حمل المصحف وورد وبي دي اف.

 حمل المصحف وورد وPDF.
القرآن الكريم وورد word doc icon||| تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

الجمعة، 23 سبتمبر 2022

ج33.وج34. اللباب كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

 

ج33.وج34. اللباب كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
فصل في بيان حركة الشمس
قال ابن الخطيب : إن الشَّمْس لها نوعان من الحركة :
أحدهما : حَرَكَتُهَا بحسب ذاتِهَا ، وهي إنما تتم في سَنَةٍ كامِلَةٍ وبسبب هذه الحركة تحصلُ السَّنةُ .
والنوعُ الثاني : حركتها بحسب حركة الفلك الأعظم ، وهذه الحركة تَتِمُّ في اليومِ بليلته .
وإذا عُرف هذا فنقول : اللَّيْلُ والنَّهَارُ لا يحصل بحركة الشَّمْس ، وإنَّمَا يحصلُ بسبب حركةِ السَّماءِ الأقصى التي يقالُ لها : العَرْشُ ، فلهذا السبب لمَّا ذكر العَرْشَ بقوله : { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } ربط به قوله : { يُغْشِي الليل النهار } تنبيهاً على أنَّ سبب حُصُول اللَّيْلِ والنَّهارِ هو حركة الفلك الأقصى ، لا حركة الشمس والقمر ، وهذه دقيقةٌ عجيبةٌ .
قوله : { أَلاَ لَهُ الخلق والأمر } .
يجوزُ أن يكون مَصْدراً على بابِهِ ، وأن يكُونَ واقِعاً مَوْقِعَ المفعوُولِ به .
« لَهُ الخَلْقُ » ؛ لأنَّهُ خلقهم ، و « الأمْرُ » : يأمر في خلقه بما يشاء قال سفيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ . فرّق الله بين الخلق والأمر ، فمن جمع بَيْنَهُمَا فقد كَفَرَ .
« تَبَارَكَ اللَّهُ » أي : تعالى الله وتعظم .
وقيل : ارتفع ، والمباركُ : المرتفعُ .
وقيل : تَبَارَكَ : تَفَاعَل ، من البَرَكَةِ وهي النَّمَاءُ والزِّيَادَةُ ، أي : البركةُ تكسب ، وتنالُ بذكْرِهِ .
وعن ابن عَبَّاسِ قال : جَاءَ بِكُلِّ بَرَكَةٍ .
وقال الحسنُ : تَجِيءُ البَرَكَةُ من قِبَلِهِ .
وقيل : تبارك : تَقَدَّس ، والقُدْسُ : الطهارة .
وقال المحقِّقُونَ : معنى هذه الصِّفَةِ ، ثبت ودام كما لم يزل ولا يزال ، وأصلُ البركةِ الثُّبُوتُ ويقال : تَباركَ اللَّهُ ولا يقال : يتباركُ ولا مباركٌ؛ لأنَّهُ لم يرد به التَّوقيف .
وقوله : « رَبُّ العَالمينَ » والعالمُ : كلُّ موجود سوى الله تعالى .
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)
لمَّا ذكر الدَّلائلُ الدّالة على كمالِ القُدْرَةِ ، والحكمة ، والرَّحْمَةِ أتبعه بذكر الأعْمَال اللاَّئقةِ بتلك المعارفِ ، وهو الاشتغالُ بالدُّعَاءِ والتَّضَرُّع ، فقوله : « تَضَرُّعاً وخُفْيةً » نُصِبَ على الحال : أي : متضرعين مُخْفين الدُّعَاءَ ليكون أقْرَبَ إلى الإجَابَةِ . ويجوزُ أن ينتصبا على المصدرِ ، أي : دعاءَ تضرّعٍ وخُفْيةٍ .
وقرأ أبُو بَكْرٍ : « خِفْية » بكسر الخاء ، وقد تقدَّم ذلك في الأنعام إلا أنَّ كلام أبي عليٍّ يُرْشد إلى « خِفْيَةً » بالكسر بمعنى الخَوْفِ ، وهذا إنَّما يَتأتَّى على ادِّعاءِ القلْب أي يُعتقد تقدم اللاَّم على العَيْنِ وهو بعيدٌ؛ لأنَّهُ كان يَنْبَغِي أنْ تعود الواو إلى أصلها ، وذلك أن « خِفْية » ياؤُهَا عن واو لسكونها وانكسار ما قبلها ، [ ولمَّا أخِّرَت الواوُ تحرَّكتْ ، وسُكِّن ما قبلها ، ] إلاَّ أن يقال : إنَّهَأ قلبت متْرُوكَةً على حالها .
وقرأ الأعمش « وخِيْفة » وهي تؤيِّدُ ما ذكره الفَارِسِيُّ ، نقل هذه القراءة عنه أبو حَاتِمٍ .
قوله : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين } قرأ ابن أبي عَبْلَة « إنَّ اللَّه » أتى بالجلالةِ مكان الضَّميرِ ، والمُرَادُ بالتَّضَرُّعِ : التَّذَلُّلُ والاستكانة ، وبالخية : السِّرُّ .
قال الحسنُ : بين دعوة السِّرِّ ، ودعوة العلانيةِ سبعون ضعفاً ، ولقد كان المُسْلِمُونَ يجتهدون في الدُّعَاءِ ، وما يسمع لهم صوت ، إلاَّ هَمْساً بينهم وبين ربهم ، وذلك أنَّ الله يقول : { ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } ، وإنَّ الله ذكر عبدهُ زكريا ، ورضي فعله فقال : { إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً } [ مريم : 3 ] .
وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « دَعْوَةُ السِّرِّ تَعْدِلُ سَبعِيْنَ دَعْوَة في العَلاَنِيَةِ » ، وقال عليه الصَّلاة والسَّلام : « خَيْرُ الذِّكْرِ الخَفِيُّ » وروى أبو موسى الأشعريُّ - رضي الله عنه - أنَّهُم كانُوا في غزاة فأشْرَفُوا على وادٍ فجعلُوا يكبِّرون ويهلِّلُونَ رَافِعِي أصواتهم ، فقال عليه الصَّلاة والسّلام : « ارْبعُوا على أنفُسِكُمْ فإنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ ، ولا غَائِباً ، إنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعاً قَرِيباً وإنَّهُ لَمَعَكُمْ »
واختلفوا في أنَّ الأفضل الدُّعاء خفيةً ، أو علانيةً؟ فقيل : الإخفاءُ أفْضَلُ لهذه الآية ولقوله تعالى : { إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً } [ مريم : 3 ] ، ولما تقدَّم ، ولأنَّهُ مُصون عن الرياء .
وقال آخرون : العانيَةُ أفضلُ؛ لترغيب الغَيْرِ في الاقتداء به .
وقال آخرونَ : إن خَافَ على نفسه الرِّيَاءَ؛ فالإخفاءُ أفضلُ وإلاَّ فالعلانية .
فصل في بيان شبهة منكري الدعاء
من النَّاسِ من أنكر الدُّعاء ، واحتج على صحَّة قوله بوجوه :
الأول : أنَّ المطلوب بالدُّعاء إن كان معلوم الوقوع ، كان واجب الوُقُوع؛ لامتناع وقُوع التَّغير في علم الله تعالى ، وما كان واجبَ الوُقُوع لم يكن في طَلَبِهِ فائدةٌ ، وإن كان معلومَ اللاوقوع؛ كان ممتنع الوقوع فلا فائدة في طلبه أيضاً .
الثاني : أنَّهُ تعالى : إن كان قد أراد في الأزَلِ إحْدَاثَ ذلك الشيء فهو حاصلٌ سواءٌ كان هذا الدُّعَاء أو لم يكن ، وإنْ كان أرَادَ في الأزَلِ ألاَّ يعطيه ، فهو ممتنعٌ الوقوع ، فلا فائِدَةَ في الطَّلَبِ ، وإن قلنا : إنَّه ما أراد في الأزَلِ ذلك الشيء لا وجوده ولا عدمه ، ثم إنَّهُ عند ذلك الدُّعَاءِ صار مُرِيداً له لَزِمَ وقوع التَّغير في ذاتِ الله ، وفي صفاته ، وهو مُحالٌ .
وعلى هذا التقدير يصيرُ إقْدَامُ العبد على الدُّعاء عِلَّةً لحدوث صِفَةٍ في ذات الله - تعالى - فيكون العبد متصرِّفاً في صفة اللَّهِ - تعالى - بالتَّبْديلِ والتَّغْيير ، وهو محال .
الثالث : أنَّ المَطْلُوبَ بالدُّعاء إن اقتضت الحكمة والمصلحة إعطاءه ، فهو تعالى يُعْطِيهِ من غير هذا الدُّعاء؛ لأنَّهُ منزَّهٌ عن أن يكون بَخِيلاً ، وإن اقْتَضَتِ الحكمةُ مَنْعَهُ فهو لا يطعيه سواء أقْدَمَ العَبْدُ على الدُّعَاءِ ، أو لم يُقْدِم عليه .
الرابع : أنَّ الدُّعَاءَ غير الأمر ، ولا تَفَاوُتَ بين البَابَيْنِ إلا كون الدَّاعي أقَلَّ رتبةْ ، وكون الآمر أعلى رُتْبَةً ، وإقدام العبد على أمر الله سُوءُ أدَبٍ وإنه لا يجوز .
الخامس : الدُّعَاءُ يُشْبِهُ ما إذا أقْدَمَ العَبْدُ على إرشاد ربِّه وإلهه إلى فعل الأصْلَح والأصْوَبِ ، وذلك سوءٌ أدبٍ ، أو أنَّهُ ينبه الإله على شيءٍ ما كان منتبهاً له ، وذلك كُفْرٌ ، وأنَّ اللَّه عالى قصَّرَ في الإحسان والفَضْلِ ، وذلك جهلٌ .
السادس : أنَّ الإقدام على الدُّعاء يدلُ على كون العَبْدِ غير راضٍ بالقضاءِ ، إذْ لو رَضِيَ بما قضاه اللَّهُ عليه لترك تصرّفَ نفسه ، ولما طلب من الله شيئاً على التَّعيين ، وترك الرِّضَا بالقضاء من المنكرات .
السابع : روي أنَّهُ عليه الصَّلاة والسَّلام قال حَاكياً عن اللَّهِ - تعالى - « مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْألَتِي أعْطَيْتُهُ أفْضَلَ ما أُعْطي السَّائلينَ » وذلك يدلُّ على أنَّ الأوْلَى ترك الدُّعَاءِ .
الثامن : أنَّ علم الله - تعالى - محيطٌ بحاجة العبد ، والعبدُ غذا علم أن مَوْلاَهُ عالم باحتياجه فَسَكَتَ ولم يذكر تلك الحاجة ، كان ذلك أدْخَلَ في الأدَبِ ، وفي تعظيم المولى ، ممَّا إذَا أخذ يشرح كيفيَّة تلك الحاجةِ ، وإذا كان الحالُ على هذا الوجْه في الشاهد؛ وجَبَ اعتبار مثله في حقِّ الله - تعالى - ، وكذلك نُقل أن الخليل - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - لمَّا وضع في المَنْجَنيقِ للرّمي إلى النَّارِ قال له جبريلُ - عليه السَّلامُ - « ادْعُ ربَّكَ » ، فقال الخليل - عليه السَّلام - : « حسبي من سؤالي علمه بحالي » .
والجوابُ : أنَّ الدُّعَاءَ نوعٌ من أنواع العبادةِ ، والأسئلةُ المذكورة واردة في جميع أنواع العباداتِ ، فإنَّهُ يقال : إن كان هذا الإنسان سعيداً في علم الله فلا حاجة إلى الطَّاعات والعبادات ، وإن كان شقِيّاً في علمه؛ فلا فائدة في تلك العبادات ، ويجبُ أيضاً ألاَّ يُقْدِمَ الإنسانُ على أكل الخُبْزِ ، وشرب الماء؛ لأنَّهُ إن كان شبعاناً في علم اللَّه فلا حاجة إلى أكل الخبز ، وإن كان جَائِعاً فلا فائدة في أكل الخبز ، وكما أنَّ هذا الكلامَ باطلٌ؛ فكذا فيما ذكروه ، بل نقول : المقصودُ من الدُّعَاءِ معرفةُ ذلَّةِ العبوديَّة ، ومعرفة عزِّ الرُّبوبيَّةِ ، وهذا هو المقصودُ الأعلى من جميع العِبَادَاتِ؛ لأنَّ الدَّاعِي لا يقدم على الدُّعَاءِ إلا إذا عرف من نفسه كَوْنَهُ محتاجاً إلى ذلك المَطْلُوب ، وكونه عَاجِزاً عن تحصيله ، وعرف من ربِّه ، وإلهه أنَّهُ يسمعُ دُعَاءهُ ، ويعلم حاجته ، وهو قادرٌ على دفع تلك الحاجة ، فإذَا كان الدُّعَاءُ مستجمعاً لهذين المقامين كان الدُّعَاءُ أعظم العِباداتِ ، ولهذا قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ :
« الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادةِ »
قوله : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين } أجمع المُسْلِمُونَ على أنَّ المحبة صفة من صفات اللَّه - تعالى - واتَّفَقُوا على أن ليس معناها شهوة النفس وميل الطَّبْعِ ، وطلب التَّلَذُّذِ بالشَّيء؛ لأنَّ كل ذلك في حقِّ الله - تعالى - محالٌ ، واختلفوا في تفسير المحبَّة في حقِّ الله - تعالى - فقيل : هي عبارة عن إيصال الثَّوابِ ، والخير إلى العبد ، والمراد ب « المُعْتَدينَ » المجاوزين ما أمِرُوا به .
قال الكلبيُّ وابن جريج : من الاعتداء رَفْعُ الصَّوتِ في الدُّعَاءِ .
وقال أبُو مِجْلَزٍ : هم الذين يسألون منازل الأنْبِيَاءِ - عليهم الصلاة والسلام - .
روي أنَّ عبدَ الله بْنَ مُغفَّل سمع ابنه يقول : اللَّهُمَّ إني أسألك القَصْرَ الأبْيَضَ عن يمين الجَنَّةِ إذا دخلتها فقال : يا بني سل اللَّه الجَنَّةَ ، وتعوَّذ به من النَّارِ ، فإنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سَيَكُونَ فِي هَذِهِ الأمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ في الظُّهُورِ والدُّعَاءِ .
وقال عَطِيَّةُ : هم الَّذين يدعون على المُؤمنينَ ، فيما لا يحل فيقولون : « اللَّهُمَّ أخْزِهم اللَّهُمَّ الْعَنْهُم » .
وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
يدخل فيه المنع من إفْسَادِ النُّفُوسِ بالقَتْلِ ، وقطع الأعضاء ، [ وإفساد الأموال بالنَّهْبِ ، والغصب ، والسَّرِقَةِ ، ووجوه الحيل وإفساد الأديان بالكفر والبِدَع ] وإفساد الإنسانِ بالزِّنَا واللِّواط والقَذْفِ ، وإفساد العقول بشرب المُنْكَرَاتِ ، فهذا النَّهْيُ يقتضي مَنْعَ إدخال ماهيَّة الفَسَادِ في الوُجُودِ بجميع أنْواعِهِ وأصنافه .
وقوله : « بَعْدَ إصلاحِهَا » يحتمل أنْ يكون المرادُ بعد أن صح خلقها على الوَجْهِ المطابق لمنافع الخَلْقِ ، ويحتمل أنْ يكون المرادُ بعد إصلاح الأرْضِ ببعثة الرُّسُلِ ، وإنزال الكُتُبِ ، وتفصيل الشَّرَائِع .
قوله : { وادعوه خَوْفاً وَطَمَعاً } .
هذانِ حالانِ ، أي : ادْعُوهُ ذُوُو خَوْفٍ وطَمَعٍ ، أو خَائِفِينَ طامعين ، أو مَفْعُولان من أجلهما ، أي : لأجْلِ الخوفِ والطَّمَعِ .
فإن قيل : قد قال في الآية الأولى : « ادْعُوا رَبَّكُمْ » ، ثم قال هاهنا : « وَادْعُوهُ » ، وهذا يقتضي عَطْفَ الشَّيْءِ على نفسه ، وهو باطل .
والجوابُ : أنَّ الَّذينَ فسروا قوله : « ادْعُوا رَبَّكُمْ » بأنَّ المرادَ به العِبادَة ، قالوا : المُرَادُ بهذا الدُّعَاء الثَّانِي هو الدُّعَاءُ نفسه .
وأمّا الذين قالوا : المرادُ بقوله : « ادْعُوا رَبَّكُمْ » هو الدُّعَاءُ قالوا : المراد بهذا الدُّعَاءِ أن يكون الدُّعَاءُ المأمور به أوَّلاً مقروناً بالتَّضَرُّع ، والأخْفَاءِ ، ثم بيَّن هاهنا أنَّ فائدةَ الدُّعَاءِ أحد هذين الأمرين .
فالأولى في بيان شَرْطِ صحَّةِ الدُّعاء .
والثانية في بيان فَائِدِةِ الدُّعَاءِ ومنفعته .
قوله : { إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ } إنَّمَا لم يُؤنِّثْهَا وإن كانت خبراً لمؤنث لوجوه :
منها أنَّهَا في معنى الغُفْرَانِ والعفو والإنعامِ ، فحُمِلت عليه ، قاله النَّضْرُ بْنُ شُمَيْل واختاره الزَّجَّاجُ .
قال سعيدُ بْنُ جُبَيْر : الرَّحْمَةُ هاهنا الثَّوَابُ فرجع النعت إلى المعنى دون اللفظ كقوله : { وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم مِّنْهُ } [ النساء : 8 ] ولم يقل : « مِنْهَا » ؛ لأنَّهُ أراد الميراث والمال .
ومنها أنها صفة لموصوف مذكَّرٍ حذف ، وبقيت صِفَتُهُ ، والتَّقديرُ : إنَّ رحمة الله شيءٌ قريبٌ .
ومنها : أنها في معنى العفو أو المطر ، أو الرحم .
ومنها : أنَّهَا على النَّسب كحائضِ ولابنٍ وتامرٍ ، أي : ذات حيض .
ومنها : تشبيه فعيل بمعنى فاعل بِفَعيلٍ بمعنى مفعول ، فيستوي فيه المُذَكَّر والمؤنَّث كجريح ، كما حُمِلَ هذا عليه حيثُ قالوا : أسير وأسَرَاءُ ، وقبيل وقُبَلاء حَملاً على رَحِيمٍ ورحماء ، وعليهم وعُلَمَاء ، وحكيم وحُكماء .
[ ومنها : أنَّه ] مصدر [ جاء على فعيل كالنَّعيق وهو صَوْت الضِّفْدَع ، والضغيب وهو صَوْتُ الأرنب وإذا كان مَصْدراً ] لَزِمَ الإفراد والتذكير .
ومنها : انَّهَا بمعنى مَفْعُولٍ أي مُقَرَّبة ، قاله الكَرْمَانِيُّ ، وليس بجيد؛ لأنَّ فعيلاً بمعنى مفعول لا يَنْقَاسُ ، وعلى تقدير اقتياسه فإنَّمَا يكونُ من الثُّلاثِي المجرَّد ، لا من المزيدِ فيه ، ومُقَرَّبة من المزيد فيه .
ومنها : أنَّهَا من باب المُؤنَّث المجازي ، فلذلك جاز التَّذكير كطلع الشَّمس .
قال بعضهم : وهو غَيْرُ جَيِّدٍ؛ لأنَّ ذلك حيث كان الفعل متقدَّماً نحو : طلع الشَّمس ، أمَّا إذا تأخَّر وجب التَّأنيثُ ، إلا في ضرورة شِعْرٍ كقوله : [ المتقارب ]
2487 - . . ... وَلاَ أرْضَ أبْقَلَ إبْقَالَهَا
قال شهابُ الدِّين : « وهذا يجيءُ على مذهب ابن كَيْسَان ، فإنَّهُ لا يَقْصُر ذلك على ضرورة الشِّعر ، بل يجيزه في السَّعَةِ » .
وقال الفرَّاءُ : قريبةٌ وبعيدةٌ : إمَّا أن يُراد بها النَّسَبُ وعدمُه ، فتؤنِّثها العرب ليس إلاَّ فيقولون : فلانٌ قريبة مني في النَّسَبِ ، وبعيدةٌ مني أي في النَّسَبِ ، أمَّا إذا أُريدَ القُرْب في المكان ، فإنَّهُ يجوزُ الوجهان؛ لأنَّ قريباً وبعيداً قائم مقام المكان فتقولُ : فلانة قريبة وقريبٌ ، وبعيدة وبعيد .
التَّقديرُ : هي في مكان قَريبٍ وبعيد؛ وأنشد : [ الطويل ]
2488 - عَشِيَّةَ لا عَفْرَاءُ مِنْكَ قَرِيبَةٌ ... فَتَدْنُوا ولا عَفْرَاءُ مِنْكَ بَعِيدُ
فجَمَعَ بين اللُّغَتَيْنِ إلا أنَّ الزَّجَّاج ردّ على الفرَّاءِ قوله وقال : « هذا خطأ؛ لأنَّ سبيل المذكر والمؤنث أنْ يجريا على أفعالهما » .
قال شِهَابُ الدِّين : وقد كَثُرَ في شِعْرِ العرب مجيءُ هذه اللَّفظة مُذكَّرة ، وهي صِفَةٌ لمُؤنَّثٍ .
قال امْرُؤ القَيْسِ : [ الطويل ]
2489 - لَهُ الوَيْلُ إنْ أمْسَى وَلاَ أمُّ سَالِمٍ ... قَرِيبٌ ولا البَسْبَاسَةُ ابْنَةُ يَشْكُرَا
وفي القرآن : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً } [ الأحزاب : 63 ] .
وقال أبو عبيدة : « قَرِيبٌ في الآية ليس وَصْفاً لها ، إنَّمَا هو ظَرْفٌ لها وموضع ، فيجيءُ هكذا في المُفْرَد والمثنى والجمع ، فإن أُرِيدَ بها الصِّفَةُ؛ وَجَبَ المُطابَقَةُ ، ومثلُها لفظة بعيد أيضاً » إلاّ أنَّ عليَّ بْنَ سُلَيْمَانَ الأخفشَ خطَّأهُ قال : « لأنَّهُ لو كانت ظَرْفاً لانتصب كقولك : » إنَّ زَيْداً قريباً منك « وهذا ليس بِخَطَأ ، لأنَّهُ يجوز أن يتَّسعَ في الظَّرْفِ ، فيعطى حكم الأسماء الصَّريحةِ فتقُولُ : زيد أمامك وعمرو خلفُك برفع أمام وخلف ، وقد نصَّ النُّحَاةُ على أنَّ نحو : » [ أن قريباً ] منك زيد « أن » قريباً « اسم » إنّ « ، و » زيدٌ « خبرها ، وذلك على الاتِّسَاع » .
و « مِنَ المُحْسِنِينَ » متعلِّقٌ ب « قَرِيبٍ » ، ومعنى هذا القرب هو أنَّ الإنسان يَزْدَادُ في كلِّ لَحْظَةٍ قرباً من الآخرة وبعداً من الدُّنْيَا ، فإنَّ الدُّنْيَا كالماضي والآخرة كالمستقبل ، والإنسانُ في كلِّ ساعة لحظة يَزْدَادُ بعداً عن الماضي ، وقرباً من المُسْتَقْبَل .
قال الشِّاعِرُ : [ الطويل ]
2490 - فَلاَ زَالَ ما تَهْوَاهُ أقْرَبَ مِنْ غَدٍ ... وَلاَ زَالَ مَا تَخْشَاهُ أبْعَدَ مِنْ أمْسِ
ولمَّا كانت الدُّنْيَا تزداد بعداً في كلِّ سَاعَةٍ ، والآخرة تزداد قُرْباً في كلِّ سَاعَةٍ ، وثبت أنَّ رحمة الله إنَّمَا تحصلُ بعد الموت ، لا جرم قال الله - تعالى - : { إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين } .
فصل في دحض شبهة للمعتزلة
قالت المعتزلةُ : العَفْوُ عن العذابِ رَحْمَةٌ ، والتَّخلُّصُ من النَّارِ بعد الدُّخول فيها رَحْمَةٌ [ فوجب ألا يحصل ذلك لمن لم يكن من المحسنين والعصاة وأصحاب الكبائر ليسوا من المحسنين ] فوجب ألاَّ يحصل لهم العفوُ عن العقاب والخلاص من النَّارِ .
والجوابُ : أنَّ من آمن بالله وأقرّ بالتَّوْحيدِ والنُّبوَّةِ ، فقد أحْسَنَ بدليل أن الصَّبِيَّ إذا بلغ وقت الضَّحْوَةِ ، وآمن بالله ورسوله ومات قبل الوصول إلى الظهر فقد اجتمعت الأمَّةُ على أنَّهُ دخل تحت قوله : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى } [ يونس : 26 ] وهذا لم يَأتِ بِشَيْءِ من الطَّاعات سوى المعرفة والإقْرَارِ .
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)
في كيفيَّة النَّظْمِ وجهان :
الأولُ : أنه تعالى لمّا ذكر دَلاَئِلَ الإلهيَّةِ ، وكمال العلم والقدرة من العالم العلويّ ، وهو السَّموات والشَّمْسُ ، والقمر ، والنُّجُوم ، أتبعه بذكر الدَّلائل من أحوال العَالمِ السُّفْلِيّ .
واعلم أنَّ أحوال هذا العالم محصورةٌ في أمور أربعة : الآثار العُلْويَّة ، والمعادن ، والنَّبَات ، والحيوان ، ومن جملة الآثار العلويَّة : الرياحُ السَّحَابُ والأمطار ، ويترتب على نزول الأمطار أحوال النَّبَات ، وهو المذكور في هذه الآية .
الثاني : أنَّهُ تعالى لمَّا أقاَمَ الدَّلالة في الآية الأولى على وجود الإله القادِرِ العالم الحكيم؛ أقَامَ الدَّلالة في هذه الآية على صِحَّةِ القول بالحشر ، والنَّشْرِ ، والبعث ، والقيامة ليحصلَ بمعرفة هايتن الآيتين كلُّ ما يحتاج إليه في معرفة المَبْدَأ والمعاد .
قوله : « الرِّيَاح بُشْراً » قد تقدَّم خلاف القرَّاءِ في إفراد « الرِّيحِ » وجمعها بالنِّسْبَة إلى سائر السُّور في البقرة .
وأمّا « بُشْراً » فقأه في هذه السّورة - وحيث ورد في غيرها من السُّورِ - نافع وأبو عمرو وابن كثير بضم النون والشِّين ، وهي قراءة الحسنِ وأبي عَبْدِ الرَّحْمنِ ، وأبي رجاء بخلاف عنهم ، وشَيْبَةَ بْن نصَاحٍ وعيسَى بْنِ عُمر وأبِي يحيى ، وأبي نَوْفَلٍ الأعْرَابيَّيْنِ . وفي هذه القراءة وجهان فيتحصَّلَ فيها ستَّةُ أوْجُه :
أحدها : أن « نُشُراً » جمع نَاشِرٍ ك « بازل » و « بُزُلٍ » و « شَارِفٍ » و « شُرُفٍ » وهو جمع شاذٌّ في فاعل .
ثم « نَاشِرٌ » هذا اختلف في معناه فقيل : هو على النَّسَبِ : إمَّا إلى النِّشْر ضدَّ الطيِّ ، وإمَّا إلى النُّشُورِ بمعنى الإحياء كقوله : { وَإِلَيْهِ النشور } [ الملك : 25 ] ، والمعنى : ذا نَشْرٍ ، أو نشورٍ ك « لابنٍ » و « تَامِرٍ » .
وقيل : هو فاعل من نَشَرَ مطاوع أنْشَرَ يُقال : أنْشَرَ اللَّهُ الميِّتَ ، فَنَشَرَ فهو نَاشِرٌ ، وأنشد : [ السريع ]
2491 - حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأوْا ... يَا عَجباً لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ
وقيل : ناشرٌ بمعنى مُنِشِرٌ أي : المُحْيي تقول : نَشَرَ اللَّهُ الموتى وأنْشَرَهَا ، ففعل وأفْعل على هذا بمعنى واحد ، وهذه الثَّالِثَةُ ضعيفة .
الوجه الثاني : أنَّ نُشُراً نَشُور ، وهذا فيه احتمالان :
أرجحهما : أنَّهُ بمعنى فاعل ، وفعول بمعنى فاعِل ينقاس جمعُه على فُعُل كصَبُور ، وصُبُر ، وشكور ، وشُكُر أي متفرقة ، وهي الرِّيَاحُ التي تأتي من كل ناحية والنّشر التفريق ، ومنه نَشْرُ الثَّوْبِ ، ونشر الخَشَبةِ بالمِنْشَارِ .
وقال الفراءُ : « النَّشْرُ من الرِّيح الطيِّبة اللينَةِ التي تنشىء السَّحاب ، واحدها نُشُورٌ ، وأصله من النَّشْرِ وهو الرَّائِحَةُ الطيِّبَةُ .
والثاني : أنَّهُ بمعنى مفعول كَرَكُوبٍ وحلوب بمعنى مَرْكوب ومَحْلُوبٍ قالوا : لأنَّ الرِّيح تُوْصَفُ بالمَوْتِ وتوصفُ بالإحياء فمن الأوَّل قوله : [ الرجز ]
2492 - إنِّي لأرْجُو أنْ تمُوتَ الرِّيحُ ... فأقْعُدُ اليَوْمَ وأسْتَرِيحُ
ومن الثاني قوله : » أنْشَر الله الرِّيحَ وأحْيَاهَا « وفعول بمعنى مفعول يُجْمع على فُعُل كرسول ورُسُلٍ .
وبهذا قال جماعةٌ كثيرةٌ ، إلا أنَّ ذلك غير مقيس في المُفْرَدِ وفي الجمع ، أعني أنه لا يَنْقَاسُ فعول بمعنى مفعول لا تقُولُ : زيد ضروب ولا قتول بمعنى مضروب ومقتول ، ولا ينقاسُ أيضاً جمع فَعُول بمعنى مفعول على فُعُل . فَحَصَلَ في هذه القراءة ستَّة أوْجُهٍ :
الأول : أنَّها جمع لناشرٍ بمعنى : ذا نشر ضدَّ الطيِّ .
الثاني : جمع ناشِرُ بمعنى : ذي نشور .
الرابع : جمع ناشر بمعنى مُنْشِرٍ .
الخامس : جمع نُشورٍ بمعنى : فاعلٍ .
السادس : جمع نُشورٍ بمعنى : مَفْعول .
وقرأ ابن عامر بضمِّ النُّون وسكون الشين ، وهي قراءة ابن عبَّاس ، وِزرِّ بين حُبَيْشٍ ، ويحيى بن وثَّابٍ ، والنَخَعيِّ وابن مصرف ، والأعمش ، ومَسْرُوقٍ ، وتخريجها بما ذكر في القراءة قبلها ، فإنَّهَا مخفَّفة منها ، كما قالوا : رُسْل في رُسُل وكُتْب في كُتُب ، فَسكّنوا الضمَّة تخفيفاً ، وإذا كَانُوا قد فعلوا ذلك في المفرد ، الذي هو أخفُّ من الجَمْعِ كقولهم في عُنُقٍ : عُنْقٌ ، وفي طُنُبٍ : طُنْبٌ ، فما بالهم في الجمع الذي هو أثقل من المفرد؟
وقرأ الأخوان : « نَشْراً » بفتح النُّونِ وسكون الشِّين ، ووجهها أنَّهَا مَصْدَرٌ واقع موقع الحَالِ بمعنى ناشرة ، أو منشورة ، أو ذاتُ نَشْرٍ [ كُلُّ ذلك على ما تقدَّم في نظيره .
وقيل : نَشْراً مصدر مؤكِّد؛ لأنَّ أرسل ، وأنْشَرَ متقاربان .
وقيل : نَشْراً ] مصدر على حذف الزَّوائد أي : إنشاراً ، وهو واقع موقع الحال أي : مُنْشِراً ، أو مُنْشَراً حسب ما تقدَّم في ذلك .
وقرأ عَاصِمٌ : « بُشْراً » بالبَاءِ الموحَّدَةِ مضمومة وسكون الشِّين ، وهو جمع بشيرة كنذيرة ونُذُر . وقيل : جمع فعيل كَقَلِيبٍ وقُلُب ورغيب ورُغُف ، وهي مأخوذةٌ في المعنى من قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ } [ الروم : 46 ] أي تبشّرُ بالمطر ، ثم خفِّفت الضَّمَّةُ كما تقدَّم في « النُّشُر » ، ويؤيِّدُ ذلك أنَّ ابن عباس والسُّلمي وابن أبي عبلة قرأوا بضمِّهَا ، وهي مرويَّة عن عاصم نفسه فهذه أرْبَعُ قراءات في السَّبْع .
والخامسة : ما ذكرناه عن ابن عباس ومن معه .
وقرأ مسورق : « نَشَراً » بفتح النُّونِ ولاشِّين وفيها تخريجان :
أحدهما : نقله أبُو الفتحِ : أنَّهُ اسم جمعٍ ك « غَيَب » وَ « نشأ » لغائبة وناشئَةٍ .
والثاني : أنَّ فَعَلاً بمعنى مفعول كَقَبَضَ بمعنى مَقْبُوضٍ .
وقرأ أبُو عبد الرحمن : « بَشْراً » بفتح الباء وسكون الشِّين ورُويت عن عاصم أيضاً على أنه مصدر « بَشَر » ثلاثياً .
وقرأ ابن السَّمَيْفَع : « بُشْرى » بزنة رُجْعَى ، وهو مصدر أيضاً ، فهذه ثَمَان قِراءاتٍ :
أربع مع النُّونِ ، وأربع مع الباء ، هذا ما يتعلَّقُ بالقراءات ، وما هي بالنِّسْبَةِ إلى كونها مفردة أو جمعاً .
وأمَّا نَصْبُها فإنَّها في قراءة نَافِعٍ ، ومن معه وابن عامر منصوبة على الحال من « الرِّياح » أو « الرِّيح » حسب ما تقدَّم من الخلاف وكذلك هي في قراءة عَاصِمٍ ، وما يشبهها .
وأمَّا في قراءة الأخوين ، ومسروق فيحتمل المصدريَّة ، أو الحاليَّة ، وكلُّ هذا واضح ، وكذلك قراءة « بُشْرَى » بزنة رجعى ولا بدَّ من التَّعرُّض لشيء آخر ، وهو أنَّ من قرأ « الرِّياح » بالجمع وقرأ « نُشْراً » جمعاً كنافع ، وأبي عمرو فواضح .
وأما من أفرد « الرِّيح » وجمع « نُشْراً » كابن كثير ، فإنَّهُ يجعل الرِّيح اسم جنس ، فهي جمع في المَعْنَى ، فوصفها بالجمع كقول عنترة : [ الكامل ]
2493 - فيهَا اثْنَتَانِ وأرْبَعُونَ حَلُوبَةً ... سُوداً كخَافِيَةِ الغُرَابِ الأسْحَمِ
والحاليَّةُ في بعض الصُّوَرِ يجوز أن تكون من فاعل « يُرْسلُ » ، أو مفعوله وكلُّ هذا يُعْرف مما تقدم .
فصل
روى أبو هريرة قال : أخذتِ النَّاس ريحٌ بطريق مكَّةَ ، وعمر حاجٌّ فاشتدت ، فقال عُمَرُ ، لمن حوله : ما بلغكم في الرِّيح فلم يرجعوا إليه شيئاً ، فبلغني الذي سأل عمر عنه من أمر الريح ، فاستحثثتُ راحلتي حتى أدْرَكْتُ عمر ، فكنت في مُؤخَّر النَّاس ، فقلتُ : يا أمير المؤمنين : أخبرتُ أنَّكَ سألت عن الرِّيحِ ، إنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ : الرِّيحُ من روح الله ، تأتِي بالرَّحْمَةِ وتَأتِي بالعذابِ ، فلا تَسبُّوهَا ، وسلُوا الله من خَيْرِهَا ، وتعوَّذُوا به من شرِّها .
فصل في ماهية الريح .
قال ابن الخطيب - رحمه الله - : الرِّيحُ : هواء متحرك ، وكونه متحرِّكاً ليس لذاته ، ولا للوازم ذاته ، وإلا لدامت الحركة بدوام ذاته ، فلا بدَّ وأن يكون بتحريك الفاعل المختار وهو الله تعالى .
وقالت الفلاسفةُ : هاهنا سَبَبٌ آخَرُ ، وهو أنَّهُ يرتفعُ من الأرضِ أجزاءٌ أرضيَّةٌ لطيفةٌ ، تسخنه تَسْخِيناً فبسبب تلك السُّخُونَةِ الشَّديدة ترتفعُ وتتصاعَدُ ، فإذا قربت من الفلك ، كان الهواءُ ألْصَقَ بمقعرِ الفلكِ ، مُتحرِّكاً على استدارة الفلكِ بالحركةِ المستديرةِ التي حَصَلَتْ لتلك الطبقة من الهواءِ ، فيمنع هذه الأدْخِنَة من الصُّعُودِ ، بل يردها عن سمتِ حركتِهَا ، فحينئذٍ ترجعُ تلك الأدْخِنَةُ ، وتتفرق في الجوانبِ ، وبسبب ذلك التَّفَرُّق تحصلُ الرِّيَاحُ ثمَّ كلما كانت تلك الأدْخِنَةُ أكثر ، كان صعودها أقْوَى ، وكان رجوعها أشدَّ حركةً ، فكانت الرِّياحُ أقْوَى وأشَدّ ، هذا حاصلُ ما ذَكَرُوهُ ، وهو بَاطِلٌ لوجوهٍ :
الأول : أنَّ صعُودَ الأجْزَاء الأرضيَّةِ إنَّمَا يكون لشدَّةِ تسخينها وذلك التسخينُ عَرَضٌ؛ لأنَّ الأرْضَ باردةٌ يابسة بالطَّبْعِ ، فإذا كانت الأجزاءُ الأرضيَّةُ متصَعِّدَة جداً كانت سريعة الانفصار فإذا تَصَاعَدَتْ ووصلت إلى الطِّبَقَةِ الباردة من الهواء؛ امتنع بقاءُ الحرارةِ فيها ، بل تبرد جداً؛ امتنع بلوغها في الصُّعُود إلى الطبقةِ الهوائيَّةِ المتحركة بحركة الفلكِ فَبَطَلَ ما ذكروه .
الثاني : إذا ثَبَتَ أنَّ تلك الأجزاء الدُّخانيَّة ، صعدتْ إلى الطَّبقة الهوائيَّةِ المتحرّكَةِ بحركة الفلكِ ، لكنها لمّا رَجَعَتْ ، وجب أن تنزل على الاسْتِقَامَةِ ، لأنّ الأرْضَ جسم ثقيلٌ ، والثَّقِيلُ إنام يتحرك بالاستقامَةِ ، والرِّيَاحُ ليست كذلِكَ ، فإنَّهَا تتحرك يُمْنةٌ ويُسْرَةٌ .
الثالث : أنَّ حركة تلك الأجزاء الأرضيَّةِ النَّازلة لا تكونُ حركة قاهرةً ، فإنَّ الرِّياح إذا أحضرت الغُبَارَ الكَثِيرَ ، وعاد ذلك الغُبَارُ ونزل على السُّطُوحِ ، لم يحسَّ أحَدٌ بنزولها ونرى هذه الرِّياح تقلعُ الأشْجَارَ ، وتهدمُ [ الجِبَالَ ] ، وتموجُ البِحَارَ .
الرابع : لو كانَ الأمرُ على ما قالوهُ لكانت الرِّياحُ كلَّما كانت أشَدَّ وجب أنْ يكون حُصُولُ الأجزاء الغباريَّةِ الأرضيَّةِ أكثر ، لكنَّهُ ليس الأمر كذلِكَ؛ لأنَّ الرِّيَاحَ قد يعظم عصوفها وهبوبها في وجه البَحْرِ ، مع أن الحِسَّ يشهدُ بأنَّهُ ليس في ذلك الهواء العَاصفِ شيء من الغبارِ والكدورة ، فبطل بهذه الوجوه العقليَّةِ ما ذكروه في حركةِ الرِّياحِ .
وقال المُنَجِّمُونَ : إن قوى الكَواكبِ هي الَّتي تحرك هذه الرِّياح ، وتوجبُ هبوبَها ، وذلِكَ أيضاً بعيد؛ لأنَّ الموجب لحركةِ الرِّياح إن كانت طَبِيعةُ الكواكبِ؛ وجب دوامُ الرِّياح بدوام تلك الطبيعة ، وإن كان الموجبُ هو طبيعةُ الكواكبِ بشرط حصوله في البُرْجِ المُعَيَّنِ ، أو الدَّرجةِ المعيَّنَةِ؛ وجب أن يتحرك هواء كل العالم ، وليس كذلك .
وأيضاً قد ثبت في العقليَّاتِ أنَّ الأجْسامَ مُتَمَاثِلَةٌ ، فاختصاص الكوكب المعين والبرج المعيَّنِ بالطَّبيعة التي اقتضت ذلك الأثر لا بد وأن تكون بتخصيص الفاعلِ المُخْتَارِ ، فثبتَ بهذا البرهان العقليِّ أنَّ محرك الرِّياح هو الله - سبحانه وتعالى - وأيضاً فقوله تعالى : « نشراً » أي مُنَشَّرَةً متفرقةً ، فجزء من أجزاء الريح يذهب يُمَنْةً ، وجزء آخرُ يذهبُ يُسْرَةً ، وكذا سَائِرُ أجزاء الرِّياحِ ، كلُّ واحد منها يَذْهَبُ إلى جانب آخر ، ولا شكَّ أنَّ طبيعة الهواءِ طبيعةٌ واحدةٌ ، ونسبة الأفلاكِ والانْجُم والطَّبائع إلى كلِّ واحدٍ من الأجَزْاءْ التي لا تتجزَّأ من تلك الريح نسبة واحدة ، فاختصاصُ بعضِ أجْزَاءِ الرِّيح بالذَّهَابِ يمنةً ، والجزءُ الآخر بالذَّهَابِ يًسْرَةً يجبُ أن يكُون ذلك بتخصيص الفاعل المُخْتَارِ .
قوله : « بَيْنَ » : ظَرْفٌ ل « يُرْسِلُ » ، أو للبشارة فيمن قرأه كذلك .
وقوله : { بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } أي بين يدي المَطَرِ الذي هو رحمته ، وحسنُ هذا المجاز أنَّ اليدين تستعملهما العربُ في معنى التقدُمَةِ على سبيل المجاز؛ يقال إن الفتن تحدثُ بين يدي السَّاعةِ يريدونَ قبلها ، وذلك لأنَّ يدي الإنسان مُتَقَدِّمَانِهِ ، فكل ما يتقَدَّمُ شيئاً يطلق عليه لفظ اليَدَيْنِ مجازاً لهذه المشابَهَةِ ، كما تقولُ لمن أحسن إليك وتقدَّم إحسانه ، له عندي أيادٍ ، ولما كانت الرِّيَاحُ تتقدَّمُ المطر عَبَّرَ عنه بهذا اللفظ .
فإن قيل : قد نجد المطرَ لا يتقدَّمُهُ ريَاحٌ ، فنقول : ليس في الآية أنَّ هذا التَّقدُّمَ حاصل في كلِّ الأحوال ، وأيضاً يجوز أن تتقدَّمَهُ هذه الرِّياحُ وإن كنَّا لا نعرفها .
قوله : { حتى إِذَآ أَقَلَّتْ } غاية لقوله : « يُرْسِلُ » ، وأقلَّت أي حملت من أقْلَلْتُ كذا أي : حملته بسهُولَةٍ .
قال صاحبُ « الكشَّافِ : » واشتقاقُ الإقلال من القلَّةِ ، فإن مَنْ يرفعُ شيئاً فإنَّهُ يرى ما يرفعه قليلاً ، أقلَّهُ أي حمله بِسُهُولَةٍ ، والقُلَّةُ بضمِّ القافِ هو الظَّرْفُ المعروف وقِلال هَجَرٍ كذلك؛ لأنَّ البعيرَ يُقِلُّها أي يحملها .
وتقدَّم تفسير « السَّحابِ » ، وأنَّهُ يُذكَّر ويؤنَّثُ ، ولذلك عاد الضَّميرُ عليه مُذَكَّراً في قوله : « سُقْنَاهُ » . ولو حمل على المعنى كما حمل قوله « ثِقَالاً » فجُمِعُ لقال : « سُقْنَاهَا » .
و « لِبَلَدٍ » جعل الزَّمَخْشَرِيُّ « اللاَّم » للعلَّةِ ، أي : لأجل .
وقال أبُو حيَّان : فرقٌ بين قولك : سقتُ له مالاً ، وسُقْتُ لأجله مالاً ، بأنَّ سُقْتُ له أوْصَلْتُ إليه ، وأبْلَغْتَهُ إيَّاهُ ، بخلاف سُقْتُهُ لأجْلِهِ ، فإنَّهُ لا يلزمُ منه إلاَّ إيصاله له ، فقد يسوق المال لغير لأجلي ، وهو واضح .
وقيلك هذه اللامُ بمعنى « إلى » ، يقال : هَدَيْتُهُ للدِّين ، أو إلى الدِّين . وتقدَّم الخلافُ في تخفيف « مَيِّتٍ » وتثقيله في آل عمران وجاء هنا وفي الروم [ 46 ] { يُرْسِلُ } بلفظ المستقبل مناسبة لما قبله ، فإنَّ قبله : « ادْعُوهُ خَوْفاً » وهو مستقبلَ ، وفي الروم [ 45 ] : { لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ } ، وهو مستقبل .
وأمَّا في الفرقان : [ 48 ] وفاطر [ 9 ] فجاء بلفظ الماضي : « أرْسَلَ » لمناسبة ما قَبْلَهُ وما بعدهُ في المضي؛ لأنَّ قبله : { أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل } [ الفرقان : 45 ] ، وبعده : { مَرَجَ البحرين } [ الفرقان : 53 ] ، فناسب ذلك الماضي ، ذكره الكَرْمَانِيُّ .
والبلد يطلق على كلِّ جُزْءٍ من الأرْضِ ، عامِراً كان ، أو خراباً ، وأنشدوا على ذلك قول الأعشى : [ البسيط ]
2494 - وَبَلْدَةٍ مِثْلِ ظَهْرِ التُّرْسِ مُوحِشَةٍ ... لِلجِنِّ باللَّيْلِ في حَافَاتِهَا زَجَلُ
قوله : « فَأنْزَلْنَا بِهِ » الضَّميرُ في « به » يعود على أقرب مذكورٍ ، وهو « بَلَدٍ مَيّتٍ » ، وعلى هذا فلا بدَّ من أن تكون الباء ظرفيّة ، بمعنى أنزلنا في ذلك البلدِ الميِّتِ الماء ، وجعل أبُو حيّان هذا هو الظَّاهِرُ .
وقيل : الضَّميرُ يعود على « السَّحَابِ » ، ثم في « البَاءِ » وجهان :
أحدهما : هي بمعنى « مِنْ » أي : فأنزلنا من السَّحَابِ الماء .
والثاني : أنَّهَا سببيَّةٌ أي : فأنزلنا الماء بسبب السَّحَابِ .
وقيل : يعودُ على السَّوْقِ المفعوم من الفعل و « الباءُ » سببية أيضاً [ أي ] : فأنزلنا بسبب سَوْقِ السَّحابِ ، وهو ضعيفٌ لعَوْد الضَّمير على غير مذكور مع إمكان عَوْدِهِ على مذكُورٍ .
قوله : « فَأخْرَجْنَا بِهِ » الخلافُ في هذه الآيةِ كالَّذِي في قبلها ، ونزيد عليه وجهاً أحْسَنَ منها ، وهو العودُ على الماء ، ولا ينبغي أن يُعْدَلَ عنه .
وقوله : { مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } « من » تبعيضية ، أو ابتدائية ، وقد تقدم نظيره .
فصل
اعلم أنَّ السَّحَابَ للمياه العظيمةِ إنما يبقى معلقاً في الهواء؛ لأنَّهُ تعالى دبَّر بحكمته أن يحرِّكَ الرِّياح تحركاً شديداً ، فلأجل الحركاتِ الشَّديدةِ التي في تلك الرياح تحصل فوائد .
أحدها : أنَّ أجزاء السَّحابِ ينضمُّ بعضها إلى بعض ويتراكم وينعقدُ السَّحابُ الكثيرُ المَاطِرُ .
وثانيها : أنَّ بسبب حركات الرِّياح الشَّديدةِ يمنةً ويُسْرَةً يمتنع على تلك الأجزاء المائيَّة النُّزُول ، فلا جَرَمَ يبقى معلّقاً في الهواء .
وثالثها : أن بسب حركات تلك الرِّياح يناسقُ من موضع غلى موضع آخر يكون محتاجاً في علم اللَّهِ - تعالى - إلى نزولِ الأمْطَارِ .
ورابعها : أنَّ حركاتِ الرِّياحِ تارةً تكون جامعةً لأجزاء السَّحابِ ، وتارةً مفرقة لأجزاءِ السَّحَابِ .
وخامسها : أنَّ هذه الرِّياحَ تارةً تكونُ مُقَوِّيَةً للزُّرُوع والأشجار مكلمة لما فيها من النشوء والنَّمَاءِ ، وهي الرِّيَاحُ اللَّواقِحُ ، وتارةً تكونُ مبطلة لها ، كام تكونُ في الخريف .
وسادسها : أنَّ هذه الرِّياح تارةً تكون طيِّبة موافقة للأبدان ، وتارةً تكون مُهْلِكَة : إمَّا بسبب ما فيها من الحرِّ الشَّديدِ كما في السَّمُومِ ، أو بما فيها من البرد الشَّديدِ ، كما في الرِّياحِ الباردة والمهلِكَة .
وسابعها : أنَّ هذه الرِّياحَ تكونُ [ تارةً ] شرقيَّةً ، وتارة غربيَّة ، وشماليَّةً ، وجنوبيَّةً ، كذا ضبطه بعض النَّاسِ ، وإلا فالرِّياحُ تهبُّ من كلِّ جانبٍ من جوانبِ العالم ، ولا اختصاصَ لها بجانب من جَوَانبِ العالمِ .
وثامها : أنَّ هذه الرِّياحَ تصعدُ من قعر البَحْرِ ، فإنَّ من ركب البَحْرَ يشاهد أن البَحْرَ ، يحصل له غليان شديد بسبب تولُّدِ الرِّياحِ في قَعْرِ البَحْرِ ، ثمَّ لا يَزَالُ يَتَزَايدُ الغليانُ ويقوى إلى أن تَنْفَصِلُ تلك الرِّيَاحُ من قَعْرِ البَحْرِ إلى ما فوقَ البَحْرِ ، وحينئذٍ يَعْظُمُ هبُوبُ الرِّيَاح في وجه البَحْرِ ، وتارةً ينزل الرِّيح من جهة فوق فاختلافُ الرِّياحِ بسبب هذه المعاني عجيبٌ .
وعن ابْن عُمَرَ الرِّيَاحُ ثمانٍ : أربعٌ عَذَابٌ وهي القَاصِفُ ، والعاصفُ والصَّرْصَرُ ، والعَقِيمُ ، وأربعٌ منها رحمة وهي : النَّاشِرَاتُ ، والمبشّرَاتُ ، والمُرْسلاتُ ، والذَّارِيَاتُ .
وقال عليه الصَّلاة والسَّلامُ : « نُصِرْتُ بالصَّبَا ، وَأهْلِكَ عادٌ عادٌ بالدَّبُّورِ » و « الجَنُوبُ مِنْ رِيحِ الجَنَّةِ » .
وعن كعب : لَو حَبَسَ اللَّهُ الرِّيحَ عن عَبَادِهِ ثلاثةً أيَّام لأنْتَنَ أكثر أهْلِ الأرْضِ .
وعن السُّدِّيِّ أنَّه تعالى يرسل الرِّيَاحَ ، فتأتي بالسَّحَابِ ، ثم إنَّهُ تعالى يسبطه في السَّمَاءِ كيف يشَاءُ ، ثم يفتح أبوابَ السَّمَاءِ فيسيلُ الماءُ على السَّحابِ ، ثم يُمْطِرُ السَّحَابُ بعد ذلك ، ورحمته هو المَطَرُ .
وإذا عُرف ذلك فنقولُ : اختلاف الرّياحِ في الصِّفات المذكورَةِ مع أنَّ طبعها واحد ، وتأثيرات الطَّبائع والأنجم والأفلاك واحدة ، يدلُّ على أنَّ هذه الأحوال لم تحصل إلا بتدبير الفاعل المُخْتَارِ .
قوله : « كَذَلِكَ » نعت مصدر محذوف ، أي : يُخْرج المَوْتى إخْرَاجاً كإخْراجِنَا هذه الثَّمَرَاتِ ، وفي هذا التَّشبيه قوان :
الأول : أنَّ المَعْنَى كما خلق الله - تعالى - النَّبَاتَ بالأمطار ، فكذلك يحيي الموتى بمِطِرٍ ينزله على الأجْسَادِ الرَّميمة .
قال أبُو هُريْرَةَ وابن عباس : إذا مَاتَ النَّاسُ كلُّهم في النَّفْخَةِ ، أرسل اللَّهُ عليهم مَطَراً كمنيِّ الرِّجالِ من ماء تَحْتَ العَرْشِ يدْعَى ماءُ الحيوانِ ، ينبتون في قُبُورِهِم نبات الزَّرْعِ ، حتى إذا استكملت أجْسَادهم نفخ فيه ارُّوح ، ثم يلقى عليهم نومة فينامُونَ في قبورهم ، ثم يُحْشَرُونَ بالنَّفْخَةِ الثَّانية ، وهم يجدون طعم النَّوْم في رُءُوسهم وأعينهم ، فعند ذلك يَقُولُونَ :
{ ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } [ يس : 52 ] .
الثاني : أن [ هذا ] التَّشْبِيه إنَّمَا وقع بأصل الإحْيَاء ، والمعنى : أنَّهُ تعالى أحيى هذا البَلَدَ بعد خَرَابِهِ ، فأنبت فيه الشَّجَرَ فكذلك يحيى الموتى بعد أن كانوا أمْواتاً؛ لأنَّ من قدر على إحداث الجسم ، وخلق الرُّطُوبَةِ والطعم فيه ، يكون قادراً على إحداث الحياة في بدن الميِّتِ .
قال ابن الخطيب : واعلم أنَّ الذَّاهبين إلى القولِ الأوَّلِ إن اعتقدوا أنَّهُ لا يمكن بَعْث الأجْسَادِ ، إلا بأنْ يمطر على تلك الأجساد البَاليةِ مَطَراً على صفة المَني فقد بعدوا؛ لأنَّ القادر على أنْ يحدث في ماء المطر صفة ، تصير باعتبارها منيّاً ، لم لا يَقْدِرُ على خلق الحياةِ في الجِسْم؟ وأيضاً فهب أن ذلك المطر ينزل ، إلا أنَّ أجزاء الأمْوات متفرقة ، فبعضها بالمَشْرِقِ وبعضها بالمغربِ ، فمن أين ينفعُ ذلك المَطَرُ في توليد تلك الأجْسَام؟
فإن قالوا : إنَّهُ تعالى بقدرته وحكمته يجمع تلك الأجْزَاءَ المتفرّقَةَ ، فَلِمَ لمْ يقُولوا : إنَّهُ بقدرته وحكمته يخلق الحياة في تلك الأجْزاء المتفرقة ابتداءً من غير واسطة ذلك المطر؛ وإن اعتقدُوا أنه تعالى قادر على إحياء الأمْواتِ ابتداءً ، إلا أنه تعالى إنَّمَا يحييهم على هذا الوَجْهِ ، كما أنَّهُ قادرٌ على خلق الأشخاص في الدُّنْيَا ابتداءً إلا أنَّهُ أجرى عادته بأنَّهُ لا يخلقهم إلاَّ من أبوين ، فهذا جَائِزٌ .
ثم قال تعالى : { لَعلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي : أنكم لما شاهدتم أنَّ هذه الأرض كانت مزيَّنَة وقت الرَّبيع والصَّيْفِ بالأزهار والثِّمار ، ثم صارت عند الشِّتاء ميتة عارية عن تلك الزّينة ، ثم إنَّهُ تعالى أحياها مرَّةً أخرى ، فالقادر على إحيائها بعد موتها يَجِبُ أن يكون قَادِراً على إحياء الأجساد بَعْدَ موتها أيضاً .
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
قيل : هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكَافِر بالأرْضِ الخيرة والأرض السَّبِخَةِ ، وشبه نُزُولَ القرآن بنُزُولِ المطرِ ، فشبّه المؤمن بالأرض الخيرةِ التي ينزلُ عليها المَطَرُ ، فَتُزْهِرُ وتثمرُ ، وشبَّهَ الكافر بالأرض السَّبخة ، فهي وإنْ نزل عليها المطر لم تزهر ولم تثمر .
وقيل : المرادُ أنَّ الأرض السَّبخة يقلُّ نفعها وثمرها ، ومع ذلك فإن صاحبها لا يهمل أمرها ، بل يتعب نفسه في إصلاحها طمعاً منه في تحصيل ما يليقُ بها من المَنْفَعَةِ ، فمن طلبَ هذا النفع اليَسِيرَ بالمشَقَّةِ العظيمة ، فلأن يطلب النَّفْعَ العَظيم الموعود به في الآخرة بالمَشَقَّةِ الَّتِي لا بد من تحصيلها في أداء الطَّاعاتِ أوْلَى .
قوله : « بإِذْنِ رَبِّهِ » يجوزُ أن تكون « الباء » سببية أو حالية وقرىء : « يُخْرِجُ نَبَاتَهُ » ، أي : يخرجه البلد وينبته .
قوله : « والَّذِي خَبُثَ » يريد الأرْضَ السَّبخةَ التي لا يخرج نباتها .
يقال : خَبُثَ الشَّيءُ يَخْبُثُ خُبثاً وخَبَاثَةً .
قال الفراء : قوله : « إلاَّ نَكِداً » فيه وجهان :
أحدهما : أن ينتصب حالاً أي عَسِراً مُبْطئاً . نَكِدَ يَنْكَدُ نَكَداً بالفَتْحِ ، فهو نِكدٌ بالكسر .
والثاني : أن ينتصب على أنَّهُ نَعْتُ مصدرٍ محذوفٍ ، أي : إلاخروجاً نَكداً ، وصف الخروج بالنَّكد كما يوصَفُ به غيره ، ويؤيِّدُهُ قراءة أبي جعفر بن القَعْقَاعِ : « إلاَّ نَكَداً » بفتح الكاف .
قال الزَّجَّاج : وهي قراءة أهْلِ المدينةِ ، وقراءة ابن مصرِّف : « إلا نَكْداً » بالسُّكُونِ وهما مصدران .
وقال مكيٌّ : « هو تخفيفُ نَكِد بالكَسْرِ مثل كَتْفٍ في كَتِف » .
يقال : رجل نَكِد ، وأنْكَد ، والمَنْكُود : العطاء النَّزْرُ وأنشدوا [ في ذلك ] : [ السريع ]
2495 - وأعْطِ مَا أعْطَيْتَهُ طَيِّيباً ... لا خَيْرَ في المَنْكُودِ والنَّاكِدِ
وأنشدوا : [ المنسرح ]
2496 - لا تُنْجِزُ الوَعْدَ إنْ وَعَدْتَ وَإنْ ... أعْطَيْتَ أعْطَيْتَ تَافِهاً نَكِدا
وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة وعيسى بْن عُمَرَ : « يُخْرَج » مبنيّاً للمفعول ، « نَبَاتُه » مرفوعاً لقيامة مقام الفاعل ، وهو الله تعالى .
وقوله : « والَّذِي خَبُثَ » صفة لموصوف محذوف ، أي : والبلد التي خَبُثَ ، وإنَّما حذف لدلالةِ ما قبله عليه ، كما أنَّهُ قد حذف منه الجار في قوله : « بإِذْنِ ربِّهِ » ، إذ التقديرُ : والبلد الذي خَبث لا يخرج بإذن ربه إلا نَكِداً . ولا بدَّ من مضاف محذوف : إمّا من الأوَّلِ تقديرُهُ : ونبات الذي خبُث لا يخرج ، وإمَّا من الثَّاني تقديره : والذي خَبُثَ لا يخرجُ نباته إلا نكداً ، وغاير بين الموصُوليْنِ ، فجاء بالأول بالألِفِ واللاَّمِ ، وفي الثَّاني جاء بالذي ، ووُصِلَتْ بفعل ماض .
قوله : « كَذَلِكَ » تقدم نظيره .
{ نُصَرِّفُ الآيات } . قرئ : « يُصرِّفُ » أي يصرفها الله ، وختم هذه الآية بقوله : { لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ } ؛ لأنَّ الذي سبق ذكره هو أنَّهُ تعالى يحرك الرِّياح اللطيفة النافعة ، ويجعلها سبباً لنزول المطر ، الذي هو الرَّحمة ، ويجعل تلك الرياح والأمطار سبباً لحدوث أنواع النَّبات النافعةِ ، فمن هذا الوجهِ ذكر الدَّليل الدَّال على وجود الصَّانع ، وعلمه ، وقدرته ، وحكمته ، ونبَّه من وجه آخر على إيصال هذه النعم العظيمةِ إلى العبادِ ، فمن الوَجْهِ الأوَّلِ وصفها بأنَّهَا آيات ، ومن الوجْهِ الثَّانِي أنَّها نعم يجبُ شكرها وخصَّها بكونها آيات للشَّاكرين؛ لأنَّهُم المنتفعون بها ، كقوله :
{ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] .
روى أبُو بُرْدَةَ عن أبي موسى عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : مثل ما بَعَثَنِي اللَّهُ به مِنَ الهُدَى والعِلْمِ كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثيرِ أصَابَ أرضاً ، فَكَانَ مِنْهَا بُقْعَة قَبِلتِ الماءَ ، فأنْبَتَت الكَلأ والعُشُبَ الكثيرَ ، وكانَ مِنْهَا أجَادبُ أمسكَتِ المَاءَ ، فَنَفَعَ اللَّهُ به النَّاس فَشَرِبُوا وسَقَوْا من فقههُ في دين اللَّهِ ، ونَفَعَهُ بما بعثني اللَّهُ به فعلم وعلَّمَ ، ومثل من لم يَرْفَعْ بذلك رَأساً ولمْ يَقْبْلْ هدى الله الذي أرْسِلْتُ بِهِ .
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)
لمَّا قرر المعاد بالدَّليل الظَّاهِرِ أتبعه بذكْرِ قَصَصِ الأنْبِياء لفوائد :
أحدها : التَّنبيه على أنَّ إعراض النَّاسِ عن قبول الدلائل والبينات ليس مَخْصوصاً بِقَوْم مُحَمَّد - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - بل هذه العادَةُ المذمُومَة كانت حاصلة في جميع الأمَم السَّابقة ، والمصيبة إذا عمَّت خَفَّت ، ففي ذِكْرِ قَصَصِهم تسلِيَة للرَّسُولِ - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - وتخفيف عن قَلْبِهِ .
وثانيها : أنَّهُ تعالى يحكي في هذه القَصَصِ أنَّ عَاقِبَة أمر أولئك المنكرين كان إلى اللّعْنِ في الدُّنْيَا ، والخسارة في الآخِرَةِ ، وعاقبة أمر المحقّين [ إلى الدَّوْلَةِ في الدُّنْيَا ، والسَّعادة في الآخرة ، وذلك يقوي قلوب المُحِقِّين ] ، ويكسر قلوب المبطلين .
وثالثها : التنبيه على أنَّهُ تعالى ، وإن كان يمهل المبطلين لكنَّهُ لا يُهْمِلُهُمْ بل يعاقِبُهُم ، وينتقمُ منهم .
ورابعها : بيان ما في هذه القصص من الدّلالةِ على نُبُوَّةِ محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - لأنَّهُ كان أميّاً ، لم يطالع كتاباً ، ولا تَلْمَذَ لأستاذن فإذا ذكر هذه القصص من غير تحريف ولا خطأ دَلَّ ذلك على أنَّهُ عرفها بوحي من الله تعالى .
قوله : « لقد أرْسَلْنَا » جواب قسم محذوف تقديره : « والَّه لقد أرْسَلْنَا » .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : فإن قلت : ما لهم لا يكادون ينطقون بهذه اللاَّم إلاَّ مع « قَدْ » ، وقلَّ عنهم قوله : [ الطويل ]
2497 - حَلَفْتُ لَهَا بِاللَّهِ حَلْفَةَ فَاجِرٍ ... لَنَامُوا . . .
قلتُ : إنَّمَا كان ذلك؛ لأنَّ الجملة القسميَّة لا تساقُ إلا تأكيداً للجملةِ المُقْسَم عليها ، التي هي جوابها ، فكانت مَظَنَّةً لمعنى التَّوَقُّعِ الذي هو معنى « قَدْ » استماع المخاطب كلمة القسم .
وأما غير الزَّمَخْشَريِّ من النُّحَاةِ فإنَّهُ قال : إذا كان جواب القسم ماضياً مثبتاً متصرفاً : فإمَّا أن يكُونَ قريباً من زمن الحال فتأتي ب « قَدْ » وإلاَّ أتيت باللاَّم وَحْدَهَا فظاهر هذه العبارة جواز الوَجْهَيْنِ باعتبارَيْنِ .
وقال هناهنا : « لقد » من غير عاطف ، وفي « هود » [ 25 ] و « المؤمنين » [ 23 ] : ولقد بعاطف ، وأجاب الكَرْمَانيُّ بأن في « هود » قد تقدَّم ذكر الرَّسولِ مرَّات ، وفي « المؤمنين » ذكر نُوحٍ ضِمْناً في قوله { وَعَلَى الفلك } [ غافر : 80 ] ؛ لأنَّهُ أوَّلُ من صنعها ، فحسن أن يُؤتى بالعاطف على ما تقدَّمن بخلافِهِ في هذ السُّورةِ .
فصل
هو نُوحُ بْنُ لملك بْنِ متوشلح بْنِ اخنوخ ، وهو إدريس وهو أول نبيّ بعثه الله بعد إدريس .
وقال القُرْطُبِيُّ : « وهو أوَّلُ نَبِيٍّ بُعِثَ بعد آدم بتحريم النبات والعمَّاتِ ، والخالاتِ ، وكان نَجَّاراً ، بعثَهُ اللَّهُ إلى قومه وهو ابن خمسين سنة » .
وقال مُقَاتِلٌ : « ابن مِائَةِ سَنَةٍ » .
قال النَّحَّاسُ : « وانصرف؛ لأنَّهُ على ثلاث أحرف » .
وقال ابن عباس : « سُمِّي نوحاً لكثرة نَوْحِهِ على نَفْسِهِ » .
واختلفُوا في سبب نَوْحِهِ ، قال بعضُهُم : لدعوته على قومه بالهلاكِ ، وقيل : لمراجعته رَبَّه في شأنِ ابنه كَنْعَانَ .
وقيل : لأنَّهُ مرّ بكلب مَجْذُومٍ فقال : اخْسَأ يا قبيحُ يا كَلْبُ ، فأوْحَى الله إليه : أعبتني أم عبت الكلب .
قال ابن عباس : « معنى أرْسَلْنَا : بَعَثْنَا » .
وقال آخرون : معنى الإرسال أنَّهُ تعالى حمَّلُهُ رسالة يُؤدِّيهَا ، فارِّسَالةُ على هذا التَّقديرِ تكون متضَمِّنَةً للبعث ، فيكونُ البعث كالتَّابشع لا أنَّهُ الأصلِ .
قوله : « فقال يا قوم اعْبُدُو الله » جيء هنا بفاء العطف في قوله : « فَقَال » ، وكذا في المؤمنين وفي قصّة هودٍ وصالحٍ وشُعَيْبٍ هنا بغير فِاء ، والأصلُ الفاء ، وإنَّمَا حذفت تَخْفيفاً ، وتوسعاً [ و ] اكتفاء بالرّبْطِ المَعْنَوِيِّ ، وكانت اللواتي بعدها بالحذف أولى . وأما في هود فيقدَّر قبل قوله : « إنّي لَكُمْ » : « فقال » بالفَاءِ على الأصْلِ .
وجاء هنا : { مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ } فلم يعطف هذه الجملة المنفيَّةِ بفاءٍ ولا غيرها ، لأنَّهَا مبنية ومثبتة على اختَصَاصِ اللَّهِ - تعالى - بالعبادةِ ورفض ما سواه ، فكانت في غايةِ الاتِّصال فقال : يا قَوْمِ اعبدُوا الله .
فصل في بيان نسب « نوح »
قال ابن العربيِّ : ومن قال : إن إدْرِيسَ كان قبل نوح فقد وهمَ ، بدليل حديث الإسْرَاءِ الصَّحيحن حين لَقِيَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم آدمَ وإدريس ، فقال له آدمُ : مرحباً بالنَّبِيِّ الصالح والابن الصالحن وقال له إدريس : مرحباً بالنَّبيِّ الصَّالح ، والأخ الصَّالح فلما قال له : « والأخ الصالح » دلَّ على أنَّهُ يجمع معه في نُوح .
قال القَاضِي عياضٌ : جواب الآبَاء هناهنا كَنُوحٍ ، وإبراهيم وآدم : مرحباً بالابن الصالح ، وقال عن إدريس : بالأخ الصالح كما ذكر عن مُوسَى وعيسى ، ويوسف [ وهارون ويحيى ممَّنْ ليس بأبٍ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم باتِّفَاقٍ ] .
فصل في بيان أجناس البشر
قال القُرْطُبِيُّ : ذكر النَّقَّاشُ عن سليمان بن أرقم عن الزهري أنَّ العربَ ، وفارسَ والرُّومَ ، وأهلَ الشَّامِ واليمن من ولد سام بن نوح ، والهند والسِّنْد والزِّنْج ، والحبشَة والزُّطّ والنُّوبة وكل جِلْدٍ أسْوَدَ من ولد حامٍ ، والترْك ، والبربر ووراء النهر والصين ، ويأجوج ومأجوج والصَّقَالِبَة من ولد يافثِ بن نُوحٍ ، والخلق كلهم ذُرية نُوحٍ - عليه الصَّلاة والسَّلام - .
قوله : { }
قرأ الكِسَائِيُّ « غيره » بخفض الرَّاءِ في جميع القُرآنِ ، والباقون برفعها ، وقرأ عيسى بْنُ عمرَ بنصبها ، فالجرُّ على النَّعْتِ والبَدَلِ من موضع « إله » ؛ لأن « مِنْ » مزيدة فيه ، وموضعه رفع : إما بالابتداء ، وإمَّا بالفاعليةَّ ، ومنع مكيٌّ في وجه الجرِّ أن تكون بدلاً من إله على اللَّفْظِ ، قال : كما لا يَجُوزُ دخول « مِنْ » لو حذفت المبدل منه؛ لأنّضاه لا تدخل في الإيجابِ ، وهذا كلام متهافت .
والنَّصْبُ على الاستِثْنَاءِ ، والقراءتانِ الأوليانِ أرجح؛ لأنَّ الكلام متى كان غير إيجاب ، رجَّح الاتباع على النَّصْبِ على الاستثناء وحكم غير حكم الاسم الواقع بعد « إلاَّ » ، و « مِنْ إلهٍ » إذا جَعَلْته مبتدأ فلك في الخبر وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ « لَكُمْ » .
والثاني : أنَّهُ محذوف ، أي : ما لكم من إله في الوجود ، أو في العالم غير الله ، و « لَكُمْ » على هذا تخصيص وتبيين .
فصل فيما تضمنته الآية من حذف
قال الواحِدِيُّ : « في الكلام حذفٌ ، وهو خبر ما؛ لأنَّكَ إذا جعلت غيره صفة لقوله : » إله « لم يبق لهذا المنفي خبر ، والكلامُ لا يستقِلُّ بالصِّفةِ والموصوف ، فإنَّكَ إذا قلتَ : زيدٌ العاقلُ وسكتَّ لم يُفِدْ ما لم تذكر خبره ويكون التَّقْدِيرُ : ما لكم من إله غيره في الوجود » .
قال ابن الخطيب : اتَّفَقَ النَّحويُّونَ على أنَّ قولنا : « لا إله إلا الله » لا بد فيه من إضمار ، والتَّقْديرُ : لا إله في الوجود إلا الله ولا إله لنا إلا الله ، ولم يذكروا على هذا الكلام حجَّةً ، فنقولُ : لِمَ لا يجوز أن يقال : دخل حرف النَّفي على هذه الحقيقةِ وعلى هذه الماهِيَّةِ ، فيكون المعنى أنَّهُ لا تحقق لحقيقة الإلهية إلا في حقِّ الله تعالى ، وإذا حملنا الكلامَ على هذا المعنى استغنينا عن الإضْمَارِ الذي ذكروه .
فإنْ قالوا : صرف النفي إلى الماهِيَّةِ لا يمكنُ؛ لأنَّ الحقائِقَ لا يُمْكِنْ نَفْيُهَا ، فلا يمكن أن يُقَال : لا سواد بمعنى ارتفاع هذه الماهِيَّةِ ، وإنَّمَا الممكن أن يقال : إنَّ تلك الحَقَائِقَ غيرُ موجودة ، ولا حاصلة ، وحينئذٍ يجب إضمار الخبر فنقول : هذا الكلامُ بِنَاءٌ على أنَّ الماهيَّة لا يمكن انتِفَاؤُهَا وارتفاعها ، وذلك بَاطِلٌ قطعاً ، إذ لو كان الأمر كذلك؛ لوَجَبَ امتناعُ ارتفاع الوُجُودِ؛ لأنَّ الوُجُود أيضاً حقيقة من الحقائق ، وماهيّة من المَاهِيَّات؛ فوجب ألاَ يرتفعَ الوُجودُ أيضاً ، فإن أمكن ارتفاع الوُجُودِ مع أنَّهُ ماهيّة وحقيقة فلم لا يمكنُ ارتفعُ سائر الماهيَّاتِ .
فصل في بيان أن المستحق للعبادة هو الله
دلَّ ظَاهِرُ الآيةِ على أنَّ الإله هو الذي يستحقُّ العبادة؛ لأن قوله : { إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } إثبات ونفي ، فيجب أن يتواردا على مَفْهُوم وَاحِدٍ حتى يستقيم الكلامُ ، فكان المَعْنَى : اعبدوا الله ما لكم من معبودٍ غيره ، حى يَتَطابَقَ النَّفي والإثبات ، ثم ثبت بالدَّليل أنَّ الإله ليس هو المعبود ، وإلاَّ لوجب كونُ الأصنام آلهة ، وألاَّ يكون الإله إلهاً في الأزَلِ ، لأنَّهُ في الأزَلِ غير معبود ، فوجب حملُ لفظ الإله على أنَّهُ المُسْتَحِقُّ للعبادةِ .
قوله : { إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } .
اختلفوا في معنى قوله : { إني أَخَافُ } هل هو اليقين؟ أو الخوف بمعنى الظنِّ والشكِّ؟ فقيل : المرادُ : الجزم واليقين؛ لأنَّهُ كان جازماً أنَّ العذابَ ينزل بهم : إمَّا في الدُّنْيَا ، وإمَّا في الآخرة ، إن لم يَقْبَلُوا الدَّعْوَة .
وقيل : بل المرادُ منه الشَّكُّ لوجوه :
[ أحدها ] : إنَّمَا قال : { إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ } ؛ لأنَّهُ جوَّزَ أن يؤمنوا ، وأن يستمروا على كفرهم ، ومع هذا التَّجْويز لا يكون قاطعاً بنزول العذاب ، فهذا قال : « أخَافُ عَلَيْكُمْ » .
وثانيها : أنَّ حُصُولَ العذاب على الكُفْرِ والمعصية أمْرٌ لا يعرف إلا بالسَّمْع ، فَلَعَلْ الله - تعالى - ما بيّن له كيفيَّة هذه المسألة ، فلا جرم جوَّزَ أنَّ الله - تعالى - هل يعاقبهم أم لا؟ .
وثالثها : يحتمل أنْ يكُون المرادُ من الخَوْف الحذر ، كقوله في الملائكة : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن } [ النحل : 50 ] أي يحذرون المعاصي خَوْفاً من العقاب .
ورابعها : أنهُ بتقدير أن يكُون قاطعاً بنُزُولِ العذابِ لكنَّهُ ما كان عارفاً بمقدار ذلك العذاب فكان هذا الشَّكُ راجعاً إلى وصف العذاب لا في أصْلِ حصولهِ ، والمراد بذلك العذاب إمَّا عذاب يوم القيامة ، أو عذابُ الطُّوفان .
فإن قيل : إنه تعالى حكى عن نُوحٍ - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - في هذه الآية أنَّهُ أمر قومه بثلاثَةِ أشياء :
الأوَّلُ : أمرهم بعبادة الله ، والمقصودُ منه إثبات التَّكليف .
الثاني : أنَّهُ حكم أن لا إله غَيْرُ الله ، والمقصودُ منه الإقرار بالتَّوْحيد ، ثم قال عقيبَهُ : { إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } ، وهذا هو الدَّعوى الثَّالثة ، وعلى هذا التَّقديرِ فقد ادَّعى الوحي والنُّبوَّةَ من عند اللَّه ، ولم يذكر على صِحَّةِ واحد منها دليلاً ولا حجَّةً ، فإن كان قد أمرهم بالإنذار بها على سبيل التَّقْلِيد فهذا باطل؛ لأنَّ الله - تعالى - مَلأَ القرآنَ من ذمِّ التقليد ، فكيف يليق بالرَّسُول المعصوم الدَّعوةُ إلى التقليد؟ وإن كان قد أمرهم بالإقرار بها مع ذكر الدَّليل ، فهذا غير مذكور .
فالجوابُ : أن الله - تعالى - ذكر في أوَّلِ السُّورةِ دلائلَ التَّوحيد والنُّبوَّةِ وصحَّةِ المعاد ، وذلك تنبيه منه تعالى على أنَّ أحداً من الأنبياء لا يدعو إلى هذا الأصُولِ إلا بذكر الحُجَّةِ والدَّلِيل أقصى ما في البابِ أنَّهُ تعالى ما حكى عن نُوحٍ في هذا المقام ذكر تلك الدَّلائل لما كانت معلومة .
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61)
قوله : « قَالَ المَلأ » .
قال ابن عطية : وقرأ ابن عامر : « المَلَؤُ » بواوٍ ، وهي كذلك في مصاحفِ الشَّامِ ، وهذه القراءةِ ليست مَشْهُورةٌ عنه قال المفسِّرُونَ : الملأ : الكبراء والسَّاداتُ الذين جعلَوا أنفسهم أضداد الأنبياء ، ويدلُّ على ذلك قوله : « مِنْ قَوْمِهِ » ؛ لأنَّهُ يقتضي التَّبْعِيضَ ، وذلك البَعْضُ لا بدَّ وأن يكونوا موصوفين بِصِفَةٍ لأجلها استحقُّوا هذا الوَصْفَ بأن يكونوا هم الذين يملئون صدور المَجَالس ، وتمتلىء القلوب من هَيْبَتِهِم ، وتمتلىءُ الأبصارُ من رُؤيتهم ، وهذه الصِّفاتُ لا تحصل إلا في الرُّؤسَاءِ .
قوله : « إنَّا لَنَرَاكَ » يجوزُ أن تكون الرُّؤيَةُ قلبية فتتعدى لاثنين ثانيهما « في ضلالِ » ، وأن تكون البَصريَّة وليس بظاهر فالجارُّ حال ، وجعل الضَّلالِ ظَرْفاً مبالغة في وصفهم له بذلكَ ، وزادوا في المبالغة أكَّدثوا ذلك بأن صَدَّرُوا الجملة ب « إنَّ » وفي خبرها اللاَّم .
وقوله : { لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ } الضَّلالُ ، والضَّلالةُ ، العدول عن الحق .
فإن قيل : قولهم : إنَّا لنراك في ضلال جوابه أن يقال : ليس في ضلال فَلِمَ أجاب بقوله { لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ } .
فالجوابُ أنَّ قوله : { لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ } من أحسن الردِّ وأبلغه؛ لأنَّهُ نفى أن تلتبس به ضلالة واحدة فضلاً عن أن يحيط به الضلالُ ، فكان المعنى : ليس بي نوع من أنْواعِ الضَّلالة ألْبَتَّةَ ، فكان هذا أبْلَغَ في عموم السّلب فلو قال : لستُ ضالاًّ لم يُؤدِّ هذا المعنى .
واعلم أنَّ القَوْمَ إنما نسبوا نوحاً في ادِّعَاءِ الرِّسالةِ إلى الضَّلالة لأمور :
أحدها : أنَّهُمْ استبعدوا أن يكون للَّهِ رَسُولاً إلى خلقه ، لاعتقادهم أن المقصود من الإرْسَالِ التَّكْلِيفُ : والتَّكْلِيفُ لا منفعة فيه للمَعْبُودِ؛ لأنَّهُ متعالٍ عن النَّفْعِ والضَّرَرِ ، ولا مَنْفَعَةَ فيه للعابد؛ لأنَّهُ فِي الحالِ مضرَّة ، وما يوحى فيه من الثَّواب والعقاب فاللَّهُ - تعالى - قادر على تحصيله بغير واسطة تكليفٍ ، فيكونُ التَّكليف عبثاً ، واللَّهُ منزهٌ عن العَبَثِ .
وثانيها : أنَّهُم وإن جَوَّزُوا التَّكْلِيفَ إلا أنَّهُم قالُوا : ما علمنا حسنه بالعَقْلِ فعلناه ، وما علمنا قُبْحَهُ تركناه حَذَراً من خَطَرِ العقابِ ، فاللَّهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن أنْ يكلِّفَ عبده ما لا طاقة له به ، وإذا كان رسولُ العقل كافياً ، فلا حاجة إلى بعثه رسولاً آخر .
وثالثها : أي بتقدير أنَّهُ لا بدَّ من الرسول ، فإرسال الملائكة أولى؛ لأنَّ مهابتهم أشَدُّ ، وطهارتهم أكملُ ، وبعهدهم عن الكذب أعْظَمُ .
ورابعها : اعلم أنَّ بتقدير أن يَبْعَثَ رَسُولاً من البشرِ ، فلعلَّ القوم اعتقدوا أن الفقيرُ الذي ليس له أتباعٌ ، ولا رئاسة لا يليق به منصب الرسالة ، أو لعلَّهم اعتقدُوا أنَّ ادعاء نوح الرِّسالة من باب الجُنُونِ وتخييلات الشَّيطان ، فلهذه الأسباب حَكَمُوا على نوح بالضَّلالِ ، وقد أجابهم نُوحٌ ببقية الآيَةِ على ما يأتي في أثنائها .
ثمَّ إنَّهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لما نفى العيبَ عن نفسه ، وصف نفسه بأشرف الصِّفات وهو قوله : { وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين } جاءت « لَكِنَّ » هنا أحسن مجيء؛ لأنَّها بين نقيضين؛ لأنَّ الإنسان لا يخلو من أحدَ شَيْئَيْنِ : ضلال ، أو هدى ، والرِّسَالة لا تجامع الضَّلال .
و « مِنْ رَبِّ » صفة ل « رَسُول » ، و « مِنْ » لابتداء الغاية المجازية .
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)
قوله : « أبَلَّغُكُمْ » يجوزُ أن تكون جملة مستأنفة أتى بها لبيانِ كونه رسولاً ، ويجوز أن تكون صفةً ل « رَسَولِ » ، ولكنَّهُ راعى الضَّمِيرَ السَّابِقَ الذي للمتكلِّم فقال : أبَلِّغُكُمْ ، ولو راعى الاسم الظَّاهِرَ لقال : يُبَلِّغكم ، والاستعمالان جائزان في كلِّ اسم ظاهرٍ سبقه ضمير حاضر من متكلم ، أو مخاطب فتحرَّر لك فيه وجهان :
مراعاةُ الضَّميرِ السَّابِقِ ، وهو الأكثر ، ومراعاة الاسم الظَّاهر فيقول : أنَا رجلٌ أفعل كذا مراعاة ل « أنا » ، وإن شئت أنا رجل يفعل كذا مراعاة لرجُلٍ ، ومثله : أنْتَ رجلٌ يفعل وتفعلُ بالخطاب والغيبة .
وقرأ أبو عَمْرو : « أبْلِغُكُمْ » بالتَّخفيف ، والباقون بالتَّشديدِ ، وهذا الخلافُ جارٍ هنا في الموضعين ، وفي الأحقاف والتَّضعيف والهمزة للتَّعْدِيَةِ كأنْزَلَ ، ونَزَّلَ ، وجمع « رسالة » باعتبار أنواعها من أمر ونهي ، ووعظ ، وزجر ، وإنذار ، وإعذار ، وقد جاء الماضي على أفْعَل في قوله : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ } [ هود : 57 ] فهذا شاهدٌ لقراءة أبِي عَمْرٍو ، وجاء على فعَّل في قوله : { فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } [ المائدة : 67 ] فهذا شاهدٌ لقراءة الجماعة .
واعلم أنَّهُ ذكر ما هو المقصود من الرِّسالة ، وهو أمران : أن يبلغ الرِّسالة ، وتقدرير النَّصِيحَةِ ، والفرقُ بينهما أنَّ تبليغ الرِّسالة معناه : أن يعرفهم أنْوَاعَ تَكَاليفِ اللَّه ، وأوامره ، ونواهيه ، وأمَّا النَّصيحةُ فهو ترغيبهم في الطَّاعَةِ ، وتحذيرهم عن المعاصي .
قوله : « وأنْصَحُ لَكُمْ » .
قال الفرَّاءُ : العربُ لا تَكَادُ تقُولُ : نصحتك ، إنَّمَا يقولون : نصحتُ لك ، ويجوز أيضاً : نَصَحْتُكَ .
قال النابغة : [ الطويل ]
2498 - نَصَحْتُ بَنِي عَوْفٍ فَلَمْ يَقْبَلُوا نُصْحِي ... وسُؤلِي ، وَلَمْ تَنْجَحْ لَديْهِمْ رَسَائِلِي
فصل في بيان حقيقة النصح
وحقيقةُ النُّصْحِ الإرْشَادُ إلى المصلحةِ مع خلوص النية من شوائب المكروه ، والمعنى : إنِّي أبَلِّغ لَكُمْ تَكَالِيفَ اللَّهِ ، ثمَّ أرشدكم إلى الأصوب ، والأصْلَحِ ، وأدعوكم إلى ما دَعَانِي ، وأحبِّبُ لكم ما أحبه لنفسي .
قوله : { وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
قيل : أعلم أنكُم إن عصيتم أمره عاقبكم بالطُّوفَانِ .
وقيل : أعلم أنَّهُ يعاقكم في الآخرة عذاباً شديداً ، خارجاً عمَّا تتصوَّرُهُ عقولُكْمْ .
وقيل : أعلم من توحيد الله وصفاتِ جلالهِ ما لا تعلمون . والمقصود من ذكر هذا الكلام : حملُ القَوْمِ على أنْ يرجعوا إليه في طلب تلك العُلُومِ .
واعلم أنَّ نوحاً - عليه الصلاة والسلام - أزال تعجبهم وقال : إنَّه تعالى خالق الخلق ، فله بحكم الإلهية أنْ يأمر عبيده ببعض الأشياء وينهاهم عن بعضها ، ولا يجوزُ أن يخاطبهم بتلك التَّكاليف من غير واسطة؛ لأنَّ ذلك ينتهي إلى حَدِّ الإلجاء ، وهو يُنَافِي التَّكْلِيف ، ولا يجوز أن يكون ذلك الرسُولُ من الملائكة ، لما تقدَّم في « الأنعام » في قوله : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً } [ الأنعام : 9 ] ، فلم يَبْقَ إلا أن إيصال التَّكالِيف إلى الخَلْقِ بواسطة إنسان يبلغهم ، وينذرهم ويحذرهم ، وهذا جوابُ شُبَهِهم .
قوله : « أوَ عَجْبتُمْ » ألفُ استفهامٍ دخلت على واو العَطْفِ ، وقد تقدَّم الخلافُ في هذه الهَمْزَةِ السَّابقة على الواو ، وقدَّر الزمخشري على قاعدته معطوفاً عليه محذوفاً تقديره : أكذَّبْتُمْ وعجبتم « أنْ جَاءَكُمْ » أي : مِنْ جاءكم ، فلما حذف الحَرْفَ جرى الخلاف المشهورُ .
« مِنْ رَبِّكُمْ » صفةٌ ل « ذِكْر » .
« عَلَى رَجُلٍ » : قال ابْنُ قُتَيْبَةَ : [ قال الفرَّاءُ ] : يجوز أن تكون على حذف مضافٍ ، أي : على لِسَانِ رَجُل « .
وقيل : على بمعنى » مع « ، أي : مع رجل فلا حذف .
وقيل : لا حاجة إلى حَذْف ، ولا إلى تضمين حرف؛ لأنَّ المعنى أُنزل إليكم ذِكْر على رَجُلٍ ، وهذا أوْلى؛ لأنَّ التَّضْمِينَ في الأفعال أحسن منه في الحُرُوفِ لقوَّتِهَا وضعف الحُرُوفِ .
فصل في معنى » الذكر «
قال ابنُ عَبَّاسٍ : الذَّكْرُ الموعظة .
وقال الحَسَنُ : إنه الوَحْيُ الَّذي جَاءَهُمْ بِهِ .
وقيل : المراد بالذِّكْرِ المُعْجِز .
وقيل : بيان » عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ « أي تعرفون نسبه ، فهو منكم نسباً .
» ليُنْذِرْكُمْ « أي : لأجْلِ أن ينذركم عذابَ اللَّه .
» وَلِتَتَّقُوا « أي : لكي تَتَّقُوا .
» وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون « أي : لكي ترحموا .
فصل في دحض شبهة للمعتزلة
قال الجُبُّائِيُّ ، والكَعْبِيُّ ، والقاضي : دلَّتْ هذه الآية على أنَّهُ تعالى أراد من بعثة الرُّسُل إلى الخلق التَّقْوَى ، والفوزَ بالرَّحْمَةِ ، وذلك يبطل قول من قالك إنَّهُ تعالى أراد من بعضهم الكُفْرَ والعِنَادَ ، وخلقهم لأجل العذاب والنارِ .
والجوابُ بأن نقول : إن لم يَتَوَقَّفِ الفعل على الدّاعي لزم رجحان الممكن لا لمرجح ، وإن توقَّف لزم الجَبْرُ ، ومتى لزم ذلك ، وجب القطعُ بأنَّهُ تعالى أراد الكُفْرَ ، وذلك يبطلُ مذهبكم .
قوله : » فَكَذَّبُوهُ « : أي في ادِّعَاءِ النُّبوُّةِ والرِّسالةِ .
» فَأنْجَيْنَاهُ « من الطُّوفان ، وأنجْينا من كان معه [ وكانوا أرْبَعِينَ رجلاً ، وأربعين امرأة ] .
وقيل : عشرةٌ : بَنُوه : حَامٌ ، وسامٌ ، ويافث ، وسبعة ممن آمن معه من المؤمنين .
» فِي الفُلْكِ « أي : في السَّفِينَةِ ، وأغرقنا الكُفَّارَ والمكذِّبين ، وبين العِلَّة في ذلك فقال : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ } .
قوله : » فِي الفُلْكِ « يجوزُ أن يتعلق ب » أنْجَيْنَاهُ « ، أي : أنجيناه في الفلك ، [ ويجوز أن تكون » فِي « حينئذٍ سببيَّةً أي : بسبب الفُلْكِ ] كقوله : » إنَّ امْرَأةً دخلت النَّارَ في هِرَّةٍ « ، ويجوزُ أن يتعلق في الفلك بما تعلَّق به الظَّرْفُ الواقع صلةً ، أي : الذين استقرُّوا في الفلك معه .
» وعَمِيْنَ « جمع عَمٍ ، وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المادة .
وقيل : عمٍ هنا إذا كان أعْمَى البصيرة ، [ قال ابن عباس : عَمِيَتْ قلوبُهُم عن معرفة التَّوْحِيد ، والنَّبوة والمعَادِ قال أهل اللُّغَة ] : غير عارفٍ بأموره ، وأعْمَى أي في البَصَرِ .
قال زُهَيْرٌ : [ الطويل ]
2499 - وأعْلَمُ عِلْمَ اليَوْمِ والأمْسِ قَبْلَهُ ... ولَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمٍ
قاله اللَّيْثُ وقيل : عم وأعْمَى بمعنىً ، كخَضِرٍ وأخْضَر .
وقال بعضهم : » عَم « فيه دلالةٌ على ثبوت الصِّفةِ واستقرارها [ كفَرِح ] وضيّق ، ولو أريد الحدوث لَقِيلَ : عامٍ كما يقال : فارحٌ وضَائِقٌ .
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ : قريء » قَوْماً عَامِينَ « .
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)
قوله « أخَاهُمْ » نصب ب « أرْسَلْنَا » الأولى ، كأنه قيل : لقد أرسلنا نُوحاً ، وأرسلنا إلى عادٍ أخاهُم ، وكذلك ما يأتي من قوله : { وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ } [ الأعراف : 73 ] ، { وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } [ الأعراف : 85 ] { وَلُوطاً } [ الأعراف : 85 ] ، ويكونُ ما بعد « أخَاهُم » بدلاً أو عطف [ بيان ] . وأجاز مكيٌّ أن يكون النَّصْبُ بإضمار « اذْكُرْ » وليس بشيء لأنَّ المعنى على ما ذكرنا مع عدمِ الاحْتِيَاجِ إليه .
و « عاد » اسم للحيِّ ، ولذلك صَرَفَه ، ومنهم من جعله اسْماً للقبيلة ولذلك [ منعه ] قال : [ الرجز ]
2500- شَهْدَ عَادَ فِي زَمَانِ عَادِ ... ابْتَزَّهَا مَبَارِكَ الجِلادِ
الأصل اسم الأب الكبيرِ ، وهو عادُ بْنُ عوصِ بْنِ إرمِ بْنِ سَامِ بن نوُحٍ فسُمِّيت به القبيلةُ ، أو الحيّ .
وقيل : عادُ بْنُ أرمٍ بْنِ شَالِخ بِنْ أرفخشد بْنِ سَامِ بْنِ نوح وهودُ بْنُ عبد الله بْنِ رَبَاحِ بْنِ الجَارُودِ ابْنِ عَادِ بِنْ عوص بن إرمٍ بْنِ سَامِ بْنِ نُوح ، وهي عادٌ الأولى ، وكذلك ما أشبهه من نحو « ثَمُود » إن جَعَلْته اسماً لمذكَّر صَرَفْتَه ، وإن جعلته اسماً لمؤنث مَنَعتهُ ، وقد بَوَّبَ له سيبويه باباً .
وأمّضا هو فاشتهر في ألْسِنَةِ النُّحَاةِ إنه عَرَبِيٌّ ، وفيه نظر؛ لأن الظَّاهِرَ من كلام سيبويه لمَّا عَدَّه مع نُوح ، ولوط أنَّهُ أعجمي ، ولأن : أبَا البركاتِ النَّسَّابَةَ الشَّريفَ حكى : أن أهلَ وعلى هذا يكون « هُودُ » أعجمياً ، وإنَّمَا صُرِفَ لما ذكر في أخوته نوحٍ ولُوطٍ .
وهود اسمه عابرُ بْنُ شَالِح بْنِ أرفخشد بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ .
فصل في نسب هود
اتَّفقوا [ على ] أن هوداً ما كان أخاهم في الدِّين ، واختلفوا في أنَّه هل كان هناك قَرَابَةٌ أم لا .
قال الكَلْبِيُّ : « كان واحداً منهم » .
وقال آخرون : كان من غيرهم ، وذكروا في تفسير هذه الأخوة وجهين :
الأول : قال الزَّجَّاجُ : كان من بني آدم ، ومن جِنْسِهِمْ ، لا من الملائكة ، ويكفي هذا القَدَرُ في تسمية الأخوة ، والمعنى : أنّا بعثنا إلى عادٍ واحداً من جنسهم ، لِيَكُون الفَهْمُ والأنس بكلامه وأفعاله أكْمَلُ ، ولم يبعث إليهم من غير جنسهم مثل ملك أو جني .
قال ابن إسحاق : وكان أوسطهم نَسَباً ، وأفْضَلَهُم حُسْناً .
روي أن عاداً كانت ثلاثَ عَشْرَةَ قبيلةً ينزلون الرِّمال ، وكانوا أهل بساتين وزروع وعمارةٍ ، وكانت بلادهم أخصبَ البلاد ، فسخط الله عليهم؛ فجعلهم مفاوز لأجل عبادتهم الأصْنَامَ ، ولحق هود حين أهلك قومه بمن آمن معه بِمَكَّةَ ، فلم يزالوا بها حتى ماتوا .
الثاني : « أخاهم » أي صاحبهم ، ورسولهم ، والعرب تسمِّي صاحب القوم أخَا القَوْم ، ومنه قوله تعالى : { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } [ الأعراف : 38 ] أي : صاحبتها ، وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « إن أخَا صداء قَدْ أذن »
يريدُ صَاحِبَهُمْ .
فصل في مكان قوم عاد
اعلم أنَّ عاداً قوماً كانوا باليمينِ بالأحقاف .
قال ابن إسحاق : « والأحقافُ : الرَّمْلُ الذي بين عُمَان إلى حضرموت » .
واعلم أن ألفاظ هذه القصَّةِ موافقة للألْفَاظِ المذكورة في قصَّةِ نوح - عليه السَّلامُ - إلا في أشياء .
[ الأول ] : أن في قصَّة نُوحٍ : « فقال يا قَوْم » بالفاء ، وهنا قال بغير فاء ، فالفرق أنَّ نُوحاً - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - كان مواظباً على دعوتهم ، وما كان يؤخر الجواب عن شبهاتهم لحظة واحدة ، وأما هودٌ فلم يبلغ إلى هذا الحدِّ؛ فلا جرم جاء بفاء التعقيب في كلام نُوح دون كلام هود .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : فإن قُلْتَ : لم حذف العَاطِف من قوله [ قال يا قوم ] ولم يقل « فقال » كما في قِصَّةِ نوح .
قلت : هو على تَقْدير سُؤالِ سائلٍ قال : فما قال لهم هود؟ فقيل : له : « قال يا قوم » .
الثاني : قال في قصة نوح : { مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ الأعراف : 59 ] .
وهنا قال : « أَفَلاَ تَتَّقُونَ » ، والفرقُ بينهما أنَّ قبل نوح لم يظهر في العالم مثل تلك الواقعةِ العظيمةِ ، وهي الطُّوفَانُ العظيم ، فلا جرم أخبر نُوحٌ عن تلك الواقعة فقال : { إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } .
وأمّا واقعة هود - عليه السَّلامُ - فقد سبقتها واقعة نوح ، وكان عهد النَّاسِ بتلك الواقعة قريباً ، فلا جرم قال : « أفَلاَ تَتَّقُونَ » أي : تعرفون أنَّ قوم نوح لمَّا لم يتقوا الله ولم يطيعوه أنْزل بهمْ ذلكَ العذاب الذي اشتهر خَبَرُهُ في الدُّنْيَا ، فكان ذلك إشَارَةً إلى التَّخْوِيفِ بتلك الوَاقِعَةِ .
الثالث : قال في قصَّة نُوحٍ { قَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ } [ الأعراف : 60 ] .
وقيل : في هود : { قَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ } فوصف الملأ بالكُفْرِ ، ولم يُوصَفُوا في قصَّة نوح ، والفرقُ أنَّهُ كان في أشْرَاف قوم هُودٍ مَنْ آمنَ بِهِ مِنْهُم مرْثَدُ بْنُ سَعْدٍ أسْلَمَ ، وكان يكتمُ إيمانَهُ بخلاف قَوْم نُوحٍ ، لأنَّه لم يؤمن منهم أحَدٌ .
قاله الزَّمخشريُّ وغيره ، وفيه نَظَرٌ لقوله تعالى : { لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } [ هود : 36 ] وقال : { وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } [ هود : 40 ] ويحتمل أنَّ حال مخاطبة نُوحٍ لقومِهِ لم يُؤمِنْ منهم أحَدٌ بعدُ ثمَّ آمنوا ، بخلاف قصَّةِ هود فإنَّهُ حال خطابهم كان فيهم مُؤمن ويحتملُ أنها صفة لمُجَرَّدِ الذَّمِّ من غير قَصْدِ تميزٍ بها .
الرابع : حكي عن قَوْم نُوح قولهم : { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } وحكي عن قوم هُود قولهم : { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين } [ الأعراف : 66 ] الفرقُ أنَّ نُوحاً خوف الكُفَّارَ بالطُّوفانِ العام وكان مشتغلاً بإعْدَادِ السَّفينةِ ، فلذلك قالوا : { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } حيثُ تُتْعِبُ نَفْسَكَ في إصلاح سفينة كبيرةٍ في مفازة ليس فيها قَطْرَةٌ من المَاءِ ، ولم يظهر شيءٌ من العلامات تدلُّ على ظهورِ المَاءِ في تلك المَفَازة .
