانوا يبيتون بقرية ويقيلُون بأخرى وكانوا لا يحتاجون إلى حمل زاد من سَبَأَ إلى الشام .
فإن قيل : هذا من النعم والله تعالى أراد بيان تبديل نعمهم بقوله : { وبَدَّلْنَاهُمْ بجَنَّتَيهِمْ جَنَّتَيْنِ } فكيف عاد مرة أخرى إلى بيان النعمة بعد النعمة؟
فالجواب : أنه ذكر حال نفس بلدهم وبين تبديل ذلك بالخمط والأثل ثم ذكر حال خارج بلدهم وذكر عمراتها بكَثْرة القُرى ثم ذكر تبديله ذلك بالمَفَاوز والبَرَارِي والبَوَادِي بقوله : { بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } ، وقد فعل ذلك ويدل عليه قراءة من قرأ ربُّنَا بَعَّدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا على المبتدأ والخبر .
قوله : { وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ } أي قدرنا سيرهم من هذه القرى وكان سيرهم في الغَدْوِ والرَّواح على قدر نصف يوم فإذا ساروا نصفَ يوم وصلوا إلى قرية ذات مياه وأشجار قال قتادة : كانت المرأة تخرج ومعها مِغْزَلُها وعلى رأسها مِكتَلُها فَتَمْتَهن بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ مِكتَلُها من الثمار وكان ما بين اليمن إلى الشام كذلك .
قوله : « سِيرُوا » أي وقُلْنَا لهم سيروا ، وقيل : هو أمر بمعنى الخبر أي مكَّنَّاهم من السير فكانوا يسيرون فيها لَيَالي وأياماً أي بالليالي والأيَّام أي وقت شئتم « آمِنِينَ » لا تخافون عَدُوّاً ولا جُوعاً ولا عَطَشاً .
وقيل : معنى قوله تعالى : { لِيَالِيَ وَأَيَّاماً } أنكم تسيرون فيه إن شئتم لَيَالِيَ وإن شئتم أياماً لعدم الخوف بخلاف المواضع المخوفة فإن بعضها يُسْلَكُ ليلاً لئلا يعلم العدو بسيرهم وبعضها يسلك نهاراً لئلا يقصدهم العدو إذا كان العدو غيرَ مجاهر بالقصد والعداوة فَبَطَرُوا وطغوا ولم يصبروا على العاقبة وقالوا : لو كَانَ جَنَى جَنَّاتِنَا أبعدَ مما هي كان أجدرَ أن نشتهيه فقالوا : ربَّنَا بَعِّدْ بين أسفارنا فاجعل بيننا وبين الشام فلواتٍ ومَفَاوِزَ لنركبَ فيها الرَّوَاحِل ونتزودَ فيها الأزواد . وقال مجاهد : بَطَرُوا النعمة وسَئِمُوا الراحة كما طلبت اليهود الثوم والبصل . ويحتمل أن يكون ذلك لفساد اعتقادهم وشدة اعتادهم على أن ذلك لا يعدم كما يقول القائل لغيره : اضربني إشارة إلى أنه لا يَقْدِرُ عليه ، ويحتمل أن يكون قولهم : « رَبَّنَا بَاعِدْ » بلسان الحال أي لما كفروا فقد طلبوا أن يُبَعَّد بين أسفارهم وتخريب المعمور من ديارهم ، وقوله : « ظلموا » يكون بياناً لذلك .
قوله : « رَبَّنَا » العامة بالنصب على النداء . وابن كثير وأبو عمرو وهشام « بَعِّدْ » بتشديد العين فعل طلب والباقون بَاعِدْ طلب أيضاً من المفاعلة بمعنى الثلاثي . وقرأ ابن الحَنَقِيَّة وسُفْيَان بن حُسَيْنِ وابن السَّميفع بَعْدَ بضم العين فعلاً ماضياً والفاعل المسير أي بَعُد المَسِيرُ ، و « بين » ظرف وسعيد بن أبي الحسن كذلك إلا أنه ضَمَّن نون بين جعله فَاعِلَ « بَعُدَ » فأخرجه عن الظرفية ، كقراءة { تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] رفعاً . فالمعنى على القراءة المتضمنة للطلب أنهم أَشِرُوا وبَطَرُوا فلذلك طلبوا بُعْدَ الأسْفَارِ ، وعلى القراءة المتضمنة للخبر الماضي يكون شكوى من بعد الأسفار التي طلبوها أولاً وقرأ جماعة كبيرةٌ منهم ابن عباس وابن الحنفية ويعقوب ( وعمرو ) بن فايد : « رَبُّنَا » رفعاً على الابتداء بَعَّدَ بتشديد العين فعلاً ماضياً خبره ، وأبو رجاء والحَسَنُ ويعقوبُ كذلك إلا أنه « بَاعَد » بالألف والمعنى على هذه القراءة شكوى بعد أسفارهم على قربها ودُنُوِّها تَعَنُّتاً منهم وقرئ : « بُوعِدَ » مبنياً للمفعول . وإذا نصبت « بين » بعد فعل متعد من هذه المادة في إحدى هذه القراءات سواء أكان أمراً أم ماضياً فجعله اسماً « ؟ قال شها الدين : إقراره على ظرفيته أولى ويكون المفعول محذوفاً تقديره بعد المسيرُ بين أسفارنا . ويدل على ذلك قراءة بَعُدَ بضمّ العين بَيْنَ بالنصب فكما يضمر هنا الفاعل وهو ضمير السَّيْر كذلك يبقى هنا » بين « على بابها وينوى السَّير وكان هذا أولى؛ لأن حذف المفعول كثيرٌ جداً لا نزاع فيه وإخراج الظرف غير المتصرف عن ظرفيته فيه نزاع كثير . وتقدم تحقيق هذا والاعتذار عن رفع » بَيْنكُمْ « في الأنْعَامِ وقرأ العامة أَسْفَارِنَا جَمْعاً . وابن يَعْمُرَ » سَفَرنا « مفرداً .
قوله : { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } عبرة لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم وشأنهم { ومَزَّقْناهُمّ كُلَّ مُمَزَّقٍ } وفرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق . وهذا بيان لجعلهم أحاديث . قال الشعبي : لما غرقت قُراهم تفرّقوا في البلاد أما غسان فلحقوا بالشام ومرَّ الأزد على عمان وخزاعة إلى تِهامة وموالي جذيمة إلى العراق والأوس والخزرج إلى يثرب وكان الذي قدم منهم المدينة عمرو بْنُ عامر وهو جدّ الأوس والخزرج .
قوله : { إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ } أي فيما ذكرنا من حال الشاكرين ووبال الكافرين لِعبَرٌ ودَلاَلاَتٌ » لِكُلِّ صَبَّارٍ « عن معاصي الله » شَكُورٍ « لنعمة الله قال مقاتل : يعني المؤمن في هذه الآية صبور على البلاد شكور للنعماء قال مُطْرِفٌ : هو المؤمن إذا أُعْطِيَ شَكَر ، وإذا ابتُلي صَبَرَ .
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
قوله : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّه } قرأ الكوفيون صَدَّقَ بتشديد الدال والباقون بتخفيفها ، فأما الأولى « فظَنَّهُ » مفعول به والمعنى أن طنَّ إبليس ذهب إلى شيء فوافق فصدق هو ظنه على المجاز والاتساع ومثله : كَذَّبْتُ ظَنِّي ونَفْسي وصَدَّقْتُهُمَا وصدَّقَانِي وَكذَّبانِي وهو مجاز شائع سائغ أي ظن شيئاً فوقع وأصله من قوله : { ولأضلنهم } [ النساء : 119 ] وقوله : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ] { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [ الأعراف : 17 ] فصدق ظنه وحققه بفعله ذلك بهم واتباعهم إياه . وأما الثانية : فانصب « ظنه » على ما تقدم من المفعول به كقولهم « أصَبْتُ ظَنِّي ، وأَخْطَأت ظَنِّي » أو على المصدر بفعل مقدر أي « يَظُنُّ ظَنَّهُ » أو على إسقاط ( الخافض أي ) في ظَنَّه ، وزيد بن علي والزُّهْريُّ بنصب « إبليسَ » ورفع « ظَنُّهُ » كقول الشاعر :
4130- فَإنْ يَكُ ظَنِّي صَادِقاً فَهْوَ صَادق .. . . .
جعل « ظنه » صادقاً فيما ظنه مجازاً واتساعاً ، وروي عن أبي عمرو برفعهما وهي واضحة جعل « ظنه » بدل اشتمال من إبليس والظاهر أن الضمير في « عليهم » عائد على أهْلِ سَبَأَ و « إلاَّ فَريقاً » استثناء من فاعل « اتَّبَعُوه » « ومِنَ المُؤمِنِينَ » صفة « فَريقاً » و « مِنْ » للبَيَان لا للتبعيض لئلا يَفْسد المعنى؛ إذا يلزم أن يكون بعض من آمن اتبع إبْليسَ .
فصل
قال المفسرون : صدق عَلَيْهم أي على أهل سبأ . وقال مجاهد : على الناس كلهم إلا من أطاع الله فاتَّبعوه إلاَّ فريقاً من المؤمنين قال السدي عن ابن عباس يعني المؤمنين كلهم لأن المؤمنين لم يتبعوه في أصل الدين وقد قال تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الحجر : 42 ] يعني المؤمنين وقيل : هو خالص في المؤمنين الذين يطيعون الله ولا يَعْصُونه . وقال ابن قتيبة : إن إبليس سأل النظرة فأنَظَرَهُ الله قال : لأغويَنَّهُمْ وَلأضِلَّنَّهُمْ لم يكن مستيقناً وقت هذه المقالة أن ما قاله فيهم يتم وإنما قال ظناً فلما اتبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم .
قوله : { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ } هذا استثناء مفرغ من العلل العامة تقديره : وما كان له عليهم ( من سلطان ) استيلاء لشيء من الأشياء إلا لهذا وهو تمييز المُحَقِّ من الشَّاكِّ .
قوله : « مِنْهَا » متعلق بمحذوف على معنى البيان أي أعني منها وبِسَبَبِها وقيل : « من » بمعنى « في » وقيل : هو حال من « شَكَّ » وقوله : « مَنْ يُؤْمِنُ » يجوز في « من » وجهان :
أحدهما : أنها استفهامية فتسُدّ مسدَّ معفولي العلم كذا ذكر أبو البقاء وليس بظاهر؛ لأن المعنى إلا لنُمَيِّزَ ويظهر للناس من يؤمن ممن لا يؤمن فعثر عن مقابله بقوله { مِمَّنْ مِنْهَا فِي شَكِّ } لأنه من نتائجه ولوازمه .
والثاني : أنها موصولة وهذا هو الظاهر على ما تقدم تفسيره .
فصل
قال ابن الخطيب : إن علم الله من الأزل إلى الأبد محيط بكل معلوم وعلمه لا يتغير وهو في كونه عالماً لا يتغير ولكن يتغير تعلق علمه فإنّ العلم صلة كاشفة يظهر فيها كل ما في نفس الأمر فعلم الله في الأزل أن العالمَ سَيُوجد فإذا وجد علمه موجوداً بذلك العلم وإذا عدم علمه مَعدوماً كذلك المرآة المصقولة الصافية يظهر فيها صورة زيد إن قابلها ثم إذا قابلها عمور يظهر فيها صورة والمرآة لم تتغير في ذاتها ولا تبدلت في صفاتها وإنما التغيير في الخارجات فكذلك ههنا .
قوله : { إلاَّ لِنَعْلَمَ } أي ليقع في العلم صُدُور الكفر من الكافر ، والإيمان من المؤمن وكان علمه فيه أنْ سَيَكْفُرُ زَيْدٌ ويُؤْمِنُ عَمرو قال البغوي : المعنى إلا ليميز المؤمن من الكافر وأراد علم الوقوع والظهور وقد كان معلوماً عنده بالغيب . وقوله : { وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } محقِّق ، ذلك أن الله تعالى قادر على منع إبليس منهم عالم بما يقع فالحفظ يدخل في مفهومه العلم والقدرة إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه حفظه ولا الجاهل .
قوله : { قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُمْ } مفعول « زعمتم » الأول محذوف هو عائد الموصول ، والثاني أيضاً محذوف قامت صفته مقامه أي زَعَمْتُمُوهُمْ شُرَكَاءَ من دون الله ولا جائز أن يكون : « مِنْ دُونِ اللَّهِ » هو المفعول الثاني؛ إذ لا ينعقد منه مع ما قبله كَلاَم لو قلت : هُمْ من دون الله أي من غير نية موصوف لم يجز ولولا قيام الوصف مقامه أيضاً لم يحذف لأنَّ حَذْفَهُ اختصاراً قليلٌ على أن بعضهم منعه .
فصل
لما بين الله تعالى حال الشاكرين وحال الكافرين وذكرهم بما مضى عاد إلى خطابهم فقال لرسوله عليه ( الصلاة و ) السلام : قُلْ للمشركين « ادْعُوا الَّذِينَ زعَمتُمْ من دون الله ) وفي الكلام حذف أي ادعوهم ليكشفوا الضر الذي نزل لكم في سِنِينِ الجُوع ثم وصفها فقال : { لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض } من خير وشر ونفع وضر » وَمَالَهُمْ « أي الآلهة فيهما أي السموات والأرض » مِنْ شِرْكٍ « أي شركة » وَمَا لَهُ « أي وما لله » مِنْهُمْ مِنْ ظَهِير « غَوْنٍ .
قوله : { وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } اللام في » لمن « فيها أوجه :
أحدهما : أن اللام متعلقة بنفس الشفاعة قال أبو البقاء : وفيه نظر وهو أنه يلزم أحد أمرين إما زيادة اللام في المفعول في غير موضعها وإما حذف مفعول » تنفع « وكلاهما خلافُ الأصل .
الثاني : أنه استثناء مفرغ من مفعول الشّفاعة المقدر أي لا تنفع الشفاعةُ لأحدٍ إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ له ثم المستثنى منه المقدر يجوز أن يكون هو المشفوع له وهو الظاهر والشافع ليس مذكوراً إنما دل عليه الفحوى والتقدير :
لاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعة لأحدٍ من المشفوع لهم إلا لِمَنْ أَذِنَ له تعالى للشافعين أن يشفعوا فيه ويجوز أن يكون هو الشافع والمشفوع له ليس مذكوراً تقديره لا تنفع الشفاعة إلا لشافع أذن له أن يشفع وعلى هذا فاللام في » لَهُ « لام التبليغ لا لام العلة .
الثالث : أنه استثناء مفرغ أيضاً لكن من الأحوال العامة تقديره لا تنفع الشفاعةُ إلا كائنة لمن أذن له . وقدره الزمخشري فقال : تقول الشفاعة لزيد على معنى الشافع كما تقول : الكرم لزيد على معنى أنه المشفوع له كما تقول : القيام لزيد فاحتمل قوله : { وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَه } أن يكون على أحد هَذَيْن الوَجْهَينِ أي لا تنفع الشافعة إلا كائنة لمن أذن له من الشافعين ومطلقة له أو لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلا كائنة لمن أذن له أي لشفيعه أو هي اللام الثانية في قولك : « أَذِنَ زَيْدٌ لِعَمْرو » أي لأجله فكأنه قيل : إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله وهذا وجه لطيفٌ وهو الوجهُ . انتهى فقوله : القيام لزيدٍ يعني أنها لام العلة كما هي في : « القيامُ لزيدٍ » وقوله : « أَذِنَ زَيْدٌ لِعَمْرو » أن الأولى للتبليغ والثانية لام العلة ، وقرأ الأخَوانِ وأبو عمرو « أُذِنَ » مبنياً للمفعول والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور والباقون مبنياً للفاعل أي أذن الله وهو المراد في القراءة الأخرى وقد صرح به في قوله : { إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ } [ النجم : 26 ] و « إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَن » .
فصل
معنى الآية إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ اللَّهُ له في الشفاعة قاله تكذيباً لهم حيث قالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ويجوز أن يكون المعنى إلا لمن أذن الله في أن يَشَفْعَ لَهُ .
قوله : { حَتَّى إذَا } هذه غاية لا بدّ لها من مُغَيَّا وفيه أوجه :
أحدهما : أن قوله : « فَاتَّبعوه » على أن يكون الضمير في « عَلَيْهِمْ » من قوله : « صَدقَ عَلَيْهِمْ » وفي « قُلُوبِهم » عائداً على جمعي الكفار ويكون التفريغ حالة مفارقة الحياة أو يجعل اتباعهم إياه مفارقة إلى يوم القيامة مجازاً . والجملة من قوله « قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زعمتُمْ » معترضة بين الغاية والمغيا . ذكره أبو حيان . وهو حسن .
والثاني : أنه محذوف قاله ابن عطية كأنه قيل : ولا هم شفاء كما تُحبّون أنتم بل هم عبدة أو مسلمون أي منقادون « حَتَّى إذَا فُرِّع عَنْ قُلُوبِهِمْ » انتهى وجعل الضمير في « قُلُوبِهِمْ » عائداص على الملائكة وقدر ذلك وضعف قول من جعله عائداً على الكفار أو على جميع العالم .
وقوله : { قَالُوا مَاذَا } هو جواب « إذا » ، وقوله : { قَالُوا الحَقَّ } جواب لقوله : « مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ » و « الحَقَّ » منصوب بقَال مُضْمَرة أي قالوا : قَالَ رَبُّنَا الحَقَّ أي القَوْلَ الحَقَّ ، إلاَّ أنَّ أبا حيان ردّ هذا فقال : وما قدّره ابن عطية لا يصح لأن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها ( و ) هم منقادون عنده دائماً لا ينفكون عن ذلك لا إذَا فُرِّع عَنء قُلُوبِهِمْ ولا إذا لم يُفَرَّعْ .
