حمل المصحف وورد وبي دي اف.

 حمل المصحف وورد وPDF.
القرآن الكريم وورد word doc icon||| تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

الجمعة، 23 سبتمبر 2022

ج37. وج38.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

 

ج37. وج38.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

 

اولا :

ج37. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
قال الأصمُّ أظهر الله عن المنافقين وجوه كفرهم التي كانوا يسرونها ، لتكون حجة للرسول ، ولينزجروا ، فقال : { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات } [ التوبة : 58 ] { وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي } [ التوبة : 61 ] { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله } [ التوبة : 75 ] إلى غير ذلك من الإخبار عن الغيوب ، وكل ذلك دليل على كونه نبياً حقاً من عند الله .
ومعنى « أذنٌ » أي : أنَّه ليس له ذكاء ولا بعد غور ، بل هو سليمُ القلبِ ، سريع الاغترار بكل ما يسمع .
قوله : { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ } « أذُنُ » خبر مبتدأ محذوف ، أي : قل هو أذُنُ خيرٍ والجمهور على جَر خَيْرٍ بالإضافة ، وقرأ الحسنُ ، ومجاهدٌ ، زيد بن علي وأبو بكر عن عاصم « أذُنٌ » بالتنوين ، « خَيْرٌ » بالرفع ، وفيها وجهان :
أحدهما : أنَّها وصف « أذُن » .
والثاني : أن يكون خبراً بعد خبر ، و « خير » يجوزُ أن يكون وصفاً ، من غير تفضيل ، أي : أذُنٌ ذُو خير لكم ، ويجوزُ أن يكون للتفضيل - على بابها - أي : أكثر خيراً لكم . وجوَّز صاحب اللوامح أن يكون « أذُن » مبتدأ ، و « خَيْر » خبرها ، وجاز الابتداءُ هنا بالنكرة؛ لأنَّها موصوفةٌ تقديراً ، أي : أذُنٌ لا يؤاخذكم من أذُنٍ يؤاخذكم ، ويقال : رجَلٌ أذنٌ ، أي : يسمع كل ما يقال ، وفيه تأويلان :
أحدهما : أنَّهُ سُمِّي بالجارحة؛ لأنَّها آلة السماع ، وهي معظم ما يقصد منه؛ كقولهم للربيئة : عَيْنٌ .
وقيل : المرادُ ب « الأذُن » هنا الجارجة ، وحينئذٍ يكونُ على حذفِ مضاف أي : ذُو أذن .
والثاني : أنَّ الأذن وصفٌ على « فُعُل » ، ك « أنُف » و « شُلُل » يقال : أذِنَ يَأذَن ، فهو أذُن؛ قال : [ الطويل ]
2804- وَقَدْ صِرْت أذْناً لِلوُشَاةِ سَمِيعَةً ... يَنالُونَ مِنْ عِرْضي ولوْ شِئْت ما نَالُوا
ومعنى قراءة عاصم : إن كان تقولون إنَّهُ أذُنٌ ، فأذن خير لكم ، يقبل منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم . ومعنى قراءة الجرِّ : أي : هو أذُنُ خير ، لا أذُنُ شر وقرأ نافع « أذْن » ساكنة الذَّال في كلِّ القرآن ، والباقون بالضَّم وهما لغتان مثل : عنق وظفر .
ثم بيَّن كونه « أذُنُ خَيْرٍ » بقوله : { يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ } فجعل تعالى هذه الثلاثة كالموجبة لكونه عليه الصلاة والسلام « أذُنُ خَيْرٍ » ، أمَّا قوله { يُؤْمِنُ بالله } فلأنَّ كلَّ من آمن بالله كان خائفاً من الله ، والخائف من الله لا يؤذي بالباطل . ويُؤمِنُ للمؤمنينَ أي : يسلمُ للمؤمنين قولهم ، إذا توافقُوا على قولٍ واحدٍ وهذا بيان كونه سليم القلب .
فإن قيل : لِمَ عدي الإيمان باللهِ بالباءِ ، وإلى المؤمنين باللاَّم؟ .
فالجواب : أنَّ المراد بالإيمان بالله ، المراد منه : التَّصديق الذي هو نقيض الكفر فعدي بالباء والإيمان المعدَّى إلى المؤمنين ، معناه : الاستماع منهم والتسليم لقولهم فعدي باللاَّم ، كقوله :
{ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } [ يوسف : 17 ] وقوله { فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ } [ يونس : 83 ] وقوله : { أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون } [ الشعراء : 111 ] وقوله { آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ } [ طه : 71 ] .
وقال ابن قتيبة « هما زائدتان ، والمعنى : يصدِّق الله ، ويصدِّق المؤمنين » وهذا مردود؛ ويدلُّ على عدم الزيادةِ تغايرُ الحرف الزَّائد ، فلو لم يُقصدْ معنًى مستقلٌ ، لما غاير بين الحرفين .
وقال المبرد : هي متعلقةٌ بمصدرٍ مقدّر من الفعل ، كأنَّه قال : وإيمانه للمؤمنين وقيل : يقال : آمنتُ لك ، بمعنى : صدَّقتكَ ، ومنه { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } [ يوسف : 17 ] . قال شهابُ الدِّينِ وعندي أنَّ هذه اللاَّم في ضمنها « ما » ، والمعنى : ويصدِّق للمؤمنين بما يُخبرونه به وقال أبُو البقاءِ : واللاَّم في للمؤمنين زائدةٌ ، دخلت لتفرِّق بين « يُؤمن بمعنى : يُصدِّق ، وبين » يؤمن « بمعنى : يثبت الإيمان وقوله : { وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ } فهذا أيضاً يوجبُ الخير به؛ لأنَّه يجري منكم على الظَّاهرِ ، ولا يبالغ في التفتيش على بواطنكم ، ولا يهتكُ أستاركم ، فدلَّت هذه الأوصاف الثلاثة على وجوب كونه » أذُن خَيْرٍ « وقرأ الجمهورُ » ورَحْمَةٌ « رفعاً نسقاً على » أذُنُ « أي : وهو رحمة للذين آمنوا . وقال بعضهم : هو عطفٌ على » يُؤمن « ، لأنَّ » يُؤمن « في محل رفع صفة ل : » أذُن « ، تقديره : أذُن يؤمن ورحمة . وقرأ حمزة والأعمش » ورحمةٍ « بالجر نسقاً على » خيرٍ « المخفوض بإضافة » أذُنُ « إليه ، والجملةُ على هذه القراءة معترضةٌ بين المتعاطفين ، تقديره : أذُنُ خيرٍ ورحمةٍ . وقرأ ابنُ أبي عبلةٍ : » ورَحْمَةٌ « نصباً على أنَّه مفعول من أجله ، والمعلل محذوف ، أي : يأذن لكم رحمةً بكم ، فحذف لدلالة قوله : { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ } .
فإن قيل : كل رحمة خير ، فأي فائدة في ذكر الرحمة عقيب ذِكْر الخير؟
[ فالجواب : إنَّ أشرف أقسام الخير هو الرحمة ، فجاز ذكر الرحمة عقيب ذكر الخير ] كقوله : { وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] . ولمَّا بيَّن كونه سبباً للخير والرحمة ، بيَّن أنَّ كلَّ من آذاه استوجب العذاب الأليم لأنَّه يسعى في إيصال الخير والرحمة إليهم وهو يقابلون إحسانه بالإساءة ، وخيره بالشَّر؛ فلذلك استوجبوا العذاب الأليم .
قوله تعالى : { يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ } الآية .
وهذا نوع آخر من قبائح أفعال المنافقين ، وهو إقدامهم على الأيمان الكاذبة ، قال قتادةُ والسديُّ : اجتمع ناس من المنافقين ، فيهم الجلاس بنُ سويدٍ ، ووديعة بنُ ثابت فوقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : إن كان ما يقول محمد حقاً فنحن شرٌّ من الحمير ، وكان عندهم غلام من الأنصار ، يقال له : عامر بن قيس ، فحقَّروه ، وقالوا هذه المقالة ، فغضب الغلامُ وقال : والله إنَّ ما يقول محمد حق ، وأنتم شرٌّ من الحمير ثم أتَى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فدعاهم ، فسألهم؛ فحلفوا أنَّ عامراً كذَّاب وحلف عامر أنهم كذبة ، فصدقهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم فجعل عامرٍ يدعو ويقول اللَّهُمَّ صدق الصَّادق وكذب الكاذب ، فأنزل اللهُ هذه الآية .
وقال مقاتلٌ والكلبيُّ : نزلت في رهطٍ من المنافقين ، تخلَّفُوا عن غزوة تبوك فلمَّا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوهُ يعتذرون ويحلفون ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
قوله : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } .
إنَّما أفرد الضمير ، وإن كان الأصلُ في العطف ب « الواو » المطابقة ، لوجوهٍ :
أحدها : أنَّ رضا الله ورسوله شيءٌ واحد ، { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } [ النساء : 80 ] ، { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفتح : 10 ] ؛ فلذلك جعل الضميرين ضميراً واحداً ، تنبيهاً على ذلك .
الثاني : أنَّ الضمير عائدٌ على المثنى بلفظِ الواحد بتأويل المذكور؛ كقول رؤبة : [ الرجز ]
2805- فِيهَا خُطُوطٌ من سوادِ وبلق ... كأنَّهُ في الجِلْدِ توليعُ البَهَقْ
أي : كأن ذلك المذكور ، وقد تقدم بيان هذا في أوائل البقرةِ . الثالث : قال المبرد : في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ ، تقديره : واللهُ أحقُّ أن يرضوه ورسوله وهذا على رأي من يدَّعي الحذف من الثاني .
الرابع - وهو مذهب سيبويه - : أنَّه حذف خبر الأوَّل ، وأبقى خبر الثَّاني ، وهو أحسنُ من عكسه ، وهو قول المبرِّدِ؛ لأن فيه عدم الفصل بين المبتدأ أو خبره بالإخبار بالشيء عن الأقرب إليه؛ وأيضاً فهو متعين في قول الشَّاعر : [ المنسرح ]
2806- نَحْنُ بِمَا عندنَا وأنتَ بِما ... عِندكَ رَاضٍ والرَّأيُ مُختَلِفُ
أي : نحن راضون ، حذف « راضُون » ، لدلالةِ خبر الثاني عليه .
قال ابنُ عطية : « مذهبُ سيبويه أنَّهُما جملتان ، حذفت الأولى ، لدلالة الثانية عليها » .
قال أبُو حيان : « إن كان الضمير في » أنَّهُمَا « عائداً على كلِّ واحدةٍ من الجملتين ، فكيف يقول » حُذفت الأولى « والأولى لم تحذف ، إنما حذفَ خبرها؟ وإن كان عائداً على الخبر وهو { أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } فلا يكونُ جملة إلاَّ باعتقاد أن يكون » أن يُرضُوهُ « مبتدأ وخبره » أحَقُّ « مقدماً عليه ، ولا يتعيَّنُ هذا القول؛ إذْ يجوزُ أن يكون الخبرُ مفرداً بأن يكون التقدير : أحقُّ بأنْ تُرضُوه » .
قال شهابُ الدِّين : إنما أراد ابنُ عطية التقدير الأول ، وهو المشهورُ عند المعربين يجعلون « أحقُّ » خبراً مقدَّماً ، و « أن يُرْضوهُ » مبتدأ مؤخراً ، والله ورسوله إرضاؤه أحقُّ . وقتد تقدم تحرير هذا في قوله : { فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } [ التوبة : 13 ] . قوله { إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } شرطٌ جوابه محذوف أو متقدم .
فصل
قال القرطبيُّ « تضمَّنتْ هذه الآية قبول يمين الحالف ، وإن لم يلزم المحلوف له الرضا ، واليمين حق للمدَّعي ، وأن يكون اليمينُ بالله عزَّ وجلَّ حسبُ . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : » مَنْ حَلفَ فليَحْلفْ باللهِ أو ليَصْمتْ ، ومَنْ حُلفَ لَهُ فليُصدِّق « .
قوله : { أَلَمْ يعلموا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ } الآية .
والمقصود من هذه الآية : شرح أحوال المنافقين الذين تخلَّفوا عن غزوة تبوك .
قرأ الجمهور « يَعْلمُوا » بياء الغيبة ، رَدّاً على المنافقين ، وقرأ الحسنُ ، والأعرجُ « تَعْلَمُوا » بتاء الخطاب ، فقيل : هو التفاتٌ من الغيبة إلى الخطابِ إن كان المرادُ المنافقين .
وقيل : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأتى بصيغةِ الجمع تعظيماً؛ كقوله : [ الطويل ]
2807 - فإنْ شِئْتُ حرَّمْتُ النِّساءَ سِواكُمُ .. . .
وقيل : الخطابُ للمؤمنين . وبهذه التقادير الثلاثة يختلف معنى الاستفهام ، فعلى الأول يكون الاستفهام للتقريع والتوبيخ ، كقول الإنسان لمن حاول تعليمه مدة وبالغ في التعليم فلم يتعلم ، يقال له ألمْ تتعلَّم؟ وإنما حسن ذلك؛ لأنَّهُ طال مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم ، وكثر تحذيره من معصية الله ، والترغيب في طاعة الله .
وعلى الثاني يكون للتعجب من حالهم ، وعلى الثالث يكون للتقرير . والعلم هنا : يحتمل أن يكون على بابه ، فتسدَّ « أن » مسدَّ مفعولين عند سيبويه ، ومسدَّ أحدهما والآخرُ محذوفٌ عند الأخفش .
وأن يكون بمعنى العرفان ، فتسدَّ « أنَّ » مسدَّ مفعوله . و « مَنْ » شرطيَّة ، و « فأنَّ لهُ نار » جوابها . وفتحت « أنَّ » بعد الفاءِ ، لما تقدَّم في الأنعام . والجملةُ الشرطيةُ في محلِّ رفعِ خبر « أنَّ » الأولى وهذا تخريجٌ واضحٌ . وقد عدل عن هذا التخريج جماعة إلى وجوهٍ أخر ، فقال الزمخشريُّ « ويجوزُ أن يكون » فأنَّ لَهُ « معطوفاً » أنَّه « على أنَّ جواب » مَنْ « محذوفٌ ، تقديره : ألم يعلموا أنَّه من يُحادد الله ورسوله يهلكْ ، فأنَّ لهُ نَار جَهَنَّمَ » وقال الجرمي والمبرد : « أنَّ » الثانية مكررةٌ للتَّوكيد ، كأن التقدير : فلهُ نارُ جهنم ، وكُرِّرت « أنَّ » توكيداً ، وشبَّهه أبو البقاء بقوله تعالى : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السواء } [ النحل : 119 ] ثم قال : { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } [ النحل : 119 ] ، قال : والفاءُ على هذا جوابُ الشرط . وردَّ أبو حيان على الزمخشري قوله : بأنَّهم نصُّوا على أنَّه إذا حذف جوابُ الشَّرطِ ، لزمَ أن يكون فعلُ الشرط ماضياً ، أو مضارعاً مقروناً ب « لَمْ » ، والجوابُ على قوله محذوفٌ وفعل الشَّرطِ مضارعٌ غير مقترنٍ ب « لَمْ » وأيضاً فإنَّا نجدث الكلامَ تامّاً بدون هذا الذي قدَّره .
ونُقل عن سيبويه أنَّه قال : الثانيةُ بدلٌ من الأولى . وهذا لا يصحُّ عن سيبويه ، فإنَّه ضعيفٌ ، أو ممتنع ، وقد ضعفه أبو البقاءِ بوجهين :
أحدهما : أنَّ الفاء تمانعُ من ذلك والحكمُ بزيادتها ضعيفٌ .
والثاني : أنَّ جعلها بدلاً يوجب سقوط جواب « مَنْ » من الكلام . وقال ابنُ عطية « وهذا يُعترضُ بأنَّ الشَّيء لا يبدل منه حتى يستوفى ، والأولى في هذا الموضع لم يأتِ خبرها بعد ، إذ لم يأتِ جوابُ الشَّرط ، وتلك الجملةُ هي الخبرُ ، وأيضاً فإنَّ الفاء تُمانعُ البدل ، فهي معنى آخر غير ابلدل فيقلقُ البدل » .
وقال بعضهم : فتحت على تقدير اللام ، أي : فلأنَّ لهُ نار جهنم . وهذه كلُّها تكلُّفاتٌ ، لا يحتاج إليها .
فالأولى ما تقدم ذكره ، وهو أن يكون « أنَّ لهُ نارَ جهنَّمَ » في محل رفع بالابتداء والخبر محذوفٌ ، وينبغي أن يقدِّرَهُ متقدماً عليها ، كما فعل الزمخشريُّ ، وغيرُه ، أي : فحقٌّ أنَّ لهُ نار جهنَّم . وقدَّرهُ غيره متأخراً ، أي : فأنَّ له نار جهنَّمَ واجبٌ ، كذا قدَّره الأخفش وردُّوه عليه بأنَّها لا يبتدأ بها .
وهذا لا يلزمه ، فإنَّه يجيز الابتداء ب « أنَّ » المفتوحةِ من غير تقديم خبره . وغيره لا يجيز الابتداء بها إلاَّ بشرطِ تقدُّم « أمَّا » ، نحو : أمَّا أنك ذاهبٌ فعندي ، أو بشرط تقدُّم الخبر ، نحو : عندي أنَّك منطلق . وقيل : « فأنَّ لهُ » خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : فالواجبُ أنَّ لهُ ، وهذه الجملةُ التي بعد الفاء مع الفاءِ في محلِّ جزم ، جواباً للشَّرط . وقرأ أبو عمرو فيما رواه أبو عبيدة ، والحسن ، وابن أبي عبلة : « فإنَّ » بالكسر وهي قراءةٌ حسنةٌ قوية ، تقدَّم أنَّهُ قرأ بها بعضُ السبعة في الأنعام ، وتقدَّم هناك توجيهها .
والمحادّة : المخالفةُ ، والمعاندةُ ، ومجاوزةُ الحدِّ ، والمعاداة . قيل : مشتقةٌ من الحد وهو حدُّ السِّلاح الذي يحاربُ به من الحديد . وقيل : من الحد الذي هو الجهةُ كأنه في حدِّ غير حدِّ صاحبه كقولهم : شاقَّه ، أي : كان في شقٍّ غير شقِّ صاحبه وعاداه ، أي : كان في عدوة غير عدوته . قال ابن عباس : معناه : يخالف الله وقيل : يحارب الله ، وقيل : يعاند الله ، وقيل : يعادي الله .
واختار بعضهم قراءة الكسر ، بأنَّها لا تحوج إلى إضمار ، ولم يُرْوَ قوله : [ الوافر ]
2808- فَمَنْ يَكُ سَائِلاً عَنِّي فإنِّي ... وجِرْوةَ لا تُعارُ ولا تُبَاعْ
إلاَّ بالكسرِ .
وهذا غيرُ لازمٍ ، فإنَّه جاء على أحد الجائزين ، و « خَالِداً » نصبٌ على الحال .
قال الزجاج : « ويجوز كسر » أنّ « على الاستئناف بعد الفاءِ » . وجهنم : من أسماء النار وحكى أهل اللغة عن العربِ : أنَّ البئر البعيدة القعر تسمى الجهنام ، فيجوزُ أن تكون مأخوذة من هذا اللفظ ، ومعنى بعد قعرها أنَّه لا آخر لعذابها ، وتقدم معنى الخلود ، والخزي : قد يكون بمعنى النَّدم ، وبمعنى الاستحياء ، والمراد به ههنا : النَّدم ، لقوله : { وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب } [ يونس : 54 ] .
قوله تعالى : { يَحْذَرُ المنافقون } الآية .
قال قتادة « هذه السُّورة كانت تُسمَّى الفاضحة ، والحافرة ، والمبعثرة ، والمثيرة ، أثارت مخازيهم ومثالبهم » قال ابن عباسٍ : « أنزل اللهُ تعالى ذكر سبعين رجلاً من المنافقين بأسمائهم ، وأسماء آبائهم ، ثم نسخ ذكر الأسماء رحمة على المؤمنين ، لئلاَّ يُعيّر بعضهم بعضاً؛ لأن أولادهم كانوا مؤمنين » .
وقال الجبائيُّ :
« اجتمع اثنا عشر رجلاً من المنافقين على النِّفاقِ ، وأخبر جبريل الرسول بأسمائهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : » إنَّ أناساً اجتمعُوا على كَيْت وكَيْت ، فليقُومُوا وليعتَرِفُوا وليسْتغفِرُوا ربَّهم حتَّى أشفع لهُمْ « فلم يقوموا ، فقال عليه الصلاة والسلام بعد ذلك » قُمْ يا فلانُ ويا فلانُ « حتى أتى عليهم ثم قالوا : نعترف ونستغفر فقال : » الآن أنَا كُنْتُ في أوَّل الأمْرِ أطيب نَفْساً بالشَّفَاعةِ ، والله كانَ أسْرعَ في الإجابةِ ، اخرُجُوا عنِّي « فلم يزلْ يقول حتى خرجوا بالكليَّةِ . »
وقال الأصمُّ : إنَّ « عند رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك وقف له على العقبة اثنا عشر رجلاً ليفتكوا به؛ فأخبره جبريل ، وكانوا متلثمين في ليلة مظلمة ، وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم ، فأمر حذيفة بذلك فضربها حتى نحاهم ثم قال : » مَنْ عرفت من القوْمِ « ؟ فقال : لم أعرف منهم أحداً ، فذكر النبيُّ عليه الصلاة والسلام أسماءهم وعدهم له ، وقال : » إنَّ جبريل أخبرني بذلك « فقال حذيفة : ألا تَبْعَثُ إليه فتقتلهم ، فقال : » أكره أن تقول العرب قاتل أصحابه حتَّى إذا ظفر صار يقتلهم ، بل يَكْفِينَاهُمُ اللهُ بالدبيلة « .
فإن قيل : الكافرُ منافق ، فكيف يحذرُ نزول الوحي على الرسول - عليه الصلاة والسلام -؟ فالجوابُ ، من وجوه :
أحدها : قال أبُو مسلم : » هذا حذر أظهرهُ المنافقون استهزاء حين رأوا الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - يذكر كلَّ شيء ويدعي أنَّهُ عن الوحي ، وكان المنافقُون يكذبون بذلك فيما بينهم ، فأخبر الله رسوله بذلك ، وأمره أن يعلمهم أنَّه يظهر سرهم الذي حذروا ظهره ، ويدلُّ على ذلك قوله : استَهْزئُوا « .
وثانيها : أنَّ القوم وإن كانوا كافرين بدين الرسول إلا أنَّهم شاهدوا أنَّ الرسول - عليه الصلاة والسلام - كان يخبرهم بما يفسرونه ، فلهذه التجربة وقع الحذر والخوف في قلوبهم .
وثالثها : قال الأصمُّ : إنَّهم كانوا يعرفونه كونه رسولاً حقاً من عند الله ، إلاَّ أنَّ كفرهم كان حسداً وعناداً .
ورابعها : معنى الحذر الأمر بالحذر ، أي : ليحذر المنافقون ذلك .
وخامسها : أنَّهم كانُوا شاكين في صحَّة نبوته ، والشَّاك خائف ، فلهذا خافوا أن ينزل عليه في أمرهم ما يفضحهم .
قوله : » أَن تُنَزَّلَ « مفعولٌ به ، ناصبه » يَحْذَرُ « ، فإنَّ » يَحْذَرُ « متعدٍّ بنفسه كقوله تعالى : { وَيُحَذِّرْكُمُ الله نَفْسَهُ } [ آل عمران : 28 ] ، لولا أنه متعدِّ في الأصل لواحدٍ ، لما اكتسب بالتضعيف مفعولاً ثانياً؛ ويدلُّ عليه أيضاً ما أنشده سيبويه : [ الكامل ]
2809- حَذِرٌ أمُوراً لا تَضِيرُ وآمِنٌ ... مَا لَيْسَ مُنْجِيَهُ مِنَ الأقْدَارِ
وفي البيت كلامٌ ، قيل : إنه مصنوع . وقال المبردُ : إنَّ » حَذِر « لا يتعدَّى ، قال : لأنَّهُ من هيئات النفس ، ك » فَزع « . وهذا غير لازم . فإنَّ لنا من هيئات النفس ما هو متعدٍّ ك : » خاف « ، وخشي ، فإنَّ » تُنَزَّل « عند المبرد على إسقاط الخافض أي : مِنْ أن تُنَزَّل .
وقوله : « تُنَبِّئُهُمْ » في موضع الرفع صفةً ل « سورة » .
قال الزمخشريُّ « الضميرُ في قوله » عليهم « و » تنبّئهم « للمؤمنين ، و » في قُلُوبهمْ « للمنافقين ، ويجوزُ أيضاً أن تكون الضمائرُ كلها للمنافقين؛ لأنَّ السُّورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم ، ومعنى » تُنبِّئُهم بما في قلوبهم « أنَّ السورة كأنَّها تقول لهم في قلوبكم كيت وكيت ، يعني أنَّها تذيع أسرارهم إذاعة ظاهرة فكأنَّها تخبرهم بها » .
ثم قال : { قُلِ استهزءوا } هذا أمر تهديد ، { إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ } .
قوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } الآية .
قال الكلبي ، ومقاتل ، وقتادةُ : « إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يسير في غزوة تبوك وبين يديه ثلاثة نفر من المنافقين ، اثنان يستهزئان بالقرآن والرسول ، والآخر يضحك .
قيل : كانوا يقولون : إنَّ محمداً يزعم أنه يغلب الروم ، ويفتح مدائنهم ، هيهات هيهات ما أبعده عن ذلك .
وقيل : كانوا يقولون : إنَّ محمداً يزعمُ أنَّهُ نزل في أصحابنا المقيمين بالمدينة قرآن ، وإنما هو قوله وكلامه ، فأطع اللهُ نبيهُ صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال : » احبسُوا الرَّكبَ عليَّ « فدعاهُم وقال لهُم : » قُلْتُم كذا وكذا « فقالوا : إنَّما كُنَّا نتحدثُ ونخوض في الكلامِ ، كما يفعلُ الرَّكبُ لقطع الطريق بالحديث واللعب . »
قال ابن عمر : « رأيتُ عبد الله بن أبيّ يشتد قدام النبي صلى الله عليه وسلم والحجارة تنكيه ، وهو يقولُ : » إنَّما كُنَّا نخوضُ ونلعبُ « . ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول » أباللهِ وآياتهِ ورسولهِ كُنتُم تَسْتهزِئُونَ « . ولا يلتفتُ إليه . »
وقال أبُو مسلم : قوله : { يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم } التوبة : 64 إنَّ القوم أظهروا هذا الخبر استهزاء ، فبيَّن تعالى في هذه الآية أنَّهُ إذا قيل لهم : لِمَ فعلتُم ذلك؟ قالوا : لم نقل ذلك إلاَّ لأجل أنا كنا نخوض ونلعب .
فصل في بيان أصل الخوض
قال الواحديُّ : أصل الخوض الدخول في مائع مثل الماء والطين ، ثم كثر حتى صار اسماً لكل دخول فيه تلويث وأذى ، والمعنى : إنَّما كُنَّا نخوضُ في الباطل من الكلام كما يخوض الركب لقطع الطريق ، فأجابهم الرسولُ بقوله : « أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون » .
قوله : « . . . أباللهِ . . . » متعلقٌ بقوله : « تَستهْزئُونَ » . و « تَسْتهْزِئُونَ » خبرُ « كان » وفيه دليلٌ على تقديم خبر « كان » عليها؛ لأنَّ تقديم المعمول يؤذن بتقديم العامل ، وقد تقدَّم معمول الخبر على « كان » فليَجُزْ تقديمه بطريق الأولى .
وفيه بحث ، وذلك أنَّ ابن مالك قدح في هذا الدَّليل ، بقوله تعالى : { فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ } [ الضحى : 9 ، 10 ] قال : ف « اليتيم » ، والسائل قد تقدما على « لا » الناهية ، والعاملُ فيهما ما بعدهما ولا يجوز تقديم ما بعد « لا » الناهية عليها ، لكونه مجزوماً بها ، فقد تقدَّم المعمولُ ، حيث لا يتقدَّم للعامل ذكر ، ذكر ذلك عند استدلالهم على جواز تقديم خبر « ليس » بقوله { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } [ هود : 8 ] .
فصل
فرق بين قولك : أتستهزىء بالله ، وبين قولك : أبالله تستهزىء ، فالأوَّلُ يقتضي الإنكار على عمل الاستهزاء ، والثاني يقتضي الإنكار على إيقاع الاستهزاء في الله ، كأنه يقول : هَبْ أنك تقدم على الاستهزاء إلا أنه كيف أقدمت على إيقاع الاستهزاء في الله كقوله تعالى : { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } [ الصافات : 47 ] والمقصود : ليس نفي الغول ، بل نفي أن يكون خمر الجنَّة محلاًّ للغول . ومعنى الاستهزاء بالله : هو الاستهزاء بتكاليفِ الله ، والاستهزاء بذكر الله ، فإنَّ أسماء الله قد يستهزىء بها الكافرُ ، كما أنَّ المؤمن يعظمها . والمرادُ بالاستهزء ب « آيَاتِهِ » هو القرآن ، وسائر ما يدلُّ على الدين ، والرسول معلوم .
قوله : { لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ } .
نقل الواحديُّ عن أهل اللغة في لفظ الاعتذار قولين ، الأول : أنَّه عبارة عن محو أثر الذنب ، وأصله من : تعذرت المنازل ، أي : دَرَسَتْ ، وامَّحت آثارها؛ قال ابن أحمر : [ البسيط ]
2810- قَدْ كُنتَ تَعْرفُ آياتٍ فقدْ جَعَلتْ ... أطْلالُ إلفِكَ بالوَعْسَاءِ تَعْتَذِرُ
فالمعتذر يزاولُ محو ذَنْبِهِ .
والثاني : قال ابنُ الأعرابي : أصله من العذر ، وهو القطع ، ومنه العُذْرة؛ لأنَّها تقطع بالافتراغ .
ويقولون : اعتذرت المياه ، أي : انقطعت ، فكأنَّ المعتذر يحاولُ قطع الذمّ عنه . قوله : { قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } يدلُّ على أنَّ الاستهزاء بالدِّين كيف كان كفراً؛ لأنه استخفاف بالدين ، والعمدة في الإيمان تعظيم الله تعالى ، ويدل على أنَّ القول الذي صدر منهم كان كفراً في الحقيقة .
فإن قيل : كيف قال { كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } وهم لم يكونوا مؤمنين؟
فالجواب : قال الحسنُ : أظهرتم الكفر بعد ما أظهرتم الإيمان .
فصل
قال ابنُ العربي : « لا يخلو ما قالوا من أن يكون جداً ، أو هزلاً ، وهو كيفما كان كفراً فإنَّ القول بالكفر كفر بلا خلاف بين الأئمة ، قال تعالى : { أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين } [ البقرة : 67 ] .
فصل
اختلفوا في الهزل في سائر الأحكام كالبيع والنكاح والطلاق ، قيل : يلزم وقيل : لا يلزم ، وقيل : يفرق بين البيع وغيره . فيلزمُ في النكاح والطلاق ، ولا يلزم في البيع وحكى ابنُ المنذر الإجماع في أن جدَّ الطلاق وهزله سواء . وروى أبو داود والترمذي والدارقطني عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ثلاثٌ جِدُّهُنَّ جد وهزلهُنَّ جِدّ ، النِّكاحُ والطلاقُ والرَّجْعَةُ «
قال الترمذيُّ « حديث حسن ، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم » .
قال القرطبي : « وفي الموطأ عن سعيد بن المسيِّب قال ثلاث ليس فيهن لعب النكاح والطلاق والعتق » .
قوله : « . . . إن نَعْفُ » قرأ عاصم « نَعْفُ » بنون العظمة ، « نعذِّب » كذلك ، « طَائفَة » نصباً على المفعول به ، وهي قراءة أبي عبد الرحمن السُّلمي ، وزيد بن علي . وقرأ الباقون « يُعْفَ » في الموضعين بالياء من تحت مبنياً للمفعول ، ورفع « طَائفةٌ » ، على قيامها مقام الفاعل والقائمُ مقام الفاعل في الفعل الأوَّلِ الجارُّ بعده . وقرأ الجحدريُّ « إن يَعْفُ » بالياء من تحت فيهما ، مبنياً للفاعل ، وهو ضميرُ الله تعالى ، ونصب « طائفة » على المفعول به . وقرأ مجاهدٌ « تُعْف » بالتاء من فوق فيهما ، مبنياً للمفعول ، ورفع « طائفة » ، لقيامها مقام الفاعل . وفي القائم مقام الفاعل في الفعل الأوَّل وجهان :
أحدهما : أنَّهُ ضمير الذنوب ، أي : إن تُعْفَ هذه الذنوب .
والثاني : أنَّه الجارُّ ، وإنَّما أنِّث الفعل حملاً على المعنى .
قال الزمخشريُّ « الوجه التذكير؛ لأنَّ المسند إليه الظرفُ ، كما تقول : سِيرَ بالدَّابة ، ولا تقول : سِيرت بالدَّابة ، ولكنه ذهب إلى المعنى ، كأنه قيل : إن تُرْحَمْ طائفة فأنَّث لذلك ، وهو غريبٌ » .
فصل
قال مجاهدٌ : وابن إسحاق : الذي عُفِيَ عنه رجل واحد ، وهو مخاشن بنُ حمير الأشجعي ، يقال هو الذي كان يضحكُ ولا يخوض ، وكان يمشي مجانباً لهم ، وينكر بعض ما يسمع فلمَّا نزلت هذه الآية تاب من نفاقه ، وقال : اللَّهُمَّ إني لا أزال أسمعُ آية تَقْرَعُني بها تقشعر الجلودُ ، وتجب منها القلوبُ ، اللهم اجعل وفاتي قتلاً في سبيلك ، لا يقولُ أحدٌ : أنا غسلت ، أنا كفنت ، أنا دفنت ، فأصيب يوم اليمامة ولم يعرف أحد من المسلمين مصرعه .
فصل
ثبت بالروايات أنَّ الطائفتين كانوا ثلاثة؛ فوجب أن تكون إحدى الطَّائفتين إنساناً واحداً . قال الزجاجُ : والطَّائفة في اللغةِ أصلها الجماعة؛ لأنَّها المقدار الذي يمكنها أن تطيف بالشيء ثم يجوز أن يسمى الواحد بالطائفة ، قال تعالى { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين } [ النور : 2 ] . وأقله الواحد ، وروى الفراء بإسناده عن ابن عباس أنه قال : الطائفة الواحد فما فوقه ، وقال تعالى : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } [ الحجر : 9 ] .
قال ابن الأنباري : العرب توقع لفظ الجمع على الواحد ، فتقولُ : خرج فلانٌ إلى مكَّة على الجمال ، وقال تعالى : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس } [ آل عمران : 173 ] يعني : نعيم بن مسعود ، ثم إنه تعالى علَّل تعذيبه لهم : { بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ }
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)
قوله تعالى : { المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ } الآية .
لمَّا شرح أنواع قبائح أفعالهم ، بيَّن أنَّ إناثهم كذكورهم في تلك الأعمال المنكرة .
قوله : { بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ } مبتدأ وخبر ، أي : من جنس بعضن ف « من » هنا لبيان الجنس وقيل : للتبعيض ، أي : إنَّهم إنما يتوالدون بعضهم من بعض على دينٍ واحدٍ ، وقيل : أمرهم واحد بالاجتماع على النفاقِ ، ثمَّ فصَّل هذا الكلام فقال : « يَأْمُرُونَ بالمنكر » . هذه الجملةُ لا محلَّ لها؛ لأنَّها مفسرةٌ لقوله : « بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ » ، وكذلك ما عطف على « يَأْمُرُون » ولفظ المنكر يدخلُ فيه كل قبيح ، ولفظ المعروف يدخلُ فيه كل حسن ، إلاَّ أنَّ الأعظم ههنا من المنكر يدخلُ فيه كل قبيح ، ولفظ المعروف يدخلُ فيه كل حسن ، إلاَّ أنَّ الأعظم ههنا من المنكر الشرك والمعصية ، والمراد الأعظم ههنا من المعروف الإيمان بالرسول { وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } أي : يمسكونها عن الصَّدقة ، والإنفاق في سبيل الله . { نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ } تركوا طاعة الله فتركهم من توفيقه وهدايته في الدُّنيا ومن رحمته في العقبى .
وإنَّما حملنا النِّسيان على التَّركِ ، لأنَّ من نسي شيئاً لم يذكره ، فجعل اسم الملزوم كناية عن اللاَّزم ، ولأنَّ النسيان ليس في وسع البشر ، وهو في حق الله تعالى محال فلا بد من التأويل ، وهو ما ذكرنا من التَّرك؛ لأنَّهم تركوا أمر الله حتى صارُوا كالنسي المنسي ، فجازاهم بأنَّ صيَّرهم كالشَّيء المنسيّ ، كقوله : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ثم قال : { إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ } أي : الكاملُونَ في الفِسْقِ .
قوله تعالى : { وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ والمنافقات } الآية .
قال القرطبيُّ وغيره : يقالُ : وعد الله بالخير وعْداً ، ووعدَ بالشَّر وعيداً . وقيل : لا يقال من الشر إلاَّ « أوْعدته » و « توعدته » وهذه الآية رد عليه . لمَّا بيَّن في المنافقين والمنافقات أنه نسيهم ، أي : جازاهم على تركهم التَّمسك بطاعةِ الله ، أكَّد هذا الوعيد وضمَّ المنافقين إلى الكفار فيه ، فقال : { وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ } الآية .
وقوله : « خالدين » حالٌ من المفعول الأول للوعد ، وهي حالٌ مقدرةٌ؛ لأنَّ هذه الحال لم تقارن الوعد . وقوله : « هِيَ حَسْبُهُم » لا محلَّ لهذه الجملة الاستئنافية . والمعنى : أنَّ تلك العقوبة كافية لهم ولا شيء أبلغ منها ، ولا يمكنُ الزيادة عليها .
ثم قال : { وَلَعَنَهُمُ الله } أبعدهم الله من رحمته ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } دائم .
فإن قيل : معنى المقيم والخالد واحد فيكون تكراراً .
فالجوابُ : من وجهين :
الأول : أنَّ لهم نوعاً آخر من العذاب المقيم الدائم سوى العذاب بالنَّار والخلود المذكور أولاً ، ولا يدل على أنَّ العذاب بالنَّارِ دائم . وقوله : { وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } يدلُّ على أنَّ لهم مع ذلك نوعاً آخر من العذابِ .
فإن قيل هذا مشكل؛ لأنه قال في النَّار المخلدة : « هِيَ حَسْبُهُم » وكونها حسباً يمنع من ضمّ شيء آخر إليه . فالجوابُ : أنَّها حسبهم في الإيلام ، ومع ذلك يضم إليه نوع آخر زيادة في تعذيبهم .
والثاني : أنَّ المراد بقوله : { وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } العذاب العاجل الذي لا ينفك عنهم وهو ما يُقاسُونَه من الخوف من اطلاع الرسول على بواطنهم ، وما يحذرونه من أنواع الفضائح .
قوله : { كالذين مِن قَبْلِكُمْ } .
فيه أوجه :
أحدها : أنَّ هذه الكاف في محلِّ رفعٍ ، تقديره : أنتم كالذين ، فهي خبر مبتدأ محذوف .
الثاني : أنَّها في محلِّ نصب . قال الزجاجُ : المعنى : وعد كما وعد الذين من قبلكم فهو متعلقٌ ب « وَعَدَ » . قال ابن عطيَّة « وهذا قلقٌ » . وقال أبو البقاءِ : ويجُوز أن يكون متعلقاً ب { تَسْتَهْزِءُونَ } [ التوبة : 65 ] . وفي هذا بعدٌ كبيرٌ .
وقوله : « كانُوا أشدَّ » تفسيرٌ لشبههم بهم ، وتمثيل لفعلهم بفعلهم ، وجعل الفراءُ محلَّها نصباً بإضمار فعلٍ ، قال : « التَّشبيهُ من جهة الفعل ، أي : فعلتم كما فعل الذين من قبلكم » فتكون الكافُ في موضع نصب . وقال أبو البقاءِ : « الكافُ في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف وفي الكلام حذف مضافٍ ، تقديره : وعداً كوعد الذين » . وذكر الزمخشريُّ وجه الرفع المتقدم ، والوجه الذي تقدم عن الفراء ، وشبَّهه بقول النمر بن تولب : [ الكامل ]
2811- .. كاليَوْم مَطْلُوباً ولا طَلَبَا
بإضمار : « لَمْ أرَ » .
قوله : « كَمَا اسْتَمْتَعَ » الكافُ في محلِّ نصب ، نعتاً لمصدر محذوف ، أي : استمتاعاً كاستمتاع الذين .
قوله : { كالذي خاضوا } الكافُ كالَّتي قبلها . وفي « الَّذِي » وجوهٌ :
أحدها : أنَّ المعنى : وخضتم خوضاً كخوض الذين خاضوا ، فحُذفت النُّونُ تخفيفاً ، أو وقع المفردُ موقع الجمع وقد تقدَّم تحقيقه في أوائل البقرةِ ، فحذف المصدرُ الموصوفُ ، والمضافُ إلى الموصول وعائدُ الموصول تقديره : خاضوه ، والأصل : خاضوا فيه؛ لأنَّهُ يتعدَّى ب « في » فاتَّسع فيه فحذف الجارُّ ، فاتصل الضميرُ بالفعل ، فساغ حذفه ، ولولا هذا التَّريجَ لما ساغَ الحذف ، لما تقدم أنَّهُ متى جُرَّ العائد بحرف اشترط في جواز حذفه جرُّ الموصول بمثل ذلك الحرف وأن يتحد التعلَّق مع شروط أخر تقدمت .
الثاني : أنَّ « الذي » صفةٌ لمفردٍ مُفهم للجمع ، أي : وخضتم خَوَْضاً كخوض الفوج الذي خاضُوا ، أو الفريق الذي خاضوا والكلامُ في العائد كما سبق قبل .
قال بعضُ المفسِّرين : « الَّذي » اسم ناقص مثل « ما ، ومن » ، يعبَّر عن الواحد والجمع ، كقوله تعالى : { كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً } ثم قال { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } [ البقرة : 17 ] .
الثالث : أن « الَّذي » من صفة المصدر ، والتقدير : وخضتم خوضاً كالخوضِ الذي خاضوه وعلى هذا فالعائدُ منصوبٌ من غير واسطةِ حرفِ جر . وهذا الوجهُ ينبغي أن يكون هو الراجح ، إذ لا محذور فيه .
والرابع : أنَّ « الذي » تقعُ مصدرية ، والتقدير : وخضتم خوضاً . ومثله : [ البسيط ]
2812- فَثَبَّتَ الهُ ما آتَاكَ مِنْ حسبٍ ... في المُرسلينَ ونَصْراً كالَّذِي نُصِرُوا
أي : كنَصْرهم . وقول الآخر : [ البسيط ]
2813- يَا أمَّ عَمْرو جَزاكِ اللهُ مَغْفِرةً ... رُدِّي عليَّ فُؤادِي كالذي كَانَا
أي : ككون . وقد تقدَّم أنَّ هذا مذهب الفراء ، ويونس ، وقد تقدَّم تأويل البصريين لذلك قال الزمخشريُّ « فإن قلت : أيُّ فائدة في قوله : { فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ } ، وقوله { فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ } مغنٍ عنه ، كما أغْنَى » كالَّذِي خَاضُوا « ؟ قلت : فائدته أن يذُمَّ الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدُّنيا ، ورضاهم بها عن النَّظرِ في العاقبة ، وطلب الفلاح في الآخرة ، وأن يُخَسِّس أمر الاستمتاع ويُهَجِّن أمر الراضي به ، ثم شبَّه حال المخاطبين بحالهم ، وأمَّا { وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا } فمعطوفٌ على ما قبله ومسندٌ إليه ، مُسْتَغْنٍ بإسناده إليه عن تلك المقدمة يعني : أنه استغنى عن أن يكون التَّركيبُ : وخاضُوا ، فخضتم كالذي خاضوا » . وفي قوله { كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ } إيقاعٌ للظَّاهر موقع المضمر ، لنُكتَةٍ ، وهو أنَّه كان الأصلْ : فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتعوا بخلاقهم؛ فأبرزهم بصورةِ الظَّاهر تحقيراً لهم ، كقوله : { لاَ تَعْبُدِ الشيطان إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً } [ مريم : 44 ] ، وكقوله قبل ذلك : { المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ } ، ثم قال : { إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ التوبة : 67 ] وهذا كما يدلُّ بإيقاع الظَّاهر موقع المضمر على التفخيم والتعظيم ، يدُلُّ به على عكسه ، وهو التَّحقير .
فصل
معنى الآية : إنَّكُم فعلتم كفعل الذين من قبلكم ، بالعدولِ عن أمر الله والأمر بالمنكر ، والنهي عن المعروف ، وقبض الأيدي عن الخيرات ، و { كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً } بَطْشاً ومنعَةً ، { وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً } إنما استمتعوا مدة بالدُّنيا ، باتباع الشَّهوات ، ورضوا به عوضاً عن الآخرة ، { فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ } ، والخلاق : النصيب وهو ما قدر للإنسان من خير . { كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ } وسلكتم سبيلهم « وخُضْتُم » في الباطلِ والكذب على الله وتكذيب رسله ، والاستهزاء بالمؤمنين ، « كالذي خاضوا » أي : كما خاضوا .
{ أولئك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة } أي : بطلت حسناتهم في الدُّنيَا بسبب الموت والفقر والانتقال من العزِّ إلى الذُّل ومن القوة إلى الضَّعْفِ ، وفي الآخرة؛ لأنَّهُم لا يثابون بل يعاقبون أشد العقاب . { َأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون } حيثُ أتعبوا أنفسهم في الردِّ على الأنبياء ، ولم يجدوا منه إلا فوات الخير في الدُّنيا والآخرة ، فكما حبطت أعمالهم وخسروا حبطت أعمالكم وخسرتم .
روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم : « لتتَّبِعُنَّ سُنَنَ من قبلكمُ شِبْراً بِشبرٍ ، وذِرَاعاً بذرَاع ، حتَّى إذا دخلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لاتَّبعْتُموهُمْ » قيل : يا رسول الله اليهود والنصارى قال : « فَمَنَّ؟ » وفي رواية أبي هريرة : فهل النَّاسُ إلاَّ هُمْ؟ فلهذا قال في المنافقين « بَعْضُهم من بَعْضٍ » ، وقال في المؤمنين : « بَعْضُهمْ أولياءُ بَعْض » أي : في الدِّين واتفاق الكلمة ، والعون ، والنصرة ، « يَأْمُرُونَ بالمَعْرُوفِ » بالإيمان والطَّاعة والخير ، وقد تقدَّم الكلام على « يَأمُرونَ بالمَعْرُوفِ » .
« ويَنْهونَ عن المُنكَرِ » عن الشِّرك والمعصية ، وما لا يعرف في الشَّرع « ويُقِيمُونَ الصَّلاة » المفروضة { وَيُؤْتُونَ الزكاة وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أولئك سَيَرْحَمُهُمُ الله } فالسين للاستقبال ، إذ المراد رحمةٌ خاصةٌ ، وهي ما خبَّأه لهم في الآخرة . وادَّعَى الزمخشريُّ : أنَّها تُفيدُ وجوب الرحمةِ وتوكيد الوعدِ والوعيد ، نحو : سأنتقم منك ، يعني لا تفوتني وإن تباطأ ذلك ، ونظيره { سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً } [ مريم : 96 ] { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ } [ الضحى : 5 ] { سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ } [ النساء : 152 ] .
ثم قال : { إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } وذلك يوجبُ المبالغة في التَّرغيب والتَّرهيب؛ لأنَّ العزيز هو الذي لا يمنعُ من مراده في عباده من رحمة أو عقوبة ، والحكيمُ هو المدبر أمر عبادة على ما تقتضيه الحكمة .
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74) وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
قوله : { وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } [ التوبة : 72 ] .
والأقرب أنه تعالى أراد بها البساتين التي تبنى فيها المناظر؛ لأنَّهُ تعالى قال بعده { وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ } والمعطوفُ يجبُ أن يكون مغايراً للمعطوف عليه فتكون مساكنهم في جنَّات عدنٍ ومناظرهم التي هي البساتين ، وتكون فائدة وصفها بأنَّها عدنٌ ، أنَّها تجري مجرى دار السَّكن والإقامة .
وقوله : « خَالِدِينَ » حالٌ مقدَّرة ، كما تقدَّم . وقوله : { وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً } أي : منازل طيبة { فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ } أي : خلد وإقامة ، وفي « عدن » قولان :
أحدهما : أنَّهُ اسم على لموضع معين في الجنَّةِ .
قال عبدُ الله بنُ عمرو « إنَّ في الجنَّة قصراً يقال له عدنٌ ، حوله البروج وله خمسة آلاف باب على كلِّ باب خمسة ألاف حرة ، لا يدخله إلاَّ نبيٌّ ، أو صديقٌ أو شهيدٌ » .
قال الزمخشريُّ : و « عدن » علم بدليل قوله { جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ } [ مريم : 61 ] .
والقول الثاني : أنه صفة للجنة . قال الأزهريُّ : « العَدْنُ » مأخوذ من قولك : عَدَنَ بالمكان إذا أقام به ، يَعْدِنث عُدوناً . وتقول : تركت إبل بني فلان عوادن بمكان كذا ، وهو أن تلزم الإبل المكان فتألفه ، ومنه المعدن ، لمُسْتقرِّ الجواهر . يقال : عدن عُدُوناً ، فله مصدران . هذا أصلُ هذه اللفظة لغة . وذكر المفسِّرون لها معان كثيرة وقال الأعشى في معنى الإقامة [ المتقارب ]
2814- وإنْ يَسْتَضِيفُوا إلى حِلْمِهِ ... يُضَافُوا إلى رَاجِحٍ قَدْ عَدَنْ
أي : ثَبَتَ واستقرَّ . ومنه « عدن » لمدينة باليمن ، لكثرة المقيمين بها .
