حمل المصحف وورد وبي دي اف.

 حمل المصحف وورد وPDF.
القرآن الكريم وورد word doc icon||| تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

الخميس، 22 سبتمبر 2022

ج13وج14..كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

 

ج13وج14..كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني


ج13.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
{ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة } [ النساء : 176 ] { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله } [ المنافقون : 5 ] و { هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ } [ الحاقة : 19 ] من باب الإِعمال؛ لأنَّ هذه العوامل مشتركةٌ بوجهٍ ما من وجوهِ الاشتراكِ ، ولم يُحْصَرِ الاشتراكُ في العطفِ ولا العَمَلِ ، فإذا كان على ما نصُّوا ، فليس العاملُ الثاني مُشْتركاً مع الأولِ بحرفِ العطفِ ، ولا بغيره ، ولا هو معمولٌ للأول؛ بل هو معمولٌ لقال ، و « قال » جوابُ « لَمَّا » إِنْ قلنا : إنَّها حرفٌ ، وعاملةٌ في « لَمَّا » إن قلنا : إنها ظرفٌ ، و « تبيَّن » على هذا القول مخفوضٌ بالظرف ، ولم يذكر النحاةُ التنازع في نحو : « لَوْ جَاءَ قَتَلْتُ زيداً » ، ولا « لَمَّا جاء ضربت زيداً » ، ولا « حِينَ جاء قتلْتُ زيداً » ، ولا « إذا جاء قتلتُ زيداً » ، ولذلك حكى النحاةُ أَنَّ العربَ لا تقول : « أَكْرَمْتُ أَهْنتُ زيداً » - يعني لعدم الاشتراكِ بين العاملين - وقد ناقضَ قوله؛ حيثُ جعل الفاعل محذوفاً ، كما تقدَّم في عبارتِهِ ، والحذفُ ينافي الإِضمارَ ، فإنْ كان أرادَ بالإِضمار في قوله : « وفاعِلُ تبيَّن مُضْمَرٌ » الحذفَ فهو قول الكسائيِّ؛ لأنه لا يُجيزُ إضمارَ المرفوع قبل الذكر فيدَّعي فيه الحذف ، ويُنشد : [ الطويل ]
1207- تَعَفَّقَ بِالأَرْطَى لَهَا وَأَرَادَهَا ... رِجَالٌ فَبَذَّتْ نَبْلَهُمْ وَكَلِيبُ
ولهذا تأويل مذكورٌ؛ ورُدَّ عليه بالسماع قال القائِلُ : [ البسيط ]
1208- هَوَيْنَنِي وَهَوَيْتُ الخُرَّدَ الْعُرُبَا ... أَزْمَانَ كُنْتُ مَنُوطاً بِي هَوًى وَصِبَا
فقال : « هَوَيْنَنِي » فجاءَ في الأَوَّل بضمير الإِناث ، من غير حذفٍ . انتهى ما رُدَّ به عليه ، قال شهاب الدِّين - رحمه الله - وفيه نظرٌ لا يخفى .
وقرأ ابن عبَّاس : « تُبُيِّن » مبنياً للمفعولِ ، والقائمُ مقامَ الفاعلِ ، الجارُّ والمجرورُ بعدَه . وابنُ السَّمَيْفع « يُبَيِّن » من غير تاء مبنياً للمفعولِ ، والقائمُ مقامه ضميرُ كيفية الإِحياء أو الجارُّ والمجرورُ .
قوله : { قَالَ أَعْلَمُ } الجمهورُ على : « قال » مبنيّاً للفاعلِ . وفي فاعله على قراءة حمزة والكسائي : « اعْلَمْ » أمراً من « عَلِمَ » قولان :
أظهرهما : أنه ضميرٌ يعودُ على اللهِ تعالى أو على المَلِك ، أي : قال اللهُ تعالى أو الملكُ لذلك المارِّ اعْلَمْ .
الثاني : أنه ضميرٌ يعودُ على المارِّ نفسه ، نزَّل نفسه منزلة الأجنبي ، فخاطبها؛ ومنه : [ البسيط ]
1209- وَدِّعْ أُمَامَة إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ .. .
وقوله : [ المتقارب ]
1210- تَطَاوَلَ لَيْلُكَ . . .. . .
يعني نفسه ، قال أبو البقاء رحمه الله : « كما تقول لنفسك : اعلم يا عبد الله ، ويُسَمَّى هذا التجريدَ » يعني : كأنه جَرَّد من نفسه مُخَاطباً يخاطِبُه .
وأمَّا على قراءةِ « أَعْلَمُ » مضارعاً [ للمتكلم ] وهي قراة الجمهور ففاعل « قال » ضميرُ المارِّ ، أي : قال المارُّ : أعلمُ أنا . وقرأ الأَعمشُ : « قِيل » مبنيّاً للمفعولِ . والقائمُ مقام الفاعل : إمَّا ضميرُ المصدرِ من الفعلِ ، وإمَّا الجملةُ التي بعده ، على حسبِ ما تقدَّم أول السورة .
[ وقرأ حمزةُ ، والكسائيُّ : « اعلمْ » على الأَمر ، والباقون : « أَعْلَمُ » مضارعاً ] وقرأ الجعفيّ عن أبي بكر : « أَعْلِمْ » أَمْراً من « أَعْلَمَ » ، والكلامُ فيها كالكلامِ في قراءةِ حمزة والكسائي بالنسبةِ إلى فاعل « قال » ما هو؟
فصلٌ في معنى قوله : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ }
قال الطبريُّ : معنى قوله : « فلمَّا تبيَّنَ لهُ » أي : لما اتضح له عياناً ما كان مستنكراً في قدرة الله عنده قبل عيانه ، قال : أَعلمُ . قال ابن عطيَّة : وهذا خطأٌ؛ لأنه ألزم ما لا يقتضيه اللفظ ، وفسر على القول الشاذِّ ، وهذا عندي ليس بإِقرارٍ بما كان قبل ينكره ، كما زعم الطبريُّ ، بل هو قولٌ بعثه الاعتبارُ؛ كما يقول المؤمنُ إذا رأى شيئاً غريباً من قدرة الله تعالى : لاَ إِلَه إِلاَّ اللهُ ، ونحو هذا . وقال أبو عليّ : معناه أعلم هذا الضرب من العلمِ الذي لم أكُن أَعْلَمه .
و « أَنَّ الله » في محلّ نصب ، سادَّةً مسد المفعولين ، أو الأَوَّل والثاني محذوفٌ على ما تقدّم من الخلاف .
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
هذه القصة الثالثة الدالَّةُ على صحَّة البعث .
في العامل في « إذْ » ثلاثةُ أوجه :
أظهرها : أنه قال : { أَوَلَمْ تُؤْمِن } ، أي : قال له ربَّه وقتَ قوله ذلك .
والثاني : أنه « أَلَمْ تَرَ » أي : ألم تر إذ قال إبراهيم .
والثالث : أنه مضمرٌ تقديره : واذكر قاله الزجاح ف « إِذْ » على هذين القولين مفعولٌ به ، لا ظرفٌ . و « ربِّ » منادى مضافٌ لياءِ المتكلم ، حُذفَتْ؛ استغناءً عنها بالكسرةِ قبلَها ، وهي اللغةُ الفصيحةُ ، وحُذِف حرفُ النداءِ .
وقوله : « أَرِنِي » تقدَّم ما فيه من القراءات ، والتوجيه في قوله : { وَأَرِنَا } [ البقرة : 128 ] والرؤية - هنا - بصرية تتعدَّى لواحدٍ ، ولمَّا دخلَتْ همزةُ النقل ، أكسبته مفعولاً ثانياً ، والأولُ ياءُ المتكلم ، والثاني الجملة الاستفهامية ، وهي معلقة للرؤية و « رأى » البصرية تُعَلَّق ، كما تعلق « نَظر » البصرية ، ومن كلامهم : « أَمَا تَرَى أَيُّ بَرْقٍ هَهُنَا » .
و « كَيْفَ » في محلِّ نصب : إمَّا على التشبيه بالظرف ، وإمَّا على التشبيه بالحال ، كما تقدَّم في قوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } [ البقرة : 28 ] . والعاملُ فيها « تُحيي » وقدَّره مكي : بأي حالٍ تُحْيي الموتى ، وهو تفسيرُ معنًى ، لا إعرابٍ .
قال القرطبيُّ : الاستفهامُ بكيف ، إنما هو سؤالٌ عن حالةِ شيءٍ موجودٍ متقرر الوجوه عند السائل ، والمسؤول؛ نحو قولك : كيف علم زيد؟ وكيف نسج الثوب؟ ونحو هذا : ومتى قلت : كيف ثوبُكَ؟ وكيف زيدٌ؟ فإِنَّما للسؤال عن حالٍ من أحواله ، وقد تكون « كَيْفَ » خبراً عن شيءٍ شأنه أَنْ يُسْتفهم عنه بكيف ، نحو قولك : كيف شِئتَ فكُنْ ، ونحو قول البخاريّ : « كَيْفَ كان بَدْءُ الوَحْي » ، و « كَيْفَ » في هذه الآية إِنَّما هي استفهامٌ عن هيئة الإِحياء ، والإحياءُ متقرِّرٌ ، ولكن لمَّا وجدنا بعض المنكرين لوجود شيءٍ ، قد يعبرون عن إنكاره بالاستفهام عن حالة ذلك الشيء ، يعلم أنها لا تصح؛ فيلزم من ذلك أَنَّ الشيء في نفسه لا يصحُّ؛ مثاله أَنٍْ يقول مُدَّعٍ أنا أرفع هذا الجبل ، فيقول المكذِّب له : أَرِني كيف ترفعه فهذه طريقةُ مجاز في العبارة ، ومعناها تسلِيمٌ جدلي ، كأنه يقول : افرِض أَنَّكَ ترفعه ، فأرني كيف ترفعه فلما كان في عبارة الخليل - عليه الصَّلاة والسَّلام - هذا الاشتراك المجازي ، خلص اللهُ له ذلك ، وحمله على أَنْ بيَّن له الحقيقة ، فقال لله : « أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ؟ قال : بَلَى » فكمل الأَمر ، وتخلص من كُلِّ شكٍّ .
فإِن قيل : ما الحكمة في أنه تعالى لم يُسَمِّ عزيراً ، بل قال : { أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ } [ البقرة : 259 ] ، وها هُنَا سمَّى إبراهيم ، مع أَنَّ المقصُودَ في كِلتا القصَّتين شيءٌ واحِدٌ؟!
فالجواب : قال ابن الخطيب - رحمه الله - : والسببُ فيه : أَنَّ عزيراً لم يحفظِ الأَدَبَ ، بل قال
{ أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا } [ البقرة : 259 ] ولذلك جعل الإِحياء ، والإِماتة في نفسه ، وإبراهيم - عليه وعلى نبينا أفضل الصَّلاة والسَّلام - حفظ الأَدب ، ورَاعاهُ؛ فقال أَوَّلاً « رَبِّ » ثُمَّ دعا فقال : { أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى } ولذلك جعل الإِحياء ، والإِماتة في الطيور .
قوله : { قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن } في هذه الواوِ وجهان :
أظهرهما : أنها للعطفِ قُدِّمت عليها همزةُ الاستفهامِ ، لأنها لها صدرُ الكلامِ والهمزةُ هنا للتقريرِ؛ لأنَّ الاستفهامَ إذا دخل على النفي ، قَرَّره؛ كقول القائل : [ الوافر ]
1211- أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايَا ... وَأَنْدَى العَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
و { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الشرح : 1 ] ، المعنى : أنتم خيرُ ، وقد شرحنا .
والثاني : أنها واوُ الحالِ ، دخلت عليها ألفُ التقرير ، قال ابن عطية؛ وفيه نظرٌ من حيث إنها إذا كانَتْ للحالِ ، كانت الجملةُ بعدها في محلِّ نصبٍ ، وإذا كانت كذلك ، استدعَتْ ناصباً ، وليس ثمَّ ناصبٌ في اللفظِ ، فلا بُدَّ من تقديره؛ والتقديرُ « أَسأَلْتَ وَلَمْ تُؤْمِنْ » ، فالهمزةُ في الحقيقة ، إِنما دخَلَتْ على العامل في الحالِ . وهذا ليس بظاهر ، بل الظاهرُ الأَوَّلُ ، ولذلك أُجيبت ببلى ، وعلى ما قال ابنُ عطية يَعْسُر هذا المعنى .
وقوله : { بلى } جوابٌ للجملة المنفيَّة ، وإنْ صار معناه الإِثبات اعتباراً باللفظ لا بالمعنى ، وهذا من قسم ما اعتبر فيه جانبُ اللفظِ دون المعنى ، نحو : { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ } [ البقرة : 6 ] وقد تقدَّم تحقيقه واللهُ أَعْلَمُ .
قوله : { لِّيَطْمَئِنَّ } اللامُ لامُ كَيْ ، فالفعلُ منصوبٌ بعدها ، بإضمار « أَنْ » ، وهو مبنيٌّ لاتِّصاله بنون التوكيد واللامُ متعلِّقة بمحذوفٍ بعد « لكنْ » تقديرُه « ولكن سألتُكَ كيفية الإِحياء للاطمئنان ، ولا بُدَّ من تقدير حذفٍ آخر ، قبل » لكنْ « ؛ حتَّى يصحَّ معه الاستدراكُ ، والتقديرُ : بلى آمنْتُ ، وما سألتُ غير مؤمنٍ ، ولكنْ سألتُ ليطمئِنَّ قَلْبي ليحصل الفرقُ بين المعلوم بالبرهان وبين المعلوم عياناً .
قال السُّدِّيُّ ، وابن جبير : { أَوَلَمْ تُؤْمِن } بأَنَّكَ خليلي { قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } بالخُلَّةِ .
والطُّمأنينةُ : السكونُ ، وهي مصدرُ » اطمأنَّ « بوزن : اقْشَعَرَّ ، وهي على غير قياس المصادر ، إذ قياسُ » اطْمَأنَّ « أَن يكون مصدرُه على الاطمئنان . واختلف في » اطْمَأَنَّ « هل هو مقلوبٌ؛ أم لا؟ فمذهب سيبويه - رحمه الله - أنه مقلوبٌ من » طَأْمَنَ « ، فالفاءُ طاءٌ ، والعينُ همزةٌ ، واللامُ ميمٌ ، فقُدِّمت اللامُ على العينِ فوزنه : افْلَعَلَّ بدليل قولهم : طامنتُه ، فتطامَنَ . ومذهبُ الجرمي : أنه غيرُ مقلوب ، وكأَنَّه يقول : إِنَّ اطمَأَنَّ وطَأْمَنَ مادَّتانِ مُسْتَقلَّتانِ ، وهو ظاهرُ كلام أبي البقاء فإنه قال : والهَمزةُ في » لِيَطْمَئِنَّ « أصلٌ ، ووزنه يفعَلِلُّ ، ولذلك جاء { فَإِذَا اطمأننتم } [ النساء : 103 ] مثل : » اقْشَعْرَرْتُمْ « . انتهى . فوزنه على الأصل دونَ القلب ، وهذا غيرُ بعيدٍ؛ ألا ترى أَنَّهم في » جَبَذَ ، وجَذَبَ ، قالوا : ليس أحدهما مقلُوباً من الآخر لاستواءِ المادَّتين في الاستعمال .
ولترجيح كلٍّ من المذهبين موضعٌ غير هذا .
فصلٌ في الداعي على السؤال
ذكروا في سبب سؤال إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - وجوهاً :
أحدها : قال الحسنُ ، والضحاكُ ، وقتادةُ ، وعطاءٌ ، وابن جريج : أَنَّهُ رأى جيفةً مطروحةً على شطّ البحر ، قال ابن جريج : جيفة حمارٍ ، بساحل البحر وقال عطاءٌ : بحيرة طبريَّة؛ فإذا مَدَّ البحر أكل منها دوابُّ البحر ، وإذا جزر البحر ، جاءت السِّباعُ وأَكلت ، وإذا ذهب السابع ، جاءت الطيورُ ، فأكلت وطارت ، فقال إبراهيم : ربِّ أَرِنِي كيف تجمعُ أجزاءَ الحيوانِ من بطون السباع ، والطيور ، ودوابِّ البحر؟ فقيل : أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ؟ قال : بلى ، ولكن المطلُوبُ من السؤال أن يصير العلمُ الاستدلاليُّ ضروريًّا .
الثاني : قال محمد بن إسحاق ، والقاضي إِنَّ سببهُ أَنَّ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - في مناظرته مع النُّمروذ ، لما قال : { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] قال الملعون { أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] فأطلق محبوساً ، وقتل رجلاً ، فقال إبراهيم ليس هذا بإحياءٍ وإماتة ، وإنما الإِحياءُ ، أن [ الله ] يقصد إلى جسد ميِّت فيُحْييه . فقال له نمروذ : أَنتَ عانيته؟ فلم يقدر أن يقول : نعم ، فقال له نمروذ : قُل لربّك حتَّى يحيي ، وإِلاَّ قتلتك ، فسأل اللهَ - تعالى - ذلك .
وقوله : { لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } يعني : بنجاتي من القتل ، أو ليطمئِنَّ قلبي بقوة حُجَّتي ، وإذا قيل لي : أنت عانيته؟ فأقول : نعم ، وأَنَّ عدولي منها إلى غيرها ، ما كان بسبب ضعفِ تلك الحُجَّة ، بل بسبب جهل [ المستمع ] .
الثالث : قال ابن عباسٍ ، وسعيد بن جبير ، والسديُّ : إِنَّ الله تعالى أوحى إليه إِنِّي متَّخذٌ بشراً خليلاً ، فاستعظم إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - ذلك ، وقال : إِلهي ، ما علامةُ ذلك؟ فقال تعالى : علامتُه : أَنْ يُحْيي الميِّت بدعائه فلمَّا عظُم مقام إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - في مقام العُبُودية وأداءِ الرسالة خطر بباله إنّي لعلِّي أكون ذلك الخليل فسأل إحياء الميت ، فقال الله : أَوَ لَمْ تُؤْمِنُ؟ قال : بَلَى وَلَكِن لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بأَنِّي خليلٌ لك .
الرابع : أنه - عليه السلام - إِنَّما سأل ذلك لقومه؛ لأَنَّ أَتْبَاع الأَنبياءِ كانوا يُطالبونهم بأشياء : تارةً باطلةٌ وتارةً حقة ، كقولهم لموسى { اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف : 138 ] فسأل إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - ذلك . والمقصودُ أَنْ يُشاهِدَه قومه فيزول الإنكارُ عنهم .
الخامس : قال ابن الخطيب - رحمه الله - : إِنَّ الأمَّة لا يحتاجون إلى العلم بأَنَّ الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - صادق في ادِّعاء الرسالة إلى معجزة تظهر عليه ، فكذلك الرسولُ ، عن وصول الملك إليه ، وإِخباره بأَنَّ اللهَ بعثه رسولاً يحتاج إلى معجزة تظهرُ على يد ذلك الملك؛ ليعلم الرسولُ أَنَّ ذلك الواصل ملكٌ لا شيطانٌ ، فلا يبعد أَن يقال : إنه لمَّا جاء الملك إلى إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - وأخبره بأن اللهَ بعثك رسولاً إلى الخلق طلب المعجزة ، فقال { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } على أَنَّ الآتي ملكٌ كريمٌ لا شيطانٌ رجيمٌ .
[ قال ابن الخطيب : وعلى قول المتكلمين طلب العلم الضروريِّ ، لأَنَّ الاستدلاليَّ مما يتطرقُ إليه الشكوكُ ، والشُّبهاتُ ، ولعلَّه طالع في الصُّحف المتقدمة أَنَّ عيسى يُحيي الموْتَى بدعائه ، ومعنى { لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } على أَني لستُ أَقَلَّ منزلةً من عيسى ، أو أَنَّهُ سارع في الطَّاعة بذبح ولده ، كأنه قال أمرتني أن أجعل ذا روح بلا روح ، ففعلتُ ، فأنا أسألُك أن تجعل غير ذي روح رُوحانيّاً؛ ليطمئن قلبي بإجابتك ، أو أَنَّ المعنى أَرِني كيف يكونُ الحشرُ يوم القيامة؟ أَي : ليطمئِنَّ قلبي بهذا التشريف أو يكون قصَّة سماع الكلام ، لا نفس الإِحياء ] .
قال ابن الخطيب : وها هنا سؤالٌ صعبٌ ، وهو أنَّ الإنسان حال حصول العلم له إمَّا يكون مجوِّزاً لنقيضه أو لا .
فإن جوَّز نقيضه بوجهٍ من الوجوه ، فذلك ظنٌّ قويٌّ لا اعتقاد جازم ، وإن لم يجوّز نقيضه بوجه من الوجوه ، امتنع وقوع التفاوت في المعلوم .
وهذا الإشكال إنما يتوجَّه إذا قلنا : المطلوب هو حصول الطمأنينة في اعتقاد قدرة الله تعالى على الإحياء ، أمَّا إذا قلنا : المقصود شيءٌ آخرن فالسؤال زائلٌ .
روى أبو هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « نَحْنُ أَوْلَى بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ ، إِذْ قال : رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ورحم اللهُ لوطاً ، لَقَد كَانَ يَأْوِي إلى ركْن شَدِيدٍ ، وَلَوْ لَبِثْتُ في السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفَ لأَجَبْتُ الدَّاعِي » وأخرج مسلم بن الحجَّاج هذا الحديث عن حرملة بن يحيى عن ابن وهب مثله . وقال : نَحْنُ أحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ رَبِّ أَرِني كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى « .
حكى محمد بن إسحاق بن خزيمة عن أبي إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى المزني أنه قال على هذا الحديث : لم يشكَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنَّ الله قادرٌ على أن يحيي الموتى ، وإنَّما شكَّا أنه : هل يجيبهما إلى ما سألاه؟ وقال أبو سليمان الخطَّابي لي في قوله » نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ « اعترافٌ بالشكِّ على نفسه ، ولا على إبراهيم ، ولكن فيه نفي الشَّكِّ عنهما يقول : إذا لم أشُكُّ أنا في قدرة الله ، على إحياء الموتى ، فإبراهيم أولى ألا يشكَّ ، وقال ذلك على سبيل التَّواضع ، وهضم النَّفس ، فكذلك قوله : » لَوْ لَبِثْتُ في السِّجْنِ طُولَ ما لَبِثَ يُوسُفَ لأَجَبْتُ الدَّاعِي « وفيه إعلامٌ بأنَّ المسألة من إبراهيم لم تعرض من جهة الشك ، لكن من قبل زيادة العلم بالعيان؛ فإن العيان يفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا يفيده الاستدلال .
وقيل : لما نزلت هذه الآية الكريمة قال قوم : شكَّ إبراهيم ، ولم يشك نبيُّنا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا القول تواضعاً منه؛ وتقديماً لإبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - .
[ قال القرطبيُّ : اختلف النَّاس في هذا السؤال : هل صدر من إبراهيم - عليه الصلاة والسَّلام - عن شكٍّ ، أم لا؟ فقال الجمهور : لم يكن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - شاكّاً في إحياء الله الموتى قطُّ ، وإنَّما طلب المعاينة؛ وذلك أنَّ النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به؛ ولهذا قال - عليه السلام - : « لَيْسَ الخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ » رواه ابن عباس قال أبو عمر : لم يروه غيره ] .
قوله : { مِّنَ الطير } في متعلِّقه قولان :
أحدهما : أنه محذوفٌ لوقوع الجارِّ صفةً لأربعة ، تقديره : أربعةً كائنةً من الطير .
والثاني : أنه متعلقٌ بخذ ، أي : خذ من الطير .
و « الطير » اسم جمع ، كركبٍ وسفر ، وقيل : بل هو جمع طائرٍ ، نحو : تاجر وتجر ، وهذا مذهب أبي الحسن . وقيل : بل هو مخفَّف من « طَيَّر » بتشديد [ الياء ] ، كقولهم : « هَيْن ومَيْت » في « هَيِّن ومَيِّت .
قال أبو البقاء رحمه الله : » هو في الأصل مصدر طارَ يطِير ، ثم سمِّي به هذا الجنسُ « . فتحصَّل فيه أربعة أقوال .
وجاء جرُّه ب » مِنْ « بعد العدد على أفصح الاستعمال ، إذ الأفصح في اسم الجمع في باب العدد أن يفصل بمن كهذه الآية الكريمة ، ويجوز الإضافة كقوله تعالى : { تِسْعَةُ رَهْطٍ } [ النمل : 48 ] ؛ وقال ذلك القائل : [ الوافر ]
1212- ثَلاثَةَ أَنْفُسٍ وَثَلاَثُ ذَوْدٍ ... لَقَدْ جَارَ الزَّمَانُ عَلَى عِيَالِي
وزعم بعضهم : إن إضافته نادرةٌ ، لا يقاس عليها ، وبعضهم : أنَّ اسم الجمع لما يعقل مؤنث ، وكلا الزعمين ليس بصوابٍ؛ لما تقدَّم من الآية الكريمة ، واسم الجمع لما لا يعقل يذكَّر ، ويؤنَّث؛ وهنا جاء مذكراً لثبوت التاء في عدده .
قوله : { فَصُرْهُنَّ } قرأ حمزة ، والكسائي : بكسر الصَّاد ، والباقون : بضمِّها ، وتخفيف الراء . واختلف في ذلك ، فقيل : القراءتان يحتمل أن تكونا بمعنًى واحدٍ ، وذلك أنه يقال : صاره يصوره ويَصِيرُهُ ، بمعنى قطعه ، أو أماله ، فاللغتان لفظٌ مشتركٌ بين هذين المعنيين ، والقراءتان تحتملهما معاً ، وهذا مذهب أبي عليّ .
وقال الفراء : » الضمُّ مشتركٌ بين المعنيين ، وأمَّا الكسر : فمعناه القطع فقط « .
وقال غيره : » الكَسْرُ بمعنى القطع ، والضمُّ بمعنى الإمالة « . يقال رجل أصور ، أي : مائلُ العنق ، ويقال : صار فلان إلى كذا ، إذا قال به ، ومال إليه ، وعلى هذا يصير في الكلام محذوفٌ ، كأنه قيل أملهنَّ إليك ، وقطِّعهنَّ .
وقال ابن عبَّاسٍ ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، ومجاهد : صرهنَّ بالضم : بمعنى قطِّعهنَّ ، يقال صار الشَّيء يصوره صوراً ، إذا قطعه ، قال رؤبة يصف خصماً ألد : [ الرجز ]
1213- صُرْنَاهُ بِالحُكْمِ وَيَبْغِي الحَكَمَا ... أي : قطعناهُ ، وعلى هذا القول لا يحتاج إلى الإضمار ، وقال عطاء : معناه اجمعهنَّ ، واضممهنَّ إليك ، يقال : صار يصور صوراً ، إذا اجتمع ، ومنه قيل لجماعة النَّحل : صورٌ .
فصل في لفظ « الصِّرِّ » في القرآن
قال أبو العبَّاس المقرئ : ورد لفظ الصِّرِّ في القرآن على ثلاثة أوجهٍ :
الأول : بمعنى القطع؛ كهذه الآية ، أي : قطِّعهنَّ إليك صوراً .
الثاني : بمعنى الريح الباردة ، قال تعالى : { رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ } [ آل عمران : 117 ] أي : بردٌ .
الثالث : يعني الإقامة على الشيء؛ قال تعالى { وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ } [ آل عمران : 135 ] ، أي : لم يقيموا ، ومثله : { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم } [ الواقعة : 46 ] .
ونقل عن الفرَّاء أيضاً : أنه قال : « صَارَه » مقلوبٌ من قولهم : « صَرَاهُ عَنْ كَذَا » ، أي : قطعه عنه ، ويقال : صُرْتُ الشيء ، فانصار ، أي : انقطع؛ قالت الخنساء : [ البسيط ]
1214- فَلَوْ يُلاَقِي الَّذي لاَقَيْتُهُ حَضِنٌ ... لَظَلَّتِ الشُّمُّ مِنْهُ وَهْيَ تَنْصَارُ
أي : تنقطع .
قال المبرد : وهذا لا يصحُّ؛ لأنَّ كلَّ واحد من اللفظين أصل بنفسه فرع على الآخر .
واختلف في هذه اللفظة : هل هي عربيةٌ ، أو معرَّبة؟ فعن ابن عباس : أنها معرَّبة من النَّبطية ، وعن أبي الأسود ، أنَّها من السُّريانية ، والجمهور على أنها عربيةٌ ، لا معرَّبةٌ .
و « إِلَيْكَ » إن قلنا : إِنَّ « صُرْهُنَّ » بمعنى أملهنَّ : تعلَّق به ، وإن قلنا : إنه بمعنى : قطِّعهنَّ ، تعلَّق ب « خُذْ » .
ولمَّا فسَّر أبو البقاء « فَصُرْهُنَّ » بمعنى : أَمْلْهُنَّ « قدَّر محذوفاً بعده تقديره : فأملهنَّ إليك ، ثم قطِّعهنَّ ، ولمَّا فسَّره بقطِّعهن - كما تقدم - قدَّر محذوفاً يتعلَّق به » إِلَى « تقديره : قطِّعهنَّ بعد أن تميلهنَّ إليك . ثم قال : » والأجودُ عندي أن يكون « إليك » حالاً من المفعول المضمر تقديره : فقطِّعهنَّ مقرَّبةً إليك ، أو ممالةً ، أو نحو ذلك « .
وقرأ ابن عباس - رضي الله عنه - : » فَصُرْهُنَّ « بتشديد الراء ، مع ضم الصاد وكسرها ، مِنْ : صرَّه يَصُرّه ، إذا جمعه؛ إلاَّ أنَّ مجيء المضعَّف المتعدِّي على يفعل - بكسر العين في المضارع - قليلٌ .
ونقل أبو البقاء رحمه الله تعالى عمَّن شدَّد الراء : أنَّ منهم من يضمُّها ، ومنهم من يفتحها ، ومنهم من يكسرها ، مثل : » مُدَّهُنَّ « فالضمُّ على الإتباع ، والفتح للتخفيف ، والكسر على أصل التقاء الساكنين .
قال القرطبي : قرئ » صَرِّهِنَّ « بفتح الصاد ، وتشديد الراء مكسورة؛ حكاها المهدوي وغيره عن عكرمة؛ بمعنى فاحبسهنَّ ، من قولهم : » صرَّى يُصَرِّي « : إذا حبس ، ومنه الشاة المصرَّاة ، قال القرطبي : وها هنا اعتراضٌ ذكره الماوردي ، وهو أن يقال : كيف أجيب إبراهيم إلى آيات الآخرة دون موسى - عليه السلام - في قوله : { رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 143 ] ؟
فعنه جوابان :
أحدهما : أن ما سأله موسى لا يصحُّ مع بقاء التكليف ، وما سأله إبراهيم خاصٌّ يصحُّ معه بقاء التكليف .
الثاني : أن الأحوال تختلف ، فيكون الأصلح في بعض الأوقات الإجابة ، وفي قوتٍ آخر المنع ، فيما لا يتقدَّم فيه إذنٌ .
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أمر الله تعالى إبراهيم بهذا ، قبل أن يولد ، وقبل أن ينزل عليه الصُّحف .
فصل في الطير المأخوذة
قال مجاهدٌ ، وعطاءٌ ، وابن جريج : أخذ طاووساً ، وديكاً ، وحمامةً ، وغراباً . ونقل عن ابن عباس : ونسراً بدل الحمامة . وقال عطاء الخراساني : بطَّة خضراء ، وغراباً أسود ، وحمامةً بيضاء ، وديكاً أحمر « فَصُرْهُنَّ » أي : قطِّعهنَّ ، ومزقهن ، وقيل أملهُنَّ على ما تقدَّم .
فصل في الحكمة في نوع الطير وعدده
وها هنا سؤالات :
الأول : ما الحكمة في كونه أمره بأخذ أربعةٍ من الطير ، ولم يأمره بأكثر ، ولا بأقل؟!
الثاني : ما الحكمة في كونها من الطير ، دون غيرها من الحيوان؟!
الثالث : هل كان من حيوان البحر ، ثم الوحش ، والطير وبهم الأنعام؟
الرابع : هل كان الأربعة كلُّ واحدٍ مخلوقٌ من غالب عنصرٍ من العناصر الأربعة ، كالطير ، مخلوق من غالب عنصر الهواء ، والسمك مخلوق من غالب عنصر الماء ، وحيوان البرّ مخلوقٌ من غالب عنصر التراب ، وسراج البحر ، والدرّاج التي هي تطيرُ بالليل كلُّها نارٌ ، والسَّمندل الذي يعيش في النار فإنهم مخلوقون من غالب عنصر النار .
فإن قيل : ما الفائدة في أمره بضمِّها إلى نفسه بعد أخذها؟
فالجواب : فائدته أن يتأمل فيها ، ويعرف أشكالها ، وهيئاتها؛ لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ، ولا يتوهَّم أنَّها غير تلك ، وأجمع المفسِّرون على أن المراد من الآية الكريمة قطعهن ، وأنَّ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - قطع أعضاءها ، ولحومها ، وريشها ، ودماءها ، وخطل بعضها ببعضٍ؛ غير أبي مسلم؛ فإنه أنكر ذلك ، وقال : إنَّ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما طلب إحياء الميت من الله تعالى ، أراه مثالاً قرب به الأمر عليه .
والمراد ب { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } الإمالةُ والتمرين على الإجابة ، وتعلمها ، أي : فعوَّد الطير الأربعة ، بحيث تصير إذا دعوتها ، أجابتك . والغرض منه ذكر مثالٍ محسوسٍ في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة وأنكر القول بأن المراد منه : فقطعهن .
واحتجَّ على ذلك بوجوهٍ :
أحدها : أنَّ المشهور في قوله : « فَصُرْهُنَّ » أي : أملهنَّ ، وأمَّا التقطيع والذبح ، فليس في الآية ما يدل عليه ، فكان إدراجه في الآية الكريمة زيادة بغير دليل ، وهو لا يجوز .
وثانيها : لو كان المراد قطِّعهنَّ ، لم يقل إليك؛ فإنَّ ذلك لا يتعدى بإلى .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال في الكلام تقديمٌ ، وتأخيرٌ ، تقديره : فخذ إليك أربعةً من الطير ، فصرهن؟
قلنا : التزام التقديم والتَّأخير من غير ضرورة خلاف الظاهر .
وثالثها : أن الضمير في قوله : { ثُمَّ ادعهن } عائدٌ إليها لا إلى أجزائها ، وإذا كانت الأجزاء متفرقةً ، وكان الموضوع على كلِّ جبلٍ بعض تلك الأجزاء يلزم أن يكون الضمير عائداً إلى تلك الأجزاء لا إليها ، وهو خلاف الظاهر ، وأيضاً في قوله : { يَأْتِينَكَ سَعْياً } عائد إليها ، لا إلى أجزائها ، وعلى قولكم إذا سعى بعض الأجزاء إلى بعض ، كان الضمير في « يَأْتِينَكَ » عائداً إلى أجزائها لا إليها .
واحتجَّ الجمهور بوجوهٍ :
الأول : أنَّ المفسِّرين قبل أبي مسلم أجمعوا على أنه ذبح تلك الطيور ، وقطَّعها أجزاءً ، فيكون إنكار ذلك إنكاراً للإجماع .
الثاني : أنَّ ما ذكره غير مختصٍّ بإبراهيم؛ فلا يكون له فيه مزية على الغير .
الثالث : أن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - إنما أراد أن يريه الله كيف يحيي الموتى ، وظاهر الآية ، يدلُّ على أنه أجيب إلى ذلك ، وعلى قول أبي مسلمٍ لم تحصل الإجابة في الحقيقة .
الرابع : أنَّ قوله { ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا } يدلُّ على أنَّ تلك الطيور جعلت أجزاءً .
قال أبو مسلم في الجواب عن هذا الوجه : إنَّه أضاف الجزء إلى الأربعة ، فيجب أن يكون المراد بالجزء ، هو الواحد من تلك الأربعة .
وأُجيب بأنَّ ما ذكرتم ، وإن كان محتملاً إلاَّ أنَّ ما ذكرناه أظهر ، والتقدير : فاجعل على كل جبلٍ من كلِّ واحدٍ منهن جزءاً أو بعضاً .
قوله : { ثُمَّ اجعل } « جَعَلَ » يحتمل أن يكون بمعنى الإلقاء ، فيتعدَّى لواحدٍ ، وهو « جُزْءاً » ، فعلى هذا يتعلَّق « عَلَى كُلِّ » و « مِنْهُنَّ » ب « اجعل » ، وأن يكون بمعنى « صَيَّر » ، فيتعدَّى لاثنين ، فيكون « جُزءاً » الأول ، و « عَلَى كُلِّ » هو الثاني ، فيتعلَّق بمحذوفٍ .
و « منهنَّ » يجوز أن يتعلَّق على هذا بمحذوفً على أنَّه حالٌ من « جُزْءاً » ، لأنه في الأصل صفة نكرة ، فلمَّا قُدِّم عليها ، نصب حالاً .
وأجاز أبو البقاء أن يكون مفعولاً ل « اجْعَلْ » يعني : إذا كانت « اجْعَلْ » بمعنى « صَيَّر » ، فيكون « جُزْءاً » مفعولاً أول ، و « منهنَّ » مفعولاً ثانياً قدِّم على الأول ، ويتعلَّق حينئذٍ بمحذوف . [ ولا بد من حذف صفةٍ مخصِّصة بعد ] قوله : « كُلِّ جَبَلٍ » تقديره : « عَلَى كُلِّ جبلٍ بحضرتك ، أو يليك » حتى يصحَّ المعنى .
وقرأ الجمهور : « جُزْءاً » بسكون الزاي والهمز ، وأبو بكر ضمَّ الزاي ، وأبو جعفر شدَّد الزاي ، من غير همزٍ؛ ووجهها : أنَّه لمَّا حذف الهمزة ، وقف على الزاي ، ثم ضعَّفها ، كما قالوا : « هذا فَرَجّ » ، ثم أُجري الوصل مجرى الوقف . وقد تقدم تقرير ذلك عند قوله : { هُزُواً } [ البقرة : 67 ] . وفيه لغةٌ أخرى وهي : كسر الجيم .
قال أبو البقاء : « وَلاَ أَعْلَمُ أَحَداً قرأ بها » . والجزء : القطعة من الشيء ، وأصل المادَّة يدلُّ على القطع ، والتفرق ، ومنه : التجزئة والأجزاء .
فصل في المعنيِّ بالجبل في الآية
ظاهر قوله : { على كُلِّ جَبَلٍ } جميع جبال الدنيا ، فذهب مجاهد ، والضحاك إلى العموم بحسب الإمكان ، كأنه قيل : فرقها على كلِّ جبلٍ يمكنك التفرقة عليه .
وقال ابن عبَّاس ، والحسن ، وقتادة ، والربيع : أُمر أن يجعل كلَّ طائرٍ أربعة أجزاءٍ ، ويجعلها على أربعة أجبلٍ ، على كل جبلٍ ربعاً من كل طائرٍ .
وقيل : على حسب الجهات الأربع : أعني المشرق ، والمغرب ، والشمال ، والجنوب . وقال السديُّ ، وابن جريج : سبعةٌ من الجبال؛ لأنَّ المراد على كل جبل يشاهده إبراهيم حتى يصح منه دعاء الطائر ، وكانت الجبال التي يشاهدها - عليه الصَّلاة والسَّلام - سبعةٌ .
قوله : { يَأْتِينَكَ } جواب الأمر ، فهو في محلِّ جزمٍ ، ولكنه بُني لاتصاله بنون الإناث .
قوله : { سَعْياً } فيه أوجه :
أحدها : أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحال من ضمير الطير ، أي : يَأتينك ساعياتٍ ، أو ذوات سعي .
والثاني : أن يكون حالاً من المخاطب ، ونقل عن الخليل ما يقوِّي هذا ، فإنه روي عنه : « أن المعنى : يأتينك وأنت تسعى سعياً » فعلى هذا يكون « سعياً » منصوباً على المصدر ، وذلك الناصب لهذا المصدر في محلِّ نصب على الحال من الكاف في « يَأْتِينَكَ » . قال شهاب الدين : والذي حمل الخليل - رحمه الله - على هذا التقدير؛ أنه لا يقال عنده : « سَعَى الطائرُ » فلذلك جعل السَّعي من صفات الخليل - عليه السلام - لا من صفة الطيور .
الثالث : أن يكون « سَعْياً » منصوباً على نوع المصدر؛ لأنه نوعٌ من الإتيان ، إذ هو إتيانٌ بسرعةٍ ، فكأنه قيل : يأتينك إتياناً سريعاً .
وقال أبو البقاء : « ويجوز أن يكون مصدراً مؤكِّداً؛ لأنَّ السعي ، والإتيان يتقاربان » ، وهذا فيه نظرٌ؛ لأن المصدر المؤكِّد لا يزيد على معنى عامله ، إلاَّ أنه تساهل في العبارة .
فصل في معنى « سَعْياً »
قيل : معنى « سَعْياً » عدواً ومشياً على أرجلهنَّ؛ لأن ذلك أبلغ في الحجة .
وقيل : « طَيَراناً » . ولا يصحُّ؛ لأنه لا يقال للطائر إذا طار : سعى ، ومنهم من أجاب عنه : بأن « السَّعْي » هو الاشتداد في الحركة ، فإن كانت الحركة طيراناً ، فالسَّعيُ فيها هو الاشتداد في تلك الحركة .
روي أنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - ذبحها ، ونتف ريشها ، وقطَّعها أجزاءً ، وخلط لحمها ، وريشها ، ودمها ، ووضع على كلِّ جبلٍ جزءاً من ذلك المجموع ، وأمسك رؤوسهن ، ثم دعاهنَّ فقال : تَعَالَيْن بإذن الله تعالى ، فجعلت كلُّ قطرةٍ من دم طائرٍ تطير إلى القطرة الأخرى ، وكل عظم يصير إلى الآخر من جثَّته ، وكل بضعةٍ تصير إلى الأخرى ، وإبراهيم - عليه الصَّلاةُ والسَّلام - ينظر؛ حتى لقيت كل جثَّة بعضها بعضاً في الهواء بغير رأسٍ ، ثم أقبلن إلى رؤوسهنَّ سعياً : كلّث جثَّةٍ إلى رأسها ، فانضمَّ كلَّ رأسٍ إلى جثَّته ، وصار الكلُّ أحياءً بإذن الله . { واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ } غالبٌ على جميع الممكنات { حَكِيمٌ } عالمٌ بعواقب الأمور ، وغاياتها .
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)
لمَّا بين تعالى أصل العلم بالمبدأ ، والمعاد ، وبيَّن دلائل صحَّتها ، أتبع ذلك ببيان الشرائع ، والأحكام ، فبدأ ببيان التكليف ، بالإنفاق .
قال القاضي في كيفية النَّظم : إنه تعالى لمَّا أجمل قوله تعالى { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] فصل بهذه الآية الكريمة تلك الأضعاف ، وإنما ذكر بين الآيتين الأدلَّة على قدرته بالإحياء والإماتة ، من حيث : لولا ذلك لم يحسن التكليف بالإنفاق ، لأنه لولا وجود الإله المثيب المعاقب ، لكان الإنفاق ، وسائر الطاعات عبثاً فكأنه تعالى قال لمن رغبه في الإنفاق : قد عرفت أنِّي خلقتك ، وأكملت نعمتي عليك ، بالإحياء ، والإقدار ، وقد علمت قدرتي على المجازاة ، فليكن علمك بهذه الأحوال داعياً إلى إنفاق المال؛ فإنه يجازي القليل بالكثير ، ثمَّ ضرب لذلك الكثير مثلاً .
وقال الأصم : إنه تعالى ضرب هذا المثل بعد أن احتجّ على الكلِّ بما يوجب تصديق النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام -؛ ليرغبوا بالمجاهدة بالنفس ، والمال ، في نصرته ، وإعلاء شريعته .
وقيل : لما بيَّن تعالى أنَّه وليُّ المؤمنين ، وأن الكفَّار أولياؤهم الطاغوت ، بيَّن مثل ما ينفق المؤمن في سبيل الله ، وما ينفق الكافر في سبيل الطاغوت .
فصل في سبب نزول الآية
[ روي أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن عفَّان ، وعبد الرحمن بن عوف ] - رضي الله عنهما -؛ « وذلك أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما حثَّ الناس على الصدقة حين أراد الخروج إلى غزوة » تَبُوك « ، جاءه عبد الرحمن بأربعة آلاف درهم ، فقال : يا رسول الله ، كان عندي ثمانية آلافٍ ، فأمسكت لنفسي ولعيالي أربعة آلافٍ ، وأربعة آلافٍ أقرضتها لربِّي ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أَمْسَكْتَ وَفِيمَا أَعْطَيْتَ « وقال عثمان : يا رسول الله ، عليَّ جهاز من لا جهاز له؛ فنزلت هذه فيهما .
وروى البستي عن ابن عمر ، قال : » لما نزلت هذه الآية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « رَبِّ ، زِدْ أُمَّتِي » ؛ فنزلت : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] قال صلى الله عليه وسلم : « رَبِّ ، زِدْ أُمَّتِي » ، فنزلت { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر : 10 ] .
قوله « مَثَلُ » مبتدأُ ، و « كَمَثَلِ حَبَّةٍ » خبره . ولا بدَّ من حذفٍ ، حتى يصحَّ التشبيه؛ لأنَّ الذين ينفقون لا يشبَّهون بنفس الحبة .
واختلف في المحذوف ، فقيل : من الأول ، تقديره : ومثل منفق الذين ، أو نفقة الذين .
وقيل : من الثاني ، تقديره : ومثل الذين ينفقون كزارع حبةٍ؛ أو من الأول ، والثاني باختلاف التقدير ، أي : مثل الذين ينفقون ، ونفقتهم كمثل حبَّةٍ وزارعها .
وهذه الأوجه قد تقدَّم تقريرها محررةً عند قوله تعالى :
{ وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ } [ البقرة : 171 ] . والقول بزيادة الكاف ، أو « مِثْلَ » بعيدٌ جدّاً ، فلا يلتفت إليه .
والحبَّة : واحدة الحبِّ ، وهو ما يزرع للاقتيات ، وأكثر إطلاقه على البر ، قال المتلمِّس : [ البسيط ]
1215 - آلَيْتُ حَبَّ العِرَاقِ الدَّهْرَ أَطْعَمُهُ ... وَالحَبُّ يَأْكُلُهُ فِي الْقَرْيَةِ السُّوسُ
و « الحِبَّة » بالكسر : بذور البقل ممَّا لا يقتات به ، و « الحُبَّة » بالضَّمِّ : الحُبُّ .
والحُبُّ : المحبة ، وكذلك « الحِبّ » بالكسر ، والحِبُّ أيضاً : الحبيب ، وحبة القلب سويداؤه ، ويقال ثمرته ، وهو ذاك .
قوله : { أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ } أي : أخرجت وهذه الجملة في محلِّ جرٍّ؛ لأنها صفةٌ لحبة ، كأن قيل : كمثل حبَّةٍ منبتةٍ .
وأدغم تاء التأنيث في سين « سَبْع » أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وهشامٌ . وأظهر الباقون ، والتاء تقارب السين ، ولذلك أُبدلت منها؛ قالوا : ناسٌ ، وناتُ ، وأكياسٌ ، وأكياتٌ؛ قال : [ الرجز ]
1216- عَمْرو بْنَ يَرْبُوعٍ شِرَارَ النَّاتِ ... لَيْسُوا بَأَجْيَادٍ وَلاَ أَكْيَاتِ
أي : شرار الناس ، ولا أكياسِ .
وجاء التَّمييز هنا على مثال مفاعل ، وفي سورة يوسف مجموعاً بالألف والتَّاء ، فقال الزمخشريُّ : « فإنْ قلتَ : هلاَّ قيل : » سَبْعَ سُنْبُلاَتٍ « على حقِّه من التمييز بجمع القلَّة ، كما قال : { وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ } [ يوسف : 43 و 46 ] . قلت : هذا لما قدَّمت عند قوله : { ثَلاَثَةَ قرواء } [ البقرة : 228 ] من وقوع أمثلة الجمع [ متعاورةً ] مواقعها » .
يعني : أنه من باب الاتساع ، ووقوع أحد الجمعين موقع الآخر ، وهذا الذي قاله ليس بمخلِّص ، [ ولا محَصِّلٍ ] ، فلا بدَّ من ذكر قاعدةٍ مفيدة في ذلك :
قال شهاب الدين - رحمه الله - : اعلم أن جمعي السَّلامة لا يميَّز بهما عددٌ إلا في موضعين :
أحدهما : ألا يكون لذلك المفرد جمعٌ سواه ، نحو : سبع سموات ، وسبع بقرات ، وسبع سنبلات ، وتسع آيات ، وخمس صلوات ، لأنَّ هذه الأشياء لم تجمع إلا جمع السلامة ، فأمَّا قوله : [ الطويل ]
1217- . . .. . . . فَوْقَ سَبْعِ سَمَائِيَا
فشاذٌ ، منصوصٌ على قلَّته ، فلا يلتفت إليه .
والثاني : أن يعدل إليه لمجاوزة غيره ، كقوله : { وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ } [ يوسف : 43 و 46 ] عدل من « سَنَابِلَ » إِلى « سُنْبُلاَتٍ » ؛ لأجل مجاورته « سَبْعَ بَقَرات » ، ولذلك إذا لم توجد المجاورة ، ميِّز بجمع التكسير دون جمع السلامة ، وإن كان موجوداً نحو : « سَبْعَ طَرَائِق ، وسَبْعِ لَيَالٍ » مع جواز : طريقات ، وليلات .
والحاصل أنَّ الاسم إذا كان له جمعان : جمع تصحيح ، وجمع تكسيرٍ ، فالتكسير إمَّا للقلة ، أو للكثرة ، فإن كان للكثرة : فإمَّا من باب مفاعل ، أو من غيره ، فإن كان من باب مفاعل ، أُوثر على التصحيح ، تقول : ثلاثة أحَامِدَ ، وثَلاَثُ زَيَانِبَ ، ويجوز قليلاً : أَحْمَدِينَ وَزَيْنَبَات .
وإن كان من غير باب مفاعل : فإمَّا أن يكثر فيه من غير التصحيح ، وغير جمع الكثرة ، أو يقلَّ .
فإن كان الأول : فلا يجوز التصحيح ، ولا جمع الكثرة إلا قليلاً؛ نحو : ثَلاثَةُ زُيُودٍ ، وَثَلاثُ هُنُودٍ ، وثَلاَثَةُ أَفْلُسٍ ، ولا يجوز : ثلاثةُ زيْدِينَ ، ولا ثَلاَثُ هِنْدَات ، ولا ثَلاَثةُ فُلُوسٍ ، إلاَّ قليلاً .
وإن كان الثاني : أُوثر التصحيح وجمع الكثرة ، نحو : ثلاثُ سُعَادَات ، وثلاثة شُسُوع ، وعلى قلّة يجوز : ثَلاثُ سَعَائد ، وثلاثةُ أشْسُع . فإذا تقرَّر هذا ، فقوله : « سَبْعَ سَنَابِلَ » جاء على المختار ، وأمَّا قوله « سَبْعِ سُنْبُلاَتٍ » ؛ فلأجل المجاورة كما تقدَّم .
وقيل : لمَّا كان الكلام - ها هنا - في تضعيف الأجر ، ناسبها جمع الكثرة ، وفي سورة يوسف ذكرت في سياق الكلام في سني الجدب؛ فناسبها التقليل؛ فجمعت جمع القلة .
والسُّنْبُلَةُ فيها قولان :
أحدهما : أنَّ نونها أصليةٌ؛ لقولهم : « سَنْبَلَ الزرعُ » أي : أخرج سنبله .
والثاني : أنها زائدةٌ ، وهذا هو المشهور؛ لقولهم : « أَسْبَلَ الزرعُ » ، فوزنها على الأول : فُعلُلَةٌ ، وعلى الثاني : فُنْعُلَة ، فعلى ما ثبت من حكاية اللُّغتين : سَنْبَلَ الزرعُ ، وأسْبَلَ تكون من باب سَبِط وسِبَطْر .
قال القرطبي : من أسْبَلَ الزرعُ : إذا صار فيه السُّنبل ، كما يسترسل الستر بالإسبال وقيل : معناه : صار فيه حبٌّ مستورٌ ، كما يستر الشيء بإسبال السَّتر عليه .
قوله : { فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ } هذا الجارُّ في محلِّ جر؛ صفةً لسنابل ، أو نصبٍ؛ صفةً لسبع ، نحو : رأيت سبع إماءٍ أحرارٍ ، وأحراراً ، وعلى كلا التقديرين فيتعلَّق بمحذوفٍ .
وفي رفع « مئة » وجهان :
أحدهما : بالفاعلية بالجارِّ؛ لأنه قد اعتمد إذ قد وقع صفةً .
والثاني : أنها مبتدأٌ والجارُّ قبله خبره ، والجملة صفةٌ ، إمَّا في محلِّ جرٍّ ، أو نصبٍ على حسب ما تقدَّم ، إلاَّ أنَّ الوجه [ الأول ] أولى؛ لأنَّ الأصل الوصف بالمفردات ، دون الجمل . ولا بدَّ من تقدير حذف ضميرٍ ، أي : في كلِّ سنبلة منها ، أي : من السنابل .
والجمهور على رفع : « مِئَة » على ما تقدَّم ، وقرئ : بنصبها .
وجوَّز أبو البقاء في نصبها وجهين :
أحدهما : بإضمار فعلٍ ، أي : أَنْبَتَتْ ، أو أَخْرَجَتْ .
والثاني : أنها مبتدأٌ والجارُّ قبله خبره ، والجملة صفةٌ ، إمَّا في محلِّ جرٍّ ، أو نصبٍ على حسب ما تقدَّم ، إلاَّ أنَّ الوجه [ الأول ] أولى؛ لأنَّ الأصل الوصف بالمفردات ، دون الجمل . ولا بدَّ من تقدير حذف ضميرٍ ، أي : في كلِّ سنبلة منها ، أي : من السنابل .
والجمهور على رفع : « مِئَة » على ما تقدَّم ، وقرئ : بنصبها .
وجوَّز أبو البقاء في نصبها وجهين :
أحدهما : بإضمار فعلٍ ، أي : أَنْبَتَتْ ، أو أَخْرَجَتْ .
والثاني : أنها بدلٌ من « سَبْعِ » ، وردَّ بأنَّه لا يخلو : إمَّا أن يكون بدل [ كلِّ ] من كلٍّ ، أو بدل بعضٍ من كلٍّ ، أو بدل اشتمالٍ .
فالأول : لا يصحُّ؛ لأنَّ المائة ليست كلَّ السبع سنابل .
والثاني : لا يصحُّ - أيضاً؛ لعدم الضمير الراجع على المبدل منه ، ولو سلِّم عدم اشتراط الضمير ، فالمئة ليست بعض السبع؛ لأنَّ المظروف ليس بعضاً للظرف ، والسنبلة ظرفٌ للحبة ، ألا ترى قوله : { فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ } فجعل السُّنْبُلَة وعاءٌ للحَبِّ .
والثالث - أيضاً - لا يصحُّ؛ لعدم الضَّمير ، وإن سُلِّم ، فالمشتمل على « مِئَةِ حَبَّةٍ » هو سنبلة من سبع سنابل ، إلا أن يقال إنَّ المشتمل على المشتمل على الشيء ، هو مشتملٌ على ذلك الشيء ، فالسنبلة مشتملةٌ على مائة والسنبلة مشتمل عليها سبع سنابل ، فلزم أنَّ السبع مشتملةٌ على « مائة حبة » .
وأسهل من هذا كلِّه أن يكون ثمَّ مضافٌ محذوفٌ ، أي : حبَّ سَبْع سَنَابِلَ ، فعلى هذا يكون « مِئَةُ حَبَّةٍ » بدل بعضٍ من كل .
فصل في المقصود بسبيل الله
معنى { يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله } يعني : دينه ، قيل : أراد النفقة في الجهاد خاصَّةً ، وقيل : جمع أبواب الخير من الواجب والنَّفل .
قال القرطبيُّ : شبَّه المتصدِّق بالزَّارع ، وشبَّه البذر بالصدقة ، فيعطيه بكل صدقةٍ له سبعمائة حسنة ، ثمَّ قال { والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ } يعني على سبعمائة ، فيكون مثل المتصدق مثل الزَّارع ، إن كان حاذقاً في عمله فيكون البذر جيّداً ، وتكون الأرض عامرةً يكون الزرع أكثر ، فكذلك المتصدق إذا كان صالحاً ، والمال طيِّباً ، ويضعه موضعه ، فيصير الثواب أكثر .
فإن قيل : لم نر سُنبُلَةً فيها مائة حبَّةٍ ، فكيف ضرب المثل بها؟
فالجواب : قال القفَّال : المقصود أنه لو علم طالب الزيادة والرِّبح أنَّه إذا بذر حبَّةً واحدةً ، أخرجت له سبعمائة حبةٍ ما كان ينبغي له ترك ذلك ، فكذلك ينبغي لطالب الآخرة والأجر عند الله ألاَّ يتركه إذا علم أنه يحصل له على الواحدة عشرة ومائة وسبعمائة ، وإذا كان المراد منه هذا المعنى فسواء وجدت هذه السنبلة ، أو لم توجد ، فإنَّ المعنى حاصل مستقيم . وقيل : وجد ذلك في الدُّخن .
{ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ } .
قيل : معناه يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء .
وقيل يضاعف على هذا ، ويزيد لمن يشاء ، ما بين سبع إلى سبعين ، إلى سبعمائة ، إلى ما شاء الله من الأضعاف ، مما لا يعلمه إلا الله تعالى . { والله وَاسِعٌ } أي : القدرة على سبيل المجازاة على الجود ، والإفضال عليهم بنية من ينفق ماله .
فصل في الاستدلال بالآية على فضل الزراعة
قال القرطبيُّ : دلَّت هذه الآية على أنَّ حرفة الزَّرع من أعلى الحرف ، التي يتخذها الناس ، والمكاسب التي يشتغل بها العمَّال ، ولذلك ضرب الله به المثل وقال - صلى الله عليه وسلم - : « مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْساً ، أو يَزْرَعُ زَرْعاً فَتأَكْلُ مِنْهُ الطَّيْرُ ، أو إِنْسَانٌ ، أوْ بَهِيمَةٌ ، إِلاَّ كَانَ لَهُ صَدَقَة » رواه مسلم .
وروى الترمذي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت - : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « الْتَمِسُوا الرِّزْقَ في خَبَايَا الأَرْضِ » ، يعني : الزَّرع ، والزِّراعة من فروض الكفايات ، يجب على الإمام أن يجبر النَّاس عليها ، وما كان في معناها من غرس الأشجار .
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)
{ الذين يُنْفِقُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون مرفوعاً بالابتداء ، وخبره الجملة من قوله تعالى : { لَّهُمْ أَجْرُهُمْ } ، ولم يضمَّن المبتدأ هنا معنى الشَّرط ، فلذلك لم تدخل الفاء في خبره ، لأنَّ القصد بهذه الجملة تفسير الجملة التي قبلها؛ لأنَّ الجملة قبلها أخرجت مخرج الشَّيء الثَّابت المفروغ منه ، وهو تشبيه نفقتهم بالحبَّة المذكورة ، فجاءت هذه الجملة كذلك ، والخبر فيها أُخرج مخرج الثَّابت المستقرِّ غير المحتاج إلى تعليق استحقاق بوقوع [ غيره ] ما قبله .
والثاني : أنَّ { الذين } خبرٌ لمبتدأ محذوف ، أي : هم الذين ينفقون ، وفي قوله : { لَّهُمْ أَجْرُهُمْ } على هذا وجهان :
أحدهما : أنَّها في محل نصبٍ على الحال .
والثاني : - وهو الأولى - أن تكون مستأنفةٌ ، لا محلَّ لها من الإعراب ، كأنها جواب سائل قال : هل لهم أجرٌ؟ وعطف ب « ثمّ » جَرْياً على الأغلب؛ لأنَّ المتصدِّق لغير وجه الله لا يحصل منه المنُّ عقيب صدقته ، ولا يؤذي على الفور ، فجرى هذا على الغالب ، وإن كان حكم المنِّ والأذى الواقعين عقيب الصّدقة كذلك .
قال الزَّمخشريُّ : ومعنى « ثُمَّ » : إظهار التَّفاوت بين الإنفاق ، وترك المنِّ والأذى ، وأنَّ تركهما خبرٌ من نفس الإنفاق كما جعل الاستقامة على الإيمان خيراً من الدُّخول فيه بقوله : { ثُمَّ استقاموا } [ فصلت : 30 ] ، فجعلها للتَّراخي في الرُّتبة ، لا في الزَّمان ، وقد تكرَّر له ذلك غير مرَّةٍ .
و « مَا » في قوله تعالى : { مَآ أَنْفَقُواُ } يجوز أن تكون موصولةً اسميّةً ، فالعائد محذوفٌ ، أي : ما أنفقوه ، وأن تكون مصدريةً ، فلا تحتاج إلى عائدٍ ، أي : لا يتبعون إنفاقهم . ولا بدَّ من حذفٍ بعد « مَناً » ، أي : مناً على المنفق عليه ، ولا أذى له ، فحذف للدّلالة عليه .
والمنُّ : الاعتداد بالإحسان ، وهو في الأصل : القطع ، ولذلك يطلق على النِّعمة؛ لأنَّ المنعم يقطع من ماله قطعةً للمنعم عليه . يقال : قد منَّ الله على فلان ، إذا أنعم عليه ، ولفلان عليَّ منَّةٌ ، أي : نعمة؛ وأنشد ابن الأنباريّ : [ الطويل ]
1218- فَمُنِّي عَلَيْنَا بالسَّلاَمِ فَإِنَّمَا ... كَلاَمُكِ يَاقُوتٌ وَدُرٌّ مُنَظَّمٌ
ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : « ما مِنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَمَنَّ عَلَيْنَا في صُحْبَتِهِ ، وَلاَ ذَات يَدِهِ مِنْ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ » يريد أكثر إنعاماً بماله ، وأيضاً فالله تعالى يوصف بأنَّه منَّانٌ ، أي : منعمٌ ، و « المنّ » أيضاً النَّقص من الحقّ . قال تبارك وتعالى : { وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } [ القلم : 3 ] أي : غير مقطوع وغير ممنوع؛ ومنه سمي الموت منوناص؛ لأنه ينقص الحياة ، ويقطعها ، ومن هذا الباب : المنَّةُ المذمومة؛ لأنَّها تنقص النّعمة ، وتكدّرها ، والعرب يمتدحون بترك المنّ بالنِّعمة قال قائلهم : [ الرمل ]
1219- زَادَ مَعْرُوفُكَ عِنْدِي عِظَماً ... أَنَّهُ عِنْدَكَ مَسْتُورٌ حَقِيرْ
تَتَنَاسَاهُ كَأَنْ لَمْ تَأْتِهِ ... وَهْوَ في العَالَمِ مَشْهُودٌ كَثِيرْ
والمنُّ : الذي يوزن به ، ويقال في هذا : « مَنَا » مثل : عَصَا . وتقدَّم اشتقاق الأذى .
و « مَنّاً » مفعولٌ ثانٍ ، و « لاَ أَذًى عطفٌ عليه ، وأبعد من جعل » وَلاَ أَذًى « مستأنفاً ، فجعله من صفات المتصدِّق ، كأنَّ قال : الذين ينفقون ، ولا يتأذَّون بالإِنفاق ، فيكون » أَذى « اسم لا ، وخبرها محذوفٌ ، أي : ولا أذًى حاصل لهم ، فهي جملةٌ منفيةٌ في معنى النَّهي .
قال شهاب الدِّين : وهذا تكلُّفٌ ، وحقُّ هذا القائل أن يقرأ » وَلاَ أَذَى « بالألف غير منوَّنٍ؛ لأنَّه مبنيٌّ على الفتح على مشهور مذهب النُّحاة .
فصل في سبب النزول
قال الكلبيُّ : نزلت في عثمان بن عفَّان ، وعبد الرَّحمن بن عوف .
أمَّا عثمان فجهّز جيش العسرة في غزوة » تبوك « ، بألف بعيرٍ بأقتابها ، وأحلاسها ، وألف دينارٍ .
» قال عبد الرَّحمن بن سمرة : جاء عثمان بألف دينارٍ في جيش العسرة ، فصبّها في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل فيها يده الكريمة ويقلبها ، ويقول : « مَا ضَرَّ ابْنَ عَفَّانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ اليَوْم » وقال « يَا رَبِّ؛ عُثْمَانُ رَضِيتُ عَنْهُ فَارْضَ عَنْهُ » فنزلت هذه الآية الكريمة .
« وأمَّا عبد الرحمن بن عوفٍ ، فإنَّه جاء بأربعة آلاف درهم صدقة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : كانت عندي ثمانية آلاف ، فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف ، وأربعة آلافٍ أقرضتها ربّي ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أَمْسَكْتَ ، وفِيمَا أَعْطَيْتَ « فنزلت الآية . وقال بعض المفسِّرين : إن الآية المتقدمة مختصّة فيمن أنفق على نفسه وهذه الآية الكريمة فيمن أنفق على غيره ، فبين تعالى أنَّ الإنفاق على الغير ، يوجب الثَّواب المذكور في الآية المتقدِّمة ، إذا لم يتبعه » مَنّ « ، » ولا أَذًى « قال القفَّال : وقد يحتمل أن يكون هذا الشَّرط معتبراً أيضاً فيمن أنفق على نفسه كمن ينفق على نفسه في الجهاد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين ، ولا يؤذي أحداً من المؤمنين ، مثل أن يقول : لو لم أحضر لما تمَّ هذا الأمر ، ويقول لغيره : أنت ضعيفٌ لا منفعة بك في الجهاد .
وقال بعضهم : » فِي سبيلِ « ، أي : طاعة الله - تعالى -؛ ولا يمنّ بعطائه ، ولا يعدّ عليه نعمه ، فيكدرها عليه ولا يؤذيه بأن يعيره ، فيقول : إلى كم تسأل ، وكم تؤذيني؟ وقيل : الأذى أن يذكر إنفاقه عليه عند من لا يحب وقوفه عليه .
وقال سفيان : » مَنّاً وَلاَ أَذًى « : هو أن قول : قد أعطيتك ، فما شكرت . قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان أبي يقول : إذا أعطيت رجلاً شيئاً ، ورأيت أنَّ سلامك يثقل عليه ، فكف سلامك عنه ، فحظر الله على عباده المنَّ بالصَّنيعة ، واختصّ به صفةً لنفسه؛ لأنَّه من العباد تعييرٌ وتكديرٌ ، ومن الله إفضال ، وتذكير ، وإنَّما كان المنُّ ، والأذى مذموماً ، لأنَّ الفقير الآخذ للصَّدقة منكسر القلب ، لأجل حاجته إلى صدقة غيره معترف باليد العليا للمعطي ، فإذا أضاف المعطي إلى ذلك : إظهار ذلك الإنعام ، زاد ذلك في انكسار قلبه ، فيكون في حكم المضرَّة بعد المنفعة ، وينفّر أهل الحاجة عن الرَّغبة في صدقته إذا اشتهر بتلك الطَّريقة ، وأمَّا » الأذَى « ، فمنهم من حمله على الإطلاق في أذى المؤمنين ، وليس بظاهرٍ ، بل اختصاصه بما تقدَّم من أذى الفقير أولى .
فإن قيل : ظاهر اللَّفظ : أنَّ مجموع المنّ ، والأذى يبطلان الأجر ، فيلزم منه أنَّه لو وجد أحدهما دون الآخر ، لا يبطل الأجر .
قلنا : بل الشَّرط ألاَّ يوجد واحدٌ منهما؛ لأن قوله : { لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى } يقتضي ألاَّ يقع منه ، لا هذا ، ولا ذاك .
فصل في دفع شبهة للمعتزلة
قالت المعتزلة : الآية الكريمة دلَّت على أنَّ الكبائر تحبط ثواب فاعلها؛ وذلك لأنَّ الله - تعالى - بين أنَّ هذا الثَّواب إنَّما يبقى إذا لم يوجد المنّ والأذى؛ لأنَّه لو ثبت مع فقدهما ، ومع وجودهما؛ لم يكن لهذا الاشتراط فائدة .
وأُجيبوا بأنَّ المراد منها أنَّ حصول المنّ والأذى يخرجان الإنفاق عن أن يكون فيه أجر وثواب أصلاً من حيث يدلاَّن على أنَّه إنَّما أنفق لكي يمنّ ، ولم ينفق ، لطلب رضوان الله ، ولا على وجه القربة والعبادة ، فلا جرم ، بطل الأجر .
فصل في دفع شبهة للمعتزلة
احتجَّت المعتزلة بقوله تعالى : { لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ } على أنَّ العمل موجبٌ للأجر على الله - تعالى - .
وأجيبوا بأنَّ حصول الأجر بسبب الوعد ، لا بسبب نفس العمل؛ لأن العمل واجبٌ على العبد ، وأداء الواجب لا يوجب الأجر .
فصل
وأجمعت الأمَّة على أنَّ قوله : { لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ } مشروطٌ بعدم الكفر ، وذلك يدلُّ على جواز التَّكلُّم بالعام لإرادة الخاصّ ، ومتى جاز ذلك في الجملة لم تكن دلالة اللَّفظ العام على الاستغراق دلالة قطعية ، وذلك يوجب سقوط دلائل المعتزلة في التَّمسُّك بالعمومات على القطع بالوعيد .
قوله : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } فيه قولان :
أحدهما : أنَّ إنفاقهم في سبيل الله ، لا يضيع ، بل يجدونه يوم القيامة ، فلا يخافون فقده « وَلاَ يَحْزَنُونَ » بسبب ألاَّ يوجد ، ونظيره { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً } [ طه : 112 ] .
الثاني : أنهم يوم القيامة ، لا يخافون العذاب ألبتة ، ونظير { وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ } [ النمل : 89 ] وقال { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر } [ الأنبياء : 103 ] .
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)
في قوله : { مَّعْرُوفٌ } ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنه مبتدأٌ ، وساغ الابتداء بالنَّكرة لوصفها ، وللعطف عليها . و « مَغْفِرةٌ » عطفٌ عليه ، وسوَّغ الابتداء بها العطف ، أو الصِّفة المقدَّرة ، إذ التَّقدير : ومغفرةٌ من السَّائل ، أو من الله . و « خَيْرٌ » خبرٌ عنهما . وقال أبو البقاء في هذا الوجه : « والتَّقدير : وسبب مغفرة ، لأنَّ المغفرة من الله تعالى ، فلا تفاضل بينهما ، وبين فعل العبد ، ويجوز أن تكون المغفرة : مجاوزة المتصدّق ، واحتماله للفقير ، فلا يكون فيه حذف مضافٍ » .
الثاني : أنَّ { قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } مبتدأٌ وخبره محذوفٌ ، أي : أمثل ، أو أولى بكم ، و « مَغْفِرَةٌ » مبتدأق ، و « خَيْرٌ » خبرها ، فهما جملتان ، ذكره المهدوي وغيره . قال ابن عطيَّة : « وهذا ذهابٌ برونق المعنى » .
والثالث : أنَّه خبر مبتدأ محذوفٍ تقديره : المأمور به قولٌ معروفٌ .
وقوله : { يَتْبَعُهَآ أَذًى } في محلِّ جرِّ صفةً لصدقةٍ ، فإن قيل لم يعد ذكر المنِّ فيقول : يتبعها منٌّ ، وأذى . فالجواب؛ لأنَّ الأذى يشمل المنَّ ، وغيره ، وإنَّما نصَّ عليه في قوله : { لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى } [ البقرة : 262 ] لكثرة وقوعه من المتصدِّقين ، وعسر تحفُّظهم منه ، ولذلك قدِّم على الأذى .
فصل
القول المعروف : هو القول الذي تقبله القلوب ، والمراد منه هنا : ردُّ السَّائل بطريقٍ حسنٍ .
وقال عطاءٌ : عِدَةٌ حسنة .
وقال القرطبيُّ : وروي من حديث عمر - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « إِذَا سأَلَ السَّائِلُ فَلاَ تَقْطَعُوا عَلَيْهِ مَسْأَلَتَهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا ، ثُمَّ رُدّوا عليه بِوَقَارٍ ، وَلِينٍ ، أو ببذل يَسِيرٍ ، أوْ رَدٍّ جميلٍ ، فقد يأْتِيكُم مَنْ لَيْسَ بإِنْسٍ ولا جَانّ يَنْظُرُونَ صَنِيعَكُم فيما خَوَّلَكُمُ اللهُ تعالى » .
وأمَّا المغفرة فقيل : هي العفو عن بذاءة الفقير ، والصَّفح عن إساءته فإنه إذا ردَّ بغير مقصوده؛ شقَّ عليه ذلك ، فربَّما حمله ذلك على بذاءة اللِّسان .
وقيل المراد ونيل مغفرةٍ من الله بسبب الردّ الجميل .
وقال الضَّحَّاك : نزلت في إصلاح ذات البين .
وقيل المراد : أن يستر حاجة الفقير ، فلا يهتك ستره ، ولا يذكر حاله عند من يكره الفقير وقوفه على حاله .
وقيل : إن قوله { قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } خطابٌ مع المسؤول بأن يردّ السَّائل بأحسن الطُّرق .
وقوله « مَغْفِرَةٌ » : خطابٌ مع السَّائل بأن يعذر المسؤول في ذلك الرَّدِّ ، فإنَّه ربَّما لم يقدر على ذلك المطلوب في تلك الحالة ، ثمَّ بيَّن تعالى أنَّ فعل الرَّجل لهذين الأمرين خير له من صدقةٍ يتبعها أذى؛ لأنَّه إذا أعطى ، وأَتْبع الإعطاء بالأذى ، فقد جمع بين النفقة والإضرار .
وأمَّا القول المعروف ، فقيه نفعٌ بلا ضررٍ؛ لأنَّه يتضمَّن إيصال السُّرور إلى قلب المسلم ، فكان خيراً من الأوَّل .
قال بعضهم : الآية الكريمة واردة في التَّطوُّع؛ لأنَّ الواجب لا يحلُّ منعه ولا ردّ السّائل منه ، ويحتمل أن يراد به الواجب ، فإنَّه قد يعدِل به عن سائلٍ إلى سائلٍ ، وعن فقيرٍ إلى فقيرٍ . ثم قال : { والله غَنِيٌّ } عن صدقة العباد ، وإنما أمركم بها ليثيبكم عليها { حَلِيمٌ } لم يتعجَّل بالعُقُوبة على من يمنّ ، ويؤذي بصدقته .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)
اعلم أنَّه تعالى ، لم ذكر هذين النَّوعين من الإنفاق ضرب واحداً منهما مثلاً .
قوله : { كالذي } الكاف في محلِّ نصبٍ ، فقيل : نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : لا تبطلوها إبطالاً كإبطال الذي ينفق رئاء النَّاس . وقي : في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير المصدر المقدَّر كما هو رأي سيبويه ، وقيل : حالٌ من فاعل « تُبْطِلُوا » ، أي : لا تبطلوها مشبهين الذي ينفق ماله رياء النَّاس .
و { رِئَآءَ } فيه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ تقديره : إنفاقاً رئاء النَّاس ، كذا ذكره مكي .
والثاني : أنه مفعول من أجله ، أي : لأجل رئاء النَّاس ، واستكمل شروط النَّصب .
الثالث : أنه في محلِّ حالٍ ، أي : ينفق مرائياً .
والمصدر هنا مضافٌ للمفعول ، وهو « النَّاس » ، ورئاء مصدر راءى كقاتل قتالاً ، والأصل : « رِئايا » فالهمزة الأولى عين الكلمة ، والثانية بدلٌ من ياءٍ هي لام الكلمة ، لأنها وقعت طرفاً بعد ألفٍ زائدةٍ . والمفاعلة في « راءَى » على بابها ، لأنَّ المرائي يري النَّاس أعمال؛ حتى يروه الثَّناء عليه ، والتَّعظيم له . وقرأ طلحة - ويروى عن عاصم - : « رِيَاء » بإبدال الهمزة الأولى ياء ، وهو قياس الهمزة تخفيفاً؛ لأنَّها مفتوحةٌ بعد كسرةٍ .
قوله : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ } مبتدأٌ وخبرٌ ، ودخلت الفاء ، قال أبو البقاء : « لتربط الجُمْلَة بِمَا قَبْلَهَا » كما تقدَّم ، والهاء في « فَمَثَلُهُ » فيها قولان :
أظهرهما : أنها تعود على « الَّذي يُنْفِقُ رِئَاءَ النَّاسِ » ؛ لأنَّه أقرب مذكورٍ فيكون المعنى أنَّ الله شبّه المانَّ المؤذي بالمنافق ، ثم شبَّه المنافق بالحجر .
والثاني : أنها تعود على المانِّ المؤذي ، كأنه تعالى شبَّهه بشيئين : بالذي ينفق رئاء وبصفوان عليه ترابٌ ، فيكون قد عدل من خطاب إلى غيبة ، ومن جمع إلى إفراد .
والصَّفوان : حجرٌ كبيرٌ أملس ، وفيه لغتان :
أشهرهما سكون الفاء ، والثانية فتحها ، وبها قرأ ابن المسيّب والزُّهريُّ ، وهي شاذَّةٌ؛ لأنَّ « فَعَلان » إنَّما يكون في المصادر نحو : النَّزوان ، والغليان ، والصفات نحو : رجلٌ طغيان وتيس عدوان ، وأمَّا في الأسماء فقليلٌ جداً . واختلف في « صَفْوَان » فقيل : هو جمعٌ مفرده : صفا ، قال أبو البقاء : « وجَمْعُ » فَعَلَ « على » فَعْلاَن « قليلٌ » . وقيل : هو اسم جنس .
قال أبو البقاء : « وهو الأجود ، ولذلك عاد الضَّمير عليه مفرداً في قوله : عَلَيْه » .
وقيل : هو مفردٌ ، واحده « صُفيٌّ » قاله الكسائي ، وأنكره المبرَّد . قال : « لأنَّ صُفيّاً جمع صفا نحو : عصيّ في عصا ، وقُفِيّ في قَفَا » . ونقل عن الكسائي أيضاً أنه قال : « صَفْوان مفردٌ ، ويجمع على صِفوان بالكسر » . قال النَّحاس : « ويجوز أن يكون المكسور الصَّاد واحداً أيضاً ، وما قاله الكسائيُّ غير صحيح ، بل صفوان - يعني بالكسر - جمعٌ لصفا ك » وَرَل « وَوِرْلان ، وأخ وإخوان وكرى وكروان » .
وحكى أبو عبيدٍ عن الأصمعي أن الصَّلإوان ، والصَّفا ، والصَّفو واحد والكلُّ مقصورٌ .
وقال بعضهم : الصَّفوان : جمع صفوانة ، كمرجانٍ ومرجانةٍ وسعدان ، وسعدانة .
وقال بعضهم : الصَّفوان : هو الحجر الأملس ، وهو واحدٌ وجمعٌ .
و { عَلَيْهِ تُرَابٌ } : يجوز أن يكون جملةً من مبتدأ ، وخبرٍ ، وقعت صفةً لصفوان ، ويجوز أن يكون « عَلَيْه » وحده صفةً له ، و « تُرَابٌ » فاعلٌ به ، وهو أولى لما تقدَّم عند قوله { فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ } [ البقرة : 261 ] . والتُّراب معروفٌ وهو اسم جنسٍ ، لا يثنَّى ، ولا يجمع .
وقال المبرِّد : وهو جمع واحدته « ترابة » . وذكر النَّحَّاس له خمسة عشر اسماً : ترابٌ وتَوْرَبٌ ، وتَوْرَابٌ ، وتَيْرَابٌ وإِثْلَب وأَثْلَب وَكَثْكَثٌ وَكِثْكِثٌ ودَقْعَمٌ وَدَقْعَاءُ ورَغام بفتح الراء ، ومنه : أرغم الله أنفه أي : ألصقه بالرَّغام وبَرى ، وقرى بالفتح مقصوراً [ كالعصا وكملح وعثير ] وزاد غيره تربة وصعيد .
ويقال : ترب الرَّجل : افتقر . ومنه : { أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } [ البلد : 16 ] كأنَّ جلده لصق به لفقره ، وأترب ، أي : استغنى ، كأنَّ الهمزة للسَّلب ، أو صار ماله كالتُّراب .
قوله : { فَأَصَابَهُ } عطفٌ على الفعل الذي تعلَّق به قوله : « عَلَيْهِ » ، أي : استقرَّ عليه ترابٌ ، فأصابه . والضَّمير يعود على الصَّفوان ، وقيل : على التُّراب . وأمَّا الضَّمير في « فَتَرَكَهُ » فعلى الصفوان فقط . وألف « أصَابَه » من واوٍ؛ لأنه من صاب يصوب .
والوابل : المطر الشَّديد ، وبلت السَّماء تبل ، والأرض موبولة ، ويقال أيضاً : أوبل ، فهو موبل ، فيكون ممَّا اتفق فيه فعل ، وأفعل ، وهو من الصِّفات الغالبة كالأبطح ، فلا يحتاج معه إلى ذكر موصوفٍ . قال النَّضر بن شيملٍ :
أولُ ما يَكُونُ المَطَرُ رَشاً ، ثم طشاً ، ثم طَلاًّ ، ورَذاذاً ، ثم نضحاً ، وهو قطرٌ بين قطرين ، ثم هطلاً وتهتاناً ، ثم وابلاً وجوداً . والوبيل : الوخيم ، والوبيلة : حزمة الحطب ، ومنه قيل للغليظة : وبيلةٌ على التَّشبيه بالحزمة .
قوله : { فَتَرَكَهُ صَلْداً } كقوله تعالى : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } [ البقرة : 17 ] . والصَّلد : الأجرد الأملس ، ومنه : « صَلَدَ جبينُ الأصْلَعِ » : أي برق ، والصَّلد أيضاً صفة ، يقال : صلد بكسر اللام يصلد بفتحها ، فهو صلد . قال النَّقَّاش : « الصَّلْدُ بلغة هُذَيل » . وقال أبان بن تغلب : « الصَّلْد : اللَّيِّن من الحجارة » وقال علي بن عيسى : « هو من الحجارة ما لا خير فيه ، وكذلك من الأرضين وغيرها ، ومنه : » قِدْرٌ صَلُود « أي : بطيئة الغَلَيان » ، وصلد الزّند : إذا لم يورد ناراً .
قوله : { لاَّ يَقْدِرُونَ } في هذه الجملة قولان :
أحدهما : أنها استئنافية فلا موضع لها من الإعراب .
والثاني : أنها في محلِّ نصب على الحال من « الَّذِي » في قوله : { كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ } ، وإنما جمع الضَّمير حملاً على المعنى ، لأنَّ المراد بالذي الجنس ، فلذلك جاز الحمل على لفظه مرَّةً في قوله : « مَالَهُ » و « لاَ يُؤْمِنُ » ، « فمثلُه » وعلى معناه أخرى .
وصار هذا نظير قوله : { كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً } [ البقرة : 17 ] ثم قال : { بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ } [ البقرة : 17 ] ، وقد تقدَّم .
وزعم ابن عطيَّة أنَّ مهيع كلام العرب الحمل على اللَّفظ أولاً ، ثم المعنى ثانياً ، وأنَّ العكس قبيحٌ ، وتقدَّم الكلام معه في ذلك . وقيل : الضَّمير في « يَقْدِرُونَ » عائدٌ على المخاطبين بقوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم } ويكون من باب الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، وفيه بعدٌ .
وقيل : يعود على ما يفهم من السِّياق ، أي : لا يقدر المانُّون ، ولا المؤذون على شيءٍ من نفع صدقاتهم . وسمَّى الصّدقة كسباً .
قال أبو البقاء : « وَلا يَجُوزُ أن يَكُونَ » لاَ يَقْدِرُونَ « حالاً من » الَّذِي « ؛ لأنه قد فصل بينهما بقوله : » فَمَثَلُه « وما بعده » . ولا يلزم ذلك؛ لأنَّ هذا الفصل فيه تأكيدٌ ، وهو كالاعتراض « .
فصل
قال القاضي : إنه تبارك وتعالى أكَّد النَّهي عن إبطال الصَّدقة بالمنّ ، والأذى ، وأزال كلّ شبهة للمرجئة ، وبيَّن أنَّ المنَّ والأذى يبطلان الصَّدقة ، ومعلومٌ أنَّ الصَّدقة قد وقعت ، فلا يصحُّ أن تبطل ، فالمراد إبطال أجرها ، لأنَّ الأجر لم يحصل بعد ، وهو مستقبل ، فيصحُّ إبطاله بما يأتيه من المنّ والأذى .
واعلم أنَّه تعالى ضرب لكيفية إبطال الصَّدقة بالمنّ والأذى مثلين ، فمثله أوَّلاً : بمن ينفق ماله رئاء النَّاس ، وهو مع ذلك لا يؤمن بالله ، واليوم الآخر ، لأنَّ بطلان أجر نفقة هذا المرائي الكافر ، أظهر من بطلان أجر صدقة من يُتْبعها بالمنّ ، والأذى . ثم مثَّله ثانياً : ب » الصَّفْوَانِ « الذي وقع عليه تُرابٌ ، وغبارٌ ، ثم أصابه المطر القويُّ ، فيزيل ذلك الغبار عنه حتّى يصير كأنه لم يكن عليه غبار أصلاً ، فالكافر كالصَّفوان ، والتُّراب مثل ذلك الإنفاق ، والوابل كالكفر الذي يحبط عمل الكافر ، وكالمنّ والأذى اللَّذين يحبطان عمل هذا المنفق .
قال : فكما أنَّ الوابل أزال التُّراب الذي وقع على الصَّفوان ، فكذلك المنّ والأذى ، وجب أن يكونا مبطلين لأجر الإنفاق بعد حصوله ، وذلك صريحٌ في القول بالإحباط .
قال الجبَّائيُّ : وكما دلّ هذا النَّص على صحَّة قولنا فالعقل دلَّ عليه عليه أيضاً؛ لأن من أطاع ، فلو استحقّ ثواب طاعته ، وعقاب معصيته لوجب أن يستحقّ النّقيضين؛ لأنَّ شرط الثَّواب أن يكون منفعة خالصةً دائمةً مقرونةً بالإجلال ، وشرط العقاب أن يكون مضرةً خالصةً دائمةً مقرونةً بالإهانة فلو لم تقع المحابطة ، لحصل استحقاق النّقيضين وذلك محال ، ولأنَّه حين يعاقبه ، فقد منعه الإثابة ، ومنع الإثابة ظلمٌ ، وهذا العقاب عدل ، فيلزم أن يكون هذا العقاب عدلاً من حيث إنَّه حقّه ، وأن يكون ظلماً من حيث إنَّه منع الإثابة ، فيكون ظلماً بنفس الفعل الذي هو عادلٌ فيه؛ وذلك محال ، فصحّ بهذا النَّصّ ودلالة العقل صحّة قولنا في الإحباط والتَّكفير .
وأجيبوا بأنه ليس المراد بقوله « لاَ تُبْطِلُوا » النَّهي عن إزالة هذا الثَّواب بعد ثبوته ، بل المراد به ألاَّ يأتي بهذا العمل باطلاً؛ لأنَّه إذا قصد به غير وجه الله تعالى ، فقد أتى به من الابتداء موصوفاً بالبطلان .
قال ابن الخطيب : ويدلّ على بطلان قول المعتزلة وجوه :
أولها : أنَّ الباقي والطّارئ إن لم يكن بينهما منافاة ، لم يلزم من طَرَيَانِ الطَّارئ زوال الباقي ، وإن حصلت بينهما منافاة لم يكن زوال الباقي أولى من اندفاع الطَّارئ ، بل ربَّما كان اندفاع الطَّارئ ، أولى؛ لأن الدفع أسهل من الرفع .
وثانيها : أن الطارئ لو أبطل لكان إما أن يبطل ما دخل منه في الوجود في الماضي ، وهو محال؛ لأنَّ الماضي قد انقضى ، ولم يبق في الحال ، وإعدام المعدوم محالٌ ، وإما أن يبطل ما هو موجود في الحال وهو أيضاً محال؛ لأنَّ الموجود في الحال ، لو أعدمه في الحال لزم الجمع بين العدم والوجود وهو محالٌ ، وإما أن يبطل ما سيوجد في المستقبل وهو محالٌ ، لأنَّ الذي سيوجد في المستقبل معدوم في الحال ، وإعدام ما لم يوجد بعد محال .
وثالثها : أنَّ شرط طريان الطَّارئ ، زوال الباقي ، فلو جعلنا زوال النافي معلّلاً بطريان الطَّارئ ، لزم الدَّور ، وهو محالٌ .
ورابعها : أنَّ الطَّارئ إذا طرأ وأعدم الثَّواب السَّابق ، فالثَّواب السَّابق إمَّا أن يعدم من هذا الطَّارئ شيئاً ، أو لا يعدم منه شيئاً ، والأول هو الموازنة ، وهو قول أبي هاشم ، وهو باطلٌ ، وذلك لأنَّ الموجب لعدم كل واحد منهما وجود الآخر ، فلو حصل العدمان معاً اللَّذان هما معلومان ، لزم حصول الموجودين اللَّذين هما علَّتان ، فيلزم أن يكون كلّ واحد منهما موجوداً حال كون كلّ واحد منهما معدوماً وهو محالٌ .
والثاني ، وهو قول أبي علي الجبَّائي : هو أيضاً باطل؛ لأنَّ العقاب الطَّارئ لما أزال الثَّواب السَّابق ، وذلك الثَّواب السَّابق ليس له أثر ألبتة في إزالة الشَّيء من هذا العقاب الطَّارئ؛ فحينئذ لا يحصل له من العلم الذي أوجب الثَّواب السَّابق فائدة أصلاً ، لا في جلب ثواب ولا في دفع عقاب ، وذلك على مضادة النَّصّ الصّريح في قوله تبارك وتعالى { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ] ، لأنه خلاف العدل حيث يحمل العبد مشقّة الطَّاعة ، ولم يظهر له منها أثر ، لا في جلب منفعةٍ ، ولا في دفع مضرةٍ .
خامسها : أنكم تقولون الصَّغيرة تحبط بعض أجزاء الثَّواب دون البعض وذلك محالٌ؛ لأن أجزاء الاستحقاقات متساوية في الماهيَّة ، فالصَّغيرة الطَّارئة إذا انصرف تأثيرها إلى بعض تلك الاستحقاقات دون البعض مع استواء الكلّ في الماهيَّة كان ذلك ترجيحاً للممكن من غير مرجّح ، وهو محالٌ فلم يبق إلاَّ أن يقال بأنَّ الصَّغيرة الطَّارئة تزيل كلَّ تلك الاستحقاقات ، وهو باطلٌ بالاتّفاق ، أو لا تزيل شيئاً منها ، وهو المطلوب .
سادسها : أنَّ عقاب الكبيرة ، إذا كان أكثر من ثواب العَمَل المتقدّم ، فإمَّا أن يقال : بأنَّ المؤثر في إبطال الثَّواب بعض أجزاء العقاب الطَّارئ ، أو كلها ، والأوَّل باطل؛ لأنَّ اختصاص بعض تلك الأجزاء بالمؤثريّة دون البعض مع استواء كلِّها في الماهيَّة ترجيح للمكن من غير مرجّح ، وهو محالٌ . الثاني باطلٌ ، لأنَّه حينئذ يجتمع على إبطال الجزء الواحد من الثَّواب جزآن من العقاب مع أنَّ كلَّ واحد من ذينك الجزأين مستقلٌّ بإبطال ذلك الثَّواب ، فقد اجتمع على الأثر الواحد مؤثران كلّ واحدٍ منهما مستقلٌّ وذلك محالٌ؛ لأنَّه يستغني بكلِّ واحدٍ منهما عن كلّ واحد منهما فيكون غنيّاً عنهما معاً ، حال كونه محتاجاً إليهما معاً ، وهو محالٌ .
سابعها : أنَّه لا منافاة بين هذين الاستحقاقين؛ لأنَّ السَّيِّد إذا قال لعبده : احفظ هذا المتاع لئلاّ يسرقه السَّارق ، ثم في ذلك الوقت جاء العدوّ ، وقصد قتل السّيِّد ، فاشتغل العبد بمحاربة ذلك العدوِّ ، وقتله ، فذلك الفعل من العبد يستوجب استحقاقه للمدح ، والتعظيم حيث دفع القتل عن سيِّده ، ويوجب استحقاقه للذَّمِّ ، حيث عرض ماله للسّرقة ، وكلّ واحدٍ من الاستحقاقين ثابت ، والعقلاء يرجعون في مثل هذه الواقعة إلى التَّرجيح أو إلى المهايأة ، فأمَّا أن يحكموا بانتفاء الاستحقاقين وزواله فذلك مدفوعٌ في بداية العقول .
ثامنها : أَنَّ الموجب لحصول هذا الاستحقاق هو الفعل المُتقدِّم ، فهذا الطَّارئ إِمَّا أن يكون له أثر في جهة اقتضاء ذلك الفعل لذلك الاستحقاق ، أو لا يكون . والأوَّل محالٌ؛ لأَنَّ ذلك العل إنَّما يكون موجوداً في الزَّمان الماضي ، فلو كان لهذا الطَّارئ أَثَرٌ في ذلك الفعل لكان هذا إيقاعاً للتَّأثير في الزَّمان الماضي ، وهو محالٌ ، وإن لم يكن لهذا الطَّارئ [ أثر ] في اقتضاءِ ذلك الفعل السَّابق لذلك الاستحقاق ، وجب أَن يبقى ذلك الاقتضاء كما كان وألاَّ يزول .
وتاسعها : أَنَّ المعتزلة يقولون : إِنَّ شُرب جرعةٍ من الخمرِ ، يحبطُ ثواب الإِيمان وطاعة سبعين سنةٍ على سبيل الإِخلاص ، وذلك محالٌ؛ لأنَّا نعلم بالضَّرورة أَنَّ ثواب هذه الطَّاعات أكثر مِنْ عقاب هذه المعصية الواحدة ، والأعظم بالأَقلّ .
قال الجبَّائي : لا يمتنع أَنْ تكون الكبيرة الواحدة أعظم من كُلِّ طاعةٍ ، لأن معصية الله تعالى تعظم على قدر كثرة نعمه ، وإحسانه ، كما أَنَّ استحقاق قيام الرَّبَّانيَّة ، وقد ربَّاهُ وملكه ، وبلغه إلى النِّهاية [ العظيمة أعظم ] من قيامه بحقِّه لكثرة نعمه ، فإِذا كانت نعم الله على عباده ، بحيث لا تُضبط عظماً ، وكثرةً لم يمتنع أَنْ يستحقَّ على المعصية الواحدة العقاب العظيم الَّذي يعلو على ثواب جملة الطَّاعات .
قال ابن الخطيب : وهذا العُذْرُ ضعيفٌ؛ لأَنَّ المَلِك الَّذِي عظمت نعمُهُ على عبده ، ثمّ إِنَّ ذلك العبدَ قام بحقِّ عبوديَّته خمسين سنةً ، ثم إنّه كسر رأس قلم ذلك الملك قصداً ، فلو أحبط المَلك جميع طاعاته بسبب ذلك القدر من الجرم فكُلُّ أحدٍ يذمُّهُ ، وينسبه إلى ترك الإِنصاف والقسوة ، ومعلومٌ أَنَّ جميع المعاصي بالنِّسبة إلى جلال الله تعالى أقلُّ من كسر رأس القلم ، فظهر أَنَّ قولهم على [ خلاف ] قياس العقول .
عاشرها : أَنَّ إِيمان ساعةٍ يهدم كُفْر سبعين سنة فالإيمان سبعين سنةً كيف يهدمُ بفسق ساعةٍ ، وهذا مِمَّا لا يقبلُهُ العقلُ ، والله أعلمُ .
قوله { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى } يحتمل أمرين :
أحدهما : لا تأْتُوا به باطِلاً ، وذلك أَنْ يَنْوي بالصَّدقة الرِّياء والسُّمعة .
[ قال القرطبيُّ : إِنَّ اللهَ تعالى عبَّر عن عدم القبول ، وحرمان الثوب ] بالإبطال ، والمراد الصَّدقة الَّتي يمُنُّ بها ، ويُؤذي لا غيرها ، فالمَنُّ والأَذى في صدقة؛ لا يُبطلُ صدقةً غيرها .
قال جمهور العلماء في هذه الآية : إنَّ الصَّدقة التي يعلم الله من صاحبها أنه يمنّ ، أو يُؤذي بها ، فإِنَّها لا تقبل .
وقيل : إِنَّ اللهَ جعل للملك عليها أمارة ، فهو لا يكتبها .
قال القرطبيُّ : وهذا حسنٌ .
والثاني : أن يأتوا بها على وجهٍ يوجب الثَّواب ، ثُمَّ يتبعوها بالمَنِّ والأذى ، فيزيلوا ثوابها ، وضرب لذلك مثلين :
أحدهما : يطابقُ الأَوَّل وهو قوله : { كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس وَلاَ يُؤْمِنُ بالله } ، إِذْ من المعلوم [ أَنَّ المراد من كونه عمل ] هذا باطلاً أَنَّه دخل في الوجود باطلاً ، لا أَنَّهُ دخل صحيحاً ، ثم يزول؛ لأَنَّ الكُفر مقارنٌ له فيمتنع دخوله صحيحاً في الوجود .
والمثال الثاني : وهو الصَّفوان الَّذي وقع عليه تراب ، ثمَّ أصابهُ وابلٌ فهذا يشهدُ لتأَويل المعتزلة؛ لأنَّه جعل الوابلَ مُزِيلاً لذلك التُّراب بعد وقُوع التُّراب على الصَّفوان ، فكذا ها هنا : يجب أن يكون المنُّ والأَذى مزيلين للأجر والثَّواب بعد حصول استحقاق الأَجر .
ويمكن أَنْ يجاب عنه : بأَنَّا نُسلِّم أَنَّ المشبه بوقوع التُّراب على الصَّفوان حُصُولُ الأَجر للكافر؛ بل المشبَّه بذلك صُدُورُ هذا العمل الَّذي لولا كونه مقروناً بالنِّيَّة الفاسدة ، لكان موجباً لحصول الأَجر والثواب؛ لأَنَّ التُّراب إذا وقع على الصَّفوان ، لم يكن ملتصقاً به ، ولا غائصاً فيه أَلْبَتَّة ، بل يكون لك الاتِّصال كالانفِصال ، فهو في مرأَى العين متَّصلٌ ، وفي الحقيقة منفصلٌ ، فكذا الإِنفاقُ المقرون بالمَنّ والأَذى ، يُرَى في الظَّاهر أَنَّه عَمَلٌ مِنْ أَعمال البِرّ ، وفي الحقيقة ليس كذلك ، فظهر أَنَّ استدلالهم بهذه ضعف .
فصلٌ
قال ابن عبَّاس قوله : { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن } على الله بسب صدقتِكُم ، وبالأذى لذلك السَّائل .
وقال الباقون : بالمَنّ على الفقير وبالأذى للفقير { كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس } ؛ لأنَّ المُنافق ، والمُرائي يأتيان بالصَّدقة لا لوجه اللهِ - تعالى - ومن يَقْرُنُ الصَّدقة بالمنّ والأَذى ، فقد أتى بتلك الصَّدقة لا لوجه اللهِ - تعالى - أيضاً ، إذ لو كان غرضه من تلك الصَّدقة طلب مرضاة الله تعالى لما مَنَّ على الفقير ، ولا آذاه ، فثبت اشتراكُ الصُّورتين في كون الصَّدقة لم يأت بها لوجه اللهِ - تعالى - وتقدَّم الكلامُ على الإِلقاء .