الثالث : أنه « زَعَمْتُمْ » أي زعمتم الكفر في غاية التفريغ ثم تركتم ما زعمتم وقلتم : قال الحق وعلى هذا يكون في الكلام التفات من خطاب في قوله : « زعَمْتُمْ » إلى الغيبة في قوله : « قُلُوبِهِمْ » .
الرابع : أنه ما فهم من سياق الكلام ، قال الزمخشري : فإن قلت : باي شيء اتصل قوله : « حَتَّى إذَا فزع » ؟ وأي شيء وقَعَتْ « حَتَّى » غايةً؟ قلتُ : بما فهم من هذا الكلام من أن ثَمَّ انتظاراً للأذن وتوقفاً وتمهلاً وفزعاً من الراجين الشفاعة والشفعاء هل يؤذن لهم أو لايؤذن؟ وأنه لا يطلق الإذن إلاَّ بعد مليِّ من الزمان وطول من التَّربُّص ودل على هذه الحالة قوله - عزّ من قائل - { رَّبِّ السماوات والأرض } [ النبأ : 37 ] إلى قوله : { إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً } [ النبأ : 38 ] فكأنه قيل : يتربصون ويتوقفون ملِيًّا فزكعين وَجِلينَ حتى إذا فُزِّعَ عن قلوبهم أي كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن تَبَاشَرُوا بذلك وقال بعضهم لبعض : ماذَا قَالَ رَبَّكم قالوا الحق وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى وقرأ ابن عامر فَزَّعَ مبنياً للفاعل . فإن كان الضمير في « قلوبهم » للملائكة فالفاعل في « فزع » ضمير اسم الله تعالى تلقدم ذكره وإن كان للكفار فالفاعل ضمير مُغْويهِمْ . كذا قال أبو حيان والظاهر أنه يعود على الله مطقاً وقرأ الباقون مبنياً للمفعول والقائم مقام الفاعل الجارّ بعده ، وفعل ابتشديد معناه السلب هنا نحوه « قَرَّدْتُ البَعِيرَ » أي أزلتُ قُرَادَهُ كذا هنا أي أزال الفَزَعَ عنها أي كشف الفَزَعَ وأخرجه عن قلوبهم فالتفريعُ لإزالة الفزع كالتَّمْريض والتَّقْرِيد .
وقرأ الحَسَنُ فُزِعَ مبنياً للمفعول مخففاً كقولك « ذُهِبَ بِزَيْدٍ » ، والحسن أيضاً قتادة ومجاهد فَرَّغَ مشدداً مبنياً للفاعل من الفَرَاغِ الفَنَاءُ والمعنى حتى إذا أفنى الله الرجل انتفى بنفسه أو نفى الوجل والخوف عن قلوبهم فلما بني للمفعول قام الجار مَقَامه وقرأ ابنُ مسعود وابنُ عمر افْرُنْقِعَ من الافرنقاع وهو التفرق قال الزمخشري : والكلمة مركبة من حروف المفارقة مع زيادة العين كما ركب « اقمطَرَ » من حروف القمط مع زيادة الراء ، قال أبو حيان : فإن عنى أن العين من حروف الزيادة ( وكذا الراء وهو ظاهر كلامه فليس بصحيح لأن العين والراء ليسا من حروف الزيادة ) وإن عنى أنَّ الكلمة فيها حروف ما ذكر وزاد إلى ذلك العين والراء والمادة « فَرْقَعَ وقَمْطَرَ » فهو صحيح انتهى ، وهذه قراءة مخالفة للشواذ ومع ذلك هي لفظة غريبة ثقيلة اللفظ نص أهل البيان عليها ومثلوا بها وحكي عن عيسى بن عمر أنه غُشِيَ عليه ذات يوم فاجتمع عليه النَّظَّارة فلما أفاق قال : « ما لي أرَاكُمْ تَكَأكأتم عَلَيَّ تكأكؤكم عَلَى ذِي جِنَّةٍ افْرَنْقِعُوا عنّي » أي اجتمعتم عليّ اجتماعكم على المجنون تفرقوا عني فعابها الناس عليه حيث استعمل مثل هذه الألفاظ الثقيلة المستغربة ، وقرأ ابن عبلة بالرفع الحق على أنه خبر مبتدأ مضمر أي قالوا : قَوْلُهُ الحَقُّ .
فصل
اختلفوا في الموصوفين بهذه الصفة فقيل : هم الملائكة ، ثم اختلفوا في ذلك السبب فقال بعضهم إنَّما يفزع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماع كلام الله - عزّ وجلّ - لِمَا روى أبو هريرة أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال « إذَا قَضَى اللَّهُ الأمر فِي السَّمَاءِ ضَرَبت المَلاَئِكَةُ بأجْنِحَتِهَا خُضْعَاناً » لِقَوْلِهِ كأنه سلسلة على صَفْوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق هو العلي الكبير وقال - عليه ( الصلاة و ) السلام- : « خَوْفاً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإذَا سَمِعَ بِذَلِكَ أهْلُ السَّمَواتِ ضَعُفُوا وخَرُّوا لِلَّهِ سُجَّداً فيكُونُ أَوّلَ مَنْ يَرْفَعُ رَأسَهُ جبريل فُيَكلِّمهُ مِنْ وَحِيْهِ بَمَا أَرَادَ ثُمَّ يَمُرُّ جِبْريلُ عَلَى المَلاَئِكَةِ كُلَّمَا مَرَّ بسَماءٍ سَأَلَهُ مَلاَئِكَتُهَا ماذَا قَال رَبُّنَا يَا جبريلُ؟ فيقُول جِبْريلُ الحقّ وهُو العَليُّ الكبيرُ قال : فيَقُولُون كُلُّهُمْ مثْلَ مَا قَالَ جبْريل . فَيَنْتَهِي جِبْريلُ بالوحي حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ » وقيل : إنما يفزعون حذراً من قيام الساعة . قال مقاتل والسدي : كانت الفترة بين عيسى ومحمد - عليهما ( الصلاة و ) السلام - خمسمائة سنة . وقيل : سمتائة سنة لم تسمع الملائكة فيها وحياً فلما بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - كلَّم جبريل - عليه ( الصلاة و ) السلام - بالرسالة إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فلما سمعت الملائكة ظنوا أنها الساعة فصعقوا مما سمعوا خوفاً من قيام الساعة فلما انْحدَرَ جبريلُ جعل يمُرُّ بأهل كل سماء فيكشف عنهم فيرفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض : ماذا قال ربُّكم؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير وقيل : الموصوف بذلك المشركون . قال الحسن وابن زيد : حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند نزول الموت إقامةً للحجة عليهم قالت لهم الملائكة : ماذا قال ربكم في الدنيا؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير فأقروا به حين لم ينفعهم الإقرار .
قوله : « وهو العلي الكبير » فقوله : « الحق » إشارة إلى أنه كامل وقوله : « وهو العلي الكبير » إشارة إلى أنه فوق الكاملين في ذاته وصفاته .
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
قوله ( تعالى ) : { قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السماوات } المطر « و » من « الأَرْضِ » النبات « قُل اللَّهُ » يعني إن لم يقولوا رازقنا الله فقل أنت رازقكم الله .
قوله : { أو إيّاكُمْ } عطف على اسم « إن » وفي الخبر أوجه :
أحدها : أن الملفوظ به الأول . وحذف خبر الثاني للدلالة عليه أي وإنَّا لعَلَى هُدًى أو في ضلال أو إنكم لَعَلى هدى أو في ضلال .
والثاني : العكس أي حذف الأول والملفوظ به خبر الثاني وهو خلاف مشهور وتقدم تحقيقه عند قوله : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] وهذان الوجهان لا ينبغي أي يحملا على ظاهرهما قطعاً لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشكّ أنه على هدى ويقين وأن الكفار على ضلال وإنما هذا الكلام جارٍ على ما تتخاطب به العرب من استعمال الإنصاف في محاوراتهم على سبيل الفرض والتقدير ويسميه أهل البيان الاسْتِدْرَاجَ وهو أن يذكر المخاطب أمراً يسلمه وإن كان بخلاف ما يذكر حتى يُصْغِي إلى ما يلقيه إليه إذ لو بدأه بما يكره لم يَصْغَ ، ونظيره قولهم : أخْزَى اللَّهُ الكَاذِبَ مِنِّي ومِنْكَ ومثله قول الآخر :
4131- فَأيِّي مَا وأيُّكَ كَانَ شَرًّا ... فَقِيدَ إلَى المُقَامَةِ ولا يَرَاهَا
وقول حسان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- :
4132- أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الفِدَاءُ
مع العلم لكل أحد أنه - صلى الله عليه وسلم - خير خلق الله كلهم .
الثالث : أنه من باب الف والنشر والتقدير : وَإنَّا لَعَلَى هُدًى وإنَّكُمْ لَفِي ضَلاَلٍ مُبين ولكن لفَّ الكَلاَمَيْنِ وأخرجهما كذلك لعدم اللبس ، وهذا لا يتأتي إلا أن تكون « أو » بمعنى الواو . وهي مسألة خلاف ومن مجيء « أو » بمعنى الواو قوله :
4133- قَوْمٌ إذَا سَمِعُوا الصَّرِيخَ رَأَيْتَهُمْ ... مَا بَيْنَ مُلْجِم مُهْرِهِ أَوْ سَافِع
وتقدم تقرير هذا ، وهذا الذي ذكرناه منقول عن أبي عبيدة .
الرابع : قال أبو حيان : و « أو » هنا على موضعها لكونها لأحد الشيئين وخبر « إنَّا أَوْ إيَّاكُمْ » هو « لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ » ولا يحتاج إلى تقدير حذف إذ المعنى إن أحدنا لفي أحد هذين لقولك : « زَيْدٌ أو عمرو في القصر أو في المسجد » لا يحتاج إلى تقدير حذف إذ معناه أحد هذين في أحد هذين .
وقيل : الخبر محذوف ثم ذكر ما تقدم إلى آخره ، وهذا الذي ذكره تفسير معى لا تفسير إعراب . ( والناس ) نظروا إلى تفسير الإعراب فاحتاجوا إلى ما ذكرناه .
وذكروا في الهدى كلمة « على » وفي الضلال كلمة « في » لأن المهتدي كأنه مرتَفع مطَّلع فذكره بكلمة « التعالي » والضال منغمس في الظلمة غريق فيها فذكر بكلمة « في » .
قوله : { قُلْ لاَ تُسألون عَمَّا أَجْرَمْنَا } أضاف الإجرام إلى النفس وقال في حقهم : « وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ » ذكر بلفظ العمل لئلا يحصل الإغضاب المانع من الفهم .
قوله : { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنَا } يَوْمَ القِيَامَة « ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الفَتَّاحُ العَلِيمُ » وهاتان صفتا مبالغة وقرأ عيسى بن عمر « الفاتِحُ » اسم فاعل .
قوله : « أَرْوني » فيها وجهان :
أحدهما أنها علمية متعدية قبل النقل إلى اثنين فلما جيء بهمزة النقل تعدت لثلاثةٍ أولها « ياء » المتكلم ثانيها « الموصول » ، ثالثها : « شركاء » وعائد الموصول محذوف أي أَلْحَقْتُمُوهُمْ .
والثاني : أنها بصرية متعدية قبل النقل لواحد وبعده لاثنين أولهما : يَاء المتكلم وثانيهما : الموصول و « شركاء » نصب على الحال من عائد الموصول أي بَصِّرُوني المُلْحَقِينَ به حالَ كونهم شركاء قال ابن عطية في هذا الثاني « ولا غناء » له أي لا مَنْفَعَة فيه يعني أن معناه ضعيف . قال أبو حيان : وقوله : « لا غناء له » ليس بجيد بل في ذلك تبكيت لهم وتوبيخ ولا يريد حقيقة التنزيل بل المعنى الذين هم شركاء لله على زعمكم هم ممن إن أريتموهم افتضحتم لأنه خشب وحجر وغير ذلك .
فصل
الضمير في « به » أي بالله أي أروني الذين ألحقتم بالله شركاء في العبادة معه هل يخلقون وهل يرزقون؟ كلاّ لا يَخْلُقُون ولا يرزقون .
قوله : « بل هو الله » في هذا الضمير قولان :
أحدهما : أنه ضمير عائد على الله تعالى أي ذلك الذي ألحقتم به شركاء هُو الله ، و « الْعَزِيزُ الحَكِيمُ » صفتان .
والثاني : أنه ضمير الأمر والشأن و « اللَّهُ » مبتدأ ، و « الْعَزِيزُ والْحَكِيمُ » خبران ، والجملة . . . خبر « هو » والعزيز هو الغالب على أمره ، ( و ) الحكيمُ في تدبير لخلقه فأنى يكون له شريك في ملكه؟
قوله : « كافَّةً » فيه أوجه :
أحدها : أنه حال من كاف « أَرْسَلْنَاكَ » والمعنى إلا جامعاً للناس في الإبلاغ . والكافة بمعنى الجامع والهادي لله للمبالغة كَهي في « علاَّمَة » و « رَاوِيَة » قال الزجاج : وهذا بناء منه على أنه اسم فاعل من كَفَّ يَكُفُّ ، قال أبو حيان : أما قول الزجاج إنّ كافة بمعنى جامعاً ، والهاء فيه للمالبغة فإن اللغة لا تساعده على ذلك لأن كف ليس معناه محفوظاً بمعنى « جَمَعَ » يعني أنَّ المحفوظ معناه « مَنَعَ » يقال : كَفّ يكُفُّ أي منع والمعنى إلا مانعاً لهم من الكفر وأن يشِذّوا من تبليغك ، ومنه الكف لأنها تَمْنَعُ مَا فِيهِ .
الثاني : أن كافة مصدر جاءت على الفَاعِلَةِ كالعَاقِبَة والعافية وعلى هذا فوقوعها حالاً إما على المبالغة وإما على حذف مضاف أي ذَا كَافَّةٍ لِلنَّاسِ .
الثالث : أن كافة صفة لمصدر محذوف تقديره : إلا إرْسَالَةً كَافَّةً قال الزمخشري : إلاَّ إرْسَالَة عامَّةً لهم محيط بهم لأنهم إذا شَمِلتْهُمْ فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم . قال أبو حيان : أما كافة بمعنى عامة فالمنقول عن النحويين أنها لا تكون إلا حالاً ولم يتصرف فيها بغير ذلك فجعلها صفة لمصدر محذوف خروج عما نقلوا ، ولا يحفظ أيضاً استعمالها صفةً لموصوفٍ محذوفٍ .
الرابع : أن « كافة » حال من « لِلنَّاس » أي للناس كافةً إلا أنّ هذا قدره الزمخشري فقال : « وَمَنْ جعله حالاً من المجرور متقدماً عليه فقد أخطأ لأن تقدم حال المجرور عليه في الإحالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار وكم ترى من يرتكب مثل هذا الخطأ ثم لا يَقْتَنَعُ به حتى يضُمَّ إليه أن يجعل اللام بمعنى » إلَى « ؛ لأنه لا يستوي له الخطأ الأول إلا بالخطأ الثاني فيرتكب الخطأين معاً » . قال أبو حيان : أما قوله كذا فهو مختلف في ذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز ، وذهب أبو علي وابن كَيْسَانَ وابن بَرْهَانَ وابن مَلْكُون إلى جَوَازِهِ قال : وهو الصحيح قال : ومن أمثله أبي علي : « زيدٌ خَيْراً مَا يكونُ خَيْرٌ مِنْكَ » التقدير : زيد خير منك خَيْراً ما يكون فجعل « خَيْراً ما يَكُونُ » حالاً من الكاف في « منك » وقدمها عليها وأنشد :
4134- إذَا الْمَرْءُ أَعَيَتْهُ المُرُوءَةُ نَاشِئاً ... فَمَطْلَبُها كَهْلاً عَلَيْهِ شَدِيدُ
أي فمطلبها عليه كهلاً ، وأنشد أيضاً :
4135- تَسَلَّيْتُ طُراً عَنْكُمُ بُعْدَ بَيْنِكُمْ ... بِذِكْرَاكُمْ حَتَّى كَأنَّكُمْ عِنْدِي
أي عَنْكُمْ طُرًّا ، وقد جاء تقديم الحال على صاحبها المجرور على ما يتعلق به قال الشاعر :
4136- مَشْغُوفَةً بِكَ قَدْ شُغِفْتُ وإنَّمَا ... حُمَّ الفِرَاقُ فَمَا إلَيْكَ سَبِيلُ
أي قد شغفت بكل مشغوفة وقال الآخر :
4137- غَافِلاً تَعْرِضُ المِنَيَّةُ لِلْمَرْءِ ... فَيُدْعَى وَلاتَ حِينَ إباءِ
أي تَعْرِضُ المنيةُ للمرء غافلاً قال : وإذا جاز تقديمها على صاحبها وعلى العامل فيه فتقديمها على صاحبها وحده أجْوَز قال : وممن حمله على الحال ابن عطية فإن قال : قدمت للاهتمام والمنقول عن ابن عباس قوله إلى العرب وللعجم ولسائر الأمم وتقديره إلى الناس كافةً وقول الزمخشري : لا يستوي له الخطأ الأول إلى آخره شنيغ لأن القائل بذلك لا يحتاج إلى جعل اللام بمعنى « إلى » لأن « أَرْسَلَ » يتعدى باللام قال تعالى : { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً } [ النساء : 79 ] وأرسل مما يتعدى باللام وبإلى وأيضاً فقد جاءت اللام بمعنى « إلَى » و « إلَى » بمعناها .