وأمَّا هود فلم يذكر شيئاً إلا أنه زَيَّفَ عبادة الأوثان ، ونسب من اشتغل بعبادتها إلى السَّفَاهَةِ وقلَّةِ العَقْل ، فلَّما سفَّهَهُم قابلوه بمثله ، ونسبُوهُ إلى السَّفاهةِ ، ثم قالوا : { وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين } في ادِّعَاءِ الرِّسالة .
قال ابءنُ عبَّاسٍ : في سفاهة أي تدعو إلى دينٍ لا نقر به .
وقيل : في حُمْقِ ، وخفَّةِ عَقْلٍ ، وجهالةٍ .
{ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين } اختلفُوا في هذا الظن فقيل : المرادُ القَطْعُ والجزم كقوله تعالى : { الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } [ البقرة : 46 ] وهو كثير .
وقال الحسنُ والزَّجَّاجُ : كان ظنّاً لا يقيناً ، كفرُوا به ظانين لا متيقّنين وهذا يَدُلُّ على أنَّ حوصل الشَّكِّ والتَّجويز في أصول الدِّين يوجبُ الكفر .
الخامس : قال نوح - عليه السلامُ - : { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ } .
وقال هود عليه السلام : { وأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِيْنٌ } ، فأتى نوح بصيغة الفعل ، وهود أتى بصيغة اسم الفاعل ، ونوح - عليه السلام - قال : { وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ، وهود لم يقل ذلك ، وإنَّما زاد كونه « أمِيناً » ، والفرقُ بينهما أنَّ الشَّيْخَ عَبْدَ القَاهِرِ النَّحْوِيَّ ذكر في كتاب « دلائِلِ الإعْجازِ » أن صيغة الفعل تدلُّ على التَّجَدُّدِ ساعةً فساعَةً .
وأما صِيغَةُ اسم الفاعِلِ فهي دالَّةٌ على الثَّباتِ ، والاستمرار على ذلك الفعل .
وإذا ثبت هذا فَنَقُولُ : إنَّ القَوْمَ كانوا مبالغين في السَّفَاهَةِ على نوح - عليه السَّلام - ثم إنَّهُ في اليوم الثَّاني كان يعودُ إليهم ، ويدعوهم إلى الله كما ذكر اللَّهُ - تعالى - عنه في قوله : { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً } [ نوح : 5 ] .
فلما كانت عادته - عليه السلام - العود إلى تجديد الدعوة في كل يوم وفي كل ساعة ، لا جرم ذكره بصيغة الفعل فقال : « وأنْصَحُ لَكُمْ » .
وأما قول هود - عليه السلامُ - : { وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ } فإنَّهُ يَدُلُّ على كونه مثبتاً مستقراً في تلك النَّصِيحَةِ ، وليس فيها إعلامُ بأنه سيعود إليها حالاً فحالاً ، ويوماً فيوماً .
وأما قول نوح - عليه السَّلامُ - { وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وهود - عليه السلام - وصف نفسه بكونه أميناً ، فالفرقُ أنَّ نوحاً - عليه السَّلأامُ - كان منصبه في النُّبُوَّةِ أعلى من منصب هود عليه السَّلام ، فلم يبعد أن يقال : إن نُوحاً - عليه السلام - كان يعلم من أسرار حكم اللَّهِ ما لا يصلُ إليه هُودٌ ، فلهذا أمْسَكَ هود لسانه عَنْ ذكر تلك الجملة ، واقتصر على وَصْفِ نفسه بالأمانة ومقصود منه أمور :
أحدها : الرَّدُ عليهم في قولهم : { وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين } .
وثانيها : أن مدار الرِّسالة والتبليغ عن الله على الأمانة ، فوصف نفسه بالأمانةِ تقريراً للرِّسالة والنبوة .
وثالثها : كأنَّهُ قال لهم : كنت قبل هذه الدعوى أميناً فيكم ، وما وجدتمْ منِّي غدراً ولا مكراً ولا كذباً ، واعترفتم لي بِكَوْنِي أميناً ، فكيف نسبتموني الآن إلى الكذب؟
والأمين هو الثقة ، وهو فعيل من أمِنَ فهو أمِنٌ وأمين بمعنى واحد .
واعلم أنَّ القومَ لمَّا قالوا له : { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ } لم يقابل سفاهتهم بالسَّفاهَةِ ، بل قابلها بالحلم ، ولم يزد على قوله : { لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ } ، وذلك يَدُلُّ على أنَّ ترك الانتقام أولى كما قال : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } [ الفرقان : 72 ] .
وقوله : { وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين } مدح نفسه بأعْظَمِ صفات المَدْحِ ، وإنَّمَأ فعل ذلك؛ لأنَّهُ كان يجب عليه إعلام القوم بذلك ، وذلك يَدُلُّ على أنَّ مدح الإنسان لِنَفْسِه في موضع الضَّرُورةِ جائزٌ .
السادس : قال نوحٌ عليه السلامُ : { أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ } إلى قوله : { وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ، [ وفي قصَّةُ هود حذف قوله : { وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ، والفرق أنَّهُ لمَّا ظهر في قِصَّةِ نُوح - عليه السلام - أنَّ فائدة الإنذار هي حصول التقوى الموجبة للرحمة ، لم يكن لإعادته في هذه القصَّة حاجة .
قوله : « إذْ جَعَلَكُمْ » في « إذْ » وجهان :
أحدهما : أنَّه ظرفٌ منصوبٌ بما تضمنتهُ الآلاء من معنى الفعلِ ، كأنه قيل : « واذكُرُوا نِعَمَ اللَّهِ عليكم في هذا الوَقْتِ » ، ومفعول « اذْكُرَوا » محذوفٌ لدلالة قوله بعد ذلك : { فاذكروا آلآءَ الله } ، ولأن قوله : { إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ } ، وزادكم كذا هو نفس الآلاء وهذا ظاهر قول الحُوفِي .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : « إذْ » مفعول « اذْكُرُوا » أي : اذكروا هذا الوقت المشتمل على هذه النعم الجسيمة ، وتقدَّم الكلامُ في الخلفاء والخلائف والخليف .
قوله : « فِي الخَلْقِ » يحتملُ أن يراد به المصدر بمعنى في امتداد قامتكم وحسن صوركم ، وعظم أجْسَامِكُمْ ، ويحتمل أنْ يراد به معنى المفعول به ، أي : في المَخْلُوقين بمعنى زادكم في النَّاسِ مثلكم بسطة عليهم ، فإنَّهُ لم يكن في زمانهم مثلهم في عظم الأجرام .
قال الكَلْبِيُّ والسُّدِّيُّ : « كانت قامة الطّويل منهم مائة ذراع ، وقامة القصير ستُّون ذراعاً » .
وتقدم الكلامُ على « بسطة » في البقرة .
قوله : { فاذكروا آلآءَ الله } ، أي : نعمه ، وهو جمع مفرده « إلْي » بكسر الهمزة وسُكُونِ اللاَّمِ؛ كحِملْل وأحْمَالِ ، أو « ألْيٌ » بضمِّ الهمزة وسُكُونِ اللاَّمِ : كقُفْل ، وأقْفَالٍ ، أو « إلى » بكسر الهمزة ، وفتح اللام؛ كضِلَع وأضلاع ، وعِنَب وأعْنَاب ، أو « ألَى » بفتحهملا كقَفَا وأقْفَاء؛ قال العْشضى : [ المنسرح ]
2501 - أبْيَضُ لا يَرْهَبُ الهُزَالَ وَلاَ ... يَقْطَعُ رِحْماً ولا يَخُونُ ألَى
يُنشد بكسر الهمزة ، وهو المشهورُ ، وبفتحها؛ ومثلها « الآنَاء » جمع « إِنْي » أو « أُنْي » أو « إِنّى » أو « أَنّى » .
وقال الأخفش : « إنْوٌ » .
والآناء الأوقات كقوله : { وَمِنْ آنَآءِ الليل } [ طه : 130 ] ، وسيأتي .
ثم قال : « لعلَّكُم تُفْلِحُونَ » فلا بُدَّ هاهنا من إضمار؛ لأنَّ الصَّلأاح الذي هو الظَّفر بالثَّواب لا يحصل بمجرد التذكر ، بل لا بدّ من العمل ، والتقدير : فاذكروا آلاء اللَّهِ واعملوا عملاً يليق بذلك الإنعام لعلّكم تفلحون .
قوله : « لِنَعْبُدَ » متعلق بالمجيء الذي أنكروه عليه .
واعلم أنَّ هوداً - عليه السلام - لما دعاهم إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام بالدَّلِيل القاطع ، وهو أنَّهُ بيَّن أنَّ نعم الله عليهم كثيرة والأصنام لا نعمة لها؛ لأنَّهَا جمادات ، والجمادُ لا قُدْرَةَ له على شَيْءٍ أصلاً - لم يكن للقوم جوابٌ عن هذه الحُجَّةِ إلا التمسك بالتَّقْليد فقالُوا : { أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ الله وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } فأنكروا عليه أمره لهم بالتَّوحيد ، وترك التقليد للآباء ، وطلبوا منه وقوع العذاب المشار إليه بقوله : « أفَلاَ تَتَّقُونَ » وذلك أنَّهُم نسبوه إلى الكذب ، وظنُّوا أنَّ الوعيد لا يتأخر ، ثم قالوا : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } جوابه محذوف أو متقدِّم ب « ما » ، وذلك لأنَّ قوله : { اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } مشعر بالتَّهْديد والتّضخويف بالوعيد ، فلهذا قالوا : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ } .
قوله : { إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } جوابه محذوف أو مُتَقَدِّم ، وهو فأت به .
واعلم أنَّ القوم كانُوا يتقدون كذبه لقولهم : { وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين } فلهذا قالوا : { فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } [ الشعراء : 31 ] وإنَّما قالُوا كذلِكَ لظنهم أن الوعيد لا يجوز أن يتأخر ، فعند ذلك قال هود - عليه السلام - : { قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ } ، أي : وجب عليكم .
فصل في تفسير هذه الآية
قال القَاضِي : تفسير هذه الآية على قولنا ظاهر؛ لأنَّ بعد كفرهم وتكذيبهم
حدثت هذه الإرادة ، واعلمْ أنَّ هذا بَاطِلٌ؛ لأنَّ في الآية وجوهاً من التَّأويل .
أحدها : أنَّهُ تعالى أخبر في ذلك الوقت بنزول العذابِ عليهم ، فلمَّا حدث الإعلام في ذلك الوقت ، لا جرم قال هُودٌ في ذلك الوقت : { قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ } .
وثانيها : أنَّهُ جعل المُتَوقَّع الذي لا بُدَّ من نزوله بمنزلة الواقع ، كقوله : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] .
وثالثها : أن يحمل قوله : « وقع » على معنى وجد وجعل ، والمعنى : إرادة إيقاع العذاب عليكم حصلت من الأزل .
قوله : « مِن رَّبِّكُمْ » إمَّا متعلق ب « وقع » و « من » للابتداء مجازاً ، وإمَّا أن يتعلق بمحذوف لأنَّهَا حال ، إذْ كانت في الأصل صفة ل « رجس » .
والرِّجْس : العذاب والسين مبدلة من الزاي .
وقال ابن الخطيب : لا يمكن أن يكون المراد لأنَّ المُرادَ من الغضب العذابُ ، فلو حملنا الرِّجْسَ عليه لَزِمَ التَّكْرِيرُ ، وأيضاً الرجس ضد التطهير قال تعالى : { لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً }
[ الأحزاب : 33 ] والمرادُ التَّظْهِيرُ عن العقائد الباطلةِ .
وإذا ثبت هذا فالمراد بالرجس أنَّهُ تعالى خصّهم بالعقائِدِ المذمُومَةِ ، فيكون المعنى أنَّهُ تعالى زادهم كُفْراً ثم خصَّهم بمزيدِ الغضبِ .
قوله : « أتُجَادِلُونَنِي » استفهام على سبيل الإنْكَارِ في أسماء الأصنام وذلك أنهم كانوا يسمون الأصْنَامَ بالآلهة ، مع أن معنى الإلهية فيها معدومٌ ، سموا واحداً منها بالعُزَّي مشتقاً من العزِّ ، والله - تعالى - ما أعطاه عِزّاً أصلاً ، وسمُّو آخر منها باللاَّتِ ، وليس له من الإلهية شيء .
قوله : « سَمَّيْتُمُوهَا » صفة ل « أسْمَاء » ، وكذلك الجملة من قوله : { مَّا نَزَّلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ } يُدلُّ على خلوِّ مذاهبهم عن الحُجَّةِ .
و « مِنْ سُلْطَانِ » مفعول « نزَّلَ » ، و « مِنْ » مزيدةٌ ، ثمَّ إنَّهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ذكر لهم وعيداً مجرَّداً فقال : فانتظروا ما يحصل لكم من عبادة الأصْنَامِ إنِّي معكم من المنتظرين .
فقوله : « مِنَ المُنْتَظِريْنَ » خبر « إني » ، و « مَعَكُمْ » فيه ما تقدَّم في قوله : إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } ، ويجوزُ - وهو ضعيف - أن يكون « مَعَكُمْ » هو الخبر و « مِنَ المُنْتَظِرِينَ » حال ، والتقديرُ : إني مصاحبكم حال كوني من المنتظرين النّصر والفرج من الله ، وليس بذلك؛ لأنَّ المقصُودَ بالكلامِ هو الانتظار ، لمقابلة قوله : « فانْتَظِرُوا » فلا يُجعل فضلة .
فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
قوله : { فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا } لأنهم استحقوا الرحمة بسبب إيمانهم و { وَقَطَعْنَا دَابِرَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } أي : استأصلناهم ، وأهْلكناهُم عن آخرهم وما كانوا مؤمنين ، فإن قيل : لما أخبر عنهم بأنَّهُم كانوا مكذبين لَزِمَ القطع بأنَّهم كانوا غير مؤمنين فمنا الفائدة في قوله بعد ذلك { وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } .
فالجوابُ : أن معناه أنَّهُم مكذبون في علم الله منهم أنَّهم لو بقوا لم يؤمنوا أيضاً ، فلو علم أنَّهم سيؤمنون لأبقاهم .
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
ثمود : اسم رجل : وهو ثَمُودُ بْنُ عاد بْن إرم بْنِ سَام بْنِ نُوحٍ ، وهو أخو جديس ، فثمود وجديس أخوان ، ثم سُمِّيت به هذه القبيلة .
قال أبُو عَمرو بْن العلاء : سميت ثمود لقلَّة مائها ، والثَّمَدُ : الماء القليلُ : [ قال النابغة : [ البسيط ]
2502 - أحْكُمْ كَحُكْمِ فَتَاةِ الحَيِّ إذْ نَظَرَتْ ... إلَى حَمَامٍ شِرَاعٍ وارِدِ الثَّمَدِ ]
وكانت مساكنهم « الحجر » بين « الحِجاز » و « الشَّام » إلى « واد القرى » ، والأكثر منعه الصرف اعتباراً بما ذكرناه أوَّلاً ، ومن جعله اسماً للحيّ صرفه ، وهي قراءة الأعمش ، ويحيى بن وثَّابٍ في جميع القرآن ، وقد ورد القرآن بهم صَرِيحاً .
قال تعالى : { أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُم بُعْداً لِّثَمُودَ } [ هود : 68 ] .
وسيأتي الخلاف من القُرَّاء السَّبْعةِ في سورة « هُودٍ » وغيرها .
وصالح : اسم عربيٌّ ، وهو صالح بن آسف .
وقيل : ابْنُ عُبَيْدِ بْنِ آسف بن كَاشِح بْنِ أروم بْنِ ثَمُودَ [ ابن جاثر ] .
« قال : يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِن إله غيرُهُ » أمرهم بعبادة الله ، ونهاهم عن عبادة غير الله ، كما ذكره عمن قبله من الأنبياء .
قوله : { قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } .
قد كثر إيلاءُ هذه اللَّفظة العوامل ، فهي جارية مَجْرَى « الأبْطح » و « الأبْرَقِ » في عدم ذكر موصوفها .
وقوله : « مِن ربِّكُمْ » يحتمل أن يتعلق ب « جَاءَتْكُمْ » و « مِنْ » لابتداء الغايةِ مجازاً ، وأنْ تتعلق بمحذوف؛ لأنَّها صفةٌ بيِّنة ، ولا بدَّ من حذف مُضاف ، أي : من بينات ربكم ليتصادق الموصوف وصفته .
وهذا يدلُّ على أنَّ كُلَّ شيءٍ كان يذكر الدلائل على صحَّةِ التَّوْحيدِ ، ولم يكتف بالتَّقْلِيدِ ، وإلاَّ كان ذكر البينة - وهي الحجة - هاهنا لغواً .
قوله : { هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً } أضاف النَّاقة إليه على سبيل التفضيلِ ، كقولك : بيت الله ، وروح الله؛ لأنَّهَا لم تتوالد بين جمل وناقة ، بل خَرَجَتْ من حَجَرٍ .
و « آيَةً » نصبَ على الحال؛ لأنَّها بمعنى العلامة ، والعاملُ فيها إمَّا معنى التنبيه ، وإما معنى الإشارةِ ، كأنَّهُ قال : أنبهكم عليها ، وأشير إليها في هذه الحال .
ويجوزُ أن يكون العامل مُضْمَراً تقديرُهُ : انظروا إليها في هذه الحال ، والجملة لا محلَّ لها؛ لأنَّها كالجواب لسُؤالٍ مقدَّر ، كأنهم قالوا : أين آيتك؟ فقالك هذه ناقةُ الله .
وقوله : « لَكُم » أي : أعني لكم به ، وخصّوا بذلك ، لأنَّهُم هم السَّائِلُوهَا ، أو المنتفعون بها من بين سَائِرِ النَّاسِ لو أطاعوا .
ويحتمل أن تكون « هَذِه نَاقَةُ الله » مفسرة لقوله : « بَيِّنَةٌ » ؛ لأنَّ البَيِّنَةَ تستدعي شيئاً يتبين به المدعى ، فتكون الجملة في محل رفع على البدل ، وجاز إبدالُ جملة من مفرد؛ لأنَّهَا في قوته .
فصل في إعجاز الناقة
اختلفوا في وجه كون النَّاقة آيةً :
فقال بعضهم : « كانت آية بسبب خروجها بكمالها من الصخرة » .
قال القاضي : إن صحَّ هذا فهو معجزٌ من جهاتٍ :
أحدها : خروجها من الجَبَلِ .
والثانية : كونها لا من ذَكَرٍ وأنثى .
والثالثة : كمالُ خَلْقِها من غير تَدْرِيجٍ .
وقيل : إنّضما كانت آية؛ لأجل أنَّ لها شرب يوم ، ولجميع ثمود شرب يوم ، واستيفاء ناقةِ شرب أمَّة من الأمَمِ عجيب .
وقيل : إنَّما كانت آيَة؛ لأنَّهُم كانوا في شربها يحلبون منها القدر الذي يقوم مقام الماء في يوم شربهم .
وقال الحسَنُ بالعكس من ذلك فقال : إنَّها لم تحلب قطرة لبن قط .
وقيل : وجه كونها آية أن يوم مجيئها إلى الماء ، كانت جميع الحيوانات تمتنع من الوُرُودِ على المَاءِ ، وفي يوم امتناعها تَرِدُ جميع الحيوانات .
واعلم أنَّ القرآن قد دلَّ على أنَّها آية ، ولكن من أي الوُجُوه؟ فليس في القرآن ذكره .
فصل في تخصيص الناقة بهؤلاء القوم
فإن قيل : تلك النَّاقَةُ كانت آية لكلِّ أحد ، فلم خصّ أولئك القوم بها بقوله : « لَكُمْ آيَة » .
فالجوابُ : من وجهين :
الأول : أنَّهم عاينوها ، وغيرهم أُخبروا عنها ، ولَيْسَ الخبر كالمُعاينة .
الثاني : لَعلَّه يثبت سائر المعجزات ، إلاَّ أنَّ القَوْمَ التمسوا من صَالح هذه المعجزة نفسها على سبيل الاقْتِرَاح ، فأظهرها الله تعالى لهم ، فلهذا المعنى حسن هذا التخصيص .
قوله : « فَذَرُوهَا تَأْكُلْ » أي : العشب في أرض اللَّهِ ، أي : ناقة الله ، [ فذروها تأكل في أرض ربَّها ، فليست الأرض لكم ولا ما فيها منن النبات من إنباتكم .
وقيل : يجوز تعلقه بقوله : « فَذَرُوهَا » ، وعلى هذا فتكون المسألة من التَّنازع وإعمال الثَّاني ، ولو أعمل الأوَّل لأضمر في الثَّاني فقال : { تَأْكُلْ في أَرْضِ الله } وانجزم « تأكلْ » جواباً للأمر وقد تقدَّم الخلافة في جازمه : هل هو نفس الجملة الطَّلَبِيَّةِ أو أداء مقدّرة؟ .
وقرأ أبو جعفر : « تَأكُلُ » برفع الفِعْلِ على أنَّهُ حال ، وهو نظير : { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي } [ مريم : 5 ، 6 ] رفعاً وجزماً .
قوله : { وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء } أي لا يمسوها بسوء الظاهر أن « الباء » للتعدية ، أي : لا توقعوا عليها سوءاً ولا تلصقوه بها . ويجوز أن تكون للمصاحبة ، أي : لا تمسُّوها حال مصاحبتكم للسُّوء .
قوله : « فَيَأخُذَكُمْ » نصب على جواب النَّهْي ، أي : لا تجمعوا بين السمّ بالسّوء وبين أخذ العذاب إيَّاكم ، وهم وإنْ لم يكن أخذ العذاب لهم من صنعهم إلا أنَّهم تعاطوا أسبابه .
قال عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب : « أشْقَى الأوَّلِيْنَ عَاقِرُ نَاقَةِ صالحٍ ، وأشْقَى الآخَرِيْنَ قَاتِلُكََ »
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)
قيل : لمَّا أهلك الله - تعالى - عاد عمرت ثمود بلادها ، وخلفوهم في الأرض ، وعمّروا أعماراً طوالاً .
قوله : { وَبَوَّأَكُمْ فِي الأرض } بوَّأه : أنزله منزلاً ، والمباءَةُ المنزل ، وتقدَّمت هذه المادة في « آل عمران » ، وهو يتعدى لاثنين ، فالثَّاني محذوف أي : بوَّأكم منازل .
و « فِي الأرْضِ » متعلّق بالفِعْلِ ، وذكرت ليبنى عليها ما يأتي بعدها من قوله : « تَتَّخِذُونَ » .
قوله : « تَتَّخِذُونَ » يجوز أن تكون المُتَعدية لواحد فيكون من سهولها متعلقاً بالاتخاذ ، أو بمحذوف على أنَّهُ حال من قصوراً إذ هو في الأصل صِفَةٌ لها لو تَأخَّر ، بمعنى أنَّ مادة القُصُور من سهل الأرض كالطّين واللّبن والآجر كقوله : { واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ } [ الأعراف : 148 ] [ أي مادته من الحلي ] .
وقيل : « مِنْ » بمعنى « في » . وفي التَّفسير أنَّهُم كانوا يسكنون في القُصُورِ صَيْفاً ، وفي الجبال شِتَاء ، وأن تكون المتعدية لاثنين ثانيهما « مِنْ سُهُولِهَا » والسهلُ من الأرض ما لان وسهل الانتفاع به ضد الحزن ، والسهولة : التّيسير .
قوله : « قُصُوراً » [ والقصور هو جمع قصر ] وهو البيت المُنِيفُ ، سُمِّي بذلك لقصور النَّاس عن الارتقاء إليه ، أو لأن عامة النَّاس يقصرون عن بناء مثله بخلاف خواصهم ، أو لأنَّهُ يقتصر به على بقعة من الأرض ، بخلاف بيوت الشّعر والعُمُد ، فإنَّهَا لا يقتصر بها على بقعة مخصوصة لارتحال أهلها؛ أو لأنَّه يقصر من فيه أي : يحبسه ، ومنه : { حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام } [ الرحمن : 72 ] .
قوله : { وَتَنْحِتُونَ الجبال بُيُوتاً } يجُوزُ أن يكون نصب « الجِبَالَ » على إسْقَاطِ الخافض أي : من الجبال ، كقوله : { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] ، فتكون « بُيُوتاً » مفعوله .
ويجوز أن يُضَمَّن « تَنْحِتُونَ » معنى ما يتعدَّى لاثنين أي وتتخذون الجبال بُيُوتاً بالنحت أو تصيرونَها . [ بيوتاً بالنَّحت .
ويجوز أن تكون « الجبَالَ » هو المفعول به و « بُيُوتاً » حال مقدرة كقولك : خِطْ هذا الثَّوب جبة [ وابْرِ هذه القصبة قلماً؛ وذلك لأن الجبال لا تكون بيتاً في حال النحت ، ولا الثوب ولا القصبة قميصاً وقلما في حالة الخياطة والبري ] ، أي : مُقَدّراً له كذلك ] و « بُيُوتاً » وإن لم تكن مشتقة فإنَّهَا في معناه أي : مسكونة .
وقرأ الحسنُ : « تَنْحَتُون » بفتح الحاء . وزاد الزَّمَخْشَرِيُّ أنه قرأ « تنحاتُونَ » بإشباع الفتحة [ ألفاً ] ، وأنشد : [ الكامل ]
2503 - يَنْبَاعُ مِنْ ذْفَرَى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ .. . .
وقرأ يحيى بن مصرف وأبو مالكٍ بالياء من أسفل على الالتفات إلا أن أبا مالك فتح الحاء كقراءة الحسنِ .
والنَّحتُ : النَّجر في شيء صُلب كالحجر والخشبِ .
قال : [ البسيط ]
2504 - أمَّا النَّهَارُ فَفِي قَيْدٍ وسِلْسسلَةٍ ... واللَّيْلأُ فِي بَطْنِ مَنْحُوتٍ مِن السَّاجِ
فصل في جواز البناء الرفيع
قال القُرْطُبِي : استدلَّ بهذه الية من أجاز جواز البناء الرفيع كالقُصُور ونحوها ، وبقوله تعالى : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق } [ الأعراف : 32 ] . وبقوله عليه الصَّلاة والسلام : « إنَّ الله إذَا أنْعَمَ على عَبْدٍ نِعْمَةً يُحِبُّ أنْ يُرَى أثَرُ النِّعْمَةِ عليْهِ »
ومن آثار النعمة البناء الحسن ، والثياب الحسنة ، ألا ترى أنه لو اشترى جارية جميلة بمال عظيم ، فإنَّهُ يجوز ، وقد يكفيه دون ذلك ، فكذلك البناء ، وكرهه الحسن وغيره لقوله عليه الصَّلاة والسلام : « إذا أرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ سُوءاً أهْلَكَ مَالَهُ فِي الطِّيْنِ واللَّبنِ »
وقوله عليه الصلاة والسلام : « مَن بَنَى فوق مَا يَكْفِيْهِ جَاءَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ على عُنْقِهِ »
قوله : { فاذكروا آلآءَ الله } أي نعم الله عليكم .
{ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأرض مُفْسِدِينَ } قرأ الأعمش بكسر حرف المضارعة وقد تقدم أن ذلك لغة .
و « مُفْسِدِيْنَ » حال مؤكدة إذ معناها مفهوم من عَامِلِهَا .
و « فِي الأرْضِ » متعلق بالفعل قبله أو ب « مفسدين » .
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
قوله : « قَالَ المَلأُ » قرأ ابنُ عامرٍ وحدَهُ « وَقَال » بواو عطف نسقاً لهذه الجملة على ما قبلها ، وموافقة لمصاحفِ الشَّام ، فإنها مرسومة فيها ، والباقون بحذفها : إما اكتفاء بالربط المعنوي ، وإمّا لأنَّهُ جواب لسؤال مقدَّر كما تقدَّم ، وهذا موافقة لمصاحفهم ، وهذا كما تقدَّم في قوله : { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ } [ الأعراف : 43 ] إلا أنَّهُ هو الذي حذف الواو هناك .
قوله : { الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ استضعفوا } .
السين في « اسْتَكْبَرُوا » و « اسْتُضْعَفُوا » يجوز أن تكون على بابها من الطلب ، أي : طلبوا - أولئك - الكِبْرَ من أنفسهم ومن المؤمنين الضعف .
ويجوزُ أن يكون « اسْتَفْعَلَ » بمعنى : فعل [ كَعَجِبَ ] واسْتَعْجَبَ .
واللاَّم في « الذِينَ اسْتَضْعَفُوا » للتبليغ ، ويضعف أن تكون للعلّة ، والمراد بالذين استكبروا الرّؤساء ، وبالذين استضعفوا المساكين .
قوله : { لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } بدلٌ من « الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا » بإعادة العامل ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ بدل كلٍّ من كُلٍّ ، إن عاد الضَّمير في « مِنْهُم » على قومه ، ويكون المستضعفون مؤمنين فقط ، كأنَّهُ قيل : قال المستكبرون للمؤمنين من قوم صالح .
والثاني : بدلُ بعض من كلٍّ ، إنْ عاد الضَّميرُ على المستضعفين ، ويكون المستضعفون ضربين : مؤمنين وكافرين ، كأنَّهُ قيل : قال المستكبرون للمؤمنين من الضُّعَفَاءِ دون الكَافِرينَ من الضُّعفاء .
وقوله : « أتَعْلَمُونَ » في محل نصب بالقول .
و « مِن رَّبِّهِ » متعلق ب « مُرْسَلٌ » ، و « من » لابتداء الغاية مجازاً ، ويجوز أن تكون صفةً فتتعلق بمحذوف .
واعلم أنَّ المستكبرين لمَّا سألوا المُسْتَضْعفين عن حال صالح وما جاء بهن فأجاب المُسْتَضْعَفُون بقولهم : إنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ صالح مؤمنون ، أي : مُصَدّقون ، فقال المستكبرون : بل نحن كافرون بما آمنتم به ، أي : بالذي جاء به صالح .
قوله : { إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ } متعلق ب « مُؤمِنُونَ » قُدِّم للاختصاص والاهتمام وللفاصلة .
قوله : « قَالَ الذي » « ما » موصولة ، ولا يجوزُ هنا حذف العائد وإن اتحد الجار للموصول وعائده؛ لاختلاف العامل في الجارين وكذلك قوله : {بالذي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } .
قوله : « فَعَقَرُوا النَّاقَةَ » أصل العَقْرِ : كَشْفُ العَراقِيبِ في الإبل ، وهو أن يضرب قَوَائمَ البَعِيرِ أو النَّاقَةِ فتقع ، وكانت هذه سنتهم في الذَّبْحِ .
قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
2505 - وَيَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَى مَطِيَّتِي ... فَيَا عَجَباً مِنْ رَحْلِهَا المُتَحَمَّلِ
ثم أطلق على كل نَحْرِ « عَقْرٌ » ، وإن لم يكن فيه كشف عراقيب تسمية للشَّيء بما يلازمه غالباً ، إطلاقاً للمسبّب على مسببّبه هذا قول الازهري .
وقال ابن قتيبة : « العَقْرُ : القتل كيف كان ، عَقَرْتُها فهي معقورة » .
وقيل : العقر : الجرح . وعليه قول امرئ القيس : [ الطويل ]
2506 - تَقُولُ وَقَدْ مَالَ الغَبِيطُ بِنَا معاً ... عَقَرْتَ بَعِيرِي يَا امْرَأ القَيْسِ فانْزِلِ
يريد : جَرَحْتَهُ بثقلك وتمايلك ، والعَقْر والعُقر بالتفح ، والضمّ [ الأصل ] ، ومنه عَقَرْتُه أي : أصبتُ عقره يعني أصله كقولهم : كَبَدْتُه ورَأسْتُه أي : أصبت كَبِدَهُ ورأسه ، وعَقَرْتُ النخل : قطعته من أصله ، والكَلْبُ العقور منه ، والمرأة عَاقِرٌ ، وقد عُقِرَت .
والعقر بالضَّمِّ آخر الولد وآخر بيضة يقال : عُقر البيض .
والعَقار بالفتح : الملك من الأبنية ، ومنهُ « ما غُزِيَ قومٌ في عُقْرِ دارِهمِ إلاَّ ذُلُّوا » ، وبعضهم يخصه بالنَّخل .
والعُقارُ بالضمِّ : الخمر؛ لأنَّها كالعَاقِرَة للعقل ، ورفع عَقِيْرَتَهُ أي : صَوْتَهُ ، وأصله أن رجلاً عَقَر رجْلَه فرفع صوته فاستعير لكلِّ صائحٍ ، والعُقر بالضمِّ : المَهْرُ .
وأضاف العقر إليهم مع أنَّه ما كان باشره إلا بعضهم؛ لأنَّهُ كان برضاهم .
قوله : « وَعَتَوْا » العُتُوُّ ، والعُتِيُّ : النُّبُوُّ أي : الارتفاع عن الطَّاعة يقال منه : عَتَا يَعْتُوا عُتْوّاً وعُتِيّاً بقلب الواوين ياءين ، والأحسن فيه إذا كان مصدراً تصحيح الواوين كقوله : { وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً } [ الفرقان : 21 ] وإذا كان جمعاً الإعلالُ نحو : قوم عُتِيٌّ ، لأنَّ الجمع أثقلُ ، قياسُه الإعلال تخفيفاً .
وقوله : { أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً } [ مريم : 66 ] محتمل للوجهين قوله : { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً } [ مريم : 8 ] أي : حالة تتعذر مداواتي فيها كقوله : [ الكامل ]
2507 - ... وَمِنَ العَنَاءِ رِيَاضَةُ الهَرِمِ
وقيل : العاتي : الجاسي أي اليَابِسُ . ويقال : عَثَا يَعْثُوا عُثُوّاً بالثاء المثلثة من مادة أخرى؛ لأنَّهُ يقال : عَثِي يَعْثَى عِثِيّاً وعثا يَعْثُوا عُثُواً ، [ فهو في إحْدَى لغتيه يشاركه « عَتَا » بالمثناة وزناً ومعنى ، ويقاربه في حروفه . والعيث أيضاً - بتقديم الياء من أسْفَل ] على الثاي المثلثة - هو الفساد ، فيحتمل أن يكون أصلاً ، وأن يكون مقلوباً فيه .
وبعضهم يجعل العَيْث الفساد المدرك حِسّاً ، والعِثِيَّ في المدرك حكماً ، وقد تقدَّم طرفٌ من هذا .
ومعنى الآية : استكبورا عن امتثال امر ربّهم وكذّبوا بنبيهم .
قوله : { وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ائتنا } يجوزُ لك على رواية من يسهِّل الهمزة وهو وَرْشٌ والسوسي أن تقلب الهمزة واواً ، فتلفظ بصورة « يَا صالح وُتِنا » في الوصل خاصة تُبْدل الهمزة بحركة ما قبلها ، وإن كانت منفصلة من كلمة أخْرَى .
وقرأ عاصمْ وعيسى بْنُ عُمَرَ « أُوْتِنَا » بهمزة وإشباع ضم ولعله عاصم الجحدريّ لا عاصم بن أبي النجود ، وهذه القراءة لا تبعد عن الغلطِ؛ لأن همزة الوصل في هذا النحو مكسورة فمن أين جاءت ضمة الهمزة إلاَّ على التوهُّم؟
قوله : « بِمَا تَعِدُنَا » العائِدُ محذوف أي : « تَعِدُناه » ولا يجوز أن تقدر « تَعِدُنا » متعدياً غليه بالباء ، وإنْ كان الأصْلُ تعديته إليه بها ، لئلا يلزم حذف العائد المجرور بحرف من غير اتّحاد متعلقهما لأن « بِمَا » متعلِّقٌ ب « الإتيان » ، و « به » متعلق ب « الوعد » ثم قالوا { إِن كُنتَ مِنَ المرسلين } وإنما قالوا ذلك؛ لأنَّهم كانوا مكذبين في كل ما أخبر عنه من الوَعْدِ والوَعِيدِ .
قوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة } قال الفراء والزجاج هي الزلزلة الشديدة يُقالُ رَجَفَتِ الأرْضُ تَرْجُفُ رَجْفاً وَرَجيفاً ورجفاناً قال تعالى : { يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال } [ المزمل : 14 ] .
وقال اللَّيثُ : الرَّجْفَةُ : الطَّامة التي يتزعزع لها الإنسان ويضطرب . ومنه قيل للبحر رجَّافٌ لاضطرابه .
وقيل : أصله مِنْ رَجفَ به البعيرُ إذا حركه في سيره ، كما يرجف الشجر إذا رجفه الريح .
قال ابن أبي ربيعة : [ الطويل ]
2508 - ولمَّا رَأيْتُ الحَجَّ قَدْ حَانَ وَقْتُهُ ... وَظَلَّتْ جِمَالُ الحَيِّ بالقَوْمِ تَرْجُفُ
والإرْجَافُ إيقاعُ الرَّجْفَةِ ، وجمعه الأرَاجِيفُ ، ومنه « الأراجِيفُ ملاقيحُ الفتنِ » .
وقوله : { تَرْجُفُ الراجفة } [ النازعات : 6 ] .
كقوله : { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا } [ الزلزلة : 1 ] .
ومنه [ الطويل ]
2509 - تُحْيِي العِظَامَ الرَّاجِفَاتِ مِنَ البِلَى ... فَلَيْسَ لِدَاءِ الرُّكْبَتَيْنِ طبِيبُ
قوله : { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } [ يعني في بلدهم ، كما يقال : دار الحرب ، ودار البزّازين ] .
الجثوم : اللُّصوق بالأرْضِ من جثوم الطَّائر والأرْنَبِ ، فإنَّهُ يلصق بطنه بالأرْضِ ، ومنه رجل جُثَمَةٌ وجثَّامَةٌ كناية عن النَّؤوم والكَسْلان ، وجثمانُ الإنسان شَخْصُه قاعداً وقال أبو عبيد : « الجُثُوم للنَّاس والطير كالبرول للإبل » وأنشد لجرير : [ الوافر ]
2510 - عَرَفْتُ المُنْتأى وعَرَفْتُ مِنْهَا ... مَطَايَا القِدْرِ كالْحِدَأ الجُثُومِ
قال الكَرْمَانِيّ : حيث ذُكِرَت الرجفة وُحدت الدَّار ، وحيث ذكرت الصيحة جُمِعَت الدار ، لأنَّ الصيحة كانت من السماء فبلوغها أكبر وأبلغ من الزلزلة ، فذكر كل واحد بالأليق [ به ] وقيل : في دارهم أي في بلدهم كما تقدَّم ، وقيل : المراد بها الجنس .
فصل في بيان فائدة موضع الفاء في الآية
الفاء في « فأخذتهم » للتَّعقيب ، وقوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة } يقتضي أنَّ الرَّجفة أخذتهم عقيب قولهم : { ائتنا بِمَا تَعِدُنَآ } وليس الأمر كذلك لقوله تعالى في آية أخرى : { تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [ هود : 65 ]
فالجوابُ : أنَّ أسباب الهلاك وجدت عقيب قولهم : { ائتنا بِمَا تَعِدُنَآ } ، وهو أنَّهم اصفرت وجوههم في اليوم الأوَّل ، واحمرّت في اليوم الثاني : واسودَّت في اليوم الثالث ، فكان ابتداء العذاب متعقباً قولهم .
ويمكن أن تكون عاطفة على الجملة من قوله : « فَأئْتِنَا » أيضاً وذلك على تَقْديرِ قرب زمان الهلاك من زمان طلبِ الإتيان . ويجوز أن يقدر ما يصحُّ العطف عليه بالفاءِ ، والتقديرُ : فوعدهم العذاب بعد ثلاث فانقضت فأخذتهم .
فصل في دحق شبهة للملاحدة .
لا يلتفت إلى ما ذكره بعض الملاحدةِ في قوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة } ، وفي موضع آخر { الصيحة } [ هود : 67 ] ، وفي موضع آخر { بالطاغية } [ الحاقة : 5 ] واعتقد ما لا يجوز من وجوب التناقض إذ لا منافاة بين ذلك فإن الرجفة مترتبة على الصَّيحة؛ لأنَّهُ لمَّا صيح بهم؛ رجفت قلوبهم فماتوا ، فَجَازَ أن يسند الإهلاكُ إلى كل منهما .
وأمّا « بالطَّاغية » فالباء للسببية ، والطَّاغية : الطغيان مصدر كالعاقبة ، ويقال للملك الجبَّار : طاغية ، والتّاء فيه كعلاَّمةٍ ونسَّابةٍ ، ففي أهلكوا بالطاغيَة ، أي : بطغيانهم كقوله :
{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ } [ الشمس : 11 ] .
قال أبو مسلم : « الطَّاغية : اسم لكلِّ ما تجاوز عن حدِّه سواء كان حيواناً أو غير حيوان : { إِنَّ الإنسان ليطغى } [ العلق : 6 ] ، وقال : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ } [ الشمس : 11 ] .
وقال غير الحيوان : { إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء } [ الحاقة : 11 ] أي : غلب وتجاوز عن الحدِّ .
فصل في شهود الناقة
قيل إنَّ القوم قد شاهدوا خُرُوج النَّاقةِ من الصخرة ، وذلك معجزة قاهرة تلجىء المكلف ، وأيضاً شاهدوا الماء الذي كان شرباً لكل أولئك الأقوام في أحد اليومين ، كان شَرباً لتلك النَّاقة الواحدة في اليَوْمِ الثَّانِي ، وذلك معجزة قَاهِرَةٌ تقرب الملك فمن الإلجاء .
وأيضاً إنَّ القوم لما نحروها توعدهم صالح بالعذابِ ، وشاهدوا صدقه على ما روي أنَّهم احمروا في اليوم الأوَّل ، واصفرُّوا في اليوم الثَّاني ، واسودُّوا في اليود الثالث ، مع مشاهدة تلك المعجزة العظيمة ، ثم شاهدوا علامات نُزول العذاب الشديد في آخر الأمر ، هل يحتمل أن يبقى العاقل مع هذه الأحوال مُصرّاً على كفره؟
فالجوابُ : أن يقال : إنَّهَم قبل مشاهدتهم تلك العلامات من نزول العذاب كانُوا يكذبون ، فلما نزلت بهم أول علامات العذاب وشاهدوها خرجوا عند ذلك عن حد التكليف فلم تكن توبتهم مَقْبُولَةً .
قوله : » فَأصْبَحُوا « يجوز أن تكون النَّاقصة و » جَاثِمينَ « خبرها و » في دَارِهِم « متعلّق به ، ولا يجوز أن يكثونَ الجارُّ خبراً و » جَاثِمِين « حال ، لعدم الفائدة بقولك : { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } ، وإن جاز الوجهان في قولك : أصبح زيد في الدَّار جالساً .
ويجوز أن تكون التامة ، أي : دخلوا في الصباح ، و » جَاثِمِينَ « حال ، والأول أظهر .
قوله : { فتولى عَنْهُمْ } .
قيل : إنه تولى عنهم بعد موتهم لقوله تعالى : { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ فتولى } و » الفاءُ « تقتضي التعقيب .
وقيل : تولّى عنهم قبل موتهم لقوله : { وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين } فدلَّ ذلك على كونهم أحياء من ثلاثة أوْجُهٍ :
[ الأول ] : قوله لهم » يَا قَوْم « ، والأموات لا يوصفون بالقوم ، لاشتقاق لفظ القوم من القيام ، وهو مفقود في حقِّ الميت .
والثاني : أنَّ هذه الكلمات خِطَاب معهم ، وخطاب الميت لا يجوز .
والثالث : قوله : { وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين } يقتضي كونهم بحيث تصحُّ حصول المحبّة فيهم .
ويمكن الجوابُ : بأنَّه قد يقولُ الرَّجلُ لصاحبه الميت ، وقد كان نصحه فلم يقبل النَّصيحة ، حتى ألقى نفسه في الهلاك : يا أخي منذ كم نصحتك فلم تقبل ، وكمن منعتك فلم تمتنع ، فكذا هاهنا .
وفائدتُهُ : إمّا لأن يسمعه الحيُّ فيعتبر به ، وينزجِر عن مثل تلك الطريقة ، وإما لإحراق قلبه بسبب تلك الواقعة ، فإذا ذكر ذلك الكلام فرَّجت تلك القضية من قلبه .
وذكروا جواباً آخر ، وهو أن صالحاً - عليه السلامُ - خاطبهم بعد كونهم » جَاثِمِينَ « ، كما خاطب نبينا - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - قتلى » بدر « .
فقيل : تتكلم مع هؤلاء الجيف؟ فقال : » مَا أنْتُمْ بأسْمَعَ مِنْهُم ، ولكنْ لا يَقْدِرُونَ على الجوابِ «
وقيل : في الآية تقديمٌ وتأخير ، تقديره : فتولَّى عنهم وقال : يا قَوْم لَقَدْ أبْلَغَتُكم رسالةَ ربِّي ، فأخذتهم الرجفة .
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)
قوله تعالى : { وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة } القصة . في نصب « لُوطاً » وجهان :
أحدهما : أنه منصوب ب « أرْسَلْنَا » الأوَّلِ ، و « إذ » ظرف الإرسال .
والثاني : أنَّهُ منصوبٌ بإضمار « اذْكُرْ » ، وفي العامل في الظرف حينئذ وجهان :
أحدهما - وهو قول الزمخشريِّ أنَّهُ بدلٌ من « لوطاً » قال : « بمعنى : واذكر وقت إذ قال لقومه » وهذا على تسليم تصرف « إذ » .
والثاني : أنَّ العامل فيها مُقَدَّرٌ تقديره : « واذْكُرْ رسالةَ لُوط إذْ قَالَ » ف « إذ » مصوبة ب « رسالة » . قاله أبُو البقاء ، والبدل حينئذٍ بدل اشتمال .
وصرّف نوح ولوط لخفَّتِه ، فإنَّهُ ساكنُ الوسط ، مركب من ثلاثة أحرف .
، لُطْتُ الحوض إذا ملسته بالطين ، وهذا غلط؛ لأنَّ الأسماء الأعجميّة لا تشتق كإسْحَاق ، فلا يقال : إنه من السُّحق وهو البعد؛ وإنَّمَا صرف لخفته؛ لأنَّه على ثلاثة أحْرُف ساكن الوسط ، فأمَّا لطتُ الحوضَ ، وهذا أليط فصحيح ، ولكن الاسم أعجميّ كإبراهيم وإسحاق .
وهو : لوطُ بْنُ هَاران بْنِ تَارخ ابْنِ أخير إبراهيم ، كان في أرض بابل مع عمه إبراهيم ، ، فهاجر إلى الشَّام ، فنزل إبراهيمُ إلى فلسطين ، وأنزل لوطاً الأردن ، فأرسله اللَّهُ عز وجل إلى أهل سَدُوم .
قوله : « أتأتُونَ الفَاحِشَة » أتفعلون السيئة المتناهية في القبح ، وذكرها باسم الفاحشة ليبين أنَّها زنا لقوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } [ الإسراء : 32 ] .
{ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين } في هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنَّهَا مستأنفة لا محلَّ لها من الإعرابِ ، وعلى الاستئناف يحتمل أن تكون جواباً لسؤال وألا تكون جواباً .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : « فإن قلت : ما موقع هذه الجملة » ؟
قلت : لا مَحَلَّ لها لأنَّها مُسْتَأنفة ، أنكر عليهم أوّلاً بقوله : « أتَأتُونَ الفَاحِشَةَ » ثُمَّ وبخهم عليها فقال : أنتم أوَّلُ من عملها . أو تكون جواباً لسؤال مقدَّر ، كأنَّهُم قالوا : لِمَ لا تأتيها؟ فقال : « ما سبقكم بها أحَدٌ؛ فلا تفعلوا ما لم تُسْبَقُوا به » وعلى هذا فتكون صفة للفاحشة ، كقوله تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار } [ يس : 37 ] وقال الشَّاعِر : [ الكامل ]
2511- وَلَقَدْ أمُرُّ على اللَّئِيم يَسُبُّني .. . . .
والباء في « بِهَا » فيها وجهان :
أظهرهما أنها حالية ، أي : ما سبقكم أحدٌ مصاحباً لها أي : ملتبساً بها .
والثاني : أنَّها للتعدية .
قال الزمخشريُّ : الباءُ للتعدية من قولك : « سَبَقْته بالكُرة » إذا ضربتها قبله . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : « سَبَقَكَ بها عُكَّاشَةُ » .
قال أبو حيان : « والتّعدية هنا قلقة جداً؛ لأنَّ » الباء « المعدِّية في الفعل المتعدي لواحد [ هي ] بجعل المفعولِ الأوَّلِ يفعل ذلك الفعل بما دخلت عليه الباء فهي كالهمزة ، وبيان ذلك أنَّك إذا قلت : » صَكَكْتُ الحجرَ بالحَجر « كان معناه : أصْكَكْت الحجرَ بالحجر أي : جَعَلْت الحجر يَصُكُّ الحجر ، فكذلك : دفعت زيداً بعمرو عن خالد ، معناه : أدْفَعْتُ زيداً عمراً عن خالد أي جعلت زيداً يدفع عمراً عن خالد فللمفعول الأوَّل تأثير في الثَّاني ولا يصحُّ هذا المعنى هنا؛ إذْ لا يصحُّ أن يقدَّر : أسْبَقْتُ زيداً الكرة أي : جعلت زَيْداً يسبق الكَرَةَ غلا بمجاز متكلَّف ، وهو أن تجعل ضربك للكرةِ أول جَعْل ضربة قد سقبها أي : تقدَّمها في الزمان فلم يجتمعا » .
و « مِنْ » الأولى لتأكيد استغراق النفي والثانية للتبعيض .
والوجه الثاني من وجهي الجملة : أنَّها حال ، وفي صاحبها وجهان :
والثاني : هو المفعول أي : أتأتونها مُبْتَدَأ بها غير مسبوقة من غيركم .
قال عمرو بن دينار : « ما يراد ذكر على ذكر في الدُّنيا حتى كان قوم لوط » .
قوله : « أإنَّكُمْ » قرأ نافعٌ وحفصٌ عن عاصم : « إنكم » على الخبر المستأنف ، وهو بيان تلك الفاحشة ، وقرأ الباقون بالاستفهام المقتضي للتّوبيخ ، فقرأ ابنُ كثير بهمة غير ممدودة وتليين الثَّانية ، وقرأ أبُوا عمرو بهمزة ممدودة للتّخفيف وتليين الثانية ، والباقون بهمزتين على الأصل .
قال الواحديُّ : « كان هذا استفهاماً معناه الإنكار لقوله تعالى : » أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ « ، وكلُّ واحد من الاستفهامين جملة مستقلة غير محتاجة في تمامها إلى شيء آخر » .
قوله : { لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً } قيل : نصب « شَهْوَةٍ » على أنه مفعول من أجله ، أي : لأجل الاشتِهَاءِ لا حامل لكم عليه إلاَّ مجرّد الشَّهوة لا غير .
وقيل : إنَّها مصدر واقعٌ موقع الحال ، أي : مشتهين أو باق على مصدريَّته ، ناصبة « أتَأتُونَ » ؛ لأنَّهُ بمعنى أتشتهون .
ويقال : شَهِيَ يَشْهَى شَهْوَةً ، [ وشَهَا يَشْهُو شَهْوَةٍ ] قال الشَّاعر : [ الطويل ]
2512 - وَأشْعَثَ يَشْهَى النَّوْمَ قُلْتُ لَهُ : ارْتَحِلْ ... إذَا مَا النُّجُومُ أعْرَضَتْ واسْبَكَرَّتِ
وقد تقدَّم ذلك في آل عمران .
قوله : { مِّن دُونِ النسآء } فيه ثلاثةُ أوْجُهٍ :
أحدها : أنَّهُ متعلق بمحذوف ، لأنَّهُ حال من « الرِّجالِ » أي : أتأتونهم منفردين عن النِّساء .
والثاني : أنَّهُ متعلِّق ب « شَهْوَة » ، قاله الحوفيُّ . وليس بظاهر أن تقول : « اشتهيتُ من كذا » ، إلاَّ بمعنى غير لائق هنا .
والثالث : أن يكُون صفة ل « شهوة » أي : شهوة كَائِنَة من دونهن .
قوله : { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } « بل » للإضراب ، والمشهور أنهُ إضراب انتقالٍ من قصّة إلى قصّة ، فقيل : عن مذكور ، وهو الإخبار بتجاوزهم عن الحدِّ في هذه الفاحشة ، أو عن توبيخهم وتقريرهم ، والإنكار عليهم .
وقيل : بل للإضراب عن شيء مَحْذُوفٍ . واختف فيه :
فقال أبُو البقاء : « تقديرُهُ : ما عَدَلْتُم بل أنتم » .
وقال الكَرْمَانيُّ : « بل » ردٌّ لجواب زعموا أن يكون لهم عذراً أي : « لا عذر لكم بل » .
وجاء هان بصفة القوم اسم الفاعل وهو « مُسْرِفُونَ » ؛ لأنَّهُ أدلُّ على الثُّبوت ولموافقة رءوس الآي؛ فإنَّهَأ أسماء .
وجاء في النمل [ 55 ] { تَجْهَلُونَ } دلالة على أنَّ جهلهم يتجدد كل وقت ولموافقة رءوس الآي فإنها أفعال .
فصل في الإسراف
معنى « مُسْرِفُونَ » أي : يتجاوزون الحلال إلى الحَرَامِ .
قال الحسنُ : « كانوا لا ينكحون إلا الغرباء » .
وقال الكلبيُّ : « إنَّ أوَّل من عملَ عملَ قوم لوط إبليس؛ لأنَّ بلادهم أخُصَبَتْ فانتجعها أهلُ البلدان ، فتمثل لهم إبليس في صورة شابّ ، ثم دعى إلى دُبرِهِ فنكح في دبره ، فأمر الله - تعالى - السَّماءَ أن تحصبهم ، والأرض أن تخسف بهم .
وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)
قوله : { وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ } العامَة على نصب « جَوَابَ » خبراً للكون ، والاسمُ « أن » وما في حيِّزِهَا وهو الأفصح؛ إذ فيه جعل الأعرف اسماً .
وقرأ الحسن « جوابُ » بالرَّفع ، وهو اسمها ، والخبر « إلاَّ أن قالُوا » وقد تقدَّم ذلك .
وأتى هنا بقوله « ومَا » ، وفي النّمل [ 56 ] والعنكبوت [ 24 ] « فَمَا » ، والفاء هي الأصل في هذا الباب؛ لأنَّ المراد أنَّهُم لم يتأخر جوابهم عن نصيحته ، وأما الواو فالعتقيب أحدُ محاملها ، فتعيَّن هنا أنَّها للتعقيب لأمرٍ خارجي وهي العربية في السّورتين المذكورتين لأنَّها اقتضت ذلك بوضعها .
قوله : { أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } أي : أخرجوا لوطاً وأتباعه . { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } أي : يتنزهون عن أدبار الرِّجالِ .
وقيل : « يَتَطَهَّرونَ » أي : يتنزهون عن أدبار الرِّجالِ .
وقيل : « يَتَطَهَّرونَ » يتباعَدُنَ عن المعاصي والآثام .
وقيل : « يَتَطَهَّرُونَ » أي على سبيل السخرية بهم ، كما يقول بعض الفسقة لمن وعظة من الصلحاء : أبْعِدُوا عنَّا هذا المتقشّفَ ، وأريحونا من هذا المتزهِّدِ .
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83)
المراد ب « أهله » : أنصاره وأتباعه .
وقال ابن عباس : « المراد : النتاه » وقوله : « إلا امْرَأتَهُ » أي : زوجتهُ ، يقال : امرأةُ الرَّجل أي زوجته ويقال : رجل المرأة بمعنى زوجها؛ لأنَّ الزوج بمنزلة المالك لها ، وليست المرأة بمنزلة المالك للرّجل .
وقوله : « مِنَ الغَابِرِينَ » يعني الباقين في العذاب .
وقيل : من الباقين المعمّرين قد أتى عليها دَهْرٌ طويل فهلكت ، فهي مع من هلك .
يقال : غبر الشيء يغبرغبوراً إذا مكث وبقي .
وقوله : { كَانَتْ مِنَ الغابرين } جواب سؤال مقدَّر ، وهذا كما تقد في البقرة ، وفي أوَّل هذه السُّورة في قصة « إبليس » .
والغابر : المقيم وهذا [ هو ] مشهور اللُّغة ، وأنشدوا قول بي ذُؤَيْبٍ الهذلي : [ الكامل ]
2513 - فَغَبَرْتُ بَعْدَهُمُ بِعَيْشٍ نَاصِبٍ ... وإخَالُ أنِّي لاحِقٌ مُسْتَتْبَعُ
ومنه غُبَّرُ اللبن لبقيته في الضَّرْع ، وغُبَّرُ الحَيْض أيضاً ، قال أبو كبير الهُذَلِيُّ ، ويروى لتأبَّط شَرّاً : [ الكامل ]
2514 - ومُبَرَّأ مِنْ كُلِّ غُبَّرِ حَيْضَةٍ ... وَفَسَادِ مُرْضِعَةٍ وَدَاءٍ مُعْضِلِ
ومعنى « مِنَ الغَابِرِينَ » في الآية أي : من المقيمن في الهلاكِ .
وقال بعضهم : « غبر بمعنى مضى وذهب » ومعنى الآية يساعده؛ وأنشد للأعشى : [ السريع ]
2515 - عَضَّ بِمَا أبْقَى المَوَاسِي لَهُ ... مِنْ أمِّهِ فِي الزَّمَنِ الغَابِرِ
أي : الزمان الماضي .
وقال بعضهم : غَبَرَ : أي غاب ، ومنه قولهم : « غَبَر عَنَّا زماناً » .
وقال أبُو عبيدة : « غبر : عُمِّر دَهْراً طويلاً حتّى هَرِمَ » ، ويدلُّ له : { إِلاَّ عَجُوزاً فِي الغابرين } [ الصافات : 135 ] .
وقد تقدَّم . والحاصل أنَّ الغبور مشتركٌ ك « عَسْعَسَ » ، أو حقيقة ومجازٌ وهو المرجح . والغبارُ : ما يبقى من التُّراب المُثَارِ ومنه : { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ } [ عبس : 40 ] .
تخييلاً لتغيرها واسودادها والغَبْراء : الأرْضُ؛ قال طرفةُ : [ الطويل ]
2516 - رَأيْتُ بَنِي غَبْرَاءَ لا يُنْكِرُونَنِي ... وَلاَ أهْلُ هَذَاكَ الطِّرَافِ المُمَدَّدِ
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
قوله : « وأمْطَرْنَا » قال أبو عُبَيْدٍ : « يقال : مُطِر في الرحمة ، وأمْطِر في العذاب » .
وقال [ أبو القاسم ] الرَّاغِبُ : ويقال : مطر في الخير ، وأمطر في العذاب ، قال تعالى : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً } [ الحجر : 74 ] .
وهذا مردود بقوله تعالى : { هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } [ الأحقاف : 24 ] فإنهم إنَّما عنوا بذلك الرحمة ، وهو من أمْطَرَ : وأمْطرتهم ، وقوله تعالى هنا : « وأمْطَرْنا » ضُمِّن معنى « أرْسَلْنَا » ولذلك عُدِّي ب « عَلَى » ، وعلى هذا ف « مَطَراً » مفعولٌ به لأنَّهُ يُراد به الحجارة ، ولا يُرَادُ به المصدر أصلاً ، إذ لو كان كذلك لقيل : أمطار .
ويوم مَطِيرٌ : أي : مَمْطُورٌ . ويوم ماطر ومُمْطِرٌ على المجاز كقوله : { فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } [ إبراهيم : 18 ] ، ووادٍ مطير فقط فلم يُتَجَوَّزْ فيه ومطير بمعنى مُمْطِر؛ قال : [ الطويل ]
2517 - حَمَامَةَ بَطْنِ الوَاديَيْنِ تَرَنَّمِي ... سَقَاكِ من الغُرِّ الغَوَادِي مَطِيرُهَا
فعيل هنا بمعنى فاعل؛ لأنَّ السَّحاب يمطرُ غيرها ، ونكَّر « مطراً » تعظيماً ، والمرادُ بالمطر هنا يعني حجارة من سجيل .
قال وهب : « هي الكبريت والنَّار فانظر كَيْفَ كان عاقِبةُ المجرمين » .
فصل في إيجاب اللواط الحد
اللِّوَاط يوجب الحد ، وهذه الآية تدلُّ عليه من وجوه :
الأول : أنَّهُ ثبت في شريعةِ لُوطٍ رجم اللوطيّ ، والأصل بقاء ما ثبت إلى أنْ يرد الناسخ ، ولم يرد في شرع مُحَمَّدٍ - عليه الصلاة والسلام - ما ينسخه ، فوجب الحكم ببقائه .
الثاني : قوله تعالى : { أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده } [ الأنعام : 90 ] .
الثالث : قوله تعالى : { فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين } .
والمرادُ من هذه العاقبة ما سبق ذكر من إنْزالِ الحجر عليهم من المجرمين الذين يعملون عمل قوم لوط؛ لأنَّ ذلك هو المدلول السابق ، فينصرف إليه ذكر الحكم عقيب الوَصْفِ مشعراً بالعليَّة .
وقال أبو حنيفة : « اللَّوَاطُ لا يوجب الحدَّ » .
واختلفوا في حدّ اللاَّئط : فقال بعضهم : « يُرجم مُحْصَناً كان ، أو غير محصن ، وكذلك المفعول به إن كان محتلماً » .
وقال بعضهم : « إنْ كان محصناً رجم ، وإن كان غير محصن أدّب وحبس » .
وقال أبو حنيفة : يُعزَّر ، [ وحجة الجمهور أن الله تعالى ] عذب قوم لوط بالرجم وقال عليه الصَّلاة والسَّلامُ : « مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَل عَمَلَ قَوْمِ لوطٍ فاقْتُلُوا الفاعلَ والمَفْعُولَ بِهِ »
وروي عن أبي بكر الصديق أنَّهُ حَرَّقَ رجُلاً يُسَمّى الفُجَاءَة حين عمل عمل قوم لوط بالنَّار ، وأحرقهم ابن الزُّبير في زمانه ، ثم أحرقهم هِشامُ بنُ الوليدِ ، ثم أحرقهم خالد القَسْريُّ ب « العراق » .
وروي أن سبعة أخذوا في زمان ابن الزُّبير في لواط ، فسألَ عنهم ، فوجد أرْبَعةً منهم أحصنوا ، فخرج بهم من الحرم ، فرُجموا بالحجارة حتى ماتوا ، وحد الثلاثة ، وعنده ابن عباس وابن عمر فلم ينكرا ، وهذا مذهب الشافعي .
قال ابن العربيِّ : الأوَّلُ أصحُّ سنداً وهو مذهب مالك .
فإن أتى البهيمة قيل : يقتل هو والبهيمة .
وقيل : يقتل دون البهيمة .
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)
قوله تعالى : { وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } القصة .
اختلف في « مَدْيَنَ » : فقيل : أعجميٌّ ، فمنعه للعُجْمَةِ والعلمية ، وهو مدين بن إبراهيم - عليه السلام - فسُمِّيت به القبيلة .
وقيل : هو عربيٌّ اسم بلد ، قاله الفرَّاءُ ، وأنشد : [ الكامل ]
2518 - رُهْبَانُ مَدْيَنَ والَّذينَ عَهِدْتُهُمْ ... يَبْكُونَ مِنْ حَذَرِ العَذَابِ قُعُودَا
لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ كَلامَهَا خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعاً وسُجُودَا
فمنعهُ للعَلِميَّة والتَّأنيث .
ولا بدّ حينئذ من حذف مضاف ، أي : وإلى أهل مدين ، ولذلك أعاد الضَّمير في قوله : « أخَاهُم » على الأهل ، ويجوز أن يراد بالمكان سَاكِنُوه ، فروعي ذلك بالنِّسْبَةِ إلى عود الضمير عليه وعلى تقدير كونه عربياً قالوا : فهو شاذ ، إذ كان من حقِّه الإعلال كمتاع ومقام ، ولكنهم شذُّوا فيه كما شذوا في مَرْيم ومَكْوذَة ، وليس بشاذٍ عند المبرِّد ، لعدم جَرَيَانِهِ على الفعل ، وهو حقٌّ وإن كان الجمهور على خلافه .
قوله : « شُعَيْباً » يجوز أن يكون تصغير شَعْب أو شِعْب هكذا قالوا ، والأدبُ ألاَّ يقالَ ذلك ، بل هذا موضوضعٌ على هذه الزِّنَةِ ، وأمَّا أسماءُ الأنْبِيَاءِ فلا يدخلُ فيها تصغيرٌ ألْبَتَّةَ ، إلا ما نطق به القرآن على صيغة تشبهه كشُعَيْب عليه السلام ، وهو عربي لا أعجمي .
فصل
قال عطاء : « هو شعيبُ بْنُ نويب بنِ مَدْينَ بنِ إبراهيمَ » .
وقال ابْنُ إسحاقَ : « هو شُعَيْبُ بْنُ ميكيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم ، وأم ميكائيل بنت لوط » .
وقيل : هو شُعَيْبُ بنُ ميرون بن مدْينَ ، وكان شعيب أعمى ، ويقال له : « خِطِيبُ الأنْبِيَاء » لحسن مراجعته قومه وكان أهل كفر وبخس للكَيْلِ والميزان ، وهم أصحاب الأيكة .
{ قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ } وهذا أصل معتبر في شرائع جميع الأنبياء .
{ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } واعلم أنَّ المراد من البيِّنَةِ هنا المعجزة ، ولم تذكر في القرآن . كما لم يذكر في القرآن كثير من مُعْجِزاتِ رسُولِنَا .
قال الزمخشريُّ : « ومن معجزات شعيب أنَّهُ دفع إلى موسى عصاه وصارت ثعباناً ، وأيضاً قال لموسى - عليه [ الصلاة ] والسلام - : هذه الأغنام تلد أوْلاداً فيها سواد وبياض ، وقد وهبتها لك ، فكان الأمر كذلك » .
قوله : { فَأَوْفُواْ الكيل والميزان } .
اعلم أنَّ قوم شُعَيْبٍ كانوا مشغوفين بالبَخْسِ والتَّطْفيف .
فإن قيل : « الفاء » في قوله : « فأوفوا » توجب أن يكون الأمر بإيفاء الكيل كالتعليل لما سبق ذكره ، وهو قوله : { قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } فكيف وجهه؟
فالجوابُ : كأنَّهُ يقول لهم : البخس والتطفيف عبارة عن الخيانة بالشَّيءِ القليل ، وهو مستقبح في العقل ، ومع ذلك فقد جاءت البينة والشريعة بتحريمه فلم يبق فيه عذر « فَأْفُوا الكَيْلَ » .
وقال هنا : « الكَيْلَ » ولم يقل : « المِكْيَالَ » كما في سورة هود [ 84 ] ؛ لأنَّهُ أراد بالكيل آلة الكيل وهو المكيال ، أو يسمى ما يكال به الكيل كما يقال : « العيش » لما يعاش به .
قوله : { وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ } قد تقدّم معنى هذه اللفظة في قوله : { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } [ البقرة : 282 ] ، وهو يتعدّى لاثنين ، وهما « النَّاس » و « أشياءهم » ، أي : لا تنقصوهم أشياءهم ولا يظلموهم ، ويدخلُ فيه المَنْعُ من الغَصْبِ ، والسرقة والرشوة ، وقطع الطريق ، وانتزاع الأموال بطريق الحيل .
قوله : { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } .
وذلك أنَّهُ لما كان أخذُ أموال النَّاس بغير رضاهم يوجب المُنازَعَة والخصومة ، وهما يوجبان الفَسَادَ ، لا جَرَمَ قال بعده : { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } .
وقيل : أراد المَنْعَ من كلِّ فسادٍ .
وقيل : أراد بقوله : { وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ } المنع من فساد الدُّنيا ، وبقوله : { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض } المنع من فساد الدِّين .
واختلفوا في معنى « بَعْدَ إصْلاحِهَا » : فقيل : بعد أن صلحت ببعثة الرسل .
وقيل : بعد أن أصلحها بتكثير النّعَمِ .
ثم قال : « ذَلِكُمْ » وهو إشارةٌ إلى ما تقدَّم من الأمر والنهي « خَيْرٌ لَّكُمْ » في الآخرة { إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } مصدِّقين بما أقول .
وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)
يجوز أن تكون « الباء » على حالها من الإلصاق أو المصاحبة ، أو تكون بمعنى « في » يقال : قَعَدَ لَهُ كذا ، وعلى مكان كذا ، وفي مكان كذا ، فتتعاقب هذه الحروف في هذا الموضع لتقارب معانيها ، فقعد بمكان : الباء للغلصاق ، وقد التصق بذلك المكان ، و « على » للاستعلاء ، وقد علا ذلك المكان ، و « في » للحلول ، وقد حلّ ذلك المكان .
و « تُوعَدُونَ » ، و « تَصُدُّون » ، و « تَبْغُونَ » هذه الجمل أحوال [ أي ] : لا تَقْعُدُوا مُوْعدين وصادِّين وباغين .
ولم يذكر الزعد له لِتَذْهَبَ النَّفسُ كلَّ مذهبٍ : ومفعول « تصدُّون » « مَنْ آمَن » .
قال أبُو البقاء : « مَنْ آمَنَ » مفعول « تَصُدُّونَ » لا مفعول « تُوعدُونَ » ، إذْ لو كان مفعولاً للأوَّل لقال : « تَصُدُّونَهُم » ، يعني أنَّه لو كان كذلك لكانت المسألة من التَّنازع ، وإذا كانت من التنازع وأعْمَلْتَ الأولَ لأضْمَرْتَ في الثاني فكنت تقول : « تَصُدُّونهم » لكنه ليس القرآن كذا ، فدل على أن « تُوعَدُونَ » ليس عاملاً فيه ، وكلامُه يحتمل أنْ تكون المسألة من التَّنازع - يكون ذلك على إعمال الثاني ، وهو مختار البصريين وحذف من الأوَّل - وألاَّ تكون وهو الظَّاهِر .
وظاهرُ كلام الزمخشري : أنَّهَا من التَّنَازُع ، وأنَّهُ من أعمال الأوَّل ، فإنَّهُ قال : فإن قلت : إلاَمَ يَرْجِعُ الضَّميرُ في « من آمَنَ بِهِ » ؟
قلتُ : إلى كلِّ صراطٍ ، تقديره : تُوْعِدون من آمن به وتَصُدُّون عنه ، فوضعَ الظَّاهِر الذي هو « سبيل الله » موضع المضمر زيادة في تقبيح أمرهم .
قال أبو حيَّان : « وهذا تعسُّف وتكلُّفٌ مع عدم الاحتياج إلى تقديم وتأخير ، ووضع ظاهر موضع مضمر ، إذ الأصل خلاف ذلك كُلَّهِ ، ولا ضرورة تَدْعُوا إليه ، وأيضاً فإنَّهُ من أعمال الأوَّل وهو مذهب مَرْجُوحٌ ، ولو كان من إعمال الأوَّلِ لأضمر في الثاني وُجُوباً ، ولا يجوز حذفهُ إلا في ضرورة شعرٍ عند بعضهم [ كقوله ] : [ مجزوء الكامل ]
2519 - بِعُكَاظَ يُعْشِي النَّاظِري ... نَ إذَا هُمُ لَمَحُوا شُعَاعَهْ
فأعمل » يُغشي « ورفع به » شُعَاعه « وحذفَ الضمير من » لَمَحُوا « تقديره : لمحوه ، وأجازه بعضهم بقلةٍ في غير الشِّعْرِ .
والضَّمير في » به « : إمَّا لكل صراط كما تقدَّم عن الزمخشريِّ ، وإمَّا على الله للعلم به ، وإمَّا على سبيل الله ، وجاز ذلك؛ لأنَّهُ يذكَّر ويُؤنَّثُ ، وعلى هذا فقد جمع بين الاستعمالين هنا حيث قال : » به « فذكَّر ، وقال : » وتَبْغُونها عِوَجاً « فأنَّث ، ومثله : { قُلْ هذه سبيلي } [ يوسف : 108 ] [ وقد تقدَّم ] نحو قوله : { تَبْغُونَهَا عِوَجاً } [ آل عمران : 99 ] في آل عمران .
ومعنى الآية أنَّهُم كانوا يجلسون على الطَّريق فيقولون لمن يريدُ الإيمانَ بشُعَيْبٍ : إنَّ شُعَيْباً كذاب فلا يفتننَّك عن دينك ، ويتوعدون المؤمنين بالقَتْل ، ويخوفونهم .
قال الزمخشريُّ : قوله : { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ } أي : ولا تقتدوا بالشَّيْطان في قوله : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم } [ الأعراف : 16 ] قال : والمرادُ من قوله : « صِرَاطٍ » كلُّ ما كان من مناهج الدِّين ويدلُّ عليه قوله : { وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } .
قوله : « وَاذْكُرُوا » إمَّا أن يكون مفعوله محذوفاً ، فيكون هذا الظَّرف معمولاً لذلك المفعول أي : اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عليكم في ذلك الوقت ، وإمَّا أن يجعل نفس الظرف مفعولاً به . قاله الزمخشريُّ .
وقال ابن عطية : « إنّ » الهاء « في » به « يجوز أن تعود على شعيب عند مَنْ يرى أنَّ القُعُودَ على الطرق للردِّ عن شعيب ، وهو بعيد؛ لأن القائل : » ولا تقعدوا « هو شعيب ، وحينئذ كان التركيب » مَنْ آمَنَ بِي « ، والادِّعَاءُ بأنَّهُ من باب الالتفات بعيد جداً؛ إذ لا يَحْسُن أن يُقال : » [ يا ] هذا أنا أقول لك لا تُهِنْ مَنْ أكرَمَه « أي : مَنْ أكرمني .
قوله : { إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ } .
قل الزَّجَّاج : » هذا الكلام يحتمل ثلاث أوجه : كثر عددكم بعد القلّة ، وكثركم بالغنى بعد الفقر ، وكثركم بالقوة بعد الضعف « قال السدي : » كانوا عشارين « .
[ قوله ] : { وانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين } .
» كيف « وما في حيِّزها معلِّقة للنظر عن العمل ، فهي وما بعدها في محل نصب على إسقاط الخافض .
والنظرُ هنا التفكُّرُ ، و » كيف « خبر كان ، واجب التقديم .
والمعنى : انظر كيف كان عاقبة المفسدين أي : جزاء قوم لوط من الخزي والنكار وعذاب الاستئصال .
وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)
قوله : { وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مَّنكُمْ آمَنُواْ بالذي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ } أي : اختلفتم في رسالتي فصرتم فرقتين مؤمنين ومكذبين ، و « طائفة » الثانية عطف على « طائفة » الأولى فهي اسم كان و « لم يؤمنوا » معطوف على « آمنوا » الذي هو خبر كان ، عَطَفَتْ اسماً على اسم ، وخبراً على خبر ، ومثله لو قلت : « كان عبد الله ذاهباً وبكر خارجاً » ، عطفْتَ المرفوع على مثله ، وكذلك المنصوب ، وقد حذف وصف طائفة الثانية لدلالة وصف الأولى عليه ، إذ التقدير : « طائفة منكم لم يؤمنوا » ، وحذف أيضاً متعلق الإيمان في الثانية ، لدلالة الأولى عليه ، إذ التقديرك لم يؤمنوا بالذي أُرسلت به ، والوصف بقوله : منكم الظاهر أو المقّر هو الذي سَوغ وقوع « طائفة » اسماً ل « كان » من حيث أن الاسم في هذا الباب كالمتبدأ ، والمبتدأ لا يكون نكرة إلا بمسوّغٍ تقدم التنبيه عليه .
قوله « فَاصْبِرُوا » يجوز أن يكون الضمير للمؤمنين من قومه ، وأن يكون للكافرين منهم ، وأن يكون للفريقين ، وهذا هو الظاهر أَمَرَ المؤمنين بالصبر ليحصُل لهم الظفر والغلبة ، والكافرون مأمورون به ليَنْصُرَ الله عليهم المؤمنين لقوله : { قُلْ تَرَبَّصُواْ } [ الطور : 31 ] ، أو على سبيل التنازل معهم أي : اصبروا فستعلمونَ مَنْ ينتصر ومن يَغْلب مع علمه بأن الغلبة له و « حتى » بمعنى « إلى » فقط .
وقوله « بيننا » غَلَّب ضمير المتكلم على المخاطب ، إذ المرادُ بيننا جميعاً من مؤمن وكافر ، ولا حاجة إلى ادِّعاء حذف معطوف تقديره : بيننا وبينكم . ثم قال : { وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين } أي : أنه حاكم منزه عن الجور والميل والحيف .
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)
قوله تعالى : { قَالَ الملأ الذين استكبروا } هم الرؤساء { لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب } ونخرج أتباعك من قريتنا .
وقوله : { والذين آمَنُواْ } عطف على الكاف ، و « يا شعيبُ » اعتراض بين المتعاطفين .
قوله : { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } عطف على جواب القسم ، إذ التقدير : والله لنخرجنَّكَ والمؤمنين أو لتعودُنَّ ، فالعَوْدُ مُسند إلى ضمير النبي ومَنْ آمن معه .
فإن قيل : إن شعيباً لم يكن قطّ على دينهم ولا ملتهم ، فكيف يحسن أن يقال : « أو لتعودن في ملتنا » ، وقوله : { قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِباً } يدل أيضاً على ذلك؟ .
فالجواب : إن « عاد » في لسان العرب لها استعمالان .
أحدهما - وهو الأصل - أنه الرجوع إلى ما كان عليه من الحال الأول .
والثاني : استعمالُها بمعنى « صار » ، وحينئذ ترفعُ الاسم وتنصبُ الخبرَ ، فلا تكتفي بمرفوع وتفتقر إلى منصوب ، [ وهذا عند بعضهم ] ومنهم من منع أن تكون بمعنى « صار » فمن مجيئها بمعنى « صار » قوله : [ الطويل ]
2520 - وَرَبَّيْتُهُ حَتَّى إذَا ما تَرَكْتُهُ ... أخَا القَومِ واسْتَغْنَى عَنِ المَسْحِ شَارِبُهَ
وَبِالْمَحْضَ حَتَّى عَادَ جَعْداً عَنَطْنَطاً ... إذَا قَامَ سَاوَى غَارِبَ الفَحْلِ غَارِبُهْ
فرفع ب « عاد » ضمير الأول ونصب بها « جَعْداً » ، ومَنْ مَنَع ذلك يَجْعل المنصوب حالاً قال : [ الطويل ]
2521 - فَإنْ تَكُنْ الأيَّامُ أحْسَنَ مُدَّةً ... إليَّ فَقَدْ عَادَتْ لَهُنَّْ ذُنُوبُ
أي : صار لهن ذنوب ، ولم يرد أن ذنوباً كانت لهن قبل الإحسان ، وعلى هذا فزال الإشكال ، والمعنى : لتصرينّ في ملتنا بعد أن لم تكونوا ، ف « في ملتنا » خبر على هذا وأمّا على الأول فالجواب من وجوه :
أحدها : أن هذا القول من رؤسائهم ، قصدوا به التلبيس على العوام ، والإيهام لهم أنه كان على دينهم وفي مِلَّتِهِمْ .
الثاني : أنهم خاطبوا شعيباً بخطاب أتباعه ، وأجروا عليه أحكامهم .
الثالث : أن يُراد بعَوْده رجوعُه إلى حالة سكوته قبل بعثته؛ لأنه قبل أن يبعث إليهم كان يُخْفي إيمانه ، وهو ساكت عنهم بريء مِنْ معبودهم غير الله .
وعدَّى « عاد » ب « في » الظرفية ، كأن المِلَّة لهم بمنزلةِ الوعاءِ المحيط بهم .
قوله : { أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } الاستفهامُ للإنكار تقديره : أيوجدُ منكم أحد هذين الشيئين : أعني الإخراج من القرية ، والعَوْد في الملة على كل حال حتى في حال كراهتنا لذلك؟ .
وقال الزمخشري : « الهمزةُ للاستفهام ، والواوُ واو الحال تقديره : أتعيدوننا في ملَّتكم في حال كراهتنا » .
قال أبو حيان : « وليست هذه واو الحال ، بل واو العطف ، عطفت هذه الحال على حال محذوفة ، كقوله - عليه الصلاة والسلام - : » رُدُّوا الساَّئِلَ ولَوْ بِظلْفٍ مُحرقٍ «
ليس المعنى : رُدُّوه حال الصدقة عليه بظلف مُحرق ، بل معناه : رُدُّوه مصحوباً بالصدقة ولو مصحوباً بظلفٍ محرق ، وقد تقدّمت هذه المسألة ، وأنه يصح أن تُسمَّى واو الحال وواو العطف [ وتحرير ذلك ، ولولا تكريره لما كرَّرْته ] .
وقال أبو البقاء : و « لو » هنا بمعنى « إنْ » لأنها للمستقبل ، ويجوز أن تكون على أصلها ، ويكون المعنى : لو كنا كارهين في هذا الحال أي أن كنا كارهين لذلك فتجبروننا عليه .
وقوله : « لأنها للمستقبل » ممنوع .
قوله : « إنْ عُدْنَا » شرط جوابه محذوف عند الجمهور أي : فقد افترينا ، حذف لدلالة ما تقدم عليه ، وعند أب زيد والمبرد والكوفيين هو قوله : « فقد افتَرْينا » وهو مردود بأنه لو كان جواباً بنفسه لوَجَبَتْ فيه الفاء .
وقال أبو البقاء : « قد افترينا بمعنى المستقبل؛ لأنه لم يقع ، وإنما سَدَّ مَسَدَّ جواب » إنْ عُدْنا « وساغ دخولُ » قد « هنا لأنهم نَزَّلوا الافتراء عند العود منزلة الواقع فقرنوه ب » قد « ، وكأنَّ المعنى : قد افترَيْناه الآن إن هَمَمْنا بالعود » .
وفي هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنها استئناف إخبار فيه معنى التعجب ، قاله الزمخشري ، كأنه قيل : ما أكذبنا على الله إن عُدْنا في الكفر .
والثاني : أنها جواب قسم محذوف حذفت اللام منه ، والتقدير : والله لقد افترينا ، ذكره الزمخشري أيضاً ، وجعله ابن عطية احتمالاً وأنشد : [ الكامل ]
2522 - بَقَّيْتُ مَالِي وانْحَرَفْتُ عَنِ العُلَى ... وَلَقِيتُ أضْيَافِي بِوَجْهِ عَبُوسِ
قال : « كما تقول : افتريتُ على الله إن كلَّمت فلاناً » ولم يُنْشِدْ ابن عطية البيت الذي بعد هذا ، وهو محلُّ الفائدة؛ لأنه مشتمل على الشرط وهو : [ الكامل ]
2523 - إنْ لَمْ أشُنَّ عَلَى ابْنِ هِنْدِ غَارَةً ... لَمْ تَخْلُ يَوْماً مِنْ نهابِ نُفُوسِ
قوله : { بَعْدَ إذْ نَجَّانَا } منصوب ب « نعود » أي : ما يكون ولا يستقيم لنا عود بعد أن حصل لنا التنجيةُ منها .
فصل في معنى التنجية
وفي معنى { نَجَّانَا الله مِنْهَا } وجوه :
الأول : علمنا قبحه وفساده وبطلانه .
الثاني : أن الله نجّى قومه من تلك الملة ، وإنما نظم نفسه في جملتهم وإن كان بريئاً منهم تغليباً للأكثر .
الثالث : أن القوم أوهموا المستضعفين أنه كان على ملتهم ، فقوله : { بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا } أي على حسب معتقدكم .
قوله : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } في هذا الاستثناء وجهان :
أحدهما : أنه متصل .
والثاني : أنه منقطع . ثم القائلون بالاتصال مختلفون : فمنهم من قال : هو مستنثى من الأوقات [ العامة ] والتقدير : وما يكونُ لنا أن نعود فيها في وقت من الأوقات إلا في وقت مشيئة الله ذلك ، وهذا متصور في حقِّ مَنْ عدا شعيباً ، فإن الأنبياء لا يشاء الله ذلك لهم؛ لأنه عَصَمهم .
ومنهم من قال : « هو مستثنى من الأحوال العامة والتقدير : ما يكون لنا أن نعود فيها في كل حال إلا في حال مشيئة الله تعالى » .
وقال ابن عطية : « ويُحتمل أن يريد استثناء ما يمكن أن يتعَبَّد الله [ به ] المؤمنين ممَّا تفعلهُ الكفرةُ من القُرُبات فلمَّا قال لهم : إنا لا نعودُ في مِلَّتكم ، ثم خشي أن يتعَبَّد الله بشيء من أفعال الكفرة فيعارض ملحدٌ بذلك ويقول : هذه عودة إلى ملَّتنا استثنى مشيئة الله فيما يمكن أن يتعبَّدَ به » .
قال أبو حيان : « وهذا الاحتمال لا يَصِحُّ لأن قوله : { بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا } إنما يعني النجاة من الكفر والمعاصي لا من أعمال البر » .
قال شهاب الدين : « قد حكى ابن الأنباري هذا القول عن المعتزلة الذين لا يؤمنون بالإرادة ثم قال : وهذا القول مُتَنَاولهُ بعيد ، لأن فيه تبعيض الملّة » .
وقيل : هذا استثناء على سبيل التسليم والتأدُّب .
قال ابن عطية : « ويقلق هذا التأويلُ من جهةِ استقبال الاستثناء ، ولو كان الكلام : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ } قوي هذا التأويل » .
وهذا الذي قاله سهوٌ؛ لأنَّ الماضيَ يتخلَّص للاستقبال بعد « إنْ » الشرطية ، كما يتخلَّص المضارع له ب « أنْ » المصدرية .
وقيل : إن الضمير في قوله : « فيها » ليس عائداً على المِلَّة ، بل عائد على الفِرْية ، والتقدير : وما يكون لنا أن نعود في الفِرْية إلا أن يشاء ربنا ، وهو حَسَنٌ لولا بُعْدُه .
فصل في بين المشيئة
استدل أهل السنة بهذه الآية على أنه تعالى قد يشاء الكفر ، واستدل المعتزلة بها على أنه لا يشاء إلا الخير .
فأمّا وجه استدلال اهل السنة فمن وجهين :
الأول : قوله : { إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا } [ يدل على أن المنجي من الكفر هو الله - تعالى - ، ولو كان الإيمان يحصل بخلق العبد ، لكانت النجاة من الكفر تحصل للإنسان من نفسه لا من الله تعالى وذلك على نقيض قوله { إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا } ] .
الثاني : أن معنى الآية أنه ليس لنا أن نعود إلى ملتكم إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إلى تلك الملة ، وتلك الملة كفر ، فكان هذا تجويزاً من شعيب - عليه السلام - أن يعيدهم إلى الكفر .
قال الواحدي : ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر؛ ألا ترى إلى قوله الخليل - عليه الصلاة والسلام - : { رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام } [ إبراهيم : 35 ] وكان محمد صلى الله عليه وسلم يقول : « يا مُقَلِّبَ القُلُوبِ والأبْصَارِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلى دِيْنِكَ وطاعَتِكَ » . وقال يوسف - عليه السلام - : { تَوَفَّنِي مُسْلِماً } [ يوسف : 101 ] وأجاب المعتزلة بوجوه :
أحدها : أن قوله : « ما لنا أن نعود إلى تلك الملة إلا أن يشاء [ الله ] أن يعيدنا إيها قضية [ شرطية ، وليس فيها بيان أنه تعالى شاء ذلك أو ما شاء .
وثانيها : أن هذا مذكور على طريق التبعيد ] كما يقال : لا أفعل ذلك إلاَّ إذا ابيضّ القَارُ وشاب الغراب ، فعلّق شعيب - عليه السلام - عوده إلى ملتهم على مشيئته بما علم أنه لا يكون منه ذلك أصلاً على طريق التبعيد لا على وجه الشرط .
وثالثها : قوله : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } ليس فيه بيان أن الذي يشاء الله ما هو؟ فنحمله على أن المراد إلا أن يشاء الله بأن يظهر الكفر من أنفسنا إذ أكرهتمونا عليه بالقتل ، وذلك لأن عند الإكراه على إظهار الكفر من أنفسنا إذ أكرهتمونا عليه بالقتل ، وذلك لأن عند الإكراه على إظهار الكفر بالقتل يجوز إظهاره ، وما كان جائزاً كان مراداً لله - تعالى - ، وكون الصبر أفضل من الإظهار لا يخرج الإظهار من أن يكون مراداً لله - تعالى - كما أن المسح على الخفين مرادٌ لله تعالى ، وإن كان غسل الرجلين أفضل .
ورابعها : أن المراد بقوله : { لنخرجنك يا شعيب } أي من القرية ، فيكون المراد بقوله : { أن نعود فيها } أي القرية .
وخامسها : أن نقول : يجب حمل المشيئة هاهنا على الأمر؛ لأن { وما كان لنا أن فيها إلاَّ أن يشاء الله } معناه : فإنه إذا شاء كان لنا أن نعود فيءها ، فقوله : « لنا أن نعود فيها } أي يكون ذلك العود جائزاً ، والمشيئة عند أهل السنة لا توجب جواز الفعل ، فإنه تعالى يشاء الكفر من الكافر عنده ولا يجوز له فعله ، إنما الذي يوجب الجواز هو الأمر ، فثبت أن المراد من المشيئة هاهنا الأمر ، فكان التقدير إلاَّ أن يأمر الله [ عودنا في ملتكم فإنا نعود إليها ، والشريعة المنسوخة لا يبعد أن يأمر الله ] بالعمل بها مرة أخرى ، وعلى هذا التقدير يسقط استدلالكم .
وسادسها : قال الجبائي : المراد من الملّة الشريعة التي يجوز اختلاف التعبد فيها بالأوقات كالصلاة والصيام وغيرهما ، فقال شعيب : { وما كان لنا أن نعود في ملتكم } فلما دخل في ذلك كل ما هم عليه ، وكان من الجائز أن يكون بعض تلك الأحكام والشرائع باقياً غير مسنوخ ، لا جرم قال : { إلا أن يشاء الله } والمعنى : إلا أن يشاء الله بقاء بعضها ، فيدلّنا عليه ، فحينئذ نعود إليها ، فهذا الاستثناء يعود إلى الأحكام التي يجوز النسخ والتغيير فيها ، ولا يعود إلى ما لا يقبل التغيير ألبتة ، فهذه أسئلة القوم .
وتمسك المعتزلة بهذه الآية على صحة قولهم من وجهين :
الأول : أن ظاهر قوله { وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله } يقتضي أنه لو شاء الله عودنا إليها لكان لنا أن نعود إليها ، وذلك يقتضي أن كلَّ ما شاء الله جوده كان فعله جائزاً مأذوناً فيهن ولم يكن حراماً ، قالوا : وهذا عين مذهبنا أن كل ما أراد حصوله كان حسناً مأذوناً فيه ، وما كان حراماً ممنوعاً منه لم يكن مراداً لله تعالى .
الثاني : ان قولهم : « لنخرجنّك أو لتعودُنَّ » لا وجه للفصل بين هذين القسمين على قول الخصم ، لأن على قولهم خروجهم من القرية بخلق الله وعودهم إلى تلك القرية أيضاً بخلقه ، وإذا كان حصول القسمين بخلق الله ، لم يبق للفرق بين القسمين فائدة .
واعلم أنه لمّا تعارض استدلال الفريقين بهذه الآية وجب الرجوع إلى بقية الآيات في هذا الباب .
قوله : { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } نصب « عِلْماً » على التمييز وهو منقول من الفاعلية ، تقديره : وَسِعَ علمُ ربِّنا كلَّ شيء كقوله تعالى : { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 24 ] والمعنى : أحاط علمه بكل شيء .
ثم قال : { عَلَى الله تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا } فيما توعدوننا به ، ثم دعا شعيب بعدما أيس من فلاحهم فقال : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين } .
قال ابن عباس والحسن وقتادة والسدي : « احكم واقض » .
وقال الفراء : « وأهل عمان يسمون القاضي الفاتح والفتاح؛ لأنه يفتح مواضع الحقِّ » .
وعن ابن عباس قال : « ما كنت أدري قوله { ربنا افتح بيننا وبين قومنا } حتَّى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها : أفاتحك أي : أحاكمك » ، وقد تقدَّم أن الفتح الحُكْم بلغة حمير .
وقيل : بلغة مُرَاد وأنشد : [ الوافر ]
2524 - ألاَ أبْلِغْ بَنِي عُصْمٍ رَسُولاً ... بِأنِّي عَنْ فَتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ
قال الزجاج : وجائز أن يكون قوله : { افتح بيننا وبين قومنا بالحق } أي أظهر أمرنا حتى ينفتح بيننا وبني قومنا وينكشف والمراد منه أن ينزل عليهم عذاباً يدلُّ على كونهم مبطلين ، وعلى كون شعيب وقومه محقين ، وعلى هذا المراد بالفتح الكشف والتبيين ، وكرر { بيننا وبين قومنا } بخلاف قوله : { حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا } [ الأعراف : 87 ] زيادة في تأكيد تمييزه ، ومَنْ تبعه من قومه ثم قال : { وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين } [ أي : خير الحاكمين أو خير المظهرين ، وذا معنى قول من على المعنيين ] ، والمراد به الثناء على الله تعالى .
وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90)
لمّا بيَّن عظيم ضلالهم بتكذيب شعيب بيَّن أنهم لم يقتصروا على التكذيب حتى أضلّوا غيرهم ولاموهم على متابعة شعيب بقولهم : { لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً [ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } .
قوله : { إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُون } « إذن » حرفُ جواب وجزاء ، وقد تقدّم الكلام عليها مُشْبعاً ] وهي هنا معترضة بين الاسم والخبر ، وقد توهمَّ بعضهم فجعل « إذن » هذه « إذا » الظرفية في الاستقبال نحو [ قولك ] : « ألْزِمُك إذا جئتني » أي وقت مجيئك .
قال : « ثم حُذِفَت الجملة المضافةُ هي إليها ، والأصل : إنكم إذا اتبعتموه لخاسرون ، ف » إذا « ظرف والعاملُ فيه » لخاسرون « ، ثم حذفت الجملة المضافة إليها وهي » اتبعتموه « ، وعُوِّضَ منها التنوين ، فلما جيء بالتنوين وهو ساكن التقى بمجيئه ساكنان ، هو والألفُ قبله ، فحُذِفَت الألفُ لالتقاء الساكنين ، فبقي اللفظ » إذن « كما ترى » .
وزعم هذا القائل أن ذلك جائز بالحَمْل على « إذا » التي للمضيّ في قولهم : « حينئذٍ » و « يومئذٍ » فكما أن التنوين هنا عوض عن جملة عند الجمهور كذلك هنا .
وردّ أبو حيان هذا بأنه لم يَثْبُتْ هذا الحكم ل « إذا » الاستقبالية في غير هذا الموضع فيحمل هذا عليه .
قال شهاب الدين : وهذا ليس بلازم إذ لذلك القائل أن يقول : قَد وَجَدْتُ موضعاً غير هذا وهو قوله تعالى : { إِنَّآ إِذاً لَّظَالِمُونَ } [ يوسف : 79 ] .
وقد رأيت كلام القرافي في قوله صلى الله عليه وسلم لمّا سألوه عن بيع الرطب بالتمر فقال : « أينقص الرُّطبُ إذا جفَّ؟ فقالوا : نعم . فقال : فلا إذن » أن « إذن » هذه هي « إذا » الظرفية ، قال : كالتي في قوله تعالى : { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا } [ الزلزلة : 1 ] فحذفت الجملة ، وذكره إلى آخره .
وكنت لمّا رأيته تعجبت غاية العجب كيف يَصْدرُ هذا منه حتى رأيته في كتاب الشيخ في هذا الموضع عن بعضهم ولم يُسَمِّه ، فذهب تعجبي منه ، فإن لم يكن ذلك القائلُ القرافيَّ فقد صار له في هذه المسألة سَلَفٌ ، وإلاَّ فقد اتحد الأصل ، والظاهر أنه غيره .
وقوله : « إنكم » هو جواب والقسم الموطَّأ له باللاَّم .
وقال الزمخشري : فإن قلت : ما جوا بالقسم الذي وطَّأتْه اللام في قوله : { لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً } وجوابُ الشرط؟ .
قلت : قوله : { إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُون } سادٌّ مسد الجوابين .
قال أبو حيان : « فالذي قاله النحويون : إن جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ، ولذلك وجب مُضِيُّ فعل الشرط فإن عَنَى بأنه سادٌّ مَسَدَّهما أنه اجْتُزِئ بذكره عن ذكر جواب الشرط فهو قريب ، وإن عنى من حيث الصناعة النحوية فليس كما زعم ، لأن الجملة يمتنع ألا يكون لها محل من الإعراب وأن يكون لها محلٌّ من الإعراب » .
وهذه المسألة قد تقدَّمَتْ مِراراً واعتراض الشيخ عليه ، وتقدَّم جوابه ويعني الشيخ بقوله : لأنَّ الجلمة يمتنع أن يكون لها محلٌّ من الغعراب إلى آخره؛ لأنها من حيث كونها .
جواباً للشرط تستدعي ألا يكون لها محل إذ الجملة [ الابتدائية ] لا محل لها .
فصل في معنى الخسران
قوله : « لخاسرون » أي في الدين ، وقال بعضهم : « في الدنيا أي مغببونون » .
وقال عطاء : « جاهدون » .
وقال الضحاك : « عجزة » .
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91)
قال الكلبي : « الزلزلة الشديدة المهلكة » .
وقال ابن عباس وغيره : فتح الله عليهم باباً من جهنم فأرسل عليهم حرّاً شديداً فأخذ بأنفاسهم ولم ينفعهم ظل ولا ماء فكانوا يدخلون الأسراب ليبردوا فيها فيجدوها أشدّ حرّاً من الظاهر فخرجوا هرباً إلى البرية ، فبعث الله سحابة فيها ريح طيبة فأظلتهم ، فنادى بعضهم بعضاً حتى اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم ، فألهبها الله عليهم ناراً ، ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي وصاروا رماداً .
وروي أن الله حبس عنهم الريح سبعة أيّام ثم سلط عليهم الحرّ ، ثم رفع لهم جبل من بعيد فأتاه رجل ، فإذا تحته أنهار وعيون ، فاجتمعوا تحته كلهم فوقع ذلك الجبل عليهم ، فذلك قوله : « عذاب يوم الظلة » .
[ قال قتادة : بعث الله شعيباً إلى أصحاب الأيكة وأصحاب مدين ، فأمّا أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة ] ، وأمّا أصحاب مدين فأخذتهم [ الصيحة ] صاح بهم جبريل - عليه السلام - صيحة فهلكوا بالظلة جميعاً .
قال أبو عبد الله البَجِلِيُّ : كان أبْجَدْ وهَوَّز وحُطِّي وكَلَمُنْ وسَعْفَص وقَرَشَت ملوكَ « مَدْيَنَ » ، وكان ملكُهُمْ في زمن شعيب يوم الظُّلَّة « كَلَمُنْ » ، فلما هلك ، قالت ابنته تبكيه :
[ الرمل ]
2525 - كَلَمُنْ هَدَّمَ رُكْني ... هُلكُهُ وَسْطَ المَحِلَّهْ
سَيِّدُ القَوْمِ أتَاهُ الْ ... حَتْفُ نَارٌ تَحْتَ ظُلَّهْ
جُعِلَتْ نَاراً عَلَيْهِم ... دَارُهُمْ كالمُضْمَحِلَّهْ
وقد تقدم الكلام على قوله : { فأصبحوا في ديارهم جاثمين } .
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)
قوله : { الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً } فيه خمسة أوجه :
أحدها : أن هذا الموصول في محل رفع بالابتداء وخبره الجملة التشبيهية بعده .
قال الزمخشري : « وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص ، كأنه قيل : الذين كذبوا شعيباً هم المخصوصون بأن أهْلِكوا واستُؤصلوا كأن لم يُقيموا في دارهم؛ لأن الذين اتبعوا شعيباً قد أنجاهم الله تعالى » .
قال شهاب الدين : « قوله : » يفيد الاختصاص « هو معنى قول الأصوليين : » يفيد الحصر « على خلاف بينهم في ذلك إذا قلت : زيد العالمن والخلاف في قولك : العالم زيد أشهرُ منه فيما تقدَّم فيه المبتدأ » .
