حمل المصحف وورد وبي دي اف.

 حمل المصحف وورد وPDF.
القرآن الكريم وورد word doc icon||| تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

الخميس، 22 سبتمبر 2022

ج19. وج20.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

 

ج19. وج20.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

 

ج19. وج20.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني


اولا
ج19.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
جوَّزوا في موضع « الذين » الألقاب الثلاثة : الرفع والنصب والجر ، فالرفعُ من ثلاثةِ أوجهٍ :
أحدهما : أن يكون مرفوعاً على خبر مبتدأ محذوفٍ ، تقديره : هم الذين .
ثانيها : أنه بدل من واو « يكتمون » .
ثالثها : أنه مبتدأ ، والخبر قوله : « قل فادْرءوا » ولا بُدَّ من حذف عائدٍ ، تقديره : قُلْ لَهُمْ .
والنصبُ من ثلاثة أوجه -أيضاً- :
أحدها : النصبُ على الذَّم ، أي : أذم الذين قالوا .
ثانيها : أنه بدل من « الذين نافقوا » .
ثالثها : أنه صفة .
والجر من وجهينِ : البدل من الضمير في « بأفواهم » أو من الضمير في « قلوبهم » كقول الفرزدق : [ الطويل ]
1687- عَلَى حَالَةٍ لَوْ أنَّ فِي الْقَوْمِ حَاتِماً ... عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بِالْمَاءِ حَاتِمِ
بجر « حاتم » على أنه بدل من الهاء في « جوده » - وقد تقدم الخلافُ في هذه المسألةِ وقال أبو حيان : وجوَّزوا في إعراب « الذين » وُجُوهاً :
الرفع ، على النعت ل « الذين نافقوا » أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف والنصب . . . فذكره إلى آخره .
قال شهابُ الدينِ : وهذا عجيبٌ منه؛ لأنَّ « الذين نافقوا » منصوب بقوله : « وليعلم » وهم -في الحقيقة- عطف على « المؤمنين » وإنَّمَا كرر العاملَ توكيداً ، والشيخُ لا يخفَى عليه ما هو أشكلُ من هذا فيحتمل أن يكون تبع غيرَه في هذا السهو- وهو الظاهر من كلامه- ولم ينظر في الآية ، اتكالاً على ما رآه منقولاً ، وكثيراً ما يقع الناس فيه ، وأن يُعْتَقَدَ أنّ « الذين » فاعل بقوله : « وليعلم » أي : فعل الله ذلك ليعلم هو المؤمنين ، وليعلم المنافقون ، ولكن مثل هذا لا ينبغي أن يجوز ألبتة .
قوله : « وقعدوا » يجوز في هذه الجملة وجهانِ :
أحدهما : أن تكون حالية من فاعل « قالوا » و « قد » مرادة أي : وقد قعدوا ، ومجيء الماضي حالاً بالواو و « قد » أو بأحدهما ، أو بدونهما ، ثابتٌ من لسان العربِ .
الثاني : أنها معطوفة على الصلة ، فتكون معترضة بين « قالوا » ومعمولها ، وهو « لو أطاعونا » .
فصل في المراد ب « الذين »
قال المفسّرون المراد ب « الذين » عبدُ بنُ أبَيٍّ وأصحابُهُ . وقال الأصَم : هذا لا يجوزُ؛ لأن عبد الله بن أبي خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجهادِ يوم أحُدٍ ، وهذا القول واقع ممن تخلَّف ، لأنه قال : { الذين قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا } أي في القعود « ما قتلوا » فهو كلامُ متأخرٍ عن الجهاد قاله لمن خرج إلى الجهادِ ولمن هو قوي النية في ذلك؛ ليجعله شُبْهَةً فيما بعد ، صارفاً لهم عن الجهاد .
وهذا فيه نظرٌ؛ لأنه يحتمل أنه أراد بقوله : « وقعدوا » القعود عن القتالِ ، لا عن الخروج إلى القتال؛ فإن عبد الله بن أبَيّ خَرَجَ إلى الْقِتَالِ ، ولم يُقَاتِل ، بل هَرَبَ بمن معه ، ويُطْلَق عليه أنه قَعَد عن القتال وهو القائلُ هذا الكلام .
وقوله : { لإِخْوَانِهِمْ } أي : لأجل إخوانهم -وقد تقدم : هل المرادُ- من هذه الأخوة- الأخوة في النسب ، أو الأخوة بسبب المشاركة في الدَّارِ ، أو في عدداوة الرسول صلى الله عليه وسلم أو في عبادة الأوثان؟
قوله : { قُلْ فَادْرَءُوا } ادفعوا { عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } ذكر ذلك على سبيل الجوابِ لقولهم : { لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } .
فإن قيل : ما وجه هذا الاستدلالِ مع أن الفرقَ ظاهرٌ؛ فإن التحرُّز عن القتل ممكن ، وأما التحرزُ عن الموتِ فغير ممكن ألبته؟
فالجوابُ : أن هذا الدليلَ لا يتمشى إلا إذا قلنا : إنّ الكُلَّ بقضاء الله وقَدَرِه ، فحينئذٍ لا يبقى بين القتلِ وبين الموتِ فرق ، فيصح الاستدلالُ ، أما إذا قلنا : بأن فعل العبد ليس بتقدير الله وقضائه ، كان الفرق بين القتل والموتِ ظاهراً .
وقوله : { إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : في كونكم مشتغلين بالحذر عن المكاره ، والوصول إلى المطالب .

وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
« الذين » مفعول أول ، و « أمواتاً » مفعول ثانٍ ، والفاعلُ إما ضمير كل مخاطب ، أو ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم كما تقدم في نظائره وقرأ حُمَيْد بن قَيْس وهشام -بخلاف عنه- « يحسبن » بياء الغيبة ، وفي الفاعل وجهان :
أحدهما : أنه مُضْمَر ، إما ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم أو ضمير مَنْ يَصْلح للحسبان- أي : حاسب .
الثاني : قاله الزمخشري : وهو أن يكون « الذين قتلوا » قال : ويجوز أن يكون « الذين قتلوا » فاعلاً والتقديرُ : ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتاً ، أي : ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً .
فإن قلت : كيف جاز حذف المفعول الأول؟ قلتُ : هو -في الأصلِ- مبتدأ ، فحذف كما حذف المبتدأ في قوله : « بل أحياء » أي : هم أحياءٌ؛ لدلالة الكلام عليهما .
وردَّ عليه أبو حيان بأن هذا التقديرَ يؤدي إلى تقديم الضمير على مفسره ، وذلك لا يجوز إلا في أبواب محصورةٍ ، وعَدَّ منه باب رُبُّهُ رَجُلاً ، نعم رجلاً زيد ، والتنازع عند إعمال الثاني في رأيه سيبويه ، والبدل على خلاف فيه ، وضمير الأمرِ ، قال : « وزاد بعضُ أصحابِنَا أن يكون المفَسِّرُ خبراً للضمير » وبأن حذف أحد مفعولي « ظن » اختصاراً إنما يتمشى له عند الجمهور مع أنه قليل جِداً ، نص عليه الفارسيُّ ، ومنعه ابنُ ملكون ألبتة .
قال شهابُ الدينِ : « وهذا من تحملاته عليه ، أما قوله : يؤدي إلى تقديم المضمر . . . إلى آخره ، فالزمخشريُّ لم يقدره صناعةً ، بل إيراداً للمعنى المقصود ، ولذلك لَمّا أراد أن يقدر الصناعة النحوية قدَّره بلفظ » أنفسهم « المنصوبة وهي المفعول الأول ، وأظن الشيخ يتوهم أنها مرفوعة ، تأكيداً للضمير في » قتلوا « ولم ينتبه أنه إنما قدرها مفعولاً أول منصوبة ، وأما تَمْشِية قوله على مذهب الجمهور فيكفيه ذلك وما عليه من ابن ملكون ، وستأتي مواضعُ يضطر هو وغيره إلى حَذْف أحدِ المفعولينِ ، كما ستقف عليه قريباً .
وتقدم الكلامُ على مادة » حسب « ولغاتها ، وقراءاتها ، وقُرِئَ » تحسبن « -بفتح السين- قاله الزمخشريُّ وقرأ ابن عامر » قتّلوا « -بالتشديد- وهشام وحده في » ما « ماتوا وما قتلوا » والباقون بالتخفيف ، فالتشديد للتكثير ، والتخفيفُ صالح لذلك ، وقرأ الجمهورُ « أحياءٌ » رفعاً ، على تقدير : بل هُمْ أحياءٌ ، وقرأ ابنُ ابي عَبْلَة « أحياءً » وخرَّجها أبو البقاء على وجهين :
أحدهماك أن يكون عطفاً على « أمواتاً » قال : « أمواتاً » قال : « كما تقول : ما ظننت زيداً قائماً بل قاعداً » .
الثاني : -وإليه ذهب الزمخشري- أيضاً- أن يكون بإضمار فعل ، تقديره : بَلِ احسبهم أحياءً ، وهذا الوجهُ سبق إليه أبة إسحاق ، الزجاجِ ، إلا أن الفارسيَّ ردَّه عليه -في الإغفال- وقال ، لأن الأمر يقينٌ ، فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة ، ولا يصح أن يُضمرَ فيه إلا فعلُ المحسبة ، فوجه قراءة ابن أبي عبلة أن يضمر فعلاً غير المحسبة ، اعتقدهم ، أو اجعلهم ، وذلك ضعيفٌ؛ إذ لا دَلاَلَةَ في الكلامِ على ما يُضْمَر .
قال شهابُ الدينِ : وهذا تحامُل من أبي عليٍّ أما قوله : إن الأمر يقينٌ ، يعني أن كونهم أحياء أمر متيقن ، فكيف يقال فيه : أحسبهم -بفعل يقتضي الشك- وهذا غير لازم؛ لأن « حسب » قد تأتي لليقين .
قال الشاعر : [ الطويل ]
1688- حَسِبْتُ التُّقَى وَالمَجْدَ خَيْرَ تِجَارَةٍ ... رَبَاحاً إذَا ما المَرْءُ أصبَحَ ثَاقِلا
وقال آخر : [ الطويل ]
1689- شَهِدْت وَفَاتُونِي وَكُنْتُ حَسِبْتُنِي ... فَقيراً إلى أن يَشْهَدوُا وَتَغِيبي
ف « حسب » -في هذين البيتين- لليقين؛ لأن المعنى على ذلك . وقوله : لذلك ضعيف ، يعني من حيث عدم الدلالة اللفظية ، وليس كذلك ، بل إذا أرشَدَ المعنى إلى شيء يُقَدَّر ذلك الشيءُ -لدلالة المعنى عليه- من غير ضَعْفٍ- وإن كانَ دلالةُ اللَّفظِ أحسنَ- وأما تقديره هو : اعتقدهم أو جعلهم ، قال الشيخ : هذا لا يصح ألبتة سواءٌ جعلت : اجعلهم بمعنى اخلقهم ، أو صيِّرهم أو سمِّهم ، أو الْقهم .
قوله : { عِندَ رَبِّهِمْ } فيه خمسةُ أوجهٍ :
أحدها : أن يكون خبراً ثانياً ل « أحياء » على قراءة الجمهورِ .
الثاني : أن يكون ظرفاً ل « أحياء » لأن المعنى : يحيون عند ربهم .
الثالث : أن يكون ظرفاً ل « يرزقون » أي : يقع رزقهم في هذا المكانِ الشريفِ .
الراع : أن يون صفة ل « أحياء » فيكون في محل رفع على قراءة الجمهور ، ونصب على قراءة ابن أبي عبلة .
الخامس : أن يكون حالاً من الضمير المستكن في « أحياء » . أي : يحيون مرزوقين . والمراد بالعندية : المجاز عن قربهم بالتكرمة .
وقيل : { عِندَ رَبِّهِمْ } أي : في حكمه ، كما تقول : هذه المسألةُ عند الشافعي كذا ، وعنده غيره كذا .
قال ابنُ عطية « وهو على حَذف مضاف ، أي : عند كرامة ربهم » . ولا حاجةَ إليه؛ لأن الأولَ أليق .
قوله : { يُرْزَقُونَ } فيه أربعةُ وجهٍ :
أحدها : ان يكون خبراً ثالثاً ل « أحياء » أو ثانياً - إذا لم نجعل الظرفَ خبراً .
الثاني : أنها صفة ل « أحياء : » -بالاعتبارين المتقدمين- فإن أعربنا الظرف وصفاً- أيضاً -فيكون هذا جاء على وعديله؛ لأنه أقرب إلى المفرد .
الثالث : أنه حال من الضمير في « أحياء » أي : يحيون مرزوقين .
الرابع : أن يكون حالاً من الضمير المستكن في الظرف ، إذا جعلته صفة . وليس ذلك مختصاً بجعله صفة فقط ، بل لو جعلته حالاً جاز ذلك -أيضاً- وهذه تُسمى الحالَ المتداخلة ، ولو جعلته خبراً كان كذلك « .
فصل
هذه الآية نزلت في شهداء بدرٍ ، وكانوا أربعةَ عشرَ رجلاً ، ثمانية من الأنصارِ ، وستة من المهاجرين .
وقيل : نزلت في شهداء أُحُدٍ ، وكانو سبعينَ رجلاً ، أربعة من المهاجرين -حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عميرٍ ، وعثمان بن شماسٍ ، وعبد الله جَحْشٍ -وباقيهم من الأنصار .
فصل
ظاهرُ هذه الآية يدل على كون هؤلاء المقتولين أحياء ، فإما أن يكون حقيقةً ، أو مجازاً ، فإن كان حقيقةً ، فإما أن يكون بمعنى أنهم سيصيرون في الآخرة أحياء ، أو في الحال . وبتقدير أن يكونوا أحياءً في الحال ، فإما أن يكون المرادُ الحياةَ الروحانيةَ ، أو الجسمانيةَ ، فأما الاحتمال الأولُ -وهو أنهم سيصيرون أحياء في الآخرة- فقد ذهب إليه جماعةٌ من المعتزلةِ ، منهم الكَعْبِيِّ ، قال : لأن الله -تعالى- أورده هذه الآية تكذيباً للمنافقين في جَحْدِهِم البعثَ والمعادَ ، وقولهم : إن أصحاب مُحَمَّدٍ يُعَرِّضون أنفسهم للتقل ، فَيُقْتَلون ، ويخسرون الحياة ، ولا يصلونَ إلى خيرٍ .
وهذه الاية تردُّ هذا القول؛ لأن ظاهرَها يدل على كونهم أحياءً حال نزول هذه الآية ، وأيضاً فإنه تعالى قال : { أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } [ نوح : 25 ] والفاء للتعقيب ، والتعذيب مشروط بالحياة . وقال : { النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [ غافر : 46 ] وإذا جعل الله أهل العذاب أحياءً -قبل القيامة- لأجل الثواب أولى؛ لأن جانب الإحسان والرحمةِ أرجح من جانب العذاب ، وأيضاً لو كان المراد أنه سيجعلهم أحياءً في القيامة لمَا قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم { وَلاَ تَحْسَبَنَّ } مع علمه بأن جميع المؤمنين كذلك .
فإن قيل : إنه صلى الله عله وسلم كان عالماً بأنهم سيصيرون أحياءً عند البعثِ ، لكنه غير عالم أنهم من أهلِ الجَنَّةِ ، فجاز أن ييشِّره الله -تعالى- بانهم سيصيرون أحياءً ، ويصلون إلى الثواب؟
فالجوابُ : أن قوله : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ } وإنما يتناول الموتَ؛ لأنه قال : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً } فالذي يُزيل هذا الحسبان هو كونُهم أحياءً في الحال؛ لأنه لا حسبان -هناك- في صيرورتهم أحياء يوم القيامة .
وقوله : { يُرْزَقُونَ } خبر مبتدأ ، ولا تعلُّق له بذلك الحسبان ، فزال السؤالُ ، وأيضاً فقوله تعالى : { وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ } فالقوم الذينَ لم يلحقوا بهم لا بد وأن يكونوا في الدُّنْيا ، واستبشارهم بمن يكون في الدنيا ولا بد وأن يكون قبل القيامة ، والاستبشار لا يكون إلا مع الحياةِ ، فدل على كونهم أحياءً قبل يوم القيامة .
وأيضاً روى ابن عباسٍ أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال -في صفة الشهداء : « أَرْوَاحُهُمْ في أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ ، تَرِدُ أَنهارَ الجَنَّةِ ، وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا ، وَتَسْرَحُ حيثُ شاءتْ ، وتأوي إلى قَنَاديلَ تحت العَرْشِ؛ فلمت رأوا طِيبَ مَسْكَنِهِمْ ومَطْعَمِهِمْ ومَشْرَبِهِمْ قَالُوا : يَا لَيْتَ قومَنَا يَعْلَمُونَ بِمَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ النَّعِيم ، كَيْ يَرْغَبُوا فِي الجِهَادِ ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى أَنَا مُخْبِرٌ عَنْكُمْ ، وَمُبَلِّغٌ إخْوَانِكُم ، فَفَرِحُوا بِذَلِكَ وَاسْتَبْشَرُوا » ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هذه الآية .
وسُئِلَ ابنُ مسعود عن هذه الآية ، فقال : سألنا عنها ، فقيل لنا : إن الشهداء على نهر بباب الجنّة في قُبَّةٍ خضراءَ . وفي رواية : في روضةٍ خضراء .
وعن جابرٍ بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ألاَ أبَشرُكَ أنَّ أباكَ -حَيْثُ أصِيبَ بأحُدٍ -أحْيَاهُ اللهُ ، ثُمَّ قَالَ : مَا تُرِيدُ يا عبدَ اللهِ بنَ عَمرو أن أَفْعَلَ لَكَ؟ قَالَ : يَا رَبِّ ، أحِبُّ أن تَرُدَّنِي إلى الدُّنْيَا فأقْتَلَ فيك مرةً أخْرَى » .
الاحتمالُ الثاني -وهو أنهم أحياءٌ في الحالِ- والقائلون بهذا القولِ ، منهم من أثبت الحياةَ للروح ، ومنهم من أثبتها للبدنِ ، فمن أثبتها للروح قال : لقوله تعالى : { ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فادخلي فِي عِبَادِي وادخلي جَنَّتِي } [ الفجر : 27- 30 ] والمراد : الروح .
وروي انه صلى الله عليه وسلم يوم بدرٍ كان ينادي المقتولين ، ويقول : { فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً } [ الأعراف : 44 ] فقيل : يا رسول الله ، إنهم أمواتٌ ، فكيف تُناديهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم : « إنهم أسمع منكم » وقال صلى الله عليه وسلم : « أنبياء الله لا يموتون ولكن ينتقلون من دار إلى دار » .
الاحتمالُ الثالثُ : من أثبت الحياة للأجساد ، وهؤلاء اختلفوا ، فقال بعضهم : أنه -تعالى- يُصْعد أجسادَ الشهداءِ إلى السموات ، وإلى قناديل تحت العرش ، ويوصل إليها الكرامات .
وقد طعنوا في هذا ، وقالوا : إنا نرى الشهداء تأكلهم السباع ، ونرى المقتول يبقى أياماً إلى أن تتفسّخ وتنفصل أعضاؤه ، فَعَوْدُ الحياة إليها مُسْتبعدٌ ، وإن جوزنا كونها حية عاقلة ، متنعمة عارفة : لزم القول بالسفسطة .
الاحتمالُ الرابعُ : إن كونهم أحياء من طريق المجاز .
قال الأصمُّ البلخيُّ : إذا كان الميِّتُ عظيم المنزلةِ في الدينِ ، وكانت عاقبته يومَ القيامةِ إلى السعادة والكرامة ، صحَّ أن يقالَ : أنه حَيّ ، وليس بميتٍ ، كما يقال -في الجاهلِ الذي لا ينفع نفسه ولا غيره- : إنه ميتٌ ، وكما يقال -للبليد- : إنه حمار ، وللمؤذي إنه سبع ، كما قال عبد الملك بن مروان -لما رأى الزُّهريَّ ، وعلم فقهه وتحقيقه- : مَا مَاتَ مَنْ خَلْفَهُ مِثْلُكَ . وإذا مَاتَ الإنسانُ ، وخلف ثناء جميلاً ، وذكراً حَسَناً ، يقال -على سبيل المجاز : أنه مَا مَاتَ .
وقال آخَرونَ : مجازُ هذه الآية أن أجسادَهم لا تَبْلى تحت الأرضِ ، كما روي أن معاوية لما أراد أن يُجري العينَ إلى قبور الشهداء ، أمر أن ينادى : مَن كان له قَتيل فليخْرجه من هذا الموضع ، قال جابرٌ : فخرجنا إليهم ، فأخرجناهم رِطاب الأبدان فأصابَ المسحاةُ أصبعَ رَجُلٍ مَنْهُمْ ، فانفطرت دماً .
وقيل : المراد -بكونهم أحياء- أنهم لا يُغَسَّلون كما يُغَسَل الأموات .
قال القرطبي : إذا كان الشهيدُ حيًّا -حكماً- فلا يُصَلَّى عليه ، كالحَيِّ حِسًّا .
قوله : { فَرِحِينَ } فيه خمسة أوجهٍ :
أحدها : أن يكون حالاً من الضمير في « أحياء » .
ثانيها : أن يكون حالاً من الضمير في الظرف .
ثالثها : أن يكون حالاً من الضمير في { يُرْزَقُونَ } .
رابعها : أنه منصوبٌ على المَدْح .
خامسها : أنه صفة ل « أحياء » .
وهذا مختص بقراءة ابن أبي عبلة و « بما » يتعلق ب « فرحين » .
قوله : { مِن فَضْلِهِ } في « من » ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن معناها السببية ، أي بسببب فضله ، أي : الذي آتاهم الله متسبب عن فضله .
الثاني : أنها لابتداء الغايةِ ، وعلى هذين الوجهين تتعلق ب « آتاهم » .
الثالث : أنها للتبعيض ، أي : بعض فضله ، وعلى هذا فتتعلق بمحذوف ، على أنه حال من الضمير العائدِ على الموصول ولكنه حُذِف ، والتقدير : بما آتاهموه كائناً من فَضْلهِ .
قوله : « ويستبشرون » فيه أربعة أوجهٍ :
أحدها : أن يكون من باب عطفِ الفعلِ على الاسم؛ لكون الفعل في تأويله ، فيكون عطفاً على « فرحين » كأنه قيل : فرحين ومُسْتَبْشِرِين ، ونظَّروه بقوله تعالى : { فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ } [ الملك : 19 ] .
الثاني : أنه -أيضاً- يكون من باب عطف الفعل على الاسم ، ولكن لا لأن الاسم في تأويل الفعل ، قال أبو البقاء هو معطوف على « فرحين » لأن اسم الفاعل -هنا- يُشْبه الفعل المضارع يعني أن « فرحين » بمنزلة يفرحون ، وكأنه جعله من باب قوله : { إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ الله } [ الحديد : 18 ] والتقديرُ الأولُ أولى ، لأن الاسم - وهو « فرحين » لا ضرورة بنا إلى أن نجعله في محل رفع فعل مضارع -حتى يتأول الاسم به- والفعل فَرْع فينبغي أن يُرَدَّ إليه .
وإنما فعلنا ذلك في الآية؛ لأن « أل » الموصولة بمعنى : الذي و « الذي » لا يُوصَل إلا بجملة أو شبهها ، وذلك الشبهُ -في الحقيقة- يتأول بجملة .
الثالث : أن يكون مُستأنفاً ، والواو للعطف ، عطفت فعلية على اسمية .
الرابع : أن يكون خبراً لمبتدأ محذوفٍ ، أي : وهم يستبشرون ، وحينئذٍ يجوز وجهان :
أحدهما : أن تكون الجملة حاليةً من الضمير المستكن في « فرحين » أو من العائد المحذوف من « آتاهم » وإنما احتجنا إلى تقدير مبتدأ عند جعلنا إياها حالاً؛ لأن المضارعَ المثبت لا يجوز اقترانه بواو الحال لما تقدم مراراً .
الثاني من هذين الوجهين : ان تكون استئنافية ، عطف جملة اسمية على مثلها .
و « استفعل » -هنا- ليست للطلب ، بل تكون بمعنى المجرد ، نحو : استغنى الله -بمعنى : غَنِيَ ، وقد سُمِع بَشِر الرجل -بكسر العين- فيكون استبشر بمعناه ، قاله ابنُ عطية . ويجوز أن يكون مطاوع أبشَرَ ، نحو : أكانَهُ فاستكان ، وأراحه فاستراح ، وأشلاه فاستشلى ، وأحكمَه فاستحكم -وهو كثيرٌ- وجعله أبو حيّان أظهر؛ من حيث إن المطاوعَة تدل على الاستفعال عن الغيرِ ، فحصلت لهم البُشرى بإبشار الله تعالى ، وهذا لا يلزم إذَا كان بمعنى المجردِ .
قوله : { مِّنْ خَلْفِهِمْ } في هذا الجارّ وجهان :
أحدهما : أنه متعلق ب « لم يلحقوا » على معنى أنهم قد بَقُوا بَعْدَهم ، وهم قد تقدموهم .
الثاني : أن يكون متعلقاً بمحذوفٍ على أنه حال من فعل « لم يلحقوا » على معنى أنهم قد بَقُوا بَعْدَهم ، وهم قد تقدموهم .
الثاني : أن يكون متعلقاً بمحذوفٍ على أنه حال من فاعل « يلحقوا بهم » ، أي : لم يلحقوا بهم حال كونهم متخلِّفين عنهم -أي : في الحياة- .
فصل
معنى الكلام : ويستبشرون : ويفرحون بالذين لم يلحقوا بهم ، من إخوانهم الذين تركوهم أحياءً في الدنيا على مناهج الإيمان والجهاد؛ لِيُعْلِمَهم انهم إذَا استشهدوا لحقوا بهم ، ونالوا من الكرامةِ ما نَالوا هُمْ؛ فلذلك يستبشرون .
وقال الزَّجَاج وابن فورك : الإشارة -بالاستبشار للذين لم يلحقوا بهم -لى جميع المؤمنين -وإن لم يقتلوا- ولكنهم لما عايَنُوا ثوابَ الله وقع اليقينُ بأن دين افسلام هُوَ الحقُّ الذي يُثِيبُ الله عليه ، فهم فرحون لأنفسهم بما آتاهم الله من فضله ، مستبشرون للمؤمنين بأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
قوله : { أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أن « أن » وما في حيِّزِها في محل جَرّ ، بدلاً من « بالذين » بدل اشتمال ، أي : يستبشرون بعد خوفهم وحُزْنهم ، فهو المستبشَر به في الحقيقة ، لأن الذواتَ لا يُسْتَبْشَرُ بها .
الثاني : أنها في محل نَصْبٍ؛ على أنها مفعول من أجله ، أي : لأنهم لا خوف عليهم .
و « أن » -هذه- هي المخفَّفة ، واسمها ضمير الشأن ، وجملة النفي بعدها في محل الخبر . فإن قيل : الذوات لا يُسْتبشر بها -كما تقدم- فكيف قال : { وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ } .
فالجوابُ أن ذلك على حَذْفِ مُضَافٍ مناسبٍ ، تقديره : ويَسْتبشرون بسلامةِ الذين ، أو لحوقهم بهم في الدرجة .
وقال مكيٌّ -بعد أن حكى أنها بدلُ اشتمالٍ- : ويجوز أن يكون في موضع نَصْب ، على معنى : بأن لا وهذا -هو بعينه- وجه البدل المتقدّم ، غاية ما في الباب أنه أعاد مع البدل العامل في تقديره اللهُمّ إلا أن يعني أنها- وإن كانت بدلاً من « الذين » - ليست في محل جَرٍّ ، بل في محل نَصْبٍ ، لأنها سقطت منها الباء؛ فإن الأصل : بان لا ، وإذا حُذِف منها حرفُ الجرِ كانت في محل نصبٍ على رأي سيبويه والفرَّاء- وهو بعيدٌ .

يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
لما بيَّنَ -تعالى- أنهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم ، بيَّن -هنا- أنهم يستبشرون لأنفسهم بما رُزِقوا من النعيم ولذلك أعاد لفظَ لاستبشارِ .
فإن قيلَ : أليس الذي ذكر فَرَحَهم بأحوالِ أنفسهم والفرحُ عينُ الاستبشارِ- فلزم التكرارُ؟ فالجوابُ من وجهين :
أحدهما : أن الاستبشارَ هو الفرحُ التامُّ ، فلا يلزم التكرارُ .
الثاني : لَعَلَّ المرادَ حصولُ الفرحِ بما حصل في الحالِ ، وحصولُ الاستبشارِ بما عرفوا أنّ النعمةَ العظيمةَ تحصيل لهم في الآخرةِ .
فإن قيلَ : ما الفرقُ بين النعمةِ والفَضْلِ ، فإنَّ العطفَ يقتضي المغايرةَ؟
فالجواب : أن النعمةَ هي الثواب ، والفَضْل : هو التفضُّل الزائد .
وقيل : النعمة : المغفرة ، والفَضْل : الثواب الزائد .
وقيل : للتأكيد .
روى الترمذيّ عن المقدام بن معد يكرب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لِلشَّهِيْدِ عِنْدَ اللهِ سِتُّ خَصَالٍ : يُغْفَرُ لَهُ ، ويَرَى مَقْعَدَهُ مَنَ الْجَنَّةِ ، ويُجارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، وَيَأْمَنُ الْفَزَعَ الأكْبَرَ ، وَيُوضَعٌُ عَلَى رَأسِهِ تَاجُ الْوقارِ ، الْيَاقُوتَةُ مِنْهُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ، ويُزَوَّج اثنينِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الحُورِ العِينِ ، وَيَشْفَعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أقارِبِه » ، قال : هذا حديثٌ حَسَنٌ ، صحيحٌ ، غريبٌ ، وهذا تفسيرُ النعمةِ والفضلِ ، وهذا في الترمذيِّ وابن ماجه ستٌّ ، وهي في العدد سبعةٌ .
فصل
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ الإنسانَ يكون فَرحُهُ واستبشارُهُ -بصلاحِ حالِ إخوانِهِ -أتم من استبشاره بسَعَادةِ نَفْسِهِ ، لأنهُ -تعالى- مَدَحهم على ذلك بكونهم أوَّلَ ما استبشروا فرحا بإخوانهم ، ثم ذكر -بعده- استبشارهم بأنفسهم ، فقال : { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ } .
قوله : { وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ } قرأ الكِسائيُّ بِكَسْرِ « أن » على الاستئنافِ .
وقال الزمخشري : إن قراءة الكسرِ اعتراضٌ .
واستشكلَ كونها اعتراضاً؛ لأنها لم تقع بين شيئن متلازمين .
ويمكن أن يُجاب عنه بأن « الذين استجابوا » يجوز أن يكون تابعاً ل « الذين لم يلحقوا » -نعتاً ، أو بدلاً ، على ما سيأتي- فعلى هذا لا يتصور الاعتراض .
ويؤيدُ كونها الاستئناف قراءةُ عبد الله ومصحفُه : والله لا يضيع ، وقرأ باقي السبعةِ بالفتحِ؛ عَطْفاً على قوله : « بنعمة » لأنها بتأويل مصدر ، أي : يستبشرون بنعمةٍ من الله وفضل منه وعدم إضاعةِ الله أجْرَ المؤمنين .
فإن قيل : لم قال : « يستبشرون » من غير عطف؟
فالجوابُ فيه أوجهٌ :
أحدها : أنه استئنافٌ متعلِّقٌ بهم أنفسهم ، دون « الذين لم يلحقوا بهم » لاختلافِ متعلِّقٍ البشارتين .
الثاني : أنه تأكيدٌ الأولِ؛ لأنه قصد بالنعمة والفضل مُتَعَلِّقِ الاستبشارِ الأولِ ، وإليهِ ذَهَبَ الزمخشري .
الثالثُ : انه بدلٌ من الفعل الأول ، ومعنى كونه بدلاً : أنه لما كان متعلقه بياناً لمتعلق الأول حَسُن أن يقال : بدل منه ، وإلا فكيف يبدل فعلٌ من فعل موافقٍ له لفظاً ومعنًى؟ وهذا في المعنى يئول إلى وجه التأكيد .
الرابعُ : أنه حال من فاعل « يحزنون » و « يحزنون » عاملٌ فيه ، أي : ولا هم يحزنون حال كونهم مستبشرين بنعمة . وهو بعيدٌ ، لوجهين :
أحدهما : أن الظاهر اختلافُ مَنْ نفي عنه الحُزْن ومن استبشرَ .
الثاني : أن نفي الحزن ليس مقيَّداً ليكون أبلغ في البشارة ، والحال قَيْدٌ فيه ، فيفوت هذا المعنى .
فصل
والمقصودُ -من هذا الكلام- أن أيصال الثواب العظيم إلى الشهداء ليس مخصوصاً بهم ، بل كل مؤمنٍ يستحق شيئاً من الأجر والثوابِ ، فإن الله تعالى يوصِّل ثوابه إليه ، ولا يُضيعه .
قوله : « الذين استجابوا » فيه ستة أوْجُهٍ :
أحدها : أنه مبتدأ ، وخبره قوله : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ } .
وقال مَكيٌّ : ابتداء وخبره « من بعدما أصابهم القرح » وهذا غلطٌ؛ لأن هذا ليس بمفيد ألبتة ، بل « من بعد » متعلقٌ ب « استجابوا » .
الثاني : أنه خبر مبتدأ مُضْمَر ، أي : هم الذين .
الثالث : أنه منصوب بإضمار « أعني » وهذانِ الوجهانِ يشملهما قولك : القطع .
الرابع : أنه بدل من « المؤمنين » .
الخامس : أنه بدلٌ من « الذين لم يلحقوا » قَالَه مَكّيٌّ .
السادسُ : أنه نعتٌ ل « المؤمنين » ويجوزُ فيه وجهٌ سابعٌ ، وهو أن يكون نعتاً لقوله : « الذين لم يلحقوا » قياساً على جَعْلِهِ بدلاً منهم عند مكيٍّ .
و « ما » في قوله : { مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ } مصدرية ، و « الذين أحسنوا » خَبَرٌ مقدَّمٌ ، و « منهم » فِيهِ وَجْهَان :
أحدهما : أنه حالٌ من الضمير في « أحسنوا » وعلى هذا ف « من » تكون تبعيضية .
الثاني : أنها لبيان الجنسِ .
قال الزمخشري : « مثلها في قوله تعالى : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً } [ الفتح : 29 ] لأن الذين استجابوا لله والرسولِ قد أحسنوا كلهم لا بعضهم » . و « أجر » مبتدأ مؤخَّر ، والجملة من هذا المبتدأ وخبره ، إما مُستأنفة ، أو حالٌ -إن لم يُعْرَب « الذين استجابوا » مبتدأ -وإما خبرٌ- إنْ أعربناه مبتدأ- كما تقدم تقريره .
والمرادُ : أحسنوا فما أتوا به من طاعة الرسول صلى الله واتقوا ارتكابَ شيءٍ من المنهيات .
فصل
في بيان سبب النزول
في سبب نزول هذه الآية وجهان :
أحدهما -وهو الأصح- : أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحُدٍ ، فلما بلغوا الرَّوحاء ندموا وتلاوموا ، وقالوا : لا محمداً قَتَلْتُمْ ، ولا الكواعبَ أردفتم ، قتلتموهم حتى لم يَبْقَ منهم إلا الشريد تركتموهم ، ارجعوا فاستأصلوهم ، فهمُّوا بالرجوع فبلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فأراد أن يُرْهِب الكُفَّارَ ، ويُريَهم من نفسه وأصحابه قوةً ، فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيانَ ، وقال : لا أريد أن يخرجَ الآن إلا من كان في القتالِ ، فانتدبَ عصابةً منهم -ما بهم من ألم الجِراح والقَرْح الذي أصابهم يوم أحُد- ونادى منادي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم : ألا لا يخرجنَّ معنا أَحَدٌ ، إلا مَنْ حضر يومنا بالأمس ، فكلمه جابر بن عبد الله ، فقال : يا رسولَ الله إن أبي كان قد خلَّفني على أخواتٍ لي سَبْع ، وقال : يا بُنَيَّ لا يَنْبَغِي لِي وَلاَ لَكَ أن نَتْرك هؤلاء النسوةَ ولا رَجُلَ فِيهنَّ ، ولستُ بالذي أوثرك على نفسي بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتخلَّفْ على أخواتك فتخلفتُ عليهن .
فأذن له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ مَعَهُ ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرْهِباً للعدو ، وليبلغهم أنه خَرَجَ في طلبهم ، فيظنوا به قوةً ، وأن الذي أصابهم لم يوهِنهم ، فينصرفوا . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَبْعِينَ رَجُلاً ، منهم أبو بكرٍ وعمرُ ، وعثمانُ ، وعليٍّ ، وطلحةُ ، والزبيرُ ، وسعدٌ ، سعيدٌ ، وعبد الرحمن بنُ عوفٍ ، وعبدُ الله بنُ مسعودٍ ، وحديفةُ بنُ اليَمانِ ، وأبو عبيدةَ بنُ الجراح ، حتى بلغوا حمراء الأسد- وهي من المدينة على ثمانية أميال -روي عن عائشةً أنَّها قالتْ- لعبدِ الله بن الزُّبَيْر : ابنَ أختي ، أما -والله- إن أباك وجَدَّك- تعني أبا بكر والزبير- لَمِنَ الذين قال الله -عز وجل- فيهم : { الذين استجابوا للَّهِ والرسول } .
وروي أنه كان فيهم مَنْ يحمل صاحبه على عنقه ساعةً ، ثم كان المحمولُ يحملَ الحاملَ ساعةً أخرى ، وذلك لكثرة الجراحاتِ فيهم ، وكان منهم من يتوكأ على صاحِبِه ساعةً ، ويتوكأ عليه صاحبه ساعة أخرى فمر برسول الله صلى الله عليه وسلم مَعْبَدٌ الخُزَاعِيُّ بحمراء الأسدِ ، وكانت خزاعةُ -مسلمهم وكافرهم- عَيْبَة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة ، صَفْقَتُهُمْ معهم ولا يُخفونَ عنه شيئاً كان بها ، ومعبد -يومئذ- مشرك ، فقال : يا محمدُ والله لقد عَزَّ علينا ما أصابك في أصحابك ، ولوددنا أن الله قد أعفاك منهم .
ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقي أبا سفيان ومَنْ معه -بالروحاء- قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : قد أصبنا جُلَّ أصحابه وقادتهم ، لنكرَّنَّ على بقيتهم ، فلنفرغن منهم فلما رأى أبو سفيان معبداً قال : ما وراءك يا معبدُ؟ قال : محمد وقد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثلَه قط ، يتحرقون عليكم تحرُّقاً ، قد اجتمع معه مَنْ كان تخلف عنه في يومكم ، وندموا على صنيعكم وفيهم من الحنَقِ عليكم شيء لم أرَ مِثْلَه قط ، قال ويلك ما تقول؟ قال : والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل . قال : والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم . قال : فإني أنهاك عن ذلك ، فوالله لقد حملني ما رأيتُ على أن قلت فيه أبياتاً : [ البسيط ]
1690- كَادَت تُهَدُّ مِنَ الأصْوَاتِ رَاحِلَتِي ... إذْ سَالَتِ الأرْضُ بِالجُرْدِ الأبَابِيلِ
وذكر أبياتاً . « ففَتَّرَ ذلك أبا سفيان ومَنْ معه . ومَرَّ به رَكْبٌ من بن عبد القيسِ ، فقالوا : أين تريدون؟ قالوا : نريد المدينةَ قالوا : ولِمَ؟ قالوا : نريد المِيرَة ، قال فهل أنتم مبلِّغون محمداً عني رسالةً وأحمِّلُ لكم إِبلَكم زبيباً ب » عكاظ « غداً إذا وافيتمونا؟ قالوا : نَعَمْ ، قال فإن جئتموه فأخبروني فأخبروه أنا قد جمعنا إليه وإلى أصحابه؛ لنَسْتَأْصِلَ بقيته ، وانصرف أبو سفيان إلى مكةَ . ومرَّ الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ب » حمراء الأسد « فأخبروه بالذي قال أبو سفيان ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : حَسْبُنَا الله ونِعْمَ الوكيلِ ، ثم انصرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة . » هذا قولُ أكثرِ المفسّرين .
الثاني : « قال الأصمُّ : نزلت هذه الآية في يوم أحُدٍ ، لما رجع الناس إليه صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة ، فشدّ بهم على المشركين حتى كشفهم وكانوا قد هموا هم بالمُثْلة ، فدفعهم عنها بعد أن مثَّلوا بحمزةَ ، فقذف في قلوبهم الرُّعْبَ ، فانهزموا ، وصلى عليهم صلى الله عليه وسلم ودفنهم بدمائهم . وذكروا أن صفيةَ جاءت لتنظرَ إلى أخيها حمزةَ ، فقال صلى الله عليه وسلم للزبير : رُدَّها؛ لئلا تجزع من مُثْلَةِ أخيها ، فقالت : قد بلغني ما فُعِلَ به ، وذلك يسيرٌ في جَنْب طاعةِ الله تعالى ، فقال صلى الله عليه وسلم للزُّبَيْر : فَدَعْها ، لتنظرَ إليه ، فقالت خيراً ، واستغفرت له . وجاءت امرأة -قُتِل زَوْجُها وأبوها وأخوها وابنُها -فلما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حَيٌّ قالت : كل مصيبةٍ بعدك هدر . »

الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
في قوله : « الذين » ما تقدم في : « الذين » قبله ، إلا في رفعه بالابتداء .
وهذه الآية نزلت في غزوة بدر الصُّغْرَى ، « روى ابن عباسٍ أن أبا سفيانَ لما عزم على أن ينصرف من المدينة إلى مَكَّةَ -قال : يا محمدُ موعدنا موسم بدر الصغرى ، فنقتتل بها -إن شِئْتَ- فقال صلى الله عليه وسلم لعمر : قُلْ : بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ ذَلِكَ -إنْ شَاءَ الله- فلما كان العام المقبل ، خرج أبو سفيان في أهل مكةَ ، حتى نزل » مجنة « من ناحية » مَرَّ الظهران « فألقى الله تعالى الرُّعب في قلبه ، فبدا له أن يرجعَ فلقي نُعَيم بن مسعود الشْجَعِيّ -وقد قَدِم معتمراً- فقال أبو سفيان : يا نعيمُ ، إني واعدتُ محمداً وأصحابه أن نلتقي بموسم بدرٍ ، وإن هذا عام جَدْبٍ ، ولا يُصْلِحُنا إلا عام نَرْعَى فيه الشجر ونشرب فيه اللبنَ ، وقد بدا لي أن لا أخرج إليها ، ولكن إن خَرَجَ مُحَمّدٌ -ولم أخرُجْ- زاد بذلك جُرْأةً ، وَلأنْ يكونَ الخُلْفُ من قِبَلِهِمْ أحَبُّ من أن يكون من قِبَلي ، فالْحَق بالمدينة فَثَبِّطْهُم ، ولك عندي عشرةٌ من الإبل ، أضعها على يد سُهَيْلِ بْنِ عمرو ويضمنها . قال : فجاء سُهَيلٌ ، فقال له نعيمٌ : يا أبا يزيدَ أتضمنُ لي هذه القلائصِ ، فأنطلق إلى مُحَمَّدٍ فأثبطه؟ قال : نَعَمْ ، فخرج نُعَيْمٌ ، حتى أتى المدينة ، فوجد المسلمين يتجهَّزون لميعاد أبي سفيان ، فقال : أين تريدون؟ فقالوا : واعَدَنَا أبو سفيان لموسم بدر الصُّغْرَى أن نقتتل بها ، فقال : بئس الذي رأيتم ، أتَوْكُمْ في دياركم وقراركم ، فلم يفلت منكم إلا الشريد ، أفتريجون أن تخرجوا إليهم؟ فإن ذهبتم إليهم لم يرجع منكم أحد ، وقد جمعوا لكم عند الموسم .
فوقع هذا الكلام في قلوب بعضهم ، فلما عرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال : » والذي نفسُ محمدٍ بيده لأخرجنّ إليهم ولو وحدي « . فأما الجبان فإنه رجع ، وأما الشُّجَاعُ فإنه تأهَّبَ للقتالِ ، وقالوا » حسبنا الله ونعم الوكيل « . ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نحو سبعين رجلاً -فيهم ابنُ مسعود حتى وافَوْا بدر الصغرى- وهي ماء لِبَني كنانةَ ، وكانت موضعٍ سوقٍ لهم ، يجتمعون فيه كل عام ثمانية أيام -ولم يَلْقَ رسولُ الله- وأصحابه أحداً من المشركين ووافقوا السوق ، وكانت معهم نفقاتٌ وتجاراتٌ ، فباعوا واشتروا أدماً وزبيباً ، وأصابوا بالدرهم درهمين ، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين . ورجع أبو سفيان إلى مكة ، وسَمَّى أهل مكة جيشه جيش السويق ، وقالوا : إنما خرجتم لتشربوا السويق . » هذا سبب نزول الآية .
والمراد ب « الناس » نُعَيم بن مسعود -في قول مجاهد وعكرمة- فهو من العامِّ الذي أرِيدَ به الخاصّ ، كقوله تعالى :
{ أَمْ يَحْسُدُونَ الناس } [ النساء : 54 ] يعني محمداً وحده ، وإنما جاز إطلاقُ لفظِ « الناس » على الواحد؛ لأن الإنسانَ الواحدَ إذا كان له أتباع يقولون مثل قوله ، أو يَرْضَونَ بقوله فإنه يحسن -حينئذٍ- إضافة ذلك الفعل إلى الكل ، قال تعالى : { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فادارأتم فِيهَا } [ البقرة : 72 ] وقال : { وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً } [ البقرة : 55 ] وهم لم يفعلوا ذلك ، وإنما فعله أسلافهم ، إلا انهم لما تابعوهم وصوَّبوا فِعْلَهُمْ ، حَسُن إضافة ذلك إليهم .
وقال ابنُ عَبَّاس ، ومحمد بن إسحاقَ ، وجماعة : أراد بالنَّاسِ : الرَّكْبَ من بني عبد القيسِ « قد جمعوا لكم » يعني أبا سفيان وأصحابه .
وقال السُّدِّيُّ : هم المنافقون ، قالوا للمسلمين -حين تجهزوا للمسير إلى بدر لميعاد أبي سفيان- : القوم قد أَتَوْكُمْ في دياركم ، فقتلوا أكثركم ، فإن ذَهَبْتُمْ إليهم لم يَبْقَ منكم أحدٌ ، لا سيما وقد جمعوا لكم جَمْعاً عظيماً « فاخشوهم » أي : فخافوهم .
قوله : { فَزَادَهُمْ إِيمَاناً } في فاعل « فزادهم » ثلاثة أوجهٍ :
الأول -وهو الأظهرُ- : أنه ضميرٌ يعود على المصدر المفهوم من « قال » أي فزادهم القول بكيتَ وكيتَ إيماناً ، كقوله : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } [ المائدة : 8 ] .
الثاني : أنه يعود على المقول -الذي هو { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم } كأنه قيل : قالوا لهم هذا الكلام فزادهم إيماناً .
الثالث : أنه يعود على « الناس » إذا أريد به فَرْدٌ واحد -كما نُقِلَ في سبب النزول- وهو نعيم بن مسعود الأشْجَعِيّ .
واستضعف أبو حيّان الوجهين الأخيرَيْنِ ، قال : « وهما ضعيفانِ؛ من حيثُ إنّ الأولَ لا يزيد إيماناً إلا النطقُ به ، لا هو في نفسه ، ومن حيثُ إنّ الثاني إذا أطلقَ على المفرد لفظ الجمع مجازاً فإن الضمائر تجري على ذلك الجمع ، لا على المفرد . تقول : مفارقة شابت -باعتبار الإخبار عن الجمع- ولا يجوز : مفارقة شاب- باعتبار : مَفْرِقُهُ شَابَ » .
قال شهابُ الدّين : « وفيما قاله نَظَر؛ لأن المقولَ هو الذي في الحقيقة حصل به زيادة الإيمان- وأما قولُهُ : تجري على الجمع ، لا على المفرد ، فغير مُسَلَّم ، ويعضده أنهم نَصُّوا على أنه يجوز اعتبار لفظ الجمع الواقع موقع المُثَنَّى تارةً ، ومعناه تارةً أخْرَى ، فأجازوا : رؤوس الكبشينِ قطعتهن ، وقطعتهما ، وإذا ثبت ذلك في الجمع الواقع موقع المثنى ، فليَجز في الواقع موقع المفرد . ولقائلٍ أن يفرق بينهما ، وهو أنه إنما جاز أن يراعى معنى التثنية -المعبر عنها بلفظ الجمع- لقربها منه؛ من حيثُ إنّ كلاً منهما فيه ضم شيء إلى مثله . بخلاف المفرد ، فإنه بعيدٌ من الجمع؛ لعدم الضمِّ ، فلا يلزمُ من مراعاة معنى التثنية في ذلك مراعاة معنى المفردِ .
فصل
قال أبو العَبَّاس المُقْرئ : لفظ » الوكيل « في القرآن على وجهين :
الأول : بمعنى المائع -كهذه الآية- ومثله قوله :
{ فَمَن يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } [ النساء : 109 ] أي : مانعاً .
الثاني : بمعنى : الشاهدِ ، قال تعالى : { وكفى بالله وَكِيلاً } [ النساء : 81 ، 132 ، 171 ] أي : شهيداً ، ومثله قوله : { إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ والله على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [ هود : 12 ] . أي : شاهد ، ومثله : { فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } [ القصص : 28 ] أي : شهيد .
قوله : { وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله } [ آل عمران : 173 ] عطف « قالوا » على « فزادهم » والجملة بعد القول في محل نَصْب به .
قوله : { وَنِعْمَ الوكيل } المخصوصُ بالمدحِ ، أي : الله تعالى .
قوله : { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ } في متعلق باء « بنعمة » وجهانِ :
أحدهما : أنها متعلقة بنفس الفعل على أنها باء التعدية؟
الثاني : أنها تتعلَّق بمحذوف ، على أنَّها حال من الضمير في « انقلبوا » والباء على هذه المصاحبة ، كأنه قيل : فانقلبوا ملتبسين بنعمة ومصاحبين لها . والتقدير : وخرجوا فانقلبوا ، وحذف الخروجُ؛ لأن الانقلابَ يدل عليه ، كقول : { أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق } [ الشعراء : 63 ] أي : فضرب فتنفلق ومعنى الآية : « فانقلبوا » بعافية ، لم يلقوا عدواً « وفضل » تجارة وربح ، وهو ما أصابوا من السوق .
قوله : { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء } هذه الجملة في محل نصب على الحال -أيضاً- وفي ذي الحال وجهان :
أحدهما : أنه فاعل « انقلبوا » أي : انقلبوا سالمين من السوء .
الثاني : أنه الضمير المستكن في « بنعمة » إذا كانت حالاً ، والتقدير : فانقلبوا منعَّمينَ بريئينَ من السوء . والعاملُ فيها : العامل في بنعمة فهما حالان متداخلان ، والحال إذا وقعت مضارعاً منفياً ب « لم » وفيها ضمير ذي الحال جاز دخول الواو وعدمه فمن الأول قوله تعالى : { أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ } [ الأنعام : 93 ] وقول كعب : [ البسيط ]
1691- لا تَأخُذَنِّي بِأقْوالِ الوُشَاةِ وَلَمْ ... أذْنِبْ وَلَوْ كَثُرَتْ فِيَّ الأقَاوِيلُ
ومن الثَّاني هذه الآية ، وقوله : { وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } [ الأحزاب : 25 ] وقول [ قيس ] بن الأسلت :
1692- وَأضْرِبُ الْقَوْنَسَ يَوْمَ الْوَغَى ... بِالسَّيْفِ لَمْ يَقْصُرْ بِهِ بَاعِي
وبهذا يُعْرَف غَلَط الأستاذ ابن خروف؛ حيث زعم أنّ الواوَ لازَمةٌ في مِثْلِ هَذَا ، سواء كان في الجملة ضمير ، أو لَمْ يَكُنْ .
قوله : { واتبعوا } يجوز في هذه الجملة وجهانِ :
الأول : أنا عطف على « انقلبوا » .
الثاني : أنها حال من فاعل « انقلبوا » -أيضاً- ويكون على إضمار « قد » أي : وقد اتبعوا .
فصل
قال القرطبيُّ : « وقد اختلف العلماء في زيادة الإيمان ونُقْصانه على أقوال ، والعقيدة في هذا على أن نفس الإيمان -الذي هو تاج- واحدٌ ، وتصديق واحد بشيء ما إنما هو معنى مفرد ، لا يدخل معه زيادة إذا حصل ، ولا يبقى منه شيء إذا زال ، فلم يَبْقَ إلا أن تكون الزيادة والنقصان في متعلقاته ، دون ذاتِهِ . ومعنى الآية : زادهم قولِ الناسِ إيماناً ونُصْرَةً ويقيناً في دينهم ، وإقامة على نُصْرَته ، وقوةً وجرأةً واستعداداً ، فزيادة الإيمان -على هذا- هي في الأعمال » .
قال ابنُ الخطيب : المرادُ بالزيادَةِ في الإيمان أنهم لما سمعوا هذا الكلامَ المخوِّف لم يلتفتوا إليه ، بل حدث في قلوبهم عَزْم متأكد على محاربة الكفار وعلى طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يأمر به وينهى عنه -ثقل ذلك أو خَفَّ- لأنه قد كان فيهم مَنْ به جراحاتٌ عظيمةٌ ، وكانوا محتاجين إلى الممداواةِ ، وحدث في قلوبهم وثوق بأنَّ الله ينصره على أعدائهم ويؤيدهم في هذه المحاربة ، فهذا هو المراد من قوله : { فَزَادَهُمْ إِيمَاناً } .
فصل
هذه الواقعةُ تدل دلالة ظاهرةً على أن الكل بقضاء وقَدَره؛ وذلك لأن المسلمين كانوا قد انهزموا من المشركين يوم أحُدٍ ، والعادة جارية بأنه إذا انهزم أحد الخصمينِ عن الآخر ، فإنه يحصل في قلب الغالب قوة وشدة استيلاء ، وفي قلب المغلوب انكسار وضعف ، ثم إنه -سبحانه وتعالى- قَلَبَ القضية ها هنا ، فأودع قلوبَ الغالبين -وهم المشركونَ- الخوفَ والرعبَ ، وأودع قلوب المغلوبين القوةَ والحميةَ والصلابةَ ، وذلك يدل على أن الدواعي والصوارفَ من الله تعالى ، وأنها متى حدثت في القلوبِ وقعت الأفعال على وفقتها . ثم قال تعالى : { وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } والمعنى : أنهم كلما زادوا إيماناً في قلوبهم أظهروا ما يطابقه ، فقالوا : { حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } قال ابن الأنْبَارِيّ : { حَسْبُنَا الله } أي : كافينا الله .
ومثله قوله امرئ القيس : [ الوافر ]
1693- فَتَملأ بِيْتَنَا أقِطاً وَسَمْناً ... وَحَسْبُكَ مِنْ غَنًى شِبَعٌ وَرِيّ
أي : يكفيك الشَّبَعُ والرَّيُّ .
وأما « الوكيل » ففيه أقوالٌ :
أحدُهَا : أنه الكفيل .
قال الشاعر : [ الطويل ]
1694- ذَكَرْتُ أبَا أروَى فَبِتُّ كَأَنَّنِي ... بِرَدِّ الأمُورِ الْمَاضِيَاتِ وَكِيلُ
الثاني : قال الفرّاء : الوكيل : الكافي ، والذي يدل على صحة هذا القول أن « نِعْمَ » سبيلها أن يكن الذي بعدها موافقاً قبلها ، تقول : رازقنا الله ونعم الرازق ، وخالقنا الله ونعم الخالقُ ، وهذا أحسنُ من قول مَنْ يقول : خالقنا الله ونعم الرازقُ ، فكذا ههنا تقدير الآية : يكفينا الله ونعم الكافي .
الثالث : « الوكيل » فعيل بمعنى مفعول ، وهو الموكول إليه . والكافي والكفيل يجوز أن يُسَمَّى وكيلاً؛ لأن الكافيَ يكون الأمرُ موكولاً إليه ، وكذا الكفيلُ يكون الأمر موكولاً إليه .
ثم قال : { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ } قال مجاهدٌ : النعمة -هنا- العافية ، والفَضْل : التجارة .
وقيل : النعمة : منافع الدنيا ، والفَضْل : ثواب الآخرة .
قوله : { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء } أي : لم يصبهم قَتْلٌ ولا جِرَاحٌ -في قول الجميع- { واتبعوا رِضْوَانَ الله } طاعة الله ، وطاعة رسوله ، { والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } قد تفضل عليهم بالتوفيق فيما فعلوا .
روي أنهم قالوا : هل يكن هذا غَزْواً؟ فأعطاهم الله ثوابَ الغَزْوِ .
واختلف أهْلُ المغازي ، ذهب الواقديُّ إلى تخصيص الآية الأولى ب « حمراء السد » والثانية ب « بدر الصغرى » .
ومنهم مَنْ جَعَل الآيتين بين واقعة بدرٍ الصُّغْرَى ، والأول أوْلَى؛ لأن قوله تعالى : { مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح } [ آل عمران : 172 ] يدل على قُرْب عهدهم بالقَرْح .

إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)
« إنما » حرف مكفوف ب « ما » عن العمل وقد تقدم الكلام فيها أول الكتاب . وفي إعراب هذه الجملة خمسةُ أوجهٍ :
الأول : أن يكون « ذلكم » مبتدأ ، « والشيطان » خبره ، و « يخوف أولياءه » حال؛ بدليل وقوع الحالِ الصريحةِ في مثل هذا التركيب ، نحو قوله : { وهذا بَعْلِي شَيْخاً } [ هود : 72 ] وقوله : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } [ النمل : 52 ] .
الثاني : أن يكون « الشيطان » بدلاً ، أو عطف بيان ، و « يخوف » الخبر ، ذكره أبو البقاء .
الثالث : أن يكون « الشيطان » نعتاً لاسم الإشارة ، و « يخوف » على أن يرادَ ب « الشيطان » نعيم ، أو أبو سفيان -ذكره الزمخشري قال أبو حيّان : « وإنما قال : والمراد ب » الشيطان « نعيم ، أو أبو سفيان؛ لأنه لا يكون نعتاً -والمراد به إبليس- لأنه إذ ذاك- يكون علماً بالغلبة ، إذ أصله صفة -كالعيُّوق- ثم غلب على إبليس كما غلب العيُّوق على النَّجْمِ الَّذِي ينطلق عليه » وفيه نظرٌ .
الرابع : أن يكون « ذلكم » مبتدأ ، و « الشيطان » خبر ، و « يخوف » جملةٌ مستأنفةٌ ، بيان لشيطنته ، والمراد بالشَّيْطانِ هو المثبط للمؤمنين .
الخامس : أن يكون « ذلكم » مبتدأ ، و « الشيطان » مبتدأ ثانٍ ، و « يخوف » خبر الثاني ، والثاني وخبره خبرُ الأول؛ قاله ابنُ عطيةَ ، وقال : « وهذا الإعرابُ خير -في تناسق المعنى- من أن يكون » الشيطان « خبر » ذلكم « لأنه يجيء في المعنى استعارة بعيدة » .
ورَدَّ عليه أبو حيّان هذا الإعراب -إن كان الضمير في « أولياءه » عائداً على « الشيطان » لخُلُوِّ الجملة الواقعة خبراً عن رابط يربطها بالمبتدأ -وليست نفس المبتدأ في المعنى ، نحو : هِجِّيرى أبِي بكر لا إلَه إلا الله وإن كان عائداً على « ذلكم » -ويراد ب « ذلكم » غير الشيطان جاز ، وصار نظير : إنما هند زيد [ يضرب غلامها ] ، والمعنى : إنما ذلكم الركب ، أو أبو سفيان الشيطان يخوفكم أنتم أولياؤه ، أي : أولياء الركب ، أو أولياء أبي سفيان -والمشار إليه ب « ذلكم » هل هو عين أو معنى؟ فيه احتمالان :
أحدهما : أنه إشارةٌ إلى ناسٍِ مخصوصين -كَنُعَيْم وأبيب سفيانَ وأشياعهما -على ما تقدم .
الثاني : إشارة إلى جميع ما جرى من أخبارِ الركبِ وإرسال أبي سفيان وجزع من جزع -وعلى هذا التقدير فلا بُدَّ من حذف مضافٍ ، أي : فعل الشيطان ، وقدَّره الزمخشري : قول الشيطانِ ، أي : قوله السابق ، وهو : { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم } [ آل عمران : 173 ] وعلى كلا التقديرين- أعني كون الإشارة لأعيان أو معان -فالإخبار ب « الشيطان » عن « ذلكم » مجاز؛ لأن الأعيان المذكورين والمعاني من الأقوال والأفعال الصادرة من الكفار -ليست نفس الشيطان ، وإنما لما كانت بسببه ووسوسته جَازَ ذلك .
قوله : { يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } قد تقدم ما محله من الإعراب . والتضعيفُ فيه للتعدية ، فإنه قَبْلَ التَّضْعيف متعدٍّ إلى واحدٍ ، وبالتضعيف يكتسب ثانياً ، وهو من باب « أعطى » ، فيجوز حذف مفعوليه ، أو أحدهما اقتصاراً واختصاراً ، وهو في الآية الكريمة يحتمل أوجُهاً :
أحدها : أنْ يكون المفعولُ الأولُ محذوفاً ، تقديره : يخوفكم أولياءه ، ويقوِّي هذا التقديرَ قراءة ابن عبَّاسٍ وابن مسعود هذه الآية كذلك ، والمراد ب « أولياءه » -هنا- الكفارُ ، ولا بُدَّ من حذف مضافٍ ، أي : شر أوليائه؛ لأن الذوات لا يخاف منها .
الثاني : أن يكون المفعول الثاني هو المحذوف ، و « أولياءه » هو الأول ، والتقدير : يخوف أولياءه شَرَّ الكفار ، ويكون المراد ب « أولياءه » -على هذا الوجه- المنافقين ومَنْ في قلبه مرضٌ ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج .
والمعنى : أن تخويفه بالكفار إنما يحصل للمنافقين الذين هم أولياؤه ، وأما أنتم فلا يصل إليكم تخويفه قاله الحسنُ والسُّدِّي .
الثالث : أن المفعولين محذوفان ، و « أولياءه » نعتٌ -على إسقاط حرف الجر- والتقدير : يخوفكم الشر بأوليائه . والباء للسبب ، أي : بسبب أوليائه فيكونون هم كآلةِ التخويف لكم .
قالوا : ومثل حذف المفعول الثاني قوله تعالى : { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم } [ القصص : 7 ] أي : فإذا خِفْتِ عليه فرعونَ . ومثال حذف الجارّ قوله تعالى : { لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ } [ الكهف : 2 ] معناه لينذركم ببأسٍ ، وقوله : { لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق } [ غافر : 15 ] . وهذا قول الفرّاء والزّجّاج وأبي عليّ ، قالوا : ويدل عليه قراءة أبَيٍّ والنَّخَعِيِّ : يخوفكم بأوليائه .
قال شهابُ الدّينِ : فكأن هذا القائل رأى قراءة أبَيّ والنخعيّ « يخوف بأوليائه » فظن أنَّ قراءة الجمهورِ مثلها في الأصل ، ثم حُذِفتَ الباء ، وليس كذلك ، بل تُخَرَّج قراءةُ الجمهورِ على ما تقدم؛ إذ لا حاجةَ إلى ادِّعاء ما لا ضرورة له .
وأما قراءة أبَيّ فيحتمل أن تكون الباء زائدة ، كقوله : [ البسيط ]
1695- .. سُودُ الْمَحَاجِرِ لا يَقْرَانَ بِالسُّوَرِ
فتكون كقراءة الجمهور في المعنى .
ويحتمل أن تكون للسبب ، والمفعولان محذوفان- كما تقدم .
قوله : { فَلاَ تَخَافُوهُمْ } في الضمير المنصوب ثلاثةُ أوجهٍ :
الأول -وهو الأظهر- : أنه يعود على « أولياءه » أي : فلا تخافوا أولياءَ الشيطان ، هذا إن أريد بالأولياء كفار قريش .
الثاني : أنه يعود على « الناس » من قوله : { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } [ آل عمران : 173 ] إن كان المراد ب « أولياءه » المنافقين .
الثالث : أنه يعود على « الشيطان » قال أبو البقاء : « إنما جمع الضمير؛ لأن الشيطان جنس » والياء في قوله : « وخافوني » من الزوائد ، فإثبتها أبو عمرو وصلاً ، وحَذَفَها وقفاً -على قاعدته- والباقون يحذفونها مطلقاً .
فصل في ورود الخوف في القرآن الكريم
ورد الخوف على ثلاثةِ أوجهٍ :
الأول : الخوفُ بعينه ، كهذه الآية .
الثاني : الخوف : القتال ، قال تعالى : { فَإِذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } [ الأحزاب : 19 ] أي : إذا ذهب القتال .
الثالث : الخوف : العِلْم ، قال تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } [ البقرة : 229 ] وقوله : { وَأَنذِرْ بِهِ الذين يَخَافُونَ أَن يحشروا إلى رَبِّهِمْ } [ الأنعام : 51 ] . أي : يعلمون وقوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } [ النساء : 35 ] أي : علمتم .
وقوله : { إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } جوابه محذوف ، أو متقدم -عند مَنْ يرى ذلك- وهذا من باب الإلهاب والتهييج . إلا فهم ملتبسون بالإيمان .
قوله : { وَلاَ يَحْزُنكَ الذين } قرأ نافع « يُحزنك » -بضم حرف المضارعة- من « أحزن » -رباعياً- في سائر القرآن إلا التي في قوله : { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر } [ الأنبياء : 103 ] فإنه كالجماعة . والباقون بفتح الباء- من « حزنه » ثلاثياً- فقيل : هما من باب ما جاء فيه فَعَل وأفْعَل بمعنى .
وقيل : باختلاف معنى ، فَحَزَنَه : جَعَل فيه حُزْناَ- نحو : دهنه وكحله ، أي : جعل فيه دهناً وكحلاً -وأحزنته : إذا جعلته حزيناً . ومثل حَزَنَه وأحْزَنَه فَتَنَه وأفتَنَه ، قال سيبويه : « وقال بعضُ العربِ : أحزنت له الحُزْن ، وأحزنته : عرَّضته للحُزْن . قاله أبو البقاء وقد تقدم اشتقاق هذه اللفظة في » البقرة « .
قال شهابُ الدينِ : » والحق أن حزنه لغتان فاشيتان ، لثبوتهما متوازتين -وإن كان أبو البقاء قال : إن أحزن لغة قليلة ، ومن عجيب ما اتفق أن نافعاً -رحمه الله- يقرأ هذه المادة من « أحزن » إلا التي في الأنبياء -كما تقدم- وأن شيخه أبا جعفر يزيد بن القعقاع يقرأها من « حزنه » -ثلاثياً- إلا التي في الأنبياء ، وهذا من الجمع بين اللغتين ، والقراءة سنة مُتَّبَعَة « .
وقرأ الجماعة : » يسارعون « بالفتح والإمالة ، وقرأ النحوي » يسرعون « -من أسرع- في جميع القرآن ، قال ابن عطيةَ : » وقراءة الجماعة أبلغ؛ لأن مَنْ يسارع غيرَه أشد اجتهاداً من الذي يُسرع وحده « .
قوله : { إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً } في نصب » شيئاً « وَجْهَانِ :
أحدهما : أنه مصدر ، أي : لا يضرونه شيئاً من الضرر .
الثاني : أنه منصوب على إسقاط الخافض ، أي : لن يضروه بشيء . وهكذا كل موضع أشبهه ففيه الوجهان .
فصل
اختلفوا في هؤلاء المسافرين فقال الضَّحَّاك : هم كفار قريش ، وقال غيره : هم المنافقون؛ يسارعون في الكفر مظاهرةً للكفار » إنهم لن يضروا الله « بمُسارعتهم في الكُفْر .
وقيل : إن قوماً من الكفار أسلموا ، ثم ارتدوا؛ خوفاً من قريش ، فوقع الغمُّ في قَلْبِ الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك السبب فإنه صلى الله عليه وسلم ظن أنهم بسبب تلك الرِّدَّة يُلحِقون به مَضَرَّة ، فبيَّن -تعالى- أن ردَّتَهم لا تؤثر في لُحُوقِ ضررٍ بك .
قال القاضي : ويقوى هذا الوجه بأن المستمر على الكفر لا يوصَفُ بأنه يسارعُ في الكفرِ ، وإنما يُوصَف بذلك مَنْ يكفر بعد الإيمان .
وأيضاً فإن إرادته ألا يجعل لهم حَظَّاً في الآخرة لا تليق إلا بمن قد آمن واستوجب ذلك ، ثم أحبط .
وأيضاً فإن الحُزْن إنما يكون على فوات أمرٍ مقصودٍ ، فلما قدَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم الانتفاع بإيمانهم -ثم كفروا- حَزنَ صلى الله عليه وسلم عند ذلك؛ لفوات التكثير بهم ، فآمنه الله من ذلك ، وعرَّفه أن وجودَ إيمانهم كعدمه في أن أحوالَه لا تتغير .
وقيل : المراد رؤساء اليهود -كعب بن الأشرف وأصحابه- كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم لمتاع الدنيا . قال القَفَّال ولا يبعد حمل الآية على جميع أصناف الكفار؛ لقوله تعالى : { ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الذين هِادُواْ } [ المائدة : 41 ] . فإن قيل : الحُزْن على كُفر الكافر ، ومعصية العاصي طاعة ، فكيف نهاه الله عن الطاعة؟
فالجوابُ من وجهين :
الأول : أنه كان يفرط في احُزْن على كُفْر قومه ، حتَّى كاد يؤدي ذلك إلى لحوق الضرر به ، فنهاه الله تعالى عن الإسراف فيه ، كما قال : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [ فاطر : 8 ] .
الثاني : أن المعنى لا يُحْزنوكَ بخوف أن يضروك ، ويعينوا عليك؛ ألا ترى إلى قوله : { لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً } يعني : أنهم لا يضرون - بمسارعتهم في الكفر- غير أنفسهم ، ولا يعود وبال ذلك على غيرهم ألبتة .
ثم قال : { يُرِيدُ الله أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخرة } وهذا تنصيصٌ وردٌّ على المعتزلة بأنَّ الخيرَ والشر بإرادة الله تعالى ، وتدل الآية -أيضاً- على أنَّ النكرةَ في سياق النَّفي تعم؛ إذ لو لم يحصل العموم لم يحصل في تهديد الكفار بهذه الآية ، ثم قال : { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وهذا كلام مبتدأ والمعنى : أنه كما لا حَظَّ لهم ألبتة من منافع الآخرة ، فلهم الحَظُّ العظيمُ من [ مضارِّها ] .

إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)
اعلم أنه لا يبعد حَمْلَ الآية الأولى على المرتدين ، وحمل هذه الآية على اليهود . ومعنى : { اشتروا الكفر بالإيمان } أنهم كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم ويؤمنون به قبل مَبْعَثِه ، فلما بُعِثَ كفروا به ، وتركوا ما كانوا عليه ، فكأنهم أعطوا الإيمان ، وأخذوا الكفر بدلاً عنه ، كما يفعلُ المشتري من إعطاء شيء وأخْذ غيره بدلاً عنه .
ولا يبعد أيضاً -حَمْلُ هذه الآيةِ على المنافقينَ؛ لأنهم متى كانوا مع المؤمنين أظهروا الإيمان ، فإذا خلوا إلى شياطينهم كفروا ، وتركوا الإيمان ، فكان ذلك كأنهم اشتروا الكفر بالإيمان .
فإن قيل : ما فائدة التكرار في الآيتين في قوله : { لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً } ؟
فالجوابُ : أن فائدةَ التكرارِ أمورٌ :
أحدهما : أن الذين اشتروا الكفرَ بالإيمانِ لا شك أنهم كانوا كافرين أولاً ، ثم آمنوا ، ثم كفروا بعد ذلك ، وهذا يدلُّ على شدَّة الاضطرابِ ، وضَعْفِ الرأي ، وقِلَّةِ الثباتِ ، ومثل هذا الإنسان لا خوف منه ، ولا هيبةَ له ، ولا قدرةَ له على إلحاق الضَّرَر بالغير .
ثانيها : أن أمر [ الدّينِ ] أهمّ الأمورِ وأعظمها ، ومثل هذا مما لا يقدم الإنسان فيه -على الفعل ، أو على التَّركِ- إلا بعد إمعانٍ النّظَرِ ، وكَثْرة الفِكْر ، وهؤلاء يُقْدِمون على الفعل ، أو على الترك في هذا المهم بأهونِ الأسبابِ وأضعفِ الموجباتِ ، وهذا يدلُّ على قِلَّةِ عقولهم ، وشدة حماقتهم ، وأمثال هؤلاء لا يَلْتَفِتُ العاقلُ إليهم .
ثالثها : أن أكثرهم إنما ينازعونك في الدّينِ لا بِنَاءً على الشُّبُهات ، بل بناءً على الحَسَدِ والمنازعة في منصب الدُّنْيَا ، ومَنْ كان عَقْلَه بهذا القَدْر -وهو بيع السعادة العظيمة الأخروية بالقليل الفاني من سعادة الدنيا- كان في غاية الحماقة ، ومِثْلهُ لا يقدر على إلحاق ضرر بالغير ، والله أعلم .

وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)
قرأ الجمهور « يحسبن » بالغيبة ، وحمزة بالخطاب ، وحكى الزّجّاج عن خلق كثير كقراءة حمزة إلا أنهم كسروا « أنما » ونصبوا « خير » وأنكرها ابن مجاهدٍ -وسيأتي إيضاح ذلك- وقرأ يحيى بن وثاب بالغيبة وكسر « إنما » . وحكى عنه الزمخشري -أيضاً- أنه قرأ بكسر « أنما » الأولى وفتح الثانية مع الغيبة ، فهذه خَمْسُ قراءاتٍ .
فأما قراءة الجمهور ، فتخريجها واضح ، وهو أنه يجوز أن يكون الفعل مسنداً إلى « الذين » و « أن » وما اتصل بها سادَّة مسد المفعولين -عند سيبويه- أو مسدَّ أحدهما ، والآخر محذوف عند الأخفش- ويجوز أن يكون مسنداً إلى ضمير غائب ، يراد به النبي صلى الله عليه وسلم أي لا يحسبن النبي صلى الله عليه وسلم . فعلى هذا أن يكون « الذين كفروا » مفعولاً أول ، وأما الثاني فسيأتي الكلام عليه في قراءة حمزة ، لتتحد هذه القراءة -على هذا الوجه- مع قراءة حمزة رحمه الله ، وسيأتي تخريجها .
و « ما » يجوز أن تكون موصولة اسمية ، فيكون العائد محذوفاً ، لاستكمال الشروط ، أي : الذي نمليه ويجوز أن تكون مصدرية -أي : إملاءنا- وهي اسم « إن » و « خير » خبرها .
قال أبو البقاء : « ولا يجوز أن تكون كافةً ، وزائدة؛ إذ لو كان كذلك لانتصب » خير « ب » نملي « واحتاجت » أن « إلى خبر ، إذا كانت » ما « زائدة ، أو قدر الفعل يليها ، وكلاهما ممتنع » انتهى . وهي من الواضحات . وكتبوا « أنماط -في الموضعين- متصلة ، وكان من حق الأولى الفصل؛ لأنها موصولة .
وأما قراءة حمزة فاضطربت فيها أقوال الناس وتخاريجهم ، حتى أنه نُقل عن ابن أبي حاتم أنها لحن .
قال النحاس : وتابَعَهُ على ذلك [ جماعة ] وهذا لا يُلتفت إليه ، لتواترها ، وفي هنا تخريجها ستة أوجُهٍ :
أحدها : أن يكون فاعل » تحسبن « ضمير النبي صلى الله عليه وسلم و » الذين كفروا « مفعول أول ، و » أنما نملي لهم خير « مفعول ثان ، ولا بُدَّ -على هذا التخريج- من حَذْفِ مضافٍ ، إما من الأول ، تقديره : ولا تحسبن شأنَ الذين ، وإما من الثَّاني ، تقديره : أصحاب أن إملاءنا خير لهم .
وإنما احتجْنَا إلى هذا التأويل؛ لأن » أنما نملي « بتأويل مصدر ، والمصدر معنى من المعاني لا يَصْدُقُ على » الذين كفروا « والمفعول الثاني في هذا البابِ هُوَ الأولُ في المعنى .
الثاني : أن يكون » أنما نملي لهم « بدلاً من » الذين كفروا « . وإلى هذا ذهب الكسائي ، والفرّاء ، وتبعهما جماعة ، منهم الزَّجَّاج والزمخشري ، وابنُ الباذش ، قال الكسائي والفرّاء : وجه هذه القراءة التكرير والتأكيد ، والتقدير : ولا تحسبن الذين كفروا ، ولا تحسبن أنما نملي .
قال الفرّاءُ : ومثله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ } [ الزخرف : 66 ] أي « ما ينظرون إلا أن تأتيهم . انتهى .
ورد بعضهم قولَ الكسائيِّ والفرَاءِ ، بأن حَذْفَ المفعولِ الثاني -في هذه الأفعالِ- لا يجوز عند أحد . وهذا الردُّ ليس بشيءٍ؛ لأن الممنوعَ إنما هو حذف الاقتصارِ -وقد تقدم تحقيق ذلك .
وقال ابنُ الباذش : ويكون المفعول الثاني قد حُذِف؛ لدلالة الكلامِ عليه ، ويكون التقدير : ولا تحسبن الذين كفروا خَيْريَّةَ إملاءنا لهم ثابتة ، أو واقعة .
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : كيف صح مَجِيءُ البدلِ ، ولم يذكر إلا أحد المفعولين ، ولا يجوز الاقتصارُ بفعل الحسبانِ على مفعولٍ واحدٍ؟
قلتُ : صحَّ ذلك من حيثُ إنّ التعويلَ على البدل والمبدل منه في حكم المُنَحَّى ، ألا تراك تقول : جَعَلْتُ متاعَك بعضَه فوقَ بَعْضٍ ، مع امتناع سكوتك على : متاعك .
وهذا البدلُ بدلُ اشتكالٍ -وهو الظاهرُ- أو يدل كُلٍّ من كُلٍّ ، ويكون على حَذْف مضافٍ ، تقديره : ولا تحسبن إملاء الذين ، فحذف » إملاء « وأبدل منه : » أنما نملي « قولان مشهوران .
الثالثُ : وهو أغربها- : أن يكون » الذين كفروا « فاعلاً ب » تحسبن « على تأويل أن تكون التاء في الفعل للتأنيث ، كقوله : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين } [ الشعراء : 105 ] أي : ولا تحسبن القوم الذين كفروا ، و » الذين « وضصْف للقوم ، كقوله تعالى : { وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ } [ الأعراف : 137 ] . فعلى هذا تتحدد هذه القراءة مع قراءة الغيبة ، وتخريجها كتخريجها ، ذك ذلك أبو القاسم الكرماني في تفسيره المُسمَّى ب » اللُّباب « . وفيه نظر؛ من حيث إن » الذين « جارٍ مَجْرَى جمع المذكر السالم ، والجمع المذكر السالم لا يجوز تأنيث فعله -عند البصريين- لا يجوزُ : قامت الزيدون ، ولا : تقوم الزيدون . وأما اعتذاره عن ذلك بأن » الذين « صفة للقوم -الجائز تأنيث فِعلهم- وإنما حذف ، فلا ينفعه؛ لأن الاعتبارَ إنما هو بالملفوظ لا بالمقدَّر ، لا يجيز أحدٌ من البصريين : قامت المسلمون- على إرادة : القوم المسلمون- ألبتة .
وقال أبو الحسن الحوفيُّ : » أن « وما عملت فيه من موضع نصب على البدل ، و » الذين « المفعول الأول ، والثاني محذوف .
وهو معنى قول الزمخشريَّ المتقدم .
الرابع : أن يكون : » أنما نملي لهم « بدلاً من : » الذين كفروا « بدل اشتمال -أي : إملاءنا- و » خير « بالرفع- خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو خير لأنفسهم ، والجملة هي المفعول الثاني ، نقل ذلك أبو شامة عن بعضهم ، ثم وقال : قُلْتُ : ومثل هذه القراءة بيت الحماسةِ .
1696- فِينَا الأنَاةُ ، وَلبَعْضُ الْقَوْمِ يَحْسَبُنَا ... أَنَّا بِطَاءٌ ، وَفِي إبْطَائِنَا سَرَعُ
كذا جاءت الرواية بفتح » أنا « بعد ذكر المفعول الأول ، فعلى هذا يجوز أن تقول : حسبت زيداً أنه قائم ، أي : حسبته ذا قيام .
فوجه الفتح أنها وقعت مفعولاً ، وهي ما عملت فيه من موضع مفرد ، وهو المفعول الثاني ل « حسبت » انتهى .
وفيما قاله نظرٌ؛ لأن النحاة نصُّوا على وجوب كسر « إن » إذا وقعت مفعولاً ثانياً ، والأول اسم عين ، وأنشدوا البيتَ المذكورَ على ذلك ، وعلَّلوا وجوب الكسر بأنا لو فتحنا لكانت في محل مصدر ، فيلزم منه الاخبار بالمعنى عن العين .
الخامس : ان يكون « الذين كفروا » مفعولاً به ، و { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً } في موضع المفعول الثاني ، و { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ } مبتدأ وخبر اعترض به بين مفعولي « تحسبن » ففي الكلام تقديم وتأخير ، نُقِل ذلك عن الأخفشِ .
قال أبو حاتم : وسمعتُ الأخفشَ يذكر فتح « أن » -يحتج به لأهل القَدَر لنه كان منهم -ويجعله على التقديم والتأخير ، [ أي ] : ولا تحسبنَّ الذين كفروا أنما نثمْلي لهم ليزدادوا إثماً ، إنما نملي لهم إلا ما هو خير لأنفسهم . انتهى .
وإنما جاز أن تكون « أن » المفتوحة مبتدأ بها أول الكلام؛ لأن مذهبَ الأخفش ذلك ، وغيره يمنع ذلك ، فإن تقدم خبرها عليها -نحو : ظني أنك منطلق ، أو « أما » التفصيلية ، نحو أما أنك منطلق فعندي ، جاز ذلك إجماعاً . وقول أبي حاتم : يذكر فتح « أن » يعني بها التي في قوله : « أنما نملي لهم خير » . ووجه تمسُّك القدرية أن الله تعالى لا يجوز أن يُمْلِي لهم إلا ما هو خير لأنفسهم ، لأنه يجب -عندهم- رعاية الأصلح .
السادس : قال المهدويّ : وقال قوم : قدم « الذين كفروا » توكيداً ، ثم حالهم ، من قوله : « أنما نملي لهم » رداً عليهم ، والتقديرُ : ولا تحسبن أن إملاءنا للذين كفروا خيرٌ لأنفسهم .
وأما قراءة يحيى -بكسر « إنَّما » مع الغيبة- فلا تخلو إما أن يُجْعَلَ الفعلُ مسنداً إلى « الذين » أو إلى ضميرٍ غائبٍ ، فإن كانت الأولى كانت « أنما » وما في حيِّزها معلقة ل « تحسبن » وإن لم تكن اللام في خبرها لفظاً ، فهي مقدرة ، فيكون « إنّما » -بالكسر- في موضع نَصْبٍ؛ لأنها معلقة لفعل الحسبان من نية اللام ، ونظير ذلك تعليق أفعال القلوبِ عن المفعولينِ الصريحين -بتقدير لام الابتداء- في قوله [ البسيط ] :
1697- كَذَاكَ أدَّبتُ حَتَّى صَارَ مِنْ خُلُقِي ... أَنِّي وَجَدْتُ مِلاَكُ الشَّيْمَةِ الأدَبُ
فلولا تقدير اللاتم لوجب نصب « ملاك » و « الأدب » . وكذلك في الآية لولا تقدير اللام لوجب فتح « إنما » .
ويجوز أن يكون المفعول الأول قد حُذِف -وهو ضمير الأمرِ والشأنِ- وقد قيل بذلك في البيت ، وهو الأحسنُ فيه .
والأصلُ : لا تحسبنه -أي الأمر- و « إنما نملي لهم » في موضع المفعول الثاني ، وهي المفسرة للضمير وإن كان الثاني كان « الذين » مفعولاً أول ، و « أنما نملي » في موضع المفعول الثاني .
وأما قراءته التي حكاها عنه الزمخشريُّ ، فقد خرَّجَها هو ، فقال : على معنى : ولا تحسبن الذين كفروا أن إملاءنا لازدياد الإثم -كما يفعلون- وإنما هو ليتوبوا ، ويدخلوا في الإيمان ، وقوله : { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ } اعتراض بين الفعل ومعموله ، ومعناه : إن إملاءنا خيرٌ لأنفسهم إن عملوا فيه ، وعرفوا إنعام الله عليهم ، بتفسيح المُدَّةِ ، وترك المعاجلةِ بالعقوبة . انتهى .
فعلى هذا يكون « الذين » فاعلاً ، و « أنما » -المفتوحة- سادة مسد المفعولين ، أحدهما -على الخلاف- واعترض بهذه الجملة بين الفعل ومعموله . قال النَّحَّاسُ : قراءة يحيى بن وَثَّابٍ -بكسر « إن » فيهما جميعاً - حسنة ، كما تقول : حسبت عمراً أبوه خارجٌ .
وأما ما حكاه الزّجّاج -قراءةً- عن خلق كثير ، وهو نصب « خير » على الظاهر من كلامه ، فقد ذكر نخريجها ، على أن { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ } بدل من « الذين كفروا » و « خيراً » مفعول ثانٍ ، ولا بد من إيراد نَصِّه ، قال -رحمه الله- : مَنْ قرأ : « ولا يحسبن » بالياء ، لم يَجُزْ عند البصريين إلا كسر « إن » والمعنى : لا يجسبن الذين كفروا إملاءنا خير لهم ، ودخلت « إن » مؤكِّدةً ، فإذا فتحت صار المعنى : وزلا يبسحبن الذين كفروا إملاءنا خير لهم ، قال : وهو عندي يجوز في هذا الموضع على البدل من « الذين » والمعنى : ولا يحسبن إملاءنا للذين كفروا خيراً لهم ، وقد قرأ بها خلقٌ كثير ، ومثل هذه القراءة من الشعر قول الشاعر : [ الطويل ]
1698- فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكَ وَاحِدٍ ... وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا
جعل « هلكه » بدلاً من « قيس » والمعنى : فما كان هلك قيس هلك واحدٍ ، 1ه .
يعني : « هلك » -الأول- بدل من المرفوع ، فبقي « هلك واحد » منصوباً ، خبراً ل « ما كان » كذلك : « أنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ » « أن » واسمها -وهي « ما » الموصولة- وصلتها ، والخبر- وهو « لَهُم » في محل نصب ، بدلاً من « الَّذِينَ كَفَرُوا » فبقي « خَيْراً » منصوباً على أنه مفعول ثانٍ ل « تضحْسَبَنَّ » . إلا أن الفارسي قد رد هذا على أبي إسحاقَ بان هذه القراءة لم يقرأ بها أحد -أعني نصب « خَيْراً » - قال أبو علي الفارسي : لا يصح البدل ، إلا بنصب « خَيْرٌ » من حيثُ كان المفعول الثاني ل « حسبت » فكما انتصب « هلكَ واحدٍ » في البيت -لما أبدل الأول من « قيس » - بأنه خبر ل « كان » كذلك ينتصب « خَيْرٌ لَهُمْ » إذا أُبْدِل الاملاء من « الَّذِينَ كَفَرُوا » بأنه مفعول ثانٍ ل « تَحْسَبَنَّ » .
قال : وسألت أحمد بن مُوسَى عنها ، فزعم أن أحداً لم يقرأ بها يعني ب « أحمد » هذا أبا بكر بن مجاهد الإمام المشهور ، وقال -في الحجة- : « الَّذِينَ كَفَرُوا » في موضع نصب؛ بأنها المفعول الأول ، والمفعول الثاني هو الأول -في هذا الباب- في المعنى ، فلا يجوزُ -إذَنْ- فتح « إن » في قوله : { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } لأن إملاءهم لا يكون إياهم . فإن قُلْتَ : لِمَ لا يجوز الفتح في « أن » وجعلها بدلاً من « الَّذِينَ كَفَرُوا » كقوله تعالى : { وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ } [ الكهف : 63 ] وكما كان « أن » من قوله تعالى : { وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ } [ الأنفال : 7 ] ؟
قيل : لا يجوز ذلك؛ لأنك إذا أبدلت « أن » من « الذين كفروا » كما أبدلت « أنَّ » من « إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ » لزمك أن تنصب « خَيْراً » على تقدير : لاَ تَحْسَبَنَّ إملاء الذين كفروا خيراً لأنفسهم ، من حيثُ كان المفعولُ ل « تَحْسَبَنَّ » .
انتهى ما رد به عليه ، فلم يَبْقَ إلا الترجيح بين نَقْل الزجَّاج وابنِ مجاهد .
قال شهاب الدين : طولا شك أن ابنَ مجاهدٍ أَعْنَى بالقراءات ، إلا أن الزَّجَّاجَ ثقةٌ ، ويقول : قرأ به خلقٌ كثيرٌ وهذا يبعد غلطه فيه ، والإثبات مقدم على النفي ، وما ذكره أبو علي -من قوله : وإذا لم يجز لا كسر « إن » الخ -هذا- أيضاً مما لم يقرأ به أحد « .
قال مَكِّي : » وجه القراءة لمن قرأ بالتاء -يعني بتاء الخطاب- أن يكسر « إنَّما » فتكون الجملة في موضع المفعول الثاني ، ولم يقرأ به أحدٌ علمته « . وقد نقل أبو البقاء أن نصب » خَيْراً « قراءة شاذة قال : وقد قرئَ شَاذَّاً بالنصب ، على أن يكون » لأَنْفُسِهِمْ « خبر » أن « و » لَهُمْ « تبيين ، أو حال من » خَيْر « .
يعني : أنه لما جعل » لأَنْفُسِهِم « الخبر ، جعل » لَهُمط إما تبييناً ، تقديره : أعني لهم وإما حالاً من النكرة المتأخرة ، لأنه كان في الأصل صفة لها . والظاهر -على هذه القراءة- ما تقدم من كون « لَهُمْ » هو الخبر ، ويكون « لأَنْفُسِهِمْ » في محل نصب؛ صفة ل « خَيْرٌ » -كما كان صفة له في قراءة الجمهور .
ونقل -أيضاً- قراءة كسر « أن » وهي قراءة يحيى ، وخرجها على أنها جواب قسم محذوف ، والقسم وجوابه يسد مَسَدَّ المفعولينِ ، ولا حاجة إلى ذلك ، بل تخريجها على ما تقدم أَوْلَى؛ لأن الأصل عدم الحذفِ .
والإملاء : الأمهالُ والمَدُّ في العمرِ ومنه مَلاَوَةُ الدهر -للمدة الطويلة- يقال : مَلَوْتُ من الدهر مَلْوَةً ومِلْوَةً ومُلْوَةً ومَلاوةً ومِلاَوَةً ومُلاَوَةً بمعنىً واحد .
قال الأصمعيُّ : يقال أملى عليه الزمان - أي : طال- وأملى له- أي : طوَّل له وأمهله -قال أبو عبيدة : ومه : الملا - للأرض الواسعة- والمَلَوَان : الليل والنهار ، وقولهم : مَلاَّكَ الله بِنعَمِه أي : مَنَحَكَها عُمْراً طَوِيلاً- .
وقيل : المَلَوَانِ : تكرُّر الليل والنهار وامتدادُهما ، بدليلِ إضافتهما إليهما في قول الشّاعرِ : [ الطويل ]
1699- نَهَارٌ وَلَيْلٌ دَائِمٌ مَلَوَاهُمَا ... عَلَى كُلِّ حَلِ المَرْءِ يَخْتَلِفَانِ
فلو كانا الليلَ والنَّهارِ لما أُضِيف إليهما؛ إذ الشيءُ لا يُضاف إلى نفسه . فقوله : « أنما نملي لهم » أصل الياء واوٌ ، ثم قُلِبَت لوقوعها رابعة .
قوله : { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً } قد تقدم أن يحيى بن وثَّاب قرأ بكسر الأولى وفتح هذا فيما نقله الزمخشريُّ وتقدم تخريجُها ، إلا أن أبا حيّان قال : إنه لم يَحْكِها عنه غير الزمخشريِّ بل الَّذِينَ نقلوا قراءةَ يحيى إنما نقلوا كسر الأولى فقط ، قال : وإنما الزمخشريُّ -لولوعه بنْصرة مذهبه- يروم رد كل شيء إليه .
قل شهابُ الدِّينِ : وهذا تحامُلٌ عليه؛ لأنه ثقةٌ ، لا ينقل ما لم يُرْوَ . وأما على قراءة كسرها ففيها وجهان :
الأول : أنها جملة مستأنفة ، تعليلٌ للجملة قبلها ، كأنه قيل : ما بالُهُمْ يحسبون الإملاء خيراً؟ فقيل « { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً } و » إنّ « -هنا مكفوفة ب » ما « ولذلك كُتِبَتْ متصلة- على الأصل ولا يجوز أن تكون موصولة -اسمية ولا حرفية- لأن لام » كي « لا يصح وقوعها خبراً للمبتدأ ولا لنواسخه .
الثاني : أنّ هذه الجملة تكريرٌ للأولى .
قال أبو البقاء : وقيل : » إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ « تكريرٌ لَهُمْ » تكريرٌ للأول ، و « لِيَزْدَادوا » هو المفعول الثاني ل « تَحْسَبَنَّ » على قراءة التاء ، والتقدير : ولا تحسبنّ يا محمد إملاء الذين كفروا ليزدادوا إيماناً ، بل ليزدادوا إثماً . ويُرْوَى عن بعض الصحابة أنه قرأها كذلك .
قال شِهَابُ الدينِ : وفي هذا نظر ، من حيث إنه جعل « لِيَزْدَادوا » هو المفعول الثاني ، وقد تقدم أن لام « كي » لا تقع خبراً للمبتدأ ولا لنواسخه ، ولأن هذا إنما يتم له على تقدير فتح الثانيةِ ، وقد تقدم أنّ أحداً لم ينقلها عن يحيى إلا الزمخشريّ والذي يقرأ « تَحْسَبَنَّ » -بتاء الخطاب- لا يفتحها ألبتة .
واللام في « ليزدادوا » فيها وجهان :
أحدهما : أنها لام « كي » .
والثاني : أنها لامُ الصَّيْرُورَةِ .
قوله : « وَلَهُم عَذَابٌ مُهِينٌ » في هذه الواو قولان :
أحدهما : أنها للعطف؟
والثاني : أنها للحالِ ، وظاهرُ قول الزمخشريُّ أنها للحالِ في قراءة يَحْيى بن وثَّاب فقط؛ فإنه قال : فإن قلت : ما معنى القراءة -يعني : قراءة يحيى التي نقلها هو عنه؟
قلتُ : معناه : ولا تحسبوا أن إملاءه لزيادة الإثم والتعذيب ، والواو للحال ، كأنه قيل : ليزدادوا إثْماً مُعَدًّا لهم عذابٌ مهينٌ .
قال أبو حيَّان : بعد ما ذكر من إنكاره عليه نَقْل فَتْح الثانية عن يحيى كما تقدم- : « ولما قَرَّرَ في هذه القراءة أن المعنى على نَهْي الكافر أن يحسب أنما يُملي اللهُ لزيادة الإثم ، وأنه إنما يملي [ لزيادة ] الخير ، كان قوله : { وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } يدفع هذا التفسير ، فخرج ذلك على أن الواو للحالِ ، حتى يزول هذا التدافعُ الذي بين هذه القراءة ، وبين ظاهر آخر الآية .
فصل
أصل » ليزدادوا « : ليزتادوا -بالتاء- لأنه افتعال من الزيادة ، ولكن تاء الافتعال تقلب دالاً بعد ثلاثة أحرف الزاي ، والذال ، والدال - نحو ادكروا والفعل هنا- متعدٍّ لواحدٍ ، وكان -في الأصل- متعدياً لاثنين ، - كقوله تعالى : { فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً } [ البقرة : 10 ] ولكنه بالافتعالِ ينقص أبداً مفعولاً ، فإن كان الفعلُ -قبل بنائه على » افتعل « للمطاوعة -مُتَعدياً لواحدٍ ، صار قاصراً بعد المطاوعةِ ، نحو مددتُ الحبلَ فامتدَّ ، وإن كان متعدياً لاثنين صار -بعد الافتعال- متعدياً لواحدٍ ، كهذه الآية .
وخُتِمَتْ كل وحدة من هذه الآيات الثلاث بصفة للعذاب غير ما خُتِمَتْ به الأخْرَى؛ لمعنًى مناسب ، وهو أن الأولى تضمنت الإخبار عنهم بالمسارعة في الكُفْرِ ، والمسارعةُ في الشيء والمبادرة في تحصيله تقتضي جلالته وعظمته ، فجُعِل جزاؤه { عَذَابٌ عَظِيمٌ } مقابلاً لهم ، ويدل ذلك على خساسة ما سارعوا فيه . وأما الثانية فتضمنت اشتراءهم الكُفْر بالإيمان ، والعادة سرورُ المشتري واغتباطه بما اشتراه ، فإذا خسر تألَّم ، فخُتِمَت هذه الآية بألم العذابِ ، كما يجد المشتري المغبون ألَمَ خسارته .
وأما الثالثة فتضمنت الإملاء -وهو الإمتاع بالمال وزينة الدنيا- وذلك يقتضي التعزُّزَ والتكبُّرَ والجبروتَ فختمت هذه الآيةُ بما يقتضي إهانتهم وذِلَّتهم بعد عِزِّهم وتكبُّرهم .
فصل
قال ابنُ الخطيبِ : احتج أصحابُنا -بهذه الآية- في إثبات القضاء والقدر؛ لأن الإملاء عبارة عن تأخيره مدة -والتأخيرُ من فعلِ اللهِ تعالى- والآية دلَّت على أنَّ هذا الإملاء ليس بخير لهم ، فهو سبحانَهُ خالقُ الخيرِ والشرِ .
ودلَّت على أن المقصودَ من هذا الإملاء هو أن يزدادوا إثماً ، فدل على أن المعاصيَ والكُفْر بإرادته وأكَّد بقوله : { وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } .
وأيضاً أخبر عنهم بأنهم لا خير لهم في هذا الإملاء؛ لأنهم لا يحصلون إلا زيادة البغي والطغيان ، والإتيان بخلاف خبر لله -مع بقاء ذلك الخبر- جمع بين النقيضين ، وهو محالٌ . وإذا لم يكونوا قادرين -مع ذلك الإملاء- على الخير والطاعة- مع أنهم مكلَّفُون بذلك- لزم في نفسه بُطْلان مذهب المعتزلة .
وأجب المعتزلة عن الأول بأنّ المرادَ : ليس خيراً لهم بأن يموتوا كما مات الشهداءُ يومَ أُحُدٍ؛ لأن هذه الآيات في شأن أُحُدٍ ، ولا يلزمُ من كَوْنه ليس خيراً من القتل يوم أحد إلا أن يكونَ في نفسه خيراً .
وعن الثاني بأنه ليس المرادُ ليقدموا على الكفرِ والعصيانِ؛ لقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] فيُحْتَمَلُ أن تكونَ اللامُ للعاقبة -كقوله : { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] -أو يكون فيه تقديم وتأخير ، تقديره : لا يحسبن الذين كفروا أنما نُملي لهم ليزدادوا إثماً ، إنما نُمْلي لهم خير لأنفسهم . أو لأنهم لما ازدادوا طغياناً -بإمهاله- أشبه حال مَنْ فعل أهلِ السُّنَّةِ فلأنهم يُحيلون تعليل أفعاله تَعَالَى بالأغراض ، وأما على قولنا فلأنَّا إنما نُعَلِّلُ بغرض الإحسانِ ، لا بالتعب فسقط ما ذكروه .
وقول القائل : ما المرادُ بهذه الآية؟ لا يُلْتَفَتُ إليه؛ لأن المستدلَّ نَفَى الاستدلال على أن اللام للتعليلِ ، فإذا بَطَلَ ذلك سقط استدلالُهُ .
وعن الثالث ، وهو مسألةُ العلمِ والخبر ، أنه معارض بأنه يلزم أنه تعالى موجب لا مختار ، وهو باطلٌ .
والجوابُ عن الأول أنَّ المنفيَّ هو الخير في نفس الأمر لا بمعنى المفاضلةِ؛ لأن الذي للمفاضلة لا بد وأن يُذْكِر مُقابِلُه ، فلما يُذْكَ دلَّ على المنفيَّ هو الخيرُ مطلقاً . وتمسُّكهم بقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] وقوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ أِلاَّ لِيُطَاعَ } [ النساء : 64 ] جوابه : أن ما تمسَّكوا به عام ، ودليلنا خاصّ . وقولهم : اللام للعاقبة ، قلنا : خلاف الظاهر -مع أن البرهان العقليّ يُبْطله؛ لأنه تعالى لما علم ذلك وجب حصولُهُ؛ لأن حصولَ معلومِهِ واجبٌ ، وعدم حصوله مُحالٌ ، وإرادة المحالِ مُحَالٌ فوجب أن يرد ما هو الواقع ، فثبت أن المقصود هو التعليلُ . وأما التقديمُ والتأخيرُ ، فجوابُهُ : أن ذلك على خلاف الأصل؛ لأن ذلك إنما يتم لو كانت « أَنَّمَا » الأولى مكسورة والثانية مفتوحة وقولهم : لا يمكن حَمْل اللام على التعليل ، قلنا : الممتنع -عندنا- تعليل أفعاله -تعالى- بغرض يصدر عن العباد ، فأما أنه يفعل فعلاً ليحصل منه شيء آخرَ ، فغير ممتنع .
وأيضاً فالآية نصٌّ على أنه ليس المقصود من الإملاء إيصال الخير لهم ، والقوم لا يقولونَ به ، فهي حجةٌ عليهم ، وأما المعارضة فجوابها : أن تأثيرَ قدرة اللهِ تَعَالَى -في إيجاد المُحْدِثَات- متقدمٌ على تعلُّق علمه بعدمه ، فلم يكن أن يكون العلم مانعاً من القدرة ، وأما العبدُ فتأثير قدرته في إيجاد الفعل متأخر عن تعلُّق علم الله تعالى بعدمه ، فصحَّ كَوْنَ هذا العلمِ مانعاً للعبدِ عن الفعل .
قال ابن الخطيبِ : اتفق أصحابُنا ، على أنه ليس لله تعالى على الكافر نعمةٌ دينيةٌ ، واختلفوا في الدنيوية فتمسك النافون بهذه الآيةِ ، وقالوا : دلت على إطالة عُمْره ليس بخير له ، والعقل يُقَرِّه لك؛ لأن من أطعم إنساناً طعاماً مسموماً لا يعد ذلك إنعاماً ، فإذا كان القصدُ من نعم الدنيا عذاب الآخرة فليست بنعمة ، ومما ورد من النعم في حقِّ الكافرِ محمولٌ على ما هو نعمةٌ في الظَّاهر لكنه نقم في محض الحقيقة .

مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
اللام في « ليذر » تُسمَّى لامَ الجحودِ ، ويُنْصَب بعدها المضارع بإضمار « أن » ولا يجوز إظهارها . والفرق بين لام « كي » أن هذه -على المشهور- شرطها أن تكون بعد كون منفي ، ومنهم من يشترط مضي الكونِ ، ومنهم من لم يشترط الكون .
وفي خبر « كان » -هنا- وما أشبه قولان :
أحدهما : قولُ البصريينَ -أنه محذوفٌ ، وأن اللامَ مقوية لتعدية ذلك الخبرِ المقدَّر لِضَعْفه ، والتقدير : ما كان الله مُريداً لأن يَذَر ، و « أن يذر » هو مفعول « مريداً » والتقديرُ : ما كان اللهُ مُريداً ترك المؤمنين .
الثاني : قول الكوفيين- أن اللامَ زائدةٌ لتأكيدِ النفي ، وأن الفعل بعدها هو خبرُ كانَ واللامُ عندهم هي العاملةُ النصْبَ في الفعل بنفسها ، لا بإضمار « أن » والتقدير عندهم : ما كان الله ليذرَ المؤمنين .
وضعَّف أبو البقاء مذهبَ الكوفيين بأنّ النصب قد وُجِد بعد هذه اللامِ ، فإن كان النصبُ بها نفسها فليست زائدةً ، وإن كان النصبُ بإضمار « أن » فسَد من جهة المعنى لأن « أن » وما في حيزها بتأويل مصدر ، والخبر في باب « كان » هو الاسم في المعنى ، فيلزم أن يكون المصدر -الذي هو معنى من المعاني- صادقاً على اسمها ، وهو مُحَالٌ .
وجوابه : أما قوله : إن كان النصبُ بها فليست زائدةً ممنوع؛ لأن العملَ لا يمنع الزيادةَ ، ألا ترى انَّ حروف الجَرِّ تُزاد ، وهي عاملة وكذلك « أن » عند الأخفشِ ، و « كان » في قول الشاعر : [ الوافر ]
1700- . ... وَجِيرَان لَنَا كَانُوا كِرَام
كما تقدم تحقيقه و « يذر » فعل لا يتصرف -كَيَدَعُ- استغناء عنه بتصرُّف [ مرادفه ] - وحُذِفت الواو من « يذر » من غير موجب تصريفي ، وإنما حُمِلَت على « يدع » لأنها بمعناها ، و « يدع » حُذِفت منه الواوُ لموجب ، وهو وقوع الواو بين ياءٍ وكسرةٍ مقدرة وأما الواو في « يذر » فوقعت بين ياء وفتحةٍ أصليةٍ . وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى : { وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا } [ البقرة : 278 ] .
فصل
وجه النظم : أن هذه الآية من بقية أحُد ، فأخبر -تعالى- أن الأحوالَ التي وقعتْ في تلك الحادثةِ- من القتل والهزيمة ، ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخروج إلى العدو مع من كان بهم من الجراحاتِ ، ثم دعاهم مرة أخْرَى إلى بدرٍ الصُّغْرَى ، لموعد أبي سفيانَ -دليلٌ على امتيازِ المؤمنين من المنافقين ، فأخبر -تعالى- بأنه لا يجوزُ- في حكمته- أن يترككم على ما أنتم عليه من اختلاط المنافقين بكم ، وإظهارهم أنهم منكم- بل يجب في حكمته أن يُمَيِّز الخبيث -وهو المنافق- من الطيب -وهو المؤمن- .
فصل في سبب النزول
قال الكلبيُّ : قالت قريشُ : يا محمدُ ، تزعم أن من خالفك ، فهو في النَّارِ ، واللهُ عليه غَضْبَانُ ، وأن من اتبعك ، وهو على دينك ، فهو في الجَنَّةِ ، واللهُ عَنْهُ راضٍ . فأخْبِرْنا بمن يُؤمنُ بك ، ومَن لا يُؤمنُ؛ فأنزل الله هذه الآية .
وقال السُّديُّ : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « عُرِضَتْ عليَّ أمَّتِي فِي صُورَتِهَا في العِلِّيِّينَ ، كَمَا عُرِضَتْ عَلَى آدَمَ وأعْلِمتُ مَنْ يُؤْمِنُ ومَنْ يَكْفُرُ » فبلغ ذلك المنافقين ، فقالوا : استهزاءً- : زعم محمدٌ أنه يعلم من يؤمن به ، ومَنْ يكفرُ ، ممن لم يُخْلَقْ بَعْدُ ، ونحن معه ، وما يعرفنا ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام على المنبر فحمد اللهَ ، وأَثْنَى عليه ، ثم قال : « مَا بَالُ أقْوامٍ طَعَنُوا فِي عِلمي ، لا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ -فِيمَا بَيْنَكُم وبَيْنَ السَّاعَةِ- إلاَّ نَبَّأتُكمُ بِهِ » فقام عبد الله بن حذافة السهميّ ، وقال : مَنْ أبي ، يا رسول اللهِ؟ فقال : « حُذَافة » فقام عُمَرُ ، فقال : يا رسول الله ، رضينا بالله رَبَّاً ، وبالإسلامِ ديناً ، وبالقرآن إماماً ، وبك نبيًّا ، فاعفُ عنا ، عفا الله عنك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « فَهَل أنْتُمْ مُنْتَهٌونَ » -مرتين- ثم نزل عن المِنْبَرِ « فأنزل اللهُ هذه الآية .
قوله : { حتى يَمِيزَ } حتى -هنا- قيل : هي الغائية المجرَّدة ، بمعنى » إلى « والفعل بعدها منصوب بإضمار » أن « وقد تقدم تحقيقه في » البقرة « .
فإن قيل الغاية -هنا- مشكلة -على ظاهر اللفظ- لأنه يصير المعنى : أنه تعالى لا يترك المؤمنين على ما أنتم عليه إلى هذه الغاية -وهي التمييز بين الخبيثِ والطَّيِّبِ- ومفهومه أنه إذا وُجِدَت الغاية ترك المؤمنين على ما أنتم عليه .
هذا ظاهرُ ما قالوه من كونها للغاية ، وليس المعنى على ذلك قَطْعاً ، ويصيرُ هذا نظيرُ قولكَ : لا أكَلِّم زيداً حتى يقدم عمرو ، فالكلام منتفٍ إلى قدوم عمرو .
فالجوابُ عنه : » حَتّى « غاية لمن يفهم من معنى هذا الكلام ، ومعناه : أنه -تعالى- يخلص ما بينكم بالابتلاء والامتحان إلى أن يميز الخبيثَ من الطيبِ .
وقرأ حمزة [ والكسائي ] -هنا وفي الأنفال - » يُمَيِّزَ « بالتشديد- والباقون بالتخفيف ، وعن ابن كثيرٍ -أيضاً- » يُميز « من » أماز « فهذه ثلاث لغاتٍ ، يقال : مَازَه وميَّزه وأمازه . والتشديد والهمزة ليسا للنقل؛ لأنّ الفِعْلَ -قبلهما- مُتَعَد ، وإنما » « فعّل » -بالتشديد- و « أفعل » بمعنى : المجرد . وهل « ماز » و « مَيَّز » بمعنًى واحدٍ ، أو بمعنيين مختلفين؟ قولان . ثم القائلونَ بالفرق اختلفوا ، فقال بعضهم : لا يقال : ماز ، إلا في كثير ، فأما واحدٌ من واحدٍ فميَّزت ، ولذلك قال أبو مُعاذٍ : يقال ميَّزتُ بين الشيئين تَمْييزاً ، ومِزْت بين الأشياء مَيْزاً .
وقال بعضُهُمْ عكس هذا -مزت بين الشيئين مَيْزاً ، وميَّزت بين الأشياء تمييزاً- وهذا هو القياس ، فإنَّ التضعيفَ يؤذن بالتكثير ، وهو لائقٌ بالمتعددات ، وكذلك إذا جعلتَ الواحد شيئين قلت : فَرَقْت : -بالتخفيف- ومنه : فرق الشعر ، وإن جعلته أشياء ، قلت : فرَّقْتها تَفْرِيقاً .
ورجَّح بعضُهم « مَيَّز » -بالتشديد- بأنه أكثر استعمالاً ، ولذلك لم يستعملوا المصدر إلا منه ، قالوا : التمييز ، ولم يقولوا : المَيْز- يعني لم يقولوه سماعاً ، وإلا فهو جائز قياساً .
فصل
ومعنى الآية : حتى يميز المنافق من المخلصِ ، وقد ميَّزهم يَوْمَ أحُدٍ؛ حيث أظهروا النفاق ، وتخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فإن قيل : إنَّ التمييزَ إنْ ظَهَرَ وانكشفَ ، فقد ظهر كُفْرُ المنافقينَ ، وظهور كُفْرِهم ينفي كونهم منافقين ، وإن لم يحصل الوَعْدُ .
فالجوابُ : أنه ظهر بحيث يُفيد الامتيازَ القَطْعِيّ .
قال قتادة : حتّى يميز المؤمن من الكافر بالهجرة والجهادِ .
قال الضَّحَّاك : « مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أنْتُمْ عَلَيْهِ » في أصلاب الرَِّجَالِ ، وأرحام النِّساءِ ، يا معشرَ المنافقينَ ، حتّى يفرق بينكم وبين مَنْ في أصْلابكم ، وأرحام نسائكم من المؤمنينَ .
وقيل : « حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ
وهو الذنب » مِنَ الطَّيِّبِ « وهو المؤمنُ ، يعني يَحُطُّ الأوزار عن المؤمنين بما يُصيبهم من نكبةٍ ومحنةٍ ومصيبةٍ .
وقيل : الخبيث : هو الكُفْر : أذلَّه الله وأخْمَدَه ، وأعلى الإسلامَ وأظهره ، فهذا هو التمييزُ .
قوله : { وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب } ومعناه : أنه لا يجوز أن يطلعكم على أصل ذلك التمييزِ ، فيقول : إنَّ فلاناً منافق ، وإن فلاناً مؤمنٌ؛ فإن سنَّة اللهِ جارية بأنه لا يُطْلِع عوامَّ الناس على غَيْبه ، ولا سبيلَ لَكُمْ إلى معرفة ذَلِكَ الامتيازِ إلا بالامتحاناتِ ووقوع المِحَن والآفاتِ -كما ذكرنا- وأما معرفة ذلك على سبيل الاطلاعِ على الغيب ، فذلك من خواصِّ الأنبياء ، فلهذا قال : { وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ } فيخصهم بإعلام أن هذا مؤمن ، وهذا منافق ، نظيره قوله تعالى : { عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } [ الجن : 26 ، 27 ] .
ويحتمل أن يكون المعنى : وما كان اللهُ ليجعَلَكم كلَّكم عالمينَ بالغيب كعلم الرسول ، فتنشغلوا عن الرسول ، بل اللهُ يخص من يشاءُ من عبادِهِ ، ثم يُكَلِّف الباقينَ طاعة هذا الرسولِ .
قوله : » وَلكِنَّ « هذا استدراكٌ من معنى الكلامِ المتقدمِ؛ لأنه تعالى- لما قال : { وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ } أَوْهَمَ ذلك أنه لا يُطْلِعُ أحداً على غيبه؛ لعموم الخطابِ -فاستدرك الرُّسُلَ . والمعنى : { وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي } أي يصطفي { مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ } فَيَطْلِعُهُ على الغيبِ ، فهو ضِدٌّ لما قبله في المعنى ، وقد تقدم أنها بين ضِدَّيْنِ ونقيضَيْن ، وفي الخلافين خلافٌ .
يَجْتَبِي : يصطفي ويختار ، من : جَبَوْت المال والماء ، وجبيتهما -لغتان- فالياء في يجتبي يُحْتَمَل أن تكون على أصلها ، ويُحْتَمل أن تكون منقلبةً عن واوٍ؛ لانكسارِ ما قبلها .
ومفعول « يَشَاءُ » محذوفٌ ، وينبغي أن يقدر ما يليق بالمعنى ، والتقدير : يشاءُ إطلاعه على الغيب .
قوله : « فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ » يعني أن هذه الشبهة الذي ذكرتموها في الطعن في نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - من وقوع الحوادث المكروهة في قصة أُحُد ، وقد أجبْنا عنها ، فلم يَبْقَ إلا أن تُؤمِنوا بالله ورُسُله . وإنما قال : « وَرُسُلِهِ » ولم يَقُلْ : ورسوله؛ لأن الطريقةَ الموصلةَ إلى الإقرار بنبوَّة الأنبياء ليس إلا المُعْجِز ، وهو حاصل في حقِّ محمَّدْ - صلى الله عليه وسلم - فوجب الإقرار بنبوة الأنبياء ، فلهذا قال : « وَرُسُلِهِ » لأن طريقة إثبات نبوة جميع الأنبياءِ واحدٌ ، فمن أقر بنبوة واحدٍ لزمه الإقرار بنبوَّة الكُلِّ ، ثم لمَّا أمرهم بذلك وعدهم بالثواب فقال : « وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيم » .

وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
لمَّا حرَّضهم على بذل النفس في الجهاد -فيما تقدم- حرضهم على بذل المال في الجهاد ، وبيَّن الوعيد لمن يبخل .
قرأ حمزة بالخطاب في « تَحْسَبَنَّ » والباقون بالغيبة فأما قراءة حمزة ف « الّذِينَ » مفعول أول ، و « خَيْراً » هو المفعول الثّاني ، ولا بد من حَذْف مضَاف؛ ليصدقَ الخبرُ على « المبتدأ ، وتقديره : ولا تحسبن بُخْل الّذين يبخلون .
قال أبو البقاء : » وهو ضَعِيفٌ؛ لأن فيه إضمار البخلِ قبل ذِكْر ما يدل عليه « .
وفيه نظر؛ لأن دلالة المحذوفِ قد تكون متقدمةً ، وقد تكون متأخرة ، وليس هذا من بابِ الإضمارِ في شيءٍ ، حتَّى يشترطَ فيه تقدُّم ما يدل على ذلك الضمير .
و » هو « فيه وجهان :
الأول : أنه فَصل بين مفعولي » يَحْسَبَنَّ « .
والثاني -قاله أبو البقاء- : أنه توكيدٌ ، وهو خطأٌ؛ لأنَّ المضمَرَ لا يؤكِّد المظهر . والمفعولُ الأولُ اسم مظهرٌ ، ولكنه حُذِف -كما تقدم- وبعضُهم يُعَبِّر عنه ، فيقول : أُضْمِر المفعولُ الأولُ- يعني حذف فلا يعبر عنه بهذه العبارة .
و » هو « -في هذه المسألة- تتعينُ فصيلتُه لأنه لا يخلو إمّا أن يكونَ مبتدأً ، أو بدلاً ، أو توكيداً ، والأول مُنْتَفٍ؛ لنَصْب ما بعده- وهو خير- وكذلك الثاني؛ لأنه كان يلزمُ أن يوافقَ ما قبله في الإعراب ، فكان ينبغي أن يقال : إياه ، لا » هُوَ « وكذلك الثالثُ- كما تقدم .
أما قراءة الجماعة ، فيجوز أن يكونَ الفعلُ مُسْنَداً إلى ضميرِ غائبٍ -إما الرسولُ ، أو حاسب ما- ويجوز أن يكونَ مسنداً إلى الذين فإن كان مسنداً إلى ضمير غائب ، ف » الذِينَ « مفعول أولٌ ، على حذف مضافٍ ، ما تقدّم في قراءة حمزة ، أي : بُخْل الذين ، والتقدير : ولا يحسبنَّ الرسولُ -أو أحد- بُخْلَ الذين يبخلون خيراً لأنفسهم . و » هُوَ « فَصْل -كما تقدم- فتتحد القراءتان معنى وتخريجاً . وإن كان مسنداً إلى » الذِينَ « ففي المفعول الأول وجهان :
أحدهما : أنه محذوف؛ لدلالة » يَبْخَلُونَ « عليه ، كأنه قيل : ولا يحسبن الباخلون بُخْلَهم هو خيراً لهم و » هو « فَصْل .
قال ابن عطية : » ودل على هذا البخل « يَبْخَلون » كما دَلَّ « السَّفيه » على السَّفهِ في قول الشاعر :
1701- إذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إلَيْهِ ... وَخَالَفَ وَالسَّفِيهُ إلى خِلاَفِ
أي : جرى إلى السفه .
قال أبو حيّان : وليست الدلالةُ فيهما سواء ، لوجهين :
أحدهما : أن الدالَّ في الآية هو الفعلُ ، وفي البيتِ هُوَ اسم الفاعِل ، ودلالةُ الفعلِ على المصدرِ أقوى من دلالة اسم الفاعل ، ولذلك كَثر إضمار المصدرِ؛ لدلالة الفعل عليه -في القرآن وكلام العربِ- ولم يؤثر دلالةُ اسم الفاعل على المصدر ، إنما جاء في هذا البيتِ ، أو في غيره أن وُجد أن في الآية حَذفاً لظاهرٍ؛ إذ قدَّروا المحذوف « بخلهم » وأما فهو إضمارٌ لا حذفٌ .
الوجه الثاني : أن المفعول نفس « هُوَ » وهو ضمير البخل الذي دلَّ عليه « يَبْخَلُونَ » -كقوله : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } [ المائدة : 8 ] - قاله أبو البقاء . وهو غلطٌ أيضاً ، لأنه كان ينبغي أن يأتي به بصيغة المنصوب ، فيقول : « إياه » لكونه منصوباً ب « يَحْسَبَن » ولا ضرورة بنا إلى أن نَدَّعِيَ أنه من باب استعارة الرفع مكان النصب كقولهم : ما أنا كأنت ، ولا أنتَ كأنا .
وفي الآية وجهٌ غريبٌ ، خرَّجه أبو حيَّان ، قال : « وهو أن تكون المسألة من باب الإعمال ، إذا جعلنا الفعل مسنداً لِ » الذِينَ « وذلك أن » يَحْسَبْنَّ « يطلب مفعولين ، و » يَبْخَلُونَ « يطلب مفعولاً بحرف جَر فقوله » ما أتاهم « يَطْلبه » يَحْسَبَنَّ « على أن يكون المفعول الأول ، ويكون » هُوَ « فَصْلاً ، و » خَيْراً « المفعول الثاني ، ويطلبه » يَبْخَلونَ « بتوسُّط حرف الجَر ، فأعمل الثانيَ -على الفصح في لسان العرب ، وعلى ما جاء في القرآن -وهو » يَبْخَلونَ « فعدي بحرف الجر ، وأخذ معمواه ، وحذف معمول » يَحْسَبَنَّ « الأول ، وبقي معموله الثاني؛ لأنه لم يتنازع فيه ، إنما جاء التنازع بالنسبة إلى المفعول الأولِ ، وساغ حذفه -وحده- كما ساغ حذف المفعولين في مسألة سيبويه : متى رأيت أو قلت : زيد منطلقٌ؟ لأن رأيت وقلت -في هذه المسألة- تنازعا في زيدٌ منطلقٌ ، وفي الآية لم يتنازعا إلاَ في الأولِ ، وتقدير المعنى : ولا يحسبن ما آتاهم اللهُ من فَضْلِه هو خيراً لهم الناس الذين يبخلون به ، فَعَلَى هذا التقدير يكون » هُوَ « فصلاً ل » ما آتاهم « المحذوف ، لا لبخلهم المقدَّر في قول الجماعة .
ونظير هذا التركيبِ » ظَنَّ الذي مَرَّ بهند هي المنطلقة ، المعنى : ظن هند الشخص الذي مر بها هي المنطلقة ، فالذي تنازعه الفعلان هو المفعول الأولُ ، فأعمل الفعل الثانيَ فيه ، وبقي الأول يطلب محذوفاً ، ويطلب الثاني مثبتاً ، إذ لم يقعْ فيه التنازعُ .
ومع غرابة هذا التخريج ، وتطويله بالتنظير والتقدير ، فيه نظر؛ وذلك أن النحويين نصوا على أنه إذا أعملنا الفعل الثانيَ ، واحتاج الأول إلى ضمير المتنازع فيه ، فإن كان يطلبه مرفوعاً أضمر فيه ، وإن كان يطلبه غيرَ رفوع حُذِف ، إلا أن يكون أحد مفعولي « ظن » فلا يحذف ، بل يُضْمَر ويُؤخر وعللوا ذلك بأنه لو حذف لبقي خبر دون مخبر عنه -أو بالعكس- وهذا مذهبُ البصريين ، وفيه بحثٌ ، لأن لقائلٍ أن يقول : حُذِف اختصاراً ، لا اقتصاراً ، وأنتم تجيزون حذف أحدهما اختصاراً في غير التنازع ، فليَجُزْ في التنازع؛ إذْ لا فارق ، وحينئذ يَقْوَى تَخْرِيجُ الشَّيْخِ بهذا البحثِ ، أو يلتزم القول بمذهب الكوفيين ، فإنهم يُجِيزون الحّذْف فيما نحن فيه .
وذكر مكيٌّ ترجيحَ كُلٍّ من القراءتين ، فقال : « فأما القراءة بالتاء- وهي قراءة حمزة- فإنه جعل المخاطب هو الفاعل ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم و » الذِينَ « مفعول أول -على تقدير حَذْف مضاف ، وإقامة المضاف إليه -الذين- مُقامه- و » هو « فصل ، و » خَيْراً « مفعول ثانٍ ، تقديره : ةلا تحسبن يا محمد بُخلل الذين يَبْخَلُون خَيْراً لهم ، ولا بد من هذا الإضمار ، ليكون المفعول الثاني هو الأول في المعنى ، وفيها نظرٌ؛ لجواز ما في الصلة تفسير ما قبل الصلة ، على أن في هذه مزية على القراءة بالياء؛ لأمك إذا حذفْتَ المفعول أبقيتَ المضافَ إليه يقوم مقامه ، ولو حذفت المفعولَ في قراءة الياء لم يَبْقَ ما يقوم مقامه . وفي القراءة بالياء -أيضاً- مزية على القراءة بالتاء ، وذلك أنك حذفت البُخْلَ بعد تقدُّم » يَبْخَلُونَ « وفي القراءة بالتاء حذفتَ البُخْلَ قبل إتيان » يَبْخَلونَ « وجعلْتَ ما في صلة » الذِينَ « تفسيرَ من قبل الصلة ، فالقراءتان متوازيتان في القوة والضَّعف » .
والميراثُ : مصدر كالميعاد ، وياؤه منقلبة عن واو ، لانكسار ما قبلها -وهي ساكنةٌ- لأنها من الوراثة كالميقات والميزان- من الوقت والوزن- وقرأ أبو عمرو وابن كثير « يَعْمَلُونَ » بالغيبةِ ، جَرْياً على قوله : { الذين يَبْخَلُونَ } -والباقون بالخطابِ ، وفيها وجهانِ :
أحدهما : انه التفات ، فالمراد : الذين يبخلون .
الثاني : أنه رَدَّ على قوله : { وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ } .
فصل
الآية دالَّة على ذَمِّ البُخْل بشيء من الخيراتِ سواء كان مالاً أو علماً .
فإن كان على البُخْلِ بالمال فالمعنى : لا يحسبن البخلاءُ أن بُخْلَهم هو خير لهم ، بل هو شرٌّ لهم ، لأن المالَ يزول ، ويبقى عقابُ بُخْلِهم عليهم ، كما قال : { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة } وهذا هو المراد من قوله : { وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض } قال أبُو مسعودٍ وابن عباسٍ ، وأبو وائل والشعبيُّ والسُّدَّي : يُجْعَل ما منعه من الزكاة حَيَّةً يُطَوَّقُ بها في عنقه يوم القيامة تنهشه من رأسه إلى قَدَمِهِ .
وإن كان المرادُ البُخْلَ بالعلم؛ فلأنّ اليهود كانوا يكتمون نعت محمد صلى الله عليه وسلم فكان ذلك الكتمانُ بُخْلاً ، ولا شك أن العلم فَضْل من الله .
والقول الأول أوْلَى؛ لقوله تعالى : { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة } وإذا فسَّرنا الآية بالعِلْم احتجنا إلى تحمُّل المجاز ، وإذا فسَّرنا بالمال لم نَحْتَجْ إلى المجازِ .
وأيضاً فالحَمْل على البُخْل بالمال تكون الآية ترغيباً في بَذْل المالِ في الجهادِ ، فيحْسُن نظم الآية مع ما قبلها ، وبحَمْلها على البُخْل بالعلم ينقطع النَّظْمُ إلا بتكلُّفٍ بعيدٍ .
فصل في اختلافهم في البخل في الآيات
اختلفوا في هذا البخلِ ، فقال أكثرُ العلماءِ : المراد به مَنْع الواجب ، واستدلُّوا بوجوهٍ :
أحدها : أن الآية دالةٌ على الوعيدِ الشديدِ في البُخْل ، وذلك الوعيدُ لا يليق إلا بالواجبِ .
ثانيها : أن اللهَ -تعالى- ذَمَّ البُخْل وعابه ، وَنْعُ التطوُّعِ لا يجوز أن يُذَمَّ فاعِلُه وأن يُعَابَ به .
ثالثها : أنه لو كان تارك التفضُّل بخيلاً لوجب على مَنْ ملك المالَ العظيمَ أن يُخْرج الكلَّ ، وإلا لم يتخلَّص من الذم .
رابعها : أنه صلى الله عليه وسلم قال : « وَأيُّ دَاءٍ أدْوَأُ مِنَ البُخْلِ » ومعلوم أن تارك التطوُّع لا يليق به هذا الوصف .
خامسها : أنه -تعالى- لا ينفك عن ترك التفضُّل؛ لأنه لا نهايةَ لمقدوراته في التفضُّل ، وكل ما يدخل في الوجود ، فهو متناهٍ ، فيكون لا محالة -تاركاً للتفضُّل فلو كان ترك التفضُّل بُخْلاً لزم أنْ يكونَ اللهُ موصوفاً بالبُخْل ، تعالى الله عن ذلك عُلوًّا كبيراً .
فصل
اعلم أنَّ إنفاقَ الواجبِ أقسامٌ :
منها : إنفاقه على نفسه ، وعلى أقاربه الذين تلزمه نفقتهم .
ومنها : الزكوات ، ومنها : ما إذا احتاج المسلمونَ إلى دَفْع عَدُوٍّ يقصد قَتْلَهُم ومالهم ، فيجب عليهم إنفاق المالِ على مَنْ يدفع عنهم .
ومنها : دَفْع ما يسد رَمَقَ المضطر ، فهذه الاتفاقات واجبة .
قوله : { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة } اختلفوا في هذا الوعيد ، فقال ابنُ مسعودٍ وابنُ عباس : إنَّ هذه الأموالَ تصير حيّاتٍ يطوقون بها -كما تقدم- وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « مَنْ آتَاهُ اللهُ مَالاً ، فَلَمْ يُؤدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعاً أقْرَعَ ، لَهُ زَبيبتانِ ، يُطَوِّقهُ يَوْم القِيَامَةِ ثُمَّ يأخُذُ بِلهزمتيهِ- يعني : شِدقيهِ : ثُمَّ يَقُولُ : أنَا مَالُكَ ، أنَا كَنزُكَ » ثم تلا قوله تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ } .
وقال مجاهدٌ : معنى « سَيُطَوَّقُونَ » سَيُكَلَّفون أن يأتوا بما بَخِلوا يه يومَ القيامةِ ، أي : يُؤمرون بأداء ما منعوا ، فلا يمكنهم الإتيان به ، فيكون توبيخاً .
وقيل : سيلزَمون إثمه في الآخرة ، وهذا على طريق التمثيلِ ، يقال : فلانٌ كالطَّوق في رقبة فلان ، كما يقال : قلدتك هذا الأمر ، وجعلت هذا الأمر في عنقك ، قال تعالى : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } [ الإسراء : 13 ] .
وإن حملنا البخل على البُخْل بالعلم كان معناه : أنَ اللهَ تعالى يجعل في أعناقهم طوقاً من نار ، قال صلى الله عليه وسلم : « مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْم يَعْلَمُهُ ، فَكَتَمَهُ ، ألْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلجامٍ مِنْ نَارٍ » .
قوله : { وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض } فيه وجهانِ :
أحدهما : أن له ما فيهما مما يتوارثه أهلُهما من مالٍ وغيره ، فما لهم يبخلون عليه بملكه ، كقوله : { وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } [ الحديد : 7 ] .
ثانيهما : -وهو قول الأكثرين- : أنه يُفنى أهلَ السموات والأرض ، ويُبْقى الأملاك ، ولا مالك لها إلا الله ، فجرّى هذا مَجْرَى الوراثة .
قَال ابن الأنباريّ : يقال : وَرِثَ فلانٌ عِلْمَ فُلان ، إذا انفرد به بعد أن كانَ مشاركاً فيه ، وقال تعالى :
{ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } [ النمل : 16 ] لأنه انفردَ بذلك الأمر بعد أن كان داودُ مشاركاً له فيه .
قال القرطبيُّ : أخبر -تعالى- ببقائه ودوام مُلْكِه ، وأنه في الأبد كهو في الأزلِ ، غنيّ عن العالمين ، فيرث الأرضَ بعد فناءِ خَلْقِه ، وزوال أملاكِهِم ، فتبقى الأملاكُُ والأموالُ لا مدعى فيها ، فجرى هذا مجرى الوراثةِ في عادة الخلقِ ، وليس بميراث في الحقيقة؛ لأن الوارث في الحقيقة هو الذي يرث شيئاً لم يكن ملكَهُ من قبل ، والله -سبحانه وتعالى- مالك السمواتِ والأرضِ وما بينهما ، وكانت السَّمواتُ وما فيها له ، وأن الأموالَ كانت عارية عند أربابها ، فإذا ماتُوا العاريةُ إلى صاحبها الذي كانت له في الأصل ثم قال : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .

لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)
في كيفية النظم وجهانِ :
الأول : أنه -تعالى- لما أمر المكلَّفين ببَذْلِ النفسِ والمالِ في سبيل اللهِ -فيما تقدم- وبالغ في تقريرِ ذلك ، قالت الكفارُ : إنه -تعالى- لما طلب الإنفاقَ في تحصيلِ مطلوبِهِ كان فقيراً عاجزاً ، والفقر على اللهِ مُحَالٌ ، فَطَلَبُه للمال من عبيده مُحَالٌ ، وذلك يدل على كذب مُحَمَّدٍ في إسناد هذا الطلب إلى الله .
الثاني : أن أمة موسى كانوا إذا أرادوا التقرُّبَ إلى اللهِ تعالى بأموالهم ، كانت تجيء نارٌ من السّماء فتحرقها ، فلما طلب النبيّ صلى الله عليه وسلم منهم بذْلَ المال في سبيل الله قالوا له : لو كنت نبياً لما طلبتَ الأموال لهذا الغرض؛ فإنه -تعالى- ليس بفقيرٍ حَتَّى يحتاجَ -في إصلاح دينِهِ- إلى أموالنا ، فلو كان يطلب أموالَنا لجاءت نارٌ من السماء فتحرقها ، فلما لم تفعل ذلك عرفنا أنك لستَ بنبيٍّ .
قوله : { قالوا إِنَّ } العامل في « إنَّ هو » قاَلُوا « ف » إنَّ « وما في حيِّزها منصوب المحل ب » قَالُوا « لا بالقول ، وأجاز أبو البقاء أن تكون المسألة من باب التنازع ، أعني بين المصدر ، وهو » قَوْلَ « وبين الفعلِ وهو » قَالُوا « تَنَازعَا في » إنَّ « لأنه مصدر ، وهذا يُخَرَّج على قول الكوفيين في إعمال الأول ، وهو قولٌ ضعيفٌ ، ويزداد هنا ضَعفاً بأنَّ الثاني فِعْل ، والأول مصدرٌ ، وإعمال الفعل أَقْوَى » .
وظاهر كلامه أن المسألة من التنازع ، و'نما الضعف عنده من جهة إعمالِ الأولِ ، فلو قدَّرْنا إعمال الثاني لكان ينبغي أن يجوز عنده ، لكنه منع من ذلك مانع آخر ، وهو أنه إذا احتاج الثاني إلى ضمير المتنازع فيه أخذه ، ولا يجوز حذفه ، وهو -هنا- غير مذكور ، فدلَّ على أنها ليستْ عنده من التنازع على قول الكوفيين ، وهو ضعيفٌ كما ذكر .
وانظر كيف أكَّدوا الجملةَ المشتملة على ما أسندوه إليه -تعالى- وإلى عدم ذلك فيما أسندوه لأنفسهم كأنه عند الناس أمر معروف .
فصل
قال الحسنُ ومجاهدٌ : لما نزل قوله : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً } [ البقرة : 245 ] . قالت اليهودُ : إنَّ اللهَ فقيرٌ يستقرض منا ، ونحن أغنياء . وذكر الحسن أنَّ قائل هذه المقالة هو حُيَيّ بن أخْطَبَ .
وقال عكرمةُ والسدِّيُّ ومقاتلٌ ومحمدُ بنُ إسحاقَ : كتب النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق إلى يهود بني قَيْنُقَاع؛ يدعوهم إلى الإسلام ، وإلى أقام الصلاة وإيتاء الزَّكَاةِ ، وأن يُقْرِضوا الله قَرْضاً حسناً ، فدخَلَ أبو بكر -ذات يومٍ- بيت مِدْراسهم ، فوجد كثيراً من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم ، يقال له : فنحاص بن عازوراء ، وكان من علمائهم ، ومعه حَبْرٌ آخَرُ ، يقال له : أشيع ، فقال أبو بكرٍ لفنحاصٍ : اتَّقِ اللهَ وأَسْلِم؛ فوالله إنك لتَعلم أن محمداً رسولُ الله ، قد جاءكم بالحق من عند الله ، تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة ، فآمِنْ وصَدِّقْ ، وأَقْرِض اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُدْخِلْكَ الجَنَّةَ ، ويضاعفْ لك الثَّوابَ ، فقال فنحاص : يا أبا بكر ، تزعم أن ربنا يستقرض من أموالنا ، وما يستقرض إلا الفقيرُ من الغنيّ ، فإن كان كما تقول حقاً فإن الله -إذَنْ- فقيرٌ ونحن أغنياء ، وأنه ينهاكم عن الرِّبَا ويُعْطِينا ، ولو كان غنياً ما أعطانا الربا- يعني في قوله :
{ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] فغضب أبو بكرٍ ، وضرب وَجْه فنحاص ضربةً شديدةً ، وقال : والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عَدُوَّ الله . فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمدُ ، انظر ما صنع بي صاحبُك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر ، ما حملك ما صنعتَ؟ قال يا رسولَ اللهِ ، إن عدوّ الله قال قولاً عظيماً ، زعم أن الله فقير وهم أغنياء ، فغضبت لله ، وضربت وجهه ، فجحد ذلك فِنْحاصٌ ، فأنزل الله -عز وجل- هذه الآية رَدًّا على فنحاصٍ ، وتصديقاً لأبي بكر .
واعلم أنَّ ظاهرة الآية يدل على أن قائل هذا القول كانوا جماعةً؛ لقوله تعالى : { الذين قالوا } وأما ما روي عن فِنْحاص فلا يدل على أن غيره لم يَقُل ذلك ، والكتاب يشهد بأن القائلين جماعة ، فيجب القطع بذلك .
قوله : { سَنَكْتُبُ } قرأ حمزة بالياء ، مبنياً لما لم يُسَمَّ فاعله ، و « ما » وصلتها قائم مقام الفاعل ، و « قَتْلُهم » -بالرفع- عَطْفاً على الموصول ، و « يَقُولُ » -بياء الغيبة- والمعنى : سيحفظ عليهم . والباقون بالنون للمتكلم العظيم ، ف « ما » منصوبة المحل ، و « قَتْلَهُمْ » بالنصب عَطْفاً عليها ، و « نَقُولُ » بالنون -والمعنى : سنأمر الحفظةَ بالكتابةِ .
وقرأ طلحة بن مُصَرَِّف « سَتُكْتَبُ » -بتاء التأنيث- على تأويل « مَا قَالُوا » ب « مَقَالَتُهُمْ » . وقرأ ابن مسعود -وكذلك هي في مصحفه- سنكتب ما يقولون ويقال . والحسنُ والعرج « سَيَكْتُب » -بالغيبة- مبنياً للفاعل ، أي : الله تعالى : أو الملك .
و « ما » -في جميع ذلك- يجوز أن تكون موصولة اسمية -وهو الظاهر- وحذف العائدُ لاستكمال شروطِ الْحَذْفِ ، تقديره : سنكتب الذي يقولونه -ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : قولهم -ويراد به -إذ ذاك- المفعول به ، أي : مقولتهم ، كقولهم : ضَرْب الأمير .
قوله : { وَقَتْلَهُمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ } أي : ونكتب قتلهم ، أي : رضاهم بالقتل ، والمراد قتل أسلافهم الأنبياء ، ولكن لما رضوا بذلك صحت الإضافة إليهم ، حسّنَ رجل عند الشعبي قتلَ عثمانَ ، فقال الشعبي : قد شركت في دمه ، فجعل الرضا بالقتل قتلاً ، قال القرطبيُّ : وهذه مسألة عظمى ، حيثُ يكون الرضا بالمعصية معصية ، وقد روى أبو داود عن العُرس بن عُمَيْرة الكِنديّ ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
« إذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ فِي الأرْضِ كَانَ مِنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا -أو فَأنْكَرَهَا- كَمَنْ غَابَ عَنْهَا ، ومَنْ غَابَ فَرَضِيَها كَانَ كَمَن شَهِدَها » وتقدم الكلام على إضافة قتل الأنبياء إلى هؤلاء الحاضرين .
والفائدةُ في ضَمِّ أنهم قتلوا الأنبياء إلى وصفهم الله تعالى بالفقر بيان أن جَهْلهم ليس مخصوصاً بهذا الوقت ، بل هم -منذ كانوا- مُصِرُّون على الجهالات والحماقات .
ثم قال : { وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق } أي : النار ، وهو بمعنى المُحْرَق -كالأليم بمعنى المُؤلم- وهذا القول يحتمل أن يقال لهم عند الموت ، أو عند الحشر ، إن لم يكن هناك قَوْلٌ .
فإن قيل : إنهم أوردوا سؤالاً ، وهو أن من طلب المالَ من غيره كان فقيراً ، فلو طلب اللهُ المالَ من عبيده لكان فقيراً ، وذلك مُحالٌ ، فوجب أن يقال : إنه لم يَطْلبِ المال من وعبيده ، وذلك قادحٌ في كونه صلى الله عليه وسلم صادقاً في ادِّعاء النُّبوةِ ، فهذا هو شُبْهَتُهم ، فأين الجوابُ؟ وكيف يحسن ذِكر الوعيد قبل ذلك الجوابِ عَنْهَا؟ .
فالجوابُ : إن فرَّعْنا على قول أهل السُّنَّةِ والجماعة قلنا : يفعل الله ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، فلا يبعد أن يأمر اللهُ عبيده ببذل الأموال ، مع كونه تعالى أغنى الأغنياء . وأما على قول المعتزلة- فإنه تعالى يُراعي المصالح- فلا يَبْعد أن يكون في هذا التكليف أنواع من المصالح العائدة إلى العباد؛ فإن إنفاق المال يوجب زوال حُبِّ المالِ عن القلب ، وذلك من أعظم المنافع ، وتتفرع عليه مصالحُ كثيرةٌ :
منها : أن إنفاقه سببٌ للبقاء المخلد في دار الثَّوابِ .
ومنها : أن يصير القلبُ -بذلك الإنفاقِ- فارغاً من حُبِّ ما سوى اللهِ تَعَالَى .
ومنها : أنه لو ترك الإنفاق لبقي حُبُّ المالِ في قلبه ، فتتألم روحه لمفارقته .
قوله : { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ } مبتدأ وخبر ، تقديره : ذلك مستحق بما قدمت ، كذا قدره أبو البقاء ، وفيه نظر . و « ما » يجوز أن تكون موصولة ، وموصوفة ، و « ذلك » إشارةٌ إلى ما قدَّم من عقابهم ، وهذه الجملة تحتملُ وجهينِ :
أحدهما : أن تكون في محلِّ نَصْبٍ بالقول؛ عَطْفاً على « ذُوقُوا » كأنه قيل : ونقول لهم -أيضاً- ذلك بما قدمت أيديكم ، وُبِّخُوا بذلك ، وذكر لهم السبب الذي أوجب العقاب .
الثاني : أن لا تكونَ داخلةً في حكاية القولِ ، بل تكون خطاباً لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم نزولِ الآيةِ . وذكرت الأيدي؛ لأن أكثرَ الأعمال تُزاوَل بها ، قال القرطبيُّ : « وخص الأيدي بالذكر؛ ليدل على تَوَلي الفعل ومباشرته؛ إذ قد يضاف الفعلُ إلى الإنسان بمعنى أنه أمر به ، كقوله : { يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ } [ القصص : 4 ] وأصل » أيْدِيكُمْ « أيْدِيُكُم ، فحُذِفت الضمةُ؛ لثقلها .
قوله : { وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } عطف على » ما « المجرورة بالباء ، أي : ذلك العقاب حاصل بسبب كَسْبكم ، وعدم ظُلْمه لكم .
فإن قيل : إن « ظلاماً » صيغة مبالغة ، تقتضي التكثير ، فهي أخص من « ظالم » ، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم ، فإذا قلت : زيد ليس بظلامٍ ، أي : ليس كثير الظُّلم -مع جواز أن يكون ظالماً وإذا قُلْتَ : ليس بظالم ، انتفى الظلم من أصله فكيف قال تعالى : { لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } ؟ فالجوابُ من وجوهٍ :
الأول : أن « فَعَّالاً » قد لا يُراد به [ التكثير ] ، كقول طرَفة : [ الطويل ]
1702- وَلَسْتُ بِحَلاَّلِ التِّلاَعِ مَخَافَةً ... وَلكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدِ الْقَوْمَ أرْفِدِ
لا يريد -هنا- أنه قد يحل التلاع قليلاً؛ لأن ذلك يدفعه آخر البيت الذي يدل على نَفْي البخل على كل حالٍ ، وأيضاً تمام المدح لا يحصل بإرادة الكثرة .
الثاني : أنه للكثرة ، ولكنه لما كان مقابلاً بالعباد -وهم كثيرون- ناسب أن يقابلَ الكثيرَ بالكثيرِ .
الثالث : أنه إذا نفي الظلم الكثير انتفى الظلم القليلُ ضرورة؛ لأن الذي يظلم إنما يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم فإذا ترك الظلم الكثير مع زيادة نفعه في حق مَنْ يجوز عليه النفع والضر- كان للظلم القليل المنفعة أترك .
الرابع : أن يكون على النسب ، أي : لا يُنسَب إليه ظُلم ، فيكون من باب بَزَّازٍ وعَطَّارٍ ، كأنه قيل : ليس بذي ظلم ألبتة . ذكر هذه الأربعة أبو البقاء .
وقال القاضي أبو بكرٍ : العذاب الذي توعد أن يفعلَه بهم ، لو كان ظُلْماً لكان عظيماً ، فنفاه على حَدِّ عِظْمِه لو كان ثابتاً .
وقال الراغبُ : « العبيد -إذا أُضيف إلى الله تَعَالَى- أعم من العباد ، ولهذا قال : { وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ ق : 29 ] فنبَّه على أنه لا يظلم من تخصص بعبادته ، ومن انتسب إلى غيره من الذين يُسَمَّون بعبد الشمس وعبد اللات ونحو ذلك » .
وكأن الراغبَ قد قدّم الفرق بين « عبيد » و « عباد » فقال : وجمع العَبْد -الذي هو مسترق- عبيد وقيل : عِبِدَّى وجمع العبَدْ -الذي هو العابد- عباد ، وقد تقدم اشتقاقُ هذه اللَّفْظَةِ وجموعها وبقية الوجوه مذكورة في سورة « ق » .
فصل
قالت المعتزلةُ : هذه الآية تدل على أنَّ أفعال العِبَادِ مخلوقة لَهُمْ ، وإلا لم تكن مما قدمت أيديهم ، وأجيبوا بمسألة العلمِ والداعي على ما تقدم .

الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)
يجوز في حل « الذِينَ » الألقاب الثلاثة ، فالجَرّ من ثلاثة أوجهٍ :
الأول : أنه صفة للفريق المخصوصين بإضافة « قَوْلَ » إليه -في قوله : « قول الذين قالوا » .
الثاني : أنه بدل منه .
الثالث : أنه صفة ل « الْعَبِيد » أي : ليس بظلاَّم للعبيد الذين قالوا كيتَ وكيتَ ، قاله الزَّجَّاجُ قال ابنُ عطيَّة : « وهذا مفسد للمعنى والوصف » .
والرفعُ على القطع -بإضمار مبتدأ- أي : هم الذين ، وكذلك النصب على القطع -أيضاً- بإضمار فعلٍ لائقٍ ، أي : أذم الذين .
قوله : « أن لا نؤمن » في « أنْ » وجهان :
أحدهما : أنها عَلَى حَذْف حرف الجرِّ ، والأصل : في أن لا نؤمنَ ، وحينئذ يجيء فيها المذهبانِ المشهورانِ أهي في محلِّ جَرٍّ ، أو نَصْبٍ .
الثاني : أنها مفعول بها ، على تَضْمين « عَهِدَ » معنى ألزم ، تقول : عهدت إليه كذا - أي : ألزمته إياه -فهي- على هذا- في محل نصب فقط .
و « أن » تُكْتَب متصلة ، ومنفصلة ، اعتباراً بالأصل ، أو بالإدغام . ونقل أبو البقاء أن منهم من يَحذفُها في الخط ، اكتفاءً بالتشديد ، وحكى مكي -عن المبرد- أنَّها إن أدُغِمَتْ بغير غنة كتبت متصلة ، إلا فمنفصلة . ونُقِل عن بعضهم أنها كانت مخففة كتبت منفصلة وإن كانت ناصبة كتبت متصلة .
والفرق أن المخففةَ مَعَهَا ضمير مقدر ، فكأنه فاصل بينهما ، بخلاف الناصبة ، وقول أهل الخط -في مثل هذا- : تكتب متصلة ، عبارة عن حَذْفها في الخط بالكلية؛ اعتباراً بلفظ الإدغام ، لا أنهم يكتبون [ متصلة ] ، ويثبتون لها بعضَ صورتها ، فيكتبون : أنْلاَ ، والدليل على ذلك أنهم لما قالوا في « أم من » و « أم ما » ونحوه بالاتصال ، إنما يعنون به كتابة حرف واحدٍ ، فيكتبون أمَّن ، وأما ، وفَهم أبو البقاء أن الاتصالَ في ذلك عبارة عن كتابتهم لها في بعض صورتها ملتصقة ب « لا » ، والدليل على أنه فهم ذلك أنه قال : ومنهم مَنْ يحذفها في الخط؛ اكتفاءً بالتشديد .
فجعل الحذف قسيماً للفصل والوصل ، ولا يقول أحَدٌ بهذا .
وتعدى « نؤمن » باللام؛ لتضمُّنه معنى الاعتراف . وقد تقدم في أول « البقرة » .
وقرأ عيسى بن عمر « بقُرُبان » -بضمتين- .
قال القرطبيُّ : « كما قيل -في جمع ظُلْمة -ظلمات وفي حجرة - حجرات » .
قال ابن عطيةَ : إتباعاً لضمة القاف ، وليس بِلُغَةٍ؛ لأنه ليس في الكلام فعلان -بضم الفاء والعين- .
وحكى سيبويه : السُّلُطان -بضمِّ اللمِ -وقال : إنّ ذلك على الإتباع .
قال أبو حيان : « ولم يَقل سيبويه : إن ذلك على الإتباع ، بل قال : ولا نعلم في الكلامِ فِعِلان ولا فِعُلان ، ولا شيئاً من هذا النحو ، ولكنه جاء فُعُلاَن -وهو قليل- قالوا : السلطان ، وهو اسم ، وقتل الشَّارحُ لكلام سيبويه : صاحبُ هذه اللغةِ لا يسكن ولا يُتبع ، وكذا ذَكَر التصرفيونَ أنه بناء مُسْتقل ، قالوا : فيما لحقه زيادتانِ بعد اللامِ ، وعلى فعلان -ولم يجيء فُعُلان إلا اسماً ، وهو قليلٌ ، نحو سُلُطان » .
قال شهاب الدِّينِ : « أما ابن عَطِيّةَ فمسلم أنه وَهِم في النقل عن سيبويه في » سلطان « خاصةٌ ، ولكن قوله في » قُربَانٍ « صحيح ولأن أهل التصريف لم يستثنوا إلا السُّلُطان » .
والقُرْبان -في الأصل- مصدر ، ثم سُمِّي به المفعول ، كالرَّهْن ، فإنه في الأصل مصدر ، ولا حاجة إلى حذف مضاف ، وزعم أبو البقاء أنه على حَذْف مضاف -أي : تقريب قُرْبان- قال : « أي : يُشْرَع لنا ذلك » .
وقوله : { تَأْكُلُهُ النار } صفة لِ « قُرْبَانٌ » وإسناد الأكل إليها مجاز ، عبَّرَ عَنْ إفنائها الأشياء بالأكل .
قوله : { مِّن قَبْلِي بالبينات } كلاهما متعلق ب « جَاءَكُم » والباءُ تحتمل المعية والتعدية ، أي : مصاحبين للآيات .
فصل في رد شبهة الطاعنين في النبوة
هذه شبهةٌ ثانية طعن بها الكفار في نبوته صلى الله عليه وسلم وتقريرها : أنك يا محمد -لم تفعل كذلك ، فوجب ألا تكون نبياً ، قال ابن عباسٍ : نزلت هذه الآية في كعب بن الأشرفِ ، ومالك بن الصَّيف وكعب بن أسدٍ ، ووهب بن يهوذا وزيد بن التابوت ، وفنحاص بن عازوراء ، وحُيَيّ بن أخطب ، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمدُ تزعم أن اللهَ بعثك إلينا رسولاً ، وأنزل عليك كتاباً ، وقد عَهدَ اللهُ إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه جاء من عند الله ، حتى يأتِيَنَا بقُرْبان تأكله النار ، فإن جئتنا به صدَّقْنَاك ، فأنزل الله هذه الآية .
والقُرْبان : كل ما يَتَقَرَّب به العبدُ إلى الله -تعالى- من نسيكة ، وصدقة ، وعَمَلٍ صالح .
قال الواحديُّ : وأصله المصدر من قولك : قرب قُرْبَاناً -كالكُفْران والرُّجحان والخُسْران- ثم سمي به نفس المتقرَّب به ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لكعب بن عُجْرة- : « يَا كَعْبُ ، الصَّوْمُ جُنَّةٌ ، والصَّلاةُ قُرْبانٌ » .
قال القرطبيُّ : « وهو فُعْلان -من القربة- ويكون اسماً ، ومصدراً . فمثال الاسم : السُّلْطان والبُرْهان ومثال المصدر : العُدوان والخُسْران » .
فصل في بيان ادعاء اليهود
واختلفوا فيما ادَّعاه اليهود .
فقال السُّدَّيُّ : إن هذا الشرط جاء في التوراة ، ولكنه مع شَرْط ، وذلك أنه -تعالى- قال في التوراة : من جاءكم يزعم أنه رسول الله ، فلا تصدقوه ، حتى يأتيكم بقربانٍ تأكله النار ، إلا المسيحُ ومحمد ، فإنهما إذا أتيا فآمِنوا بهما؛ فإنهما يأتيان بقُرْبانٍ لا تأكله النّار ، قال : وكان هذه العادة باقية إلى مبعث المسيحِ -عليه السَّلام- فلما بُعِثَ المسيح ارتفعت وزالت .
وقال آخرونَ : إن ادعاء هذا الشرطِ كذب على التَّوراة ، لأن القربانَ لم يكن في معجزات موسى وعيسى -عليهما السَّلامُ- وأيضاً فإنه إذا كانت هذه معجزةً ، فلا فرقَ بينها وبين باقي المعجزاتِ ، فلم يكن لتخصيصها بالذكر فائدةٌ .
واعلم أنه -تعالى- أجاب عن هذه الشُّبهة ، فقال : { قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } والمرادُ أسلافهم ، فبيَّن -بهذا الكلام- أنهم إنما يطلبونَ ذلك على سبيل التعنُّت ، لا على وَجْه الاسترشاد ، إذ لو لم يكن كذلك لما سَعَوْا في قَتْلهم .
فإن قيل : لم قال : { قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ } ولم يَقل : جاءتكم رُسل؟
فالجوابُ : أن فعل المؤنث يُذَكَّر إذا تقدمه جمعُ تكسير .
والمراد بقوله : { وبالذي قُلْتُمْ } هو ما طلبوه منه ، وهو القُرْبان .
فإن قيل : إن القوم إنما طالبوه بالقُرْبان ، فما الحكمة في أنه أجابهم بقوله : { قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات } ثم أضاف إلى قوله : { وبالذي قُلْتُمْ } وهو القربان؟
فالجواب : أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لو قال لهم : إن الأنبياء المتقدمين أتوا بالقُربان لم يلزم من ذلك وجوب الاعتراف بنبوتهم؛ لاحتمال أن الإتيان بهذا القُرْبانِ شرطٌ للنبوة ، لا موجب لها ، والشرط هو الذي يلزم من عدمه عدم المشروط لكن لا يلزمُ من وجوده وجود المشروط ، فثبت أنه لو اكتفى بهذا القَدْرِ لما كان الإلزام وارداً عليهم ، فلما قال : { قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ } كان الإلزام وارداً عليهم؛ لأنهم لما أتوا بالبينات فقد أتَوا بالموجب للصدق ، ولما أتَوا بالقُرْبان فقد أتوا بالشرط ، فعند الإتيانِ بهما وجب الإقرارُ بالنبوة .
قال القرطبيُّ : في معنى الآية- : « قُلْ » يا محمد « قَد جَاءَكُمْ » يا معشرَ اليهود { رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ } من القُرْبان « فلم قتلتموهم » يعني زكريا ويحيى وشعيباً وسائر مَنْ قَتَلوا من الأنبياء -عليهم السلام- ولم يؤمنوا بهم .
أراد بذلك أسلافهم . وهذه الآية هي التي تلاها عامر الشعبيُّ ، واحتج بها على الذي حَسَّن قَتلَ عثمان -رضي الله عنه- وأن اللهَ تعالى سمي اليهودَ -لرضاهم بفِعْل أسلافهم- وإن كان بينهم نحوٌ من سبعمائة سنةٍ .

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
قوله : { فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ } ليس جواباً ، بل الجوابُ محذوف ، أي : فقل ، ونحوه؛ لأن هذا قد مضَى وتحقَّق ، والجملة من « جَاءُوا » في محل رفع ، صفة لِ « رُسُلٌ » و « مِنْ قَبْلِكَ » متعلق ب « كُذِّبَ » والباء في « بِالبَيِّنَاتِ » تحتمل الوجهين ، كنظيرتها .
ومعنى الآية : فإن كذبوك في قولك : إنَّ الأنبياء المتقدمين أتَوْا بالقُرْبان .
ويحتمل أن يكون المعنى : فإن كذبوك في أصل النبوة -وهو أولى- والمرادُ بالبيناتِ المعجزاتِ .
وقرأ الجمهورُ : « وَالزبر والكتاب » -من غير باء الجر- وقرأ ابنُ عامر « وَبِالزُّبُرِ » -بإعادتها- وهشام وحده عنه « وَبِالكِتَابِ » -بإعادتها أيضاً- وهي في مصاحف الشاميين كقراءة ابنِ عامر ، فَمَنْ لم يأتِ بها اكتفى بالعطفِ ، ومن أتى بها كان ذلك تأكيداً .
والزُّبر : جمع زَبُور -بالفتح- ويقال : بالضم أيضاً- وهل هما بمعنىً واحد أو مختلفان؟ سيأتي الكلام عليهما -إن شاء الله تعالى- في النساء في قوله : { وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } [ النساء : 163 ] . واشتقاقه من زَبَرْتُ : أي : كتبتُ وزَبَرْته : قرأتهُ ، وَزَبرْته : حسَّنت كتابتَه ، وزَبَرْته : زَجَرته . فزبور -بالفتح- فَعُول بمعنى مفعول -كالركوب بمعنى : المركوب -والحلوب- بمعنى المحلوب- والمعنى : الكُتُب المزبورة ، أي : المكتوبة ، والزُّبُر : جمع زبور ، وهو الكتاب .
قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
1703- لمَنْ طَلَلٌ أبصَرْتُهُ فَشَجانِي ... كَخَطِّ زَبُورٍ في عَسِيبِ يَمَانِي
وقيل : اشتقاق من الزَّبْر -بمعنى : الزجر : تقول : زبرت الرجل : أي : نهرته . وزبرت البئر : أي : طويتها بالحجارة .
فإن قيل : لِمَ عطف « الْكِتَابِ المُنِيرِ » على « الزُّبُرِ » مع أن الكتاب المنير من الزُّبُر؟
فالجوابُ : لأن الكتاب المنير أشرف الكتب ، وأحسن الزبر ، فحسُن العطف ، كقوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ } [ الأحزاب : 7 ] . وقوله : { وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] . ووجه شرفه : كونه مشتملاً على جميع الشريعة ، أو كونه باقياً على وَجْه الدَّهْر .
وقيل : المراد ب « الزُّبُر » الصُّحُف ، والمراد ب « الْكِتَابِ الْمُنِيرِ » التوراة والإنجيل والزبور .
و « الْمُنِير » اسم فاعل من أنار ، أي : أضاء ، وهو الواضح . والمراد بهذه الآية -تسلية قلب الرسول- صلى الله عليه وسلم بما جرى على الأنبياء قبله .

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
والمرادُ بهذه الآية -زيادة تأكيد التسليةِ والمبالغةِ في إزالة الحُزْنِ عن قلبه؛ لأن مَنْ علم أن عاقبته الموت زالت عن قلبه الغموم والأحزان ، ولأن بعد هذه الدار داراً يتميز فيها المُحْسِن من المُسِيء ، [ والمُحِقُّ من المُبْطِل ] .
قوله : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت } مبتدأ وخبر ، وسوَّغَ الابتداء بالنكرة العموم والإضافة .
والجمهور على « ذَائِقَةٌ المَوْتَ » بالتنوين والنَّصْب في « الْمَوْتِ » على الأصل .
وقرأ الأعمشُ بعدم التنوين ونَصْب « الْمَوْت » وذلك على حَذْف التنوين؛ لالتقاء الساكنين وإرادته وهو كقول الشاعرِ : [ المتقارب ]
1704- فأَلْقَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتَبٍ ... وَلاَ ذَاكِرَ اللهَ إلاَّ قَلِيلا
-بنصب الجلالة- وقراءة مَنْ قرأ { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله } [ الإخلاص : 1 ، 2 ] - بحذف التنوين من « أحَدٌ » لالتقاء الساكنين .
[ ونقل ] أبو البقاء -فيها- قراءةً غريبةً ، وتخريجاً غريباً ، قال : « وتقرأ شاذاً -أيضاً- ذَائِقُهُ الْمَوْتُ على جعل الهاء ضمير » كل « على اللفظ ، وهو مبتدأ وخبرٌ ، وإذا صحت هذه قراءةٌ فتكون » كل « مبتدأ ، و » ذَائِقُهُ « خبر مقدَّم ، و » الْمَوْتُ « مبتدأ مؤخرٌ ، والجملة خبر » كُلّ « وأضيف » ذائق « إلى ضمير » كل « باعتبار لفظها ، ويكون هذا من باب القلب في الكلام؛ لأن النفس هي التي تذوق الموت وليس الموت يذوقها ، وهنا جعل الموت هو الذي يذوق النفس ، قَلْباً للكلامِ؛ لفهم المعنى ، كقولهم : عَرَضْتُ الناقة على الحوض ، ومنه قوله : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ على النار } [ الأحقاف : 34 ] وقولك : أدخلت القلنسوة في رأسي .
وقول الشَّاعرِ : [ البسيط ]
1705- مِثْلُ القَنَافِذِ هَدَّاجُونَ قَدْ بَلَغَتْ ... نَجْرَانَ ، أوْ بَلَغَتْ سَوْآتِهِمْ هَجَرُ
الأصل : عرضت الحوض على الناقة ، ويوم تُعْرَض النار على الذين كفروا ، وأدخلت رأسي في القلنسوة ، وبلغت سوآتهم هَجَرَ ، فقلبت . وسيأتي خلافُ النّاسِ في القلب في موضعه إن شاء الله -تعالى- .
وكان أبو البقاء قد قَدَّم قبل هذا التأنيث في » ذائقة « إنما هو باعتبار معنى » كلٍّ « قال : » لأن كل نفس نفوس ، فلو ذكر على لفظ « كل » جاز ، يعني أنه لو قيل : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ } جاز ، وقد تَقَدَّمَ أول البقرة أنه يجب [ اعتبار ] لفظ ما يُضافُ إليه إذا كان نكرة ولا يجوز أن يعتبر « كل » وتحقيق هذه المسألةِ هناك .
فصل
قال ابنُ الخطيبِ : هذه الآية من تمام التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم إما بأن غموم الدنيا يقطعها الموتُ ، وما كان كذلك لا ينبغي للعاقل أن يَلْتَفِتَ إليه . وإما لأن بعد هذه الدار داراً يتميز فيها المُحْسِن من المُسِيء ، فلا يُلْتَفَت إلى غَمِّ الدنيا وبُؤْسِها .
فإن قيل : قوله تعالى : { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ }
[ المائدة : 116 ] يقتضي الاندراج ، وأيضاً فالنفس والذات واحد ، فتدخل الجمادات لأنهم ذوات ، ويقتضي موت أهلِ الجَنَّةِ؛ لأنهم نفوس .
فالجوابُ : أنّ المُرَادَ : المكلَّفون في دار التكليف ، لقوله ، عقبيها : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ } وذلك لا يتأتَّى إلا فيهم .
فصل
قالت الفلاسفةُ : الموت واجب للأجسامِ؛ لأن الحياةَ الجسمانيةَ إنما تحصل بالرطوبةِ والحرارةِ الغريزيتين ، ثم إن الحرارةَ تستمد من الرطوبة إلى أن تفنى ، فيحصل الموتُ قالوا : والآية تدل على أن النفوس لا تموت؛ لأنه جعلها ذائقة ، والذائق لا بد أن يبقى حال الذوق والمعنى : ذائقة موت البدنِ ، وبدل ذلك -أيضاً- على أنَّ النفسَ غير البدن .
قوله : { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ } « ما » كافة لِ « إن » عن العمل ، قال مكيٌّ : « ولا يحسبن أن تكون » ما « بمعنى الذي ، لأنه يلزم رفع » أجورُكم « ولم يقرأ به أحَدٌ ، ولأنه يصير التقدير : وأن الذي توفَّوْنَهُ أجوركم ، كقولك : إنّ الذي أكرمته عمرو ، وأيضاً فإنك تفرق بين الصلة والموصول بخبر الابتداء » .
يعني لو كانت « ما » موصولة لكانت اسم « إن » فيلزم -حينئذٍ- رفع « أجوركم » على أنه خبرها ، كقوله تعالى : { إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ } [ طه : 69 ] ف « ما » -هنا- يجوز أن تكون بمعنى الذي ، أو مصدرية ، تقديره : إنَّ الذي صنعوه ، أو إن صُنْعَهم ، ولذلك رفع « كِيْدُ » ، خبرها . وقوله : وأيضاً فإنك تفرق . . . ، يعني أن « يَوْمَ الْقِيَامَة » متعلق ب « تُوَفَّوْنَ » فهو من تمام الصلة -التي هي الفعل ومعموله -ولا يُخْبَر عن موصول إلا بعد تمام صلته ، وهذا وإن كان من الواضحات ، إلا أن فيه تنبيهاً على أصول العلم .
فصل
قال المفسّرون : أجر المؤمنِ الثوابُ ، وأجرُ الكافر العقابُ ، ولم يعتد بالنعمة في الدنيا -أجراً وجزاء- لأنها عُرْضَةٌ للفناء .
قوله : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار } أدغم أبو عمرو الحاء في العين ، قالوا : لطول الكلمة ، وتكرير الحاء ، دون قوله : { ذُبِحَ عَلَى النصب } [ المائدة : 3 ] وقوله : { المسيح عِيسَى } [ آل عمران : 45 ] ونُقِل عنه الإدغامُ مطلقاً ، وعدمه مطلقاً والنحويون يمنعون ذلك ، ولا يُجيزونه إلا بعد أن يقلبوا العين حاء ويُدْغِموا الحاء فيها ، قالوا : لأن الأقوى لا يُدْغَم في الأضْعَف ، وهذا عكس الإدغامِ ، أن تقلب فيه الأول للثاني إلا في مسألتين : إحداهما : هذه ، والثانية : الحاء في الهاء ، نحو : امدح حلالاً -بقلب الهاء حاء أيضاً- ولذلك طعن بعضهم على قراءةِ أبي عمرو ، ولا يُلْتَفَت إليه . . ومعنى الكلام ، { فَمَن زُحْزِحَ } أي : نُحِّي وأزيل عن النار وأدخل الجنة فقد فاز .
قوله : { وَما الحياة الدنيا إِلاَّ مَتَاعُ الغرور } المتاع : ما يتَمَتَّع به ، وينتفع [ به الناسُ - [ كالقِدْرِ ] والقصعة- ثم يزول ولا يبقى قاله أكثرُ المفسّرين .
وقال الحَسَن : هو كخضرة النبات ، ولعب البنات ، ولا حاصل له .
وقال قتادة : هي متاع متروك : يوشك أن يضمحِلَّ ، فينبغي للإنسان أن يأخذ من هذا المتاع بطاعة الله -تعالى- ما استطاع .
وقوله : « الْغُرور » يجوز أن يكون مصدراً من قولك : غَرَرْتَ فلاناً غُرُوراً ، شبه بالمتاع الذي يُدَلس به على المستام ، ويغر عليه حتى يشتريه ، ثم يظهر فَسَادُهُ لَهُ ، ومنه الحديث : « نهى عن بيع الغرر » ويجوز أن يكون جَمْعاً .
وقرأ عبد الله لفتح الغين وفسرها بالشيطان أن يكون فَعُولاً بمعنى مفعول ، أي : متاع الغُرُور ، أي : المخدوع : وأصل الغَرَر : الخدع .
قال سعيدُ بن جُبَيْرٍ : هذا في حق من آثر الدنيا على الآخرة ، وأما مَنْ طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ .

لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
وهذه الآية زيادة في تَسْلية الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه بَيَّن له أنّ الكفار بعد أن آذَوُا الرسولَ صلى الله عليه وسلم والمسلمين يوم أُحدٍ ، فسيؤذونهم - أيضاً - في المستقبل في النفسِ والمالِ .
والمرادُ منه أن يُوَطِّنوا أنفسَهم على الصْبر؛ فإن العالم بنزول البلاء عليه لا يعظم وَقْعه في قَلْبِهِ بخلاف غيرِ العالم فإنه يعظم عنده ويَشُقُّ عَلَيْهِ .
قوله : { لَتُبْلَوُنَّ } هذا جوابُ قَسَم محذوف ، تقديره : والله لَتُبْلَوُنّ ، وهذه الواو هي واو الضمير ، والواو التي هي لام الكلمة حُذَفَتْ لأمر تصريفيِّ ، وذلك أن أصله : لَتُبْلَوُّنَنَّ ، فالنون الأولى للرفع ، حُذِفَتْ لأجل نونِ التوكيد ، وتحرَّكت الواوُ [ الأولى ] - التي هي لامُ الكلمةِ - وانفتح ما قبلَهَا فقُلِبَتْ ألفاً ، فالتقى ساكنان - الألف وواو الضمير - فحُذَفَتْ الألف؛ لئلا يلتقيا ، وضُمَّتْ الواو؛ دلالةً على المحذوف .
وإنْ شئتَ قلت : استُقْبِلَتْ الضمةُ على الواو الأولى ، فحُذِفَت ، فالتقى ساكنان ، فحُذِفَتْ الواوُ الأولى وحُرِّكت الثانية بحركة مجانسةٍ ، دلالةً على المحذوف . ولا يجوز قَلْبُ مثل هذه الواوِ همزةً؛ [ لأن حركتها عارضةٌ ] ولذلك لم [ تُقلَب ] ألِفاً ، وإن تحرَّكَتْ وانفتح ما قبلَها .
ويقال للواحدِ من المذكَّر : لتُبْلَوَنَّ يا رجلُ وللاثنين : لتبليانِّ يا رجلانِ ، ولجماعة الرجال : لتبلوُنَّ . وأصل « لَتسْمعنَّ » : لَتَسْمَعُونَنَّ ، ففعل فيه ما تقدم ، إلا أن هنا حُذِفَتْ واوُ الضمير؛ لأن قَبْلَهَا حَرْفاً صحيحاً .
فصل في المراد بالابتلاء
معنى الابتلاء : الاختبار وطلب المعرفةِ ، ومعناه في وَصْف الله تعالى به معاملةُ العبد معاملةَ المختبر ، واختلفوا في هذا الابتلاء ، فقيل : المراد ما نالهم من الشدة والفَقْرِ والقتل والجرح من الكفار ، ومن حيثُ أُلزموا الصبر في الجهاد .
وقيل : الابتلاء في الأموال بالمصائب ، وبالإنفاق في سبيل اللهِ وسائر تكاليف الشَّرْع ، والابتلاء في الأنفس بالموت والأمراض وفَقْد الأحْباب . وبدأ بذكر الأموال لكثرة المصائب بها .
وقال الحسنُ : التكاليفُ الشديدَةُ المتعلقة بالدينِ والمالِ ، كالصلاة والزكاة والجهاد .
وقال القاضي : والظاهرُ يحتمل الكُلُّ .
قوله : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً } المرادُ منه أنواع الأذى الحاصلة من اليهود والنصارَى والمشركين للمسلمين ، وذلك أنهم كانوا يقولون : { عُزَيْرٌ ابن الله } [ التوبة : 30 ] و { المسيح ابن الله } [ التوبة : 30 ] و « ثالث ثلاثة » وكانوا يطعنون في الرسول بكل ما يقدرون عليه ، وهجاه كعبُ بن الأشرفِ ، وكانوا يُحَرِّضون النَاس على مخالفة الرسول ، ويجمعون الناس لمحاربته ، ويُثَبّطون المسلمين عن نُصْرَتِه ، ثم قال : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور } .
قال المفسّرونَ : بَعَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر إلى فنحاص اليهوديِّ ، يستمده ، فقال فنحاصٌ : قد احتاج ربكم إلى أن نمده فَهَمَّ أبو بكر أن يَضْرِبَه بالسيف ، وكان صلى الله عليه وسلم قال له - حين أرسله - : لا تغلبن على شيء حتى ترجع إليَّ ، فتذكَّر أبو بكر ذلك ، وكفَّ عن الضرب ، فنزلت الآية .
فصل
في الآية تأويلان :
أحدهما : أن المرادَ منه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمصابرة على الابتلاء في النفسِ والمالِ ، وتحمُّلِ الأذَى ، وتَرك المعارضة والمقابلة ، وذلك لأنه أقرب إلى دخول المُخالف في الدين ، كقوله تعالى : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } [ طه : 44 ] وقوله : { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ } [ الجاثية : 14 ] وقوله : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } [ الفرقان : 72 ] وقوله : { فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل } [ الأحقاف : 35 ] وقوله : { ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [ فصلت : 34 ] .
قال الواحديُّ : كان هذا قَبلَ نزولِ آية السيف .
قال القفّال : والذي عندي أنّ هذا ليس بمنسوخ ، والظاهر أنها نزلت عقب قصة أحُدٍ ، والمعنى : أنهم امِرُوا بالصَّبر على ما يؤذون به الرسولَ صلى الله عليه وسلم على طريقِ الأقوالِ الجارية فيما بينهم ، واستعمال مداراتهم في كثير من الأحوالِ ، والأمر بالقتالِ لا ينافي الأمر بالمُصابرة .
التأويل الثاني : أن يكونَ المرادُ من الصَّبرِ والتقوى : الصبر على مجاهدة الكفار ومنابذتهم والإنكار عليهم . فالصبرُ عبارة عن احتمال الأذى والمكروه ، والتقوى عبارة عن الاحتراز عما لا ينبغي . وقوله : { فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور } أي : من صواب التدبير والرشدِ الذي ينبغي لكل عاقلٍ أن يُقْدِمَ عليه .
وقيل : { مِنْ عَزْمِ الأمور } أي : من حق الأمورِ وخَيرها .
وقال عطاءٌ : من حقيقة الإيمان .

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
في كيفية النظمِ وجهان :
أحدهما : أنه - تعالى - لما حكى عنهم الطَعْنَ في نبوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم وأجاب عن ذلك ، بيَّن في هذه الآية التعجُّب من حالهم .
والمعنى : كيف يليق بكم الطعن في نبوَّته صلى الله عليه وسلم وكتبكم ناطقة بأنه يجب عليكم ذِكْرُ الدلائل الدالة على صِدقه ونبوته؟
ثانيهما : أنه لما أوجب عليه احتمال الأذَى من أهل الكتاب - وكان من جُمْلَة أذاهم كتمانُ ما في التوراة والإنجيل من الدلائلِ الدالةِ على نبوَّتِه ، وتحريفها - بيَّن أن هذا من تلك الجملةِ التي يجبُ فيها الصبر .
قوله : { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ } هذا جواب لما تضمنه الميثاق من القسم . وقرأ أبو عمرو ، وابن كثيرٍ ، وأبو بكر بالياء ، جرياً على الاسم الظاهر - وهو كالغائب - وحَسَّن ذلك قوله - بعده - : « فَنَبَذُوهُ » والباقون بالتاء؛ خطاباً على الحكاية ، تقديره : وقلنا لهم ، وهذا كقوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ } [ البقرة : 83 ] بالتاء والياء كما تقدم تحريره .
قوله : { وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } يحتمل وجهين :
أحدهما : واو الحال ، والجملة بعدها نصب على الحال ، أي : لتبينُنَّه غيرَ كاتمين . الثاني : أنها للعَطْف ، والفعل بعدها مُقْسَم عليه - أيضاً - وإنما لم يُؤَكِّدْ بالنون؛ لأنه منفيّ ، كما تقول : واللهِ لا يقومُ زيدٌ - من غير نون - وقال أبو البقاء : « ولم يأتِ بها في » تَكْتُمُونَ « اكتفاءً بالتوكيد في الأول؛ » تَكْتُمُونَهُ « توكيد » .
وظاهر عبارته أنه لو لم يكنْ بعد مؤكَّد بالنون لزم توكيده ، وليس كذبك؛ لما تقدم . وقوله : لأنه توكيدٌ ، يعني أن نفي الكتمان فُهمَ من قوله : { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ } فجاء قوله : { وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } توكيداً في المعنى .
واستحسن أبو حيَّان هذا الوجه - أعني : جَعْل الواو عاطفةً لا حاليةً - قال : « وهذا الوجه - عندي - أعْربَ وأفصح؛ لأن الأول يحتاج إلى إضمار مبتدأ قبل » لا « لا تدخل عليه واوُ الحال » .
وغيره يقول : إنه يمتنع إذا كانَ مضارعاً مُثْبَتاً ، فيُفهم من هذا أن المضارعَ المنفيَّ بكُلِّ نافٍ لا يمتنع دخولُها عليه .
وقرأ عبد الله : لَيُبَينونَه - من غير توكيد - قال ابنُ عطيَّة : « وقد لا تلزم هذه النونُ لامَ التوكيد قال سيبويه » .
والمعروفُ - من مذهب البصريين - لزومهما معاً ، والكوفيون يجيزون تعاقُبَهما في سعةَ الكلامَ .
وأنشدوا : [ الطويل ]
1706- وَعَيْشِكِ - يا سَلْمَى - لأوقِنُ أنَّني ... لِمَا شِئْتِ مُسْتْلٍ ، وَلَوْ أنَّهُ الْقَتْلُ
وقال الآخرُ : [ المتقارب ]
1707- يَمِيناً لأبْغَضُ كُلَّ امْرِئٍ ... يُزَخْرِفُ قَوْلاً وَلاَ يَفْعَلُ
فأتى باللام وحدها . وقد تقدم تحقيقُ هذا .
وقرأ ابنُ عباس : ميثاق النبيين لتبيننه للناس ، فالضمير في قوله : { فَنَبَذُوهُ } يعود على { الناس } المبيَّن لهم؛ لاستحالة عَوْدِهِ على النبيين ، وكان قد تقدم في قوله تعالى :
{ وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } [ آل عمران : 81 ] أنه - في أحد الأوجه - على حذف مضاف ، أي : أولاد النبيين ، فلا بُعْدَ في تقديره هنا - أعني : قراءة ابن عباس- . والهاء في { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } قال سعيدُ بنُ جُبَيْر والسُّدِّيُّ تعود إلى محمد صلى الله عليه وسلم وعلى هذا يكونُ الضميرُ عائداً إلى معلوم غير مذكور .
وقال الحسنُ وقتادةَ : تعود على « الكِتَابِ » أي : يبينون للناس ما في التوراة والإنجيل من الدلالة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
فإن قيل : البيانُ يضادُّ الكتمان ، فلما أمر بالبيان كان الأمر به نهياًَ عن الكتمان فما الفائدة في ذِكْرِ النَّهي عن الكتمان؟
فالجوابُ : أن المرادَ من البيان ذِكْرُ الآياتِ الدالةِ على نبوةِ محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة والإنجيل والمراد من النهي عن الكتمان أن لا يلقوا فيها التأويلات الفاسدة ، والشبهات المعطلة .
قال قتادةُ : هذا ميثاقٌ أخذه الله على أهلِ العِلْمِ ، فمَنْ عَلِمَ شيئاً فلْيُعَلِّمْه ، وإياكم وكتمانَ العِلْمِ ، فإنه هَلَكَه . قال صلى الله عليه وسلم : « مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ ألْجِمَ يَوْمَ الْقِيامةِ بِلِجَامٍ مِنْ نارٍ » .
قوله : { فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } طرحوه ، وضيَّعوه ، ولم يُراعوه ، ولم يلتفتوا إليه . والنبذ وراء الظهر مثَل للطَّرْح ، ونقيضه : جعله نُصْبَ عينيه .
وقوله : { واشتروا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } معناه : أنهم أخفوا الحقَّ؛ ليتوسلوا بذلك إلى وجدان شيء من الدنيا ، ثم قال : { فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } .

لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
هذا أيضاً من جملة أذاهم؛ لأنهم يفرحون بما أتوا به من أنواع الخُبْث والتلبيس على ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِين ويُحِبُّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِأنَّهُم أهلُ البِرِّ والصدقة والتقوَى ، ولا شك أن الإنسانَ يتأذّى بمشاهدة مثل هذه الأحْوالِ ، فأمر النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالمصابرة عليها .
قوله : و { لاَ تَحْسَبَنَّ } قرأ ابنُ كثير وأبو عمر « يَحْسَبَنَّ » و « فَلاَ يَحْسَبَنَّهُمْ » -بالياء فيهما ، ورفع ياء « تَحْسَبَنَّهُم » وقرأ الكوفيونَ بتاءِ الخطابِ ، وفتح الباء فيهما معاً ، ونافع وابن عامر بياء الغيبة في الأول ، وتاء الخطاب في الثاني ، وفتح الباء فيهما معاً ، وقُرِئَ شاذاً بتاء الخطاب وضَمِّ الباء فيهما معاً ، وقرئ فيه أيضاً بياء الغيبة فيهما ، وفتح الباء فيهما أيضاً فهذه خَمْس قراءاتٍ ، فأما قراءة ابن كثيرٍ وأبي عمرو ففيهما خمسةُ أوجهٍ ، وذلك : لأنه لا يخلو إما أن يُجْعَلَ الفعل الأول مسنداً إلى ضميرٍ غائبٍ ، أو إلى الموصولِ ، فإنْ جعلناه مسنداً إلى ضميرٍ غائبٍ ، الرسول صلى الله عليه وسلم أو غيره- ففي المسألة وجهان : ِ
أحدهما : أنَّ « الَّذِينَ » مفعول أوّل ، والثاني محذوفٌ؛ لدلالة المفعول الثاني للفعل الذي بعده عليه ، وهو « بِمَفَازَةٍ » والتقدير : لا يحسبن الرسول -أو حاسب- الذين يفرحون بمفازة ، فأسند الفعل الثاني لضميرِ « الَّذِينَ » ومفعولاه الضمير المنصوب ، و « بِمَفاَزَةٍ » .
الثاني : أن « الَّذِينَ » مفعول أول -أيضاً- ومفعوله الثاني هو « بِمَفَازَةٍ » الملفوظ به بعد الفعل الثاني ، ومفعول الفعل الثاني محذوف؛ لدلالة مفعول الأول عليه ، والتقدير : لا يحسبن الرسول الذين يفرحون بمفازة فلا يحسبنهم كذلك ، والعمل كما تقدم ، وهذا بعيد جِداً ، للفصل بين المفعول الثاني للفعل الأول لكلامٍ طويلٍ من غير حاجةٍ ، والفاء -على هذين الوجهين- عاطفة؛ والسببية فيها ظاهرة .
وإن جعلناه مسنداً إلى الموصول ففيه ثلاثة أوجهٍ :
أولها : أن الفعل الأول حُذِفَ مفعولاه ، اختصاراً؛ لدلالة مفعولي الفعل الثاني عليهما ، تقديره : ولا يحسبن الفارحون أنفسَهم فائزين فلا يحسبنهم فائزين .
كقول الآخر : [ الطويل ]
1708- بأيِّ كِتَابٍ ، أمّ بِأيَّةِ سُنَّةٍ ... تَرَى حُبَّهُمْ عَاراً عَلَيَّ وَتحْسَبُ
أي : وتحسب حبهم عاراً ، فحذفت مفعولي الفعل الثاني؛ لدلالة مفعولي الأول عليهما ، وهو عكس الآيةِ الكريمةِ ، حيث حذف فيها من الفعلِ الأولِ .
ثانيها : أن الفعل الأول لم يحتج إلى مفعولين هنا .
قال أبو علي « تَحْسَبَنَّ » لم يقع على شيء و « الَّذيِنَ » رفع به ، وقد تجيء هذه الأفعال لَغْواً ، لا في حُكْمِ الجُمَل المفيدة ، نحو قوله : [ الطويل ]
1709- وَمَا خِلْتُ أبْقَى بِيْنَنَا مِنْ مَوَدَّةٍ ... عِرَاضُ الْمَذَاكِي المُسْنِفَاتِ الْقَلائِصا
المذاكي : الخيل التي قد أتى عليها بعد قروحها سنة أو سنتان ، الواحد : مُذَك مثل المُخَلف من الإبل وفي المثل : جريُ المذكيات غِلاب .
والمُسْنفات : اسم مفعول ، يقال : سنفت البعير أسنفه ، سنفاً ، إذا كففته بزمامه وأنت راكبه وأسنف البعير لغة في سنفه وأسنف البعير بنفسه إذا رفع رأسه ، يتعدى ولا يتعدى وكانت العربُ تركب الإبلَ ، وتجنب الخيل ، تقول : الحرب لا تبقى مودة وقال الخليلُ : العربُ تقول : ما رأيته يقول ذلك إلا زيدٌ ، وما ظننته يقول ذلك إلا زيدٌ .
يعني أبو علي أنها في هذه الأماكن مُلْغَاة ، لا مفعول لها .
ثالثها : أن يكون المفعول الأول للفعل الأول محذوفاً ، والثاني هو نفس « بِمَفَازَةٍ » ويكون « فَلاَ يَحْسَبَنهُمْ » توكيداً للفعل الأول ، وهذا رأي الزمخشريِّ؛ فإنه قال بعد ما حكى هذه القراءة- : « على أن الفعل لِ { الذين يَفْرَحُونَ } والمفعول الأول محذوف ، على معنى : لا يحسبنهم الذين يفرحون بمفازة بمعنى : لا يحسبنهم أنفسهم الذين يفرحون فائزين ، و » فلا يحسبنهم « تأكيد » .
قال أبو حيّان : « وتقدم لنا الرَّدُّ على الزمخشريّ في تقديره : لا يحسبنهم الذين في قوله تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي } [ آل عمران : 178 ] وأن هذا التقدير لا يصح » .
قال شهابُ الدِّينِ : قد تقدَّم ذلك والجواب عنه ، لكن ليس هو في قوله : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [ آل عمران : 178 ] بل في قوله : { ولا يَحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله } من قراءة من قرأ بياء الغيبة ، فهناك ردَّ عليه بما قال ، وقد أجيب عنه والحمد لله ، وإنما نبهت على ذلك لئلا يطلب هذا البحث من المكان الذي ذكره فلم يوجد .
ويجوز أن يقالَ : في تقرير هذا الوجه الثالث- : أنه حذف من إحدى الفعلين ما أثبت نظيره في الآخر وذلك أن « بِمَفَازَةٍ » مفعول ثانٍ للفعل الأول ، حذفت من الفعل الثاني ، و « هُمْ » في « فلا يحسبنهم » مفعول أول للفعل الثاني ، وهو محذوفٌ من الأولِ .
وإذا عرفت ذلك فالفعلُ الثاني -على هذه الأوجه الثلاثة- تأكيدٌ للأول .
وقال مكِّيٌّ : إن الفعل الثاني بدلٌ من الأولِ .
وفي تسمية مثل هذا بدلاً نظر لا يخفى ، وكأنه يريد أنه في حكم المكرر ، فهو يرجع إلى معنى التأكيد . وكذلك قال بعضهم : والثاني مُعَاد على طريق البدل ، مشوباً بمعنى التأكيدِ .
وعلى هذين القولين -أعني كونه تأكيداً ، أو بدلاً- فالفاء زائدة ، ليست عاطفة ولا جواباً .
قوله : { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ } أصله : تحسبونَنَّهم ، بنونين- الأولى نون الرفع ، والثانية للتوكيد- وكتصريفه لا يخفى من القواعد المتقدمة . وتعدى هنا فعل المضمر المنفصل إلى ضميره المتصل ، وهو خاص بباب الظن ، وبعدم وفقد دون سائر الأفعال . لو قلت : « أكرمتُني » ، أي : « أكرمت أنا نفسي » لم يجز .
وأما قراءة الكوفيين فالفعلانِ فيها مسندان إلى ضمير المخاطب إما الرسول صلى الله عليه وسلم أو كل من يصلح للخطاب- والكلام في المفعولين للفعلين كالكلام فيهما في قراءة أبي عمرو وابن كثيرٍ ، على قولنا إن الفعلَ الأولَ مسندٌ لضميرٍ غائبٍ ، والفعل الثاني تأكيدٌ للأولِ ، أو بدلٌ منه ، والفاء زائدة ، كما تقدم في توجيه قراءة أبي عمرو وابن كثير ، على قولنا : إن الفعلين مسندان للموصول؛ لأن الفاعل فيهما واحد ، واستدلوا على أن الفاء زائدة بقول الشاعر : [ الكامل ]
1710- لا تَجْزَعِي إنْ مُنْفِساً أهْلَكْتُهُ ... فَإذَا هَلَكْتُ فَعِنْدَ ذلِكَ فَاجْزَعِي
وقول الآخر : [ الكامل ]
1711- لَمَّا اتَّقَى بِيَدٍ عَظِيمٍ جِرْمُهَا ... فَتَرَكْتُ ضَاحِيَ جِلْدِهَا يَتَذَبْذَبُ
وقول الآخر : [ الكامل ]
1712- حَتَّى تَرَكْتُ العَائِدَاتِ يَعُدْنَهُ ... فَيَقُلْنَ : لا تَبْعَدْ ، وَقُلْتُ لَهُ : ابْعَدِ
إلا أنَّ زيادةَ الفاءِ ليس رأي الجمهورِ ، إنما قال به الأخفش .
وأما قراءة نافع وابن عامرٍ -بالغيبة في الأولِ ، والخطاب في الثاني- فوجهها أنهما غايرا بين الفاعلين ، والكلام فيهما يؤخذ مما تقدم ، فيؤخذ الكلام في الفعل الأول من الكلام على قراءة أبي عمرو وابن كثير ، وفي الثاني من الكلام على قراءة الكوفيين بما يليق به ، إلا أنه ممتنع -هنا- أن يكون الفعل الثاني تأكيداً للأول ، أو بدلاً منه؛ لاختلاف فاعليهما ، فتكون الفاء -هنا- عاطفةً ليس إلا ، وقال أبو علي في الحُجة- : إن الفاءَ زائدة ، والثاني بدلٌ من الأولِ ، قال : « وليس هذا موضع العطف لأن الكلامَ لم يتم ، ألا ترى أن المفعول الثاني لم يُذْكَر بَعْدُ » .
وفيه نظرٌ؛ لاختلاف الفعلين باختلاف فاعليهما .
وأما قراءة الخطاب فيهما مع ضم الباء فيهما فالفعلان مسندان لضمير المؤمنين المخاطبين ، والكلام في المفعولين كالكلام فيهما في قراءة الكوفيينَ .
وأما قراءةُ الغيبةِ وفتح الباء فيهما فالفعلان مسندانِ إلى ضميرٍ غائبٍ ، أي : لا يحسبن الرسولُ ، أو حاسبٌ .
والكلامُ في المفعولينِ للفعلينِ ، كالكلام في القراءة التي قبلها ، والثاني من الفعلين تأكيدٌ ، أو بدلٌ ، والفاءُ زائدةٌ -على هاتينِ القرائتينِ- لاتحادِ الفاعلِ .
وقرأ النَّخعِيُّ ، ومروان بن الحكمِ « بما آتوا » ممدوداً ، أي : أعْطُوا ، وقرأ علي بن أبي طالبٍ « أوتوا » مبنياً للمفعول .
فصل
قال ابنُ عبّاسٍ : قوله : { يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ } هم اليهودُ ، حرَّفوا التوراةَ ، وفرحوا بذلك ، وأحبوا أن يوصَفُوا بالديانةِ والفَضْلِ .
وقيل : سأل رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم اليهودَ عن شيء من التوراة ، فأخبروه بخلافه ، وفرحوا بذلك التلبيسِ وطلبوا أن يثنى عليهم بذلك .
وقيل : فرحوا بكتمان النصوص الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأحبوا أن يُحْمَدُوا بأنهم متبعون دين إبراهيم .
وقيل : هُم المنافقونَ ، فرحوا بِنفَاقِهِمْ للمسلمينَ ، وأحبُّوا أن يَحْمَدَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الإيمانِ .
وقيل : هم بعض المنافقينَ ، تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغَزْو ، وفرحوا بقعودهم ، واعتذروا ، وطمعوا أن يُثَنَى عليهم بالاعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وفَرِحوا بذلك الكتمان ، وزعموا أنهم أبناءُ اللهِ وأحباؤهُ .
فصل
قال الفرّاءُ : « يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوْا » أي : بما فعلوا ، كقوله : { لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } [ مريم : 27 ] أي : فَعَلْتِ ، وقوله : { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ } [ النساء : 16 ] . قال الزمخشريُّ : « أتى وجاء تُسْتَعْملان بمعنى فَعَل قال تعالى : { إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } [ مريم : 61 ] ويدل عليه قراءة أبَي يفرحون بما فَعَلوا » .
قوله : { وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } قد تقدم معناه في كيفية النظم { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ } أي : بمنجاة من العذاب ، من قولهم : فاز فلان -إذا نجا- أي : ليسوا بفائزين .
وقيل : لأنها موضع تفويز ومظنة هلاك ، تقول العرب : فوَّز الرجل -إذا مات- .
وقال الفرّاءُ : أي : ببعيد من العذاب؛ لأن الفوز معناه التباعُد من المكروه ، ثم حقَّق ذلك بقوله : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
قوله : { مِّنَ العذاب } فيه وجهانِ :
أحدهما : أنه متعلق بمحذوف ، على أنه صفة لِ « مَفَازَةٍ » أي : بمفازة كائنةٍ من العذاب على جَعْلِنَا « مَفَازَةٍ » مكاناً ، أي بموضع فَوْز .
قال أبو البقاء : « لأن المفازةَ مكان ، والمكانُ لا يعملُ » .
يعني فلا يكون متعلقاً بها ، بل محذوف ، على أنه صفة لها ، إلا أن جعله صفة مشكل؛ لأن المفازة لا تتصف بكونها { مِّنَ العذاب } اللهم إلا أن يُقَدَّر ذلك المحذوف الذي يتعلق به الجارُّ شيئاً خاصاً حتى يُصبح المعنى تقديره : بمفازة منجيةٍ من العذابِ ، وفيه الإشكالُ المعروفُ ، وهو أنه لا يُقَدَّر المحذوف -في مثله- إلا كَوْناً مطلقاً .
الثاني : أن يتعلق بنفس « مفازة » على أنها مصدر بمعنى الفَوْز ، تقول : فزت منه أي : نَجَوْت ، ولا يضر كونها مؤنثة بالتاء؛ لأنها مبنيةٌ عليها ، وليست الدالة على التوحيد .
كقوله : [ الطويل ]
1713- فَلَوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ مِنكَ وَرَهْبَةٌ ... عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا كَالمَوَارِدِ
فأعمل « رهبة » في « عقابك » وهو مفعول صريح ، فهذا أولى .
قال أبو البقاء : « ويكون التقدير : فلا تحسبنهم فائزين ، فالمصدر في موضع اسم الفاعلِ » .
فإن أراد تفسير المعنى فذاك ، وإن أراد أنه بهذا التقدير -يصح التعلُّق ، فلا حاجة إليه؛ إذ المصدر مستقل بذلك لفظاً ومعنىً .