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
عاشرها : أَنَّ إِيمان ساعةٍ يهدم كُفْر سبعين سنة فالإيمان سبعين سنةً كيف يهدمُ بفسق ساعةٍ ، وهذا مِمَّا لا يقبلُهُ العقلُ ، والله أعلمُ .
قوله { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى } يحتمل أمرين :
أحدهما : لا تأْتُوا به باطِلاً ، وذلك أَنْ يَنْوي بالصَّدقة الرِّياء والسُّمعة .
[ قال القرطبيُّ : إِنَّ اللهَ تعالى عبَّر عن عدم القبول ، وحرمان الثوب ] بالإبطال ، والمراد الصَّدقة الَّتي يمُنُّ بها ، ويُؤذي لا غيرها ، فالمَنُّ والأَذى في صدقة؛ لا يُبطلُ صدقةً غيرها .
قال جمهور العلماء في هذه الآية : إنَّ الصَّدقة التي يعلم الله من صاحبها أنه يمنّ ، أو يُؤذي بها ، فإِنَّها لا تقبل .
وقيل : إِنَّ اللهَ جعل للملك عليها أمارة ، فهو لا يكتبها .
قال القرطبيُّ : وهذا حسنٌ .
والثاني : أن يأتوا بها على وجهٍ يوجب الثَّواب ، ثُمَّ يتبعوها بالمَنِّ والأذى ، فيزيلوا ثوابها ، وضرب لذلك مثلين :
أحدهما : يطابقُ الأَوَّل وهو قوله : { كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس وَلاَ يُؤْمِنُ بالله } ، إِذْ من المعلوم [ أَنَّ المراد من كونه عمل ] هذا باطلاً أَنَّه دخل في الوجود باطلاً ، لا أَنَّهُ دخل صحيحاً ، ثم يزول؛ لأَنَّ الكُفر مقارنٌ له فيمتنع دخوله صحيحاً في الوجود .
والمثال الثاني : وهو الصَّفوان الَّذي وقع عليه تراب ، ثمَّ أصابهُ وابلٌ فهذا يشهدُ لتأَويل المعتزلة؛ لأنَّه جعل الوابلَ مُزِيلاً لذلك التُّراب بعد وقُوع التُّراب على الصَّفوان ، فكذا ها هنا : يجب أن يكون المنُّ والأَذى مزيلين للأجر والثَّواب بعد حصول استحقاق الأَجر .
ويمكن أَنْ يجاب عنه : بأَنَّا نُسلِّم أَنَّ المشبه بوقوع التُّراب على الصَّفوان حُصُولُ الأَجر للكافر؛ بل المشبَّه بذلك صُدُورُ هذا العمل الَّذي لولا كونه مقروناً بالنِّيَّة الفاسدة ، لكان موجباً لحصول الأَجر والثواب؛ لأَنَّ التُّراب إذا وقع على الصَّفوان ، لم يكن ملتصقاً به ، ولا غائصاً فيه أَلْبَتَّة ، بل يكون لك الاتِّصال كالانفِصال ، فهو في مرأَى العين متَّصلٌ ، وفي الحقيقة منفصلٌ ، فكذا الإِنفاقُ المقرون بالمَنّ والأَذى ، يُرَى في الظَّاهر أَنَّه عَمَلٌ مِنْ أَعمال البِرّ ، وفي الحقيقة ليس كذلك ، فظهر أَنَّ استدلالهم بهذه ضعف .
فصلٌ
قال ابن عبَّاس قوله : { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن } على الله بسب صدقتِكُم ، وبالأذى لذلك السَّائل .
وقال الباقون : بالمَنّ على الفقير وبالأذى للفقير { كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس } ؛ لأنَّ المُنافق ، والمُرائي يأتيان بالصَّدقة لا لوجه اللهِ - تعالى - ومن يَقْرُنُ الصَّدقة بالمنّ والأَذى ، فقد أتى بتلك الصَّدقة لا لوجه اللهِ - تعالى - أيضاً ، إذ لو كان غرضه من تلك الصَّدقة طلب مرضاة الله تعالى لما مَنَّ على الفقير ، ولا آذاه ، فثبت اشتراكُ الصُّورتين في كون الصَّدقة لم يأت بها لوجه اللهِ - تعالى - وتقدَّم الكلامُ على الإِلقاء .
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
هذا مثالٌ آخر ذكره اللهُ تعالى في حقِّ من يُتبعُ إنفاقه بالمَنِّ والأَذَى ، « الودُّ » : هو المحبةُ الكامِلةُ ، والهمزةُ في « أَيَودُّ » للاستفهام ، وهو بمعنى الإِنكارِ ، وإنما قال : « أَيَوَدُّ » ، ولم يقل أَيُرِيد؛ لأنا ذكرنا أن المودة هي المحبةُ التامةُ ، ومعلومٌ أن محبةَ كُلِّ أحدٍ لعدم هذه الحالة محبةً كاملة ، فلهذا ذكر هذا اللفظ في جانب الثبوت؛ تنبيهاً على الإِنكار التَّام ، والنفرةِ البالغةِ إلى الحد الذي لا مزيد فوقه .
قوله تعالى : { مِّن نَّخِيلٍ } في محلِّ رفعٍ؛ صفةً لجنة ، أي : كائنة من نخيل . و « نَخِيلٍ » فيه قولان :
أحدهما : أنه اسم جمع .
والثاني : أنه جمع « نَخْل » الذي هو اسم الجنسِ ، ونحوه : كلب وكَلِيب ، قال الراغب : « سُمِّي بذلك؛ لأنه منخولُ الأشجارِ ، وصَفِيُّها؛ لأنه أكرمُ ما يَنْبُتُ » وذكر له منافع وشبهاً من الآدميين .
والأعنابُ : جمع عِنَبَة ، ويقال : « عِنَباء » مثل « سِيرَاء » بالمدِّ ، فلا ينصرفُ . وحيثُ جاء في القرآن ذكرُ هذين ، فإنما يَنصُّ على النخلِ دون ثمرتها ، وعلى ثمرةِ الكَرْم دون الكَرْم؛ لأنَّ النخلَ كلَّه منافعُ ، وأعظمُ منافِع الكَرْم ثَمرَتهُ دونَ باقيه .
قوله : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا } هذه الجملة في محلِّها وجهان :
أحدهما : أنَّها في محلِّ رفعٍ؛ صفةً لجنة .
والثاني : أنها في محلِّ نصب ، وفيه أيضاً وجهان ، فقيل : على الحال من « جنَّة » ؛ لأنها قد وُصِفَتْ . وقيل : على أنها خبرُ [ تكون ] نقله مكيّ .
قوله : { لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات } جملة من مبتدإٍ ، وخبرٍ ، فالخبر قوله : « لَهُ » و « مِنْ » كُلِّ الثَّمَراتِ « هو المبتدأُ ، وذلك لا يستقيمُ على الظاهر ، إذ المبتدأُ لا يكونُ جارّاً ومجروراً؛ فلا بُدَّ من تأويله . واختلف في ذلك :
فقيل : المبتدأ في الحقيقة محذوفٌ ، وهذا الجارُّ والمجرورُ صفةٌ قائمةٌ مقامه ، تقديره : » له فيها رِزقٌ من كلِّ الثمراتِ ، أو فاكهةٌ مِنْ كلِّ الثمرات « فحُذف الموصوفُ ، وبقيت صفتُه؛ ومثله قول النَّابغة : [ الوافر ]
1225- كَأَنَّكَ مِنْ جِمَالِ بَنِي أُقَيْشٍ ... يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ
أي : جملٌ من جمالِ بني أُقَيْشٍ ، وقوله تعالى : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] أي : وما مِنَّا أحدٌ إِلاَّ له مقامٌ .
وقيل : » مِنْ « زائدةٌ تقديره : له فيها كلُّ الثمرات ، وذلك عند الأخفش؛ لأنه لا يَشْتَرِطُ في زيادتها شيئاً .
وأمَّا الكُوفيُّون : فيشترطون التنكير ، والبصريون يَشْتَرطونه وعدم الإِيجاب ، وإذا قُلنا بالزيادة ، فالمرادُ بقوله : » كُلِّ الثَّمَرَاتِ « التكثيرُ لا العموم ، لأنَّ العُمومَ مُتعذِّرٌ .
قال أبو البقاء : ولا يجوزُ أَنْ تكونَ » مِنْ « زائدةً ، لا على قولِ سيبويه ولا قولِ الأخفشِ؛ لأنَّ المعنى يصيرُ : له فيها كُل الثمراتِ ، وليسَ الأمرُ على هذا ، إلاَّ أَنْ يُرادَ به هنا الكثرة لا الاستيعاب ، فيجوزُ عند الأخفش؛ لأنه يُجَوِّزُ زيادةَ » مِنْ « في الواجب .
فإن قيل : كيف عطف « وأَصَابَهُ » على « أيودُّ » ؟ وكيف يجوزُ عطفُ الماضي على المستقبل؟
فالجواب : من وجوه :
أحدها : أَنَّ الواو للحالِ ، والجملةُ بعدها في محلِّ نصبٍ عليها ، و « قد » مقدَّرةٌ أي : وقد أصابه ، وصاحبُ الحال هو « أَحَدُكُمْ » ، والعاملُ فيها « يَودُّ » ، ونظيرُها : { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } [ البقرة : 28 ] ، وقوله تعالى : { وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا } [ آل عمران : 168 ] أي : وقد كُنتم ، وقد قَعَدوا .
والثاني : أَن يكون قد وضع الماضي موضع المضارع ، والتقديرُ « ويُصيبَه الكِبَر » كقوله تعالى : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ } [ هود : 98 ] أي : يوردهُم . قال الفراء : يجوزُ ذلك في « يَوَدُّ » ؛ لأنه يُتَلَقَّى مرةً ب « أَنْ » ومرةً ب « لو » فجاز أن يُقَدَّر أحدُهما مكان الآخر .
الثالث : أنه حُمِل في العطفِ على المعنى؛ لأنَّ المعنى : أَيَودُّ أحدُكم أَنْ لو كانَتْ ، فأصابه الكِبَرُ ، وهذا الوجهُ فيه تأويلُ المضارع بالماضي؛ ليصِحَّ عطفُ الماضي عليه ، عكسُ الوجه الذي قبله ، فإنَّ فيه تأويلَ الماضي بالمضارع . واستضعف أبو البقاء هذا الوجه؛ بأنه يُؤدّي إلى تغيير اللفظ مع صحّة المعنى .
والزمخشريُّ نَحَا إلى هذا الوجه - أيضاً - فإنه قال « وقيل : يُقالُ : وَدِدْتُ لو كان كذا؛ فحُمِل العطفُ على المعنى ، كأنه قيل : أَيَودُّ أحدُكم لو كانت له جَنَّةٌ ، وأصابَه الكِبَرُ » .
قال أبو حيان : « وظاهرُ كلامه أَنْ يكونَ » أَصَابَهُ « معطوفاً على متعلِّق » أَيَودُّ « وهو » أَنْ تَكُونَ « ؛ لأنه في معنى » لَوْ كانَتْ « ، إذ يقال : أيودُّ أحدكم لو كانت ، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنه يمتنع من حيثُ المعنى أَنْ يكونَ معطوفاً على » كانت « التي قبلها » لو « ؛ لأنه متعلَّق الوُدِّ ، وأمَّا » أَصابَه الكِبَرُ « فلا يمكنُ أن يكون متعلَّق الودِّ؛ لأنَّ » أصَابه الكِبَرُ « لا يودُّه أَحَدٌ ولا يتمنَّاه ، لكن يُحْمل قول الزمخشريُّ على أنه لمّا كان » أَيَوَدُّ « استفهاماً معناه الإِنكارُ جُعِلَ متعلَّقُ الودادةِ الجمع بين الشيئين ، وهما : كونُ جنةٍ له ، وإصابةُ الكِبَر إياه ، لا أنَّ كلَّ واحد منهما يكونُ مَوْدُوداً على انفراده ، وإنما أَنكروا ودادة الجمع بينهما » .
قوله تعالى : { وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ } هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الهاءِ في « وأَصابَه » ، وقد تقدَّم اشتقاقُ الذريَّة . وقُرئ « ضِعافٌ » ، وضُعفاءُ ، وضعاف ، منقاسان في ضعيف ، نحو : ظريف ، وظُرَفَاء ، وظِراف ، وشَريف ، وشُرَفاء وشِراف .
قوله : { فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ } هذه الجملة عطفٌ على صفةِ الجنة قبلها ، قاله أبو البقاء . يعني على قوله تعالى : { مِّن نَّخِيلٍ } وما بعده .
وأتى في هذه الآياتِ كلِّها بلفظ الإِصابة نحو فأصابه وَابِلٌ ، وأَصابَه الكِبَر ، فأصابها إعصارٌ؛ لأنه أبلغُ ، وأَدَلُّ على التأثير بوقوعِ الفعلِ على ذلك الشيء ، من أنه لم يُذكر بلفظ الإِصابة ، حتى لو قيل : « وَبَل » ، و « كَبِر » ، و « أَعْصَرَتْ » لم يكن فيه ما في لفظِ الإِصابة من المبالغةِ .
والإِعصارُ : الريحُ الشديدةُ المُرتفعةُ ، وتُسَمِّيها العامَّةُ : الزَّوبعة . وقيل : هي الريحُ السَّموم ، سُمِّيت بذلك؛ لأنها تَلُفُّ كما يُلَفُّ الثوبُ المعصورُ ، حكاه المهدوي . وقيل : لأَنها تَعْصِر السَّحابَ ، وتُجمع على أَعَاصير ، قال : [ البسيط ]
1226أ- وَبَيْنَما المَرْءُ فِي الأَحْيَاءِ مُغْتَبِطٌ ... إِذْ هُوَ فِي الرَّمْسِ تَعْفُوهُ الأَعَاصِيرُ
والإعصارُ من بين سائر أسماءِ الريحِ ، مذكرٌ ، ولهذا رجع إليه الضمير مذكَّراً في قوله : « فيه نارٌ » .
و « نَارٌ » يجوز فيه الوجهان : أعني الفاعلية ، والجارُّ قبلها صفةٌ ل « إِعْصار » والابتدائية ، والجارُّ قبلها خبرها ، والجملة صفةُ « إِعْصارٌ » ، والأول أَولى؛ لما تقدَّم من أنَّ الوصف بالمفرد أَولى ، والجارُّ أقربُ إليه من الجملة .
قوله : { فاحترقت } أي : أحرقها ، فاحترَقَتْ ، فهو مطاوعٌ لأَحْرق الرباعي ، وأمَّا « حَرَقَ » من قولهم : « حَرَقَ نابُ الرجُلِ » إذا اشتدَّ غيظهُ ، فيُستعمل لازِماً ، ومتعدِّياً ، قال : [ الطويل ]
1226ب- أَبَى الضَّيْمَ وَالنُّعْمَانُ يَحْرِقُ نَابُهُ ... عَلَيْه فَأَفْضَى وَالسُّيُوفُ مَعَاقِلُهْ
رُوي برفع « نَابهُ » ونصبه ، وقوله { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات } إلى آخره قد تقدَّم نظيرُه .
فصل
قال عبيد بن عمير : قال عمر - رضي الله عنه - لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن ترون هذه الآية نزلت { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ } ؟ قالوا : الله أعلم ، فغضب عمر - رضي الله عنه - فقال : قولوا : نعلم ، أو لا نعلم ، فقال ابن عباس - رضي الله عنه - : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين ، فقال عمر - رضي الله عنه - يا ابن أخي ، قل ولا تحقر نفسك ، فقال ابن عباس - رضي الله عنه - : ضُرِبَت مثلاً لعمل فقال عمر : أيُّ عملٍ؟ فقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : لعمل منافقٍ ، ومراءٍ ، قال عمر - رضي الله عنه - : لأي رجل؟ قال لرجل غني يعمل بطاعة الله ، بعث الله له الشيطان؛ فعمل بالمعاصي؛ حتى أحرق أعماله .
وقال المفسّرون : هذا مثلٌ ضربه الله تعالى لعمل المنافق ، والمرائي ، يقول : عمله في حسنه كحسن الجنَّة ، كما ينتفع صاحب الجنَّة بالجنة .
{ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } وإنما خصهما بالذكر؛ لأنهما أشرف الفواكه وأحسنها منظراً حيث تكون باقيةً على الأشجار ، ووصف تلك الجنَّة بأن الأنهار تجري من تحتها ، وذلك زيادةٌ في الحسن ، وأنَّ فيها من كلِّ الثمرات ، وهذا سبب لكمال حال هذه الجنَّة من الرؤية ، والمنظر ، وكثرة النَّفع ، والرَّيع ، ولا يمكن الزيادة على ذلك ، فإذا كبر أو ضعف وصار له أولادٌ ضعافٌ ، أي : بسبب الصِّغر ، والطفوليَّة ، فإنه إذا صار كبيراً؛ عجز عن الاكتساب ، وكثرت جهات حاجاته في مطعمه ، وملبسه ، ومسكنه ، ومن يقوم بخدمته ، وتحصيل مصالحه ، فإذا تزايدت حاجاته ، وتناقصت جهات مكسبه ، أصاب جنَّته إعصار فيه نارٌ فاحترقت ، وهو أحوج ما يكون إليها ، وضعف عن إصلاحها؛ لكبره ، وضعف أولاده عن إصلاحها؛ لصغرهم ، فلم يجد هو ما يعود به على أولاده ، ولا أولاده ما يعودون به عليه ، فبقوا جميعاً متحيرين عجزةً لا حيلة بأيديهم ، كذلك يبطل الله عمل هذا المنافق ، والمرائي حيث لا مغيث لهما ، ولا توبة ، ولا إقالة ، ونظير هذه الآية الكريمة { وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ } [ الزمر : 47 ] وقوله تعالى : { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
اعلم أنه تعالى لما ذكر الانفاق على قسمين ، وبين كل قسم وضرب له مثلاً ، ذكر في هذه الآية كيفية الإِنفاق .
قوله تعالى : { أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } : في مفعول « أَنْفِقُوا » قولان :
أحدهما : أنه المجرور ب « مِنْ » ، و « مِنْ » للتبعيض ، أي : أنفقوا بعض ما رزقناكم .
والثاني : أنه محذوفٌ قامت صفته مقامه ، أي : شيئاً ممَّا رزقناكم ، وتقدَّم له نظائر .
و « ما » يجوز أن تكون موصولةً اسمية ، والعائد محذوفٌ؛ لاستكمال الشروط ، أي : كسبتموه ، وأن تكون مصدريةً أي : من طيِّبات كسبكم ، وحينئذٍ لا بدَّ من تأويل هذا المصدر باسم المفعول ، أي : مكسوبكم ، ولهذا كان الوجه الأول أولى .
و { وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا } عطفٌ على المجرور ب « مِنْ » بإعادة الجار ، لأحد معنيين : إمَّا التأكيد ، وإمَّا للدلالة على عاملٍ آخر مقدرٍ ، أي : وأنفقوا ممَّا أخرجنا . ولا بدَّ من حذف مضافٍ ، أي : ومن طيبات ما أخرجنا . و « لكم » متعلِّقٌ ب « أخرجنا » ، واللام للتعليل . و « مِنَ الأرض » متعلِّقٌ ب « أخرجنا » ، و « مِنْ » لابتداء الغاية .
قوله : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث } الجمهور على « تَيَمَّموا » ، والأصل : تتيمموا بتاءين ، فحذفت إحداهما تخفيفاً : إمَّا الأولى ، وإمَّا الثانية ، وقد تقدّم تحريره عند قوله : { تَظَاهَرُونَ } [ البقرة : 85 ] .
وقرأ البزِّيُّ هنا وفي مواضع أُخر بتشديد التاء ، على أنه أدغم التاء الأولى في الثانية ، وجاز ذلك هنا وفي نظائره؛ لأنَّ الساكن الأول حرف لين ، وهذا بخلاف قراءته { نَاراً تلظى } [ الليل : 14 ] { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ } [ النور : 15 ] فإنه فيه جمع بين ساكنين ، والأول حرفٌ صحيحٌ ، وفيه كلامٌ لأهل العربية ، يأتي ذكره إن شاء الله تعالى .
قال أبو علي : هذا الإدغام غير جائزٍ؛ لأنَّ المدغم يسكَّن ، وإذا سكِّن ، وجب أن تجلب همزة الوصل عند الابتداء به كما جلبت في أمثلة الماضي ، نحو { فادارأتم } [ البقرة : 72 ] و { ارتبتم } [ المائدة : 106 ] و { اطيرنا } [ النمل : 47 ] .
لكن أجمعوا على أنَّ همزة الوصل لا تدخل على المضارع .
وقرأ ابن عباس ، والزُّهريُّ « تُيَمِّمُوا » بضم التاء ، وكسر الميم الأولى ، وماضيه : يمَّم ، فوزن « تُيَمَّمُوا » على هذه القراءة : تفعِّلوا من غير حذفٍ ، وروي عن عبدالله « تُؤَمِّموا » من أمَّمت ، أي : قصدت .
والتيمم : القصد ، يقال : أمَّ ك « رَدَّ » ، وأمَّم ك « أخَّر » ، ويمَّم ، وتيمَّم بالتاء ، والياء معاً ، وتأمَّم بالتاء والهمزة . وكلُّها بمعنى قصد . وفرَّق الخليل - رحمه الله - بينها بفروقٍ لطيفةٍ ، فقال : « امَّمْتُه أي قصدت أمامه ، ويمَّمْتُه : قصدته من أيِّ جهةٍ كان » .
والخبيث والطيب : صفتان غالبتان ، لا يذكر موصوفهما؛ قال تعالى : { والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ والطيبات لِلطَّيِّبِينَ والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ } [ النور : 26 ] ، { وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث } [ الأعراف : 157 ] ، قال صلى الله عليه وسلم :
« مِنَ الخُبْثِ ، والخَبائث » .
قوله : { مِنْهُ تُنْفِقُونَ } « منه » متعلِّقٌ بتنفقون ، وتنفقون فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الفاعل في « تَيَمَّموا » أي : لا تقصدوا الخبيث منفقين منه ، قالوا : وهي حالٌ مقدَّرة ، لأن الإنفاق منه يعق بعد القصد إليه ، قاله أبو البقاء وغيره .
والثاني : أنها حالٌ من الخبيث؛ لأن في الجملة ضميراً يعود إليه ، أي : لا تقصدوا منفقاً منه .
والثالث : أنه مستأنف منه ابتداء إخبار بذلك ، وتمَّ الكلام عند قوله : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث } ثم ابتدأ خبراً آخر ، فقال : تنفقون منه ، وأنتم لا تأخذونه إلا إذا أغمضتم ، كأن هذا عتابٌ للناس ، وتقريعٌ .
والتقدير : تنفقون مع أنكم لستم بآخذيه إلا مع الإغماض ، فهو استفهامٌ على سبيل الإنكار . قال شهاب الدِّين : وهذا يردُّه المعنى .
فصل في بيان المراد من النفقة
اختلفوا في المراد بهذه النفقة : فقال الحسن : المراد بها الزكاة المفروضة؛ لأن هذا أمرٌ ، والأمر للواجب .
وقال قومٌ : صدقة التطوع؛ لما روي عن علي ، والحسن ، ومجاهد : أنهم قالوا : كانوا يتصدَّقون بشرار ثمارهم ، ورديء أموالهم؛ فنزلت هذه الآية .
« وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال جاء رجلٌ ذات يوم بعذق خشف فوضعه في الصَّدقة . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » بِئْسَ مَا صَنَعَ صاحبُ هذا « فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقال آخرون : المراد الفرض ، والنفل؛ لأن المفهوم من الأمر ترجيح جانب الفعل على جانب الترك من غير أن يكون فيه بيان أنه يجوز الترك أو لا يجوز وهذا المفهوم قدرٌ مشتركٌ بين الفرض والنَّفل؛ فوجب أن يدخلا فيه ، فعلى القول بأنَّه الزكاة فنقول : ظاهر الآية يدلُّ على وجوب الزكاة في كل مال يكتسبه الإنسان ، من الذَّهب ، والفضَّة ، والتجارة ، وزكاة الإبل ، والغنم ، والبقر؛ لأن ذلك مما يوصف بأنه مكتسبٌ .
قال القرطبيُّ : والكسب يكون بتعب بدنٍ ، وهي الإجارة ، أو مقاولة في تجارةٍ ، وهو البيع ، والميراث داخلٌ في هذا؛ لأن غير الوارث قد كسبه .
وقال ابن خويزمنداد : ولهذه الآية جاز للوالد أن يأكل من كسب ولده؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : » أَوْلاَدُكُمْ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ فَكُلُوا مِنْ أَمْوَالِ أَوْلاَدِكُمْ هَنِيئاً « .
قوله : { وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض } يدلُّ على وجوب الزَّكاة في كل ما تنبته الأرض ، على ما هو قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - وخصَّ مخالفوه هذا العموم بقوله - صلى الله عليه وسلم - : » لَيْسَ في الخُضْرَوَاتِ صَدَقَةٌ « وأستدل أبو حنيفة - رحمه الله - أيضاً بهذه الآية الكريمة على وجوب إخراج الزكاة من كلِّ ما أنبتته الأرض ، قليلاً كان ، أو كثيراً؛ لظاهر الآية وخصَّ مخالفوه هذا العموم بقوله - صلى الله عليه وسلم - :
« لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَة أَوْسُق صَدَقَةٌ » .
أما المعدن والرِّكازُ فقال - صلى الله عليه وسلم - : « العَجْمَاءُ جَرْحُها جُبَارٌ ، والبِئْرُ جُبَارٌ ، والمعْدنُ جُبَارٌ ، وفي الرِّكاز الخمسُ » الجبار : الهدر الذي لا شيء فيه ، والعجماء : الدَّابَّة ، والرِّكاز : هو ما دفنه أهل الجاهلية وعليه علامتهم .
فصل
اختلفوا في الطِّيب : فقيل : هو الجيد ، فعلى هذا يكون الخبيث هو الرديء . وقال ابن مسعودٍ ، ومجاهدٌ ، والسدّي : الطيب هو الحلال ، وعلى هذا ، فالخبيث هو الحرام .
حجة الأول ما ذكرنا في سبب النزول ، ولأن المحرم لا يجوز أخذه؛ لا بإغماضٍ ولا غيره ، والآية تدلُّ على جواز أخذه بالإغماض .
قال القفَّال - رحمه الله - : ويمكن أن يجاب عن هذا بأن الإغماض : المسامحة ، وترك الاستقصاء ، فيكون المعنى : ولستم بآخذيه ، وأنتم تعلمون أنه محرَّم؛ إلاَّ أن ترخصوا لأنفسكم أخذ الحرام ، ولا تبالون من أيِّ وجهٍ أخذتم المال أمن حلالٍ ، أم حرام .
واحتجُّوا - أيضاً - بقوله تعالى : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [ آل عمران : 92 ] وذلك يؤكد أنَّ المراد بالطيب هو النَّفيس الذي يستطاب تملكه ، لا الخسيس الذي يرفضه كل أحد واحتجَّ القاضي للقول الثاني : بأنَّا أجمعنا على أن الطِّيب في هذه الآية؛ إمَّا الجيد؛ وإما الحلال ، فإذا بطل الأول ، تعيَّن الثاني .
وإنما قلنا : بطل الأول؛ لأن المراد لو كان هو الجيد ، لكان ذلك أمراً بإنفاق مطلق الجيِّد سواءٌ كان حلالاً أو حراماً ، وذلك غير جائزٍ ، والتزام التخصيص خلاف الأصل؛ فتعين الحلال .
قال ابن الخطيب : ويمكن أن يذكر فيه قولٌ ثالثٌ ، وهو : أن المراد من « الطِّيِّب » - هاهنا - ما يكون طيِّباً من كلِّ الوجوه ، فيكون طيّباً بمعنى : الحلال ، ويكون طيِّباً بمعنى : الجودة ، وليس لقائلٍ أن يقول إنَّ حمل اللفظ المشترك على مفهوميه ، لا يجوز؛ لأنا نقول : الحلال إنما يسمى طيِّباً؛ لأنه يستطيبه العقل ، والدِّين ، والجيد : إنما يسمَّى طيباً؛ لأنه يستطيبه الميل ، والشهوة . فمعنى الاستطابة مفهومٌ واحدٌ مشترك بين القسمين ، فكان اللفظ محمولاً عليه . إذا ثبت أنَّ المراد منه الجيد الحلال؛ فنقول : الأموال الزكاتيَّة إما أن تكون كلُّها شريفةً ، أو كلها خسيسةٌ ، أو تكون متوسطة أو مختلطة ، فإن كان الكل شريفاً ، كان المأخوذ بحساب الزكاة كذلك ، وإن كان الكل خسيساً ، كانت الزكاة كذلك ، أيضاً ، ولا يكون ذلك خلافاً للآية؛ لأن المأخوذ في هذه الحالة لا يكون خسيساً من ذلك المال بل إذا كان في المال جيد ورديء ، فحينئذٍ يقال للإنسان : لا تجعل الزكاة من رديء مالك ، وأمَّا إن كان المال مختلطاً ، فالواجب هو الوسط ، « قال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذٍ حين بعثه إلى اليمن : » إِيَّاكَ وكَرَائِمَ أَمْوَالهمْ « وأما إن قلنا : المراد صدقة التطوع أو كلاهما ، فنقول : إنَّ الله تعالى ندبهم إلى التقرُّب إليه بأفضل ما يملكونه ، كمن يتقرب إلى السُّلطان بتحفة ، وهدية ، فلا بدّ وأن تكون تلك التحفة أفضل ما في ملكه ، فكذا - هاهنا - .
قوله : { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ } هذه الجملة فيها قولان :
أحدهما : أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب ، وإليه ذهب أبو البقاء .
والثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال ، ويظهر هذا ظهوراً قوياً عند من يرى أن الكلام قد تمَّ عند قوله : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث } وما بعده استئنافٌ ، كما تقدَّم .
والهاء في { بِآخِذِيهِ } تعود على « الخَبِيث » وفيها ، وفي نحوها من الضمائر المتصل باسم الفاعل؛ قولان مشهوران :
أحدهما : أنها في محلِّ جر ، وإن كان محلُّها منصوباً؛ لأنها مفعولٌ في المعنى .
والثاني : - وهو رأي الأخفش - أنها في محلِّ نصبٍ ، وإنما حذف التنوين ، والنون في نحو : « ضَارِبُنْكَ » بثبوت التنوين ، وقد يستدلُّ لمذهبه بقوله : [ الطويل ]
1227- هُمُ الفَاعِلُونَ الخَيْرَ والآمِرُونَهُ ..
وقوله الآخر : [ الطويل ]
1228- وَلَمْ يَرْتَفِقْ وَالنَّاسُ مُحْتَضِرُونَهُ .. .
فقد جمع بين النون النائبة عن التنوين ، وبين الضمير .
قوله : { إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ } الأصل : إلاَّ بأن ، فحذف حرف الجرِّ مع « أنْ » فيجيء فيها القولان : أهي في محلِّ جرٍّ ، أم نصب؟ وهذه الباء تتعلَّق بقوله : { بِآخذيه } . وأجاز أبو البقاء - رحمه الله - أن تكون « أنْ » وما في حيِّزها في محلِّ نصب على الحال ، والعامل فيها « آخِذيه » . والمعنى : لَسْتُم بآخذِيه في حالٍ من الأحوال إلا في حال الإغماض ، وقد تقدَّم أنَّ سيبويه - رحمه الله - لا يجيز أن تقع « أَنْ » ، وما في حيِّزها موقع الحال . وقال الفراء : المعنى على الشرط والجزاء؛ لأنَّ معناه : إن أغمضتم أخذتم ، ولكن لمَّا وقعت « إلاَّ » على « أَنْ » ، فتحها ، ومثله ، { إِلاَّ أَن يَخَافَآ } [ البقرة : 229 ] { إَلاَّ أَن يَعْفُونَ } [ البقرة : 237 ] . وهذا قول مردودٌ .
والجمهور على : « تُغْمِضُوا » بضمِّ التاء ، وكسر الميم مخففةً؛ من « أَغْمَض » ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه على حذف مفعوله ، تقديره : تغمضوا أبصاركم ، أو بصائركم .
والثاني : في معنى ما لا يتعدَّى ، والمعنى إلاَّ أن تغضوا ، من قولهم : « أَغْضَى عنه » .
وقرأ الزهريُّ : « تُغَمِّضُوا » بضم التاء ، وفتح الغين ، وكسر الميم مشددةً؛ ومعناها كالأولى . وروي عنه أيضاً : « تَغْمَضُوا » بفتح التاء ، وسكون الغين ، وفتح الميم؛ مضارع « غَمِضَ » بكسر الميم ، وهي لغةٌ في « أَغْمض » الرباعي ، فيكون ممَّا اتفق فيه فعل وأفعل .
وروي عن اليزيديّ : « تَغْمُضُوا » بفتح التاء ، وسكون الغين ، وضمِّ الميم .
قال أبو البقاء - رحمه الله - : « وهو مِنْ : يَغْمُضُ ، كظرفُ يظرُفُ ، أي : خَفِيَ عليكم رأيُكم فيه » .
وروي عن الحسن : « تُغَمَّضُوا » بضمِّ التاء ، وفتح الغين ، وفتح الميم مشددةً على ما لم يسمَّ فاعله .
وقتادة كذلك ، إلا أنه خفَّف الميم ، والمعنى : إلاَّ أن تحملوا على التغافل عنه ، والمسامحة فيه . وقال أبو البقاء - رحمه الله - في قراءة قتادة : « ويجوزُ أن يكون مِنْ أغْمَضَ ، أي : صودف على تلك الحال؛ كقولك : أَحْمَدْتُ الرجُلَ ، أي : وجدته مَحْمُوداً » وبه قال أبو الفتح .
وقيل فيها أيضاً : إنَّ معناها إلاَّ أن تدخلوا فيه وتجذبوا إليه .
والإغماض : في اللغة غضُّ البصر ، وإطباق الجفن ، وأصله من الغموض ، وهو الخفاء ، يقال : هذا كلامٌ غامضٌ أي خفي الإدراك .
قال القرطبيُّ : من قول العرب : أغمض الرجل؛ إذا أتى غامضاً من الأمر؛ كما تقول : أعمن الرجل : إذا أتى عمان ، وأعرق : إذا أتى العراق ، وأنجد : إذا أتى نجداً ، وأغار : إذا أتى الغور الذي هو تهامة .
أو من أغمض الرجل في أمر كذا : إذا تساهل فيه ، والغمض : المتطامن الخفيُّ من الأرض ، فقيل المراد به في الآية المساهلة؛ لأن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه؛ لئلا يرى ذلك ، ثم كثر ذلك؛ حتى جُعِل كل تجاوزٍ ، ومساهلةٍ في البيع ، وغيره إغماضاً ، فتقديره في الآية : لو أُهْدِي إليكم مثل هذه الأشياء ، لما أخذتموها إلاَّ على استحياءٍ ، وإغماضٍ ، فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم؟! قاله البراء .
وقيل معناه : لو كان لأحدكم على رجل حقٌّ ، فجاءه بهذا لم يأخذه إلاَّ وهو يرى أنه قد أغمض له عن حقِّه ، وتركه .
وقال الحسن ، وقتادة : لو وجدتموه يباع في السوق ، ما أخذتموه بسعر الجيد؛ إلاَّ إذا أغمضتم بصر البائع ، يعني أمرتموه بالإغماض ، والحطِّ من الثمن .
ثم قال : { واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ } والمعنى أنَّه غنيٌّ عن صدقاتكم ، و « الحميد » أي : محمودٌ على ما أنعم بالبيان .
وقيل : قوله : « غَنِيٌّ » كالتَّهديد على إعطاء الرديء في الصدقات ، و « حَمِيدٌ » : بمعنى حامدٍ ، أي : أنا أحمدكم على ما تفعلونه من الخيرات ، وهو كقوله تعالى : { فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } [ الإسراء : 19 ] .
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)
قوله تعالى : { الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء . . . } الآية : مبتدأٌ وخبرٌ ، وتقدَّم اشتقاق الشيطان ، وما فيه عند الاستعاذة . ووزن يعدكم : يعلكم بحذف الفاء ، وهي الواو؛ لوقوعها بين ياءٍ ، وكسرةٍ ، وقرأ الجمهور : « الفَقْر » بفتح الفاء ، وسكون القاف ، وروى أبو حيوة ، عن بعضهم : « الفُقْر » بضم الفاء وهي لغةٌ ، وقرئ « الفَقَر » بفتحتين .
والوعد : يستعمل في الخير ، والشَّرِّ؛ قال تعالى في الخبر : { وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً } [ الفتح : 20 ] وقال في الشَّرِّ : { النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ } [ الحج : 72 ] ويمكن أن يحمل هذا على التهكم به كقوله تعالى : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] فإذا لم يذكر الخير والشر ، قلت في الخير : وعدته ، وفي الشر أوعدته؛ قال : [ الطويل ]
1229- وَإِنِّيَ إِنْ أَوْعَدتُهُ أَوْ وَعَدتُهُ ... لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي
والفَقْر والفُقْر لغتان؛ وهو الضعيف بسبب قلَّة المال ، وأصله في اللغة : كسر الفقار ، يقال : رجلٌ فقيرٌ وفَقِرٌ ، إذا كان مكسور الفقار؛ قال طرفة : [ الرمل ]
1230- . ... إِنَّنِي لَسْتُ بِمَوْهُونٍ فَقِرْ
وسيأتي له مزيد بيان في قوله : « لِلْفُقَراءِ » .
فصل في المراد من الآية
معنى الآية الكريمة أن الشيطان يخوّفكم الفقر ، ويقول للرجل : أمسك عليك مالك؛ فإنك إذا تصدقت به افتقرت .
وهذه أوجه اتصال هذه الآية بما قبلها .
قيل المراد ب « الشيطان » : إبليس ، وقيل : شياطين الجن ، والإنس .
وقيل : النَّفس الأمَّارة بالسُّوء .
{ وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء } أي : بالبخل ، ومنع الزكاة .
قال الكلبي : كلُّ فحشاء في القرآن فهو الزنا إلاَّ هذا ، والفاحش عند العرب : البخيل ، قال طرفة : [ الطويل ]
1231- أَرَى المَوْتَ يَعْتَامُ الكِرَامَ وَيَصْطَفِي ... عَقِيلَةَ مَالِ الفَاحِشِ المُتَشَددِ
« يعتامُ » : منقولٌ من عام فلانٌ إلى اللبن ، إذا اشتهاه ، وقد نبَّه الله تعالى في هذه الآية الكريمة على لطيفةٍ ، وهي أنَّ الشيطان يخوفه أولاً بالفقر ، ثم يتوصل بهذا التخويف إلى أن يأمره بالفحشاء ، ويغريه على البخل؛ وذلك لأن البخل صفةٌ مذمومةٌ عند كل أحد فالشيطان لا يمكنه تحسين البخل في عينه إلاَّ بتقديم تلك المقدمة ، وهي التخويف من الفقر ، وقيل « الفَحْشَاءُ » : هو أن يقول : لا تنفق الجيد من مالك في طاعة الله تعالى؛ لئلا تصير فقيراً؛ فإذا أطاع الرجل الشيطان في ذلك ، زاد الشيطان فيمنعه من الإنفاق بالكلية؛ حتى لا يعطي الجيد ، ولا الرديء ، وحتى يمنع الحقوق الواجبة ، فلا يؤدِّي الزكاة ، ولا يصل الرحم ، ولا يردُّ الوديعة ، فإذا صار هكذا ، سقط وقع الذنوب عن قلبه ، ويصير غير مبالٍ بارتكابها ، وهناك يتَّسع الخرق ، ويصير مقداماً على كلِّ الذنوب ، وذلك هو الفحشاء ، وتحقيقه : أنَّ لكل خلقٍ طرفين ، ووسطاً ، فالطرف الكامل : هو أن يكون بحيث يبذل كلَّ ما يملكه في سبيل الله : الجيِّد ، والرديء ، والطرف الفاحش النَّاقص لا ينفق شيئاً في سبيل الله : لا الجيد ، ولا الرديء ، والمتوسط بأن يبخل بالجيد ، وينفق الرديء ، فالشيطان إذا أراد نقله من الطرف الفاضل إلى الطرف الفاحش ، لا يمكنه إلاَّ بأن يجره إلى الوسط ، فإن عصى الإنسان الشيطان في هذا المقام ، انقطع طمع الشيطان عنه ، وإن أطاعه فيه ، طمع في أن يجرَّه من الوسط إلى الطرف الفاحش ، فالوسط : هو قوله تعالى : { يَعِدُكُمُ الفقر } والطرف الفاحش قوله تعالى : { وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء } .
وقال القرطبيُّ : « الفَحْشَاءُ » : المعاصي ، قال : ويجوز في غير القرآن : ويأمركم الفحشاء بحذف الباء ، وأنشد سيبويه : [ البسيط ]
1232أ- أَمَرْتُكَ الخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ ... فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وَذَا نَشَبٍ
فصل في بيان هل الفقر أفضل من الغنى؟!
تمسك بعضهم بهذه الآية في أنَّ الفقر أفضل من الغنى ، لأن الشيطان إنما يبعد العبد من الخير ، وهو بتخويفه الفقر يبعد منه .
قال ابن عطية : وليس في الآية حجَّةٌ؛ لقوله تعالى : { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرازقين } [ سبأ : 39 ] ثم قال : { والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ } لذنوبكم ، كقوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [ التوبة : 103 ] .
وفي الآية لفظان يدلان على كمال هذه المغفرة :
أحدهما : التنكير في لفظ « المغْفِرَةِ » ، والمعنى : مغفرةٌ وأيُّ مغفرة .
والثاني : قوله : « مَغْفِرَةً مِنْه » يدل على كمال حال هذه المغفرة؛ لأن كمال كرمه ونهاية جوده ، معلومٌ لجميع العقلاء ، فلما خص هذه المغفرة بكونها منه ، علم أنَّ المقصود تعظيم حال هذه المغفرة؛ لأنَّ عظم المعطي يدلُّ على عظم العطيَّة .
قوله : { مِّنْهُ } فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنه نعتٌ لمغفرة .
والثاني : أن يكون مفعولاً متعلقاً بيعد ، أي : يعدكم من تلقاء نفسه .
و { وَفَضْلاً } صفته محذوفةٌ ، أي : وفضلاً منه ، وهذا على الوجه الأول ، وأمَّا الثاني ، فلا حذف فيه .
فصل
يحتمل أن يكون المراد من كمال هذه المغفرة ما قاله في آيةٍ أخرى : { فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [ الفرقان : 70 ] ، ويحتمل أن يجعل شفيعاً في غفران ذنوب سائر المذنبين ، ويحتمل أن يكون المقصود أمراً لا يصل إليه عقلنا ما دمنا في دار الدنيا ، فإن تفاصيل أحوال الآخرة أكثرها محجوبة عنا ، ما دمنا في الدنيا .
وأمَّا معنى الفضل ، فهو الرزق ، والخلف المعجَّل في الدنيا .
ثم قال تعالى : { والله وَاسِعٌ } ، أي : واسع المغفرة والقدرة على إغنائكم ، وإخلاف ما تنفقونه { عَلِيمٌ } لا يخفى عليه ما تنفقون؛ فهو يخلفه عليكم .
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)
قال السَّدِّي : هي النبوة .
وقال ابن عباس ، وقتادة : علم القرآن : ناسخه ، ومنسوخه ، ومحكمه ، ومتشابهه ، ومقدّمه ، ومؤخره ، وحلاله ، وحرامه ، وأمثاله .
قال الضحاك : في القرآن مائةٌ وتسع آياتٍ ، ناسخةٌ ومنسوخةٌ ، وألف آية حلالٌ وحرامٌ ، لا يسع المؤمنين تركهن ، حتى يتعلموهنَّ ، ولا يكونوا كأهل النهروان فإنهم تأوَّلوا آيات من القرآن في أهل القبلة ، وإنما أنزلت في أهل الكتاب ، جهلوا علمها ، فسفكوا بها الدماء ، وانتهبوا الأموال ، وشهدوا علينا بالضلال ، فعليكم تعلم القرآن؛ فإنه من علم فيما أُنزل؛ لم يختلف في شيء منه .
وقال مجاهد : هي القرآن ، والعلم ، والفقه ، وروى ابن أبي نجيح عنه هي الإصابة في القول ، والفعل .
وقال إبراهيم النخعيُّ : هي معرفة معاني الأشياء ، وفهمها .
وروي عن مقاتل ، قال : تفسير الحكمة في القرآن على أربعة أوجه :
أحدها : مواعظ القرآن . قال : { وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب والحكمة يَعِظُكُمْ بِهِ } [ البقرة : 231 ] وفي النساء { وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة } [ النساء : 113 ] يعني المواعظ ومثلها في آل عمران .
وثانيها : الحكمة بمعنى : الفهم ، والعلم قال { وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً } [ مريم : 12 ] وفي لقمان : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة } [ لقمان : 12 ] يعني الفهم ، والعلم ، وفي الأنعام { أولئك الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب والحكم والنبوة } [ الأنعام : 89 ] وفي « ص » { وَآتَيْنَاهُ الحكمة } [ ص : 20 ] .
وثالثها : النبوة .
ورابعها : القرآن بما فيه من عجائب الأسرار ، قال في النحل : { ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة } [ النحل : 125 ] وفي هذه الآية { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } وعند التحقيق ترجع هذه الوجوه إلى العلم .
قال أبو مسلم : الحكمة : فعلةٌ من الحكم ، وهي كالنَّحلة : من النَّحل ، ورجلٌ حكيمٌ إذا كان ذا حِجًى ، ولُبَّ ، وإصابة رأي وهو في هذا الموضع في معنى الفاعل ، ويقال : أمر حكيمٌ ، أي : محكمٌ .
قوله تعالى : { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ } : الجمهور على « يُؤْتِي » « وَمَنْ يُؤْتَ » بالياء فيهما ، وقرأ الريع بن خيثم : بالتاء على الخطاب فيهما . وهو خطابٌ للباري؛ على الالتفات .
وقرأ الجمهور : « وَمَنْ يُؤْتَ » مبنياً للمفعول ، والقائم مقام الفاعل ضمير « مَنْ » الشرطية ، وهو المفعول الأول فتكون في محل رفع ، و « الحكمة » مفعول ثانٍ .
وقرأ يعقوب : « يُؤْتِ » مبنياً للفاعل ، والفاعلُ ضميرُ الله تعالى ، و « مَنْ » مفعولٌ مقدمٌ ، و « الحكمة » مفعولٌ ثانٍ؛ كقولك : « أَيّاً يُعْطِ زيداً دِرْهماً أُعْطِه درهماً » ويدل لهذه القراءة قراءة الأعمش .
وقال الزمخشريُّ : بمعنى « وَمْن يُؤْتِهِ اللهُ » . قال أبو حيان : « إِن أرادَ تفسير المعنى ، فهو صحيحٌ ، وإن أراد الإعراب ، فليس كذلك؛ إذ ليس ثمَّ ضمير نصب محذوفٌ ، بل مفعول » يُؤْتِ « من الشرطية المتقدمة » . قال شهاب الدين : ويؤيِّد تقدير الزمخشري قراءة الأعمش .
قوله : { فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } جواب الشرط ، والماضي المقترن بقد ، الواقع جواباً للشرط ، تارةً يكون ماضي اللفظ مستقبل المعنى ، كهذه الآية الكريمة ، فهو الجواب حقيقةً ، وتارةً يكون ماضي اللفظ ، والمعنى نحو :
{ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ } [ فاطر : 4 ] فهذا ليس جواباً ، بل الجواب محذوفٌ ، أي : فتسلَّ ، فقد كذِّبت رسلٌ ، وسيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى .
والتنكير في « خَيْراً » قال الزمخشريُّ : يفيد التعظيم ، كأنه قال : فقد أُوتي [ أيَّ ] خير كَثيرٍ « . قال أبو حيَّان : وتقديره هكذا ، يؤدي إلى حذف الموصوف ب » أَيَّ « وإقامة الصفة مقامه ، فإنَّ التقدير : فقد أُوتِيَ خيراً أي خيرٍ كثيرٍ ، وحذف » أيَّ « الواقعة صفةً ، وإقامة المضاف إليها مقامها ، وكذلك وصف ما يضاف إليه » أيَّ « الواقعة صفةً ، نحو : مررت برجلٍ أيِّ رجلٍ كريم ، وكلُّ هذا يحتاج في إثباته إلى دليلٍ ، والمحفوظ عن العرب : أنَّ » أيّاً « الواقعة صفةً تضاف إلى ما يماثل الموصوف نحو :
1232ب- دَعَوْتُ امْرَأً أَيَّ امْرِئٍ فَأَجَابَنِي ... وَكُنْتُ وَإِيَّاهُ مَلاَذاً وَمَوْئِلاً
وقد يحذف المصوف ب » أي « ؛ كقوله : [ الطويل ]
1233أ- إِذَا حَارَبَ الحَجَّاجُ أَيَّ مُنَافِقٍ ... عَلاَهُ بِسَيْفٍ كُلَّما هُزَّ يَقْطَعُ
تقديره : منافقاً أيَّ منافقٍ ، وهذا نادرٌ ، وقد تقدم أنَّ تقدير الزمخشريِّ كذلك ، أعني كونه حذف موصوف » أيّ « كقراءة الأعمش بإثبات » ها « الضمير و » مَنْ « في قراءته مبتدأٌ ، لاشتغال الفعل بمعموله ، وعند من يجوِّز الاشتغال في أسماء الشَّرط ، والاستفهام ، يجوز في » مَنْ « النصب بإضمار فعلٍ ، وتقديره متأخراً والرفع على الابتداء ، وقد تقدم نظائر هذا .
فصل في دفع شبهة للمعتزلة
احتجُّوا بهذه الآية الكريمة على أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى؛ لأن الحكمة إن فسرناها بالعلم ، لم تكن مفسرة بالعلوم الضرورية؛ لأنها حاصلة للبهائم ، والمجانين ، والأطفال ، وهذه الأشياء لا توصف بأنها حكمة ، فهي مفسرة بالعلوم النظرية ، وإن فسرناها بالأفعال الحسية فالأمر ظاهرٌ ، وعلى التقديرين : فيلزم أن يكون حصول العلوم النظرية ، والحسية ثابتاً من غيرهم ، وبتقدير مقدِّرٍ من غيرهم ، وذلك الغير ليس إلا الله تعالى بالاتفاق .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من الحكمة النبوة أو القرآن ، أو قوة الفهم أو الخشية ، على ما قال الرَّبيع بن أنسٍ؟
فالجواب : إنَّ الدليل الذي ثبت بالتواتر أنه يستعمل لفظ الحكيم في غير الأنبياء فتكون الحكمة مغايرة للنبوة والقرآن ، بل هي مفسرة : إمَّا بمعرفة حقائق الأشياء ، أو بالإقدام على الأفعال الحسنة الصائبة ، وعلى التقديرين ، فالمقصود حاصلٌ فإن حاولت حمل الإيتاء على التوفيق ، والإعانة ، والألطاف ، قلنا : كل ما فعله من هذا الجنس في حق المؤمنين ، فقد فعل مثله في حق الكفَّار ، مع أن هذا المدح العظيم لا يتناولهم ، فعلمنا أن الحكمة المذكورة في هذه الآية شيءٌ آخر سوى فعل الألطاف .
قوله : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب } وأصل » يَذَّكَّرُ « : يتذكر ، فأدغم .
» وأُولُوا الأَلْبَابِ « ذوو العقول ، ومعناه : أن الإنسان إذا تأمَّل ، وتدبر هذه الأشياء ، وعرف أنها لم تصل إلاَّ بإيتاء الله تعالى ، وتيسيره ، كان من أولي الألباب .
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)
قوله تعالى : { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ } كقوله : { مَا نَنسَخْ } [ البقرة : 106 ] { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ } [ البقرة : 197 ] وقد تقدَّم . وأيضاً تقدَّم الكلام في مادة « نَذَرَ » في قوله : { أَأَنذَرْتَهُمْ } [ البقرة : 6 ] ، إلاَّ أنَّ النَّذر له خصوصيَّة : وهو عقد الإنسان ضميره على شيءٍ ، يقال : نذر ناذرٌ؛ قال عنترة : [ الكامل ]
1233ب- الشَّاتِمَيْ عِرْضِي وَلَمْ أَشْتِمْهُمَا ... والنَّاذِرَيْنِ إِذَا لَم الْقَهُمَا دَمِي
وأصله من التَّخويف تقول أنذرت القوم إنذاراً بالتخويف ، وفي الشرع على ضربين : مفسر : كقوله للهِ عليَّ عَتْق رَقَبةٍ ، ولِلَّهِ عليَّ حجٌّ فهاهنا يلزم الوفاء ، ولا يجزيه غيره ، وغير مفسَّر كقوله : نذرت لله تعالى ألاَّ أفعل كذا ، ثم يفعله ، أو يقول : لله عليَّ نذرٌ ، ولم يسمِّه ، فيلزمه كفارة يمينٍ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : « َمَنْ نَذَرَ نَذْراً ، وسَمَّى فَعَلْيهِ ما سمَّى ، ومَنْ نَذَرَ نَذْراً ، ولَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ كَفَّارةُ يَمِينٍ » .
قوله : { فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ } جواب الشرط؛ إن كانت « ما » شرطيةً ، أو زائدة في الخبر ، إن كانت موصولة .
فإن قيل : لم وحَّد الضمير في « يَعْلَمُه » وقد تقدم شيئان النفقة ، والنذر؟
فالجواب أن العطف هنا ب « أو » ، وهي لأحد الشيئين ، تقول : « إنْ جاء زيدٌ ، أو عمروٌ أكرمتُه » ، ولا يجوز : أكرمتها ، بل يجوز أن تراعي الأول نحو : زيدٌ أو هندٌ منطلقٌ ، أو الثاني ، نحو : زيدٌ أو هندٌ منطلقة ، والآية من هذا ، ولا يجوز أن يقال : منطلقان . ولهذا أوَّل النحاة : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا } [ النساء : 135 ] كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى . ومن مراعاة الأول قوله : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } [ الجمعة : 11 ] ، على هذا لا يحتاج إلى تأويلات ذكرها المفسرون . وروي عن النَّحاس أنه قال : التقدير : وما أنفقتم من نفقةٍ ، فإنَّ الله يعلمها ، أو نذرتم من نذر ، فإنَّ الله يعلمه ، فحذف ، ونظَّره بقوله تعالى : { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا } [ التوبة : 34 ] وقوله : [ المنسرح ]
1234- نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
وقول الآخر في هذا البيت : [ الطويل ]
1235- رَمَانِي بأَمْرٍ كُنْتُ مِنْه وَوَالِدِي ... بَرِيئاً وَمِنْ أَجْلِ الطَوِيِّ رَمَانِي
وهذا لا يحتاج إليه؛ لأنَّ ذلك إنما هو في الواو المقتضية للجمع بين الشيئين ، وأمَّا « أَوْ » المقتضية لأحد الشيئين ، فلا . وقال الأخفش : الضمير عائدٌ إلى الأخير كقوله : { وَمَن يَكْسِبْ خطيائة أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً } [ النساء : 112 ] وقيل : يعود إلى « ما » في قوله : « وَمَا أَنْفَقْتُمْ » لأنها اسمٌ كقوله : { وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب والحكمة يَعِظُكُمْ بِهِ } [ البقرة : 231 ] ، ولا حاجة إلى هذا أيضاً؛ لما عرفت من حكم « أو » .
قوله : { فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ } أفاد : الوعد العظيم للمطيعين ، والوعيد الشديد للمتمردين ، لأنه يعلم ما في قلب المتصدق من الإخلاص فيتقبل منه تلك الطاعة؛ كما قال :
{ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } [ المائدة : 27 ] ، وقوله : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ، 8 ] .
قوله : { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } اعلم أنَّ الظالم قسمان :
الأول : من ظلم نفسه وهو يشتمل على كل المعاصي .
الثاني : من ظلم غيره بأن لا ينفق أو لا يصرف الإنفاق عن المستحق إلى غ يره ، أو ينفق على المستحقِّ رياءً وسمعةً ، أو يفسدها بالمعاصي وهذان القسمان الأخيران ليسا من باب الظُّلم على الغير ، بل من باب الظلم على النَّفس .
فصل في دحض شبهة للمعتزلة في إنكار الشفاعة
تمسَّك المعتزلة بهذه الآية ، في نفي الشَّفاعة عن أهل الكبائر ، قالوا : لأنَّ ناصر الإنسان من يدفع الضرر عنه ، فلو اندفعت العقوبة عنهم بالشفاعة ، لكان أولئك الشفعاء أنصاراً لهم ، وذلك يضاد الآية .
وأجيبوا بوجوه :
الأول : أن الشفيع لا يسمَّى في العرف ناصراً ، بدليل قوله : { واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } [ البقرة : 123 ] ففرَّق تعالى بين الشفيع ، والناصر؛ فلا يلزم من نفي الناصر نفي الشفيع .
الثاني : أن الشفيع إنما يشفع عن المشفوع عنده على سبيل استعطافه ، والناصر ينصره عليه ، والفرق ظاهرٌ .
وأجاب آخرون : بأنه ليس لمجموع الظالمين من أنصارٍ .
فإن قيل : لفظ « الظَّالِمِينَ » ، ولفظ « الأَنْصَارِ » جمعٌ ، والجمع إذا قوبل بالجمع ، توزع الفرد على الفرد ، فكان المعنى : ليس لأحدٍ من الظالمين ، أحدٌ من الأنصار .
قلنا لا نسلّم أن مقابلة الجمع بالجمع توجب توزع الفرد على الفرد؛ لاحتمال أن يكون المراد مقابلة الجمع بالجمع فقط لا مقابلة الفرد بالفرد .
الوجه الثالث : أن هذا الدليل للشفاعة عامٌّ في حقِّ الكلِّ في الأشخاص ، والأوقات ، ودليل إثبات الشفاعة خاصٌّ في بعض الأوقات ، والخاصُّ مقدمٌ على العامِّ .
الوجه الرابع : ما بينا أن اللفظ العامَّ لا يكون قاطعاً في الاستغراق؛ بل ظاهرٌ على سبيل الظن القويِّ ، فصار الدليل ظنياً ، والمسألة ليست ظنيَّة ، فسقط التمسُّك بها .
و « الأَنْصَارُ » جمع نصير؛ كأشرافٍ ، وشريف ، وأحبابٍ ، وحبيب .
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
قوله : { إِن تُبْدُواْ الصدقات } أي تُظهرونها { فَنِعِمَّا هِيَ } .
الفاء جواب الشرط ، و « نِعْمَط فعلٌ ماضٍ للمدح ، نقيض بئس ، وحكمها في عدم التصرف ، والفاعل ، واللغات حكم بئس ، كما تقدَّم .
و » مَا « في محلِّ الرفع . و » هِيَ « في محل النصب ، كما تقول : نِعْمَ الرجل رجلاً ، فإذا عرَّفت ، رفعت فقلت : نِعْمَ الرجلُ زَيْدٌ .
قال الزجاج : » ما « في تأويل الشيء ، أي : نعم الشيء هو .
قال أبو علي : الجيد في تمثيل هذا أن يقال : » ما « في تأويل شيءٍ؛ لأن » مَا « ها هنا نكرةٌ فتمثيله بالنكرة أبين ، والدليل على أن » ما « ها هنا نكرةٌ أنها لو كانت معرفةً ، فلا بد لها من صلة ، وليس ها هنا ما يوصل به؛ لأن الموجود بعد » ما « هو » هي « وكلمة » هِيَ « مفردةٌ ، والمفرد لا يكون صلةً ل » مَا « وإذا بطل هذا ، فنقول » مَا « نصبٌ على التمييز ، والتقدير : نِعْمَ شيئاً هي إبداء الصدقات ، فحذف المضاف؛ لدلالة الكلام عليه .
وقرأ ابن عامرٍ ، وحمزة ، والكسائيُّ ، هنا وفي النساء : » فَنَعِما « بفتح النون ، وكسر العين ، وهذه على الأصل؛ لأنَّ الأصل على » فَعِلط كعلم ، وقرى ابن كثير ، وورش ، وحفص : بكسر النون والعين ، وإنما كسر النون إتباعاً لكسرة العين ، وهي لغة هذيل .
قيل : وتحتمل قراءة كسر العين أن يكون أصل العين السكون ، فلمّا وقعت بعدها « ما » وأدغم ميم « نِعْم » فيها ، كسرت العين؛ لالتقاء الساكنين ، وهو محتملٌ .
وقرأ أبو عمرو ، وقالون ، وأبو بكر : بكسر النون ، وإخفاء حركة العين .
وروي عنهم الإسكان أيضاً ، واختاره أبو عبيد ، وحكاه لغةً للنبي - صلى الله عليه وسلم - في [ نحو ] قوله : « نِعْمَّا المالُ الصالح مع الرجلِ الصالحِ » .
والجمهور على اختيار الاختلاس على الإِسكان ، بل بعضهم يجعله من وهم الرواة عن أبي عمرو ، وممَّن أنكره المبرد ، والزجاج والفارسي ، قالوا : لأنَّ فيه جمعاً بين ساكنين على غير حدِّهما . قال المبرد : « لا يَقْدِرُ أحدٌ أن يَنْطِقَ به ، وإنما يَرُومُ الجمعَ بين ساكنين فيحرِّك ، ولا يَشْعُر » وقال الفارشي : « لعل أبا عمرو أخفى فظنَّه الراوي سُكُوناً » .
وقد تقدَّم الكلام على « مَا » اللاحقة لنعم ، وبئس . و « هي » مبتدأٌ ضميرٌ عائدٌ على الصدقات على حذف مضاف ، أي : فنعم إبداؤها ، ويجوز ألاَّ يقدَّر مضافٌ ، بل يعود الضمير على « الصَّدَقَاتِ » بقصد صفة الإبداء ، تقديره : فنعمَّا هي ، أي : الصدقات المبداة . وجملة المدح خبرٌ عن « هي » ، والرابط العموم ، وهذا أولى الوجوه ، وقد تقدَّم تحقيقها .
والضمير في { وَإِن تُخْفُوهَا } يعود على الصدقات . قيل : يعود عليها لفظاً ومعنًى ، وقيل : يعود عليها لفظاً لا معنًى؛ لأنَّ المراد بالصدقات المبداة : الواجبة ، وبالمخفاة : المتطوَّع بها ، فيكون من باب « عِنْدِي دِرْهمٌ ، ونصفُه » ، أي : ونصف درهمٍ آخر؛ وكقول القائل : [ الوافر ]
1236- كَأَنَّ ثِيَابَ رَاكِبِهِ بِرِيحٍ ... خَرِيقٌ وَهْيَ سَاكِنَةُ الهُبُوبِ
أي : وريحٌ أخرى ساكنة الهبوب ، ولا حاجة إلى هذا في الآية .
والفاء في قوله : « فهو » جواب الشرط ، والضمير يعود على المصدر المفهوم من « تُخْفُوهَا » أي : فالإخفاء ، كقوله : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } [ المائدة : 8 ] و « لكم » صفةٌ لخير ، فيتعلَّق بمحذوفٍ . و « خَيْر » يجوز أن يكون للتفضيل ، فالمفضَّل عليه محذوف ، أي : خيرٌ من إبدائها ، ويجوز أن يراد به الوصف بالخيريَّة ، أي : خيرٌ لكم من الخيور .
وفي قوله : « إِن تُبْدُواْ ، وَإِن تُخْفُوهَا » نوعٌ من البديع ، وهو الطِّباق اللَّفظيّ . وفي قوله : { وَتُؤْتُوهَا الفقرآء } طباق معنوي؛ لأنه لا يؤتي الصدقات إلا الأغنياء ، فكأنه قيل : إن يبد الأغنياء الصدقات ، وإن يخف الأغنياء الصدقات ، ويؤتوها الفقراء ، فقابل الإبداء بالإخفاء لفظاً ، والأغنياء بالفقراء معنًى .
والصَّدقة : قال أهل اللغة : موضوع : « صَ دَ قَ » على هذا الترتيب للصحة ، والكمال ومنه قولهم : رجلٌ صدقُ النَّظر ، وصدقُ اللقاء ، وصدقُوهم القتال ، وفلانٌ صادق المودَّة ، وهذا خلٌّ صادق الحموضة ، وشيءٌ صادق الحلاوة ، وصدق فلانٌ في خبره ، إذا أخبر به على وجه الصِّحة كاملاً ، والصَّديق يسمى صديقاً؛ لصدقه في المودَّة ، وسمِّي [ الصَّداق صداقاً لأن ] مقصود العقد يتمُّ به ويكمل ، وسميت الزكاة صدقةً؛ لأن المال بها يصحُّ ويكمل ، فهي إمَّا سببٌ لكمال المال ، وبقائه ، وإما أنها يستدلُّ بها على صدق إيمان العبد ، وكماله فيه .
فصل في بيان فضيلة صدقة السِّر
سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : صدقة السرِّ أفضل أم صدقة العلانية؟ فنزلت هذه الآية .
« وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » سَبْعَةٌ يُظْلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ . . . « إلى أن قال : » . . . ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعلم شِمَالُه ما تُنْفِقُ يَمِينُه « .
وقيل : الآية في صدقة التطوُّع؛ أما الزكاة المفروضة ، فالإظهار فيها أفضل؛ حتى يقتدي الناس به؛ كالصلاة المكتوبة في الجماعة ، والنافلة في البيت أفضل .
وقيل : الزكاة المفروضة كان الإخفاء فيها خيراً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمَّا في زماننا ، فالإظهار فيها أفضل؛ حتى لا يساء به الظن .
واعلم أنَّ الصدقة تطلق على الفرض والنَّفل؛ قال تعالى { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ } [ التوبة : 103 ] وقال : { إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين } [ التوبة : 60 ] ، » وقال - صلى الله عليه وسلم - : « نَفَقَةُ المرْءِ عَلَى عِيَالِهِ صَدَقَةٌ » والزكاة لا تطلق إلاَّ على الفرض .
قوله : { وَيُكَفِّرُ } بالواو ، والأعمش : بإسقاطها ، والياء ، وجزم الراء؛ وفيها تخريجان :
أحدهما : أنه بدلٌ من موضع قوله : { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } ؛ لأنه جواب الشرط ، كأنَّ التقدير : وإن تخفوها ، يكن خيراً لكم ، ويُكَفِّرْ .
والثاني : أنه حذف حرف العطف ، فتكون كالقراءة المشهورة ، والتقدير : « ويُكَفِّرُ » وهذا ضعيفٌ جداً .
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو بكر : بالنون ورفع الراء ، وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي : بالنون وجزم الراء ، وابن عامرٍ ، وحفصٌ عن عاصم : بالياء ورفع الراء ، والحسن : بالياء وجزم الراء ، وروي عن الأعمش أيضاً : بالياء ونصب الراء ، وابن عباس : « وتُكَفِّرْ » بتاء التأنيث وجزم الراء ، وعكرمة : كذلك؛ إلا أنه فتح الفاء؛ على ما لم يسمَّ فاعله ، وابن هرمز : بالتاء ورفع الراء ، وشهر بن حوشب - ورويت عن عكرمة أيضاً - : بالتاء ونصب الراء ، وعن الأعمش إحدى عشرة قراءةً ، والمشهور منها ثلاثٌ .
فمن قرأ بالياء ، ففيه ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنه أضمر في الفعل ضمير الله تعالى؛ لأنه هو المكفِّر حقيقةً ، وتعضده قراءة النون؛ فإنها متعيِّنةٌ له .
والثاني : أنه يعود على الصَّرف المدلول عليه بقوة الكلام ، أي : ويكفِّر صرف الصدقات .
والثالث : أنه يعود على الإخفاء المفهوم من قوله : { وَإِن تُخْفُوهَا } ، ونسب التكفير للصَّرف ، والإخفاء مجازاً؛ لأنَّهما سببٌ للتكفير ، وكما يجوز إسناد الفعل إلى فاعله ، يجوز إسناده إلى سببه .
ومن قرأ بالتاء ففي الفعل ضميرُ الصَّدقات ، ونُسب التكفير إليها مجازاً كما تقدَّم ، ومن بناه للمفعول؛ فالفاعل هو الله تعالى ، أو ما تقدَّم .
ومن قرأ بالنون ، فهي نون المتكلِّم المعظِّم نفسه .
ومن جزم الراء؛ فللعطف على محلِّ الجملة الواقعة جواباً للشرط؛ ونظيره قوله تعالى : { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأعراف : 186 ] في قراءة من جزم « وَيَذَرُهُمْ » .
ومن رفع ، فعلى ثلاثة أوجهٍ : .
أحدها : أن يكون مستأنفاً لا موضع له من الإعراب ، وتكون الواو عاطفةً جملة كلام على جملة كلام آخر .
والثاني : أنه خبرُ مبتدأ مضمر ، وذلك المبتدأ : إمَّا ضمير الله تعالى ، أو الإخفاء ، أي : وهو يُكفِّر؛ فيمن قرأ بالياء ، ونحن نكفِّر؛ فيمن قرأ بالنون ، أو وهي تُكَفِّر؛ فيمن قرأ بتاء التأنيث .
والثالث : أنه عطفٌ على محلِّ ما بعد الفاء ، إذ لو وقع مضارعٌ بعدها ، لكان مرفوعاً؛ كقوله تبارك وتعالى : { ومعناه وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } [ المائدة : 95 ] ، ونظيره { وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأعراف : 186 ] في قراءة من رفع .
ومن نصب ، فعلى إضمار « أَنْ » ؛ عطفاً على مصدر متوهَّم ، مأخوذ من قوله : { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } ، والتقدير : وإن تخفوها يكن ، أو يوجد خيرٌ لكم وتكفيرٌ . ونظيرها قراءة من نصب : « فيغفر » بعد قوله : { يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله } [ البقرة : 284 ] ، إلاَّ أنَّ تقدير المصدر في قوله : « يُحَاسِبْكُمْ » ثَمَّ أسهل منه هنا؛ لأنَّ ثمَّة فعلاً مصرَّحاً به ، وهو « يُحَاسِبْكُمْ » ، والتقدير : يقع محاسبةً فغفرانٌ ، بخلاف هنا ، إذ لا فعل ملفوظٌ به ، وإنما قدَّرنا المصدر من مجموع قوله : { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } .
وقال الزمخشريُّ : « ومعناه : وإِنْ تُخْفُوها ، يكُنْ خَيْراً لكم ، وأَنْ يُكَفِّرَ » قال أبو حيَّان : « وظاهِرُ كَلاَمِهِ هذا أنَّ تقديره : » وأَنْ يُكَفِّرَ « يكون مقدَّراً بمصدر ، ويكون معطوفاً على » خَيْراً « الذي هو خبر » يَكُنْ « التي قدَّرها ، كأن قال : يكنِ الإخفاء خيراً لكم وتكفيراً ، فيكون » أَنْ يُكَفِّرَ « في موضع نصبٍ ، والذي تقرَّر عند البصريِّين : أنَّ هذا المصدر المنسبك من : » أنْ « المضمرة مع الفعل المنصوب بها ، هو معطوفٌ على مصدر متوهَّم مرفوع ، تقديره من المعنى . فإذا قلت : » مَا تَأْتِينَا فتحدثنا « فالتقدير : ما يكون منك إتيانٌ فحديثٌ ، وكذلك : » إِنْ تَجِىءْ وتُحْسِنَ إليَّ ، أُحْسِنْ إليك « التقدير : إن يكن منك مجيءٌ ، وإحسانٌ أُحْسن إليك ، فعلى هذا يكون التقدير : وإن تخفوها ، وتؤتوها الفقراء ، فيكون زيادة خير للإخفاء على خير الإبداء وتكفيرٌ » . انتهى . قال شهاب الدين : ولم أدر ما حمل الشيخ على العدول عن تقدير أبي القاسم ، إلى تقديره وتطويل الكلام في ذلك؛ مع ظهور ما بين التقديرين؟
وقال المهدويُّ : « هو مُشَبَّهٌ بالنصب في جواب الاستفهام ، إذ الجزاء يجب به الشيء ، لوجوب غيره كالاستفهام » . وقال ابن عطيَّة : « الجزمُ في الراء أفصحُ هذه القراءات؛ لأنها تُؤْذِنُ بِدُخُولِ التكفير في الجزاء ، وكونه مَشْرُوطاً إن وقع الإخفاء ، وأمَّا رفع الراء ، فليس فيه هذا المَعْنَى » قال أبو حيان : « ونقولُ إنَّ الرفع أبلغُ وأعمُّ؛ لأنَّ الجزم يكون على أنَّه معطوفٌ على جواب الشرط الثاني ، والرفع يدلُّ على أنَّ التكفير مترتِّبٌ من جهة المعنى على بذل الصدقات أُبْدِيَتْ ، أو أُخْفيت ، لأنَّا نعلم أنَّ هذا التكفير متعلِّقٌ بما قبله ، ولا يختصُّ التكفير بالإخفاء فقط ، والجزم يخصِّصه به ، ولا يمكن أن يقال إن الذي يبدي الصدقات ، لا يُكَفِّرْ مِنْ سيئاتِهِن فقد صار التكفيرُ شاملاً للنوعَيْن : من إبداء الصدقاتِ ، وإخفائها؛ وإن كان الإخفاء خيراً » .
قوله تعالى : { مِّن سَيِّئَاتِكُمْ } في « مِنْ » ثلاثة أقوالٍ :
أحدها : أنها للتَّبعيض ، أي : بعض سيئاتكم ، لأن الصدقات لا تكفر جميع السيئات ، وعلى هذا فالمفعول في الحقيقة [ محذوفٌ ] ، أي : شيئاً من سيئاتكم ، كذا قدَّره أبو البقاء .
والثاني : أنها زائدة وهو جارٍ على مذهب الأخفش ، وحكاه ابن عطية عن الطبري عن جماعةٍ ، وجعله خطأً؛ يعني من حيث المعنى .
والثالث : أنها للسببية ، أي : من أجل ذنوبكم؛ وهذا ضعيفٌ .
والسيئات : جمع سيِّئة ، ووزنها : فيعلة ، وعينها واوٌ ، والأصل : سيوءة ، ففعل بها ما فعل بميِّت ، كما تقدَّم .
قوله : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } إشارةٌ إلى تفضيل صدقة السرِّ على العلانية؛ كأنه يقول : أنتم إنما تريدون بالصدقة طلب مرضاة الله ، وقد حصل مقصودكم في السر؛ فما معنى الإبداء؛ فكأَنَّهم ندبوا بهذا الكلام إلى الإخفاء؛ ليكون أبعد من الرياء ، وكسر قلب الفقير .
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)
هذا الكلام متصلٌ بما قبله من ذكر الصدقات ، كأنه بيَّن فيه جواز الصدقة على المشركين .
قوله : « هُداهُمْ » : اسم ليس ، وخبرها الجارُّ والمجرور . و « الهُدَى » مصدرٌ مضافٌ إلى المفعول ، أي : ليس عليك أن تهديهم ، ويجوز أن يكون مضافاً لفاعله ، أي : ليس عليك أن يهتدوا ، يعني : ليس عليك أن تلجئهم إلى الاهتداء .
وفيه طباقٌ معنويٌّ ، إذ التقدير : هَدْيُ الضَّالِّين ، وفي قوله : { ولكن الله يَهْدِي } مع قوله تعالى : { هُدَاهُمْ } جناسٌ مغاير؛ لأنَّ إحدى الكلمتين اسمٌ ، والأخرى فعلٌ ، ومفعول { يَشَآءُ } محذوفٌ ، أي : هدايته .
فصل في بيان سبب النزول
روي في سبب النزول وجوه :
أحدها : أن قُتَيْلَةَ أمَّ أسماء بنت أبي بكر ، أتت إليها؛ تسألها شيئاً ، وكذلك جدَّتها ، وهما مشركتان؛ فقالت : لا أُعطيكما حتى أستأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنَّكما لستما على ديني ، فاستأمرته في ذلك؛ فنزلت هذه الآية؛ فأمرها رسول الله - صلى الله لعيه وسلم - أن تتصدق عليهما .
الثاني : كان أُناسٌ من الأنصار ، لهم قرابةٌ من قريظة والنَّضير ، وكانوا لا يتصدقون عليهم ، ويقولون ما لم تسلموا لا نعطيكم شيئاً؛ فنزلت هذه الآية الكريمة .
الثالث : قال سعيد بن جبير : كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة ، فلما كثر فقراء المسلمين ، نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التصدق على المشركين؛ كي تحملهم الحاجة على الدخول في الإسلام؛ فنزلت الآية الكريمة فتصدق عليهم والمعنى على جميع الروايات : ليس عليك هدى من خالفك؛ حتى تمنعهم الصدقة؛ لأجل أن يدخلوا في الإسلام ، فتصدقْ عليهم ، لوجه الله ، ولا توقف ذلك على إسلامهم ، والمراد بهذه الهداية هداية التوفيق ، وأما هداية البيان ، والدعوة ، فكان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وظاهر هذه الآية أنها خطابٌ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن المراد به هو ، وأُمَّته؛ ألا تراه قال : { إِن تُبْدُواْ الصدقات } [ البقرة : 271 ] وهذا عامٌّ ، ثم قال : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } وظاهره خاصٌّ ، ثم قال بعده { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ } وهذا عامٌّ ، فيفهم من عموم ما قبل الآية الكريمة ، وعموم ما بعدها : عمومها أيضاً .
فَصْلٌ في بَيان هدايةِ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ
دلَّت هذه الآية الكريمة على أن هداية الله تبارك وتعالى غير عامَّةٍ ، بل هي مخصوصة بالمؤمنين ، لأن قوله تعالى : { ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ } إثباتٌ للهداية المنفيَّة بقوله : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } ولكنَّ المنفي بقوله تعالى : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } هو حصول الاهتداء ، على سبيل الاختيار ، فكان قوله : { ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ } عبارةٌ عن حصول الاهتداء على سبيل الاختيار ، وهذا يقتضي أن يكون الاهتداء الحاصل بالاختيار واقعاً بتقدير الله تعالى ، وتخليقه وتكوينه؛ وهو المطلوب .
وحمله المعتزلة على أنه يهدي بالإثابة ، والألطاف ، وزيادة الهدى؛ وهو مردودٌ بما قررناه .
قوله : { فَلأَنْفُسِكُمْ } خبرٌ لمبتدأ محذوف ، أي : فهو لأنفسكم شرط وجوابه ، « والخَيْرُ » في هذه الآية المال؛ لأنه اقترن بذكر الإنفاق ، فهذه القرينة تدل على أنه المال ، ومتى لم يقترن بما يدلُّ على أنه المال ، فلا يلزم أن يكون بمعنى المال؛ نحو قوله : { خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } [ الفرقان : 24 ] وقوله : { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ] ونحوه .
وقوله : { إِلاَّ ابتغآء } فيه وجهان :
أحدهما : أنه مفعولٌ من أجله ، أي : لأجل ابتغاء وجه الله ، والشروط هنا موجودةٌ .
والثاني : أنه مصدرٌ في محلّ الحال ، أي : إلاَّ مبتغين ، وهو في الحالين استثناءٌ مفرَّغٌ ، والمعنى : وما تنفقون نفقة معتداً بقبولها؛ إلاَّ ابتغاء وجه [ الله ] ، أو يكون المخاطبون بهذا ناساً مخصوصين ، وهم الصحابة ، لأنهم كانوا كذلك ، وإنما احتجنا إلى هذين التأويلين؛ لأنَّ كثيراً ينفق لابتغاء غير وجه الله .
قال بعض المفسرين : هذا جحدٌ لفظه نفيٌ ، ومعناه نفيٌ ، أي : لا تنفقوا إلاَّ ابتغاء وجه .
قوله : { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } تأكيدٌ وبيان؛ كقوله : { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ } .
وقوله : { يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } جواب الشرط ، وقد تقدَّم أنه يقال : « وَفَّى » بالتشديد و « وَفَى » بالتخفيف و « أَوْفَى » رباعياً .
وإنما حسن قوله : « إِلَيْكُمْ » مع التوفيه؛ لأنها تضمَّنت معنى التَّأدية ، ومعناه يوفّ لكم جزاؤه في الآخرة .
وقوله : { وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } جملةٌ من مبتدأ ، وخبرٍ : في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير في « إِلَيْكُمْ » ، والعامل فيها « يُوَفَّ » ، وهي تشبه الحال المؤكَّدة؛ لأنَّ معناها مفهومٌ من قوله : « يُوَفَّ إِلَيْكُم » ؛ لأنهم إذا وفُّوا حقوقهم ، لم يظلموا . ويجوز أن تكون مستأنفة لا محلَّ لها من الإعراب ، أخبرهم فيها أنه لا يقع عليهم ظلمٌ ، فيندرج فيه توفية أجورهم؛ بسبب إنفاقهم في طاعة الله تعالى ، اندراجاً أوَّلياً .
فصل في المراد من الآية
في معنى الآية وجوه :
الأول : أن معناه : ولستم في صدقتكم على أقاربكم من المشركين لا تقصدون إلاَّ وجه الله تعالى ، وقد علم الله هذا من قلوبكم ، فأنفقوا عليهم إذا كنتم إنما تبتغون بذلك وجه الله تعالى في صلة رحم ، وسدِّ خلَّة مضطر ، وليس عليكم اهتداؤهم ، حتى يمنعكم ذلك من الإنفاق عليهم .
الثاني : أن هذا وإن كان ظاهره خبراً ، إلاَّ أن معناه النهي ، أي : ولا تنفقوا إلاَّ ابتغاء وجه الله وورود الخبر بمعنى الأمر ، والنهي كثير؛ قال تعالى : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ } [ البقرة : 233 ] { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ } [ البقرة : 228 ] .
الثالث : معناه لا تكونوا منفقين مستحقين لهذا الاسم الذي يفيد المدح؛ حتى تبتغوا بذلك وجه الله .
فصل في ذكر الوجه في قوله { إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ الله }
إذا قلت : فعلته : لوجه زيدٍ ، فهو أشرف في الذكر من قولك : فعلته له؛ لأن وجه الشيء أشرف ما فيه ، وإذا قلت : فعلت هذا الفعل له ، فيحتمل أن يقال فعلته له ولغيره ، أما إذا قلت : فعلت هذا الفعل لوجهه ، فهذا يدل على أنَّك فعلت هذا الفعل له فقط وليس لغيره فيه شركةٌ .
فصل في بيان عدم صرف الزكاة لغير المسلم
أجمعوا على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى غير مسلم؛ فتكون هذه الآية مختصةً بصدقة التطوع ، وجوّز أبو حنيفة صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة ، وأباه غيره؛ وعن بعض العلماء : لو كان شر خلق الله ، لكان لك ثواب نفقتك .
لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
قوله تعالى : { لِلْفُقَرَآءِ } الآية : في تعلُّق هذا الجارِّ خمسة أوجهٍ :
أحدها : - وهو الظاهر - أنه متعلِّق بفعل مقدرٍ ، يدلُّ عليه سياق الكلام ، واختلفت عبارات المعربين فيه ، فقال مكي - ولم يذكر غيره - : « أَعْطُوا لِلْفقراءِ » ، وفي هذا نظرٌ؛ لأنه يلزم زيادة اللام في أحد مفعولي أعطى ، ولا تزاد اللام إلا لضعف العامل : إمَّا بتقدُّم معموله كقوله تعالى : { لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] ، وإمَّا لكونه فرعاً؛ نحو قوله تعالى : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107 ] ويبعد أن يقال : لمَّا أُضمر العاملن ضعف؛ فقوي باللام ، على أنَّ بعضهم يجيز ذلك ، وإن لم يضعف العامل ، وجعل منه { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] ، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى . وقدَّره أبو البقاء : « اعْجَبُوا لِلْفُقَرَاءِ » وفيه نظرٌ ، لأنه لا دلالة من سياق الكلام على العجب . وقدَّره الزمخشريُّ : « اعْمدُوا ، أو اجعلوا ما تُنْفقون للفقراء » والأحسن من ذلك ما قدَّره مكي ، لكن فيه ما تقدَّم .
الثاني : أنَّ هذا الجارَّ خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : الصدقات أو النفقات التي تنفقونها للفقراء ، وهو في المعنى جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر ، كأنهم لما حثُّوا على الصدقات ، قالوا : فلمن هي؟ فأجيبوا بأنها لهؤلاء ، وفيها بيان مصرف الصَّدقات . وهذا اختيار ابن الأنباري .
قال ابن الخطيب : لما تقدمت الآيات الكثيرة في الحث على الإنفاق ، قال بعدها « لِلْفُقَرَاءِ » أي : ذلك الإنفاق المحثوث عليه للفقراء وهذا كما إذا تقدم ذكر رجل ، فتقول : عاقلٌ لبيبٌ ، والمعنى : أن ذلك الذي مرَّ وصفه عاقلٌ لبيبٌ ، وكذلك الناس يكتبون على الكيس يجعلون فيه الذهب ، والفضَّة : ألفان ، أو مائتان ، أي : ذلك الذي في الكيس ألفان ، أو مائتان .
وأنشد ابن الأنباري : [ الرجز ]
1237- تَسْأَلُنِي عَنْ زَوْجِهَا أَيُّ فَتَى ... خبٌّ جَرُوزٌ وَإِذَا جَاعَ بَكَى
يريد : هو خبٌّ .
الثالث : أنَّ اللام تتعلَّق بقوله تعالى : { إِن تُبْدُواْ الصدقات } [ البقرة : 271 ] وهو مذهب القفَّال ، واستبعده الناس؛ لكثرة الفواصل .
الرابع : أنه متعلِّقٌ بقوله تعالى : { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ } وفي هذا نظرٌ؛ من حيث إنه يلزم فيه الفصل بين فعل الشرط وبين معموله بجملة الجواب ، فيصير نظير قولك : مَنْ يُكْرِمْ أُحْسِنْ إليه زيداً . وقد صرَّح الواحديُّ بالمنع من ذلك ، معلِّلاً بما ذكرناه ، فقال : وَلاَ يجوزُ أن يكون العاملُ في هذه اللام « تنفقوا » الأخير في الآية المتقدمة الكريمة؛ لأنه لا يفصل بين العامل ، والمعمول بما ليس منه ، كما لا يجوز : « كانَتْ زَيْداً الحُمَّى تأخُذُ » .
الخامس : أنَّ « للفقراء » بدلٌ من قوله : « فلأَنْفُسِكُمْ » ، وهذا مردودٌ؛ قال الواحدي ، وغيره : « لأنَّ الإنفاق من حيث هو واصلٌ إليهم ، وليس من باب { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } [ آل عمران : 97 ] ؛ لأنَّ الأمر لازمٌ للمستطيع خاصةً » قال شهاب الدين رحمه الله تعالى : يعني أنَّ الفقراء ليست هي الأنفس ، ولا جزاءً منها ، ولا مشتملةً عليها ، وكأن القائل بذلك توهَّم أنه من باب قوله تعالى :
{ وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] في أحد التأويلين .
والفقير : قيل : أصله من « فَقَرَتْه الفَاقِرَةُ » ، أي : كسرت فقارات ظهره الداهية . قال الراغب : وأصل الفقير : هو المكسُورُ الفقار ، يقال : « فَقَرَتْه الفاقرةُ » أي : الداهية تكسر الفقار ، و « أَفْقَرَكَ الصَّيْدُ [ فَارْمِهِ » ] أي أمكنك من فقاره ، وقيل : هو من الفُقرة ، أي : الحفرة ، ومنه قيل لكلِّ حفرةٍ يجتمع فيها الماء ، فقيرٌ : وفقرت للفسيل : حفرت له حفرة؛ غرسته فيها؛ قال : [ السريع أو الرجز ]
1238- مَا لَيْلَةُ الفَقِيرِ إِلاَّ شَيْطَانْ ... قيل : هو اسم بئر ، وفقرت الخرز : ثقبته .
وقال الهروي : يقال « فَقَره » إذا أصاب فقار ظهره ، نحو : رَأَسَه ، أي : أصاب رأسه ، وبَطَنَهُ ، أي : أصاب بطنه . وقال الأصمعي : « الفقر : أن يحزَّ أنف البعير ، حتى يخلص الحزُّ إلى العظم ، ثم يلوي عليه جريراً يذلَّل به الصَّعب من الإبل ، ومنه قيل : عمل به الفاقرة » . والفقرات - بكسر الفاء ، وفتح القاف - : جمع فقرة : الأمور العظام ، ومنه حديث السَّعي : « فِقَراتُ ابن آدَم ثلاثٌ : يَوْمَ وُلِد ، ويومَ يَمُوتُ ، ويومَ يُبْعَثُ » . والفقر - بضم الفاء ، وفتح القاف - : جمع فقرة؛ وهي الحزُّ ، وخرم الخطم ، ومنه قول أبي زيادٍ : « يُفْقَرُ الصَّعْبُ ثلاثَ فُقَرٍ في خطْمِه » ومنه حديث سعدٍ : « فَأَشَارَ إلى فُقَرٍ في أنْفِهِ » ، أي : شقٍّ ، وحزِّ . وقد تقدَّم الكلام في الإحصار عندق وله : « فإن أحصرتم » .
قوله : { فِي سَبِيلِ } في هذا الجار وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق بالفعل قبله؛ فيكون ظرفاً له .
والثاني : أن يكون متعلِّقاً بمحذوف على أنه حال من مرفوع « أُحصروا » ، أي : مستقرين في سبيل الله . وقدَّره أبو البقاء بمجاهدين في سبيل الله ، فهو تفسير معنًى لا إعراب؛ لأنَّ الجارَّ لا يتعلَّق إلا بالكون المطلق .
فصل في بيان سبب النزول
نزلت في فقراء المهاجرين ، وكانوا نحو أربعمائةٍ ، وهم أصحاب الصُّفَّة ، لم يكن لهم مساكن ولا عشائر بالمدينة ، وكانوا ملازمين المسجد؛ يتعلمون القرآن الكريم ، ويرضخون النوى بالنهار ويخرجون في كل سريَّةٍ يبعثها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحث الله عليهم الناس؛ فكان من عنده فضلٌ أتاهم به ، إذا أمسى .
« عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً على أصحاب الصفة ، فرأى فقرهم ، وجهدهم؛ فطيَّب قلوبهم ، فقال : » أَبْشِرُوا يَا أَصْحَابَ الصُّفَّةِ فإنَّهُ مَنْ لَقِيَ اللهَ مِنْ أُمَّتِي عَلَى النَّعْتِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ رَاضِياً بِمَا فِيهِ فَإِنَّهُ مِنْ رُفَقَائِي « واعلم أنه تعالى وصف هؤلاء الفقراء بخمس صفاتٍ :
الأولى : قوله : { الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله } والإحصار : أن يعرض للرجل ما يحول بينه وبين سفره من مرضٍ ، أو كسرٍ ، أو عدوٍّ ، أو ذهاب نفقةٍ ، أو ما يجري مجرى هذه الأشياء ، يقال : أحصر الرجل : فهو محصرٌ ، وفي معنى هذا الإحصار ، وجوه :
الأول : أنَّهم حصروا أنفسهم ، ووقفوها على الجهاد؛ لأن قوله : { فِي سَبِيلِ الله } مختصٌّ بالجهاد في عرف القرآن .
الثاني : قال قتادة - رحمه الله - وابن زيد : منعو أنفسهم من التصرفات في التجارة للمعاش؛ خوف العدوِّ؛ لأن الكفار كانوا مجتمعين حول المدينة ، وكانوا متى وجدوهم ، قتلوهم .
الثالث : قال سعيد بن جبير؛ وهو اختيار الكسائي : إنَّ هؤلاء القوم أصابتهم جراحاتٌ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاروا زمنى ، فأحصرهم المرض ، والزمانة عن الضَّرب في الأرض .
الرابع : قال ابن عباس - رضي الله عنهما - هؤلاء القوم من المهجرين حبسهم الفقر عن الجهاد في سبيل الله ، فعذرهم الله .
الصفة الثانية : قوله تعالى : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرض } في هذه الجملة احتمالان :
أظهرهما : أنها حالٌ ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : أنه « الفقراء » ، وثانيهما : أنه مرفوع « أُحْصِرُوا » .
والاحتمال الثاني : أن تكون مستأنفة لا محلَّ لها من الإعراب؛ و « ضَرْباً » مفعولٌ به ، وهو هنا السفر للتجارة؛ قال : [ الوافر ]
1239- لَحِفْظُ المَالِ أَيْسَرُ مِنْ بَقَاهُ ... وَضَرْبٌ في البِلاَدِ بِغَيْرِ زَادِ
ويقال : ضَرَبْتُ في الأَرْضِ ضَرْباً ، ومَضْرِباً ، أي : سرتُ .
فصل في بيان عدم الاستطاعة في الآية
عدم استطاعتهم : إمَّا أن يكون لاشتغالهم بصلاح الدِّين ، بأمر الجهاد؛ فيمنعهم من الاشتغال بالكسب والتجارة ، وإمَّا لخوفهم من الأعداء ، وإمَّا لمرضهم ، وعجزهم؛ وعلى جميع الوجوه فلا شكَّ في احتياجهم إلى من يعينهم .
الصفة الثالثة : قوله : { يَحْسَبُهُمُ } يجوز في هذه الجملة ما جاز فيما قبلها من الحالية والاستئناف ، وكذلك ما بعدها .
« يَحْسَبُهُمْ » هو الظَّنُّ ، أي : إنّهم من الانقباض ، وترك المسألة ، والتوكل على الله ، بحيث يظنهم الجاهل أغنياء .
وقرأ ابن عامرٍ ، وعاصمٌ ، وحمزة : « يَحْسَبُ » - حيث ورد - بفتح السين ، والباقون : بكسرها . فأمَّا القراءة الأولى؛ فجاءت على القياس؛ لأنَّ قياس فعل - بكسر العين - يفعل بفتحها لتتخالف الحركتان فيخفَّ اللفظ ، وهي لغة تميم ، والكسر لغة الحجاز ، وبها قرأ رسول الله - صلى الله عيه وسلم - ، وقد شذَّت ألفاظٌ أخر؛ جاءت في الماضي ، والمضارع بكسر العين منها : نَعِم يَنْعِم ، وبَئِس يَبْئِسُ ، ويَئِسَ يَيْئِس ، ويَبِس يَيْبِس من اليُبوسة ، وعَمِد يَعْمِد ، وقياسها كلُّها الفتح ، واللغتان فصيحتان في الاستعمال ، والقارئ بلغة الكسر اثنان من كبار النحاة : أبو عمرٍو - وكفى به - ، والكسائي ، وقارئا الحرمين : نافع ، وابن كثير .
والجاهل هنا : اسم جنس لا يراد به واحدٌ بعينه .
ولم يرد - هنا - به الجهل الذي هو ضدّ العلم ، وإنما أراد الجهل الذي هو ضدُّ الاختيار ، يقول : يحسبهم من لم يختبر أمرهم أغنياء ، و « أغنياءَ » هو المفعول الثاني .
قوله : { مِنَ التعفف } في « مِنْ » هذه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها سببيةٌ ، أيك سَبَبُ حُسْبَانِهم أغنياء تعفُّفهم ، فهو مفعولٌ من أجله ، وجرُّه بحرف السبب هنا واجبٌ ، لفقد شرطٍ من شروط النصب ، وهو اتحاد الفاعل ، وذلك أنَّ فاعل الحسبان الجاهل ، وفاعل التعفُّف هم الفقراء ، ولو كان هذا المفعول له مستكملاً لشروط النصب ، لكان الأحسن جرَّه بالحرف؛ لأنه معرَّفٌ بأل ، وقد تقدَّم أنَّ جرَّ هذا النوع أحسن من نصبه؛ نحو : جئت للإكرام ، وقد جاء نصبه؛ قال القائل : [ الرجز ]
1240- لاَ أَقْعُدُ الجُبْنَ عَنِ الهَيْجَاءِ ... وَلَوْ تَوَالَتْ زُمَرَ الأَعْدَاءِ
والثاني : أنها لابتداء الغاية ، والمعنى أنَّ محسبة الجاهل غناهم ، نشأت من تعفُّفهم؛ لأنه لا يحسب غناهم غنى تعففٍ ، إنما يحسبه غنى مالٍ ، فقد نشأت محسبته من تفُّفهم ، وهذا على أنَّ تعفُّفهم تعففٌ تام .
والثالث : أنها لبيان الجنس ، وإليه نحا ابن عطية ، قال : يكون التعففُ داخلاً في المحسبة ، أي : إنه لا يظهر لهم سؤالٌ ، بل هو قليلٌ ، فالجاهل بهم مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عنه ، ف « مِنْ » لبيان الجنس على هذا التأويل .
قال أبو حيَّان : « وليس ما قالَه مِنْ أنَّ » مِنْ « هذه في هذا المعنى وهو أن تتقدَّر » مِنْ بموصولٍ ، وما دخلت عليه يجعل خبر مبتدأ محذوف؛ كقوله تعالى : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] يصح أن يقال : الذي هو الأوثان ، ولو قلت هنا : « يَحْسَبُهُم الجَاهِلُ أغنياء الَّذِي هُوَ التَّعفف » لم يصحَّ هذا التقدير؛ وكأنه سمَّى الجهة التي هم أغنياء بها بيان الجنس ، أي : بيَّنت بأيِّ جنسٍ وقع غناهم ، أي : غناهم بالتعفف لا غنى بالمال ، فسمَّى « مِنْ » الداخلة على ما يبيِّن جهة الغنى ببيان الجنس ، وليس المصطلح عليه كما قدَّمناه ، وهذا المعنى يؤول إلى أنَّ « مِنْ » سببية ، لكنها تتعلق بأغنياء ، لا بيحسبهم « . انتهى .
وتتعلَّق » مِنْ « على الوجهين الأولين بيحسبهم . قال أبو البقاء رحمه الله : » ولا يجوزُ أن تتعلَّق بمعنى « أغْنِياء » ؛ لأنَّ المعنى يصير إلى ضد المقصود ، وذلك أنَّ معنى الآية : أنَّ حالهم يخفى على الجاهل بهم؛ فيظنُّهم أغنياء ، ولو علِّقت بأغنياء ، صار المعنى ، أنَّ الجاهل يظنُّ أنهم أغنياء ، ولكن بالتعفف ، والغنيُّ بالتعفف فقيرٌ من المال « . انتهى ، وما قاله أبو البقاء يحتمل بحثاً .
وأما على الوجه الثالث - وهو كونه لبيان الجنس - فقد صرَّح أبو حيان بتعلُّقها بأغنياء؛ لأن المعنى يعود إليه ، ولا يجوز تعلُّقها في هذا الوجه بالحسبان ، وعلى الجملة : فكونها لبيان [ الجنس ، قلق المعنى ] .
والتعفُّف : تفعُّل من العفَّة : وهو ترك الشيء ، والإعراض عنه ، مع القدرة على تعاطيه؛ قال رؤبة : [ الرجز ]
1241- فعَفَّ عَنْ أَسْرَارِهَا بَعْدَ الغَسَقْ ... وَلَمْ يَدَعْهَا بَعْدَ فَرْكٍ وَعَشَقْ
وقال عنترة : [ الكامل ]
1242- يُخْبِرْكِ مَنْ شَهِدَ الوَقِيعَةَ أَنَّنِي ... أَغْشَى الوَغَى وَأَعِفُّ عِنْدَ المَغْنَمِ
ومنه : « عَفِيفُ الإِزَارِ » كنايةٌ على حصانته ، وعرَّف التعفف ، لأنه سبق منهم مراراً فصار كالمعهود ، ومتعلَّق التعفف ، محذوفٌ؛ اختصاراً ، أي : عن السؤال ، والأحسن ألاَّ يقدَّر .
الصفة الرابعة : قوله : { تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ } السِّيما : العلامة بالقصر ويجوز مدُّها ، وإذا مدَّت ، فالهمزة فيها منقلبةٌ عن حرف زائدٍ ، للإلحاق : إمَّا واوٌ ، وإمَّا ياء ، فهي كعلباء ملحقة بسرداح ، فالهمزة فيه للإلحاق ، لا للتأنيث؛ وهي منصرفةٌ لذلك .