الثاني : أن الخبر هو نفس الموصول الثاني وخبره ، فإن الموصول الثاني مبتدأ والجملةُ من قوله : { كانوا هم الخاسرين } في محل رفع خبراً له ، وهو وخبره خبر الأول ، و { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ } : إمَّا اعتراض ، وإمَّا حال من فاعل « كذَّبوا » .
الثالث : أن يكون الموصولُ الثاني خبراً بعد خبر عن الموصول الأول ، والخبر الأول الجملة التشبيهية .
الرابع : أن يكون الموصول الثاني بدلاً من قوله : { وَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ } [ الأعراف : 90 ] فكأنه قال : « وقال الذين كفروا منهم الذين كذّبوا شعيباً » وقوله : { لئن اتبعتم شعيباً } معمول للقول فليس بأجنبي .
الخامس : أنه صفة له ، أي : للذين كفروا من قومه .
هذه عبارة عن أبي البقاء ، وتابعه أبو حيان عليها ، والأحسن أن يقال : بدلٌ من الملأ أو نعت له؛ لأنه هو المحدَّثُ عنه والموصول صفة له ، والجملة التشبيهية على هذين الوجهين حال من فاعل « كذَّبوا » .
وأمّا الموصول الثاني فقد تقدم أنه يجوز أن يكون خبراً باعتبارين : أعني كونه أول أو ثانياً ، ويجوز أن يكون بدلاً من فاعل « يغنوا » أو منصوباً بإضمار « أعني » أو مبتدأ وما بعده الخبر . وهذا هو الظاهر لتكون كل جملة مستقلة بنفسها ، وعلى هذا الوجه ذكر الزمخشري أيضاً أن الابتداء يفيد الاختصاص قال : « أي هم المخصوصون بالخسران العظيم دون أتباعه ، وقد تقدَّم موضحاً » .
قوله : { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } يغنون : بمعنى يقيمون يقال : غَنِي بالمكان يَغْنى فيه أي : أقام دهراً طويلاً ، والمغاني المنازل التي كانوا فيها واحدها مغنى ، وقيَّده بعضهم بالإقامة في عيش رغد ، فهو أخصُّ من مطلق الإقامة؛ قال الأسَودُ بْنُ يَعْفُرَ : [ الكامل ]
2526 - وَلَقَدْ غَنَوْا فِيهَا بأنْعَمِ عِيشَةٍ ... فِي ظِلِّ مَلْكٍ ثَابتِ الأوْتَادِ
وقيل : معنى اآية هنا من الغِنَى الذي هو ضد الفقر ، قاله الزجاج وابن الأنباري وتابعهما ابن عطية؛ وأنشدوا : [ الطويل ]
2527 - غَنِيَا زَمَاناً بالتَّصَعْلُك والغِنَى ... [ كما الدَّهرُ في أيَّامِهِ العُسْرُ واليُسْرُ ]
كَسَبْنَا صُرُوفَ الدَّهْرِ لِيناً وغلْظَةً ... وكُلاًّ سَقَانَاهُ بِكأسمهما الدَّهْرُ
قالوا : معناه استغنينا ورضينان فمعنى { كأن لم يغنوا فيها } كأن لم يعيشوا فيها مستغنين .
قال ابن الخطيب : فعلى هذا التفسير شبّه الله - تعالى - حال هؤلاء المكذبين بحال من من لم يكن قط في تلك الديار قال الشاعر : [ الطويل ]
2528 - كأن لم يَكُنْ بَيْنَ الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بَلَى نَحْنُ كُنَّا أهْلَهَا فأبَادَنَا ... صُرُوفُ اللَّيَالِي والحُدُودُ العَواثِرُ
وقدّر الراغب غني بمعنى الإقامة بالمكان إلى معنى الغنى الذي هو ضد الفقر فقال : { وغني ي مكان كذا إذا طال مقامه فيه مُسْتَغْنِياً به عن غيره « .
قوله : { الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الخاسرين } كرر قوله : { الذين كذبوا شعيباً } تعظيماً لذمهم وتعظيماً لما يستحقون من الجزاء ، والعرب تكرر مثل هذا في التعظيم والتفخيم ، فيقول الرجل لغيره : » أخوك الذي ظلمنا ، أخوك الذي أخذ أموالنا ، أخوك الذي هنا أعرضانا « ، ولمَّا قال القوم : { لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون } بيَّن الله - تعالى - أن الذين لم يتبعوه وخافوه هم الخاسرون ، وقد تقدم الكلام على قوله : » فتولّى عنهم « في أن التولي بعد نزول العذاب أو قبله .
قال الكلبي : » لم يعذب قوم نبي حتى أخرج من نبيهم « .
فصل في الدلالة من الآية
دلّت الآية على أشياء : منها : أن ذلك العذابإنما حدث بتخليق فاعل مختار لا بتأثير الكواكب والطبيعة ، وإلا لحصل في أتباع شعيب كما حصل للكفّار .
[ ومنها أنها تدل على أن ذلك الفاعل المختار عالم بجميع الجزئيات حتى يمكن التمييز بين المطيع والعاصي ] .
ومنها : أنها تدل على المعجز العظيم في حق شعيب - عليه السلام -؛ لأن العذاب النازل من السماء لما وقع على قوم دون قوم مع كونهم مجموعين في بلدة واحدة كان ذلك من أعظم المعجزات .
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)
قوله : { فَكَيْفَ آسى على قَوْمٍ كَافِرِينَ } « كيف » هنا مثل « كيف » في : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } [ البقرة : 28 ] وتقدم الكلام على « آسى » وبابه .
وقرأ ابن وثاب وابن مصرّف والأعمش : « إيسى » بكسر الهمزة التي هي حرف مضارعة ، وتقدم أنها لغة بني أخْيَل في « الفاتحة » ، ولزم من ذلك قلب الفاء بعدها ياءً؛ لأن الأصل أأسى بهمزتين .
والأسى : شدة الحظن قال العجّاج : [ الرجز ]
2529 - وانْحَلَبَتْ عَيْنَاهُ منْ فَرْطِ الأسَى ... والأسى : الصبر .
وفي المعنى قولان :
الأول : أنه اشتد حزنه على قومه ، لأنهم كانوا كثيرين ، وكان يتوقع منهم الإيمان ، فلمّما نزل بهم الهلاك العظيم حصل في قلبه من جهة القرابة والمجاورة وطول الألفة حزن ، ثم عزى نفسه وقال : { كيف آسى على قوم كافرين } ، لأنهم هم الذين أهلكوا أنفسهم بإصْرارِهِمْ على الكُفْرِ .
الثاني : أنَّ المعنى : لقد أعْذَرْتُ إليكم في الإبلاغِ والنَّصِيحَةِ والتَّحْذِير مما حلَّ بكم؛ فلم تسمعوا قولي ، ولم تَقْبَلُوا نَصِيحَتِي « فَكْيَفَ آسَى عَلَيْكُمْ » ، بمعنى أنَّكُمْ لستم مستحقِّين بأنْ آسى عليكم .
قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ } الآية .
لمَّا عرَّفنا أحوال هؤلاءِ الأنْبِيَاءِ ، وما جرى على أمَمِهِمْ كان من الجَائزِ أن يُظَنَّ أنَّهُ تعالى ما أنزل عذاب الاستئِصَالِ إلاّ في زمن هؤلاء الأنبياء فَقَطْ؛ فَبَيَّنَ في هذه الآيَةِ أنَّ هذا الهلاكَ قد فعلهُ بغيرهم ، وبيَّن العِلَّة الَّتي فعل بها ذلك فقال : { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بالبأسآء والضرآء } ، وفيه حذفٌ وإضمار وتقديره : « من نَبِيّ فَكَذَّبُوهُ ، أو فكذبه أهْلُهَا » . وذكر القريةَ؛ لأنَّهَا مجتمع القوم ، ويَدْخُلُ تحت هذه اللَّفْظَةِ المدينة؛ لأنَّهَا مجتمع الأقْوَامِ .
قوله : « إلاَّ أخَذْنَا » هذا استثناءٌ مفرَّغٌ ، و « أخَذْنَا » في محلِّ نَصْبٍ [ على الحَالِ ] والتَّقديرُ : وما أرْسَلْنَا إلاَّ آخذين أهلها ، والفِعْلُ الماضي لا يقعُ بعد « إلاَّ » إلاَّ بأحد شرطين : إمَّا تقدُّم فعل كهذه الآية ، وإمَّا أن يصحب « قَدْ » نحو : ما زيد إلاَّ قد قَامَ ، فلو فُقِد الشَّرْطان امتنع فلا يجوز : ما زيد إلاَّ قام .
قوله : { بالبأسآء والضرآء } .
قال الزَّجَّاجُ : « البَأسَاءُ : كلُّ ما ينالم من الشِّدَّةِ في أحوالهم ، والضراء : ما ينالهم من الأمْرَاضِ » .
وقيل : « على العكس » .
وقال ابْنُ مسعود : « البَأسَاءُ : الفقر ، والضَّرَّاءُ : المَرَضُ » .
وقيل : « البَأسَاءُ في المال ، والضَّرَّاءُ في النَّفْسِ » .
وقيل : « البَأسَاءُ : البؤس ، وضيقُ العيشِ ، والضَّرَّاءُ : الضرُّ وسوءُ الحال » .
وقيل : « البَأسَاءُ : في الحزن والضَّرَّاءُ : في الجدب » .
« لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ » لكي يَتَضَرَّعُوا؛ فيتوبوا .
ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)
بين تعالى أنَّ تدبيره في أهْلِ القرى لا يجري على نَمَطٍ وَاحِدٍ وَإنَّمَا يُدَبِّرُهُم بما يَكُونُ إلى الإيمانِ أقرب فقال : { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة } ؛ لأنَّ ورود النِّعمة [ في البدن والمال ] بعد البأساء والضَّرَّاءِ يدعو إلى الانْقِيَادِ ، والاشتغال بالشُّكْرِ .
وفي « مكان » وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ مفعول به لا ظَرْف ، والمعنى : بَدَّلْنَا مكان الحال السَّيِّئَةِ [ الحال الحسنة ] ، فالحسنةُ هي المأخوذة الحاصلةُ ومكان السيِّئةِ هو المتروك الذَّاهِبُ ، وهو الذي تصحبه « الباء » في مثل هذا التركيب لو قيل في نظيره : بدَّلْتُ زيداً بِعَمْروٍ ، فزيدٌ هو المأخوذ ، وعمرو المتروكُ ، وقد تقدَّمَ تحقيقُ هذا في البَقَرَةِ في موضعين :
أولهما : { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ } [ البقرة : 59 ] .
والثاني : { وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله } [ البقرة : 211 ] .
ف « مَكَانَ » و « الحَسنَة » مفعولان إلاَّ أن أحدهُما وصل إليه الفعل بِنَفْسِهِ [ وهو « الحَسَنَةُ » ] ، والآخر بحذف حرف الجرِّ وهو « مكان » .
والثاني : أنَّهُ مَنْصُوبٌ على الظَّرْفِ ، والتَّقديرُ : « ثمَّ بَدَّلْنَا [ في ] مكان السَّيِّئَةِ الحسنةِ » إلا أنَّ هذا ينبغي أن يُردَّ؛ لأن « بدَّل » لا بُدَّ له من مفعولين أحَدُهَمَا على إسقاط الباءِ .
والمراد بالحَسَنَةِ والسيِّئَةِ هاهنا : الشِّدَّةُ والرَّخَاءُ .
قال أهل اللُّغَةِ : « السَّيِّئَةُ : كلُّ ما يَسُوءُ صَاحِبَهُ ، والحسنَةُ : كل ما اسْتَحسَنَهُ الطَّبْعُ والعَقْلُ » .
قوله : « حَتَّى عَفَوا » « حتَّى » هنا غائيةٌ ، وتقدير مَنْ قدّرها ب « إلَى » فإنَّمَا يريدُ تَفْسِيرَ المعنى لا الإعرابَ؛ لأن حتَّى الجارَّة لا تُبَاشِرُ إلاَّ المضارع المنصوب بإضمار « أنْ » ؛ لأنها في التَّقْديرِ داخلة على المصدر المُنْسَبِك منها ، ومن الفعل ، [ وأمّا الماضي ] فلا يطَّرِدُ حذف « أنْ » معه ، فلا يقدّر معه أنَّها حرف جرٍّ داخلة على أن المصدريَّة ، أي : حتَّى أن عفوا ، وهذا الذي ينبغي أن يحمل عليه قول أبي البقاءِ : « حتَّى عَفَوْا أي : إلى أن عفوا » .
ومعنى « عَفَوا » هنا كَثُروا من عَفَا الشعْر إذا كَثُر ، ومنه : « وأعْفُوا اللِّحَى » يُقَالُ : عَفَاه ، وأعْفَاه ثلاثياً ورباعيّاً؛ قال زهيرٌ : [ الوافر ]
2530 - أذَلِكَ أمْ أقَبُّ البَطْنِ جَأبٌ ... عَلَيْهِ مِنْ عَقِيقَتِهِ عَفِاءُ
وفي الحديث : « إذَا عَفَا الوَبَرُ وبَرَأ الدُّبُرُ فَقَدْ حضلَّت العُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرَ؛ وأنشد الزَّمَخْشريُّ على ذلك قولَ الحُطَيْئَةِ : [ الطويل ]
2531 - بِمُسْتأسِدِ القُرْبَانِ عَافٍ نَبَاتُهُ .. . .
وقول لَبِيد : [ الوافر ]
2532 - ولَكِنَّا نُعِضُّ السَّيْفَ مِنْهَا ... بأسْوُقِ عَافِيَاتِ الشَّحْمِ كُومِ
وتقدَّم تحقيقُ هذه المادّة في البقرة .
فصل في المراد من الآية
ومعنى الآية أنَّ الله - تعالى - أبدلهم مكان الباساء والضرَّاء الحسنة ، وهي النِّعءمَةُ والسَّعَةُ والخَصْبُ والصِّحَّةُ .
» حتى عفوا « كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم ، وقالوا من غرتهم وغفلتهم : { قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضرآء والسرآء } ، أي : هكذا كانت عادة الدَّهر قديماً لنا ولآبائنا ، ولم يكن ذلك عقوبةً من اللَّهِ ، فكُونُوا على ما أنتم عليه كما كان آباؤُكم ، فإنَّهُم لم يتركوا دِينَهُم لما أصابهم من الضَّرَّاءِ .
قوله : « فَأخَذْنَاهُمْ » .
قال أبُو البقاءِ : « هو عطفٌ على » عَفَوْا « . يريدُ : وما عطف عليه أيضاً ، أعني أنَّ الأخذ ليس متسبباً عن الَفَاءِ فقط ، بل عليه وعلى قولهم تلك المَقَالةِ الجاهليَّةِ؛ لأنَّ المعنى ليس أنَّهُ لمُجرَّدِ كثْرَتِهِمْ ، ونموِّ أموالِهِمْ أخذهم بغتة بل بمجموع الأمْرَيْنِ ، بل الظَّاهِرُ أنَّهُ بقولهم ذلك فقط .
و » بَغْتَةً « إمَّا حالاً أو مَصْدراً ، والبَغْتَةُ الفُجَاءَة ، { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } حال أيضاً وهي في قوَّةِ المُؤكِّدَةِ؛ لأنَّ » بَغْتَةً « تفيدُ إفادتها ، سواء أعْرَبْنَا » بغتة « حالاً أم مَصْدراً .
واعلم أنَّ الحكمة في حكاية هذا المعنى ليعتبر من سمع هذه القصَّة .
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)
لمّا بيَّن أنَّ الذين عَصَوا وتَمَرَّدُوا؛ أخذهم بَغْتَةً بيَّن في هذه الآية انَّهُم لو أطَاعُوا فتح عليهم أبْوابَ الخيرات ، وقد تقدَّمَ أنَّ ابن عامر يَقْرَأُ : « لَفَتَّحنْا » بالتَّشديد ووافقه هنا عيسى بْنُ عُمَرَ الثَّقَفِيُّ ، وأبو عبد الرَّحْمنِ السُّلمِيُّ .
وأصل البركة المواظبةُ على الشَّيءِ ، أي تابعنا عليهم المطر والمراد ب « بَرَكَات السَّماءِ » المَطَرُ ، وب « بركات الأرْضِ » النَّبَاتُ والثَّمَارُ وكثرة المواشي والأمن والسَّلامة ، وذلك لأنَّ السَّماءَ تجري مجرى الأب ، والأرض تجري مجرى الأم ، ومنهما يَحْصُلُ المَنَافِع ، والخَيْرَات بخلق الله تعالى تدبيره .
ثم قال : { ولكن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ } بالجدب والقَحْطِ { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } من الكفر والمَعْصِيَةِ ، ثمَّ إنَّهُ تعالى أعاد التَّهْديدَ بعذابِ الاسْتئِصَالِ فقال : { أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى } يعني « مكَّة » وما حولها { أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا } أي : العذاب ، وهذا استفهامٌ بمعنى الإنْكَارِ ، خوَّفَهُم الله - تعالى - بنزول العذاب عليهم في وقت غَفْلَتِهِم ، وهو حال النَّومْ باللَّيْل ، وحال الضُّحَى بالنَّهَارِ؛ لأنَّهُ وقت اشتغال المرء باللَّذَّاتِ .
وقوله : « وَهُمْ يَلْعَبُونَ » يحتملُ التَّشَاغُلَ بأمور الدُّنيا فهي لَعِبٌ ولهو ، ويحتملُ في كُفْرِهِم؛ لأنَّهُ كاللَّعِبِ في أنَّهُ يضرُّ ولا يَنْفَعُ .
قوله : « أفَأمِنَ » .
قال الزَّمخشريُّ : « فإن قلت : ما المعطوف عليه ، ولم عطفت الأولى بالفَاءِ والثَّانية بالواو؟ .
قلتُ : المعطوف عليه قوله : » فَأخَذْنَاهُم بَغْتَةً « ، [ وقوله : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى } إلى : » يَكْسِبُونَ « وقع اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه وإنَّمَا عطفت بالفاء؛ لأنَّ المعنى : » فَعَلُوا وَصَنعوا فأخذناهم بغتة ، أبعد ذلك ] أمن أهل القرى أن يأتيَهُمْ بأسنا بياتاً أو أمن أهل القُرَى أن يأتيهم بَأسُنَا ضُحىً « .
قال أبُو حيَّان : وهذا الَّذي ذَكَرَهُ رجوعٌ عن مذهبه في مثل ذلك إلى مذهب الجَماعَةِ ، وذلك أنَّ مَذْهبَهُ في الهمزة المصدرة على حرف العطف تقدير معطوف عليه بين الهمزة وحرف العطفِ ، ومذهب الجماعةِ أنَّ حَرْفَ العطف في نِيَّةِ التقدُّم ، وإنَّمَا تأخَّرَ وتقدَّمت عليه همزةُ الاستفهام لقوَّةِ تَصَدُّرها في أوَّلِ الكلام » . وقد تقدَّم تحقيقه ، والزَّمَخْشريُّ هنا لم يقدِّر بينهما معطوفاً عليه ، بل جعل ما بعد الفاءِ معطوفاً على ما قَبْلَهَا من الجُمَلِ ، وهو قوله : « فأخَذْنَاهُم بَغْتَةً » .
قوله : « بَيَاتاً » تقدَّم أوَّلَ السُّورةِ أنَّهُ يجوز أن يكون حالاً ، وأن يكون ظرفاً .
وقوله : « وهُمْ نَائِمُونَ » جدملة حاليّة ، والظَّاهِرُ أنَّها حال من الضَّميرِ المستتر في « بَيَتاً » ؛ لأنَّهُ يتحمَّلأ ضميراً لوقوعه حالاً ، فيكون الحالان مُتَدَاخِلَيْنِ .
قوله : « ضُحىً » مَنْصوبٌ على الظَّرف الزَّمانيِّ ، ويكون متصرفاً وغير متصرف ، [ فالمتصرَّفُ ] ما لم يرد به وقته من يوم بِعَيْنِهِ نحو : « ضُحاك ضحىً مُبَرَك » .
فإن قلت : « أتَيْتُكَ يوم الجُمْعَةِ ضُحىً » فهذا لا يتصرّف ، بل يَلْزَمُ النَّصْبُ على الظَّرْفية ، وهذه العبارَةُ أحسنُ من عِبَارَةِ أبِي حيَّان حيث قال : « ظرف متصرِّفٌ إذا كان نكرةً ، وغير متصرِّلإ إذا كان من يوم بعينه » ؛ لأنَّهُ تَوَهَّم [ متى ] كان معرفةً بأي نوع كان من أنواع التَّعْرِيف فإنَّهُ لا يتصرَّفُ ، وليس الأمر كذلك قال تعالى : { والضحى } [ الضحى : 1 ] فاستعمله مجروراً بالقسم مع أنه معروفٌ بأل ، وقال تعالى : { والشمس وَضُحَاهَا } [ الشمس : 1 ] جرّه بحرف القسم أيضاً مع أنَّهُ معرَّفٌ بالإضافة ، وهو امتداد الشَّمْسِ وامتداد النَّهار .
ويقال : ضُحى ، وضحاءُ ، إذا ضَمَمْتَ قَصَرْتَ ، وإذا فتحت مَدَدْتَ .
وقال بعضهم : الضُّحى بالضم والقسر لأول ارتفاع الشمس والضَّحَاءُ بالفتح والمدِّ لقوَّة ارتفاعها قبل الزَّوَالِ .
والضُّحى مُؤنَّثٌ ، وشذُّوا في تصغيرِهِ على « ضُحَيٌّ » بدون تاء كعُرَيْب وأخواتها ، والضَّحَاءُ أيضاً طعامُ الضُّحَى كالغّدَاء طَعَامُ وَقْتِ الغدْوَة يقال منهما : تَضَحَّى ضَحَاءً وتَغَدَّى غَدَاءً : وضَحِيَ يَضْحَى إذَا برز للشَّمْسِ وقت الضُّحَى ، ثم عُبِّر بِه عن إصَابَةِ الشَّمْسِ مطلقاً ، ومنه قوله : { وَلاَ تضحى } [ طه : 119 ] [ أي ] : لا تبرزُ للشمس .
ويقال : ليلة أضحِيَانَةٌ بضمِّ الهمزة ، وضَحْيَاء بالمدِّ أي : مضيئة إضاءَةُ الضُّحى ، والأضْحِيَة وجمعها : أضَاحِ ، والضَّحِيَّة وجمعها ضحايا ، والأضْحَاة وجمعها أضْحىً هي المَذْبُوحُ يوم النَّحْرِ ، سمِّيَت بذلك لذَبْحها ذلك الوقت لقوله عليه الصلاة والسلام : « مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ صَلاتِنَا هَذِهِ فَلْيُعِدْ »
وضواحي الشَّيء نواحيه البارزة .
قوله : « وَهُمْ يَلْعَبُونَ » حالٌ ، وهذا يقوِّي أنَّ « بَيَاناً » ظرفٌ لا حال ، لتتطابق الجملتان فيصيرُ في كلٍّ منهما وقت وحال ، وأتى [ بالحال ] الأولى مُتَضَمِّنَة لاسم فاعلٍ؛ لأنَّهُ يدلُّ على ثباتٍ واستقرارٍ وهو مناسب للنَّوْمِ ، وبالثَّانيةِ متضمِّنة لفعل؛ لأنَّهُ يدلُّ على التجدُّدِ والحدوث وهو مناسبٌ لِلَّعب والهزل .
قال النَّحَّاسُ : « وفي الصَّحاح : اللَّعِبُ معروفٌ ، واللّعْبُ مثله ، وقد لَعِبَ يَلْعَبُ ، ويَلْعبُ مرة بعد أخرى ، ورجل تَلْعَابَةٌ : كثيرٌ اللَّعبِ والتَّلْعَابُ بالفتح المصدر ، وجارته لَعُوبٌ » .
وقرأ نافع وابن عامِر وابنُ كثيرٍ « أوْ » بسكون الواو والباقون بفتحها ، ففي القراءة الأولى تكونُ « أو » بجملتها حرف عطف ومعناها حينئذ التقسيم .
قال ابنُ الخطيبِ : تسعتملُ على ضَرْبَيْن :
أحدهما : أن تكون بمعنى أحد الشَّيْئيْنِ كقوله : زيد أو عمرو جاءك ، والمعنى : أحدهما جاء .
والثاني : أن تكون للإضْرابِ عمَّا قبلها كقولك : « أنَا أخْرُجُ » ثم تقول : « أو أقيم » أضربت عن الخروج وأثبت الإقامة ، كأنك قلت : لا بل أقيمُ ، فوجه هذه القراءة أنَّهُ جعل « أو » للإضراب ، لا على أنَّه أبطل الأوَّلَ .
وزعم بعضهم أنَّها للإبَاحةِ والتَّخْيير ، وليس بظاهرٍ .
وفي القراءة الثَّانية هي واو العَطْفِ دخلت عليها همزة الاستفهام مقدَّمة عليها لفظاً ، وإنْ كانت بَعْدَهَا تقديراً عند الجمهور .
وقد عرف مذهب الزَّمَخْشَرِيِّ في ذلك ، ومعنى الاستفهام هنا : التَّوبيخُ ، والتَّقريعُ .
وقال أبُو شَامَة وغيره : « إنَّهُ بمعنى النَّفي » .
وكرّرت الجملة في قوله تعالى : { أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى } : « أفَأمِنوا » توكيداً لذلك ، وأتي في الجُمْلَةِ الثَّانية بالاسم ظاهراً ، وحقّه أن يضمر مبالغة في التَّوْكِيد .
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)
ومعنى : « مَكْرَ اللَّهِ » أي إضافة المخلوق إلى الخَالقِ كقولهم : ناقة الله ، وبيتُ الله ، والمرادُ بشهِ فعلٌ يعاقب به الكفرة ، وأضيف إلى الله لمَّا كان عقوبة الذَّنْبِ ، فإنَّ العرب تسمِّي العقوبة على أي جهة كانت باسم الذَّنْبِ الذي وقعت عليه العقوبة .
قال ابن عطيَّة : « وهو تأويلٌ حسنٌ » .
وقال البَغَوِيُّ : « مَكْرُ اللَّهِ : استدراجُهُ إيَّاهُم بما أنْعَمَ عليهم في دنياهم » .
وقد تقدَّم في آل عمران في قوله : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله } [ الآية : 54 ] أنَّه من باب المُقَابلَةِ أيضاً .
و « الفاء » في قوله : « فَلاَ يأمَنُ » للتَّنْبِيهِ على أنَّ العذابَ يعقب أمن مَكْرَِ اللَّهِ .
قال ابنُ الخطيبِ : « وقوله : » مَكْرَ اللَّهِ « المرادُ أنْ يأتيهم عذابُهُ من حيث لا يَشْعُرُونَ ، قاله على وجه التَّحْذيرِ ، وسمى هذا العذاب مَكْراً تَوَسُّعاً؛ لأنَّ الواحد منا إذا أرَادَ المكر بصاحبه فإنه يوقعه في البلاءِ من حيث لا يَشْعُرُ » .
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَهْدِ } يريدُ كبراء مكَّةَ .
قرأ الجمهور : « يَهْد » بالياء من تحت ، وفي فاعله حينئذ ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنَّهُ المصدرُ المؤوَّلُ من « أن » وما في حيِّزها ، والمفعول محذوفٌ ، والتقديرُ : أو لم يهد أي يبين ويوضح للوارثين مآلهم وعاقبة أمرهم ، وإصابتنا إيَّاهُم بذنُوبِهم لو شئنا ذلك ، فقد سبكنا المصدر من « أنْ » ومن جواب لو .
والثاني : أنَّ الفاعل هو ضميرُ الله تعالى ، أي : أو لم يبيِّن الله ويُؤيِّدُه قراءةُ من قرأ « نَهْدِ » بالنون .
الثالث : أنَّهُ ضمير عائدٌ على ما يفهم من سياق الكلام ، أي : أو لم يهد ما جرى للأمم السَّالِفَةِ كقولهم : إذَا كَانَ غَداً فأتني أي : إذا كان ما بيني وبينكَ مما دلَّ عليه السِّياق .
وعلى هذين الوجهين ، ف « أنْ » وما في حيِّزها بتأويلِ مصدر كما تقدَّم في محلِّ المفعُولِ والتَّقديرُ : أو لم يبين ويوضِّح الله أو ما جرى لأمم إصابتنا إيَّاهُم بذنوبهم أي : بعقاب ذُنُوبِهِم لو شئنا ذلك .
وقرأ مُجاهدٌ وقتادةُ ويعقوبُ : « نَهْدِ » بنون العَظَمَةِ و « أنْ » مفعولٌ فقط ، و « أنْ » هي المخفَّفةُ من الثَّقيلة و « لَوْط فاصلةٌ بينها وبين الفِعْلِ ، وقد تقدَّم أنَّ الفصل بها قليل .
و » نَشَاءُ « وإن كان مُضَارعاً لفظاً فهو ماضٍ معنى؛ لأنَّ » لو « الامتناعية تخلِّصُ المضارع للمُضِيِّ .
وفي كلام ابن الأنْبَاريِّ خلافه ، فإنَّهُ قال في » ونَطْبَعُ « : » هذا فعل مستأنفٌ ومنقطعٌ مما قبله؛ لأنَّ قوله : « أصَبْنَا » ماضٍ و « نَطْبع » مستقبل ثم قال : ويجوزُ أن يكون معطوفاً على « أصَبْنَا » إذ كان بمعنى نُصِيبُ ، والمعنى : « لو يَشَاءُ يصيبهم ويطبع » ، فوضع الماضي موضعَ المستقبلِ عند وضوح معنى الاستقبال كقوله تعالى : { إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ } [ الفرقان : 10 ] [ أي : ] يجعلُ ، بدليل قوله : « ويَجْعَل لَكَ » ، وهذا ظَاهِرٌ قَوِيٌّ في أن « لَوْ » هذه لا تخلِّصُ المضارع للمضيّ ، وتنظير بالآية الأخْرَى مُقَوِّل أيضاً ، وسيتي تحقيقُ ذلك عند قوله : « ونَطْبَعُ »
وقال الفرَّاءُ : « وجاز أنْ تَرُدَّ » يَفْعل « [ على فَعَلَ ] في جواب » لو « كقوله : { وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ } [ يونس : 11 ] فقوله : » فَنَذَرُ « مردود على » لقضى « ، وهذا قولُ الجمهور ، ومفعول » يَشَاءُ « محذوف لدلالةِ جواب » لو « عليه ، والتَّقديرُ : لو يشاء تعذيبهم ، أو الانتقام منهم .
وتى جوابها بغير لام ، وإن كان مبنيّاً على أحد الجائزين وإن كان الأكثر خلافه ، كقوله تعالى : { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً }
[ الواقعة : 70 ] .
قوله : « ونَطْبَعُ » في هذه الجملة أوْجُهٌ :
أحدها : أنَّهَا نسقٌ على « أصَبْنَاهم » وجاز عطف المضارع على الماضي؛ لأنَّهُ بمعناه ، وقد تقدَّم أنَّ « لو » تخلِّص المضارع للمُضِيِّ ، ولما حكى أبُو حيَّان كلام ابن الأنْبَارِيْ المتقدم قال : « فَجَعل » لو « شرطيّةً بمعنى » إنْ « ولم يجعلها التي هي لِما كان سيقعُ لوقوع غيره ، ولذلِكَ جعل » أصَبْنَا « بمعنى نُصِيبُ .
ومثال وقوع » لو « بمعنى » إن « قوله : [ الكامل ]
2533 - لا يُلْفِكَ الرَّاجِيكَ إلاَّ مُظْهِراً ... خُلُقَ الكِرَامِ ولَوْ تكُونُ عَدِيمَا
وهذا الذي قاله ابن الأنباريّ ردَّهُ الزَّمخشريُّ من حيث المعنى ، لكن بتقدير : أن يكون » ونَطْبَعُ « بمعنى » طَبْعَنا « فيكون قد عطف المضارع على المَاضِي لكَوْنِهِ بمعنى المضاي وابن الأنباري جعل التَّأويل في » أصَبْنَا « الذي هو جواب » لو نَشَاءُ « فجعله بمعنى » نُصِيبُ « فتأوَّلَ المعطوف عليه وهو الجوابُ ، وردَّهُ إلى المستقبل ، والزمخشريُّ تأوَّلَ المعطوف وردَّهُ إلى المضي وأنتج ردُّ الزَّمخشري أنَّ كلا التقديرين لا يصحُّ » .
قال الزمخشريُّ : « فإن قلت : هل يجوزُ أن يكون » وَنَطْبَعُ « بمعنى » طَبَعْنَا « كما كان » لَوْ نَشَاءُ « بمعنى » لَوْ شِئْنَا « ويعطف على » أصَبْنَاهُم « ؟
قلت : لا يساعدُ على المعنى؛ لأنَّ القَوْمَ كانوا مطبوعاً على قلوبهم ، موصوفين بصفة من قبلهم من اقتراف الذُّنوب والإصابةِ بها ، وهذا التَّفسيرُ يؤدِّي إلى خلوِّهِم من هذه الصِّفةِ ، وأن الله لو شاء لاتَّصَفُوا بها » .
قال أبو حيَّان : « وهذا الرَّدُّ ظَاهِرُ الصِّحَّةِ ، وملخصهُ : أن المعطوفَ على الجوابِ جوابٌ ، سواءً تأوَّلْنَا المعطوف عليه أم المعطوف ، وجواب » لو « لم يقع بَعْدُ ، سواءً كانت حرفاً لما كان سيقعُ لوقوع غيره أمْ بمعنى » إن « الشَّرطية ، والإصابة لم تقع ، والطَّبْعُ على القلوب واقعٌ ، فلا يَصِحُّ أن تعطف على الجوابِ . فإن تؤوِّل » ونُطِبعُ « على معنى : ونستمرُّ على الطَّبْعِ على قلوبهم ، أمكن التَّعاطف؛ لأنَّ الاستمرار لم يقع بعدُ ، وإن كان الطَّبْعُ قد وقع » .
قال شهابُ الدِّين : « فهذا الوجه الأوَّلُ ممتنعٌ لما ذكره الزَّمخشريّ » .
ونقل ابنُ الخطيبِ عن الزَّمَخْشَري أنَّهُ قال : « ولا يجوز أن يكون معطوفاً على » أصَبْنَاهُمْ « ؛ لأنَّهُم كانوا كُفَّاراً ، إذْ كل كَافِرِ فهو مَطْبُوعٌ على قلبه ، فقوله بعد ذلك : { وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ } يَجْرِي مَجْرَى تحصيل الحاصلِ وهو مُحَالٌ » .
قال ابن الخطيب : « وهذا ضَعِيفٌ؛ لأنَّ كونه مطبوعاً عليه في الكفر لم يكن هذا منافياً لصِحَّةِ العطفِ » .
الوجه الثاني : أن يكون « نَطْبَعُ » مستأنفاً ، ومنقطعاً عمَّا قبله فهو في نيَّةِ خبر مبتدأ مَحْذُوفٍ أ : ونحن نَطْبَعُ .
وهذا اختيار الزَّجَّاج والزمخشري وجماعة .
الثالث : أن يكون معطوفاً على « يَرثُونَ الأرْضَ » قال الزَّمَخْشَرِيُّ .
قال أبو حيَّان : « وهو خطأٌ؛ لأنَّ المعطوف على الصِّلةِ صلةٌ ، و » يَرِثُونَ « صلة ل » الَّذين « ؛ فَيَلْزِمُ الفصلُ بين أبعاض الصِّلة بأجنبي ، فإن قوله : { أَن لَّوْ نَشَآءُ } إمَّا فاعل ل » يَهد « أو مفعوله كما تقدم وعلى كلا التقديريْنِ فلا تعلق له بشيء من الصِّلة ، وهو أجنبيٌّ منها ، فلا يفصل به بين أبعاضها ، وهذا الوجْهُ مؤدٍّ إلى ذلك فهو خطأ » .
الرابع : أن يكون معطوفاً على ما دَلَّ عليه معنى « أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ » كأنَّهُ قيل : يغفلون عن الهداية ، ونَطْبَعُ على قُلُوبِهِم قاله الزَّمخشريُّ أيضاً .
قال أبو حيَّان : « وهو ضعيف؛ لأنَّه إضمار لا يحتاج إليه ، إذْ قد صحَّ عطفه على الاستِئْنافِ من باب العطفِ على الجُمَلِ ، فهو معطوف على مَجْمُوع المصدَّرة بأداء الاستفهام ، وقد قاله الزَّمخْشَرِيُّ وغيره .
وقوله : { فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } أتى ب » الفاء « هنا إيذاناً بتعقيب عدم سماعهم على أثَرِ الطَّبْع على قلوبهم .
فصل في بيان أنه تعالى ق يمنع العبد من الإيمان
استدل أهل السُّنَّةِ بقوله تعالى : { وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُون } على أنَّهُ تعالى قد يمنع البعدَ من الإيمانِ ، والطَّبعُ والختم والرَّيْنُ والغشاوةُ والصدُّ والمنع واحد على ما تقدَّم .
قال الجبائِيُّ : المرادُ من هذا الطبع أنَّهُ تعالى يسمُ قلوب الكفَّارِ بسماتِ وعلامت نعرف الملائكة بها أنَّ صاحبها لا يؤمن ، وتلك العلامةُ غير مانعة من الإيمان .
وقال الكعبيُّ : إنَّمَا أضاف الطَّبْعَ إلى نفسه ، لأجْلِ أنَّ القومَ إنَّما صاروا إلى ذلك الكُفْرِ عند أمره وامتحانه ، فهو كقوله تعالى : { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً } [ نوح : 6 ] وقد تقدَّم البَحْثُ في مثل ذلك .
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)
قوله تعالى : { تِلْكَ القرى نَقُصُّ عَلَيْكَ } .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : كقوله : { وهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ } [ هود : 72 ] في كونه مبتدأ وخبراً وحالاً يعني أن « تِلْكَ » مبتدأ مشارٌ بها إلى ما بعدها ، و « القُرَى » خبرها ، و « نَقُصُّ » حال أي قاصِّينَ كقوله : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } [ النمل : 52 ] .
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : ما معنى « تِلْكَ القُرَى » حتى يكون كلاماً مفيداً؟
قلت : هو مفيدٌ ولكن بالصِّفةِ في قولك : « هو الرَّجُلُ الكريم » يعني أنَّ الحال هنا لازمه ليفيد التَّركيب كما تلزم الصِّفةِ في قولك : « هو الرَّجُلُ الكريمُ » ألا ترى أنَّكَ لو اقتصرت على « هو الرَّجُلُ » لم يكن مفيداً ، ويجوزُ أن تكون « القُرَى » صفة لتلك ، و « نقصُّ » الخبر ، ويجوز أن يكون « نقصُّ » خبراً بعد خبر .
و « نَقُصُّ » يجوز أن يكون على حاله من الاستقابل أي : قد قصصنا عليك من أبْنَائِهَا ونحن نَقُصُّ عليك أيضاً بعض أبنائها [ ويجوز أن يكون عبر به عن الماضي ، أي : قد قَصَصْنَا عليك من أبنائها ] وأُشير بالبُعْدِ تنبيهاً على بعد هلاكها وتقادمه عن زمن الإخبار فهو من الغيب ، وأراد القصص المتقدمة .
وفي قوله : « القُرَى » ب « أل » تعظيم كقوله تعالى : { ذَلِكَ الكتاب } [ البقرة : 22 ] ، وقول الرسول - عليه الصلاة والسلام : « أوْلَئِكَ المَلأُ مِنْ قُريشٍ » ، وقول أمية : [ البسيط ]
2534 - تِلْكَ المَكَارِمُ لا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ ... شِيبا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أبْوَالاً
و « مِنْ » للتبعيض كما تقدَّم؛ لأنَّهُ إنَّما قصَّ عليه - عليه الصلاة والسلام - ما فيه عظةٌ وانزجارٌ دون غيرهما ، وإنَّما قصّ أنباء أهل القرى؛ لأنَّهم اغتروا بطول الإمهال مع كثرة النِّعم فتوهموا أنَّهُم على الحقِّن فذكرها الله - تعالى - لقوم محمد - عليه الصلاة والسلام - ليحترزوا عن مثل تلك الأعمال ، ثم قال : { وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات } .
قوله : { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ } الظَّاهِرُ أنَّ الضَّمائرَ عائدة على أهل القرى .
وقال يمان بن رئاب : « إنَّ الضميرين الأوَّلين لأهل القرى ، والضَّميرُ في » كذَّبُوا « لأسْلافِهم . وكذا جوَّزهُ ابن عطية أيضاً أي : » فما كان الأبناء ليؤمِنُوا بما كذَّب به الآباء « ، وقد تقدَّم الكلامُ على لام الجُحُودِ ، وأنَّ نفي الفِعْلِ معها أبْلَغُ .
و » ما « موصولة اسميَّة ، وعائدها مَحْذُوفٌ؛ لأنَّه مَنصوبٌ متَّصل أي : بما كذبوه [ ولا يجوز أن يقدر به وإن كان الموصول مجرورا بالباء أيضاً لاختلاف المتعلقن وقال هنا » بما كذبوا « ] فلم يذكر متعلق التكذيب ، وفي » يونس « ذكره فقال : { بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ } [ يونس : 74 ] ، والفرق أنَّهُ لمَّا حذفه في قوله :
{ ولكن كَذَّبُواْ } [ الأعراف : 96 ] أستمرّ حذفه بعد ذلك ، وأمَّا في يونس فقد أبرزه في قوله : { فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ } [ يونس 74 ] .
{ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } [ يونس : 73 ] فناسب ذكره موافقة قال معناه الكرمَانِيّ .
فصل في معنى « ما كانوا ليؤمنوا »
قال ابن عباس والسُّدِّيُّ : « فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا عن إرسالي بما كذبوا به يوم أخذنا مِيثاقَهُم حين أخرِجُوا من ظهر آدم فآمنوا كرهاً وأقرُّوا باللِّسانِ وأضمروا التَّكذيب » .
وقال الزَّجَّاجُ : « فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤيةِ تلك المعجزات بما كَذَّبُوا قبل رؤية المُعْجِزَاتِ » .
وقيل : معناه ما كانوا لو أحييناهم بعد إهلاكهم ورددناهم في دار التكليف ليؤمنوا بما كذَّبُوا به قبل إهلاكهم ، ونظيره قوله تعالى : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [ الأنعام : 28 ] .
[ وقيل : إنه قبل مجيء الرسول كانوا مصرين على الكفر فهؤلاء ما كانوا ليؤمنوا بعد مجيء الرسل ] وقيل : ليؤمنوا في الزَّمانِ المستقبل
قوله : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين } .
قال الزَّجَّاجُ : والكاف في « كذلك » في محلِّ نصب [ أي : مثل ذلك الطبع على قلوب أهل القرى المنتفي عنهم الإيمان يطبع الله على قلوب الكفرة الجانين ] .
قوله تعالى : { وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ } [ الأعراف : 102 ] .
قوله « لأكْثَرِهِمْ » فيه وجوه :
الظَّاهِرُ أنَّهُ متعلقٌ بالوجْدانِ كقولك : ما وجدتُ له مالاً أي : ما صَادَفْتُ له مالاً ولا لقيته .
الثاني : أن يكون حالاً من « عهد » ؛ لأنَّه في الأًل صفة نكرةٍ فلما قُدِّم عليها نُصب على الحال ، والأصْلُ : ما وجدنا عهداً لأكثرهم ، وهذا ما لم يذكر أبُو البقاءِ غيره .
وعلى هذين الوجهين ف « وَجَدَ » متعدِّية لواحد وهو « من عَهْدٍ » ، و « منْ » مزيدةٌ فيه لوجود الشرطين .
الثالث : أنَّهُ في محلِّ نصب مفعولاً ثانياً لوجَدَ إذ هي بمعنى علمية ، والمفعول هو « مِنْ عَهْدٍ » . وقد يترجَّحُ هذا بأنَّ « وَجَدَ » الثانية علمية لا وجدانيَّة بمعنى الإصابة ، وسيأتي دليل ذلك . وإذا تقرَّر هذا فينبغي أن تكون الأولى كذلك مطابقة للكلام ومناسبة له ، ومن يرجّح الأوَّل يقولُ : إنَّ الأولى لمعنى : والثَّانية لمعنى آخر .
فصل في معنى الآية
قال ابن عباس : يريدُ : وما وجدنا لأكثرهم من عهد ، الوفاء بالعهد الذي عاهدهم عليه وهم في صلب آدم حيث قال : { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ } [ الأعراف : 172 ] .
وقال ابن مَسْعُودٍ : « المرادُ بالعهد هاهنا الإيمان ، لقوله تعالى : { إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } [ مريم : 87 ] أي قال : لا إله إلا الله » .
وقيل : المرادُ بالعهدِ وضع الأدلَّةِ على صِحَّةِ التَّوحيد والنَّبوةِ [ تقديره : ] وما وجدنا لأكثرهم من الوفاءِ بالعهد .
قوله : « وَإنْ وَجدْنَا » « إنْ » هذه هي المخفَّفةُ وليس هنا عاملة لمباشرتها الفعل فَزَالَ اختصاصُهَا المُقْتَضِي لإعمالها .
وقال الزَّمخشريُّ : « وإنَّ الشَّأن والحديث وجدنا » .
فظاهِرُ هذه العبارة أنَّها مُعْملَة ، وأنَّ اسمها ضميرُ الأمر والشَّأن ، وقد صرَّحَ أبُو البقاء هنا بأنَّها معملةٌ ، وأن اسمها محذوف ، إلا أنَّهُ لم يقدِّر ضمير الحديث بل غيره فقال : « واسمها محذوفٌ أي : إنَّا وَجَدْنَا » . وهذا مذهب النَّحويين أعني اعتقاد إعمال المخفَّف من هذه الحروف في « أن » المفتوحة على الصَّحيح ، وفي « كأن » التَّشبيهية ، وأمَّا « إنْ » المخففة المكسورة فلا . وقد تقدَّم إيضاحه .
ووجدنا هنا متعدية لاثنين أولهما « أكْثَرَهُم » ، والثاني « لفاسقين » ، قال الزمخشريُّ : والوجود بمعنى العلم من قولك : وجدتُ زيداً ذا الحفاظ بدليل دخول « إنْ » المخفَّفة ، واللاَّم الفارقة ولا يسوغ ذلك إلاَّ في المبتدأ والخبر والأفعالِ الدَّاخلة عليهما يعني أنها مختصة بالابتداء ، وبالأفعال النَّاسخةِ له ، وهذا مذهبُ الجُمْهُورِ ، وقد تقدَّم الخلافُ عن الأخْفَشِ أنَّهُ يجوزُ على غيرها ، وتقدَّم دليله على ذلك ، واللاَّمُ فارقة وقيل : هي عوض من التَّشديد .
قال مَكيٌّك « ولزمت اللاَّمُ في خبرها عوضاً من التشديد والمحذوف الأوَّلِ ، وقد تقدَّم أنَّ بعض الكوفيين يجعلون » إن « نافية ، واللاَّم بمعنى » إلاَّ « في قوله تعالى : { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً } [ البقرة : 143 ] .
ومعنى فاسقين خارجين عن الطَّاعةِ ، مارقين عن الدِّينِ ، وقيل : ناقضين العَهْدَ .
وقوله : » لأكْثَرهُم « ، و » أكْثَرهُم « ، و » من بعدهم « : إنْ جعلنا هذه الضَّمائر كلَّها للأمم السَّالِفَةِ فلا اعتراضَ ، وإن جعلنا الضَّمير في » لأكثرهُم « و » أكْثَرهُمْ « لعموم النَّاسِ والضَّمير في » من بعدهم « للأمم السَّالِفَةِ كانت هذه الجملة - أعني ما وجدنا - اعتراضاً كذلك قاله الزمخشريُّ ، وفيه نظر؛ لأنَّهُ إذا كان الأوَّلُ عاماً ثم ذكر شيء يندرجُ فيه ما بعده وما قبله كيف يُجْعل ذلك العامُّ معترضاً بين الخاصين .
وأيضاً ، فالنَّحْويُّون إنما يعرفون الاعتراض فيما اعترض به بين متلازمين ، إلاَّ أنَّ أهل البيان عندهم الاعتراض أعمُّ من ذلك ، حتَّى إذا أتي بشيء بين شيئين مذكورَيْنِ في قصَّةٍ واحدة سَمَّوه اعتراضاً .
وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
قوله : « لأكْثَرِهِمْ » فيه وجوه :
الظَّاهِرُ أنَّهُ متعلقٌ بالوجْدانِ كقولك : ما وجدتُ له مالاً أي : ما صَادَفْتُ له مالاً ولا لقيته .
الثاني : أن يكون حالا من « عهدِ » ؛ لأنَّهُ في الأصل صفة نكرةٍ فلما قُدِّم عليها نُصب على الحال ، والأصْلُ : ما وجدنا عهداً لأكثرهم ، وهذا ما لم يذكر أبُوا البقاءِ غيره .
وعلى هذين الوجهين ف « وَجَدَ » متعدِّية لواحد وهو « من عَهْدٍ » ، و « منْ » مزيدةٌ فيه لوجود الشرطين .
الثالث : أنَّهُ في محلِّ نصب مفعولاً ثانياً لوجَدَ إذ هي بمعنى علمية ، والمفعول هو « مِنْ عَهْدٍ » . يترجَّحُ هذا بأنَّ « وَجَدَ » الثانية علمية لا وجدانيَّة بمعنى الإصابة ، وسيأتي دليل ذلك . وإذا تقرَّر هذا فينبغي أن تكون الأولى كذلك مطابقة للكلام ومناسبة له ، ومن يرجّح الأوَّل يقولُ : إنَّ الأولى لمعنى ، والثَّانية لمعنى آخر .
فصل في معنى الآية
قال ابن عباس : يريدُ : وما وجدنا لأكثرهم من عهد ، الوفاء بالعهد الذي عاهدهم عليه وهم في صلب آدم حيث قال : { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } [ الأعراف : 172 ] .
وقال ابن مَسْعُودٍ : « المرادُ بالمعهد هاهنا الإيمان ، لقوله تعالى : { إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } [ مريم : 87 ] أي قال : لا إله إلا الله » .
وقيل : المرادُ بالعهدِ وضع الأدلَّةِ على صِحَّةِ التَّوحيد والنَّبوة [ تقديره : ] وما وجدنا لأكثرهم من الفواءِ بالعهد .
قوله : « وَإنْ وَجَدْنَا » « إنْ » هذه هي المخفَّفةُ وليس هنا عاملة لمباشرتها الفعل فَزَالَ اختصاصُهَا المُقْتَضِي لإعمالها .
وقال الزَّمخشريُّ : « وإنَّ الشَّأن والحديث وجدنا » .
فظاهِرُ هذه العبارة أنَّها مُعْملَة ، وأنَّ اسمها ضميرُ الأمر والشَّأن ، وقد صرَّحَ أبُو البقاءِ هنا بأنَّها معملةٌ ، وأن اسمها محذوف ، إلا أنَّهُ لم يقدِّره ضمير الحديث بل غيره فقال : « واسمها محذوفٌ أي : إنَّا وَجَدْنَا » . وهذا مذهب النَّحويين أعني اعتقاد إعمال المخفَّف من هذه الحروف في « أن » المفتوحة على الصَّحيح ، وفي « كأن » التَّبيهية ، وأمَّا « إنْ » المخففة المكسورة فلا . وقد تقدَّم إيضاحه .
ووجدنا هنا متعدية لاثنين أولهما « أكْثَرَهُم » ، والثاني « لفاسقين » ، قال الزمخشريُّ : والوجود بمعنى العلم من قولك : وجدتُ زيداً ذا الحفاظ بدليل دخول « إنْ » المخفَّفة ، واللاَّم الفارقة ولا يسوغ ذلك إلاَّ في المبتدأ والخبر والأفعالِ الدَّاخلة عليهما يعني أنها مختصة بالابتداء ، وبالأفعال النَّاسخِة له ، وهذا مذهبُ الجُمْهُورِ ، وقد تقدَّم الخلافُ عن الأخْفَشِ أنَّهُ يجوزُ على غيرها ، وتقدَّم دليله على ذلك ، واللاَّمُ فارقة وقيل : هي عوض من التَّشديد .
قال مَكيٌّ : « ولزمت اللاَّمُ في خبرها عوضاً من التشديد والمحذوف الأوَّلِ » ، وقد تقدَّم أنَّ بعض الكوفيين يجعلون « إن » نافية ، واللاَّم بمعنى « إلاَ » في قوله تعالى :
{ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً } [ البقرة : 143 ] .
ومعنى فاسقين خارجين عن الطَّاعةِ ، ماريقين عن الدِّين ، وقيل : ناقضين العَهْدَ .
وقوله : « لأكْثَرهُم » ، و « أكْثَرهُم » ، و « من بعدهم » : إنْ جعلنا هذه الضَّمائر كلَّها للأمم السَّالِفَةِ فلا اعتراضَ ، وإن جعلنا الضَّمير في « لأكثرهُم » و « أكْثَرهُمْ » لعموم النَّاسِ والضَّمير في « من بعدهم » للأمم السَّالِفَةِ كانت هذه الجملة - أعني ما وجدنا - اعتراضاً كذلك قاله الزمخشري ، وفيه نظر؛ لأنَّهُ إذا كان الأوَّلُ عاماً ثم ذكر شيء يندرجُ فيه ما بعده وما قبله كيف يُجْعل ذلك العامُّ معترضاً بين الخاصين .
وأيضاً ، فالنَّحْويُّون إنما يعرفون الاعتراض فيما اعترض به بين متلازمين ، إلاَّ أنَّ أهل البيان عندهم الاعتراض أعمُّ من ذلك ، حتَّى إذا أتي بشيء بين شيئين مذكورَيْنِ في قصَّةٍ واحدة سَمَّوه اعتراضاً .
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)
اعلم أنَّ الكناية في قوله : « مِنْ بَعْدِهِمْ » يجوز أنْ تعود إلى الأنبياء الذين جرى ذكرهم وهم : نُوحٌ ، وصالحٌ ، وشعيبٌ وهود ويجوز أن تعود إلى الأمم الذين تقدَّم إهلاكهم .
وقوله : « بآياتنا » أي بأدلَّتِنَا ومعجزاتنا ، وهذا يَدُلُّ على أنَّ النبي لا بد له من آية ومعجزة يتميز بها عن غيره ، وإلا لم يكن قوله أولى من قول غيره .
قال ابن عباس : أوَّلُ آياته العَصَا ثم اليَدُ ، ضرب بالعصا باب فرعون فَفَزعَ منها فشاب رَأسَهُ ، فاسْتَحْيَا فخضب بالسَّوادِ ، فهو أوَّلُ من خضب ، قال : وآخر الآيات الطَّمْسُ ، قال : وللعصا فوائِدُ :
منها ما هو مذكور في القرآن كقوله : { قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى } [ طه : 18 ] ، وقوله : { اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً } [ البقرة : 60 ] ، { اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم } [ الشعراء : 63 ] .
وذكر ابن عباس أشياء أخرى : منها أنَّهُ كان يغرسها فتنبت كالثمر وانقلابها ثعباناً وكان يحارب بها اللُّصوص والسباع التي كانت تقصد غنمه .
ومنها أنَّها كانت تشتعل في الليل كالشَّمْعَةِ ومنها أنَّها كانت تصيرُ كالحَبْلِ الطَّويلِ فينزح الماء من البئر العميقة .
ومنها أنَّهُ كان يضربُ بها الأرْضَ فَتَنْبُتُ .
واعلم أنَّ المذكور في القرآن مَعْلُومٌ ، وأمَّا المذكور في غير القرآن فإن ورد في خبر صحيح فهو مقبول ، وإلاَّ فلا . قوله : « فَظَلَمُوا بها » يجوز أن يضمن « ظَلَمُوا » معنى « كَفَرُوا » فيتعدَّى بالياء كتعديته ويؤيده { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] ، ويجوز أن تكون « الباء » سببيّة والمفعول محذوف تقديره : فظلموا أنْفُسَهُم وظلموا النَّاسَ بمعنى صدوهم عن الإيمان بسبب الآيات .
والظُّلْمُ : وضع الشَّيءِ في غير موضعه فظلمهم : وضع الكُفْرِ موضع الإيمان .
قوله : { فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ } « كَيْفَ » خبر ل « كان » مقدَّمٌ عليها واجب التَّقديم؛ لأنَّ له صدر الكلام ، و « عَاقِبَة » اسمها وهذه الجملة الاستفهامية في محلّ نصب على إسْقَاطِ حرف الجرِّ إذ التقديرُ : فانظر إلى كذا ، والمعنى : فانْظُرْ بعين عقلك كيف فعلنا بالمفسدين .
وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106)
كان يُقَالُ لمُلُوكِ مصر الفراعِنَة ، كما يقال لملوك فارس الأكَاسِرَة ، فكأنه قال : يا مَلِكَ [ مصر ] وكان اسمه قابوس وقيل : الوليدُ بْنُ مُصْعبِ بْنِ الرَّيَّان .
وقوله : { رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين } يدلُّ على وجود الإله تعالى ، فإنَّهُ يدلُّ على أنَّ للعالم ربٌّ يربيه ، وإله يوجده ويخلقه .
قوله : « حَقِيقٌ » أي واجب « عَلَى أنْ لا أقُولُ » .
قرأ العامة « على أنْ » ب « عَلَى » التي هي حرف جر داخلة على أن وما في حيّزها .
ونافع قرأ « عليّ » ب « عَلَى » التي هي حرف جرّ داخلة على ياء المتكلِّم .
فأما قراءة العامة ففيها سِتَّةٌ أوْجُهٍ ، ذكر الزَّمخشريُّ منها أربعة أوجه :
قال رحمه الله : « وفي المشهورةِ [ إشكال ] ، ولا يخلو من وجوده :
أحدها : أن تكون مما قلب من الكلامِ كقوله : [ الطويل ]
2535 - . . ... وتَشْقَى الرِّمَاحُ بالضَّيَاطِرَةِ الحُمْرِ
معناه : وتشقى الضياطرة بالرِّمَاحِ .
قال أبُو حيَّان : » وأصحابنا يخصُّون القلب بالضَّرُورةِ ، فينبغي أن يُنزَّه القرآن عنه « .
وللنَّاس فيه ثلاثةُ مذاهب : الجواز مطلقاً ، [ المنع مطلقاً ] ، التَّفصيل : بين أن يفيد معنىً بديعاً فيجوزُ ، أو لا فيمتنع ، وقد تقدَّم إيضاحه ، وسيأتي منه أمثلة أخر في القرآن العظيم .
وعلى هذا الوجه تصيرُ هذه القراءة كَقِرَاءةِ نافع في المعنى ، إذ الأصلُ : قول الحق حقيق عليَّ ، فقلب اللفظ فصار : » أنَّ حقيق على قول الحقِّ « .
قال : » والثاني : أن ما لزمك فقد لزمته ، فلمَّا كان قول الحقِّ حقيقاً عليه كان هو حقيقاً على قول الحقِّ أي لازماً له « .
والثالث : أن يضمَّنَ حقيق معنى حريص كما ضمت » هيجّني « معنى ذكْرني في البيتِ المذكور في كتاب سيبويه وهو قوله : [ البسيط ]
2536 - إذَا تَغَنَّى الحَمَامُ الوُرْقُ هَيَّجَنِي ... وَلَوْ تَسَلَّيْتُ عَنْهَا أمَّ عَمَّارِ
الرابع : أن تكون » عَلَى « بمعنى » الباء « ، وبهذا الوجه قال أبو الحسن والفراء والفارسيُّ ، قالوا : إنَّ » على « بمعنى الباء كما أن الباء بمعنى » على « في قوله : { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ } [ الأعراف : 86 ] أي : على كلٍّ .
وقال الفرَّاءُ : العرب تقول : رَمَيْتُ على القوس وبالقوس وجئتُ على حالٍ حسنة وبحال حسنة ، وتؤيده قراءة أبيّ والأعمش » حقيق بأن لا أقول « إلاَّ أنَّ الأخفش قال : » وليس ذلك بالمطَّرد لو قلت : « ذهبتُ على زيْدٍ » تريد : « بزيدٍ » لم يجز « ، وأيضاً فلأن مذهب البصريِّين عدم التجوُّزِ في الحُرُوفِ .
الخامس : - وهو الأوجه والأدخل في نكت القرآن - أن يغرق موسى - عليه الصلاة والسلام - [ في وصف نفسه ] بالصِّدْق في ذلك المقام لا سيما وقد رُوِيَ أنَّ فرعون - لعنه الله - لمَّا قال موسى : إنِّي رسول من رب العالمين قال له : كذبت فيقول : أنا حقيقٌ على قول الحقِّ أي : واجب عليَّ قول الحقِّ أن أكون أنا قائله والقائم به ، ولا يَرْضى إلاَّ بمثلي ناطقاً به .
قال أبُو حيَّان : ولا يصحُّ هذا الوجه إلاَّ إن عنى أنه يكون « أن لا أقُول » صفة له كما تقول : أنَا على قول الحقِّ أي : طريقتي وعادتي قول الحقّ .
السادس : أن تكون « على » متعلقة ب « رَسُول » .
قال ابن مقسم : حقيقٌ من نعت « رَسُول » أي رسول حقيق من ربِّ العالمين أرْسِلْتُ على ألاَّ أقولَ على الله إلا الحقَّ ، وهذا معنى صحيح واضحٌ ، وقد غفل أكثرُ المفسرين من أرباب اللُّغَة عن تعليق « على » ب « رسول » ، ولم يخطر لهم تعليقه إلاَّ ب « حقيق » .
قال أبُو حيَّان : وكلامه فيه تَنَاقضٌ في الظَّاهِرِ؛ لأنَّهُ قدَّر أولاً العامل في « عَلَى » « أرسلت » وقال أخيراً : « لأنهم غفلوا عن تَعْليق » على « ب » رسول « ، فأمَّا هذا الأخير فلا يجوزُ عند البصريين؛ لأنَّ رسولً قد وُصِف قبل أن يأخذ معموله ، وذلك لا يَجُوزُ ، وأمَّا تعليقه ب » أرسلت « مقدَّراً لدلالةِ لفظ » رَسُوله « عليه فهو تقديرٌ سائغ .
ويتأوَّل كلامه أنَّه أراد بقوله تُعَلَّقُ » على « ب » رسول « أنه لمَّا كان دالاًّ عليه صحَّ نسبة التَّعلق له .
قال شهابُ الدِّين : » وقال أبُو شامَةَ بعد ما ذكر هذا الوجه عن ابن مقسم : والأوْجهُ الأربعةُ التي للزمخشريِّ ولكن هذه وجوهٌ متعسِّفةٌ ، وليس المعنى إلاَّ على ما ذكرته أوَّلاً ، يعني وجه ابن مقسم ، وهذا فيه الإشكال الذي ذكره الشيخ يعني أبا حيَّان يعني من إعمال اسم الفاعل أو الجاري مجراه وهو موصوفٌ « .
وأمَّا قراءة نافع فواضحةٌ وفيها ثلاثةُ أوجُهٍ :
أحدها : أن يكون الكلامُ قد تم عند قوله : » حقيق « ، و » عليَّ « خبر مقدَّمٌ ، » ألاَّ أقُولَ « مبتدأ مؤخر ، كأنَّهُ قيل : عليَّ عدم قول غير الحقِّ أي : فلا أقُولُ إلا الحقَّ .
الثاني : أن يكون » حَقِيقٌ « خبراً مقدماً ، و » ألاَّ أقولَ « مبتدأ على ما تقدَّم بيانه .
الثالث : » أن لا أقول « فاعلٌ ب » حقيقٌ « كأنَّهُ قيل : يحقُّ ويجبُ أن لا أقول ، وهذا أغربُ الوُجُوهِ لوضُوحِهِ لفظاً ومعنى ، وعلى الوجهين الأخيرين تتعلَّق » عليَّ « ب » حقيقٌ « لأنَّك تقول : » حقَّ عليهِ كذا « قال تعالى : { أولئك الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول } [ الأحقاف : 18 ] . وعلى الوجْهِ الأوَّلِ يتعلَّق بمحذوف على ما تقرر .
وأمّا رفع « حقيقٌ » فقد تقدَّم أنَّهُ يجوز أن يكون خَبَراً مقدَّماً ، ويجوز أن يكون صفةً ل « رَسُول » ، وعلى هذا فيضعف أن يكون « مِنْ رب » صفةً لئلا يلزم تقديم الصفة غير الصّريحَة [ على الصَّريحة ] ، فينبغي أن يكون متعلّقاً بنفس « رَسُول » ، وتكون « مِنْ » لابتداء الغاية مجازاً .
ويجوز أن يكون خبراً ثانياً . ويجوز أن يكون مبتدأ وما بعده الخبر على قراءة من شددَّ الياء ، وسوَّغَ الابتداء بالنكِرَةِ حينئذٍ تعلُّق الجارِّ بها .
فقد تحصَّل في رفعه أربعة أوجُهٍ ، وهل هو بمعنى فاعل ، أو بمعنى مفعول؟ الظَّاهِرُ أنَّهُ يحتمل الأمرين مُطْلَقاً ، أعني على قراءة نَافِعٍ وقراءة غيره .
وقال الوَاحِدِيُّ نَاقِلاً عن غيره : « إنَّهُ مع قراءةِ نافع محتمل للأمرين ، ومع قراءة العامَّةِ بمعنى مفعول فإنَّهُ قال : » وحقيقق على هذا القراءةِ - يعني قراءة نَافِعٍ - يجوز أن يكون بمعنى فاعل « .
قال شمرٌ : » تقولُ العربُ : حقَّ عليَّ أن أفعل كذا « .
وقال الليثُ : » حقَّ الشَّيء معناه وجب ، ويحقُّ عليك أن تفعله ، وحقيق عليَّ أنْ أفعله ، فهذا بمعنى فاعلٍ « ثم قال : وقال اللَّيْثُ : وحقيقٌ بمعنى مفعول ، وعلى هذا تَقُولُ : فلان محقوقٌ عليه أن يفعل .
قال العشى : [ الطويل ]
2537 - لَمَحْقُوقَةٌ أنْ تَسْتَجِيبِي لِصَوْتِهِ ... وَأنْ تَعْلَمِي أنَّ المُعَانَ مُوَفَّقْ
وقال جريرٌ : [ البسيط ]
2538 - .. قَصَّرْ فَإنَّكَ بالتَّقْصيرِ مَحْقُوقُ
ثم قال : » وحقيقٌ على هذه القراءة - يعني قراءة العامَّة - بمعنى محقوق « انتهى .
[ وقرأ أبَيٌّ » بأن لا أقُولَ « وهذه تقوي أنَّ » على « بمعنى الباء ] .
وقرأ عبدُ الله والأعمشُ » لاّ أقُولَ « دون حرف جرّ ، فاحتمل أن يكون ذلك الجارّ » على « كما هو قراءة العامَّةِ ، وأن يكون الجارُّ الباء كقراءة أبيّ المتقدمة .
والحقُّ هو الثابت الدَّائِمُ ، والحقيق مبالغة فيه .
قوله : » إلاَّ الحَقَّ « هذا استثناء مفرَّغٌ ، و » الحقُّ « يجوزُ أن يكون مفعولاً به ، لأنَّهُ يتضمن معنى جملة ، وأن يكون منصوباً على المصدر أي : القول الحق .
قوله : { قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } يعني العَصَا واليد { فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ } أي أطلق عنهم وخلِّهم يرجعون إلى الأرْضِ المقدَّسةِ ، وكان فرعونُ قد استخدمهم في الأعمال الشَّاقَّة ، فقال فرعونُ مجيباً له : { قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } والمعنى : إنْ كنت جئت من عند من أرْسَلَكَ بآيةٍ؛ فأحضرها عندي لتصحَّ دعواك .
فإن قيل قوله : { قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } جزاء واقع بين شرطين فكيف حمله؟
والجوابُ : أنَّ هذا نظير قولك : إنْ دخلت الدَّارَ فأنت طالق إن كلمت زيداً ، وهاهنا المؤخر في اللَّفظ يكون مقدماً في المعنى؛ كما سبق تقريره .
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107)
لما طلب فرعون من موسى إقَامَةِ البَيِّنَةِ على صحَّةِ دعواه ، بين الله تعالى أنَّ معجزته كانت قلب العصا ثعباناً ، وأظهار اليد البيضاء .
« فإذَا » فجائية وقد تقدَّم أنَّ فيها مذاهبَ ثلاثةً :
ظرف مكان ، أو زمان ، أو حرف .
وقال ابن عطية هنا : « وإذَا ظرف مكان في هذا الموضع عند المبرِّد من حيثُ كانت خبراً عن جثة ، والصَّحيحُ الذي عليه النَّاسُ أنَّهَا ظَرْفُ زَمَانٍ في كلِّ مَوْضِعٍ » .
قال شهابُ الدِّين : « والمشهورُ عند النَّاسِ قول المبردِ ، وهو مذهب سيبويه » .
وأمَّا كونها زماناً فهو مَذْهَبُ الرِّيَاشي ، وعُزِيَ لسيبويه أيضاً .
وقوله : « من حيث كانت خبراً عن جثَّة » ليست هي هنا خبراً عن جُثَّة ، بل الخبرُ عن « هي » لفظ « ثُعْبَان » لا لَفْظ « إذا » .
والثُّعْبَانُ هو ذَكَرُ الحيَّاتِ العظيم ، واشتقاقُه من ثَعَبْتُ المكان أي : فجَّرْتُه بالمَاءِ ، شُبِّه في انسيابه بأنْسِيَابِ الماء ، يقال : ثَعَبْتُ الماءَ فجَّرْتُه فانْثَعَبَ . ومنه مَثْعَبُ المطر ، وفي الحديث : « جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَجَرْحُهُ يَثْعَبُ دماً »
فصل
فإن قيل إنَّهُ وصفها هنا بكونها ثُعْبَاناً ، وهو العظيمُ الهائل الخلق ، وفي موضع آخر يقول : { كَأَنَّهَا جَآنٌ } [ النمل : 10 ] ، والجان من الحيَّاتِ الخفيف الضّئيل الخلق ، فكيف الجَمْعُ بين هاتين الصّفتين؟
وقد أجاب الزَّمَخْشَرِيُّ في غير هذا المكان بجوابين :
أحدهما : أنَّهُ يجمع لها بين الشيئين : أي كبر الجُثَّةِ كالثُّعْبَانِ وبين خفَّةِ الحركة ، وسرعة المشي كالجَان .
والثاني : أنَّها في ابتداء أمرها تكون كالجَان ، ثمَّ يتعاظمُ ويتزايد خلقها إلى أن تصير ثُعْبَاناً .
وفي وصف الثُّعبانِ بكونه مُبيناً وجوه :
أحدها : أنُّهُ تمييز ذلك عمَّا جاءت به السَّحرَة من التمويه الذي يلتبسُ على من لا يعرف سببه .
وثانيها : أنَّهم شاهدوا كونه حيَّةً ، فلم يشتبه الأمر عليهم فيه .
وثالثها : أنَّ الثَّعبان أبان قول موسى عليه السلام عن قول المدعي لكاذب .
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)
النّزع في اللُّغَةِ عبارة عن إخراج الشَّيء عن مكانه ، فقوله : « نَزعَ يَدَهُ » أي أخرجها من جَيْبِهِ ومن جناحه ، بدليل قوله : { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ } [ النمل : 12 ] ، وقوله : { واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ } [ طه : 22 ] .
قوله : { فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ } قال ابن عباس : « كان لها نور ساطع يضيء بين السَّماء والأرض » ، واعلم أنَّهُ لمَّا كان البياض كالعيب بيَّن تعالى في غير هذه الآية أنَّهُ كان من غير سوء .
قوله : « للنَّاظرينَ » متعلق بمحذوف لأنَّهُ صفة ل « بيضاء » وقال الزَّمخشريُّ : « فإن قلت : بم تعلق للناظرين؟ قلت : يتعلَّقُ ب » بيضاء « والمعنى : فإذا هي بيضاء للنَّظارة ، ولا تكون بيضاء للنَّظَّارةِ إلا إذا كان بياضها بياضاً عجيباً خارجاً عن العادةِ ، يجتمعُ النَّاس للنَّظر إليه ، كما يجتمع النَّظَّارة للعجائب » .
وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ تفسير معنى لا تفسير إعراب ، وكيف يريدُ تفسير الإعراب؟ وإنَّما أراد التعلُّق المعنويُّ لا الصّناعي ، كقولهم : هذا الكلامُ يتعلق بهذا الكلام . أي إنَّهُ من تتمَّةِ المعنى له .
فإن قيل : إنَّ كثرة الدَّلائل توجب القوَّةَ في النَّفْسِ ، وسيأتي في سورة طه - إن شاء الله تعالى - أن انقلاب العصا أعظم من اليد البيضاء .
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109)
اعلم أنَّهُ سبحانه وتعالى أسند القول في هذه السُّورة إلى الملأ ، وفي « الشعراء » [ 34 ] أسند القول إلى فرعون في قوله : « قَالَ لِلْمَلأ حَوْلَهُ » ، وأجاب الزَّمَخْشَرِيُّ عن ذلك بثلاثة أوْجُهٍ :
أحدها : أن يكون هذا الكلام صادراً منه ومنهم ، فحكى هنا عنهم وفي الشَّعراء عنه .
والثاني : أنَّهُ قاله ابتداء ، وتلقَّته عنه خاصَّته فقالوه لأعقابهم .
والثالث : أنَّهُم قالوه عنه للنَّاسِ على طريق التَّبليغ ، كما يفعل الملوكُ ، يرى الواحدُ منهم الرّأي فيبلغه الخاصَّة ، ثم يبلغوه لعامَّتهم ، وهذا الثَّالِثُ قريبٌ من الثَّانِي في المعنى .
وقولهم : { إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } يعنون أنَّهُ ليأخذ بأعين النَّاسِ حتى يخيل إليهم العصا حيَّة ، واليد بيضاء ، وكان موسى عليه الصَّلاة والسَّلامُ آدم اللّون ، ويرى الشَّيء بخلاف ما هو عليه ، وكان السّحر غالباً في ذلك الزمان ، ولا شَكَّ أن مراتب السّحر كانت متفاوتة ، فالقوم زَعَمُوا أن موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان في النِّهاية من علم السّحر ، فلذلك أتى بتلك الصّيغة ، ثم ذكروا أنَّه إنَّما أتى بذلك السّحر طلباً للملك والرّئاسة فقالوا : { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ } [ الأعراف : 110 ] .
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)
قوله : « فَمَاذَا تَأْمُرُونَ » قد تقدَّم الكلامُ على « ماذا » ، والجمهور على « تَأمُرُونَ » بفتح النُّونِ ، وروى كردم عن نافعٍ كسرها ، وعلى كلتا القراءتين يجوز أن تكون « ماذا » كلمة اسماً واحداً في محلِّ نصب على أنَّهُ مفعولٌ ثانٍ ل « تَأمُرُون » بعد حذف الياء ، ويكون المفعول الأوَّلُ ل « تَأمُرُونَ » محذوفاً ، وهو ياء المتكلم والتقديرُ : بأي شْيءٍ تأمرونني .
وعلى قراءة نافع لا تَقُول إنَّ المفعول الأوَّلَ محذوف ، بل هو في قوَّةِ المَنْطُوق به؛ لأنَّ الكسرة دالة عليه ، فهذا الحَذْفُ غير الحذف في قراءة الجماعة .
ويجوزُ أن تكون « ما » استفهاماً في محل رفع بالابتداء ، و « ذا » موصول ، وصلته العائد منصوب المحل غير معدى إليه بالباء فتقديرُهُ : فما الذي تأمرونيه .
وقدّره ابن عطية « تَأمُرُونِي بِهِ » ، وردَّ عليه أبُو حيَّان بأنَّهُ يلزم من ذلك حذف العائد المجرور بحرف لم يجر الموصول بمثله ، ثم اعتذر عنه بأنَّه أراد التقدير الأصلي ، ثم اتّسع فيه بأن حذف الحرف ، فاتّصل الضَّميرُ بالفعل . وهذه الجملة هل هي من كلام المَلأ ، ويكونُون قد خاطبوا فِرعَوْنَ بذلك وحده تعظيماً له كما يُخاطب الملوك بصِيغَةِ الجمع ، أو يكونون قالوه له ولأصحابه أو يكون من كلام فرعون على إضمار قول أي : فقال لهم فرعون فماذا تَأمُرون ويكون كلام الملأ قد تم عند قوله : { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ } ويؤكد كونها من كلام فرعون قوله تعالى : { قالوا أَرْجِهْ } [ الأعراف : 111 ] .
وهل « تَأمُرُونَ » من الأمر المعهود أو من الأمر الذي بمعنى المشاورة؟ والثاني منقول عن ابن عباس .
وقال الزمخشريُّ : « هو من أمَرْتُه فأمرني بكذا أي : شاورته فأشار عليَّ برأي » .
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)
قوله : { قالوا أَرْجِهْ } في هذه الكلمة هنا وفي « الشُّعراءِ » [ 36 ] ست قراءات في المشهور المتواتر ، ولا التفات إلى مَنْ أنكر بعضها ولا لمن أنكر على روايها . وضبط ذلك أنْ يقال : ثلاث مع الهَمْزِ وثلاث مع عدمه .
فأمّا الثَّلاثُ التي مع الهمزة فأولُها قراءة ابن كثير ، وهشام عن ابن عامر : أرجِئْهو بهمزة ساكنة ، وهاء متصلة بواو .
والثانية : قراءة أبي عَمْرو : أرْجِئْهُ كما تقدَّم إلا أنَّه لم يصلها بواو .
الثالثة : قراءة ابن ذكوان عن ابن عامر : أرْجِئْهِ بهمزة ساكنة وهاء مكسورة من غير صفة .
وأمّا الثَّلاثُ التي بلا همة فأوَّلهَا : قراءة الأخوين : « أرْجِهْ » بكسر الجيم وسكون الهاء وصلاً ووقفاً .
الثانية : قراءة الكسائيِّ ، وورشٍ عن نافعٍ : « أرْجِهِي » بهاء متصلة بياء .
الثالثة : قراءة قالون بهاء مكسورة دون ياء .
فأمّا ضمُّ الهاء وكسرها فقد عُرف مما تقدَّم . وأمَّا الهمزُ وعدمه فلغتان مشهورتان يقال : أرْجَأته وأرْجَيْتُه أي : أخَّرته ، وقد قرئ قوله تعالى : { تُرْجِي مَن تَشَآءُ } [ الأحزاب : 51 ] بالهَمْزِ وعدمه ، وهذا كقولم : تَوَضَّأتُ وتَوَضَّيْتُ ، وهل هما مادتان أصليتان أم المبدل فرع الهمز؟ احتمالان .
وقد طعن قَوْمٌ على قراءة ابن ذكوان فقال الفارسي : « ضم الهاء مع الهمزة لا يجوز [ غيره ] ، ورواية ابن ذُكْوَان عن ابن عامر غلطٌ » .
وقال ابنُ مُجَاهدٍ : « وهذا لا يجوزُ؛ لأنَّ الهَاءَ لا تكسَرُ إلاَّ بعد كسرة أو ياء ساكنة » .
وقال الحُوفِيُّ : « ومن القرَّاء مَنْ يكسر مع الهَمْزِ وليس بجيِّد » .
وقال أبو البقاءِ : « ويُقْرأ بكسر الهاء مع الهمز وهو ضعيف؛ لأنَّ الهمزة حرف صحيحٌ ساكنٌ ، فليس قبل الهاء ما يقتضي الكسر » .
وقد اعتذر النَّاس عن هذه القراءة على سبيل التنازل بوجهين :
أحدهما : أن الهَمْزَة ساكنةٌ والسَّاكن حاجزٌ غير حصين ، وله شواهدٌ [ مذكورة في موضعها ] ، فكأنَّ الهاء وليست الجيم المكسورة فلذلك كُسِرت .
[ الثاني : أن الهمزة كثيراً ما يطرأ عيلها التغيير وهي هنا في معرض أن تبدل ياء ساكنة لسكونها بعد كسره فكأنها وليت ياء ساكنة فلذلك كسرت ] .
وقد اعترض أبُو شَامَةَ على هذين الجوابين بثلاثةِ أوجه :
الأولُ : أنَّ الهمز حاجز معتدٌّ به بإجماع في { أَنبِئْهُم } [ البقرة : 33 ] ، { وَنَبِّئْهُمْ } [ القمر : 28 ] والحكم واحد في ضمير الجمع والمفرد فيما يرجع إلى الكَسْرِ والضمّ .
الثالث : أنَّ الهمز لو قلب يَاءٌ لكان الوَجْه المختارُ ضمّ الهاء مع صريح الياءِ نظراً إلى أنَّ أصلها همزة ، فما الظنُّ بمَنْ يكسر الهاء مع صريح الهَمزةِ ، وسيأتي تحقيق ذلك في باب وقفِ حمزةَ وهشام ، فضمُّ الهَاء مع الهمزةِ هو الوَجْهُ .
وقد استضعف أبُو البقاءِ قراءة ابن كثير وهشام فإنَّهُ قال : « وَأرْجِئْهُ » يقرأ بالهمزة وضمِّ الهاء من غير إشابع وهو الجيِّد ، وبالإشباع وهو ضَعِيفٌ؛ لأنَّ الهاء خفيَّة ، فكأنَّ الواو التي بعدها تتلو الهمزة ، وهو قريبٌ من الجمع بين السَّاكنين ومن هاهنا ضَعْف قولهم : « عليهمي مال » بالإشْبَاع .
قال شهابُ الدِّينِ : « وهذا التَّضْعيف ليس بشيء؛ لأنَّهَا لغة ثابتة عن العَرَبِ ، أعني إشباع حركة الهاء بعد ساكن مطلقاً ، وقد تقدَّم أنَّ هذا أصل لابن كثير ليس مختصاً بهذه اللَّفْظَةِ ، بل قاعدته كلُّ هاء كناية بعد ساكن أنْ تُشْبع حركتها حتى تتولَّد منها حرف مدِّ نحو : » منهو ، وعنهو ، وأرجِئْهو « إلاَّ قبل ساكن فإن المدَّ يُحذفُ لالتقاء الساكنين إلاَّ في موضع واحد رواه عنه البَزِّيُّ وهو { عَنْهُ تلهى } [ عبس : 10 ] بتشديد التَّاءِ ، ولذلك استضعف الزَّجَّاج قراءة الأخوين قال بعد ما أنشد قول الشَّاعر : [ الرجز ]
2539 - لَمَّا رَأى أنْ لا دَعُهُ وَلاَ شِبَعْ ... مَالَ إلَى أرْطَاةِ حِقْفٍ فَالطَجَعْ
» هذا شعرٌ لا يعرف قائله ولا هو بِشَيءٍ ، ولو قاله شاعر مذكور لقيل له : أخطأت؛ لأنَّ الشَّاعر يجوز أن يخطئ مذهب لا يُعَرَّج عليه « .
قال شهابُ الدِّين : » وقد تقدَّم أنَّ تسكين هاء الكناية لغة ثابتة ، وتقدَّم شواهدها ، فلا حاجةَ إلى الإعادة « .
قوله : » وَأخَاهُ « الأحسنُ أن يكون نسقاً على الهاء في » أرْجِهْ « ويضعف نصله على المعيَّة لإمكان النَّسق من غير ضعف لَفْظي ولا معنوي .
قال عطاءٌ : » معنى أرْجِهْ أي أخّره « .
وقيل : احبسه وأخاه ، وهو قول قتادة والكَلْبِي ، وهذا ضعيف لوجهين :
أحدهما : أنَّ الإرجاء في اللُّغَةِ هو التَّأخير لا الحبس .
والثاني : أنَّ فرعونَ ما كان قادراً على حبس موسى بعد أنْ شاهد العصا فأشاروا عليه بتأخير أمره وترك التَّعَرُّضِ إليه بالقتل .
قوله : { وَأَرْسِلْ فِي المدآئن حَاشِرِينَ } .
» فِي المَدَائِنِ « متعلق ب » أرْسِلُ « ، و » حَاشِرينَ « مفعول به ، ومفعول » حَاشِرِين « محذوفة أي : حاشرين السَّحَرة ، بدليل ما بعده .
و » المَدائِنُ « جمع مَدينَةٍ ، وفيها ثلاثُة أقوال :
أصحها : أنَّ وزنها فعيلة فميمها أصلية وياؤها زائدة مشتقة من مَدُنَ يَمْدُنُ مدوناً أي قام ، واستدلَّ لهذا القول بإطْبَاقِ القراء على همز مدائن كصحيفة وصحائف ، وسفينة وسفائن ، والياء إذا كانت زائدة في الواحد همزت في الجمع كقبائل وقبيلة ، وإذا كانت من نفس الكلمةِ لم تهمز نحو : معايش ومعيشة ، [ ولو كانت مفعلة لم تهمز نحو : مَعِيشَةِ ومعايش ولأنَّهُم جمعوها أيضاً على مُدنٍ كقولهم سفينةٍ وسُفُنٍ وصُحُفٍ ] .
قال أبُو حيَّان : » ويقطعُ بأنَّها فعيلة جمعهم لها على فعل قالوا : مدن كما قالوا صُحْفٌ في صحيفة « .
قال شهابُ الدِّين : » قد قال الزجاجي : المدن في الحقيقةِ جمع المدين ، لأنَّ المدينة لا تُجْمَععْ على مُدُن ولكن على مدائن ومثل هذا سفن كأنهم جمعوا سفينة على سفين ثم جمعوه على سفن « ولا أدري ما حمله على جعل مدن جمع مدين ، ومدين جمع مدينة مع اطَّراد فُعُل على فَعِيلَةٍ لا بمعنى مفعولة ، اللهم إلا أن يكون قد لحظ في مدينة أنَّهَا فعيلة بمعنى مفعولة؛ لأنَّ معنى المدينةِ أن يمدن فيها أي يقام ، ويُؤيِّدُ هذا ما سيأتي أنَّ مدينة وزنها في الأصْلِ مديونة عند بعضهم .
القول الثاني : أن وزنها مفعلة من دَانَهُ يَدِينُهُ أي ساسه يَسُوسُهُ ، فمعنى مدينة أي مَمْلُوكَة ومسوسة أي مَسُوسٌ أهلها من دانهم ملكهم إذا سَاسَهُم ، وكان ينبغي أن يجمع على مداين بصريح الياء كمعايشَ في مشهور لُغَةِ العَرَبِ .
الثالث : أن وزنها مفعولة ، وهو مَذْهَبُ المبرِّد قال : « هي من دَانَهُ يَدينُهُ إذا ملكه
وَقَهَرَهُ ، وإذا كان أصلها مديونة فاستثقَلُوا حركة الضَّمَّة على الياء فسكنوها ، ونقلوا حركتها إلى ما قبلها ، فاجتمع ساكنان : الواو والمزيدة الَّتي هي واو المفعول ، والياء التي هي من نفس الكلمة ، فحذفت الواو؛ لأنَّها زائدة ، وحذف الزَّائد أولى من حذف الحرف الأصلي ، ثم كَسَرُوا الدَّال لتسليم الياء ، فلا تنقلب واواً لانضمام ما قبلها ، فتختلط ذوات الواو بذوات الياءِ ، وهكذا تقولُ في المبيع والمخيط والمكيل فلاَ ينقلب واواً لانضمام ما قبلها ذوات الواو ، والخلاف جارٍ في المحذوف ، هل هو الياء الأصليّة؟ أو الواو الزائدة؟ الأوَّلُ قول الأخْفَشِ ، والثَّاني قول المَازني ، وهو مذهب جماهير النُّحَاةِ .
فصل في تعريف » المدينة «
المدينةُ معروفةٌ ، وهي البُقعةُ المسورة المستولي عليها ملك وأرادَ مدائن صعيدِ مِصْرَِ ، أي : أرسل إلى هذه المدائن رجالاً يحشرون إليك من فيها من السَّحرةِ ، وكان رؤساء السَّحرةِ بأقْصَى مدائن الصَّعيدِ .
ونقل القاضي عن ابن عباس أنَّهُم كانوا سَبْعِينَ سَاحِراً سوى رئيسهم ، وكان الذي يعلمهم رجلي مَجُوسِيِّيْنِ من أهْلِ » نينوى « بلدة يونس - عليه الصَّلاة والسَّلام - ، وهي قرية بالموصل .
قال ابن الخطيب : » وهذا النَّفْلُ مشكل؛ لأنَّ المَجُوسَ أتباع زرادشت ، وزرادشت إنَّما جاء بعد مُوسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - .
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)
قرأ الأخوان هنا وفي سورة « يونس » [ 79 ] « سحّار » والباقون « ساحر » ، فسحَّارٌ للمبالغة وساحر يحتملها ، ولا خلاف في التي في « الشُّعراء » أنها سحَّارٌ مثال مبالغة .
واختلفوا في السَّاحر والسحَّار : فقيل : السَّاحر الذي يعلم السِّحْرَ ولا يعلم ، والسحَّارُ الذي يعلم .
وقيل : السَّاحِرُ من يكون سحره في وقت دون وقت ، والسحَّارُ من يديم السحر .
و « الباء » في قوله : « بِكلّ » يحتمل أن تكون باء التَّعدية ويحتمل أن تكون بمعنى مع .
وقال ابن عباس وابن إسحاق والسُّدِّيُّ : إنَّ فرعون اتخذ علمه من بني إسرائيل ، فبعث بهم إلى قرية يقال لها : الفرما يعلموهم فعلموهم سحراً كثيراً ، فلما بعث إلى السَّحرة بجاءوا ومعلمهم معهم . وهذه الآية تدلُّ على كثرة السَّحرةِ في ذلك الزَّمانِ ، وذلك يدلُّ على صِحَّةِ قول المتكلِّمين من أنه تعالى يجعل معجزة كل نبيّ من جنس ما كان غالباً على أهل ذلك الزمان ، فلما كان السِّحر غالباً على أهل زمان موسى كانت معجزته من جنس السحر . ولما كان الطبُّ غالباً على أهل زمان عيسى كانت معجزته من جنس الطبِّ . ولما كانت الفصحاة غالبة على أهل زمان محمد صلى الله عليه وسلم كانت معجزته من جنس الفصاحة .
وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113)
وحذف ذكر الإرْسَالِ لعلم السَّامع .
وفي قوله : { إِنَّ لَنَا لأَجْراً } وجهان :
أظهرهما : أنَّهَا لا محلَّ لها من الإعْرَاب؛ لأنَّها استئناف جواب لسؤال مقدر ، ولذلك لم تعطف بالفاء على ما قبلها .
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : هلا قيل : « وجاءَ السَّحرةُ فرعون فقالوا » .
قلت : هو على تقدير سائل سأل : ما قالوا إذ جاءوه؟ فأجيب بقوله قالوا : « أإن لنا لأراً » وهذا قد سبقه إليه الواحديُّ إلاَّ أنه قال : « ولم يقل » فقالوا « لأنَّ المعنى لما جاءوا قالوا » فلم يصحَّ دخول الفاء على هذه الوَجْهِ .
والوجه الثاني : أنَّهَا في محلِّ نَصْبٍ على الحال من فاعل « جاءُوا » قاله الحوفي .
وقرأ نَافِعٌ وابن كثير وحفصٌ عن عاصم « إنَّ » بهمزة واحدة بكسر الألف على الخبر والباقُونَ بهمزتين على الاستفهام . وهم على أصولهم من التحقيق والتسهيل وإدخال ألفٍ بينهما وعدمه .
فقراءة الحَرَميِّيْن على الإخبار ، وجوَّز الفارسيُّ أن تكون على نيَّةِ الاستفهامِ يدلُّ عليه قراءة البقاين .
قال الواحديُّ : الاستفهام أحْسَنُ في هذا الموضع؛ لأنَّهُم أرادوا أن يعلموا هل لهم أجر أم لا ، ولا يقطعون على أن لهم الأجر ، ويقوي ذلك إجماعهم في سورة « الشعراء » على الاستفهام .
وحجَّةُ نافع وابن كثير أنَّهُما أرادا همزة الاستفهام ، ولكنهما حذفا ذلك من اللَّفْظِ ، وإن كانت باقية في المعنى كقوله تعالى : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ } [ الشعراء : 2 ] وقول الشاعر : [ المنسرح ]
2540 - أفْرَحُ أنْ أرْزَأ الكِرَامَ وَأنْ .. .
وقول الآخر : [ الطويل ]
2541 - . . .. وَذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ
وكقوله : { هذا رَبِّي } [ الأنعام : 76 ] التقدير : أهذا ربي؟ وقد تقدَّم تحقيق هذا ، وأنَّهُ مذهب أبي الحسن ونكر « أجراً » للتعظيم .
قال الزَّمخشريُّ : « كقول العربِ : إنَّ له لإبلاً وإن له لغنماً يقصدون الكثرة » .
قوله : « إنْ كُنَّا » شرط جوابه محذوفٌ للدِّلأالة عليه عند الجمهور ، أو ما تقدَّم عند من يجيز تقديم جواب الشَّرْط عليه .
و « نَحْنُ » يجوز فيه أن يكون تأكيداً للضَّمير المرفوع ، وأن يكون فصلاً فلا محل له عند البصريين ، ومحله الرَّفع عند الكسائيِّ ، والنَّصب عند الفرَّاء .
قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)
فإن قيل : قوله : { وإنكم لمن المقربين } معطوف على ماذا؟ فالجوابُ أنَّهُ معطوف على محذوف ، وهو الجملة التي نابت « نعم » عنها في الجاوب إذا التقديرُ : قال : نعم إنَّ لكم لأجراً وإنكم لمن المقربين ، أي : إني لا أقصركم على الثَّواب ، بل أزيدكم عليه بأن أجعلكم من المقرّبين عندي .
قال المتكلمون : « وهذا يدلُّ على أنَّ الثواب إنَّما يَعظم موقعه إذا كان مقروناً بالتعظيم » .
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ كل الخلق كانوا عالمين بأن فرعون كان عبداً ذليلاً عاجزاً وإلا لما احتاج إلى الاستعانة بالسحرة في دفع موسى ، ويدلُّ على أن السَّحَرَة ذليلاً عاجزاً وإلا لما احتاج إلى الاستعانة بالحسرة في دفع موسى ، ويدلُّ على أن السَّحَرَة لم يقدروا على قلب الأعيان ، وإلا لما احتاجوا إلى طلبِ الأجْرِ والمال من فرعون؛ لأنهم لو قدروا على قلب الأعيان فَلَمَ لم يقلبوا التراب ذهباً ، ولِمَ لَمْ ينقلوا ملك فرعون إلى أنفسهم ، ولِمَ لَمْ يجعلوا أنفسهم مُلُوك العالم . والمقصودُ من هذه الآيات تنبيه الإنسان على الاحتراز عن الاغترار بكلمات أهل الأبَاطيل .
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115)
قوله : { إِمَّآ أَن تُلْقِيَ } : إمَّا هنا للتخيير ، ويطلق عليها حرف عطف مجازاً .
قال المفسرُون : « تأدَّبوا مع موسى - عليه السلام - فكان ذلك سبب إيمانهم » .
قال الفرَّاءُ والكسائِيُّ في باب « أمّا » : و « إمّا » إذا كنت آمراً أو ناهياً أو مخبراً فهي مفتوحة ، وإذا كنت مشترطاً أو شاكّاً أو مخيراً فهي مكسورةٌ ، تقول في المفتوحة : إمّا اللَّه فأعْبُدْه ، وأما الخمرُ فلا تَشْرَبها وأما زيد فقد خَرَجَ ، فإن كنت مشترطاً فتقول : إمّا تعطينَّ زيداً فإنه يشكرك قال تعالى : { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب فَشَرِّدْ بِهِم } [ الأنفال : 57 ] ، وتقولُ في الشَّكِّ : لا أدري من قام إما زيد وإما عمرو ، وتقولُ في التَّخْيير : لي في الكوفة دارٌ إما أن أسْكُنَهَا وإمَّا أن أبيعها .
والفرق بين « إمّا » إذا كانت للشكِّ وبين « أو » أنك إذا قلت : « جاءني زَيْدٌ أو عمرو » فقد يجوزُ أن تكون قد بنيت كلامك على اليقينِ ثم أدركك الشّك فقلت : أو عمرو ، فصار الشك فيهما ، فأوَّلُ الاسمين في « أو » يجوز أن يحسن السكوت عليه ، ثم يعرض الشك فتستدرك بالاسم الآخر؛ ألا ترى أنَّكَ تَقُولُ : قام أخُوكَ وتسكت ثم تشكُّ فتقول : أو أبوك .
وإذا ذكرت « إمّا » فإنما تبني كلامك من أول الأمر على الشك ، فلا يجوز أن تقول : ضربت إمَّا عبد الله وتسكت . وفي محل : { أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ } ثلاثة أوجه :
أحدها : النصب بفعلٍ مقدَّر أي : افعل إمَّا إلقاءك وإما إلقاءنا ، كذا قدّره أبو حيَّان ، وفيه نظر؛ لأنَّهُ لا يَفْعَلُ إلقاءهم فينبغي أن يُقَدِّر فعلاً لائقاً بذلك وهو اختر أي : اختر إمَّا إلقاءك وإمّا إلقاءنا .
وقدره مكي وأبو البقاءِ فقالا : « إمَا أن تَفْعَلَ الإلقاء » .
قال مَكِّيٌّ : كقوله : [ البسيط ]
2542 - قَالُوا : الرُّكُوبَ فَقُلْنَا : تِلْكَ عَادَتُنَا .. .
بنصب « الركوب » إلا أنَّهُ جعل النَّصْبَ مذهب الكوفيين .
الثاني : الرفع على خبر ابتداءٍ مضمر تقديره : أمْرُك إمَّا إلقاؤك وإما إلقاؤُنا .
الثالث : أن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره إمَّا لقاؤك مبدوءٌ به ، وإمَّا إلقاؤنا مبدوءٌ به .
فإن قيل : كيف دخلت « أن » في قوله : { إِمَّآ أَن تُلْقِيَ } وسقطت من قوله : { وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 106 ] .
فالجواب قال الفراء : دخول « أن » في « إما » في هذه الآية لأنها في موضع الأمر بالاختيار ، وهي في موضع نصب كقولك : اختر ذا أو ذا ، كأنَّهُم قالوا : اختر أن تلقي أو نلقي ، وفي آية التَّوْبَةِ ليس فيها أمر بالتخيير؛ ألا ترى أنَّ الأمر لا يَصْلُحُ هاهنا فلذلك لم يكن فيه « أن »
وقال غيره : « إنَّما أتى هنا ب » أن « المصدرية قبل الفعل بخلاف قوله تعالى
{ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 106 ] . لأن « أن » وما بعدها هنا : إمّا مفعول به او مبتدأ ، والمفعولُ به والمبتدأ لا يكونان فعلاً صريحاً ، بل لا بُدَّ أن ينضمَّ إليه حرفٌ مصدري يجعله في تأويل اسمٍ ، وأما آية التَّوبةِ فالفعلُ بعد « إمّا » خبر ثان ل « آخرُونَ » ، وإمَّا صفة له ، والخبرُ والصِّفةُ يقعان جملة فعلية من غير حرف مصدري .
وحذف مفعولُ الإلقَاءِ للعلم به والتقدير : إمَّا أن تُلْقي حبالَكَ وعِصِيَّك - لأنَّهُم كانوا يَعْتَقِدُونَ أن يفعل كفعلهم - أو نلقي حبالنا وعصِيَّنا .
قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
قوله : { قَالَ أَلْقَوْاْ } وفيه سؤالٌ : وهو أنَّ إلقاءهم كان سحراً ومعارضة للمعجزة ، وذلك كفر ، فكيف يجوز لموسى - عليه الصلاة والسلام - أن يأمُرَهُم به؟ .
والجوابُ من وجوه :
أحدها : أنَّهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إنما أمرهم بشرط أنْ يعلموا في فعلهم أن يكون حقّاً ، فإذا لم يكن كذلك فالأمرُ هناك كقول القائل لغيره : اسقني الماء من الجرَّةِ ، فهذا الكلامُ إمَّا أن يكون بشرط حصول الماء في الجرَّةِ ، فأمَّا إذا لم يكن فيها ماء فلا أمر ألْبَتَّةَ كذلك هاهنا .
قال الفرَّاءُ : « المعنى : ألْقُوا إن كنتم مُحِقِّين ، وألقوا على ما يصح ويجوز » .
وقيل : تهديدٌ لهم أي : ابتدأوا بالإلْقَاءِ فسترون ما يحل بكم في الافتضاح .
وثانيها : أنَّ القوْمَ إنَّمَا جاءُوا لإلقاء تلك الحبال والعصي ، وعلم موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - أنَّهم لا بد وأن يفعلوا ذلك وإنما وقع التَّخيير في التَّقْدِيم والتَّأخير ، فعند ذلك أذن لهم في التقديم ازدراءً لشأنهم ، وقلَّة مبالاته بهم وثقة بما وعده اللَّهُ به من التَّأييد ، وأنَّ المعجزة لن يغلبها سحر أبداً ، ولأنَّ الأمر لا يستلزمُ الإرادة .