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
قال القرطبيُّ : « هذا احتجاجٌ على الذين قالوا : إنّ الله فقيرٌ ونحن أغنياء ، وتكذيب لهم » .
وقيل : المعنى : لا تظنَّنَّ الفرحين ينجون من العذاب ، فإنّ للهِ كُلّ شيء ، وهم في قبضة القدير ، فيكون معطوفاً على الكلام الأولِ ، أي : إنهم لا ينجون من عذابه ، يأخذهم متى شاء .
{ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : لهم عذابٌ أليمٌ ممن له ملك السموات والأرض ، فكيف يرجو النجاة من كان معذبه هذا المالك القادر؟

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)
اعلم أنه -تعالى- لما قرَّر الأحكام ، وأجاب عن شُبَه المُبْطِلين ، عاد إلى ذِكْر ما يدل على التوحيد فذكر هذه الآية .
قال ابنُ عبيد قلت لعائشة -رضي الله عنها- : أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكَتْ وأطالت ، ثم قالت : « كُلُّ أمره عَجَبٍ ، أتاني في ليلتي ، فدخل في لحافي ، حتى ألصق جِلدَه بجلدي ، ثم قال لي : يَا عَائِشَة ، هَلْ لَكِ أن تَأذَنِي لِي اللَّيْلةَ في عِبَادَةِ رَبِّي؟ فقلتُ : يا رسولَ اللهِ ، إنِّي لأحبُّكَ وأحِبُّ مُرَادَكَ ، فَقَد أذِنْتُ لَكَ ، فَقَامَ إلى قِرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ في البيتِ ، فَتَوَضَّأ ، ولم يُكْثِرْ من صَبِّ الْمَاءِ ، ثُمَّ قَامَ يُصلِّي ، فَقَرأ مِنَ الْقُرْآنِ ، وجَعَلَ يَبْكِي ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ، فَجَعَلَ يَبْكِي حَتَّى رَأَيْتُ دُمُوعَه قَدْ بَلَّتِ الأرْض فأتاه بلالٌ يُؤذنُهُ بِصَلاَةِ الْغَدَاةَ ، فَرَآهُ يَبْكِي ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أتَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأخَّرَ؟ فَقَالَ : يَا بِلاَلُ ، أفَلا أكثونُ عَبْداً شَكُوراً ، ثُمَّ قَالَ : مَا لِيَ لا أبكي وَقَدْ أنْزَلَ اللهُ في هَذِهِ اللَّيْلَةِ : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض } الآيات ، ثُمَّ قَالَ : وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا » . وروي : « ويلٌ لِمَنْ لاَكَها بَيْنَ فَكَّيْهِ وَلَمْ يَتَأمَّلْ فِيهَا . »
« وروي عن عَلِيٌّ -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قامَ من الليلِ يتسوكُ ، ثم ينظر إلى السماء ويقول : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب } » .
واعلم أنه -تعالى- ذكر هذه الآية في سورة البقرة ، وختمها بقوله : { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 164 ] وختمها هنا -بقوله : { لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب } وذكر في سورة البقرة -مع هذه الدلائل الثلاثة- خمسة أنواعٍ أخر حتى كان المجموع ثمانية أنواع من الدلائل ، وهنا اكتفى بذكر ثلاثةٍ -وهي السموات والأرض والليل والنهار- فأمّا الأول فلأن العقلَ له ظاهرٌ ، وله لُبٌّ ، ففي أولِ الأمرِ يكون عقْلاً ، وفي كمالِ الحالِ يكون لُبًّا ، ففي حالةِ كمالِهِ لا يحتاجُ إلى كَثرة الدلائلِ ، فلذلك ذكر له ثلاثةَ أنواعٍ من الدلائلِ ، وأسقط الخمسةَ ، واكتفى بذكر هذه الثلاثة؛ لأن الدلائل السماوية أقْهَر وأبْهَر ، والعجائب فيها أكثر .
قوله : { الذين يَذْكُرُونَ الله } فيه خمسة أوجهٍ :
أحدهما : أنه نعت لِ { لأُوْلِي الألباب } فهو مجرور .
ثانيها : أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم الذين .
ثالثها : أنه منصوب بإضمار أعني . وهذان الوجهان يُسَمَّيان بالقطع كما تقدم .
رابعها : أنه مبتدأ ، وخبره محذوف ، تقديره : يقولون : ربنا . قاله أبو البقاء .
خامسها : أنه بدل من { لأُوْلِي الألباب } ذكره مكِّيٌّ ، والأول أحسنها .
و { قِيَاماً وَقُعُوداً } حالانِ من فاعلٍ { يَذْكُرُونَ } و { وعلى جُنُوبِهِمْ } حال -أيضاً- فيتعلق بمحذوف ، والمعنى : يذكرونه قياماً وقعوداً ومضطجعين ، فعطف الحال المؤوَّلة على الصريحة ، عكس الآية الأخْرَى -وهي قوله تعالى :
{ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً } [ يونس : 12 ] - حيث عطفَ الصريحةَ على المؤولة .
و { قِيَاماً وَقُعُوداً } جَمْعان لقائمٍ وقاعدٍ ، وأجِيز أن يكونا مصدرَيْن ، وحينئذ يتأوَّلان على معنى : ذوي قيام وقعود ، ولا حاجة إلى هذا .
فصل
قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ ، وابنُ عباس ، والنَّخعيّ ، وقتادة : هذا في الصلاة ، يُصلي قائماً ، فإن لم يستطعْ فعلى جَنْبٍ .
وقال سائر المفسّرين : أراد به المداومة على الذكر في جميع الأحوال ، لأن الإنسانَ قلما يخلو من إحدى هذه الحالات .
قوله : { وَيَتَفَكَّرُونَ } فيه وجهان :
أظهرهما : أنها عطف على الصلة ، فلا محلَّ لها .
والثاني : أنها في محل نصبٍ على الحالِ ، عطفاً على { قِيَاماً } أي : يذكرونه متفكِّرين .
فإن قيل : هذا مضارع مثبت ، فكيف دخلت عليه الواو؟ .
فالجوابُ : أن هذه واو العطف ، والممنوع إنما هو واو الحال .
و « خَلْق » فيه وجهان :
أحدهما : أنه مصدر على أصْله ، أي يتفكرون في صفة هذه المخلوقات العجيبة ، ويكون مصدراً مضافاً لمفعوله .
الثاني : أنه بمعنى المفعول ، أي : في مخلوق السموات والأرض وتكون إضافته في المعنى إلى الظرف ، أي : يتفكرون فيما أودع اللهُ هذين الظرفين من الكواكب وغيرها .
وقال أبو البقاء : « وأن يكون بمعنى المخلوق ، ويكون من إضافة الشيء إلى ما هو في المعنى » .
قال شِهَابُ الدّينِ : « وهذا كلامٌ متهافتٌ؛ إذ لا يُضاف الشيء إلى نفسه ، وما أوهم بذلك يُؤَوَّل » .
فصل
{ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض } وما أبدع فيهما؛ ليدلهم ذلك على قدرة الصانع ، [ ويعرفوا ] أن لهلا مُدَبِّراً حَكِيماً .
وقال بعض العلماءِ : الفكرة تُذْهِب الغفلة ، وتُحْدِث للقلب خشية ، كما يُحْدث الماء للزرع والنبات ، ولا أجليت القلوب بِمثل الأحزان ، ولا استنارت بمثل الفِكْرة .
واعلم أن دلائلَ التوحيدِ محصورةٌ في قسمين :
دلائل الآفاق ، ودلائل الأنفس ، ولا شك أن دلائلَ الآفاق أجَلُّ وأعْظَمُ ، كما قال تعالى : { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس } [ غافر : 57 ] فلذلك أمر بالتفكر في خلق السموات والأرض؛ لأن دلالتها أعجب ، وكيف لا تكون كذلك لو أنَّ الإنسانَ نظرَ إلى ورقةٍ صغيرةٍ من أوراقِ شجرةٍ رأى في تلك الورقةِ عِرْقاً واحداً مُمْتداً في وَسَطها ، ثم يتشعَّب من ذلك العرق عروقٌ كثيرةٌ من الجانبين ، ثم بتشعَّب منها عروق دقيقة ، ولا يزال يتشعب من كل عرقٍ عروقٌ أخْرَى ، حتى تصيرَ في الورقة بحيثُ لا يراها البَصَر ، وعند هذا يعلم أن للحق في تدبير هذه الورقة على هذه الخلقة حِكَمَاً بَالِغَةً ، وأسراراً عجيبةً ، وان الله تعالى أودَعَ فيها قوةً جاذبةً لغذائها من قََعْر الأرض ، ثم إنّ ذلك الغذاء يجري في تلك العروق حتى يتوزَّع على كل جزءٍ من أجزاء تلك الورقةِ جُزْءٌ من أجزاء ذلك الغذاء -بتقدير العزيز العليم- ولو أراد الإنسان أن يعرف كيفية خلقه على تلك الورقة ، وكيفية التدبير في إيجادها ، وإيداع القوى الغذائية والنامية فيها لعجز عنه ، فإذا عرف أن عقله قاصرٌ عن الوقوف على كيفية خلقه تلك الورقة الصغيرة ، فحينئذ يقيس تلك الورقة إلى السموات -مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم- وإلى الأرض- مع ما فيها من البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان -عرف أن تلك الورقة- بالنسبة إلى هذه الأشياء- كالعدم ، فإذا اعترف بقصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير ، عرف أنه لا سبيل لَهُ -ألبتة- إلى الاطلاع على عجائب حِكمته في خَلْقِ السَّمَواتِ والأرض فلم يَبْقَ -مع هذا- إلا الاعترافُ بأنَّ الخالقَ أجَلّ وأعظم من أن يُحِيط به وَصْفُ الواصفينَ ومعارفُ العارفين ، بل يسلّم أن كل ما خلق ففيه حِكَمٌ بالغة -وإن كان لا سبيلَ له إلى معرفتها- فعند ذلك يقول : { سُبْحَانَكَ } والمرادُ منه الاشتغال بالتهليل والتسبيح والتحميد ، ويشتغل بالدعاء ، فيقول : { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } .
قوله : { رَبَّنَآ } هذه الجملة في محل نصب بقول محذوف ، تقديره : يقولون ، والجملة القولية فيها وجهان :
أظهرهما : أنها حال من فاعل « يَتَفَكَّرُونَ » أي : يتفكرون قائلين قائلين ربنا ، وإذا أعربنا « يَتَفَكَّرُونَ » حالاً -كما تقدم- فيكون الحالان متداخلين .
والوجه الثاني : « هَذَا » إشارة إلى الخلق ، إن أريد به المخلوق ، وأجاز أبو البقاء -حال الإشارة إليه ب « هذا » - أن يكون مصدراً على حاله ، لا بمعنى المخلوق ، وفيه نظرٌ .
أو إلى السّموات والأرض -وإن كانا شيئين ، كل منهما جمع -لأنهما بتأويلِ هذا المخلوق العجيب ، أو لأنهما في معنى الجَمْعِ ، فأشير إليهما كما يُشار إلى لفظِ الجمعِ .
قوله : « بَاطِلاً » في نصبه خمسةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : خَلْقاً باطلاً ، وقد تقدم أن سيبويه يجعل مثل هذا حالاً من ضمير ذلك المصدر .
الثاني : أنه حالٌ من المفعولِ به ، وهو « هَذَا » .
الثالث : أنه على إسقاطِ حرفٍ خافضٍ -وهو الباء- والمعنى : ما خلقتهما بباطلٍ ، بل بحَقٍّ وقُدْرَةٍ .
الرابع : أنه مفعول من أجله ، و « فاعل » قد يجيء مصدراً ، كالعاقبة ، والعافية .
الخامس : أنه مفعولٌ ثانٍ ل « خلق » قالوا : و « خلق » إذا كانت بمعنى « جَعَلَ » التي تتعدى لاثنين ، تعدّت لاثنين . وهذا غيرُ معروفٍ عند أهلِ العربيةِ ، بل المعروف أن « جعل » إذا كانت بمعنى « خلق » تعدت لواحدٍ فقط .
وأحسن هذه الأعاريب أن تكون حالاً مِنْ « هَذَا » وهي حالٌ لا يُسْتَغنَى عَنْهَا؛ لأنها لو حُذِفَتْ لاختلَّ الكلامُ ، وهي كقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ } [ الدخان : 38 ] .
قوله : { سُبْحَانَكَ } تقدم إعرابه ، وهو معترض بين قوله : { رَبَّنَآ } وبين قوله : { فَقِنَا } .
وقال أبو البقاء : « دخلت الفاء لمعنى الجزاءِ ، والتقدير : إذا نَزهناك ، أو وحَّدْناك فقنا » .
وهذا لا حاجةَ إليه ، بل التسبب فيها ظاهرٌ؛ تسبب عن قولهم : { رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ } طلبهم وقاية النار .
وقيل : هي لترتيب السؤالِ على ما تضمنه { سُبْحَانَكَ } من معنى الفعل ، أي : سبحانك فقنا . وأبْعَد مَنْ ذَهَب إلى أنها للترتيب على ما تضمنه النداء .
فصل
قالتِ المعتزلةُ : دلَّتْ هذه الآيةُ على أنَّ كلَّ ما يفعله الله تعالى ، فهو إنما يفعله لغرض الإحسان إلى العبيد ، ولأجل الحكمة ، والمراد منها رعاية مصالح العباد ، قالوا : لأنه لو لم يخلق السمواتِ والأرضَ لغرض كان خلقهما باطلاً ، وذلك ضد هذه الآية ، قالوا : وقوله : { سُبْحَانَكَ } تنزيهٌ له عن خَلْقِه لهما باطلاً .
وأجابَ الواحدي : بأنّ الباطل هو الذاهبُ الزائلُ؛ الذي لا يكون له قوةٌ ولا صلابةٌ ولا بقاءٌ ، وخَلْق السمواتِ والأرض مُحْكَمٌ ، مُتْقَنٌ ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتِ فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } [ الملك : 3 ] ؟ وقوله : { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً } [ النبأ : 12 ] . فكان المرادُ من قوله : { رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً } هذا المعنى ، لا ما ذكره المعتزلة .
فإن قيل : هذا الوجهُ مدفوعٌ بوجوهٍ :
الأول : لو كان المرادُ بالباطلِ : الرخو ، المتلاشي؛ لكان قوله : { سُبْحَانَكَ } تنزيهاً لهُ أنْ يخلق مثل الخلق ، وذلك باطلٌ .
الثاني : أنه إنما يحسن وصل قوله : { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } به إذا حملناه على المعنى الذي ذكرناه؛ لأن التقدير : ما خلقته باطلاً بغير حكمةٍ ، بل خلقته بحكمةٍ عظيمةٍ . فعلى قولنا يحسن النظم ، وعلى قولكم بشدة التركيب لم يحسن النَّظمُ .
الثالثُ : أنه -تعالى- ذكر هذا في آيةٍ أخْرى ، فقال : { وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ } [ ص : 27 ] وقال في آية أخرى : { وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بالحق } [ الدخان : 38- 39 ] وقال : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى الله الملك الحق } [ المؤمنون : 115 و 116 ] . أي : فتعالى الملك الحقُّ على أنْ يكونَ خلقه عَبَثاً ، وإذا لم يكن عبثاً فامتناعُ كونِهِ باطلاً أولَى .
فالجواب : أنّ بديهةَ العقلِ شاهدةٌ بأنّ الموجودَ إما واجبٌ لذاته ، وإما ممكن لذاته ، وشاهدة بانّ كلَّ ممكنٍ لذاته فإنه لا بد وأن ينتهي في رجحانه إلى الواجب لذاته ، وإذا كان كذلك وجب أن يكونَ الخير والشر بقضاء اللهِ ، وإذا كان كذلك امتنع أن يكونَ المرادُ من الآية تعليلُ أفعالِ اللهِ -تعالى- بالمصالح وأما قوله : لو كان كذلك لكان قوله : { سُبْحَانَكَ } تنزيهاً عن فعل ما لا شدة فيه ولا صلابة ، وذلك باطلٌ ، فجوابُهُ : لِمَ لا يجوز أن يكون المرادُ : ربنا ما خلقت هذا رخواً فاسدَ التركيب ، بل خلقته صلباً محكماً؟ وقوله : { سُبْحَانَكَ } معناه : أنك إن خلقت السمواتِ والأرضَ صلبةً ، شديدةً ، باقيةً ، فأنت منزهٌ عن الاحتياج إليه والانتفاع به .
وأما قولهم : إنما يحسن وصل قوله : { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } به إذا فسَّرناه بقولنا ، فالجوابُ : لا نسلم بل وجه النظم أنّ قوله : { سُبْحَانَكَ } اعتراف بكونه غنياً عن كل ما سواه ، وإذا وصفه بالغنى يكون قد اعترف لنفسه بالعجز والحاجة إليه في الدنيا والآخرة ، فقال : { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } وهذا الوجه أحسن في النظم .
وأما سائر الآيات التي ذكروها فهي دالةٌ على أن أفعاله منزهة عن اتصافها بالعبث ، واللعب ، والبطلان ونحن نقولُ بموجبه ، وأنّ أفعَالهُ كُلَّها حكمةٌ وصوابٌ .
وقوله : { سُبْحَانَكَ } إقرارٌ بعجز العقولِ عن الإحاطة بآثار اللهِ في خلق السمواتِ والأرضِ . يعني أنَّ الخلقَ إذا تفكروا في هذهِ الأجسامِ العظيمةِ لم يعرفوا منها إلا هذا القدر .
والمقصود منه تعليم العبادِ كيفية الدعاء وآدابه ، وذلك أنّ من أراد الدعاء فليقدم الثناءَ ، ثم يذكر بعده الدعاء ، كهذه الآيةِ .
قوله : { رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار } « من » شرطية ، مفعول مقدم ، واجب التقديم ، لأن له صدرَ الكلام ، و « تُدْخِل » مجزوم بها ، و { فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } جوابٌ لها .
وحكى أبو البقاءِ عن بعضهم قولين غريبين :
الأول : أن تكون « من » منصوبة بفعل مقدَّر ، يُفَسِّره قوله : { فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } . وهذا غلطٌ؛ لأن مَنْ شرط الاشتغال صحة تسلط ما يفسَّر على ما هو منصوب ، والجوابُ لا يعمل فيما قبل فعل الشرط؛ لأنه لا يتقدم على الشرط .
الثاني : أن تكون « مَنْ » مبتدأ ، والشرطُ وجوابُهُ خبر هذا المبتدأ . وهذان الوجهان غلط ، والله أعلم . وعلى الأقوالِ كُلِّها فهذه الجملةُ الشرطيةُ في محل رفع؛ خبراً لِ « إنَّ » . ويقال : خزيته وأخزيته ثلاثياً ورباعياً -والأكثر الرباعي ، وخَزِيَ الرجلُ يَخْزَى خِزْياً - إذا افتضح- وخزايةً- إذا استحيا -فالفعلُ واحدٌ ، وإنما يتميز بالمصدرِ .
قال الواحديُّ : الإخزاء -في اللغو- يَرِدُ على معانٍ يقرب بعضُها من بعض .
قال الزَّجَّاجُ : أخْزَى الله العدُوَّ : أي : أبعده .
وقال غيره : أخزاه اللهُ : أي : أهانه .
وقال شمر : أخزاه اللهُ : أي : فضحه ، وفي القرآن : { وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي } [ هود : 78 ] .
وقال المفضَّلُ : أخزاه الله : أي : أهلكه .
وقال ابنُ الأنباري : الخِزْي -في اللغة- الهلاك بتلف أو انقطاع حجة ، أو وقوع في بلاء ، وكل هذه الوجوه متقاربة .
وقال الزمخشريُّ : « فَقَدْ أخْزَيْتَهُ » أي : أبلغت في إخزائه .
فصل
قالت المعتزلةُ : هذه الآيةُ دالةٌ على أن صاحب الكبيرةِ -من أهل الصَّلاةِ- ليس بمؤمن؛ لأن صاحب الكبيرة إذا دخل النار فقد أخزاهُ اللهُ؛ لدلالة هذه الآية ، والمؤمن لا يخزى؛ لقوله تعالى : { يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ } [ التحريم : 8 ] فوجب من [ مجموع هاتين ] الآيتين ألا يكن صاحب الكبيرةِ مؤمناً .
والجواب أن قوله : { إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } لا يقتضي نفي الإخزاء مطلقاً ، وإنما يقتضي ألا يَحْصُلَ الإخزاءُ في وقتٍ آخَرَ .
وأجاب الواحديُّ في « البسيط » بثلاثة أجوبةٍ أُخَرَ .
أحدها : أنه نقل عن سعيد بن المُسَيَّبِ ، والثوري ، وقتادة ، أن قوله : « فَقَدْ أخْزَيْتَهُ » مخصوصٌ بمن يدخل النّارَ للخلودِ . وهذا الجوابُ ضعيفٌ؛ لأن مذهبَ المعتزلةِ أنّ كلَّ فاسقٍ دخل النَّارَ ، فإنَّما يدخلها للخلودِ فيها .
وثانيها : أن المُدْخَل في النار مخزًى في حال دخوله ، وإن كان عاقبته أن يخرج منها . وهذا -أيضاً- ضعيفٌ؛ لأنَّ نفي الخِزْي عن المؤمنين على الإطلاق ، وهذه الآيةُ دلت على حصول الخِزْي لكل من دخل النّارَ ، فحصل بحُكم هاتين الآيتين -بين كونه مؤمناً ، وبين كونه كافراً -من يدخل النار- منافاةٌ .
وثالثها : أنّ الإخزاءَ يحتمل وَجْهَيْن « :
أحدهما : الإهانة والإهلاك . وثانيهما : التخجيل ، يقال : خَزِيَ خِزَايةً : إذا استحيا ، وأخزاهُ غيرُه : إذا عمل به عملاً يُخْجله ويستحيي منه .
قال ابنُ الخطيبِ : » واعلم أنّ حاصلَ هذا الجوابِ : أنَّ لفظَ الإخزاءِ مشتركٌ بين التخجيلِ وبين الإهلاكِ ، واللفظُ لا يمكن حَمْله في طرفي النفي والإثبات على معنييه جميعاً ، وإذا كانَ كذلك جاز أن يكون المنفي بقوله : { يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ } [ التحريم : 8 ] غير المثبت في قوله : { إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } وعلى هذا يسقط الاستدلالُ ، إلا أنّ هذا الجوابَ إنما يتمشى إذا كان لفظُ الإخزاء مشتركاً بين هذين المفهومين ، أما إذا كان لفظاً متواطئاً ، مفيداً لمعنًى واحدٍ وكان المعنيان اللذان ذكرهما الواحديُّ نوعين تحت جنس واحدٍ ، سقط هذا الجوابُ؛ لأن قوله : { يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ } [ التحريم : 8 ] لنفي الجنس ، وقوله : « فقد أخزيته » لإثبات النوع ، وحينئذ تحصل المنافاةُ بينهما « .
قال القرطبيُّ : » وقال أهل المعاني : الخِزي أن يكون بمعنى الحياء ، يقال : خَزِيَ يَخْزَى خزايةً إذا استحيا ، فهو خَزْيان .
قال ذو الرمة : [ البسيط ]
1714- خَزَايَةً أدْرَكَتْهُ عِنْدَ جُرْأتِهِ ... مِنْ جَانِبِ الحَبْلِ مَخْلُوطاً بِهَا الْغَضَبُ
فخِزْي المؤمنينَ -يومئذٍ- استحياؤهم في دخول النَارِ من سائرِ أهلِ الأدْيَانِ إلى أن يخرجوا مِنْهَا ، والخِزْي للكافرين هو إهلاكهم فيها من غير موتٍ ، والمؤمنون يموتون ، فافترقوا ، كذا ثبت في صحيح السنة ، من حديث أبي سعيدٍ الخُدْريِّ ، أخرجه مسلمٌ « .
فصل
احتجت المرجئة بهذه الآيةِ في القطعِ بأنَّ صاحبَ الكبيرةِ لا يُخْزَى ، وكل مَنْ دخل النَّار فإنه يُخْزَى ، فيلزم القطع بأنَّ صاحبَ الكبيرةِ لا يدخل النارَ ، وإنما قُلْنا : صاحبُ الكبيرةِ لا يُخْزَى؛ لأن صاحبَ الكبيرةِ مؤمنٌ ، والمؤمنُ لا يُخْزَى ، وإنما قلنا : إنه مؤمنٌ؛ لقوله تعالى : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله } [ الحجرات : 9 ] سمي الباغي -حال كونِهِ باغياً- مؤمناً ، والبغي من الكبائر بالإجماع ، وأيضاً قال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى } [ البقرة : 178 ] سمى القاتلَ -بالعَمْد العدوان- مؤمناً ، فثبت أنَّ صاحبَ الكبيرةِ مؤمنٌ ، وإنما قلنا : إن المؤمن لا يُخْزَى؛ لقوله تعالى : { يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ } [ التحريم : 8 ] ولقوله :
{ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة } [ آل عمران : 194 ] ، ثم قال : { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ } [ آل عمران : 195 ] وهذه الاستجابة تدل على أنه -تعالى- لا يخزي المؤمنين ، فثبت أن صاحبَ الكبيرِ لا يُخْزَى وكل مَنْ دخل النار فإنه يُخْزَى؛ لقوله تعالى : { إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } فثبت -بهاتين المقدمتين- أن صاحب الكبيرة لا يدخل النار .
والجوابُ : ما تقدم من أن قوله : { يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ } [ التحريم : 8 ] إنما يدل على نَفْي الإخزاء مع النَّبِيّ ، وذلك لا ينافي حصول الإخزاء في وقتٍ آخرَ .
عموم هذه الآية مخصوصٌ في مواضع ، منها قوله تعالى : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [ مريم : 71 ] ثم قال : { ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا } [ مريم : 72 ] وأهل الثَّوابِ مصونونَ عن الحِزْي .
ومنها : أنَّ الملائكةَ -الذين هم خَزَنَة جَهَنَّم يكونون في النَّارِ ، وهُمْ -أيضاً- مصونونَ عَنِ الخزي ، قال تعالى : { عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] .
قوله : { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } « مِنْ » زائدة ، لوجودِ الشَّرْطَيْنِ ، وفي مجرورها وجهانِ :
أحدهما : أنه مبتدأ ، وخبره في الجارّ قبله ، وتقديمه -هنا- جائزٌ لا واجبٌ؛ لأنَّ النفي مسوَّغٌ وحَسَّن تقديمه كونُ مبتدئه فاصلةً .
الثاني : أنه فاعل بالجارِّ قبله ، لاعتماده على النفي ، وهذا جائزٌ عند الجميعِ .
فصل
تمسَّك المعتزلةُ بهذه الآيةِ في نَفْي الشفاعةِ للفسَّاق؛ وذلك لأن الشفاعة ، نوع نُصْرَةٍ ، ونَفْي الجنس يقتضي نَفْيَ النَّوعِ ، والجوابُ من وجوهٍ :
أحدها : أن القرآنَ دلَّ على أنّ الظالمينَ -بالإطلاقِ- هم الكفَّارُ ، قال تعالى : { والكافرون هُمُ الظالمون } [ البقرة : 254 ] ويؤكّده ما حكى عن الكفار من نفيهم الشفعاء والأنصار في قولهم : { فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ } [ الشعراء : 100- 101 ] .
ثانيها : أنَّ الشفيع لا يمكنه أن يشفع إلا بإذن اللهِ تَعَالَى ، قال تعالى : { مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] وإذا كان كذلك لم يكن الشفيعُ قادراً على النُّصرَةِ إلا بعد الإذن ، وإذا حصل الإذن ففي الحقيقة إنما ظهر العفو من اللهِ تَعَالَى ، فقوله : { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } يُفيد أنه لا حكمَ إلا لله ، كما قال : { أَلاَ لَهُ الحكم } [ الأنعام : 62 ] وقال : { والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفطار : 19 ] .
فإن قيل : فعلى هذا التقديرِ لا يبقى لتخصيص الظالمينَ -بهذا الحكمِ- فائدةٌ .
فالجوابُ : بل فيه فائدةٌ ، لأنه وعد المؤمنينَ المتقينَ في الدُّنْيَا بالفوزِ بالثَّوابِ ، والنجاةِ من العقابِ ، فلهم يومَ القيامةِ هذه المنزلةُ ، وأما الفُسَّاقُ فليس لهم ذلك ، فصَحَّ تخصيصهم بنَفْي الأنصارِ على الإطلاقِ .
ثالثها : أن هذه الآيةَ عامةٌ ، والأحاديثُ الواردةُ بثبوتِ الشفاعةِ خاصةٌ ، والخاصُّ مقَدَّم على العامّ .

رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
« سمع » إن دخلت على ما يصح أن يُسْمَعَ -نحو : سمعتُ كلامكَ وقراءتك -تَعَدَّتْ لواحدٍ ، فإن دخلت على ما يصح سماعهُ -بأن كان ذاتاً- فلا يصحُّ الاقتصارُ عليه وَحْدَه ، بل لا بد من الدلالة على شيء يُسْمَع ، نحو سمعتُ رجلاً يقول كذا ، وسمعت زيداً يتكلم ، وللنحويين -في هذه المسألة- قولانِ :
أحدهما : أنها تتعدى فيه -أيضاً- إلى مفعولٍِ واحدٍ ، والجملة الواقعة بعد المنصوب صفة إن كان قبلها نكرة ، أو حالاً ، إن كان معرفة .
والثاني : -قول الفارسيُّ وجماعة- : أنها تتعدى لاثنين ، والجملة في محلِّ الثاني منهما ، فعلى قول الجمهورِ يكون « يُنَادِي » في محل نَصْبٍ ، لأنهُ صفةٌ لمنصوبٍ قبلهُ ، وعلى قول الفارسيِّ يكون في محل نصْبٍ على أنه مفعولٌ ثانٍ .
وقال الزمخشريُّ : « تقول : سمعت رجلاً يقولُ كذا ، وسمعت زيداً يتكلمُ ، فتوقع الفعل على الرجل ، وتحذف المسموع؛ لأنك وصفته بما يسمع ، أو جعلته حالاً منه ، فأغناك عن ذِكْره ، ولولا الوصف أو الحالُ لم يكن منه بُدٌّ ، وأن تقول : سمعتُ كلامَ فلانٍ أو قَوْلَهُ » .
وهذا قولُ الجمهورِ المتقدم ذِكره .
إلا أن أبا حيّان اعترض عليه ، فقال « وقوله : ولولا الوصفُ أو الحالُ . . . إلى آخره ، ليس كذلك ، بل لا يكونُ وَصْفٌ ولا حالٌ ، ويدخل » سَمِعَ « على ذات على مسموع ، وذلك إذا كان في الكلام ما يُشْعِر بالمسموع -وإن لم يكن وَصْفاً ولا حالاً- ومنه قوله تعالى : { قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ } [ الشعراء : 72 ] فأغنى ذكر طرف الدعاء عن ذكر المسموع » .
وأجاز أبو البقاء في « يُنَادِي » أن تكون في محل نَصْبٍ على الحال من الضمير المستكن في « مُنَادِياً » . فإن قيل : ما الفائدة في الجمع بين « مُنَادِياً » و « يُنَادِي » ؟
فأجاب الزمخشريُّ بأنه ذَكَر النداء مطلقاً ، ثم مقيَّداً بالإيمانِ ، تفخيماً لشأن المُنَادِي؛ لأنه لا مناديَ أعظمُ من منادٍ ينادي للإيمان ، ونحوه قولك : مررت بهادٍ يهدي للإسلام ، وذلك أن المنادِيَ إذا أطلق ذهب الوَهم إلى منادٍ للحرب ، أو لإطفاء الثائرة ، أو لإغاثة المكروبِ ، أو لكفاية بعض النوازلِ ، أو لبعض المنافعِ وكذلكَ الهادي يُطلق على مَنْ يهدي للطريق ، ويهدي لسدادِ الرأي ، وغير ذلك فإذا قُلْتَ : ينادي للإيمان ، ويهدي للإسلام فقد رَفَعْتَ من شأن المنادِي والهادي وفخّمته .
وأجاب أبو البقاء بثلاثة أجوبةٍ :
أحدها : التوكيد ، نحو : قُم قَائِماً .
الثاني : أنه وصل به ما حسَّن التكرير ، وهو الإيمان .
الثالث : أنه لو اقتصر على الاسم لجاز أن يكون « سَمِعَ » مقروناً بالنداء بذكر ما ليس بنداءٍ ، فلمَّا قال : « يُنَادي » محذوفٌ ، أي : ينادي في الناس ، وبجوز ألا يُرادَ مفعول ، نحو : أمات وأحيا .
ونادى ودعا يتعديان باللام تارةٌ ، وب « إلى » أخرى ، وكذلك نَدَبَ .
قال الزمخشريُّ : وذلك أن معنى انتهاءِ الغايةِ ومعنى الاختصاص واقعان جميعاً ، فاللام في موضعها ولا حاجةَ إلى أن يقالَ : إنها بمعنى « إلى » ولا أنها بمعنى الباء ، ولا أنها لام العلة -أي : لأجل الإيمان- كما ذهب إليه بعضهم ووجه المجاز فيه أنه لما كان مشتملاً على الرشد وكان كل مَنْ تأمَّلَه وَصَلَ به إلى الهدى -إذا وفَّقه الله لذلك- صار كأن يدعو إلى الهُدَى ، وينادي يما فيه من أنواعِ الدلائلِ ، كما قيل -في جهنم- : { تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وتولى } [ المعارج : 17 ] إذْ كان مصيرهم إليها .
فصل
اختلفوا في المراد بالمنادِي : فقال ابنُ مسعود ، وابنُ عباسٍ ، وأكثرُ المفسّرين : يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وقال القرطبيُّ : يعني القرآن؛ إذ ليس كلهم سَمِعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ودليلُ هذا القولِ ما أخبر اللهُ -تعالى- عن مؤمني الجِنِّ إذْ قالوا : { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يهدي إِلَى الرشد فَآمَنَّا بِهِ } [ الجن : 1- 2 ] . قوله : « أَنْ آمَنُوا » في « أن » قولان :
أحدهما : أنها تفسيرية؛ لأنها وقعت بعد فعل بمعنى القول لا حروفه ، وعلى هذا فلا موضع لها من الإعرابِ .
ثانيهما : أنها مصدرية ، وصلت بفعل الأمرِ ، وفي وَصْلِها به نظرٌ ، من حيثُ إنها إذا انسبك منها وما بعدها مصدر تفوت الدلالة على الأمرية ، واستدلوا على وَصْلِها بالأمر بقولهم . كتبت إليه بأن قُمْ فهي -هنا- مصدرية [ ليس إلا ، وإلا يلزم عدم تعلُّق حرف الجر ، وإذا قيل بأنها مصدرية ] فالأصل التعدي إليها بالباء ، أي : بأن آمنوا ، فيكون فيها المذهبانِ المشهورانِ -الجرُّ والنصبُ .
قوله : « فآمَنَّا » عطف على ما « سَمِعْنَا » والعطف بالفاء مؤذن بتعجيل القبولِ وتسبب الإيمانِ على السَّماع من غير مُهْلَة ، والمعنى : فآمنا بربنا .
قوله : { رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار } اعلم أنهم قد طلبوا من الله في هذا الدعاءِ ثلاثةَ أشياءٍ :
أحدهَا : غفران الذنوب ، والغفران : هو الستر والتغطية .
ثانيها : التكفير ، وهو التغطية -أيضاً- يقال : رجل مُكَفَّرٌ بالسِّلاح -أي : مُغَطَّى -ومنه الكُفْر- أيضاً-
قال الشاعرُ : [ الكامل ]
1715- ... فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ ظَلاَمُهَا
فالمغفرة والتكفير -بحسب اللغة- معناهما شيء واحد ، وأما المفسرون فقال بعضهم : المرادُ بهما شيءٌ واحدٌ ، وإنما أعيد ذلك للتأكيد؛ لأن الإلحاحَ والمبالغة في الدعاء أمرٌ مطلوبٌ .
وقيل : المرادُ بالأول ما تقدم من الذنوب ، وبالثاني المستأنفُ .
وقيل : المرادُ بالغُفْران ما يزول بالتوبة ، وبالتكفير ما تكفِّره الطاعةُ العظيمةُ .
وقيل : المرادُ بالأولِ : ما أتى به الإنسانُ مع العلمِ بكونهِ معصية ، وبالثاني ما أتى به مع الجَهْل .
ثالثها : قوله : { وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار } أي : توفَّنا معدودين في صُحْبَتِهم ، فيكون الظرفُ متعلِّقاً بما قَبْلهُ ، وقيل : تُجَوَّزَ به عن الزمان ويجوز أن يكون حالاً من المفعول ، فيتعلق بمحذوف .
وأجازَ مَكِّيٍّ ، وأبو البقاءِ : أن يكون صفة لموصوف محذوف ، أي : أبراراً مع الأبرارِ ، كقوله : [ الوافر ]
1716- كأنَّكَ مِنْ جِمَالِ بَنِي أقَيْشٍ ... يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنّ
أي : كأنك جمل من جمال .
قال أبو البقاء : « [ تقديره ] أبراراً مع الأبرار ، وأبراراً -على هذا- حالٌ » . والأبرار يجوز أن يكونَ جمع بارّ -كصاحب وأصحاب ، ويجوز أن يكون جمع بَرٍّ ، بزنة : كَتِف وأكتاف ، ورَبّ وأرْبَاب .
قال القفّالُ : في تفسير هذه المعية وجهانِ :
أحدهما : أن وفاتهم معهم : هي أن يموتوا على مثل أعمالهم ، حتى يكونوا في درجاتهم يومَ القيامةِ ، كما تقول : أنّا مع الشافعي في هذه المسألة ، أي : مساوٍ له في ذلك الاعتقادِ .
ثانيهما : أنّ المرادَ منه كونُهم في جُملة أتباع الأبرار ، كقوله : { فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين } [ النساء : 69 ] .
فصل
احتجوا بهذه الآية على حصول العفو بدون التوبة من وجهين :
الأول : أنهم طلبوا المغفرةَ مطلقاً ، ثم أجابهم الله تعالى بقوله : { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ } [ آل عمران : 195 ] وهذا صريحٌ في أنه -تعالى- قد يغفرُ الذنبَ وإنْ لم توجد التوبةُ .
الثاني : أنه -تعالى- حكى عنهم إخبارَهم بإيمانهم ، ثم قالوا : { فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا } فأتى بفاء الجزاء وهذا يدلُّ على أنّ مجردَ الإيمان سبب لحسن طلب المغفرة من اللهِ تَعَالَى ، ثُمَّ إنَّ اللهَ تَعَالَى أجابَهُمْ بقوله : { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ } [ آل عمران : 195 ] فدلت هذه الآيةُ على أنَّ مجردَ الإيمانِ سببٌ لحصول الغُفْرانِ ، إما ابتداء -بأن يعفوَ عنه ، ولا يُدخلَهم النار -بأن يُعَذِّبهم مدةً ، ثم يعفوَ عنهم ، ويُخْرِجَهم من النار .
قوله تعالى : { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ } في هذا الجارّ ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنه متعلق ب « وعدتنا » .
قال الزمخشريُّ : « على -هذه- صلة للوعد ، كما في قولك : وعد الله الْجَنَّةَ على الطَّاعَةِ ، والمعنى : ما وعدتنا مُنَزَّلاً على رسلك ، أو محمولاً على رسلك؛ لأنَّ الرُّسُلَ مُحَمَّلون ذلك قال تعالى : { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ } [ النور : 54 ] .
وردَّ عليه أبو حيّان : بأنَّ الذي قدَّره محذوفاً كون مقيّد ، وقد عُلِم من القواعد أنَّ الظرفَ والجارَّ إذا وقعَا حالَيْن ، أو وَصْفَيْن ، أو خَبَرَيْن ، أو صِلَتَيْن تعلُّقاً بكون مطلق ، والجار -هنا- وقع حالاً ، فكيف يقدر متعلقه كوناً مقيَّداً ، وهو منزَّل ، أو محمول؟
ثالثها : -ذكره أبو البقاء- أن يتعلق » على « ب » آتِنَا « وقدر مضافاً ، فقال : على ألْسِنة رسُلك وهو حسن . وقرأ الأعمشُ : على رُسُلِكَ -بسكون السّينِ .
فإن قيل : إن الخُلْف في وَعْد اللهِ -تعالى- محالٌ ، فكيف طلبوا ما علموا أنه واقع لا محالة؟
فالجوابُ من وجوهٍ :
الأول : أنه ليس المقصود من الدعاء طلب الفعلِ ، بل المقصود منه إظهارُ الخضوعِ والذَّلَّة والعبودية ، وقد أمِرْنا بالدعاء بأشياء نقطع بوجودها لا محالة كقوله : { قَالَ رَبِّ احكم بالحق } [ الأنبياء : 111 ] وقوله :
{ فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ } [ غافر : 7 ] .
الثاني : أنَّ وعدَ اللهِ لا يتناول آحاد الأمة بأعيانهم ، بل بحسب أوصافهم ، فإنه -تعالى- وعد المتقين بالثوابِ ، ووعد الفُسَّاقَ بالعقاب ، فقوله : { وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا } معناه : وفَّقْنا للأعمال التي نصير بها أهلاً لوعدك ، واعصمْنا من الأعمال التي نصير بها أهلاً للعقابِ والخِزْي .
الثالث : أن اللهَ -تَعَالَى- وعد المؤمنينَ بأن ينصُرَهُمْ في الدُّنُيَا على أعدائِهِم ، فهُم طلبوا تعجيل ذلك .
فصل
دلَّت الآية على أنَّهُم إنَّمَا طلبوا منافعَ الآخرةِ بحُكْم الوعدِ لا بحُكْم الاستحقاق؛ لقولهم : { وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ } ثم قالوا : { إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد } وهذا يدلُّ على أنَّ المقتضي لحصول منافع الآخرةِ هُوَ الوَعْدُ لا الاستحقاقُ .
فإن قيلَ : متى حصل الثوابُ لزم اندفاعُ العقابِ لا محالةَ ، فلما طلبوا الثَّوابَ بقولهم : { وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا } كيف طلبوا ترك العقاب بقولهم : { وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة } بل لو طلب ترك العقاب -أولاً- ثم طلب الثَّوابَ بعده لاستقام الكلامُ؟
فالجوابُ من وجهينِ :
الأول : أن الثَّوابَ شرطه أن يكون منفعة مرونة بالتعظيم والسرور ، فقوله : { وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا } المراد منه المنافعُ وقوله : { وَلاَ تُخْزِنَا } المرادُ منه التعظيمُ .
الثاني : ما تقدم من أنَّ المقصودَ طلب التوفيق إلى الطاعة ، والعصمة عن المعصية ، كأنه قيل : وفقنا للطاعات ، وإذا وفقتنا فاعصمنا عما يبطلها ، ويوقعنا في الخزي . وعلى هذا يحسن النظم . و « الميعاد » مصدر بمعنى الوَعْد .
قوله : { يَوْمَ القيامة } فيه وجهان :
الأول : أنه منصوب ب { وَلاَ تُخْزِنَ } .
والثَّاني : أنه أجاز أبو حيَّان أن يكونَ من باب الإعمالِ؛ إذ يصلح أن يكون منصوباً ب { وَلاَ تُخْزِنَ } وب { وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا } إذا كان الموعود به الجنة .

فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
{ فاستجاب } لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فالذين هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ثَوَاباً مِّن عِندِ الله والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب ( * ) { } بمعنى : أجَابَ ويتعدى بنفسه وباللام ، وتقدم تحقيقه في قوله : { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي } .
ونقل تاج القراء أن « أجَابَ » عام ، و « اسْتَجَابَ » خاص في حصول المطلوب .
قال الحسن : ما زالوا يقولون ربنا ربنا حتى استجاب لهم . وقال جعفر الصادق : من حزبه أمرٌ فقال خمس مرات « ربَنا » نجّاه مما يخاف ، وأعطاه ما أراد ، قيل : وكيف ذلك؟ قال اقرءوا : { الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً } [ آل عمران : 191 ] إلى قوله : { إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد } [ آل عمران : 194 ] .
قوله تعالى : { أَنِّي لاَ أُضِيعُ } الجمهور على فتح « أن » والأصل : بأني ، فيجيء فيها المذهبان ، وقل أن يأتي على هذا الأصل ، وقرأ عيسى بن عمر بالكسر ، وفيها وجهان :
أحدهما : على إضمار القول أي : فقال : إني .
والثاني : أنه على الحكاية ب « استجاب » ؛ لأن فيه معنى القول ، وهو رأي الكوفيين .
قوله : « لا أضيع » الجمهور على « أضيع » من أضاع ، وقرئ بالتشديد والتضعيف ، والهمزة فيه للنقل كقوله : [ الطويل ]
1717- كمُرْضِعَةٍ أوْلاَدَ أخْرَى وَضَيَّعَتْ ... بَنِي بَطْنِهَا هَذَا الضَّلالُ عَنِ الْقَصْدِ
قوله : « منكم » في موضع جر صفة ل : « عامل » ، أي : كائناً منكم .
قوله : « من ذكر وأنثى » فيه خمسة أوجهٍ :
أحدها : أن « مِنْ » لبيان الجنسِ ، بيِّن جنس العامل ، والتقدير : الذي هو ذكرٌ أو أنثى ، وإن كان بعضهم قد اشترطَ في البيانيةِ أن تدخلَ على معرَّفٍ بلامِ الجنسِ .
ثانيها : أنَّهَا زائدةٌ ، لتقدم النفي في الكلام ، وعلى هذا فيكون { مِّن ذَكَرٍ } بدلاً من نفس « عَامِلٍ » ، كأنه قيل : عامل ذكر أو أنثى ، ولكنْ فيه نظرٌ؛ من حيثُ إنَّ البدلَ لا يُزاد فيه « من » .
ثالثها : أنها متعلقة بمحذوف؛ لأنها حالٌ من الضمير المستكن في « مِنْكُمْ » ؛ لأنه لما وقع صفة تحمَّل ضميراً ، والعامل في الحال العامل في « مِنْكُمْ » أي : عامل كائن منكم كائناً من ذكر .
رابعها : أن يكون « مِنْ ذكرٍ » بدلاً من « مِنْكُمْ » ؛ قال أبو البقاء : « وهو بدلُ الشيء من الشيء ، وهما لعين واحدة » .
يعني فيكون بدلاً تفصيليًّا بإعادة العامل ، كقوله : { لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } [ الأعراف : 75 ] وقوله : { لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ } [ الزخرف : 33 ] وفيه إشكالٌ من وجهينِ :
الأول : أنه بدل ظاهر من حاضر في بدل كل من كل ، وهو لا يجوز إلا عند الأخفش ، وقيَّد بعضُهم جوازه بأن يفيد إحاطة ، كقوله : [ الطويل ]
1718- فَمَا بَرِحَتْ أقْدامُنَا فِي مَكَانِنَا ... ثَلاَثَتُنَا حَتَّى أرينَا الْمَنَائِيَا
وقوله تعالى : { تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا } [ المائدة : 114 ] فلما أفاد الإحاطةَ والتأكيدَ جاز ، واستدل الأخْفَش بقول الشَّاعرِ : [ البسيط ]
1719- بِكُمْ قُرَيْشٍ كُفِينَا كُلَّ مُعْضِلَةٍ ... وَأمَّ نَهْجَ الْهُدَى مَنْ كَانَ ضِلِّيلا
وقول الآخرِ : [ الطويل ]
1720- وَشَوْهَاءَ تَعْدُو بِي إلَى صَارِخِ الْوَغَى ... بِمُسْتَلئِمٍ مِثْلِ الْفَنِيقِ المُدَجَّلِ
ف « قريش » بدلٌ من « كم » و « بمستلئم » بدل من « بي » بإعادة حرف الجر ، وايس ثَمَّ إحاطة ولا تأكيد ، فمذهبه يتمشى على رأي الأخفشِ دون الجمهورِ .
الثاني : أن البدلَ التفصيليّ لا يكون ب « أو » إنما يكون بالواو؛ لأنها للجمع .
كقولِ الشّاعرِ : [ الطويل ]
1721- وَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيِنِ رِجْلٍ صَحِيحَةٍ ... وَرِجْلٍ رَمَى فِيهَا الزَّمَانُ فَشَلَّتِ
ويُمكن أن يجابَ عنه بأن « أو » قد تأتي بمعنى الواو .
كما في قول الشّاعرِ : [ الكامل ]
1722- قَوْمٌ إذَا سَمِعُوا الصَّرِيخَ رَأَتَهُمْ ... مَا بَيْنَ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أوْ سَافِعِ
ف « أو » بمعنى الواو ، لأن « بين » لا تدخل إلا على متعدد ، وكذلك هنا لما كان « عامل » عاماً أبْدِلَ منه على سبيل التوكيدِ ، وعطف على أحد الجزأين ما لا بد له منه؛ لأنه لا يؤكَّد العموم إلا بعموم مثله .
خامسها : أن يكون { مِّن ذَكَرٍ } صفة ثانية لِ « عامل » قصد بها التوضيح ، فيتعلق بمحذوف كالتي قبلها .
قوله : { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } مبتدأٌ وخبرٌ ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ :
الأولُ : أنَّ هذه الجملةَ استئنافيةٌ ، جيء بها لتبيين شركة النساء مع الرجالِ في الثَّواب الذي وَعَدَ الله به عباده العاملين؛ لأنه روي في سبب النزولِ ، أنَّ أمَّ سلمة رضي الله عنها قالت : يَا رَسُولَ اللهِ إني لأسْمَع الله يذكر الرِّجَالَ في الهجرة ، ولا يذكر النَِّسَاءَ ، فنزلت الآية .
والمعنى : كما أنكم من أصلٍ واحدٍ ، وأن بعضكم مأخوذٌ من بعضٍ ، كذلك أنتم في ثواب العملِ ، لا يُثابُ عامل دون امرأةٍ عاملةٍ . وعبَّر الزمخشريُّ عن هذا بأنها جملة معترضة ، قال : « وهذه جملةٌ معترضةٌ ثبت بها شركة النساءِ مع الرّجال فيما وعد اللهُ عباده العاملينَ » .
ويعني بالاعتراض أنها جيء بها بين قوله : { عَمَلَ عَامِلٍ } وبين ما فُصِّل به عملُ العاملِ من قوله : { فالذين هَاجَرُواْ } ولذا قال الزمخشريُّ : { فالذين هَاجَرُواْ } تفصيل لعمل العاملِ منهم على سبيل التعظيمِ لَهُ .
الثاني : أنَّ هذه الجملَة صِفَةٌ .
الثالث : أنَّها حالٌ ، ذكرهما أبو البقاءِ ، ولم يُعيِّن الموصوف ولا ذا الحال ، وفيه نظرٌ .
قال الكلبي : « بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ » في الدين والنصرة والموالاة .
وقيل : كلكم من آدم وحوَّاء ، وقال الضّحّاك : [ رجالكم ] شكب نسائكم ، ونساؤكم شكل رجالِكم في الطاعات؛ لقوله : { والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [ التوبة : 71 ] .
وقيل : « مِنْ » بمعنى اللامِ ، أي : بعضكم لبعض ومثل بعض في الثّواب على الطاعة والعقاب على المعصية .
قال القفَّالُ : هذا من قولكم : فرن مني ، أي : عَلَى خلقي وسيرتي . قال تعالى : { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } [ البقرة : 249 ] وقال عليه السَّلامُ : « مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا » فقوله : { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } أي : بعضكم شبه بعض في استحقاق الثوابِ على الطَّاعة والعقاب على المعصية .
فصل
ليس المرادُ أنه لا يُضِيع نفس العمل؛ لأن العملَ -كما وجد- تلاشى وفني ، بل المرادُ أنه لا يُضِيع ثوابَ العملِ ، والإضاعة : عبارة عن تَرْكِ الإثابةِ ، « لاَ أضِيعُ » نفي للنفي ، فيكون إثباتاً ، فيصير المعنى : إني أوَصِّل ثوابَ أعمالِكم إليكم ، وإذا ثبت ذلك فالآية دالَّةٌ على أن أحَداً من المؤمنين لا يُخَلَّد في النار؛ لأنه بعلمه الصالح استحق ثواباً ، وبمعصيته استحق عقاباً ، فلا بد من وصولهما إليه -بحكم هذه الآية- والجمع بينهما مُحَالٌ ، فإما أن يقدم الثواب ، ثم يعاقب ، وهو باطلٌ بالإجماعِ ، أو يقدم العقاب ، ثم ينقل إلى الثّوابِ . وهو المطلوب .
فإن قيلَ : القوم طلبوا -أولاً- غفران الذنوب ، وثانياً : إعطاء الثواب ، فقوله : { أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } إجابة لهم في إعطاء الثواب ، فأين الجوابُ في طلب غُفْران الذنوب .
فالجواب أنه لا يلزم من إسقاط العذاب حصول الثواب ، لكن يلزم من حصول الثّوابِ إسقاط العذاب فصار قوله : { أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ } إجابةً لدعائهم في المطلوبَيْن .
قال ابنُ الخطيبِ : « وعندي -في الآية- وَجْه آخر ، وهو أن المراد من قوله : { أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ } أي لا يضيع دُعاءكم . وعدم إضاعة الدعاء عبارة عن إجابة الدعاء ، فكان المراد منه أنه حصلت إجابة دعائكم في كل ما طلبتموه وسألتموه » .
قوله : { فالذين هَاجَرُواْ } مبتدأ ، وقوله : { لأُكَفِّرَنَّ } جواب قسم محذوف ، تقديره : والله لأكَفِّرَنَّ ، وهذا القسم وجوابه خبر لهذا المبتدأ . وفي هذه الآية ونظائرها من قوله تعالى : { والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] وقولِ الشاعر : [ الكامل ]
1723- جَشَأتْ فَقُلْتُ اللَّذْ جَشَأتِ لَيَأتِيَنْ ... وَإذَا أتَاكِ فَلاَتَ حِينَ مَنَاصِ
رَدٌّ على ثعلبٍ؛ حيث زعم أن الجملةَ القسميةَ لا تقع خبراً ، وله أن يقول : هذه معمولة لقول مُضْمَر هو الخبرُ -وله نظائر .
والظاهرُ أن هذه الجُمَل -التي بعد الموصولِ- كُلَّها صِلات له ، فلا يكون الخبرُ إلا لمن جمع بين هذه الصفاتِ : المهاجرة ، والقَتْل ، والقتال .
ويجوز أن يكون ذلك على التنويع ، ويكون قد حَذف الموصولات لفَهْم المعنى وهو مذهب الكوفيين كما تقدم ، والتقدير : فالذين هاجروا والذين أخْرِجوا ، والذين قاتلوا : فيكون الخبر بقوله : { لأُكَفِّرَنَّ } عمن اتصف بواحدةٍ من هذه . وقرأ جمهورُ السبعة : « وَقَاتَلُوا وَقُتِلوا » ببناء للفاعلِ من المفاعَلةِ ، والثاني للمفعول ، وهي قراءة واضحة . وابنُ عامرٍ ، وابن كثيرٍ كذلك ، إلا أنهما شدَّدَا التاء من « قُتلوا » للتكثير ، وحمزة والكسائي بعكس هذا ، ببناء الأولِ للمفعول ، والثاني للفاعلِ ، وتوجيه هذه القراءة بأحدِ معنيينِ :
الأول : أنّ الواو لا تقتضي الترتيب ، كقوله :
{ واسجدي واركعي } [ آل عمران : 43 ] فلذلك قدم معها ما هو متأخرٌ عنها في المعنى ، هذا إن حَمَلْنا ذلك على اتحاد الأشخاصِ الذِينَ صدر منهم هذانِ الفعلانِ .
الثاني : أن تحمل ذلك على التوزيع ، أي : منهم مَنْ قُتِلَ ، ومنهم مِنْ قاتل كقولهم : قُتِلْنا ورَبِّ الكعبة إذا ظهرت أماراتُ القتلِ فيهم وهذه الآيةُ في المعنى كقوله : { قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } [ آل عمران : 146 ] والخلافُ في هذه كالخلافِ في قوله : { فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } [ التوبة : 111 ] والتوجيهُ هناك كالتوجيهِ هنا . وقرأ عمر بن عبد العزيز وقَتَلوا وقُتِلوا -ببناء الأولِ للفاعل ، والثاني للمفعول -من « فعل » ثلاثياً ، وهي كقراءة الجماعة ، وقرأ محارب بن دثار : وقَتَلوا وقَاتَلُوا -ببنائهما للفاعل- وقرأ طلحة بن مُصرِّف : وقُتِّلوا وقاتلوا ، كقراءة حمزة والكسائي ، إلا أنه شدد التاء ، والتخريج كتخريج قراءتهما . ونقل أبو حيّان -عن الحسنِ وأبي رجاء- قاتلوا وقتّلوا ، بتشديد التاءِ من « قُتّلوا » وهذه هي قراءة ابن كثيرٍ وابن عامرٍ -كما تقدم- وكأنه لم يعرف أنها قراءتهما .
فصل
هذه في المهاجرينَ الذين أخرجهم المشركون من ديارهم ، فقوله : { وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي } أي : في طاعتي وديني .
{ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ثَوَاباً } قوله : « ثواباً » في نصبه ثمانية أوجهٍ :
أحدها : أنه نصب على المصدر المؤكد؛ لأن معنى الجملةِ قبله تقتضيه ، والتقدير : لأثيبَنَّهم إثابة أو تثويباً ، فوضع « ثَوَاباً » موضع أحد هذينِ المصدرينِ؛ لأن الثوابَ -في الأصل- اسم لما يُثَابُ به ، كالعطاء -اسم لما يُعْطَى- ثم قد يقعان موضع المصدر ، وهو نظير قوله : { صُنْعَ الله } [ النمل : 88 ] و { وَعْدَ الله } [ القصص : 13 ] في كونهما مؤكدينِ .
ثانيهما : أن يكون حالاً من « جَنَّاتٍ » أي : مثاباً بها - وجاز ذلك وإن كانت نكرة؛ لتخصصها بالصفة .
ثالثها : أنها حالٌ من ضمير المفعول ، أي : مثابين .
رابعها : أنه حالٌ من الضمير في « تَجْرِي » العائد على « جَنَّات » وخصَّص أبو البقاء كونه حالاً بجَعْله بمعنى الشيء المُثَاب بِهِ ، قال : وقد يقع بمعنى الشيء المثاب به ، كقولك : هذا الدرهم ثوابك ، فعلى هذا يجوز أن يكونَ حالاً من [ ضمير الجنّاتِ ، أي : مثاباً بها ، ويجوز أن يكون حالاً من ] ضمير المفعول به في « لأدْخِلَنَّهُم » .
خامسها : نصبه بفعل محذوف ، أي : نعطيهم ثواباً .
سادسها : أنه بدل من « جَنَّاتٍ » وقالوا : على تضمين « لأدْخِلَنَّهُمْ » لأعْطِيَنَّهُمْ ، لما رأوا أنَّ الثوابَ لا يصح أن ينسب إليه الدخولُ فيه ، احتاجوا إلى ذلك .
ولقائل أن يقول : جعل الثواب ظرفاً لهم ، مبالغة ، كما قيل في قوله : { تَبَوَّءُوا الدار والإيمان } [ الحشر : 9 ] .
سابعها : أنه نصب على التمييز ، وهو مذهب الفرّاء .
ثامنها : أنه منصوبٌ على القطعِ ، وهو مذهبُ الكسائيّ ، إلا أن مكِّياً لما نقل هذا عن الكسائي فَسَّر القطع بكونه على الحالِ ، وعلى الجملة فهذانِ وجهانِ غريبانِ .
وقوله : { مِّن عِندِ الله } صفةٌ له ، وهذا يدل على كون ذلك الثَّوابِ في غايةِ الشرف ، كقول السلطانِ العظيم : أخلع عليك خلعة من عندِي .
قوله : { والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب } الأحسن أن يرتفع { حُسْنُ الثواب } على الفاعلية بالظرف قبله؛ لاعتماده على المبتدأ قَبْله ، والتقدير : والله استقر عنده حُسْنُ الثَّوابِ .
ويجوز أن يكون مبتدأ ، والظرف قبله خبره ، والجملة خبرُ الأولِ .
وإنما كان الوجه الأول أحسنَ؛ لأنّ فيه الإخبار بمفرد -وهو الأصل- بخلاف الثّانِي ، فإنَّ الإخبار فيه بجملة وهذا تأكيد لكونه ذلك الثوابِ في غايةِ الشرفِ .

لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)
الغرور : مصدر قولك : غَرَرْت الرجل بما يستحسنه في الظاهر ، ثم يجده -عند التفتيش- على خلاف ما يجب .
نزلت في المشركينَ ، وذلك أنهم كانوا في رخاءٍ ولينٍ من العيش وتنعم ، فقال بعض المؤمنينَ : إنَّ أعداءَ اللهِ فيما نرى من الخير ، ونحن في الجَهْد ، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ : { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ } في ضَرْبهم « فِي الْبِلادِ » وتصرُّفهم في الأرض للتجارات وأنواع المكاسب . فالخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمرادُ منه غيره .
قال قتادةُ : واللهِ ما غروا نبيَّ الله قط ، حتى قبضه اللهُ تَعَالَى ، ويمكن أن يقالَ : سبب عدم إغراره هو تواتُر الآيات عليه ، لقوله : { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ } [ الإسراء : 74 ] فسقط قولُ قتادةَ .
قوله : « مَتَاعٌ » خبر مبتدأ محذوف ، دَلَّ عليه الكلام ، تقديره : تقلبهم ، أو تصرفهم متاع قليل . والمخصوص بالذم محذوف ، أي : بئس المهاد جهنم . ومعنى « مَتَاعٌ قَلِيلٌ » أي : بُلْغة فانية ، ومُتْعة زائلة .
وإنما وصفه بالقِلَّة؛ لأن نعيم الدنيا مشوب بالآفات ثم ينقطع ، وكيف لا يكون قليلاً وقد كان معدوماً من الأزل إلى الآن ، وسيصير معدوماً من الأزل وإلى الأبد فإذا قابلت زمان الوجود بما مضى وما يأتي -وهو الأزل والأبد- كان أقل من أن يجوز وصفه بأنه قليل ثُمّ قال بعده : { ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد } يعني أنه مع قلته يؤول إلى المَضَرَّة العظيمةِ ، ومثل ها لا يُعَدُّ نِعْمَةً .

لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)
قرأ الجمهورُ بتخفيف « لكن » وأبو جعفر بتشديدها ، فعلى القراءة الأولى الموصول رفع بالابتداء ، وعند يونس يجوز إعمال المخففة ، وعلى الثانية في محل نصب .
ووقعت « لكِن » هنا أحسن موقع؛ فإنها وقعت بين ضِدَّيْن ، وذلك أن معنى الجملتينِ -التي بعدها والتي قبلها- آيلٌ إلى تعذيب الكفار ، وتنعيم المؤمنين المتقين . ووجه الاستدراك أنه لما وصف الكفار بقلة نَفْع تقلبهم في التجارة ، وتصرُّفهم في البلاد لأجْلِها ، جاز أن يتوهَّم مُتَوَهِّمٌ أن التجارة -من حيث هي- متصفة بذلك ، فاستدرك أنَّ المتقينَ -وإن أخذوا في التجارة- لا يضرهم ذلك ، وأنَّ لهم ما وعدهم به .
قوله : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } هذه الجملة أجاز مكيٌّ فيها وجهينِ :
أحدهما : الرفع ، على النعت لِ « جَنَّاتٌ » .
والثاني : النصبُ ، على الحال من الضمير المستكن في « لَهُمْ » قال : « وإن شئت في موضع نصب على الحال من المضمر المرفوع في » لَهُمْ « إذْ هو كالفعل المتأخر بعد الفاعل إن رفعت » جَنَّاتٌ « بالابتداء ، فإن رفعتها بالاستقرار لم يكن في » لَهُمْ « ضميرٌ مرفوعٌ؛ إذ هو كالفعل المتقدِّم على فاعله » . يعني أنّ « جَنَّاتٌ » يجوز فيها رفعها من وجهين :
أحدهما : الابتداء ، والجار قبلها خبرها ، والجملة خبر « الَّذِينَ اتَّقوا » .
ثانيهما : الفاعلية؛ لأن الجارَّ قبلها اعتمد بكونه خبراً لِ « الَّذِينَ اتَّقَوْا » . وقد تقدم أن هذا أوْلَى ، لقُربه من المفرد .
فإنْ جعلنا رفعها بالابتداء جاز في { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } وجهان : وجهان : الرفع على النعت ، والنصب على الحال من الضمير المرفوع في « لَهُمْ » لتحمُّله -حينئذٍ- ضميراً .
وإن جعلنا رفعها بالفاعلية تعيَّن أن يكون الجملة بعدها في موضع رَفْع؛ نعتاً لها ، ولا يجوز النصبُ على الحال ، لأن « لَهُمْ » ليس فيه -حيئذٍ- ضمير؛ لرفعه الظاهر .
و « خَالِدِينَ » نُصِبَ على الحالِ من الضمير في « لَهُمْ » والعاملُ فيه معنى الاستقرارِ .
قوله : « نُزُ لاً » النُّزُل : ما يُهَيَّأ للنزيل -وهو الضيف .
قال أبو العشراء الضبي : [ الطويل ]
1724- وكُفَّا إذَا الْجَبَّارُ بِالْجَيْشِ ضَافَنَا ... جَعَلْنَا الْقَنَا والْمُرْهَفَاتِ لَهُ نُزُلا
هذا أصله ، ثم اتُّسِع فيه ، فأطلق على الرزق والغذاء -وإن لم يكن لضيف- ومنه قوله تعالى : { فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ } [ الواقعة : 93 ] وفيه قولانِ ، هل هو مصدرٌ أو جمع نازل ، كقول الأعشى : [ البسيط ]
1725- .. أو تَنْزِلُونَ فَإنَّا مَعْشَرٌ نُزُلُ
إذا تقرَّر هذا ففي نَصْبه سِتَّةُ أوجهٍ :
أحدهما : أنه منصوب على المصدر المؤكّد ، لأنه معنى « لَهُمْ جَنَّاتٌ » : نُنْزِلُهم جنات نزلاً ، وقدَّره الزمخشريُّ بقوله : « كأنه قيل : رزقاً ، أو عطاءً من عند اللهِ » .
ثانيها : نصبه بفعل مُضْمَر ، أي : جعلنا لهم نُزُلاً .
ثالثها : نَصبه على الحال من « جَنَّات » لأنها تخصَّصَت بالوَصْف .
رابعها : أن يكون حالاً من الضمير في « فِيهَا » أي مُنزّلةً -إذا قيل بأنّ « نُزلاً » مصدر بمنى المفعول نقله أبو البقاءِ .
خامسها : أنه حالٌ من الضمير المستكن في « خَالِدِينَ » -إذا قُلْنَا : إنه جمع نازل- قاله الفارسيُّ في التذكرة .
سادسها : وهو قول الفرّاء -نصبه على التفسير- أي التمييز- كما تقول : هو لك هبةً ، أو صدقةً وهذا هو القولُ بكونه حالاً .
والجمهور على ضم الزاي ، وقرأ الحسنُ ، والأعمشُ ، والنَّخَعِيُّ ، بسكونها ، وهي لغةٌ ، وعليها البيتُ المتقدم . وقد تقدم أن مثل هذا يكون فيه المسكَّن مخففاً من المثقل أو بالعكس ، والحق الأول .
قوله : { مِّنْ عِندِ الله } فيه ثلاثة أوجه ، لأنك إن جعلت « نُزُلاً » مصدراً ، كان الظرفُ صفةً له ، فيتعلق بمحذوف ، أي : نزلاً كائناً من عند اللهِ أي : على سبيلِ التكريمِ ، وإنْ جعلته جمعاً كان في الظرف وجهانِ :
أحدهما : جَعْله حالاً من الضمير المحذوفِ ، تقديره : نُزُلاً إياها .
ثانيهما : أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، أي : ذلك من عند الله؛ نقل ذلك أبو البقاءِ .
قوله : { وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ } « ما » موصولة ، وموضعها رفع بالابتداء والخبر « خَيْرٌ » و « للأبْرَارِ » صفة لِ « خير » فهو في محل رفع ، ويتعلق بمحذوفٍ ، وظاهر عبارة أبي حيّان أنه يتعلق بنفس « خَيْرٍ » فإنه قال : و « للأبرارِ » متعلق ب « خَيْرٌ » .
وأجاز بعضهم أن يكون « لِلأبْرَارِ » هو الخبر ، و « خَيْرٌ » خبر ثانٍ ، قال أبو البقاء : « والثاني- أي : الوجه الثاني- : أن يكون الخبر » لِلأبْرَارِ « والنية به التقديمُ ، أي : والذي عند اللهِ مستقرٌّ للأبرارِ ، و » خَيْرٌ « -على هذا- خبرٌ ثانٍ » .
وفي ادِّعاء التقديمِ والتأخيرِ نظرٌ؛ لأن الأصلَ في الإخبار أنْ يكونَ بالاسمِ الصريحِ ، فإذا اجتمعَ خبرٌ مفردٌ صريحٌ ، وخبرٌ مؤوَّلٌ به بُدِئَ بالصريحِ من غير عكس -كالصفة- فإذا وقعا في الآية على الترتيبِ المذكور ، فكيف يُدَّعَى فيها التقديمُ والتأخيرُ؟ .
ونقل أبو البقاء -عن بعضهم- أنه جعل « لِلأبْرَارِ » حالاً من الضمير في الظرف ، « خّيْرٌ » خبر المبتدأ ، قال : « وهذا بعيدٌ؛ لأن فيه الفصل بين المبتدأ والخبر بحالٍ لغيره ، والفصلُ بين الحالِ وصاحب الحالِ بخبر المبتدأ ، وذلك لا يجوزُ في الاختيار » .
قال أبو حيّان : « وقيل : فيه تقديمٌ وتأخيرٌ ، أي : الذي عند الله للأبرار خير لهم ، وهذا ذهولٌ عن قاعدةِ العربية من أن المجرور -إذ ذاك- يتعلق بما تعلَّق به الظرف الواقع صلة للموصوف ، فيكون المجرورُ داخلاً في حيِّز الصِّلَةِ ، ولا يُخْبَر عن الموصول إلا بعد استيفائه صِلته ومتعلقاتها » .
فإن عنى الشيخُ بالتقديم والتأخير على الوجه -أعني جعل « لِلأبْرَارِ » حالاً من الضمير في الظرف فصحيحٌ ، لأنَّ العاملَ في الحالِ -حينئذ- الاستقرارُ الذي هو عاملٌ في الظرفِ الواقع صِلةً ، فيلزم ما قاله ، وإن عنى به الوجهَ الأول -أعني : جعل « لِلأبْرَارِ » خبراً ، والنية به التقديم وب « خَيْرٌ » التأخير كما ذكر أبو البقاءِ ، فلا يلزم ما قال؛ لأنّ « لِلأبْرَارِ » -حينئذٍ- يتعلَّق بمحذوفٍ آخرَ غير الذي تعلُّق به الظرفُ .
و « خَيْرٌ » -هنا- يجوز أن يكون للتفضيل ، وأن لا يكون ، فإن كان للتفضيل كان المعنى : وما عند الله خيرٌ للأبرار مما لهم في الدنيا ، أو خيرٌ لهم مما ينقلب فيه الكفارُ من المتاعِ القليلِ الزائلِ .

وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
قال جابرٌ ، وابنُ عبّاسٍ ، وقتادةُ ، وأنسٌ : نزلت في النجاشي -ملك الحبشة- واسمه أصْحَمة ، وهو -بالعربية- عطية ، « وذلك أنه لما مات نعاه جبريلُ -عليه السّلام- لرسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : اخرجوا ، فصلُّوا على أخ لكم مات بِغَيْر أرْضِكم ، فقالوا : مَنْ هو؟ قال النجاشيُّ ، فخرج إلى البقيع ، وكُشِفَ له إلى أرض الحبشةِ ، فأبصر سريرَ النجاشي ، وصَلَّى عليه أربعَ تكبيراتٍ ، واستغفر له ، فقال المنافقون : انظروا إلى هذا يُصلي على عِلجٍ حبشيٍّ ، نصرانيٍّ ، لم يَرَه قطّ ، وليس على دينه . » فأنزل الله هذه الآية .
قال عطاءٌ : نزلت في أربعينَ رجلاً من أهل نجرانَ ، واثنينَ وثلاثينَ من الحبشة ، وثمانيةٍ من الرُّوم ، كانوا على دينِ عيسى فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم .
قال ابن جُرَيْحٍ : نزلت في عبد اللهِ بن سلام وأصحابه . وقال مُجَاهدٌ : نزلتْ في مؤمني أهل الكتاب كُلِّهم .
قوله : { لَمَن يُؤْمِنُ } اللام لام الابتداء ، دخلت على اسم « إنَّ » لتأخُّرهِ عنها ، و « مِنْ أهْلِ » خبرٌ مقدَّمٌ و « من » يجوز أن تكونَ موصولةً -وهو الأظهر- وموصوفة ، أي : ل « قوماً » ، و « يؤمن » صلة -على الأول- فلا محلَّ له ، وصفة -على الثاني- فمحله النصب ، وأتى -هنا- بالصلة مستقبلة- وإن كان ذلك قد مضى -دلالة على الاستمرار والديمومة .
والمعنى : إن من أهْلِ الكتابِ مَنْ يُؤمِن باللهِ وما أنْزِل إليكم ، وهو القرآنُ ، وما أنْزِلَ إلَيْهَم ، وهو التوراة والإنجيل .
قوله : { خَاشِعِينَ } فيه أربعةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه حالٌ من الضمير في « يؤمن » وجَمَعَه ، حَمْلاً على معنى « مَنْ » كما جمع في قوله : « إلَيْهِمْ » وبدأ بالحمل على اللفظ في « يُؤْمِن » ثم بالحَمْلِ على المعنى؛ لأنه الأولى .
ثانيها : أنه حال من الضمير في « إلَيْهِمْ » فالعامل فيه « أنْزِلَ » .
ثالثها : أنه حال من الضمير في « يَشْتَرُون » وتقديم ما في حيِّز « لا » عليها جائز على الصحيح وتقدم شيء من ذلك في الفاتحة .
رابعها : أنه صفة لِ « من » إذا قيل بأنها نكرة موصوفة . وأما الأوجه الثلاثة السابقة فجائزة ، سواء كانت موصولةٌ ، أو نكرة موصوفة .
قوله : « للهِ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلق ب « خَاشِعِينَ » أي : لأجل الله .
ثانيهما : أنه متعلق ب « لاَ يَشْتَرُونَ » ذكره أبو البقاء ، قال : « وهو في نية التأخير ، أي : لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً لأجل الله » .
قوله : { لاَ يَشْتَرُونَ } كقوله : { خَاشِعِينَ } إلا في الوجه الثالث ، لتعذره ، ويزيد عليها وجهاً آخر ، وهو أن يكون حالاً من الضمير المستكن في « خَاشِعينَ » أي : غير مشترين .
وتقدم معنى الخشوع والاشتراء وما قيل في البقرة .
ومعناه : أنهم لا يُحَرِّفُونَ كُتُبَهم ، ولا يكتمون صفة محمد صلى الله عليه وسلم لأجل الرياسة والمأكلة ، كفعل غيرهم من رؤساءِ اليهودِ .
واعلم أنه -تعالى- لما بيَّن أنَّ مصير الكفار إلى العقاب ، بيَّن -هنا- أنَّ مِنْ آمنَ منهم فإن مَصيرَه إلى الثَّوابِ .
وقد وصفهم بصفات :
أولها : الإيمان بالله .
ثانيها : الإيمان بما أُنْزِلَ على محمد صلى الله عليه وسلم .
وثالثها : الإيمان بما أُنْزِلَ على الأنبياء قَبْلَه .
ورابعها : كونهم خَاشِعِينَ لله .
وخامسها : أنهم لا يشترون بآيات الله ثَمَناً قَلِيلاً ، كما يفعله أهلُ الكتابِ ممن كان يكتم أمرَ الرسول صلى الله عليه وسلم .
قوله : { أولاائك لَهُمْ أَجْرُهُمْ } « أولئك » مبتدأ ، وأما « لَهُمْ أجْرُهُمْ » ففيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون « لَهُمْ » خبراً مقدَّماً ، و « أجْرُهُمْ » مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر الأول ، وعلى هذا فالظرفُ فيه وجهانِ :
الأول : أنه متعلق ب « أجْرُهُمْ » .
الثاني : أنه حال من الضمير في « لَهُمْ » وهو ضمير الأجر ، لأنه واقع خبراً .
ثانيها : أن يرتفع « أجْرُهُمْ » بالجارِّ قبله ، وفي الظرف الوجهان ، إلا أنّ الحال من « أجْرُهُمْ » الظاهر؛ لأن « لَهُمْ » لا ضمير فيه حينئذ .
ثالثها : أن الظرف هو خبر « أجْرُهُمْ » و « لَهُمْ » متعلق بما تعلَّق به من هذا الظرف من الثبوت والاستقرار . ومن هنا إلى آخر السورة تقدم إعراب نظائره .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
قال ابنُ الخطيبِ : « ختم هذه السورة بهذه الآية المشتملة على جميع الآدابِ ، وذلك لأن أحوال الإنسان قسمان : منها ما يتعلق به وحده ، ومنها ما يكون مشتركاً بينه وبين غيره ، أما القسم الأول فلا بُدَّ فيه من الصَّبْر ، وأما القسم الثاني فلا بد فيه من المصابرة » .
قال الحسن : اصبروا على دينكم ، فلا تدعوه لشِدَّةٍ لا رَخَاءٍ .
وقال قتادة : اصبروا على طاعةِ الله ، وصابروا أهل الضلالة ، ورابطوا في سبيل الله .
وقال الضحاكُ ، ومقاتل بنُ سليمان : على أمر اللهِ . وقال مقاتلُ بن حيان : على فرائض الله . وقال زيد بن أسلم : على الجهاد . وقال الكلبيّ على البلاء .
واعلم أن الصبر يدخل تحته أنواع : الصبر على مشقّة النظر والاستدلال على الطاعات ، وعلى الاحتراز عن المنهيَّات ، وعلى شدائد الدُّنْيا من الفَقْر ، والقحط والخوف ، وأما المصابرة فهي تَحَمُّل المكاره الواقعة بينه وبيْنَ غيره ، كتحَمُّل الأخلاق الردئيةِ من أهله وجيرانه وترك الانتقام كقوله تعالى : { وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين } [ الأعراف : 199 ] وإيثار الغير على نفسه ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وقوله : { اصبروا وَصَابِرُواْ } من الجناس اللفظي ، وكذلك قوله : { اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ } [ التوبة : 38 ] « وصابروا » يعني الكفار ، « ورابطوا » يعني المشركين .
قال أبو عبيدة : « أي : اثبتوا ودَاوِمُوا » والربطُ : الشد ، وأصل المرابطة : أن يربط هؤلاء خيولهم وهؤلاء خيولهم بحيث يمون كل من الخصمين مستعداً لقتال الآخرِ ثم قيل لكل مقيم في ثَغْرٍ يدفع عَمَّنْ وراءه : مرابط ، وإن لم يكن له مركوبٌ مربوطٌ .
قال -عليه السلام- : « رِباط يَوْم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها وما عليها ، وموضع سَوْطِ أحَدِكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها وما عليها ، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها » .
{ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } قال بعضهم : اصبروا على النَّعْماء ، وصابروا على البأساء والضراء ، ورابطوا في دار الأعداء ، واتقوا إله الأرض والسماء ، لعلكم تفلحون في دار البقاء .
وقيل : المرابطة : انتظار الصلاة بعد الصلاة لما روى أبو سلمةَ بن عبد الرحمن ، قال : لم يكن في زمنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه ، وإنما نزلت هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة . واحتج أبو سلمة بقوله صلى الله عليه وسلم : « ألاَ أدلُّكم عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا ، ويَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ إسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ ، وَكَثْرةُ الْخُطَا إلى المَسَاجِدِ ، وانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاةِ ثُمَّ قَالَ : فَذلِكُمُ الرِّبَاطُ » ثلاث مراتٍ -وقيل الرباط : اللزوم والثبات ، وهذا المعنى يعم ما تقدم .
روى ابنُ عباسِ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قرأ السُّورَةَ الَّتِي يُذكر فِيهَا آل عِمْرانَ يَومَ الْجُمُعَةِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَمَلاَئِكتهُ حَتَّى تُحْجَب الشَّمس » .
وعن أبَيٍّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قرأ آلِ عمرانَ أعْطي بكل آيةٍ منها أمَاناً على جِسْر جَهَنَّمَ » وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ آلَ عِمْرَانَ فَهُوَ غَنِيٌّ » .
وعن العرس بن عُمَيْرَةَ قال : سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : « تَعَلَّمُوا البَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ؛ فَإنَّهُمَا الزَّهْرَاوَانِ ، وَإنَّهُمَا يَأتِيَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي صُورَةِ مَلَكَيْنِ يَشْفَعَانِ لَصَاحِبِهمَا حَتَّى يُدْخِلاَهُ الْجَنَّةَ » .
قيل : سُمِّيتَ البَقَرَةُ وآل عمران بالزَّهْرَاوَيْنِ؛ لأنهما نُورَان ، مأخوذ من الزَّهر والزَّهرة .
وقيل : لِهِدَايَتِهِمَا قَارِئهُمَا بما يُزْهِرُ له من نُورِهما ، أي مَعَانيهما .
وقيل : لما يُثِيبُ على قراءتها من النُّورِ التَّامِّ يوم القيامة .
وقيل : لما تَضَمَّنَتَاهُ من اسْمِ الله الأعظمِ ، كما رَوَى أبو دَاوُدَ وغيره عن أسْمَاءَ بنت يَزيدَ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « اسْمُ اللهِ الأعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ : { وإلهكم إله وَاحِدٌ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن الرحيم } [ البقرة : 163 ] ، والتي في آل عمران : { الله لاا إله إِلاَّ هُوَ } [ آل عمران : 2 ] . »

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
قال بعض المفسرين : « ابتدأ الله سبحانه وتعالى هذه السورة بالعطف على النساء والأيتام ، ذكر فيها أحكاماً كثيرة ، وبذلك ختمها ، ولما كانت هذه التكاليف شاقة على النفوس والطِّبَاع ، افتتحها بالأمر بالتقوى المشتملة على كل خير » .
فصل
روى الواحدي عن ابن عباس في قوله : { ياأيها الناس } أن هذا الخطاب لأهل مكة .
ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً
وأما الأصوليون من المفسرين فاتفقوا على أن الخطاب عام لجميع المكلّفين ، وهذا هو الأصحُّ؛ لأن لفظ الناس جمع دخله الألف واللام فيفيد الاستغراق ، ولأنه علّل الأمر بالاتِّقَاءِ لكونه تعالى خالق لهم من نفس واحدة ، وهذه العلة موجودة في جميع المكلفين .
وأيضاً فالتكليف بالتقوى غير مختص بأهل مكة ، بل هو عام ، وَإذَا كان لفظ الناس عاماً ، والمر بالتقوى عاماً ، وعلة هذا التكليف عامةً ، فلا وجه للتخصيص ، وحجة ابن عباس أن قوله : { واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام } [ النساء : 1 ] مختص بالعرب؛ لأن المناشدة بالله وبالرحم عادة مختصة بهم ، فيقولون : « أسألك بالله وبالرحم ، أنشدك الله والرحم » ، وإذا كان كذلك ، كان قوله : { واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام } [ النساء : 1 ] ، مختصاً بالعرب ، فيكون قوله : { ياأيها الناس } مختصاً بهم ، لأن الخطابين متوجهان إلى مخاطب واحد .
ويمكن الجواب عنه بأن خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم الآية .
فصل
اعلم أنه تعالى جعل الافتتاح لسورتين في القرآن :
أحدهما : هذه وهي السورة الرابعة من النصف الأول من القرآن ، وعلل الأمر بالتقوى فيهما بما يدل على معرفة المبدأ بأنه خلق الخلق من نفس واحدة ، وهذا يدل على كمال قدرة الخالق وكمال علمه وحكمته .
والثانية : سورة الحج وهي الرابعة أيضاً من النصف الثاني من القرآن وعلَّلَ الأمر بالتقوى فيها بما يدل على معرفة المعاد .
فَجَعَلَ صدر هاتين السورتين دليلاً على معرفة المبدأ والمعاد ، وقدّم السورة الدالة على المبدأ على السورة الدالة على المعاد ، وهذا سر عظيم .
{ مِّن نَّفْسٍ } متعلق ب « خلقكم » فهو في محل نصب ، و « من » لابتداء الغاية ، وكذلك « منها زوجها وبتَّ منهما » والجمهور على واحدة بتاء التأنيث ، وأجمع المسلمون على أنَّ المراد بالنفس الواحدة [ هاهنا ] آدم عليه السلام ، إلا أنه أنث الوصف على لفظ النفس لقوله تعالى : { أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ } [ الكهف : 74 ] .
وابن أبي عبلة واحدٍ من غير [ تاء ] تأنيث وله وجهان :
أحدهما : مراعاة المعنى؛ لأنه المراد بالنفس آدم عليه السلام .
والثاني : أن النفس تذكر وتؤنث . وعليه قوله : [ الوافر ]
1726- ثَلاَثَةُ أنْفُسٍ وَثَلاَثُ ذَوْدٍ ... لَقَدْ جَارَ الزَّمَانُ عَلَى عِيَالِي
قوله : { وَخَلَقَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه عطفٌ على معنى « واحدة » لما فيه من معنى الفعل ، كأنه قيل : « من نفس وحدت » أي : انفردت ، يُقال : « رجل وَحُد يَحِدُ وَحْداً وَحِدَة » انفرد .
الثاني : انه عَطْفٌ على محذوف .
قال الزَّمَخْشرِيُّ : « كأنه قيل : من نفسٍ واحدةٍ أنشأها أو ابتدأها وخلق منها ، وإنما حذف لدلالة المعنى عليه ، والمعنى شَعَّبكم من نفس واحدةٍ هذه صفتها » بصفة هي بيان وتفصيل لكيفية خلقكم منها ، وَإنَّما حمل الزمخشري رحمه الله تعالى والقائل الذي قبله على ذلك مراعاةُ الترتيب الوجودي؛ لأن خلق حواء -وهي المعبر عنها بالزوج- قبل خلقنا ولا حاجة إلى ذلك ، لأن الواو لا تقتضي ترتيباً على الصحيح .
الثالث : أنه عطف على « خَلْقَكُمْ » ، فهو داخل في حيز الصلة والواو ولا يُبَالَى بها ، إذ لا تقتضي ترتيباً؛ إلا أن الزَّمَخشريَّ رحمه الله تعالى خَصَّ هذا الوجه بكون الخطاب [ للمؤمنين ] في { ياأيها الناس } لمعاصري الرسول عليه السلام فإنه قال : والثاني أنه يُعْطَفُ على « خلقكم » ويكون الخطاب للذين بُعِثَ إليهم الرسول ، والمعنى : خلقكم من نفس آدم؛ لأنه من جملة الجنس المفرّع [ منه ] وخلق منها أُمَّكم حواء .
فظاهر هذا خصوصيَّةُ الوجه الثاني أن يكون الخطاب للمعاصرين ، وفيه نظر ، وَقَدَّرَ بعضهم مضافاً في « منها » أي : « مِنْ جِنْسِها زوجَها » ، وهو قول أبي مسلم ، قال : وهو كقوله : { والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } [ النحل : 72 ] وقال { إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ } [ آل عمران : 164 ] وقوله : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ } [ التوبة : 28 ] .
قال : وحواء لم تخلق من آدم ، وإنما خلقت من طينة فَضَلَتْ من طينة آدم .
قال الْقَاضِي : والأول أقوى لقوله : { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } .
قال ابن الخَطِيبُ : « يمكن أن يجاب بأن كلمة » مِن « لابتداء الغاية ، فَلمَّا كان ابتداء الغاية وهو ابتداء التخليق والإيجاد وقع بآدم صحّ أن يُقَالَ : { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } وأيضاً فالقادر على خلق آدم من التراب ، [ كان قادراً أيضاً على خلق حواء من التراب ] ، وَإذا كان كذلك فأيّ فائدة في خلقها من ضلع من أضلاعه » .
وقرئ « وخالِقُ وباثٌّ » بلفظ اسم الفاعل ، وخَرَّجَهُ الزمخشريُّ على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي : وهو خالِقٌ وباثٌّ .
وَيُقَالُ : بَثَّ وأبَثَّ ومعناه « فَرَّقَ » ثلاثياً ورباعياً .
قال ابن المظفر : « البثُّ تَفْرِيقَكَ الأشياء » .
يقال : بَثَّ الخيلَ في الغارة ، وبَثَّ الصَّيادُ كِلاَبَهُ ، وخلق الله الخلق : بَثَّهُمْ في الأرض ، وبثثت البسطة إذا نشتريها . قال تعالى : { وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ } [ الغاشية : 16 ] .
فإن قيل : ما المناسبةُ بين الأمر بالتقوى وما ذكر معه من الوصف؟ فالجواب : لما ذكر أنَّه خَلَقَنَا من نفس واحدة ، وذلك علة لوجوب الانقياد علينا لتكاليفه؛ لأنا عبيدة وهو مولانا ، ويجب على العبد الانقياد لمولاه؛ ولأنه أنعم ومَنَّ بوجوه الإنعام والامتنان ، فأوجَدَ وأَحْيَا وعَلَّمَ وهَدَى ، فعلى العبد أن يُقَابِلَ تلك النِّعَم بأنواع الخضوع والانقياد؛ ولأنه بكونه موجداً وخالقاً وِرِبَّاً يجبُ علينا عبادته ، وامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، ويلزم من ذلك ألا نوجب لتلك الأفعال ثواباً؛ لأن أداء الحق لمستحقه لا يوجب ، وثواب هذا إن سَلَّمْنَا أن العبد أتى بتلك الطاعات من عند نفسه ، فكيف وهذا محال؛ لأن الطاعات لا تحصل إلاَّ بخلق الله - تعالى - القدرة عليها ، والداعية إليها [ ومتى حصلت القدرة والداعي كان ] مجموعهما موجباً لصدور الطاعة ، فتكون تلك الطاعة إنعاماً آخر .
وأيضاً أنَّهُ خلقنا مِنْ نفسٍ واحدةٍ ، ذلك أيضاً يوجبُ عَلَيْنَا طَاعَتَهُ لأنَّ ذلك يَدُلُّ على كمالِ القدرة؛ لأن ذلك لو كان بالطبيعة لما تولد عن الإنسان إلاَّ إنسان يشاكله ويشابهه في الْخِلْقَةِ والطبيعةِ ، ولَمَّا اختلف الناس في الصفات والألوان ، دَلَّ على أن الخالق قَادِرٌ مختارٌ عَالِمٌ ، يجب الانقياد لتكاليفه؛ ولأن الله تَعالى عَقَّبَ الأمر بالتقوى بالأمر بالإحسان إلى الْيَتَامَى والنساءِ والضُّعَفَاء وكونهم من نفْس واحدة باعث على ذلك بكونه [ وذلك لأن الأقارب لا بد أن ] يكون بينهم مواصلة وقرابة ، وذلك يزيد في المحبة ، ولذلك يفرح الإنسان بمدح أقاربه ويحزن بذمهم فقدَّمَ ذكرهم ، فقال : { مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } ليؤكد شفقة بعضنا على بعض .
فإن قيل : لِمَ لَمْ يقل : وبَثَّ منها الرِّجال والنِّسَاءَ .
فالجواب : لأن ذلك يقتضي كونهما مبثوثين من نفسيهما ، وذلك محال ، فلهذا عدل إلى قوله : { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } .
وقوله : « كثيراً » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه نَعْتٌ ل « رِجَالاً » .
قال أبو البقاء : ولم يؤنثه حَمْلاً على المعنى؛ لأن « رجالاً » بمعنى عدد أو جمع أو جنس كما ذَكَّر الفعل المسند إلى جماعةِ لمؤنثِ لقوله تعالى : { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المدينة } [ يوسف : 30 ] .
والثاني : أنه نعت لمصدر تقديره : وبث منهم بثاً كثيراً؛ وقد تقدم أن مذهب سيبويه في مثله النصبُ على لحالِ .
فإن قيل : لم خَصَّ لرّجالَ بوصفِ الكثرةِ دون النساء؟ ففيه جوابان :
أحدهما : أنه حَذَفَ صِفَتَهُنّ لدلالة ما قبلها عليها تقديره : ونساءً كثيرة .
والثاني : أنَّ الرِّجال لشهرتهم [ وبروزهم ] يُنَاسِبُهم ذلك بخلاف النِّسَاء ، فإنَّ الأليقَ بِهِنَّ الخمولُ والإخفاء .
قوله : { تَسَآءَلُونَ } قرأ الكوفيون « تَسَاءَلُونَ » بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين تخفيفاً ، والأصل : « تتساءلون » به ، وقَدْ تَقَدَّمَ الخلافُ : هَلْ المحذوفُ الأولى أو الثانية وقرأ الباقون بالتشديد على إدغام تاء التفاعل في السين؛ لأن مقاربتها في الهمس ، ولهذا تُبْدَلُ من السين ، قالوا : « ست » والأصل « سِدْسٌ » وقرأ عبد الله : « تَسْاَلُون » من سأل الثلاثي ، وقُرِئَ « تَسَلون » بنقل حركة الهمزة على السين ، و « تَسَاءلون » على التفاعل فيه وجهان :
أحدهما : المشاركة في السؤال .
والثاني : أنه بمعنى فَعَلَ ، ويدلّ عليه قراءة عبد الله .
قال أبُو البَقَاءِ : « وَدَخَلَ حَرْفُ الجرِّ في المفعول؛ لأن المعنى : » تتخالفون : يعني أن الأصل تعدية « تسألون » إلى الضمير بنفسه ، فلما ضُمِّن « تتخلفون » عُدِّي تَعْدِيَتَه « .
قوله : { والأرحام } الجمهور نصبوا الميم ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه عطف على لفظ الجلالة ، أي : واتقوا الأرحام أي : لا تقطعوها ، وقَدَّرَ بعضهم مضافً أي : قَطْعَ الأرحام .
ويقال : إنَّ هذا في الحقيقةِ من عطف الخاصِّ علا العام ، وذلك أن معنى اتقوا الله؛ اتقوا مخالَفَتَه ، وقَطْعُ لأرحام مندرج فيه ، وهذا قول مجاهد وقتادة والسَّدي والضحاك والفرّاء والزّجّاج .
قال الواحدي : ويجوز أن يكون منصوباً بالإغراء ، أي : والأرحام احفظوها وصلوها كقولك : الأسدَ الأسدَ ، وهذا يَدُلُّ على تحريم قطعيةِ الرحم ووجوب صلته .
والثاني : أنه معطوف على محل المجرور في » به « ، نحو : مررت بزيد وعمراً ، ولمَّ لم يَشْرَكه في الإتباع على اللفظ تبعه على الموضع ، وه يؤيده قراءة عبد الله » وبالأرحام « .
وقال أبو البقاء : تُعَظِّمُونه والأرحام ، لأنَّ الحَلْفَ به تَعْظِيم له » ،
وقرأ حمزة « والأرحامِ » بالجر ، قال القفال : وقد رويت هذه القراءة عن مجاهد وغيره ، وفيها قولان .
أحدهما : أنه عَطَفَ على الضمير المجرور في « به » من غير إعادة الجار ، وهذا لا يجيزه البصريون ، وقد تَقَدَّم تحقيقُ ذلك ، وأن فيها ثلاثةَ مذاهب ، واحتجاج كل فريق في قوله تعالى : { وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام } [ البقرة : 217 ] وقد طَعَنَ جَمَاعَةٌ في هذه القراءة ، كالزجاج وغيره ، حتى يحكى عن الفراء الذي مذهبه جوازُ ذلك أنه قال : حدثني شريك بن عبد الله عن الأعمش عن إبراهيم ، قال : { والأرحام } بخفض [ الأرحام ] هو كقولهم : « أسألك باللَّهِ والرحمِ » قال : « وهذا قبيح؛ لأنَّ العرب لا ترُدُّ مخفوضاً على مخفوضٍ قَدْ كُنِي به ، وَضَعَّفَهُ بَعْضُهمُ بأنه عطف للمظهر على الضمير ، وهو لا يجوز .
قال ابن عيس : إنهم لم يستحسنوا عطف المظهر على الضمير المرفوع ، فلا يجوز أن يقال : » اذهب وزيد « و » ذهبت وزيدا « ، بل يقولون : اذهبْ أنت وزيد وذهبت أنا وزيد ، قال تعالى : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ } [ المائدة : 24 ] مع أن الضمير المرفوع قد ينفصل ، فإذا لم يجز عطف المظهر على الضمير المرفوع مع أنه أقوى من الضمير المجرور ، بسبب أنه قد ينفصل؛ فلأن لا يجوز عطف المظهر على الضمير المجرور ، مع أنه [ لا ] ينفصل أَلْبَتَّةَ أولى .
والثاني : أنه ليس معطوفاً على الضمير المجرور ، بل الواو للقسم وهو خفض بحرف القسم مقسم به ، وجوابُ القسمِ { إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } وضُعِّفَ هذا بوجهين :
أحدهما : أن قراءتي النصبِ وإظهار حرفِ الجر في ب » الأرحام « يمنعان من ذلكَ ، والأصلُ توافق القراءات .
والثاني : أنَّهُ نُهِيَ أن يُحْلَفَ بغيرِ الله تعالى ، والأحاديثُ مُصَرَّحةٌ بذلك .
وَقَدَّرَ بَعْضهم مضافاً فراراً من ذلك فقال : « ورَبِّ الأرحام » .
قال أبو البقاء : وهذا قد أغنى عنه ما قبله « يعني : الحلف بالله تعالى .
ويمكن الجواب عن هذا بأن للهَ تعالى أن يُقسمَ بما يشاء من مخلوقاته [ كما أقسم ] بالشمس والنجم والليل ، وإن كنا نَحْنُ منهيين عن ذلك ، إلا أنَّ المقصود من حيث المعنى ، ليس على القسم ، فالأولى حمل هذه القراءات على العطف على الضمير ، ولا التفات إلى طَعْنِ مَنْ طَعَنَ فيها .
وأجاب آخرون بأن هذا حكاية عن فعل كانوا يفعلونه في الجاهلية؛ لأنهم كانوا يقولون : أسألك بالله وبالرحم ، فمجيء هذا الفعل عنهم في الماضي لا ينافي ورود النهي عنه في المستقبل؛ وأيضاً فالنهي ورد عن الحلف بالآباء فقط ، وهاهنا ليس كذلك ، بل هو حلف باللهِ أولاً ، ثُمَّ قرن بِهِ بَعْدَ ذكر لرحم ، وهذا لا ينافي مدلول الحديث .
أيضاً فحمزة أحد القراءة السبعة ، الظاهر أنه لم يأتِ بهذه القراءة من عند نفسه ، بل رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوجب القطع بصحة اللغة ، ولا التفات إلى أقيسة النحاة عند وجود السماع ، وأيضاً فلهذه القراءة وجهان :
أحدهما : ما تقدم من تقدير تكرير الجر ، وإن لم يجزه البصريون فقد أجازه غيرهم .
والثاني : فقد ورد في الشعر وأنشد سيبويه : [ البسيط ]
1727- فاليَوْمَ قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وتَشْتُمْنَا ... فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ والأيَّامِ مِنْ عَجَب
وقال الآخر [ الطويل ]
1728- تُعَلَّقُ في مِثْلِ السَّوَاري سُيُوفُنَا ... وَمَا بَيْنَهَا والْكَعْبِ غَوْطٌ نَفَانِفُ
وقال آخر [ الوافر ]
1729- أكُرُّ على الكِتيبَةِ لا أُبالِي ... أفِيهَا كَانَ حَتْفِي أمْ سِوَاهَا
وحمزة بالرتبة السَّنيَّة المانعةِ له من نقلِ قراءة ضعيفة .
قال بن الخطيبِ : » والعَجَبُ من هَؤلاء [ النحاة ] أنهم يستحسنون إثبات هذه اللغة بهذين البيتين المجهولين ، ولا يستحسنوها بقراءة حمزة ومجاهد ، مع أنهما كانا من أكابر علماء السلف في علم القرآن « .
وقرأ عبد الله أيضاً » والأرحامُ « رفعاً على الابتداء ، والخبرُ محذوف فقدَّرَهُ ابن عطية : أهلٌ أنْ توصل ، وقَدَّرَهُ الزمخشري : » والأرحام مِمَّا يتقي « أو » مما يتساءل به « .
وهذا أحسنُ للدلالة اللفظية ، والمعنوية ، بخلاف الأول فإنَّه للدلالة المعنوية فقط ، وقَدَّرَهُ أبو البقاء : والأرحام محترمة ، أي : واجبٌ حرمتها .
فإن قيل : ما فائدةُ هذا التكرير في قوله أولاً : » اتقوا الله الذي خلقكم « . ثم قال بعده : » واتقوا الله « .
فالجواب فائدته من وجوه :
الأول : فائدته تأكيد الأمر والحث عليه .
والثاني : أن الأمر الأول عامّ في التقوى بناء على الترتيب . والأمر الثاني خاص فيما يلتمس البعض من البعض ، ويقع التساؤل به .
الثالث : قوله أولاً : { اتقوا رَبَّكُمُ } ولفظ » الرَّبِّ « يَدَلُّ على التربية والإحسان ، وقوله ثانياً { واتقوا الله } ولفظ » الإله « يدل على الغلبة والقهر ، فالأمر الأول بالتقوى بناء على الترغيب ، والأمر الثاني يدل على الترهيب ، فكأنَّهُ قيل : اتقِ الله إنه ربّاك ، وأحسن إليك ، واتق مخالفته؛ لأنه شديدُ العقاب عظيم السطوة .
وقوله تعالى : { إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } .
جارٍ مجرى التعليل والرقيب : فَعيل للمبالغة من رَقَبَ يَرْقُبُ رَقْباً ، ورُقوباً ، ورِقْباناً إذا أحدَّ النَّظَرَ [ لأمر يريد تحقيقه ] ، والرقيب هو المراقب الذي يحفظ جميع أفعالك ، واستعماله في صفات الله تعالى بمعنى الحفيظ قال : [ مجزوء الكامل ]
1730- كَمَقَاعِدِ الرُّقَبَاءِ للضْ ... ضُرَبَاءِ أيْدِيهمْ نَوَاهِدْ
وقال : [ الكامل ]
1731- وَمَعَ الحَبيبِ بِهَا لَقَدْ نِلْتَ المُنَى ... لِي عَقْلَهُ الْحُسَّادُ وَالرُّقَباءُ
والْمَرْقَبُ : المكان العالي المشرف يقف عليه الرقيب ، والرقيب أيضاً [ ضرب ] من الحيات ، والرقيب السهم الثالث من سهام الميسر ، وقد تقدمت من البقرة ، والارتقاب : الانتظار .
فصل
دَلَّتْ الآيةُ على تعظيم حق الرحم وتأكيد النهي عن قطعه .
قال تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض وتقطعوا أَرْحَامَكُمْ } [ محمد : 22 ] .
وقال تعالى : { لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } [ التوبة : 10 ] قيل : إنَّ الإلّ القرابة ، قال : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] وقال عليه السلام : قال الله تعالى : « أنا الرحمن وهي الرحم اشتققتُ لها اسماً من اسمي ، من وَصَلَها وَصَلْتُه ، ومن قطعها قطعته » .
فصل
قال القرطبيُّ : الرحم : اسم لكافة الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره . وأبو حنيفةَ يعتبر الرَّحم المحرم في منع الرجوعِ في الهِبَةِ ، ويجوز الرجوع في حق بني الأعمام ، مع أنَّ القطيعة موجودة ، والقرابة حاصلة ولذلك تعلّق بها الإرث ، والولاية ، وغيرهما من الأحكام ، فاعتبار المحرم زيادة على نصِّ القرآن من غير دليل ، وهم يرون ذلك [ نسخاً ] ، سيما وفيه إشارة بالتعليل إلى القطيعة قد جوَّزها في حق بني الأعمام ، وبني الأخوال والخالات .
فصل
أجمعت الأمةُ على أنَّ صلة الرَّحم واجبة ، وأن قطيعتها محرَّمة ، وقد صحَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأسْمَاءَ وقد سألته : أأصِلُ أمِّي؟ « صِلِي أمَّكِ » فأمرها بصلتها وهي كافرة فلتأكيدها دخل الفضل في صلة الكافرة حتى انتهى لحل بأبي حنيفة وأصحابه ومن وافقهم إلى توارث ذوي الأرحام ، إذا لم يكن عصبة ، ولا ذو فرض ويعتقون على من اشتراهم من ذوي رحمهم لحرمة الرّحم ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام « مَنْ مَلَكَ ذَا رحمٍ محرمٍ فَهُوَ حُرٌّ » وهذا قول أكثر أهل العلم ، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما ولا يعرف لهما من الصحابة مخالف .
فصل
واختلفوا في ذَوِي المَحَارمِ من الرِّضَاعةِ ، فقال أكْثَرُ أهلِ العلمِ : لا يدخلون في مقتضى الحديث .
وقال شريك القاضي : يُعْتَقُونَ .
وذهب أهل الظاهر وبعض المتكلمين إلى أن الأب [ لا ] يعتق على الابن إذا ملكه .

وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)
لما وَصَّى في الآية السابقة بالأرحام وصَّى في هذه الآية بالأيتام؛ لأنهم قد صاروا بحيثُ لا كافِلَ لهم ولا مُشْفِقَ فيهم - أسوأ حلاً ممن له رحم ، فإنه عطفه عليه ، وهذا خطاب الأولياء والأوصياء . قالوا : إن اليتيم من لا أب له ولا جد ، والإيتاء : الإعطاء قال أبو زيد : أتَوْتُ الرجلَ آتُوه إتاوَةٌ ، وهي الرّشوة .
وقال الزمخشري : الأيتام الذين مات آباؤهم ، وَالايُتْمُ : الانفراد ، ومنه الرملة اليتيمة ، والدُّرة اليتيمة .
وقيل : [ اليتيم ] في الأناسي من قبل الآباء وفي البهائم من قبل الأمهات .
قال : وحق هذا الاسم أن يقع على الضعفاء والكبار لمن يبقى معنى الانفراد عن الآباء ، إلا أنَّ في العرف اختصّ هذا الاسم بمن لم يبلغ ، فإذا صار مستعينً بنفسه في تحصيل مصالحه عن كافله ، زال عنه هذا الاسم؛ وكانت قريش تقول لرسول اللهِ صلى الله عليه وسلم : يَتِيم أبي طَالِبٍ ، إمَّا على القياس ، وإما حكاية للحال التي كان عليها حين صغره ناشئاً في حجر عمه توضيعاً له .
وأما على قوله عليه السلام : « لاَ يتم بَعْدَ بُلُوغ » فهو تعليم للشريعة لا تعليم للغة .
وروى أبو بكر الرازي في أحكام القرآن أن جده كتب إلى ابن عباس يسأله عن اليتيم متى ينقطع يتمه؟ فكتب إليه : إذا أونِسَ منه الرشد انقطع يتمه .
وفي بعض الروايات : إن الرجل ليقبض على لحيته ولم ينقطع عنه يتمه بعدُ [ فأخبر ابن عباس ] أن اسم اليتيم يلزمه بعد البلوغ ، إذا لم يؤنس منه الرُّشْدُ ، ثم قال أبو بكر : « واسم اليتم قد يقع على المرأة المفردة عن زوجها » .
قال عليه السلام : « تستأمر اليتيمة في نفسها » وهي لا تستمر إلاَّ وهي بالغة .
قال الشاعر : [ الرجز ]
1732- إنَّ الْقُبٌورَ تَنْكِحُ الأيَامى ... النِّسْوَةَ ولأرَمِلَ الْيَتَامَى
فالحاصل أنّ اسم اليتيم بحسب اللُّغة يتناول الصغير والكبير .
فإن قيل : كيف جُمِعَ اليتيمُ على يتامى؟ واليتيم فعيل : فيجمع على فعلى ، كمريض ومرضى وقتيل وقتلى ، وجريح وجرحى؟ فقال الزَّمَخْشَرِيُّ : فيه وجهان .
أحدهما : أن يقال : إن جمع اليتيم ، يَتْامَى ، ثمّ يجمع فعلى على فَعَالَى كأسير وأسَارِى .
والثاني : أن نقول : جمع اليتيم يتائم؛ لأن اليتيم جار مجرى الاسم نحو « صاحب » و « فارس » ثم تنقلب « اليتائم » « يتامى » .
قال القفّال : « ويجوز يتيم ويتامى كنديم وندامى ، ويجوز أيضاً يتيم وأيتام كشريف وأشراف » .
فإن قيل : إن اسم اليتيم مختص بالصغير فما دام يتيماً ، فكيف قال : { وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ } .
فالجوابُ من وجهين :
الأول : أن يقال : المراد من اليتامى الذين بلغوا وكبروا ، وسمَّاهم لله - تعلى - يتامى ، إما على أصل اللغة ، وإما لقرب عهدهم باليُتْم ، وإن كان قد زال من هذا الوقت كقوله تعالى :
{ وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ } [ الأعراف : 120 ] .
أي : الذين كانوا سحرة قبل السُّجود ، وأيضاً سمَّى اللهُ تعالى مقاربة انقضاء العدة بلوغ الأجل في قوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ } [ الطلاق : 2 ] والمعنى مقاربة الأجل ، ويدل على أن المراد من اليتامى في هذه الآية البالغون قوله تعالى : { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ } [ النساء : 6 ] والإشهاد عليهم لا يصح قبل البلوغ .
الوجه الثاني : أن يقال : المراد باليتامى الصِّغار ، وعلى هذا ففي الآية وجهان :
أحدهما : أن قوله « وَآتَوَا » أمر ، والأمر يتناول المستقبل فيكون المعنى : أن هؤلاء الذين هم يتامى في الحال آتوهم بعد زوال صفة اليتم عنهم أموالهم . فتزول المناقضة .
والثاني : أنَّ المُرَاد : وآتوا اليتامى حال كونهم يَتَامَى ما يحتاجونه مِنْ نفقتهم وكسوتهم ، والفائدة فيه : أنه كان يجوز أن يظنّ أنّه لا يجوز إنفاق ماله عليه حال صغره ، فباح اللهُ - تعالى - ذلك ، وفيه إشكال وهو : أنه لو كان المراد ذلك لقال : وآتوهم من أموالهم ، والآية تَدُلُّ على إيتائهم كل مالهم .
فصل
نقل أبو بكر الرازيُّ في أحكام القرآن عن الحسن أنه قال : لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم ، وعزلوا أموالهم عن أموال اليتامى ، فَشَكَوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزل اللهُ تعالى { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } [ البقرة : 220 ] . فخلطوا عند ذلك طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم .
قال المفسرون : الصحيح أنها « نزلت في رجل من غطفان ، كان معه كثير لابن أخ له يتيم ، فلما بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه عمُّهُ فترافعا إلى النَّبيِّ صلى لله عليه وسلم فنزلت هذه الآية ، فلما علمها العَمُّ قال : أطَعْنَا لرَّسُولَ ، نعوذ بالله من الحُوب الكبير ، ودفع إليه ماله فقال النبي صلى الله عليه وسلم » وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ وَيطعْ رَبَّهُ هكذا فإنَّهُ يَحِلُّ دَارَهُ « أي : جَنَّتهُ ، فلما قبض الصَّبِيُّ ماله أنفقه في سبيل الله فقال النبي صلى لله عليه وسلم » ثَبَتَ الأجْرُ وَبَقِيَ الوِزْرُ « .
قال القرطبيُّ : وإيتاء اليتامى أموالهم يكون من وجهين :
أحدهما : إجراء الطَّعام والكسوة ما دامت الولاية ، إذْ لا يمكن إلا ذلك لمن لا يستحق الأخذ الكلي كالصغير والسفيه الكبير .
والثاني : الإيتاء بالتمكين وتسليم المال إليه ، وذلك عند ابتلاء والإرشاد وتكون تسميته حينئذ يتيماً مجازاً بمعنى : الَّذي كان يتيماً استصحاباً للاسم ، كقوله { فَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ } [ الشعراء : 46 ] أي الذين كانوا سحرة ، وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم » يتيم أبي طالب « فإذا تحقَّقَ الوليّ رشده حَرُمَ عليه إمساك ماله عنه .
قال أبو حنيفة : إذا بلغ خمساً وعشرين سنة ، أعطي ماله على كل حال؛ لأنَّه يصير جداً .
قوله : { وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ } وقد تقدَّم في البقرة قوله : { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ }
[ البقرة : 59 ] أنَّ المجرور بالباء هو المتروك ، والمنصوب هو الحاصل ، وتفعل هنا بمعنى استفعل ، وهو كثير ، نحو تَعَجَّل وَتََأَخَّرَ بمعنى استعجل واستأخر ومن مجيء تبدَّلَ بمعنى اسْتَبْدَلَ قولُ ذي الرمة : [ الطويل ]
1733- فَيَا كَرَمَ السَّكْنِ الَّذِينَ تَحَمَّلُوا ... عَنِ الدَّارِ وَالمُسْتَخْلَفِ الْمَتِبَدِّلِ
أي : المستبدل .
قل الواحدي : « تبدل الشَّيء بالشيء إذا أخذ مكانه » .
قوله : « بالطّيب » .
هو المفعول الثاني ل « تتبدلوا » .
وفي معنى هذا التبدُّل وجوه :
الأول : قال الفرّاء والزَّجَّاج : لا تستبدلوا الحرام ، وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم الذي لأبيح لكم .
الثاني : قل سعيد بن المسيب والنخعي والزهْري والأسُّدِّيُّ : وكان ولياء اليتامى يأخذون الجيد من مال اليتم ويجعل مكانها المهزولة ، ويأخذ الدرهم الجيد ، ويجعل مكانه الزيف ، يقول : درهم بدرهم ، فَنُهُوا عن ذلك .
وطعن الزمخشريُّ : في هذا الوجه فقال : ليس هذا تَبَدُّلاً ، إنما هو تبديل .
الثالث : أن يكون صديقه فيأخذ منه نعجة عجفاء مكان سمينة من مال الصبي .
الرابع : معناه لا تأكلوا مال اليتيم سلفاً مع التزام بَدَلِهِ بعد ذلك .
فصل
قل أبو العباس المقرئ : ورد لفظ « الطيِّب » في القرآن على أربعة أوجه :
الأول : الحلال كهذه الآية .
الثاني : بمعنى الظَّاهر كقوله تعالى : { صَعِيداً طَيِّباً } [ النساء : 43 ] أي : ظاهراً .
الثالث : بمعنى الحَسَن قال تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] أي : الحسن ، ومثله { والطيبات لِلطَّيِّبِينَ } [ النور : 26 ] أي : الكلام الحسن للمؤمنين .
الرابع : الطيِّبَ : المؤمن قال تعالى : { حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب } [ آل عمران : 179 ] يعني : الكافر من المؤمن .
قوله : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ } في قوله ثلاثة أوجه :
أحدها : أن « إلى » بمعنى « مع » كقوله : { إِلَى المرافق } [ المائدة : 6 ] ، وهذا رأي الكوفيين .
الثاني : أنها على بابها وهي ومجرورها متعلّقة بمحذوف على أنَّه حال ، أي : مضمومة ، أو مضافة إلى أموالكم .
الثالث : أن يضمَّن « تأكلوا » بمعنى « تضموا » كأنه قيل : ولا تَضمُّوها إلى أموالكم آكلين .
قال الزمخشري : « فإن قلت : قد حَرَّمَ عليهم أكل مال اليتامى ، فدخل فيه أكله وحده ومع أموالهم ، فَلِمَ ورد النهي عن أكلها معها؟
قلت : » لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله - تعالى - من الحلال ، وهم من ذلك يَطْعمون منها ، كان القبحُ أبلغ والذمُّ ألحق ، ولأنهم كنوا يفعلون كذلك فنعى عليهم فعلهم ، وَنَّعَ بهم ليكون زجر لهم « .
واعلم أنه تعالى ، وَإن ذكر الأكل ، فالمرادُ به سائر التصرفات المملكة للمال ، وإنما ذكر الأكل لأنه معظم ما يقع التصرف لأجله .
قوله : { إِنَّهُ كَانَ حُوباً } في الهاء ثلاثة أوجه :
حده : أنها تعود على الأكل المفهوم ، من » لا تأكلوا « .
الثَّاني : على التبدُّلِ المفهوم من » لا تَتَبَدَّلُوا الخبيث « .
الثالث : عليهما ذهاباً به مذهب اسم الإشارة نحو :
{ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] ومنه : [ الرجز ]
1714- كأَنَّهُ في الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ ... وقد تقدم ذلك في البقرة ، والأول أولى لأنه أقرب مذكور .
وقرأ الجمهور « حُوبً » بضم الحاءِ ، ولحسن بفتحها ، وبعضهم : « حَباً » بالألف ، وهي لغت في المصدر ، والفتح لغة تميم .
ونظير الحوْب والحاب ، والقول والقال ، والطُّرد والطَّرْد - وهو لإثم - وقيل : المضموم اسم مصدر ، [ والمفتوح مصدر ] وصله من حوب الأبل ، وهو زجرها فسُمِّي به لإثم؛ لأنه يزجر به ، ويطلق على الذَّنب أيضاً؛ لأنه يزجر عنه ، ومنه قول عليه السلام : « إنَّ طَلاقَ أمِّ أيُّوبَ لَحُوبْ » أي : لذنب عظيم . وقل القرطبي : والحوبُ الوحشة ، ومنه قوله عليه السَّلام أبي أيوب « إن طلاق أم أيوب لحوب » .
قال القفال : وكأن أصل لكلمةِ من لتَّحوُّبِ وهو التَّوجُّعُ ، فالحوبُ هو ارتكاب ما يتوجَّعُ لمرتكبُ منه ، يقال : حَابَ يَحُوب ، حَوْباً ، وحَاباً وحِيابة .
قال المخبل السعدي : [ الطويل ]
1735- فلا يَدْخُلَنَّ الدَّهْرَ قَبْرَكَ حُوبُ ... فَإنَّكَ تَلْقَاهُ عَلَيْكَ حَسِيبُ
وقال آخر [ الوافر ]
1736- وإنّ مُهَاجِرَيْنِ تَكَنَّفَاهُ ... غَدَاتَئِذٍ لَقَدْ خَطِئَا وَحَابَا
والحَوْبةُ : المرة الواحدة ، والحَوْبَةُ : الحاجة ، ومنه في الدعاء « إليكَ أرفع حَوْبَتِي » ، وأوقْعَ اللهُ الْحَوْبَة ، و « تحوَّب فلان » إذا خرج من الحَوْب كتحرَّج وتَأَثَّمَ ، والتضعيف للسَّلْبِ ، و « الحَوِأب » بهمزة بعد الواو المكان الواسع والحوب الحاجة ، يقال : ألحق اللهُ به الحوبةَ ، أي : [ المسألة ] والحاجة ، والمسكنة ومنه قولهم باب بحيبة سوء ، وأصل الياء الواو ، وتحوَّب فلان أي : تعبد وألقى الحوب عن نفسه ، والتحوُّب أيضاً التحزُّن ، وهو أيضاً الصياحُ الشديد كالزَّجْرِ .

وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ } شرط ، وفي جوابه وجهان :
أحدهما : أنه قوله : { فانكحوا } وذلك أنهم كانوا يتزوجون الثمانَ ، والعشر ، ولا يقومون بحقوقهن ، فلمَّا نزلت { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ } أخذوا يَتحرّجونَ من ولاية اليتامى ، فقيل لهم : إن خفتم من الجورِ في حقوق اليتامى فخافوا أيضاً من الجور في حقوق النساء ، فانكحوا ما طاب لكم من [ النساء مثنى وثلاث ورباع من ] الأجنبيات أي : اللاتي لسن تحت ولايتكم ، فعلى هذا يحتاج إلى تقدير مضاف ، أي : في نكاح يتامى النساء .
فإن قيل : « فواحدة » جواب لقوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً } فكيف يكون جواباً للأول؛ فالجواب : أنَّهُ أَعَادَ الشرط الثاني لأنه كالأول في المعنى ، لما طالَ الفصل بين الأول وجوابه وفيه نظر لا يخفى . والخوف هنا على بابه فالمراد به الحذر .
وقال أبو عبيدة إنه بمعنى اليقين وأنشد الشاعر : [ الطويل ]
1737- فَقُلْتُ لهُمْ خَافُوا بأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهُمُ في الفَارِسِي الْمُسَرَّدِ
أي : أيقِنُوا ، وقد تَقَدَّمَ تَحْقِيْقُ ذلك والردُّ عليه عند قوله تعالى : { إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } [ البقرة : 229 ] .
قوله : { أَلاَّ تُقْسِطُواْ } إنْ قَدَّرَتْ أنها على حذف حرف الجر ، أي : « مِنْ أن لا » ففيها الخلاف المشهور أي : في محل نصب [ أو جر ، وإنْ لم تقدّر ذلك بل وصل الفعل إليها بنفسه ، كأنك قلت : « فَإنْ حَذَرْتم » فهي في محل نصب ] فقط كما تَقَدَّمَ في البقرة .
وقرا الجمهور : « تقسطوا » بضم التاء ، من أقْسَط : إذا عدل ، فتكون لا على هذه القراءة نافيةُ ، والتقديرُ : وإنْ خِفْتُمْ عدم الإقساط أي : العدل .
وقرأ إبراهيم النخعي : ويحيى بن وثَّاب بفتحها من « قسط » وفيها تأويلان :
أحدهما : أن « قَسَطَ » بمعنى « جار » ، وهذا هو المشهور في اللغة ، أعني أن الرباعي بمعنى عَدَلَ ، والثلاثي بمعنى جار ، وكأنَّ الهمزة فيه للسَّلْبِ بمعنى « أقسط » أي : أزال القسط وهو الجور ، و « لا » على هذا القول زائدة ليس إلا ، وإلا يفسد المعنى كهي في قوله : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } [ الحديد : 29 ] .
والثاني : حكي الزجاج أن « قسط » الثلاثي يستعمل استعمال « أقسط » الرباعي ، فعلى هذا تكون « لا » غير زائدة ، كهي في القراءة الشهيرة؛ إلاَّ أنَّ التَّفْرِقَةَ هي المعروفةُ لغة .
قالوا : قاسطته إذَا غَلَبْتَهُ على قِسْطِهِ ، فبنوا « قسط » على بناء ظلم وجار وغلب .
وقال الراغب : « القِسْط » أن يأخذ قِسْطَ غيره ، وذلك جَوْرٌ ، وأَقْسَطَ غيره ، والإقسَاطِ أن يُعْطِيَ قِسْطَ غَيْرِهِ ، وذلك إنصاف ، ولذلك يقال : قَسَطَ الرَّجُلُ إذَا جَار ، وأَقْسَطَ إذَا عدَلَ ، قال تعالى : { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ] .
[ وقال تعالى : { وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } [ الحجرات : 9 ] .
وَحُكِيَ أنَّ الحَجَّاجَ لما أحضر سعيد بن جبير ، قال له : ما تقول فيَّ؟ قال : « قَاسِطٌ عادِلٌ » فأعجب الحاضرون ، فقال لهم الحجاج : ويلكم لم تفهموا عنه إنّه جعلني جائراً كافراً ، ألم تسمعوا قوله تعالى :
{ وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ] .
المادة من قوله : { قَآئِمَاً بالقسط } [ آل عمران : 18 ] .
قوله : { مَا طَابَ } في « ما » هذه أوجه :
أحدها : أنها بمعنى الذي وذلك عند من يرى أن « ما » تكون للعاقل ، وهي مسألة مشهورة ، وذلك أن « ما » و « من » وهما يتعاقبان ، قال تعالى : { والسمآء وَمَا بَنَاهَا } [ الشمس : 5 ] وقال : { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } [ الكافرون : 3 ] وقال { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ } [ النور : 45 ] .
وحكى أبو عمرو بن العلاء : سبحان من سبح الرعد بحمده .
وقال بعضهم : نَزَّلَ الإناث منزلة غير العقلاء كقوله : { إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } [ المؤمنون : 6 ] .
قال بعضهم : وَحَسن وقوعها هنا أنها واقعة على النساء ، وهن ناقصات العقول . وبعضهم يقول : هي لصفات من يعقل .
وبعضهم يقول : لنوع من يعقل كأنه قيل : النوع الطيب من النساء ، وهي عبارات متقاربة . فلذلك لم نعدّها أوجهاً .
الثاني : أنها نَكِرَةٌ موصوفة ، أي : انكحوا جنساً طيباً أو عدداً طيِّباً .
الثالث : أنها مصدرية ، وذلك المصدر واقع موقع اسم الفاعل ، تقديره : فانحكوا [ الطَّيِّبَ .
وقال أبو حيان : والمصدر مقدر هنا باسم الفاعل ، والمعنى فانكحوا ] النكاح الذي طاب لكم . والأول أظهر .
الرابع : أنها ظرفية تستلزم المصدريَّة ، والتقدير : فانحكوا ما طاب مدة يطيب فيها النكاح لكم . إذا تقرر هذا ، فإن قلنا : إنها موصولة اسمية أو نكرة موصوفة ، أو مصدرية ، والمصدرُ واقع اسم الفاعل كانت « ما » مفعولاً ب « انكحوا » ويكون « من النساء » فيه وجهان :
أحدهما : أنها لبيان الجنس المبهم في « ما » عند مَنْ يثبت لها ذلك .
والثاني : أنها تبغيضية ، أي : بعض النساء ، وتتعلق بمحذوف على أنها حال من « ما طاب » وإن قلنا : إنها مصدرية ظرفية محضة ، ولم يُوقع المصدر موقع اسم فاعل كما قال أبو حيان كان مفعول « فانكحوا » قوله « من النساء » نحو قولك : أكلت من الرغيفِ ، وشربتُ من العسل أي : شيئاً من الرغيف وشيئاً من العسل .
فإن قيل : لِمَ لا يجعل على هذا « مثنى » وما بعدها هو مفعول « فانكحوا » أي : فانكحوا هذا العدد؟ فالجواب أن هذه الألفاظ المعدولة لا تلي العوامل .
وقرأ ابن أبي عبلة « مَنْ طَابَ » وهو يرجحُ كون « ما » بمعنى الذي للعاقل ، وفي مصحف أبي بن كعب بالياء ، وهذا ليس بمبني للمفعول؛ لأنه قاصر ، وإنما كُتِبَ كذلك دلالة على الإمالة وهي قراءة حمزة .
فصل
اختلف المفسرون في كيفية تعلق هذا الجزاء بهذا الشرط فروى عروة قال : قلت لعائشة : ما معنى قول الله تعالى { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى } .
فقالت : يا ابن أخي هي اليتيمة تكون في حجر وليِّها فَيرغَبُ في مالها وجمالها ، إلاَّ أنَّهُ يريد أن ينكحها بأدنى من صداقها ، ثم إذا تزوج بها عاملها معاملة رديئة لعلمه بأنه ليس لها من يَذُبُّ عنها ويدفع شر ذلك الزوج عنها ، فقال تعالى : { وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى } فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم من النساء ، قالت عائشة - رضي الله عنها - ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن ، فانزل اللهُ تعالى : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يَتَامَى النسآء [ اللاتي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } [ النساء : 127 ] فالمراد منه هذه الآية ، وهن قوله { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى } .
وقيل : لَمَّا نَزَلَتْ هذه الآية المتقدمة في اليتامى وأكل أموالهم خاف الأولياء من لحوق الحوبِ بتركِ الإقْسَاطِ في حقوق اليتامى فتحرجوا من أموالهم ، وكان الرجل منهم ربما كان عنده العشرة من الأزواج أو اكثر ، ولا يقوم بحقوقهنَّ في العدل . فقيل لهم : إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها ، فكونوا خائفين من ترك العدل في النساء ، فقللوا عدد المنكوحات؛ لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله ، فكأنه لم يتحرّج ، وهذا قول سعيد بن جبير ، وقتادة والضحاك والسدي .
وقيل : لما تحرّجوا من ولاية اليتامى فقيل : إن خفتم في حق اليتامى فكونوا خائفين من الزنا ، فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات ، قاله مجاهد .
وقال عكرمة : هو الرجل عنده النسوة ويكون عند الأيتام ، فإذا أنفق ماله على النسوة ، وصار محتاجاً أخذ في إنفاق مال اليتامى عليهن ، فقال تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى } عند كثرة الزوجات فقد حرمت عليكم [ نكاح ] أكثر من أربع ليزول هذا الخوف ، وهذه رواية لطاوس عن ابن عباس .
فصل
قال الواحدي والزمخشري : قوله : { مَا طَابَ لَكُمْ } أي ما حلَّ لكم من النساء لأن منهن من يحرم نكاحها وهي الأنواع المذكورة في قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } [ النساء : 23 ] .
قال ابن الخطيب : وهذا فيه نظر؛ لأن قوله : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ } هو أمر إباحة ، فلو كان المراد ما حل لكم لنزلت الآية منزلة قوله ، أبَحْنَا لَكُمْ نِكَاحَ من يكون نكاحها مباحاً لكم ، وذلك يخرج الآية من الفائدة ، وأيضاً على التقدير الذي ذكره تصير الآية مجملة؛ لأنَّ أسباب الحِلِّ والإبَاحَةِ لمَّا لَمْ تُذْكَرْ في هذه الآية صارت مجملة لا محالة ، وإذا حملنا الطيب على استطابة النفس وميل القلب كانت الآية عامة دخلها التخصيص ، وقد ثبت في أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين التخصيص والإجمال كان رفع الإجمال أولى؛ لأن العام المخصوص حجة في غير محل التخصيص ، والمجملُ لا يكون حجة أصلاً .
قوله « مَثْنَى » منصوب على الحال من « طَابَ » وجعله أبو البَقاء حالاً من « النساء » فأجاز هو وابن عطية أن يكون بدلاً من « ما » وهذان الوجهان [ ضعيفان ] .
أمَّا الأول : فلأنَّ الْمُحْدَّث عنه إنما هو الموصول وأتى بقوله { النسآء } كالتبيين .
وأما الثاني : فلأنَّ البدل على نِيَّةِ تكرار العامل ، وقد تقدم أن هذه الألفاظ لا تباشر العوامل .
واعلم أن هذه الألفاظ المعدولة فيها خلاف ، وهل يجوز فيها القياس أم يقتصر فيها على السماع؟ قولان :
وقول الكوفيين وأبي إسحاق : جوازه .
والمسموع [ من ذلك ] أحد عشر لفظاً : أُحاد ، وَمَوْحَد ، وثُنَاء ، وَمَثْنَى ، وَثُلاَثَ ، وَمَثْلَث ، ورُباع ، وَمَرْبَع ، ولم يسمع خُماس ومَخْمس ، وعَشار ومَعْشَر .
واختلفوا أيضاً في سبب منع الصرف فيها على أربعة مذاهب :
أحدها : مذهب سيبويه ، وهو أنها مُنِعَتْ من الصرف للعدلِ والوصفِ أمَّا الوصف فظاهر ، وَأَمَّا العدل فلكونها معدولة من صيغة إلى صيغة وذلك أنها معدولة عن عدد مكرر .
فإذا قلت : جاء القوم أحاد أو مَوْحَدَ أو ثُلاثَ أو مَثْلَثَ ، كان بمنزلة قولك : جاءوا واحداً واحداً وثلاثةً ثَلاثَةً ، ولا يُرادُ بالمعدولِ عنه التوكيد ، إنما يُرادُ به تكرار العدد لقولهم : علمته الحساب باباً باباً .
والثاني : مذهب الفراء ، وهو العدل والتعريف بنية الألف واللام ولذلك يمتنع إضافتها عنده لتقدير الألف واللام ، وامتنع ظهور الألف واللام عنده لأنها في نِيَّة الإضافة .
الثالث : مذهب أبي إسحاق : وهو عدلها عن عدد مكرر وعدلها عن التأنيث .
والرابع : نَقَلَهُ الأخفش عن بعضهم ، أنه تكرار العدل ، وذلك أنه عَدَلَ عن لفظ اثنين اثنين ، وعن معناه؛ لأنه قد لا يستعمل في موضع تستعمل فيه الأعداد في المعدولة بقوله : جاءني اثنان وثلاثة ، ولا تقول : « جاءني مَثْنَى وثلاث » حتى يتقدم قبله جمع؛ لأن هذا الباب جعل بياناً لترتيب الفعل ، فإذا قلت : « جَاءَ الْقَوْمُ مَثْنَى » ، أَفَادَ أنَّ مجيئهم وقع من اثنين اثنين ، بخلاف غير المعدولة ، فَإنَّها تفيد الإخبار عن مقدارِ المعدودِ دُونَ غيره؛ فقد بان بما ذكرنا اختلافهما في المعنى فلذلك جاز أن تقوم العِلَّةُ مَقَامَ العلتين لإيجابهما حكمين مختلفين - انتهى .
وقال الزمخشري : « إنَّمَا منعت الصرف لما فيها من العَدْلَيْن؛ عدلها من صيغتها ، وعدلها عن تكررها ، وهن نكرات يُعَرَّفْنَ بلام التعريف ، يقال : فلان ينكح المثْنَى والثلاث » .
قال أبو حيان : « ما ذهب إليه من امتناعها لذلك لا اعلم أحداً قاله ، بل المذهب فيه أربعة » ذكرها كما تقدم ، وقد يقال : إنَّ هذا هو المذهب الرابع وعبَّر عن العدل في المعنى بعدلها عن تكررها وناقشه [ أبو حيان ] أيضاً في مثاله بقوله : ينكح المثنى من وجهين :
أحدهما : دخول « أل » عليها ، قال : « وهذا لم يذهب إليه أحد بَلْ لَمْ تُسْتَعْمَلْ في لسان العرب إلاَّ نكرات »
الثاني : أنه أولاها العوامل ، ولا تلي العوامل بل يتقدمها شيء يلي العوامل ، ولا تقع إلا أخباراً كقوله عليه السلام :
« صلاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى » أو أحوالاً كهذه الآية الكريمة أو صفات نحو قوله تعالى : { أولي أَجْنِحَةٍ مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } [ فاطر : 1 ] وقوله : [ الطويل ]
1738- .. ذِئَابٌ تَبَغَّى النَّاسَ مَثْنَى وَمَوْحَدُ
وقد وقعت إضافتها قليلاً كقوله : [ الطويل ]
1739- ... بِمَثْنَى الزُّقَاقِ المُتْرَعَاتِ وَبِالجُزُرْ
وقد استدلَّ بعضهم على إيلائها العَوَامل على قِلَّةٍ بقوله : [ الوافر ]
1740- ضَرَبْتُ خُمَاسَ ضَرْبَةَ عَبْشَمِيٍّ ... أذارُ سُدَاس ألاَّ يَسْتَقِيمَا
ويمكن تأويله على حذف المفعول لفهم المعنى تقديره : ضربتهم خماس .
ومن أحكام هذه الألفاظ ألا تؤنث بالتاءِ ، لا تقول : « مثناة » ولا « ثُلاثة » بل تَجْرِي على المذكر والمؤنث جَرَياناً واحداً .
وقرأ النخعي وابن وثّاب « ورُبَعَ » من غير ألف ، وزاد الزمخشري عن النخعي : « وثُلَثَ » أيضاً ، وغيره عنه « ثُنَى » مقصوراً من « ثُناء » حَذَفوا الألف من ذلك كله تحقيقاً ، كما حذفها الآخر في قوله : [ الرجز ]
1741- . ... يريد بارداً وَصلَّياناً بَرِدَا
فصل معنى قوله : « مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ » أي اثنين وثلاثاً وأربعاً أربعاً ، والواو بمعنى « أو » للتخيير كقوله تعالى : { أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى } [ سبأ : 46 ] وقوله : { أولي أَجْنِحَةٍ مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } [ فاطر : 1 ] وأجمعت الأمة على أنه لا يجوز لأحد أن يتزوج أكثر من أربع نسوة ، وكانت الزيادة من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم .
فصل
ذهبَ أكْثرُ الفقهاء إلى أن قوله تعالى : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ } لا يتناول العبد؛ لأن الخطاب إنما يتناول إنساناً متى طلب امرأة قَدِرَ على نكاحها ، والعبد ليس كذلك؛ لأنه لا يتمكن من النكاح إلا بإذن مولاه لقوله تعالى : { عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ } [ النحل : 75 ] ، فَيَنْفِي كونه مستقلاًّ بالنكاح .
وقال عليه السلام : « أيُّما عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذنِ مَوْلاَهُ فَهُوَ عَاهِرٌ » .
وقال مالك : يجوز للعبد أن يتزوج أربعاً لظاهر الآية .
وأجيب بأن قوله تعالى بعد هذه الآية : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } مختص بالأحرار؛ لأن العبد لا ملك له ، وبقوله تعالى : { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } [ النساء : 4 ] والعبد لا يأكل ما طابت عنه نفس امرأته من المهر ، بل يكون لسيده .
قال مالك : إذا ورد عمومان مستقلان فدخول التقييد في الآخر لا يوجب دخوله في السابق .
وأجيب بأن هذه الخطابات وردت متوالية على نسق واحد ، فلما ذكر في بعضها الأحرار علم أن الكل كذلك .
فصل
ذهبت طائفة فقالوا : يجوز التزويج بأيّ عدد شاء ، واحتجوا بالقرآن والخبر ، أمَّا القرآن فتمسكوا بهذه الآية من ثلاثة أوجه :
الأول : أن قوله { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } إطلاق في جميع الأعداد ، بدليل أنه لا عدد إلاّ ويصح استثناؤه منه .
وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل .
الثاني : أن قوله : « مثنى وثلاث ورباع » لا يصلح مخصصاً لذلك العموم؛ لأن تخصيص بعض الأعداد يدخل على رفع الحرج؛ والحجر مطلقاً ، فإن الإنسانَ إذا قال لولده : افعل ما شئت ، اذهب إلى السوق وإلى المدرسة ، وإلى البستان ، لم يكن تنصيصاً للإذن بتلك الأشْيَاء المذكورة فقط ، بل يكون ذلك إذناً في المذكور ، وغيره ، هكذا هنا .
الثالث : أن الواو للجمع المطلق ، فقوله تعالى : { مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } لا يدخل هذا المجموع ، وهو تسعة ، بل يفيد ثمانية عشر؛ لأن قوله مثنى ليس عبارة عن اثنين فقط ، بل عن اثنين اثنين ، وكذا البقية .
وأما الخبر فمن وجهين :
الأول : أنه ثبت بالتواتر أنه عليه الصلاة والسلام مات عن تسع ، وأمرنا الله باتباعه بقوله تعالى : { فاتبعوه } [ الأنعام : 153 ] وأقل [ مراتب ] الأمر الإباحة .
الثاني : أن التزويج بأكثر من أربع طريقة عليه الصلاة والسلام ، فيكون سنةً له .
وقال عليه الصلاة والسلام : « النِّكَاحُ سُنَّتِي وَسُنَّةُ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي » وهذا يقتضي الذم لمن ترك التزويج بأكثر من أربع ، فلا أقل من أن يثبت أصل الجواز .
أجاب القدماء بما رُوِيَ أن غَيْلاَنَ أسلم وتحته عشر نسوة فقال له عليه الصلاة والسلام : « أمْسِكْ أربعاً وَفَارِقْ بَاقِيهنَّ » وهذا ضعيف من وجهين :
الول : أن هذا نسخ للقرآن بخبر الواحد ، وذلك لا يجوز .
الثاني : أن هذه واقعة حال ، فلعله عليه الصلاة والسلام إنَّما أمره بإرسال أربع ومفارقة البواقي؛ لأن الجمع بين الأربع وبين البواقي غير جائز ، إمَّا لنسب أو رضاع ، أو اختلاف دين محرم ، وإذا قام الاحتمال فلا يمكن نسخ القرآن إلا بمثله .
واستدلوا أيضاً بإجماع فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز الزيادة على الربع ، وهذا أيضاً فيه نظر من وجهين :
أحدهما : أن الإجْمَاعَ لا يُنْسَخُ به فكيف يقال : الإجماع نسخ هذه الآية؟
الثاني : أن هؤلاء الذين قالوا بجواز الزيادة على الأربع من جملة فقهاء الأمصار ، والإجماع لا ينعقد مع مخالفة الواحد والاثنين .
وأجيب عن الأول بأن الإجماع يكشف عن حصول الناسخ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن الثاني أن هذا المخالف من أهل البدعة ، فلا عبرة بمخالفته .
فإن قيل : إذا كان المر على ما قلتم فكان الأولى أن يقال : « مثنى او ثلاث أو رباع » فلم جاء بواو العطف [ دون « أو » ] .
فالجواب : أنه لو جاء بالعطف ب « أو » لكان يقتضي أنه يجوز ذلك إلا أحد هذه الأقسام ، وألاَّ يجوز لهم أن يجمعوا بين هذه الأقسام ، بمعنى أن بعضهم يأتي بالتثنية ، وبعضهم بالتثليث ، والفريق الثالث بالتربيع ، فلما ذكره بحرف الواو أفاد ذلك أنه يجوز لكل طائفة أن يختاروا قسماً من هذه الأقسام ، ونظيره أن يقال للجماعة : اقتسموا هذا المال وهو ألف ، درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، ولطائفة ثالثة أن يأخذوا أربعة أربعة ، فكذا ها هنا في ترك « أو » وذكر الواو .
فصل
قال مالك والشافعيُّ : -رحمهما الله تعالى - « إذا تزوج خامسة وعنده أربع عليه الحد إن كان عالماً » .
وقال الزُّهْرِيُّ : « يرجم إذا كان عالماً ، وإذا كان جاهلاً عليه أدنى الحدين ، الذي هو الجلد وهو مهرها ، ويفرِّق بينهما ولا يجتمعان أبداً » .
وقال النُّعْمَانُ : « لا حدّ عيه في شيء من ذلك » .
وقالت طائفة : « يحدُّ في ذات المحرم ، ولا يحدّ في غير ذلك من النكاح ، مثل أن يتزوج مجوسية ، أو خمساً في عقد ، أو تزوّج معتدة ، أو بغير شهود ، أو [ تزوج ] أمة بغير إذن مولاها » .
قوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ } شرط ، إذا أنتج من الآيتين هذه وقوله : { وَلَن تستطيعوا } [ النساء : 129 ] ما أنتج [ من ] الدلالة اقتضى أنه لا يجوز أن يتزوّج غير واحدة ، أو يتسرَّى بما ملكت يمينه ، ويبقى الفصل بجملة الاعتراض لا فائدة له ، بَلْ يكون لغواً على زعمه .
والجمهور على نصب « فواحدة » بإضمار فعل أي : فانكحوا واحدة وطؤوا ما ملكت أيمانكم ، وإنما قدّرنا ناصباً آخر لملك اليمين؛ لأن النكاح لا يقع في ملك اليمين ، إلا أن يريد به الوطء في هذا ، والتزويج في الأول ، فيلزم استعمال المشترك في معنيين أو الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وكلاهما مقول به ، وهذا قريب من قوله : [ الرجز ]
1742- عَلَفْتُهَا تِبْنَاً وَمَاءً بَارِدَاً .. . . .
وبابه .
وقرأ الحسن وأبو جعفر : « فواحدةٌ » بالرفع ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : الرفع بالابتداء ، وسوَّغ الابتداء بالنكرة اعتمادها على فاء الجزاء ، والخبر محذوف أي : فواحدة كافية .
الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف أي فالمقنع واحدة .
الثالث : أنه فاعل بفعل مقدّر أي : يكفي واحدة .
و « أو » على بابها من كونها للإباحة أو التخيير . و « ما ملكت » كهي [ في قوله ] : « مَا طَابَ » [ فإن قيل : المالك هو نفسه لا يمينه ، فلِمَ ] أضاف المِلْك لليمين [ فالجواب ] لأنها محل المحاسن ، وبها تُتَلَقَّى رايات المجد .
وروي عن أبي عمرو : « فما ملكت أيمانكم » ، والمعنى : إن لم يعدل في عِشْرَةِ واحدة فما ملكت يمينه .
وقرأ ابن أبي عبلة « أو من ملكت أيمانكم » .
ومعنى الآية : إن خفتم ألا تعدلوا بين هذه الأعداد كما خفتم ترك العدل فيما فوقها فاكتفوا بزوجة واحدة ، أو بالمملوكة .
قوله : « ذلك أدنى » مبتدأ وخبر ، و « ذلك » إشارة إلى اختيار الواحدة أو التسرِّي .
و « أدنى » أفعل تفضيل من دنا يدنو أي : قرُب إلى عدم العول .
قال أبو العباس المقرئ : « ورد لفظ أدنى في القرآن على وجهين :
الأول : بمعنى أحرى قال تعالى : { ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ } .
والثاني : بمعنى » دون « قال تعالى : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ } [ البقرة : 61 ] يعني الرديء بالجيد » .
قوله تعالى : { أَلاَّ تَعُولُواْ } في محل نصب أو جرٍّ على الخلاف المشهور في « أن » بعد حذف حرف الجر ، وفي ذلك الحرف المحذوف ثلاثة أوجه :
أحدها : « إلى » أي : أدنى إلى ألا تعولوا .
والثاني : « اللام » والتقدير : أدنى لئلا تعولوا .
والثالث : وقدّره الزمخشريُّ من ألا تميلوا؛ لأن أفعل التفضيل يجري مجرى فعله ، فما تعدى به فعله [ تعدى ] هو به ، وأدنى من « دنا » و « دنا » يتعدى ب « إلى » و « اللام » ، و « من » تقول : دنوت إليه ، وله ، ومنه .
وقرأ الجمهور : « تعولوا » من عال يعول إذا مال وجار ، والمصدر العول والعيالة ، وعال الحاكم أي : جار .
حكي أن أعرابياً حكم عليه حاكم فقال له : أتعول عليَّ .
وقال أبو طالب في النبي عليه السلام [ الطويل ]
1743- ... لَهُ حَاكِمٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ
وروي عن عائشة - رضي الله عنها - مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ } [ النساء : 3 ] قال : « لاَ تَجُورُوا » .
وفي رواية أخرى « ألا تميلوا » .
قال الواحدي رحمه الله : « كلا اللفظين مرويّ؛ وعال الرجل عيالَهُ يَعُولهم إذا مانَهُمْ من المؤونة ومنه أبْدَأ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بمَنْ تَعُول » .
وحكى ابن العرابي : عال الرجل يعول : كثر عياله ، وَعَالَ يِعِيلُ افتقر وصار له عائلة ، والحاصل أن « عال » يكون لازماً ومتعدياً ، فاللازم يكون بمعنى : مال وجار ، والمتعدي ومنه « عال الميزان » .
قال أبو طالب : [ الطويل ]
1744- بِمِيزانِ قِسْطٍ لا يَغِلُّ شَعِيرَةً ... وَوَزَّان صِدْقٍ وَزْنُهُ غَيْرُ عَائِلِ
وعالت الفريضة إذا زارت سهامها ، ومعنى كثر عياله ، وبمعنى تفاقم الأمر ، والمضارع من هذا كله يَعُولُ ، وعال الرجل افتقر ، وعالَ في الأرض : ذهب فيها ، والمضارع من هذين يَعِيل ، والمتعدي يكون بمعنى أثقل ، وبمعنى مانَ من المؤونة ، وبمعنى غَلَبَ ومنه « عيل صبري » ، ومضارع هذا كله يَعُول ، وبمعنى أعجز ، تقول : أعجزني الأمرُ ، ومضارع هذا يَعيل ، والمصدر « عَيْل » و « مَعِيل » ، فقد تلخص من هذا أن « عال » اللازم يكون تارة من ذوات الواو ، وتارة من ذوات الياء ، باختلاف المعنى ، وكذلك عال المتعدي أيضاً . ومنه : [ الطويل ]
1745- وَوَزَّانُ صِدْقٍ وَزْنُهُ غَيْرُ عَائِلِ ... وفسَّر الشافعي رحمه الله { تَعُولُواْ } بمعنى يكثر عيالُكُم .
وردَّ هذا القول جماعة كأبي بكر بن داود الرازي والزجاج وصاحب النظم .
قال الرازي : « هذا غلط من جهة المعنى واللفظ ، أما المعنى فللإباحة السراري صح أنه مظنة كثرة العيال كالتزويج ، وأما اللفظ؛ فلأن مادة عال بمعنى كثر عياله من ذوات الياء؛ لأنه من العَيْلَةِ ، وأما عال بمعنى » جار « فمن ذوات الواو ، واختلفت المادتان ، وأيضاً فقد خالف المفسرين » .
وقال صاحبُ النظم : قال أولاً « ألاَّ تعدلوا » فوجب أن يكون ضده الجور .
وأجيب عن الأول وهو أنَّ التَّسْتَرِي أيضاً يكثر معه العيال ، مع أنه مباح ممنوع؛ لأن الأمة ليست كالزوجة؛ لأنه يعزل عنها بغير إذنها ، ويؤجرها ويأخذ أجرتها ينفقها عليه وعلى أولاده وعليها .
قال الزمخشري : « وجههُ أن يُجْعَلَ من قولك : عَالَ الرجلُ عياله يعولهم كقولك : مانَهم يُمُونهم أي : أنْفَقَ عليهم؛ لأن من كثر عياله لَزِمَهُ أن يَعُولهم ، وفي ذلك ما يصعب عليه المحافظة من كسب الحلال والأخذ من طيب الرزق » ثم أثنى على الشافعي ثناءً جميلاً ، وقال : ولكن للعلماء طُرق وأساليبُ ، فسلك في تفسير هذه الآية مسلك الكنايات ، انتهى .
وأما قولُهم : « خالف المفسرين » فليس بصحيح ، بل قاله زيد بن أسلم وابن زيد .
واما قولهم : « اختلفت المادتان » فليس بصحيح أيضاً؛ لأنه قد تقدَّم حكايةُ ابن الأعرابي عن العرب : عال الرجل يعول كثر عياله ، وحكاها الْكِسَائِيُّ أيضاً قال : يقالُ : عالَ الرَّجل يَعُولُ ، وأعال يعيل كثر عياله .
قال أبو حاتم : كان الشَّافِعِيُّ أعْلَمَ بلسانِ العرب مشنَّا ، ولعلّه لغة ، ويقال : هي لغة « حمير » ونقلها أيضاً الدَّوْرِيُّ المقرِئُ لغةً عِنْ حِمْيَرَ وأنشد [ الوافر ] :
1746- وَإنَّ الْموتَ يأخُذُ كُلَّ حَيٍّ ... بِلاَ شَكٍّ وَإنْ أمْشِي وَعَالا
أمشى : كثرت ماشيته ، وعَالَ كَثُرَ عياله ، ولا حجَّةَ في هذا؛ لاحتمال أن يكون « عال » من ذَوَاتِ الياء ، وهم لا يُنْكِرُونَ أنَّ « عال » يكون بمعنى كثر عياله ، ورُوِيَ عنه أيضاً أنَّهُ فَسَّرَ تعولوا بمعنى تفتقروا ، ولا يُريدُ به أنَّ « تعولوا » وتعيلوا بمعنى ، بل قصد الكِنَايَة أيضاً؛ لأن كثرةَ العيالِ سَبَبٌ للفقر .
وقرأ طلحة : « تَعيلوا » بفتح تاء المضارعة من عال يعيل افتقر قال : [ الوافر ]
1747- فَمَا يَدْرِي الفَقِيرُ مَتى غِنَاهُ ... وَمَا يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ
وقرأ طاوس : « تُعيلوا » بضمها من أعَالَ : كثر عياله ، وهي تُعَضَّدُ تفسير الشَّافعيِّ المتقدِّم من حيث المعنى .
وقال الرَّاغبُ : عَالَهُ ، وَغَالَهُ يتقاربان ، لكن الغَوْلَ : فيما يُهلك والعَوْل فيما يُثْقِلُ .

وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
مفعول ثانٍ ، وهي جمع « صَدُقة » بفتح الصَّاد وضمَّ الدَّال بزنة « سَمُرة » ، والمرادُ بها : المهر وهذه هي القراءة المشهُورَةُ ، وهي لُغَةُ الحجاز .
وقرأ قتادةُ : « صُدْقاتهن » بضمِّ الصَّادِ وإسكان الدَّال ، جمعُ صُدْقَةٍ بزنة غُرْفَةٍ .
وقرأ مجاهدٌ وابن أبي عبلة بضمهما وهي جمع صدقة بضم الصاد والدال ، وهي تثقيل الساكنة الدَّال للاتباع .
وقرأ ابن وثاب والنخعي « صُدُقَتَهُنَّ » بضمهما مع الإفراد .
قال الزَّمخشريُّ وهي تثقيل صُدْقة كقولهم في « ظُلْمة » « ظُلُمة » ، وقد تقدم الخلاف ، هل يجوز تثقيل الساكن المضموم الفاء؟
وقرئ : « صدقاتهن » بفتح الصَّادِ وإسْكَانِ الدَّالِ وهي تخفيف القراءة المشهورة ، كقولهم في عَضُد : عَضْد .
قال الوَاحِدِيُّ : « ولفظ الصَّاد والدَّال والقاف موضوع للكمال والصحة ، يسمّى المهر صداقاً وصدقة وذلك لأنَّ عقد النكاح به يتم .
وفي نصب » نحلة « أربعةُ أوجهٍ :
أحدها : أنَّها منصوبةِ على المصدر ، والعامل فيها الفعل قبلها؛ لأن » آتوهن « بمعنى انحلوهُنَّ ، فهي مصدر على غير الصدر نحو : » قَعَدْت جلوساً « .
الثاني : أنها مصدرٌ واقِعٌ موقع الحال ، وفي صاحب الحال ثلاثة احتمالات :
أحدها : أنَّهُ الفاعل من » فآتوهن « أي : فآتوهن ناحِلين .
الثاني : أنَّهُ المفعول الأوَّل وهو : النِّسَاءُ .
الثالث : أنه المفعول الثاني وهو » صدقاتهن « . أي : منحولات .
الوجه الثَّالثُ : أنَّها مفعول من أجله ، إذا فُسِّرَتْ بمعنى : شِرْعة .
الوجه الرابع : انتصابها بإضمار فعل بمعنى : شَرَعَ أي : نحل الله ذلك نِحلة ، أي : شَرَعَةُ شِرْعة وديناً .
والنِّحْلَةُ العَطِيَّةُ عَنْ طِيبِ النَّفْسِ ، والنَّحْلَة : الشِّرْعَة ، ومنه : نِحْلة الإسلام خَير النحل ، وفلان ينتحل بكذا : أي يَدِيِنُ به ، والنَّحْلَةُ : الفَرِيضةُ .
قال الراغب : والنِّحْلَة والنَّحْلَةُ : الْعَطِيَّةُ على سبيل التبرع ، وهي أخصُّ من الهِبَةَ ، إذ كُل هبة نحلة من غير عكس ، واشتقاقهُ فيما أرَى من النَّحْلِ ، نظراً منه إلى فعله ، فكأن » نَحَلْتهُ « أعْطَيْتَهُ عَطِيةَ النحل ، ثم قال : ويجوز أن تكون النِّحْلةُ أصلاً فَسُمَّى النَّحْلُ بذلك اعتباراً بفعله .
وقال الزَّمخشريُّ : مِنْ نَحَلَه كذا أي : أعطاه إيَّاه ووهبه له عن طيب نفسه ، نِحْلَةً وَنَحْلاً ، ومنه حديث أبي بكر - رضي الله عَنْهُ- : » غنّي نَحَلْتُكَ جِدَادَ عِشْرِينَ وِسْقاً « .
قال القَفَّالُ : وأصله إضافة الشيء إلى غير من هو له ، يقال : هذا شعر منحول ، أي : مضاف إلى غير قائله ، وانتحلت كذا إذا ادَّعَْتَهُ وَأَضَفْتَهُ إلى نَفْسِكَ .
فصل من المقصود بالخطاب في الآية
في هذا الخطاب قولان :
أحدهما : أنه » لأولياء « [ النساء ] ؛ لأنَّ العربَ كانت في الجاهليَّةِ لا تعطي النساء من مهورهن شيئاً ، وكذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت : هنيئاً لك النافجة ، ومعناه : أنَّك تأخذ مهرها إبلاً فَتَضُمَّهَا إلى إبلك فتنفج مالك اي : تعظمه ، وقال ابن العرابي : النافجة ما يأخذه الرَّجلُ من الحلوانِ إذا زوج ابنته ، فَنَهى الله عن ذلك ، وامر بدفع الحقِّ إلى أهله ، وهذا قول الكلبيِّ وأبي صالح واختيار الفرَّاء وابن قتيبةَ .
وقال الحضرميّ : وكان أولياء النساء يُعطى هذا أُخْتَه على أن يعطيه الآخرُ أخته ، ولا مهر بينهما ، فَنُهوا عن ذلك ، « ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشِّغَار » ، وهو أن يزوج الرَّجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته ، ولا صداق بَيْنَهُمَا .
الثاني : أنَّ الخطاب للأزواج ، أمِرُوا بإيفاء مهور النساء ، وهذا قول علقمة ، والنَخَعِيّ وقتادة ، واختيار الزجَّاج ، لأنه لا ذكر للأولياء ها هنا ، والخطاب قبله للأزواج .
قال قَتَادَةُ : نحلة فريضة .
وقال ابن جريج : فريضة مسمَّاة .
قال أبو عبيدة : لا تكون النِّحْلَةُ إلاَّ مُسَمَّاة ومعلومة . قال القَفَّال : يحتمل أن يكون المراد من الإيتاء المناولة ، ويحتمل أن يكون المراد منه الالتزام كقوله تعالى : { حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ } [ التوبة : 29 ] أي : يضمنوها ويلتزموها ، فعلى الول المراد دفع المُسَمَّى ، وعلى الثاني أن المراد بيان أن الفروج لا تُستباح إلا بعوض يلتزم سواء سمَّي أو لم يسمَّ ، إلا ما خُصَّ به النبي صلى الله عليه وسلم في الموهوبة .
قوله : « فإن طبن لكم منه » « منه » في محل جر؛ لأنه صفة ل « شيء » فيتعلق بمحذوف أي : عن شيء كائن منه .
و « مِنْ » فيها وجهان :
أحدهما : أنها للتبغيض ، ولذلك يجوز أن تَهَبَهُ كُلَّ الصَّداق .
قال ابن عطيَّة : و « مِنْ » لبيان الجنس ها هنا ولذلك يجوز أن تهب المهر كله ، ولو [ وقعت ] على التبغيض لما جَازَ ذلك انتهى .
وقد تَقَدَّمَ أن الليث يمنع ذلك ، ولا يشكل كونها للتَّبغيض ، وفي هذا الضمير أقوال :
أحدها : أنه يعود على الصَّداق المدلول عليه ب { صَدُقَاتِهِنَّ } .
الثاني : أنه يعود على « الصَّدُقات » لسدِّ الواحِدِ مَسَدَّها ، لو قيل : صَداقَهُنَّ لم يختلَّ المعنى ، وهو شبيهٌ بقولهم : هو أحسنُ الفتيان وأجْمَلُهُ؛ ولأنه لو قيل : « هو أحسنُ فتىً » لَصَحَّ المعنى .
ومثله : [ الرجز ]
1748- وَطَابَ ألْبَانُ اللِّقَاحِ وَبَرَدْ ... في « برد » ضمير يعود على « ألبان » لسدِّ « لبن » مسدَّها . الثالث : أنه يعود على « الصَّدُقات » أيضاً ، لكن ذهاباً بالضمير مذهب الإشارة فَإنَّ اسم الإشارة قد يُشارُ بِهِ مفرداً مذكراً إلى أشياء تقدمت ، كقوله : { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم } [ آل عمران : 15 ] بعد ذكر أشياء قبله ، وقد تقدم ما روي في البقرة ما حكي عن رؤية لما قيل له في قوله : [ الرجز ]
1749- فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادِ وَبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ
فقال : أردت ذلك فأجْرَى الضمير مجرى اسم الإشارة .
الرابع : أنه يعود على المال ، وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ؛ لأنَّ الصَّدُقاتِ تدُلُّ عليه .
الخامس : أنه يعود على الإيتاء المدلول عليه ب « آتوا » ، قاله الرَّاغب وابن عطيَّة .
السَّادس : قال الزمخشريُّ « ويجوز أن يُذَكَّر الضمير؛ لينصرف إلى الصَّداق الواحد ، فيكون متناولاً بَعْضَهُ ، ولو أَنّثَ لتناول ظاهرة هبةَ الصَّداق كُلِّه؛ لأنَّ بعض الصُّدقات واحد منها فصاعداً » .
وقال أبو حَيَّان : وأقولُ حَسَّن تذكير الضمير أن معنى « فَإنْ طِبْنَ » فإن طابَتْ كُلُّ واحدةٍ فلذلك قال : « منه » أي : مِنْ صَداقِها ، وهو نظير قوله : { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً } [ يوسف : 31 ] ؛ أي لكلّ واحدة منهن ، ولذلك أفرد « متكأ » .
قوله : « نَفْسَاً » منصوب على التَّمييز ، وهو هنا منقولٌ من الفاعل؛ إذ الأصل : فإنْ طابَتْ أنفسُهُنَّ ، ومثله { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 4 ] .
وهذا منصوب عن تمام الكلام ، وجِيء بالتمييز هنا مفرداً ، وإن كان قبلَه جمعٌ لعدم اللَّبْسِ ، إذْ من المعلوم أنَّ الكُلَّ لَسْنَ مشتركاتٍ في نفسٍ واحدةٍ ، ومثله : قَرَّ الزيدون عيناً ، كقوله : { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْع } [ هود : 77 ] وقيل : لَفْظثهَا واحد ومعناها جمع ، ويجوز « انفساً » « وأعيناً » وَلاَ بُدَّ مِنَ التعرُّض لقاعدةٍ يَعُمُّ نفعها ، وهي أنَّه إذا وقع تمييز بعد جمع منتصبٍ عن تمام الكلام فلا يخلو : إمَّا أن يكون موافقاً لما قبله نحو : كَرُمَ الزيدون رجالاً ، كما يطابقهُ خبراً وصفةً وحالاً .
وإن كان الثاني : فإمَّا أن يكونَ مفرد المدلول أو مختلفة ، فإن كان مفردَ المدلول وَجَبَ إفرادُ التمييز كقولك في أبناء رجل واحد : كَرُمَ بنو زيدٍ أباً أو أصلاً ، أي : إنَّ لهم جميعهم أباً واحداً متصفاً بالكرمِ ، ومثله « كَرم التقياء سَعْياً » ، إذا لم تَقصدْ بالمصدر اختلافَ الأنواع لاختلاف محالَّه ، وإنْ كَانَ مختلفَ المدلول : فإما أن يُلبِسَ إفرادُ التمييز لو أُفرد أولاً ، فإن ألْبَسَ وَجَبَت المطابقُ نحو : كَرُمَ الزيدون آباء ، أي : أن لكل واحد أباً غير أب الآخر يتصفُ بالكرمِ ، ولو أفردت هنا لَتُوُهِّم أنهم كلَّهم بنو أبٍ واحد ، والغرضُ خلافه ، وإنْ لم يُلبس جاز الأمران المطابقة والإفراد ، وهو الأوْلى ، ولذلك جاءت عليه الآية الكريمةُ ، وحكمُ التثنية في ذلك كالجمع ، وَحَسَّنَ الإفرادَ ها هنا أيضاً ما تقدَّم مِن مُحَسِّنِ تذكير الضمير وإفراده في « منه » ، وهو أنَّ المعنى : فإن طابت كُلُّ واحدة نفساً .
وقال بعض البصريين : « إنَّما أفرد؛ لأن المراد بالنفس هنا الهوى ، والهوى مصدر ، والمصادر لا تُثَنَّى ولا تجمع » .
وقال الزَّمخشريُّ : و « نَفْسَاً » تمييزٌ ، وتوحيدثها؛ لأن الغرضَ بيانُ الجنس والواحد يدل عليه . ونحا أبو البَقاءِ نَحْوَهُ ، وشَبَّهَهُ ب « درهماً » في قولك : عشرون درهماً .
واختلف النحاةُ في جوازِ تقديمِ التمييزِ على عامله إذا كان متصرفاً فمنعه سيبويه ، وأجازه المبرد وجماعة مستدلين بقوله : [ الطويل ]
1750- أتَهْجُرُ لَيْلَى بِالفُرَاقِ حَبيبَها ... وَمَا كَانَ نَفْساً بالفراقِ تَطِيبُ
وقوله : [ الطويل ]
1751- رَدَدْتُ بِمِثْلِ السَّيدِ نَهْدٍ مُقَلَّصٍ ... كَمِيشٍ إذَا عِطْفَاهُ مَاءً تَحَلَّبَا
والأصل تطيبُ نفساً ، وتحلَّبا ماء ، وفي البيتين كلامٌ طويل ليس هذا محلَّه ، وحجةُ سيبويه في منع ذلك انَّ التَّمييز فاعل في الأصْلِ ، والفاعِلُ لا يَتضقَدَّم ، فكذلك ما في قوته ، واعترضَ على هذا بنحو : زيداً ، من قولك أخرجْتُ زيداً ، فإن زيداً في الأصل فاعل قبل النَّقْل ، إذ الأصل : خرج زيدٌ والفرق لائح فالتمييز أقسام كثيرة مذكورة في كتب القوم . والجارّان في قوله { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ } متعلقان بالفعل قبلهما متضمناً معنى الاعراض ، ولذلك عُدِّي ب « عن » كأنَّهُ قيل : فَإن أعْرَضْنَ لَكُمْ عِن شيء منه طيبات النفوس ، والفاء في « فَكُلوه » جواب الشرط وهي واجبة ، والفاء في « فُكلوه » عائدة على « شيء » .
فإن قيل : لِمَ قال : { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ } ولم يقل : وَهَبْنَ لَكُمْ أوْ سَمضحْنَ لَكُمْ؟
فالجواب أنَّ المراعى وهو تجافي نفسها عن بالموهوب طيبة ] .
قوله : « فكلوه هنيئاً مريئاً » .
في نصب « هَنِيئاً » أربعةُ أقوال :
أحدها : أنَّهُ منصوبٌ على أنه صفة لمصدر محذوف تقديره : أكْلاّ هنيّئاً .
الثاني : أنه منصوب على الحال من الهاء في « فَكُلُوهُ » أي : مُهَنِّئاً ، أي سهلاً .
والثالث : أنه منصوب على الحال بفعل لا يجوز إظهاره ألبتة؛ لأنَّهُ قصد بهذه الحالِ النيابةُ عن فعلها نحو : « أقائماً وَقَدْ قَعَدَ النَّاسُ » ، كما ينوب المصدر عن فعله نحو « سَقْياً لَهُ وَرَعْياً » .
الرابع : أنهما صفتان قامتا مقام المصدر المقصود به الدعاءُ النائب عن فعله .
قال الزَّمَخشرِيُّ : « وقد يوقف على » فَكُلُوهُ « ويبتدأ ب » هنيئاً مريئاً « على الدعاء وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين؛ كأنه قيل : » هَنْئاً مًرْءاً « .
قال أبو حيان : وهذا تحريف لكلام النُّحاة ، وتحريفه هو جَعْلهما أُقِيما مُقام المصدر ، فانتصابهما انتصباَ المصدرِ ، ولذلك قال : كَأَنَّهُ قيل : » هَنْئاً مَرْءاً « ، فصار كقولك » سٌقْياص لك « و » رَعْياً لك « ، وَيَدُلُّ على تحريفه وَصِحَّةِ قول النحاة انَّ المصادرَ المقصودَ بها الدعاء لا ترفع الظاهر ، لا تقول : » سقياً اللهَ لك « ، ولا : » رعياً الله لك « ، وإنْ كانَ ذلك جائزاً في أفعالها ، و » هنيئاً مرئياً « ، يرفعان الظاهر بدليل قوله : [ الطويل ]
1752- هَنِيئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مُخامِرٍ ... لِعِزَّةَ مِنْ أعْرَاضِنَا مَا اسْتَحَلَّتِ
ف » ما « مرفوع ب » هنيئاً « أو » مريئاً « على الإعمال ، وجاز ذلك وَإنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْعَاملين رَبْطٌ بِعَطْفٍ ولا غيره؛ لأن » مريئاً « لا يستعملُ إلاَّ تابعاً ل » هنيئاً « فكأنَّهما عاملٌ واحد .
ولو قلت : « قام قعد زيد » لم يكن من الإعمال إلاَّ على نِيَّة حرف العطف . انتهى .
إلاَّ أن عبارة سيبويه فيها ما يُرْشِدُ لِما قاله الزَّمخشريُّ ، فإنه قال : هنيئاً مَرِيئاً صِفَتَانِ نصبهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل المذكور غير المستعمل إظهارُهُ المختزل لدلالة الكلام عليه ، كأنهم قالوا : ثبت ذلك هنيئاً مريئاً ، فَاَوَّلُ البعارة يُسَاعِدُ الزمخشري ، وآخرها وهو تقديره بقوله : كأنهم قالوا : ثَبَتَ هنيئاً ، يُعَكِّرُ عليه ، فعلى القولين الوَّلين يكُون « هَنيئاً مَريئاً » متعلقين بالجملة قبلهما لفظاً ومعنى ، وعلى الآخرين مقتطعين لفظاً؛ لأنَّ عاملهما مُقَدَّر من جُملةٍ أخرى كما تقدم تقريره .
واختلف النحويون في قولك لمن قال : أصاب فلان خيراً هنيئاً مريئاً له ذلك . هل « ذلك » مرفوع بالفعل المقدر ، وتقديره : ثبت له ذلك هنيئاً ، فحذف « ثبت » وقام « هنيئاً » مقامه الذي هو حال أو مرفوع ب « هنيئاً » نفسه؛ لأنه لمَّا قَامً مقامَ الفعلِ رَفَعَ ما كان الفعل يرفعه ، كما أن قولك : « زَيْدٌ في الدَّارِ » « في الدَّارِ » ضمير كان مستتراً في الاستقرار فلما حذف الاستقرار ، وقام الجار مقامه رفع الضمير [ المستتر ] الذي كان فيه ، وقد ذهب إلى الأول السيرافي وجعل في « هنيئاً » فارغاً من الضمير لرفعه الاسمَ الظاهر ، وَإذا قُلْتَ : « هَنِيئاً » وَلَمْ تَقُلْ « ذلك » فعلى مذهب السيرافي يكون في « هَنِيئاً » ضمير عائدٌ على ذِي الْحَالِ ، وهو ضمير الفاعل الذي استتر في « ثبت » المحذوفِ ، وعلى مذهب الفارسي يكون في « هنيئاً » قد قام مقام الفعل المحذوف فارغاً من الضمير .
وأما نصب « مريئاً » ففيه خمسة أوجه : أحدها : أنَّهُ صِفَةٌ ل « هنيئاً » وإليه ذَهَبَ الحوفي .
والثاني : أنَّهُ انتصب انتصاب « هنيئاً » وقد تقدَّم ما فيه من الأوجه ، ومنع الفارسي كونه صفة ل « هنيئاً » قال : لأنَّ هنيئاً قام مقام الفعل ، والفعل لا يوصف ، فكذا ما قام مَقَامَهُ ، ويؤيد ما قاله الفارسيُّ انَّ اسم الفاعل واسم المفعول وأمثلة المالغة والمصادر إذا وُصِفَت لم تَعْمَل عمل الفعل ، ولم تستعمل « مريئاً » إلا تابعاً ل « هنيئاً » ، ونقل بعضهم أنه قد يجيء [ غير ] تابع وهو مردود؛ لأن العرب لم تَستَعْمِله إلاَّ تابعاً ، وهل « هَنِيئاً » في الأصل اسما فاعل على زنة المَبَالَغَة؟ أم هما مصدران جاءا على وزن فَعِيلٍ ، كالصَّهيلِ والهدير؟ خلاف . نقل أبُو حَيَّان القول الثاني عن أبي البَقَاءِ قال : وأجاز أبو البقاء أن يكونا مصدرين جاءا على خلاف وزن « فعيل » ، كالصَّهيل والهدير ، وليسا من باب ما يطرد فيه فعيل في المصدر . انتهى .
وأبو البقاء في عبارته إشْكَالٌ ، فلا بد من التعرض إليها ليُعرف ما فيها ، قال : « هنيئاً » مصدر جاء على وزن « فَعِيل » ، وهو نعت لمصدر محذوفٍ ، أي : أكْلاً هنيئاً ، وقيل : هو مصدر في موضع الحال من الهاء والتقدير مُهَنَّأً ، و « مريئاً » مثله ، وتلمريء فعيل بمعنى مُفْعِل ، لأنَّك تقول : « أمْرَأَنِي الشَّيْء » ، ووجه لمصدر محذوف؟ وكيف يفسر « مريئاً » المصدر بمعنى اسم الفاعل؟
ذهب الزمخشري إلى انَّهُمَا وصفان قال : « فإنَّ الهنيءَ والْمَريءَ صفتان من هَنُء الطعام ومَرُؤ إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه » .
انتهى .
وَهَنَا يضهْنَا بغير همز - لغة ثانية أيضاً - وقرأ أبو جعفر : « هنيّاً مريّاً » ، بتشديد الياء فيهما من غير همزة ، كذلك « بري » و « بريون » و « بريَّا » ، ويقال : هَنَأَني الطعامُ ومرأني ، وإن أفردت « مَرَأنِي » ، وهذا كما قالوا : أخَذَهُ ما قَدُمَ وَمَا حَدُثَ ، بضم الدَّال من « حدث » مشاكلة ل « قَدُمَ » ، ولو أُفرد لم يستعمل إلاَّ مفتوح الدال ، وله نظائر أخر ، ويقال : هَنَأتُ الرجل أهْنِئُهُ بكسر العين في المضارع أي : أعطيته . واشتقاق الهنيء من الهِناء ، وهو ما يُطْلَى به البَعير للجرب كالقطران قال : [ الطويل ]
1753- مُتَبَدِّلاً تَبْدُو مَحَاسِنُهُ ... يَضَعُ الْهَنَاءَ مَوَاضِعَ النُّقْبِ
والمريءُ مَا سَاغَ وَسَهُلَ من الحق ، ومنه قِيل لمجرى الطَّعَام من الحُلْقُوم إلى فم المعدة : مَرِيء .
فصل في دلالة الآية على أمور
دَلَّت الآية الكريمة على أمور :
منها انَّ المهر لها ولا حق للولي فيه .
ومنها جواز هبتها للمهر قبل القبضِ؛ لأن الله تعالى لم يفرق بين الحالين .
فإن قيل : قوله : « فكلوه هنيئاً مريئاً » يتناول ما إذا كان المهر عيناً ، أما إذا كان ديناً فالآية غير متناولة له لأنَّهُ لا يقال لما في الذمة كُلْهُ مريئاً .
فالجواب أن المراد بقوله « هنيئاً مريئاً » ليس نفس الكل ، بل المراد منه كل التصرفات ، وإنما خَصَّ الأكل بالذكر ، لأنَّهُ معظم المقصود من المال لقوله { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً } بالنساء : 10 ] وقوله : { لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل } [ النساء : 29 ] .
فصل
قال بعض العلماء : إن وهبت ثم طلبت بعد الهبة ، علم أنها لم تطب عنه نفساً ، وعن الشعبي : أن امرأة جاءت مع زوجها إلى شُريح في عَطِيَّة أعْطَتْهَا إيَّاهُ ، وَهِيَ تطلب الرجوع ، فقال شُرَيْح : رُدَّ عَلَيْهَا ، فقال الرجل : أليس قد قال الله تعالى { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ } ، فقال : لو طابت نفسها عنه ما رجعت فيه .
وروي عنه أيضاً : أقيلها فيما وهبت ولا أقليه؛ لأنهن يخدعن .
وَرُوِيَ أنَّ رجلاً من آل أبي معيطٍ أعطته امرأته ألف دينار صداقاً كان لها عليه ، فلبثت شهراً ثم طلقها ، فخاصمته إلى عبد الملك بن مروان ، فقال الرَّجُلُ : أعْطَتْنِي طيبة به نفسها ، فقال عبدُ الملك : فإن الآية التي بَعْدَهَا { فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً } [ النساء : 20 ] أردد عليها .
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كتب إلى قُضاتِه : إن النساءَ يُعْطين رَغْبَةً ورهبة ، وَأَيُّمَا امرأة أعطته ثم أرادت أن ترجع فذلك لها .

وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)
أصل تُؤْتُوا تُؤتيوا : تُكْرِموا فاستثقلت الضمةُ على الياءِ وواو الضمير فحذفت الياء لئلا يلتقي ساكنان .
والسُّفَهاء جمع : سفيه ، وعن مجاهد : « المراد بالسُّفَهاءِ » النِّسَاءِ مَنْ كُنَّ أزواجاً ، أو بنات ، أو أمهات ، وضَعَّفَهُ بَعْضُهُم بأنَّ فَعِيلة إنَّما تُجْمَع على فَعَائلِ أوْ فَعِيلات ، قاله [ أبو البقاء ] وابن عطية ، وقد نقل بعضهم أنَّ سَفَيهةَ تُجْمَعُ : على « سُفَهَاءَ » كالمُذكَّر ، وعلى هذا لا يَضْعُفُ قول مُجَاهِدٍ . وجمعُ فَعِيلَةٍ ابن عطية جمع فَعِيلة بِفَعَائِلٍ ، أوْ فَعِيلات ليس بظاهر ، لأنَّهَا يَطَّرد فيها أيْضاً « فِعَال » نحو : كريمةٍ ، وَكرامٍ ، وظريفةً ، وظِراف ، وكذلك إطلاقهُ فَعِيلة ، وَكَانَ مِنْ حَقِّه أنْ يقيِّدَها بألاَّ تكون بمعنى : مَفْعُولةٍ ، تَحَرُّزاً من قتيلة فَإنَّها لا تُجْمَعُ على فَعَائِل .
والجمهورُ قرؤوا ( الَّتِي ) بلفظِ الإفراد صفةً للأمْوالِ ، وإنْ كانت جَمْعاً؛ لأنَّهُ تَقَدَّم أنَّ جمع ما لا يعقل من الكثرة ، أو لم يكن له إلا جمعٌ واحدٌ ، الأحسنُ فيه أنْ يُعَامَل مُعَاملةَ الوَاحِدَةِ المؤنَّثة ، والأمْوالِ من هذا القبيل ، لأنَّهَا جمعُ ما لا يُعْقل ، ولم تُجْمَع إلاَّ على أفْعال ، وإنْ كانت بلفظِ القِلَّةِ؛ لأن المرادَ بها الكثرة .
وقرأ الحسن والنخعي « اللاتي » مطابقةٌ للفظ الجمع ، وكان القياسُ ألاَّ يوصف ب « اللاتي » إلا ما يوصفُ مفرده ب « التي » والأموال لا يوصف مفردها وهو « مال » ب « التي » .
وقال الفراء : العرب تقول في النِّساءِ « اللاتي » أو جمع « التي » نفسها .
قوله : « قياماً » إن قلنا : أن « جَعَلَ » بمعنى صَيَّرَ ف « قياماً » مفعول ثانٍ ، والأول محذوف ، وهو عائد الموصول والتقدير : الَّتِي جعلها اللهُ ، أي : صَيَّرَها لكم قياماً ، وَإنْ قُلْنَا : إنها بمعنى « خلق » ف « قياماً » حال ، من ذلك العائد على المحذوف ، والتقدير : جعلها أي : خلقها وأوجدها في حال كونها قياماً .
وقرأ نافع وابن عامر « قيماً » ، وباقي السبعة « قياماً » وابن عمر « قِواماً » بكسر القاف ، والحسن وعيسى بن عمر « قَواماً » بفتحها وَيُرْوَى عَنْ أبي عمرو ، وقرئ « قِوَماً » بزنة « عِنب » .
فَأَمَّا قراءة نافع وابن عامر ففيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن « قِيماً » مصدر كالقيام وليس مقصوراً منه قال الكسائِيُّ والأخْفشُ والفراء . فهو مصدر بمعنى القيام الذي يُرادُ به الثباتُ والدَّوامُ ، وقد رُدَّ هذا القولُ بأنه كان يَنْبَغِي أن تَصِحَّ الواو لتحضُنها بِتَوسُّطِها ، كما صَحَّت واو « عِوَض » « وحِوَل » ، وقد أجيبَ عنه بأنه تَبعَ فعله من الإعلال وكما أُعِلَّ فعله أُعِلَّ هو ، ولأنه بمعنى القِيام فَحُمِلَ عليه في الإعلال .
وَحَكَى الأخفش : « قِيماً » و « قِوَماً » قال : والقياسُ تصحيحُ الواو ، وإنما اعتلت على وجه الشُّذُوذِ كقولهم : « ثِيرَة » وقول بني ضبة « طِيال » في جمع طويل ، وقول الجميع « جِياد » في جمع جواد ، وإذا أعلّوا « دِيَماً » لإعلال « دِيْمة » ، فاعتلالُ المصدر لاعتلال فعلِه أوْلى ، ألا تَرَى إلى صِحَّةِ الجمع مع اعتلالِ مُفْرده في معيشة ، ومعايش ، ومقامة ، ومَقَاوِم ، ولم يُصَححوا مَصْدراً أعلُّوا فِعْلهُ .
الثاني : أنه جمع « قِيمة » ك « دِيَم » في جمع « دِيْمَة » ، والمعنى : أنَّ الأموال كالقيم للنفوس؛ لأنَّ بقاءها بها ، وقد رَدَّ الفارسيُّ هذا الوجه ، وإنْ كان هو قول البصريين غير الأخفشِ ، بأنه قد قرئ قوله تعالى : { دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } [ الأنعام : 161 ] وقوله : { البيت الحرام قِيَاماً لِّلنَّاسِ } [ المائدة : 97 ] . ولا يصحُّ معنى القيمة فيهما ، وقد رَدَّ عليه الناس بأنَّه لا يلزم من عدم صحَّة معناه في الآيتين المذكورتين ألا يصح هنا ، إذ معناه لائق ، وهناك معنى آخر يليق بالآيتين المذكورتين كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
وأما قراءة باقي السَّبعة فهو مصدرُ « قام » والأصلُ « قِوام » ، فأبدلت الواوُ ياءً للقاعدةِ المعروفة ، والمعنى : التي جعلها اللهُ سبب قيام أبدانكم أي : بقائها .
وقال الزَّمخشريُّ : « أي : تقومون بها وتنتعشون بها » .
وأما قراءة عبد الله بن عمر ففيها وجهان :
أحدهما : أنه مصدرُ قَاوَمَ ك « لاوَذَ ، لِواذاَ » صحَّت الواوُ في المصدرِ كما صحَّت في الفعل .
الثاني : أنه اسم لما يقوم به الشَّيء ، وليس بمصدر كقولهم : « هذا ملاك الأمر » أي : ما يملك به الأمر .
وَأمَّا قراءة الحَسَن ففيها وجهان :
أحدهما : أنَّه اسم مصدر كالكلام ، والدَّوام ، والسَّلام .
والثاني : أنَّهُ لغة من القوام المراد به القامة ، والمعنى : التي جعلها الله سببُ بقاءِ قاماتكم ، يقال : جارية حَسَنةُ القِوام ، والقَوام ، والقمة كله بمعنى واحد .
وقال أبو حاتم قوام بالفتح خطأ ، قال : لأنَّ القوام امتداد القامة ، وقد تقدَّم تأويلُ ذلك على أنَّ الكسائيَّ قال : هو بمعنى القِوام أي بالكسر ، يعني أنه مصدر ، وَأمَّا « قِوَماً » فهو مصدر جاء على الأصلِ ، أعني : الصَّحِيحَ العين كالعِوَض ، والحِوَل .
فصل
لما أمر في الآية الأولى بإيتاء اليتامى أمْوَالَهم ، وبدفع صدقات النساء إليهنَّ فَكَأنَّهُ قال : إنَّمَا أمرتكم بذلك إذا كانوا عاقلين بالغين ، متمكنين من حفظ أموالهم ، فأمَّا إذا كانوا غير بالغين ، أو غير عقلاء ، أو كانوا بالغين عقلاء؛ إلاَّ أنَّهم سُفهاء ، فلا تدفعوا إليهم أموالهم ، والمقصود منه الاحتياطُ في حفظ أموال الضُّعفاء العاجزين .
واختلفوا في السُّفَهاء :
فقال مجاهد والضَّحَّاك : هم النِّسَاءَ كما قَدَّمْنَا ، وهذا مذهب ابن عمر ويدلُّ عليه ما روى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
« ألا إنَّما خُلِقَت النَّارُ للسُّفَهاء ، يقولها [ ثلاثاً ] ألا وإن السُّفهاء النِّساء ، [ إلاّ امرأة أطاعت قيّمها » ] .
وقال الزَّمخشريُّ وابن زيد : والسُّفهاء ههنا السفهاء عن من الأولاد ، ويقول : لا تعط مالك [ الذي هو قيامك ] ولدك السَّفيه فيفسده . وقال ابن عباس والحسن وقتادة وسعيد بن جبير : هم النِّساء [ والصبيان ] إذا علم الرجل أنَّ امرأته سفيهةٌ مُفْسِدةٌ ، وَأنَّ ولده سفيه مفسد ، فلا يسلط واحداً منهما على ماله .
وقيل : المرادُ بالسُّفهاء كل من لم يحفظ المال للمصلحة من النِّسَاءِ والصبيان والأيتام ، وكلُّ من اتَّصف بهذه الصفة؛ لأنَّ التَّخصيص بغير دليل لا يجوز ، وقد تقدَّم في « البقرة » أنَّ السَّفه خفة العقل ولذلك سُمِّي الفاسق سفيهاً ، لأنه لا وزن له عند أهل العلم والدين ، ويسمى النَّاقص العقل سفيهاً لخفة عقله .
فصل في دلالة الآية في الحجر على السفيه
قال القرطبيُّ : دلت هذه على جواز الحجر على السَّفيه لقوله تعالى : { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ } ، وقوله : { فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً } [ البقرة : 282 ] فأثبت الولاية على السَّفيه كما أثبتها على الضَّعيف ، والمراد بالضَّعيف في الآية الضَّعيف الْعَقْلِ لصغرِ أو مرض .
فصل في حال السفيه قبل الحجر عليه
[ قال القرطبيُّ ] : واختلفوا في حال السَّفيه قبل الْحَجْرِ عَلَيْهِ ، فقال مالك وأكثر أصحابه : إنَّ فعل السَّفيه وأمره كُلّهُ جائز ، حتى يحجر عليه الإمامُ ، وهو مذهب الشَّافعيِّ وأبي يوسف .
وقال ابن القَاسِم : أفعاله غير جائزة ، وإن لم يضرب الإمام على يَدِهِ .
فصل : في الحجر على الكبير
واختلفوا في الحجر على الكبير ، فقال مالك وجمهورُ الفقهاء : يحجر عليه .
وقال أبو حَنِيفَةَ : لا يحجر على من بلغ عاقلاً إلا ان يكون مُفسداً لماله ، فإذا كان كذلك منع من تسلميهم المالَ حتى يبلغ [ خمساً وعشرين سنة ، فإذا بلغها ] ، سُلِّمَ إليه المال بكل حالٍ ، سواء كان مُفْسِداً ، أو غير مفسد؛ لأنَّه يُحبَلُ منه لاثنتي عشرة سنة ، ثم يُولد له لِستَّةِ أشهرٍ فيصير جَدَّاً وأباً ، وأنا أستحي أن أحجر على مَنْ يصلح أن يكون جَدَّاً .
فصل في الخطاب في الآية
في هذا الخطاب قولان :
الأوَّلُ : أنَّهُ خطاب الأولياء بأن يُؤتُوا السُّفهاء الذين تحت ولايتهم أموالهم لقوله تعالى : { وارزقوهم فِيهَا واكسوهم } [ النساء : 5 ] وبه يصلح نظمُ الآيةِ مع ما قَبلها .
فإن قيلَ : فكان ينبغي على هذا ان يقال : ولا يؤتوا السُّفَهَاء أموالهم .
فالجوابُ من وجهين :
أحدهما : أنَّه تعالى أضاف المال إليهم ، لا لأنَّهم ملكوه ، لكن من حيث ملكوا التصرف فيه ، ويكفي في الإضافة الملابسة بأدنى سبب .
وثانيهما : إنَّما حَسًنَتِ هذه الإضافَةُ إجراءاً للوحدة بالنَّوع مجرى الوحدة بالشخص كقوله تعالى : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [ التوبة : 128 ] { فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم } [ النساء : 25 ] { فاقتلوا أَنفُسَكُمْ } [ البقرة : 54 ] وقوله : { ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة : 85 ] ومعلوم أنَّ الرَّجل منهم ما كان يقتل نفسه ، وإنَّمَا كان يقتل بعضهم بعضاً ، وكان الكلُّ من نَوْع واحدٍ ، فكا ها هنا لما كان المال ينتفع به نَوْع الإنسان ، ويحتاج إليه ، فلأجل هذه الوَحْدَة النَّوعيَّة حسنت إضافة أموال السُّفهاء إلى الأولياء .
القول الثاني : أنَّه خطاب للآباء بألاَّ يدفعوا مالهم إلى أولادهم إذا كانوا لا يحفظون المال سفهاءُ ، وعلى هذا فإضَافَةُ الأموال إليهم حقيقة ، والقول الأوَّلُ أرجحُ؛ لأنَّ ظاهر النَّهي التحريم ، وأجمعوا على انَّهُ لا يحرم عليه أن يهب من أولاده الصّغار ، ومن النِّسوان ما شاء من ماله ، وأجمعوا على أنه يحرم على الولي أن يدفع إلى السُّفهاء أموالهم؛ لأنه قال في آخر الآية : { وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } وهذه الوصيّة بالأيتام أشبه ، لأنَّ المرء مشفق بطبعه على ولده ، فلا يقولُ له إلا المعروفَ ، وإنَّما يحتاج إلى هذه الوصيَّة مع الأيتام الأجانب .
قال ابنُ الخطيب : « ولا يمتنع [ أيضاً ] حمل الآية على كلا الوجهين » .
قال القاضي : هذا بعيد؛ لأنه يقتضي حمل قوله : « أمْوالُكم » على الحقيقة والمجاز جميعاً ، ويمكن الجوابُ عنه بأن قوله : { أَمْوَالَكُمُ } يفيدُ كون تلك الأموال مختصة بهم ، اختصاصاً يمكنه التّصرف فيها ، ثم إنَّ هذا الاختصاص حاصل في المال المملوك له وفي المال المملوك للصَّبي ، إلاَّ أنَّه تحت تصرُّفه ، فهذا التَّفاوت واقع في مفهوم خارج من المفهوم المستفاد من قوله { أَمْوَالَكُمُ } وإذا كَانَ كذلك لم يبعد حمل اللَّفظ عليهما من حيث إن اللفظ [ أفاد ] معنى واحداً مشتركاً بينهما .
قوله : { وارزقوهم فِيهَا واكسوهم } .
ومعنى الرزق : أن أنفقوا عليهم . وقوله « فيها » فيه وجهان :
أحدهما : أنَّ « في » على بابها من الظرفية ، أي اجعلوا رزقهم فيها .
والثاني : أنها بمعنى « مِنْ » ، أي : بعضها والمراد : [ من ] أرباحها بالتجارة .
قال ابن الخطيب : « وإنَّمَا قال » فيها « ولم يقل : مِنْهَا ، لئلا يكون ذلك أمراً بأن يجعلوا بعض أموالهم رِزْقاً [ لهم ] ، بل أمرهم أن يجعلوا أموالهم مكاناً لرزقهم ، بأنْ يَتَجِرُوا فيها ، فيجعلوا أرزاقهم من الأرْبَاحِ لا من أصول الأموال » . والأمر بالكِسْوَةِ ظاهر .
فصل في تفسير القول المعروف
قوله تعالى : { وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } .
اختلف المفسِّرون في القول المعروف :
قال ابن جُريْجٍ ومجاهد : إنه العدة الجميلة من البرِّ والصِّلة .
وقال ابنُ عباس : هو مثل أن يقول : إذا ربحت في سَفْرتِي هذه فعلت بك ما أنت أهله ، وإن غنمت في غَزَاتِي جعلت لك حظاً .
وقال ابن زيد : إن لم يكن ممن يجب عليك نفقته ، فقل له : عافانا الله وإيَّاك ، وبارك اللهُ فيك .
وقيل : قولاً لَيِّنَاً تَطِيبُ بهِ أنفسهم .
وقال الزَّجَّاجُ : « علموهم مع إطعامهم وكسوتهم أمر دينهم » .
وقال القَفَّالُ : « هو أنه إن كان المولى عليه صبياً فيعرفه الولي أنَّ المال ماله ، وهو خازن له ، وأنه إذا زال صباه يَردُّ إليه المال ، ونظيره قوله تعالى : { فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ } [ الضحى : 9 ] [ و ] لا تعاشره بالتَّسلُّطِ عليه كمعاشرة العبيد ، وكذا قوله : { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً } [ الإسراء : 28 ] وإن كان المولى عليه سفيهاً ، وَعَظَهُ ونصحه وحثه على الصلاة ، ورَغَّبَهُ في ترك التبذير والإسراف ، وعَرَّفَهُ عاقبة التبذير الفقر والاحتياج إلى الخلق ، إلى ما يشبه هذا النوع من الكلام » .
وقال ابن الخطيب : وهذا أحسن من سائر الوجوه .
=============



ج20.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)

لما أمر بدفع مال اليتيم إليه ، بيَّن هنا متى يؤتيهم أموالهم ، وشرَطَ في دفع أموالهم إليهم شرطين :
أحدهما : بلوغ النكاح .
والثًَّاني : إينَاسِ الرُّشد .
في « حتى » هذه وما أشبهها أعني الداخلة على « إذا » قولان :
أشهرهما : أنَّها حرف غاية ، دخلت على الجملة الشَّرطيَّة وجوابها ، والمعنى : وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم ، واستحقاقهم دفع أموالهم إليهم ، بشرط إيناس الرُّشد ، فهي حرف ابتداء كالدَّاخلة على سائِرِ الجمل كقوله : [ الطويل ]
1754- فَمَا زَالَتِ القَتْلَى تَمُجُّ دِمَاءَهَا ... بِدجْلَةَ حَتَّى مَاءُ دَجْلَةَ أشْكَلُ
وقول امرئ القيس : [ الطويل ]
1755- سَرَيْتُ بِهِمْ حَتَّى تَكِلَّ مَطِيُّهُمْ ... وَحَتَّى الْجِيَادُ مَا يُقَدْنَ بأرْسَانِ
والثاني : وهو قول جماعة منهم الزَّجَّاج وابن درُسْتَوية : أنَّها حرف جر ، وما بعدها مجرور بها ، وعلى هذا ف « إذا » تتمحَّضّ للظَّرْفِيَّةِ ، ولا يكون فيه معنى الشَّرط ، وعلى القول الأوَّلِ يكون العامل في « إذَا » ما تَخَلَّص من معنى جوابها تقديره : إذا بلغوا النِّكاح راشدين فادفعوا . وظاهرُ العبارة لبعضهم أنَّ « إذا » ليست بشرطيَّة ، لحُصُولِ ما بعدها ، وأجاز سيبويه أن يجازي بها في الشِّعر ، وقال : « فعلوا ذلك مضطرين » ، وإنما جُوزي بها لأنَّها تحتاج إلى جواب ، وبأنَّه يليها الفعلُ ظاهراً ، أو مضمراً ، واحتجَّ الخليلُ على عدم شَرطيَّتِها بحصولِ ما بعدِها ، ألا ترى أنك تقول : أجيئك إذا احمر البُسر ، ولا تقول : إن أحمر .
قال أبُو حيان : وكلامُه يُدلُّ على أنها تكون ظرفاً مجرداً ، ليس فيها معنى الشَّرط ، وهو مخالف للنَّحويين ، فإنَّهم كالمجمعين على أنها [ ظرف ] فيها معنى الشِّرط غالباً ، وإن وُجِدَ في عبارةِ بعضهم ما يَنْفَى كونها أداة شرطٍ ، فإنَّما أنها لا يجزم بها ، إلاَّ أنها لا تكون شرطاً ، وقَدَّرَ بعضهم مضافاً قال : تقديره يبلغوا حَدَّ النكاحِ أو وقته ، والظَّاهرُ أنها لا تحتاج إليه ، والمعنى : صَلَحوا للنكاح .
فصل في معنى الابتلاء وكيفيته
والابتلاءُ : الاختيارُ ، أي اختبروهم في عقولهم وإدراكهم ، ، وحفظهم أموالهم . نزلت في ثابت بن رفاعة ، مات أبُوهُ رفاعةُ وتركه صغيراً عند عمه ، فجاء عمُّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إن ابن أخي يتيم في حجري ، فما يَحِلُّ لي مِنْ ماله ، ومتى أدفع إليه ماله؟ فنزلت هذه الآية .
قال سعيد بن جبير ومجاهد والشَّعبيُّ : « لا يدفع إليه ماله ، وإنْ كان شيخاً حتى يؤنس رشده » ، فالابتلاءُ باختلاف أحوالهم ، فإن كان مِمَّنْ يتصرف في السوق فيدفع الولي إليه شيئاً من المال ، وينظر في تَصَرُّفه ، وإن كان ممَّن لا يتصرف فيختبره في نفقة داره ، والإنفاق على عبيده وأجرائه وتُخْتبر المرأة في أمر بيتها وحفظ متاعها وغزلها واستغزالها فإذَا رأى حسن تصرُّفه وتدبيره مراراً حيث يغلب على الظن رشده دفع إليه المال .

فصل فيما إذا عاد إلى السَّفه بعد اخذ المال
قال القرطبيُّ : « إذا سُلِّم إليه المال لوجود الرشد ، ثم عاد إلى السَّفه عاد الحجرُ والقصاص . دليلنا قوله تعالى : { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ } [ النساء : 5 ] .
ويجوز للوصيّ أن يصنع في مال اليتيم ما كان للأب أن يصنعه من تجارةٍ وإبضاع وشراء وبيع ، وعليه أنْ يؤدّى الزَّكاة من سائر أمواله عينٍ وحرث وماشية وفطرة ، ويؤدّي عنه أرُوش الجنايات ، وقيم المُتْلَفَاتِ ، ونفقةِ الوالدين ، وسائر الحقوق اللازمة ، ويجوز ان يزوجه ، ويؤدّي عنه الصداق ، ويشتري له جارية يتسرّى بها ، ويصالح له وعليه على وجه النَّظر .
فصل المراد من بلوغ النكاح
والمراد من بلوغ النِّكاح هو الاحتلام ، لقوله تعالى : { وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم } [ النور : 59 ] وعند هذا الحدّ يجري على صاحبه قلم التَّكليف ، وإنَّما سمي الاحتلام بلوغ النَّكاح بمعنى الجماع .
واعلم أن للبلوغ خمس علامات ثَلاثَةٌ منها مُشْتَرَكةٌ بين الذكور والإناث وهي : الاحتلامُ ، والسنُّ المخصوص ، ونَبضاتُ الشّعر الخشن على العانَةِ .
وقيل : إنبات الشَّعر الخشن بلوغ في أولاد المشركين ، ولا يكون لأولاد المسلمين؛ لأن أولاد المسلمين يمكن الوقوف على مواليدهم بالرُّجوع إلى آبائهم ، وأولاد الكفار لا يوقف على مواليدهم ، ولا يُقْبَلُ قول آبائهم فيه لكفرهم ، فجعل الإنبات الذي هو أمَارةُ البلوغ بلوغاً في حقِّهم .
واثنان منها تختّص بالنّساء وهما : الْحَيْضُ والْحِبَلُ .
فصل
قال أبُو حنيفةَ : » تصرفات [ الصَّبي ] العاقل المميز بإذن الوليّ صحيحة لهذه الآية ، ولأنه يصحّ الاستثناء فيه فيقال : ابتلوا اليتامى إلاَّ في البَيْع والشِّراء « .
قال الشَّافعيُّ : اختبار عقله في أنه هل له فَهْم وعَقْلٌ في معرفة المصالح والمفاسد؟ بأن يبيع الوليُّ ويشتري له بحضوره ، ثم يستكشفُ من الصبيِّ أحوال ذلك البيع والشِّراء ، وما فيها من المصالح والمفاسد ، وبهذا القَدْر يحصل الابتلاء والاختبار ، وأيضاً هَبْ أنَّا سَلَّمْنَا أنه يدفع إليه شيئاً ليبيع أو يشتري ، فَلِمَ قلتَ : إنَّ هذا القدر يدل على صِحَّةِ ذلك البيع والشِّراء؟ قوله : { فَإِنْ آنَسْتُمْ } . والفاءُ جواب » إذا « وفي قوله : { فادفعوا } جواب » إن « .
وقرأ ابن مسعود » فإن أحستم « والأصْلُ أحسسْتُم فحذف إحدى السّينين ، ويحتمل أن تكون العينَ أو اللام ، ومثله قول أبي زبيد : [ الوافر ]
1756- سِوَى أنَّ الْعِتَاقَ مِنَ الْمَطَايَا ... حَسِينَ بِهِ فَهُنَّ إلّيْهِ شُوسُ
وهذا خلاف لا ينقاسُ ، ونقل بعضهم أنَّها لغةُ سُلَيم ، وَأنَّهَا مُطَّردة في عين كل فعلٍ مضاعفة اتصل به تاءُ الضَّمير أو نونه ونَكَّر » رُشْداً « دلاّلةُ على التنويعِ ، والمعنى أيّ نوعٍ حَصَلَ من الرُّشدِ كان كافياً .
وقرأ الجمهور » رُشْداً « بضمة وسكون ، وابن مسعود والسُّلميُّ بفتحتين ، وبعضهم بضمتين ، وسيأتي الكلامُ على ذلك في الأعراف إن شاء الله تعالى . وآنس كذا أحسَّ به وشَعَرَ ، قال : [ الخفيف ]
1757- آنسَنْ نَبْأةً وَأفْزَعَهَا القُنْ ... نَاصُ عَصْراً وَقَدْ دَنَا الإمْسَاءُ

وقد قيل : « وجد » عن الفراء .
وقيل : أبصر .
وقيل : رأيتم .
وقيل : آنست وأحسست ووجدت بمعنى واحدٍ .
وقال القرطبي : وأصْلُ الإيناس في اللُّغة الإبصار ، ومنه قوله { آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً } [ القصص : 29 ] .
قال أهل اللُّغة : هو إصابة الخير ، قال تعالى : { قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي } [ البقرة : 256 ] ، والغيُّ : هو العصيان : قال تعالى : { وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى } [ طه : 121 ] يكون نقضيه هو الرشد ، وقال تعالى : { وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } [ هود : 97 ] .
وقال أبو حنيفة : « لا يعتبر هنا الصَّلاح في المال فقط » ، وينبني على هذا أن أبا حنيفة لا يرى الحجر على الفاسق ، والشافعي يراه .
فصل
إذا بلغ الرُّشْد زال عنه الحجر ، ودفع إليه ، رجلاً كان أو امرأة ، تزوج أو لم يتزوج .
وعند مالك إن كانت امرأة لا يدفع المال إليها ما لم تتزوج ، فإذا تزوّجتْ دفع المال إليها ، ولكن لا ينفذ تصرفها إلاَّ بإذن الزَّوج ما لم تكبر وَتُجَرَّبْ ، فإذا بلغ الصبي رشيداً وزال الحجر عنه ثم عاد سفيهاً [ نُظِرَ ] إنْ مبذراً لماله حُجِرَ عليه ، كما يستدام الحجر عَلَيْهِ إذا بلغ بهذه الصفة ، وقيل : لا يُعَادُ؛ لأن حكم الدوام أقْوَى من حكم الابتداء ، وعند أبي حنيفة لا حَجْرَ على البَالِغِ العاقِلِ بحال .
قوله : { وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً } .
في نصبهما وجهان :
أحدهما : أنهما منصوبان على المفعولِ من أجْلِهِ أي : لأجل الإسراف والبِدَارِ .
ونقل عن ابن عباس أنه قال : « كان الأولياء يستغنمون أكل مال اليتيم ، لئلا يكبر فينزع المال منهم » .
والثَّاني : أنَّهما مصدران في موضع الحالِ أي : مُسْرِفينَ وَمُبادِرِينَ .
وبداراً مصدرُ بادرَ والمفاعلة هنا يجوز أن تكون من اثنين على بابها ، بمعنى ان الوليَّ يبادرُ ليتيم إلى أخْذِ مالهِ ، واليتيمُ يُبَادِرُ إلى الكبر ، ويجوز أن يكون من واحد بمعنى : أنَّ فاعل بمعنى فعل نحو : سافر وطارق .
قوله : « أن تكبروا » . فيه وجهان :
أحدهما : أنه مفعول بالمصدر أي : وبداراً كبرهم ، كقوله : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14 ، 15 ] وفي إعمال المصدر المُنَوِّنِ الخلاف المشهور .
والثَّاني : أنَّه مفعول من أجله على حذف أي : مخافة أن يكبروا ، وعلى هذا فمفعولُ « بِدَاراً » محذوف ، وهذه الجملة النَّهْييَّةُ فيها وجهان :
أصحهما : أنها استئنافية ، وليست معطوفةً على ما قبلها .
والثَّاني : أنَّها عطف على ما قبلها ، وهو جوابُ الشرط ب « إن » أي : فادفعوا ولا تأكلوها ، وهذا فاسدٌ؛ لأن الشّرط وجوابه ، مترتِّبان على بلوغ النِّكاح وهو معارضٌ لقوله : { وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ } فَيَلزَمُ منه سَبْقُه على ما ترتَّب عَلَيْهِ ، وذلك ممتنع .
والمعنى : ولا تأكلوها يا معشرَ الأولياءِ « إسْرافاً » أي : بغير حقٍّ ، « وبداراً » أي : ومبادرة ، ثم بَيَّنَ مَا يَحِلُّ لهم من مالهم فقال : « وَمَنْ كَانَ غَنِياً فَلْيَسْتَعْفِفْ » أي : فليمتنع من مال اليتيم فلا يرزؤه قليلاً ولا كثيراً ، والعفة الامتناع مما لا يحل .