و « سيما » مقلوبة ، قدِّمت عينها على فائها؛ لأنها مشتقةٌ من الوسم فهي بمعنى السِّمة ، أي : العلامة ، فلما وقعت الواو بعد كسرةٍ قلبت ياءً ، فوزن سيما : عِفْلا ، كما يقال اضمحلَّ ، وامضحلَّ ، [ و ] « وَخِيمَة » ، و « خامة » وله جاهٌ ، ووجه ، أي : وجاهَةٌ .
وفي الآية الكريمة طباقٌ في موضعين :
أحدهما : « أُحْصِروا » مع قوله : { ضَرْباً فِي الأرض } .
والثاني : قوله تعالى : { أَغْنِيَآءَ } ، مع قوله : { لِلْفُقَرَآءِ } نحو : { أَضْحَكَ وأبكى } [ النجم : 43 ] و { أَمَاتَ وَأَحْيَا } [ النجم : 44 ] . ويقال « سِيمِيَا » بياء بعد الميم ، وتمدُّ كالكيمياء؛ وأنشد : [ الطويل ]
1243- غُلاَمٌ رَمَاهُ اللهُ بِالْحُسْنِ يَافِعاً ... لَهُ سِيمِيَاءُ لاَ تَشُقُّ عَلَى الْبَصَرْ
والباء تتعلَّق ب « تَعْرِفُهُمْ » ومعناها السببية ، أي : إنَّ سبب معرفتك إياهم هي سيماهم . والسِّيما : العلامة ، وقال قومٌ : السِّيما : الارتفاع ، لأنَّها علامةٌ وضعت للظُّهور .
فصل
قال القرطبيُّ : هذه الآية تدلُّ على أن للسِّيما أثرٌ في اعتبار من يظهر عليه ذلك ، حتى إذا رأينا ميتاً في دار الإسلام ، وعليه زنَّارٌ ، وهو غير مختونٍ؛ لا يدفن في مقابر المسلمين ، ويقدَّم ذلك على حكم الدار؛ في قول أكثر العلماء ، ومنه قوله تعالى : { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول } [ محمد : 30 ] فدلَّت هذه الآية على جواز صرف الصدقة إلى من له ثيابٌ ، وكسوة وزيٌّ في التجمل .
فصل في تفسير « السِّيما »
قال مجاهد : هو التخشع ، والتواضع .
وقال الربيع ، والسديُّ : أثر الجهد من الفقر ، والحاجة .
وقال الضحاك : صفرة ألوانهم من الجوع ، والضر .
وقال ابن زيدٍ : رثاثة ثيابهم .
قال ابن الخطيب : وعندي أنَّ الكلَّ فيه نظرٌ؛ لأن كل ما ذكروه علاماتٌ دالَّةق على حصول الفقر ، وذلك يناقض قوله : { يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف } بل المراد شيء آخر ، وهو أن لعباد الله المخلصين هيبة ووقعاً في قلوب الخلق ، كل من رآهم تأثر منهم ، وتواضع لهم؛ وذلك إدراكاتٌ روحانيةٌ ، لا علاتٌ جسمانيةٌ؛ ألا ترى أنَّ الأسد إذا مرَّ هابته جميع السباع بطباعها ، لا بالتجربة؛ لأن الظاهر أن تلك التجربة ما وقعت ، وكذلك البازي ، إذا طار فرّت منه الطيور الضَّعيفة ، وكل ذلك إدراكاتٌ روحانية ، لا جسمانية فكذا ها هنا ، روي أنهم كانوا يقومون الليل ، للتهجّد ، ويحتطبون بالنهار؛ للتعفف .
الصفة الخامسة : قوله : { لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } في نصبه « إلحافاً » ثلاثة أوجه :
أحدها : نصبه على المصدر بفعلٍ مقدَّر ، أي : يلحفون إلحافاً ، والجملة المقدرة حالٌ من فاعل « يَسْألون » .
والثاني : أن يكون مفعولاً من أجله ، أي : لا يسألون؛ [ لأجل الإلحاف .
والثالث : أن يكون مصدراً في موضع الحال ، تقديره : لا يسألون ] ملحفين .
فصل في تفسير الإلحاف
الإلحاف : هو الإلحاح؛ قال عطاءٌ : إذا كان عنده غداءٌ لا يسأل عشاءً ، وإذا كان عنده عشاءٌ لا يسأ غداءً .
وعن ابن مسعودٍ إن الله يحب العفيف المتعفف ، ويبغض الفاحش البذيء السَّائل الملحف ، الذي إن أعطي كثيراً ، أفرط في المدح ، وإن أعطي قليلاً أفرط في الذَّمِّ .
وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لاَ يَفْتَحُ أَحَدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلاَّ فَتح الله عليه بَابَ فَقْرٍ ، ومَنْ يَسْتَغْنِ ، يُغْنِه اللهُ ، ومَنْ يَسْتَعْفِفْ ، يُعِفَّهُ الله ، لأنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلاً يَحْتِطِبُ فِيهِ فَيَبِيعَهُ بمُدٍّ مِنْ تَمْرٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَل النَّاسَ » .
فصل
اعلم : أنَّ العرب إذا نفت الحكم عن محكوم عليه ، فالأكثر في لسانهم نفي ذلك القيد؛ نحو : « مَا رَأَيْتُ رَجُلاً صَالِحاً » ، الأكثر على أنك رأيت رجلاً ، ولكن ليس بصالح ، ويجوز أنَّك لم تر رجلاً ألبتة؛ لا صالحاً ولا طالحاً ، فقوله : { لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } المفهوم أنهم يسألون ، لكن لا بإلحاف ، ويجوز أن يكون المعنى : أنهم لا يسألون ، ولا يلحفون؛ والمعنيان منقولان في التفسير ، والأرجح الأول عندهم ، ومثله في المعنى : « مَا تَأْتِينَا فَتُحَدِّثَنَا » يجوز أنه يأتيهم ، ولا يحدِّثهم ، ويجوز أنه لا يأتيهم ولا يحدِّثهم ، انتفى السبب ، وهو الإتيان ، فانتفى المسبِّب ، وهو الحديث .
وقد شبَّه الزجاج - رحمه الله تعالى - معنى هذه الآية الكريمة بمعنى بيت امرئ القيس؛ وهو قوله : [ الطويل ]
1244- عَلَى لاَحِبٍ لاَ يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ ... إِذَا سَافَهُ العَوْدُ النَّبَاطِيُّ جَرْجَرَا
قال أبو حيَّان : « تَشْبيهُ الزجاج إنما هو في مطلق انتفاء الشيئين ، أي : لا سؤال ولا إلحاف ، وكذلك هذا : لا منار ولا هداية ، لا أنه مثله في خصوصيَّة النفي ، إذ كان يلزم أن يكون المعنى : لا إلحاف ، فلا سؤال ، وليس تركيب الآية على هذا المعنى ، ولا يصحُّ : لا إلحاف ، فلا سؤال؛ لأنه لا يلزم من نفي الخاص نفي العام ، كما لزم من نفي المنار ، نفي الهداية التي هي من بعض لوازمه ، وإنما يؤدِّي معنى النفي على طريقة النَّفي في البيت أن لو كان التركيب : » لا يُلْحِفُونَ الناسَ سُؤالاً « لأنه يلزم من نفي السؤال نفي الإلحاف ، إذ نفي العامِّ يدلُّ على نفي الخاص؛ فتلخَّص من هذا : أنَّ نفي الشيئين : تارة يدخل حرف النفي على شيءٍ ، فتنتفي جميع عوارضه ، وينبِّه على بعضها بالذكر لغرض ما ، وتارةً يدخل حرف النفي على عارضٍ من عوارضه ، والمقصود نفيه ، فتنتفي لنفيه عوارضه » .
قال شهاب الدين : قد سبق الشيخ إلى هذا ابن عطية فقال : « تَشْبيهه ليس مثله في خصوصية النفي؛ لأنَّ انتفاء المنار في البيت يدلُّ على نفي الهداية ، وليس انتفاء الإلحاح ، يدلُّ على انتفاء السؤال في الآية » . وأطال ابن عطية في تقرير هذا ، وجوابه ما تقدم : من أنَّ المراد نفي الشيئين ، لا بالطريق المذكور في البيت ، وكان الشيخ قد قال قبل ما حكيته عنه آنفاً : « ونظير هذا : ما تَأْتِينَا فتحدِّثَنا » فعلى الوجه الأول : يعني نفي القيد وحده : ما تأتينا محدِّثاً ، إنما تأتي ولا تحدِّث .
وعلى الوجه الثاني : يعني نفي الحكم بقيده ب « ما يكُونُ مِنْكَ إتيانٌ ، فلا يكونُ حديثٌ » ، وكذلك هذا : لا يقع منهم سؤالٌ ألبتَّة ، فلا يقع إلحاحٌ ، ونبَّه على نفي الإلحاح دون غير الإلحاح؛ لقبح هذا الوصف ، ولا يراد به نفي هذا الوصف وحده ، ووجود غيره؛ لأنه كان يصير المعنى الأول ، وإنما يراد بنفي هذا الوصف ، نفي المترتبات على المنفيِّ الأول؛ لأنه نفى الأولى على سبيل العموم ، فتنتفي مترتِّباته ، كما أنك إذا نفيت الإتيان ، فانتفى الحديث ، انتفى جميع مترتِّبات الإِتيان : من المجالسة ، والمشاهدة ، والكينونة في محلٍّ واحد ، ولكن نبَّه بذكر مترتِّب واحدٍ؛ لغرضٍ ما على ذكر سائر المترتِّبات « وهذا يقرر ما تقدَّم .
وأمَّا الزمخشريُّ : فكأنه لم يرتض تشبيه الزجاج ، فإنه قال : » وقيل : هو نفيٌ للسؤال والإلحاف جميعاً؛ كقوله : [ الطويل ]
1245- عَلَى لاَحِبٍ لاَ يُهْتَدَى بِمنَارِهِ .. .
يريد نفي المنار والاهتداء به « .
قال شهاب الدين : وطريق أبي إسحاق الزجاج هذه ، قد قبلها الناس ، ونصروها ، واستحسنوا تنظيرها بالبيت؛ كالفارسيِّ ، وأبي بكر بن الأنباريِّ ، قال أبو عليٍّ : لم يُثْبِتْ في قوله : { لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } مسألةً فيهم؛ لأن المعنى : ليس منهم مسألةٌ ، فيكون منهم إلحافٌ ، ومثل ذلك قول الشاعر : [ السريع ]
1246- لاَ يَفْزَعُ الأَرْنَبُ أَهْوَالَهَا ... وَلاَ تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ
أي : ليس فيها أرنبٌ؛ فيفزع لهولها ، ولا ضبٌّ فينجحر ، وليس المعنى : أنه ينفي الفزع عن الأرنب ، والانجحار عن الضب .
وقال أبو بكرٍ : تأويل الآية : لاَ يَسْأَلُونَ أَلْبَتةَ ، فيخرجهم السؤال في بعض الأوقات إلى الإلحاف؛ فجرى هذا مجرى قولك : فلانٌ لا يُرْجى خيره ، أي : لا خير عنده ألبتة فيرجى؛ وأنشد قول امرئ القيس : [ الطويل ]
1247- وَصُمٌّ صِلاَبٌ مَا يَقِينَ مِنَ الوَجَى ... كَأَنَّ مَكَانَ الرَّدْفِ مِنْهُ عَلَى رَالِ
أي : ليس بهن وجًى ، فيشتكين من أجله؛ وقال الأعشى : [ البسيط ]
1248- لاَ يَغْمِزُ السَّاقَ مِنْ أَيْنٍ وَلاَ وَصَبٍ ... وَلاَ يَعَضُّ عَلَى شُرْسُوفِهِ الصَّفَرُ
معناه : ليس بساقه أينٌ ، ولا وصبٌ؛ فيغمزها .
وقال الفراء قريباً منه ، فإنه قال : » نفى الإلحاف عنهم ، وهو يريد جميع وجوه السؤال؛ كما تقول في الكلام : « قَلَّ ما رَأَيْتُ مِثْلَ هذا الرجل » ولعلك لم تر قليلاً ، ولا كثيراً من أشباهه « .
وجعل أبو بكر الآية الكريمة عند بعضهم من باب حذف المعطوف ، وأن التقدير : لاَ يَسْأَلُونَ الناسَ إلحافاً ، ولا غير إلحاف ، كقوله تعالى : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] ، أي : والبرد .
وقال بعضهم : إنَّ السائل الملحف الملح ، هو الذي يستخرج المال بكثرة تَلَطُّفِهِ ، فقوله : { لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } أي : لا يسألون الناس بالرِّفق ، والتَّلطُّف ، وإذا لم يوجد السؤال على هذا الوجه ، فبأن لا يوجد على وجه العنف أولى .
وذكر ابن الخطيب - رحمه الله - فيها ثلاثة أوجه أخر :
أحدها : أنه ليس المقصود منق لوه : { لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } وصفهم بأنهم لا يسألون الناس إلحافاً؛ لأنه تعالى وصفهم قبل ذلك بالتعفُّف ، وإذا علم أنهم لا يسألون ألبتة ، قد علم - أيضاً - أنهم لا يسألون الناس إلحافاً ، بل المراد التَّنبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافاً ، مثاله : إذا حضر عندك رجلان : أحدهما عاقلٌ ، وقورٌ ثابتٌ ، والآخر طيَّاش مهذارٌ سفيهٌ ، فإذا أردت أن تمدح أحدهما ، وتعرض بالآخر ، قلت : فلانٌ ، رجل عاقلٌ وقُورٌ قليل الكلام ، لا يخوض في الترّهات ، ولا يشرع في السفاهات ، ولم يكن غرضك من قولك : لا يخوض في التّرّهات ، والسفاهات ، وصفه بذلك؛ لأن ما تقدم من الأوصاف الحسنة يغني عن ذلك؛ بل غرضك التنبيه على مذمَّة الثاني؛ فكذا هاهنا قوله : { لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } بعد قوله : { يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف } الغرض منه التنبيه على مذمَّة من يسأل الناس إلحافاً .
وثانيها : أنه تعالى بيَّن فيما تقدَّم شدَّة حاجة هؤلاء الفقراء ومن اشتدت حاجته ، فإنه لا يمكنه ترك السؤال؛ إلاَّ بإلحاحٍ شديد منه على نفسه ، فقوله : { لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } أي : لا يسألون الناس ، وإنَّما أمكنهم ترك السؤال عندما ألحُّوا على النفس ، ومنعوها بالتكليف الشَّديد عن ذلك السؤال ، ومنه قول عمر بن الخطَّاب : [ الوافر ]
1249- وَلِي نَفْسٌ أَقُولُ لَهَا إِذَا مَا ... تُنَازِعُنِي : لَعَلِّي أَوْ عَسَانِي
وثالثها : أنَّ من أظهر من نفسه آثار الفقر ، والمذلَّة ، والمسكنة؛ ثم سكت عن السؤال ، فكأنَّه أتى بالسؤال الملحِّ الملحف؛ لأن ظهور أمارات الحاجة ، تدلُّ على الحاجة ، وسكوته يدل على أنه ليس عنده ما يدفع تلك الحاجة ، ومتى تصوَّر الإنسان من غيره ذلك ، رقَّ له قلبه جدّاً ، وصار حاملاً له على أن يدفع إليه شيئاً ، فكان إظهار هذه الحالة هو السؤال على سبيل الإلحاف ، فقوله : { لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } معناه : أنهم سكتوا عن السؤال ، لكنَّهم لا يضمُّون إلى ذلك السكوت من رثاثة الحال ، وإظهار الانكسار ما يقوم مقام السؤال على سبيل الإلحاف ، بل يزيّنون أنفسهم عند الناس ، ويتجملون عند الخلق ، ويجعلون فقرهم وحاجتهم بحيث لا يطلع عليها إلاَّ الخالق .
فصل
قال ابن عبد البرِّ : من أحسن ما روي من أجوبة الفقهاء في معاني السُّؤال وكراهيته ومذهب أهل الورع فيه . ما حكاه الأثرم عن أحمد بن حنبل ، وقد سئل عن المسألة ، متى تحل؟ قال : إذا لم يكن عنده ما يغدِّيه ويعشيه ، قيل لأبي عبد الله : فإن اضطرَّ إلى المسألة؟ قال : هي مباحةٌ إذا اضطر .
قيل له : فإن تعفَّف؟ قال : ذلك خيرٌ له ، وقال : ما أظن أنَّ أحداً يموت من الجوع؛ الله يأتيه برزقه ، ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدريّ : « مَنْ اسْتَعْفَفَ أَعَفَّهُ الله » .
قال أبو بكر : وسمعته يسأل عن الرجل الذي لا يجد شيئاً؛ أيسأل الناس ، أم يأكل الميتة؟ فقال : أيأكل الميتة ، وهو يجد من يسأله؟ هذا شنيعٌ .
قال القرطبيُّ : فإن جاءه شيءٌ من غير سؤالٍ ، فله أن يقبله ولا يرده؛ إذ هو رزقٌ رزقه الله ، لما روي « أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى عمر بن الخطَّاب بعطاءٍ ، فردَّه؛ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » لِمَ رَدَدْتَه؟ « فقال : يا رسول الله ، أليس أخبرتنا أنَّ خيراً لأحدنا ألاَّ يأخذ شيئاً؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » إنَّما ذَاكَ عَنِ المَسْأَلَةِ ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ ، فَإِنَّمَا هو رزقٌ رَزَقَكَهُ الله « فقال عُمَر بن الخطَّاب : » والَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لاَ أَسْأَلُ شَيْئاً ، وَلاَ يَأْتِيني شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ إِلاَّ أَخَذتُه « .
والإلحاف ، والإلحاح ، واللُّجاج ، والإحفاء ، كلُّه بمعنًى ، يقال : أَلحف ، وألحَّ في المسألة : إذا لجَّ فيها .
وفي الحديث : » مَنْ سَألَ وَلَهُ أَرْبَعُونَ ، فَقَدْ أَلْحَفَ « ، واشتقاقه من اللِّحاف؛ لأنه يشتمل الناس بمسألته ، ويعمُّهم؛ كما يشتمل اللِّحاف من تحته ويغطِّيه؛ ومنه قول ابن أحمر يصف ذكر نعامٍ ، يحضن بيضه بجناحيه ، ويجعل جناحه لها كاللِّحاف : [ الوافر ]
1250- يَظَلُّ يُحُفُّهُنَّ بِقَقْقَفَيْهِ ... وَيَلْحَفُهُنَّ هَفْهَافاً ثَخِينَا
وقال آخر في المعنى : [ الرمل ]
1251- ثُمَّ رَاحُوا عَبَقُ المِسْكِ بِهِمْ ... يُلْحِفُونَ الأَرْضَ هُدَّابَ الأُزُرْ
أي : يلبسونها الأرض ، كإلباس اللِّحاف للشيء . وقيل : بل اشتقاق اللفظة من » لَحْفِ الجَبَلِ « وهو المكان الخشن ، ومجازه أنَّ السائل لكثرة سؤاله كأنه استعمل الخشونة في مسألته ، وقيل : بل هي من » لَحَفني فُلاَنٌ « ، أي : أعطاني فضل ما عنده ، وهو قريبٌ من معنى الأوَّل .
قوله : { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } هو نظير قوله : { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } [ البقرة : 272 ] ، وليس بتكرارٍ؛ لأنه لمَّا قال في الآية الأولى : { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } فهم منه التوفية من غير بخسٍ؛ ولا نقصان ، وذلك لا يمكن إلاَّ بالعلم بمقدار العمل ، وكيفية جهاته المؤثرة في استحقاق الثواب .
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
قوله : { الذين يُنْفِقُونَ } : مبتدأٌ ، وخبره الجملة من قوله : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } ودخلت الفاء؛ لما تضمَّنه الموصول من معنى الشرط . وقال ابن عطية رحمه الله : « وإنما يوجد الشَّبه - يعني بين الموصول ، واسم الشرط - إذا كان الموصول موصولاً بفعل ، وإذا لم يدخل على الموصول عاملٌ يغيِّر معناه » . قال أبو حيَّان - رحمه الله - : « فَحَصر الشَّبه فيما إذا كان » الَّذِي « موصولاً بفعل ، وهذا كلامٌ غير محرَّرٍ ، أمَّا قوله : » الَّذِي « فلا يختصُّ ذلك ب » الذي « ، بل كلُّ ما كان موصولاً غير الألف واللام ، حكمه حكم الذي » بلا خلافٍ ، وفي الألف واللام خلاف ، ومذهب سيبويه المنع من دخول الفاء .
الثاني : قوله « مَوْصولاً بفعل » فأطلق الفعل واقتصر عليه ، وليس كذلك ، بل شرط الفعل أن يصلح لمباشرة أداة الشرط ، فلو قلت : الذي سَيَأْتِيني ، أو لمَّا يأتيني ، أو ما يأتيني ، أو ليس يأتيني - فله درهمٌ لم يجز شيءٌ من ذلك؛ لأنَّ أداة الشرط لا يصلح أن تدخل على شيءٍ من ذلك ، وأمَّا الاقتصار على الفعل ، فليس كذلك؛ بل الظرف والجارُّ والمجرور في الوصل كذلك ، متى كان شيءٌ منهما صلةً لموصول ، جاز دخول الفاء .
وقوله : « وَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ على » الَّذي « عاملٌ يغيِّر معناه » عبارةٌ غير ملخَّصةٍ؛ لأن العامل لا يغيِّر معنى الموصول ، إنما يغيِّر معنى الابتداء ، بأن يصيِّره تمنِّياً ، أو ترجِّياً ، أو ظناً ، نحو : لعل الذي يأتضيني ، أو ليت الذي يأتيني ، أو ظننت الذي يأتيني - فله درهمٌ ، لا يجوز دخول الفاء لتغيُّر معنى الابتداء .
وكان ينبغي له - أيضاً - أن يقول : « بِشَرْطِ أَنْ يكونَ الخبرُ مستحِقاً بالصلةِ؛ كالآية الكريمة؛ لأنَّ ترتُّبَ الأجرِ إنما هو على الإِنْفاقِ » .
وقول الشيخ أيضاً : « بل كلُّ مَوْصُولٍ » ليس الحكم - أيضاً - مقتصراً على كلِّ موصولٍ ، بل كلُّ نكرةٍ موصوفةٍ بما يجوز أن يكون صلةً مجوِّزةً لدخول الفاء ، أو ما أُضيف إلى تلك النكرة ، أو إلى ذلك الموصول ، أو الموصوف بالموصول - حكمه كذلك . وقد تقدمت المسألة .
فصل في بيان سبب النُّزول
في سبب النزول وجوه :
الأول : لما نزل قوله تعالى : { لِلْفُقَرَآءِ الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله } [ البقرة : 273 ] ، بعث عبد الرَّحمن بن عوف بدنانير كثيرةٍ إلى أصحاب الصُّفة ، وبعث عليٌّ - كرم الله وجهه - بوسق تمرٍ ليلاً؛ فكان أحبَّ الصَّدقتين إلى الله تعالى ، صدقه عليٍّ؛ فنزلت الآية .
وقدَّم الله تعالى ذكر الليل؛ ليعرف أنَّ صدقة اللَّيل كانت أكمل ، رواه الضَّحَّاك ، عن ابن عبَّاسٍ .
الثاني : روى مجاهدٌ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال :
« نزلت هذه الآية في عليٍّ - رضي الله عنه - كان عنده أربعة دراهم ، لا يملك غيرها ، فتصدق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً ، وبدرهم سرّاً وبدرهم علانيةً؛ فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : » مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ « فقال : أن أستوجب ما وعدني ربِّي ، فقال : » لَكَ ذَلِكَ « .
الثالث : قال الزَّمخشريُّ نزلن في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - حين تصدَّق بأربعين ألف دينار : عشرةٌ باللَّيل ، وعشرةٌ بالنهار ، وعشرةٌ في السِّرِّ ، وعشرة في العلانية .
الرابع : قال أبو أمامة ، وأبو الدَّرداء ، ومكحولٌ ، والأوزاعي : نزلت هذه الآية الكريمة في الذين يربطون الخيل للجهاد؛ فإنها تعتلف ليلاً ونهاراً ، وسراً وعلانية ، فكان أبو هريرة - رضي الله عنه - إذا مرَّ بفرسٍ سمين ، قرأ هذه الآية .
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » مَنِ احْتَبَسَ فَرَساً فِي سَبِيلِ اللهِ إيمَاناً ، وتَصْدِيقاً بوعدِهِ ، فإنَّ شِبَعَهُ وريَّه ورَوْثَهُ ، وبَوْلَهُ في ميزانِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ « .
الخامس : أن الآية الكريمة عامةٌ في الذين يعمون الأوقات ، والأحوال بالصدقة ، تحريضاً لهم على الخير .
وفي الآية إشارة إلى أن صدقة السِّرِّ أفضل؛ لأنه قدم اللَّيل على النهار ، والسر على العلانية في الذكر ، وتقدم نظير هذه الآية؛ ومدلولها ، وهو مشروطٌ عند الكل بألاَّ يحصل عقيبه الكفر ، وعند المعتزلة ألاَّ يحصل عقيبه كبيرةٌ محبطةٌ .
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)
« الرِّبَا » في اللُّغة : عبارةٌ عن الزِّيادة؛ يقال ربا الشيء يربو ربواً ، ومنه قوله { اهتزت وَرَبَتْ } [ الحج : 5 ] ، أي زادت ، وأربى الرَّجل : إذا عامل في الربا ، ومنه الحديث « مَنْ أَجْبَى فَقَدْ أَرْبَى » ، أي : عامل بالرِّبا ، والإجباء : بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه .
والمادة تدلُّ على الزيادة والارتفاع ، ومنه الرَّبوة . وقال حاتم الطائيُّ يصف رمحاً : [ الطويل ]
1252- وَأَسْمَرَ خَطِّيًّا كَأَنَّ كُعُوبَهُ ... نَوَى القَسْبِ قَدْ أَرْبَى ذِرَاعاً عَلَى العُشْرِ
والرِّبا : لامه واوٌ؛ لقولهم : ربا يربو؛ فلذلك يثنَّى بالواو ، ويكتب بالألف . وجوَّز الكوفيُّون تثنيته بالياء ، وكذلك كتابته ، قالوا : لكسر أوَّله ، ولذلك أمالوه ، وليس هذا مختصّاً بمكسور الأول ، بل الثُّلاثيُّ من ذوات الواو ، المكسور الأول ، أو المضمومه؛ نحو : « رِبا » ، و « عُلا » حكمه ما ذكرته عنهم ، فأمَّا المفتوح الأول نحو : عصا ، وقفا ، فلم يخالفوا البصريين ، وكتب في القرآن بخطِّ الصحابة بواوٍ بعدها ألفٌ .
وقيل : إنما بالواو؛ لأنَّ أهل الحجاز تعلَّموا الخطَّ من أهل الحيرة ، وأهل الحيرة يقولون : « الرِّبَوا » بالواو ، فكتبوها كذلك ، ونقلها أهل الحجاز كذلك؛ خطّاً لا لفظاً .
قرأ العدويُّ : « الرِّبَو » كذلك بواوٍ خالصةٍ بعد فتحة الباء . فقيل : هذا القارئ أَجرى الوصل مجرى الوقف ، وذلك أنَّ من العرب من يقلب ألف المقصور واواً؛ فيقول : هذه أفعو ، وهذا من ذاك ، إلاَّ أنه أجْرَى الوصل مُجْرى الوقف .
وقد حكى أبو زيدٍ ما هو أغرب من ذلك ، فقال : « قرأ بعضهم بكسر الراء ، وضمِّ الباء ، و واو بعدها » ، ونسب هذه للغلط؛ وذلك لأنَّ العرب لا يبقى واواً بعد ضمة في الأسماء المعربة ، بل إذا وجد ذلك ، لم يقرَّ على حاله ، بل تقلب الضَّمَّة كسرةً ، والواو ياءٌ ، نحو : دلوٍ وأدلٍ ، وجروٍ؛ وأنشد أبو عليّ : [ البسيط ]
1253- لَيْثٌ هِزَبْرٌ مُدِلٌّ عِنْدَ خِيسَتِهِ ... بِالرَّقْمَتَيْنِ لَهُ أَجْرٍ وأَعْرَاسُ
ونهاية ما قبل فيها : أنَّ قارئها قلب الألف واواً؛ كقولهم في الوقف : أَفْعَو ، ثم أجري الوصل مجرى الوقف في ذلك ، قيل : ولم يضبط الرَّاوي عنه ما سمع؛ فظنَّه بضمِّ الباء؛ لأجل الواو؛ فنقلها كذلك ، وليت الناس أخلو تصانيفهم من مثل هذه القراءات التي لو سمعها العامة لمجُّوها ، ومن تعاليلها ، ولكن صار التارك لها ، يعده بعضهم جاهلاً بالاطِّلاع عليها .
ويقال : رِبا ورِما ، بإبدال بائه ميماً؛ كما قالوا : كثم في كثب . والألف واللام في « الرِّبا » : يجوز أن تكون للعهد ، إذ المراد الرِّبا الشرعيُّ ، ويجوز أن تكون لتعريف الجنس .
فصل في وجه تعلق هذه الآية بالتي قبلها
اعلم أنَّ بين الصدقة ، والرِّبا مناسبةٌ من جهة التضادِّ؛ لأن الصدقة عبارةٌ عن تنقيص المال بسبب أمر الله تبارك وتعالى بذلك؛ والرِّبا عبارةٌ عن طلب الزيادة على المال مع نهي الله - سبحانه وتعالى - عنه ، فكانا كالمتضادَّين ، ولهذا قال تعالى :
{ يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات } [ البقرة : 276 ] فلما حصلت المناسبة بينهما من هذا النوع ، ذكر حكم الربا عقيب حكم الصدقات ، وخصَّ الأكل؛ لأنه معظم الأمر؛ كقوله : { الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً } [ النساء : 10 ] فنبَّه بالأَكل على ما سواه من وجوه الإتلافات ، ولأنَّ نفس الرِّبا الذي هو الزيادة لا يؤكل ، وإنما يصرف في المأكول ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : « لَعَنَ اللهُ آكِلَ الرِّبَا ، ومُوكِلَه وشاهده وكَاتِبَهُ ، والمحلِّلَ لَهُ » فعلمنا أنَّ الحرمة غير مختصة بالأكل .
فصل في تقسيم الرِّبا
الرِّبا قسمان : ربا النَّسيئة ، وربا الفضل .
أمَّا ربا النسيئة ، فهو الذي كان مشهوراً متعارفاً في الجاهليَّة ، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كلَّ شهرٍ قدراً معيناً ، ويكون رأس المال باقياً ، ثم إذا حلَّ الدَّين طالبوا المدينون برأس المال فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحقِّ والأجل ، فهذا هو الرِّبا الذي كانوا يتعاملون به في الجاهلية .
وأمَّا « ربا الفضل » فهو أن يباع منٌّ من الحنطة بمنوين منها ، أو ما أشبه ذلك .
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه كان لا يحرِّم إلاَّ القسم الأول ، فكان يقول لا ربا إلاَّ في النَّسيئة ، وكان يجوِّز ربا الفضل؛ فقال له أبو سعيدٍ الخدريِّ : أشهدت ما لم تشهد ، أو سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم نسمع! ثمَّ روى له الحديث المشهور في هذا الباب ، ثم قال أبو سعيدٍ : لا أواني وإيَّاك ظلُّ بيتٍ ، ما دمت على هذا .
ثمَّ روي أنه رجع عنه .
قال محمد بن سيرين : كنَّا في بيتٍ ، ومعنا عكرمة ، فقال رجلٌ : يا عكرمة ، أما تذكر ونحن في بيت فلانٍ ، ومعنا ابن عباس فقال : إنما كنت استحللت الصرف برأيي ، ثم بلغني أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرَّمه ، فاشهدوا أنِّي حرمته ، وبرئت منه إلى الله .
وحجَّة ابن عباس أنَّ قوله : { وَأَحَلَّ الله البيع } يتناول بيع الدرهم بالدِّرهمين نقداً؛ وقوله : { وَحَرَّمَ الربا } ] إنما يتناول العقد المخصوص المسمَّى فيما بينهم رباً ، وذلك هو ربا النَّسيئة ، فكان ذلك مخصوصاً بالنَّسيئة؛ فثبت أنَّ قوله { وَأَحَلَّ الله البيع } يتناول ربا الفضل ، وقوله : { وَحَرَّمَ الربا } لا يتناوله؛ فوجب أن يبقى على الحلِّ ولا يمكنه أن يقال إنما يحرمه بالحديث؛ لأنه يقتضي تخصيص ظاهر القرآن بخبر الواحد ، وهو غير جائزٍ وهذا هو عرف ابن عباسٍ ، وحقيقته راجعةٌ إلى أنَّ تخصيص القرآن بخبر الواحد : هل يجوز أم لا؟
وأمَّا جمهور العلماء ، فقد اتفقوا على تحريم الربا في القسمين ، أمَّا القسم الأوَّل ، ربا النَّسيئة فبالقرآن ، وأمَّا ربا الفضل ، فبالخبر ، ثم إن الخبر دلَّ على حرمة ربا الفضل في الأشياء الستة ، ثم اختلفوا .
فقال جمهور الفقهاء : حرمة ربا الفضل غير مقصورةٍ على هذه النسيئة؛ بل ثابتةٌ في غيرها بالعلَّة الجامعة وقال نفاةُ القياس : بل الحرمة مقصورة عليها .
فصل في سبب تحريم الربا
ذكروا في سبب تحريم الرِّبا وجوهاً :
أحدها : أنه يُفضي إلى أخد الإنسان مال غيره من غير عوضٍ؛ لأنه إذا باع الدِّرهم بالدرهمين نقداً أو نسيئةً ، فقد حصل له زيادة درهم من غير عوض ومال الإنسان له حرمةٌ عظيمةٌ ، قال - صلى الله عليه وسلم - : « حُرْمَةُ مَالِ المسلمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ » ؛ فكان أخذ ماله بغير عوض محرَّماً .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكونَ لبقاء رأس المال في يده مدَّةٌ مديدةٌ عوضاً عن الدِّرهم الزَّائد؟ لأنَّ رأس المال لو بقي في يد مالكه ، لتمكَّن من التجارة به ، والربح ، فلمَّا تركه في يد المديون ، وانتفع المديون به ، لم يبعد أن يدفع إلى ربِّ المال ذلك الدرهم الزَّائد؛ عوضاً عن انتفاعه بماله .
فالجواب أنَّ هذا الانتفاع المذكور أمرٌ موهومٌ قد يحصل له منه كسبٌ ، وقد لا يحصل ، وأخذ الدرهم الزائد أمرٌ متيقنٌ فتفويت المتيقن لأجل أمر موهوم ، لا ينفكُّ عن نوع ضرر .
وثانيها : أنَّ الرِّبا يمنع النَّاس عن الاشتغال بالمكاسب؛ لأنه إذا حصَّل الدرهم بالربا ، فلا يكاد يحتمل مشقَّة التَّكسُّب بالتجارة ، والصناعة ، فيفضي إلى انقطاع منافع الخلق ، ومن المعلوم أنَّ [ مصالح العالم ] لا تنتظم إلاَّ بالتجارات ، والعمارات ، والحرف ، والصِّناعات .
وثالثها : أنَّ الربا يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض؛ لأن الرِّبا إذا حرم ، طابت النفوس بقرض الدرهم ، واسترجاع مثله ، ولو حلَّ الربا ، لكانت حاجة المحتاج تحمله حاجته على أخذ الدرهم بالدرهمين ، فيفضي ذلك إلى قطع المواساة ، والمعروف ، والإحسان .
ورابعها : أنَّ الغالب أنَّ المقرض يكون غنيّاً ، والمستقرض يكون فقيراً ، فالقول بتجويز الرِّبا تمكينٌ للغني من أن يأخذ من الفقير الضَّعيف مالاً زائداً ، وهو غير جائزٍ برحمة الرَّحيم .
وخامسها : أنَّه غير معقولٍ المعنى .
قوله : { لاَ يَقُومُونَ } الظَّاهر أنَّها خبر الموصول المتقدِّم ، وقال بعضهم : إنها حالٌ ، وهو سهوٌ ، وقد يتكلَّف تصحيحه بأن يضمر الخبر؛ كقراءة من قرأ { وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } [ يوسف : 8 ] ؛ وقوله : [ الطويل ]
1254- . لاَ أَنَا بَاغِيَا .. . .
في أحد الوجهين .
والمراد القيام يوم القيامة أو من القبور .
قوله : { إِلاَّ كَمَا يَقُومُ } فيه الوجهان المشهوران وهما :
النصب على النعب؛ لمصدر محذوف ، أي : لا يقومون إلا قياماً مثل قيام الذي يتخبطه الشيطان ، وهو المشهور عند المعربين .
أو النصب على الحال من ضمير ذلك المصدر المقدَّر ، أي : لا يقومونه ، أي : القيام إلاَّ مبشهاً قيام الذي يتخطبه الشيطان ، وهو رأي سيبويه ، وقد قدَّمت تحقيقهما .
و « ما » الظاهر أنها مصدريةٌ ، أي : كقيام . وجوَّز بعضهم أن تكون بمعنى الذي ، والعائد محذوفٌ ، والتقدير : إلا كالقيام الذي يقومه الذي يتخبَّطه الشيطان ، وهو بعيدٌ .
و « يتخبَّطه » يتفعَّله ، وهو بمعنى المجرد أي يخبطه؛ فهو مثل : تعدَّى الشيء وعداه فهو تفعَّل بمعنى فعل ، نحو تقسَّمه : بمعنى قسمه ، وتقطَّعه : بمعنى قطعه . ومعنى ذلك مأخوذٌ من خبط البعير بأخفافه : إذا ضرب بها الأرض . ويقال : فلانٌ يخبط خبط عشواء؛ قال علقمة : [ الطويل ]
1255- وَفِي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خَبَطْتَ بِنِعْمَةٍ ... فَحُقَّ لِشَأْسٍ مِنْ نَدَاكَ ذَنُوبُ
وقال زهير : [ الطويل ]
1256- رَأَيْتُ المَنَايَا خَبْطَ عَشْوَاءَ مَنْ تُصِبْ ... تُمِتْهُ وَمَنْ تُخْطِئ يُعَمَّرْ فَيَهْرَمِ
والتخبط معناه : الضَّرب على غير استواء ، ويقال للرجل الذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه ، إنه يخبط خبط عشواء ، وخبط البعير الأرض بأخفافه ، وتخبطه الشيطان ، إذا مسَّه بخبلٍ ، أو جنونٍ؛ لأنه كالضَّرب على غير استواء في الإدهاش .
قوله : { مِنَ المس } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه متعلقٌ بيتخبَّطه من جهة الجنون ، فيكون في موضع نصبٍ ، قاله أبو البقاء .
الثاني : أنه يتعلَّق بقوله تبارك وتعالى : { لاَ يَقُومُونَ } ، أي : لا يقومون من المسِّ الذي بهم ، إلا كما يقوم المصروع .
الثالث : أنه يتعلَّق بقوله : « يَقومُ » ، أي : كما يقوم المصروع من جنونه؛ ذكر هذين الوجهين الأخيرين الزمخشريُّ .
قال أبو حيَّان : وكان قدَّم في شرح المسِّ أنه الجنون ، وهذا الذي ذهب إليه في تعلُّق « مِنَ المَسِّ » بقوله : « لاَ يَقُومُونَ » ضعيفٌ؛ لوجهين :
أحدهما : أنه قد شرح المسَّ بالجنون ، قلت : وهو بابٌ في البلاغة مشهورٌ ، وهو أعلى رتب التشبيه؛ ومنه قوله : [ الطويل ]
1257- وَرَمْلٍ كَأَوْرَاكِ العَذَارَى قَطَعْتُهُ .. . . .
فصل في دفع شبهة في تحليل الرِّبا
القوم كانوا في تحليل الرِّبا على هذه الشُّبهة ، وهي أنَّ من اشترى ثوباً بعشرة ، ثمَّ باعه بأحد عشر ، فهذا حلالٌ؛ فكذا إذا باع العشرة بأحد عشر ، يجب أن يكون حلالاً؛ لأنه لا فرق في العقل بين الصُّورتين ، فهذا في ربا الفضل ، وكذلك - أيضاً - في ربا النَّسيئة؛ لأنه لو باع الثوب الذي يساوي عشرة في الحال بأحد عشر إلى شهرٍ ، جاز ، فكذا إذا أعطى العشرة بأحد عشر إلى شهرٍ ، وجب أن يجوز؛ لأنه لا فرق في العقل بينهما ، وإنما جاز ذلك ، لحصول التراضي من الجانبين ، فكذا هاهنا ، لما حصل التراضي من الجانبين ، وجب أن يجوز أيضاً ، والبياعات إنَّما شرعت لدفع الحاجة ، ولعل الإنسان أن يكون صفر اليد في الحال ، شديد الحاجة ، ويكون له في المستقبل من الزمان أموالٌ كثيرةٌ ، فإذا لم يجز الرِّبا ، لم يعطه ربُّ المال مجاناً ، فيبقى الإنسان في الشدة ، والحاجة ، وبتقدير جواز الربا فيعطيه ربُّ المال؛ طمعاً في الزيادة ، والمديون يردُّه عند وجدان المال ، وإعطاء تلك الزيادة عند وجدان المال ، أسهل عليه من البقاء في الحاجة قبل وجدان المال ، فهذا يقتضي حلَّ الرِّبا ، كما قلنا في سائر البياعات أنَّها إنما شرعت؛ لدفع الحاجة ، فهذه شبهة القوم .
فأجابهم الله تعالى بقوله : { وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا } ، وتوجيه هذا الجواب أنَّ ما ذكرتم معارضةٌ للنَّصِّ بالقياس؛ وهو لا يجوز .
فصل في دفع شبهة لنفاة القياس
تمسَّك نفاة القياس بهذه الآية ، فقالوا : لو كان الدِّين بالقياس ، لكانت هذه الشبهة لازمةً ، فلمَّا بطلت ، علمنا أن الدين بالنَّصّ لا بالقياس .
وفرَّق القفَّال بينهما ، فقال : من باع ثوباً يساوي عشرةً بعشرين ، فقد جعل ذات الثَّوب مقابلةً بالعشرين ، فلمَّا حصل التراضي على هذا التقابل ، صار كلُّ واحدٍ منهما مقابلاً للآخر في المالية عندهما ، فلم يكن أخذ من صاحبه شيئاً بغير عوض . أمَّا إذا باع العشرة بالعشرة ، فقد أخذ العشرة الزائدة من غير عوضٍ ، ولا يمكن أن يقال : إنَّ غرضه هو الإمهال في الأجل؛ لأن الإمهال ليس إلاَّ مالاً أو شيئاً يشار إليه ، حتى يجعله عوضاً عن العشرة الزائدة؛ فافترقا .
فإن قيل : ما الحكمة في قلب هذه القضية؟ ومن حقّ القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق؛ لأن حلَّ البيع متفقٌ عليه ، وهم أرادوا قياس الربا عليه؛ فكان نظم الكلام أن يقال : إنما الرِّبا مثل البيع ، فقلبه ، وقال : { إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا } ؟
فالجواب أنّه لم يكن مقصود القوم أن يتمسَّكوا بنظم القياس ، بل كان غرضهم أنَّ البيع والرِّبا متماثلان في جميع الوجوه المطلوبة ، فكيف يجوز تخصيص أحد المثلين بالحلِّ ، والآخر بالحرمة ، وعلى هذا التقدير : فأيُّهما قدِّم ، أو أخِّر جاز .
قوله : { وَأَحَلَّ الله البيع } الظاهر أنه من كلام الله تعالى ، أخبر بأنه أحلَّ هذا ، وحرَّم ذاك ، وعلى هذا؛ فلا محلَّ لهذه الجملة من الإعراب . وقال بعضهم : « هذه الجملة من تَتِمَّة قول الذين يأكلون الربا ، فتكون في محلِّ نصبٍ بالقول؛ عطفاً على المَقُولِ » وهو بعيدٌ جداً ، لأنَّ القائل بأنَّ هذا من كلام الكفَّار ، لا يتمُّ إلاَّ بإضمار زيادةٍ ، إمَّا بأن يحمل ذلك على الاستفهام؛ على سبيل الإنكار ، أو يحمل ذلك على الرِّواية من قول المسلمين ، والإضمار خلاف الأصل ، وعلى الأول لا يحتاج إلى الإضمار ، فكان أولى أيضاً فإنَّ المسلمين - أبداً - يتمسَّكون في جميع مسائل البيع بهذه الآية ، ولو كان ذلك من كلام الكفَّار ، لما جاز لهم الاستدلال به . وأيضاً ، فقوله بعده : { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فانتهى فَلَهُ مَا سَلَفَ . . . } إلى قوله : { . . . خَالِدُونَ } يقتضي أنَّهم لما تمسَّكوا بقولهم : { إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا } فالله تعالى قد كشَفَ عن فساد تلك الشُّبهة ، وبيَّن ضعفها ، فلو لم يكن قوله { وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا } من كلام الله تعالى ، لم يكن أجاب عن تلك الشبهة ، فلم يكن قوله { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ } - لائقاً بهذا الموضع .
فصل
ذهب بعض العلماء إلى أنَّ قوله تعالى : { وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا } من المجملات التي لا يجوز التمسك بها .
قال ابن الخطيب : وهو المختار عندي لوجوه :
الأول : أنه ثبت في « أصول الفِقْهِ » أنَّ الاسم المفرد المحلَّى ب « لام » التَّعريف ، لا يفيد العموم ألبتَّة ، بل ليس فيه إلاَّ تعريف الماهيَّة ، ومتى كان كذلك ، كفى في العمل ثبوت حكمه في الصورة الواحدة .
الثاني : سلَّمنا أنه يفيد العموم ، ولكنا لا نشكُّ في أنَّ إفادته أضعف من إفادة ألفاظ الجمع للعموم ، مثلاً قوله : { وَأَحَلَّ الله البيع } وإن أفاد الاستغراق إلاَّ أن قوله : « وأحل الله البيعات » أقوى في إفادة الاستغراق فثبت أن قوله : « وأحل الله البيع » لا يفيد الاستغراق إلاَّ إفادة ضعيفة ، ثم بتقدير العموم لا بدَّ أن يتطرق إليها تخصيصاتٌ كثيرةٌ خارجةٌ عن الحصر والضبط ، ومثل هذا العموم لا يليق بكلام الله تعالى ، وكلام رسوله؛ لأنه كذبٌ ، والكذب على الله محالٌ .
فأما العامُّ الذي يكون موضع التخصيص منه قليلاً جدّاً ، فذلك جائزٌ؛ لأن إطلاق لفظ الاستغراق على الأغلب عرفٌ مشهورٌ في كلام العرب .
الثالث : روي عن عمر - رضي الله عنه - قال : خرج رسول - صلى الله عليه وسلم - من الدنيا ، وما سألناه عن الربا . ولو كان هذا اللفظ مفيداً للعموم ، لما قال ذلك؛ فعلمنا أنَّ هذه الآية من المجملات .
الرابع : أن قوله : { وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا } يقتضي أن يكون كل بيع حلالاً ، وكل ربا حراماً؛ والرِّبا : هو الزيادة ، فأول الآية أباح جميع البيوع ، وآخرها حرَّم الجميع؛ فلا يعرف الحلال من الحلال بهذه الآية؛ فكانت مجملةً ، ووجب الرجوع في معرفة الحلال ، والحرام إلى بيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
قوله : { فَمَن جَآءَهُ } يحتمل أن تكون شرطيةً وهو الظاهر ، وأن تكون موصولةً ، وعلى كلا التقديرين فهي في محلِّ رفعٍ بالابتداء .
وقوله : { فَلَهُ مَا سَلَفَ } هو الخبر ، فإن كانت شرطيةً ، فالفاء واجبةٌ ، وإن كانت موصولةٌ ، فهي جائزةٌ ، وسبب زيادتها ما تقدَّم من شبه الموصول لاسم الشرط . ويجوز حال كونها شرطيةً وجهٌ آخر ، وهو أن تكون منصوبةً بفعلٍ مضمرٍ يفسِّره ما بعده ، وتكون المسألة من باب الاشتغال ، ويقدَّر الفعل بعدها؛ لأنَّ لها صدر الكلام ، والتقدير : فأيُّ شخصٍ جاءت الموعظة جاءته ، ولا يجوز ذلك فيها موصولةً؛ لأنَّ الصلة لا تفسِّر عاملاً؛ إذ لا يصحُّ تسلُّطها على ما قبلها ، وشرط التفسير صحة التسلُّط . وسقطت علامة التأنيث من فعل الموعظة لأن ثانيها غير حقيقي ولأنها في معنى الوعظ وأيضاً للفصل بين الفعل ، وفاعله بالمفعول . وقرأ أبيّ والحسن : « جاءَتْه » على الأصل .
قوله : { مِّنْ رَّبِّهِ } يجوز أن تكون متعلقةً بجاءته ، وتكون لابتداء الغاية؛ مجازاً ، وأن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها صفةٌ لموعظةٍ ، أي : موعظةٌ من موعظات ربه ، أي : بعض مواعظه .
وقوله : { فانتهى } نسقٌ على « جاءَتْه » عطفه بفاء التعقيب ، أي : لم يتراخ انتهاؤه عن مجيء الموعظة .
وقوله : { وَمَنْ عَادَ } الكلام على « مَنْ » هذه في احتمال الشرط ، والموصول ، كالكلام على التي قبلها .
« عاد » أي : رجع ، يقال : عاد يعود عوداً ، ومعاداً ، وعن بعضهم : أنها تكون بمعنى « صار » ؛ وأنشد [ الطويل ]
1258- وَبِالمَحْضِ حَتَّى عَادَ عَنَطْنَطاً ... إِذَا قَامَ سَاوَى غَارِبَ الفَحْلِ غَارِبُهْ
وأنشد : [ الطويل ]
1259- تُعِدُّ لَكُمْ جَزْرَ الجَزُورِ رِمَاحُنَا ... وَيَرْجِعْنَ بالأَسْيَافِ مُنْكَسِرَاتِ
والضمير في قوله « فَأمْرُه » يعود على « مَا سَلَف » ، أي : وأمر ما سلف إلى الله ، أي : في العفو عنه وإسقاط التِّبعة منه . وقيل : يعود على المنتهي المدلول عليه بانتهى ، أي : فأمر المنتهي عن الربا إلى الله؛ في العفو؛ والعقوبة .
وقيل : يعود على ذي الرِّبا في أن ينتبه على الانتهاء ، أو يعيده إلى المعصية .
وقيل : يعود على الرِّبا ، أي : في عفو الله عمَّا شاء منه ، أو في استمرار تحريمه .
قال الواحديُّ « السُّلُوفُ » : التقدم ، وكلُّ شيءٍ قدمته أمامك فهو سلفٌ ، ومنه الأمم السَّالفة ، وسالف الذكر ، وله سلفٌ صالحٌ : آباءٌ متقدِّمون ، ومنه { فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً } [ الزخرف : 56 ] أي : أمةً متقدمةً تعتبر بهم من بعدهم ، وتجمع السَّلف على : أسلافٍ وسلوفٍ ، والسالفة والسُّلاف : المتقدِّمون في حرب أو سفرٍ ، والسالفة من الوجه؛ لتقدُّمها؛ قال : [ الوافر ]
1260- وَمَيَّةُ أَحْسَنُ الثَّقَلَيْنِ جِيداً ... وَسَالِفَةٌ وأَحْسَنُهُ قَذَالاَ
والسُّلفة : ما يقدَّم من الطعام للضَّيف . يقال : « سَلِّفُوا ضَيْفَكُمْ ، ولَهِّنُوهُ » أي : بادروه بشيءٍ مَّا ، ومنه : السَّلف في الدَّين؛ لأنه تقدَّمه مالٌ .
والسَّالفة : العنق؛ لتقدُّمه في جهة العلو ، والسلفة : ما قدم قبل الطعام ، وسلافة الخمر : صفوتها؛ لأنه أوَّل ما يخرج من عصيرها .
فصل في تأويل ما سلف
قال الزجاج : أي صفح له عمَّا مضى من ذنبه ، قبل نزول الآية؛ كقوله : { قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] ، وضعِّف؛ بأن قبل نزول الآية في التحريم ، لم يكن ذلك حراماً ، ولا ذنباً؛ فكيف يقال المراد من الآية الصفح عن ذلك الذنب مع أنه ما كان هناك ذنبٌ؟ والنهي المتأخر لا يؤثر في الفعل المتقدم! ولأنه تعالى أضاف ذلك إليه بلام التمليك ، وهو قوله : { فَلَهُ مَا سَلَفَ } أي : كلُّ ما أكل من الرِّبا ، وليس عليه ردُّه ، فأمَّا ما لم يقضَ بعد ، فلا يجوز له أخذه ، وإنما له رأس ماله فقط؛ كما بيَّنه تعالى في قوله تعالى : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ } [ البقرة : 279 ] .
فصل
قال ابن الخطيب - رحمه الله - : في قوله تعالى : { وَأَمْرُهُ إِلَى الله } وجوهٌ للمفسرين ، والذي أقوله : إنَّ هذه الآية مختصةٌ بمن ترك استحلال الرِّبا من غير بيان أنه ترك أكل الربا ، أو لم يترك؛ ويدلُّ عليه مقدمة الآية ومؤخِّرتها .
أمَّا مقدمة الآية؛ فلأن قوله { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فانتهى } ليس فيه بيان أنه انتهى عماذا ، فلا بدَّ وأن يصرف ذلك إلى المدلول السابق ، وأقرب المذكورات إلى هذه الكلمة قولهم : { إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا } فكان قوله : { فانتهى } عائداً إليه فيكون المعنى : فانتهى عن هذا القول .
وأما مؤخرة الآية فقوله : { وَمَنْ عَادَ فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } معناه عاد إلى الكلام المتقدم ، وهو استحلال الربا « فَأَمْرهُ إلى اللهِ » ثم هذا الإنسان إمَّا أن يقال : إنه كما انتهى عن استحلال الربا ، انتهى - أيضاً - عن أكل الربا ، وليس كذلك؛ فإن كان الأول كان هذا الشخص مقراً بدين الله عالماً بتكليف الله تعالى؛ فحينئذٍ يستحق المدح والتعظيم ، لكنَّ قوله « فَأَمْرُهُ إِلى اللهِ » ليس كذلك؛ لأنه يدلُّ على أنه تعالى إن شاء عذَّبه ، وإن شاء غفر له ، فثبت أن هذه الآية لا تليق بالكافر ، ولا بالمؤمن المطيع ، فلم يبق إلاَّ أنها تختصُّ بمن أقرَّ بحرمة الرِّبا ، ثم أكل الربا؛ فهذا أمره إلى الله إن شاء عذبه ، وإن شاء غفر له ، فهو كقوله { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] . ثم قال : { وَمَنْ عَادَ فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أي ومن عاد إلى استحلال الربا ، حتى يصير كافراً ، وفيها دليلٌ على أنَّ الخلود لا يكون إلاَّ للكافر .
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)
قوله تعالى : { يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي } : الجمهور على التخفيف في الفعلين من : مَحَقَ ، وأربى . وقرأ ابن الزبير : ورويت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « يُمْحِّقُ ، ويُرَبِّي » بالتشديد فيهما .
والمحق : النقص ، يقال : محقته فانمحق ، وامتحق؛ ومنه المحاق في القمر؛ قال : [ البسيط ]
1261- يَزْدَادُ حَتَّى إِذَا مَا تَمَّ أَعْقَبَهُ ... كَرُّ الجَدِيدَيْنِ نَقْصاً ثُمَّ يَنْمَحِقُ
وأنشد ابن السِّكِّيتِ : [ الطويل ]
1262- وَأَمْصَلْتُ مَالِي كُلَّهُ بِحَيَاتِهِ ... وَمَا سُسْتَ مِنْ شَيْءٍ فَرَبُّكَ مَاحِقُهْ
ويقال : هجيرٌ ماحقٌ : إذا نقص كلُّ شيءٍ بحرِّه .
وقد اشتملت هذه الآية على نوعين من البديع :
أحدهما : الطِّباق في قوله : « يَمْحَقُ ، ويُرْبِي » فإنهما ضدَّان ، نحو : { أَضْحَكَ وأبكى } [ النجم : 43 ] .
والثاني : تجنيس التغاير في قوله : « الرِّبا ، ويُرْبي » إذ أحدهما اسم والآخر فعل .
فصل في بيان وجه النَّظم
لما كان الداعي إلى فعل الرِّبا ، تحصيل الزيادة ، والصارف عن الصدقات الاحتراز عن نقص الخيرات - بيَّن تعالى - ها هنا - أنَّ الربا وإن كان زيادةً ، فهو نقصانٌ في الحقيقة ، وأن الصدقة وإن كانت نقصاً في الصورة ، فهي زيادةٌ في المعنى ، فلا يليق بالعاقل أن يلتفت إلى ما يقضي به الطبع ، والحسُّ من الدواعي والصَّوارف؛ بل يعوِّل على ما ندبه الشرع إليه؛ فهذا وجه النظم .
فصل
اعلم أن محق الربا ، وإرباء الصدقات يحتمل أن يكون في الدنيا ، وأن يكون في الآخرة .
أما محق الربا في الدنيا فمن وجوه :
أحدها : أنَّ الغالب في المربي - وإن كثر ماله - أن تؤول عاقبته إلى الفقر وتزول البركة عن مالح؛ قال - صلى الله عليه وسلم - : « الرِّبا وَإِنْ كَثُرَ فإنَّ عَاقِبتَهُ تَصِيرُ إِلى قلٍّ » .
وثانيها : أنه وإن لم ينتقص ماله ، فإن عاقبته الذَّمُّ والنقص ، وسقوط العدالة ، وزوال الأمانة ، وحصول اسم الفسق ، والقسوة ، والغلظة .
ثالثها : أنَّ الفقراء الذين يشاهدون أنه أخذ أموالهم بسبب الربا ، يلعنونه ، ويبغضونه ، ويدعون عليه؛ وذلك يكون سبباً لزوال الخير ، والبركة عنه في نفسه وماله .
الرابع : أنه متى اشتهر بين الناس بأنه إنما جمع ماله من الرِّبا ، توجهت إليه الأطماع ، وقصده كلُّ ظالمٍ ، ومارقٍ وطمَّاعٍ ، ويقولون : إنَّ ذلك المال ليس له في الحقيقة ، فلا يترك في يده .
وأمَّ أن الربا سبب للمحق في الآخرة فمن وجوهٍ :
أحدها : قال ابن عباس : معنى هذا المحق : أن الله تعالى لا يقبل منه صدقةً ، ولا جهاداً ولا حجّاً ، ولا صلة رحم .
ثانيها : أن مال الدنيا لا يبقى عند الموت ، ويبقى عليه التبعة ، والعقوبة ، وذلك هو الخسار الأكبر .
وثالثها : ثبت في الحديث : أنَّ الأغنياء يدخلون الجنَّة بعد الفقراء بخمسمائة عامٍ ، فإذا كان الغِنَى من الحلال كذلك ، فما ظنُّك بالغنى من الحرام المقطوع به فذلك هو المحق والنقصان!
وأمَّا « إِرْبَاءُ الصدقاتِ » فيحتمل - أيضاً - أن يكون في الدنيا ، وأن يكون في الآخرة .
أما في الدنيا : فمن وجوهٍ :
أحدها : أن من كان لله كان الله له ، فإذا كان الإنسان يحسن إلى عبيد الله ، فالله تعالى لا يتركه ضائعاً ، ولا جائعاً في الدنيا ، وقد ورد في الحديث أنَّ ملكاً ينادي كلَّ يومٍ : « اللَّهُمَّ يَسِّرْ لِكُلِّ مُنْفِقٍ خَلَفاً ، ولكل مُمْسِكٍ تَلَفاً » .
وثانيها : أنه يزداد كلَّ يومٍ في جاهه ، وذكره الجميل ، وميل القلوب إليه .
وثالثها : أن الفقراء يعينونه بالدعاء الخالص من قلوبهم .
ورابعها : أنَّ الأطماع تنقطع عنه ، فإنه متى اشتهر بإصلاح مهمَّات الفقراء ، والضعفاء؛ فكلُّ أحدٍ يحترز عن منازعته ، وكلُّ ظالم ، وطمَّاع يتخوف من التعرض إليه ، اللهم إلاَّ نادراً ، فهذا هو المراد بإرباء الصدقات في الدنيا .
وأما إرباؤها في الآخرة ، فروى أبو هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقبلُ الصَّدَقَاتِ وَلاَ يَقْبَلُ مِنْهَا إِلاَّ الطَّيِّبَ ويَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ فَيُربِّيها كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مَهرَةُ أَوْ فَلُوَّهُ حتى إنَّ اللقمةَ تَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ » وتصديق ذلك بيِّنٌ في كتاب الله تعالى { أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات } [ التوبة : 104 ] .
وقال ابن الخطيب : ونظير قوله : { يَمْحَقُ الله الربا } المثل الذي ضربه فيما تقدم بصفوانٍ عليه ترابٌ فأصابه وابلٌ فتركه صلداً ونظير قوله : { وَيُرْبِي الصدقات } المثل الذي ضربه الله بحبةٍ أنبتت سبع سنابل في كلِّ سنبلةٍ مائة حبَّةٍ .
قوله : { والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } اعلم أن الكفَّار فعَّالٌ من الكفر ، ومعناه : أن ذلك عادته ، والعرب تسمي المقيم على الشيء بهذا فتقول : فلان فعَّالٌ للخير أمَّارٌ به و « الأَثِيم » فعيل بمعنى فاعلٍ ، وهو الآثم ، وهو - أيضاً - مبالغةٌ في الاستمرار على اكتساب الإثم والتمادي فيه ، وذلك لا يليق إلاَّ بمن ينكر تحريم الربا ، فيكون جاحداً .
وفيه وجه آخر وهو أن يكون « الكَفَّارُ » راجعاً إلى المستحلّ « والأَثيم » يكون راجعاً إلى من يفعله مع اعتقاد التحريم؛ فتكون الآية الكريمة جامعةً للفريقين .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)
اعلم أنَّ من عادته تعالى في القرآن الكريم مهما ذكر وعيداً ، ذكر بعده وعداً فلما بلغ ها هنا في وعيد المرابي ، أتبعه بهذا الوعد ، وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية .
واحتجّ من قال بأن العمل الصالح خارجٌ عن مسمى الإيمان بهذه الآية ، فإنه عطف عمل الصالحات على الإيمان؛ والمعطوف يغاير المعطوف عليه .
وأجيب عنه بأنه قال : { وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة } ولا نزاع في أن إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، داخلان تحت عمل الصالحات ، فكذا ما ذكرتُم ، وأيضاً قال تبارك وتعالى : { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } [ النحل : 88 ] وقال : { والذين كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ } [ البقرة : 39 ] ويمكن أن يجاب بأن الأصل حمل كل لفظةٍ على فائدةٍ جديدة ، تُرِكَ العملُ به عند التَّعذُّر ، فيبقى في غير موضع التعذر على الأصل .
فإن قيل إنَّ الإنسان إذا بلغ عارفاً بالله تعالى وقبل وجوب الصلاة والزكاة عليه ، ثم مات ، فهو من أهل الثواب بالاتفاق ، فدلَّ على أن استحقاق الثواب لا يتوقَّف على حصول العمل .
وأيضاً فقد يثيب الله تعالى المؤمن الفاسق الخالي عن جميع الأعمال ، وإذا كان كذلك فكيف وقف الله ها هنا حصول الأجر على حصول العمل؟
فالجواب : أنه تبارك وتعالى إنما ذكر هذه الخصال؛ لا لأجل أنَّ استحقاق الثواب مشروطٌ بهذا ، بل لأجل أنَّ لكل واحد منهما أثراً في جلب الثواب ، كما قال في ضدِّ هذا { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ } [ الفرقان : 68 ] ثم قال : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً } [ الفرقان : 68 ] ومعلومٌ أنَّ من ادعى مع الله إلهاً آخر لا يحتاج في استحقاقه العذاب إلى عمل آخر ، وإنما جمع اللهُ الزِّنا ، وقتل النَّفس ، مع دعاء غير الله إلهاً ، لبيان أنَّ كل واحد من هذه الخصال يوجب العقوبة .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)
اعلم أنه تعالى لمَّا بيَّن في الآية المتقدمة أنَّ من انتهى عن الربا ، فله ما سلف؛ فقد يظنُّ أنه لا فرق بين المقبوض منه ، وبين الباقي في ذمَّة الغريم ، فبين في هذه الآية الكريمة بقوله : { وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا } أي : الذي لم يقبض فالزيادة حرامٌ ، وليس لهم أن يأخذوا إلاَّ رؤوس أموالهم ، فقال : { اتقوا الله } والاتقاء إنما يكون باتقاء ما نهى عنه ، { وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا } يعني : إن كنتم قد قبضتم منه شيئاً ، فيعفو عنه ، وإن لم تقبضوه أو لم تقبضوا بعضه ، فالذي لم يقبض حرامٌ قبضه ، وهذه الآية دليلٌ على أحكام الكفَّار إذا أسلموا؛ لأن ما مضى في زمن الكفر ، فإنه لا ينقض ، ولا يفسخ ، وما لم يوجد منه شيء في حال الكفر ، فحكمه الإسلام ، فإذا تناكحوا على ما يجوز عندهم ، ولا يجوز في الإسلام فمعفوٌّ عنه ، وإن وقع على مهرٍ حرامٍ ، وقبضته المرأة ، فقد مضى ، وليس لها شيءٌ ، وإن لم تقبضه فلها مهر مثلها دون المسمى .
قوله تعالى : { وَذَرُواْ } : فتحت العين من « ذَرْ » حملاً على « دَعْ » ، إذ هو بمعناه ، وفتحت في « دَعْ » ؛ لأنه أمرٌ من « يَدَعُ » ، وفتحت من « يَدَعُ » ، وإن كان قياسها الكسر؛ لكون الفاء واواً؛ [ كيَعِدُ ] لكون لامه حرف حلقٍ .
ووزن « ذَرُوا » : علوا؛ لأنَّ المحذوف الفاء لا يستعمل منه ماضٍ إلاَّ في لغيَّة ، وكذلك « دَعْ » .
وقرأ الحسن : « مَا بَقَى » بقلب الكسر فتحةً ، والياء ألفاً ، وهي لغةٌ لطَيِّىءٍ ، ولغيرهم؛ ومنه قول علقمة : [ الطويل ]
1263- زَهَا الشَّوْقُ حَتَّى ظَلَّ إِنْسَانُ عَيْنِهِ ... يَفِيضُ بِمَغْمُورٍ مِنَ الدَّمْعِ مُتْأَقِ
وقال آخر : [ الوافرٍ ] .
1264- وَمَا الدُّنْيَا بِبَاقَاةس عَلَيْنَا ... وَمَا حَيٌّ عَلَى الدُّنْيَا بِبَاقِ
ويقولون في الناصية : ناصاةٌ . وقرأ الحسن أيضاً : « بَقِيْ » بتسكين الياء ، قال المبرد : « تسكين ياء المنقوص في النصب من أحسن الضرورة ، هذا مع أنَّه معربٌ ، فهو في الفعل الماضي أحسنُ » قال شهاب الدين : وإذا كانوا قد حذفوها من الماضي صحيح الآخرن فأولى من حرف العلة ، قال : [ مجزوء الرمل ]
1265- إِنَّمَا شِعْرِيَ قَيْدٌ ... قَدْ خُلِطْ بِجُلْجُلانِ
وقال جرير في تسكين الياء : [ البسيط ]
1266- هُوَ الخَلِيفَةُ فَارْضُوا مَا رَضِيْ لَكُمُ ... مَاضِي العَزِيمَةِ مَا فِي حُكْمِهِ جَنَفُ
وقال آخر : [ الطويل ]
1267- لَعَمْرُكَ لاَ أَخْشَى التَّصَعْلُكَ مَا بَقِيْ ... عَلَى الأَرْضِ قَيْسِيٌّ يَسُوقُ الأَبَاعِرَا
قوله : { مِنَ الربا } متعلِّقٌ ببقي ، كقولهم : « بَقِيَتْ منه بقيةٌ » ، والذي يظهر أنه متعلقٌ بمحذوفٍ؛ على أنه حال من فاعل « بقَى » ، أي : الذي بقي حال كونه بعض الربا ، فهي تبعيضيةٌ .
ونقل ابن عطية هنا أنَّ العدويَّ - وهو أبو السَّمَّال - قرأ « مِنَ الرِّبُو » بتشديد الراء مكسورة ، وضمِّ الباء بعدها واوٌ . قال شهاب الدين : قد تقدم أنَّ أبا السَّمَّال إنما قرأ « الرِّبَا » في أول الآية الكريمة بواوٍ بعد فتحة الباء ، وأنَّ أبا زيدٍ حكى عن بعضهم : أنه ضمَّ الباء ، وقدَّمت تخريجهما على ضعفه .
وقال ابن جنِّي : « شَذَّ هَذَا الحَرْفُ في أمرين :
أحدهما : الخروج من الكسر إلى الضم بناءَ لازماً .
والآخر : وقوع الواو بعد الضمة في آخر الاسم ، وهذا شيء لم يأت إلاَّ في الفعل؛ نحو : يغزو ويدعو ، وأمَّا » ذو « الطائية بمعنى الذي فشاذةٌ جداً ، ومنهم من يغيِّر واوها ، إذا فارق الرفع ، فيقول : » رأيتُ ذَا قَامَ « .
ووجه القراءة أنه لمَّا فخَّم الألف انتحى بها الواو التي الألف بدل منها ، على حدِّ قولهم : الصَّلاة والزكاة ، وهي بالجملة قراءة شاذةٌ » . قال شهاب الدين : غيره يقيِّد هذه العبارة ، فيقول : « ليس في الأسماء المعربة واو قبلها ضمة » حتى يخرج عنه « ذُو » بمعنى الذي ، و « هو » من الضمائر ، وابن جنِّي لم يذكر القيد استثناء « ذو الطائية » ويرد عليه نحو « هو » ، ويرد على العبارة « ذُو » بمعنى صاحب؛ فإنَّها معربةٌ في آخرها واوٌ بعد ضمةٍ .
وقد أجيب عنه بأنها تتغيَّر إلى الألف والياء فلم يبال بها ، وأيضاً فإنَّ ضمة الدَّال عارضةٌ ، إذ أصلها الفتح ، وإنما ضمَّت؛ إتباعاً على ما تقرر في إعراب الأسماء الستة في كتب النحو .
وقله : « بناءً لازماً » تحرُّزٌ من وجود الخروج من كسرٍ إلى ضمٍّ ، بطريق العرض؛ نحو : الحِبُك؛ فإنه من التداخل ، ونحو : الرِّدُءْ « موقوفاً عليه ، فالخروج من كسرٍ إلى ضمٍّ في هاتين الكلمتين ، ليس بلازمٍ .
وقوله : » مِنْهُمْ مَنْ يغيِّرُ واوَها « المشهور بناؤها على الواو مطلقاً ، وقد تعرب؛ كالتي بمعنى صاحب؛ وأنشدوا : [ الطويل ]
1268- فَإِمَّا كِرَامٌ مُوسِرُونَ لَقِيتُهُمْ ... فَحَسْبِيَ مِنْ ذِي عِنْدَهُمْ مَا كَفَانِيَا
ويروى : » مِنْ ذُو « على الأصل .
فصل
قوله : { إِن كُنْتُمْ } شرطٌ ، وجوابه محذوفٌ عند الجمهور ، أي : فاتَّقوا ، وذروا ، ومتقدِّم عند جماعةٍ ، وقيل : » إِنْ « هنا بمعنى إذ؛ وهذا مردودٌ .
فإن قيل : كيف قال { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله } ثم قال { إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } فالجواب من وجوهٍ :
الأول : أن هذا كما يقال إن كنت أخي فأكرمني ، معناه : إِنَّ من كان أخاً ، أكرم أخاه .
الثاني : أنَّ معناه إن كنتم مؤمنين قبله ، أي : معترفين بتحريم الرِّبا .
الثالث : إن كنتم تريدون استدامة حكم الإيمان .
الرابع : يا أيُّها الذين آمنوا ، بلسانهم ، ذروا ما بقي من الرِّبا إن كنتم مؤمنين بقلوبكم .
الخامس : ما تقدم أنَّ » إن « بمعنى » إذْ « .
فصل في سبب النزول
في سبب النزول رواياتٌ :
الأولى : أن أهل مكة كانوا يرابون ، فلما أسلموا عند فتح مكة ، أمرهم الله تعالى بهذه الآية ، أن يأخذوا رؤوس أموالهم دون الزيادة .
الثانية : قال مقاتلٌ : نزلت في أربعة إخوةٍ من ثقيف : مسعودٍ ، وعبد [ ياليل ] ، وحبيبٍ ، وربيعة ، وهم بنو عمرو بن عمير بن عوف الثقفي ، كانوا يداينون بنى المغيرة بن عبدالله بن عمير بن مخزوم وكانوا يرابون . فلما ظهر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على لاطائف ، أسلم هؤلاء الإخوة ، فطلبوا رباهم من بنى المغيرة . فقال بنو المغيرة : والله ما نعطي الرِّبا في الإسلام ، وقد وضعه الله تعالى عن المؤمنين ، فاختصموا إلى عتَّاب بن أسيد ، فكتب عتَّابٌ - وكان عامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقصة الفريقين ، وكان ذلك مالاً عظيماً؛ فنزلت الآية .
الثالثة : قال عطاء ، وعكرمة : نزلت في العباس بن عبد المطَّلب ، وعثمان بن عفَّان - رضي الله عنهما - وكانا قد أسلفا في التمر ، فلما حضر الجذاذ ، قال لهما صاحب التمر : إن أنتما أخذتما حقكما ، لا يبقى لي ما يكفي عيالي! فهل لكما أن تأخذا النصف ، وتؤخِّرا النّصف؛ وأضعف لكما؟ ففعلا ، فلما جاء الأجل ، طلبا الزيادة ، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنهاهما فأنزل الله هذه الآية؛ فسمعا وأطاعا وأخذا رؤوس أموالهما .
الرابعة : قال السُّدِّيُّ : نزلت في العباس ، وخالد بن الوليد ، وكانا شريكين في الجاهلية ، يسلفان في الربا إلى بني عمرو بن عميرٍ ، وناسٍ من ثقيف ، فجاء الإسلام ولهما أموالٌ عظيمةٌ في الربا؛ فأنزل الله هذه الآية . فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في « حجةِ الوَدَاعِ » في خطبته يوم عرفة « أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِي مَوْضُوعٌ ، ودِمَاءُ الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ ، وإنَّ أَوَّلَ دَم أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابنِ رَبِيعَةَ بن الحَارِثِ ، كان مُسْتَرْضِعاً في بني سعدٍ؛ فقَتَلَه هُذيْلٌ ، وَرِبَا الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ ، وأَوَلُّ رِباً أَضَعُ رِبَا العباسِ بنِ عَبْد المطلبِ؛ فإنه مَوْضُوعٌ كُلُّه » .
فصل
القاضي قوله : { إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } يدلُّ على أنَّ الإيمان لا يتكامل إذا أصرَّ الإنسان على الكبائر ، ولا يصير الإنسان مؤمناً على الإطلاق ، إلاَّ إذا اجتنب كل الكبائر .
والجواب : لمَّا دلَّت الدلائل الكثيرة المذكورة في قوله تعالى : { الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب } [ البقرة : 3 ] على أنَّ العمل خارج عن مسمَّى الإيمان ، كانت هذه الآية محمولةً على كمال الإِيمان وشرائعه ، فكان التقدير : إن كنتم عاملين بمقتضى شرائع الإيمان ، وهذا وإن كان تركاً للظاهر لكنا ذهبنا إليه؛ لتلك الدلائل .
فإن قيل : كيف أمر بالمحاربة مع المسلمين؟
قلنا : هذه اللفظة قد تطلق على من عصى الله غير مستحل كما جاء في الخبر
« مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيّاً ، فَقَدْ بَارَزَنِي بالمُحَارَبَةِ » ، وعن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ لم يَدَع المخابرة ، فليأذَن بحرب من اللهِ ورسُوله » وقد جعل كثيرٌ من المفسرين والفقهاء قوله : { إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ } [ المائدة : 33 ] أصلاً في قطع الطريق من المسلمين ، فثبت أن ذكر هذا النوع من التهديد مع المسلمين وارد في كتاب وسنة رسوله .
وفي الجواب عن السؤال وجهان :
الأول : أن المراد المبالغة في التهديد دون نفس الحرب .
الثاني : أن المراد منه نفس الحرب ، وفيه تفضيلٌ؛ فنقول : إنّ المصرَّ على فعل الربا ، إذا كان من شخص ، وقدر الإمام عليه قبض عليه وأجرى فيه حكم الله من التَّعزير ، والحبس إلى أن تظهر منه التوبة ، وإن كان المصر ممن له عسكرٌ وشوكة ، حاربه الإمام ، كما يحارب الفئة الباغية ، وكما حارب أبو بكرٍ - رضي الله عنه - مانعي الزكاة ، وكذا القول لو اجتمعوا على ترك الأذان ، وترك دفن الموتى ، فإنه يفعل بهم ما ذكرناه .
وقال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - من عامل بالربا ، يستتاب ، فإن تاب ، وإلاّض ضرب عنقه .
والقول الثاني : أنه خطابٌ للكفار ، وأن معنى قوله : { إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } أي : معترفين بتحريم الربا { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } أي : فإن لم تكونوا معترفين بتحريمه { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } ومن ذهب إلى هذا القول ، قال : إنَّ فيه دليلاً على أنّض من كفر بشريعة واحدةٍ من شرائع الإسلام ، فهو خارجٌ من ملة الإسلام ، كافرٌ كما لو كفر بجميع شرائعه .
قوله : { وَإِنْ تُبْتُمْ } فالمعنى على القول الأول : وإن تبتم عن معاملة الربا ، وعلى الثاني : من استحلال الربا { فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } أي : لا تظلمون الغريم بطلب الزيادة على رأس المال { وَلاَ تُظْلَمُونَ } أي : بنقصان رأس المال .
قوله : { لاَ تَظْلِمُونَ } فيها وجهان :
أظهرهما : أنها لا محلَّ لها؛ لاستئنافها ، أخبرهم تعالى بذلك ، أي : لا تظلمون غيركم بأخذكم الزيادة منه ، ولا تظلمون أنتم - أيضاً - بضياع رؤوس أموالكم .
والثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير في « لَكُمْ » والعامل ما تضمَّنه الجارُّ من الاستقرار؛ لوقوعه خبراً وهو رأي الأخفش .
وقرأ الجمهور الأول مبنيّاً للفاعل ، والثاني مبنياً للمفعول . وروى أبانٌ ، والمفضَّل ، عن عاصم بالعكس . ورجَّح الفارسي قراءة العامة؛ بأنها تناسب قوله : « وإن تُبْتُمْ » في إسناد الفعلين إلى الفاعل ، فتظلمون مبنياً للفاعل أشكل بما قبله . وقال أبو البقاء رحمه الله : يُقْرَأُ بتسميةِ الفَاعِلِ في الأوَّلِ ، وترْكِ التسمية في الثاني؛ ووجهه : أنَّ منعهم من الظلم أهمُّ؛ فبدئ به ، ويقرأ بالعكس ، والوجه فيه : أنه قدَّم ما تطمئن به نفوسهم من نفي الظلم عنهم ، ثم منعهم من الظلم ، ويجوز أن تكون القراءتان بمعنى واحدٍ؛ لأنَّ الواو لا ترتِّب .
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)
قوله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } : في « كان » هذه وجهان :
أحدهما : - وهو الأظهر - أنها تامةٌ بمعنى حدث ، ووجد ، أي : وإن حدث ذو عسرةٍ ، فتكتفي بفاعلها كسائر الأفعال ، قيل : وأكثر ما تكون كذلك إذا كان مرفوعها نكرةٌ ، نحو : « قد كان مِنْ مَطَرٍ » .
والثاني : أنها الناقصة والخبر محذوفٌ . قال أبو البقاء : « تقديره : وإن كان ذو عسرة لكم عليه حقٌّ ، أو نحو ذلك » وهذا مذهب بعض الكوفيين في الآية ، وقدَّر الخبر : وإن كان من غرمائكم ذو عسرةٍ . وقدَّره بعضهم : وإن كان ذو عسرةٍ غريماً .
قال أبو حيَّان : « وَحَذْفُ خبرِ كَانَ لا يجيزه أصحابنا؛ لا اختصاراً؛ ولا اقتصاراً ، لعلَّةٍ ذكروها في كتبهم . وهي أنَّ الخبر تأكّد طلبه من وجهين :
أحدهما : كونه خبراً عن مخبر عنه .
والثاني : كونه معمولاً للفعل قبله ، فلما تأكدت مطلوبيته ، امتنع حذفه .
فإن قيل : أليس أن البصريين لمَّا استدلَّ عليهم الكوفيون في أنَّ » ليس « تكون عاطفةً بقوله : [ الرمل ]
1269- .. إِنَّمَا يَجْزِي الفَتَى لَيْسَ الجَمَلْ
تأوَّلُوهَا على حَذْفِ الخَبَرِ؛ وأَنْشدوا شَاهِداً على حَذْفِ الخبرِ قولَه : [ الكامل ]
1270- ... يَبْغِي جِوَارَكِ حِينَ لَيْسَ مُجِيرُ
وإذا ثبت هذا ، ثبت في سائر الباب .
فالجواب أن هذا مختصٌّ بليس؛ لأنها تشبه لا النافية ، و » لا « يجوز حذف خبرها ، فكذا ما أشبهها » .
وتقوَّى الكوفيُّون بقراءة عبد الله ، وأُبيّ؛ وعثمان : « وَإِنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ » أي : وإن كان الغريم ذا عُسْرَةٍ . قال أبو عليّ : في « كان » اسمها ضميراً تقديره : هو ، أي : الغريم ، يدلُّ على إضماره ما تقدَّم من الكلام؛ لأنَّ المرابي لا بدَّ له ممَّن يرابيه .
وقرأ الأعمش : « وإِنْ كان مُعْسِراً » قال الدَّاني ، عن أحمد بن موسى : « إنها في مُصْحَفِ عبد الله كذلك » .
ولكنَّ الجمهور على ترجيح قراءة العامة وتخريجهم القراءة المشهورة . قال مكي : وَإِنْ وقع ذُو عُسْرَةٍ ، وهو سائغٌ في كلِّ الناس ، ولو نصبت « ذا » على خبر « كان » ، لصار مخصوصاً في ناس بأعيانهم؛ فلهذه العلة أجمع القرَّاء المشهورون على رفع « ذو » .
وقد أوضح الواحديُّ هذا ، فقال : « أي : وإنْ وقع ذو عسرةٍ ، والمعنى على هذا يصحُّ ، وذلك أنه لو نصب ، فقيل : وإن كان ذا عسرة ، لكان المعنى : وإن كان المشتري ذا عُسْرةٍ ، فنظرةٌ؛ فتكون النظرة مقصورةً عليه ، وليس الأمر كذلك؛ لأن المشتري ، وغيره إذا كان ذا عسرةٍ ، فله النظرة إلى الميسرة » .
وقال أبو حيَّان : مَنْ نصب « ذَا عُسْرَةٍ » ، أو قرأ « مُعْسِراً » فقيل : يختصُّ بأهل الرِّبا ، ومن رفع ، فهو عامٌّ في جميع من عليه دينٌ ، قال : « وليس بلازمٍ ، لأنَّ الآية إنما سِيقَتْ في أهل الربا ، وفيهم نزلت » قال شهاب الدين : وهذا الجواب لا يجدي؛ لأنه وإن كان السياق كذا ، فالحكم ليس خاصاً بهم .
وقرئ « وَمَنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ » ، وقرأ أبو جعفرٍ « عُسْرَةٍ » بضم السين .
فصل
قال ابن الخطيب : لما كنتُ ب « خَوَارِزْم » ، وكان هناك جمعٌ من أكابر الأدباء ، فأوردت عليهم إشكالاً في هذا الباب؛ فقلت : إنكم تقولون : إنَّ « كان » إذا كانت ناقصةً ، أنها تكون فعلاً؛ وهذا محالٌ؛ لأن الفعل ما دلَّ على اقتران حدثٍ بزمان ، فقولك « كان » يدل على حصول معنى الكون في الزمان الماضي ، وإذا أفاد هذا المعنى ، كانت تامةً ، لا ناقصةً ، فهذا الدليل يقتضي أنها إن كانت فعلاً ، كانت تامةً لا ناقصة ، وإن لم تكن تامةً لم تكن فعلاً ألبتة؛ بل كانت حرفاً ، وأنتم تنكرون ذلك؛ فبقوا في هذا الإشكال زماناً طويلاً ، وصنَّفوا في الجواب عنه كتباً ، وما أفلحوا فيه ، ثم انكشف لي فيه سرٌّ أذكره - ها هنا - وهو : أنَّ « كانَ » لا معنى له إلاَّ أنه حدث ، ووقع ، ووجد إلاَّ أن قولك وجد ، وحدث على قسمين :
أحدهما : أن يكون المعنى وجد ، وحدث الشيء؛ كقولك : وجد الجوهر ، وحدث العرض .
والثاني : أن يكون المعنى وجد ، وحدث موصوفية الشيء بالشيء ، فإذا قلت : كان زيدٌ عالماً ، فمعناه : حدث في الزمان الماضي موصوفية زيد بالعلم .
والقسم الأول هو المسمَّى ب « كان » التامة .
والقسم الثاني : هو المسمَّى ب « الناقصة » وفي الحقيقة : فالمفهوم من « كان » في الموضعين هو الحدوث ، والوقوع إلاَّ أنه في القسم الأول المراد حدوث الشيء في نفسه فلا جرم كان الاسم الواحد كافياً والمراد في القسم الثاني حدوث موصوفية أحد الأمرين بالآخر ، فلا جرم لم يكن الاسم الواحد كافياً ، بل لا بدَّ فيه من ذكر الاسمين حتى يمكنه أن يشير إلى موصوفية أحدهما بالآخر ، وهذا من لطائف الأبحاث .
فأما إن قلنا إنه فعل ، كان دالاًّ على وقوع المصدر في الزمان الماضي فحينئذٍ تكون تامةً لا ناقصةً ، وإن قلنا إنه ليس بفعل بل حرفٌ ، فكيف يدخل فيه الماضي والمستقبل ، والأمر ، وجميع خواصِّ الأفعال؟ وإذا حمل الأمر على ما قلناه ، تبيَّن أنه فعلٌ وزال الإشكال بالكلية .
المفهوم الثالث ل « كان » أن تكون بمعنى « صَارَ » ؛ وأنشدوا : [ الطويل ]
1271- بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ وَالمَطِيُّ كَأَنَّهَا ... قَطَا الحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُهَا
وعندي أنَّ هذا اللفظ - ها هنا - محمولٌ على ما ذكرناه ، فإنَّ معنى « صار » أنَّها حدثت موصوفية الذات بهذه الصفة ، بعد أنها ما كانت موصوفة بذلك؛ فتكون « كان » هنا أيضاً بمعنى حدث ، ووقع؛ إلاَّ أنه حدوثٌ مخصوصٌ وهو أنه حدث موصوفية الذات بهذه الصفة ، بعد أن كان الحاصل موصوفية الذات بصفة أخرى .
المفهوم الرابع : أن تكون زائدة؛ وأنشدوا : [ الوافر ]
1272- سَرَاةُ بَنِي أبي بَكْرٍ تَسَامَى ... عَلَى كَانَ المُسَوَّمَةِ الجِيَادِ
و « العُسْرَةِ » اسم من الإعسار ، ومن العسر ، وهو تعذُّر الموجود من المال؛ يقال : أعسر الرجل ، إذا صار إلى حالة العسرة ، وهي الحالة التي يتعسَّر فيها وجود المال .
قوله : { فَنَظِرَةٌ } الفاء جواب الشرط ، و « نَظِرَةٌ » خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالأمر أو فالواجب ، أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ ، أي : فعليكم نظرةٌ .
وقرأ العامَّة : « نَظِرَةٌ » بزنة « نَبَقَة » . وقرأ الحسن ، ومجاهدٌ ، وأبو رجاء : « فَنَظِرةٌ » بتسكين العين ، وهي لغةٌ تميمةٌ يقولون : « كَبْد » في « كَبِد » و « كَتْف » في « كَتِف » .
وقرأ عطاء « فَنَاظِرَةٌ » على فاعلة ، وقد خرَّجها أبو إسحاق على أنها مصدر نحو : { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } [ الواقعة : 2 ] { يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين } [ غافر : 19 ] { أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } [ القيامة : 25 ] . وقال الزمخشري : « فناظِرُهُ ، أي : فصاحب الحقّ ناظره ، أي : منتظره ، أو صاحب نظرته على طريقة النسب؛ كقولهم : مَكَانٌ عَاشِبٌ ، وبَاقِلٌ؛ بمعنى ذو عشبٍ ، وذو بقلٍ ، وعنه : » فناظِرْهُ « على الأمر بمعنى : فسامحه بالنظرة ، وباشره بها » فنقله عنه القراءة الأولى يقتضي أن تكون قراءته « ناظِر » اسم فاعل مضافاً لضمير ذي العسرة ، بخلاف القراءة التي قدمها عن عطاء ، فإنها « نَاظِرَةٌ » بتاء التأنيث ، ولذلك خرَّجها الزَّجَّاج على المصدر . وقرأ عبد الله : « فناظِرُوه » أمراً للجماعة بالنظرة ، فهذه ستُّ قراءات مشهورها واحدةٌ .
وهذه الجملة لفظها خبرٌ ، ومعناها الأمر؛ كقوله تعالى : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ } [ البقرة : 233 ] وقد تقدَّم . والنظرة : من الانتظار ، وهو الصبر والإمهال .
تقول : بعته الشيء بنظرة ، وبإنظار . قال : { قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ } [ الأعراف : 14-15 ] { إلى يَوْمِ الوقت المعلوم } [ الحجر : 38 ] .
قوله : { إلى مَيْسَرَةٍ } قرأ نافع وحده : « مَيْسَرَة » بضمِّ السِّين ، والباقون بفتحها . والفتح هو المشهور؛ إذ مفعل ، ومفعلة بالفتح كثيرٌ ، ومفعُلٌ بالضم ، معدومٌ؛ إلا عند الكسائي ، فإنه أورد منه ألفاظاً ، وأمَّا مفعلةٌ ، فقالوا : قليلٌ جدّاً وهي لغة الحجاز ، وقد جاءت منها ألفاظٌ ، نحو : المسرُقة ، والمقبرة ، والمشربة ، والمسربة ، والمقدرة ، والمأدبة ، والمفخرة ، والمزرعة ، ومعربة ، ومكرمة ، ومألكة .
وقد ردَّ النحاس الضمَّ؛ تجرؤاً منه ، وقال : « لم تَأْتِ مَفْعُلَةٌ إِلاَّ في حُرُوفٍ معدودةٍ ليس هذه منها ، وأيضاً فإنَّ الهاء زائدةٌ ، ولم يَأْتِ في كلامِهِم مَفْعُل أَلْبتةَ » انتهى .
وقال سيبويه : « لَيْسَ في الكَلاَمِ مَفْعُل » قال أبو عليّ : « يَعْنِي في الآحاد » . وقد حكى سيبويه « مَهْلك » مثلَّث اللاَّم ، وقال الكسائيُّ : « مَفْعُل » في الآحاد ، وأورد منه مكرُماً في قول الشاعر : [ الرجز ]
1273- لِيَوْمِ رَوْعٍ أَوْ فَعَالِ مَكْرُمِ ... ومَعْوُن في قول الآخر - هو جميلٌ - : [ الطويل ]
1274- بُثَيْنُ ، ألْزَمِي « لاَ » ؛ إنَّ « لاَ » إِنْ لَزِمْتِهِ ... عَلَى كَثْرَةِ الوَاشِينَ أَيُّ مَعْوُنِ
ومألكاً في قول عديّ : [ الرمل ]
1275- أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنِّي مَأْلُكاً ... أَنَّهُ قَدْ طَالَ حَبْسِي وَانْتِظَارِي
وهذا لا يرد على سيبويه لوجهين :
أحدهما : أنَّ هذا جمعٌ لمكرمةٍ ، ومعونة ، مألكة ، وإليه ذهب البصريون ، والكوفيون خلا الكسائي ، ونقل عن الفراء أيضاً .
والثاني : أن سيبويه لا يعتدُّ بالقليل ، فيقول : « لم يَرِدْ كذا » وإن كان قد ورد منه الحرف والحرفان ، لعدم اعتداده بالنادر القليل .
وإذا تقرَّر هذا ، فقد خطَّأ النحويون مجاهداً ، وعطاءً في قراءتهما : « إلى مَيْسُرِهِ » بإضافة « مَيْسُر » مضموم السين إلى ضمير الغريم؛ لأنهم بنوه على أنه ليس في الآحاد مفعل ، ولا ينبغي أن يكون هذا خطأً؛ لأنه على تقدير تسليم أنَّ مفعلاً ليس في الآحاد ، فميسر هنا ليس واحداً ، إنما هو جمع ميسرة ، كما قلتم أنتم : إنَّ مكرماً جمع مكرمةٍ ، ونحوه ، أو يكون قد حذف تاء التأنيث للإضافة؛ كقوله : [ البسيط ]
1276- إِنَّ الخَلِيطَ أَجَدُّوا البَيْنَ فَانْجَرَدُوا ... وأَخْلَفُوكَ عِدَ الأَمْرِ الَّذِي وَعَدُوا
أي : عدة الأمر؛ ويدلُّ على ذلك أنهم نقلوا عنهما ، أنهما قرآ أيضاً : « إِلَى مَيْسَرِهِ » بفتح السين ، مضافاً لضمير الغريم ، وهذه القراءة نصٌّ فيما ذكرته لك من حذف تاء التأنيث للإضافة؛ لتوافق قراءة العامَّة : « إلى مَيْسَرَةٍ » بتاء التأنيث .
وقد خرَّجها أبو البقاء على وجهٍ آخر ، وهو أن يكون الأصل : « مَيْسُورِه » فخفِّف بحذف الواو؛ اكتفاءً بدلالة الضمة عليها ، وقد يتأيَّد ما ذكره على ضعفه ، بقراءة عبد الله ، فإنه قرأ : إلى « مَيْسُورِه » بإضافة « مَيْسورٍ » للضمير ، وهو مصدرٌ على مفعول؛ كالمجلود والمعقول ، وهذا إنما يتمشَّى على رأي الأخفش؛ إذ أثبت من المصادر زنة مفعول ، ولم يثبته سيبويه .
« والمَيْسَرَةُ » : مفعلةٌ من اليسر ، واليسار الذي هو ضدُّ الإعسار ، وهو تيسر الموجود من المال ومنه يقال أيسر الرجل ، فهو موسرٌ ، أي : صار إلى حالة وجود المال فالميسرة ، واليسر ، والميسور : الغنى .
فصل في سبب نزول « وإن كان ذو عسرة »
لما نزل قوله : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } [ البقرة : 279 ] قال بنو عمرو الثَّقفي : بل نتوب إلى الله ، فإنه لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله ، فرضوا برأس المال ، فشكى بنو المغيرة العسرة ، وقالوا : أخِّرونا إلى أن تدرك الغلاَّت ، فأبوا أن يؤخروا؛ فأنزل الله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } يعني وإن كان الذي عليه الدَّين معسراً ، { فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } ، يعن : أَنْظِرُوه إلى اليسار ، والسَّعة .
فصل في بيان حكم الإنظار
اختلفوا في حكم الإنظار : هل هو مختصٌّ بالربا ، أو عامٌّ في كل دين؟ فقال ابن عباس ، وشريح ، والضحاك ، والسدي ، وإبراهيم : الآية في الربا ، وذكر عن شريح أنَّه أمر بحبس الخصم ، فقيل له : إنه معسرٌ ، فقال شريح إنما ذلك في الربا ، والله تعالى قال في كتابه العزيز { إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا } [ النساء : 58 ] .
وقال جماعة منهم مجاهد : إنها عامَّة في كل دين؛ لعموم قوله تعالى : { ذُو عُسْرَةٍ } ولم يقل ذا عسرة .
فصل
والإعسار : هو ألاَّ يجد في ملكه ما يؤدِّيه بعينه ، ولا يكون له ما لو باعه ، لأمكنه أداء الدَّين من ثمنه خارجاً عن مسكنه وثيابه ، ولا يجوز أن يحبس من لم يجد إلاَّ قوت يوم لنفسه وعياله ، وما لا بدَّ لهم من كسوةٍ لصلاتهم ودفع البرد والحرِّ عنهم .
واختلفوا : إذا كان قويّاً ، هل يلزمه أن يؤاجر نفسه من صاحب الدَّين ، أو غيره؟
فقال بعضهم : يلزمه ذلك ، كما يلزمه إذا احتاج لنفسه ، أو لعياله .
وقال بعضهم : لا يلزمه ذلك ، واختلفوا أيضاً إذا بذل للمعسر ما يؤدِّي به الدَّين ، هل يلزمه قبوله والأداء ، أو لا يلزمه؟ فأما من له بضاعة كسدت عليه فواجبٌ عليه أن يبيعها بالنقصان إن لم يكن إلاَّ ذلك ، ويؤدِّيه في الدَّين .
فصل في تحريم حبس المعسر
إذا علم الإنسان أنَّ غريمة معسرٌ - حرم عليه حبسه ، وأن يطالبه بما له عليه ووجب عليه إنظاره إلى يساره ، فإن ارتاب في إعساره ، جاز له حبسه إلى أن يظهر إعساره ، فإذا ادَّعى الإعسار وكذَّبه الغريم ، فإن كان الدَّين عن عوضٍ ، كالبيع ، والقرض ، فلا بدَّ له من إقامة البيِّنة على أنَّ ذلك العوض قد هلك ، وإن كان الدَّين عن غير عوض كالإتلاف ، والصَّداق ، والضَّمان؛ فالقول قول المعسر؛ لأن الأصل الفقر وعلى الغريم إقامة البينة .
فصل
قال المهدويُّ : قال بعض العلماء : هذه الآية ناسخةٌ لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر .
قال القرطبيُّ : وحكى مكيٌّ : أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به في صدر الإسلام .
قال ابنُ عطية : فإن ثبت فِعْلُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو نسخٌ ، وإلاَّ فليس بنسخ .
قال الطَّحاوي : كان الحرُّ يباع في الدَّين أول الإسلام ، إذا لم يكن له مالٌ يقضيه عن نفسه؛ حتى نسخ الله ذلك بقوله : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } .
واحتجُّوا بما رواه الدَّارقطنيُّ من حديث مسلم بن خالد الزَّنجي ، قال : حدثنا زيد ابن أسلم عن ابن البيلمانيّ ، عن سرَّقٍ ، قال : كان لرجلٍ عليّ مالٌ - أو قال - دينٌ فذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يصب لي مالاً ، فباعني منه ، أو باعني له؛ أخرجه البزَّار بإسناد طويل ، ومسلم بن خالد الزنجي ، وعبد الرحمن البيلماني لا يحتجُّ بهما .