قوله : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ } التَّنكيرُ يفيدُ التقليل ، أي : أقلُّ شيء من الرضوان أكبر من جميع ما تقدَّم من الجنَّات ومساكنها .
ثم قال : { ذلك هُوَ الفوز العظيم } أي : هذا هو الفوزُ العظيمُ ، لا ما يطلبه المنافقون والكفار من التنعم بطيبات الدنيا . روى أبو سعيدٍ الخدريُّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ لأهل الجنَّة : يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون : ربنا ومالنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك ، فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون : ربنا أي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول : » أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً « .
قوله تعالى : { ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين } الآية .
لمَّا وصف المنافقين بالصِّفات الخبيثةِ ، وتوعدهم بأنواع العقاب ، ثمَّ ذكر المؤمنين بالصفات الحسنة ، ووعدهم بالثَّوابِ ، عاد إلى شرح أحوال الكُفَّارِ والمنافقين في هذه الآية .
فإن قيل : مجاهدة المنافقينَ غيرُ جائزة ، فإنَّ المنافق يستر كفره وينكره بلسانه .
فالجوابُ من وجوه :
أحدها : قال الضحاكُ : مجاهدة المنافق : تغليظُ القول ، وهذا بعيدٌ؛ لأنَّ ظاهر قوله { جَاهِدِ الكفار والمنافقين } يقتضي الأمر بجهادهما معاً ، وكذا ظاهر قوله : { واغلظ عَلَيْهِمْ } راجع إلى الفريقين .
وثانيها : أنَّ الجهاد عبارة عن بذل الجهد وليس في اللفظ ما يدلُّ على أنَّ الجهاد بالسَّيف أو باللِّسانِ أو بطريق آخر . فقال ابن مسعودٍ : بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لَمْ يَسْتَطعْ فبقَلبِهِ . وقال : لا يلقى المنافق إلاَّ بوجه مكفهر . وقال ابنُ عبَّاسٍ : باللِّسانِ وترك الرفق .
وثالثها : قال الحسنُ وقتادةُ : بإقامةِ الحدودِ عليهم
قال القاضي : وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ إقامة الحدود واجبةٌ على من ليس بمُنافقٍ .
قوله : { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } قال أبُو البقاءِ : إن قيل كيف حسنتِ الواوُ هنا والفاء أشبه بهذا الموضع؟ ففيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّ الواو واو الحالِ والتقدير : افعل ذلك في حال استحقاقهم جهنَّم ، وتلك الحال حال كفرهم ونفاقهم .
والثاني : أنَّ الواو جيء بها تنبيهاً على إرادة فعل محذوف ، تقديره : واعلمْ أنَّ مأواهم جهنم .
الثالث : أنَّ الكلام حمل على المعنى والمعنى أنَّه قد اجتمع لهم عذابُ الدُّنيا بالجهاد والغلظة ، وعذابُ الآخرة بجعل جهنَّم مأواهم . ولا حاجة إلى هذا كُلِّه ، بل هي جملةُ استثنافية .
قوله تعالى : { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ } الآية .
قال ابنُ عبَّاسٍ : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في ظلِّ شجرةٍ ، فقال : « إنهُ سيَأتِيكُمْ إنْسانٌ ينْظرُ إليْكُمْ بعيْنِ الشَّيطانِ ، فإذا جَاءَ فلا تُكَلِّمُوهُ » فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : « عَلامَ تَشْتمُنِي أنْتَ وأصْحَابُكَ » فانطلق الرَّجُل؛ فجاء بأصحابه ، فحلفُوا بالله ما قالوا ، فأنزل الله عز وجل الآية .
وقال الكلبيُّ : نزلت في جلاس بن سويدٍ ، وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم بتبوك ، فذكر المنافقين ، فسمَّاهم رجْساً وعابهم ، فقال جلاسٌ : لئن كان محمد صادقاً ، لنحنُ شرٌّ من الحمير فلمَّا انصرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه عامر بن قيس ، وأخبره بما قال جلاس ، فقال الجلاس : كذب يا رسول الله؛ فأمرهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يحلفا عند المنبر؛ فقام الجلاسُ عند المنبر بعد العصر فحلف بالله الذي لا إله إلاَّ هو ما قاله ، ولقد كذب عليَّ عامر ، فقام عامرٌ فحلف بالله الذي لا إله إلا هو : لقد قاله ، وما كذبتُ عليه ، ثم رفع عامرٌ يديه إلى السَّماء فقال : اللَّهُمَّ انزلْ على نبيِّكَ تصديق الصادقِ منَّا .
فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون : « آمين » ، فنزل جبريل عليه السلام قبل أن يتَفرَّقُوا بهذه الآية ، حتى بلغ { فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ } ، فقام الجلاسُ ، فقال : يا رسول الله ، وأتوب إليه ، فقبلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذلك منه ، ثم تاب وحَسُنَتْ توبتُه .
وقيل : نزلت في عبد الله بن أبيّ لما قال { يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل }
[ المنافقون : 8 ] . وأراد به الرسول - عليه الصَّلاة والسلام - ، فسمع زيدُ بنُ أرقم ذلك وبلغه إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، فهمَّ عمرُ بقتل عبد الله بن أبيّ ، فجاء عبد الله وحلف أنَّهُ لم يقل فنزلت الآية . وقال القاضي : الأولى أن تحمل هذه الآية على ما روي أنَّ المنافقين همُّوا بقتله عند رجوعه من تبوك ، وهم خسمة عشر رجلاً تعاهدوا أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي باللَّيل ، وكان عمَّار بن ياسر آخذاً بخطام راحلته وحذيفة خلفها يسوقها ، فسمع حذيفة وقع أخفاف الإبل ، وقعقة السلاح ، فالتفت ، فإذا قوم متلثمُون . فقال : إليكم يا أعداء الله ، فهربوا والظَّاهر أنهم لمَّا اجتمعوا لذلك الغرض ، فقد طعنوا في نبوته ونسبوه إلى الكذب في ادِّعاءِ الرسالة ، وذلك هو قولهم كلمة الكفر وهذا القول اختيار الزجاج .
فإن قيل : قوله : { وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ } يدلُّ على أنَّهم أسلمُوا من قبل ، وهم لم يكونوا مسلمين .
فالجوابُ : أنَّ المراد من الإسلام السلم الذي هو ضد الحرب؛ لأنَّهم لمَّا نافقوا ، فقد أظهروا الإسلام ، وقوله : { وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ } المراد إطباقهم على الفتك بالرسول عليه الصلاة والسلام والله تعالى أخبر الرسول بذلك حتى احترز عنهم ، ولم يصلُوا إلى مقصودهم وقال السُّديُّ : « هو قولهم إذا قدمنا المدينة؛ عقدنا على رأس عبد الله بن أبيّ تاجاً فلم يصلوا إليه » .
قوله : { وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ } .
في الاستثناء وجهان :
أحدهما : أنَّهُ معفول به ، أي : وما كرهُوا وعابُوا إلاَّ إغناءَ الله إيَّاهم وهو من باب قولهم : ما لي عندك ذنبٌ إلاَّ أن أحسنت إليك ، أي : إن كان ثم ذنبٌ فهو هذا ، فهو تهكمٌ بهم؛ كقوله : [ الطويل ]
2815- ولا عَيْبَ فينَا غَيْرَ عِرْقٍ لِمَعْشَرٍ ... كرامٍ وأنَّا لا نَخُطُّ على النَّمْلِ
وقول الآخر : [ المنسرح ]
2816- مَا نَقمُوا مِنْ بَنِي أمَيَّة إلْ ... لا أنَّهُم يَحْلُمُون إن غضبُوا
وأنَّهُمْ سَادَةُ الملُوك ولا ... يَصْلحُ إلاَّ عليهمُ العربُ
والثاني : أنَّهُ مفعولٌ من أجله ، وعلى هذا فالمفعولُ به محذوف ، تقديره : وما نقموا منهم الإيمان إلاَّ لأجل إغناء الله إيَّاهم . وقد تقدَّم الكلامُ على « نَقِمَ » [ الأعراف : 126 ] .
قيل : إن مولى الجلاس قتل ، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألفاً فاستغنى .
وقال الكلبيُّ : كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنكٍ من العيشِ فلمَّا قدمَ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم .
قوله : { فَإِن يَتُوبُواْ } أي : من نفاقهم : { يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا } أي : يعرضوا عن التوبة { يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَاباً أَلِيماً فِي الدنيا } بالخزي ، وفي { الآخرة } بالنَّارِ { وَمَا لَهُمْ } في الأَرض { مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } أي : أنَّ عذاب الله إذا حق لم ينفعه وليّ ولا نصير .
قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله } الآية .
« عاهد الله » فيه معنى القسم ، فلذلك أجيب بقوله : « لنصَّدقنَّ » ، وحذف جوابُ الشرط لدلالة هذا الجواب عليه ، و « اللاَّم » للتوطئةِ ، ولا يمتنع الجمعُ بين القسم واللاَّم الموطئة له .
وقال أبُو البقاءِ : فيه وجهان :
أحدهما : تقديره : « عاهد ، فقال : لئِنْ آتَانَا » .
والثاني : أن يكون « عاهد » بمعنى : قال ، فإنَّ العهد قول . ولا حاجة إلى هذا .
قوله : { لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ } قرأهما الجمهور بالنُّون الثقيلة . والأعمش بالخفيفة .
قال الزجاج الأصل : « لنتَصدَّقنَّ » ، ولكن التَّاء أدغمت في الصَّاد ، لقربها منها .
قال الليثُ : المُتصدق : المعطي ، والمُتصدق : السائل . قال الأصمعيُّ ، والفرَّاءُ : هذا خطأ ، فالمتصدق هو المعطي ، قال تعالى : { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين } [ يوسف : 88 ] واعلم أنَّ هذه السورة نزل أكثرها في شرح أحوال المنافقين؛ فلهذا ذكرهم على التفصيل فقال : { وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي } [ التوبة : 62 ] { وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات } [ التوبة : 58 ] { وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي } [ التوبة : 49 ] { وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ } [ التوبة : 75 ] .
والمشهور في سبب نزول هذه الآية : ما روى أبو أمامة قال : جاء ثعلبةُ بنُ حاطبٍ الأنصاريُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ادعُ الله أن يرزقني مالاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ويحْكَ يا ثعلبةُ قليلٌ تُؤدِّي شُكرَهُ خيرٌ من كثيرٍ لا تُطِيقهُ » ثمَّ أتاهُ بعد ذلك فقال : « أمّا لكَ في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ؟ والذي نفسي بيدهِ لوْ أردتُ أن تسيرَ الجبالُ معي ذهباً وفضةً لسَارَتْ »
ثمَّ راجعه بعد ذلك ، فقال : يا رسول الله : ادعُ الله أن يرزقني مالاً ، والذي بعثك بالحقِّ لئن رزقني الله مالاً لأعطين كلَّ ذي حقٍّ حقَّه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « اللَّهُمَّ ارزقْ ثعلبةَ مالاً » قال : فاتَّخذ غنماً؛ فنمت كما ينمو الدُّودُ ، حتى ضاقَتْ بها المدينةُ فتنحَّى عنها ، ونزل وادياً من أوديتها ، وكان يصلي مع رسول الله الظهر والعصر ، ويصلي في غنمة سائر الصلوات ، ثم كثُرتْ ونمتْ ، فتباعد حتى كان لا يشهدُ جمعةً ولا جماعة؛ فكان إذا كان يوم الجمعة خرجَ يتلقَّى النَّاس يسألهم عن الأخبار ، فذكرهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : « ما فعل ثعلبةُ؟ »
قالوا : يا رسول الله؛ اتَّخذَ غنماً ما يسعها وادٍ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « يا ويْحَ ثَعلبةَ » فأنزل الله تعالى آية الصدقات؛ فبعث رسُول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني سليم ، ورجلاً من جهينة ، وكتب لهما أسنان الصدقة كيف يأخذانها ، وقال لهما : « مُرَّا بثعلَبَة بنِ حاطبٍ ، وبرجُلٍ من بنِي سليمٍ ، فخذا صدقاتهما » فخرجا حتى أتيا ثعلبة؛ فسألاه الصدقة ، وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : هذه إلاَّ الجزية ، ما هذه إلاَّ أخت الجزية ، انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إليَّ ، فانطلقا وسمع بهما السُّلمي ، فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصَّدقة ، ثم استقبلهما بها ، فلمَّا رأياها قالا : ما هذه عليك؛ قال خذاه فإنَّ نفسي بذلك طيبة ، فمرَّا على الناس ، وأخذَا الصدقات ثم رجعا إلى ثعلبة ، فقال : أروني كتابكما؛ فقرأه ثم قال : ما هذه إلا جزية ، ما هذه إلاَّ أختُ الجزية ، اذهبا حتَّى أرى رأيي ، قال فأقبلا ، فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يكلماه : يا ويْحَ ثعلبةَ ، ثُمَّ دعا للسلميّ بخيرٍ؛ فأخبراه بالذي صنع ثعلبة؛ فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله } الآية على قوله : { وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } [ التوبة : 77 ] وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ من أقارب ثعلبةَ؛ فسمع ذلك ، فخرج حتَّى أتاهُ فقال : ويْحَكَ يا ثعلبة ، قد أنزل الله عزَّ وجلَّ فيك كذا وكذا ، فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يقبل صدقته ، فقال :
« إنَّ الله مَنَعنِي أن أقبلَ مِنْكَ صدقَتكَ » فجعل يَحثُو التُّرابَ على رأسِهِ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قد أمرتُك فلمْ تُطِعْنِي » ؛ فرجع إلى منزله ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتى أبا بكر بصدقته؛ فلم يقبلها اقتداء بالرسول - عليه الصلاة والسلام - فقبض أبو بكر ، ثم لم يقبلها عمر اقتداء بأبي بكر ، ثمَّ لم يقبلها عثمان ، وهلك ثعلبةُ في خلافه عثمان .
وقال ابنُ عباسٍ ، وسعيدُ بن جبير ، وقتادةُ : أتى ثعلبة مشهداً من الأنصار؛ فأشهدهم لئن آتاني الله من فضله آتيت كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ ، وتصدقت منه ، ووصلت منه القرابة ، فمات ابن عمٍّ له ، فورث منه مالاً ، فلم يف بما قال؛ فأنزل الله هذه الآية .
وقال الحسن ومجاهدٌ : نزلت في ثعلبةَ بن حاطبٍ ، ومعتب بن قشير ، وهما من بني عمرو بن عوف قد جاءا على ملأ قعوداً وقالا : والله لئن رزقنا الله لنصدقنَّ ، فلما رزقهما بخلا به . والمشهورُ الأول .
فإن قيل : إنَّ الله أمره بإخراج الصَّدقة؛ فكيف يجوزُ للرسول أن لا يقبلها منه؟ .
فالجواب : لا يبعد أن يقال : إنَّ الله تعالى منع الرسول - عليه الصلاة والسلام - من قبول الصدقة منه إهانة له ليعتبر غيره؛ فلا يمتنع عن أداء الصدقات ، أو أنَّه أتى بتلك الصدقة على وجه الرياء ، لا على وجه الإخلاص ، وأعلم الله الرسول بذلك؛ فلذلك لم يقبل تلك الصدقة ، ويحتمل أيضاً أن الله تعالى لما قال : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا } [ التوبة : 103 ] كان هذا غير حاصل في ثعلبة مع نفاقه؛ فلهذا امتنع الرَّسولُ - عليه الصلاو والسلام - من أخذ تلك الصَّدقةِ .
فإن قيل : المنافق كافرٌ ، والكافر لا يمكنه أن يعاهد الله .
فالجواب : أنَّ المنافق قد يكون عارفاً بالله ، إلاَّ أنه كان منكراً لنبوةِ محمدٍ عليه الصلاة والسلام؛ فلكونه عارفاً بالله يمكنه أن يعاهد الله ، ولكونه منكراً لنبوة محمد - عليه الصلاة والسلام - ، كان كافراً .
وكيف لا أقول ذلك وأكثر العالم مقرون بوجود الصانع؟ أو لعله حين عاهد الله كان مسلماً ، ثم لمَّا بخل بالمال ، ولم يف بالعهدِ صار منافقاً ، ولفظ الآية يدلُّ على ذلك لقوله : { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً } [ التوبة : 78 ] .
فإن قيل : هل من شرط المعاهدة أن يتلفظ بها باللسان ، أو يكفي النِّيَّة؟ .
فالجواب : قال بعضهم : تكفي النيةُ ، وأن قوله : { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله } [ التوبة : 75 ] كان شيئاً نووه في أنفسهم لقوله : { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ } [ التوبة : 78 ] . وقال المحققون : هذه المعاهدة مقيدة بالتَّلفظ باللسان ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « إنَّ الله عفا لأمَّتي ما حدَّثتْ به أنفُسهَا ما لم تتكلَّم به أو تعمل » وأيضاً فقوله { لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ } يشعر ظاهره بالقول باللسانِ .
فإن قيل : المراد من الصدقة إخراج المال ، وهو على قسمين واجبٌ وغير واجب والواجبُ قسمان :
قسم واجبٌ بأصل الشرع كالزَّكاة ، والنفقات الواجبةِ .
وقسم لم يجب إلاَّ إذا التزمه العبد كالنذور .
فقوله : « لنصَّدَّقنَّ » هل يتناولُ الأقسام الثلاثة ، أو لا؟
فالجوابُ : أنَّ الصَّدقات الَّتي ليست واجبة ، غير داخلة في الآية ، لقوله : « بخلوا به » والبخل في عرف الشَّرْعِ عبارة عن منع الواجب؛ ولأنَّه تعالى ذمَّهُم بهذا الترك ، وتارك المندوب لا يذم .
بقي القسمان الواجبان؛ فالواجب بأصل الشرع داخل في الآية ، لا محالة بقي الواجب بالنَّذر ، والظَّاهر أن اللفظ لا يدلُّ عليه؛ لأنه ليس في الآية إلاَّ قوله { لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ } وهذا ليس فيه إشعارٌ بالنَّذر ، لأنَّ الرجل قد يعاهدُ ربَّهُ في أن يقوم بما يلزمه من الزَّكوات والنفقات الواجبة إن وسَّعَ اللهُ عليه .
فإن قيل : لفظ الآية يدلُّ على أنَّ الذي لزمهم إنَّما بسبب هذا الالتزام ، والزكاةُ لا تلزم بسبب هذا الالتزام ، وإنما تلزمُ بملك النصاب وحلول الحولِ .
فالجوابُ : قوله : « لنصَّدقنَّ » لا يوجبُ أن يفعلوا ذلك على الفور؛ لأنَّهُ إخبار عن إيقاع هذا الفعل في المستقبل ، وهذا النذر لا يوجبُ الفور؛ فكأنهم قالوا : لنصدقن في وقته كما قالوا : { وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين } أي : في أوقات لزوم الصَّلاة؛ فثبت بما قرَّرْنَا أنَّ الدَّاخل تحت هذا العهد ، إخراج الأموال الواجبة بأصل الشَّرع ، ويؤكد هذا ما روي في سببن النُّزولِ أنَّ الآية إنَّما نزلت في حق من امتنع من أداة الزَّكاةِ .
فصل
المرادُ من « الفضل » ههنا : إيتاء المالِ بأي طريق كان ، إمَّا بتجارة ، أو غنيمةٍ أو غير ذلك . والمرادُ ب « الصَّالحينَ » : الصالح ضد المفسد ، والمفسد عبارة عمَّن بخل بما يلزمه في التكليف ، فالصَّالح : من يعملُ بعمل أهل الصَّلاحِ من صلة الرَّحمِ والنَّفقةِ في الخير ، ونحو ذلك .
ثم قال تعالى : { فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } .
قال الليثُ : يقال : أعقب فلاناً ندامةٌ ، إذا صيرت عاقبة أمره ذلك ، قال الهذليُّ : [ الكامل ]
2817- أودى بنيَّ وأعقبُوني حَسْرَةً ... بَعْد الرُّقادِ وعبْرَةٌ لا تُقْلِعُ
ويقال : أكل فلانٌ أكلةً فأعقبتهُ سُقْماً ، وأعقبه الله خيراً ، والمعنى : أخلفهم في قلوبهم أي : صير عاقبة أمورهم النفاق ، عاقبهم بنفاق في قلوبهم ، يقال : عاقبته وأعقبته بمعنى .
فصل
« فأعقبهم » فعل ، ولا بد من إسناده إلى شيء تقدَّم ذكره ، والذي تقدَّم ذكره هو الله تعالى ، والمعاهدة والتصدق والصلاح والبخل والتولي والإعراض ، ولا يجوزُ إسناد إعقاب النفاق إلى المعاهدة أو التَّصدق أو الصلاح ، لأنَّ هذه الثلاثة أعمال الخير؛ فلا يجوز جعلها مؤثرة في حصول النفاق في القلب؛ لأنَّ النفاقَ عبارة عن الكُفْرِ ، وهو جهل وترك بعض الواجب لا يكون مؤثراً في حصول الجهلِ في القلب؛ لأنَّ ترك الواجب عدمٌ ، والجهل وجود ، والعدم لا يكون مؤثراً في الوجود؛ لأنَّ البخل والتولي والإعراض ، قد يوجدُ في كثير من الفُسَّاقِ ، مع أنَّهُ لا يحصلُ معه النفاق؛ ولأنَّ هذا الترك لو أوجب حصول الكفرِ في القلب لأوجبه ، سواء كان هذا الترك جائزاً شرعاً أو محرماً شرعاً؛ لأنَّ سبب اختلاف الأحكام الشرعية لا يخرج المؤثر عن كونه مؤثراً؛ ولأنه تعالى قال : { بِمَآ أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } [ التوبة : 77 ] فلو كان فعل الإعقاب مسنداً إلى البخل ، والتولي ، والإعراض لصار تقدير الآية : فأعقبهم ببخلهم وتوليهم وإعراضهم نفاقاً في قلوبهم بما أخلفُوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ، وذلك لا يجوز؛ لأنَّه فرق بين التَّولي وحصول النفاق في القلب بسبب التولي ، ومعلومٌ أنه كلام باطل؛ فثبت بهذه الوجوه أنَّهُ لا يجوز إسناد الإعقاب إلى شيء من الأشياءِ المتقدم ذكرها إلاَّ إلى الله تعالى؛ فوجب إسناده إليه؛ فصار المعنى : أنَّ الله تعالى هو الذي يعقب النفاق في قلوبهم ، وذلك يدلُّ على أنَّ خالق الكفر في القلوب هو الله تعالى ، وهذا هو الذي قاله الزجاجُ ، إنَّ معناه : أنَّهُم لمَّا ضلُّوا في الماضي فهو تعالى أضلَّهُم عن الدِّين في المستقبل ، ويؤكدُ ذلك قوله تعالى : { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } فالضميرُ في قوله : « يَلقَوْنَهُ » عائد إلى الله تعالى فكان الأولى أن يكون قوله : « فأعْقَبَهُمْ » مسنداً إلى اللهِ تعالى .
قال القاضي « المرادُ من قوله : { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ } أي : فأعقبهم العقوبة على النفاق وتلك العقوبة هي : حدوث الغم في قلوبهم وضيق الصدر وما ينالهم من الذُّل والذنب ويدوم بهم ذلك إلى الآخرة » .
وهذا بعيدٌ؛ لأنه عدولٌ عن الظَّاهر من غير دليل فإن ذكروا دليلاً عقلياً ، قوبلوا بدليل عقلي . والله أعلم .
فصل
ظاهرُ الآية يدلُّ على أنَّ نقض العهد ، وخلف الوعد ، يورثُ النِّفاقَ ، فيجب على المسلم الاحتراز عن ذلك ، ويجتهد في الوفاءِ . ومذهب الحسنِ البصري : أنَّه يوجب النفاق لا محالة لهذه الآية ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : « ثلاثٌ من كُنَّ فيه كان مُنافقاً وإن صلَّى وصامَ وزعمَ أنَّهُ مؤمنٌ ، إذا حدَّث كذبَ ، وإذا وعدَ أخلفَ ، وإذا ائْتُمِنَ خَانَ » .
ونقل أن واصل بن عطاء قال : أتى الحسن رجلٌ فقال له : إن أولاد يعقوب حدَّثُوه في قولهم { فَأَكَلَهُ الذئب } [ يوسف : 17 ] فكذبوهُ ، ووعدوه في قولهم : { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ يوسف : 12 ] فأخلفوه ، وائتمنهم أبوهم على يوسف فخانوه ، فهل نحكمُ بكونهم منافقين؟ قيل : فتوقف الحسن في مذهبه .
وفسَّر عمر بن عبيد الحديث فقال « إذا حدَّث عن الله كذب عليه ، وعلى دينه ، وعلى رسوله وإذا وعد أخلف كما ذكر الله فيمن عاهد الله ، وإذا ائتمن على دين الله خان في السرِّ فكان قلبه على خلاف لسانه » .
قوله : { إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } قال الجبائيُّ « تمسَّكُوا في إثبات رُؤية الله بقوله تعالى : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ } [ الأحزاب : 44 ] قال : واللقاء ليس عبارة عن الرؤية ، بدليل قوله في صفة المنافقين { إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } وأجمعوا على أنَّ الكفَّار لا يرونه؛ فدلَّ على أنَّ اللقاء ليس عبارة عن الرؤية .
ويؤيدُه قوله عليه الصلاة والسلام » من حلفَ على يمينٍ كاذبةٍ ليقتطع بهَا حق امرئ مُسلمٍ لقيَ الله وهُو عليه غَضبَانُ « وأجمعوا على أنَّ المراد من اللقاء ههنا : لقاء ما عند الله من العقاب فكذا ههنا » .
قال ابن الخطيب « وهذا دليلٌ ضعيفٌ؛ لأنَّا إذا تركنا حمل لفظ اللقاء على الرُّؤيةِ في هذه الآية ، وفي الخبر لدليل منفصل؛ فلا يلزمنا ذلك في سائر الصُّور ، كما إذا أدخلنا التَّخصيصَ في بعض العمومات لدليل منفصل؛ فلا يلزمنا أن نُخَصّصَ جميع العمومات من غير دليل فكما لا يلزمنا هذا لا يلزمنا ذلك » .
قوله : { بِمَآ أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } أي : أنَّ الله أعقبهم ذلك النِّفاق في قلوبهم لأجل إخلافهم الوعد ، وعلى كذبهم . وقرأ الجمهور « يَكْذبُونَ » مخففاً ، وأبو رجاء مثقلاً .
قوله تعالى : { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ } الآية .
قرأ الجمهور « يَعْلمُوا » بالياء من تحت . وقرأ عليُّ بن أبي طالبٍ ، والحسنُ ، والسلمي بالخطاب ، التفاتاً للمؤمنين دون المنافقين والسِّر : ما ينطوي عليه صدورهم والنَّجْوَى : ما يفاوضُ فيه بعضهم بعضاً فيما بينهم ، مأخوذ من « النَّجْوِ » وهو الكلام الخفي كأنَّ المتناجين منعا إدخال غيرهما معهما ، ونظيره قوله تعالى : { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } [ مريم : 52 ] وقوله تعالى : { فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً } [ يوسف : 80 ] وقوله : { فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَةِ الرسول وَتَنَاجَوْاْ بالبر والتقوى }
[ المجادلة : 9 ] ، والمعنى : أنَّ الله تعالى يعلم سرهم ونجواهم فكيف يتجرَّءون على النفاق الذي الأصل فيه الاستسرار والتَّناجي فيما بينهم ، مع علمهم بأنَّهُ تعالى يعلم ذلك من حالهم ، كما يعلم الظَّاهر ، وأنَّهُ يعاقب عليه كما يعاقب على الظَّاهر .
قال : { وَأَنَّ الله عَلاَّمُ الغيوب } والعَلاَّمُ : مبالغة في العالم ، والغيب : ما كان غَائِباً عن الخلق .
قوله تعالى : { الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ } الآية .
في « الذين يَلْمِزُونَ » أوجه :
أحدها : أنه مرفوعٌ على إضمار مبتدأ ، أي : هم الذين .
الثاني : أّنَّه في محل رفع بالابتداء ، و « مِنَ الُمؤمنينَ » حالٌ من « المطَّوِّعين » .
و « في الصَّدقاتِ » متعلق ب « يَلْمِزُونَ » ، و « الَّذشينَ لا يَجِدُونَ » نسقٌ « المُطَّوِّعينَ » أي : يَعيبُونَ المياسير ، والفقراء . وقال مكيٌّ : « والَّذينَ » خفضٌ ، عطفاً على « المُؤمنينَ » ولا يَحْسُن عطفهُ على « المُطَّوِّعين » ؛ لأنه لمْ يتمَّ اسماً يعد؛ لأنَّ « فَيَسْخَرُونَ » عطف على « يَلْمِزُونَ » هكذا ذكره النَّحاسُ في الإعراب له ، وهو عندي وهمٌ منه .
قال شهابُ الدِّين : « والأمر فيه كما ذكر ، فإنَّ » المُطَّوِّعينَ « قد تمَّ من غير احتياجٍ لغيره » .
وقوله : « فَيَسْخرُونَ » نسقٌ على الصِّلةِ ، وخبر المبتدأ : الجملةُ من قوله « سَخِرَ اللهُ منهُمْ » هذا أظهرُ إعراب قيل هنا .
وقيل : « والَّذينَ لا يَجِدُونَ » نسقٌ على « الَّذِينَ يَلْمِزُونَ » ، ذكره أبُو البقاءِ وهذا لا يجُوزُ؛ لأنَّهُ يلزمُ الإخبارُ عنهم بقوله : { سَخِرَ الله مِنْهُمْ } ، وهذا لا يكون ، إلاَّ بأنْ كان « الَّذِينَ لا يَجِدُون » مُنافقينَ ، وأمَّا إذَا كانُوا مؤمنين ، كيف يسخرُ الله منهم؟ . وقيل : « والَّذِينَ لا يَجِدُونَ » نسقٌ على « المُؤمنينَ » ، قاله أبُو البقاءِ .
قال أبُو حيَّان : « وهُو بعيدٌ جدّاً » . ووجهُ بعده : أنَّه يفهمُ أنَّ « الَّذِينَ لا يجدُونَ » ليسوا مؤمنين؛ لأن أصل العطف الدلالةُ على المُغايرةِ ، فكأنَّنهُ قيل : يَلْمِزُونَ المطَّوِّعينَ من هذين الصنفين : المؤمنين ، والذين لا يجدُونَح فيكون « الَّذِينَ لا يجدون » مطَّوِّعين غير مؤمنين .
وقال أبُو البقاءِ : « فِي الصَّدقاتِ » متعلقٌ ب « يَلمِزُونَ » ، ولا يتعلَّق ب « المُطَّوِّعينَ » لئلاَّ يفصل بينهما بأجنبي . وهذا فيه نظر؛ إذ قوله « مِنَ المؤمنينَ » حال ، والحالُ ليست بأجنبيّ ، وإنَّما يظهر في ردِّ ذلك أن « يطَّوَّع » إنَّما يتعدى بالياءِ ، لا ب « في » وكون « في » بمعنى « الباء » خلاف الأصل . وقيل : « فَيَسْخَرُونَ » خبرُ المبتدأ ودخلتِ الفاءُ ، لمَا تضمَّنهُ المبتدأ من معنى الشرط ، وفي هذا الوجه بُعدٌ من حيثُ إنَّه يقرُب من كون الخبر في معنى المبتدأ فإنَّ من عاب إنساناً وغمزهُ علم أنَّهُ يسخرُ منه فيكون كقولهم : « سَيِّدُ الجاريةِ مالِكُهَا » .
الثالث : أن يكون محلُّه نصباً على الاشتغال ، بإضمار فعل يُفسِّره « سَخِرَ اللهُ منهُم » من طريق المعنى ، نحو : عاب الذين يلمزُون ، سخر الله منهم .
الرابع : أنْ ينصب على الشتم .
الخامس : أن يكون مجروراً بدلاً من الضمير في « سِرَّهُم ونجْواهُمْ » .
وقرئ « يلْمُزون » بضم الميم ، وقد تقدَّم أنَّها لغة ، وقرأ الجمهور « جُهْدَهم » بضمِّ الجيمِ .
وقرأ ابنُ هرمز وجماعة « جَهْدهم » بالفتح . فقيل : لغتان بمعنى واحد . وقيل المفتوحُ المشقَّةُ والمضمومُ : الطَّاقةُ ، قالهُ القتيبيُّ ، وقيل : المضمومُ شيءٌ قيلٌ يعاشُ به والمفتوحُ : العملُ .
وقوله : { سَخِرَ الله مِنْهُمْ } يحتملُ أن يكون خبراً محضاً ، وأن يكون دعاءً .
فصل
اعلم أنَّ هذا نوع آخر من أعمالهم القبيحة ، وهو لمزهم من يأتي بالصَّدقاتِ .
قال المفسِّرون : حثَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على الصَّدقةِ؛ فجاء عبدُ الرحمن بنُ عوفٍ بأربعة آلافِ درهم ، فقال : يا رسول الله ، مالي ثمانية آلاف درهم ، جئتك بأربعة آلاف فاجعلها في سبيل الله ، وأمسكتُ أربعة آلاف لعيالي .
فقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : « بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أعْطيْتَ ، وفيمَا أمْسَكْتَ » فبارك اللهُ في مال عبدالرحمن ، حتَّى إنَّهُ خلف امرأتين يوم أن مات؛ فبلغ ثمنُ ماله لهما مائة وستون ألفاً وتصدق يومئذ عاصمُ بن عدي العجلاني بمائة وسْقٍ من تمر .
وجاء أبُو عقيلٍ الأنصاري واسمه الحبحاب ، بصاعٍ من تمرٍ ، وقال : يا رسُول الله بتُّ ليلتي أجر بالجرير حتى نلتُ صاعين من تمرٍ؛ فأمسكتُ أحدهما لعيالي ، وجئتُ بالآخر؛ فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره على الصَّدقاتِ؛ فلمزهم المنافقُون ، وقالوا : ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلاَّ رياءً ، وإن كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبي عقيل ولكنَّهُ أحب أن يزكي نفسه ليعطى من الصَّدقات؛ فأنزل الله تعالى : « الَّذِينَ يلْمِزُون » أي : يعيبون المطوعين المتبرعين من المؤمنين في الصدقات ، يعني : عبد الرحمن بن عوف وعاصماً ، { وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ } أي : طاقتهم .
والجُهْدُ : شيء قليلٌ يعيش به المقلُّ ، والجهد بالفتح ، والجُهْد بالضمِّ بمعنى واحد يعني : أبا عقيل : « فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ » يستهزئون منهم ، { سَخِرَ الله مِنْهُمْ } أي : جازاهم على السخرية ، وقال الأصمُّ : المرادُ أنه تعالى قبل من هؤلاء المنافقين ما أظهروهُ من أعمال البرِّ مع أنَّهُ لا يثيبهم عليها؛ فكان ذلك كالسخرية ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
قوله تعالى : { استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } الآية .
قال ابنُ عبَّاسٍ : إنَّ عند نزول الآية في المنافقين ، قالوا : يا رسول الله ، استغفر لنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « سأسْتغفرُ لَكُمْ » ؛ فنزل قوله تعالى : { استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } قد تقدَّم الكلام على هذا عند قوله : { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ } [ التوبة : 53 ] ؛ وأنَّهُ نظيرُ قوله : [ الطويل ]
2818- أسِيئِي بِنَا أوْ أحْسِني لا مُسِيئةٌ ... لدَينَا ولا مقليَّةٌ إنْ تقَلَّتِ
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)
قوله تعالى : { فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ } الآية .
« بِمَقْعدِهِم » متعلقٌ ب « فرح » ، وهو يصلحُ لمصدر « قَعَدَ » ، وزمانه ومكانه .
قال الجوهريُّ « قَعَدَ قُعُوداً ومَقْعَداً » ، جَلس ، وأقعَده غيره « والمخلف : المتروكُ ، أي : خلفهم الله وثبطهم ، أو خلفهم رسول الله - عليه الصلاة والسلام - والمؤمنون ، لمَّا علموا تثاقلهم عن الجهادِ والمرادُ ب » المقعد « ههنا المصدر ، أي؛ بقُعُودِهِمْ وإقامتهم بالمدينة . وقال ابنُ عبَّاسٍ : يريدُ : المدينة؛ فعلى هذا هو اسمُ مكانٍ .
فإن قيل : إنَّهم احتالُوا حتى تخلَّفُوا عن رسول الله؛ فكان الأولى أن يقال : فرح المتخلفون فالجوابُ من وجوه :
أحدها : أنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام منع أقواماً من الخروج معه لعلمه أنَّهم يفسدون ويشوشون ، وكان هذا في غزوة تبوك؛ فهؤلاء كانوا مخلَّفين لا متخلِّفين .
وثانيها : أنَّ أولئك المتخلفين صارُوا مخلفين في قوله بعد هذه الآية : { فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً } [ التوبة : 83 ] ، فلمَّا منعهم الله من الخروج صارُوا مخلفين .
وثالثها : أنَّ من يتخلَّف عن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد خروجه إلى الجهاد ، يوصف بأنَّه مخلف من حيث إنَّهُ لم ينهض ، وبقي وأقام .
قوله : { خِلاَفَ رَسُولِ الله } فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنَّه منصوبٌ على المصدر بفعلٍ مقدرٍ مدلولٍ عليه بقوله » مَقْعدِهِمْ « ؛ لأنَّه في معنى تخلَّفوا ، أي : تخلَّفوا خلاف رسول الله .
الثاني : أنَّ » خلاف « مفعولٌ من أجله ، والعامل فيه إمَّا » فَرِحَ « ، وإمَّا » مَقْعَد « أي : فَرِحُوا؛ لأجل مخالفتهم رسول الله ، حيثُ مضى هو للجهاد ، وتخلَّفوا هم عنه ، أو بقعودهم لمخالفتهم له ، وإليه ذهب الطبريُّ ، والزجاج ، ومؤرِّج ، وقطرُب ، ويُؤيدُ ذلك قراءةُ من قرأ » خُلْف « بضم الخاء وسكون اللاَّم .
والثالث : أن ينتصب على الظرف ، أي : بعد رسول الله ، يقال : أقام زيد خلاف القوم ، أي : تخلَّف بعد ذهابهم .
قال الأخفش وأبو عبيدة : إنَّ » خلافَ « بمعنى : » خَلْف « ، وأنَّ يونس رواه عن عيسى بن عمر ومعناه : بعد رسول الله . ويؤيده قراءة ابن عبَّاسٍ ، وأبو حيوة ، وعمرو بن ميمون » خَلْفَ « بفتح الخاءِ وسكون اللاَّمِ .
وعلى هذا القول ، الخلاف : اسم للجهةِ المعينة كالخلف ، وذلك أنَّ المتوجِّه إلى قُدَّامه فجهة خلفه مخالفة لجهة قُدَّامه في كونها جهة مُتوجِّهاً إليها ، و » خِلافَ « بمعنى » خَلْف « مستعمل ، وأنشد أبو عبيدة للأحوص : [ الكامل ]
2819- عَقَبَ الرَّبيعُ خِلافَهُمْ فَكَأَنَّمَا ... بَسَطَ الشَّواطِبُ بَيْنَهُنَّ حَصِيرَا
وقول الآخر : [ الطويل ]
2820- فَقُلْ للَّذِي يَبْقَى خلافَ الذي مَضَى ... تَأهَّبْ لأخْرَى مِثلهَا فكأنْ قَدِ
قوله تعالى : { وكرهوا أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله } أي : إنَّهم فرحوا بسبب التخلف ، وكرهُوا الذهاب إلى الغزو .
واعلم أنَّ الفرح بالإقامة يدل على كراهيةِ الذهاب ، إلاَّ أنَّهُ أعاده للتَّأكيد ، أو لعلَّ أن المراد أنَّ طبعه مال إلى الإقامة؛ لأجل إلفه البلدة ، واستثنائه بأهله وولده ، وكره الخروج إلى الغزو؛ لأنَّهُ تعريضٌ للمال والنفس للقتلِ ، وأيضاً منعهم عن الخروج شدة الحرِّ في وقت خروج رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ، وهو المرادُ من قوله : { لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر } ، فأجاب اللهُ عن هذا الأخير بقوله : { قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } أي : يعلمون ، وكذلك في مصحف عبد الله بن مسعود ، أي : بعد هذه الدَّار ، دار أخرى ، وبعد هذه الحياة حياة أخرى ، وأيضاً هذه مشقة منقضية ، وتلك مشقة باقية .
وأنشد الزمخشريُّ لبعضهم : [ الطويل ]
2821- مَسَرَّةَ أحْقابٍ تلقَّيْتُ بَعْدهَا ... مسَاءةَ يَوْمٍ أريُهَا شَبَهُ الصَّابِ
فَكيفَ بأنْ تَلْقَى مسرَّةَ سَاعَةٍ ... ورَاء تَقَضِّيها مَسَاءَةُ أحْقَابِ
قوله تعالى : { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرا } الآية .
« قَلِيلاً » ، و « كَثِيراً » فيهما وجهان :
أظهرهما : أنَّهما منصوبان على المصدر ، أي : ضحكاً قليلاً وبكاءً كثيراً؛ فحذف الموصوفَ ، وهو أحدُ المواضع المُطَّردِ فيها حذفُ الموصوف وإقامةُ الصفة مقامه .
والثاني : أنَّهما منصوبان على ظرفي الزمان ، أي : زماناً قليلاً ، وزماناً كثيراً والأول أولى؛ لأنَّ الفعل يدلُّ على المصدر بشيئين : بلفظه ومعناه ، بخلاف ظرف الزمان فإنه لا يدلُّ عليه بلفظه ، بل بهيئته الخاصَّةِ .
وهذا وإن ورد بصيغة الأمر إلاَّ أنَّ معناه الإخبار بأنه ستحصل هذه الحالة ، لقوله تعالى بعده { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } .
قوله : « جَزَاءً » فيه وجهان :
الأول : قال الزَّجَّاج : إنَّه مفعولٌ لأجله ، أي : سبب الأمر بقلَّة الضَّحكِ ، وكثرة البكاء جزاؤهم بعملهم . و « بِمَا » متعلق ب « جزاء » ، لتعديته به ويجوزث أن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنَّه صفته .
والثاني : أن ينتصب على المصدر بفعلٍ مقدَّرٍ ، أي : يُجْزونَ جزاءً . { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } في الدنيا من النِّفاق .
قوله تعالى : { فَإِن رَّجَعَكَ الله } الآية .
« رَجَعَ » يتعدَّى كهذه الآية الكريمة ، ومصدرُهُ : « الرَّجْع » ، كقوله { والسمآء ذَاتِ الرجع } [ الطارق : 11 ] . ولا يتعدَّى ، نحو : { وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [ الأنبياء : 35 ] في قراءة من بَنَاهُ للفاعل . والمصدر : الرُّجوعُ ، كالدُّخُولِ .
والمعنى : فإن ردَّك الله من غزوة تبوك إلى المدينة ، ومعنى « الرجع » مصير الشَّيء إلى المكان الذي كان فيه ، يقال : رجعته رجعاً ، كقولك : رددته رداً .
وقوله : { إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ } إنَّما خصَّصَ؛ لأنَّ جميع من أقام بالمدينة ما كانوا منافقين ، بل كان بعضهم مخلصين معذورين ، { فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ } معك في غزوة أخرى { فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً } في سفر ، { وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً } وهذا يجري مجرى الذَّم واللَّعن لهم ، ومجرى إظهار نفاقهم وفضائحهم؛ لأنَّ ترغيب المسلمين في الجهاد أمرٌ معلومٌ بالضَّرورة من دين محمَّد عليه الصلاة والسلام ، ولمَّا منعوا هؤلاء من الخروج إلى الغزو بعد ذلك الاستئذان ، كان ذلك تصريحاً بكونهم خارجين عن الإسلام ، ونظيره قوله تعالى
{ سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم } [ الفتح : 15 ] { قُل لَّن تَتَّبِعُونَا } [ الفتح : 15 ] ، ثم إنَّه تعالى علَّل ذلك المنع بقوله { إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ } أي : لأنكم رضيتم { بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ } في غزوة تبوك .
قال أبُو البقاءِ : « أوَّل مرَّةٍ » ظرف . قال أبُو حيَّان « يعني ظرف زمان وهو بعيد » .
قال شهابُ الدِّين « لأنَّ الظَّاهر منصوبةٌ على المصدر . وفي التفسير : أول خرجةٍ خرجها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فالمعنى : أول مرَّة من الخروج » .
قال الزمخشريُّ « فإن قلت : » مَرَّةٍ « نكرة ، وضعت موضع المرات ، للتفضيل ، فلمَ ذُكِرَ اسمُ التفضيل المضافُ إليها ، وهو دالٌّ على واحدةٍ من المرَّاتِ؟ قلت : أكثرُ اللُّغتين : أن يقال هند أكبرُ النساء ، وهي أكبرهنَّ ، ثم إنَّ قولك : هي كبرى امرأة ، لا يكادُ يُعثر عليه ، ولكن هي أكبر امرأة ، وأول مرة وآخر مرة » .
والمعنى : أنَّ الحاجةَ في المرَّة الأولى إلى موافقتكم كانت أشدّ ، وبعد ذلك زالت تلك الحاجة فلما تخلَّفْتُم عند مسيس الحاجة إلى حضُورِكُم؛ فبعد ذلك لا نقبلكم ، ولا نلتفتُ إليكم .
قوله : « مَعَ الخالفين » هذا الظَّرفُ يجوز أن يكون متعلقاً ب « اقْعُدُوا » ، ويجوزُ أن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنَّه حال من فاعل « اقْعُدُوا » . والخَالِفُ : المتخلِّفُ بعد القوم .
قال الأخفشُ ، وأبو عبيده : « الخَالِفُونَ » جمع ، واحدهم « خالف » ، وهو من يخلف الرجل في قومه . والمعنى : مع الخالفينَ من الرِّجال الذين يخلفون في البيت ، فلا يبرحون .
وقال الفرَّاءُ : المراد : ب « الخَالِفينَ » ، يقالُ : عبد خالف ، إذا كان مخالفاً . وقال الأخفشُ : فلان خالفةُ أهل بيته إذا كان مخالفاً لهم ، وقال الليثُ : يقال هذا رجل خالفةٌ ، أي : مخالف كثير الخلاف ، فإذا جمع قلت : الخالفُونَ . وقال الأصمعيُّ : الخالفُ : هو الفاسد ، يقال : خلف فلان عن كل خير يخلف خلوفاً ، إذا فسد ومنه « خُلُوف فَمِ الصَّائمِ » ، والمراد بهم : النِّساءُ والصبيانُ والرِّجالُ العاجزون؛ فلذلك جازَ جمعهُ للتَّغليب . وقال قتادةُ : الخَالِفُونَ : النِّسَاء « وهو مردودٌ ، لأجْلِ الجمع . وقرأ عكرمة ، ومالكُ بن دينارٍ » مَعَ الخَلِفينَ « مَقصُوراً من » الخَالِفِينَ « ؛ كقوله : [ الرجز ]
2822- مِثْلُ النَّقَا لَبَّدَهُ ضَرْبُ الظِّلَلْ ... وقوله : [ الرجز ]
@2823- . . عَرِدَا .. . . . بَرِدَا
يريد : » الظِّلال « و » عَرِدّا « : بَارِداً .
قوله تعالى : { وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم } الآية .
» مِنْهُم « صفةٌ ل » أحَدٍ « ، وكذلك الجملة من قوله : » مَاتَ « ، في موضع جر أيضاً كأنه قيل : على أحدٍ منهم ميت ، ويجوزُ أن يكون » مِنْهُم « حالاً من الضَّمير في » مَاتَ « أي : مات حال كونه منهم ، أي : مُتَّصِفاً بصفة النِّفاقِ ، كقولهم : أنت مني ، يعني : على طريقتي و » أبَداً « ظرف منصوب بالنهي ، وهذا الظَّرفُ متعلق ب » أحَد « ، والتقدير : ولا تصل أبداً على أحدٍ منهم .
فصل
اعلم أنَّهُ تعالى أمر رسوله أن يُهينَهُم ، ويذلهم ، بمنعهم من الخروج معه إلى الغزوات ثمَّ منعه في هذه الآية من أن يُصلي على من مات منهم . روى ابنُ عبَّاسٍ : أنَّه مات ، ويقوم على قبره ، ثمَّ إنه أرسل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب منه قميصه ، ليكفن فيه؛ فأرسل إليه القميص الفوقاني ، فردَّه ، وطلب الذي يلي جلده ليكفَّن فيه ، فقال عمرُ : لِمَ تُعطِي قميصَك للرجس النَّجس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إنَّ قميصِي لا يُغْنِي عنهُ مِنَ اللهِ شيئاً ، ولعلَّ اللهَ أن يُدخلَ بِه ألفاً في الإسلام » وكان المنافقون لا يفارقون عبد الله؛ فلمَّا رأوه يطلبُ القميص ، ويرجو أن ينفعه ، أسلم منهم يومئذ ألفٌ .
فلمَّا مات جاء ابنُهُ يعرفه ، فقال عليه الصلاة والسلام لابنه : « صَلِّ عليْهِ واذْفِنْهُ » ، فقال : إن لم تُصل عليه يا رسول الله لم يُصَلّ عليه مسلمٌ ، فقام صلى الله عليه وسلم ، ليصلِّي عليه؛ فجاء عمر فقام بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين القبلة؛ لئلاَّ يصلي عليه ، فنزلت الآية وأخذ عمر بثوبه وقال : { وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً } ، وهذا يدلُّ على منقبة عظيمة من مناقب عمر؛ وذلك لأنَّ الوَحْيَ نزل على وَفْق قوله في آيات كثيرة منها : آية أخذ الفداء عن أسارى بدر كما سبق ، ومنها : « آية تحريم الخمر » [ المائدة : 90 ] ، ومنها : « آية تحويل القبلة » [ البقرة : 142 ] ، ومنها : آية أمر النِّساء بالحجاب ، وهذه الآية؛ فصار نزول الوحي على مطابقة قول عمر منصباً عالياً ، ودرجة رفيعة في الدِّين ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « لوْ لَمْ أبْعَثْ لبعثتَ يا عمر نبيّاً » .