قال الواحديُّ : استعفف عن الشيءِ وعَفَّ : إذا امتنعَ منه وتَرَكَهُ .
قال الزمخشريُّ : « استعفف أبلغ مِنْ عَفٍّ كأنَّه طالب زيادة العِفَّةِ » .
قوله : { وَمَن كَانَ فَقِيراً } .
محتاجاً إلى مال اليتيم ، وهو يحفظه ويتعمَّده { فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } .
رُوِيَ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « إنِّي فَقِيرٌ وَلَيْسَ لِي شَيْءٌ وَلِي يَتيمٌ ، فقال : كُلْ مِنْ مَالِ يَتِيمكَ عَيْرَ مُسْرِفٍ وَلا مُبَذِّرٍ وَلاَ مُتَأثِّل » .
واختلفوا ، هل يلزمهُ القضاءُ؟ فقال مجاهدٌ وسعيدُ بن جبير : يقضي إذا أيسر لقوله : { فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } والمعروف : هو ان يقترض من مال اليتيم إذا احتاج إليه ، فإذا أيْسَرَ قَضَاهُ .
قال عمرُ بن الخطّاب : « إنِّي أنْزَلْتُ نفسي من مال الله بمنزلة مال اليتيم ، إن استغنيتُ استعففتُ ، وإنْ افترقتُ أكَلْتُ بالمعروفِ ، فَإذا أيْسَرْتُ قضيتُ » .
وأكثر الروايات عن ابن عباس ، وبعض العلماء أنّ القرض مخصوص بأصول الأموال من الذَّهب والفضَّة وغيرهما ، فأمَّا التَّناول من ألبان المواشي ، واستخدام العبيد ، وركوب الدَّواب ، فمباح له إذا لم يضرَّ بالمال ، وهذا قول أبي العالية؛ لأنه أمر بدفع أموالهم إليهم .
قال الشَّعْبيُّ : « لا يأكله إلا أن يضطر كما يضطر إلى الميتة » .
وقال قوم : لا قضاء عليه لقوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً } وهذا يُشْعِرُ بأن له أن يأكل بقدر الحاجة ، وقوله { فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } أن للوصي أن ينتفع بمقدار الحاجة ، وقوله { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً } [ النساء : 10 ] { سَعِيراً } [ النساء : 10 ] يدل على أن مال اليتيم قد يؤكل وغير ظلم ، وإلاَّ لم يكن لقوله { ظُلْماً } معنى .
وأيضاً الحديث المتقدم ، وأيضاً فيقاسُ على السَّاعي فإنَّهُ يُضْرَبُ له من الصَّدقات على قدر عمله ، فكذا ها هنا .
وقال أبُو بكرٍ الرازيُّ : الَّذي نعرفه من مذهب أصحابنا أنه لا يأخذ على سبيل القرض ، ولا على سبيل الابتداء سواء كان غنياً أو فقيراً ، لقوله تعالى : { وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ } [ النساء : 2 ] إلى قوله { حُوباً كَبِيراً } [ النساء : 2 ] ، وقوله : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً } [ النساء : 10 ] إلى قوله { سَعِيراً } [ النساء : 10 ] وقوله : { وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط } [ النساء : 127 ] .
فصل
قال القرطبيُّ : كما على الوصي والكفيل حفظ مال يتيمه كذلك عليه حفظ الصبيِّ في بدنه وتأديبه ، « رُوِيَ أنَّ رجلاً قال لِلنبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّ في حجري يتيماً أآكل من ماله؟ قال : » نعم « غير متأثل مالاً ولا واقٍ مالك بماله » قال : يا رسول الله أفأضربه ، قال : « مَا كُنْت ضَارِبً منه وَلَدَكَ » .
{ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ } .
وهذا أمر رشاد ، وليس بواجب ، أمر الولي بالإشهاد على دفع المال إلى اليتيم بعد البلوغ ليزول عنه التهمة وتنقطع الخصومة .

واختلفوا فيما إذا ادَّعى الوصيُّ بعد بلوغ اليتيم أنَّه دفع المال إليه هل يصدَّق؟
أو قال أنْفَقْتُ عليه المالَ في صغر؟ فقال مالكٌ والشَّافعيُّ : لا يصدَّقُ .
وقال أبو حنيفة : « يصدَّقُ » .
قوله : { وكفى بالله حَسِيباً } .
في « كفى » قولان :
أحدهما : أنَّها اسم فعل .
والثاني : وهو الصَّحيح - إنها فعلٌ ، وفي فاعلها قولان :
الأول : وهو الصَّحيح أنَّهُ المجرور بالباء ، والباء زائدة فيه وفي فاعل مضارعه نحو : { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ } [ فصلت : 53 ] باطِّراد فقال أبُو البقاء : زيدت لتدلَّ على معنى الأمر إذ التقدير : اكتف بالله ، وهذا القول سبقه إليه مَكِي والزَّجاجُ فإنه قال : دَخَلَتْ الباءُ في الفاعل؛ لأن معنى الكلام الأمرُ أي : الباء ليست بزائدة ، وهو كلامٌ غيرُ صحيح؛ لأنه من حيث المعنى الذي قدَّره يكون الفاعل هم المخاطبين ، و « بالله » متعلّق به ، ومن حيث كون « الباء » دخلت في الفاعل يكون الفاعل هو اللهُ تعالى ، فيتناقض . وفي كلام ابن عطية نحو من قوله أيضاً فإنه قال : « بالله » في موضع رفع بتقدير زيادة الخافض ، وفائدة زيادته تبيَّن معنى الأمر في صورة الخَبَرِ أي : اكتفوا بالله ، « فالباء » تدل على المراد من ذلك ، وفي هذا ما رُدَّ به على الزَّجَّاجِ ، وزيادة جَعْلِ الحرف زائداً وغير زائدٍ .
والثاني : أنَّه مضمر والتَّقديرُ : كفى الاكتفاء و « بالله » على هذا في موضع نصب؛ لأنه مفعول به في المعنى ، وهذا رأي ابن السَّراج ، وَرُدَّ هذا بأن إعمال المصدر المحذوف لا يجوز عند البصريين إلا ضرورة كقوله : [ البسيط ]
1758- هَلْ تَذْكُرُونَ إلَى الدَّيْرَينِ هجْرَتَكُمْ ... وَمَسْحَكُمْ صُلْبَكُمْ رَحْمَانُ قُرْبَاناً
أي قولكم : يا رحمان قرباناً ، وقَالَ أبو حيان : وقيل : الفاعِلُ مضمر ، وهو ضمير الاكتفاء أي : كفى هو أيْ : الاكتفاء ، و « الباء » ليست زائدة ، فيكون في موضع نصب ويتعلق أنذاك بالفاعل ، وهذا الوجه لا يسوغ على مذهب البصريين ، لأنه لا يجوز عندهم إعْمَالُ المصدر مضمراً ، وإن عني بالإضمار الحذف امتنع عندهم أيضاً لوجهين : حذف الفاعل ، وإعمال المصدر محذوفاً وإبقاء معموله ، وفيه نظرٌ؛ إذْ لقائل أن يقول : إذا قلنا بأن فاعل « كفى » مضمر لا نعلق « بالله » بالفاعل حتّى يلزم ما ذكر بل نعلقه بنفس الفعل كما تقدَّمَ .
وقال ابْن عيسى : إنَّما دخلت الباء في « كفى بالله » ؛ لأنَّهُ كان يتصل اتَّصال الفاعل [ وبدخول الباء اتصل ] اتصالَ المضافِ ، واتَّصال الفاعل ، لأنَّ الكفاية منه ليست كالكفاية من غيره فضوعِفَ لفظها لمضاعفة معناها ، ويحتاج إلى فكر .
قوله : { حَسِيباً } فيه وجهان :
أصحهما : أنه تمييز يدلُّ على ذلك صلاحيَّة دخول « مِنْ » عليه ، وهي علامة التمييز .
والثَّاني : أنه حال .
و « كفى » ها هنا متعدّية لواحد ، وهو محذوف تقديره : « وكفاكم الله » .
وقال أبُو البَقَاءِ : « وكفى » يتعدَّى إلى مفعولين حُذِفَا هنا تقديره : كفاك اللهُ شرَّهم بدليل قوله : { فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله } [ البقرة : 137 ] والظاهر أن معناها غيرُ معنى هذه .
قال أبو حيّان بعد أن ذكر أنها متعدية لواحد : وتأتي بغير هذا المعنى متعدية إلى اثنين كقوله : { فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله } [ البقرة : 137 ] وهو محل نظر .
قال ابن الأنباري والأزهري : يحتمل أن يكون الحَسِيبُ بمعنى المحاسب ، وأن يكون بمعنى الكافي ، فمن الأول قولهم للرَّجل تهديداً : حَسْبُهُ اللهُ ، [ ومعناه : يحاسبه ] الله على ما يفعل من الظُّلم ، ومن الثَّاني قولهم : حسبك الله ، أي : كافيك الله وهذا وعيد سواء فسَّرنا الحسيب بالمحاسب ، أو بالكافي .
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)

لما ذَكَرَ تعالى أمر اليتامى ، وصله بذكر المواريثِ ، وهذا هو النَّوْع الرَّابع من الأحكام المذكورة في هذه السورة ، ويكون ما يتعلق بالمواريث .
قال ابن عباس : سبب نزول هذه الآية أن أوس بن ثابت الأنصاري توفي عن ثلاث بنات وامرأة ، فجاء رجلان من بَنِي عمّه وهما وصيّان له يقال لهما : سُوَيدٌ وعَرْفجَة فأخذا ماله ، ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئاً وكانوا في الجاهليَّةِ لا يورثون النِّساء ولا الصغار ، وإنْ كان الصغير ذكراً إنما كانوا يورثون الرِّجال ، ويقولون لا يعطي إلا من قاتل ، وطاعن بالرُّمح ، وحاز القسمة وذبَّ عن الحَوْزَةِ ، « فجأت أمُّ كُحّة فقالت : يا رسول الله إن أوس بن ثابت مات ، وترك عليّ بنات ، وأنا امرأته ليس عندي ما أنفق عليهن وقد ترك أبوهنّ مالاً حسناً ، وهو عند سويد وعرْفجة ، ولكم يعطياني ولا بناتي شيئاً وهن في حجري لا يطمعْنَ ولا يسقين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم » ارجعي إلى بيتك حتى أنظر فيما يحدثُ الله في أمرك « . فدعاهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالا : يا رسول الله ولدها لا يركب فرساً ، ولا يحمل كلاًّ ، ولا يَنْكَأُ عَدُوّاً فأنزل الله تعالى : { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون } يعني للذُّكور مما ترك أولاد الميِّت وأقربائه { نَصيِبٌ } حظّ { مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون } من الميراث ، { وَلِلنِّسَآءِ } نصيب ، ولكنه تعالى لم يُبَيِّن المقدار في هذه الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم » لا تُفَرِّقَا مِنْ مَالِ أوْسِ بْنِ ثَابِتْ شيئاً فَإنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ لِبَنَاتِهِ نَصِيباً مِمَّا تِرَكَ ، ولَمْ يبيِّن كَمْ هُوَ حَتَّى أنْظُر مَا يَنْزِلُ فِيهِنَّ « فأنزل اللهُ -عزّ وجلّ- : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } [ النساء : 11 ] فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سُوَيْدٍ وَعُرْفُجة أن ادفعا إلى أمّ كُحة الثمن وإلى بناته الثلثين ، ولكما باقي المال ، » فهذا هو الكلام في سبب نزول هذه الآية .
بين الله تعالى أن للنِّسَاء حقاً في الميراث خلافاً لعادَةِ العرب في الجاهليَّةِ وذكره مُجْملاً أولاً ثم بَيَّنَهُ بعد ذلك على سبيل التدريج؛ لأنَّ النَّقل عن العادة يشق ، فقال لهما : « ادفعا إليها نصيب بناتها الثُّلثين ولَكُمَا باقي المال » .
قوله : { مِّمَّا تَرَكَ } هذا الجارُّ في محل رفع؛ لأنه صفة للمرفوع قبله أيْ : نَصِيبٌ كائن أو مستقر ، ويجوز أن يكون في محلّ نصبٍ متعلِّقاً بلفظ « نصيب » لأنه من تمامه . وقوله { مِمَّا قَلَّ } [ و ] في هذا الجارّ أيضاً وجهان :
أحدهما : أنه بدل من « ما » الأخيرة في « مما ترك » بإعادة حرف الجرّ في البدل ، والضمير في « منه » عائد على « ما » الأخيرة ، وهذا البدل مرادٌ أيضاً في الجملة الأولى حُذِفَ للدلالة عليه ، ولأن المقصود بذلك التأكيد؛ لأنه تفصيلٌ للعموم المفهوم من قوله { مِّمَّا تَرَكَ } فجاء هذا البدل مفصّلا لحالتيه من الكثرة والقِلَّةِ .

والثاني : أنه حال من الضَّمِيرِ المحذوف من « ترك » أي : مما تركه قليلاً ، أو كثيراً ، أو مستقراً مما قلّ .
فصل
قال القُرْطِبِيُّ : استدلّ علماؤنا بهذه الآية على قسم المتروك على الفرائض ، فإن كانت القِسْمَةُ لغير المتروك عن حاله كالحمام الصّغير ، والدّار التي تبطل منافعها بإقرار أهل السهام فيها فقال مالك : يقسم ذلك ، وإن لم ينتفع أحدهم بنصيبه لقوله تعالى { مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } [ النساء : 7 ] وبه قال الشَّافعيُّ وأبو حنيفة .
قال أبو حنيفة : في الدِّار الصَّغيرة يكون بين اثنين فطلب أحدهما القسمة ، وأبى صَاحِبُه قُسمتْ له .
وقال ابن أبي ليلى : إن كان فيهم من لا يَنْتَفِعُ بقسمه ، فلا يقسم ، وكل قسم يدخل فيه الضّرر على أحدهما ، دون الآخر فإنَّه لا يقسم ، وهو قول أبي ثَوْرٍ .
وقال ابْنُ المُنْذِرِ : وهو أصحُّ القولين .
قوله : { نَصِيباً مَّفْرُوضاً } فيه أوجه :
أحدها : أن « نصيباً » ينتصب على أنَّهُ واقع موقع المصدر ، والعامل فيه معنى ما تقدَّم إذ التَّقدير عطاءً أو استحقاقاً ، وهذا معنى قول مَنْ يقول منصوب على المصدر المؤكد .
قال الزَّمخشريُّ : كقوله : { فَرِيضَةً مِّنَ الله } [ النساء : 11 ] كأنه قيل : قسمة مفروضة ، وقد سَبَقه الفرَّاءُ إلى هذا ، قال : نُصِبَ؛ لأنه أخرج مُخْرَجَ المَصْدَر؛ ولذلك وحّده كقولك : له عَليَّ كذا حقّاً لازماً ، ونحوه { فَرِيضَةً مِّنَ الله } [ النساء : 11 ] ، ولو كان اسْماً صحيحاً لم ينصب ، لا تقول : لك عليّ حق درهماً .
الثاني : أنَّه منصوبٌ على الحالِ ويُحتمل أن يكون صاحبُ الحال الفاعل في « قَلَّ » أو « كَثر » ويُحتمل أن يكون « نَصِيب » ، وإن كان نكرة لتخصّصه إمَّا بالوَصْفِ ، وإمَّا بالعمل والعامل في الحال الاستقرار الَّذي في قوله : { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ } ، وإلى نصبه حالاً ذهب الزَّجَّاج ومكيٌّ قالا : المعنى لهؤلاء أنْصِباء على ما ذكرناها في حالِ الفرض .
الثالث : أنَّهُ منصوبٌ على الاختصاص بمعنى : أعني نَصيباً ، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ .
قال أبو حيَّان : إن عنى الاخْتِصاص المصطلَح عليه فهو مردود بكونه نكرةً ، وقد نَصُّوا على اشتراط تعريفه .
الرابع : النصب بإضمار فعل أي : أو جُعِلَت لهم نصيباً .
الخامس : أنه مصدر صريح أي نَصَّبْتُهُ نَصيباً .
فصل دلالة الآية على توريث ذوي الأرحام
قال أبُو بكرٍ الرازي : هذه الآية تَدُلُّ على توريث ذوي الأرْحَام لأنَّ العمَّاتِ والأخوالِ ، والخالاتِ ، وأولادَ النبات من القريبين ، فوجب دُخُولُهُم تَحْتَ قوله { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون } أقصى ما في الباب أنَّ قدر ذلك النَّصيب غير مذكور في هذه الآية إلاَّ أنَّا نثبت كونهم مستحقين لأصل النَّصيب بهذه الآية ، وَأَمَّا المقدار فنستفيده من سائر الدلائل .

فصل
معنى « مفروضاً » أي : مَقْطُوعَاً واجباً الفرضِ : الحز والتأثير ، ولذلك سُمِيَ الحزّ الَّذي في سية القوس ، فرضاً ، والحزُّ الَّذي في القداح يسمَّى أيضاً فرضاً ، وهو علامة لتميّز بينها وبين غيرها ، والفرضة علامة في مقسم الماء يعرفُ بها كل ذي حقٌّ حقَّه من الشُّرْبِ ، فهذا أصلُ الفرض في اللُّغةِ ، ولهذا سَمَّى أصحابُ أبي حنيفة الفرض [ به ] ما ثبت بدليل قَطْعِيٍّ ، والواجب عبارة عن السقوط يقال : وَجَبَتِ الشَّمْسُ : إذا سَقَطَت وسمعتُ وجبةٌ يعني : سَقْطَة ، قال تعالى : { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } [ الحج : 36 ] أي : سَقَطَتْ ، وتأثير القَطْعِ أقوى من تأثير السُّقوط .
قال ابن الخطيب : وهذا التقرير يقضي عليهم بأن الآية ما تناولت ذوي الأرحام [ لأن توريث ذوي الأرحام ليس من باب ما عرف بدليل ] قاطع بإجْمَاعِ الأمَّةِ ، فلم يكن توريثهم فَرْضَاً ، والآية إنَّمَا تناولت التَّوريث المفروض فَلَزِمَ القَطْعُ بأنَّ هذه الآية ما تَنَاولت ذوي الأرحام .
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)

اختلفوا في المُرَادِ بهذه القسمة على ثَلاثَةِ أقوال :
القول الأوَّلُ : أن المُرَادَ بها في قسمة الميراث ، واختلفَ القائلون بهذا القول ، هل المرادُ به لوجوبُ أو النَّدْبُ؟ فالقائلون بالوُجُوبِ اختلفوا ، فقال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ والضَّحاك : كانت هذه قَبْلَ آية المواريث ، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيةُ المواريث جعلت المواريثُ لأهْلَها ونسخت هذه الآية وقال ابنُ عَبَّاسٍ والشَّعْبِيُّ والنَّخَعِيُّ والزُّهْرِيُّ : وهي محكمة .
قل مُجَاهِدٌ : وهي واجبةٌ على أهل الميراثِ ما طالت به أنفسهم .
قال الحَسَنُ : كانوا يُعْطون التابوت والأواني ورثّ الثياب والمتاع والشيء الذي يُسْتَحْيَا من قسمته ، وإن كان بَعْضُ الوَرَثَة صغاراً فقد اختلفوا فيه ، قل ابن عبَّاسٍ وغيره : إن كانت الورثة كباراً رضخوا لهم ، وإن كانت الوَرَثَةِ صغارً اعتذروا إليهم ، فَيَقُولُ الولي : إني لا أملك هذا المال إنَّمَا هو الصغار ، ولو كان لي منه شيء لأعطيتكم .
وقال بعضهم : ذلك حقٌّ واجب في أموال الصغار والكبار ، فإن كانُوا كِبَاراً تَوَلوا إعطاءَهم وإن كانوا صِغاراً أعطى وليهم ، وروى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرينَ أنَّ عبيدة السَّلْمَانِي قسم أموال أيتام ، وأمر بشاة فذبحت فصنع لهم طعاماً لأجل هذه الآية ، وقال : لولا هذه الآية لكان هذا من مالي .
وقَالَ قَتَادَةُ عن يَحْيَى بن معمر : ثلاث آياتٍ محكمات مذنيات تركهن النَّاسُ ، هذه الآية ، وآية الاستئذان { ياأيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم } [ النور : 58 ] وقوله : { ياأيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى } [ الحجرات : 13 ] .
وقال آخرون : ذلك على سبيل النَّدْبِ إذا كان الورثة كباراً ، فإن كَانُوا صغاراً فليس إلاَّ القول المعروف ، وهذا هو الَّذي عليه فقهاءُ الأمصار لأنَّه لو كان لهم حَقٌّ معين لبينه اللهُ -تعالى- كسائر الحقوق ، ولو كان واجباً لتوفّرت الدَّواعي على نقله لشدَّة حرص الفقراء والمساكين على تقريره ، ولو كان كَذَلِكَ لنقل على سبيل التَّوَاتُرِ .
القول الثَّاني : أنَّ المراد بالقسمة الوصيَّة فَإذَا [ حضرها منة لا يرث ] من الأقرباء اليتامى والمساكين أي : الذين لا يرثون ثم قال : { وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى } واليتامى والمساكين } أنَّهُ راجع إلى أولي القربى الذين يرثون . [ وقوله : { فارزقوهم مِّنْهُ } راجع إلى اليتامى والمساكين الذين لا يرثون ] . وهذا القَوْلُ محكيٌّ عن سعيد بن جُبَيْرٍ ، وقدم اليتامى على المساكين ، لأنَّ ضعفهم أكثرُ وحاجاتهم أشَدُّ فكان وضع الصدقات أفضل وأعظم في الأجر .
قوله : { فارزقوهم مِّنْهُ } .
في هذا الضمير ثَلاَثَةُ أوْجهٍ :
أحدها : أنه يعود على المال ، لأنَّ القسمة تَدُلُّ عليه بطريق الالتزام .
الثَّانِي : أنَّهُ يعود على « ما » في قوله : { مِّمَّا تَرَكَ } .
الثَّالِثُ : أنَّهُ يعود على نفس القِسْمَةِ ، وإن كان مذكراً مراعاة للمعنى إذ المراد بالقسمة الشيء المقسوم ، وهذا على رأي من يرى ذلك ، وَأمَّا مَنْ يقول : القسمة من الاقتسام كالخبرة من الاختبار أو بمعنى القَسَم فلا يتأتى ذلك .
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)

قرأ الجمهور بسكون اللاَّم في الأفعال الثَّلاَثَةِ وهي لام الأمر ، والفعل بعدها مجزومٌ بها ، وقرأ الحَسَنُ وعيسى بْنُ عُمَرَ بكسر اللامِ في الأفْعَالِ الثَّلاثة وهو الأصل ، والإسكان تخفيفٌ إجراءً للمنفصل مُجْرى المتصل ، فإنهم شَبَّهوا « وليخش » ب « كَيف » وهذا ما تَقَدَّمَ الكلام في نحو : « وهْيَ » و « لَهْي » في أول البقرة .
قال القرطبي : حذفت الأولف من { وَلْيَخْشَ } للجزم بالأمر ، ولا يجوز عند سِيبَويْه إضمار لام الأمر قياساً على حروف الجرّ إلاّ ضرورة شعر ، وأجاز الكوفيون حذف اللام مع الجزم .
وأنشدوا : [ الوافر ]
1759- مُحَمَّدُ تَفِدُ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ ... إذَا مَا خِفْتَ مِنْ شَيءٍ تَبَالاَ
أراد لتفد وهو مفعل « يخشى » محذوف لدلالة الكلام عليه ، و « لو » هذه فيها احتمالان :
أحدهما : أنَّهَا على بابها من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره أو حرف امتناع لامتناع على اختلاف العبارتين .
والثَّانِي : أنَّهَا بمعنى « إن » الشَّرطية وإلى الاحتمال الأوَّل ذهب ابْنُ عطيّة والزَّمخشري .
قال الزَّمخشريُّ : فإن قلت ما معنى وقوع { لَوْ تَرَكُواْ } وجوابه صلة ل « الذين » قلت : معناه : وليخش الَّذِينَ صفتهم وحالهم أنَّهم لو شارفوا أن يتركوا خَلْفَهُمْ ذريّة ضِعافاً ، وذلك عند احتضارهم خَافُوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم كما قال القائل : [ الوافر ]
1760- لَقَدْ زَادَ الحَيَاةَ إليَّ حُبّاً ... بَنَاتِي إنَّهُنَّ مِنَ الضِّعَافِ
أُحَاذِرُ أنْ يَرَيْنَ البُؤسَ بَعْدِي ... وَأنْ يَشْرَبْنَ رَنْقاً بَعْدَ صَافِي
وقال ابن عطية تقديره : لو تركوا لخَافُوا ، ويجوزُ حذف اللام من جواب « لو » ووجه التمسك بهذه العبارة أنَّهُ جعل اللامَ مقدَّرَةً في جوابها ، ولو كانت « لَوْ » يمتنع بها الشَّيء لامتناع غيره ، و « خَافُوا » جوابُ « لَوْ » .
وإلى الاحتمال الثَّانِي ذهب أبو البقاءِ وابنُ مَالِكٍ : « لو » هنا شرطية بمعنى « إنْ » فتقلب الماضي إلى معنى الاستقبال ، والتَّقدير : وليخش الذين إنْ تركوا ولو وقع بعد « لو » هذه مضارع كان مستقبلاً كما يكونُ بَعْدَ « إنْ » وأنشد : [ الكامل ]
1761- لاَ يُلْفِكَ الرَّاجُوكَ إلاَّ مُظْهِراً ... خُلُقَ الكِرَام وَلَوْ تَكُونُ عَدِيماً
أي : وإنْ تكن عديماً ، ومثلُ هذا البيت قول الآخر : [ البسيط ]
1762- قَوْمٌ إذَا حَارَبُوا شَدُّوا مَآزِرَهُمْ ... دُونَ النَّسَاءِ وَلَوْ بَاتَتْ بأطْهَارِ
والَّذي ينبغي أن تكون على بابها كونها تعليقاً في الماضي ، وَإِنَّمَا حمل ابْنُ مالك ، وَأبَا البقاء على جَعْلِها بمعنى « إنْ » توهُّمُ أنَّهُ لَمَّا أمر بالخشيةِ -والأمرُ مستقبل ومتعلِّقُ الأمر موصول لم يصحّ أن تكون الصِّلةُ ماضية على تقدير دلالته على العدم الذي ينافي امتثالَ الأمر ، وحَسَّنَ مكانَ « لو » لفظ « إنْ » ولأجل هذا التوهُّم لم يُدْخل الزمخشري « لَوْ » على فعل مستقبل ، بل أتى بفعل ماضٍ مسندٍ للموصول حالةَ الأمر فقال : « وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا » .

قال أبُو حَيَّان : « وهو الَّذي تَوهَّموه لا يلزم ، إلاَّ كانت الصِّلةُ ماضيةً في المعنى واقعةً بالفعل ، إذا معنى » لو تركوا من خلفهم « أي : ماتوا فتركوا من خلفهم ، فلو كان كذلك للزم التَّأويلُ في » لَوْ « أن تكون بمعنى » إنْ « إذ لا يجامع الأمر بإيقاع فعل مَنْ مات بالفعل ، فَإذَا كَانَ مَاضياً على تقدير فَيَصِحُّ أن يقع صِلَةً وأن يكون العاملُ في الموصول الفعل المستقبل نحو قولك : ليزرْنَا الذي لو مات أمسِ لبكيناه » . انتهى .
وَأمَّا البيتان المتقدّمان فلا يلزمُ من صِحَّةِ جَعْلِهَا فيهما بمعنى « إنْ » أنْ تكن في الآية كذلك؛ لأنَّا في البيتين نضطر إلى ذلك ، أمَّا البيتُ الأوَّلُ فلأن جواب « لو » محذوف مدلولٌ عليه بقوله : « لا يلفك » وهو نَهْيٌ ، والنًّهْيُ مستقبلٌ فلذلك كانت « لَوْ » تعليقاً في المستقبل .
وأمَّا البيت الثَّاني فلدخول ما بعدها في حَيزِ « إذا » ، و « إذا » للمستقبل . ومفعول { وَلْيَخْشَ } محذوفٌ أي : وليخش الله .
ويجوز أن تكون المسألةُ من باب التَّنَازُع فإنَّ { وَلْيَخْشَ } يطلبُ الجلالة ، وكذلك { فَلْيَتَّقُواّ } فيكون من إعمال الثَّاني للحذف من الأوَّلِ .
قوله : { مِنْ خَلْفِهِمْ } فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ متعلِّقٌ ب « تَرَكُوا » ظرفاً له .
والثَّاني : أنَّه مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنَّه حالٌ من « ذرية » ؛ لأنَّه في الأصل صفة نكرة قُدِّمَتْ عليها فَجُعِلَتْ حالاً .
قوله : { ضِعَافاً } ، أمال حمزة : ألف { ضِعَافاً } ولم يبال بحرف الاستعلاء لانكساره ففيه انحدارٌ فلم ينافِِ الإمالَة .
وقرأ ابن مُحَيْصِنٍ « ضُعُفاً » بضمِّ الضَادِ والعين وتنوين الفاء ، والسُّلمي وعائشة « ضعفاء » بضم الضاد وفتح العين والمد ، وهو جمع مَقِيسٌ في فعيل صفةً نحو : ظَرِيفٍ وَظُرَفاء وكَرِيم وكرماء ، وقرئ « ضَعافَى » بالفتح والإمالة نحو : سَكَارى ، وظاهر عبارةِ الزَِّمشري أنَّه قُرِئَ « ضُعافى » بضمِّ الضَّادِ مثل سُكارى فَإِنَّهُ قال : « وقُرِئَ ضُعَفَاء ، وضَعافى وضُعافى نحو سَكارى وسُكارى » فيحتمل أنْ يريد أنَّه قُرِئَ بضمّ الضَّادِ وفتحها ، ويحتمل أن يُرِيدَ أنََّهُ قُرِئَ « ضَعافى » بفتح الضَّاد دونً إمَالَةٍ ، و « ضَعافَى » بفتحها مع الإمالة [ كَسَكارى بفتح اسلين دون إمالة ، وسكارى بفتحها مع الإمالة ] ، والظَّاهِرُ الأوَّلُ ، والغالب على الظَّنِّ أنَّهَا لم تُنْقل قراءة .
قوله : { خَافُواْ عَلَيْهِمْ } . أمَالَ حمزةُ ألف « خَافُوا » للكسرة المقدَّرَةِ في الألف ، إذ الأصل « خَوِفَ » بكسر العين؛ بدليلِ فتحها في المُضَارعِ نحو : « يَخَافُ » .
وعلَّل أبو البَقَاءِ وغيره ذلك بأنَّ الكَسْرَ قد يَعْرِض في حال من الأحوال وذلك إذَا أُسْنِدَ الفِعْلُ إلى ضَمِيرِ المُتَكَلِّم ، أو إحدى أخواته : خِفْت وخِفْنَا ، والجملةُ من « لَوْ » وجوابها صلةُ « الَّذينَ » .

فصل
اختلفوا في المعنيِّ على أقْوَالٍ :
أحدها : أنَّهَا في الرَّجُلِ يحضره الموت فيقول مَنْ في حضرته : انظر لنفسك فَإنَّ أولادك ورثتك لا يغنون عنك من الله شيئاً . قَدِّم لنفسك ، أعتِقْ ، وتصدَّقْ ، وأعْطِ فلاناً كَذَا ، وفلاناً كذا ، حتَّى يأتي على عامَّة ماله ، فنهاهم اللهُ تعالى عن ذلك ، وأمرهم أن يأمروه بأن ينظر لولده ولا يزيد في وصيَّتِهِ على الثُّلُثِ فيكون خطاباً للحاضرين عند الميت . فقيل لهم : كما أنَّكم تكرهون بقا أولادكم الضُّعفاء ماله ، ومعناه كما أنَّك لا ترضى لنفسك مثل هذا الفعل فلا تَرْضَاهُ لأخيك المسلم .
وثانيها : أنَّهُ خِطَابٌ للمريض بحضرة الموت ويريد الوصيَّة للأجانب ، فيقول له من يحضره : اتَّق الله وأمسك مالك على ولدك مع أنَّ القَائِلَ لَهُ يجب أنْ يُوصِيَ لَهُ .
وثالثها : أنَّهُ خِطَابٌ لمن قرب أجله ويكون المقصود نهيه عن تكثير الوصيَّة ، لئلا تضيع ورثته بعد مَوْتِهِ ، فَإنْ كانت هذه الآية نزلت قبل تَقْدِيرِ الوصيَّة بالثُّلُثِ ، كان المرادُ بها ألا يستغرق التركةَ بالوصيَّةِ ، وَإن كانت نزلت بعد تقدير الوصيَّة بالثُّلُثِ كان المرادُ منها ألا يوصي أيضاً بالثُّلُث بل ينقص إذا خاف على ذُرِّيته ، وهذا مَرْويٌّ عن كثير من الصَّحَابَة .
رابعها : أنَّ هذا خطابٌ لأولياء اليتيم ، قال الكَلْبِيُّ : كَأَنَّهُ يقول من كان في حِجْرِهِ فليحسن إليْه بما يجب أن يُفْعَلَ بذريته من بعده .
قال القاضي : وهذا أليقُ بما تَقَدَّمَ وتأخَّرَ من الآيات الواردة في الأيْتَام .
قوله : { فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } .
أي فليتقوا الله في الأمر الذي تقدم ذكره ، والاحتياط فيه ، وليقولوا قولاً سديداً ، والقولُ السديدُ هو العدل والصّواب من القول .
قال الزمخشريُّ : القولُ السَّديدُ من الأوصياء أن لا يؤذوا اليتامى ويكلموهم كما يكلمون أولادهم بالترحيب ويخاطبونهم : يا بني ، ويا ولدي ، والقول السّديد من الجالسين إلى المريض أن يقولوا : لا تسرف في وصيتك ولا تجحف بأولادك [ مثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لِسَعْدٍ ] والقول السَّديد من الوَرَثَة حال قسمة الميراث للحاضرين الذين لا يرثون أن يلطفوا إليهم القول ويخصوهم بالإكرام .
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)

قال مقاتل بن حيّان : نزلت في رجل من غَطَفَانَ يقال له مرثدُ بْنُ زَيْدٍ وَلِي مالَ ابن أخيه وهو يتيمٌ صغيرٌ ، فَأكَلَهُ فأنزل اللهُ هذه الآية .
قوله : { ظُلْماً } فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه مفعول من أجله ، وشروط النصب موجودة .
الثاني : أنَّهُ مصدرٌ في محلِّ نَصْب على الحَالِ أي : يأكُلُونَهُ ظالمين والجملة من قوله : { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ } هذه الجملة في محل رفع ل « إنَّ » ، وفي ذلك خلاف .
قال أبُو حيان : وَحَسَّنَه هنا وقوعُ [ اسم ] « أن » موصولاً فطال الكلامُ بصلة الموصول فلما تباعد ما بينهما لم يُبَالِ بذلك ، وهذا أحْسَنُ من قولك : « إنَّ زيداً إنَّ أبَاهُ منطلق » ، ولقائلٍ أن يقول : ليس فيها دلالة على ذلك؛ لأنها مكفوفة ب « ما » ومعناها الحصرُ فصارت مثل قولك ، في المعنى : « إنَّ زيداً ما انطلق إلاَّ أبوه » وهو محل نظر .
قوله : { فِي بُطُونِهِمْ } فيه وجهان : أحدهما : انَّهُ مُتَعَلِّقٌ ب { يَأْكُلُونَ } أي : بطونُهم أوْعِيَةٌ للنَّارِ ، إمَّا حَقِيقَةً : بأنْ يَخلق اللهُ لهم ناراً يأكلونَهَا في بُطُونِهِم ، أوْ مَجَازاً بِأنْ أطْلِقَ المُسَبِّبَ وأرادَ السبب لكونه يُفْضِي إلَيْهِ ويستلزمه ، كما يُطْلَقُ اسْمُ أحَدِ المتلازمين على الآخَرِ كقوله : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] .
قال القاضِي : وهذا أوْلَى؛ لأن الإشارةَ فيه إلى كُلِّ واحِدٍ .
وَالثَّاني : أنَّهُ متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنَّه حال مِنْ « نارا » وكان في الأصل صفة للنكرة فَلَمَّا قُدِّمَتِ انْتَصَبَتْ حَالاً .
وذكر أبُو البَقَاءِ هذا الوجه عن أبِي عَلِيٍّ في « تَذْكِرَتِهِ » ، وحكى عنه أنَّهُ منع أنْ يكون ظرفاً ل { يَأْكُلُونَ } فَإنَّهُ قال : { فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } حال من نار ، أي : نَارٌ كَائِنَةٌ في بُطُونِهِمْ ، وليس بِظَرْفٍ ل { يَأْكُلُونَ } ذكره في التَّذْكِرَةِ « .
إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً وفي قوله : » وَالَّذي يَخُصُّ هذا المَوْضِع « فيه نَظَرٌ ، فَإنَّهُ كما يجوزُ أن يكونَ { فِي بُطُونِهِمْ } حالاً من » نَار « هنا يجوزُ أن يكون حالاً من » النَّار « في البقرة ، وفي [ إبداء ] الفرقِ عُسْرٌ ، ولم يظهر [ منع أبي عليٍّ كَوْنَ { فِي بُطُونِهِمْ } ظرفاًَ للأكْلِ وجه ظاهر فإن قيل : الأكل لا يكون إلا ] في البَطْنِ فما فائدةُ قوله : { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } ؟ .
فالجوابُ أنَّ المرادَ به التَّأكِيدُ والمبالغةُ كقوله : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم } [ آل عمران : 167 ] والقول لا يكون إلا بالفم ، وقوله : { ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور } [ الحج : 46 ] والقلبُ لا يكونُ إلاَّ في الصَّدْرِ ، وقوله : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] والطّيرانُ لا يكون إلاَّ بالنَّجَاحِ .
فصل في جواز الأكل من مال اليتيم
هذه الآيةُ توكيدٌ للوعيدِ المُتَقَدِّمِ لأكل مال اليتيم ، وخَصَّ الأكل بالظلم ، فأخرج الأكل بغير الظُّلْمِ مثل أكْلِ الوليّ بالمعروف من مال اليتيم ، وإلاَّ لم يكن لهذا التَّخصيص فائدة .

فصل في حرمة جميع الإتلافات لمال اليتيم
ذكر تعالى الأكل إلا أنَّ المراد منه كُلّ أنواع الإتلافات فإنَّ ضرر اليتيم لا يختلفُ بأن يكون إتلاف مال بالأكْلِ ، أو بطريقٍ آخَرَ ، وإنَّمَا ذكر الأكْلَ ، وأراد به كُلَّ التَّصرفات المُتْلِفَةِ لِوُجُوهٍ :
أحدها : أنَّ عامَّة أموال اليَتَامَى في ذلك الوقت هو الأنعام الَّتي يؤكل لحومها ويَشْرَبُ ألبانها فخرجَ الكَلاَمُ على عاداتهم .
وثانيها : أنَّهُ جَرَتِ العَادَةُ فيمن أنْفَقَ مَالَهُ في وجوه مراداته خيراً كانت أو شراً أنَّهُ يقال : إنَّهُ أكل ماله .
وثالثها : أنَّ الأكل هو المعظم فما يبتغي من التَّصرفات .
قوله : { وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } ، قرأ الجمهور بفتح الياء واللام ، وابن عامر وأبو بكرٍ بضمِّ اليَاءِ مَبْنِيّاً من الثُّلاَثِيِّ ، ويَحْتمل أنْ يكون من أصليٍّ فَلَمَّا بُنِيَ للمفعول قَامَ الأوَّلُ مقام الفَاعِلِ ، وابن أبي عبلة بضمهما مبنياً للفاعل الرُّبَاعي ، والأصل على هذه القراءة : سَيُصْلون من أصلي مثل يكرمون من أكرم ، فاستثقلت الضَّمَّةُ على الياء فحذفت ، فالتقى السَّاكنان فَحُذِفَ أولُهما وهو الياءُ وَضَمُّ ما قبل الواو ليصح و « أصْلَى » يُحتمل أنْ تكون الهمزةُ فيه للدُّخول في الشَّيءِ ، فَيَتَعَدَّى لواحدٍ وهو { سَعِيراً } ، وأن تكون للتَّعدية ، فالمفعول محذوف أي : يُصْلَونَ أنفْسهم سعيراً .
وأبو حَيْوَةَ بضم الياء وفتح الصَّادِ واللاَّم مُشَدَّدَة مبنياً للمفعول من صَلَّى مضعفاً .
قال أبُو البَقَاءِ : والتّضعيفُ للتكثير .
والصَّلْي : الإيقاد بالنَّارِ ، يقال : صَلِيَ بكذا -بكسر العين- وقوله { لاَ يَصْلاَهَآ } أي : يَصْلَى بها .
وقال الخليلُ : صَلِيَ الكافرُ النَّارَ أي : قَاسَى حَرَّها وصلاه النَّارَ وَأصْلاَهُ غيرهُ ، هكذا قال الرَّاغِبُ . وظاهرُ العِبَارَةِ أنَّ فَعِلَ وَأفْعَل [ بمعنى ] ، يتعدَّيان إلى اثنين ثانيهما بحرفِ الجرِّ ، وقد يُحْذَف .
وقال غيره : « صَلِيَ بالنَّارِ أي : تَسَخَّنَ بقربها » ف { سَعِيراً } على هذا منصوبٌ على إسقاط الخَافض . وَيَدُلُّ على أنَّ أصْلَ « يَصْلاها » يَصْلَى بها قول الشاعر : [ الطويل ]
1763- إذَا أوْقَدُوا نَاراً لِحَرْبِ عَدُوِّهِمْ ... فَقَدْ خَابَ مَنْ يَصْلى بِهَا وَسَعِيرِهَا
وقيل : صَلَيْتُه النَّارَ : أدْنَيْتُه منها ، فيجوزُ أنْ يكونَ منصوباً مِنْ غير إسقاطِ خافضٍ .
قال الفرَّاءُ : الصلى : اسم الوقود وهو الصّلاء إذا كسرت مدّت ، وإذا فتحت قُصِرَتْ ، ومن ضَمِّ الياء فهو من قولهم : أصْلاَهُ الله حَرَّ النَّار إصلاء ، قال : { فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً } [ النساء : 30 ] وقال : { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } [ المدثر : 26 ] .
وقال أبو زَيْدٍ : يقال : صَلِيَ الرَّجلُ النَّارَ يَصْلاَهَا صَلًى وصلاءً ، وهُوَ صَالِي النَّارِ ، وقوم صالون وصلاء ، قال تعالى : { إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم } [ الصافات : 163 ] وقال : { أولى بِهَا صِلِيّاً } [ مريم : 70 ] والسّعير في الأصل الجمر المشتعل ، وسَعَرْتُ النَّارَ أوقدتها ، ومنه : مُسْعِرُ حَرْبٍ ، على التشبيه ، والمِسْعَرُ : الآلةُ الَّتي تُحَرَّكُ بها النَّارُ .
فصل
روي أنَّهُ لما أنزلت هذه الآية ثقل ذلك على النَّاسِ فاحترزوا عن مخالطة اليتامى بالكليَّةِ ، فصعب الأمر على اليتامى ، فنزل قوله تعالى : { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } [ البقرة : 220 ] وزعم بعضهم أنَّ هذه الآية صارت منسوخة بتلك وهو بعيد؛ لأنَّ هذه الآية في المنع من الظُّلْمِ وهذا لا يصير منسوخاً ، بل المقصود أنَّ مخالطة أموال اليتامى إن كان على وجه الظُّلْم فهو إثم عظيم كما في هذه الآية ، وَإنْ كان على وجه الإحسان والتّربية فهو من أعظم [ أبواب ] البرّ ، لقوله : { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } [ البقرة : 220 ] .
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)

في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان :
الأوَّلُ : أنَّهُ تعالى لَمَّا بَيَّن الحكم في مال الأيتام وما على الأولياء فيه ، بَيَّنَ في هذه الآية كيفية تملك الأيتام المال بالإرث .
الثَّاني : أنَّهُ لمَّا بين حكم الميراث مجملاً في قوله : { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون } فذكر هنا تفصيل ذلك المجمل .
فصل
اعلم أنَّ الوراثة كانت في الجاهليَّةِ بالذُّكورة والقوَة ، وكانوا يورثون الرّجال دون النِّسَاء والصّبيان ، فأبطل الله ذلك بقوله : { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ } [ النساء : 7 ] الآية . وكانت أيضاً في الجاهليَّة وابتداء الإسلام بالمخالطة ، قال تعالى : { والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } [ النساء : 33 ] .
ثم صارت الوراثة بالهجرة ، قال تعالى : { والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ } [ الأنفال : 72 ] فنسخ اللهُ ذلك كله بقوله : { وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله } [ الأنفال : 75 ] وصارت الوراثة بأحد الأمور الثَّلاثة : النّسب ، أو النكاح ، أو الولاء .
وقيل : كانت الوراثة أيضاً بالتَّبنِّي ، فإنَّ الرَّجل منهم كان يتبنَّى ابنَ غَيْره فَيُنْسَبُ إليه دون أبيه من النَّسب فيرثه ، وهو نوع من المعاهدة المتقدِّمَةِ ، وكذلك بالمؤاخَاةِ .
وقال بعض العلماء : لم ينسخ شيء من ذلك بل قررهم الله عليه فقوله : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون } [ النساء : 33 ] [ ليس المراد منه النصيب من المال ، بل المراد فآتوهم نصيبهم من النصرة ] والنصيحة وحسن المعاشرة .
فصل : سبب نزول الآية
روى عطاء قال : استشهد سعدُ بْنُ الرَّبِيع النَّقيب ، وترك ابنتين وامرأة وأخاً ، فأخذ الأخ المال كُلَّهُ ، فأتت المرأةُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت : يا رسول اللهِ هاتان ابنتا سَعْدٍ ، وإن سعداً قتل ، وأن عمهما أخذ مالهما ، فقال عليه السلام : « ارجعي فَلَعَلَّ اللهَ سَيَقْضِي [ فيه ] » ثم إنها عادت إليه بعد مدة وبكت ، فأنزل الله هذه الآية ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمَّهما ، وقال له : « أعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ ، وَأمَّهُمَا الثُّمُنَ وَمَا بَقي فَهُوَ لَكَ » فهذا أوَّلُ ميراث قُسِّمَ في الإسلام .
وقال مقاتلٌ والكَلْبِيُّ : ننزل في أم كُحَّة امرأة أوس بْنِ ثَابتٍ وبناته .
وروى جابر قال : جاء رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأنا مريض لا أعقِلُ فتوضّأ فَصَبَّ عَلَيَّ من وضوئه فقلتُ : يا رسول الله لمن المِيرَاثُ ، وَإنَّمَا يرثُنِي كَلاَلَةٌ فنزلت آية الفرائض .
فصل
قال القَفَّالُ : قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } أي : يقول لكم قولاً يوصلكم إلى إيفاءِ حقوق أولادكم بعد موتكم ، وأصل الإيصاء هو الإيصَالُ يقال : وصى يصي إذا وَصَلَ ، فإذا قيل : أوصاني ، فمعناه : أوصلني إلى علم ما أحتاج إلى علمه ، وكذلك وَصَّى وهو على المبالغة .
وقال الزَّجَّاج : معنى قوله هاهنا { يُوصِيكُمُ } أي : يَفْرِضُ عليكم؛ لأنَّ الوصية مِنَ الله إيجابٌ لقوله بعد نَصِّه على المحرمات

{ ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ } [ الأنعام : 151 ] .
وقرأ الحسن وأبي عبلة { يُوصِيكُمُ } بالتَّشديد ، وقد تَقَدَّمَ أنَّ أوْصَى ووصَّى لغتان .
قوله : { في أَوْلاَدِكُمْ } قيل : ثَمَّ مضاف محذوف أي : في أولاد موتاكم .
قالوا : لأنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يُخَاطِبَ الحيُّ بقسمةِ الميراثِ في أولاده ، ويُفْرَضَ عليه ذلك .
وقال بعضهم : إن قلنا إنَّ معنى { يُوصِيكُمُ } « يبين لكم » لم يحتج إلى هذا التقدير ، وقَدَّر بَعْضُهُم قبل : { أَوْلاَدِكُمْ } مضافاً ، أي : في شأن أولادكم ، أو في أمر أولادكم .
قوله : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ } هذه الجملة من مبتدأ وخبر ، يُحْتَمل أن تكونَ في محلِّ نَصْبٍ ب « يوصي » ؛ لأنَّ المعنى : يَفْرِضُ لكم ، أو يُشَرِّع في أوْلادَكُمْ ، كذا قاله أبُو البَقَاءِ ، وهذا يقرب من مذهب الفرَّاء ، فإنَّهُ يُجْرٍي ما كان بمعنى القول مُجْراه في حكاية الجملِ ، فالجملةُ في موضع نَصْب ب « يوصيكم » .
وقال مَكِّيٌّ : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ } ابتداءُ وخبر في موضع نصب تَبْيينٌ لِلْوَصِيَّةِ وَتَفْسِيرٌ لَهَا .
وقال الكِسَائِيُّ : « ارتفع » مثل « على حذف » أنَّ « تقديره : أنَّ للذكرِ مثلُ حظّ ، وبه قرأ ابن ابيب عبلة ، ويحتمل ألاَّ يكون لها محلٌّ من الإعراب ، بل جيء بها للبيان والتَّفسير فهي جُملةٌ مفسِّرةٌ للوصيَّةِ ، وهذا أحسن وجار على مذهب البصريين ، وهو ظاهر عبارة الزمخشريِّ ، فَإنَّهُ قال : وهذا إجمالٌ تفصيلُه { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } .
وقوله : { لِلذَّكَرِ } لا بُدَّ من ضمير يعود على { أَوْلاَدِكُمْ } من هذه الجملة ، فيحتمل أن يكون مجذوفاً أي : للذكر منهم نحو : » السَّمْنُ مَنَوانِ بدرهم « قاله الزمخشريُّ ، ويحتمل أن يكون قام مقام الألف واللام عند مَنْ يرى ذلك ، والأصل : لذكرهم و » مثل « صفة لموصوفٍ محذوفٍ أي : للذَّكَر منهم حَظٌّ مثلُ حَظِّ الأنثيين .
فإن قيل : لا يقال في اللُّغَةِ : أوصيك لكذا ، فكيف قال هنا : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ } ؟ .
فالجوابُ : أنَّهُ لما كانت الوصية قولاً ، فلهذا قال بعد قوله : { يُوصِيكُمُ الله } قولاً مستأنفاً وهو قوله : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } ونظيره قوله تعالى : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً } [ الفتح : 29 ] أي : قال لهم مغفرة؛ لأن الوعد قولٌ .
فصل
اعلم أنه تعالى بدأ بذكر ميراث الأوْلاَدِ؛ لأنَّ تعلُّق الإنسان بولده أشدّ التّعلقات ، وللأولاد حال من انفراد وحال اجتماع مع الوالدين .
فحال الانفراد [ ثلاثة ] إمَّا أن يَكُونُوا ذكوراً و إناثاً ، أو ذكوراً فقط ، أو إناثاً فقط ، فإنْ كانوا ذكوراً وإناثاً فقد بَيَّنَ اللهُ تعالى حكمهم بقوله : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } فبين تعالى أن للذكر مثل ما للأنثى مرتين .
قوله : { فَإِن كُنَّ نِسَآءً } الضمير في » كُنَّ « يعودُ على الإناثِ اللاَّتي شَمَلَهُنَّ قوله : { في أَوْلاَدِكُمْ } .
فإنَّ التَّقدير : في أولادكم الذُّكور والإناث ، فعادَ الضَّمِيرُ على أحد قِسمي الأولادِ ، وإذا عاد الضَّمِيرُ على جمع التكسير العاقل المراد به مَحْضَ الذُّكور ، وفي قوله عليه السَّلام

« ورب الشياطين ومن أضللن » لعوده على جماعة الإناث ، فَلأنْ يعودَ كذلك على جمع التكسير المشتمل على الإناث بطريق الأوْلى [ والأحرى ] ، وهذا معنى قول أبي حيَّان : وفيه نَظَرٌ لأن عوده هناك كضمير الإناث إنما كان لمعنى مفقودٍ هنا وهو طلب المشاكلة لأنَّ قبله « اللهم رب السموات ومن أضللن الأرضين وما أقللن » ذَكَر ذلك النحويون .
وقيل : الضَّمير يعود على المتروكات أي : فإن كانت المتروكات ، وَدَلَّ ذِكْرُ الأولاد عليه ، قاله أبُو البقاء ومكيٌّ وقدَّره الزمخشريُّ : فإنْ كانت البنات أو المولودات .
فإذا تقرر هذا ف « كُنَّ » كان واسمُها و « نسَاءٌ » خبرها ، و « فوق اثنتين » ظرف في فائدةٌ ، ألا ترى أنَّه لو قيل : « إنْ كان الزيدون رجالاً كان كذا » لم يَكُنْ فيه فائدةٌ .
وأجاز الزَّمخشريُّ في هذه الآية وَجْهين غريبين :
أحدهما : أن يكون الضمير في « كُنَّ » ضميراً مبهماً ، و « نساء » منصوبٌ على أنَّهُ تفسيرٌ له يعني : تمييزاً ، وكذلك قال في الضَّمِير الَّذي في « كَانَتْ » من قوله : { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً } على أنَّ « كن » تَامَّةٌ . والوجه الآخر : أن يكون « فوق اثنتين » خبراً ثانياً ل « كُنَّ » وَرَدَّهما عليه أبو حيّان : أمَّا الأوَّلُ : فلأنَّ « كانَ » ليْسَتْ من الأفعالِ الَّتي يكونُ فاعلُها مضمراً يُفَسِّره ما بَعْدَهُ بل هذا مختصٌّ من الأفعال ب « نعم » و « بئس » وَمَا جَرَى مَجْرَاهُمَا وبَابُ التنازع عند إعْمَالِ الثاني ، فَلِمَا تَقَّدَمَ من الاحتياج إلى هذه الصفةِ؛ لأنَّ الخبرَ لا بُدَّ أنْ تَسْتَقِلَّ به فَائِدةُ الإسناد ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أنَّهُ لو اقتصر على قوله « فإن كن نساء » لم يُفِدْ شيئاً؛ لأنَّهُ مَعْلُومٌ .
قوله : { فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } قرأ الجمهور « ثلُثا » بضمِّ اللام ، وهي لغة الحجاز وبني أسد .
قال النَّحَّاسُ : من الثُّلث إلى العشر .
وقرأ الحسن ونعيمُ بن ميسرةَ « ثُلْثا » و « الثُّلْثُ » و « النِّصْفُ » و « الرُّبْع » و « الثُّمْنُ » كلُّ ذلك بإسكان الوسط .
وقال الزَّجَّاجُ : هي لغة واحدة ، والسُّكونُ تخفيف .
فصل
بَيَّنَ في هذه الآية ما إذا كانوا إناثاً فقط ، فقال : { فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النصف } ، إلا أنَّه تعالى لم يَبيِّن حُكْمَ الْبِنْتَين تصريحاً ، واختلفوا فيه : فعن ابن عبَّاسٍ أنَّهُ قال : الثُّلثان فرض الثلاث من البنات فصاعداً ، وأمَّا فرض البنتين فهو النّصف؛ لهذه الآية؛ لأنَّ لفظة « إن » في اللُّغة للاشتراط ، وذلك يدلُّ على أن أخذ الثُّلثي مشروطاً بكونهن فوق الاثنتين وهو الثلاث فصاعداً .
والجواب من وجوه :
الأول : قوله تعالى : { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النصف } فجعل حصول النّصف مشروطاً بكونها واحدةً ، وذلك ينفي حصول النّصف نصيباً للبنتين وقد جعل النّصف نصيبَ البنتين ، فهذا لازم لَهُ .

الثَّاني : لا نُسَلِّمُ أنَّ كلمة « إن » تَدُلُّ على انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف ، لأنَّهُ لو كان الآمر كذلك لزم التناقض بين هاتين الآيتين؛ لأن الإجماع دَلًّ على أنَّ نَصِيبَ البنتين إمَّا النِّصْفُ ، وإمَّا الثُّلثان ، وبتقدير أن تكون كلمة « إن » للاشتراط وجب القول بفسادهما ، فثبت أنَّ القول بكلمة الاشتراط يفضي إلى الباطل فيكون باطلاً ولأنَّهُ تعالى قال : { وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ } [ البقرة : 283 ] وقال : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ } [ النساء : 101 ] ولا يمكن أن يفيد معنى الاشتراط في هذه الآيات .
الثَّالث : أنَّ في الآية تقديماً وتأخيراً والتقدير : فإن كُنَّ نِسَاءً اثنتين فما فَوْقَهُمَا فلهن الثُّلثان .
وَأمَّا سَائِرُ الأمَّةِ ، فأجمعوا على أنَّ فرض البنتين الثلثان .
قال أبو مسلم الأصفهاني : عرفناه من قوله تعالى : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } فإذا كان نصيب الذكر مثل حظ الأنثيين ، ونصيبُ الذكر هاهنا الثُّلثان وجل لا محالةَ أن يكون نصيب البنتين الثلثين .
وقال أبو بكر الرَّازي : إذا مات وخلف ابناً وبنتاً فهاهنا نصيب البنتِ الثّلث لقوله : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } فإذا كان نصيب البنت مع الولد الذّكر هو الثُّلث ، فأن يكون نصيبها مع ولد آخر أنثى هو الثلث كان أولى؛ لأنَّ الذكر أقوى من الأنْثَى ، وإذا كان حظ البنتين أزيد من حظ الواحدة ، وَجَبَ أن يكون ذلك هو الثُّلثان؛ لأنَّهُ لا قائل بالفرق ، وأيضاً فلما ذكرنا من سبب النُّزول أنه عليه السلاَّم أعطى بنتي سعد بن الرَّبيع الثّلثين ، ولأنَّه تعالى ذكر في هذه الآية حكم الواحدة من البنات وحكم الثلاث فما فوقهن ، ولم يذكر حكم البنتين ، وقال في ميراث الأخوات { إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ } [ النساء : 176 ] فذكر ميراث الأخت والأختين ، ولم يذكر ميراث الكثير فصار كل واحدة من هاتين الآيتين مُجْمَلاً من وجه ومبيناً من وجه ، فنقول : لما كان نصيبُ الأخوات الكثيرة على ذلك؛ لأنَّ البنت لَمَّا كانت أشد اتِّصالاً بالميت؛ امتنع جعل الأضعف زائداً على الأقْوَى .
وأما القسم الثَّالِثُ : وهو أن يكون الأولاد ذكوراً فقط ، فللواحد المنفرد أخذ المال كلّه ، لقوله تعالى { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } ثم قال في البنات { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النصف } فلزم من مجموع الآيتين أن نصيب الابن المنفرد جميع المال ، وقال عليه السَّلام : « ما أبْقَتِ السِّهَامُ فللأوْلَى عَصَبةٍ ذَكَرٍ » وَإذَا أخَذَ كل ما يبقى بعد السِّهَام ، وجب أن يأخذ الكلَّ إذا لم يكن سهام .
فإن قيل : حظُّ الأنثيين الثُّلثان فقوله { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } يقتضي أن يكون حظُّ الذَكر مطلقاً هو الثُّلث ، وذلك ينفي أن يأخذ المال كله .

فالجوابُ : أنَّ المراد منه حال الاجتماع لا حال الانفراد؛ لأن قوله { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } يقتضي حصول الأولاد ، وقوله : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } يقتضي حصول الذكر والأنثى هناك ، هذا كلُّهَ إذا كان ابناً واحداً فقط ، فلو كان أكثر من واحد تشاركوا في جهة الاستحقاق؛ ولا رجحان ، فوجب قسم المال بينهم بالسَّويَّةِ ، والله أعلم .
فإن قيل : إنَّ المرأة أكثر عجزاً من الرجل ، وأقل اقتداراً من الرَّجُل لعجزها عن الخروج والبروز ، فإنَّ زوجها وأقاربها يمنعونها من ذلك ، ولنقصان عقلها وكثرة اختداعها واغترارها ، وإذا ثبت أنَّ عجزها أكمل ، وجب أن يكون نصيبها من الميراث أكثر ، فإن لم يكن أكثر فلا أقل من المساواة ، فما الحكمة في أنَّه تعالى جعل نصيبها نصف نصيب الرجل؟ .
فالجواب : لأن خرج المرأة أقل ، لأن زوجها ينفق عليها وخرج الرَّجل أكثر ، لأنَّهُ هو المنفق على زوجته ومن كان خرجه أكثر فهو إلى المال أحوج؛ ولأنَّ الرَّجُلَ أكملُ حالاً من المرأة في الخلقةِ وفي العقل والمناصب الدينيَّة ، مثل صلاحية القضاء والإمامة ، وأيضاً شهادة المرأة نِصْفُ شهادة الرَّجُلِ ، ومن كان كذلك؛ وجب أن يكون الإنعام إليه أكثر؛ ولأنَّ المرأة قليلةُ العقل كثيرةُ الشَّهْوَةِ ، فإذا انضاف إليها المال الكثير عظم الفسادُ ، ولهذا قال الشَّاعرُ : [ الرجز ]
1764- إنَّ الفَرَاغَ وَالشَّبَابِ وَالْجِدْه ... مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أيُّ مَفْسَدَهُ
وروي أنَّ جعفر الصادق سُئِلَ عن هذه الآية فقال : « إنَّ حواء أخذت حفنة من الحنطة وأكلتها وأخذت حفنة أخرى وخبأتها ثم أخذت حفنة أخرى ودفعتها إلى آدم ، فلما جعلت نصيبها ضعف نصيب الرجل أقلب الله الأمر عليها فجعل نصيب المرأة نصفَ نصيب الرَّجل » .
فإن قيل : لِمَ لم يَقُل للأنثيين مثل حظ الذَّكر ، أو للأنقى مثلاً حظ الذَّكر؟
فالجواب أنَّه لمَّا كان الذَّكر أفضل من الأنثى قدَّمَ ذِكْرَهُ على كر الأنثى كما جعل نصيبه ضعف نصيب الأنثى ، ولأنَّ قوله { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } يدلُّ على فضل الذكر بالمطابقة ، وعلى نقص الأنثى بالالتزام ، ولو قال كما ذكرتم لَدَلَّ على نقص الأنثى بالمطابقة وفضل الذَّكر بالالتزام ، فرجح الطرف الأوَّل تنبيهاً على أنَّ السَّعي في تشهير الفضائل يجب أن يكون راجحاً على السعي في تشهير الرَّذائل ، ولهذا قال { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الإسراء : 7 ] فذكر الإحسان مرتين والإساءة مرَّة واحدة ، وأيضاً فلأنهم كانوا يورثون دون الإناث ، وهو سبب نزول الآية ، فقيل : كفى للذكر أن جعل نصيبه ضعف نصيب الأنثى فلا ينبغي أن يطمع في حِرْمَانِ الأنْثَى بالكليَّةِ .
فإن قيل : قوله : { فَإِن كُنَّ نِسَآءً } جمع ، وأقلُّ الجمع ثلاثة فما فائدة قوله : { فَوْقَ اثنتين } ؟ .
فالجواب : للتأكيد كقوله : { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً }

[ النساء : 10 ] وقوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } [ النحل : 51 ] .
فصل
اسم الولد يقع على ولد الصّلب حقيقة ، وهل يستعمل في ولد الابن حقيقة أو مجازاً؟ خلاف .
فإن قلنا : إنَّهُ مجاز ، فنقول : ثَبتَ في أصول الفقه أنَّ اللَّفظ الواحد لا يجوز أن يستعمل دفعةً واحدةً في حقيقته وفي مجازه معاً ، فحينئذ يمتنع أنْ يكون المراد بقوله { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } ولد الصّلب ، وولد الابن معاً ، ويُدْفَعُ هذا الإشكال بأن يقال : إنَّا لا نَسْتَفِيدُ حُكْمَ ولد الابن من هذه الآية ، [ بل ] من دليل آخر ، وذلك أن أولاد الابن لا يرثون إلا عند عدم الولد ، وإذا لم يستغرق ولد الصّلب كلِّ الميراث ، وإن ثبت أنَّه حقيقة فيهما فيكون مشتركاً بينهما فيعود الإشكال ، لإنَّه ثبت أنَّهُ لا يجوزُ استعمال اللَّفظ المشترك لإفادة معينية معاً ، بل الوَاجِبُ أنَّ اللفظ يكون متواطئاً فيهما كالحيوان بالنِّسبةِ إلى الإنسان ، والفرص ، [ والذي ] يدلّ على صحَّةِ ذلك قوله { وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ } [ النساء : 23 ] وأجمعوا على أنه يدخل فيه ابن الصّلب ، وأولاد الابن ، فعلمنا أنَّ لفظ الابن يتواطأ بالنسبة إلى ولد الصّلب وولد الابن والجدّات . وقد وقع ذلك في قوله تعالى : { نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [ البقرة : 133 ] والأظهر أنَّهُ ليس على سبيل الحقيقة ، فإن الصَّحَابَةِ اتَّفقوا على أنه ليس للجدّ حكم مذكور في القرآن ، ولو كان اسم الأب يتناول الجد لما صحَّ ذلك .
فصل
قالوا إن عموم قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } مخصوص بأربع صور : أحدها : لا يتوارث الحرّ والعبد .
وثانيها : أنه إذا قتل مورثه عمداً لا يرث .
وثالثها : اختلاف الدّين .
ورابعها : أنَّ الأنبياء عليهم السَّلام لا يورثون ، وروي أنَّ فاطمة - رضي الله عنها - لما طلبت الميراث ومنعوها ، احتجَّوا عليها بقوله عليه السلام : « نَحْنُ مَعَاشِرَ الأنْبِيَاء لا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَة » فعند هذا أشارت إلى أن عموم القرآن لا يجوز تخصيصه بخير الواحد .
وقوله : « وإن كانت واحدة » قرأ نافع « وَاحِدَةٌ » رفعاً على أن « كَانَ » تامة أي : وإن وُجِدَتْ واحدةٌ ، والباقون « واحدة » نصباً على أن « كَانَ » ناقصة واسمُها مستتر فيها يعودُ على الوارثة أو المتروكة و « واحدة » نَصْبٌ على خبر « كان » ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أنَّ الزَّمَخشريَّ أجاز أن يكون في « كان » ضمير مبهمٌ مفسَّر بالمنصوبِ بعد . وقرأ السُّلمي : « النُّصف » بضم النون ، وهي قراءةُ عليِّ وزيد بن ثابت -رضي الله عنهما- وقد تقدَّم شيء من ذلك في البقرة في قوله : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [ البقرة : 237 ] ويعني : كون البنت الواحدة لها النّصف؛ لأن الابن الواحد له جميع المال إذا انفرد ، فكذلك البنت إذا انفردت لها نصف ما للذكر إذا انفرد؛ لأنَّ الذَّكر له مثل حظ الأنثيين .

قوله : { وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السدس } .
{ السدس } مبتدأ و { وَلأَبَوَيْهِ } خبرٌ مقدَّمٌ ، و { لِكُلِّ وَاحِدٍ } بدل من { وَلأَبَوَيْهِ } ، وهذا نص الزمخشريِّ فإنَّه قال : { لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا } بدل من { وَلأَبَوَيْهِ } بتكرير العامل ، وفائدة هذا البدل أنَّهُ لو قيل : « ولأبويه السدس » لكان ظاهرةُ اشتراكهما فيه ، ولو قيل : « لأبويه السدسان » لأوْهَمَ قِسْمَةَ السدسين عليهما بالسويةِ وعلى خلافهما .
فإن قُلْتَ : فهلا قيل : « ولكل واحد من أبويه السدس » وأيُّ فائدةٍ في ذكر الأبوين أولا ثم في الإبدال منهما؟ .
قلت : لأنًّ في الإبدال والتفصيل بَعْدَ الإجمال تأكيداً وتشديداً كالذي تراه في الجمع بين المفسَّر والتفسير .
و { السدس } مبتدأ ، وخبره { لأَبَوَيْهِ } والبدلُ متوسط بينهما للبيان . انتهى .
ونَاقَشَهُ أبو حيان فِي جَعْلِهِ { لأَبَوَيْهِ } الخبر دون قوله : { لِكُلِّ وَاحِدٍ } قال : « لأنه ينبغي أن يكون البدل هو الخبر دونَ المبدل منه » يعني : أنَّ البدل هو المعتمد عليه ، والمبدل منه صار في حكم المُطَّرح ، ونَظَّره بقولك : « إنَّ زيداً عينهُ حسنةٌ » فكما أنَّ « حَسَنَةٌ » خبر عن « عينه » دون « زيد » في حكم المُطَّرح فكذلك هذا ، ونَظَّره أيضاً بقولك : [ أبواك لكل واحد منهما يصنع كذا ف « يصنع » خبر عن كل واحد منهما .
ولو قلت : « أبواك كُلُّ واحدٍ منهما يصنع كذا » لَمْ يَجُزْ .
وفي هذه المناقشة نَظَرٌ ، لأنه إذا قيل لك : ما مَحَلُّ لأبويه من الإعراب؟ تُضطر إلى أن تقول : في مَحَلِّ رفع خبراً مقدماً ، ولكنه نقل نسبة الخيريّة إلى { لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا } دون { لأَبَوَيْهِ } قال : وقال بعضهم : { السدس } رفع بالابتداء ، و { لِكُلِّ وَاحِدٍ } الخبرُ و { لِكُلِّ } بَدَلٌ من الأبوين ، و « منهما » نعت لواحد ، وهذا البدلُ هو بدلُ بعضِ من كُلِّ ، ولذلك أتَى معه بالضَّمير ، ولا يُتَوَهَّمُ أنَّهُ بدلُ شيءٍ من شيْءٍ وهما لعين واحدةٍ لجوازِ أبواك يَصْنعان كذا وامتناع أبواك كل وتجد منهما يصنعان كذا ، بل تقول : يصنع . انتهى .
والضَّمير في « لأبويه » عائد على ما عاد عليه الضَّمير في « ترك » ، وهو الميتُ المدلولُ عليه بقوة الكلام ، والتثنية في « أبويه » من التَّغليب ، والأصل : لأبيه وأمه وَإِنَّما غَلَّبَ المذكر على المؤنث كقولهم : « القمران ، والعمران » وهي تثنية لا تنقاس .
فصل
إذا كان مع الأبوين ولد أو أكثر كان لِكُلِّ واحد منهما السُّدس وسوى اللهُ بين الأب والأمّ في هذا الموضع؛ لأنَّ الأبَ وإن كان يستوجب التفضيل لما كان ينفقه على الابن ، وبنصرته له والذب عنه صغيراً ، فالأم أيضاً حملته كُرهاً ووضعته كُرْهاً؛ وكان بطنها له وعاءً ، وثديها له سقاء ، وحِجْرُهَا له فناء فتكافأت الحجتان ، فلذلك سوَّى بينهما ، فإن كانت بنتاً واحدةً وبنت ابن فللبنت النصف وللأمِّ السُّدس وللأب ما بقي ، وهو الثلثُ [ نصف بفرضه ، وهو السُّدس ] وباقيه بالتَّعصيب فإن قيل : حقُّ الأبوين على الإنسان أعظمُ من حقِّ ولده عليه ، لأنَّ الله تعالى قرن طاعته بطاعتهما فما الحِكْمَةُ في جَعْلِ نصيب الأولادِ أكبر؟ .

فالجواب : أن الوالدين ما بقي من عمرهما إلاّ القليل ، فكان احتياجهما إلى المال قَلِيلاً ، وأمَّا الأولاد فهم في زمن الصِّبا ، فكان احتياجهم إلى المال أكثر [ فظهر الفرق ] .
قوله : { فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثلث }
قرأ الجمهور { فَلأُمِّهِ } وقوله : { في أُمِّ الكتاب } [ الزخرف : 4 ] .
وقوله : { حتى يَبْعَثَ في أُمِّهَا } في القصص [ آية : 59 ] .
وقوله : { مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } [ النحل : 78 ] .
وقوله : { أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ } [ النور : 61 ] و { فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } [ النجم : 32 ] بضم الهمزة من « أمّ » وهو الأصلُ .
وقرأ حمزة والكسائيُّ جميعَ ذلك بكسر الهمزة .
وانفرد حمزة بزيادة كسر الميم من « إمِّهات » فإنَّهُ لا خلاف في ضَمِّها .
أمَّا وجهُ قراءة الجمهور فظاهرٌ ، لأنَّهُ الأصل كما تَقَدَّمَ .
وَأمَّا قراءة حمزة والكسائي بكسر الهمزة فقالوا : لمناسبة الكسرة أو الياء الّتي قبل الهمزة ، فكسرت الهمزةُ إتباعاً لما قَبْلَها ، ولاستثقالهم الخروج من كَسْرِ أو شبه إلى ضم .
قال الزَّجَّاجُ : وليس في كلام العرب « فِعُل » بكسر الفاء وضمِّ العين ، فلا جَرَمَ جُعِلَتْ الضمةُ كسرةً ، ولذلك إذا ابتدآ بالهمزة ضَمَّاها لزوال الكسر أو الياء ، وأمَّا كسر حمزة الميم من « إمَّهات » في المواضع المذكورة فللإتْبَاع ، أتبعَ حركة الميم لحركةِ الهمزةِ ، فكسرةُ الميم تَبَعُ التَّبَع ، ولذلك إذا ابتدأ بها ضم الهمزة وفتح الميم؛ لما تقدَّمَ من زوال موجب ذلك .
وكَسْرُ همزة « أم » بعد الكسرة أو الياء حكاه سببويْهِ لُغَةً عن العرب ، ونَسَبَها الكِسائِي والفرَّاء إلى « هوازن » و « هذيل » .
فصل
ذكر ها هنا أنَّ الأبوين إذا لم يكن معهما وَارِثٌ غَيرُهُمَا ، فإنَّ الأم تأخذ الثُّلث ، ويأخذ الأبُ ما بقي وهو الثُّلثان ، وإذا ثبت أنَّهُ يأخذُ الباقي بالتَّعْصِيبِ ، وجب أن يأخذ المال كُلَّهُ إذا انفرد؛ لأنَّ هذا شأن التَّعصيب ، فإن كان مع الأبوين أحد الزَّوجين ، فذهب أكثر الصَّحَابة إلى أنَّ الزَّوْجَ يأخذ فَرْضَهُ ، ثم تأخذ الأم ثُلْثَ ما بقي ، ويأخذ الأب ما بقي .
وقال ابن عباس : يأخذ الزوج فَرْضَهُ ، وتأخذ الأم الثلث كاملاً ، ويأخذ الأب ما بقي .
وقال : لا أجد في كتاب اللهِ -تعالى- ثلث ما بقي .
وعن ابن سيرينَ أنَّهُ وافق ابن عبَّاس في الزَّوْجَة والأبوين ، وخَالَفَهُ في الزَّوْجِ والأبوين ، لأنَّهُ يُفْضِي إلى أن يكون للأنثى مثل حَظِّ الذكرين .
وَأمَّا الزَّوْجَةُ ، فلا يفضي إلى ذلك .
وحجَّةُ الجمهور أنَّ قاعدة الميراث متى اجتمع ذكر وأنثى من جنس واحد ، كان للذَّكَرِ مثل حَظِّ الأنثيين ، كالأبوين مع البنت ، والأخ مع الأخت ، وابن الابن مع بنت الابن ، والأم مع الأب كذلك إذا لم يكن للميِّتِ وارث سواهما كما تَقَدَّمَ .

وإن كان كذلك ، فإنَّ الزَّوْجَ يأخذ نصيبه ، ويقسَّمُ الباقي بين الأبوين للذَّكر مثل حظ الأنثيين؛ ولأن الزَّوج يأخذ نصيبه بحكم عَقْدِ النِّكَاحِ لا بحكم القرابة ، فأشبه الوصيَّة في قسمة الباقي .
وأيضاً فإنَّ الزَّوْجَ إذا أخذ النصف ، فلو دفعنا ثلث جميع المال للأم والسدس إلى الأب ، يلزم منه أن يكون للأنثى مثل حظِّ الذكرين ، وهذا خلاف قوله : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } .
قوله : { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السدس } .
« إخوة » أعم من أن يكونوا ذكورا أو إناثاً ، أو بعضهم ذكورا وبعضهم إناثاً ، ويكون هذا من باب التغليب ، وزعم قومٌ أن الإخوة خاصٌّ بالذُّكور ، وأنَّ الأخوات لا يَحْجُبْنَ الأم من الثُّلثِ إلى السُّدس ، فقالوا : لأن « إخوة » جمع « أخ » ، والجمهور على أنَّ الإخوة وإن كانوا بلفظ الجمع يقعون على الاثنين ، فيحجب الأخوان أيضاً الأم من الثُّلث إلى السُّدس خلافاً لابن عبَّاسٍ ، فإنَّهُ لا يحجبُ بهما والظاهر معه .
روي أنَّ ابن عباس قال لعثمان بِمَ صار الأخوان يَرُدّان الأم من الثُّلث إلى السُّدس ، وَإنَّمَا قال الله تعالى : { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } والأخوان في لِسان قومك ليس بإخوة؟ فقال عثمان : لا أستطيعُ أنْ أرُدَّ قضاءً قُضِيَ به قبلي ، ومضى في الأمصار .
وهذه المسألة مبنيَّةٌ على أنَّ أقل الجمع ثلاثة ، والموجب لذلك هو القياس يخص هذه المسألة بأنَّ الأختين ميراثهما ميراث الثَّلاث ، كما أنَّ ميراث البنتين مثل ميراث الثلاثة فكذلك نصيبُ الأختين من الأمِّ مثل نصيب الثلاثة ، وإذا كان كذلك؛ وجب أن يَحْصُلَ الحَجْبُ بالأختين ، وإذا وجب الحَجْبُ بالأختين لزم ثبوته في الأخوين؛ لأنَّهُ لا قَائِلَ بالفرق [ فهذا أحسن ما يمكن أن يقال في هذا الموضع وفيه إشكال لأن ] إجراء القياس في التقديرات صعب لأنَّهُ غير معقول ، فيمونُ ذلك مجرَّدُ تشبيه من غير جامعٍ .
فالجوابُ أن يقال : لا يُتَمَسَّكُ به على طريقة القياس بل على طريقة الاستقراء ، لأنَّ الكثرة أمارة العموم .
فصل
[ والأخوة ] إذا حجبوا الأم من الثُّلُثِ إلى السُّدُسِ ، فلا يرثون مع الأب شيئاً [ ألبتة ] بل يأخذ الأب باقي المال ، وهو خمسة أسْدَاسٍ ، سدس بالفرض ، والباقي بالتَّعصيب ، وقال ابن عبَّاسٍ : الإخوة يأخذون السُّدُسَ الذي حجبوا الأم عنه ، وما بقي فللأب ، وحجته الاستقراء دَلَّ على أن مَنْ لا يرث لا يحجب ، فهؤلاء الإخوة لما حجبوا وجب أن يرثوا ، وهذا يختص بالإخوة للأم إذا اجتمعوا مع الأبوين فإنَّهُمْ يحجبون الأم من الثُّلث إلى السُّدس ، ولا يرثون شيئاً؛ لأن الأب يسقطهم .
قوله : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّهُ متعلقٌ بما تقدمه من قسمة المواريث كُلِّهَا لا بما يليه وحده ، كأنَّهُ قيل : قسمةُ هذه الأنصباء من بعد وصية قاله الزَّمَخْشَرِيُّ ، يعني أنه متعلِّقٌ بقوله : { يُوصِيكُمُ الله } وما بعده .

والثاني : قاله أبُو حيَّان أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ ، أي : يَسْتَحِقُّون ذلك كما فُصِّلَ من بعد وصية .
[ والثالث : أنَّهُ حال من السُّدس ، تقديره : مستحقاً من بعد وصيَّة ] ، والعاملُ الظرفُ قاله أبُو البَقَاءِ ، وَجَوَّزَ فيه وَجْهاً آخر ، قال : [ ويجوزُ أن يكون ظرفاً ] أي : يستقر لهم ذلك بعد إخراج الوصيّةِ ، ولا بُدَّ من تقدير حذف المضاف لأنَّ الوصيَّةَ هنا المالُ المُوصَى به ، وقد تكون « الوصيَّةُ » مَصْدراً مثل « الفريضة » ، وهذان الوجهان لا يَظْهَرُ لهما وَجْهٌ .
وقوله : والعاملُ الظَّرف ، يعني بالظَّرف : الجارَّ والمجرور في قوله تعالى : { فَلأُمِّهِ السدس } فإنه شبيه بالظرفية ، وعمل في الحال لما تضمنه من الفعل لوقوعه خبراً ، و « يوصي » فعل مضارع المرادُ به المضمر ، أي : وصية أوْصَى بها و « بها » متعلق به ، والجملة في محلِّ جَرِّ صفةً ل « وصية » .
وقرأ ابنُ كثير وابنُ عامرٍ وأبُو بكرٍ « يُوصَى » مبنيّاً للمفعول في الموضعين ، ووافقهم حفص في الأخير ، والباقون مبنياً للفاعل .
وقُرِئَ شاذاً « يُوصَّى » بالتشديد مبنياً للمفعول ، ف « بها » في قراءة البناء للفاعل في مَحَلِّ نصب ، وفي قراءة البناء للمفعول في مَحَلِّ رفعٍ لقيامه مقامَ الفاعل .
قوله : « أو دين » ، « أو » هنا لأحدِ الشيئين ، قال أبو البقاء : « وَلا تَدُلُّ على ترتيب ، إذْ لا فرقَ بين قولك : » جاءني زيد أو عمرو « ، وبين قولك : » جاءني عمرو أو زيد « ؛ لأنَّ » أو « لأحد الشيئين ، والواحدُ لا ترتيب فيه ، وبهذا يفسد قولُ مَنْ قَالَ : » من بعد دين أو وصية « وإنَّمَا يَقَعُ الترتيبُ فيما إذا اجتمعا ، فَيُقَدَّمُ الدَّيْنُ على الوصيَّةِ » .
وقال الزَّمخشريُّ : « فإنْ قُلْتَ : فما معنى أو؟ قلت : معناها الإباحةُ ، وأنَّهُ إن كان أحدهما ، أو كلاهما قُدِّمَ على قِسْمَةِ الميراثِ ، كقولك : » جالس الحسنَ أو ابن سيرين « ، فإن قلت : لم قُدِّمَتِ الوصيّة على الدَّيْنِ والدَّيْنُ مُقَدَّمٌ عليها في الشَّريعةِ؟ .
قلت : لما كانت الوصيّةُ مُشْبهَةً للميراثِ في كونِها مَأخوذةً مِنْ غير عوضٍ ، كان إخراجُها مِمَّا يَشُقُّ على الورَثةِ ، بخلاف الدَّيْن ، فإن نفوسهم مطمئنَّةٌ إلى أدائه ، فلذلك قُدِّمَتْ على الدَّيْنِ بَعْثاً على وجوبها ، والمسارعة إلى إخراجها مع الدَّيْنِ ، ولذلك جيءَ بكلمةِ » أو « للتَّسْوِيَةِ بينهما في الوجوب » . وقال ابن الخَطِيبِ : إنَّ كلمة « أو » إذا دخلت على النفي صارت في معنى الواو ، كقوله : { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } [ الإنسان : 24 ] وقوله : { حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحوايآ أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ } [ الأنعام : 146 ] فكانت « أو » هاهنا بمعنى الواو ، وكذلك قوله تعالى : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } لما كان في معنى الاستثناء صار كأنه قال : إلاّ أن يكون هناك وَصِية أوْ دين فيكون المراد بعدهما جميعاً .

قوله : { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ } مبتدأ ، و { لاَ تَدْرُونَ } وما في حَيِّزه في محلِّ الرفع خبراً له .
و { أَيُّهُمْ } فيه وجهان :
أشهرهُمَا : [ عند المعربين ] أني كونَ { أَيُّهُمْ } مبتدأ وهو اسم استفهام ، و « أقربُ » خَبَرُهُ ، والجملة من هذا المبتدأ وخبره في محلِّ نصب ب « تدرون » ؛ لأنَّهَا من أفْعَالِ القُلُوبِ ، فَعَلَّقَها اسمُ الاستفهامِ عَنْ أنْ تَعْمَلَ في لفظه؛ لأنَّ الاستفهامَ لا يعْمَلُ فيه ما قبله في غير الاستثبات .
والثَّاني : أنَّهُ يجوزُ أن يكون { أَيُّهُمْ } موصولةً بمعنى { الَّذِي } و { والأقربون } خبرُ مبتدأ مضمر ، وهو عائدُ الموصولِ ، وجازَ حذفه؛ لأنه يجوز ذلك مع « أي » مطلقاً : أي : أطالت الصِّلَةُ أم لم تَطُل ، والتَّقدير : أيُّهم هو أقربُ ، وهذا الموصول وَصِلَتُهُ في محلِّ نصب على أنَّهُ مفعول به ، نَصَبَه { تَدْرُونَ } ، وإنَّمَا بُنِيَ لوجودِ شَرْطَي البناء ، وهما : أنْ تُضافَ « أي » لفظاً ، وَأنْ يُحْذَفَ صَدْرُ صِلَتِهَا ، وصارت الآيةٌ نظيرَ قوله تعالى : { ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ } [ مريم : 69 ] ، فصار التقدير : لا تدرون الذي هو أقربُ .
قال أبو حيَّان : « ولم أرهم ذكروه » ، يعني هذا الوجه ، ولا مانع منه لا من جهة المعنى ، ولا من جهة الصِّنَاعة .
فعلى القول الأوَّلِ تكونُ الجملةُ سَادَّةً مَسَدَّ المفعولين ، ولا حاجة إلى تقدير حذف .
وعلى الثَّاني يكونُ الموصولُ في محلِّ نصبٍ مَفْعُلاً أوَّلَ ، ويكون الثَّاني محذوفاً ، وبعدم الاحتياج إلى حَذْفِ المفعول الثَّاني ، يترجَّحُ الوجه الأوَّلُ .
ثم هذه الجملةُ ، أعني قوله : { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ } لا محلَّ لها من الإعراب ، لأنَّها جملة اعتراضية .
قال الزمخشريُّ ، بعد ان حَكَى في معانيها أقوالاً اختار منها الأوَّلَ : لأنَّ هذه الجملةَ اعتراضيّة ، ومن حقِّ الاعتراض أن يؤكِّد ما اعْتَرَضَ بينه وبين ما يناسِبُه .
يعني بالاعتراض : أنَّهَا واقعةٌ بين قصة المواريث ، إلاَّ أنَّ هذا الاعتراض غيرُ مرادِ النحويين ، لأنَّهُمْ لا يَعْنُون بالاعتراضِ في اصْطِلاحِهِمْ إلاَّ ما كان بين شيئين مُتَلاَزِمَيْنِ كالاعتراض بين المبتدأ وخبره ، والشرط وجزائه والقَسَمِ وجوابه ، والصِّلَةِ وموصولها .
فصل في معاني { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ }
ذكر الزَّمخشريُّ في معانيها أقوالاً :
أحدها : -وهو الذي اختاره- أن جَعْلَها متعلَِّقة بالوصيَّة ، فقال : ثم أكَّدَ ذلك -يعني الاهتمام بالوصيَّة- ورَغَّبَ فيه بقوله : { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ } أي : لا تدرون مَنْ أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يَمُوتون ، أمَنْ أوْصَى منهم أم مَنْ لم يوص ، يعني : أنَّ مَنْ أوصى ببعض ماله فعرَّضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته فهو أقرب لكم نفعاً وأحضر جدوى ممن ترك الوصية فوفَّر عليكم عَرَضَ الدُّنيا ، وجعل ثَوَابَ الآخرة أقرب وأحضر من عَرَضِ الدُّنيا ذهاباً إلى حقيقة الأمر؛ لأنَّ عَرَضَ الدُّنيا ، وإن كان قريباً عَاجِلاً في الصُّورَةِ إلاَّ أنَّهُ بَاقٍ ، وفي الحقيقة الأقربُ الأدنى .

وقيل : إنَّ الله -تعالى- لما ذكر أنصباء الأولاد ، وأنصباء الأبوين ، وكانت العقول لا تدرك معاني تلك التَّقديرات ، فربَّما خطر ببال الإنسان أنَّ القسمةَ لو وقعت على غير هذا الوَجْهِ كانتْ أنفع له وأصلح لا سيما وقد كانت قسمة المواريث عند العرب على غير هذا الوَجْه فأزال اللهُ -تعالى- هذه الشُّبْهَة بأن قال : إنَّ عقولكم لا تحيط بمصالحكم ، فَرُبَّمَا اعتقدتم في شيء أنَّهُ صالح لكم ، وهو عين المضرة ، وربَّمَا اعتقدتم في شيء أنَّهُ مَضَرَّة ، ويكون عين المصلحة ، وأمَّا الإله الرَّحيم فهو يعلمُ مغيبات الأمور وعواقبها ، وكَأنَّهُ قال : اتركوا تقديرات المواريث بالمقادير التي تستحسنها عقولكم وانقادوا للمقادير التي قَدَّرَهَا اللهُ تعالى عليكم بقوله { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } إشارة إلى ترك ما يميل الطبعُ إليه من قسمة المواريث .
قوله : { فَرِيضَةً مِّنَ الله } إشارة إلى وجوب الانقياد إلى المقادير الشَّرعيَّة .
وقال ابن عباس : « لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً » أي : أطوعهم الله -عزَّ وجلَّ -من الآباء والأبناء أرفع درجة يوم القيامة [ والله تعالى يُشَفّع المؤمنين بعضهم في بعض ، فإذا كان الوالد أرفع درجة يوم القيامة في الجنة رفع إليه ولده وإن كان الولد أرفع درجة ] رفع إليه والده لتقر بذلك أعينهم .
قوله : { نَفْعاً } نُصِبَ على التَّمييز من « أقرب » ، وهو منقول من الفاعلية ، واجب النَّصب؛ لأنَّهُ متى وقع تمييزٌ بَعْدَ « أفْعَلِ » التفضيل ، فَإن صَحَّ أنْ يُصَاغَ منها مُسْندٌ إلى ذلك التمييز على جهةِ الفاعليَّة وجل النَّصب كهذه الآية ، إذْ يَصِحُّ أن يُقَالَ : أيُّهم أقْرَبُ لكم نَفْعُهُ ، وإن لم يَصحّ ذلك وجب جَرُّه نحو : « زيد أحسن فقيه » بخلاف « زيد أحسن فقهاً » ، وهذه قاعدة مفيدة و « لكم » متعلق ب « أقرب » .
قوله : { فَرِيضَةً } فيها ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنَّها مصدرٌ مؤكد لمضمون الجملة السَّابقة من الوصية؛ لأن معنى « يوصيكم » : فَرَضَ عليكم ذلك ، فصار المعنى : « يوصيكم الله وصية فرض » ، فهو مصدر على غير الصَّدْرِ .
والثاني : أنَّها مصدر [ منصوبٌ بفعل ] محذوف من لفظها .
قال أبو البَقَاء : و { فَرِيضَةً } مصدر لفعل محذوف ، أي : فرض اللهُ ذلك فريضة .
والثالث : قاله مَكيٌّ وغيره : أنَّهَا حال؛ لأنَّها ليست مصدراً ، وكلامُ الزمخشريُّ محتمل للوجهين الأوَّلَيْن ، فإنَّهُ قال : « فريضة » نصبت نَصْبَ المصدر المؤكد ، أي : « فرض الله ذلك فرضاً » . ثم قال : « إن الله كان عليماً » أي : بأمور العباد « حكيما » بنصب الأحكام .
فإن قيل : لِمَ قال كان عليماً حكيماً مع أنَّهُ لم يزل كذلك؟ .
فالجوابُ قال الخليلُ : الخبرُ عن الله تعالى بهذه الألفاظ ، كالخبر بالحال والاستقبال؛ لأنَّهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن الدخول تحت الزمان .
قال سيبويه : القومُ لما شاهدوا علماً وحكمةً وفضلاً وإحساناً تعجبوا ، فقيل لهم : إنَّ اللهَ كذلك ، ولم يزل موصوفاً بهذه الصفات .
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)

اعلم أنَّ أقسام الوراثة ثلاثة :
قسم لا يسقط بحال وهم : الآباء والأولاد والأزواج قسمان ، والثَّالِثُ هو المسمى بالكلالة وهذا القسم متأخر عن القسمين الأوَّلين لأنه قد يعرض لهم السُّقوط بالكليَّة ، ولأنَّهم يدلون إلى الميِّتِ بواسطة ، والقسمان الأوَّلان يدلون بأنفسهم فقدَّمَ اللهُ تعالى الوارث بالنَّسب؛ لأنَّهُ أعلاها ثمَّ ثنى بذكر الوارث بالسَّبب الَّذي لا يسقط بحال ، لأنَّهُ دون الأوَّلِ وهو الزوجان ثم ذكر القسم الثَّالث بعدهما؛ لأنَّهُ دونهما ، ولما جعل نصيب الذَّكر مثل حظ الأنثيين في الوارث النّسبي كذلك جعل حظّ الرَّجُلِ مثل حظِّ الأنثيين في الوارث السببي فقال { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الربع مِمَّا تَرَكْنَ } وسواء كان الولد ذكراً أو أنثى ، ولا فرق بين الأوَّلادِ وأولاد الأولاد .
فصل : الخلاف في غسل الزوج زوجته بعد موتها
ذهب الشافعيُّ وأحمدُ إلى أنَّهُ يجوزُ لِلرَّجُلِ أن يغسل زوجته لقوله { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } فسمَّاها زوجة بعد الموت .
قال أبو حنيفة : لا يَجُوزُ؛ لأنَّهَا ليست زوجة؛ لأنَّهُ لا يحلًّ وطؤها بعد الموت .
وأجيب بأنَّها لو لم تكن زوجة لكان قوله { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } مجازاً ، وقد ثبت أنَّ التَّخْصيص اولى من المجاز عند التَّعارُضِ ، وأيضاً فقد حَرُمَ الوطء في صورٍ كَثِيرَةٍ مع وجود الزوجيَّة كزمن الحيض والنفاس نهار رمضان ، وعند الصّلوات المفروضة ، والحج المفروض .
ثمَّ قال : « فلهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم فإن كان لكم ولد فلهن الثمن » وسواء كانت واحدة أو أربعاً فهم فيه سواء ، وهذه الآية تدلُّ على فضل الرَّجل على المرأة لتفضيلهم في النَّصِيبِ ، ولأنَّه ذكر الرِّجَالَ على سبيل المخاطبة وذكر النساء على سبيل المغايبة .
قوله : « وإن كان رجل يورثه كلالة » اضْطَرَبَتْ أقوال العلماء في هذه ولا بُدَّ قبل التعرُّض للإعراب من ذكر معنى { الكلالة } واشتقاقها ، فإنَّ الإعراب متوقف على ذلك ، فتقول : اختلف الناس في معنى { الكلالة }
فقال جمهور اللغويين وغيرهم : إنَّه الميت الَّذي لا وَلَدَ لَهُ ولا والد ، وهو قول عليٍّ وابن مسعودٍ .
وقيل : الَّذي لا والد له فقط ، وهو قول عمر .
وقيل : الَّذي لا والد له فقط ، وهو قول عمر .
وقيل : الَّذي لا ولد له فقط .
وقيل : هو من لا يرثه أبٌ ولا أم ، وعلى هذه الأقوال كلِّها قالكلالةُ واقعة على الميت .
وقيل : الكَلاَلَةُ : الورثة ما عدا الأبوين والولد ، قاله قُطْرب ، وهو اختيار أبي بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وسموا بذلك؛ لأنَّ الميِّت بذهاب طرفيه تُكَلِّلُهُ الورثة ، أي : أحاطوا به من جميع نواحيه ، ويُؤَيَّدُ هذا القول بأنَّ الآية نزلت في جَابِرٍ ، ولم يَكُنْ له يَوْمَ نزلت أبٌ ولا ابن .