قوله : { وَأَن تَصَدَّقُواْ } مبتدأ وخبره « خير » وقرأ عاصم : بتخفيف الصاد ، والباقون : بتثقيلها . وأصل القراءتين واحدٌ؛ إذ الأصل : تتصدَّقوا ، فحذف عاصمٌ إحدى التاءين : إمَّا الأولى ، وإمَّا الثانية ، وتقدَّم تحقيق الخلاف فيه ، وغيره أدغم التاء في الصاد ، وبهذا الأصل قرأ عبد الله : « تَتَصَدَّقوا » . وحذف مفعول التصدُّق للعلم به ، أي : بالإنظار؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : « لاَ يَحِلُّ دَيْنُ رَجلٍ مُسْلم ، فيؤخره؛ إلاَّ كان له بِكُلِّ يَوْمٍ صدقةٌ » وهذا ضعيفٌ؛ لأن الإنظار ثبت وجوبه بالآية ، فلا بد من حمل هذه الآية على فائدةٍ جديدةٍ ، ولأن قوله « خَيْرٌ لكُمْ » إنما يليق بالمندوب ، لا بالواجب . وقيل : برأس المال على الغريم ، إذ لا يصحُّ التصدق به على غيره؛ كقوله تعالى : { وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى } [ البقرة : 237 ] .
قوله : { إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } جوابه محذوفٌ ، و « اَنْ تَصَدَّقُوا » بتأويل مصدرٍ مبتدأ ، و « خيرٌ لكم » خبره .
فصل في تقدير مفعول « تعلمون » ونصب « يوماً »
وتقدير مفعول « تَعْلَمُونَ » فيه وجوه :
أحدها : إن كنتم تعلمون أنَّ هذا التصدُّق خير لكم إن عملتموه .
الثاني : إن كنتم تعلمون فضل التصدُّق على الإنظار والقبض .
الثالث : إن كنتم تعلمون أنَّ ما يأمركم به ربُّكم أصلح لكم .
وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
قوله : { واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله } الآية انتصب قوله « يَوْماً » على المفعول به ، لا على الظرف؛ لأنه ليس المعنى واتَّقوا في هذا اليوم ، لكن المعنى تأهَّبوا للقائه ، بما تقدِّمون من العمل الصالح ، ومثله : { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً } [ المزمل : 17 ] أي : كيف تتقون هذا اليوم الذي هذا وصفه ، مع الكفر بالله تعالى .
فصل في آخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - هذه آخر آيةٍ نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك لأنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما حجَّ نزلت { وَيَسْتَفْتُونَكَ } [ النساء : 172 ] وهي آية الكلالة ثم نزلت ، وهو واقفٌ بعرفة { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [ المائدة : 3 ] ثم نزل { واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله } فقال جبريل - عليه السلام - يا محمد ضعها على رأس مائتين وثمانين آية من سورة البقرة ، وعاش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدها أحداً وثمانين يوماً ، وقيل أحداً وعشرين يوماً .
وقال ابن جريجٍ : تسع ليالٍ .
وقال سعيد بن جبير : سبع ليالٍ ، وقيل : ثلاث ساعاتٍ ، ومات يوم الاثنين ، لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول ، حين زاغت الشمس ، سنة إحدى عشرة من الهجرة .
وقال الشعبي ، عن ابن عباس : آخر آيةٍ نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أية الرِّبا .
قوله تعالى : { تُرْجَعُونَ فِيهِ } : هذه الجملة في محلِّ نصبٍ؛ صفةً للظرف . وقرأ أبو عمرو : « تَرْجِعُونَ » بفتح التاء؛ مبنياً للفاعل ، والباقون بضَمِّ التَّاءِ مبنياً للمفعُولِ . وقرأ الحسنُ : « يَرْجِعُون » بياء الغيبة؛ على الالتفات . قال ابن جنِّي : « كأنَّ اللهَ تعالى رَفَقَ بالمؤمنينَ عن أنْ يواجِهَهُم بذكر الرَّجْعَة ، إذ هي ممَّا تتفطَّر لها القلوب ، فقال لهم : » واتَّقُوا « ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة ، فقال : يَرْجِعُون » .
واعلم أنَّ الرجوع لازمٌ ومتعدٍّ ، وعليه خرِّجت القراءتان .
فصل في المراد باليوم
قال القاضي : اليوم : عبارةٌ عن زمانٍ مخصوصٍ ، وذلك لا يتَّقى؛ إنَّما يتقى ما يحدث فيه من الشِّدة ، والأهوال ، واتقاء تلك الأهوال لا يمكن إلاَّ في دار الدُّنيا بمجانبة المعاصي ، وفعل الواجبات؛ فصار قوله : { واتقوا يَوْماً } يتضمن الأمر بجميع أنواع التكليف .
قال جمهور العلماء : المراد بهذا اليوم المحذَّر منه هو يوم القيامة .
وقيل يوم الموت ، قال ابن عطية : والأول أصحُّ .
فصل
اعلم أنَّ الرجوع إلى الله ليس المراد منه ، ما يتعلق بالمكان والجهة؛ فإن ذلك محالٌ على الله تعالى ، وليس المراد الرجوع إلى علمه ، وحفظه؛ فإنه معهم أينما كانوا ، لكن كل ما في القرآن من الرجوع إلى الله ، فله معنيان :
الأول : أن الإنسان له ثلاثة أحوالٍ مرتَّبين ، فالأولى : كونهم في بطون أمَّهاتهم لا يملكون نفعهم ، ولا ضرَّهم؛ بل المتصرف فيهم ليس إلاَّ الله تعالى .
والثانية : بعد خروجهم من البطون ، فالمتكفل بإصلاح أحوالهم في أوَّل الأمر الأبوان ، ثم بعد ذلك ، يتصرف بعضهم في بعض ، في حكم الظاهر .
الثالثة : بعد الموت وهناك لا يتصرف فيهم إلاَّ الله تعالى ، فكأنه بعد الخروج عن الدنيا عاد إلى الحالة التي كان عليها قبل الدخول في الدنيا ، فهذا معنى الرجوع إلى الله .
المعنى الثاني : أن المراد يرجعون إلى ما أعدَّ الله لهم من ثوابٍ ، وعقابٍ .
قوله : { ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } معناه : أنَّ المكلف يصل إليه جزاء عمله بالتمام ، كما قال : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ، 8 ] ، وقال : { وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ } [ الأنبياء : 47 ] .
وفي تأويل قوله : { مَّا كَسَبَتْ } وجهان :
أحدهما : فيه حذفٌ تقديره : جزاء ما كسبت .
والثاني : أنَّ المكتسب إنَّما هو الجزاء في الأصل ، فقوله { مَّا كَسَبَتْ } معناه : ذلك الجزاء وهذا أولى؛ لأنه لا يحتاج إلى الإضمار .
قوله : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } جملة حالية من « كلِّ نَفْسٍ » وجمع اعتباراً بالمعنى ، وأعاد الضمير عليها أولاً مفرداً في « كَسَبَتْ » اعتباراً باللفظ ، وقدِّم اعتبار اللفظ؛ لأنه الأصل ، ولأنَّ اعتبار المعنى وقع رأس فاصلة؛ فكان تأخيره أحسن .
قال أبو البقاء : وَيَجُوزُ أن يكون حالاً من الضمير في : « يُرْجَعُون » على القراءة بالياء ، ويجوز أن يكون حالاً منه - أيضاً - على القراءة بالتاء ، على أنَّه خروج من الخطاب إلى الغيبة؛ كقوله تعالى : { حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] ، قال شهاب الدين : ولا ضرورة تدعو إلى ذلك .
فإن قيل : لما قال { توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } فهم منه عدم الظلم ، فيكون قوله : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } من باب التكرير .
فالجواب : أنه تعالى لما قال { توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } دلَّ على إيصال العذاب إلى الكفار والفسَّاق ، فكان لقائلٍ أن يقول : كيف يليق بأكرم الأكرمين تعذيب عبيده؟ فأجاب بقوله : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } والمعنى : أن العبد هو الذي ورط نفسه؛ لأن الله تعالى مكَّنه ، وأزاح عذره ، فهو الذي أساء إلى نفسه .
وهذا الجواب إنَّما يستقيم على أصول المعتزلة ، وأمَّا على أصولنا ، فالله سبحانه مالك الخلق ، يتصرف في ملكه كيف شاء ، وأراد؛ فلا يكون ظلماً .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
في كيفية النظم وجهان :
الأول : أنَّ تعالى لمَّا ذكر الإنفاق في سبيل الله ، وهو يوجب تنقيص المال ، وذكر الرِّبا ، وهو - أيضاً - سبب تنقيص المال ، وختم هذين الحكمين بالتهديد بقوله { واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله } [ البقرة : 281 ] والتقوى تسدُّ على الإنسان أكثر أبواب المكاسب ، والمنافع - أتبع ذلك بأن ندبه إلى كيفية حفظ المال الحلال ، وصونه عن الفساد ، فإن القدرة على الإنفاق في سبيل الله ، وعلى ترك الرِّبا ، وعلى ملازمة التقوى ، لا يتم إلاَّ عند حصول المال؛ فلأجل هذا بالغ في الوصيَّة بحفظ المال ، ونظيره { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً } [ النساء : 5 ] فحثَّ على الاحتياط في أمر الأموال؛ لكونها سبباً لمصالح المعاش والمعاد .
قال القفَّال - رحمه الله تعالى - ويدلُّ على ذلك : أنَّ ألفاظ القرآن جارية في الأكثر على الاختصار ، وفي هذه الآية بسطٌ شديدٌ؛ ألاَّ ترى أنَّه قال تعالى { إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه } ، ثم قال ثانياً : { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل } ، ثم قال ثالثاً : { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله } ، فكان هذا كالتِّكرار لقوله : { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل } ؛ لأنَّ العدل هو ما علَّمه الله ، ثم قال رابعاً : { فَلْيَكْتُبْ } وهذا إعادةٌ للأمر الأول؛ ثم قال خامساً : { وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق } وفي قوله : { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل } كفاية عن قوله : { وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق } ؛ لأنَّ الكاتب بالعدل إنَّما يكتب ما يملُّ عليه ، ثم قال سادساً : { وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ } ، وهذا تأكيدٌ ، ثم قال سابعاً : { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } ، وهذا كالمستفاد من قوله : { وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ } ، ثم قال ثامناً : { وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ } ، وهو أيضاً تأكيد لما مضى ، ثم قال تاسعاً : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أَلاَّ ترتابوا } ، فذكر هذه الفوائد الثلاثة لتلك التَّأكيدات السَّالفة ، وكلُّ ذلك يدلُّ على المبالغة في التَّوصية بحفظ المال الحلال ، وصونه عن الهلاك؛ ليتمكن الإنسان بواسطته من الإنفاق في سبيل الله ، والإعراض عن مساخط الله : من الرِّبا ، وغيره ، والمواظبة على تقوى الله .
الوجه الثاني : قال بعض المفسرين : إنَّ المراد بهذه المداينة « السَّلَمُ » فإن الله تبارك وتعالى لما منع من الرِّبا في الآية المتقدِّمة؛ أذن في السَّلم في هذه الآية ، مع أنَّ جميع المنافع المطلوبة من الرِّبا حاصلة في السَّلم ، وبهذا قال بعض العلماء : لا لذَّة ، ولا منفعة يوصل إيها بالطَّريق الحرام ، إلا والله - صلى الله عليه وسلم - سبحانه وتعالى - وضع لتحصيل تلك اللَّذَّة طريقاً حلالاً ، وسبيلاً مشروعاً .
فصل
قال سعيد بن المسيَّب : بلغني أنَّ أحدث القرآن بالعرش آية الدَّين .
التداين تفاعل من الدَّين كتبايع من البيع ، ومعناه : داين بعضكم بعضاً ، وتداينتم : تبايعتم بدين .
يقال : داينت الرجل أي : عاملته بدينٍ ، وسواء كنت معطياً ، أم آخذاً؛ قال رؤبة : [ الرجز ]
1277- دَايَنْتُ أَرْوَى وَالدُّيُونُ تُقْضَى ... فَمَطلَتْ بَعْضاً وَأَدَّتْ بَعْضَا
ويقال : دنت الرجل : إذا بعته بدينٍ ، وأدنته أنا : أخذت منه بدين ففرَّقوا بين فعل وأفعل .
قال ابن الخطيب : قال أهل اللغة القرض غير الدين؛ لأنَّ القرض أن يقرض الرجل الإنسان دراهم أو دنانير أو حباً أو تمراً وما أشبه ذلك ، ولا يجوز فيه الأجل ، والدَّين يجوز فيه الأجل ويقال من الدّين : أدَّان إذا باع سلعته بثمن إلى أجلٍ ، ودان يدين إذا أقرض ودان إذا استقرض؛ وأنشد الأحمر : [ الطويل ]
1278- نَدِينُ وَيَقْضِي اللهُ عنَّا وَقَدْ نَرَى ... مَصَارعَ قَوْمٍ لاَ يَدِينُونَ ضُيَّعِ
فصل في بيان إباحة السلف
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : لما حرم الله تعالى الرِّبا؛ أباح السَّلف ، وقال : أشهد أن السَّلف المضمون إلى أجل مسمّى ، قد أحلَّه الله في كتابه ، وأذن فيه ثمَّ قال : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه } .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : نزلت في السَّلف؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة وهم يسلفون الثِّمار السَّنتين ، والثَّلاث؛ فقال - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ أَسْلَفَ؛ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ ، إلى أَجَلٍ مَعْلُومٍ » .
وقال آخرون : المراد القرض ، وهو ضعيف؛ لأن القرض لا يشترط فيه الأجل والآية فيها اشتراط الأجل ، وقال أكثر المفسِّرين البياعات على أربعة أوجه :
أحدها : بيع العين بالعين ، وذلك ليس بمداينة ألبتة .
والثاني : بيع الدَّين بالدَّين ، وهو باطلٌ ، فلا يدخل تحت الآية . بقي قسمان ، وهما بيع العين بالدَّين ، وهو بيع الشَّيء بثمن مؤجَّل ، وبيع الدَّين بالعين ، وهو المسمَّى ب « السّلم » وكلاهما داخلان تحت هذه الآية الكريمة .
فإن قيل : المداينة : مفاعلة ، وحقيقتها أن يحصل من كلّ واحدٍ منهما دين ، وذلك هو بيع الدَّين بالدَّين ، وهو باطلٌ بالاتفاق .
فالجواب : أنَّ المراد من « تَدَايَنْتُمْ » : تعاملتم ، والتَّقدير تعاملتم بما فيه دين .
فإن قيل : قوله « تَدَايَنْتُمْ » يدلُّ على الدّين ، فما الفائد في قوله : « بِدَيْنٍ » .
فالجواب من وجوه :
أحدها : قال ابن الأنباريّ : التَّداين يكون لمعنيين :
أحدهما : التَّداين بالمال؛ والتَّداين بمعنى المجازاة من قولهم : « كَمَا تَدِينُ تُدَانُ » فذكر الدين لتخصيص أحد المعنيين .
الثاني : قال الزَّمخشريُّ : وإنَّما ذكر الدَّين؛ ليرجع الضمير إليه في قوله تبارك وتعالى { فاكتبوه } إذ لو لم يذكر ، لوجب أن يقال : فاكتبوا الدُّين .
الثالث : ذكره ليدلّ به على العموم ، أي : أي دين كان من قليلٍ ، أو كثيرٍ من قرضٍ ، أو سلمٍ ، أو بيع دين إلى أجل .
الرابع : أنَّه تبارك وتعالى ذكره للتَّأكيد كقوله تبارك وتعالى
{ فَسَجَدَ الملاائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [ الحجر : 30 ] وقوله : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] .
الخامس : قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - : إنَّ المداينة مفاعلة ، وهي تتناول بيع الدَّين بالدَّين وهو باطلٌ ، فلو قال إذا تداينتم لبقي النص مقصوراً على بيع الدين بالدين وهو باطلٌ ، فلو قال إذا تداينتم لبقي النص مقصوراً على بيع الدين بالدين وهو باطل فلما قال : { إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ } كان المعنى : إذا تداينتم تدايناً يحصل فيه دين واحد وحينئذٍ يخرج عن بيع الدّين بالدين ، ويبقى بيع العين بالدّين أو بيع الدّين بالعين ، فإن الحاصل في كلِّ واحدٍ منهما دين واحد لا غير .
فإن قيل : إن كلمة « إذَا » لا تفيد العموم ، والمراد من الآية العموم؛ لأن المعنى كلَّما تداينتم بدين فاكتبوه فلم عدل عن كلما وقال : { إِذَا تَدَايَنتُم } .
فالجواب : أنَّ كلمة « إِذَا » ، وإن كانت لا تقتضي العموم إلا أنَّها لا تمنع من العموم ، وها هنا قام الدَّليل على أنَّ المراد هو العموم؛ لأنه تعالى بين العلَّة في الأمر بالكتابة في آخر الآية ، وهي قوله تعالى : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أَلاَّ ترتابوا } والمعنى إذا وقعت المعاملة بالدّين ، ولم يكتب فالظَّاهر أنه تنسى الكيفيَّة فربَّما توهم الزِّيادة ، فطلب الزِّيادة ظلماً ، وربَّما توهم النُّقصان ، فترك حقَّه من غير حمد ولا أجر ، فأمَّا إذا كتب كيفيَّة الواقعة أمن من هذه المحذورات ، فلمَّا دلَّ النَّصُّ على أن هذا هو العلَّة ، وهي قائمةٌ في الكلّ كان الحكم أيضاً حاصلاً في الكلِّ .
قوله تعالى : { إلى أَجَلٍ } : متعلِّق بتداينتم ، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه صفة لدين ، و { مُّسَمًّى } صفة لدين ، فيكون قد قدَّم الصفة المؤولة على الصَّريحة ، وهو ضعيفٌ ، فكان الوجه الأول أوجه .
والأجل : في اللغة هو الوقت المضروب لانقضاء الأمد ، وأجل الإنسان هو الوقت لانقضاء عمره ، وأجل الدّين لوقت معيَّن في المستقبل ، وأصله من التَّأخير يقال : أجل الشَّيء بأجل أجولاً إذا تأخَّر ، والآجل : نقيض العاجل .
فإن قيل : المداينة لا تكون إلا مؤجلة ، فما فائدة ذكر الأجل المداينة؟
فالجواب : إنَّما ذكر الأجل ليمكنه أن يصفه بقوله { مُّسَمًّى } والفائدة ف يقوله { مُّسَمًّى } ليعلم أنَّ من حقّ الأجل أن يكون [ معلوماً ] كالتَّوقيت بالسَّنة ، والأشهر ، والأيَّام ، فلو قال إلى الحصاد ، أو إلى الدياس ، أو إلى رجوع قدوم الحاج؛ لم يجز لعدم التَّسمية .
وألف « مُسَمًّى » منقلبةٌ عن ياءٍ ، تلك الياء منقلبةٌ عن واو؛ لأنه من التَّسمية ، وقد تقدَّم أنَّ المادَّة من سما يسمو .
فصل
والأجل يلزم في الثَّمن في البيع ، وفي السّلم بحيث لا يكون لصاحب الحقّ الطلب قبل محله ، وفي القرض ، لا يلزم الأجل عن أكثر أهل العلم .
قال القرطبي : شروط السّلم تسعة ، ستّة في المسلم فيه ، وثلاثة في رأس مال السّلم .
أمَّا السِّتَّة التي في المسلم فيه فأن يكون في الذِّمَّة ، وأن يكون موصوفاً ، وأن يكون الأجل معلوماً ، وأن يكون الأجل معلوماً ، وأن يكون مؤجّلاً ، وأن يكون عام الوجود عند الأجل ، وأمَّا الثلاثة التي في رأس مال السلم ، فأن يكون معلوم الجنس ، معلوم المقدار ، وأن يكون نقداً .
قوله : { فاكتبوه } الضَّمير يعود على « بِدَيْنٍ » .
فصل
أمر الله تعالى في المداينة بأمرين :
أحدهما : الكتابة بقوله : { فاكتبوه } .
الثاني : الإشهاد . بقوله : { واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ } ، وفائدة الكتابة والإشهاد أنَّ دخول الأجل تتأخّر فيه المطالبة ، ويتخلَّله النِّسيان ويدخله الجحد ، فالكتابة سبب لحفظ المال من الجانبين ، لأنَّ صاحب الدّين إذا علم أنَّ حقّه مقيّد بالكتابة ، والإشهاد تحذر من طلب زيادة ، ومن تقديم المطالبة قبل حلول الأجل ، والمديون يحذر من الجحد ، ويأخذ قبل حلول الدّين في تحصيل المال ليتمكن من أدائه وقت الحلول .
فصل
القائلون بأن ظاهر الأمر النَّدب ، لا إشكال عليهم ، واختلف القائلون بأن ظاهر الأمر الوجوب ، فقال عطاء ، وابن جريج والنَّخعي بوجوب الكتابة ، وهو اختيار محمد بن جرير الطَّبري ، قال النَّخعي : يشهد ، ولو على دُسْتَجةِ بَقْلٍ .
وقال جمهور الفقهاء : هذا أمر ندب؛ لأنّا نرى جمهور المسلمين في جميع ديار المسلمين يبيعون بالأثمان المؤجَّلة من غير كتابة ، ولا إشهاد ، وذلك إجماعٌ على عدم وجوبها ، ولأنَّ في إيجابها حرجٌ شديدٌ ، ومشقَّة عظيمةٌ . وقال تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : « بُعِثْتُ بالحنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ » .
وقال الحسن ، والشَّعبيُّ ، والحكم بن عتيبة : كانا واجبين ثمّ نسخا بقوله : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ } [ البقرة : 283 ] .
وقال التيمي : سألت الحسن عنها فقال : إن شاء أشهد ، وإن شاء لم يشهد ، ألا تسمع قوله تعالى : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً } [ البقرة : 283 ] .
فصل
لما أمر الله تعالى بكتابة هذه المداينة؛ اعتبر في الكتابة شرطين :
الأولَّل : أن يكون الكاتب عدلاً لقوله : { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل } وذلك أنَّ قوله تعالى : { فاكتبوه } ظاهره يقتضي أنَّه يجب على كلِّ أحدٍ أن يكتب ، لكن ذلك غير ممكنٍ ، فقد يكون ذلك الإنسان غير كاتب ، فصار معنى قوله : { فاكتبوه } ، أي : لا بدَّ من حصول هذه الكتابة وهو كقوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا } [ المائدة : 38 ] فإن ظاهره ، وإن كان يقتضي خطاب الكلّ بهذا الفعل ، إلاَّ أنَّا علمنا أنَّ المقصود منه أنَّه لا بدَّ من حصول قطع اليد من إنسان واحد ، إمَّا الإمام ، أو نائبه أو المولى ، فكذا ها هنا .
ويؤكِّد هذا قوله تعالى : { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل } فإنَّه يدلُّ على أنَّ المقصود حصول الكتابة من أيّ سخصٍ كان .
قوله : { بالعدل } فيه أوجهٌ :
أحدها : أن يكون الجارُّ متعلّقاً بالفعل قبله . قال أبو البقاء : « بالعَدْلِ متعلِّق بقوله : فليكتب ، أي : ليكتب بالحقِّ ، فيجوز أن يكون حالاً ، أي : ليكتب عادلاً ، ويجوز أن يكون مفعولاً به أي : بسبب العدل » .
قوله أولاً : « بالعدلِ مُتَعَلِّقٌ بقوله فَلْيَكْتُب » يريد التعلق المعنوي؛ لأنَّه قد جوَّز فيه بعد ذلك أن يكون حالاً ، وإذا كان حالاً تعلَّق بمحذوف لا بنفس الفعل .
وقوله : « ويجوزُ أن يكون مفعولاً » يعني فتتعلق الباء حينئذٍ بنفس الفعل .
والثاني : أن يتعلَّق ب « كَاتِب » . قال الزَّمخشريُّ : « مُتَعَلِّقٌ بكاتب صفةً له ، أي : كاتبٌ مأمونٌ على ما يَكْتُب » ، وهو كما تقدَّم في تأويل قول أبي البقاء . وقال ابن عطيَّة : « والبَاءُ متعلِّقةٌ بقوله : » ولْيَكْتُبْ « ، وليست متعلِّقة بقوله » كَاتِبٌ « ؛ لأنه كان يلزم ألاَّ يكتب وثيقةً إلا العدل في نفسه ، وقد يكتبها الصّبيُّ والعبد » .
الثالث : أن تكون الباء زائدةٌ ، تقديره : فليكتب بينكم كاتب بالعدل .
فصل في معنى العدل
في تفسير العدل وجوه :
أحدها : أن يكتب بحيث لا يزيد ، ولا ينقص عنه ، ويكتب بحيث يصلح أن يكون حجَّة له عن الحاجة إليه .
وثانيها : لا يخصّ أحدهما بالاحتياط له دون الآخر ، بل يكتبه بحيث يكون كل واحد من الخصمين آمناً من تمكن الآخر من إبطال حقّه .
ثالثها : قال بعض الفقهاء : العدل أن يكون ما يكتبه متّفقاً عليه بين أهل العلم ، بحيث لا يجد قاضٍ من قضاة المسلمين سبيلاً إلى إبطاله على قول بعض المجتهدين .
ورابعها : أن يحترز عن الألفاظ المجملة المتنازع في المراد بها ، فهذه الأمور لا يمكن رعايتها إلاَّ إذا كان الكاتب فقيهاً عارفاً بمذاهب المجتهدين ، أديباً مميّزاً بين الألفاظ المتشابهة .
قوله : { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ } وهذا ظاهره نهي الكاتب عن الامتناع عن الكتابة وإيجاب الكتابة على كل من كان كاتباً ، وهذا على سبيل الإرشاد ، والمعنى : أنَّ الله تعالى لمَّا علمه الكتابة وشرفه بمعرفة أحكام الشَّريعة ، فالأولى أن يكتب تحصيلاً لمهمّ أخيه المسلم شكراً لتلك النِّعمة ، فهو كقوله تعالى : { وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ } [ القصص : 77 ] .
وقال الشعبي : هو فرض كفاية ، فإن لم يوجد من يكتب غيره وجب عليه الكتابة ، وإن وجد غيره؛ وجبت الكتابة على واحد منهم .
وقيل : كانت الكتابة واجبة على الكاتب ، ثمَّ نسخت بقوله تعالى : { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } .
وقيل : متعلِّق الإيجاب ، هو أن يكتب كما علمه الله ، يعني : أنَّه بتقدير أنه يكتب ، فالواجب أن يكتب كما علَّمه الله ، ولا يخلّ بشرط من الشّرائط ، ولا يدرج فيه قيداً يُخلّ بمقصود الإنسان .
قوله : { أَنْ يَكْتُبَ } مفعولٌ به ، أي : لا يأب الكتابة .
قوله : { كَمَا عَلَّمَهُ الله } يجوز أن يتعلَّق بقوله : { أَنْ يَكْتُبَ } على أنه نعتٌ لمصدر محذوف ، أو حالٌ من ضمير المصدر على رأي سيبويه ، والتقدير : أن يكتب كتابةً مثل ما علَّمه الله ، أو أن يكتبه أي : الكتب مثل ما علَّمه الله .
ويجوز أن يتعلَّق بقوله : « فَلْيَكْتُبْ » .
قال أبو حيَّان : « والظّاهر تعلُّق الكاف بقوله : فَلْيَكْتُبْ » قال شهاب الدين رحمه الله تعالى : وهو قلق لأجل الفاء ، ولأجل أنه لو كان متعلِّقاً بقوله : « فَلْيَكْتُبْ » ، لكان النَّظم : فليكتب كما علمه الله ، ولا يحتاج إلى تقديم ما هو متأخرٌ في المعنى .
وقال الزَّمخشريُّ - بعد أن ذكر تعلُّقه بأن يكتب ، وب « فَلْيَكْتُبْ » - « فإِنْ قلت : أيُّ فرقٍ بين الوجهين؟ قلت : إن علَّقته بأن يكتب فقد نهى عن الامتناع من الكتابة المقيَّدة ، ثم قيل [ له ] : فليكتب تلك الكتابة لا يعدل عنها ، وإن علَّقته بقوله : » فَلْيَكْتُبْ « فقد نهى عن الامتناع من الكتابة على سبيل الإطلاق ، ثم أمر بها مقيّدةً » . فيكون التقدير : فلا يأب كاتبٌ أن يكتب ، وها هنا تمَّ الكلام ، ثم قال بعده : { كَمَا عَلَّمَهُ الله فَلْيَكْتُبْ } ، فيكون الأول أمراً بالكتابة مطلقاً ، ثم أردفه بالأمر بالكتابة التي علمه الله إيَّاها .
ويجوز أن تكون متعلقةً بقوله : لا يأب ، وتكون الكاف حينئذٍ للتعليل . قال ابن عطيّة - رحمه الله - : « ويحتمل أن يكون » كما « متعلّقاً بما في قوله » ولا يأْبَ « من المعنى ، أي : كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة ، فلا يأب هو ، وليفضل كما أفضل عليه » . قال أبو حيَّان : « وهو خلاف الظاهر ، وتكون الكاف في هذا القول للتعليل » قال شهاب الدين رحمه الله : وعلى القول بكونها متعلقةً بقوله : « فليكتب » يجوز أن تكون للتعليل أيضاً ، أي : فلأجل ما علَّمه الله فليكتب .
وقرأ العامة : « فَلْيَكْتُبْ » بتسكين اللام كقوله : « كَتْف » في كتِف ، إجراءً للمنفصل مجرى المتّصل . وقد قرأ الحسن بكسرها وهو الأصل .
قوله : « ولْيُمْلِل » أمرٌ من أملَّ يملُّ ، فلمَّا سكن الثاني جزماً جرى فيه لغتان : الفكُّ وهو لغة الحجاز وبني أسد ، والإدغام وهو لغة تميم ، وقيس ، ونزل القرآن باللُّغتين .
قال تعالى في اللغة الثانية : { فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الفرقان : 5 ] وكذا إذا سكن وقفاً نحو : أملل عليه وأملَّ ، وهذا مطَّرد في كل مضاعفٍ ، وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله تعالى عند قراءتَيْ : « مَنْ يَرْتَدِدْ ، ويرتدَّ » .
وقرئ هنا شاذّاً : « وَلْيُمِلَّ » بالإدغام ، ويقال : أملَّ يملُّ إملالاً ، وأملى ، يملي إملاءً؛ ومن الأولى قوله : [ الطويل ]
1279- أَلاَ يَا دِيَارَ الحَيِّ بِالسَّبُعَانِ ... أَمَلَّ عَلَيْهَا بِالبِلَى المَلَوانِ
ويقال : أمللت وأمليت ، فقيل : هما لغتان ، وقيل : الياء بدلٌ من أحد المثلين ، وأصل المادتين : الإعادة مرة بعد أخرى .
و « الحَقُّ » يجوز أن يكون مبتدأٌ ، و « عَلَيْهِ » خبر مقدمٌ ، ويجوز أن يكون فاعلاً بالجارِّ قبله لاعتماده على الموصول ، والموصول هو فاعل « يُمْلِل » ومفعوله محذوف ، أي : وليملل الديَّان الكاتب ما عليه من الحقِّ ، فحذف المفعولين للعلم بهما .
ويتعدَّى ب « عَلَى » إلى أحدهما فيقال : أمللت عليه كذا ، ومنه الآية الكريمة .
فصل
اعلم أنَّ الكتابة ، وإن وجب أن يختار لها العالم بكيفية كتب الشُّروط والسِّجلات ، لكن ذلك لا يتمّ إلاَّ بإملاء من عليه الحق؛ فيدخل في جملة إملائه اعترافه بالحقّ في قدره ، وجنسه وصفته ، وأجله ، وغير ذلك .
ثم قال : { وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ } بأن يقرّ بمبلغ المال ، { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } ، أي : لا ينقص منه شيئاً .
قوله : { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } يجوز في « منه » وجهان :
أحدهما : أن يكون متعلقاً بيبخس ، و « مِنْ » لابتداء الغاية ، والضمير في « منه » للحقِّ .
والثاني : أنَّها متعلقة بمحذوف؛ لأنها في الأصل صفةٌ للنكرة ، فلمَّا قُدِّمت على النكرة نصبت حالاً .
و « شَيئاً » : إمَّا مفعول به ، وإمَّا مصدرٌ .
والبخس : النَّقص ، يقال منه ، بخس زيدٌ عمراً حقَّه يبخسه بخساً ، وأصله من : بخست عينه ، فاستعير منه بَخْسُ الحق ، كما قالوا : « عَوَرْتُ حَقَّه » استعارة من عور العين . ويقال : بخصه بالصَّاد . والتباخس في البيع : التناقص ، لأنَّ كلَّ واحدٍ من المتبايعين ينقص الآخر حقَّه .
قوله : { فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ } إدخال حرف « أو » بين هذه الألفاظ الثلاثة يقتضي تغايرها؛ لأنَّ معناه : أنَّ الذي عليه الحقّ كان متَّصفاً بإحدى هذه الصِّفات الثلاثة { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل } وإذا ثبت تغايرها وجب حمل السَّفيه على الضعيف الرَّأي النَّاقص العقل من البالغين الذين لا يحسنون الأخذ لأنفسهم ، ولا الإعطاء منها أخذاً من الثَّوب السَّفيه وهو خفيف النَّسج ، والبذيء اللسان يسمى سفيهاً ، لأنَّه لا يكاد أن تتفق البذاءة إلاَّ في جهَّال النَّاس ، وأصحاب العقول الخفيفة ، والعرب تسمي الضعيف العقل سفيهاً؛ قال الشاعر : [ السريع ]
1280- نَخَافُ أَنْ تَسْفَهَ أَحْلاَمُنَا ... وَيَجْهَل الدَّهْرُ مَعَ الحَالِمِ
والضَّعيف على الصَّغير ، والمجنون ، والشَّيخ الخرف وهو الذين فقدوا العقل بالكلية ، « والَّذِي لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُملّ » من يضعف لسانه عن الإملاء لخرسٍ ، أو لجهله بما عليه ، وله .
فهؤلاء لا يصحُّ منهم الإملاء ، ولا الإقراء ، فلا بدَّ ممَّن يقوم مقامهم .
فقال تعالى : { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل } .
قيل : الضُّعف بضم الضَّاد في البدن ، وبفتحها في الرأي .
وقيل : هما لغتان .
قال القرطبيُّ : والأول أصحُّ .
قوله : { أَن يُمِلَّ هُوَ } أن ، وما في حيِّزها في محل نصب مفعولاً به ، أي : لا يستطيع الإملال ، و « هو » تأكيدٌ للضمير المستتر . وفائدة التوكيد به رفع المجاز الذي كان يحتمله إسناد الفعل إلى الضمير ، والتَّنصيص على أنه غير مستطيع بنفسه ، قاله أبو حيان .
وقرئ بإسكان هاء : « هو » وهي قراءة ضعيفة؛ لأنَّ هذا الضمير كلمةٌ مستقلةٌ منفصلة عما قبلها .
ومن سكَّنها أجرى المنفصل مجرى المتصل ، وقد تقدَّم هذا في أول هذه السورة ، قال أبو حيَّان - رحمه الله - : « وهذا أشذُّ من قراءة من قرأ : { ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة } [ القصص : 61 ] .
قال شهاب الدين : فجعل هذه القراءة شاذةً وهذه أشذُّ منها ، وليس بجيد ، فإنَّها قراءة متواترة قرأ بها نافع بن أبي نعيم قارىء أهل المدينة فيما رواه عنه قالون ، وهو أضبط رواته لحرفه ، وقرأ بها الكسائي أيضاً وهو رئيس النحاة .
والهاء في » وليُّه « للذي عليه الحقُّ ، إذا كان متصفاً بإحدى الصِّفات الثلاث؛ لأن وليَّه هو الَّذي يُقر عليه بالدَّين كما يقرُّ بسائر أُموره ، وقال ابن عبَّاس ، ومقاتلٌ والرَّبيعُ : المراد بوليِّه : وَلِيُّ الدَّين وهذا بعيدٌ؛ لأَنَّ قول المُدّعي لا يقبل ، فإِن اعتبرنا قوله ، فأيُّ حاجة إلى الكتابة ، والإشهاد؟
وقوله : » بالعدْلِ « تقدَّم نظيره .
فصلٌ
واعلم أَنَّ المقصود من الكتابة : هو الاستشهادُ؛ لكي يتمكَّن صاحب الحقّ بالشُّهود إلى تحصيل حقّه عند الجحود .
وقوله : » فاسْتَشْهِدُوا « يجوز أن تكون السِّين على بابها من الطَّلبِ ، أي : اطلبُوا شهيدَين ، ويجوزُ أن يكونَ استفعل بمعنى أفعل ، نحو : اسْتَعْجضلَ بمعنى أَعجَل ، واستيقن بمعن أَيقَنَ فيكون » اسْتَشْهِدُوا « بمعنى شهدوا ، يقال أشهدت الرَّجُل واشتشهدته بمعنى واحدٍ ، والشَّهيدان : هما الشَّاهدانِ ، فعيلٌ بمعنى فاعلٍ .
وفي قوله : » شَهِيدَيْن « تنبيهٌ على أَنَّهُ ينبغي أن يكون الشَّاهد ممَّن تتكرَّرُ منه الشَّهادةُ ، حيث أَتَى بصيغة المبالغة .
قوله : » مِنْ رِجَالِكُمْ « يجوزُ أن يتعلَّق باستشهدوا ، وتكونُ » مِنْ « لابتداء الغاية ، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ ، على أَنَّهُ صفةٌ لشهيدين ، و » مِنْ « تبعيضيةٌ .
فصلٌ
في المراد بقوله : { مِّن رِّجَالِكُمْ } ثلاثة أقوال :
أحدها : قال أكثر العلماء : المراد الأَحرارُ المسلمون .
الثاني : قال شريحٌ ، وابن سيرين : المراد المسلمون؛ فيدخل العبيد .
الثالث : من رجالكم الَّذين تعدونهم للشَّهادة ، بسبب العدالة . حجَّةُ شريح ، وابن سرين : عمومُ الآية؛ ولأَنَّ العدالة لا تختلف بالحريَّة والرِّقِّ ، واحتَجَّ الآخرونَ بقوله تعالى : { وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ } ، وهذا يقتضي : أَنَّ الشَّاهد؛ يجب عليه الذَّهاب إلى موضع أدَاءِ الشَّهادة ، ويحرمُ عليه الامتناعُ والإِجماعُ على أَنَّ العبد لا يجبُ عليه الذَّهابُ ، فلا يكونُ شاهداً ، وهذا مذهبُ الشَّافعي ، وأبي حنيفة .
والجواب عن قوله : { مِّن رِّجَالِكُمْ } ، أي : الذين تعدُّونهم لأداء الشَّهادة ، كما قدَّمناهُ .
قوله : { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ } ، جوَّزوا في » كَانَ « هذه أَنْ تكون النَّاقصة ، وأَنْ تكون التامة ، وبالإِعرابين يختلفُ المعنى : فإنْ كانت ناقصةً فالألفُ اسمها ، وهي عائدةٌ على الشَّهيدين أي : فإن لم يكنِ الشّاهدان رجُلَين ، والمعنى على هذا : إن أغفَل ذلك صاحبُ الحقّ ، أو قصد أَنْ لا يُشهد رجلين لغرض له ، وإن كانت تامّةً فيكون » رجلين « نصباً على الحالِ المؤكِّدة كقوله :
{ فَإِن كَانَتَا اثنتين } [ النساء : 176 ] ، ويكون المعنى على هذا أنه لا يعدل إلى ما ذكر إلا عند عدمِ الرِّجال . والألفُ في « يَكُونَا » عائدةٌ على « شَهِيدَيْنِ » ، تفيدُ الرجولية .
فصلٌ
قال القرافيُّ : العلماءُ يقولون : إِذَا ورد النَّصُّ بصيغة « أو » فهو للتَّخيير ، كقوله تعالى : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ } [ المائدة : 89 ] ، وإن ورد النَّصُّ بصيغة الشَّرط كقوله : { فَمَنْ لَمْ يَجدْ } [ البقرة : 196 ] الآية فهو على التَّرتيب ، وهذا غير صحيح لهذه الآية؛ لأَنَّ قوله تعالى : { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان } يقتضي على قولهم أَلاَّ يجوز استشهادُ رجُلٍ وامرأتين إِلاَّ عند عدم الرَّجلين ، وقد أَجمعت الأُمَّة على جواز ذلك ، عند وجود الرَّجلين ، وأَنَّ عدمهما ليس بشرطٍ ، واستفدنا من هذه الآية سؤالين عظيمين .
الأول : أَنَّ الصِّيغة لا تقتضي التَّرتيب .
الثاني : أَنَّهُ لا يلزمُ من عدم الشَّرط عدم المشروط ، وهو خلافُ الإِجماع ، وهو هناك كذلك .
قولنا : إذا لم يكن العدد زوجاً ، فهو فردٌ ، وإِنْ لم يكن فرداً ، فهو زوج مع أَنَّهُ لا تتوقَّف زوجيَّته على عدم الفرديَّة ، ولا فرديته على عدمِ الزَّوجيَّة . بل هو واجبُ الثُّبوت في نفسه ، وجد الآخر أم لا ، وإذا تقرَّر هذا ، فالمُرادُ من الآية : انحصارُ الحُجَّة التَّامَّة من الشَّهادة ، بعد الرَّجلين في الرَّجل ، والمرأتين ، فإِنَّه لا حُجَّة تامَّةٌ من الشَّهادة في الشَّريعة ، إِلاَّ الرَّجُلين ، والرَّجُلَ ، والمرأتين ، هذا هو المجمع عليه من البيِّنة الكامِلة ، في الأَموال ، فإذا فرض عدم إحداهما ، قبل الحصر في الأُخرى ، وقد وضح أَنَّ الشَّرط كما يستعملُ في الترتيب؛ كذلك يُسْتعملُ في الحصر ، والكل حقيقة لغوية ، فضابطُ ما يتوقَّف فيه المشروطُ على الشَّرطِ ، هو الَّذي لا يراد به الحصرُ ، فمتى أُريد به الحصرُ فلا يدلُّ على التَّرتيب ، بل لا بُدَّ من قرينة .
قوله : { فَرَجُلٌ وامرأتان } يجوزُ أن يرتفع ما بعد الفاءِ على الابتداءِ ، والخبرُ محذوفٌ تقديره : فرجلٌ ، وامرأتان ، يكفُون في الشَّهادة ، أو مُجزِئون ، ونحوه . وقيل : هو خبرٌ والمبتدأُ محذوفٌ تقديره : فالشَّاهدُ رجلٌ ، وامرأتان وقيل : مرفوعٌ بفعلٍ مقدَّرٍ تقديره : فيكفي رجُلٌ ، أي : شهادةُ رجلٍ ، فحُذِف المضافُ للعلم به ، وأُقيم المضافُ إليه مقامه . وقيل : تقدير الفعلِ فَلْيَشْهَدْ رجلٌ ، وهو أحسنُ ، إذ لا يُحوج إلى حذفِ مُضافٍ ، وهو تقديرُ الزَّمخشريُّ .
وقيل : هو مرفوعٌ بكان النَّاقصة ، والتَّقدير : فليكن مِمَّن يشهدون رجلٌ وامرأتان ، وقيل : بل بالتَّامَّةِ وهو أَولى؛ لأنَّ فيه حذف فعلٍ فقط بقي فاعلُهُ ، وفي تقدير النَّاقصة حذفُها مع خبرها ، وقد عُرِفَ ما فيه ، وقيل : هو مرفوعٌ على ما لم يسمَّ فاعلُهُ ، تقديرُهُ : فليُسْتَشْهَد رجلٌ . قال أبو البقاء : « وَلَوْ كَانَ قَدْ قُرئ بالنَّصب لكان التَّقديرُ : فَاسْتَشْهِدُوا » وهو كلامٌ حسنٌ .
وقرئ : « وَامْرَأَتَانِ » بسكون الهمزة التي هي لامُ الكلمة ، وفيها تخريجان .
أحدهما : أنه أَبْدَل الهمزة ألفاً ، وليس قياسُ تخفيفها ذلك ، بل بَيْنَ بين ، ولمَّا أبدلها ألفاً همزها كما هَمزتِ العربُ نحوك العأْلَمِ ، والخَأْتَمِ؛ وقوله : [ الرجز ]
1281- وَخِنْدفٌ هَامَةُ هَذَا العَأْلَمِ ... وقد تقدَّم تحقيقه في سورة الفاتحة ، وسيأتي له مزيدُ بيانٍ إِنْ شاء اللهُ - تعالى - في قراءة ابن ذكوان : « مِنْسَأْتَه » في سبأ .
وقال أبو البقاء في تقرير هذا الوجهِ ، ونحا إلى القياس فقال : ووجهُهُ أنه خفَّفَ الهمزة - يعني بينَ بينَ - فقَرُبَتْ من الألف ، والمُقَرَّبة من الألفِ في حكمها؛ ولذلك لا يُبْتَدأُ بها ، فلمَّا صارت كالألف ، قَلَبها همزةً ساكنةً كما قالوا : خَأْتم وعَأْلم .
والثاني : أن يكُونَ قد استثقَلَ تواليَ الحركاتِ ، والهمزةُ حرفٌ يُشبِهُ حرف العلة فتُستثقل عليها الحركة فسُكِّنت لذلك . قال أبو حيَّان رحمه الله : ويمكنُ أنه سكَّنها تخفيفاً لتوالي كثرةِ الحركاتِ؛ وقد جاء تخفيفُ نظيرِ هذه الهمزةِ في قول الشَّاعر : [ الطويل ]
1282- يَقُولُونَ جَهْلاً لَيْسَ لِلشَّيْخِ عَيِّلٌ ... لَعَمْرِي لَقَدْ أَعْيَلْتُ وَأْنَ رَقُوبُ
يريدُ : وَأَنَا رَقوب ، فسكِّنَ همزةَ « أَنَا » بعد الواوِ ، وحذف ألف « أنا » وصلاً على القاعدة . قال شهاب الدين : قد نصَّ ابنُ جني على أن هذا الوجهَ لا يجوزُ فقال : « ولا يَجُوزُ أن يكونَ سَكَّنَ الهمزة؛ لأنَّ المفتوح لا يُسَكَّنُ لخفةِ الفَتْحَةِ » وهذا من أبى الفتح محمولٌ على الغالب ، وإلا فقد تقدَّم لنا في قراءة الحسنِ « مَا بَقِي مِنَ الرِّبَا » ، وقبل ذلك أيضاً الكلامُ على هذه المسألةِ ، وورودُ ذلك في ألفاظٍ نظماً ونثراً ، حتَّى في الحروفِ الصَّحيحة السَّهلةِ ، فكيف بحرفٍ ثقيلٍ يُشْبِه السُّفلَة؟
قوله : { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء } فيه أوجهٌ :
أحدها : أنه في محلِّ رفعٍ نعتاً لرجُلٍ وامرأتين .
والثاني : أنه في محلِّ نصب؛ لأنه نعتٌ لشهيدين . واستضعف أبو حيّان هذين الوجهين قال : « لأنَّ الوصفَ يُشْعِر اختصاصَه بالموصوفِ ، فيكون قد انتفى هذا الوصفُ عن شَهِيدَيْنِ » ، واستضعفَ الثَّاني أبو البقاء رحمه الله تعالى قال : للوصف الواقعِ بينهما .
الوجه الثالث : أنه بدلٌ من قوله : { مِّن رِّجَالِكُمْ } بتكريرِ العاملِ ، والتقدير : « وَاستَشْهِدوا شَهِيدَيْن مِمَّن تَرْضَوْن » ، ولم يذكر أبو البقاء تضعيفه . وكان ينبغي أن يُضعِّفَه بما ضَعَّف وجهَ الصّفة ، وهو للفصلِ بينهما ، وضعَّفه أبو حيّان بأنَّ البدلَ يُؤْذِنُ أيضاً بالاختصاص بالشَّهيدين الرَّجلين فَيَعْرَى عنه رجلٌ وامرأتان قال شهاب الدين : وفيه نظرٌ؛ لأنَّ هذا من بَدَلِ البَعْض إن أخذنا « رِجَالكُمْ » على العموم ، أو الكلِّ من الكلِّ إن أخذناهم على الخصوصِ ، وعلى كلا التّقديرين ، فلا ينفي ذلك عمَّا عداه ، وأمّا في الوصف فمسلَّمٌ؛ لأنَّ مفهوماً على المختارِ .
الرابع : أن يتعلَّقَ باستشهِدوا ، أي : استشهدوا مِمَّنْ ترضَوْن . قال أبو حيان : « ويكون قيداً في الجميعِ ، ولذلك جاء مُتَأخّراً بعد الجميعِ » .
قوله : { مِنَ الشهدآء } يجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أَنَّهُ حالٌ من العائدِ المحذوفِ ، والتَّقديرُ : مِمَّن تَرْضَونَه حال كونه بعض الشُّهداءِ .
ويجوزُ أن يكونَ بدلاً مِنْ « مِنْ » بإعادةِ العامل ، كما تقدَّم في نفسِ { مِمَّن تَرْضَوْنَ } ، فيكونُ هذا بدلاً مِنْ بدلٍ على أحدِ القَوْلينِ في كلِّ منهما .
فصلٌ
قوله { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء } كقوله تعالى في الطلاق : { وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ } [ الطلاق : 2 ] وهذه الآية تدلُّ على أَنَّهُ ليس كلُّ أحدٍ يكونُ شاهداً ، والفقهاءُ شرطوا في الشَّاهد الَّذي تقبلُ شهادته عشرة شروطٍ : أَنْ يكونَ حُرّاً بالغاً ، مسلماً عدلاً ، عالماً بما شهد به؛ ولا يجر بتلك الشَّهادة منفعة إلى نفسه ، ولا يدفع بها مضرَّة عن نفسه ، ولا يكون معروفاً بكثرة الغلطِ ، ولا بترك المُروءةِ ، ولا يكُونُ بينه وبين من يشهد عليه عداوة .
وقيل : سبعة : الإِسلامُ ، والحريَّةُ ، والعقلُ ، والبُلُوغُ ، والعدالةُ ، والمروءةُ وانتفاء التُّهمة .
قوله : { أَنْ تَضِلَّ } قرأ حمزة بكسر « إِنْ » على أنَّها شرطيَّةٌ والباقون بفتحها ، على أنَّها المصدريةُ النَّاصبةُ ، فأمَّا القراءة الأولى ، فجوابُ الشَّرط فيها قوله « فتذكِّرُ » ، وذلك أَنَّ حمزة رحمه الله يقرأ : « فَتُذَكِّرُ » بتشديدِ الكافِ ورفعِ الراءِ؛ فصَحَّ أن تكونَ الفاءُ ، وما في حيِّزها جواباً للشَّرط ، ورَفَعَ الفعل؛ لأَنَّهُ على إضمارِ مبتدأ ، أي : فهي تُذَكِّر ، وعلى هذه القراءة فجملة الشَّرطِ والجزاءِ هل لها محلٌّ من الإِعراب أم لا؟
فقال ابن عطيَّة : إِنَّ محلَّها الرَّفْعُ صفةً « لامْرَأَتَيْن » ، وكان قد تقدَّم أنَّ قوله : « مِمَّنْ تَرْضَوْنَ » صفةٌ لقوله « فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَان » قال أبو حيان - رحمه الله - : « فَصَارَ نظيرَ جَاءَني رجُلٌ ، وامرأتان عُقَلاَءُ حُبْلَيَان » وفي جواز مثل هذا التّركيب نظرٌ ، بل الَّذي تقتضيه الأَقيسة تقديمُ « حُبْلَيَان » على « عُقَلاَء » ؛ وأمَّا إذا قيل بأنَّ « ممَّنْ تَرْضَوْن » بدلٌ من رِجَالِكُم ، أو مُتعلِّقٌ باستشهِدُوا ، فيتعذَّر جعلُه صفةً لامرأتين للزومِ الفصل بين الصِّفة ، والموصوفِ بأجنبيّ . قال شهاب الدين - رحمه الله - : وابن عطيَّة لم يَبْتَدِعْ هذا الإِعرابَ ، بل سبقه إليه الواحديُّ فإنه قال : وموضعُ الشَّرط وجوابُه رفعٌ بكونهما ، وصفاً للمذكورين وهما « امْرَأَتَانِ » في قوله : « فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ » لأنَّ الشَّرطَ والجزاءَ يُوصَفُ بهما ، كما يُوصَف بهما في قوله : { الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة } [ الحج : 41 ] .
والظاهرُ أنَّ هذه الجملةَ الشَّرطية مستأنفةٌ للإِخبار بهذا الحُكْم ، وهي جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر ، كأَنَّ قائلاً قال : ما بالُ امرأتين جُعِلَتا بمنزلةِ رجل؟ فأُجيب بهذه الجملة .
وأمَّا القراءةُ الثَّانيةُ؛ ف « أَنْ » فيها مصدريَّة ناصبة للفعل بعدها ، والفتحةُ فيه حركةُ إعرابٍ ، بخلافها في قراءةِ حمزة ، فإنها فتحةُ التقاءِ ساكنين ، إذ اللامُ الأولى ساكنةٌ للإِدغام في الثَّانية ، مُسَكَّنةٌ للجزم ، ولا يُمكنُ إدغامٌ في ساكنٍ ، فحرَّكنا الثَّانية بالفتحة هرباً من التقائِهما ، وكانتِ الحركةُ فتحةٌ؛ لأَنَّها أَخَفُّ الحركاتِ ، وأَنْ وما في حيِّزها في محلِّ نصبٍ ، أو جرٍّ بعد حذفِ حرفِ الجَرّ ، وهي لامُ العِلَّة ، والتَّقديرُ : لأن تَضِلَّ ، أو إرادة أَنْ تَضِلَّ .
وفي متعلَّقِ هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أَنَّهُ فِعلٌ مضمرٌ دلَّ عليه الكلامُ السَّابق ، إذا التَّقديرُ : فاسْتَشْهِدُوا رَجُلاً وامرأتين لئلا تَضِلَّ إِحداهما ، ودلَّ على هذا الفعلِ قوله : { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان } ، قاله الواحديُّ ولا حاجة إليه؛ لأَنَّ الرَّافع لرجُلٍ وامرأتين مُغنٍ عن تقدير شيءٍ آخر ، وكذلك الخبرُ المقدَّرُ لقولك : « فَرَجُلٌ وامرأتان » إذ تقديرُ الأول : فَلْيَشهد رجلٌ ، وتقديرُ الثاني : فرجلٌ وامرأتان يشهدُون؛ لأَنْ تَضِلَّ ، وهذان التَّقديران هما الوجهُ الثَّاني والثَّالث من الثَّلاثةِ المذكورة . فإن قيل هل جُعِل ضلالُ إِحداهما علَّةً لتطلُّب الإِشهاد أو مراداً لله تعالى ، على حسبِ التقديرين المذكورين أولاً؟ وقد أَجابَ سيبويه رحمه الله وغيرُه بأن الضلالَ لمَّا كان سبباً للإِذكار ، والإِذكارُ مُسبِّباً عنه ، وهم يُنَزِّلون كلَّ واحدٍ من السببِ والمُسَبَّب منزلةَ الآخرِ لالتباسهما ، واتِّصالهما كانت إرادةُ الضَّلال المُسَبَّب عنه الإِذكارُ إرادةً للإِذكار . فكأنه قيل : إرادة أَنْ تُذَكِّر إِحداهما الأخرى إِنْ ضَلَّتْ ، ونظيرُه قولُهم : « أَعْدَدْتُ الخشبةَ أَنْ يميلَ الحائِطُ فأدعمَه ، وأعدْدتُ السَّلاح أن يجيء عدوٌّ فأدفعَه » فليس إعدادُك الخشبة؛ لأَنء يميلَ الحائطُ ، ولا إعدادُك السلاح لأن يجيء العدو وإنما للإدغام إذا مال ، وللدفع إذا جاء العدو ، وهذا مِمَّا يعودُ إليه المعنى ويُهجَرُ فيه جانبُ اللفظ .
وقد ذهب الجرجانيُّ في هذه الآيةِ الكريمة إلى أَنَّ التقدير : مخافةَ أَنْ تَضِلَّ؛ وأنشد قول عمروٍ : [ الوافر ]
1283- ... فَعَجَّلْنَا القِرَى أَنْ تَشْتِمُونَا
أي : « مخافَةَ أَنْ تَشْتِمُونَا » وهذا صحيحٌ لو اقتصر عليه مِنْ غير أَنْ يُعْطَفَ عليه قوله « فَتُذَكِّرَ » ؛ لأنه كان التَّقديرُ : فاستشهدوا رجلاً وامرأتين ، مخافةَ أَنْ تضلَّ إحداهما ، ولكنَّ عطفَ قوله : « فَتُذَكِّر » يُفسده ، إذا يصيرُ التقديرُ : مخافةَ أَنْ تُذكِّرَ إحداهما الأخرى ، [ وإذكارُ إحداهما الأخرى ] ليس مخوفاً منه ، بَلْ هو المقصودُ ، وقال أبو جعفرٍ : « سمعتُ عليّ بن سليمان يحكي عن أبي العباس أَنَّ التقديرَ كراهةَ أَنْ تَضِلَّ » قال أبو جعفر رحمه الله تعالى : « وهو غلطٌ إذ يصير المعنى : كراهةَ أَنْ تُذَكِّرَ إحداهما الأخرى » .
وذهب الفرَّاء إلى أَن تقدير الآيةِ الكريمة : « كي تذكِّر إِحْدَاهُمَا الأخرى إِنْ ضَلَّت » ، فلمَّا قُدِّم الجزاءُ اتَّصَل بما قبلَه ففُتِحَتْ « أَنْ » ، قال : ومثلُه من الكلام : « إنه ليعجبُني أَنْ يسأل السَّائلُ فيُعْطى » معناه : إنه ليعجبني أَنْ يُعْطَى السَّائلُ إن سَأَلَ؛ لأَنَّه إنما يُعجِبُ الإِعطاءُ لا السؤالُ ، فلمَّا قدَّموا السُّؤالَ على العطيَّة أصحبوه أن المفتوحة لينكشِفَ المعنى ، فعنده « أنْ » في « أَنْ تَضِلَّ » للجزاءِ ، إِلاَّ أَنَّهُ قُدِّم وفُتِح ، وأصله التأخير .
وردَّ البصريُّون هذا القول أبلغَ ردٍّ . قال الزّجَّاج : « لَسْتُ أدري لِمَ صارَ الجَزَاءُ [ إذا تقدَّم ] وهو في مكانهِ وغير مكانه يوجب فتح أن » . وقال الفارسيُّ : ما ذكره الفرَّاءُ دَعوى لا دلالةَ عليها ، والقياسُ يُفْسِدها ، أَلاَ ترى أنَّا نَجِدُ الحرفَ العامل ، إذا تغيَّرت حركته؛ لم يُوْجِبْ ذلك تغيُّراً في عملِهِ ولا معناه ، كما روى أبو الحسن من فتح اللام الجارَّةِ مع المُظْهر عن يونس ، وأبي عُبيدة ، وخلف الأَحمرِ ، فكما أنَّ هذه اللامَ لمَّا فُتِحَتْ لم يتغيَّر من عملها ومعناها شيءٌ ، كذلك « إنْ » الجزائيّة ينبغي ، إذا فُتِحت أَلاَّ يتغيَّر عملُها ولا معناها ، ومِمَّا يُبْعِدُه أيضاً أنَّا نجدُ الحرفَ العاملَ لا يتغيَّر عملُه بالتقديم و [ لا ] بالتأخيرِ ، تقول « مَرَرْتُ بِزَيْدٍ » وتقول : « بزيدٍ مَرَرْتُ » فلم يتغيَّر عملُ الباءِ بتقديمها من تأخيرٍ . وأجاب ابن الخطيب فقال هاهنا غرضان :
أحدهما : حُصُولُ الإِشهاد وهذا لا يتأَتَّى إِلاَّ بتذكير إحدى المرأتين .
والثاني : بيانُ تفضيل الرَّجُل على المرأة حتّى يبين أَنَّ إقامة المرأتين مقامَ الرَّجُل الواحد هو العدلُ في القضيَّة ، وذلك لا يتأتى إِلاَّ بضلالِ إحدى المرأتين ، وإذا كان كُلّ واحد من هذين أعني الإِشهاد ، وبيان فضل الرَّجُل على المرأةِ مقصود ، فلا سبيلَ إلى ذلك إِلاَّ بإِضلال أَحدهما وتذكر الأخرى ، لا جرم صار هذان الأمران مطلُوبين .
فصل
لَمَّا كان النّسيان غالباً على طباع النِّساءِ لِكثرةِ البَرْدِ والرُّطوبة في أمزجتهنَّ؛ أقيمت المرأتان مقام الرَّجل الواحد؛ لأن اجتماع المرأَتين على النِّسيان أبعد في العقل من صُدُورِ النّسيان عن المرأة الواحدة؛ لأَنَّ إحداهما إذا نسيت؛ ذكَّرتها الأخرى ، والمراد بالضَّلال هنا النِّسيان قال أبو عُبيدةَ : الضلال عن الشَّهادة إِنَّما هو نسيانها .
قوله : « فَتُذَكِّرَ » وقرأ ابن كثيرٍ وأبو عمرو : « فَتُذَكِرَ » بتخفيفِ الكافِ ، ونصب الرَّاءِ من أَذْكَرْتهُ أي : جَعلُه ذاكراً للشَّيءِ بعد نسيانه ، فإِنَّ المراد بالضَّلالِ هنا النسيانُ كقوله تعالى : { قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين } [ الشعراء : 20 ] وقال في ذلك الفرزدق : [ الكامل ]
1284- وَلَقَدْ ضَلَلْتَ أَبَاكَ يَدْعُو دَارِماً ... كَضَلاَلِ مُلْتَمِسٍ طَريقَ وَبَارِ
فالهمزةُ في « أَذْكَرْتُهُ » للنقلِ والتَّعدية ، والفِعلُ قبلها متعدٍّ لواحدٍ؛ فلا بُدَّ من آخر ، وليس في الآية مفعولٌ واحدٌ ، فلا بُدَّ من اعتقادِ حذفِ الثَّاني ، والتقديرُ فتُذْكر إحداهما الأُخرى الشَّهادة بعد نِسيانها إن نَسِيَتْهَا هذا مشهورٌ قول المفسِّرين .
وقد شَذَّ بعضهم قال : مَعْنَى فَتُذَكِّرَ إحداهما الأُخرى أي : فتجعلها ذكراً ، أي : تُصَيِّرُ حكمها حكم الذَّكر في قبولِ الشَّهادة وروى الأَصميعُّ عن أبي عمرو بن العلاء قال : « فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى بالتَّشديد فهو من طريقِ التَّذكير بعد النِّسيان ، تقولُ لها : هَلْ تَذْكُرين إذ شهدنا كذا يومَ كذا في مكان كذا على فلانٍ ، أو فلانة ، ومَنْ قرأ » فَتُذكِرَ « بالتَّخفيف فقال : إذا شهدت المرأةُ ، ثم جاءَتِ الأخرى؛ فشهِدَت معها ، فقد أَذْكَرَتْها لقيامِها مقامَ ذَكَر » ولم يَرْتَضِ المفسِّرون وأهلُ اللِّسان هذا من أبي عمرو ، بل لم يُصحِّحوا رواية ذلك عنه لمعرفتهم بمكانتهِ في العلمِ ، ورَدُّوه على قائِلِه من وجوهٍ :
منها : أنَّ الفصاحةَ تقتضي مقابلة الضَّلالِ المرادِ به النّسيانُ بالإِذكار والتَّذكير ، ولا تناسُبَ في المقابلة بما نقل عنه .
ومنها : أنَّ النِّساء لو بَلَغْنَ ما بلغْنَ من العددِ لا بدَّ معهنَّ مِنْ رجلٍ ، هكذا ذكروا ، وينبغي أن يكونَ ذلك فيما يُقْبَلُ فيه الرجلُ مع المرأَتين ، وإلاَّ فقد نجدُ النِّساء يَتَمَحَّضْنَ في شهاداتٍ من غيرِ انْضِمام رجلٍ إِليهنَّ .
ومنها : أَنَّها لَوْ صَيَّرتها ذكراً؛ لكان ينبغي أن يكونَ ذلك في سائرِ الأحكامِ ، ولا يُقتصَرُ به على ما فيه ماليّةٌ وفيه نظرٌ أيضاً ، إذ هو مشتركُ الإِلزامِ لأنه يقال : وكذا إذا فسَّرتموه بالتَّذكير بعد النِّسيان لم يَعُمَّ الأحكامَ كلَّها ، فما أُجيبَ به فهو جوابُهم أيضاً .
وقال الزمخشريُّ : « ومِنْ بِدَع التَّفَاسِير : [ فَتُذَكِّرَ ] فتجعلَ إحداهما الأخرى ذكَراً ، يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلةِ الذَّكَر » انتهى . ولم يجعل هذا القول مختصاً بقراءةٍ دونَ أُخرى .
وأمَّا نصبُ الرَّاء؛ فنسقٌ على « أَنْ تَضِلَّ » ؛ لأَنَّهما يَقْرآن : « أَنْ تَضِلَّ » بأن النَّاصبةِ ، وقرأ الباقون بتشديد الكافِ من « ذَكَّرْتُه » بمعنى جعلتُه ذاكِراً أيضاً ، وقد تقدَّم أَنَّ حمزة وحده هو الَّذي يرفع الرَّاءَ .
وخرج من مجموع الكلمتين أنَّ القُرَّاءَ على ثلاثِ مراتبَ : فحمزةُ وحدَه : بكسرِ « إِنْ » ويشدد الكافِ ويرفع الرَّاء ، وابن كثير : بفتح « أنْ » ويخفف الكاف وينصب الرَّاء ، والباقون كذلك ، إِلاّ أنهم يُشَدِّدون الكافَ .
والمفعولُ الثَّاني محذوفٌ أيضاً في هذه القراءة كما في قراءة ابن كثير وأبي عمرو ، وفَعَّل وأَفْعَل هنا بمعنى : أَكْرَمْتُه وكَرَّمته ، وفرَّحته وأَفْرَحته . قالوا : والتَّشديد في هذا اللَّفظ أكثرُ استعمالاً مِنَ التَّخفيف ، وعليه قوله : [ المتقارب ]
1285- عَلَى أَنَّنِي بَعْدَ مَا قَدْ مَضَى ... ثَلاَثُونَ لِلْهَجْرِ حَوْلاً كمِيلاَ
يُذَكِّرُنِيك حَنِينُ العَجُولِ ... ونَوْحُ الحَمَامَةِ تَدْعُو هَدِيلاَ
وقرأ عيسى بن عمرو والجحدريُّ : « تُضَلَّ » مبنيّاً للمفعول ، وعن الجحدريّ أيضاً : « تُضِلَّ » بضمِّ التَّاء ، وكسر الضَّاد من أضلَّ كذا ، أي : أضاعهُ ، فالمفعول محذوفٌ أي : تُضِلَّ الشَّهادة . وقرأ حميد بن عبد الرحمن ومجاهدٌ : « فَتَذْكُر » برفع الرَّاءِ ، وتخفيف الكافِ ، وزيدُ بن أسلمَ « فتُذاكِرُ » من المذاكرة .
وقوله : إحداهما « فاعل ، » والأخرى « مفعولٌ ، وهذا مِمَّا يجبُ تقديمُ الفاعلِ فيه لخفاءِ الإِعراب ، والمعنى نحو : ضَرَب مُوسَى عِيسَى .
قال أبو البقاء : ف » إحداهما « فاعلٌ ، و » الأخرى « مفعول ، ويصحُّ العكسُ ، إلا أنه يمتنع على ظاهرِ قول النَّحويّين في الإِعراب ، لأَنَّهُ إذا لم يظهر الإعرابُ في الفاعلِ والمفعولِ ، وجَبَ تقديمُ الفاعل فيما يُخاف فيه اللَّبسُ ، فعلى هذا إذا أُمِنَ اللَّبْسُ جاز تقديم المفعولِ كقولك : » كَسَرَ العَصَا مُوسَى « ، وهذه الآيةُ من هذا القبيلِ ، لأنَّ النِّسيان ، والإِذكارَ لا يتعيَّنُ في واحدةٍ منهما ، بل ذلك على الإِبهامِ ، وقد عُلِم بقوله : » فَتُذَكِّرَ « أنَّ الَّتي تُذَكِّر هي الذَّاكرةُ ، والتي تُذَكَّر هي النَّاسية ، كما علم من لفظ » كَسَر « مَنْ يصحُّ منه الكَسْرُ ، فعلى هذا يجوز أن يُجْعل » إِحْدَاهُما « فاعلاً ، و » الأُخْرَى « مفعولاً وبالعكس انتهى .
ولمَّا أبهم الفاعل في قوله : « أَنْ تَضِلَّ إحداهما » أَبْهَمَ أيضاً في قوله : « فَتُذَكِّرَ إحداهما » ؛ لأنَّ كلاًّ من المَرْأَتين يجوزُ [ عليها ما يجوزُ ] على صاحبتها من الإِضلالِ ، والإِذكارِ ، والمعنى : إن ضلَّت هذه أَذْكَرَتْها هذه ، فَدَخَلَ الكلامَ معنى العموم .
قال أبو البقاء : فإنْ قيل : لِمَ يَقُلْ : « فَتُذَكِّرَها الأُخرَى » ؟ قيل فيه وجهان :
أحدهما : أَنَّهُ أَعاد الظَّاهر ، ليدلَّ على الإِبهام في الذِّكر والنّسيان ، ولو أَضمرَ لتعَيَّن عودُه على المذكور .
والثاني : أنه وضع الظَّاهر موضع المضمرِ ، تقديره : « فَتُذَكِّرهَا » وهذا يَدُلُّ على أن « إحداهما » الثانية مفعولٌ مقدمٌ ، ولا يجوزُ أن يكونَ فاعلاً في هذا الوجه؛ لأنَّ المُضَمرَ هو المُظْهَرُ بعينه ، والمُظْهَرُ الأول فاعل « تضِلَّ » ، فلو جعل الضَّمير لذلك المظهر؛ لكانت النَّاسيةُ حقاً هي المُذَكِّرَة ، وهو مُحالٌ قال شهاب الدين - رحمه الله تعالى - : وقد يتبادرُ إلى الذهن أنَّ الوجهين راجعان لوجهٍ واحدٍ قبل التأمُّل؛ لأنَّ قوله : « أَعادَ الظَّاهِرُ » قريبٌ من قوله : « وَضَعَ الظاهرَ مَوْضِعَ المضمر » .
و « إِحْدَى » تأنيثُ « الواحِد » قال الفارسيُّ : أَنَّثُوه على غيره بنائِه ، وفي هذا نظرٌ ، بل هو تأنيثُ « أحَد » يقابُلونها به في : أحد عشرَ وإحدى عشرة وأحدٍ وعشرين وإحدى وعشرين ، وتُجْمَعُ « إِحْدَى » على « إِحَد » نحو : كِسْرَة وكِسَر .
قال أبو العباس : « جَعَلُوا الألفَ في الإِحْدَى بمنزلةِ التاء في » الكِسْرَة « ، فقالوا في جمعها : » إِحَد « ؛ كما قالُوا : كِسْرَة وكِسَر؛ كما جعلوا مثلها في الكُبْرَى والكُبَر ، والعُلْيا والعُلَى ، فكما جعلوا هذه كظُلمة ، وظُلَم جعلوا الأولَ كسِدْرَة وسِدَر » قال : « وكَمَا جعلوا الألف المقصُورة بمنزلةِ التَّاءِ فيما ذُكِر؛ وجعلوا الممدودةَ أيضاً بمنزلتها في قولهم » قَاصِعَاء وقَوَاصع « و » دَامَّاء ودَوَامّ « ، يعني : أنَّ فاعلة نحو : ضارِبَة تُجمع على ضَوارِب ، كذا فاعِلاَء؛ نحو : قاصِعَاء ، ورَاهِطَاء تُجْمَعُ على فَوَاعِل؛ وأنشد ابن الأعرابيّ على إحدى وإِحَد قول الشاعر : [ الرجز ]
1286- حَتَّى اسْتَثَارُوا بِيَ إِحْدَى الإِحَدِ ... لَيْثاً هِزَبْراً ذَا سِلاَحٍ مُعْتدِي
قال : يقال : هو إحدى الإِحَدِ ، وأَحَدُ الأَحَدَيْنِ ، وواحدُ الآحادِ ، كما يقال : واحدٌ لا مثل له ، وأنشد البيت .
واعلَم أنَّ « إِحْدَى » لا تُستعمل إلا مُضَافَةً إلى غيرها؛ فيقال : إِحْدَى الإِحَدِ وإِحْدَاهُما ، ولا يقال : جاءَتْني إِحْدى ، ولا رأيتُ إِحْدَى ، وهذا بخلافِ مذكَّرها .
و « الأُخرى » تأنيث « آخرَ » الذي هو : أَفْعَلُ التَّفضيل ، وتكونُ بمعنى آخِرة؛ كقوله تعالى : { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ } [ الأعراف : 38 ] ، ويُجْمَعُ كلٌّ منهما على « أُخَر » ، ولكنَّ جمع الأُولَى ممتنعٌ من الصَّرفِ ، وفي علَّته خلافٌ ، وجمعُ الثانية منصرفٌ ، وبينهما فرقٌ يأتي إيضاحه إن شاء اللهُ تعالى في الأَعراف .
فصلٌ
أجمع الفقهاءُ على أنَّ شهادة النِّساء جائزةٌ مع الرِّجال في الأموال ، حتى يثبت برجُل وامرأتين ، واختلفوا في غير الأموال ، فقال سُفيانُ الثَّوريُّ وأصحابُ الرَّأي : تجوز شهادتُهُنَّ مع الرِّجال في غير العُقُوباتِ .
وذهب جماعةٌ إلى أَنّ غير المال ، لا يثبُتُ إِلاَّ برجلين عدلين وذهب الشَّافعيُّ ، وأحمدُ إلى : أنّ ما يطلع عليه النِّساءُ غالباً كالولادة والرّضاع ، والثُّيوبة والبكارةِ ونحوها يَثْبُتُ بشهادة رجلٌ وامرأتين ، وبشهادة أربع نسوةٍ .
وعن أحمد : يثبت بشهادةِ امرأة عدلٍ ، واتَّفَقُوا على أن شهادة النّساء لا تجوز في العُقُوباتِ .
فصلٌ
قال القُرطبيُّ : لما جعل اللهُ تعالى شهادة امرأتين بَدَلَ شهادة رجل؛ وجب أن يكون حكمهما حُكْمُه ، فكما له أن يخلف مع الشَّاهد عندنا ، وعند الشَّافعي ، كذلك يجبُ أن يحلف مع شهادةِ امرأتين بمُطْلق هذه العِوضيَّة ، وخالف في هذا أبُو حنيفة ، وأصحابُهُ ، فلم يروا اليمين مع الشَّاهد .
قالوا : لأَنَّ اللهَ تعالى قسم الشَّهادة ، وعددها ، ولم يذكر الشَّاهد مع اليمين ، فلا يجوزُ القضاءُ به؛ لأَنَّهُ يكُونُ قسماً ثالثاً على ما قسَّمه الله ، وهذه زيادةٌ على النَّصِّ ، فيكون نسخاً ، وهذا قولُ الثَّوري ، والأوزاعي والحكم بن عُتَيْبَة وطائفة .
قال بعضهم : الحكم باليمين مع الشَّاهد منسوخٌ بالقرآن ، وزعم عطاءٌ أنَّ أوَّل من قضى به عبد الملك بن مروان .
وقال الحكم : القضاء باليمين والشَّاهد بدعةٌ ، وهو كلُّه غلط ، وليس في قوله تعالى : { واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ } الآية ما يرد به قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باليمين ، والشاهد؛ ولا أنَّه لا يتوصل إلى الحقوق إلاَّ بما ذكر فيها لا غير ، فإنَّ ذلك يبطل بنكول المطلوب ويمين الطَّالب ، فإن ذلك يستحقّ به المال إجماعاً ، وليس هو في الآية ، مع أنَّ الخلفاء الأربعة : قضوا بالشَّاهد واليمين ، وقضى به أُبيُّ بن كعبٍ ، ومعاوية وشريحٌ وعمر بن عبد العزيز ، وكتب به إلى عمَّاله ، وإياس بن معاوية ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو الزّناد وربيعة .
قال مالك : أترى هؤلاء تنقض أحكامهم ، ويحكم ببدعتهم مع ما روى ابن عباس أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - : قضى بالشَّاهد مع اليمين .
قوله : { وَلاَ يَأْبَ الشهدآء } مفعوله محذوفٌ لفهم المعنى ، أي : لا يأبون إقامة الشهادة ، وقيل : المحذوف مجرور لأن « أبى » بمعنى امتنع ، فيتعدَّى تعديته أي من إقامة الشهادة .
قوله : { إِذَا مَا دُعُواْ } ظرفٌ ل « يَأْبَ » أي : لا يمتنعون في وقت [ دَعْوَتهم ] لأدائها ، أو لإقامتها ، ويجوز أن تكون [ متمحضةً للظرف ، ويجوز أن تكون ] شرطيةً والجواب محذوفٌ أي : إذا دُعُوا فلا يأبوا .
فصل
في الآية وجوه :
أحدها : أنَّ هذا نهيٌ للشَّاهد عن الامتناع عن أداء الشَّهادة عند احتياج صاحب الحقّ إليها .
الثاني : أراد إذا دُعُوا لتحمل الشَّهادة على الإطلاق ، وهو قول قتادة ، واختيار القفَّال ، قال كما أمر الكاتب ألاَّ يأب الكتابة ، كذلك أمر الشَّاهد ألاَّ يأب من تحمل الشَّهادة ، لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما يتعلَّق بالآخر وفي عدمها ضياع الحقوق ، وسمَّاهم شهداء على معنى أنهم يكونون شهداء ، وهو أمر إيجابٍ عند بعضهم .
الثالث : المراد تحمّل الشَّهادة إذا لم يوجد غيره ، فهو مخير ، وهو قول الحسن .
الرابع : قال الزَّجَّاج ، وهو مروي عن الحسن أيضاً ، وهو قول مجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، وسعيد بن جبيرٍ : المراد مجموع الأمرين التحمُّل أولاً ، والأداء ثانياً .
قال الشعبي : الشَّاهد بالخيار ما لم يشهد وقال قومٌ : هو أمر ندب ، وهو مخيّر في جميع الأحوال . قال القرطبيُّ : قد يؤخذ من هذه الآية دليلٌ على أنَّه يجوز للإمام أن يقيم للنَّاس شهوداً ، ويجعل لهم من بيت المال كفايتهم ، فلا يكون لهم شغلٌ إلاَّ تحمل حفظ حقوق النَّاس ، وإن لم يكن ذلك؛ ضاعت الحقوق وبطلت .
فصل
قال القرطبيُّ : دلَّت هذه الآية على أنَّ الشَّاهد يمشي إلى الحكم ، وهذا أمر بُني الشَّرع عليه ، وعمل به في كلّ مكان وزمان ، وفهمته كلُّ أمَّةٍ .
وإذا ثبت هذا فالعبد خارجٌ عن جملة الشُّهداء ، فيخص عموم قوله : « مِنْ رِجَالِكُمْ » لأنَّه لا يمكنه أن يجيب؛ لأنَّه لا استقلال له بنفسه ، فلا يصحُّ له أن يأتي فانحطّ عن منصب الشَّهادة ، كما انحطَّ عن منصب الولاية ، وكما انحطَّ عن فرض الجمعة وعن الجهاد والحجّ .
قوله : { وَلاَ تسأموا } والسَّأم والسآمة : الملل من الشَّيء والضَّجر منه .
قوله : { أَن تَكْتُبُوهُ } مفعولٌ به إن شئت جعلته مع الفعل مصدراً تقديره : « ولا تَسْأَمُوا كِتَابَتَه » ، وإن شئت بنزع الخافض والنَّاصب له « تَسْأَموا » ؛ لأنه يتعدَّى بنفسه قال : [ الطويل ]
1287- سَئِمْتُ تَكَالِيف الحَيَاةِ ومَنْ يَعِشْ ... ثَمَانِينَ حَوْلاً لاَ أَبَا لَكَ يَسْأَمِ
وقيل : بل يتعدَّى بحرف الجرّ ، والأصل : من أن تكتبوه ، فحذف حرف الجرِّ للعلم به ، فيجري الخلاف المشهور في « أَنْ » بعد حذفه ، ويدلُّ على تعدِّيه ب « مِنْ » قوله : [ الكامل ]
1288- وَلَقَدْ سَئِمْتُ مِنَ الحَيَاةِ وَطُولِهَا ... وَسُؤَالِ هَذَا النَّاسِ كَيْفَ لَبِيدُ
والهاء : في « تَكْتبوه » يجوز أن تكون للدَّين في أوَّل الآية ، وأن تكون للحقّ في قوله : { فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق } ، وهو أقرب مذكورٍ ، والمراد به « الدَّيْن » وقيل : يعود على الكتاب المفهوم من « تَكْتبوه » قاله الزَّمخشريُّ .
و { صَغِيراً أَو كَبِيرا } حالٌ ، أي : على أيّ حالٍ كان الدَّين قليلاً أو كثيراً ، وعلى أيِّ حالٍ كان الكتاب مختصراً ، أو مشبعاً ، وجوَّز السَّجاونديُّ انتصابه على خبر « كان » مضمرةٌ ، وهذا لا حاجة تدعو إليه ، وليس من مواضع إضمارها .
وقرأ السُّلميُّ : « وَلاَ يَسْأَمُوا أَنْ يَكْتبُوهُ » بالياء من تحت فيهما . والفاعل على هذه القراءة ضمير الشُّهداء ، ويجوز أن يكون من باب الالتفات ، فيعود : إمَّا على المتعاملين وإمَّا على الكتَّاب .
فصل
والمقصود من الآية الكريمة الحثُّ على الكتابة قلَّ المال ، أو كثر ، فإنَّ النِّزاع في المال القليل ربَّما أدَّى إلى فسادٍ عظيم ، ولجاج شديد .
فإن قيل : هل تدخل الحبة والقيراط في هذا الأمر؟
فالجواب : لا ، لعدم جريان العادة به .
قوله : { إلى أَجَلِهِ } فيه ثلاثة أوجهٍ :
أظهرها : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ ، أي : أن تكتبوه مستقرّاً في الذّمَّة إلى أجل حلوله .
والثاني : أنه متعلِّقٌ بتكتبوه ، قاله أبو البقاء . وردَّه أبو حيان فقال : « متعلقٌ بمحذوفٍ لا ب » تَكْتُبُوهُ « لعدم استمرار الكتابة إلى أجل الدَّين ، إذ ينقضي في زمن يسير ، فليس نظير : سِرْتُ إلى الكُوفَةِ » .
والثالث : أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الهاء ، قاله أبو البقاء .
قوله : « ذَلِكم » مشارٌ به لأقرب مذكورٍ وهو الكتب .
وقال القفَّال : إليه وإلى الإشهاد .
وقيل : إلى جميع ما ذكر وهو أحسن . و « أَقْسَطُ » قيل : هو من أقسط إذا عدل ، ولا يكون من قسط ، [ لأن قسط ] بمعنى جار ، وأقسط بمعنى عدل ، فتكون الهمزة للسَّلب ، إلا أنه يلزم بناء أفعل من الرباعي ، وهو شاذٌّ .
قال الزَّمخشريُّ : « فإن قلتَ ممَّ بني أفعلا التّفضيل - أعني أقسط وأقوم؟ - قلت : يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيّين من » أَقْسَطَ « ، و » أَقَامَ « وأن يكون » أَقْسَط « من قاسط على طريقة النَّسب بمعنى : ذي قسطٍ؛ و » أَقْوَم « من قويم » . قال أبو حيَّان رحمه الله : لم ينصَّ سيبويه على أنَّ أفعل التّفضيل يبنى من « أَفْعل » ، إنَّما يؤخذ ذلك بالاستدلال ، فإنَّه نصَّ في أوائل كتابه على أنَّ « أَفْعَل » للتعجب يكون من فَعَلَ وفَعِلَ وفَعُلَ وأَفْعَلَ ، فظاهر هذا أن « أَفْعَل » للتعجب يبنى منه أفعل للتَّفضيل ، فما جاز في التَّعجُّب ، وأفعل التَّفضيل من أفعل على ثلاثة مذاهب : الجواز مطلقاً ، والمنع مطلقاً ، والتفضيل بين أن تكون الهمزة للنَّقل ، فيمتنع ، أو لا فيجوز ، وعليه يؤوَّل الكلام ، أي : كلام سيبويه ، حيث قال : « إنه يبنى من أفعل » ، أي : الذي همزته لغير التَّعدية . ومن منع مطلقاً قال : « لم يَقُلْ سيبويه ، وأفعل بصيغة الماضي » إنَّما قالها أفعل بصيغة الأمر ، فالتبس على السَّامع ، يعني : أنه يكون فعل التّعجب على أفعل ، بناؤه من فَعَلَ ، وفَعِل ، وفَعُل ، وعلى أَفْعِلْ .
ولهذه المذاهب موضع هو أليق بالكلام عليها .
ونقل ابن عطيَّة أنه مأخوذٌ من « قَسُطَ » بضمِّ السِّين نحو : « أَكْرَمَ » من « كَرُم » . وقيل : هو من القسط بالكسر وهو العدل ، وهو مصدر لم يشتقَّ منه فعلٌ ، وليس من الإقساط؛ لأنَّ أفعل لا يبنى من « الإِفْعَالِ » . وهذا كله بناء منهم على أنَّ الثلاثيَّ بمعنى الجوز والرُّباعيَّ بمعنى العدل .
ويحكى أنَّ سعيد بن جبيرٍ لمَّا سأله الظَّالم [ الحجَّاج ] بن يوسف : ما تقول فيَّ؟ فقال : « أقولُ إنّك قَاسِطٌ عَادِلٌ » ، فلم يفطن له إلا هو ، فقال : إنه جعلني جائراً كافراً ، وتلا قوله تعالى : { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ] { ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 ] .
وأمَّا إذا جعلناه مشتركاً بين عدل ، وبين جار فالأمر واضحٌ قال ابن القطَّاع : « قَسَط ، قُسُوطاً ، وقِسْطاً : جار وعَدَل ضِدٌّ » . وحكى ابن السِّيد في كتاب : « الاقْتِضَابِ » له عن ابن السَّكِّيت في كتاب : « الأَضْدَادِ » عن أبي عبيدة : « قَسَطَ : جارَ ، وقَسَط ، [ عَدَل ] ، وأقْسطَ بالألفِ عَدَلَ لا غير » . وقال أبو القاسم الرَّاغب الأصبهاني : « القِسْطُ أَنْ يأخذ قسط غيره ، وذلك جورٌ ، والإقساط أن يعطي قسطَ غيره ، وذلك إنصافٌ ، ولذلك يقول : قَسَط إذا جَارَ ، وأقْسَط إذا عَدَل » .
والقسط : اسم ، والإقساط مصدر يقال : أقسط فلانٌ في الحكم يقسط إقساطاً ، إذا عدل ، فهو مقسطٌ .
قال تعالى : { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } [ المائدة : 42 ] ويقال : هو قاسط إذا جار فقال تعالى : { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ] { ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 ] ، وأمَّا إذا جعلنان مشتركاً بين عدل وبين جار فالأمر واضحٌ .
قال ابن القطَّاع : قَسَطَ قُسُوطاً ، وقسطاً : جَارَ ، وعَدَلَ ضدٌّ ، وسيأتي لهذا مزيد بيانٍ في سورة النساء إن شاء الله تعالى .
قوله : { عِندَ الله } ظرفٌ منصوبٌ ب « أَقْسَط » ، أي في حكمه . وقوله : « وَأَقْوَمُ » إنَّما صحَّت الواو فيه؛ لأنه أفعل تفضيل ، وأفعل التَّفضيل يصحُّ حملاً على فعل التَّعجُّب ، وصحَّ فعل التَّعجُّب لجريانه مجرى الأسماء لجموده وعدم تصرُّفه .
و { وَأَقْومُ } يجوز أن يكون من « أَقَامَ » الرُّباعي المتعدِّي؛ لكنَّه حذف الهمزة الزَّائدة ، ثمَّ أتى بهمزة [ أفعل ] كقوله تعالى : { أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى } [ الكهف : 12 ] فيكون المعنى : أثبت لإقامتكم الشهادة ، ويجوز أن يكون من « قام » اللازم ويكون المعنى : ذلك أثبت لقيام الشَّهادة ، وقامت الشهادة : ثبتت ، قاله أبو البقاء .
قوله : { لِلشَّهَادَةِ } متعلِّقٌ ب « أَقْوَم » ، وهو مفعولٌ في المعنى ، واللاَّم زائدةٌ ولا يجوز حذفها ونصب مجرورها بعد أفعل التَّفضيل إلاَّ لضرورة؛ كقوله : [ الطويل ]
1289- .. وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ القَوَانِسَا
وقد قيل : « إشن » القَوانسَ « منصوبٌ بمضمر يدلُّ عليه أفعل التَّفضيل ، هذا معنى كلام أبي حيّان ، وهو ماشٍ على أنّ » أَقْوَم « من أقام المتعدّي ، وأمَّا إذا جعلته من » قَام « بمعنى ثبت فاللاَّم غير زائدة .
قوله : { أدنى أَلاَّ ترتابوا } ، أي : أقرب ، وحرف الجرّ محذوفٌ ، فقيل : هو اللاَّم أي : أدنى لئلاَّ ترتابوا ، وقيل هو » إلَى « وقيل : هو » من « ، أي : أدنى إلى ألاّ ترتابوا ، وأدنى من ألا ترتابوا . وفي تقديرهم : » مِنْ « نظرٌ ، إذ المعنى لا يساعد عليه . و » تَرْتَابُوا « : تفتعلوا من الرِّيبة ، والأصل : » تَرْتَيِبُوا « ، فقلبت الياء ألفاً لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها . والمفضَّل عليه محذوفٌ لفهم المعنى ، أي : أقسط وأقوم ، وأدنى لكذا من عدم الكتب ، وحسَّن الحذف كون أفعل خبراً للمبتدأ بخلاف كونه صفةً ، أو حالاً . وقرأ السُّلمي : » ألاّ يَرْتَابُوا « بياء الغيبة كقراءة : » وَلاَ يَسْأَمُوا أَنْ يكتبُوهُ « وتقدَّم توجيهه .
فصل في فوائد الإشهاد والكتابة
اعلم أنَّ الكتابة ، والاستشهاد تشتمل على ثلاث فوائد :
الأولى : قوله : { أَقْسَطُ عِندَ الله } ، أي : أعدل عند الله وأقرب إلى الحقّ .
والثانية : قوله : { أَقْومُ لِلشَّهَادَةِ } ، أي : أبلغ في استقامته التي هي ذد الاعوجاج؛ لأنَّ المنتصب القائم ضدّ المنحني المعوج ، وإنَّما كانت أقوم للشَّهادة؛ لأنها سبب للحفظ والذكر ، فكانت أقرب إلى الاستقامة .
والفرق بين الفائدة الأولى والثانية أن الأولى تتعلّق بتحصيل مرضاة الله ، والثانية تتعلّق بتحصيل مصلحة الدُّنيا ، ولهذا قدمت الأولى عليها؛ لأن تقديم مصلحة الدّين على مصلحة الدُّنيا واجب .
الفائدة الثالثة : قوله : { وأدنى أَلاَّ ترتابوا } يعني أقرب إلى زوال الشَّكِّ والارتياب عن قلوب المتداينين ، فالفائدة الأولى إشارة إلى تحصيل مصلحة الدِّين .
والثَّانية : إشارة إلى تحصيل مصلحة الدُّنيا .
والثالثة : إشارة إلى دفع الضَّرر عن النَّفس وعن الغير ، أمَّا عن النَّفس فلأنه يبقى في الفكران ، أنَّ هذا الأمر كيف كان ، وهذا الذي قلت : هل كان صدقاً ، أو كذباً ، أمَّا عن الغير ، فلأنّ ذلك الغير ربَّما نسبه إلى الكذب ، فيقع في عقاب الغيبة .
قوله : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً } في هذا الاستثناء قولان :
أحدهما : أنه متَّصل قال أبو البقاء : » والجُمْلَةُ المستثناة في موضع نصبٍ؛ لأنَّه استثناءٌ [ من الجنس ] لأنه أمرٌ بالاستشهاد في كلِّ معاملةٍ ، فالمستثنى منها التجارة الحاضرة ، والتَّقدير : إلاَّ في حال حضور التِّجارة « .
والثاني : أنَّه منقطع ، قال مكي بن أبي طالبٍ : و » أَنْ « في موضع نصبٍ على الاستثناء المنقطع » وهذا هو الظَّاهر ، كأنه قيل : لكنّ التّجارة الحاضرة ، فإنَّه يجوز عدم الاستشهاد والكتب فيها .
وقرأ عاصم هنا « تِجَارَةً » بالنَّصب ، وكذلك « حَاضِرَةً » ؛ لأنها صفتها ، ووافقه الأخوان ، والباقون قرءوا بالرَّفع فيهما .
فالرَّفع فيه وجهان :
أحدهما : أنها التامة ، أي : إلا أن تحدث ، أو تقع تجارة ، وعلى هذا فتكون « تُدِيرونها » في محلِّ رفع صفةً لتجارة أيضاً ، وجاء هنا على الفصيح ، حيث قدَّم الوصف الصريح على المؤول .
والثاني : أن تكون النَّاقصة ، واسمها « تِجَارَةٌ » والخبر هو الجملة من قوله : « تُدِيرُونَهَا » كأنه قيل : إلا أنَّ تكون تجارةٌ حاضرةٌ مدارةٌ ، وسوَّغ مجيء اسم كان نكرةً وَصْفُه ، وهذا مذهب الفراء و [ تابعه ] آخرون .
وأمَّا قراءة عاصم ، فاسمها مضمرٌ فيها ، فقيل : تقديره : إلا أن تكون المعاملة ، أو المبايعة ، أو التجارة . وقدَّره الزَّجاج إلاَّ أن تكون المداينة ، وهو أحسن . وقال الفارسيُّ : « ولا يجوز أن يكون [ التَّداينُ ] اسم كان؛ لأنَّ التَّداين معنًى ، والتّجارة الحاضرة يراد بها العين ، وحكم الاسم أن يكون الخبر في المعنى ، والتَّداين حقٌّ في ذمة المستدين ، للمدين المطالبة به ، وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون اسم كان لاختلاف التَّداين ، والتّجارة الحاضرة » وهذا الرد لا يظهر على الزجاج ، لأنَّ التِّجارة أيضاً مصدرٌ ، فهي معنًى من المعاني لا عينٌ من الأعيان ، وأيضاً فإنَّ من باع ثوباً بدرهم في الذِّمَّة بشرط أن يؤدى الدّرهم في هذه السَّاعة ، كان مداينة ، وتجارةً حاضرة .
وقال الفارسيُّ أيضاً : ولا يَجُوزُ أيضاً أن يكون اسمها « الحَقُّ » الذي في قوله : { فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق } للمعنى الذي ذكرنا في التَّداين ، لأنَّ ذلك الحقَّ دينٌ ، وإذا لم يجز هذا لم يخل اسم كان من أحد شيئين :
أحدهما : أنَّ هذه الأشياء التي اقتضت من الإشهاد ، والارتهان قد علم من فحواها التبايُع ، فأضمر التَّبايع لدلالة الحال عليه كما أضمر لدلالة الحال فيما حكى سيبويه رحمه الله : « إذا كَانَ غَداً فَأتني » ؛ وينشد على هذا : [ الطويل ]
1290- أَعَيْنَيَّ هَلاَّ تَبْكِيَانِ عِفَاقَا ... إِذَا كَانَ طَعْناً بَيْنَهُمْ وَعِنَاقَا
أي : إذا كان الأمر .
والثاني : أن يكون أضمر التِّجارة؛ كأنه قيل : إلاَّ أن تكون التِّجارة تجارةً؛ ومثله ما أنشده الفرَّاء رحمه الله : [ الطويل ]
1291- فدًى لِبَنِي ذُهْلِ بنِ شَيْبَانَ نَاقَتِي ... إِذَا كَانَ يَوْماً ذَا كَوَاكِبَ أَشْهَبَا
وأنشد الزمخشريُّ : [ الطويل ]
1292- بَنِي أَسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بَلاَءَنَا ... إِذَا كَانَ يَوْماً ذَا كَوَاكِبَ أَشْنَعَا
أي : إذا كان اليوم يوماً ، و « بَيْنَكُم » ظرفٌ لتديرونها .
قوله : « فَلَيْسَ » قال أبو البقاء : « دَخَلَتِ الفَاءُ في » فَلَيْسَ « إيذاناً بتعلُّق ما بعدها بما قبلها » قال شهاب الدين رحمه الله تعالى : هي عاطفةٌ هذه الجملة على الجملة من قوله : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً } إلى آخرها ، والسَّببيَّة فيها واضحةٌ أي : بسببٍ عن ذلك رفع الجناح في عدم الكتابة .
وقوله : { أَلاَّ تَكْتُبُوهَا } أي : « في أن لا » ، فحذف حرف الجر فبقي في موضع « أَنْ » الوجهان .
فصل
التِّجارة عبارةٌ عن التَّصرُّف في المال سواء كان حاضراً أو في الذِّمَّة لطلب الرِّبح ، يقال : تجر الرَّجل يتجر تجارةً ، فهو تاجرٌ .
قال النَّوويُّ في « التَّهْذِيبِ » : « ويقال : اتَّجر يتَّجر تجراً ، وتجارةً فهو تاجرٌ ، والجمع تجار كصاحب ، وصحاب ، ويقال أيضاً : تجَّار بتشديد الجيم كفاجرٍ ، وفجَّارٍ » .
وقال في « المُهَذَّبِ » في آخر « بَابِ زَكَاةِ الزَّرْعِ » يجب العشر والخراج ، ولا يمنع أحدهما الآخر كأجرة المتجر ، وزكاة التجارة ، فالمتجر بفتح الميم ، وإسكان التَّاء ، وفتح الجيم ، والمراد به المخزون وصرَّح به صاحب « المُهَذَّبِ » في كتابه « الخِلاَفُ » فقال : كأجرة المخزون ، وكذا ذكره غيره من أصحابنا .
فصل
وسواء كانت المبايعة بدينٍ ، أو بعينٍ ، فالتِّجارة تجارةٌ حاضرةٌ فقوله : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً } لا يمكن حمله على ظاهره ، بل المراد من التِّجارة ما يتجر فيه من الأبدال ، ومعنى إدارتها بينهم معاملتهم فيها يداً بيدٍ ، ومعنى نفي الجناح ، أي : لا مضرّة عليكم في ترك الكتابة ، ولم يرد نفي الإثم ، لأنَّه لو أراد الإثم؛ لكانت الكتابة المذكورة واجبة عليهم ، ويأثم صاحب الحقّ بتركها ، وقد ثبت خلافه ، وبيان أنَّه لا مضرَّة عليهم في تركها؛ لأنَّ التِّجارة الحاضرة تقع كثيراً ، فلو تكلَّفوا فيها الكتابة ، والإشهاد؛ يشقُّ عليهم ، وأيضاً فإنَّ كلَّ واحدٍ من المتعاملين إذا أخذ حقَّه من صاحبه في المجلس؛ لم يكن هناك خوف التَّجاحد ، فلا حاجة إلى الكتابة ، والإشهاد .
قوله : { وأشهدوا } : هذا أمر إرشاد إلى طريق الاحتياط .
قال أكثر المفسِّرين : إنَّ الكتابة ، وإن رفعت عنهم في التِّجارة الحاضرة؛ فلا يرفع الإشهاد؛ لأن الإشهاد بلا كتابة تخف مؤنته .
قوله : { إِذَا تَبَايَعْتُمْ } يجوز أن تكون شرطيةً ، وجوابها : إمَّا متقدّم عند قومٍ ، وإمَّا محذوف لدلالة ما تقدَّم عليه تقديره : إذا تبايعتم فأشهدوا ، ويجوز أن تكون ظرفاً محضاً ، أي : افعلوا الشَّهادة وقت التبايع .