وثالثها : قوله عليه السلامُ كان يريدُ إبطال ما أتوا به من السحر وذلك لا يمكن إلا بتقديمهم فأذن لهم في الإتيان بذلك السحر ليمكنه الإقدام على إبطاله مثل من يريد سماع شبهة ملحد ليجيب عنها ويكشف عن ضعفها وسقوطها فيقول له : هات وقل واذكرها ، وبالغ في تقريرها ، ومراده من ذلك أنه إذا أجاب عنها بعد هذه المبالغة فإنَّهُ يظهر لكل أحدٍ ضعفها وسقوطها ، فكذا هاهنا .
وقال الفرَّاء : في الكلام حذفٌ ، والمعنى : قال لهم موسى : إنكم لن تغلبوا ربَّكم ، ولن تبطلوا آياته ، وهذا من معجزات القرآن الذي لا يأتي مثله في كلامِ الناس ولا يقدرون عليه يأتي اللفظ اليسير بجميع المعاني الكثيرة .
وإنما أمرهم تعجيزاً لهم وقطعاً لشبهتهم واستبطالهم ، ولئلا يقولوا : لو تركنا نَفْعَلُ لَفَعَلْنَا بمعانٍ كثيرة .
قوله : { فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سحروا أَعْيُنَ الناس } .
قال القاضي : « لو كان السِّحْرُ حقّاً لكانوا قد سحروا قلوبهم ، لا أعينهم ، فثبتَ أنَّ المُرَاد أنَّهم تخيَّلُوا أحوالاً عجيبة مع أن الأمر في الحقيقة ما كان على وفقِ ما تَخَيَّلُوهُ » .
وقال الواحديُّ : « بل المرادُ : سَحَرَوا أعْيُنَ النَّاسِ ، أي قلبوها عن صحَّةِ إدراكها ، بسبب تلك التَّمْوِيهاتِ » .
وقيل : إنهم أتوا بالحِبالِ والعصيِّ ولطَّخوا تلك الحِبالَ بالزِّئْبَقِ وجعلوا الزِّئبقَ في دواخل تلك العصي ، فلمَّا أثر تَسْخين الشَّمْسِ فيها تحركت والتوى بعضها على بعض ، وكانت كثيرةً جداً فتخيَّل النَّاسُ أنَّها تتحرَّك وتلتوي باختيارها وقدرتها .
قوله تعالى : { واسترهبوهم } يجوز أن يكون استفعلَ فيه بمعنى أفعل أي : أرهبوهم ، وهو قريب من قولهم : قرّ واستقرّ ، وعظّم واستَعْظَمَ وهذا رأي المبرِّدِ .
ويجوز أن تكون السين على بابها ، أي استدعوا رهبة النَّاس منهم ، وهو رأي الزجاج .
روي أنَّهم بَعثُوا جماعة يُنَادُونَ عند إلْقاءِ ذلك : أيها الناس احْذَرُوا . وروي عن ابن عباس أنَّهُ خيل إلى موسى أن حبالهم وعصيهم حيَّاتٌ مثل عصا موسى ، فأوحى الله - عزَّ وجلَّ - إليه { أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } .
وقال المحققون هذا غير جائزِ؛ لأنَّه - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - لما كان نبياً من عند اللَّه كان على ثقة ويقين من أنَّ القوم لَنْ يغلبوه ، وهو عالم بأن ما أتَوْا به على وجه المعارضة من باب السحر والباطل ، ومع هذا الجزم فإنه يمتنع حصول الخوف .
فإن قيل : ألَيْسَ أنَّهُ تعالى قال : { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى } [ طه : 67 ] .
فالجوابُ : ليس في الآية أن هذه الخيفة إنَّما حصلت لهذا السَّبب ، بل لعله عليه [ الصَّلاةِ ] والسَّلام خاف من وقوع التَّأخير في ظهور حجّته على سحرهم ثم قال تعالى : { وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } أي عندهم؛ لأنه كان كثيراً . روي أنَّ الأرض كانَتْ ميلاً في ميل فامتلأت حيات يركبُ بعضها بعضاً .
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
يجوز في « أن » : أن تكُون المفسِّرة لمعنى الإيحَاءِ .
ويجوزُ أنْ تكون مصدريّةً؛ فتكونُ هي ، وما بعدها مفعول الإيحَاءِ .
قوله : { فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } قرأ العامَّةُ : « تَلَقَّفُ » بتشديد القافِ ، من « تَلَقَّفَ » والأصلُ : « تَتَلَقَّفُ » بتاءيْنِ ، فحذفت إحداهُمَا ، إمَّا الأولى ، وإمَّا الثانية وقد تقدَّم ذلك في نحو { تَتَذَكَّرُونَ } [ الأنعام : 152 ] .
والبزِّيُّ : على أًلها في إدغامِهَا فيما بعدها ، فيقرأُ : « فإذا هي تَّلَقَّفُ » بتشديد التاء أيضاً ، وقد تقدم تحقيقه عند قوله : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث } [ البقرة : 267 ] .
وقرأ حفصٌ « تَلْقَفُ » بتخفيف القافِ من « لَقِفَ » ك « عَلِمَ يَعْلَمُ » ، ورَكِب يَرْكَبْ « .
يقال : لَقِفْتُ الشَّيءَ ألْقَفُهُ لَقْفاً ، ولَقَفَاناً ، وتَلقفتُهُ أتَلقَّفُهُ تَلَقُّفاً : إذا أخَذْتهُ بِسُرعةٍ ، فأكَلْتَهُ أو ابْتَلَعْتَهُ .
وفي التفسير : أنها ابتلعَتْ جميع ما صَنَعُوه ، وأنشدُوا على : لَقِفَ يَلْقَفُ ، ك » عَلِمَ يَعْلَمُ « قول الشَّاعِر : [ السريع ]
2543 - وأنتَ عَصَا مُوسَى الَّتي لَم تَزَلْ ... تَلْقَفُ مَا يَصْنَعُهُ السَّاحِرُ
ويُقَالُ : رَجُلٌ ثقفٌ لقفٌ ، وثَقِيفٌ لَقِيفٌ ، بَيِّن الثَّقافة واللَّقَافة . ويُقَالُ : لَقِفَ ولَقِمَ بمعنى واحدٍ ، قاله أبُو عُبيدٍ .
ويقالُ : تَلْقَفُ ، وتَلْقَمُ ، وتَلْهَمُ : بمعنىً واحدٍ .
والفَاءُ في » فإذَا هِيَ « يجوزُ أن تكُون العاطفة ، ولا بُدَّ من حَذْفِ جملةٍ قَبْلهَا ليترتَّبَ ما بعد الفاءِ عليها ، والتقديرُ : » فألْقَاهَا فإذا هِيَ « .
وَمَنْ جوَّز أن تكون الفاءُ زائدةً في نحو : » خَرَجْتُ فإذا الأسَدُ حَاضِرٌ « جوَّز زيادتها هُنَا .
وعلى هذا فتكونُ هذه الجملةُ قد أوحيت إلى موسى كالَّتي قَبْلَهَا .
وأمَّا على الأوَّل - أعني كون الفاءِ عاطفةً - فالجملةُ غير موحى بها إليه .
قوله : » مَا يَأفكونَ « يجوزُ في » ما « أن تكون بمعنى » الذي « والعائدُ محذوفٌ ، أي : الذي يأفِكُونهُ .
ويجوز أن تكُون » ما « مصدرية ، » والمصدر « حينئذٍ واقعٌ موقعَ المفعُولِ به ، وهذا لا حَاجةَ إلَيْهِ .
وذلك قولُهُ : { مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يَجُوز أن تكون » ما « بمعنى » الذين « ، فيكونُ المعنى : بَطَلَ الحبالُ والعِصيُّ الذي عملوا به السِّحر : أي : زَالَ ، وذهب بِفُقْدانِهَا ، وأن تكون مصدرية ، أي : وبطل الذي كانوا يعملونه ، أو عملهم .
وهذا المصدرُ يجوزُ أن يكون على بابه .
وأن يكون واقعاً موقع المفعول به . بخلاف » مَا يَأفكُون « فإنَّ يتعيَّنُ أن يكُونُ واقعاً موقع المفعُول به ليصحَّ المعنى؛ إذ اللَّقْفُ يستدعي عَيْناً يصحُّ تسلُّطُه عليها .
ومعنى الإفكِ في اللُّغةِ : قلبُ الشَّيءِ عن وجْههِ ، ومنه قِيلَ للكذبِ إفْكٌ ، لأنَّهُ مقلْوبٌ عن وجهه .
قال ابنُ عبَّاسٍ : » مَا يَأفِكُونَ « يُريدُ : يَكْذِبُونَ ، والمعنى : أنَّ العصا تلقَفُ ما يأفِكُونَهُ ، أي : يَقْلِبُونَهُ عن الحَقِّ إلى البَاطِلِ .
قوله : { فَوَقَعَ الحَقُّ « قال مُجاهدٌ والحسنُ : ظَهَرَ .
وقال الفرَّاءُ : » فتبيَّنَ الحَقُّ مِنَ السِّحْرِ « .
قال أهْلُ المعاني : الوُقُوعُ : ظُهُورُ الشَّيءِ بوجوده نازلاً إلى مُسْتَقرَّهِ ، { وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ، من السِّحْرِ ، وذلك أنَّ السَّحرة قالوا : لئن كان ما صنعَ موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - سِحراً لَبَقِيَتْ حبالُنا وعصينا ولم تُفْقَدْ ، فلما فقدت؛ ثَبَتَ أنَّ ذلك من أمر الله .
قال القَاضِي : قوله : » فَوَقَعَ الحَقُّ « : يفيد قُوَّة الظُّهُورِ والثُّبُوتِ بحيثُ لا يَصحُّ فيه البُطلان كما لا يَصِحُّ في الواقعِ أن يصيرَ إلاَّ واقعاً .
فصل
قلت : فإن قيل : قوله : » فوقع الحَقُّ « يدُلُّ على قوَّةِ الظَّهُورِ .
فكان قوله : { وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } تكريراً .
فالجوابُ : أنَّ المرادَ : مع ثبوت الحقِّ زالت الأعيانُ الَّتي أفكوها ، وهي الحِبَالُ والعصا ، فعند ذلك ظهرت الغلبةُ .
فصل
قوله : » فَغَلِبُوا هُنالِكَ « يجوزُ أن يكون مكاناً ، أي : غُلِبُوا في المكانِ الذي وقع فيه سحرهم ، وهذا هو الظَّاهِرُ .
وقيل : يجوزُ أن يكون زماناً ، وهذا ليس أصْلُهُ ، وقد أثبت لَهُ بعضهم هذا المعنى بقوله تعالى : { هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون } [ الأحزاب : 11 ] .
ويقول الآخر : [ الكامل ]
2544 - .. فَهُنَاكَ يَعْترفُونَ أيْنَ المَفْزَعُ؟
ولا حُجَّةَ فيهما ، لأنَّ المكانَ فيهما واضحٌ .
قوله : » وانقلبُوا صاغرينَ « أي : ذليلين مقهورين . وصاغرين حالٌ من فاعل انقلبُوا والضميرُ في انقلبُوا يجوزُ أن يعودَ على قوم فرعون وعلى السَّحرةِ ، إذا جعلنا الانقلابِ قبل إيمان السحرةِ ، أو جعلنا انقلبُوا بمعنى : صاروا ، كما فسَّره الزمخشريُّ ، أي : صاروا أذلاَّءَ مبهوتين مُتَحَيِّرين .
ويجوز أن يعودَ عليهم دُونَ السَّحرةِ إذا كان ذلك بعد إيمانهم ، ولم يجعلْ انْقلبُوا بمعنى : صاروا : لأنَّ اللا لا يَصِفُهُم بالصَّغَارِ بعد إيمانهم .
قوله : { وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ } .
قال مقاتل : » ألْقاهُمُ اللَّهُ « . وقيل : ألهمهم اللَّهُ أنْ يسجدُوا فَسَجَدُوا .
قال الأخفشُ : من سرعة ما سَجدُوا كأنَّهم ألقوا .
ف » ساجدين « حال من السَّحرة ، وكذلك قالوا أي ألقوا ساجدين قائلين ذلك ، ويجوزُ أن يكُون حالاً من الضَّمير المستتر في ساجدينَ .
وعلى كلا القولين هُمْ متلبِّسُون بالسُّجُودِ للَّهِ تعالى .
ويجوزُ أن يكون مستأنفاً لا محلَّ له ، وجعله أبُو البقاءِ حالاً من فاعل » انْقَلَبُوا « ، فإنَّهُ قال : » يجوزُ أن يكُون حالاً ، أي : فانْقَلَبُوا صاغرين « .
قالوا وهذا ليس بجيِّد للفصل بقوله » وَألقى السَّحرةُ « .
قوله : { قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين } .
قال المفسِّرونَ : لما قالوا : { قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين } قال فِرعونُ : إيّايَ تعنُون؛ فقالوا : { رَبِّ موسى وَهَارُونَ } ، ف : » ربِّ مُوسَى « يجوز أن يكون نعتاً ل : » ربِّ العالمينَ « ، وأن يكون بدلاً ، وأنْ يكون عطف بيان .
وفائدُ ذلك : نَفْيُ تَوَهُّم من يتوهَّمُ أنَّ رب العالمينَ قد يطلق على غير اللَّه تعالى ، لقول فرعونَ
{ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 24 ] وقدَّمُوا « مُوسَى » في الذِّكْرِ على « هَارُونَ » وإن كان هارون أسَنَّ منه ، لكبره في في الرُّتْبَةِ ، أو لأنَّهُ وقع فاصِلة هنا .
ولذلك قال في سورة طه : { بِرَبِّ هَارُونَ وموسى } [ طه : 70 ] لوقوع « موسى » فاصلةً ، أو تكون كل طائفة منهم قالت إحدى المقالتين ، فنسبَ فعل البعض إلى المجمُوعِ في سورةٍ ، وفعل بعضهم الآخر إلى المجمُوعِ في أخرى .
فصل
احتجَّ أهْلُ السُّنَّةِ بقوله تعالى : { وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ } على أن غيرهم ألقاهُم ، وما ذاك إلاَّ اللَّهُ رب العالمين ، وهذا يدلُّ على أنَّ فعل العبد خلقُ الله تعالى .
وأجاب المُعتزِلَةُ بوجوهٍ :
أحدها : أنَّهُمْ لمَّا شاهدوا الآياتِ العظيمةَ ، لم يتمالَكُوا أن وقعوا ساجدين ، فصاروا كأنَّ مُلقِياً ألقاهُم .
وثانيها : ما تقدَّم من تفسير الأخفش .
وثالثها : أنَّهُ ليس في الآية أنَّ ملقياً ألقاهم ، فنقولُ ذلك المُلقي هُم أنفسُهم .
والجوابُ : أن خالق تلك الدَّاعيةِ في قلوبهم هو اللَّهُ تعالى ، وإلا لافتقر خَلْقُ تلك الدَّاعِيِةِ إلى داعيةٍ أخرى ، ولزم التَّسلسل ، وهو مُحَالٌ ، ثمَّ إن أصل القدرةِ مع تلك الدَّاعية الجازمة تصيرُ موجبةً للفعل ، وخالقُ ذلك الموجب هو اللَّهُ تعالىن فكان ذلك الفعل مُسنداً إلى اللَّهِ تعالى .
فصل
فإن قيل : إنَّهُ تعالى ذكر أوَّلاً أنَّهُمْ صاروا ساجدين ، ثمَّ ذكر بعد ذلك أنهم قالوا : { قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين } .
فما الفائدة فيه مع أن الإيمان يجبُ أن يكون متقدِّماً على السُّجُودِ؟ .
فالجوابُ ، من وجوه ، أحدها : أنَّهُم لما ظفروا بالمعرفة سجدوا للَّه تعالى في الحال ، وجعلوا ذلك السُّجُود شكراً لِلَّه تعالى على الفَوْزِ بالمَعْرفِة والإيمان ، وعلامة على انقلابهم من الكفر إلى الإيمان ، وإظهاراً للتَّذلل ، فكأنَّهم جعلوا ذلك السُّجُود الواحد علامةً على هذه الأمور .
وثانيها : لا يبعد أنَّهُمْ عند الذهاب إلى السُّجود قالوا : { قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين } .
فصل
فإن قيل : لمّا قالوا : { قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين } دخل موسى وهارون في ملة العالمي ، فما فائدة تخصيصهما بعد ذلك؟
فالجواب من وجهين :
الأول : ان التقدير آمنا برب العالمين ، وهو الذي دعا إلى الإيمان به وبموسى وهارون .
الثاني : خَصَّهُمَا بالذِّكْرِ تشريفاً ، وتفضيلاً كقوله : { وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] .
قوله : « آمنتم » اختلف القرَّاءُ في هذا الحرف هنا ، وفي طه وفي الشعراءِ ، فبعضهم جرى على منوالٍ واحد ، وبعضهم قرأ في موضع بشيءٍ لمْ يقرأ بِهِ في غيره ، وهم في ذلك على أربع مراتب .
الأولى : قراءة الأخوينِ ، وأبي بكر عن عاصمٍ بتحقيق الهمزتين في السُّور الثَّلاثِ من غير إدخال ألف بينهما ، وهو استفهام إنكارٍ ، وأمَّا الألفُ الثَّالثة فالْكلُّ يَقْرءُونَهَا كذلك ، لأنَّهَا فاءُ الكلمة ، أبدلتْ لسكونها بعد همزة مفتوحة ، وذلك أنَّ أصْلَ هذه الكلمةِ أَأَأْمنْتم بثلاثِ همزاتٍ : الأولى للاستفهام ، والثَّانيةُ همزة « أفْعَلَ » ، والثَّالثةُ فاء الكلمة ، فالثَّالثة يجبُ قبلها ألفاً ، لما تقدم أوَّل الكتاب ، وأمَّا الأولى فمُحَقَّقه ليس إلاَّ ، وأمَّا الثَّانيةُ فهي الَّتي فيها الخلاف بالنِّسبة إلى التَّحقيقِ والتَّسْهيلِ .
الثانية : قراءة حفص وهي « منتم » بهمزة واحدة بعدها الألفُ المشار إليها في جميع القرآن ، وهذه القراءةُ تحتمل الخبرَ المَحْضَ المتضمِّنَ للتَّوبيخ ، وتحتمل الاستفهامَ المشارَ إليه ، ولكنه حُذِفَ لفهم المعنى ، ولقراءة الباقين .
الثالثة : قراءة نافعٍ وابن عمروٍ وابن عامر والبزِّي عن ابن كثير وهي تحقيقُ الأولى ، وتسهيلُ الثانية بين بين ، والألف المذكورة ، وهو استفهام إنكاري ، كما تقدم .
الرابعة : قراءةُ قنبلٍ عن ابنِ كثير ، وهي التَّفرقةُ بين السُّور الثَّلاثِ .
وذلك أنَّهُ قرأ في هذه السُّورة حال الابتداء ب « أآمنتم » بهمزتين ، أولاهما محققة والثَّأنية مُسَهَّلة بَيْنَ بَيْنَ وألف بعدها كقراءة البزِّي ، وحال الوصل يقرأ : « قَالَ فِرْعَوْنُ وآمَنْتُم » بإبدال الأولى واواً ، وتسهيل الثَّانية بين بين وألف بعدها ، وذلك أنَّ الهمزة إذا كانت مفتوحةً بعد ضمَّةٍ جاز إبدالُهَا واواً سواء أكانت الضَّمَّةُ والهمزةُ في كلمةٍ واحدةٍ نحو : مُرْجَؤونَ ، و { يُؤَاخِذُكُمُ } [ البقرة : 225 ] ومُؤجَّلاً أم في كلمتنين كهذه الآيةِ ، وقد فعل ذلك أيضاً في سورة الملك في قوله : { وَإِلَيْهِ النشور أَأَمِنتُمْ } [ الملك : 15-16 ] فأبدلَ الهمزةَ الأولى واواً ، لانضمام ما قَبْلهَا حال الوصل ، وأمَّا في الابتداءِ فيخففها لزوال الموجبِ لقلبها ، إلاَّ أنَّه ليس في سورة الملكِ ثلاثُ همزاتٍ ، وسيأتي إن شاء اللَّهُ تعالى في موضعه .
وقرأ في سورة طه كقراءة حفص : أعني بهمزة واحدة بعدها ألف ، وفي سورة الشعراء كقراءة رفيقه الزّيّ ، فإنَّهُ ليس قبلها ضمة؛ فيبدلها واواً في حال الوصل .
ولم يُدخلْ أحدٌ من القراء مدّاً بين الهمزتين هنا سواءً في ذلك من حقَّق أو سهَّل ، لئلاَّ يجتمع أربعُ متشابهاتٍ ، والضميرُ في « به » عائدٌ على اللَّهِ تعالى لقوله : { قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين } ويجوزُ أن يعود على موسى ، وأمَّا الذي في سورة طه والشعراء في قوله { آمَنتُمْ بِهِ } فالضَّميرُ لموسَى لقوله { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ } .
فصل
اعلم أنَّ فرعون لمَّا رأى إيمان السَّحرةٍ بنبوة موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - عند اجتماع الخلق خاف من أن يصير ذلك حجّة قويَّة على صحَّةِ نبوة موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - فألقى في الحالِ شبهتين إلى أسْماعِ العوامِّ؛ ليمنع القوم من اعتقاد نُبوةِ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - .
الأولى : قوله : { إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المدينة } أي : إنَّ إيمان هؤلاء بموسى ليس لقوة الدَّليل بل لأنَّهم تَوَاطَئُوا مع مُوسى أنَّه إذا كان كذا وكذا فنحن نُؤمن بِك .
الثانية : أنَّ غرض موسى والسَّحرة فيما تواطئوا عليه إخراج القوم من المدينة ، وإبطال ملكهم .
ومعلوم عند جمع العقلاء أنَّ مُفارقَةَ الوطنِ والنِّعْمَة المألوفة من أصعبِ الأمور فجمع فرعون اللّعينُ بين الشُّبهتين ، ولا يوجد أقوى منهما في هذا الباب .
وروى محمَّدُ بنُ جريرٍ عن السُّدِّي في حديثٍ عن ابن عباس ، وابن مسعودٍ وغيرهما .
من الصَّحابة رضي الله عنهم أجمعين أن موسى عليه السلام وأمير السحرة التقيا فقال موسى - عليه الصلاة والسلام - : أرأيتك إن غلبتك أن تؤمن بي وتشهدَ أنَّ ما جِئتُ به الحقّ؟ فقال الساحر : واللَّهِ لئن غلبتني لأومِنَنَّ بك ، وفرعون ينظر إليهما ويسمعُ قولهما ، فهذا قولُ فرعون : { إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المدينة } .
قال القاضي : وقوله { قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ } دليلٌ على مناقضة فرعون في ادِّعاءِ الألوهية ، لأنَّهُ لو كان غلهاً لما جاز أن يأذنَ لهم في أن يُؤمنوا به مع أنَّهُ يدعثوهُمْ إلى إلهيَّةِ غيره ، وذلك من خذلان اللَّهِ الذي يظهرُ على المُبطلين .
قوله : « فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ » حُذِفَ مفعولُ العلم ، للعلم به ، أي : تعلمون ما يحلُّ بكم ، وهذا وعيدٌ مجمل ، ثُمَّ فَسَّرَ هذا المُبْهَمَ بقوله : « لأقَطَّعَنَّ » جاء به في جملةٍ قَسَمِيِّةِ؛ تأكيداً لِمَا يَفْعَله .
وقرأ مجاهدُ بنُ جبر ، وحميد المكي ، وابنُ مُحَيْصنٍ :
« لأقْطعَنَّ » مخففاً من « قَطَعَ » الثلاثي ، وكذا لأصْلُبَنّكُم من « صَلَبَ » الثلاثي .
رُوي بضم اللام وكسرها ، وهما لغتان في المضارع ، يُقال : صَلَبَهُ يَصْلُبُهُ ويَصْليُهُ .
قوله : « مِنْ خلافٍ » يُحتمل أن يكون المعنى : على أنَّهُ يقطع من كُلِ شقَّ طرفاً ، فيقطع اليدَ اليمنى ، والرِّجل اليسرى ، وكذا هو في التفسير ، فيكونُ الجارُّ والمجرور في محلِّ نصبٍ على الحال ، كأنَّهُ قال : مُختلفةً ، يُحْتملُ أن يكون المعنى : لأقَطَّعَنَّ لأجْلِ مخالفتكم إيَّاي فتكون « مِنْ » تعليليةً وتتعلَّق على هذا بنفس الفعل ، وهو بعيدٌ .
و « أجْمَعِينَ » تأكيدُ أتى به دون كلّ وإن كان الأكثرُ سبقهُ ب « كلّ » وجيء هنا ب « ثُمَّ » ، وفي : طه والشعراء بالواو ، لأن الواو صالحةٌ للمُهْلة ، فلا تَنَافِيَ بين الآيات .
فصل
اختلفوا هل فعل بهم ذلك أم لا؟ فنقل عن ابْنِ عبَّاسٍ أنَّهُ فعل بهم ذلك .
وقال غيره : لم يقع من فرعون ذلك ، بل استجاب اللَّه دعاءهم في قولهم : « وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ » .
وقوله : { إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ } جَوَّزُوا في هذا الضَّمير وجهين ، أحدهما : أنَّهُ يَخُصُّ السَّحرةَ ، لقوله بعد ذلك { وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ } فإنَّ الضَّميرَ في مِنَّا يَخُصُّهُمْ .
وجَوَّزُوا أن يعود عليهم ، وعلى فرعون ، أي : إنَّا - نحن وأنت - ننقلب إلى للَّهِ ، فيُجازي كلاًّ بعمله ، وهذا وإن كان هو الواقعَ إلاَّ أنَّهُ ليس من هذا اللَّفظِ .
قوله وَمَا تَنقِمُ قد تقدَّم في المائدةِ أنَّ فيه لغتين وكيفية تعدِّيه ب « مِنْ » وأنَّهُ على التَّضمين .
وقوله : { إلاَّ أنْ آمنَّا } يجوز أن يكون في محلَِّ نصبٍ مفعولاً به ، أي : ما تَعِيبُ علينا إلاَّ إيماننا ويجوزُ أن يكون مفعولاً من أجله ، أي : ما تنال مِنَّا وتعذِّبنا لشيءٍ من الأشياء إلاَّ لإيماننا وعلى كلا القولينِ فهو استثناءٌ مفرغ .
قوله « لَمَّا جَاءَتْنَا » يجوزُ أن تكون ظرفيةً كما هو رأي الفارس ، وأحد قولي سيبويه ، والعامِلُ فيها على هذا آمَنَّا أي : آمنَّا حين مجيء الآيات ، وأن تكون حرف وجوب لوجوب ، وعلى هذا فلا بدَّ لها من جواب وهو محذوف تقديره : لما جاءتنا آمّنا بها من غير توقّف .
قوله : « لَمَّا جَآءَتْنَا » معنى الإفراغ في اللَّغَةِ : الصَّبُّ . وأصله من إفراغ الإناء وهو صب ما فيه بالكليَّة ، فكأنَّهُمْ طلبوا من اللَّه كلَّ الصَّبْرِ لا بعضه .
ونكَّرُوا « الصَّبْر » وذلك يدلُّ على الكمالِ والتَّمَامِ ، أي : صبراً كَاملاً تاماً ، كقوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ } [ البقرة : 96 ] أي : على حياة كاملة تامَّةٍ .
وقوله : { وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } أي : توفنا على الدِّين الحقِّ الذي جاء بِهِ موسى . واحْتَجَّ القاضي بهذه الآية على أنَّ الإيمان والإسلامَ واحد .
فقال : إنَّهُم قالوا أوَّلاً : { آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا } ، ثمَّ ثانياً ، « وَتَوَفَّنَا مُسْلِمينَ » ، فوجب ان يكون هذا الإسلام هو ذاك الإيمان .
قوله : { وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأرض } .
[ اعلم أن فرعون كان كلما رأى موسى خافه أشد الخوف ، فلهذا لم يحبسه ولم يتعرض له بل خلى سبيله ، فقال له قومه : أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ] .
أي : يُفسدوا على النَّاسِ دينَهُمْ .
قوله : « وَيَذَركَ » العامةُ « ويَذَرَكَ » بالغيبةِ ، ونصب الرَّاءِ ، وفي النَّصْبِ وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ عطف على « لِيُفْسِدُوا » والثاني : أنَّهُ منصوبٌ على جواب الاستفهام كما يُنْصب في جوابه بعد الفاء؛ كقول الحُطيئةِ : [ الوافر ]
2545 - ألَمْ أكُ جَارَكُمْ ويكُونَ بَيْنِي ... وبَيْنَكُمُ المَوَدَّةُ والإخَاءُ؟
والمعنى : كيف يكون الجمعث بين تَرْكِكَ موسى وقومه مفسدين ، وبين تركهم إيَّاك وعبادةِ آلهتك ، أي : لا يمكن وقوعُ ذلك .
وقرأ الحسنُ في رواية عنه ونعيمُ بن ميسرة « وَيَذَرُكَ » برفع الرَّاء ، وفيها ثلاثة أوُجه :
أظهرها : أنَّه عطف نسق على « أتذر » أي : أتطلق له ذلك .
الثاني : أنه استئناف أي ، إخبار بذلك .
الثالث : أنَّهُ حالٌ ، ولا بدَّ من إضمارِ مبتدأ ، أي : وهو يَذَرُكَ .
وقرأ الحسنُ أيضاً والأشهبُ العُقَيْلِيُّ « وَيَذَرْكُ » بالجزم ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّه جزم على التَّوهُّم ، كأنه توهَّم جزم « يُفْسِدُوا » في جواب الاستِفْهَامِ وعطف عليه بالجزمِ ، كقوله : { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن } [ المنافقون : 10 ] بجزم « أكُنْ » .
والثاني : أنَّهَأ تخفيفٌ كقراءة أبي عمرو { يَنصُرْكُمُ } [ آل عمران : 160 ] وبابه .
وقرأ أنس بن مالك « ونَذَرُكَ » بنون الجماعة ورفع الرَّاءِ ، تَوَعَّدُوهُ بذلك ، أو أنَّ الأمْرَ يؤولُ إلى ذلك فيكونُ خبراً محضاً . وقرأ عبد الله والاعمش بما يخالف السَّوادَ ، فلا حاجة إلى ذكره .
وقرأ العامةُ « آلهَتَكَ » بالجمع .
رُوِيَ أنه كان يعبدُ آلهةً متعددة كالبَقَرِ ، ولذلك أخرجَ السَّامري لهم عجلاً ، ورُوي أنَّهُ كان يعبدُ الحِجارةَ والكواكب ، أو آلهتَه التي شَرَعَ عبادَتَها لهم وجعل نَفْسَهُ الإله الأعلى في قوله : { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 24 ] .
وقرأ علي بنُ أبي طالب ، وابنُ مسعود ، وابن عبَّاسٍ ، وأنسٌ وجماعة كثيرةٌ « وإلاهتكَ » ، وفيها وجهان :
أحدهما : أنَّ « الإلاهَةَ » اسمٌ للمعبود ، ويكونُ المرادُ بها معبودَ فرعون ، وهي الشَّمْسُ .
رُوى أنَّهُ كان يعبُد الشَّمْسَ ، والشَّمْسُ تُسَمَّى « الإهَةً » ، عَلَماً عليها ، ولذلك مُنِعَت الصَّرف ، للعمليَّة والتأنيث؛ قال الشَّاعرُ : [ الوافر ]
2546 - تَرَوَّحْنَا مِنَ اللَّغْباءِ عَصْراً ... فأعْجَلْنَا الإلهَةَ أنْ تَئُويَا
والثاني : أنَّ الإلاهة مصدرٌ بمعنى العبادة ، أي وتذرُ عبادتك ، لأنَّ قومه كانوا يعبدونه .
ونقل ابنُ الأنْباري عن ابن عبَّاسٍ أنَّهُ كان يُنكر قراءة العامَّة ، ويقرأ « وإلاهتك » ، وكان يقول : إنَّ فرعون كان يُعْبَدُ ولا يَعْبُدُ .
قال ابنُ الخطيبِ : والذي يخطر ببالي أنَّ فرعون إن قلنا : إنَّه ما كان كامل العقل لم يَجُزْ في حكم اللَّهِ تعالى إرسال الرسول إليه ، وإن كان عَاقِلاً لم يَجُز أنْ يعتقدَ في نفسه كونه خالقاً للسَّمواتِ والأرضِ ، ولم يجز في الجمع العظيم من العقلاء أن يعتقدوا فيه ذلك ، لأنَّ فسادهُ معلوم بالضَّرُورةِ ، بل الأقربُ ان يقال : إنَّهُ كان دَهْرياً مُنكراً لوجود الصَّانِع ، وكان يقُولُ : مُدبِّرُ هذا العالم السُّفْلي هو الكواكِبُ ، وأنا المخدوم في العالمِ للخلق ، والمُربي لهم فهو نفسه .
فقوله : { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 24 ] أي : مُرببكم والمنعم عليكم والمطعم لكم .
وقوله : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي } [ القصص : 38 ] أي : لا أعلم لكم أحداً يجب عليكم عبادته إلاَّ أنا ، وإذا كان مذهبه ذلك لم يبعد أن يقال إنَّهُ كان قد اتخذ أصناماً على صور الكواكب يعبدها ، ويتقرب إليها على ما هو دين عبدة الكواكب ، وعلى هذا فلا امتناع في حمل قوله تعالى : { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } على ظاهره .
قوله : « قَالَ سَنُقَتِّلُ » قرأ نافعٌ وابْنُ كثير بالتخَّفيفِ سنقتل والباقون بالتضعيف لتعدُّد المحالّ . وسيأتي أنَّ الجماعة قَرَءُوا « يُقَتِّلُونَ أبناءكم » بالتضعيف إلاَّ نافعاً فيخفف .
فتخلص من ذلك انَّ نافعاً يقرأ الفعلين بالتخفيف ، وابن كثير يُخَفف « سنَقْتُل » ويثقل « يُقَتِّلُونَ » ، والباقون يثقِّلونها .
قوله : « ونستحيي نِسَاءهُمْ » . أي نتركهم أحياء . والمعنى : أنَّ موسى إنَّما يُمْكنه الإفسادُ برهطه وبشيعته فنحنُ نسسعى في تقليل رهطه وشيعته ، بأنْ نقتِّلَ أبناء بني إسرائيل ، ونستحيي نساءهم .
ثم بَيِّن أنَّهُ قادرٌ على ذلك بقوله : { وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } أي : إنَّمَا نترك موسى لامِنْ عجزٍ وخوفٍ ، ولو أردنا البَطْشَ به لقدرنا عليه .
قال ابنُ عباس : أمر فرعون بقتل أبناء بني إسرائيل ، فشكت ذلك بنو إسرائيل إلى موسى ، فقال لهم مُوسَى : { استعينوا بالله واصبروا إِنَّ الأرض للَّهِ } يعني أرض مصر .
قوله : « يُورِثهَا » في محلِّ نصب على الحَالِ ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : الجلالة ، أي هي له حال كونه مُورِثاً لها من يشاؤه .
والثاني : أنَّه الضَّميرُ المستترُ في الجَارِّ أي : إنَّ الأرضَ مستقرة للَّهِ حال كونها مُوَرَّثَةً من الله لمن يشاءُ ، ويجوز أن يكون « يُورِثُهَا » خبراً ثانياً ، وأنْ يكون خبراً وحده ، و « لِلَّهِ » هو الحالُ ، و « مَن يشاءُ » مفعولٌ ثاني ويجوزُ أن تكون جملةً مستأنفة .
وقرأ الحسنُ ، ورُويت عن حفص « يُوَرِّثُهَا » بالتشديد على المبالغة ، وقرئ « يُورَثها » بفتح الراء مبنياً للمفعول ، والقائم مقام الفاعل هو : « مَن يَشَاءُ » . والألفُ واللاَّم في « الأرض » يجوزُ أن تكون للعهدِ ، وهي أرضُ مصر كما تقدَّم ، أو للجنس ، وقرأ ابن مسعود بنصب « العَاقِبَة » نسقاً على الأرض و « للمتَّقينَ » خبرُها ، فيكون قد عطف الاسم على الاسم ، والخبر على الخبر فهو مِنْ عطف الجمل .
فصل
قال الزخشريُّ : فإن قلت : لِمَ أخليَتْ هذه الجملة من الواو وأدخلتْ على الَّتي قبلها؟ .
قلت : هي جملةٌ مبتدأةٌ مستأنفةٌ ، وأمَّا : « وقَالَ الملأ » فهي معطوفة على ما سبقها من قوله : { وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ } . والمرادُ من قوله : « والعاقِبَةُ » أي النَّصْرُ والظفر ، وقيل : الجَنَّةُ .
فصل
قوله : { قالوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } . لما هدَّد فرعونُ قوم موسى وتوعدهم خافوا ، و { قالوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا } لأنَّهم كانُوا قبل مجيء موسى - عليه الصلاة والسلام - كانوا مستضعفين في يد فرعون ، يأخذُ منهم الجزية ويستعملهم في الأعمالِ الشَّاقة ، ويمنعهم من الترفة ، ويقتل أبناءهم ، ويستحيي نساءهم ، فلمَّا بعث اللَّهُ موسى - عليه الصَّلاة والسلام - قوي رجاؤُهم في زوال تلك المضار ، فلما سمعوا تهديدَ فرعون ثانياً عظُم خوفُهثم ، فقالوا هذا الكلام .
فصل
فإن قيل : هذا القول يدلُّ على كراهتهم مجيء موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - وذلك يوجب الكفر .
فالجواب : أنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - لمَّا جاء وعدهم بزوال تلك المضار فَظَنُّوا أنَّهَا تزول على الفور ، فلَّما رأوا أنَّهَا ما زالت رجعوا إليه في معرفة كيفية ذلك الوعد ، فبيَّن لهم موسى - عليه السلام - أن الوعدَ بإزالتها لا يُوجِب الفور ، بل لا بدَّ أن يستنجزَ ذلك الوعد في الوقت المقدر لَهُ .
فالحاصل أنَّ هذا ما كان نُفرةً عن مجيء موسى بالرِّسالةِ ، بل استكشافاً لكيفية ذلك .
فعند هذا قال موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - : { عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } . قال سيبويه : « عَسَى » طمع وإشفاق . قال الزَّجَّاجُ : وما يطمع اللَّه فيه فهو واجب .
ولقائل أن يقول : هذا ضعيف؛ لأنَّ لفظ « عسى ههنا ليس كلام اللَّه بل هو حكاية عن كلام موسى ، ويُجاب بأنَّ هذا الكلامِ إذا صدر عن الرسول الذي ظهرت نبوته بالمعجزات أفاد قوة اليقين فَقَوَّى موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - قلوبهم بهذا القولِ وحقَّق عندهم الوعدَ ليصبروا ويتركوا الجزع المذموم .
قال القرطبي : « جَدَّدَ لهم الوعدَ وحقَّقَهُ . وقد استُخلفوا في مصر في زمن داود وسليمان - عليهما الصَّلاة والسَّلام - ، وفتحثوا بيت المقدس مع يُوشع بن نون كما تقدم ، وروي أنهم قالوا ذلك حين خرج بهم موسى ، وتبعهم فرعون ، فكان وراءهم ، والبحرُ أمامهم ، فحقَّقَ اللَّه الوعد : بأن غرق فرعون وقومه ، وأنجاهم » .
ثُم بيَّن بقوله : { فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } ما يَجْرِي مجرى الحثِّ له على التَّمسُّك بطاعة اللَّهِ .
واعلم أنَّ النظر قد يُراد به النَّظر الذي يفيد العِلْمَ ، وهو على اللَّهِ محال ، وقد يُرَادُ به تقليب الحدقة نحو المرئيّ التِمَاساً لرؤيته وهو أيضاً على اللَّهِ محال ، وقد يراد به الرُّؤية ، ويجب حملُ اللَّفْظِ ههنا عليها .
قال الزَّجَّاجُ : أي يرى ذلك بوقوع ذلك منكم ، لأنَّ اللَّه تعالى لا يجازيهم على ما يعلمه منهم وإنَّمَا يجازيهم على ما يقعُ منهم .
فإن قيل : إذا حملتم هذا النَّظَر على الرُّؤيَةِ لزم الإشكالُ ، لأن الفاءَ في قوله : « فَيَنْظُرَ : » للتعقيب ، فيلزم أن تكون رؤية اللَّهِ لتلك الأعمال متأخرة عن حصول تلك الأعْمَالِ ، وذلك يُوجِبُ حُدُوث صفة في ذات اللَّهِ .
فالجواب : أن المعنى تعلُّق رؤية اللَّه تعالى بذلك الشَّيءِ ، والتَّعلق نسبة حادثة ، والنِّسَبُ والإضافاتُ؛ لا وجود لها في الأعيانِ ، فلم يلزم حدوث الصِّفةِ الحقيقية في ذات اللَّهِ تعالى .
وقد حَقَّقَ اللَّهُ ذلك الوعدَ ، فأغرق فرعون واستخلفهم في ديارهم ، وأموالهم؛ فعبدُوا والعِجْلَ .
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
لما قال موسى لقومه : { عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } [ الأعراف : 29 ] بدأ بذكر ما أنزل بفرعون وقومه من المِحَنِ حالاً بعد حال ، إلى أن وصل الأمرُ إلى الهلاكِ تنبيهاً للمكلَّفين على الزَّجْرِ عن الكفر .
« والسِّنينَ » : جمعُ سنة ، وفيها لغتان أشهرهما : إجْرَاؤُهُ مُجرَى المُذكر السَّالم فيُرفع بالواو ويُنْصَبُ ويُجَرُّ بالياء ، وتُحْذَفُ نُونُه للإضافة .
قال النُّحَاةُ : إنَّمَا جرى ذلك المجرى جَبْراً لما فاته من لامة المحذوفةِ ، وسيأتي في لامه كلامٌ ، واللغة الثانيةُ : أن يُجْعَلَ الإعرابُ على النُّون ولكن مع الياء خاصَّةً . نقل هذه اللُّغة أبُو زيد والفراءُ . ثم لك فيها لغتان : إحدهما : ثبوتُ تنوينها . والثانية : عدمهُ .
قال الفرَّاءُ : هي في هذه اللُّغة مصروفة عند بني عامر ، وغير مصروفة عند بني تميم ، ووجه حذف التنوين التَّخفيف ، وحينئذ لا تُحْذَفُ النُّون للإضافة وعلى ذلك جاء قوله : [ الطويل ]
2547 - دَعَانِيَ مِنْ نَجْدٍ فإنَّ سِنِينَهُ ... لَعْبِنَ بِنَا شيباً وشَيِّبْنَنَا مُرْدَا
وجاء في الحديث : « اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عليهم سنينَ كَسِنِي يُوسُفَ » « وسِنيناً كسِنِينِ يُوسفُ » باللُّغتين ، وفي لام سَنَةٍ لغتان ، أحدهما : أنَّهَا واو لقولهم : سنوات وسَانَيْتُ ، وسُنَيَّةٌ . الثانية : أنَّها هاء لقولهم : سانَهْتُ وسَنَهَات وسُنَيْهَة ، وليس هذا الحكمُ المذكور أعني : جريانه مجرى جمع المذكر أو إعرابه بالحركات مقتصراً على لفظ « سِنينَ » بل هو جارٍ في كلِّ اسم ثلاثي مؤنث حُذِفَتْ لامُهُ ، وعُوِّضَ منها تَاءُ التَّأنيثِ ، ولم يُجْمَع جمع تكسير نحو : ثُبَةٍ وثُبين ، وقُلة ، وقُلينَ .
فصل
قال شهابُ الدِّين : « وتَحرَّزْتُ بقولي : حُذِفَتْ لامُه مِمَّا حُذِفَتْ فاؤه ، نحو : لِدة وعِدَة .
وبقولي ولم يُجْمع جمع تكسير من ظُبَةٍ وظُبّى ، وقد شَذَّ قولهم : لِدُونَ في المحذوف الفاء ، وظِبُونَ في المكسَّر .
2548 - يَرَى الرَّاءُونَ بالشَّفرَاتِ مِنْهَا ... وقُودَ أبِي حُبَاحِبَ والظُّبِينَا
واعلم أنَّ هذا النَّوَع إذَا جَرَى مَجْرَى الزيدينَ فإنْ كان مكسورَ الفاء سَلِمَتْ ، ولم تُغَيَّر نحو : مائة ومئين ، وفئة وفئين ، وإنْ كان مفتوحها كُسِرَتْ نحو : سنين ، وقد نُقِلَ فَتْحُها وهو قليلٌ جدّاً ، وإن كان مضمومَهَا جاز في جمعها الوجهان : أعني السَّلامة ، والكسر نحو : ثُبين وقُلين .
قال أبُو عَلِي : السَّنة على معنيين : أحدهما : يراد بها العام . والثاني : يراد بها الجدْب .
وقد غلبت السَّنَةُ على زمانِ الجدْبِ ، والعام على زمان الخصب حتى صَارَا كالعلم بالغلبة ولذلك أشتقُّوا من لفظ السَّنَةِ فقالوا : أسْنَتَ القَوْمُ .
قال : [ الكامل ]
2549 - عَمْرُوا الذي هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ ... ورِجَالُ مَكَّةَ مُسْنتُونَ عِجَافُ
وقال حاتم الطائِيُّ : [ الطويل ]
2550 - فإنَّا نُهِينُ المَالَ مِنْ غَيْرِ ضِنَّةٍ ... وَلاَ يَشْتَكِينَا في السِّنينَ ضَرِيرُهَا
ويُؤيِّدُ ذلك في سورة يوسف [ الآية 47 ] : » { تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً } ثم قال : { سَبْعٌ شِدَادٌ } [ يوسف : 48 ] فهذا في الجدب .
وقال : { ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس }
[ يوسف : 49 ] .
وقوله : « مِنَ الثَّمَرَاتِ » متعلِّق ب « نَقْصٍ » .
قال قتادةُ : أمَّا السنُونَ فلأهل البوادي ، وأمَّا نقص الثَّمراتِ فلأهل الأمصار .
« لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُّونَ » يتَّعظون ، وذلك لأنَّ الشدة ترقق القلوب ، وترغب فيما عند اللَّهِ .
قال تعالى : { وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ } [ فصلت : 51 ] .
فصل
قال القاضي : هذه الآية تدلُّ على أنَّهُ تعالى فعل ذلك لإرادة أن يذكَّرُوا وأنْ لا يقيموا على كفرهم ، وأجاب الواحديُّ : « بأنَّهُ قد جاء لفظا الابتلاء ، والاختبار في القرآن لا بمعنى أنَّه تعالى يمتحنهم ، لأنَّ ذلك على اللَّهِ مُحَالٌ ، بل إنَّ تعالى عاملهم معاملة تشبه الابتلاء ، والامتحان ، فكذا ههنا » .
ثم بيَّن أنَّهُم عند نزول تلك المحن عليهم يزيدون في الكُفْرِ ، والمعصيةِ .
فقال : { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الحسنة قَالُواْ لَنَا هذه } .
قال ابْنُ عبَّاسٍ : يُريد بالحسنةِ : العُشْبَ ، والخصب ، والمواضي ، والثَّمار وسعة الرزق ، والعافية ، أي : نحن أهلها ومستحقُّها على العادة فلم يشكروا ويقوموا لِلَّهِ بحق النِّعمة . { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } أي : قَحْط وجدْب وبلاء ومرض : { يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ } أي : يتشاءمُوا بموسى ، ومن معه ، ويقولُوا : إنَّمَا أصَابَنا هذا الشَّرُّ بِشُؤمِ مُوسَى وقومه .
قال سعيدُ بْنُ جبيرٍ ومحمَّدُ بنُ المُنْكَدرِ : كان مُلْكُ فرعون أربعمائة سنة ، وعاش ستمائة وعشرين سنة لا يرى مكروهاً ، ولو كان حصل لَهُ في تلك المُدَّة جوع يوم أو حمى ليلة أو وجع ساعة لَمَا ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ قط .
فصل
أتى في جانب الحَسَنَة ب « إذا » الَّتي للمحقق ، وعُرِّفَتِ الحسنة ، لسعة رَحْمَةِ اللَّهِ تعالى ، ولأنَّها أمر محبوبٌ ، كلُّ أحدٍ يتمانه ، وأتى في جانب السيئة ب « إن » التي للمشكوك فيه ، ونُكِّرتِ السيئة ، لأنَّهُ أمرٌ كل أحدٍ يَحْذَره . وقد أوضح الزمخشري ذلك فقال : فإن قلت : كيف قيل فإذا جَاءَتْهُمْ الحسنةُ ب « إذا » وتعريفُ الحسنة و { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } ب « إن » وتنكير السيئة؟
قلت : لأنَّ جنسَ الحسنة وقوعه كالواجب ، لكثرته واتِّساعه ، وأمَّا السَّيَّئةُ فلا تقع إلاَّ في الندرَةِ ، ولا يقع إلاَّ شيء منها ، وهذا من محاسن عِلْمِ البَيَانِ .
قوله « يَطَّيَّرُوا » الأصْلُ : « يتطيَّروا » فأدغمتِ التَّاءُ في الطَّاءِ ، لمقاربتها لها .
وقرأ عيسى بنُ عُمَرَ : وطلحةُ بنُ مصرف « تَطَيَّروا » بتاءٍ من فوق على أنَّهُ فعلٌ ماضٍ وهو عند سيبويه وأتباعه ضرورةٌ . إذ لا يقعُ فعل الشَّرْطِ مضارعاً ، والجزاء ماضياً إلاَّ ضرورةً ، كقوله : [ الخفيف ]
2551 - مَنْ يَكِدْنِي بِسَيِّىءٍ كُنْتُ مِنْهُ ... كالشَّجَى بَيْنَ حَلْقِهِ والوريدِ
وقوله : [ البسيط ]
2552 - إن يَسْمَعُوا سُبَّةً طَارُوا بِهَا فَرحاً ... مِنِّي وما يَسْمَعُوا مِنْ صالحٍ دَفَنُوا
وقد تقدَّم الخلافُ في ذلك . والتَّطير : التَّشاؤُم ، وأصلُهُ ، أن يُفَرَّق المالُ ويطير بين القوم فيطير لِكُلِّ أحدٍ حظَّه ، ثمَّ أطلق على الحَظِّ ، والنَّصيب السَّيِّىء بالغَلبَةِ .
وأنشدوا للبيد : [ الوافر ]
2553 - تَطِيرُ عدائِدُ الأشْرَاكِ شَفْعاً ... وَوِتْراً والزَّعَامَةُ لِلْغُلامِ
الاشْرَاكَ جمع شِرْكٍ ، وهو النَّصيب . أي : طار المال المقسوم شَفْعاً للذَّكر ، وَوِتْراً للأنثى والزَّعامةَ : أي : الرِّئاسة للذكر ، فهذا معناه : تَفَرَّق ، وصار لكُل أحد نصيبُه ، وليس من الشُّؤمِ في شيءٍ ، ثم غلبَ على ما ذكرناه .
قوله : { ألا إنما طائرهم عند الله } أي حَظُّهم ، وما طار لهم في القضاء والقدر ، أو شؤمهم أي : سبب شؤمهم عند الله ، وهو ما ينزله بهم .
قال ابن عباس : يريد شؤمهم عند الله ، وهو ما ينزله بهم .
قال ابن عباس : يريد شُؤمَهُمْ عند الله ، أي من قِبَل الله ، أي : إنما جاءهم الشَّرُّ بقضاءِ الله وحُكْمِهِ .
قال الفَرَّاءُ : وقد تَشَاءَمَت اليهود بالنبي - عليه السلام - ب « المدينة » ، فقالوا : غَلَتْ أسْعَارُنَا ، وقَلَّتْ أمطارنا مذ أتانا ، وكثرت أمواتنا .
ثم أعلم الله على لسان رسوله - عليه السلام - أن طيرتهُمْ باطلة ، فقال : « لا طيرة ولا هامة » - وكان النبي عليه السلام يَتفَاءَلُ ولا يَتَطَيَّرُ .
وأصل الفَألِ : الكلمة الحسنة ، وكانت العرُب مذهبها في الفَألِ والطِّيرةِ واحداً ، فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم الفَألَ ، وأبطل الطِّيرةَ . والفَرْقُ بينهما أن الأرْوَاحَ الإنسانية أقوى وأصْفَى من الأرواح البهيمية والطيرية ، فالكلمة التي تَجْري على لسان الإنسان يمكن الاسْتِدْلالُ بها؛ بخلاف طيرانِ الطير ، وحَرَكَاتِ البهائم ، فإن أرْوَاحَهَا ضعيفة ، فلا يمكن الاستدلالُ بها على شيء من الأحوال ، ثم قال تعالى : { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ أي ] : أن الكل من الله تعالى؛ لأن أكثر الخَلْقِ يُضِيفُونَ الحوادث إلى الاسبابِ المحسوسة ، ويقطعونها عن قضاءِ الله وقَدجره ، والحق أن الكل من الله؛ لأن كل موجود إما واجب لذاته ، أو ممكن لذاته ، والواجب لِذَاتِهِ واحد ، وما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الوَاجِبِ لذاته ، فكان الكل من الله - تعالى - ، فإسنادها إلى غير الله يكون جَهْلاً بكمال الله تعالى .
قال الأزهريُّ : قيل للشُّؤم طاءر وطير ، لأنَّ العرب كانت إذ خرجت وطار الطَّائِرُ ذات اليسار تشَاءَمُوا بها ، فَسَموا الشؤمَ طيراً وطَائِراً لتشاؤمهم بها .
قال القُرْطُبِيُّ : وأصل هذا من الطِّيرةِ وزجر الطَّيْرِ ، ثمَّ كَثُر استعمالهم حتَّى قيل لِكُلَ مَنْ تشاءم : تَطّيَّر . وكانت العربُ تَتَيَمَّن بالسَّانِحِ : وهو الذي يأتي من ناحية اليَمينِ وتتشاءهم بالبَارحِ : وهو الذي يأتي من ناحية الشّمَالِ . وكانوا يَتَطَيَّرُون أيضاً بِصَوْتِ الغراب ويتأوَّلُونَهُ البَيْن ، ويستدلُّونَ بمجاوبات الطيور بعضها بعضاً على أمور ، وبأصواتها في غير أوقاتها المَعْهُودَة على مثل ذلك .
ويتطيّر الأعاجم إذَا رَأوْ صَبِيّاً يُذْهَب به إلى المُعَلِّم بالغَدَاةِ ، وَيَتَيمَّنُون برؤية صبيٍّ يرجع من عند المعلم إلى بيته ، ويَتَشَاءَمُونَ برؤية السَّقَّاء على ظهره قِرْبَةٌ مملوءةٌ مشدودة ، ويتيمَّنُونَ برؤية فارغ السِّقاءِ مفتوحة ، ويتشاءَمُونَ برؤية الحَمَّالِ المُثْقَل بالْحِمْلِ والدَّابَّة الموقرة ، وَيَتَيَّمنُونَ بالحَمَّال الذي وضع حمله ، وبالدَّابة الَّتي وضع عنها .
فَجَاء الإسْلامُ بالنَّهْيِ عن التَّطيُّرِ ، والتَّشَاؤُم بما يُسمع من صوت طائر ما كان ، وعلى أيّ حال كان؛ فقال عليه الصلاة والسلام : « أقرُّوا الطَّيْرَ عَلَى مُكُنَاتِهَا » وذلك أن كثيراً من أهل الجاهليةِ كان إذا أراد الحَاجَةَ ذهب إلى الطَّير في وَكْرها فنفَّرها فإذا أخذت يميناً مضى إلى حاجته ، وهَذَا هو السَّانِحُ عندهم ، وإن أخذت شمااً رجع وهذا هو البَارحُ عندهم ، فنهى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عن هذا بقوله « أقِرُّوا الطَّيْرَ على مُكنَاتِهَا » هكذا في الحديث .
وأهل العربيَّة يقولون : « وكناتِهَا » ، والوكْنَةُ : اسمٌ لكلِّ وَكْرٍ وعشٍّ . والوَكْنُ : اسمٌ للموضع الذي يبيض فيه الطَّائِرُ ويُفرخُ ، وهُوا الخَرْقُ في الحِيطَانِ والشَّجرِ .
ويقال : وَكَنَ الطائرُ يَكِنُ وَكْناً ووكُوناً : دخل في الوَكْنِ ، ووكن بَيْضَهُ ، وعليه : حضنه ، وكان أيضاً من العرب من لا يرى التَّطيُّرَ شيئاً نقله القرطبيُّ .
وروى عبد اللَّهِ بنُ عمرو بن العاصِ عن رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ، قال : « مَنْ رَجَّعَتْهُ الطِّيرةُ عن حَاجَتِه فَقَدْ أشْرَكَ » .
قيل : وما كفارةُ ذلك يا رسُول اللَّهِ .
قال : « أنْ يقُولَ أحَدُكم : اللَّهُمَّ لا طَيْرَ إلاَّ طَيْرُكَ ، ولا خَيْرَ إلاَّ خَيْرُكَ ، وَلاَ إله غَيرُك ، ثُمَّ يمضي إلى حاجته »
قوله { وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا } . لَمَّا حكى عنهم أوَّلاً أنَّهم بجهلهم أسْنَدُوا الحوادث إلى قضاء اللَّه وقدره ، حكى عنهم ثانياً نوعاً آخر من الجهل والضَّلالة ، وهو أنَّهم لم يُميّزُوا بين المعجزاتِ والسّحر ، وجعلوا آيات موسى مثل انقلاب العَصَا حَيَّة .
وقالُوا ذلك من باب السِّحر فلا يقبلُ منها شيء .
« مَهْمَا » اسمُ شرطٍ يجزم فعلين ك « إنْ » هذا قولُ جمهور النُّحَاةِ ، وقد تأتي للاستفهام وهو قليلٌ جداً .
كقوله : [ الرجز ]
2554- مَهْمَا لِيَ اللَّيْلَةَ مَهْمَا لِيَهُ؟ ... أوْدَى بِنَعْلَيَّ وسِربَالِيَهْ
يريد : ما لي اللِّيلة مالي؟ والهاءُ للسَّكت . وزعم بعض النُّحاة أنَّ الجازمةَ تأتي ظرف زمان؛ وأنشد : [ الطويل ]
2555 - وإنَّكَ مَهْمَا تُعْطِ بَطْنَكَ سُؤلَهُ ... وَفَرْجَكَ نَالا مُنْتَهَى الذَّمِّ أجْمَعَا
وقول الآخر : [ الكامل ]
2556- عَوَّدْتَ قَوْمَكَ أنَّ كُلَّ مُبَرَّزٍ ... مَهْمَا يُعَوَّدْ شِيَمةً يتَعَوَّدِ
وقول الآخر : [ الكامل ]
2557 - نُبِّئْتُ أنَّ أبَا شُتَيْمٍ يَدَّعِي ... مَهْمَا يَعِشُ يَسْمَعْ بمَا لَمْ يَسْمَعِ
قال : ف « مَهْمَا » هنا ظرف زمان ، والجمهور على خلافه ، وما ذكره متأوّل ، بل بعضُهُ لا يظهر فيه للظَّرفية معنى ، وشنَّع الزمخشري على القائل بذلك .
فقال : وهذه الكلمة في عداد الكلمات الَّتي يُحَرِّفُهَا مَنْ لا يدّ له في علم العربية ، فيضعها في غير موضعها ويحسب « مَهْمَا » بمعنى « متى ما » .
ويقولُ : مَهْمَا جئتني أعطيتك ، وهذا من كلامِهِ ، وليس من واضع العربية ، ثم يذهبُ فيفسِّر : { مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ } [ الأعراف : 132 ] بمعنى الوقت ، فَيُلْحد في آيات اللَّهِ ، وهو لا يشعر ، وهذا وأمثاله مِمَّا يُوجب الجُثُوَّ بين يدي النَّاظر في كتاب سيبويه .
قال شهابُ الدِّين : هو معذورٌ في كونها بمعنى الوقت ، فإن ذلك قولٌ ضعيفٌ ، لم يَقُلْ به إلاَّ الطَّائفة الشَّاذَّةُ .
وقد قال جمال الدِّين بْنُ مالكٍ : جميع النَّحويين يقول إنَّ « مَهْمَا » و « مَا » مثل « مَنْ » في لزوم التَّجرُّدِ عن الظَّرف ، مع أنَّ استعمالها ظرفين ثابتٌ في أشعار فصحاء العرب . وأنشد بعض الأبْياتِ المتقدمة
وكفى بقوله جميع النَّحويين دليلاً على ضَعْف القول بظرفيتهما . وهي اسمٌ لا حرفٌ ، بدليل عَوْد الضَّمير عليها ، ولا يعودُ الضَّمير على حرف؛ لقوله : { مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ } فالهاءُ في « بِهِ » تعود على « مَهْمَا » وشَذَّ السُّهيليُّ فزعم أنَّهم قد تأتي حرفاً .
واختلف النَّحويون في « مَهْمَا » هل هي بسيطة أو مركبة؟ والقَائِلُونَ بتركيبها اختلفوا : فمنهم مَنْ قال : هي مركبة مِنْ « مَا مَا » كُرِّرَتْ « ما » الشَّرطيَّة توكيداً ، فاستثقل توالي لفظين فأبْدِلَت ألف « ما » الأولى هاء .
وقيل : زيدت « ما » على « ما » الشَّرطية ، كما يُزَادُ على « إنْ » « ما » في قوله : « فَإمَّا يَأتينَّكُم » .
فَعُمِلَ العمل المذكور للثقل الحاصل ، وهذا قولُ الخليل وأتباعه من أهل البصرة .
وقال قَوْمٌ : هي مركبة من مَهْ التي هي اسم فعلٍ بمعنى الزَّجْر ، و « مَا » الشَّرطيَّة ثم رُكِّبت الكلمتان فصارا شَيْئاً واحداً .
وقال بعضهم : لا تركيب فيها هنا ، بل كأنَّهُم قالوا له مَهْ ، ثم قالوا { مَا تَأْتِنَا بِهِ } ويُعْزَى هذان الاحتمالان للكسائيِّ .
قال شهابُ الدِّين : « وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنَّ ذلك قد يأتي في موضع لا زَجْرَ فيه ، ولأنَّ كتابتها متصلة ينفي كون كلٍّ منهما كلمةً مستقلة » .
وقال قومٌ : إنَّهَا مركَّبةً من « مَهْ » بمعنى اكفف و « مَن الشَّرطيَّةِ » ؛ بدليل قول الشاعر : [ الطويل ]
2558 - أماوِيَّ مَهْمَنْ يَسْتَمِعْ في صديقِهِ ... أقَاوِيلَ هذا النَّاسِ مَاوِيَّ يَنْدَمِ
فأبْدِلَتْ نونُ « مَنْ » ألفاً كما تبدل النُّونُ الخفيفة بعد فتحة ، والتَّنوين ألفاً ، وهذا ليس بشيء بل « مَهْ » على بابها من كونها بمعنى : اكْفُفْ ، ثم قال : مَنْ يستمعُ .
وقال قوم : بل هي مركَّبة مِنْ « مَنْ » و « مَا » فأبدلت نونُ « مَنْ » هاءً ، كما أبدلوا من ألف « ما » الأولى هاءً ، وذلك لمؤاخاة مَنْ ما في أشياء ، وإن افترقَا في شيء واحد ، ذكره مكيٌّ .
ومَحَلُّهَا نصبٌ أو رفعٌ ، فالرَّفعُ على الابتداء وما بعده الخبر ، وفيه الخلافُ المشهورُ هل الخبرُ فعلُ الشَّرْط أو فعلُ الجزاء أو هما معاً؟ والنَّصْبُ من وجهين :
أظهرهما : على الاشتغال ويُقَدَّرُ الفعلُ متأخراً عن اسم الشَّرْطِ ، والتقديرُ : مَهْمَا تُخْضِر تَأتِنَا ، ف « تَأتِنَا » مُفَسِّرة ل تُحَضر ، لأنَّهُ من معناه .
والثاني : النصبُ على الظرفية عند مَنْ يَرَى ذلك ، وقد تقدَّم الرَّدُّ على هذا القول ، والضَّميرانِ من قوله بِهِ و « بِهَا » عائدان على « مَهْمَا » ، عاد الأوَّلُ على اللَّفظ ، والثاني المعنى ، فإنَّ معناها الآية المذكورة ، ومثله قول زُهَيْرٍ : [ الطويل ]
2559 - وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِىءٍ مِنْ خَلِيقةٍ ... وإنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ
ومثله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } [ البقرة : 106 ] فأعَادَ الضَّمير على « ما » مؤنثاً ، لأنَّهَا بمعنى الآية .
وقوله : « فَمَا نَحْنُ » يجوز أن تكون « ما » حجازيةً أو تميميةً والباءُ زائدةٌ على كلا القولين ، والجملةُ جوابُ الشَّرْطِ فمحلّها جزم .
فصل
قال ابْنُ عباس ، وسعيد بن جبير وقتادة ومحمد بن إسحاق :
لما قال قوم موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - { مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ } [ الأعراف : 132 ] فهو سِحْرٌ ، ونحن لا نُؤمن بها وكان موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - رجلاً جديداً ، عند ذلك دَعَا عليهم فقال : يا ربِّ إنَّ عبدك فرعون علا في الأرض وبَغَى وَعَتَا ، وإنَّ قومه نَقَضُوا عهدك؛ فَخُذْهُمْ بعقوبةٍ تجعلها لهم نقمةً ولقومي عظة ، ولمن بعدهم آية وعبرة ، فأرسل اللَّهُ عليهم الطُّوفان وهو الماء ، وبيوت بني إسرائيل ، وبيوت القبط مشتبكة ، فامتلأت بيوت القبط حَتَّى قضامُوا في المَاءَ إلى ترابيهم ، ومن جَلَسَ منهم غرق ، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل قطرة ، ودام ذلك عليهم من السَّبت إلى السبت .
فقالوا لموسى : ادْعَ لَنَا رَبَّكَ يَكْشِف عنَّا المطر؛ فنُؤمِنُ بك ، ونرسل معك بني إسرائيل .
فدعا رَبَّهُ فرفع عنهم الطوفان ، وأرسل الرِّيَاحَ فَجَفَّفَت الأرْضُ ، وخرج من النَّبَاتِ مَا لَم يَرَوْا مثله قط ، وأخصبت بلادهم .
فقالوا : ما كان هَذَا الماء إلاَّ نعمة عَلَيْنَا لكنَّا لم نشعر؛ فمكثوا شهراً في عافيةٍ فنكثُوا العهد .
وقالوا : لا نُؤمِنُ بك ، ولا نرسل معك بني إسرائيل؛ فأرْسَلَ اللَّهُ عليهم الجَرادَ ، فأكل عامَّة زرعهم ، وثمارهم ، وأوراق الشَّجَرِ؛ حتَّى أكلت الخَشَبَ وسقوفَ البيُوتِ ومسامير الأبْوابِ من الحديد حتَّى وقع دورهم ، وباتلي الجراد بالجُوعِ فكان لا يشبع ، ولم يصب بني إسرائيل شَيءٌ من ذلك فَضجُّوا إلى موسى .
وقالوا : ادْعُ لَنَا رَبَّكَ لئن كَشَفْتَ عَنَّا لرجز لنؤمنن لك ولنرسلنّ معك بَنِي إسرائيل ، وأعطوه عَهْدَ اللَّهِ وميثاقة .
فَدَعَا موسى رَبَّه فَكَشَفَ عنهم الْجرادَ بعد سبعة أيام ، وفي الخَبَرِ « مَكْتوبٌ على صدر كلّ جرادة جند اللَّهِ الأعظم » فأرسل اللَّهُ ريحاً فحمل الجراد؛ فألقاه في البحر .
وقيل : إنَّ مُوسَى برز إلى الفضاءِ ، وأشارَ بعصاه إلى المشرق والمغرب؛ فرجعت الجراد من حيثُ جاءت .
وكانت قد بقيت من زروعهم ، وغلاتهم بقيّة .
فقالُوا : قد بَقِيَ لَنَا ما يكفينَا ، فَنَقَضُوا العَهْدَ ولم يُؤمنوا ، فأقَامُوا شَهْراً في عافية .
فأرسل اللَّه القملَ سبتاً إلى سبت ، فلم يبق بأرضهم عود أخضر إلاَّ أكلته .
فَصَاحوا بمُوسَى فسأل ربَّهُ ، فأرسل اللَّه عليها ريحاً حارّة فأحرقتها ، وألقتها في البحر فلم يُؤمِنُوا .
فأرسل اللَّهُ عليهم الضَّفادع سبعة أيَّام؛ فخرج من البَحْرِ مثل اللَّيْلِ الدَّامس ووقع في النَّبَاتِ والأطْعِمَةِ ، فكان الرَّجُلُ يجلسُ في الضَّفادع إلى رقبته ، ويهم أن يتكلَّم ، فيثب الضِّفْدَعُ في فِيهِ .
فَصَرَخوا إلى موسى وَحَلَفُوا لَهُ لئن رفعت عنَّا هذا العذاب لنُؤمننَّ بكَ ، فَدَعَا اللَّهُ تعالى فأمات الضَّفادع ، فأرسل عليها المطر؛ فأحملتها ، ثمَّ أقَامُوا شَهْراً ثم نَقَضُوا العهد وعادُوا لكفرهم .
فأرْسَلَ اللَّهُ عليهم الدَّمَ فجرت أنهارهم دماً ، فما يستقون من الآبار والأأنهار إلاَّ وَجَدوهُ دماً عَبِيطاً أحمر ، فَشَكَوْا إلى فرعون .
فقال : إنَّه سحركم وكان فرعون يجمع القبطيَّ والإسرائيلي على الإناءِ الواحد؛ فيكون ما يَلِي الإسرائيليّ ماءً ، وما يَلِي القبطي دماً ، ويقومان إلى البُحَيْرَة فيها الماء ، فيخرج للإسرائيلي ماء وللقبطيّ دماً ، حتى كانت المرأةُ من آلفرعون تأتي المَرْأةَ من بني إسرائيل حينَ جَهَدَهُمُ العَطَشُ فتقولُ : اسقِني من مائك فتصب لها من قربتها؛ فيعود دماً في الإناء ، حَتَّى كانت تَقُولُ اجعليه في فِيكِ ثم مُجِّيهِ فِي فِيَّ فتأخذ في فِيهَا ماءً ، فإذا مَجّته في فِيهَا؛ صَارَ دَماً ، وإنَّ فرعون اضطره العطشُ حتَّى مضغ الأشجار الرَّطْبَةَ فَصَارَ ماؤُها في فِيهِ مِلْحاً أجَاجاً ، فمكثُوا في ذلك سبعة أيام ، فقالوا : يا مُوسى { لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز } [ 134 ] . إلى آخر الآية .
أحدهما : أنَّهُ جمع : طُوفَانة ، أي : هو اسمُ جنس ك : قمح وقمحة ، وشعير وشعيرة .
وقيل : هو مصدرٌ كالنُّقْصَان والرُّجْحان ، وهذا قول المُبَرِّدِ في آخرين والأوّلُ قول الأخْفَشِ .
وقال : هو « فُعْلان » من الطَّواف ، لأنَّه يطوفُ حتَّى يَعُمَّ الأرضَ ، وواحدته في القياس « طُوفَانَة » ؛ وأنشد : [ الرمل ]
2560 - غَيَّرَ الجِدَّةَ مِنْ آيَاتِهَا ... خُرُقُ الرِّيحِ وطُوفَانُ المَطَرْ
والطُّوفان : المَاءُ الكثير ، قاله اللَّيْثُ؛ وأنشد للعجّاج : [ الرجز ]
2561 - وعَمَّ طُوفانُ الظَّلامِ الأثْأبَا ... شَبَّهَ ظلامَ اللَّيلِ بالماءِ الذي يَغْشَى الأمكِنة ... وقال أبُو النَّجْمِ : [ الرجز ]
2562 - وَمَدَّ طُوفانٌ مُبيدٌ مَدَدَا ... شَهْراً شَآبيبَ وشَهْراً بَرَدَا
وقيل : الطُّوفان من كُلِّ شيءٍ : ما كان كثيراً مُحيطاً مُطْبقاً بالجماعة من كُلِّ جهة كالمَاءِ الكثيرِ ، والقَتْلِ الذَّريع ، والمَوْتِ الجارفِ ، قاله الزَّجَّاجُ .
وقد فَسَّرَهُ النَّبي صلى الله عليه وسلم بالموتِ تارةً ، وبأمرٍ من اللَّهِ أخرى ، وتلا قوله : { فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ } [ القلم : 19 ] وهذ المادَّةُ وإن كانت قد تَقدَّمَتْ في « طَائِفَة » إلاَّ أنَّ لهذه البنية خصوصيةً بهذه المعاني المذكورة .
والجَرَادُ معروف ، وهو جَمْعُ : جَرَادةٍ ، الذَّكَرُ والأنْثَى فيه سواء .
يقال : جَرَادَةٌ ذَكَرٌ وجَرَادة أنْثى ، ك : نَمْلَة ، وحمامة .
قال أهلُ اللُّغَةِ : وهو مشتقٌّ من « الجَرْدِ » .
قالوا : والاشتقاقُ في أسماءِ الأجْنَاس قليلٌ جِداً .
يقال : أرْضٌ جَرْدَاء ، أي : مَلْسَاء وثَوْبٌ جَرْدٌ ، إذا ذَهَبَ زئبره .
فصل
قال القرطبيُّ : اختلف الفُقهَاءُ في جواز قتل الجَرَادِ .
فقيل : يُقتل ، لأنَّ في تركها فساد الأموال ، وقد رخَّصَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بقتال المسلم إذا أخذَ ماله ، فالجرادُ إذا أراد فسادَ الأموال كانت أوْلَى بجوازِ قتلها ، كما أنَّهم اتفقوا على جواز قتل الحيّة ، والعقرب؛ لأنَّهُمَا يُؤذِيَان النَّاس فكذلك الجَرَادُ .
وروى ابْنُ ماجَةَ عن أنس أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذَا دَعَا على الجراد قال : « اللَّهُمَّ أهْلِك كِبارَهُ واقْتُل صغَارَهُ ، وأفْسِد بيضَه ، واقطع دابرهُ ، وخُذْ بأفْواهِه عن مَعَايِشِنَا وأرْزَاقنَا إنَّكَ سَمِيعُ الدّعاءِ » .
فقال رجل : يَا رسُول اللَّهِ ، كيف تَدْعُو إلى جُنْد من أجْنَادِ اللَّهِ بقطع دَابره؟
قال : « إنَّ الجراد نثرة حوت في البَحْرِ » وهذا قول جمهور الفقهاءِ .
وقيل : لا يُقْتَلُن لأنَّه خلق عظيم من خَلْقِ اللَّهِ يأكل من رزق اللَّهِ .
وقد رُوِي « لا تَقْتُلُوا الجَرَادَ فإنَّهُ جُنْدُ اللَّهِ الأعْظَمُ »
والقُمَّلُ : قيل : هي القِرْدَان ، وقيل : دوابُّ تشبهها أصْغَرَ مِنْهَا .
وقال سعيدُ بن جبير : هو السُّوسُ الذي يخرج من الحِنْطة .
وقال ابْنُ السِّكِّيت ، إنَّه شيء يقع في الزَّرع ليس بجرادٍ؛ فيأكل السُّنبلة ، وهي غضة قبل أن تقوى ، وحينئذٍ يطولُ الزَّرءعُ ولا سنبل له .
وقيل : إنَّهَا الحمنان الواحدة : حَمْنَانَة ، نوع من القِرْدَان .
وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ : كان إلى جنبهم كثيب أعفر بقرية من قُرَى مصر تدعى « بعين شمس » فذهب موسى إلى ذلك الكثيب فضربه بعصاهُ فانْهَالَ عليهم القُمَّل ، وعلى هذا هو القَمْل المعروف الذي يكون في بدن الإنسان وثيابه ، ويؤيد هذا قراءة الحسن « والقَمْل » بفتح القاف وسكون الميم ، فيكونُ فيه لغتان : القُمَّل « كقراءة العامةِ و » القَمْل « كقراءة الحسن البصري .
وقيل : القملُ البراغيث ، وقيل : الجعلان .
والضفَادعُ : جمع ضِفْدَع ، بزنة دِرْهَم ، ويجوز كسر دَالِهِ فتصير بزنة » زِبْرِج « وقدْ تُبْدَلُ عَيءنُ جمعه ياء ، كقوله : [ الرجز ]
2563 - وَمَنْهَلٍ لَيْسَ لَهُ حَوَازِقُ ... ولِضَفَادِي جَمِّهِ نَقَانِقُ
وشَذَّ جمعُهُ على : ضِفْدَعَات ، والضِّفْدَعُ : مؤنَّث ، وليس بمذكر ، فعلى هذا يُفَرَّقْ بين مذكّره ومؤنثه بالوصفِ .
فيقال : ضِفْدَع ذكر وضفدع أنثى ، كما قلنا ذلك في المتلبِّس بتاء التأنيث ، نحو حمامة ، وجرادة ، ونملة .
فصل
روى أبُو داوود وابنُ ماجةَ عن أبي هريرة قال : نَهَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم عن قتل : الصُّرَدِ والضِّفْدَع ، والنَّمْلَةِ ، والهُدْهُدِ . ولمَّا خرج إبراهيمُ - عليه السلام - من الشَّام إلى الحَرَم في بناء البيتِ كانت السِّكينَة معه والصُّرَدُ دليلة إلى الموضع ، والسكينةَ مقداره ، فلمَّا صار إلى البقعَةِ؛ وقعت السَّكينة على موضع البيتِ ونادت : ابْنِ يَا إبراهيمُ على مقدار ظِلِّي .
فنهى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عن قتل الصُّرَدِ؛ لأنه كان دليل إبراهيم ، وعن قتل الضّفدع؛ لأنها كانت تصب الماء على نَارِ غبراهيم ، ولما تسلَّطت على فرعون جاءت ، وأخذت الأمكنة كلها ، فلما صارت إلى التَّنُّور وثَبَتْ فيها وهي نار تسعر طاعة لله ، ولكن نار يسعرها الله بها؛ فَجَعَلَ » نقيقها « تسبيحاً .
والدَّم ذكرناه وهو معروف .
قال زيد بنُ أسلم : الدَّم الذي سلطة اللَّهُ عليهم كان الرُّعَاف ، ونقله الزمخشريُّ .
قوله : « آيَاتٍ مفصّلات » . آياتٍ منصوبة على الحال من تلك الأشياءِ المتقدّمة أي أرْسَلْنَا عليهم هذه الأشياءَ حال كونها علاماتٍ ممزياً بعضها من بعض ، ومُفَصَّلاتٍ فيها وجهان :
أحدهما : مُفَصَّلات أي : مُبينات لا يشكلُ على عاقل أنَّهَا من آيات اللَّهِ التي لا يقدر عليها غيره .
وقي : مُفَصّلات أي : فَصَّلَ بعضها من بعض بزمانٍ يمتحن فيه أحوالهم هل يقبلون الحُجَّة ، أو يستمرون على المُخالفةِ؟ فاسْتَكْبَرُوا عن عبادة اللَّهِ { وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } .
فصل فإن قيلَ لمَّا علم اللَّهُ تعالى من حالهم أنَّهُم لا يؤمنون بتلك المُعجزاتِ ، فما الفائدة في تواليها؟ وقوم مُحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم طلبُوا المعجزات فما أجِيبُوا فما الفرق؟
فالجوابُ : قال بعضُ أهل السُّنَّةِ : يفعلُ اللَّهُ ما يشاءُ ، ويحكم ما يريد .
وقال آخرون : إنَّمَا فعلَ ذلك زَجْراً لنا ، وموعظةً وإعلاماً بأنَّ المُصرَّ على الكُفْرِ يستوجبُ العذابَ المؤبّد . وأجاب المُعتزلَةُ : برعاية الصالح ، فلعلَّهُ علم من قوم مُوسَى أنَّ بعضهم كان يؤمن عند ظهور المعجزة الزَّائدة كمؤمن آل فرعونَ وكالسَّحرةِ ، وعَلِمَ من قوم محمَّد صلى الله عليه وسلم أنَّ أحداً منهم لا يَزْداد بِظُهُورِ المُعْجِزَةِ الزَّائِدِة إلاَّ كُفْراً . فظهر الفرقُ .
قوله : { وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز } ، أي نزل بهم العذاب من الطُّوفَانِ ، وغيره .
وقال سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ : الطاعون .
وقيل : مات منهم سبعون ألفاً في يوم واحد . وتقدم الكلام على الرِّجْز في البقرة عند قوله : { فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السمآء } [ البقرة : 59 ] .
قوله { بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } . يجوزُ في هذه الباء وجهان :
أظهرهما : أن تتعلَّق ب « ادْعُ أي : ادْعُهُ بالدُّعاء الذي علَّمك أن تدعوه به .
والثاني : أنَّها باء القسم .
قال الزمخشريُّ : والباء إمَّا تتعلَّق ب » ادْع « على وجهين :
أحدهما : اسْعِفْنَا إلى ما نطلب إليك من الدُّعاء بحق ما عندك من عهد الله ، وكرامته إيَّاك بالنُّبُوَّةِ أو ادع اللَّه لنا مُنتَوَسِّلاً إليه بعهده عندك ، وإمَّا أن يكون قَسَماً مُجَاباً ب » لنُؤمِنَنَّ « أي : » أقْسَمْنَا بِعَهْدِ اللَّهِ عندك « .
فصل
اعلمْ أنَّهُ تعالى بيَّن ما كانُوا عليه من المُناقضة القبيحة ، لأنَّهم تارة يكذبون موسى عليه الصَّلاة والسَّلام ، وأخرى عند الشَّدائد يفزعون إليه فزع الأمة إلى نبيّها ويسألونه أن يسأل رَبَّه رفع العذاب عنهم ، وذلك يقتضي أنهم سَلَّمُوا كونه نبيّاً مجاب الدَّعْوَة ، ثُمَّ بعد زوال تلك الشَّدائد يعودون إلى تكذيبه .
وقوله : { فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرجز إلى } . أي : العذاب . إلى أجلٍ فيه وجهان : أحدهما : أن يتعلَّقَ ب « كَشَفْنَا وهو المشهور ، وعليه إشكال وهو أنَّ ما دخَلَتْ عليه » لَمَّا « يترتَّبُ جوابُهُ على ابتداء وقوعه ، والغايةُ تنافي التعليق على ابتداء الوقوع ، فلا بُدَّ من تعقُّل الابتداء والاستمرار حتَّى تتَحقَّقَ الغاية ، ولذلك لا تقعُ الغاية في الفعل غير المتطاول .
لا يُقالُ : لمَّا قتلتُ زيداً إلى يوم الخميس جَرضى كَذَا ، ولا لمَّا وثبت إلى يوم الجمة اتَّفق كذا ، وقد يُجَابُ بأنَّ المرادَ بالأجَل هنا : وقتُ إيمانهم ، وإرسالهم بني إسرائيل معه ، ويكون المرادُ بالكشفِ : استمرارَ رفع الرِّجْزِ .
كأنه قيل : فَلَمَّا تمادَى كَشَفْنَا عنهم إلى أجل ، وأمَّا مَنْ فَسَّرَ » الأجَلَ « بالمَوْتِ أو بالغَرَقِ فيحتاج إلى حَذْفِ مضاف تقديرُهُ : فَلَمَّا كَشَفْنَا عنهم الرجزَ إلى أجل قُرْب أجل هم بالغوه ، وإنَّما احتاج إلى ذلك ، لأنَّ بين موتهم أو غرقهم حصل منهم نكثٌ ، فكيف يُتَصَوَّرُ أن يكون النَّكْثُ منهم بعد موتهم ، أو غرقهم؟
والثاني : أنَّهُ متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّهُ حال من » الرِّجز « أي : فَلَمَّا كَشَفْنَا عنهم الرجزَ كَائِناً إلى أجل ، والمعنى : أنَّ العذابَ كان مُؤجَّلاً .
قال أبُو حيَّان : وَيُقَوِّي هذا التأويلَ كونُ جواب » لمَّا « جاء ب » إذا « الفجائية أي : فَلَمَّا كَشَفْنَا عنهم العذابَ المقرَّر عليهم إلى أجلٍ فاجؤوا بالنَّكْثِ ، وعلى معنى تَغْيِيَتِهِ الكشفَ بالأجَل المبلوغ لا تتأتى المفاجأة إلاَّ على تأويل الكشفِ بالاستمرار المُغيَّا فيمكن المفاجأة بالنَّكْث إذْ ذاك ممكن .
قوله : » هم بَالِغُوهُ « في محلِّ جرٍ صفة ل » أجَلٍ « والوصف بهذه الجملةِ أبلغُ من وصفِهِ بالمفرد ، لتكررِ الضَّمير المؤذن بالتَّفخيم .
وقوله : { إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } هذه » إذَا « الفُجَائيَّةِ ، وتقدَّم الكلامُ عليها قريباً : و » هُمْ « مبتدأ ، و » ينكُثُونَ « خبره ، و » إذَا « جوابُ » لمَّا « كما تقدَّم بالتَّأويلِ المذكور .
قال الزمخشريُّ : { إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } جواب » لَمَّا « يعني : فلمَّا كشفنا عنهم العذاب فاجؤوا بالنّكث وبَادَرُوهُ ولَمْ يؤخِّروه ، ولكن لَمَّا كَشَفَ عنهم نَكَثُوا .
قال أبُو حيان : » ولا يمكن التَّغْيية مع ظاهرِ هذا التقدير « . انتهى . يعني فلا بُدَّ من تأويل الكشْفِ بالاستمرار ، كما تقدَّم ، حتَّى يَصِحَّ ذلك . وهذه الآية تَرُدُّ مذهبَ مَنْ يَدَّعي في » لَمَّا « أنَّهَا ظَرْفٌ ، إذْ لا بُدَّ لَهَا حينئذٍ من عامل ، وما بعد » إذَا « لا يعمل فيما قبلها ، كما تحرَّر في موضعه .
وقرأ أبُو حَيْوَةَ وأبو هشام » يَنْكِثُون « بكسر الكاف ، والجمهور على الضَّمِّ ، وهما لغتان في المضارع .
والنَّكْثُ : النَّقْضُ ، وأصله : مِنْ نَكْثِ الصُّوف المغزول لِيُغْزل ثانياً ، وذلك المنكوث : نِكثٌ ك : ذِبْح ، وَرِعْي . والجمعُ : أنكاث ، فاستعير لنقض العهد بعد إحكامه وإبرامه كما في خيوط الأكسية إذا نُكِثَتْ بعدما أبْرِمَتْ ، وهذا مِنْ أحسن الاستعارات .
قوله : « فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ » هذه الفاءُ سببيَّة ، أيْ : تَسَبَّب عن النَّكْثِ الانتقامُ ثم إن أريد بالانتقام نَفْسُ الإغْراق ، فالفاءُ الثَّانية مُفَسِّرةٌ عند مَنْ يُثْبِتُ لها ذلك وإلاَّ كان التقدير : فَأرَدْنَا الانتقام ، والانتقام في اللُّغَةِ : سلب النعمة بالعذابِ .
و « في اليمِّ » متعلق ب « أغْرَقْنَاهُم » ، واليَمّ : البحر ، والمشهور أنَّهُ عربيّ .
قال ذو الرُّمَّة : [ البسيط ]
2564 - دَاوِيَّة ودُجَى لَيْلٍ كأنَّهُمَا ... يَمٌّ تراضَنَ في حَافَاتِهَا الرُّومُ
وقال ابْنُ قتيبةَ : أنَّه البَحْرُ بالسُّريانِيَّةِ .
وقيل : بالعبرانيَّة . والمشهور أنه لا يتقيَّد ببحر خاص قال الزمخشري : اليَمّ : البحرُ الذي لا يُدْرَكُ قعره .
وقيل : هو لُجَّة البحر ومعظم مائه .
وقال الهروِيُّ - في « غريبيه » - : واليَمُّ : البَحْرُ الذي يقالُ له : إسَافٌ وفيه غَرِقَ فرعونُ . وهذا ليس بجيد ، لقوله تعالى : { فَأَلْقِيهِ فِي اليم } [ القصص : 7 ] والمرادُ : نيلُ مِصْرَ ، وهو غيرُ الذي غَرِق فيه فرعون .
فصل
قيل : واشتقاقه من التيمم ، وهو القصد ، لأنَّ النَّاسَ يقصدونه .
قوله : « بِأنَّهُمْ » الباء للسببيّة ، أي : أغْرَقْنَاهم بسببِ تكذيبهم بآياتِنَا ، وكونهم عَنْهَا غافلين ، أي : غَافِلينَ عن آياتنا ، فالضَّمِيرُ في عَنْهَا يعودُ على الآيات ، وهذا هو الظَّاهِرُ .
وبه قال الزَّجَّاجُ وغيره .
وقيل : يجوزُ أن يعود على النِّقْمَةِ المدلولِ عليها ب « انتَقَمْنَا » ويُعْزَى هذا لابن عباس ، وكأن القائل بذلك تَخَيَّلَ انَّ الغفلةَ عن الآيات عُذْرٌ لَهُم من حيثُ إنَّ الغفلة ليست من كسب الإنسان .
وقال الجمهور : إنَّهم تَعَاطَوْا أسبابَ الغَفْلَة ، فَذُمّوا عليها ، كما يُذَمُّ الناس على نِسْيَانه لتعاطيه أسبابه .
فصل
قوله : « وَأوْرَثْنَا » يتعدى لاثنين ، لأنَّه قبل النَّقلِ بالهمزة متعدٍّ لواحد نحو : وَرِثْتُ أبي ، فبالنَّقْلِ اكتسب آخَرَ .
فأولهما : القومَ والَّذينَ وصلتُه في محل نصب نعتاً له .
وأما المفعولُ الثَّانِي ففيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرها : أنَّهُ « مشارِقَ الأرضِ ومغَاربَهَا » .
وفي قوله : { التي بَارَكْنَا فِيهَا } على هذا وجهان : أحدهما : أنَّه نعتٌ ل : مشارق ومغارب . والثاني : أنَّهُ نعتٌ للأرض ، وفيه ضعفٌ من حيث الفصلُ بالمعطوف بَيْنَ الصفةِ والموصوفِ .
وهو نظيرُ قولك : قام غلامُ هندٍ وزيدٌ العاقلةِ .
وقال أبُو البقاءِ هنا : وفيه ضعفٌ؛ لأنَّ فيه العطفَ على الموصوفِ قبل الصِّفَةِ . وهذا سبْقُ لسان أو قلم ، لأنَّ العطفَ ليس على الموصُوفِ ، بل على ما أضيف إلى الموصوف .
والثاني من الأوجه الثلاثة : أن المفعول الثاني هو : { التي بَارَكْنَا فِيهَا } أي : أورثناهم الأرض التي باركنا فيها .
وفي قوله تعالى : { مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا } وجهان : أحدهما : هو منصوبٌ على الظَّرف ب « يُسْتَضْعَفُونَ » . والثاني : أنَّ تقديره : يُسْتَضْعَفُون في مشارق الأرض ومغاربها فلمَّا حُذِفَ الحرفُ وصل الفعلُ بنفسه؛ فنصب ، هكذا قال أبو البقاءِ .
قال شهابُ الدِّين : ولا أدري كيف يكونان وجهَيْن ، فإنَّ القول بالظَّرفية هو عينُ القولِ بكونه على تقدير في ، لأنَّ كلَّ ظرف مقدَّرٌ ب « في » فكيف يجعل شيئاً واحد شيئين؟
الوجه الثالث : أنَّ المفعول الثَّاني محذوفٌ ، تقديره : أورثناهم الأرضَ ، أو الملكَ ، أو نحوه ويُسْتَضْعَفُونَ يجوز أن يكون على بابه من الطَّلبِ ، أي : يُطلب منهم الضَّعْفَ مجازاً وأن يكون استفعل بمعنى : وَجَدَهُ ذَا كَذَا ، والمُرَادُ بالأرْضِ : أرَضُ الشَّام .
وقيل : أرض مصر ، لأنها أرض القبط .
وقيل : مصر والشَّام ، ومشارقها ، ومغاربها جهات المشرق ، والمغرب { الَّتِي بَاركْنَا فِيهَا } بإخراج الزَّرع ، والثِّمار ، والأنهار .
وقيل : المرادُ جملة الأرض؛ لأنَّه خرج من بني إسرائيل داود وسليمان وقد ملكا الأرْضَ .
قوله : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى } . قرأ الحسنُ ورُويت عن أبي عمرو وعاصم كَلِمَات بالجمع .
قال الزمخشر ] ُّ : ونظيره : { لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى } [ النجم : 18 ] . يعني في كون الجمع وُصِفَ بمُفْردٍ .
قال أبُو حيَّان : ولا يتعيَّن في الكُبْرَى ما ذكر لجواز أن يكون التقدير : لَقَدْ رَأى الآية الكُبْرَى ، فهو وصفُ مُفْردٍ لا جمعٍ ، وهو أبلغُ .
قال شهابُ الدِّين : في بعض الأماكن يتعيَّنُ ما ذكره الزمخشريُّ نحو { مَآرِبُ أخرى } [ طه : 18 ] وهذه الآية ، فلذلك اختار فيها ما يتعيَّن في غيرها والمرادُ بالكلمةِ الحسنى : قوله : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض } [ القصص : 5 ] إلى قوله : { مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ } [ القصص : 6 ] والحُسْنَى : تأنيثُ الأحسنِ صفة للكلمة .
وقيل : معنى تمام الكلمةِ : إنجاز الوعْدِ الذي تقدَّم بغهلاك عدوهم . ومعنى : « تَمَّتْ » أي : مَضَتْ واستمرَّتْ من قولهم : تَمَّ عليه الأمر إذَا مَضَى عليه .
قوله بِمَا صَبَرُوا متعلِّق ب « تَمَّتْ » والبَاءُ للسببيَّةِ و « مَا » مصدريةٌ ، أي : بسبب صبرهم ومتعلَّقُ الصَّبرِ محذوفٌ أي : على أذَى فرعون وقومه .
قوله : { وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ } . يجوزُ ههنا أوجه : أحدها : أن يكون فِرْعَونُ اسم كان ، ويَصْنَعُ خبرٌ مقدم ، والجملةُ الكونِيَّة صلةُ « ما » والعائد محذوف ، والتقديرُ ودَمَّرنا الذي كان فرعون يَصْنَعُهُ ، واستضعف أبُو البقاءِ هذا الوجه .
فقال : لأنَّ يَصْنَعُ يَصْلُحُ أن يعمل في فِرْعَوْن فلا يُقَدَّر تأخيره ، كما لا يُقدَّر تأخيرُ الفعل في قولك : قام زيدُ . يعني : أنَّ قولك : « قَامَ زَيْدٌ » يجب أن يكونَ من باب الفِعْلِ والفاعل ، ولا يجوز أن يُدَّعى فيه أنَّ « قام » فعلٌ وفاعلٌ ، والجملةُ خبرٌ مقدمٌ ، وزيد : مبتدأ مؤخَّرٌ لأجل اللَّبس بباب الفاعل ، فكذا هنا؛ لأنَّ يَصْنَعُ يَصحُّ أن يتسلَّطَ على فِرْعَوْنَ فيرفعهُ فاعلاً فلا يُدَّعَى فيه التقديم ، وقد سبقه إلى هذا مكيٌّ .
وقال : ويلزم من يجيز هذا أن يُجيزَ : يقومُ زيدٌ ، على الابتداء والخبر ، والتَّقديم والتَّأخير ، ولمْ يُجزْهُ أحَدٌ .
وقد تقدَّمت هذه المسألةُ وما فيها ، وأنَّهُ هل يجوز أن يكون من باب التَّنازع أم لا؟ وهذا الذي ذكراه وإن كان مُتَخَيَّلاً في بادئ الرأي ، فإنه كل باب الابتداء ، والخبر ، ولكن الجَواب عن ذلك : أنَّ المانع في « قَامَ زيدٌ » هو اللَّبس ، وهو مفقودٌ هَهُنَا .
الثاني : أنَّ اسمَ « كان » ضميرٌ عائدٌ على « مَا » الموصولة ، ويَصْنَعُ مسندٌ ل « فِرْعَوْن » والجُملةُ خبر « كان » والعائدُ محذوف أيضاً ، والتَّقديرُك ودمَّرْنَا الذي كان هو يصنعه فرعون .
الثالث : أن تكون « كان » زائدةً و « مَا » مصدرية والتقديرُ : ودمَّرْنَا ما يصنع فرعون . أي : صُنْعَهُ ، ذكره أبُو البقاءِ .
قال شهابُ الدِّين : وينبغي أن يجيءَ هذا الوجهُ أيضاً ، وإن كانت « مَا » موصولة اسمية ، على أنَّ العائدَ محذوفٌ تقديرُهُ : ودَمَّرْنَا الذي يصنعه فرعون .
الرابع : أن « ما » مصدرية أيضاً و « كان » لَيْسَتْ زائدةً بن ناقصة ، واسمُهَا ضميرُ الأمر والشَّأن ، والجملةُ من قوله يَصْنعُ فرعَونُ خبرُ « كان » فهي مفسِّرة لضمير .
وقال أبُو البقاءِ هنا : وقيل : ليست « كان » زائدةً ، ولكن « كان النَّاقِصَة لا يُفْصَل بها بين » ما « وبين صلتها ، وقد تقدَّم ذلك في قوله : { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [ البقرة : 10 ] وعلى هذا القول تحتاج » كان « إلى اسم .
ويضعُف أن يكون اسمُها ضمير الشَّأنِ؛ لأَّ الجُلة التي بعدها صلةُ » ما « فلا تَصْلُح للتَّفسير ، فلا يحصُل بها الإيضاحُ ، وتمامُ الاسم ، والمفسِّر يجبُ أن يكون مستقلاً ، فتدعو الحَاجَةُ إلى أن يجعل » فرعون « اسم » كان « وفي : » يَصْنَعُ « ضمير يعود عليه .
قال شهابُ الدِّين بعد فرض كونها ناقصةً : يلزم أن تكون الجملة من قوله : يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ خبراً ل » كان « ويمتنع أن تكون صلةً ل » ما « .
وقوله : فتدعُوا الحاجةُ أي : ذلك الوجُه الذي بدأت به ، واستضعفه ، وهو الذي احتاج إليه في هذا المكان فراراً من جعل الاسم ضمير الشَّأن ، لمَّا تخيَّلهُ مانعاً ، والتَّدميرُ : الإهلاكُ .
قال الليث : الدَّمَارُ : الهَلاك التَّامن يقال : دَمَرَ القومُ يَدمُرُونَ دماراً : أي : هلكوا وهو مُتَعَدٍّ بنفسه ، فأمَّا قوله : { دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ } [ محمد : 10 ] بمفعولُه محذوفٌ ، أي : خَرَّب عليهم منازلهم وبُيُوتَهم .
وقوله : { مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ } أي : في أرض مصر من العمارات .
قوله : » يَعْرِشُونَ « قرأ ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم هنا وفي النَّحل { يَعرُشُونَ } بضم الرَّاءِ .
والباقون بالكسر فيهما ، وهما لغتانِ : » عَرَشَ الكرمَ يَعْرِشُهُ ويَعْرُشُهُ . والكَسْرُ لغة الحِجَازِ .
قال اليَزِيديُّ : وهي أفصحُ .
وقال مُجاهدٌ : ما كانُوا يبنون من القصور والبيوت . وقُرئ شاذّاً بالغين المعجمةِ والسِّين المهملة ، من غَرْس الأشجَار . وقال الزمخشري وبلغني أنه قرأ بعض الناس يعرشون من عرش وما أظُنّه إلاّ تصحيفاً . وقرأ ابن أبي عبْلَةَ يُعَرِّشُونَ بضمِّ الياء وفتحِ العين ، وكسرِ الرَّاءِ مشدَّدَةً على المُبالغة والتَّكثير . وهذا آخر قصةِ فرعونَ .
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)
قوله : { وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَآئِيلَ } كقوله : { فَرَقْنَا بِكُمُ البحر } [ البقرة : 50 ] من كونِ الباء يجوز أنْ تكون للتَّعدية ، وأن تكون للحاليَّة ، كقوله : [ الوافر ]
2565 - . . ... تَدُوسُ بِنَا الجَمَاجِمَ والتَّرِيبَا
وقد تقدَّم . و « جاوز » بمعنى : جاز ، ف « فاعل » بمعنى « فَعَل » .
وقرأ الحسنُ ، وإبراهيم ، وأبو رجاء ويعقوب جَوَّزْنَا بالتِّشْديدِ وهو أيضاً بمعنى « فَعَلَ » المجردِ ك قَدَرَ وقَدَّر .