قال شهاب الدين : أما أرسلناك للناس فلا دلالة فيه لاحتمال أن تكون اللام لام المجازيَّة وأما كونها بمعنى « إلى » والعكس فالبصريونَ لا يَتَجَوَّزُونَ في الحروف ، و « بَشِيراً » و « نَذِيراً » حالان أيضاً .
فصل
لما بيَّن مسألة التوحيد شرع في الرسالة فقال تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً } أي الرسالة كافة أي تكُف الناس أنت من الكفر وتمنعهم عن الخروج عن الانقياد لها أو تكف الناس أنت عن الكفر والهاء للمبالغة على ما تقدم . و « لِلنَّاسِ » أي عامةً أحمرهم وأسودهِم « بَشِيراً وَنَذِيراً » أي مبشراً ومنذراً تحثهم بالوعد وتزجرهم بالوعيد « وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ » ذلك لآ لخفائه ولكن لغفلتهم قال - عليه ( الصلاة و ) والسلام- : « كَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إلى النَّاسِ عَامَّةً » .
قوله : { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } يعني يوم القيامة لما ذكر الرسالة بين الحشر .
قوله : « لكم ميعاد » مبتدأ وخبر . والميعاد يجوز فيه أوجه :
أحدهما : أنه مصدر مضاف لظرفه والميعاد يطلق على الوعد والوعيد . وقد تقدم أن الوعد في الخير ، الوعيد في الشر غالباً .
الثاني : اسم أقيم مقام المَصْدَرِ والظَاهر الأول ، قال أبو عبيدة : الوَعْدُ والوَعِيدُ والميعاد بمعنى .
الثالث : أنه هنا ظرف زمان ( قال الزمخشري : الميعاد ظرف الوعد من مكان أو زمان وهو هنا ظرف زمان ) ، والدليل عليه ( قراءة ) من قرأ : مِيعَادٌ يَوْمٌ يعني برفعهما منونين فأبدل منه « الْيَوْمَ » وأما الإضافة فإضافة تبيين لقولك : سَحْقُ ثَوْبٍ ، وبعيرُ سَانِيَةٍ ، وقال أبو حيان : ولا يتعين ما قال لاحتمال أن يكون التقدير : لكم ميعاد ميعاد يوم ، فلما حذف المضاف أعرب المضاف إليه بإعرابه ، قال شهاب الدين والزمخشري لو فعل مثل ذلك لسمع به ، وجوَّز الزمخشري في الرفع وجهاً آخر وهو الرفع على التعظيم يعني على إضمار مبتدأ وهو الذي يسمى القطع ، وسيأتي هذا قريباً ، وقرأ ابنُ أبي عَبْلَةَ واليَزيديّ مِيعَادٌ يوْماً بتنوين الأول ونصب « يوماً » منوناً وفيه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب على الظرف والعامل فيه مضاف مقدر تقديره : لكم إنجازُ وَعْدٍ في يوم صِفَتُهُ كَيْتَ وكَيْتَ .
الثاني : أن ينتصب بإضمار فعل . قال الزمخشري : وأما نصب « اليوم » فعلى التعظيم بإضمار فعل تقديره أعني يوْماً ، ويجوز أن يكون الرفع على هذا أعني التعظيم . وقرأ عِيسَى بتنوين الأول ونصب « يَوْم » مضافاً للجُمْلة بعده . وفيه الوجهان المتقدمان النَّصْب على التعظيم أو الظَّرف .
قوله : { لاَ تَسْتَأخِرُونَ عَنْهُ } يجوز في هذه الجملة أن تكون صفة « لِميعَادٍ » إن عاد الضمير في « عنه » عليه أو « لِيَوْم » إن عاد الضمير في « عنه » عليه فيجوز أن يحكم على موضعها بالرفع أو الجر وأما على قراءة عيسى فينبغي أن يعود الضمير في « عنه » على « ميعاد » لأنه نَصُّوا على أنّ الظَّرْفَ إذا أضيفَ إلى جملة لم يَعُدْ منها إليه ضمير إلاَّ في ضرورة كقوله :
4138- مَضَتْ سَنَةٌ لِعَامٍ وُلِدْتُ فِيهِ ... وَعَشْرٌ بَعْدَ ذَاكَ وَحِجَّتَانِ
فصل
تقدم الكلام في سورة الأعراف أن قوله : { لاَ يَسْتَأْخِرُونَ } [ الأعراف : 34 ] يوجب الإنذار لأن معناه عدم المهلة عن الأجَل ولكن الاستقدام ما وجهه؟ وقد تقدم ، ونذكر ههنا أنهم لما طلبوا الاستعدال بين أنه اسْتِعْجَالَ فيه كما أنه لا إمهال وهذا لا يفيد عظَم الأمر ، وخَطَر الخطب ، لأن الأمر الحقير إذا طلبه من غيره لا يؤخره ولا يُوقفه على وقت بخلاف الأمر الخطير والمراد باليوم يوم القيامة وقال الضحاك : يوم الموت لا يتأخرون عنه ولا يتقدمون بأن يزاد في أجلكم أو ينقص .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
قوله : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرآن } لما بين التوحيد والرسالة والحشر وكانوا بالكُلّ كافرين بين كفرهم العام بقوله : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرآن } وذلك لأن القرآن مشتملٌ على الكل وقوله : { وَلاَ بالذي بَيْنَ يَدَيْهِ } يعني التوراة والإنْجيل وعلى هذا فالمراد « بالذين كفروا » هُم المشركون المنكرون للثواب والحشر . ويحتمل أن يكون المراد بالذين كفروا العموم ويكون المراد بقوله : { القرآن وَلاَ بالذي بَيْنَ يَدَيْهِ } أن لا نؤمن بالقرآن أنه من الله « ولاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ » أي ولا بما فيه من الإخبارات والآيات والدلائل وذلك لأن أهل الكتاب لم يؤمنوا بالقرآن أنَّه من الله ولا بالذي فيه من الرِّسالة وتفاصيل الحشر .
فإن قيل : أليس هم مؤمنين بالوحدانية والحشر؟
فالجواب : إذا لم يصدق واحد بما في كتاب من الأمور المختصة به يقال إنه لم يؤمن بشيء منه وإن آمن ببعض ما فيه لكونه في غيره إيمانه لا بما فيه كمن يكذب رجلاً فيما يقوله فإذا أخبره بأن النار حارة لا يكذبه فيه ولكن لا يقال بأنه صدقة لأنه إنما صدق نفسه فإنه كان عالماً به من قبل وعلى هذا فقوله : « بَيْنَ يَدَيْهِ » الذي هو مشتمل عليه من حيث إنه وارد فيه .
قوله : { وَلَوْ تَرَى } مفعول « ترى » وجواب « لو » محذوفان للفهم أي ولو ترى حالَ الظالمينَ وقْتَ وقوفهم مراجعاً بعضهُم إلى بعض القولَ لرأيت حالاً فظيعةً وأمراً منكراً « ويَرْجَعُ » حال من ضمير « مَوْقُوفُونَ » و « القول » منصوب ب « يرجع » ؛ لأنه يتعدى قال تعالى : { فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ } [ التوبة : 83 ] وقوله : { يَقُولُ الذين استضعفوا } إلى آخره تفسير لقوله : « يَرْجِعُ » فلا محلَّ له . و « أنْتُم » بعد « لولا » متبدأ على أصحَّ المذاهب ، وهذا هو الأفصح أعني وقوع ضمائر الرف بعد « لولا » خلافاً للمبرد حيث جعل خلاف هذا لحناً ، وأنه لم يرد إلاَّ في قول زِيَادٍ :
4139- وكم موطن لولاي . .
وقد تقدم تحقيقه ، والأخفض جعل إنه ضمير نصب أو جر قام مقام ضمير الرفع وسيبويه ضمي جر
فصل
لما وقع اليأس من إيمانهم في هذه الدار بقولهم : « لَنْ نُؤْمِنَ » فإنه لتأبيد النفي وعد النَّبِيَّ عليه ( الصلاة و ) السلام- بأنه يراهم على أذل حال موقوفين للسؤال يرجع بعضهم إلى بعض القول أي يرد بعضهم إلى بعض القول في الدال كما يكون عليه حالة جماعة أخطأوا في أمر يقول بعضهم لبعض . { يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا } اسْتُحْقِرُوا وهم الاتباع « لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا » وهم القادة والأشراف { لَوْلاَ أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } أي أنتم مَنَعْتُمُونَا عن الإيمان بالله وسوله وهذا إشارة إلى أن كفرهم كان لمانع لأن بعد المقتضي لا يمكنهم أن يقولوا : مَا جَاءَنا رسول ولا أن يقولوا : قصر الرسول لأن الرسول لو أهمل شيئاً لما كانوا يقولون لولا المستكبرون .
ثم أجابهم المستكبرون وهم المَتْبُوعُونَ في الكفر للذين استضعفوا رد لما قالوا إن كفرنا كان لمانع { أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الهدى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ } يعني المانع ينبغي أن يكون راجحاً على المقتضي حتى يعمل علمه والذي جاء به هو الهدى ، والذي صدر من المستكبرين لم يكن شيئاً يوجب الامتناع من قبول ما جاء به فلم يصحَّ تَعَلُّقُكُمْ بالمانع { بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ } بترك الإيمان فبين أن كفرهم كان اجتراماً من حيث إن المعذور لا يكون معذوراً إلا لعدم المقتضي أو ليقام المانع ولم يوجد شيء منهما . ثم قال { وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا بَلْ مَكْرُ الليل والنهار إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بالله } لما قال المستكبرون : إنا صددنا ، وما صدر منا ما يصلح مانعاً وصادفاً اعترف المستضعفون به وقالوا بل مكر الليل والنهار أي مكركم في الليل والنهار . واعمل أنه يجوز رفع « مكر » من ثلاث أوجه :
أحدها : الفاعلية تقديره : بل صَدَّنَا مَكْرُكُمْ في هذهين الوقتين .
الثاني : أن يكون مبتدأ محذوف أي مكرُ الليلِ صَدَّنَا .
الثالث : العكس أي سَبَبُ كُفْرِنا مَكْرُكُمْ . وهو المتقدم في التفسير وإضافةُ المَكْر إلى الليل والنهار إما على الإسناد المجازي كقولهم : لَيْلٌ مَاكِر ، فالعرب تضيف الفعل إلى الليل والنهار كقول الشاعر :
4140 - ... وَنِمْتِ وَمَا لَيْلُ المَطِيِّ بِنَائِمِ
فيكون مصدراً مضافاً لمرفوعه ، وإما على الاتساع في الظرف فجعل كالمفعول به فيكون مضافاً لمنصوبه وهذا أحسن مِنْ قَوْل مَنْ قال : إن الإضافة بمعنى « في » أي في الليل ، لأن ذلك لم يثبت في ( غير ) محل النزاع ، وقيل : مكر الليل والنهار طول السلامة وطول الأمل فيهما كقوله تعالى : { فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } [ الحديد : 16 ] وقرأ العامة مَكْرُ بتخفيف الراء ساكن الكاف مضافاً لما بعد ، وابن يَعْمُرَ وقتادةُ بتنوين : « مَكْر » وانتصاب الليل والنهار ظرفين . وقرآ أيضاً وسعيدُ بْنُ جبير وأبو رزين بفتح الكاف وتشديد الراء مضافاً لما بعده أي كُرُور الليل والنهار ، واختلافهما ، مِنْ كَرَّ يَكُرُّ إذا جَاءَ وذَهَبَ ، وقرأ ابنُ جُبَيْر أيضاً وطلحةُ وراشد القَارِي - وهو الذي كان يصحح المصاحف أيام الحجاج بأمره- كذلك إلا أنه ينصب الراء وفيها أوجه :
أظهرها : ما قاله الزمخشري وهو الانتصاب على المصدر قال : « بل تَكُرُّون الإغواء مَكَرًّا دائماً لا تَفْتُرُونَ عنه » .
الثاني : النصب على الظرف بإضمار فعل اي بلْ صَدَدْتُمُونَا مَكَرَّ الليل والنهار أي دائماً .
الثالث : أنه منصوب « بتأمُرُونَنَا » قاله أبو الفضل الرازي وهو غلط؛ لأن ما بعد المضاف لا يعمل فيما قبله إلا في مسألة وهي « غير » إذَا كانت بمعنى « لا » كقوله :
4141- إنّ امْرَءاً خَصَّنِي عَمْداً مَوَدَّتَهُ ... عَلَى التَّنَائِي لِعِنْدِي غَيْر مَكفُورِ
وتقدم تقريرهذا آخر الفاتحة ، وجاء قوله : { قَالَ الذين استكبروا } بغير عاطف؛ لأنه جواب لقول الضَّعَفَةِ فاستؤنف بخلاف قوله : { وَقَالَ الذين استضعفوا } فإنه لم يكن جواباً لعطف ، والضمير في « وَأسَرُّوا النَّدَامَةَ » للجميع للإتباع والمتبوعين .
فصل
لما اعترف المستضعفون وقالوا بل مكر الليل والنهار منعنا ثم قالوا لهم إنكم وإن كنتم ما أتيتم بالصارف القطعي والمانع القوي ولكن انضم أمركم إيانا بالكفر إلى طول الأمد وامتداد المدد فَكَفرنَا فكان قولكم جزْءاً لسبب وقولهم « إذْ تَأمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ » أي ننكره « ونَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً » هذا يبين أن المشرك بِاللَّهِ مع أنه في الصورة مثبت لكنه في الحقيقة منكر لوجود الله لأن من يساويه بالمخلوق المنحوت لا يكون مؤمناً به .
فصل
قوله أولاً يَرْجعُ بَعْضُهْم إلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذينَ اسْتَضْعِفُوا بلفظ المستقبل وقوله في الآيتين الآخيرتين : « وقَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ، وقَالَ الَّذِين اسْتَضْعِفُوا » بلفظ الماضي مع أن السؤال والمراجعة في القول لم يقع إشارة إلى أن ذلك لا بدّ من وقوعه فإن الأمر الواجب الوقوع كأنه وقع كقوله تعالى : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] وأما الاستقابل فعلى الأصل .
قوله : { وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب } أي أنهم يتراجعون القول ثم إذا جاءهم العذاب الشاغل يسرون ذلك التراجع الدال على الندامة ، وقيل : معنى الإسراء الإظهار وهو من الأضداد أي أظهروا الندامة ويحتمل أن يقال : بأنهم لما تراجعوا في القول رجعوا إلى الله بقولهم أبْصَرْنا وسَمِعْنَا فارْجِعْنَا نَعْمَلُ صَالِحاً وأجيبوا بأن لا مرد لكم فأسرُّوا ذلك القول ، وقوله : { وَجَعَلْنَا الأغلال في أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ } أي الأتباع والمتبوعين جميعاً في النار ، وهذا إشارة إلى كيفية عذابهم { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } من الكفر والمعاصي في الدنيا .
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
قوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةإلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا } جملة حالية من « قَرْيَةٍ » وإن كانت نكرة لأنها في سياق النفي .
قوله : « بما أُرْسِلْتُمْ » متعلق بخبر « إنّ » و « به » متعلق بأُرْسِلْتُم ، والتقدير : إنا كافورن بالذي أرسلتم . وإنما قد للاهتمام وحسنه تواخي الفواصل وهذا تسلية لقلب النبي - صلى الله عليه وسلم -بأن إيذاء الكفار للأنبياء ليس بدعاً بل ذلك عادة جرت من قبل ، وإنما نسب القول إلى المترفين مع أن غيرهم أيضاً قالوا ذلك القول لأن المُتْرَفين هم الأصل في ذلك القول كقول المتسضعفين للذين استكبروا : « لَوْلاَ أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنينَ » ثم استدلوا على كونهم مصيبين في ذلك بكثرة الأموال والأولاد فقالوا « نَحْنُ أَكْثَرُ أمْوَالاً وَأَوْلاَداً » أي بسبب لزومنا لديننا ولو لم يكن الله راضياً بما نحن عليه من الدين والعمل لم يخولنا الأموال والأولاد « وَمَا نَحْنُ بمُعَذَّبِينَ » أي أن الله أحسن إلينا في الدنيا بالمال فلا يعذبنا . ثم إن الله تعالى بيَّنَ خطأهم بقوله : { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } يعني أنّ الرزق في الدناي لا يدل سَعَتُه وضيقه على حال المحق والمبطل فكم من موسر شقي ومُعْسِر تَقِيّ فقوله : « وَيَقْدِرُ » أي يضيِّق بدليل مقابلته « يَبْسُطُ » وهذا هو الطباق البَدِيعِيّ وقرأ الأعمش : وَيُقَدِّرُ بالتشديد ثم قال : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أن قلة الرزق وضيف العيش وكثرة المال وسعة العيش بالمشيئة من غير اختصاص بالفاسق والصالح . ثم بين فساد استدلالهم بقوله : { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى } يعني إن قولكم نحن أكثر أموالاً وأولاداً فنحن أحسن حالاً عند الله استدلالاً صحيحاً فإن المال لا يقر إلى الله وإنما المفيدُ العملُ الصالح بعد الإيمان وذلك أن المال والولد يَشْغِل عند الله فيُبْعِد عنه فكيف يقرب منه والعمل الصالح إقبال على الله واشتغال بالله ومن توجه إلى الله وصل ومن طلب من الله شيئاً حصل؟
قوله : { بالتي تُقَرِّبُكُم } صفة للأموال والأولاد ، لأن جمع التكسير غير العاقل يعامل معالمة المؤنثة الواحدة ، وقال الفراء والزجاج إنه حذف من الأول لدلالة الثاني عليه قالا والتقدير : وَمَا أَمْوَالُكُمْ بالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى وَلاَ أوْلاَدُكُمْ بالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ وهذا لا حاجة إليه أيضاً . ونقل عن الفراء ما تقدم من أن « التي » صفة للأموال والأولاد معاً وهو الصحيح وجعل الزمخشري « التي » صفة لموصوف محذوف قال : « ويجوز أن يكون هيا لتقوى وهي المقربة عند الله زلفى وحدها أي ليستْ أَمْوَالُكُمْ ولا أوْلاَكُكُمْ بتلك الموصوفة عند الله بالتقريب » قال أبو حيان : ولا حاجة إلى هذا الموصوف .