قوله : { وَلاَ يُضَآرَّ } العامَّة على فتح الرَّاء جزماً ، ولا ناهيةٌ ، وفتح الفعل لما تقدَّم في قراءة حمزة : « إِن تَضِلَّ » . ثمَّ هذا الفعل يحتمل أن يكون مبنيّاً للفاعل ، والأصل : « يُضَارِرْ » بكسر الرَّاء الأولى ، فيكون « كَاتِب » ، و « شَهِيد » فاعلين نهيا عن مضارَّة المكتوب له ، والمشهود له ، نهي الكاتب عن زيادة حرف يبطل به حقّاً أو نقصانه ، ونهي الشَّاهد عن كتم الشَّهادة ، واختاره الزجاج ، ورجَّحه بأنَّ الله تعالى قال : { فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } ، ولا شكَّ أنَّ هذا من الكاتب والشَّاهد فسقٌ ، ولا يحسن أن يكون إبرام الكاتب والشهيد والإلحاح عليهما فسقاً . لأنَّ اسم الفسق بمن يحرف الكتابة ، وبمن يمتنع عن الشَّهادة؛ حتّى يبطل الحقّ بالكليّة أولى منه بمن أضرّ الكاتب والشَّهيد؛ ولأنه تبارك وتعالى قال فيمن يمتنع عن أداء الشَّهادة «
{ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } [ البقرة : 283 ] والإثم والفسق متقاربان وهذا في التَّفسير منقول عن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - ومجاهد وطاوس ، والحسن وقتادة . ونقل الدَّاني عن ابن عمر ، وابن عبَّاس ، ومجاهد ، وابن أبي إسحاق أنهم قرءوا الرَّاء الأولى بالكسر ، حين فكُّوا .
ويحتمل أن يكون الفعل فيها مبنيّاً للمفعول ، والمعنى : أنَّ أحداً لا يُضَارِرُ الكاتب ولا الشَّاهد ، ورجَّح هذا بأنه لو كان النَّهي متوجِّهاً للكاتب والشّهيد لقال : « وإِنْ تفعلا فإنه فسوقٌ بكما » ، ولأنَّ السياق من أول الآيات إنما هو للمكتوب له والمشهود له بأن يودّهما ويمنعهما من مهمَّاتها ، وإذا كان خطاباً للذين يقدمون على المداينة ، فالمنهيُّون عن الضِّرار هم ، وهذا قول ابن عباس وعطاء ومجاهد وابن مسعود . ونقل الداني أياضً عن ابن عمر وابن عباس ومجاهد أنهم قرءوا الراء الأولى بالفتح . فالآية عندهم محتملةٌ للوجهين ففسروا وقرءوا بهذا المعنى تارةً وبالآخر أخرى .
وقرأ أبو جعفر ، وعمرو بن عبيدٍ : « ولا يُضارَ » بتشديد الرّاء ساكنةً وصلاً ، وفيها ضعفٌ من حيث الجمع بين ثلاث سواكن ، لكنَّه لمَّا كانت الألف حرف مدٍّ؛ قام مدُّها مقام حركةٍ ، والتقاء السَّاكنين مغتفرٌ في الوقف ، ثم أجري الوصل مجرى الوقف في ذلك .
وقرأ عكرمة : « ولا يُضَارِرْ كَاتِباً وَلاَ شَهِيداً » بالفكِّ ، وكسرِ الراءِ الأولى ، والفاعلُ ضميرُ صاحب الحق ، ونَصْب « كاتباً » ، و « شهيداً » على المَفْعُول به ، أي : لا يضارِرْ صَاحِبُ حقٍّ كاتباً ولا شهيداً بأن يُجبِرَهُ ويُبْرِمَه بالكِتَابَة والشهادةِ؛ أو بأَنْ يحمِلَه على ما لا يَجُوز .
وقرأ ابن محيصن : « ولا يُضارُّ » برفع الرَّاء ، وهو نفيٌ فيكون الخبر بمعنى النهي كقوله : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ } [ البقرة : 197 ] .
وقرأ عكرمة في رواية مقسم : « ولا يُضارِّ » بكسر الرَّاء مشدَّدةً على أصل التقاء الساكنين . وقد تقدَّم تحقيقُ هذه عند قوله : { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } [ البقرة : 233 ] .
قوله : { وَإِن تَفْعَلُواْ } ، أي : تفعلوا شيئاً ممَّا نهى الله عنه ، فحذف المفعول به للعلم به . والضّمير في « فإنَّهُ » يعود على الامتناع ، أو الإضرار . و « بِكُمْ » متعلّقٌ بمحذوفٍ ، فقدَّره أبو البقاء : « لاحِقٌ بِكُم » ، وينبغي أن يقدَّر كوناً مطلقاً؛ لأنه صفةٌ ل « فُسُوق » ، أي : فسوق مستقرٌّ بكم ، أي : ملتبسٌ بكم ولاحق بكم .
قوله : { واتقوا الله } ، يعني : فيما حذَّر منه هاهنا ، وهو المضارة ، أو يكون عاماً ، أي : اتَّقوا الله في جميع أوامره ، ونواهيه .
قوله : { وَيُعَلِّمُكُمُ الله } يجوز في هذه الجملة الاستئناف - وهو الظَّاهر - ويجوز أن تكون حالاً من الفاعل في « اتَّقوا » قال أبو البقاء : « تقديره : واتقوا الله مضموناً لكم التَّعليم ، أو الهداية ، ويجوز أن تكون حالاً مقدَّرة » . قال شهاب الدين : وفي هذين الوجهين نظرٌ ، لأنَّ المضارع المثبت لا تباشره واو الحال ، فإن ورد ما ظاهره ذلك يؤوَّل ، لكن لا ضرورة تدعو إليه ههنا .
فصل
المعنى : يعلمكم ما يكون إرشاداً ، أو احتياطاً في أمر الدُّنيا ، كما يعلِّمكم ما يكون إرشاداً في أمر الدِّين ، { والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ، أي : عالم بجميع مصالح الدُّنيا ، والآخرة .
ج14. ج14.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
قوله : { وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ } .
قال أهل اللُّغة ( س ف ر ) تركيب هذه الحروف للظُّهور ، والكشف ، والسفر هو الكتاب؛ لأنه يبيِّن الشيء ويوضحه ، وسمي السِّفر سفراً؛ لأنَّه يسفر عن أخلاق الرِّجال ، أي : يكشف ، أو لأنه لمّا خرج من الكن إلى الصَّحراء فقد انكشف للنَّاس؛ أو لأنه لمَّا خرج إلى الصَّحراء فقد صارت أرض البيت منكشفةً خاليةً ، وأسفر الصُّبح : إذا ظهر ، وأسفرت المرأة عن وجهها : إذا كشفته ، وسفرت عن القوم أسفر سفارة ، أي : كشفت ما في قلوبهم ، وسفرت أُسفر ، أي : كنست ، والسَّفر : الكنس ، وذلك لأنك إذا كنست ، فقد أظهرت ما كان تحت الغبار ، والسّفر من الورق ما سفر به الرِّيح ، ويقال لبقية بياض النَّهار بعد مغيب الشَّمس سفر لوضوحه .
فصل في بيان وجه النَّظم
اعلم أنَّه تعالى جعل البياعات في هذه الآية على ثلاثة أقسام :
بيع بكتاب وشهود ، وبيع برهن مقبوضة ، وبيع بالأمانة ، ولما أمر في آخر الآية المتقدّمة بالكتاب ، والإشهاد ، وأعلم أنَّه ربما تعذَّر ذلك في السَّفر إمَّا ألاَّ يوجد الكاتب ، أو إن وجد لكنَّه لا توجد آلات الكتابة ، ذكر نوعاً آخر من الاستيثاق وهو أخذ الرَّهن ، فهذا وجه النَّظم ، وهذا أبلغ في الاحتياط من الكتابة والإشهاد .
قوله : { وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً } في هذه الجملة ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنَّها عطفٌ على فعل الشَّرط ، أي : « وَإِنْ كُنْتُم » ، { وَلَمْ تَجِدُواْ } فتكون في محلِّ جزمٍ لعطفها على المجزوم تقديراً .
والثاني : أن تكون معطوفةً على خبر « كان » ، أي : وإن كنتم لم تجدوا كاتباً .
والثالث : أن تكون الواو للحال ، والجملة بعدها نصب على الحال ، فهي على هذين الوجهين الأخيرين في محلّ نصبٍ .
والعامة على « كاتباً » اسم فاعل . وقرأ أُبي ومجاهدٌ ، وأبو العالية : « كِتاباً » ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّه مصدرٌ أي ذا كتابة .
والثاني : أنه جمع كاتبٍ ، كصاحبٍ وصحاب . ونقل الزمخشريُّ هذه القراءة عن أُبيّ وابن عبَّاسٍ فقط ، وقال : « وَقَالَ ابْنُ عباس : أرأيت إن وَجَدْتَ الكاتب ، ولم تجد الصَّحيفة والدَّواة » . وقرأ ابن عباس والضَّحَّاك : « كُتَّاباً » على الجمع [ اعتباراً ] بأنَّ كلَّ نازلةٍ لها كاتبٌ . وقرأ أبو العالية : « كُتُباً » جمع كتاب ، اعتباراً بالنَّوازل ، قال شهاب الدين : قول ابن عباس : « أَرَأَيْتَ إِنْ وَجَدْتَ الكَاتِبَ . . . إلخ » ترجيحٌ للقراءة المرويَّة عنه واستبعادٌ لقراءة غيره « كاتباً » ، يعني أن المراد الكتاب لا الكاتب .
قوله : { فَرِهَانٌ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مرفوعٌ بفعلٍ محذوفٍ ، أي : فيكفي عن ذلك رهنٌ مقبوضةٌ .
الثاني : أنه مبتدأ والخبر محذوفٌ ، أي : فرهن مقبوضة تكفي .
الثالث : أنَّه خبر مبتدأ محذوف تقديره : فالوثيقة ، أو فالقائم مقام ذلك رهن مقبوضةٌ .
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرٍو : « فَرُهُنٌ » بضم الرَّاء ، والهاء ، والباقون « فَرِهَانٌ » بكسر الرَّاء وألف بعد الهاء ، روي عن ابن كثير ، وأبي عمرو تسكين الهاء في رواية .
فأمَّا قراءة ابن كثير ، فجمع رهن ، وفَعْلٌ يجمع على فُعُلٍ نحو : سَقْف وسُقُف . ووقع في أبي البقاء بعد قوله : « وسَقْف وسُقُف . وأسَد وأُسُد ، وهو وهمٌ » ولكنَّهم قالوا : إنَّ فعلاً جمع فعل قليل ، وقد أورد منه الأخفش ألفاظاً منها : رَهْن ورُهُن ، ولَحْد القبر ، ولُحُد ، وقَلْب النَّخلة ، وقُلُب ، ورجلٌ ثَطٌّ وقومٌ ثُطٌّ ، وفرس وَرْدٌ ، وخيلٌ وُرُدٌّ ، وسَهمٌ حَشْرٌ وَسِهَامٌ حُشُرٌ . وأنشد أبو عمرو حجةً لقراءته قول قعنب : [ البسيط ]
1293- بَانَتُ سُعَادُ وأَمْسَى دُونَها عَدَنُ ... وَغَلِقَتْ عِنْدَهَا مِنْ قَبْلِكَ الرُّهُنُ
وقال أبو عمرو : « وإنما قرأت فرُهُن للفصل بين الرهان في الخيل وبين جمع » رَهْن « في غيرها » ومعنى هذا الكلام أنما اخترت هذه القراءة على قراءة « رهَان » ؛ لأنه لا يجوز له أن يفعل ذلك كما ذكر دون اتِّباع روايةٍ .
واختار الزَّجَّاج قراءته هذه قال : « وَهَذِه القِرَاءَة وافَقَت المصحف ، وما وافق المصحف وصحَّ معناه ، وقرأ به القرَّاء فهو المختار » . قال شهاب الدين : إن الرسم الكريم « فرهن » دون ألفٍ بعد الهاء ، مع أنَّ الزَّجَّاج يقول : « إنَّ فُعُلاً جمع فَعْلٍ قليلٌ » ، وحكي عن أبي عمرو أنه قال : « لا أَعْرِفُ الرَّهان أكثر ، والرِّهان في الخيل أكثر » وأنشدوا أيضاً على رَهْنٍ ورُهُن قوله : [ الكامل ]
1294- آلَيْتُ لاَ نُعْطِيهِ مِنْ أَبْنَائِنَا ... رُهُناً فيُفْسِدُهُمْ كَمَنْ قَدُ أَفْسَدَا
وقيل : إنَّ رُهُناً جمع رهان ، ورهان جمع رَهْن ، فهو جمع الجمع ، كما قالوا في ثمار جمع ثمر ، وثُمر جمع ثمار ، وإليه ذهب الفراء وشيخه ، ولكنَّ جمع الجمع غير مطرَّدٍ عند سيبويه وجماهير أتباعه .
وأمَّا قراءة الباقين « رِهان » ، فرهان جمع « رَهْن » وفعل وفعال مطردٌ كثير نحو : كَعْب ، وكِعَاب ، وكَلْب وكِلاَب ، ومَنْ سَكَّن ضمة الهاء في « رُهُن » فللتخفيف وهي لغةٌ ، يقولون : سُقْفٌ في سُقُف جمع سَقْفٍ .
والرَّهنُ في الأصل مصدر رهنت ، يقال : رهنت زيداً ثوباً أرهنه رهناً أي : دفعته إليه رهناً عنده ، قال : [ الوافر ]
1295- يُرَاهِنُنِي فَيَرْهَنُنِي بَنِيهِ ... وأَرْهَنُهُ بَنِيَّ بِمَا أَقُولُ
وأرهنت زيداً ثوباً ، أي : دفته إليه ليرهنه ، ففرَّقوا بين فعل وأفعل . وعند الفرَّاء رهنته وأرهنت بمعنى ، واحتجَّ بقول همَّامٍ السَّلوليِّ : [ المتقارب ]
1296- فَلَمَّا خَشِيتُ أَظَافِيرَهُمْ ... نَجَوْتُ وَأَرْهَنْتُهُمْ مَالِكاً
وأنكر الأصمعيُّ هذه الرِّواية ، وقال إِنَّما الرَّواية : « وَأَرْهَنُهُمْ مَالِكَا » والواو للحال؛ كقولهم : « قَمْتُ وأَصُكُّ عَيْنَهُ » وهو على إضمار مبتدأ .
وقيل : أرْهَنَ في السِّلعة إذا غالى فيها حتّى أخذها بكثير الثَّمن ، ومنه قوله : [ البسيط ]
1297- يَطْوِي ابنُ سَلْمَى بِهَا مِنْ رَاكِبٍ بُعْداً ... عِيديَّةً أُرْهِنَتْ فِيهَا الدَّنَايِيرُ
ويقال : رَهنتُ لساني بكذا ، ولا يُقال فيه « أَرْهَنْتُ » ثم أُطْلق الرَّهنُ على المرهون من باب إطلاق المصدرِ على اسم المفعول كقوله تعالى : { هذا خَلْقُ الله } [ لقمان : 11 ] ، و « درهَمٌ ضَرْبُ الأَمِير » ، فإذا قلت : « رَهَنْتُ زيداً ثوباً رَهْناً » فرهناً هنا مصدرٌ فقط ، وإذا قلت « رهنْتُ زيداً رَهْناً » فهو هنا مفعولٌ به؛ لأن المراد به المرهونُ ، ويُحتملُ أن يكونَ هنا « رَهْناً » مصدراً مؤكداً أيضاً ، ولم يذكرِ المفعول الثَّاني اقتصاراً كقوله : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ } [ الضحى : 4 ] .
و « رَهْن » مِمَّا استغني فيه بجمعِ كثرته عن جمع قلَّته ، وذلك أنَّ قياسه في القلةِ أفعل كفلس ، وأفلسُ ، فاستُغنيَ برَهن ورِهان عن أرَهنُ .
وأصل الرَّهن : الثُّبوت والاستقرارُ يقال : رهن الشَّيءُ ، فهو راهنٌ إذا دام واستقر ، ونعمةٌ راهنةٌ ، أي : دائمة ثابتة ، وأنشد ابن السَِّكِّيت : [ البسيط ]
1298- لاَ يَسَفِيقُونَ مِنْهَا وَهْيَ رَاهِنَةٌ ... إِلاَّ بهَاتِ وَإِنْ نَهِلُوا
ويقال : « طَعَامٌ رَاهِنٌ » أي : مُقيمٌ دائمٌ؛ قال : [ البسيط ]
1299- الخُبْزُ واللَّحْمُ لَهُمْ رَاهِنٌ ..
أي : دائمٌ مستقرٌّ ، ومنه سُمِّي المرهونُ « رَهْناً » لدوامِه واستقراره عند المُرتهِن .
فصل في إثبات الرهن في الحضر والسفر
جمهورُ الفُقهاء على أَنَّ الرهن في الحضرِ ، والسَّفر سواءٌ ، وفي حال وجود الكاتب ، وعدمهِ ، وذهب مجاهِدٌ : إلى أَنَّ الرهنَ لا يجوزُ إِلاَّ في السقر؛ لظاهر الآية ، ولا عمل عليه ، وإِنَّما قيدت الآيةُ بالسفر؛ لأَنَّ الغالبَ في السفرِ عدمُ الكاتِب؛ فهو كقوله : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ } [ النساء : 101 ] وليس الخوفُ من شرط جواز القصرِ؛ ويدلُّ عليه ما رُوِيَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ رهن دِرْعَهُ عند أَبِي الشَّحم اليهوديِّ ولم يكن ذلك في سفرٍ .
قوله : { فَإِنْ أَمِنَ } قرأ أُبي فيما نقله عنه الزَّمخشريُّ « أُومِنَط مبنيّاً للمفعول ، قال الزَّمخشريُّ : أي : » أَمِنَه الناسُ وَوَصَفُوا المَدْيُونَ بالأمانةِ والوفاءِ « قلت : وعلامَ تنتصبُ بَعْضاً؟ والظاهرُ نصبه بإسقاطِ الخافض على حذف مضافٍ ، أي : فإن أُومِنَ بعضُكم على متاعٍ بعضٍ ، أو على دينِ بعضٍ .
وفي حرف أُبيّ : » فَإِن اؤْتُمِنَ « يعني : وإن كان الذي عليه الحقُّ أَمِيناً عند صاحب الحقِّ؛ فلم يرتهن منه شيئاً؛ لحسن ظنه به .
قوله : { فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ } إذا وُقِفَ على الَّذِي ، وابتُدىءَ بما بعدها قيل : » اوتُمِنَ « بهمزةٍ مضمومةٍ ، بعدها واوٌ ساكنةٌ ، وذلك لأنَّ أصله اؤْتُمِنَ؛ مثل اقتُدر بهمزتين : الأُولى للوصل ، والثَّانية فاءُ الكلمة ، ووقعت الثانيةُ ساكنةً بعد أُخرى مثلها مضمومةً؛ فوجب قَلْبُ الثانية لمُجانس حركة الأُولى ، فقلت : اوتُمِنَ؛ فأمَّا في الدَّرج ، فتذهبُ همزةُ الوصل؛ فتعودُ الهمزةُ إلى حالها؛ لزوالِ موجب قلبها واواً ، بل تُقلبُ ياءً صريحةً في الوصلِ؛ في رواية ورشٍ .
ورُوي عن عاصم : » الَّذِي اؤْتُمِنَ « برفع الأَلف ويُشير بالضَّمَّةِ إلى الهمزةِ ، قال ابن مجاهدٍ : » وهذه الترجمةُ غلطٌ « ورَوَى سليم عن حمزة إشمامَ الهمزةِ الضَّمَّ ، وفي الإِشارة ، والإِشمام المذكُورَين نظرٌ .
وقرأ عاصمٌ أيضاً في شاذِّه : « الَّذِي اتُّمِنَ » بإِدغام الياء المبدلة من الهمزة في تاءِ الافتعال ، قال الزمخشريُّ : قياساً على : « اتَّسَرَ » في الافتعال من اليُسْر ، وليس بصحيح؛ لأَنَّ الياءَ منقلبةٌ عن الهمزةِ ، فهي في حُكمِ الهمزةِ ، واتَّزر عامِّيٌّ ، وكذلك « رُيَّا » في « رُؤْيَا » .
قال أبو حيَّان : وَمَا ذَكَرهُ الزمخشريُّ فيه : أَنَّهُ ليس بصحيح ، وأَنَّ « اتَّزَرَ » عامِّيٌّ - يعني أنه مِنْ إِحداث العامَّةِ لا أصلَ له في اللغة - قد ذكره غيره أنَّ بعضهم أَبدلَ ، وأدْغَمَ : « اتَّمَنَ واتَّزَرَ » وأنَّ لغةٌ رديئةٌ ، وكذلك « رُيَّا » في رُؤْيَا ، فهذا التشبيهُ إمَّا أَنْ يعودَ على قوله : « واتَّزَرَ عَامِّيٌّ » ، فيكون إدغام « رُيَّا » عَامِّيًّا ، وإمَّا أن يعود إلى قوله « فَلَيْسَ بِصَحِيح » أي : وكذلك إدغامُ « رُيَّا » ليس بصحيحٍ ، وقد حكى الكِسائيُّ الإدغام في « رُيَّا » .
وقوله : { أَمَانَتَهُ } يجوزُ أن تكونَ الأمانةُ بمعنى الشَّيءِ المُؤْتَمَنِ عليه؛ فينتصبَ انتصابَ المفعولِ به بقوله : « فَلْيُؤَدِّ » ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدراً على أصلها ، وتكونَ على حذفِ مضافٍ ، أي : فليؤدِّ دين أَمانتهِ ، ولا جائزٌ أن تكونَ منصوبة على مصدرِ اؤْتمنَ ، والضَّمير في « أَمَانَتَهُ » يُحْتَمَلُ أَنْ يعودَ على صاحب الحقِّ ، وأَنْ يعودَ على { الذي اؤتمن } .
فصلٌ
هذا هو القِسْمُ الثّالث مِنَ البياعاتِ المذكورة في الآية ، وهو بيعُ الأمانة ، أعني : ما لا يكون فيه كتابةٌ ، ولا شهودٌ ، ولا يكونَ فيه رهنٌ .
يقال : « أَمِنَ فُلاَنٌ غَيْرَهُ » إذا لم يخف منه .
قال تعالى : { هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ } [ يوسف : 64 ] فقوله : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً } أي : لم يخف خيانتهُ وجحودَه للحقِّ { فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ } أي : فليؤدِّ المديونُ الذي كان أميناً ، ومؤتمناً في ظنِّ الدَّائن - أمانتَهُ ، أي : حقَّهُ ، كأنه يقولُ : أَيّها المديُونُ ، أنتَ أمينٌ ، ومُؤْتمن في ظنِّ الدَّائِن ، فلا تخلف ظنَّه ، وأدِّ إليه أمانتَهُ ، وحقه ، يقالك أَمِنتُه ، أو ائْتَمَنْتُه ، فهو مأمونٌ ، ومُؤْتَمَنٌ ، { وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ } أي : يتق اللهَ ، ولا يجحدُ ، لأن الدَّائن لمَّا عامله المعاملة الحسنة؛ حينئذٍ عَوَّل على أَمانته ، ولم يُطَالبه بالوثائق من الكتابة ، والإِشهاد ، والرهنِ؛ فينبغي لهذا المديُون أنْ يتَّقِي الله ، ويعامله أَحسنَ معاملة ، بأن لا يُنكر الحقَّ ، ويؤديه إليه عند حلول الأَجل .
وقيل : إنه خطابٌ للمرتَهِن بأن يُؤَدِّي الرهنَ عند استيفاءِ المالِ ، فإنه أمانةٌ في يده .
فصلٌ
قال بعضهم : هذه الآيةُ ناسخةٌ للآياتِ المتقدمةِ الدالَّةِ على وجوب الكتابة ، والإِشهادِ ، وأخذ الرهن .
واعلم أَنَّ التزام وقُوع النسخِ من غير دليلٍ يُلجئُ إليه خطأٌ .
[ بل ] تلك الأَوامِرُ محمولةٌ على الإِرشاد ، ورعاية الاحتياط ، وهذه الآيةُ محمولةٌ على الرخصة .
وعن ابن عباسٍ ، أنه قال : ليس في آية المداينة نسخٌ .
قوله : { وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة } وفيه وجوهٌ :
الأول : قال القفَّال - رحمه اللهُ - : إنه تعالى لما أباحَ تركَ الكتابةِ والإِشهادِ ، والرهنِ عند اعتقادِ أمانة المديونِ ، ثم كان من الجائز أَنْ يكون المديونُ خائِناً جاحداً للحقِّ ، وكان من الجائزِ أيضاً أن يكون بعضُ الناسِ مُطّلعاً على أحوالهم ، فهاهنا ندب اللهُ ذلك المطلع إلى أن يسعى في إحياء ذلك الحق ، وأن يشهد لصاحب الحق بحقه ، ومنعه من كتمانِ الشَّهادةِ سواء عرف ذلك الحق ، وأن يشهد لصاحب الحق بحقه ، ومنعه من كتمانِ الشَّهادةِ سواء عرف صاحبُ الحق تلك الشهادة ، أم لا ، وشدَّد فيه بأن جعله آثِمَ القلبِ بكتمانها .
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : « خَيْرُ الشُّهُودِ مَنْ شَهِدَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ » .
الثاني : أَنَّ المراد من كتمان الشهادة أن ينكر العلم بتلك الواقعة ، ونظيره قوله تعالى : { أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله } [ البقرة : 140 ] والمرادُ الجُحودُ وإنكارُ العِلْمِ .
الثالث : كِتمانُ الشهادة : هو الامتناع مِنْ أدَائها عند الحاجة إلى إقامتها ، كما تقدَّمَ في قوله : { وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ } [ البقرة : 282 ] ؛ لأنه متى امتنع عن إقامة الشهادة صار كالمبطل لحقه ، وحُرمة مال المسلم كحُرمةِ دمه ، فلهذا بالغَ في وعيده .
وقرأ أَبُو عَبدِ الرحْمَن « وَلاَ يَكْتُمُوا » بياءِ الغيبةِ؛ لأن قَبْلَهُ غَيْباً وهم مَنْ ذُكر في قوله : « كَاتِبٌ ولا شهيد » .
قوله : { فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } في هذا الضمير وجهان :
أحدهما : أنه ضميرُ الشأنِ ، والجملةُ بعدَه مفسِّرٌ له .
والثاني : أنه ضميرُ « مَنْ » في قوله : « ومَنْ يَكْتُمْهَا » وهذا هو الظاهرُ .
وأمَّا « آثِمٌ قَلْبُهُ » ففيه أوجهٌ :
أظهرها : أنَّ الضميرَ في « إِنَّهُ » ضميرُ « مَنْ » و « آثِمٌ » خبرُ « إِنَّ » ، و « قَلْبُهُ » فاعلٌ ب « آثِمٌ » ، نحو قولك : « زَيْدٌ إِنَّهُ قَائِمٌ أَبُوهُ » ، وعَمَلُ اسم الفاعل هنا واضحٌ؛ لوجودِ شروطِ الإِعمال ، ولا يجيءُ هذا الوجهُ على القولِ بأنَّ الضميرَ ضميرُ الشأنِ؛ لأنَّ ضميرَ الشأن لا يُفَسَّر إلا بجملةٍ ، واسمُ الفاعلِ مع فاعله عند البصريِّين مفردٌ ، والكوفيُّون يُجيزون ذلك .
الثاني : أن يكون « آثِمٌ » خبراً مقدَّماً ، و « قَلْبُهُ » مبتدأٌ مؤخراً ، والجملةُ خبرَ « إِنَّ » ، ذكره الزمخشريُّ وأبو البقاء وغيرهما وهذا لا يجوزُ على أصول الكوفيِّين؛ لأنه لا يعودُ عندهم الضَّميرُ المرفوعُ على متأخِّرٍ لفظاً ، و « آثِمٌ » قد تحمَّل ضميراً ، لأنه وقع خبراً؛ وعلى هذا الوجه : فيجوزُ أن تكونَ الهاءَ ضميرَ الشأ ، وأَنْ تكونَ ضميرَ « مَنْ » .
والثالث : أن يكونَ « آثِمٌ » خبرَ « إِنَّ » ، وفيه ضميرٌ يعودُ على ما تعودُ عليه الهاء في « إِنَّهُ » ، و « قَلْبُهُ » بدلٌ من ذلك الضمير المستترِ بدلُ بعضٍ من كُلٍّ .
الرابع : [ أن يكونَ ] « آثمٌ » مبتدأً ، و « قَلْبُهُ » فاعلٌ سدَّ مسدَّ الخبر ، والجملةُ خبرُ « إِنَّ » ، قاله ابن عطية ، وهو لا يجوزُ عند البصريِّين؛ لأنَّه لا يعملُ عندهم اسمُ الفاعل ، إلا إذا اعتمد على نفي ، أو استفهام؛ نحو : ما قائِمٌ أَبَوَاكَ ، وهَلْ قائِمٌ أَخَوَاكَ؟ وَمَا قَائِمٌ قَوْمُكَ ، وَهَلْ ضَارِبٌ إِخْوَتُكَ؟ وإنما يجوزُ هذا عند الفراءِ من الكوفيين ، والأخفشِ من البصريِّين؛ إذ يجيزانِ : قائمٌ الزَّيدانِ ، وقائِمٌ الزَّيدُونَ ، فكذلك في الآية الكريمة .
وقرأ ابن عبلة : « قَلْبَهُ » بالنصب ، نسبها إليه ابن عطيَّة .
وفي نصبه ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أنه بدلٌ من اسم « إِنَّ » بدلُ بعض من كلٍّ ، ولا محذورَ في الفصلِ [ بالخبر - وهو آثِمٌ - بين البدلِ والمبدلِ منه ، كما لا محذورَ في الفصل ] به بين النعتِ والمنعوتِ ، نحو : زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ العَاقِلُ مع أنَّ العاملَ في النعت والمنعوت واحدٌ؛ بخلافِ البدلِ والمبدلِ منه؛ فإنَّ الصحيحَ أنَّ العاملَ في البدلِ غيرُ العاملِ في المُبدلِ منه .
الثاني : أنه منصوبٌ على التشبيه بالمفعولِ به؛ كقولك : « مَرَرْتُ بِرَجُلٍ حَسَنٍ وَجْهَهُ » ، وفي هذا الوجه خلافٌ مشهورٌ :
فمذهب الكوفيين : الجواز مُطْلَقاً ، أعني نظماً ونَثْراً . ومذهبُ المبرد المنع مطلقاً ، ومذهب سيبويه : منع في النثر ، وجوازه في الشعرِ ، وأنشد الكسائي على ذلك : [ الرجز ]
1300- أَنْعَتُهَا إِنِّيَ مِنْ نُعَّاتِهَا ... مُدَارَةَ الأَخْفَافِ مُجْمَرَّاتِهَا
غُلْبَ الرِّقَابِ وَعَفْرْنِيَّاتِهَا ... كُومَ الذُّرَى وَادِقَةَ سُرَّاتِهَا
ووجه ضعفه عند سيبويه في النثر تكرار الضمير .
الثالث : أنه منصوبٌ على التمييز حكاه مكيٌّ وغيره؛ وضعَّفوه بأنَّ التمييز لا يكونُ إلا نكرةً ، وهذا عند البصريِّين ، وأمَّا الكوفيون فلا يَشْتَرطون تنكيرَه ، ومنه عندهم : { إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 130 ] و { بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } [ القصص : 58 ] ؛ وأنشدوا قوله : [ الوافر ]
1301- إِلَى رُدُحٍ مِنَ الشِّيزَى مِلاَءٍ ... لُبَابَ البُرِّ يُلْبَكُ بِالشِّهَادِ
وقرأ ابن أبي عيلة - فيما نقل عنه الزمخشريُّ - « أَثَّمَ قَلْبَهُ » جعل « أَثَمَّ » فعلاً ماضياً مشدَّد العين ، وفاعله مستترٌ فيه ، و « قَلْبَهُ » مفعول به ، أي : جعل قلبه آثِماً ، أي : أَثِمَ هو؛ لأنه عَبَّر بالقلبِ عن ذاتِه كلِّها؛ لأنه أشرفُ عضوٍ فيها . وهو ، وإِنْ كان بلفظِ الإِفراد ، فالمرادُ به الجمعُ ، ولذلك اعتبر معناه في قراءة أبي عبد الرحمن ، فجمع في قوله : « وَلاَ يَكْتُمُوا » .
وقد اشتملَتْ هذه الآياتُ على أنواع من البديع : منها : التجنيسُ المغايرُ في « تَدَايَنْتُم بِدَيْنٍ » ، ونظائره ، والمماثلُ في قوله : { وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا } ، والطباقُ في « تَضِلَّ » و « تُذَكِّرَ » و « صَغِيراً وكَبِيراً » ، وقرأ السُّلمِيُّ أيضاً : « واللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ » بالغَيبَة؛ جرياً على قراءته بالغَيْبَة .
و « الآثم » : الفاجرُ رُوِيَ أَنَّ عمر كان يُعلِّمُ أَعرابيّاً { إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم } [ الدخان : 43 ، 44 ] فكان يقول : « طَعَامُ اليَتِيم » فقال له عُمرُ : طعام الفاجِرِ ، وهذا يدلُّ على أَنَّ الإِثم يكون بمعنى الفجورِ . قيل : ما وعد اللهُ على شيءٍ كإيعاده على كتمان الشهادة؛ قال : { فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } وأراد به مسخ القلب؛ نعوذُ بالله من ذلك .
وقوله : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } تحذيرٌ من الإِقدامِ على الكِتمانِ؛ لأنَّ المكلَّفَ إذا علم أَنَّ الله تعالى لا يعزُبُ عن عِلْمِه ضميرُ قلبه ، كان خائِفاً حذراً من مُخالفة أَمرِ اللهِ تعالى .
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
في كيفية النَّظم وجوه :
الأول : قال الأَصمّ : إنه تعالى لمَّا جمع في هذه السُّورة أشياءَ كثيرةً مِنْ علم الأُصُول : من دلائل التَّوحيدِ ، والنُّبوةِ ، والمعادِ ، وبيان الشَّرائِع ، والتكاليف؛ كالصلاةِ والزكاةِ ، والصومِ ، والحجِّ ، والقِصَاصِ ، والجهادِ ، والحيضِ ، والطَّلاَقِ ، والعِدَّةِ ، والصَّدَاقِ ، والخُلعِ ، والإِيلاءِ ، والرَّضَاعةِ ، والبيع ، والرِّبَا ، وكيفيَّةِ المُداينةِ - ختم هذه السورة بهذه الآية على سبيل التَّهديد .
قال ابن الخطيب : لمَّا كان أكملُ الصفاتِ هو العلم والقدرة عبَّرَ عن كمالِ قُدْرته بقول { للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } مِلكاً ومُلْكاً ، وعبَّرَ عن كمال علمه ، وإِحاطته بالكُلِّيَّاتِ ، والجُزْئِيَّاتِ بقوله : { وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله } ، وإذا اختصَّ بكمال العلم ، والقُدرة ، فكل من في السموات والأرض عبيدٌ مربوبون له ، وجدوا بتخليقه ، وتكوينه ، وهذا غاية الوعدِ للمطيعين ، ونهايةُ الوعيد للمذنبين ، ولهذا ختم السورة بهذه .
الثاني : قال أبو مسلم : إنه تعالى لمَّا نزَّل في آخر الآية المتقدِّمة : « إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عليمٌ » ، ذكر عقيبهُ ما يجرِي مجرى الدليل العقلي فقال : { للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } ومعنى هذا الملك أَنَّ هذه الأشياء لمَّا كانت محدثةً ، فقد وجدت بتكوينه؛ وإبداعه ، ومن أتقن هذه الأفعال العجيبة الغريبة المشتملةِ على الحِكم المُتكاثرة؛ والمنافع العظيمة ، فلا شَكَّ أَنَّ ذلك مِنْ أعظم الأَدِلَّة على كونه عالماً مُحيطاً بأجزائها .
الثالث : قال القاضي : إنه تعالى لمَّا أمر بهذه الوثائِق - أعني الكتابة ، والإِشهادَ ، والرهنَ ، وكان المقصودُ من الأَمر بها صيانة الأَموالِ ، والاحتياط في حفظها - بيَّن تعالى أن المقصودَ من ذلك إنما يرجع لمنفعة الخلقِ ، لا لمنفعةٍ تعُودُ إليه سبحانه ، فإنَّ له مُلْكَ السَّموات ، والأَرضِ .
الرابع : قال الشعبيُّ ، وعكرمةُ ، ومجاهدٌ : إنه تعالى لما نهى عن كِتمان الشهادة ، وأَوعد عليه ، بيَّن أَنَّ له مُلك السمواتِ ، والأَرضِ؛ فيجازِي على الكِتْمانِن والإِظهارِ .
فصلٌ في بيان سبب النُّزُول
قال مقاتلٌ : نزلت فيمن يتولَّى الكافرين من المؤمنين ، يعني : وإن تُعْلِنُوا ما في أَنفُسِكُم من ولاية الكُفَّار ، أو تُسِّروه ، يُحَاسِبكُم به الله ، كما ذكر في سورة آل عمران { لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ } [ آل عمران : 28 ] ، إلى أن قال : { قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله } [ آل عمران : 29 ] .
وذهب الأَكثرُون إلى أنَّها عامَّةٌ .
فصلٌ
رُوِي عن ابن عبَّاسٍ؛ أنه قال : لمَّا نزلت هذه الآية ، « جاء أبو بكرٍ وعمرُ ، وعبدُ الرَّحمن بن عوف ، ومعاذ ، وناسٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثم بركُوا على الرَّكبِ ، فقالوا : يا رسُول اللهِ ، كُلِّفنا من الأَعمالِ ما نُطيقُ؛ الصلاةُ ، والصِّيامُ ، والجِهَادُ ، والصَّدَقَةُ ، وقد أُنزِلت عليك هذه الآيةُ ولا نُطِيقُهَا ، إنَّ أَحدنا ليُحدِّثُ نفسهُ بما لا يحبّ أن يثبتَ في قلبهِ وإنَّ له الدُّنيا ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : » أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْل الكِتابينِ مِنْ قَبْلِكُمْ : سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بل قولوا : « سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ »
فَلمَّا قرأها القومُ ، ذلَّتْ بهم أَنفُسُهُم ، فأنزل الله في إثرها { آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله وملاائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير } [ البقرة : 285 ] فمكَثُوا في ذلك حولاً ، واشتدَّ ذلك عليهم ، فأَنزل اللهُ - تعالى - { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] فَنَسَخَتْ هذه الآية ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم : « إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثُوا بِهِ أَنْفُسَهُم مَا لَمْ يَعْمَلُوا أَوْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ » .
قال ابن مسعود ، وابن عبَّاسٍ ، وابن عمر : هذه الآية منسوخةٌ ، وإليه ذهب محمَّد بن كعبٍ القرظيّ؛ ويدُلُّ عليه ما رَوَى أَبو هريرة - رضي الله عنه - عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : قال : « إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا وَسْوَسَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ » .
وقال آخرون : الآية من باب الخبر ، والنَّسخُ لا يتطرَّق إلى الأخبارِ ، إنما يرِدُ على الأمرِ والنَّهي ، وقوله : { يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله } خبر ، وهؤلاء ذكرُوا في الآيةِ وجُوهاً :
الأول : أن الخواطر الواردة على النَّفس قسمان :
منها : ما يعزمُ على فعله وإيجاده ، فيكون مؤاخذاً به؛ لقوله - تعالى - : { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } [ البقرة : 225 ] ، وقال بعد هذه الآية : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت } [ البقرة : 286 ] ، وقال : { إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة فِي الذين آمَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ النور : 19 ] .
ومنها : ما يخطر بالبالِ مع أَنَّ الإنسان يكرهُهَا ولا يمكنه دفعها ، فهذا لا يُؤاخذُ به .
الثاني : أن كُلَّ ما كان في القلب ممَّا لا يدخُل في العملِ؛ فإنه في محلِّ العفوِ .
وقوله : { وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } فالمرادُ منه أن يوجد ذلك العمل ، إمَّا ظاهراً وإمَّا خُفيَةً ، وأمَّا ما يُوجدُ في القلبِ من العزائم والإراداتِ ، ولم تتَّصِل بعمل ، فذلك في محلِّ العفو .
قال ابن الخطيب : وهذا ضعيفٌ؛ لأن أكثر المُؤاخذاتِ إنَّما تكون بأفعالِ القُلُوبِ؛ ألا ترى أنَّ اعتقادَ الكُفْرِ والبدَع إِلاَّ مِنْ أَعمال القُلُوبِ ، وأعظم أَنواع العِقَابِ مُتَرتِّبٌ عليه .
وأيضاً : فأفعالُ الجوارح إذا خلت عن أفعال القُلُوبِ ، لا يترتَّب عليها عقابٌ؛ كأفعال النَّائِمِ والسَّاهي .
الثالث : قال الحسن : كُلُّ من أسرَّ عملاً أو أَعْلَنهُ من حركةٍ من جوارحه ، أو همَّةٍ في قلبه ، إِلاَّ يُخْبرُه الله به ويُحاسبُه عليه ، ثم يغفِر ما يشاءُ ويُعذِّب من يشاء؛ لأن الله - تعالى - أَثبت للقلبِ كسباً؛ فقال : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } [ البقرة : 225 ] .
الرابع : أن الله - تعالى - يُحاسِبُ خلقهُ بجميع ما أَبدوا من أعمالهم أو أخفوهُ ، ويُعاقِبُهُم عليه ، غير أنَّ معاقبَتَهُ على ما أَخفوهُ ممَّا يعملُوه هو ما يحدث لهم في الدُّنيا من الهَمِّ والغَمِّ والمصائِبِ ، والأُمُور التي يحزنزن عليها .
روى الضَّحَّاك عن عائشة - رضي الله عنها - : قالت : سألت رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ما حدَّث العبد به نفسهُ من شرٍّ كانت مُحاسبةُ الله - تعالى - عليه ، فقال : « يا عائشة ، هذه مُعاتَبةُ الله - عزّ وجلّ - العبد بما يُصيبُهُ من الحُمَّى والنّكبة ، حتَّى الشَّوكة والبضاعة يضعُهَا في كُمِّهِ فيفقدها فيرُوعُ لها فيجِدُها في ضِبْنه حتَّى إنَّ المؤمن ليخرُجُ من ذُنُوبه؛ كما يخرج التَّبرُ الأحمرُ من الكِبر . »
وعن أنس بن مالكٍ ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِه الخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ العُقُوبَةَ في الدُّنْيَا ، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِه الشَّرَّ أَمْسَك عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوافِيَهُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ » .
فإن قيل : كيف تحصل المُؤَاخذةُ في الدُّنيا مع قوله : { اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [ غافر : 17 ] .
قلنا : هذا خاصٌّ ، فيُقدَّمُ على ذلك العامِّ .
الخامس : أنه - تعالى - قال : « يُحَاسِبْكُم » ولم يَقُل « يُؤَاخِذْكُم » وقد ذكرنا في معنى كونه حسيباً ومُحَاسباً وجوهاً كثيرة ، ومن جملتها كونه عالماً بها ، فيرجعُ معنى الآية إلى كونه عالماً بكُلِّ ما في الضَّمائر والسَّرائر .
والمرادُ من المُحاسبة : الإِخبار والتَّعريفُ .
ومعنى الآية : وَإِنْ تُبْدُوا مَافِي أَنْفُسِكُمْ فتعملُوا به أَوْ تُخْفُوهُ ممَّا أضمرتم ونويتم ، يحاسبكم به الله ، ويُخبركم به ، ويُعرفكم إيَّاه ثم يغفر للمؤمنين إظهاراً لفضله ، ويعذِّب الكافرين إظهاراً لعدلِهِ .
وهذا معنى قول الضَّحَّاك ، ويُروَى عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -؛ يدلُّ عليه أَنَّهُ قال : { يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله } ولم يَقُلْ : « يُؤَاخِذْكُمْ » ، والمُحاسبةُ غير المُؤَاخذة .
ورُوِي عن ابن عبَّاسٍ أنه - تعالى - إذا جمع الخلائق يُخْبَرهم بما كان في نفوسهم ، فالمُؤْمِنُ يُخبِرهُ ويعفو عنه ، وأهل الذُّنُوب يُخبرهم بما أَخفوا من التَّكذِيب والذَّنب روى صفوان بن محرز قال : كُنتُ آخِذاً بيد عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - فأتاهُ رجلٌ ، فقال : كيف سمعتَ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في النَّجوى؟ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إِنَّ اللهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ يَسْتُرُه من النَّاسِ ، فيقُولُ : أي عَبْدِي ، أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا وَكَذَا؟ فيقولُ : نَعَمْ أي ربِّ ، ثم يقُول : أي رَبِّ ، حتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ ، وَرَأَى في نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ ، قال : فَإِنِّي قد سترتُها عليك في الدُّنيا وقد غَفَرْتُهَا اليَوْمَ ، ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ [ بِيَمِينِهِ ] ، وأَمَّا الكافِرُ والمُنَافِقُ فَيقُولُ الأَشهادُ هؤلاءِ الَّذِين كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ » .
السادس : أنه - تعالى - قال : { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } فيكون الغُفرانُ لمن كان كارِهاً لورُودِ تلك الخواطِرِ ، والعَذَابُ إن كان مُصِرّاً على تِلك الخواطِرِ مستحسِناً لها .
السابع : المراد كتمان الشَّهادة؛ وهذا ضعيفٌ ، لعُموم اللَّفظ .
قوله تعالى : { فَيَغْفِرُ } : قرأ ابن عامر وعاصمٌ برفع « يَغْفِرُ » و « يُعَذِّبُ » ، والباقون من السبعةِ بالجزم ، وقرأ ابن عباس والأعرجُ وأبو حيوة : « فَيَغْفِرَ » بالنصب .
فأمَّا الرفعُ : فيجوزُ أَنْ يكونَ رفعُه على الاستئنافِ ، وفيه احتمالان :
أحدهما : أن يكونَ خبر مبتدأ محذوفٍ ، أي : فهو يَغْفِرُ .
والثاني : أنَّ هذه جملةٌ فعليةٌ من فعلٍ وفاعلٍ ، عُطِفت على ما قبلها .
وأمَّا الجزمُ فللعطفِ على الجزاءِ المجزوم .
وأمَّا النصبُ : فبإضمار « أَنْ » ، وتكونُ هي وما في حَيِّزها بتأويلِ مصدرٍ معطوف على المصدر المتوهِّم من الفعلِ قبل ذلك ، تقديره : تكنْ محاسبةُ ، فغفرانٌ ، وعذابٌ . وقد رُوي قولُ النابغة بالأوجه الثلاثة ، وهو : [ الوافر ]
1302 - فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ ... رَبيعُ النَّاسِ وَالبَلَدُ الحَرَامُ
ونَأْخُذْ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عَيْشٍ ... أَجَبَّ الظَّهْر لَيْسَ لَهُ سَنَامُ
بجزم : « نَأْخُذْ » عطفاً على « يَهْلِكْ رَبِيعُ » ونصبه ورفعِه ، على ما ذُكِرَ في « فَيَغْفِرْ » وهذه [ قاعدة مطَّرِدة ، وهي أنه إذا وقع بعد جزاء الشرط فعلٌ بعد فاءٍ أو واوٍ جاز فيه هذه ] الأوجُهُ الثلاثةُ ، وإن توسَّطَ بين الشرطِ والجزاءِ ، جاز جزمه ونصبه وامتنع رفعه ، نحو : إِنْ تَأْتِنِي فَتَزُرْنِي أَوُ فَتَزُورَنِي ، أَوْ وَتَزُرْني أَوْ تَزُورَنِي .
وقرأ الجعفي وطلحة بن مصرِّف وخلاَّد : « يَغْفِرْ » بإسقاط الفاء ، وهي كذلك في مصحف عبد الله ، وهي بدلٌ من الجواب؛ كقوله تعالى : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب } [ الفرقان : 68-69 ] . وقال أبو الفتح : « وهي على البدلِ من » يُحاسِبْكُمْ « ، فهي تفسيرٌ للمحَاسَبَة » قال أبو حيان : « وليس بتفسيرٍ ، بل هما مترتِّبان على المُحَاسَبَةِ » . وقال الزمخشريُّ : « ومعنى هذا البدلِ التفصيلُ لجملة ، الحساب؛ لأنَّ التفصيلَ أوضحُ من المفصَّل ، فهو جارٍ مجرى بدل البعض من الكلِّ أو بدل الاشتمال؛ كقولك : » ضَرَبْتُ زَيْداً رَأْسَهُ « و » أَحْيَيْتُ زَيْداً عَقْلَهُ « ، وهذا البدلُ واقعٌ في الأفعالِ وقوعَه في الأسماءِ؛ لحاجةِ القبلتينِ إلى البيان » .
قال أبو حيان : وفيه بعضُ مناقشةٍ : أمَّا الأولُ؛ فقوله : « معنَى هذا البدلِ التفصيلُ لجملةِ الحسابِ » ، ولس العذابُ والغفرانُ تفصيلاً لجملةِ الحسابِ؛ لأنَّ الحِسَابَ إنما هو تعدادُ حسناتِه وسيئاتِه وحصرُها ، بحيث لا يَشُذُّ شيءٌ منها ، والغفرانُ والعذابُ مترتِّبان على المُحاسَبَة ، فليست المحاسبةُ مفصَّلةٌ بالغفرانِ والعذابِ . وأمَّا ثانياً؛ فلقوله بعد أَنْ ذكر بدل البعض من الكل وبدل الاشتمال : « وهذا البدلُ واقعٌ في الأفعالِ وقوعَه في الأسماءِ لحاجةِ القبيلَين إلى البيان » ، أمَّا بدلُ الاشتمال ، فهو يمكن ، وقد جاءَ؛ لأنَّ الفعلَ يدُلُّ على الجنسِ ، وتحته أنواعٌ يشتملُ عليها ، ولذلك إذا وقع عليه النفيُ ، انتفَتْ جميعُ أنواعه ، وأمَّا بدلُ البعضِ من الكلِّ ، فلا يمكنُ في الفعل إذ الفعلُ لا يقبلُ التجزُّؤَ؛ فلا يقال في الفعلِ له كلٌّ وبعضٌ ، إلا بمجازٍ بعيدٍ ، فليس كالاسم في ذلك ، ولذلك يستحِيلُ وجودُ [ بدل ] البعضِ من الكلِّ في حق الله تعالى؛ إذ الباري لا يتقسَّم ولا يتبعَّض .
قال شهاب الدين : ولا أدري ما المانعُ من كونِ المغفرة والعذابِ تفسيراً ، أو تفصيلاً للحساب ، والحسابُ نتيجتُه ذلك ، وعبارةُ الزمخشريِّ هي بمعنى عبارة ابن جنِّي ، وأمَّا قوله : « إِنَّ بدلَ البعضِ من الكلِّ في الفعْلِ متعذِّرٌ ، إذ لا يتحقَّق فيه تجزُّؤٌ » ، فليس بظاهرٍ؛ لأنََّ الكليةَ والبعضيةَ صادقتان على الجنس ونوعه ، فإنَّ الجنسَ كلٌّ ، والنوعَ بعضٌ ، وأمَّا قياسُه على الباري تعالى ، فلا أدري ما الجامع بينهما؟ وكان في كلام الزمخشريُّ ما هو أولى بالاعتراض عليه . فإنه قال : وقرأ الأعمش : « يَغْفِر » بغير فاءٍ مجزوماً على البدلِ من « يُحَاسِبْكُمْ » ؛ كقوله : [ الطويل ]
1303- مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وَنَاراً تَأَجَّجَا
وهذا فيه نظرٌ؛ لأنه لا يطابق ما ذكره بعد ذلك؛ كما تقدَّم حكايتُه عنه؛ لأن البيت قد أُبدِلَ فيه من فعلِ الشرط ، لا من جوابِه ، والآية الكريمة قد أُبْدِلَ فيها من نفسِ الجواب ، ولكنَّ الجامعَ بينهما كونُ الثاني بدلاً مِمَّا قبلَه وبياناً له .
وقرأ أبو عمرو بإدغام الراء في اللام ، والباقون بإظهارها ، وأظهر الباء قبل الميم هنا ابن كثير بخلافٍ [ عنه ] ، وورشٌ عن نافع ، والباقون بالإِدغام ، وقد طَعَن قومٌ على قراءةِ أبي عمرٍو؛ لأنَّ إدغام الراءِ في اللام عندهم ضعيفٌ .
قال الزمخشريُّ : « فإن قلت : » كيف يَقْرأ الجَازِمُ « ؟ قلت : يُظْهِر الراءَ ، ويُدْغِم الباء ، ومُدْغِمُ الراءِ في اللام لاحِنٌ مخطىءٌ خطأً فاحِشاً ، وراويه عن أبي عمرٍو مخطىءٌ مرتين؛ لأنه يَلْحَنُ وينسُبُ إلى أعلمِ الناس بالعربية ما يُؤذِنُ بجهلٍ عظيم ، والسببُ في هذه الروايات قِلَّةُ ضبطِ الرواة ، وسبب قلةِ الضبطِ قلةُ الدراية ، ولا يَضْبطُ نحو هذا إلا أهلُ النَّحو » قال شهاب الدين . وهذا من أبي القاسم غيرُ مرضيٍّ؛ إذ القُرَّاء معتنُونَ بهذا الشأن؛ لأنهم تَلقَّوا عن شيوخهم الحرفَ [ بعد الحَرْفِ ] ، فكيف يقلُّ ضبطُهُم؟ وهو أمرٌ يُدْرَكُ بالحسِّ السمعيِّ ، والمانعُ من إدغام الراءِ في اللام والنونِ هو تكريرُ الراءِ وقوتُها ، والأقوى لا يدغم في الأضعَف ، وهذا مَذهبُ البصريِّين : الخليل وسيبويه ومَنْ تبعهما ، وأجاز ذلك الفراءُ والكسائيُّ والرُّؤاسيُّ ويعقوبُ الحضرميُّ ورأسُ البصريِّين أبو عمرو ، وليس قوله : « إن هذه الرواية غلطٌ علَيْه » بمُسَلَّم ، ثم ذكر أبو حيان نقولاً عن القراء كثيرةٌ ، وهي منصوصة في كتبهم ، فلم أرَ لذكرها هنا فائدةً؛ فإنَّ مجموعها مُلَخَّصٌ فيما ذكرته ، [ وكيف ] يقال : إنَّ الراوي ذلك عن أبي عمرو مخطىءٌ مرتين ، ومن جملة رُواتِهِ اليزيديُّ إمامُ النَّحو واللغةِ ، وكان يُنازعُ الكسائيُّ رئاسته ، ومحلُّهُ مشهُور بين أهلِ هذا الشَّأْن .
روى طاوُس عن ابنِ عبَّاس : « فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ » الذَّنب العَظِيم « ويُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ على الذَّنْبِ الصَّغِير ، لا يُسْأَلَ عمَّا يَفْعَل وهُمْ يُسْأَلُون ، واللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير » .
قوله : { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } قد بيَّن بقوله تعالى : { للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } أنه كامل الملك والمَلَكُوتِ ، وبيَّن بقوله : { إِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله } أنه كامل العِلْمِ والإحاطةِ ، ثم بيَّن بقوله : { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أنه كامِل القُدْرة ، مُسْتَولٍ على كل المُمكِنَات بالقَهرِ والقُدرة والتَّكوين والإِعدام ، ومن كان موصوفاً بهذه الصِّفات ، يجبُ على كُلِّ عاقِلٍ أن يكون عَبْداً له مُنْقَاداً خاضِعاً لأوامرهِ ونواهِيهِ .
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
في كيفية النَّظم وجوهٌ :
الأول : لما بيَّن في الآيةِ المتقدِّمة كمال المُلْكِ والعلم والقُدرةِ له - تعالى - ، وأنَّ ذلك يوجب كمال صفة الرُّبُوبيَّة ، أَتْبَع ذلك ببيان كون المؤمن في نهاية الانقياد والطَّاعة والخُضُوع لله - تعالى - ، وذلك هو كمالُ العُبُوديَّة .
الثاني : أنه - تعالى - لَمَّا قال : { إِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله } [ البقرة : 284 ] وبيَّن أنه لا يخفى عليه من سِرِّنا وجهرنا شيءٌ أَلبتَّة ، ذكر عقيب ذلك ما يَجْرِي مُجْرَى المَدْحِ لنا؛ فقال : { آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون } كأنَّهُ بفضله يقول : عبدي ، أنا وإن كُنْتُ أعلم جميع أحوالِك ، فلا أَذكُرُ مِنها إِلاَّ ما يكون مدحاً لك ، حتى تَعْلَمَ أَنِّي الكامِلُ في العِلم والقُدْرَة ، فأنا كامِلٌ في الجُودِ والرَّحْمَةِ ، وفي إِظهارِ الحسناتِ ، وفي السَّتْرِ على السَّيِّئَاتِ .
الثالث : أنه بَدَأَ السُّورة بمدح المُتَّقين { الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] بيَّن في آخر السُّورة أنَّ الَّذِين مدحهُم في أوَّل السُّورة هم أُمَّةُ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فقال : { والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله وملاائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } وهذا هو المراد بقوله في أَوَّل السُّورة : { يُؤْمِنُونَ بالغيب } [ البقرة : 3 ] ، ثم قال هَهُنا { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير } وهو المراد بقوله أَوَّل السُّورة : { وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ } [ البقرة : 4 ] ثم حكى عنهم هَهُنَا كيفيَّة تضرُّعِهِمِ في قولهم : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ . . . } [ البقرة : 286 ] إلى آخر السُّورَة ، وهو المراد بقوله أَوَّل السورة : { أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون } [ البقرة : 5 ] .
فصلٌ في بيان سبب النُّزُول
قال القرطبيُّ : سبب نزول هذه الآية : الآيةُ الَّتِي قبلها ، وهو قوله : { وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله } [ البقرة : 284 ] فإنه لمَّا نزل هذا على النَّبيِّ صلى الله عليه سولم اشتدَّ ذلك على أصحابِ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَأَتَوا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثم بَرَكُوا على الرُّكب ، فقالوا : أي رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذْ كُلِّفْنَا من الأَعمالِ ما نُطِيق؛ الصَّلاة والصِّيام والجِهَادُ ، وقد أُنزِل عليكَ هذه الآيُ ولا نُطِيقُهَا ، فقال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الكِتَابَيْنِ من قَبْلِكُمْ : سَمِعنَا وعَصَيْنَا ، بل قولُوا : سَمِعْنَا وأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ » فلما قَرَأَها القومُ وذَلَّت بها أنْفُسُهْم ، أَنزَل اللهُ في إِثرها { آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ } إلى قوله : { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير } فلما فعلُوا ذلك ، نسخَها اللهُ ، فأنزلَ اللهُ
{ لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت } [ البقرة : 286 ] قال : نعم ، { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا } قال : نعم { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قال : نعم { واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ أَنتَ مَوْلاَنَا فانصرنا عَلَى القوم الكافرين } قال : نعم أخرجهُ مسلمٌ ، عن أبي هُرَيرة - رضي الله عنه -
فصلٌ
معنى قوله : { آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ } : أنه عَرَفَ بالدَّلائل القاهرة؛ أن هذا القُرْآن وجُملة ما فيه من الشَّرائع والأَحكامِ مُنزَّلٌ من عِندِ الله - تعالى - ، وليس من إلقاء الشَّيَاطين ولا السِّحر والكهانة ، بل بما ظَهر من المُعجزات على يد جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام - .
وقوله : { والمؤمنون } فيه احتمالان :
أحدهما : أَنَّهُ يَتِمُّ الكلامُ عند قوله - تعالى - { والمؤمنون } ، فيكُونُ المعنى : آمَن الرَّسُولُ والمُؤْمِنُونَ بما أُنزِل إِلَيهم من ربِّهم ، ثم ابتدأ [ بعد ] ذلك بقوله : { كُلٌّ آمَنَ بالله } والمعنى : كُلُّ أحَدٍ من المذكُورين وهم الرَّسُول والمُؤْمِنُون آمَنَ بالله .
والاحتمال الثَّاني : أن يتمَّ الكلامُ عند قوله : { بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ } ثم يَبْتَدِىءُ { المؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله } ويكون المعنى : أن الرَّسول آمَنَ بكُلِّ ما أُنزلَ إليه من ربِّه ، وأمَّا المُؤْمِنُونَ فإِنَّهم آمَنُوا بالله ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ .
فالوجه الأول يشعر بأنه - عليه السَّلام - ما كان مؤمناً بِرَبِّه ، ثم صار مُؤْمِناً به ، ويَحْتمِلُ عدم الإِيمان إلى وقت الاستدلالِ .
وعلى الوجه الثاني يُشْعِر اللَّفظُ بأنَّ الَّذِي حدث هو إيمانُهُ بالشَّرائع التي نَزَلَتْ عليه؛ كما قال - تعالى - { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان } [ الشورى : 52 ] فأمَّا الإِيمانُ بالله ومَلاَئِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ على الإِجمال ، فقد كان حاصلاً منذُ خُلِقَ من أَوَّل الأَمْرِ ، وكيف يُسْتَبْعَدُ ذلك مع أَنَّ عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - حين انفصَلَ عن أُمِّهِ ، قال { إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب } [ مريم : 30 ] فإذا لم يَبْعُد أن يكُونَ عيسى رسولاً من عند اللهِ حين كان طِفْلاً ، فكيف يُستبعد أن يقال : إن محمَّداً كان عارفاً بربِّه من أَوَّل [ مَا ] خُلِقَ كامل العقلِ .
فصلٌ
دلَّت الآية على أنَّ الرَّسُول آمَنَ بما أُنزِل إليه من رَبِّه ، والمؤْمِنُون آمَنُوا بالله ومَلاَئِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ ، وإنما خُصَّ الرَّسُول - عليه الصَّلاة والسَّلام - بذلك؛ لأنَّ الذي أُنزِل إليه من رَبِّه قد يكُونُ كلاماً مَتْلُوّاً يسمعهُ الغير ويعرِفُه ، فيمكنُه أن يؤمن به ، وقد يكون وحياً لا يعلمُه فيكونُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - مُختصّاً بالإيمان به ، ولا يتمكَّنُ غيره من الإِيمان به ، فلهذا السَّبب كان الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - مختصّاً في باب الإيمان بما لا يمكن حصوله في غيره .
قوله تعالى : { والمؤمنون } : يجوزُ فيه وجهان :
أحدهما : أنه مرفوعٌ بالفاعلية عطفاً على « الرَّسُول » - عليه الصَّلاة والسَّلام - فيكونُ الوقفُ هنا ، ويدُلُّ على صحَّةِ هذه قراءةُ عليّ بن أبي طالب - كرم الله وجهه - : « وَآمَنَ المُؤْمِنُونَ » ، فأَظْهَرَ الفعلَ ، ويكون قوله : « كُلٌّ آمَنَ » جملةً من مبتدأ وخبر يدُلُّ على أنَّ جميع مَنْ تقدَّم ذكره آمَنَ بما ذكر .
والثاني : أن يكون « المُؤْمِنُونَ » مبتدأٌ ، و « كلٌّ » مبتدأ ثانٍ ، و « آمَنَ » خبرٌ عن « كُلّ » وهذا المبتدأ وخبرُه خبرُ الأوَّل؛ وعلى هذا فلا بُدَّ من رابطٍ بين هذه الجملةِ وبين ما أخبر بها عنه ، وهو محذوفٌ ، تقديرُه : « كُلٌّ مِنْهُمْ » وهو كقولهم : « السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَم » ، تقديرُه : مَنَوَانِ مِنْهُ ، قال الزمخشريُّ : « والمؤمنُونَ إن عُطِفَ على الرسول ، كان الضّميرُ الذي التنوينُ نائبٌ عنه في » كُلّ « راجعاً إلى » الرَّسُول « - صلى الله عليه وسلم - و » المُؤْمِنُونَ « أي : كلُّهم آمَنَ بالله ومَلاَئِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ من المذكورين . ووُقِفَ عليه ، وإن كان مبتدأً كان الضميرُ للمؤمنين » .
فإن قيل : هل يجوزُ أَنْ يكون « المُؤْمِنُونَ » مبتدأ ، و « كُلٌّ » تأكيد له ، و « آمَنَ » [ خبر هذا ] المبتدأ؟ فالجوابُ : أنَّ ذلك لا يجوزُ؛ لأنهم نَصُّوا على أَنَّ « كُلاًّ » وأخواتها لا تقعُ تأكيداً للمعارف ، إلا مضافةٌ لفظاً لضميرِ الأولِ ، ولذلك ردُّوا قولَ مَنْ قال : إِنَّ كُلاًّ في قراءة مَنْ قَرَأَ : { إِنَّا كُلاًّ فِيهَآ } [ غافر : 48 ] تأكيدٌ لاسم « إِنَّ » وقرأ الأَخَوان هنا « وَكِتَابِهِ » بالإِفراد ، والباقون بالجمعِ ، وفي سورة التحريم [ آية12 ] قرأ أبو عمرو وحفصٌ عن عاصم بالجَمْع ، والباقون بالإفراد ، فتلخّصَ من ذلك أنَّ الأخوين يَقْرَآن بالإِفراد في الموضعين ، [ وأنَّ أبا عمرو وحفصاً يقْرآن بالجمعِ في الموضعَيْن ] ، وأنَّ نافعاً وابن كثير وابن عامر وأبا بكر عن عاصمٍ قَرَءُوا بالجمع هنا ، وبالإِفرادِ في التحريم .
فأمَّا الإِفرادُ ، فإنه يُراد به الجنسُ ، لا كتابٌ واحدٌ بعينه ، وعن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - : « الكتَابُ أكثرُ من الكُتُب » قال الزمخشريُّ : فإنْ قلت : كيف يكون الواحدُ أكثرَ من الجمعِ؟ قلت : لأنه إذا أُريد بالواحدِ الجنسُ ، والجنسيةُ قائمةٌ في وحداتِ الجنس كُلِّها ، لَمْ يَخْرُج منه شيءٌ ، وأمَّا الجمعُ ، فلا يَدْخُل تحته إلاَّ ما فيه الجنسية من الجُمُوع . قال أبو حيان : « وليس كما ذكر؛ لأنَّ الجمعَ متى أُضيفَ ، أو دَخَلَتْه الألفُ واللامُ [ الجنسية ] ، صارَ عامّاً ، ودلالةُ العامِّ دلالةٌ على كلِّ فردٍ فردٍ ، فلو قال : » أَعْتَقْتُ عَبِيدِي « ، لشمل ذلك كلَّ عَبْدٍ له ، ودلالةُ الجمعِ أظهرُ في العموم من الواحدِ ، إلاَّ بقرينةٍ لفظيَّةٍ ، كأَنْ يُسْتَثْنَى منه أو يوصفَ بالجمع؛ نحو : { إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ }
[ العصر : 2-3 ] « أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَارُ الصُّفْرُ والدِّرْهَمُ البِيضُ » أو قرينةٍ معنويةٍ؛ نحو : « نِيَّة المُؤْمِنِ أَبْلَغُ مِنْ عَمَلِهِ » وأقصى حالِهِ : أن يكونَ مثل الجمعِ العامِّ ، إذا أريد به العموم « . قال شهاب الدِّين : للناس خلافٌ في الجمع المحلَّى بأَلْ أو الضمافِ : هل عمومُه بالنسبةِ إلى مراتبِ الجموعِ ، أم إلى أعمَّ من ذلك ، وتحقيقُه في علم الأُصُول . وقال الفارسيُّ : هذا الإِفرادُ ليس كإفراد المصادر ، وإن أريدَ بها الكثيرُ؛ كقوله تعالى : { وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً } [ الفرقان : 14 ] ولكنه كما تُفْرَدُ الأسماءُ التي يُرَاد بها الكثرةُ ، نحو : كَثُرَ الدِّينَارُ والدِّرهمُ ، ومجيئها بالألف واللام أكثرُ من مجيئها مضافةً ، ومن الإِضافةِ : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] وفي الحديث : » مَنَعَتِ العِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا « يُراد به الكثيرُ ، كما يُراد بما فيه لامُ التعريف . قال أبو حيان : » انتهى ملخصاً ، ومعناه أنَّ المفرد المحلَّى بالألفِ واللام يعُمُّ أكثر من المفرد المُضافِ « .
قال شهاب الدين : وليس في كلامه ما يدُلُّ على ذلك ألبتةَ ، إنما فيه أنَّ مجيئها في الكلامِ معرَّفةً بأَلْ أكثرُ من مجيئها مضافةً ، وليس فيه تَعَرُّضٌ لكثرةِ عمومٍ ولا قِلَّتِهِ .
وقيل : المرادُ بالكتابِ هنا القرآن؛ فيكونُ المرادُ الإِفراد الحقيقيَّ . وأمَّا الجمعُ ، فلإِرادةِ كلِّ كتابٍ؛ إذْ لا فرق بين كتابٍ وكتابٍ ، وأيضاً؛ فإنَّ فيه مناسبةً لَما قبلَه وما بعدَه من الجمعِ .
ومَنْ قرأ بالتَّوحيد في التحريم ، فإنما أراد به الإِنجيل؛ كإرادة القرآن هنا ، ويجوزُ أن يُرادَ به أيضاً الجِنْسُ ، وقد حَمَلَ على لفظ » كُلّ « في قوله : » آمَنَ « فَأَفْرد الضمير ، وعلى معناه ، فجمع في قوله : » وَقَالُوا سَمِعْنَا « ، قال الزمخشريّ : ووحَّد ضمير » كُلّ « في » آمَنَ « على معنى : كُلُّ واحدٍ منهم آمَنَ ، وكان يجوزُ أن يُجْمَعَ؛ كقوله تعالى : { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } [ النمل : 87 ] .
وقرأ يحيى بن يعمر - ورُويت عن نافع - » وكُتْبِهِ وَرُسْلِهِ « بإسكان العين فيهما ، ورُوي عن الحسن وأبي عمرو تسكين سين » رُسْلِهِ « .
فصلٌ
دلَّت هذه الآية الكريمة على أنَّ معرفة هذه المراتب الأربع من ضرورات الإيمان : فالمرتبة الأولى : هي الإيمانُ بالله - سبحانه - بأنَّهُ الصَّانع القادِرُ العالِمُ بجميع المعلومات ، الغنيُّ عن كُلِّ الحاجات .
والمرتبة الثانية : الإِيمانُ بالملائكة؛ لأَنَّه - سبحانه - إنَّما يُوحِي إلى الأَنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - بواسطة الملائكة ، قال : { يُنَزِّلُ الملاائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [ النحل : 2 ] ، وقال : { فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ } [ الشورى : 51 ] وقال : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ } [ الشعراء : 193-194 ] ، وقال : { شَدِيدُ القوى } [ النجم : 5 ] ، وإذا ثبت أنَّ وحي اللهِ إنَّما يصلُ إلى البشر بواسطة الملائكة ، فالملائكة واسطةٌ بين اللهِ وبيْن البشرِ؛ فلهذا السَّبب ذكر الملائكة في المرتبة الثانية ، ولهذا قال : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط }
[ آل عمران : 18 ] .
والمرتبة الثالثة : الكُتُب؛ وهو الوَحْي الذي يتلقَّاهُ الملك من اللهِ - تعالى - ، ويُوصِلُه إلى البشر ، فلمَّا كان الوَحْيُ هو الَّذِي يتلقَّاهُ المَلَكُ من اللهِ؛ فلهذا السَّبَب جُعِلَ في المرتبة الثالثة .
المرتبة الرابعة : الرسُلُ؛ وهم الَّذِين يأخذُون الوَحْيَ من الملائكة ، فيكونون متأخِّرين عن الكتب؛ فلهذا جعلُوا في المرتبة الرابعة .
قوله : { لاَ نُفَرِّقُ } هذه الجملة منصوبةٌ بقولٍ محذوف ، تقديره : « يقولون : لا نُفَرِّقُ » ، ويجوز أن يكون التقدير : « يَقُولُ » يعني يجوز أن يراعى لفظ « كُلّ » تارةً ، ومعناها أخرى في ذلك القول المقدَّر ، فمن قدَّر « يَقُولُونَ » ، راعى معناها ومن قدَّر « يَقُولُ » ، راعى لفظها ، وهذا القول المضمر في محلِّ نصبٍ على الحال ، ويجوز أن يكون في محلِّ رفعٍ؛ لأنه خبر بعد خبر ، قاله الحوفيُّ .
والعامَّة على « لاَ نُفَرِّقُ » بنون الجمع .
وقرأ ابن جبير وابن يعمر وأبو زرعة ويعقوب - ورويت عن أبي عمرو أيضاً - « لا يُفَرِّقُ » بياء الغيبة؛ حملاً على لفظ « كُلّ » ، وروى هارون أنَّ في مصحف عبد الله « لا يُفَرِّقُونَ » بالجمع؛ حملاً على معنى « كُلّ » ؛ وعلى هاتين القراءتين ، فلا حاجة إلى إضمار قولٍ ، بل الجملة المنفية بنفسها : إمَّا في محلِّ نصب على الحال ، وإمَّا في محلّ رفعٍ خبراً ثانياً؛ كما تقدَّم في ذلك القول المضمر .
قوله : { بَيْنَ أَحِدٍ } متعلِّقٌ بالتفريق ، وأضيف « بَيْنَ » إلى أحد ، وهو مفرد ، وإن كان يقتضي إضافته إلى متعدد؛ نحو : « بَيْنَ الزَّيْدَيْنِ » أو « بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو » ، ولا يجوز « بَيْنَ زَيْدٍ » ، ويسكت - إمَّا لأنَّ « أَحَداً » في معنى العموم ، وهو « أَحَد » الذي لا يستعمل إلا في الجحد ، ويراد به العموم؛ فكأَنَّه قيل : لا نفرِّق بين الجميع من الرسل ، قال الزمخشريُّ : كقوله : { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [ الحاقة : 47 ] ، ولذلك دخل عليه « بَيْنَ » وقال الواحدي : و « بَيْنَ » تقتضي شيئين فصاعداً ، وإنما جاز ذلك مع « أَحَدٍ » ، وهو واحدٌ في اللفظ؛ لأنَّّ « أَحَداً » يجوز أن يؤدِّي عن الجميعِ؛ قال الله تعالى : { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [ الحاقة : 47 ] وفي الحديث : « مَا أُحِلَّت الغَنَائِمُ لأَحَدٍ سُودِ الرُّءُوسِ غَيْركُمْ » ، يعني : فوصفه بالجمع؛ لأنَّ المراد به جمعٌ ، قال : وإنَّما جاز ذلك؛ لأنَّ « أَحَداً » ليس كرجل يجوز أن يثنَّى ويجمع ، وقولك : « مَا يَفْعَلُ هَذَا أَحَدٌ » ، تريد ما يفعله الناس كلُّهم ، فلما كان « أَحَد » يؤدَّى عن الجميع ، جاز أن يستعمل معه لفظ « بَيْنَ » ، وإن كان لا يجوز أن تقول : « لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ رَجُلٍ مِنْهُمْ » .
قال شهاب الدين : وقد ردَّ بعضهم هذا التأويل؛ فقال : وقِيلَ إنَّ « أَحَداً » بمعنى « جميع » ، والتقدير : « بَيْنَ جَمِيعِ رُسُلِهِ » ويبعد عندي هذا التقدير ، لأنه لا ينافي كونهم مفرِّقين بين بعض الرسل ، والمقصود بالنفي هو هذا؛ لأن اليهود والنصارى ما كانوا يفرّقون بين كلِّ الرسل ، بل البعض ، وهو محمَّد - صلى الله عليه وسلم -؛ فثبت أنَّ التأويل الذي ذكروه باطلٌ ، بل معنى الآية : لا نُفَرِّقُ بين أحدٍ من رسله ، وبين غيره في النبوَّة .
فصل
قال شهاب الدين : وهذا وإن كان في نفسه صحيحاً ، إلا أنَّ القائلين بكون « أَحَد » بمعنى « جميع » ، وإنما يريدون في العموم المصحِّح لإضافة « بَيْنَ » إليه؛ ولذلك ينظِّرونه بقوله تعالى : { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ } [ الحاقة : 47 ] ، وبقوله : [ الرجز ]
1304- إِذَا أُمُورُ النَّاسِ دِيكَتْ دَوْكَا ... لاَ يَرْهَبُونَ أَحَداً رَأَوْكَا
فقال : « رَأَوْكَ » ؛ اعتباراً بمعنى الجميع المفهوم من « أَحَد » .
وإمَّا لأن ثمَّ معطوفاً محذوفاً؛ لدلالة المعنى عليه ، والتقدير : « لاَ نُفَرِّقُ بين أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ، وبَيْنَ أَحَدٍ » وعلى هذا : فأحد هنا ليس الملازم للجحد ، ولا همزته أصليةٌ ، بل هو « أَحَد » الذي بمعنى واحد ، وهمزته بدلٌ من الواو ، وحذف المعطوف كثيرٌ جدّاً ، نحو : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] أي : والبرد ، وقوله : [ الطويل ]
1305- فَمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِماً ... أَبُو حُجُرٍ إِلاَّ لَيَالٍ قَلاَئِلُ
أي : بين الخير وبيني .
و « مِنْ رُسُلِهِ » في محلِّ جرٍّ؛ لأنه صفةٌ ل « أَحَد » ، و « قَالُوا » عطفٌ على « آمَنَ » ، وقد تقدَّم أنه حمل على معنى « كُلّ » .
فصل
قال الواحديُّ - رحمه الله - : قوله : « سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا » أي : سمعنا قوله ، وأطعنا أمره ، إلاَّ أنه حذف المفعول .
قال ابن الخطيب : وحذف المفعول في هذا الباب ظاهراً وتقديراً ، أولى؛ لأنَّك إذا جعلت التَّقدير : سمعنا قوله وأطعنا أمره ، أفاد أن ههنا قول آخر غير قوله ، وأمر آخر يطاع سوى أمره ، فأمَّا إذا لم يقدَّر فيه ذلك المفعول ، أفاد أنَّه ليس في الوجود قول يجب سمعه إلاَّ قوله ، وليس في الوجود أمر يقال في مقابلته أطعنا إلاَّ أمره ، فكان حذف المفعول صورةً ومعنًى في هذا الموضع أولى .
فصل
لما وصفهم بقوله : « سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا » ، علمنا أنه ليس المراد منه السَّماع الظَّاهر؛ لأن ذلك لا يفيد المدح ، بل المراد : عقلناه وعلمنا صحَّته ، وتيقَّنا أنَّ كل تكليف ورد على لسان الملائكة والأنبياء - عليهم السلام - إلينا ، فهو حقٌّ صحيحٌ واجبٌ قبوله وسمعه ، والسَّمع بمعنى القبول والفهم واردٌ في القرآن؛ قال تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ }
[ ق : 37 ] ، والمعنى : لمن سمع الذِّكرى بفهم حاضرٍ ، وعكسه قوله تعالى : { كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً } [ لقمان : 7 ] ، وقولهم بعد ذلك : « وَأَطَعْنَا » فدلَّ على أنَّهم ما أَخلُّوا بشيءٍ من التَّكاليف ، فجمع تعالى بهذين اللَّفظين كلَّ ما يتعلَّق بأحوال التَّكاليف علماً وعملاً .
قوله : « غُفْرَانَكَ » منصوبٌ : إمَّا على المصدرية ، قال الزمخشريُّ : « منصوبٌ بإضمار فعله ، يقال : » غُفْرَانَكَ ، لاَ كُفْرَانَكَ « أي : نستغفرك ولا نكفرك ، فقدَّره جملةً خبريةً ، وهذا ليس مذهب سيبويه - رحمه الله - ، إنما مذهبه تقدير ذلك بجملةٍ طلبية؛ كأنه قيل : » اغْفِرْ غُفْرَانَكَ « ويستغنى بالمصدر عن الفعل نحو : » سقياً ورعياً « ونقل ابن عطيَّة هذا قولاً عن الزَّجَّاج ، والظاهر أنَّ هذا من المصادر اللازم إضمار عاملها؛ لنيابتها عنه ، وقد اضطرب فيها كلام ابن عصفور ، فعدَّها تارةً مع ما يلزم فيه إضمار الناصب؛ نحو : » سُبْحَانَ اللهِ ، [ ورَيْحَانَهُ « ] ، و » غُفْرَانَكَ لاَ كُفْرَانَكَ « ، وتارةً مع ما يجوز إظهار عامله ، والطلب في هذا الباب أكثر ، وقد تقدَّم في أول الفاتحة نحو من هذا .
وقال الفرَّاء : هو مصدرٌ وقع موقع الأمر ، فنصب وهو أولى من قول من يقول : » نَسْأَلك غُفْرَانَكَ « لأن هذه الصِّيغة لما كانت موضوعة لهذا المعنى ، فقد كانت أدلَّ عليه؛ ونظيره : حمداً وشكراً ، أي : أحْمَدُ حَمْداً وأشْكُر شُكْراً .
فإن قيل : إن القوم لما قبلوا التَّكاليف ، وعملوا بها ، فأيُّ حاجةٍ لهم إلى طلب المغفرة؟ فالجواب من وجهين :
الأول : أنَّهم وإن بذلوا جهدهم في أداء التَّكاليف ، فهم خائفون من صدور تقصيرٍ ، فلمَّا جوَّزوا ذلك ، طلبوا المغفرة للخوف من التَّقصير .
الثاني : قال - صلى الله عليه وسلم - » [ إِنَّهُ لَيُغَانُ ] عَلَى قَلْبِي ، حَتّى أَنِّي أَسْتَغْفِرُ اللهَ في اليَوْمِ واللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّة « ، وذكروا لهذا الحديث تأويلات؛ من جملتها : أنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يترَقَّى في جملة العبوديَّة ، فكان كلما ترقَّى عن مقام إلى مقام أعلى من الأوَّل ، رأى الأوَّل حقيراً ، فيستغفر الله منه؛ فكذلك طَلَبُ الغفران في هذه الآية . والمصير : اسم مصدر من صار يصير : أي : رجع ، وقد تقدَّم في قوله : { المحيض } [ البقرة : 222 ] أنَّ في المفعل من الفعل المتعلِّ [ العين ] بالياء ثلاثة مذاهب ، وهي : جريانه مجرى الصحيح ، فيبنى اسم المصدر منه على مفعل بالفتح ، والزمانُ والمكان بالكسر ، نحو : ضَرَبَ يَضْرِب مَضْرِباً ، أو يُكْسَرُ مطلقاً ، أو يُقْتَصَرُ فيه على السَّماع ، فلا يتعدَّى ، وهو أعدلها ، ويطلق المصير على المِعَى ، ويجمع على مصران ، كرغيفَ ورغفان ، ويجمع مصران على مصارين .
فصل
في قوله - تبارك وتعالى - : { وَإِلَيْكَ المَصِيرُ } فائدتان :
إحداهما : أنَّهم كما أقرُّوا بالمبدإ؛ فكذلك أقرُّوا بالمعاد؛ لأن الإيمان بالمبدإ أصل الإيمان بالمعاد .
والثانية : أن العبد متى علم أنَّه لا بدَّ من المصير إليه ، والذهاب إلى حيث لا حكم إلاَّ حكم الله - تعالى - ، ولا يستطيع أحدٌ [ أن ] يشفع إلاَّ بإذن الله ، كان إخلاصه في الطَّاعات أتمَّ ، واحترازه عن السَّيِّئات أكمل .
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
قوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت } : « وُسْعَهَا » مفعولٌ ثانٍ ، وقال ابن عطية : « يُكَلِّفُ يتعدَّى إلى مفعولين ، أحدهما محذوفٌ ، تقديره : عبادةً أو شيئاً » . قال أبو حيان : « إن غَنَى أنَّ أصله كذا ، فهو صحيحٌ؛ لأنَّ قوله : » إِلاَّ وُسْعَهَا « استثناءٌ مفرَّغٌ من المفعول الثاني ، وإن عَنَى أنَّ أصله كذا ، فهو صحيحٌ؛ لأنَّ قوله : » إِلاَّ وُسْعَهَا « استثناءٌ مفرَّغٌ من المفعول الثاني ، وإن عَنَى أنَّه محذوفٌ في الصنعة ، فليس كذلك ، بل الثاني هو » وُسْعَهَا « ؛ نحو : » مَا أَعْطَيْتُ زَيْداً إِلاَّ دِرْهَماً « ، و » مَا ضَرَبْتُ إِلاَّ زَيْداً « هذا في الصناعة هو المفعول ، وإن كان أصله : ما أعْطَيْتُ زَيْداً شَيْئاً إِلاَّ دِرْهَماً » ، والوسع : ما يسع الإنسان ، ولا يضيق عليه ، ولا يخرج منه . قال الفرَّاء : هو اسم كالوجد والجهد . وقال بعضهم : الوسع هو هدون المجهود في المشقَّة ، وهو ما يتَّسع له قدرة الإنسان . وقرأ ابن أبي عبلة : « إِلا وَسِعَهَا » جعله فعلاً ماضياً ، وخرَّجوا هذه القراءة على أنَّ الفعل فيها صلةٌ لموصول محذوفٍ تقديره : « إِلاَّ ما وَسِعَهَا » وهذا الموصول هو المفعول الثاني ، كما كان « وُسْعَهَا » كذلك في قراءة العامَّة ، وهذا لا يجوز عند البصريِّين ، بل عند الكوفيِّين ، على أنَّ إضمار مثل هذا الموصول ضعيفٌ جدّاً؛ إذ لا دلالة عليه؛ وهذا بخلاف قول الآخر حيث قال : [ الخفيف ]
1306 - مَا الَّذِي دَأْبُهُ احْتِيَاطٌ وَحَزْمٌ ... وَهَوَاهُ أَطَاعَ يَسْتَوِيَانِ
وقال حسَّان أيضاً - [ الوافر ]
1307- أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللهِ مِنْكُمْ ... وَيَنْصُرُهُ وَيَمْدَحُهُ سَواءُ
وقد تقدَّم تحقيق هذا ، وهل لهذه الجملة محلٌّ من الإعراب ، أم لا؟ الظاهر الثاني؛ لأنها سيقت للإخبار بذلك ، وقيل : بل محلُّها نصبٌ؛ عطفاً على « سَمِعْنَا » و « أَطَعْنَا » ، أي : وقالوا أيضاً : لا يكلِّف الله نفساً ، وقد خرِّجت هذه القراءة على وجه آخر؛ وهو أن تجعل المفعول الثاني محذوفاً لفهم المعنى ، وتجعل هذه الجملة الفعليَّة في محلِّ نصبٍ لهذا المفعول ، والتقدير : لا يكلِّف الله نفساً شيئاً إلا وسعها . قال ابن عطية : وفي قراءة ابن أبي عبلة تجوُّزٌ؛ لأنه مقلوبٌ ، وكان يجوز وجه اللفظ : إلا وسعته؛ كما قال : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض } [ البقرة : 255 ] { وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } [ طه : 98 ] ، ولكن يجيء هذا من باب « أَدْخَلْتُ القَلَنْسُوَةَ في رَأْسِي » .
فصل في كيفيَّة النَّظم
إن قلنا إِنَّه من كلام المؤمنين ، فإنَّهم لمَّا قالوا : « سَمِعْنَا وأَطَعْنَا » فكأنَّهم قالوا : كيف نسمع ولا نطيع ، وهو لا يكلِّفنا إلاَّ ما في وسعنا وطاقتنا بحكم الرَّحمة الإلهيَّة .
وإن قلنا : إنه من كلام الله - تبارك وتعالى - ، فإنَّهم لمَّا قالوا : « سَمِعْنَا وَأَطْعْنَا » ثم قالوا بعده : « غُفْرَانَكَ رَبَّنَا » ، طلبوا المغفرة فيما يصدر عنهم من وجوه التَّقصير على سبيل الغفلة [ والسَّهو؛ لأنَّهم لمَّا سمعوا وأطاعوا ، لم يتعمّدوا التَّقصير ، فطلبوا المغفرة لما يقع منهم على سبيل الغفلة ] ، فلا جرم خفَّف الله عنهم ، وقال : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } والتَّكليف : هو إلزام ما فيه كلفة ومشقَّة ، يقال : كلَّفته فتكلَّف .
فصل في بيان مسألة تكليف ما لا يطاق
استدلَّ المعتزلة بهذه الآية الكريمة ونظائرها؛ كقوله : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] ، { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } [ البقرة : 185 ] ، { يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } [ النساء : 28 ] على أنه لا يجوز تكليف ما لا يطاق ، وإذا ثبت هذا فههنا أصلان :
الأول : أن العبد موجدٌ لأفعال نفسه؛ لأنه لو كان موجدها هو الله تعالى ، لكان تكليف العبد بالفعل تكليفاً بما لا يطاق ، فإن الله تعالى إذا خلق الفعل وقع لا محالة ، ولا قدرة للعبد ألبتَّة على فعله ولا تركه؛ أمَّا أنَّه لا قدرة له على الفعل؛ فلأنَّ ذلك الفعل وجد بقدرة الله تعالى ، والموجود لا يوجد ثانياً ، وأمَّا أنَّه لا قدرة للعبد على الدَّفع ، فلأنَّ قدرته أضعف من قدرة الله تعالى ، فكيف تقوى قدرته على دفع قدرة الله تعالى ، وإذا لم يخلق الله الفعل ، استحال أن يكون للعبد قدرة على تحصيل الفعل؛ فثبت أنَّه لو كان موجد فعل العبد هو الله ، فكان تكليف العبد بالفعل تكليفاً بما لا يطاق .
الثاني : أن الاستطاعة قبل الفعل ، وإلاَّ لكان الكافر المأمور بالإيمان لم يكن قادراً على الإيمان ، فكان ذلك تكليفاً بما لا يطاق .
وأجيبوا : بأنَّ الدَّلائل العقليَّة دلَّت على وقوع هذا التَّكليف ، فوجب المصير إلى تأويل هذه الآية ، وذلك من وجوهٍ :
أحدها : أنَّ من مات على الكفر ، تبيَّنَّا بموته على الكفر أنَّ الله تعالى كان في الأزل عالماً بأنَّه يموت على الكفر ، ولا يؤمن أصلاً ، فكان العلم بعدم الإيمان موجوداً ، والعلم بعدم الإيمان ينافي وجود الإيمان ، فكان تكليفه بالإيمان مع حصول العلم بعدم الإيمان تكليفاً بالجمع بين النَّقيضين ، وهذه الحجَّة كما جرت في العلم ، فتجري أيضاً في الجر .
وثانيها أيضاً : أن صدور الفعل عند العبد يتوقَّف على الدَّاعي ، وتلك الدَّاعية مخلوقةٌ لله تعالى ، ومتى كان الأمر كذلك ، لزم تكليف ما لا يطاق؛ لأنَّ قدرة العبد لمَّا كانت صالحةً للفعل والترك ، فلو ترجَّح أحد الجانبين على الآخر من غير مرجِّح ، لزم وقوع الممكن من غير مرجِّح ، وذلك نفيٌ للصَّانع .
وإنما قلنا : إن تلك الدَّاعية من الله تعالى؛ لأنَّها لو كانت من العبد ، لافتقر إيجادها إلى داعيةٍ أخرى ولزم التَّسلسل ، وإنما قلنا : إنه متى كان الأمر كذلك ، لزم الجبر ، لأنَّ عند حصول الدَّاعية المرجِّحة لأحد الطَّرفين ، صار الطَّرف الآخر مرجوحاً ، والمرجوح ممتنع الوقوع ، وإذا كان المرجوح ممتنعاً ، كان الرَّاجح واجباً ضرورة أنَّه لا خروج عن النَّقيضين؛ فإذن صدور الإيمان من الكافر يكون ممتنعاً وهو مكلّف به ، فلزم تكليف ما لا يطاق .
وثالثها : أنه تعالى كلَّف « أبَا لَهَب » بالإيمان ، والإيمان تصديق الله في كلِّ ما أخبر عنه ، ومن جملة ما أخبر عنه أنه لا يؤمن ، فقد صار « أبُو لَهَب » مكلَّفاً بأن يؤمن بأنَّه لا يؤمن ، وذلك تكليف ما لا يطاق .
ورابعها : أن العبد غير عالم بتفاصيل فعله؛ لأن من حرَّك أصبعه ، لم يعرف عدد الأحيان التي حرَّك أصبعه فيها ، ولم يخطر بباله أنه حرَّك أصبعه في بعض الأوقات ، وسكن في بعضها وأنَّه أين تحرَّك وأين سكن ، وإذا لم يكن عالماً بتفاصيل فعله ، لم يكن موجداً لها ، وإذا لم يكن موجداً ، لزم تكليف ما لا يطاق .
فصل في تأويل هذه الآية
اختلفوا في تأويل هذه الآية :
فقال ابن عباس وعطاء وأكثر المفسِّرين : أراد به حديث النَّفس المذكور في قوله : { وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } [ البقرة : 284 ] .
وروي عن ابن عباس؛ أنه قال : هم المؤمنون خاصَّة ، وسَّع الله عليهم أمر دينهم ، ولم يكلِّفهم فيه إلاَّ ما يطيقونه؛ كقوله : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } [ البقرة : 185 ] ، وقوله : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] .
قوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } هذه الجملة لا محلَّ لها؛ لاستئنافها ، وهي كالتفسير لما قبلها؛ لأنَّ عدم مؤاخذتها بكسب غيرها ، واحتمالها ما حصَّلته هي فقط من جملة عدم تكليفها بما [ لا ] تسعه ، وهل يظهر بين اختلاف لفظي فعل الكسب معنًى ، أم لا؟ فقال بعضهم : نعم ، وفرَّق بأنَّ الكسب أعمُّ ، إذ يقال : « كَسَبَ » لنفسه ولغيره ، و « اكْتَسَبَ » أخصُّ؛ إذ لا يقال : « اكْتَسَبَ لِغَيْرِهِ » ؛ وأنشد قول الحطيئة : [ البسيط ]
1308- أَلْقَيْتُ كَاسِبَهُمْ في قَعْرِ مُظْلِمَةٍ .. . .
ويقال : هو كاسب أهله ، ولا يقال : مكتسب أهله .
وقال الزمخشريُّ : « فإنْ قلت : لم خصَّ الخير بالكسب ، والشرَّ بالاكتساب؟ قلت : في الاكتساب اعتمالٌ ، ولمَّا كان الشرُّ ممَّا تشتهيه النفس ، وهي منجذبةٌ إليه وأمَّارةٌ به ، كانت في تحصيله أعمل وآجد ، فجعلت لذلك مكتسبةً فيه ، ولمَّا لم تكن كذلك في باب الخير ، وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال » .
وقال ابن عطيَّة : وكَرَّر فعلَ الكسب ، فخَالَفَ بين التصريف حُسناً لنمط الكلام؛ كقوله تعالى : { فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ } [ الطارق : 17 ] ، قال شهاب الدين : « والذي يظهر لي في هذا : أن الحسنات هي مما يكسب دون تكلُّفٍ؛ إذ كاسبها على جادَّة أمر الله تعالى ، ورسم شرعه ، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة؛ إذ كاسبها يتكلَّف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى ، ويتجاوز إليها؛ فحسن في الآية مجيء التصريفين؛ إحرزاً لهذا المعنى » .
وقال آخرون : « افْتَعَل » يدلُّ على شدَّة الكلفة ، وفعل السَّيِّئة شديدٌ لما يئول إليه .
وقال الواحديُّ : « الصَّحيح عند أهل اللغة : أنَّ الكسب والاكتساب واحدٌن لا فرق بينهما .
وقد جاء القرآن بالكسب والاكتساب في موردٍ واحدٍ؛ قال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } [ المدثر : 38 ] . وقال تعالى : { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا } [ الأنعام : 164 ] وقال تعالى : { بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً } [ البقرة : 81 ] ، وقال تعالى : { بِغَيْرِ مَا اكتسبوا } [ الأحزاب : 58 ] فقد استعمل الكسب والاكتساب في الشرِّ » .
قال ذو الرُّمَّة : [ البسيط ]
1309- ... أَلْفَى أَبَاهُ بِذَاكَ الكَسْبِ يَكْتَسِبُ
وإنما أَتَى في الكسب باللام ، وفي الاكتساب ب « عَلَى » ؛ لأنَّ اللام تقتضي الملك ، والخير يحبُّ ويسر به ، فجيء معه بما يقتضي الملك ، ولمَّا كان الشرُّ يحذر ، وهو ثقلٌ ووزرٌ على صاحبه جيء معه ب « عَلَى » المقتضية لاستعلائه عليه .
وقال بعضهم : « فيه إيذانٌ أنَّ أدنى فعلٍ من أفعال الخير يكون للإنسان تكرُّماً من الله على عبده؛ حتَّى يصل إليه ما يفعله معه ابنه من غير علمه به؛ لأنه من كسبه في الجملة ، بخلاف العقوبة؛ فإنه لا يؤاخذ بها إلا من جدَّ فيها واجتهد » ، وهذا مبنيٌّ على القول بالفرق بين البنائين ، وهو الأظهر .
فصل في دفع شبهة للمعتزلة
احتجت المعتزلة بهذه الآية على أنَّ فعل العبد بإيجاده؛ قالوا : لأنَّ الآية صريحةٌ في إضافة خيره وشرِّه إليه ، ولو كان ذلك بتخليق الله تعالى ، لبطلت هذه الإضافة ، ويجري صدور أفعاله مجرى لونه ، وطولهن وشكله ، وسائر الأمور التي لا قدرة له عليها ألبتَّة .
قال القاضي : لو كان تعالى خالقاً أفعالهم ، فما فائدة التَّكليف ، والكلام فيه معلوم .
فصل
احتجوا بهذه الآية على فساد القول بالمحابطة؛ لأنَّه - تعالى - أثبت كلا الأمرين على سبيل الجمع ، فبيَّن أن لها ثواب ما كسبت ، وعليها عقاب ما اكتسبت ، وهذا صريحٌ في اجتماع هذين الاستحقاقين ، وأنه لا يلزم من طريان أحدهما زوال الآخر .
قال الجبَّائي : ظاهر الآية وإن دلَّ على الإطلاق ، إلاَّ أنَّه مشروطٌ ، والتَّقدير : لَهَا مَا كَسَبَتْ مِنْ ثَوَابِ العَمَلِ الصَّالِح إذا لم يبطله ، وعليها ما اكتَسَبَتْ مِن العَقَاب إذا لَمْ يُكَفِّرْه بالتَّوبة ، وإنَّمَا صِرْنَا إلى إضْمَارِ هذا الشَّرط ، لمَّا ثبت أن الثَّواب يجب أن يكون منفعةً خالصةً دائمةً ، والجمع بينهما محالٌ في العقول ، فكان الجمع بين استحقاقيهما أيضا محالٌ .
فصل
تمسَّك الفقهاء بهذه الآية في أنَّ الأصل في الأملاك البقاء والاستمرار؛ لأن اللام في قوله : { مَا كَسَبَتْ } تدلُّ على ثبوت الاختصاص ، ويؤكِّد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : « كُلُّ امْرِىءٍ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وسَائِر النَّاسِ أَجْمَعِينَ » ، وينبني على هذا الأصل فروع كثيرة :
منها : أن المضمونات لا تملك إلاَّ بأداء الضَّمان؛ لأن المقتضي لبقاء الملك قائمٌ .
ومنها : إذا غصب ساجةً فأدرجها في بنائه ، أو حنطةً فطحنها ، لا يزول الملك .
ومنها : أن القطع في السَّرقة لا يمنع وجوب الضَّمان؛ لأن المقتضي لبقاء الملك قائمٌ ، وهو قوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } ويجب ردُّ المسروق إن كان باقياً .
قوله : { لاَ تُؤَاخِذْنَا } يقرأ بالهمزة ، وهو من الأخذ بالذَّنب ، ويقرأ بالواو ، ويحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون من الأخذ أيضاً ، وإنما أُبدلت الهمزة واواً؛ لفتحها وانضمام ما قبلها ، وهو تخفيفٌ قياسيٌّ ، ويحتمل أن يكون من : واخذه بالواو ، قاله أبو البقاء . وجاء هنا بلفظ المفاعلة ، وهو فعل واحدٍ؛ لأنَّ المسيء قد أمكن من نفسه ، وطرق السبيل إليها بفعله؛ فكأنه أعان من يعاقبه بذنبه ، ويأخذ به على نفسه .