قال القرطبيُّ : إن قال قَائِلٌ ، كيف قال له عمر : أتصلي عيه ، وقد نهاكَ اللهُ أنْ تُصَلِّي عليه ولم يكن تقدم نهي عن الصلاة عليهم؟ قيل له : يحتملُ أن يكون ذلك وقع له في خاطره ، ويكون من قبيل الإلهام والتحدث الذي شهد له به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان القرآن ينزل على وفق مراده ، كما قال : وافقت ربي في ثلاث ، وجاء : في أربع؛ فيكون هذا من ذاك . ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله : { استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } [ التوبة : 80 ] الآية ، ويحتملُ أن يكون فهم ذلك من قوله : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } [ التوبة : 113 ] فإن قيل : كيف يجوزُ أن يرغب الرسول - عليه الصلاة والسلام - في الصَّلاة عليه بعد علمه بأنه كافر وقد مات على كفره ، وأنَّ صلاة الرَّسول - عليه الصلاة والسلام - تجري مجرى الإجلال والتَّعظيم وأيضاً فالصَّلاة عليه تتضمَّنُ الدُّعاء له ، وذلك محظورٌ؛ لأنَّه تعالى أعلمه أنه لا يغفر للكافرِ ألبتة ، وأيضاً دفع القميص إليه يوجب إعزازه؟ .
فالجواب : لعلَّ السَّبب فيه ، أنَّه لمَّا طلب من الرسول - عليه الصلاة والسلام - القميص الذي يمسّ جلده ، ليدفن فيه ، غلب على ظنّ الرسول - عليه الصلاة والسلام - أنه آمن؛ لأنَّ ذلك الوقت وقت توبة الفاجر ، وإيمان الكافر ، فلمَّا رأى منه إظهار الإسلام ، وشاهد منه هذه الأمارة التي دلت على إسلامه ، غلب على ظنِّه إسلامه؛ فبنى على هذا الظَّن ، ورغب في الصلاة عليه ، فلمَّا نزل جبريلُ عليه السلام وأخبره بأنه مات على كفره ونفاقه؛ امتنع من الصلاة عليه وأمَّا دفع القميص إليه ، وكان رجلاً طويلاً؛ فكساهُ عبدالله قميصه . وقيل : إنَّ المشركين قالوا له يوم الحديبيةِ : إنَّا لا ننقادُ لمحمَّدٍ ، ولكنَّا ننقاد لك ، فقال : لا ، إنَّ لي في رسول الله أسوةً حسنةً؛ فشكر رسولُ الله له ذلك . قال ابنُ عيينة : كانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم يدٌ فأحبَّ أن يُكافِئَهُ .
وقيل : إنَّ الله تعالى أمره أن لا يرد سائلاً ، لقوله تعالى : { وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ } [ الضحى : 10 ] فلمَّا طلب القميص منه دفعه إليه ، لهذا المعنى . وقيل : إنَّ منع القميص لا يليقُ بأهل الكرم وذلك أنَّ ابنه عبد الله بن عبدالله بن أبيّ كان من الصالحين؛ فالرسولُ أكرمه لمكان ابنه وقيل : لعلَّ اللهَ تعالى أوحى إليه ، أنَّك إذا دفعت قميصك إليه صار ذلك سبباً لدخول نفر من المنافقين في الإسلامِ ، فقيل لهذا الغرض ، كما روي فيما تقدَّم ، وقيل : إنَّ الرّأفة والرحمة كانت غالبةً عليه صلى الله عليه وسلم ، لقوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] فامتنع من الصَّلاة عليه ، لأمر الله تعالى ، ودفع القميص رأفة ورحمة .
واعلم أنَّ قوله { وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً } يحتملُ تأبيد النَّفي ، ويحتملُ نفي التأبيد والأول هو المقصودُ؛ لأنَّ قرائن هذه الآية دالَّة على أنَّ المقصود منعه من أن يصلِّي على أحد منهم منعاً كُلِّيّاً دائماً .
ثم قال : { وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ } وفيه وجهان :
الأول : قال الزَّجَّاجُ « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له » فمنع منه ههنا . الثاني : قال الكلبي : « لا تقم بإصلاح مُهمَّات قبره ، ولا تتولّ دفنه » ، من قولهم : قام فلانٌ بأمر فلان ، إذا كفاه أمره ، ثمَّ إنه تعالى علَّل المنع من الصَّلاة عليه ، والقيام على قبره بقوله : { إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ } .
فإن قيل : الفسقُ أدْنَى حالاً من الكفر ، فلما علل بكونه كافراً؛ فما فائدةُ وصفه بعد ذلك بالفسق؟ .
فالجوابُ : أنَّ الكافر قد يكونُ عدلاً في دينه ، وقد يكون فَاسِقاً في دينه خبيثاً ممقوتاً عند قومه ، بالكذب ، والخداع ، والمكر ، وهذه أمورٌ مستقبحةٌ في جميع الأديان ، فالمنافقون لمَّا كانوا موصوفين بهذه الصفات ، وصفهم الله تعالى بالفسقِ بعد أن وصفهُم بالكفر ، تنبيهاً على أنَّ طريقة النِّفاق طريقة مذمُومة عند جميع العالم .
فإن قيل : قوله { إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله } صريح بأنَّ ذلك النَّهي معلّلٌ بهذه العلة ، وذلك يقتضي تعليل حكم الله تعالى ، وهو محال ، فإنَّ حكم الله قديمٌ ، وهذه العلة محدثة ، وتعليل المحدث بالقديم محال .
فالجوابُ : أنَّ البحث في هذه المسألة طويل ، وظاهرُ هذه الآية يدلُّ عليه .
فصل
قال القرطبي : قوله تعالى : { وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً } نصّ في الامتناع من الصلاة على الكُفَّار ، وليس فيه دليل على الصَّلاة على المؤمنين ، واختلفوا هل يؤخذ من مفهومه وجوب الصلاة على المؤمنين؟ فقيل : يُؤخذ؛ لأنَّه علَّل المنع من الصَّلاة على الكُفَّار لكفرهم لقوله تعالى : { إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ } ، فإذا زال وجبت الصَّلاةُ ، لقوله تعالى { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [ المطففين : 15 ] يعني : الكفَّار؛ فدلَّ على أنَّ غير الكفار يرونه وهم المؤمنون .
وقيل : إنَّما تؤخذ الصَّلاة من دليلٍ خارج ، وهو الأحاديث ، والإجماع . ومنشأ الخلاف القول بدليل الخطابِ وتركه .
فصل
جمهورُ العلماءِ على أنَّ التكبير في الصَّلاة على المَيّت أربع تكبيرات . وقال ابنُ سيرين : كان التكبير ثلاثاً فزادُوا واحدةً ، وعن ابن مسعود ، وزيد بن أرقم ، يكبر خَمْساً وعن عليٍّ : ست تكبيرات .
فصل
قال القرطبيُّ : ولا قراءة في صلاة الجنازة في المشهور من مذهب مالكٍ . وكذا أبو حنيفة والثوري ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « إذا صلَّيْتُم على المَيِّت فأخْلِصُوا له الدُّعاءِ » وذهب الشافعيُّ ، وأحمدُ ، وإسحاقُ ، ومحمدُ بنُ سلمة ، وأشهب ، وداوود : إلى أنه يقرأ بالفاتحة ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « لا صلاةَ لِمَنْ لا يَقْرَأ بفَاتِحَةِ الكتابِ » .
والسُّنَّةُ أن يقفَ الإمامُ عند رأسِ الرجل ، وعند عجيزةِ المرْأةِ .
قوله تعالى : { وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ } الآية .
قيل : هذا تأكيدٌ للآيةِ السَّابقة . وقال الفارسيُّ : « ليست للتأكيد؛ لأنَّ تيكَ في قومٍ وهذه في آخرين ، وقد تغاير لفظا الآيتين؛ فهنا » ولاَ « بالواو ، لمناسبة عطف نَهْي على نَهْي قبله في قوله : » ولا تُصَلِّ . . ولا تَقُمْ « ، » ولاَ تُعْجِبكَ « ، فناسبَ ذلك » الواو « ، وهناك ب » الفاء « ، لمناسبة تعقيب قوله : { وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ } [ التوبة : 54 ] أي : للإنفاق ، فهم مُعْجَبون بكثرة الأموالِ والأولادِ ، فنهاهُ عن الإعجاب ب » فاء « التعقيب . وهنا » وأولاَدهُمْ « دون » لا « نهيٌ عن الإعجاب بهما مجتمعين ، وهناك بزيادة » لا « لأنَّه نهيٌ عن كل واحد واحد ، فدلَّ مجموعُ الآيتين على النَّهي بالإعجاب بهما مجتمعين ومنفردين » .
قال ابنُ الخطيبِ « السَّبَبُ فيه : أنَّ مثل هذا التَّرتيب يبتدأُ فيه بالأدْنَى ثمَّ يترقَّى إلى الأشرف ، فيقال : لا يُعْجِبُنِي أمر الأمير ، ولا أمر الوزير ، وهذا يدلُّ على عدم التفاوت بين الأمرين عندهم » .
وهنا قال « أن يُعذِّبَهُم » ، وهناك قال « ليُعَذِّبَهُم » ، فأتى ب « اللاَّم » المشعرة بالغلية ومفعول الإرادةِ محذوفٌ ، أي : إنَّما يريد الله اختبارهم بالأموالِ والأولادِ - وأتى ب « أنْ » ؛ لأنَّ مصبَّ الإرادة التَّعذيبُ ، أي : إنَّما يريد الله تَعْذيبَهُم ، فقد اختلف مُتعلَّقُ الإرادة في الآيتين . هذا هو الظَّاهر . وقال ابنُ الخطيب « فائدته : التَّنبيه على أنَّ التعليلَ في أحكام الله تعالى محالٌ ، وإنَّما ورد حرفُ التعليل زائداً ومعناه » أنْ « لقوله تعالى { وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله } [ البينة : 5 ] ، أي : » وما أمروا إلا بأن يعبدوا الله « . وهناك » فِي الحياةِ الدُّنْيَا « ، وهنا سقطت » الحَيَاة « ، تنبيهاً على خِسِّيَّة الدُّنْيَا وأنَّها لا تَسْتحق أن تُسمَّى حياة ، لا سيما وقد ذُكرت بعد ذكر موتِ المنافقين؛ فناسبَ ألاَّ تُسَمَّى حياة » .
وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
قوله تعالى : { وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ } الآية .
« إذَا » لا تقتضي تكراراً بوضعها ، وإن كان بعضُ النَّاسِ فهم ذلك منها هنا ، وقد تقدَّم ذلك أوَّل البقرة؛ وأنشد عليه : [ البسيط ]
2824- إذَا وَجَدْتُ أوَارَ الحُبِّ فِي كَبِدِي ..
وأنَّ هذا إنَّما يُفهَمُ من القرائنِ ، لا منْ وضع « إذَا » .
قوله : « أَنْ آمِنُواْ » فيه وجهان :
أحدهما : أنَّها تفسيريةٌ؛ لأنَّه فيه تقدَّمها ما هو بمعنى القول لا حروفه .
والثاني : أنَّها مصدريةٌ ، على حذف حر الجرّ ، أي : بأنْ آمنُوا .
وفي قوله : « استأذنك » التفاتٌ من غيْبَةٍ إلى خطابٍ ، وذلك أنَّهُ قد تقدَّم لفظُ « رسُوله » ، فلو جاء على الأصل لقيل : اسْتَأْذَنَهُ « .
فصل
اعلم أنَّهُ تعالى بيَّن في الآيات المتقدمة احتيال المنافقين في التَّخلف عن رسُول الله - عليه الصَّلاة والسَّلام - ، والقعود عن الغَزْوِ ، وزاد ههنا ، أنَّهُ متى نزلت أية فيها الأمر بالغزو مع الرسولِ ، استأذن أولو الثروة والقدرة منهم في التخلُّف عن الغزو ، وقالوا للرَّسُول عليه الصلاة والسلام : ذَرْنَا نكُن مع القاعدين ، أي : مع الضُّعفاء من النَّاس والسَّاكنين في البلد .
و » السُّورة « يجوزُ أن يراد تمامها وأن يراد بعضها ، كما يقع القرآن والكتاب على كلِّه وبعضه وقيل : المرادُ ب » السُّورة « براءة؛ لأنَّ فيها الأمر بالإيمان والجهاد .
قوله { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف } .
الخَوالِفُ : جمع خالفٍ من صفة النِّساءِ ، وهذه صفةُ ذمّ؛ كقول زهير : [ الوافر ]
2825- ومَا أدْرِي وسَوْفَ إخَالُ أدْرِي ... أَقوْمٌ آلُ حِصْنٍ أمْ نِسَاءُ؟
فإنْ تَكُنِ النِّساءُ مُخَبَّآتٍ ... فحُقَّ لِكُلِّ مُحْصَنَةٍ هِدَاءُ
وقال آخر : [ الخفيف ]
2826- كُتِبَ القَتْلُ والقِتَالُ عَلَيْنَا ... وعَلَى الغَانياتِ جَرُّ الذُّيُولِ
وقال النَّحَّاسُ » يجوزُ أن تكون الخوالف من صفة الرِّجالِ ، بمعنى أنَّها جمعُ « خالفة » يقال : رجل خالفة ، أي : لا خير فيه « . فعلى هذا يكونُ جمعاً للذكور ، باعتبار لفظه . وقال بعضهم : إنَّه جمع » خالف « ، يقال : رجل خالفٌ ، أي : لا خير فيه . وهذا مردودٌ ، فإنَّ » فواعِل « لا يكونُ جمعاً ل » فَاعلِ « ، وصفاً لعاقل ، إلاَّ ما شذَّ ، من نحو : فَوَارِس ، ونَواكِس وهَوالك .
ثم قال تعالى : { وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } [ التوبة : 87 ] وقد تقدَّم الكلامُ في الطَّبْعِ والختم ، أوَّل البقرة .
قوله تعالى : { لكن الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ } الآية .
ومعنى هذا الاستدراك : أنَّه إن تخلَّف هؤلاء المنافقون عن الغزو؛ فقد توجه إليه من هو خير منهم ونظيره : { فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ } [ الأنعام : 89 ] وقوله : { فَإِنِ استكبروا فالذين عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بالليل والنهار } [ فصلت : 38 ] ، ولمَّا وصفهم بالمُسارعةِ إلى الجهادِ ، ذكر ما حصل لهم من الفوائدِ ، وهي أنواع ، أوَّلها : قوله { وأولئك لَهُمُ الخيرات } والخيراتُ : جمع خَيْرة ، على » فَعْلة « بكسون العين ، وهو المُسْتَحْسَنُ من كُلِّ شيءٍ ، وغلبَ استعماله في النِّساء ، ومنه قوله تعالى :
{ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } [ الرحمن : 70 ] ؛ وقول الشَّاعر : [ الكامل ]
2827- ولقَدْ طَعَنْتُ مَجامِعَ الرَّبَلاتِ ... ربلاتِ هِنْدٍ خَيْرَةِ الملكاتِ
قال المُفسَّرونَ : هي الجواري الحسان والجنَّة . وقال ابنُ عبَّاس : « الخيْرَاتُ » لا يعلم معناهُ إلاَّ الله ، كما قال جلَّ ذكرهُ { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [ السجدة : 17 ] ٍ . وقيل : المرادُ : ب « الخَيْرَات » الثَّواب .
وثانيها : قوله : { وأولئك هُمُ المفلحون } ، والمرادُ منه : التخلص من العقاب .
وثالثها : قوله : { أَعَدَّ الله لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا } يحتملُ أن تكون هذه الجنات كالتَّفسير للخيراتِ والفلاحِ ، ويحتملُ أن تحمل الجنات على ثواب الآخرة ، والفلاح على منافع الدُّنيا ، كالغزو ، والثروة ، والقدرةِ ، والغلبةِ ، و « الفَوزُ العظيمُ » عبارة عن كون تلك الحالة مرتبة رفيعه ، ودرجة عالية .
قوله تعالى : { وَجَآءَ المعذرون مِنَ الأعراب } الآية .
لمَّا شرح أحوال المنافقين الذين كانُوا في المدينة ، شرح في هذه الآية أحوال المنافقين من الأعراب .
قرأ الجمهور « المُعذِّرُونَ » بفتح العين وتشديد الذَّال ، وهي تحتمل وجهين :
أن يكون وزنه « فعَّل » مضعّفاً ، ومعنى التَّضعيف فيه التكليف ، والمعنى : أنه توهَّم أنَّ لهُ عُذراً ، ولا عذر لهُ .
والثاني : أن يكون وزنه « افْتَعَل » ، والأصلُ : « اعتذرَ » ، فأدغمت التاءُ في الذال بأن قلبت تاءُ الافتعال ذالاً ، ونُقِلت حركتها إلى السَّاكن قبلها ، وهو العين ، ويدلُّ على هذا قراءةُ سعيد بن جُبير « المُعْتَذِرُونَ » على الأصل ، وإليه ذهب الأخفشُ ، والفرَّاءُ وأبو عبيد ، وأبو حاتم ، والزَّجَّاجُ ، وابن الأنباري ، والاعتذار قد يكُون بالكذبِ ، كما في قوله { يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ } [ التوبة : 94 ] ، وكان ذلك الاعتذار فاسداً ، لقوله : « لا تَعْتَذِرُوا » ، وقد يكون بالصِّدقِ ، كقول لبيد : [ الطويل ]
2828- ... ومَنْ يَبْكِ حَوْلاً كَامِلاً فَقدِ اعتذرْ
يريد : فقد جاء بعُذْرٍ .
وقرأ زيد بن عليّ ، والضحاكُ ، والأعرجُ ، وأبو صالح ، وعيسى بن هلال ، وهي قراءة ابن عباس ومجاهد أيضاً ، ويعقوب ، والكسائي « المُعْذرُونَ » بسكون العين وكسر الذَّال مخففة من أعْذَر ، يُعْذِر ك « أكْرَم ، يُكْرِم » ، وهم المبالغون في العُذْرِ .
وقرأ مسلمةُ « المُعَّذِّرُون » بتشديد العين والذال ، من « تعذَّرَ » بمعنى اعْتذرَ .
قال أبُو حاتمٍ : أراد « المتعذَّرون » والتاء لا تدغم في العين ، لبُعد المخارجِ وهي غلطٌ منه ، أو عليه .
قوله : « ليُؤذنَ » متعلقٌ ب « جَاءَ » وحذفَ الفاعلُ ، وأقيمَ الجارُّ مقامه ، للعلم به ، أي : ليأذن لهم الرسول .
فصل
أمَّا قراءةُ التخفيف فهم الكاذبون في العذر ، وأمَّا قراءة التشديد ، فمحتملة لأن يكونُوا صادقين ، وأن يكُونُوا كاذبينَ . قال ابنُ عبَّاسٍ « هم الَّذِين تخلَّفُوا بعذرٍ بإذن رسُول الله صلى الله عليه وسلم » وهو قول بعض المفسرين أيضاً ، قال : المعذرون ، كانوا صادقين؛ لأنَّه تعالى لمَّا ذكرهم قال بعدهم { وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ } ، فلمَّا ميَّزهم عن الكاذبين دلَّ على أنَّهم لَيْسُوا كاذبينَ .
وقال الضَّحَّاكُ : هُم رهطُ عامر بن الطفيل جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دفاعاً عن أنفسهم ، فقالُوا : يا نبيَّ الله : إنْ نحنُ غزونَا معك أغارت أعرابُ طيىءٍ على حلائلنا ، وأولادنا ، ومواشينا ، فقال لهم رسُول الله صلى الله عليه وسلم قد نَبَّأني الله من أخباركم ، وسيغنيني الله عنكم .
وروى الواحديُّ عن أبي عمرو : أنَّهُ لمَّا قيل له هذا الكلام قال : إنَّ أقواماً تكلَّفُوا عُذْراً بباطل فهمُ الذين عناهم بقوله : « وَجَآءَ المعذرون » ، وتخلَّف آخرون لا بعُذر ولا بشبهةِ عذرٍ جراءة على الله تعالى؛ فهم المرادون بقوله { وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ } ، فأوعدهُم بقوله : { سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ } في الدُّنيا بالقتلِ ، وفي الآخرة بالنَّارِ .
وإنَّما قال « مِنْهُم » ؛ لأنَّه تعالى كان عالماً بأنَّ بعضهم سيؤمن ، فذكر بلفظة « مِنْ » الدَّالة على التَّبعيض .
وقرأ الجمهور « كَذبُوا » بالتَّخفيف ، أي : كذبُوا في أيمانهم . وقرأ الحسنُ في المشهور عنه وأبيٌّ ، وإسماعيل « كذَّبُوا » بالتَّشديد ، أي : لَمْ يُصدِّقُوا ما جاء به الرَّسولُ عن ربِّه ولا امتثلوا أمره .
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)
ثمَّ ذكر أهل العذر فقال : { لَّيْسَ عَلَى الضعفآء } قال ابنُ عبَّاسٍ : يعني : الزَّمنى ، والمشايخ والعجزة .
وقيل : هم الصُّبيان . وقيل : النِّسوان . { وَلاَ على المرضى } وهم أصحاب العمى ، والعرج والزمانة ومن كان موصُوفاً بمرض يمنعه من التمكن من المحاربة ، { وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ } يعني : الفقراء؛ لأنَّ حضورهُم يكون كلاًّ ووبالاً على المجاهدين ، « حَرَجٌ » إثم . وقيل : ضيق عن القعود في الغزو . ثم إنَّه تعالى شرط في جواز هذا التأخير شرطاً مُعيَّناً ، فقال { إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ } . قرأ أبو حيوةَ : « نَصَحُوا اللهَ » بغير لام . وقد تقدَّم أن « نَصَحَ » يتعدَّى بنفسه وباللامِ . والنُّصح : إخلاص العملِ من الغِشّ . ومنه : التَّوبة النصُوح . قال نفطويه : نصح الشيء : إذا خلص ، ونصح له القول : أي : أخلصه له . قال عليه الصلاة والسلام : « الدِّينُ النَّصيحَةُ » ثلاثاً . قالوا لمنْ؟ قال : « للهِ ولكتابِهِ ولرسُوله ولأئمَّةِ المسلمينَ وعامَّتهمْ » .
قال العلماءُ : النَّصيحة للهِ : إخلاص الاعتقاد في الوحدانيَّةِ ، ووصفه بصفات الألوهيَّةِ وتنزيهه عن النَّقائص ، والرَّغبة في محابه ، والبُعْد من مساخطه ، والنَّصيحة لرسوله : التصديق بنُبُوَّتِهِ والتزام طاعته في أمره ونهيه ، وموالاة من والاه ، ومعاداة من عاداه ، وتوقيره ، ومحبَّتِهِ ومحبَّةِ آل بيته ، وتعظيمه وتعظيم سنَّته ، وإحياؤها بعد موته بالبحث عنها ، والنفقة فيها ، والذب عنها ، ونشرها ، والدُّعاء إليها ، والتخلُّق بأخلاقه الكريمة ، وكذا النصح لكتاب الله قراءته ، والتفقه فيه ، والذَّب عنه ، وتعليمه وإكرامه ، والتخلُّق به .
والنصح لأئمة المسلمين : ترك الخروج عليهم ، وإرشادهم إلى الحقِّ ، وتثبيتُهُمْ فيما أغفلوه من أمر المسلمين ، ولزوم طاعتهم ، والقيام بواجب حقهم . وأمَّا النصحُ للعامَّةِ : فهو ترك معاداتهم وإرشادهم ، وحب الصَّالحين منهم ، والدعاء لجميعهم ، وإرادة الخير لكافتهم . والمعنى : أنَّهُمْ إذا أقاموا لا يلقوا الأراجيف ، ولا يثيروا الفتنَ ، ويسعوا في إيصال الخير إلى المجاهدين ويقوموا بإصلاح مهمَّات بيوتهم ، ويسعوا في إيصال الأخبار السارة من بيوتهم إليهم ، ويخلصوا الإيمان والعمل لله ، فهذه أمورٌ جارية مجرى الإعانة على الجهادِ .
ثم قال تعالى : { مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ } فقوله « مِنْ سبيلٍ » فاعلٌ بالجار قبله لاعتماده على النَّفْي ، ويجوز أن يكون مبتدأ ، والجار قبله خبره . وعلى كلا القولين ف « مِنْ » مزيدةٌ فيه ، أي : ما على المحسنين سبيل . والمعنى : أنَّهُ لا إثم عليه بسبب القعود عن الجهاد .
{ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . قال قتادةُ : نزلت في عائذ بن عمرو وأصحابه . وقال الضحاكُ نزلت هذه الآية في عبد الله ابن أم مكتوم ، وكان ضريراً .
فصل
قال بعضهم : في هذه الآية نوعٌ من البديع ، يُسمَّى التلميح ، وهو أن يشارَ إلى قصةٍ مشهورةٍ ، أو مثل سائرٍ ، أو شعرٍ نادرٍ ، في فحوى كلامك من غير ذكره؛ ومنه قوله : [ البسيط ]
2829- اليَوْمَ خَمْرٌ ويبْدُو في غدٍ خبرٌ ... والدَّهْرُ مِنْ بيْنِ إنعامٍ وإبْآسِ
يُشير إلى قول امرئ القيس لمَّا بلغه قتلُ أبيه : « اليوم خَمْرٌ ، وغداً أمرٌ » .
وقول الآخر : [ الطويل ]
2830- فواللهِ مَا أدْرِي أأحلامُ نَائِمٍ ... ألمَّتْ بِنَا أم كان في الرَّكْبِ يُوشَعُ؟
يشير إلى قصَّة يوشع عليه الصلاة والسلام ، واستيقانه الشَّمس .
وقول الآخر : [ الطويل ]
2831- لَعمرٌو مَعَ الرَّمضَاءِ والنَّارُ تَلتَظِي ... أرَقُّ وأحْفَى مِنْكَ في ساعةِ الكَرْبِ
أشار إلى البيت المشهور : [ البسيط ]
2832- المُسْتجيرُ بعمْرٍو عندَ كُرْبتِهِ ... كالمُسْتَجيرِ مِنَ الرَّمْضَاءِ بالنَّارِ
فكأنه قوله : { مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ } اشتهر ما هو بمعناه بين النَّاس؛ فأشار إليه من غير ذكر لفظه . ولمَّا ذكر أبو حيان التلميح لم يُقَيِّدَهُ بقوله : « من غير ذكره » . ولا بُدَّ منه لأنَّه إذا ذكره بلفظه كان اقتباساً وتضميناً .
فصل
اختلفوا في قوله : { مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ } هل يفيدُ العموم؟ فقال بعضهم : لا؛ لأنَّ اللفظ مقصورٌ على أقوام مُعَيَّنينَ نزلت الآية فيهم . وقال آخرون : بلى؛ لأنَّ العبرةَ بعموم اللفظِ لا بخصوصِ السَّببِ ، والمُحسن هو الآتي بالإحسان ، ورأس الإحسان لا إله إلاَّ اللهَ ، فكلُّ مَنْ قالها واعتقدها ، كان من المسلمين ، فاقتضت نفي جميع المسلمين؛ فدلَّ هذا اللفظ بعمومه على أنَّ الأصلَ حرمة القتلِ ، وحرمة أخذ المالِ وأن لا يتوجه عليه شيء من التَّكاليفِ ، إلاَّ بدليلٍ منفصل ، فصارت هذه الآية بهذا الطريق أصلاً مُعتبراً في الشريعة ، في تقرير أنَّ الأصل براءة الذِّمة ، إلى أن يرد نص خاص .
قوله : { وَلاَ عَلَى الذين } . فيه أوجه :
أحدها : أن يكون معطوفاً على « الضُّعفاء » ، أي : ليس على الضعفاءِ ، ولا على الذين إذا ما أتوكَ ، فيكونون داخلين في خبر « ليس » مُخْبراً بمتعلقهم عن اسمها ، وهو « حَرَجٌ » .
الثاني : أن يكون معطوفاً على « المُحْسنينَ » فيكونون داخلين فيما أخبر به من قوله : « مِنَ سبيلٍ » ، فإنَّ « مِنْ سبيلٍ » يحتمل أن يكون مبتدأ ، وأن يكون اسم « ما » الحجازية ، و « مِنْ » مزيدةٌ في الوجهين .
الثالث : أن يكون « ولا علَى الَّذِينَ » خبراً لمبتدأ محذوف ، تقديره : ولا على الذين إذا ما أتوكَ . . إلى آخر الصلة ، حرجٌ ، أو سبيلٌ وحذف لدلالةِ الكلامِ عليه ، قاله أبُو البقاءِ . ولا حاجةَ إليه ، لأنَّه تقديرٌ مُسْتغنًى عنه إذ قدَّر شيئاً يقومُ مقامهُ هذا الموجودُ في اللفظ والمعنى . وهذا الموصولُ ، أعني قوله : { وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ } ، يحتملُ أن يكون مندرجاً في قوله : { وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ } وذكروا على سبيل نفي الحرج عنهم ، وألا يكونوا مندرجين ، بل أن يكون هؤلاء وجدوا ما ينفقونَ ، إلاَّ أنَّهُمْ لمْ يَجدُوا مرْكُوباً . وقرأ معقل بنُ هارون « لنَحْملَهُمْ » بنون العظمة ، وفيها إشكالٌ ، إذ كان مقتضى التركيب : قلت : لا أجدُ ما يحملكم عليه الله .
قوله : « قُلْتَ » فيه أربعة أوجهٍ ، أحدها : أنَّهُ جواب « إذا » الشَّرطيَّة ، و « إذَا » وجوابها في موضع الصِّلةِ ، وقعت الصِّلةُ جملة شرطية ، وعلى هذا؛ فيكونُ قوله : « تولَّوا » جواباً لسؤال مقدر كأنَّ قائلاً قال : ما كان حالهم إذا أجيبوا بهذا الجواب؟ فأجيب بقوله : « تَوَلَّوْا » .
الثاني : أنَّه في موضع نصب على الحال ، من « أتوكَ » ، أي : إذَا أتوكَ ، وأنت قائلٌ : لا أجدُ ما أحملكم عليه ، و « قَدْ » مقدرة ، عند من يشترطُ ذلك في الماضي الواقع حالاً ، كقوله : { أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } [ النساء : 90 ] في أحد أوجهه كما تقدَّم ، وإلى هذا نحا الزمخشريُّ .
الثالث : أن يكون معطوفاً على الشَّرط؛ فيكون في محلِّ جرٍ بإضافة الظرف إليه بطريق النسق وحذف حرف العطف ، والتقدير : وقلت ، وقد تقدَّم الكلام على هذه المسألة وإلى هذا ذهب الجرجاني ، وتبعه ابنُ عطيَّة ، إلا أنَّه قدَّر العاطف فاءً أي : فقلت .
الرابع : أن يكون مستأنفاً . قال الزمخشريُّ « فإن قلت : هل يجُوزُ أن يكون قوله : » قلت لا أجدُ « استئنافاً مثله؟ - يعني مثل : { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف } [ التوبة : 93 ] - كأنَّه قيل : إذا ما أتوك لتحملهم تولَّوا ، فقيل : ما لهُم تولَّوا باكينَ؟ قلت لا أجدُ ما أحملهم عليه إلاَّ أنَّه وسط بين الشرط والجزاء ، كالاعتراض؟ قلتُ : نعم ، ويحسنُ » انتهى .
قال أبُو حيَّان « ولا يجوزُ ، ولا يحسن في كلام العربِ ، فكيف في كلام الله؟ وهو فهم أعجمي » قال شهابُ الدين : وما أدري ما سببُ منعه ، وعدم استحسانه له مع وضوحه وظهوره لفظاً ومعنًى؟ وذلك لأنَّ تولِّيهم على حالة فيض الدَّمع ليس مرتباً على مجرَّد مجيئهم له عليه الصلاة والسلام - لهم ذلك سببٌ في بكائهم؛ فحسن أن يجعل قوله : { قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ } جواباً لمنْ سأل عن علةِ تولِّيهم ، وأعينُهم فائضةٌ دمعاً وهو المعنى الذي قصده أبُو القاسم وعلى هذه الأوجه الأربعة المتقدمة في « قُلْتَ » يكون جواب الشَّرط قوله : « تولَّوا » ، وقوله « لِتحْمِلهُمْ » علة ل « أتَوْكَ » . وقوله : « لا أجدُ » هي المتعديةُ لواحدٍ؛ لأنَّها من « الوُجْد » ، و « مَا » يجوز أن تكون موصولةً ، أو موصوفةً .
فصل
قال أبُو العباس المقرىء : ورد لفظ التَّولِّي في القرآن على أربعة أوجه :
الأول : بمعنى الانصراف ، قال تعالى : { تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ } [ التوبة : 92 ] ومثله قوله تعالى { ثُمَّ تولى إِلَى الظل } [ القصص : 24 ] أي : انصرف .
الثاني : بمعنى : « أبَى » ، قال تعالى { فَإِن تَوَلَّوْاْ فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم } [ المائدة : 49 ] أي : أبَوْا أن يؤمنوا؛ ومثله قوله تعالى
{ فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ واقتلوهم } [ النساء : 89 ] .
الثالث : بمعنى : « أعرض » قال تعالى { وَمَن تولى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } [ النساء : 80 ] .
الرابع : الإعراض عن الإقبال ، قال تعالى { فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار } [ الأنفال : 15 ] .
قوله : { وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ } في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل « تولَّوا » . قال الزمخشريُّ « تفيضُ من الدَّمع ، كقولك : تفيض دمعاً » . وقد تقدَّم الكلام على هذا في المائدة مستوفًى عند قوله { ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع } [ المائدة : 83 ] وأنَّهُ جعل « من الدَّمع » تمييزاً ، و « مِنْ » مزيدة وتقدَّم الرَّد عليه في ذلك هناك .
قوله : « حَزَناً » في نصبه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّهُ مفعولٌ من أجله ، والعاملُ فيه « تَفِيضُ » قاله أبو حيان . لا يقال : إنَّ الفاعل هنا قد اختلف ، فإنَّ الفيض مسند للأعين ، والحزنَ صادرٌ من أصحاب الأعين ، وإذا اختلف الفاعل وجب جرُّه بالحرف؛ لأنَّا نقول : إنَّ الحزنَ يُسندُ للأعين أيضاً مجازاً ، يقال : عين حزينةٌ وسخينةٌ ، وعين مسرورةٌ وقريرة ، في ضد ذلك . ويجوز أن يكون النَّاصب له « تولَّوا » ، وحينئذٍ يتَّحدُ فاعلا العلَّةِ والمعلولِ حقيقةً .
الثاني : أنَّهُ في محلِّ نصبٍ على الحال ، أي : تولَّوا حزينين ، أو تفيض أعينهم حزينةً ، على ما تقدَّم من المجاز .
الثالث : أنه مصدر ناصبُه مقدرٌ من لفظه ، أي : يحزنون حزناً ، قاله أبو البقاء . وهذه الجملةُ التي قدَّرها ناصبة لهذا المصدر هي أيضاً في محلِّ نصبٍ على الحال ، إمَّا من فاعل « تولَّوا » ، وإمَّا من فاعل « تَفِيضُ » .
قوله : « أَلاَّ يَجِدُوا » فيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ مفعولٌ من أجله ، والعامل فيه « حزناً » إن أعربناه مفعولاً له ، أو حالاً . وأمَّا إذا أعربناه مصدراً فلا؛ لأنَّ المصدر لا يعملُ إذا كان مؤكداً لعامله . وعلى القول بأنَّ « حَزَناً » مفعول من أجله ، يكون « ألاَّ يَجِدُوا » علة العلة يعني أن يكون علَّل فيض الدَّمع بالحزن ، وعلَّل الحزن بعدم وجدان النَّفقة ، وهو واضحٌ وقد تقدَّم نظيرُ ذلك في قوله : { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله } [ المائدة : 38 ] .
الثاني : أنه متعلق ب « تَفِيضُ » . قال أبو حيان : ولا يجوز ذلك على إعرابه « حَزَناً » مفعولاً له والعاملُ فيه « تفيضُ » ، إذ العاملُ لا يقتضي اثنين من المفعول له إلاَّ بالعطفِ ، أو البدلِ .
فصل
قال المفسِّرون : هم سبعة نفر سموا البكائين ، معقل بن يسار ، وصخر بن خنساء وعبدالله بن كعب الأنصاري ، وعلية بن زيد الأنصاري ، وسالم بن عمير ، وثعلبة بن غنمة ، وعبد الله بن معقل المزني ، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله : إنَّ الله ندبنا للخروج معك ، فاحملنا . واختلفوا في قوله « لِتحْمِلهُم » قال ابنُ عبَّاس : سألوه أن يحملهم على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة ليغزوا معه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
« لا أجِدُ ما أحملكُم عليهِ » فتولَّوا وهم يبكُون وقال الحسنُ : « نزلت في أبي موسى الأشعري ، وأصحابه ، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحملونه ، ووافق ذلك منه غضباً فقال : » والله لا أحْملكُمْ ولا أجِدُ ما أحْملُكُم عليْهِ « فتولَّوا يبكون ، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاهم ذوداً . فقال أبو موسى : ألست حلفت يا رسول الله؟ فقال : » أما إنِّي إن شاء الله لا أحْلِفُ فأرَى غيرَها خيراً منها ، إلاَّ أتَيْتُ الذي هُو خَيْرٌ وكفَّرتُ عنْ يَمِيني « .
ولمَّا قال تعالى : { مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ } قال في هذه الآية : { إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ } في التخلف : » وهُمْ أغنِيَاءُ « .
قوله : » . . . رضُوا « فيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ مستأنفٌ ، كأنَّهُ قال قائلٌ : ما بالهم استأذنوا في القعودِ ، وهُم قادرُون على الجهادِ؟ فأجيب بقوله : { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف } ، وإليه مال الزمخشريُّ .
والثاني : أنَّه في محلِّ نصب على الحالِ ، و » قَدْ « مقدَّرةٌ في قول . وتقدَّم الكلام في : » الخَوالفِ « . » وطبعَ اللهُ على قُلوبِهِمْ « قوله : » وطبعَ « نسقٌ على » رَضُوا « تنبيهاً على أنَّ السَّبب في تخلُّفهم رضاهم بقُعُودهم ، وطبعُ الله على قلوبهم ، وقوله : » إنَّما السَّبيلُ على « فأتَى ب » عَلَى « ، وإن كان قد يصلُ ب » إلَى « ؛ لأنَّ » عَلى « تدلُّ على الاستعلاء ، وقلة منعة من تدخل عليه ، نحو : لي سبيل عليك ، ولا سبيل لي عليك ، بخلاف » إلى « فإذا قلت : لا سبيل عليك ، فهو مُغايرٌ لقولك : لا سبيل إليك ، ومن مجيء » إلَى « معه قوله : [ الطويل ]
2833- ألاَ ليْتَ شِعْرِي هَلْ إلى أمِّ سالمٍ ... سبيلٌ؟ فأمَّا الصَّبْرُ عَنْهَا فلا صَبْرَا
وقول الآخر : [ البسيط ]
2834- هَلء مِنْ سبيلٍ إلى خَمْرٍ فأشْربهَا ... أمْ مِنْ سبيلٍ إلى نصْرِ بنِ حجَّاجِ
قوله تعالى : { يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ } .
روي أنَّ المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك كانوا بضعة وثمانين نفراً ، فلمَّا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءوا يعتذرون بالباطل ، فقال الله { قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ } لم نصدقكم .
قوله : { قَدْ نَبَّأَنَا الله } فيه وجهان :
أحدهما : أنَّها المتعدِّيةُ إلى مفعولين .
أولهما : » ن « ، والثاني : » مِنْ أخْبارِكُمْ « ، وعلى هذا ففي » مِنْ « وجهان :
أحدهما : أنَّها غيرُ زائدةٍ ، والتقدير ، قد نبَّأنا اللهُ أخْبَاراً من أخباركم ، أو جملة من أخباركم ، فهو في الحقيقة صفةٌ للمفعول المحذوف .
والثاني : أنَّ » مِنْ « مزيدةٌ عند الأخفشِ؛ لأنَّه لا يشترط فيها شيئاً ، والتقدير : قد نبَّأنا الله أخباركم .
الوجه الثاني - من الوجهين الأولين - : أنَّها متعديةٌ لثلاثة ، ك » أعْلَم « ، فالأولُ ، والثاني ما تقدَّم ، والثالث محذوفٌ اختصاراً للعلم به ، والتقدير : نبَّأنا الله من أخباركم كذباً ، ونحوه .
قال أبو البقاء : « قد يتعدَّى إلى ثلاثةٍ ، والاثنان الآخران محذوفانِ تقديره : أخباراً من أخباركم مثبتة . و » مِنْ أخباركُم « تنبيه على المحذُوف وليست » مِنْ « زائدة ، إذ لو كانت زائدة ، لكانت مفعولاً ثانياً ، والمفعول الثالث محذوفٌ ، وهو خطأ ، لأنَّ المفعول الثاني متى ذُكِر في هذا الباب لزم ذكرُ الثالث » .
وقيل : « مِنْ » بمعنى « عن » . قال شهابُ الدِّين « قوله : إنَّ حذف الثالث خطأ » إن عنى حذف الاقتصارِ فمُسلَّم ، وإن عنى حذف الاختصار فممنوعٌ ، وقد تقدَّم مذاهب النَّاس في هذه المسألة .
وقوله : { قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ } علّة لانتفاءِ تصديقهم . ثم قال : { وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } فلمَ لَمْ يقل ، ثُمَّ تردُّونَ إليْهِ؟ .
فالجواب : أنَّ في وصفه تعالى بكونه { عَالِمِ الغيب والشهادة } ما يدلُّ على كونه مطلعاً على بواطنهم الخبيثة ، وضمائرهم المملوءة بالكذب والكيد ، وفيه تخويف شديد ، وزجر عظيم لهم .
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
قوله تعالى : { سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ إِذَا انقلبتم إِلَيْهِمْ } الآية .
لمَّا حكى عنهم أنَّهم يعتذرون إليكم ، ذكر هنا أنَّهم يؤكدون تلك الأعذار بالأيمانِ الكاذبة « إذَا انقَلبْتُم » انصرفتم إليهم أنهم ما قدروا على الخروجِ . « لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ » أي : لتصفحوا عنهم ولا تؤنبوهم .
ثم قال تعالى : { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ } قال ابن عباس : يريد ترك الكلام والسلام .
وقال مقاتل : قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة : « لا تُجالسُوهم ولا تكلموهم » . ثمَّ ذكر العلَّة في وجوب الإعراض عنهم ، فقال : « إنَّهُم رجْسٌ » والمعنى : أن خبث بواطنهم رجس روحاني ، فكما يجبُ الاحتراز عن الأرجاس الجسمانية؛ فوجوب الاحتراز عن الأرجاس الروحانية أولى . وقيل : إنَّ عملهم قبيحٌ . { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } أي : منزلهم . قال الجوهريُّ : المأوى : كل مكان يأوي إليه شيء ليلاً أو نهاراً ، وقد أوى فلانٌ إلى منزله يأوي أويًّا ، على « فُعُول » ، وإوَاءً ، وأوَيْتُه إذا أنزَلْتَهُ بك ، فعلتُ وأفعلتُ ، بمعنى عن أبي زيدٍ . ومَأوِي الإبل - بكسر الواو - لغةٌ في مأوى الإبل خاصَّةً ، وهو شاذ .
قوله : « جَزَاءً . . . » يجوز أن ينتصب على المصدر بفعل من لفظه مقدر ، أي : يُجْزونَ جزاء ، وأن ينتصب بمضمون الجملة السابقة؛ لأنَّ كونهُم يأوونَ في جهنم في معنى المجازاة ، ويجوزُ أن يكون مفعولاً من أجله .
قوله تعالى : { يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ } الآية .
لمَّا بيَّن في الآية الأولى أنَّهُم يحلفون بالله ليعرض المسلمون عن إيذائهم ، بين ههنا أيضاً أنهم يحلفون ليرضى المسلمون عنهم ، ثمَّ إنَّه تعالى نهى المسلمين عن أن يرضوا عنهم ، وذكر العلَّة في ذلك النهي وهي أن : { الله لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين } .
قوله تعالى : { الأعراب أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً } الآية .
لمَّا ذكر الله تعالى أحوال المنافقين في المدينة ذكر من كان خارجاً منها ، ونائباً عنها من الأعراب فقال : كفرهم أشد . قال قتادةُ : « لأنَّهم أبعد عن معرفة السنن » وقيل : لأنَّهم أقسَى قلباً ، وأكذبُ قولاً ، وأغلظُ طبعاً ، وأبعد عن استماع التنزيل ، ولذا قال تعالى في حقِّهم : « وأجْدَرُ » أي : أخلق . « أَلاَّ يَعْلَمُواْ » . ولمَّا دلَّ ذلك على نقصهم من المرتبة الكاملة عن سواهم ، ترتب على ذلك أحكام :
منها : أنَّهُ لا حقَّ لهم في الفيء والغنيمة ، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث بريدة : « . . . ولا يكُون لهُمْ فِي الغنيمةِ والفيءِ شيءٌ إلاَّ أنْ يُجاهدُوا مع المسلمينَ » ومنها : إسقاط شهادة أهل البادية عن الحاضرة ، لتحقق التهمة . وأجازها أبو حنيفة؛ لأنَّها لا تراعى كل تهمة والمسلمون كلهم عنده عدول ، وأجازها الشافعيُّ إذا كان عدلاً ، وهو الصحيحُ .
قوله : « الأعراب » صيغة جمعٍ ، وليس جمعاً ل « عَرَب » قاله سيبويه ، وذلك لئلاَّ يلزم أن يكون الجمع أخصَّ من الواحد ، فإنَّ العرب هذا الجيل الخاص ، سواء سكن البوادي ، أم سكن القرى .
وأمَّا الأعراب ، فلا يطلق إلاَّ على من كان يسكن البوادي فقط ، وقد تقدَّم عند قوله تعالى : { رَبِّ العالمين } [ الفاتحة : 2 ] ، أوَّل الفاتحة . ولهذا الفرق نسب إلى « الأعْراب » على لفظه فقيل : أعرابي ويجمع على « أعَارِيب » . قال أهلُ اللغة : « يقال : رجلٌ عربيّ ، إذا كان نسبه في العربِ ، وجمعه العربُ ، كما يقال : يهُوديٌّ ومجُوسيٌّ ، ثم تحذف ياء النسب في الجمع ، فيقال : اليهُودُ والمجُوسُ ، ورجلٌ أعرابي بالألف إذا كان بدوياً ، ويطلب مساقط الغيث والكلأ ، سواء كان من العربِ ، أو من مواليهم . ويجمع الأعرابي على الأعراب ، والأعاريب ، والأعرابي إذا قيل له : يا عربي ، فرح والعربي إذا قيل له : يا أعرابيّ ، غضب ، فمن استوطن القرى العربية فهم عرب ، ومن نزل البادية فهم أعرابٌ ويدلُّ على الفرق قوله عليه الصلاة والسلام » حُبُّ العربِ من الإيمانِ « وأما الأعرابُ فقد ذمَّهم الله تعالى في هذه الآية . وأيضاً لا يجُوزُ أن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب ، إنَّما هُمْ عرب ، وهم متقدِّمون في مراتب الدِّين على الأعراب ، قال عليه الصلاة والسلام » لا تُؤُمَّنَّ امرأةٌ رجُلاً ولا فاسقٌ مُؤمناً ولا أعرابيٌّ مُهاجِراً « .
فصل
قال بعضُ العلماء : الجمع المحلى بالألف واللاَّم الأصل فيه أن ينصرف إلى المعهود السابق فإن لم يوجد المعهود السابق ، حمل على الاستغراق للضرورة ، قالوا : لأنَّ صيغة الجمع تكفي في حصول معناها الثلاثة فما فوقها ، والألف واللام للتعريف ، فإن حصل جمع هو معهود سابق؛ وجب الانصراف إليه ، وإن لم يوجد حمل على الاستغراق ، دفعاً للإجمال . قالوا : إذا ثبت هذا فقوله : » الأعرابُ « المرادُ منه جمع مُعَيَّنُون من منافقي الأعراب ، كانوا يوالون منافقي المدينة ، فانصرف هذا اللَّفْظُ إليهم .
فصل
سمي العربُ عرباً ، لأنَّ أباهُم : يعربُ بنُ قطعان ، فهو أوَّلُ من نطق بالعربيَّةِ ، وقيل : سمُّوا عرباً؛ لأنَّ ولد إسماعيل نشئوا ب » عربة « وهي تهامة ، فنسبوا إلى بلدهم ، وكلُّ من يسكن جزيرة العرب وينطقُ بلسانهم؛ فهو منهم؛ لأنَّهم إنَّما تولَّدُوا من ولد إسماعيل ، وقيل : سمُّوا عرباً؛ لأنَّ ألسنتهم معربة عما في ضمائرهم ، وهذه الأقوال ليست بشيء من الأول ، فلأن إسماعيل حين ولدته هاجر نزلت عندهم » جُرهم « فربي بينهم ، وكانوا عرباً قبل إسماعيل ، ولأن » يعرب « من ولد إسماعيل ، وكان حميلاً عربياً .
وأمَّا الثاني لأن إسماعيل تعلَّم العربيَّة في » جُرهم « حين نزلوا عند هاجر بمكَّة .
والصحيحُ أنَّ العرب العاربة قبل إسماعيل منهم : عادٌ وثمود ، وطسْم ، وجديس ، وجرهم ، والعماليق ، وآدم يقال : إنَّه كان ملكاً ، وأنه أول من سقف البيوت بالخشب المنشور ، وكانت الفرس تسميه آدم الأصغر ، وبنوه قبيلة يقال لها » وبار « هلكوا بالرما .