قال شهاب الدين : والحاجة إليه بالنسبة إلى المعى الذي ذكره داعية ، و « زُلْفَى » مصدر مِنْ مَعْنى الأول ، إذ التقدير تُقَرِّبُكُمْ قُرْبَى ، وعن الضحاك زُلَفاً بفتح اللام وتنوين الكلمة على أنها جمع « زُلْفَى » نحو قُرْبَة وقُرَب ، جُمع المَصْدَرُ لاختلاف أنواعه وقال الأخفش : « زُلْفَى » اسم مصدر كأنه قال : بالتي تقربكم عندنا تَقْريباً .
قَوْلُهُ : { إلاَّ مَنْ } فيه أوجه :
أحدهما : أنه استثاء منقطعٌ فهو منصوب المحل والمعنى لكن مَنْ آمَن وعَمِلَ صَالِحاً ، قال ابن عباس يريد من آمن إيمانه وعمله يقربه منّي .
الثاني : أنه في محل جر بدلاً من الضمير في : « أَمْوَالِكُمْ » قاله الزجاج . وغلَّطَهُ النَّحَّاس بأنه بدل ضمير من ضمير المخاطب قال : ولو جاز هذا لجاز : رَأَيْتُكَ زَيْداً ، وقول أبي إسْحَاقَ هذا هو قول الفارء انتهى . قال أبو حيان : ومذهب الأخفش والكوفيين أنه يجوز البدل من ضمير المخاطب والمتكلم إلا أن البدل في الآية لا يصح ألا ترى أنه لا يصح تفريغ الفعل الواقع صلة لما بعد إلا لو قلت : مَا زَيْدٌ بالَّذِي يَضْرِبُ إلا خالداً لم يجز . وتخيل الزجاج أن الصلة وإن كانت من حيث المعنى منفية أنه يجوز البدل وليس بجائز إلا أن يصح التفريغ له . قال شهاب الدين : ومنعه قولك « مَا زَيْدٌ بالَّذِي يَضْرِبُ إلاَّ خَالِداً » فيه نظر لأن النفي إذا كان منسحباً على الجملة أ'طى حُكْمَ ما لو باشر ذلك الشيء ألا ترى أن النفي في قولك : « مَا طَنَنْتُ أحَداً يَفْعَلُ ذَلِكَ إلاَّ زيدٌ » سوغ البدل في زيد من ضمير « يَفْعَلُ » وإن لم يكن النفي متسلطاً عليه وقالوا ولكنه لما كان في حَيِّز النفي صح فيه ذلك فهذا مثله والزمخشري أيضاً تَبعَ الزجاج والفراء في ذلك في حيث المعنى إلا أنه لم يجعله بدلاً بل منصوباً على أصل الاستثناء فقال : « إلاَّ مَنْ آمَنَ » استثناء من « كُمْ » في « نُقَرِّبُ » والمعنى أن الأموال لا تقرب أحداً إلا المؤمن لاذي يُنْقِقُها في سبيل الله والأولاد لا تقرب أحداً إلا من علَّمهم الخَيْرَ وفَقَّهَهُمْ في الدِّين ورشَّحهم للصَّلاح ورد عليه أبو حيان بنحو ما تقدم فقال : لا يجوز : « مَا زَيْدٌ بالَّذِي يَخْرُجُ إلاَّ أَخْوهُ » و « مَا زَيْدٌ بالَّذِي يَضْرِبُ إلاَّ عَمْراً » والجواب عنه ما تقدم وأيضاً فالزمخشري لم يجعله بدلاً بل استثناء صريحاً ، ولا يشترط في الاستثناء التفريغ اللفظي بل الإسناد المعنوي ألا ترى أنك تقول : قَامَ الْقَومُ إلاَّ زَيْداً ولو فرغته لفظاً لامتنع لأنه مثبت وهذا الذي ذكره الزمخشري هو الوجه الثالث في المسألة الرابع : « أنَّ » مَنْ آمَنَ « في محلِّ رفع على الابتداء والخبر .
قوله : { فأولئك لَهُمْ جَزَآءُ الضعف } قال الفراء : هو في موضع رفع تقديره ما هو المقرب إلاَّ مَنْ آمَن ، وهذا ليس بجيد وعجيب من الفراء كيف يقوله . قوله : « فَأولَئِكَ لَهُمَ جَزَاء الضّعْفِ » ، قرأ العامة جزاء الضعف مضافاً على أنه مصدر مضاف لمفعلوله ، أي أنْ يُجَازِيَهُم الضّعْفَ وقدره الزمخشري مبنياً للمفعول أي يُجْزَوْنَ الضّعفَ ورده أبو حيان بأن الصحيح منعه . وقرأ قتادة برفعها على إبدال الضّعفِ من « جزاء » وعنه أيضاً وعن يعقوب بنصب جزاء على الحال منوناً والعامل فيها الاستقرار وهذه كقوله : { فَلَهُ جَزَآءً الحسنى } [ الكهف : 88 ] فيمن قرأه بالنصب نصب جزاء في الكهف .
قوله : { وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ } قرأ حمزة الغُرْفَةِ بالتوحيد على إرادة الجنس ولعدم اللبس لأنه معلوم أن لكل أحد غرفة تخصه وقد أُجْمِعَ على التوحيد في قوله : { يُجْزَوْنَ الغرفة } [ الفرقان : 75 ] ولأن لفظ الواحد أخف فوضع موضع الجمع مع أمن اللبس والباقون « الغُرُفَاتِ » جمع سلامة وقد أُجْمِعَ على الجمع في قوله : { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً } [ العنكبوت : 58 ] والرسم محتمل للقراءتين . وقرأ الحسن بضم راد غُرُفات على الإتباع وبعضهم يفتحها وتقدم تحقيق ذلك أول البقرة وقرأ ابن وثاب الغُرُفَةَ بضم الراء والتوحيد .
فصل
والمعنى يضعف الله حسناتهم فيجزي بالحسنة الواحدة عشرة إلى سبع مائة لأنه الضعف لا يكون إلا في الحسنة وفي السيئة لا يكون إلا المثل ثم زاد وقال : { وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُون } إشارة إلى دوامها وتأبيدها . ثم بين حال المسيء فقال : { والذين يَسْعَوْنَ في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ } أي سعون في إبطال حججنا معاجزين معاندين يحسبون أنهم يعجزوننا ويفوتوننا . وقد تقدم تفسير : « أولئك في العذاب محضرون » وهذا إشارة إلى الدوام أيضاً كقوله : { وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ } [ الإنقطار : 16 ] ثم قال مرة أخرى : { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِر } إشارة إلى أن نعيم الآخرة لا ينفافي نعمة الدنيا بل الصالحون قد يحصل لهم في الدنيا النعم في القطع بحصلو النعم في العُقْبَى ببناء على الوعد قطعاً لقول من يقول : إذا كانت العاجلة والآجلة لهم فالنقد أولى فقال هذا النقد غير مختص بكم فإن كثيراً من الأشقياء مدفوعون وكثيراً من الأتقياء مَمْنُوعُونَ ، ولهذا المعنى ذكر هذا الكلام مرتين مرة لبيان أن كثرة أموالهم وأولادهم غير دالةٍ على حسن أحوالهم ومرة لبيان أنه غير مختص بهم كأنه قال وجود القرب لا يدل على الشرف ثم إنْ سَلَّمنا أنه كذلك لكن المؤمنون سيحصل لهم ذلك فإن الله يملكهم دياركم وأموالكم ويدل على ذلك أن الله تعالى لم يذكر أولاً لمن يشاء من عباده بل قال : لمن يشاء . وقال ثانياً : لمن يشاء من عبادة فالكافر أثره مقطوع وماله إلى زوال وماله إلى الهواء وأما المؤمن فما يُنْفِقْه يُخْلِفْه الله .
قوله : { وَمَآ أَنفَقْتُم } يجوز أن تكون ما موصولة في محل رفع بالابتداء والخبر قوله : { فَهُوَ يُخْلِفُهُ } ودخلت الفاء لشبهه بالشرط ، و « مِنْ شَيْءٍ » بيان كذا قيل . وفيه نظر؛ لإبهام شيء فأي ( تَبين ) فيه؟ ويجوز أن تكون « ما » شرطية فيكون في محل نصب مفعولاً مقدماً و « فَهُوَ يُخْلِفُهُ » جواب الشرط .
فصل
المعنى : وَمَا أَنْقَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ أي يعطي خلقه قال سعيد بن جبير : ما كان في غير إسْرِافٍ ولا تَقْتِير فهْو يُخْلِفُه وقال الكلبي : ما تصدقتم من صدقة وأنفقتم في الخير من نَفَقَةٍ فهو ( ينفقه ) ويخلفه على المُنْفِق إما أن يعجَّل له في الدنيا وإما أن يدَّخِرَ له في الآخرة . « وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ » خَيْرُ من يعطي ويرزق ، رَوَى أبو هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله قال : « أنْفِقْ أُنْفِقْ عليك » وقال - عليه ( الصلاة و ) السلام - : « مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبحُ فِيهِ العِبَادُ إلاَّ وَيَنْزِلُ ( فِيهِ ) مَلَكَا ( ن ) فيقولُ أحدهما : اللَّهُمّ أَعْطِ مُنْفِقاً خَلَفاً ويقول الآخَرُ : اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكاً تَلَفاً » وإنما جمع الرازقين من حيث الصورة لأن الإنسان يرزق عياله من رزق الله والرازق للكل في الحقيقة إنما هو الله ، واعلم أنَّ خير الرازقين يكون أمور أن لا يؤخر في وقت الحاجة وأن لا يَنْقُصَ من قد الحاجة وأن لا ينكده بالحساب وأن لا يُكَدِّره بطلب الثواب والله تعالى كذلك .
فإن قيل : قوله : { وَهُوَ خَيْرُ الرازقين } ينبئ عن كثرة الرّازقين ولا رازق إلاَّ الله .
فالجواب : أن يقال : الله خير الرازقين الذين تظنونهم رازقين وكذلك في قوله تعالى : { أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] وأيضاً فإن الصفات منها ما هو لله وللعبد حقيقة كالعلم بأن الله واحد فإن الله يعلم أنه واحد ، والعبد يعلم أنه واحدٌ حقيقة ومنها ما يقال للَّهِ حقيقةً وللعبد مجازاً مثل الرزَّاق والخَالِق فإن العبد إذا أعطى غيره شيئاً فالله هو المعطي في الحقيقة ولكن لما وجدت صورة العطاء من العبد سُمّي معطياً وهذا منه .
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)
قوله : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ } وقد تقدم أنه يقرأ بالنون والياء في الأنعام .
قوله : { أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } إياكم منصوب بخبر « كان » قدم لأجل الفواصل والاهتمام . واستدل بل على جواز تقديم خبر « كان » عليها إذا كان خبرها جملة فإن فيه خلافاً جوزه ابنُ السارج ، ومنعه غيره وكذلك اختلفوا في توسطه إذا كان جملة . قال ابن السِّرِّاج : القياس جوازه لكن لم يسمع .
قال شهاب الدين : قد تقدم في قوله : { مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ } [ الأعراف : 137 ] ونحوه أنه يجوز أن يكون من تقديم الخبر وأن لا يكون . ووجه الدلالة هنا أن تقتديم المعمول مُؤْذِنٌ بتقديم العامل . وتقدم تحقيق هذا في « هُودٍ » في قوله تعالى : { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } [ هود : 8 ] ( و ) وضع هذه القاعدة .
فصل لما بين أن حال النبي - عليه الصلاة والسلام - كحال من تقدمه من الأنبياء وحال قومه حال من تقدّم من الكفار وبين بطلان استدلالهم بكثرة أموالهم وأولادهم بين ما يكون عاقبة حالهم فقال : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } يعني المكذبين بك « ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ » الذين يدعون أنهم يعبدونهم فإن غاية ما ترتفي إليه منزلتهم أنهم يقولون : نحن نعبد الملائكة والكواكب قال قتادة : هذا استفهام تقرير كقوله تعالى لعيسى { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين } [ المائدة : 116 ] فيقول : « ( أَ ) هَؤُلاَءِ إيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ » فتبرأ منهم الملائكة فيقولون : « سُبْحَانَكَ » تنزيهاً لك « أنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ » أي نحن نتولاك ولا نتولاهم يعني كونك ولي بالعبودية أولى وأحب إلينا من كونهم أولياءنا بالعبادة لنا فقالوا : « ( بَلْ ) كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ » أي الشياطين فهم في الحقيقة كانوا يعبدون الجن ونحن ( كنا ) كالقِبْلة لهم .
فإن قيل : فهم كانوا يعبدون الملائكة فما وجه قولهم يعبدون الجن؟ قيل : أراد أن الشياطين زينوا لهم عبادة الملائكة فهم كانوا يُطيعون الشياطين في عبادة الملائكة فقوله : « يعبدون » أي يطيعون الجن ولعبادة هي الطاعة « أكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ » أي مصدِّقون الشياطين .
فإن قيل : جميعهم كانوا متابعين للشياطين فما وجه قوله : { أكْثَرُهُمْ بِهِمْ } فإنه يدل على أنَّ بَعْضَهُم لم يؤمن بهم ولم يُطِعْهُمْ؟
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أن الملائكة أحتظروا عن ( دَعْوى ) الإحاطة بهم فقالوا : أكثرهم لأنَّ الَّذِين رأوهم وأطلعوا على أحوالهم كانوا يعبدون الجنَّ ويؤمنون بهم ولعلَ في لاوجود من لم يُطْلع الله الملائكة عليه من الكفار .
الثاني : هو أن العبادة علم ظاهر والإيمان عمل باطن فقالوا بل يعبدون الجن لاِّطلاعهم على أعمالهم وقالوا أكثرهم بهم مؤمنون عند عمل القلب لئلا يكونوا مدعين اطّلاعهم على ما في القلوب فإن القلب لا يطلع على من فيه إلا الله كما قال :
{ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } [ هود : 5 ] .
ثم بين أن ما كانوا يعبدون لا ينفعهم فقال : { فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً } . وهذا الخطاب يحتم أن يكون مع الملائكة لسبق قوله : { أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } وعلى هذا يكون تنكيلاً للكافرين حيث بيّن لهم أن معبودهم لا ينفعهم ولا يضر . ويصحح هذا قوله تعالى : « لا يملكون الشّفاعة إلا لمن ارتضى » .
ولقوله بَعْدَه : { وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا } ولو كان المخاطب هم الكفار لقال : « فَذُوفُوا » ويحتمل أن يكون داخلين في الخطاب حتى يصح معنى قوله : { بَعْضُكُمْ لِبَعْضِ } أي الملائكة والجن وإذا لم تملكوها لأنفسكم فلا تملكوها لغيرهم ، ويحتمل أن يكون الخطاب والمخاطب هم الكفار لأن ذكر اليوم يدل على حضورهم وعلى هذا فقوله : { وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا } إنما ذكره تأكيداً لبيان حالهم في الظلم .
فإن قيل : قوله « نفعاً » مفيد للحسرة فما فائدة ذكر الضرّ مع أنهم لو كانوا يملكون الضر لما نفع الكافرين ذلك؟
فالجواب : لما كان العبادة نفع لدفع ضرر المعبود كما يعبد الجبَّار ، ويخدم مخافة شره بين أنهم ليس فيهم ذلك الوجه الذي يحسن لأجله عبادتهم .
فإن قيل : « قَوْلُه هَهُنَا : » الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا « صفة للنار وفي السجدة وصف العذاب فجعل المكذب هنا النار وجعل المكذب في السجدة العذاب وهم كانوا يكذبون بالكل فما فائدته؟
فالجواب : قيل : لأنهم هناك كانوا مُلْتَبِسٍين بالعذاب مترددين فيه بدليل قوله : { كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } [ السجدة : 20 ] فوصف لهم ما لا بسوه وهنا لم يُلاَبِسُوهُ بعد لأنه عقيب حشرهم وسؤالهم فهو أول ما رأوا النار فقيل لهم : هذه النار التي كنتم بها تكذبون .
قوله : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هذا } يعنون محمداً - صلى الله عليه وسلم - » إلاَّ رَجُلٌ يُريدُ أنْ يَصْدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ « فعارضوا الرهانَ بالتقليد » وَقَالُوا مَا هَذَا إلاَّ إفْكٌ مُفْتَرى « يعنون القرآن وقيل : القول بالوحدانية » إفْكٌ مُفْتَرًى « كقوله تعالى في حقهم : { أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ } [ الصفات : 86 ] وكقولهم للرسول : { قالوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا } [ الأحقاف : 22 ] وعلى هذا فيكون قوله : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ } بدلاً وقالوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ؛ هذا إنكار للتوحيد وكان مختصاً بالمشركين ، وأما إنكار القرآن والمُعْجِزة فكان متفقاً عليه بين المشركين وأهل الكتاب فقال تعالى : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ } على العموم .