قال ابن الخطيب : وعندي فيه وجهٌ آخر ، وهو أنَّ الله تعالى يأخذ المذنب بالعقوبة ، فالمذنب كأنَّه يأخذ ربَّه بالمطالبة بالعفو والكرم ، فإنَّه لا يجد من يخلِّصه من عذابه إلاَّ هو ، فلهذا يتمسَّك العبد عند الخوف منه به ، فلمَّا كان كلُّ واحدٍ منهما يأخذ الآخر ، عبَّر عنه بلفظ المؤاخذة ، ويجوز أن يكون من باب سافرت وعاقبت وطارقت .
قوله : { إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } .
في النِّسيان وجهان :
الأول : أنَّ المراد النِّسيان الذي هو ضدُّ الذِّكر .
فإن قيل : أليس فعل النَّاسي في محلِّ العفو بحكم دليلِ العقل؛ حيث لا يجوز تكليف ما لا يطاق ، وبدليل السَّمع؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم : « رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ والنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ » وإن كان كذلك ، فما معنى طلب العفو عنه؟
فالجواب من وجوهٍ :
الأول : أن النِّسيان منه ما يعذر فيه صاحبه ، ومنه ما لا يعذر؛ ألا ترى أنَّ من رأى في ثوبه نجاسة ، فأخَّر إزالتها عنه إلى أن نسي فصلَّى وهي على ثوبه ، عدَّ مقصِّراً؛ إذ كان يلزمه المبادرة إلى إزالتها ، وأمَّا إذا لم ير في ثوبه نجاسة ، فإنه يعذر فيه ، ومن رمى صيداً فأصاب إنساناً ، فقد يكون بحيث لا يعلم الرَّامي أنه يصيب ذلك الصَّيد أو غيره ، فإذا رمى ولم يحترز ، كان ملوماً ، وأمَّا إذا لم تكن أمارات الغلط ظاهرةٌ ، ثم رمى فأصاب إنساناً؛ كان ههنا معذوراً ، وكذلك الإنسان إذا تغافل عن الدَّرس والتِّكرار ، حتى نسي القرآن يكون ملوماً ، وأمَّا إذا واظب على القراءة ونسي القرآن ، فههنا يكون معذوراً؛ فثبت أن النِّسيان على قسمين : منه ما يعذر فيه ، ومنه ما لا يعذر فيه ، وهو ما إذا ترك التَّحفُّظ ، وأعرض عن أسباب التذكُّر ، فهذا يصحُّ طلب غفرانه بالدُّعاء .
الثاني : أن هذا دعاء على سبيل التَّقدير؛ لأنَّ هؤلاء الَّذِين ذكروا هذا الدُّعاء كانوا متَّقين لله حقَّ تقاته ، فلم يكن يصدر عنهم ما لا ينبغي إلاَّ على وجه النِّسيان والخطأ ، فكان وصفهم بذلك إشعاراً ببراءة ساحتهم عمَّا يؤاخذون به؛ كأنه قيل : إذا كان النِّسيان ممَّا تجوز المؤاخذة به ، فلا تؤاخذنا به .
الثالث : أنَّ المقصود من هذا الدُّعاء إظهار التَّضرُّع إلى الله تعالى لا طلب الفعل؛ لأن الدَّاعي كثيراً ما يدعو بما يقطع بأنَّ الله تعالى يفعله ، سواءٌ دعا أو لم يدع؛ قال : { رَبِّ احكم بالحق } [ الأنبياء : 112 ] ، وقال : { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ } [ آل عمران : 194 ] ، وقالت الملائكة : { فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم } [ غافر : 7 ] فكذا ههنا .
الرابع : أن مؤاخذة النَّاسي ممتنعةٌ عقلاً ، لأنَّ الإنسان إذا علم أنه بعد النِّسيان يكون مؤاخذاً ، فإنه بخوف المؤاخذة يستديم الذكر ، فحينئذٍ لا يصدر عنه ، إلاَّ أنَّ استدامة ذلك الذِّكر يشقُّ على النَّفس ، فلمَّا جاز ذلك في العقول ، حسن طلب المغفرة منه .
الخامس : أن الَّذين جوَّزوا تكليف ما لا يُطاق بهذه الآية ، فقالوا : النَّاسي غير قادرٍ على الاحتراز عن الفعل ، فلولا أنَّه جائزٌ عقلاً أن يعاقبه الله عليه ، لما طلب بالدُّعاء ترك المؤاخذة به .
القول الثاني : أن المراد بالنِّسيان : التَّرك؛ قال الله تعالى : { نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ } [ التوبة : 67 ] ، أي : تركوا العمل لله فترك أن يثيبهم ، ويقول الرَّجل لصاحبه « لاَ تَنْسِني من عَطِيَّتِكَ » ، أي : لا تتركني ، فالمراد بهذا النِّسيان أن يترك الفعل لتأويل فاسدٍ ، والمراد بالخطأ : أن يفعل الفعل لتأويل فاسدٍ .
قوله : { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً } .
الإصر : في الأصل : الثِّقل والشِّدَّة؛ قال النابغة : [ البسيط ]
1310- يَا مَانِعَ الضَّيْمِ أَنْ يَغْشَى سَرَاتَهُمُ ... وَالحَامِلَ الإِصْرِ عَنْهُمْ بَعْدَمَا غَرِقُوا
وأُطلق على العهد والميثاق لثقلهما؛ كقوله تعالى : { وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي } [ آل عمران : 81 ] أي : عهدي ، { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ } [ الأعراف : 157 ] أي : التكاليف الشاقة ثم يطلق على كلِّ ما يثقل ، حتى يروى عن بعضهم أنه فسَّر الإصر هنا بشماتة الأعداء؛ وأنشد : [ الكامل ]
1311- أَشْمَتَّ بِيَ الأَعْدَاءَ حِينَ هَجَرْتَنِي ... وَالمَوْتُ دُونَ شَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ
ويقال : الإصر أيضاً : العطف والقرابة ، يقال : « [ مَا ] يَأْصِرُني عليه آصِرَةٌ » أي : ما يعطفني عليه قرابةٌ ولا رحمٌ؛ وأنشد للحطيئة : [ مجزوء الكامل ]
1312- عَطَفُوا عَلَيَّ بِغَيْرِ آ ... صِرَةٍ فَقَدْ عَظُمَ الأَوَاصِرْ
ويقال : ما يأصرني عليه آصرةٌ أي : رحمٌ وقرابة ، وإنما سمِّي العطف إصراً؛ لأن من عطفت عليه ، ثقل على قلبك كلُّ ما يصل إليه من المكاره .
وقيل : الإصر : الأمر الذي تربط به الأشياء؛ ومنه « الإصَارُ » للحبل الشديد الذي تشدُّ به الأحمال ، يقال : أصَرَ يَأْصِرُ أَصْراً بفتح الهمزة ، فأما بكسرها ، فهو اسمٌ ، ويقال بضمِّها أيضاً ، وقد قرىء به شاذًّا .
وقرأ أُبيّ : « رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْ عَلَيْنَا » بتشديد الميم .
قال الزَّمخشريُّ : « فإن قلت : أيُّ فرقٍ بين هذه التَّشديدة والتي في » وَلاَ تُحَمِّلْنَا « ؟
قلت : هذه للمبالغة في حمله عليه ، وتلك لنقل حمله من مفعولٍ واحدٍ إلى مفعولين » انتهى .
يعني : أن التَّضعيف في الأوَّل للمبالغة ، ولذلك لم يتعدَّ إلاَّ لمفعولٍ واحدٍ ، وفي الثانية للتَّعدية ، ولذلك تعدَّى إلى اثنين : أوَّلهما : « نَا » ، و الثاني : ما لا طاقة لنا به .
فصل
قال مجاهدٌ وعطاء وقتادةٌ والسُّدِّيُّ والكلبيُّ وجماعة : المراد عهداً ثقيلاً ومشاقَّ لا نستطيع القيام به ، فتعذِّبنا بنقضه وتركه { كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا } ، يعني : اليهود .
وقال عثمان بن عفَّان ، ومالك بن أنس ، وأبو عبيدة ، وجماعة : معناه : لا تُشتدِّد علينا في التَّكاليف ما لا نستطيع المقام معه ، فتعذِّبنا بنقضه وتركه؛ كما شدَّدت على الذين من قبلنا ، يعني : اليهود ، فلم يقوموا به فيعذِّبهم .
قال المفسِّرون : إن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاةً ، وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزَّكاة ، ومن أصاب ثوبه نجاسةً أمر بقطعها ، ومن أصاب ذنباً ، أصبح وذنبه مكتوب على بابه ، وكانوا إذا نسوا شيئاً عجِّلت لهم العقوبة في الدُّنيا ، وكانوا إذا أتوا بخطيئةٍ ، حرم عليهم من الطَّعام بعض ما كان حلالاً لهم؛ قال تعالى : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ } [ النساء : 160 ] ، ونحو ذلك؛ كتحريمه على قوم طالوت الشُّرب من النَّهر ، وتعجيل تعذيبهم في الدُّنيا بكونهم مسخوا قردةً وخنازير .
قال القفَّال - رحمه الله تعالى - : ومن نظر في السِّفر الخامس من التَّوراة التي تدَّعيها هؤلاء اليهود ، وقف على ما أخذ عليه من غلظ العهود والمواثيق ، ورأى الأعاجيب الكثيرة ، فالمؤمنون سألوا ربَّهم أن يصونهم عن أمثال هذه التَّغليظات ، وهو بفضله ورحمته قد أزال عنهم ذلك .
قال تعالى في صفة هذه الأمة : { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } [ الأعراف : 157 ] .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : « دُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَسْفُ والمَسْخُ والغَرَقُ » .
وقال تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] . وقال عليه الصلاة والسلام : « بُعِثْتُ بالحَنِيفِيَّة السَّمْحَة » والمؤمنون إنَّما طلبوا هذا التَّخفيف؛ لأن التِّشديد مظنَّة التَّقصير ، والتَّقصير موجبٌ للعقوبة ، ولا طاقة لهم بعذاب الله ، فلا جرم طلبوا تخفيف التَّكاليف .
وقيل : الإصر ذنبٌ لا توبة له ، معناه : اعصمنا من مثله ، قالوا : والأصل فيه العقد والإحكام .
قوله : { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } .
الطَّاقة : القدرة على الشيء ، وهي في الأصل ، مصدرٌ ، جاءت على حذف الزوائد ، وكان من حقِّها « إطَاقَة » ؛ لأنها من أطاق ، ولكن شذَّت كما شذَّت أُلَيْفَاظٌ؛ نحو : أَغَارَ غَارةً ، وأجَاب جَابةً ، وقالوا : « سَاءَ سَمعاً؛ فَسَاءَ جَابَةً » ؛ ولا ينقاس؛ فلا يقال : طَال طَالَةً ، ونظير أجاب جَابَةً : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] وأعطى عطاء في قوله : [ الوافر ]
1313- .. وَبَعْدَ عَطَائِكَ المائَةَ الرَّتَاعَا
فصل في المراد بالآية
معناه : لا تكلِّفنا من العمل ما لا نطيق .
وقيل : هو حديث النَّفس والوسوسة المتقدِّم في الآية الأولى ، وحكي عن مكحول : أنَّه الغلمة .
وعن إبراهيم : هو الحبُّ ، وعن محمَّد بن عبد الوهَّاب : هو العشق .
وقال ابن جريج : هو مسخ القردة والخنازير ، وقيل : هو شماتة الأعداء .
وقيل : هو الفرقة والقطيعة .
فإن قيل : لم خصَّ الآية الأولى بالحمل ، فقال « لا تَحْمِلْ عَلَيْنا » وهذه الآية بالتَّحميل؟
فالجواب : أن الشَّاقَّ يمكن حمله ، أمَّا ما لا يكون مقدوراً ، فلا يمكن حمله ، فالحاصل فيما لا يطاق هو التَّحميل فقط ، فإن التَّحمُّل غير ممكنٍ .
وأمَّا الشاقُّ : فالحمل ، والتَّحميل فيه ممكنان ، فلهذا السَّبب خصَّ الآية الأخيرة بالتَّحميل .
فإن قيل : ما الفائدة في حكاية هذه الأدعية بلفظ الجمع في قوله : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } ، ولفظ الإفراد أكثر تذلُّلاً وخضوعاً من التَّلفُّظ بنون الجمع .
فالجواب : أن قبول الدُّعاء عند الاجتماع أكثر ، وذلك لأن للهمم تأثيراتٍ ، فإذا اجتمعت الأرواح والدَّواعي على شيء واحدٍ ، كان حصوله أكمل .
فصل
استدلُّوا بهذه الآية الكريمة على جواز التَّكليف بما لا يطاق ، قالوا : إذ لو لم يكن جائزاً ، لما حسن طلب دَفْعِهِ بالدُّعاء من الله تعالى ، وأجاب المعتزلة بوجوهٍ :
الأول : المراد بالآية ما يشقُّ فعله مشقَّةً عظيمةً؛ كما يقول الرجل : لا أستطيع أن أنظر إلى فلانٍ؛ إذا كان مستثقلاً له؛ قال الشاعر : [ الرجز ]
1314- إِنَّكَ إِنْ كَلَّفْتَنِي مَا لَمْ أُطِقْ ... سَاءَكَ مَا سَرَّكَ مِنِّي مِنْ خُلُقْ
وقال - صلى الله عليه وسلم - في المملوك : « لَهُ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ ، ولاَ يُكَلَّفُ مِنَ العَمَلِ مَا لاَ يُطِيقُ » أي : ما يشقُّ عليه ، وقال - صلى الله عليه وسلم - في المريض « يصلِّي وهو جالسٌ ، فإن لم يَسْتَطِعْ ، فَعَلَى جَنْبٍ » ، فقوله : « فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ » ليس المراد به : عدم القوَّة على الجلوس ، بل كلُّ الفقهاء يقولون : المراد منه : إذا كان يلحقه في الجلوس مشقَّةٌ شديدةٌ؛ وقال تعالى : { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع } [ هود : 20 ] ، أي : كان يشقُّ عليهم ذلك .
الثاني : أنه تعالى لم يقل : « لاَ تُكَلِّفْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ » بل قال : { لاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } والتَّحميل : هو أن يضع عليه ما لا طاقة له بتحمُّله ، فيكون المراد منه العذاب ، والمعنى : لا تحملنا عذابك الذي لا نطيق احتماله ، فلو حملنا الآية على ذلك ، كان قوله : « لاَ تُحَمِّلْنَا » حقيقةً فيه ، ولو حملناه على التكليف ، كان قوله : « لاَ تُحَمِّلْنَا » مجازاً فيه ، فكان الأوَّل أولى .
الثالث : هب أنَّهم سألوا الله تعالى ألاَّ يكلِّفهم ما لا قدرة لهم عليه ، لكن ذلك لا يدلُّ على جواز أن يفعل خلافه؛ لأنَّه لو دلَّ على ذلك ، لدلَّ قوله : { رَبِّ احكم بالحق } [ الأنبياء : 112 ] على جواز أن يحكم بالباطل ، وكذلك قول إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - : { وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ } [ الشعراء : 87 ] على جواز خزي الأنبياء .
وقوله تعالى : { وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين } [ الأحزاب : 1 ] ، وقوله : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ }
[ الزمر : 65 ] ، وذلك لا يدلُّ على جواز أن يطيع الكافرين والمنافقين ، ولا على جواز الشِّرك .
وأجاب مخالفوهم : بأن الوجه الأول مدفوعٌ من وجهين :
الأول : أنه لو كان المراد من ألا يشدِّد عليهم التَّكاليف ، لكان معناه ومعنى الآية الأولى واحداً ، فتكون تكراراً محضاً ، وهو غير جائزٍ .
والثاني : أنَّا بيَّنا أنَّ الطَّاقة هي الإطاقة والقدرة ، فقوله : { وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } ظاهره لا تحمِّلنا ما لا طاقة لنا عليه ، أقصى ما في الباب أنَّه جاء هذا اللَّفظ بمعنى الاستقبال في بعض الوجوه على سبيل المجاز ، إلاَّ أنَّ الأصل حمل اللَّفظ على الحقيقة .
وأمَّا الوجه الثاني : فإن التَّحميل مخصوصٌ في عرف القرآن بالتَّكليف ، قال تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات } [ الأحزاب : 72 ] إلى قوله : { وَحَمَلَهَا الإنسان } [ الأحزاب : 72 ] ، ثم هب أنَّه لم يوجد هذا العرف ، إِلاَّ أنَّ قوله : { لاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } عامٌّ في العذاب والتَّكليف ، فوجب إجراؤه على ظاهره ، فأَمَّا تخصيصُهُ بغير حُجَّةٍ ، فلا يجوز .
وأَمَّا الوجه الثالث : فإن فعل الشيء إذا كان ممتنعاً ، لم يجز طلب امتناعه بالدُّعاء؛ لأنه يجري مجرى قوله في دعائه ربَّنا لا تجمع بين الضِّدَّين .
وإذا كان هذا هو الأصل ، فإذا صار ذلك متروكاً في بعض الصُّور لدليلٍ مفصَّلٍ ، لم يجب تركهُ في سائر الصُّور بغير دليلٍ .
قوله : { واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ } قال ابن الخطيب : لما كانت الأدعية الثَّلاثةُ المُتقدِّمةُ ، المطلوب بها الترك ، قُرِنت بلفظ « رَبَّنَا » ، وأَمَّا هذا الدُّعاء فحذف فيه لفظ « رَبَّنَا » وظاهره يدلُّ على طلب الفعل .
فإن قيل : لِمَ لَمْ يذكر هنا لفظ « رَبَّنَا » .
فالجواب : أن النِّداء إنما يحتاجُ إليه عند البعد أمَّا عند القرب فلا؛ وإنَّما حذف النِّداء إشعاراً بأنَّ العبد إذا واظب على التَّضرُّع نال القرب من اللهِ - تعالى - .
فإن قيل : ما الفرقُ بين العفو والمغفرة والرّحمة .
الجواب أن العفو أن يسقط عنه العقاب ، والمغفرة أن يستر عليه جرمه صوناً له من عذاب التَّخجيل والفضيحة؛ كأن العبد يقول : أطلُبُ منك العفو ، وإذا عفوت عنِّي فاسترهُ عليَّ فإِنَّ الخلاص من عذاب النَّار إنَّما يطيبُ ، إذا حصل عقيبه الخلاص من عذاب الفضيحة ، فلما تخلَّص من هذين العذابين ، أقبل على طلب الثَّواب ، فقال : { وارحمنآ } فإنَّنا لا نقدر على فعل الطَّاعة وترك المعصية إِلاَّ برحمتك .
قوله تعالى : { أَنتَ مَوْلاَنَا } المَولى مفعلٌ من وَلِي يلي ، وهو هنا مصدر يُرادُ به الفاعلُ ، فيجوز أن يكون على حذف مضافٍ ، أي : صاحبُ تَولِّينا ، أي : نُصرتنا ، ولذلك قال : { فانصرنا } ، والمَوْلأى يجوزُ أن يكونَ اسم مكانٍ أيضاً ، واسم زمانٍ .
في قوله : { أَنتَ مَوْلاَنَا } فائدةٌ؛ وهي أَنَّها تدلُّ على نهاية التَّذلُّل ، والخُضوع ، فلا جرم ذكرها عند الدُّعاء متكلين على فضله وإحسانه بمنزلة الطِّفل ، لا تتمُّ مصلحته إِلاَّ بتدبير قيمه ، والعبد الَّذِي ينتظم شمل مهمَّاته إلا بإصلاح مولاهُ ، وهو المولى في الحقيقة لِلكُلِّ على ما قال
{ نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير } [ الأنفال : 40 ] ونظير هذه الآية الكريمة { الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ } [ البقرة : 257 ] أي : ناصرهم ، وقوله : { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ } [ التحريم : 4 ] أي : ناصره ، وقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين آمَنُواْ وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ } [ محمد : 11 ] .
قوله تعالى : { فانصرنا } أتى بالفاء هنا؛ إعلاماً بالسببية؛ لأنَّ اللهَ تعالى لمَّا كان مولاهم ومالك أمورهم ، وهو مُدَبِّرِهم تسبَّبَ عنه أن دعَوْهُ أن ينصرهم على أعدائهم؛ كقولك : « أَنْتَ الجَوَادُ فَتَكرَّمْ » ، و « أَنت المُعطي فرجاً فضلاً منك » .
قوله : { عَلَى القوم الكافرين } أي : انصرنا في محاربتنا معهم ، وفي مناظرتنا بالحجَّة معهم ، وفي إعلاء دولة الإسلام على دولتهم على ما قال : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } [ التوبة : 33 ] .
فصلٌ
روى الواحدي رحمه الله عن مقاتل بن سليمان؛ أنه لما أُسري بالنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أُعطي خواتيم سورة البقرة ، فقالت الملائكةُ : إنَّ الله - تعالى - قد أكرمك بحسن الثَّناء عليك بقوله - تعالى - : « آمَن الرَّسُول » فسلهُ وارغب إليه ، فعلَّمهُ - جبريل - عليه الصلاة والسلام - كيف يدعو ، فقال محمَّد - عليه الصَّلاة والسَّلام - « غُفْرَانَكَ رَبَّنَا » وقال الله : قد غفرتُ لكم ، فقال : « لاَ تُؤَاخِذْنَا » فقال الله : لاَ أؤاخذكم ، فقال : « ولاَ تَحْمل عَلَينا إصراً » فقال : لا أُشدّد عليكم ، فقال محمَّد : « لاَ تُحمِّلنا ما لاَ طاقةَ لنَا به » فقال : لا أُحملكم ذلك ، فقال محمد : « واعْفُ عنا واغْفِرْ لَنا وارْحَمْنَا » فقال الله : قد عَفَوتُ عنكم ، وغَفَرتُ لكم ، ورحمتكم ، وأنصركم على القوم الكافرين .
وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عبَّاس ، وسمعناه في بعض الرِّوايات؛ أن محمداً - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان يذكر هذه الدَّعوات والملائكة كانوا يقولون : آمين .
وعن ابن مسعود - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلةٍ كفتاه » وعن النُّعمان بن بشير؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « إنَّ اللهَ تعالى كتب كتاباً قبل أن يخلق السَّمواتِ والأَرض بأَلفي عام ، فأَنزل آيتين خَتَم بهما سورة البقرة ، فلا تُقْرآن في دار ثلاث ليالٍ فيقربها شيطانٌ » والله - سبحانه وتعالى - أعلم .
الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)
قوله : { الم } قد تقدكم الكلامُ على هذا مُشْبَعًا ، ونقل الجرجانيُّ - هنا - أن « الم » إشارة ، إلى حروف المعجم ، كأنه يقول : هذه الحروفُ كتابك - أو نحو هذا - ويدل { لاا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب } على ما ترك ذكره من خبر هذه الحروف ، وذلك في نظمه مثل قوله تعالى : { أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } ؟ [ الزمر : 22 ] وترك الجواب لدلالة قوله : { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله } [ الزمر : 22 ] عليه؛ تقديره : كمن قسا قلبه .
ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
1315 ... - فَلاَ تَدفِنُونِي إنَّ دَفْنِي مُحَرَّمٌ
عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ خَامِرِي أمَّ عَامِرِ ... أي : ولكن اتركوني للتي يقال لها خامري أم عامر « انتهى » .
قال ابنُ عطيةَ : يحسن في هذا القول - يعني قول الجُرْجَانيِّ - أن يكون « نَزَّلَ » خبر ، قوله : « اللهُ » حتى يرتبط الكلام إلى هذا المعنى .
قال أبو حيَّان : وهذا الذي ذكره الجرجاني فيه نظر؛ لأن مثليته ليست صحيحة الشبع بالمعنى الذي نحا إليه ، وما قاله في الآية محتمل ، ولكن الأبرع في [ نظم ] الآية أن يكون « الم » لا يُضَمُّ ما بعدها إلى نفسها في المعنى ، وأن يكون قوله { الله لاا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } كلاماً مبتدأ جملة رادة على نصارى نجران .
قال شهاب الدينِ : وهذا الذي ردَّه الشيخُ على الجرجانيِّ هو الذي اختاره الجرجانيُّ وجعله أحسنَ الأقوالِ التي حكاها في كتابه « نَظْم الْقُرْآنِ » .
قوله : { لاا إله إِلاَّ هُوَ } يجور أن تكون هذه الجملة خَبَرَ الجَلاَلَة ، و « نَزَّلَ عَلَيْكَ » خَبْرٌ آخَرُ ، ويجوز أن يَكُونَ { لاا إله إِلاَّ هُوَ } مُعْتَرِضَة بين المبتدأ والخَبَرِ ، ويجوز أن يكون حَالاً ، وفي صاحبه احتمالان :
أحدهما : أن يكون لَفْظَ الجلالة .
والثاني : أن يكون الضمير في « نَزَّلَ » تقديره : نَزَّل عليك الكتاب متوحِّداً بالربوبية . ذكره مَكِّيٌّ ، والأَوَّلُ أولَى .
وةقرأ الجمهور { الم الله } بفتح الميم ، وإسقاط همزة الجلالة ، واختلفوا في فتحة هذه الميم على ستة أوْجُهٍ :
أحدها : أنها حركة التقاء الساكنين ، وهو مذهب سيبويه ، وجمهورِ الناس .
فإن قيل : أصل التقاء الساكنين الكَسْرُ ، فلِمَ عُدِلَ عنهُ؟
فالجوابُ : أنهم لو كَسَروا لكان ذلك مُفْضِياً إلى ترقيق الميم لام الجلالة ، والمقصود تفخيمها للتعظيم ، فأوثر الفتح لذلك ، وأيضاً : فقبل هذه ياء [ وهي أخت الكسرة وأيضاً فصل هذه الياء كسرة ] ، فلو كسرنا الميم الأخيرة لالتقاء الساكنين لتوالى ثلاث متجانسات ، فحركوها بالفتح كما حركوا في نحو : مِنَ اللهِ ، وأما سقوط الهمزة فواضحٌ ، وبسقوطها التقى الساكنان .
الثاني : أن الفتحة لالتقاء الساكنين [ أيضاً ولكن الساكنين ] هما الياء التي قبل الميم ، والميم الأخيرة ، فحُرِّكت بالفتح لئلا يلتقي ساكنان ، ومثله : أيْنَ وكَيْف [ وكيت ، وذيت ] ، وما أشبهها .
وهذا على قولنا : إنَّه لم يُنْوَ الوقفُ على هذه الحروف المقطَّعة ، وهذا خلاف القول الأول : فإنه ينوى فيه الوقف على الحروف المقطعة ، فسكنت أواخرها ، وبعدها ساكن آخر ، وهو لام الجلالة ، وعلى هذا القول الثاني ليس لإسقاط الهمزة تأثير في التقاء الساكنين ، بخلاف الأول ، فإن التقاء الساكنين إنما نشأ من حذفها دَرْجاً .
الثالث : أن هذه الفتحة ليست لالتقاء الساكنين ، بل هي حركة نقل ، أي : نُقِلَتْ حركة الهمزة التي قبل لام التعريف على الميم الساكنة نحو { قَدْ أَفْلَحَ } [ طه : 64 ] وهي قراءة ورش وحمزة - في بعض طرقه - في الوقف ، وهو مذهب الفراء ، واحتج على ذلك بأن هذه الحروف النيِّةُ بها الوقف ، وإذا كان النيةُ بها الوقْفَ ، فسكن أواخرها ، والنية بما بعدها الابتداء والاستئناف ، فكأن همزة الوصل جرت مجرى همزة القطع؛ إذ النية بها الابتداء ، وهي تثبت ابتداءً ليس إلاَّ ، فلما كانت الهمزةُ في حُكْم الثَّبِتَةِ ، وما قبلها ساكن صحيح قابل لحركتها خففوها بأن ألقَوْا حركتها على الساكن قبلها فقد وصلتَ الكلمةَ التي هي فيها بما قبلها وإن كان ما قبلها موضوعاً على الوقف ، فقولك : ألقيت حركته عليه بمنزلة قولك : وصلته ، ألا ترى أنك إذا خففت : مَنْ أبوك؟ قلتَ : من أبُوكَ ، فوصلت ، ولو وقفت لم تلق الحركة عليها ، وإذا وصلتها بما قبلها لزم إسقاطها ، وكان إثباتها مخالفاً لأحكامها في سائر متصرفاتها .
قال شهاب الدينِ : « وهذا الرد مردود بأن ذلك مُعامل معاملةَ الموقوف عليه والابتداء بما بعده لا أنه موقوف عليه ، ومبتدأ بما بعده حقيقة ، حتى يردّ عليه بما ذكره » ، وقد قَوَّي جماعةٌ قولَ الفراء بما حكاه سيبويه من قولهم : ثَلاثَهَ رْبَعَة ، والأصل : ثلاثةٌ أربعةٌ ، فلما وقف على ثلاثة أبدل التاء هاء كما هو اللغة المشهورة ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ، فترك الهاء على حالها في الوصل ، ثم نقل حركة الهمزة إلى الهاء فكذلك هذا .
ورد بعضهم هذا الدليل وقال : الهمزة في « أربعة » همزة قطع ، فهي ثابتة ابتداءً ودَرْجًا فلذلك نُقِلت حركتها ، بخلاف همزة الجلالة ، فإنها واجبة السقوط ، فلا تستحق نقل حركتها إلى ما قبلها ، فليس وزان ما نحن فيه .
قال شهاب الدين : « وهذا من هذه الحيثية - صحيح ، والفرق لائح ، إلا أن لفظ الفرّاء فيه أنه أجرى فيه الوصل مُجْرى الوقف من حيث بقيت الهاء المنقلبة عن التاء وصلاً لا وقفاً واعتد بذلك ، ونقل إليها حركة الهمزة ، وإن كانت همزة قطع » .
وقد اختار الزمخشري مذهب الفراءِ ، وسأل وأجاب فقال : « ميم » حقها أن يُوقَفَ عليها كما يوقف على الف ولام ، وأن يُبْتَدَأ بما بعدها ، كما تقول : واحد . اثنان ، وهي قراءة عاصم ، وأما فتحتها فهي حركة الهمزة أُلْقِيت عليها حين أسْقِطت للتخفيف .
فإن قلت : كيف جاز إلقاء حركتها عليها ، وهي همزة وصل لا تثبت في درْج الكلامِ ، فلا تثبت حركتها؛ لأن ثبات حركتها كثباتها؟
قلتُ : هذا ليس بدرْج ، لأن « ميم » في حكم الوقف والسكون ، والهمزة في حكم الثابت ، وإنما حُذفت تخفيفاً وألقِيَت حركتها على الساكن قبلها؛ ليدل عليها ، ونظيره : وَاحِدِ اثْنَانِ بإلقائهم حركة الهمزة على الدال .
قال أبو حيّان : « وجوابه ليس بشيء؛ لأنه ادَّعَى أن الميم - حين حُرِّكَتْ - موقوف عليها ، وأن ذلك ليس بدرْج ، بل هو وقف ، وهذا خلاف ما أجمعت عليه العرب ، والنحاة من أنه لا يُوقف على متحرك ألبتة سواء ك انت حركته إعرابية ، أم بنائية ، أن نقلية ، أم لالتقاء الساكنين ، أم للإتباع ، أم للحكاية ، فلا يجوز في { قَدْ أَفْلَحَ } إذا حذفت الهمزة ، ونقلت حركتها إلى دال » قَدْ « أن تقف على دال » قد « بالفتحة ، بل تسكنها - قولاً واحداً .
وأما قوله : ونظير ذلك وَاحِدِ اثْنَانِ - بإلقاء حركة الهمزة على الدال - فإن سيبويه ذكر أنهم يُشِمُّون آخر » واحد « لتمكنه ، ولم يَحْكِ الكسرَ لغةً ، فإن صَحَّ الكسر فليس ولكنه موصول بقولهم : اثنان ، فالتقى ساكنان دال » واحد « وثاء » اثنين « ، فكسرت الدال؛ لالتقاء الساكنين ، وحُذِفَتْ همزة الوصل؛ لأنها لا تثبت ي الوصل » .
قال شهاب الدينِ : « ومتى ادَّعى الزمخشري أنه يوقف على » مِيمْ « من » الم « - وهي متحركة - حتى يُلْزِمَهُ بمخالفة إجماع العرب والنحاة؟ إنما ادعى أن هذا في نية الموقوف عليه قبل تحريكه بحركة النقل ، لا أنه نُقِل إليه ، ثم وقف عليه ، هذا لم يقله ألبتة ، ولم يَخْطُرْ له » .
ثم قال الزمخشريُّ : « فإن قلْتَ : هَلاَّ زعمتَ أنها حركة التقاء الساكنين؟
قلت : لأن التقاء الساكنين لا يُبَالَى به في باب الوقف ، وذلك قولك : هذا إبْراهيمْ ، ودَاوُدْ ، وإسْحَاقُ ، ولو كان التقاء الساكنين - في حال الوقف - يوجب التحريك لحُرِّك الميمَان في ألف لام ميم؛ لالتقاء الساكنين ، ولما انتظر ساكن أخر » .
قال أبو حيَّان : « وهو سؤال صحيح وجواب صحيح لكن الذي قال : إن الحركة هي لالتقاء الساكنين لا يتوهم أنه أراد التقاء الياء والميم من » الم « - في الوقف - وإنما عنى التقا ءالساكنين اللذين هما ميم » ميم « الأخري’ ، ولام التعريف كالتقاء نون » من « ولام » الرجل « إذا قلت مِنَ الرَّجُلِ » .
وهذا الوجه هو الذي تقدَّم عن مكي وغيره .
ثم قال الزمخشريُّ : « فإن قلْتَ : إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين في » ميم « لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين ، فإذا جاء ساكن ثالث لم يمكن إلا التحريك فحركوا .
قلت : الدليل على أن الحركة ليست لملاقاة الساكن ، أنه كان يمكنهم أن يقولوا : وَاحدْ . اثْنَانِ - بسكون الدال مع طرح الهمزة - فيجمعوا بين ساكنين؛ كما قالوا : اصَيْمٌّ ومُديْقٌّ ، فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير ، وأنها ليست لالتقاء الساكنين « .
[ قال أبو حيّان : » وفي سؤاله تعمية في قوله : فإن قلت : إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين ] - ويعني بالساكنين الياء والميم في « ميم » - وحينئذٍ يجيء التعليل بقوله : لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين - يعني الياء والميم - فحركوا - يعني الميم-؛ لالتقائها ساكنةٌ مع لام التعريف؛ إذ لو لم يحركوا لاجتمع ثلاث سواكن ، وهو لا يمكن ، هذا شرح السؤال ، وأما جواب الزمخشري فلا يطابق؛ لأنه استدل على أن الحركة ليست لملاقاة ساكن بإمكانية الجمع بين ساكنين في قولهم : وَاحِدْ ، اثْنَانِ - بأن يُسكنوا الدالَ والثاءُ ساكنةٌ ، وتسقط الهمزة ، فعدلوا عن هذا الإسكان إلى نقل حركة الهمزة إلى الدال - وهذه مكابرة ف يالمحسوس؛ إذ لا يمكن ذلك أصلاً ، ولا هو في قدرة البشر أن يجمعوا في النطق بين سكون الدال وسكن الثاء وطرح الهمزة ، وأما قوله فجمعوا بين ساكنين ، فلا يمكن الجمع؛ لما قلناه ، وأما قوله : كما قالوا : أُصَيْمٌّ وَمُدَيْقٌّ فهذا ممكن كما هو في رادّ وضالّ؛ لأن في ذلك التقاء الساكنين على حدهما المشروط في النحو ، فأمكن ذلك ، وليس مثل ذلك « واحد » « اثنان » ؛ لأن الساكن الأول ليس حرفَ مدٍّ ، ولا الثاني مُدْغماً ، فلا يمكن الجمع بينهما ، وأما قوله : فلما حركوا الدال ، علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير وأنها ليست لالتقاء الساكنين [ ويعني بالساكنين الياء والميم ] ؛ لما بنى على أن الجمع بين الساكنين في « واحد » « اثنان » ممكن ، وحركة التقاء الساكنين إنما هي فميا لا يمكن أن يجتمعا في اللفظ ادعى أن حركة الدال هي حركة الهمزة الساقطة « .
قال شهاب الدينِ : » وهذا الذي رَدَّ به عليه صحيح ، وهو معلوم بالضرورة؛ إذ لا يمكن النطق بما ذكر « .
ونصر بعضهم رأي الفرّاء واختيار الزمخشري بأن هذه الحروف جيء بها لمعنى في غيرها ، فأواخرها موقوفة ، والنية بما بعدها الاستئناف ، فالهمزة في حكم الثابت كما في أنصاف الأبيات ، كقول حسان : [ البسيط ]
1316 ... - لَتَسْمَعُنَّ وَشِيكاً فِي ديارِكُمُ
اللهُ أكْبَرُ يَا ثَارَاتِ عُثْمَانَا ... ورجحه بعضهم أيضاً بما حكي عن المبرد : أنه يجيز : اللهُ أكْبَرَ اللهُ أكْبَر - بفتح الراء الأولى - قال : لأه في نية الوقف على » أكبر « والابتداء مبا يعده ، فلما وصلوا مع قصدهم التنبيه على الوقف على آخر كل كلمة من كلمات التكبير نقلوا حركة الهمزة الداخلة على لام التعريف إلى الساكن قبلها؛ التفاتاً ملا ذكر من قصدهم ، وإذا كانوا قد فعلوا ذلك في حركات الإعراب وأتَوا بغيرها - مع احتياجهم إلى الحركة من حيث هي فلأنْ يفعلوا ذلك فيما كان موقوفَ [ الأخير ] من باب أولى .
الرابع : أن تكون الفتحةُ فتحةَ إعراب على أنه مفعول بفعل مقدَّر ، أي اقرءوا { الم } وإنما منعه من الصرف العلمية والتأنيث المعنويّ إذْ أريد به اسم السورة ، نحو قرأت هودَ ، وقد قالوا هذا الوجه بعينه في قراءة مَنْ قرأ { ص والقرآن ذِي الذكر } [ ص : 1 ] بفتح الدال من صاد ، فهذا يجوز أن يكون مثله .
الخامس : أن الفتحة علامة الجر ، والمراد بألف لام ميم أيضاً السورة ، وأنها مُقْسَمٌ بها ، فحُذِفَ حرفُ القسم ، وبقي عمله ، وامتنع من الصرف لما تقدم ، وهذا الوجه - أيضاً - مقول في قراءة من قرأ صَادَ - بفتح الدال- ، إلا أن القراءة هناك شاذَّةٌ ، وهنا متواترةٌ .
والظاهر أنها حركة التقاء الساكنين - كما هو مذهب سيبويه وأتباعه- .
السادس : قال ابن كَيْسَانَ : « ألف » اله « وكل ألف مع لام التعريف [ ألف ] قطع بمنزلة » قَدْ « وحكمها حكم ألف القطع؛ [ لأنهما حرفان جاء لمعنى ] ، وإنما وُصِلَت لكثرة الاستعمال ، فمن حرك الميم ألقى عليها حركة الهمزة التي بمنزلة القاف من » قَدْ « ففتحها بفتح الهمزة » ، نقله عنه مَكِّي .
فعلى هذا هذه حركة نقل من همزة قطع ، وهذا المذهب مشهور عن الخليل بن أحمد ، حيث يعتقد أن التعريف حصل بمجموع « أل » ، كالاستفهام يحصل بمجموع « هَلْ » ، وأن الهمزة ليست مزيدة ، لكنه مع اعتقاده ذلك يوافق على سقوطها في الدَّرْج؛ إجراءً لها مُجْرَى همزة الوصل ، لكثرة الاستعمال ، لذلك قد تثبت ضرورةً؛ لأن الضرورة ترد الأشياء إلى أصولها .
ولما نقل أبو البقاء هذا القول ولم يَعْزُه ، قال : « وهذا يصح على قول من جعل أداة التعريف » أل « - يعني الخليل؛ لأنه المشهور بهذه المقالة » .
وقد تقدم النقل عن عاصم أنه يقرأ بالوقف على « ميم » ويبتدئ ب { الله لاا إله إِلاَّ هُوَ } كما هو ظاهر عبارة الزمخشري عنه ، وغيره يحكي عنه أنه يسكن الميم ويقطع الهمزة - من غير وقف منه على الميم - كأنه يجري الوصل مجرى الوقف ، وهذا هو الموافق لغالب نقل القرّاءِ عنه .
وقرأ عمرو بن عُبَيْدٍ - فيما نقل الزمخشري - وأبو حيوة والرُّواسي فيما نقل ابن عطية « المِ اللهُ » - بكسر الميم- .
قال الزمخشريُّ : « وما هي بمقبولة عنه » ، والعجب منه كيف تجرأ على عمرو بن عُبَيْدٍ وهو عنده معروف المنزلة ، وكأنه يريد : وما هي بمقبولة عنه ، أي : لم تصحَّ عنه .
وكأن الأخفش لم يطلع على أنها قراءة فقال : « لو كُسِرَتِ الميمُ؛ لالتقاء الساكنين - فقيل : » المِ اللهُ « - لجاز » .
قال الزّجّاج : وهذا غلط من أبي الحسن ، لأن قبل الميم ياءٌ مكسوراً ما قبلها فحقها الفتح ، لالتقاء الساكنين ، وذلك لثقل الكسر مع الياء . وهذا - وإن كان كما قال - إلا أن الفارسيَّ انتصر لأبي الحَسَن ، ورَدَّ على أبي إسحاق رَدَّة فقال : « كَسْر الميم لو ورد بذلك سماع لم يدفعه قياس ، بل كان يُثْبِتُهُ ويُقَوِّيه -؛ لأن الأصل في التحريك - لالتقاء الساكنين - الكسر ، وإنما يُبْدَل إلى غير ذلك لما يعرض من علَّة وكراهة ، فإذا جاء الشيء على بابه فلا وَجْهَ لردِّه ، ولا مساغ لدَفْعِه ، وقول أبي إسحاق؛ إن ما قبل الميم ياءً مكسوراً ما قبلها ، فحقها الفتح منقوض بقولهم : جَيْرِ ، حيث حَرَّك الساكن - بعد الياء - بالكسر ، كما حُرك بعدها بالفتح في أيْنَ ، ويدل على جواز التحريك لالتقاء الساكنين بالكسر - فيما كان قبله ياء ، - جواز تحريكه بالضم نحو قولهم : حَيْثُ ، وإذا جاز الضم كان الكسر أجْوَزَ وأسْهَلَ » .
فصل في بيان سبب النزول
في سبب نزول هذه الآية قولان :
الأول : أنها نزلت في اليهود ، وقد ذكرناه في تفسير قوله تعالى : { الم ذَلِكَ الكتاب } [ البقرة : 1 ، 2 ] .
الثاني : أنها من أولها إلى آية المباهلة في نصارى نجران .
قال الكلبي ، والربيعُ بنُ أنس - وهو قول محمد بن إسحاقَ- : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران - ستون راكباً - فيهم أربة عشر رجلاً من أشرافهم ، وثلاثة منهم كانوا أكابر القوم ، أحدهم أميرهم ، وصاحب مشورتهم ، يقال له : العاقب ، واسمه عبد المسيح ، والثاني مشيرهم ووزيرهم ، وكانوا يقولون له : السيد ، واسمه الأيهم ، والثالث حبرهم وأسقفهم ، وصاحب مِدْراسهم ، يقال له : أبو حارثة بن علقمة - أحد بني بكر بن وائل - وكان ملوك الروم قد أكرموه وشرَّفوه ، وموَّلوه؛ لِما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم ، فلما قدموا من « نجران » ركب أبو حارثةَ بغلتَه ، وكان إلى جنبه أخوه كُرْزُ بنُ علقمةَ ، فبينما بغلة ابي حارثةَ تسير إذ عَثَرَتْ ، فقال كُرز : تَعْساً للأبعد - يريد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم - فقال أبو حارثة : بل تَعِسَتْ أمُّك ، فقال : ولِمَ يا أخي؟ فقال : إنه - واللهِ - النبيُّ الذي كنا ننتظره ، فقال له أخوه كرز : فما يمنعك عنه وأنت تعلم هذا؟
قال : لأن هؤلاء الملوك أعطَوْنَا أموالاً كثيرةً ، وأكرمونا ، فلو آمنَّا بمحمد لأخذوا مِنَّ كُلَّ هذه الأشياءِ ، فوقع ذلك في قَلْبِ أخيه كُرْز ، وكان يُضْمِره إلى أن أسْلم؛ فكان يُحَدِّثُ بذلك ، ثم دخلوا مسجدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى العصر - عليهم ثياب الحِبراتِ جبب وأرْدِيَةٌ- ، وقد حانت صلاتهم ، فقاموا للصلاة [ العاقب والسيد والحبر ] في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله : دعوهم ، فصلوا إلى المشرق ، ثم تكلم أولئك الثلاثة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على اختلاف من أديانهم - فتارة يقولون : عيسى هو الله ، وتارةً يقولون : هو ابنُ الله ، وتارة يقولون : ثالث ثلاثة ، ويحتجون على قولهم : هو الله بأنه كان يُحْيي الموتَى ، ويُبْرئ الأسقامَ ويُخْبِر بالغيوب ، ويخلق من الطين كهيئة الطير ، فينفخ فيه ، فيطير ، ويحتجون على قولهم بأنه ابن الله بأنه لم يكن له أبٌ يُعْلَم ، ويحتجون على قولهم : ثالث ثلاثة بقوله تعالى : { فَعَلْنَا } ، قلنا ، ولو كان واحداص لقال : فعلتُ ، قلتُ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
« أسلموا » ، قالوا : قد أسلمنا ، قال عليه السلام : « كذبتم؛ يمنعكم من الإسلام دعاؤُكم لله ولداً ، وعبادتكم الصليب ، وأكلُكُم الخنزيرَ » ، قالوا : إن لم يكن ولدَ الله فمن أبوه؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل اللهُ تعالى أولّ سورةِ آل عمرانَ إلى بضع وثمانين آية ، منها أخذ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم بناظرهم ، فقال : « ألَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّه لاَ يَكُونُ وَلَدٌ إلا ويشبه أبَاهُ؟ قالوا : بَلَى ، قال : ألَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّ رَبَّنَا حَيٌّ لا يَمُوتُ ، وأنَّ عِيسَى يأتي عليه الفناءُ؟ قالوا : بَلَى ، قال : ألَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّ رَبَّنَا قَيِّمٌ عَلى كُلِّ شَيءٍ ، يَحْفَظُهُ ويَرْزُقُهُ؟ قالوا : بَلَى ، قال : فَهَلْ يَمْلِكُ عِيسَى مِنْ ذَلِكَ شيئاً؟ قالوا : لا ، قال : ألَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّ اللهَ تَعَالى لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ، ولا في السَّماءِ؟ قالوا : بلى ، قال : فهل يعلم عيسَى شيئاً من ذلك إلا ما عُلِّمَ؟ قالوا : لا ، قال : فإن ربَّنا صوَّر عيسى في الرحم كيف شاء ، قال : ألستم تعلمون أنَّ ربَّنا لا يأكل ، ولا يشربُ ولا يُحْدِثُ؟ قالوا : بلى ، قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمُّه كما تحمل المرأةُ ، ووضعته كما تضع المرأةُ ولدَها ، ثم غُذِّي كما يُغَذَّى الصبيُّ ، ثم كان يَطْعَم الطعامَ ، ويَشْرَب الشراب ويُحدِث الحدثَ؟ قالوا : بلى ، قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم » ؟ فسكتوا ، وأبَوْا إلا جُحُوداً ، ثم قالوا : يا محمد ، ألستَ تزعم أنه كلمةُ الله ورُوحٌ منه؟ قال : « بلَى » ، قالوا : فحسبنا ، فأنزل الله تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ } [ آل عمران : 7 ] ، ثم أمر الله محمداً بملاعنتهم _ إن ردوا عليه - فدعاهم إلى الملاعنة ، فقالوا : يا أبا القاسم ، دَعْنَا نَنْظُرْ في أمرنا ، ثم نأتيك بما تريد أن تفعل ، فانصرفوا ، ثم قال بعضُ أولئك الثلاثةِ لبعضهم : ما ترى؟ فقال : والله يا معشرَ النصارى لقد عرفتم أن محمداً نبيٌّ مُرْسَل ، ولقد جاءكم بفَضلٍ من خَبَرِ صاحبكم ، ولقد علمتم مَا لاَعَنَ [ قط ] قومٌ نبيًّا إلا وفنِيَ كبيرُهم وصغيرُهم ، وإنه الاستئصالُ منكم - إن فعلتم - وأنتم قد أبيتم إلا دينَكم ، والإقامة على ما أنتم عليه فوادِعُوا الرجلَ ، وانصرِفوا إلى بلادِكم ، فأتَوْا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالوا [ ابا القاسم ] قد رأينا أن لا نُلاعنك ، وأن نتركَك على دينك ، وأن نرجعَ نحن على ديننا ، فابعثْ رجلاً من أصحابك [ معنا ] يحكم بيننا في أشياءَ قد اختلَفْنا فيها من أموالِنا؛ فإنَّك عندنا رِضّى ، فقال عليه السلامُ : [ ائتوني ] في العشيةِ أبعثْ معكم القويَّ لأمينَ ، فكان عمرُ يقول : ما أحببت الإمارة قَطّ إلا يومئذٍ؛ رجاءَ أن أكونَ صاحبَها ، قال : صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم نظر عن يمينه ، وعن يساره ، وجعلت أتَطَاولُ له؛ ليراني ، فمل يزَلْ يُرَدِّدُ بصره ، حتى رأى أبا عبيدةَ بنَ الجَرَّاحِ ، فدعاه ، فقال : اخرج معهم واقض بينهم بالحقِّ فيما اختلفُوا فيه ، قال عُمرُ : فذهبَ بها أبو عبيدة .
وهذه الرواية تدل على أن المناظرة في تقرير الدين حرفة الأنبياء - عليهم السلام - وأن مذهب الحَشْوية - في إنكار البحث والنظر - باطل قطعاً .
فصل في بيان الرد على النصارى
« في وَجْه الرد على النصارى في هذه الآية » :
وهو أن الحيَّ القيومَ يمتنع أن يكون له ولد؛ لأنه واجب الوجود لذاته ، وكلُّ ما سواه فإنه ممكن لذاته ، مُحْدَث ، حصل بتكوينه وإيجاده ، وإذا كان الكُلُّ مُحْدَثًا مخلوقاً امتنع كونُ شيء منها ولداً له ، ولما ثبت أن الإله يجب أن يكون حَيًّا قيوماً ، وثبت أن عيسى ما كان حيًّا قيُّومًا ، لأنه وُلِدَ ، وكان يأكل ، ويشرب ، ويُحْدِث . والنصارى زعموا أنه قُتِل ، ولم يقدر على دفع القتل عن نفسه ، وهذا يقتضي القطع بأنه ليس بإله .
قوله : { نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب } العامة على التشديد في « نَزَّل » وَنَصْب « الْكِتَاب » ، وقرأ الأعمشُ ، والنَّخَعِيُّ ، وابنُ أبي عبلة { نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب } بتخفيف الزاي ورفع الكتاب .
فأما القراءةُ الأولى فقد تقدم أن هذه الجملةَ تحتمل أن تكون خبراً ، وأن تكون مستأنفةً .
وأما القراءةُ الثانيةُ ، فالظاهر أن الجملةَ فيها مستأنفةٌ ، ويجوز أن تكون خبراً ، والعائد محذوف ، وحينئذ تقديره : نَزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابُ مِنْ عِنْدِهِ .
قوله : { بِالْحَقِّ } فيه وجهان :
أحدهما : أن تتعلق الباء بالفعل قبلها ، والباء - حينئذ - للسببية ، أي : نزله بسبب الحق .
ثانيهما : أن يتعلق بمحذوف؛ على أنه حال ، إما من الفاعل - أي : نزَّله مُحِقًّا - أو من المفعول - أي : نزله ملتبساً بالحق - نحو : جاء بكر بثيابه ، أي : ملتبساً بها .
وقال مَكيّ : « ولا تتعلق الباء ب » نَزَّل « ؛ لأنه قد تعدى إلى مفعولين - أحدهما بحرف فلا يتعدى إلى ثالث » .
وهذا - الذي ذكره مكيٌّ - غيرُ ظاهر؛ فإن الفعل يتعدى إلى متعلقاته بحروف مختلفة على حسب ما يكون ، وقد تقدم أن معنى الباء السببية ، فأيُّ مانع يمنع من ذلك؟
قوله : { مُصَدِّقًا } فيه أوجهٌ :
أحدها : أن ينتصبَ على الحال من « الْكِتَاب » . فإن قيل بأن قوله : « بِالْحَقِّ » حال ، كانت هذه حالاً ثانيةً عند مَنْ يُجِيز تعدد الحال ، وإن لم يُقَلْ بذلك كانت حالاً أولى .
الثاني : أن ينتصب على الحال على سبيل البدلية من محل « بِالْحَقِّ » ، وذلك عند مَنْ يمنع تعدد الحال في غير عَطْفٍ ، ولا بدليَّةٍ .
الثالث : أن ينتصب على الحال من الضمير المستكن في « بِالْحَقِّ » - إذا جعلناه حالاً - لأنه حينئذٍ يتحمل ضميراً؛ لقيامه مقام الحال التي تتحمله ، وعلى هذه الأقوال كلِّها فهي حال مؤكِّدة؛ لأن الانتقالَ فيها غير مُتَصَوَّر ، وذلك نظير قول الشاعر : [ البسيط ]
1317 - أنَا ابْنُ دَارَةَ مَعْرُوفًا بِهَا نَسَبِي ... وَهَلْ بِدَارَةَ - يَا لَلنَّاسِ - مِنْ عَارِ
قوله : { لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } مفعول ل « مصَدِّقاً » وزِيدَت اللامُ في المفعول : [ تقويةٌ ] للعامل؛ لأنه فرع له؛ إذْ هو اسمُ فاعل ، كقوله تعالى : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ البروج : 16 ] ، وإنما ادَّعَيْنَا ذلك؛ لأنَّ هذه المادةَ متعديةٌ بنفسها .
فصل في تفسير « الحي » و « القيوم »
الحيُّ : هو الفعَّال الدرَّاك ، والقيُّومُ : هو القائمُ بذاته ، والقائم بتدبير الخلق ، وقرأ عمر - رضي الله عنه - الحي القيَّام ، والمراد ب « الكتاب » - هنا - هو القرآن .
قال الزمخشري : « وخص القرآن بالتنزيل ، والتوراة والإنجيل بالإنزال؛ لأن التنزيل للتكثير والله تعالى نَزَّل القرآن مُنَجَّماً ، فكان معنى التكثير حاصلاً فيه ، وأنزل التوراةَ والإنجيل دفعَةً واحدةً ، فلهذا خصَّهما بالإنزال » .
فإن قيل : يُشْكِل هذا بقوله : { الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب } [ الكهف : 1 ] ، وبقوله : { وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ } [ الإسراء : 105 ] .
فالجواب : أن المرادَ به كُلُّ نَجْمٍ وَحْدَه .
[ وسمي الكل باسم البعض مجازاً ، أو نقول : « إن أنزل تشتمل على أمرين والتضعيف لا يشتمل إلاّ الإنزال مرة واحدةٌ »
قال أبو حيَّان : وقد تقدم الرّدّ على هذا القول في البقرة ، وأن التعدية بالتضعيف لا تدل على التكثير ، ولا على التنجيم ، وقد جاء في القرآن أنزل ، ونزَّل قال تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ النحل : 44 ] ويدل على أنهما بمعنًى واحدٍ قراءة من قرأ ما كان من نزل مشدّداً بالتخفيف إلاَّ ما استثني ، ولو كان أحدهما يدلّ على التنجيم والآخر يدل على النزول دفعةً واحدةً لتناقضت الأخبار ، وهو محال ، وقد سبق الزمخشريَّ في هذا القول بعينه الواحديُّ ] .
قوله : { بِالْحَقِّ } قال أبو مسلم : يحتمل وجوهاً .
أحدها : أنه صدق فيما تضمنه من الأخبار عن الأمم السابقة .
الثاني : أن ما فيه من الوعد والوعيد يحملُ المكلَّف على اتباع الحقِّ في الْعِلم والعملِ .
ثالثها : أنه حَقٌّ؛ بمعنى أنه قول فَصْل وليس بالهَزْل .
رابعها : قال الأصَمُّ : أنْزَلُه بالحق الذي يجبُ له على خلقه من العبوديةِ ، وشُكْرِ النعمةِ وما يجب لبعضهم على بعض من العدلِ ، والإنصافِ .
خامسها : أنه أنزله بالحق لا بالمعاني المتناقضةِ الفاسدةِ ، كما قال : { أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } [ الكهف : 1 ] ، وقال : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } [ النساء : 82 ] .
وقوله : { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } معناه : مصدقاً لكُتُبِ الأنبياء ، ولِما أخبروا به عن اللهِ ، وهذا دليل على صحة القرآن من وجهين :
أحدهما : أنه موافق لسائر الكتب ، ولو كان من عند غير الله لم يوافقها ، وهو - عليه السلام - لم يختلط بالعلماء ، ولا تتلمذ لأحد ، ولا قرأ على أحد شيئاً [ والمفتري ] - إذا كان هكذا - يمتنع أن يَسْلم من الكذب والتحريف ، فلما لم يكن كذلك ثبت أنه إنما عرف هذه القصصَ من الله تعالى .
الثاني : قال أبو مسلم : إن الله تعالى لم يبعث نبيًّا قط إلا بالدعاء إلى التوحيد والإيمان وتنزيه الإله عما لا يليق به ، والأمر بالعدل والإحسان وبالشرائع التي هي صلاح أهل كل زمان . والقرآن مصدق لكل الكتب في ذلك .
فإن قيل : كيف سمَّي ما مَضَى بأنه بَيْنَ يديه؟
فالجوابُ : أن تلك الأخبارَ - لغاية ظهورها ، وكونها موجودة - سماها بهذا الاسم .
فإن قيل : كيف يكون مصدقاً لما تقدمه من الكتب مع أن القرآن ناسخ لأكثر تلك الأحكام؟
فالجوابُ : إذا كانت الكتب مشهورة بالرسل ، وأحكامها ثابتة إلى حين نزول القرآن فإنها تصير منسوخةً بنزول القرآن ، كان القرآن مصدقاً لها ، وأيضاً فدلائل المباحث الإلهية ، وأصول العقائد لا تختلف ، فلهذا كان مصدِّقاً لها .
قوله : { وَأَنْزَلَ التوراة والإنجيل } اختلف الناس في هذين اللفظين ، هل يدخلهما الاشتقاق والتصريف ، أم لا يدخلانهما؛ [ لكونهما أعجميَّيْن؟ ] .
فذهب الزمخشريُّ وغيرهُ إلى الثاني ، قالوا : لأن هذين اللفظين اسمان عبرانيان لهذين الكتابين الشريفين ، قال الزمخشريُّ : « وتكلف اشتقاقهما من الوَرْي والنَّجْل ، ووزنهما بتفعلة وإفعيل إنما يثبت بعد كونهما [ عربيين ] » .
قال أبو حيّان : « وكلامه صحيح ، إلا أن فيه استدراكاً ، وهو قوله » تَفْعِلَة « ولم يذكر مذهبَ البصريين وهو أن وزنها فَوْعَلَة ، ولم ينبه على » تفعلة « هل هي بكسر العين أو فتحها » ؟
قال شهاب الدينِ : « لم يحتج إلى التنبيه على الشيئين لشهرتهما ، وإنما ذكر المستغرب » ، ويؤيد ما قاله الزمخشريُّ من كونها أعجمية ما نقله الواحديُّ ، وهو أن التوراة ، والإنجيل ، والزبور سريانية فعرَّبوها ، ثم القائلون باشتقاقهما اختلفوا :
فقال بعضهم : التوراة مشتقة من قولهم : وَرِيَ الزَّنْدُ إذا قدح ، فظهر منه نار ، يقال : وَرِيَ الزند وأوريته أنا ، قال تعالى :
{ أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ } [ الواقعة : 71 ] ؟ ، فُثلاثيُّه قاصر ، ورباعيه مُتَعَدٍّ ، وقال تعالى : { فالموريات قَدْحاً } [ العاديات : 2 ] ، ويقال أيضاً : وَرَيْتُ بِكَ زِنَادِي ، فاستعمل الثلاثي متعدياً ، إلا أن المازني زعم أنه لا يُتَجَاوز به هذا الفظ ، يعني فلا يُقاس عليه ، فيقال : وريت النار مثلاً ، إذا تقرر ذلك ، فلما كانت التوراة فيها ضياء ونور ، يخرج به من الضلال إلى الهدى كما يخرج بالنور من الظلام إلى النور ، سُمِّي هذا الكتابُ بالتوراة ، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان وَضِيَآءً } [ الأنبياء : 48 ] وهذا قولُ الفراء و [ مذهب ] جمهور الناسِ .
وقال آخرون : بل هي مشتقة من ورَّيتُ في كلامي ، من التورية ، وهي التعريض ، وفي الحديث : « كَانَ إذَا أرادَ سَفَراً وَرَّى بِغَيْرِهِ » ، وسميت التوراة بذلك : لأن أكثرها تلويحاتٌ ومعاريضُ ، وإلى هذا ذهب المؤرج السَّدُّوسي وجماعة ، وفي وزنها ثلاثةُ أقوال :
أحدها - وهو قول الخليل وسيبويه - أن وزنها فَوْعَلَة ، وهذا الوزن قد وردت منه ألفاظ نحو الدَّوْخَلَة والقَوْصرة والدَّوْسَرة والصَّوْمَعة ، والأصل : وَوْرَيَة - بواوين؛ لأنها إما من وَرِيَ الزَّنْدُ ، وإما من وَرَّيْتُ في كلامي ، فأبدلت الواو الأولى تاءٌ ، وتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفاً فصار اللفظ « توراة » - كما ترى - وكُتِبَت بالياء ، تنبيهاً على الأصل ، كما أميلت لذلك ، وقد أبدلت العرب التاء من الواو في ألفاظ نحو تَوْلَج ، وتَيْقُور ، وتُخَمَة ، وتُراث وتُكأة وتُجَاه وتُكْلاَن ، من الوُلُوج والوَقَار والوَخَامة والوِرَاثة والوكَاء والوَجْه والوكَالة ، ونظير إبدال الواو تاء في التوراة إبدالها أيضاً من قولهم - لما تراه المرأة في الطُّهْرِ بعد الحيض- : التَّرِيَّة ، هي فعيلة من لفظ الوراء؛ لأنها تُرَى بعد الصُّفرة والكُدْرة .
الثاني : وهو قول الفراء : أن وزنها تَفْعِلَة - بكسر العين - فأبدلت الكسرة فتحة ، وهي لغة طائية ، يقولون في الناصية : نَاصَاة ، وفي جارية : جَارَاة ، وفي نَاجِيَة : نَاجَاة ، قال الشاعِرُ : [ الطويل ]
1318 - ... فَخَرَّتْ كَنَاصَاةِ الْحُصَانِ الْمُشَهَّرِ
وقال آخر : [ المنسرح ]
1319 - .. نُفُوساً بُنَتْ عَلَى الْكَرَمِ
وأنشد الفرَّاءُ : [ الوافر ]
1320 - فَمَا الدُّنْيَا بِبَاقَاةٍ لِحَيٍّ ... وَمَا حَيٌّ عَلَى الدُّنْيَا بِبَاقِ
وقد رد البصريون ذلك بوجهَيْن :
أحدهما : أن هذا البناء قليل جدًّا - أعني بناء تفعلة - بخلاف فَوْعَلَة ، فإنه كثير ، فالحمل على الأكثر أولى .
الثاني : أنه يلزم منه زيادة التاء أولاً ، والتاء لم تُزَد - أوَّلاً - إلا في مواضع ليس هذا منها ، بخلاف قلبها في أول الكلمة ، فإنه ثابت ، وذلك أن الواو إذا وقعت أولاً قُلبت إما همزة نحو أجُوه وأُقِّتَتْ وإشَاح - في : وجوه ووُقِّتَتْ ووِشَاح - وإما تاء نحو : تُجَاه وتُخْمَة ، فاتباع ما عُهِد أولى من اتباع ما لم يُعْهَد .
الثالث : أن وزنها « تَفْعَلة » [ بفتح العين ] - وهو مذهب الكوفيين - كما يقولون في تَفْعُلَة - بالضم - تَفْعَلَة - بالفتح - وهذا لا حاجة إليه ، وهو أيضاً دعوى لا دليل عليها .
وأَمَالَ « التوراة » - حيث ورد في القرآن - إمالة محضة أبو عمرو والكسائي وابن عامر في رواية ابن ذكوان وأمالها بين بين حمزة وورش [ عن نافع ] ، واختلف عن قالون ، فروي عنه بين بين والفتح ، وقرأها الباقون بالفتح فقط ، ووجه الإمالة إن قلنا إن ألفها [ منقلبة عن ياء ظاهر ، وإن قلنا : إنها أعجمية لا اشتقاق لها ، فوجه الإمالة شبه ألفها لألف ] التأنيث من حيث وقوعها رابعة ، فسبب إمالتها ، إما الانقلاب ، وإما شبه ألف التأنيث .
والإنجيل؛ قيل : إفعيل كإجفيل ، وفي وزنه أقوال :
أحدها : أنه مشتق من النَّجْل ، وهو الماء الذي ينز من الأرض ويخرج منها ، ومنه النجْل للولد ، وسمي الإنجيل؛ لأنه مستخرج من اللوح المحفوظ .
وقيل : من النجل وهو الأصل ، ومنه النجل للوالد ، فهو من الأضداد؛ إذ يُطْلَق على الولد والوالد ، قال الأعشى : [ المنسرح ]
1321 - أنْجَبَ أيَّامَ وَالِدَاهُ بِهِ ... إذْ نَجَلاَهُ فَنِعْمَ مَا نَجَلاَ
وقيل : من النجل - وهو التوسعة - ومنه العين النجلاء ، لسعتها ، ومنه طعنة نجلاء وسمي الإنجيل بذلك؛ لأن فيه توسعةً لم تكن في التوراة؛ إذْ حلل فيه أشياء كانت محرمة .
وقيل : هو مشتق من التناجل وهو : التنازع ، يقال : تناجل الناسُ أي : تنازعوا وسُمِّي الإنجيل بذلك لاختلاف الناس فيه ، قاله أبو عمرو الشيباني .
والعامة على كسر الهمزة من « إنجيل » ، وقرأ الحسن بفتحها .
قال الزمخشري : وهذا يدل على أنه أعجمي؛ لأن أفعيلاً - بفتح الهمزة - قليل عديم في أوزان العرب . قلت : بخلاف إفعيل - بكسرها - فإنه موجود نحو : إجفيل وإخريط وإصليت .
قال ابن الخطيبِ : « وأمر هؤلاء الأدباء عجيبٌ؛ لأنهم أوجبوا في كل لفظ أن يكون مأخوذاً من شيء آخرَ ، ولو كان كذلك لزم إما التسلسل ، وإما الدور ، ولما كانا باطلَيْنِ وجب الاعتراف بأنه لا بد من ألفاظ موضوعة وَضْعًا أوَّلاً ، حتى يُجْعَل سائرُ الألفاظ مشتقةً منها ، وإذا كان الأمر كذلك فلم لا يجوز في هذا اللفظ الذي جعلوه مشتقاً من ذلك الآخر أن يكون الأصل هو هذا ، والفرع هو ذاك الآخر ، ومن الذي أخبرهم بأن هذا فرع وذاك أصل؟
وربما كان هذا الذي يجعلونه فرعاً ومشتقاً في غاية الشهرة ، وذاك الذي يجعلونه أصلاً في غاية الخفاء ، وأيضاً فلو كانت التوراة إنما سميت بذلك لظهورها ، والإنجيل إنما سمي إنجيلاً لكونه أصلاً وجب في كل ما ظهر أن يُسَمَّى بالتوراة ، فوجب تسمية كل الحوادث بالتوراة ، ووجب في كل ما كان أصلاً لشيء آخر أن يُسَمَّى بالإنجيل ، فالطين أصل الكوز فوجب أن يكون الطين إنجيلاً ، والذهب أصل الخاتم ، والغزل أصل الثوب ، فوجب تسمية هذه الأشياء بالإنجيل ، ومعلوم أنه ليس كذلك ، ثم إنهم عند إيراد هذه الإلزامات عليهم لا بد وأن يتمسكوا بالوضع ، ويقولوا : العرب خصصوا هذين اللفظين بهذين الشيئين على سبيل الوضع ، وإذا كان لا يتم المقصود في آخر الأمر إلا بالرجوع إلى وضع اللغة ، فلِمَ لا نتمسك به في أول الأمر ، ونُرِيح أنفسنا من الخوض في هذه الكلمات ، وأيضاً فالتوراة والإنجيل اسمان أعجميان ، أحدهما بالعبرية ، والآخر بالسريانية [ فقيل : التوراة بالعبرانية نور ، ومعناه الشريفة ، والإنجيل بالسريانية » إنكليون « ، ومعناه الإكليل ] [ فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بتطبيقها على أوزان لغة العرب؟ فظهر أنَّ الأوْلَى بالعاقل أن لا يلتفتَ إلى هذه المباحث » ] .
قوله : « مِن قَبْلُ » متعلق ب « أنْزَلَ » والمضاف إليه الظرف محذوف؛ لفَهْم المعنى ، تقديره : من قبلك ، أو من قبل الكتاب ، و « الْكِتَاب » غلب على القرآن ، وهو - في الأصل - مصدر واقع موقع المفعول به ، [ أي ] المكتوب .
وذكر المنزل عليه في قوله : { نَزَّلَ عَلَيْكَ } ، ولم يذكره في قوله : { وَأَنْزَلَ التوراة والإنجيل } تشريفاً لنبينا صلى الله عليه وسلم . قوله : « هُدًى » فيه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب على المفعول من أجله ، والعامل فيه « أنْزَلَ » أي : أنزل هذين الكتابين لأجل هدايته .
وعلى هذا التقدير يكون قد وصف القرآن بأنه حق ، ووصف التوراة والإنجيل بأنهما هُدًى ، والوصفان متقاربان .
فإن قيل : لم وصف القرآن - في أول سورة البقرة - بأنه { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] ، ولم يصفه هنا بذلك؟ قيل : إنما وصفه - هناك - بذلك؛ [ لأن ] المتقين هم المنتفعون به ، فهو هدى لهم لا لغيرهم وها هنا فالمناظرة كانت مع النصارى ، وهم لا يَهْتَدُونَ بالقرآن ، فلا جرم لم يقل هنا في القرآن إنه هدًى ، بل قال : إنه حق في نفسه - سواء قبلوه أو ردوه - وأما التوراة والإنجيل فهم يعتقدون صحتهما ، ويدعون أنهم إنما يعولون في دينهم عليهما ، فلا جرم ، وصفهما بكونهما هدى . ويجوز أن يكون متعلقاً - من حيث المعنى - ب « نَزَّلَ » و « أنْزَلَ » معاً ، وتكون المسألة من باب التنازع على إعمال الثاني والحذف من الأول ، تقديره : نزل عليك الكتاب له أي : للهدى ، فحذفه .
ويجوز أن يتعلق بالفعلين - معاً - تعلقاً صناعياً ، لا على وجه التنازع ، بل بمعنى أنه علة للفعلين معاً ، كما تقول : أكرمت زيداً وضربت عمراً إكراماً لك ، يعني أن الإكرام علة الإكرام والضرب .
والثاني : أن ينتصب على الحال من التوراة والإنجيل . ولم يُثَنَّ؛ لأنه مصدر ، وفيه الأوجه المشهورة من حذف المضاف - أي ذَوَي هُدًى - أو على المبالغة - بأن جُعِلا نَفْسَ الهُدَى - أو على جعلهما بمعنى هاديَيْنِ .
وقيل : إنه حال من الكتاب والتوراة والإنجيل .
وقيل : حال من الإنجيل فقط ، وحذف مما قبله؛ لدلالة هذا عليه .
وقال بعضهم : تَمَّ الكلام عند قوله تعالى : { مِنْ قَبْلُ } فيوقف عليه ، ويُبْتَدَأ بقوله : { هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الفرقان } أي : وأنزل الفرقان هدًى للناس .
وهذا التقدير غير صحيح؛ لأنه يُؤدي إلى تقديم المعمول على حرف النسق ، وهو ممتنع؛ إذ لو قلت : قام زيدٌ مكتوفةٌ وضربتُ هِنْداً - تعني وضربت هنداً مكتوفةً - لم يصح ، فكذلك هذا .
قوله : « لِلناسِ » يحتمل أن يتعلق بنفس « هُدًى » لأن هذه المادة تتعدى باللام ، كقوله تعالى : { يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء : 9 ] وأن يتعلق بمحذوف؛ لأنه صفة ل « هُدًى » .
قوله : { وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ } يحتمل أن يراد به جميع الكتب السماوية ، ولم يُجْمَع لأنه مصدر بمعنى الفرق كالغفران والكفران ، وهو يحتمل أن يكون مصدراً واقعاً موقع الفاعل ، أو المفعول ، والأول أظهر .
قال الزمخشريُّ : « وكرر ذكر القرآن بما هو نعت له . ومدح من كونه فارقاً بين الحق والباطل بعد ما ذكره باسم الجنس؛ تعظيماً لشأنه ، وإظهاراً لفضله » .
قال شهاب الدينِ : « قد يعتقد معتقد أن في كلامه هذا رَدًّا لقوله الأول؛ حيث قال : إن » نَزَّل « يقتضي التنجيم ، و » أنْزَلَ « يقتضي الإنزال الدفعي؛ لأنه جوز أن يراد بالفرقان القرآن ، وقد ذكره ب » أنْزَلَ « ، ولكن لا ينبغي أن يُعْتَقَدَ ذلك؛ لأنه لم يَقُل : إن أنزل للانزال الدفعيِّ فقط ، بل يقول : إن » نَزَّل « - بالتشديد - يقتضي التفريق ، و » أنْزِلَ « يحتمل التفريق ، ويحتمل الإنزال الدفعي » .
فصل في المراد ب « الفرقان »
قيل : المراد بالفرقان هو الزبور؛ لقوله : { وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } [ الإسراء : 55 ] .
وقيل القرآن ، وإنما أعاده تعظيماً لشأنه ، ومدحاً له بكونه فارقاً بين الحق والباطل .
أو يقال : إنه تعالى أعاد ذكرَه ليبين أنه أنزله بعد التوراة والإنجيل ، ليجعله فارقاً بين ما اختلف فيه اليهود والنصارى من الحق والباطل ، وعلى هذا التقدير ، فلا تكرار .
وقال الأكثرون : إن المراد أنه تعالى - كما جعل هذه الكتب الثلاثة هدًى ودلالة - قد جعلها مفرقة بين الحلال والحرام وسائر الشرائع .
قال ابن الخطيبِ : « وهذه الأقوال - عندي - مُشْكِلةٌ .
فأما حمله على الزبور فبعيد؛ لأن الزبور ليس فيه شيء من الشرائع والأحكام ، وإنما هو مواعظ ووصف التوراة والإنجيل - مع اشتمالهما على الدلائل والأحكام - بالفرقان أولى من وصف الزبور بذلك .
وأما حمله على [ القرآن ] فبعيد من حيث إنه عطف على ما قبله ، والمعطوف يغاير المعطوف عليه ، والقرآن مذكور قبل ذلك فيقتضي أن يكون الفرقان مغايراً للقرآن ، وبهذا الوجه يظهر ضعف القول الثالث لأن كون هذه [ الكتب ] فارقةً بين الحق والباطل صفة لهذه الكتب ، وعطف الصفة على الموصوف - وإن كان قد ورد فيه بعض الأشعار النادرة [ إلا أنه ] ضعيف ، بعيد عن وجه الفصاحة اللائقة بكلام اللهِ تعالى .
والمختار عندي هو أن المراد بالفرقان - هنا - المعجزات المقرونة بإنزال هذه الكتب؛ لأنهم لما أتوا بهذه الكتب ، وادعوا أنها نزلت عليهم من عند الله تعالى افتقروا إلى إثبات هذه الدعوى إلى دليل حتى يحصل الفرق بين دعواهم ودعوى الكاذبين ، فلما أظهر الله تلك المعجزات على وفق دعواهم حصلت المفارقة بين دعوى الصادق ، ودعوى الكاذب ، فالمعجزة هي الفرقان ، فلما ذكر الله تعالى أنه نزل الكتاب بالحق ، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل ذلك بين أنه تعالى أنزل معها ما هو الفرقان الحق ، وهو المعجز القاهر الذي يدل على صحتها ، ويفيد الفرق بينها وبين سائر الكتب المختلفة ، فهذا ما عندي « .
ويمكن أن يجاب بأنه إذا قلنا : المراد به جميع الكتب السماوية ، فيزول الإشكال الذي ذكره ، ويكون هذا من باب ذكر العام بعد الخاص كقوله تعالى : { فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَآئِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً } [ عبس : 27-31 ] .
قوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ } يحتمل أن يرتفعَ » عَذَابٌ « بالفاعلية بالجار قبله ، لوقوعه خبراً عن » إنَّ « ويحتمل أن يرتفعَ على الابتداء ، والجملة خبر » إنَّ « والأول أولى؛ لأنه من قبيل الإخبار بما يقرب من المفردات و » انتقام « افتعال ، من النقمة وهي السطوة والتسلط ، ولذلك عبر بعضهم عنها بالمعاقبة ، يقال : نَقَمَ - بالفتح - وهو الأفصح ، ونَقِم - بالكسر - وقد قُرِئ بهما ويقال : انتقم من انتم ، أي : عاقبه وقال الليث : ويقال لم أرض عنه ، حتى نقمت ، وانتقمت إذا كافأه عقوبة بما صنع . وسيأتي له مزيد بيان في المائدة إن شاء الله تعالى .
فصل
اعلم أنه تعالى لما قرر جميع ما يتعلق بمعرفة الإله أتبع ذلك بالوعيد؛ زَجْراً للمعرضين عن هذه الدلائل الباهرةِ ، فقال : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } فخصَّ بعضُ المفسّرين ذلك بالنصارى؛ قَصْراً للفظ العام على سبب نزوله .
وقال المحقِّقون : الاعتبار بعموم اللفظ ، فهو يتناول كل من أعرض عن دلائل الله { والله عَزِيزٌ } ، أي : غالب لا يُغْلَب ، وهذا إشارة إلى القدرة التامة على العقاب ، و { ذُو انتقام } إشارة إلى كونه فاعلاً للعقاب ، فالأول صفة الذات ، والثاني صفة الفعل .
إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
هذا الكلام يحتمل وجهَيْنِ :
الأول : أن يُنَزَّلَ على سبب النزول؛ وذلك لأن النصارى ادَّعَوُا الإلهيةَ لعيسَى؛ لأمور :
أحدها : العلم ، فإنه كان يُخْبِر ن الغيوب ، ويقول لهذا : إنك أكلت في دارك كذا ، ويقول لذلك : إنك صنعت في دارك كذا .
الثاني : القدرة ، وهي أن عيسى كان يُحْيي الموتَى ، ويُبرئ الأكمه والأبرص ، ويخلق من الطين كهيئة الطير ، ثم ينفخ فيه فيكون طيراً .
الثالث : من جهة الإلزام المعنويّ ، وهو أنه لم يكن له أبٌ من البشر .
الرابع : من جهة الإلزام اللفظي ، وهو قولهم لنا : أنتم تقولون : إنه روح الله ، وكلمته .
فالله تعالى استدل على بطلان قولهم بإلهية عيس ، والتثليث بقوله : { الحي القيوم } ، فالإله يجب أن يكون حيًّا قَيُّوماً ، فلزم القطعُ بأنه لم يكن إلهاً ، وأجاب عن شبهتهم بعلم الغيوب بقوله : { إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء } ، وكون عيسى عالماً ببعض المغيِّبات ، لا يدل على كونه إلهاً؛ لاحتمال أنه عَلِم ذلك بوحي من الله تعالى ، فعدم إحاطته بكل المغيَّبات يدل قطعاً على أنه ليس بإله؛ لأن الإله هو الذي لا يَخْفَى عليه شيء في الأرض ، ولا في السماء؛ لأنه خالقهما ، والخالق لا بد وأن يكون عالماً بمخلوقه ، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى ما كان عالماً بجميع المغيَّبات ، وكيف والنصارى يقولون : إنه قُتِل ، فلو كان يعلم الغيب ، لعلمَ بأن القوم يريدون قتله ، فكان يفر منهم قبل وصولهم إليه ، وأما تعلقهم بقدرته على إحياء الموتى ، فأجاب الله تعالى عن ذلك بقوله : { هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ } وتقديره : أن حصول الإحياء لعيسى في بعض الصور لا يدل على كونه إلهاً؛ لاحتمال أنَّ الله تعالى أكرمه بذلك إظهاراً لمعجزته ، وعجزه عن الإحياء في بعض الصور يوجب قطعاً عدم إلهيته ، لأن الإله هو القادر على أن يُصَوِّرَ في الأرحام من قطرة صغيرة من النطفة هذا التركيب العجيب ، فلو كان عيسى قادراً على الإحياء ، والإماتة ، لأمات أولئك الذين أخذوه وقتلوه - على زعمهم - فثبت أن الإحياء والإماتة في بعض الصور لا تدل على كونه إلهاً ، وكذلك عدم حصول الإحياء والإماتة له في كل الصور دليل على أنه ما كان إلهاً .
وأما الشبهة الثالثة وهي الإلزام المعنويّ بأنه لم يكن له أب من البشر ، فأجاب الله تعالى عنه بقوله : { هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ } فإن شاء صوره من نطفة [ الأب ] ، وإن شاء صوره ابتداء من غير الأب ، كما خلق آدم من غير ابٍ أيضاً ولا أمّ .
وأما قولهم لنا : أنتم تقولون : إنه روح الله وكلمته ، فهذا الإلزام لفظي ، وهو محتمل للحقيقة والمجاز ، فإذا ورد لفظ يكون ظاهره مخالفاً للدليل العقلي كان من باب المتشابهات ، فوجب ردُّه إلى التأويل ، وذلك هو المراد بقوله :
{ هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } [ آل عمران : 7 ] ، فظهر بما ذكرنا أن قوله : { الحي القيوم } يدل على أن المسيح ليس بإله ، ولا ابن الإله .
وقوله : { إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء } جواب عن تعلُّقهم بالعلم ، وقوله : { هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ } جواب عن تمسُّكهم بقدرته على الإحياء والإماته ، وعن تمسُّكهم بأنه ما كان له أب من البشر ، وقوله : { هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب } جوابٌ عن تمسُّكهم بما ورد في القرآنِ من أن عيسى روحُ الله وكلمته .
الحتمال الثاني : أنه تعالى لما ذكر أنه قيوم ، والقيوم هو القائم بإصلاح مصالح [ الخلق ] ، وذلك لا يتم إلا بأمرين :
الأول : أن يكون عالماً بجميع حاجاتهم بالكمية والكيفية .
الثاني : أن يكون قادراً على دَفْع حاجاتهم ، فالأول لا يتم إلا إذا كان عالماً بجميع المعلومات ، والثاني لا يتم إلا إذا كان قادراُ على جميع الممكنات ، ثم إنه استدل على كونه عالماً بجميع المعلومات بقوله : { إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء } وذلك يدل على كمال علمه ، وإثبات كونه عالماً لا يجوز أن يكون بالسمع؛ لأن معرفة صحة السمع موقوفة على العلم بكونه تعالى عالماً ما بجميع المعلومات ، وإنما الطريق إليه بالدليل العقلي ، وذلك بأن نقول : إن أفعال الله محكمة متقنة والفعل المُحْكَم المتقَن يدل على كون فاعله عالماً ، وإذَا كان دليل كونه تعالى عالماً ما ذكرنا ، فحين ادعى كونه عالماً بجميع المعلومات بقوله : { إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء } [ أتبعه ] بالدليل العقلي ، وهو أنه يُصَوِّرُ في ظلمات الأرحام هذه البنيةَ العجيبةَ ويركبها تركيباً غريباً من أعضاء مختلفة في الشكل والطبع والصفة ، فبعضها أعصاب ، وبعضها أوردة ، وبعضها شرايين ، وبعضها عضلات ، ثم إنه ضَمَّ بعضها إلى بعض على أحسن تركيب وأكمل تأليف ، وذلك يدل على كمال قدرته ، حيث قدر أن يخلق من قطرة من نطفةٍ هذه الاعضاءَ المختلفةَ في الطبع والشكل واللون ، فدلَّ هذا الفعلُ المُحْكَم المتقَن على كمال علمه وقدرته .
قوله : { فِي الأرض } يجوز أن يتعلق ب « يخفى » ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل « شيء » .
فصل
المراد بقوله : { إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء } أي : لا يخفى عليه شيء .
فإن قيل : ما فائدة قوله : « فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء » مع أنه لو أطلق لكان أبلغ؟
فالجواب : أن الغرض منه إفهام العباد كمال علمه ، وفهمهم هذا المعنى عند ذكر السموات والأرض أقوى؛ لأن الحس يرى عظمة السموات والأرض ، فيُعين العقل على معرفة عظمة علم الله تعالى ، والحس متى أعان العقل على المطلوب كان الفهم أتم ، والإدراك أكمل ، ولذلك فإن المعانيَ الدقيقةَ إذا أريد إيضاحُها ذُكِر لها مثال؛ فإن المثال يُعِين على الفهم .
قوله : { هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام } تحتمل هذه الجملة أن تكون مستأنفةً سيقت لمجرد الإخبار بذلك ، وأن تكون في محل رفع خبراً ثانياً لإنَّ .
قوله : { فِي الأرحام } يجوز أن يتعلق ب « يُصَوِّرُكُمْ » وهو الظاهر ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من مفعول « يُصَرِّرُكُمْ » أي : يصوركم وأنتم في الأرحام مُضَغٌ .
وقرأ طاوسُ : تَصَوَّرَكُمْ - فعلاً ماضياً - ومعناه : صوركم لنفسه ، ولتعبدوه ، وتَفَعَّل يأتي بمعنى فَعَّل ، كقولهم : تأثلث مالاً ، وأثَّلته ، أي : جعلته أثلة أي : أصلاً ، والتصوير : تفعيل من صاره ، يصوره ، أي : أماله وثناه ، ومعنى صوره : جعل له صورة مائلة إلى شكل أبويه .
والصورة : الهيئة يكون عليها الشيء من تأليف خاص ، وتركيب منضبط ، قاله الواحدي وغيره .
والأرحام : جمع رحم ، وأصلها الرحمة ، وذلك لأن الاشتراك في الرحم يوجب الرحمة ، والعطف ، فلهذا سُمِّيَ العُضْوُ رَحِماً .
قوله : { كَيْفَ يَشَآءُ } في أوجه :
أظهرُها : أنَّ « كَيْفَ » للجزاء ، وقد جُوزِيَ بها في لسانهم في قولهم : كيف تَصْنَعُ أصنع ، وكيف تكونُ أكونُ ، إلا أنه لا يُجْزَمُ بهما ، وجوابها محذوف؛ لدلالة ما قبلها عليه ، وكذلك مفعول « يشاء » لما تقدم أنه لا يُذْكَر إلا لغرابة والتقدير : كيف يشاء تصويركم يصوركم ، فحذف تصويركم؛ لأنه مفعول « يَشَاءُ » ويصوركم؛ لدلالة « يُصَوِّرُكُمْ » الأول عليه ، ونظيره قولهم : أنت ظكالم إن فعلتَ ، تقديره : أنت ظالم إن فعلتَ فأنتَ ظالمٌ .
وعند مَنْ يُجيز تقديمَ الجزاء في الشرط الصريح يجعل « يُصَوِّرُكُمْ » المتقدم هو الجزاء ، و « كَيْفَ » منصوب على الحال بالفعل بعده ، والمعنى : على أي حالٍ شاء أن يصوركم صوركم ، وتقدم الكلام على ذلك في قوله « كيف تكفرون » ولا جائز أن يكون « كَيْفَ » معمولة « يُصَوِّرُكُمْ » ؛ لأن لها صدرَ الكلام ، وما له صدر الكلام لا يعمل فيه إلا أحدُ شيئين : إما حرف الجر نحو بمن تمر؟ وإما المضاف نحو غلامُ مَنْ عندَك؟
الثاني : أن يكون « كَيْفَ » ظرفاً ل « يَشَاءُ » والجملة في محل نصب على الحال من ضمير اسم الله تعالى ، تقديره : يصوركم على مشيئته ، أي : مُريداً .
الثالث : كذلك إلا أنه حال من مفعول « يُصَوِّرُكُمْ » تقديره : يصوركم متقلبين على مشيئته .
ذكر الوجهين أبو البقاء ، ولما ذكر غيره كونها حالاً من ضمير اسم الله تعالى قدرها بقوله : يصوركم في الأرحام قادراً على تصويركم مالكاً ذلك .
الرابع : أن تكون الجملة في موضع المصدر ، المعنى : يصوركم في الأرحام تصوير المشيئة كما يشاء قاله الحوفي ، وفي قوله : الجملة في موضع المصدر تسامح؛ لأن الجمل لا تقوم مقام المصادر ، ومراده أن « كَيْفَ » دالة على ذلك ، ولكن لما كانت في ضِمْن الجملة نسب ذلك إلى الجملة .
فصل في معنى الآية
معنى : { يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ } ذكراً أو أنثى ، أبيضَ أو أسودَ ، حسناً أو قبيحاً ، تاماً أو ناقصاً ، وقد ذكرنا أن هذا رَدٌّ على وفد نجران؛ حيث قالوا : عيسى ولد الله وكان يقول : كيف يكون ولده وقد صوره في الرحم؟ ثم إنه لما أجاب عن شبهتهم أعاد كلمة التوحيد؛ زَجْراً للنصارى عن قولهم بالتثليث فقال : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم } و « الْعَزِيزُ » إشارة إلى كمال القدرةِ ، يعني أن قدرته أكمل من قدرة عيسى على الإماتة والإحياء ، و « الْحَكِيمُ » إشارة إلى كمالِ العلم ، يعني : أن علمه أكملُ من علم عيسى بالغيوبِ؛ فإن علمَ عيسى ببعض الصُّوَرِ ، وقَدرته على بعض الصور لا يدل على كونه إلهاً ، وإنما الإله هو الذي يكون قادراً على كل الممكناتِ ، عالماً بجميع الجزئيات والكليات .
قال عبد الله بن مسعود : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو الصادقُ المصدوقُ - « إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَ عُ خَلْقُهُ في بطن أمه أرْبَعِينَ يَوْماً نُطْفَةً ، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةٌ مثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةٌ مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يُرْسَل إلَيْهِ المَلَكُ ، فَيَنْفُخُ فِيه الرُّوحَ ، وَيُؤمَرُ بأرْبَعِ كَلِمَاتٍ : بِكَتْبِ رِزْقِهِ ، وَعَمَلِهِ ، وَأجَلِهِ ، وَشَقِيّ أوْ سَعِيد ، فَوَالَّذِي لاَ إلَه غَيْرَهُ إنَّ أحدَكُم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الْجَنَّةِ حَتَى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلَهَا ، وَإنَّ أحَدَكُمُ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلاَّ ذِرَاعٌ ، فَيَسبقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلَهَا » .
وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : « يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَ مَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحم بِأرْبَعِينَ أوْ خَمْسَةٍ وَأرْبَعِينَ يَوْماً ، فَيَقُولُ : يَا رَبِّ أشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ؟ فَيُكْتَبَانِ ، فَيَقُول : أيْ رَبِّ أذَكَرٌ أوْ أنْثَى؟ فَيُكْتَبَان ، وَيُكْتِبُ عَمَلُهُ ، وَأثَرهُ ، وَأجَلُهُ ، ورِزْقُهُ ، ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ ، فَلاَ يُزَادُ فِيهَا وَلاَ يُنْقَصُ » .
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)
وَجه النَّظْمِ على الاحتمال الأول في الآية المتقدمة أن النصارى تمسكوا - في بعض شُبَهِهِمْ - بما جاء في القرآن من صفة عيسى عليه السلام أنه روحُ اللهِ وكلمتُه ، فبَيَّن الله تعالى بهذه الآيةِ أن القرآن مشتمل على مُحْكَم ومتشابه ، و التمسّك بالمتشابهاتِ غيرُ جائزٍ - هذا على الاحتمال الأول في الآيةِ المتقدمةِ ، وعلى الثاني - أنه تعالى لما بين أنه قيوم ، وهو القائم بمصالح الخلق ، والمصالح قسمان : جسمانية ، وروحانية ، فالجسمانية أشرفها تعدليل البنية على أحسن شكل ، وهو المراد بقوله : { هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام } [ آل عمران : 6 ] وأما الروحانية فِأشرفُها العِلْمُ ، وهو المراد بقوله : { هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب } قوله : { مِنْهُ آيَاتٌ } يجوز أن تكون « آيَاتٌ » رَفْعاً بالابتداء ، والجار خبره ، وفي الجملة على هذا وجهانِ :
أحدهما : أنها مستأنفة .
والثاني : أنها في محل نصب على الحال من « الْكِتَابِ » أي : هو الذي أنزل الكتاب في هذه الحال ، أي : منقسماً إلى محكم ومتشابهٍ .
ويجوز أن يكون « منه » هو الحال - وحده - وآيات : رفع [ به ] - على الفاعلية .
و { هُنَّ أُمُّ الكتاب } يجوز أن تكون الجملةُ صفةٌ للنَّكِرَةِ قَبْلَهَا ، ويجوز أن تكونَ مستأنفةً .
وأخْبَرَ بلفظ الواحد « أمُّ » عن جمع « هُنَّ » إمَّا لأن المرادَ أن كل واحدةٍ منه أمٌّ ، وإمَّا لأن المجموعَ بمنزلة آية واحدةٍ ، كقوله : { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } [ المؤمنون : 50 ] ، وإما لأنه مفرد واقع موقع الجمع ، كقوله : { وعلى سَمْعِهِمْ } [ البقرة : 7 ] .
وقوله : [ الوافر ]
1322 - كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا ..
وقوله : [ الطويل ]
1323 - بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى فَأمَّا عِظَامُهَا ... فَبِيضٌ وَأمّا جِلدُهَا فَصَلِيبُ
وقال الأخفش : وَحَّد « أمُّ الْكِتَابِ » بالحكاية على تقدير الجواب ، كأنه قيل : ما أمُّ الكتاب؟ فقال : هن أم الكتاب ، كما يقال : مَن نظيرُ زَيْدٍ؟ فيقول قوم : نحن نظيره ، كأنهم حكوا ذلك اللفظ ، وهذا على قولهم : دعني من تمرتان ، أي : مما يُقَال له : تمرتان .
قال ابنُ الأنباري : « وهذا بعيد من الصواب في الآية؛ لأن الإضمار لم يقم عليه دليل ، ولم تدع إليه حاجةٌ » .
وقيل : لأنه بمعنى أصْل الكتاب ، والأصْل يُوَحَّد .
قوله : « وأُخَر » نسق على « آيات » و « متشابهات » نعت ل « أخر » ، وفي الحقيقة « أخر » نعت لمحذوف تقديره : وآيات أخر متشابهات .
قال أبو البقاء : فإن قيل : واحدة [ متشابهات : متشابهة ، وواحدة أخر : أخرى ، والواحد هنا - لا يصح أن يُوصَف بهذا الواحد- ، فلا يقال : أخرى متشابهة ] ، إلا أن يكون بعض الواحدة يشبه بعضاً ، وليس المعنى على ذلك ، إنما المعنى أن كل آية تشبه آيةٌ أخرى ، فكيف صح وصف هذا الجمع بهذا الجمع ولم يصح وصْف مفردِه بمفردِه؟
قيل : التشابهُ لا يكون إلا بين اثنين فصاعداً ، فإذا اجتمعت الأشياء المتشابهة كان كل واحدٍ منها مشابهاً للآخر ، فلما لم يصح التشابه إلا في حالةِ الاجتماعِ وُصِفَ الجمعُ بالجمعِ؛ لأن كل واحد منها يشابه باقيها ، فأما الواحد فلا يصح فيه هذا المعنى ، ونظيره قوله :
{ فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ } [ القصص : 15 ] فثنَّى الضمير ، وإن كان الواحد لا يقتتل ، يعني أنه ليس من شرط صحة الوصف في التثنية أو الجمع صحة انبساط مفردات الأوصاف على مفردات الموصوفات ، وإن كان الأصل ذلك كما أنه لا يُشترط في إسناد الفعل إلى المثنى والمجموع صحة إسناده إلى كل واحد على حدته ، وقريب من ذلك قوله : { حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش } [ الزمر : 75 ] ، وقيل : ليس لِ « حَافينَ » مفرد؛ لأنه ولو قيل : حافّ لم يَصِحّ؛ إذ لا يتحقق الحفوف في واحد فقط ، إنما يتحقق بجمع يُحيطون بذلك الشيءِ المحفوفِ [ وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى ] .
فصل
اعلم أن القرآن الكريمَ كلَّه مُحْكَمٌ من دجهة الإحكام والإتقان والفصاحة وصحة المعاني ، وكونه كلاماً حقًّا؛ لقوله تعالى : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } [ هود : 1 ] ، وقوله : { تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم } [ يونس : 1 ] فهو أفضل من كل كلام يُوجَد في هذه المعاني ، ولا يمكن أحد أن يأتي بكلام يساويه فيها ، والعرب تقول في البناء الوثيق ، والعقد الوثيق الذي لا يمكن حَلُّه : مُحْكَم ، وكلُّه متشابه من حيث إنه يشبه بعضهُ بعضاً في الحُسن ، ويصدِّقُ بعضُهُ بعضاً؛ لقوله تعالى : { كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ } [ الزمر : 23 ] .
وذكر في هذه الآيةِ أن بعضه مُحْكَمٌ ، وبعضه متشابه .
واختلف المفسّرون في المحكم - هنا - والمتشابه ، فقال ابنُ عباس : المحكمات هي الآيات الثلاث في سورة الانعام ، { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } [ الأنعام : 151 ] الآيات ، ونظيرها في بني إسرائيل { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23 ] .
وعنه أنه قال : المتشابهات : حروف التهجي في أوائل السور .
وقال مجاهد وعكرمة : المحكم : ما فيه الحلال والحرام ، وما سوى ذلك متشابه ، يشبه بعضه بعضاً في الحق ، ويصدق بعضه بعضاً ، كقوله : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين } [ البقرة : 26 ] ، وقوله : { وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ } [ يونس : 100 ] .
وقال قتادة والضحاك والسُّديُّ : المحكم : الناسخ الذي يُعْمَل به ، والمتشابه : المنسوخ الذي لا يُعْمَل به ويؤمن به ، ورَوَى علي بن أبي طلحةَ عن ابن عباس قال :
محكمات القرآن : ناسخه ، وحلالُه ، وحرامُه ، وحدودُه ، وفرائضُه ، وما يؤمن به ولا يُعْمَل به .
وقيل المحكمات : ما أوقف الله الخلقَ على معناها ، والمتشابه : ما استأثر الله بعلمه ، ولا سبيل لأحد إلى علمه نحو الخبر عن أشراط الساعة من خروج الدجالِ ، ونزول عيسى عليه السلام وطلوع الشمس من مغربها وقيام الساعة ، وفناء الدنيا .
وقال محمد بن جعفر بن الزبير : المُحْكَم ما لا يَحْتَمل من التأويل غير وجه ، والمتشابه ما احتمل أوجهاً .