انثال عليهم؛ فأهلكهم وطمَّ منازلهم ، وفي ذلك يقول بعض الشعراء : [ الرجز ]
2835- وكَرَّ دَهْرٌ على وَبَار ... فَهَلَكَتْ جَهْرَةً وبَارُ
وأمَّا الثالثُ ، فكلُّ لسان معرب عمَّا في ضمير صاحبه ، وإنَّما يظهر ما قاله النسابُون ، أنَّ سام بن نوح أبو العرب ، وفارس ، والروم ، فدل على أنَّ العرب موجودون من زمن سام بن نوح .
قال بعضهم : والصحيحُ إن شاء الله تعالى - أن آدم نطق بالعربيَّة ، وغيرها من الألسنةِ ، لقوله تعالى : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا } [ البقرة : 31 ] .
ولا شكّ أنَّ اللِّسان العربيّ مختصّ بأنواع الفصاحةِ والجزالة ، لا توجدُ في سائرِ الألسنةِ .
قال بعضُ الحكماءِ : حكمة الرُّوم في أدمغتهم؛ لأنَّهم يقدرون على التركيبات العجيبة ، وحكمةُ الهندِ في أوهامهم ، وحكمةُ اليونانِ في أفئدتهم لكثرةِ ما لهم من المباحث العقليَّةِ ، وحكمة العرب في ألسنتهم بحلاوةِ ألفاظهم ، وعذوبة عباراتهم .
فصل
اعلم أن الله تعالى حكم على الأعراب بحكمين :
الأول : أنَّهُم أشدّ كفراً ونفاقاً ، والسبب فيه وجوه :
أحدها : أنَّ أهل البدو يشبهون الوحوش .
وثانيها : استيلاءُ الهواء الحار اليابس عليهم ، وذلك يزيدُ في التيه ، والتَّكبر ، والفخر ، والطيش عليهم .
وثالثها : أنَّهُم ما كانوا تحت سياسة سائس ، ولا تأديب مؤدب؛ فنشأوا كما شاءوا ، ومن كان كذلك؛ خرج على أشدِّ الجهات فساداً .
ورابعها : أنَّ من أصبح وأمسى مشاهداً لوعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبياناته الشافية ، كيف يكون مُساوياً لمن لم يؤثر هذا الخير ، ولم يسمع خبره؟
وخامسها : قابل الفواكه الجبلية بالفواكه البستانية ، لتعرف الفرق بين أهل الحضرِ والباديةِ . و « أشَدّ » أصله : أشدد ، وقد تقدم . وقوله « كُفْراً » نصب على الحال ، و « نِفَاقاً » عطف عليه ، و « أجْدَرُ » عطف على « أشَدّ » .
الحكم الثاني : قوله : { وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ . . } « أجْدَر » أي : أحَقُّ وأولى؛ يقال : هو جديرٌ وأجدرُ ، وحقيقٌ وأحقُّ ، وخليقٌ وأخلقُ ، وقمنٌ بكذا ، كلُّه بمعنى واحد ، قال الليثُ : جَدَر يَجْدرُ جدارَةً ، فهو جَديرٌ ، ويُثَنَّى ويُجمع؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
2836- بخيْلٍ عليْهَا جِنَّةٌ عبْقريَّةٌ ... جَديرُونَ يَوْماً أنْ ينَالُوا فَيسْتَعْلُوا
وقد نبَّه الرَّاغبُ على أصل اشتقاقِ هذه المادة ، وأنَّها من الجدار ، أي : الحائط ، فقال : « والجديرُ : المُنتهى ، لانتهاء الأمر إليه ، انتهاءَ الشَّيء إلى الجدارِ » . والذي يظهر أنَّ اشتقاقه من : « الجَدْر ، وهو أصل الشجرة؛ فكأنَّه ثابتٌ كثبوتِ الجدر في قولك : جدير بكذا .
وقوله : { أَلاَّ يَعْلَمُواْ } أي : بألاَّ يعلمُوا ، فحذف حرف الجر؛ فجرى الخلافُ المشهور بين الخليل والكسائي ، مع سيبويه والفراء . والمراد بالحدُودِ : ما أنزل الله على رسوله ، وذلك لبعدهم عن سماع القرآن ومعرفة السُّننِ . { والله عَلِيمٌ } بما في قلوب خلقه : » حَكِيمٌ « فيما ف رض عليهم من فرائضه .
قوله تعالى : { وَمِنَ الأعراب مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً } .
نزلت في أعراب أسد وغطفان وتميم . « مَنْ » بمتدأ ، وهي إما موصولةٌ ، وإمَّا موصوفةٌ .
و « مَغْرَماً » مفعول ثانٍ؛ لأنَّ « اتَّخَذَ » هنا بمعنى « صيَّر » . والمَغْرَمُ : الخسران ، مشتق من الغرام ، وهو الهلاك؛ لأنَّه سببه ، ومنه : { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } [ الفرقان : 65 ] . وقيل أصله الملازمةُ ، ومنه الغريمُ : للزومه من يطالبه ، والمغرم : مصدر كالغرامةِ ، والمغرم التزام ما لا يلزمُ . قال عطاءٌ : لا يرجُون على إعطائه ثواباً؛ ولا يخافون على إمساكه عقاباً ، وإنَّما ينفقُ مغرماً ورياءً . و « يتربَّصُ » عطفٌ على « يتَّخِذ » ، فهو إمَّا صلة ، وإما صفة . والتَّربُّصُ : الانتظارُ . وقوله : { بِكُمُ الدوائر } فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّ الياء متعلقةٌ بالفعل قبلها .
والثاني : أنها حالٌ من « الدَّوائر » قاله أبو البقاءِ وليس بظاهرٍ ، وعلى هذا يتعلقُ بمحذوفٍ على ما تقرَّر . و « الدَّوائرِ » جمعُ « دائرةٍ » وهي ما يُحيط بالإنسان من مُصيبة ونكْبَةٍ ، تصوُّراً من الدَّائرة المحيطة بالشَّيء من غير انفلاتٍ منها ، وأصلها : « دَاوِرَة » ؛ لأنَّها من دَارَ يدُورُ ، أي : أحَاطَ ، ومعنى « تَربُّص الدَّوائر » أي : انتظار المصائب؛ قال : [ الطويل ]
2837- تَربَّصْ بهَا رَيْبَ المنُونِ لعلَّها ... تُطلَّقُ يوْماً أو يَمُوتُ حليلُهَا
قال يمانُ بن رئابٍ : « يعني ينقلبُ الزَّمانُ عليكم فيموت الرسول صلى الله عليه وسلم ويظهر المشركون » . قوله : { عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء } هذه الجملةُ معترضةٌ بين جمل هذه القصَّةِ ، وهي دعاءٌ على الأعراب المتقدمين ، وقرأ ابنُ كثير وأبو عمرو هنا : « السُّوءِ » ، وكذا الثانية في الفتحِ بالضَّم والباقون بالفتحِ .
وأمَّا الأولى في الفتح ، وهي « ظنَّ السوءِ » .
فاتفق على فتحها السبعةُ . فأمَّا المفتوح فقيل : هو مصدر .
قال الفرَّاءُ : « فتحُ السِّين هو الوجه؛ لأنَّه مصدرٌ يقالُ : سُؤتُه سَوْءاً ، ومَساءةٌ ، وسَوائِيَةٌ ، ومَسَائِيَةٌ ، وبالضَّم الاسم ، كقولك : عليهم دائرةُ البلاءِ والعذاب » .
قال أبُو البقاء : « وهو الضَّرَرُ ، وهو مصدر في الحقيقة » . يعني أنَّه في الأصل كالمفتوح ، في أنَّهُ مصدرٌ ، ثُمَّ أطلقَ على كل ضررٍ وشرٍّ . وقال مكي : « مَنْ فتح السِّين فمعناه الفساد والرَّداءة ، ومنْ ضمَّها فمعناه الهزيمةُ والبلاءُ والضَّرر » . وظاهرُ هذا أنَّهما اسمان لما ذكر . ويحتملُ أن يكونا في الأصل مصدراً ثم أطلقا على ما ذكر . وقال غيره : المضمومُ العذاب والضرر ، والمفتوح : الذم ، ألا ترى أنَّه أجمع على فتح { ظَنَّ السوء } [ الفتح : 6 ] وقوله : { مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ } [ مريم : 28 ] ، إذ لا يليقُ ذكرُ العذاب بهذين الموضعين . وقال الزمخشري فأحسن : « المضمومُ : العذاب ، والمفتوحُ ذمٌّ ل » دائرة « كقولك : رجُل سوءٍ ، في نقيض رجل عدل؛ لأنَّ منْ دَارتْ عليه يذُمُّهَا » . يعني أنَّها من باب إضافة الموصوف إلى صفته ، فوصفت في الأصل بالمصدر مبالغةً ، ثم أضيفَتْ لصفتها ، كقوله تعالى :
{ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ } [ مريم : 28 ] . قال أبُو حيَّان « وقد حكي بالضَّمِّ » ؛ وأنشد الأخفشُ : [ الطويل ]
2838- وكُنْتَ كَذِئْبِ السُّوءِ لمَّا رَأى دَماً ... بِصَاحبهِ يَوْماً أحَالَ عَلى الدَّمِ
وفي « الدائرة » مذهبان :
أظهرهما : أنها صفةٌ على فاعلة ، ك « قائمة » . وقال الفارسيُّ : « يجوز أن تكون مصدراً كالعافية ، ولو لم تضف الدائرة إلى السوء ، أو السوء لما عرف منها معنى السُّوء؛ لأنَّ دائرة الدَّهر لا تستعملُ إلاَّ في المكروهِ ، والمعنى : يدور عليهم البلاءُ والحزنُ ، فلا يرون في محمد ، ودينه إلاَّ ما يَسُوؤهم » . ثم قال : { والله سَمِيعٌ } لقولهم ، { عَلِيمٌ } بنيَّاتهم .
قوله تعالى : { وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر } الآية .
لمَّا بيَّن أنَّ في الأعرابِ من يتخذ إنفاقه في سبيل الله مَغْرَماً ، بيَّن هنا أنَّ منهم أيضاً من يؤمن بالله واليوم الآخر . قال مجاهدٌ : هم بنو مقرن من مزينة . وقال الكلبيُّ هم أسلم ، وغفار ، وجهينة . وروى أبو هريرة قال : قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : « لأسْلمُ وغفارٌ ، وشيءٌ مِنْ مُزَيْنَة وجُهَيْنةَ ، خَيْرٌ عِنْدَ الله يَوْمَ القِيَامَةِ ، مِنْ أسَدٍ وغطفان وهوَازنَ وتَميمٍ » .
قوله : { وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ } ف « قُرُباتٍ » مفعولٌ ثانٍ ل « يتَّخذَ » كما مرَّ في { مَغْرَماً } [ التوبة : 98 ] ولم يختلف قُرَّاء السبعة في ضمِّ الرَّاء من « قُربَات » ، مع اختلافهم في راء « قُرْبة » كما سيأتي ، فيحتملُ أن تكون هذه جمعاً ل « قُرْبة » بالضَّم ، كما هي قراءة ورشٍ عن نافعٍ ، ويحتملُ أن تكون جمعاً للساكنها ، وإنَّما ضُمَّت إتباعاً ، ك « غُرُفَات » ، وقد تقدَّم التَّنبيه على هذه القاعدة ، وشروطها عند قوله : { فِي ظُلُمَاتٍ } [ البقرة : 17 ] أول البقرة .
قال الزجاجُ : يجوزُ في « القُرُبَات » أوجه ثلاثة ، ضم الراء ، وإسكانها ، وفتحها .
والمعنى : أنَّهم يتخذون ما ينفقونه سبباً لحصول القربات عند اللهِ .
قوله : « عِندَ الله » في هذا الظرف ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنَّه متعلقٌ ب « يتَّخذ » والثاني : أنَّهُ ظرف ل « قُرُبات » ، قاله أبو البقاءِ . وليس بذلك .
الثالث : أنه متعلقٌ بمحذُوفٍ ، لأنَّه صفةٌ ل « قربات » . قوله : { وَصَلَوَاتِ الرسول } فيها وجهان :
أظهرهما : أنَّها نسق على « قُربات » ، وهو ظاهرُ كلام الزمخشري ، فإنَّه قال : « والمعنى أنَّ ما ينفقه سببٌ لحصول القربات عند اللهِ وصلوات الرسول ، لأنَّهُ كان يدعو للمتصدِّقين بالخيرِ ، كقوله : » اللَّهُمَّ صلِّ على ألِ أبِي أوْفَى « والثاني - وجوَّزهُ ابنُ عطية ولم يذكر أبُو البقاءِ غيره - : أنها منسوقةٌ على » ما يُنفقُ « ، أي : ويتَّخذ بالأعمال الصَّالحة صلوات الرسول قربة .
قوله : { ألاا إِنَّهَا قُرْبَةٌ } الضمير في » إنَّها « قيل : عائدٌ على » صَلواتِ « .
وقيل : على النَّفقات أي : المفهومة من « يُنفِقُون » . وقرأ ورشٌ « قُرُبَة » بضمِّ القاف والرَّاء ، والباقون بسكونها ، فقيل : لغتان . وقيل : الأصلُ السكون ، والضَّم إتباع . وقد تقدَّم الخلاف بين أهل التصريف ، هل يجوزُ تثقيل « فُعْل » إلى « فُعُل » ؟ وأنَّ بعضهم جعل « يُسُرا ، عُسُرا » بضمِّ السين فرعين على سكونها ، وقيل : الأصلُ « قُرُبة » بالضَّمِّ ، والسكون تخفيف ، نحو : كتب ورسل ، وهذا أجْرَى على لغة العرب ، إذ مبناها الهرب من الثِّقل إلى الخفة . وفي استئناف هذه الجملة وتصدُّرها بحرفي التنبيه والتحقيق المؤذنين بثباتِ الأمر وتمكُّنه شهادةٌ من الله بصحة ما اعتقده من إنفاقه . قال معناه الزمخشريُّ ، قال : وكذلك سيدخلهم وما في السِّين من تحقيقِ الوعدِ . ثم قال : { إِنَّ الله غَفُورٌ } لسيِّآتهم « رَّحِيمٌ » بهم حيث وفقهم لهذه الطَّاعات .
قوله تعالى : { والسابقون الأولون } الآية .
« وَالسَّابقُون » فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّه مبتدأ ، وفي خبره ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنَّه الجملة الدعائية من قوله : { رَّضِيَ الله عَنْهُمْ } .
والثاني : أنَّ الخبر قوله : « الأوَّلون » ، والمعنى : والسَّابقون إلى الهجرة الأوَّلُون من أهل هذه المِلَّةِ ، أو السابقون إلى الجنَّة الأولون من أهل الهجرة .
الثالث : أنَّ الخبر قوله : { مِنَ المهاجرين والأنصار } والمعنى فيه الإعلام بأنَّ السابقين من هذه الأمَّةِ من المهاجرين والأنصار ، ذكر ذلك أبو البقاءِ . وفي الوجهين الأخيرين تكلُّفٌ .
الثاني من وجهي « السَّابقين » : أن يكون نسقاً على « مَنْ يُؤمِنُ باللهِ » ، أي : ومنهم السابقون ، وفيه بعدٌ ، والجمهور على جرِّ « الأنْصارِ » نسقاً على « المُهاجِرينَ » يعني أنَّ السابقين من هذين الجنسين .
وقرأ جماعة كثيرة أجلاَّء : عمرُ بنُ الخطَّابِ ، وقتادةُ ، والحسنُ ، وسلامُ ، وسعيدُ ابنُ أبي سعيد ، وعيسى الكوفيُّ ، وطلحة ، ويعقوب « والأنصارُ » برفعها ، وفيها وجهان :
أحدهما : أنَّه مبتدأ ، وخبره « رضِيَ الله عنهُم » . والثاني : عطفه على « السَّابقُون » ، وقد تقدَّم ما فيه ، فيُحكم عليه بحكمه .
قوله : « بإِحْسانٍ » متعلقٌ بمحذوف ، لأنَّه حالٌ من فاعل « اتَّبَعُوهُم » . وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يرى أن الواو ساقطة من قوله : « والذين اتبعوهم » ويقول : إنَّ الموصول صفةٌ لمن قبله ، حتى قال له زيدُ بنُ ثابتٍ : إنَّها بالواو ، فقال : ائتوني بأبيّ ، فأتوه به ، فقال له : تصديق ذلك في كتاب اللهِ في أول الجمعة { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } [ الجمعة : 2 ] ، وأوسط الحشر { والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } [ الحشر : 10 ] وآخر الأنفال { والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ } [ الأنفال : 75 ] . وروي أنَّهُ سمع رجلاً يقرؤها بالواو ، فقال : من أقْرأكَ؟ فقال : أبيّ ، فدعاه ، فقال : أقرأنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنَّك لتبيع القرظ بالبقيع ، قال : صَدقْتَ ، وإن شئت قل : شهدنَا وغبْتُم ، ونصَرْنَا وخذلْتُم ، وآوَيْنَا وطَرَدْتم ، ومن ثمَّ عمرُ : لقد كنتُ أرانا رُفِعْنَا رفعة ، لا يبلغُها أحدٌ بعدنا .
فصل
لمَّا ذكر فضائل الأعراب الذين يتَّخذُونَ ما ينفقُون قربات عند الله ، وما أعد لهم ، بين أنَّ فوق منزلتهم منازل أعلَى وأعظم منها ، وهي منازلُ السَّابقين الأولين . واختلفوا فيهم ، فقال ابنُ عبَّاس ، وسعيدُ بنُ المسيب ، وقتادة ، وابن سيرين ، وجماعة : هم الذين صلُّوا إلى القبلتين ، وقال عطاءُ بن أبي رباح : هم الذين شهدوا معه بيعة الرضوان ، وكانت بيعة الرضوان بالحديبية . وقال أبو مسلم : من تقدم موته بعد الإسلام من الشهداء وغيرهم . وقال ابنُ الخطيبِ : « والصحيحُ عندي أنَّهم السَّابقون في الهجرة ، والنصرة ، لكونه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصاراً » . واختلفوا هل يتناولُ جميع الصحابة الذين سبقوا إلى الهجرة ، والنصرة أم يتناول بعضهم؟ فقال قومٌ : إنَّه يتناول الذين سبقوا في الهجرة والنصرة وعلى هذا ، فلا يتناول إلا قدماء الصحابة ، لأنَّ كلمة « مِنْ » للتَّبعيض .
ومنهم من قال : بل يتناولُ جميع الصحابةِ؛ لأنَّ جملة الصَّحابة موصوفون بكونهم سابقين أولين بالنسبة إلى سائر المسلمين ، وكلمة « مِنْ » في قوله « مِنَ المُهاجرينَ والأنصَارِ » ليست للتَّبعيض ، بل للتبيين ، كقوله : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] ، وذهب إلى هذا كثيرٌ من النَّاس .
روى حميدُ بن زيادٍ أنَّهُ قال : قلت يوماً لمحمَّدِ بن كعب القرظيِّ : ألا تُخْبرني عن أصحاب الرسول فيما كان بينه؟ وأردت الفتن ، فقال : إنَّ الله قد غفر لجميعهم ، وأوجب لهم الجنَّة في كتابه ، محسنهم ومسيئهم ، قلت له : وفي أيّ موضع أوجب لهم الجنّة؟ قال : سبحان الله! ألا تقرأ قوله : { والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار } [ التوبة : 100 ] إلى آخر الآية؟ فأوجب الله لجميع أصحاب النبي - عليه الصلاة والسلام - الجنَّة والرضوان ، وشرط على التابعين شرطاً ، قلت : وما ذاك الشَّرط؟ فقال : شرط عليهم أن يتبعوهم بإحسان ، وهو أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة ، ولا يقتدوا بهم في غير ذلك ، أو يقال : المرادُ أن يتبعوهم بإحسان في القول ، وهو ألاَّ يقولوا فيهم سوءاً ، وألاَّ يوجهوا الطَّعْنَ فيما أقدموا عليه . قال حميدُ بن زياد : فكأنِّي ما قرأتُ هذه الآية قط ، قال أبو منصور البغداديُّ التميمي : أصحابنا مجمعون على أنَّ أفضلهم الخلفاء الأربعة ، ثم الستة الباقون إلى تمام العشرة ، ثم البدريُّون ، ثم أصحاب أحد ، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية .
فصل
واختلفوا في أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد امرأته خديجة مع اتفاقهم على أنَّها أوَّلُ من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جابر : أوَّل من أسلم وصلَّى عليُّ بن أبي طالبٍ . قال مجاهدٌ وابن إسحاق : أسلم وهو ابن عشر سنين . وقال ابنُ عباسٍ ، وإبراهيم النخعي ، والشعبي : أوَّلُ من آمن بعد خديجة أبو بكر الصديق . وقال الزهريُّ وعروة بنُ الزُّبير : أوَّلُ من أسلم زيدُ بن حارثة .
وكان إسحاق بن إبراهيم الحنظلي بجمع بين هذه الأخبار فيقول : « أول من أسلم من الرجال أبو بكر ، ومن النساءِ خديجة ومن الصِّبيان عليّ ، ومن العبيد زيد بن حارثة » . قال ابن إسحاق : لمَّا أسلم أبُو بكر أظهر إسلامه ، ودعا إلى الله وإلى رسوله ، وكان رجُلاً محسناً سَهْلاً ، وكان تَاجِراً ، ذا خُلِقٍ ، وكان رجال قومه يأتُونهُ ويألفونهُ ، لعلمه وحُسن مجالسته . فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه فأسلم على يده فيما بلغني عثمان والزبيرُ بنُ العوام وعبدُ الرحمن بن عوفٍ وسعدُ بنُ أبي وقَّاص وطلحةُ بنُ عبيد الله؛ فجاء بهم إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم حين أسلمُوا وصلُّوا معه ، فكان هؤلاء الثمانية نفر الذين سبقوا إلى الإسلامِ ، ثم تتابع النَّاسُ في الدُّخُولِ في الإسلامِ ، أمَّا السابقُون من الأنصار الذين بايعُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الأولى وكانوا ستة نفر ثم أصحاب العقبة الثانية وكانوا اثني عشر رجلاً ، ثم العقبة الثالثة وكانوا سبعين فهلاء سباق الأنصار . ثمَّ بعثَ رسُول الله ، مصعب بن عمير إلى أهل المدينة يعلِّمهم القرآن؛ فأسلم على يده خلق كثير وجماعة من النساء والصبيان .
والمراد بالمهاجرين الذين هاجروا قومه وعشيرتهم ، وفارقُوا أوطانهم ، والأنصار الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه ، وآووا أصحابه .
{ والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ } [ التوبة : 100 ] قيل : هم بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأولين وعلى هذا أتي ب « مِنْ » للتبعيض . وقيل : هم الذين سلكُوا سبيلهم في الإيمان والهجرة والنصرة إلى يوم القيامة . وقال عطاءٌ : الذين يذكرُون المهاجرين والأنصار بالتَّرحم والدُّعاء . ثم جمع الله في الثَّواب فقال : { رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار } وقرأ ابنُ كثير : « تَجْري من تحْتِهَا » ب « مِن » الجارَّة ، وهي مرسومةٌ في مصاحف مكَّة . والباقون « تَحْتها » بدونها ولم تُرسَمْ في مصاحفهم . وأكثرُ ما جاء القرآن موافقاً لقراءةِ ابنِ كثير في غير موضع .
قوله : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ . . . } خبر مقدَّم ، و « مُنَافقُونَ » مبتدأ ، و « مِنَ الأعْرابِ » لبيان الجنسِ . « ومِنْ أهْلِ المدينةِ » يجوزُ أن يكون نسقاً على « مَنْ » المجرورة ب « مِنْ » ، فيكون المجروران مشتركين في الإخبار عن المبتدأ ، وهو « مُنافقُونَ » بهما ، كأنَّه قيل : المنافقون من قوم حولكم ، ومن أهل المدينة ، وعلى هذا هو من عطف المفردات ، إذ عطفت خبراً على خبر ، وعلى هذا ، فيكون قوله : « مَرَدُوا » مستأنفاً لا محلَّ له . ويجوز أن يكون الكلامُ تمَّ عند قوله : « مُنافقُونَ » ويكونُ قوله « ومِنْ أهْلِ المدينةِ » خبراً مقدماص ، والمبتدأ بعده محذوفٌ قامت صفتُه مقامه وحذفُ الموصوفِ وإقامةُ صفته مقامه - وهي جملة - مُطَّردٌ مع « مِنْ » التَّبعيضية ، وقد مرَّ تحريره ، نحو : « مِنَّا صفته مقامه - وهي جملة - مُطَّردٌ مع » مِنْ « التَّبعيضية ، وقد مرَّ تحريره ، نحو : » مِنَّ ظعن ، ومِنَّا أقامَ « والتقدير : ومن أهلِ المدينةِ قومٌ ، أو أناسٌ مرَدُوا ، وعلى هذا فهو من عطف الجمل .
ويجوز أن يكون « مَرَدُوا » على الوجه الأوَّلِ صفةً ل « مُنَافِقُون » وقد فُصل بينه وبين صفته بقوله : « ومِنْ أهل المدينةِ » ، والتقدير : وممَّن حولكم ، ومنْ أهْلِ المدينةِ منافقون ماردون .
قال ذلك الزجاجُ ، وتبعه الزمخشريُّ ، وأبو البقاء ، واستبعده أبو حيَّان ، للفصل بين الصِّفة وموصوفها .
قال : « فيصير نظيره في الدَّارِ زيدٌ ، وفي القصر العاقل » . يعني ففصلت بين « زيد » ، و « العاقل » بقولك : « وفي القصر » . وشبَّه الزمخشريُّ حذف المبتدأ الموصوف في الوجه الثَّاني ، وإقامة صفته مقامه بقوله : [ الوافر ]
2839- أنَا ابْنُ جَلاَ . . ..
قال أبُو حيَّان : « إن عنى في مطلق حذف الموصوف فحسنٌ ، وإن كان شبَّهه به في خصوصيته فليس بحسنٍ؛ لأنَّ حذفَ الموصوف مع » مِنْ « مُطَّردٌ؛ وقوله : [ الوافر ]
2840- أنَا ابْنُ جَلاَ . ..
ضرورة؛ كقوله : [ الرجز ]
2841- يَرْمِي بِكَفِّي كَان مِنْ أرمَى البَشَرْ ... والبيت المشار إليه ، هو قوله : [ الوافر ]
2842- أنَا ابنُ جَلاض وطلاَّعُ الثَّنَايَا ... مَتَى أضَعِ العِمامةَ تَعرِفونِي
وللنُّحاة في هذا البيت تأويلات :
أحدها : ما تقدم . والآخر : أنَّ هذه الجملة محكيّة؛ لأنَّها قد سُمِّي بها هذا الرَّجلُ ، فإنَّ » جَلاَ « فيه ضمير فاعل ، ثم سُمِّي بها وحُكيَتْ كما قالُوا : شَابَ قَرْنَاهَا ، وذَرَّى حَبّاً ، وقوله : [ الرجز ]
2843- نُبِّئْتُ أخْوالِي بَنِي يَزِيدُ ... ظُلْماً عليْنَا لهُمُ فَدِيدُ
والثالث : وهو مذهب عيسى بن عمر : أنَّهُ فعلٌ فارغ من الضَّمير ، وإنَّما لم يُنوَّن؛ لأنَّه عنده غيرُ منصرفٍ ، فإنه يُمْنَع بوزن الفعل المشترك ، فلو سُمِّي ب » ضرب ، وقتل « منعهما ، أمَّا مجردُ الوزن من غير نقل من فعل فلا يمنع ألْبَتَّة ، نحو : جَمَل ، وجَبَل . والمراد بأهل المدينةِ : الأوس والخزرج . و » مَرَدُوا « أي : مَهَرُوا ، وتمرَّنُوا ، وثبتوا على النفاق .
وقال ابن إسحاق : لجوُّا فيه وأبوا غيره . وقال ابنُ زيدٍ : أقاموا عليه ولم يتوبوا . وقد تقدَّم الكلام على هذه المادَّة في النِّساءِ ، عند قوله : { شَيْطَاناً مَّرِيداً } [ النساء : 117 ] .
قوله : » لا تَعْلمُهُم « هذه الجملةُ في محلِّ رفعٍ أيضاً صفةً ل » مُنَافِقُون « ، ويجوزُ أن تكون مستأنفةً ، والعلم هنا يحتمل أن يكون على بابه؛ فيتعدَّى لاثنين ، أي : لا تعلمهم منافقين فحذف الثَّاني للدلالة عليه بتقدُّم ذكر المنافقين؛ ولأنَّ النفاق من صفاتِ القلب ، لا يطلع عليه . وأن تكون العرفانية فتتعدَّى لواحد ، قاله أبُو البقاءِ . وأمَّا » نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ « فلا يجوزُ أن تكون إلاَّ على بابها ، لما تقدَّم في الأنفال ، وإن كان الفارسيُّ في إيضاحه صرَّح بإسناد المعرفة إليه تعالى ، وهو محذُورٌ لما تقدَّم .
قوله : « سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ » تقدَّم الكلامُ في نصب { مَرَّةٍ } [ التوبة : 13 ] ، وأنَّه من وجهين ، إمَّا المصدرية ، وإمَّا الظرفية ، فكذلك هذا ، وهذه التثنيةُ يحتملُ أن يكون المرادُ بها شفعَ الواحد ، وعليه الأكثر ، واختلفُوا في تفسيرها ، وألاَّ يُرادَ بها التثنية الحقيقية ، بل يُراد بها التَّكثيرُ ، كقوله تعالى : { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } [ الملك : 4 ] ، أي : كرَّاتٍ ، بدليل قوله : { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } [ الملك : 4 ] ، أي : مزدجراً ، وهو كليلٌ ، ولا يصيبه ذلك إلاَّ بعد كرَّات ، ومثله « لبَّيْكَ ، وسعْديكَ ، وحنَانيْكَ » .
وروى عياشٌ عن أبي عمرو « سنُعذِّبْهُم » بسكون الباءِ ، وهو على عادته في تخفيف توالى الحركاتِ ك { يَنصُرْكُمُ } [ آل عمران : 160 ] وبابه ، وإن كان باب « ينْصُركُم » أحسن تَسْكِيناً ، لكون الرَّاءِ حرف تكرار؛ فكأنه توالى ضمَّتان ، بخلاف غيره ، وقد تقدَّم تحريره .
وقال أبُو حيَّان : وفي مصحف أنس « سيُعذِّبهُم » بالياءِ ، وقد تقدَّم أنَّ المصاحفَ كانت مهملة من النقط والضبط بالشكْلِ ، فكيف يقال هذا؟!
فصل
وأمَّا اختلافهم في هذين العذابين : فقال السُّديُّ والكلبيُّ : قام النبيُّ صلى الله عليه وسلم خطيباً يوم الجمعة فقال : « اخْرُجْ يا فلانُ فإنَّك مُنافقٌ اخْرُجْ يا فُلانُ . . . » فأخرج من المسجد ناساً ، وفضحهم ، فهذا هو العذابُ الأولُ .
والثاني : عذاب القبر . وقال مجاهدٌ : الأولُ القتل والسبي ، والثاني عذاب القبر ، وعنه رواية أخرى عُذِّبُوا بالجوع مرَّتين . وقال قتادةُ : بالدبيلة في الدُّنيا ، وعذاب القبر . وقال ابن زيد : الأولى المصائب في الأموال والأولاد في الدُّنيا ، والأخرى عذاب القبر . وعن ابن عبَّاسٍ : الأولى إقامة الحدود عليهم ، والأخرى عذاب القبر . وقال ابنُ إسحاق : هو ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام ، ودخولهم فيه من غير حسبة ، ثم عذاب القبر . وقيل : أحدهما ضرب الملائكة وجوههم ، وأدبارهم عند قبض أرواحهم ، ثم عذاب القبر ، وقيل : الأولى إحراق مسجدهم مسجد الضّرار ، والأخرى إحراقهم بنار جهنَّم ثُمَّ يردُّون إلى عذابٍ عظيم أي : عذاب جهنم يخلدون فيه وقال الحسنُ : الأولى أخذ الزكاة من أموالهم ، وعذاب القبر .
قوله تعالى : { وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ } الآية .
« وآخرون » نسقٌ على « مُنافِقُون » أي : وممَّن حولكم آخرون ، أو من أهلِ المدينة آخرون . ويجوزُ أن يكون مبتدأ ، و « اعترفُوا » صفته ، والخبر قوله : « خلطُوا » . قوله : « وآخَرَ » نسقٌ على « عَمَلاً » . قال الزمخشريُّ : « فإن قلت : قد جُعِلَ كُلُّ واحد منهما مخلُوطاً ، فما المخلُوط به؟ قلتُ : كلُّ واحدٍ مخلوطٌ ومخلوطٌ به؛ لأنَّ المعنى : خلط كل واحدٍ منهما بالآخر ، كقولك : خلَطْتُ الماءَ واللَّبن ، تريدُ : خلطتُ كُلَّ واحدٍ منهما بصاحبه . وفيه ما ليس في قولك : خلطتْ الماءَ باللَّبَنِ؛ لأنَّك جعلت الماء مَخْلُوطاً ، واللَّبنَ مخلوطاً به ، وإذا قلته بالواو جعلتَ الماءَ واللَّبنَ مخلوطين ، ومخلوطاً بهما ، كأنَّك قلت : خلطتُ الماءَ باللبن ، واللبن بالماءِ » .
ثمَّ قال « ويجوزُ أن يكون من قولهم : بِعْتُ الشَّاة : شاةً ودرهماً ، بمعنى : شاة بدرهم » .
قال شهابُ الدِّينِ : « لا يريدُ أنَّ الواو بمعنى الباءِ ، وإنَّما هذا تفسيرُ معنى » وقال أبُو البقاءِ : « ولو كان بالباءِ جاز أن تقول : خلطتُ الحنطة والشعير ، وخلطت الحنطةَ بالشَّعير » .
قوله : « عَسَى الله » يجوزُ أن تكون الجملةُ مستأنفةً ، ويجوزُ أن تكون في محلِّ رفع خبراً ل « آخرون » ويكون قوله « خلطُوا » في محلِّ نصب على الحالِ ، و « قَدْ » معه مقدَّرةٌ ، أي : قد خلطوا . فتلخَّص في : « آخرُونَ » أنَّهُ معطوف على « مُنافِقُون » ، أو مبتدأ مخبر عنه ب « خَلطُوا » ، أو بالجملة الرجائية .
فصل
قيل : إنَّهم قوم من المنافقين ، تابُوا عن النِّفاقِ؛ لأنَّهُ عطف على قوله { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب مُنَافِقُونَ } والعطفُ يوهم التَّشريكَ ، إلاَّ أنَّهُ تعالى وفقهم للتوبة . وقيل : إنَّهُم قوم من المسلمين تخلَّفوا عن غزوة تبُوك ، كسلاً ، لا نفاقاً ، ثم نَدِمُوا على ما فعلوا وتابوا .
وروي أنهم كانوا ثلاثة : أبو لبابة مروان بن عبد المنذر ، وأوس بن ثعلبة ووديعة بن حزام . وروى عطية عن ابن عباس : كانوا خمسة ، أحدهم أبو لبابة . وقال سعيد بن جبير : كانوا ثمانية . وقال قتادةُ والضحاك : كانوا سبعة . وقالو جميعاً أحدهم أبو لبابة . وقال قومٌ : نزلت في أبي لبابة خاصة ، وروي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس : أنهم كانوا عشرة ، فسبعة منهم أوثقوا أنفسهم لمَّا بلغهم ما نزل في المتخلفين ، فأوثقوا أنفسهم بسواري المسجد ، فقدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، ودخل المسجد وصلى ركعتين ، وكانت عادته كُلَّما قدم من سفرٍ ، فرآهم موثقين ، فسأل عنهم؛ فقالوا : هؤلاء تخلَّفُوا عنك ، فعاهدُوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى يكون رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يطلقهم ويرضى عنهم ، فقال : « وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم » ؛ فنزلت هذه الآية فأطلقهم وعذرهم ، فقالوا : يا رسُول الله هذه أموالنا التي خلَّفتنا عنك ، فتصدق بها عنَّا وطهرنا ، فقال : « ما أمرتُ أن آخذَ مِنْ أموالكُم شيئاً » ؛ فنزل قوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } [ التوبة : 103 ] الآية .
والاعترافُ : عبارة عن الإقرار بالشَّيءِ عن معرفةٍ ، ومعناه : أنَّهُم أقَرُّوا بذنبهم .
والعمل الصَّالح : هو توبتهم واعترافهم بذنبهم وربطهم أنفسهم . والعمل السيّىء : هو تخلُّفهم .
وقيل : العمل الصَّالح : خروجهم مع الرسُول - عليه الصلاة والسلام - إلى سائر الغزوات ، والعمل السيّىء : تخلفهم عن غزوة تبوك .
فصل
قالوا : إنَّ الكلام ينزلُ على عرف النَّاسِ ، فالسُّلطانُ إذا التمس المحتاج منه شيئاً؛ فإنه لا يجيب إلاَّ بالتَّرجي ب « لعل ، أو عسى » ، تنبيهاً على أنَّه ليس لأحد أن يلزمني شيئاً؛ بل كل ما أفعله فإنما أفعله على سبيل التفضّل ، فهذا المعنى هو فائدة ذكر « عَسَى » .
والاعتراف بمجرَّدِهِ لا يكون توبة ، إلاَّ إذا اقترن به النَّدم على الماضي ، والعزم على تركه في المستقبل .
فصل
دلَّت هذه الآيةُ على عدم القولِ بالإحباط ، وأنَّ الطَّاعة تبقى موجبة للمدح والثَّواب ، والمعصية تبقى موجبة للذّم والعقاب؛ لأنَّ قوله تعالى : { خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً } [ التوبة : 102 ] يدلُّ على أن كلَّ واحدٍ منهما يبقى كما كان من غير أن يتأثر أحدهما بالآخر ، لأنه وصفه بالاختلاط ، والمختلطان لا بد وأن يكونا باقيين حال اختلاطهم ، لأن الاختلاط صفة للمختلطين ، وحصول الوصفِ حال عدم الموصوف محال؛ فدلَّ على بقاء العملين حال الاختلاط .
فصل
قوله : { عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } يقتضي أنَّ هذه التَّوبة إنَّما تحصل في المستقبل . وقوله : { وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ } يدلُّ على أنَّ ذلك الاعتراف حصل في الماضي ، وذلك يدلُّ على أن ذلك الاعتراف ما كان مقروناً بنفس التوبة؛ بل كان مقدماً على التوبةِ ، والتوبة إنما حصلت بعده .
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
قوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } قال الحسنُ : هذا راجع إلى الذين تابُوا؛ لأنهم بذلُوا أموالهم للصَّدقة؛ فأوجب الله تعالى أخذها ، وصار ذلك معتبراً في كمال توبتهم ، فتكون جارية مجرى الكفارة . وليس المراد منها الصدقة الواجبة ، وإنَّما هي كفارة الذنبِ . وهذا بناء على القول بأنَّهُم ليسوا منافقين ، ويدلُّ عليه قوله عليه الصلاة والسلام : « ما أمرتُ أن آخُذَ مِنْ أموالكُمْ شَيْئاً » فلو كانت واجبة لم يقل ذلك . وأيضاً روي أنه عليه الصلاة والسلام : أخذ الثلث وترك الثلثين . والواجبةُ ليست كذلك . وقيل : إنَّ الزكاة كانت واجبة عليهم ، فلمَّا تابُوا عن تخلفهم عن الغزوِ ، وحسن إسلامهم ، وبذلوا الزكوات أمر الله رسوله أن يأخذها منهم . وهذا بناء على أنَّهم كانوا منافقين .
وقيل : هذا كلام مبتدأ ، والمقصود منه إيجاب أخذ الزَّكاة من الأغنياء ، وعليه أكثر الفقهاء ، واستدلُّوا بقوله { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } . فدلَّ على أنَّ المأخوذَ بعض تلك الأموال لا كلها؛ لأنَّ « مِنْ » للتبعيض ، ثم إن مقدار ذلك البعض غير مصرّح به ، بل المصرح به قوله : « صدقَة » ، وليس المراد منه التنكير حتى يكفي أخذ أيّ جزء كان ، وإن كان في غاية القلَّة مثل الحبَّة الواحدة من الحنطة ، أو الجزء الحقير من الذَّهبِ ، فوجب أن يكون المراد منه صدقة معلومة الصفة والكيفيَّة والكمية عندهم ، حتى يكون قوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } [ التوبة : 103 ] أمراً بأخذ تلك الصَّدقة المعلومة ، لكي يزول الإجمالُ . وليست إلاَّ الصدقة التي وصفها رسُول الله صلى الله عليه وسلم في أن يأخذ في خمس وعشرين بنت مخاض ، وفي ست وثلاثين بنت لبون ، إلى غير ذلك ، وأجاب الأوَّلُون بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بيَّنها بأخذ الثلث فزال الإجمال ، وظهر تعلق الآية بما قبلها ، وعلى قولكم لا يظهر تعلق الآية بما قبلها .
قوله : { . . مِنْ أَمْوَالِهِمْ . . } يجوزُ فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلقٌ ب « خُذْ » ، و « مِنْ » تبعيضية .
والثاني : أن تتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنَّها حالٌ من « صدقةً » ، إذ هي في الأصل صفةٌ لها ، فلمَّا قُدِّمت نُصبَتْ حالاً . والصَّدقة : مأخوذة من الصِّدْقِ ، وهي دليل على صحَّة إيمانه ، وصدق باطنه مع ظاهره ، وأنَّهُ ليس من المنافقين الذين يَلْمِزُون المُطَّوعين من المُؤمنينَ في الصَّدقاتِ .
قوله : { تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ } يجوزُ أن تكون التَّاء في « تُطَهِّرُهمْ » خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأن تكون للتنبيه ، والفاعل ضمير الصدقة ، فعلى الأوَّل تكون الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل « خُذْ » . ويجوز أن تكون صفةً ل « صَدقَةً » ، ولا بدَّ حينئذ من حذف عائد ، تقديره : تُطهِّرُهُم بها ، وحذف « بها » ، لدلالة ما بعده عليه .
وعلى الثاني تكون الجملة صفة ل « صدقة » ليس إلاَّ ، وأمَّا « تُزَكِّيهم » فالتاء فيه للخطاب لا غير ، لقوله « بها » ، فإنَّ الضمير يعود على الصَّدقة فاستحال أن يعود الضميرُ من « تُزكِّيهم » إلى الصَّدقة . وعلى هذا فتكونُ الجملةُ حالاً من فاعل « خُذ » على قولنا : إنَّ « تَطهِّرهُم » حال منه ، وإنَّ التَّاء فيه للخطاب . ويجوزُ أيضاً أن تكون صفةً إن قلنا : إنَّ « تُطهِّرهم » صفةٌ ، والعائدُ منها محذوفٌ . وجوَّز مكيٌّ أن يكون « تُطهِّرُهُم » صفةً ل « صَدقةً » ، على أنَّ التَّاء للغيبة ، و « تُزكِّيهم » حالاً من فاعل « خُذْ » ، على أنَّ التاء للخطاب ، ورَدُّوهُ عليه بأنَّ الواو عاطفةٌ ، أي : صدقة مطهِّرة ، ومُزكياً بها ، ولو كان بغير واوٍ جاز ، ووجهُ الفسادِ ظاهرٌ ، فإنَّ الواو مُشتركةٌ لفظاً ومعنى ، فلو كانت « وتُزكِّيهم » عطفاً على « تُطهِّرُهم » للزمَ أن يكون صفةً كالمعطوفِ عليه؛ إذْ لا يجُوزُ اختلافهما ، ولكن يجوزُ ذلك على أن « تُزكِّيهم » خبر مبتدأ محذوف ، وتكون الواوُ للحالِ ، تقديره : وأنت تزكِّيهم ، وفيه ضعفٌ ، لقلَّةِ نظيره في كلامهم . وتلخَّص من ذلك أنَّ الجملتين يجُوزُ أن تكونا حالين من فاعل « خُذْ » على أن تكون التاءُ للخطابِ ، وأن تكونا صفتين ل « صَدقَة » على أنَّ التاء للغيبة ، والعائد محذوفٌ من الأولى ، وأن يكُون « تُطهِّرهُم » حالاً ، أو صفة ، و « تُزكِّيهم » حالاً على ما جوَّزه مكيٌّ ، وأن يكون « تزكِّيهم » خبر مبتدأ محذوف ، والواوُ للحال . وقرأ الحسنُ « تُطْهرُهم » مُخَفَّفاً من « أطهر » عدَّاهُ بالهمزة .
فصل
دلَّت هذه الآية على أنَّ الزَّكاة تتعلَّق بالأموال لا بالذِّمة ، لقوله { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } فلو مات أخذَت من التَّركة . وقال الشَّافعيُّ : إنَّها تتعلَّق بالذِّمة ، فلو فرط حتى هلك النصاب ، وجبت الزَّكاةُ؛ لأنَّ الذي هلك ما كان محلاً للحق . ودلَّت الآية أيضاً على أنَّ الزَّكاة إنَّما وجبت طهرة للآثام؛ فلا تجبُ إلا على البالغِ . وهو قول أبي حنيفة . وإذا قلنا : تتعلَّق بالمالِ وجبت في مال الصَّبي ، وفي مال المديُونِ .
فصل
معنى التَّطَهُّر ما روي أن الصدقة أوساخ النَّاسِ ، فإذا أخذت الصدقة فقد اندفعت تلك الأوساخُ؛ فكان دفعها جارياً مجرى التَّطهر . والتَّزكية : مبالغة في التطهر ، وقيل : التَّزكية بمعنى الإنماءِ ، وقيل : الصَّدقة تطهرهم من نجاسةِ الذَّنب والمعصية ، والرسول يزكيهم ، ويعظم شأنهم ويثني عليهم عند إخراجها إلى الفقراء . ولذلك يقولُ السَّاعي له : آجرك اللهُ فيما أعطيت ، وبارك لك فيما أبقيت ، وجعله لك طهوراً .
قوله : { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ } . قرأ الأخوان ، وحفص « إنَّ صلاتكَ » ، وفي هود
{ أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ } [ هود : 87 ] بالتَّوحيد - والباقون « إنَّ صلواتك » « ، » أصَلواتُك « بالجمع فيهما ، وهما واضحتان ، إلاَّ أنَّ الصلاة هنا : الدُّعاء ، وفي تيكَ : العبادة . قال أبو عبيدٍ : وقراءة الإفراد أوْلَى؛ لأنَّ الصَّلاة أكثر ، قال تعالى : { وَأَقِيمُواْ الصلاة } [ البقرة : 43 ] والصلواتُ جمع قلَّة ، تقول : ثلاث صلوات ، وخمس صلوات .
قال أبو حاتم : وهذا غلطٌ ، لأنَّ بناء الصلوات ليس للقلة ، قال تعالى : { مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله } [ لقمان : 27 ] ولم يرد التَّقليل ، وقال : { وَهُمْ فِي الغرفات } [ سبأ : 37 ] ، وقال { إِنَّ المسلمين والمسلمات } [ الأحزاب : 35 ] . والسَّكَنُ : الطمأنينة . وقال ابنُ عبَّاسٍ : رحمة لهم . وقال أبو عبيدة : تَثْبِيتاً لقلوبهم؛ ومن الطمأنينة قوله : [ البسيط ]
2844- يا جَارَة الحَيِّ ألاَّ كُنْتِ لِي سَكَناً ... إِذْ لَيْسَ بعضٌ مِنَ الجيرانِ أسْكننِي
ف » فَعَل « بمعنى » مفعول « ، كالقبض بمعنى : المقبوض ، والمعنى : يَسْكُنون إليها .
قال أبُو البقاءِ : » ولذلِكَ لمْ يُؤنِّثْهُ « . لكن الظَّاهر أنَّهُ هنا بمعنى » فاعل « ، لقوله : » لهم « . ولو كان كما قال لكان التَّركيب » سكنٌ إليها « أي : مَسْكُون إليها ، فقد ظهر أنَّ المعنى : مُسَكِّنة لهم .
فصل
قال ابنُ عبَّاسٍ : معنى الصَّلاةِ عليهم : أن يدعو لهم . وقال آخرون : معناه أن يقول لهم اللَّهُمَّ صلِّ على فلان ، ونقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنَّ آل أبي أوفى لمَّا أتوه بالصَّدقة قال : » اللَّهُمَّ صلِّ على آلِ أبِي أوْفَى « .
واختلفوا في وجوب الدُّعاء من الإمام عند أخذ الصدقة ، قال بعضهم : يجبُ . وقال بعضهم : يستحبُّ . وقال بعضهم : يجب في صدقة الفرضِ ، ويستحب في التَّطوع . وقيل : يجب على الإمام ، ويستحب للفقير أن يدعو للمعطي . ثم قال : { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
قوله تعالى : { أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ } الآية .
لمَّا قال في الآية الأولى { عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 102 ] ولمْ يُصرِّح في قبول توبتهم ، صرَّح في هذه الآيةِ بأنه يقبلُ التَّوبةَ عن عباده ، وأنَّهُ يأخذُ الصَّدقات ، أي : يقبلها . قال أبُو مسلمٍ قوله : » أَلَمْ يعلموا « وإن كان بصيغة الاستفهام ، إلاَّ أنَّ المقصود منه التقدير في النَّفس ، ومن عادة العرب في إفهام المخاطب ، وإزالة الشَّك عنه أن يقولوا : أما علمتَ أنَّ من علَّمكَ يجبُ عليك خدمته ، أما علمت أنَّ من أحسن إليك يجبُ عليك شكره ، فبشَّر اللهُ هؤلاء التَّائبين بقبول توبتهم وصدقاتهم . ثم زاده تأكيداً بقوله : { هُوَ التواب الرحيم } .