قوله : { وَمَا آتَيْنَاهُمْ } يعني المشركين » مِنْ كُتُبٍ يَدرسونَها « العامة على التخفيف مضارع » دَرَسَ « مخففاً أي حفظ وأبو حيوة يُدَرِّسُونَها بفتح الدال مشددة وكسر الراء والأصل » يَدْتَرِسُونَها « من الادّارس على الافتعال فأدغم ، وعنه أيضاً بضم الياء وفتح الدال وتشديد الراء نم التَّدْريس .
والمعنى يقرأونها وقوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ } أي إلى هؤلاء المحاضرين لك لم ترسل إليهم أي لم يأت العرب قبْلك نبي ولا نزل عليهم كتاب ولا أتاهم نذير يشافههم بالنّذارة غيرك ، فلا تعارض بينه وبين قوله : { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } [ فاطر : 24 ] إذ المراد هناك آثار النذير . ولا شك أن هذا كان موجوداً يذهب النبي وتبقى شريعته ، ثم بين أنهم كالذين من قبلهم كَذّبوا مثلَ عادٍ وثمودٍ وغيرهم .
قوله : { وَمَا بَلَغُوا } الظاهر أن الضمير في « بلغوا » وفي « آتيناهم » للَّذِين من قبله ليناسق قوله : { فَكَذَّبُوا رُسُلِي } يعني أنهم لم يبلغوا في شكر النعمة وجزاء المِنّة « مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ » من النعم والإحسان إليهم . وقيل : بل ضمير الرفع لقريش والنصب « للذين من قبلهم » وهو قول ابن عباس على معنى أنهم كانوا أموالاً ، وقيل : بالعكس على معنى إنا أعطيْنَا قريشاً من الآيات والبراهين ما لم نُعْطِ من قبلهم . واختلق في المشعار فقيل : هو بمعنى العُشْر بني مِفْعَال من لفظ العُشْر كالمِرْبَاع ، ولا ثالث لهما من ألفاظ العدد لا يقال : مِسْدَاس ولا مِخْمَاس ، وقيل : هو عُشْرُ العُشْرِ ، إلا أن ابن عطية أنكره وقال : ليس بشيء وقال المَاوَرْدِيُّ : المعشار هنا عُشْر العَشِيرِ ، والعَشِيرُ هو عُشْرُ العُشْرِ .
فيكون جزءاً من ألف قال : وهو الأظهر لأن المراد به المبالغة في التقليل .
فصل
المعنى أن هؤلاء المشركين ما بلغوا مِعْشَارَ ما أعطينا الأمم الخالية من النِّعْمَة والقوة وطول العُمْرِ فكذبوا رسلي فكيف كان نكير؟ أي إنكاري وتغييري عليهم يحذر كفار هذه الأمة عذاب الأمم الماضية وقي : المراد وكذَّب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم أي الذين من قبلهم ما بلغوا مِعْشَار ما آتينا قوم محمد من البَيَان والبُرْهان وذلك لأن كتاب محمد - عليه السلام- أكملُ من سائر الكتب وأوضح ومحمد - عليه السلام- أفضل من الكتب وبما آتاهم من الرسل أنكر عليهم فكيف لا ينكر عليهم وقد كذبوا بأفصح الرُّسل وأوضح السُّبُل ويؤيد هذا قوله تعالى : { وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا } يعني غير القرآن ما آتيناهم كتاباً « وَمَا أَرْسَلْنَا إلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِير » فلما كان المؤتى في الآية الأولى هو الكتاب فحمل الآية الثانية على إيتاء الكتاب أولى .
قوله : « فكذبوا » فيه وجهان :
أحدهما : أنه معطوف على « كَذِّبَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ » .
والثاني : أنه معطوف على « وما بلغوا » وأوْضَحَهُما الزمخشري فقال : « فإن قلت : ما معنى » فكذبوا رسلي « وهو مستغنى عنه بقوله : { وَكَذَّبَ الَّذِين مِنْ قَبْلِهِم } ؟ قلتُ : لما كان معنى قوله : { وَكَذَّبَ الِّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } وفعل الذين من قبلهم التكذيب وأقدموا عليه جعل تكذيب الرسل سبباً عنه ونظيره أن يقول القائل : أقْدَمَ فلانٌ على الكفر فكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ويجوز أن يعطف على قوله : { وَمَا بَلَغُوا } كقولك : مَا بَلَغَ زَيْدٌ مِعْشَارَ فَضْلِ عمرو فَيُضِّلَ عليه » و « نَكِيرِ » مضاف لفاعله أي إنْكاري وتقدم حذف يائه وإثْبَاتُها .
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
قوله : { قُلْ إنَّما أعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ } أي آمركم وأوصيكم بواحدة أي بخصلة واحدة ثم بين تلك الخصلة فقال : { أنْ تَقُومُوا لِلَّهِ } أي لأجل الله .
قوله : « أن تقوموا » فيه أوجه :
أحدها : أنها مجرورة المحل بدلاً من « وَاحِدَةٍ » على سبيل البيان . قاله الفارسي .
الثاني : أنها عطف بيان « لواحدة » قاله الزمخشري . وهو مردود لتخالفها تعريفاً وتنكيراً ، وقد تقدم هذا عند قوله : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } [ آل عمران : 97 ] .
الثالث : أنها منصوبة بإضمار « أَعْنِي » .
الرابع : أنها مرفوعة على خبر ابتداء مضمر أي هي أن تقوموا ، و « مَثْنَى وفُرَادَى » حال وتقدم تحقيق القول في « مثنى » وبابه في سورة النساء ، ومضى القول في « فُرَادَى » في الأنعام ، ومعنى « مَثْنَى » أي اثنين اثنين ، و « فُرَادَى » واحداً واحداً . ثم قوله : { ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } عطف على « أنْ تَقُومُوا » أي قِيَامكُمْ ثم تَفَكُّركُمْ ، والوقف عند أبي حاتم على هذه الآية مث يتبدئ : « مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةِ » وقال مقاتل : تم الكلام ( عند ) قوله : { ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } أي في خلق السموات والأرض فتعلموا أن خالقهما واحد لا شريك له .
قوله : { مَا بِصَاحِبكُمْ مِنْ جِنَّةٍ } وفي « ما » هذه قولان :
احدهما : أنها نافية
والثانية : أنها استفهامية لكن لا يراد به حقييقة الاستفهام فيعود إلى النفي . وإذا كانت نافية فهل هي معلقة أو مستأنفة أو جواب القسم الذي تضمنه معنى « تَتَفَكَّرُوا » لأنه فعل تحقيق كتَبَيَّنَ وبابه؟ ثلاثة أوجه نَقَل الثَّالِثَ ابنُ عطية . وربما نسبه لِسِيبويهِ ، وإذا كانت استفهامية جاز فيها الوجهان الأولان دون الثالث و « مِنْ جنَّةٍ » يجوز أن يكون فاعلاً بالجار لاعتماده وأن يكون مبتدأ ويجوز في « ما » إذا كانت نافية أن تكون الحجَازيَّة أو التَّمِيميَّة .
قوله : { مثنى وفرادى } إشارة إلى جمعي الأحوال فإن الإنسان إما أن يكون مع غيره فيدخل في قوله « مَثْنَى » وإن كان وحده دخل في قوله : « فُرَادَى » فكأنه قال : تَقُومُوا لله مجتَمعِينَ ومُنْفَرِدِين لا يمنعكم الجمعيَّةُ من ذكر الله ولا يحوجكم الانفراد يُعينكم على ذكر الله ثم تتفكروا في حال محمد - صلى الله عليه وسلم - فتعلموا ما بصاحبكم من « جنة » جنون . وليس المراد من القيام القيام ضد الجلوس وإنما هو القايم بالأمر الذي هو طلب الحق كقوله : { وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط } [ النساء : 127 ] قال ابن الخطيب وقوله : { بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ } يفيد كونه رسولاً وإن كان يظهر من أشياء لا تكون مقدورة للبشر وغير البشر من يظهر منه العجائب إما الجن وإما الملك فإذا لم يكن الصادر من النبي - عليه السلام- بواسطة الجن بل بقدرة الله من غير واسطة وعلى التقديرين فهو رسول الله وهذا من أحسن الطُّرق ، وهو الذي يثبت الصفة التي هي أشرف الصفات في البشر بنفي أخسِّ الصفات فإنه لو قال أولاً هو رسول كانوا فيه النِّزاع فإذا قال : ما هو مجنون لم يسعهم إنكار ذلك ، ليعلمهم بعلو شأنه وحاله في قوة لسانه ، فإذا ساعدوا على ذلك لزمتهم المسألة ولهذا قال بعده : { إنْ هُوَ نَذِيرٌ لَكُمْ } يعني إما هو به جِنّة و هو رسول لكن تبين أنه ليس به جنة فهو نذير .
وقوله : { بَيْنَ يَدِيْ عَذَابِ شَدِيدٍ } إشارة إلى قرب العذاب كأنه قال بنذركم بعذاب حاضر يَمَسّكم عن قريبٍ .
قوله : { قُلَ مَا سألتُكُمْ مِنْ أجْرٍ } في « ما » وجهان :
أحدهما : أنها شرطية فيكون مفعولاً مقدماً و « فهُوَ لَكُمْ » جوابها .
والثاني : أنها موصولة في محل رفع بالابتداء والعائدمحذوف أي سأَلْتُكُمُوهُ والخبر : « فَهُوَ لَكُمْ » ودخلت الفاء لشبه الموصول بالشرط والمعنى يحتمل أنه لم يسألهم أجراً البتة كقولك : إن أعْطَيْتَنِي شيئاً فخذه مع عملك أي لم يُعْطِكَ شيئاً وقول القائل : ما لي من هذا فقد وهبته لك يريد ليس لي فيه شيء . ويؤيده : { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله } ويحتمل أن سألهم شيئاً نفعُه عائدٌ عليهم وهو المراد بقوله : { إِلاَّ المودة فِي القربى } [ الشورى : 23 ] « إنْ أَجْرِيَ » ما ثوابي { وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٍ } .
قوله : { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق } يجوز أن يكون « يَقْذِفُ بالْحَقِّ » مفعوله محذوفاً لأن القَذْفَ في الأصل الرمي وعبر عنه هنا عوضاً عن الإلقاء أي يلقي الوحي إلى أنبيائه « بالْحَقِّ » أي بسبب الحق أو ملتبساً بالحق . ويجوز أن يكون التقدير يَقْذِفُ الباطلَ بالحقِّ أي يدفعه ويطرحه ، كقوله تعالى : { بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل } [ الأنبياء : 18 ] ويجوز أن يكون الباء زائدة أي نُلْقِي الحَقِّ ، كقوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] أو تضمن « يقذف » معنى يقتضي ويحكم ، والقذف الرمي بالسهم أو بالحَصَاةِ أو الكلام .
قال المفسرون : معناه نأتي بالحق بالوحي ننزله من السماء فنقذفه إلى الأنبياء قوله : { عَلاَّمُ الغيوب } العامة على رفعه وفيه أوجه : أظهرها : أنه خبر ( ثانٍ ) ل « إنّ » أو خبر لمتبدأ مضمر أو بدل من الضمير في « يَقْذِفُ » أو نعت له على رأي الكسائي؛ لأنه يُجيزُ نعت الضمير الغائب . وقد صرح به هنا وقال الزمخشري : رفع على محل إنَّ واسْمِها ، أو على محل إنَّ اسْمِها ، أو على المستكِنِّ في « يَقذف » يعني بقوله محمول على محل إنَّ واسْمِهَا يعني به النعت إلا أن ذلك ليس مذهب البصريين لأنهم لم يعتبروا المحل إلا في العطف بالحرف بشروط عند بعضهم .
ويرد بالحمل على الضمير في نقذف أنه بدل منه لا أنه نعت له لأن ذلك انفرد به الكسائي ، وقرأ زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ وعيسَى بْنُ عُمَرَ وابنُ أبي إسْحَاقَ بالنصب نعتاً لاسم إنَّ أو بدلاً منه على قلة الابدال بالمشتق أو منصوب على المدح . وقرئ الغُيُوب بالحركات الثلاث في الغين . فالضم تقدما في « بُيُوتٍ » وبابه . وأما الفتح صيغةُ مبالغة كالشَّكُورِ والصَّبُورِ وهو الشيء الغائب الخَفِيُّ .
فصل
قال ابن الخطيب في يقذف بالحق وجهان : أحدهما : نقذف بالحق في قلوب المحقين . وعلى هذا تُعَلَّقُ الآية بما قبلها من حيث إن الله تعالى لما بين رسالة النبي - عليه ( الصلاة و ) السلام- بقوله : { إنْ هُوَ إلاَّ نَذِيرٌ } وأكده بقوله : { قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُم } وكان من عادة المشركين استعباد تخصيص واحد من بينهم بإنزال الذكر عليه كما حكى عنهم قولهم : { أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا } [ ص : 8 ] ذكر ما يصلح جواباً لهم فقال : { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق } في القلوب ( إشارة إلى أن الأمر بيده يفعل ما يريد ويعطي ما يشاء كما يريد من غير اختصاص محل الفعل بشيء لا يوجد في غيره لا يكون عالماً وإنما ذلك فعل اتفاقاً ، كما يصيب السهم موضعاً دون غيره مع تسوية المواضع في المحاذاة ، فقال : « بالْحقِّ » كيف شاء وهو عالم بما يفعله ( دعاكم ) بعواقب ما يفعله إذْ هُو عَلاَّم الغُيُوب فهو كما يريد لا كما يفعل الهاجمُ الغافلُ عن العَوَاقب .
الوجه الثاني : أن المراد منه أنه يقذف بالحق على الباطل كقوله : { بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ } [ الأنبياء : 18 ] وعلى هذا تعلق الآية بما قبلها من حيث إن براهين التوحيد لما ظهرت وشبهتهم داحضة قال : « إن ربي يقذف بالحق » أي يُبْلي باطلكم . وعلى هذا الوجه فقوله : « علام الغيوب » هو أنّ البرهان المعقول لم يقع إلا على التوحيد والرسالة وأما الحشر فلا بُرْهَان على وقوعه إلا إخبار الله تعالى عنه وعن أحواله وأهواله ولولا بيان الله بالقول لما بان لأحد بخلاف التوحيد والرسالة فلما قال : { يَقْذِفُ بالحق } أي على الباطل أشار به إلى ظهور البراهين على التوحيد والنبوة . ثم قال : « عَلاَّم الغُيُوبِ » أي ما يخبره عن الغيب وهو قيام الساعة وأهوالها فهو لا خُلْف فيه فإن اله علام الغيوب . وتحتمل الآية وجهاً آخر هو أن يقال : « { رَبِّي يَقْذِفُ بالحق } أي ما يقذفه بالحق لا بالباطل . والباء على الوجهين الأولين متعلق بالمفعول به والحق مقذوف على الوجهين الأولين وعلى هذا الباب في قوله : » بالحق « كالباء في قوله تعالى : { فاحكم بَيْنَ الناس بالحق } [ ص : 26 ] والمعنى على هذا الوجه هو أن الله تعالى قذف ما قذف في قلوب الرسل وهو علام الغيوب يعلم ما في قلوبهم وما في قلوبكم .
قوله : { قُلْ جَآءَ الحق } يعني القرآن . وقيل : التوحيد والحشر ، وكلّ ما ظهر على لسان النبي - عليه ( الصلاة و ) السلام . وقيل المعجزات الدالة على نبوة محمد - عليه ( الصلاة و ) السلام وقيل : المراد من جاء بالحق أي ظهر الحق لأن كلَّ ما جاء فقد ظهر .
قوله : { وَمَا يُبْدِيءُ } يجوز في « ما » أن تكون نفياً ، وأن تكون استفهاماً ، ولكن يَؤُول معناها إلى النفس ، ولا مفعول « ليُبْدِئُ » ولا « لِيُعِيدُ » إذ المراد لا يوقع هذهين الفعلين كقوله :
4142- أقَفَرَ مِنْ أَهْلِهِ عُبَيْدُ ... أَصْبَحَ لاَ يُبْدِي وَلاَ يُعِيدُ
وقيل : مفعوله محذوف أي ما يُبْدِئُ لأهله خبراً ولا يُعِيدُه ، وهو تقدير الحسن . والمعنى : ذَهَبَ البَاطِلُ ووَهَن فلم يبق منه بقية يبدي شيئاً أو يعيد . وهو كقوله : { بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ } [ الأنبياء : 18 ] وقال قتادة : الباطل هو إبليس أي ما يخلق إبليسُ أحداً ابتداء ولا يبعثه . وهو ( قول ) مقاتل والكلبِّي ، وقيل : الباطل الأصنام .
قوله : { إنْ ضَلَلْتُ } العامة على فتح لامه في الماضي وكسرها في المضارع ولكن بنقل الساكن قبلها . وابن وثاب بالعكس وهو لغةُ تميمٍ وتقدم ذلك .
فصل
قال المفسرون : إن كفار مكة كانوا يقولون : إنك ضللت حتى تركت دين آبائك ، فقال الله تعالى : { قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ على نَفْسِي } أي إثم ضلالي على نفسي { وَإِنِ اهتديت فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي } من القرآن والحكمة { إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } .
قوله : { فِبِمَا يُوحِي } يجوز أن تكون « ما » مصدرية أي بسبب إيحاء ربي لي ، وأن تكون موصولة أي بسبب الذي يُوحِيه فعائده محذوف وقوله « سميعٌ » أي يسمع إذا ناديتهُ واستغنت به عليكم قريب يأتيكم من غير تأخير ليس كمن يسمع من بعيد ولا يلحق الدَّاعِي .
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
قوله : { وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ } قال قتادة عن البعث حتى يخرجوا من قبورهم « فَلاَ فَوْتَ » أي فلا تَفُوتُونِي كقوله : { وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } [ ص : 3 ] وقيل : إذْ فَرِعُوا عند الموت فلا نجاةَ و « لَوْ تَرَى » جوابه محذوف؛ أي ( جوابه ) ترى عجباً .
قوله : { فَلاَ فَوْتَ } العامة على بنائه على الفتح و « أُخِذُوا » فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول معطوفة على « فَزِعُوا » .
وقيل : على معنى : « فَلاَ فَوْتَ » أي فلم يفوتوا وأخذوا وقرأ عبد الرحمن مولى هاشم وطلحةُ فَلاَ فَوْتٌ وأَخْذٌ مرفوعين منونين ، وأُبَيّ يفتح « فوت » ، ورفع « أخذ » ، فرفع « فوت » على الابتداء أو على اسم لا الليسية ومن رفع « وأخذ » رفعه بالابتداء والخبر محذوف أي وأَخْذٌ هناك أو على خبر ابتداء مضمر أي وَحالُهُمْ أَخْذٌ .
ويكون من عطف الجمل مثبتةً على منفيةٍ .
قوله : { وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } قال الكلبي : من تحت أقدامهم . وقيل : أخذوا من بطن الأرض إلى ظهرها . وحيث ما كانوا فهُمْ مِنَ الله قريب لا يفونه . وقيل : من مكان قريب يعني عذاب الدنيا . قال الضحاك : هو يوم بَدْر . وقال ابنُ أبْزَى : خَسْفٌ بالبيداء وجواب « لَوْ تَرَى » محذوف أي لَرَأيْتَ أَمْراً يُعْتَبَرُ بِهِ .
قوله : { وقالوا آمَنَّا بِه } أي عند اليأس . والضمير في « به » لله أو للرسول أو للقرآن أو للعذاب أو للبعث و « أَنِّي لَهُمْ » أي من أين لهم أي كيف يقدرون على الظَّفَرِ بالمطلوب وذلك لا يكون إلاَّ من الدنيا وهم في الآخرة والدنيا من الآخرة بعيدة .
فإن قيل : فكيف قال في كثير من المواضع : إنَّ الآخِرَةَ من الدنيا قريبة وسمى الله الساعة قريبة فقال : { اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] { اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ } [ الأنبياء : 1 ] { لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ } [ الشورى : 17 ] .
فالجواب : أن الماضي كالأمس الدابر وهو أبعد ما يكون؛ إذ لا وصولَ إليه والمستقبل وإن كان بينه وبين الحاضر سنين فإنه آتٍ فيوم القيامة الدنيا بعيدة منه لمضيِّها ويوم القيامة في الدنيا قريب لإتيانه .
قوله : { التناوش } متبدأ و « أنَّى » خَبَرهُ ، أي كيف لهم التناوش و « لَهُم » حال ، ويجوز أن يكون « لهم » رافعاً للتناوش لاعتماده على الاستفهام تقديره كيف استقر لهم التناوش؟ وفيه بعد ، والتناوش مهموز في قراءة الأخوين وأبي عمرو ، وأبي بكر وبالواو في قراءة غيرهم ، فيحتمل أن يكونا مادتين مستقلتين مع اتّحاد معناهما ، وقيل : الهمزة عن الواو لانضمامها كوُجُوهٍ وأُجُوه ، ووُقّتت وأُقِّتَتْ وإليه ذهب جماعة كثيرةٌ كالزَّجّاج والزَّمخْشَري وابن عطية والحَوْفي وأبي البقاء قال الزجاج : كل واو مضمومة ضمة لازمة فأنت فيها بالخيار ، وتابعه الباقون قريباً من عبارته .
وردَّ أبو حيانَ هذا الإطلاق وقيده بأنه لا بدّ أن تكون الواو غير مدغم فيها تحرزاً من التعوذ وأن تكون غير مصححة في الفعل فإنها متى صحت في الفعل لم تبدل همزة نحو : تَرَهُوَكَ تَرَهْوُكاً ، وتَعَاوَنَ تَعَاوُناً . وهذا القيد الآخر يبطل قولهم لأنها صحت في : « تَنَاوَشَ يَتَنَاوَشُ » ، ومتى سلم له هذان القيدان أو الأخير منهما ثَبَتَ رده . والتَّنَاوُشُ الرجوعُ ، قال :
4143- تَمَنَّى أَنْ تَئُوبَ إلَيَّ مَيٌّ ... وَلَيْسَ إلى تَنَاوُشِهَا سَبِيلُ
أي إلى رجوعها . وقيل : هو التناول يقال : نَاشَ كذا أي تَنَاوَلَهُ ومنه تَنَاوشَ القَوْمُ بالسِّلاح كقوله :
4144- ظَلَّتْ سُيُوفُ بَنِي أبِيهِ تَنُوشُهُ ... لِلَّهِ أَرْحَامٌ هُنَاكَ تَشَقَّقُ
وقال آخر :
4145- وهي تَنُوشُ الْحَوْضَ نَوْشاً مِنْ عَلاَ ... نَوْشاً به تقطَع أجْوَازَ الفَلاَ
وفرق بعضهم بين المهموز وغيره فجعل المهموز بمعنى التأخير . وقال الفراء : من نَأَشْتُ أي تَأَخَّرْتُ . وأنشد :
4146- تَمَنَّى نَئِيشاً أَنْ يَكُونَ مُطَاعُنَا ... وَقَدْ حَدَثَتْ بَعْدَ الأُمُورِ أُمُورُ
وقال آخر :
4147- قَعَدْتَ زَمَاناً عَنْ طِلاَبِكَ لْلعُلاَ ... وَجِئْتَ نَئِيشاً بَعَْ مَا فَاتَكَ الخَيْرُ
وقال الفراء أيضاً : هما متقاربان يعني الهمزة وتركها مثل ذِمْتُ الشيء وذَأَمْتُهُ أي عِبْتُهُ وانْتَاشَ انْتَاشَ انِتْيَاشاً كَتَنَاوَشَ وقال :
4148- كَانَتْ تَنُوشُ العنق انْتِيَاشا ... وهذا مصدر على غير المصدر ، و « مِنْ مَكَانٍ » متعلق بالتَّنَاوُشِ .
فصل
المعنى كيف لهم تناول ما بعد وهم الإيمان والتوبة وقد كان قريباً في الدنيا فضيّعوه وهذا على قراءة من لم يهمز وأما من همز معناه هذا أيضاً . وقيل : التناوش بالهمز من النَّيْشِ وهي حركة في إبطاء ، يقال : جاء نيْشاً أي مُبْطِئاً متأخراً والمعنى من أي لهم الحركة فيما لا حيلة لهم فيه .
قال ابن عباس : يسألون الرد فيقال : وأنَّى لهم الردُّ إلى الدنيا « من مكان بعيد » أي من الآخرة إلى الدنيا .
قوله : { وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ } جملة حالية . وقوله « به » أي بالقرآن . وقيل : بالله أو محمد- عليه ( الصلاة و ) السلام- .
وقيل : بالعذاب أو البعث . و « من قبل » أي من قبل نزول العذاب . وقيل : من قبل أن عاينوا أهوال القيامة ، ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة والأول أظهر .
قوله : { وَيُقْذَفُونَ } يجوز فيها الاستئنافُ والحال ، وفيه بعد . عكس الأول لدخول الواو على مضارع مثبت . وقرأ أبو حيوة ومجاهد ومحبوب عن أبي عمرو : ويُقْذَفُونَ مبنياً للمفعول أي يُرْجَمُونَ بما يسوؤهُمْ من جزاء أعمالهم من حيث لا يحْتسبون .
فصل
ويقذفون قال مجاهد : يرمون محمداً صلى الله عليه وسلم بالظن لا باليقين وهو قولهم : ساحرٌ وشاعرٌ وكاهنٌ . ومعنى الغيب هو الظن لأنه غاب علمه عنهم والمكان البعيد بعدهم عن علم ما يقولون والمعنى يَرْمُونَ محمداً بما لا يعلمون من حيث لايعلمون .
وقال قتادة : « أي يرجمون بالظن يقولون لا بعثَ ولا جنةَ ولانَارَ » .
قوله : { وَحِيَل } تقدم في الإشمام والكسر أو البقرة .
والقائم مقام الفاعل ضمير المصدر أي وحيل هو أي الحَوْلُ ولا تقدره مصدراً مؤكداً بل مختصاً حتى يصح قيامه ، وجعل الحَوْفيُّ القائم مقام الفالع « بينهم » اعترض عليه بأنه كان نيبغي أن يرفع . وأجيب عنهُ بأنه إنما بني على الفتح لإضافته إلى غير متمكِّن . ورده أبو حيان بأنه لا يبنى المضاف إلى غير متمكن مطلقاً ، فلا يجوز : قاَمَ غُلاَمَكَ ولا مَرَرْتُ بِغُلاَمكَ بالفتح . قال شهاب الدين : وقد تقدم في قوله : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] ما يغني عن إعادة ثم قال أبو حيان : وما يقول قائل ذلك في قول الشاعر :
4149- . . ... وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الْعَيْرِ والنَّزَوَانِ
فإنه نصب « بين » مضافة إلى معرب وخُرِّجَ أيضاً على ذلك قول الآخر :
4150- وَقَالَتْ مَتَى يُبْخَلْ عَلَيْكَ وَيُعْتَلَلْ ... يَسُؤْكَ ( وَ ) إنْ يُكْشَفْ غَرَامُكَ تَدْرَبِ
أي يتعلل هو أي الاعتلال .
قوله : { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } يعني الإيمان والتوبة والرجوع إلى الدنيا .
وقيل : نعيم الدنيا وزهرتها ، « كَمَا فُعشلَ باَشْيَاعِهِمْ » بنظرائهم ومن كان ( على ) مث حالهم من الكفار « مِنْ قَبْلُ » لم يقبل منهم الإيمان في وقت اليأس « إنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكِّ » من البعث ونزول العذاب بهم ، و « مِنْ قَبْلُ » متعلق « بفُعِلَ » أو « بأَشْيَاعِهِمْ » أي ( الذين ) شايعوهم قبل ذلك الحين .
قوله : { مُرِيب } قد تقدم أنه اسم فاعل من أَراربَ أي أى بالريب أو دخل فيه وأَرَبْتُهُ أوْقَعْتُهُ في الرَّيْبِ . ونسبة الإرابة إلى الشك مجازاً .
وقال الزمخشري هنا إلا أن ههنا فُرَيْقاً وهو أن المريب من المتعدي منقول من صحاب الشك إلى الشك كما تقول شرع شاعر وهي عبارة حسنة مفيدة وأين هذا من قول بعضهم ويجوز أن يكون أردفه على الشك ليناسق آخر الآية بالتي قبلها من مكان قريب . وقول ابن عطية الشك المريب : أقوى ما يكون من الشك وأشدُّه ، وتقدم تحقيق الريب أول البقرة ، وتشينع الراغب على من يفسر بالشكّ ، والله أعلم .
روى أو أمامة عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - . « مَنْ قَرَأَ سُوَرةَ سَبَأٍ لَمْ يَبْقَ نَبِيُّ وَلاَ رَسُولٌ إلاَّ كَانَ لَهُ رفيقاَ وَمُصَافِحاً » .
( صدق نبي الله وحَبِيبُ الله - صلى الله عليه وسلم ) .
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)
قوله : { الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات } قد تقدم أن الحمد يكون على النعمة في أكثر الأمر . ونعم الله على قسمين عاجلة وآجلة والعاجلة وجود وبقاء والآجلة كذلك إيجاد مرة وإبقاء .
قوله : { فَاطِرِ } إن جعلت إضافة محضة كان نعتاً « لله » وإن جعلتها غير محضة كان بدلاً . وهو قليل ، من حيث إنه مشتق ، وهذه قراءة العامة . والزُّهْريّ والضحاك : « فَطَرَ » فعلاً ماضياً وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها صلة لموصول محذوف أي الَّذِي فطر . كذا قدره أبو ( حيان ) وأبو الفضل ، ولا يليق بمذهب البصريين لأن حذف الموصل الاسمي لا يجوز ، وقد تقدم هذا الخلاف متسوفًى في البقرة .
الثاني : أنه حال على إضمار « قد » قال أبو الفضل أيضاً .
الثالث : أنه خبر مبتدأ مضمر أي هُوَ فطر وقد حكى الزمخشري قراءة تؤيد ما ذهب إليه الرّازي فقال : « وقرئ الذي فَطَر وَجَعَل » ، فصرح بالموصول .
فصل
معنى فاطر السموات والأرض أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق . قاله ابن عباس وقيل : فاطر السموات والأرض أي شاقّهما لِنُزُول الأرواح من السماء وخروج الأجساد من الأرض . ويلد عليه قوله تعالى : { جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً } فإن في ذلك اليوم تكن الملائكةُ رسلاً .
قوله : « جاعل » العامة أيضاً على جره نعتاً أو بدلاً ، والحسن بالرفع والإضافة .
وروي عن أبي عمرو كذلك إلا أنَّه لم ينون ونصب الملائكة ، وذلك على حذف التنوين لالتقاء الساكنين كقوله :
1451- ... وَلاَ ذَاكِرِ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلا
وابنُ يعمُر وخُلَيْدُ بن نَشِيطٍ « جَعَلَ » فعلاً ماضياً بعد قراءة فاطر بالجر وهذه كقراءة : { فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل } [ الأنعام : 96 ] والحَسَنُ وحُمَيْد رُسْلاً بسكون السين وهي لغة تميم . وجاعل يجوز أن يكون بمعنى مصير أوبمعنى خالق فعلى الأولى يجري الخلاف هل نصب الثاني باسم الفاعل أو بإضمار فعل هذا إن اعتقد أن جاعلاً غير ماضي أما إذا كان ماضياً تعين أن ينتصب بإضمار فعل .
وتقدم تحقيق ذلك في الأنعام وعلى الثاني ينتصب على الحال ، و « مَثْنَى وثُلاَثَ ورُبَاعَ » صفة لأجنحة و « أُولي » صلة لرُسُلاً .
وتقدم تحقيق الكلام في مَثْنَى وأخْتَيْهَا في سورة النساء قال أبو حيان وقيل : أولي أجنحة معترض و « مثنى » حال والعامل فعل محذفو يدل عليه رسلاً أي يُرْسَلُون مَثْنَى وثُلاَث ورُبَاع وهذا لا يسمى اعتراضاً لوجهين :
أحدهما : أن « أولي » صفة لرسلاً والصفة لا يقلا فيها معترضة .
والثاني : أنها ليست حالاً من « رُسُلاً » ( بل ) من محذفو فكيف يكون ما قبله معترضاً؟ ولو جعله حالاً من الضمير في « رُسُلاً » لأنه مشتق لسهل ذلك بعض شيء ويكون الاعتراض بالصفة مجازاً من حيث إنه فاصل في الصورة .
قوله : { يَزِيدُ } مستأنف و « مَا يَشَاءُ » هو المفعول الثاني للزّيادة . والأول لم يقصد فهو محذفو اقتصاراً لأن قوله في الخلق يُغْنِي عَنْهُ .
فصل
قول قتادة ومقاتل : ألوي أجنحة بعضهم له جناحان وبعضهم له ثلاثةُ أجنحة ، وبعضهم له أجنحة يزيد فيها ما يشاء وهو قوله : { يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآء } قال ( عبد الله ) بنُ مسعود في قوله عزّ وجلّ : { لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى } [ النجم : 18 ] قال : رأي جبريل في صورته له ستّمائةِ جَنَاح . « قال ابن شهاب في قوله : { يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآء } قال : حسن الصوت وعن تقادة : هو المَلاَحَةُ في العينين وقيل : هو القعل والتمييز { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
قوله : { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } لما بين كمال القدرة ذكر بيان نفوذ المشيئة ونفاذ الأمر وقال : { مَّا يَفْتَحِ الله } إن رحم الله فلا مانع له وإن لم يرحم فلا باعثَ له عليها . وفي الآية دليل على سبق الرحمة الغضب من وجوه :
أحدها : التقديم حيث قدم بيان فتح أبواب الرحمة في الذكر .
وثانيها : أنه أنّث الكناية فقال : فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا » ويجوز من حيث العربية أن يقال : « لَهُ » عَوْداً إلى « ما » ولكن قال الله تعالى ذلك ليعلم أن المفتوح أبواب الرحمة فيه واصلة إلى من رَحِمَتُهُ وقال عند الإمساك : « وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ » بالتذكير ولم يقل « لها » فلم يصرح بأنه لا مرسل للرحمة بل ذكره بلفظ يحتلم أن يكون الذي يرسل هو غير الرحمة ، فإن قوله ( تعالى ) { وَمَا يُمْسِكْ } عامٌّ من غير بيانٍ وتخصيص .
وثالثها : قوله من بعْدِه أي من بعد الله فاستثنى ههنا وقال : « لاَ مُرْسِلَ لَهُ إلاَّ اللَّهُ » وعند الإمساك قال : لاَ مُمْسِكَ لَهَا « ولم يقل غير الله لأن الرحمة إذا جاءت لا ترتفع فإن من رَحِمَهُ الله في الآخرة لا يعذبه بعدها هو ولا غيره ومن يعذبه الله قد يرحمه الله بعد العذاب كالفساق من أهل الإيمان .