قوله : يَعْكُفُونَ صفة ل « قَوْم » . وقرأ الأخوان « يَعْكِفُونَ » بكسر الكاف ، وتروى عن ابي عمرو أيضاً ، والباقون بالضمِّ ، وهما لغتان في المضارع ك « يَعْرشُون » . وقد تقدَّم معنى « العكوف » واشتقاقه في البقرة .
قال قتادة : كان أولئك القومُ من لَخْم ، وكانُوا نُزولاً بالرِّقَّةِ .
وقال ابنُ جريج : كانت تلك الأصْنَام تماثيل بقر ، وذلك أول شأن قصة العِجْلِ .
قال الكلبيُّ : عبر بهم موسى البَحْرَ يومَ عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه ، فصاموه شكراً للَّه عزَّ وجلَّ .
قوله : { قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَآ إلها } أي : مثالاُ نعبده . ولم يكن ذلك شكّاً من بني إسرائيل في وحدانية اللَّهِ ، وإنَّمَا معناه : أجعل لنا شيئاً نعظمه ، ونتقرب بتعظيمه إلى اللَّهِ ، وظَنُّوا أنَّ ذلك لا يضر الدِّيانة ، وكان ذلك لشدَّة جهلهم ، لأنَّ العبادة غاية التَّعظيم ، فلا تليق إلا بمن يصدر عنه غاية الإنعام ، وهو خالقُ الجسمِ ، والحياةِ والقدرةِ ، والعقلِ ، والأشياءِ المنتفع بها . وليس ذلك إلاَّ الله تعالى .
فصل
واعْلَمْ أنَّ هذا القولَ لم يصدر عن كلّهم ، وإنَّما صدرَ من بعضهم؛ لأنَّه كان مع موسى السبعون المُختارون ، وفيهم من يرتفعُ عن مثل هذا السُّؤالِ .
قوله كمَا لَهُمْ آلِهَةٌ الكافُ في محلِّ نصب صفة ب « إلهاً » ، أي : إلهاً مماثلاُ لإلههم .
وفي « ما » ثلاثةُ أوجه : أحدها : موصولةٌ حرفية ، أي : تتأوَّلُ بمصدرِ ، وعلى هذا فصلتُهَا محذوفة ، وإذا حُذِفَتْ صلة « ما » المصدريَّة ، فلا بدَّ من إبقاء معمولِ صلتها ، كقولهم : لا أكلِّمكَ ما أنَّ حِرَاءَ مَكَانَهُ ، أي : ما ثَبَتَ أنَّ حِرَاءَ مكانه ، وكذا هنا تقديره : كما ثبت لهم آلهة ، ف « آلهة » فاعل « ثبت » المقدر ، أي : كما أنَّ « أنَّ » المفتوحةَ في المثالِ المتقدم فاعل « ثبت » المقدر .
وقال أبُو البقاءِ - هذا الوجه - ليس بجيد « والجملة بعدها صلةٌ لها ، وحسَّن لك أنَّ الظرف مقدَّرٌ بالفعل » .
فصل
قال شهابُ الدِّينِ : كلامُهُ على ظاهِره ليس بجيِّد؛ لأنَّ « ما » المصدريةَ لا تُوصَلُ بالجملة الاسمية على المشهور ، وعلى رأي مَنْ يُجَوِّز ذلك ، فيشترط فيها غَالِباً أن تُفْهِم الوقت كقوله : [ الكامل ]
2566 - وَاصِلْ خِلِيلَكَ ما التَّواصُلُ مُمْكِنٌ ... فلأنْتَ أوْ هُوَ عَنْ قَرِيبٍ ذَاهِبُ
=======================
ج34. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
ولكنَّ المراد أنَّ الجارَّ مقدَّرُ بالفعل ، وحينئذٍ تؤولُ إلى جملةٍ فعليّة ، أي : كما استقرَّ لهم آلهةٌ .
الثاني : أن تكون « ما » كافَّةً لكاف التَّشبيه عن العمل ، فإنَّهَا حرفُ جر ، وهذا كما تُكَفُّ رُبَّ فيليها الجملُ الاسميَّة ، والفعليَّة ، ولكن ليس ذلك على سبيل الوجوب ، بل يجوزُ في الكافِ وفي « رُبَّ » مع « ما » الزَّائدة بعدهما وجهان : العَمَلُ والإهمالُ ، وعلى ذلك قول الشَّاعر : [ الطويل ]
2567 - وَنَنْصُرُ مَوْلانَا ونَعْلَمُ أنَّهُ ... كَمَا النَّاس مَجْرُومٌ عَليْهِ وجَارِمُ
وقول الآخر : [ الخفيف ]
2568 - رُبَّمَا الجَامِلُ المؤبِّلُ فِيهِمْ ... وعَنَاجِيحُ بَيْنَهُنَّ المِهَارُ
وروي برفع « النَّاس ، والجامل » وجرِّهما ، هذا إذا أمكن الإعمالُ ، إمَّا إذَا لم يمكن تَعَيَّنَ أن تكونَ كافَّةً كهذه الآية ، إذا قيل : بأن « ما » زائدة .
الثالثُ : أن تكون « ما » بمعنى « الذي » ، و « لَهُمْ » صلتها ، وفيه حينئذٍ ضميرٌ مرفوعٌ مستتر ، و « آلهة » بدلٌ من ذلك الضَّمير ، والتَّقديرُ : كالذي استقَرَّ هو لهم آلهة .
وقال أبُو البقاءِ - في هذا الوجه - : والعَائِدُ محذوفٌ ، و « آلهة » بدلٌ منه ، تقديره : كالَّذِي هُوَ لهُم وتَسْميتُهُ هذا حَذْفاً تَسَامحٌ ، لأنَّ ضمائرَ الرفع إذا كانت فاعلةٌ لا تُوسف بالحذف ، بل بالاستتار .
قوله إنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ . هؤلاءِ إشارة لِمَنْ عَكَفُوا على الأصنام ، ومُتَبَّرٌ فيه وجهان : أحدهما : أن يكون خبراً ل « إنَّ » و « مَا » موصولةٌ بمعنى « الَّذي » وهُمْ فِيهِ جملةٌ اسميةٌ صلةٌ وعائده ، وهذا الموصولُ مرفوعٌ باسم المفعول فتكون قد أخْبَرْتَ بمفرد رفعت به سَبَبّاً .
والثاني : أن يكون الموصولُ مبتدأ ، ومُتَبَّرٌ خبره قُدِّم عليه ، والجملةُ خبرٌ ل « إنَّ » .
قال الزخشريُّ : وفي إيقاع « هؤلاء » اسماً ل « إنَّ » ، وتقديمُ خبر المبتدأ من الجملة الواقعةِ خبراً لها وسمٌ لعبدة الأصنام بأنَّهم هم المُعَرَّضُونَ للتَّبَار ، وأنَّهُ لا يَعْدُوهُم ألْبتَّة ، وأنَّهُ لهم ضربةُ لازم ، ليحذِّرهم عاقبة ما طلبوا ، ويبغض إليهم ما أحَبُّوا .
قال أبُو حيَّان : « ولا يتعيَّنُ ما قاله من تقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً ل » إنَّ « ، لأنَّ الأحْسَنَ في إعراب مثل هذا أن يكونُ مُتَبَّرٌ خبراً » إنَّ « وما بعده مرفوعٌ » فذكر ما قرَّرْتُهُ ، ونظَّره بقولك : « إنَّ زَيْداً مضروبٌ غلامُهُ » .
قال : فالأحْسَنُ أن يكون « غلامه » مرفوعاً ب « مضروب » ، ثم ذكر الوجه [ الثاني ] وهو أن يكون « مُتَبَّرٌ » خبراً مقدماً من الجملة ، وجعله مرجوحاً .
وهو كما قال ، لأنَّ الأصلَ في الأخبارِ أن تكون مفردةً ، فما أمكن فيها ذلك لا يُعْدل عنه ، إلا أنَّ الزمخشريَّ لم يذكر ذلك على سبيل التَّعيين ، بل على أحد الوجهين وقد يكونُ هذا عنده أرجحَ من جهة ما ذكر من المعنى ، وإذا دار الأمر بين مُرَجِّح لفظيّ ، ومُرَجِّح معنويٍّ فاعتبارُ المعنويِّ أولى ، ولا أظُنُّ حَمَلَ الزمخشري على ذلك إلا ما ذكرت .
وقوله { وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } كقوله { مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ } من جواز الوجهين وما ذُكِر فيهما .
والتَتْبيرُ : التَّكسير ، والتَّحطيم . والبطلان قيل : عدم الشَّيءِ إمَّا بعد ذاته ، وإما بعدم فائدته ومقصوده .
قوله : « أغَيْرَ اللَّهِ » الهمزةُ للإنكار ، والتَّوبيخِ ، وفي نَصْبِ غير وجهان : أحدهما : أنَّه مفعولٌ به ل « أبْغِيكُمْ » على حذفِ اللاَّمِ ، تقديره : أبغي لكم غير اللَّهِ ، أي : أطلُبُ لكم فَلَمَّا حذف الحرف ، وصل الفعل بنفسه ، وهو غيرُ منقاص ، وفي إلهاً على هذا وجهان : أظهرهما : أنَّهُ تمييز ل « غير » ، والثاني : أنَّهُ حالٌ ، ذكره أبو حيان وفيه نظر .
والثاني : من وجهي « غير » : أنَّهُ منصوب على الحال من إلهاً وإلهاً هو المفعول به ل « أببْغِيكُمْ » على ما تقرَّرَ صفةُ النَّكرةِ عليها نُصِبتْ حالاً .
وقال ابنُ عطيَّة : و « غير » منصوبة بفعل مضمر ، وهذا هو الظَّاهِرُ ، ويجوزُ أن يكون حالاً . وهذا الذي ذكره من إضمار الفعل لا حاجةَ إليه فإن أرَادَ أنَّهُ على الاشتغال فلا يَصِحُّ؛ لأنَّ شرطهُ أن يعمل المفسِّر في ضميرِ الأوَّل ، أو سببه .
قوله : « أبْغِيكُمْ » قال الواحديُّ .
يقال : بَغَيْتُ فلاناً شيئاً وبغيتُ له .
قال تعالى : { يَبْغُونَكُمُ الفتنة } [ التوبة : 47 ] أي : يبغون لكم . والمعنى : أطلبُ لكم غير اللَّه معبوداً .
واعلم أنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما قالوا له : { اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } أجابهم بوجوهٍ كثيرة : أوَّلُهَا : حكم عليهم بالجَهْل فقال : { إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } .
وثانيها : قوله : { إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ } أيْ : بِسَبَبِ الخسران والهلاك .
وثالثها : قوله : { وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي هذا العَمَلُ الشَّاقُّ لا يفيدُهم نفعاً في الدُّنْيَا والدِّينِ .
ورابعها : استفهامُهُ منهم على وجه الإنكار والتَّوبيخ ، فقال : { أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين } أي : أن الإله ليس شيئاً يطلب ويتخذ ، بل الإله هو الذي يكون قادراً على الإنعام بالإيجاد وإعطاء الحياة ، وجميع النِّعم ، وهو المُرَادُ بقوله : { وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين } ، فهذا هو الذي يجبُ على الخلق عبادته ، فكيفَ يجوزُ العُدُولُ عن عبادته إلى عبادة غيره .
قوله : { وَهُوَ فَضَّلَكُمْ } يجوز أنْ يكون في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، إمَّا من اللَّهِ وإمَّا من المخاطبين ، لأنَّ الجملةَ مشتملةٌ على كلٍّ مِنْ ضَميرَيْهِمَا ، ويجوزُ ألاّ يكونَ لها محلٌّ ، لاستئنافها .
وفي هذا التَّفضيل قولان : الأول : أنَّهُ تعالى فضلكم على علامي زمانِكم ، الثاني : أنَّهُ تعالى خَصَّهمْ بتلك الآياتِ القاهرةِ ، ولم يحصل مِثْلُهَا لأحد من العالمين ، وإن كان غيرهم فضلهم بسائر الخصَال ، مثل : رجل تعلم علماً واحداً ، وآخر تعلم علوماً كثيرة سوى ذلك العلم ، فصاحب العلم الواحدِ يفضل على صاحب العلوم الكثيرة بذلك الواحدِ ، إلاَّ أنَّ صاحب العلوم الكثيرة يفضل على صاحب العلم الواحد في الحقيقة .
وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
قوله : { وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم } . قرأ العامة مسنداً إلى المُعَظِّم ، وابْنُ عامر أنْجَاكُمْ مسنداً . إلى ضمير اللَّهِ تعالى جرياً على قوله : « وَهُوَ فَضَّلَكُمْ » ، وقرئ : « نَجَّيْنَاكُمْ » مُشِدّداً ، و [ قد ] تقدَّم الخلافُ في تشديد « يقتلون » وتخفيفها قبل هذه الآية ، وتقدَّم في البقرةِ إعراب هذه الآية وتفسيرها .
فصل
والفائدةُ في ذكرها ههنا : أنَّهُ تعالى هو الذي أنعم عليكم بهذه النعمة العظيمة ، فكيف يليقُ الاشتغالُ بعبادة غير اللَّهِ تعالى .
قوله : { وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ } تقدَّم الخلافُ في « وَعَدْنَا » و « وَاعَدْنَا » وأنَّ الظَّرْفَ بعد مفعول ثاني على حذفِ مضافٍ ، ولا يجوزُ أن يكون ظرفاً لِفسادِ المعنى في البقرة فكذا هنا ، أي : وَعَدْنَاهُ تمامَ ثلاثين ، أو إتيانها ، أو مناجاتها .
قوله : { وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ } في هذا الضمير قولان : أحدهما : أنَّهُ يعود على المُواعدةِ المفهومةِ من وَاعَدْنَا أي : وأتممنا مواعدته بعشر .
الثاني : أنَّهُ يعود على ثلاثين قاله الحوفي .
قال أبُو حيَّان : ولا يظهر؛ لأنَّ الثلاثين لم تكن ناقصةً فتتمَّ بعشر ، وحُذِف تمييز عشر لدلالة الكلام عليه أي : وأتْمَمْنَاهَا بعَشْرٍ ليالٍ ، وفي مصحف أبي وَتَمَّمْنَاهَا بالتَّضعيف ، عَدَّاهُ بالتَّضْعِيفِ .
قوله : { فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ } الفَرْقُ بين الميقاتِ ، والوَقْتِ ، أن الميقاتَ : ما قُدِّرَ فيه عملٌ من الأعمال ، والوقت : وقت الشَّيءِ من غير تقدير عملٍ ، أو تقريره .
وفي نصب « أرْبَعِينَ » أربعةُ أوجُهٍ :
أحدها : أنَّهُ حال .
قال الزَّمخشريُّ : « وأربَعِينَ » نصب على الحَالِ : أي تَمَّ بالغاً هذا العدد .
قال أبو حيان فعلى هذا لا يكون الحال « أربعين » ، بل الحالُ هذا المحذوف فينافي قوله .
قال شهابُ الدِّين : لا تنافي فيه ، لأنَّ النُّحاةَ لم يزالوا ينسبون الحكم للمعمول الباقي بعد حذفِ عامله المنوب عنه ، وله شواهد منها : زيد في الدَّارِ ، أو عندك .
فيقولون : الجارُّ والظَّرْفُ خبر ، والخبرُ في الحقيقة : إنَّمَا هو المحذوفُ المقدَّرُ العاملُ فيهما ، وكذا يقولون : جاء زيدٌ بثيابه ، ف « بثيابه » حال ، والحال إنَّمَا هو العاملُ فيه إلى غير ذلك وقدَّرَهُ الفارسي ب « معدوداً .
قال : كقولك : تَمَّ القوم عشرين رجلاً ، أي : معدودين هذا العدد وهو تقديرٌ حسنٌ .
الثاني : أنَّهُ ينتصبُ أرْبَعِينَ على المفعولِ به .
قال أبُو البقاءِ : » لأنَّ معناه بلغ ، فهو كقولهم : بَلَغَتْ أرْضُكَ جريبين « أي : بتضمين » تَمَّ « معنى » بَلَغَ « .
الثالث : أنَّهُ منصوبٌ على الظَّرف .
قال ابْنُ عطيَّة : » ويصحُّ أن يكون أربعين ظرفاً من حيث هي عددُ أزمنة « ، وفي هذا نظرٌ ، كيف يكون ظرفاً للتَّمام ، والتَّمامُ إنما هو بآخر جزء من تلك الأزمنة؟ إلا بتجوَّزٍ بعيد ، وهو أنَّ كلَّ جزءٍ من أجزاء الوقت سواء كان أولاً أم آخراً إذا نقص ذهب التَّمامُ .
الرابع : أن يَنْتَصِبَ على التَّمييز
قال أبُو حيَّان : والأصل : فَتَمَّ أربعون ميقاتُ ربّه ، ثمَّ أسند التَّمامَ إلى ميقات وانتصب أربعون على التَّمييز . فهو منقولٌ من الفاعليَّة ، يعني فيكون كقوله : { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 4 ] وهذا الذي قاله وجعلهُ هو الذي يظهر يشكل بما ذكره هو في الرَّدِّ على الحُوفيِّ؛ حيثُ قال هناك « إنَّ الثلاثين لم تكن ناقصةً ، فَتتمَّ » لذلك ينبغي أن يقال هنا : إن الأربعين لم تكن ناقصة فتتم فكيف يُقدِّر : فتَمَّ أرْبَعُون ميقاتُ ربِّهِ؟ فإن أجاب هنا بجوابٍ ، فَهُوَ جوابٌ هناك لِمَنِ اعترضَ عليه .
وقوله : { فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } في هذه الجملة قولان :
أظهرهما : أنَّهَا للتأكيد ، لأنَّ قوله قبل ذلك : « وأتْمَمْنَاهَا بعشْرٍ » فُهِمَ أنَّها أربعون ليلةً .
وقيل : بل هي للتَّأسيس ، لاحتمالِ أن يتوهَّم مُتوهِّمٌ بعشر ساعات ، أو غير ذلك ، وهو بعيدٌ .
وقوله رَبِّهِ ولم يقل : مِيَقاتُنَا جَرْياً على « واعَدْنَا » لِمَا في إظهار هذا الاسمِ الشَّريف من الاعترافِ بربوبية اللَّه له وإصلاحه له .
فصل
روي أنَّ موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلام - وعد بني إسرائيل وهو بمصر : إن أهلك اللَّه عدوَّهم؛ أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون ، فلمَّا هلك فرعونُ سأل موسى ربه الكتاب فهذه الآيةُ في بيان كيفية نزول التَّوراةِ .
فصل
فإن قيل : « الأربعون » المذكورة في البقرة : هي هذه الأربعُونَ المفصَّلةُ ههنا ، فما فائدة التَّفصيلِ؟ فالجوابُ من وجوه :
الأأول : أنَّهُ تعالى أمر موسى بصوم ثلاثين يوماً ، وهو شهرُ ذي القعدة فلمَّا تَمَّ الثَّلاثين أنكر خلوف فِيهِ فتسَوَّكَ فقالت الملائكةُ : كنا نشم من فيكَ رائحةَ المِسْكِ؛ فأفسدتهُ بالسِّواك ، فأوْحَى الله إليه أما عَلِمتَ أنَّ خلُوفَ فَم الصَّائِمِ أطْيَبُ عندي من ريح المِسْكِ؟ فأمره اللَّهُ تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحِجَّةِ لهذا السَّبَبِ .
الثاني : أنَّ الله تعالى أمرهُ بصوم ثلاثين يوماً ، وأن يعمل فيها ما يُقرِّبُه إلى اللَّهِ تعالى ، ثم أنزلَ التَّوْراةَ العشر من ذي الحِجَّةِ ، وكلَّمَهُ أيضاً فيه فهذه فائدة تفصيل الأربعين إلى الثَّلاثينَ ، وإلى العشرةِ .
قال ابنُ عبَّاسٍ ومسروق ومجاهد : الثَّلاثين ليلة هي شهر ذي القعدة بكماله ، وأتمت أربعين ليلة بعشر ذي الحِجَّةِ ، فعلى هذا يكون كلام ربه له يوم عيدِ النَّحْرِ .
وفي مثله أكمل اللَّهُ عزَّ وجلَّ دين محمد صلى الله عليه وسلم .
الثالث : قال أبُو مسلمٍ في سورة طه : إنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - بادر إلى ميقات ربه قبل قومه ، لقوله تعالى : { وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى قَالَ هُمْ أولااء على أَثَرِي } [ طه : 83 ، 84 ] .
فجائز أن يكون موسى أتى الطُّور عند تمام الثلاثين ، فلمَّا أعلمه اللَّهُ خبر قومه مع السَّامرين ، رجع إلى قومه قبل تمامِ ما وعده ، ثمَّ عاد إلى الميقاتِ في عشر أخر ، فتم ميقات ربه أربعين ليلةً .
الرابع : قيل لا يمتنع أن يكون الوعد الأول حضره موسى عليه الصلاة والسلام وحده ، والوعد الثاني حضره المختارون معه لِيسمَعُوا كلامَ اللَّهِ ، فصار الوعدُ مختلفاً لاختلاف الحاضرين .
قوله : { وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ اخلفني } الجمهور على فتح نون هَارُونَ وفيه ثلاثة أوجه :
الأول : أنه مجرورٌ بدلاً من أخيهِ . الثاني : أنَّه عطفُ بيان له . الثالث : أنه منصوبٌ بإضمار : أعني ، وقُرِئ شاذاً بالضَّمِّ ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ مُنَادَى حُذِفَ منه حرفُ النِّداءِ ، أي : يا هارونُ كقوله : { يُوسُفُ } [ يوسف : 29 ] .
والثاني : أنَّهُ خبر مبتدأ محذوف ، أي : هُو هارونُ . وهذا في المعنى كالوجهِ الذي تقدَّم من أنه منصوبٌ بإضمار : أعني ، فإنَّ كليهما قطع .
وقال أبُو البقاء : « ولو قُرِىءَ بالرَّفْعِ » وذكرهما ، وكأنَّهُ لم يَطَّلِعْ على أنها قراءة .
قال : « ومن دعاك منهم إلى الفَسَادِ؛ فلا تتبعه ، ولا تطعه » وقال اخْلُفْني أي : كن خليفتي في قومي وأصْلِحْ وكُنْ مصلحاً ، أو وَأصْلِحْ ما يجبُ أن يُصْلَحَ من أمور بني إسرائيل .
{ وَقَالَ موسى } عند انطلاقه إلى المناجاة لأخِيهِ هارُونَ .
فإن قيل : إن هارون كان شريك موسى - عليهما الصَّلاة والسَّلام - في النبوَّةِ ، فكيف جعله خليفة لنفسه؛ فإن شريك الإنسانِ أعلى حالاً من خليفته وَرد الإنسان من منصبه الأعلى إلى الأدْنَى يكون إهانة له .
فالجوابُ : أن الأمْرَ ، وإن كان كما ذكرتم ، إلاَّ أنَّ مُوسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان هو الأصل في تلك النبوَّةِ .
فإن قيل : لما كان هارُون نبيّاً ، والنَّبيُّ لا يفعلُ إلاَّ الأصلح فكيف وصَّاهُ بالإصلاح؟
فالجوابُ : أنَّ المقصودَ من هذا الأمْرِ : التَّأكيدُ كقوله تعالى : { وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ البقرة : 260 ] .
قوله : { وَلَمَّا جَآءَ موسى لِمِيقَاتِنَا } اللام في لِمِقَاتِنَا للاختصاص ، وكذا في قوله تعالى { لِدُلُوكِ الشمس } [ الإسراء : 78 ] ، وليست بمعنى عند .
قوله : { وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } ، هذه الفائدة التي لأجلها حضر موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - الميقات واختلفُوا في أنَّهُ تعالى كلَّمَ مُوسَى وحدَه ، أو مع أقوام آخرين . وظاهر الآيةِ أنَّهُ تعالى كَلَّمَهُ وحده؛ لأنَّهُ يدلُّ على تخصيص موصى بهذا التَّشريف .
وقال القَاضِي : « بل السَّبْعُونَ المختارُونَ سمعوا كلام الله؛ لأن الغرضَ بإحضارهم أن يخبرُوا قومَ موسى عمَّا يَجْرِي هَنَاكَ » .
فصل
دَلَّت الآيةُ على أنَّهُ تعالى يجوز أن يُرَى؛ لأنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - سأل الرُّؤية ، ولا شَكَّ أنَّه كان عارفاً بما يجب ويجوز ويمتنع على اللَّهِ ، فلو كانت الرُّؤية ممتنعة على اللَّه تعالى لما سألها ، وأنكرت المعتزلةُ ذلك ، والبحثُ في هذه المسألة مذكورة في كتب أصُولِ الدِّينِ .
فصل
نقل عن ابن عبَّاس أنه قال : جاء موسى ومعه السَّبْعُون ، وصعد موسى الجبلَ وبقي السَّبعون في أسفل الجبل ، وكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى ، وكتب له في الألواح كتاباً وقرَّبُه نَجِيّاً ، فلمَّا سمع موسى صرير القلم عظم شوْقُهُ .
فقال : { رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ } .
قوله : « أرنِي » مفعولُه الثَّانِي محذوفٌ ، تقديره : أرني نَفسكَ ، أو ذاتكَ المقدَّسةَ ، وإنَّما حذفهُ مبالغةً في الأدب ، حيثُ لم يواجِهْهُ بالتَّصريح بالمفعول ، وأصل « أرِني » « أرْإنِي » فنُقِلَتْ حركةُ الهمزة ، وقد تقدَّم تَحْريرُه .
فصل
فإن قيل : النَّظَرُ إمَّا أن يكون عبارة عن الرُّؤية ، أو عن مقدِّمتها ، وهي تقليب الحدقة إلى جانب المرئي التِمَاساً لرؤيته ، وعلى التَّقديرِ الأولِ : يكون المعنى : أرِنِي حَتَّى اراك ، وهذا فاسدٌ ، وعلى التقدير الثانِي : يكون المعنى : أرِنِي حتى أقلِّبَ الحدقة إلى جانبك وهذا فاسدٌ لوجهين : أحدهما : أنَّهُ يقتضي إثبات الجهة . والثاني : أنَّ تَقْلِيبَ الحدقةِ إلى جهة المرئي مقدمة للرؤية؛ فجعله كالنَّتِيجَةِ عن الرُّؤيةِ وذلك فاسد .
فالجوابُ : أن معنى أرِنِي : اجعلني متمكناً من رؤيتك حتَّى أنظر إليك وأرَاكَ .
فإن قيل : كيف سأل الرُّؤية وقد علم أنَّهُ لا يرى؟
قال الحسنُ : هاج به الشَّوق؛ فسأل الرؤية .
وقيل : سأل الرُّؤية ظَنّاً منه أنَّهُ يجوز أن يرى في الدُّنيا .
قوله : « لَن تَرَانِي » قد تقدَّم أنَّ « لَنْ » لا يلزم مِنْ نَفْيِهَا التَّأبِيدُ ، وإن كان بعضُهم فهم ذلك ، حتى إنَّ ابن عطيَّة قال « فلو بَقينَا على هذا النَّفي المجرَّد لتضمن أنَّ موسى لا يراه أبَداً ، ولا في الآخرة لكن ورد من جهةٍ أخرى في الحدث المتواتر أنَّ أهلَ الجنَّةِ يَرَوْنَهُ » .
قال شهابُ الدِّينِ : « وعلى تقدير أنّ » لَنْ « ليست مقتضيةً للتَّأبيد ، فكلامُ ابْنِ عطيَّة وغيره مِمَّنْ يقولُ : إنَّ نفيِ المستقبل بعدها يَعُمُّ جميع الأزمنة المستقبلة - صحيح ، لكن لِمَدْرَكٍ آخَرَ ، وهو أنَّ الفعلَ نكرةٌ ، والنكرةُ في سياق النَّفي تَعُمُّ ، وللبحث فيه مجال » .
والدليل على أنَّ « لَنْ » لا تقتضي التَّأبيد قوله تعالى : { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً } [ البقرة : 95 ] أخبر عن اليهود ، ثم أبخر عنهم أنهم يتمنون الموت في الآخرةِ يقولون : { لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } [ الزخرف : 77 ] { ياليتها كَانَتِ القاضية } [ الحاقة : 27 ] .
فإن قيل : كيف قال : « لَن تَرَانِي » ولم يقل : لن تنظر إليَّ ، حتَّى يُطابق قوله أنظرْ إليكَ؟ فالجوابُ أنَّ النَّظَرَ لمَّا كان مقدمة للرُّؤية كان المقصودُ هو الرُّؤيةُ لا النَّظرُ الذي لا رؤية معه .
والاستدراكُ في قوله : { ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ } واضح ، فإن قلت : كيف اتصل الاستدراك في قوله : { ولكن انظر إلى الجبل } فالجوابُ : المقصودُ من تعظيمُ أمر الرُّؤيةِ ، وأنَّ أحَداً لا يقوى على رؤية الله تعالى إلاَّ إذَا قواه الله بمعونته وتأييده؛ ألا ترى أنَّهُ لما ظهر أثر التَّجلي والرُّؤية للجبل اندكّ؛ فدل ذلك على تعظيم أمر الرُّؤيةِ .
فصل
وقال الزمخشريُّ : فإن قلت : كيف اتَّصل الاستدراكُ في قوله : ولكِن انظرْ .
قلت : اتَّصَلَ به على معنى أنَّ النَّظر إليَّ محالٌ فلا تطلبه ، ولكن اطلب نظراً آخر ، وهو أن تنظر إلى الجبل .
وهذا على رأيه من أنَّ الرُّؤية محالٌ مطلقاً في الدُّنيا ، والآخرة .
قوله : { فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } : عَلَّقَ الرُّؤية على استقرار الجبل ، واسترقار الجبل على التَّجلي غير مستحيل إذا جعل الله له تلك القوة ، والمعلق بما لا يستحيل لا يكون محالاً .
قوله { فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } : قال الزَّجَّاجُ : « تَجَلَّى » أي : « ظهر وبان » .
ومنه يقالُ : جلوتُ العروس إذا أبْرَزْتهَا ، وجلوتُ السَّيف والمرآة : إذا أزلت ما عليهما من الصَّدَأ . وهذا البجل أعظم جبل بمدين يقال له : زبير .
قال ابن عباس : ظهر نُور ربِّهِ للجبل .
قوله : « جَعَلهُ دَكّاً » قرأ الأخوان « دَكَّاءَ » بالمدِّ ، غير منوَّن ، على وزن « حمراء » والباقون بالقصر والتَّنوين ، فقراءةُ الأخوين تحتمل وجهين :
أحدهما : أنَّها مأخوذةٌ من قولهم : « ناقةٌ دَكَّاء » أي : منبسطة السَّنَام ، غير مرتفعة ، والمعنى جعله مستوياً . وإما من قولهم : أرض دكاء للناشزة روي أنَّهُ لم يذهب كله ، بل ذهب أعلاه .
وأمَّا قراءةُ الجماعة ف « الدَّكُّ » مصدر واقع موقع المفعول به بمعنى المدكوك ، أي : مَدْكوكاً ، أو من دكَّ ، أو على حذف مضاف أي ذا دَكّ ، والمعنى : جلعه مدقوقاً والدَّك والدَّقّ واحد ، وهو تفتيت الشيء وَسَحْقُهُ .
وقيل : تسويته بالأرض .
في انتصابه على القراءتين وجهان ، أشهرهما : أنَّهُ مفعولٌ ثان ل « جَعَلَ » بمعنى : صَيَّرَ .
والثاني - وهو رأي الأخفش - : أنَّهُ مصدرٌ على المعنى ، إذ التقدير : دَكَّهُ دَكّاً ، وأما على القراءة الأولى فهو مفعول فقط أي صيره مثل ناقة دكاء أو الأرض دكاً .
وقرأ ابنُ وثَّاب دُكّاً بضم الدَّالِ والقصر ، وهو جمع دَكَّاء بالمد ، ك : حُمْر في حمراء ، وغُرّ في غَرَّاء أي : جعله قِطَعاً .
قال الكلبي : كسراً جبالاً صغاراً . ووقع في بعض التَّفاسير أنَّه تكسر سِتَّة أجْبُلِ ، ووقعت ثلاثة بالمدينة : أحد ، وودقان ، ورضوى ، ووقعت ثلاثة بمكة : ثور ، وثبير ، وحِرَاء .
قوله : { وَخَرَّ موسى صَعِقاً } . الخُرورُ : السُّقُوطُ كذا أطلعه أبو حيَّان وقيَّدَهُ الرَّاغب بسقوطٍ يُسمع له خريرٌ ، والخريرُ يقال لصوت الماءِ والريحِ .
ويقال كذلك لما يَسْقُطُ من علوٍّ وصَعِقاً حالٌ مقارنةٌ .
قال اللَّيْثُ : الصَّعْقُ مثل الغَشْي يأخذُ الإنسانَ والصَّعْقَةُ الغشي .
يقال : صُعِقَ الرَّجُلُ يُصْعَقُ ، فهو مصعوق .
قال ابنُ عبَّاس : مَغْشياً عليه .
وقال قتادةُ : ميتاً .
يقال : صَعِقَ إذا مات { فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض } [ الزمر : 68 ] فسَّرُوه بالموتِ .
وقال : { يَوْمَهُمُ الذي فِيهِ يُصْعَقُونَ } [ الطور : 45 ] أي : يموتون .
قال الزمخشريُّ : « صعق أصله من الصَّاعقة » .
قال الزمخشريُّ : « صعق أصله من الصَّاعقة » .
والقولُ الأوَّلُ أولى؛ لقوله تعالى { فَلَمَّآ أَفَاقَ } .
قال الزَّجَّاجُ : « ولا يقال للميتِ : قد أفاق من موته ، وقال تعالى في الذين ماتوا ثم أحيوا :
{ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ البقرة : 56 ] .
قوله : { فَلَمَّآ أَفَاقَ } الإفاقة : رجوعُ الفهم والعقل إلى الإنسان بعد جنونٍ أو سُكرٍ ومنه إفاقة المريض ، وهي رجوعُ قوته ، وإفاقةُ الحلب ، وهي رجوع الدِّرِّ إلى الضَّرع .
يُقال : اسْتَفِقْ ناقَتَكَ أي : اتركها حتَّى يعود لَبَنُها ، والفُواق : ما بين حَلْبَتَي الحالب . وسيأتي بيانه [ ص15 ] إن شاء الله تعالى .
قوله سُبْحَانَكَ أي : تنزيهاً لك من أن أسألك شيئاً بغير إذنك تُبْتُ إليكَ من سؤال الرُّؤية في الدُّنيا ، أو من سؤال الرُّؤية بغير إذنك . { وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين } بأنك لا تُرَى في الدنيا ، أو بأنَّه لا يجوز السُّؤال منك إلاَّ بإذنك .
وقيل : أوَّلُ المؤمنين من قومي .
وقيل : من بني إسرائيل في هذا العصر .
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
قوله : { ياموسى إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس } . الاصطفاء : استخلاص الصَّفْوَةِ أي : اخترتك واتَّخذتك صفوة على النَّاس .
قال ابنُ عبَّاسٍ : « فَضَّتْتُكَ على النَّاسِ » . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو إنِّيَ بفتح الياء ، وكذلك { أَخِي اشدد } [ طه : 30 ، 31 ] .
قوله برسالاتي أي : بسبب .
وقرأ الحرميَّان : برِسالتِي بالإفراد ، والمُرادُ به المصدر ، أي : بإرْسَالي إيَّاك ، ويجوزُ أن يكون على حذفِ مضاف ، أي : بتبليغ رسالتي . والرِّسالةُ : نَفْسُ الشَّيء المرسل به إلى الغير .
وقرأ الباقون بالجمع اعتباراً بالأنواعِ ، وقد تقدَّم ذلك في المائدةِ والأنعام .
قال القرطبيُّ : ومن جمع على أنه أرسل بضروب من الرسالةِ فاختلف أنواعها ، فجمع المصدر لاختلاف أنواعه؛ كقوله : { إِنَّ أَنكَرَ الأصوات لَصَوْتُ الحمير } [ لقمان : 19 ] واختلاف المصوتين ، ووحَّدَ في قوله : لصوتُ لما أراد به جنساً واحداً من الأصوات .
قوله : « وَبِكلامي » هي قراءة العامَّةِ ، فيحتملُ أن يُرادَ به المصدرُ ، أي : بتكليمي إيَّاكَ ، كقوله : { وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً } [ النساء : 164 ] وقوله : [ الطويل ]
2569 - ... تُكَلِّمنِي فيها شِفَاءٌ لِمَا بِيَا
أي : بتكليمي إيَّاهَا ، ويحتملُ أن يراد به التَّوراة ، وما أوحاه إليه من قولهم للقرآن « كلام الله » تسميةً للشيء بالمصدر . وقدَّم الرِّسالةَ على الكلام؛ لأنَّها أسبق ، أو ليترقَّى إلى الأشرفِ ، وكرَّر حرف الجرِّ ، تنبيهاً على مغايرة الاصطفاء .
وقرأ الأعمش : « بِرِسَالاتِي وبِكلمِي » جمع « كلمة » وروى عنه المهدويُّ أيضاً « وتكليمي » على وزن التَّفعيل ، وهي تؤيِّدُ أنَّ الكلامَ مصدرٌ .
وقرأ أبو رجاء « بِرِسالتِي » بالإفراد و « بِكَلِمي » بالجمع ، أي : وبسمَاع كلمي .
فصل
لما طلب موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - الرؤية ومنعه الله تعالى ، عدد عليه وجوه نعمه العظيمة ، وأمره بشكرها .
كأنَّهُ قال له : إن كنت قد منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النِّعَمِ العظيمة كذا وكذا ، فلا يضيقُ صدرُكَ بسبب منع الرُّؤيةِ ، وانظر إلى أنواع النِّعمِ التي خَصَصْتُك بها واشتغل بشكرها ، والمراد : تسليةُ موسى - عليه الصلاة والسلام - عن منع الرؤية .
فإن قيل : كيف اصطفاهُ على النَّاسِ برسالاته مع أنَّ كثيراً من النَّاسِ قد سَاوَاهُ في الرسالةِ؟ فالجوابُ : أنَّهُ تعالى بيَّن أنَّهُ خصَّهُ من دون النَّاسِ بمجموع الأمرين : وهو الرسالة مع الكلام بغير واسطة ، وهذا المجموع لم يحصل لغيره ، وإنَّما قال : « عَلَى النَّاسِ » ولم يقل : على الخلق؛ لأنَّ الملائكة تسمع كلام اللَّهِ من غير واسطة كما سمعه موسى .
قال القرطبيُّ : « وَدَلَّ هذا على أنَّ قومه لم يشاركه أحدٌ منهم في التَّكليم ولا أحد من السَّبعين » .
وقوله : { فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ } أي : اقْنَعْ بما أعيتك . { وَكُنْ مِّنَ الشاكرين } ، أي : المظهرين لإحسانِي إليك ، وفضلي عليك .
يقال : دَابَّةٌ شكورٌ ، إذا ظهر عليها من السِّمن فوق ما تُعْطَى من العَلَف ، والشَّاكِرُ متعرض للمزيد؛ كما قال تعالى :
{ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [ إبراهيم : 7 ] .
قوله تعالى : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً } . قوله : في الألْوَاحِ يجوز أن تكون لتعريف الماهيَّةِ ، وأن تكون للعهد؛ لأنَّهُ يروى في القصَّة أنَّهُ هو الذي قطَّعَهَا وشقَّقَهَا .
وقال ابنُ عطيَّة أل عوض من الضمير ، تقديره : في ألواحه ، وهذا كقوله : { فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى } [ النازعات : 41 ] أي : مأواه . أمَّا كاون أل عوضاً من الضَّمير فلا يعرفه البصريون . وأمَّا قوله : { فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى } فإنَّا نحتاجُ فيه إلى رابطٍ يَرْبِطُ بين الاسم والخبر ، والكوفيون : يجعلون أل عوضاً من الضمير . والبصريون : يُقَدِّرُونَهُ ، أي : هي المأوى له ، وأما في هذه الية فلا ضرورة تدعو إلى ذلك .
وفي مفعول « كتبنا » ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنَّهُ « موعِظَةً » ، أي : كتبنا له مَوْعِظَةٌ وتفْصِيلاً . و { مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } على هذا فيه وجهان ، أحدهما : متعلِّقٌ ب « كَتَبْنَا » والثاني : أنَّهُ متعلِّقٌ بمحذوف؛ لأنَّهُ في الأصلِ صفةٌ ل « مَوْعِظَةً » فلمَّا قُدِّم عليها نُصِبَ حالاً ، و « لِكُلِّ شيءٍ » صفة ل « تفصيلاً » .
والثاني : أنَّهُ { مِنْ كُلِّ شَيْءً } .
قال الزمخشريُّ { مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } في محل نصب مفعول « كَتَبْنَا » ، و « مَوعِظَةً وتفْصِيلاً » بدل منه ، والمعنى : كَتَبْنَا له كُلَّ شيءٍ كان بنو إسرائيل يَحْتَاجُونَ إليه في دينهم من المواعظِ ، وتفصيل الأحكامِ وتفصل الحلالِ والحرامِ .
الثالث : أنَّ المفعول محل المجرور .
وقال أبُو حيَّان - بعد ما حكى الوجه الأول عن الحوفي والثَّاني عن الزمخشري - : ويُحْتَمَلُ عندي وجهٌ ثالثٌ ، وهو أن يكونَ مفعولُ « كَتَبْنَا » موضع المجرور ، كما تقولُ : « أكلت من الرغيف » و « مِنْ » للتبعيض ، أي : كتبنا له أشياء من كُلِّ شيء ، وانتصب « مَوْعظَةً وتَفْصِيلاً » على المفعول من أجله ، أي : كتبنا له تلك الأشياءَ للاتِّعاظِ وللتفصيل .
قال شهابُ الدِّينِ : « والظَّاهِرُ أنَّ هذا الوجه هو الذي أراده الزَّمخشري ، فليس وجهاً ثالثاً » .
قوله : « بِقُوَّةٍ » حالٌ : إمَّا من الفاعل ، أي : ملتبساً بقوة ، وإمَّا من المفعول ، أي : ملتبسه بقوة ، أَي : بقوَّةِ دلائلها وبراهينها ، والأول أوضح . والجملةُ من قوله : « فَخُذْهَا » يُحتمل أن تكون بدلاً من قوله { فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ } وعاد الضَّميرُ علىمعنى « ما » لا على لفظها . ويحتمل أن تكونَ منصوبة بقول مضمر ، ذلك القولُ منسوقٌ على جملة « كَتَبْنَا » والتقدرُ : وكتبنا فقلنا : خُذْهَا ، والضَّميرُ على هذا عائدٌ على الألواحِ أو على التَّوراةِ ، أو على الرِّسالاتِ ، أو على كُلِّ شيءٍ؛ لأنَّهُ في معنى الأشياء .
قال القرطبيُّ : « فكأنَّ اللَّوحَ تلوح فيه المعاني . ويقال : رجل عظيم الألواح إذا كان كبيرَ عظم اليدين ، » والرِّجليْنِ « .
فصل
قال الكلبيُّ : خَرَّ مُوسَى صَعِقاً يوم الخميس يوم عرفة ، وأعطي التَّوراة يوم الجمعةِ يوم النَّحر ، واختلفوا في عدد الألواح وجوهرها فقيل : كانت عشرة ، وقيل سبعة .
وقال الواحديُّ : كانت من زُمُردَة .
وقيل : من زبرجدة خضراء ، وقيل : ياقوتة ، وقيل : من خشب سور الجنَّةِ طول كل لوح اثني عشرة ذراعاً .
وقال وهْبٌ : من صخرة صَمَّاء لَيَّنَهَا اللَّهُ لِمُوسَى .
قيل : رفع سبعها وبقيت ستة أسباعها ، وكان في الذي رفع تفصيل كلِّ شيء وفي الذي بقي الهدى والرحمة ، وليس في الآية ما يدلُّ على شيء من ذلك ، ولا على كيفية الكتابة فإن ثبت في ذلك شيء بدليل منفصل قويٍّ وجب القولُ به ، وإلاّ وجب السُّكوت عنه . وأمَّا قوله مِن كُلِّ شيءٍ فليس على العموم ، بل المراد من كلِّ شيء يحتاجُ موسى وقومه إليه في دينهم .
وقوله : { مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ } فهو كالبيانِ للجملة التي قدمها بقوله : { مِن كُلِّ شَيْءٍ } ثم قال : « فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ » أي : بعزيمةٍ قويةٍ ونيَّةٍ صادقةٍ .
قوله : { وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } . الظَّاهِرُ أنَّ يأخُذُوا مَجْزُومٌ جواباً للأمر في قوله وأمْرُ ولا بدَّ من تأويله ، لأنَّه لا يلزمُ مِنْ أمره إيَّاهم بذلك أن يأخُذُوا ، بدليل عصيانِ بعضهم له في ذلك ، فإنَّ شَرْطَ ذلك انحلال الجملتين إلى شرطٍ وجزاءٍ .
2570 - مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ ... إذَا مَا خِفْتَ مِنْ أمْر تبالاَ
وهو مذهبُ الكسائي .
وابن مالك يرى جوازه إذا كان في جواب « قُلْ » ، وهان لم يُذْكَرْ « قُلْ » ، ولكن ذُكر شيءٌ بمعناه؛ لأنَّ معنى « وأمُرْ » و « قُلْ » واحد .
قوله : « بِأحْسَانِهَا » يجوزُ أن يكونَ حالاً كما تقدَّم في : « بِقُوَّةٍ » ، وعلى هذا فمفعولُ « يَأخُذُوا » محذوفٌ تقديرُه : يَأخُذُوا أنفسهم ، ويجُوزُ أن تكون الباء زائدة ، وأحسنها مفعول به ، والتقديرُ : يأخُذُو أحسنها كقوله : [ البسيط ]
2571 - .. سُودُ المَحَاجِرِ لا يَقْرَأنَ بالسُّوَرِ
وقد تقدَّم تحقيقه في قوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } [ البقرة : 195 ] .
و « أحسن » يجوز أن تكون للتَّفضيل على بابها ، وأن لا تكون بل بمعنى « حَسَنَة » .
كقول الفرزدق : [ الكامل ]
2572 - إنَّ الذي سَمَكَ السَّماءَ بَنَى لَنَا ... بَيْتاً دَعَائِمُهُ أعَزُّ وأطْوَلُ
أي : عزيزةٌ طويلةٌ .
فإن قيل : إنَّه تعالى لمَّا تعهد بكلِّ ما في التَّوراة ، وجب أن يكون الكلُّ حسناً .
وقوله : { يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا
} يقتضي أن يكون فيه ما ليس بأحسن ، وأنَّهُ لا يجوزُ لهم الأخذ به وهو متناقض .
وأجابُوا بوجوه : منها : أنَّ تلك التَّكاليفَ منها ما هو حسن ، ومنها ما هو أحسن كالقصاص والعفو ، والانتصار ، والصبر ، أي : فمرهم أن يأخُذُوا بالأفضل فإنَّه أكثر ثواباً ، لقوله : { واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ } [ الزمر : 55 ] وقوله : { الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ }
[ الزمر : 18 ] .
قالوا : فيحمل الأخذ بالأحسن على النَّدب .
ومنها : قال قُطْرُبٌ :
{ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } أي : بحسنها ، وكلها حسن؛ كقوله تعالى : { وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ } [ العنكبوت : 45 ] وأنشد بيت الفرزدق المتقدم . ومنها : أن الحسن يدخلُ تحته الواجب ، والمندوب ، والمباح وأحسن هذه الثلاثة : الواجبُ ، والمندوبُ .
قوله : { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين } جَوَّزُوا في الرُّؤية هنا أن تكون بصريَّةً ، وهو الظَّاهِرُ فتتعدَّى لاثنين ، أحدهما : ضمير المخاطبين ، والثاني : دَارَ .
والثاني : أنَّها قلبية ، وهو منقولٌ عن ابن زيد وغيره ، والمعنى : سأعْلِمُكُمْ سَيْرَ الأولين وما حَلَّ بهم من النَّكَالِ : وقيل : « دَارَ الفاسِقِينَ » ما دَارَ إليه أمرهم ، وذلك لا يُعْلم إلا بالإخبار والإعلام .
قال ابءنُ عطيَّة - معترضاً على هذا الوجه - : ولَوْ كَانَ من رؤية القلب ، لتعدَّى بالهمزة إلى ثلاثةِ مفاعيل .
ولو قال قائلك المفعولُ الثالثُ يتضمنه المعنى ، فهو مُقَدَّرٌ أي : مذمومة أو خربة أو مُسَعَّرة - على قول من قال : إنَّهَا جهنم - قيل له : لا يَجُوزُ حذفُ هذا المفعولِ ، ولا الاقتصارُ دُونَهُ ، لأنَّهَا داخلةٌ على الابتداءِ والخبرِ ، ولو جُوِّزَ لكان على قبح في اللِّسان ، لا يليق بكتاب الله تعالى .
قال أبُو حيان : « وحَذْفُ المفعُول الثَّالث في باب » أعْلَمَ « لدلالة المعنى عليه جائزٌ ، فيجوزُ في جواب : هل أعلمتَ زَيْداً عمراً منطلقاً؟ أعلمتُ زيداً عمراً ، وتحذف » منطلقاً « لدلالة الكلام السَّابق عليه » .
فصل
قال شهابُ الدِّين : هذا مُسَلَّمٌ ، لكن أيْنَ الدَّليل عليه في الكلام ، كما في المثال الذي أبرزه الشَّيْخُ؟
ثم قال : « وأمَّا تَعْليلُهُ بأنَّهَا داخلةٌ على الخَبَرِ لا يدلُّ على المنع ، لأنَّ خبر المبتدأ يجوزُ حَذْفُهُ اختصاراً ، والثانِي ، والثَّالِثُ في باب » أعْلَمَ « يَجُوزُ حذفُ كُلٍّ منهما اختصاراً » .
قال شهابُ الدِّين : « حذفُ الاختصار لدليلٍ ، ولا دليلَ هَنَا » .
ثم قال : « وفي قوله لأنَّهَا - أي : » سَأريكُمْ « - داخلةٌ على المبتدأ ، والخبر تجوُّزٌ » ويعني أنَّها قبل النَّقْل بالهمزة داخلة على المبتدأ والخبر . وقرأ الحسن : « سَأوريكُمْ » بواو خالصة بعد الهمزة وفيها تخريجان : أحدهما قاله الزمخشريُّ - : « وهي لغةٌ فاشية بالحجاز يُقَالُ : أوْرَنِي كَذَا وأوْرَيْتُهُ ، فوجهه أن يكون من أوْرَيْتُ الزَّنْدَ ، فإن المعنى : بَيِّنْهُ لي وأنِزْهُ لأستبينَه » .
والثاني : - ذكره ابنُ جنيٍّ - وهو أنَّهُ على الإشباع ، فيتولَّد منها الواو ، قال « وناسَبَ هذا كونُهُ موضعَ تهديدٍ ووعيدٍ فاحتمل الإتيان بالواو » .
قال شهابُ الدِّين : وهذا كقول الشاعر : [ البسيط ]
2573 - اللَّهُ يَعْلَمُ أنَّا فِي تَلَفُّتِنَا ... يَوْمَ اللِّقاءِ إلى أحْبَابِنَا صًورُ
وأنِّنِي حَيْثُمَا يُثْني الهَوَى بَصَرِي ... مِنْ حَيْثُمَا سَلَكُوا أدْنُوا فأنْظُورُ
لكن الإشباعَ بابُهُ الضَّرُورَةُ عند بعضهم . وقرأ ابنُ عبَّاسٍ ، وقسامة بن زيد « سأورثُكُمْ » قال الزمخشريُّ : وهي قراءة حسنةٌ ، يصحِّحُهَا قوله تعالى : { وَأَوْرَثْنَا القوم } [ الأعراف : 137 ] .
فصل
في قوله : { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين } وجهان : الأول : أنَّ المُرادَ به التهديدَ والوعيد وعلى هذا ففيه وجهان :
أحدهما : قال ابن عباس والحسنُ ومجاهدٌ : هي : جهنم وهي مصيرهم في الآخرة ، فاحْذَرُوا أن تكونوا منهم .
وثانيهما : قال قتادةُ وغيره : سأدخلكم الشَّام؛ فأريكم منازل القُرُون الماضيةِ مثل الجبابرةِ ، والعمالقةِ ، ومنازل عادٍ وثَمُودَ الذين خالفُوا أمْرَ اللَّهِ لتعتبروا بها .
الوجه الثاني : المُرَادُ به الوعد والبشارة بأنَّ الله تعالى سيوِّرثُهم أرض أعدائهم وديارهم وهي أرض مصر ، قالهُ عطيةُ العوفيُّ؛ ويدلُّ عليه قراءة قسامة .
وقال السُّدِّيُّ : هي مصارع الكفار .
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)
قوله : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الذين يَتَكَبَّرُونَ } الآية .
قال ابْنُ عبَّاسٍ : يريد الَّذينَ يتجبَّرون على عبادي ، ويحاربون أوليائي حتَّى لا يؤمنوا سأصرفهم عن قبول آياتي والتَّصْدِيق بها ، عُوقبوا بحرمان الهدايةِ لعنادهم الحَقّ كقوله تعالى : { فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] . واحْتَجّ أهلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على أنَّهُ تعالى قد يمنع الإيمان .
وقالت المعتزلة : لا يمكنُ حمل الآية على ذلك لوجوه :
الأوّلُ : قال الجُبَّائِيُّ : لا يجوزُ أن يكون المراد منه أنَّه تعالى يصرفهم عن الإيمان؛ لأن قوله : « سَأصْرِفُ » يتناول المستقبلَ ، وقد بيَّن تعالى أنَّهُمْ كفروا وكذَّبُوا من قبل هذا الصرف ، لأنَّهُ وصفهم بكونهم : { يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق } وبأنَّهُم : { وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغي يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } فدلَّت الآية على أنَّ الكُفْر قد حصل لهم في الزَّمانِ الماضي؛ فدلَّ على أن المراد من هذا الصرف ليس الكفر بالله .
الثاني : أن قوله { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي } مذكورٌ على وجه العقوبة على التَّكَبُّر والكُفْر ، فلو كان المراد من هذا الصَّرْفِ هو كفرهم ، لكان معناه أنَّهُ تعالىخلق فيهم الكفر عقوبة لهم على إقدامهم على الكفر ، والعقوبة على فعل الكفر بمثل ذلك الفِعْل المعاقب عليه لا يجوز؛ فثبت أنَّ المرادَ من هذا الصَّرفِ ليس هو الكفر .
الثالث : أنَّه تعالى لو صَرَفَهُمْ عن اليمان وصدهم عنه ، فكيف يمكن أن يقُول مع ذلك : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] { فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ الانشقاق : 20 ] { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا } [ الإسراء : 94 ] فثبت أنَّ حمل الآية على هذا الوجه غير ممكن؛ فوجب حملها على وجوه أخرى :
الأول : قال الكلبي وأبو مسلم الأصفهاني : إنَّ هذا الكلام تمام لما وعد اللَّهُ موسى به من إهلاك أعدائه ومعنى صرَفَهُمْ ، أهلكَهُمْ فلا يقدرون على منع موسى من تبليغها ، ولا يمنع المؤمنين من الإيمان بها ، وهو تشبيه بقوله : { بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } [ المائدة : 67 ] فأراد تعالى أن يمنع أعداء موسى من إيذائه ومنعه من القيام بما يلزمه في تبليغ النبوةِ والرِّسالة .
التَّأويلُ الثَّاني : قال الجُبَّائِيُّ : سأصرفُ المتكبرين عن نَيْل ما في آياتي من العزَّة والكرَامَة المُعَدَّيْن للأنبياء ، والمُؤمنين . وإنَّمَا صرفهم عن ذلك بواسطة إنزال الذل والإذلال بهم ، وذلك يَجْرِي مجرى العقوبة على كُفْرِهِم ، وتكبرهم على اللَّهِ .
التَّأويل الثالثُ : أنَّ من الآيات ما لا يُمْكِنُ الانتفاع بها إلاَّ بعد سبق الإيمان ، فإذا كَفَرُوا فقد صَيَّرُوا أنفسهم بحيث لا يمكنهم الانتفاع بتلك الآيات ، فحينئذٍ يصرفهم اللَّهُ عنها .
التأويل الرابع : أنَّ اللَّه عز وجل إذا علم من حال بعضهم أنَّهُ إذا شاهد تلك الآيات فإنَّه لا يستدلّ بها بل يستخف بها ، ولا يقومُ بحقِّها ، فإذا علم اللَّهُ ذلك منه ، صَحَّ أن يَصْرِفَهُ عنها .
التأويل الخامس : نقل عن الحسن أنَّه قال : إنَّ من الكفار من بالغ في كُفره ، وانتهى إلى الحد الذي إذا وصل إليه مات قلبه ، فالمراد من قوله : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي } هؤلاء .
فصل
المُرضادُ من الصَّرْفِ المَنْع ، والمُرَادُ بالآيات : الآياتُ التسع الَّتي أعطاها اللَّهُ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلامُ - والأكثرون على أنَّ الآية عامَّة . ومعنى « يَتَكَبَّرُونَ » : أي : يَرَوْنَ أنَّهُم أفضل الخَلْقِ ، وأن لهم من الحقِّ ما ليس لغيرهم ، وصفةُ التَّكبر لا تكون إلا للَّهِ تعالى .
وقال بعضهم : التَكَبر : إظهار كبر النَّفْسِ على غيرها ، والتَّكبر صِفَةُ ذمٍّ في جميع العبادِ وصفةُ مدحٍ في حقِّ الله تعالى؛ لأنَّهُ يستحقُّ إظهار الكبر على ما سواه؛ لأنَّ ذلك في حقه حَقٌّ ، وفي حق غيره باطل .
قال عليه الصَّلاةُ والسَّلام يقولُ اللَّهُ تعالى : الطِبْريَاءُ رِدائِي والعظمةُ إزَارِي ، فمنْ نَازَعنِي فيهما حَرَّمْتُ عليه الجنَّة « .
قوله : » بِغَيْرِ الحَقِّ « فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ ، أي : يَتَكَبَّرُونَ ملتبسين بغير الحقِّ .
والثاني : أنه متعلِّق بالفعلِ قبله ، أي : يتكبرون بما ليس بحق ، والتَّكَبُّرُ بالحقِّ لا يكونُ إلاَّ لِلَّهِ تعالى خاصَّة .
قال بعضهم : وقد يكون إظْهَارُ الكبرِ على الغَيْرِ بالحقِّ ، فإنَّ للمحقّ أن يتكبَّرَ على المُبْطِلِ وفي الكلامِ المشهور : التَّكبر على المتكبر صدقةٌ .
قوله : » وإن يَرَوْا الظَّاهرُ أنَّها بصريَّةٌ ، ويجوزُ أن تكون قلبية ، والثَّاني محذوفٌ لِفَهْمِ المعنى : كقول عنترة : [ الكامل ]
2574 - وَلَقَدْ نَزلْتِ فلا تَظُنِّي غَيْرَهُ ... مِنِّي بِمنْزِلَةِ المُحَبِّ المُكْرَمِ
أي : فلا تظني غيره واقعاً مني ، وكذا الآية الكريمة ، أي : وإن يَرَوْا هؤلاء المتكبرين كل آية جائية ، أو حادثة . وقرأ مالك بن دينارٍ « وإن يُرَوْا » مبنياً للمفعول من أري المنقول بهمزة التعدية .
قوله : « سَبِيلَ الرُّشْدِ » قرأ حمزة والكسائي هنا وأبُو عمرو في الكهف في قوله : { مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } [ الكهف : 66 ] خاصة دون الأولين فيها بفتحتين ، والباقون بضمة وسكون واختلف النَّاسُ فيهما هل هما بمعنى واحد .
فقال الجمهور نعم لغتان في المصدر كالبُخْلِ والبَخَل ، والسُّقْم والسَّقَم ، والحُزْن والحَزَن .
وقال أبُو عمرو بن العلاءِ : « الرُّشْدُ - بضمة وسكون - الصَّلاحُ في النَّظر ، وبفتحتين الدِّين » ولذلك أجمع على قوله : { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً } [ النساء : 6 ] بالضمِّ والسُّكثون ، وعلى قوله { فأولئك تَحَرَّوْاْ رَشَداً } [ الجن : 14 ] بفتحتين .
ورُوي عن ابن عامر « الرُّشُد » بضمتين وكأنَّهُ من باب الإتباع ، كاليُسُر والعُسُر وقرأ السلمي الرَّشَاد بألف فيكون : الرُّشْد والرَّشَد والرَّشَاد كالسُّقْم والسَّقَم والسَّقَام .
وقرأ ابنُ أبي عَبْلَة لا يتَّخِذُوَها ، ويتَّخِذُوها بتأنيث الضَّمير ، لأنَّ السبيل يَجُوزُ تأنيثُها .
قال تعالى : { قُلْ هذه سبيلي } [ يوسف : 108 ] . والمُرادُ بسَبيل الرُّشْدِ سبيل الهدى والدين ، وسَبيلَ الغَيِّ ضد ذلك . ثُمَّ بيَّن العلة لذلك الصَّرف ، وهو كونهم مُكّذِّبينَ بآياتِ اللَّهِ ، وكونهم عنها غافلين أي معرضين ، أي : أنَّهم واظبوا على الإعراضِ حتى صَارُوا بِمَنْزلةِ الغافلينَ عَنْهَا .
قوله : « ذَلِكَ » فيه وجهان : أظهرهما : أنَّهُ مبتدأ ، خبره الجارُّ بعده ، أي : ذلك الصرف بسبب تكذيبهم .
والثني : أنَّه في محلِّ نصبٍ ، ثم اختلفَ في ذلك .
فقال الزَّمخشريُّ : « صَرَفَهُمُ اللَّهُ ذلك الصَّرْفَ بعينه » . فجعله مصدراً .
وقال ابْنُ عطيَّة : فعلنا ذلك فجعله مفعولاً به وعلى الوجهين فالباءُ في بأنَّهُمْ متعلقةٌ بذلك المحذوف .
قوله : { وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } . في هذه الجملة احتمالان :
أحدهما : أنَّهَا نَسَقٌ على خبر أنَّ ، أي : ذلك بأنَّهُمْ كذّبوا ، وبأنَّهُمْ كانوا غافلين عن آياتنا .
والثاني : أنَّها مستأنفةٌ ، أخبر اللَّهُ تعالى عنهم بأنهم من شأنهم الغفلة عن الآيات وتدبرها .
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)
قوله : { والذين كَذَّبُواْ } في خبره وجهان ، أحدهما : أنَّهُ الجملةُ من قوله « حَبِطَتْ أعْمالُهُم » و « هل يُجْزَونَ » - خبر ثان ، أو مستأنف والثاني : أنَّ الخبر هَلْ يجزونَ والجملةُ من قوله حَبِطَتْ في محلِّ نصب على الحالِ ، و « قَدْ » مضمرة معه ، عند من يشترط ذلك ، وصاحبُ الحال فاعلُ كَذَّبُوا .
قوله : ولقاء الآخرةِ فيه وجهان ، أحدهما : أنَّهُ من باب إضافة المصدر لمفعوله ، والفاعل محذوف ، والتقديرُ : ولقائهم الآخرة . والثاني : أنَّهُ من باب إضافة المصدر للظرف يعني : ولقاء ما وعد الله في الآخرة . ذكرهما الزمخشريُّ .
قال أبُو حيَّان : « ولا يُجيز جُلَّةُ النَّحويين الإضافة إلى الظَّرف ، لأنَّ الظَّرف على تقدير » في « ، والإضافةُ عندهم على تقدير اللاَّم ، أو » مِنْ « فإن اتُّسِعَ في العَامِل جازَ أن يُنْصبَ الظرفُ نَصْبَ المفعول ، ويجوزُ إذْ ذاك أن يُضافَ مصدرُه إلى ذلك الظَّرف المُتِّسَع في عاملِهِ ، وأجازَ بعضً النَّحويين أن تكون الإضافةُ على تقدر » في « كما يفهِمُ ظاهرُ كلام الزمخشري » .
فصل
لمَّا ذكر ما لأجله صرف المتكبرين عن آياته وأتبعه ببيان العلّة لذلك الصرف وهُو كونُهم مُكَذِّبينَ بالآياتِ غافلين عنها ، فقد كان يَجُوزُ أن يظن أنَّهُمْ يختلفون في باب العقابِ لأنَّ فيهم مَنْ يعمل بعض أعمال البرّ ، بيَّن تعالى أنه حال جميعهم ، سواء كان متكبراً أو متواضعاً ، أو قليل الإحسان ، أو كثير الإحسان ، فقال : { والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الآخرة } يعني ذلك بجحدهم للميعاد وجراءتهم على المعاصي ، فبيَّنَ تعالى أنَّ أعمالهم محيطة .
قوله : هَلْ يَجْزوْنَ هذا الاستفهامُ معناه النَّفي ، لذلك دخلت : « إلاَّ » ولو كان معناه التقرير لكان مُوجباً ، فيبعدُ دخول « إلاَّ » أو يمتنع .
وقال الواحديُّ هنا : « لا بد من تقدير محذوفٍ أي : إلا بِمَا كانُوا أو على ما كانُوا ، أو جزاء ما كانوا » وتقريره : أنَّ نفس ما كانوا يعملونه لا يُجْزونَهُ إنَّمَا يُجْزَوْنَ بمقابلة .
فصل
احْتَجُّوا على فساد قوله أبي هاشم في أنَّ تاركَ الواجب يستحقُّ العقابَ بمجرَّد أن لا يَفْعَل الواجبَ ، وإن لَمْ يَصْدُرْ منه فعلٌ ضدَّ ذلك الواجب بهذه الآية .
قالوا : لأنّها تدلُّ على أنَّه لا جزاء إلاَّ على العملِ ، وترك الواجبِ ليس بعملٍ؛ فوجب أن لا يُجازى عليه؛ فثبت أنَّ الجزاء إنَّمَا حصل على فعل ضده .
وأجاب أبوُ هاشم : بأنِّي لا أسمِّي ذلك العقاب جزاءً ، فسقطَ الاستدلالُ .
وأجَابُوا عن هذا : بأنَّ الجَزاءَ إنَّمَا سُمِّيَ جزاءً؛ لأنَّهُ يجزي ، ويكفي في المَنْعِ عن المَنْهِيِّ ، وفي الحثِّ على المأمُور به ، فإن ترتَّب العِقَابُ على مجرد ترك الواجبِ؛ كان ذلك العقابُ كافياً في الزَّجْرِ عن ذلك التَّرك ، فكان جزاء ، فلا سبيل إلى الامتناع من تسميته جزاء .
قوله تعالى : { واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ } الآية . أي : من بعد مُضيِّة وهذابه إلى الميقات والجارَّان متعلِّقان ب « اتَّخَذَ » ، وجَازَ أن يتعلَّق بعاملٍ حرفا جَرّ متحدَا اللَّفْظِ ، لاختلافِ مَعْنيْهما لأنَّ الأولى لابتداء الغايةِ ، والثَّانية للتَّبعيضِ ، ويجوزُ أن يكون « مِن حُلِيِّهِمْ » متعلٌِّاً بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من عِجْلاً لأنَّهُ لو تأخَّر عنه لكان صفةً فكان يقال عِجْلاً من حليهم .
وقرأ الأخوان مِنْ حِليِّهم بكسر الحاء وَوجْهُهَا الإتباع لكسرة اللاَّم ، وهي قراءة أصحاب عبد الله وطلحة ويحيى بن وثاب والأعمش .
والباقون بضمِّ اللاَّم ، وهي قراءةُ الحسنِ وأبي جعفرٍ وشيبة بن نصاح ، وهو في القراءتين جمع « حَلْيِ » ك « طَيٍّ » ، فجمع على « فُعُول » ك « فَلْس » و « فُلُوس » فأصله ، حُلُويٌّ كثُدِي في « ثُدُوي » ، فاجتمعت الياء والواوُ ، وسبقت إحداهما بالسُّكُون ، فقلبت الواوُ ياء ، وأدغمت ، وكُسرت عين الكلمة ، وإن كانت في الأصل مضمومةً لتصِحَّ الياء ، ثُمَّ لك فيه بعد ذلك وجهانِ : تركُ الفاءِ على ضَمِّهَا ، أو إتباعُها للعين في الكسرةِ ، وهذا مُطَّردٌ في كل جمعٍ على « فُعُول » من المعتلِّ اللاَّم ، سواء كان الاعتلال بالياء ك « حُلِيّ » و « ثُدِي » أم بالواو نحو : « عُصِيّ » ، و « دُلِيّ » جمع عَصَا ودَلْو . وقرأ يعقوبُ « من حَلِيِّهم » بفتح الحاءِ وسكون اللاَّمِ ، وهي محتملةٌ لأن يكون « الحَلْي » مفرداً أريد به الجمعُ ، أو اسمُ جنسٍ مفرده « حَلْيَة » على حدِّ قَمْحٍ وقَمْحَةٍ ، و « عِجْلاً » مفعولُ « اتَّخَذَ » و « مِنْ حُلِيِّهم » تقدَّم حكمه . ويجوزُ أن يكون « اتَّخذَ » متعديةً لاثنين بمعنى « صَيَّرَ » فيكون : « مِنْ حُلِيِّهم » هو المفعول الثاني .
وقال أبُو البقاءِ : « وهو محذوفٌ ، أي : إلهاً » ولا حاجة إليه . والحَلْيُ : اسم لما يُحَسَّن به من الذَّهبِ والفضَّةِ .
و « جَسَداً » فيه ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنَّهُ نعتٌ . الثَّانِي : أنَّهُ عطفُ بيان ، والثالثُ : أنَّهُ بدلٌ قاله الزمخشريُّ ، وهو أحسنُ؛ لأنَّ الجسد ليس مشتقاً ، فلا يُنْعَتُ به إلا بتأوُّلٍ ، وعطفُ البيان في النكراتِ قليلٌ ، أو ممتنع عند الجمهور ، وإنَّما قال : « جَسَداً » لئلاَّ يُتوهَّمَ أنَّهُ كان مخطوطاً ، أو مرقوماً . والجسد : الجثة .
وقيل : ذات لحم ودمٍ .
قوله : « لَهُ خُوَارٌ » في محل النَّصْبِ نعتاً ل « عِجْلاً » ، وهذا يُقَوِّي كون « جَسَداً » نعتاً؛ لأنه إذا اجتمع نعتُ وبدلٌ قُدِّم النَّعْتُ على البدلِ ، والجمهورُ على خُوَارٌ بخاء معجمة وواو صريحة ، وه صوتُ البقرِ خاصّةً ، وقد يُسْتَعَارُ للبعير ، والخَوَرُ : الضَّعْفُ ، ومنهُ أرْضٌ خَوَّارةً وريح خوار والخورانُ : مجرى الرَّوث ، وصوت البهائم أيضاً .
وقرأ عليٌّ - رضي الله عنه - وأبُو السَّمَّال : جُؤار بالجيم والهَمْز ، وهو الصَّوت الشديد .
فصل
قال ابنُ عبَّاسٍ والحسنُ وقتادةُ وجماهيرُ أهل التفسير : كان لبني إسرائيل عبيد يتزيَّنُونَ فيه ويَسْتعِرُونَ من القبط الحلي ، فاستعارُوا حلي القبط لذلك اليوم : فَلَمَّا أغرق اللَّهُ القبط بقي ذلك الحيل في أيدي بني إسرائيل ، فجمع السَّامريّ تلك الحلي ، واسْمُهُ موسى بنُ ظفر ، من قرية يقال لها سامرة ، وكان رجلاً مُطاعاً فيهم ، وكانُوا قد سألوا موسى - عليه السلام - أن يجعل لهم إلهاً يعبدونه ، فصاغَ السَّامري لهم من ذلك الحُلِيِّ عِجْلاً ، وألقى في فَمِهِ من تراب أثر فرس جبريل؛ فتحول عِجْلً جَسداً حَيّاً لَحْماً ودماً له خُوَارٌ .
وقيل : كان جَسَداً مُجَسَّداً من ذهب لا روح فيه ، كان يسمع منه صوتُ الرِّيح يدخل في جوفه ويخرج .
قال أكثرُ المفسِّرينَ من المعتزلة : إنَّهُ جعل ذلك العجلَ مجوفاً ، وجعل في جوفه أنابيب على شكل مخصوص .
وكان قد وضع ذلك التمثال في مهبِّ الرِّيح ، فكانت تدخل في تلك الأنابيبِ فيظهرُ منه صوت مخصوص يشبه خُوار العجل .
وقال آخرون : إنَّهُ جعلَ ذلك التمثال أجوف ، وجعل تحته في الموضع الذي نصب فيه العجل من ينفخ فيه من حيثُ لا يشعر به النَّاس ، فيسمعوا الصوت من جوفه كالخوار ، كما يفعلون الآن في هذه التَّصَاوير التي يجرون فيها الماء كالفوارات وغيرها .
قيل : إنَّهُ ما خار إلاَّ مرة واحدة ، وقيل : كان يخور كثيراً كُلَّمَا خار سجدوا له وإذا سكت رفعوا رؤوسهم . وقال وهب : كان يَخُورُ ولا يتحَرّك .
وقال السدي : كان يخور ويمشي . ثم قال لهم هذا إلهكم وإله مُوسَى .
فإن قيل لِمَ قال : { واتخذ قَوْمُ موسى } والمتّخذ هو السّامريُّ؟
فالجوابُ من وجهين : أحدهما : أنَّ اللَّه نسب الفعل إليهم ، ولأنَّ رجلاً منهم باشره .
كما يقال : بَنُو تميم قالوا كذا وفعلوا كذا ، والقائِلُ والفاعِلُ واحد ، والثاني : أنَّهُم كانوا مُريدين لاتخاذِهِ راضين به ، فكأنَّهُم اجتمعُوا عليه .
فإن قيل : لم قال : « مِنْ حُلِيِّهم » ولم يكن الحلي لهم ، وإنَّما اسْتَعارُوهَا؟
فالجوابُ : أنَّه لَما اهلك اللَّهُ قوم فرعون بقيت تلك الأموال في أيديهم ملكاً لهم كقوله : { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ } [ الدخان : 25 ] - إلى قوله - { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ } [ الدخان : 28 ]
فصل
قيل إنَّ الذين عبدُوا العِجْلَ كانوا كل قوم موسى .
قال الحسنُ : كلهم عبدوا العجل غير هارون ، لعموم هذه الآية .
ولقول موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - : { رَبِّ اغفر لِي وَلأَخِي } [ الأعراف : 151 ] ، فتخصيص نفسه وأخيه بالدُّعاءِ يدلُّ على أنَّ غيرهُمَا ما كان أهلاً للدعاءِ ، ولو بَقَوْا على الإيمان لما كان الأمْرُ كذلك . وقيل : بل كان منهم من ثَبَتَ على إيمانه لقوله تعالى : { وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ }
[ الأعراف : 159 ] .
قوله : « ألَمْ يَرَوْا » إن قلنا : إنَّ اتَّخَذَ متعدية لاثنين ، وإنَّ الثَّاني محذوفٌ ، تقديره : واتَّخَذَ قوم موسى من بعده من حليهم عِجْلاً جَسَداً إلهاً ، فلا حاجة حينئذ إلى ادِّعاءِ حذف جملة يتوجَّه عليها هذا الإنكارُ ، وإن قلنا : إنَّها متعدية لواحد بمعنى : صَنَعَ وعَمِلَ أو متعدية لاثنين ، والثاني هو : مِنْ حُليِّهِمْ فلا بُدَّ مِنْ حذفِ جملة قبل ذلك ، ليتوَجَّه عليها الإنكار ، والتقدير : يعبدوه ، ويَرَوْا يجوز أن تكونَ العِلْمِية ، وهو الظَّاهرُ وأن تكون البصرية ، وهو بيعدٌ .
فصل
اعلم أنَّهُ تعالى احْتَجَّ على فساد هذا المذهب وكون العِجْلِ إلهاً بقوله : { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً } وتقرير هذا الدَّليل أنَّ هذا العِجْلَ لا يمكنه أن يُكلِّمهم ، ولا يَهْديهم إلى الصَّواب والرُّشْدِ ومَنْ كانَ كذلك كان إمَّا جَماداً ، وإمَّا حيواناً ، وكلاهما لا يصلحُ للإلهيَّةِ .
ثم قال تعالى : { اتخذوه وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } لأنفسهم حيثُ أعرضوا عن عبادة الله واشتغلوا بعبادة العجل .
قوله : { اتخذوه وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } يجُوزُ فيها وجهان : أظهرهما : أنَّهَا استئنافيةٌ ، أخبر عنهُم بهذا الخبر وأنه دَيْدنهُم وشأنهُم في كلِّ شيء فاتَّخاذُهم العجلَ من جملة ذلك ، ويجوزُ أن تكون حالاً ، أي : وقد كانُوا ، أي : اتَّخَذُوه في هذه الحالِ المستقرَّةِ لهُم وعلى هذا التفسير المتقدم .
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
قوله تعالى : { وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ } الجارُّ قائم مقام الفاعل .
وقيل القائمُ مقامه ضميرُ المصدر الذي هو السُّقُوط أي سُقِط السقوط في أيديهم ، ونقل أبو حيان عن بعضهم أنه قال : « سقط » تَتضمَّن مَفعُولاً ، وهو ههنا المصدر ، الذي هو الإسقاطُ كقولك : « ذُهِبَ بزيد » .
قال : وصوابه : وهو هنا ضميرُ المصدر الذي هو السُّقُوط؛ لأنَّ « سقط » ليس مصدرُهُ الإسقاط ، ولأن القائمَ مقام الفاعل ضميرُ المصدر ، لا المصدر ، ونقل الواحديُّ عن الأزهريِّ أن قولهم : « سُقِط في يده » ؛ كقوله امرئ القيس : [ الطويل ]
2575 - دَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيحَ في حجراتِهِ ... ولكنْ حَدِيثاً ما حَدِيثُ الرَّواحلِ
في كون الفعل مُسْنداً للجار ، كأنه قيل : صَاحَ المنتهبُ في حجراته ، وكذلك المراد سُقِط في يده ، أي : سقط النَّدمُ في يده .
فقوله : أي سقط النَّدم في يده ، تَصْرِيحٌ بأنَّ القائمَ مقام الفاعل حرفُ الجَرّ ، لا ضمير المصدرِ .
ونقل الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ أنه يقال : سقط في يده وأسقط أيضاً ، إلاَّ أنَّ الفرَّاء قال : سَقَطَ - أي الثلاثي - أكثرُ وأجودُ . وهذه اللَّفظةُ تُسْتعمَلُ في التندُّم والتحير . وقد اضْطربَتْ أقوالُ أهل اللَّغَةِ في أصلها .
فقال أبو مروان بن سراج اللُّغوي : « قولُ العرب سُقِط في يده مِمَّا أعْيَانِي معناهُ » . وقال الواحِدي : قَدْ بَانَ مِنْ أقوالِ المُفسِّرينَ وأهْلِ اللُّغةِ أنَّ « سُقِطَ في يدهِ » نَدم ، وأنَّه يُسْتعملُ في صفة النّادم فأمَّا القولُ في أصلِهِ وما حَدَّه فلمْ أرِ لأحَدٍ من أئَّمةِ اللُّغةِ شَيْئاً أرْتَضِيه إلاَّ ما ذكر الزَّجَّاجي فإنَّه قال : قوله تعالى : { وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ } بمعنى نَدمُوا ، نظمٌ لم يُسمع قبلَ القرآن ، ولمْ تعرفهُ العرب ، ولمْ يُوجَدْ ذلك في أشعارِهِم ، ويدُلُّ على صحَّةِ ذلك أنَّ شعراء الإسلام لما سَمِعُوا هذا النَّظْمَ واستعملُوهُ في كلامهم خَفِي عليهم وجهُ الاستعمال ، لأنَّ عادتَهُم لمْ تَجْرِ بِهِ .
فقال أبو نواس : [ الرجز ]
2576 - ونَشْوَةٌ سُقِطْتُ مِنْهَا فِي يَدِي ... وأبُو نواسٍ هو العالمُ النَّحْرِيرُ ، فأخطأ في استعمال هذا اللفظ ، لأنَّ « فُعِلْتُ » لا يُبْنَى إلاَّ من فعل مُتعَدٍّ ، و « سقط » لازمٌ ، لا يتعدَّى إلاَّ بحرفِ الصفة لا يقالُ : « سُقطت » كما لا يُقال : رُغبتُ وغُضِب ، إنَّما يُقَال : رُغِبَ فيَّ ، وغُضِب عَلَيَّ ، وذكر أبُو حاتمٍ : « سُقِط فلان في يده » بمعنى ندم . وهذا خطأ مثلُ قول أبي نواس ، ولو كان الأمرُ كذلك لكان النَّظْم { وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ } و « سُقِطَ القومُ في أيديهم » .
وقال أبُو عُبيدة : « يُقَالُ لِمَنْ على أمْرٍ وعجز عنه : سُقِطَ في يده » .
وقال الواحِدِيُ : « وذِكْرُ اليد ههنا لوجهين أحدهما : أنه يُقال للَّذي يَحْصُلَ وإن كان ذلك مِمَّا لا يكُون في اليد : » قَدْ حصلَ في يده مكروهٌ « يشبه ما يحصُلُ في النَّفس وما يحصُل في القلب بِمَا يُرضى بالعينِ ، وخُصَّت اليدُ بالذِّكْرِ؛ لأنَّ مباشرةَ الذُّنُوبِ بها .
فاللائمةُ ترجع عليها ، لأنَّهَا هي الجارحةِ العُظْمَى ، فيُسْنَدُ إليها ما لم تُباشِرهُ ، كقوله : { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } [ الحج : 10 ] وكثيرٌ من الذُّنُوب لمْ تُقدّمهُ اليد « .
الوجه الثاني : أنَّ النَّدَمَ حدثٌ يَحْصُلُ في القلب ، وأثرُهُ يَظْهَرُ في اليد؛ لأنَّ النَّادِمَ بَعَضُّ يدَهُ ، ويضربُ إحْدَى يديْه على الأخرى كقوله : { فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ } [ الكهف : 42 ] فتَقْلِيبُ الكفِّ عبارةٌ عن النَّدم ، وكقوله : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ } [ الفرقان : 37 ] فلمَّا كان أثرُ النَّدم يحصُل في اليدِ مِن الوجهِ الذي ذَكَرْنَاه أضيف سقوطُ النَّدم إلى اليَدِ؛ لأنَّ الذي يَظْهَرُ للعُيُونِ من فِعْلِ النَّادم هو تَقْلِيبُ الكفِّ وعضُّ الأنامل واليدِ كَمَا أنَّ السُّرُور معنى في القلب يسْتَشْعره الإناسنُ ، والذي يظهرُ منه حالة الاهتزاز والحركةِ والضَّحك وما يَجْرِي مجراه .
وقال الزمخشريُّ : » ولمَّا سُقِطَ في أيديهمْ « أي ولمَّا اشتدَّ ندمهم؛ لأنَّ مِنْ شأن من اشتدَّ ندمُهُ وحَسْرَتُهُ أن يَعَضَّ يدهُ غماً ، فتصير يده مَسْقُوطاً فيها ، لأنَّ فاه قد وقع فيها .
وقيل : مِنْ عادةِ النَّادمِ أن يُطَأطِىءَ رَأسَهُ ، ويضع ذقنه على يده معتمداً عليها ، ويصيرُ على هيئةٍ لو نُزِعت يده لسقط على وجهه ، فكأنَّ اليدَ مَسْقُوطٌ فيها . ومعنى » في « » على « ، فمعنى » في أيديهم « كقوله : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] .
وقيل : هو مَأخُوذٌ من السَّقاط ، وهو كثرةُ الخَطَأ ، والخَاطِىءُ يَنْدَمُ على فعلهِ .
قال ابنُ أبي كاهل : [ الرمل ]
2577 - كَيْفَ يَرْجُونَ سِقَاطِي بَعْدَمَا ... لَفَّعَ الرَّأسَ بياضٌ وصَلَعْ
وقيل : هو مأخوذٌ من السَّقيط ، وهو ما يُغَشِّي الأرض من الجَليدِ يُشْبِه الثَّلْج .
يقال منه : سَقَطَت الأرْضُ كما يُقَال : ثلجت ، والسَّقْطُ والسَّقِيطُ يذُوبُ بأدْنَى حرارةٍ ولا يبقى . ومنْ وقع في يده السَّقِيط لمْ يَحْصُل من بغيته على طائلٍ . واعْلَمْ أنَّ » سُقِطَ في يده « عدَّهُ بعضُهم في الأفعال الَّتِي لا تتصرَّف ك » نِعْمَ وبِئْسَ « .
وقرأ ابْنُ السَّمَيْفَع سقط في أيديهم مبنياً للفاعل وفاعلُه مَضْمَرٌ ، أي : سَقَطَ النَّدمُ هذا قولُ الزَّجَّاجِ .
وقال الزمخشريُّ : » سَقَطَ العَضُّ « .
وقال ابنُ عطيّة : » سَقَطَ الخسران ، والخيبة « . وكل هذه أمثلةٌ .
وقرأ ابنُ أي عبلة : أسْقِط رباعياً مبنياً للمعفول ، وقد تقدَّم أنَّها لغةٌ نقلها الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ .
فصل
قوله : ورَأوْا أنَّهُمْ هذه قلبيَّة ، ولا حاجةَ في هذا إلى تقديم وتأخير ، كما زعم بعضهم .
قال القاضِي : يجبُ أن يكون المؤخَّرُ مقدماً؛ لأنَّ النَّدَمَ والتَّحسّر إنَّما يقعانِ بعد المعرفة فكأنه تعالى قال : ولما رأوا أنهم قد ضلّوا سقط في أيديهم لما نالهُم من عظيم الحسْرَةِ .
ويمكنُ أن يقال لا حاجة إلى ذلك ، لأنَّ الإنسانَ إذا شكَّ في العملِ الذي يُقْدِمُ عليه هل هو صوابٌ أو خطأ؟ فقد يَنْدَُ عليه من حيثُ أنَّ الإقدامَ على ما لا يعلم كونه صواباً أو خطأ غير جائز .
قوله : { لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا } لما ظهر لَهُمْ أنَّ الذي عَمِلُوهُ كان بَاطِلاً ، أظْهَرُوا الانقطاع إلى اللَّهِ تعالى وقالوا : { لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا } .
قرأ الأخوان « تَرْحَمْنَا » و « تَغْفِر » بالخطاب ، « رَبَّنَا » بالنَّصْب ، وهي قرايةُ الشعبي وابن وثَّاب وابن مصرف والجَحْدريّ والأعمش ، وأيُّوب ، وباقي السبعة بياءِ الغيبةِ فيهما ، « رَبُّنَا » رفعاً ، وهي قراءةُ الحسنِ ، ومُجاهدٍ ، والأعرج وشيْبَةَ وأبي جَعْفَرٍ . فالنَّصبُ على أنَّهُ مُنَادى ، وناسَبهُ الخطاب ، والرَّفْعُ على أنَّه فاعلٌ ، فَيَجُوزُ أن يكون هذا الكلام صَدَرَ من جمسعهم على التَّعَاقُبِ ، أو هذا من طائفةٍ ، وهذا من طائفةٍ ، فمن غلب عليه الخوفُ ، وقوي على المُواجهةِ؛ خاطب مستقيلاً من ذنبه ، ومن غلب عليه الحياء أخرج كلامهُ مُخْرج المُسْتَحِي من الخطاب؛ فأسند الفِعْلَ إلى الغَائِبِ .
قال المُفَسِّرُونَ : وكان هذا النَّدمُ والاستغفارُ منهم بَعْدَ رُجوعِ مُوسى إليهم .
قوله تعالى : { وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً } : هذان حالان من « مُوسَى » عند من يُجيزُ تعدُّد الحال ، وعند من لا يُجيزه يجعل « أسِفاً » حالاً من الضَّميرِ المُسْتَتر في « غَضْبانَ » ، فتكون حالاً مُتداخِلةً ، أو يجعلُها بدلاً من الأولى ، وفيه نظرٌ لِعُسْر إدخالِهِ في أقْسَام البدلِ .
وأقربُ ما يقال : إنَّه بدلُ بَعْضٍ من كُل إن فسَّرنا الأسفَ بالشَّديدِ الغضبِ ، وهو قولُ أبِي الدَّرْدَاء وعطاء عن ابنِ عبَّاس ، واختيار الزَّجَّاجِ ، واحْتَجُّوا بقوله : { فَلَمَّآ آسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ } [ الزخرف : 55 ] أي : اغْضَبُونَا ، أو بدل اشتمال إن فسَّرناهُ بالحزِينِ .
وهو قول ابن عباس والحسن ، والسُّدِّي ، ومنه قوله : [ المديد ]
2578 - غَيْرُ مأسُوفٍ على زَمَنٍ ... يَنْقَضِي بالهَمِّ والحَزَنِ
وقالت عائشةُ - رضي الله عنها - : إنَّ أبا بكر رَجُلٌّ أسِيفٌ أي : حَزِينٌ .
قال الواحديُّ : « والقولان مُتقاربانِ؛ لأنَّ الغضبَ من الحُزْنِ ، والحُزْن من الغَضَبِ » ؛ قال : [ البسيط ]
2579 - . . ... فَحُزنُ كُلِّ أِي حُزْنٍ أخُو الغَضَبِ
وقال الأعشى : [ الطويل ]
2580 - أرَى رَجْلاً مِنْهُمْ أسِيفاً كأنَّمَا ... يَضُمُّ إلى كَشْحَيْهِ كَفّاً مُخَضَّبَا
فهذا بمعنى : غَضْبَان ، وحديث عائشة يدلُّ على أنَّهُ : الحزين ، فلمَّا كانا مُتقاربَيْنِ في المعنى صَحَّت البدليَّةُ .
ويقال : رَجُلٌ أسِفٌ : إذا قُصِد ثُبُوتُ الوَصْفِ واستقراره ، فإن قُصِد بِهِ الزَّمان جَآءَ على فاعل .
فصل
اختلفُوا في هذه الحال .
فقيل : إنَّهُ عند هجومه عليهم ، عرف ذلك .
وقال أبُو مسلم : بل كان عارفاً بذلك من قبل؛ لقوله تعالى : { وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفا } وإنَّما كان راجعاص قبل وصوله إليهم .
وقال تعالى - لموسى عليه الصَّلاة والسَّلام - في حال المكالمة
{ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ } [ طه : 58 ] .
قوله : قال بِئْسَمَا هذا جوابُ « لَمَّا » وتقدَّم الكلامُ على « بِئْسَمَا » ، ولكنَّ المَخْصُوصَ بالذَّم محذوفٌ ، والفاعلُ مستتر يُفَسِّرُهُ « ما خَلَفْتُمُونِي » والتقديرُ : بِئْسَ خلافة خَلَفتُمُونيهَا خلافَتُكُمْ .
فصل
فإن قيل : ما معنى قوله : « من بعدي » بعد قوله « خلفتموني » ؟
فالجواب : معناه : من بعد ما رأيتم مني من تَوْحيد اللَّهِ ، ونفي الشُّركاءِ ، وإخلاص العبادةِ له ، أو من بعد ما كتب : احمل بني إسرائيل على التَّوحيد ، وامنعهم من عبادة البقرِ حين قالوا : { اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف : 138 ] ، ومن حقِّ الخفاء أن يسيرُوا سيرة المُستخلفين .
قوله : { أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ } : في « أمْرَ » وجهان ، أحدهما : أنَّهُ منصوبٌ على المفعول بعد إسْقاط الخافض ، وتضمينُ الفعل مَعْنَى ما يتعدَّى بنفسه ، والأصلُ : أعجلْتُمْ عن أمْرِ ربِّكم .
قال الزمخشريُّ : يُقال : عَجِل عن الأمرِ : ذا تركه غير تَامٍّ ، ونقيضه تَمَّ عليه ، وأعجله عنه غيره ، ويُضَمَّن معنى « سَبَقَ » فيتعدَّى تَعْديته .
فيقالُ : عَجِلْتُ الأمْرَ ، والمعنى : « أعجلتم عَنْ أمر ربكم » .
والثاني : أنَّهُ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ غَيْرَ مضمنٍ معنى آخر ، حكى يَعْقُوب عجلتُ الشَّيء سَبَقْتُهُ ، وأعْجلْتُ الرَّجُلَ : اسْتَعْجَلْتُهُ ، أي : حَمَلْتُهُ على العَجَلَةِ .
فصل
قال الواحدي : « معنى العَجَلَة : التقدم بالشَّيءِ قبل وقْتِهِ ، ولذلك صارت مَذْمُومَةً والسُّرعة غر مذمومة ، لأنَّ معناها : عمل الشَّيء في أول أوقاتِهِ » .
ولقائلِ أن يقُولَ : لو كانت العجلةُ مَذْمُومَةٌ فلم قال موسى : { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى } [ طه : 84 ] .
قال ابْنُ عبَّاسٍ : معنى { أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ } يعني : ميعاد ربكم فلمْ تَصْبِرُوا لهُ وقال الحسنُ : وعْدُ رَبكم الذي وَعَدكُم من الأربعين ، وذلك أنَّهُمْ قَدروا أنَّه إن لم يأت على رأس الثَّلاثين ، فقد مات .
وقال عطاءٌ : يريدُ أعَجِلْتُم سَخَطَ رَبّكُم .
وقال الكلبي : أعَجِلْتُم بعبادة العِجْلِ قبل أنْ يأتيكم أمْر ربكُم .
قوله : « وألْقَى الألوَاح » أي الَّتِي فيها التَّوْراةُ على الأرض من شدَّةِ الغضب .
قالت الرُّواةُ : كانتِ التَّوراةُ سبعة أٍباعٍ ، فلمَّا ألْقَاهَا انكسرت ، فرفع منها سِتَّةُ أسباعٍ ، وبقي سبع واحد فرفع ما كان من أخرا الغيب وبقي ما فيه الموعظة والأحكام من الحلا والحرام .
ولقائل أن يقول : ليس في القرآن إلاَّ أنَّه ألقى الألْوَاحَ فأما أنه ألقاها بحيث تكسّرت ، فليس في القُرآنِ وإنَّهُ جُرأة عَظِيمةٌ على كتاب الله تعالى ، ومثله لا يليقُ بالأنبياء ، ويرد هذا قوله تعالى بعد ذلك : { وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب أَخَذَ الألواح } [ الأعراف : 154 ] فدلَّ ذلك على أنَّها لم تنكسر ، ولا شيء منها ، وأنَّ القائلينَ بأنَّ ستة أسباعها رفعت إلى السَّماءِ ، ليس الأمر كذلك ، وأنَّهُ أخذها بأعينها .
قوله : { وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ } بذُؤابته ولحيتِهِ ، لقوله : { لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } [ طه : 94 ] .
قوله : « يَجُرُّهُ إلَيْهِ » فيه ثلاثةُ أوجْهٍ : أحدها : أنَّ الجُمْلَةَ حالٌ من ضمير مُوسَى المستتر في أخَذَا ، أي : أخَذَهُ جَارّاً إليه .
الثاني : أنَّها حَالٌ من رَأس قاله أبُو البقاءِ ، وفيه نظرٌ لعدم الرَّابط .
والثالث : أنَّها حالٌ من أخِيهِ .
قال أبُو البقاءِ : « وهو ضعيفٌ » يعني من حيث إنَّ الحَالَ من المُضافِ إليه يَقِلُّ مجيئُهَا ، أو يمتنعُ عند بعضهم وقد تقدَّم أن بعضهم يُجَوّزهُ في صور ، هذه منها وهو كونُ المضافِ جزءاً من المضافِ إليه .
فصل
الطَّاعنون في عصْمة الأنبياء يقولون : إنه أخذ برأسِ أخيه يجرُّه على سبيل الإهانةِ ، والمُثْبِتُون لعصمة الأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - قالوا : إنَّهُ جَرَّ أخَاهُ لِيَسْألَهُ ويستكشف مِنْهُ كيفية تلك الواقعة .
فإن قيل : فَلِمَ قَالَ : { ابن أُمَّ إِنَّ القوم استضعفوني وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي } ؟
فالجوابُ : أنَّ هارون - عليه السَّلامُ - خاف أن يتوَهّمَ جُهَّالُ بني إسرائيل أنَّ موسى غضبان عليه كما غضب على عبدة العِجل .
فقالك قد نيهتهم ، ولم يكن معي من الجمع ما أمنعهم به عن هذا العمل؛ فلا تفعل ما تُشْمِت أعدائي ، فهم أعداؤُك فإنَّ القومَ يحملون هذا الفعل الذي تفعله على الإهانة لا على الإكرام .
قوله : ابْنَ أمَّ قرأ الأخوان ، وأبو بكر ، وابن عامر هُنَا ، وفي طه ، بكسر الميم ، والباقون بفتحها . فأمَّا الفَتْحِ ففيها مذهبان .
مذهبُ البصريين : أنَّهُمَا بُنيا على الفتح ، لتركيبهما تركيب « خَمْسةَ عَشَرَ » ، فعلى هذا ليس « ابْن » مضافاً ل « أمّ » ، بل هو مركَّب معها ، فَحَركتُهَا حركةُ بناء .
والثاني : مذهب الكوفيِّينَ : وهو أنَّ « ابن » مضاف ل « أمّ » و « أمّ » مضافة لياءِ المتكلِّمِ ، وياء المُتكلِّم قد قلبت ألفاً ، كما تُقْلَبُ في المَنَادَى المُضاف إلى ياء المتكلم ، نحو : يَا غلاماً ، ثم حُذفت الألفُ واجتزىءَ عنها بالفَتْحَةِ ، كام يُجْتَزَأ عن الياءِ بالكَسْرَةِ ، فحينئذ حركة « ابْن » حركةُ إعراب ، وهو مضاف ل « أمَّ » فهي في محلِّ خفض بالإضافة .
وأمَّا قراءة الكسر فعلى رأي البصريين هو كسرُ بناءٍ لأجل ياء المتكلم ، بمعنى : أنَّا أضَفْنَا هذا الاسم المركب كلَّه لياء المتكلم ، فَكُسِر ، فَكُسِرَ آخرُه ، ثم اجتُزىء عن الياء بالكسرةِ ، فهو نظير : يا أحَدَ عشرِ ، ثم : يا أحد عشر بالحذفِ ، ولا جائز أن يكُونَا باقيين على الإضافة إذ لم يَجُزْ حذفُ الياء؛ لأنَّ الاسمَ ليس منادى ، ولكنه مضاف إليه المُنادَى ، فلم يَجُزْ حَذْفُ الياء منه .
وعلى رأي الكُوفيين يكون الكَسْرُ كسرَ إعراب ، وحُذِفَت الياءُ مُجْتَزَأ عنها بالكسرةِ كما اجتُزىء عن ألفها بالفتحَةِ ، وهذان الوجهان يَجْرِيَان ، في : « ابن أمّ » ، و « ابْنَ عَمّ » ، و « ابْنَة أمّ » ، و « ابنة عمّ » .
فصل
فاعْلَمْ أنَّهُ يجوزُ في هذه الأمثلةِ الأربعةِ خاصةً خَمْسُ لغات :
فُصْحَاهُنَّ : حذفُ الياءِ مجتزأ عنها بالكسرة ، ثم قلبُ الياءِ ساكنة أو مفتوحة ، وأمَّا غيرُ هذه الأمثلةِ الأربعة ممَّا أُضِيفَ إلى مضاف إلى ياء المتكلِّم في النِّداء ، فإنَّهُ لا يجوز فيه إلاَّ ما يجُوزُ في غير بابِ النِّداءِ ، لأنَّه ليس منادى ، نحوُ : يا غلام أبِي ، ويا غلام أمي ، وإنَّما جَرَتْ هذه الأمثلةُ خاصَّةً هذا المَجْرَى؛ تنزيلاً للكلمتين منزلة كلمةٍ واحدةٍ ، ولكثرة الاستعمالِ .
وقرىء « يا ابْنَ أمِّي » بإثبات الياءِ ساكنةً؛ ومثله قوله : [ الخفيف ]
ابْنَ أمِّي وَيَا شُقَيِّقَ نَفْسِي ... ْتَ خَلَّيْتَنِي لِدَهْرٍ شَدِيدِ
خر : [ الخفيف ]
يَا ابْنَ أمِّي فَدَتْكَ نَفْسِي ومَالِي .. .
وقرىء أيضاً : « يَا ابْنَ إمْ » بكسر الهمزة والميم وهو إتباعٌ . ومِنْ قلبِ الياءِ ألفاً قوله : [ الرجز ]
2583 - يَا ابْنَةَ عَمَّا لا تَلُومِيَ واهْجَعِي ... وقوله : [ الرجز ]
2584 - كُنْ لِيَ لا عَلَيَّ يَا ابْنَ عَمَّا ... نَدُمْ عَزيزَيْنِ ونُكْفَ الذَّمَّا
فصل
إنَّما قال : « ابْنَ أمْ » وكان هارون أخاه لأبيه ليرققه ويستعطفه .