وقرأ الحسن بخلاف عنه » ألَمْ تعْلمُوا « قال أبُو حيَّان : » وفي مصحف أبَيّ « ألَمْ تَعْلمُوا » بالخطاب ، وفيه احتمالات ، أحدها : أن يكون خطاباً للمتخلِّفين الذين قالوا : ما هذه الخاصّيّة التي اختصّ بها هؤلاء؟ وأن يكون التفاتاً من غير إضمارِ قولٍ ، والمرادُ : التَّائبون ، وأن يكون على إضمار قولٍ ، أي : قل لهم يا محمد : ألمْ تعلمُوا « .
قوله : « هُوَ يَقْبَلُ » « هو » مبتدأ ، و « يَقْبَلُ » خبره ، والجملةُ خبر « انَّ » ، و « أنَّ » وما في حيِّزها سادةٌ مسدَّ المفعولين ، أو مسدَّ الأول . ولا يجوزُ أن يكون « هو » فصلاً ، لأنَّ ما بعده لا يوهم الوصفيَّة ، وقد تقدَّم تحريرُ ذلك ، قوله : « عَنْ عبادِهِ » معلقٌ ب « يَقْبَلُ » وإنَّما تعدَّى ب « عَنْ » فقيل : لأنَّ معنى « مِنْ » ومعنى « عَنْ » متقاربان .
قال ابنُ عطيَّة : « وكثيراً ما يتوصَّل في موضع واحد بهذه وبهذه ، نحو : » لا صدقَةَ إلاَّ عَنْ غنى ، ومِنْ غنى « ، وفعل ذلك فلانٌ من أشره وبطره ، وعن أشره وبطره » . وقيل : لفظة « عَنْ » تُشْعر ببعدٍ ما ، تقول : جلسَ عن يمين الأمير ، أي : مع نَوْعٍ من البُعْدِ . والظَّاهِرُ أنَّ « عَنْ » للمجاوزة على بابها ، والمعنى : يتجاوزُ عن عباده بقبول توبتهم ، فإذا قلت : أخذت العلم عن زيد؛ فمعناه المجاوزةُ ، وإذا قلت « منه » فمعناه ابتداء الغاية . قال القاضي : « لعلَّ » عَنْ « أبلغ؛ لأنَّهُ ينبىء عن القبُولِ مع تسهيل سبيله إلى التَّوبة التي قبلت » قوله : « وَيَأْخُذُ الصدقات » فيه سؤالٌ : وهو أنَّ ظاهر هذه الآية يدلُّ على أنَّ الآخذ هو الله تعالى ، وقوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } يدلُّ على أنَّ الآخذ هو الرَّسُولُ - عليه الصلاة والسلام - ، وقوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ « خذها من أغنِيائهم » يدلُّ على أنَّ آخذ تلك الصدقات معاذ ، وإذا دفعت إلى الفقير فالحسُّ يشهد أن آخذها هو الفقير ، فكيف الجمع بين هذه الألفاظ؟ .
والجوابُ من وجهين :
الأول : أنَّهُ تعالى لمَّا قال { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } ثمَّ ذكر ههنا أنَّ الآخذ هو ، علم منه أنَّ أخذ الرسول قائم مقام أخذ الله ، والمقصود منه : التنبيه على تعظيم شأنِ الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، ونظيره قوله : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفتح : 10 ] .
والثاني : أنَّهُ أضيف إلى الرسول ، بمعنى أنَّهُ يأمر بأخذها ، ويبلغ حكم الله في هذه الواقعة إلى النَّاس ، وأضيف إلى الفقير ، بمعنى أنَّهُ هو الذي يباشرُ الأخذ ، ونظيره أنَّهُ أضاف التوفي إلى نفسه بقوله تعالى : { وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم } [ الأنعام : 60 ] ، وأضافه إلى ملك الموتِ بقوله : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت } [ السجدة : 11 ] وأضافه إلى الملائكة الذين هم أتباع ملك الموت بقوله : { حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } [ الأنعام : 61 ] ، فأضيف إلى الله بالخلق ، وإلى ملك الموت بالرئاسة في ذلك النَّوع من العمل ، وإلى أتباع ملك الموت بالمباشرة التي عندها يخلق الله الموت ، فكذا ههنا .
قوله : « هُوَ التواب » يجوزُ أن يكون فصلاً ، وأن يكون مبتدأ بخلاف ما قبله .
فصل
روى أبو هريرة قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ :
« والَّذي نَفْسِي بيدهِ مَا مِنْ عبْدٍ يتصدَّقُ بصدقةٍ من كَسْب طيِّب ولا يَقْبلُ اللهُ إلاَّ طيباً ، ولا يصْعَدُ إلى السَّماء إلاَّ الطَّيِّبُ إلاَّ كأنما يضعُها في يدِ الرَّحمنِ فيُربيها لهُ كما يُرَبِّي أحدُكمْ فلُوَّهُ حتَّى إنَّ اللُّقْمةَ لتأتِي يَوْمَ القيامةِ ، وأنَّها لمِثْلُ الجبل العظيم » ، ثم قرأ : { أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات } .
قوله تعالى : { وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } الآية .
قال ابنُ الخطيبِ : « هذا كلامٌ جامع للتَّرغيب والتَّرهيب؛ لأنَّ المعبودَ إذا كان لا يعلمُ أفعال العباد لم ينتفع العبد بفعله أبداً ، ولهذا قال إبراهيمُ لأبيه : { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ } [ مريم : 42 ] ، وليس المقصودُ من هذه الحُجَّة التي ذكرها إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - القدح في إلهيّة الصَّنم؛ لأنَّ كلَّ أحد يعلم بالضَّرورة أنَّهُ حجر وخشب ، وأنَّه عرضة لتصرف المتصرفين ، فمن شاء أحرقه ، ومن شاء كسره ، ومن كان كذلك كيف يتوهم العاقلُ كونه إلهاً؟ بل المقصودُ أنَّ أكثر عبدة الأصنام كانُوا في زمن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أتباع الفلاسفةِ القائلين بأنَّ إله العالم موجب بالذَّات ، وليس بموجد بالمشيئة والاختيار ، فقال : الموجب بالذَّات إذا لم يكن عالماً بالجزئيات ، ولم يكن قادراً على نفع ولا إضرار ولا يسمع دعاء المحتاجين ، ولا يرى تضرُّع المساكين ، فأيُّ فائدة في عبادته؟ فكان المقصودُ من دليل إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - الطَّعن في قول من يقول : إنَّ إله العالم موجب بالذَّات .
أمَّا إذا كان فاعلاً مختاراً ، وكان عالماً بالجزئيات ، فحينئذٍ يحصلُ للعبادِ الفوائدُ العظيمةُ وذلك لأنذَ العبد إذا أطاع المعبود علم طاعته وقدر على إيصال الثواب إليه في الدُّنيا والآخرة وإن عصاه علم المعبود ذلك ، وقدر على إيصال العقاب إليه في الدُّنيا والآخرة ، فقوله : { وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } ترغيبٌ عظيم للمُطيعين ، وترهيبٌ عظيم للمذنبين فكأنَّه قال : اجتهدُوا في المستقبل ، فإنَّ لعملكُم في الدنيا حكماً وفي الآخرة حكماً .
أمَّا حكمه في الدُّنيا ، فهو أنَّهُ يراه اللهُ ويراهُ الرسول ويراه المؤمنون ، فإن كان طاعة حصل منه الثناء العظيم في الدنيا ، والثواب في الآخرة ، وإن كان معصية حصل منه الذَّم العظيم في الدنيا والعقاب الشديد في الآخرة ، فثبت أنَّ هذه اللفظة جامعة لجميع ما يحتاجُ إليه المرء في دينه ودنياه ومعاده » .
فصل
دلَّت هذه الآيةُ على كونه تعالى رائياً للمرئيات؛ لأنَّ الرُّؤيةَ المعدَّاة إلى مفعول واحد ، هي الإبصار ، والمعدَّاة إلى مفعولين هي العلمُ ، كقولك : رأيتُ زيداً فقيهاً ، وههنا الرؤية معداة إلى مفعول واحد ، فتكون بمعنى الإبصار ، فدلَّت على كونه مبصراً للأشياء كما أنَّ قول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ } [ مريم : 42 ] يدلُّ على كونه مبصراً للأشياء ، ويقوِّي هذا أنَّهُ تعالى وصف نفسه بالعلم بعده فقال : { وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة } فلو كانت هذه الرؤيةُ هي العلم؛ لزم التِّكرارُ الخالي عن الفائدة .
فصل
دلَّت هذه الآية على أنَّ كلَّ موجود فإنَّهُ يصحُّ رؤيته ، لما بيَّنَّا من أنَّ الرُّؤية معدَّاة إلى مفعولٍ واحدٍ ، والقوانين اللُّغوية شاهدةٌ بأنَّ الرؤية المعداة إلى المفعول الواحد معناها : الإبصار ثم إنَّه تعالى عدَّى هذه الرؤية إلى عملهم ، والعمل ينقسمُ إلى أعمال القلوب ، كالإرادات والكراهاتِ والخواطر ، وإلى أعمال الجوارح ، كالحركات والسَّكنات؛ فوجب كونه تعالى رائياً للكل وأما الجبائي فإنه استدل بهذه الآية على كونه تعالى رائياً للحركات والسَّكنات فلمَّا قيل له : فيلزمك كونه تعالى رائياً لأعمال القُلوبِ ، فأجابَ بأنَّه تعالى عطف عليه قوله { وَرَسُولُهُ والمؤمنون } وهم إنَّما يَرَوْنَ أفعال الجوارحِ؛ فلما تقيَّدت هذه الرؤية بأعمالِ الجوارح في حقِّ المعطوف؛ وجب تقييدها بهذا القيد في حقِّ المعطوفِ عليه ، وهذا استدلالٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ العطف لا يفيدُ إلاَّ أصل التَّشريك . فأمَّا التسوية في كُلِّ الأمُورِ فغير واجب فدخولُ التَّخصيص في المعطوف لا يوجبُ دخول التَّخصيص في المعطوف عليه ، ويمكنُ بأن يقول الجبائيُّ : رؤيةُ الله تعالى حاصلة في الحالِ ، ولفظ الآية مختصّ بالاستقبال ، لقوله : { فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ } فدلَّ على أنَّ المرادَ ليس هو الرُّؤيةُ ، بل المرادُ منه الجزاء على الأعمال ، أي : فسيوصل لكم جزاء أعمالكم ، وقد يجابُ : بأنَّ إيصال الجزاءِ إليهم مذكور بقوله : { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فلوْ حملنا هذه الرُّؤيةِ على إيصال الجزاءِ ، لزم التَّكرارِ وهو غير جائز .
فصل
ذكروا في الفائدة في ذكر الرسولِ ، والمؤمنين بعد ذكر الله في أنهم يرون أعمال هؤلاء التائبين وجهين :
الأول : أنَّ أجدر ما يدعو المرءُ إلى العمل الصَّالح هو ما يحصلُ له من المدح والتَّعظيم ، فإذا علم أنَّهُ إذا فعل ذلك الفعل عظَّمه الرسولُ والمؤمنون ، عظم فرحه بذلك وقويت رغبته فيه ، فكأنه قيل : إن كنت من المُحِقِّين في عبودية الحق ، فاعمل الأعمال الصالحة للفوز بثناء الخلقِ ، وهو الرسول والمؤمنون .
الثاني : ما ذكره أبو مسلم : أنَّ المؤمنين شهداء الله يوم القيامة ، لقوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس } [ البقرة : 143 ] ، والرسول شهيد الأمَّة ، لقوله : { وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً } [ النساء : 41 ] ؛ فثبت أنَّ الرسول والمؤمنين شهداء الله يوم القيامةِ ، والشهادة لا تصحُّ إلاَّ بعد الرُّؤيةِ؛ فذكر الله أنَّ الرسول والمؤمنين يرون أعمالهم ، والمقصودُ التنبيه على أنَّهم يشهدون يوم القيامة عند حضورِ الأولين والآخرين ، بأنَّهم أهل الصِّدق والسّداد والعفافِ والرشاد .
قوله : { وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة } . قال ابنُ عباسٍ : الغيبُ : ما يسرونه والشهادة : ما يظهرونه . قال حكماءُ الإسلامِ : الموجوداتُ الغائبةُ عن الحسّ علل أو كالعلل للموجودات المحسوسة ، وعندهم أنَّ العلم بالعلَّةِ علة للعلم بالمعلول؛ فوجب كونُ العلم بالغيب سابقاً على العلم بالشَّهادة؛ فلهذا السَّبب أينما جاء الكلامُ في القرآن كان الغيب مقدماً على الشهادة .
فصل
إن حملنا قوله تعالى : { فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ } على الرُّؤية ، ظهر أنَّ معناه مُغايراً لمعنى قوله : { وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة } ، وإنْ حملنا تلك الرُّؤية على العلم أو على إيصال الثواب ، كان قوله { وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة } جارياً مجرى التفسير لقوله { فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ } ومعناه : بإظهار المدح والثناء والإعزاز في الدُّنيا أو بإظهار أضدادها . وقوله : { وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة } أي : ما يظهر في القيامة من حالِ الثَّوابِ والعقابِ .
{ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : يعرّفكم أحوال أعمالكم ثمَّ يجازيكم عليها؛ لأنَّ المجازاة من الله تعالى لا تحصلُ في الآخرة إلاَّ بعد التَّعريفِ ، ليعرف كلُّ أحدٍ أن الذي وصل إليه عدل لا ظلم .
قوله تعالى : { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ } الآية .
قرأ ابنُ كثير ، وأبو عمرو ، وابنُ عامرٍ ، وأبُو بكرٍ عن عاصم « مُرْجؤونَ » بهمزة مضمومة بعدها « واو » ساكنة . والباقون « مُرجَوْنَ » دون همز ، وهذا كقراءتهم في الأحزاب « ترجىء » [ الأحزاب : 51 ] بالهمز ، والباقون بدونه .
وهما لغتان ، يقال : أرْجَأتُه ، وأرْجَيْتُه ، ك : أعْطَيْته . ويحتملُ أن يكونا أصلين بنفسهما وأن تكون الياءُ بدلاً من الهمزة؛ ولأنه قد عهد تحقيقها كثيراً ، ك : قرأت ، وقرَيْت ، وتوضَّأت وتوضَّيت . والإرجاء : التأخير . وسميت المرجئةُ بهذا الاسم؛ لأنَّهم لا يجزمون القولَ بمغفرة التَّائب ولكن يؤخرونها إلى مشيئةِ الله . وقال الأوزاعي : لأنهم يؤخرون العمل عن الإيمان .
قوله : { إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ } يجوزُ أن تكون هذه الجملةُ في محل رفع خبراً للمبتدأ ، و « مُرْجَونَ » يكونُ على هذا نعتاً للمبتدأ ، ويجوزُ أن يكون خبراً بعد خبر ، وأن يكون في محلِّ نصبٍ على الحال ، أي : هم مؤخَّرُون إمَّا مُعذَّبين ، وإمَّا متوباً عليهم ، و « إمَّا » هنا للشَّك بالنسبة للمخطاب ، فناسٌ يقولون : هلكوا إذ لم يقبل الله لهم عُذْراً ، وآخرون يقولون : عسى الله أن يغفر لهم . وإمَّا للإبهامِ بالنِّسبة إلى أنَّه أبهمَ على المُخاطبين .
فصل
اعلم أنَّه تعالى قسَّم المتخلفين ثلاثة أقسام :
أحدها : المنافقون الذين مردُوا على النفاق .
والثاني : التَّائبون وهم المُرادُون بقوله : { وَآخَرُونَ اعترفوا } وبيَّن تعالى أنَّه قبل توبتهم .
والثالث : الذين بقوا موقوفين ، وهم المذكورون في هذه الآية ، والفرق بين هؤلاء وبين القسم الثاني ، أنَّ هؤلاء لم يُسارعُوا إلى التَّوبة وأولئك سارعُوا إليها . قال ابنُ عبَّاسٍ : نزلت هذه الآية في الذين تخلَّفوا : كعبُ بنُ مالكٍ ، ومرارةُ بن الربيع ، وهلالُ بنُ أميَّة ، لم يسارعوا إلى التوبة والاعتذار كما فعل أبو لبابة ، فوقفهم رسُول الله خمسين ليلة ، ونهى النَّاسَ عن مخالطتهم ، حتَّى شفَّهم القلقُ ، وضاقت عليهم الأرضُ بما رحبت وكانُوا من أهل بدر؛ فجعل أناس يقولون : هلكُوا ، وآخرون يقولون : عسى الله أن يغفر لهم ، فصاروا مرجئين لأمْرِ الله ، إمَّا يعذبهم وإمَّا يرحمهم ، حتى نزلت توبتهم بعد خمسين ليلة .
{ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } « عَليمٌ » بما في قلوبِ هؤلاء المرجئين « حَكِيمٌ » بما يحكم فيها .
فإن قيل : إنَّهم ندموا على تأخرهم عن الغزوِ ، وتخلفهم عن الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، ثمَّ إنَّهُ لم يحكم بكونهم تائبينَ ، بل قال : { إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } وذلك يدلُّ على أنَّ النَّدمَ وحده لا يكفي في صحَّة التوبةِ .
فالجوابُ : لعلَّهم حين ندمُوا خافُوا أن يفضحهم الرَّسُولُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - ، وعلى هذا ، فلا تكونُ توبتهم صحيحة ، فاستمرّ عدم قبُولِ التوبة إلى أن نزل مدحهم؛ فعند ذلك ندمُوا على المعصيةِ لنفس كونها معصية ، فحينئذٍ صحَّت توبتهم .
فصل
احتجّ الجُبائيُّ بهذه الآيةِ على أنَّه تعالى لا يعفو عن غير التَّائبِ؛ لأنَّهُ قال في حقِّ هؤلاء المذنبين { إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } وذلك يدلُّ على أنَّه لا حكم إلاَّ أحد هذين الأمرين ، وهو إمَّا التعذيب وإما التوبة ، وأمَّا العفو عن الذَّنب من غير توبة؛ فهو قسم ثالث . فلمَّا أهمل الله تعالى ذكره ، دلَّ على بطلانه .
وأجيب : بأنَّا لا نقطع بحصول العفو عن جميع المذنبين ، بل نقطعُ بحصول العفو في الجملة وأمَّا في حقِّ كل واحد؛ فذلك مشكوكٌ فيه ، قال تعالى : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] فقطع بغفران ما سوى الشرك ، لكن لا في حقِّ كل أحدٍ ، بل في حقِّ من يشاء؛ فلم يلزم من عدم العفو في حق هؤلاء ، عدم العفو على الإطلاق ، وأيضاً فعدم الذِّكر لا يدلُّ على العدم ، ألا ترى قوله تعالى { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ } [ عبس : 38 ، 39 ] وهم المؤمنون { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أولئك هُمُ الكفرة الفجرة } [ عبس : 40-42 ] فذكر المؤمنين والكافرين ، ثم إنَّ عدم ذكر القسم الثَّالث ، لم يدل عند الجبائيُّ على نفيه؛ فكذا ههنا .
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
قوله تعالى : { والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً } الآية .
قرأ نافع ، وابن عامر « الذين اتَّخَذُوا » بغير « واو » . والباقون بواو العطف . فأمَّا قراءةُ نافع وابن عامر فلموافقةِ مصاحفهم ، فإنَّ مصاحف المدينة والشَّام حذفت منها الواوُ ، وهي ثابتةٌ في مصاحف غيرهم . فمنْ أسقط الواوَ ففيه أوجه :
أحدها : أنَّها بدلٌ من « آخرون » قبلها ، وفيه نظر؛ لأنَّ هؤلاء الذين اتَّخَذُوا مسجداً ضراراً ، لا يقال في حقِّهم : إنَّهم مُرجَوْن لأمر الله؛ لأنَّهُ رُوي في التفسير أنَّهم من كبار المنافقين ، ك : أبي عامر الرَّاهب .
الثاني : أنَّهُ مبتدأ ، وفي خبره حينئذٍ أقوالٌ ، أحدها : أنَّهُ « أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ » والعائدُ محذوفٌ تقديره : بنيانه منهم .
الثاني : أنَّهُ « لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ » قاله النَّحاسُ والحوفيُّ وفيه بعدٌ لطول الفصل .
الثالث : أنه « لا تقُمْ فيهِ » قالهُ الكسائيُّ . قال ابن عطيَّة : « ويتجه بإضمارٍ ، إمَّا في أول الآية ، وإمَّا في آخرها ، بتقدير : لا تقمْ في مسجدهم » .
الرابع : أنَّ الخبر محذوفٌ ، تقديره : يعذبون ، ونحوه ، قاله المهدويُّ .
الوجه الثالث : أنَّه منصوبٌ على الاختصاص ، وسيأتي هذا الوجه أيضاً في قراءة الواو .
وأما قراءةُ الواو ففيها ما تقدَّم ، إلاَّ أنَّه يمتنع وجه البدل من « آخرون » ؛ لأجل العاطف .
وقال الزمخشريُّ : فإن قلت : { والذين اتخذوا } ما محلُّه من الإعراب؟ قلتُ : محله النصب على الاختصاص ، كقوله تعالى : { والمقيمين الصلاة } [ النساء : 162 ] . وقيل : هو مبتدأ ، وخبره محذوفٌ ، معناه : فيمن وصفنا الذين اتَّخذُوا ، كقوله : { والسارق والسارقة } [ المائدة : 38 ] . يريد على مذهب سيبويه فإنَّ تقديرهُ : فيما يُتْلى عليكم السارق؛ فحذف الخبر ، وأبقى المبتدأ ، كهذه الآية .
قال القرطبي : { والذين اتخذوا مَسْجِداً } معطوف ، أيك ومنهم الذين اتَّخذُوا مسجداً ، عطف جملة على جملة .
قوله : « ضِرَاراً » فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنَّهُ مفعولٌ من أجله ، أي : مُضَارَّةً لإخوانهم .
الثاني : أنَّهُ مفعولٌ ثان ل « اتَّخذوا » قاله أبُو البقاءِ .
الثالث : أنَّه مصدر في موضع الحال من فاعل « اتخذوا » ، أي : اتخذوه مضارين لإخوانهم . ويجوزُ أن ينتصبَ على المصدريَّةِ أي : يَضُرُّون بذلك غيرهم ضراراً . ومتعلقاتُ هذه المصادرِ محذوفةٌ ، أي : ضراراً لإخوانهم ، وكفراً بالله .
فصل
قال ابنُ عباسٍ ، ومجاهدٌ ، وقتادةُ ، وعامة المفسِّرين : الذين اتَّخَذُوا مسجد الضرار كانوا اثني عشر رجلاً من المنافقين ، وديعة بن ثابت ، وخذام بن خالد ومن داره أخرج هذا المسجد ، وثعلبة بن حاطب ، وحارثة بن عامرٍ ، وابناهُ مجمع وزيدُ بنُ حارثة ، ومعتبُ بنُ قشير وعبادُ بنُ حنيفٍ أخو سهل بن حنيفٍ ، وأبُو حبيبةَ بن الأزهرِ ، ونبتل بن الحارث ، وبجاد بن عثمان ، ورجل يقال له : بحزَجٌ ، بنوا هذا المسجد ضراراً ، يعني مضارة للمؤمنين ، والضرار : محاولة الضّر ، كما أنَّ الشقاقَ محاولة ما يشُق .
و « كُفْراً » قال ابنُ عباسٍ : يريدُ به ضراراً للمؤمنين ، وكُفْراً بالنبي - عليه الصلاة والسلام - ، وما جاء به . قال ابنُ عباسٍ ، ومجاهد وقتادة وغيرهم : إنَّ أبا عامر الرَّاهب كان خرج إلى قيصر وتنصَّر ، ووعدهم قيصر أنَّه سيأتيهم ، فبنوا مسجد الضّرار يرصدون مجيئه فيه . وقال غيرهم : اتخذوه ليَكْفُرُوا فيه بالطَّعْنِ على النبيِّ - عليه الصلاة والسلام - . « وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المؤمنين » أي : يفرقُون بواسطته جماعة المؤمنين وذلك لأن المنافقين قالوا : نبني مسجداً فنُصلِّي فيه؛ ولا نصلِّي خلف محمَّدٍ ، فإن أتانا فيه صلينا خلفه وفرقنا بينه وبين الذين يصلون في مسجده ، فيؤدي ذلك إلى اختلافِ الكلمة وإبطال الألفة .
وكان يُصلِّي لهم مجمعُ بنُ حارثة ، فلمَّا فرغوا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يتجهَّزُ إلى تبوك ، فقالوا يا رسول الله : إنَّا بنينا مسجداً لذي العلَّة والحاجة ، والليلةِ المطيرةِ ، والليلة الشاتية ، وإنَّا نحب أن تأتينا تصلي لنا فيه ، وتدعو بالبركةِ ، فقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : « إنِّي على جناح سفرٍ ، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه » .
فصل
قال القرطبيُّ : « تفطَّن مالكٌ - رحمه الله - من هذه الآية وقال : لا يُصلِّي جماعتان في مسجدٍ واحدٍ بإمامين ، خلافاً لسائر العلماء . وروي عن الشَّافعي المنع؛ لأنَّ في ذلك تشتيتاً للكلمة ، وإبطالاً لهذه الحكمة ، وذريعة إلى أن نقول : من يريدُ الانفراد عن الجماعةِ كان له عذر فيقيمُ جماعة ، ويقدم إمامه فيقعُ الخلاف بينهم ، ويبطل الكلام وخفي ذلك عليهم » .
قوله : { وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ } .
الإرصاد : الانتظارُ ، قاله الزجاجُ : وقال ابنُ قتيبة : الانتظارُ مع العداوةِ . قالوا : والمرادُ به : أبو عامر الرَّاهبُ ، وهو والد حنظلة غسيل الملائكة ، وكان قد ترهَّب في الجاهليَّة ، وتنصَّر ولبس المسوح ، فلمَّا قدم النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - المدينة قال له أبُو عامرٍ : ما هذا الذي جِئْتَ به؟ قال : « جئت بالحنيفية دين إبراهيم » ، قال أبو عامرٍ : أنا عليها ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم « إنَّكَ لَسْتَ عليهَا » قال بلى ، ولكنك أدخلتَ في الحنيفيَّة ما ليس منها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم « ما فعلتُ ولكنِّي جئتُ بها بيضَاءَ نقيَّةٌ » فقال أبُو عامرٍ ، أمات اللهُ الكاذبَ طريداً وحيداً غريباً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « آمين » وسمَّاه أبا عامر الفاسق فلمَّا كان يوم أحد ، قال أبُو عامر لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لا أجدُ قوماً يقاتلُونك إلاَّ قاتلتك معهم؛ فلمْ يزل يقاتله إلى يوم حنين ، فلمَّا انهزمت هوازن يئس ، وخرج هارباً إلى الشَّام ، وأرسل إلى المنافقين أن استعدُّوا لما استطعتم من قوَّة وسلاح ، وابنُوا لِي مسجداً فإنِّي ذاهب إلى قيصر ملك الرُّوم ، فآتي بجندٍ من الرُّوم ، فأخرج مُحمَّداً وأصحابه من المدينة فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء ، فذلك قوله : { وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ } [ التوبة : 107 ] وهو أبو عامر الفاسق ، ليصلي فيه إذا رجع من الشَّام .
قوله : « مِنْ قبلُ » فيه وجهان :
أحدهما - وهو الذي لم يذكر الزمخشريُّ غيره - : أنَّهُ متعلقٌ بقوله : « اتَّخَذُوا » ، أي : اتَّخذُوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء .
والثاني : أنه متعلقٌ ب « حَاربَ » ، أي : حارب من قبل اتِّخاذ هذا المسجد .
قوله : { وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا } « ليَحْلفُنَّ » جوابُ قسم مقدر ، أي : والله ليحْلِفنَّ . وقوله « إنْ أردْنَا » جوابٌ لقوله : « ليَحْلِفُنَّ » فوقع جوابُ القسم المقدر فعل قسم مجاب بقوله « إنْ أرَدْنَا » . و « إنْ » نافية ، ولذلك وقع بعدها « إلاَّ » . و « الحُسْنَى » صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ ، أي : إلاَّ الخصلة الحسنى ، أو إلاَّ الإرادة الحسنى . وقال الزمخشريُّ « مَا أرَدْنَا ببناء هذا المسجد إلاَّ الخصلة الحسنى ، أو إلا الإرادة الحسنى ، وهي الصلاةُ » . قال أبو حيَّان كأنَّه في قوله : « إلاَّ الخَصْلةِ الحسْنَى » جعله مفعولاً ، وفي قوله : « أو إلاَّ الإرادة الحسنى » علةً؛ فكأنه ضمَّن « أرادَ » معنى « قَصَدَ » ، أي : ما قصدوا ببنائه لشيء من الأشياء إلاَّ الإرادة الحسنى . قال « وهذا وجهُ متكلف » وأرادوا بالفعلة الحسنى : الرفق بالمسلمين ، والتوسعة على أهل الضعف ، والعلة ، والعجز عن المصير إلى مسجد رسُول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنَّهم قالوا لرسُول الله : إنَّا بَنينا مسجداً لذي العلَّةِ والحاجة واللَّيلة المطيرة . ثم قال تعالى : { والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي : أنَّ الله أطلعَ الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - على أنَّهم حلفُوا كاذبين .
روي أنه لمّا انصرفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من تبوك؛ فنزل بذي أوان موضع قريب من المدينةِ ، أتوهُ فسألوهُ إتيان مسجدهم ، فدعا بقميصه ليلبسه ، ويأتيهم ، فنزل القرآن عليه وأخبره خبر مسجد الضرار ، وما همُّوا به ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ، ومعن بن عديّ ، وعامر بن السكن ، والوحشي قاتل حمزة ، وقال لهم : « انْطلقُوا إلى هذا المَسْجدِ الظَّالم أهلُه فاهدمُوهُ وأحْرِقُوهُ » فخرجوا مسرعين حتَّى أتوا سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال مالك : أنظروني حتى أخرج إليكم بنار من أهلي ، فدخل أهلهُ فأخذ سعفاً من النخل ، فأشعل فيه ناراً ، ثم خرجوا يشتدون حتى دخلوا المسجد ، وفيه أهله فحرقوه وهدموهُ ، وتفرَّق عنه أهله ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ ذلك كناسة تلقى فيه الجيف ، والنتن ، والقمامة ، ومات أبُو عامرٍ الرَّاهب بالشَّام وحيداً غريباً .
ورُوي أنَّ بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء أتوا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة ، فيؤمّهم في مسجدهم ، فقال : لا والله ولا نعمة عين! أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال له مجمع : يا أمير المؤمنين ، لا تعجل عليّ ، فوالله لقد صليتُ فيه وأنا لا أعلم ما أضمرُوا عليه ، ولو علمتُ ما صلَّيتُ معهم ، كنتُ غلاماً قارئاً للقرآن ، وكانوا شُيُوخاً لا يقرؤون فصليت ولا أحسب إلاَّ أنهم يتقرَّبُون إلى الله ، ولم أعلم ما في أنفسهم فعذره عمر وصدَّقه وأمره بالصلاةِ في مسجد قباء . قال عطاءٌ « لمَّا فتح الله على عُمر الأمصار أمر المسلمين أن يبنوا المساجدَ ، وأمرهم ألاَّ يبنوا في مدينة مسجدين يضار أحدهما صاحبه » .
قوله : « لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً » .
قال ابن عباس « لا تُصلّ فيه » منع اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يُصلِّي في مسجد الضِّرارِ .
قال ابنُ جريج : فرغوا من إتمام ذلك المسجد يوم الجمعة ، فصلُّوا فيه ذلك اليوم ويوم السبت والأحد ، وانهار في يوم الاثنين .
ثم إنَّه تعالى بيَّن العلَّة في هذا النَّهْي ، وهي أنَّ أحد المسجدين لمَّا كان مبنياً على التَّقوَى من أول يوم ، وكانت الصَّلاة في مسجد آخر تمنع من الصَّلاة في مسجد التقوى ، علم بالضرورة أنه يمنع من الصَّلاة في المسجد الثاني .
فإن قيل : كون أحد المسجدين أفضل لا يوجب المنع من إقامة الصلاة في المسجد الثاني .
فالجواب : علة المنع وقعت بمجموع الأمرين ، أعني كون مسجد الضرار سبباً للمفاسد المذكورة وهي المضارة والكفر والتَّفريق بين المؤمنين وإرصاده لمن حارب الله ورسولهُ ، وكون مسجد التقوى يشتمل على الخيرات الكثيرة .
فصل
قال القرطبي « قال علماؤنا : لا يجوز أن يُبنى مسجد إلى جانب مسجد ، ويجب هدمه ، والمنع من بنائه ، لئلاَّ ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغراً ، إلاَّ أن تكون المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجدٌ واحدٌ فيبنى حينئذٍ . وكذلك قالوا : لا ينبغي أن يبنى في المصر الواحد جامعان وثلاثة ، ويجب منع الثاني ، ومن صلَّى فيه الجمعة لم تجزه . وقال علماؤنا : كلَّ مسجد بُنِيَ على ضرارٍ أو رياء أو سمعة فهو في حكم مسجد الضِّرارِ لا تجوز الصلاة فيه » .
فصل
قال النقاش « ويلزمُ من هذا ألاَّ يصلى في كنيسة ونحوها؛ لأنَّها بنيت على شر » .
قال القرطبي « وهذا لا يلزمُ؛ لأنَّ الكنيسة لم يقصد ببنائها الضَّرر بالغير ، وإن كان أصل بنائها على شرٍّ ، وإنما اتَّخذت النَّصارى الكنيسة واليهود البيعة موضعاً لعبادتهم بزعمهم كالمسجد لنا فافترقا ، وقد أجمع العلماء على أن من صلَّى في كنسةٍ ، أو بيعة على موضع طاهرٍ أنَّ صلاته صحيحةٌ جائزةٌ . وذكر البُخاريُّ أن ابن عباس كان يصلي في البيعة إذا لم يكن فيها تماثيل ، وذكر أبو داود عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يبني مسجد الطائف حيثُ كان طواغيتُهم » .
فصل
قال القرطبيُّ « قال علماؤنا : من كان إماماً لظالم لا يصلِّي وارءه ، إلاَّ أن يظهر عذره أو يتوب؛ لأنَّ بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء سألوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة أن يصلِّي بهم في مسجدهم ، فقال : لا والله ولا نعمة عين! أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال له مجمع : يا أمير المؤمنين ، لا تعجل عليَّ ، فوالله لقد صليتُ فيه ، وأنا لا أعلم ما أضمروا عليه ، ولو علمتُ ما صلَّيْتُ بهم فيه ، كنتُ غلاماً قارئاً للقرآن ، وكانوا شُيُوخاً قد عاشوا على جاهليتهم ، وكانوا لا يقرءون من القرآن شيئاً ، فصلَّيْتُ ولا أحسب ما صنعت إثماً ، ولمْ أعلمْ ما في أنفسهم؛ فعذرهُ عمر ، وصدَّقه وأمره بالصلاة في مسجد قُبَاء » .
فصل
قال القرطبيُّ « قال علماؤنا : إذا كان المسجد الذي يتَّخذ للعبادة وحضَّ الشارع على بنائه بقوله : » مَنْ بنَى للهِ مسجداً ، ولوْ كَمَفْحَصِ قطاةٍ بنى اللهُ لهُ بيتاً في الجنَّةِ « يُهْدم إذا كان فيه ضرر بغيره؛ فما ظنُّك بسواه بل هو أحرى أن يزال ويهدم . كمنْ بنى فرناً أو رحًى أو حفر بئراً ، أو غير ذلك ممّا يدخل ضرراً على الغير . والضَّابطُ فيه : أنَّ منْ أدخَلَ ضرراً على أخيه منع ، فإن أدخل على أخيه ضرراً بفعل ما كان له فعله في ماله ، فأضرَّ ذلك بجاره ، أو غير جاره ، نظر إلى ذلك الفعل ، فإن كان تركه أكبر ضرراً من الضَّررِ الدَّاخل على الفاعل قطع أكبر الضَّررين . مثل من فتح كُوة في منزله يطلع منها على دار أخيه وفيها العيال والأهلُ ، ومن شأن النساء في بيوتهن التجرد من بعض ثيابهنّ والانتشار في حوائجهن ، ومعلوم أنَّ الاطلاع على العورات محرّم ، نهى الشَّارعُ عن الاطلاع إلى العورات فرأى العلماء أن يغلقوا الكُوَّة وإن كان فيها منفعة وراحة؛ لأنَّ ضرر الكُوَّة أعظم من ضرر سدِّها ، خلافاً للشافعي ، فإنَّ أصحابه قالوا : لو حفر في ملكه بئراً ، وحفر آخر في ملكه بئراً يسرقُ منه ماء البئر الأولى جاز؛ لأنَّ كلَّ واحد حفر في ملكه؛ فلا يمنع ، ومثله عندهم : لو حفر إلى جنب بئر جاره كنيفاً يفسد عليه ماءه لم يكن له منعه؛ لأنه تصرف في ملكه ، والقرآنُ والسُّنَّةُ يردان هذا القول . ومن هذا النوع من الضَّرر الذي منع العلماء منه ، دُخان الفرن والحمام وغبار الأندر والدُّود المتولد من الزبل المنشور في الرحاب؛ فإنه يمنع منه ما كثر ضرره وخشي تماديه » .
قوله : « . . .
لمَسْجِدٌ . . . « فيه وجهان :
أحدهما : أنَّها لامُ الابتداء .
والثاني : أنَّها جوابُ قسمٍ محذوف تقديره : والله لمسجدٌ أسِّسَ ، أي : بني أصله على التقوى .
وعلى التقديرين فيكون » لمَسْجِدٌ « مبتدأ ، و » أسِّسَ « في محل رفع نعتاً له ، و » أحقُّ « خبره . والقائمُ مقام الفاعل ضميرُ المسجد على حذف مضاف ، أي : أسِّسَ بنيانه ، و » مِنْ أوَّلِ « متعلقٌ به ، وبه استدلَّ الكوفيون على أنَّ » مِنْ « تكون لابتداء الغاية في الزمان؛ واستدلُّوا أيضاً بقوله : [ الطويل ]
2845- مِنَ الصُّبْحِ حتَّى تطلُعَ الشَّمسُ لا تَرَى ... من القَوْمِ إِلاَّ خَارِجيّاً مُسَوَّمَا
وقول الآخر : [ الطويل ]
2846- تُخَيَّرنَ مِنْ أزمانِ يوْمِ حليمَةٍ ... إلى اليوْمِ قَدْ جُرِّيْنَ كُلَّ التَّجاربِ
وقد تأوَّله البصريون على حذف مضاف ، أي : من تأسيس أول يوم ، ومن طلوع الصُّبحِ ، ومن مجيء أزمان يوم . قال القرطبي : » مِنْ « عند النحويين مقابلة » مُنذ « ، ف » منذ « في الزمان بمنزلة » من « في المكان ، أي : من تأسيس أوَّل الأيام؛ فدخلت على مصدر الفعل الذي هو » أسس « ؛ كقوله : [ الكامل ]
2847- لِمَنِ الدِّيارُ بقُنَّةِ الحَجْرِ ... أقْويْنَ مِنْ حِجَجٍ ومِنْ دَهْرِ؟
أي من مرور حجج ومن مرور دهر ، وإنَّما دعا إلى هذا أنَّ من أصول النحويين أنَّ » مِنْ « لا يجر بها الأزمان ، وإنَّما تُجَرّ الأزمانُ ب » مِنْذُ « ، تقولُ : ما رأيته منذُ شهرٍ ، أو سنة . قال أبو البقاءِ » وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ التأسيسَ المقدر ليس بمكانٍ ، حتَّى تكون لابتداءِ الغاية ويدلُّ على جواز ذلك قوله : { لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } [ الروم : 4 ] ، وهو كثيرٌ في القرآن وغيره « .
قال شهابُ الدِّين : البصريون إنَّما فرُّوا من كونها لابتداء الغاية في الزَّمان ، وليس في هذه العبارة ما يقتضي أنها لا تكونُ إلا لابتداء الغاية في المكان حتَّى يردّ عليهم بما ذكر ، والخلاف في هذه المسألة قوي ، ولأبي علي فيها كلامٌ طويلٌ . وقال ابنُ عطيَّة : » ويحْسُنُ عندي أن يستغنى عن تقدير ، وأن تكون « من » تجر لفظة « أول » ؛ لأنَّها بمعنى : البداءة ، كأنَّهُ قال : من مبتدأ الأيام ، وقد حكي لي هذا الذي اخترته عن بعض أئمة النحو « .
وقوله : » أَحَقُّ « ليس للتفضيل ، بل بمعنى » حقيقٌ « ، إذْ لا مفاضلة بين المسجدينِ .
قال القرطبيُّ » أحقُّ « هو أفعل من الحق ، و » أفعل « لا يدخلُ إلاَّ بين شيئين مشرتكين لأحدهما مزيَّة في المعنى الذي اشتركا فيه على الآخر ، فمسجدُ الضِّرار وإن كان باطلاً لا حقَّ فيه ، فقد اشتركا في الحقِّ من جهة اعتقاد بانيه ، أو من جهة اعتقاد من كان يظُن أنَّ القيام فيه جائز للمسجدية ، لكن أحد الاعتقادين باطل باطناً عند الله ، والآخر حق باطناً وظاهراً ، ومثله قوله تعالى :
{ أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } [ الفرقان : 24 ] ومعلومٌ أنَّه لا خيرية في النَّارِ ، لكنه جرى على اعتقاد كلِّ فرقة أنَّها خير ، وأنَّ مصيرها إلى خير ، إذ كل حزب بما لديهم فرحُون . و « أنْ تقُوم » أي : بأن تقوم . والتاء لخطاب الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - . و « فِيهِ » متعلقٌ ب÷ . قوله : « فِيهِ رجالٌ » يجوزُ أن تكون « فيه » صفةً لمسجد و « رِجَالٌ » فاعلٌ ، وأن تكون حالاً من الهاء في « فِيهِ » ، و « رِجَالٌ » فاعلٌ به أيضاً ، وهذان أولى من حيث إنَّ الوصف بالمفرد أصل ، والجارُّ قريبٌ من المفرد .
ويجوزُ أن يكون « فيهِ » خبراً مقدَّماً ، و « رِجَالٌ » مبتدأ مؤخر . وفي هذه الجملة أيضاً ثلاثة أوجه :
أحدها : الوصف .
والثاني : الحالُ على ما تقدم .
والثالث : الاستئناف .
وقرأ عبد الله بن زيدٍ « فِيهِ » بكسر الهاء ، و « فِيهُ » بضمها ، وهو الأصل ، جمع بذلك بين اللغتين ، وفيه أيضاً رفع توهُّم التوكيد ، ورفع توهُّم أنَّ « رِجَالٌ » مرفوع ب « تَقُوم » . وقوله « يُحِبُّون » صفة ل « رِجَالٌ » ، و « أنْ » مفعول به . وقرأ طلحة بن مصرف ، والأعمش « يَطَّهَّرُوا » بالإدغام ، وعلي بنُ أبي طالب « المُتَطهِّرين » بالإظهار عكس قراءة الجمهور في اللفظتين .
فصل
معنى « أسس » أي : بُني أصله { عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ } بُني ووضع أساسه { أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ } مُصلياً . واختلفوا في المسجدِ الذي أسِّسَ على التقوى ، فقال ابنُ عمر وزيدُ ابنُ ثابت ، وأبو سعيد الخدري : هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ويدلُّ عليه ما روى حميد الخراط قال : سمعتُ أبا سلمة بن عبدِ الرَّحمنِ قال : مرَّ بي عبدُ الرحمن بن أبي سعيدٍ الخُدريِّ قال : قُلتُ لهُ : كيفَ سمعت أباكَ يذكرُ في المسجدِ الذي أسِّسَ على التَّقْوَى؟ قال : قال أبِي : دخلتُ على رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في بيتِ بعضِ نسائِهِ فقلتُ يا رسُول الله ، « أيُّ المَسْجدينِ الذي أسِّسَ على التَّقْوَى؟ قال : فأخَذَ كفّاً من حَصْبَاءَ فضرب به الأرض ثُمَّ قال : » هُوَ مسجدُكُمْ هذا « لِمسجدِ المدينةِ . قال : فقُلتُ : أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ أَبَاكَ هَكَذَا يَذكره . وهذا قول سعيد بن المسيّب . وقال قوم : إنَّهُ مسجد قباء ، وهي رواية عطية عن ابن عباس ، وهو قول عروة بن الزبير وسعيد بن جبير وقتادة لما روي عن ابن عمر قال : كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كلَّ سبتٍ ماشياً وراكباً ، وكان عبدُ الله يفعله ، وزاد نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم » فيُصلِّي فيه رَكعتَيْنِ « .
وقوله : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } أي : من الأحداث والجنابات والنجاسات .
قال عطاءٌ : كانوا يستنجون بالماءِ ، ولا ينامون الليل على جنابة . روى أبو هريرة عن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال : نزلت هذه الآيةُ في أهل قُباء { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } قال : كانوا يستنجون بالماءِ؛ فنزلت فيهم هذه الآية ، { والله يُحِبُّ المطهرين } .
وروي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وقف على باب مسجد قباء وقال : « يا معْشَر الأنْصَارِ إنَّ الله أثْنَى عليكُم ، فما الذي تصْنَعُونَ فِي الوضُوءِ؟ » فقالوا : نتبع الأحجار بالماءِ ، فقرأ النبيُّ صلى الله عليه وسلم { رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } الآية . «
قالوا : المرادُ منه : الطهارة بالماء بعد الحجر . وقيل : المرادُ منه : الطَّهارة من الذنوب والمعاصي .
وقيل : محمول على الأمرين .
فإن قيل : لفظ الطَّهارة حقيقة في إزالة النَّجاسات ، ومجاز في البراءة عن المعاصي ، واستعمال اللفظ الواحدة في الحقيقة ، والمجاز معاً لا يجوزُ .
فالجوابُ : أنَّ لفظ النَّجس اسم للمستقذر ، وهذا القذرُ مفهوم مشترك فيه بين القسمين ، فزال السُّؤال .
قوله : { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ } .
قرأ نافع ، وابن عامر » أسِّسَ « مبنياً للمفعول ، » بُنيانُه « بالرفع ، لقيامه مقام الفاعل .
والباقون » أسَّسَ « مبنياً للفاعل ، » بُنيانَهُ « مفعول به ، والفاعل ضمير » مَنْ « وقرأ عمارة بن عائذ الأوَّل مبنياً للمفعول ، والثاني مبنياً للفاعل ، و » بُنْيَانهُ « مرفوع على الأولى ومنصوب على الثانية لما تقدَّم .
وقرأ نصر بن علي ، ونصر بن عاصم » أسسُ بُنيانِهِ « . وقرأ أبُو حيوة » أساسُ بُنيانِهِ « جمع » أُسِّ « . وروي عن نصر بن عاصم أيضاً » أَسُّ « بهمزة مفتوحة وسين مضمومة .
وقرىء » إسَاسُ « بالكسر ، وهي جموع أضيفت إلى » البُنيانِ « . وقرىء » أسَاسُ « بفتح الهمزة و » أسّ « بضم الهمزة وتشديد السين ، وهما مفردان أضيفا إلى البنيان .
ونقل صاحبُ اللوامح فيه » أسَسُ « بالتخفيف ورفع السين ، » بنيانِهِ « بالجر ، ف » أسس « مصدر أسس الحائط ، يؤسسُه أسَساً ، وأسًّا . فهذه عشر قراءات ، والأسُّ والأسَاسُ القاعدةُ التي يبنى عليها الشيءُ . ويقالُ : كان ذلك على أس الدهر ، كقولهم : على وجه الدهر . ويقال : أسَّ ، مضعفاً : أي : جعل له أسَاساً ، وآسَسَ ، بزنة » فاعل « .
و » البُنْيَان « فيه قولان :
أحدهما : أنَّهُ مصدر ، ك : الغُفْران ، والشُّكران ، وأطلق على المفعول ك » الخَلْق « بمعنى المخلوق ، وإطلاق المصدر على المفعول مجاز مفهومٌ ، يقالُ : هذا ضربُ الأمير ونسج زيدٍ ، أي : مضروبه ، ومنسوجه .
والثاني : أنَّهُ جمعٌ ، وواحده » بُنْيَانة « ؛ قال الشاعرُ :
2848- كَبُنْيَانَةِ القَرْيِيِّ موضِعُ رَحْلِهَا ... وآثَارُ نِسْعَيْهَا مِنْ الدَّفِّ أبْلَقُ
يعنون أنه اسم جنسٍ ، ك : قمح وقمحة .
قوله : « على تقوى » يجوزُ فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلقٌ بنفس « أسَّسَ » فهو مفعول في المعنى .
والثاني : أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من الضَّميرِ المستكن في « أسَّسَ » أي : قاصداً بنيانه التقوى ، كذا قدَّره أبُو البقاءِ .
وقرأ عيسى بن عمر « تَقْوًى » منونة . وحكى هذه القراءة سيبويه ، ولم يرتضها الناسُ لأنَّ الفها للتأنيث ، فلا وجهَ لتنوينها ، وقد خرَّجها الناسُ على أن تكون ألفها للإلحاق .
قال ابنُ جني : قياسُها أن تكون ألفها للإلحاق ، ك « أرْطَى » . قوله : « خَيْرٌ » خبر المبتدأ . والتفضيل هنا باعتبار معتقدهم . و « أمْ » متصلة ، و « مِنْ » الثانية عطف على « مِنْ » الأولى ، و « أسَّسَ بُنْيانَهُ » كالأولى ، قوله : « على شَفَا جُرُفٍ » كقوله : « على تقوى » في وجهيه . والشَّفا : الشَّفير ، وشفا الشيء حرفه ، يقال : أشْفَى على كذا إذا دنا منه . وتقدَّم الكلامُ عليه في آل عمران . وقرأ حمزة ، وابنُ عامرٍ ، وأبو بكر عن عاصم « جُرْفٍ » بسكون الرَّاءِ والباقون بضمها . فقيل : لغتان . وقيل : السَّاكن فرعٌ على المضموم ، ك : « عُنْق » في « عُنُق » و « طُنْب » في « طُنُب » . وقيل : العكس ك : « عُسُر ويُسُر » . و « الجُرْف » البئر التي لم تُطْوَ . وقيل : هو الهُوَّةُ ، وما يَجْرفُه السَّيْلُ من الأودية ، قاله أبُو عبيدة .