قوله : { مِنْ رَحْمَةٍ } تبين أو حال من اسم الشرط ولا يكون صفة ل » ما « لأن اسم الشرط لا يوصف قال الزمخشري : وتنكير الرحمة للإشاعة والإبهام كأنه قيل : أيّ رحمةٍ كانت سماويةً أو أرضية؟ قال أبو حيان : والعموم مفهوم من اسم الشرط و » من رحمة « بيان لذلك العام من أي صنف هو وهو مما اجْتُزِئَ فيه بالنكرة المفردة عن الجمع المعرف المطابق في العموم لاسم الشرط وتقديره من الرحمات . و » من « في موضع الحال . انتهى .
قوله { وَمَا يُمْسِكْ } يجوز أن يكون على عمومه أيْ أيّ شيء أمْسَكَه من رحمة أو غيرها .
فعلى هذا التذكير في قوله له ظاهر لأنه عائد على « ما يمسك » ويجوز أن يكون قد حذف الميَّن من الثاني لدلالة الأول عليه تقديره وما يمسك من رحمة فعلى هذا التذكير في قوله : « له » على لفظ « ما » وفي قوله أولاً : فلا ممسك لها التأنيث فيه حمل على معنى « ما » لأن المراد به الرحمة فحل مأولاً على المعنى وفي الثاني على اللفظ . والفَتْحُ والإمساك استعارة حسنة « وَهُوَ العَزِيزُ » فيما أمسك أي كامل القدرة « الحَكِيمُ » فيما أرسل أي كامل العلم . قال - عليه ( الصلاة و ) السلام « الَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجدّ مِنْكَ الجِدُّ » .
قوله : { ياأيها الناس اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } لما بين أن الحمد لله وبين بعض وجوه النعمة التي تَسْتَوجبُ الحمدل على سبيل التفصيل بني النعمة على سبيل الإجمال فقال : { اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } وهي مع كونها منحصرة في قسمين نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء فقال : { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله } إشارة إلى نعمة الإيجاد في الابتداء وقال : { يَرْزُقُكُمْ } إشارة إلى نعمة الإبقاء بالرزق في الانتهاء .
قوله : { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله } قرأ الأخوان « غَيْرٍ » بالجر نعتاً « لِخَالِقٍ » على اللّفظ و « مِنْ خَالِقٍ » متبدأ مراد فيه « من » وفي خبره قولان :
أحدهما : هو الجملة من قوله : { يَرْزُقُكُمْ } .
والثاني : أنه محذوف تقديره : « لكم » ونحوه ، وفي « يرزقكم » على هذا وجهان :
أحدهما : أنه صفة أيضاً لخلق فيجوز أن يحكم على مَوْضِعِهِ بالجر اعتباراَ باللفظ وبالرفع اعتباراً بالمَوْضِعِ .
والثَّانِي : أنه مستأنف وقرأ الباقون بالرفع وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه خبر المبتدأ .
والثاني : أنه صلة لخالق على المَوْضِع والخبر إما محذوفٌ وإما « يَرْزُقُكُمْ » .
والثالث : أنه مرفوع باسم الفاعل على جهة الفاعلية لأن اسمَ الفاعل قد اعتمد على أداة الاستفهام إلاَّ أن أبا حيان توقف في مثل هذا من حيث إن اسم الفاعل وإن اعتمد إلا أنه لم يحفظ ( فيه ) زيادة « من » قال : فيحتاج مثله إلى سماع ولا يظهر التوفق فإن شروط الزيادة والعمل موجودة ، وعلى هذا الوجه « فَيرْزُقُكُمْ » إما صفة أو مستأنف .
وجعل أبو حيان استئنافه أولى ، قال : لانتفاء صدق « خالق » على غير الله بخلاف كونه صفة فإن الصفة تُقَيَّد فيكون ثَمَّ خالق غير الله لكنه ليس برازقٍ وقرأ الفضلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ النحويّ « غَيْرَ » بالنصب على الاستثناء والخبر « يَرزُقُكُمْ » أو محذوف و « يرزقكم » مستأنفةٌ أو صفةٌ .
فصل
قال المفسرون : هذا استفهام على طريق التنكير كأنه قال : لا خالق غير الله يرزقكم .
من السماء والأرض أي من السماء المطر ومن الأرض النبات « لاَ إلَه إلاَّ هُوَ » مستأنف « فَاَنَّى تُؤْفَكُونَ » أي فأنى تُصْرَفُونَ عن هذا الظاهر فكيف تشركون المَنْحُوتَ بمن له الملكوت؟ ثم لما بين الأصل الأول وهو التوحيد ذلك الأصل الثاني وهو الرِّسالة فقال : { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ } يسلي نبيه - صلى الله عليه وسلم - ثم بين من حيث الإجمال أن المكذب في العذاب ( و ) غير المكذب له الثواب بقوله : { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } ثم بين الأصل الثالث وهو الحشر فقال : { ياأيها الناس إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } يعني وعد القيامة { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغرور } أي الشيطان وقرأ العامة بفتح « الغَرُور » وهو صفة مبالغة كالصَّبُور والشَّكُور . وأبو السَّمَّال وأبو حَيْوَة بضمِّها؛ إماغ جمع غارٍ كَقَاعدٍ وقُعُودٍ وإمَّا مصدر كالجُلُوس .
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)
قوله : { إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ } لما قال تعالى : { وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغرور } [ فاطر : 5 ] يمنع العاقل من الاغترار وقال : { الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّا } ولا تمسعوا قوله . قوله : { فاتخذوه عَدُوّا } أي اعملوا ما يسوؤه وهو العمل الصالح . ثم قال : { إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ } أي أشياعه { لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير } ( و ) في الآية أشارة إلى معنى لطيف وهو أن من يكون له عدو فإما أنْ يُعَادِيَه مجازاةً له وإما أن يُرْضيه فلما قال تعالى : { إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوّ } أمرهم بالعداوة وأَشَارَ إلى أن الطريق ليس إلا هذا . وأما الإرضاء فلا فائدة فيه لأنكم إنْ أَرْضَيْتمُوهُ واتَّبعتُمُوهُ فهو لا يؤدِّيكم إلا إلى السعير .
واعلم أن من علم أن له عدواً لا مهرب له منه وجزم بذلك فإنه يق له ويصير معه على قتاله إلى يظفر به وكذلك الشيطان لا يقدر الإنسان ( أن ) يهرب منه فإنه يقف معه ولا يزال ثابتاً على الجادّة والاتِّكال على العبداة ثم بين تعالى ما حال حزبه وحال حزب الله وهو قوله : { الذين كَفَرُواْ } يجوز رفعه ونصبه وجره فرفعه من وجهين :
أظهرهما : أن يكون متبدأ والجملة بعده خبره . والأحسن أن يكون « لهم » هو الخبر و « عَذَابٌ » فاعله .
الثاني : أنه بدل من واو « لِيَكُونُوا » ونصبه من أوجه : البدل من « حِزْبَهُ » أو النعت له أو إضمار فلع « أَذُمُّ » ونحوه ، وجره من وجهين : النعت أو البدلية من « أصْحَابِ السًّعِيرِ » وأحسن الوجوه الأول المطابقة التقسيم واللام في « لِيَكُونُوا » إما للعلة على المجاز من إقامة السَّبَب مَقَم المُسَبب وإما الصَّيْرُورة ثم قال : { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } وهذا حال حزب الشيطان { والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } فالإيمان في مقابلته المغفرة فلا يُؤَبَّد مؤمنٌ في النار والعمل الصالح في مقابلته « الأجر الكبير » .
قوله : { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِه } « مَنْ » موصول مبتدأ وما بعده صلته والخبر محذوف فقدره الكسائِيُّ « تذهب نفسك عليهم حَسَرَاتٍ » لدلالة : « فَلاَ تَذْهَب » عليه وقدره الزجاج : « وأَضَلَّهُ اللَّهُ كَمَنْ هَدَاهُ » وقدره غيرهما كمن لم يُزَيَّنْ له . وهو أحسن ، لموافقته لفظاً ومعنى ونظيره « أفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ ( هُوَ أعْمَى ) » { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى } [ الرعد : 19 ] والعامة على « زُيِّنَ » مبنياً للمفعول « سُوءُ » رفع وعُبَيْدُ بْنُ عَمَيْر زَيَّنَ مبنياً للفاعل وهو الله « سُوءَ » بالنصب به . وعنه « أَسْوأَ » بصيغة التفضيل منصوباً وطلحةُ « أَمَنْ » بغير فاء قال أبو الفضل : الهمزة للاستخبار بمعنى العامة للتقرير ويجوز أن تكون بمعنى حرف النداء فحذف التَّمَامُ كما حذف من المشهور الجواب ، يعني أنه يجوز أن تكون بمعنى حرف النداء فحذف التَّمَامُ كما حذف من المشهور الجواب ، يعني أنه يجوز في هذه القراءة أن تكون الهمزة للنداء وحذف التّمام أي ما نُودي لأجله كأنه قيل : يَا مَنْ زينَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ارْجِعء إلى الله وتب إليه ، وقوله : « كما حذِف الجواب » يعني به خبرَ المبتدأ الذي تَقدَّم تقريره .
فل
قال ابن عباس : نزلت في أبي جهل ومشركي مكة وقال سعيد بن جبير : نزلت في أصحاب الأهْوَاء والبِدَع فقال قتادة : منهم الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم فأما أهل الكبائر فليسوا منهم لأنهم لا يستحلون الكبائر . ومعنى زين له سوء عمله شبه له وموه عليه وحسن له سوء عمله أي قبح عمله فرآه حسناً زين له الشيطان ذلك بالوسواس . وفي الآية حذف مجازه : أفمن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فرأى الباطل حَقًّا كَمَنْ هداه اله فرأى الحق حقاً والباطل باطلاً؟ « فإنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاء » وذلك لأن أشخاص الناس متساوية في الحقيقة والإساءة والإحسان والسيئة والحسنة تمتاز بعضها عن بعض فإذا عرفها البعض دون البعض لا يكون ذلك بالاستقلال منهم فلا بدّ من الاستناد إلى إرادة الله تعالى .
ثم سلى- رسول الله صلى الله عليه وسلم - حيث حزن على إصرارهم بعد إتيانه بكل آية ظاهرة وحجةٍ قاهرة فقال : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } كقوله تعالى : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ } [ الكهف : 6 ] أي لا تغتمّ بكفرهم وهلاكهم إن لم يؤمنوا .
قوله : { فَلاَ تَذْهَبْ } العامة على فتح التاء مسنداً « لِنَفْسِك » من باب « لاَ أَرَيَنَّكَ هَهُنَا » أي لا تتعاط أسباب ذلك . وقرأ أبو جعفر وقتادة والأشهب بضم التاء وكسر مسنداً لضمير المخاطب ( و ) نَفْسَك مفعول به .
قوله : { حَسَرَاتٍ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه مفعول من أجله أي لأَجْلِ الحَسَرَاتِ .
والثاني : أنه في موضع الحال على المبالغة كأن كلها صَا ( رَ ) تْ حَسَرَاتٍ لفرط التحسر كما قال :
4152- مشَقَ الْهَوَاجِرُ لَحْمَهُنَّ مَعَ السُّرَى ... حَتَّى ذَهَبْنَ كَلاَكِلاً وَصُدُوراً
يريد : رجعن كلاكلاً وصدرواً ، أي لم يبق إلا كلاكلها وصدورها كقولهم ( شعر ) :
4153- فَعَلَى إثْرِهم تَسَاقَطُ نَفْسِي ... حَسَرَاتٍ وذَِكْرُهُم لِي سَقَامُ
وكون « كلاكل وصدور » حال قوله سيبويه وجعلها المُبَرِّدُ تَمْييزين منقولين من الفاعلية والحسرة شدة الحزن على ما فات من الأمر . ثم قال : { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُون } أي الله عالم بفعلهم يجازيهم على ما يصنعونه ، ثم عاد إلى البيان وقال : { والله الذي أَرْسَلَ الرياح } وهبوب الرياح دليل ظاهر على الفاعل المختار ، لأن الهواء قد يسكن وقد يتحرك وعند حركته قد يتحرك إلى اليمين وقد يتحرك إلى الشمال وفي حركاته المخلتفة قد يُنْشِئ السَّحَابَ وقد لا يُنْشِئُ .
فهذه الاختلافات دليل على مسخَّرٍ مدبِّرٍ مُؤَثِّر مُقَدِّرٍ .
قوله : { فَتُثِرُ } عطف على « أرْسَلَ » لأن « أرْسَلَ » بمعنى المستقبل فلذلك عطف عليه وأتى بأرْسَلَ لِتَحقُّقِ وقوعه . و « تثيرُ » لتصور الحال واستحضار الصورة البديعية كقوله : { أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً } [ الحج : 63 ] وكقول تَأبَّكَ شَرًّا :
4154- ألاَ مَنْ مُبْلِغٌ فِتْيَانَ فَهْمٍ ... بِمَا لاَقَيْتُ عِنْدَ رَحَا مَطَانِ
بأنِّي قد رأيت الغول تَهْوِي ... بِسَهْبٍ كالصَّحِيفَةِ صَحْصَحَانِ
فَقُلْتُ لَهَا كِلاَنَا نِضْوُ أرْضٍ ... أَخُو سَفَرٍ فخل لِي مَكَانِي
فَشَدَّتْ شَدَّةً نَحْوِي فَأَهْوَتْ ... لَهَا كَفِّي بمصقول يَمَانِي
فَأَضْرِبُهَا بِلاَ دَهَشٍ فَخَرَّتْ ... صَرِيعاً لِلْيَدَيْنِ ولِلْجِرَانِ
حيث قال : « فأضربها » ليصور لقوله حاله وشجاعته وجرأته وقوله : « فَسُقْنَاهُ و أَحْيَيْنَا » معدولاً بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدْخَلُ في الاختصاص وأدلّ عليه .
فصل
قال : أرسل بلفظ الماضي وقال : { فَتُثِيرُ سَحَاباً } بلفظ المستقبل ، لأنه لما أُسند فعل الإرسال إلى الله وما يفعله يكون بقوله كن فلا يبقى في العدم لا زماناً ولا جزءاً من الزَّمان فلم يقل بلفظ المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة كونه كأنه كان ، ولأنه فرغ من كل شيء فهو قدّر الإرسال في الأوقات المعلومة وإلى المواضع المعينة . ولما أسند فعل الإشارة إلى الريح ويه تؤلَف في زمان فقال : تُثِيرُ أي على هيئتها وقال : « سُقْنَا » أسند الفعل غلى المتلكم وكذلك في قوله : « فَأحْيَيْنَا » لأنه في الأول عرف نفسه بفعل من الأفعلا وهو الإرسال ثم لما عرف قال : أنا الذي بَعَثْتُ السَّحَاب وأحْيَيْتُ الأَرْضَ . ففي الأول كان تعريفاً بالفعل العجيب وفي الثاني : كان تذكيراً بالنعمة فإن كمال نعمة الرياح والسحاب بالسَّوْقِ والإحياء وقوله : « سُفْنَا وَأَحْيَيْنَا » بصيغة الماضي يؤيد ما ذكرنا من الفرق بين قوله : « أرسل » وبين قوله : « تثير » ثم قال : « كَذَلِكَ النُّشُورُ » أي من القبور ووجه التشبيه من وجوه :
أحدها : أن الأرض الميتة لما وصلت الحياة اللائقة بها كذلك الأعضاء تقبل الحياة .
وثانيها : كما أن الريح تجمع القِطَعَ السحابية كذلك نجمع أجزاء الأعطاء وأبعَاضَ الأشياء .
وثالثها : كما أنَّا نسوق الرِّيح والسحاب إلى البلد نسوق الرُّوحَ إلى الجسد الميِّت .
فإن قيل : ما الحكمة في هذه الآية من بين الآيات مع أن الله تعالى له في كل شيء آية تدل على أنه واحد؟
فالجواب : أنه تعالى لما ذكر أنه فاطر السماوات والأرض وذكر من الأمور السماوية والأرواح وإرسالها بقوله : « جَاعِلِ الملائكة رسلاً أولي أجنحة » ذكر في الأمور الأرضية الرِّياحَ .
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
قوله : { مَن كَانَ يُرِيدُ } شرط جوابه مقدر باختلاف التفسير في قوله : { مَن كَانَ يُرِيدُ العزة } ( فقال مجاهد : معاه ) من كان يريد العزة بعبادة الأوثان فيكون تقديره فليطلبها .
وقال قتادة : من كان يريد العزة وطريقة القويم ويحِبُّ نَيْلَها على وجهها . فيكون تقديره على هذا فليطلبها .
وقال الفراء : مِنْ كَانَ يريد علمَ العرزة فيكون التقدير : فَلْيَنْسب ذلك إلى الله .
قويل : من كان يريد العزة لا يعقبها ذلّة . فيكون التقدير : فهو لا يُبَالِهَا . ودل على هذه الأجوبة قوله : { فَلِلَّهِ العزة } وإنما قيل : إن الجواب محذوف وهو هذه الجملة لوجهين :
أحدهما : أن العز لله مطلقاً من غير ترتبها على شرط إرادة أحدٍ .
والثان : أنه لا بدّ في الجواب من ضي يعود على اسم الشرط إذا كان غير ظرف ولم يوجد هنا ضمير ، و « جَميعاً حال ، والعامل فيها الاسْتِقْرَارُ .