وقيل : كان أخاه لأمِّه دون أبيه ، وكان هارون أكبر من موسى بثلاث سنين ، وأحبَّ إلى بني إسرائيل من موسى؛ لأنه كان لين الغضب .
قوله : { إِنَّ القوم استضعفوني } أي لم يلتفتوا إلى كلامي ، يعني : عبدة العجل { وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعدآء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ القوم الظالمين } أي : شريكاً لهم في عقوبتك على فعلهم .
قوله : { فَلاَ تُشْمِتْ } العَامَّةُ على ضمِّ التاء ، وسكر الميم ، وهو من « أشْمَتَ » رباعياً ، الأعداء مفعول به .
وقرأ ابْنُ محيصن « فلا تَشْمِتْ » بفتح التَّاءِ وكسر الميم ، ومجاهدٌ : بفتح التَّاءِ أيضاً وفتح الميم ، « الأعْدَاءَ » نصب على المفعول به ، وفي هاتين القراءتين تَخْرِيجَان :
أظهرهما : أن « شَمِتَ ، أو شَمَتَ » بكسر الميم أو فتحها مُتَعَدٍّ بنفسه ك : أشْمَتَ الرباعي .
يقال : شَمِتَ بي زيدٌ العَدُوَّ؛ كما يقال : أشْمَت بي العَدُوَّ .
والثاني : أنَّ تَشْمَتْ مُسْندٌ لضمير الباري تعالى أي : فلا تَشْمَتْ يا رب ، وجاز هذا كما جاز : { الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } [ البقرة : 15 ] ثم أضمر ناصباً للأعْدَاءِ ، كقراءة الجماعة ، قاله ابْنُ جنِّي .
ولا حاجة إلى هذا التَّكلف؛ لأنَّ « شَمِتَ » الثلاثيَّ يكون متعدِّياً بنفسه ، والإضمار على خلاف الأًصل .
وقال أبُو البقاءِ - في هذا التَّخريج - : « فلا تشمت أنت » فجعل الفاعل ضمير « مُوسَى » ، وهو أولى من إسناده إلى ضمير اللَّهِ تعالى ، وأمَّا تَنْظِيرُهُ بقوله { الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } فإنَّما جاز ذلك للمقابلة في قوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } [ البقرة : 14 ] { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله } [ آل عمران : 54 ] ولا يجُوزُ ذلك في غَيْر المقابلة .
وقرأ حميد بنُ قيس « فلا تَشْمِت » كقراءة ابنِ محيصن ، ومجاهد كقراءته فيه أوَّلاً ، إلاَّ أنَّهُما رفعا « الأعْدَاء » على الفاعلية ، جعلا « شَمِتَ لازماً فرفعا به » الأعداء « على الفاعليَّة ، فالنَّهْيُ في اللَّفْظِ للمخاطب والمُرادُ به غيره كقولهم : لا أرَيَنَّكَ ههنا ، أي : لا يكن منك ما يقتضي أن تُشْمِتَ بي الأعْدَاءَ .
والإشمات والشَّماته : الفَرَحُ بِبَلِيةٍ تنالُ عَدُوَّك؛ قال : [ الكامل ]
2585 - . ... والمَوْتُ دُونَ شَماتَةِ الأعْدَاء
فصل
قيل : واشتقاقُها من شوامِتِ الدَّابة ، وهي قوائِمُهَا؛ لأنَّ الشَّماتة تَقْلِبُ قلب الحاسِد في حالتي الفرَحِ والتَّرحِ كتقلُّب شوامِت الدَّابة . وتشميت العاطس وتسميته ، بالشِّين والسِّين الدعاء له بالخير .
قال أبو عبيد : الشِّينُ أعْلَى اللُّغتين .
وقال ثَعلبٌ : الأصْلُ فيها السِّينُ من السَّمْت ، وهو القصد والهَدْي .
وقيل : معنى تشميت العاطس [ بالمعجمة ] أنْ يُثَبِّتَهُ اللَّه كما يثبت قوائم الدابة .
وقيل : بل التَّفعيل للسَّلب ، أي : أزال الله الشَّماتة به وبالسِّين المهملة ، أي : رَدَّهُ اللَّهُ إلى سَمْتِهِ الأولى ، أي : هيئته ، لأنَّهُ يحصل له انزعاج .
وقال أبُو بَكْرٍ : « يقال : شَمَّتَه وشَمَّتَ عليه » وفي الحديث : وشَمَّت عليهما .
فصل
ولمَّا تبيَّنَ لمُوسَى عُذْرُ أخيه قال : { رَبِّ اغْفِرْ لِي ما صنعت } أي : ما أقدمت عليه من الغضب ، « ولأخِي » إن كان منه في الإنكار على عبدة العجل { وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين } .
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
قوله تعالى : { الذين اتخذوا العجل } الآية . المفعول الثاني من مفعولي - الاتِّخاذِ - محذُوف ، والتقديرُ ، اتَّخذوا العجل إلهاً ومَعْبُوداً ، يدلُّ على هذا المحذوف قوله تعالى : { فَقَالُواْ هاذآ إلهكم وإله موسى } [ طه : 88 ] وللمفسرين ههنا طريقان : أحدهما : المراد بالذين اتَّخَذُوا العجل قوم موسى ، وعلى هذا فيه سؤال هو أن أولئك القوم تَابَ اللَّهُ عليهم : بأن قتلوا أنفسهم في معرض التَّوْبَةِ على ذنبهم ، وإذا تاب الله عليهم فكيف قيل في حقِّهم : { سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الحياة الدنيا } ؟ ويُجاب عنه بأن ذلك الغضب إنَّما حصل في الدُّنْيَا لا في الآخرة ، وهو أنَّ اللَّهَ أمرهم بقتل أنفسهم والمُرَادُ بقوله : { وَذِلَّةٌ فِي الحياة الدنيا } هو أنَّهُمْ قد ضَلُّوا فَذُلُّوا .
فإن قيل : السِّينُ في قوله سَيَنالُهُمْ للاستقبال ، فكيف يحمل هذا على حكم الدُّنيا؟
فالجواب : وأخره في ذلك الوقت أن سَيَنالُهُمْ غضبٌ من ربهم وذلَّةٌ ، فكان هذا الكلامُ سابقاً على وقوعهم في القَتْل وفي الذِّلأَّة فَصَحَّ هذا التَّأويل .
الطريق الثاني : أنَّ المُرادَ بالذين اتَّخَذُوا العجلَ أبناؤهم الذين كانوا في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم وعلى هذا فيه وجهان : أحدهما : أنَّ العرب تعير الأبناء بقبائح أفعال الآباء كما يفعل ذلك في المناقبِ؛ يقولون للأبناء فعلتم كذا وكذا ، وإنَّمَا فعل ذلك أسلافهم كذلك ههنا .
قال عطيَّةً العوفيُّ : أراد بهم اليهود الذين كانوا في عصر النَّبي صلى الله عليه وسلم ، عَيَّرهُم بصنع آبائهم ونسبه إليهم ، ثمَّ حكى عليهم بأنَّهُ : { سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ } في الآخرةِ : { وَذِلَّةٌ فِي الحياة الدنيا } أراد : ما أصَابَ بني قريظة والنَّير من القتل والجلاء .
وقال ابنُ عبَّاسٍ : هي الجزية .
الوجه الثانيك أن يكون التقديرُ : « إنَّ الذينَ اتَّخَذُوا العِجْلَ » أي الذين باشرُوا ذلك سَيَنالُهُمْ أي : سينال أولادهم ، ثم حذف المضاف لدلالة الكلام عليه .
ثمَّ قال : { وَكَذَلِكَ نَجْزِي المفترين } أي : ومثل ذلك النِّيل والغضب والذِّلّة « نَجْزِي المُفْترينَ » الكاذبين .
قال أبُو قلابة : « هو واللَّه جزاء كلِّ مفترٍ إلى يوم القيامة أن يذلَّه اللَّهُ » .
وقال سفيان بنُ عيينة : « هذا في كل مبتدع إلى يوم القيامة » .
وقال مالكُ بْنُ أنسٍ : « ما من مُبْتَدع إلاَّ ويجدُ فوق رأسه ذِلَّة » .
قوله : { والذين عَمِلُواْ السيئات } مبتدأ وخبره قوله إنَّ ربَّكَ إلى آخره . والعائد محذوف ، والتقدير : غفورٌ لهم ورحيم بهم ، كقوله : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور } [ الشورى : 43 ] أي منه .
قوله : مِنْ بَعْدِهَا يجوز أن يعود الضمير على السّيِّئاتِ ، وهو الظاهر ، ويجوز أن يكون عائداً على التوبة المدلول عليها بقوله : « ثُمَّ تَابُوا » أي : من بعد التوبة .
قال أبو حيان : « وهذا أوْلَى ، لأنَّ الأوَّلَ يلزُم منه حذفُ مضافٍ ومعطوفه ، إذ التقدير : من بعد عمل السّيئات والتوبة منها » .
قوله : « وَآمَنُوا » يجوزُ أن تكونَ الواوُ للعطفِ ، فإن قيل : التَّوبة بعد الإيمان ، فكيف جاءت قبله؟ فيقال الواو لا تُرتِّبُ ، ويجز أن تكون الواوُ للحال ، أي : تَابُوا ، وقد آمنوا { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
قوله : « وَلَمَّا سَكَتَ » السُّكُوتَ والسُّكَاتُ قطعُ الكلامِ ، وهو هنا استعارةٌ بديعة .
قال الزمخشريُّ : هذا مثلٌ كأنَ الغضبُّ كان يُغْريهِ على ما فعل ويقول له : قل لقومك كذا ، وألْقِ الألواحَ وخُذْ برأس أخيك إليك ، فترك النُّطق بذلك ، وترك الإغراء به ، ولم يستحسن هذه الكلمة ، ولمْ يَسْتفصِحْهَا كلُّ ذي طبع سليم وذوق صحيح إلاَّ لذلك ، ولأنَّهُ من قبيل شُعَب البلاغة ، وإلاَّ فما لقراءة معاوية بن قرة : ولمَّا سَكَنَ بالنُّونِ ، لا تجدُ النَّفس عندها شيئاً من تلك الهمزة وطرفاً من تلك الرَّوعة؟
وقيل : شَبَّه جمود الغذب بانقطاع كلام المُتكلِّم .
قال يونسُ : « [ سال ] الوادي ثم سكت فهذا أيضاً استعارةٌ » .
وقال الزَّجَّاجُ : مصدر : سَكَتَ الغَضَبُ : السكتةُ ، ومصدر : سَكَتَ الرَّجلُ : السُّكُوتُ « وهو يقتضي أن يكون » سكت الغضبُ « فعلاً على حدته .
وقيل : هذا من باب القلب ، والأصلُ : ولما سكت موسى عن الغضب ، نحو : أدْخَلْتُ القَلَنْسُوةَ في رَأسِي ، أي : أدخلت رأسي في القلنسوة .
قاله عكرمةُ : وهذا ينبغي أن لا يجوز لعدم الاحتياج إليه ، مع ما في القلب من الخلافِ المُتقدِّم .
وقيل المُرادُ بالسُّكوت : السُّكون والزَّوال ، وعلى هذا جاز سَكَتَ عن مُوسَى الغَضَبُ ولا يجوزُ صمت؛ لأن سَكَتَ بمعنى سكن ، وأما صَمَتَ بمعنى سدَّ فاه عن الكلام ، فلا يجوزُ في الغضب .
فصل
ظاهرُ الآية ثدلُّ على أنَّه - عليه الصلاة والسلام - لمَّا عرف أن أخاه هارون لم يقع منه تقصير وأظهر له صحة عذرة ، فحينئذ سكن غضبهُ ، وهو الوقت الذي قال فيه : { رَبِّ اغفر لِي وَلأَخِي } .
وقوله : » أخَذَ الألوَاحَ « ظاهر هذا يدلُّ على أن شيئاً منها لم ينكسر ، ولم يرفع منها ستة أسباعها كما نقل عن بعضهم .
وقوله : { وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى } هذه الجملة في محلِّ نصب على الحال من الألوَاح ، أو من ضمير مُوسَى والأوَّلُ أحسنُ . وهذا عبارةٌ عن النَّقْلِ والتَّحويل فإذا كتب كتاب عن كتاب حرف بعد حرف قلبت نُسخَةُ ذلك الكتاب ، كأنَّك نقلت ما في الأصل إلى الكتاب الثاني .
قال ابنُ عبَّاسٍ : لمَّا ألقَى موسى الألواح فتكسّرت صام أربعين يوماً ، فأعَادَ اللَّهُ الألواح وفيها نفس ما في الألواح ، فعلى هذا قوله » وفِي نُسْخَتِهَا « أي : » وفيما نسخ منها « وإن قلنا : الألواح لم تنكسر ، وأخذها موسى بأعيانها؛ فلا شك أنَّها مكتوبة من اللَّوح المحفوظ فهي نسخ على هذا التقدير .
وقوله : » هُدىً ورَحْمَةٌ « أي : هدى من الضلالة ، ورحمة من العذاب .
قوله : « لِلَّذِين » متعلق بمحذوف؛ لأنه صفةٌ لرَحْمَة أي : رحمة كائنة للَّذين ، يجوزُ أن تكون اللاَّم لامَ المفعول من أجله ، كأنَّه قيل : هُدىً ورحمةٌ لأجْلِ هؤلاء ، وهُمْ مبتدأ ويَرْهَبُونَ خبره ، والجلمةُ صلة الموصول .
قوله : لِررَبِّهم يَرْهَبُونَ . في هذه اللاَّم أربعةُ أوجُهٍ : أحدها أنَّ اللاَّم مقوية للفعل لأنَّهُ لمَّا تقدَّم معمولُه ضَعُفَ فقوي باللاَّم كقوله : { إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] وقد تقدَّم أنَّ اللاَّم تكونُ مقويةً حيث كان العاملُ مؤخراً أو فرعاً نحو : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107 ] ولا تُزَادُ في غير هذين إلا ضرورةً عند بعضهم؛ كقول الشاعر : [ الوافر ]
2586 - ولمَّا أنْ تَواقَفْنَا قَليلاً ... أنَخْنَا لِلكَلاكِلِ فَارْتَمَيْنَا
أو في قليل عند آخرين؛ كقوله تعالى : { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] .
والثاني : أنَّ اللاَّم لامُ العلَّةِ وعلى هذا فمفعولُ يَرْهَبُونَ محذوفٌ ، تقديره : يرهبون عقابه لأجله ، أي لأجل ربهم لا رياء ولا سمعة وهذا مذهب الأخفش .
الثالث : أنَّها متعلقةٌ بمصدرٍ محذوف ، تقديره : الذين هم رهبتهم لربهم .
وهو قول المُبَرِّدِ وهذا غيرُ جارٍ على قواعد البصريين ، لأنَّهُ يَلْزَمُ منه حذَفُ المصدر ، وإبقاءُ معموله ، وهو ممتنعٌ إلاَّ في شعرٍ ، وأيضاً فهو تقدير مخرج للكلام عن فصاحته .
الرابع : أنَّخا متعلقةٌ بفعلٍ مُقَدِّرٍ أيضاً ، تقديره : يخشعون لربَّه . وذكرهُ أبُوا البقاء ، وهو أولى مِمَّا قبله .
وقال ابْنُ الخطيبِ : قد يزادُ حرفُ الجرِّ في المفعول ، وإن كان الفعل متعدياً ، كقوله : قرأتُ في السُّورة وقرأ السُّورة ، وألْقَى يَدَهُ « وألقى بيده » ، قال تعالى { أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى } [ العلق : 4 ] فعلى هذا تكون هذه اللام صلةً وتأكيداً كقوله { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] ، وقد ذكروا مثل هذا في قوله : { وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } [ آل عمران : 73 ] .
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)
قوله تعالى : واخْتَارَ مُوسَى . الآية ، « اخْتَار » يتعدَّى لاثنين ، لإى أوَّلهما بنفسه ، وإلى ثانيهما بحرف الجرِّ ، ويجوزُ حذفُهُ .
تقول : اخْتَرْتُ زيداً من الرِّجالِ ثم تتسع فتحذف « من » فتقولُ « زَيْداً الرِّجَالَ » قال : [ البسيط ]
2587 - اخْتَرْتُكَ النَّاسَ إذْ رَثَّتْ خلائِقُهُمْ ... واعْقَلَّ مَنْ كَانَ يُرْجَى عندهُ السُّؤلُ
وقال الرَّاعي : [ الطويل ]
2588 - فَقُلْتُ لَهُ اخْتَرْهَا قَلُوصاً سَمِينَةً ... وناباً علينا مِثْلَ نَابِكَ فِي الحَيَا
وقال الفرزدق : [ الطويل ]
2589 - مِنَّا الذي اخْتِير الرِّجالَ سَماحَةً ... وجُوداً إذَا هَبَّ الرِّيَاحُ الزَّعازعُ
وهذا النوعُ مقصورٌ على السَّماعِ ، حصرهُ النحاة في ألفاظ ، وهي : « اختار » و « أمَرَ » .
كقوله : [ البسيط ]
2590 - أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ مَا أمِرْتَ بِهِ فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وذَا نَشَبِ
و « اسْتَغْفَرَ » ، كقوله : [ البسيط ]
2591 - سْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْباً لَسْتُ مُحْصِيَهُ ... رَبَّ العبادِ إليهِ الوَجْهُ والعملُ
و « سَمَّى » ؛ كقوله : سَمَّيْتُ ابني بِزَيْدٍ ، وإن شِئْتَ : زَيْداً ، و « دَعَا » بمعناه؛ قال : [ الطويل ]
2592 - دَعَتْنِي أخَاهَا أم عَمْرٍو ، ولمْ أكُنْ ... أخَاهَا ولمْ أرْضَعْ لَهَا بِلَبَانِ
و « كَنَى » ؛ تقولُ : كَنَيْتُه بفلانٍ ، وإن شئت : فلاناً .
و « صَدَقَ » قال تعالى : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ } [ آل عمران : 152 ] ، و « زَوَّجَ » ؛ قال تعالى : { زَوَّجْنَاكَهَا } . ولم يزد أبُو حيَّان عليها .
ومنها أيضاً : « حدَّث » و « نَبَّأ » و « أخْبَرَ » و « خَبَّرَ » إذا لم تُضُمَّنْ معنى « أعْلَمَ » .
قال تعالى : { مَنْ أَنبَأَكَ هذا } [ التحريم : 3 ] ؛ وقال : { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ } [ مريم : 3 ] .
وتقول حدَّثْتُكَ بكذا ، وإن شئت : كذا؛ قال : [ الطويل ]
2593 - لَئِنْ كانَ مَا حُدِّثْتُهُ اليَوْمَ صَادِقَاً ... أصُمْ في نَهَارِ القَيْظِ للشَّمْسِ بَادِيَا
و « قومه » مفعولٌ ثانٍ على أوَّلِهِمَا ، والتقديرُ : واختار موسى سبعين رجلاً من قومه ، ونقل أبُو البقاءِ عن بعضهم أنَّ « قَومَهُ » مفعول أول ، و « سَبْعِينَ » بدلٌ ، أي : بدل بعض من كل ، ثم قال : « وأرى أنَّ البدل جائزٌ على ضَعْفٍ ، وأنَّ التقدير : سَبْعِينَ رجلاً منهم » .
قال شهابُ الدِّين : إنَّما كان ممتنعاً أو ضعيفاً؛ لأنَّ فيه حذف شيئين .
أحدهما : المختار منه؛ فإنَّهُ لا بُدَّ للاختيار من مختارٍ ، ومختار منه ، وعلى البدل إنَّما ذُكِر المختارُ دون المختار منه .
والثاني : أنَّه لا بُدَّ من رابط بين البدل والمبدل منه ، وهو « مِنْهُمْ » كما قدره أبُو البقاء ، وأيضاً فإنَّ البدل في نيَّةِ الطَّرح .
قال ابْنُ الخطيبِ : وعندي فيه وجه آخر وهو أن يكون التقدير : واختار موسى قومه لميقاتنا ، وأراد ب « قَوْمَهُ » السبعين المعتبرين منهم؛ إطلاقاً لاسم الجنس على ما هو المقصود منه .
وقوله سَبْعينَ رجلاً عطف بيانٍ؛ وعلى هذا فلا حاجةَ إلى ما ذكروه من التكلُّفات .
فصل
الاختيار : افتعالٌ من لفظ الخير كالمصطفى من الصفوة .
يقال : اختار الشَّيء إذا أخذ خيره وخياره ، وأصل اختارَ : اختير ، فتحرّكت الياءُ وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً نحو : بَاعَ : ولذلك استوى لفظ الفاعل والمفعول فقيل فيهما مختار ، والأصل مختيِر ومختَير فقلبت الياء فيهما ألفاً .
فصل
ذكروا أنَّ مُوسَى - عليه الصَّلاة والسَّلام - اختار من قومه اثني عشر سبطاً من كل سبط ستة؛ فاصرُوا اثنين وسبعين .
فقال : ليتخلف منكم رجلان؛ فتشاجروا .
فقال : إنَّ لمن قعد منكم أجر مَنْ خرج ، فقعد كالب ويوشع .
وروي أنَّهُ لم يجد إلاَّ ستين شيخاً ، فأوْحَى الله إليه أن يختار من الشَّبابِ عشرةً ، فاختارهم ، فأصبحوا شيوخاً فأمرهم اللَّهُ أن يصوموا ، ويتطهروا ويطهروا ثيابهم ، ثم خرج بهم إلى الميقات .
واختلفوا في هذا الاختيار هل هو الخروج إلى ميقات الكلام ، وسؤال موسى ربَّه عن الرؤيّةِ أو للخروج إلى موضع آخر؟
فقال بعضً المُفَسِّرِينَ : إنَّهُ لميقات الكلامِ وطلب الرُّؤية .
قالوا : إنَّهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ خرج بهؤلاء السبعين إلى طور سيناء ، فلما دَنَا موسى من الجبل وقع عليه عمود من الغمام حتى أحاط بالجبل كله ودنا موسى ، ودخل فيه .
وقال للقوم : ادنُوا ، فدنوا فلما دخلوا الغمام وقعوا سجداً ، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه ، ثم انكشف الغمام وأقبلوا إليه .
وقالوا : { ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة } [ البقرة : 55 ] وهي الرَّجفة المذكورة ههنا .
فقال موسى : { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ } [ الأعراف : 155 ] وهو قولهم { أَرِنَا الله جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] .
وقيل : المراد من هذا الميقات غير ميقات الكلام ، وطلب الرُّؤيةِ ، واختلفوا فيه .
فقيل : إنَّ قوم موسى لمَّا عَبَدُوا العجل ثم تَابُوا أمر الله تعالى موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - أن يجمع السَّبعين ويحضروا موضعاً يظهرون فيه تلك التَّوْبة ، فأوحى اللَّهُ تعالى إلى تلك الأرضِ ، فرجفت بهم فعند ذلك قال موسى : { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ } ، وإنَّمَا رجفت بهم الأرض لوجوه .
أولها : أنَّ هؤلاء السبعين وإن كانُوا ما عبدُوا العجل ، إلاَّ أنهم ما فارقُوا عبدة العجل عن اشتغالهم بعبادة العجل .
وثانيها : أنَّهم ما بالغُوا في النهي عن عبادة العجل .
وثالثها : أنَّهُم لمَّا خرجوا إلى الميقاتِ ليتوبوا دعوا ربهم وقالوا : اعْطِنَا ما تُعْطِه أحداً قبلنا ، ولا تعطيه أحداً بعدنا ، فأنكر اللَّهُ عليهم ذلك فأخذتهم الرجفة .
واحتجوا لهذا القول بوجوه : أحدها : أنَّهُ تعالى ذكر قصة ميقات الكلام ، وطلب الرُّؤيَةِ ثم أتبعها بذكر قصة العجل ثم أتبعها بهذه القصة ، وظاهر الحال يقتضي أن هذه القصة مغايرة للقصة المتقدمة ، ويمكن أن يكون عَوْداً إلى تتَّمةِ الكلام في القصة الأولى ، إلاَّ أنَّ الأليق بالفصاح إتمام الكلام في القصَّةِ الواحدة في موضع واحد ، ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى غيرها ، فأما ذكر بعض القصَّةِ ، ثم الانتقال إلى قصَّة أخرى ، ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى بقية الكلام في القصَّة الأولى؛ فإنَّه يوجب نوعاً من الخبط والاضطراب ، والأولى صون كلام الله عنه .
وثانيها : أن في ميقات الكلام وطلب الرؤية لم ينكر منهم إلاَّ قولهم { أَرِنَا الله جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] فلو كانت الرجفة المذكورة ههنا إنما حصلت بسبب هذا القول لوجب أن يقال : أتهلكنا بما يقول السفهاء مِنَّا؟ فلمَّا لم يقُلْ ذلك بل قال { أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ } علمنا أن هذه الرجفة إنما حصلت بإقدامهم على عبادة العجل لا على القول .
وثالثها : أن في ميقات الكلام أو الرؤية خرَّ موسى صعقاً وجعل الجبل دكّاً وأمَّا هذا الميقات فذكر تعالى أن القوم أخذتهم الرَّجفَةُ ، ولم يذكر أن موسى - عليه الصلاة والسلام - أخذته الرَّجفة ، وكيف يقال أخذته الرجفة ، وهو الذي قال : { لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ } [ الأعراف : 155 ] وهذه الخصوصيات تدلُّ على أن هذا الميقات غير ميقات الكلام وطلب الرُّؤية .
وقيل : المراد بهذا الميقات ما رُوي عن علي - رضي الله عنه - قال : « إنَّ موسى وهارون انطلقا إلى سفح جبلٍ؛ فنام هارون فتوفَّاهُ الله ، فلمَّا رجع موسى قالوا إنَّهُ هو الذي قتل هارون : فاختار موسى سبعين رجلاً وذهبُوا إلى هارونَ فأحياه الله وقال ما قتلني أحدٌ ، فأخذتهم الرَّجفة هناك .
فصل
اختلفُوا في تلك الرَّجفةِ .
فقيل : إنَّهَا رجفة أوْجَبتِ الموتَ .
قال السُّديُّ : قال موسى يا رب كيف أرجع إلى بني إسرائيل ، وقد أهلكت خيارهم ولم يبق منهم رجل واحد؟ فما أقول لبني إسرائيل ، وكيف يأمنوني على أخدٍ منهم؟ فأحياهم الله . فمعنى قوله { لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ } أنَّ مُوسى خاف أن يتَّهِمَهُ بنو إسرائيل عن السَّبعين إذا عاد إليهم ، ولم يصدقوا أنهم ماتوا .
فقال لربه : لو شئت أهلكتنا قبل خروجنا للميقات ، فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ، ولا يتهموني .
وقيل : إنَّ تلك الرَّجفة ما كانت موتاً ، ولكن القومَ لمَّا رأوا تلك الحالةَ المهيبة أخذتهم الرعدة ، ورجفوا حتى كادت تبين منهم مفاصلهم ، وخاف موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - الموت فعند ذلك بكى ، ودعا؛ فكشف الله عنهم الرعدة .
قوله : » لميقاتِنَا « متعلقٌ ب » اختيارَ « أي : لأجل ميقاتنا ، ويجوز أن يكون معناها الاختصاصَ أي : اختارهم مخصصاً بهم الميقات ، كقولك : اختر لك كذا .
قوله » لَوْ شِئْتَ « مفعلوُ المشيئة محذوف ، أي : لو شئت إهلكانا ، و » أهلكْتَهُم « جواب » لَوْ « والأكثر الإتيانُ باللاَّم في هذا النحو ولذلك لم يأتِ مجرداً منها إلاَّ هنا وفي قوله : { أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ } [ الأعراف : 100 ] وفي قوله : { يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ }
[ الواقعة : 70 ] .
ومعنى من قبل أي قبل الاختيار ، وأخذ الرَّجفة .
وقوله : « وإيَّايَ » قد يتعلَّقُ به من يرى جواز انفصال الضمير مع القُدْرِةِ على اتصاله ، إذ كان يمكن أن يقال : أهلكتنا . وهو تعلُّقٌّ واهٍ جداً ، لأنَّ مقصوده صلى الله عليه وسلم التنصيص على هلاك كُلٍّ على حده تعظيماً للأمر ، وأيضاً فإنَّ موسى لَمْ يتعاط ما يقتضي إهلاكهُ ، بخلاف قومه . وإنَّما قال ذلك تسليماً منه لربِّه ، فعطلف ضميرَه تنبيهاً على ذلك ، وقد تقم نظيرُ ذلك في قوله : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ } [ النساء : 131 ] وقوله : { يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ } [ الممتحنة : 1 ] .
قوله : « أتُهْلِكُنَا » يجوزُ فيه أن يكون على بابه أي : أتَعْمُّنَا بالإهلاك أم تخصُّ به السفهاء مِنَّا؟ ويجوز أن يكون بمعنى النَّفي ، أي : ما تُهْلك مَنْ لَمْ يُذْنِبْ بذنب غيره ، قاله ابنُ الأنباري .
قال وهو كقولك : أتهينُ من يكرمك « ؟ وعن المُبرِّدِ هو سؤالُ استعطاف ومِنَّا في محل نصب على الحال من السُّفَهَاء ويجوز أن يكون للبيان .
قوله : { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } .
قال الواحديُّ : الكناية في قوله هِيَ عائدة على الفِتْنَةِ كما تقولُ : إن هو إلاَّ زيد ، وإن هي إلاَّ هند ، والمعنى : إنَّ تلك الفتنة التي وقع فيها السُّفهاءُ لم تكن إلاَّ فتنتك أضللت بها قوماً فافتنوا ، وعصمْتَ قوماً فثبتُوا على الحق . ثُمَّ أكَّد بيان أنَّ الكل من الله تعالى ، فقال : { تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ } .
ثم قال الواحديُّ : وهذه الآية من الحُجَّج الظَّاهرة على القدريَّةِ التي لا يبقى لهم معها عذر .
قالت المعتزلةُ لا تعلق للجبريَّةِ بهذه الآية؛ لأنه لم يقل : تضلُّ بها من تشاء عن الدين؛ ولأنه قال تُضِلُّ بِهَا أي بالرَّجْفة ، والرَّجفة لا يضِلُّ اللَّهُ بها؛ فوجب تأويل الآية .
فمعنى قوله : { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } أي : امتحانُك وشدة تعبدك؛ لأنَّهُ لمَّا أظْهَرَ الرَّجْفَة كلَّفهم بالصَّبْرِ عليها ، وأمَّا قوله : { تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ } ففيه وجوه : أحدها : تَهْدِي بهذا الامتحان إلى الجنَّةِ والثَّوابِ بشرط أن يؤمن ذلك المكلف ، ويبقى على الإيمان ، وتُعاقِب من تشاء بشرط ألا يؤمن ، أو إن آمن لكن لا يصبر عليه ، وثانيها : أن يكون المرادُ بالإضلال الإهلاك ، أي : تُهلك من تشاء بهذه الرَّجفة وتصرفُها عَمَّنْ تشاء ، وثالثها : أنَّهُ لمَّا كان هذا الامتحان كالسَّببِ في هداية من اهتدى ، وضلال من ضَلَّ ، جاز أن يُضافَ إليه .
فصل
واعلم أن هذه تأويلات مُتعَسَّفة ، والدلائل العقليَّة دالةٌ على أنَّ المراد ما ذكرناه ، وتقريره من وجوه :
الأول : أنَّ القدرة الصَّالحة للإيمان والكفر لا يترجحُ تأثيرها في أحد الطرفين على تأثيرها في الطَّرَف الآخر ، إلاَّ لداعية مرجحة ، وخالف تلك الداعية هو اللَّهُ تعالى ، وعند حصول الداعية يجب الفعل ، وإذا ثَبَتَتْ هذه المقدمات ثبت أنَّ الهداية والإضلال من الله تعالى .
الثاني : أنَّ العاقل لا يُريدُ إلاَّ الإيمان ، والحقَّ ، والصدقَ ، فلو كان الأمر باختياره وقصده لوجب أن يكون كلُ أحدٍ مؤمناً محقاً ، وحيثُ لم يكن الأمر كذلك؛ ثبت أنَّ الكل من الله تعالى .
الثالث : لو كان حصولُ الهداية بفعل العبد فبما لم يتميز عنده اعتقاد الحق من اعتقاد الباطل؛ امتنع أن يخصّ أحدُ الاعتقادين بالتَّحْصيلِ ، لكن علمه بأنَّ هذا الاعتقاد هو الحق ، وأنَّ الآخر هو الباطل ، يقتضي كونه عالماً بذلك المعتقد أولاً كما هو عليه ، فلزمَ أن تكون القدرة على تحصيل الاعتقاد هو الأول ، وأنَّ الآخر مشورطاً بكون ذلك الاعتقاد حاصلاً وذلك يقتضي كون الشَّيء مَشْرُوطاً بنفسه ، وهو محالٌ ، فامتنع أن يكون حصولُ الهداية بتحصيل العبد ، وأمَّا إبطال تأويلاتهم ، فقد تقدَّم مراراً .
قله تُضِلُّ بِهَا يجوزُ فيها وجهان : أحدهما : أن تكون مستأنفةً فلا مَحَلَّ لها ، والثاني أن تكون حالاً من فِتْنَتُكَ أي : حال كونها مُضلاًّ بها ، ويجوزُ أن تكون حالاً من الكاف؛ لأنَّهَا مرفوعةٌ تقديراً بالفاعليَّةِ ، ومنعه أبُو البقاءِ قال : « لعدم العامل فيها » وقد قدم البحث معه مراراً .
قوله : « أنْتَ وَلينَا » يفيد الحَصْرَ ، أي : لا ولي لنا ، ولا ناصر ، ولا هادي إلاَّ أنت ، وهذا من تمام ما تقدَّم من قوله : { تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ } .
وقوله : { فاغفر لَنَا وارحمنا } المُرادُ منه : أنَّ إقدامه على قوله : { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } جراءة عظيمة ، فطلب من الله غفرانها والتَّجاوز عنها .
وقوله : { وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين } أي : أنَّ كلَّ مَنْ سواك فإنَّمَا يتجاوزُ عن الذَّنب إمَّا طلباً للثناء الجميل ، أو للثَّواب الجزيل ، أو دفعاً للرقة الخسيسة عن القلب ، أمَّا أنت فتغفر ذنوب عبادك لا لطلب غرض وعوض ، بل لمحض الفضل والكرم .
قوله : { وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين } الكتابة تذكر بمعنى الإيجاب . ولمَّا قرَّرَ أنَّه لا ولي له إلاَّ الله ، والمتوقع من الولي والنَّاصر أمران : أحدهما : دفع الضَّرر والثاني : تحصيل النَّفع ، ودفع الضَّرر مقدم على تحصيل النَّفع؛ فلهذا السَّبَبِ بدأ بطلب دفعِ الضَّررِ وهو قوله : { فاغفر لَنَا } [ الأعراف : 155 ] ثُمَّ أتبعه بتحصيل النَّفْعِ ، وهو قوله { واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً } والمُرادُ بالحسنة في الدُّنْيَا ، النَّعمةُ والعافيةُ ، والحسنةُ في الآخرة : المغفرة والجنة .
قوله : { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } العامَّةُ على ضم الهاءِ ، من هاد يَهُود بمعنى : مال؛ قال : [ السريع ]
2594 - قَدْ عَلِمَتْ سَلْمَى وجَارَاتُهَا ... أنِّي مِنَ اللَّهِ لَهَا هَائِدُ
أو « تَابَ » من قوله : [ الرجز ]
2595 - إنِّي امْرؤ مِمَّا جَنَيْتُ هَائِدُ ... ومن كلام بعضهم : { المجتث ]
2596 - يَا رَاكِبَ الذَّنْبِ هُدْهُدْ ... واسْجُدَ كأنَّكَ هُدْهُدْ
وقرأ زيد بنُ علي ، وأبو وجزة « هِدْنَا » بكسر الهاء مِنْ « هَادَ يَهِيدُ » أي : حَرَّكَ . أجاز الزمخشريُّ في « هُدْنا » ، و « هِدْنا » - بالضمِّ والكسر - أن يكون الفعلُ مبنياً للفاعل أو للمفعول في كُلٍّ منهما بمعنى : مِلْتَا ، أو أمَالَنَا غَيْرُنَا ، أو حَرَّكْنَا نَحْنُ أنفسنَا ، أو حَرَّكَنَا غَيْرُنَا ، وفيه نظر؛ لأنَّ بعض النَّحويين قد نصَّ على أنَّهُ متى ألْبِسَ ، وجبَ أن يُؤتَى بحركةٍ تزيل اللبس .
فيقال في « عقتُ » من العوق إذَا عاقك غَيْرُكَ : « عِقْت » بالكَسْرِ فقط ، أو الإشمام ، وفي : « بعت يا عبد » إذا قصد أن غيره باعه « بُعْت » بالضم فقط أو الإشمام ، ولكن سيبويه جوَّز في « قيل وبيع » ونحوهما الأوجه الثلاثة من غير احتراز .
و « هِيَ » ضميرٌ يُفَسِّره سياقٌ الكلام إذ التقديرُ : إنْ فَتنتُهُمْ إلاَّ فِتنَتُكَ . وقيل يعندُ على مسألة الإرادة من قوله : { أَرِنَا الله جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] أي : إنَّهُ من مسألة الرُّؤيةِ .
قوله : { عذابي أُصِيبُ بِهِ } مبتدأ وخبر . والعامَّةُ على « مَنْ أشَاءُ » بالشِّينِ المعجمةِ .
وقرأ زيدُ بن علي ، وطاووس ، وعمرو بن فائد « أسَاءُ بالمهملة .
قال الدَّانِي : لا تصحُّ هذه القراءة عن الحسن ، ولا عن طاووس ، وعمرو بن فائد رجل سَوْءَ واختار الشَّافعيُّ هذه القراءة ، وقرأها سفيان بْنُ عيينة ، واستحسنها فقام عبد الرَّحْمنِ المقرىء فصاح به وأسمعه .
فقال سفيانُ : » لَمْ أفطِنْ لِمَا يقولُ أهل البدع « . يعني عبد الرحمن أنَّ المعتزلة تعلَّقُوا بهذه القراءة في أنَّ فعل العَبْدِ مَخْلُوقٌ لهُ ، فاعتذرَ سفيان عن ذلك .
ومعنى الآية : إنِّي أعذبُ مَنْ من أشَاءُ ، وليس لأحدٍ عليَّ اعتراض { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } أي : أنَّ رحمته في الدُّنيا تعُمُّ الكل ، وأمَّا في الآخرةِ فهي مختصة بالمؤمنين لقوله هنا { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } وهذا من العام الذي أريد به الخاص كقوله { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } [ النمل : 23 ] .
قال عطيَّةُ العوفي : » وَسِعَتُ كُلَّ شيءٍ « ولكن لا تَجِب إلاَّ للمُتَّقينَ ، وذلك أنَّ الكافر يرزق ويدفع عنه ببركة المؤمن ، لسعة رحمةِ الله للمؤمن ، فإذا صار للآخرة وجبت للمؤمن خاصة كالمستضيء بنار غيره إذا ذهب صاحب السِّراج بسراجه .
قال ابنُ عباس وقتادة وابن جريج : لما نزلت : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } قال إبليس أنا من ذلك الشيء فقال الله : { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } فتمنَّاها اليهودُ والنصارى . وقالوا : نحن نتقي ونؤتي الزكاة ونؤمن فجعلها اللَّهُ لهذه الأمَّة بقوله { الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي } [ الأعراف : 157 ] .
واعلم أنَّ جميع التَّكاليف محصورة في نوعين :
الأول : المتروك وهي الأشياء التي يجب على الإنسان تركها ، وهو المُرادُ بقوله : » للَّذينَ يتَّقُونَ « .
والثاني : الأفعال ، وهي إمَّا أن تكون في مال الإنسان أو في نفسه ، فالأول : هو الزكاة وهو المراد بقوله » ويُؤتُونَ الزَّكاةِ « والثاني يدخل فيه ما يجب على الإنسان علماً وعملاً أمَّا العلمُ فالمعرفةُ ، وأمَّا العملُ فالإقرارُ باللسان والعمل بالأركان ، فيدخل فيه الصَّلاة وإلى هذا المجموع أشار بقوله : { والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } ونظيره قوله تعالى في أوَّل سورة البقرةِ { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 2 ، 3 ] .
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
قوله { الذين يَتَّبِعُونَ } في محلِّه أوجه :
أحدها : الجر نعتاً لقوله { الذين يَتَّقُونَ } .
الثاني : أنَّهُ بدلٌ منه .
الثالث : أنَّهُ منصوبٌ على القطع .
الرابع : أنَّهُ مرفوع على خبر مبتدأ مضمر وهو معنى القطع أيضاً .
الخامس : أنه مبتدأ وفي الخبر حينئذٍ وجهان : أحدهما الجملةُ الفعليَّةُ من قول : « يأمُرهُمْ بالمَعْرُوفِ » . والثاني : الجملةُ الأسميَّةُ من قوله : { فأولئك هُمُ المفلحون } [ الأعراف : 8 ] ذكر ذلك أبُو البقاءِ ، وفيه ضعف بل مَنْعٌ كيف يجعل : « يَأمْرُهُم » خبراً وهو من تتمسة وَصْفَ الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو على أنَّهُ معمولٌ للوجدان عند بعضهم؟ كيف يجعل { فأولئك هُمُ المفلحون } خبراً لهذا الموصول؟ والموصولُ الثاني وهو قوله : { فالذين آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ } يطلبه خبراً ، لا يتبادَرُ الذهن إلى غيره ، ولو تبادر لم يكن مُعتَبراً .
قوله « الأمِّيَّ » العامَّةُ على ضمِّ الهمزة ، نسبةً إمَّا إلى الأمة وهي أمَّةُ العرب؛ وذلك لأن العرب لا تحسب ولا تكتب ، ومنه الحديث « أنَّا أمَّةٌ أمِّيَّةٌ لا نَكْتُبُ ولا نَحْسُبُ » ، وإمَّا نسبةً إلى « الأمّ » وهو مصدر « أمَّ يَؤمُّ » أي : قصد يقصد ، والمعنى على هذا : أن النبيَّ الكريم مقصود لك أحدٍ ، وفيه نظر؛ لأنه كان ينبغي أن يقال : « الأَمِّيّ » بفتح الهمزة .
وقد يقال : إنَّهُ من تغيير النَّسب ، وسيأتيأنَّ هذه قراءةٌ لبعضهم ، وإمَّا نسبةً إلى « أمِّ القرى » وهي مكة وإمَّا نسبةً إلى الأمّ ، فالأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب على حالةِ ولادته من أمه .
وقرأ يعقوب الأَمِّيَّ بفتح الهمزة ، وخَرَّجهَا بعضُهُمْ ، على أنَّهُ من تَغْييرِ النَّسبِ ، كما قالوا في النَّسب إلى أمَيَّة : أموي ، وخرَّجها بعضُهم على أنَّها نسبةٌ إلى « الأَمِّ » وهو القصد ، أي الذي هو على القصْدِ والسَّدادِ ، وقد تقدم ذلك في القراءة الشهيرة ، فكل من القراءتين يحتملُ أن تكون مُغَيَّرَةً من الأخرى .
قوله يَجِدُونَهُ الظَّاهرُ أنَّ هذه متعديةٌ لواحد؛ لأنَّها اللُّقْيَة ، والتقدير : يَلْقونَهُ أي : يلقَوْنَ اسمه ونعته مَكْتُوباً؛ لأنَّهُ بمعنى : وُجْدَانِ الضالَّة ، يكون مَكْتُوباً حالاً من الهاء في يَجِدُونَه .
وقال أبُو عيِّ : « إنَّهَا متعدية لاثنين ، أوَّلهما : الهاءُ » .
والثاني : « مَكْتُوباً » .
قال « ولا بدّ من حذف هذا المضاف ، أعني قوله : ذكره ، أو اسمه » .
قال سيبويه : « تقولُ إذا نظرت في هذا الكتاب : هذا عمرو ، وإنَّما المعنى هذا اسم عمرو ، وهذا ذِكْر عمرو وقال مجاهد وهذا يجوزُ على سعةِ الكلامِ » .
قوله { عِندَهُمْ فِي التوراة } . هذا الظَّرف ، وعديلُه كلاهما متعلِّقٌ ب « يَجِدُونَ » ، ويجوزُ - وهو الأظهر - أن يتعلَّقا ب « مَكْتُوباً » أي : كُتِبَ اسمُهُ ونَعْتُهُ عندهم في توراتهم وإنجيلهم .
قوله يَأمُرُهُم فيه ستة أوجه : أحدها : أنَّهُ مستأنف؛ فلا محلَّ له حينئذ ، وهو قول الزجاج . والثاني : أنَّهُ خبر ل « الّذينَ » قاله أبُو البقاءِ : وقد ذُكِرَ ، أي : وقد ذكره فيه ثمَّة . الثالث : أنَّهُ منصوبٌ على الحال من الهاء في يَجِدُونَهُ ، ولا بدَّ من التَّجوز في ذلك ، بأن يُجْعَلَ حالاً مقدرة ، وقد منع أبو عليِّ أن يكون حالاً من هذا الضَّمير .
قال : لأنَّ الضمير للاسم والذِّكْرِ ، والاسم والذِّكر لا يأمران يعني أن الكلام على حذف مضاف كما مر؛ فإن تقديره : « يجدون اسمه ، أو ذكره » ، والذكر أو الاسم لا يأمران ، إنما يأمر المذكور والمسمَّى .
الرابع : أنه حال من النَّبِيِّ . الخامس : أنَّهُ حال من الضَّمير المُسْتكِن في « مَكْتُوباً » . السادس : أنَّهُ مُفَسِّر لِ « مَكْتُوباً » أي : لِمَا كُتِبَ ، قاله الفارسي . قال : « كَمَا فَسَّرَ قوله { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ } [ المائدة : 9 ] [ النور : 55 ] [ الفتح : 29 ] بقوله : { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } [ المائدة : 9 ] ، وكما فسَّر المثل في قوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ } [ آل عمران : 59 ] بقوله : { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] .
وقال الزَّجَّاجُ هنا : ويجوزُ أن يكون المعنى : يجدونه مكتوباً عندهم أنَّهُ يأمرهم بالمعروف وعلى هذا يكون الأمرُ بالمعروف ، وما ذُكِر معه من صفته التي ذُكِرت في الكتابين ، وقد استدرك أبُو علي هذه المقالة ، فقال : لا وجه لقوله : » يجدونه مكتوباً عندهم أنَّهُ يأمرهم بالمعروف « إن كان يعني أنَّ ذلك مرادٌ؛ لأنَّهُ لا شيء يَدُلُّ على حذفه ، ولأنَّا لا نعلمهم أنهم صدقوا في شيء ، وتفسير الآية أنَّ » وجدت « فيها تتعدَّى لمفعولين فذكر نحو ما تقدم عنه .
قال شهابُ الدِّينِ : وهذا الردُّ تحاملٌ منه عليه؛ لأنَّهُ أراد تفسير المعنى وهو تفسير حسن .
فصل
لمَّا بيَّن صفة من تكتب له الرحمة في الدُّنيا والآخرة وهو أن يكون مُتقياً ويؤتي الزكاة ، ويؤمن بالآيات ، ضمّ إلى ذلك أن يكون مُتَّبِعاً للنبي » الأمِّي الذي يجدُونَهُ مكْتُوباً عندهُمْ في التَّوراةِ والإنجيلِ « واختلفوا في ذلك .
فقال بعضهم : المراد باتباعه اعتقاد نبوته من حيث وجدوا صفته ولا يجوز أن يتبعوه في شرائعه قبل بعثته .
وقيل في قوله : والإنجيل أن المراد وسيجدونه مكتوباً في الإنجيل؛ لأنَّ من المُحَالِ أن يجدوه فيه قبل ما أنزل اللَّهُ الإنجيل .
وقيل المراد بهم : مَنْ لَحِقَ من بني إسرائيل أيَّام الرسول - عليه الصلاة والسلام - فبيَّنَ تعالى أن هؤلاء اللاحقين لا يكتب لهم رحمة الآخرة إلاَّ إذا اتبعوا الرسول الأمِّيَّ ، وهذا هو الأقرب ، لأن اتباعه قبل بعثته لا يمكن .
ووصف هذا النبي بتسع صفات :
الأأولى : كونه رسولاً ، وهو في العُرفِ من أرسله اللَّهُ إلى الخلق لتبليغ التَّكاليف .
الثاني : كونه نبيّاً ، وهو الرفيع القدر عند الله تعالى .
والثالثة : كونه أميّاً .
قال الزجاج : وهو الذي على صفة أمة العرب ، كما تقدم في قوله عليه السلام : « إنا أمَّة أمِّيَّةٌ لا نكتب ولا نحسب »
قال المحقِّقُون : وكونه أميّاً بهذا التفسير من جملة معجزاته وبيانه من وجوه :
الأول : أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يقرأ عليهم كتاب الله تعالى مَنْظُوماً مرَّة بعد أخرى من غير تبديل ألفاظه ، ولا تغيير كلماته ، والخطيب من العرب إذا ارتجل خطب ثم أعادها؛ فلا بد أن يزيد فيها ، وأن ينقص عنها بالقليل والكثير ، وهو - عليه الصلاة والسلام - مع أنه ما كان يكتبُ وما كان يقرأ يتلو كتاب الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير ، فكان ذلك من المعجزات وإيله الإشارة بقوله : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى } [ الأعلى : 6 ] .
الثاني : لو كان يُحسِن القراءة والخَطَّ لكان مُتَّهما في القرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة كلَّما أتى به من غير تعلم ، ولا مطالعة؛ فكان ذلك من المعجزات وهو المرادُ من قوله : { وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون } [ النعكبوت : 48 ] الثالث : أن تعلَّم الخط شيء سهل فإن أقلَّ النَّاس ذكاء وفطنة يتعلمون الخطَّ بأهون سعي فعدم تعلمه يدلُّ على نقص عظيم في الهمم ، ثم إنَّهُ تعالى آتاه علوم الأولين والآخرين وما لم يصل إليه أحد من البشر ، ومع تلك القوة العظيمة والفهم جعله بحيثُ لم يتعلم الخط الذي يسهُل تعلمه على أقل الخلق عقلاً وفهماً ، فكان الجمع بين هاتين الحالتين المتضادتين جارياً مجرى الجمع بين الضدين ، وذلك من الأمُورِ الخارقة للعادة وجارية مجرى المعجزات .
الصفة الرابعة : قوله : { يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل } [ الأعراف : 157 ] وهذا يدُلُّ على أن نعته وصحة نبوته مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل؛ لأنَّ ذلك لو لم يكن مكتوباً لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفرات لليهود والنصارى عن قبول قوله؛ لأنَّ الإصرار على الكذب من أعظم المنفّرات ، والعاقلُ لا يسعى فيما يوجب نقصان حاله ، وينفر النَّاس عن قبول قوله وإذا كان مذكوراً في التَّوراة والإنجيلِ كان معجزة له دالةً على صدقهِ .
قال عطاءُ بنُ يسار : لقيتُ عبد الله بن عمرو بن العاصِ ، قلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة .
قال : أجَلْ ، واللَّه إنَّه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن { ياأيها النبي إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } [ الأحزاب : 45 ] وحِرزاً للأميين ، أنت عبدي ورسولي سمِّيْتُكَ المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخَّاب في الأسواق ، ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يفعو ، ويغفر ، ولن يقبضه حتى يقيم به الملَّة العَوْجَاء ، بأن يقولوا : لا إله إلا الله ، ويفتح بها أعْيُناً عُمْياً ، وآذاناً صُمّاً ، وقلوباً غُلْفاً .
وعن كعب قالك إني أجدُ في التوراة مكتوباً محمد رسول الله لا فظّ ، ولا غليظ ، ولا سخّاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح ، أمته الحامدون ، يحمدون الله في كل منزل ، وعلى كلِّ نجد ، يأتزرُون على أنصافهم ، ويغضون أطرافهم ، صَفُّهُمْ في الصلاة وصفهم في القتال سواء ، مناديهم ينادي في جوِّ السماءِ ، لهم في جوف الليل دَويٌّ كدويِّ النحل ، مولده بمكَّة ، ومخاهره بطيبة ، ومُلْكُهُ بالشَّام .
الصفة الخامسة : قوله : { يَأْمُرُهُم بالمعروف } أي : بالإيمان ، وقيل : الشَّريعة والسُّنة .
قال عطاءٌ : بمكارم الأخراق ، وخلع الأنداد ، وصلة الأرحام .
السادسة : قوله { وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر } أي : عن الشرك .
وقيل : ما لا يعرف في كل شريعة ولا سنَّةٍ .
وقيل : المنكرُ عبادة الأوثان ، وقطع الأرحام .
السابعة : قوله : { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات } .
قيل : ما كانوا يُحَرِّمونه في الجاهليَّة : من البحيرة والسَّائبة والوصيلة والحامِ .
قال ابنُ الخطيب : وهذا بعيد لوجهين :
الأول : أنه على هذا التقدير تصير الآية ويحلُّ لهم المُحللات وهذا محضُ التكرير .
والثاني : أنَّ على هذا التقدير تخرج الآية عن الفائدة ، لأنَّ لا ندري الأشياء التي أحلَّها اللَّهُ ما هي وكم هي؟ .
بل الواجب أن يكون المرادُ بالطَّيبات الأشياء المستطابة بحسب الطبع؛ لأن تناولها يفسد اللَّذة والأصل في المنافع الحل فدلَّت هذه الآية على أنَّ الأصل في كلِّ ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع الحِلُّ إلاَّ بدليل منفصل .
الصفة الثامنة - قوله { وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث } .
قال عطاءٌ عن ابن عباس : يريد الميتة والدَّم وما ذكر في سورة المائدة إلى قوله : { ذلكم فِسْقٌ } [ المائدة : 3 ] .
قال ابنُ الخطيب : وأقول ههنا : كل ما يستخبثه الطَّبع [ وتستقذره النفس كان تناوله سبباً للألم ، والأصل في المضار الحرمة ، فكان مقتضاه أن كل ما يستخبثه الطبع ] فالأصْلُ فيه الحُرمَةُ إلاَّ بدليلٍ منفصل ، وعلى هذا يحرم بيع الكلب ، قوله عليه الصلاة والسلام : « الكلبُ خبيثٌ ، وخَبيثُ ثَمنُهُ » ، فدخل في قوله تعالى : { وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث } .
الصفة التاسعة : قوله { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ } .
قرأ ابنُ عامر آصارهم بالجمع ، على صفة « أفْعَال » فانقلبت الهمزةُ التي هي فاء الكلمة ألفاً لسبقها بمثلها ، والباقُون بالإفرادِ . فمن جمع فباعتبار متعلِّقاته وأنواعه ، وهي كثيرة ، ومن أفْردَ؛ فلأنه اسمُ جنسٍ .
وقرأ بعضهم أَصْرَهُمْ بفتح الهمزةِ ، وبعضهم أُصْرَهُمْ بضِّمها .
والإصْرُ : الثِّقلُ الذي يأصر صاحبه ، أي يحبسه من الحرَاك لثقله ، أي : إنَّ شريعة موسى كانت شديدةً ، وقد تقدَّم تفسيرُ هذه المادة في قوله تعالى : { وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً } [ البقرة : 286 ] والأغلالُ جمع غُلٍّ ، وهو هنا مثلٌ لِمَا كَلِّفُوهُ كقطع أثر البول ، وقتل النَّفس في التَّوبةِ ، وقطع الأعضاء الخاطئة ، وتتبع العروق من اللَّحم وجعلها الله إلالاً؛ لأنَّ التَّحريمَ يمنع من الفعل كما أنَّ الغل يمنع من الفعل .
فصل
وقيل : كانوا إذَا قاموا إلى الصَّلاة لبسوا المسوح ، وغلوا أيديهم إلى أعناقهم . وقد تقدم تفسير مادة « الغل » في آل عمران عند قوله :
{ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } [ 161 ] وهذه الآية تدلُّ على أنَّ الأصل في المضار ألا تكون مشروعة؛ لأنَّ كلَّ ما كان ضرراً كان إصْراً وغلاًّ ، وهذا النص يقتضي عدم المشروعية ، كقوله : « لا ضرَرَ ولا ضِرارَ في الإسلامِ » وقول « بُعثِتُ بالحنفيّة السَّمْحَةِ السَّهْلهِ »
فإن قيل : كيف عطف الأغلالَ وهو جمع على الإصْرِ وهو مفرد؟ .
فالجواب : أنَّ الأصل مصدر يقع على الكثير والقليلِ .
قوله : { فالذين آمَنُواْ بِهِ } .
قال ابنُ عبَّاسِ : يعني من اليهود وعَزَّرُوهُ يعني وقَّرره .
قال الزمخشريُّ : أصلُ العزْر المَنْعُ ، ومنه التَّعزير؛ لأنَّهُ يمنع من معاودة القبيح وتقدَّم تفسيرُ التعزير في المائدة ، والعَامَّةُ على التشديد وعَزَّرُوهُ .
وقرأ الجحدريُّ وعيسى بن عمر ، وسليمان التيمي : بتخفيفها ، وجعفر بن محمد وعَزَّرُوهُ بزايين معجمتين . ونَصَرُوهُ أي على عَدُوِّهِ . { واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ } وهو القرآن .
وقيل : الهدى والبينات والرسالة .
فصل
قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى أنزلَ مَعَهُ وإنَّما أُنزِلَ مع جبريل؟ .
قلت : معناه أُنزل مع نُبوته؛ لأنَّ استنباءهُ كان مَصْحُوباً بالقرن مَشْفُوعاً به ، ويجوزُ أن يتعلَّق ب « اتَّبَعُوا » أي واتَّبعوا القرآن المنزَّل مع اتِّباع النبي والعمل بسنته ، وبما أمَرَ به ونَهَى عنه أو اتبعُوا القرآن كما اتَّبعه مصاحبين له في اتِّباعه ، يعني بهذا الوجه الأخير أنَّهُ حال من فاعل اتَّبَعُوا .
وقيل : « مَعَ » بمعنى « عَلَى » أي : أُنْزِلَ عليه . وجوَّزَ أبُو حيان أن يكون معه ظَرْفاً في موضع الحال .
قال : العامل فيها محذوفُ تقديره : أنزل كائناً معه ، وهي حالٌ مُقدَّرة كقوله : مَرَرْتُ برجلٍ معه صقرٌ صائداً به غداً ، فحالةُ الإنزال لم يكن معه ، لكنَّه صار معه بعدُ ، كما أنَّ الصيدَ لم يكن وقت المرور .
ثُمَّ لمَّا ذكر تعالى هذه الصِّفات ، قال : { أولئك هُمُ المفلحون } أي : الفائزونُ في الدُّنيا والآخرة .
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
قوله تعالى : { قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ } الآية .
لمَّا بيَّن تعالى أنَّ من شُرُوطِ حُصُولِ الرَّحْمَةِ لأولئك المُتَّقِينَ ، كونهم مُتَّبِعين للرَّسُولِ ، حَقَّقَ في هذه الآية رسالته إلى كلِّ الخلق .
وقوله إلَيْكُمْ مُتعلِّقٌ ب « رَسُولُ » ، وجَمِيعاً حال من المجرورِ ب « إلى » .
فصل
هذه الآيةُ تدلُّ على أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم مبعوثٌ إلى جميع الخَلْقِ .
وقالت طائفة من اليهُودِ يقال لهم العيسوية ، وهم أتباع عيسى الأصفهانيّ : إنَّ محمداً رسول صادق مبعوث إلى العرب خاصة لا إلى بني إسرائيل وهذه الآية تبطلُ قولهم؛ لأن قوله { ياأيها الناس } خطابٌ يتناولُ كلَّ النَّاسِ ، وقد أقرّوا بكونِهِ رسولاً حقّاً صادقاً وما كان كذلك امتنع الكذب عليه ، ووجب الجزمُ بكونه صادقاً في كلِّ ما يدَّعيه ، وقد ثبت بالتَّواتُرِ وبهذه الآية أنه كان يدَّعي كونه مبعوثاً إلى جميع الخلق؛ فوجب ونُه صادقاً في هذا القول .
فصل
هذه الآيةُ دلَّت على أن محمداً عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مبعوثٌ إلى كل الخلق فهل شاركه في هذه الخصوصيَّةِ أحد من الأنبياء؟ .
فقال بعضهم : نعم كان آدم عليه الصَّلاة والسَّلام مبعوثاً إلى جميع أولاده ، وأنَّ نوحاً لما خرج من السفينة كان مبعوثً إلى الذين كانوا معه ، وهم جميع النَّاسِ في ذلك الوقت ، وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام : « أعطيتُ خمْساً لَمْ يُعْطَهنَّ أحَدٌ من الأنبياءِ قَبْلِي »
المرَادُ أنَّ مجموعَ الخَمْسَةِ لم يحصل لأحدٍ سواه ، ولم يلزم من كون المجموع من خواصه عدم مشاركة غيره في آحاد أفرادها .
قوله : { الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض } . يجوزُ فيه : الرَّفْعُ ، والنَّصْبُ ، والجَرُّ ، فالرَّفْعُ والنَّصْبُ على القطع كما تقدم [ الأعراف : 57 ] ، والجَرُّ من وجهين : إمَّا النَّعْتِ للجلالة ، وإمَّا البدلِ منها .
قال الزمخشريُّ : ويجوزُ أن يكون جَرّاً على الوصفِ ، وإن حيلَ بين الصِّفةِ والموصوف بقوله « إليْكُمْ جَمِيعاً » .
واستضعف أبُو البقاءِ هذا ووجه البدل ، فقال : ويَبْعُدُ أن يكون صفة لله او بدلاً منه ، لما فيه من الفصل بينهما ب « إلَيْكُمْ » وبحالٍ ، وهو مُتعلِّقٌ ب « رَسُولُ » .
قوله { لاا إله إِلاَّ هُوَ } لا محلَّ لهذه الجملةِ من الإعراب ، إذ هي بدل من الصلةِ قبلها وفيها بيان لها؛ لأنَّ من ملك العالم كان هو الإله على الحقيقةِ ، وكذلك قوله « يُحْيي ويُمِيتُ » هي بيان لقوله لا إله إلاَّ هُوَ سِيقَتْ لبيان اختصاصه بالإلهيَّةِ؛ لأنه يَقْدِرُ على الإحياء والإماتةِ غَيْرُهُ .
قاله الزمخشريُّ : وقال أبُو حيَّان : « وإبدالُ الجُمَلِ من الجُمَلِ غير المشتركة في عاملٍ لا نعرفه » .
فصل
وقال الحُوفيُّ : إن « يُحْيِ ويُمِيتُ » في موضع خبر لا إله .
ق : « لأنَّ الإله » في موضع رفع بالابتداء ، وإلاَّ هُوَ بدلٌ على الموضع .
قال : والجملةُ أيضاً في موضع الحال من اسم اللَّهِ . ويعني بالجملةِ قوله : { لاا إله إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ } ويعني باسم الله ، أي : الضَّمير في لهُ مُلْكُ أي استقرَّ له الملك في حال انفراده بالإلهيَّةِ .
وقال أبُو حيَّان : والأحْسَنُ أن تكون هذه جملاً مستقلة من حيث الإعراب ، وإن كان متعلقاً بعضها ببعضٍ من حيث المعنى .
وقال في غعراب الحوفي المتقدم إنَّهُ متكلَّفٌ .
قوله : { فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } .
فصل
اعلم أنَّ الإيمان بالله أصل ، والإيمان بالنبوَّةِ والرسالة فرع عليه ، والأصلُ يجب تقديمه فلهذا بدأ بقوله : فأمِنُوا باللَّهِ ثم أتبعه بقوله : { وَرَسُولِهِ النبي الأمي الذي يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ } وهذا إشارة إلى ذِكْرِ المعجزاتِ الدالَّة على كونه نبيّاً حقاً؛ لأنَّ معجزاته عليه الصلاة والسلام كانت على نوعين .
الأول : المعجزاتُ التي ظهرت في ذاته المباركة وهو كونه أمِّياً ، وقد تقدم الكلامُ على كون هذه الصِّفَةِ معجزة .
الثانيك المعجزات الَّتي ظهرت من خارج ذاته مثل انشقاق القمر ، ونبع الماء من بين أصابعه ، وحنين الجذع ونحوها ، وهي تسمى بكلمات الله ، لأنَّهَا أمورٌ عظيمة . ألا ترى أن عيسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - لمّضا كان حدوثُه أمراً عظيماً غريباً مخالفاً للعادة ، سمَّاهُ اللَّهُ كلمة ، فكذلك المعجزات لمَّا كانت أموراً غريبة خارقة للعادة لم يبعُد تسميتُها كلمات ، وهذا هو المُرادُ بقوله : { يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ } .
وقرأ مجاهدٌ وعيسى وكلمته بالتَّوحيد ، والمرادُ بها الجِنسُ كقوله - عليه الصَّلاة والسَّلامُ - : « أصْدَقُ كلمةٍ قالها شاعرٌ كلمةُ لبيدٍ » ويسمُّون القصيدة كلها كلمةً ، وقد تقدَّم .
قال الزمشريُّ : فإن قلت : هَلاَّ قيل : فآمنوا باللَّه وبِي ، بعد قوله { يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ } ؟ .
قلت : عدل عن الضمير ، إلى الاسم الظاهر ، لتَجْرِي عليه الصفاتُ التي أُجْرِيَتْ عليه ، ولِمَا في طريق الالتفات من البلاغةِ ، وليُعْلِم أنَّ الذي يجبُ الإيمانُ به واتِّباعهُ ، هو هذا الشخص المستقل بأنه النَّبيُّ الأميُّ الذي يؤمنُ بالله وكلماته ، كائناً من كان ، أنا أو غيري إظهاراً للنَّصَفة ، وتفادياً من العصبية لنفسه .
قوله : واتبعوه لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } .
وهذا الأمرُ يدلُّ على وجوب متابعةِ الرَّسول عليه الصَّلاةُ والسَّلام في كلِّ ما يأتي به قولاً كان أو فعلاً أو تركاً إلا ما خصه الدَّليل .
فصل
فإن قيل : إذا أتى الرَّسسول بشيء فيحتمل أنه أتى به على سبيل الوُجوبِ ، ويحتمل الندب فعلى سبيل أنه أتى مندوباً ، فلو أتينا به على أنَّه واجب علينا ، كان ذلك تركاً لمتابعته والآية تدلُّ على وجوب المتابعةِ ، فثبت أنَّ فعل الرَّسُولِ لا يدُلُّ على الوجوب علينا .
فالجوابُ : أنَّ المتابعةَ في الفعل عبارة عن الإتيان بمثل الفعل الذي أتى به المتبوع؛ لأنَّ من أتى بفعل ثم إنَّ غيرهُ وافقه في ذلك الفعل ، قيل : إنَّهُ تابعهُ عليه ، ولوْ لَمْ يأتِ به ، قيل : إنه خالفه ، وإن كان كذلك ، ودلَّت الآية على وجوب المتابعة؛ لزم أن يجب على الأمة متابعته .
بقي علينا أنَّ لا نعرف هل أتى به - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - قاصداً الوجوب أو النَّدب؟ .
فنقول : حال الدَّوَاعي والعزائم غير معلوم ، وحال الإتيان بالفعل الظاهر معلومٌ؛ فوجب أن لا يُلتفتَ إلى حال العزائم والدَّواعي؛ لأنَّها أمورٌ مخفية عَنَّا ، وأن نحكم بوجوب المتابعة في العمل الظَّاهر؛ لأنَّهُ من الأمور التي يمكن رعايتها .
وقد تقدَّم الكلامُ على لفظ لعلّ وأنَّها للتردي وهو في حق اللَّهِ تعالى محال ، فلا بد من تأويلاها فيلتفت إليه .
قوله تعالى : { وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ } .
لمَّا وصف الرسول ، وذكر أنه يجل على الخلق متابعته ، ذكر أنَّ في قوم موسى من اتَّبَعَ الحق وهُدي إليه ويبن أنهم جماعة ، لأن لفظ « الأمَّة » ينبىء عن الكثرة .
واختلفوا فيهم .
فقيل : هم اليهودُ الذين آمنوا بالرسول - عليه الصلاة والسلام - مثل عبد الله بن سلام ، وابن صوريا .
فإن قيل : إنهم كانوا قليلين في العدد ، ولفظ « الأمة » ينبىء عن الكثرة .
فالجواب : إنهم لمَّا أخلصُوا في الدِّين جاز غطلاق لفظ « الأمَّةِ » عليهم كقوله تعالى { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } [ النحل : 120 ] .
وقيل : إنَّهم قومٌ بَقوا على الدِّين الحق الذي جاء به موسى ودعوا النَّاسَ إليه وصانوه عن التَّحريف والتَّبديل في زمن تفرٌّ بني إسرائيل فيه وإحداثهم البدع .
وقال الكلبيُّ والضحاكُ والربيعُ والسُّديُّ : لمَّأ كفر بنو إسرائيل وقتلوا الأنبياء ، تبرأ وسبط من الاثني عشر مِمَّا صنعُوا وسألوا اللَّهَ أن يُنقذهم منهم ، ففتح اللَّهُ لهم نفقاً في الأرضِ فَسَارُوا فيه حتَّى خرجوا من وراء الصين بأقصى الشرف على نهري مجرى الرَّمل يسمى نهر الأردن ، ليس لأحد منهم مال دون صاحبه ، يمطرون باللَّيل ويُصْبِحون بالنَّهار يزرعون ، لا يصل إليهم منا أحدٌ وهم على الحق .
وذكر أنَّ جبريل ذهب بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إليهم وكلَّمهم .
فقالوا : يا رسول الله إنَّ موسى أوصانا أنَّ مَنْ أدرك منا أحْمَدَ؛ فليقرأ عليه منِّي السلام ، فردَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على مُوسَى السلام ، ثم أقرأهم عشر سورة من القرآن نزلت بمكة ، وأمرهم بالصَّلاة والزَّكاةِ وأمرهم أنه يقيموا مكانهم ، وكانوا يسبتون فأمرهم أن يجمعوا ، ويتركوا السَّبْتَ .
وقوله : { يَهْدُونَ بالحق } يدعُون النَّاس إلى الهداية بالحقِّ وقوله وَبِهِ يَعدِلُونَ؛ قال الزَّجَّاجُ : العدلُ : الحُكْمُ بالحق .
يقال هو يقضي بالحق ، ويعدل وهو حاكم عادلٌ ، ومنه قوله تعالى : { وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء } [ النساء : 129 ] وقوله { وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا } أنعام : 152 ]
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
قوله تعالى : { وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ } .
الظَّاهِرُ أن قَطَّعْنَاهُمُ مُتَعدٍّ لواحد؛ لأنه لمْ يُضَمَّنْ معنى ما يتعدَّى لاثنين ، فعلى هذا يكون اثْنَتَيْ حالاً من مفعول : قَطَّعْنَاهُمُ أي : فَرَّقْنَاهم مَعْدُودينَ بهذا العدد .
وجوَّز أبُو البقاءِ أن يكون قَطَّعْنَا بمعنى « صَيَّرْنَا » ، وأن اثْنَتَيْ مفعولٌ ثانٍ وجزم الحُفِيُّ بذلك .
وتمييز : اثْنَتَيْ عَشْرَةَ محذوف ، لفهم المعنى ، تقديره : اثْنَتَيْ عشرة فرقةٌ ، و « اسْبَاطاً » بدلٌ من ذلك التمييز . وإنَّما قلتُ إن التَّمييزَ محذوفٌ ، ولم أجعل أسْبَاطاً هو المُمَيِّز لوجهين ، أحدهما : أنَّ المعدودَ مُذَكَّر؛ لأنَّ أسْبَاطاً جمع « سِبْط » فكان يكون التركيبُ : اثني عشر .
الثاني : أنَّ تمييز العدد المركَّبِ ، وهو من « أحد عشر » إلى « تِسْعَة عَشَرَ » مفردٌ منصوبٌ وهذا - كما رأيت - جمع ، وقد جعله الزمخشريُّ تمييزاً له معتذراً عنه ، فقال : فإن قلت : مُمَيِّزٌ ما عدا العشرة مفردٌ ، فما وجهُ مجيئه جمعاً؟ وهلاَّ قيل : اثني عشر سِبْطاً!؟
قلتُ لو قيل ذلك ، لم يكن تحقيقاً؛ لأن المُرادَ وقطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عشْرَةَ قبيلة ، وكلُّ قبيلة أسباط لا سِبْط ، فوضع « أسْبَاطاً » موضع « قبيلة » ؛ ونظيره قوله : [ الرجز ]
2597 - بَيْنَ رَمَاحَيْ مَالِكِ ونَهْشَلِ ... قال أبُو حيان : وما ذهب إليه من أنَّ كلَّ قبيلةٍ أسباط خلافُ ما ذكره النَّاسُ ، ذكروا أن الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب . وقالوا : الأسْبَاطُ جمع وهم الفرق ، والأسباطُ في ولد إسحاق كالقبائل في ولد غسماعيل ، ويكون على زعمه قوله تعالى : { وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط } [ البقرة : 136 ] معناه : والقبيلةُ ، وقوله : « وهو نظير قوله : بين رماحي مالكٍ ونهشَلِ » ليس بنظيره ، لأنَّ هذا من باب تثنية الجمع ، وهو لا يجوزُ إلا في ضرورةٍ ، وكأنَّهُ يشيرُ إلى أنه لوْ لمْ يُلْحَظُ في الجمع كونُه أُريد به نوعق من الرِّمَاحِ لم تَصِحَّ التثنية ، كذلك هنا لُحِظَ في « الأسْبَاط » - وإن كان جمعاً - معنى القبيلة فمُيِّزَ به كَما يُمَيَّزُ بالفرد .
وقال الحُوفِيُّ : يجوز أن يكون على الحذفِ ، والتقديرُ : اثنتي عشرة فرقةً أسبَاطاً ويكون « أسْبَاطاً » نعتاً ل « فرقة » ، ثم حذف الموصوفُ ، وأقيمت الصِّفةُ مقامه و « أمَماً » نعتٌ لأسباط ، وأنَّثَ العدد ، وهو واقعٌ على الأسباطِ وهو مذكَّرٌ ، وهو بمعنى فرقة أو أمة كما قال : [ الوافر ]
2598 - ثَلاثَةُ أنْفُسٍ . . ..
يعني : رجلاً ، وقال : [ الطويل ]
2599 - . عَشْرُ أبْطُنٍ .. .
بالنَّظَرِ إلى القبيلةِ ، ونظيرُ وصف التمييزِ المقرر بالجمعِ مراعاةً للمعنى قول الشَّاعر : [ الكامل ]
2600 - فِيهَا اثْنَتَانِ وأرْبَعُونَ حَلُوبَةً سُوداً كَخَافِيَةِ الغُرابِ الأسْحمِ
فوصف « حَلُوبَةً » وهي مفردة لفظاً ب « سُوداً » وهو جمع مراعاةً لمعناها ، إذ المرادُ الجمع .
وقال الفراء : إنَّما قال : « اثْنَتَيْ عَشْرَةَ » والسِّبْطُ مذكر؛ لأنَّ ما بعده « أمم » فذهب التأنيث إلى الامم ، ولو كان « اثني عشر » لتذكير السبط لكان جائزاً .
واحتج النحويون على هذا بقوله : [ الطويل ]
2601 - وإنْ قريشاً هذه عَشْرُ أبْطُنٍ ... وأنْتَ بَرِيءٌ مِنْ قَبَائِلهَا العَشْرِ
ذهب بالبطْن إلى القبيلةِ ، والفصيلة ، لذلك أنَّثَ ، والبطن ذَكَرٌ .
وقال الزَّجَّاج : المعنى : وقطَّعْنَاهُمْ اثنتي عشرةَ فرقةً أسْبَاطاً ، من نعتِ فرة كأنَّهُ قال : جَعَلْنَاهُم أسباطاً وفرَّقناهم أسباطاً ، وجوَّز أيضاً أن يكون « أسْبَاطاً » بدلا من اثْنَتَيْ عَشْرَةَ : وتبعه الفارسيُّ في ذلك .
وقال بعضهم : تقديرُ الكلامِ : وقطعناهم فرقاً اثْنَتَيْ عشرَةَ ، فلا يحتاجُ حينئذٍ إلى غيره .
وقال آخرون : جعل كلَّ واحدٍ من الاثنتي عشرةَ أسباطاً ، كما تقولُ : لزيد دراهم ، ولفلانٍ دراهمُ : فهذه عشرون دراهم يعني أن المعنى على عشرينات من الدَّراهِم .
ولو قلت : لفلان ، ولفلان ، ولفلان عشرون درهماً بإفراد « درهم » لأدَّى إلى اشتراك الكُلِّ في عشرين واحدة ، والمعنى على خلافه .
وقال جماعةٌ منهم البَغَوِيُّ : « في الكلامِ تقديمٌ وتأخير تقديره : وقطعناهم أسباطاً أمماً اثنتي عشرة » .
وقوله : أثمماً إمَّا نعتٌ ل « أسْبَاطاً » ، وإمَّأ بدل منها بعد بدلٍ على قولنا : إنَّ « اسْبَاطاً » بدلٌ من ذلك التَّمييز المقدَّر . وجعلهُ الزمخشريُّ أنه بدل من « اثْنَتَيْ عَشْرَة » ؛ قال : بمعنى : « وقطَّعْنَاهم أمَماً » ، لأنَّ كل أسباط كانت أمَّةً عظيمةً وجماعة كثيفة العدد ، وكلُّ واحد تؤمُ خلاف ما تؤمُّهُ الأخرى فلا تكادُ تأتلف « . انتهى .
وقد تقدَّم القولُ في » الأسْبَاط « .
وقرأ أبان بنُ تغلبَ » وقَطَعْنَاهُمْ « بتخفيف العينِ والشَّهيرةُ أحسن؛ لأنَّ المقامَ للتَّكثيرِ ، وهذه تحتمله أيضاً .
وقرأ الأعمش وابن وثَّابِ ، وطلحة بنُ سليمان » عَشِرَة « بكسر الشِّينِ ، وقد رُوي عنهم فَتْحُها أيضاً ، ووافقهم على الكسر فقط أبُو حَيْوَةَ ، ولطحة بن مصرف .
وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في البقرة [ 60 ] ، وأنَّ الكسر لغةُ تميم والسُّكُونَ لغةُ الحجاز .
قوله : { وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ } . وتقدمت هذه القصَّةُ في البقرةِ .
» أن اضرب « يجوز في » أنْ « أن تكون المفسِّرة للإيحاء ، وأن تكون المصدرية .
قال الحسنُ : ما كان إلاَّ حجراً اعترضه وإلاَّ عصاً أخذها .
وقوله : » فانبجَسَتْ « كقوله : » فانْفَجَرتْ « إعراباً وتقديراً ومعنىً ، وتقدَّم ذلك في البقرة .
وقيل : الانبجَاسَ : العرق .
قال أبو عمرو بنُ العلاءِ : » انبَجَستْ « : عَرِقَتْ ، وانفَجَرَتْ : سالتْ . ففرَّق بينهما بما ذُكر .
قال المفسِّرون : إنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام كان إذا ضرب الحجر ظهر عليه مثلُ ثَدْي المرأة فَيَعْرَقُ ثُمَّ يسيل ، وهُمَا قَرِيبَان من الفرقِ المذكور في النَّضْح والنَّضْخ .
وقال الرَّاغِبُ : بَجَسَ الماءُ وانبَجَسَ انفَجَرَ ، لكنَّ الانبجاسَ أكثرُ ما يقالُ فيما يَخْرج من شيء ضيق ، والانفجار يُستعملُ فيه وفيما يخرج من شيء واسع؛ ولذلك قول تعالى : { فانبجست مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً } ، وفي موضع آخر { فانفجرت } البقرة : 60 ] ، فاستُعْمِلَ حيث شاق المخرجُ اللفظتان . يعني : ففرَّق بينهما بالعُمُوم والخُصُصِ ، فكلُّ انبجاس انفجارٌ من غير عكس .
وقال الهَرَوِيُّ : يقالُ : انبَجَسَ ، وتَبَجَّسَ ، وتَفَجَّرَ ، وتَفَّتقَ بمعنى واحدٍ . وفي حديث حذيفة ما منا إلا رجلٌ له آمَّةٌ يَبجُسُهَا الظَّفُر غَيْرَ رَجُلَيْنِ يعني : عمر وعليّاً رضي الله عنهما . الآمَّةُ : الشّجَّة تبلغ أمَّ الرأس ، وهذا مثل يعني أَنَّ الآمَّة منا قد امتلأت صديداً بحيث إنه يقدر على استخراج ما فيها بالظفر من غير احتياج إلى آلة حديد كالمبضع فعبَّر عن زَلل الإنسان بذلك ، وأنه تفاقهم إلى أن صار يشبه شَجَّةً هذه صفتها .
قوله : { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ } .
قال الزمخشريُّ : « الأناسُ » اسمُ جمع غير تكسير نحو : رخال وثناء وتؤام ، وأخواتٍ لها ، ويجوز أن يقال : إن الأصل : الكَسْرُ ، والتكسيرُ والضَّمة بدلٌ من الكسرةِ لما أبدلت في نحو : سُكَارَى وغُيَارى من الفتحةِ .
قال أبُو حيان : ولا يجوز ما قال لوجهين ، أحدهما : أنَّهُ لم يُنْطَقْ ب « إناس » بكسر الهمزة ، فيكون جمع تكسير ، حتَّى تكون الضمَّةُ بدلاً من الكسرة بخلاف « سُكَارَى » و « غُيَارَى » فإنَّ القياس فيه « فَعَانَى » بفتح فاء الكلمة ، وهو مَسْمُوعٌ فيهما .
والثاني : أنَّ « سُكَارى » و « عُجَالى » و « غُيارى » وما ورد من نحوها ليست الضَّمَّةُ فيه بدلاً من الفتحة ، بل نصَّ سيبويه في كتابه على أنَّه جمعُ تكسيرٍ أصلٌ ، كان أنَّ « فَعَالَى » جمعُ تكسيرٍ أصلٌ وإن كان لا ينقاسُ الضَّمُّ كما ينقاسُ الفتح .
قال سيبويه - في الأبنيةِ أيضاً - : « ويكون » فُعَالى « في الاسم نحو : حُبَارَى ، وسُمَانَى ، ولُبَادَى ، ولا يكون وصفاً إلاَّ وصفاً إلاَّ أن يُكَسَّرَ عليه الواحدُ للجمع نحو : سُكارى وعُجَالى » . فهذا نَصَّان من سيبويه على أنَّهُ جمعُ تكسير ، وإذا كان جمعَ تكسير أصْلاً لم يَسُغْ أن يُدَّعَى أن أصله فَعَلى وأنه أبدلت الحركة فيه . وذهب المُبَرِّدُ إلى أنه اسمُ جمع أعني « فُعَالى » بضم الفاءِ ، وليس بجمع تكسير . فالزمخشريُّ لم يذهبْ إلى ما ذهب إليه سيوبيه ، ولا إلى ما ذهب إليه المُبَرِّدُ؛ لأنَّه عند المبرد اسمُ جمعٍ فالضَّمَّةُ في فائه أصلٌ وليست بدلاً من الفتحة بل أحدث قولاً ثلاثاً .
فصل
قال المفسِّرُون : إنهم احتاجوا في التيه إلى ماءٍ يشربونه ، فأمر اللَّهُ تعالى موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلأامُ - أن يضرب بعصاه الحَجَرَ ، وكانوا يذرءونه مع أنفسهم ، فيأخذون منه قدر الحاجة ، ولمَّا أن ذكر تعالى كيف كان يستقيمُ ، ذكر ثانياً أنَّهُ ظَلَّل الغَمَامَ عليهم في التِّيه تقيهم حرَّ الشَّمْسِ ، وثالثاً : أنَّهُ أنزل عليهم المَنَّ والسَّلْوَى ، ومجموع هذه الأأحوالِ نعمة من اللَّهِ تعالى .
ثُمَّ قال : { ا كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } والمُرادُ قَصْرُ نفوسهم على ذلك المطعُومِ ، وترك غيره .
وقلأ عيسى الهَمانِيُّ مَا رَزَقْتُكُم بالإفراد .
ثمَّ قال ومَا ظَلَمُونَا وفيه حذف؛ لأنَّ هذا الكلامَ إنَّمَا يَحْسُنُ ذكره لو أنَّهم تعدوا ما أمرهم اللَّهُ به ، إمَّا لكونهم ادَّخَرُوا ما منعم اللَّهُ منه ، أو أقدمُوا على الأكل في وقت منعهم اللَّهُ منه؛ أو لأنَّهم سألوا عن ذلك مع أنَّ اللَّهَ منعهم منه والمكلف إذَا ارتكبَ المَحْظُورَ فهو ظالم لنفسه ، ولذلك وصفهم اللَّهُ بقوله : { ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ؛ لأنَّ الملكف إذا أقدم على المعصية فهو ما أضر إلاَّ نَفْسَهُ .
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)
قوله تعالى : { وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسكنوا هذه القرية } الآيةُ .
اعلم أنَّ هذه القصة قد تقدَّمت مشروحة في سورة البقرةِ إلاَّ أنَّ بينهما تفاوتاً من وجوه :
أحدها : أنَّهُ عيَّن القائل في سورة البقرة ، فقال وإذْ قُلْنا وههنا أبهمه فقال وَإذْ قيلَ .
وثانيها : قال في سورة لابقرة « ادخلوا » وقال هاهنا « اسكنوا » .
وثالثها : قال في سورة البقرة فَكُلوا بالفاء ، وههنا بالواو .
وارابعها : قال هناك رَغَداً وأسقطها ههنا .
وخامسها : قدَّم هناك قوله { وادخلوا الباب سُجَّداً } على « وقولُوا حِطَّةٌ » وههنا على العكس .
وسادسها : قال في البقرة { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } [ البقرة : 58 ] وههنا « خطِيئَاتِكُمْ » .
وسابعها : قال هنا : « وسَنزِيدُ المُحْسنينَ » بالواو وههنا حذفها .
وثامنهها : قال في البقرة « فأنزلْنَا » وههنا « فأرْسَلْنَا » .
وتاسعها : قال هناك : { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } [ البقرة : 58 ] . وقال ههنا « يَظْلِمُونَ » .
وهذه ألفاظٌ لا مناقاةَ بينها ألبتة ، ويمكن ذكر فوائِدهَا .
أما قوله ههنا : { وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ } إعلاماً للسَّامع بان هذا القائل هو ذاك ، وأمَّا قوله هنا « ادْخُلُوا » ، وههنا « اسْكُنُوا » فالفرقُ أنَّهُ لا بدَّ من دخول القريَةِ أوَّلاً ، ثم سكونها ثانياً .
وأمَّا قوله هنا « فَكُلُوا » بالفاءِ وههنا بالواوِ ، فالفرق أنَّ الدُّخُولَ حالة مخصوصة ، كما يوجد بعضها ينعدم ، فإنَّهُ إنَّما يكون داخلاً في أوَّل دخوله .
وأمَّا بعد ذلك ، فيكون سكنى لا دخولاً ، وإذا كان كذلك فالدَّخُولُ حالة منقضية زائلة وليس لها استمرار ، فحسن ذكر فاء التعقيب بعده ، فلهذا قال { ادخلوا هذه القرية فَكُلُواْ } [ البقرة : 58 ] وأمَّا السُّكْنَى فحالة مستمرة باقية فيكون الأكل حاصلاً معها لا عقيبها فحل الفرق .
وأمَّا قوله هناك « رغَداً » ولم يذكره هنا؛ لأنَّ الأكْلَ عقيب دخول القرية يكون ألذ؛ لأنَّهُ وقت الحاجةِ الشديدةِ ، فلذلك ذكر رَغَداً وأما الأكر حالة السُّكنى ، فالظَّاهِرُ أنَّ الحاجة لا تكونُ شديدة .
وأمَّا قوله هناك : { وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ } وههنا على العكس ، فالمرادُ التَّنبيهُ على أنَّهُ يحسن تقديم كل واحد منهما على الآخر ، لأنَّ المقصُودَ منهما تعظيم اللَّهِ تعالى وإظهار الخُضُوعِ ، وهذا لا يتفاوتُ الحال فيه بحسب التَّقديم والتَّأخير .
قال الزمخشريُّ : التَّقديمُ والتأخيرُ في وقُولُوا وادخُلُوا سواء قدَّمُوا « الحِطَّة » على دخول الباب ، أو أخَّرُوَاها فهم جامعون في الإيجاد بينهما .
قال أبُو حيَّان : وقوله : سواءٌ قدَّمُوا أو أخَّرُوها تركيب غير عربي ، وإصلاحه سواء أقدَّمُوا أمْ أخَّرُوا ، كما قال تعالى : { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا } [ إبراهيم : 21 ] .
فصل قال شهابُ الدِّين : يعني كونه أتى بعد لفظ « سواء » ب « أوْ » دون « أمْ » ، ولم يأتي بهمزة التسوية بعد « سواء » وقد تقدَّم أنَّ ذلك جائز ، وإن كان الكثيرُ ما ذكره وأنه قد قرىء
{ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } [ البقرة : 6 ] والرَّدُ بمثل هذا غير « طائل » .
وأما قوله في البقرة { خَطَايَاكُمْ } وههنا « خَطِيئَاتِكُم » فهو إشارة على أنَّ هذه الذنوب سواء كانت قليلة ، أو كثيرة ، فهي مغفورةٌ عند الإتيان بهذا الدُّعاء .
وأما قوله هناك « وسَنَزِيدُ » بالواوِ ، وههُنَا حذفها ففائدته أنه استئناف ، كأنَّ قائلاً قال : وماذا حصل بعد الغُفْرانِ؟
فقيل لهخ : « سَنَزِيدُ المُحْسنينَ » .
وأام قوله هناك « فأنَزلْنَا » ، وههُنَا « فأرْسَلْنَا » فلأنَّ الإنزالَ لا يشعر بالكَثْرَةِ ، والإرسَال يشعر بها ، فكأنَّهُ تعالى بدأ بإنزال العذابِ القليل ، ثمَّ جعله كثيراً ، وهو نظيرُ الفرقِ بين قوله { فانبجست } [ الأعراف : 160 ] وقوله { فانفجرت } [ البقرة : 60 ] .
وأمَّا قوله هناك { عَلَى الذين ظَلَمُواْ } [ البقرة : 59 ] ، وههُنَا « عَلَيْهِمْ » فهو إيذان بأنَّ هؤلاء المضمرون هم أولئك ، وأمَّا قوله هَهُنَا « يَظْلمُونَ » وهناك « يَفْسُقُونَ » فلأنهم موصوفون بأنهم كانوا ظالمينَ لأنَّهم ظلموا نفسهم ، وبكونهم فاسقين ، لأنَّهُمْ خَرَجُوا عن طاعةِ اللَّهِ .
قوله : { نَّغْفِرْ لَكُمْ خطيائاتكم } قد تقدَّم الخلافُ في « نَغْفِر » وأمَّا « خَطِيئَاتِكُمْ » فقرأها ابن عامر « خَطِيئَتُكُم » بالتَّوحيد ، والرَّفع على ما لم يُسَمَّ فاعله ، والفرض أنه يقرأ « تغفرْ » بالتَّاء من فوق . ونافع قرأ « خَطِيئَاتِكُم » بجمع السَّلأامة ، رفعاً على ما لم يُسَمَّ فاعلُه؛ لأنَّهُ يقرأ « تُغْفرُ لكم » كقراءة ابن عامر .
وأبو عمرو قرأ « خَطَايَاكُم » جمع تكسير ، ويَقْرأ « نَغْفِرْ » بنون العظمة . والباقون « نَغْفِرْ » كأبي عمرو ، « خَطِيئَاتِكُمْ » بجمع السَّلامة منصوباً بالكسرة على القاعدة . وفي سورة نوح قرأ أبو عمرو « خطاياهم » بالتكسير أيضاً ، والباقون بجمع التصحيح .
وقرأ ابنُ هرمز « تُغْفَرْ » بتاءٍ مضمومة مبيناً للمفعول ، كنافع ، « خَطَايَاكُم » كأبي عمرو ، وعنه « يَغْفِرْ » بياء الغيبة ، وعنه « تَغْفِر » بفتح التَّاءِ من فوق ، على معنى أنَّ « الحِطَّة » سببٌ للغفران ، فنسب الغفران إليها .
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)
قوله تعالى : { وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر } الآية .
المقصود تعرف هذه القصة من قبلهم؛ لأنَّ الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - قد علمها من قبل الله تعالى ، والمقصود من ذكر هذا السؤال أحد أشياء :
الأول : المقصود منه تقرير أنهم كانوا قد أقْدَمُوا على هذا الذنب القبيح تَنْبِيهاً لهم على إصرارهم على الكفر بمحمد - عليه الصلاة والسلام - .
والثاني : أنَّ الإنسان قد يقول لغيره هل الأمر كذا وكذا؟ ليعرف ذلك بأنه محيط بمعرفةِ تلك الواقعة وغير غافل عنها . ولمَّا كان النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً أمياً لم يعلم علماً ، ولم يطالع كتاباً ، ثمَّ إنَّه يذكر هذه القصص على وجوهها من غير تفاوت ولا زيادة ولا نقصان ، كان ذلك جارياً مجرى المعجزة .
قوله : « عَنِ القَرْيَةِ » لا بُدَّ من مضافٍ محذوفٍ ، أي : عن خبر القرية ، وهذا المحذوفُ هو النَّاصِبُ لهذا الظرف وهو قوله « إذْ يَعْدُون » .
وقيل : هو منصوب ب « حَاطِرَة » .
قال أبُو البقاء : وجوَّزَ ذلك أنها كانت موجودةً في ذلك الوقت ثم خربت .
وقدر الزمخشريُّ : المُضاف « أهل » أي : عن أهل القرية ، وجعل الظرف بدلاً من « أهل » المحذوف فإنَّهُ قال : « إذْ يَعْدُون » بدل من القرية ، والمرادُ بالقرية : أهلُها كأنه قيل : واسألهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في البيت ، وهو من بدل الاشتمال .
قال أبُو حيَّان وهذا لا يجوزُ؛ لأن « إذْ » من الظُّرُوف التي لا تتصرَّفُ ، ولا يدخل عليها حرفُ جر ، وجعلها بدلاً يجَوِّزُ دخول « عن » عليها؛ لأنَّ البدل هو على نِيَّةِ تكرار العامل ولو أَدْخَلْتَ « عن » عليها لم يجز ، وإِنَّما يتصرَّف فيها بأن تُضيف إليها بعض الظُّروف الزَّمانية نحو : يوم إذ كان كذا ، وأمَّا قول من ذهب إلى أنَّها تكونُ مفعولةً ب « اذكر » فقولُ مَنْ عَجَزَ عن عن تأويلها على ما ينبغي لها من إبقائها ظرفاً .
وقال الحوفيُّ : « إذ » متعلقةٌ ب « سَلْهم » .
قال أبُو حيان : وهذا لا يتصوَّر ، لأن « إذْ » لما مضى ، و « سَلْهم » مستقبلٌ ، لو كان ظرفاً مستقبلاً لم يَصِحَّ المعنى؛ لأنَّ العادين - وهم أهل القريةِ - مفقودون فلا يمكن سُؤالهم والمسئول غير أهل القرية العادين .
وقرأ شهر بن حوشب وأبو نهيك « يَعَدُّون » بفتح العين وتشديد الدَّالِ ، وهذه تُشبه قراءة نافع في قوله { لاَ تتَعْدُواْ فِي السبت } [ النساء : 154 ] والأصل : تَعْتَدوا ، فأدغم التاء في الدال لمقاربتها لها .
وقُرىء « يُعِدُّونَ » بضمِّ الياء وكسر العين وتشديد الدال من : أعَدَّ يُعِدُّ إعداداً إذ هَيَّأ آلاته ، لما ورد أنهم كانوا مأمورين في السبت بالعبادةِ ، فيتركونها ويُهَيِّئُونَ آلاتِ الصَّيد .
فصل
معنى الآية : واسْأل مُحَمَّد هؤلاء اليهود الذين هم جيرانك سؤال توبيخ عن القرية التي كانت حاضرة البحر أي : بقرية ، والحضور نقيض الغيبة كقوله تعالى : { ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام } [ البقرة : 196 ] .
قال ابنُ عباس ، وأكثر المفسرين : هي قرية يقال لها : أيْلَة بين مَدْيَن والطُّورِ على شاطىء البحر .
وقيل : مدين .
وقال الزُّهري : هي طبرية الشَّامِ ، والعرب تسمِّ ] المدينة قرية وعن أبي عمرو بن العلاء مَا رَأيْتُ قرويين أفصَحَ من الحسين والحجَّاج يعني رجلين من أهل المدنِ ، و « يَعْدُون في السَّبتِ » يتجاوزون حد اللَّه فيه ، وهو اصطيادهم في يوم السَّبت وقد نُهُوا عنه ، والسَّبْتُ : مصدر سَبَتَ اليهود إذَا عظَّمت سُنَّتَهَا ، إذا تركوا العمل في سبتهم ، وسُبِتَ الرجل سُباتاً إذا أخذه ذلك ، وهو مثل الخرس ، وأسبت سكن فلم يتحرك والقوم صاروا في السَّبت ، واليهود دخلوا في السبت ، وهو اليوم المعروفُ ، وهو من الرَّاحةِ والقطع ، ويجمع على أسْبُت وسُبُوت وأسبات ، وفي الخبر عن رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم « من احْتَجَمَ يوْمَ السَّبْتِ فأصَابَهُ مرضٌ لا يلُومنَّ إلاَّ نَفْسَهُ »
قال القرطبي : قال علماؤنا : لأنَّ الدَّمَ يجمد يوم السبت ، فإذا مددته لتستخرجه لم يَجْرِ وعَادَ بَرَصاً .
قوله : « إذْ تَأتيهم » العامل فيه « تَعْجون » أي : إذَا عَدَوا إذ أتَتْهُمْ؛ لأنَّ الظَّرْفَ الماضي يَصْرِفُ المضارع إلى المضيِّ .
وقال الزمخشريُّ : و « إذ تأتيهم » بدلٌ من « إذ يَعْدُونَ » بدل بعد بدل ، يعني : أنه بدلٌ ثانٍ من القريةِ على ما تقدَّم عنه ، وقد تقدَّم ردُّ أبي حيان عليه فيعود هنا .
و « حِيتَان » جمع « حُوت » ، وإنَّما أبدلَت الواوُ يَاءً ، لسكونها وانكِسَارِ ما قبلها ، ومثلُهُ نُون ونِينَان والنُّونُ : الحُوتُ .
قوله « شُرَّعاً » حالٌ من « حِيتَانُهُمْ » وشُرَّعٌ : جمعُ شارع .
وقرأ عمر بن عبد العزيز : « يَوْمَ إسباتهم » وهو مصدر « أسبت » إذا دخل في السَّبْت .
وقرأ عاصم بخلاف عنه وعيسى بن عمر « لا يَسْبُتُونَ » .
وقرأ عليٌّ والحسنُ وعاصمٌ بخلاف عنه « لا يُسْبِتُونَ » بضم الياء وكسر الباء ، من أسْبَت ، أي : دخل في السبت .
وقُرىء : « يُسْبَتُونَ » بضمِّ الياء وفتح الباء مبنياً للمفعول ، نقلها الزمخشريُّ عن الحسن .
قال : أي لا يُدَار عليهم السبت ولا يؤمَرُونَ بن يَسْبِتُوا ، والعاملُ في : « { وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ } قوله : » لا تَأتيهمْ « أي : لا تأتيهم يوم لا يَسْبِتُونَ ، وهذا يَدُلُّ على جواز تقديم معمول المنفي ب » لا « عليها وقد تقدم فيه ثلاث مذاهب : الجواز مطلقاً كهذه الآية ، والمنع مطلقاً ، والتفصيل بين أن يكون جواب قسم فيمتنع أوْ لا فيجوز .
ومعنى شُرَّعاً أي ظاهرة على الماء كثيرة . من شرع فهو شارع ، ودار شارعة أي : قريبة من الطريق ، ونجوم شارعة أي : دنت من المغيب ، وعلى هذا فالحيتان كانت تَدْنُوا من القرية بحيث يمكنهم صيدها .
وقال الضَّحَّاكُ : متتابعة .