وأيضاً يقال : كلت الرحم بين فلان وفلان إذا تباعدت القرابة وحلم فلان على فلان ثمَّ كَلَّ عنه إذا تباعد ، فسميت القرابةُ البعيدةُ كلالة من هذا الوجه .
وأيضاً يقال : كَلَّ الرَّجُلُ يَكِلُّ كَلاًّ وكَلاَلَةً : إذا أعيا وذهبت قوَّته ، فاستعاروا هذا اللفْظ عن القرابة الحاصلة ، من غير أولاد لبعدها .
وأيضاً فإنَّهُ تعالى قال { قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ } [ النساء : 176 ] وهذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الكلالة من لا ولد له ولا والد؛ لأنَّهُ شرط عدم الولد وَورَّثَ الأخت والأخ ، وهما لا يرِثان مع وجود الأب .
وروى جابر قال : مَرِضْتُ مَرَضاً شديداً أشرفتُ منه على الموت ، فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم فقلتُ : يا رسول الله إنِّي رَجُلٌ لا يَرِثُنِي إلاَّ كَلاَلَة ، وَأرَادَ به أنَّهُ ليس له والد ولا ولد ، وهو قول سعيد بن جُبَيْرٍ وإليه ذهب أكثرُ الصَّحَابَةَ .
وروي عن عمر أيضاً أنَّهُ قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلالة فما أغلظ في شيء ما أغلظ لي فيها ، ضرب بيده صدري وقال « يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ » ، وهي الآية الأخيرة من سورة النساء سميت بذلك؛ لأنها نزلت في الصَّيْفِ ، ومات ولم يَفْهَمْهَا ولم يقل فيها شيئاً .
وقيل : { الكلالة } : المالُ الموروث ، وهو قول النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ .
وقيل : { الكلالة } القرابة ، وقيل : الوراثة .
فقد تلخص مما تقدم أنَّها [ إمَّا ] الميِّتُ الموروث أو الوارثُ ، أو المال الموروثُ ، أو الإرْث ، أو القرابة .
وأما اشتقاقها : فقيل : هي مشتقة من تَكَلَّلَهُ الشَّيء ، أي : أحاط به ، وذلك أنَّهُ إذا لم يترك ولداً ولا والداً فقط انقطع طَرَفَاهُ ، وهما عَمُودَا نَسَبِهِ وبقي مال الموروثُ لِمَنْ يَتَكَلَّلُهُ نَسَبُهُ ، أي : يحيط به كالإكْليلِ .
ومنه « الروضة المكللة » أي : بالزَّهْرِ ، وعليه قول الفرزدق : [ الطويل ]
1765- وَرِثْتُمْ قَنَاةَالمَجْدِ لاَ عَنْ كَلاَلَةٍ ... عَنِ ابْنَيْ مَنَافٍ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمٍ
وقيل : اشتقاقها من « الكلال » وهو الإعْيَاء ، فكأنه يصير الميراث إلى الوارث من بَعْدِ إعياء .
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ : و « الكلالة » في الأصل : مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوَّةِ من الإعياء .
قال الأعشى : [ الطويل ]
1766- فَآلَيْتَ لاَ أرْثِي لَهَا مِنْ كَلاَلَةٍ ... وَلاَ مِنْ وَحًى حَتَّى تُلاَقِيْ مُحَمَّداً
فاستعير للقرابة من غير جهة الولد والوالد ، ولأنَّهَا بالإضافة إلى قرابتهما كأنها كالَّةٌ ضعيفة ، وأجاز فيها أيضاً أن تكون صفة على وزن « فَعَالة » ، قال : « كالهَجَاجَةِ والفَقَاقَةِ للأحْمَقِ » .
ويقال : رجل كلالة ، وامرأةٌ كلالة ، وقوم كلالة ، لا يثنى ولا يجمع؛ لأنَّهُ مصدر كالدّلالة والوَكَالة .
إذا تقرَّرَ هذا فَلْنَعد إلى الإعراب بعَوْنِ الله ، فتقول : يجوز في « كان » وجهان :
أحدهما : ان تكون ناقصة و « رجل » اسمها ، وفي الخبر احتمالان :
أحدهما : أنه « كلالة » إن قيل : إنها الميت ، وإن قيل : إنَّها الوارث ، أو غير ذلك ، فَتُقَدَّر حذف مضاف ، أي : ذَا كلالة ، و « يورث » حينئذٍ في محلَِّ رفع صفة ل « رجل » وهو فِعْلٌ مبنيٌّ للمفعول ، ويتعدّى في الأصل لاثْنَيْنِ أقيم الأوَّلُ مقامَ الفاعلِ ، وهو ضمير الرَّجُلِ .

والثَّاني : محذوف تقديره : يورث هو مَالَهُ ، وَهَلْ هذا الفِعلُ من « ورث » الثُّلاثي أو « أورث » الرُّبَاعيُّ؟ .
فيه خلافٌ ، إلاَّ أنَّ الزَّمَخْشَرِيُّ لَمَّا جَعَلَهٌُ مِنَ الثُّلاثي جعله يتعَدَّى إلى [ المفعول ] الأوَّلِ من المفعولين ب « من » فإنَّهُ قال [ وإن كان رجل يورث من كلالة ] و « يورث » من وَرِثَ أي : يورث فيه يعني أنَّهُ في الأصْلِ يتعدَّى ب « مِنْ » . [ قال : ] وقد تُحْذَفُ ، تقولُ : « وَرِثْتُ زَيْداً مَالَهُ » أي : مِنْ زَيْد ، ولَمّا جَعَلَهُ الرَّجُلَ وارثاً لا موروثاً ، فإنَّهُ قال : « فإنْ قلتَ : فإن جَعَلْتَ تُورَثُ على البناء للمفعول من » أورث « فما وَجْهُهُ » .
قلتُ : الرَّجُلُ حينئذٍ الوارثُ لا الموروثُ « .
وقال أبُو حيَّان : إنَِّه من » أورث « الرُّباعِيِّ المبنيِّ للمفعول ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بالمعنى الذي قيده به الزَّمَخْشَرِيُّ .
الاحتمالُ الثَّاني : أن يكون الخبرُ الجملة من » يورث « .
وفي نَصْبِ { كَلاَلَةً } أربعةُ أوْجُهٍ :
أحدها : أنَّهُ حال من الضمير في » يورث « ، إنْ أُرِيدَ بها الميِّتُ ، أو الوارثُ ، إلاَّ أنَّهُ يَحْتاج في جَعْلها بمعنى الوارث إلى تقدير مضافٍ ، أي : يُورث ذا كَلاَلَةٍ؛ لأنَّ الكلالة حينئذٍ ليست نفس الضَّمير المستكن في { يُورَثُ } .
قال أبُو البَقَاءِ : على جعلها بمعنى الميت ولو قُرِئَ » كلالةٌ « بالرَّفع على أنَّهَا صفةٌ أو بدلٌ من الضَّميرِ في { يُورَثُ } لجاز ، غير أنِّي لم أعرف أحداً قَرَأ به ، فلا يُقْرأنَّ إلا بما نُقِلَ . يعني بكونها صفةً : أنَّهَا صفةٌ ل » رَجُل « .
الثَّاني : أنَّهَا مفعولٌ من أجله ، إنْ قيل : إنَّهَا بمعنى القرابة ، أي : يُوْرَثُ لأجل الكلالة .
الثَّالثُ : أنَّهُ مفعول ثَانٍ ل { يُورَثُ } إن قيل : إنَّها بمعنى المال المَوْرُوثِ .
الرَّابعُ : أنَّها نعتٌ لمصدر محذوفٍ ، إن قيل : إنَّهَا بمعنى الوِرَاثَةِ ، أي : يُورَثُ وِرَاثَةَ كَلاَلَةٍ .
وقدَّرَ مَكِّيٌّ في هذا الوجه حَذْفَ مضافٍ تقديره : » ذَات كَلاَلَةٍ « .
الوجه الثَّاني من وجهي » كان « أن تكون تَامَّةً ، فيُكْتَفى بالمرفوع ، أي : وإن وُجِدَ رجل . و { يُورَثُ } في محلِّ رفع صِفَةٍ ل » رَجُل « و { كَلاَلَةً } منصوبةٌ على ما تَقَدَّمَ من الحال ، أو المفعول من أجله أو المفعول به ، أو النَّعت لمصدرٍ محذوف عَلَى ما قُرِّرَ من معانيها ، وَيخُصُّ هذا وجه آخر ذكره مَكيٌّ ، وهو أن تَكُونَ { كَلاَلَةً } منصوبة على التمييزِ .

[ قال مَكِّيٌّ : « كان » أي : وقع ، و { يُورَثُ } نعت للرَّجُل و « رجل » رفع ب « كان » و { كَلاَلَةً } نصب على التفسير ] .
وقيا : هو نصبٌ على الحال على أنَّ الكَلاَلَةَ هو الميِّت على هذين الوجهين ، وفي جعلها تَفْسيراً -أي : تمييزاً- نظرٌ لا يَخْفى .
وقرأ الجمهور : { يُورَثُ } مبنيّاً للمفعولِ كما تَقَدَّمَ توجيهه .
وقرأ الحسن : يورث مبنيّاً للفاعل ، ونُقِلَ عنه أيضاً ، وعن أبي رَجَاءَ كذلك ، إلاّ أنَّهُما شدَّدا الراء ، وتوجيه القراءتين واضح مِمّا تقدَّم ، وذلك أنَّهُ إنْ أُريد بالكلالة الميِّتُ ، فيكون المفعولان محذوفين ، و { كَلاَلَةً } نَصْبٌ على الحال ، أي : وَإنْ كان رجلٌ يُورِثُ وَارثَهُ ، أوْ أهْلَهُ مالَه في حال كَوْنِهِ كَلالَةً .
وَإِنْ أُرِيدَ بها القرابة ، فتكون منصوبةً على المفعول مِنْ أجْله ، والمفعولان أيضاً محذوفان على ما تَقَدَّمَ تقريره ، وَإنْ أُرِيدَ بها المالُ كانت مفعولاً ثانياً ، والأوَّلُ محذوفٌ أي : يُورِثُ أهْلَهُ مَالَهُ ، وَإنْ أُريدَ بها الوارثُ فبالعكس ، أي : يُورِثُ مالَهُ أهلَه .
قوله : { أَو امرأة } عطف على { رَجُلٌ } وحُذِفَ منها ما أُثْبِتَ في المعطوف عليه للدلالة على ذلك ، التَّقديرُ : أو امرأةٌ تُورَثُ كَلاَلَةً ، وإنْ كان لا يَلْزَمُ من تقييد المعطوف عليه تقييدُ المعطوفِ ولا العكس ، إلاّ أنَّهُ هو الظَّاهِرُ .
وقوله : { وَلَهُ أَخٌ } جملة مِنْ مبتدأٍ وخبرٍ في محلِّ نصبٍ على الحال ، والواو الدَّاخلة عليها واوُ الحال ، وصاحبُ الحال إمَّا { رَجُلٌ } أي : إنْ كان { يُورَثُ } صفةً له ، وإمَّا الضَّميرُ المستتر في { يُورَثُ } وَوَحَّدَ الضمير في قوله : « وله » ؛ لأنَّ العطف ب « أو » وما ورد على خلاف ذلك أوَّلَ عند الجمهور كقوله : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا } [ النساء : 135 ] .
فإن قيل : قوله تعالى : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امرأة } ثم قال { وَلَهُ أَخٌ } فهي عن الرَّجُلِ ، وما هي عن المرأة ، فما السَّبَبُ فيه؟ .
فالجوابُ : قال النُّحَاةُ : إذا تقدَّمَ متعاطفان ب « أو » مذكر ومؤنَّث كنتَ بالخيار ، بَيْنَ أنْ تراعي المتقدم أو المتأخِّرَ ، فتقول : « زيدٌ أو هندُ قامَ » وَإنْ شئت : « قَامَتْ » .
وأجاب أبُو البَقَاءِ عن تذكيره بثلاثة أوجه :
أحدُها : أنَّهُ يعود على الرَّجُلِ وهو مذكر مبدوء به .
والثَّالِثُ : أنَّهُ يعود على الميِّت ، أو الموروثِ لِتَقَدُّمِ ما يدلُّ عليه ، والضَّمير في قوله : { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا } فيه وجهان :
أحدُهُمَا : أنَّهُ يعود على الأخ والأخت .
والثَّانِي : أنَّهُ يعودُ على الرَّجُلِ ، وعلى أخيه وأخته ، إذا أُريدُ بالرَّجُلِ في قوله : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً } أنَّهُ وارثٌ لا موروثٌ ، كما تَقَدَّمَتْ حكايته في قول الزَّمَخْشَرِيِّ .
قال الزَّمخشريُّ - بعد ما حكيناه عنه - : « فإن قلتَ : فالضَّمِيرُ في قوله : » فلكل واحد منهما « إلى مَنْ يرجعُ حينئذٍ؟ .
قلت : على الرَّجُلِ ، وعلى أخيه ، أو أخته ، وعلى الأوَّل إليهما .

فإن قُلْتَ : إذا رجع الضَّمِيرُ إليهما أفاد استواءَهُمَا في حيازةِ السُّدُسِ من غير مُفَاضَلَةِ الذَّكر للأنثى ، فهلْ تبقى هذ الفائدةُ قائمةً في هذا الوجه؟ .
قلتُ : نَعَمْ ، لأنك إذا قلتَ : السُّدس له أو لواحد مِن الأخِ أو الأخت على التخيير ، فقد سَوَّيْتَ بين الذَّكر والأنثى « . انتهى .
وأجمع المفسِّرونَ على أنَّ المراد بالأخ والأخت هاهنا الإخوة من الأمِّ؛ لأنَّ ما في آخر السُّورة يدلُّ على ذلك ، وهو كون للأخت النّصف ، وللأختين الثُّلثان وللإخوة الذُّكور والإناث للذَّكَر مثلُ حظِّ الأنثيين ، ولقراءة أبِي سَعِيدٍ . وقرأ أبيٌّ » أخ أو أخت من الأم « .
وقرأ سعد بن أبي وقاص » من أم « بغير أداة التَّعريف .
قوله : { فَإِن كانوا } الواو ضمير الإخوة من الأمِّ المدلول عليهم بقوله : { أَخٌ أَوْ أُخْتٌ } والمرادُ الذُّكورُ والإناث ، وأتى بضمير الذُّكور في قوله : { كانوا } وقوله : { خَلْفِهِمْ } تغليباً للمذكَّر على المؤنَّثِ ، و » ذلك « إشارةٌ إلى الواحد ، أي : أكثر من الواحد ، يعني : فإنْ كان مَنْ يَرِثُ زائداً على الواحد؛ لأنَّهُ لا يَصِحُّ أن يقال : » هذا أكثرُ من واحد « بهذا المعنى لتنافي معنى كثير وواحد ، وإلاّ فالواحدُ لا كثرة فيه ، وتقدَّمَ إعراب » من بعد وصية يوصى بها « .
فصل : في أثر عن أبي بكر -رضي الله عنه-
قال أبو بكر الصّديق -رضي الله عنه- في خطبته : ألا إنَّ الآيةَ التي أنزل اللّهُ -تعالى- في أوَّل سورة النِّسَاءِ في بيان الفرائضِ أنزلها في الوَلَدِ ، والوالد والأمِّ ، والآية الثَّانية في الزَّوْجِ والإخوة من الأمِّ ، والآية الَّتي ختم بها سورة الأنفالِ أنزلها في أولي الأرحام { بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله } [ الأنفال : 75 ] .
قوله : { غَيْرَ مُضَآرٍّ } » غير « نَصْبٌ على الحال من الفاعل في » يوصَى « ، وهو ضمير يعود على الرجل في قوله : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ } ، هذا إنْ أُريد بالرَّجل الموروث ، وإن أُرِيدَ به الوارثُ كما تَقَدَّمَ ، فيعود على الميِّت الموروث المدلول عليه بالوارثِ مِنْ طريقِ الالتزام ، كما دلَّ عليه في قوله : { فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } ، أي : تَرَكَهُ الموروث ، فصار التقدير : يوصَى بها الموروثُ ، وهكذا أعْرَبَهُ الناس فجعلوه حالاً : الزَّمَخْشَرِيُّ وغيره .
وَردَّهُ أبو حيَّان ، بأنَّهُ يُؤدِّي إلى الفَصْلِ بينَ هذه الحال وعامِلها بأجنبيِّ منهما ، وذلك أنَّ العَامِلَ فيها { يوصى } كما تقرَّرَ .
وقوله : { أَوْ دَيْنٍ } أجنبي؛ لأنَّهُ معطوف على { وَصِيَّةٍ } الموصوفة بالعامل في الحال .
قال : ولو كانَ على ما قالوه من الإعراب لكانَ التركيب : » من بعد وصية يوصى بها غير مضار أو دين « .
وهذا الوجه مانع في كلتا القراءتين : أعني ناء الفعلِ للفاعل ، أو المفعول ، وتزيدُ عليه قراءة البناء للمفعول وَجْهاً آخَر ، وهو أن صاحب الحال غيرُ مذكور؛ لأنَّهُ فاعِلٌ في الأصل ، حُذِفَ وأُقِيمَ المفعول مقامه ، ألا ترى أنَّكَ لو قلت : » ترسل الرياح مبشراً بها « بكسر الشين يعني » يرسل الله الرياح مبشراً بها « فحذفت الفاعل ، وأقمت المفعولَ مُقامَهُ ، وجئتَ بالحال من الفاعل لم يَجزْ ، فكذلك هذا ، ثم خَرَّجه على أحد وجهين :
إما بفعل يَدُّلُ عليه ما قبله من المعنى؛ ويكون عاماً لمعنى ما يتسلَّط على المال بالوصية أو الدِّيْن ، وتقديره : يلزمُ ذلك مالَهُ ، أو يوجبه [ فيه ] غَير مُضَارٍّ بورثته بذلك الإلزامِ أو الإيجاب .

وإمَّا بفعلٍ مَبْني للفاعل لدلالَةِ المبني للمفعول عليه ، أي : يوصي غير مُضارٍّ ، فيصيرُ نظير قوله : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ } [ النور : 36 ، 37 ] على قراءة من قرأ بفتح الباء .
فصل
اعلم أنَّ الضّرار في الوّصِيَّةِ يقعُ على وجوهٍ :
منها : أن يوصي بأكثر من الثُّلُثِ ، أو يُقِرَّ بكلِّ ماله ، أو ببعضه لآخر ، أو يُقِرَّ على نفسه بدين لا حقيقةَ له دَفْعاً للميراث عن الورثة ، أو يُقِرَّ بأنَّ الدّين الذي كان له على فلان قد استوفاه ووصل إليه ، أو يبيع شيئاً بثمن رخيص ، أو يشتري شيئاً بثمن غالٍ ، كلُّ ذلك لغرض ألاّ يصلَ المالُ إلى الورثة ، أو يوصي بالثُّلُث لا لوجه اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « الإضْرَارُ في الوَصِيَّةِ مِنَ الكَبَائِرِ » ، وعن شَهْر بنِ حَوْشَب عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال : قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً فَإذَا لأوْصى وَجَارَ فِي وَصِيّتِه خَتَمَ اللَّهُ لَهُ بِشرِّ عَمَلِهِ؛ فَيدخُل النَّارَ ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعِملِ أهْلِ النَّارِ سَبْعِينَ سَنَةً فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ فَيَخْتِمُ اللَّهُ لَهُ بِخَيْرِ عَمَلِهِ فَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ » ، وقال عليه الصلاة والسلام : « مَنْ قَطَعَ مِيراثاً فَرَضَهُ اللَّهُ -تعالى- قَطَعَ اللَّهُ -تعالى- مِيراثَهُ مِنَ الْجَنَّةِ » ، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى بعد هذه الآية :
{ تِلْكَ حُدُودُ الله } [ النساء : 13 ] قال ابنُ عبَّاسٍ : في الوصيَّةِ { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ } [ النساء : 14 ] قال : في الوصِيَّةِ .
فصل هل يجب إخراج الزكاة والحج من التركة؟
قال الشَّافِعِيُّ : إذَا أخَّرَ الزَّكاةَ والحج حتَّى مات يجب إخراجهما من التَّركة .
وقال أبو حَنِيفَةَ : « لا تجب » .
حجَّةُ الوجوب أنَّهَا دينٌ ، وقال تعالى : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } .
وقال عليه الصَّلاة والسَّلامُ : « أرَأيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أبِيكَ دَيْنٌ » وقال عليه السلام : « دينُ اللَّهِ أحَقُّ أنْ يُقْضَى » .
قوله : { وَصِيَّةٍ } في نصبها أربعة أوجه :
أحدها : أنَّهُ مصدرٌ مؤكَّد ، أي : يوصيكم اللَّهُ [ بذلك ] وَصِيَّة .
الثَّاني : أنها مصدر في موضع الحال ، والعامل فيها { يُوصِيكُمُ الله } قاله ابنُ عَطِيَّةَ .
والثَّالِثُ : أنها منصوبةٌ على الخروج إمَّا مِنْ قوله : { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السدس } ، أو من قوله : { لِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثلث } ، وهذه عبارةٌ تشبه عبارة الكوفيين .
والرَّابعُ : أنَّها منصوبةٌ باسم الفاعل وهو { مُضَآرٍّ } والمُضَارَّة لا تقع بالوصيَّةِ بل بالورثة ، لكنَّه لَمَّا وّصَّى اللَّهُ -تعالى- بالورَثَة جَعَلَ المُضَارَّة الواقعة بهم كأنها واقعة بنفس الوصيّة مُبَالَغةً في ذلك ، وَيُؤيَّدُ هذا التخريج قراءة الحسن : { غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ الله والله } بإضافة اسم الفاعل إليها على ما ذكرناه من المجاز ، وَصَارَ نظير قولهم : « يا سارِقَ الليلةَ » ، التقدير : غير مضار في وصية من الله ، فاتُّسعَ في هذا إلى أنَّ عُدَّيَ بنفسه من غير واسطةٍ ، لما ذكرنا من قَصْد المبالغة ، وهذا أحْسَنُ تخريجاً من تخريج أبي البَقَاءِ فإنَّهُ ذكر في تخريج قراءة الحَسَنِ وجهين :
أحدهما : أنَّهُ على حذف « أهل » أو « ذي » أي : غير مضارِّ أهل وصيَّةٍ ، أو ذي وَصِيَّة .

والثَّاني : على حذف وقت ، أي : وقت وصيَّة ، قال وهو مِنْ إضافَةِ الصِّفة إلى الزَّمانِ ، ويقرب من ذلك قولهم : هو فارسُ حربٍ ، أي : فارس في الحرب ، وتقولُ : هو فارسُ زمانه ، أي : فارس في زمانه ، كذلك تقدير القراءة : غير مضارٍّ في وقت الوصيَّة .
ومفعول { مُضَآرٍّ } محذوفٌ إذا لم تُجعَلْ { وَصِيَّةً } مفعولةً ، أي : غير مضارٍّ وَرَثتِهِ بوصيَّةِ .
فَإنْ قيل : ما الحكمةُ في أنَّهُ ختم الآية الأولى بقوله : « فريضة من الله والله عليم حليم » وختم هذه الآية بقوله : « وصية من الله » ؟ فالجوابُ : أنَّ لفظ الفرض أقوى وأؤكد من لفظ الوَصِيَّةِ ، فختم شرح ميراث الأولاد بذكر الفريضة ، وختم شرح ميراث الكلالة بالوصيَّةِ ليدُلَّ بذلك على أنَّ الكلَّ ، وإن كان واجب الرِّعاية ، إلاَّ أن رعاية حال الأولاد أولى وأقوى ، ثم قال : « والله عليم حليم » عليم بمن جار أو عدل في وصيته « حليم » على الجائر لا يعالجه بالعقوبة وهذا وعيدٌ .
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)

لما بَيَّنَ سهام المواريث ذكر الوعد والوعيد ، ترغيبا في الطَّاعة وترهيباً عن المعصية .
وقوله تعالى : { تِلْكَ } إشارة إلى ما ذكر من المواريث؛ لأنَّ الضَّمير يعود إلى أقرب مذكورٍ .
وقيل : إشارة إلى كلِّ ما ذكر من أوَّلِ السُّورة إلى هنا من أحكام أموال اليتامى ، والأنكحة ، وأحكام المواريث ، قاله الأصمُّ؛ لأنَّ الأقرب إذا لم يمنع من عوده إلى الأبعد وجب عوده إلى الكُلِّ؛ ولأنَّ المراد بحدود اللّهِ : الأحكام التي ذكرناها وبيَّنها ، ومنه حدود الدّار؛ لأنَّها تميزها من غيرها .
قوله : { وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ } وقوله : { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ } .
قيل : مختصٌّ بمن أطاع أو عصى في هذه التَّكاليف المذكورة في هذه السُّورة .
وقال المحقِّقُون : بل هو عام؛ لأنَّ اللَّفظَ عامٌّ فيتناول الكُلَّ .
قوله : { يُدْخِلْهُ } حَمَلَ على لفظ « مَنْ » ، فَأفْرَدَ الضَّميرَ في قوله : { وَمَن يُطِعِ الله } و { يُدْخِلْهُ } وعلى معناها ، فجمع في قوله : { خَالِدِينَ } وهذا أحسنُ الحَمْلَيْنِ ، أعني : الحمل على الَّلفظ ، ثم على المعنى ، ويجوز العكس ، وإن كان ابن عطيَّة قد منعه وليس بشيء لثبوته عن العرب ، وَقَد تَقَدَّمَ ذلك مِرَاراً ، وفيه تفصيلٌ ، وه شروط مذكورة في كتب النحوِ .
قوله : { خَالِدِينَ } في نصبه وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ حال من الضمير المنصوب في { يُدْخِلْهُ } وَلاَ يَضُرُّ تَغَايُرُ الحال وصاحبها من حيث كانت جمعاً وصاحِبُها مفرداً ، لما تقدَّم من اعتبار الَّلفْظِ والمَعْنَى وهي مقدّرة؛ لأنَّ الخلود بعد الدُّخول .
والثَّاني : أن يكون نَعْتاً ل { جَنَّاتٍ } من باب ما جَرَى على موصوفه لَفْظاً ، وهو لغيره معنىً ، نحو : مررت برجُلٍ قائمةٍ أمُّه ، وبامرأة حَسَنٍ غُلامُها ، ف « قائمة » وحسن وإن كانا جَارِيينِ على ما قبلهما لَفْظاً فهما لِما بَعْدَهما معنىً ، وأجازَ ذلك في الآية الكريمة الزَّجَّاجُ وتبعه التبرِيزيُّ ، إلاَّ أنَّ الصِّفة إذا جَرَتْ على غير مَنْ هي له وجب إبرازُ الضَّمير مطلقاً على مذهب البصريين ألْبسَ أو لم يُلْبَسْ .
وَأمَّا الكوفيين فيفصِّلون ، فيقولون : إذا جرت الصِّفة على غير مَنْ هي له ، فإنْ ألْبسَ وَجَبَ إبرازُ الضمير ، كما هو مذهبُ البصريين؛ نحو : « زيدٌ عمرو ضاربُه هو » ، إذا كان الضربُ واقعاً من زيد على عمرو ، فإن لم يُلْبسْ لم يَجِبِ الإبرازُ ، نحو : « زيدٌ هندُ ضاربُها » ، إذا تَقَرَّرَ هذا فَمذهَبُ الزَّجَّاجِ في الآية إنَّمَا يتمشَّى على رأي الكوفيين ، وهو مذهب حَسَنٌ .
واستدلَّ مَنْ نَصَرَ مذهب الكوفيين بالسَّمَاعِ ، فمنه قراءة مَنْ قرأ { إلى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } [ الأحزاب : 53 ] بجر « غير » مع عدم بروز الضمير ، ولو أبْرَزَهُ لقال : غير ناظرين إناه أنتم .
ومنه قول الآخر : [ البسيط ]
1767- قَوْمِي ذُرَا المَجْدِ بَانُوهَا وَقَدْ عَلِمَتْ ... بِكُنْهِ ذَلِكَ عَدْنَانٌ وقَحْطَانُ
ولم يقل : بَانُوهَا هُمْ .

وقد خَرَّج بعضهمُ البيت على حذف مبتدأ ، تقديره : هم بتنوها ف « قومي » مبتدأ أوَّلٌ ، و « ذُرا » مبتدأ ثان ، و « هُمْ مبتدأ ثالث ، و » بانوها « خبر الثَّالث والثَّالِثُ وخبره خبر الثَّاني والثاني وخبره خبر الأوَّل .
وقد منع الزمخشريُّ كون » خَالِدينَ « و » خَالِداً « صفةٌ ل » جَنَّاتِ « و » ناراً « ؟ قلت : لا لأنَّهما جَرَيَا على غير مَنْ هُمَا له ، فلا بُدَّ مِنَ الضَّميرِ في قولك : » خالدين هم فيها « ، و » خالداً هو فيها « .
ومنع أبُو البَقَاءِ ذلك أيضاً بعدم إبراز الضمير لكن مع » خالداً « ولم يتعرض لذلك مع » خالدين « ولا فرق بَيْنَهُما ، ثم حكى جواز ذلك عن الكوفيين ، وهذا المنع على مذهب البصريين كما تقدَّمَ .
وقرأ نافعٌ وابنُ عَامِرٍ هنا » نُدْخِلْهُ « في الموضعين ، وفي سورة الفتح [ الآية 17 ] وفي سورة التغابن [ الآية 9 ] والطلاق [ الآية 11 ] بنون العظمة ، والباقون بالياء ، والضميرُ للَّه تعالى .
فإن قيل : كيف جمع { خَالِدِينَ } في الطائعين ، وأفرد خالداً في العاصين؟ .
فالجواب : قالوا : لأنَّ أهلَ الطَّاعة أهلُ الشَّفاعة ، فلمَّا كانوا يَدْخُلون هو والمشفوُعُ لهم ناشب ذلك الجمع ، والعاصي لا يَدْخُلُ به غيرهُ النارَ ، فناسَبَ ذلك الإفرادُ .
قوله : { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } هذه الجملةُ في محل نصبِ صفةٍ ل » جنات « ، وقد تقدم مراراً أن المنصوب بعد » دخل « من الظروف هل نَصْبُهُ نصبُ الظُّروف ، أو نَصْبُ المفعول به؟
الأوَّل : قول الجمهور .
والثاني : قول الأخفش ، فكذلك { جَنَّاتٍ } ، و { نَاراً } .
فصل
قالت المعتزلةُ : هذه الآية دلَّت على أنَّ العصاة من أهل الصَّلاة يخلدون في النّار؛ لأنَّ قوله { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ } إمَّا أن يختص بمن تعدَّى الحدود المتقدمة ، وهي حدود المواريث أو يدخل فيها ذلك وغيره ، وعلى هذا يلزمُ دخول من تَعَدَّى في المواريث في هذا الوعيد ، وذلك عام فيمن تَعدَّى ، وهو مِنْ أهل الصَّلاة ، أو ليس من أهل الصًّلاة فدلّت هذه الآية على القطع بالوعيد وعلى الخلود ، ولا يقال على هذا الوعيد مختص بمن تَعَدَّى حدودَ اللَّهِ ، وذلك لا يتحقَّق إلاَّ في حقِّ الكافر ، فإنَّهُ هو الَّذي تعدّى جميعَ حدودَ اللَّه ، فَإنَّا نقولُ : هذا مدفوع من وجهين :
الأوَّلُ : أنَّا لو حملنا هذه الآية على تعدي جميع حدود اللَّه خرجت الآية عن الفائدة ، لأنَّ اللَّه تعالى نهى عن اليهوديَّةِ والنَّصرانية ، والمجوسيَّة ، فتعدي جميع هذه النَّواهي وتركها إنما يكون بأن يأتي اليهودية والنصرانية والمجوسية معاً ، وذلك محال ، فثبت أن تعدي جميع حدود اللَّه محالٌ ، وإذا كان كذلك علمنا أنَّ المراد منه أي حدٍّ كان من حدود اللَّه .
الثَّاني : أنَّ هذه الآية مذكورة عقيب قسمة المواريث فيكونُ المراد فيها التّعدي في الحدود المذكورة في قسمة الموارث .

وأجيب بأنَّا أجمعنا على أنَّ هذا الوعيد مختصٌّ بعدم التَّوْبَةِ؛ لأنَّ الدَّليل دَلَّ على أنَّهُ إذا تابَ لم يبق هذا الوعيد فكذلك يجوز أن يكون مشروطاً بعدم العَفْوِ ، فإنَّ بتقدير قيام الدلالة على حصول العفو يمتنع بقاء هذا الوعيد عند حصول العفوِ ، ونَحْنُ قَدْ ذَكَرْنَا الدلائل الدّالة على حصول العفو ، ثمَّ نقول : هذا العموم مخصوصٌ بالكافر لوجهين :
الأوَّلُ : أنا إذا قلنا لكم : ما الدَّليلُ على أنَّ كلمة « من » في معرض الشَّرط تفيد العموم؟ قلتم : لأنَّهُ يصحُّ الاستثناء ، [ منه ، والاستثناء ] يخرج من الكلام ما لولاه لدخل فيه ، فنقول : إنْ صح هذا الدَّليل فهو يَدُلُّ على أنَّ قوله { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ } يختص بالكافرِ؛ لأن جميع المعاصي يَصِحُّ استثناؤها من هذا اللفْظِ ، فَيُقَالُ : ومن يعص الله ورسوله إلاَّ فِي الكُفْرِ ، وإلاَّ في الفسق ، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل ، فهذا يقتضي أن قوله : { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ } في جميع أنواع المعاصي والقبائح ، وذلك لا يتحقَّق إلاَّ فِي حَقِّ الكافِرِ ، وقوله : الإتيان بجميع المعاصي محال قال : ةذلك لأنَّ الإتيان باليهوديَّة والنصرانيَّة والمجوسية معاً محال ، فنقول : ظاهر اللَّفظ يقتضي العموم إلاَّ إذَا قَامَ مُخَصَّصٌ عقليّ أو شرعيّ ، وعلى هذا التقدير يسقط سؤالهم .
والوجه الثاني : في بيان تخصيص العموم بالكافر ، أنَّ قوله : { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ } يفيد كونه فاعلاً للمعصية والذّنب ، فقوله : « ويتعد حدوده » لو كان المرادُ منه عينُ ذلك للزم التّكرار ، وهو خلافُ الأصْلِ فوجب حمله على الكفر ، وقولهم : تحمل هذه الآية على تعدّي الحدود المذكورة في المواريث .
قلنا : هَبْ أنَّ الأمرَ كذلك إلاَّ أنَّهُ يسقط ما ذكرناه من السُّؤال بهذا الكلام؛ لأنَّ التَّعدي في حدود المواريث تارة [ يكون ] بأن يعتقد أنَّ تلك التَّكاليف ، والأحكام حقٌّ وواجبة القبول ، إلاَّ أنَّهُ يتركها ، وتارة [ يكون ] بأن يعتقد أنَّهَا واقعة لا على وجه الحكمة والصَّواب ، فيكون هذا هو الغاية من تعدي الحدود وأمَّا الأوَّلُ فلا يكاد يطلقُ في حَقِّهِ أنه تعدى حدود اللهِ ، وَإلاَّ لزم وقوع التَّكرار ، فعلمنا أنَّ هذا الوعيد مختصّ بالكافر الذي لا يرضى بما قسمه اللهُ من المواريث .
فصل
قال ابن عبَّاسٍ : الإضرار في الوصيَّة من الكبائر؛ لأنَّهُ عَقَّبَ هذه الآية بالوعيد .
وفي الحديث « إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلَ بعَمَلِ أهْلِ الْجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً فَيَحِيفُ فِي وَصِيَّتِهِ فيختم له [ اللهُ ] بشر عمله فيدخل النار ، وإنَّ الرَّجل ليعمل بعمل أهل النَّار سبعين سنةً فيعدلُ في وصيَّتِه فيختم له بخير فيدخل الجنة » .
وفي الحديث : « مَنْ قَطَعَ مِيراثاً فرضه اللهُ ميراثه من الجنة » والزيادة في الوصيَّة تدل على الحسرة وذلك من أكبر الكبائر .
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)

لما أمر تعالى في الآية المتقدّمة بالإحسان إلى النساء أمَرَ هنا بالتَّغليظ عليهن فيما يأتينه من الفاحشةِ فإن ذلك إحسان إليهن في الحقيقة .
وأيضاً وكما يستوفى لخلقه فكذلك يستوفي عليهم وليس في إحكامه محاباة .
وأيضاً فلا يجعل أمر الله بالإحسان إليهنَّ سبباً لترك إقامة الحدود عليهن فيصيرُ ذلك سبباً لوقوعهن في أنواع المفاسد .
قوله : { واللاتي } جمع « التي » في المعنى لا في اللَّفْظِ ، لأنَّ هذه صيغٌ [ موضوعة للتّثنية والجمع ، وليس بتثنية ولا جمع حقيقةً .
وقال أبُو البَقَاءِ : « اللاتي » جمع « التي » على غير قياس .
وقيل : هي صيغة ] موضوعة للجمع ، ومثل هذا لا ينبغي أن يَعُدَّه خلافاً ، ولها جموعٌ كثيرة : ثلاثة عشرَ لفظة ، وهي : اللاتي واللوَاتِي ، واللائِي ، وبلا ياءات فهذه ستٌّ ، واللاي بالياء من غير همز ، واللاء من غير ياء ولا همز ، واللَّواء ، بالمدِّ ، واللَّوا بالقَصْر و « الأُلى » كقوله : [ الطويل ]
1768- فَأمَّا الُلَى يَسْكُنَّ غَوْرَ تِهَامَةٍ ... فَكُلُّ فَتَاةٍ تَتْرُكُ الْحِجْلَ أفْصَمَا
إلاَّ أنَّ الكثير أن تكون جمع « الَّذي » و « اللاَّاتِ » مكسوراً مُطْلَقاً أوْ مُعْرباً إعرابَ جمع المؤنَّث السَّالم كقوله : [ الطويل ]
1769- أولَئِكَ إخْوَانِ ] الَّذِينَ عَرَفْتُهُمْ ... وأخدّانُكَ اللاَّءَاتُ زُيِّنَ بِالكَتَمْ
برفع اللاَّءات .
قال ابن الأنباريِّ : العرب تقولُ في الجمع من غير الحيوان ، الّتي ، ومن الحيوان : اللاتي ، كقوله : { أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً } [ النساء : 5 ] .
وقال في هذه الآية : اللاتي ، واللائي ، والفرق هو أن الجمع من غير الحيوان سبيله سبيل الشيء الواحد وأمَّا جمع الحيوان ليس كذلك بل كلُّ واحدةٍ منهما غير متميزة عن غيرها بخواص وصفات فافترقا ، ومن العَرَبِ من يسوِّي بين البابين ، فيقولُ : كما فعلت الهندات التي من أرمها كذا ، وما فعلت الأثواب التي من قصتهن كذا ، والأوَّلُ هو المختار وفي محلِّ « اللاتي » قولان :
أحدهما : الجملة من قوله : { فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ } وجاز دخول الفاء زائدة في الخبر ، وإن لم يَجُزْ زيادتها في نحو : « زيدٌ فاضرِبْ » على رأي الجمهور؛ لأن المبتدأ أشبه الشرك في كونه موصولاً عامّاً صلته فِعْلُ مستقبل ، والخبرُ مستحقٌّ بالصّلة .
الوجه الثاني : أنَّ الخبر محذوف ، والتقدير : « فيما يتلى عليكم حكم اللاتي » فحذف الخبر والمضاف إلى المبتدأ للدلالة عليهما ، وأقيمَ المضافُ إلى مُقامَه ، وهذا نظيرُ ما فَعَلَهُ سيبويه في نحو : { الزانية والزاني فاجلدوا } [ النور : 2 ] { والسارق والسارقة فاقطعوا } [ المائدة : 38 ] ، أي فيما يُتلى عليكم حُكْمُ الزانية ، ويكون قوله : « فاستشهدوا عليهن » « فاجلدوا » دالاًّ على ذلك الحكم المحذوف لأنه بيان له .
والقولُ الثاني : أنَّه منصوبٌ بفعل مقدر لدلالة السِّياق عليه لا على جهة الاشتغال لما نذكره ، والتقدير : اقصدوا اللاتي يأتين ، أو تعمَّدوا ولا يجوز أن ينتصب بفعل مضمر يفسره قوله : « فاستشهدوا » فتكون المسألةُ من باب الاشتغال؛ لأنَّ هذا الموصولَ أشبَهَ اسْمَ الشّرطِ ، كما تقدَّم تقديره ، واسم الشرط ولا يجوز أن ينتصب على الاشتغال ، لأنَّهُ لا يعنمل فيه ما قبله فلو نصبناه بفعل فقد لزم أن يعمل فه ما قبله هذا ماق اله بعضهمْ ، ويقرُب منه ماق اله أبُو البَقَاءِ فإنَّهُ قال : وإذا كان كذلك ، أي : كونه في حُكْمِ الشَّرْطِ لم يحسن النَّصب ، لأنَّ تقدير الفعل قبل أداء الشرط لا يجوز وتقديره بعد الصِّلةَ يحتاج إلى إضمار فعل غير قوله « فاستشهدوا » ؛ لأن « استشهدوا » لا يَصِحُّ أن يعمل النصب في « اللاتي » ، وفي عبارته مناقشةٌ يطولُ ذكرُهَا .

والثَّاني : أنَّهُ منصوب على الاشتغال ، ومَنَعَهُمْ ذلك بأنَّه يَلْزَمُ أن يعمل فيه ما قبله جوابه أنَّا نُقَدِّرُ الفعلَ لا قَبْلَهُ ، وهذا خلافٌ مشهور في أسماءِ الشَّرْطِ والاستفهام ، هل يَجْرِي فيها الاشتغال أم لا؟ .
فمنعه قَوْمٌ لِمَا تقدم وأجازه آخرون مقدَِّرين الفعل بعد الشَّرْطِ والاستفهامِ . وكونُهُ منصوباً على الاشتغال هو ظاهر كلام مكِّيٍّ ، فإنَّهُ ذكر ذلك في قوله : { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا } [ النساء : 16 ] فالآيتانُ من وادٍ واحد ولا بُدَّ من إيراد نَصِّه لِيتَّضِحَ لك قوله؛ قال -رحمه الله- : { واللذان يَأْتِيَانِهَا } [ النساء : 16 ] الاختيار عند سيبويه في « اللذان » الرفع ، وإن كان معنى الكلام الأمْرَ؛ لأنَّه لمَّا وَصَلَ بالفعلِ تمكَّنَ معنى الشَّرط فيه ، إذْ لا يقع على شيء بعينه ، فلمَّا تمكَّنَ معنى الشَّرط والإبهام جرى مَجْرَى الشَّرطِ في كونه لم يَعْمل فيه مَا قَبْلَهُ ، كما لا يعمل في الشَّرط ما قبله من مُضْمَر أو مظهر ، ثم قال : « والنَّصْبُ جائِزٌ على إضمار فعلٍ مدلولٍ عليه كما تَقَدَّمَ نقله عن بعضهم ، لأنه لم يكُنْ لتعليله بقوله : » لأنه إنما أشبه الشرط إلى آخره « فائدة ، إذ النصبُ كذلك لا يحتاج إلى هذا الاعتذار .
فصل
قال القرطبيُّ : الفاحشة في هذا الموضع الزنا ، فالمرادُ بالفاحشة : الفعلة القبيحة وهي مصدر كالعَاقِبَةِ والعَافِيَةِ ، وقرأ ابن مسعود » بالفاحشة « بباء الجرِّ وقوله : » من نسائكم « في محلِّ النصب على الحال من الفاعل في » يأتين « ، فهو يتعلق بمحذوفٍ أي : ياتين كائناتٍ من نسائكم .
وأما قوله : » منكم « ففيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق بقوله : » فاستشهدوا « .
والثاني : أن يَتَعَلَّق بمحذوفٍ على أنَّهُ صفة ل » أربعة « فيكون في محل نصبٍ تقديره : فاستشهدوا عليهنَّ أربعةً كائنة منكم .
فصل
معنى يأتين الفاحشة أي يفعلنها يقال : أتيت أمراً قبيحاً ، أي : فعلته قال تعالى : { لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } [ مريم : 27 ] وقوله تعالى : { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً } [ مريم : 89 ] وقال ابن مسعود » بالفاحشة « هي الفعلة القبيحة .
قال أهل اللُّغَةِ هي مصدر كالعاقبة والعافية ، ويُقَالُ : فحش الرَّجُلُ بمعنى تفحش فحشاً وفاحشة وأفحش إذا جَاءَ بالقبيح من القول والفعل ، وأجمعوا على أنَّ المراد بالفاحشة هنا الزّنا ، وإنَّما تطلق الفاحشةُ على الزِّنت لزيادتها في القُبْحِ على كثير من القَبَائِحِ .

فإن قيل : الكفرُ أقْبَحُ منه ، وقتل النفس أقبح منه ، ولا يسمَّى ذلك فاحشة؟
فالجوابُ من وجهين :
الأوَّلُ : أنَّ الكفرَ لا يستحقه الكافر من نفسه ولا يعتقده قبحاً ، بل يعتقده صواباً ، وكذلك المقبل على الشجاعة يُقْدِمُ عليها من يراها حسنةً وأمَّا الزِّنَا ففاعله يعلمُ قُبْحَهُ [ ويُقْدِمُ عَلَيْهِ ] وَيُوَافِق على فحشه .
الثاني : قال ابن الخطيب إنَّ القُوَى المدَبرة لقوى الإنسان ثلاثة القُوَى النّاطقة ، والقوَّةُ الغضبية ، والقوّة الشَّهوانيةُ وفساد القوَّة النَّاطقة هو الكفر والبدعة وما يشبههما ، وفساد القوَّة الغضبية هو القتل وما يشبهه وأخس هذه القوى الثلاثة القوة الشَّهوانية فلا جَرَمَ كَانَ فَسَادُهَا أخس أنواع الفساد ، فلهذا السبب خُصَّ هذا العمل بالفاحشةِ .
فصل في شهود الزنا
قوله : { فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ } أي : من المسلمين فجعل الله الشهادةَ على الزنا خاصة بأربعة تغليظاً على المدَّعي وستراً على العباد .
وقال القرطبيُّ : وتعديل الشهود بأربعة في الزّنا حكم ثابت في التّوراة والإنجيل والقرآن؛ قال الله تعالى : { والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فاجلدوهم } [ النور : 4 ] وقال هنا : { فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ } وروى أبو داود عن جابر بن عبد الله : جاءت اليهودُ برجُلٍ وامرأةٍ زنيا ، فقال عليه السَّلام : « ائْتُونِي بأعْلَمَ رَجُلَيْنِ مِنْكُم » ، فَأتَوْهُ يابْنَي صُورِيَا فَنَشَدهُمَا : كَيْفَ تَجِدَانِ أمْرَ هَذَيْنِ في التَّوْرَاةِ؟ قَالا « نَجِدُ في التَّوراةِ إذَا شَهِدَ أرْبَعةٌ أنَّهمُ رأوا ذكَرَهُ في فَرْجِهَا مَثْلَ الْميلِ فِي المُكْحلةِ رُجِمَا قَال : فما يَمْنَعُكُمَا أن تَرْجُمُوهُمَا؟ قَالاَ : ذَهَبَ سُلْطَانُنَا فَكَرِهْنَا الْقَتْلَ؛ فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الشُّهُودَ فَشَهشدوُا أنَّهُم رَأوا أنَّهُم رَأوا ذَكَرَهُ فقِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْميلِ فِي المُكْحلةِ فَأمَرَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم بِرَجْمِهِمَا » .
وقال قومٌ : إنَما كان الشهود فالزِنا أربعة ليترتب شاهدان على كل واحد من الزانيين كسائر الحقوق؛ إذْ هو حقٌّ يؤخذ من كلِّ واحد منهما ، وهذا ضعيف؛ فإنَّ اليمين تدخل من الأموال والَّلوْثُ في القسامة ولا يدخلُ لواحد منهما هنا .
فصل
قال جمهورُ المفسرين : المراد من هذه الآية أن المرأةَ إذا أتَت الزِّنَا فإن شَهِدَ عَلَيْهَا أربعةُ رجال أحرار عدول أنَّها زنت؟ أمْسِكَتْ في بيت محبوسة ، إلى أن تموت أو يجعل اللهُ لها سبيلاً ، وقال أبُو مُسْلِمٍ : المرادُ من هذه الفاحشة السَّحاقات وَحَدُّهن الحبس إلى الموتِ ، والمرادُ من قوله : { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ } [ النساء : 16 ] أهل اللواطُ وَحَدُّها الأذى بالقول والفعل ، والمراد بالآية المذكورة في سورة النُّورِ : الزنا بين الرَّجل والمرأة وَحَده في البكر الجلد ، وفي المحصن الرَّجم ، ويَدُلُّ على ذلك وجوه :
أحدها : أن قوله : { واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ } مخصوص بالنّسوان وقوله :

{ واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ } [ النساء : 16 ] مَخْصُوصٌ بالرِّجال؛ لأنَّ قوله « اللذان » تثنية المذكر .
فإنْ قيل : لم لا يجوزُ أن يكونَ المراد من قوله : { واللذان } الذّكر والأنثى إلاَّ أنَّه غلب لفظ الذَّكر .
فالجوابُ : لو كان كذلك لما أفرد ذكر النِّساء من قبل فلما أفرد ذكرهن ثم ذكر بعده قوله : { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ } [ النساء : 16 ] سقط هذا الاحتمال .
وثانيها : أنَّ على هذا التقدير لا يحتاج إلى التزام النسخ في شيء من الآيات بل يكون حكم كلِّ واحد مهما باقياً مقرراً وعلى ما ذكر ثم يلزمُ النسخ في هاتين الآيتين والنَّسخ خلافُ الأصل .
ثالثها : أنَّ على التقدير الَّذي ذكرتم يكون قوله : { واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة } في الزنا ، وقوله : { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ } [ النساء : 16 ] في الزِّنَا أيضتً فيفضي إلى تكرار الشيء الواحد في الموضع الواجد مرتين ، وإنَّهُ قبيح ، وعلى قولنا لا يفضي إلى ذلك فكان أولى .
رابعها : أنَّ القائلين بأنَّ هذه الآية نزلت في الزِّنَ فسروا قوله : { أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً } بالجلد والتغريب والرّجم ، وهذا لا يصحُّ؛ لأنَّ هذه الأشياء تكون عليهنّ لا لهُنَّ ، قال تعالى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت } [ البقرة : 286 ] وأمَّا نحن فنفسِّرُ ذلك بتسهيل الله لها قضاء الشَّهوة بطريق النِّكاح .
قال أبُو مٌسْلِمٍ : يَدُلُّ على صِحَّةِ ما ذكرنا قوله صلى الله عليه وسلم : « إذَا أتَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَهُمَا زَانِيَانِ ، وَإذَا أتَت الْمَرْأةُ الْمَرْأةَ فَهُمَا زَانِيَتَان » . واحتجُّوا على إبطال كلام أبي مسلم بوجوه :
الأوَّلُ : أنَّ هذا قول لم يقله أحدٌ من المفسّرين المتقدّمين .
الثَّاني : أنَّه روي في الحديث أنَّهُ عليه السَّلام قال : « قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً الثَّيِّبُ تُرْجَمُ وَالْبِكْرُ تُجْلَدُ » وهذا يدلُّ على أنَّ هذه الآية نازلة في حقِّ الزُّنَاةِ .
الثَّالث : أنّ الصحابة اختلفوا في حكم اللِّواط ، ولم يتمسّك أحد منهم بهذه الآية ، فعدم تمسكهم بها مع شدَّةِ احتياجهم إلى نَصٍّ يدلُّ على هذا الحكم من أقوى الدَّلائل على أنَّ هذه الآية ليست في اللواطة .
وأجاب أبو مسلم عن الأوَّل بأنَّ هذا الإجماع ممنوع ، فلقد قاتل بهذا القول مجاهدق ، وهو من أكابر المفسرين ، وقد ثبت في أصول الفقه أنَّ استنباط تأويل جديد في الآية لم يذكره المتقدمون جائز .
والجوابُ عن الثَّاني أنَّ هذا يفضي إلى نسخ القرآن بخبر الوَاحِدِ ، وإنَّهُ غير جائز .
وعن الثَّالِثِ أن مطلوب الصَّحابة أنَّهُ هل يُقام الحدُّ على اللوطي وليس في هذه الآية دلالة على نفي ولا إثبات فلهذا لم يرجعوا إليها .
فصل
المرادُ من قوله : { مِن نِّسَآئِكُمْ } أي : زوجاتكم لقوله : { والذين يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ } [ المجادلة : 3 ] وقوله : { فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } [ النساء : 23 ] [ من نسائكم ] وقيل : أي : من الثيب . وقوله : « فأمسكوهن » أي احبسوهنّ في بيوتكم ، والحكمة فيه أنَّ المرأة إنَّمَا تقع في الزِّنَا عند الخروج والبروز ، فإذا حُبِسَتْ في البيت لم تقدر على الزِّنَا ، وتعتاد العفاف عن الزّنا .

قل عبادة بن الصّامت والحسن ومجاهد : كان هذا في ابتداء الإسلام حتى نسخ بالإذى الّذي بعده ، ثمَّ نسخ ذلك بالرّجم في الثيّب .
وقيل : بل كان للإيذاء أولاً ثمَّ نسخ بالإمساك ، ولَكِنَّ التلاوة أخرت .
وقال ابن فورك : هذا الإمساك والحبس في البيوت كأنَّ في صدر الإسلام قبل ان يكثر الجناة . فلما كثروا وخشي قوتهم اتخذوا لهم سجناً ، قال ابن العربي فإن قيل : التوفي والموت بمعنى واحد ، فيصير التَّقدير : أو يميتهن الموت .
فالجوابُ ، يجوز أن يريد يتوفاهن ملائكة الموت بقوله : { الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة ظَالِمِي } [ النحل : 28 ] أو حتّى يأخذن الموت .
فإن قيل : إنكُمْ تفسِّرون قوله تعالى : { أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً } الثَّيِّبُ تُرْجَمُ والْبِكْرُ تجلد ، وهذا بعيد؛ لأنَّ هذا السبيل عليها لا لها ، فإنَّ الرَّجم أغلظ من الحبس .
فالجوابُ : أنَّ النَّبي -عليه السَّلام- فَسَرَ السّبيل بذلك في قوله : « خذوا عني خذوا عني قَد جعل اللهُ لهن سبيلاً ، الثَّيِّبُ بالثَّيب جلد مائةٍ ورجم بالحجارة ، والبكرُ بالبكر جلد مائة وتغريب عام » فلما فَسَّرَ الرسول عليه السًّلام السبيل بذلك وجب القطع بِصِحَّته .
وأيضاً فله وجه في اللُّغة ، لأنَّ المخلص من الشَّيء هو سبيله ، سواء كان أخفّ أو أثقل .
قوله : « حتى يتوفاهن الموت » « حَتَّى » بمعنى « إلَى » فالفعل بعدها منصوب بإضمار « أن » وهي متعلقة بقوله « فأمسكوهن » غاية له .
وقوله : { أَوْ يَجْعَلَ الله } فيه وجهان :
أحدهما : أن تكون « أوْ » عاطفة ، فيكون الدعل غايةً لإمساكهن أيضاً ، فينتصبُ « يجعل » بالعطف على { يَتَوَفَّاهُنَّ } .
والثَّاني : أن تكون « أو » بمعنى « إلاَّ » كالَّتِي في قولهم : « لأزمنك أو تقضيني حقي » على أحد المعنيين ، والفعل بعدها منصوب أيضاً بإضمار « أنْ » كقوله : [ الطويل ]
1770- فَسِرْ في بِلاَدِ اللهِ وَالْتَمِسِ الْغِنى ... تَعِشْ ذَا يَسَارٍ أوْ تَمُوتَ فَتُعْذَرَا
أي : إلا أن تموت ، والفرق بين هذا الوجه والّذي قبله أنَّ الجَعْلَ ليس غاية لإمساكهنَّ في البيوت .
قوله : { لَهُنَّ } فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ مُتَعِلُّقٌ ب { يَجْعَلَ } .
والثَّاني : أنَّهُ متعلِّق بمحذوف ، لأنَّهُ حال من { سَبِيلاً } إذ هو في الأصل صفةُ نكرةٍ قُدَِّمَ عليها فَنُصِبَ حالاً ، هذا إنْ جُعِلَ الجَعْلُ بمعنى الشِّرْع أو الخَلْق ، وإنْ جُعِل بمعنى التصيير ، فيكون { لَهُنَّ } مفعولاً ثانياً قُدِّمَ على الأوَّلِ وهو { سَبِيلاً } ، وتقديمُه هنا واجب؛ لأنهما لو انْحَلاَّ لمبتدأ وخبرٍ وَجَبَ تقديم هذا الخبر لكونه جارّاً ، والمبتدأ نكرة لا مسوغ لها غير ذلك .
فصل
روي عن علي أنَّهُ جَلَدَ شَرَاحَةَ الهمدانية يوم الخميس مائة ثمَّ رجمها يوم الجمعة ، وقال : جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنَّة رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم وعامَّة العلماء على أنَّ الثَّيِّب لا تجلد مع الرّجم؛ لأنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً والغامدية ولم يجلدهما ، وقال :

« يَا أنيسُ امْضِ إلَى امْرأةٍ هَذَا فَإنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجمْهَا » ولم يأمره بالجلد ، وعند أبي حنيفة التّغريب أيضا منسوخ في حقِّ البكر ، وأكثر أهل العلم على أنَّهُ ثابت ، وروى نافع عن ابن عمر أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ وغَرَّبَ وأن أبا بكر ضَرَبَ وغَرَّبَ .
واختلفوا في الإمساك في البيت هل كان حَداً فنسخ أم كان حبساً ليظهر الْحَدُّ؟ على قولين :
فقيل : هو توعد بالحد .
وقال ابن عبَّاسٍ والحسن : إنَّهُ حَدٌّ ، وزاد ابن زيد أنَّهُمْ منعوا من النِّكاحِ حتّى يموتوا عقوبة لهم ، لأنهم طلبوا النكاح من غير وجهه ، وهذا يَدُلُّ على أنَّهُ كان حدّاً ، بل أشد غير أنَّ ذلك الحكم ثابت محدود إلى غاية ، وهو الأذى في الآية الأخرى على اختلاف التأويلين في أيّهما قبل ، وكلاهما ممدود إلى غاية ، وهو قول عليه السَّلام : « خُذُوا عضنِّي خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سبيلاً » الحديث وهذا كقوله تعالى : { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل } [ البقرة : 187 ] فإذا جاء اللَّيْلُ ارتفع حكمُ الصِّيام إلى غايته لا لنسخه ، هذا قول المحقِّقين المتأخِّرين ، فإنَّ النَّسخ إنَّمَا يكون بين القولين المتعارضين اللَّذين لا يمكن الجمع بينهما والجمع ممكن بَيْنَ الحبس والتّغريب والجلد والرَّجم .
وقد قال بعضُ العلماء : إن الأذى والتغريب باقٍ مع الجلد؛ لأنَّهُمَا لا يتعارضان فيحملان على شخص واحد فأمَّا الحبس فمنسوخ بالإجماع ، وإطلاق المتقدمين النّسخ على مثل هذا لا يجوز .
[ وقيل : إن المراد بقوله تعالى : { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً } المراد أن يحبس كل من الرجل والمرأة في مكانه حتى يدركهن الأجل بالموت ، أو يتبين الحمل فيجري عليهما حينئذ القصاص انتهى . والله أعلم ] .
وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)

{ واللذان } الكلام عليه كالكلام على « اللاتي » إلاَّ أن في كلام أبي البقاء ما يوهمُ جواز الاشتغال فيه فإنه قال : الكلام في « اللذان » كالكلام في « اللاتي » إلاَّ أنَّ مَنْ أجاز النَّصب يَصِحُّ أن يقدِّرَ فعلاً من جنس المذكور ، تقديره : أذُوا اللذين ولا يجوز أن يعمل ما بعد الفاء فيما قبلها هاهنا ، ولو عَرِيَ من الضَّمير ، لأنَّ الفاء هنا في حكم الفاء الواقعة في جواب الشرط ، وتلك يقطع ما بعدها عما قبلها ، فقوله : « من أجاز النصب » يحتملُ من أجازه النَّصب المتقدِّم في « اللاتي » بإضمار فعلٍ لا على سبيل الاشتغال كما قدَّره هو بنحو « اقصدوا » ويحتمل من أجاز النَّصب على الاشتغال من حيث الجملة ، إلاَّ ان هذا بعيدٌ؛ لأنَّ الآيتين من وادٍِ واحدٍ ، فلا يُظَنُّ به أنَّهُ يمنع في إحداهما ويجيزُ في الأخرى ، ولا ينفع كون الآية فيها الفعل الذي يفسّر متعدّ بحرف جر والفعلُ الَّذي في هذه الآية مُتَعَدٍّ بنفسه ، فيكون أقوى ، إذ لا أثر لذلك في باب الاشتغال . والضمير المنصوب في « يأتيانهما » للفاحشة .
وقرأ عبد الله « يأتين بالفاحشة » ، أي : يَجئْنَ ، ومعنى قراءة الجمهور « يَغْشَيْنَها ويخالطنها » .
وقرأ الجمهور « واللذان » بتخفيف النُّون .
وقرأ ابن كثير « واللذانِّ » هنا « واللذينِّ » في السجدة [ آية 29 ] بتشديد النون ، ووجهها جعل إحدى النونين عوضاً من الباء المحذوفة الَّتي كان ينبغي أن تبقى ، وذلك أن « الَّذي » مثل « القاضي » ، و « القاضي » تثبت ياؤه في التثنية فكان حقّ [ « ياء » ] « الَّذي » و « الَّتي » أن تثبت في التثنية ، ولكنهم حَذَفُوها ، إمَّا لأنَّ هذه تثنيةٌ على غَيْرِ القياس؛ لأنَّ المبهماتِ لا تُثَنَّى حقيقةً ، إذ لا يثنى ما يُنَكَّر ، والمبهمات لا تنكر ، فجعلوا الحذف منبهةً على هذا ، وإمَّا لطولِ الكلاَمِ بِالصِّلَةِ .
وزعم ابنُ عصفور أنَّ تشديد النُّون لا يجوزُ إلاَّ مع الألفِ كهذه الآية ، ولا يجوز مع الياء في الجرّ والنّصب .
وقراءة ابن كثير في « حم » السجدة { أَرِنَا اللذين أَضَلاَّنَا } [ فصلت : 29 ] حجةٌ عليه .
قال ابن مقسم : إنَّما شدّد ابن كثير هذه النّونات لأمرين :
أحدهما : الفرق بين تثنية الأسماء المتمكنة وغير المتمكنة ، والآخر : أن « الّذي وهذا » مبنيان على حرفٍ واحدٍ وهو الذّال ، فأرادوا تقوية كل واحد منهما ، بأن زادوا على نونها نوناً أخرى من جنسها .
وقيل : سبب التّشديد فيها أنّ النون فيها ليست نون التّثنية فأرادوا أن يفرِّقوا بينها وبين نون التثنية .
وقيل : زادوا النُّون تأكيداً كما زادوا اللام .

وقرئ : « اللَّذَأَنِّ » بهمزة وتشديد النون ، وَوَجْهُهَا أنه لَمَّا شَدَّدَ النون الْتَقَى ساكنان ، فَفَرَّ من ذلك بإبدال الألف همزةً ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك في الفاتحة [ الآية : 7 ] .
وقرأ عبد الله : « والذين يفعلونه منكم » وهذه قراءة مشكلة؛ لأنَّهَا بصيغة الجمع ، وبعدخا ضمير تثنية وَقَدْ يُتَكَلَّفُ تخريجٌ لها ، وهو أنَّ « الذين » لَمَّا كان شاملاً لصنفي الذّكورِ والإناثِ عَادَ الضّميرُ عليه مثنى اعتباراً بما انْدَرَجَ تحته ، وهذا كما عاج ضَمِيرُ الجمع على المُثَنَّى الشّامل لأفرادٍ كثيرة مندرجةٍ تحْتَه ، كقوله تعالى : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] ، و { هذان خَصْمَانِ اختصموا } [ الحج : 19 ] كذا قاله أبو حيان .
قال شهاب الدِّينِ : وفيه نظر ، فإنَّ الفَرْقَ ثابتٌ ، وذلك لأن « الطَّائفة » اسم لجماعة ، وكذلك « خَصْم » ؛ لأنَّهُ في الأصل مصدرٌ فأطلِقَ على الجمع .
وأصل « فآذوهما » فآذِيُوهما ، فاستثقلت الضَّمَّةُ على الياء فحذفت ، فالتقى ساكنان ، فَحُذِفَت الياء الّتي هي لام الكلمة وضُمَّ ما قبل الواوِ لِتَصِحَّ .
فصل
اختلفوا في وجهِ هذا التّكرير ، فقال مُجَاهِدٌ : الآية الأولى في النساء وهذه في الرّجال ، وَخُصَّ الحبسُ في البيتِ بالمرأة ، وخُصَّ الإيذاء بالرجال؛ لأنَّ المرأة إنَما تقع في الزّنا عند الخروج والبروز ، وإذا حبست في البيت انقطعت مادّة هذه المعصية ، وأمَّا الرَّجل فلا يمكن حبسه في البيت؛ لأنَّهُ يحتاج إلى الخروج لإصلاح معاشه ، ومهماته ، وقوت عياله .
وقيل : إنّ الإيذاء مشترك بين الرّجل والمرأة ، والحبس كان من خواصّ المرأة .
وقال السُّدِّيُّ : المرادُ بهذه الآية البكرُ من الرِّجال والنِّساء وبالآية الأولى للثيب لوجوه :
الأوَّل : قوله : { واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ } فأضافهن إلى الأزواج .
الثَّاني : أنَّهُ سماهنَّ نساء ، وهذا الاسم أليق بالثَّيب .
الثالث : أنَّ الإيذاء أحقّ من الحبس في البيت ، والأخف للبكر دون الثّيب .
وقال أبو مسلم : الآية الولى في السّحاقات ، وهذه في أهل اللّواط ، وقد تَقَدَّمَ .
وقيل : إنَّهُ بَيَّنَ في الآية الأولى أنَّ الشهداء على الزِّنَا لا بدّ وأن يكونوا أربعة ، وبين في هذه الآية أنَّهم لو كانوا شاهدين فآذوهما بالرّفع إلى الإمام والحدّ ، فإن تابا قبل الرفع إلى الإمام فاتركوهما .
فصل
قال عطاء وقتادة : قوله « فآذوهما » يعني فعيروهما باللسان : أما خِفْتَ اللهَ؟ أما استحييت من الله حين زنيت .
وقال مُجَاهِدٌ : سبوهما واشتموهما .
وقيل : يقال لهما : « بئس ما فعلتما » وخالفتما أمر الله .
وقال ابن عبَّاس : هو باللسان واليد يُؤذي بالتعيير وضرب النعال .
قوله تعالى : { فَإِن تَابَا } أي : من الفاحشة { وَأَصْلَحَا } العمل فيما بعد { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ } ، فاتركوهما ولا تؤذوهما ، { إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً } ومعنى التواب أنه يعود على عبده بفضله ومغفرته إذا تاب إليه من ذنبه . والله أعلم .
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)

قد تقدَّمَ الكلام على { إِنَّمَا } في أول البقرة [ آية 11 ] وما قيل فيها .
و « التوبة » ، مبتدأ وفي خبرها وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ « على الله » ، أي : إنَّمَا التَّوْبَةُ مستقرّة على فضل اللهِ ، ويكون « للذين » متعلقاً بما تَعَلَّقَ به الخبر .
وأجاز أبُو البقاء : عند ذِكْرِهِ هذا الوجه أن يكون « للذين » متعلقاً بمحذوف على أنه حال ، قال : فعلى أن يكون { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء } حالاً من الضّمير في الظّرف وهو « على الله » ، والعاملُ فيها الظّرفُ أو الاستقرار ، أي : كائنةً لِلَّين ، ولا يجوز أن يكون العاملُ في الحال « التوبة » ؛ لأنَّه قَدْ فُصِلَ بَيْنَهُمَا بالخبر ، وهذا فيه تكلُّفٌ لا حاجةِ إليه .
الثّاني : أن يكون الخبر « للذين » و « على الله » متعلّق بمحذوف على أنَّهُ حال من شيءٍ محذوف ، والتقديرُ : إنما التَّوبة إذا كانت -أو إذْ كانت- على اللهِ للذين يعملونَ ف « إذا » و « إذ » معمولان ل « الذين » لأن الظَّرْف يتقَدَّمُ على عامله المعنوي و « كان » هذه هي التَّامَّة ، وفاعلها هو صاحب الحالن ولا يجوز أن يكون { عَلَى الله } حالاً من الضَّمير المستتر في { لِلَّذِينَ } والعامل فيها { لِلَّذِينَ } لأنَّهُ عاملٌ معنويٌّ ، والحال لا تتقدَّمُ على عاملها المعنوي ، هذا ما قاله أبُو البقَاءِ وَنَظَّر هذه المسألة بقولهم : « هذا بُسْراً أطْيَبُ منه رُطَباً » يعني : أنَّ التَّقدير : إذا كان بُسْراً أطيبُ منه إذا كان رُطباً .
وفي هذه المسألة أقْوَالٌ كثيرة مضطربة لا يحتملها هذا الكتاب وقدر أبو حيان مضافين حُذفا من المبتدأ والخبر ، فقال : التَّقدير : إنَّمَا قَبُولُ التوبة مترتب على [ فضل ] اللهِ ف « على » باقية على بابها يعني من الاستعلاء
قوله : { بِجَهَالَةٍ } فيه وجهان :
أحدهما : أنْ يتعلّق بمحذوف على أنَّهُ حال من فاعل { يَعْمَلُونَ } ، ومعناها المصاحبة أي : يعملون السُّوء متلبسين بجهالةٍ ، أي : مصاحبين لها ، ويجوز أن يكون حالاً من المفعول ، أي : ملتبساً بجهالة ، وفيه بُعْدٌ وتَجَوُّزٌ .
والثاني : أن يتعلق ب { يَعْمَلُونَ } على أنَّها باء السّببية .
قال أبُو حيَّان : أي الحامل لهم على عمل السُّوء هو الجهالة ، إذْ لو كانوا عالمين بما يترتَّب على المعصية متذكرين له حال عملها لم يُقْدِمُوا عليها كقوله : « لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن » لأنَّ العقل حينئذ يكون مغلوباً أو مَسْلُوباً .
فصل
لما ذكر في الآية الأولى أن المرتكبين للفاحشة إذا تابا وأصلحا زال عنهما الإيذاء ، وأخبر على الإطلاق أنّه توابٌ رحيمٌ ، ذكر هنا وقت التّوبةة وشرطها بشرطين :
أحدهما : قوله { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ } وفيه إشكالان :
الإشكال الأوَّلُ : أن من عمل ذنباً ولم يعلم أنَّهُ ذنب لم يستحق عقاباً؛ لأنَّ الخطأ مرفوع عن الأمَّةِ ، فعلى هذا الَّذين يعملون السُّوء بجهالة لا حاجة بهم إلى التَّوبة .

الإشكال الثَّاني : أن كلمة « إنَّمَا » للحصر ، فظاهره يقتضي أن مَنْ أقدم على السوء مع العلم بكونه سوءاً لا يقبل توبته ، وذلك باطل بالإجماع .
فالجواب عن الأوَّلِ أنَّ اليهوديَّ اختار اليهوديَّة وهو لا يعلم كونها ذنباً مع أنَّهُ يستحقُّ العقاب عليها .
والجوابُ عن الثَّاني : أنَّ من أتى معصية مع الجهل بكونها معصية يكون حاله أخَفُّ ممَّنْ أتى بها مع العلم بكونها معصية ، فلا جرم خَصَّ الأوَّل بوجوب قبول التّوبة وجوباً على سبيل الوعد والكرم ، وأمَّا القسم الثَّاني فلمّا كان ذنبهم أغلظ لا جرم لم يذكر فيهم هذا التّأكيد في قبول التّوبة فتكون هذه الآية دالّة من هذا الوجه على أن قبول التّوبة غير واجب على اللهِ تعالى .
ومعنى الآية يحتمل وجهين :
الأوَّلُ : أن قوله : { عَلَى الله } إعلام ، فَإنَّهُ يجب على الله قبولها لزوم الكرم والفضل والإحسان وإخبار بأنَّه سيفعل ذلك .
والثَّاني : إنَّما الهداية إلى التَّوْبَةِ والإعانة عليها على اللهِ في حقِّ من أتى بالذَّنب على سبيل الجهالة ، ثمَّ تاب قريباً ، وترك الإصرار ، وأتى بالاستغفار .
فصل
قال الحسن : معنى الآية : التّوبة التي يقبلها اللهُ ، فيكون « على » بمعنى عند ، وقيل : من الله { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ } .
قال قتادةُ : أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ ما عُصِيَ الله به فهو جهالة عمداً كان أو لم يكن ، ولك من عصى الله فهو جاهل .
قال تعالى إخباراً عن يوسف -عليه السلام- : { أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجاهلين [ فاستجاب لَهُ رَبُّهُ } [ يوسف : 33 ، 34 ] .
وقال : { هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ } [ يوسف : 89 ] وقال لنوح -عليه السلام- : { إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين } [ هود : 46 ]
وقال موسى لبني إسرائيل حين قالوا : { أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً } [ البقرة : 67 ] { أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين } [ البقرة : 67 ] والسّبب في إطلاق اسم الجاهل على العاصي؛ لأنَّهُ لو استعمل ما معه من العلم بالثواب والعقاب لما أقدم على المعصية ، فصار كأنَّنه لا علم له .
وقال مجاهدٌ : المراد من الآية العمد .
وقيل : أن يأتي بالمعصية مع العلم بكونها معصية ، إلاَّ أنه يكون جاهلاً بقدر عقابه .
وقيل : أن يأتي بالمعصية مع أنه لا يعلم كونها معصية إلاَّ أنَّهُ كان متمكناً من تحصيل العلم يكون اليهودية ذنباً ومعصية ، وكفى ذلك في ثبوت استحقاق العذاب ، ويخرج من هذا النَّائم والسّاهي ، فإنَّه لو أتى بالقبيح لكنَّه [ ما كان متمكناً ] من العلم بكونه قبيحاً .
فصل
استدلَّ القاضي بهذه الآية على أنَّهُ يجب على اللهِ عقلاً قبول التَّوْبَةِ؛ لأنَّ كلمة « عَلَى » للوجوب؛ ولأنَّا لو حملنا قوله : { إِنَّمَا التوبة عَلَى الله } على مجرد القبول لم يبق بينه وبين قوله : { فأولئك يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ } فرق؛ لأن قوله هذا أيضاً إخبار عن الوقوع ، [ فإذا جعلنا الأوَّلَ إخباراً عن الوجوب ، والثَّاني إخباراً عن الوقوع ] ظهر الفرق بين الآيتين وزال التكرار .

والجوابُ أنَّ القول بالوجوب على الله تعالى باطلٌ لوجوه :
الأوَّلُ : أنَّ لازم الوجوب استحقاق الذّم عند الترك ، فهذه الملازمة إمَّا ان تكون ممتنعة الثبوت في حقِّ اللهِ تعالى أو غير ممتنعة الثُّبُوتِ في حقِّه ، والأوَّلُ باطلٌ ، لأنَّ ترك الواجب لما كان مستلزماً هذا الذّم محال الثّبوت في حقِّ اللهِ تعالى وجب أن يكون ذلك الترك ممتنع الثبوت في حقِّ الله تعالى ، وإذا كان الترك ممتنع الثبوت عقلاً كان الفعل واجب الثُّبوت ، فحينئذ يكون الله تعالى موجباً بالذَّاتِ لا فاعلاً بالاختيار وذلك باطل ، وإنْ كان استحقاق الذَّمِّ غير ممتنع الحصول في حقِّ اللهِ تعالى ، فكلُّ ما كان ممكناً لا يلزم من فرضه محال ، فيلزم أن يكون الإله مع كونه إلهاً يكون موصوفاً باستحقاق الذّم وذلك محال لا يقوله عاقل ، فثبت أنَّ القول بالوجوب على اللهِ تعالى محال .
وثانيها : أنَّ قادرية العبد بالنِّسبة إلى فعل التَّوْبَةِ وتركها إمَّا أن يكون على السَّويَّةِ ، أوْ لا ، فإن كان على السَّويَّةِ لم يترجح فعل التَّوبة على تركها إلا بمرجِّح ، وذلك المرجح إن حدث لا عن محدث لزم نفي الصّانع ، وإن حدث علىلا العبد عاد التّقسيم ، وإن حدث عن الله تعالى فحينئذٍ إنَّما أقبل العبد على التَّوبة بمعونة الله وتقويته ، فتكون تلك العقوبة إنْعَاماً مَنَ اللهِ تعالى على عبده ، وإنعام المولى على عبده لا يوجب أنْ ينعم عليه مرة أخرى فثبت أنَّ صدور التّوبة عن العبد لا يوجب على الله القبول ، وإن كانت قادرية العبد لا تصلح للترّك وللفعل ، فيكون القول بالوجوب أظْهَرُ بطلاناً .
ثالثها : التّوبة عبارة عن النَّدم على ما مضى ، والعزم على التّرك في المستقبل والنّدم والعزم من باب الكراهات والإرادات وهما لا يحصلان باختيار العبد وإلاَّ افتقر في تحصيلهما إلى إرادة أخرى ولزم التّسلسل ، وإذا كان كذلك كان حصول هذا النّدم ، وهذا العزم بمحض تخليق الله تعالى ، وفعل الله لا يوجب على الله فعلاً آخر فكان القولُ بالوُجُوبِ باطِلاً .
ورابعها : أنَّ التوبة فعل يحصل باختيار العبد على قولهم ، فلو صار ذلك علة للوجوب على اللهِ تعالى وفعل الله تعالى ، لصار فعل العبد مؤثّراً في ذات الله تعالى وفي صفاته ، وذلك لا يقولُهُ عاقل .
والجوابُ عن حجتهم : أنَّ الله تعالى وعد قبول التّوبة من المؤمنين ، وإذا وعد اللهُ بشيء ، وكان الخلفُ في وعده مُحالاً كان ذلك شبيهاً بالواجب ، فبهذا التأويل صح إطلاق كلمة { عَلَى } وبهذا يظهر الفرق بين قوله { إِنَّمَا التوبة عَلَى الله } وبين قوله { فأولئك يَتُوبُ الله عَلَيْهِم } .

فإن قيل : لما أخبر عن قبول التّوبة وكان ما أخبر الله تعالى وقوعه واجب الوقوع لزم منه ألاَّ يكون فاعلاً مختاراً .
فالجوابُ : أنَّ الإخبارِ عن الوقوع تبع للوقوع والوقوع تبع للإيقاع ، والتبع لا يغير الأصل ، فكان فاعلاً مختاراً في ذلك الإيقاع ، وأمَّا قولكم بأن وقوع التَّوبة من حيثُ إنَّهَا هي مؤثرة في وجوب القبول على الله وذلك لا يقوله عاقل فظهر الفرق .
قوله : { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فأولئك } فهذا هو الشّرطُ الثّاني .
قال السدي والكلبي : القريب أن يتوب في صحته قبل مرض موته .
وقال عكرمة : قبل الموت .
وقيل : قبل أنْ يحيط السّوء بحسناته فيحبطها . وقال الضَّحَّاكُ : قبل مُعَاينة ملك الموت . قوله : { مِن قَرِيبٍ } فيه وجهان :
أحدهما : أن تكون « من » لابتداء الغاية ، أي : تبتدئ التَّوبة من زمان قريب من زمان المعصية لئلاّ يقع في الإصْرارِ ، وهذا إنَّما يتأتَّى على قول الكوفيين ، وأما البصريون فلا يجيزون أن تكون « من » لابتداء الغاية في الزَّمَانِ ، ويتأوَّلون ما جاء منه ، ويكون مفهوم الآية أنَّه لو تاب من زمان بعيدٍ لم يدخل في مَنْ خُصَّ بكرامةِ قَبُولِ التّوبة على اللهِ المذكورة في هذه الآية ، بل يكون داخلاً فيمن قال فيهم { عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 102 ] .
والثاني : أنَّهَا للتّبعيض أي : بعض زمانٍ قريب يعني أي جُزْء من أجزاء هذا الزمان أتى بالتّوبة فيه ، فهو تائبٌ من قريب .
وعلى الوجهين ف « مِنْ » متعلقة ب « يتوبون » ، و « قريب » صِفَةٌ لزمان محذوف ، كما تقدم تقريره ، إلاَّ أنَّ حّذْفَ هذا الموصوف وإقَامةَ هذه الصفةِ مُقَامة ليس بقياسٍ ، إذ لا يَنْقَاسُ الحَذْفُ إلاَّ في صور .
منها أن تكون الصفةُ جَرَتْ مَجْرى الأسماء الجوامد ، كالأبْطَحِ والأبرق ، أو كانت خاصةً بجنس الموصوف ، نحو : مررت بكاتبٍ ، أو تقدَّم ذِكْرُ موصوفها ، نحو : اسقني ماءً ولَوْ بَارِداً ، وما نحن فيه ليس شيئاً من ذلك .
وفي قوله : { ثُمَّ يَتُوبُونَ } إعلامٌ بِسَعَةِ عَفْوِهِ ، حيثُ أتى بحرف التّراخي والفاء في قوله : { فأولئك } مُؤْذِنَةٌ بتَسَبُّبِ قَبُولِ الله تَوبتهم إذا تابوا من قريب ، وضَمَّنَ { يَتُوبُونَ } معنى يَعْطِفُ فلذلك [ عَدَّى ] ب « على » .
وأما قوله : { إِنَّمَا التوبة عَلَى الله } فَراعَى المضاف المحذوف ، إذا التّقدير : إنَّما قبولُ التَّوبَةِ على اللهِ ، كذا قال الشَّيخ وفيه نَظَرٌ .
فصل
معنى قوله : { فأولئك يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ } يعني أنّ العبد الَّذي هذا شأنه إذا أتى بالتَّوبة قبلها منه ، فالمراد بالأوَّل التّوفيق إلى التوبة ، وبالثَّاني قبول التّوبة .
وقوله : { وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً } أي : أنَّهُ إنَّما أتى بتلك المعصية لاستيلاء الشّهوة والغضب والجهالة عليه « حكيماً » بأن العبد لما كان من صفته ذلك إنَّه تاب عنها من قريب فإنه يقبل توبته .
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)

قوله : { وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات } يعني : المعاصي ، لما ذكر شَرَائِطَ التَّوْبَةِ المقبولة ، أرْدَفَهَا بِشَرْحِ التَّوبة التي لا تكونُ مقبولة ، قوله : { حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت } « حتَّى » حرف ابتداء ، والجملةُ الشَّرْطِيَّةُ بَعْدَهَا غايةٌ لما قَبْلََهَا ، أي : ليست التَّوْبَةُ لقوم يَعْمَلُونَ السَّيَئاتِ ، وغايةُ عملهم إذَا حَضَرَ أحدَهُمُ المَوْتُ قالوا « كيت وكيت » هذا وجه حَسَنٌ ، ولا يجوزُ أنْ تكُونَ « حتى » جارّة ل « إذا » أي : يعملون السَّيِّئاتِ إلى وقت حضور الموتِ من حيثُ إنَّهَا شرطيَّةٌ ، والشَّرْطُ لا يعمل فيه ما قبله ، وإذا جعلنا « حتَّى » جارَّةً تعلَّقت ب « يعملون » وأدوات الشَّرْطِ لا يعملُ فيها ما قَبْلَهَا ، ألا ترى أنَّهُ يجوزُ « بمَن تمرر أمْرُرْ » ، ولا يجوز : مَرَرْتُ بمن يقم أكرمْه ، لأنَّ له صَدر الكلام ، ولأنَّ « إذا » لا تَتَصَرَّفُ على المَشْهُورِ كما تَقَدَّمَ في أوَّل البَقَرَةِ؛ واستدلَّ ابْنُ مَالِك على تصرُّفِهَا بوجُوهٍ :
منها جرها ب « حتَّى » نحو : { حتى إِذَا جَآءُوهَا } [ الزمر : 71 ] { حتى إِذَا كُنتُمْ } [ يونس : 22 ] وفيه من الإشكال [ ما ذكرته لك ] وقد تَقَدمَ تقرير ذلك عند قوله ، { حتى إِذَا بَلَغُواْ } [ النساء : 6 ] .
فصل
دلت هذه الآية عَلَى أنَّ من حَضَرَهُ المَوْتُ وشاهد أهواله لا تقبل توبته ، ويُؤيِّدُهُ أيضاً قوله تعالى : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [ غافر : 85 ] .
وقال في صفةِ فِرْعَونَ { أَنَّهُ لاا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين } [ يونس : 90 ، 91 ] وقوله : { حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ رَبِّ ارجعون لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً [ فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ ] قَآئِلُهَا } [ المؤمنون : 99- 100 ] وقوله { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبِّ لولاا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين وَلَن يُؤَخِّرَ الله نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ } [ المنافقون : 10 ، 11 ] .
وقال عليه السلام « إنَّ الله -تعالى- يَقْبَلُ تَوْبَة الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ » وعن عطاءٍ : ولو قبل موته بفواق النَّاقَةِ .
وعن الحسن : أنَّ إبليس قال حين أهْبِطَ إلى الأرض وعِزّتِكَ لا أفارق ابْن آدم ما دَامَ روحه في جَسَده .
فقال : وَعِزَّتِي لا أُغْلِقُ عليه بَابَ التَّوْبَةِ ما لم يغرغر .
فصل
قال المُحَقِّقُونَ : قُرْبَ الموتِ لا يمنعُ من قَبُولِ التَّوْبَةِ ، بل المانع من قبول التَّوْبَةِ مشاهدة الأهوال الَّتي عندها يحصل العلم باللهِ تعالى على سَبِيل الاضطرار . وقالوا : لأنَّ جماعة أماتهم الله تعالى ثُمَّ أحياهم مثل قوم من بني إسرائيل ، وأولاد أيُّوب -عليه السَّلاَمُ- ثمَّ إنَّه تعالى كلَّفهم بعد ذلك الإحياء ، فَدَلَّ ذلك على أنَّ مُشَاهَدَةِ الموت لا تخلّ بالتكليف ولأنّ الشَّدائِدَ التي يلقاها من يقرب موته تكون مثل الشَّدائد الحاصلة عند مانعة من بقاء التكاليف فكذا القول في تلك الشّدائد .

وأيضاً فالقرب من الموت إذَا عَظُمَتِ الآلامِ [ صار اضطرارُ العبد أشَدُّ ، واللهُ تعالى يقول { أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ } [ النمل : 62 ] فتزايد الآلام ] في ذلك الوقت بأن يكون سبباً لِقَبُولِ التَّوبة أولى مِنْ أن يكون سبباً لعدم قَبُولِ التَّوْبَة .
فصل
لما بيّن تعالى أنَّهُ يقبل التَّوبةَ من القسم الأوَّل ، وهم الذين يعملونَ السُّوءَ بجهالة ، وبَيَّنَ في هذا القسم الثَّاني يعملون السَّيِّئاتِ أنَّهُ لا يقبل توبتهم فبقي بحكم التَّقسيم العقلي قِسْمٌ ثَالِثٌ مَتَوَسط بين هذين القسمين ، وهم الَّذِينَ يعملون السُّوءَ على سبيل العَمْدِ ثم يَتُوبُونَ فلم يخبر عنهم أنَّهُ يَرُدُّ توبتهم ، بل تركهم في المَشِيئَةِ حيث قال : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] .
قوله : { وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } « الذين » مجرور المحل عطفاً على قوله { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات } أي : لَيْسَت التَّوْبَةُ لهؤلاء ، ولا لهؤلاء ، فَسَوَّى بين مَنْ مَاتَ كافراً وبين من لم يَتُبْ إلاَّ عند معاينة الموتِ في عدمِ قَبُولِ تَوْبَتِه ، والمراد بالعاملين السيئات المنافقون .
وأجَازَ أبُو البَقَاءِ في { الذين } أن يكون مرفوع المحلّ على الابتداء وخبره « أولئك » وما بَعْدَهُ مُعْتَقِداً أنَّ اللامَ لام الابتداء وليست ب « لا » النَّافية ، وهذا الَّذي قاله من كون اللام لام الابتداء لا يصحُّ أن يكونَ قد رُسِمَتْ في المُصْحَفِ لامٌ داخلة على { الذين } فيصير « وللذين » وليس المرسوم كذلك ، وإنَّمَا هو لام وألف ، وألف لام التَّعريف الدَّاخلة على الموصول وصورته : ولا الذين .
فصل
قيل : المراد ب « الذين يعملون السيئات » العصاة وب « الذين يموتون وهم كفّار » الذي يموت كافراً؛ لأنَّ المعطوف يكون مغايراً للمعطوف عليه . وقيل : المرادُ بالأوَّل : المنافقون ، وبالثاني : الكفَّار .
قال ابنُ الخطيب : وهذا لا يصحُّ؛ لأنَّ المنافقَ كافرٌ فيدخل في الثَّاني ويمكن أن يجاب بأنَّ المنافق لما أظهر الإيمان فَمَنْ لم يَعْلَمْ حاله يعتقد أنَّ حكمه حكم المُؤمن ، { والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] و « أولئك » يجوزُ أن تكون إشارة إلى { وَلاَ الذين يَمُوتُونَ } وهم كفَّار؛ لأنَّ اسم الإشارةِ يجري مجرى الضَّمير فيعود إلى أقرب مذكور ، ويجوزُ أن يُشَار بِه إلى الصّنفين الذين يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ، والذين يموتون وهم كفار . { أَعْتَدْنَا } أي : أحْضَرِنَا وهذا يَدُلُّ على أنَّ النَّار مخلوقة؛ لأنَّ العذاب الأليم ليس إلاَّ جهنم وقد أخبر عنه بصيغة الماضي ، واللهُ أعلم .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)

هذا مُتَّصِلٌ بما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ في الزوجاتِ .
قال المُفَسِّرُونَ : نزلت في أهل المدينة كانوا في الجاهليَّة ، وفي أوَّلِ الإسْلامِ إذا مات الرَّجُلُ وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو قريبه من عصبته فألْقَى ثوبه على تلك المرأة وقال : وَرِثْتُ امْرأتَهُ كما وَرِثْتُ ماله ، فصار أحقُّ بها من سَائِرِ النَّاسِ ومن نفسها فإن شَاءَ تَزَوَّجَهَا بغير صَدَاق ، إلاَّ الصّداق الأوّل الّذي أصْدَقَهَا الميت ، وإن شاء زَوَّجَهَا من إنسان آخر ، وأخذ صداقها ، ولم يعطها منه شيئاً ، وإن شاء عَضَلها ومنعها من الأزْوَاج يُضَارها لتفتدي منه بما أخذت من الميت أو تموت هي فيرثها ، وإنْ ذهبت المرَأةُ إلى أهلها قبل أنْ يلقي عليها ولي زوجها ثوبه فهي أحق بِنَفْسِهَا فكانوا على هذا حتى مات أبو قيس الأسْلَتِ الأنْصَارِي وترك امرأته كُبيشة بنت معن الأنصاريّة فقام ابْنٌ من غيرها يقال له محصن ، وقال مقاتل بْنُ حيَّان : اسمه قيس بْنُ أبِي قَيْسٍ ، وطرح ثَوْبَهُ عليها فَوَرِثَ نكاحها وتركلها فلم يقربها ولم ينفق عليها يضارها لتفتدي منه بما ورثت ، « فأتَتْ كبيشةُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ أبَا قَيْسٍ تُوُفِّي وَوَرِثَ نكاحي ابنه فلا هو ينفق عَلَيَّ وَلاَ يدخل بي ولا يخلي سبيلي فَقَالَ لها : اقْعَدِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَأتِ فِيكِ أمرُ اللهِ ، » فأنْزَلَ هذِهِ الآيةَ .
وقيل : كان يكون عند الرَّجل عجوز ولها مال ونفسه تتشوق إلى الشّابّة فيكره فِراق العجوز لمالها ، فيمسكها ، ولا يقربها حتَّى تفتدي منه بمالها أو تموت فيرثُ مالها فنزلت الآية تأمر الزَّوْجَ أن يطلِّقَهَا إن كره صحبتها ، ولا يرثها كرهاً فذلك قوله « لا يحل لك أن ترثوا النساء كرهاً » والمقصود إذهاب ما كانوا عليه في الجاهِلِيَّةِ وإلاَّ يجعل النِّساء كالمال يورثن عن الرِّجال . قوله : أن ترثوا [ النساء ] في محلّ رفع على الفاعليَّة ب « يحل » أي : لا يحل لَكُمْ إرثُ النساء .
وقرئ : « لا تحل » بالتاء من فوق على تأويل « أن ترثوا » : بالوراثة ، وهي مؤنَّثة ، وهي كقراءة { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ } [ الأنعام : 23 ] بتأنيث « تكن » ونصب فتنتهم « بتأويل ثم لم تكن فتنتهم إلا مقالتهم ، إلاَّ أنَّ في آية الأنْعَامِ مسوغاً ، وهي الإخبار عنه بمؤنث كما سيأتي ، و { النسآء } مفعولٌ به ، إمَّا على حذف مضاف أي : أن تَرثُوا مال النِّسَاءِ إن كان الخَطَابُ للأزْوَاجِ ، لأنَّهُ روي أنَّ الرَّجُلَ منهم كان إذا لم يكن له غرض في المرأة أمسكها حتى تموتَ؛ فيرثها ، أو تَفْتَدِيَ منه بمالها إنْ لم تَمُت ، وإمَّا من غير حذف على أن يكون بمعنى الشَّيءِ الموروث إنْ كان الخطاب للأولياء ، أو لأقرباء الميّت ، وقد تَقَدَّمَ المعنيانِ في سبب النُّزُولِ على ما تَقَدَّمَ؛ فلا يحتاج إلى حَذْفِ أحد المفعولين إمّا الأوَّلُ أو الثَّانِي على جَعْلِ { أَن تَرِثُواْ } متعدّياً لاثنين كما فعل أبُو الْبَقَاءِ .

قال : { النسآء } فيه وجهان :
أحدهما : هُنَّ المفعول الأوَّل ، والنساء على هذا هُنَّ الموروثاتُ ، وكانت الجاهليّة ترث نساء آبائهم وَيَقُولُونَ : نحنُ أحقُّ بنكاحهنَّ .
والثاني : أنه المفعول الثّاني ، والتّقدير : أن ترثوا من النّساء أي : أن ترثوهن كَارِهات ، أو مكروهات ، وقرأ الأخوان « كرهاً » هنا وفي « براءة » و « الأحقاف » بضمِّ الكَافِ ، وافقهما عاصم وابن عامر في رواية ابن ذكوان عنه على ما يأتي في الأحقاف ، والباقون بالفتح .
وقد تَقَدَّمَ في الكُره والكَره بمعنى واحد أم لا؟ في أوَّلِ البَقَرَةِ . ولا مفهوم لقوله { كَرْهاً } يعني فيجوز أن يرثوهن إذا لم يَكْرَهْن ذلك لخروجه مَخْرج الغالب .
قوله : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } فيه وجهان :
أظهرهُمَا : أنَّهُ مجزوم ب « لا » الناهية عطف جملة نهي على جملة خبريَّة فإنْ لم تشترط المناسبةُ بين الجُمَلِ كما هو مذهب سِيبَويْه -فواضحٌ ، وَإن اشترطنا ذلك - كما هو رأي بعضهم- فلأن الجُمْلَةَ قبلها في معنى النهي إذ التَّقْديرُ : « ولا ترثوا النساء كرهاً » فإنَّهُ غير حلال لكم . وجعله أبُو البقاءِ على هذا الوجه مستأتفاً يعني أنَّه ليس بمعطوفٍ على الفعلِ قبله .
والثَّانِي : أجازه ابن عطية وَأبَو البَقَاءِ أن يكون منصوباً عطفاً على الفِعْلِ قبله .
وقال ابنُ عَطِيَّةَ : ويُحتمل أن يكونَ { تَعْضُلُوهُنَّ } نصباً عطفٌ على { تَرِثُواْ } فتكون الواو مشتركةً عاطفةً فِعْلاً على فعلٍ .
وقرأ ابْنُ مَسْعُودٍ : « ولا تعضلوهن » فهذه القراءة تقوّي احتمال النّصب ، وأن العَضْلَ مَمَّا لا يَحِلُّ بالنص .
وردَّ أبو حيَّان هذا الوجه بأنَّكَ إذا عطفت فعلاً منفياً ب « لا » على مثبت وكانا منصوبين فَإنَّ النَّاصبَ لا يُقَدَّر إلاَّ بعد حرف العطف لا بعد « لا » ، فإذا قلت : أريد أن أتوب ولا أدخل النار ، قال التقدير : أريد أن أتوبَ و [ أنْ ] لا أدخل النار « ؛ لأن الفعل يطلب الأول على سبيل الثبوتِ ، والثاني على سبيل النفي والمعنى : أريدُ التوبةَ انتفاء دخولي النار ، فلو كان المتسلط على المتعاطفين نفياً فكذلك ، ولو قدَّرْتَ هذا التقدير في الآية لم يصح لو قلت : » لا يحل أن لا تعضلوهن « ، لم يصح إلاَّ أن تجعل » لا « زائدة لا نافيةً ، وهو خلاف الظاهر ، وأما أن تقدِّر » أنْ « بعد » لا « النافية فلا يَصِحُّ ، وإذا قَدَّرتَ » أن « بعد » لاَ « كان من عطف المصدر المقدّر على المصدر المقدر ، لا من باب عطف الفعل على الفعل ، فالتبس على ابْنِ عَطِيَّة العطفان ، وظَنَّ أنَّهُ بصلاحية تقدير » أن « بعد » لا « يكونُ مِنْ عَطْفِ الفعل على الفعل وفَرْقٌ بين قولِك » لا أريد أن تقوم إلا تخرج « وقولك : أرِيدُ أنْ تَقُوم ولا أنْ تَخْرُجَ ، ففي الأول نَفَى إرادةَ وجودِ قيامه ، وإرادة انتفاء خروجه ، فقد أرادَ خروجه ، وفي الثَّانية نَفَى إرادةَ وجودِ قيامه ووجودَ خروجه ، فلا يريد لا القيام ، ولا الخروج .