فصل
قال قتادة : من كان يريد العزة فليتفرد بطاعة الله عزّ وجلَ- ومعناه الدعاء إلى طاعة من له العزة أي فليطلب العزة من عند الله بطاعته كما يقال : من كان يريد المال فالمال لفُلان ( أي ) فليطلبه من عنده ذلك أن الكفار عبدوا الأصنام وطلبوا بها التعزيز كما قال تعالى : { واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ } [ مريم : 81-82 ] وقال : { الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً } [ النساء : 139 ] .
قوله : { إِلَيْهِ يَصْعَد } العامة على بنائه للفاعل من » صَعَدَ « ثلاثياً » الكَلِمُ الطَّيِّبُ « ( برفعهما فاعلاً ونعتاً وعليّ وابنُ مسعود يُصْعِدُ من أصْعَدَ الكَلِمَ الطَّيّبَ ) منصوبان على المفعول والنعت وقرئ يُصْعَدُ مبنياً للمفعول . وقال ابن عيطة : قرأ الضحاك يُصْعَد بضم الياء لكن لم يبيّن كونه مبنياً للفاعل او المفعول .
فصل
قال المفسرون : الكَلِمُ الطَّيب قول لا إله إلا الله . وقيل : هو قول الرجل : سُبْحَان اللَّهِ والْحَمْدُ لِلَّهِ ولاَ إلَه إلاَّ اللَّهُ أَكْبَرُ . وعن ابن مسعود قال : إذا حَذَّثْتُكُمْ حَديثاً أنبأتكم بِمصْدَاقِهِ من كتاب الله - عزّ وجلّ - ما مِن عبدٍ مسلم يقول خمس كلمات سُبْحَان الله والحمدُ لله ولا إله إلا الله والله أكبرُ وتبارك الله إلا أحذهُنَّ ملكٌ فَجعَلَهُنَّ تحت جناحه ثم صعد بِهِنَّ ، فلا يمرّ بهن على جمع من الملائكة إلاَّ استغفروا لقائلهن حتى يَجِيءَ بهنَّ وَجْهَ ربِّ العالمين ومصداقيه من كتاب الله عزّ وجلّ قوله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب } وقيل : الكلم الطيب : ذكر الله . وعن قتادة : إليه يصعد الكلم الطيب أي يقبل اللَّهُ الكلمَ الطيب .
قوله : { وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ } العامة على الرفع وفيه وجهان :
أحدهما : أنه معطوف على » الكَلِمُ الطَّيَّبُ « فيكون صاعداً أيضاً .
و « يَرْفَعُهُ » على هذا استئناف إخبار من الله برفعهما . وإنما وَحَّدَ الضمير وإن كان المراد الكلم والعمل ذهاباً بالضمير مذهب اسم الإشارة كقوله : { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] وقيل : لاشتراكهما في صفة واحدة وهي الصُّعود .
والثاني : أنه مبتدأ و « يرفعه » الخبر ولكن اختلفوا في فاعل « يَرْفَعُ » على ثلاثة أوجه :
أحدهما : أنه ضمير الله تعالى أي والعمل على الصالح يرفعهُ الله إليه .
والثاني : أنه ضمير العمل الصالح وضمير النصب على هذا وجهان :
أحدهما : أنه يعود على صاحب العمل أي يرفع صَاحِبَهُ .
والثان : أنه ضمير الكلم الطيب أي العمل الصالح يرفع الكلمَ الطيب . ونُقل هذا عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وعكرمة وأكثر المفسرين إلاَّ أنَّ ابن عطية منع هذا عن ابن عباس وقال : لا يصح؛ لأن مذهب أهل السنة أن الكلم الطيب مقبول وإن كان صاحبه عاصياً .
والثالث : أن ضمير الرفع للكلم والنصب للعمل أي يرفع العَمَلَ وقرأ ابنُ أبي عَبَلَةَ وعِيسَى بالنّصب الْعَمَلَ الصَّالِحَ على الاشتغال والضمير المرفوع لِلْكَلِم أو لله والمنصوب للْعَمَلِ .
فصل
قال الحسن وقتادة : الكلمُ الطَّيَّبُ ذكر الله والعمل الصلاح أداء فرائضه ، فمن ذكر الله ولم يؤد فرائضه ردّ كلامه على عمله وليس الإيمان بالتمني ولا بالتًّخَلِّي لكمن ما وقَرَ في القلوب وصدقه الأعمال فمن قال حَسَناً وعَمِلَ غير صالح ردّ الله عليه قوله ومن قال حَسَناً وعمل صالحاً رفعه العمل لقوله تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } وقال عليه ( الصلاة و ) السلام - « لَمْ يَقْبَل اللَّهُ إلاَّ بِعَمَلٍ وَلاَ قَوْلاً وَعَمَلاً إلاَّ بِنِيَّة » . ومن قال الهاء في قوله « يَرفعُهُ » راجعةٌ إلى العمل الصالح أي الكلم الطيب يرفع العمل الصالح فلا يُقْبَلُ عَمَلٌ إلا أن يكون صادراً عن التوحيد . وهذا معنى قول الكلبي ومقاتل . وقال سفيان بن عيينة : العمل الصالح هو الخالص يعني أن الإخلاص سبب قبلو الخيرات من الأقولا والأفعال لقوله تعالى : { فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا } [ الكهف : 110 ] فجعل نقيض العمل الصالح الشِّرك والرياء .
قوله : { والذين يَمْكُرُونَ السيئات } « يمكرون » أصله قاصر فعلى هذا ينتصب « السيّئات » على نعت مصدر محذوف أي المكراتِ السيئات أو تعتٍ مضاف إلى ( مصدر ) أي أصْنَاف المَكْرَاتِ السيئاتِ ويجوز أن يكون « يَمْكُرُونَ » مضمناً معنى يكْسِبُون فينتصب « السيئات » معفولاً به قال الزمخشري ويحتمل أن يقال استعمل المكر استعمال العمل فمعناه تعديته كما قال : { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات } [ النساء : 18 ] قال مقاتل : يعني الشرك . وقال أبو العالية : يعني الذين مكروا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دار النَّدْوة كما قال تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ } [ الأنفال : 30 ] .
قوله : { وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ } هو مبتدأ و « يبور » خبره والجملة خبر قوله : { وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ } وجوَّز الحَوْفِيُّ وأبو البقاء أن يكون « هو » فصلاً بين المبتدأ أو الخبر وخبره وهذا مردود بأن الفصل لا يقع قبل الخبر إذا كان فعلاً إلاَّ أن الجُرْجَانيِّ جوز ذلك ، وجوز أبو البقاء أيضاً أن يكون « هو » تأكيداً وهذا مردود بأن المضمر لا يؤكد الظاهر ومعنى « يَبُور » يَهْلِكُ ويَبْطُلُ في الآخرة .
قوله تعالى : { والله خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ الآية } قد تقدم أن الدلائل مع كثرتها منحصرة في قسمين : دلائل الآفاق ودلائل الأنفس كما قال تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ } [ فصلت : 53 ] فلما ذكر دلائل الآفاق من المسوات وما يرسل منها من الرياح شرع في دلائل الأنفس وتقدم ذكره مِراراً أن قوله : « مِنْ تراب » إشارة إلى خلق آدم « ثُمَّ مِنْ نُطْفِةٍ » إشارة إلى خلق أولاده . وتقدم أن الكلام غير محتاج إلى هذا التأويل بل خلقكم خطاب مع الناس وهم أولاد آدم ، وكلهم من تراب ومن نطفة لأن كلهم من نطفة والنطفة من غذاء والغذاء ( ينتهي ) بالآخرة إلى الماء والتراب فهو من تراب صار نطفة « ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً ذُكْرَانا وإنَاثاً » .
قوله : { } من مزيدة في « أُنْثَى » وكذلك في : « مِنْ مُعَمَّرٍ » إلا أن الأول فاعل وهذا مفعول قام مقامه و « إلاَّ بِعِلْمِهِ » حال أي إلاَّ مُلْتبِسَةً بعِلْمِهِ .
قوله : { مِنْ أنثى } في هذا الضمير قولان :
أحدهما : أنه يعود على « مُعَمَّر » آرخ لأن المراد بقوله : « مِنْ مُعَمَّر » الجنس فهو يعود عليه لفظاً لا معنى ، لأنه بعد أن فرض كونُه معمراً استحال أن يَنْقص مِنْ عُمُرِهِ نفسه كقوله :
4155- وَكُلُّ أُنَاسٍ قَارَبُوا قَتْلَ فَحْلِهِم ... وَنَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَه فهو سَارِبُ
ومنه : عندي دِرْهَمٌ ونِصْفُهُ أي ونصف درهم آخر .
والثاني : أنه يعود على « مُعَمَّر » لفظاً ومعنى . أنه إذا مضى من عمره حول أُحْصِيَ وكُتِبَ ثم حول آخر كذلك فهذا هو النقص . وإليه ذهب ابن عباس وابن جبير وأبُو مالكٍ؛ ومنه قول الشاعر :
4156- حياتك أنْفَاسٌ تُعَدُّ فَكُلما ... مَضَى نَفَسٌ مِنْكَ انْتَقَصْتَ بِهِ جُزْءَا
وقرأ يعقوب وسلاَّم - وتروى عن أبي عمرو - ولا يَنْقُصُ مبنياً للفاعل وقرأ الحَسَنُ : مِنْ عُمْرِهِ بسكون المِيم .
فصل
معنى « وما يعمر من معمر » لا يطول عمره ولا ينقص من عمره أي من عرم آخر كما يقال : لفلانٍ عندي درهم ونصفه أي ونصف درهم آخر « إلا في كتاب » وقيل : قوله ولا نيقص من عرمه ينصرف إلى الأول . وقال سعيد بن جبير : مكتوب في أم الكتاب عمر فلان كذا وكذا سنة ثم يكتب أسفل ( من ) ذلك ذهب يوم ذهب يومان ذهب ثلاثة أيام حتى ينقطع عمره .
وقال كعب الأحبار حين حضر الوفاة عمر : والله لو دعا عمر ربه أن يؤخر أجله لأخر فقيل له : إن الله عزّ وجلّ يقول : { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ الأعراف : 34 ] فقال : هذا إذا حضر الأجل فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد و ( أن ) يَنْقُصَ ، وقرأ هذه الآية .
فصل
« وما تحمل من أنثى ولا تضع » إشارة إلى كمال قدرته فإن ما في الأرحام قبل التخليق بل بعده ما دام في البطن لا يعلم حاله أحد كيف والأم الحامل لا تعلم منه شيئاً فلما ذرك بقوله : { خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ } كمال قدرته بين بقوله : { ما تَحْمِلُ من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } كمال علمه . ثم بين نفوذ إرادته بقوله : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } فبين أنه هو القادرُ العليم المريد والأصنام لا قدرة لها ( ولا علم ) ولا إرادة فكيف يستحق شيء منها العبادة . ثم قال : { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ } أي الخلق من التراب . ويحتمل أن يكون المراد إن التعمير والنقصان على الله يسير . ويحتمل أن يكون المراد : إن العمل بما تحمله الأنثى يسير والكل على الله يسير . والأول أشبه لأن استعمال اليسير في الفعل أليق .
قوله : { وَمَا يَسْتَوِي البحران } يعني العذب والملح ثم ذكرهما فقال : { هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ } طيب « سَائغٌ شَرَابُهُ » جائز في الحلق هنيء « وَهَذا مِلْحٌ أجَاجٌ » شديد الملوحة . وقال الضحالك : هو المُرُّ .
قوله : { سَآئِغٌ شَرَابُهُ } يجوز أن يكون متبدأ وخبراً ، والجملة خبر ثانٍ وأن يكون « سائغٌ » خبراً و « شرابه » فاعلاً به لأنه اعتمد وقرأ عيسى - ويوى عن أبي عمرو وعاصم - سَيِّغٌ مثل سيِّد وميِّت وعن عيسى بتخفيف يائه كما يخفف هَيِّن ومَيِّت .
وقرأ طلحة وأبو نُهَيْك ملحٌ بفتح الميم وكسر اللام ، فقيل : هو مقصور من مَالِحٍ ومالٍح لغَيَّة شاذة . قويل : مَلِح بالفَتْح والكسر لُغَةٌ في مِلْحٍ ، بالكسر والسكون .
فصل
قال أكثر المفسرين : إن المراد من الآية ضرب المثل في حق الكفر والإيمان أو الكافر والمؤمن فالإيمان لا يُشَبَّه بالكفر كما لا يشبه البحر العَذْبُ الفراتُ بالبحر المَلِح الأجاج ثم على هذا فقوله : { وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً } فالبيان أن حال الكافر والمؤمن أو الكفر والإيمان دون حال البحرين لأن الأجاجَ يشارك الفُرَاتَ في خير ونفع إذ اللحمُ الطريُّ يوجد فيهما والحِلْية تؤخذ منها والفُلْكُ تجري فيهما ولا نفع في الكفر والكافر . وهذا على نَسَقِ قوله تعالى : { أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [ الأعراف : 179 ] وقوله : { كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء } [ البقرة : 74 ] قال ابن الخطيب : والأظهر أن المراد من ذكر دليل آخر على قدرة الله تعالى وذلك من حيث إن البحرين يَسْتَوِيَانِ في الصورة ويختلفان في الماء ، فإن أحدهما فُراتٌ والآخر مِلْح أُجَاج ولولا ذلك بإيجاب مُوجِب لما اختلفت المستويان ثم إنهما بعد اختلافهما يوجد منهما أمور متشابهة فإن اللحم الطريَّ يوجد فيهما والحِلْية تؤخذ منهما ومن يوجد من المتشابهين اختلافاً ومن المختلفين اشتباهاً لا يكون إلا قادراً مختاراً فقوله : { َمَا يَسْتَوِي البحران } إشارة إلى أن عدم استوئهما دليل على كمال قدرته ونفوذ إرادته .
فصل
قال أهل اللغة : لا يقال لماء البحر إذا كان فيه مُلُوحَةٌ مالحٌ وإنما يقال له : مِلْح .
وقد يذكر في بعض كتب الفقه يَصِيرُ بها ماءُ البَحْرِ مَالِحاً . ويؤاخذ قائله ( به ) وهو أصح مما يذهب إليه القوم وذلك لأن الماء العذب إذا ألقي فيه مِلْح حتى مَلَحَ لا يقالُ له إلا مالح . وماء مِلْحٌ يقال للماء الذي صار من أصل خِلْقَتِهِ كذلك لأن المَالِحَ شيء فيه مِلْحٌ ظاهر في الذَّوْق والماء الملح ليس ماءً ومِلْحاً بخلاف الطعام المالح فالماء العذب المُلْقَى فيه المِلْح ما فيه ملح ظاهر في الذَّوْق بخلاف ( ما هو مِلْحٌ ظاهر في الذَّوْقِ بخلاف ) ما هو من أصل خلقته كذلك ( فلما ) قال الفقيه : الملحُ أجزاء أرضيَّة سَبِخَة يصير بها ماءُ البَحْرِ مالحاً راعى فيه الأصل فإنه جعله ماءً جاوره مِلْحٌ . وأهل اللغة حيث قالوا في البحر ماؤه مِلْحٌ جعلوه كذلك من أصل الخلقة والأجَاجُ المُرُّ كما تقدم .
قوله : { وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً } من الطَّيْر والسَّمَك من العَذْب والملح جميعاً « وتَسَتْخَرِجُونَ حِلْيَةً » يعني من الملح دون العذب « تَلْبَسُونَها » من اللُّؤْلُؤ والمَرجَان . وقيل : نسب اللؤلؤ إليهما لأنه قد يكون في البحر الأجاج ( عيون ) عذبة تمتزج بالملح فيكون اللؤلؤ من ذلك . وقرئ « الفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ » أي ماخرات تَمْخُر البحر بالجَرَيَان أي تشُقّ جَوَارِي مقبلة ومدبرة بريح واحدة « لِتبَبْغُوا مِنْ فَضْلِهِ » بالتجارة « ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرونَ » الله على نعمة وهذا يدل على أن المراد من الآية الاستدلال بالبحرين وما فيهما على وجود الله ووحدانيته وكمال قدرته .
قوله : { يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل } وهذا استلال آخر باختلاف الأزمنة وقوله : { وَسَخَّرَ الشمس والقمر } جواب لسؤال يذكره المشركون وهوأنهم قالوا اختلاف الليل والنهار بسبب اختلاف القسيّ الواقعة فوق الأرض وتحتها فإن الصيف تكون الشمس على سَمْتِ الرُّؤُوس في بعض البلاد المائلة الآفاق وحركة الشمس هناك مائلة فتقع تحت الأرض أقل من نصف دائرة فيقل زمان مكثها تحت الأرض فيقْصُرُ الليل وفي الشتاء بالضَّدّ فيقصر النهار فقال الله تعالى : { وَسَخَّرَ الشمس والقمر } يعني سبب الاختلاف وإن كان ما ذكرتم لكن سير الشمس والقمر بإرادة الله وقدرته فهو الذي فعل ذلك « كُلُّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسمَّى » .

قلت المدون  التالي ج59 وج60. بمشيئة الله 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدجال يستغل ازمات الناس من الجوع ونقص الطعام والمياه في دعوتهم الباطلة لعبادتهم إياه والايمان به

  بياناته الشخصية     المسيح الدجال ليس خوارق إنما هو دجل وكذب قلت المدون ان الأ أزمة الاقتصادية الحادثة الان في كل دول العالم والمجاعة المت...