فصل
قال ابنُ عباس ومجاهد : إنَّ اليهود أمرةوا باليوم الذي أمرتم به يوم الجمعة فتركوه ، واختاروا السبت ، فابتلاهم الله به ، وحرم عليهم الصَّيْدَ ، وأمروا بتعظيمه ، فإذا كان يوم السَّبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها ، فإذا انقضى السَّبت ذهبت عنهم ، ولم تعد إلاَّ في السبت المقبل ، وذلك بلاء ابتلاهم اللَّه به .
فقوله { وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ } أي لا يَفْعَلُونَ السبت ، يقال : سَبَتَ يَسْبِتُ إذا عظم السبت . والمعنى : يَدْخُلُونَ في السَّبْتِ ، كما يقالك أجْمَعْنَا وأظهرنَا وأشْهَرْنَا ، أي : دخلنا في الجمعة ، والظهر ، والشهر .
كما يقال : أصبحنا أي : دخلنا في الصباح .
قوله : « كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ » . ذكر الزجاجُ ، وابن الأنباريِّ في هذه الكافر ومجرورها وجهين :
أحدهما : قال الزَّجَّاج : أي : مثل هذا الاختبار الشَّديد نختبرهم ، فموضع الكاف نصبٌ ب « نَبْلُوهُم » .
قال ابن الأنباري : ذلك إشارةٌ إلى ما بعده ، يريد : نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ كذلك البلاء الذي وقع بهم في أمر الحيتان ، وينقطع الكلام عند قوله « لا تَأتيهمْ » .
الوجه الثاني : قال الزجاج ويحتمل أن يكون - على بُعْدٍ - أن يكون : ويَوْمَ لا يَسبتُون لا تأتيهم كذلك أي لا تأتيهم شُرَّاعاً ، ويكون « نَبْلُوهُم » مستأنفاً .
قال أبو بكر : وعلى هذا الوجه كذلك راجعةٌُ إلى الشُّرُوع في قوله تعالى : { يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً } والتقدير : ويَوْمَ لا يسبتُونَ لا تأتيهم كذلك الإتيانِ بالشّروع ، وموضعُ الكاف على هذا نَصْبٌ بالإتيان على الحالِ ، أي : لا تأتي مثل ذلك الإتيان .
قوله : « بِمَا كَانُوا » الباءُ سببيةٌ و « ما » مصدريةٌ ، أي : نَبْلُوهم بسبب فسقهم ، ويضعُفُ أن تكون بمعنى « الذي » لتكَلُّفِ حذفِ العائد على التدريج .
فقالك وأفصحُ اللغات أن ينتصبَ الظرف مع السبت والجمعة فتقول : اليوم السَّبْتُ ، واليوم الجُمعَةُ فتنصب اليوم على الظَّرْلإِ ، وترفع مع سائر الأيام فتقول : اليومُ الأحدُ واليومُ الأربعاءُ لأنَّهُ لا معنى للفعل فيهما فالمبتدأ هو الخبر فترفع .
قال شهابُ الدِّين : هذه المسألة فيها خلافٌ بين النَّحويين ، فالجمهورُ كما ذكر يوجبون الرفع؛ لأنَّه بمنزلة قولك : اليومُ الأولُ ، اليومُ الثاني . وأجاز الفراء وهشام النَّصبَ ، قالا : لأنَّ اليوم بمنزلة : الآن وليست هذه المسألةُ مختصَّةً بالجمعة والسبت بل الضابطُ فيها : أنه إذا ذُكر « اليوم » مع ما يتضمن عملاً أو حدثاً جاز الرفع والنصب نحو قولك : اليوم العيد ، اليوم الفطر ، اليوم الأضحى .
كأنك قلت : اليوم يحدث اجتماع وفطر وأضحية .
فصل
قال المفسِّرُون : وسْوَسَ لهم الشَّيطان وقال : إنَّ الله لم ينهكم عن الاصطياد وإنَّما نهاكم عن الأكْلِ فاصطَادُوا .
وقيل : وسوس إليهم أنَّكُمْ إنَّمَا نُهِيتُم عن الأخذ فاتَّخِذُوا حِيَاضاً على شاطىء البَحْرِ ، تسوقون الحيتان إليها يوم السبت ، ثم تأخذونها يوم الأحدش ، ففعلوا ذلك زماناً ، ثمَّ تَجَرَّءُوا على السبت وقالوا ما نرى السبت إلاَّ قد أحِلَّ لنا ، فأحذوا ، وأكلوا وباعوا فنهاهم بعضهم ، وبعضهم فعل ، ولم ينته ، وبعضهم سكت وقالوا : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ } [ الأعراف : 164 ] فلمَّا لم يَنْتَهُوا قال النَّأهُونَ لا نُسَاكِنُكُمْ ، فقسموا القرية بجدارٍ ، للمسلمين باب ، وللمعتدين بابٌ ، ولعنهم داودُ ، فأصبح النَّاهُونَ ذات يوم ، ولم يخرج من المعتدين أحد ، فقالوا : إن لهم شأناً ، لعلّ الخمر غلبتهمن فعلوا الجدار ، فإذا هم قِرَدَةٌ .
فصل
دلَّت هذه الآية على أنَّ الحيل في تحليل الأمور الَّتي حرمها الشارع محرمةٌ؛ كالغيبة ، ونكاح المحلِّل ، وما أشبههما من الحيلِ ، ودلَّت على أنَّه تعالى لا يجب عليه رعايةُ الصَّلاح والإصلاح لا في الدِّين ولا في الدنيا؛ لأنَّهُ تعالى علم أن تكثير الحيتان يوم السَّبْتِ مما يحملهم على المعصية والكفر ، فلو وجب عليه رعاية الصَّلاح لوجب أن لا يكثر الحيتان في ذكل اليوم صوناً لهم عن الكفر والمعصية ، فلمَّا فعل علمنا أن رعاية الصَّلاح لا تجب على الله تعالى .
قوله : { وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } .
اختلفوا في الذين قالوا هذا القول .
فقيل : كانوا من الفرقة الهالكة؛ لأنَّهُم لمَّا قيل لهم : انتهوا عن هذا العمل قبل أن ينزل بكم العذاب؛ فإنكم إن لم تنتهوا فإنَّ اللَّهَ ينزل بكم بأسه فأجابوا بقولهم : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ } .
فقال النَّاهُونَ { مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ } أي موعظتنا { مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ } ، والأصحُّ أنها من قول الفرقة السَّاكتة جواباً للنَّاهية ، قالوا : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ . . . مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ } .
ومعناه : أنَّ الأمر بالمعروف واجبٌ علينا ، فعلينا موعظة هؤلاء عُذراً إلى اللَّهِ . « ولَعلَّهُم يتَّقُون » أي : يتَّقُوا اللَّهَ ويتركوا المعصية ، ولو كان الخطاب مع المعتدين لقال : « ولعلَّكُم تتَّقُونَ » .
« مَعْذِرَةً » قرأ العامَّةُ : « مَعْذِرَةٌ » رفعاً على أنه خبر ابتداء مضمر ، أي : موعظتنا معذرة .
وقرأ حفصٌ عن عاصم ، وزيد بن علي ، وعيسى بنُ عمر ، وطلحةُ بنُ مصرف : « مَعْذِرَةٌ » نصباً وفيها ثلاثةُ أوجه :
أظهرها : أنَّهَا منصوبةٌ على المفعول من أجله ، أي : « وعَظْنَاهُم لأجل المعذرة » .
وقال سيبويه : ولو قال رجلٌ لرجلٍ : معذرةً إلى الله وإليك من كذا ، لنصب .
الثَّاني : أنَّها منصوبةٌ على المصدر بفعل مقدر من لفظها ، تقديره : نَعْتَذِرُ مَعْذرةً .
الثالث : ان ينصب انتصابَ المفعول به؛ لأن المعذرةَ تتضمَّنُ كلاماً ، والمفردُ الثالث : والمفردُ المتضمِّنُ لكلام إذا وقع بعد القولِ نُصِبَ نصب المفعول به ، ك « قلت خطبة » .
وسيبويه يختارُ الرَّفْعَ .
قال : لأنَّهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذاراً مستأنفاً .
ولكنهم قيل لهم : لِمَ تَعِظُونَ؟
« فَقَالُوا » موعظتنا معذرةً .
والمَعْذِرَةُ : اسمُ مصدر وهو العذر .
وقال الأزهري : إنَّها بمعنى الاعتذارِ ، والعذرُ : التَّنصلُ من الذَّنبِ .
قوله : { فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } الضَّميرُ في نَسُوا للْمنهيِّينَ و « ما » موصولةٌ بمعنى « الذي » أي : فلمَّا نسُوا الوعظ الذي ذكَّرَهُم به الصَّالحون .
قال ابنُ عطيَّة : ويحتمل أن يُرادَ به الذِّكرُ نفسه ، ويحتمل أن يراد به ما كان فيه الذكر .
قال أبُو حيان : ولا يظهرُ لي هذان الاحتمالان .
قال شهابُ الدِّين : يعني ابنُ عطية بقوله : « الذِّكرُ نفسُهُ » أي : نفسُ الموصول مُرادٌ به المصدر كأنه قال : فلمَّا نسُوا الذِّكْرَ الذي ذُكِّروا به ، وبقوله : « مَا كان فيه الذِّكر » نَفَسُ الشيء المذكَّر به الذي هو متعلِّق الذكر؛ لأن ابن عطيَّة لمَّا جعل « ما » بمعنى « الذي » قال : إنَّها تحتملُ الوقوع على هذين الشيئن المتغايرين .
فصل
النِّسيان يطلق على السَّاهي ، والعامد التَّارك لقوله : { فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } أي : تركوه عن قصد ، ومنه قوله تعالى : { نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ } [ التوبة : 67 ] .
فصل
المعنى : فلمَّا تركوا ما وعظوا به ، { أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ } أي الذين أقدموا على المعصية .
واختلف المفسِّرون في الفرقة السَّاكتة . فقنل عن ابن عبَّاسٍ : أنَّهُ توقَّف فيهم ، ونقل عنه : هلكت الفرقتان ونجت النَّاهية ، وكان ابنُ عباس إذا قرأ هذه الآية بكى وقال : إنَّ هؤلاء الذين سكتوا عن النَّهي عن المنكر هلكوا ، ونحن نرى أشياء ننكرها ، ثم نسكت ، ولا نقول شيئاً .
وقال الحسنُ : نجت الفرقتانِ ، وهلكت العاصية ، لأنهم لما قالوا : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ } دلَّ على أنَّهُمْ أنكروا أشد الإنكار ، وأنَّهُمْ إنَّما تركوا وعظهم؛ لأنه غلب على ظنهم أنهم لا يلفتون إلى ذلك الوعظِ .
فإن قيل : إن ترك الوعظِ معصية ، والنَّهي عنه أيضاً معصية؛ فوجب دخول هؤلاء التَّاركين للوعظ النَّاهين عنه تحت قوله : { وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } .
فالجوابُ : هذا غير لازمٍ؛ لأنَّ النَّهي عن المنكر إنَّمَا يجب على الكفاية ، ولو قام به البعضص سقط عن الباقين .
وروي عن ابن عبَّاس أنه قال : أسمعُ الله يقول : { أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } ، فلا أدري ما فعلت الفرقة السَّاكتة؟
قال عكرمةُ : قلت له : جعلني اللَّهُ فداك ، ألا تراهم قد أنكروا ، وكرهوا ما هم عليه وقالوا : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ } ، وإن لم يقل الله أنجيتهم لم يقل : أهلكتهم ، فأعجبه قولي ورضي به ، وأمر لي ببردين فكسانيهما؛ وقال : نَجتِ السَّاكتةُ ، وهذا قول يمان بن رباب ، والحسن ، وابن زيد .
قوله : « بعذابٍ بئيسٍ » . أي : شديد .
قرا نافعٌ ، وأبو جعفر ، وشيبةٌ بيْسٍ بياء ساكنة ، وابن عامر بهمزة ساكنة .
وفيهما أربعة أوجه :
أحدها : أنَّ هذا في الأصْلِ فعلٌ ماضٍ سُمِّيَ به فأعربَ كقوله عليه الصَّلاة والسَّلام : « أنهاكم عن قيل وقال » بالإعراب والحكاية ، وكذا قولهم : « مُذ شبَّ إلى دبَّ ومُذ شبٍّ إلى دَبٍّ » ، فلما نُقل إلى الاسميَّة صار وصفاً ك : نِضْوا ونِقْض .
والثاني : أنَّهُ وصف وضع على فعل ك : حِلْف .
الثالث : أن أصله بَئيس كالقراءةِ المشهورة ، فخفَّفَ الهمزة؛ فالتقت ياءان ، ثم كسر الياء إتباعاً ، كرغيف وشهيد فاستثقل توالي ياءين بعد كسرةٍ ، فحذفت الياء المكسورة؛ فصار اللَّفظُ « بِيْسٍ » وهو تخريج الكسائيِّ .
الرابع : أن أصله بَئِس بوزن « كَتِف » ثم أتبعت الياءُ للهمزة في الكسر ثم سُكِّنت الهمزة ، ثمَّ أبدلت يا ك : بِيرٍ وذِيبٍ .
وأمَّا قراءة ابن عامر فتحتمل أن تكون فعلاً منقولاً ، وأن تكون وصفاً ك : حِلْف .
وقرأ أبو بكر عن عاصم بَيْئَسٍ بياء ساكنة بين باء ، وهمزة مفتوحتين ، وهو صفةٌ على فَيْعَل ك : ضَيْغَم ، وصَيْرَف ، وصَيْقَل ، وهي كثيرةٌ في الأوصافِ .
وقرأ امرؤُ القيسِ : [ الرجز ]
2602 - كِلاهُمَا كَأنَ رَئِيساً بَيْئَسا ... يَضْرِبُ في يومِ الهِيَاجِ القَوْنَسَا
وقرأ باقي السبعة « بَئِيسٍ » بزنه « رَئِيسٍ » وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ وصفٌ على « فَعِيلٍ » ك : شَدِيدٍ ، وهو للمبالغة وأصله فاعل .
والثاني : أنه مصدرٌ وصف به أي : بعذابٍ ذي بأس بَئِيس ، ف « بَئِيسٍ » مصدر مثل : النكثير والقدير ، ومثر ذلك في احتمالِ الوجهين قول أبي الأصبع العدواني : [ مجزوء الكامل ]
2603 - حَنَقاً عليَّ ولا أرَى ... لِيَ مِنْهُمَا شَرّاً بَئِيساً
وهي أيضاً قراءةُ عليٍّ وأبي رجاء .
وقرأ يعقوبُ القارئ « بَئِسَ » بوزن « شَهِدَ » ، وقرأها أيضاً عيسى بنُ عُمَرَ ، وزيد بن علي .
وقرأ نصرُ بنُ عاصم « بَأسَ » بوزن « ضَرَبَ » فعلاً ماضياً .
وقرأ الأعمش ومالك بنُ دينار « بَأس » فعلاً ماضياً ، وأصله « بَئِس » بكسر الهمزة ، فسكَّنَهَا تخفيفاً ك : شَهْدَ في قوله : [ الرجز ]
2604- لَوْ شَهْدَ عَاد فِيَ زَمَانِ تُبَّعِ ... وقرأ ابنُ كثير وأهل مكة بِئِسٍ بكسر البَاءِ ، والهمز همزاً خفيفاً ، ولم يُبَيِّن هل الهمزة مكسورةٌ أو ساكنةٌ؟
وقرأ طلحة وخارجة عن نافع « بَيْسٍ » بفتح الباء ، وسكون الياء مثل : كَيْلٍ ، وأصله « بَيْئَس » مثل : ضَيْغَم فخفَّف الهمزة بقلبها ياءً ، وإدغام الياء فيها ثم خفَّفهُ بالحذف ك : مَيْت في : مَيِّت .
وقرأ عيسى بن عمر والأعمش وعاصم في رواية « بَيْئٍسٍ » كقراءة أبي بكر عنه ، إلاَّ أنَّهُ كسر الهمزة ، وهذه قد ردَّها النَّاسُ؛ لأن « فَيْعِلاً » بكسر العين في المعتلِّ ، كما أن « فَيْعَلاً » بفتحها في الصحيح ك : سَيِّد وضَيْغَم ، على أنه قد شذّ « صَيْقِل » بالكسر ، و « عَيَّل » بالفتح .
وقرأ نصر في رواية مالك بن دينار عن « بَأسٍ » بفتح الباء والهمزة وجر السِّين ، بزنة « جَبَلٍ » .
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وطلحة بن مصرف « بَئِسٍ » مثل كبد وحذر .
قال عبيد الله بن قيس : [ المديد ]
2605 - لَيْتَنِي ألْقَى رُقَيَّةَ فِي ... خَلْوَةٍ مِنْ غَيْرِ مَا بَئِسِ
وقرأ نصر بنُ عاصم في رواية بَيِّسٍ بهمزةٍ مشددة .
قالوا : قلب الياء همةً وأدغمها في مثلها . ورويت هذه عن الأعمش أيضاً .
وقرأت طائفة بَأسَ بفتح الثلاثة ، والهمزة مشددة ، فعلاً ماضياً ، ك « شَمَّرَ » ، وطائفة أخرى بَأسَ كالتي قبلها إلاَّ أنَّ الهمزة خفيفةٌ ، وطائفة بَائسٍ بألف صريحة بين الباءِ والسِّينِ المجرورة ، وقرأ أهل المدينة بِئيسٍ ك : « رَئِيسٍ » ، غلاَّ أنهم كسروا الباء ، وهذه لغةُ تميم في فعيل الحلقيِّ العين نحو : بِعِير ، وشِعِير ، وشِهيد ، سواء أكان اسماً أم صفة .
وقرأ الحسن والأعمس « بِئْيَسٍ » بياء مكسورة ، ثم همزة ساكنة ، ثم يا مفتوحة ، بزنة « حِذْيَم » ، و « عِثْيَر » .
وقرأ الحسنُ بِئْسَ بكسر الباءِ ، وسكون الهمزة وفتح السِّينِ ، جعلها التي للذَّمِّ في نحو : بِئْسَ الرجل زيدٌ .
ورُويت عن أبي بكر .
وقرأ الحسن أيضاً كذلك ، إلاَّ أنه بياءٍ صريحة ، وتخريجها كالتي قبلها ، وهي مرويةً عن نافع وقد ردَّ أبو حاتم هذه القراءةَ والتي قبلها بأنَّهُ لا يقالُ : مررت برجلٍ بِئْسَ ، حتَّى يقال بِئْسَ الرجل ، أو بئس رجلاً .
قال النَّحَّاس : وهذا مردودٌ - يعني قول أبي حاتم - حكى النحويون : إن فعلت كذا وكذا فبها ونعمت ، أي : ونعمت الخصلة ، والتقدير : بِئْسَ العذابُ .
قال شهابُ الدِّينِ : أبو حاتم معذورٌ في القراءة ، فإنَّ الفاعل ظاهراً غير مذكور ، والفاعل عمدةٌ لا يجوز حذفه ، ولكنه قد ورد في الحديث مَنْ تَوضَّأ فبها ونعْمتُ ، ومن اغتسَلَ فالغُسْلُ أفضلُ ففاعل « نِعْمَتْ » هنا مضمرٌ يفسِّرُهُ سياقُ الكلام .
قال أبُو حيَّان : فهذه اثنتان وعشرون قراءةً ، وضبطُها بالتَّلخيص : أنَّها قُرِئتْ ثلاثية اللَّفْظِ ، ورباعَّيتَهُ ، فالثُّلاثي اسماً : بِئْسٍ ، وَبِيْسٍ ، وبَيْسٍ ، وبَأْسٍ ، وبَأَسٍ ، وبَئِسٍ ، وفعلاً بِيْسَ وبِئْسَ ، وبَئِسَ ، وبَأَسَ ، وبَأْسَ ، وبَيِسَ .
والرباعية اسماً : بَيْئَسٍ ، وبِيْئِسٍ ، وبَيْئِسٍ ، وبَيِّسٍ ، وبَئِيْسٍ ، وبِئَيْسٍ ، وبِئْيِسٍ ، وبِئْيَسٍ ، وفعلاً : بَأَّسَ « .
وقد زا أبو البقاء أربع قراءات أخر : بَيِس بباء مفتوحة وياء مكسورة .
قال : وأصلها همزة مكسورة فأبدلت ياء ، وبَيَس بفتحهما .
قال : وأصلها ياء ساكنة وهمزة مفتوحة إلاَّ أنَّ حركة الهمزة ألقيت على الياء وحذفت ، ولم تقلب الياء ألفاً ، لأنَّ حركتها عارضةٌ . وبَأْيَسٍ بفتح الباء ، وسكون الهمزة وفتح الياء .
قال : وهو بعيد إذ ليس في الكلام » فَعْيَل « وبَيْآس على فَيْعَال . وهو غريب .
قوله تعالى : { فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ } الآية .
قال ابنُ عباسٍ « أبَوْا أن يرجعوا عن المعصية » والعُتو : هو الإباء والعصيان .
فإن قيل : إذا عتوا عمَّا نُهُوا عنه فقد أطاعوا؛ لأنَّهُم أبوا عمَّا نُهُوا عنه ، وليس المراد ذلك .
فالجواب : ليس المراد أنهم أبوا عن النهي ، بل أبوا عن امثتال ما أمروا به .
وقوله : { قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } .
قال بعضهم ليس المراد منه القول؛ بل المراد منه أنه تعالى فعل ذلك .
قال : وفيه دلالة على أن قوله : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] هو بمعنى الفعل لا الكلام .
وقال الزجاج أمِرُوا بأن يكُونُوا كذلك بقول سمع ، فيكون أبلغ .
قال ابنُ الخطيب : وحمل هذا الكلام على الأمر بعيد؛ لأنَّ المأمور بالفعل يجبُ أن يكون قادراً عليه ، والقوم ما كانوا قادرين على أن يقلبوا أنفسهم قردة .
فصل
قال ابنُ عبَّاسٍ : أصبح القوم قردةً خاسئين؛ فمكثوا كذلك ثلاثة أيَّام تراهم النَّاس
ثمَّ هلكوا ، ونقل عن ابن عبَّاسٍ : أن شباب القوم صاروا قردة ، والشُّيُوخ خنازير ، وهذا خلاف الظَّاهر .
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
قوله تعالى : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ } الآية .
لمَّا شرح قبائح أعمال اليهود ذكر هنا حكمه عليهم بالذل والصَّغارِ إلى يوم القيامة ، و « تَأذَّنَ » فيه اوجه ، أحدها : أنَّهُ بمعنى : « آذَنَ » أي : أعْلَمَ .
قال الواحديُّ : وأكثر أهل اللغة على أنَّ : « التَّأذَُّ » بمعنى الإيذان ، وهو الإعلامُ .
قال الفارسي : « آذَنَ » أعْلَمَ ، و « أذَّنَ » نادى وصاح للإعلام ، ومنه قوله { فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ } [ الأعراف : 44 ] .
قال : وبعض العرب يُجْرِي « آذَنْتُ » مجرى « تَأذَّنْتُ » فيجعل « آذَانَ وتَأذَّنَ » بمعنى فإذا كان « أذَّنَ » أعلم في لغة بعضهم ، ف « أذَّنَ » تفعَّل من هذا .
وقيل : معناه : حَتَّمَ وأوْجبَ وهو معنى قول مجاهد : أمر ربك ، وقول عطاء : حكم ربّك .
وقال الزمخشري : « تأذَّن » عزم ربك ، وهو تفعَّل من الإيذانِ وهو الإعلامُ؛ لأنَّ العازمَ على الأمر يُحدِّثُ به نفسه ويؤذنها بفعله ، وأجري مُجْرَى فعل القسم ك : عَلِمَ الله ، وشَهِدَ الله ، ولذلك أجيب بما يجابُ به القسم وهو : « لَيَبْعَثَنَّ » .
وقال الطبريُّ وغيره « تَأذَّنَ » معناه « أعْلَمَ » ، وهو قلقٌ من جهة التصريف ، إذ نسبةُ « تأذَّنَ » إلى الفاعل غيرُ نسبة « أعْلَمَ » ، وبين ذلك فرقٌ من التعدي وغيره .
وقال ابن عباس : تأذَّنَ ربُّك قال ربُّكَ .
قوله : { إلى يَوْمِ القيامة } فيه وجها : أصحهما : أنَّهُ متعلقٌ ب : لِيَبَعْثَنَّ .
والثاني : أنَّهُ متعلقٌ ب : تَأذَّنَ نقله أبو البقاء ، ولا جائزٌ أن يتلعق ب : يَسُومُهُمْ؛ لأن « مَنْ » إمَّا موصولةٌ ، وإمَّا موصوفةٌ ، والصلةُ والصفة لا يعملان فيما قبل الموصول والموصوف .
فصل
الضمير في عليهم يقتضي رجوعه إلى الذين : { َتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ } { الأعراف : 166 ] ، لكنَّهم قد مسخوا ، فلم يستمر عليهم التَّكليف؛ فلذلك اختلفوا :
فقيل : المراد نسلهم .
وقيل : المراد سائر اليهود ، فإنَّ أهل القرية كانوا فرقتينن فالمتعدِّي مسخ ، وألْحَقَ الذُّلَّ بالبقيَّةِ .
وقال الأكثرون : هُمُ اليهُودَ الذين كانُوا في زمن الرسول - صلى عليه الصَّلاة والسَّلامُ -؛ لأن المقصودَ من الية تخويفهم وزجرهم ، وهذا العذابُ في الدُّنْيَا ، لأنه نص على أنَّ ذلك العذاب ممدود إلى يوم القيامة ثمَّ اختلفوا فيه :
فقيل : هو أخذ الجزيةِ .
وقييل : الاستخفافُ والإهانةُ لقوله تعالى { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا } [ آل عمران : 112 ] وقيل : القتل والجلاء الذي وقع بأهل خيبر وبين قريظة والنضير .
فصل
دلَّت هذه الآية على أنَّ اليهود لا دولة لهم ولا عزَّ ، ون الذُّلَّ والصغار لا يفارقهم ، وقد ورد في الحديث : أن أتباع الدَّجَّالِ هم اليهود فإن صحَّ فمعناه ، أنهم كانوا قبل خروجه يهوداً ، ثم دانوا بإلهيته؛ فذكروا بالاسم الأول ، ولوا ذلك لكانوا في وقت اتباعهم الدَّجَّال قد خرجوا عن الذلةِ والقهرِ ، وهو خلاف الآيةِ .
ثم قال : { إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب } والمراد التَّحذيرُ من عذابه في الآخرة مع الذِّلةِ في الدُّنيا { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن تاب من الكُفْرِ ، واليهوديَّةِ ، وآمن باللَّهِ وبرسوله .
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
قوله تعالى : { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً } الآية .
هذه الآية تدلُّ على أن المراد بقوله : { لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ } [ الأعراف : 167 ] جملة اليهود ، ومعنى « قَطَّعناهُم » أي : فرقناهم في الأرض ، وهذا يدلُّ على أنَّهُ لا أرض مسكونة إلاَّ وفيها منهم أمة ، وهذا هو الغالبُ .
وقوله : « أمَماً » إمَّا حالٌ من مفعول « قطَّعْنَاهُم » ، وإمَّا مفعولٌ ثانٍ على ما تقدَّم من أنَّ « قطَّع » تضمَّن معنى : صَيَّر . و « مِنْهُمُ الصَّالحُون » صفة ل « أمم » .
وقال أبو البقاء : « أو بدل منه ، أي : من أمم » . يعني : أنَّهُ حالٌ من مفعول : « قطَّعناهُمْ » أي : فرَّقناهُم حال كونهم منهم الصَّالحون .
قيل : المرادُ ب « الصَّالحينَ » الذين كانوا في زمن موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ -؛ لأنَّهُ كان فيهم قوم يهدون بالحق .
وقال قتادةُ : هم الذين وراء نهر وداف من وراء الصِّين .
وقال ابنُ عباس ومجاهد : هم الذين آمنوا بالنَّبيِّ صلى الله الله عليه وسلم ك : عبد الله بن سلام وغيره . وقوله : { وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك } أي : من أقام على اليهوديِّةِ .
فإن قيل : لم لا يجُوزُ أن يكون قوله : { وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك } من يكون صالحاً إلاَّ أنَّ صلاحَهُ دون صلاح الأولين؛ لأنَّهُ أقرب إلى الظاهرِ؟
فالجوابُ : أن قوله بعد ذلك : « لَعَلَّهُمْ يرجعُونَ » يدُل على أنَّ المراد من ثَبَتَ على اليَهُوديَّةِ .
قوله : { وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك } « منهم » خبرٌ مقدم ، و « دُون ذلك » : نَعْتٌ لِمنعُوتٍ محذوف هو المبتدأ ، والتقدير : ومنهم ناسٌ أو قومٌ دون ذلك .
قال الزمخشري : معناه : ومنهم ناسٌ منحطُّون عن الصَّلاح ، ونحوه : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] . بمعنى : مَا منَّا أحدٌ إلاَّ له مقامٌ معلومٌ . يعني في كونه حذف الموصوفُ وأقيم الجملة الوصفية مقامهُ ، كما قام مقامه الظرفُ الوصفيُّ ، والتفصيل ب « مِنْ » يجوزُ فيه حذفُ الموصوف وإقامةُ الصِّفة مقامه كقولهم : منَّ ظَعَنَ ومنَّا أقَامَ . ؟
وقال ابنُ عطيَّة : فإن أريدَ بالصَّلاح الإيمانُ ف « دُونَ » بمعنى « غير » يُراد به الكفرة .
قال أبُو حيان : إن أراد أنَّ دُونَ ترادفُ « غيراً » ، فليس بصحيحٍ ، وإن أراد أنَّهُ يلزم أنَّ من كان دون شيء أن يكون غيراً له فصحيح ، وذلك إمَّا أن يُشارَ به إلى الصَّلاح وإمَّا أن يُشار به إلى الجماعة ، فإن أشير به إلى الصلاح؛ فلا بد من حذفِ مضاف ، ليصحَّ المعنى ، تقديره : ومنهم دُون أهل ذلك الصلاح ، ليعتدلَ التقسيم ، وإن أُشير به إلى الجماعة ، أي : ومنهم دون أولئك الصالحين ، فلا حاجة إلى تقدير مضافٍ؛ لاعتدار التقسيم بدونه .
وقال أبو البقاء : دُون ذلِكَ ظرفٌ أو خبر على ما ذكرنا في قوله :
{ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] وفيه نظر من حيث إن « دُونَ » ليس بخبر .
قوله : { وَبَلَوْنَاهُمْ بالحسنات } أي : عاملناهم معاملة المبتلى المختبر بالحسناتِ ، وهي : النِّعمُ والخصبُ ، والعافيةُ ، والسَّيِّئاتِ وهي الجدب ، والشَّدائدُ .
قال أهل المعاني : وكُلُّ واحدةٍ من الحسناتِ والسيئاتِ تدعُو إلى الطَّاعة ، أمَّا النعم فللترغيب ، وأمَّا النِّقَمُ فللترهيب .
{ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } : لكي يندموا ويتوبوا ويرجعوا إلى طاعة ربِّهم .
قوله : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب } الآية .
الخَلَف والخَلْف - بفتح اللام وإسكانها - هل هما بمعنىً واحد؟ أي : يُطلقُ منهما على القرن الذي يَخْلُف غيره صالحاً أو طالحاً ، أو أنَّ السَّاكن اللام في الطَّالح ، اولمفتوح في الصَّالح؟ خلافٌ مشهور بين اللُّغويين .
قال الفرَّاءُ : يُقال للقرنِ « خَلْف » يعني ساكناً ولمن استخلفته : خَلَفاً ، يعني : متحرك اللاَّم .
وقال الزجاج : الخلفُ ما أخلْفَ عليك بدلاً مِمَّا أخذ منك؛ فلهذا السبب يقالُ للقرنِ يجيء بعد القرنِ « خَلْفٌ » .
وقال ثعلبُ : النَّاسُ كلُّهم يقولون « خَلَفُ صدْقٍ » للصَّالح ، و « خَلْفُ سوء » للطَّالح؛ وأنشد : [ الكامل ]
2626- خَلَّفْتَ خَلْفاً ولمْ تدعْ خَلَفَا ... لَيْتَ بِهِمْ كانَ لا بِكَ التَّلَفَا
وقال بعضهم : قد يجيء في الرَّديء « خَلَفَ » بالفتح ، وفي الجيد « خَلْف » بالسُّكُون ، فمن مجيء الأول قوله : [ المتقارب ]
2608 - . . ... إلى ذلِك الخَلَفِ الأعوَرِ
_@_ومن مجيء الثاني قول حسان : [ الطويل ]
2609 - لَنَا القدَمُ الأولى عليْهِمْ وخَلْفُنَا ... لأوَّلِنَا في طاعةِ اللَّهِ تَابِعُ
وقد جمع بينهما الشَّاعِرُ في قوله : [ الرجز ]
2610 - إنَّا وَجدْنَا خَلْفنَا بِئْسَ الخَلَفْ ... عَبْداً إذا ما نَاءَ بالحِمْلِ خَضَفْ
فاستعمل السَّاكن والمتحرك في الرَّديء .
ولهذا قال النَّضْرُ : يجوزُ التَّحريم والسُّكونُ في الرَّديء ، فأمَّا الجيدُ فبالتحريك فقط ووافقه جماعةٌ من أهْلِ اللُّغة ، إلاَّ الفرَّاء وأبا عبيدٍ ، فإنَّهُمَا أجازا السكون في الخلف المراد به الصالح ، و « الخَلْف » بالسُّكون فيه وجهان ، أحدهما : أنَّهُ مصدر ، ولذلك لا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ ولا يُؤنَّث ، وعليه ما تقدَّم من قوله :
2611 - إنَّا وَجَدُنَا خَلْفَنَا بئس الخَلَفْ ... وإمَّا اسم جمع « خالفِ » ك : رَكْب لراكب ، وتَجْر لِتَاجِرٍ .
وإمَّا اسم جمع « خالِف » ك : رَكْب لراكب ، وتَجْر لِتَاجِرٍ .
قاله ابنُ الأنباري : ورَدُّه عليه ، بأنَّهُ لو كان اسمَ جمع لم يَجْرِ على المفرد ، وقد جرى عليه واشتقاقه إمَّا من الخلافةِ ، أي كُلُّ خلفٍ يَخْلُفُ من قبله ، وإمَّا من خلفَ النبيذ يَخْلُفُ أي : فَسَدَ .
يقال : خَلَفَ النَّبيذُ يَخْلُفُ خَلْفاً وخُلُوفاً ، وكذلك الفَمُ إذا تغيَّرت رائحتُهُ ومن ذلك الحديث « لَخُلُوفُ فمِ الصَّائم » .
وقوله : « وَرِثُوا » في محل رفع نعتاً ل « خَلْف » ويَأخُذُونَ حال من فاعل وَرِثُوا .
وقرأ الحسنَ البصري : وُرِّثُوا بضمِّ الواو وتشديد الرَّاءِ مبنيّاً لما لم يُسَمَّ فاعله ، والمعنى انتقل إليهم الكتابُ من آبائهم وهو التَّوراةُ ، ويجوز أن يكون : يَأخُذُونَ مستأنفاً أخبر عنهم بذلك .
وقوله : عَرَضَ هذَا الأدْنَى .
قال أبُو عبيدٍ : جميع متاعِ الدُّنْيَا عرض بفتح الرَّاء .
يقال : « الدُّنيا عرضٌ حاضرٌ يأكل منها البرُّ والفاجِرُ » . وأما العَرَْ بسكون الرَّاء فما خالف الثَّمين ، أعني الدَّراهم والدَّنانير وجمعه عروض ، فكان العَرْضُ من العَرَض وليس كل عَرَضٍ عَرْضاً . والمعنى : حُطَامُ هذا الشَّيء الأدْنَى يريد الدُّنْيَا ، والمرادُ منه : التَّخسيس والتَّحقير ، والأدْنَى إمَّا من الدُّنوِّ بمعنى القرب؛ لأنَّهُ عاجل قريب ، وإمَّا من دنوِّ الحالِ وسقوطها . وتقدَّم الكلامُ عليه .
قوله ويَقُولُونَ نسقٌ على يَأخذُونَ بوجهيه ، وسَيُغْفَرُ معموله ، وفي القائم مَقَام فاعله وجهان : أحدهما الجَاُّ بعده وهو « لَنَا » والثاني : أنَّهُ ضمير الأخْذِ المدلول عليه بقوله يَأخُذُونَ أي : سيغفرُ لنا أخذُ العرض الأدْنَى .
قوله : { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ } هذه الجملة الشَّرطية فيها وجهان :
أظهرهما : أنَّها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب .
والثاني : أنَّ الواوَ للحال ، وما بعدها منصوبٌ عليها .
قال الزمخشري : الواو للحال ، أي : يَرْجُون المغفرة وهم مُصِرُّون عائدون إلى فعلهم غير تائبين ، وغفرانُ الذُّنُوب لا يصحُّ إلاَّ بالتَّوبةِ ، والمُصِرُّ لا غفران له انتهى . وإنَّما جعل الواو للحال لهذا الغرض الذي ذكره من أن الغُفران شرطه التَّوبة ، وهو رأي المعتزلة وأمَّا أهْلُ السُّنَّة : فيجوز مع عدم التوبة ، لأنَّ الفاعل مختار .
والعَرَض - بفتح الراء - ما لا ثبات له ، ومنه استعار المتكلمون : العَرَض المقابل للجوهر .
وقال أبو عبيدة : العَرَضُ - بالفتح - جميعُ متاعِ الدُّنيا غير النقدين . كما تقدَّم .
قال المفسِّرون : المراد بالكلامِ : الإخبارُ عن إصرارهم على الذُّنُوبِ .
وقال الحسنُ : هذا إخبارٌ عن حِرصِهِمْ على الدُّنْيا ، وأنهم « يستمتعون » منها .
ثم قال تعالى : { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الكتاب } أي : التَّوراة : { أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق } والمرادُ منعهم عن تحريف الكتاب ، وتغيير الشَّرائع ، لأجل أخذ الرشوةِ .
قوله : { أَن لاَّ يِقُولُواْ } فيه أربعةُ أوجه : أحدها : أنَّ محله رفع على البدل من « مِيثَاقُ » ؛ لأن قول الحقّ هو ميثاق الكتاب .
والثاني : أنَّهُ عطفُ بيان له وهو قريب من الأوَّلِ .
والثالث : أنه منصوبٌ على المفعول من أجله .
قال الزمخشريُّ : وإنْ فُسِّرَ ميثاق الكتاب بما تقدَّم ذكره كان : « ألاَّ يقُولُوا » مفعولاً من أجله ومعناه : لئلا يقولوا وكان قد فسَّر ميثاق الكتاب بقوله في التوراة : « من ارتكب ذَنْباً عَظِيماً فإنَّه لا يُغفر له إلا بالتَّوبة » ، و « أنْ » على هذه الأقوالِ الثلاثة مصدرية .
الرابع : أنَّ « أنْ » مفسرة ل « مِيثَاقُ الكتابِ » ؛ لنَّهُ بمعنى القولِ ، و « لا » ناهية ، وما بعدها مجزوم بها ، وعلى الأقوال المتقدِّمة « لا » نافية ، والفعلُ منصوبٌ ب « أنْ » المصدرية و « الحَقَّ » يجوز أن يكون مفعولاً به ، وأن يكون مصدراً ، وأضيفَ الميثاقُ للكتابِ؛ لأنَّهُ مذكورٌ فيه .
قوله : « ودَرَسُوا » فيه ثلاثةُ أوجه ، أظهرُها ما قاله الزمخشريُّ : وهو كونُه معطوفاً على قوله : « ألَمْ يُؤخَذْ » ؛ لأنَّهُ تقرير .
فكأنه قيل : أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ، نظيره قوله تعالى : { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } [ الشعراء : 18 ] معناه : قد رَبَّيْنَاك ولَبِثْتَ .
والثاني : أنَّهُ معطوف على « وَرِثُوا » .
قال أبُو البقاءِ : ويكونُ قوله ألَمْ يُؤخَذْ معترضاً بينهما وهذا الوجه سبقه إليه الطَّبري وغيره .
الثالث : أنه على إضمار « قَدْ » والتقدير : وقد درسوا . فهو على هذا منصوب على الحال نسقاً على الجملة الشرطية ، أي : يقولون : سَيُغْفَرُ لنا في هذه الحال ، ويجوز أن يكون حالاً من فاعل : « يَأخُذُوهُ » أي يأخذون العرضَ في حال دَرْسِهم ما في الكتاب المانع من أخذ الرِّشَا وعلى كلا التقديرين فالاستفهامُ اعتراض .
وقرأ الجحدري : أن لا تقُولُوا بتاء الخطابِ ، وهو التفاتٌ حسنٌ .
وقرأ علي - رضي الله عنه - وأبو عبد الرحمن السلمي وادَّارَسُوا بتشديد الدَّالِ ، والأصلُ : تَدَارَسُوا وتصريفه كتصريف { فادارأتم فِيهَا } [ البقرة : 72 ] وقد تقدم .
ثم قال تعالى : { والدار الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } أي : من تلك الرَشوة الخبيثة المحقرة « فلا تَعْقِلُونَ » . وقد تقدَّم الكلام على هذه الهمزة والفاء غير مرة .
وقرأ ابنُ عامرٍ ونافعٌ وحفصٌ تَعْقِلُونَ بالخطابِ ، والباقون بالغيبة ، فالخطابُ يحتمل وجهين : أحدهما : أنه التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب ، والمرادُ بالضَّمائر حينئذٍ شيءٌ واحد .
والثاني : أنَّ الخطابَ لهذه الأمَّةِ ، أي : أفلا تعلقون أنتم حال هؤلاء وما هم عليه وتتعَجَّبُونَ من حالهم . وأمَّا الغيبةُ فجرى على ما تقدَّم من الضَّمائر ، ونقل أبو حيان أنَّ قراءة الغيبة لأبي عمرو وأهل مكَّة ، وقراءة الخطاب للبقاقين .
قوله : « والَّذينَ يُمَسِّكُون » : فيه وجهان : أظهرهما : أنَّهُ مبتدأ ، وفي خبره حينئذ وجهان : أحدهما : الجملة من قوله { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين } وفي الرَّابط حينئذ أقوال :
أحدها : أنَّهُ ضميرٌ محذوف لفهم المعنى ، والتقدير : المُصْلحين منهم ، وهذا على قواعد جمهور البصريين ، وقواعد الكوفيين تقتضي أنَّ « ألْ » قائمةٌ مقام الضمير ، تقديره : أجْرَ مَصْلحيهمْ؛ كقوله : { فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى } [ النازعات : 41 ] أي : مَأواهُ ، وقوله { مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب } [ ص : 50 ] أي : أبوابُها ، وقوله : { في أَدْنَى الأرض } [ الروم : 3 ] أي : أرضهم ، إلى غير ذلك .
والثاني : أنَّ الرَّابطَ تكرُّرُ المبتدأ بمعناه ، نحو : زيد قام أبو عبد الله ، وهو رأي الأخفش ، وهذا كما يُجيزه في الموصول ، نحو : أبُو سعيدٍ الذي رويتُ عنه الخُدريُّ ، والحجَّاجُ الذي رأيْتُ ابنُ يُوسُفَ ، وقد تقدَّم من ذلك شواهدُ .
الثالث : أنَّ الرَّابط هو العموم في « المُصْلحينَ » قاله أبُو البقاء .
قال : « وإن شئْتَ قلت : لمَّا كان المصلحون جنساً والمبتدأ واحد منه استغنيت عن ضمير » .
قال شهاب الدين : العمومُ ربطٌ من الروابط الخمسة؛ وعليه قول الشاعر : [ الطويل ]
2612 - ألاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ إلَى أمِّ سالمٍ ... سَبِيلٌ؟ فأمَّا الصَّبْرُ عَنْهَا فَلاَ صَبْرا
ومنه : نعم الرجُ زيدٌ ، على أحد الأوجه :
والوجه الثاني - من وجهي الخبر - : أنَّهُ محذوف ، تقديره : والذين يمسكون مأجورون ، أو مثابُونَ ونحوه .
وقوله تعالى : { إِنَّا لاَ نُضِيعُ } جملة اعتراضية ، قاله الحوفيُّ . ولا ضرورة تدعو إليه .
الثاني من وجْهَيْ « الذينَ يُمَسِّكُون » : أنَّه محل جر نسقاً على : « الَّذين يَتَّقُونَ » أي : والدّار الآخرةُ خير للمتقين ، وللمتمسكين ، قاله الزمخشريُّ .
إلاَّ انه قال : ويكون قوله : { إنَّا لا نُضيعُ } اعتراضاً سيق لتأكيد ما قبله . وفيه نظرٌ؛ لأنَّه لَمْ يقعْ بين شيئين متلازمين ولا بين شيئين بينهما تعلُّقٌ معنويُّ ، فكان ينبغي أن يقول : ويكون على هذا مستأنفاص .
وقرأ العامَّةُ « يُمَسِّكُونَ » بالتشديد مِنْ « مَسَّك » بمعنى « تَمَسَّكَ » حكاه أهلُ التصريف أي : إنَّ : « فَعَّلَ » بمعنى « تفَعَّل » ، وعلى هذا فالباءُ للآلة ، كهي في « تَمَسَّكْتُ بالحبل » .
يقال : مَسَّكْتُ بالشَّيء ، وتَمَسَّكْتُ ، واسْتَمْسَكْتُ به ، وامتسَكْتُ به .
وقرأ أبو بكر عن عاصم ، ورويت عن أبي عمرو وأبي العالية « يُمْسِكُونَ » بسكون الميم وتخفيف السين من « أمْسَكَ » وهما لغتان يقال : مَسَكْتُ ، وأمْسَكْتُ .
وقد جمع كعبُ بنُ زهير بينهما في قوله : [ البسيط ]
2613 - ولا تُمَسِّكُ بالعهدِ الذي زَعَمَتْ ... إلاَّ كَمَا تُمْسِكُ الماءَ الغَرَابِيلُ
ولكن « أمْسَك » مُتعدٍّ .
قال تعالى : { وَيُمْسِكُ السمآء } [ الحج : 65 ] فعلى هذا مفعوله محذوف ، تقديره : يُمسِكون دينهم وأعمالهم باكتاب ، فالباء يجوزُ أن تكون للحال وأن تكون للآلة أي مصاحبين للكتابِ ، أي : لأوامره ونواهيه .
وحجة عاصم قوله تعالى : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } [ البقرة : 229 ] ، وقوله : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } [ الأحزاب : 37 ] ، وقوله : { فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } [ المائدة : 4 ] .
قال الواحديُّ : والتشديدُ أقوى؛ لأنَّ التشديد للكثرة ، وههنا أريد به الكثرة؛ ولأنَّهُ يقال : أمسكته ، وقَلَّمَا يقال : أمسكت به .
وقرأ عبد الله والأعمش : « اسْتَمْسَكُوا » ، وأبي : « تَمَسَّكُوا » على الماضي ، وهو جيّد لقوله تعالى : { وَأَقَامُواْ الصلاة } إذ قل ما يعطف على مستقبل إلاَّ في المعنى .
فصل
أراد والذين يعملون بما في الكتاب .
قال مجاهدٌ : هم المؤمنون من أهل الكتاب ك : عبد الله بن سلام وأصحابه تمسَّكوا بالكتاب الذي جاء به موسى ، فلم يحرفوه ولم يكتموه ولم يتخذوه مكلةً .
وقال عطاء : أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
{ وَأَقَامُواْ الصلاة إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين } أي : لا نضيع أجرهم ، كقوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } [ الكهف : 30 ] .
فإن قيل : التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة ، ومنها إقامة الصلاة فكيف أفردها بالذِّكر؟ فالجوابُ : أفردها لعلو مرتبتها ، فإنَّهَا أعظم العبادات بعد الإيمان .
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
قوله تعالى : { وَإِذ نَتَقْنَا الجبل } الآية .
قال أبو عبيدة : النَّتْقُ : قلعُ الشيء من موضعه ، والرَّمْيُ به ، ومنه : نَتَقَ ما في الجراب إذا نفضه فرمى ما فيه ، وامرأة ناتِقٌ ، ومِنْتَاقٌ : إذا كانت كثيرة الولادة ، وفي الحديث : « عليْكُمْ بزواج الأبْكارِ ، فإنَّهُنَّ أطْيَبُ أفواهاً ، وأنْتَقُ أرْحاماً ، وأرضى باليسَيرِ » .
وقيل : النتَّق : الجَذْبُ بشدة . ومنه : نتقْتُ السِّقَاءِ إذا جذبْتَهُ لتقتلعَ الزُّبدْةَ من فم القرية .
قال الفرَّاءُ : « هو الرفعُ » وقال ابن قتيبة : الزَّعْزَعَةُ ، وبه فَسَّرَهُ مجاهد .
وقال النَّابغة : [ الكامل ]
2614 - لَمْ يُحْرَمُوا حُسنَ الغذَاءِ وأمَّهُمْ ... طَفَحَتْ عليْكَ بِنَاتِقٍ مِذْكَارِ
وكلُّها معانٍ متقاربة .
قوله : « فَوقَهُمْ » فيه وجهان :
أحدهما : هو متعلِّقٌ بمحذوف ، على أنَّه حال من الجَبَل وهي حالٌ مقدرة؛ لأنَّ حالةَ النَّتْق لم تكن فوقهم ، لكن بالنَّتْق صار فوقهم .
والثاني : أنه ظرفٌ ل : نَتَقْنَا قاله الحوفيُّ وأبو البقاءِ .
قال أبو حيان : ولا يمكن ذلك ، إلاَّ أن يُضَمَّن معنى فِعْلِ يمكن أن يعمل في فَوقَهُمْأي : رفعنا بالنَّتْقِ الجبل فوقهم ، فيكون كقوله : { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور } [ النساء : 154 ] . فعلى هذا يكون فَوقَهُمْ منصوباً ب « نتق » لا بمعنى رفع .
قوله : « كأنَّهُ ظُلَّةٌ » في محل نصبٍ على الحالِ من « الجَبَل » أيضاً فتتعدَّد الحال .
وقال مكيٌّ : هي خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو كأنه ظُلَّة وفيه بُعد . والظُّلَّة : كل ما أظلك . قال عطاءٌ : سقيفة .
قوله وَظَنُّوا فيه أوجه :
أحدها : أنَّهُ في محل جرٍّ نسقاً على نَتَقْنَا المخفوض بالظَّرف تقديراً .
والثاني : أنه حال و « قد » مقدرةٌ عند بعضهم ، وصاحبُ الحالِ إمَّا : الجبل أي : كأنَّهُ ظُلَّةٌ في حال كونه مظنوناً وقوعه بهم ، ويضعف أن يكون صاحبُ الحال : هُمْ في : فَوْقَهُمْ .
الثالث : أنه مستأنف ، فلا محلَّ له ، والظنُّ هنا على بابه .
قال أهل المعاني : قوي في نفوسهم ويجوز أن يكون بمعنى اليقين .
قال المفسِّرُون : علموا وأيقنوا أنَّهُ واقع بهم والباء على بابها أيضاً .
قيل : ويجوز أن تكون بمعنى « على » .
قوله : { خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ } أي :
وقلنا لهم خذوا ما أتيناكم بقوة بجد واجتهاد .
روي أنهم لمَّا أبوا قبول أحكام التوراة لثقلها رفع الله الطور على رءوسهم مقدار عسكرهم وكان فرسخاً في فرسخ .
وقيل لهم إن قبلتموها بما فيها وإلاَّ ليقعن عليكم ، فلمَّا نظروا إلى الجبل خَرَّ كل واحد منهم ساجداً على جانبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى خوفاً من صوطه ، فلذلك لا ترى يهوديّاً سجد إلا على جانبه الأيسر ، ويقولون : هي السَّجدة التي رفعت نَّ بها العقوبة .
قوله واذكُرُوا العامَّةُ على التخفيف أمْراً من : ذَكَرَ يَذْكُرَ : والأعمش واذَّكَرُوا بتشديد الذال من الأذّكار ، والأصل : اذتكرُوا ، والاذتكار ، تقدم تصريفه .
وقرأ ابن مسعود تذكَّرُوا من : « تذكَّر » بتشديد الكاف .
وقرىء وتذَّكَّرُوا بتشديد الذال والكاف والأصل : ولتتذكَّرُوا فأدغمت التاء في الذال ، وحُذِفِتْ لامُ الجزم كقوله : [ الوافر ]
2615 - مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ .. . . .
فصل
قال ابنُ عبَّاس وغيره : لمَّا أخذ موسى الألواح وأتى بها إلى بني إسرائيل ، وفيها التوراة أمرهم بقبولها ، والأخذ بها بوة .
فقالوا : انشرها علينا ، فإن كانت أوامرها ونواهيها سهلة قبلناها .
فقال : بل اقبلوها بما فيها فراجعوه مراراً ، فأمر اللَّهُ الملائكة ، فرفعوا الجبل على رءوسهم حتى صار كأنَّهُ ظُلَّةٌ أي : غمامة فوق رءوسهم .
وقيل لهم إن لم تقبلوها بما فيها وإلاَّ سقط هذا الجبلُ عليكم؛ فقبلوها ، وأمروا بالسُّجود؛ فسجدوا وهم ينظرون إلى الجبل بشق وجوههم فصارت سنة اليهودِ إلى اليوم .
ويقولون : لا سَجْدَةَ أعظم من سجدةٍ رفعت عنا العذاب .
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني آدَمَ } الآية .
قال المفسِّرون : روى مسلم بنُ يسار الجهني أن عمر - رضي الله عنه - سُئِلَ عن هذه الآية ، فقال : « سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسألُ عنها ، فقال : إنَّ الله تعالى خلق آدَم ثُمَّ مَسحَ ظهرَهُ؛ فاستخرَجَ منهُ ذُرِّيَةً فقال : خَلقْتُ هؤلاء للجنَّةِ وبعمل أهْلِ الجنَّةِ يَعْمَلُونَ ، ثُمَّ مَسَحَ
ظهرَهُ واستَخرَجَ منه ذرِّيَّةً ، فقال : هؤلاء للنَّارِ وبعمل أهلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ .
فقال رجل : يا رسول الله : ففيم العمل؟
فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : » إنَّ اللَّه بتارَكَ وتعَالَى إذا خَلقَ العبْدَ للجنَّةِ استعملَهُ بعملِ أهْلِ الجنَّةِ حتَّى يمُوتَ على عملٍ مِنْ أعْمالِ أهْلِ الجنَّةِ فيدخله الله الجنَّة ، وإذا خلق اللَّهُ العبدَ للنَّارِ استعملهُ بعملِ أهْلِ النَّارِ حتَّى يمُوتَ على عملِ أهلِ النَّارِ ، فيدخلهُ اللَّهُ النَّار « وهذا حديثٌ حسن ، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر ، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم وعمر رجلاً .
وقال مقاتل وغيره : إنَّ الله مسحَ صفحةَ ظهر آدمَ اليمنى فأخرج منه ذريةً بيضاء كهيئة الذر ثم مسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذريةً سوداء كهيئة الذَّرِّ ، فقال يا آدم هؤلاء ذريتك . ثم قال لهم ألسْتُ بربكُمْ قالُوا بلى . فقال للبيض هؤلاء للجنَّة برحمتي ، وهم أصحاب اليمين . وقال للسود هؤلاء للنَّار ، ولا أبالي ، وهم أصحاب الشِّمالِ ، ثمَّ أعادهم جميعاً في صلب آدم فأهلُ القبورِ محبوسون حتَّى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلابِ الرجالِ ، وأرحام النِّساءِ .
قال تعالى يمن نقض العهد : { وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ } [ الأعراف : 102 ] الآية . وإلى هذا القول ذهب سعيدُ بنُ المسيب ، وسعيد بن جبير ، والضَّحَّاكُ ، وعكرمة والكلبي .
وقال بعض أهل التفسير : إن أهل السَّعادَةِ أقَّرُّوا طوعاً وقالوا » بَلَى « ، وأهل الشقاوة قالُوه تقيةً وكرهاً . وذلك معنى قوله : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً } [ آل عمران : 83 ] .
واختلفوا في موضع الميقاق .
قال ابن عباس : ببطن نعمان ، وهو وادٍ إلى جنب عرفة وروي عنه أنه بدَهْنا في أرض الهندِ ، وهو الموضعُ الذي هبط آدم عليه .
وقال الكلبيُّ : بين مكة والطائف .
وروى السُّدي : أن الله أخرجهم جميعاً ، وصورهم وجعل لهم عقولاً يعلمون بها ، وألسناً ينطقون بها ، ثمَّ كلمهم قبلاً أي : عياناً ، وقال » ألسْتُ بِرِبِّكُمْ « ؟ .
وقال الزَّجَّاجُ : وجائز أن يكون الله تعالى جعل لأمثال الذّر فَهْماً تعقل به كما قال تعالى : { قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ } [ النمل : 18 ] .
قال القرطبيُّ : قال ابنُ العربيُّ : فإن قيل : فكيف يجوز أن يُعذِّبَ الله الخلق قبل أن يذنبوا ، أو يعاقبهم على ما أراده منهم وكتبه عليهم؟
قلنا : ومن أيْنَ يمتنع ذلك ، عقلاً أو شرعاً؟
فإن قيل : إن الرحيم الحكيم مِنَّا لا يجوز أن يفعل ذلك .
قلنا : لأن فوقه آمراً يأمره وناهياً ينهاه ، وربنا تعالى لا يسألُ عمَّا يفعل وهم يُسألُونَ ، ولا يجوز أن يقاس الخلق بالخَالقِ ، وبالحقيقة فإن الأفعال كلها لله تعالى ، والخلقُ بأجمعهم له ، يصرفهم كيف يشاء ويحكُم فيهم بما أراد ، وهذا الذي يجدُهُ الآدميّ فإنَّما هو من رقة الجبلَّةِ ، وشفقة الجنسيَّةِ وحُبِّ الثَّناءِ والمدح ، والباري تعالى منزَّهٌ من ذلك .
وأطبقت المعتزلةُ على أنَّهُ لا يجوزُ تفسير هذه الآية بهذا الوجه ، واحْتَجُّوا على فساده بوجوه :
الأول : قالوا إن قوله : { مِن بني آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ } [ الأعراف : 172 ] ف « مِنْ ظُهُورهمْ » بدلٌ من قوله « بَنِي آدمَ » فيكون المعنى : وإذْ أخذ ربُّكَ من ظُهورِ بَنِي آدَمَ ، وعلى هذا التقدير : فلم يذكر الله تعالى أنه أخذ من ظهر آدم شيئاً .
الثاني : لو كان المراد أنه تعالى أخرج من ظهر آدم ذرية لما قال : « مِنْ ظُهورِهمْ » بل قال : من ظهره؛ لأنَّ آدم ليس له إلا ظهر واحد ، وكذلك قوله : « ذُريَّتَهُمْ » ولو كان المرادُ آدم لقال : ذُرّيته .
الثالث : أنَّهُ تعالى حكى عن أولئك الذُّريَّةِ أنهم قالوا : { إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ } [ الأعراف : 173 ] وهذا لا يليق بأولاد آدم؛ لأنَّهُ عليه الصَّلاة والسَّلام ما كان مشركاً .
الرابع : أنَّ أخذ الميثاق لا يمكن إلاَّ من العاقِلِ ، ولو كان أولئك الذر عقلاء ، وأعطوا ذلك الميثاق حال عقلهم لوجب أن يتذكروا في هذا الوقت أنهم أعطوا الميثاق قبل دخولهم في هذا العالم؛ لأن الإنسان إذا وقعت له واقعة عظيمة فإنَّهُ لا يجوزُ مع كونه عاقلاً أن ينساها نسياناً كليّاً لا يتذكر منها قليلاً ولا كثيراً ، وبهذا الدليل يبطلُ القول بالتَّناسخ؛ لأنَّا نقولُ لو كانت أرواحنا قد جعلت قبل هذه الأجساد في أجساد أخرى ، لوجب أن نتذكَّرَ الآن أنا كنا قبل هذا الجسد في جسد آخر ، وحيثُ لم نتذكر كان القول بالتَّناسخ باطلاً .
وهذا الدليل بعينه قائم في هذه المسألة فوجب القول بمقتضاه ، فلو جاز أن يقال : إنَّا كنا في وقت الميثاق أعطينا العهد مع أنَّا في هذا الوقت لا نتذكر شيئاً منه ، فلمَ لا يجوز أيضاً أن يقال : إنَّا كنَّا قبل هذا البدن في بدن آخر مع أنا في هذا البدن لا نتذكر شيئاً من تلك الأحوال .
الخامس : أن البنية شرط لحصول الحياة والعقل والفهم ، إذ لو لم يكن كذلك لم يبعد في كل ذرَّة من ذرات الهباء أن تكون عاقلاً فاهماً مصنفاً للتَّصانيف الكثيرة في العلوم الدَّقيقة ، وفتح هذا الباب يؤدِّي إلى التزام الجماداتِ ، وإذا ثبت أن هذه البنية شرط لحصول الحياة ، فكل واحد من تلك الذّرات لا يمكن أن يكون عاقلاً عالماً فاهماً إلاَّ إذا حصلت له بنية وحمية ، وإذا كان كذلك فمجموع تلك الأشخاص الذين خرجوا إلى الوجودِ من أول تخليق آدم إلى قيام القيامة لا تحويهم عرصة الدنيا ، فكيف يمكن أن يقال إنَّهم بأسرهم حصلوا دفعة واحدة في صلب آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - .
السادس : قالوا باطلٌ لانعقاد الإجماع على أن بسبب ذلك القدر من المثاق لا يصيرون مستحقّين للثواب والعقاب ، ولا يجوز أن يكون المطلوب منه أن يصير ذلك حجة عليهم عند دخولهم في الدنيا ، لأنهم لمَّا لم يذكروا ذلك الميثاق في الدنيا فكيف يصير عليهم حجة في التمسك بالإيمان .
السابع : قال الكعبيُّ : إن حال أولئك الذّر لا يكونُ أعلى في الفهم والعلم من حال الأطفال ، فلمَّا لم يمكن توجيه التَّكاليف على الطِّفل ، فكيف يمكن توجيهه على أولئك الذّرِّ؟
وأجاب الزَّجَّاج عنه بما تقدَّم من تشبيهه بقصة النَّملة ، وأيضاً لا يبعدُ أن يعطي اللَّهُ الجبل الفهم حتى يسبح ، كما قال : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ } [ الأنبياء : 79 ] وكما أعطى اللَّهُ العقل للبعير حتَّى سجد للرَّسُول ، وللنَّخْلَةِ حتى سمعت وانقادت حين دعيت فكذا هَهُنَا .
الثامن : أن أولئك الذّر في ذلك الوقت إمّا أن يكون كاملي العقول أم لا ، فإن كان الأوَّلُ كانوا مكلفين لا محالة ، وإنما يبقون مكلفين إذا عرفوا الله تعالى بالاستدلال ولو كانوا كذلك لما امتازت أحوالهم في ذلك الوقت على أحوالهم في هذه الحياة الدُّنْيَا ، فلو افتقر التكليف في الدُّنيا إلى سبق ذلك الميثاق؛ لافتقر التكليف في وقت ذلك الميثاق إلى سبق ميثاق آخر ولم التَّسلسل وهو محال .
وإن قيل : إنَّهُمْ ما كانوا كاملي العقول في ذلك الوقت ، فيمتنع توجيه الخطاب والتَّكليف عليهم .
التاسع : قوله تعالى : { فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ } [ الطارق : 5 - 6 ] ولو كانت تلك الذَّرات عقلاء فاهمين لكانوا موجودين قبل هذا الماء الدَّافق ، ولا معنى للإنسان إلاَّ ذلك الشيء فحينئذٍ لا يكون الإنسان مخلوقاً من الماء الدَّافق وذلك رد لنصِّ القرآن .
فإن قالوا : لِمَ لا يجُوزُ أن يقال إنَّهُ تعالى خلقه كامل العقل والفهم والقدرة عند الميثاق ثم أزال عقله وفهمه وقدرته؟ ثم إنه خلقه مرة أخرى في رحم الأم وأخرجه إلى الحياةِ؟
قلنا : هذا باطل؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لما كان خلقه من النطفة خلقاً على سبيل الابتداء بل يجب أن يكون خلقاً على سبيل الإعادة ، وأجمع المسلمون على أنَّ خلقه من النطفة هو الخلق المبتدأ ، فبطل ما ذكرتموه .
العاشر : أن تلك الذَّرات إمَّا أن تكون عين هؤلاء الناس أو غيرهم ، والثاني باطل بالإجماع بقي الأول .
فنقولُ : إمَّا أن يُقالَ إنَّهم بقوا فهماء عقلاء قادرين حال ما كانوا نطفه وعلقة ومضغة أو ما بقوا كذلك ، والأوَّلُ باطلٌ ببديهة العقل .
والثاني : يقتضي أن يقال إن الإنسان حصلت له الحياة أربع مرات : وقت الميثاق ، وفي الدُّنْيَا ، وفي القبر ، وفي القيامةِ وأنه حصل له الموت ثلاث مرات : بعد الحياة الحاصلة من الميثاق الأولِ ، وموت في الدُّنيا وموت في القبر ، وهذا العدد مخالف للعدد المذكور في قوله تعالى : { رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين } [ غافر : 11 ] .
الحادي عشر : لو كان القولُ بهذا الذَّرِّ صحيحاً لكان ذلك الذَّر هو الإنسان؛ لأنَّهُ هو المكلَّف المخاطب المثاب المعاقب ، وذلك باطلٌ؛ لأنَّ ذلك الذّر غير مخلوق من النطفة والعلقة ، والمضغة ، والقرآن يدلُّ على أنَّ الإنسان خلق من النُّطفةِ ، والعلقة . قال تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] الآيات .
وقوله : { قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ } [ عبس : 17 - 19 ] فهذه الوجوه دلَّتْ على ضعف هذا القول .
وقال أربابُ المعقولات : إنَّ الله تعالى أخرج الذرية وهم الأولاد من صلب آبائهم ، وذلك الإخراج حال كونهم نطفاً ، فأخرجها الله تعالى فأودعها أرحام الأمهَّات ، وجعلها علقة ثم مضغة حتى جعله بشراً سويّاً وخلقا كاملاً ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيَّته ، وغرائب صنعته ، فبالإشهاد صاروا كأنهم قالوا : بلى ، وإن لم يكن هناك قول باللِّسانِ ، ولذلك نظائر منها قوله تعالى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] .
وقال تعالى : { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] .
قول العرب : قال الجدار للوتدِ لِمَ تَشقُّنِي قال : سَلْ مَنْ يَدُقُّنِي .
وقال الشاعر : [ الرجز ]
2617 - امتلأ الحَوْضً وقَالَ قَطْنِي ... مَهْلاً رُوَيْداً قَدْ مَلأتَ بَطْنِي
فهذا النوع من المجاز والاستعارة مشهور في الكلام ، فوجب حمل الكلام عليه ، وهذا القول لا طعن فيه ألبتة ، وليس منافياً لصحة القول الأول .
فصل
قال القرطبيُّ : استدلَّ بهذه الآية على أنَّ مَنْ مات صغيراً دخل الجنَّة لإقراره في الميثاق الأول ومنْ بلغ لمْ يُغنِهِ الميثاق الأول .
قوله « مِنْ ظُهُورهِمْ » بدل من قوله : « مِن بَنِي آدَمَ » بإعادةِ الجارِّ ، كقوله : { لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ } [ الزخرف : 33 ] { لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } [ الأعراف : 75 ] وهل هو بدلُ اشتمال أو بدلُ بعض من كل؟ قولان :
الأول لأبي البقاء ، والثاني للزمخشري ، وهو الظاهر كقولك : ضربتُ زيداً ظهره وقطعتُه يده ، لا يُعْرِب هذا أحد بدل اشتمالٍ ، و « ذُرِّيَتَهُمْ » مفعول به .
وقرأ الكوفيون وابن كثير ذُرِّيتهُمْ بالإفراد ، والباقون « ذُرِّيَّاتهم » بالجمع .
قال أبو حيان : ويحتمل في قراءة الجمع أن يكون مفعولُ « أخذ » محذوفاً لفهم المعنى وذُرِّيَّاتهم بدلٌ من ضمير « ظُهُورِهِمْ » كما أنَّ من ظُهُورِهِمْ بدلٌ من بَنِي آدَمَ والمفعولُ المحذوفُ هو الميثاق كقوله : { وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً } [ النساء : 154 ] .
قال : وتقديرُ الكلامِ : وإذ أخذ ربُّكَ من ظهور ذُرِّيات بني آدم ميثاق التوحيد لله ، واستعارَ أن يكون أخذ الميثاق من الظهر كأن الميثاق لصعوبته والارتباط به شيءٌ ثقيلٌ يحمل على الظَّهْرِ .
وكذلك قرأ الكوفيُّون وابن كثير في سورة يس ، وفي الطُّورِ في الموضعين ذُرِّيَّتَهُم بالإفراد؛ وافقهم أبو عمرو على ما في يس ، وناف وافقهم في أول الطور ، وهي ذُرِّيَّتَهُم بإيمانٍ دون الثانية ، وابن عامر على الجمع ، وأبو عمرو ونافع جمعوا بين الأمرين .
قال أبو حيان في قراءة الإفراد في هذه السُّورةِ : ويتعيَّن أن يكون مفعولاً ب « أخذ » وهو على حذف مضاف ، أي : ميثق ذريتهم . يعني أنه لم يَجُزْ فيه ما جازَ في ذُرِّيَاتهم من أنَّه بدل ، والمفعولُ محذوف وذلك واضحٌ؛ لأنَّ من قرأ : « ذُرِّيَّتَهُمْ » بالإفراد لم يَقْرَأهُ إلاَّ منصوباً ، ولو كان بدلاً من هُمْ في ظُهُورِهِمْ لكان مجرورً ، بخلاف ذُرِّيَّاتهم بالجمع فإنَّ الكسرة تَصْلُح أن تكون علامة للجر وللنصب في جمع المُؤنَّثِ السَّالمِ .
قال الواحديُّ : الذرية تقع على الواحِدِ والجمع ، فمنْ أفردَ فقد استغنى عن جمعه بوقوعه على الجمع كالبشر فإنه يقع على الواحد ، كقوله : { مَا هَذَا بَشَرًا } [ يوسف : 31 ] وعلى الجمع ، كقوله : { أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } [ التغابن : 6 ] { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا } [ إبراهيم : 10 ] فكما لم يجمع « بشر » جمع تصحيح ، ولا تكسير كذلك لا يجمع « الذريَّة » .
ومن جمع قال : إنَّ الذرية وإن كان واحداً فلا إشكال في جواز الجمع فيه ، وإن كان جمعاً فجمعه حسن ، لأنَّ الجموع المكسرة قد معت نحو : الطرقات والجدرات .
قوله : { وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ } .
أمَّا على قولِ مَنْ أثْبَتَ الميثاق الأوَّل فكل هذه الأشياء محمولة على ظواهرها ، وأمَّا من أنكره ، قال : إنَّهَا محمولة على التَّمثيل ، أي : أنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته ، وشهدت بها عقولهم ، فصار ذلك جارياً مجرى ما إذَا أشهدهم على أنفسهم ، وقال لهم : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } . وكأنهم قالوا بلى أنت ربُّنَا .
قوله : « بَلَى » جواب : « ألَسْتُ » .
قال ابنُ عبَّاس : لو قالوا « نَعَمْ » لكفروا ، يريد أنَّ النَّفيَ إذا أجيب ب « نعم » كان تصديقاً له ، فكأنهم أقَرُّوا بأنه ليس بربهم ، هكذا ينقلونه عن ابن عباس .
وفيه نظرٌ - إن صحَّ عنه - وذلك أن هذا النفي صار مُقرَّراً ، فكيف يكفرون بتصديق التقرير؟ وإنَّما المانعُ من جهةِ اللغة ، وهو أنَّ النفيَ مطلقاً إذا قُصدَ إيجابه أجيب ب « بَلَى » وإن كان مقرراً بسبب دخول الاستفهام عليه ، وإنَّما كان ذلك تغليباً لجانب اللفظ ، ولا يجوز مراعاةُ جانب المعنى إلاَّ في شعر ، كقوله : [ الوافر ]
2618 - ألَيْسَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ أمَّ عَمْرٍو ... وإيَّانَا فَذاكَ بِنَا تَدَأنِي
نَعَمْ وأرَى الهلالَ كما تَرَاهُ ... ويَعْلُوهَا النَّهارُ كَمَا عَلانِي
فأجاب قوله ألَيْسَ ب « نَعَمْ » ، مراعاةً للمعنى؛ لأنه إيجاب .
قوله شَهِدْنضا هذا من كلامِ اللَّهِ تعالى ، وقيل : من كلام الملائكة ، لأنهم لمَّا قالوا بَلَى ، قال الله للملائكة : اشهدوا فقال : شهدنا ، وعلى هذا القول يحسن الوقف على قوله : « قالوا بَلَى » لأن كلامَ الذرية قد انقطع ههنا .
وقوله : « أنْ تقُولُوا » أي : لئلا تقولوا { إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ } تقريره : أنَّ الملائكة قالوا شهدنا عليهم بالإقرارِ؛ يقولوا ما أقررنا ، فأسقط كلمة « لِئَلاَّ » كقوله { وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [ النحل : 15 ] ، أي : لئلاَّ تميد بكم . قاله الكوفيون ، وعند البصريين تقديره : شَهِدْنَا كراهة أن تقولوا .
وقيل : من كلام الله تعالى والملائكة .
وقيل : من كلام الذُّريَّةِ ، وعلى هذا فقوله : { أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ } تقديره : وأشهدهم على نفسهم بكذا وكذا لئلاَّ يقولوا يوم القيامة : { إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ } أو كراهية أن يقولوا ذلك .
قال الواحديُّ : وعلى هذا لا يحسن الوقفُ على قوله : بَلَى ولا يتعلَّقُ أن تقوُلُوا ب « شَهِدْنَا » ولكن بقوله : « وأشهدَهُمْ » فلم يجز قطعه عنه .
قوله « أنْ تقُولُوا » مفعولٌ من أجله ، والعامِلُ فيه إمَّا شَهِدْنَا أي : شهدنا كراهة أن تقولوا . هذا تأويل البصريين ، وأما الكوفيون : فقاعدتهم تقدير « لا » النافية ، أي : لئلاَّ تقولوا : كقوله { وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [ النحل : 15 ] .
كما تقدم .
وقول القطامي : [ الوافر ]
2619 - رَأيْنَا مَا يَرَى البُصَرَاءُ فِيهَا ... فَآلَيْنَا عَلَيْهَا أنْ تُبَاعَا
أي : أن لا تُباع ، وأما : « وأشهدَهُمْ » أي : وأشهدهم لئلا يقولوا أو كراهة أن يقولوا ، وقد تقدم أن الواحدي قد قالك إنّ شَهِدْنا إذا كان من قول الذُّريَّةِ يتعيَّنُ أن يتعلَّق أن تقولوا ب « أشْهَدَهُمْ » كأنَّه رأى أن التركيب يصير : شَهِدْنَا أن تقولوا ، سواءً قرىء بالغيبة أو الخطاب ، والشَّاهدُون هم القائلون في المعنى ، فكان ينبغي أن يكون التركيب : شهدنا أن نقول نحن ، وهذا غيرُ لازم؛ لأنَّ المعنى : شهد بعضهم على بعض ، فبعضُ الذرية قال شهدنا أان يقول البعضُ الآخر كذلك .
وذكر الجرجانيُّ عن بعضهم وجهاً آخر : وهو أن يكون قوله : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ } إلى قوله « قَالُوا بَلَى » تمام قصة الميثاق ، ثم ابتدأ عزَّ وجلَّ خبراً آخر بذكر ما يقوله المشركون يوم القيمة ، فقال : « شَهِدْنَا » بمعنى : نشهد؛ كقوله الحطيئة : [ الكامل ]
2620 - شَهِدَ الحُطَيئَةُ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ .. . . .
أي : يشهد ، فيكون تأويله : يَشْهَدُ أن يقولوا .
وقرأ أبو عمرو : « يَقُولُوا » في الموضعين بالغيبةِ ، جرياًعلى الأسماء المتقدمة ، والباقون بالخطاب ، وهذا واضحٌ على قولنا : إنّ شَهِدْنَا مُسْنَدٌ لضمير الله تعالى .
وقيل : على قراءة الغيبة يتعلَّق أن يقولوا ب « أشهدهم » ، ويكون قالوا شِهِدْنَا معترضاً بين الفعل وعلَّته ، والخطابُ على الالتفات ، فتكون الضَّمائر لشيء واحد .
فإن قيل : كيف يلزم الحجة وأحدٌ لا يذكر الميثاقَ؟
فالجوابُ : أن الله تعالى قد أوضح الدَّلائل على وحدانيته وصدق رسله فيما أخبروا ، فمن أنكره كان معانداً ناقضاً للعهد ، ولزمته الحجة ، وبنسيانهم وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر الصادق صاحب المعجزة .
قوله : { أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ } .
قال المفسرون : المعنى أنَّ المقصود من هذا الإِهاد ألاَّ يقول الكفار إنما أشركنا لأنَّ آباءنا أشركوا فقلَّدناهم فكان الذَّنب لآبائنان فكيف تعذبنا على هذا الشرك ، وهو المراد من قوله { أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون } والحاصل : أنه تعالى لمَّا أخذ عليهم الميثاق ، امتنع عليهم التسمك بهذا العذر ، وأمَّا الذين حملوا الآية على أن المراد منه مجرد نصب الدلائل ، قالوا : معنى الآية : إنَّ نصبنا الدلائل وأظهرنا للعقول كراهة أن يقولوا يوم القيامة : { إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ } ما نبَّهنا عليه مُنبِّهٌ ، أو كراهة أنْ يقولوا : إنَّما أشركنا على سبيل التَّقليد لأسلافنا؛ لأنَّ نصب الأدلَّةِ على التَّوحيد قائمٌ مقام منعهم .
ثم قال : { وكذلك نُفَصِّلُ الآيات } أي : أن مثل ما فصَّلنا وبينَّا في هذه الآية بين سائر الآيات ليتدبَّرُوا فيرجعوا إلى الحقّ .
وقرأ فرقة يُفَصِّل بياء الغيبة ، وهو الله تعالى .
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)
قوله تعالى : { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا } الآية .
قال ابنُ عبَّاسٍ وابن مسعود : نزلت هذه الآيةُ في « بلعم بن باعوراء » .
وقال مجاهدٌ : بَلعَامُ ابن باعر .
وقال عطيَّةُ عن ابن عبَّاس : كان من بني إسرائيل .
وروي عن ابن أبي طلحة : أنَّه كان من الكنعانيين من مدينة الجبَّارين .
قال مقاتل : هو من مدينة البَلْقَاءِ ، وذلك أنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - وقومه ، قصد بلده ، وغزا أهله وكانوا كفاراً ، فطلبوا منه أن يدعو على موسى وقومه وكان مجاب الدعوة وعنده اسم الله الأعظم فامتنع منه ، فما زالوا يطلبونه حتى دعا عليه ، فاستجيب له ووقع موسى وبنوا إسرائيل في التّيهِ بدعائه ، فقال موسى : يا رب بأيِّ ذنبٍ وقعنا في التيهِ؟
فقال : بدعاء بلعم ، فقال : كما سمعت دُعاءَهُ عليَّ ، فاسمع دعائي عليه ، ثم دعا موسى عليه الصلاة والسلام أن ينزع منه اسم الله الأعظم والإيمان ، فسلخه اللَّهُ مِمَّا كان عليه ، ونزع منه المعرفة ، فخرجت من صدره حمامة بيضاء .
وقيل : إنَّه كان نبيّاً من أنبياء الله ، دعا عليه موسى ، فنزع اللَّهُ تعالى منه الإيمان ، فصار كافراً وهذا بعيدٌ؛ لقوله تعالى : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] فدلَّ على أنَّهُ تعالى لا يخصُّ عبداً بالرِّسالة إلاَّ إذا علم امتيازه عن سائر العبيد بمزيد المناقب العظيمة ، ومن كانت هذه حالهُ ، كيف يليق به الكفر؟
وقال عبد الله بن عمرو وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم : نزلت في أميَّة بن أبي الصلت وكان قد قرأ الكتب ، وعلم أنَّ الله تعالى مرسل رسولاً في ذلك الوقت ورجا أن يكون هو ، فلمَّا أرسل الله تعالى ، محمداً - عليه الصَّلاة والسَّلام - ، حسدهُ ، ثم مات كافراً ، وكان قد قصد بعض الملوك ، فلمَّا رجع مرَّ على قتلى بدر ، فسأل عنهم ، فقيل له : قتلهم محمد . فقال : لو كان نبيّاً ما قتل أقرباءه ، فلما مات أمية ، أتت أخته فازعةً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن وفاة أخيها فقالت : بينما هو راقدٌ ، أتاه اثنانِ ، فكشفنا سقف البيت ونزلا ، فقعد أحدهما عند رجليه ، والآخر عند رأسه . فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه أوعى؟ قال : وعى . قال : أزكى؟ قال : أبَى ، فسألته عن ذلك فقال : خيرٌ أريد بي؛ فصرف عني ثم غشي عليه ، فلما أفاق قال : [ الخفيف ]
2621 - كُلُّ عَيْشٍ وإنْ تَطاوَلَ دَهْراً ... صَائِرٌ مَرَّةً إلى أنْ يَزُولا
لَيْتَنِي كُنْتُ قَبْلَ ما قَدْ بَدَا لِي ... فِي قلالِ الجِبالِ أرْعَى الوُعُولاَ
إنَّ يَوْمَ الحسابِ يَوْمٌ عظيمٌ ... شَابَ فِيهِ الصَّغيرُ يَوْماً ثَقِيْلاً
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أنشديني شعر أخيك ، فأنشدته بعض قصائده .
فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : آمن شعره وكفر قلبه »
وأنزل اللَّه فيه هذه الآية .
وروي عن ابن عباس نزلت في البسوس رجل من بني إسرائيل ، وكان قد أعطي ثلاث دعوات مستجابات ، وكانت له امرأة له منها ولد ، فقالت : اجعل لي منها دعوة واحدة ، فقال لها : لَكِ منها واحدةٌ ، فما تريدين؟ قالت : ادْعُ اللَّهَ أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل فدعا لها؛ فجلعت أجمل امرأة في بني إسرائيل؛ فلمَّا علمت أنه ليس فيهم مثلها رغبت عنه فغضب الزَّوْجُ فدعا عليها فصارت كلبة نباحة [ فذهبت فيها دعوتان ، فجاء بنوها وقالوا : ليس لنا على هذا إقرار قد صارت أمنا كلبة نباحة ] ، فصار النَّاس يعيروننا بها ، فادع الله أن يردَّهَا إلى حالها الأول ، فدعا الله فعادت كما كانت فذهبت فيها الدَّعوات كلها .
وقيل : نزلت في أبي عامر الرَّاهبِ الذي سمَّاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالفاسق كان يتزهد في الجاهليَّة فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام ، وأمر المنافقين باتَّخاذهم مسجد الضِّرار وأتى قيصر واستنجده على النبي صلى الله عليه وسلم فمات هناك طريداً وحيداً .
وقال الحسنُ ، وابن كيسان ، والأصم نزلت في منافقي أهل الكتاب ، كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم .
وقال عكرمةُ ، وقادة ، وأبو مسلم : هذا عام فيمن عرض عليه الحق فأعرض عنه .
وقوله : « فانسَلَخَ مِنْهَا » .
قال ابن عباس : « آتيْنَاهُ آياتِنَا » أوتي كتاباً من كُتبِ اللَّهِ « فانسَلَخَ مِنْهَا » أي : خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها .
قوله : { فَأَتْبَعَهُ الشيطان } الجمهور على أتبعَهُ رباعياً ، وفيه وجهان : أحدهما : أنه متعدٍّ لواحد بمعنى أدركه ولحقه ، وهو بمالغةٌ في حقه حيث جُعل إماماً للشياطين . ويحتمل أن يكون متعدِّياً لاثنين؛ لأنَّهُ منقولٌ بالهمزة من « تَبع » ، والمفعولُ الثَّاني محذوفٌ تقديره : أتبعه الشيطان خطواتِهِ ، أي : جعله تابعاً لها ، ومِنْ تعدِّيه لاثنين قوله تعالى : { واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ } [ الطور : 21 ] .
وقرأ الحسنُ وطلحةُ بخلاف عنه : فاتَّبَعَهُ بتشديد التاء ، فهل « تبعه » واتبعَهُ بمعنى أو بينهم فرق؟
قيل بكل منهما ، وأبدى بعضهم الفرق بأن « تَبِعه » مشى في أُره ، و « اتَّبعَهُ » إذا وازَاهُ في المشي .
وقيل : « اتَّبعه » بمعنى : استتبعه .
ومعنى الآية : أتبعه الشيطان كفار الإنس وغواتهم أي الشيطان جعل كفار الإنس أتباعاً له .
وقال عبد الله بن مسلم : « فأتبعه الشيطان » . أي : أدركه .
ويقال : تبعت القوم ، إذا لحقتهم .
قال أبو عبيد : يقال : أتبعت القوم مثل : أفعلتُ إذا كانوا قد سبقُوكَ فلحقْتُهُم وقوله { فَكَانَ مِنَ الغاوين } أي : أطاع الشيطان فكان من الضالين .
قوله : { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } الضمير في : رَفَعْنَاهُ الظَّاهر عودُه على الذي أوتي الآيات ، والمجرور عائد على الآيات والتقديرُ : ولو شئنا رفعناه للعمل بها ، أي : رفعناه درجة بتلك الآيات .
قال ابن عباس : لرفعناه بعمله .
وقيل : المنصوب يعودُ على الكفر المفهوم ممَّا سبق ، والمجرور على الآيات ، أي : لرفعنا الكفر بما ترى من الآيات .
قال مجاهد وعطاء .
وقيل : الضمير المجرور يعود على المعصية والمنصوب على « الذي » والمراد بالرفع : الأخذُ ، كما تقول : رُفِعَ الظَّالمُ ، أي قُلِعَ وأهْلِكَ أي : لأهلكناه بسبب المعصية .
وهذه أقوال بعيدة ، ولا يظهر الاستدراك إلاَّ على الوجه الأوَّلِ .
قوله { وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ } « أخْلَدَ » أي : ترامى بنفسه . أي : ركن إلى الدنيا ومال إليها .
قال أهل العربيَّةِ : أصله من الإخلاد ، وهو الدوامُ واللُّزوم ، فالمعنى : لَزِمَ المَيْلَ إلى الأرْضِ قال مالك بنُ نُويرةَ : [ الطويل ]
2622 - بِأبْنَاءِ حَيٍّ مِنْ قبائِلِ مالكٍ ... وعمْرو بنِ يَرْبُوعٍ أقامُوا فأخْلَدُوا
ومنه يقال : أخلد فلان بالمكان ، إذا لزم الإقامة به .
قال ابنُ عبَّاس : يريد مال إلى الدُّنيا .
وقال مقاتل : رَضِيَ بالدُّنيا .
وقال الزجاج : ركن إلى الدُّنيا .
قال الواحديُّ فهؤلاء فَسَّرُوا « الأرض » في هذه الآية بالدنيا؛ وذلك لأنَّ الدنيا هي الأرض؛ لأن ما فيها من القفار والضياع كلها أرض ، وسائر أمتعتها من المعادن والنبات والحيوان يستخرج من الأرض وإنَّما يقوى ويكمل بها ، فالدنيا كلُّها هي الأرض فصلح أن يعبر عن الدُّنْيا بالأرض .
وقوله : « وَاتَّبَعَ هَوَاهُ » أي : أعرض عن التَّمسك بما آتاه اللَّهُ من الآيات واتَّبع الهَوَى ، فلام جرم وقع في هاوية الرَّدَى ، وهذه أشد آية على العلماء؛ لأنه تعالى بعد أن خصَّ هذا الرَّجل بآياته وبيناته وعلمه الاسم الأعظم ، وخصه بالدَّعوات المستجابة ، لما اتبع الهوى انسلخ من الدين وصار في درجة الكلب ، وذلك يدلُّ على أن من كانت نعم الله عليه أكثر ، فإذا أعرض عن متابعة الهدى ، واتَّبع الهوى ، كان بعدهُ عن الله أعظمَ ، وإليه الإشارة بقوله عليه الصَّلاة والسَّلام « من ازدادَ من اللَّهِ عِلْماً ولمْ يزددْ هُدىً لم يَزْددْ مِنَ اللَّهِ إلاَّ بُعْداً »
وقال عليه الصَّلاة والسَّلام « مَا ذِئبَانِ جَائِعَانِ أرْسِلاَ فِي غنمٍ فأفسَد لَهَا مِنْ حرصِ المرءِ على المالِ والسَّرفِ لدينهِ »
قوله : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } ، الجملة الشَّرطيَّةُ في محلِّ نصبٍ على الحال ، أي : لاهثاً في الحالتين .
قال بعضهم : وأمَّا الجملةُ الشَّرطيَّةُ فلا تكادُ تقع بتمامها موضع الحال .
فلا يقال : جاء زيدٌ إن يسأل يُعْط . على الحالِ ، بل لو أريد ذلك لجُعِلت الجملة فلا يقال : جاء زيدٌ إن يسأل يُعط فتكون الجملة الاسمية هي الحال .
نعم قد أوقعو الشَّرطيَّة موقع الجحال ، ولكن بعد أن أخروجُها عن حقيقة الشرط .
وتلك الجملة لا تخلُو من أن يُعطفَ عليها ما ينقاضها ، أو لم يُعْطف ، فالأوَّلُ : يستمرُّ فيه تركُ الواو ، نحو : أتيتك إن أتيتني وإن لم تأتني ، إذ لا يَخْفَى أن النقيضين من الشرطين في مثل هذا الموضع لا يبقيان على معنى الشرط ، بل يتحوَّلان إلى معنى التسوية ، كالاستفهامين المتناقضين في قوله :
{ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } [ البقرة : 6 - يس : 10 ] .
والثاني : لا بدَّ فيه من الواو نحو : أتَيْتُكَ ، وإن لم تأتني؛ لأنَّهُ لو تركت الواو فقيل : أتيتُكَ إن لم تأتني لالتبس ، إذا عُرِفَ هذا فقوله : { إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } من قبيل النوع الأول؛ لأنَّ الحمل عليه ، والتَّرك نقيضان .
والكلبُ يُجْمَعُ في القلَّةِ « أكْلُبٍ » ، وفي الكثرةِ على « كلاتٍ » ، وشذُّوا فجمعوا « أكْلُباً » على « أكَالِب » ، و « كِلاباً » على « كِلابَاتٍ » ، وأمَّا « كَلِيبٌ » فاسم جمعٍ؛ ك « فريق » ، لا جمع ، قال طرفة : [ الطويل ]
2623 - تَعَفَّقَ بالأرْطَى لَهَا وأرَادَهَا ... رِجَالٌ فبذَّتْ نَبْلَهُمْ وكَلِيبُ
وتقدَّمَتْ هذه المادة في المائدة .
ويقال : لَهَثَ يَلْهَثُ بفتح العين في الماضي والمُضارع « لَهَثَاً » ، و « لُهْثاً » بفتح اللام وضمها ، وهو خروج لسانه في حالة راحته وإعيائه ، وأمَّا غيره من الحيوان ، فلا يَلْهَثُ إلاَّ إذا أعيا ، أو عطش ، والذي يظهر أن هذه الجملة الشرطية لا محلَّ لها من الأإعراب ، لأنَّها مفسِّرة للمثل المذكور ، وهذا معنى واضحٌ لقولهم في قوله تعالى : { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] أنَّ الجملة من قوله من تُرابٍ مفِّرة لقوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ } [ آل عمران : 59 ] .
واعلم أنَّ هذا التمثيل ما وقع بجميع الكلابِ ، وإنَّما وقع بالكلبِ اللاَّهِثِ ، وذلك من وجهين : الأول : أنَّهُ شبهه بأخس الحيوانات ، وأخس الحيوانات الكلب ، وأخسَ الكلاب الكلبُ اللاَّهث ، فمن آتاه اللَّهُ العِلْمَ والدِّين فمالَ إلى الدُّنْيا ، وأخْلَدَ في الأرض ، كان مشبهاً بأخس الحيوانات وهُوا الكلبُ اللاَّهثُ ، فإنَّهُ يلهثُ في حال الإعياء ، وفي حالِ الرَّاحةِ ، وفي حال العطش ، وفي حال الرّي ، وذلك عادته الأصليَّة وطبيعته الخسيسة لا لضرورة وحاجة تَدْعُو إلى ذلك فكذلك من آتاه اللَّهُ العلم والدين ، وأغناه عن التَّعرُّض لأوساخ النَّاسِ ، ثم إنَّه يميل في طلب الدُّنْيَا ، ويلقي نفسه فيها ، فحالُهُ كحالِ ذلك اللاَّهث ، حيثُ واظب على الفعل الخسيس القبيح ، بمجرَّد نفسه الخبيثة وطبيعة الخسيسة لا لحاجة وضرورة .
الثاني : أنَّ العالم إذا توسَّل بعلمه إلى طلب الدَّنيا ، فذلك إنَّمَا يكون لأجل أن يورد عليهم أنواع علومه ، ويظهر عندهم فضائل نفسه ومناقبها ، فهُوا عند ذكر تلك العلوم يدلع لسانه ويخرجه لأجل ما تمكَّن في قلبه من حرارة الحرصِ وشدَّة العطشِ إلى الفوز بالدُّنْيَا ، فكانت حاله شبيهةً بحالة ذلك الكلب الذي أخرج لسانه دائماً من غير حاجة ، ولا ضرورة ، بل لمجرَّدِ الطبيعة الخسيسة .
والثالث : أنَّ الكلبَ اللاَّهث لا يزولُ لهثه ألْبتةَ ، فكذلك الإنسان الحريص لا يزول حرصه ألبتة .
قوله : { ذَّلِكَ مَثَلُ القوم } يجوز أن يُشارَ ب : ذَلِكَ إلى صفة « الكَلْبِ » ، ويجوز أن يشار به إلى المنسلخ من الآيات ، أو إلى الكلب ، وأداةُ التَّشبيه محذوفةٌ من ذلك أي : صفة المنسلخ ، أو صفة الكلبِ مثل الَّذين كَذَّبُوا ، ويجوزُ أن يكون المحذوفُ من : « مثلُ القومِ » أي : ذلك الوصف ، وهو وصف المنسلخ ، أو وصف الكلب كمثل القوم .
فصل
واعلمْ أنَّهُ تعالى عمَّ بهذا التَّمثيل جميع المكذبين بآيات الله .
قال ابنُ عبَّاسٍ : يريد أهل مكَّة لأنهم كانوا يتمنون هادياً يهديهم ، ويدعوهم إلى طاعة الله ، فلمَّا جاءهم نبيٌّ لا يشكُّونَ في صدقه كذَّبوه ، فلم يهتدوا ، وبقُوا على الضَّلالِ في كل الأحوالِ ، إن وعظته فهو ضالٌّ ، وإن تركتهُ فهو ضالٌّ ، مثل الكلب ، إن تحمل عليه يلهث ، وإن تركته على حاله يلهث فهو لاهث في كل الأحوال .
ثم قال : « فاقْصُصِ القَصَصَ » أي : قصص الذين كَفَرُوا ، وكذَّبُوا بآياتنا : « لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون » أي : يتَّعِظُون .
قوله : « سَاءَ مثلاً » « سَاءَ » بمعنى : بِئْسَ « ، وفاعلها مضمرٌ فيها ، ومثلاً تمييزٌ مفسِّر له ، وقد تقدم [ النساء 38 ] أنَّ فاعل هذا الباب إذا كان ضميراً يُفَسَّر بما بعده ويُسْتَغْنَى عن تثنيته وجمعه وتأنيثه بتثنية التمييز وجمعة وتأنيثه عند البصريين ، وتقدَّم أنَّ » سَاءَ « أصلها التَّعدِّي لمفعولٍ ، والمخصوصُ بالذم لا يكون إلا من جنسِ التمييز ، والتمييز مُفَسِّر للفاعل فهوهو ، فلزم أن يصدق الفاعلُ والتمييزُ والمخصوص على شيءٍ واحدٍ ، إذا عُرِف هذا فقوله : » القَوْمُ « يرُ صادقٍ على التمييز والفاعل فلا جرم أنَّه لا بدَّ من تقدير محذوف إمَّا من التَّمييز ، وإمَّا من المخصوص .
فالأوَّلُ يقدَّر : ساء أصحابُ مثل أو أهلُ مثل القوم ، والثاني يقدر : ساء مثلاً مثل القوم ، ثم حذف المضاف في التقديرين ، وأقيم المضافُ إليه مُقامه ، وهذه الجملةُ تأكيدٌ للَّتي قبلها .
وقرأ الحسنُ والأعمشُ وعيسى بن عمر : » سَاءَ مثلُ القَوْمِ « برفع » مثل « مضافاً للقوم .
وروي عن الجحدري كذلك ، وروي عنه كسر الميم وسكون الثاء ورفع اللاَّم وجرُّ » القوم « وهذه القراءةُ المنسوبةُ لهؤلاء الجماعة تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون » سَاءَ « للتَّعَجُّب ، مبنيَّةٌ تقديراً على » فَعُلَ « بضمِّ العين كقولهم : لَقَضُوا الرجلُ ، و » مَثَل القوْم « فاعل بها ، والتقدير : ما أسوأ مثل القومِ ، والموصولُ على هذا في محل جر ، نعتاً ل » قَوم « .
والثاني : أنَّها بمعنى » بِئْسَ « و » مثلُ القوم « فاعل ، والموصولُ على هذا في محلِّ رفعٍ؛ لأنه المخصوصُ بالذَّمِّ ، وعلى هذا لا بد مِنْ حذف مضاف ، ليتصادقَ الفاعلُ والمخصوصُ على شيءٍ واحدٍ ، والتقدير : ساءَ مثلُ القومِ مثل الذين ، وقدَّر أبو حيان تمييزاً في هذه القراءة وفيه نظر؛ إذْ لا يحتاج إلى تمييز ، إذا كان الفاعلُ ظاهراً ، حتَّى جعلُوا الجمع بينهما ضرورةً ، كقول الشَّاعر : [ الوافر ]
2624 - تَزَوَّدْ مِثْلَ زَادِ أبيكَ فِينَا ... فَنِعْمَ الزَّادُ زَادُ أبيكَ زَادَا
وفي المسألة ثلاثة مذاهب : الجوازُ مطلقاً ، والمَنْعُ مطلقاً ، والتَّفصيلُ ، فإن كان مغايراً في اللَّفظ ومفيداً فائدة جديدة جاز نحو : نعم الرَّجُلُ شجاعاً زيدٌ؛ وعليه قوله : [ الوافر ]
2625 - تَخَيَّرَهُ ولَمْ يَعْدِلْ سِوَاهُ ... فَنِعْمَ المَرْءُ مِن رَجُلٍ تِهَامِي
فصل
قال اللَّيْثُ : سَاءَ يَسُوءُ : فعلٌ لازمٌ ومتعد ، يقالك ساء الشَّيءُ يَسُوء فهو سيّىءٌ وسَاءَه يَسُوءُهُ مَسَاءَةً ، إذا قبح .
فإن قيل : ظاهر قوله : « سَاءَ مَثَلاً » يقتضي كون ذلك المثل موصوفاً بالسُّوء ، وذلك غير جائز؛ لأن هذا المثل ذكره الله تعالى ، فكيف يكون موصوفاً بالسُّوء؟ وأيضاً فهو يفيد الزجر عن الكُفرِ والدَّعوة إلى الإيمان ، فكيف يكون موصوفاً بالسُّوءِ؟
فالجوابُ : أنَّ الموصوف بالسُّوءِ ما أفاده المثل من تكذيبهم بآيات الله وإعراضهم عنها ، حتَّى صارُوا في التمثيل بذلك بمنزلة الكلبِ اللاَّهِث .
قوله : { وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ } « أنْفُسَهُمْ » مفعول ل « يَظْلِمُونَ » وفيه دليلٌ على تقديم خبر « كان » عليها؛ لأنَّ تقديم المعمول يؤذنُ بتقديم العامل غالباً ، لأنَّ ثمَّ مواضع يمتنع فيها ذلك نحو : { فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ } [ الضحى : 9 ] ف « اليتيمَ » مفعول ب « تقهر » ولا يجوز تقديم « تَقْهَرْ » على جازمه ، وهو محتملٌ للبحث .
وهذه الجملةُ الكونيةُ تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون نسقاً على الصلة وهي « كذَّبُوا بآيَاتِنَا » والمعنى : الذين جمعوا بين التكذيب بآيات الله ، وظلم أنفسهم .