وقيل : هو المكان الذي يأكلهُ الماء ، فيجْرفه ، أي : يذهب به ، ورجُلٌ جراف ، أي : كثير النكاح كأنَّه يجرفُ في ذلك العملِ ، قاله الراغبُ .
قوله : « هَارٍ » نعت ل : « جُرُفٍ » ، وفيه ثلاثة أقوال :
أحدها - وهو المشهورُ - : أنَّهُ مقلوبٌ بتقديم لامه على عينه ، وذلك أنَّ أصله : هاورٌ ، أو هايرٌ بالواو والياء؛ لأنه سمع فيه الحرفان قالوا : هَارَ يَهُور فانهارَ ، وهَارَ يَهير ، وتهَوَّر البناءُ ، وتهَيَّر فقُدِّمت اللام ، وهي « الراء » على العين - وهي « الواو » أو « الياء » - فصار ك : غازٍ ، ورامٍ ، فأعلَّ بالنقص كإعلالهما ، فوزنه بعد القلب : « فَالِع » ، ثم تزنُه بعد الحذف ب « فَالٍ » .
الثاني : أنه حذفت عينه اعتباطاً ، أي : لغير موجبٍ ، وعلى هذا ، فيجري بوجوه الإعراب على لامه ، فيقال : هذا هارٌ ، ورأيت هاراً ، ومررتُ بهارٍ ، ووزنه أيضاً « فال » .
والثالث : أنَّهُ لا قلب فيه ولا حذف ، وأنَّ أصله « هَوِر » ، أو « هَيِر » بزنة « كَتِف » ، فتحرك حرف العلة ، وانفتح ما قبله ، فقُلِب ألفاً ، فصار مثل قولهم : كبشٌ صافٌ . أي : صَوِف ، ويومٌ راحٌ ، أي : روحٌ . وعلى هذا ، فيجري بوجوه الإعراب أيضاً كالذي قبله ، كما تقولُ : هذا بابٌ ورأيتُ باباً ، ومررت ببابٍ .
وهذا أعدل الوُجُوهِ ، لاستراحته من ادِّعاءِ القلبِ ، والحذف اللذين هما على خلاف الأصلِ ، لولا أنه غير مشهور عند أهل التَّصريف . ومعنى : « هَارٍ » أي : ساقط متداع منهال .
قال الليثُ : الهورُ : مصدر هَارَ الجُرفُ يهورُ ، إذا انصدَعَ من خلفه ، وهو ثابتٌ بعدُ في مكانه ، وهو جرفٌ هارٍ أي : هائر ، فإذا سقط؛ فقد انهارَ وتَهيَّر . ومعناه السَّاقط الذي يتداعى بعضه في أثر بعض كما ينهار الرَّمل والشيء الرخو .
قوله : « فانهار » فاعله إمَّا ضميرُ البنيان ، والهاءُ في « به » على هذا ضمير المؤسس الباني أي : فسقط بنيان الباني على شفا جرفٍ هار ، وإمَّا ضمير الشَّفَا ، وإمَّا ضمير الجرف أي : فسقط الشَّفَا ، أو سقط الجرفُ ، والهاء في « بِهِ » للبنيان ، ويجوزث أن يكون للباني المؤسس . والأولى أن يكون الفاعل ضميرَ الجرف؛ لأنَّهُ يلزمُ من انهياره انهيارُ الشَّفَا والبنيان جميعاً ، ولا يلزمُ من انهيارهما أو انهيار أحدهما انيهارهُ . والباءُ في « به » يجوز أن تكون المعدِّية ، وأن تكون التي للمصاحبة ، وقد تقدَّم الخلاف في أول الكتاب أنَّ المعدِّيةَ عند بعضهم تستلزم المصاحبة . وإذا قيل إنَّها للمصاحبة هنا؛ فتتعلقُ بمحذوفٍ؛ لأنَّها حال أي : فانهار مصاحباً له .
فصل
معنى الآية : أفمَنْ أسَّس بنيان دينه على قاعدةٍ قويَّة محكمة وهو الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه خير ، أمَّنْ أسَّسَ على قاعدة هي أضعف القواعد وأقلها بقاء ، وهو الباطلُ والنِّفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار من أودية جهنم؟ وكونه شفا جرف هار كان مشرفاً على السُّقوط ولكونه على طرف جهنم ، كان إذا انهار فإنَّما ينهار في قعر جهنم ، فالمعنى أنَّ أحد البنائين قصد بانيه ببنائه تقوى الله ورضوانه ، والبناء الثاني قصد بانيه ببنائه المعصية والكفر فكان البناء الأول شريفاً واجب الإبقاء ، والبناء الثاني خسيساً واجب الهدم؛ فلا يرى مثال أخس مطابقة لأمر المنافقين من هذا المثال ، { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } .
قوله : { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ } .
أي : ذلك البنيان صار سبباً لحصول الريبة في قلوبهم . و « بُنيَانهُم » يحتملُ أن يكون مصدراً على حاله ، أي : لا يزالُ هذا الفعلُ الصَّادرُ منهم ، ويحتملُ أن يكون مراداً به المبني ، وحينئذٍ يضطرُّ إلى حذف مضاف ، أي : بناء بنيانهم؛ لأن المبنيَّ ليس ريبةً ، أو يقدَّر الحذف من الثاني أي : لا يزال مبنيُّهم سبب ريبة . وقوله : « الذي بَنَوا » تأكيدٌ دفعاً لوهم من يتوهَّم أنهم لم يَبْنُوا حقيقة ، وإنَّما دبَّرُوا أموراً ، من قولهم : كم أبني وتهدمُ ، وعليه قوله : [ الطويل ]
2849- متى يبلغُ البُنْيانُ يَوْماً تَمَامَهُ ... إذَا كُنْتَ تَبْنيهِ وغيْرُكَ يَهْدِمُ؟
فصل
في كونه سبباً للريبة وجوه : الأول : أنَّ المنافقين فرحوا ببناء مسجد الضَّرار ، فلمَّا أمر الرسول بتخريبة ثقل ذلك عليهم وازداد بغضهم له وازداد ارتيابهم في نبوته .
وثانيها : أنَّ الرسول - عليه الصلاة والسلام - لما أمر بتخريبه ، ظنُّوا أنَّهُ إنَّما أمر بتخريبه حسداص ، فارتفع أمانهم عنه ، وعظم خوفهم منه ، وصاروا مرتابين في أنَّهُ هل يتركهم على ما هم فيه أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم؟
وثالثها : أنَّهم اعتقدوا كونهم محسنين في بناء ذلك المسجد ، كما حبب العجل إلى قوم موسى ، فلمَّا أمر الرَّسول - عليه الصلاة والسلام - بتخريبه بقوا شاكين مرتابين في أنه لأي سبب أمر بتخريبه؟ قاله ابن عباس . وقال الكلبيُّ : « ريبة » أي : حسرة وندامة ، لأنهم ندموا على بنائه . وقال السُّدي : لا يزال هدم بنيانهم ريبة ، أي : حزازة وغيظاً في قلوبهم .
قوله : « إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ » المستثنى منه محذوفٌ ، والتقدير : لا يزالُ بنيانهم ريبةً في كلِّ وقت إلاَّ وقت تقطيع قلوبهم أو في كل حال إلاَّ حال تقطيعها .
وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وحفص « تقطَّع » بفتح التَّاء ، والأصل تتقطع بتاءين ، فحذفت إحداهما .
وعن ابن كثير « تَقْطع » بفتح الياء وتسكين القاف « قُلوبَهُم » بالنصب ، أي : تفعلُ أنت بقلوبهم هذا الفعل . وقرأ الباقون « تُقَطَّع » بضمِّها ، وهو مبني للمفعول ، مضارع « قطَّع » بالتشديد . وقرأ أبيّ « تَقْطَع » مخففاً من « قطع » . وقرأ الحسنُ ، ومجاهد وقتادة ، ويعقوب « إلى أن » ب « إلى » الجارة . وأبو حيوة كذلك ، وهي قراءةٌ واضحةٌ في المعنى ، إلاَّ أنَّا أبا حيوة قرأ « تُقَطِّع » بضم التاء وفتح القاف وكسر الطاء مشددةً والفاعل ضميرُ الرسول ، « قُلُوبَهُم » نصباً على المفعول به ، والمعنى بذلك أنه يقتلهم ويتمكَّن منهم كلَّ تمكُّن . وقيل : الفاعلُ ضمير « الرِّيبة » ، أي : إلى أنْ تقطع الرِّيبةُ قلوبهم وفي مصحف عبد الله « ولو قُطِّعَتْ » وبها قرأ أصحابه ، وهي مخالفةٌ لسوادِ مصاحف الناس . والمعنى أنَّ هذه الريبة باقية في قلوبهم أبداً ويموتون على النِّفاق . وقيل : معناه إلاَّ أن يتوبوا توبة تنقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم . وقيل : حتى تنشق قلوبهم غماً وحسرة . « والله عَلِيمٌ » بأحوالهم ، « حَكِيمٌ » في الأحكام التي يحكمُ بها عليهم .
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)
قوله تعالى : { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } الآية .
لمَّا شرح أحوال المنافقين ، عاد إلى بيانِ فضيلة الجهادِ . قيل : هذا تمثيلٌ كقوله تعالى { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } [ البقرة : 16 ] قال مُحمَّدُ بن كعب القرظيُّ : « لمَّا بايعت الأنصارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة بمكَّة وهم سبعون نفساً ، قال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله اشترط لربِّك ولنفْسِكَ ما شئتَ . فقال : » أشترطُ لربِّي أن تعبُدُوهُ ولا تُشرِكُوا بِهِ شَيْئاً ولنفْسِي أن تمنعوني ممَّا منعون منه أنفسكُم وأموالكُم « قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال : » الجنَّة « قالوا ربح البيعُ لا نقيلُ ولا نستقيلُ » ، فنزل : { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة } .
قال الحسنُ ، ومجاهدٌ ، ومقاتل : « ثامنَهُم فأغْلَى ثمنهُمْ » .
قوله : « بِأَنَّ لَهُمُ » متعلقٌ ب « اشْتَرَى » ، ودخلت الباءُ هنا على المترُوكِ على بابها ، وسمَّاها أبُو البقاءِ « باء » المقابلةِ ، كقولهم : « باء » العوض ، و « باء » الثمنية . وقرأ عمرُ ابنُ الخطاب والأعمش « بِالجنَّةِ » . قال أهلُ المعاني : لا يجوزُ أن يشتري الله شيئاً في الحقيقة؛ لأنه مالك الكل ، ولهذا قال الحسنُ : اشترى أنفساً هو خلقها ، وأموالاً هو رزقها ، وإنَّما ذكر اللهُ ذلك ، لحسن التَّلُّطفِ في الدُّعاءِ إلى الطَّاعةِ؛ لأن المؤمنَ إذا قاتل في سبيل اللهِ حتى يقتل؛ فتذهب روحه ، وينفق ماله في سبيل الله تعالى جزاؤه في الآخرة الجنَّة ، فكان هذا استبدالاً وشراءً . قال الحسنُ : « والله بيعة رَابحةٌ ، وكفةٌ راجحةٌ ، بايع اللهُ بها كلَّ مُؤمِنٍ والله ما على الأرض مؤمن إلاَّ وقد دخل في هذه البيعة » .
وفيه لطيفةٌ ، وهي أن المشتري لا بدَّ وأن يغاير البائع ، وههنا البائعُ هو اللهُ تعالى ، والمشتري هو الله ، وهذا إنما يصحُّ في حقِّ القيم بأمر الطفل الذي لا يمكُنُه رعاية المصالح في البيع والشراء وصحَّة هذا البيع مشروطة برعاية الغبطة؛ فهذا جارٍ مجرى التَّنبيه على كون العبد كالطِّفلِ الذي لا يهتدي إلى رعاية مصالح نفسه؛ وأنَّهُ تعالى هو الرَّاعي لمصالحه بشرط الغبطةِ .
فصل
قال القرطبيُّ : « هذه الآية دليلٌ على جواز معاملة السيد مع عبده ، وإن كان الكل للسَّيد ، لكن إذا ملكه عامله فيما جعل إليه ، وجاز بين السيد وعبده ما لا يجوزُ بينه وبين غيره؛ لأنَّ ماله له ، وله انتزاعه » .
فصل
أصل الشراءِ من الخلق أن يعوضوا بما خرج من أيديهم ما كان أنفع لهم ، أو مثل ما خرج عنهم في النفع ، فاشترى الله من العباد إتلاف أنفسهم ، وأموالهم في طاعته ، وإهلاكها في مرضاته وأعطاهم الجنَّة عوضاً عنها إذا فعلوا ذلك ، وهو عوض عظيمٌ لا يدانيه المعوض ، فأجرى ذلك على مجرى ما يتعارفونه في البيع والشراء ، فمن العبد تسليم النفس والمال ، ومن الله الثَّواب والنَّوال فسمّي هذا شراء .
فصل
قال بعضُ العلماء : كما اشترى من المؤمنين البالغينَ المكلفين كذلك اشترى من الأطفال فآلمهم ، وأسقمهم ، لما في ذلك من المصلحة ومن الاعتبار للبالغين ، فإنهم لا يكونُون عند شيءٍ أكثر صلاحاً ، وأقل فساداً منهم عند ألم الأطفالِ ، وما يحصلُ للوالدين من الثَّواب فيما ينالهم من الهم ، ثم إنَّ الله تعالى يعوض هؤلاء الأطفال عوضاً إذا صارُوا إليه .
قوله : « يُقَاتِلُون » يجوز أن يكون مستأنفاً ، ويجوز أن يكون حالاً . وقال الزمخشري : « يُقَاتلُون » فيه معنى الأمر ، كقوله : { وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } [ الصف : 11 ] . وعلى هذا فيتعيَّنُ الاستئناف ، لأنَّ الطَّلبَ لا يقع حالاً . وقد تقدَّم الخلاف في { فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } في آل عمران قرأ حمزة والكسائيُّ : « فيُقْتلُونَ » بتقديم المفعول على الفاعل . وقرأ الباقون بتقديم الفاعل على المفعول .
قوله : « وَعْداً » منصوبٌ على المصدر المؤكد لمضمون الجملة؛ لأنَّ معنى « اشْتَرَى » معنى : وعدهم بذلك ، فهو نظير : « هَذَا ابني حقّاً » . ويجوزُ أن يكُون مصدراً في موضع الحال وفيه ضعفٌ . و « حَقّاً » نعت له . و « عَلَيْهِ » حالٌ من « حَقّاً » ؛ لأنَّهُ في الأصل صفةٌ لو تأخَّر .
قوله : « فِي التوراة » فيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ متعلقٌ ب « اشْتَرَى » ، وعلى هذا فتكُونُ كل أمَّةٍ قد أمِرَت بالجهادِ ، ووعدتْ عليه الجنَّة .
والثاني : أنَّهُ متعلقٌ بمحذوفٍ؛ لأنَّه صفةٌ للوعد ، أي : وعداً مذكوراً وكائناً في التَّوراة .
وعلى هذا فيكون الوعد بالجنَّة مذكوراً في كتب الله المنزلةِ ، وقال الزمخشريُّ في أثناء الكلامِ : « لا يجُوزُ عليه قبيحٌ قطّ » قال أبُو حيَّان : « استعمل » قَطْ « في غير موضوعه ، لأنَّهُ أتَى به مع قوله » لا يجُوزُ عليه « ، و » قطّ « ظرفٌ ماضٍ ، فلا يعمل فيه إلاَّ الماضي » .
قال شهابُ الدِّين « ليس المرادُ هنا زمناً بعينه » .
ثم قال تعالى : { وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله } أي : أنَّ نقض العهد كذبٌ ، ومكرٌ ، وخديعة وكل ذلك من القبائح ، وهي قبيحة من الإنسان مع احتياجه إليها ، فالغني عن كلِّ الحاجات أولى أن يكون مُنزهاً عنها . أي لا أحد أوفى بعهده من الله ، وهذا يتضمَّنُ وفاء الباري بالكل فأمَّا وعده فللجميع ، وأمَّا وعيده فمخصوصٌ ببعض المذنبين وببعض الذُّنُوب ، وفي بعض الأحوال .
قوله : « فاستبشروا » فيه التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب؛ لأنَّ في خطابهم بذلك تشريفاً لهم و « استفعل » هنا ليس للطلب ، بل بمعنى « أفعل » ، ك « اسْتوْقَدَ » ، و « أوقد » والمعنى : أظهروا السُّرورَ بذلك ، والبشارة : إظهار السُّرور في البشرة .
وقوله : { الذي بَايَعْتُمْ بِهِ } توكيد ، كقوله : { الذي بَنَوْاْ } [ التوبة : 110 ] ، لينصَّ لهم على هذا البيع بعينه .
قوله تعالى : { التائبون } الآية .
لمَّا بينَّ أنَّه اشترى من المؤمنين أنفسهم ، بيَّن ههنا أنَّ أولئك المؤمنين هم الموصوفون بهذه الصفات . وقال جماعةٌ : الآية الأولى مستقلة بنفسها ، يقع تحت تلك المبايعة كل مُوحّد قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وإنْ لم يتصف بهذه الصفات في هذه الآية .
قوله : « التائبون » فيه خمسةُ أوجه :
أحدها : أنَّهُ مبتدأ ، وخبره « العابدون » وما بعده أوصاف ، أو أخبار متعددة عند من يرى ذلك .
الثاني : أنَّ الخبر قوله « الآمرون » .
الثالث : أنَّ الخبر محذوفٌ ، أي : التَّائِبُون الموصوفون بهذه الأوصاف من أهل الجنة ، أي من لم يجاهد غير معاندٍ ، ولا قاصد لترك الجهادِ فله الجنَّةُ ، قال الزجاجُ : وهو حسن ، كأنه وعد الجنَّة لجميع المؤمنين ، كقوله : { وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } [ النساء : 95 ] ويؤيده قوله : { وَبَشِّرِ المؤمنين } ، وهذا عند من يرى أنَّ هذه الآية منقطعةٌ ممَّا قبلها وليست شرطاً في المجاهدةِ . وأمَّا من زعم أنَّها شرطٌ في المجاهدة ، كالضَّحاك وغيره فيكون إعراب التَّائبين خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم التائبون ، وهذا من باب قطع النُّعُوتِ ، وذلك أنَّ هذه الأوصاف عند هؤلاء القائلين من صفات المؤمنين في قوله تعالى : { مِنَ المؤمنين } ويؤيِّدُ ذلك قراءة أبيّ ، وابن مسعود ، والأعمش « التَّائبينَ » بالياءِ ، ويجوزُ أن تكون هذه القراءةُ على القطع أيضاً؛ فيكون منصوباً بفعل مقدر ، وقد صرَّح الزمخشري ، وابنُ عطية بأنَّ التائبين في هذه القراءةِ نعتٌ للمؤمنين .
الخامس : أنَّ « التَّائبُونَ » بدلٌ من الضمير المتصل في « يُقاتِلُونَ » .
ولم يذكر لهذه الأوصاف متعلقاً فلم يقل : التَّائبُون من كذا لله ، ولا العابدون لله لفهم ذلك ، إلاَّ صفتي الأمر والنَّهي ، مبالغةً في ذلك . ولم يأتِ بعاطفٍ بين هذه الأوصاف ، لمناسبتها لبعضها ، إلاَّ في صفتي الأمر والنَّهي ، لتبايُن ما بينهما ، فإنَّ الأمر طلبُ فعلٍ ، والنَّهْيَ طلبُ تركٍ ، أو كفٍّ . وكذا « الحَافِظُونَ » عطفه وذكر متعلقه وأتى بترتيب هذه الصفاتِ في الذِّكْر على أحسنِ نظمٍ ، وهو ظاهرٌ بالتأمل ، فإنَّهُ قدَّم التوبة أولاً ، ثم ثنَّى بالعبادة إلى آخرها .
وقيل : إنَّما دخلت الواوُ؛ لأنها « واوُ » الثمانية ، كقولهم : { وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] وقوله : { وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [ الزمر : 73 ] لمَّا كان للجنَّة ثمانية أبواب أتى معها بالواو . قال بعض النَّحويين : هي لغة فصيحةٌ لبعض العربِ ، يقولون إذا عدُّوا : واحد ، اثنان ، ثلاثة ، أربعة خمسة ، ستة ، سبعة ، وثمانية ، تسعة ، عشرة . قال القرطبيُّ : « وهي لغة قريش » وقال أبو البقاءِ : « إنَّما دخلت » الواو « في الصفة الثامنة ، إيذاناً بأنَّ السبعة عندهم عدد تام ، ولذلك قالوا : سبع في ثمانية ، أي : سبع أذرع في ثمانية أشبارٍ ، وإنَّما دلَّت الواوُ على ذلك لأنَّ الواو تُؤذن بأنَّ ما بعدها غير ما قبلها ، ولذلك دخلت في باب عطفِ النَّسق » .
وهذا قولٌ ضعيفٌ جدّاً ، لا تحقيقَ له .
فصل في تفسير هذه الصفات
قوله « التائبون » قال ابنُ عبَّاسٍ : التَّائِبُونَ من الشِّرْكِ وقال الحسنُ : من الشِّرك والنفاق . وقيل : التائبون الراجعون عن الحالة المذمومة قال القرطبيُّ : « الراجع إلى الطَّاعة أفضل من الراجع عن المعصية ، لجمعه بين الأمرين » وقال الأصوليُّون : التَّائبُونَ من كلِّ معصيةٍ ، لأنَّها صيغة عموم محلاة بالألف واللام فتتناول الكل ، فالتخصيص تحكم . و « العَابِدُونَ » قال ابنُ عباسٍ « الذين يؤدُّون العبادة ا لواجبة عليهم » وقال غيره : المطيعون الذين أخلصُوا العبادة لله تعالى وقال الحسنُ « هم الذين عبدُوا الله في السَّراء والضَّراء » وقال قتادةُ « قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم » الحامدون « الذين يحمدون الله على كُلِّ حال في السّراء والضّراء . قال عليه الصلاة والسلام : » أوَّلُ مَنْ يُدعَى إلى الجنَّةِ يوْمَ القيامةِ الذين يَحمدُونَ الله فِي السَّراءِ والضَّراءِ « .
» السائحون « قال ابنُ مسعودٍ : الصائمون . وقال ابن عباس » ما ذكر في القرآن من السياحة فهو الصيام « وقال عليه الصلاة والسلام : » سياحةُ أمتي الصيامُ « . » وعن الحسن « أنَّ هذا صوم الفرض » وقيل : هم الذين يديمون الصيام . قال سفيانُ بنُ عيينة « إنَّما سُميَ الصَّائمُ سائحاً ، لتركه اللذات كلها ، من المطعم والمشرب والنكاح » وقال عطاءٌ : « السَّائحون هم الغزاةُ في سبيل الله » وهو قول مسلم . وقال عكرمةُ : « هم طلبة العلم ، ينتقلون من بلدٍ إلى بلدٍ » وقوله { الراكعون الساجدون } يعني : المُصلِّين . وقوله { الآمرون بالمعروف } بالإيمان { والناهون عَنِ المنكر } عن الشّرك . وقيل : المعروفُ : السنّةُ ، والمنكر : البدعة .
قوله : { والحافظون لِحُدُودِ الله } القائمون بأوامر الله . وقال الحسنُ « أهلُ الوفاءِ ببيعة الله » .
قوله تعالى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } الآيات .
لمَّا بيَّن في أول السُّورة إلى هذا الموضع وجوب البراءة عن المشركين ، والمنافقين من جميع الوجوه ، بيَّن في هذه الآية وجوب البراءة عن أمواتهم ، وإن كانوا في غاية القُرْبِ من الإنسان كالأب والأم ، كما أوجب البراءة عن الأحياء منهم .
قال ابنُ عباسٍ : لمَّا فتح رسُول الله صلى الله عليه وسلم مكَّة ، أتى قبر أمه آمنة ، فوقف عليه حتى حميت الشمسُ ، رجاء أن يؤذن له ليستغفر لها ، فنزلت { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } وعن أبي هريرة قال : « زَارَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قبرَ أمه فبكَى وأبْكَى من حولهُ ، فقال : » اسْتأذَنْتُ ربِّي في أنْ أسْتَغْفِرَ لها؛ فَلمْ يُؤذَنْ لِي واسْتَأذَنتُهُ في أنْ أزُورَ قَبْرهَا فأذِنَ لِي ، فزُورُوا القُبُور فإنَّهَا تُذكرُ المَوْتَ « .
قال قتادة : قال النبي صلى الله عليه وسلم « لأستغفرنَّ لأبي ، كما استغفر إبراهيم لأبيه » فأنزل الله هذه الآية . وروى سعيد بن المسيب عن أبيه قال : « لمَّا حضرت أبَا طالب الوفاةُ جاءَهُ رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فوجدَ عندهُ أبَا جهْلٍ ، وعبد الله بنَ أبِي أميَّة بن المُغِيرة - فقال : يا عم قُلْ لا إله إلاَّ اللهُ أحَاجُّ لَكَ بِها عند اللهِ » فقال أبو جَهْلٍ وعبدُ الله بنُ أبي أميَّة : أتَرغَبُ عن ملَّةِ عَبْدِ المُطلبِ؟ فلمْ يزلْ رسُول الله صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُها عليْهِ ويُعيدُ لَهُ تِلكَ المقالةَ ، حتَّى قَالَ أبُو طالب آخِرَ ما كَلَّمَهُمْ : على مِلَّة عبدِ المُطَّلبِ وأبَى أنْ يقُولَ لا إلهَ إلاَّ اللهُ ، فقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم « لأسْتَغفِرَنَّ لَكَ ما لَمْ أنه عَنْكَ » فأنزل الله هذه الآية ، وقوله : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] . وفي رواية قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِعَمِّهِ « قُلْ : لا إله إلاَّ اللهُ أشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ القيامةِ » ، قال : لَوْلاَ أنْ تُعَيِّرنِي قُريشٌ ، يقُولُونَ : إنَّما حملهُ على ذَلِكَ الجَزَعُ لأقْرَرْتُ بها عيْنكَ؛ فنزل قوله : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] الآية . قال الواحديُّ : « وقد استبعده الحسينُ بنُ الفضلِ؛ لأنَّ هذه السُّورة من آخر القرآن نزولاً ، ووفاة أبي طالب كانت بمكة أول الإسلام » .
قال ابنُ الخطيب « وليس هذا بمُسْتَبعدٍ؛ فإنَّهُ يمكن أن يقال : إنَّ النبي - عليه الصلاة والسلام - بقي يستغفر لأبي طالب من ذلك الوقت إلى حين نزول { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] وروي عن علي بن أبي طالبٍ أنَّه سمع رجُلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان ، قال : فقلت له : أتستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال : أو ليس قد استغفر إبراهيم لأبويه وهما مشركان؟ فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية » .
وفي رواية : فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ } إلى قوله { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } [ الممتحنة : 4 ] .
فصل
قال القرطبيُّ : « تضمَّنَتْ هذه الآية قطع موالاة الكُفَّارِ حيِّهم وميِّتهم؛ لأنَّ الله تعالى لم يجعل للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين؛ فطلب الغفران للمشرك لا يجوز ، فإن قيل : صحَّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد حين كُسِرَتْ رباعيتُه وشُجَّ وجهه : » اللَّهُمَّ اغفر لِقوْمِي فإنَّهُم لا يَعْلمُونَ « فكيف الجمع بين الآية والخبر؟ فالجوابُ أنَّ ذلك القول من النبيِّ صلى الله عليه وسلم كان على سبيل الحكاية عمَّنْ تقدَّمه من الأنبياء ، بدليل ما رواه مسلم عن عبد الله قال : كأنِّي أنظرُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يَحْكِي نبيّاً من الأنبياءِ ضربهُ قومهُ وهو يمسَحُ الدَّمَ عَنْ وجههِ ويقُولُ
« ربِّ اغفرْ لِقوْمِي فإنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ » وروى البخاريُّ نحوه وهذا صريح في الحكاية عمَّن قبله « .
قال القرطبيُّ : » لأَنَّهُ قاله ابتداء عن نفسه . وجواب ثان : أنَّ المراد بالاستغفار في الآية : الصّلاة . قال عطاءُ بن أبي رباح : الآية في النَّهْي عن الصَّلاةِ على المشركين ، والاستغفار هنا يراد به الصلاة .
جواب ثالث : أنَّ الاستغفارَ للأحياءِ جائز؛ لأنَّهُ مرجو إيمانهم ، ويمكن تألفهم بالقول الجميل ، وترغيبهم في الدِّين بخلاف الأموات « .
قوله : { وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى } كقوله : » أعطوا السائل ولو على فرس « وقد تقدَّم أنها حالٌ معطوفةٌ على حال مقدرة . وقوله : { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجحيم } [ التوبة : 113 ] كالعلَّةِ للمنع من الاستغفار لهم .
قوله : { وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ } .
في تعلُّق هذه الآية بما قبلها وجوهٌ : أحدها : أنَّهُ لا يتوهم إنسان أنَّه تعالى منع محمّداً من بعض ما أذن لإبراهيم فيه .
وثانيها : أنه تعالى لمَّا بالغ في وجوب الانقطاع عن المشركين الأحياء والأموات ، بيَّن ههنا أن هذا الحكم غير مختص بدين محمد - عليه الصلاة والسلام - ، بل وجوب الانقطاع مشروع أيضاً في دين إبراهيم؛ فتكون المبالغة في تقرير وجوبِ المقاطعةِ أكمل ، وأقوى .
وثالثها : أنَّهُ تعالى وصف إبراهيم بكونه حليماً أي : قليل الغضب ، وبكونه أوهاً ، أي : كثير التَّوجع والتَّفجُّع عند نزول المضار بالنَّاس ، ومن كان موصوفاً بهذه الصِّفةِ كان ميل قلبه إلى الاستغفار لأبيه شديداً؛ فكأنه قيل : إنَّ إبراهيم مع جلالة قدره ، وكونه موصوفاً بالأواهية والحلمية منعه الله من الاستغفار لأبيه الكافر ، فمنع غيره أولى .
قوله : » وَعَدَهَآ إِيَّاهُ « . اختلف في الضمير المرفوعِ ، والمنصوبِ المنفصل ، فقيل - وهو الظاهرُ - إنَّ المرفوعَ يعودَ على » إبراهيم « ، والمنصُوب على » أبيه « ، يعني : أنَّ إبراهيم كان وعد أباه أن يستغفر له ، ويؤيد هذا قراءةُ الحسنِ ، وحماد الرَّاوية . وابنُ السَّميفَع ومعاذ القارئ » وعدهَا أباهُ « بالباءِ الموحَّدةِ . وقيل : المرفوع لأبي إبراهيم والمنصوب ل » إبراهيم « . وفي التفسير أنه كان وعد إبراهيم أنَّه يُؤمنُ؛ فذلك طمع في إيمانه .
فصل
دلَّ القرآن على أنَّ إبراهيم استغفر لأبيه ، لقوله : { واغفر لأبي } [ الشعراء : 86 ] وقوله : { رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحساب } [ إبراهيم : 41 ] وقال : { سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي } [ مريم : 47 ] وقال أيضاً { لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } [ الممتحنة : 4 ] ، والاستغفار للكافر لا يجوز .
فأجاب تعالى عن هذا الإشكال بقوله { وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ } والمعنى : أن أباه وعده أن يؤمن؛ فلذا استغفر لهُ ، فلمَّا تبيَّن له أنَّهُ لا يؤمن وأنَّهُ عدو لله ، تبرَّأ منه . وقيل : إنَّ الواعدَ » إبراهيم « وعد أباهُ أن يستغفر لهُ رجاء إسلامه وقيل في الجواب وجهان آخران :
الأول : أنَّ المراد من استغفار إبراهيم لأبيه دعاؤه له إلى الإسلام ، وكان يقول له آمنْ حتى تتخلَّص من العقاب ، ويدعو الله أن يرزقه الإيمان فهذا هو الاستغفارُ ، فلمَّا أخبره تعالى بأنَّه يموتُ كافراً وترك تلك الدَّعوة .
والثاني : أنَّ من النَّاس من حمل قوله : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } على صلاة الجنازة لا على هذا الطريق ، قالوا : ويدل عليه قوله : { وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً } [ التوبة : 84 ] .
فصل
اختلفوا في السَّببِ الذي تبيَّن إبراهيم به أنَّ أباهُ عَدُوّ للهِ . فقيل : بالإصْرارِ والموت وقيل : بالإصْرارِ وحده . وقيل : بالوحي . فكأنه تعالى يقولُ : لمَّا تبيَّن لإبراهيم أنَّ أباهُ عدو لله تبَّرأ منه؛ فكونوا كذلك ، لأنِّي أمرتكم بمتابعة إبراهيم في قوله : { اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } [ النحل : 123 ] . قوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } . الأوَّاهُ : الكثيرُ التأوه ، وهو من يقولُ : أوَّاه ، وقيل : من يقولُ : أوَّهْ ، وهو أنْسَبُ؛ لأنَّ « أوه » بمعنى : أتوجع ، ف « الأوَّاهُ » : فعَّال مثالُ مبالغة من ذلك ، وقياسُ فعله أن يكون ثلاثياً؛ لأنَّ أمثله المبالغة إنَّما تطَّرد في الثُّلاثي وقد حكى قطربٌ فعله ثلاثياً ، فقال : يقال : آهَ يَئُوهُ ، ك « قَامَ يقُومُ ، » أوْهاً « .
وأنكر النحويون هذا القول على قطرب ، وقالوا : لا يقال من » أوَّهْ « بمعنى : أتوَجَّعُ ، فعلٌ ثلاثي ، إنما يقال : أوَّه تأويهاً ، وتأوَّه تأوهاً؛ قال الراجز : [ الرجز ]
2850- فَأوَّهَ الرَّاعِي وضَوْضَى أكْلُبُهْ ... وقال المثقبُ العَبْدِيُّ : [ الوافر ]
2851- إِذَا ما قُمْتُ أرْحَلُهَا بليْلٍ ... تأوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الحَزينِ
وقال الزمخشريُّ : » أوَّاه : فعَّال ، مِنْ أوَّهْ ، ك : « لئَّالٍ » من اللُّؤلؤ ، وهو الذي يكثر التَّأوُّه « .
قال أبُو حيان » وتشبيه « أوَّاه » مِنْ « أوَّهْ » ك « لَئّال » من اللؤلؤ ليس بجيدٍ؛ لأنَّ مادة « أوَّهْ » موجودةٌ في صورة « أوَّاه » ، ومادة « لؤلؤ » مفقودةٌ في « لَئّال » ؛ لاختلاف التركيب إذ « لَئّال » ثلاثي ، و « لؤلؤ » رباعيّ ، وشرط الاشتقاق التوافق في الحروف الأصلية « .
قال شهابُ الدِّين : » لَئّال « ، و » لؤلؤ « كلاهما من الرُّباعي المكرر ، أي : إنَّ الأصل لام وهمزة ثم كرَّرْنا ، غاية ما في الباب أنَّهُ اجتمع الهمزتان في » لَئّال « فأدغمت أولاهما في الأخرى ، وفُرق بينهما في » لؤلؤ « وقال ابن الأثير في قوله عليه السلام : » أوْه عن الرِّبا « كلمة يقولها الرجل عند الشكاية والتوجُّع وهي ساكنة الواو ومكسورة الهاء ، وربَّما قلبُوا الواو ألفاً فقالوا : آهِ من كذا ، وربَّمَا شدَّدُوا الواو وكسرُوها وسكَّنُوا الهاء فقالوا » أوّهْ « وربما حذفُوا مع التَّشديد الهاء فقالوا : » أوّ « وبعضهم فتح الواو مع التشديد فيقول » أوَّهْ « .
وقال الجوهريُّ : بعضهم يقول « آوَّه » بالمد والتشديد وفتح الواو ساكنة الهاءِ؛ لتطويل الصوت بالشِّكاية ، ورُبَّمَا أدخلُوا فيه التَّاء فقالوا « أوَّتَاهُ » بمدِّ وبغير مدّ .
فصل
قال عليه الصلاة والسلام : « الأوَّاه : الخاشع المُتضرِّع » وعن عمر : « الدُّعَّاءُ أنَّهُ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأوَّاه ، فقال : » ويروى « أن زينب تكلَّمت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بما غيَّر لونه؛ فأنكر عمر ، فقال عليه الصلاة والسلام : دعهَا فإنَّها أوَّاهَةٌ » فقيل يا رسُول الله ، وما الأواهةُ؟ قال : « الدَّاعيةُ الخاشِعةُ المُتضرِّعَةُ » .
وقيل : معنى كون إبراهيم أوَّاهاً ، كلَّما ذكر لنفسه تقصيراً ، أو ذكر له شيء من شدائد الآخرة كان يتأوَّه إشفاقاً من ذلك واستعظاماً لهُ . وعن عبَّاسٍ : الأوَّاه ، المؤمن التَّواب .
وقال عطاءٌ وعكرمةُ : هو الموقن . وقال مجاهدٌ والنخعيُّ : هو الفقيه . وقال الكلبيُّ وسعيد بنُ المسيِّب : هو المُسبِّحُ الذي يذكر الله في الأرض القفر الموحشة .
وقال أبُو ذرٍّ : هو المتأوه؛ لأنه كان يقول « آهٍ من النَّار قَبْلَ ألا تنفعَ آهُ » . و « الحَلِيمُ » معلوم .
وإنَّما وصفهُ بهذين الوصفين ههنا؛ لأنَّه تعالى وصفه بشدّة الرقة والشَّفقة والخوف ، ومن كان كذلك فإنَّه تعظم رقته على أبيه وأولاده ، ثم إنَّهُ مع هذه الصفات تَبَرَّأ من أبيه وغلظ قلبه عليه لمَّا ظهر له إصراره على الكُفْرِ ، فأنتم بهذا المعنى أولى .
قوله تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً } الآية .
لمَّا منع المسلمين من أن يستغفرُوا للمشركين ، والمسلمون كانوا قد استغفروا للمشركين قبل نزول الآية ، فلمَّا نزلت هذه الآية خافُوا بسبب ما صدر عنهم قبل ذلك من الاستغفار للمشركين .
وأيضاً فإنَّ أقواماً من المسلمين الذين استغفروا للمشركين ، كانوا ماتوا قبل نزولِ هذه الآية فوقع الخوفُ في قلوب المسلمين أنَّهُ كيف يكون حالهم؛ فأزال الله ذلك عنهم بهذه الآية وبيَّن أنه لا يؤاخذهم بعمل إلاَّ بعد أن يُبيِّنَ لهم أنَّه يجبُ عليهم أن يتَّقُوهُ ويحترزوا عنه فهذا وجهٌ حسنٌ في النَّظْمِ .
فصل
معنى الآية : ما كان الله ليحكم عليكم بالضَّلالةِ بترك الأوامرِ باستغفاركم للمشركين { حتى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ } .
قال مجاهدٌ : « بيان الله للمؤمنين في ترْكِ الاستغفار للمشركين خاصة ، وبيانه لهم في معصيته وطاعته عامة » . وقال الضحاك : « ما كان اللهُ ليُعذِّبَ قوماً حتى يُبيِّنَ لهم ما يأتون وما يذَرُونَ » . وقال مقاتلٌ والكلبيُّ : هذا في المنسوخ ، وذلك أنَّ قوماً قدمُوا على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلمُوا قبل تحريم الخمر وصرف القبلة إلى الكعبةِ؛ فرجعوا إلى قومهم وهم على ذلك ثم حرمت الخمر وصرفت القبلة ، ولا علمَ لهم بذلك ، ثم قدمُوا بعد ذلك المدينة؛ فوجدُوا الخمر قد حُرِّمَتْ والقبلة قد صُرفتْ ، فقالوا يا رسول الله : قد كنت على دينٍ ونحن على غيره ، فنحن ضلال؟ فأنزل الله تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حتى يُبَيِّنَ لَهُم } الناسخ ، وقيل : المعنى : أنَّهُ أضلهُ عن طريق الجنَّةِ أي : صرفه ومنعه من التوجّه إليه .
وقالت المعتزلة : المراد من هذا الإضلال ، الحكم عليهم بالضلال؛ واحتجُّوا بقول الكميت : [ الطويل ]
2852- وطَائِفَةٍ قَدْ أكفرُونِي بحُبِّكُم .. .
قال ابنُ الأنباري « وهذا التَّأويلُ فاسدٌ؛ لأنَّ العرب إذا أرادوا ذلك المعنى قالوا : ضلل يضلل ، واحتجاجهم ببيت الكميت باطلٌ؛ لأنه يلزم من قولنا : أكفر في الحُكْم صحة قولنا : أضَلّ . وليس كل موضع صح فيه » فعل « صح فيه » أفعل « . فإنَّه يجوزُ أن يقال » كسر « ، و » قتل « ، ولا يجوزُ » أكْسَرَ « ، و » أقْتَلَ « ؛ بل يجبُ فيه الرُّجوع إلى السماع » .
قوله : { إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض } الآية .
فيها فوائد :
أحدها : أنَّه تعالى لمَّا أمر بالبراءة من الكُفَّارِ ، بيَّن أنَّه له ملك السموات والأرض ، فإذا كان هو ناصركم فهم لا يقدرون على إضراركم .
وثانيها : أنَّ المسلمين قالوا : لمَّا أمرتنا بالانقطاع عن الكُفَّار؛ فحينئذٍ لا يمكننا أن نختلط بآبائنا ، وأولادنا ، وإخواننا ، فكأنَّهُ قيل : إن صرتم محرومين عن معاونتهم ومناصرتهم ، فالإله المالكُ للسَّمواتِ والأرضِ ، المُحْيِي المُمِيت ناصركم؛ فلا يضركم انقطاعهم عنكم .
وثالثها : أنَّهُ تعالى لمَّا أمر بهذه التكاليف الشَّاقة كأنَّهُ قال : وجب عليكم أن تنقادوا لحكمي ، لكوني إلهكم ، ولكونكم عبيداً لي .
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
قوله : { لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار } الآية .
لمَّا شرح أحوال غزوة تبوك ، وأحوال المتخلِّفين عنها ، عاد إلى شرح ما بقي من أحكامها فقال : { لَقَدْ تَابَ الله على النبي } الآية . تاب الله : تجاوز وصفح ، ومعنى توبته على النبيِّ : مؤاخذته بإذنه للمنافقين في التخلُّف ، فقال : { عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] ، وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلُّفِ عنه .
وقيل : توبةُ الله عليهم استنقاذهم من شدَّةِ العسرةِ . وقيل : خلاصهم من نكايةِ العدوِّ وعبَّر عن ذلك بالتوبة - وإن خرج عن عرفها - لوجود معنى التَّوبة فيه ، وهو الرُّجُوع إلى الحالة الأولى . وقيل : افتتح الكلام به؛ لأنَّه كان سبب توبتهم ، فذكره معهم ، كقوله تعالى : { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } [ الأنفال : 41 ] . وقيل : لا يبعدُ أن يكون صدر عن أولئك الأقوام أنواع من المعاصي ، إلاَّ أنَّه تعالى تاب عليهم ، وعفا عنهم ، لأجْلِ تحملهم مشاق السفر في شدة الحر للجهاد ، ثم إنَّه تعالى ضمَّ ذكر الرسول إلى ذكرهم ، تنبيهاً على عظم مراتبهم في الدِّين وأنهم قد بلغوا إلى الدرجة التي لأجلها ضم الرسول - عليه الصلاة والسلام - إليهم في قبول التوبة .
قوله : « . . . اتبعوه » يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ اتباعٌ حقيقي ، ويكون عليه الصلاة والسلام خرج أولاً ، وتبعه أصحابه . وأن يكون مجازاً ، أي : اتبعوا أمرهُ ونهيهُ . وساعةُ العُسْرة عبارةُ عن وقتِ الخروج إلى الغزوِ ، وليس المرادُ حقيقة السَّاعة ، بل كقولهم « يَوْم الكُلاَب » ، و : [ الطويل ]
2853- . ... عَشِيَّة قَارعْنَا جُذَامَ وحمْيَرا
فاستعيرت « السَّاعة » لذلك؛ كما استعير « الغداة » و « العَشيَّة » في قوله : [ الطويل ]
2854- غَداةَ طفَتْ عَلماءِ بكرُ بنُ وَائِلٍ .. . .
وقوله : [ الطويل ]
2855- إذَا جَاءَ يَوْماً وارثي يبتَغِي الغِنَى .. . .
فصل
في المراد بساعة العسرةِ قولان :
الأول : أنها غزوةُ تبوك ، والمرادُ منها الزمان الذي صعب الأمر عليهم جدّاً في ذلك السَّفرِ . والعسرة : تعذر الأمر وصعوبته . قال جابِر « حصلت عسرة الظهر ، وعسرة الماءِ ، وعسرة الزَّادِ » .
أمَّا عُسرةُ الظهرِ؛ فقال الحسنُ : كان العشرةُ من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم .
وأمَّا عسرة الزَّادِ ، فريما مصَّ التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها ، حتَّى لا يبقى من التَّمرة إلاَّ النواة ، وكان معهم شيء من شعير مُسَوَّسٍ ، فكان أحدهم إذا وضع اللُّقْمَة في فيه أخذ أنفه من نتن اللُّقمةِ . وأمَّا عسرة الماءِ ، فقال عمرُ : خرجنا في قيظٍ شديدٍ ، وأصابنا فيه عطشٌ شديدٌ؛ حتَّى إنَّ الرجُل لينحر بعيرهُ فيعصر فرثهُ ، ويشربهُ .
وهذه تسمى غزوة العسرة ، ومن خرج فيها فهو جيش العُسرةِ ، وجهزهم عثمان وغيره من الصَّحابة - رضي الله عنهم - .
والثاني : قال أبو مسلم « يجوزُ أن يكون المراد بساعة العسرة جميع الأحوال ، والأوقات الشديدة على الرَّسُولِ ، وعلى المؤمنين؛ فيدخل فيه غزوة الخندق وغيرها .
وقد ذكر الله تعالى بعضها في القرآن ، كقوله : { وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر } [ الأحزاب : 10 ] وقوله : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حتى إِذَا فَشِلْتُمْ } [ آل عمران : 152 ] الآية ، والمقصود منه وصف المهاجرين ، والأنصار بأنَّهُم اتَّبعُوا الرَّسول - عليه الصلاة والسلام - في الأوقات الشديدة والأحوال الصعبة ، وذلك يفيدُ نهاية المدح والتعظيم « .
قوله : { مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ } قرأ حمزة وحفص عن عصام » يَزِيغُ « بالياءِ من تحت والبقاون بالتاء من فوق . فالقراءةُ الأولى تحتمل أن يكون اسمُ » كاد « ضمير الشَّأن و » قلوبُ « مرفوع ب » يزيغُ « ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ خبراً لها ، وأن يكونَ اسمها ضمير القوم ، أو الجمع الذي دلَّ عليه ذكرُ » المهاجرين والأنصار « ، ولذلك قدَّرهُ أبو البقاءِ ، وابنُ عطيَّة : » من بعد مَا كَادَ القَوْمُ « . وقال أبو حيان - في هذه القراءة - » فيتعيَّن أن يكونَ في « كاد » ضميرُ الشَّأن ، وارتفاع « قُلوبُ » ب « يزيغُ » ، لامتناع أن يكون « قلوب » اسم « كاد » ، و « يزيغُ » في موضع الخبر؛ لأنَّ النِّيةَ فيه التأخير ولا يجوزُ : من بعد ما كاد قلوب يزيغُ بالياء « قال شهابُ الدِّين : ولا يتعيَّن ما ذكر في هذه القراءة ، لما تقدَّم من أنَّهُ يجوزُ أن يكون اسمُ » كاد « ضميراً عائداً على الجمع أو القوم ، والجملة الفعليَّة خبرها ، ولا محذور يمنع ذلك من ذلك . وقوله : لامتناع أن يكون » قُلُوب « اسم » كَادَ « لزم أن يكون » يزيغُ « خبراً مقدماً؛ فيلزمُ أن يرفع ضميراً عائداً على » قُلوبُ « ، ولو كان كذلك للزم تأنيثُ الفعل؛ لأنَّهُ حينئذٍ مسندٌ إلى ضمير مؤنث مجازي؛ لأنَّ جمع التَّكسير يجري مجرى المؤنث مجازاً . وأمَّا قراءة التَّاء من فوق؛ فتحتمل أن يكون في » كَادَ « ضميرُ الشَّأن ، كما تقدَّم ، و » قلوبُ « مرفوع ب » تزيغُ « وأنَّثَ لتأنيث الجمع ، وأن يكون » قُلبوُ « اسمها ، و » تزيغُ « خبر مقدَّم ، ولا محذور في ذلك؛ لأنَّ الفعل قد أنَّثَ .
وقال أبُو حيَّان : وعلى كُلِّ واحدٍ من هذه الأعرايب الثلاثة إشكال على ما تقرَّر في علم النَّحو مِنْ أنَّ خبر أفعالِ المقاربةِ لا يكون إلاَّ مضارعاً رافعاً ضمير اسمها؛ فبعضهم أطلق وبعضهم قيَّد بغير » عَسَى « من أفعال المقاربة ، ولا يكونُ سبباً ، وذلك بخلاف » كان « فإن خبرها يرفع الضمير والسبي لاسم » كان « ، فإذا قدَّرْنَا فيها ضمير الشَّأن كانت الجملةُ في موضع نصب على الخبرِ ، والمرفوعُ ليس ضميراً يعود على اسم » كاد « ، بل ولا سبباً له ، وهذا يلزمُ في قراءة التَّاءِ أيضاً .