وقيل : المحكم : ما يعرف معناه ، وتكون حُجَجُه واضحةً ، ولا تشتبه دلائله ، والمتشابه : هو الذي يُدرك علمه بالنظر ، ولا يَعْرِفُ العوامُّ تفصيلَ الحق فيه من الباطل ، وقيل المحكم : ما يستقل بنفسه في المعنى ، والمتشابه : ما لا يستقل بنفسه بل يُرَدّ إلى غيره .
فصل
« في تفسير المحكم في أصل اللغةِ » :
العرب تقول : أحكمتُ وحكمتُ بمعنى رددتُ ، ومنعت ، والحاكم يمنع الظالمَ عن الظلم ، وحَكَمَةُ اللجامِ هي التي تمنعُ الفرسَ عن الاضطرابِ ، وفي حديث النَّخَعِيِّ : أحْكم اليتيم كما تُحْكِمُ وَلدَك ، أي : امنعه من الفساد .
وقال جَرير : [ الطويل ]
1324 - أبَنِي حَنِيفَةَ أحْكِمُوا سُفَهَاءَكُم .. .
أي : امنعوهم .
وبناءٌ مُحْكَم : أي : وثيق ، يمنع مَنْ تعرَّض له ، وسُمِّيت الحكمةُ حكمةً؛ لأنها تمنعُ عما لا ينبغي .
والمتشابه : هو أن يكون أحد الشيئين مشابهاً للآخر ، بحيث يعجز الذهن عن التمييز [ بينهما ] ، قال تعالى : { إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا } [ البقرة : 70 ] ، وقال في وصف ثمارِ الجنةِ : { وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِها } [ البقرة : 25 ] أي : مُتَّفِق المنظر ، وقال تعالى : { تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُم } [ البقرة : 118 ] ، ويقال : أشبه عليَّ الأمر إذا لم يَظْهَر له الفرق ويقال لأصحاب المخاريق : أصحاب الشبه ، وقال صلى الله عليه وسلم : « الْحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَهُمَا أمُورٌ مُتَشابِهَاتٌ » وفي رواية مشتبهات ، ثم لما كان من شأن المتشابهَيْن عَجْزُ الإنسانِ عن التمييز بينهما ، سمِّي كلُّ ما لا يَهْتَدِي إليه الإنسان بالمتشابه؛ إطلاقاً لاسم السبب على المسبَّب ، ونظيره المشكل ، سُمِّي بذلك؛ لأنه أشكل أي : دخل في شكل غيره ، فأشبهه وشَاكَله ، ثُمَّ يقال لكل ما غَمُضَ - وإن لم يكن غموضُه من هذه الجهةِ - مشكلاً ، ولهذا يُحْتَمَل أن يقال للذي لا يُعْرَف ثبوتُه أو عدمُه ، وكان الحكم بثبوته مساوياً للحكم بعدمه في العقل والذهن ومشابهاً [ له ] ، ولم يتميز أحدُهما عن الآخر بمزيد رُجْحَان ، فلا جرم يُسَمَّى غير المعلوم بأنه متشابه .
قال ابن الخطيبِ : « فهذا تحقيق القول في المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغةِ ، والناس قد أكثروا في تفسير المحكَم والمتشابه ، ونحن نذكر الوجهَ الملخص الذي عليه أكثر المحققين ثم نذكر عقيبه أقوال الناس فيه فنقول : إذا وُضِعَ اللفظ لمعنى فإما أن يحتمل غيره أو لا ، فإن كان لا يحتمل غيره فهو النص ، وإن احتمل غيرَه فإما أن يكونَ احتماله لأحدهما راجحاً على الآخر ، فيكون بالنسبة إلى الراجح ظاهراً ، وبالنسبة إلى المرجوح مؤولاً ، وإن كان احتماله لهما على السوية ، فيكون اللفظ بالنسبة إليهما معاً مشتركاً ، وبالنسبة إلى كل واحد منهما على التعيين مجملاً ، فحصل من هذا التقسيم أن اللفظ ، إما أن يكون نصاً ، أو ظاهراً ، أو مؤولاً ، أو مشتركاً ، والنص والظاهر يشتركان في حصول الترجيح ، إلا أن النص راجح مانع من الغير ، فهذا القدر المشترك هو المسمَّى بالمحكَم ، أما المجمل والمؤول ، فهما يشتركان في أن دلالة اللفظ عليه غير راجحة [ وإن لم يكن راجحاً ، أو غير مرجوح ، والمؤوَّل - مع أنه غير راجح - فهو مرجوح ، لا بحسب الدليل المنفرد ] ، فهذا القدر المشترك هو المسمَّى المتشابه؛ لأن عدم الفهم حاصل في القسمين جميعاً ، وقد بينَّا أن ذلك يسمى متشابهاً ، إما لأن الذي لا يُعْلَمُ يكون النفي فيه مشابهاً للإثبات في الذهن ، وإما لأجل أن الذي [ يحصل ] فيه التشابه يصير غير معلوم ، فيطلق لفظ » المتشابه « على ما لا يُعْلَم؛ إطلاقاً لاسم السبب على المسبب فهذا هو الكلام المحصَّل في المحكَم والمتشابه .
فصل
روى البخاري عن سعيد بن جبيرٍ قال : قال رجلٌ لابن عباس : إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ ، قال : ما هي؟ قال : قوله : { فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] وقال : { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } [ الصافات : 50 ] ، وقوله : { وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } [ النساء : 42 ] مع قولهم : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] فقد كتموا في هذه الآية وفي « النازعات » قال : { أَمِ السمآء بَنَاهَا } [ النازعات : 27 ] إلى قوله : { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [ النازعات : 27-30 ] فذكر خلق السماء قبل الأرض ، وقال { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ } [ فصلت : 9-11 ] إلى : « طَآئِعِينَ » فذكر خلق الأرض قبل السماء وقال : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 100 ] { وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً } [ النساء : 158 ] { وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً } [ النساء : 134 ] فكأنه كان ثم مضى .
فقال ابن عباس : معنى قوله : { فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُم } النفخة الأولى ثم يُنْفَخُ في الصور فيُصْعَق مَن في السموات ومن في الأرض إلا مَنْ شَاءَ الله ، فلا أنساب بينهم عند ذلك ، وفي النفخة الأخيرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون .
أما قولهم : { مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } أي : أن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم ، فيقول المشركون : تعالوا نقول : ما كنا مشركين ، فيختم الله على أفواههم ، وتنطق جوارحُهم بأعمالهم ، فعند ذلك لا يكتمون الله حديثاً ، وعنده { رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ } [ الحجر : 2 ] ، وخلق الأرض في يومين ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ، ثم دَحا الأرض ، بسطها فأخرج منها الماء والمرعى ، وخلق فيها الأشجار والجبال [ والآكام ] وما بينهما في يومين آخرين ، وذلك قوله : { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } فخلق الأرض وما فيها في أربعة ايام وخلق السماء في يومين .
وقوله : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } يعني نفسه ، أي : لم يزل ، ولا يزال كذلك ، وأن الله لم يرد شيئاً إلا أصاب به الذي أراده ويحك ، فلا يختلف عليك القرآنُ ، فإن كُلاًّ من عند الله .
فصل
في الفوائد التي لأجلها جُعِل بَعْضُ القرآن محْكَماً ، وبعضهُ متشابهاً .
قال ابن الخطيبِ : « طعن بعضُ الملحدة في القرآن؛ لأجل اشتماله على المتشابهات ، وقالوا : إنكم تقولون : إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى يوم القيامة ، ثم إنا نراه بحيث يتمسك به كل صاحب مذهب على مذهبه ، فالجبري يتمسك بآيات الجبر كقوله :
{ وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْرا } [ الأنعام : 25 ] ، والقدَريُّ يقول : بل هذا مذهب الكفار؛ بدليل أنه تعالى حكى ذلك عن الكفار في معرض الذم لهم في قوله : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْف } [ البقرة : 88 ] ، وأيضاً مثبت الرؤية يتمسك بقوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 232-23 ] ، والنافي يتمسك بقوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار } [ الأنعام : 103 ] ، ومثبت الجهة يتمسك بقوله : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِم } [ النحل : 50 ] وقوله : { الرحمن عَلَى العرش استوى } [ طه : 5 ] والنافي يتمسك بقوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء } [ الشورى : 11 ] ثم إن كل واحد يسمي الآيات الموافقة لمذهبه محكمة ، والآيات المخالفة لمذهبه متشابهة ، وإنما يُرْجَع في ترجيح بعضها على البعض إلى ترجيحات خفية ، ووجوه ضعيفة ، فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى قيام القيامة هكذا أليس أنه لو جعله ظاهراً جلياً خالياً عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى حصول الغرض؟ فذكر العلماء في فوائد المتشابهات وجوهاً :
الأول : أنه متى ك انت المتشابهات موجودة كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق ، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب .
الثاني : أن القرآن إذا كان مشتملاً على المحكَم والمتشابه افتقر الناظر إلى الاستعانة بدليل العقل ، وحينئذ يتخلص عن ظلمة التقليد ، ويصل إلى ضياء الاستدلال ، ولو كان كله محكماً لم يفتقر إلى التمسك بالدلائل العقلية ، وكان يبقى - حينئذٍ - في الجهل والتقليد .
الثالث : أن القرآن لما كان مشتملاً على المحكم والمتشابه افتقر إلى تعلم طرق التأويلات ، وترجيح بعضها على بعض ، وافتقر في تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علوم اللغة ، والنحو ، وأصول الفقه ، ولو لم يكن الأمر كذلك لما كان الإنسان يحتاج إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة ، فكان في إيراد هذه المتشابهات هذه الفوائد .
الرابع : أن القرآن يشتمل على دعوة الخواص ، والعوامّ بالكلية ، وطباع العوام تنبو - في أكثر الأمر - عن إدراك الحقائق ، فمن سمع من العوام - في أول الأمر - إثبات موجود ليس بجسم ولا متحرك ولا يشار إليه ظَنَّ بأن هذا عَدَم ونَفْي ، فوقع في العطيل ، فكان الأصلح أن يخاطَبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما توهموه ، وتخيلوه ، ويكون ذلك مخلوطاً بما يدل على الحق الصريح فالمخاطبة في أولِ الأمرِ تكون من أبواب المتشابهات ، والثاني وهو الذي انكشف لهم في آخر الأمر هو المحكم .
الخامس : [ لو ك ان القرآن محكماً بالكلية لما كان مطابقاً إلا لمذهب واحد ، وكان تصريحه مبطلاً لكل ما سوى ذلك المذهب ، وذلك مما يُنَفِّر أربابَ المذاهب عن قبوله ، وعن النظر فيه ، فالانتفاع به إنما حصل لما كان مشتملاً على المحكَم والمتشابه ، فحينئذ يطمع صاحب كلِّ مذهب أن يجدَ فيه ما يقوي له حكمه ويُؤثِرُ مقالته ، فحينئذ ينظر فيه جميعً أرباب المذاهب ، ويجتهد في التأمل فيه كلُّ صاحب مذهب ، فإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات ، فبهذا الطريق يتخلص المبطل عن باطله ، ويصل إلى الحق ، والله أعلم ] .
قوله : { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } يجوز أن يرتفع « زيغ » بالفاعلية؛ لأن الجار قبله صلة لموصول ، ويجوز أن يكون مبتدأ ، وخبره الجار قبله .
قوله « الزيغ » قيل : المَيْل [ مطلقاً ] ، وقال بعضهم : هو أخَصُّ من مطلق الميل؛ فإن الزيع لا يقال إلا لما كان من حق إلى باطل .
قال الراغب : « الزيغُ : الميلُ عن الاستقامة إلى أحد الجانبين ، وزاغَ وزالَ ومالَمتقاربٌ ، لكن زاغ لا يقال إلا فيما كان من حق إلى باطل » انتهى . يقال : زاغ يَزيغُ زَيْغاً ، وزَيْغُوغَةً وزَيغَاناً ، وزُيوغاً .
قال الفراء : والعرب تقول في عامة ذواتِ الياء - فيما يُشْبه زِغْت - مثل : سِرْتُ ، وصِرْتُ ، وطِرْتُ : سَيْرورة ، وصَيْرورة ، وطَيْرُورة ، وحِدت حَيْدودة ، ومِلت ميلولة . . لا أحصي ذلك ، فأما ذواتُ الواوِ مثل قُلْت ، ورُضْت ، فإنهم لم يقولوا ذلك إلا في أربعة ألفاظٍ : الكَيْنُونة والدَّيْمومة - من دام والهَيْعُوعَة - من الهُوَاع ، والسَّيْدودَة - من سُدت- ، ثم ذكر كلاماً كثيراً غير متعلق بما نحن فيه . وقد تقدم الكلام على هذا المصدر ، وأنه قد سمع في هذا المصدرِ الأصل - وهو كَينُونة - في قول الشاعر : [ الرجز ]
1325 - يَا لَيْتَنَا قَدْ ضَمَّنَا سَفِينَهْ ... حَتَّى يَعُودَ الوَصل كَيَّنُنَهْ
قوله : « ما تشابه » مفعول الاتباع ، وهي موصولة ، أو موصوفة ، ولا تكون مصدريةً؛ لعَوْد الضمير من « تشابه » عليها ، إلا على رأيٍ ضعيفٍ ، و « مِنه » حال من فاعل « تَشَابه » أي تشابه حال كونه بعضه .
قوله : « ابْتِغَاءَ » منصوب على المفعول له ، أي : لأجل الابتغاء ، وهو مصدر مضاف لمفعوله . والتأويل : مصدر أوَّل يُؤوِّلُ ، وفي اشتقاقه قولان :
أحدهما : أنه من آل يَئُولُ أوْلاً ، ومآلاً ، أي : عَادَ ، ورجع ، وآلُ الرجلِ من هذا - عند بعضهم إلا أنهم يرجعون إليه في مُهِمَّاتِهِم ويقولون : أولتُ الشيء : أَي : صرفته لوجهٍ لائقٍ به فانصرف ، قال الشاعر : [ السريع ]
1326 - أؤَوِّلُ الْحُكْمَ عَلَى وَجْهِهِ ... لَيْسَ قَضَائِي بِالْهَوَى الْجَائِرِ
وقال بعضهم : أوَّلت الشيء ، فتأول ، فجعل مطاوعه تفعل ، وعلى الأول مطاوعه فعل ، وأنشد الأعشى : [ الطويل ]
1327 - عَلَى أنَّهَا كَانَتْ تَأوَّلُ حُبَّهَا ... تَأوُّلَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فأصْحَبَا
أي : يعني أن حبها كان صغيراً ، قليلاً ، فآل إلى العِظَم كما يَئُول السَّقْبُ إلى الكِبر ، ثم قد يُطْلَق على العاقبة ، والمردِّ؛ لأنَّ الأمر يصير إليهما .
الثاني : أنه مشتق من الإيَالَةِ ، وهي السياسةُ ، تقول العر : قَدْ ألْنَا وَإيلَ عَلَيْنَا ، أي : سُسْنَا وساسَنا غيرُنا ، وكأن المؤوِّلَ للكلام سايسهُ ، والقادر عليه ، وواضِعه موضعَه ، نُقِل ذلك عن النضر بن شميل .
وفرق الناس بين التفسير والتأويل في الاصطلاح بأن التفسير مقتصر به على ما لا يُعْلَم إلاَّ بالتوقيف كأسباب النزول ، ومدلولات الألفاظ ، وليس للرأي فيه مَدْخَل ، والتأويل يجوز لمن حصلت عنده صفة أهلِ العلمِ ، وأدواتٌ يقدر أن يتكلم بها إذا رجع بها إلى أصولٍ وقواعدَ .
فصل
روى ابنُ عباسٍ : أن رَهْطاً من اليهود منهم حُيَيّ بنُ أخْطَبَ ، وكعبُ بنُ الأشرف ونظراؤهما أتوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال له حُيَيّ : بلغنا أنه نزلَ عليك الم ، فننشدك الله ، أنزل عليك؟ قال : نَعَمْ ، قال : فإن كان ذلك حقاً فأنا أعلم مدّة مُلْك أمتك ، هي إحْدى وسبعون سنة فهل أنزل غيرُها؟ قال : نعم ، المص ، قال : هذه أكثر ، هي مائة وإحدى وثلاثون سنة ، فهل أنزل غيرها؟ قال : نعم ، المر ، قال : هذه أكثر ، هي مائتان وإحدى وسبعون سنة ، وقد خَلَّطتَ علينا ، فلا ندري ابكثيره نأخذ ، أم بقليله ونحن ممن لا يُؤمن بهذا؟ فأنزلَ الله { هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } .
وقال الربيع : هم وَفْدُ نجرانَ ، خاصموا النبيَّ صلى الله عليه وسلم في عيسى ، وقالوا : ألست تزعم أنه كلمةُ الله وروح منه؟ قال : بلى ، قالوا : حَسْبُنا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، ثم أنزل : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] .
قال ابن جريج : هم المنافقون .
وقال الحسن : هم الخوارج ، وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } قال : إن لم يكونوا الحرورية والسبئية فلا أدري مَنْ هُمْ ، وقال المحققون : إن هذا يَعُم جميعَ المبطلين ، قالت عائشة : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآيةَ منه آيات محكمة هي أم الكتاب وأخر متشابهات إلى قوله : أولي الألباب { هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب } فقال رسول الله : « فَإذَا رَأيْتَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأولَئِكَ الذين سمى الله فاحذرهم » وعن أبي غالب قال : « كنت أمشي مع أبي أمامة ، وهو على حمار حتى إذا انتهى إلى درج مسجد دمشق ، فإذا رؤوسٌ منصوبة ، فقال : ما هذه الرؤوس؟ قيل : هذه رؤوس يُجاء بهم من العراق ، فقال أبو أمامة : كلابُ النار ، كلابُ النار ، [ كلابُ النار ] أو قتلى تحت ظل السماء ، طوبى لمن قَتَلهم وقتلوه - يقولها ثلاثاً - ثم بكى ، فقلت : ما يُبْكيك يا أبا أمامة؟ قال : رحمةً لهم؛ إنهم كانوا من أهل الإسلام ، فخرجوا منه ، ثم قرأ : { هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب } الآية ، ثم قرأ : { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ البينات } [ آل عمران : 105 ] ، فقلت : يا أبا أمامة ، هم هؤلاء؟ قال : نعم ، قلت : أشيء تقوله برأيك ، أم شيء سمعته من رسول اله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : إني إذَنْ لَجرِيء ، إني إذاً لَجَريءٌ ، بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه سولم غيرَ مرةٍ ولا مرتين ، ولا ثلاث ، ولا أربع ، ولا خمس ، ولا ست ، ولا سبع ، ووضع أصبعيه في أذنيه ، قال : وإلا فَصُمَّتَا ، قالها ثلاثاً - ثم قال : سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول
« تَفرَّقَتْ بَنو إسرائيلَ على أحْدَى وسبعينَ فرقةً ، واحدةٌ في الجَنَّةِ ، وَسَائِرَهُم في النَّارِ ، ولتزيدَنَّ عليهم هَذِهِ الأمةُ واحدةً ، واحدةٌ في الجنَّة وسائرُهم في النّار » .
فصل
لما بيَّنَ الله تعالى أن الزائغِين يتَّبعون المتشابهِ بيَّن أنّ لهم فيه غرضَيْنِ :
الأول : ابتغاء الفتنة .
والثاني : ابتغاء التأويل .
أما الفتنة فقا لالربيع والسدي : الفتنة : طلب الشرك .
وقال مجاهد : ابتغاء الشبهات واللَّبْس ، ليضلوا بها جُهَّالهم .
وقال الأصم : متى وقعوا في المتشابهات ، صَارَ بعضهم مخالفاً للبعض في الدين ، وذلك يفضِي إلى التقاتل ، والهَرْج والمَرْج .
وقيل : المتمسك بالمتشابه يُقَرِّر البِدَع والأباطيل في قلبه ، فيصير مفتوناً بذلك الباطلِ ، عاكفاً عليه ، لا يقلع عنه بحيلة ألبتة لأن الفتنة في اللغة : التوغُّل في محبة الشيء ، يقال : فلان مفتون بطلب الدنيا ، أي : مُوغِل في طلبها .
وقيل : الفتنة في الدين هي الضلال عنه ، [ ومعلوم أنه لا فتنة ، ولا فساد أعظم من الفتنة في الدين والفساد فيه ] .
وأما التأويل فقد ذكرنا تفسيره في اللغة ، والفرق بينه وبين التفسيرز
قد يسمى التفسيرُ تأويلاً قال تعالى : { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } [ الكهف : 78 ] ، وقال : { ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ الإسراء : 35 ] ، وذلك لأنه إخبار عما يرجع إليه اللفظ من المعنى ، و المراد منه : أنهم يطلبون التأويل الذي ليس عليه دليل من كتاب الله تعالى ولا بيان ، كطلبهم أن الساعة متى تقوم؟ وأن مقادير الثواب والعقاب للمطيع والعاصي كم تكون؟
وقيل : ابتغاء التأويل : طلب عاقبته ، وطَلَبُ أجَل هذه الأمة من حساب الجُمل؛ لقوله تعالى : { ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ الإسراء : 35 ] أي : عاقبةً .
وقول : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله } اختلف الناسُ في هذا الموضع : فقال قوم : الواو في قوله : « وَالرَّاسِخُونَ » عاطفة على الجلالة ، فيكونون داخلين في عِلْم التأويل وعلى هذا يجوز في الجملة القولية وجهان :
أحدهما : أنها حال : أي : يعلمون تأويله حال كونهم قائلين ذلك .
والثاني : أن تكون خبر مبتدأ مضمر ، أي : هم يقولون - وهذا قول مجاهد والربيع وهذا لقوله تعالى : { مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى } [ الحشر : 7 ] ثم قال { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ } [ الحشر : 8 ] إلى أن قال : { والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان } [ الحشر : 9 ] ثم قال : { والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } ولهذا عطف على ما سبق ثم قال : { يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا } [ الحشر : 10 ] يعني هم مع استحقاقهم الفيء يقولون : { رَبَّنَا اغفر لَنَ } أي : قائلين على حال . وروي عن ابن عباس : أنه كان يقول في هذه الآية : أنا من الراسخين في العلم ، وعن مجاهد : أنا ممن يعلم تأويله .
وذهب الأكثرون إلى أن الواو في وقله : « والرَّاسِخُونَ » واو الاستئناف ، فيكون مستدأ ، وتم الكلام عند قوله : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله } والجملة من قوله : « يَقُولُونَ » خبر المبتدأ ، وهذا قول أبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، وعائشةَ ، وعروة بن الزبير ، ورواية طاوس عن ابن عباس وبه قال الحسنُ ، وأكثر التابعين ، واختاره الكسائي ، والفرّاء ، والأخفش ، وقالوا : لا يعلم تأويلَ المتشابه إلا اللهُ ، ويجوز أن يكون للقرآن تأويلٌ استأثر الله بعلمه لم يُطْلِع عليه أحداً من خلقه ، كما استأثر بعلم السَّاعة ، ووقت طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدَّجَّالِ ونزول عيسى - عليه السلام - ونحوها ، والخلق متعبدون بالمتشابه ، والإيمان به ، وفي المحكم في الإيمان به والعمل ، ومما يُصَدّق ذلك قراءةُ عبد الله : « إنْ تأويلُه إلا عندَ الله والرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ . . » ، وفي حرف أبي : ويقول الراسخون في العلم آمنا به . قال عمر بن عبد العزيز - في هذه الآية- : انتهَى عِلْمُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ بتأويل القرآن إلى أن قالوا : آمنا به ، كل من عند ربنا .
وهذا القول أقيسُ في العربية وأشبه بظاهر الآية ، ويدل لهذا القول وجوه :
أحدها : أنه ذم طالب المتشابه بقوله : { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ } .
الثاني : أنه مدح الراسخين في العلم بأنهم { يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } ، وقال [ في أول البقرة ] : { فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِم } [ البقرة : 26 ] فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل المتشابه على التفصيل كان لهم في الإيمان به مدحٌ؛ لأن كل من عرف شَيئاً على سبيل التفصيلِ ، فلا بد وأن يُؤمن به .
الثالث : لو كان قوله : « وَالرَّاسِخًونَ » معطوفاً لصار قوله : { يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } ابتداء ، وهو بعيد عن الفصاحة ، وكان الأولى أن يُقَالَ : وهم يقولون ، أو يقال : ويقولون .
فإن قيل : في تصحيحه وجهان :
الأول : أن « يَقُولُونَ » خبر مبتدأ ، والتقديرُ : هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا .
الثاني : أن يكون « يَقُولُونَ » حالاً من الراسخين .
فالجواب : أن الأول مدفوع بأن تفسير كلام الله تعالى بما لا يحتاج معه إلى الإضمار أولى ، والثاني أن ذا الحال هو الذي تقدم ذكره - وهو الراسخون - فوجب أن يكون قوله : « آمنا به » حالاً من الراسخينَ لا من « الله » وذلك ترك للظاهر .
رابعاً : قوله : { كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } معناه أنهم آمنوا بما عرفوا تفصيله ، وبما لا يعرفون تفصيله ، ولو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل ، لم يبق لهذا الكلامِ فائدة .
وخامسها : نُقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : تفسير القرآن على اربعة أوجه : « تفسير لا يسمع أحداً جهلُه ، وتفسير تعرفه العربُ بألسنتها ، وتفسيرٌ تعرفه العلماء ، وتفسيرٌ لا يعلمه إلا اللهُ تعالى » .
وسئل مالك بن أنس عن قوله : { الرحمن عَلَى العرش استوى } [ طه : 5 ] فقال : « الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة » .
والرسوخ : الثبوت والاستقرار ثبوتاً متمكّناً ، فهو أخص من مطلق الثَّبَاتِ .
قال الشاعر : [ الطويل ]
1328 - لَقَد ْ رَسَخَتْ فِي الْقَلْبِ مِنِّي مَوَدَّةٌ ... لِلَيْلَى أبَتْ آيَاتُهَا أن تُغَيَّرا
« آمَنَّا بِهِ » في محل نصب بالقول ، و « كُلٌّ » مبتدأ ، أي : كله ، والجار بعده خبره ، والجملة نصب بالقول أيضاً .
فإن قيل : ما الفائدة في لفظ « عِنْدِ » ولو قال : كل من ربنا لحصل المقصود؟
فالجوابُ : أن الإيمان بالمتشابه يحتاج فيه إلى مزيد من التأكيد .
فإن قيل : لِمَ حُذِفَ المضاف إليه من « كُلٌّ » ؟
فالجوابُ : لأن دلالته على المضاف قوية ، فالأمْنُ من اللَّبْسِ بعدَ الحذفِ حاصلٌ .
قوله : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب } مَدْحٌ للذين قالوا : آمنا ، قال ابنُ عباسٍ ومجاهدٌ والسُّدِّيُّ : بقولهم آمنَّا سماهم الله راسخينَ في العلم ، فرسوخهم في العلم قولهم : آمنا به - أي المتشابه - كلٌّ من عند ربنا - المحكم والمتشابه ، وما علمناه ، وما لم نعلم - .
وقيل : الراسخونَ : علماء أهل الكتاب - كعبد الله بن سلام وأصحابه - لقوله تعالى : { لكن الراسخون فِي العلم مِنْهُم } [ النساء : 162 ] يعني الدارسين علم التوراة ، وسُئِل مالك بن أنس عن الراسخينَ في العلمِ فقال : العالمُ العاملُ بما عَلِم ، المتَّبع له .
وقيل : الراسخ ي العلم من وُجِدَ في علمه أربعة أشياءٍ : التقوى بينه وبين الله ، والتواضع بينه وبين الخلق ، والزهد بينه وبين الدنيا ، و المجاهدة بينه وبين نفسه .
« وَمَا يذكَّرُ » يتَّعظ بما في القرآن { إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب } ذوو العقول .
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)
اعلم أنه تعالى لمَّا حكى عن الراسخين أنهم يقولون : « آمنا به » ، حكى أنهم يقولون : ربنا لا تزغ قلوبنا وحذف يقولون؛ لدلالة الأول عليه ، كما في قوله : { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلا } [ آل عمران : 191 ] .
قال القرطبيُّ : ويجوز أن يكون المعنى : قل يا محمدُ .
قوله : « لا تُزغْ » العمة على ضَمِّ حَرْف المضارعةِ ، من أزاغ يزيغ ، و « قُلُوبَنَا » مفعول به ، وقرأ أبو بكر بن فايد وأبو واقد الجراح : « لا تَزغْ قُلُوبُنَا » - بفتح التاء ، ورفع « قُلُوبُنَا » ، وقرأ بعضهم كذلك إلا أنه بالياء من تحت ، وعلى القراءتين ، فالقلوب فاعل بالفعل المنهي عنه ، والتذكير وأتأنيث باعتبار تأنيثِ الجمع وتذكيره ، والنهي في اللفظ للقلوب ، وفي المعنى دعاء لله تعالى - أي : لا تزغ قلوبنا فتزيغ ، فهو من باب « لا أرَينَّكَ ههُنَا » .
وقول النابغة : [ البسيط ]
1329 - لا أعرِفَن رَبْرَباً حُوراً مَدَامِعُهَا .. . . .
قوله : { بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } ، « بَعْدَ » منصوب ب « لا تُزِغْ » ، و « إذْ » هنا خرجت عن الظرفية؛ للإضافة إليها وقد تقدم أن تصرفها قليل ، وإذا خرجت عن الظرفيةِ ، فلا يتغير حكمها من لزوم إضافتها إلى الجملة بعدها ، كما لم يتغير غيرها من الظروف في هذا الحكمِ ، ألا ترى إلى قوله { هذا يَوْمُ يَنفَعُ } [ المائدة : 119 ] و { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ } [ الانفطار : 19 ] - قراءة من رفع « يومُ » في الموضعين- .
وقول الآخر : [ الطويل ]
1330 - . ... عَلَى حِينِ الكِرَامُ قَلِيلُ
وقوله : [ الطويل ]
1331 - عَلى حِينِ مَنْ تَلْبَثْ عَلَيْهِ ذُنُوبهُ .. . .
وقوله : [ الطويل ]
1332 - عَلَى حِينِ عَاتَبْتُ الْمَشِيْبَ عَلَى الصِّبَا .. . . .
وقوله : [ الطويل ]
1333 - أَلا لَيْتَ أَيَّامَ الصَّفَاء جَدِيدُ ..
كيف خرجت هذه الظروف عن النصب إلى الرفع والجر والنصب ب « لَيْت » ، ومع ذلك هي مضافةٌ للجمل التي بعدها .
فصل
هذه الآية تدل على أن الزيغَ والهداية خلق الله تعالى ، قال أهل السنة : ذلك لأن القلب صالح لأن يميلَ إلى الكفر ، ويمتنع أن يميل إلى أحد الجانبين ، إلا عند حدوث داعية وإرادة أحدثها الله تعالى .
فإن كانت تلك الداعية [ داعية ] الكفر ، فهي الخذلان ، والإزاغة ، والصد ، والختم ، والرَّيْن ، والقسوة والوقر والكنان ، وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن .
وإن كانت تلك الداعيةُ داعيةَ الإيمان ، فهي التوفيق ، والإرشاد ، والهداية ، والتسديد ، والتثبيت ، والعصمة وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « قَلْبُ المؤمن بَيْنَ أصبعينِ مِنْ أصابعِ الرَّحْمَنِ ، إنْ شَاءَ أقامه ، وإن شاء أزاغَهُ » ، والمرادُ من هذين الأصبعين الداعيتان ، وكان صلى الله عليه وسلم يقول :
« اللَّهُمَّ مُقَلِّبَ القلوب والأبصار ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دينك » ومعناه ما ذكرنا ، وقال صلى الله عليه وسلم : « مَثَلُ الْقلبِ كَرِيشَةٍ بأرْضٍ فَلاَةٍ تُقلبُهَا الرِّياحُ ظَهْراً لِبَطْنٍ » .
وقالت المعتزلةُ : الزيغُ لا يجوز أن يكون بفعل الله؛ لقوله تعالى : { فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] ، وهذا صريح في أن ابتداء الزيغ منهم .
والجوابُ : أن مذهبهم أن كل ما صح في قدرة الله تعالى أن يفعل في حقهم لُطْفاً ، وجب عليه ذلك وجوباً لو تركه لبطلت إلاهيته ، ولصار محتاجاً ، والشيء الذي يكون كذلك فأي حاجةٍ إلى طلبه بالدعاء؟
فإن قيل : فما الجواب عن قوله : { فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } ؟
قلنا : لا يبعد أن الله تعالى يُزيغهم ابتداء ، فعند ذلك يزيغون ، ثم يترتب على الزيغ إزاغة أخرى سوى الأولى من الله تعالى ، ولا منافاةَ فيه .
وقوله : { بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } ، أي : جعلتنا مهتدين ، وهذا صريحٌ أيضاً في أن حصولَ الاهتداءِ في القلب بتخليق اللهِ تعالى .
قوله : { وَهَبْ لَنَا } الهِبَة : العَطِيَّة ، حذفت فاؤها ، وكان حق عين المضارع منها كسر العين منه ، إلا أن ذلك منعه كونُ العين حرفَ حَلْقٍ ، فالكسرة مقدَّرة ، فلذلك اعتبِرَت تلك الكسرةُ المقدرةُ فحذفت لها الواو وهذا نحو : « يضع » و « يسع » ، لكون اللام حرف حلقٍ ، ويكون « هَبْ » فعل أمر بمعنى اعتقد ، فيتعدى لمفعولين .
كقوله : [ المتقارب ]
1334 - ... وَإلاَّ فَهَبْنِي أمْرَأ هالِكا
وحينئذ لا يتصرف .
ويقال أيضاً : وَهَبني الله فِداك ، أي : جعلني ، ولا يتصرف أيضاً عن الماضي بهذا المعنى .
قوله : « مِنْ لَدُنْكَ » متعلق ب « هَبْ » ، و « لَدُنْ » ظرف ، وهي لأول غاية زمان أو مكان ، أو غيرها من الذوات نحو : من لدن زيد ، فليست مرادفة لِ « عِنْد » ، بل قد تكون بمعناها ، وبعضهم يقيدها بظرف المكانِ ، وتضاف لصريح الزمانِ .
قال : [ الراجز ]
1335 - تنتَهِضُ الرِّعْدَةُ فِي ظُهَيْرِي ... مِن لَدُنِ الظُّهْرِ إلَى الْعُصَيْرِ
ولا يُقْطع عن الإضافة بحال ، وأكثر ما تضاف إلى المفردات ، وقد تُضاف إلى « أنْ » وَصِلَتها؛ لأنهما بتأويل مفردٍ .
قال : [ الطويل ]
1336 - وُلِيتَ فَلَمْ تَقْطَعْ لَدُنْ أنْ وَلِيتَنَا ... قَرَابَةَ ذِي قُرْبَى وَلاَ حَقَّ مُسْلِمِ
أي : لدن ولايتك إيانا ، وقد تضاف إلى الجملة الاسمية .
كقوله : [ الطويل ]
1337 - وَتَذْكُرُ نُعْمَاهُ لَدُنْ أنْتَ يَافِعٌ ... إلَى أنْتَ ذُو فَؤْديْنِ أبيضَ كَالنَّسْرِ
وقد تُضَافُ للفعلية .
كقوله : [ الطويل ]
1338 - لزمْنَا لَدُنْ سَالَمْتُمُونَا وِفَاقَكُمْ ... فَلاَ يَكُ مِنْكُمْ لِلْخِلاَفِ جُنُوحُ
وقال آخرُ : [ الطويل ]
1339 - صَرِيعُ غَوانٍ رَاقَهُنَّ وَرُقْنَهُ ... لَدُنْ شَبَّ حَتَّى شَابَ سُودُ الذَّوَائِبِ
وفيها لغتان : الإعراب ، وهي لغة قَيْس ، وبها قَرَأ أبو بكر عن عاصم { مِنْ لَدُنْهُ } [ النساء : 40 ] - بجر النون - ، وقوله : [ الرجز ]
1340 - .. مَنْ لَدُنِ الظُّهْرِ إلَى العُصَيْرِ
ولا تخلو من « من » غالباً ، قاله ابنُ جني ، ومن غير الغالب ما تقدم من قوله :
1341 - . لَدُنْ أنت يافع ..
وإن وقع بعدها لفظ « غدوة » خاصة - جاز نصبها ، ورفعها ، فالنصب على خبر « كان » أو التمييز والرفع على إضمار « كَانَ » التامة ، ولولا هذا التقدير لزم إفراد « لَدُن » عن الإضافة ، وقد تقدم أنه لا يجوز ، فمن نَصْب « غدوة » قوله : [ الطويل ]
1342 - فَمَا زَالَ مُهْرِي مَزْجَرَ الْكَلْبِ مِنْهُمُ ... لَدُنْ غُدْوَةً حَتَّى دَنَتْ لِغُرُوبِ
واللغةُ المشهورةُ بناؤها؛ لشبهها بالحرف في لزوم استعمالٍ واحدٍ ، وامتناع الإخبار بها ، بخلاف « عند » ، و « لدن » فإنهما لا يلزمان استعمالاً واحداً؛ إذ يكون فضلةً ، وعُمدةً ، وغايةً وغير غاية ، بخلاف « لَدُن » .
وقال بعضهم : « علة بنائِها كونها دالة على الملاصقة ، ومختصةً بها ، بخلاف » عند « فإنها لا تدل على الملاصقة ، فصار فيها معنى لا يدل عليه الظرف ، بل هو من قبيل ما يدل عليه الحرف ، فكأنها مضمنة معنى حرف كان من حقه أن يوضَع لذلك ، فلم يُوضَع ، كما قالوا في اسم الإشارةِ ، واللغتان المذكورتان من الإعراب والبناء مختصتان ب » لَدُنْ « المفتوحة اللام ، المضمومة الدال ، الواقع آخرُها نونٌ ، وأما بقية لغاتها فهي - فيها - مبنية عند جميع العرب ، وفيها عشر لغاتٍ : أشهرها الأولى ، ولدَن ، ولدِن - بفتح الدال وكسرها - ولَدْنِ ، ولُدنِ - بفتح اللام وضمها ، مع سكون الدالِ وكسر النونِ - ولُدْنَ - بالضم والسكون وفتح النون- ، ولَدْ ، ولُدْ - بفتح اللام وضمها مع سكون الدالِ ، ولَدُ - بفتح اللام وضم الدال ولت - بإبدال الدال تاءً ساكنةً ، ومتى أضيفت المحذوفة النون إلى ضمير وجب رَدُّ النون .
قوله : { أَنْتَ الوهاب } » أنت « يحتمل أن يكون مبتدأ ، وأن يكون ضميرَ الفصل ، وأن يكون تأكيداً لاسم » إنَّ « .
فصل
اعلم أن هؤلاء المؤمنين سألوا ربهم ألا يَجْعَل قلوبَهُم مائلةً إلى العقائد الفاسدة ثم أتبعوا ذلك بطلب تنوير قلوبهم .
وقال » رحمة « ؛ ليشمل جميع أنواع الرحمةِ ، ولما ثبت بالبرهان القاطع أنه لا رحيمَ إلا هو أكد ذلك بقوله : { مِن لَّدُنْكَ } تنبيهاً للعقل على أن المقصود لا يحصل إلا منه .
وقوله : { أَنْتَ الوهاب } كأن العبد يقول : إلهي هذا الذي طلبته منك بهذا الدعاء بالنسبة إليّ - حقير - بالنسبة إلى كمال كرمك ، وغاية جودِك ورحمتك؛ فإنك أنت الوهاب .
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)
قرأ أبو حاتم { جَامِعُ الناس } بالتنوين والنصب - و « لِيَوْمٍ » اللام للعلة ، أي : لجزاءِ يوم ، وقيل : هي بمعنى « في » ، ولم يذكر المجموع لأجله ، و « لا رَيْبَ » صفة ل « يَوْم » ، أي : لا شك فيه ، فالضمير في « فِيهِ » عائد عليه ، وأبْعَد مَن جَعَلَه عائداً على الجمع المدلول عليه ب « جَامِعُ » ، أو على الجزاء المدلول عليه بالمعنى ، أو على العَرْض .
قوله : { إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } يجوز أن يكون من تمام حكايةِ قولِ الراسخين ، فيكون التفاتاً من خطابهم للباري تعالى بضمير الخطاب إلى الإتيَان بالاسم الظاهر؛ دلالةً على تعظيمه ، ويجوز أن يكون مستأنفاً من كلام الله تعالى ، فلا التفاتَ حينئذٍ .
و « الميعاد » مصدر ، وياؤه منقلبة عن واو ، لانكسار ما قبلها كميقات .
فإن قيل : لم قالوا - في هذه الآية - : إن اللهَ لا يخلف الميعادَ ، وقالوا - في تلك الآية - إنك لا تخلف الميعاد؟
فالجوابُ : أن هذه الآيةَ في مقام الهيبةِ ، يعني أن الآية تقتضي الحشر والنشر؛ ليُنْتَصَف للمظلومين من الظالمين ، فكان ذكره باسمه الأعظم أوْلَى في هذا المقامِ ، وفي تلك الآية مقام طلب العبدِ من ربه أن ينعم عليه بفضله ، ويتجاوز عن سيئاته ، فليسَ مقام الهيبةِ ، فلا جرم قال : { إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد } [ آل عمران : 194 ] .
فصل
اعلم أن الراسخين لما طلبوا من ربهم الصَّوْنَ عن الزيغ ، وأن يخصَّهم بالهداية والرحمة ، فكأنهم قالوا : ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا؛ فإنها منقضية ، وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالأخرة؛ فإنا نعلم أنك جامع الناس للجزاء في يوم القيامة ، ووعدك حق ، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبَدَ الآبادِ ، ومن وفقتَه وهديتَه ورحمتَه بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد .
فصل
اعلم أن الراسخين لما طلبوا من ربهم الصَّوْنَ عن الزيغ ، وأن يخصَّهم بالهداية والرحمة ، فكأنهم قالوا : ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا؛ فإنها منقضية ، وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة؛ فإنا نعلم أنك جامع الناس للجزاء في يوم القيامة ، ووعدك حق ، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبَدَ الآبادِ ، ومن وفقتَه وهديتَه ورحمتَه بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد .
فصل
احتج الجبائيُّ - بهذه الآية - على القطع بوعيد الفساق ، قال : لأن الوعيدَ داخل تحت لفظ الوعد؛ لقوله تعالى : { قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً } [ الأعراف : 44 ] ، والموعد والميعاد واحد ، وقد أخبر - في هذه الآيةِ - أنه لا يُخْلف الميعاد .
والجواب : لا نسلم القول بوعيد الفساق مطلقاً ، بل ذلك مشروط بعدم العفو ، كما هو مشروط بعدم التوبة بالاتفاقِ ، فكما أنكم أثبتم ذلك الشرط بدليل منفصل فكذا نحن أثبتنا شرط عدم العفو بدليل منفصل ، سلمنا أنه توعدهم ، ولكن لا نسلم أن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد ، ويكون قوله : { فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً } كقوله :
{ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] وقوله : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] ، فيكون من باب التهكمِ ، ويجوز أن يكون المراد أنهم كانوا يتوقعون من أوثانهم أنها تشفع لهم عند الله تعالى .
وذكر الواحديُّ في البسيط - أنه يجوز أن يُحْمَل هذا على ميعاد الأولياء ، دون وعيد الأعداء؛ لأن خُلْفَ الوعيد كرم عند العرب؛ لأنهم يمدحون بذلك ، قال : [ الطويل ]
1343 - إذَا وَعَدَ السَّرَّاءَ أنَجْزَ وَعْدَهُ ... وَإنْ أوْعَدَ الضَّرَّاءَ فَالْعَفْوُ مَانِعُه
وروى المناظرة بين أبي عمرو بن العلاء وبين عمرو بن عُبَيْد : قال أبو عمرو بن العلاء لعمرو بن عُبَيْد فما تقول في أصحاب الكبائر؟ فقال : أقول : إنَّ الله تعالى وَعَدَ وعْداً وأوعد إيعاداً ، فهو مُنجز إيعاده كما هو منجز وعده ، فقال أبو عمرو بن العلاء : إنك رجل أعْجَمُ ، لا أقول : أعجم اللسان ، ولكن أعجمُ القلب؛ إن العربَ تَعُدُّ الرجوعَ عن الوعد لُؤماً ، وعن الإيعاد كَرَمًا ، وأنشد : [ الطويل ]
1344 - وَإنِّيَ إن أوْعَدْتُهُ أوْ وَعَدْتُهُ ... لَمُكْذِبُ إيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي
فقال له عمرو بن عبيد : يا أبا عمرو ، فهل يُسَمّى الله مكذب نفسه؟ فقال : لا ، فقال له عمرو بن عبيد : فقد سقطت حجتك .
قال ابن الخطبيبِ : « وكان لأبي عمرو بن العلاء أن يجيب عن هذا السؤال فيقول : إنك قِسْت الوعيد على الوعد ، وأنا إنما ذكرت هذا لبيان الفرق بين البابين؛ وذلك لأن الوعدَ حق عليه ، والوعيد حق له ، ومن أسقط حق نفسه فقد أتى بالجود والكرم ، ومن أسقط حق غيره ، فذلك هو اللؤم ، فظهر الفرق .
وأما قولك : لو لم يفعلْ لصار كاذباً ، أو مكذب نفسه .
فالجوابُ : أن هذا إنما يلزم لو كان الوعيدُ ثابتاً جزماً من غير شرط ، وعندي أن الوعيد مشروط بعدم العفو فلا يلزم من تركه دخول الكذب في كلام الله تعالى » .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)
لما حكى دعاءَ المؤمنين وتضرُّعَهم حكى كيفيةَ حال الكافرين ، وشدة عقابهم ، وفيهم قولان :
أحدهما : أن المراد بهم وفد نجران؛ لأنا روينا في قصتهم أن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه إني أعلم أنه رسولُ اللهِ حقاً ، ولكني إن أظهرتُ ذلك أخذ ملوكُ الرومِ مني ما أطَوْنِي من المال ، فبيَّن الله تعالى أن أموالهم لا تدفع عنهم عذابَ الله .
الثاني : أن اللفظ عام ، وخصوصُ السبب لا سمنع عمومَ اللفظ .
قوله : { لَن تُغْنِيَ } العامة على « تُغْنِي » بالتاء من فوق؛ مراعاةً لتأنيث الجميع ، وقرأ الحسنُ وأبو عبد الرحمن بالياء من تحت - بالتذكير - على الأصل ، وسكن الحسن ياءَ « تُغْنِي » ؛ استثقالاً للحركةِ على حرف العلة ، وذهاباً به مَذْهَبَ الألف ، وَبَعضهم يخص هذا بالضرورةِ .
قوله : { مِّنَ الله } في « مِن » هذه أربعة أوجه :
أحدها : أنها لابتداء الغايةِ - مجازاً - أي : من عذاب اله وجزائه .
الثاني : أنها بمعنى « عند » قاله أبو عبيدة ، وجعله كقوله تعالى : { أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [ قريش : 4 ] ، أي : عند جوع ، وعند خوف ، وهذا ضعيف عند النحويين .
الثالث : أنها بمعنى بدل .
قال الزمخشري : قوله : { مِّنَ الله } مثل قوله : { إَنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً } [ يونس : 36 ] ، والمعنى : لن تغني عنهم من رحمة الله ، أو من طاعته شيئاً ، أي : بدل رحمته وطاعته ، وبدل الحق ومنه [ قوله ] : « ولا ينفع ذا الجد منك الجد » ، أي : لا ينفعه جده وحظه من الدنيا بدلاً ، أي : بدل طاعتك وما عندك ، وفي معناه قوله تعالى : { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى } [ سبأ : 37 ] ، وهذا الذي ذكره من كونها بمعنى بدل جمهور النحاة يَأبَاه؛ فإن عامة ما أوْرَدَهُ يتأوَّله الجمهورُ .
ومنه قوله : [ الرجز ]
1345 - جاريةٌ لَمْ تَأكُلِ الْمُرَقَّقَا ... وَلَمْ تَذُقْ مِنَ الْبُقُولِ الْفُسْتُقَا
وقول الآخر : [ الكامل ]
1346 - أخَذُوا الْمَخَاضَ مِنَ الْفصيلِ غُلُبَّةً ... ظُلْماً ، وَيَكْتُبُ للأميرِ أفِيلا
وقوله تعالى : { لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً } [ الزخرف : 60 ] ، وقوله : { أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة } [ التوبة : 38 ] ؟
الرابع : أنها تبعيضية ، إلا أن هذا الوجه لما أجازه أبو حيّان مبنياً على إعراب « شَيْئاً » مفعولاً به ، بمعنى : لا تدفع ، ولا تمنع ، قال : فعلى هذا يجوز أن يكون « من » في موضع الحال من « شَيْئاً » ؛ لأنه لو تأخر لكان في موضع النعتِ له ، فلما تقدم انتصب على الحال ، وتكون « من » إذ ذاك - للتبعيض .
قال شهاب الدينِ : « وهذا ينبغي أن لا يجوز ألبتة؛ لأن » منَ « التبعيضية تؤوَّلُ بلفظ بعض مضافةً لما جرَّتْه » مِنْ « ألا ترى أنك إذا قلتَ : رأيت رجلاً من بني تميم ، معناه : بعض بني تميم ، وأخذت من الدراهم : أي : بعضَ الدراهم ، وهنا لا يُتَصَوَّرُ ذلك أصْلاً ، وإنما يصح جعله صفة لِ » شَيْئاً « إذا جعلنا » مِنْ « لابتداء الغاية ، كقولك : عندي درهم من زيد ، أي : كائن أو مستقر من زيد ، ويمتنع فيها التبعيض ، والحال كالصفة في المعنى ، فامتنع أن تكون من للتبعيض مع جعله » مِنَ اللهِ « حالاً من » شَيْئاً « ، وأبو حيّان تبع أبا البقاءِ في ذلك ، إلا أن أبا البقاء حين قال ذلك - قَدَّر مضافاً وضَّح به قوله ، والتقدير : شيئاً من عذاب الله ، فكان ينبغي أن يتبعه - في هذا الوجهِ - مُصَرِّحاً بما يدفع هذا الذي ذكرته » .
و « شَيْئاً » إما منصوب على المفعول به وقد تقدم تأويله وإما على المصدرية ، أي : شَيْئاً من الإغناء .
قوله : { وأولئك هُمْ وَقُودُ النار } هذه الجملة تحتمل وجهَيْن :
أحدهما : أن تكون مستأنفةً .
والثاني : أن تكون منسوقة على خبر « إنَّ » و « هم » تحتمل الابتداء والفصل .
وقرأ العامة « وَقُودُ » بفتح الواو ، والحَسن بِضَمِّها وتقدم تحقيقُ ذلك في البقرة ، وأن المصدرية محتملة في المفتوح الواو أيضاً ، وحيث كان مصدراً فلا بد من تأويله ، فلا حاجة إلى إعادته .
فصل
اعلم أن كمال العذاب هو أن يزول عنهم كل ما يُنْتَفَعُ به ، ثم تجتمع عليه الأسبابُ المؤلمة .
الأول هو المراد بقوله : { لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم } ؛ فإن المرء - عند الخطوب - يفزع إلى المال والولد؛ لأنهما أقربُ الأمور التي يُفْزَع إليها في دَفْع النوائب ، فبيَّن تعالى أن صفة ذلك اليوم مخالِفَةٌ لصفةِ الدنيا ، وإذا تعذَّر عليه الانتفاع في ذلك اليوم بالمالِ والولدِ - وهما أقرب الطرق - فما عداه بالتعذُّر أوْلَى ، ونظيره : { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الشعراء : 88-89 ] .
وأما الثاني من أسباب كمال العذاب - وهو اجتماع الأسباب المُؤْلمةِ - فهو المراد بقوله : { وأولئك هُمْ وَقُودُ النار } وهذا هو النهايةُ في العذابِ؛ فإنه لا عذابَ أعظم من أن تشتَعِل النارُ فيم كاشتعالها في الحطب اليابِسِ .
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)
في كاف « كَدَأب » وجهانِ :
أحدهما : أنها في محل رَفْع؛ خَبَراً لِمبتدأ مُضْمَر ، تقديره : دأبهم - في ذلك « كَدَأبِ آلِ فِرعَوْن » وبه بدأ الزمخشريُّ ، وابنُ عطية .
الثاني : أنها في محل نَصْب ، وفي الناصب لها تسعةُ أقوالٍ :
أحدها : أنها نَعْتٌ لمصدر محذوف ، والعامل فيه « كَفَرُوا » ، تقديره : إنَّ الذين كفروا كُفْراً كدأب آل فرعون ، أي : كعادتهم في الكفر ، وهو رأي الفرَّاءِ .
وهذا القول مردود بأنه قد أخبر عن الموصول قبل تمام صلته ، فلزم الفصلُ بينَ أبْعَاضِ العلةِ بالأجنبيِّ ، وهو لا يجوز .
الثاني : أنه مصوب ب « كَفَرُوا » لكن مقدر؛ لدلالة هذا الملفوظ به عليه .
الثالث : أن الناصبَ مقدَّر ، مدلول عليه بقوله : « لَنْ تُغْنِيَ » أي : بطل النتفاعهم بالأموالِ والأولادِ كعادة آل فرعونَ في ذلك . والمعنى : إنكم قد عرفتم ما حلَّ بآل فرعون ومَنْ قبلَهم من المكذبين بالرسل - من العذاب المعجل الذي عنده - لم ينفعهم مال ولا ولد .
الرابع : أنه منصوب بلفظ « وَقُودُ » ، أي : تُوقَد النارُ بهم كما توقد بآل فرعون ، كما تقول : إنك لتظلم الناس كدأبِ أبيك ، تريد : كظلم أبيك ، قاله الزمخشريُّ ، وفيه نظر؛ لأن الوقود - على القراءة المشهورة - الأظهر فيه أنه اسم لِما يوقد به ، وإذا كان اسماً فلا عَمَل له ، فإن قيل : إنه مصدر على قراءة الحَسن صَحَّ ، ويكون معنى الدأب : الدؤوب - وهو اللُّبْثُ والدوام ، وطول البقاء في الشيء - وتقدير الآية : « وَأُولَئِكَ هُم وَقُودُ كَدَأْبِ آل فِرْعَونَ » .
[ أي : دؤوبهم في النار كدأب آل فرعون ] .
الخامس : أنه منصوب بنفس « لَنْ تُغْنِي » أي : لن تغني عنهم مثل ما لم تُغنِ عن أولئك ، ذكره الزمخشري ، وضعَّفه أبو حيَّان بلزوم الفصل بين العامل ومعموله بالجملة - التي هي قوله : { وأولئك هُمْ وَقُودُ النار } قال : « على أي التقديرين اللَّذَيْنِ قدرناهما فيهما من أن تكون معطوفة على خبر » إنَّ « أو على الجملة المؤكَّدة ب » إنَّ « قال : فإن جعلتها اعتراضيةً - وهو بعيد - جازَ ما قال الزمخشريُّ » .
السادس : أن يكون العامل فيها فعلاً مقدَّراً ، مدلولاً عليه بلفظ « الوَقُود » ، تقديره : توقَد بهم كعادة آل فرعون ، ويكون التشبيه في نفس الاحتراق ، قاله ابنُ عطية .
السابع : أن العامل يُعَذَّبُونَ كعادةِ آل فرعونَ ، يدل عليه سياق الكلام .
الثامن : أنه منصوب { كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } ، والضمير في « كَذَّبُوا » - على هذا - لكفار مكة وغيرهم من معاصِرِي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم - أي : كذبوا تكذيباً كعادة آل فرعونَ في ذلك التكذيب .
التاسع : أن العامل فيه قوله : { فَأَخَذَهُمُ الله } ، أي : فأخذهم الله أخْذاً كأخذه آل فرعون ، والمصدر تارةً يضاف إلى الفاعل ، وتارةً إلى المفعول ، والمعنى : كَدَأبِ الله في آل فرعون ، ونظيره قوله تعالى : { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله } [ البقرة : 165 ] أي : كَحُبِّهم لله ، وقال : { سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ } [ الإسراء : 77 ] والمعنى : سنتي فيمن أرسلنا قبلك ، وهذا مردود؛ فإن ما بعد الفاء العاطفة لا يعمل فيما قبلها ، لا يجوز قمت زيداً فضربت وأما زيداً فاضرب ، فقد تقدم الكلام عليه في البقرة .
وقد حكى بعضُ النحاةِ - عن الكوفيين - أنهم يجيزون تقديم المعمول على حرف العطف ، فعلى هذا يجوز هذا القول ، وفي كلام الزمخشريِّ سهو؛ فإنه قال : ويجوز أن ينتصب محلُّ الكاف ب « لَنْ تُغْنِيَ » أو ب « خَالِدُونَ » ، [ أي : لم تُغنِ عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك ، أو هم فيها خالدون كما يُخَلَّدُون ] .
وليس في لفظ الآية الكريمة { خَالِدُونَ } ، إنما نظم الآية { وأولئك هُمْ وَقُودُ النار } ، ويبعد أن يقال : أراد « خَالِدُون » مُقَدَّراً ، يدل عليه السياق ، اللهم إلا إن فسرنا الدأبَ باللُّبْث والدوام وطول البقاء .
وقال القفَّالُ : « يحتمل أن تكون الآية جامعة للعادة المضافة إلى الله تعالى ، والعادة المضافة إلى الكفار ، كأنه قيل : إن عادة هؤلاء الكفار في إيذاء محمد صلى الله عليه وسلم كعادة من قبلهم في إيذاء رُسُلِهِم وعادتنا أيضاً في إهلاك الكفارِ ، كحعادتنا في إهلاك أولئك الكفار المتقدمين ، والمقصود - على جميع التقديراتِ - نصر النبي صلى الله عليه وسلم على إيذاء الكفار ، وبشارته بأن الله سينتقم منهم » .
الدأب : العادة ، يقال : دأب ، يَدْأبُ ، اي : واظب ، ولازم ، ومنه { تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً } [ يوسف : 47 ] ، أي : مداومة .
وقال امرؤ القيس : [ الطويل ]
1347 ... - كَدَأبكَ مِنْ أمِّ الْحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا
وَجَارَتِهَا أمِّ الرَّبَابِ بِمَاسَلِ ... وقال زُهير : [ الطويل ]
1348 - لأرْتَحِلَنّ بِالْفَجْرِ ثُمَّ لأدْأبَنّْ ... إلَى اللَّيْلِ إلاَّ أنْ يُعَرِّجَنِي طِفْلُ
وقال الواحديُّ : « الدأب : الاجتهاد والتعب ، يقال : صار فلان يومه كله يَدْأب فيه ، فهو دائب ، أي : اجتهج في سَيْرِه ، هذا أصله في اللغة ، ثم [ يصير ] الدأب عبارة عن الحال والشأن والأمر والعادة؛ لاشتمال العمل والجهد على هذا كله » .
وكذا قال الزمخشريُّ ، قال : « مصدر دأب في العمل إذا كَدَح فيه ، فوُضِع مَوْضِعَ ما عليه الإنسان من شأنه وحاله » .
ويقال : دأَب ، ودأْب - بفتح الهمزة وسكونها - وهما لغتان في المصدر كالضأن والضأَن وكالمَعْز والمَعَز وقرأ حفص : { سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً } بالفتح .
قال الفرَّاء : « والعرب تثقل ما كان ثانيه من حروف الحلق كالنَّعْل والنَّعَل ، والنَّهْر والنَّهَر ، والشَّأْم والشَّأَم .
وأنشد : [ البسيط ]
1349 - قَدْ سَارَ شَرْقِيُّهُمْ حَتَّى أتَوْا سَبَأ ... وَانْسَاحَ غَرْبِيُّهُمْ حَتَّى هَوى الشَّأَمَا
{ والذين مِن قَبْلِهِمْ } يجوز أن يَكُونَ مجروراً نسقاً على { آلِ فِرْعَوْنَ } ، وأن يكونَ مرفوعاً على الابتداء ، والخبر قوله - بعد ذلك - { كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله } ، وهذان الاحتمالان جائزان مطلقاً ، وخص أبو البقاء جواز الرفع بكون الكافِ في محل رفع ، فقال : » فعلى هذا - أي : على كونها مرفوعة المحل؛ خبراً لمبتدأ مضمر - يجوز في { والذين مِن قَبْلِهِمْ } مبتدأ ، و « كَذَّبُوا » خبره « .
قوله : { كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } قد تقدم أنه يجوز أن يكون خَبراً عن « الَّذِينَ » إن قيل : إنه مبتدأ ، فإن لم يكن مبتدأ فقد تقدم أيضاً أنه يكون تفسيراً للدأب ، كأنه قيل : ما فعلوا ، وما فعل بهم؟ فقيل : كذبوا بآياتِنا ، فهو جوابُ سؤال مقدر ، وأن يكون حالاً ، وفي قوله : { بِآيَاتِنَا } التفات؛ لأن قبله { مِّنَ الله } وهو اسم ظاهر .
والمراد بالآيات : المعجزات ، والباء في « بِذُنُوبِهِمْ » يَجوز أن تكون سببيةً ، أي : أخذهم بسبب ما اجترحوا ، وأن تكون للحالِ ، أي أخذهم متلبسين بالذنوب ، غير تائبين منها والذنب في الأصل - التِّلْو والتابع ، وسُمِّيَت الجريمةُ ذَنْباً؛ لأنها يتلو ، أي : يتبع عقابُها فاعلمه والذَّنُوب : الدَّلْو؛ لأنها تتلو الحبلَ في الجذبِ ، وأصل ذلك من ذَنَب الحيوان؛ لأن يذنبه أي : يتلوه ، يقال : ذنبه يذنبه ذنباً ، أي : تبعه ، واستعمل في الأخذ؛ لأن مَنْ بينَ يده العقاب كالمأخوذ المأسور الذي لا يَقْدر على التخلُّص . قوله { شَدِيدُ العقاب } كقوله : { سَرِيعُ الحساب } [ البقرة : 202 ] ، أي : شديدٌ عِقَابه وقد تقدم تحقيقه .
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)
قرأ الأخوان : « سَيُغلبُونَ » و « يُحْشَرُونَ » - بالغيبة - والباقون بالخطاب ، وهما واضحان كقولك : قل لزيد : قم؛ على الحكاية ، وقل لزيد : يقوم وقد تقدم نحو من هذا في قوله : { لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله } [ البقرة : 83 ] .
وقال أبو حيّان : - في قراءة الغيبة- : « الظاهر أنَّ الضميرَ للذين كفروا ، وتكون الجملة - إذ ذاك ليست محكية ب » قل « بل محكية بقول آخَرَ ، التقدير : قل لهم قولي : سيغلبون وإخباري أنهم سيقع عليهم الغَلَبةُ ، كما قال : » قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إن يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سلف « فبالتاء أخبرهم بمعنى ما أخبر به من أنهم سيُغْلَبون ، وبالياء أخبرهم باللفظ الذي أخبر به أنهم سيُغْلَبُون » .
وهذا الذي قاله سبقه إليه الزمخشريُّ ، فأخذه منه ، ولكن عبارة الزمخشريِّ أوضحُ ، قال رحمه الله : فإن قلت : أيُّ فَرْقٍ بين القراءتين - من حيث المعنى؟
قلت معنى القراءة بالتاء - أي من فوق - الأمر بأن يخبرهم بما سيجري عليهم من الغلبة والحَشْر إلى جهنَّمَ ، فهو إخبار بمعنى : ستُغْلَبُون وتُحْشَرون ، فهو كائن من نفس المتوعَّد به ، وهو الذي يدل عليه اللفظ ومعنى القراءة بالياء الأمر بأن يحكي لهم ما أخْبِرَ به من وعيدهم بلفظه ، كأنه قال : أدِّ إليهم هذا القول الذي هو قولي لك : « سيُغْلَبون ويُحْشَرون » .
وجوَّز الفرَّاءُ وثعلبُ أن يكون الضمير في « سَيُغْلَبُونَ وَيُحْشَرُونَ » لكفار قريش ، ويُرَاد بالذين كفروا اليهود ، والمعنى : قل لليهود : ستُغْلَبُ قريش . وهذا إنما يتجه على قراءة الغيبة فقط .
قال مَكيٌّ : « ويقوِّي القراءة بالياء - أي من تحت - إجماعهم على الياء في قوله : { قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] ، والتاء يعني من فوق أحَبُّ إليَّ ، لإجماع الحَرَميَّينِ وعاصم وغيرهم على ذلك » .
قال شهابُ الدينِ : ومِثْل إجماعهم على قوله : { قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ } [ الأنفال : 38 ] إجماعُهم على قوله { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ } [ النور : 30 ] ، وقوله : { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ } [ الجاثية : 14 ] ، وقال الفرّاء : « مَن قرأ بالتاءِ جعل اليهود والمشركين داخِلينَ في الخطاب ، ثم يجوز - في هذا المعنى - التاء والياء ، كما تقول في الكلام : قل لعبد الله : إنه قائم ، وإنك قائم » .
وفي حرف عبد الله : { قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } ، ومَن قرأ بالياء فإنه ذهب إلى مخاطبة اليهود ، وأنَّ الغَلَبَةَ تقع على المشركين ، كأنه قيل : قل يا محمد لليهود سيُغْلَب المشركون ، ويُحْشَرُونَ ، فليس يجوز في هذا المعنى إلاَّ الياءُ لأن المشركين غيب .
فصل في سبب النزول
في سبب نزول الآية أوجه :
الأول : قال ابن إسحاق - ورواه سعيدُ بنُ جُبَيْر ، وعكرمةُ عن ابن عباس- : لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً ببدر ، ورجع إلى المدينة ، جمع اليهودَ في سوق بني قينقاع ، وقال : يا معشرَ اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر ، فأسلموا قبل أن يَنْزِل بكم ما نزل بهم ، فقد عرفتم أني نَبِيٌّ مُرْسَل ، تجدون ذلك في كتابكم ، فقالوا : يا محمد ، لا يَغُرَّنَّكَ أنك لقيت قوماً أغماراً - لا عِلْم لهم بالحرب - فأصَبْتَ منهم فُرْصَةٌ ، وإنا - والله - لو قاتلناك لعرفْتَ أنَّا نحن الناس ، فأنزل الله تعالى : { { قُل لِلَّذِينَ كفروا } ، يعني اليهود « سَتُغْلَبُونَ » تُهْزَمُونَ ، « وَتُحْشَرُونَ » فِي الآخرة « إلَى جَهَنَّم وَبِئْسَ الْمِهَادُ » أي : الفراش .
الثاني : قال الكلبيُّ عن ابن عباس - أيضاً - : إن يهود أهل المدينة - لما شاهَدُوا هزيمة المشركين يومَ بدر - قالوا : والله إن هذا لهو النبيُّ الأميُّ الذي بَشَّرَنَا به موسى ، وفي التوراة نعته ، وأنه لا يُرَدُّ عليه رأيه ، وأرادوا اتباعه ، ثم قال بعضهم لبعض : لا تعجلوا حتى ننظر إلى وقعة له أخرى ، فلما كان يوم أحد ، ونُكِبَ أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم شَكُّوا ، وقالوا : ليس هو ذلك ، فغَلَبَ عليهمُ الشقاءُ فلم يُسْلِموا ، وقد كان بينهم وبين أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ إلى مدة فنقضوا ذلك العهدَ ، وانطلق كعبُ بن الأشرف في ستين راكباً - إلى مكة يستنفرهم ، فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية .
الثالث : أن هذه الآية واردة في جميع الكفار .
فصل في تكليف ما لا يطاق
استدلوا على [ جواز ] تكليف ما لا يطاق بهذه الآية ، قالوا : لأن الله تعالى أخبر عن الكفارِ بأنهم يُحْشَرونَ إلى جهنم ، فلو آمنوا لانقلب هذا الخبر كَذِباً ، وذلك محال ، فكأنَّ الإيمان منهم محال ، وقد أمِروا به ، فيكون تكليفاً بالمحال .
{ سَتُغْلَبُونَ } إخبار عن أمر يحصل في المستقبل ، وقد وقع مخبره على موافقته ، فكان هذا إخباراً عن الغيب ، فهو مُعْجز ، ونظيره - في حق عيسى - { وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } [ آل عمران : 49 ] .
قوله : { بِئْسَ المهاد } المخصوص بالذم محذوفٌ ، أي بئس المهاد جهنمُ ، والحذف للمخصوص يدل على صحة مذهب سيبويه من أنه مبتدأ .
والجملة قبله خبره ، ولو كان - كما قال غيره - مبتدأ محذوف الخبر ، أو بالعكس ، ملا حف ثانياً؛ للإجحاف بحذف سائر الجملة .
و « بئس » مأخوذ من البأساء ، وهو الشر والشدة ، قال تعالى : { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } [ الأعراف : 165 ] أي : شديد .
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
« قَدْ كَانَ » جواب قسم محذوفٍ ، و « آيَةٌ » اسم « كان » ولم يُؤنث الفعلُ؛ لأن تأنيث الآية مجازيٌّ ، ولأنها بمعنى الدليل والبرهان .
فهذا كقول امرئِ القيسِ : [ المتقارب ]
1350 - بَرَهْرَهَةٌ ، رُؤدَةٌ ، رَخْصَةٌ ... كَخُرُعُوبَةِ الْبَانَةِ الْمُنْفَطِرْ
قال الأصمعي : « البَرَهْرَهَةُ : الممتلِئَة المُتَرَجْرِجَة ، والرُّؤدَة ، والرادة : الناعمة » .
قال أبو عمرو : وإنما قال : الْمُنْفَطِر ، ولم يقل : المنفطرة؛ لأنه رَدٌّ على القضيب ، فكأنه قال : البان المنفطر ، والخرعوبة : القضيب ، والمنفطر : الذي ينفطر بالورق ، وهو ألين ما يكون .
قال أبو حيّان : أوَّل البانةَ بمعنى القضيب ، فلذلك ذكر المنفطر ، ولوجود الفصل ب « لَكُم » فإن الفصلَ مسوغ لذلك مع كون التأنيث حقيقيًّا ، كقوله : [ البسيط ]
1351 - إنَّ امْرَأ غَرَّهُ مِنكُنَّ وَاحِدَةٌ ... بَعْدِي وَبَعْدَكِ فِي الدُّنْيا لَمَغْرُورُ
وقال بعضهم : محمول على المعنى ، والمعنى : قد كان لكم بيانُ هَذه الآيةِ .
وفي خبر « كان » وَجهَانِ :
أحدهما : أنه « لَكُم » و « فِي فِئَتَيْنِ » في محل رفع نَعْتاً لِ « آيَةٌ » .
والثاني : أنه « فِي فِئَتَيْنِ » وفي « لَكُمْ » وجهانِ :
أحدهما : أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من « آية » ؛ لأنه - في الأصل - صفة لآية ، فلمَّا تقدَّم نُصِبَ حَالاً .
الثاني : أنه متعلق ب « كان » ذكره أبو البقاء ، وهذا عند مَنْ يَرَى أنها تعمل في الظرف وحرف الجر ولكن في جَعْل « فِي فِئَتَيْنِ » الخَبَرَ إشْكالٌ ، وهو أن حكم اسم « كان » حكم المبتدأ ، فلا يجوز ، أن يكونَا اسماً لها إلا ما جاز الابتداء به ، وهنا لو جعلت « آية » مبتدأ ، وما بعدها خبراً لم يجز؛ إذْ لا مُسَوِّغَ لربتداء بهذه النكرة ، بخلاف ما إذا جَعَلْتَ « لَكُم » الخبرَ ، فإنَّه جائز لوجود المسوِّغ ، وهو تقدُّمُ الخبرِ حرفَ جَرٍّ .
قوله : { التقتا } في محل جر ، صفة ل « فِئَتَيْنِ » ، أي : فئتين ملتقيتين ، يعني بالفئتين المسلمين والمشركين يوم بَدر .
قوله : { فِئَةٌ تُقَاتِلُ } العامة على رفع « فِئَةٌ » وفيها أوجُه :
أحدها : أن تَرْتَفِعَ على البدل من فاعل « الْتَقَتَا » ، وعلى هذا فلا بد من ضمير محذوف يعود على « فِئَتَيْنِ » المتقدمتين في الذكر؛ ليسوغ الوصف بالجملة؛ إذ لو لم يقدَّر ذلك لما صَحَّ؛ لخلو الجملة الوصفية من ضمير ، والتقدير : في فئتين التقت فئةٌ منهما مؤمنة ، وفئة أخرى كافرة .
الثاني : أن يرتفع على خبر ابتداء مُضْمَرٍ ، تقديره : إحداهما فئةٌ تقاتل ، فقطع الكلام عن أوله ، ومِثْلُه ما أنشده الفرّاء على ذلك : [ الطويل ]
1352 - إذَا مِتُّ كَانَ النَّاسُ صِنْفَيْنِ شَامِتٌ ... وَآخَرُ مُثنٍ بالذي كُنْتُ أصْنَعُ
أي أحدهما شامت ، وآخر مُثنٍ ، ومثله في القطع قول الآخر : [ البسيط ]
1353 - حَتَّى إذَا مَا اسْتَقَلَّ النَّجْمُ فِي غَلَسٍ ... وَغُودِرَ البَقْلُ مَلْوِيٌّ وَمَحْصُودُ
أي : بعضه مَلْويٌّ ، وبَعْضُه مَحْصُود .
قال أبو البقاء : فإن قلتَ : إذا قدرت في الأولى إحداهما مبتدأ كان القياس أن يكون والأخرى أي الفئة الأخر كافرة .
قيل : لمَّا عُلِم أن التفريقَ هنا لنفس الشيء المقدم ذكره كان التعريفُ والتنكيرُ واحداً ، ومثل الآية الكريمة في هذا السؤال وجوابه البيت المتقدِّم : شامت ، وآخر مُثْنٍ ، فجاء به نكرة دون ال .
الثالث : أن يرتفع على الابتداء ، وخبره مُضْمَر ، تقديره : منهما فئةٌ تقاتل ، وكذا في البيت ، أي : منهم شامت ، ومنهم مثنٍ .
ومثله قول النابغةِ : [ الطويل ]
1354 - تَوهَّمْتُ آيَاتٍ لهَا فَعَرَفْتُهَا ... لِستَّةِ أعْوَامٍ ، وَذَا الْعَامُ سَابِعُ
رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْن لأياً أبِينُهُ ... نُؤيٌ كجذمِ الْحَوْضِ أثْلَمُ خَاشِعُ
تقديره : منهنَّ - أي من الآيات - رمادٌ ، ومنهن نُؤيٌ ويحتمل البيت أن يكون - كما تقدم - من تقدير مبتدأ ، ورماد خبره ، كما تقدم في نظيره .
وقرأ الحسنُ ومجاهدٌ وحُمَيدٌ : { فِئَةٌ تُقَاتِلُ } بالجر على البدل من فِئَتَيْنِ « ، ويُسَمَّى هذا البدل بدلاً تفصيلياً كقول كُثَيِّر عَزَّةَ : [ الطويل ]
1355 - وَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْن رِجْلٍ صَحِيحَةٍ ... وَرِجْلٍ رَمَى فِيْهَا الزَّمَانُ فَشَلَّتِ
هو بدل بعض من كل ، وإذا كان كذلك فلا بد من ضمير يعود على المبدل منه ، تقديره : فئةٍ منهما .
وقرأ ابن السَّمَيْفَع ، وابن أبي عَبْلَة » فِئَةٌ « بالنصب ، وفيه أربعة أوجهٍ :
أحدها : النصب بإضمار أعني .
والثاني : النصب على المَدْح ، وتحرير هذا القول أن يقال على المدح في الأول وعلى الذم في الثاني ، كأنه قيل : أمدح فئةٌ تقاتل في سبيل الله ، وأذمُّ أخرى كافرةً .
والثالث : أن ينتصب على الاختصاص ، جوَّزَه الزمخشريُّ .
قال أبو حيّان : » وليس بجيد؛ لأن المنصوبَ لا يكون نكرةٌ ولا مُبْهَماً « .
قال شهابُ الدينِ : لا يعني الزمخشريُّ الاختصاصَ المبوَّبَ له في النحو نحو : » نَحْنُ - مَعَاشِرَ الأنبياءِ - لا نُورَثُ « ، إنما على النصب بإضمار فعلٍ لائقٍ ، وأهل البيان يُسَمُّونَ هذا النحوَ اختصاصاً .
الرابع : أن ينتصب » فِئَةٌ « على الحال من فاعل » الْتَقَتَا « ، كأنه قيل : التقتا مؤمنةً وكافرةً ، فعلى هذا يكون » فئة « و » أخرى « توطئةً للحال؛ لأن المقصود ذكر وَصْفَيْهما ، وهذا كقولهم : زيد رجلاً صالحاً ، ومثله في باب الإخبار - { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } [ الأعراف : 81 ] ، ونحوه . قوله : { وأخرى كَافِرَةٌ } » أخْرَى « صفة لموصوف محذوف ، تقديره : وفِئَةٌ أخْرَى كَافِرَةٌ وقرئت » كافرة « بالرفع والجر على حسب القراءتين المذكورتين في » فِئَةٌ تُقَاتِلُ « ، وهذه منسوقة عليها .
وكان من حق من قرأ » فِئَةٌ « - بالنصب - أن يقرأ » وأخْرَى كَافِرَةٌ « بالنصب عطفاً على الأولى ، وفي عبارة الزَّمخشريِّ ما يوهم القراءة به؛ فإنه قال : » وقرئ « فِئَةٍ تقاتلُ » « وأخرى كافرةٍ » بالجر على البدل من « فئتين » ، والنصب على الاختصاص أو الحال « فظاهر قوله : و » بالنصب « أي في جميع ما تقدم وهو فئةً تقاتلُ أخرى كافرةً وقد تقدم سؤال أبي البقاء ، وهو لو لم يقل : والأخرى بالتعريف أعني حال رفع فئة تقاتل على خبر ابتداء مضمر تقديره إحداهما ، والجواب عنه .
والعامة على « تُقَاتِلُ » - بالتأنيث « ؛ لإسناد الفعل إلى ضمير المؤنث ، ومتى أسْنِد إلى ضمير المؤنث وجب تأنيثه ، سواء كان التأنيث حقيقةً أو مجازاً ، نحو الشمس طلعت ، وعليه جمهور الناس .
وخالف ابنُ كَيْسان ، فأجاز : الشمسُ طلع .
مستشهداً بقول الشاعر : [ المتقارب ]
1356 - فَلاَ مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا ... وَلا أرْضَ أبْقَلَ إبْقَالَِهَا
حيث قال : أبقل - وهو مسند لضمير الأرض - ولم يقل : أبقلت ، وغيره يخصه بالضرورة .
وقالوا : إذ كان يمكن أن يَنقلَ حركةَ الهمزةِ على تاء التأنيثِ الساكنةِ ، فيقول : ولا أرضَ أبقلتِ أبْقَالَها .
وقد رَدُّوا عليه بأن الضرورة ليس معناها ذلك ، ولئن سلمنا ذلك فلا نُسَلِّم أن هذا الشاعرَ كان ممن لغته النقل ، لأن النقل ليس لغةَ كلِّ العربِ .
وقرأ مجاهدٌ ومقاتل : » يُقَاتِلُ « - بالياء من تحت - وهي مُخَرَّجةٌ على مذهب ابنِ كَيْسَانَ ، ومُقوِّيَةٌ له ، قالوا : والذي حسن ذلك كونُ » فِئَةٌ « في معنى القوم والناس ، فلذلك عاد الضمير عليها مذكراً .
قوله : » يَرَوْنَهُمْ « ، قرأ نافع - وحده - من السبعة ، ويعقوب ، وسهل : » تَرَوْنَهُمْ « بالخطاب والباقون من السبعة بالغيبة .
فأما قراءة نافع ففيها ثمانية أوجهٍ :
أحدها : أن الضميرَ في » لَكُمْ « والمرفوع في » تَرَوْنَهُمْ « للمؤمنين ، والضمير المنصوب في » تَرَوْنَهُمْ « والمجرور في » مِثْلَيْهِمْ « للكافرين ، والمعنى : قد كان لكم - أيها المؤمنون - آية في فئتين بأن رأيتم الكفارَ مثلي أنفسهم في العدد ، وهو أبلغ في القدرة؛ حيث رأى المؤمنون الكافرين مثلي عَدَدِ الكافرين ، ومع ذلك انتصروا عليهم وغلبوهم ، وأوقعوا بهم الأفاعيلَ ، ونحوه قوله تعالى : { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله } [ البقرة : 249 ] .
واستبعد بعضهم هذا التأويلَ؛ لقوله تعالى - في الأنفال [ الآية : 44 ] - : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً } ، فالقصة واحدة ، وهناك تدل الآية على أن الله - تعالى - قلَّل المشركين في أعين المؤمنين؛ لئلا يَجْبُنُوا عنهم ، وعلى هذا التأويل - المذكور ههنا - يكون قد كثرهم في أعينهم . ويمكن أن يجاب باختلاف الحالين؛ وذلك أنه في وقتٍ أراهم [ إياهم ] مثلي عددهم؛ ليمتحنهم ويبتليهم ، ثم قلَّلهم في أعينهم؛ ليقدموا عليهم ، فالآيتان باعتبارين ، ومثله قوله تعالى :
{ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } [ الرحمن : 39 ] ، وقوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 92 ] وقوله : { وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } [ النساء : 42 ] مع قوله : { هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ } [ المرسلات : 35 ] .
قال الفرّاء : المراد بالتقليل : التهوين ، كقولك - في الكلام - إني لأرى كثيركم قليلاً ، أي : قد هوّن عليّ ، [ لا أني أرى الثلاثة اثنين ] .
الثاني : أن يكون الخطاب في « تَرَوْنَهُم » للمؤمنين - أيضاً - والضمير المنصوب في « تَرَوْنَهُمْ » للكافرين - أيضاً - والضمير المجرور في « مِثْلَيْهِمْ » للمؤمنين ، والمعنى : تَرَوْنَ أيُّها المؤمنون الكافرين مثلَي عدد أنفسكم ، وهذا تقليلٌ للكافرين عند المؤمنين في رأي العينِ؛ وذلك أن الكفار كانوا ألفاً ونَيِّفاً ، والمسلمون على الثلث منهم ، فأراهم إياهم مِثْلَيْهم ، على ما قرر عليهم - في مقاومة الواحدِ للاثنين - في قوله تعالى : { فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } [ الأنفال : 66 ] بعدما كُلِّفوا أن يقاوم كلُّ واحد عشرة في قوله تعالى : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يغلبوا أَلْفاً مِّنَ الذين كَفَرُواْ } [ الأنفال : 65 ] .
قال الزمخشريُّ - رحمه الله - « وقراءة نافع لا تُساعِد عليه » ، يعني على هذا التأويل المذكور ولم يُبين وجه عدم المساعدةِ ، ووجهه - والله أعلم - أنه كان ينبغي أن يكون التركيبُ : ترونهم مثليكم - بالخطاب في « مِثْلَيهم » لا بالغيبة .
قال أبو عبدِ الله الفارسيّ - بعد الذي ذكره الزمخشريّ- : « قلت : بل يُساعد عليه ، إن كان الخطاب في الآية للمسلمين ، وقد قيل ذلك » اه ، فلم يأت أبو عبد الله بجواب؛ إذ الإشكالُ باقٍ . وقد أجاب بعضهم عن ذلك بجوابين :
أحدهما : أنه من باب الالتفاتِ من الخطاب إلى الغيبة ، وأنَّ حقَّ الكلام : مثلَيْكم - بالخطاب - إلا أنه التفت إلى الغيبة ، ونظَّره بقوله تعالى : { حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] .
والثاني : أن الضمير في « مِثْلَيْهِمْ » وإن كان المراد به المؤمنين إلا أنه عاد على قوله : { فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله } ، والفئة المقاتلة في سبيل الله عبارة عن المؤمنين المخاطبين .
والمعنى : تَرَوْنَ - أيها المؤمنون - الفئةَ الكافرةَ مثلي الفئة المقاتلة في سبيل الله ، [ فكأنه ] قيل : ترونهم - أيها المؤمنون - مثليكم ، وهو جواب حسن .
فإن قيل : كيف يرونهم مثليهم رأيَ العينِ ، وقد كانوا ثلاثة أمثالكم؟
فالجواب : أن الله - تعالى - إنما أظهر للمسلمين من عدد المشركين القدر الذي علم المسلمون أنهم يغلبونهم؛ وذلك لأنه - تعالى - قال : { فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } فأظهر ذلك العدد [ من المشركين ] للمؤمنين؛ تقوية لقلوبهم ، وإزالةٌ للخوف عن صدورهم .
الثالث : أن يكون الخطاب في « لَكُمْ » وفي « تَرَونَهُم » للكفار وهم قريش ، والضمير المنصوب والمجرور للمؤمنين أي : قد كان لكم - أيها المشركون - آية؛ حيث ترون المسلمين مثلي أنفسهم في العدد ، فيكون قد كثرهم في أعين الكفارِ ، ليجبنُوا عنهم ، فيعود السؤالُ المذكور بين هذه الآية ، وآية الأنفال ، وهي قوله تعالى :
{ وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ } [ الأنفال : 44 ] ، فكيف يقال - هنا - إنه يكثرهم؟ فيعود الجواب المتقدم باختلاف الحالتين ، وهو أنه قللهم أولاً ، ليجترئ عليهم الكفارُ ، فلما التقى الجمعان كثرهم في أعينهم؛ ليحصل لهم الخَوَرُ والفَشَلُ .
الرابع : كالثالث ، إلا أن الضمير في « مثليهم » يعود على المشركين ، فيعودُ ذلك السؤالُ ، وهو أنه كان ينبغي أن يقال : مثليكم ، ليطابق الكلام ، فيعود الجوابان .
وهما : إما الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، وإما عوده على الفئة الكافرة؛ لأنها عبارة عن المشركين ، كما كان ذلك الضمير عبارة عن الفئة المقاتلة ، ويكون التقدير : ترون - أيها المشركون - المؤمنين مثلي فئتكم الكافرة . وعلى هذا فيكونون قد رَأوا المؤمنين مثلي أنفسِ المشركين - ألفين ونيفاً - وهذا مَدَدٌ من الله تعالى ، حيثُ أرى الكفارَ المؤمنين مثلي عدد المشركين ، حتى فشلوا ، وجبنوا ، فطمع المسلمون فيهم ، فانتصروا عليهم ، ويؤيده قوله تعالى : { والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ } [ آل عمران : 13 ] الإرادة - هنا - بمنزلة المدد بالملائكة في النصرة بكليهما ، ويعود السؤال ، وهو كيف كثرهم إلى هذه الغايةِ مع قوله - في الأنفال- : { وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ } [ الأنفال : 44 ] ؟ ويعود الجواب .
الخامس : أن الخطاب في « لَكُم » و « تَرَوْنَهُمْ » لليهود ، والضميران - المنصوب والمجرور - على هذا عائدان على المسلمين ، على معنى : ترونهم - لو رأيتموهم - مثليهم ، وفي هذا التقدير تكلُّف لا حاجة إليه .
وكأن هذا القائل اختار أن يكون الخطاب في الآية المتقدمة - وهي قوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ } - { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ } - لليهود ، فجعله في « تَرَوْنَهُم » لهم - أيضاً - ولكن الخروج من خطاب اليهود إلى خطاب قوم آخرين أوْلَى من هذا التقدير المتكلف؛ لأن اليهود لم يكونوا حاضري الوقعةِ ، حتى يُخَاطَبُوا برؤيتهم لهم كذلك ، ويجوز - على هذا القول - أن يكون الضمير - المنصوب والمجرور - عائدَيْن على الكفار ، أي : أنهم كُثِّرَ في أعينهم الكفارُ ، حتى صاروا مثلي عدد المؤمنين ، ومع ذلك غلبهم المؤمنون ، وانتصروا عليهم ، فهو أبلغ في القدرة . ويجوز أن يعود المنصوب على المسلمين ، والمجرور على المشركين ، أي : ترون - أيها اليهود المسلمين مثلي عدد المشركين؛ مهابةً لهم ، وتهويلاً لأمر المؤمنين ، كما كان ذلك في حق المشركين - فيما تقدم من الأقوال- ، ويجوز أن يعود المنصوب على المشركين ، والمجرور على المسلمين ، والمعنى : ترون - أيها اليهود لو رأيتم - المشركين مثلي عدد المؤمنين وذلك أنتم قُلِّلوا في أعينهم؛ ليَحْصُل لهم الفزَعُ والغَمُّ؛ لأنه كان يغمهم قلةُ المؤمنين ، ويعجبهم كثرتهم ونصرتهم على المسلمين ، حَسَداً وبَغْياً .
فهذه ثلاثة أوجهٍ مرتبة على الوجهِ الخامسِ ، فتصير ثمانية أوجهٍ في قراءة نافع . أما قراءة الباقين ففيها أوجه :
أحدها : أنها كقراءة الخطاب ، فكل ما قيل في المراد به الخطابُ هناك قيل به هنا ، ولكنه جاء على باب الالتفاتِ من خطاب إلى غيبةٍ .
الثاني : في أن الخطاب في « لَكُمْ » للمؤمنين ، والضمير المرفوع في « يَرَوْنَهُم » للكفار ، والمنصوب والمجرور للمسلمين ، والمعنى : يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المؤمنين - ستمائة ونيفاً وعشرين - أراهم الله - مع قتلهم - إياهم ضعفهم؛ ليهابوهم ، ويجبنوا عنهم .
الثالث : أن الخطاب في « لَكُم » للمؤمنين - أيضاً - والضمير المرفوع في « يَرَوْنَهُم » للكفار ، والمنصوب للمسلمين ، والمجرور للمشركين ، أي : يرى المشركون [ المؤمنين ] مثلي عدد المشركين أراهم الله المؤمنين أضعافهم؛ لما تقدم في الوجه قبله .
الرابع : أن يعود الضميرُ المرفوعُ في « يَرَوْنَهُم » على الفئة الكافرةِ؛ لأنها جمع في المعنى ، والضمير المنصوب والمجرور على ما تقدم من احتمال عودهما على الكافرين ، أو [ على ] المسلمين ، أو أحدهما لأحدهم .
والذي تقوى في هذه الآيةِ - من جميع الوجوه المتقدمةِ - من حيث المعنى أن يكون مدارُ الآيةِ على تقليل المسلمين ، وتكثير الكافرين؛ لأن مقصود الآية ومساقها للدلالةِ على قدرةِ الله الباهرةِ ، وتأييده بالنصر لعباده المؤمنين مع قلة عددهم ، وخُذْلان الكافرين مع كَثْرةِ عددهم وتحزبهم لنعلم أن النصر كله من عند الله ، وليس سببه كثرتكم وقلةَ عدوِّكم ، بل سببه ما فعله الله تعالى من إلقاء الرعب في قلوب أعدائكم ، ويؤيده قوله بعد ذلك : { والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ } وقال في موضع آخر : { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } [ التوبة : 25 ] .
وقال أبو شامة - بَعْدَ ذِكر هذا المعنى وتقويته- : فالهاء في « يَرَوْنَهُمْ » للكفار ، سواء قُرِئ بالغيبة أم بالخطاب ، والهاء في « مِثلَيْهم » للمسلمين .
فإن قلت : إن كان المراد هذا فهلاَّ قيل : يَرَونَهُمْ ثلاثةَ أمثالهم ، فكان أبلغ في الآية ، وهي نَصْر القليل على هذا الكثير ، والعدة كانت كذلك أو أكثر؟
قلت : أخبر عن الواقع ، وكان آية أخرى مضمومة إلى آيةِ البصر ، وهي تقليل الكفارِ في أعين المسلمين وقللوا إلى حد وعد المسلمون النصر عليهم فيه ، وهو أن الواحد من المسلمين يَغْلِب الاثنين ، فلم تكن حاجة إلى التقليل بأكثر من هذا ، وفيه فائدةُ وقوع ما ضَمِنَ لهم من النصر فيه انتهى .
قال شهاب الدين : « وإلى هذا المعنى ذهب الفراء ، أعني أنهم يرونهم ثلاثةَ أمثالهم فإنه قال : مثليهم : ثلاثة أمثالهم ، كقول القائل : عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها » .
وغلطة أبو إسحاقَ - في هذا - وقال : مِثْل الشيء : ما ساواه ، ومثلاه [ ما ساواه ] مرتين .
قال ابن كَيْسان : الذي أوقع الفراء في ذلك أن الكفار كانوا - يوم بدر - ثلاثة أمثالِ المؤمنين فتوهَّم أنه لا يجوز أن يروهم إلا على عدتهم ، والمعنى ليس عليه ، وإنما أراهم الله على غير عدتهم لجهتين :
إحداهما : أنه رأى الصلاح في ذلك؛ لأن المؤمنين تقوى قلوبُهم بذلك .
والأخرى : أنه آية للنبي صلى الله عليه وسلم .
والجملة - على قراءة نافع - يحتمل أن تكون مستأنفةً ، لا محل لها من الإعراب ، ويحتمل أن يكون لها محل ، وفيه - حينئذ - وجهانِ :
أحدهما : النصب على الحال من الكاف في « لَكُم » أي : قد كان لكم حال كونكم ترونهم .
والثاني : الجر؛ نعتاً ل « فِئَتَيْنِ » ؛ لأن فيها ضميراً يرجع عليهما ، قاله أبو البقاء وأما على قراءة الغيبة فيحتمل الاستئناف ، ويحتمل الرفع؛ صفة لإحدى الفئتين ، ويحتمل الجر؛ صفة ل « فِئَتَيْنِ » أيضاً ، على أن تكون الواو في « يَرَوْنَهُمْ » ترجع إلى اليهود؛ لأن في الجملة ضميراً يعود على الفئتين .
وقرأ ابن عباس وطلحة « تُرَوْنَهُمْ » - مبنياً للمفعول على الخطاب - والسُّلَميّ كذلك إلا أنه بالغيبة وهما واضحتان مما تقدم تقريره والفاعل المحذوف هو الله تعالى والرؤية - هنا - فيها رأيان :
أحدهما : أنها البصرية ، ويؤيد ذلك تأكيده بالمصدر المؤكد ، وهو قوله : « رَأيَ الْعينِ » .
قال الزمخشريُّ : « رؤية ظاهرة مكشوفة ، لا لبس فيها » ؛ لأن الإدراك عند المعتزلة واجب الحصول عند اجتماع الشرائط ، وسلامة الحاسَّةِ ، ولهذا اعتذر القاضي عن هذا الموضع [ بوجوه ] :
أحدها : أن عند الاشتغالِ بالمحاربةِ لا يتفرغ الإنسان لأن يُدِيرَ حدقته حول العسكر ، وينظر إليهم على سبيل التأمل
وثانيها : أنه قد يحصل من الغبار ما يمنع من إدراك البعض .
وثالثها : يجوز أن يقال : إن الله تعالى خلق في الهواء ما منع من إدراك ثلث العسكر ، [ فعلى هذا ] ، يتعدى لواحد ، ومثليهم نصب على الحالِ .
الثاني : أنها من رؤية القلبِ ، فعلى هذا يكون « مِثْلَيهِم » مفعولاً ثانياً ، وقد ردّه أبو البقاء فقال : ولا يجوز أن تكون الرؤية من رؤية القلب - على كل الأقوال - لوجهين : أحدهما : قوله : « رأي العين » .
الثاني : أن رؤية القلب علم ، ومحال أن يُعْلَمَ الشيء شَيْئَين .
وأجيب عن [ الوجه ] الأول بأن انتصابهَ انتصابُ المصدر التشبيهي ، أي : رأياً مثل رأي العين ، أي : يشبه رأي العين ، فليس إياه على التحقيق ، وعن الثاني بأن الرؤية هنا يُرَاد بها الاعتقاد ، فلا يلزم المحال المذكور ، وإذا كانوا قد أطلقوا العلم - في اللغة - على الاعتقاد - دون اليقين - فلأن يطلقوا عليه الرأيَ أوْلَى وأحْرَى .
ومن إطلاق العلم على الاعتقاد قوله تعالى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } [ الممتحنة : 10 ] ؛ إذْ لا سبيلَ إلى العلم اليقيني في ذلك؛ إذ لا يعلم ذلك إلاَّ اللهُ تعالى ، فالمعنى : فإن اعتقدتموهن ، والاعتقاد قد يكون صحيحاً ، وقد يكون فاسداً ، ويدل على هذا التأويل قراءة من قرأ « تُرَوْنَهُمْ » - بالتاء والياء مبنيًّا للمفعول-؛ لأن قولهم : أرَى كذا - بضم الهمزة - يكون فيما عند المتكلم فيه شك وتخمينٌ ، لا يقين وعلم ، فلما كان اعتقاد التضعيف في جمع الكفار ، أو في جمع المؤمنين تضميناً وظناً؛ لا يقيناً دخل الكلامَ ضربٌ من الشكِّ ، وأيضاً - كما يستحيل حملُ الرؤيةِ هنا على العلم - يستحيل أيضاً حملها على رؤية البصر بعين ما ذكرتم من المحال ، وذلك كما أنه لا يقع العلم غيرَ مطابقٍ للمعلوم ، كذلك لا يقع النظر البصري غير مطابق لذلك الشيء المُبْصَر المنظور إليه ، فكان المراد التخمين والظن ، لا اليقين والعلم ، كذا قيل ، وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم أن البصر لا يخالف المُبْصَر؛ لجواز أن يحصل خَلَلٌ في البصر ، وسوء في النظر ، فيتخيل الباصر الشيئَ شيئَيْن فأكثر ، وبالعكس .
احتج من قال : إن الرائي هو المشركون بوجوه : الأول : أن تعلُّق الفعل بالفاعل أشدُّ من تعلُّقهِ بالمعفول ، فجَعْلُ أقرب المذكورين السابقين فاعلاً وأبعدهما مفعولاً أوْلَى من العكس ، وأقرب المذكورين هو قوله : { كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ } .
الثاني : مُقَدَّمُ الآية - وهو قوله { قَدْ كَانَ لِكُمْ آيَةٌ } خطاب مع الكفار ، فقراءة نافع - بالتاء - تكون خطاباً مع أولئك الكفار ، والمعنى : تَرَوْنَ يا مشركي قريش المسلمين مثليهم ، فهذه القراءة لا تساعد غلا على كون الرائي مشركاً .
الثالث : أن الله تعالى جعل هذه الحالة آية للكفار حتى تكونَ حُجَّةً عليهم ، ولو كانت هذه الحالةُ حاصلة للمؤمن لم يصح جَعْلُها حُجَّةٌ على الكافر .
واحتج من قال : الراءون هم المسلمون بأن الرائين لو كانوا هم المشركين لزم رؤيةُ ما ليس بموجود وهو محال - ولو كان الراءون هم المؤمنين لزم أن لا يرى ما هو موجود ، وهذا ليس بمحال فكان أولى ، قال ابن مسعودٍ : نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علنيا رجلاً واحداً ، ثم قللهم الله - أيضاً - في أعينهم حتى رَأوْا عدداً يسيراً أقل من أنفسهم ، قال ابن مسعود : « حَتَّى قلت لرجل إلى جنبي : تراهم سبعينَ؟ قال : أراهم مائة ، فأسرنا رجلاً منهم ، فقلنا : كم كنتم؟ قال : ألفاً » .
فصل
وجه النظم أنه - تعالى - لما أنزل الآية المتقدمة في اليهود ، وهي قوله : { سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ } ، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام ، أظهروا التمرد ، وقالوا : لسنا أمثال قريشٍ في الضعفِ ، وقلة المعرفة بالقتال ، بل معنا من الشوكة والمعرفة بالقتال ما نغلب به كل مَنْ ينازعنا ، فقال تعالى : إنكم - وإن كنتم [ أغنياء ] ، أقوياء ، أرباب قدرة وعدة فإنكم - ستغلبون ، ثم ذكر - تعالى - ما يجري مجرى الدلالة على صحة ذلك ، فقال : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا } يعني واقعة بدر؛ فإن الكثرة والعُدَّة كانت للكفار ، والقلة وعدم السلاح من جانب المسلمين ، ثم إن الله تعالى قهر الكفارَ ، ونصر المسلمين ، وهذا يدل على أن النصر بتأييد الله ونصرِه .