وهذا في فهمه بعضُ غموضٍ على مَنْ تَمَرَّنَ في علم العربيَّةِ؛ انتهى ما ردّ بِهِ .
قال شهابُ الدِّينِ : وفيه نظر من حيث إنَّ المثال الّذي ذكره في قوله : « أريد أن أتوب ولا أدخل النار » فَإنَّ تقديرَ النَّاصب فيه قبل « لا » واجب من حيثُ إنَّهُ لو قُدِّرَ بعدها لفسد التركيب ، وأما في الآية فتقدير « أن » بعد « لا » صحيح ، فَإنَّ التقدير يصير : لا يَحِلُّ لكم إرث النساء كَرْهاً ولا عَضْلُهن ، ويَؤيِّدُ ما قلته ، وَمَا ذَهَبَ إليه ابن عكيَّةَ قولُ الزمخرشيِّ فإنَّهُ قال : فإن قلت : تَعْضُُلُوهُنَّ ما وجه إعرابه؟ قلت : النَّصبُ عطفاً على { أَن تَرِثُواْ } و « لا » لتأكيد النّفي أي : « لا يحل لكم أن ترثوا النساء ولا أن تعضلوهن : فَقَدِ صَرَّحَ الزمخشري بهذا االمعنى وصَرَّحَ بزيادة » لا « التي جَعَلَها الشيخ خلاف الظاهر ، وفي الكلام حذف تقديره : » ولا تعضلوهن من النكاح « إن كان الطاب للأولياء : أو : لا تعضلوهن من الطلاق ، إن كان الخطاب للأزواج .
وهو قول أكثر المفسرين .
وقيل : [ هو ] خطابُ الوارث الزَّوج بحبس الزّوجة حتى تَرُدَّ الميراث .
قال ابنُ عَطِيَّة : هذا في الرَّجُلِ تكون له المرَْأةُ وهو كاره لصحبتها ، ولها عليه مهر فيضارها لتفتدي وترد إليه ما ساق إليها من المهر فنهاه اللهُ عن ذلك .
وقيل : الخِطَابُ عامٌّ في الكلِّ .
قوله : { لِتَذْهَبُواْ } اللام متعلّقةُ ب { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } والباء في » ببعض « فيها وجهان :
أحدهُمَا : أنَّها باء التعدية المرادفةُ لهمزتها أي : لتِذْهِبُوا بما آتيتموهن .
والثاني : أنها للمصاحبةِ ، فيكون الجارُّ في محلِّ نصبٍ على الحال ، ويتعلَّقُ بمحذوفٍ أي : لتذهبوا مصحوبين ببعض ، و » ما « موصولة بمعنى الذؤي ، أوْ نكرة موصوفة ، وعلى التقديرين فالعائدُ محذوف ، وفي تقديره إشْكَالٌ تَقَدَّمَ الكلام عليه في البقرة عند قوله : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] .
قوله : { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ } في هذا الاستثناء قولان :
أحدُهُمَا : أنه منقطعٌ فيكونُ { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ } في محلِّ نصب .
والثَّاني : أنه متَّصِلٌ وفيه حينئذٍ ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّه مستثنى من ظرف زمان عام تقديره : » ولا تعضلوهن في وقت من الأوقات إلاّ في حال إتيانهن بفاحشة « .
والثَّاني أنَّه مستثنى من الأحوال العامَّة ، تقديره : ولا تعضلوهن في وقتٍ من الوقات إلاَّ في حال إتيانهن بفاحشة ، والمعنى لا يحل له أن يحبسها ضراراً حتى تفتدي منه إلاّ إذا زَنَتْ ، والقائلون بهذا منهم من قال بقي هذا الحكم ولم ينسخ ومنهم من قال : نسخ بآية الجلد .

الثالث : أنه مستثنى من العلة العامة تقديره : لا تعضلوهن لعلةٍ من العلل إلا لإتيانهن بفاحشة .
وقال أبو البثاء بعد أن حكى فيه وجه الانقطاه : « والثاني : هو في موضع الحال تقديره : إلاَّ في حال [ إتيانهن بفاحشةٍ ، وقيل : هو استثناء متصل ، تقديره : ولا تَعْضُلوهن في حال إلا في حال ] إتيان الفاحشة » انتهى .
وهذان الوجهان هما في الحقيقة وجهٌ واحد ، لأنَّ القائلَ بكونه منصوباً على الحال لا بُدَّ أن يقدِّر شيئاً عاماً يجعل هذا الحال مستثناةً منه .
وقرأ ابنُ كثير وأبو بكر عن عاصم : « مبيَّنة » اسم لمفعول بفتح الياء في جميع القرآن ، أي بَيَّنَها في قوله : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس فَمَن تَبِعَنِي } [ إبراهيم : 36 ] والباقون بكسر الياء من اسم الفاعل وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ من بيَّن المتعدي ، فعلى هذا [ يكون ] المفعول مَحْذُوفاً تقديره [ مبينة حال مرتكبها .
والثاني : أنها من بَيَّن الازم ، فإن بَيَّنَ يكون متعديا ولازماً يقال : ] بانَ الشَّيْء وأبان واستبان ، وبين تبين ، بمعنى واحد أي : أظهر ، وإذا ظهرت صارت أسباباً للبيان ، وإذا صَارَتْ سبباً للبيان جاز إسناد البيان إليها ، كما انذَ الأصنام لما كانت شسبباً للضلال حسُنَ إسناد الإضلال إليها لأنَّ الفاحشة لا فعل لها في الحَقِيقَةِ . وأيضاً الفاحشة تتبين فإن يشهد عليها أربعة صارت مبينة .
وقرأ بعضهم « مُبَينَة » بكسر الياء وسكون الياءِ اسم فاعل من « أبان » وهذان الوجهان [ هما ] المتقدّمان في المشددة المكسورة ، لأن « أبان » أيضاً يكون متعدياً ولازماً وأما « مبيناتط جمعاً فقرأهن الاخوان وابن عامر وحفص عن عاصم بكسر الياء اسم فاعل ، والباقون بفتحها اسم مفعول ، وتَقَدَّمَ وجه ذلك .
فصل
قال ابنُ مَسْعُودٍ وَقَتَادَةُ : الفاحشة هي النُّشوز ، وإيذاء الزَّوج ، والمعنى إذا كان سوء العشرة من جهتهن فقد عذرتم في طلب الخُلْعِ ويُؤَيِّدُهُ قولُ أبيٍّ بن كعب ، إلاَّ أن يفحشن عليكم .
وقال الحَسَنُ ، وأبو قلاَبَةَ والسُّدِّيُّ : هي الزنى والمعنى ، إذَا نَشَزَتِ الَمْرأةُ ، أوْ زَنَتْ حَلَّ للزَّوْج أنْ يسألها الخُلْعَ .
وقال عطاء : كان الرَّجُلُ إذا أصابت امرأته فَاحِشَةً أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها فنسخ اللهُ ذلك .
قوله : { وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف } .
وقال الزَّجَّاجُ : وهو النصفة في المبيت والنفقة والإجمال في القول .
وقيل : أن يتصنّع لها كما تَتَصَنع له .
[ قوله : ] { بالمعروف } لها وجهان :
أظهرهما : أنَّهَا باءُ الحالش ، أي : من الفاعل مُصَاحبين لهن بالمعروف ، أو من المفعول أي مصحوبات بالمعروف .
والثَّاني : أنها باء التعدية .
قال أبُو البَقَاءِ : بالمعروف مفعول ، أو حال .
فصل
قال القُرْطُبِيُّ : استدل علماؤنا بقوله تعالى : { وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف } أنّ المرأة إذا لم يكفيها خادم واحد أنَّ عليه أن يكفيها قدر كفايتها كابنة الخليفة والملك وشبههما ممن لا يكفيها خادم واحد ، وأنَّ ذلك هو المعاشرةُ بالمعْرُوفِ .

وقال الشَّافِعِيُّ وأبُو حَنِيفَةَ : لا يلزمه إلا خادم واحد ، وذلك يكفيها خدمة نفسها وليس في العالم امرأة إلا ويكفيها خادم واحد ، وهذا كالمقاتل تكون له أفراس فلا يُسْهمُ لَهُ إلاَّ بفرس واحد؛ لأنه لا يقاتل إلا على فرس واحد ، قال علماؤنا : وهذا التشبهي غلط؛ لأن مثل بنات الملوك اللاتي لهن خدمة كثيرة لا يكفيها خادم واحد ، لأن إصلاح شأنها ومطبخها ، وغسيل ثيابها لا يكفيها خادم واحد يقوم بذلك .
قوله : { فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ [ فعسى } ] أي إن كرهتم عشرتهن بالمعروف وآثرتم فراقهن .
قوله : { فعسى } الفاء جواب الشرط ، وإنَّمَا اقترنت بها عسى؛ لأنها جامدة .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : فإن قلت من أي وجه صح أن يكون فعسى جزاء للشرط؟
قلت : من حيث المعنى فإن كرهتموهن فاصبروا عليهن مع الكرامة ، فلعلَّ لكم فيما تكرهون خيراً كثيراً ليس فيما تحبون .
ولهذا قال قَتَادَةُ : فإنه فسر الخير الكثير بودٍّ يحصل فتنقلب الكراهة محبة ، فلعلَّ لكم فيما تكرهون خيراً كثيراً ليس فيما تحبون .
وقيل : ولد صالح .
وقرئ وَيَجْعَلُ برفع اللام .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ على أنه حال يعني : ويكون خبر المبتدأ محذوف لئلا يلزم دخول الواو على مضارع مثبت ، و « عسى » هنا تامة؛ لأنها رفعت انَّ وما بعدها ، والتقدير : فقد قربت كراهيتكم فاستغنت عن تقدير خبر ، والضمير في « فيه » يعود على شيء ، أي : في ذلك الشيء المكروه .
وقيل : يعود على الكره المدلول عليه بالفعل ، والمعنى { فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ } ورغبتم في مفارقتهن ، فربما جعل في تلك المفارقة لهن خيراً كثيراً ، وذلك بأن تتزوج غيره خيراً منه .
ونظيره قوله : { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ } [ النساء : 130 ] وهذا قول الأصَمِّ ، قال القاضي ، وهذا بعيد؛ لأنه تعالى حث بما ذكر على استمرار الصحبة فكيف يريد المفارقة .
وقيل : الضمير يعود على الصبر ، وإن لم يجر له ذكر .
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)

لما اذن في مضارة الزوجات إذَا أتبني بفاحشة مبينة بين في هذه الاية تحريم المضارة في غير حال الإتيان بالفاحشة؛ وذلك لأن الرجل إذا مال إلى التَّزَوُّج بامرأة أخرى ، وزمى زوجته بنفسه بالفاحشة حتى يُلْجِئَها إلى الافتداء منه بما أعْطاهَا ليصرفه في تزوج المرأة التي يريدها ، فقال تعالى { وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ } . قوله : { مَّكَانَ زَوْجٍ } ظرف منصوب بالاستبدال ، والمراد بالزوج هنا الجمع ، أيْ : فإن أردتم استبدال أزواج مكان أزواج وجاز ذلك [ لدلالة ] جمع المستبدلين ، إذ لا يتوهم اشتراك المخاطبين في زوج واحد مكان زوج واحد ، ولإرادة معنى الجمع عاد الضمير من قوله { إِحْدَاهُنَّ } على « زوج » جمعاً . [ و ] التي نهى عن الأخذ منها في المستبدل مكانها؛ لأنها آخذة منه بدليل قوله تعالى : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ } وهذا إنَّمَا هو في القديمة لا في المستحدثة ، وقال : { إِحْدَاهُنَّ } ليدل على أنه قوله { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً } المراد منه : وآتى كل واحد منكم إحداهن أي : إحدى الأزواج [ ولم يقل : « آتيتموهن قنطاراً ، فدَلَّ [ على ] لفظ إحداهن » . على أنَّ الضمير المراد استبدال أزواج مكان أزواج فأرِيدَ بالمفرد هنا الجمع ، لدلالة { وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ } ، واُرِيدَ بقوله : « وآتيتم كل واحد واحد » لدلالة إحداهن -وهي مفردة- على ذلك ، ولا يَدُلُّ على هذا المعنى البليغ بأوجز ، ولا أفصح من هذا التركيب ، وقد تقدم معنى القنطار واشتقاقه في « آل عمران » والضمير في « منه » عائد على قنطار .
وقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ « آتيتم إحداهن » بوصل ألف إحدى ، كما قرأ « إنها لإحدى الكبر » ، حذف الهمزة تحقيقاً كقوله : [ الرجز ]
1771- إنء لَمٍ اُقَاتِلْ فَالْبِسُونِي بُرْقُعَا ... وقد طول أبُو البَقَاءِ هنا ، ولم يأتِ بطائلٍ فقال : وفي قوله : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً } إشكالان :
أحدهما : أنه جمع الضمير والمتقدم زوجان .
والثاني : أن التي يريد أن يستبدل بها هي التي تكون قد أعطاها مالاً ، فَنَهَاهُ عن أخذه ، فَأَمَّا التي يريد أن يستحدث بها فلم يكن أعطاها شيئاً حَتَّى ينهى عن خذه ، ويتأيد ذلك بقوله { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ } .
والجواب عن الأول : أنَّ المراد بالزوج الجمع؛ لأن الخطاب لجماعة الرجاال ، وكل منهم [ قد ] يريد الاستبدال ، ويجوز أنْ يكون جمع؛ لأن التي يريد أنْ يستحدثها يفضي حالها إلى أن تكون زوجاً و [ أن ] يريد أن يستبدل بها كما استبدل بالأولى فجمع على هذا المعنى .
وأمَّا الإشكال الثاني ففيه جوابان :
احدُهُمَا : انَّه وضع الظاهر موضع المضمر ، والأصل « وآتوتموهن » .
والثاني : أن المستبدل بها مبهمة فقال « إحداهن » إذْ لم يتعين حتى يرجع الضمير إليها ، وقد ذكرنا نحواً من هذا في قوله « فتذكر إحداهما الأخرى » انتهى .

قال شهابُ الدِّينِ : وفي قوله « وضع الظاهر موضع المضمر » نظر؛ لأنَّهُ لو كان الأصل كذلك لأوهَمَ أنَّ الجميع آتوا الأزْوَاجَ قنطاراً كما لم تقدم وليس كذلك .
فصل [ حكم المغالاة في المهر ]
قالوا : دَلَّتِ الآية على جواز المغالاة في المهر .
رُوِيَ أنَّ عرم بن الخطاب قال على المِنْبَرِ : « ألاَ لاَ تُغَالُوا في مهور نِسَائكُم » فقامت امرأة فقالت : يا ابن الخطاب الله يعطينا وَأنْتَ تمنع ، وتلت الآية فقال عمر : كلّ الناس أفْقَهُ مِنْكَ يا عكرُ ، ورجع عن ذلك .
قال ابن الخطيب : وعندي أنَّ الآية لا دلالة فيها على جواز المغالاة؛ لأن قوله { إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً } لا يدل على جواز إيتاء القنطار ، كما أن قوله { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] لا يدل على حصول الآلهة فالحاصل أنَّهُ لا يلزم مكن جعل الشيء شرطاً لشيء آخر كون ذلك الشرط في نفسه جائز الوقوع .
قال عليه الصلاة والسلام : « من قُتل له قتيلٌ فأهله بين خيرتين » ولم يلزم منه جواز القتل ، وقد يقول الرجل : لو كان الإله جسماً لكان محدثاً ، وهذا حق ، ولا يلزم منه أن [ قولنا ] الإله جسم حق .
فصل
يدخل في الآية ما إذَا كان آتَاهَا مهرها ، وما إذا لم يؤتها؛ لأنه
إذَا أوقع العقد على الصداق فقد آتاها ذلك الصداق في حكم الله فلا فرق بين ما إذا آتاها الصداق حساً ، وبين ما إذا لم يؤتها .
فصل [ في الخلوة الصحيحة هل تقرر المهر؟ ]
احتج ابُو بكر الرازي بهذه الآيةَ على أنَّ الخلوة الصحيحة تقرر المهر .
قال : لأنَّ اللهَ تعالى منع الزوج من أنْ يأخذ منها شيئاً من المهر ، وهذا المنع مطلق ترك العمل قبل الخلوة؛ فوجب أن يكون معمولاً به بعد الخلوة .
قال : ولا يجوز أن يقال إنَّه مخصوص بقوله تعالى : { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [ البقرر : 237 ] لأن الصحابة اختلفوا في تفسير المسيس .
فقال عمر وعلي -رضي الله عنهما- : المراد من المسيس : الخلوة .
وقال عبد الله : هو الجماع إذَا صار مختلفاً فيه امتنع جعله مخصصاً لعموم الآية .
وأجيب أنَّ هذه الآية هنا مختصة بعد الجماع لقوله : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ } وإفضاء بعضهم إلى بعض ، هو الجماع على ما سيأتي .
فصل [ سوء العشرة هل يوجب العوض ]
سُوءُ العشرة إنْ كان من قِبَلِ الزوجة حَلَّ أخذ بدل الخُلْعِ؛ لقوله : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ُلِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } وإن كان من قِبل الزوج ، كثرِهَ له أن يأخذ من مهرها شيئاً؛ لأنه نهى في هذه الآية عن الأخذ ، ثم إن خالف وفعل ملك بدل الخُلْعِ كما أنَّ البيع وقت النداء منهي عنه ، ثم إنه يفيد الملك .

قوله : { أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } استفهام إنكاري أي : اتفعلونه مع قبحه ، وفي نصب { بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } وجهان :
أحدهما : أنها منصوبان على المفعول من أجله أي لبهتانكم وإثمكم .
قال الزمخشريُّ : فإن لم يكن عَرَضاً كقولك : قعد عن القتال جبناً .
وقيل : انتصب ينزع الخافض أي ببهتان .
والثاني : أنَّهُمَا مصدران في موضع الحال ، وفي صاحبهما وجهان :
أظهرهُمَا : أنَّه الفاعل في أتأخذونه أي : باهتين وآثمين .
والثاني : أنَّهُ المفعول أي : أتأخذونه مبهتاً محيراً لشنعته ، وقبح الأحدوثة عنه ، والتقدير : تصيبون في أخذه بهتاناً ، والبُهْتَانُ فُعْلان من البُهْتِ ، وهو في اللغة : الكذب الذي يواجه به الإنسان صاحبه على وجه المكابرة ، وأصله من بهت الرَّجُلُ إذا تحيَّر فالبهتان كذب يحير الإنسان لعظمه ثم جُعِلَ كُلُّ باطل يتحير من بطلانه بهتاناً ، ومنه الحديث : « إذا واجهت أخاك بما ليس فيه فقد بَهَتَّهُ » ولقد تقدم الكلام عليه في البقرة .
وفي تسمية هذا الأخذ « بهتانا » وجوه :
أحدها : انَّهُ تَعَالى لما فرض لها ذلك المهر فأخذهُ؛ كَأنَّهُ يقول : ليس ذلك بفرض فيكون بُهْتَاناً .
وثانيها : أنَّ العقد يستلزم مهراً وتكفل بالعقد تسليم ذلك المهر إيلها ولا يأخذه منها ، صار ذلك القول الذي عقد به العقد بهتاناً .
وثالثها : أنا ذكرنا أنه كان من عادتهم إذا أرادوا تطليق الزوجة رموها بفاحشة ، حتى تخاف وتشتري نفسها منه بذلك المهر ، فلما كان ذلك واقعاً على هذا الوَجْهِ في الأغلب جعل كأنه أخذه بهتاناً [ وإثماً ] .
[ رابعها : أنَّه عقاب البهتان والإثم المبين فهو كقوله : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } [ النساء : 10 ] .
وقوله : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ } تقدَّمَ الكلام في كيف عند قوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله } [ البقرة : 28 ] .
قوله : { وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ } الواو للحال ، والجملة بعدها : في محل نصب ، وأتى ب « قد » ليقرب الماضي من الحال ، وكذلك « أخذن » وقد مقدرة معه لتقدم ذكرها ، وأصل أفْضَى ذهب إلى فضاه أي ناحية سعته ، يقال : فَضَى يَفْضُو فَضْواً ، وأفضى : عن ياء أصلها واو .
وقال اللَّيْثُ : أفْضَى فلان إلى فلان أي : وصل إليه ، وأصله أنه صار في فضائه وفرجته .
وقال غيره : اصل الإفْضَاءِ الوصول إلى الشيء من غير واسطة .
وللمفسرين في هذا الإفضاء قولان :
أحدهُمَا : قال ابن عباس : ومجاهد ، والسدي أنَّهُ كناية عن الجماع وهو اختيار الزجاج ، وابن قتيبة ، ومذهب الشافعيّ؛ لأنَّ عنده أن الزوج إذا أطلق قبل المسيس فله أن يرجع في نصف المهر ، وإنْ خلا بها .
والثاني : أنَّ الإفضاء هو الخلوة وإن لم يجامعها .
وقال الكلبي : الإفضاء ان يكون معها في لحاف واحد ، جامعها أو لم يجامعها ، وهذا اختيار الفراء ، ومذهب أبي حنيفةَ؛ لأن الخلوةَ في الأنكحة الصحيحة تقرر المهر ، واسْتَدَلُّوا على القول الأوَّّلِ بوجوهٍ :
أحدها : ما تَقَدَّمَ عن الليث : أنه يصير في فرجته وفضائه ، وهذا المعنى إنَّمَا يحصل في الحقيقة عند الجماع .

وثانيها : انه تعالى ذكر في معرض التعجب فقال { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ } والتعجب إنما يتم إذا كان هذا الإفضاء سبباً قوياً في حصول الألفة والمحبّة ، وذلك لا يحصل بمجرد الخلوة وإنَّمَا يحصل بالجماع ، فيحمل عليه .
وثالثها : أن الإفضاء إليها لا بد وأن يكون مفسراً بفعل منه ينتهي إليه؛ لأن كلمة « إلى » لانتهاء الغاية ، ومجرد الخلوة ليبس كذلك؛ لأن عند الخلوة المحضة لم يصل كل واحد منهما إلى الآخر فامتنع تفسير قوله : { أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ } بمجرد الخلوة .
وإنْ قيل : إذا اضطجعها في لحافٍ واحد ملامساً فقد الإفْضَاء مِنْ بعضهم إلى بعض؛ فوجب أن يكون ذلك كافياً وأنتم لا تقولون به .
فالجَوَابُ أنَّ القائل بذلك قائلان : قائل يقول : المهر لا يتقرر إلاَّ بالجماع ، وآخر يقول : يتقرَّر بمجرد الخلوة ولا يقولُ أحَدٌ إنَّه يتقرر بالملامسة والمضاجعة فَبَطَلَ هذا القول بالإجماع ، ولم يبق في تفسير الإفضاء إلاَّ أحد أمرين : إمَّا الجماع ، وإمَّا الخلوةَ ، وقد أبطلنا القول بالخلوة بما بيناه فلم يبق إلاَّ أن المراد بالإفْضَاءِ الجماع .
ورابعها : أنَّ المهر قَبْلَ الخُلْوَةِ ما كان مُتَقَرِّراً ، وقدو علّقَ الشَّرع تقريره على إفضاء البعض إلى البعض ، وقد اشتبه في المُرَادِ بهذا الإفضاء هل هو الخُلوة ، أو الجماع ، وإذَا وقع الشكُّ وجب بقاء ما كان على ما كان والأصل براءة الذمة .
احتج من قال : بأن الخلوة الصحيحة تقرر المهر وتُوجِبُ العدةَ دخل بها أوْ لم يدخل بها بما رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عن [ ابن ] ثوبان ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ كَشَفَ خِمَارَ امْرَأةٍ ونَظَرَ إلَيْهَا وَجَبَ الصَّدَاقُ » وقال عمر : إذَا أغْلَقَ باباً وأرخى ستراً وأرى عورة فقد وجب الصداق ، وقضى الخلفاء الراشدون أنَّ من أغلق باباً ، وأرخى ستراً فقد وجب الصداق وعليها العدة .
قوله { وَأَخَذْنَ مِنكُ } في منكم زوجان :
أظهرهما : أنه متعلق ب « أخذن » ، وأجاز فيه أبُو الْبَقَاءِ أن يكون حالاً من ميثاقاً قدّم عليه كأنه لما رأى أنَّه يجوز أن يكون صفة لو تأخر أجاز ذلك وهو ضعيف .
قال الحسن ، وابن سيرين ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وعكرمة ، والفراء : المراد بالميثاق هو قول الولي عند العقد : زوّجْتُكَها على ما أخذ للنساء على الرجال من إمساك بمعروف ، أو تسريح بإحسان .
وقال الشَّعْبِيُّ وَعِكْرِمَةُ ومُجَاهِدٌ : في كلمة النِّكَاحش المعقود عليها على الصداق وقال عليه الصلاة والسلام : « اتَّقُوا اللهَ في النِّسَاءِ فَإنَّكُمْ أخَذْتُمُوهُنَّ بأمَانَةِ اللهِ واسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ » .
وقيل المراد بالميثاق الغليظ هو : إفْضَاءُ بعضهم إلى بعض وصفه بالغلظة لعظمة ما يحدث بين الزوجين من الاتحاد والألفة والامتزاج .
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)

قوله تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } إلى قوله : [ سبيلا ] .
قال الأشعث بن سَوّار توفي أبو قيس وكان من صالحي الأنصار فخطب ابنه امرأة أبيه فقالت إنِّي أعدّك ولداً وأنت من صالحي قومك ، ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم استأمره ، فأتته فأخبرته فأنزل الله هذه الآية .
قال ابن عباس وجمهور المفسرين : كان أهل الجاهلية يتزوجون بأزواج آبائهم فنهوا بهذه الآية عن [ ذلك . قوله « ما نكح » في « ما » هذه قولان ] :
أحدهما : أنها موصولة اسمية واقعة على انواع من يعقل كما تقدم في قوله { مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] هذا عند من لا يجيز وقوعها على آحاد العقلاء فأما من يجيز ذلك فيقول : إنها واقعة موقع من ف « ما » مفعول به بقوله « ولا تنكحوا » والتقدير : ولا تتزوّجُوا من تزوج آباؤكم .
والثاني : أنها مصدرية أي : ولا تنكحوا مثل نكاح آبائكم الّذي كان من الجاهليَّة وهو النكاح الفاسد كنكاح الشغار وغيره ، واختار هذا القول جماعة وغيره ، واختار هذا القول جماعة منهم ابن جرير الطبري وقال : ولو كان معناه : ولا تنكحوا النساء التي نكح آباؤكم لوجب أن يكون موضع « ما » « من » انتهى . وتبين كونه حراماً ، أو فاسداً من قوله { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً } . قوله { مِّنَ النسآء } تقدم نظيره أول السورة .
فصل [ حكم نكاح مزنية الأب ]
قال أبو حنيفة وأحمد : يحرم على الرجل ان يتزوج بمزنية أبيه وقال الشافعي : لا يحرم ، واحتج الأولون بهذه الآية ، لأنه تعالى نهى الرجل أن ينكح منكوحة أبيه ، والنكاح عبارة عن الوطء لوجوه :
أحدها : قوله تعالى { فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } [ البقرة : 230 ] فأضاف النّكاح إلى الزّوج ، والنّكاح المضاف إلى الزّوج هو الوطء لا العقد؛ لأن الإنسان لا يتزوج من [ زوجة ] نفسه؛ لأن ذلك في تحصيل الحاصل؛ ولأنَّهُ لو كان المراد به في هذه الآية العقد لحصل التحليل بمجرد العقد وحيث لم يحصل علمنا أن المراد من النكاح في هذه الآية ليس هو العقد ، فتعين أن يكون هو الوطء؛ لأنه لا قائل بالفرق . وثانيها : قوله { وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ } [ النساء : 6 ] والمراد به الوطء لا العقد؛ لأن أهلية العقد كانت حاصلة .
وثالثها : قوله : { الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً } ولو كان المراد العقد لزم الكذب .
ورابعها : قوله عليه [ الصلاة ] والسلام « ناكح اليد ملعون » وليس المراد العقد فثبت بهذه الوجوه أنَّ النكاح عبارة عن الوطء فلزم أن يكون المراد من قوله « ما نكح آباؤكم » أي : وطئن آباؤكم ، فيدخل فيه المنكوحة والمَزْنِيُّ بها .
فإن قيل قد ورد أيضاً لفظ « النكاح » بمعنى العقد ، قال تعالى

{ وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ } [ النور : 32 ] { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] . إذا نكحتم المؤمنات .
وقال عليه [ الصلاة ] والسلام : « ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح » فلم كان حمل اللفظ على الوطء أوْلَى من حمله على العقد؟
فالجواب أن لفظ « النكاح » حقيقة في الوطء مجاز في العقد . لأنَّ لفظ النكاح في أصْلِ اللغة عبارة عن الضَّمِّ ، ومعنى حاصل في الوطء لا في العقد ، فكان حقيقة في الوطء وإنَّمَا سُمِّيَ العقد بهذا الاسم؛ لأنه سبب الوطء ، فيكون من باب إطلاق اسم المسبب على السبب كما أنَّ العقيقة : اسم للشِّعْرِ الذي يكون على رأس الصغير حال ما يولد ثم تُسَمَّى الشاة التي تذبح عند خلق ذلك الشِّعْر عقيقة [ فكذا ها هنا . هذا على قول من يقول : لا يجوز استعمال اللفظ الواحد بالاعتبار الواحد في حقيقته ] ومجازه فلا جرم نقول : المستفاد من هذه الآية حكم الوطء أمَّا حكم العقد فَإنَّهُ يستفاد من دليل آخر ، فأمَّا [ من ] ذهب إلى اللفظ المشترك يجوز استعماله في مفهوميْه معاً ، فإنه يقول دلت الآية على لفظ النكاح حقيقة الوطء ، وفي العقد معاً ، فكان قوله : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء } نهي عن الوطء وعن العقد معاً حملاً للفظ على مفهوميه ولو سلمنا أنَّه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميْه معاًً ، لكن ثبت بالدلائل المذكورة أنَّ لفظ النكاح قد استُعمِلَ في الوطء تارةً ، وفي العقد أخرى ، والقول بالاشتراكِ والمجاز خلاف الأصل ، فلا بدّ من جعله حقيقة في القدر المشترك بينهما ، وهو معنى الضمّ حتَّى يندفع الاشتراك والمجاز ، فإذا كان كذلك كان قوله : « ولا تنكحوا ما نكح أباؤكم من النساء » نهياً عن كل واحد من القسمين لا محالة ، فإنّ النهي عن التزويج يكون نهياً عن العقد ، وعن الوطء معاً ، وأجيبوا عن هذا الاحتجاج بوجوه :
الأوَّل : لا نسلم أنَّ النكاح يقع على الوطء ، والوجوه الَّتي احتجوا بها معارضة بوجوه :
الأول : قوله عليه الصلاة والسلام « النِّكَاحُ سُنَّتِي » ولا شك أنَّ الْوَطْءَ من حيث كونه وَطْئاً ليس سنة [ له ] وإلا لزم أنْ يكون الوطء بالسفاح سُنَّةًَ فلما ثبت أنَّ النِّكاح سنة ، وثبت أن الوطء ليس بسنة ثبت أنَّ النكاحَ ليس عبارة عن الوطء وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام : « تَنَاكَحُوا تَكَاثَرُوا » ولو كان الوطء مسمى بالنكاح لكان هذا إذناً في مطلق الوطء ، وكذا التمسك بقوله { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ } [ النور : 32 ] { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] .
لا يقال : لما وقع التعارض بين هذه الدّلائل فالترجيح معنا ، وذلك لأنَّا لو قلنا الوطء مسمى بالنكاح على سبيل الحقيقة لزم دخول المجاز في دليلنا ، ومتى وقع التعارض بين المجاز والتخصيص كان التزام التخصيص أولى .

لأنَّا نقول : أنْتُم تساعدونا على أنَّ لَفْظَ النِّكاح مستعمل في العقد ، فلو قلنا : إنَّ النكاح حقيقة في الوطء لزم دخول التخصيص في الآيات التي ذكرناها ولزم القول بالمجاز في الآيات التي ذكر النِّكَاح فيها بمعنى الوطء ولا يلزمنا التخصيص فقولكم : يوجب المجاز والتخصيص معاً وقولنا : يوجب المجاز فقط ، فكان قولنا أوْلَى .
الوجه الثَّاني من الوجوه الدَّالة على أنَّ النِّكاح ليس حقيقة في الوطء قوله عليه [ الصلاة ] والسلام « وُلِدَتْ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أُولد مِنْ سِفَاحٍ » وهذا يقتضي أن لا يكون الوطء نكاحاً .
الوجه الثالث : من حلف في أولاد الزنا أنهم ليسوا أولاد نكاح لَمْ يَحْنَثْ ، ولو كان الوطء نكاحاً لوجب أن يحنث .
سلمنا أنَّ الوطء يسمى نكاحاً لوجب أن يحنث .
سلمنا أنَّ الوطء يسمى نكاحاً لكن العقد أيضاً يسمى نكاحاً فلم كان حمل الآية على ما [ ذكرتم أولى من حملها على ما ذكرنا ] .
وأمَّا قولهم إنَّ الوطء مسبب للعقد ، فكما يحسن إطلاق المسبب مجازاً فكذا يحتمل أن يُقَالَ النِّكاح اسم للعقد ثم أُطْلِقَ هذا الاسم على الوطء لِكَوْنِ الوطء مسبباً له ، فلم كان أحدهما أوْلَى من الآخر ، بل ما ذكرناه أولى؛ لأن استلزام السبب للمسبب أولى وأتم من استلزام المسبب للسبب المعين ، فإنَّهُ لا يمنع حصول الحقيقة الواحدة بأسباب كثيرة كالمِلْك ، فَإنَّهُ يحصل بالبيع واهبة والوصية والإرث ، ولا شك أنَّ الملازمة شرط لجواز المجاز ، فَثَبَتَ أنَّ القول بأنَّ اسم النِّكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد أولى من عكسه .
والوجه الثاني : أنَّهُ ثبت في أصول الفِقْهِ أنَّهُ يجوز استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه معاً فحينئذ يلزم ألا تكون الآية دالة على حكم العقد ، وهذا وإن كانوا قد التزموه لكنه مدفوع بإجماع المفسرين على سبب نُزُولِ هذه الآية هو أنَّهُم كانوا يتزوجون بأزواج آبائهم ، وأجمع المسلمون على أنَّ سبب نزول تلك الآية لا بد وَأنْ يكون داخلاً [ تحت الآية ، بل اختلفوا في أنَّ غيره هل يدخل تحت الآية أم لا؟ فَأمَّا أنَّ سبب النُّزول يكون ] داخلاً فيها فذلك مجمع عليه ، وإذَا ثبت أنَّ سبب النزول لا بدّ وأن يكون مراداً ثبت بالإجماع أنَّ النهي عن العقد مراد من هذه الآية فيكون قولهم مضاد للدليل القاطع ، فيكون مردوداً .
وَأمَّا استدلالهم بالضم فضعيف؛ لأنَّ الضم الحاصل في الوطء عبارة عن اتحاد الأجسام وتلاصقها ، والضم الحاصل في العقد ليس كذلك؛ لأنَّ الإيجاب والقبول أصوات غير باقية ، فمعنى الضمّ والتّلاقي والتّجاور فيها محال ، وَإذَا كان كذلك فليس بين الوطء والعقد مفهوم مشترك حتى [ يقال إنَّ لفظ النكاح حقيقة فيه ، فإذا بطل ذلك لم يبق إلا أنْ يُقَالَ لفظ النكاح مشترك بين الوطء والعقد ] ويقال : إنه حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر ، ويرجع الكلام إلى الوجهين الأوَّلين .

الوجهُ الثالث : سلمنا أنَّ النِّكاح بمعنى الوطءِ ولكن لم قلتم إن قوله { مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } المراد منه المنكوحة بل المراد منه المصدر لإجماعهم على أنَّ لفظ « ما » حقيقة في غير العقلاء ، فلو كان المراد منه المنكوحة لزم هذا المجاز ، وهو خلاف الأصل ، بل أهل العربية اتفقوا على أن ما « ما » مع ما بعدها في تقدير المصدر فتقدير الآية : « ولا تنكحوا نكاح آبائكم » ، ويكون المرادُ منه النَّهي على أن ينكحوا نكاحاً مثل نكاح آبائهم فإن أنكحتم كانت بغير وَلي ولا شهود ، وكانت مُؤقتة ، وكان على سبيل القهر والإلجاء ، فنهاهم اللهُ تعالى عن مثل هذه الأنكحة بهذه الآيةِ؛ وهذا الوجه مَنْقُولٌ عن ابن جَرِيرٍ وغيره كما تقدَّمَ .
الوجه الرابع : سَلَّمْنَا أنَّ المراد المنكوحة ، والتقدير : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم ، ولكن قوله { مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } ليس صريحاً في العموم بدليل أنَّهُ يصحُّ إدخال لفظ الكلِّ في البعض عليه ، فيقالُ : ولا تنكحُوا بعض ما نكح آباؤكم ، [ ولو كان هذا صريحاً في العموم لكان إدْخَالُ لفظ الكلِّ عليه تكراراً ، وإدخال لفظ البعض عليه نقصاً ، ومعلوم أنَّهُ ليس كذلك ، وإذَا ثبت أنه لا يفيد العموم لم يتناول محل النزاع ، لا يقال : لو لم يفد يصير مجملاً غير مفيد والأصل ألا يكون كذلك؛ لأنا نقول : لا نُسَلِّمُ أن التقدير لا يفيد العموم لم يكن صرفه إلى البعض أولى من صرفه إلى غيره ، وذلك لأن المفسرين أجمعوا على أنَّ سبب نزوله إنما هو التزوّج بزوجات الآباء ، فكان صرفه إلى هذا القسم أولى ، وبهذا التقدير يزول الإجمال ] .
الوجهُ الخامس : سلمنا أن هذا النهي يتناول محل النِّزاع لكن لم قُلْتُمْ : إنَّهُ يفيد التحريم ، أليس أن كثيراً من أقسام النَّهي لا يُفِيدُ التَّحْريم ، بل يفيدُ التنزيه ، أقصى ما في البَاب أن يقال : هذا على خلاف الأصل ، ولكن يجب المصير إذا دلّ الدّليل على صحّة [ هذا ] النكاح [ وسنذكره .
الوجه السادس : هب أن ما ذكرتم يدل على فساد هذا النكاح ] إلا أن ههنا ما يدلُّ على صحَّة هذا النكاح وهو من وجوه :
الأوَّلُ : هذا النِّكاح منعقد؛ فوجب أن يكون صحيحاً ، بيان أنَّهُ منعقد لأنَّهُ منهي عنه بهذه الآية ، ومذهب أبي حَنِيفَةَ أنَّ النَّهْيَ عن الشَّيء يَدُلُّ على كونه في نفسه منعقداً ، وهذا أصْلُ مذهبه في مَسْأَلَةِ البيع الفَاسِدِ وصوم يوم النَّحْرِ ، فيلزمُ من مجموع هاتين المُقَدِّمَتَيْنِ ، أن يكون هذا النِّكاح منعقداً على أصل أبي حنيفة ، وإذا كان منعقداً في هذه الصُّورة؛ وَجَبَ القولُ بالصِّحَّة؛ لأنَّهُ لا قائل بالفَرْقِ .
وثانيها : [ أنَّ ] قوله { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } [ البقرة : 221 ] وهذا نهي إلى غاية إيمانِهنَّ والحكمُ المدود إلى غاية ينتهي عند حُصُولِ تلك الغاية ، وإذا انتهى [ المنع ] حصل الجواز ، فهذا يقتضي جواز إنكاحهن على الإطلاق ، ويدخل في هذا العموم مزنيّة الأب وغيرها ، أقصى ما في هذا الباب أنَّ هذا العموم خُصَّ في مواضع ، فَيَبْقَى حجة في غير محل التخصيص ، ولذلك يستدل بجميع المعلومات الواردة في باب النكاح كقوله تعالى :

{ وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ } [ النور : 32 ] وقوله { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] وكذلك قوله : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } [ النساء : 24 ] وليس لأحد أن يقول إن قوله { مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } [ النساء : 24 ] ضمير عائد إلى المذكور السابق ، ومن جملة المذكور السابق قوله : { مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } [ النساء : 24 ] وليس لأحد أن يقول إن قوله { مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } [ النساء : 24 ] ضمير عائد إلى المذكور السابق ، ومن جملة المذكور السابق قوله : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء } لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات إليه هو قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } [ النساء : 23 ] وكان قوله { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء } عائداً إليه ، ولا يدخل فيه قوله { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء } وكذلك عموم الأحاديث كقوله عليه السلام « إذَا جَاءَكُم مضنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ فَزَوِّجُوهُ » وقوله « زوجوا بناتكم [ الأكفاء ] » وهذه العمومات تتناول محل النزاع ، والترجيح يكون بكثرة الأدلة ، وبتقدير أن يثبت لهم أن النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد ، فيكون حملنا الآية على العقد لم يلزمنا إلاَّ مجاز واحد ، وبتقدير أن تحلم تلك الآية على حرمة الوطء تلزمنا هذه التخصيصات الكثيرة ، فكان الترجيح من جانبنا لكثرة الدلائل .
وثالثها : الحديث المشهور وهو قوله عليه السلام « الحرام لا يحرم الحلال » أقصى ما في هذا الباب أن يقال : إن قطرة من الخمر إذا وقت في كوز ماء ، فههنا الحرام حرّم الحلال ، [ وإذا اختلطت المنكوحة بالأجنبيات واشتبهت بهن فههنا الحرام حرم الحلال ] إلا أنَّا نقول : دخول التخصيص فيه في بعض الصور ، ولا يمنع من الاستدلال به .
ورابعها : أن يقول : المقتضي لجواز النِّكاح قائم ، والفَارِقُ بَيْنَ مَحَلِّ الإجماع وبين مَحَلِّ النَّزاع ظاهر؛ فَوَجَبَ القولُ بالجوازِ أمَّا المقتضي فهو أن يقيس نكاح هذه المرأة على نكاح سائر النّسوان عند حُصُولِ الشَّرائط المتفق عليها؛ بجامع ما في النِّكاح مِنَ المصالح ، وأمَّا الفارق : فهو أنَّ هذه الحرمة إنَّمَا حكم الشَّارع بثبوتها سعياً في إبقاء الوصلة الحاصلة بسبب النكاح ، ومعلوم أنَّ هذا لا يليق بالزِّنَا .
بيان المقام الأول : من تزوج بامرأة فلم يدخل على المرأة أبو الرجل وابنه ، ولم تدخل على المرأة أم المرأة وبنتها ، لبقيت المرأة كالمحبوسة في البيت ، ولتعطل على الزوج والزوجة أكثر المصالح ، ولو أذنَّا في هذا الدخول ، ولم نحكم بالمحرمية فربما امتد على البعض إلى البعض ، وحصل الميل والرغبة ، وعند حصول التزوج بأمها وابنتها تحصل النفرةَ الشديدة بينهن؛ لأنَّ صدور الإيذاء عن الأقارب أقوى وقعاً ، وأشد إيلاماً وتأثيراً ، وعند حصول النفرة الشَّديدة يحصل التَّطْلِيقُ والفراق ، أمَّا إذا حصلت المحرمية انقطعت الأطماع وانحبست الشهوة ، فلا يحصل ذلك الضرر فيبقى النكاح بين الزّوجين سليماً عن هذه المفسدة ، فثبت أن المقصود من حكم الشّرع بهذه المحرمية السعي في تقريرِ الاتصال الحاصل بين الزوجين ، وإذَا كان المقصود من المحرمية إبقاء ذلك الاتِّصال ، فمعلوم أنّ الاتصال الحاصل عند النكاح مطلوب البقاء ، فناسب حكم الشرع بإثبات هذه المحرمية [ وأما الاتصال الحاصل بالزنا فهو غير مطلوب البقاء ، فلم يتناسب ] حكم الشرع بإثبات هذه المحرمية ، وهذا وجه مقبول .

قوله { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } في هذا الاستثناء قولان :
أحدهما : أنه منقطع؛ إذ الماضي لا يجامع الاستقبال ، والمعنى أنَّهُ لما حرَّم عليهم نكاح ما نكح آباؤهم [ من النِّساء ] تطرق الوهم إلى ما مضى في الجاهِلِيَّةِ ما حكمه؟ فقيل : إلاَّ ما قد سَلَفَ ، فلا إثْمَ عَلَيْهِ .
وقال ابْنُ زَيْدٍ في معنى ذلك أيضاً : إنَّ المُرَادَ بالنِّكَاحِ العقدُ بالنِّكَاحِ العقدُ الصَّحِيحُ ، وحَمَلَ { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } على ما قد يتعاطَاهُ بعضهم من الزِّنَا [ فقال : إلا ما سلف من الآباء في الجاهلية من الزنا ] بالنِّسَاءِ ، فَذَلِكَ جائز لكم زواجكم في الإسْلاَمِ ، وكأنَّهُ قيل : ولا تَعْقِدُوا عَلَى مَنْ عقد آباؤكم عليه إلاَّ ما قد سَلَفَ من زَنَاهُم ، فَإنَّهُ يجوز لكم أن تَتَزَوَّجُوهُمْ ، فهو استثناءٌ منقطعٌ أيضاً .
والثاني : أنَّهُ استثناءٌ مُتَّصِلٌ وفيه معنيان :
أحدهما : أن يحمل النِّكَاح على الوَطْءِ ، والمعنى : أنَّهُ نهى أنْ يَطَأَ الرَّجُلُ امْرَأةً وَطَئَهَا أبُوه ، إلا ما قد سَلَفَ من الأبِ في الجاهليَّةِ من الزِّنَا بالمرأةِ ، فإنَّه يجوز للابن تزويجها نُقِلَ هذا المَعْنَى عن ابن زَيْدٍ أيضاً إلاّ أنَّهُ لا بدّ من التّخصيص [ أيضاً ] في شيئين :
أحدهُمَا : قوله : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } أي : ولا تَطَئُوا وطئاً مباحاً بالتَّزويج .
والثَّاني : التَّخْصيصُ في قوله : { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } بوطء الزِّنَا وإلا فَالوَطْءُ فيما قَدْ سَلَفَ قد يكون [ وَطْئاً ] غير زنا ، وقد يكون زنا فيصير التقدير : ولا تطئوا ما وطئ آباؤكم وَطْئاً مباحاً بالتزويج إلاَّ من كان وطؤها فيما مضى وطء زنا في الجاهليَّةِ .
والمعنى الثَّاني : ولا تَنْكِحُوا مِثْلَ نكاح آبائكم في الجاهليَّةِ إلاَّ ما تَقَدَّمَ منكم من تلك العُقُودِ الفَاسِدَةِ فَيُبَاحُ لكم الإقامة عليها في الإسْلاَمِ ، إذا كان ممّا يقرر الإسلام عليه ، وهذا على رَأي من يَجْعَل « ما » مصدريّة ، وقد تَقَدَّمَ مذل ذلك . وقال الزَّمَخْشَرِيُّ : فإن قلت : كيف استثنى { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } مما نكح آباؤكم؟ قلتك كما استثنى « غير أن سيوفهم » من قوله « ولا عيب فيهم » يعني : إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه ، فلا يحل لكم غيره ، وذلك غير ممكن ، والغرض المبالغة في تحريمه ، وسدّ الطريق إلى إباحته كما تَعَلَّقَ بالمحال في التأبيد في نحو قولهم : « حتى يبيضّ القار » و

{ حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط } [ الأعراف : 40 ] انتهى .
أشار رحمهُ اللهُ إلى بيت النَّابِغَةِ في قوله : [ الطويل ]
1772- وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
يعني إن وجد فيهم عيباً فهو هذا ، وهذا لا يعدّه عيباً فانتفى العَيْبُ عَنْهُمْ بدليل ، ولكن هذا الاستثناء على هذا المعنى الَّذي أباه الزَّمَخْشَرِيُّ ، من قبيل المنقطع ، أو المتصل؟ والحقُّ أنَّهُ متصل لأن المعنى : ولا تَنْكَحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ [ إلا ] اللاتي مضين وفنين ، وهذا محالٌ ، وكونه محالاً لا يخرجه عن الاتَّصال ، وأمَّا البيتُ ففيه نَظَرٌ؛ والظَّاهِرُ أنَّ الاستثناء فيه متصل أيضاً لأنه جعل العيب شاملاً لقوله : « غير أن سيوفهم [ بهن فلول من قراع ] » بالمعنى الَّذي أراده وللبحث فيه مجال ، فتلخَّص مِمَّا تَقَدَّمَ أنَّ المراد بالنِّكَاحِ في هذه الآيةِ العقدُ الصَّحِيحُ ، أو الفاسد أو الوطء ، أو يرادُ بالأوَّلِ العقد ، وبالثَّانِي الوَطْءُ وقد تَقَدَّمَ الكَلاَمُ على ذلك في البَقَرَةِ . وزعمَ بعضهم أنَّ في الآية تقديماً وتأخيراً ، والأصل : « ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً إلا ما قد سلف » ، وهذا فاسدٌ من حيث الإعراب ومن حيث المعنى ، أمَّا الأوَّل فلأنَّ ما في حيز « إن » لا يتقدَّمُ عليها ، وأيضاً فالمستثنى يتقدَّمُ على الجملة الَّتي هو من متعلِّقاتها سواءً كان متصلاً أو منقطعاً وإن كان في هذا خلاف ضعيف .
وأمَّا الثَّاني فلأنَّهُ أخْبَرَ أنه فاحشة ومقت في الزَّمان الماضي [ بقوله « كان » ، فلا يصحُّ أن يستثنى منه الماضي؛ إذ يصيرُ المعنى هو فاحشة في الزّمان الماضي ] إلا ما وقع منه في الزَّمَان الماضي فليس بفاحشة . وقيل : إن « إلا » هاهنا بمعنى « بَعْدَ » كقوله تعالى { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى [ وَوَقَاهُمْ ] } [ الدخان : 56 ] أيْ بعد المَوْتَةِ الأوَلى وقيل { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } قيل نزول آية التحرير وقيل { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } فإنكم مقرون عليه ، قالوا : لأنَّهُ عليه السَّلاَمُ أقَرَّ بما عليهنَّ مدة ثم أمر بمفارقتهن وإنَّمَا فعل ذلك ليكون إخراجهم عن العادة الرَّديئة على سبيل التَّدرُّجِ .
وقيل : إنَّ هذا خطأ؛ لأنَّه عليه السَّلامُ ما أقَرَّ أحداً على نكاح امرأة أبيه ، وَإنْ كان في الجاهليَّةِ ، لما روى البراء بنُ عَازِبٍ قال : مَرَّ بِي خَالِي أبُو بُرْدَة [ ابن نيار ] ومعه لواء قلت أيْنَ تَذْهَبُ؟ قال : بَعَثَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوَّجَ امرأة أبيه مِنْ بعده آتيه برأسه وآخذ ماله .
فصل
قال القُرْطُبِيُّ ، وقد كان في العَرَبِ قبائل [ قد اعتادت ] أنْ يخلف [ ابن ] الرَّجُل على امرأةِ أبيه ، وكانت هذه السِّيرة في الأنصار لازمة ، وكانت في قريش مباحة مع التَّراضي ، ألا ترى أنَّ عمرو بْنُ أميَّة خلف على امرأة أبيه بعد موته فولدت له مسافراً وأبا معيط ، وكان لها من أمية أبو العيص وغيره؛ فكان بنو أمية إخوة [ مُسَافِر وأبي مُعَيط ] وأعمامها ، وأيضاً صفوان بن أميَّةَ تزوَّج بعد أبيه امرأته ، فاختة بنت الأسود بن المطلب بن أسَد ، وكان أميّة قتل عنها ومن ذلك منظور بن زبَّان خلف على مُلَيْكة بِنْتِ خَارِجَةَ ، وكان تحت أبيه زبَّان بن سيار ومن ذلك حِصْن بن أبِي قَيْسٍ تزوَّجَ امرأة أبيه [ كُبَيْشَة ] بنت معن ، والأسود بن خلف تزوَّج امرأة أبيه .

قوله : { إِنَّهُ } إن هذا الضمير يعود على النِّكَاح المفهوم من قوله : { وَلاَ تَنكِحُواْ } ويجوز أن يعود على الزِّنَا إذا أرِيدَ بقوله { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } من الزِّنَا و « كان » هنا تدلُّ على الماضي فقط؛ لأنَّ معناها هنا : لم يزل ، أي في حكم اللهِ وعلمه موصوفاً بهذا الوصف ، وهذا المعنى هو الذي حَمَلَ المبرد على قوله : « إنها زائدة » ، وردَّ عليه [ أبُو حَيَّان ] بوجود الخبر والزَّائدة لا خبر لها ، وكأنه يعني بزيادتها ما ذكرناه من قوله لا تَدُلُّ على الماضي فَقَطْ ، فَعَبَّر عن ذلك بالزِّيَادَةِ .
فصل
وصف تعالى هذا النِّكَاحَ بأمُورٍ ثَلاَثَةٍ :
الأوَّلُ : أنَّهُ فاحشةٌ ، والفَاحِشَةُ أقبحُ المعاصي ، وذلك أنَّ زوجة [ الأب ] تشبه الأمّ ، فكان مباشرتها من أفْحَشِ الفواحش لأنَّ نكاح الأمّهات من أقبح الأشْيَاءِ عند العَرَب قال أبُو العبَّاس سالت ابن الأعرابي عن نكاح المقت فقال : هو أن يتزوج الرَّجل امرأة أبيه إذا طلَّقها أو مات عنها ويقال لهذا الرَّجُل : الضَّيْزَن وقال ابْنُ عَرَفَة : كانت العرب إذا تزوَّجَ الرَّجُلُ امرأة أبيه فأولدها ، قيل للولد : المقتِيّ .
والثَّاني : امَقْتُ هو بغضٌ مقرون باستحقار ، فهو أخصُّ منه ، وهو من اللَّه تعالى في حقِّ العبد يدلُّ على غاية الخزْي والخَسَارِ ، وكان لذلك أخص قبل النَّهْي منكراً في قلوبهم ، ممقوتاً عندهم ، وكانت العَرَبُ تقولُ لولد الرَّجُلِ من امرأة أبيه : « مقيتٌ » وكان منهم الأشْعَثُ بنُ قَيْسٍ ، أبو معيط بن أبي عمرو بن أميةَ .
والثَّالِثُ : قوله : { وَسَآءَ سَبِيلاً } وأعلم لأنَّ مراتب القبح ثَلاثَة :
الْقُبْحُ العَقْلِيُّ ، والقبح الشَّرْعِيُّ ، والقبح العَادِيُّ ، فقوله : « فاحشة » إشارة إلى القُبْحِ العقلي ، وقوله { وَمَقْتاً } إشارةً إلى القبح الشَّرعي ، وقوله { وَسَآءَ سَبِيلاً } إشارةً إلى القبح في العرف والعادةِ ، ومن اجتمع فيه هذه الوجوه فقد بلغ الغاية في القبح .
قوله { وَسَآءَ سَبِيلاً } في « ساء » قولان :
أحدهما : أنها جارية مجرى بئس في الذَّمِّ والعمل ، ففيها ضمير مبهم يفسِّره ما بعده وهو { سَبِيلاً } والمخصوص بالذَّمِّ محذوف تقديره « وساء سبيل هذا النكاح » كقوله : « بئس الشراب » أي : ذلك الماء .
قال الَّليْثُ : « ساء » فعل لازم وفاعله [ مضمر ، و ] « سبيلاً » منصوب تفسيراً لذلك الفاعل المحذوف كما قال

{ وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً } [ النساء : 69 ] .
الثاني : أنَّهَا لا تجري مجرى بِئْسَ في العمل ، بل هي كسائر الأفعال ، فيكونُ فيها ضمير يعودُ على ما عاد الضَّمِيرُ في { إِنَّهُ } ؛ و { سَبِيلاً } على كلا التَّقْدِيرَيْنِ تمييز وفي هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنها لا محل لها من الإعراب بل هي مُسْتَأنَفَةٌ ويكون الوقف على قوله : ومقتاً ، ثم يستأنف { وَسَآءَ سَبِيلاً } أي : وساء هذا السَّبِيلُ من نكاح مَنْ نكحهن من الآباء .
والثاني : أن يكون معطوفاً على خبر كان ، على أنَّه يجعل محكياً بقول مضمر ، ذلك القول هو المعطوف على الخبر ، والتقدير : ومقولاً فيه { وَسَآءَ سَبِيلاً } فهكذا قدَّرَهُ أبُو البَقَاءِ . ولقائل أن يقول يجوز أنْ يكون عطفاً على خبر كان من غير إضمار قول؛ لأنَّ هذه الجملةَ في قوة المفردِ ، ألا ترى أنه يقع خبراً بنفسه ، بِقَوْلِ : زيد سَاءَ رَجُلاً ، فغاية ما في البَابِ أنَّكَ أتيتَ بِأخبَارٍ كان أحدُهَا مفرد والآخر جملة ، اللَّهُمَّ إلاَّ أن يقالَ : إنَّ هذه الجملة إنشائِيَّة ، والإنشائيَّة لا تقع خبراً ل « كان » فاحتاج إلى إضمار القول ، وفيه بحث .
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)

أمهات جمع أمِّ والهاء زائدةٌ في الجمع ، فَرْقاً بَيْنِ العُقَلاَءِ وغيرهم ، يُقَالُ في العُقَلاَءِ أمَّهَات ، وفي غيرهم أمات كقوله :
1773- وَأمَّاتِ أطْلاَءٍ صغار ... هذا هو المشهور ، وقد يقال : « أمَّات » في العقلاء و « أمهات » في غيرهم ، وقد جمع الشَّاعِرُ بين الاستعمالين في العُقَلاَءِ فقال : [ المتقارب ]
1774- إذَا الأمَّهاتُ قَبَحْنَ الوُجُوهَ ... فَرَجْتَ الظَّلاَمَ بِأُمَّاتِكَا
وقد سُمِعَ « أمهة » في « أم » بزيادَةِ هاء بعدها تاء تأنيث ، قال : [ الزجر ]
1775- أُمَّهَتي خِنْدَفٌ وَالْياسُ أبِي ... فعلى هذا يَجُوزُ أنْ تكون أمَّهات جمع « أمهة » المزيد فيها الهاء ، والهاءُ قد أتَتْ زَائِدةً في مواضع قالوا : هِبْلَع ، وهِجْزَع من البَلْعِ وَالجَزْع .
قوله : { وَبَنَاتُكُمْ } عطف على { أُمَّهَاتُكُمْ } وبنَاتُ جمع بِنْتٍ ، وَبِنْتٌ : تأنيث ابن ، وتقدَّمَ الكلام عليه وعلى اشتقاقه ووزنه في البقرة في قوله : { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ } [ البقرة : 40 ] إلا أنَّ أبَا البقاء حكى [ عن ] الفرَّاءِ أنَّ « بَنَات » ليس جمعاً ل « بِنْتٍ » ، يعني : بكسر البَاءِ بل جمع « بَنَة » يعني : بفتحها قال : وكُسِرَتِ الْبَاءِ تنبيهاً على المحذوف .
قال شهابُ الدِّينِ : هذا إنَّمَا يَجيءُ على اعتقادِ أنَّ لامها ياء ، وقد تَقَدَّمَ الخلافُ في ذلك ، وأنَّ الصَّحِيحَ أنَّهَا واو ، وَحَكَى عن غيره أن أصلها : « بَنَوة » وعلى ذلك جَاءَ جمْعُهَا ومذكرها ، وهو بنون ، قال : وهو مذهب البصريين .
قال شهَابُ الدِّينِ : لا خلاف بين القوْليْنِ في التَّحْقِيقِ؛ لأنَّ من قال بنات جمعُ التأنيث ، والَّذي قال : بنات جمع « بنوة » لفظ بالأصْلِ فَلاَ خِلاف .
وأعْلَمْ أنَّ تَاء « بِنْتٍ » وَ « أخْت » تاءُ تعويضٍ عن اللامِ المحذوفَةِ ، كما تَقَّدَمَ تقريره ، وليست للتَّأنِيثِ؛ لوجهين :
أحدُهُما : أنَّ تَاءَ التَّأنيثِ يَلْزَمُ فتح ما قبلها لفظاً أوْ تقديراً : نحو : تَمْرَةٍ وفتاة ، وهذه ساكنٌ ما قَبْلَهَا .
والثَّاني : أنَّ تَاءَ التأنيث تبدل في الوقف هاء ، وهذه لا تُبْدَلُ ، بل تُقَرُّ على حالها . قال أبُو البَقَاءِ : « فإن قيل : لِمَ رُدَّ المحذوف في » أخوات « ولم يُرَدُّ في » بَنَات « ؟ قيل : [ حُمِلَ ] كلُّ واحد من الجَمْعَيْنِ على مذكَّرِهِ ، فمذكر » بنات « لم يُرَدُّ إليه المحذوف بل قالوا فيه » بَنُون « ، ومذكر » أخَوات « رُدَّ فيه محذوفة قالوا في جمع أخ ، إخْوَة وإخوان » .
قال شهَابُ الدِّينِ : وهذا الذي قاله ليس بشيء؛ لأنَّهُ أخذ جمع التَّكسير وهو إخوة وإخوان مقابلاً ل « أخوات » جمع التَّصْحِيحِ ، فقال : رُدَّ في أخوات كما رُدَّ في إخوة ، وهذا أيْضاً موجودٌ في بنات؛ لأنَّ مذكَّره في التكسير رُدَّ إليه المحذوفُ قالوا : ابن وأبناء ، ولمّا جمعوا أخاً جمع السَّلامة قالوا فيه « أخُون » بالحذف ، فردُّوا في تكسير ابن وأخ محذوفهما ، ولم يَرُدُّوا في تصحيحهما ، [ فبان ] فَسَادُ ما قال .

فصل :
اعلم أنَّ اللهَ تعالى نَصَّ على تحريم أرْبَعَةَ عَشَرَ صِنْفاً من النِّسْوَانِ ، سبعة من جهة النَّسَبِ ، وهُنَّ الأمَّهات [ والبنات ، والأخوات ، والعمات ، والخالات ، وبنات الأخ وبنات الأخت ، وسبعة من غير النسب ، وهن الأمهات المرضعات ] والأخوات من الرِّضاعة وأمهات النِّساء ، وبنات النِّساء المدخُول بأمَّهاتِهِنَّ ، وأزواج الأبْنَاءِ ، وأزواج الآباء ، وقد ذُكِرُوا في الآية المتقدمة ، والجمع بين الأختين .
فصل
قال الكرخِيُّ : هذه الآية مجملة؛ لأنَّهُ أضيفَ التَّحريم فيها إلى الأمَّهاتِ والبنات ، والتحريم لا يمكن إضافَتُه إلى الأعْيَانِ ، وإنَّمَا يضاف إلى الأفْعالِ ، وذلك الفعل غير مذكُورٍ في الآية فليس إضافة هذا التحريم إلى بعض الأفْعالِ التي لا يمكن إيقاعها في ذوات الأمهات والبنات أوْلى من بعض ، فصارت الآية مجملة على هذا الوجه .
قال ابن الخطيب : والجواب من وجهين :
الأول : أنَّ تقديمَ قوله { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } يدل على أنَّ المراد من قوله : « حرمت عليكم أمهاتكم » تحريم نكاحهن . الثاني : أنَّ من المعلوم بالضَّرُورَةِ من دين مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أنَّ المراد منه تحريم نكاحِهِنَّ ، والأصل فيه أن الحرمة والإباحة إذا أضيفتا إلى الأعيان فالمراد تحريم الفعل المطلوب منها في العرف فإذا قيل { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } فهم كل أحد أنَّ المراد تحريم نكاحهن ، ولما قال عليه السَّلام « لا يحل دم امرئ مُسْلِمٍ إلاَّ بإحدى ثلاث » فهم كل أحد أنَّ المراد لا يحلُّ إراقة دمه وَإذَا كان ذلك معلوماً بالضَّرُورَةِ ، كان إلْقَاءُ الشُّبهات فيها جارياً مَجْرَى القَدْحِ في البديهيَّاتِ وشبه السُّفُسْطَائِيَّةِ .
بلى عندي فيه بحثٌ من وجوه أخرى :
أحدها : أن قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } مذكور على ما لَمْ يُسَمَّ فاعله ، فليس فيه تصريح بأنَّ فَاعِلَ هذا التحريم هو اللَّهُ تعالى ، وما لم يَثْبُتْ ذلك لم تُفِد الآية شيئاً آخر ، ولا سبيل إليه إلا بإجماع ، فهذه الآيةُ وحدها لا تفيد شيئاً ، بل لا بد معها من الإجماع على هذه المقدمة .
وثانيها : أنَّ قوله تعالى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ } [ ليس ] نصاً في ثبوت التحريم على سبيل التأبيد فَإنَّ القدر المذكور في الآية يمكن تقسيمه إلى المُؤقَّتِ ، فإنَّهُ يقال تارة { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } مؤقتاً « وحرمت عليكم [ أمهاتكم ] » مؤبداً ، وإذا كان ذلك صالحاً للتَّقْسِيمِ لم يكن نصاً في التَّأبيد فإذنْ لا يُسْتَفاد التأبيد إلاَّ من دليل منفصل .
وثالثها : أنَّ قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } إخبار عن ثبوت هذا التحريم في الماضي ، وظاهر اللفظ غير متناول للحاضر والمستقبل ، فلا يعرف ذلك إلاَّ بدليل منفصل .
ورابعها : أنَّ هذه ظاهر قوله « حرمت عليكم [ أمهاتكم ] » يقتضي أنَّهُ قد حرَّم على كُلِّ أحدٍ جميع أمَّهَاتِهم ، وجميع بَنَاتِهِمْ ، ومعلوم أنَّه ليس كذلك ، بل المقصود أنه تعالى قابل الدمع بالجمع ، فيقتضي مقابلة الفَرْدِ بالفَرْدِ ، فَهَذَا يقتضي أن اله تعالى قَدَّ حرَّمَ على كُلِّ أحَدٍ أمّه خاصة ، وأخته خاصة ، وهذا فيه نوع عدول عن الظاهر .

خامسها : أنَّ قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ } يشعر ظاهره بسبق الحل ، إذ لو كَانَ أبداً موصوفاً بالحرمة ، لكان قوله { حُرِّمَتْ } تحريماً لما هو في نفسه حرام ، فيكونُ ذلك إيْجَاد الموجود ، وهو محالٌ؛ فثبت أنَّ المراد من قوله : { حُرِّمَتْ } ليس تجديد التحريم ، حتى يلزم الإشكال ، بل المراد الإخْبَار عن حُصُولِ التحريم فثبت بهذه الوجوه أن ظاهر الآية وحده غير كاف في ثبوت المطلوب .
فصل [ حرمة الأمهات ثابتة من زمن آدم ]
حرمة الأمهات والبنات كانت ثابتة من زمن آدم -عليه السلام- إلى زماننا ولم يثبت حل نكاحهن في شيء من الأدْيَان الإلهَّة إلا ما نقل عن زرادشت رسول المجوس أنَّهُ قال بحله ، وأكثر المسلمين اتفقوا على أنَّهُ كان كذاباً ، وأما نكاح الأخَوَاتِ فقد نُقِلَ : أنَّهُ كان مُبَاحاً في زَمَنِ آدم عليه السلام ، وَإنَّمَا أبَاحَهُ الله للضرورة ، وأنكر بَعْضُهُمْ ذلك ، وقال : إنَّهُ تعالى كان يَبْعَثُ الجواري من الجنَّةِ ليتزوّج بهنَّ أبناء آدم عليه السَّلامِ ، ويبعث أيضاً لبنات آدم من يتزوج بهن من الحور ، وهذا بعيد؛ لأنَّهُ إذا كان زوجات أبنائه وأزواج بناته من الجنة فحينئذٍ لا يكون هذا النسل من أوْلادِ آدم فقط ، وذلك باطل بالإجماع .
فصل [ سبب التحريم ]
ذكر العلماءُ أنَّ سبب التحريم منه أنَّ الوطءَ إذلالٌ وإهانةٌ ، فإنَّ الإنسان يستحي من ذكره ، ولا يقدمُ عليه إلاَّ في الموضع الخالي ، وأكثر أنواع الشتم لا يكون إلا بذكره ، وإذَا كان الأمر كَذَلِكَ؛ وَجَبَ صونُ الأمَّهات [ عنه؛ لأنَّ إنعام الأم ] على الولد أعظم وجوه الإنعام؛ فوجب صونُهَا عن هذا الإذلاَلِ ، والبنتُ بمنزلة جزء من الإنسان وبعض منه ، قال عليه السَّلام : « فَاطِمَةُ بضْعَةٌ مِنِّي » فيجبُ صونها عن هذا الإذلال ، وكذا القول في البقية .
فصل
كلُّ امرأةٍ يرجع نسبك إلَيْهَا بالولادة من جهة أبيك أو من جهة أمِّكَ بدرجة أو درجات سواءَ رجعت إليها بذكور ، أو بإناث فهي أمُّك ، ثمَّ هنا بحث ، وهو أنَّ لفظ الأم إن كان حقيقة في الأم الأصلية وفي الجدات ، فَإمَّا أنْ يكون لفظ الأمّ متواطئاً أو مشتركاً فإن كان متواطئاً أعْنِي أن يكون موضوعاً بإزَاءِ قَدْرٍ مُشْتَركٍ بين الأمّ الأصليَّة ، وبين سائر الجدّات ، فتكون الآية نَصاً في تحريم الأمِّ الأصليَّة وفي الجدَّات ، وأمَّا إن كان لفظ « الأمّ » مشتركاً في الأم الأصليَّة وفي الجدّات فهذا تفريع على أنَّ اللَّفظ هنا على الكُلِّ ، [ وحينئذ يكون تحريم الجدات منصوصاً عليه ، ومنهم ] من لم يجوزه ، والقائلون بذلك لهم طريقان في هذا الوَضْعِ :
أحدُهُما : أنَّ لفظ الأمِّ إنْ أُريد به ههنا الأم الأصليَّة فتحريمُ نكاحها هنا مستفادٌ بالنصّ ، وَأمَّ تحريمُ نكاح الجدَّاتِ فَمُسْتَفادٌ مِنَ الإجماع .

الثاني : أنَّهُ تعالى تكلم بهذه الآية مرَّتين ، يريدُ في كلِّ مرَّةٍ مفهوماً آخر .
وَإنْ كان لفظ « الأمِّ » حقيقة في الأمّ الأصليَّة ، مجازاً في الجدَّات ، فقد ثبت أنَّهُ لا يَجُوزُ استعمال اللَّفْظِ الوَاحِدِ دفعةً واحدةً في حقيقته ومجازه معاً ، وحينئذٍ يرجع الطريقان المذكوران [ للأول ] ، وَكُلُّ أنثى رجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو بدرجات ، بإنَاثٍ ، أو بِذُكُورٍ ، فهي بنتُكَ ، وهل بِنْتُ الابْنِ وبِنْتُ البِنْتِ تسمّى هنا حقيقة أوْ مجازاً؟ فيه البحث كما في الأمِّ .
فصل هل زواج الرجل بأمه يوجب الحد
قال الشَّافِعِيّ : إذا تزوَّج الرَّجُل بأمِّهِ ودخل بها ، لزمه الحدُّ .
وقال أبُو حَنِيفَةَ : لا يلزم ، حجة الشَّافِعِيِّ أنَّ وجود هذا النكاح وعدمه سواء ، فَكَانَ هذا الْوَطْء زنا ، فيلزمه الحدّ ، وَإنَّمَا قلنا : إنَّ وجوده وعدمه سواءً؛ لأنَّهُ تعالى قال { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } وقد علم من دين محمد صلى الله عليه وسلم أنَّ المراد من هذه الآية تحريم نكاحها ، وإذَا ثبت ذلك فنقولُ : الموجودُ ليس إلا صيغة الإيجاب والقَبُولِ ، فَلَوْ حصل هذا الانعقاد ، لكانَ هذا الانعقَادُ إمَّا أنْ يقالَ : إنَّهُ حصل في الحقيقة أو في حكم الشَّرع ، والأوَّلُ باطل؛ لأنَّ صيغة الإيجاب والقبول كلام وهو عرض لا يبقى ، والقبول لا يوجدُ إلا بعد الإيجاب ، وحصولُ الانعقاد بَيْنَ الموجود والمعدوم محال .
والثَّاني باطلٌ؛ لأنَّ اللَّه -تعالى- بيَّنَ في هذه الآية بطلان هذا العقد [ قطعاً ] ، وإذا كان هذا العقد بَاطِلاً قطعاً في حكم الشَّرْعِ ، فكيف يمكنُ القَوْلُ بِأنَّهُ منعقدٌ شَرْعاً؟ فَثَبَتَ أنَّ وجود هذا العقد وعدمه بمثابة واحدة .
فصل [ حكم نكاح البنت من الزنا ]
قال الشَّافِعِيُّ -رضي الله عنه- : البنت المخلوقة من ماء الزنا لا تحرم على الزاني .
وقال أبو حنيفة وأحمد : تحرم . حجَّةُ الشَّافِعِيِّ أنَّهَا ليست بنتاً فلا تحرم ، وإنما قلنا : ليست بنتاً لوجوه :
أحدها : أنَّ أبا حنيفة -رضي الله عنه- إمَّا أن يثبت كونها بنتاً له بناء على الحقيقةِ ، وهي كونها مخلوقة من مائه أو [ بناء ] على حكم الشَّرعِ بثبوت هذا النَّسَبِ ، والأوَّلُ باطلٌ على مذهبه طرداً أو عكساً ، وأمَّا الطرد فهو أنَّهُ مخلوق من مَائِهِ ، مع أن أبَا حنيفة قال : لا يثبت ولدها إلا عند الاستلحاق ، ولو كان النَّسب هو كون الوَلَدِ مخلوقاً من مائه ، لما توقّف [ أبو حنيفة في ] ثبوت هذا النسب على الاستلحاق .
وَأمَّا العكس فهو أنَّ المشرقي إذَا تزوَّجَ بالمغربية ، وحصل هناك ولد فَأبُو حَنِيفَةَ أثْبَتَ النسب ههنا مع القطع بأنَّهُ غير مخلوق من مَائِهِ ، فثبت أنَّ القول بجعله التَخليق من مائه سبباً للنَّسب باطل ، طرداً أوْ عكساً على قول أبِي حنيفة ، وأمَّا إذا قلنا : إنَّ النَّسب إنَّمَا يثبت لحكم الشرع فههنا أجمع المسلمون أنَّه لا نسب لولد الزِّنى من الزَّاني ، ولو انتسب إلى الزَّاني لوجب على القَاضِي منعَه من ذلك الانتساب ، فَثَبَتَ أنَّ انتسابها إلَيْهِ غير ممكن ، لا على الحقيقة ، ولا على حكم الشرع .

وثانيها : قوله عليه السَّلاَمُ : « الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ ولِلْعَاهِرِ الحَجَرُ » فحصر النسب في الفراش .
وثالثها : أنَّهُ لا ولاية له عليها ، ولا يَرِثُهَا ولا ترثه ، ولا يجب لها عليه نفقة ولا حضانة ، ولا يَحِلُّ له الخلوةُ بها ، ولَمَّا لم يثبت شَيْء من ذلك علمنا انتفاء النَّسَبِ بينهما ، وَإذَا انتفى النَّسَبُ بينهما حلَّ التَّزَوُّجُ بها .
قوله { وَأَخَوَاتُكُمْ } ويدخل فيه الأخوات للأبوين والأب وللأم .
قوله { وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ } .
قال الواحِدِيُّ : كلُّ ذكر رجع نسبك إلَيْهِ فأخته عَمَّتُك ، وقد تكون العمة من جهة الأم ، وهي أخْتُ أبي أمِّكَ ، وكل أنثى رجع نسبك إلَيْهَا بالولادة فأختها خالتك ، وقد تكونُ الخالةُ من جهة الأبِ ، وهي أختُ أمِّ أبيكَ ، فألف « خالة » و « خال » منقلبة عن وَاوٍ بدليل جمعه على « أخْوَالٍ » قال تعالى : { وَبَنَاتُ الأخ وَبَنَاتُ الأخت } وقوله وبنات الأخ والأخت ، والقول فيهنَّ كالقول في بنات الصلب .
قال المفسِّرُون كُلُّ امرأةٍ حرم اللَّهُ نكاحها ابتداءً فهنَّ المذكورات في الآية الأولى وكلُّ امرأة كانت حلالاً ثمَّ طَرَأَ تحريمها فهن اللاتي ذكرن في باقي الآية .
قوله { وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرضاعة } .
قال الواحِدِيُّ : سَمَّاهُن أمهات لأجل الحرمة ، كما أنَّهُ تعالى سَمَّى أزواج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين [ في قوله : ] { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } [ الأحزاب : 6 ] .
قوله : { مِّنَ الرضاعة } في موضع نصب على الحال ، يتعلق بمحذوف تقديره : وأخواتكم كائنات من الرضاعة .
وقرأ أبو حيوة من الرِّضاعة بكسر الرَّاءِ .
فصل : [ حرمة الأمهات والأخوات من الرضاعة ]
نُصَّ في هذه الآية على حرمة الأمَّهَاتِ والأخوات من الرِّضاعة كما يحرمن من النَّسَبِ ، وقد نبَّه الله تعالى في الآية على ذلك بتسميته المرضعة أماً والمرضعة أختاً فأجرى الرّضاع مجرى النَّسَبِ ، [ وذلك لأنَّهُ تعالى حرم بسبب النّسب ] سبعاً اثنان بطريق الولادةِ وهما الأمهات والبنات ، وخمسٌ بطريق الأخوة؛ وهنَّ : الأخواتُ والعماتُ والخالاتُ وبنات الأخ ، وبنات الأخت ، ثمَّ لما شرع في أحوال الرِّضاعَةِ ذكر من كل واحد من هذين القسمين صورة واحدة تنبيهاً بها على الباقي ، فذكر من قسم قرابة الولادة الأمَّهات ، ومن قسم قرابة الأخوة الأخوات ، ونَبَّه بذكر هذين المثالين من هذين القسمين على أنَّ الحال في باب الرضاع ، كما هو في باب النَّسَبِ ، ثُمَّ إنّهُ عليه الصلاة والسلام أكَّدَ ذلك البيان بقوله « يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب » .
فصل : [ من هي الأم من الرضاع؟ ]
الأمُّ من الرّضَاعِ هي المرضعةُ ، وكذلك كلُّ امرأةٍ انتسبت إليها بالأمومة إمّا من جهة النَّسَبِ ، أو من جهة الرضاع ، وكذلك القَوْلُ في الأب وَإذَا عرفت الأم والأب عرفت البنت أيضاً بذلك الطريق .

وَأمَّا الأخوات فالأخت للأبوين هي الصغيرة الأجنبية التي أرضعتها أمك بلبن أبيك سواءً أرضعتها معك ، أو مع ولد قبلك أو بعدك ، والأخت للأب : هي الَّتي أرضعتها زوجة أبيك بلبن أبيكَ ، والأخت للأمِّ : هي التي أرضعتها أمك بلبن رجل آخر ، وكذلك تعرف العمَّات والخالات ، وبنات الأخت .
فصل : [ شرطا حرمة الرضاع ]
إنَّمَا تَثْبُتُ حرمة الرضاعة بشرطين :
أحدهُمَا : أن يكون قبل استكمال المولود حولين ، لقوله تعالى { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [ البقرة : 233 ] وقالت أمُّ سلمة : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم « لا يحرم من الْعَظْمَ وأنْبَتَ اللَّحْمَ » وَإنَّمَا يكون هذا في حال الصغر [ لا في حال الكبر ] .
وعند أبي حَنِيفَةَ مدة الرضاع ثلاثون شهراً؛ لقوله تعالى { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْر } [ الأحقاف : 15 ] [ وهو عند الأكثرين لأقلِّ هذه الحمل وأكثر مدة الرضاع ، وأقَلُّ مدة الحمل ستة أشهر ] .
الشَّرط الثَّاني : أن توجد خمس رضعات متفرِّقات ، يُرْوَى ذلك عن عائشة ، وبه قال عبدُ اللَّه بنُ الزُّبَيْرِ؛ وإلَيْهِ ذهب الشَّافِعِيُّ وأحْمَدُ ، قالت عائِشَةُ رضي الله عنها : أنزل في القرآن عشر رضعات يحرمن فنسخ من ذلك خمس ، وصار إلى خمس رضعات معلوماتٍ يحرمن وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك .
وقال عليه الصلاة والسلام « لا تُحَرِّمُ المَصَّةُ مِنَ الرِّضَاعِ وَلاَ المَصَّتان » [ وذهب ابن عباس وابن عمر إلى أن قليله وكثيره محرم ، وبه قال سعيد بن المسيب ] وإليه ذهب سفيانُ الثَّوْرِيُّ ومالكٌ والأوزاعيُّ ، وعبدُ اللَّهِ بنُ المباركِ وأصحابُ الرأي .
قوله تعالى : { وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ } فيدخل فيه أمها الأصلية وجميع جدّاتها من قبل الأب والأم كما بينا في النَّسب ومذهب أكثر الصحابة والتَّابعين أنَّ أمَّ الزَّوْجَةِ تحرم على زوج بنتها سواء دخل بالبنت أو لم يدخل ، وذهبَ بعضُ الصَّحَابَةِ إلى أنَّ أمَّ المرأةِ لا تحرم إلا بالدُّخول بالبنت ، كما أنَّ الرَّبيبة لا تحرمُ إلاَّ بالدُّخول بأمِّهَا ، وهو قول علي وزيد وابن عمر وابن الزبير وجابر ، وأظهر الروايات عن ابن عبَّاسٍ والسَّبَبُ في هذه الاستعارة أن مَنْ ربي طفلاً أجلسه في حجره فصار الحجرُ عبارة عن التَّربية كما يقالُ : فلان في حضَانّةِ فلان ، وأصله من الحضْنِ : الَّذي هو الإبْطُ ، وقال أبُو عُبَيْدَةَ : { فِي حُجُورِكُمْ } أي : في بيوتكم .
قوله : { وَرَبَائِبُكُمُ } الرَّبَائب : جمع ربيبة ، وهي : بنتُ الزوج أو الزوجة ، والمذكر : رَبِيبٌ . سميا بذلك؛ لأن أحد الزوجين يُرَبّيه كما يربّي ابنه .
قوله : { اللاتي فِي حُجُورِكُمْ } لا مفهوم له لخروجه مخرج الغالب ، والحجور : جمع حجر بفتح الخاء ، وكسرها ، وهو مُقَدَّمُ ثوب الإنسان ثمَّ استعملت اللَّفْظَةُ في الحِفْظِ والسَّتْرِ .
وروى قَتَادَة عن سعيد بْنِ المُسَيَّبِ أنَّ زيد بن ثابت قال : إذا طلق الرَّجُلُ امرأتَهُ قبل الدُّخُولِ [ بها ] تزوَّج بأمِّها ، وإذا ماتت لم يتزوّج بأمِّهَا ، والفرقُ بينهما أنَّ الطَّلاق قبل الدُّخول لم يتعلق به شيء؛ لأنَّهُ لا يجب عليها عدّة ، والموتُ في حكم الدُّخول في وجوب العدة .

قوله : { مِّن نِّسَآئِكُمُ } فيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ حال من ربائبكم تقديره : وربائبكم كائنات من نسائكم .
والثاني : أنَّهُ حال من الضَّمِيرِ المستكن في قوله : { فِي حُجُورِكُمْ } لأنه لما وقع صلة تَحَمَّل ضميراً أي : اللاتي استقررن في حجوركم .
فصل
قوله : { اللاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } صفة لنسائكم المجرور ب « من » اشترط في تحريم الرّبيبة أنَّ يدخل بأمها ، ولا جائز أن تكون صفة ل « نسائكم » الأولى والثانية لوجهين :
أحدهما : من جهة الصّناعة ، وهو أنَّ نسائكم الأولى مجرورة بالإضافة ، والثَّانية مجرورة بمن فقد احتمل العاملان ، وإذا اختلفا امتنع النعت لا تقولُ : رأيتُ زيداً ، ومررت بِعَمروٍ العَاقِلين ، على أن يكون العاقلين صفة لهما .
والثَّاني : من جهة المعنى ، وهو أن أم المرأة تَحْرُمُ بمجرد العقد على البنت دخل بها أو لم يدخل بها عند الجمهور ، والرَّبيبَةُ لا تحرم إلا بالدُّخُولِ على أمِّهَا ، وفي كلام الزمخشريِّ ما يلزم منه أنَّهُ يجوزُ أن يكون هذا الوصف راجعاً إلى الأولى في المعنى ، فإنه قال : مِنْ نِسَائِكُمْ متعلق ب { وَرَبَائِبُكُمُ } ومعناه : أنَّ الرَّبيبة من المرأة المدخول بها محرّمة على الرَّجُلِ حلال له إذَا لم يدخل بها .
فَإن قُلْتَ : هل يصحُّ أن يتعلَّق بقوله { وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ } قلتُ : لا يخلو إمَّا أنْ يتعلَّق بهن ، وبالرَّبائب فتكونُ حرمتهنَّ غير مبهمة وحرمةُ الرَّبائب مبهمة ، فلا يجوز الأوَّلُ؛ لأن معنى « مِنْ » مع أحد المتعلّقين خلاف معناها مع الآخر ، ألاَ ترى أنَّكَ إذا قلت : وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ، فقد جعلت « مِنْ » لبيانِ النِّساء ، وتمييزاً للمدخول بِهِنَّ [ من غير المدخول بهن ] وَإذَا قلت : وربائبكم من نسائكم التي دخلتم بهن ، فَإنَّكَ جاعل « من » لابتداء الغاية ، كما تقول بَنَاتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم [ من خديجة ] ، وليس بصحيحٍ أنْ يعنى بالكلمة الواحدة في خطاب واحدٍ معنيين مختلفين ، ولا يجوز الثَّاني؛ لأن الذي يليه هو الذي يستوجبُ التعليق [ به ] ، ما لم يَعْرِضْ أمر لا يُرَدُّ إلاَّ أن تقول أعَلِّقُهُ بالنِّساء والرَّبَائِبِ ، وأجعل « مِنْ » للاتصال كقوله تعالى { المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ } [ التوبة : 67 ] وقال : [ الوافر ]
1776- ... فإني لست منك ولست مني
وقوله : « مَا أنَا مِنَ الدَّدِ وَلاَ الدَّدُ مِنِّي » وأمهات النِّساء متصلات بالنِّساء؛ لأنَّهُنَّ أمهاتهن كما أنَّ الرَّبائب متَّصلات بأمهاتنَ؛ لأنَّهُنَّ بناتهنَّ ، هذا وقد اتفقوا على أنَّ التحريم لأمهات النساء مبهم ، انتهى .
ثمَّ قال : إلا ما روي عن عليِّ ، وابن عباَّسٍ ، وزيد بن عمر ، وابن الزُّبير أنَّهُم قرؤوا « وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن » ، وكان ابنُ عبَّاسٍ يقول : واللَّه ما أنزل إلاَّ هكذا ، فقوله أعلّقه بالنِّساء والرَّبائب إلى آخره ، يقتضي أنَّ القيدَ الذي في الربائب ، وهو الدُّخُول في أمَّهات نسائكم كما تَقَدَّم حكايته عن عليٍّ وابن عباس .

قال أبو حَيَّان : ولا نعلم أحَداً أثبت ل « مِنْ » معنى الاتصال ، وأمَّا الآية والبيت والحديثُ فمؤَّولٌ .
فصل
روي عن علي -رضي اللَّهُ عنه- أنَّهُ قال : الرّبيبة إذَا لم تكن في حجر الزَّوْجِ؛ وكان في بلد آخر ثمَّ فارق الأمَّ بعد الدُّخول فإنَّهُ يجوزُ له أن يتزوَّج الربيبة ، واحتجَّ على ذلك بقوله { اللاتي فِي حُجُورِكُمْ } شرط في تحريمها كونها ربيبة في حجره فإذا لم تكن في تربيته ، ولا في حجره فقد فات الشَّرْطَانِ . وَأمَّا سائر العلماء فَإنَّهمُ قالوا : إذا دخل بالأم حرمت بنتها عليه سواء كانت في تربيتها أوْ لم تكن لقوله تعالى { فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } عَلَّقَ رفع الجناح بمجرَّدِ عدم الدُّخُولِ ، وهذا يقتضي أنَّ المقتضي لحصول الجناح هو مُجرَّدُ الدُّخُولِ ، وإنَّمَا ذكر التّربية والحجر حملاً على الأعَمِّ الأغلب لا أن تفيد شرطاً في التحريم .
قوله : { وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ } الحلائل جمع حليلة ، وهي الزوجة سميت بذلك؛ لأنها تحل مع زوجها حيث كان فهي فعيلة بمعنى فاعلة ، والزوج حليل كذلك قال الشاعر : [ الكامل ]
1778- أغْشَى فتاة الحَيِّ عِنْدَ حَلِيلِهَا ... وَإذَا غَزَا فِي الْجَيْشِ لا أغْشَاهَا
وقيل : إنه لشدّة اتِّصال كل واحد منهما بالآخر كَأنَّهُمَا يحلان في ثواب واحد وفي لحاف واحد ، وفي منزل واحد ، وعلى هذا فالجاريَةُ كذلك فلا يجوز للأب أنْ يتزوَّج بجارية ابنه .
وقيل : لأنَّ كل واحد منهما كَأنَّهُ حالٌّ في قلب صاحبه وفي روحه لشدَّةِ ما بينهما من المَحَبَّةِ والألفة . وقيل اشتقاقها من لفظ الحلال إذْ كُلُّ واحد منهما حلال لصاحبه .
فالحليلةُ تكون بِمَعْنَى المحلَّة أيْ المحللة ، والجارية كذلك؛ فَوَجَبَ كونها حليلة ، فَفَعِيلٌ بمعنى : مَفْعُول ، أي : مُحَلَّلَةٌ ، وهو محلل لها ، إلاَّ أنَّ هذا يُضْعِفُه دخول تاء التَّأنِيثِ اللَّهُمَّ إلاَّ أن يقال : إنَّه جرى مجرى الجوامد كالنَّطِيحةِ ، والذَّبيحة .
وقيل : هما من لفظ « الحَلّ » ضد العقد؛ لأنَّ كُلاًّ منهما يحل إزار صاحبه .
و « الذين من أصلابكم » صفة مبنية؛ لأنَّ الابن قد يطلق على المتبنى به ، وليست امرأته حرام على من تبنّى ، فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نكح زينب بنت جحش الأسديّة ، وهي بنت أميمةَ بنت عبد المطلب فكانت زينب ابنة عمّة النَّبي صلى الله عليه وسلم ، وكان زوجها زيد بن حارثة وكان زيد تبناه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال المشركون إنَّهُ تزوج امرأة ابنه فأنْزَلَ الله تعالى : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } [ الأحزاب : 4 ] وقال { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ } [ الأحزاب : 37 ] ، وَأمَّا الابن من الرّضَاع فإنَّهُ وإن كان حكمه حكم ابن الصَّلب في ذلك فمبين بالسُّنَّةِ ، فلا يَرِدُ على الآية الكريمة .

وأصلاب : جمع صلب ، وهو الظّهر ، سمِّي بذلك لقوَّتِهِ اشتقاقاً من الصَّلابة ، وأفصح لغَتَيْه « صُلْب » بضمِّ الفاء وسكون العين ، وهي لغة الحجاز ، وبنو تميم وأسد يقولون « صَلَباً » بفتحها حكى ذلك الفرَّاء عنهم في كتاب « لغات القرآن » وأنشد عن بعضهم : [ الرجز ]
1779- فِي صَلَبٍ مِثْلِ الْعِنَانِ المُؤدَمِ ... وحكى عنهم : إذْ أقُوم أشتكي صَلَبي ، وصُلُبٌ بضم الصّاد واللام وصَالِبٌ ومنه قول العبَّاس رضي الله عنه ينقل من صَالبٍ إلى رَحِمٍ .
فصل [ الخلاف في حل جارية الابن للأب ]
قال الشَّافِعِيُّ -رحمه الله تعالى- لا يجوز للأب أنْ يتزوج جارية ابنه وقال أبُو حنيفة : يجوز استدلّ الشافعيُّ بما تقدَّمَ من الاشتقاق فمن قال : إنَّهُ ليس كذلك فهو شهادةٌ على النّفي ب « لا » فلا يلتفتُ إليْه . انتهى .
فصل [ حرمة حليلة الابن بالعقد ]
اتَّفَقُوا على أنَّ حُرْمَةَ حليلة الابن تَحْصُلُ بنفس الْعَقْدِ كما تحصل حرمة حليلة الأب بنفس العقد ، لأنَّ عموم الآية يقتضي ذلك سواء كان مدخولاً بها أو لم يكن .
سئل ابْنُ عَبَّاسٍ عن قوله { وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ } أنَّهُ تعالى لم يبين أنَّ هذا الحكم مخصوص بما إذا دخل الابن بها أو غير مخصوص ، فقال ابن عبَّاس : أبهموا ما أبهمه اللَّه ، فليس المراد من هذا الإبهام كونها مجملة مشتبهة ، بل المرادُ من هذا الإبهام التأبيد ، ألا ترى أنَّهُ قال في السّبعة المحرمة من النَّسب إنَّها من المبهمات [ أي ] اللّواتي تثبت حرمتهن على سبيل التّأييد فَكَذَا هُنَا .
فصل [ هل يحرم النكاح باللواط؟ ]
[ قال القرطبي ] : اخْتَلَفُوا في اللائِطِ فقال مَالِكٌ والشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة وأصحابهم لا يحرم النِّكاح باللواط ، وقال الثَّوْرِيُّ : إذا لَعِبَ بالصَّبِيِّ حَرُمَتْ عليه أمُّهُ وقال الإمام أحْمَدُ : إذا تلوَّطَ بابن امرأته أو أخيها ، أو أبيها حَرُمَتْ عليه امْرأتُهُ وقال الأوزاعيُّ : إذَا لاَطَ بِغُلاَمٍ ووُلِدَ للمفجور به بنتٌ لم يجز للفَاجِرِ أن يتزوَّجها ، لأنَّهَا بنت من قد دخل به .
فصل
اتَّفَقُوا على أنَّ هذه الآية تقتضي تحريم حليلة ولد الولد على الجدِّ ، وهذا يدلُّ على أنَّ ولد الولد يطلق أنَّهُ من صلب الجدّ ، وكذلك ولد الولد منسوب إلى الجدّ بالولادة .
قوله { وَأَن تَجْمَعُواْ } في محلّ رفع عطف على مرفوع { حُرِّمَتْ } أي « وحرم عليكم الجمعُ بين الأختين ، والمراد الجمع بينهما في النِّكَاحِ .
أما في المِلْك فجائز اتفاقاً ، وأمَّا الوطء بملك اليمين ففيه خلاف .
قوله { إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } استثناء منقطع فهو منصوب المحلّ كما تَقَدَّمَ في نظيره ، أي : لكن ما مضى في الجاهليَّةِ فَإنَّ اللَّهَ يغفره ، وقيل : المعنى إلاَّ ما عقد عليه قبل الإسْلاَمِ ، فإنَّهُ بعد الإسلام يبقى النّكاح على صحَّتِهِ ، ولكن يختار واحدة منهما ويفارق الأخرى ، وتقدَّم قريب من هذا المعنى في { إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } الأوَّل ، ويكون الاسْتِثْنَاء عليه متصلاً ، وهنا لا يتأتى الاتصال عليه ألْبَتَّةَ لفساد المعنى .

وقال عطاء والسُّدِّيِّ : إلا ما قَدْ سلف ، إلا ما كان من يعقوب عليه السَّلام فإنه جمع بين ليَّا أمِّ يهوذا ، وراحيل أمِّ يوسف عليهما السَّلامُ وكانتا أختين { إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } .
فصل
لا يجوزُ أنْ يجمع بين أختين في عقد النكاح ، ولا في عقدين ، ويجوز أن يجمع بينهما بالملك ، فَإذَا وَطِئَ إحْدَاهُمَا لم تُبَحْ لَهُ الأخرى حتّى تحرم الموطوءَة بتزويج ، أو إخراج عن ملكه ويعلم أنَّهَا غير حامل .
قال القُرْطُبِيُّ : وشذّ أهلَ الظَّاهِرِ فقالوا : يجوزُ الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوَطْءِ ، كما يجوز الجمعُ بينهما في الملك ، واحتجوا بما روي عن عثمان في الأختين بملك [ اليمين في الوطء ] ، قال : حرمتهما آية وأحلتهما آية فلا آمرك ولا أنْهَاكَ فَخَرَجَ السَّائِلُ فلقي رجلاً من أصحابِ النَّبيِّ صلى الله عليهما وسلم ، قال مَعَمَرٌ أحسبه قال عليّ قال ما سألتَ عنه عثمان فأخبره بما سأله وبما أفتاه فقالَ لَهُ : لكنِّي أنْهَاكَ ، ولو كان لي عليك سبيل ثم فعلت لجعلتك نكالاً .
فصل
ويحرم الجمع بين المرأةِ وعمتها وبينها وبين خالتها لقوله عليه الصلاة والسلام : « لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأةِ وَعَمَّتِهَا وَ!لاَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَالَتِهَا » . وَلاَ يَجُوزُ لِلْحُرِّ أنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أكْثَرِ مِنْ أرْبَعِ نِسْوَةٍ ، وَلاَ لِلْعَبْدِ أنْ يَجْمَعَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ فَإنْ جَمَعَ بَيْنَ مضنْ لاَ يَجُوزُ الجَمْعُ بِيْنَهُ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَسَدَ وَإنْ كَانَ فِي عَقْدَيْنِ لَمْ يَصِحُّ الثَّانِي مِنْهُمَا وَاللهُ أعْلَمُ . «
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)

قوله تعالى { والمحصنات مِنَ النسآء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ } قرأ الجمهور { والمحصنات } بفتح الصاد سواء كانت معرفة بأل أم نكرة والكسائي بكسرها في الجميع إلاَّ في قوله { والمحصنات } في هذه الآية فَإنَّهُ وافق الجمهور فأما الفتح ففيه وجهان :
أشهرهما : أنَّهُ أسْنَدَ الإحصان إلى غيرهن ، وهو إما الأزْوَاجُ أو الأولياء ، فَإنَّ الزَّوج يحصن امرأته أي يعفها ، والولي يحصنها بالتَّزويج أيضاً واللهُ يحصنها بذلك .
والثَّاني : أنَّ هَذَا المفتوح الصاد بمنزلة المكسور منها ، يعني : أنه اسم فاعل ، وَإنَّمَا شذ فتح عين اسم الفاعل في ثلاثة ألفاظ أحصن ، فهو مُحْصَنٌ ، وَألقح فهو مُلَقَّحٌ ، وأسْهَبَ فهو مُسْهَبُ ، وَأمَّا الكسرُ فَإنَّهُ أسند الإحصان إليهن؛ لأنَّهُنَّ يحصن أنفسهن بعفافهن ، أو يحصن فروجهن بالحفظ ، أو يحصن أزواجهن ، وَأمَّا استثناء الكسائي الآية لتي هنا قال : لأن المراد بهن المُزَوَّجَات ، [ فالمعنى أنَّ أزواجهن أحصنوهن فهنَّ مفعولات ، وهذا على أحد الأقوال في المحصناتِ هنا منهنَّ على أنَّهُ قد قُرِئَ شاذاً بالكسر في هذا أيضاً قال : وإنْ أُرِيدَ بهن المزوَجات ] ؛ لأنَّ المراد أحصن أزواجهن ، و فروجهن وهو ظاهر .
وقرأ يزيد بن قطيب : « والمُحْصُنات » بضمّ الصّاد كأنَّهُ لم يعتد بالساكن فاتبع الصّاد للميم كقولهم : « مَنْتُن » ، وأصل هذه المادة الدَّلالة على المنع ومنه الحصن؛ لأنَّهُ يمنع به ، و « حصان » بالكَسْرِ للفرس من ذلك ، ومدينة حصينةٌ ودرع حصينة أي : مَانِعَةٌ صاحبها من الجراح ، قال تعالى { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ } [ الأنبياء : 80 ] أي : لتمنعكم ، والحَصَانُ : بالفتح المرأة العفيفة؛ لمنعها فرجها من الفَسَادِ ، قال تعالى : { التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ } [ التحريم : 12 ] ، ويقال : أحْصَنَتِ المرأةُ وَحَصُنَتْ ، ومصدر حَصُنَتْ : « حصن » عن سيبويه ، و « حصانة » عن الكِسَائيِّ ، وأبي عبيدةَ ، واسمُ الفاعل من أحْصَنَتْ مُحْصَنَةٌ ، ومن حَصُنَت حَاصِنٌ ، قال الشاعر : [ الرجز ]
1780- حَاصِنٍ مِنْ حَاصِنَاتٍ مُلْسِ ... مِن الأذى وَمِنْ قرافِ الْوَقْسِ
ويقالُ بها « حصان » كما تقدم [ بفتح الحاء ] قال [ حَسَّان ] يصف عائشة رضي الله عنها : [ الطويل ]
1781- حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تَزِنُ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ
فصل [ معنى الإحصان ]
والإحْصَان ورد في القرآن [ بإزاء ] أربعة معان : التزّوج كهذه الآية لأنَّهُ عطفت المحصنات على المحرّمات ، فلا بدّ وأنْ يكون الإحصان سبباً للحرمة ، ومعلوم أن الحرية والعفاف ، والإسلام لها تأثير لها في ذلك ، والمرْأةُ المزوّجة محرمة على الْغَيْرِ .
الثَّاني : العِفَّةُ قال تعالى : { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } [ النساء : 25 ] وقوله { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } [ المائدة : 5 ] { والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } [ الأنبياء : 91 ] أي : أعَفَّتْهُ .
الثالث : الحرية في قوله : { والذين يَرْمُونَ المحصنات } [ النور : 4 ] يعني الحرائر؛ لأنَّهُ لو قَذَفَ غَيْرَ حرَّةٍ لم يجلد ثمانين جلدة ، وكذا قوله { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب } [ النساء : 25 ] وقوله : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات }

[ النساء : 25 ] .
الرَّابع : الإسلام قال تعالى : { فَإِذَآ أُحْصِنَّ } قيل في تفسيره فإذا أسْلَمْنَ ، وهذا يقع معرفته في الاستثناء الواقع بعده ، وهو قول بعض العلماء ، فإنْ أُرِيدَ به هنا التَّزوج كان المعنى : وحرمت عليكم المحصنات أي المتزوجات ، قال أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ نزلت في نساء كُنَّ يهاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهنَّ أزواج فيتزوّجْنَ بعض المسلمين ، ثم يقدم أزواجهن مهاجرين فَنَهى اللهُ عن نكاحهن [ ثم استثنى ] فقال : { إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ } يعني بالسّبي ، [ ولهن أزواج في دار الحرب يحل لمالكهن وطؤهنّ بعد الاستبراء؛ لأنَّ بالسّبي ] يرتفع النِّكاح بينها وبين زوجها .
قال أبُو سَعيدٍ الخُدْرِيُّ : بعث رسول اللهَ صلى الله عليه وسلم يوم حنين جيشاً إلى أوطاس فأصابوا سبايا لَهُنَّ أزْوَاج من المشركين فكرهوا غشيانهن وتحرجوا ، فأنزل الله هذه الآية .
وقال عطاءٌ : يريد أن تكون أمته في نكاح عبده يجوز أن ينزعها منه .
وقال ابن مسعود : أرَادَ أنْ يبيع الجارية المزوّجة فتقع الفرقة بينها وبين زوجها ، ويكون بيعها طلاقاً فيحل للمشتري وطؤها وهذا قول أبيّ بن كعب وابن مسعود ، وابن عبَّاسٍ ، وجابر ، وأنس -رضي الله عنهم- وقال علي ، وعمر ، وعبد الرحمن بن عوف : إنَّ الأمة المزوجة إذَا بيعت لا يقع عليها الطَّلاق ، وعليه إجْمَاعُ الفقهاء اليوم؛ لأنَّ عائشة -رضي الله عنها- لما اشترت بريرة وأعتقتها خيرها النَّبي صلى الله عليه وسلم وكانت متزوجة فلو وقع الطلاق بالبيع لما كان في ذلك فائدة ، وحجة الأوَّلين ما روي في قصة بَريرةَ أنَّه عليه الصلاة والسَّلامُ قال : « بيع الأمة طلاقها » قالوا : فَإذَا ملكت الأمة حَلَّ وطؤها سواء ملكت بشراء ، أو هبة أوْ إرث ويدل على أنَّ مُجَرَّد السّبي يحلُّ الأمة قول الْفَرَزْدَق : [ الطويل ]
1782- وذَاتِ حَلِيلٍ أنْكَحَتْهَا رِمَاحُنَا ... حَلاَلٌ لِمَنْ يَبْنِي بِهَا لَمْ تُطْلَّقِ
يعني : أنَّ مجرد سبائها أحَلَّهَا بعد الاستبراء ، وإنْ أُريد به الإسلام ، أو العفّة فالمعنى : أنَّ المسلمات العفيفات حرام كلهنَّ ، [ يعني ] فلا يزنى بهن إلا مَا مُلِكَ منهنّ بتزويج نكاح جديد بعد وقوعه البَيْنُونَةِ بينهن وبين أزواجهم أو ما ملكت يمين إن كانت المرأة مملوكة ، فيكون المراد بما ملكت أيمانكم التّسلط عليهن ، وهو قدر مشتركٌ ، وعلى هذه الأوجه الثَّلاثة يكون الاستثناء متصلاً ، وإذا أريد الحرائر ، فالمرادُ إلا بما ملكت [ أيمانكم ] بملك اليمين ويدل عليه قوله بعد ذلك { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم } [ النساء : 25 ] فكان المراد [ بالمحصنات هنا هو المراد ] هناك ، وعلى هذا ففي قوله { إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ } وجهان :
الأوَّلُ : أنَّ المراد منه إلاَّ العقد الذي جعله الله تعالى ملكاً لكم وهو الأربع .
والثَّاني : أنَّ الحرائرَ محرمات عليكم إلا ما أثبت اللهُ لكم ملكاً عليهنَّ بحضور الولي والشُّهود والشُّروط المعتبرة في النِّكاح ، في محلِّ نصب على الحال كنظيره المتقدّم .