وأما توسط الخبر؛ فهو مبنيٌّ على جوازِ مثل هذا التركيب في مثل : « كان يقُومُ زيد » ، وفيه خلافٌ والصحيحُ المنع . وأمَّا الوجه الأخير؛ فضعيف جداً ، من حيثُ أضمر في « كاد » ضميراً ، ليس له علىمن يعود إلاَّ بتوهُّم ومن حيثُ يكونُ خبر « كاد » رافعاً سبباً . قال شهابُ الدِّين : كيف يقولُ « والصَّحيحُ المنعُ » وهذا التركيب موجود في القرآن ، كقوله تعالى : { مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ } [ الأعراف : 137 ] { كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا } [ الجن : 4 ] ، وفي قول امرىء القيس : [ الطويل ]
2856- وإنْ تَكُ سَاءَتْكَ مِنِّي خَليقَةٌ .. . .
فهذا التركيبُ واقعٌ لا محالة . وإنَّما اختلفوا في تقديره : هل من باب تقديم الخبر ، أم لا؟ فمن منع؛ لأنه كباب المبتدأ والخبر الصريح ، والخبرُ الصريح متى كان كذلك؛ امتنع تقديمهُ على المبتدأ ، لئلاَّ يلتبس بباب الفاعل؛ فكذلك بعد نسخه ، ومن أجازَ فلأمن اللَّبْس . ثم قال أبُو حيَّان : « ويُخَلِّصُ من هذه الإشكالات اعتقادُ كون » كَادَ « زائدة ، ومعناها مراد ، ولا عمل لها إذ ذاك في اسم ولا خبر ، فتكُون مثل » كَانَ « إذا زيدتْ ، يُراد معناها ولا عمل لها ، ويؤيِّدُ هذا التأويل قراءةُ ابن مسعودٍ » مِنْ بعْدِ ما زَاغَتْ « بإسقاط » كاد « وقد ذهب الكوفيون إلى زيادتها في قوله تعالى : { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } [ النور : 40 ] مع تأثُّرها بالعامل وعملها فيما بعدها؛ فأحرى أن يُدَّعَى زيادتها ، وهي ليست عاملةً ولا معمولةً » قال شهابُ الدِّين زيادتُها أباهُ الجمهور ، وقال به من البصريين الأخفشُ وجعل منه { أَكَادُ أُخْفِيهَا } [ طه : 15 ] وتقدَّم الكلام [ البقرة : 205 ] على ذلك . وقرأ الأعمشُ ، والجحدريُّ « تُزيغ » بضم التاء ، وكأَّنه جعل « أزَاغَ » ، و « زَاغَ » بمعنى . وقرأ أبَيّ « كَادَتْ » بتاء التأنيث .
فصل
« كاد » عند بعضهم تفيد المقاربة ، وعند آخرين تفيدُ المقاربة مع عدم الوقوع و « الزيغ » الميل ، أي : من بعد ما كاد تميلُ قلوب فريق منهم ، أو بعضهم ، ولم يرد الميل عن الدِّين بل أراد الميل للتخلف ، والانصراف؛ فهذه التوبةُ توبةٌ عن تلك المقاربة .
واختلفوا في الذي وقع في قلوبهم ، فقيل : هَمَّ بعضهم عند تلك الشدَّة العظيمة أن يفارق الرسول ، لكنه صبر واحْتَسبَ؛ فلذلك قال تعالى : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } لمَّا صبرُوا وندمُوا على ذلك الأمر اليسير . وقال آخرون : بل كان ذلك تحدث النفس الذي كان مقدمة العزيمة ، فلمَّا نالتهم الشِّدة ، وقع ذلك في قلوبهم ، ومع ذلك تلافوا هذا اليسيرَ خوفاً من أن يكون معصية؛ فلذلك قال تعالى : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } .
فإن قيل : ذكر التوبة في أوَّل الآية ، وفي آخرها ، فما فائدة التَّكرارِ؟
فالجوابُ من وجوه :
أحدها : أنَّهُ تعالى ابتدأ بذكر التَّوبةِ قبل ذكرِ الذَّنبِ تَطْيبباً لقلوبهم ثم لمَّا ذكر الذَّنبَ أردفه مرة أخرى بذكر التوبة؛ تعظيماً لشأنهم .
وثانيها : إذا قيل : عفا السُّلطان عن فلان ثمَّ عفا عنه ، دلَّ على أنَّ ذلك العفو متأكد بلغ الغاية القصوى في الكمالِ والقوَّةِ ، قال عليه الصلاة والسلام : « إنَّ اللهَ ليغفِرُ ذَنْبَ الرَّجُلِ المُسلمِ عشرينَ مرَّة » وهذا معنى قول ابنِ عبَّاس في قوله : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } يريدُ ازداد عنهم رضا . قال ابنُ عبَّاسٍ : مَنْ تاب اللهُ عليه لمْ يُعذِّبْه أبَداً . وتقدمت هذه الآثار في سورة النساء .
وثالثها : أنه قال { لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه فِي سَاعَةِ العسرة } وهذا الترتيبُ يدلُّ على أنَّ المراد أنَّهُ تعالى تاب عليهم من الوساوس التي كانت تقعُ في قلوبهم في ساعة العسرةِ ، ثمَّ إنه تعالى زاد عليه فقال : { مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ } فهذه الزيادة أفادت حصول وساوس قوية ، فلا جرم أتبعها تعالى بذكر التوبة مرة أخرى لئلاَّ يبقى في خاطر أحدٍ شك في كونهم مؤاخذين بتلك الوساوس . ثمَّ قال تعالى { إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } وهما صفتان لله تعالى ، ومعناهما متقارب ، ويمكنُ أن تكون الرَّأفة عبارة عن إزالة الضَّرر ، والرحمة عبارة عن إيصال المنفعة .
وقيل : إحداهما للرَّحمة السَّالفة ، والأخرى للمستقبلة .
قوله : { وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ } الآية .
قوله « وعَلى الثَّلاثةِ » يجوزُ أن ينسقَ على « النبيِّ ، أي : تاب على النبي ، وعلى الثلاثة ، وأن ينسقَ على الضَّمير في » عَليْهِمْ « أي : تاب عليهم ، وعلى الثلاثة ، ولذلك كُرِّرَ حرفُ الجر .
وقرأ جمهورُ النَّاس » خُلِّفُوا « مبنيّاً للمفعول مشدداً ، من : خلَّفه يخلِّفه .
وقرأ أبُو مالك كذلك إلاَّ أنَّه خفَّف اللاَّم . وقرأ عكرمةُ ، وزر بنُ حبيشٍ ، وعمرُو بنُ عبيدٍ ، وعكرمة بنُ هارُونَ المخزميّ ، ومعاذ للقارئ » خَلَفُوا « مبنيّاً للفاعل مخففاً من : » خَلَفَه « .
والمعنى : الذين خلفوا ، أي : فسدُوا ، مِنْ : خُلُوف الفمِ . ويجُوزُ أن يكون المعنى أنهم خلفُوا الغازينَ في المدينة . وقرأ أبو العالية ، وأبو الجوزاء كذلك ، إلاَّ أنَّهُمَا شدَّدَا اللام وقرأ أبو رزين ، وعلي بنُ الحسينِ ، وابناه : زيدٌ ، ومحمد الباقرُ ، وابنه جعفر الصادقُ : » خَالفُوا « بألف ، أي : لم يُوافِقُوا الغازين في الخروج .
قال الباقرُ » ولوْ خُلِّفُوا لم يكن لهم « .
وقرأ الأعمش » وعلى الثَّلاثة المخلَّفين « . و » الظَّن « هنا بمعنى العلم؛ كقوله : [ الطويل ]
2857- فقُلْتُ لهُم : ظُنُّوا بألْفَيْ مُدَجَّجٍ ... سراتهُم في الفَارسيِّ المُسَرَّدِ
وقوله : { الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } [ البقرة : 46 ] ؛ لأنَّه تعالى ذكر هذا الوصفَ في معرض المدح والثناء ، ولا يكونُ ذلك إلا مع علمهم . وقيل : هو على بابه؛ لأنَّه عليه الصلاة والسلام وقف أمرهم على الوحي ، فهم لم يقطعوا بأنَّ الله ينزل في شأنهم قرآناً ، بل كانوا مُجَوِّزين لذلك ، أو كانُوا قاطعين بأنَّ الله ينزل الوحي ببراءتهم ، ولكنهم جوَّزُوا أن تطول المدّة في بقائهم في الشِّدَّة ، فالظَّن عاد إلى تجويز كون تلك المدة قصيرة .
قوله : { أَن لاَّ مَلْجَأَ } « أنْ » هي المخففة سادَّة مسدَّ المفعولين ، و « لا » وما في حيَّزها الخبرُ ، و { مِنَ الله } خبرها ، ولا يجوزُ أن تتعلق ب « مَلْجَأ » ، ويكون « إلاَّ إليْهِ » الخبر لأنه كان يلزم إعرابه؛ لأنَّهُ يكون مطوَّلاً .
وقد قال بعضهم : إنَّه يجوزُ تشبيهُ الاسم المُطَوَّل بالمضاف فيُنتزعُ ما فيه من تنوينٍ ونونٍ ، كقوله : [ الطويل ]
2858- أرَانِي ولا كُفرانَ للهِ أيَّةً .. . .
وقوله عليه الصلاة والسلام : « لا صَمْتَ يومٌ إلى اللَّيْلِ » برفع « يومٌ » وقد تقدم ذلك [ الأنفال : 48 ] .
قوله : « إلاَّ إليه » استثناء من ذلك العامِّ المحذوفِ ، أي : لا ملجأ لأحدٍ إلاَّ إليه كقولك : « لا إله إلاَّ الله » .
فصل
هؤلاء الثلاثة هم المذكورون في قوله تعالى { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله } [ التوبة : 106 ] .
واختلفوا في السبب الذي لأجله وصفوا بكونهم مخلفين فقيل : ليس المراد أنهم أمروا بالتَّخلفِ ، أو حصل الرِّضا من الرَّسول بذلك ، بل هو كقولك لصاحبك أين خلفت فلاناً؟ فيقولُ : بموضع كذا ، لا يريدُ به أنَّهُ أمره بالتخلُّف ، بل لعلَّه قد نهاهُ عنه ، وإنَّما يريدُ أنَّهُ تخلَّف عنه .
وقيل : لا يمتنعُ أن هؤلاء الثلاثة كان عزمهم الذهاب إلى الغزوِ؛ فأذن لهُمُ الرَّسُولُ - عليه الصلاة والسلام - في قدر تحصيل الآلات ، فلما بقوا مدة ظهر التواني والكسل ، فصح أن يقال : خلفهم الرسول .
وقيل : إنه حكى قصة أقوام وهم المرادون بقوله { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله } [ التوبة : 106 ] والمرادُ من كون هؤلاء مخلفين كونهم مؤخرين في قبول التوبة . قال كعبُ بنُ مالكٍ ، وهو أحد الثلاثةِ : قول الله في حقنا { وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ } ليس من تخلفنا إنَّما هو تأخيرُ رسُول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا؛ يشير إلى قوله : { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله } [ التوبة : 106 ]
فصل
هؤلاء الثلاثةُ هم : كعب بنُ مالكٍ الشَّاعر ، وهلالُ بنُ أميَّة الذي نزلت فيه آية اللعان ، ومُرارةُ بنُ الرَّبيع .
وفي قصتهم قولان :
الأولُ : أنَّهم ذهبوا خلف الرَّسولِ - عليه الصلاة والسلام - ، قال الحسنُ : كان لأحدهم أرضٌ ثمنها مائة ألف درهم فقال : يا أرضاهُ ما خلَّفني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ أمرك؛ فاذهبي في سبيل الله ، فلأكابدن المفاوز حتى أصل إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم وفعل ، وكان للثاني أهلٌ فقال : يا أهلاهُ ما خلَّفني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أمرك؛ فلأكابدن المفاوز حتَّى أصل إليه وفعل . والثالث : ما كان ذا مال ولا أهل فقال : ما لي سبب إلا الضَّن بالحياةِ ، والله لأكابدن المفاوز حتى أصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلحقوا برسُول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قوله
{ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله } [ التوبة : 106 ] .
والثاني - وهو قول الأكثرين - : أنهم ما ذهبوا خلف الرَّسُولِ - عليه الصلاة والسلام - قال كعبٌ : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب حديثي ، فلما أبطأت عليه في الخروج قال عليه الصلاة والسلام : ما الذي حبس كعباً فلمَّا قدم المدينة اعتذر المنافقون فعذرهم ، وأتيته فقلتُ : إن كراعي ، وزادي كان حاضراً ، واحتبست بذنبي ، فاستغفر لي فأبى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، ثمَّ إنَّه - عليه الصلاة والسلام - نهى عن مجالسة هؤلاء الثلاثة ، وأمر بمباينتهم ، حتى أمر بذلك نساءهم؛ فضاقت عليهم الأرضُ بما رحبتْ وجاءت امرأة هلال بن أميَّة وقالت : يا رسول الله لقد بكى ، حتَّى خفتُ على بصره ، حتَّى إذا مضى خمسون يوماً أنزل الله تعالى : { لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين } [ التوبة : 117 ] وقوله : { وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ } فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجرته ، وهو عند أمِّ سلمة فقال : اللهُ أكبرُ؛ قد أنزلَ اللهُ عُذْرَ أصحَابِنَا » فلمَّا صلَّى الفَجْرَ ذكر ذلك لأصحابه ، وبشرهم بأنَّ الله تاب عليهم؛ فانطلقُوا إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، فتلا عليهم ما نزل فيهم فقال كعبٌ : توبتي إلى الله تعالى أن أخرج مالي صدقة فقال : « لا » فقلتُ : نصفه ، قال : « لا » ، قلت : فثلثه ، قال : « نعم » .
فصل
معنى : { ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ } تقدَّم تفسيره في هذه السُّورةِ وسببه : إعراض الرسول عنهم ، ومنع المؤمنين من مكالمتهم ، وأمر أزواجهم باعتزالهم ، وبقائهم على ذهه الحالة خمسين يوماً ، وقيل : أكثر حتَّى ضاقت عليهم أنفسهم ، أي : ضاقت صدورهم بالغمِّ والهمِّ ، ومجانية الأولياء ، ونظر الَّاس إليهم بعين الإهانةِ ، و « ظَنُّوا » أي : استيقنوا « أن لا مَلْجَأ » لا مفزع من الله إلا إليه .
قال ابنُ الخطيبِ : يقرب معناه من قوله عليه الصلاة والسلام : « أعوذُ برضَاكَ مِنْ سُخْطكَ وأعُوذُ بعَفوكَ مِنْ غضبِك ، وأعوذُ بكَ مِنْكَ » .
قوله : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا } فيه وجوه :
أحدها : قال أهلُ السُّنَّةِ : المرادُ منه أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى ، فقوله : « تَابَ عليْهِمْ » يدلُّ على أنَّ التوبة فعل الله وقوله : « لِيتُوبُوا » يدلُّ على أنَّها فعل العبدِ؛ فهو نظير قوله : { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً } [ التوبة : 82 ] مع قوله { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ } [ النجم : 43 ] وقوله { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ } [ الأنفال : 5 ] مع قوله { إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ } [ التوبة : 40 ] وقوله { هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ } [ يونس : 22 ] مع قوله : { قُلْ سِيرُواْ } [ الأنعام : 11 ] .
وثانياً : تاب عليهم في الماضي ليكون داعياً لهم إلى التوبة في المستقبل .
وثالثها : أصلُ التوبة الرُّجوع أي : تاب عليهم؛ ليرجعوا إلى حالهم وعادتهم في الاختلاط بالمؤمنين ، وزوال المباينة فتسكن نفوسهم عند ذلك .
ورابعها : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا } أي : ليداوموا على التوبةِ ولا يراجعوا ما يبطلها .
وخامسها : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } لينتفعوا بالتوبة { إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم } .
واعلم أنَّ ذكر « الرَّحيم » عقب ذكر « التَّواب » يدلُّ على أنَّ قبول التوبةِ لمحض الرحمة والكرم ، لا لأجل الوجوب ، كما تقولُ المعتزلةُ ، وذلك يقوي أنَّهُ لا يجبُ عقلاً على الله قبول قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله } الآية .
لمَّا قبل توبة هؤلاء الثلاثة ، ذكر ما يكون كالزَّاجر عن فعل مثل ما مضى ، وهو التخلف عن رسول الله في الجهاد ، أي : اتَّقُوا الله في مخالفة أمر الرسُول { وَكُونُواْ مَعَ الصادقين } أي : مع النبي وأصحابه في الغزوات ، ولا تتخلَّفُوا عنها ، وتجلسوا مع المنافقين في البيوتِ .
قال نافعٌ : « مَعَ الصادقين » أي : مع محمد . وقال سعيدُ بن جبيرٍ : مع أبي بكر وعمر .
قوال ابن جريج : مع المهاجرين ، لقوله تعالى : { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } [ الحشر : 8 ] إلى قوله { أولئك هُمُ الصادقون } [ الحشر : 8 ] .
وقال ابن عباس : مع الذين صدقت نياتهم؛ فاستقامت قلوبهم وأعمالهم ، وخرجُوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك بإخلاصٍ ونيّة . وقيل : من الذين صدقوا في الاعتراف بالذَّنب ، ولم يعتذروا بالأعذار الكاذبة .
فصل
دلَّت الآية على فضيلة الصِّدق ، وكمال درجته ، قال ابن مسعودٍ : إنَّ الكذب لا يصلحُ في جدٍّ ولا هزلٍ ، ولا أن يعد أحدُكم صبيَّة شيئاً ثم لا ينجزُ له ، اقرءوا إن شئتم ، وقرأ الآية .
« وروي أنَّ رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : إنّي أريد أن أومن بك إلاَّ أنِّي أحبُّ الزِّنا ، والخمر ، والسرقة ، والكذب ، والناس يقولون : إنك تُحرم هذه الأشياء ، ولا طاقة لي على تركها بأسرهَا ، فإن قنعت منِّي بتركِ واحد منها آمنت بك ، فقال عليه الصَّلاةُ والسَّلام : » فقبل ذلك ثُمَّ أسلم ، فلمَّا خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم عرضوا عليه الخمر ، فقال : إن شربتُ الخمر فسألني رسُول الله صلى الله عليه وسلم عن شربها ، وكذبت فقد نقضت العهد ، وإن صدقتُ أقام الحدَّ عليَّ ، فتركها ، ثمَّ عرضوا عليه الزِّنا؛ فجاء ذلك الخاطرُ ، فتركه ، وكذا في السرقة ، فعاد إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ما أحسن ما قلت ، لمَّا منعتني من الكذب انسدت أبوابُ المعاصي عليَّ ، « وتاب عن الكُلِّ وقال ابنُ مسعود : » عَليْكُم بالصِّدقِ فإنَّه يقربُ إلى البرِّ ، والبرُّ يقرب إلى الجنَّة ، وإنَّ العبْدَ ليصدق؛ فيكتب عند الله صدِّيقاً ، وإياكم والكذبَ ، فإنَّ الكذب يقربُ إلى الفُجُورِ ، والفُجُورِ يُقرِّبُ إلى النار ، وإن الرَّجُلَ ليكذب حتى يكتب عند الله كذَّاباً ، ألا ترى أنه يقال : صَدَقْتَ ، وبَرَرْتَ ، وكذَبْتَ ، وفَجَرْتَ « .
وقيل في قول إبليس : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } [ ص : 82 ، 83 ] إن إبليس لو لمْ يذكر هذا الاستثناء لصادر كاذباً في ادعاء إغواء الكلِّ ، فكأنه استنكفَ عن الكذبِ؛ فذكر هذا الاستثناء ، وإذا كان الكذبُ شيئاً يستنكفُ منه إبليس ، فالمسلم أوْلَى أن يستنكفَ منه ومن فضائل الصِّدق أنَّ الإيمان منه لا من سائر الطَّاعات ، ومن معايب الكذب أنَّ الكفر منه لا من سائر الذنوب .
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
قوله تعالى : { مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعراب } الآية .
لمَّا أوجب عليهم موافقة الرسول في جميع الغزوات والمشاهد؛ أكد ذلك بالنَّهي في هذه الآية عن التخلف عنه . قال المفسرون : ظاهره خبر ومعناه نهي ، كقوله تعالى { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله } [ الأحزاب : 53 ] ، { وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعراب } سكان البوادي : مزينة وجُهينة ، وأشجع وأسلم ، وغفار ، قاله ابنُ عباسٍ . وقيل : يتناولُ جميع الأعراب الذين كانوا حول المدينة ، فإنَّ اللفظ عامٌّ ، والتخصيص تحكم ، وعلى القولين فليس لهم أن يتخلَّفُوا عن رسُولِ الله إذا غزا ، { وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ } أي : لا يطلبوا لأنفسهم الحفظ والدَّعة حال ما يكونُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الحرِّ والمشقَّةِ ، والمعنى : ليس لهم أن يكرهُوا لأنفسهم ما يرضاه الرسول - عليه الصلاة والسلام - لنفسه . يقال : رَغِبْتُ بنفسي عن هذا الأمر ، أي : توقفتُ عنه وتركته ، وأرغب بفلان عن هذا الأمر ، أي : أبخل به عليه ولا أتركه .
وظاهر الآية وجوب الجهادِ على الكل ، إلاَّ ما خصَّه الدَّليل من المرضى ، والضعفاء ، والعاجزين . ولمَّا منعهم من التخلف ، بيَّن أنهم لا يصيبهم في ذلك السفر نوع من المشقة إلاَّ وهو يوجب الثَّواب العظيم عند الله تعالى .
وذكر أموراً منها بقوله : « ذلك بِأَنَّهُمْ » مبتدأ وخبر ، والإشارة به إلى ما تضمَّنهُ انتفاء التخلف عن وجوب الخروج معه . « لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ » وهو العطشُ ، يقال : ظَمِىءَ يَظْمَأُ ظَمَأ ، فهو ظمآنُ وهي ظَمْأى ، وفيه لغتان : القصر والمد ، وبالمد قرأ عمرو بنُ عبيدٍ ، نحو : سَفِه سَفَاهاً ، والظَّمءُ : ما بين الشَّربتيْنِ .
ومنها : قوله : « ولاَ نَصَبٌ » أي : إعياء وتعب . { وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ الله } أي : مجاعة شديدة يظهر بها ضمور البطن ، يقال : فلان خميص البطنِ ، ومنها قوله : { وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكفار } . « مَوْطِئاً » مفعل ، مِن : وَطِىءَ ، ويحتملُ أن يكون مصدراً بمعنى : الوطْء وأن يكون مكاناً ، والأوَّلُ أظهر؛ لأنَّ فاعل « يَغِيظُ » يعودُ عليه من غير تأويل ، بخلاف كونه مكاناً ، فإنَّهُ يعُودُ على المصدر ، وهو الوطْءُ ، الدالُّ عليه مكان المُوطِىءُ . والمعنى : لا يضعُ الإنسان قدمه ، ولا يضع فرسه حافره ، ولا يضع بعيره خفه ، بحيث يصير ذلك سبباً لغيظ الكفار . قوله : « يَغِيظُ الكفار » قال ابنُ الأعرابي : يقال : غَاظَه ، وغيَّظَه ، وأغَاظَه بمعنًى واحدٍ ، أي : أغضبه . وقرأ زيدُ بنُ عليّ « يُغِيظُ » بضمِّ الياءِ .
وقوله : { وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً } النَّيْلُ : مصدرٌ؛ فيحتمل أن يكون على بابه ، وأن يكون واقعاً موقع المفعول به ، وليس ياؤه مبدلةً من « واو » كما زعم بعضهم ، بل نالهُ يَنولُه مادةٌ أخرى ، وبمعنى آخر ، وهو « المناولة » ، يقال : نِلْتُه أنوله ، أي : تناولتُه ، ونِلْتُه أنَالُهُ ، أي : أدركتُه .
والمعنى : ولا ينالهم من العدو أسراً ، أو قتلاً ، أو هزيمةً قليلاً كان أو كثيراً { إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ } أي كان ذلك قربة عند الله لهم .
قال قتادة : « هذا الحكم من خواص رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلَّف عنه إلاَّ بعذر » وقال ابنُ زيدٍ : هذا حين كان المسلمون قلّة فلمَّا كثروا نسخها الله بقوله : { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } . وقال عطيَّة : ما كان لهم أن يتخلفوا عن رسول الله إذا دعاهم ، وهذا هو الصحيحُ؛ لأنَّ إجابة الرَّسُولِ واجبة ، وكذلك غيره من الأئمة .
قال الوليدُ بنُ مسلم : سمعتُ الأوزاعيَّن وابن المباركِ ، وابن جابرٍ ، وسعيد بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية : إنَّها لأوّلِ هذه الأمَّةِ وآخرها ، وذلك لأنا لو سوَّغْنَا للمندوب أن يتقاعد لم يختص بذلك بعضٌ دون بعض فيؤدي ذلك إلى تعطيل الجهادِ .
قوله : { وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً } أي : تمرة فما فوقها ، وعلاقة سوط فما فوقها { وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً } قال الزمخشريُّ : « الوَادِي » : كل منفرجٍ بين جبال وآكام يكونُ منفذاً للسبيل ، وهو في الأصل فاعل من : ودَى ، إذا سَالَ ، ومنه « الوَدِيّ » . وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض . وجمع على « أوْدِيَة » ، وليس بقياس ، وكان قياسُه « الأوداي » ، ك « أواصل » جمع : « واصل » ، والأصلُ : ووَاصل ، قلبت « الواو » الأولى همزة . وهم قد يستثقلون واحده ، حتى قالوا : « أقَيْتُ » في « وَقيْتُ » . وحكى الخليل ، وسيبويه ، في تصغير واصل اسم رجل « أوَيْصِل » ، ولا يقولون غيره قال النَّحَّاسُ « ولا أعرفُ فاعلاً وأفعلة سواهُ » وقد استدركَ هذا عليه؛ فزادُوا : نَادٍ وأندية؛ وأنشدوا : [ الطويل ]
2859- وفِيهمْ مقامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمْ ... وأنديَةٌ ينْتَابُهَا القوْلُ والفِعْلُ
والنَّادي المجلسُ .
وقال الفرَّاءُ : إنَّه يجمع على « أوْدَاء » ك « صاحب وأصحاب » ؛ وأنشد لجرير : [ الوافر ]
2860- عَرَفتْ بِبُرقَةِ الأوْدَاءِ رَسْماً ... مُحِيلاً طَالَ عَهْدُكَ مِنْ رُسُومِ
وزاد الرَّاغبُ في « فاعل وأفْعِلَة » : « نَاجٍ وأنْجِيَة » فقد كمُلَتْ ثلاثةُ ألفاظٍ ، في « فاعل وأفْعِلَة » . ويقالُ : أوداه : أي : أهلكه؛ كأنهم تصَوَّرُوا منه إسالة الدَّم . وسمي الدِّية ديةً؛ لأنَّها في مقابلة إسالة الدَّم . ومنه « الوَدْيُ » وهو ماءُ الفَحْل عند المداعبة ، وما يخرجُ عند البول ، و « الوَدِيُّ » بكسر الدال وتشديد الياء : صغار النَّحل .
قوله : « إلاَّ كُتِبَ » هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من « ظَمَأ » وما عطف عليه أي : لا يصيبهم ظمأٌ إلا مكتوباً . وأفرد الضَّمير في « به » ، وإن تقدَّمته أشياء ، إجراء للضمير مجرى اسم الإشارة ، أي : كُتبَ لهم بذلك عملٌ صالحٌ .
قال ابنُ عبَّاسٍ : بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعين ألف حسنةٍ .
وقوله : « إِلاَّ كُتِبَ » كنظيره . يُحتمل أن يعُود على العمل الصالح المتقدم ، وأن يعود على أحد المصدرين المفهومين من « يُنفقُونَ » و « يقْطَعُونَ » ، أي : إلاَّ كتب لهم الإنفاق أو القطع . وقوله : « ليَجْزيهُم » متعلق ب « كُتِبَ » وقوله : { أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } فيه وجهان :
الأول : أنَّ الأحسن من صفة فعلهم وفيها الواجب والمندوب والمباح ، واللهُ تعالى يجزيهم على الأحسنِ ، وهو الواجبُ والمندوب دون المباح .
والثاني : أن الأحسن صفةٌ للجزاء ، أي : يجزيهم جزاء هو أحسن من أعمالهم وأفضل ، وهو الثواب . روى خريم بن فاتك قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم « من أنفقَ نفقةً في سبيلِ اللهِ وكتب اللهُ لهُ سبعمائة ضعفٍ » .
قوله تعالى : { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } الآية .
يمكن أن يقال هذه الآية من بقيَّةِ أحكام الجهادِ ، ويمكن أن يقال إنَّهُ كلام مبتدأ لا تعلق لها بالجهادِ .
أمَّا الأول فنقل عن ابن عبَّاسٍ أنَّه عليه الصلاة والسلام كان إذا خرج إلى الجهاد لم يتخلَّف عنه إلاَّ منافق أو صاحب علة . فلمَّا بالغ الله تعالى في عيوب المنافقين في غزوة تبوك قال المؤمنون : والله لا نتخلَّف عن شيء من الغزوات مع الرسولِ ، ولا عن سرية . فلمَّا قدم الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - المدينة ، وأرسل السَّرايَا إلى الكُفَّار ، نفر المسلمون جميعاً إلى الغزو وتركوه وحدهُ بالمدينة؛ فنزلت هذه الآية . والمعنى : لا يجُوز للمؤمنين أن ينفروا كلهم إلى الجهاد ، بل يجبُ أن يصيروا طائفتين ، طائفةٌ تبقى في خدمة الرسول ، وطائفة أخرى تنفرُ للجهاد ، وذلك لأن الإسلام في ذلك الوقت كان محتاجاً إلى الجهاد ، وأيضاً كانت التَّكاليف والشَّرائع تنزلُ ، وكان بالمسلمين حاجة إلى من يكون مقيماً بحضرة الرسول - عليه الصلاة والسلام - يتعلَّم تلك الشرائع والتكاليف ، ويبلغها للغائبين ، وبهذا الطريق يتمُّ أمرُ الدِّين ، وعلى هذا القول ففيه احتمالان :
أحدهما : أن تكون الطَّائفة المقيمة هم الذين يتفقَّهُونَ في الدِّين لملازمتهم الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، ومشاهدتهم التنزيل؛ فكُلما نزل تكليفٌ وشرع؛ عرفوه وحفظوه ، فإذا رجعت الطائفةُ النَّافرة من الغزو؛ أنذرتهم المقيمة ما تعلموه من التَّكاليف والشرائع ، وعلى هذا فلا بد من إضمار ، والتقدير : فلولا نفر من كلِّ فرقة منهم طائفة وأقامت طائفة لتفقه المسلمين في الدين ، ولينذروا قومهم ، يعني النافرين إلى الغزو إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون معاصي الله تعالى .
والاحتمال الثاني : أنَّ التفقهة صفة للطائفة النافرة قاله الحسنُ . والمعنى : فلولا نفر من كُلِّ فرقة منهم طائفة حتى تصير هذه الطائفة النافرة فقهاء في الدين ، أي : أنهم إذا شاهدوا ظهور المسلمين على المشركين ، وأنَّ العدد القليل منهم يغلبون العالم من المشركين؛ فيتبصروا ويعلموا أن ذلك بسبب أنَّ الله تعالى خصهم إلى قومهم من الكُفَّار أنذروهم بما شاهدوا من دلائل النصر ، والفتح ، والظفر ، لعلهم يحذرون؛ فيتركوا الكفر والنفاق .
وأما الثاني : وهو أن هذا حكم مبتدأ؛ فتقريره أنَّ الله تعالى ، لمَّا بيَّن في هذه السورة أمر الهجرة ، ثم أمر الجهاد ، وهما عبادتان بالسَّفر ، بيَّن أيضاً عبادة التفقه من جهة الرَّسُول وله تعلق بالسفر ، فقال : { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } إلى حضرة الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - ليتفقهوا في الدِّين ، بل ذلك غيرُ واجب ، وليس حاله كحال الجهادِ مع الرسول الذي يجبُ أن يخرج فيه كل من لا عُذْرَ لهُ .
ثم قال : { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ } يعني من الفرق الساكنين في البلاد ، طائفة إلى حضرة الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - ليتفقهوا في الدِّين ، وليعرفوا الحلال والحرام ويعودوا إلى قومهم؛ فينذروا ويحذروا قومهم ، لكي يرجعوا عن كفرهم ، وعلى هذا فالمرادُ وجوب الخروج إلى حضرة الرَّسُول للفقه والتعلُّم .
فإن قيل : أفتدلُّ الآيةُ على وجوب الخروجِ للتفقه في كُلِّ زمان؟
فالجواب : متى عجز عن التفقه إلاَّ بالسَّفر؛ وجب عليه السَّفر ، وفي زمان الرسول - عليه الصلاة السلام - كان الأمر كذلك؛ لأنَّ الشريعة ما كانت مستقرة ، بل كان يحدث كل يوم تكليف جديد ، وشرع حادث . وأمَّا الآن فقد صارت الشريعة مستقرة؛ فإذا أمكنه تحصيل العلم في الوطن لم يجب السَّفرُ .
قوله : { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ } « لولا » تحضيضية ، والمرادُ به الأمر؛ لأنَّ « لوْلاَ » إذا دخل على الفعل كان بمعنى التحضيض مثل « هَلاَّ » ؛ لأنَّ « هَلاَّ » كلمتان « هل » وهو استفهام وعرض؛ لأنك إذا قلت للرَّجُلِ : هل تأكلُ؟ فكأنَّك عرضت ذلك عليه ، و « لا » وهو جحد ، ف « هلاَّ » مركب من أمرين : العرض ، والجحد . فإذا قلت : هلا فعلت كذا؟ فكأنك قلت : هل فعلت . ثم قلت معه « لا » أي : ما فعلت ، ففيه تنبيه على وجوب الفعل وتنبيه على أنه حصل الإخلال بهذا الواجب ، وهكذا الكلام في « لوْلا » لأنك إذا قلت : لوْلاَ دخلتَ عليَّ ، ولوْلا أكلتَ عِنْدِي ، فمعناه أيضاً عرض وإخبار عن سرورك به ، لو فعل ، وهكذا الكلام في « لوما » ومنه قوله : { لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة } [ الحجر : 7 ] ف « لَوْلاَ » ، و « هَلاَّ » و « لوْمَا » ألفاظ متقاربة ، والمراد بها : الترغيب والتحضيض . و « مِنْهُم » يجوزُ أن يكون صفةً ل « فِرْقَةٍ » ، وأن يكون حالاً من « طَائِفَةٌ » ؛ لأنَّها في الأصل صفة لها .
وعلى كلا التَّقديرين فيتعلقُ بمحذوف . والذي ينبغي أن يقال : إنَّ « مِن كُلِّ فرقةٍ » حال من « طَائفَةٌ » و « مِنْهُم » صفة ل « فِرْقَةٍ » . ويجوزُ أن يكون « مِن كُلِّ » متعلقاً ب « نفر » . وفي الضمير من قوله « لتفَقَّهُوا » قولان :
أحدهما : أنَّهُ للطَّائفة النَّافرة .
والثاني : للطائفة القاعدة ، والضَّمير في « رَجَعُوا » عائدٌ على النَّافرة . قال ابنُ العربي ، والقاضي أبو بكرٍ ، والشيخُ أبو الحسن : « إنَّ الطَّائفة ههنا واحد ، ويقضون على وجوب العملِ بخبر الواحد ، وهو صحيح ، لا من جهة أن الطائفة تطلق على الواحد ولكن من جهة أنَّ خبر الشخص الواحد أو الأشخاص خبر واحد ، وأنَّ مقابله وهو التَّواتر لا ينحصر » .
قال القرطبي : « أنص ما يستدل به على أنَّ الواحد يقال له : طائفة قوله تعالى : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] أي : نفسين ، بدليل قوله : { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } [ الحجرات : 10 ] فجاء بلفظ التثنية ، وأما الضمير في : » اقْتَتلُوا « وإن كان ضمير جماعة فأقل الجماعة اثنان في أحد القولين » .
فصل
دلَّت هذه الآيةُ على أنَّ خبر الواحد حجة ، وأنَّ كلَّ ثلاثة فرقة ، وقد أوجب الله تعالى أن يخرج من كلِّ فرقة طائفة ، والخارج من الثلاثة يكون اثنين ، أو واحداً؛ فوجب أن تكون الطائفة إمَّا اثنين أو واحداً ، ثم إنه تعالى أوجب العمل بأخبارهم ، لقوله « وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ » وهو عبارة عن أخبارهم . وقوله « لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ » إيجاب على قومهم أن يعملوا بأخبارهم ، وذلك يقتضي أن يكون خبر الواحد أو الاثنين حجة في الشرع .
قال القاضي : « لا تدل الآية على وجوب العمل بخبر الواحد؛ لأنَّ الطائفة قد تكونُ جماعة يقع بخبرها الحجة؛ ولأنَّ قوله : » وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ « يصجُّ وإن لم يجب القبول ، كما أنَّ الشَّاهدَ الواحد يلزمه الشهادة ، وإن لم يلزم القبول؛ ولأن الإنذار يتضمَّنُ التخويف ، وهذا العذرُ لا يقتضي وجوب العمل به » .
والجوابُ : أنَّا بينَّا أنَّ كل ثلاثة فرقة ، وقد أوجب الله أن يخرج من كل فرقة طائفة؛ فلزم كون الطائفة إما اثنين أو واحداً؛ فبطل كون الطائفة جماعة يحصلُ العلم بخبرهم ، فإن قيل : إنَّه تعالى أوجب العمل بقول أولئك الطوائف ، فلعلهم بلغُوا في الكثرة إلى حيث يحصلُ العلم بخبرهم .
فالجوابُ : أنه تعالى أوجب على كُلِّ طائفة أن يرجعوا إلى قومهم ، فاقتضى رجوع كل طائفة إلى قوم خاص ، ثم إنَّه تعالى أوجب العمل بقول تلك الطائفة ، وهو المطلوب .
وأمَّا قوله : « وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ » يصحُّ وإن لم يجب القبولُ؛ فالجوابُ : أنَّا لا نتمسَّكُ في وجوب العمل بخبر الواحد بقوله : « وليُنذِرُوا » بل بقوله : « لعَلَّهُم يَحْذرُون » فإنَّه ترغيبٌ منه تعالى في الحذرِ ، بناءً على أن ذلك الإنذار يقتضي إيجاب العمل على وفق ذلك الإنذار .
فصل
الفقه معرفة أحكام الدِّين ، وهو ينقسمُ إلى فرض عين ، وفرض كفاية ، ففرض العين مثل : علم الطهارة والصلاة والصوم ، فعلى كل مكلف معرفته ، قال عليه الصلاة والسلام « طلبُ العِلْمِ فريضَةٌ على كُلِّ مُسْلِمٍ » وكذلك كل عبادة أوجبها الشَّرع على كل واحد يجب عليه معرفة علمها مثل : علم الزكاة إن كان له مال ، وعلم الحج إن وجب عليه .
وأما فرض الكفاية ، فهو أن يتعلم حتى يبلغ رتبة الاجتهاد؛ فإذا قعد أهل بلد عن تعلمه عصوا جميعاً ، وإذا قام من كل بلد واحد بتعلمه سقط الفرض عن الآخرين ، وعليهم تقليده فيما يقع لهم من الحوادث ، قال عليه الصلاة والسلام : « فَضْلُ العَالم على العَابدِ كفَضْلِي على أدْنَاكُم » ، وقال عليه الصلاة والسلام « فقيهٌ واحدٌ أشَدُّ على الشَّيطانِ من ألْفِ عابدٍ » وتقدم الكلام على حد الفقه في اللغةِ في سورة النساء عند قوله { لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } [ النساء : 78 ] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار } الآية .
نقل عن الحسن أنَّه قال هذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال المشركين كافة . وأنكر المحقِّقُون هذا النسخ وقالوا : إنَّهُ تعالى لمَّا أمر بقتال المشركين كافة أرشدهم إلى الطَّريق الأصلح وهو أن يَبْتَدِئوا من الأقرب ، فالأقرب ، منتقلاً إلى الأبعدِ . ألا ترى أنَّ أمر الدعوةِ وقع على هذا الترتيب قال تعالى : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } [ الشعراء : 214 ] وأمر الغزوات وقع على هذا الترتيب؛ لأنَّه عليه الصلاة والسلام حارب قومه أولاً ، ثم انتقل إلى غزو سائر العربِ ، ثم انتقل إلى غزو الشَّام ، والصَّحابة لمَّا فرغوا من أمر الشَّام دخلوا العراق . والعلَّة في الابتداء بالأقرب وجوه :
أحدها : أنَّ مقابلة الكل دفعة واحدة متعذّر ، والكُلُّ متساوٍ في وجود القتال لما فيه من الكُفْرِ والمحاربة ، والجمع متعذِّر ، والقرب مرجح ظاهر كما في الدعوة .
وثانيها : أنَّ النفقات في الأقرب أقلّ ، والحاجة إلى الدواب والآلات أقلّ .
وثالثها : أن المجاهدين إذا تجاوزوا من الأقرب إلى الأبعد ، فقد عرضوا الذراري للفتنة ، وأموالهم إلى النهب .
ورابعها : أنَّ المجاورين لدار الإسلام إمَّا أن يكونوا أقوياء ضعفاء ، فإن كانوا أقوياء فتعرّضهم لدار الإسلام أشدّ وأكثر من تعرض الأبعد ، والشَّرُّ الأكثر أولى بالدفع ، وإن كان ضعفاء كان استيلاء المسلمين عليهم أسهل؛ فكأن الابتداء بهم أولى .
وخامسها : أن القريب يعلم أكثر من علم حال البعيد ، فيكون غزوه أسهل .
وسادسها : أنَّ دار الإسلام واسعة ، فإذا اشتغل أهلُ كل بلدٍ بقتال من يليهم من الكفار كانت المؤمنة أسهل .
وسابعها : أنَّهُ إذا اجتمع واجبات قدم أيسرها حصولاً .
وثامنها : ما تقدَّم من أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء في الدعوة بالأقرب ، وبالغزو بالأقرب ، وفي جميع المهمات كذلك . حتَّى إنَّ الأعرابي الذي جلس على المائدة ، وكان يمد يده إلى الجوانب البعيدة من تلك المائدة قال له عليه الصلاة والسلام « كُلْ مِمَّا يَليكَ » فدلت الآيةُ على أنَّ الابتداء بالأقرب واجبٌ .
فإن قيل : ربَّمَا كان التخطي من الأقرب إلى الأبعد أصلح؛ لأنَّ الأبعد يقع في قلبه أنما جاوز الأقرب؛ لأنَّهُ لا يقيمُ له وزناً .
فالجوابُ : أنَّ ذلك احتمالٌ واحد ، وما ذكرنا احتمالات كثيرة ، ومصالح الدنيا مبنيةٌ على ترجيح الأكثر مصلحة ، وهذا الذي قلناه إنَّما هو فيما إذا تعذَّر الجمعُ بين مقابلة الأقرب والأبعد وأما إذا أمكن الجمع بين الكل ، فالأولى هو الجمع .
قوله : « وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ » هو من باب : « لا أرينَّك ههنا » ، وتقدم شرحه [ الأنفال : 25 ] . « غِلْظَةً » قرأ الجمهور بكسر الغين ، وهي لغة أسد . وقرأ الأعمشُ ، وأبانُ بن تغلب ، والمفضَّلُ كلاهما عن عاصم بفتحها ، وهي لغة الحجاز . وقرأ أبُو حيوة ، والسُّلمي ، وابنث أبي عبلة والمفضل ، وأبانُ في رواية عنهما « غُلْظة » بالضَّم ، وهي لغةُ تميم ، وحكى أبُو عمرو اللغات الثلاث .
والغِلْظَة : أصلها في الأجْرَام ، فاستعيرت هنا للشِّدَّة والصَّبر والتَّجلد قال المفسرون : شجاعة ، وقيل : عنفاً ، وقيل : شدة . والغلظة ضد الرِّقة ، وفائدتها أنها أقوى تأثيراً في الزَّجْرِ ، والمنع عن القبيح ، وهذا غيرُ مطَّرد ، بل يحتاجُ تارة إلى الرِّفْقِ واللُّطفِ ، وتارة إلى العنف ، ولهذا قال : { وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } تنبيهاً على أنه لا يجوز الاقتصار على الغلظة ألبتة فإنَّه ينفرُ ويوجب تفرق القوم ، فقوله : { وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } يدلُّ على تقليل الغلظة ، كأنَّهُ قيل لا بد وأن يكونوا بحيثُ لو فتَّشُوا عن أخلاقكم ، وطبائعكم لوجدوا فيكم غلظة ، وهذا الكلامُ إنَّما يصحُّ فيمن أكثر أحواله الرحمة والرأفة؛ فلا يخلو عن نوع غلظة . وهذه الغلظةُ إنَّما تعتبرُ فيما يتعلَّق بالدَّعوة إلى الدِّين ، إمَّا بإقامة الحُجَّةِ ، وإمَّا بالقتال فأمَّا فيما يتعلقُ بالبيع ، والشراء ، ونحوه فلا .
ثم قال { واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } أي : بالفوز والنصر ، ويكون إقدامه على القتال بسبب تقوى الله لا بسبب طلب المال والجاه .
قوله تعالى { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ } الآية .
لمَّا ذكر مخازي المنافقين وأعمالهم القبيحة قال : { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ } « ما » صلة مؤكدة « فَمِنْهُم » أي : من المنافقين : « مَنْ يقُولُ » قيل : يقولُ بعضهم لبعض ، ليثبتوهم على النِّفاقِ وقيل : يقولونه لعوام المسلمين ، ليصرفوهم عن الإيمان ، وقيل : يقولون ذلك على سبيل الهزؤ .
قوله : « أيُّكُمْ » الجمهور على رفع « أيُّكُمْ » بالابتداءِ ، وما بعده الخبر . وقرأ زيدُ بنُ عليّ وعبيد بن عمير بالنصب ، على الاشتغال ، ولكن يُقدَّر الفعل . متأخراً عنه من أجلِ أنَّ لهُ صدر الكلام .
والنَّصب عند الأخفش في هذا النحو أحسنُ من الرفع؛ لأنَّهُ يجري اسم الاستفهام مجرى الأسماء المسبوقةِ بأداة الاستفهام ، نحو : أزيداً ضربته ، في ترجيح إضمار الفعلِ .
قوله : { فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً } أي : يقيناً وتصديقاً؛ لأنَّهُم يقرُّون بها ويعترفون بأنَّها حقٌّ من عند الله ، وتقدم الكلامُ في زيادة الإيمان ، ونقصانه في أول سورة الأنفال [ الأنفال : 2 ] ثم قال : { وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } أي : يفرحون بنزول القرآن ، وقيل : بثوابِ الآخرة ، وقيل : بالنَّصر والظفر . والاستبشار : استدعاء البشارة؛ لأنَّهُ كُلَّما يذكر النعمة حصلت البشارة فهو بالتذكر يطلب تجدُّد البشارة ، ثم جمع للمنافقين أمرين مقابلين للمذكورين في المؤمنين .
فقال : { وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي : شكٌّ ونفاق : { فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ } والمرادُ بالرِّجْسِ : إمَّا العقائد الباطلةُ ، وإما الأخلاقُ المذمومة ، فعلى الأول يكون المعنى : كانوا مكذبين بالسُّورِ النَّازلة قبل ذلك ، والآن صاروا مكذِّبين بهذه السُّورة الجديدة ، فقد انضمَّ كفرٌ إلى كفرٍ .
وعلى الثاني : أنَّهم كانُوا في الحسد والعداوة واستنباط وجوه المكر والكيد ، والآن زادت تلك الأخلاق الذَّميمة بسبب نزول هذه السُّورة الجديدة .
والأمر الثاني : أنَّهم يموتون على كفرهم ، وهذه الحالة مضادة للاستبشار الذي حصل في المؤمنين ، وهذه الحالة أقبحُ من الحالةِ الأولى؛ لأنَّ الحالة الأولى عبارة عن ازدياد الرَّجاسة وهذه الحالة عبارة عن مداومة الكُفْرِ وموتهم عليه .
قال مجاهدٌ : « في هذه الآية الإيمان يزيدُ وينقصُ ، وكان عمر يأخذُ بيد الرَّجُلِ والرجلين من أصحابه فيقولُ تعالوا نزداد إيماناً ، وقال عليُّ بن أبي طالبٍ : إنَّ الإيمان يبدو نقطة بيضاء في القلب ، وكلما ازداد الإيمان عظماً ازداد ذلك البياضُ حتَّى يبيضَّ القلب كله وأيْمُ الله لو شققتم عن قلبِ المؤمنِ لوجدتموه أبيضَ ، ولو شققتم عن قلب المنافق لوجدتموه أسود .
قوله : » أَوَلاَ يَرَوْنَ « قرأ حمزة ، ويعقوب بتاء الخطابِ ، وهو خطابُ للذينَ آمنُوا والباقون بياءِ الغيبة ، رجُوعاً على { الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } . والرُّؤية هنا تحتمل أن تكون قلبية وأن تكون بصريةً . قال الواحديُّ : قوله : » أولا تَروْنَ « هذه ألف الاستفهام دخلت على » واو « العطف ، فهو متصل بذكر المنافقين ، وهو خطاب على سبيل التنبيه قال سيبويه عن الخليلِ في قوله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً } [ الحج : 63 ] المعنى : أنزل الله من السماءِ ماء؛ فكان كذا وكذا .