الفئة : الجماعة ، والمراد بالفئة التي تقاتل في سبيل الله - أي : في طاعته رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر ، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، سبعة وسبعين رجلاً من المهاجرين ، ومائتين وستة وثلاثين من الأنصار ، وصاحب راية المهاجرين عليّ بن أبي طالب ، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة ، وكان فيهم سبعون بعيراً ، بين كل أربعة منهم بعير ، وفرسان : فرس للمقدادِ بن عمرو ، وفرس لمرثد بن ابي مريد ، وأكثرهم رجَّالةٌ ، وكان معهم من الدروع ستة ، وثمانية سيوف ، والمراد بالأخْرَى الكافرة مُشركو مكة ، وكانوا تسعمائة وخمسين رجلاً من المقاتلة ، رأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، وفيهم مائةُ فرس ، وكان فيهم أبو سفيان وأبو جهلٍ ، وكان معهم من الإبل سبعمائةُ بعيرٍ ، وأهل الخيل كلُّهم كانوا دارعين وهم مائة نفرٍ ، وكان في الرجال دروع سوى ذلك .
فصل
ذكر العلماءُ في كَوْنِ هذه الواقعةِ آية وجوهاً :
أحدها : أن المسلمين كانوا قد اجتمع فيهم من أسباب الضعف أمور ، منها : قِلَّةٌ العَدَد .
ومنها : أهم خرجوا غير قاصدين للحرب فلم يتأهبوا .
ومنها : قِلَّةُ السلاح والخيل .
ومنها : أن ذلك أول غزواتهم ، وكان قد حصل للمشركين أضداد هذه المعاني من كثرة العدد ، وأنهم خرجوا متأهبين للمحاربة ، وأنهم كانوا معتادين للحروب في الأزمنة الماضية ، وإذْ كان الأمر كذلك فكان غَلَبُ هؤلاء الضعفاء خارجاً عن العادة ، فيكون مُعْجزاً .
وثانيها : أنه - عليه السلام - كان قد أخبر قومه بأن الله ينصره على قريش ، بقوله : { وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ } [ الأنفال : 7 ] ، يعني جمع قريش ، وكان قد أخبر - قبل الحرب - بأن هذا مصرع فلان ، فلما وُجِدَ مَخْبَرُ خَبَرهِ في المستقبل على وَفقِ خَبَرِه ، كان ذلك إخباراً عن الغَيْب؛ فكان مُعْجِزاً .
وثالثها : قوله تعالى : { يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين } ، والصحيح أن الرائين هم المشركون ، والمرئيين هم المؤمنون ، وعلى كلا التقديرين يكون مُعْجِزاً .
ورابعها : قال الحسنُ : إن الله - تعالى - أمدَّ رسولَه في تلك الغزوة بخمسةِ آلافِ من الملائكة ، لقوله تعالى : { فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملاائكة مُرْدِفِينَ } [ الأنفال : 9 ] ، وقال : { بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلااف مِّنَ الملاائكة مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 125 ] قيل : إنه كان على أذناب خيولهم ونواصيهم صوفٌ أبيض ، وهو المراد من قوله : { والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ } .
قوله : { رَأْيَ العين } في انتصابه ثلاثة أوجهٍ ، تقدم منها اثنان النصب على المصدر التوكيدي ، أو النصب على المصدر التشبيهيّ .
الثالث : أنه منصوب على ظرف المكانِ ، قال الواحديُّ : « . . كما تقول : ترونهم أمامكم ، ومثله هو مني مَزجَرَ الكلب ، وَمَناطَ [ الْعُنق ] ، وهذا إخراج للفظ عن موضوعه - مع عدم المساعد - معنًى أو صناعةً .
و » رأى « مشترك بين » رأى « معنى أبصر ، ومصدره : الرَّأي ، والرؤية ، وبمعنى اعتقد وله الرأي وبمعنى الحلم ، وله الرؤيا كالدنيا ، فوقع الفرق بالمصدر ، فالرؤية للبصر خاصةً ، والرؤيا للحلم فقط ، والرأي مشترك بين البصرية والاعتقادية ، يقال : هذا رأي فلان ، أي : اعتقاده .
قال : [ الطويل ]
1357 - رَأى النَّاسَ - إلاَّ مَنْ رَأى مِثْلَ رَأيِهِ ... خَوَارِدَ تَرَّاكِينَ قَصْدَ الْمَخَارِجِ
قوله : { والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ } التأييد : تفعيل ، من الأَيْد ، وهو القوَّة ، والباء سببية أي : سبب تأييده ، ومفعول » يَشَاءُ « محذوف ، أي : من يشاء تأييده .
وقرأ ورش » يُويِّدُ « ، بإبدال الهمزة واواً مَحْضَةً ، وهو تسهيل قياسيٌّ؛ قال أبو البقاء وغيره : » ولا يجوز أن يُجْعَل بَيْنَ بَيْنَ؛ لقربها من الألف ، والألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحاً ، ولذلك لم تجعل الهمزة المبدوء بها بَيْنَ بَيْنَ لاستحالة الابتداء بالألف « .
وهو مذهب سيبويه في الهمزة المفتوحة بعد كسرة قلبها ياء محضة ، وبعد الضمة قَلْبُها واواً محضة للعلة المذكورة وهي قُرْب الهمزة التي بَيْنَ بَيْنَ من الألف ، والألف لا تكون ضمة ولا كسرة .
و » عبرة « : فِعْلَة - من العبور كالركبة وكالجِلْسة ، والعبور : التجاوز ، ومنه عبرتُ النهر ، والمعبر السفينة؛ لأن بها يُعْبَر إلى الجانب الآخر ، وعَبْرَةُ العين : دَمْعُهَا؛ لأنها تجاوزها ، وعَبَّر بالعِبْرة عن الاتعاظ والاستيقاظ؛ لأن المتَّعِظَ يَعْبُر من الجَهْل غلى العلم ، ومن الهلاك إلى النجاة ، والاعتبار : افتعال منه ، والعبارة : الكلام الموصل إلى الغرض ، لأن فيه مجاوزةً ، وعبرت الرؤيا وعبَّرتها ، - مخفَّفاً ومثقلاً - لأنك نقلت ما عندك من تأويلها إلى رائيها .
و » لأولي أبصار « صفة ل » عبرة « ، أي : عبرة كائنة لأولي الأبصار - لذوي العقول يقال : لفلان بصر بهذا الأمر .
وقيل : لمن أبصر الجمعين .
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
والعامة على بناء « زُيِّنَ » للمفعول ، والفاعل المحذوف هو الله تعالى؛ لما ركب في طباع البشر من حب هذه الأشياء ، وقيل : هو الشيطان ، فالأوّل قول أهلِ السنة؛ قالوا : لو كان المزين هو الشيطان فمن ذا الذي زَيَّن الكفرَ والبدعةَ للشيطان؟ فإن كان ذلك شيطاناً آخرَ لزم التسلسل ، وإن وقع ذلك من نفس ذلك الشيطان في الإنسان فليكن في الإنسان كذلك ، وإن كان من الله وهو الحق - فليكن في حَقِّ الإنسان أيضاً كذلك ، ويؤيده قوله تعالى : { هؤلاء الذين أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا } [ القصص : 63 ] يعني إن اعتقد أحد أنَّا أغويناهم ، فمَن الذي أغوانا؟ وهذا ظاهر جداً ، وقال تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا } [ الكهف : 7 ] ونُقِل عن المعتزلة ثلاثةُ أقوالٍ :
أحدها : أن الشيطان زَيَّن لهم ، حكي عن الحسن أنه [ كان ] - يحلف بالله على ذلك - ويقول : من زينها؟ إنما زيَّنها الشيطانُ؛ لأنه لا أحد أبغض لها من خالقها .
احتج لهم القاضي بوجوه :
الأول : أنه تعالى أطلق حبَّ الشهواتِ ، فيدخل فيه حُبُّ الشهواتِ المحرمةِ ، ومُزَينُ الشهواتِ المحرمة هو الشيطانُ .
الثاني : أنه - تعالى - ذكر القناطيرَ المقنطرةَ من الذهبِ والفضةِ ، وحُبُّ هذا المالِ الكثيرِ لا يليق إلا بمَنْ جعل الدنيا قِبْلَةَ طلبه ، ومُنتَهَى مقصودِه؛ لأن أهْلَ الآخرةِ يكتفون بالبُلْغَةِ .
الثالث : قوله تعالى : { ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا } ، فذكره في مَعْرض ذَمِّ الدنيا ، والذامُّ للشيء لا يزينُهُ .
الرابع : قوله : { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم } [ آل عمران : 15 ] والمقصود من هذا الكلامِ صرفُ العبدِ عن الدنيا وتقبيحُها له ، وذلك لا يليق بمن يزيِّنُ الدنيا في عينه .
القول الثاني : أن المزين هو الله تعالى ، واحتجوا عليه بوجوه :
أحدها : أنه تعالى كما رغَّب في منافِع الآخرةِ فقد خلق مَلاَذَّ الدنيا ، وأباحها لعبيده؛ فإنه إذا خلق الشهوةَ والمُشْتَهَى ، وخلق للمشتهى عِلْماً بما في تناوُل المشتَهَى من اللذةِ ، ثم أباح له ذلك التناولَ؛ يقال : إنه زيَّنَها له .
وثانيها : أن الانتفاع بهذه الشهواتِ وسائلُ إلى منافع الآخرةِ ، والله تعالى نَدَب إليها ، فكان تزييناً لها ، أمَّا كونها وسائلَ إلى ثوابِ الآخرةِ أنه يتصدق بها ، ويتقوَّى بها على الطاعة وأيضاً إذا علم أن تلك المنافع إنما تيسرت بتخليق الله حمله ذلك على الاتشغال بالشكر .
قال صاحب بن عبَّادٍ : « شُرْبُ الْماءِ الْبَارِدِ في الصَّيْفِ يَسْتَخْرِجُ الْحَمْدَ مِنْ أقْصَى الْقَلْبِ » وأيضاً فإن القادرَ على التمتُّع باللذات إذا تركها واشتغل بالعبادة ، وتحمل ما في ذلك من المشقة ك ان أكثرَ ثواباً .
وثالثها : قوله تعالى : { خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً } [ البقرة : 29 ] ، وقوله : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق } [ الأعراف : 32 ] ، وقوله : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا }
[ الكهف : 7 ] وقال : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [ الأعراف : 31 ] ، وقال : { وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ } [ البقرة : 22 ] ، وقال : { كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً } [ البقرة : 168 ] ، وكل ذلك يدل على أن التزيين من الله تعالى .
القول الثالث - وهو اختيار الجبائي والقاضي - : وهو التفصيل ، فإن كان حراماً فالتزيين فيه من الشيطان ، وإن كان واجباً ، أو مندوباً ، فالتزيين فيه من الله تعالى ذكره القاضي في تفسيره وبقي قسمٌ ثالث ، وهو المباح الذي ليس في فعله ثواب ، ولا في تركه عقابٌ ، وكان من حق القاضي أن يذكره فلم يذكره . ويُبَيِّنَ التزيين فيه ، هل هو من الله تعالى أو من الشيطان؟
وقرأ مجاهد : « زَيَّنَ » مبنيًّا للفاعل ، و « حُبَّ » مفعول به نصاً ، والفاعل إما ضمير الله تعالى؛ المتقدم ذكره في قوله : { والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ } [ آل عمران : 13 ] ، وإما ضمير الشيطان ، أضمر - وإنْ لم يجر له ذكر - لأنه أصل ذلك ، فذكرُ هذه الأشياءِ مُؤذِنٌ بذِكْرِه ، وأضافَ المصدر لمفعوله في { حُبُّ الشهوات } .
والشهوات جمع شَهْوَة - بسكون العين - فحُرِّكت في الجمع ، ولا يجوز التسكين إلا في ضرورة ، كقوله : [ الطويل ]
1358 - وَحُمِّلتُ زَفْرَاتِ الضُّحَى فَأطَقْتُهَا ... وَمَا لِي بِوَفْرَاتِ العَشِيِّ يَدَانِ
بتسكين الفاء . والشهوةُ مصدر يُراد به اسم المفعول ، أي : المشتهيات ، فهو من باب : رَجُل عَدل حيث جعلت نفس المصدر مبالغةً . والشهوة : مَيْل النفس ، وتُجْمَع على شهوات - كالآية الكريمة - وعلى شُهًى - كغُرَفٍ- .
قالت امرأة من بني نصر بن معاوية : [ الطويل ]
1359 - فَلَوْلاَ الشُّهَى - وَاللهِ - كُنْتُ جَدِيرَةٌ ... بِأنْ أتركَ اللَّذَاتِ في كُلِّ مشْهَدِ
قال النحويون : لا تُجْمَع فَعْلَة - المعتلة اللام يعنون بفتح الفاء وسكون العين على فُعَل إلا ثلاثة ألفاظٍ : قرية وقُرًى ، ونَزْوَة ونُزًى ، وكَوَّة - عند من فتح الكاف - وكُوًى .
واستدرك أبو حيّان : « واستدركت - أنا - شُهًى ، وأنشد البيت » .
وقال الراغب : « زززز وقد يُسَمَّى المشتهى ، شهوةً ، وقد يقال للقوَّة التي بها يُشْتَهَى الشيء : شهوة ، وقوله تعالى : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات } يحتمل الشهوتين » .
قال الزمخشريُّ : وفي تسميتها بهذا الاسم فائدتان :
إحداهما : أنه جعل الأعيانَ التي ذكرها شهواتٍ؛ مبالغةً في كونها مشتهاةٌ ، محروصاً على الاستمتاع بها .
الثانية : أن الشهوة صفة مسترذلة عند الحكماء ، مذموم من اتبعها ، شاهد على نفسه بالبهيمية ، فكأن المقصود من ذكر هذا اللفظ التنفير منها .
فصل
وَجهُ النظم : أنا روينا أن أبا حارثة بن علقمة النصراني قال لأخيه : إنه يعرف صدق محمد فيما جاء به ، إلا أنه لا يُقرُّ بذلك؛ خوفاً من أن يأخذ ملكُ الروم منه المالَ والجاهَ ، وأيضاً روينا أن النبي - عليه السلام - لما دعا اليهود إلى الإسلام - بعد غزوة بدر - أظهروا من أنفسهم القوةَ والشدةَ ، والاستظهارَ والسلاحَ ، فبين - تعالى - في هذه الآية أن هذه الأشياء وغيرها - من متاع الدنيا - زائلة ، باطلة ، وأن الآخرة خير وأبقى .
فصل
قال المتكلمون : دلت هذه الآية على أن الحبَّ غيرُ الشهوةِ؛ لأنه أضافهُ إليها ، والمضاف غيرُ المضافِ إليه ، والشهوة فعل الله تعالى ، والمحبة فعل العبد .
قالت الحكماءُ : الإنسان قد يحب شيئاً ، ولكنه يحب ألا يحبه ، كالمسلم قد يميل طبعه إلى بعض المحرمات ، لكنه يحب ألا يحبه ، وأما من أحب شيئاً ، وأحب أن يحبه ، فذلك هو كمال المحبة ، فإن كان ذلك في جانب الخير ، فهو كمال السعادة ، كقول سليمان : { إني أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير } [ ص : 32 ] ، ومعناه : أحب الخير ، وأحب أن أكون محباً للخير ، وإن كان ذلك في جانب الشرِّ فهو كما قال في هذه الآية؛ فإن قوله : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات } يدل على ثلاثةِ أمور مترتبة :
أولها : أنه يشتهي أنواع المشتهيات .
ثانيها : أنه يحب شهوته لها .
ثالثها : أنه يعتقد أن تلك المحبة حسنة .
ولما اجتمعت هذه الدرجاتُ الثلاثُ في هذه القضية بلغت الغايةَ القصوى في الشدة ، فلا تنحلّ إلا بتوفيق عظيمٍ من الله تعالى ، ثم إنه أضاف ذلك إلى الناس ، ولفظ « النَّاس » عام ، دخله حرف التعريف فيفيد الاستغراق ، فظاهر اللفظ يقتضي أن هذا المعنى حاصل لجميع الناس ، والعقل - أيضاً - يدل عليه؛ لأن كل ما كان لذيذاً ونافعاً فهو محبوب ، ومطلوب لذاته ، والمنافع قسمان : جسماني ، وروحاني ، فالجسماني حاصل لكل أحد في أول الأمر ، والروحاني لا يحصل إلا في الإنسان الواحد على سبيل الندرة ، ثم إن انجذاب نفسه إلى اللذات الجسمانية كالملكة المستقرة وانجذابها إلى اللذات الروحانية كالحالة الطارئة التي تزول بأدنى سبب ، فلا جرم كان الغالب على الخلق هو الميل الشديد إلى اللذات الجسمانية ، فلهذا السبب عم الله هذا الحكمَ في الكل .
قوله تعالى : { مِنَ النساء } في محل نَصْب على الحال من الشهوات ، والتقدير : حال كون الشهوات من كذا وكذا ، فهي مفسرة لها في المعنى .
ويجوز أن تكون « مِنْ » لبيان الجنس ، لقول الزمخشريِّ : « ثم يفسره بهذه الأجناس » .
كقوله : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] ، والمعنى : فاجتنبوا الأوثان التي هي رِجْسٌ .
وقدم النساءَ على الكل ، قال القرطبيُّ : لكثرة تشوُّق النفوس إليهن؛ لأنهن حبائلُ الشيطان ، وفتنة الرجالِ ، قال صلى الله عليه وسلم : « مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أضَرَّ عَلَى الرِّجالِ مِنَ النِّسَاءِ » أخرجه البخاري ومسلم لأن الالتذاذ منهن أكثرُ ، والاستئناسَ بهن أتَمُّ ، ولذلك قال تعالى : { خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } [ الروم : 21 ] ، ثم ثَنَّى بالولد الذَّكَر؛ لأن حُبَّ الولد الذكر أكثر من حب الولد الأنثى ، واعلم أن الله تعالى - في إيجاد حُبِّ الزوجة والولد في قلب الإنسان - حكمةً بالغةً؛ إذْ لولا هذا الحُبُّ لَمَا حصل التوالُدُ والتناسُل ، وهذه المحبة غريزة في جميع الحيوان ، والبنين : جمع ابن ، قال نوح :
{ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي } [ هود : 45 ] ويًصَغَّر « ابن » على بُنَيّ ، قال لقمان : { يابني لاَ تُشْرِكْ بالله } [ لقمان : 13 ] ، وقال نوح : { يابني اركب مَّعَنَا } [ هود : 42 ] .
قوله تعالى : { والقناطير } هي جمع قِنْطار ، وفي نونه قولان :
أحدهما : أنها أصلية ، وأن وَزْنَه فِعْلاَل ، كحِمْلاق ، وقِرْطاس .
والثاني : أنها زائدة ، وأن وزنه فِنْعال كفِنْعاس ، وهو الجمل الشديد ، واشتقاقه من قطر يقطر - إذا سال؛ لأن الذهب والفضة يُشَبَّهَان بالماء في سرعة الانقلابِ ، وكثرة التقلُّب .
وقال الزَّجَّاج : هو مأخوذ من قَنْطَرتُ الشيء - إذا عقدته وأحكمته - ومنه القنطرة؛ لإحْكام عقدها .
حكى أبو عبيدة عن العرب أنهم يقولون : القنطار وزن لا يُحَدُّ .
قال ابن الخطيب : « وهذا هو الصحيح » .
وقال الربيع بن أنس : القنطار : المال الكثير بعضه على بعض .
وقال القرطبي : « والعرب تقول قنطر الرجل إذا بلغ ماله أن يوزن بالقنطار » .
وقال معاذ بن جبل - ورواه أبَيّ بنُ كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال : « القنطارُ ألفٌ ومئتا أوقية » .
وقال ابن عباس والضحاك : ألف ومائتا مثقالٍ ، وعنهما - في رواية أخرى - اثنا عشر ألفَ درْهمٍ أو ألف دينار دية أحدكم ، وبه قال الحسن .
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « القِنْطَارُ اثْنَا عَشَرَ ألْفَ أوْقيةٍ » .
وروى أنس - أيضاً - عنه أن القنطار ألف دينار .
وروى سعيد بن المسيب وقتادة : ثمانون ألفاً .
وقال مجاهدٌ : سبعون ألفاً .
وقال السُّدِّيُّ : أربعة آلاف مثقالٍ .
وقال الكلبيُّ أبو نضرة : القنطار - بلسان الروم - ملء مسك الثور من ذهب ، أو فضة .
وقال الحكم : القنطار ما بين السماء والأرض من مال .
وقال سعيد بن جبير وعكرمة : مائة ألفٍ ، ومائة مَنّ ، ومائة رَطل ، ومائة مثقال ، ومائة درهم ، وقد جاء الإسلام - يوم جاء - وبمكة مائة رجل قد قَنْطروا .
قوله : « الْمُقَنطَرَة » مُنَفْعَلَة من القنطار وهو للتأكيد ، كقولهم : ألف مؤلَّفة ، وبدرة مبدرة ، وإبل مُؤبَّلة ، ودراهم مُدَرْهمة .
وقال الكلبي : القناطير الثلاثة ، والمقنطرة المضاعفة ، فكان المجموع ستة .
وقال الضحاك : معنى « الْمُقَنْطَرَة » : المحَصَّنة المُحْكمة .
وقال قتادة : هي الكثير بعضها فوق بعض .
وقال السُّدِّي : المضروبة ، المنقوشة حتى صارت دراهم ودنانير .
وقال الفراء : المضعّفة ، والقناطير الثلاثة ، فالمقنطرة تسعة وجاء في الحديث أن القنطار ألف ومائتا أوقية ، والأوقية خير مما بين السماء والأرض .
وقال ابو عبيدة : القناطير أحدها قنطار ، ولا نجد العرب تعرف وزنه ولا واحد للقنطار من لفظه .
وقال ثعلب : المعوَّل عليه عند العرب أنه أربعة آلاف دينار ، فإذا قالوا : قَنَاطير مقنطرةٌ ، فهي اثنا عشر ديناراً وقيل : غن القنطار ملء جلد ثور ذهباً .
وقيل : ثمانون ألفاً وقيل : هو جملة كثيرة مجهولة من المال نقله ابن الأثير .
قوله : { مِنَ الذَّهَبِ } كقوله : { مِنَ النِّسَاءِ } ، [ والذَّهَب ] مؤنث ، ولذلك يُصَغَّر على ذهيبة ، ويُجْمَع على أذهاب وذُهوب ، واشتقاقه من الذهاب ، ويقال : رجل ذَهِب بكسر الهاء - رأى معدن الذهب فدُهِش و [ « الفضة » تجمع على فضض ، واشتقاقها من انفض إذا تفرق ] .
قال القرطبيُّ : والذهب مكيالٌ لأهل اليَمَن ، قال : واشتقاق الذهب والفضة ، يشعر بزوالهما وعدم ثبوتهما كما هو مشاهد ف ي الوجود ، ومن أحسن ما قيل في ذلك قول بعضهم : [ البسيط ]
1360 - النَّارُ آخِرُ دِينَارٍ نَطَقْتَ بِهِ ... وَالهَمُّ آخِرُ هَذَا الدِّرْهَمِ الجَارِي
وَالمَرْءُ بَيْنَهُمَا إذْ كَانَ ذَا وَرَعٍ ... مُعَذَّبُ القَلْبِ بَيْنَ الهَمِّ وَالنَّارِ
والذهب والفضة : إنما كانا محبوبَيْن لأنهما جُعِلا ثَمَن جميع الأشياء ، فمالكها كالمالك لجميع الأشياء .
قوله : « وَالْخَيْلِ » عطف على النساء ، قال أبو البقاء : [ معطوف على النساء ] ، لا على الذهب والفضة ، لأنها لا تسمى قنطاراً وتوهم مثل هذا بعيد جداً ، والخيل فيه قولان :
أحدهما : قال الواحديُّ : « إنه جمع لا واحد له من لفظه ، كالقَوْم ، والنساء والرهط » .
الثاني : أن واحده خائل ، فهو نظير راكب وركب ، وتاجر وتجر ، وطائر وطير .
وفي هذا خلاف بين سيبويه والأخفش ، فسيبويه يجعله اسم جمع ، والخفش يجعله جمع تكسير .
وفي اشتقاقها وجهان :
أحدهما : من الاختيال - وهو العجب - سُمِّيت بذلك؛ لاختيالها في مِشيتها
بطول أذنابها قال امرؤ القيس : [ المتقارب ]
1361 - لَهَا ذَنَبٌ مِثْلُ ذَيْلِ الْعَرُوسِ ... تَسُدُّ بِهِ فَرْجَهَا مِنْ دُبُرْ
الثاني : من التخيل ، قيل : لأنها تتخيل في صورة من هو أعظم منها .
وقيل : أصل الاختيال من التخيل ، وهو التشبيه بالشيء؛ لأن المختال يتخيل في صورة من هو أعظم منه كِبْراً . والأخيل : الشَّقِرَّاق؛ لأنه يتغير لونهُ ، فمرة أحمر ، ومرة أصفر وعليه قوله : [ مجزوء الكامل ]
1362 - كَأبِي بَرَاقِشَ كُلُّ لَوْ ... نٍ لَوْنُهُ يَتَخَيَّلُ
وجوز بعضهم : أن يكون مخفَّفاً من « خَيَّل » - بتشديد الياء - نحو مَيْت - في ميِّت - وهيْن في هَيِّن ، وفيه نظر؛ لأن كل ما سُمِع فيه التخفيف سُمِع فيه التثقيل ، وهذا لم يُسْمع إلا مخفَّفاً؛ وهذا تقدم .
وقال الراغب : « الخيل - في الأصل - اسم للأفراس والفرسان جميعاً ، قال تعالى : { وَمِن رِّبَاطِ الخيل } [ الأنفال : 60 ] في الأصل للأفراس ، ويستعمل في كل واحد منهما منفرداً ، نحو ما رُوِي » يَا خَيْلَ اللهِ ارْكَبي « ، فهذا للفرسان ، وقوله - عليه السلام - : » عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ « ، يعني الأفراس ، وفيه نظر؛ لأن أهل اللغة نَصُّوا على أن قوله - عليه السلام - » يَا خَيْلَ اللهِ ارْكَبي « إما مجاز إضمار أو مجاز علاقة ، ولو كان للفرسان حقيقة لما ساغ قولهم .
قوله : « الْمُسَوَّمَة » أصل التسويم : التعليم ، ومعنى مسومة : مُعَلَّمة .
قال أبو مسلم : مأخوذ من السيما - بالمد والقصر - ومعناه واحد ، وهو الهيئة الحسنة ، قال تعالى : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ } [ الفتح : 29 ] واختلفوا في تلك العلامة .
فقال أبو مسلم : هي الأوضاح والغُرز التي تكون في الخيل وهي أن تكون غُرًّا محجلة .
وقال الأصم : البلق .
وقال قتادة : الشِّية . وقال المؤرج : الكَيّ ، والأول أحسن؛ لأن الإشارة في الآية إلى أشرف أحوالها وقال : بل هي من سوم الماشية ، أي : مرعية ، يقال : أسَمْتُ ماشيتس ، فسامت ، قال تعالى : { فِيهِ تُسِيمُونَ } [ النحل : 10 ] ، وسومتها فاستامت ، أي : مرعية ، فيتعدى - تارة - بالهمزة ، وتارة بالتضعيف .
وقيل : بل هو من السيمياء - وهي الحسن - فمعنى مُسَومة : أي : ذات حُسن ، قاله عكرمة ، واختاره النحاس؛ قال لأنه من الوَسْم ، ورد عليه بعضهم : باختلاف المادتين ، وأجاب بعضهم بأنه من باب المقلوب ، فيصح ما قاله وتقدم تحقيق ذلك في « يسومونكم » وقوله « بسيماهم » .
فصل
قال القرطبيُّ : جاء في الخبر عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل خلق الفرس من الريح ، ولذلك جعلها تطير بلا جناح .
قال وهب بن منبه : خلقها من ريح الجنوب . وفي الخبر : أن الله تعالى عرض على ىدم جميع الدواب ، فقال له : اختر منها واحدة ، فاختار الفرس ، فقيل له : اخترتَ عِزَّك ، فصار اسمه الخيل من هذا الوجه ، ويُمِّي خَيْلاً؛ لأن من ركبها اختال على أعداء الله ، وسُمِّي فرساً؛ لأنه يفترس مسافات الجو افتراس السبع ، ويقطعها كالالتهام بيديه على الشيء خَطْفاً وتَنَاولاً ، وسمي عَربيًّا؛ لأنه جيء به من بعد آدم لإسماعيل؛ جزاء على رفع قواعد البيت ، وإسماعيل عربي ، فصارت له نحلةً من الله ، وسمي عربياً ، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يَدْخُلُ الشَّيْطَان دَاراً فِيهَا فَرَسٌ عَتِيقٌ » ، وإنما سمي عتيقاً؛ لأنه تخلص من الهجانة ، وقال - عليه السلام - : « خَيْرُ الْخَيْلِ الأدْهَمُ ، الأقرعُ ، الأرْثم ثم الأقرح المحجل طَلْقُ اليَمينِ » .
قوله : { والأنعام } جمع نَعَمٍ ، والنعم مختصة بالإبل ، والبقر ، والغنم .
وقال الهروي : النعم يذكر ويؤنث ، فإذا جُمِع أطلق على الإبل والبقر والغنم ، وظاهر هذا أنه - قبل جمعه على أنعام - لا يطلق على الثلاثة ، بل يختص بواحد منها ، وقد صرَّح الفراء بهذا ، فقا لالنعم : الإبل فقط قال بعضهم لكونها تشبه النعام في جزاء الصبر . وقال ابن كيسان : إذا قلت : نعم لم يكن إلا للإبل وإذا قلت : أنعام وقعت على الإبل وكل ما يرعى؛ قال حسان : [ الوافر ]
1363 - وَكَانَتْ لاَ يَزَالُ بِهَا أنِيْسٌ ... خِلالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ
وهو مذكر ولا يؤنث ، تقول : هذا نعم وارد ، وهو جمعٌ ، لا واحد له من لفظه .
وقال ابن قتيبة : « الأنعام : الإبل والبقر والغنم ، واحده : نَعَمٌ وهو جمع لا واحد له من لفظه » ، سميت بذلك؛ لنعومة مشيها ولينها ، وعلى الجملة فالاشتقاق في أسماء الأجناس قليل جدًّا .
قوله : « وَالْحَرْثِ » ، الحرث تقدم تفسيره وهو - هنا - مصدر واقع موقع المفعول به ، فلذلك وُحِّد ، ولم يُجْمع كما جُمِعت أخواته ، ويجوز إدغام الثاء في الذال ، وإن كان بعض الناس ضعفه : بأنه يلزم الجمع بين ساكنين ، والأول ليس حرف لين ، قال : بخلاف « يَلْهَثْ ذلك » حيث أدغم الثاء في الذال؛ لانتفاء التقاء الساكنين ، إذ الهاء قبل الثاء متحركة .
فصل
الحرث هنا اسم لكل ما يحرث . تقول : حرث الرجل حرثاً إذا أثار الأرض بمعنى الفلاحة ، ويقال : حرث وفي الحديث : « احرثوا هذا القرآن أي : فتشوه » قال ابن الأعرابي الحرث : التفتيش ، وفي الحديث أصدق الأسماء الحارث ، لأن الحارث هو الكاسب ، واحترس المال كسبه ، والمحراث مسعر النار والحراث مجرى الوتر في القوس ، والجمع : أحْرِثَة ، وأحرث الرجل ناقته أهزلها . وقد تضمنت هذه الآية الكريمة أنواعاً من الفصاحة والبلاغة ، منها : الإتيان بها مجملة ، ومنها جعله لها نفس الشهوات؛ مبالغة في التنفير عنها ، ومنها : البداءة بالأهم ، فالأهم ، فذكر - أولاً - النساء لأنهن أكثر امتزاجاً ، ومخالطة بالإنسان ، وهن حبائل الشيطان ، قال - عليه السلام - : « مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتنَةً أضَرَّ عَلَى الرَّجَالِ مِنَ النسَاءِ » ، وقال : « مَا رَأيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أسْلَبَ لِلُبِّ الرَّجُل الْحَلِيمِ مِنكُنَّ » ، ويُرْوَى : الحازم منكن .
وقيل : فيهن فتنتان ، وفي البنين فتنة واحدة؛ لأنهن يقطعن الأرحام والصلات بين الأهل - غالباً- ، وهن سبب في جَمْع المال من حلال وحرام - غالباً- ، والأولاد يُجْمَع لأجلهم المال ، فلذلك ثنى بالبنين ، وفي الحديث : « الْوَلدُ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ » ، ولأنهم لأجلهم المال ، فلذلك ثنى بالبنين ، وفي الحديث : « الْوَلدُ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ » ، ولأنهم فروع منهن ، وثمراتٌ نشأت عنهن ، وفي كلامهم : « المرء مفتون بولده » ، وقُدِّمت على الأموال؛ لأنها أحَبُّ إلى المرء من ماله .
وأما تقديمُ المال على الولد - في بعض المواضع - فإنما ذلك في سياق امتنان ، وإنعام أو نُصْرة ، ومعاونة؛ لأن الرجالَ تُستمال بالأموال - ثم ذكر تمامَ اللذةِ ، وهو المركوب البهيمي من بينِ سائر الحيوانات ، ثم أتى بما يَحصل به جمال حين تريحون وحين تسرحون ، كما تشهد به الآية الأخرى ثم ذكر ما به قوامهم ، وحياة بنيتهم ، وهو الزروع والثمار .
ومنها الإتيان بلفظ يشعر بشدة حب هذه الأشياء ، بقوله : « زين » والزينة محبوبة في الطباع .
ومنها : بناء الفعل للمفعول؛ لأن الغرضَ الإعلام بحصول ذلك .
ومنها : إضافة الحبِّ للشهوات ، والشهوات هي الميل والنزوع إلى الشيء .
ومنها التجنيس : القناطير المقنطرة .
ومنها : الجمع بين ما يشبه المطابقة في قوله : { الذهب والفضة } ؛ لأنهما صارا متقابلَيْن في غالبِ العُرْف .
ومنها : وصف « الْقَنَاطِيرِ » ب « الْمُقَنْطَرَةِ » الدالة على تكثيرها مع كَثْرتها في ذاتها .
ومنها : ذكر هذا الجنس بمادة « الْخَيْلِ » لما في اللفظ من الدلالة على تحسينه ، ولم يقل : الأفراس ، وكذا قوله « الأنْعَامِ » ، ولم يَقُل : الإبل والبقر والغنم؛ لأنه أخصر .
فصل
قال القرطبيُّ : قال العلماء : ذكر الله - تعالى - أربعة أصناف من المال ، كل نوع منها يتموَّل به صِنْفٌ من الناس ، أمَّا الذهب والفضة فيتموَّل به التُّجَّارُ ، وأما الخيل المسومة فيتموّل بها الملوكُ ، وأما الأنعامُ فيتموَّل بها أهلُ البوادِي ، وأما الْحَرْثُ فيتموَّل به أهل البساتين ، فتكون فتنة كل صنفٍ في النوع الذي يتموَّل به ، وأما النساء والبنون ففتنة للجميع .
قوله : { ذلك مَتَاعُ } الإشارة بذلك للمذكور المتقدم ، فلذلك وَحَّدَ اسم الإشارة والمشارُ إليه متعدد ، كقوله : { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] . وقد تقدم .
فصل
قال القاضي : وهذا يدل على أن هذا التزيين مضافٌ إلى الله تعالى؛ لأن متاعَ الدنيا إنما خُلِقَ ليُسْتَمْتَعَ بها ، والاستمتاعُ بمتاع الدنيا على وجوه :
منها : أن ينفرد به من خَصَّه الله تعالى بهذه النعم ، فيكون مذموماً .
ومنها : أن يتركَ الانتفاع به - مع الحاجة إليه - فيكون مذموماً .
ومنها : أن ينتفع به في وجه مباحٍ ، من غير أن يتوصل بذلك إلى مصالحِ الآخرةِ ، وذلك لا ممدوح ولا مذموم .
ومنها : أن ينتفع به على وَجْهٍ يتوصل به إلى مصالحِ الآخرةِ ، وذلك هو الممدوحُ .
قوله : { والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب } ، أي : الْمَرْجع ، فالمآب : مَفْعَل ، من آب ، يئوب ، إياباً ، وأوْبَةً وأيبةً ، ومآباً ، أي : رجع ، والأصل : مَأوَب ، فنُقِلَتْ حركةُ الواوِ إلى الهمزةِ الساكنة قبلَها ، فقلبت الواوُ ألفاً ، وهو - هنا - اسم مصدر ، أي : حسن الرجوع ، وقد يقع اسم مكانٍ ، أو زمان ، تقول : آب يَئُوبُ أواباً وإياباً كقوله تعالى : { إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ } [ الغاشية : 25 ] وقوله : { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً لِّلطَّاغِينَ مَآباً } [ النبأ : 21-22 ] . فإن قيل : المآب قسمان : الجنة ، وهي في غاية الحُسْن ، والنار ، وهي خالية عن الحُسْن فكيف وصف المآب المطلق بالحسن؟
فالجواب : أنَّ المقصود - بالذات - هو الجنة ، وأما النار فمقصودة بالعرض ، والمقصود من الآية التزهيد في الدنيا ، والترغيب في الآخرة؛ لأن قوله : { ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا } أي : ما يتَمتع به فيها ، ثم يذهب ولا يَبقَى ، قال - عليه السلام- : « ازهد فِي الدُّنيا يحِبَّك اللهُ » أي : في متاعِها من الجاهِ والمالِ الزائدِ على الضَّرورِيِّ والله تعالى - أعلم .
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)
قرأ نافعُ وابنُ كثير وأبو عمرو بتحقيق الأولى ، وتسهيل الثانية ، والباقون بالتحقيق فيهما ، ومَد هاتَيْن الهمزَتَيْن - بلا خلاف - قالون عن نافع ، وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر بخلاف عنهما والباقون بغير مدّ على أصولهم من تحقيق وتسهيل .
وورش على أصله من نقل حركة الهمزة الأولى إلى لام « قُلْ » .
ولا بد من ذكر اختلاف القراء في هذه اللفظة وشبهها ، وتحرير مذاهبهم؛ فإنه موضع عسير الضبط ، فنقول : الوارد من ذلك في القرآن الكريم ثلاثة مواضع - أعني همزتين ، أولاهُمَا مفتوحةُ ، والثانية مضمومة - الأول : هذا الموضع .
والثاني : { أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا } [ ص : 8 ] ، والثالث : { أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا } [ القمر : 25 ] ، والقُرَّاء فيها على خمسِ مراتب :
أحدها : مرتبة قالون ، وهي تسهيل الثانية بَيْنَ بَيْنَ ، وإدخال ألِفٍ بين الهمزتين - بلا خلاف - كذا رواه عن نافع .
الثانية : مرتبة وَرْش وابن كثير ، وهي تسهيل الثانية - أيضاً - بين بين ، من غير إدخال ألِفٍ بين الهمزتين بخلاف كذا روى ورش عن نافع .
الثالثة : مرتبة الكوفيين وابنِ ذكوان عن ابن عامر ، وهي تحقيق الثانيةِ ، من غير إدخال ألف بلا خلاف- ، كذا روى ابن ذكوان عن ابن عامر .
الرابعة : مرتبة هشام ، وهي أنه رُويَ عنه ثلاثةُ أوجه :
الأول : التحقيق ، وعدم إدخال ألف بين الهمزتين في الثلاثِ مواضِعَ .
الثاني : التحقيق ، وإدخال ألف بينهما في المواضع الثلاثة .
الثالث : التفرقة بين السور ، فيُحقق ويُقْصِر في هذه السورة ، ويُسَهِّل ويمد في السورتين الأخْرَيَيْن .
الخامسة : مرتبة أبي عمرو ، وهي تسهيل الثانية مع إدخال الألف وعدمه . وتسهيل هذه الأوجه تقدم في أول البقرة .
ونقل أبو البقاء أنه قُرِئَ : أَؤُنَبِّئكم - بواوٍ خالصةٍ بعد الهمزةِ؛ لانضمامها - وليس ذلك بالوَجْه .
وفي قوله : { أَؤُنَبِّئُكُم } التفاتٌ من الغيبة - في قوله : « للنَّاسِ » - إلى الخطاب ، تشريفاً لهم .
« بِخَيْرٍ » متعلق بالفعل ، وهذا الفعل لَمَّا لم يضمن معنى « أعلم » تعدى لاثنين ، الأول تعدى إليه بنفسه ، وإلى الثاني بالحرف ، ولو ضُمِّنَ معناها لتعدَّى إلى ثلاثة .
و « مِنْ ذَلِكُمْ » متعلق ب « خَيْر » ؛ لأنه على بابه من كونه أفعل تفضيل ، والإشارة ب « ذَلِكُمْ » إلى ما تقدم من ذكر الشهوات وتقدم تسويغ الإشارة بالمفرد إلى الجمع ، ولا يجوز أن تكون « خير » ليست للتفضيل ، ويكون المراد به خيراً من الخيور ، ويكون « مِنْ » صفة لقوله : « خَيْرٍ » .
قال أبو البقاء : « من » في موضع نَصْب بخير ، تقديره [ بما يفضل من ذلك ، ولا يجوز أن يكون صلة لخير؛ لأن ذلك يوجب أن تكون الجنة وما فيها ] مما رغبوا فيه بعضاً لِمَا زهدوا فيه من الأموال ونحوها ، وتابَعَهُ في ذلك أبو حيان .
فصل
كيفية النَّظم أنه - تعالى - لما عدَّد نِعَم الدنيا بيَّن - هنا - أن منافع الآخرة خيرٌ منها كما قال في آية أخرى : { والآخرة خَيْرٌ وأبقى } [ الأعلى : 17 ] ؛ لأن نعم الدنيا مشوبَةٌ بالأنكاد ، فانيةٌ ، ونِعَم الآخرة خالصةٌ ، باقيةٌ .
قوله : { لِلَّذِينَ اتقوا } يجوز فيه أربعة أوجهٍ :
أحدها : أنه متعلّق بخَيْرٍ ، ويكون الكلام تم هنا ، وتُرْفَع « جَنَّاتٌ » على خبر مبتدأ محذوفٍ ، تقديره هو جنات ، أي ذلك الذي هو خير مما تقدم جنات ، فالجملة بيان وتفسير للخَيْريَّة ، ومثله قوله تعالى : { قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم } [ الحج : 72 ] ، ثم قال :
{ النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ } [ الحج : 72 ] ويؤيد ذلك قراءة « جَنَّاتٍ » - بكسر التاء - على أنها بدل من « بِخَيْرٍ » فهي بيان للخير .
والثاني : أن الجارَّ خبر مقدم ، و « جَنَّاتٌ » مبتدأ مؤخر ، أو يكون « جَنَّاتٌ » فاعلاً بالجار قبله - وإن لم يعتمد - عند مَنْ يَرَى ذلك ، وعلى هذين التقديرين ، فالكلام تم عند قوله : { مِّن ذلكم } ، ثم ابتدأ بهذه الجملة ، وهي - أيضاً مبينة ومفسِّرة للخَيْرية .
وأما الوجهان الأخيران فذكرهما مكي - مع جَرِّ « جَنَّات » - يعني أنه لم يُجِز الوجهين إلا إذا جررت « جنات » بدلاً من « خَيْر » .
الوجه الأول : أنه متعلق ب « أؤثنَبِّئُكُمْ » .
الوجه الثاني : أنه صفة ل « خَيْر » .
ولا بد من إيراد نصه؛ فإن فيه غشكالاً ، قال - رحمه الله - بعد أن ذكر أن « لِلَّذِينَ » خبر مقدَّم ، و « جنات » مبتدأ - : « ويجوز الخفض في » جناتٍ « على البدل من » خَيْر « على أن تجعل اللام في » لِلَّذِينَ « متعلقةً ب » أؤُنَبِّئُكُمْ « ، أو تجعلها صفة ل » خَيْر « ، ولو جعلت اللام متعلقة بمحذوف قامت مقامه لم يجز خفض » جنات « ؛ لأن حروف الجر ، والظروف إذا تعلقت بمحذوف ، وقد قامت مقامه - صار فيها ضمير مقدر مرفوع ، واحتاجت إلى ابتداء يعود عليه ذلك الضمير ، كقولك : لزيد مال ، في الدار زيد ، خلفك عمرو ، فلا بد من رفع » جَنَّات « ، إذا تعلقت اللام بمحذوف ، ولو تعلقت بمحذوف على أن لا ضمير فيها لرفعت » جَنَّات « بفعلها ، وهو مذهب الأخفش في رفعه ما بعد الظروف وحروف الخفض بالاستقرار ، وإنما يحسن ذلك عند حذاق النحويين إذا كانت الظروف ، أو حروف الخفض صفةً لما قبلها ، فحينئذ يتمكن ويحْسُن رفعُ الاسم بالاستقرار ، وقد شرحنا ذلك وبيناه في أمثلة؛ وكذلك إذا كانت أحوالاً » .
فقد جوَّز تعلُّقَ هذه اللام ب « أؤُنَبِّئُكُمْ » أو بمحذوف على أنها صفة لخير ، بشرط أن يُجَرَّ لفظُ « جنات » على البدل من « خَيْر » وظاهره أنه لا يجوز ذلك مع رفع « جَنَّات » وعلَّل ذلك بأن حروف الجر تتعلق بمحذوف ، يحمل الضمير ، فوجب أن يُؤتَى له بمبتدأ هو « جَنَّات » وهذا الذي قاله من هذه الحيثية لا يلزم؛ إذ لقائل أن يقول : أجوز تعلق اللام بما ذكرت من الوجهين مع رفع « جَنَّات » على أنها خبر مبتدأ محذوف ، لا على الابتداء حتى يلزم ما ذكرت ولكن الوجهين ضعيفان من جهة أخرى ، وهو أن المعنى ليس واضحاً بما ذكر مع أنّ جعله صفة لخير أقوى من جعلها متعلقة ب « أؤُنَبِّئُكُمْ » ؛ إذ لا معنى له ، وقوله - في الظروف وحروف الجر - : إنها عند الحذاق إنما ترفع الفاعل إذا كانت صفات . . وكذلك إن كانت أحوالاً - فيه قصور؛ لأن هذا الحكم مستقر لها في مواضع :
منها : الموضعان اللذان ذكرهما .
وثالثها : أن يقعا صلة .
ورابعها : أن يقعا خبراً لمبتدأ .
وخامسها : أن تعتمد على نقي .
وسادسها : أن تعتمد على استفهام . وقد تقدم تحرير هذا .
فصل
قد بيَّنا في قوله تعالى : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] معنى التقوى ، وبالجملة فإن المتقي هو الآتي بالواجبات ، المتحرز عن المحظورات .
وقيل : التقوى عبارة عن اتقاء الشرك؛ لأن التقوى - في عُرْف القرآن - مختصة بالإيمان . قال تعالى : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى } [ الفتح : 26 ] ، وظاهر اللفظ يطابق الامتنان بحقيقة التقوى ، وهي حاصلةٌ عند حصولِ اتقاء الشرك وعرف القرآن مطابق لذلك ، فوجب حملُه على مَن اتقى الكفر :
قوله : { عِندَ رَبِّهِمْ } فيه أربعة أوجهٍ :
أحدها : أنه في محل نصب على الحال من « جَنَّات » ؛ لأنه - في الأصل - صفة لها ، فلما قُدِّم نصب حالاً .
الثاني : أنه متعلق بما تعلق به « لِلَّذِينَ » من الاستقرار ، إذَا جعلناه خبراً ، أو رافعاً « جَنَّاتٌ » بالفاعلية ، أما إذا علقته ب « خَيْر » أو « أؤنَبَّئُكُمْ » فلا؛ لعدم تضمينه الاستقرار .
الثالث : أن يكون معمولاً ل « تَجْرِي » ، وهذا لا يساعد عليه المعنى .
الرابع : أنه متعلق ب « خَيْر » ، كما تعلق به « لِلَّذِينَ » ، كما تقدم .
ويضعف أن يكون الكلام قد تم عند قوله : { لِلَّذِينَ اتقوا } ثم يُبْتَدَأ بقوله : { عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ } - على الابتداء والخبر - وتكُون الجملة مبيِّنة ومفسِّرة للخيرية ، كما تقدم في غيرها . وقرأ يعقوب « جَنَّاتٍ » بكسر التاء - وفيه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنها بدل من لفظ « بِخَيْر » فتكون مجرورة ، وهي بيان له - كما تقدم .
الثاني : أنها بدل من محل « بِخَيْر » - ومحله النصب - وهو في المعنى كالأول .
الثالث : أنه منصوب بإضمار « أعني » ، وهو نظير الوجه الصائر إلى رفعه على خبر ابتداء مضمر .
قوله : « تَجْرِي » صفة لِ « جَنَّات » ، فهو في محل رفع ، أو نصب ، أو جر - على حسب القراءتين ، والتخاريج فيهما - و « مِنْ تَحْتِهَا » متعلق ب « تَجْرِي » وجوز فيه أبو البقاء أن يتعلق بمحذوفٍ على أنه حال من « الأنهار » قال : أي : تجري الأنهار كائنةً تحتها ، وهذا يشبه تهيئة العامل للعمل في شيء وقطعه عنه .
قوله : { خَالِدِينَ } حال ، وصاحبها الضمير المستكن في « لِلَّذِينَ » والعامل فيها - حينئذ - الاستقرار المقدَّر .
وقال أبو البقاء : « إن شئت من الهاء في : تَحْتِهَا » ، وهذا الذي ذكره - إنما يتمشى على مذهب الكوفيين ، وذلك أن جعلها حالاً من الهاء في تحتها يؤدي إلى جريان الصفة على غير من هي له في المعنى؛ لأن الخلود من أوصاف الجنة ولذلك جمع هذه الحال جمع العقلاءِ ، فكان ينبغي أن يُؤتَى بضمير مرفوع بارز ، هو الذي كان مستتراً في الصفة نحو : زيد هند ضاربها هو ، والكوفيون يقولون : إن أمِنَ اللبس - كهذا - لم يجب بروز الضمير ، وإلا يجب ، والبصريون لا يفرقون . وتقدم البحث في ذلك .
قوله : { وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ } « من رفع » جَنَّاتٌ « - كما هو المشهور - كان عطف » أزْواجٌ « و » رِضْوانٌ « سَهْلاً ، ومَنْ كَسَر التاء فيجب - حينئذ - على قراءته أن يكون مرفوعاً على أنه مبتدأ خبره مضمر ، تقديره : ولهم أزواجٌ ، ولهم رضوان ، وتقدم الكلام على » أزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ « في البقرة .
فصل
اعلم أن النعمة - وإن عَظُمَت - لن تكمل إلا بالأزواج اللواتي لا يحصل الأنْس إلاَّ بِهِنَّ وقد وصفهن بصفة واحدةٍ جامعةٍ لكل مطلوب ، فقال : » مُطَهَّرَةٌ « فيدخل في ذلك الطهارة من الحيض والنفاس والأخلاق الدنيئة ، والقُبْح ، وتشويه الخِلْقة ، وسوء العِشرة ، وسائر ما ينفر عنه الطبع .
قوله : » وَرِضْوَان « فيه لغتان :
ضم الراء ، وهي لغة تميم وقيس ، وبها قرأ عاصم في جميع القرآن إلا في الثانية من سورة المائدة وهي { مَنِ اتبع رِضْوَانَه } [ المائدة : 16 ] ، فبعضهم نقل عنه الجَزْم بكسرها ، وبعضهم نقل عنه الخلافَ فيها خاصة .
والكسر ، وهو لغة الحجاز ، وبها قرأ الباقون - وهل هما بمعنى واحد ، أو بَينهما فرقٌ؟
قولان :
أحدهما : أنهما مصدران بمعنى واحد - كالعُدْوان .
قال الفرّاء : » رَضِيتُ رِضاً ، ورِضْوَاناً ورُضْواناً ، ومثل الرِّضْوَان - بالكسر - الحِرْمان ، وبالضم الطُّغْيَان ، والرُّجحان ، والكُفْران ، والشُّكْران « .
الثاني : أن المكسور اسم ، ومنه رِضوان : خازن الجنة صلّى الله على نبينا وعلى أنبيائه وملائكته .
والمضموم هو المصدر ، و « مِنَ اللهِ » صفة لِ « رِضْوَان » .
فصل
روى أبو سعيد الخدري أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : « إنَّ اللهَ يَقُولُ لأهْلِ الْجَنَّةِ يَا أهْلَ الْجَنَّةِ ، فَيَقُولُونَ : لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ ، فَيَقُولُ : هَلْ رَضِيْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ : وَمَا لَنَا لا نَرْضَى وَقَدْ أعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أحَداً مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ : ألاَ أعْطِيكُمْ أفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ : يَا رَبِّ ، وَأيُّ شَيءٍ أفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ : أحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي ، فَلاَ أسْخَطْ عَلَيْكُمُ بَعْدَهُ أبَداً » .
ثم قال : « وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ » ، أي : عالم بمصالحهم ، فيجب أن يَرْضَوْا لأنفسهم ما اختاره لهم .
قوله تعالى : { الذين يَقُولُونَ } يحتمل أن يكون محلُّه الرفعَ ، والنصبَ ، والجرَّ ، فالرفع من وجهينِ :
أحدهما : أنه مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : الذين يقولون كذا مستجاب لهم ، أو لهم ذلك الجزاء المذكور .
الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف ، كأنه قيل : مَنْ هُمْ هؤلاء المتقون؟ فقيل : الذين يقولون كيت ، وكيت .
والنصب من وجه واحدٍ ، وهو النصب بإضمار أعني ، أو أمدح ، وهو نظير الرفع على خبر ابتداء مضمر ، ويُسَمَّيَان : الرفع على القطع ، والنصب على القطع .
والجر من وجهين :
أحدهما : النعت .
والثاني : البدل ، ثم لك - في جعله نَعْتاً أو بَدَلاً - وجهان :
أحدهما : جعله نعتاً لِلَّذِينَ اتَّقَوا ، أو بدلاً منه .
والثاني : جعله نعتاً للعباد ، أو بدلاً منهم .
واستضعف ابو البقاء جعله نعتاً للعباد ، قال : [ ويضعف أن يكون صفةً للعباد ] ؛ لأن فيه تخصيصاً لعلم اللهِ ، وهو جائز - على ضعفه - ويكون الوجه فيه إعلامهم بأنه عالم بمقدار مشقتهم في العبادة ، فهو يُجازيهم عليها ، كما قال : { والله أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم } [ النساء : 25 ] .
والجملة من قوله : { والله بَصِيرٌ } يجوز أن تكون معترضة ، لا محل لها ، إذا جعلتَ « الَّذِينَ يَقُولُونَ » تابعاً لِ « الَّذِينَ اتَّقَوا » - نعتاً أو بدلاً- ، وإن جعلته مرفوعاً ، أو منصوباً فلا .
فصل
اعلم أن قولَهم { رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا } يدل على أنهم توسَّلوا بمجرد الإيمان إلى طلب المغفرة ، والله - تعالى - مدحهم بذلك ، وأثْنَى عليهم ، فدلَّ هذا على أن العبد - بمجرد الإيمان - يستوجب الرحمةَ والمغفرةَ من الله تعالى ، ويؤيِّدُ هذا قولُه تعالى : { رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار } [ آل عمران : 193 ] .
فإن قيل : أليس أنه تعالى اعتبر جملة الطاعات في حصول المغفرة؛ حيث أتبع هذه الآية بقوله : { الصابرين والصادقين } ؟
فالجواب : أن هذه الآيةَ تؤكد ما قلنا؛ لأنه - تعالى - جعل مجردَ الإيمانِ وسيلةً إلى طَلَب المغفرة ، ثم ذكر بعده صفاتِ المطيعين ، وهي كونهم صابرين صادقين ، ولو كانت هذه الصفات شرائطَ للحصول على المغفرة لكان ذِكرُها قبل طَلَب المغفرة أولى ، فلما رتَّب طلب المغفرة على مجرد الإيمان ، ثم ذكر بعده هذه الصفاتِ ، علمنا أن هذه الصفاتِ غيرُ معتبرة في حصول أصل المغفرة ، وإنما هي مُعْتَبَرَة في حصول كمال الدرجات .
قوله تعالى : { الصابرين } إن قدرت { الذين يَقُولُونَ } منصوبَ المحل ، أو مجروره - على ما تقدم - كان « الصَّابِرِينَ » نعتاً له - على كلا التقديرين ، فيجوز أن يكون في محل نصب ، وأن يكون في محل جر ، وإن قدرته مرفوعَ المحل تعين نَصْب « الصَّابِرِينَ » بإضمار « أعني » .
فصل
المراد بالصابرين في أداء المأمورات ، وترك المحظورات ، وعلى البأساء ، والضراء وحين البأس ، والصادقين في إيمانهم .
قال قتادة : « هم قوم صدقت نِيَّاتُهم ، واستقامت قلوبُهم وألسنتُهم ، فصدقوا في السر والعلانية » .
فالصدق يجري على القول والفعل والنية ، فالصدق في القول مشهور - وهو تجنُّب الكذب - والصدق في الفعل الإتيان به تاماً ، يقال : صدق فلان في القتال ، وصدق في الحكمة ، والصدق في النية العزم الجازم حتى يبلغَ الفعلَ .
« القانِتِينَ » المطيعين ، المُصَلِّين ، والقنوت : عبارة عن الدوام على الطاعة والمواظبة عليها ، « والمنفقين » أموالهم في طاعة الله ، ويدخل فيه إنفاق المرء على نفسه ، وأهله ، وأقاربه ، وصلة رحمه ، وفي الزكاة ، والجهاد ، وسائر وجوه البر .
{ والمستغفرين بالأسحار } .
قال مجاهدٌ وقتادة والكلبيُّ : يعني المصلين بالأسحار .
وعن زيد بن أسلم : هم الذين يصلون الصبحَ في جماعةٍ .
وقال الحسنُ : مدوا الصلاة إلى السَّحَر ، ثم استغفروا .
وقال نافع : كان ابن عمر يُحْيِي الليل ، ثم يقول : يا نافِعُ ، أسْحَرْنَا؟ فيقول : لا ، فيعاوِدُ الصلاةَ ، فإذا قلتُ : نَعَمْ ، قعد يستغفر اللهَ ، ويدعو حتى يُصْبحَ .
وعن أبي هريرةَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يَنْزِلُ اللهُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةِ - حِينَ يبقى ثُلُثُ اللَّيْلِ - فَيَقُولُ : أَنَا الْمَلِكُ ، أنا الْملِكُ ، مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَن ذَا الَّذِي يَسْالُنِي فَأُعْطِيهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأغْفِرَ لَهُ؟ » رواه مسلم .
قال القرطبيُّ : وقد اختلف في تأويله ، وأوْلى ما قيل فيه ما جاء في كتاب النسائي - مفسَّراً - عن أبي هريرة وأبي سعيد - رضي الله عنهما - قالا : قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : « إن الله - عز وجل - يُمْهلُ حَتَّى يَمْضِيَ شَطْرُ اللَّيْلِ الأوَّلُ ، ثُمَّ يَأمرُ مُنَادِياً ، يَقُولُ : هَلْ مِن دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى؟ » ، صححه أبو محمد عبدُ الحق ، وهو يرفع الإشكال ، ويوضِّح كلَّ احتمال ، وأن الأول من باب حذف المضاف ، أي : ينزل مَلَكُ رَبِّنَا ، فيقول . وقد رُوِيَ « يُنْزَلُ » - بضمِّ الياءِ - وهو يُبَيِّن ما ذكرنا .
وحكي عن الحسن أن لُقْمانَ قال لابنه : « لاَ تَكُونَنَّ أعْجَزَ مِنْ هَذَا الدِّيكِ؛ يُصَوِّتُ بالأسْحَارِ وَأنْتَ نَائِمٌ عَلَى فِرَاشِكَ » .
واعلم أن وقت السَّحَر أطيبُ أوقاتِ النومِ ، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة ، وأقبل على العبوديةِ ، كانت الطاعة أكملَ ، وأشقَّ ، فيكثر ثوابُها ، وأيضاً فإن النوم هو الموت الأصغر ، وعند السحر كأنّ الأموات تصير أحياءً ، فيكون وقتاً للوجود العام .
و « الأسْحَار » جمع سَحَرٍ - بفتح العين وسكونها - واختلف أهلُ اللغة في السَّحَرِ ، ايُّ وقت هو؟
فقال الزّجّاج وجماعة : إنه وقتٌ قبلَ طلوعِ الفجر ، ومنه تسحر ، أي : أكل في ذلك الوقت واسْتَحَرَ- إذا سافر فيه- .
قال زُهَيْر : [ الطويل ]
1364 - بَكَرْنَ بُكُوراً ، وَاسْتَحَرْنَ بِسُحْرَةٍ ... فَهُنَّ لِوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفمِ
وقال الرَّاغب : « السَّحَر : اختلاط ظلام آخرِ الليل بضياءِ النهارِ ، وجُعِل اسماً لذلك الوقت ، ويقال : لَقِيتُه بأعلى السحرين ، والْمُسْحِر : الخارج سَحَراً ، والسّحور : اسم للطعام المأكول سَحَراً ، والتَّسَحُّر : أكلُه » .
والمُسْتَحِر : الطائر الصيَّاح في السَّحَر .
قال الشاعر : [ المتقارب ]
1365 - يُعَلُّ بِهِ بَرْدُ أنْيَابِهَا ... إذَا غَرَّدَ الطَّائِرُ الْمُسْتَجِرْ
وقال بعضهم : أسْحَر الطائرُ ، أي : صاح ، وتحرك في صياحه ، وأنشد البيت ، وهذا وإن كان مطلقاً فإنما يريد ما ذكر بالصياح في السَّحر ، ويقال : أسْحَر الرجلُ إذا دَخَل في وقت السحر كأظهر - أي : دخل في وقت الظهر .
قال : [ المتقارب ]
1366 - وَأدْلجَ مِن طَيْبَة مُسْرِعاً ... فَجَاءَ إلَيْنَا وَقَدْ أسْحَرَ
ومثله : استحر أيضاً .
وقال بعضهم : السَّحَرُ من ثُلُث الليل الأخير إلى طلوع الفجر .
وقال بعضهم - أيضاً - : السحر - عند العرب - من آخر الليل ، ثم يستمر حكمه إلى الإسفار كلِّه ، يقال له سحر قيل : وسمي السحر سحراً؛ لخفائه ، ومنه قيل للسِّحْرِ سِحْرٌ؛ للُطْفِهِ وخفائه .
والسَّحْر - بسكون الحاء - منتهى قصبة الرّكبة ، ومنه قول عائشة - رضي الله عنها - : « مَاتَ بَيْنَ سَحْري وَنَحْري » سُمِّي بذلك لخفائه .
و « سَحَر » فيه كلام كثير بالنسبة إلى الصرْف وعدمه ، والتصرف وعدمه ، والإعراب وعدمه ، يأتي تفصيله - إن شاء الله تعالى - .
فإن قيل : كيف دخلت الواوُ على هذه الصفاتِ ، وكلُّها لقبيل واحد؟ ففيه جوابان :
أحدهما : أن الصفاتِ إذا تكرَّرَت جاز أن يُعْطَف بعضُها على بعض بالواو - وإن كان الموصوف بها واحداً - ، ودخول الواو - في مثل هذا - تفخيم؛ لأنه يُؤذِن بأن كل صفة مستقلة بالمدح .
الثاني : أن هذه الصفات متفرقة فيهم ، فبعضُهم صابر ، وبعضُهم صادق ، فالموصوف بها متعدِّد . هذا كلام أبي البقاء .
وقال الزمخشريُّ : « الواو المتوسطة بين الصفاتِ للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها » .
قال ابو حيّان : « ولا نعلم أن العطف في الصفة بالواو يدل على الكمال » .
قال شهاب الدين : « قد علمه علماء البيان ، وتقدم تحقيقه في أول سورة البقرة ، وما أنشدته على ذلك من لسان العرب » .
والباء في قوله : « بِالأسْحَارِ » بمعنى « في » .
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
العامة على « شَهِدَ » فعلاً ماضياً ، مبنيًّا للفاعل ، ولفظ الجلالة رَفْع به .
وقرأ أبو الشعثاء : « شُهِدَ » مبنيًّا للمفعول ، ولفظ الجلالة قائِم مقام الفاعل ، وعلى هذه القراءة يكون « أنَّهُ لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ » في محل رفع؛ بدلاً من اسم « اللهُ » - بدل اشتمال ، تقديره : شُهِدَ وحدانيةُ الله - تعالى - وألوهيتهُ .
ولما كان المعنى على هذه القراءة كذلك أشكل عطف الملائكة ، وأولي العلم على لفظ الجلالة ، فخُرِّج ذلك على عدم العطف ، بل إما على الابتداء ، والخبر محذوف؛ لدلالة الكلام عليه ، تقديره : والملائكة ، وأولو العلم يشهدون بذلك ، يدل عليه قوله تعالى : { شَهِدَ الله } ، وإما على الفاعلية بإضمار محذوف ، تقديره : وشَهِدَ الملائكةُ ، وأولو العلم بذلك ، وهو قريب من قوله تعالى : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال } [ النور : 36 ] ، في قراءة مَنْ بناه للمفعول .
وقوله : [ الطويل ]
1367 - لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ ... وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ
وقرأ أبو المهلَّب : « شُهَدَاءَ اللهِ » جمعاً على فُعَلاَء - كظُرفاءَ - منصوباً ، ورُوِيَ عنه وعن أبي نُهَيْك كذلك إلا أنه مرفوع ، وفي كلتا القراءتين مضاف للفظ الجلالة ، فأما النصب فعلى الحال ، وصاحبها هو الضمير المستتر في « الْمُسْتَغْفِرِينَ » .
قال ابنُ جني ، وتبعه الزمخشريُّ ، وأبو البقاء : وأما الرفع فعلى إضمار مبتدأ ، أي : هم شهداءُ الله .
وشهداء : يُحْتَمل أن يكون جمع شاهد - كشاعر وشُعَراء - وأن يكون جمع شهيد كظريف وظُرفاء . وقرأ أبو المهلب - أيضاً - : « شُهُداً الله » - بضم الشين والهاء والتنوين ونصب لفظ الجلالة وهو منصوب على الحال؛ جمع شهيد - كنذير ونُذُر - واسم « الله » منصوب على التعظيم أي يشهدون الله ، أي : وحدانيته .
وروى النقاش أنه قرأ كذلك ، إلاّ أنه قال : برَفْع الدال ونصبها ، والإضافة للَفْظ الجلالة ، فالرفع والنصب على ما تقدم في « شُهَدَاءَ » ، وأما الإضافة ، فيحتمل أن تكون محضة ، بمعنى أنك عرفتهم إضافتهم إليه من غير تعرض لحدوث فعل ، كقولك : عباد الله ، وأن يكون من نصب كالقراءة قبلها فتكون غير محضة .
ونقل الزمخشريُّ أنه قُرِئ « شُهَدَاء لله » جمعاً على فُعَلاَء ، وزيادة لام جر داخلة على اسم الله ، وفي الهمزة النصب والرفع ، وخرجهما على ما تقدم من الحال والخبر ، وعلى هذه القراءات كلها ففي رفع « الْمَلاَئِكَةِ » وما بعدها ثلاثة أوجه :
أحدها : الابتداء ، والخبر محذوف .
والثاني : أنه فاعل بفعل مقدر .
الثالث : - ذكره الزمخشريُّ - وهو النسق على الضمير المستكن في « شَهِدَ اللهُ » ، قال : « وجاز ذلك لوقوع الفاصلِ بينهما » .
قوله : « أنَّهُ » العامة على فَتح الهمزة ، وإنما فُتِحَت؛ لأنها على حذف حرف الجر ، أي : شهد الله بأنه لا إله إلا هو ، فلما حذف الحرف جاز أن يكون محلها نصباً ، وأن يكون محلها جَرًّا .
وقرأ ابن عباس « إنَّهُ » - بكسر الهمزة - وفيها تخريجان :
أحدهما : إجراء « شَهِدَ » مُجْرَى القولن لأنه بمعناه ، وكذا وقع في التفسير : شهد الله اي : قال الله ، ويؤيدَه ما نقله المؤرِّجُ من أن « شَهِد » بمعنى « قال » لغة قيس بن عيلان .
الثاني : أنها جملة اعتراض - بين العامل - وهو شَهِد - وبين معموله - وهو قوله : إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلاَمُ « ، وجاز ذلك لِما في هذه الجملةِ من التأكيد ، وتقوية المعنى وهذا إنما يتجه على قراءة فتح » أنَّ « من » أنَّ الدِّينَ « ، وأما على قراءة الكسر فلا يجوز ، فتعيَّنَ الوجهُ الأول .
والضمير في » أنَّهُ « يحتمل العود على الباري؛ لتقدم ذكره ، ويحتمل أن يكون ضميرَ الأمر ، ويؤيِّدُ ذلك قراءةُ عبد الله : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } ف » أنْ « مخفَّفة في هذه القراءة ، والمخففة لا تعمل إلا في ضمير الشأن - ويُحْذَف حينئذ - ولا تعمل في غيره إلا ضرورة [ وأدغم أبو عمرو بخلاف عنه واو هُوَ في واو النسق بعدها ، وقد تقدم تحقيق هذه المسألة عند قوله : » هُوَ وَالَّذِينَ ىمَنُوا مَعَه « ] .
فصل
قال سعيدُ بنُ جُبَيْر : كان حَوْلَ البيت ثلاثمائةٍ وستون صَنَماً ، فلما نزلت هذه الآية خَرَرْنَ سُجَّداً .
وقيل : نزلت هذه الآية في نصارى نجران .
وقال الكلبيُّ : قدم حَبْران من أحبار الشام على النبي صلى الله عليه وسلم فلما أبْصَرَ المدينةَ قال أحدهما : ما أشبه هذه المدينةَ بصفة مدينةِ النبيّ الذي يخرج في آخر الزمان؟ فلما دخَلاَ عليه عرفاه بالصفة ، فقالا له : أنت محمد؟ قال : نعم ، قالا : وأنت أحمد؟ قال : أنا محمد وأحمد ، قال : فإنا نسألك عن شيء ، فإن أخبرتنا به آمَنَّا بك ، وصدقناك ، فقال : سَلاَ ، فقالا : أخبرنا عَنْ أعظم شهادة في كتاب الله عز وجل ، فأنزل الله هذه الآيةَ ، فأسلم الرجلان .
فصل
قال بعض المفسرين : شهد الله ، أي : قال .
وقيل : بَيَّن الله؛ لأن الشهادة تبيين .
وقال مجاهد : حَكَم الله .
وقيل : أعْلَمَ الله أنه لا إله إلا هو .
فإن قيل : المدَّعِي للوحدانية هو الله - تعالى - فكيف يكون المدَّعِي شاهداً؟
فالجوابُ من وجوهٍ :
أحدها : ما تقدم من أن » شَهِدَ « بمعنى » قال « أو » بَيَّن « أو » حَكَم « .
الثاني : أن الشاهدَ الحقيقي ليس إلا الله - تعالى -؛ لأنه الذي خلق الأشياءَ ، وجعلها دلائلَ على توحيده ، فلولا تلك الدلائلُ لم يتوصل أحد إلى معرفته بالوحدانيةِ ، فهو - تعالى وفقهم ، حتى أرشدهم إلى معرفة التوحيد ، وإذا كان كذلك كان الشاهد على الوحدانيةِ هو الله تعالى ، ولهذا قال :
{ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله شَهِيد } [ الأنعام : 19 ] .
الثالث : أنه الموجود - أزلاً وأبداً - وكل ما سواه فقد كان في الأزل عدماً صِرْفاً ، والعدم غائب ، والموجود حاضر ، وإذا كان ما سواه - في الأزل - غائباً ، وهو - تعالى - حاضر فبشهادته صار شاهداً ، فكان الحق شاهداً على الكل ، فلهذا قال : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } .
فصل
تقدم أن شهادة اللهِ الإخبار والإعلام ، ومعنى شهادة الملائكة والمؤمنين الإقرار والمراد بأولي العلم ، قيل : الأنبياء - عليهم السلام- .
قال ابنُ كَيْسَان : يعني المهاجرين والأنصار .
وقال مقاتل : علماء مؤمني أهل الكتاب ، كعبد الله بن سلام وأصحابه .
قال السُّديُّ والكلبيُّ : يعني جميع المؤمنين الذين عرفوا وحدانية الله - تعالى - بالدلائل القاطعة؛ لأن الشهادة إنما تكون مقبولة ، إذا كان الإخبار بها مقروناً بالعلم ، ولذلك قال - عليه السلام - : « إذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ » .
فإن قيل : إذا كانت شهادةُ الله عبارةً عن إقامة الدلائل ، وشهادة الملائكة ، وأولي العلم عبارة عن الإقرار ، فكيف جمعهما في اللفظ؟
فالجواب : أن هذا ليس ببعيد ، ونظيره قوله - تعالى : { إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي } [ الأحزاب : 56 ] ، ومعلوم أن الصلاة من الله تعالى الرحمة - كما ورد - ومن الملائكة الدعاء ، ومن المؤمنين الاستغفار ، وقد جمعهما في اللفظ .
فصل
دلّت هذه الآيةُ على فَضْل العلم وشرف العلماء؛ فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنه الله باسمه واسم ملائكته ، كما قرن الله اسم العلماء ، وقال تعالى - لنبيه- : { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } [ طه : 114 ] ، فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله - تعالى - نبيَّه المزيد منه ، كما أمره أن يستزيد من العلم .
وقال عليه السلام : « الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأنْبِيَاءِ » ، وقال : « العُلمَاءُ أمناء اللهِ عَلَى خَلْقِهِ » [ وهذا شرف للعلماء عظيم ، ومحل لهم في الدين خطير ] .
قوله تعالى : { قَآئِمَاً بالقسط } في نَصْبه أربعة أوجه :
أحدها : أنه منصوب على الحال ، واختلفوا في ذلك؛ فبعضهم جعله حالاً من اسم « اللهُ » ، فالعامل فيها « شَهِدَ » .
قال الزمخشري : وانتصابه على أنه حال مؤكِّدة منه ، كقوله تعالى : { وَهُوَ الحق مُصَدِّقا } [ البقرة : 91 ] .
قال أبو حيّان : وليس من باب الحال المؤكدة؛ لأنه ليس من باب { وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } [ مريم : 15 ] ولا من باب : أنا عبد الله شجاعاً فليس « قَائِماً بِالْقِسْطِ » بمعنى « شَهِدَ » وليس مؤكداً مضمونَ الجملة السابقة في نحو : أنا عبد الله شجاعاً ، وهو زيد شجاعاً ، لكنْ في هذا التخريج قلقٌ في التركيب؛ يصير كقولك : أكل زيدٌ طعاماً وعائشةُ وفاطمةُ جائعاً ، ففصل بين المعطوف عليه ، والمعطوف بالمفعول ، وبين الحال وصاحبه بالمفعول ، والمعطوف ، لكن يمشيه كونها كلُّها معمولةٌ لعاملٍ واحدٍ .
قال شهاب الدينِ : مؤاخذته له في قوله « مؤكِّدة » غير ظاهرةٍ ، وذلك أن الحالَ على قسمين :
إما مؤكدة ، وإما مبيِّنة - وهي الأصل - فالمبيِّن ةلا جائز أن تكون ههنا؛ لأن المبيّنة منتقلة ، والانتقال - هنا - محال؛ إذْ عَدْلُ الله - تعالى - لا يتغير .
وقيل : لنا قسم ثالث - وهي الحال اللازمة - فكان للزمخشري مندوحة عن قوله : « مؤكِّدة » وعن قوله « لازمة » .
فالجواب : أن كل مؤكِّدة لازمة ، فلا فرق بين العبارتين - وإن كان الشيخ زعم أن إصلاح العبارة يحصل بقوله : لازمة - ويدل على ما ذكرته من ملازمة التأكيد للحال اللازمة وبالعكس الاستقراء وقوله : ليس معنى « قَائِماً بِالْقِسْطِ » معنى « شَهِدَ » ممنوع ، بل معنى : « شَهِدَ » مع متعلَّقِهِ هو { أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } - مساوٍ لقوله : « قَائِماً بِالْقِسْطِ » ؛ لأن التوحيد ملازمٌ للعدل .
قال الزمخشريُّ : « فإن قلتَ : لِمَ جاز إفراده بنصب الحال دون المعطوفَيْن عليه ، ولو قلتَ : جاءني زيدٌ وعمرو راكباً لم يَجُزْ؟
قلتُ : إنما جاز هذا؛ لعدم الإلباس ، كما جاء في قوله تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [ الأنبياء : 72 ] - إن انتصب » نَافِلَةً « حالاً عن يعقوب ، ولو قلت : جاءني زيد وهند راكباً ، جاز؛ لتميزه بالذكورة » .
قال أبو حيّان : « وما ذَكَرَ من قوله : جاءني زيد وعمرو راكباً ، أنه لا يجوز ليس كما ذكر ، فهذا جائز؛ لأن الحال قَيْدٌ فيمن وقع منه أو به الفعل ، أو ما أشبه ذلك ، وإذا كان قَيْداً فإنه يُحْمَل على أقرب مذكور؛ ويكون » راكباً « حالاً مما يليه ، ولا فرق في ذلك بين الحال والصفة لو قلت : جاءني زيد وعمرو الطويل ، لكان » الطويل « صفة لعمرو ، ولا تقول : لا تجوز هذه المسألة؛ لأنه يلبس ، بل لا لبس في هذا ، وهو جائز ، فكذلك الحال ، وأما قوله : إن » نَافِلَة « انتصب حالاً عن » يعقوب « فلا يتعين أن يكون حالاً عن يعقوب؛ إذ يحتمل أن يكون » نَافِلَةً « مصدراً - كالعاقبة والعافية - ومعناه زيادة ، فيكون ذلك شاملاً إسحاق ويعقوب؛ لأنهما زِيدا لإبراهيم بعد ابنه إسماعيل وغيره » .
قال شهاب الدينِ : « مراد الزمخشريِّ بمنع جاءني زيد وعمرو راكباً إذا أريد أن الحال منهما معاً ، أما إذا أُريد أنها حال من واحد منهما فإنما يُجْعَل لِما يليه؛ لعَوْد الضمير على أقرب مذكور » .
وبعضهم جعله حالاً من « هُوَ » .
قال الزمخشريُّ : فإن قلتَ : قد جعلته حالاً من فاعل « شَهِدَ » فهل يصح أن ينتصب حالاً عن « هو » في « لا إلَهَ إلاَّ هُوَ » ؟
قلتُ : نعم؛ لأنها حالٌ مؤكِّدةٌ ، والحال المؤكدة لا تستدعي أن يكون في الجملة - التي هي زيادة في فائدتها - عامل فيها ، كقولك : « أنا عبد الله جاعاً » ، يعني : أن الحال المؤكِّدة لا يكون العامل فيها النصب شَيْئاً من الجملة السابقة قبلها ، إنما تنتصب بعامل مضمر ، فإن كان المتكلم مُخْبِراً عن نفسه ، نحو أنا عبد الله شجاعاً قدرته : أحُقَّ - مبنياً للمفعول - شجاعاً ، وإن كان مُخبراً عن غيره قدرته - مخبراً عن الفاعل - نحو هذا عبد الله شجاعاً أي : أحقه ، هذا هو المذهب المشهور في نَصْب مثل هذه الحال ، وفي المسألة قولٌ ثانٍ - لأبي إسحاق - أن العامل فيها هو خبر المبتدأ؛ لِمَا ضُمِّنَ مِنْ مَعْنَى المشتق؛ إذْ هو بمعنى المُسَمَّى ، وقول ثالث أن العامل فيها المبتدأ؛ لما ضُمِّن من معنى التنبيه وهي مسألة طويلة .
وبعضم جعله حالاً من الجميع على اعتبار كل واحدٍ قائماً بالقسط ، وهذا مناقض لما قاله الزمخشري من أن الحال مختصة بالله - تعالى - دون ما عُطِف عليه ، وهذا المذهب مردود بأنه لو جاز ذلك لجاز : جاء القوم راكباً ، أي : كل واحد منهم « راكباً » والعربُ لا تقول ذلك ألبتة ففسد هذا ، فهذه ثلاثة أوجهٍ في صاحب الحال .
الوجه الثاني من أوجه نصب قائماً : نصبه على النعت للمنفي ب « لا » كأنه قيل : لا إله قائماً بالقسط إلا هو .
قال الزمخشريُّ : « فإن قلتَ : هل يجوز أن يكون صفةً للمنفي ، كأنه قيل : لا إله قائماً بالقسط إلاَّ هو؟
قلتُ : لا يَبْعد؛ فقد رأيناهم يتسعون في الفصل بين الصفة والموصوف » ثم قال : « وهو أوجه من انتصابه عن فاعل » شَهِدَ « ، وكذلك انتصابه على المدح » .
قال أبو حيّان « : » وكأن الزمخشريَّ قد مثل في الفصل بين الصفة والموصوف بقوله : لا رجل إلا عبد الله شجاعاً ، . . . وهذا الذي ذكره لا يجوز؛ لأنه فصل بين الصفة والموصوف بأجنبي وهو المعطوفان اللذان هما { والملائكة وَأُوْلُواْ العلم } ، وليسا معمولَيْن لشيءٍ من جملة { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } ، بل هما معمولان ل « شَهِدَ » ، وهو نظير : عرف زيدٌ أنَّ هِنْداً خَارِجَةٌ وعمرو وجَعْفَرٌ التميميَّةَ ، فيفصل بين « هند » و « التميمية » بأجنبي ليس داخلاً في خبر ما عمل فيها ، وذلك الأجنبي هو « عمرو وجعفر » المرفوعان المعطوفان ب « عرف » - على زيد ، وأما المثال الذي مَثَّل به ، وهو : لا رجل إلا عبد الله شجاعاً ، فليس نظير تخريجه في الآية؛ لأن قولك : إلا عبد الله ، بدل على الموضع من « لا رجل » ، فهو تابع على الموضع ، فليس بأجنبي على أنَّ في جواز هذا التركيب نظراً؛ لأنه بدل ، و « شجاعاً » وصف ، والقاعدة : أنه إذا اجتمع البدل والوصف قُدِّم الوصف على البدل ، وسبب ذلك أنه على نية تكرار العامل - على الصحيح - فصار من جملة أخْرَى على هذا المذهب « .
الوجه الثالث : نصبه على المدح .
قال الزمخشري : فإن قلت : أليس من حق المنتصب على المدح أن يكون معرفة ، كقولك : الحمدُ للهِ الحميدَ ، « إنَّا - مَعْشَرَ الأنْبِيَاءِ - لا نُورَثُ » ، وقوله : [ البسيط ]
1368 - إنَّا - بَنِي نَهْشَلٍ - لا ندعِي لأبٍ .. .
قلتُ : قد جاء نكرةً كما جاء معرفةً ، وأنشد سيبويه - مما جاء منه نكرة - قول الْهُذَلِيّ : [ المتقارب ]
1369 - وَيَأوِي إلَى نِسْوَةٍ عُطَّلٍ ... وَشُعْثاً مَرَاضِيعَ مِثْلَ السَّعَالِي
قال أبو حيان : « انتهى هذا السؤال وجوابه ، وفي ذلك تخليط؛ وذلك أنه لم يُفَرِّقُ بين المنصوب على المدح ، أو الذم ، أو الترحم ، وبين المنصوب على الاختصاص ، وجعل حكمَها واحداً ، وأوْرَد مثالاً من المنصوب على المدح ، وهو الحمد لله الحميدَ ، ومثالَيْن من المنصوب على الاختصاص ، وهما : » إنَّا - مَعْشَرَ الأنْبِيَاءِ - لا نُورَثُ « ، وقوله : » إنَّا - بَنِي نهشل - لا ندَّعِي لأب « والذي ذكره النحويون أن المنصوبَ على المدح أو الذم أو الترحُّم ، قد يكون معرفة ، وقبله معرفة - يصلح أن يكون تابعاً لها ، وقد لا يصلح - وقد يكون نكرةً وقبله معرفة ، فلا يصلح أن يكون نعتاً لها .
نحو قول النابغة :
1370 - أقَارعُ عَوْفٍ ، لا أحَاوِلُ غَيْرَهَا ... وُجُوهَ قُرُودٍ تَبْتَغِي مَنْ تُجَادِعُ
فنصب » وُجُوهَ قُرُودٍ « على الذم ، وقبله معرفة ، وهي » أقارعُ عَوْفٍ « ، وأما المنصوب على الاختصاص فنصوا على أنه لا يكون نكرةً ، ولا مُبْهَماً ، ولا يكون إلا معرَّفاً بالألف واللام ، أو بالإضافة ، أو بالعلميَّة ، أو لفظ » أي « ، ولا يكون إلا بعد ضمير متكلم مختص به ، أو مشارك فيه ، وربما أتى بعد ضمير مخاطب » .
الوجه الرابع : نَصْبه على القطع ، أي إنه كان من حقه أن يرتفع؛ نعتاً لله تعالى بعد تعريفه ب « أل » والأصل : شَهِدَ اللهُ القائمُ بالقسط ، فلما نُكِّر امتنع إتباعه ، فقُطِع إلى النصب ، وهذا مذهبُ الكوفيين ، ونقله بعضهم عن الفراء - وحده- ، ومنه عندهم قول امرئ القيس :
1371 - .. وَعَالَيْنَ قِنْوَاناً مِنَ الْبُسرِ أحْمَرَا
وقد تقدم ذلك محققاً .
الأصل : « من البُسْر الأحمر » ويؤيد هذا قراءة عبدِ الله « القائمُ بالقسط » - برفع القائم؛ تابعاً للفظ الجلالة - وخرَّجه الزمخشري وغيره على أنه بدل من « هو » أو خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو القائم .
قال أبو حيّان : ولا يجوز ذلك؛ لأن فيه فَصْلاً بين البدل والمبدل منه بأجنبي ، وهو المعطوفان؛ لأنهما معمولان لغير العامل في المبدَل منه ، ولو كان العامل في المعطوف هو العامل ف يالمعطوف لم يجز ذلك - أيضاً-؛ لأنه إذا اجتمع العطف والبدل قُدِّمَ البدل على العطف . لو قلت : جاء زيدٌ وعائشةُ أخوك ، لم يجز ، إنما الكلام : « جاء زيدٌ أخوك وعائشةُ » .
فيحصل في رفع « القائم » - على هذه القراءة - ثلاثة اوجهٍ : النصب ، والبدل ، وخبر مبتدأ محذوف .
ونقِل عن عبد الله - أيضاً - أنه قرأ « قَائِمٌ بِالْقِسطِ » - بالتنكير ، ورفعه من وجْهَي البدل ، وخبر المبتدأ .
وقرأ أبو حنيفة : « قَيِّماً » - بالنصب على ما تقدم- .
فهذه أربعة أوجه مُحَرَّرَة من كلام القوم .
والظاهر أن رفع { والملائكة وَأُوْلُواْ العلم } عطفٌ على لفظِ الجلالةِ .
وقال بعضهم : الكلام تم عند قوله : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } ، وارتفع « الْمَلاَئِكَةُ » بفعل مُضْمَر ، تقديره : وشهد الملائكة وأولو العلم بذلك ، وكأن هذا المذهبَ يرى أن شهادة الله مغايرة لشهادة الملائكة وأولي العلم ، ولا يجيز إعمال المشترك في معنيَيْه ، فاحتاج من أجل ذلك إلى إضمار فعل يوافق هذا المنطوقَ لفظاً ، ويخالفه معنى ، وهذا نظير قوله تعالى : { إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي } [ الأحزاب : 56 ] كما قدمناه .
قال الزمخشريُّ : « فإن قلت : هل دخل قيامُه بالقسط في حكم شهادة الله والملائكة ، وأولي العلم ، كما دخلت الوحدانية؟
قلتُ : نعم ، إذا جعلته حالاً من » هُوَ « أوْنَصْباً على المدح منه ، أو صفة للمنفي ، كأنه قيل : شهد الله والملائكة ، وأولو العلم أنه لا إله إلا هو ، وأنه قائم بالقسط » .
فصل
معنى « قَائِماً بِالْقِسْطِ » أي : قائماً بتدبير الخلْقِ ، كما يقال : فلان قائم بأمر فلان ، أي مدبِّر له ، رزَّاق ، مجازٍ بالأعمال ، والمراد بالقِسْط : العدل .
قال ابن الخطيب : وهذا العدل منه ما هو متصل بباب الدنيا ، ومنه ما هو متصل بباب الدين أما المتصل بالدنيا فانظر - أوَّلاً - في كيفية خَلْقِه أعضاءَ الإنسان؛ حتى تعرفَ عدلَ الله - تعالى - فيها ، ثم انظر إلى اختلاف أحوال الخلق في الحُسْن والقُبْح ، والغِنَى والفقر ، والصحةِ والسقم ، وطول العمر وقصره ، واللذة والآلام ، واقطع بأن كل ذلك عدل من الله ، وحكمة وصواب ، ثم انظر في كيفية خلق العناصر ، وأجرام الأفلاك ، وتقدير كل واحد منها بقدر معين ، وخاصيَّةٍ معينة ، واقطع بأن كل ذلك حكمة وصواب .
وأما ما يتصل بأمر الدين فانظر إلى اختلاف الخلق في العلم والجهل ، والفطانة والبلادة ، والهداية والغواية ، واقطع بأن كل ذلك عدل وقسط .
قوله تعالى : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } في هذه الجملة وجهان :
الأول : أنها مكرَّرة للتوكيد ، قال الزمخشريُّ : « فإن قلت : لِمَ كرَّر قولَه : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } ؟ قلت : ذكره - أولاً - للدلالة على اختصاصه بالوحدانية ، وأنه لا إله إلا تلك الذات المتميزة ، ثم ذكره - ثانياً - بعدما قَرَن بإثبات الوحدانية إثبات العدل؛ للدلالة على اختصاصه بالأمرين ، كأنه قال : لا إله إلا هذا الموصوف بالصفتين ، ولذلك قرن به قوله تعالى : { العزيز الحكيم } ؛ لتضمنها معنى الوحدانيةِ والعدلِ » .
وقال بعضهم : ليس بتكرير؛ لأن الأول شهادة الله - تعالى - وحده . والثاني : شهادة الملائكة وأولي العلم ، وهذا عند من يرفع « الْمَلاَئِكَةُ » بفعل آخر مضمر - كما ذكرنا - من أنه لا يرى إعمال المشترك ، وأن الشهادتين متغايرتان ، وهو مذهب مرجوح .
وقال الراغبُ : « إنما كرَّر { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } ؛ لأن صفات التنزيه أشرف من صفات التمجيد؛ لأن أكثرها مشارك - في ألفاظها - العبيد ، فيصح وصفُهم بها ، ولذلك وردت ألفاظ في حقه أكثر وأبلغ » .
وقال بعضهم : « فائدة هذا التكرار الإعلام بأن المسلم يجب أن يكون - أبداً - في تكرير هذه الكلمة؛ فإن أشرف كلمة يذكرها الإنسان ، هي هذه الكلمة ، فإذا كان في أكثر أوقاتِه مشتغلاً بذكرِها ، كان مشتَغِلاً بأعظم أنواع العبادات » .
قوله : { العزيز الحكيم } فيه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنه بدل من « هُوَ » .
الثاني : أنه خبر مبتدأ مُضْمَر .
الثالث : أنه نعت لِ « هُوَ » ، وهذا إنما يتمشَّى على مذهب الكسائي؛ فإن يرى وَصْفَ الضمير الغائبِ .
فصل
ذِكْرُ هاتين الصفتين إشارةٌ إلى كمال العلم؛ لأن الإلهية لا تحصل إلا معهما؛ لأن كونه قائماً بالقسط لا يتم إلا إذا كان عالماً بمقادير الحاجات ، وكان قادراً على تحصيل المهمات ، وقد قدَّم « الْعَزِيزُ » على « الْحَكِيمُ » ؛ لأن العلم بكونه - تعالى - قادراً متقدم على العلم بكونه عالماً في طريق المعرفة الاستدلالية ، فلما كان هذا الخطاب مع المستدلين - لا جرم - قدَّم ذكر « الْعَزِيزُ » على « الْحَكِيمُ » .
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
قرأ الكسائي بفتح الهمزة ، والباقون بكسرها ، فأما قراءة الجماعةِ فعلى الاستئناف ، وهي مؤكِّدة للجملة الأولى .
قال الزمخشريُّ : « فإن قلتَ : ما فائدة هذا التوكيد؟ قلت : فائدته أن قوله : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } توحيد ، وقوله : » قائِماً بِالقِسْط « تعديلٌ ، فإذا أردفه بقوله : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } فقد آذَن أن الإسلام هو العدل والتوحيد ، وهو الدين عند الله ، وما عداه فليس في شيء من الدين عنده » .
وأما قراءة الكسائي ففيها أوجه :
أحدها : أنها بدل من { أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } - على قراءة الجمهورِ - في أن { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } فيها وجهان :
أحدهما : أنه من بدل الشيء من الشيء ، وذلك أن الدين - الذي هو الإسلام - يتضمن العدلَ ، والتوحيد ، وهو هو في المعنى .
والثاني : أنه بدل اشتمال؛ لأن الإسلام يشتمل على التوحيدِ والعدلِ .
والثاني من الأوْجُهِ السابقةِ : أن يكون « إنَّ الدِّينَ » بدلاً من قوله « بِالْقِسْطِ » ثم لك اعتباران :
أحدهما : أن تجعله بدلاً من لفظه ، فيكون محل « إنَّ الدِّينَ » الجر .
والثاني : أن تجعلَه بدلاً من موضعه ، فيكون محلها نصباً ، وهذا - الثاني - لا حاجة إليه - وإن كان أبو البقاء ذَكَرَه .
وإنما صحَّ البدلُ في المعنى؛ لأن الدين - الذي هو الإسلامُ - قِسْط وعَدْل ، فيكون - أيضاً - من بدل الشيء من الشيء - وهما لعينٍ واحدة- .
ويجوز أن يكون بدل اشتمال؛ لأن الدين مشتمل على القسط - وهو العدل - وهذه التخاريج لأبي علي الفارسي ، وتبعه الزمخشريُّ في بعضها .
قال أبو حيّان : « وهو _ أبو علي - معتزليّ ، فلذلك يشتمل كلامُه على لفظ المعتزلة من التوحيد والعدل ، وعلى البدل من أنه خرجه هو وغيره ، وليس بجيد؛ لأنه يؤدي إلى تركيب بعيد أن يأتي في كلام العرب وهو : عَرَفَ زَيْدٌ أنَّهُ لاَ شُجَاعَ إلاَّ هُوَ وَبَنُو تَمِيمٍ وَبَنُ دَارِمٍ مُلاَقِياً لِلْحُرُوبِ ، لاَ شُجَاعَ إلاَّ هُوَ الْبَطَلُ الْحَامِي ، إنَّ الخصلةَ الحميدةَ هي البسالةُ ، وتقريب هذا المثال : ضرب زيدٌ عائشة ، والعُمرانِ حَنِقاً أختك ، فحَنقاً ، حال من » زيد « و » أختك « بدل من » عائشة « ففصل بين البدل والمبدل منه بالعطف - وهذا لا يجوز - والحال لغير المبدل منه - وهو لا يجوز -؛ لأنه فصل بأجنبي بين البدل والمبدل منه » .
قوله عرف زيد هو نظير « شَهِدَ اللهُ » ، وقوله : أنه لا شجاع إلا هو نظير { أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } وقوله : وبنو دارم نظير قوله : « وَالْمَلاَئِكَةُ » وقوله : ملاقياً للحروب نظير قوله : « قَائِماً بِالْقِسْطِ » وقوله : لا شجاع إلا هو نظير قوله : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } فجاء به مكرَّراً - كما في الآية - وقوله : البطل الحامي نظير قوله « الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ » وقوله : إن الخصلةَ الحميدةَ هي البسالةُ نظير قوله : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } .
قال شهابُ الدين : « ولا يظهر لي منعُ ذلك ولا عدمُ صحةِ تركيبهِ ، حتى يقول : ليس بجيِّد ، وبعيد أن يأتي عن العرب مثلُه ، وما ادَّعاه بقوله - في المثال الثاني- : إن فيه الفصل بأجنبيٍّ فيه نظر؛ إذْ هذه الجمل صارت كلُّها كالجملةِ الواحدةِ؛ لما اشتملت عليه من تقويةِ كلمات بعضها ببعض ، وأبو علي وأبو القاسم وغيرُهما لم يكونوا في محل مَنْ يَجْهَل صحةَ تركيبِ بعضِ الكلام وفساده » .
ثم قال أبو حيّان : « قال الزمخشريُّ : وقُرِئَتَا مفتوحتَيْن على أن الثاني بدل من الأول ، كأنه قيل : شهد الله أن الدين عند الله الإسلام ، والمبدَل هو المبدَل منه في المعنى ، فكان بياناً صريحاً؛ لأن دينَ الإسلام هو التوحيد والعدل » فقال : فَهَذَا نَقْل كَلاَمِ أبي عَلِيٍّ دُونَ استيفاس .
الثالث - من الأوجل- : أن يكون « إنَّ الدِّينَ » معطوفاً على { أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } حذف منه حرف العطف ، قاله ابن جرير ، وضعفه ابن عطية ، ولم يُبَيِّن وَجْهَ ضَعْفه .
قال أبو حيان : « ووجه ضَعْفِه أنه متنافر التركيب مع إضمار حرف العطف ، فيفصل بين المتعاطفَين المرفوعين بالمنصوب المفعول ، وبين المتعاطفين المنصوبين بالمرفوع المشارك الفاعل في الفاعلية وبجملتي الاعتراض ، وصار في التركيب دون مراعاة الفصل ، نحو أكل زيدٌ خُبْزاً ، وعَمْرو سَمَكاً ، يعني فصلت بين زيد وعمرو ب » خبزاً وسمكاً « .
الرابع : أن يكون معمولاً لقوله : { شَهِدَ الله } ، أي : شهد الله بأن الدين ، فلما حذف حرف الجر جاز أن يحكم على موضعه بالنصب ، أو الجر .
فإن قلت : إنما يتجه هذا التخريجُ على قراءة ابن عباس ، وهي كسر » أنّ « الأولى ، وتكون الجملة - حينئذ - اعتراضاً بين طشَهِدَ » وبين معموله كما تقدم ، وأما على قراءة فتح « أن » الأولى - وهي قراءة العامة - فلا يتجه ما ذكرتَ من التخريج؛ لأن الأولى معمولة له ، استغنى بها .
فالجوابُ : أن ذلك مُتَّجِهٌ - أيضاً - مع فتح الأولى ، وهو أن يُجْعَل الأولى على حذف لام العلة تقديره : شهد الله أن الدين عند الله الإسلام؛ لأنه لا إله إلا هو ، وهذا التخريج ذكره الواحديُّ ، وقال : « هذا معنى قول الفراء حيث يقول - في الاحتجاج للكسائي- : إن شئت جعلت » أنه « على الشرط ، وجعلنا الشهادة واقعة على قوله : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } ، ويكون » إنَّ « الأولى يصلح فيها الخفض ، كثولك : شهد الله لوحدانية أن الدين عند الله الإسلام » 

قلت المون الاتي بمشيئة الله ج15. وج16.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدجال يستغل ازمات الناس من الجوع ونقص الطعام والمياه في دعوتهم الباطلة لعبادتهم إياه والايمان به

  بياناته الشخصية     المسيح الدجال ليس خوارق إنما هو دجل وكذب قلت المدون ان الأ أزمة الاقتصادية الحادثة الان في كل دول العالم والمجاعة المت...