وقال مَكِّيٍّ : فائدةُ [ قوله ] { مِنَ النسآء } أنَّ المحصنات يقع على الأنفس فقوله : { مِنَ النسآء } يرفع ذلك الاحتمال ، والدَّلِيلًُ على أنَّهُ يراد ب « المحصنات » الأنفس قوله { والذين يَرْمُونَ المحصنات } [ النور : 4 ] فلو أُرِيدَ به النِّساء خاصَّةً لم حُدَّ مِنْ قذف رجلاً بنصّ القرآن ، وقد أجمعوا على أنَّ حدَّه بهذا النَّص . انتهى .
قال شهَابُ الدِّينِ : وهذا كلام عجيبٌ؛ لأنَّهُ بعد تسليم ما قاله في آية النُّور كيف يتوهَّم ذلك هنا أحد من النَّاس .
فصل [ في سبي أحد الزوجين ]
اتَّفَقُوا على أنَّهُ إذَا سبي أحد الزَّوْجَيْنِ قبل الآخر وأخرج إلى دار الإسلام وقعت الفرقة بينهما ، فإنْ سُبِيَا معاً ، قال الشَّافِعِيُّ : تزول الزَّوجيّة ويستبرئها المالك .
وقال أبو حَنِيفَةَ لا تزول الزَّوجيَِّة .
واستدلَّ الشافعيُّ بقوله { والمحصنات مِنَ النسآء } فيقتضي تحريم ذوات الأزواج ثم قال { إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ } يقتضي أن عند طريان الملك ترتفع الحرمة ويحصل الحل .
قال أبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ : إن حصلت الفُرْقَةُ بمجرد طريان الملك فوجب أن تقع الفرقة بشراء الأمة واتهابها [ وإرثها ] وليس ذلك واجب ، فإنَّ العام بعد التَّخصيص حجة في الباقي ، وأيضاً فالحاصل عن السَّبي إحداث الملك ، وعند البيع نقل الملك من شخص إلى شخص ، فكان الأوَّل أقوى .
قوله [ { كِتَابَ الله } ] في نصبه ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنَّهُ منصوبٌ على أنَّهُ مصدر مؤكّد بمضمون الجملة المتقدِّمة قبله ، وهي قوله { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ } ونصبه بفعل مقدر [ تقديره ] كتب الله ذلك عليكم كتاباً ، والمعنى : كتب اللهُ عليكم تحريم ما تقدَّمَ ذكره من المحرمات كتَاباً مِنَ اللهِ ، ومجيء المصدر من غير لفظ الفعل كثير . قال تعالى { وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب صُنْعَ الله } [ النمل : 88 ] ، وأبعد عبيدة السلماني في جعله هذا المصدر مؤكداً لمضمون الجملة من قوله تعالى « فانكحوا ما طاب لكم [ » من النساء « ] .
الثاني : أنه منصوب على الأغراء ب » عليكم « والتقدير : عليكم كتاب الله ، أي : ألزموه كقوله تعالى { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ } [ المائدة : 105 ] وهذا رأي الكِسَائيِّ ومن تابعه أجازوا تقديمَ المنصوب في باب الإغراء مستدلَّينَ بهذه الآية ، وبقول الشَّاعِرِ : [ الرجز ]
1783- يَأيُّهَا المَائِحُ دَلْوِي دُونَكَا ... إنِّي رأيْتُ النَّاسَ يَحْمَدُونَكَا
ف » دَلْوِي « منصوبٌ بدونك تقَدَّمَ ، والبصريون يمنعون ذلك ، قالوا : لأنَّ العامل ضعيف ، وتأوَّلُوا الآية [ على ما تَقَدَّمَ ] والبيتَ على أنَّ » دَلْوِي « منصوب بالمائِحِ أي : الَّذِي مَاحَ دلوي .
والثَّالثُ : أنَّهُ منصوبٌ بإضْمْارِ فعل أي : الزموا كشتَابَ اللهِ [ وهذا قريب من الآخر .
وقال أبُو الْبَقَاءِ : هذا الوجه تقديره : الزموا كِتَاب اللهِ ] وعليكم : إغراء يعني : أنَّ مفعوله قد حُذِفَ للدلاَلَةِ ب { كِتَابَ الله } عليه . أيْ عليكم ذلك فيكون أكثر تأكيداً ، وأمَّا عليكم فقال أبُو الْبَقَاءِ : إنَّهَا على القَوْلِ بأنَّ كِتَابَ اللهِ مصدرٌ يتعلَّقُ بذلك الفعل المقدر النَّاصب لكتاب ، ولا يتعلَّق بالمصدر وقال : لأنَّهُ هنا فَضْلة ، قال : وقيل : يتعلَّق بنفس المصدر؛ لأنَّهُ ناب عن الفعل حيثُ لم يذكر معه فهو كقولك : مروراً بِزَيْدٍ ، قلت وَأمَّا على القول بأنَّهُ [ إغراء فلا محل له من الإعراب لأنه واقع موقع فعل الأمر وأما على القول بأنَّه ] منصوبٌ بإضْمَارِ فعل أي الزموا فَعَلَيْكُمْ متعلِّقٌ بنفس كتاب ، أو محذوف على أنَّهُ حالٌ منه .

وقرأ أبُو حَيْوَةَ « كتب الله » جعله جَمْعاً مرفوعاً مضافاً للهِ تعالى على أنَّه خبر مبتدأ محذوف تقديره : هذه كُتُبُ اللهِ عليكم .
قوله : { وَأُحِلَّ لَكُمْ } قرأ الأخوانِ وحفصٌ عن عاصمٍ { وَأُحِلَّ } ، مبيِّنا للمفعول والباقُونَ مبنيًّا للفاعل ، وكِلْتَا القراءَتَيْنِ الفعل فيما معطوف على الجملة الفعليَّةِ من قوله { حُرِّمَتْ } ، والمُحَرَّمُ والمُحَلَّلُ : هو اللهُ -تعالى- في الموضعين سواء صرَّح بإسناد الفعل إلى ضميره ، أو حذف الفاعل للعلم بِهِ ، وادَّعى الزَّمَخْشَرِيُّ أنَّ قراءة { وَأُحِلَّ لَكُمْ } مبنياً للمفعول [ عطف على { حُرِّمَتْ } ليعطف فعلاً مبنياً للمفعول ] على مثله ، [ أي حرمت المبني للمفعول ] وَأمَّا على قراءة بنائه للفاعل فَجَعَلَهُ معطوفاً على الفعل المقدَّر النَّاصِبِ لكتاب [ كأنه قيل : كتب اللهُ عليكم تحريم ذلك ، وأحَلَّ لكم ما وراء ذلكم .
قال أبُو حَيَّان : وما اختاره يعني من التَّفْرِقَةِ بين القِرَاءَتَيْنِ غير مختار؛ لأنَّ النَّاصب لكتاب الله ] جملة مؤكدّة لمضمون الجُمْلَة من قوله { حُرِّمَتْ } إلى آخره ، وقوله { وَأُحِلَّ لَكُمْ } جملة تأسيسية ، [ فلا يناسب أنْ تعطف إلاَّ على تأسيسية مثلها لا على ] جملة مؤكدة ، والجملتان هنا متقابلتان إذْ إحْدَاهُمَا للتحريم ، والأخرى للتحليل فالمناسب أن تعطف إحْدَاهُمَا على الأخرى لا على جملة أخرى غير الأولى ، وقد فعل هو مثل ذلك في قراءة البناء للمفعول ، فليكن هذا مثله .
قال شهاب الدِّينِ : وفي هذا الرد [ لأنَّ تحليل ما سوى ذلك مؤكد لتحريمه معنى وما ذكره أمر استحساني رعاية لمناسبة ظاهره وقد تبع البيضاويُّ الزَّمَخْشَرِيَّ في التفرقة فتأمل .
قوله ] « ما وراء ذلكم » مفعول به إما منصوب المحل أوْ مرفوع على حسب القراءتين في « أحل » .
فصل
ظاهر قوله { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُم } يقتضي حِلَّ كُلِّ من سوى الأصناف المذكورة إلا أنَّهُ دَلَّ الدَّلِيلُ على تحريم أصناف أخرى سوى [ الأصناف ] المذكورين ، لقوله عليه السلام : « لا تُنْكَحُ المَرْأةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلاَ عَلَى خَالَتِهَا » ، وزعم الخوارجُ أنَّ هذا خبر واحد ، فلا يجوزُ أن يخصَّ به القرآن لوجوه :
أحَدُهَا : أنَّ عموم الكتاب مقطوع وخبر الواحد مظنون المتن ، فَكَانَ أضعف فترجيحُهُ يقتضي تقديم الأضعف على الأقوى ، وهو لا يجوز .
وثانيها : حديث معاذٍ حين قال عليه السَّلام : « بِمَ تَحْكُم؟ قال : بِكِتَابِ اللهِ قَالَ فَإنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ بِسُنَّةِ رَسُول اللهِ » فقدَّمَ التَّمَسُّكَ بالكتاب على التَّمَسُّكِ بالسُّنَّةِ [ وعلق جواز التمسك بالسُّنَّة على عدم الكتاب بكلمة « إن » والمتعلَّق على شرط عدم عند عدم الشِّرط .

وثالثها : قوله عليه السَّلام : « إذَا رُوِيَ لَكُم عَنِّي فاعرِضُوهُ عَلَى كتابِ اللهِ فَإنْ وَافَقَ فَاقْبَلُوهُ وَإلاَّ فَرُدًُّوهُ » .
هذا يقتضي إلاَّ يقبل خبر الواحد إلا عمد موافقة الكِتَابِ .
ورابعها : أنَّ قوله تعالى { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُم } مع قوله عليه السلام « لاَ تُنْكَحُ الْمَرْأةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلاَ عَلَى خَالَتِهَا » لا يخلو من ثَلاثَةِ أوجه : إمَّا أن تكون الآية نزلت بَعْدَ الخبر فتكون الآية ناسخة له؛ لأنَّ العام نسخَ القرآن بخبر الوَاحِدِ ، وإنه لا يجوز وإمَّا أنْ يردا معاً ، وهذا أيضاً بَاطِلٌ؛ لأنَّ [ على ] هذا التَّقْدِيرِ تكون الآية وَحْدَهَا غير مَبْنِيَِّةٍ ، وتكونُ الحجَّةُ مجموع الآية والخبر . ولا يجوزُ للِرَّسُولِ أنْ يسعى في تشهير الشُّبْهَةِ ، ولا يسعى في تشهير الحجَّة ، فكان يجب عليه ألاَّ يسمع أحَدٌ هذه الآية إلاّ مع [ هذا ] الخبر ، ويوجب على الأمَّةِ ألاَّ يبلغوا هذه الآية أحداً إلا مع هذا الخبر ، ولو كان كذلك لزم أن يكون اشتهار هذا الخبر مساوياً لاشتهار هذه الآية ، ولما لم يكن كذلك عُلِمَ فساد هَذَا القسم .
وخامسُهَا : أنَّ بتقدير صحَّةِ هذا الخبر قطعاً إلا أنْ التَّمسُّكَ بالآية راجحٌ عليه لوجهين :
الأوَّلُ : أنَّ قوله { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُم } نص صريح في التحليل كما أن قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } نص صريح في التحريم .
وأما قوله : « لا تُنْكَحُ المَرْأةُ عَلَى عَمَّتِهَا { وَلاَ عَلَى خَالَتِهَا ] » فليس نصاً صريحاً؛ لأنَّ ظاهره إخبار ، وحمل الإخبار على النَّهي مجاز ، وإن سلّمنا كونه نهياً فدلالة النَّهي على التحريم أضعف من دلالة لفظ [ الإحْلاَل ] على معنى الإبَاحَةِ .
الثَّانِي : أنَّ الآية صريحة في تحليل كُلِّ ما سوى المذكورات والحديثُ ليس صريحاً في العموم بل احتماله للمعهود السَّابق أظهر .
وسادسها : أنَّهُ تعالى اسْتَقْصَى في هذه الآيةَ شرح أصْنَافِ المحرَّمات فعدَّ منها خَمْسَةَ عَشرَ صنفاً ، ثُمَّ بعد هذا التّفصيل التَّام والاستقصاء الشّديد قال { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُم } فلو لم يَثْبُت الحلُّ في كُلِّ من سوى هذه الأصناف المذكورة ، لكانَ هذا الاستقصاء عبثاً ، ولغواً ، وذلك لا يليق بالحكيم . والجوابُ من وُجُوهٍ :
الأول : قال الحَسَنُ وأبو بَكْرٍ الأصَم إنَّ قوله { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُم } لا يقتضي إثبات الحل على التأبيد؛ لأنَّهُ يصحُّ [ تقسيم ] هذا المفهوم إلى المؤبد ، وإلى غير المؤبَّد ، فيقال { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُم } أبداً ، ويقال { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُم } إلى الوقت الفلانِيِّ ، ولو كان صريحاً في التَّأبيد لما كان هذا التقسيم ممكناً في الآية ، فالآية لا تُفِيدُ [ إلاَّ ] إحلال من سوى المذكورات ، والعقلُ يشهد بأنَّ الإحلال أعمّ من الإحلال المؤبد ، ومن الإحلال المؤقّت ، فالآيةُ لا تفيد إلا حلّ مَنْ عدا المذكورات في ذلك الوقت ، فأمَّا ثبوتُ حكمهم في سائر الأوقات فَمَسْكُوتٌ عنه ، وقد كان حِلُّ من سوى المَذْكُوراتِ ثَابِتاً في ذَلِكَ الوقت ، وطريان حرمة بعضهم بَعْدَ ذَلِكَ لاَ يَكُونُ تَخْصِيصاً لذلك النَّصِّ ولا نسخاً له ، وبهذا الطَّرِيق يظهر أنَّ قوله

{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } [ النساء : 23 ] ليس نصّاً في تأبيد هذا التَّحريمِ ، وَإنَّمَا عرفنا ذلك التَّأبيد بالتَّواتر من دين محمد -عليه الصلاة والسلام- .
الثَّانِي : أنَّ حرمة الجمع بَيْنَ الأخْتَيْنِ لِكَوْنِهِما أخْتَيْنِ يناسبُ هذه الحرمة؛ لأنَّ الأخْتيَّة قَريبَةٌ فناسبت مزيد الوصلة والشّفقة والكرامة ، فكون إحداهما ضرَّة الأخْرَى موجبٌ الوَحْشَةَ العظيمةَ والنُّفْرَةَ الشَّدِيدَةَ كالأختية تناسب حرمة الجمع بينهما في النِّكَاحِ لما ثبتَ في أصُول الْفِقْهِ : أنَّ ذِكْرَ الحُكْمِ مع الوَصْفِ المُنَاسِبِ مُشْعِرٌ بالعِلّيةِ ، وهذا المعنى مَوْجُودٌ فِي المْرأةِ وعمَّتِهَا ، وخالَتِهَا ، بل أولى؛ لأنَّ العمّة [ والخالَة ] تشبهان الأمِّ .
والثَّالِثُ : أنَّهُ تعالى نَصَّ على تَحْرِيمِ أمَّهَاتِ النِّسَاءِ ، ولفظُ الأمِّ قد ينطلقُ على العَمَّةِ والخَالَةِ ، أمَّا العمَّةُ فلقوله تعالى مخبراً عن أوْلاَدِ يعقوب عليه السَّلامُ { نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [ البقرة : 133 ] فأطلق لفظ الأبِ على « إسماعيل » مع أنَّهُ كان عَمّاً وإذا كان العَمُّ أباً لزم أن تكون العَمَّة أمًّا ، وأمَّا إطلاق لفظ « الأمِّ » على الخالة فقوله تعالى { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش } [ يوسف : 100 ] والمراد أبوه وخالته ، فإنَّ أمَّه كانت مُتَوَفَّاة في ذلك الوقتِ فثبت أن قوله { وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ } يتناولُ العمَّةَ والخَالَةَ من بعض الوُجُوهِ وإذا كان كذلك فلم يكن قوله { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } متناولاً له ، وَإنَّمَا تناولتهم آية التحريم في قوله { وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ } إمَّا بالدلالة الصَّريحة ، أو الجليّة ، أو الخفية .
الرَّابعُ : أنْ تقولَ : يجوز تخصيصُ عموم الكِتَاب بخبر الوَاحِدِ الصّنف الثَّاني من المحرَّمات ، والخارجة من هذا العموم : المطلقة ثلاثاً ، ونكاح المُعْتَدَّة ، ومن كان متزوّجاً بحرّة لم يجز له أن يَتَزَوَّج أمَةً ، وتحريم الخامسة ، وتحريم الملاعنة لقوله عليه الصلاة والسلام : « المُتَلاَعِنَانِ لا يَجْتَمِعَان أبَداً » .
قوله { أَن تَبْتَغُواْ } في محلّه ثلاثة أوْجِهٍ :
الرَّفُعُ ، والنَّصْبُ ، والجَرُّ فالرَّفْعُ على أنَّهُ بدل من { مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } على قراءة أحِلَّ مبْنِيَّاً للمفعول [ لأنّ « ما » حينئذٍ قائِمَة مقامَ الفَاعلِ؛ وهذا بدل منها بدل اشتمال ، وَأمَّا النَّصْبُ فالأجود أن يكون على أنَّه بدل من « مَا » المتقدّمة على قراءة « أَحَلَّ » مبنيّاً للفاعل ] كأنه قال : وأحل لكم ابتغاء أموالكم من تزويج أو ملك يمين ، وأجاز الزَّمَخْشَرِيُّ أن يكونَ نصبه على المفعول من أجلِهِ ، قال : بمعنى بَيَّنَ لكم [ ما يَحِلُّ مما ] يحرم إرادة أنْ يَكُونَ ابتغاؤكم بأموالكم الَّتي جعل اللهُ لَكُمْ قِيَاماً في حال كونكم مُحْصِنِينَ ، وأنحى عليه أبُو حَيَّانَ وجعله إنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ دسيسة الاعتزال ثم قال : فَظَاهِرُ الآية غير ما فَهِمَهُ إذ الظِّاهِرُ أنَّهُ تعالى أحَلَّ لنا ابتغاء ما سوى المُحَرَّماتِ السَّابق ذكرها بأمْوَالِنَا حَالَةَ الإحْصَانِ؛ لا حالةَ السِّفَاح ، وعلى هذا الظَّاهِرِ لا يجوز أن يعرب { أَن تَبْتَغُواْ } مفعولاً له ، لأنَّه فات شرط من شُرُوطِ المفعول له ، وهو اتِّحاد الفاعِلِ في العامل والمفعول له؛ لأنَّ الفاعِلَ ب « أحل » هو اللهُ -تعالى- ، والفاعل في { تَبْتَغُواْ } ضمير المخاطبين ، فقد اخْتَلَفَا ولما أحسّ الزمخشريُّ إن كان أحس جعل « أن تبتغوا » على حذف إرادة حتّى يتحد الفاعل في قوله { وَأُحِلَّ } في المفعول له ، ولم يجعل { أَن تَبْتَغُواْ } مفعولاً له إلاّ على حذف مضاف ، وَإقامتهِ مُقَامهُ ، وهذا كُلُّهُ خروجٌ عن الظَّاهِر انتهى .

قال شهابُ الدِّينِ : ولا أدْرِي ما هَذَا التَّحمل ، ولا كيف يخفى عَلَى أبي القاسم شرط اتحاد الفاعلِ في المفعولِ لَهُ حتّى يقول : إنْ كان أحسّ ، وأجاز أبُو البقاءِ فيه النَّصْبَ على حذف حَرْفِ الْجَرِّ . قال أبُو البَقَاءِ : في « ما » من قوله { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } وجهان :
أحدُهمَا : هي بمعنى « مِنْ » فعلى هذا يكون قوله { أَن تَبْتَغُواْ [ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ } ] في موضع جرٍّ أو نصبٍ على تقديرِ بأن تبتغوا؛ أو لأنْ تبتغوا ، أي أبيح لكم غير ما ذكرنا من النِّساء بالمُهُورِ .
والثَّاني : أنَّ « ما » بمعنى الذي ، والذي كناية عن الفعلِ ، أي : وأحلّ لكم تحصيل ما وراء ذلك الفعل المحرم ، و { أَن تَبْتَغُواْ } بدلٌ منه ، ويجوزُ أن يكون « أن تبتغوا » في هذا الوَجْهِ مثله في الوجه الأوَّلِ ، يعني : فيكونُ أصله بأن تَبْتَغُوا ، أو لأن تبتغوا ، وفيما قاله نظرٌ لا يخفى ، وأمَّا الجرُّ فعلى ما قاله أبُو البَقَاءِ ، وقد تَقَدَّم ما فيه .
و { مُّحْصِنِينَ } حال من فاعل تبتغوا ، و { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } حال ثانية ، ويجوزُ أن يكون حال من الضَّمَيرٍ في { مُّحْصِنِينَ } ، ومفعول مُحصنينَ ومُسافحينَ محذوف ، أي : محصنين فُرُوجَكُمْ غير مسافحين الزَّوَانِي ، وكأنَّها في الحقيقةِ حال مؤكدة؛ لأنَّ المحصن غير مسافح ، ولم يقرأ أحدٌ بفتح الصَّادِ من محصنين فيما نعلم . والسَّفَاحُ الزِّنَا .
قال اللَّيث : السَّفَاحُ والمُسَافحةُ : الفجور ، وأصله الصَّبُّ ، يقال : دموع سَوَافِحُ ومسْفُوحةٌ .
قال تعالى : { أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً } [ الأنعام : 145 ] وفلان سَفَّاحٌ للدِّمَاء ، وسمي الزَّنَا سفاحاً؛ لأنَّهُ لا غرض للزَّاني إلا صب منيه ، وكانوا يَقُولُونَ صافحني ومَا ذَمَّنِي والمسافحُ من يظاهر بالزِّنَا ، ومتّخذ الأخْدَان من تستر فاتَّخَذَ واحدة خفية .
فصل [ الخلاف في قدر المهر ]
قال أبُو حنيفة : لا مهر أقلَّ من عشرة دراهم ، وقال غيره : يجوزُ بالقليل والكثير ، واحتج أبُو حنيفة بهذه الآية؛ لأنَّهُ تعالى قَيْد التحليل بالابتغاء بالأموال و [ الدِّرهم ] والدرهمان لا يسمّى أموالاً ، فلا يصحُّ جعلها مهراً .
فإن قيل : ومَنْ عنده عشرة دراهم ، لا يقال عنده أموال ع أنَّكُم تجوزونها مَهْراً قلنا : ظاهر الآيةِ يقتضي ألاَّ يكون العشرة كافية ، إلا أنَّا أنزلنا العملَ بظاهر هذه الآية للإجْمَاعِ على جوازه ، ويتمسَّك في الأقل من العشرة بِظَاهِرِ الآية وهذا استدلال على أنَّ الابتغاء بغير الأموال غير جائز ، إلاّ على سبيل المفهوم وأنتم لا تقولُونَ به ، واستدلّ المخالف بوجوه :
أحدها : قوله { أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ } فقابل الجَمْعُ بالجَمْعِ فيقتضي توزع الفَرْد على الفَرْدِ ، وهذا يقتضي أنْ يتمكَّن كلُّ واحدٍ من ابتغاء النِّكَاح بما يسمى مالاً ، والقليل والكثير في هذه الحقيقةِ ، وفي هذا الاسم سواء .

وثانيها : قوله تعالى { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [ البقرة : 237 ] فَدَلَّتْ الآية على سقوط النصف من المذكور ، وهذا يقتضي أنَّهُ لو وقع العقدُ في أوَّلِ الأمْرِ بِدرْهمٍ : لم يجب إلا نصفُ درهمٍ ، وأنْتُمْ لا تقُولُونَ به .
وثالثها : ما رُوِيَ أنَّ امْرَأةً جيء إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم و تزوّج بها رجل على نعلين فقال عليه السَّلام « رَضيت مِنْ نَفْسِكَ بِنَعْلَين » ، فقالت : نعم؛ فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم « والظاهرُ أنَّ قيمة النَّعلين أقلُّ من عشرةِ دراهم ، فإنَّ مثل هذا الرجل والمرأةِ اللذين تزوَّجَا على نعلين يكونان في غَايَةِ الفَقْرِ فنعلهما تكون قليلة القِيمَةِ جدّاً .
وروى جَابِر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال : » مَنْ أعْطَى امْرأةً من نِكَاح كَفَّ دقيق ، أو سويق ، أو طعاماً فقد استحلّ « ، وحديث الواهبة نفسها أنَّهُ -عليه السَّلامُ- » قال لِلَّذي أرَادَ أن يتزوَّجَهَا الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتماً مِنْ حَدِيدٍ « وذلك لا يساوي عشرة دراهم .
فصل [ في الخلاف في المهر بالمنافع ]
قال أبُو حنيفةَ : لو تزوَّجَهَا على تعْليمِ سورة من القُرْآنِ لم يكن ذلك مهراً ، ولها مهر مثلها ولو تزوَّجَهَا على خدمة سَنَةٍ ، فإنْ كان حرّاً فلها مَهْرُ مثلها ، وإنْ كان عبداً فلها خدمة سنة وقال غيره : يجوزُ جعل ذلك مهراً ، واحتجَّ أبُو حنيفةَ بهذه الآية .
قال : لأنَّهُ تعالى شرط في حصول الحل ذلك الابتغاء بالمال ، والمال اسمٌ للأعيان لا للمنافع وأيضاً قال : { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } وذلك صفة للأعيان لا للمنَافِعِ ، وأيضاً قال { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } [ النساء : 4 ] .
وأجيب عن الأوَّل بأن الآية دَلَّت على أنَّ الابتغاء بالمال جائز ، وليس فيه بيان أنَّ الابتغاء بغير المال جَائِزٌ أم لا .
وعن الثاني : بأنَّ لَفْظَ الايتاء كما يتناولُ الأعيان المنافِعَ الملتزمة .
وعن الثَّالث : أنَّهُ خرج الخطاب على الأعمِّ الأغلب .
واستدلَّ المُخالفُ بوجهين :
أحدهما : قصة شعيب في قوله لموسى { إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ } [ القصص : 27 ] وشرعهم شرع لَنا ما لم يرد نَاسِخٌ .
وثانيهما : قوله عليه السلام » زَوَّجْتُكَ بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ « .
فصل [ في تفسير قوله { مُّحْصِنِينَ } ]
في قوله مُحصنينَ وجهان :
أحدُهُما : - أنَّ المراد أنْ يصيروا مُحْصنينَ بسبب عَقْدِ النِّكَاحِ .

الثَّاني : - أنْ يكون الاحصانُ شَرْطاً في الإحلالِ المذكور في قوله { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } والأوَّلُ أولى؛ لأنَّ الآية تَبْقى عامَّةً معلومة المعنى .
وعلى الثَّاني : تكونُ الآيةُ مجملةً؛ لأنَّ الإحْصانَ المذكور فيها غير مُبَيّن ، والمعلَّق على المجمل يكون مجملاً ، وحمل الآية على وَجْهٍ معلوم أوْلَى من حملها على وجه مجمل .
قوله : { فَمَا استمتعتم بِهِ } يجوزُ في « ما » وجهان أحدهُمَا : أنْ تكون شرطيّة .
والثَّاني : أن تكونَ مَوْصولةً ، وعلى كلا التقديرين فيجوزُ أن يكون المراد بها النساء المُسْتمتعَ بِهِنَّ ، أي النَّوع المستمتع به ، وأن يراد بها الاستمتاع الَّذي هو الحدث ، وعلى جميع الأوجهِ المُتقدِّمَةِ ، فهي في محلِّ رفع بالابتداء ، فإنْ كانت شرطيَّة ففي خبرها الخِلافُ المشهور هل هو فعل الشّرط وجوابه ، أو كلاهما وقد تقدَّمَ تحقيقهُ في البقرة ، وإن كانت موصولة؛ فالخبَرُ قوله « فآتوهن » ودخلت الفاءُ لشبه الموصول باسم الشرط كما تقدَّمَ ، ثم إنْ أريد بها النَّوع المستمتعُ به فالعَائِدُ على المبتد سواء كانت ما شرطية أو موصولة الضمير [ المنصوب ] في « فآتوهن » ويكون قد راعى لفظ « مَا » تارة فأفرد في قوله « بِهِ » ، ومعناها أخرى ، فجمع في قوله « منهن » « فآتوهن » فيصيرُ المعنى : أي أُرِيدَ بها الاستمتاع ، فالعائِدُ حينئذٍ محذوف ، تقديره : فأيُّ نوع من الاستمتاعِ استمتعتم به من النساء فآتوهنّ أجورهن لأجله . و « من » في « منهن » تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون للبيان .
والثاني : أنْ تكون للتّبعيض ، ومحلها النّص على الحال ، من الهاء في « به » ، ولا يجوزُ في « ما » أنْ تكون مصدريّة لفساد المعنى ولعود الضَّميرِ في « بِهِ » عليها .
فصل [ في تفسير الاستمتاع ]
الاستمتاعُ في اللُّغَةِ : الانْتِفَاعُ ، وكلُّ مَا انتفعَ به فهو مَتَاعٌ ، يقالُ : استمتع الرَّجُلُ بولده ، ويقال فيمنْ مَاتَ شابّاً : لم يَتمتَّع بشَبَابِهِ ، قال تعالى { رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } [ الأنعام : 128 ] وقال { فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ } [ التوبة : 69 ] يعني : بحظِّكُمْ عليهنّ؛ فآتُوهنّ أجورهنّ عليه ، أو مهورهن عليه ، وإنَّما سُمِّيَ المهرُ أجراً؛ لأنَّهُ بَدَلُ المَنَافِعِ كما سُمِّي بَدَلُ منافع الدَّارِ والدَّابَّةِ أجْراً .
فصل [ في الخلاف في تقرير لمهر بالخلوة ]
قال الشَّافعيُّ : الخلوةُ الصَّحيحةُ لا تُقرِّرُ المَهْرَ .
وقال أبُو حنيفةَ وأحْمَدُ : تقرره ، واحتجَّ الشَّافِعِيُّ بقوله تعالى { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } فجعل وُجُوبَ إتيانهنّ لأجل الاستمتاع بهنَّ ، فلوْ تقرَّر بالخُلْوَةِ قبلَ الاستمتَاعِ لمنع من تَعَلُّقِ النُّقُودِ بالاسْتِمتَاعِ وهو خلاف الآية .
فصل
قال الحَسَنُ ومُجاهدٌ وأكثرُ العلماءِ : والمراد بهذه الآية ابتغاء بالأمْوَالِ على طريق النِّكاحِ الصحيح .
وقوله { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } فجعل وُجُوبَ إتيانهنّ بالدُّخُول أي { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أي مهورهن بالتَّمام .
قال القُرْطُبِيُّ : اختلف النَّاس في المعقود عليه في النِّكَاحِ هل هو بَدَنُ المرأة ، أو منفعة البُضْعِ ، أو الحِلّ على ثلاثة أقوال ، قال : والظَّاهِرُ المجموع؛ لأنَّ العَقْدَ يقتضي كُلَّ ذلك فإنَّ عقد النِّكاح آتاها نصف المهر ، وقال آخرونَ : هو نِكَاحُ المُتْعَةِ ، وهو أن يستأجر امرأةً بمالٍ مَعْلوم إلى أجل معينٍ ، فإذا انقضت تلك المدَّة باتت منه بلا طلاق وتستبرئ رحمها ، وليس بينهما ميراث ، وكان ذلك مباحاً في ابتداء الإسْلامِ ثم نَهَى عنه رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ، روى الرّبيع بن سبرة الجهني أنَّ أباه حدَّثه أنَّهُ كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :

« يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء فإنَّ اللَّهَ قد حرَّم ذلك إلى يوم القيامة فَمَنْ كان عنده منهن شيء فَلْيُخَلِّ سبيله ، ولا تأخُذُوا مما آتيتموهن شيئاً » وروى علي بن أبي طالب « أنَّ رسول الله عليه الصلاة والسلام نهى عن متعة النِّسَاءِ يَوْمَ خيبر وعن أكل لُحُومِ الحُمُرِ الإنسيّة » وعامّة أهل العلم على أنَّ نكاح المتعة حرام منسوخ وذهب ابن عباس إلى أنَّ الآية محكمة ، ويرخّص في نكاح [ المُتْعَةِ ] .
روى أبو نَضْرَةَ قال : سألتُ ابْن عَبَّاسٍ عن متعة النّساءِ فقال : أما تقرأ سورة النِّساء : { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ } إلى أجل مسمى { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } قلت : لا أقرؤها هكذا ، فقال ابن عبَّاس : هكذا أنزل اللَّهُ ثلاث مرات ، وروي أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه السلام طول العزوبة فقال « اسْتَمْتِعُوا مِنْ هَذِه النِّسَاءِ » وهذا القول مروي عن ابن عبَّاسٍ وعمران بن الحُصَيْنِ ، أمَّا ابن عبَّاسٍ فعنه ثلاث روايات أحدها أنَّهَا مباحة مطلقاً ، وقال عِمَارة سألت ابن عباس عن المتعة أسِفَاحٌ هي أم نِكَاحٌ قال : لا سِفَاحَ ولا نِكَاحَ ، قلتُ : فما هي قال : مُتْعَةٌ كما قال اللَّهُ تعالى قلت : هل لها عِدَّةٌ؟ قال : نعم حيضةٌ ، قلت : هل يتوارثان ، قال : لا . الثانية أنَّ النَّاسَ لما ذكرُوا الأسفار في المتعة ، قال ابن عبَّاس : قَاتَلهُمُ اللَّهُ ما أفتيت بإباحتها على الإطلاق ، لكني قلت إنَّها تحلُّ للمضطر كما تحلُّ الميتةُ ، والدَّم ، ولحمُ الخنزير له .
الثَّالِثَةُ : أنَّهُ أقرَّ بأنَّهَا صارت مَنْسُوخَةً .
روى عَطَاءٌ الخُراسَانِيُّ : عن ابن عبَّاسٍ في قوله تعالى { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ } قال صارت هذه الآيةُ منسوخة بقوله تعالى { ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [ الطلاق : 1 ] وروى أيضاً أنَّهُ قال عند موته : اللَّهُمَّ إني أتوبُ إليك من قولي في المتعة والصرف ، وأمَّا عمرانُ بْنُ الحُصَيْنِ فإنَّهُ قال نزلت هذه المتعة في كتاب اللَّهِ ولم ينزل بعدها آية تنسخها ، وأمرنا بها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وتمتعنا بها ، ومات ولم ينهنا عنه ، ثمَّ قال رجلٌ برأيه ما شاء ، وروى مُحَمِّدُ بْنُ جريرٍ الطبري في تفسيره عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنَّهُ قال : لولا أنَّ عمر نهى عن المتعة [ ما زنا إلا شقي .

والجمهور على تحريم نكاح المتعة لما روى سالم بن عبد الله بن عمر أنَّ عمرُ بْنُ الخَطَّاب -رضي الله عنه- قال في خطبته ما بال رجال ينكحون هذه المتعة ] وقد نهى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عنها لا أجِدُ أحداً نكحها إلاَّ رجمتُهُ بالحجارة ، وقال : هذه المُتْعة النِّكَاحُ والطَّلاق والعدّةُ والميراث فذكر هذا الكلام في مَجْمَعٍ من الصَّحَابَةِ ، ولم ينكروا عليه ، فالحالُ لا يخلو من أن يكونُوا عالمين بحرمة المُتْعةِ فَسَكتُوا ، أو كانوا عالمين بإباحتها فسكتوا مداهنة ، أو ما عرفوا حكمها فسكتوا تَوَقُّفاً .
والأوَّلُ : هو المطلوب .
والثَّاني : يُوجبُ تكفيرَ عُمَرَ وتكفيرَ الصَّحابةِ ، لأنَّ من علم أنَّ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حكم بإباحة المُتْعَةِ ثمَّ قال : إنَّهَا محرَّمة من غير نسخ لها فهو كافر ، ومن صدقه مع علمه بكونه مخطئاً كافر ، وهذا يقتضي تَكْفِير الأمَّةِ . وإن لم يكونوا عالمين بالإباحَةِ ولا بالحرمة ، فهذا أيضاً باطلٌ؛ لأنَّ كون المتعة مباحة يقتضي كونها كالنِّكَاح ، واحتياج النَّاس إلى معرفة حكمها عام في حقِّ الكُلِّ ، ومثل هذا يمتنع خفاؤه بل يجبُ أن يُشْتَهَر العلم بحكمه كاشتهار علمهم بحلِّ النِّكاح ، ولما بطل هذان القسمان ثَبَتَ أنَّ الصَّحَابَةَ إنَّمَا سَكَتُوا عن الإنكار على عُمَرَ لعلمهم بأنَّ المتعة صارت منسوخَةً في الإسْلاَمِ .
فإن قيل : الرَّجْمُ غير جائز مع أنَّ الصَّحابةَ ما أنكروا عليه حين ذكر ذلك ، ولما سكتَ ابْنَ عباسٍ عنه في مسألة المُبَاهَلَة ثم ذكرها بعد موت عمر وقال : من شاء باهلته فقيل له : هلاّ قلت هذا في زمن عُمَرَ ، فقال : هِبْتُه ، وكان أمْرَأً مُهاباً .
فالجوابُ لعلَّهُ ذكر ذلك على سبيل الزَّجْرِ والتهديدِ والسِّيَاسة ، ومثلُ هذا جائز [ للإمام ] عند المصلحةَ كقوله عليه السَّلامُ « مَنْ مَنَعَ الزَّكاةَ فإنَّا نَأخُذُهَا مِنْهُ وَشَطْر مالِهِ » وأخذ شَطْرِ المالِ غير جائز لكنَّه قال ذلك للزَّجر فكذا ههنا ، وأمَّا سكوت ابن عباس ، فكَانَ سكوت رجل واحد في خلائق عظيمة ، فلا يُشْبِهُ سكوت الخَلاَئِقِ العظيمة عند رجل واحد ، ويدلُّ على التَّحريم حديثُ الربيعِ بْنِ سبرة ، وحديث عَلِيٍّ المذكوران أوَّل الفَصْلِ قال الرَّبيعُ بْنُ سُليْمَانَ : سمعت الشَّافِعِيِّ يقول : لا أعلم في الإسْلاَمِ شيئاً أحِلَّ ثم حرم غير المُتْعَةِ .
واحتجَّ من قال بإباحَةِ المتعة بوجوهٍ :
أحدُهَا قراءة أبيِّ بنِ كَعْبٍ وابن عباس « فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن » ولم ينكر عليهما هذه القراءة فكان إجماعاً ، فيقابل الإجماع الَّذي كان حاضراً عند خطبة عُمَرَ .
الثَّاني : أنَّ المذكور في الآية إنَّمَا هو مُجَرَّدُ الابتغاء بالمالِ ، ثُمَّ إنَّهُ تعالى أمر بإتيانهنَّ أجورهنَّ بعد الاستمتاع بهنَّ ، وذلك يدُلُّ على أنَّ مجرَّدَ الابتغاءِ بالمال يجوزُ الوطء ، ومجرَّد الابتغاء بالمالِ لا يكونُ إلاَّ في نِكَاحِ المُتْعَةِ ، فأمَّا في النِّكَاحِ المطلق ، فالحل إنَّمَا يحصل بالعَقْدِ والولي والشُّهود ، ولا يفيد فيه مُجرَّدُ الابتغاء بالمال .

الثَّالِثُ : أنَّهُ وَاجِبٌ إيتاء الأجور بمجرَّدَ الاستمتاع ، والاستمتاعُ عبارةٌ عن التَّلذُّذِ والانتفاع ، وأمَّا في النِّكَاحِ المطلق فإيتاء الأجور لا يتوقَّفُ على الاستمتاع ألْبَتَّةَ بل على العقد . ألا تَرَى انَّ بمجرد النِّكَاحِ يلزم نصفُ المهر .
الرَّابعُ : أن الأمَّةَ مجمعة على أنَّ نِكَاحَ المتعة كَانَ جَائِزاً في الإسْلامِ ، وإنَّمَا الخلافُ في النَّسْخِ ، فَنَقُولُ لو كان النَّاسِخُ موجوداً ، لكان إمَّا معلوماً بالتَّواتُرِ أو الآحاد ، ولم يعلم بالتَّواتُرِ؛ لأنَّه كان يلزمُ منه كونُ عليٍّ ، وابن عباس ، وعمران بن الحُصَيْنِ منكرين لما عرف ثبوته بالتَّواتُرِ في دين محمَّدٍ عليه السلامُ ، وذلك يوجب تكفيرهم ، ويكون باطلاً قطعاً ، وإنْ كان ثابتاً بالآحاد لزم نسخ الثابت المتواتر المقطوع به بخبر الوَاحِدِ المظنون ، وهذا أيضاً باطل ، ومما يدلُّ على بطلان هذا النَّسخ أيضاً أنَّ أكثر الرِّوايات أنَّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة يوم خيبر ، وأكثر الرِّوايات أنَّهُ عليه السلامُ أباح المتعةَ في حجَّة الوداع وفي يومَ الفَتْحِ ، وهذان اليومان متأخرانِ عن يوم خيبر ، وذلك يدلُّ على فساد ما روي أنَّهُ عليه السلامُ نسخ المتعة يوم خيبر ، لأنَّ النَّاسِخَ يمتنع تقدُّمهُ على المنسوخ ، [ وقول ] من قال إنَّهُ حصل التحليل مراراً [ والنسخ مرارا ] قول ضعيف لم يقل به أحدٌ من [ المُتقدِّمينَ ] المعتبرين ، إلا الذين أرادوا إزالة التَّناقُضِ عن هذه الرِّوايات .
الخامس : أنَّ عمر -رضي الله عنه- قال على المنبر متعتان كانتا مشروعتين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا أنهى عنهما : مُتْعَةُ الحَجِّ ، ومتعةُ النِّكَاحِ وهذا تنصيص منه على أنَّ متعة النِّكاحِ كانت موجودةً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله « وأنا أنْهى » يدلُّ على أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نسخة ، وَإنَّما عمر هو الذي نَسَخَهُ وإذَا كانت كذلك؛ وجب أن لا يصير منسوخاً بنسخ عُمرَ ، وهذا هو الحجةُ التي احتجَّ بها عمران بن الحصين حيث قال : ولم تنزل آية بنسخ آية المتعة ، ولم يَنْهَنَا عنها حتى مات ، ثم قال رجلٌ برأيه ما شاء ، يريد أنَّ عمر نهى عنها .
والجوابُ أنْ يقال : إن هذه الآيةَ مشتملة على أنَّ المراد منها تحريم نكاح المتعة من ثلاثة أوجُهٍ : الأوَّلُ : أنَّهُ تعالى ذكر المحرمات بالنِّكاح أولاً في قوله { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } ثم قال في آخر الآية { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } كانَ المرادُ بهذا التحليل ههنا ما هو المراد هناك بالتَّحريم هو النِّكاح ، فالمرادُ بالتحليل هنا أيضاً يجب أنْ يكون هو النِّكاح .
الثّاني : قوله تعالى { مُّحْصِنِينَ } والإحْصَانُ لا يكون إلاَّ في نكاحٍ صحيح .
الثالثُ : قوله { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } سمَّى الزِّنَا سِفَاحاً؛ لأنَّهُ لا مقصود فيه إلا سفح الماء ولا يطلب فيه الولد وسائر مصالح النِّكاح ، والمتعة لا يراد منها إلاَّ سفح الماء فكان سفاحاً ، هذا قول أبِي بكر الرَّازي ، وفيه مناقشة .

أمَّا الأولُ : فإنَّهُ تعالى ذكر أصْنافاً مِمَّنْ يَحْرُمُ وَطْؤهُنَّ ثم قال { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } أي وأحل لكم وَطْءُ ما وراء هذه الأصناف ، فأيُّ فساد في هذا الكلام .
وأمَّا الثَّاني : وهو أنَّ الزِّنَا إنَّمَا سمي سفاحاً؛ لأنَّهُ لا يراد منه إلا سفح الماء فالمتعةُ ليست كذلك فإنَّ المقصود منها سفح الماء بطريق مشروع مأذون فيه من قبل اللَّه ، لم قلتم إنَّ المتعة محرمة .
قال ابْنُ الخطيبِ : وَإنَّمَا الجواب المعتمدُ أن نقول : إنَّا لا نُنْكِرُ أنَّ المتعةَ كانت مباحة إنَّمَا الذي نقوله : إنَّها صارت منسوخَةً ، وعلى هذا التقدير ، فلو كانت [ هذه الآية دالة على أنها مشروعة ] [ لم يكن ذلك قادحاً في غرضنا ، وهذا هو الجواب أيضاً عن تمسكهم بقراءة أبيّ وابن عباس ، فإن تلك القراءة بتقدير ثبوتها لا تدل إلا على أن المتعة كانت مشروعة ، ونحن لا ننازع ] لكن نقول : إنَّ النسْخَ طرأ عليه ، وما ذكرتم من الدلائل لا يدفع قولنا ، وقولهم إنَّ النَّاسخَ إمَّا أن يكون متواتراً ، أو آحاداً قلنا : لعلَّ بعضهم سمعه ثم نسيه [ ثم إن عمر -رضي لله عنه- لمّا ذكر في الجمع العظيم تذكروه وعرفوا صدقه فيه وسلموا الأمر له .
وقولهم : ] إنَّ عمر أضاف النّهي عن المتعة إلى نفسه .
قلنا : قد بَيَّنَا أنَّهُ لو كان مراده أنَّ المتعة كانت مباحة في شرع محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، وأنا أنهى عنه؛ لزمَ تكفيره ، وتكفير كلّ مَنْ لا يحاربه وينازعه ، ويفْضِي ذلك إلى تكفير جميع المؤمنين ، وكلُّ ذلك باطل فلم يبق إلا أن يقال : كان مراده أنّ المتعة كانت مباحة في زمن الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم ، وأنا أنهى عنها لما ثبت أنَّهُ صلى الله عليه وسلم نسخها ، فهو ناقل للنَّسْخِ ، لا أنَّهُ نسخ من عنده .
فصل
قال القرطبيُّ : اختلف العلماءُ كم مرة أبيحت ونسخت؛ ففي « صحيح مسلم » عن [ عبد ] الله قال : « كُنَّا نَغْزُو مع رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ليس لنا نِسَاء ، فقلنا : ألا نَسْتَخْصِي؟ فنهانا عن ذَلِكَ ، ثُمَّ رَخَّص لنا أنْ نَنْكِحَ المَرْأةَ بالثَّوْبِ إلى أجَلٍ » قال أبُو حَاتِم البُسْتِيُّ في صحيحه : قولهم للنبيِّ صلى الله عليه وسلم « ألا نَسْتَخْصِي » دليل على أنَّ المتعة كانتَ مَحْظُورَةً قبل أنْ يبيح لهم الاستمتاع ، ولو لم تكن محظورة لم يكن لسؤالهم عن هذا معنىً ، ثم رَخَّص لهم في الغَزْوِ أن ينكحوا المرأة بالثَّوب إلى أجَلٍ ثمَّ نهى عنها عام خيبر ثم أذن فيها عام الفتح ثم حرمها بعد ثلاث فهي محرّمة إلى يوم القيامة .

وقال ابن العَرَبِيّ : وأمَّا متعة النَساء فهي من غرائب الشَّريعة؛ لأنَّهَا أبيحت في صدر الإسْلامِ ثمَّ حرمت يَوْمَ خيبر ، ثم أبيحت في غزوة أوْطَاسٍ ثُمَّ حرِّمت بعد ذلك ، واستقر الأمر على التَّحريم ، وليس لها أختٌ في الشَّريعة إلاَّ مسألة القبلة ، فإنَّ النَّسْخَ طرأ عليها [ مرتين ] ثم استقرَّتْ بعد ذلك . وقال غيره مِمَّنْ جمع طرق الأحاديث فيها : إنَّها تقتضي التَّحليلَ والتَّحْرِيمَ سبع مرات فروى ابن أبي عمرة : أنَّها كانت في صدر الإسلام .
وروى سلمةُ بْنُ الأكوع : أنَّها كانت عام أوْطَاسٍ ، ومن رواية عليٍّ تحريمها يومَ خيبر ، ومن رواية الرَّبِيعِ بْنِ سبرة إباحتها يَوْمَ الفَتْحِ .
قال القرطبيُّ وهذه الطرق كُلُّهَا في « صحيح مسلم » وغيره عن علي نَهْيَهُ عنها في غزوة تَبُوكَ وفي مصنف أبي داود من حديث الرَّبيعِ بْنِ سبرةَ النَّهي عنها في حجَّةِ الوَدَاعِ .
وروى الحسن عن [ ابن ] سبرة أيضاً : ما حلَّتِ المتعةُ قطُّ إلاّ ثلاثاً في عمرة الفَضَاءِ ما حلَّت قبلها ، ولا بعدها .
فهذه سبعةُ مواطن أحلت فيها المتعة وحرمت .
قوله « فريضة » حال من أجورهن ، أو مصدر مؤكد أي فرض اللَّهُ ذلك فريضة [ أو فرضاً ] أو مصدر على غير المصدر؛ لأنَّ الإيتاء مفروض فَكَأنَّهُ قال « فآتوهن أجورهن إيتاء مفروضاً » . قوله « ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة » من حمل الآية على النِّكاح الصّحيح قال المراد منه الإبراء من المهر ، أو الحط عنه ، أو الافتداء ، أو الاعتياض وهو كقوله تعالى { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } [ النساء : 4 ] [ فإن قبضها ملكت بالقبض ] وقوله { إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } [ البقرة : 237 ] من حمل الآية على نِكَاحِ المتعة قال : أراد إذا انْقَطَعَ زمانُ المتعَةِ لم يبق للرَّجُلِ على المرأة سبيل ، فإنْ شاءت المرأة زادت في الأجل وزاد الرجل في الأجر وإن لم يتراضيا تفارقا .
فصل [ حكم إلحاق الزيادة بالصداق ]
قال أبُو حنيفة : إلحاق الزِّيَادَةِ بالصَّدَاقِ جائز ، وهي ثابتة إن دَخَلَ بها ، أو مات عنها وإن طلقها قبل الدُّخولِ بطلت الزِّيَادة ، وكانت بمنزلة الهبة فإن قبضتها ملكتها بالقبض ، وإن لم تقبضها بطلت ، واحتَجُّوا بقوله { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفريضة } وهذا بعمومه يدلُّ على جواز إلحاق الزِّيَادة [ بالصداق ، قال : بل هذه بالزيادة أخص منها بالنقصان؛ لأنه تعالى علقه بتراضيهما والبراءة والحط لا يحتاج إلى رضا الزوج ، والزيادة لا تصح إلا بقبوله ، فإذا علق ذلك بتراضيهما جميعاً ، دل على أن المراد هو الزيادة . الجواب أنه لا يجوز أن تكون الزيادة عبارة ] عما ذكره الزَّجَّاجُ ، وهو أنَّهُ إذا طلقها قبل الدُّخول ، فإن شاءت أبرأته من النَّصف ، وإن شاء الزَّوج سلّم إليها كلَّ المال ، فيكون قد زادها على ما وَجَبَ عليه؛ ولأنَّ هذه الزيادة لو التحقت بالأصل لكان إمَّا مع العقد الأوَّلِ ، أوْ بعد زواله ، والأوَّلُ باطل؛ لأنَّ العقد لما انعقد على القدر الأوَّلِ ، فلو انعقد مرَّةً أخرى على القدر الثَّاني؛ لكان ذلك تكويناً لذلك العقد بعد ثبوته ، وهو تحصيلُ الحاصلِ .

والثَّاني باطل؛ لانعقادِ الإجماع على أنَّ عند إلحاق الزَّيادَةِ لا يرتفعُ العقدُ الأوَّلُ ، ففسد قولهم .
فصل [ في استحباب قلة المهر ]
اعلم أنَّهُ لا تقدير لأكثر الصّداق لقوله تعالى { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً } [ النساء : 20 ] والمستحبّ أن لا يغالي فيه . قال عُمَرُ بْنُ الخطَّاب : « ألاَ لاَ تغالوا في صدقة النِّساء ، فإنَّهَا لو كانت مُكرمَةً في الدُّنْيَا وتقوى عند اللَّهِ ، لكان أولاكم بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، ما علمت رسول الله صلى الله عليه وسلم نَكَحَ شيئاً من نسَائِهِ ، ولا أنكح شيئاً من بناته بأكثر من اثْنَي عشر أوقية .
وعن أبِي سَلَمَةَ قال : سألتُ عَائِشَة كم كان صداق النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : كَانَ صَدَاقُهُ لأزْوَاجِهِ اثْنَتي عَشْرَةَ أوقِيةً وَنشاً وقالت : أتدري ما النشُّ؟ قلتُ : لا قالت : نصف أوقية فتلك خَمسمائة دِرهم ، وَأمَّ أقل الصَّداق فذهب بعضهم إلى أنَّهُ لا تقدير فيه ، بل ما جاز أنْ يكونَ مبيعاً أو ثمناً جاز أن يكون صداقاً ، وهو قول ربيعةَ ، وسفيانَ الثَّوريَ ، والشَّافعيِّ ، وأحمد وإسحاقَ .
وقال عمرُ بْنُ الخَطَّابِ : » في ثلاث قبضات مهر زينب « ، وقال سعيدُ بن المسيِّبِ : » لو أصدقها سوطاً جاو « ، وقال قوم : تقدر بنصاب السّرقة ، وهو قول مَالِكٍ ، وأبي حنيفَةَ ، غير أنَّ نصاب السَّرقةِ عند مالك ثَلاثَةُ دراهِمَ ، وحجَّةُ الشافعي وأحمد قوله عليه السلام » الْتَمِسْ َلَوْ خَاتَماً مِنْ حَدِيدِ ، زوجتك بما معك من القرآن « ، وزوّج امْرَأةً على نَعْلَيْن .
فصل [ في حكم جعل القرآن ونحوه صداقاً ]
قال الشافعيُّ ، وأحمدُ : » يجوزُ أن يجعل تعليم القرآن صَدَاقاً للحديث « ، وقال أصحابُ الرَّأي لا يجوزُ ، وكذلك كلُّ عَمَلٍ يجوزُ الاستئجار عليه مثل البِنَاءِ ، والخياطة وغيرهما يجوز أن يجعل صداقاً للحديث ، ولقول شُعيب لموسى عليه السَّلامُ { إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ } [ القصص : 27 ] . وقال أبو حنيفة : لا يجوز أن يجعل منفعة الحرّ صداقاً .
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)

قوله تعالى { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات } الآية « من » شرطية وهو الظَّاهِرُ ، ويجوز أن تكون موصولة ، وقوله { فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم } إما جواب الشَّرط ، وإمَّا خبر الموصول ، وشروط دخول الفاء في الخبر موجودة و { مِنكُمْ } في محلِّ نصب على الحال من فاعل { يَسْتَطِعْ } وفي نصب { طَوْلاً } ثلاثة أوْجُهٍ :
أظهرُهَا : أنَّه مفعول ب « يستطيع » وفي قوله « أنْ ينكح » على هذا ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّه في محلِّ نصبٍ ب « طولاً » على أنَّهُ مفعول بالمصدر المنون؛ لأنَّه مصدر؛ وطلت الشيء أي : نلتُهُ ، والتَّقدير : ومن لم يستطع أنْ ينال نكاح المحصنات [ المؤمنات ] ، ومثله قول الفَرَزْدَقِ : [ الكامل ]
1784- إنَّ الْفَرَزْدَقَ صَخْرَةٌ مَلْمُومَةٌ ... طَالَتْ فَلَيْسَ يَنَالُهَا الأوْعَالاَ
أي : طالت الأوْعَالُ فلم تَنْلها ، وإعمالُ التصدر المنوَّن كثيثر قال الشَّاعِرُ : [ الوافر ]
1785- بِضَرْبٍ بِالسُّيُوفِ رُؤُوسَ قَوْمٍ ... أزَلْنَا هَامَهُنَّ عَنِ المَقِيلِ
وقول الله تعالى { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا } [ البلد : 14 ، 15 ] وهذا الوجه ذهب إليه الفارسي .
الثاني : { أَن يَنكِحَ } بدل من { طَوْلاً } بدل الشَّيْءِ من الشَّيْءِ؛ لأنَّ الطول هو القدرة ، أو الفضل ، والنِّكَاحُ قدرة وفضل .
الثَّالثُ : أنَّهُ على حذف حرف الجَرِّ ، ثم اختلف هؤلاء ، فمنهم مَنْ قَدَّرَهُ ب « إلى » أي : طولاً إلى أن ينكح المُحْصَنَاتِ ، ومنهم من قَدَّرَهُ باللامِ أي : لأن ينكح ، وعلى هذين التَّقديرين ، فالجارّ في محلِّ الصِّفَةِ لطولاً ، فيتعلَّق بمحذوف ، ثُمَّ لما حُذِفَ حرف الجرِّ فالخلاف المشهُورُ في محل « أن » أنصبٌ هو أم جرٌّ؟ .
وقيل : اللامُ المقدّرة مع « أنْ » هي لام المفعول من أجله ، أي : لأجل نِكاحِهنَّ .
الوجه الثَّاني من نصب { طَوْلاً } : أن يكون مفعولاً له على حذف [ مضاف ] أي : ومن لم يستطع منكم لعدم طول نكاح المحصنات ، وعلى هذا ف « ان ينكح » مفعول « يستطع » أي : ومن لم يستطع نكاح المُحْصَنَات لعدم الطُّوْلِ .
الوجه الثالثُ : أن يكون مَنْصُوباً على المصدر .
قال ابْنُ عَطيَّة : ويصحُّ أن يكون طَوْلاً نصباً على المَصْدَرِ ، والعامِلُ فيه الاستطاعة [ لأنَّهما بمعنى و { أَن يَنكِحَ } ، على هذا مفعول بالاستطاعة ، أو ] بالمصدر يعني أنَّ الطولَ هو الطاعة في المعنى ، فَكَأنَّهُ قيل : ومن لم يستطع منكم استطاعة ، والطَّوْلُ : [ الفضل ومنه ] التطول وهو التَّفضل قال تعالى { ذِي الطول } [ غافر : 3 ] ويقال : تطاولَ لهذا الشَّيءِ أي تناوله كما يقالُ : يد فلان مبسوطة ، وأصل هذه الكلمة من الطُّولِ الّذي هو ضدّ القصر؛ لأنَّهُ ذَا كان طويلاً ففيه كمال وزيادة [ كما أنه إذا كان قصيراً ففيه قصور ونقصان ، فسمى الغنى طولاً لأنه ينال به المراد ما لا ينال عند الفقر ] كما أنَّ بالطول ينال ما لا ينال بالقصر .

قال ابنُ عبَِّاس ومُجاهدٌ وسعيدُ بنُ جبيرٍ والسُّديُّ وابنُ زيدٍ ، ومالكٌ : « الطَّول هو السَّعة ، والغنى » قيل : والطَّوْلُ : الحرة ، ومعناه : أنَّ من عنده حرَّة لا يجوز له نكاح [ أمة ] ، وإن عَدمَ السَّعَةَ ، وخاف العَنَتَ؛ لأنَّه طالب شهوة وعنده امرأة ، وهو قول أبِي حنيفَةَ [ وبه قال الطَّبرِيُّ ] .
وقال أبُو يُوسفَ : الطَّوْلُ هو وجود الحرَّة تحته ، وقيل : الطَّوْلُ هو التَّجلد والصبر كمن احبَّ أمةً ، وهويها حتَّى صار لذلك لا يستطيع أن يتزوج [ عليها ] غيرها ، فإنَّ له أن يتزوّج الأمَةَ إذا لم يملك مهرها ، وخاف أن يبغي بها ، وإن كان يجد سَعَةً في المال لِنِكَاحِ حرَّةٍ . وهذا قول قَتَادَةَ والنَّخَعِيِّ وعطاءٍ ، وسفيان والثَّوْرِي نقله القُرْطُبِيُّ .
فصل : [ تفسير المراد بالمحصنات ]
والمراد بالمحصنات ههنا الحرائر [ لأنه تعالى أثبت نكاح الإماء عند تعذر نكاح المحصنات ، فلا بد أني يكون المراد بهن الحرائر ] ؛ لأنه ذكرهن كالضّد الأمَاء ووجه تسميتهن بالمحصنات على قراءة من فتح الصَّاد أنَّهن أحصن بحريتهن عن أحوال الإمَاءِ فإنَّ الأمَةَ تكونُ خراجةً مُمْتهنَةً مُبْتَذِلَةً في الظَّاهِرِ ، والحرةُ مصونة عن هذه القَضَايَا ، وأمَّا على قراءة كسر الصاد فالمعنى أنهن أحصن أنفسهن بحريتهنَّ .
فصل [ في شرط نكاح الأمة ]
دلَّتِ الآيَةُ على أنَّهُ لا يجوزُ للحرِّ نكاحُ الأمَةِ إلاَّ بشرطين؛ وهما ألاَّ يجد مهر حرة ، ولا ثمن أمة ، وأنْ يخاف العَنَتَ ، وهو قولٌ جائزٌ ، وبه قال طاوس وعمرو بْنُ دينَار ، وإليه ذهب مالكٌ والشَّافعيُّ وأحْمَدُ ، وجوّز أصحابُ الرَّأي للحر نكاح الأمَةِ .
فإنْ قيل : أيُّ تفاوت بين ثمن الأمة ، أو مهرها وبّيْنَ نكاح الحرَّة الفقيرة .
فَالجوابُ : أنَّ العادة كانت في الإماء التخفيف لاشتغالهن بخدمةِ السَّيِّد فظهر التَّفَاوُتُ .
فصل [ في حكم نكاح الأمة الكتابية ]
دلَّت الآيةُ على أنَّهُ لا يجوز للمُسْلِم نكاحُ الأمَةِ الكتابيَّةِ لقوله : { فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ المؤمنات } ولقوله : { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } [ المائدة : 5 ] ولأن الأمَةَ الكافرةَ ناقِصَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :
نَقْصُ الرِّقِّ ، ونَقْصُ الكُفْرِ ، والولدُ تابع للأمِّ في الحريةِ والرق ، فيتعلَّقُ الولدُ رقيقاً على مِلْكِ الكافِرِ وجوز أبُو حنيفة ذلك لعموم قوله : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] وقوله : { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ } [ النور : 32 ] وقوله : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } وقوله : { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } [ المائدة : 5 ] والمراد بهذا الإحصان العفّة .
والجَوَابُ أنَِّ آيتنا خاصةٌ ، والخاص مُقَدَّمٌ على العام؛ ولأنها دخلها التخصيص فيما إذا كان تحته حرّ' ، وَاتَّفَقُوا على أنَّهُ [ لا ] يجوزُ وطؤها بملك اليمين . انتهى .
فصل [ في شرط الإيمان ]
ظاهر قوله : « وَمَنْ لم يستطِع منكُم طولاً أن ينكح المُحصناتِ المُؤْمنِات فمِنْ ما ملكتْ أيمانكم من فتياتكم المؤمنات » يقتضي كون الإيمان معتبراً من الحرَّة فعلى هذا لو قدر على طول حرّة كتابيَّة ، ولم يقدر على طول أمةٍ مسلمةٍ فإنَّهُ يجوزُ له أن يتزوّج بالأمةِ ، وأكثرُ العُلماء على أنَّ ذكر الإيمان نذب في الحرائرِ ، ولا فرق بين [ الأمة ] المؤمنة والكتابيَّة في كثرة المؤمنة وقلتها .

فصل
في التَّحذيرِ من نكاح الأمَاءِ وجوهٌ منها : -الولد ينبع الأمِّ في الحريَّة والرِّق فيصير الولد رقيقاً .
قال عُمَرُ -رضي الله عنه- : أي حُرٍّ تَزوَّجَ بأمَةٍ ، فقد رَقّ نِصْفُهُ ، يعني : يصير وَلَدُهُ رقيقاً .
وقال سعيدُ بْنُ جُبير : ما نكاح الأمة من الزِّنَا إلا قريب ، قال الله تعالى : { مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي عنْ نِكَاحِ الإمَاءِ .
ومنها أنَّ الأمَةَ تكون قد تعوّدت الخروجَ ، والبروزَ والمخالطةَ للرِّجَالِ وصارت في غاية الوقَاحةِ ، ورُبَّمَا تَعَوَّدَت الفجورَ .
ومنها أن حقّ المولى عليهم أعظم من حقِّ الزَّوْجِ ، ولا تخلص للزَّوْج كخلوص الحُرَّةِ ، وربَّما احتاج الزَّوْجُ إليها جداً ، ولا يجد إليها سبيلاً [ لحبس السيّد لها ] .
ومنها أنَّ المولى قد يبيعها من إنسان آخر ، فعلى قول من يقول بيع الأمَةِ يُوجِبُ طلاقها تصير مطلَّقَة شاء الزَّوْجُ أم أبى ، وعلى قول من لا يرى ذلك فقد يُسَافِر المولى بها وبولدها ، وذلك من أعْظَمِ المَضَارّ .
ومنها أن مهرها ملك لمولاها ، فلا تَقْدِرُ على هبته لِزوجهَا ، ولا إبرائه بخلاف الحرَّةِ ، فلهذه الوجوه لم يُؤْذَنْ في نِكَاحِ الأمةِ إلا على سبيل الرُّخصةِ .
وروى أبُو هريرة قال : سَمِعْتُ رسولَ اللهَ صلى الله عليه وسلم يقول [ الحرائر ] صلاح البيت والإماء هلاك البيت أو قال فساد « فساد البيت » ذكره القرطبي .
قوله : « فممّا » الفاء قد تقدّم أنَّها إمَّا جواب الشَّرط ، وإمَّا زائدة في الخَبَرِ على حَسْبِ القولين في « من » وفي هذه الآية سبعة أوْجُهٍ :
أحدها : أنَّها متعلّقة بفعل مقدّر بعد الفاء تقديرُهُ : فينكحُ مِمَّا ملكت أيمانكم و « ما » على هذا موصولة بمعنى الذي أي : نوع الّذي ملكته ، ومفعولُ ذلك الفعل المقدّر محذوفٌ تقديرهُ : فَيَنْكِحُ امرأة ، أو أمَةً مما ملكته أيمانكم؛ ف « مِمَّا » في الحقيقة متعلق بمحذوف لأنَّهُ صفة لذلك المفعولِ المحذُوفِ و « من » للتَّبعيضِ ، نحو : أكلتُ مِنَ الرَّغيفِ ، و { مِّن فَتَيَاتِكُمُ } في محلِّ نصب على الحال من الضَّمير المقدّر في « ملكت » العائد على [ « مَا » ] الموصولة و { المؤمنات } صفة لفتياتكم .
الثَّاني : أن تكون « مِنْ » زائدة و « ما » هي المفعولة بذلك الفعل المقدَّر أي : فلينكح ما ملكته أيمانكم .
الثَّالثُ : أنَّ « مِنْ » في { مِّن فَتَيَاتِكُمُ } زائدة و { فَتَيَاتِكُمُ } هو مفعولُ ذلك الفعل المقدَّرِ أي : فلينكح فتياتكم ، و « مما ملكت » متعلق بنفس الفعل و « من » لابتداء الغاية ، أو بمحذوف على أنَّهُ حال من « فتياتكم » قدم عليها و « من » للتَّبعيضِ .
الرَّابعُ : أن مفعول « فلينكح » [ هو المؤمنات أي : فلينكح ] المؤمنات الفتيات و « مما ملكت » على ما تقدَّم في الوجْهِ قبله و « من فتياتكم » حال من ذلك العائد المحذوف .

الخامِسُ : أنَّ مما في محَلِّ رفع خبراً لمبتدأ محذوف تقديره : فالمنكوحَةُ مِمَّا ملكت [ أيمانكم ] .
السَّادس : أن « ما » في « مِمَّا » مصدريَّةٌ أي : فلينكح من ملك أيمانكم ، ولا بدَّ أن يكون هذا المصدر واقعاً موقع المفعولِ نحو : { هذا خَلْقُ الله } [ لقمان : 11 ] ليصحّ [ وقوع ] النكاح [ عليه ] .
السَّابعُ : وهو أغبرها ونقل عن جماعة منهم ابن جرير أنَّ في الآية تقديماً وتأخيراًَ وأنَّ التقدير : ومنْ لَمْ يستطعْ منكمْ [ طولاً ] أنْ ينكحَ المُحْصنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فلينكح بعضكم من بعض الفتيات ، فبعضكم فاعل ذلك [ الفعل ] المقدّر ، فعلى هذا يكون قوله { والله أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ } معترضاً بين ذلك الفعل المقدَّر وفاعله ، ومثل هذا لا ينبغي أن يقال .
فصل
قال ابن عباس : يُريدُ بقوله { فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم } أي : فليتزوّج جاريةَ أخيه ، فإنَّ الإنسانَ لا يجوز له أن يتزوّج بجارية نفسه ، والفتيات المملوكات جمع فتاةٍ تقُولُ العربُ للأمة : فتاة ، وللعبد : فتى ، قال عليه السلامَ : « لا يَقُولَنَّ أحدكُم عَبْدِي ، ولا أمَتِي ، وَلكِنْ لِيَقُلْ فَتَاي وفَتَاتِي » ويقالُ للجارية الحديثة : فتاة ، والغلام ، فتى ، والغلام ، فتى ، والأمة تسمى فَتَاة .
قوله : « والله أعلم بإيمانكم » جملة من مبتدأ وخبر جيء بها بعد قوله { مِّن فَتَيَاتِكُمُ المؤمنات } لتفيد أنَّ الإيمان الظَّاهر كافٍ في نكاحِ الأمَةِ المؤمنة ظاهراً ولا يشترط في ذلك أن يعلم إيمانها يقيناً ، فإنَّ ذلك لا يطلع عليه إلا الله تعالى ، وفيه تأنيس أيضاً بنكاح الإماءِ ، فإنَّهم كانوا يفرون من ذلك .
قال الزَّجَّاجُ : « المعنى : احملوا فتياتكم على ظاهر الإيمانِ ، واللهُ أعلمُ بالسَّرائِرِ » .
قوله تعالى : { بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ } مبتدأ وخبر أيضاً ، جيء بهذه الجملة أيضاً تأنيساً بنكاح الأمة [ كما تقدَّم ، والمعنى : أنَّ بعضكم من جنس بعض في النَّسب والدين ، فلا يدفع الحر عن نكاح الأمَّةِ ، عند الحاجة إليه ، وما أحسن قول أمير المؤمنين عَلِيٍّ رضي الله عنه ] : [ البسيط ]
1786- والنَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّمْثيلِ أَكْفَاءُ ... أبوهُمُ آدَمٌ والأمُّ حَوَّاءُ
والحكمَةُ في ذِكْرِ هذه الكَلِمَةِ أنَّ العَرَبَ كانوا يَتفاخَرُونَ بالأنْسَابِ ، فأخبر تعالى أن ذلك لا يلتفت إليه؛ لأنَّ الإيمان أعظم الفضائل ، وإذا حصل الاشتراك فيه فلا يلتفت إلى ما وراء ذلك .
قال تعالى : { والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [ التوبة : 71 ] وقال : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] وكان أهلُ الجاهليّة يضعون من أين الهجين فذكر تعالى هذه الكلمة زجراً لهم من أخلاق أهل الجاهليَّةِ .
قوله « بإذن أهلهن » متعلق ب « انكحوهنّ » وقدّر بعضهم مضافاً محذوفاً أي : بإذنِ أهل ولايتهن ، وأهل ولاية نكاحهن هم المُلاَّك .
فصل في نكاح الأمة بإذن سيدها
اتَّفَقُوا على أنَّ نكاحَ الأمَةِ بدون إذن سيِّدهَا باطلٌ بهذه الآية فإنها تقتضي كون الإذن شرطاً في جواز النِّكاحِ ، وإن لم يكن النكاح واجباً كقوله عليه [ الصَّلاة و ] السلام :

« مَنْ أسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ معلُومٍ ووَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أجَلٍ مَعلُوم » فالسلم ليس بواجب ، ولكنَّهُ إذا اختار أن يُسْلِمَ فعليه استيفاء هذه الشَّرائط ، ولأنَّ الأمَّةَ ملك للسيِّد ، وبالتّزوج تبطل عليه أكْثَرُ منافعها؛ فوجب ألاّ يجوز ذلك إلا بإذنِهِ ، وأمَّا العبد فلقوله عليه السَّلامُ : « إذَا تَزَوَّجَ العَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ السيّد فهو عاهِرٌ » .
فصل في اشتراط إذن الولي في النكاح
استدلُّوا بهذه الآية على أنَّه لا يصحُّ نِكَاحُ الحرَّة البالغة العاقلة إلاَّ بإذن الولي ، قالوا : لأنَّ الضَّمِيرَ في قوله { فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } عائد إلى الإماءِ والأمة ذات موصوفة بالرِّق ، وصفة الرِّقِّ صفة زَائِلَةٌ لا تتناول الإشارة بتلك الصّفة ، إلا تَرى أنَّهُ لَوْ حلف لا يَتكلَّمُ مع هذا الشاب فصار شيخاً ثم تَكَلَّمَ معه حَنَثَ؛ فثبت أن الإشارة إلى الذَّاتِ الموصوفة بصفَةٍ ، عرضية زائلة باقية بعد زوال تلك الصِّفةِ العرضية ، وإذَا كان كذلك ، فوجب أن تكون الإشَارَة إلى الإمَاءِ باقيةً بعد زَوَالِ الرِّقِّ ، وحصول صفة الحريّة لهنّ ، وإذا ثبت أنَّ ذلك في الصُّورَةِ الباقية؛ وجب ثبوته في سائر الصُّورِ ، لأنَّهُ لا قائل بالفرق .
قال الرازيُّ : هذه الآية ترد على الشافعيِّ ، فإنَّهُ يقول : لا عِبَارَةَ للمرأة في النِّكاح ، فإذا ملكت المرأةُ جارية وكلتْ مَنْ يزوجها ، واللهُ تعالى شرط إذن أهلهنّ مطلقاً فقد ترك [ الظاهر ] والجوابُ من وُجُوهٍ :
الأوَّلُ : المرادُ بالإذن الرِّضَا ولا بدَّ مِنْهُ .
الثَّاني : أنَّ المرادَ بأهلهنّ من يقدر على نكاحهن ، فإن كانت امرأةً فموْلاَهَا .
الثَّالِثُ : أنَّ الأهْلَ يتناولُ الذكورَ والإناثَ ، لكنَّهُ عام والأدلَّةُ الدَّالَّةُ على المرأة لا تنكح نفسها خاصّة ، والخاصُّ مقدَّمٌ وفي الحديثِ : « العَاهِر هي التي تنكِحُ نَفْسَهَا » ولذا كانت مسلوبةَ العبارة في [ حقّ ] نفسها ، فهي في حقّ مملوكها أولى .
قوله تعالى « فآتوهن أجورهن » قال بعضهم : هو المهر ، قال : والمُرادَ به مهر المثل لقوله تعالى : { بالمعروف } وهذا إنَّمّا ينطلق فيما كان مبنياً على الاجتهاد وغالب الظنِّ في المعتاد والمتعارف كقوله : « وعلى الوارث مثل ذلك » { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف } [ البقرة : 233 ] .
وقال القاضي : « المرادُ من [ الأجُورِ : ] النَّفَقةُ عليهنّ قال : لأنَّ المهر مقدّر ، فلا معنى لاشتراط المعروف فيه ، فكأنَّهُ تعالى بيَّن أنَّ كونها أمَةً لا يقدحُ في وُجُوبِ نفقتها ، وكفايتها كما في حقّ الحرة ، وأكثر المفسَِّرينَ حملوا قوله : { بالمعروف } على تَرْكِ المطْلِ ، والتَّأخيرِ عند المطالبة على العَادَةِ الجميلَةِ .
فصل في من المستحق لقبض مهر الأمة؟
نقل أبُو بكرٍ الرَّازِي في أحكام القرآن عن بعض أصْحَابِ مالكٍ ، أنَّ الأمة هي المستحقّة لقبض مهرها بهذه الآيةِ .
والجوابُ من وُجوهٍ :
أحدُهَا : أنَّا إذا حملنا [ قوله ] الأجور على النَّفَقَةِ ، زال تمسكهم .

وثانيها : إنَّمَا أضاف إيتاء المهور إليهن ، لأنَّهُ ثمن بعضهم ، وليس في قوله « وآتوهن » ما يوجب كون المَهْرِ ملكاً لهنَّ .
وثالِثُهَا : ثبت أنَّهَا تقتضي كَوْنَ المَهْرِ ملكاً لهُنَّ ، ولكنَّهُ عليه السلامُ قال : « العَبْدُ وَمَا فِي يَدِهِ [ ملِكٌ ] لمولاهُ » وقال تعالى : { ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ } [ النحل : 75 ] فنفى الملك عنه .
ورابُعهَا : أنَّ عِوَضٌ عن منافِع البُضْعِ ، وهي مملوكةٌ للسيِّدِ .
قوله : « بالمعروف » فيه ثلاثةُ أوجُهٍ :
أحدها : أنَّه متعلِّق ب { وَآتُوهُنَّ } أي : آتوهن مهورهن بالمعروف .
الثَّاني : أنَّهُ حالٌ من أجورهن أي : ملتبسات بالمعروف ، يعني : غير ممطولة .
الثالِثُ : أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بقوله { فانكحوهن } أي : فانكحوهن بالمعروف [ بإذن أهلهن ومهر مثلهن ، والإشهاد عليه ، وهذا هو المعروفُ ] وقيل : في الكلامِ حذف تقديره : وآتوهنَّ أجورهن بإذن أهلهنَّ فحذف من الثَّاني لدلالة الأوَّلِ عليه ، نحو { والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات } [ الأحزاب : 35 ] . أي الذاكرات الله .
وقيل : ثُمَّ مُضَاف مقدر أي : وآتوا مواليهن أجورهن؛ لأنَّ الأمة لا يسلّم لها شيءٌ من المهر .
قوله تعالى { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } حالان من مفعول { فَآتُوهُنَّ } ومحصنات على هذا ، بمعنى مزوجات .
وقيل : { مُحْصَنَاتٍ } حال من مفعول { فانكحوهن } ، ومحصنات على هذا بمعنى عفائف ، أو مسلمات ، والمعنى : فانكحوهن حال كونهن محصنات لا حال سفاحهن واتِّخَاذِهِنَّ للأخدان ، وقد تقدم أن « محصنات » بكسر الصَّاد وفتحها وما معناها ، وأن { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } حال مؤكدة . و { وَلاَ مُتَّخِذَات } عطف على الحال قبله ، والأخدان مفعول بمتخذات ، لأنَّهُ اسم فاعل ، وأخدان جمع « خِدْن » كعِدْل وأعْدَال . والخِدْنُ : الصَّاحب .
قال أبو زيد : الأخدانُ : الأصدقاء على الفاحشة ، واحدهُمْ خِدْنٌ وخدين وهو الّذي يخادنك ، ورجل خُدْنَةٌ : إذا اتَّخَذَ أخداناً أي : أصحاباً وقد تقدَّمَ أنَّ المُسَافح هو المجاهر بالزِّنَا ، ومتخذ الأخْدَان هو المستتر [ به ] ، وكان الزِّنَا في الجاهليَّة منقسماً إلى هذين القسمين ، ولم يحكموا على ذاتِ الخدن بكونها زانية .
قوله : « فإذا أحصن » قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم { أُحْصِنَّ } بضمّ الهمزة وكسر الصَّادِ على البِنَاءِ للمفعول والباقون بفتحها على البنَاءِ للفاعل ، فمعنى الأوَّلِ أحصن بالتزويج فالمحصن بهن هو الزوجَ ، هكذا قاله ابنُ عباسٍ ، وسعيدُ بْنُ جُبيرٍ والحَسَنُ ومُجاهِد .
ومعنى الثَّانية : « وأحصن فروجهن أو أزواجهن » .
وقال عُمَرُ وابنُ مسعودٍ والشعبيُّ والنخعيُّ والسديُّ : أسلمن . وطعنوا في هذا الوجه بِأنَّهُ تعالى وصف الإماء بالإيمان في قوله { فَتَيَاتِكُمُ المؤمنات } ويبعد أن يقال : فتياتكم المؤمنات ، ثم يقال : فإذا آمن فإن حالهن كذا وكذا ، ويمكن جوابه بأنَّهُ تعالى حكم حكمين :
الأوَّلُ : حال نكاح الأمَاءِ فاعتبر الإيمان فيه بقوله : { فَتَيَاتِكُمُ المؤمنات } .
والثَّاني : ما يجبُ عليهنَّ عند إقدامهن على الفاحشَةِ ، فذكر [ حال ] إيمانهنَّ أيضاً في هذا الحكم وهو قوله تعالى { فَإِذَآ أُحْصِنَّ } .

قوله : « فإن أتين بفاحشة فعليهن » الفاء في « فإنْ » جواب « إذَا » وفي « فعليهن » جواب « إن » فالشَّرط الثَّاني وجوابه مترتِّبٌ على وجود الأوَّلِ ، ونظيره : إن أُكلت فإن ضربت عمراً فأنت حرٌّ ، لا يُعتق حتى يأكل أولاً ، ثم يضرب عمراً ثانياً ولو أسقطت الفاء الدّاخلة على « إن » في مثل هذا التّركيب انعكس الحكم ، ولزم أن يَضْرب أولاً ثُمَّ يأكل ثانياً ، وهذا يُعْرف من قواعد النَّحْوِ ، وهو أن الشَّرْطَ الثَّاني يُجْعل حالاً ، فيجب التَّلبُّسُ به أولاً .
قوله : « من العذاب » متعلق بمحذوف؛ لأنَّهُ حال من الضَّميرِ المستكن في صلة « ما » وهو « على » ، فالعامل فيها معنوي ، وهو في الحقيقة ما تعلَّقَ به هذا الجر ، ولا يجوز أن يكون حالاً من « ما » المجرورة بإضافة « نصف » إليها؛ لأنَّ الحال لا بدَّ أن يعمل فيها [ ما يعمل ] في صاحبها [ إن ] و « نصفُ » هو العامل في صاحبها الخفض بالإضافة ، ولكنه لا يعمل في الحال ، لأنَّهُ [ ليس ] من السماء العاملة إلا أنَّ بعضهم يرى أنَّهُ إذا كان جزءاً من المضاف جاز ذلك فيه ، والنصفُ جزء فيجوز ذلك .
فصل
في الآية إشكال ، وهو أنَّ المحصنات في قوله : { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات } إمَّا أن يكون المرادُ منه الحرائِر المتزوّجات ، أو الحرائر الأبكار ، والسَّبَبُ في إطلاق اسم المحصنات عليهن حريتهن ، والأول مُشْكِلٌ؛ لأن الواجبَ على الحرائر المتزوجات في الزِّنَا الرَّجم ، فهذا يقتضي أن يجب في زِنَا الإماء نصفُ الرَّجْمِ وذلك باطل .
والثَّاني وهو أن يكون المراد الحرائر الأبكار ، فنصف ما عليهنَّ خمسون جَلْدَةً وهذا القدر واجب في زنَا الأمَةِ ، سواء كانت مُحْصَنَةً أو لم تكن ، فحينئذ يكون هذا الحكمُ معلقاً بمجرَّدِ صُدُورِ الزِّنَا عنهنَّ ، وظاهر الآية يقتضي كونه معلقاً بمجموع الأمرين : الإحصان والزِّنا ، لأنَّ قوله { فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ } شرط بعد شرط . فيقتضي كون الحكم مشروطاً بهما نصاً .
فالجوابُ أن يُخْتارَ القسم الثَّاني ، وقوله : { فَإِذَآ أُحْصِنَّ } ليس المرادُ منه جعل هذا الإحْصَانِ شرطاً لأن يجب في زَنَاهَا خمسُونَ جَلْدَةً ، بل المعنى أنَّ حدَّ الزِّنَا يغلظ عند التَّزوُّجِ فهذه إذَا زَنَتْ ، وقد تزوَّجت فحدُّهَا خمسون جلدة ، لا يزيد عليه فبأن يكون قبل التَّزوُّجِ هذا القدر [ أيضاً ] أولى ، وهذا مما يَجْرِِي [ فيه مجرى ] المفهوم بالنَّصِّ لأنَّهُ لما خفف الحدَّ لمكان الرّق عند حصول ما يُوجبُ التَّغليظَ فبأن يجب هذا القدر عندما لا يوجد المغلظ أولى ، وذهب بعضهم إلى أنَّهُ لا جلد على من لم يتزوّج من المماليك إذَا زَنَا لقوله تعالى : { فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب } وهذا مرويٌّ عن ابن عباسٍ وبه قال طاووس .

ومعنى الإحصان عند الآخرين الإسلامُ ، وإن كان المرادُ منه التزويج ، فليس المراد منه أنَّ التزويج شرط لوجوب الحدّ عليه ، بل المرادُ منه التّنبيه على أنَّ الممْلُوكَ إذا كان محصناً بالتَّزويج؛ فلا رجم عليه ، إنَّمَا حده الجلد بخلاف الحر ، فحدُّ الأمةِ ثابت بهذه الآية ، وبيان أنَّه الجلد قوله عليه السلامُ « إذا زَنَتْ أمَةُ أحدكُمْ فليَجْلِدْهَا ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا ولا يُثْرِبْ عليْهَا ، ثُمَّ إن زَنَتْ الثَّالِثَةُ؛ فَلْيَبِعْها وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعِرٍ » .
فصل في من يقيم الحد على الإماء؟
اختلفوا فيمن يقيمُ الحدَّ على العَبْدِ والأمَةِ إذَا زَنَيَا ، قال بن شهاب : مضت السُّنَّةُ أن يَحُدَّ العَبْدَ والأمَةَ أهلُوهُم في الزِّنَا ، إلاَّ أنْ يُرْفَع أمرُهُمْ إلى السَّلطان ، فليس لأحَدٍ أن يفتات عليه قوله عليه السلامُ « إذَا زَنَتْ أمَةُ أحدكُمْ فليَجْلِدْهَا مِنْهُمْ ، ومَنْ لَمْ يُحْصَن » .
قال مَالِكٌ : يَحُدَّ المولى عبده في الزِّنَا وشرب الخمر ، والقَذْفِ إذا شهد عنده الشُّهُودُ ، ولا يقطعُهُ في السَّرقَةِ إلاَّ الإمام .
وقال أبُو حنيفةَ : « لا يقيمُ الحُدُودَ عليهم إلاَّ السُّلْطَان » .
فصل متى يحد الأمة السلطان؟
قال القُرطبيُّ : إذَا زنتِ الأمَةُ ثُمَّ عُتِقَتْ قَبْلَ أن يحدَّها سيِّدُهَا لم يحدَّهَا إلا السُّلْطَان ، فإنْ زَنَتْ ثم تزوَّجَتْ لم يكُنْ لسيِّدِهَا أن يجلدَهَا لحقِّ الزَّوْجِ؛ إذ قد يَضُرُّهُ ذلك ، إذَا لم يكن الزَّوْجُ ملكاً للسَّيِّدِ ، فلو كان ملكاً للسَّيِّدِ؛ جازَ ذلك لأن حقَّهُمَا حَقُّهُ .
فصل
إذا أقرَّ العَبْدُ بالزِّنَا ، وأنْكَرَهُ المولى فالحدُّ يجبُ على العبد لإقرارِهِ ، ولا يلتفت لإنكار السَّيِّد ، فلو عفا السَّيِّدُ عن عَبْدِهِ ، أو أمته إذا زَنَيَا ، فقال الحَسَنُ : له أن يغفر وقال غيرُهُ : لا ينفَعُهُ إلاَّ إقامَةُ الحدِّ ، كما لا يسع السُّلطانَ أنْ يعفو عن حدٍّ إذا عَلِمَهُ .
قوله : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العنت مِنْكُمْ } « ذلك » : مبتدأ ولمن خشِيَ : جارٌّ ومجرورٌ [ خبره ] ، والمشارُ إليه ب « ذلك » إلى نكاح الأمة المؤمنة لمنْ عَدِمَ الطَّوْلَ ، والعَنَتُ في الأصْلِ انكسارُ العَظْمِ بعد الجَبْرِ؛ فاستعير لكلٍّ مَشَقَّةٍ .
قال تعالى : { وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ } [ البقرة : 220 ] أي : لشدَّدَ الأمرَ عليكم ، وأُريدَ بِهِ به هُنَا ما يجرُّ إليه الزِّنَا منَ العذاب الدُّنْيَوِيِّ ، والأخرويِّ .
وقال بعضُ المفسِّرينَ : إنَّ الشَّبق الشَّديدَ في حقِّ النساء قد يؤدِّي إلى اختناق الرَّحم ، وأمَّا في حقِّ الرِّجالِ فقد يردي إلى أوجاعِ الوركين والظهر والأوَّل هو اللائِقُ ببيان القرآن .
و « منكم » حالٌ من الضَّميرِ في « خشيِ » أي : في حال كَوْنِهِ مِنْكُمْ ، ويجوزُ أن تكون « من » للبيان .
قوله : { وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } . مبتدأ وخبر لتأوله بالمصدَرِ وهو كقوله { وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى } [ البقرة : 237 ] والمعنى وأنْ تَصْبِرُوا عن نكاح الإماء متعفِّفينَ خيرٌ لكم لما بَيَّنَا من المفاسدِ الحاصلة في هذا النَّكَاحِ .

قال عليه الصلاة والسلام : « الحَرَائِرُ صَلاَحُ البَيْتِ ، والإمَاءُ هَلاَكُهُ » .
وقال الشاعر :
1787- وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِهِ قَهْرَمَانَةٌ ... فَذلِكَ بَيْتٌ لا أبَالَكَ ضَائِعُ
وقال الآخر : [ الطويل ]
1788- إذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَنْزِلِ المَرْءِ حُرَّةٌ ... تُدَبِّرُهُ ضَاعَتْ مَصَالِحُ دَارِهِ
فصل
مذهب أبي حنيفة وأحمد : أنَّ الاشتغال بالنِّكاح أفضل من الاشتغال بالنَّافلة ، فإن قالوا بهذا سواء كان نكاح حرَّةٍ أو نكاح أمةٍ فهذه الآية نصَّ في بطلان قولهم ، وإن قالوا : إنَّا لا نرجِّح نكاح الأمة على النَّافلة ، فحينئذٍ يسقط استدلالهم .
ثم قال : { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وهذا كالمؤكّد لما ذكره؛ لأنَّ الأولى ترك هذا النِّكاح يعني أنَّهُ وإنْ حصل ما يقتضي المَنْعَ من هذا النِّكَاحِ إلا أنَّهُ تعالى أباحه لاحتياجكم إليه ، فكان ذلك من باب المغفرة والرَّحْمَةِ .
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)

للنَّاس في مثل التركيب مذاهب ، فمذهبُ البصريين أنَّ مفعول « يريدُ » محذوف تقديره يريد اللهُ تحريم ما حرَّم [ عليكم ] وتحليل ما حلَّل ، وتشريعَ ما تقدَّم لأجلِ التَّبيين لكم ، ونسبه بعضهم لسيبويه ، فتملَّقُ الإرادة غير التّبيين وما عطف عليه ، وَإِنَّما تأوَّلوهُ بذلك؛ لئلاَّ يلزم تعدّي الفعل إلى مفعوله المُتَأَخّر عنه باللاَّمِ ، وهو ممتنع وإلى إضمار « إن » بعد اللام الزائدة .
والمذهبُ الثَّانِي - ويُعْزَى أيضاً لبعض البصريّين- : أن يُقَدَّرَ الفعل الَّذي قبل اللاَّم بمصدر في محلِّ رفع بالابتداء ، والجارُ بعده خبره ، فيقدر : يريدُ اللهُ ليبيِّن إرادة اللهَ تعالى للتّبيين وقوله : [ شعر ] [ الطويل ]
1789- أُرِيدُ لأنْسى ذِكْرَهَا [ فَكَأَنَّمَا ... تُمَثَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ سَبيلِ ]
أي : إرادتي ، وقوله تعالى { وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ } [ الأنعام : 71 ] أي : أُمِرْنَا بما أُمِرْنَا لنسلم ، وفي هذا القول تأويل الفعل بمصدر ، من غير حرف مصدر ، وهو ضعيفٌ نحو : « تَسْمَعُ بالمعيديِّ خيرٌ من أن تراه » قالوا : تقديره : أن تسمع فلما حذف « أن » رفعِ الفعل وهو من تأويل المصدر لأجل الحرف المُقدَّر [ فكذلك هذا ] فلام الجرِّ على الأوَّل في محلِّ نصب لتعلقها ب « يُريدُ » وعلى الثَّاني في محلِّ رفع لوقوعها خبراً .
الثالث : وهو مذهبُ الكوفيّين أنَّ الرمَ هي النَّاصبة بنفسها من غير إضمار « انْ » ، وما بعدها مفعول الإرادة ، لأنَّها قد تُقَامُ اللامُ مقام « أنْ » في : أردت وأمرت ، فيقال : أردتُ أن تذهب ، وأردت لتذهب ، وأمرتك لتقُومَ ، وأمرتُكَ أن تَقُومَ ، قال تعالى : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله } [ الصف : 8 ] ، وقال في موضع آخر : [ { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله } ] [ التوبة : 32 ] . وقال : { وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين } [ الأنعام : 71 ] وفي موضع آخر : { وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ } [ غافر : 66 ] وقال : { وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ } [ الشورى : 15 ] أي : أنْ أعدل بينكم ، ومنع البصريُّون ذلك؛ لأنَّ اللام ثبت بها الجرُّ في الأسماء ، فلا يجوزُ أن ينصب بها فالنَّصب عندهم بإضمار « أنْ » كما تَقَدَّمَ .
الرَّابِعُ ، وإليه ذهب الزَّمخشريُّ ، وأبُو البقاءِ : أنَّ اللامَ زائدةٌ ، و : أنَّ « مضمرة بعدها ، والتَّبْيينُ مفعول [ الإرادة .
قال الزمخشري : { يُرِيدُ الله } يريدُ اللهُ أن يُبيِّنَ ، فزيدت اللامُ لإرادة التبيين ، كَمَا ] زيدت في » لا أبا لك « لتأكيد إضافة الأبِ وهذا خارج عن أقوال البَصْرِيِّيِنَ ، والكوفيين ، وفيه أن » أنْ « تضمر بعد اللام الزَّائدة ، وهي لا تضمر فيما نصَّ النحويون بعد لام إلاَّ وتلك اللامُ للتعليل ، أو للجُحُودِ .
وقال بعضهم : اللامُ » لام « العاقبة كهي في قوله تعالى { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً [ وَحَزَناً } ] [ القصص : 8 ] ولم يذكر مفعل التبيين ، بل حذفه للعلم به فقدَّره بعضهم : ليبيِّن لكم ما يقرّ ربَكم ، ومنه قول بعضهم إنَّ الصبر عن نكاح الإماء خير .
فالأوَّلُ قاله عطاء .

قلت المدون الاتي ج21. وج22. ان شاء الله

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدجال يستغل ازمات الناس من الجوع ونقص الطعام والمياه في دعوتهم الباطلة لعبادتهم إياه والايمان به

  بياناته الشخصية     المسيح الدجال ليس خوارق إنما هو دجل وكذب قلت المدون ان الأ أزمة الاقتصادية الحادثة الان في كل دول العالم والمجاعة المت...