والثاني : أن تكون مستأنفة ، أي : وما ظلموا إلا أنفسهم بالتَّكذيب ، وعلى كلا القولين فلا محلَّ لها ، وقُدِّم المفعولُ ، ليفيدَ الاختصاص وهذا على طريق الزمخشريِّ وأنظاره كأنَّهُ قيل : وخصوا أنفسهم بالظُّلْمِ ، وما تعدى أثر ذلك الظُّلم عنهم إلى غيرهم .
قوله : { مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدي } راعى لفظ « مَنْ » فأفرد ، وراعى معناها في قوله { فأولئك هُمُ الخاسرون } فجمع ، وياء « المُهْتَدِي » ثابتةٌ عند جميع القُرَّاءِ ، لثبوتها في الرسم ، وسيأتي الخلاف في التي في الإسراء .
وقال الواحديُّ : فهُو المُهْتَدِي يجوز إثبات الياء فيه على الأصلِ ، ويجوزُ حذفها استخافاً؛ كما قيل في بيت الكتاب : [ الوافر ]
فَطِرْتُ بِمْنْصُلِي فِي يَعْمَلاتٍ ... دَوَامِي الأيْدِ يَخْبِطْنَ السَّرِيحَا
وعنه : [ الكامل ]
2627 - كَنَوَاحِ ريشِ حَمَامَةٍ نَجْديَّةٍ ... ومَسَحْتِ باللِّثَتَيْنِ عَصْفَ الإثْمِدِ
قال ابن جني : شبَّه المضاف إليه بالتنوين فحذف له الياء .
فصل
لمَّا وصف الظَّالمين وعرَّف حالهم بالمثل المذكور بيَّن في هذه الآية أنَّ الهداية من اللَّهِ ، وأنَّ الضَّلال من اللَّهِ ، وذكر المعتزلةُ ههنا وجوهاً من التأويل : أحدها :
قال الجُبائيُّ والقاضي : المرادُ من يهده اللَّهُ إلى الجنَّةِ والثَّواب في الآخرة ، فهو المهتدي في الدُّنْيَا السالك طريقة الرشد فيما كلف ، فبيَّن تعالى أنَّهُ لا يهدي إلى الثَّوابِ في الآخرة إلا مَنْ هذه صِفَتُهُ ، ومن يضلله عن طريق الجنَّةِ : { فأولئك هُمُ الخاسرون } .
وثانيها : قال بعضهم : إنَّ في الآية حذفاً ، والتَّقديرُ : من يهده اللَّهُ فيقبل ، ويهتدي بهداه؛ فهو المهتدي ، ومن يُضللْ فلم يقبل فهو الخَاسِرُ .
وثالثها : أنَّ المراد من يهده اللَّهُ أي : وصفه بكونه مُهتدياً فهو المهتدي؛ لأنَّ ذلك كالمدح ومدح الله لا يجعل إلاَّ لمن اتَّصَفَ بذلك الوصف المَمْدُوحِ ، ومن يضلل أي : وصفه اللَّهُ بكونه ضالاً : { فأولئك هُمُ الخاسرون } .
ورابعها : من يهده اللَّهُ بالإلطاف وزيادة الهدى فهو المهتدي ، ومن يضلل عن تلك الألطاف بسوء اختياره ، ولم يُؤثِّر فيه فهو الخَاسِرُ .
والجواب من وجوه : الأولُ : أن الفعل يتوقَّفُ على حصول الدَّاعي وحصول الدَّاعي ليس إلّض من اللَّهِ فالفعلُ ليس إلاَّ من اللَّهِ تعالى .
الثاني : أنَّ خلاف معلوم الله تعالى ممتنع الوقوع ، فمن علم الله منه الإيمان لم يقدر على الكفر وبالضّد .
الثالث : أنَّ كل أحد يقصد حصول الإيمان والمعرفة فإذا حصل الكفر عقيبه عَلِمْنَا أنَّهُ ليس منه بل من غيره .
وأما التأويل الأول : فضعيف لانه حمل قوله { فأولئك هُمُ الخاسرون } على الهداية في الآخرة إلى الجنة وقوله « فَهُوَ المُهْتَدِي » على الاهتداء إلى الحق في الدنيا ، وذلك يوجب ركاكة النظم ، بل يجب أن تكون الهداية والاهتداء راجعين إلى شيء واحد حتى يحسن النظم .
وأما الثاني : فإنه التزام لإضمار زائد ، وهو خلاف اللَّفظ ، ولو جاز فتح باب أمثال هذه الإضمارات لانقلب النفي إثباتاً والإثبات نفياً ، ويخرج كلام الله عن أن يكون حجة ، فإنَّ لكل أحد أن يضمر في الآية ما شاء ، وحينئذ يخرج الكلام عن الإفادة .
وأما الثالث : فضعيف؛ لأنقول القائلنك فلان هدى فلاناً لا يفيدُ في اللغة ألبتَّة أنَّهُ وصفه بكونه مهتدياً ، وقياس هذا على قوه : فلان ضلل فلان وكفره ، قياس في اللغةِ ، وهو في نهاية الفسادِ .
والرابع : باطل؛ لأن كل ما في مقدور الله تعالى من الألطاف ، فقد فعله عند المعتزلةِ في حق جميع الكُفَّارِ؛ فحمل الآية على هذا التَّأويل بعيد .
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ } الآية .
اللام في [ قوله ] لجهنَّمَ يجوزُ فيها وجهان :
أحدهما : أنَّها لامُ الصيرورة والعاقبة ، وإنَّما احتاج هذا القائلُ إلى كونها لام العاقبة كقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] فهذه علةٌ معتبرةٌ محصولة ، فكيف تكون هذه العلة أيضاً؟ وأورد من ذلك أيضاً قول الشاعر : [ الوافر ]
2628 - لِدُوا لِلْمَوْتِ وابْنُوا لِلْخَرابِ .. . . .
وقول الآخر : [ الطويل ]
2629 - ألاَ كُلُّ مَوْلُودٍ فَلِلْموتِ يُولَدُ ... ولَسْتُ أرَى حيّاً لِحَيٍّ يُخَلَّدُ
وقول الآخر : [ الطويل ]
2630 - فَلِلْمَوتِ تَغْذُو الوَالِداتُ سخَالَهَا ... كَمَا لِخرابِ الدُّور تُبْنَى المَسَاكِن
الثاني : أنها للعلة ، وذلك أنَّهُم لمَّا كان مآلهم إليها ، جعل ذلك سبباً على طريق المجاز . وقد ردَّ ابنُ عطيَّة على من جعلها لامَ العاقبة ، فقال : وليس هذا بصحيح ولام العاقبة إنَّما تُتَصَوَّرُ إذا كان فعل الفاعل لم يُقْصَدْ مصيرُ الأمر إليه ، وأمَّا هنا فالفعلُ قُصِد به ما يصير الأمر إليه من سُكْناهم لجهنم واللاَّم على هذا متعلقة بذَرَأنَا ، ويجوز أن تتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ حال من كَثِيراً؛ لأنه في الأصل صفة لها ، لو تأخَّرَ ، ولا حاجة إلى ادِّعاءِ قلب ، وأنَّ الأصل : { ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً } ؛ لأنَّهُ ضرورةٌ أو قليلٌ ، و « مِنَ الجِنِّ » صفة ل « كَثِيراً » .
فصل
ومعنى { ذَرَأْنَا } خلقنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس ، أخبر الله تعالى أنه خلق كثيراً من الجن والإنس للنار ، وهم الذينَ حقت عليهم الْكلمة الأزليَّة بالشّقاوة ، ومن خلقه الله لجهنَّمَ ، فلا حيلة له في الخَلاصِ منها .
قالت عائشةُ : « أدرك النّبيُّ صلى الله عليه وسلم جنازة صبيٍّ من صبيان الأنْصَارِ ، فقالت عائشةُ له : طُوبى لَهُ عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الجَنَّةِ . فقال صلى الله عليه وسلم : وما يدريكِ؟ إنَّ الله خَلَقَ الجَنَّةَ وَخلَقَ لَهَا أَهْلاً وَهُمْ في أصْلابِ آبَائِهِمْ وخَلَقَ النَّارَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلاً وهُمْ في أَصْلابِ آبائِهِمْ »
فصل
هذه الآية أيضاً تَدُلُّ على مسألة خلق الأعمالِ لأنَّهُ تعالى صرَّحَ بأنَّهُ خلق كثيراً من الجن والإنس لجهنم ولا مزيد على بيان كلام اللَّهِ ، وأيضاً انه لمَّا أخبر عنهم أنَّهُم من أهل النَّارِ ، فلو لم يكونوا من أهل النَّارِ انقلب علم اللَّهِ جهلاً ، وخبره الصِّدق كذباً ، وكل ذلك محال ومن علم كون الشَّيءِ محالاً امتنع أن يريدهُ ، فامتنع أن الله تعالى يريد أن لا يدخلهم النار بل يجب أن يريد أن يدخلهم النار ، وذلك هو الذي دَلَّ عليه لفظ الآية ، وأيضاً إنَّ القادرَ على الكُفْرِ إن لم يقدر على الإيمان ، فالذي خلق فيه القدرة على الكُفْرِ فقد أرادَ أن يدخله النار ، وإن كان قادراً على الكفر والإيمان معاً؛ امتنع رجحان أحد الطَّرفين على الآخر لا لمرجح وذلك المرجح إن حصل من قبله لزم التسلسل ، وإن حصل من قبل اللَّهِ تعالى ، فهو المرادُ .
فلمَّا كان هو الخالقُ للدَّاعية الموجبة للكفر فقد خلقه للنَّارِ قطعاً ، وأيضاً : لو خلقه اللَّهُ تعالى للجنَّةِ وأعانه على اكتساب ما يوجب دخول الجنَّةِ ، ثم قدرنا أنَّ العبد سعى في تحصيل الكُفْرِ الموجب لدُخُولِ النَّارِ ، فحينئذٍ حصل مُرَادُ العبدِ ، ولم يحصل مرادُ اللَّهِ تعالى فلزمَ كون العبد أقدر وأقوى من اللَّهِ ، وذلك لا يقوله عاقلٌ ، وأيضاً : إنَّ العاقلَ لا يريدُ الكُفْرَ والجهل الموجب لاستحقاق النار ، وإنما يريدُ الإيمان والمعرفة الموجبة لاستحقاق الجنَّةِ فلما حصل الكفر ، والجهل على خلاف قصد العبد وضد جدّه واجتهاده؛ وجب أن لا يكون حصوله من قبل العبد ، بل يجبُ أن يكون حصوله من الله تعالى .
فإن قيل : العبْدُ إنَّما سعى في تحصيل ذلك الاعتقاد الفَاسِد؛ لأنَّهُ اشتبه عليه الأمر وظن أنه الحقُّ الصَّحيحُ .
فنقولُ : فعلى هذا التقدير إنَّما وقع في هذا الجَهْلِ لأجل ذلك الجَهْلِ المتقدِّم ، فإن كان إقدامه على ذلك الجهل السَّابق لجهل آخر سابق ، لزم التسلسل ، وهو محال ، وإن انتهى إلى جهل حصل ابتداء لا لسابقة جهل آخر ، فقد توجه الإلزام .
قالت المعتزلة : لا يمكن أن يكون المراد من هذه الآية ما ذكرتم ، لأن كثيراً من الآيات دلت على أنه تعالى أراد من الكل الطاعة والعبادة .
قال تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ أِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله } [ النساء : 64 ] وقال : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ } [ الفرقان : 50 ] وقال : { هُوَ الذي يُنَزِّلُ على عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور } [ الحديد : 9 ] .
وقال : { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط } [ الحديد : 25 ] .
وقال { يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } [ إبراهيم : 10 ] .
وقال : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] وأمثال هذه الآيات كثيرة . ونحن نعلم بالضَّرورة أنه لا يجوز وقوع التناقض في القرآن ، فعلمنا أنَّه لا يُمْكنُ حَمْلُ قوله : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس } على ظاهره .
الثاني : أنه تعالى قال بعدها : { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا } ذكر ذلك في معرض الذم لهم ، ولو كانوا مخلوقين للنَّارِ ما كانُوا قادرين على الإيمان ألبتة وعلى هذا : فيقبح ذمُّهُم على تركِ الإيمان .
الثالث : أنَّه تعالى لو خلقهم للنَّارِ لما كان له على أحد من الكُفَّارِ نعمة أصلاً؛ لأنَّ منافع الدُّنيا بالنسبة إلى العذاب الدائم ، كالقطرة في البحر ، وكان كمن دفع إلى إنسان حلوى مسمومة فإنَّه لا يكون منعماً عليه ، فكذا ههنا ، ولمَّا كان القرآن مملُوءاً من كثرة نعم الله على كل الخَلْق علمنا أنَّ الأمر ليس كما ذكرتم .
الرابع : أنَّ المَدْحَ والذَّمَّ ، والثَّواب والعقاب ، والترغيب والترهيب ، يبطل هذا المذهب الذي ينصرونه .
الخامس : لو خلقهم للنَّارِ ، لوجب أن يخلقهم ابتداء في النَّارِ؛ لأنَّه لا فائدة في أن يستدرجهم إلى النار بخلق الكفر فيهم .
السادس : أن قوله : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ } متروك الظَّاهر ، لأنَّ جهنَّم اسم للموضع المعين ، ولا يجوز أن يكون الموضع المعيَّن مراداً منه ، فثبت أنه لا بد وأن يقال : إن ما أراد الله لخلقه منهم محذوف . وكأنَّهُ قال : وقد ذَرَأنَا لكي يكفروا ، فيدخلوا جهنم ، فصارت الآية متروكة الظَّاهر ، فيجب بناؤها على قوله : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس } [ الذاريات : 56 ] لأن ظاهرها يصح بدون حذف .
السابع : أنه إذا كان المرادُ أنَّهُ ذرأهم لكي يكفروا ، فيصيروا إلى جهنم ، عاد الأمر في تأويلهم إلى أن هذه اللاَّم لام العاقبة ، لكنهم يجعلونها للعاقبة مع أنَّهُ لا استحقاق للنَّار ونحن قد تأولناها على عاقبة حاصلة مع استحقاق النار . فكان قولنا أولى .
فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل هذه الآية على ظاهرها ، فوجب المصير إلى التأويلن ، وتقريره : أنه لما كانت عاقبة كثيرة من الجن والإنس هي دخول النَّارِ . جاز ذكر هذه اللاَّم بمعنى العاقبة .
ولهذا نظائر كثيرة في القرآن والشِّعر .
أمَّا القرآنُ فقوله تعالى : { وكذلك نُصَرِّفُ الآيات وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ } [ الأنعام : 105 ] .
ومعلوم أنه تعالى ما صرفها ليقولوا ذلك؛ لكنَّهم لمَّا قالُوا ذلك حسن ورود هذا اللفظ .
وقال تعالى : { رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحياة الدنيا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ } [ يونس : 88 ] .
وقال : { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] . ولم يلتقط لهذا الغرض ، إلاَّ أنه لمَّا كانت عاقبة أمرهم ذلك حسن هذا اللفظ .
وأما الشعر فقوله : [ الطويل ]
2631 - ولِلْمَوْتِ تَغْذُوا الوالِدَاتُ سِخَالَهَا ... كَمَا لِخَرابِ الدُّور تُبْنَى المَسَاكِنُ
وقال : [ البسيط ]
2632 - أمْوالُنَا لِذَوي الميراثِ نَجْمَعُهَا ... ودُورنا لِخرابِ الدَّهْرِ نَبْنِيهَا
وقال : [ الوافر ]
2633 - لَه مَلكٌ يُنَادِي كُلَّ يَوْمٍ ... لِدُوا للْمَوْتِ وابْنُوا لِلْخَرَابِ
وقال : [ المتقارب ]
2634 - فأُمَّ سِمَاكٍ فلا تَجْزَعِي ... فَلِلموتِ ما تَلِدُ الوالِدَة
هذا منتهى كلام المعتزلة .
واعلم أنَّ المصير إلى التَّأويل إنَّما يَحْسُنُ إذا ثبت بالدَّليلِ العقليِّ امتناع حمل هذا اللَّفْظِ على ظاهره ، وقد بيَّنَّا بالدليل العقليِّ أن الحقِّ ما دل عليه ظاهر اللفظ ، فصار التَّأويل ههنا عبثاً ، وأمَّ الآياتُ التي تمسكوا بها فمعارضة بالبحار الزاخرة من الآيات الدالة على مذهب أهل السُّنَّةِ ، ومن جملتها ما قبل هذه الآية : { مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدي وَمَن يُضْلِلْ فأولئك هُمُ الخاسرون } [ الأعراف : 178 ] وما بعدها ، وهو قوله : { والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } ولمَّا كان ما قبل هذه الآية وما بعدها ليس إلاَّ ما يُقوى قولنا كان تأويل المعتزلة في هذه الآية ضعيفاً جداً .
قوله : « لَهُمْ قُلُوبٌ » جملة في محلِّ نصب إمَّا صفةً ل « كِثيراً » أيضاً ، وإمَّا حالاً من : « كثيراً » وإن كان نكرة لتخَصُّصه بالوصفِ ، أو من الضمير المستكن في مِنَ الجِنِّ؛ لأنَّهُ تحمل ضميراً ، لوقوعه صفة ، ويجوز أن يكون لَهُمْ على حدته هو الوَصْفُ ، أو الحالُ ، وقُلُوبٌ فاعل به فيكون من باب الوصف بالمفرد ، وهو أولى .
وقوله : « لا يَفْقَهُونَ بِهَا » وكذلك الجملةُ المنفيَّة في محلِّ النَّعْتِ لما قبلهان وهذا الوصفُ يكادُ يكونُ لازماً ، لوروده في غير القرآن؛ لأنَّهُ لا فائدة بدونه؛ لو قلت : لزيد قَلْبٌ وله عَيْنٌ ، وسَكَتَّ لم يظهر لذلك كبير فائدة .
فصل
المعنى : لَهُمْ قلوبٌ لا يعلمون بها الخير والهدى ، ولهُم أعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بها طريق الحق ، ولهُمْ آذانٌ لا يسمعُون بها مواعظ القرآن فيتفكرون فيها ويعتبرون . ثم ضرب لهم مثلاً في الجَهْلِ والاقتصار على الأكل والشرب ، فقال : { أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ } أي : أنَّ همتهم الأكل واشُّرب والتمتع بالشَّهواتِ { بَلْ هُمْ أَضَلُّ } ؛ لأنَّ الأنعام تُميز بين المضار والمنافع فلا تقدمُ على المضار ، وهؤلاء يقدمون بالشهوات على النَّار معاندةً مع العلم بالهلاك .
وقيل : لأنَّ الأنعام مطيعة للَّهِ تعالى والكافر غير مطيع .
وقال مقاتلٌ : هم أخطأ طريقاً من الأنعام؛ لأنَّ الأنعام تعرفُ ربَّها ، وهم لا يعرفون ربُّهم ولا يذكرونه .
وقيل : لأنَّها تفر إلى أربابها ومن يقوم بمصالحها ، والكافِرُ يهرب عن ربِّه الذي أنعم عليه .
وقيل : لأنَّهَا تضل إذا لم يكن معها مرشد ، فإن كان معها مرشد فقلما تضلُّ ، وهؤلاء الكفار قد جاءهم الأنبياء وهم يزدادون في الضلال : { أولئك هُمُ الغافلون } .
فصل
دلَّت اليةُ على أنَّهُ تعالى كلَّفهم مع أن قلوبهم ، وأبصارهم ، وأسماعهم ما كانت صالحةً لذلك ، وهو يجري مجرى المنع عن الشيء والصَّد عنه مع الأمر به .
قالت المعتزلةُ : لو كانوا كذلك لقبح من الله تكليفهم؛ لأن تكليف من لا قُدْرَةَ له على الفعل قبيحٌ لا يليق بالحكيم؛ فوجب حمل الآية على أنَّ المرادَ منه كثرة الإعراض عن الدَّلائلِ وعدم الالتفات إليها ، فأشْبَهُوا من لا قَلْبَ له فاهم ولا عين باصرة ولا أذن سامعة .
وأجيبُوا بأنَّ الإنسان إذا تأكدت نُفْرتُهُ عن شيء صارت تلك النُّفرة المتأكدة الراسخةمانعة له عن فهم الكلام الدَّال على صحَّة الشيء ، ومانعة عن إبصار محاسنه وفضائله وهذه حالة وجدانية ضرورة يجدُها كلُّ أحدٍ من نفسه . ولهذا قالوا في المثل : حُبُّكَ للشَّيءِ يُعْمِي ويُصِمُّ .
وإذا ثبت هذا فنقول : إن أقواماً من الكُفَّارِ بلغوا في عداوة الرسول - عليه الصلاة والسلام - وفي بغضِهِ وشدَّةِ النُّفرةِ عن قبول دينه والاعتراف برسالته هذا المبلغ وأوقى منه والعلمُ الضروريُّ حاصلٌ بأنَّ حصول الحُبِّ والبُغْض في القلب ليس باختيارِ أحدٍ .
وإذا ثبت أنَّهُ متى حصلت هذه النُّفرة والعداوةُ في القلب ، فإنَّ الإنسان لا يمكنه مع تلك النُّفرة الراسخة والعداوة الشديدة تحصيل الفهم والعلم ، فإذا كان كذلك كان القول بالجبر لا محيص عنهُ .
فصل
وقد أورد الغزالي في الإحياء سؤالاً ، فقال : فإن قيل : إني أجد من نفسي أنَّي إن شئت الفعل فعلت ، وإن شئت الترك تركت ، فيكون فعلي حاصلاً بي لا بغيري .
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
قوله : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ } .
يجوزُ في « ما » أوجه :
أحدها : أن تكون استفهامية في محلِّ رفع بالابتداء ، والخبرُ « بصَاحبهم » أي : أيُّ شيء استقرَّ بصاحبهم من الجُنُونِ؟ ف : الجِنَّة : مصدرٌ يراد بها الهيئة ، ك : الرِّكْبَةِ ، والجلسة .
وقيل : المراد بالجِنَّة : الجِنُّ ، كقوله { مِنَ الجنة والناس } [ الناس : 6 ] ولا بدَّ حينئذٍ من حذف مضافٍ . أي : مَسِّ جنة ، أو تخبيط جنَّة .
والثاني : أنَّ « ما » نافية ، أي : ليس بصاحبهم جنون ، ولا مسُّ جِنّ . وفي هاتين الجملتين أعني الاستفهامية أو المنفية ، فيهما وجهان :
أظهرهما : أنَّهما في محلِّ نصب بعد إسقاط الخافض؛ لأنَّهُمَا علَّقا « التَّفكُّر » ؛ لأنَّهُ من أفعال القلوب .
والثاني : أنَّ الكلام تمَّ عند قوله : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ } ، ثمَّ ابتدأ كلاماً آخر ، إمَّا استفهام إنكار ، وإمَّا نفياً .
وقال الحوفيُّ إنَّ « مَا بِصَاحبِهِم » معلقةٌ لفعلٍ محذوف ، دلَّ عليه الكلامُ ، والتقديرُ : أو لم يتفكروا فيعلمُوا ما بصاحبهم .
قال : و « تفكَّر » لا يعلَّقُ؛ لأنَّهُ لم يدخل على جملة . وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّهم نَصُّوا على أن فعل القَلْبِ المتعدِّي بحرف جرٍّ أو إلى واحد إذا عُلِّقَ هل يبقى على حاله أو يُضَمَّن ما يتعدَّى لاثنينِ؟
الثالث : أن تكون « ما » موصولة بمعنى « الذي » ، تقديره : أو لم يتفكَّرُوا في الذي بصاحبهم وعلى هذا يكون الكلام خرج على زعمهم ، وعلى قولنا : إنَّهَا نافيةٌ يكونُ « مِن جِنَّةٍ » مبتدأ ، ومِنْ مزيدةٌ فيه ، وبِصَاحِبِهم خبره ، أي : مَا جِنَّةٌ بِصَاحِبِهم .
فصل
دخول « مِنْ » في قوله من جنَّةٍ يوجب أن لا يكون به نوع من أنواع الجنون .
قال الحسنُ وقتادةُ : إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قام ليلةًعلى الصَّفَا يدعو قريشاً فخذاً فخذاً ، يا بني فلان ، يا بني فلان ، يُحذرُهم بأسَ الله وعقابه .
فقال قَائِلُهُمْ : إنَّ صاحبكم هذا المجنون ، بات يُصوِّت إلى الصَّباحِ ، فأنزل اللَّهُ تعالى هذه الآية .
وقيل : إنَّهُ عليه الصَّلاة والسَّلام كان يَغْشَاهُ حالة عجيبة عند نزولِ الوحي فيتغيَّر وجهه ويصفر لونه ، وتعرض له حالة شبيهة بالغشي ، والجهال كانوا يقولون : إنَّهُ جُنُونٌ ، فبيَّنَ اللَّهُ تعالى في هذه الآية أنَّه ليس بمجنون إنَّمَا هُو نذير مبينٌ من ربِّ العالمين .
قوله : { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض } الآية .
لمَّا كانَ النَّظرُ في أمر النُّبُوَّةِ مفرعاً على تقرير دلائل التَّوحيد ، لا جرم ذكر عقيبهُ ما يدلُّ على التَّوحيد ، فقال : { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض } واعلم أنَّ دلائل ملكوت السَّمواتِ والأرض على وجود الصَّانع الحكيم كثيرة وقد تقدَّمت .
ثم قال : { وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ } أي : أن الدَّلائل على التَّوحيد غير مقصورةٍ على السَّموات والأرض ، بل كلُّ ذرَّة من ذرات العالم ، فهي برهان قاهرٌ على التَّوحيد ، وتقريره أن الشَّمس إذا وقعت على كوة البيت ظهرت ذرَّت ، فيفرض الكلامُ في ذرَّةٍ واحدةٍ من تلك الذرات .
فنقول : إنَّها تدل على الصانع الحكيم من جهات غير متناهية؛ لأنَّها مختصة بحيِّز معين من جملة الأحياز التي لا نهاية لها في الخلاء الذي لا نهاية له ، فكلُّ حَيِّزٍ من تلك الأحياز الغيرِ متناهية فرضنا وقوع تلك الذَّرة فيه كان اختصاصها بذلك الحيِّز من الممكنات والجائزات ، والممكن لابدَّ له من مُخَصّص ومرجح ، وذلك المخصص إن كان جسماً عادَ السُّؤالُ فيه ، وإن لم يكن جسماً كان هو اللَّهُ تعالى .
وأيضاً فتلك الذَّرَّةُ لا تخلو من الحركةِ والسُّكُونِ ، وكلُّ ما كان كذلك فهو محدثٌ ، وكل محدث فإنَّ حدوثه لا بد وأن يكون مختصّاً بوقتٍ معيَّنٍ مع جواز حصوله قبل ذلك وبعده واختصاصه بذلك الوقت المعين الذي حدث فيه ، لا بُد وأن يكون بتخصيص مخصصٍ قديم ثمَّ إن كان ذلك المُخَصَّص جسماً عاد السُّؤالُ فيه ، وإن لم يكن جسماً فهو الله تعالى وأيضاً فتلك الذرة مساوية لسائر الأجسام في التحيز والحجميَّة ، ومخالفة لها في اللَّون والشَّكل والطبع والطعم وسائر الصِّفاتِ ، فاختصاصها بكلِّ تلك الصفات التي باعتبارها خالفت سائر الأجسام ، لا بد وأن يكون من الجائزات ، والجائزُ لا بد له من مرجح ، وذلك المرجح إن كان جسماً عاد البَحْثُ الأوَّلُ فيه ، وإن لم يكن جسماً فهو الله تعالى ، فثبت أن تلك الذرة دالة على وجود الصَّانع من جهات تتناهى ، واعتبارات غير متناهية ، وكذا القولُ في جميع أجزاء العالم الجسماني والروحاني بمفرداته ومركَّباته ، وعند هذا ظهر صدْقُ القائل : [ المتقارب ] .
2638 - وَفِي كُلِّ شيءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ على أنَّهُ وَاحِدٌ
ولمَّا نبَّه تعالى على هذه الأسرار العجيبة بقوله : { وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ } أردفه بما يوجب التَّرغيب الشديد في الإتيان بهذا النظر والتفكُّر فقال : « وأنْ عَسَى » ، و « أنْ » فيها وجهان :
أصحهما : أنَّهَا المخففةُ من الثقيلة ، واسمُها ضمير الأمر والشأن ، والمعنى : لعل آجالهم قربت فهلكوا على الكفر ويصيرُوا إلى النَّارِ ، وإذا كان هذا الاحتمالُ قائماً؛ وجب على العاقل المُسارعة إلى هذا الفكر ، ليسعى في تخليص نصفه من هذا الخوف الشَّديد ، و « عسى » وما حيَّزها في محلِّ الرفع خبراً لها ، ولم يفصل بَيْنَ « أنْ » والخبر وإن كان فعلاً؛ لأنَّ الفعل الجامد الذي لا يتصرَّف يشبهُ الأسماء ، ومثله { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى } [ النجم : 39 ] { والخامسة أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ } [ النور : 9 ] في قراءة نافع لأنَّهُ دعاء .
فصل
وقد وقع خبرُ « أنْ » جملةً طلبية في هاتين الآيتين الأخيرتين ، فإنَّ عَسَى للإنشاء و « غَضَبَ اللَّه » دعاء .
والثاني : أنَّها المصدرية؛ قاله أبُو البقاءِ ، يعني التي تنصب المضارع ، الثنائية الوضع ، وهذا ليس بجيِّدٍ؛ لأنَّ النُّحاة نَصُّوا على أنَّ المصدرية لا تُوصَل غلاَّ بالفعل المتصرف مطلقاً ، أي : ماضٍ ، ومضارع وأمر ، و « عَسَى » لا يتصرف فكيف يقع صلة لها؟ وأنْ على كلا الوجهين في محل جر نسقاً على « ملكوت » ، أي : أو لم ينظروا في أنَّ الأمر والشأن عسى أن يكون ، و « أن يكُون » فاعل « عَسَى » وهي حينئذٍ تامَّةٌ؛ لأنَّها متى رفعت « أنْ » وما في حيَّزها كانت تامةً ، ومثلها في ذلك : أوشك ، واخلولق .
وفي اسم : « يَكُون » قولان :
أحدهما : هو ضميرُ الشَّأنِ ، ويكونُ : { قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ } خبراً لها .
والثاني : أنه : « أجْلُهُمْ » ، و « قَدِ اقتربَ » جملةٌ من فعلٍ وفاعلٍ هو ضمير « أجَلُهُم » ولكن قدّضم الخبر وهو جملة فعليَّة على اسمها .
وقد تقدَّم أن ابن مالك يجيزه وابن عصفور يمنعه عند قوله : { مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ } [ الأعراف : 137 ] .
قوله : « فَبِأيِّ » مُتعلّق ب « يُؤمِنُونَ » وهي جملةٌ استفهامية سيقتْ للتَّعجب ، أي : إذَا لم يُؤمِنُوا بهذا الحديث فكيف يُؤمِنُونَ بغيره؟ والهاءُ في : « بَعْدَهُ » تحتملُ العَوْدَ على القرآن وأن تعُود على الرَّسُولِ ، ويكون الكلامُ على حذف مضافٍ ، أي : بعد خبره وقصته ، وأن تعود على : « أجَلُهُمْ » ، أي : إنَّهم إذا ماتوا وانقضى أجلهم؛ فكيف يُؤمنُون بعد انقضاءِ أجلهم؟
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : بم تُعلِّق قوله : { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } ؟ قلت : بقوله : { عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ } ؛ كأنه قيل : لعلَّ أجلهم قجد اقترب فما لهُم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن قبل الموت ، وماذا ينتظرون بعد وضوح الحقّ؟ وبأيَّ حديثٍ أحقُّ منه يرون أن يؤمنوا؟ يعني التعلُّق المعنويَّ المرتبطَ بما قبله لا الصناعي وهو واضح .
قوله تعالى : { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ } الآية .
لمَّا ذكر إعراضهُم عن الإيمان ، بيَّن ههنا علَّة إعراضهم .
فقال : { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ } وهذه الآيةُ تدلُ على أنَّ الهُدى والضلال من الله تعالى كما سبق في الآيةِ المُتقدمة وتأويلات المعتزلة والأجوبة عنها .
قوله : « ويَذَرْهُمْ » قرأ الأخوان بالياء وجزم الفعل ، وعاصم وأبو عمرو بالياء أيضاً ، ورفع الفعل ، ونافع وابن كثير وابن عامر بالنُّون ورفع الفعل أيضاً ، وقد رُوي الجزمُ أيضاً عن نافع ، وأبي عمرو في الشواذ .
فالرفعُ من وجهٍ واحدٍ ، وهو الاستئناف ، أي : وهو يذرهم ، ونحن نذرهم ، على حسب القراءتين ، وأمَّا السُّكونُ فيحتمل وجهين :
أحدهما : أنه جزم نسقاً على محلِّ قوله : { فَلاَ هَادِيَ لَهُ } ؛ لأنَّ الجملةَ المنفيَّة جوابٌ للشرط فهي في محلِّ جزم فعطف على محلِّها وهو كقوله تعالى : { وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ } [ البقرة : 271 ] بجزم « يُكَفّر » ؛ وكقول الشاعر : [ الكامل ]
2639 - أنَّى سَلَكْتَ فإنَّنِي لَكَ كَاشِحٌ ... وعَلى انتقِاصِكَ في الحياةِ وأزْدَدِ
وأنشد الواحديُّ أيضاً قول الآخر : [ الوافر ]
2640 - فأبْلُونِي بَلِيَّتَكُمكْ لَعَلِّي ... أصَالِحُكُمْ وأستدرج نَوَيَّا
قال : حمل « أسْتَدرِجْ » على موضع الفاء المحذوفة ، من قوله : لَعَلِّي أصَالِحُكُمْ .
والثانيك أنه سكونُ تخفيف ، كقراءة أبي عمرو { يَنصُرْكُمُ } [ آل عمران : 160 ] و { يُشْعِرْكُمْ } [ الأنعام : 109 ] ونحوه ، وأمَّا الغيبة فجرياً على اسم الله تعالى ، والتَّكلم على الالتفات من الغيبة إلى التَّكلم تعظيماً ويَعْمَهُونَ مترددون متحيرون .
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة } الآية .
في كيفية النَّظْمِ وجهان :
الأول : لمَّا تكلم في التَّوحيد ، والنُّبَّوةِ ، والقشاء ، القدر أتبعه بالكلام في المعاد لما تقدَّم من أن المطالب الكلية في القرآن ليست إلاَّ هذه الأربعة .
الثاني : لمَّا قال في الآية المتقدمة : { وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ } [ الأعراف : 185 ] باعثاً بذلك عن المبادرة إلى التَّوبة قال بعده : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة } ليتحقَّقَ في القلوب أنَّ وقت الساعة مكتوم عن الخلق ليصير المكلف مسارعاً إلى التوبة وأداء الواجبات .
فصل
قال ابنُ عباس : إنَّ قوماً من اليهود قالوا : يا محمد أخبرنا متى تقوم الساعة فنزلت هذه الآية .
وقال الحسن وقتادة : إن قريشاً قالوا يا محمد : بيننا وبينك قرابة فاذكر لنا متى الساعة؟
قال الزمخشريُّ : السَّاعة من الأسماءِ الغالبة كالنجم للثريَّا ، وسُمِّيت القيامة بالسَّاعة لوقوعها بغتة؛ ولأنَّ حساب الخَلْقِ يقضي فيها في ساعة واحدة ، فلهذا سُمِّيت بالسَّاعة أو لأنها على طُولها كساعةٍ واحدةٍ على الخَلْقِ .
قوله : { أَيَّانَ مُرْسَاهَا } فيه وجهان : أحدهما : أنَّ أيَّانَ خبر مقدم ، ومُرْسَاهَا مبتدأ مؤخر ، والثاني : أن أيَّان منصوب على الظَّرْفِ بفعل مضمر ، ذلك الفعل رافع ل « مُرْسَاهَا » بالفاعليَّةِ ، وهو مذهب أبي العباس ، وهذه الجملة في محلِّ نصب بدل من السَّاعة بدل اشتمال ، وحينئذٍ كان ينبغي أن لا تكون في محل جرٍّ؛ لأنها بدل [ من ] مجرور وقد صرَّح بذلك أبُو البقاءِ فقال : والجملةُ في موضع جرٍّ بدلاً من السَّاعة تقديره : يسألونك عن زمان حلول الساعة . إلاَّ أنَّهُ مَنَعَ من كونها مجرورة المحلأنَّ البدل في نيَّة تكرار العامل ، والعامل هو يَسْألُونَكَ والسُّؤالُ تعلق بالاستفهام وهو مُتَعَدٍّ ب « عَنْ » فتكون الجملة الاستفهامية في محلِّ نصبٍ بعد إسقاط الخافض ، كأنَّهُ قيل : يَسْألُونَكَ أيَّان مُرْسَى السَّاعةِ ، فهو في الحقيقة بدلٌ من موضع عن السَّاعةِ لأن موضع المجرور نصب ، ونظيرهُ في البدل على أحسن الوجوهِ فيه : عَرَفْتُ زيداً أبُو مَنْ هُو .
و « أيَّانَ » ظرفُ زمانٍ لتضمُّنه معنى الاستفهام ، ولا يتصرَّفُ ، ويليه المبتدأ والفعل المضارع دون الماضي ، بخلاف « متى » فإنَّها يليها النَّوعان ، وأكثرُ ما يكون [ أيَّان ] استفهاماً ، كقول الشاعر : [ الرجز ]
2641 - إيَّانَ تَقْضِيَ حَاجَتِي أيَّانَا ... أمَا تَرَى لِفعْلِهَا أبَّانَا
وقد تأتي شرطيةً جازمة لفعلين .
قال الشاعرُ : [ البسيط ]
2642 - أيَّانَ نُؤمِنْكَ تأمَنْ غَيْرنَا وإذَا ... لَمْ تُدْرِك الأمْنَ مِنَّا لَمْ تَزَلْ حَذِراً
وقال آخر : [ الطويل ]
2643 - إذَا النَّعْجَةُ الأذْنَاءُ كَانَتْ بِقَفْرَةٍ ... فأيَّان ما تَعْدِلْ بها الرِّيحُ تَنْزِلِ
والفَصِيحُ فتح همزتها ، وهي قراءة العامَّة .
وقرأ السُّلمي بِكسْرِهَا ، وهيلغة سُلَيْم .
فصل
واختلف النحويون في أيَّانَ هل هي بسيطة أم مركبة؟ فذهب بعضهم إلى أنَّ أصلها أي أوانٍ فحذفت الهمزة على غير قياس ، ولم يُعَوَّضْ منها شيءٌ ، وقُلبت الواوُ ياءً على غير قياسٍ؛ فاجتمع ثلاثُ ياءات فاستُثْقِلَ ذلك فحُذفت إحداهن وبُنيت الكلمةُ على الفتحِ فصارت أيَّانَ .
واختلفوا فيها أيضاً هل هي مشتقةٌ أم لا؟ فذهب أبُو الفتح إلى أنَّها مشتقةٌ من « أوَيْتُ إليه » ؛ لأنَّ البضع آوٍ إلى الكل ، والمعنى : أي وقت ، وأي فعلٍ؟ ووزنه فَعْلان أو فِعْلان بحسب اللُّغتين ومنع أن يكون ومنه فَعَّالاَ مشتقةً من : « أين » ؛ لأنَّ « أيْنَ » ظرف مكان ، وأيَّان ظرفُ زمانٍ . ومُرْسَاهَا يجوزُ أن يكون اسم مصدر ، وأن يكون اسم زمان .
وقال الزمخشريُّ : مُرْسَاهَا إرساؤُهَا ، أو وقت إرسائها : أي : إثباتها وإقرارها .
قال أبو حيَّان : وتقديره : وقت إرسائها ليس بجيدٍ؛ لأنَّ أيَّانَ استفهام عن الزمان فلا يصحُّ أن يكون خبراً عن الوقت إلاَّ بمجازٍ ، لأنه يكون التقدير : في أي وقتٍ وقتُ إرسائها وهو حسنٌ .
ويقال : رَسَا يَرْسُو : أي ثبت ، ولا يقال إلاَّ في الشيء الثقيل ، نحو : رَسَت السفينةُ تَرْسُوا وأرْسَيْتها ، قال تعالى : { والجبال أَرْسَاهَا } [ النازعات : 32 ] ولما كان أثقل الأشياء على الخلق هو الساعة؛ لقوله { ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً } لا جرم سمَّى الله وقوعها وثبوتها بالإرساء .
قوله : { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي } عِلْمُهَا مصدرٌ مضاف للمفعول ، والظَّرف خبره أي : أنَّ الله استأثر بعلمها لا يعلمها غيره .
وقوله لا يُجَلِّيها أي لا يكشفها ولا يظهرها . والتَّجَلّي هو الظهور .
وقال مجاهد : لا يأتي بها لوقتها إلاَّ هُوَ نظيره قوله تعالى : { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } [ لقمان : 34 ] وقوله { إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا } [ طه : 15 ] ولمَّا سأل جبريل - عليه السلام - رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : « متى السَّاعةُ .
فقال : » ما المَسْئُولُ عنها بأعْلَم من السَّائِلِ «
قال المحققون : والسَّببُ في إخفاء السَّاعةِ عن العبادِ ليكونوا على حذر ، فكيون ذلك أوعى للطَّاعةِ وأزجر عن المعصية؛ فإنَّهُ متى علمها المكلف تقاعس عن التَّوبة ، وأخرها ، وكذلك إخفاء ليلة القدر؛ ليجتهد المكلف كل ليالي الشَّهْرِ في العبادة ، وكذلك إخفاءُ ساعة الإجابةِ في يومِ الجمعةِ؛ ليكون المكلف مُجِدّاً في الدُّعاءِ في كل اليوم .
قوله : » فِي السَّمواتِ « يجوزُ فيها وجهان ، أحدهما : أن تكون » في « بمعنى » على « أي : على أهل السموات أو هي ثقيلةٌ على نفس السموات والأرض ، لانشقاقِ هذه وزلزال ذي ، وهو قولُ الحسنِ .
والثاني : أنَّها على بابها من الظَّرفيَّةِ ، والمعنى : حصل ثقلها ، وهو شدَّتها ، أو المبالغة في إخفائها في هذين الظرفين .
قال الأصَمُّ : إن هذا اليوم ثقيل جدّاً على السمواتِ والأرض؛ لأنَّ فيه فناءَهم وذلك ثقيل على القلوب .
وقيل : ثقيلٌ بسبب أنَّهُم يصيرون بعده إلى البعث ، والحساب ، والسُّؤال ، والخوف .
وقال السُّديُّ : ثقل علمها ، فلم يعلم أحد من الملائكة المقربين ، والأنبياء المرسلين متى يكون حدوثها ووقوعها .
قوله : { لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً } أي فجأة على غفلة ، وهذا تأكيدٌ وتقرير لما تقدَّم من إخفائها .
روى أبو هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لَتَقُومنَّ السَّاعةُ وقد نشر الرَّجُلانِ ثوبَهُما بيْنَهُما ، فلا يتبايَعانِه ، ولا طْويانِهِ ، ولتقُومنَّ السَّاعةَ وقد انْصرفَ الرَّجُلُ بلبنِ لقْحتِهِ فلا يَطْعَمُهُ ، ولتقُومَنَّ السَّاعَةُ هُو يُلِيطُ فِي حوضِهِ فلا يَسْقى فيه ، ولتقُومنَّ السَّاعَةُ والرَّجُلُ قَدْ رفعَ أكْلَتَهُ إلى فيهِ فلا يَطْعَمُهَا »
قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } هذه الجملة التَّشبيهيَّة في محلِّ نصب على الحالِ من مفعول : « يَسْألُونكَ » وفي عَنْهَا وجهان :
أحدهما : أنَّها متعلقة بيَسْألُونَكَ و : « كأنَّكَ حَفِيٌّ » معترض ، وصلتها محذوفةٌ تقديره : خَفِيّ بها .
وقال أبُو البقاءِ : في الكلام تَقْدِيمٌ وتأخير ، ولا حاجة إلى ذلك ، لأنَّ هذه كلَّها متعلقاتٌ للفعل ، فإنَّ قوله { كأنَّكَ حَفِيٌّ } حال كما تقدَّم .
والثاني : أنَّ « عَنَ » بمعنى الباء كما تكون الباءِ بمعنى عن كقوله : { فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 259 ] { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام } [ الفرقان : 25 ] ؛ لأن حَفِيَ لا يتعدَّى ب « عن » بل بالباء كقوله : { كَانَ بِي حَفِيّاً } [ مريم : 47 ] أو يُضَمَّن معنى شيء يتعدَّى ب « عن » أي كأنك كاشف بحفاوتك عنها .
والحَفِيُّ : المستقصي عن الشَّيء ، المهتبلُ به ، المعني بأمره؛ قال : [ الطويل ]
2644- سُؤالَ حَفِيٍّ عَنْ أخِيهِ كأنَّهُ ... بِذكْرتِهِ وسْنَانُ أوْ مُتواسِنُ
وقال آخر : [ الطويل ]
2645 - فَلَمَّا التَقَيْنَا بيَّن السَّيْفُ بَيْنَنَا ... لِسائِلَةٍ عنَّا حَفِيٍّ سُؤالُهَا
وقال الأعشى : [ الطويل ]
2646 - فَإنْ تَسْألِي عَنِّي فَيَا رُبَّ سائلٍ ... حَفِيٍّ عن الأعْشَى بِهِ حَيْثُ أصْعَدَا
والإحْفَاءُ : الاستقصاء؛ ومنه إحفاء الشَّوارب ، والحافي؛ لأنَّهُ حَفِيَتْ قدمُه في استقصاء السَّيْر .
قال الزمخشريُّ : وهذا التركيب يفيدُ المُبالغةَ .
قال أبو عبيدة : وهو من قولهم : تحفى بالمسألةِ أي : استَقْصَى ، والمعنى : فإنَّكَ أكثرت السُّؤال عنها وبالغت في طلب علمها ، وقيل الحفاوةُ : البرُّ واللُّطْفُ .
قال ابن الأعْرابِي : يقال حفي بي حَفَاوةً وتحفَّى بي تَحَفِّياً . والتَّحفي : الكلام واللِّقاء الحسن ، قال تعالى : { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } [ مريم : 47 ] أي بارّاً لطيفاً يجيب دعائي . ومعنى الآية على هذا : [ يسألونك ] كأنَّك بارّق بهم لطيف العشرة معهم ، قاله الحسنُ وقتادةُ والسُّديُّ ويؤيدُهُ ما روي في تفسيره : إنَّ قريشاً قالوا لمُحمَّدٍ - عليه الصَّلاة والسَّلام - : إنَّ بَيْنَنَا وبينك قرابة فاذكر لنا متى السَّاعة؟ فقال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } [ الأعراف : 187 ] أي : كأنك صديق لهم بارّ ، بمعنى أنك لا تكون حفياً بهم ما دَامُوا على كفرهم .
وقرأ عبدُ الله حَفِيٌّ بها وهي تَدُلُّ لمن ادَّعَى أنَّ « عَنْ » بمعنى الباء ، وحَفِيٌّ فعيل بمعنى : مفعول أي : مَحْفُوٌّ .
وقيل : بمعنى فعل ، أي كأنَّ مبالغٌ في السؤال عنها ومتطلع إلى علم مجيئها .
قوله : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله } .
اعلم أن قوله { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا } سؤال عن وقت قيام السَّاعةِ .
وقوله ثانياً : { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } سؤالُ عن كيفيَّةِ ثقل السَّاعة وشدتها فلم يلزم التكرار ، وأجاب عن الأوَّلِ بقوله : { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي } وأجاب عن الثَّانِي بقوله : { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله } والفرق بين الصورتين : أن السؤال الأول كان واقعاً عن وقت السَّاعة . والسؤال الثَّاني كان واقعاً عن مقدار شدتها ومهابتها .
وأعظم أسماء اللَّهِ مهابة وعظمة هو قولنا : الله .
فأجاب عند السُّؤالِ عند مقدار شدَّةِ القيامة بالاسم الدَّالِّ على غاية المهابة ، وهو قولنا : اللَّهُ ، ثم ختم الآية بقوله : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أي : لا يعلمون أن القيامة حقٌّ؛ لأنَّ أكثر الخلقِ ينكرون المعاد .
وقيل : لا يَعْلَمُونَ بأنِّ أخبرتك بأَّ وقت قيام السَّاعةِ لا يعلمها إلاَّ اللَّهُ .
وقيل : لا يَعْلَمُون السَّبَبَ الذي لأجله أخفيت معرفة وقتها المعين عن الخَلْقِ .
قوله تعالى : { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله } الآية .
وجه تعلُّق هذه الآية بما قبلها : أنَّهم لمَّا سألوه عن علم السَّاعةِ فقال : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي } أي أنا لا أدري عِلْمَ الغيب ، ولا أملك لنفْسِي نفعاً ، ولا ضرّاً إنْ أنا إلاَّ نذير ، ونظيره قوله في سورة يونس : { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله } [ يونس : 48 ، 49 ] .
قال ابنُ عبَّاسِ : إنَّ أهل مكة قالوا : يا مُحمَّدُ ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فنشتري به ، ونربح فيه عند الغلاء ، وبالأرض التي تريد أن تجدب ، فنرحل عنها إلى ما قد أخْصَبَتْ؛ فأنزل اللَّهُ هذه الآية .
وقيل : لمَّا رجع عليه الصَّلاة والسَّلام من غزوة بني المصطلق جاءتْ ريح في الطَّريق ففرت الدوابُّ فأخبر عليه الصلاة والسلام بموت رفاعة بالمدينة ، وكان فيه غيظ للمنافقين ، وقال انظروا أين ناقتي؟ فقال عبدُ الله بن أبي : ألا تعجبون من هذا الرَّجل يخبر عن موت رجل بالمدينة ، ولا يعرف أين ناقته! فقال - عليه الصلاة والسلام - إنَّ ناساً من المُنافقينَ قالوا كيت وكيت ، وناقتي في هذا الشعب قد تعلَّق زمامها بشجرةٍ ، فوجدوها على ما قال؛ فأنزل الله عز وجل { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً } .
قوله : « لِنَفْسِي » فيه وجهان :
أحدهما : أنَّها متعلقة ب « أمْلِكُ » .
والثاني : أنَّها متعلقةٌ بمحذوف على أنَّها حالٌ من نَفْعاً؛ لأنه في الأصْلِ صفةٌ له لو تأخر ، ويجوزُ أن يكون لِنَفْسِي معمولاً ب « نَفْعاً » واللاَّم زائدةٌ في المفعول به تقويةٌ للعامل؛ لأنَّهُ فرع إذ التَّقديرُ : لا أملك أن أنفع نفسي ولا أن أضُرَّهَا ، وهو وجهٌ حسنٌ .
قوله { إِلاَّ مَا شَآءَ الله } في هذا الاستثناء وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ متَّصلٌ ، أي إلاَّ ما شاء الله تمكيني منه فإني أملكه .
والثاني : أنَّهُ منفصل - وبه قال ابنُ عطيَّة - ، وسبقة إليه مكيٌّ ، ولا حاجة تدعو إلى ذلك .
فصل
دلَّت هذه الآيةُ على مسألة خلق الأعمالِ؛ لأنَّ الإيمانَ نفع والكفر ضرٌّ؛ فوجب أن لا يحصلان لاَّ بمشيئةِ اللَّهِ تعالى؛ لأنَّ القدرة على الكفر إن لم تكن صالحة للإيمان فخالق تلك الدَّاعية الجازمةِ يكونُ مريداً للكفر ، فعلى جميع التقديرات : لا يملكُ العبدُ لنفسه نفعاً ، ولا ضرّاً إلا ما شاء اللَّهُ .
أجاب القاضي عنه بوجوه :
أحدها : أن ظاهر الآية ، وإن كان عاماً بحب اللَّفْظِ إلاّ أنَّا ذكرنا أنَّ سبب النُّزُولِ قولُ الكُفَّارِ : « يا مُحمَّدُ ألا يخبرك ربك بوقت السعر الرخيص قبل أن يغلو » فيُحمل اللفظُ العام على سبب نزوله ، فيكُونُ المرادُ بالنفع : تملك الأموال وغيرها ، والمراد بالضرّ وقت القحط وغيره .
وثانيها : أنَّ المُرادَ بالنَّفْع والضر ما يتَّصلُ بعلم الغيبِ لقوله : { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير } [ الأعراف : 188 ] .
وثالثها : أن التقدير : لا أملكُ لنفسي من النَّفع والضر إلاَّ قدر ما شاء اللَّهُ أن يقدرني عليه ويمكنني فيه ، وهذه الوجوه كُلُّهَا عدول عن الظَّاهر ، فلا يُصار إليها مع قيام البُرهانِ القاطع العقلي على أن الحق ليس إلاَّ ما دل عليه ظاهر الآية .
فصل
احتج الرَّسُولُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - على عدم علمه بالغيب بقوله : { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير } واختلفوا في المراد بهذا الخيرِ وقوله { وَمَا مَسَّنِيَ السواء } قال ابنُ جريجٍ :
قل لا أملك لنفسي نفعاً ، ولا ضرّاً من الهدى والضلالة ، ولو كنت أعلمُ متى أموت لاستكثرت من الخير ، أي : من العمل الصَّالح وما مَسَّنِيَ السُّوءُ ، واجتنبت ما يكون من الشَّر واتَّقَيْتُهُ .
وقيل : لو كنت أعلم الغيب أي : متى تقوم السَّاعةُ لأخبرتكم حتَّى تُؤمنُوا وما مَسَّني السُّوءُ بتكذيبكم .
وقيل : ما مسني السُّوء ابتداء يريد : وما مسَّنيَ الجنونُ؛ لأنَّهُم كانوا ينسبونه إلى الجُنُونِ ، وقال ابنُ زيدٍ : المرادُ بالسُّوءِ : الضرُّ ، والفقرُ ، والجوعُ .
قوله { وَمَا مَسَّنِيَ السواء } عطف على جواب « لو » وجاء هنا على أحسن الاستعمال من حيث أثبت اللاَّم في جواب « لَوْ » المثبت ، وإن كان يجوزُ غيره ، كما تقدَّم ، وحذفَ اللاَّم من المنفيّ ، لأنه يمتنع ذلك فيه .
وقال أبُو حيَّان : ولم تصحب « مَا » النَّافية - أي : اللام - وإن كان الفصيحُ إلاَّ تصحبها ، كقوله : { وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ } [ فاطر : 14 ] . وفيه نظرٌ؛ لأنَّهم نَضُّوا على أنَّ جوابها المنفيَّ لا يجوز دخولُ اللاَّم عليه .
قوله : { إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } نذير لمن لا يُصدق بما جئت به ، وبشير بالجنَّةِ لقوم يصدقون .
وذكر إحدى الطائفتين؛ لأنَّ ذكر إحداهما يفيد ذكر الأخرى ، كقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] .
وقد يقال : إنه كان نذيراً وبشيراً للكل إلاَّ أنَّ المنتفع بالنذارة والبشارة هم المؤمنون كما تقدَّم في قوله : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] .
واللاَّمُ في قوله [ القوم ] من باب التَّنازُعِ ، فعند البصريين تتعلقُ ب « بَشِير » لأنه الثَّاني ، وعند الكوفيين بالأول لسبقه .
ويجوز أن تكون المتعلٌّق بالنذارة محذوفاً ، أي : نذير للكافرين ودلَّ عليه ذكرُ مقابله كما تقدم .
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)
قوله تعالى : { هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } الآية .
اعلم أنَّهُ تعالى رجع هنا إلى تقرير التَّوحيدِ ، وإبطال الشرك .
قال ابنُ عبَّاسٍ : المرادُ بالنفس الواحدة آدم - عليه الصلاة والسلام - { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ النساء : 1 ] أي حواء خلقها اللَّهُ من ضلع آدم - عليه الصلاة والسلام - من غير أذَى ليسكن إليها أي : ليأنس بها ويأوي إليها قالوا : والحكمة في كونها مخلوقة من نفس آدم : أنَّ الجنسَ أميل إلى جِنْسهِ .
قال ابنُ الخطيبِ : وهذا مشكل؛ لأنَّهُ تعالى لمَّا كان قادراً على خلق آدم ابتداء فما الذي يحملنا على أن نقُولَ خلق حواء من جزء من أجزاء آدم؟ ولِمَ لم نقل إنَّهُ تعالى خلق حواء أيضاً ابتداء؟ وأيضاً فالقادرُ على خلق الإنسان من عظم واحد لِمَ لا يقدر على خلقه ابتداء؟ وأيضاً فقولهم إنَّ عدد أضلاع الجانب الأيسرِ من الذَّكرِ أنقص من عدد أضلاع الجانب الأيمن بشيء واحد ، على خلاف الحسن والتَّشريح . وإذا عرف ذلك فنقول : المرادُ من كلمة مِنْ في قوله : { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } أنَّ الإشارة إلى شيءٍ تكون تارة بحسب شخصه ، وتارة بحسب نوعه .
قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ « هَذَا وضُوءٌ لا يَقْبَلُ اللَّهُ الصلاة إلاَّ بِهِ »
والمرادُ نوعه لا ذلك الفرد المعين ، وقال - عليه الصَّلاةُ والسَّلام - « في يوم عاشوراء هَذَا هُو اليومُ الذي أظهر اللَّهُ فيه موسى على فِرعون » والمُرادُ : نوعه .
وقال تعالى : { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة } [ البقرة : 35 ] والمرادُ نوعها لا شخصها فكذا ههنا .
{ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } أي : وخلق من نوع الإنسان زوجٍ آدم ، أي : جعل زوج آدم إنساناً مثله ، « فلمَّا تَغشَّاهَا » أي واقعها وجامعها : { حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً } وهو أوَّلُ ما تحمل المرأة من النُّطفةِ يكون خفيفاً عليها : « فَمَرَّتْ بِهِ » أي : استمرَّت به ، وقامت وقعدت به لم يثقلها .
قوله حَمْلاً المشهورُ أنَّ الحَمل بالفتح ما كان في بطن أو على رأس شجرة ، وبالكسر ما كان على ظهر أو رأس غير شجرة . وحكى أبُو عُبيدٍ في حمل المرأةِ : حَمْل وحِمْل .
وحكى يعقبوُ في حمل النَّخْلةِ : الكسر ، والحمل في الية يجوزُ أن يُرادَ به المصدرُ فينتصب انتصابهُ ، وأن يُرادَ به نفسُ الجنين ، وهو الظَّاهِرُ ، فينتصب انتصابَ المفعُولِ به ، كقولك : حَمَلْتُ زيداً .
قوله : « فَمَرَّتْ » الجمهور على تشديد الراء ، أي : استمرت به ، أي : قامت وقعدت .
وقيل : هو على القلب أي : فمَرَّ بها أي : استمرَّ ودام .
وقرأ ابنُ عبَّاسٍ : وأبو العالية ويحيى بن يعمر ، وأيوب : فَمَرَتْ خفيفه الرَّاءِ ، وفيها تخريجان :
أحدهما : أنَّ أصلها التشديد ، ولكنهم كرهوا التضعيف في حرف مُكرر فتركوه ، وهذه كقراءة : { وَقَرْنَ } [ الأحزاب : 33 ] بفتح القاف إذَا جعلناهُ من القرارِ .
والثاني : أنه من المرية وهو الشَّكُ ، أي : فشكَّت بسببه أهو حَمْلٌ أم مرض؟
وقرأ عبدُ الله بن عمرو بن العاص ، والجحدريُّ : فَمَارَتْ بألف وتخفيف الرَّاءِ ، وفيها أيضاً وجهان ، أحدهما : أنَّها من : « مَارَ ، يمُورُ » إذا جاء وذهب ، ومَارتِ الرِّيحُ ، أي : جاءت وذهَبَتْ وتصرَّفَتْ في كُلِّ وجهٍ ، ووزنه حينئذٍ « فَعَلَتْ » والأصلُ « مَوَرَتْ » ثم قلبت الواو ألفاً فهو ك : طَافَتْ ، تَطُوفُ .
والثاني : أنَّها من المريةِ أيضاً قاله الزمخشريُّ ، وعلى هذا فوزنه « فَاعلَتْ » .
والأصْلُ « مَارَيتْ » ك « ضَارَبَتْ » فتحرَّك حرفُ العلَّةِ وانفتح ما قبله فقُلِبَ ألفاً ، ثمَّ حُذفتْ لالتقاء الساكنين ، فهو ك : بَارَتْ ، ورَامَتْ . وقرأ سعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ ، وابنُ عبَّاسٍ أيضاً والضحَّاكُ : فاسْتَمَرَّتْ بِهِ وهي واضحة .
وقرأ أبيّ فَاسْتمَارَتْ وفيها الوجهان المتقدمان في « فَمَارَتْ » أي : أنَّهُ يجوز أن يكون من « المِرْيَة » ، والأصلُ : اسْتَمْريَتْ وأن يكون من « المَوْرِ » ، والأصلُ : اسْتَمْورَتْ .
قوله : « فَلمَّا أثقَلَتْ » أي : صَارتْ ذات ثقل ودنت ولادتها كقولِهِمْ ألبَنَ الرَّجُلُ ، وأتْمَرَ أي : صار ذَا لبَنٍ وتَمْرٍ .
وقيل : دخلت في الثقل؛ كقولهم : أصبح وأمسى ، أي : دخل في الصَّباح والمساءِ ، وقرئ أثْقِلَتْ مبنيّاً للمفعُولِ .
قوله : « دَعَوا اللَّهَ » متعلَّقُ الدُّعاء محذوفٌ لدلالة الجملة القسميَّةِ عليه ، أي : دعواهُ في أن يُؤتيهُمَا ولداً صالحاً .
قوله : « لَئِنْ آتيْتَنَا » هذا القسمُ وجوابه فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ مُفَسِّرٌ لجملة الدُّعاءِ كأنه قيل :
فما كان دعاؤهما؟
فقيل : كان دعاؤهما كيت وكيت؛ ولذلك قلنا إنَّ هذه الجملة دالةٌ على متعلق الدُّعاءِ .
والثاني : أنَّهُ معمولٌ لقولٍ مضمرٍ ، تقديره : فقالا لئن آتيتنا ، ولنكُوننَّ جوابُ القسم ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ على ما تقرَّر .
وصَالِحاً فيه قولان أظهرهما : أنه مفعولٌ ثان ، أي : ولداً صالحاً .
والثاني : قال مكي إنه نعتُ مصدر محذوف ، أي : إيتاءً صالحاً ، وهذا لا حاجة إليه ، لأنه لا بد من تقدير المؤتى لهما .
فصل
قال المفسِّرون : المعنى لَئِنْ آتيتنا صالحاً بشراً سويّاً مثلنا لنكوننَّ من الشَّاكرين .
وكانت القصةُ أنَّهُ لمَّا حملت حواء أتاها إبليس في صورة رجل فقال لها : ما الذي في بطنكِ؟
قالت : ما أدْرِي ، قال : إني أخافُ أن يكُون بهيمةً ، أو كلباً ، أو خنزيراً ، وما يُدريك من أين يَخْرُجُ؟ أمن دبرك فيقتلك ، أو من فيك أو ينشق بطنك؟ فخافت حوَّاءُ من ذلك وذكرته لآدم ، فلم يزالاَ في هُمّ من ذلك ، ثمَّ عاد إليها فقال : إني من اللَّهِ بمنزلةٍ فإن دعوتُ الله أن يجعله خلقاً سويّاً مثلك ، ويُسهِّل عليك خروجه تسميه عبد الحارثِ .
وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث ، فذكرت ذلك لآدم .
فقال : لعلَّهُ صاحبنا الذي قد علمت؛ فعاودها إبليس ، فلم يزل بها حتَّى غرَّها؛ فلمَّا ولدْتهُ سمَّيَاهُ عبد الحارثِ .
وروي عن ابن عباسٍ ، قال : كانت حوَّاءُ تلدُ فتسميه عبد الله ، وعبيد الله ، وعبد الرحمن فيصيبهم الموتُ ، فأتاهما إبليسُ ، وقال : إن سَرَّكُمَا أن يعيش لكما ولدٌ فسمياه عبد الحارث؛ فولدت فسمياهُ عبد الحارث فعاش ، وجاء في الحديث خدعهما إبليس مرتين مرة في الجنة ومرة في الأرض .
واعلم أن هذا التأويل فاسدٌ لوجوه :
أحدها : قوله تعالى : { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } فدلَّ على أن الذين أتوا بهذا الشركِ جماعةٌ .
وثانيها : قال بعدهُ : { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } وهذا يدلُّ على أن المقصود من الآية : الرَّد على من جعل الأصنام شركاء للَّهِ تعالى ، ولم يجر لإبليس اللعين في هذه الآية ذكر .
وثالثها : لو كان المراد إبليس لقال : أيشركُون من لا يخلُقُ؛ لأن العاقلَ إنَّما يُذْكَرُ بصيغة من .
ورابعها : أنَّ آدم - عليه السَّلام - كان من أشدّ النَّاس معرفة بإبليس ، وكان عالماً بجميع الأسماءِ كما قال تعالى : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا } [ البقرة : 31 ] فلا بد وأن يكُون قد علم أن اسم إبليس هو الحارثُ ، فمع العداوة الشَّديدة التي بينهُمَا ومع علمه بأنَّ اسم إبليس الحارث كيف يسمِّي ولدهُ بعبد الحارث؟ وكيف ضاقت عليه الأسماءُ بحيث لم يجد سوى هذا الاسم؟
وخامسها : أنَّ أحدنا لو حصل له ولد فجاءهُ إنسان ، ودعاه إلى أن يسمي ولده بهذا الاسم لزجره وأنكر عليه أشد الإنكار ، فآدم - عليه السلام - مع نبوته وعلمه الكثير الذي حصل من قوله { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا } وتجاربه الكثيرة التي حصلت له بسبب الزلة لأجل وسوسة إبليس ، كيف لم يتنبه لهذا القدر المنكر؟
وسادسها : أن بتقدير أن آدم عليه الصلاة والسلام ، سماه بعبد الحارث ، فلا يخلو إمَّا أن يقال إنه جعل هذا اللفظ اسم علم له أو جعله صفة له ، بمعنى أنَّهُ أخبر بهذا اللفظ أنَّهُ عبد الحارثِ ، فإن كان الأول لم يكن هذا شركاً لأن أسماء الأعلام والألقاب لا تفيد في المسميات فائدة ، فلا يلزم من هذه التسمية حصول الإشراك ، وإن كان الثاني كان هذا قولاً بأن آدم - عليه الصلاة والسلام - اعتقد أنَّ لله شريكاً في الخلق والإيجاد ، وذلك يُوجبُ الجزم بكُفْر آدم ، وذلك لا يقوله عاقل؛ فثبت فساد هذا القول .
وإذا عُرِفَ ذلك لنقُولُ في تأويل الآية وجوه :
الأول : قال القفالُ - رحمه الله - إنَّه تعالى ذكر هذه القصة على سبيل ضَرْب
المثل وبيان أنَّ هذه الحالة صورة حال هؤلاء المشركين في جهلهم وقولهم بالشرك ، كأنَّهُ تعالى يقولُ : هو الذي خلق كُلَّ واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنساناً يساويه في الإنسانية ، فلمَّا تغشَّى الزَّوج زوجته وظهر الحمل دعا الزَّوج والزَّوجة ربهما إن أتانا ولداً صالحاً سويّاً لنكونن من الشَّاكرين لآلائك ونعمائك ، فلمَّا آتاهُمَا اللَّهُ ولداً صالحاً سويّاً جعل الزوج والزوجة لله شركاء فيما آتاهما؛ لأنَّهُم تارة ينسبون ذلك الولد غلى الطَّبائعِ كما يقولُ الطبيعيون ، وتارة ينسبونه إلى الكواكب كقول المُنجمين ، وتارة إلى الأصنامِ والأوثان كقول عبدة الأصنام .
ثم قال تعالى : { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي تنزَّه الله تعالى عن ذلك الشِّرْكِ . وهذا قول عكرمة .
والثاني : أن يكون الخطابُ لقريش الذين كانُوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم « وهم آل أقصى » .
والمرادُ من قوله : { هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ } قصي وجعل من جنسها زوجها عربية قرشية ليسكن إليها ، فلمَّا آتاهما ما طلبا من الولد الصَّالح السَّوي جعلا له شركاء فيما آتاهما حيث سميا أولاهما الأربعة : عبد منافٍ ، وعبد العزَّى ، وعبد قُصيٍّ وبعد اللاَّتِ وعبد الدَّار ، وجعل الضمير في يُشركُونَ لهما ، ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك .
الثالث : إن سلَّمنا أن هذه الآية وردت في شرح قصَّةِ آدم - عليه السَّلام - .
وعلى هذا ففي دفع هذا الإشكال وجوه :
أحدها : أن المشركين كانوا يقولون : أنَّ آدم - عليه الصلاة والسلام - كان يعبد الأصنام ، ويرجع في طلب الخير ودفع الشر إليها ، فذكر تعالى قصة آدم وحواء - عليهما الصلاة والسلام - وحكى عنهما أنهما قالا : { لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين } أي : ذكر تعالى أنه لو آتاهما ولداً صالحاً لاشتغلوا بشكر تلك النِّعمة .
ثم قال { فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ } .
فقوله : { جَعَلاَ لَهُ شُرَكآءَ } ورد بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتَّبعيد تقديره : فلما آتاهما صالحاً أجعلاً له شركاء فيما آتاهما؟ : { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذي يقولون بالشِّرك وينسبونه إلى آدم - عليه الصلاة والسلام - ، ونظيره أن ينعم رجل على رجل بوجوه كثيرة من الأنعام ، ثم قيل ذلك المُنْعِم إن ذلك المنعم عليه يقصد ذمك وإيصال الشر إليك . فيقول المُنْعِمُ : فعلت في حق فلان كذا وأحسنت إليه بكذا وكذا ، ثم يقابلني بالشَّرِّ؟ إنه بريء عن ذلك .
فقوله : يقابلني بالشَّرِّ المراد منه : النفي والتبعيد فكذا ههنا .
ثانيها : إن سلمنا أن القصَّة في آدم وحواء فلا إشكال في ألفاظها إلا قوله { فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ } ، أي : جعلا أولادهما شركاء على حذف المضافِ وإقامة المضاف إليه مقامه وكذا فيما : « آتاهُما » أي أولادهما ، كقوله : { واسأل القرية } [ يوسف 82 ] أي أهل القريةِ .
فن قيل : فعلى هذا التأويل ما الفائدة في تثنية قوله « جَعَلا لَهُ » ؟
قلنا : لأنَّ ولدهُ قسمان ذكر وأنثى فقوله « جَعَلا » المراد منه الذكر والأنثى فمرة عبّر عنهما بلفظ التثنية لكونهما صنفين ونوعين ، ومرَّة عبَّرَ عنهم بلفظ الجمع ، وهو قوله : { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
وثالثها : سلَّمْنَا أن الضمير في قوله : { جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ } عائد إلى آدم وحواء - عليهما السَّلام - إلاَّ أنه قيل : إنَّهُ تعالى لما آتاهما ذلك الولد الصَّالح عزما أن يجعلاه وقفاً على خدمة الله وطاعته وعبوديَّتِهِ على الإطلاق ، ثُمَّ بدا لهُمَا في ذلك ، فتارة كانوا ينتفعون به في مصالح الدُّنيا ومنافعها ، وتارة كانوا يأمرونه بخدمة الله تعالى وطاعته ، وهذا العملُ ، وإن كان مِنَّا طاعة وقربة ، إلاَّ أنَّ حسنات الأبرار سيئات المقرَّبين ، فلهذا قال اللَّهُ تعالى : { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حاكياً عن اللَّهِ تعالى : « أنَا أغْنَى الأغنِيَاءِ عن الشِّركِ من عملَ عملاً أشْركَ فيهِ غَيْرِي تركْتُه وشِرْكُه »
التأويل الرابع : سلَّمنا أنَّ القصَّة في آدم وحواء ، إلاَّ أنَّا نقولُ : إنَّما سموه بعيد الحارث لأنَّهُم اعتقدوا أنه إنما سلم من الآفَةِ والمرض بسبب دعاء ذلك الشخص المُسَمَّى بالحارث .
وقد يُسمى المُنْعَم عليه عبداً للمنعمِ ، كما يقالُ في المثل : أنا عبدُ من تعلَّمتُ منه حرفاً فآدم وحوَّاء إنما سمياهُ بعبد الحارث لاعتقادهم أنَّ سلامته من الآفات ببركة دعائه ، ولا يخرجه ذلك عن كونه عَبْداً لِلَّهِ من جهة أنَّهُ مملوكه ومخلوقه ، وقد ذكرنا أنَّ حسنات الأبرار سيئا المقربين فلمَّا حصل الاشتراك في لفظ العبدِ لا جرم عُوتب آدم عليه الصَّلاة والسَّلام في هذا العمل بسبب الاشتراك في مجرد لفظ العبد .
قوله : « جَعَلا لَهُ » قيل : ثمَّ مضاف ، أي : جعل له أولادهما شركاء ، كما تقدَّم في التَّأويلِ السَّابق ، وإلاَّ فحاشا آدم وحواء من ذلك ، وإن جُعِل الضَّمير ليس لآدم وحواء ، فلا حاجة إلى تقديره كما مرَّ تقريره .
وقرأ نافع ، وأبو بكر عن عاصم شِرْكاً بكسر الشِّينِ وسكون الرَّاءِ وتنوين الكاف .
والباقون بضمِّ الشين ، وفتح الرَّاء ، ومدِّ الكاف مهموزةً ، من غير تنوين ، جمع « شَريك » .
فالشِّركُ مصدرٌ ، ولا بد من حذف مضاف ، أي : ذوي شركٍ ، يعني : إشراك ، فهو في الحقيقةِ اسمُ مصدر ، ويكون المعنى : أحْدَثَا لَهُ إشراكاً في الولد ، وقيلك المرادْ بالشِّركِ : النصيبُ وهو ما جعلاه من رزقهما له يأكله معهما ، وكانا يأكلان ويشربان وحدهما ، فالضَّميرُ في لَهُ يعود على الولدِ الصَّالحِ .
وقيل : الضمير في لَهُ لإبليس ولم يَجرِ لهُ ذكر ، وهذان الوجهان لا معنى لهما .
وقال مكيٌّ وأبُو البقاءِ وغيرهما : إنَّ التقدير يجوز أن يكون : جعلا لغيره شِرْكاً .
قال شهابُ الدِّين : هذا الذي قدَّره هؤلاء قد قال فيه أبُو الحسن : كان ينبغي لمن قرأ شِرْكاً أن يقول المعنى : جعلا لغيره شِرْكاً؛ لأنَّهُمَا لا يُنْكرانِ أنَّ الأصلَ للَّه فالشرك إنَّما يجعله لغيره .
قوله : { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } قيل : هذه جملةٌ استئنافيةٌ ، والضمير في : يُشْرِكُونَ يعودُ على الكُفَّارِ ، وأراد به إشراك أهلِ مكَّة والكلامُ قد تمَّ قبله ، وقيل : يعودُ على آدم وحواء وإبليس ، والمرادُ بالإشراكِ تَسْميتُهُمَا الولد الثالث ب « عبد الحارث » وكان أشَارَ بذلك إبليس ، فالإشراكُ في التَّسْمية فقط ، وقيل : راجع إلى جميع المشركين من ذريَّةِ آدم ، وهو قولُ الحسنِ ، وعكرمة ، أي : جعل أولادهما له شركاء فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم كما أضاف فعل الآباء إلى الأبْنَاءِ في تعييرهم بفعل الآباء فقال :
{ ثُمَّ اتخذتم العجل } [ البقرة : 51 ] { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً } [ البقرة : 72 ] خاطب به اليهُود الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك الفعل من آبائهم .
وقيل : لم يكن آدم عَلِمَ ، ويُؤيدُ الوجه الأول قراءة السّلمي : « عَمَّا تُشرِكُون » بتاء الخطاب وكذلك « أتُشْركُونَ » بالخطابِ أيضاً ، وهو التفات .
قوله : { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً } .
هذه الآيةُ من أقوى الدَّلائل على أنَّهُ ليس المراد بقوله تعالى : { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } ما ذكره في قصَّة إبليس إذ لو كان المرادُ ذلك لكانت هذه الآية أجنبية عنها بالكليَّة ، وكان ذلك النَّظْمُ في غاية الفسادِ ، بل المرادُ ما ذكرناه في الأجوبة من أنَّ المقصود من الآية السابقة الرَّدُّ على عبدة الأوثان؛ لأنه أراد ههنا إقامة الحجَّة على أنَّ الأوثان لا تصلحُ للإلهيَّةِ فقوله : { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } أي : أيعبدون ما لا يقدرُ على أن يخلق شيئاً؟ وهم يُخلقون ، يعني الأصنام .
قوله : « وهُمْ يُخْلقُونَ » يجوزُ أن يعود الضميرُ على ما من حيث المعنى وعبَّر عن ما وهو مفرد بضمير الجمع؛ لأنَّ لفظة ما تقع على الواحدِ والاثنينِ والجمع فهي من صيغ الواحد بحسب لفظها ، ومحتملة للجميع فاللَّهُ تعالى اعتبر الجهتين؛ فوحَّد قوله يَخْلُقُ لظاهر اللفظ وجمع قوله : « وهُمْ يُخْلَقُونَ » للمعنى ، والمرادُ بها الأصنام وعبر عنهم ب « هُم » وجمعهم بالواو والنون ، لاعتقاد الكفار فيها ما يعتقدونه في العقلاء أو لأنهم مختلطون بمن عُبد من العقلاء كالمسيح وعزير ، أو يعودُ على الكُفَّارِ ، أي : والكفار مخلوقون فلو تفكَّروا في ذلك لآمنوا
فصل
دلَّت هذه الآية على أنَّ العبد لا يخلق أفعاله؛ لأنَّهُ تعالى طعن في إلاهية الأصنام لكونها لا تخلق شيئاً وهذا الطَّعن لا يتمُّ إلاَّ إذا قلنا بأنَّها لو كانت خالقة لشيء لم يتوجه الطعن في إلاهيتها ، وهذا يقتضي أنَّ من كان خالقاً كان إلهاً ، فلو كان العبدُ خالقاً لأفعال نفسه كان إلهاً ، ولمَّا كان ذلك باطلاً علمنا فساد هذا القول .
قوله : { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً } أي : أن الأصنام لا تنصر من أطاعها ، ولا تضرُّ من عصاها ، وهو المراد بقوله : { وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } .
قوله : { وَإِن تَدْعُوهُمْ } الظاهرُ أنَّ الخطاب للكفَّار ، وضمير النَّصْبِ للأصنام ، أي : وإن تدعوا آلهتكم إلى طلب هدى ورشاد - كما تطلبونه من الله - لا يتعابعوكم على مُرادكُم ، ويجُوزُ أن يكون الضميرُ للرسُولِ والمؤمنين ، والمنصوب للكفَّارِ ، أي وإن تدعوا أنتم هؤلاء الكفار إلى الإيمان ، ولا يجوزُ أن يكون تَدعُوا مسنداً إلى ضميرِ الرسُولِ فقط ، والمنصوبُ للكُفَّارِ أيضاً؛ لأنَّه كان ينبغي أن تحذف الواو ، لأجل الجازم ، ولا يجوزُ أن يقال : قدَّر حذف الحركة وثبت حرف العلَّة؛ كقوله : [ البسيط ]
2647 - هَجَوْتَ زبَّانَ ثُمَّ جِئْتَ مُعْتَذِراً ... مِنْ هَجْوِ زبَّان لَمْ تَهْجُوا ولمْ تَدَعِ
ويكون مثل قوله تعالى : { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ } [ يوسف : 90 ] ، { فَلاَ تنسى } [ الأعلى : 6 ] { لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى } [ طه : 77 ] لأنَّه ضرورةٌ ، وأمَّا الآيات فمؤولة وسيأتي ذلك .
قوله : « لا يَتَّبِعُوكُم » قرأ نافع بالتخفيف ، وكذا في الشعراء { يَتْبَعُهُمْ } [ 244 ] .
والباقون بالتشديد ، فقيل : هما لغتان ، ولهذا جاء في قصة آدم : { فَمَن تَبِعَ } [ البقرة : 385 ] وفي موضع { أَفَمَنِ اتبع } [ طه : 132 ] .
وقيل : تَبع اقتفى أثره ، واتَّبعه بالتشديد : اقتدى به والأول أظهر .
ثُمَّ أكَّد الكلام فقال : { سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ } والمعنى : سواء عليكم أدعوتموهم إلى الدِّين أم أنتم صامتون عن دعائهم ، لا يؤمنون ، كقوله : { عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 6 ] وعطف قوله : { أَمْ أنْتُمْ صَامِتُونَ } وهي جملةٌ اسمية على أخرى فعلية؛ لأنَّها في معنى الفعليَّة ، والتقدير : أمْ صَمَتُّم؟
وقال أبُو البقاءِ : جملة اسميَّة في موضع الفعليَّة ، والتقديرُ : أدعوتموهم أم صَمَتُّم؟
وقال ابنُ عطيَّة : عطف الاسم على الفعل؛ إذ التقدير : أمْ صَمَتُّم؛ ومثله قول الشاعر : [ الطويل ]
2648 - سَوَاءٌ عَليْكَ النَّفْرُ أم بِتَّ لَيْلَةً ... بأهْلِ القبابِ مِنْ نُمَيْرِ بنِ عامرِ
قال أبُو حيَّان : وليس هذا من عطفِ الفعل على الاسم ، إنَّما هو من عطف الاسميَّة على الفعليَّة ، وأمَّا البيتُ فليس فيه عطف فعلٍ على اسم ، بل هو من عطف الفعلية على اسم مُقدَّرٍ بالفعلية ، إذ الأصل : سواءٌ عليك أنفرت أم بتَّ ، وإنما أتى في الآية بالجملة الثانية اسمية؛ لأنَّ الفعل يُشْعِر بالحدوث ولأنها رأسُ فاصلة . والصَّمْتُ : السُّكوت ، يقال صَمَتَ يَصْمُتُ بالفَتْحِ ، في الماضي ، والضم في المضارع .
ويقال : صَمِتَ ، بالكسرِ ، يَصْمَتُ بالفتح والمصدر الصَّمْتُ والصُّمات ، وإصمت ، بكسر الهمزة والميم : اسمُ فلاة معروفة ، وهو منقولٌ من فعل الأمر من هذه المادة ، وقد ردَّ بعضهم هذا بأنَّه لو كان منقولاً من الأمر لكان ينبغي أن تكون همزته همزة وصل ، ولكان ينبغي أن تكون ميمه مضمومة ، إن كان من « يَصْمُتُ » أو مفتوحة إن كان من « يَصْمَتُ » ؛ ولأنَّهُ ينبغي ألاَّ يؤنث بالتَّاءِ ، وقد قالوا : إصْمِتَة .
والجوابُ أنَّ فعل الأمر يجبُ قطعُ همزته إذا سُمِّيَ به نحو : اسْرُب؛ لأنَّهُ ليس لنا من الأسماءِ ما همزته للوصل إلاَّ أسماءٌ عشرة ، ونوع الانطلاق من كل مصدر زاد على الخمسة وهو قليلٌ ، فالإلحاقُ بالكثير أولَى ، وأمَّا كَسْرُ الميم فلأنَّ التغيير يُؤنِسُ بالتَّغيير وكذلك الجوابُ عن تأنيثه بالتَّاءِ .
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)
قوله : « إنَّ الذينَ » العامَّةُ على تشديدِ إنَّ والموصولُ اسمها ، وعبادٌ خبرها ، وقرأ سعيدُ بنُ جبيرٍ بتخفيف إنْ ونصب عباد وأمثالكم ، وخرَّجها ابن جني وغيره أنها إنْ النَّافيةُ وهي عاملةُ عمل ما الحجازية وهو مذهب الكسائي وأكثر الكوفيين غير الفراء ، وقال به من البصريين : ابن السراج والفارسي وابن جنِّي ، واختلف النقل عن سيبويه والمبرد ، والصحيحُ أنَّ إعمالها لغةٌ ثاتبة نظماً ونثراً؛ وأنشدوا : [ المنسرح ]
2649 - إنْ هُوَ مُسْتَوْلِياً على أحِدٍ ... إلاَّ على أضْعَفِ المجانينِ
ولكن قد استشكلوا هذه القراءة من حيث إنها تنفي كونهم عباداً أمثالهم ، والقراءة الشهيرة تُثْبِتُ ذلك ولا يجوزُ التَّناقض في كلام اللَّهِ تعالى .
وقد أجَابُوا عن ذلك بأنَّ هذه القراءة تُفْهِمُ تحقير أمرِ المعبودِ من دون اللَّهِ وعبادة عابِدِه .
وذلك أنَّ العابدين أتَمَّ حَالاً وأقدرُ على الضرِّ والنَّفْعِ من آلهتهم فإنَّهَا جمادٌ لا تفعل شيئاً من ذلك ، فكيف يَعْبُدُ الكاملُ من هُو دُونَه؟ فهي موافقةٌ للقراءة المتواترة بطريق الأولى .
وقد ردَّ أبو جعفرٍ هذه القراءة بثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّهَا مخالفةٌ لسواد المصحفِ .
والثاني : أن سيبويه يختار الرفع في خبر إنْ المخففة فيقول : « إنْ زيدٌ منطلقٌ » ؛ لأنَّ عمل ما ضعيف وإنْ بمعناها ، فهي أضعف منها .
الثالث : أنَّ الكسائي لا يرى أنَّهَا تكون بمعنى ما إلاَّ أن يكون بعدها إيجاب ، وما ردَّ به النَّحَّاس ليس بشيءٍ؛ لأنَّهَا مخالفةٌ يسيرة .
قال أبُو حيان : يجوزُ أن يكون كتب المنصوب على للة ربيعة في الوقف على المنون المنصوب بغير ألف ، فلا تكون مخالفةٍ للسَّواد .
وأمَّا سيبويه فاختلف النَّاسُ في الفهم عنه في ذلك .
وأمَّا الكسائيُّ فهذا القيد غير معروف له .
وخرَّج ابو حيَّان القراءة على أنَّها إنْ المخففة .
قال : وإنْ المخففة تعمل في القراءة المتواترة كقراءة { وَإِنَّ كُلاًّ } [ هود : 111 ] ثُمَّ إنَّها قد ثبت لها نصبُ الجُزأين؛ وأنشد : [ الطويل ]
2650 - .. إنَّ حُرَّاسنَا أُسْدَا
قال : وهي لغة ثابتة ثم قال : فإن تأوَّلثوا ما ورد من ذلك؛ نحو : [ الرجز ]
2651 - يَا لَيْتَ أيَّامَ الصِّبَا رَوَاجِعا ... أي : تُرَى رواجعاً ، فكذلك هذه يكون تأويلها : إن الذين تدعون من دون الله خلقناهم عباداً أمثالكم .
قال شهابُ الدِّين : فيكون هذا التَّخريج مبنياً على مذهبين .
أحدهما : إعمالُ المخففَّة .
وقد نصَّ جماعة من النحويين على أنَّه أقل من الإهمال ، وعبارة بعضهم أنَّهُ قليل ، ولا أرتضيه قليلاً لوروده في المتواتر .
الثاني : أنَّ إنَّ وأخواتها تنصب الجزأين ، وهو مذهبٌ مرجوح ، وقد تحصَّل في تخريج هذه القراءة ثلاثةُ أوجه : كون إنْ نافية عاملة ، والمخففة الناصبة للجزءين ، أو النصب بفعل مقدر هو خبر لها في المعنى .
وقرأ بعضهم إنْ مخففة ، عباداً نصباً أمثالكم رفعاً ، وتخريجها على أن تكونَ المخففة وقد أهملت والذين مبتدأ ، و « تَدْعُونَ » صلتها والعائدُ محذوف ، وعباداً حال من ذلك العائد المحذوفِ ، أمثالكُم خبره ، والتقدير : إنَّ الذين تدعونهم حال كونهم عباداً أمثالكم في كونهم مخلوقين مملوكين ، فكيف يُعْبَدُون؟
ويضعفُ أن يكون الموصول اسماً منصوب المحل؛ لأن إعمال المخففة كما تقدَّم قليلٌ .
وحكى أبُو البقاءِ أيضاً قراءةُ رابعةً وهي بتشديدِ إنَّ ونصب عباد ورفع أمثالكم وتخريجها على ما تقدم قبلها .
فصل
في الآية سؤال : وهو أنه كيف يحسن وصف الأصنام بأنَّها عباد مع أنها جمادات؟
والجواب : من وجوه :
أحدها : أن المشركينَ لمَّا ادعوا أنَّها تضر وتنفعُ؛ وجب أن يعتقدوا فيها كونها عاقلة فاهمة ، فلهذا وردت هذه الألفاظ وفق اعتقادهم؛ ولهذا قال : { فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ } [ الأعراف : 194 ] .
وقال : « إنَّ الذينَ » ولم يقل : « إنَّ الَّتي » .
وثانيها : أن هذا اللَّفظ ورد في معرض الاستهزاء بهم أي : أمرهم أن يكونُوا أحياءً عقلاء فإن ثبت ذلك فهم عبادٌ أمثالكم ، ولا فضل لهم عليكم ، فَلِمَ جعلتُم أنفسكم عبيداً وجعلتموها آلهة وأرباباً؟
ثم أبطل أن يكونوا عباداً فقال : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ } ثم أكَّد البيان بقوله { فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ } . ومعنى هذا الدعاء طلب المنافع وكشف المضار من جهتهم واللام ي قوله : { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ } لام الأمر على معنى التَّعجيزِ ، ثمَّ لمَّا ظهر لكلِّ عاقل أنها لا تقدر على الإجابة ظهر أنَّها لا تصلح للعبادة ، ونظيره قول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } [ مريم : 42 ] وقوله : { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } في أنَّها آلهة ومستحقَّة للعبادة .
وثالثها : قال مقاتل : الخطابُ مع قوم كانوا يعبدون الملائكة .
قوله : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } قرأ العامَّةُ بكسر الطاء ، من بطش يبطش ، وقرأ أبو جعفر وشيبة ، ونافع في رواية عنه : يَبْطُشُونَ بضمها ، وهما لغتان ، وهما لغتان ، والبَطْشُ ، الأخْذُ بقوة .
واعلم أنَّهُ تعالى ذكر هذا الدَّليل لبيان أنه يقبح من الإنسان العاقل أن يعبد هذه الأصنام؛ لأنَّ هذه الأعضاء الأربعة إذا كان فيها القوى المحركة والمدركة كانت أفضل منها إذا كانت خالية عن هذه القوى ، فالرِّجلُ القادرةُ على المشي ، واليد القادرةُ على البَطْشِ أفضل من اليد والرجل الخاليتين عن قوة الحركة والحياة ، والعينُ البَاصرةُ والأذنُ السَّامعة أفضل من العين والأذن الخاليتين عن القوة السَّامعة ، والباصرة ، وعن قوَّةِ الحياة .
وإذا ثبت ذلك ظهر أن الإنسان أفضل بكثير من الأصنام بل لا نسبة لفضيلة الإنسانه إلى فضيلة الأصنام ألبتة .
وإذا كان كذلك فكيف يليقُ بالأفضل والأكل الأشرف أن يعبد الأخسّ الأدون الذي لا يحصل منه فائدة ألبتَّة ، لا في جلب منفعة ولا في دفع مضرَّة .
قوله : { قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ } قرأ أبُو عمرو كِيدُونِي بإثبات الياءِ وصلاً ، وحذفها وقفاً وهشام بإثباتها في الحالين ، والباقون بحذفها في الحالين ، وعن هشامٍ . خلاف مشهور قال أبُو حيان : وقرأ أبُو عمرو وهشام بخلاف عنه فكيدُونِي بإثبات الياءِ وصلاً ووقفاً .
قال شهابُ الدِّينِ : أبو عمرو لا يثبتها وقفاً ألبتَّة ، فإنَّ قاعدته في الياءاتِ الزائدة ما ذكرته ، وفي قراءة فَكِيدثونِي ثلاثةُ ألفاظٍ ، هذه وقد عُرف حكمُهَا ، وفي هود : « فكيدوني جميعاً » أثبتها القراء كلهم في الحالين .
وفي المُرسلاتِ : { فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ } [ الآية : 39 ] حذفها الجميعُ في الحالين وهذا نظيرُ ما تقدَّم في قوله { واخشوني } [ البقرة : 150 ] فإنَّها في البقرة ثابتةٌ للكلّ وصلاً ووقفاً ، ومحذوفةٌ في أوَّل المائدة ، ومختلف في ثانيتها .
فصل
والمعنى : ادعُوا شركاءكم يا معشر المشركين ثمَّ كيدوني أنتم وهم فلا تُنظِرُون أي لا تمهلون واعجلوا في كيدي ليظهر لكم أنَّ لا قدرة لها على إيصار المضار بوجه من الوجوه .
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
قوله : { إِنَّ وَلِيِّيَ الله } العامة على تشديد وَلِيِّيَ مضافاً لياء المتكلم المفتوحة ، وهي قراءة واضحة أضاف الوليَّ إلى نفسه .
وقرأ أبو عمرو في بعض طرقه « إنَّ وليَّ » بياء واحدة مشددة مفتوحة ، وفيها تخريجان :
أحدهما : قال أبُو عليٍّ : إن ياء « فعيل » مدغمةٌ في ياء المتكلم ، وإنَّ الياء التي هي لام الكلمة محذوفةٌ ، ومنع من العكس .
والثاني : أن يكون وليَّ اسمها ، وهو اسمُ نكرة غيرُ مضافِ لياء المتكلم ، والأصلُ : إنَّ وليّاً الله ف « وليّاً » اسمها والله خبرها ، ثم حذف التنوين؛ لالتقاء الساكنين؛ كقوله : [ المتقارب ]
2652 - فأَلْفَيْتُه غَيْر مُسْتَعْتبٍ ... ولا ذَاكِر اللَّهَ إلاَّ قَلِيلا
وكقراءة من قرأ { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد } [ الإخلاص : 1 - 2 ] ولم يبق إلاَّ الإخبارُ عن نكرةٍ بمرعفة ، وهو واردٌ .
قال الشاعر : [ الطويل ]
2653 - وإنْ حَرَاماً أن أسُبَّ مُجَاشِعاً ... بآبَائِي الشمِّ الكِرَامِ الخَضَارِمِ
وقرأ الجحدريُّ في رواية إنَّ وليِّ الله بكسر الياءِ مشددة ، وأصلها أنَّهُ سكن ياء المتكلم ، فالتقت مع لام التعريف فحذفت ، لالتقاء الساكنين ، وبقيت الكسرة تدلُّ عليها نحو : إنَّ غلام الرَّجلُ .
وقرأ في رواية أخرى إنَّ وليَّ اللَّهِ بياء مشددة مفتوحة ، والجلالة بالجرِّ ، نقلهما عنه أبو عمرو الدَّاني أضاف الولي إلى الجلالةِ .
وذكر الأخفشُ وأبو حاتم هذه القراءة عنه ، ولمْ يذكرا نَصْبَ الياء ، وخرَّجها النَّاسُ على ثلاثة أوجه : الأولُ : قولُ الأخفش - وهو أن يكون وَليّ الله اسمُها والَّذي نزَّلَ الكتاب خبرها ، والمراد ب « الذين نزّل الكتابَ » جبريل ، لقوله تعالى : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } [ الشعراء : 193 ] : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس } [ النحل : 102 ] إلاَّ أنَّ الأخفش قال في قوله { وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين } هو من صفة الله قطعاً لا من صفة جبريل ، وفي تحتم ذلك نظرٌ .
والثاني : أن يكون الموصوف بتنزيل الكتاب هو الله تعالى ، والمراد بالموصول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ويكون ثمَّ عائدٌ محذوفٌ لفهم المعنى والتقدير إنَّ وليَّ الله النبيُّ الذي نزَّ الله الكتاب عليه ، فحذف عليه وإن لم يكن مشتملاً على شروط الحذف ، لكنَّه قد جاء قليلاً ، كقوله : [ الطويل ]
2654 - وإنَّ لِسَانِي شُهْدَةٌ يُشْتَفَى بِهَا ... وهُوَّ على مَنْ صَبَّهُ اللَّهُ عَلْقَمُ
أي : صبة اللَّهُ عليه ، وقال آخر : [ الطويل ]
2655 - فأصْبَحَ مِنْ أسْمَاءَ قَيْسٌ كقَابضٍ ... عَلى المَاءِ لا يَدْرِي بِمَا هُوَ قَابِضُ
أي بما هو قابض عليه . وقال آخر : [ الطويل ]
1656- لَعَلَّ الَّذي أصْعَدْتني أنْ يَرُدَّنِي ... إلى الأرْضِ إنْ لَمْ يَقْدرِ الخَيْرَ قَادِرُه
أي : أصعدتني به .
وقال آخر : [ الوافر ]
2657- ومِنْ حَسَدٍ يَجُوزُ عَليَّ قَوْمِي ... وأيُّ الدَّهْر ذُو لم يَحْسُدُونِي
أي يحسدوني فيه .
وقال آخر : [ الطويل ]
2658 - فَقُلْتُ لهَا لاَ والَّذي حَجَّ حَاتِمٌ ... أخُونُكِ عَهْداً إنَّنِي غَيْرُ خَوَّانِ
أي : حج إليه ، وقال آخر : [ الرجز ]
2659 - فأبْلِغَنَّ خَالدَ بنَ نَضْلَةٍ ... والمَرْءُ مَعْنِيٌّ بِلوْمِ مَنْ يَثقْ
أي : يثقُ به .
وإذا ثبت أنَّ الضمير يُحْذَف في مثل هذه الأماكن ، وإن لم يكمل شرطُ الحذف فلهذه القراءة الشاذة في التخريج المذكور أسوةٌ بها .
والثالث : أن يكون الخبر محذوفاً تقديره : إنَّ وليَّ الله الصَّالحُ ، أو من هو صالح وحذف ، لدلالة قوله : { وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين } وكقوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر } [ فصلت : 41 ] أي : معذبون ، وكقوله { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ } [ الحج : 25 ] .
فصل
المعنى { إِنَّ وَلِيِّيَ الله الذي نَزَّلَ الكتاب } يعني القرآن ، أي : يتولاّني وينصرني كما أيَّدني بإنزال الكتاب { وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين } قال ابنُ عباسٍ : « يريد الذين لا يعدلُون بالله شيئاً ، فاللَّهُ يتولاهم بنصره ولا يضرهم عداوة من عاداهم » .
قوله : { والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ ولاا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ } .
وفيه قولان :
الأول : أن المراد منه وصف الأصنام .
فإن قيل : هذه الأشياءُ مذكورة في الآيات المتقدمة ، فما الفائدةُ في تكريرها؟
فالجوابُ : قال الواحديُّ : إنَّما أعيد؛ لأنَّ الأول مذكوررٌ للتَّقريع ، وهذا مذكورٌ للفرق بين من تجوز له العبادة ومن لا تجوز ، كأنَّهُ قيل : الإله المعبودُ يجبُ أن يكون بحيثُ يتولّى الصَّالحين ، وهذه الأصنام ليست كذلك فلا تكن صالحة للإلهية .
القول الثانيك أنَّ هذه الأحوال المذكورة صفات لهؤلاء المشركين الذين يدعون غير اللَّهِ يعني أنَّ الكفار كانُوا يخوفون رسول الله وأصحابه ، فقال تعالى : إنهم لا يقدرون على شيء بل إنهم قد بلغوا في الجهل والحماقة إلى أنك لو دعوتهم وأظهرت أعظم أنواع الحجة والبرهان لم يسمعوا ذلك بعقولهم ألبتة .
فإن قيل : لَمْ يتقدَّم ذكر المشركين ، وإنما تقدَّم ذكر الأصنام فكيف يصح ذلك؟
والجوابُ : أن ذكرهم تقدم في قوله تعالى : { قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ } [ الأعراف : 195 ] .
قوله : { وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } فإن حملنا هذه الصفات على الأصنام فالمرادُ من كونها ناظرة كونها مقابلة بوجهها وجوه القوم من قولهم : جبلان متناظاران أي : مُتقابلان ، وإن حملناها على المُشركين أي إنهم وإن كانُوا ينظرون إلى النَّاسِ إلاَّ أنهم لشدَّةِ إعراضهم عن الحقِّ لم ينتقعوا بذلك النَّظِر ، والرُّؤيةِ؛ فصاروا كأنَّهُمْ عمي .

قلت المدون التالي بمشيئة الله هو ج35. و36.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدجال يستغل ازمات الناس من الجوع ونقص الطعام والمياه في دعوتهم الباطلة لعبادتهم إياه والايمان به

  بياناته الشخصية     المسيح الدجال ليس خوارق إنما هو دجل وكذب قلت المدون ان الأ أزمة الاقتصادية الحادثة الان في كل دول العالم والمجاعة المت...