قوله : { أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ } أي : يبتلون » في كُلِّ عام مرَّةً أو مرَّتين « بالأمراض والشدائد . » ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ « عن ذلك النِّفاق ، ولا يتَّعظُون كما يتَّعظُ المؤمنُ إذا مرض ، فإنَّهُ يتذكَّرُ ذنوبه ، وموقفه بين يدي الله ، فيزيده ذلك خوفاً وإيماناً ، قاله ابنُ عبَّاسٍ . وقال مجاهدٌ : يفتنون بالقحطِ والشِّدة والجوع . وقال قتادة : بالغزو والجهاد؛ لأنَّهُم إذا تخلَّفوا وقعوا في ألسنة النَّاس باللَّعْن والخزي والذكر القبيح ، وإن ذهبوا إلى الغزو مع كونهم كافرين فقد عرَّضُوا أنفسهم للقتل وأموالهم للنَّهْبِ من غير فائدة . قال مقاتل : يفضحون بإظهار نفاقهم . وقال عكرمةُ : ينافقون ثم يؤمنون ثم ينافقون . وقال يمان : ينقضون عهدهم في السَّنة مرة أو مرتين » ثُمَّ لا يتوبُونَ « من نقض العهدِ ، ولا يرجعون إلى الله من النِّفاقِ؛ » وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ « أي : لا يتَّعظُون بما يرونَ من تصديق وعد الله بالنَّصر والظفر للمسلمين .
قوله تعالى : { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ } الآية .
هذا نوع آخر من مخازي المنافقين ، وهو أنَّهُ كلما نزلت سورة مشتملة على شرح فضائح المنافقين وسمعوها تأذّوا من سماعها ، ونظر بعضهم إلى بعض نظراً مخصوصاً دالاً على الطَّعْن في تلك السُّورة والاستهزاء بها ، وتحقير شأنها ، ويحتملُ أنَّهُمْ كانوا يستحقرون القرآن كُلَّهُ؛ فكلما سمعوا سورة ، استهزءوا بها وطعنوا فيها ، وضحكوا وتغامزوا ، وقيل : نظر بعضهم إلى بعض يريدون الحرب .
قوله : { هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ } في محل نصب بقول مضمر ، أي : يقولون : هل يراكم ، وجملةُ القول في محل نصب على الحال ، و » مِنْ أحَدٍ « فاعل .
والمعنى : أنَّهم عند سماع تلك السُّورةِ يتأذون ، ويريدون الخروج من المسجد ، يقول بعضهم لبعض { هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ } من المؤمنين إن قمتم ، فإن لم يراهم أحد خرجوا من المسجد وإن علموا أنَّ أحداً يراهم أقاموا وثبتوا . وقيل : إنهم كانُوا إذا نزلت سورةٌ اشتدَّ كفرهم ونفاقهم ، وذلك النظر دالٌّ من الإنكار الشديد ، والنفرة التامة ، فخافوا أن يرى أحد من المسلمين ذلك النَّظر وتلك الأحوال الدَّالة على النِّفاقِ والكفر؛ فعند ذلك قالوا : { هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ } أي : لو رآكم أحد على هذا النظر وهذا الشكل لضركم جدّاً .
ثم قال تعالى : { صَرَفَ الله قُلُوبَهُم } قال ابنُ عبَّاسٍ : عن كل رشد وخير وهدى وقال الحسن : طبع الله على قلوبهم . وقال الزجاج « أضلهم اللهُ تعالى مجازاةً على فعلهم » . ذلك : { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون } عن الله دينه . قال ابنُ عبَّاسٍ : لا تقولُوا إذا صليتم انصرفنا من الصلاة فإنَّ قوماً انصرفوا؛ فصرف اللهُ قلوبهم ، ولكن قولوا : قد قضينا الصلاة . والمقصود : التفاؤل بترك هذه اللَّفظة الواردة فيما لا ينبغي ، والتَّرغيب في تلك اللفظةِ الواردة في الخير قال تعالى : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة } [ الجمعة : 10 ] .
قوله تعالى : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } الآية .
لمَّا أمر رسوله - عليه الصلاة والسلام - أن يبلغ التكاليف الشاقَّة في هذه السورة إلى الخلق وهي مما يعسر تحملها؛ إلاَّ لمن خصَّه الله بالتوفيق ، ختم هذه السورة بما يوجب سهولة تحمل تلك التكاليف ، وهو أنَّ هذا الرسول منكم؛ فكلُّ ما يحصلُ له من العزّ والشَّرف ، فهو عائدٌ إليكم فهو كالطبيب المشفق ، والأب الرحيم في حقكم ، وإن كان كذلك صارت تلك التكاليف ، وتلك التأديبات جارية مجرى الإحسان .
قوله « مِّنْ أَنفُسِكُمْ » صفة ل « رسُول » أي : من صميم العربِ . قال ابنُ عباسٍ : ليس من العرب قبيلة إلاَّ وقد ولدت النبي صلى الله عليه وسلم وله فيهم نسب . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « مَا ولدَنِي مِنْ سفاحِ أهْلِ الجاهليَّة شيءٌ ، ما ولدَنِي إلاَّ نكاحٌ كنِكَاحِ الإِسلامِ » .
وقرأ ابنُ عبَّاسٍ ، وأبو العالية ، والضحاك ، وابن محيصن ، ومحبوب عن أبي عمرو ، والزهري ، وعبدُ الله بن قسيط المكي ، ويعقوبُ من بعض طرقه ، وهي قراءةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة ، وعائشة بفتح الفاء ، أي : من أشْرفكُم ، من النَّفاسة .
فصل
اعلم أنه تعالى وصف الرسول في هذه الآية بخمس صفات ، أولها : قوله « مِنْ أنفُسِكُم » وفيه وجوه : أحدها : ما تقدم عن ابن عباس ، والمراد منه : ترغيب العرب في نصرته والقيام بخدمته ، أي : كلّ ما يحصل له من الدولة والرفع في الدنيا ، فهو سبب لعزكم ، فإنه منكم ، ومن نسبكم . وثانياً : يريد أنه بشر مثلكم ، كقوله
{ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ } [ يونس : 2 ] وقوله : { إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } [ الكهف : 110 ] والمعنى : أنه لو كان من جنس الملائكة لصعب الأمر بسببه على النَّاسِ ، كما قرر في الأنعام .
وثالثها : أنَّ هذا خطاب لأهل الحرم؛ لأن العرب كانوا يسمون أهل الحرم أهل الله وخاصته ، وكانوا يخدمونهم ، فكأنه قيل للعرب : كنتم قبل مقدمه مجتهدين في خدمة أسلافه ، فلم تتكاسلوا عن خدمته مع أنَّهُ أعلى في الشَّرفِ من أسلافه .
والصفة الثانية : قوله « عَزِيزٌ » فيه أوجه :
أحدها : أنَّهُ صفة ل « رسُول » ، وفيه أنه تقدَّم غيرُ الوصف الصَّريح على الوصف الصَّريح .
وقد يجاب بأنَّ « مِنْ أنفُسِكُم » متعلق ب « جَاءَ » و « ما » يجوزُ أن تكون مصدرية ، أو بمعنى « الذي » .
وعلى كلا التقديرين فهي فاعل ب « عَزِيز » ، أي : يعزُّ عليه عنتُكم ، أو الذي عنتُّمُوهُ ، أي : عنتُهم يُسيئه ، فحذف العائد على التدرج؛ وهذا كقوله : [ الوافر ]
2861- يَسُرُّ المَرْء ما ذهبَ اللَّيَالِي ... وكانَ ذهَابُهُنَّ لهُ ذَهَابَا
أي : يَسُرُّه ذهاب الليالي . ويجوز أن يكون « عزيزٌ » خبراً مقدماً ، و « مَا عَنتُّمْ » مبتدأ مؤخراً والجملةُ صفة ل « رسُول » وجوَّزَ الحوفي : أن يكون « عزيزٌ » مبتدأ ، و « ما عنتم » خبره وفيه الابتداء بالنَّكرةِ؛ لأجْلِ عملها في الجارِّ بعدها . وتقدَّم معنى { العنت } [ النساء : 25 ] . والأرجح أن يكون « عَزيزٌ » صفة ل « رسُولٌ » لقوله بعد ذلك « حَرِيصٌ » فلم يجعل خبراً لغيره وادِّعاءُ كونه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو حريصٌ ، لا حاجة إليه . قال الفرَّاءُ : « ما » في قوله : « مَا عنِتُّم » في موضع رفع ، أي : عزيز عليه عنتكم ، أي : يشقُّ عليه مكروهكم . وقال القتيبيُّ : ما أعنتكم وضركم . وقال ابن عباس : ما ضللتم . وقال الضحاكُ والكلبيُّ : ما آثمكم .
والصفة الثالثة : قوله : « حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ » والحريص يمتنع أن يكون متعلقاً بذواتهم ، بل المراد حريص على إيصال الخيراتِ إليكم في الدُّنيا والآخرة ، وعلى هذا التقدير يكونُ قوله : { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } أي : شديد معزَّته عن وصول شيء من آفات الدنيا والآخرة إليكم؛ لأنَّ العزيز هو الغالب الشَّديد ، وبهذا التقدير لا يحصلُ التَّكرار .
والصفة الرابعة والخامسة قوله : { بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } « بالمُؤمنينَ » متعلقٌ ب « رَءُوفٌ » ولا يجوز أن تكون المسألةُ من التنازع؛ لأنَّ شرطه تأخُّر المعمول عن العاملين ، وإن كان بعضهم قد خالف ، ويجيزُ : زيداً ضربتُ وشتمته ، على التَّنازع .
وإذا فرَّعنا على هذا الضعيف ، فيكون من إعمال الثاني ، لا الأول ، لما عُرف أنَّهُ متى أعمل الأوَّلُ أضمر في الثاني من غير حذف .
فصل
قال ابن عباس : سمَّاه الله تعالى ههنا باسمين من أسمائه . والمعنى : رءوفٌ بالمطيعين .
فإن قيل : كيف يكون كذلك ، وقد كلَّفهم في هذه السُّورة بأنواعٍ من التَّكاليفِ الشَّاقَّة التي لا يقدرُ على تحملها إلا من وفقه الله تعالى .
فالجوابُ : قد ضربنا لهذا المعنى مثل الطبيب الحاذق ، والأدب المشفق ، والمعنى : أنه فعل بهم ذلك ليتخلَّصُوا من العقاب المؤبد ، ويفُوزُوا بالثَّواب المؤبد .
فإن قيل : لمَّا قال : { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } فهذا النَّسق يوجب أن يقال : رءوف رحيم بالمؤمنين ، فلم ترك هذا النسق وقال : { بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } .
فالجواب : أنَّ هذا يفيد الحصر ، أي : لا رأفة ولا رحمة إلا بالمؤمنين . فأما الكفار فليس له عليهم رأفة ولا رحمة ، وهذا كالمتمم لقدر ما ورد في هذه السورة من التَّغليظِ ، كأنَّهُ يقول : إنِّي وإن بالغت في التَّغليظِ في هذه السُّورة ، إلاَّ أنَّ ذلك التَّغليظ على الكُفَّارِ والمنافقين ، وأما رحمتي ، ورأفتي فمخصوصة بالمؤمنين .
قوله تعالى : { فَإِن تَوَلَّوْاْ } يعني : المشركين والمنافقين ، أي : أعرضوا عنك وقيل : تولوا عن طاعة الله وتصديق الرَّسُولِ - عليه الصلاة والسلام - وقيل : تولوا عن قبول التكاليف الشاقة المذكورة في هذه السُّورة . وقيل : تولوا عن نصرتك في الجهاد . { فَقُلْ حَسْبِيَ الله لاا إله إِلاَّ هُوَ } والمرادُ : أنَّه لا يدخل في قلب الرسول حزن ولا أسف؛ لأنَّ الله حسبه وكافيه في نصره على الأعداء . « عليْهِ توكَّلتُ » أي : لا أتوكل إلاَّ عليه : { وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم } .
فإن قيل : العرشُ غير محسوس ، فلا يعرف وجوده إلاَّ بعد ثُبوتِ الشريعةِ ، فكيف يمكنُ ذكره في معرض شرح عظمة الله تعالى؟ .
فالجواب : وجود العرش أمرٌ مشهورٌ ، والكفار سمعوه من اليهود والنصارى وأيضاً لا يبعد أنَّهُم كانوا قد سمعُوهُ من أسلافهم .
وقرأ الجمهور بجرِّ الميم من « العَظيمِ » صفة للعرش . وقرأ ابنُ محيصنٍ برفعها نعتاً للرب ورويت هذه قراءة عن ابن كثير . قال أبو بكر الأصم : « وهذه القراءة أعجبُ إليَّ؛ لأنَّ جعل » العظيم « صفة لله تعالى أولى من جعله صفة للعرش » وأيضاً قال « فإن جعلناه صفة للعرش ، كان المراد من كونه عظيماً كبر جثته وعظم حجمه واتساع جوانبه على ما ذكر في الأخبار وإن جعلناه صفة لله تعالى كان المرادُ من العظمة وجوب التقديس عن الحجمية والأجزاء والأبعاض ، وكمال العلم والقدرة ، وكونه منزَّهاً عن أن يتمثل في الأوهام ، أو اتصل إليه الأفهام » .
فصل
روي عن أبيّ بن كعب والحسن قالا : آخر ما نزل من القرآن هاتان الآيتان : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [ التوبة : 128 ] إلى آخرها . وقال أبي بن كعب : « هما أحدث الآيات بالله عهداً » وفي رواية : « أقرب القرآنِ من السَّماءِ عهداً » وهو قول سعيد بن جبير .
وقيل : آخر ما نزل من القرآن قوله تعالى : { واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله } [ البقرة : 281 ] .
قال القرطبي « يحتمل أن يكون قول أبيّ : أقرب القرآن من السماء عهداً بعد قوله » واتقوا يَوْماً « والله أعلمُ .
ونقل عن حذيفة أنَّهُ قال : أنتم تسمُّون هذه السورة بالتوبة وهي سورة العذاب ، ما تركت أحداً إلاَّ نالتْ منه « .
قال ابنُ الخطيبِ : » وهذه الرواية يجب تكذيبها؛ لأنَّا لو جوزنا ذلك؛ لكان ذلك دليلاً على تطرُّق الزيادة والنقصان إلى القرآن وهو باطلٌ « .
وروت عائشة قالت : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : » إنَّه ما نزل عليَّ القرآنُ إلاَّ آيةً آيةً وحَرْفاً حَرْفاً ما خلا سُورة براءة ، و { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] فإنَّما نزلتَا عليَّ ومعهما سَبْعُونَ ألف صف مِنَ الملائكةِ كُلُّهُم يقُولُ : يا مُحمدَّدُ استوصِ بنسبةِ اللهِ خَيْراً « .
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)
قوله : بسم الله الرحمن الرحيم « الر » تقدم الكلامُ على الحروف المقطعة في أول الكتاب ، واختلافُ القُرَّاء في إمالة هذه الحروف إذا كان في آخرها ألفٌ ، وهي : را ، وطا ، وها ، ويا ، وحا . فأمال « را » من جميع سورها إمالة محضة الكوفيون إلا حفصاً ، وأبو عمرو وابن عامر . وأما الأخوان وأبو بكر « طا » من جميع سورها نحو : { طس } [ النمل : 1 ] ، { طسم } [ الشعراء : 1 ] ، { طه } [ طه : 1 ] ، و « يا » من « يس » ، وافقهم ابنُ عامر ، والسوسي على « يا » من { كهيعص } [ مريم : 1 ] ، بخلاف عن السوسي . وأمال الأخوان وأبو عمر ، وورش ، وأبو بكر « ها » من « طه » ، وكذلك أمالها من « كهيعص » أبو عمرو ، والكسائي ، وأبو بكر دون حمزة وورش .
وأمال أبو عمرو ، وورش ، والأخوان ، وأبو بكر ، وابن ذكوان « حا » من جميع سورها السبع [ غافر : 1 ] . إلاَّ أن أبا عمرو ، وورشاً يميلان بين بين ، وللقرَّاء في هذا عمل كثير مذكورٌ في كتب القراءات ، وكلُّها لغات صحيحةٌ .
قال الواحدي : « الأصلُ ترك الإمالة في هذه الكلمات نحو » مَا « و » لا « ؛ لأن ألفاتها ليست منقلبة عن الياء ، وأمَّا من أمال فلأنَّ هذه الألفاظ أسماء للحروف المخصُوصة ، فقصد بذكر الإمالة التَّنبيه على أنَّها أسماء لا حروف » .
فصل
اتفقوا على أنَّ قوله « الر » وحده ليس آية ، واتفقوا على أنَّ قوله « طه » وحده آية ، والفرق أن قوله « الر » لا يشاكل مقاطع الآي التي بعده ، بخلاف قوله « طه » فإنه يشاكل مقاطع الآي التي بعده .
قال ابن عبَّاس والضحاك : « الر » معناه : أنا الله أرى ، وقيل : أنا الربُّ لا ربَّ غيري . وقال سعيد بن جبير : « الر » و « حم » و « ن » حروف اسم الرحمن مُفرقة ، ورواه أيضاً يزيد عن عكرمة عن ابن عبَّاس . قال الرَّاوي : فحدَّثت به الأعمش فقال : « عندك أشباه هذا ولا تخبرني به » .
قوله : { تِلْكَ آيَاتُ الكتاب } « تلك » يحتمل أن تكون إشارة إلى آيات هذه السورة ، وأن تكون إشارة إلى ما تقدَّم هذه السورة من آيات القرآن ، لأن « تلك » إشارة إلى غائبٍ مؤنَّث ، وقيل : « تلك » بمعنى « هذه » أي : هذه آياتٌ ، ومنه قول الأعشى : [ الخفيف ]
2862- تِلْكَ خَيْلِي منهُ وتِلْكَ رِكابِي ... هُنَّ صُفْرٌ أولادُهَا كالزَّبيبِ
أي : هذه خَيْلِي ، وهذه رِكَابِي .
« والكتاب » : يحتمل أن يكون المراد به القرآن ، ويحتمل أن يراد به الكتاب المخزون المكنون عند الله تعالى الذي نسخ منه كل كتاب ، لقوله : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ }
[ الواقعة : 77 ، 78 ] ، وقوله : { وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا } [ الزخرف : 4 ] ، وقوله : { وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } [ الرعد : 39 ] . وقيل : المراد من « الكتابِ الحكيمِ » : التوراة والإنجيل ، والتقدير : إنَّ الآيات المذكورة في هذه السُّورة هي الآيات المذكورة في التوراة والإنجيل ، والمعنى : إنَّ القصص المذكُورة في هذه السُّورة موافقة للقصص المذكورة في التوراة والإنجيل ، فحصول هذه الموافقة في هذه السورة موافقة للقصص لا يمكن إلا إذا خص الله محمداً بإنزال الوحي عليه ، وقال أبُو مسلم : قوله « تِلْكَ » إشارة إلى حروف التهجِّي ، فقوله : { الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب } يعني : أنَّ هذه الحروف هي الأشياء التي جعلت آيات وعلامات لهذا الكتاب الذي وقع به التَّحدِّي ، فلولا امتياز هذا الكتاب عن كلام النَّاسِ بالوصف المعجز ، وإلا لكان اختصاصُه بهذا النظم دون سائر النَّاس القادرين على التَّلفُّظ بهذه الحروف محالاً .
قوله : « الحكيم » قيل : ذُو الحكمة ، بمعنى اشتمال الكتاب على الحكمة . وقيل : وصف الكتاب بصفة من تكلم به؛ كقول الأعشى : [ الكامل ]
2863- وغريبةٍ تَأتِي المُلُوكَ حَكيمَةٍ ... قَدْ قُلْتُهَا ليُقالَ : مَنْ ذَا قالهَا؟
فيكون « فعيل » بمعنى « مُفْعَلٍ » .
وقال الأكثرون : « الحَكِيم » بمعنى الحاكم ، « فعيل » بمعنى « فاعل » ؛ لقوله تعالى { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس } [ البقرة : 213 ] وقيل : بمعنى : المُحْكَم ، « فَعِيل » بمعنى « مُفْعَل » ، أي : محكم ، والمحكم معناه : المنع من الفساد ، فيكون المعنى : لا تُغَيِّرهُ الدُّهور ، والمراد : براءته عن الكذب والتناقض . وقال الحسن « حكم فيه بالعدل والإحسان ، وإيتاء ذي القُربى ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، وحكم فيه بالجنَّة لمنْ أطاعهُ ، وبالنَّار لمن عصاه » .
فعلى هذا « الحَكيم » يكون بمعنى المحكُوم فيه . وقيل : « الحَكِيم » في أصل اللغة : عبارة عن الذي يفعل الحِكْمَة والصواب ، فمن حيث إنَّه يدل على هذه المعاني صار كأنَّه هُوَ الحكيم في نفسه .
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
قوله : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ } الهمزة للإنكار ، و « أَنْ أَوْحَيْنَآ » « أن » والفعل في تقدير المصدر وهو اسم « كان » ، و « عَجَباً » خبرها ، و « للنَّاس » متعلِّق بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من « عَجَباً » لأنه في الأصل صفة له ، أو متعلِّقٌ ب « عَجَباً » ، ولا يضُرُّ كونه مصدراً؛ لأنَّه يُتَّسع في الظرف وعديله ما لا يُتَّسع في غيرهما . وقيل : لأنَّ « عَجَباً » مصدرٌ واقعٌ موقع اسم الفاعل أو اسم المفعول ، ومتى كان كذلك جاز تقديمُ معموله . وقيل : هو متعلِّق ب « كَانَ » النَّاقصة ، وهذا على رأي مَنْ يُجيز فيها ذلك . وهذا مرتَّبٌ على الخلاف في دلالة « كان » النَّاقصة على الحدث ، فإن قلنا : إنَّها تدلُّ على ذلك فيجُوزُ وإلاَّ فلا . وقيل : هو متعلِّقٌ بمحذوفٍ على التَّبيين ، والتقدير في الآية : أكان إيحاؤنا إلى رجُلٍ منهم عجباً لهم . و « منهم » صفة ل « رجُل » .
وقرأ رُؤبة « رَجْل » بسكون الجيم ، وهي لغة تميم ، يُسَكِّنُون « فَعُلاً » نحو : سبع وعضد .
وقرأ عبدالله بن مسعود « عَجَبٌ » . وفيه تخريجان ، أظهرهما : أنَّها التَّامة ، أي : أحدث للنَّاس عجب و « أنْ أوْحَيْنَا » متعلِّق ب « عجب » على حذف لامِ العلَّة ، أي : عجبٌ ل « أنْ أوْحَيْنَا » ، أو يكون على حذف « مِنْ » ، أي : مِنْ أنْ أوحينا . والثاني : أن تكون الناقصة ، ويكون قد جعل اسمها النَّكرة وخبرها المعرفة ، على حدِّ قوله : [ الوافر ]
2864- . . ... يكُونُ مزاجها علسلٌ ومَاءُ
وقال الزمخشري : والأجودُ أن تكون التَّامة ، و « أنْ أوحَيْنَا » : بدلٌ من « عَجَبٌ » . يعني به بدل اشتمال أو كل من كل ، لأنه جعل هذا نفس العجب مبالغة ، والتخريج الثاني لابن عطيَّة .
فصل
التعجُّب : حالة تعتري الإنسان من رؤية شيء على خلاف العادة ، وسبب نزول هذه الآية : أنَّ الله - تعالى - لمَّا بعث محمَّداً صلى الله عليه وسلم رسولاً ، تعجَّب كفار قريش وقالوا : إنَّ الله أعظم من أن يكون رسُوله بشراً ، فأنكر الله عليهم ذلك التعجُّب ، أما بيان تعجُّبهم من تخصيص محمَّدٍ بالرسالة فمن وجوه :
الأول : قوله تعالى : { وعجبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ } [ ص : 4 ] إلى قوله : { إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ ص : 5 ] .
والثاني : أن أهل مكَّة كانوا يقولون : إنَّ الله تعالى ما وجد رسُولاً إلى خلقه إلا يتيم أبي طالب .
والثالث : أنهم قالوا : { لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] ؛ فأنرك الله عليهم هذا التعجُّب بقوله { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ } فلفظه استفهام؛ ومعناه الإنكار لأنْ يكون ذلك عجباً ، والمراد ب « النَّاس » : أهل مكة ، والألف فيه للتوبيخ .
فإن قيل : لِمَ لَمْ يقل : أكان عند الناس عجباً ، بل قال : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً } ؟ .
فالجواب : أن قوله : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً } معناه أنهم جعلوه لأنفسهم أعجوبة يتعجَّبُون منها ، وعيَّبوه ونصَّبُوه للاستهزاء والتعجُّب إليه وليس في قوله : « أكان عند النَّاس عجباً » هذا المعنى .
وقوله : { أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم .
قوله : { أَنْ أَنذِرِ الناس } يجوز أن تكون المصدريَّة ، وأن تكون التفسيريَّة ، ثم لك في المصدريَّة اعتباران :
أحدهما : أن تجعلها المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الأمر والشَّأن محذوف .
كذا قال أبو حيَّان ، وفيه نظرٌ من حيث إنَّ أخبارَ هذه الحروف لا تكون جملة طلبيَّة ، حتى لو ورد ما يوهمُ ذلك يُؤوَّلُ على إضمار القول؛ كقول الشاعر : [ البسيط ]
2865- ولوْ أصَابَتْ لقالتْ وهيَ صَادِقَةٌ ... إِنَّ الرِّياضَةَ لا تُنْصِبْكَ للشَّيبِ
وقول الآخر : [ البسيط ]
2866- إنَّ الذينَ قَتَلْتُمْ أمسِ سيِّدهُمْ ... لا تَحْسَبُوا ليْلَهُمْ عنْ ليْلِكُمْ نَامَا
وأيضاً فإنَّ الخبر في هذا الباب إذا وقع جملة فعلية ، فلا بد من الفصل بأشياء تقدَّمت في المائدة . ولكن ذلك الفاصل هنا متعذِّرٌ .
والثاني : أنَّها التي بصدد أن تنصب الفعل المضارع ، وهي توصل بالفعل المتصرِّف مطلقاً ، نحو : « كَتبتُ إليْه بأنْ قُمْ » . وقد تقدم البحث في [ النساء66 ] ، ولم يذكر المنذرُ به وذكر المُبَشَّرَ به؛ لأنَّ المقام يقتضي ذلك ، وقدَّم الإنذار على التَّبشير ، لأنَّ إزالة ما لا ينبغي مقدَّم في الرتبة على ما لا ينبغي ، والإنذار للكفَّار والفساق ليرتدعوا عن فعل ما لا ينبغي ، والتَّبشير لأهلِ الطَّاعةِ؛ لتقوى رغبتهم فيها .
قوله : { أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ } « أنَّ » وما في حيَّزها هي المُبشَّرُ بها ، أي : بشِّرهُم باستقرارِ قدمِ صدْق ، فحذفت الباءُ ، فجرى في محلِّها المذهبان ، والمرادُ ب « قدم صِدْقٍ » : السابقةُ والفضلُ والمنزلةُ الرَّفيعة ، وإليه ذهب الزجاج والزمخشريُّ؛ ومنه قولُ ذِي الرُّمَّة : [ الطويل ]
2867- لَكُم قدمٌ لا يُنْكِرُ النَّاسُ أنَّهَا ... مَعَ الحسَبِ العَاديِّ طمَّتْ على البَحْرِ
لمَّا كان السعي والسبقُ بالقدم سُمِّي السَّعي المحمود قدماً ، كما سُمِّيت اليدُ نعمةً لمَّا كانت صادرةً عنها ، وأضيف إلى الصدق دلالةً على فضله ، وهو من باب « رجُلُ صدقٍ ، ورجلُ سوءٍ » .
وقيل : هو سابقةُ الخير التي قدَّمُوها؛ ومنه قول وضَّاح اليمن : [ المنسرح ] .
2868- مَالكَ وضَّاحُ دَائِمَ العَزَلِ ... ألَسْتَ تَخْشَى تقارُبَ الأجَلِ
صلِّ لذي العَرْشِ واتَّخِذْ قَدَماً ... يُنْجِيكَ يَوْمَ العَثَارِ والذَّلَلِ
وقيل : هو التقدُّم في الشرف؛ ومنه قول العجَّاج : [ الرجز ]
2869- ذَلَّ بنُو العوَّامِ عنْ آلِ الحَكَمْ ... وتَرَكُوا المُلْكَ لملكٍ ذي قَدَمْ
أي : ذي تقدُّم وشرف .
قال ابن عبَّاس : أجراً حسناً بما قدَّمُوا من أعمالهم ، وروى عليُّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هو السعادة في الذكر الأول .
وقال زيد بن أسلم : هو شفاعة الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - .
وقال عطاء : مقام صدق ، لا زوال له ، ولا بؤس فيه . وأضيف القدمُ إلى الصِّدق وهو نعته ، كقولهم : مَسْجِد الجَامِع ، { وَحَبَّ الحصيد } [ ق : 9 ] .
وقال أبُو عبيد : كل سابق في خير أو شرٍّ فهو عند العرب قدم ، يقال لفُلان قدم في الإسلام ، وله عندي قدم صدق وقدم سوءٍ ، وهو يؤنثُ . وقد يذكر ، فيقال : قدم حسن ، وقدم صالحة . و « لَهُمْ » خبر مقدَّم ، و « قَدَمَ » اسمها ، و « عِندَ ربِّهِمْ » صفة ل « قَدَمَ » ، ومنْ جوَّز أن يتقدَّم معمُولُ خبر « أنَّ » على اسمها إذا كان حرف جرٍّ؛ كقوله : [ الطويل ]
2870- فَلاَ تَلْحَنِي فيهَا فإنَّ بحُبِّهَا ... أخاكَ مُصَابُ القَلْبُ جَمٌّ بلابِلُهْ
قال : ف « بِحُبِّهَا » متعلقٌ ب « مُصَاب » ، وقد تقدَّم على الاسم ، فكذلك « لَهُمْ » يجوز أن يكون متعلقاً ب « عِنْدَ ربِّهِمْ » لمَا تضمَّن من الاستقرار ، ويكونُ « عندَ ربِّهِمْ » هو الخبر .
قوله : { قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } لمَّا جاءهم رسول منهم فأنذرهم وبشَّرهُم قالوا مُتعجِّبين : « إنَّ هذا لسَاحِرٌ مُبِينٌ » ، وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر « لسِحْرٌ » والباقون « لَسَاحر » ، ف « هَذَا » يجوزُ أن يكون إشارةً للقرآن ، وأن يكون إشارةً للرسُول على القراءة الأولى ، ولكن لا بد من تأويل على قولنا : هو إشارة للرسول ، أي : ذو سحر أو جعلوه إيَّاه مبالغةً ، وعلى القراءة الثانية فالإشارةُ للرَّسول - عليه الصلاة والسلام - فقط .
واعلم أنَّ إقدامهم على وصف القرآن بأنَّه سحرٌ ، يحتمل أنَّهم ذكروه في معرض الذَّمِّ ، ويحتمل أنهم ذكروه في معرض المدح ، فلهذا قال بعضُ المُفَسِّرين : أرَادُوا به أنَّه كلام مزخرف حسن الظَّاهر ، لكنه باطِل في الحقيقة ، ولا حاصل له ، وقال آخرون : أرادُوا به أنَّه لكمال فصاحته ، وتعذر مثله ، جارٍ مجرى السِّحْر . وهذا كلام فَاسِد ، فلهذا لم يذكر جوابه ، وبيان فساده : أنَّه - عليه الصلاة والسلام - كان منهم ، ونشأ بينهم ، وما غَابَ عنهم ، ولم يُخالط أحداً سواهم ، ولم تكن مكَّة بلدة العُلماء ، حتى يقال : إنَّه تعلَّم السحر منهم ، أو تعلم العلوم الكثيرة منهم ، فقدر على الإتيان بمثل هذا القرآن . وإذا كان الأمر كذلك ، كان حمل القرآن على السِّحْر كلاماً في غايةِ الفسادِ ، فلهذا السَّبب ترك جوابه .
===================================
ج38.
ج38. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
لمَّا حكى عن الكُفَّار تعجُّبهم من الوَحْي والبَعْثَة والرِّسالة ، أزال ذلك التعجُّب بأنه لا يبعد أن يبعث خالق الخلْقِ إليْهِم رسولاً يُبشِّرهم على الأعمال الصَّالحة بالثَّواب ، وعلى الأعمال الباطلة بالعقاب ، وهذا الجوابُ إنَّما بإثبات أمرين آخرين :
أحدهما : إثبات أنَّ لهذا العالم إلهاً قادراً قاهراً ، نافِذَ الحُكم بالأمْر والنَّهي والتَّكليف .
والثاني : إثبات الحَشْر والنَّشر والبعث والقيامة ، حتى يحصل الثَّواب والعقاب اللذان أخبر الأنبياءُ - عليهم الصلاة والسلام - عن حصولهما ، فلذلك ذكر ما يدلُّ على تحقيق هذين الأمرين .
فإمَّا إثبات الإله ، فبقوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض } ، وأمَّا إثبات المعاد ، فبقوله تعالى : { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ الله حَقّاً } [ يونس : 4 ] فهذا ترتيبٌ في غاية الحسن ، فإن قيل : كلمة « الَّذي » وضعت للإشارة إلى شيء معروف عند السَّامع ، كما إذا قيل لك : مَنْ زَيْدٌ؟ فتقول : الذي أبوه مُنْطلق ، فهذا التعريف إنَّما يحسنُ لو كان أبوهُ منطلقاً أمراً معلوماً عند السَّامع ، فهاهنا لما قال : { إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } يوجب أن يكون ذلك أمراً معلوماً عند السَّامع ، والعرب ما كانوا عالمين بذلك ، فكيف يحسن هذا التعريف؟ .
فالجواب : أنَّ هذا كان مشهُوراً عند اليهود والنصارى؛ لأنَّه مذكور عندهم في التَّوراة والإنجيل ، والعرب كانوا يُخالطُونَهُم ، فالظَّاهر أنَّهم كانوا سمعُوه منهُم ، فلهذا حَسُنَ هذا التعريف . فإن قيل : ما الفائدةُ في بيان الأيَّام التي خلق الله فيها السموات والأرض ، مع أنَّه تعالى قادر على خلق جميع العالم في أقلِّ من لمْح البصرِ؟
فالجواب على قول أهل السُّنَّة : أنَّه تعالى يحْسُن منه كلّ ما أراد ، ولا يُعَلَّلُ شيء من أفعاله بشيء من الحِكْمَة والمصالح ، وأمَّا على قول المعتزلة : وهو أنَّ أفعالهُ تعالى مشتملةٌ على المصالحِ والحكمة ، فقال القاضي : « لايبْعُد أنْ يكون خلق الله السموات والأرض في هذه المُدَّة المخصوصة ، أدخل في الاعتبار في حقِّ بعض المُكَلِّفين » ثم قال : فإن قيل : فمن المُعْتَبر؟ ثم أجاب فقال : أما المعتبر فهو أنَّه لا بد من مُكلَّفٍ أو غير مكلَّف خلقه الله تعالى قبل خلقه السموات والأرض وإلاَّ لكان خلقُهُمَا عبثاً .
فإن قيل : فَهَلاَّ جَازَ أن يَخْلقهمَا لأجل حيوان يَخْلقُهُ من بعد؟ .
قلنا : إنَّه تعالى لا يخاف الفوْت ، فلا يجُوزُ أن يقدم على خلق لأجل حيوان سيحدُث بعد ذلك ، وإنَّما يصحُّ ذلك منَّا في مُقدِّمَات الأمُور ، لأنَّا نخشى الفَوْت ، ونخافُ العَجْز .
قال : وإذا ثَبَتَ هذا ، فقد صحَّ ما روي في الخبر أنَّ خلق الملائكة والجنِّ ، كان سابقاً على خلقِ السموات والأرض .
فإن قيل : أولئك الملائكةَ لا بدَّ لهم من مكانٍ ، وقبل خلق السموات والأرض لا مكان ، فكيف يمكن وُجُودهُم بلا مكان؟
قلنا : الذي يقدر على تَسْكِين العَرْش والسموات والأرض في أمكنتها ، كيف يعجزُ عن تسكين أولئك الملائكة في أحيازها بقدرته وحكمته؟ وأمَّا وجه الاعتبار في ذلك فهُو أنَّه لمَّا حصل هناك مُعْتَبر ، لم يمتنع أن يكون اعتباره بما شاهده حالاً بعد حال أقوى .
لأنَّ ما يحدث على هذا الوجه ، فإنه يدلُّ على أنه صادر من فاعل حكيمٍ . وأمَّا المخلُوق دفعةً واحدةً فإنَّه لا يدلُّ على ذلك .
فإن قيل : هذه الأيام كأيَّام الدُّنيا ، أو كما قال ابن عباس : إنَّها ستَّة أيَّام من أيَّام الآخرة كل يوم منها ألف سنة مِمَّا تعُدُّون
فالجواب : قال القاضي : الظَّاهرُ في ذلك أنَّهُ تعريف لعباده مدَّة خلقه لهما ، ولا يجوز أن يكون ذلك تعريفاً إلاَّ والمدَّة هذه الأيَّام المعلومة ، ويمكن أن يقال : لمَّا وقع التعريف في الأيَّام المذكورة في التوراة والإنجيل ، وكان المذكُورُ هناك أيَّام الآخرة لا أيَّام الدنيا ، لم يكن ذلك قادحاً في صحَّة التعريف بها .
فإن قيل : هذه الأيام إنما تعد بطُلوع الشمس وغروبها ، وهذا المعنى مفقودٌ قبل خلقها ، فكيف يعقل هذا التعريف؟
فالجواب : التعريف يحصل بما أنَّه لَوْ وقع حدوثُ السموات والأرض في مدَّة ، لو حصل هناك أفلاك دائرة وشمسٌ وقمر ، لكانت تلك المُدَّة مساوية لستَّة أيَّام .
فإن قيل : هذا يقتضي حصول مدَّة قبل خلقِ العالم ، يحصل فيها حدوث العالم ، وذلك يوجبُ قدم المُدَّة .
فالجواب : أن تلك المُدَّة غير موجودة ، بل هي مفروضة موهُومة ، لأنَّ تلك المُدَّة المعينة حادثةٌ ، وحدوثها لا يحتاج إلى مدَّة أخرى ، وإلا لزم إثبات أزمنة لا نهاية لها وذلك محالٌ ، فكلُّ ما يقولونه في حدوث المدَّة ، فنحن نقوله في حدوث العالم .
فإن قيل : اليومُ قد يُراد به اليوم مع ليلتِهِ ، وقد يُرَاد به النَّهَار وحده ، فما المرادُ بهذه الآية؟ فالجواب : أنَّ الغالبَ في اللُّغة هو اليوم بليلته .
قوله : { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } قال ابنُ الخطيب : لا يمكن حمل الآية على ظاهرها ، لأنَّ الاستواء على العرش معناه كونه مستقرًّا عليه ، بحيث إنَّه لولا العرش لسقط ونزل ، وإثبات هذا المعنى يقتضي كونه تعالى محتاجاً إلى العرش ، وإنه لولا العرش لسقط ونزل ، وذلك محالٌ ، لإجماع المسلمين على أنَّه تعالى هو المُمْسِكُ له والحافظُ له ، وأيضاً فإن قوله : « ثُمَّ استوى » يدل على أنه قبل ذلك ما كان مُسْتَوياً عليه ، وذلك يدلُّ على أنَّه تعالى يتغيَّر من حالٍ إلى حالٍ ، وكل متغير محدث ، وذلك باطلٌ بالاتِّفاق . وأيضاً : لمَّا حدث الاستواء في هذا الوقت دلَّ على أنَّ تعالى كان قبل هذا الوقت مُضْطَرباً متحرِّكاً ، وذلك من صفاتِ المُحدثات . وأيضاً ظاهرُ الآية يدلُّ على أنه تعالى إنَّما استوى على العرش بعد خلق السموات والأرض؛ لأنَّ كلمة « ثُمَّ » للتَّراخي ، وذلك يدلُّ على أنَّه تعالى كان قبل العرش غنيّاً عن العرش ، فلمَّا خلق العرش امتنع أن تنقلب حقيقتُه وذاته من الاستغناء إلى الحاجة ، فوجب أن يبقى بعد خلق العرش غنيّاً عن العرش ، ومن كان كذلك امتنع أن يكون مستقرّاً على العرش ، فثبت بهذه الوجوه أنَّهُ لا يمكن حمل هذه الآية على ظاهرها ، وإذا كان كذلك امتنع بالاستدلال بها في إثبات المكان والجهة ، وإذا تقرَّر هذا ، فقال جمهور المفسِّرين : المراد بالعرش هنا : هو الجسم العظيم الذي في السَّماء ، وهو مخلوق قبل خَلْق السموات والأرض ، بدليل قوله :
{ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء } [ هود : 7 ] .
وقيل : المراد من العرش : الملك ، يقال : فلان على عرشه أي : ملكه . وقال أبُو مسلم الأصفهاني . « المراد بالعَرْش : أنَّه تعالى لمَّا خلق السموات والأرض سطحها ورفع سمكها ، فإنَّ كلَّ بناء يسمَّى عَرْشاً ، وبانيه يسمَّى عارشاً ، قال تعالى { وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } [ النحل : 68 ] أي : يبنون ، وقال : { وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } [ البقرة : 259 ] ، والمراد : أنَّ القرية خلت منهم مع سلامة بنائها وقيام سقفها ، وقال : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء } [ هود : 7 ] أي : بناؤه على الماءِ ، وإنَّما ذكر الله تعالى ذلك ، لأنه أعجب في القدرة ، لأنَّ الباني يتباعد عن الماء إلى الأرض الصلبة ، لئلاَّ ينهَدِم بناؤُه ، والله تعالى بنى السموات والأرض على الماء ، ليعرف العُقلاء كمال قُدْرتِهِ ، فالمُرَاد بالاستواء على العرش : هو الاستعلاء عليه بالقَهْر ، لقوله { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ } [ الزخرف : 12 ، 13 ] ، فوجب حَمْلُ اللفظ على ذلك ، ولا يجوزُ حمله على العرش الذي في السَّماء ، لأنَّ الاستدلال على وجود الصَّانع ، يجب أن يكون بشيء معلُوم ومشاهد ، والعرش الذي في السماء ليس كذلك ، وأمَّا أجرام السموات والأرض فهي مشاهدة مَحْسُوسة ، فكان الاستدلال بأحوالها على وجود الصَّانع صواباً حسناً » .
وبهذا الوجه تصير هذه الآية موافقةٌ لقوله : { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بَنَاهَا } [ النازعات : 27 ] الآية .
قوله : { يُدَبِّرُ الأمر } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً ل « إنَّ » .
الثاني : أنَّه حالٌ .
الثالث : أنه مستأنفٌ لا محلَّ له من الإعراب . ومعنى « يدبِّر الأمر » : يقضيه وحده على حسب مقتضى الحكمة ، أي : يُدبِّر أحْوَال الخَلْقِ ، وأحوال ملكوت السموات والأرض . قوله { مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } أي : يدبر الأشياء ، لا بشفاعة شفيعٍ ، ولا تدبير مدبر ، فمعناه : أن الشفعاء لا يشفعون إلا من بعد إذنِهِ .
فإن قيل : كيف يليق ذكر الشَّفيع مع ذكر مَبْدَأ الخَلْقِ ، وإنَّما يليق ذكره بأحْوال القيامة؟ فالجواب : قال الزَّجَّاج : إنَّ الكفَّار الذين كانوا مخاطبينَ بهذه الآية كانوا يقولون : إنَّ الأصنام شفعاؤنا عند الله . وهذا ردٌّ على النضر بن الحارث ، كان يقول : إذا كان يوم القيامة تشفعني اللاَّت والعُزَّى .
وقال أبو مسلم : « الشَّفيعُ هاهنا هو الثاني ، مأخوذ من الشفع الذي يخالف الوتر ، كما يقال : الزوْج والفرد » .
فمعنى الآية : خلق الله السموات والأرض وحدهُ لا شريكَ يعينه ، ثم خلق الملائكة والجنَّ والبشر ، وهو المراد من قوله { إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } أي : لم يحدُث أحدٌ ولم يدخل في الوجود ، إلاَّ من بعد أن قال له : كُنْ حتَّى كان . ثم قال { ذلكم الله رَبُّكُمْ فاعبدوه } مُبَيِّناً بذلك أنَّ العبادة لا تصلح إلا له ، وأنه هو المستحقُّ لجميع العبادات ، لأنه هو المنعمُ بجميع النِّعم التي ذكرها .
ثم قال : { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } دالاًّ بذلك على وُجُوب التَّفكُّر في تلك الدَّلائل القاهرة الباهرة .
قوله تعالى : { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } الآية .
لمَّا ذكر الدَّلائل الدَّالة على إثبات المبدأ ، أردفه بما يدلُّ على صحَّة القول بالمعاد فقوله « إليه مرجعكم » الرجع بمعنى الرجوع و « جميعها » نصب على الحال أي ذلك الرجوع يحصل حال الاجتماع وهذا يدل على أن المراد بالرجوع القيامة لا الموت .
وقوله : « وعْدَ اللهِ » منصوبٌ على المصدر المؤكَّدِ؛ لأنَّ معنى « إلَيْهِ مرْجِعكُمْ » : وعدكم بذلك .
وقوله : « حَقّاً » مصدرٌ آخرُ مؤكِّدٌ لمعنى هذا الوعد ، وناصبه مضمر ، أي : أحَق ذلك حقّاً .
وقيل : انتصب « حَقّاً » ب « وَعْدَ » على تقدير « في » ، أي : وَعْدَ الله في حق ، يعني على التَّشْبيه بالظرف . وقال الأخفش الصغير : التقدير : وقت حق؛ وأنشد : [ الطويل ]
2871- أحَقّاً عِبَادَ الله أنْ لَسْتُ ذَاهِباً ... وَلاَ وَالِجاً إِلاَّ عليَّ رَقيبُ
« إنَّهُ يَبْدَؤا » الجمهور على كسر الهمزة للاستئناف ، وقرأ عبد الله ، وابن القعقاع ، والأعمش ، وسهيل بن شعيب بفتحها ، وفيها تأويلاتٌ :
أحدها : أن تكون فاعلاً بما نصب « حَقّاً » أي : حقَّ بدءُ الخَلْقِ ، ثُمَّ إعادته؛ كقوله : [ الطويل ]
2872- أَحَقّاً عبادَ اللهِ أنْ لَسْتُ جَائِياً .. . .
البيت .
وهو مذهبُ الفرَّاء ، فإنَّه قال « والتقدير : يحقُّ أنَّه يبدأ الخَلْق » .
والثاني : أنه منصوبٌ بالفعل الذي نصب « وَعْدَ اللهِ » ، أي : وعد الله تعالى بدء الخلق ثم إعادته ، والمعنى : إعادةُ الخلْقِ بعد بدئه .
الثالث : أنه على حذفِ لام الجرِّ ، أي : لأنَّهُ ذكر هذه الأوجه الثلاثة الزمخشري وغيره .
الرابع : أنَّهُ بدلٌ من « وَعْدَ اللهِ » قالهُ ابن عطية .
الخامس : أنه مرفوعٌ بنفس « حَقّاً » أي : بالمصدر المنون ، وهذا إنَّما يتأتَّى على جَعْل « حَقّاً » غير مؤكدٍ ، لأنَّ المؤكَّدَ لا عمل له إلاَّ إذا نَابَ عن فعله ، وفيه بحث .
السادس : أن يكون « حَقّاً » مشبهاً بالظَّرف خبراً مقدماً ، و « إنَّه » في محلِّ رفع مبتدأ مؤخراً ، كقولهم : أحقاً أنَّك ذاهبُ ، قالوا : تقديره : أفي حقٍّ ذهابك .
وقرأ ابن أبي عبلة « حَقٌّ أنَّه » برفع حق وفتح « أنّ » على الابتداء والخبر ، قال أبو حيَّان : وكون « حق » خبر مبتدأ ، و « أنه » هو المبتدأ هو الوجه في الإعراب ، كما تقول : صحيحٌ أنك مخرج؛ لأنَّ اسم « أن » معرفة ، والذي تقدَّمه في هذا المثال نكرة ، فظاهرُ هذه العبارة يُشْعر بجواز العكس ، وهذا قد ورد في باب « إنَّ » ؛ كقوله : [ الطويل ]
2873- وإنَّ حراماً أنْ أسُبَّ مُجَاشِعاً ... بآبَائِيَ الشُّمِّ الكِرَامِ الخَضَارِمِ
وقوله : [ الطويل ]
2874- وإنَّ شفَاءً عبْرَةٌ أنْ سَفَحْتُهَا ... وهَلْ عندَ رسْمٍ دارٍ مِنْ مُعَوَّلِ
على جَعْلِ « أنْ سَفَحْتُهَا » بدلاً من « عَبْرَة » ، وقد أخبر في « كان » عن نكرةٍ بمعرفةٍ ، كقوله : [ الوافر ]
2875- . . ... ولا يَكُ موقِفٌ مِنْكِ الوَدَاعَا
وقوله : [ الوافر ]
2876- . . ... يكُونُ مِزاجَهَا عَسَلٌ ومَاءُ
قال مكِّي : « وأجاز الفرَّاء رفع » وَعْد « ، بجعله خبراً ل » مَرْجِعُكُمْ « . وأجاز رفعَ » وَعْد « و » حَقّ « على الابتداء والخبر ، وهو حسنٌ ، ولم يقرأ به أحد » .
قال شهابُ الدِّين : نعم لم يرفع « وَعْد » ، و « حَقّ » معاً أحد ، وأمَّا رفعُ « حَقٌّ » وحده فقط تقدَّم أن ابن أبي عبلة قرأه ، وتقدَّم توجيهه ، ولا يجوز أن يكون « وعْد الله » عاملاً في « أنَّه » لأنه قد وُصِفَ بقوله « حَقّاً » قاله أبو الفتح ، وقرىء « وعَدَ اللهُ » بلفظ الفعل الماضي ورفع الجلالة فاعلةً ، وعلى هذه يكون « إنَّه يَبْدأ » معمولاً له إنْ كان هذا القَارِىءُ يفتح « أنه » ، والجمهُور على يَبْدَأ بفتح الياء من بَدَأ ، وابنُ أبي طلحة « يُبْدِىء » مِنْ أبْدَأ ، وبَدَأ وأبْدَأ بمعنى واحد .
فصل
في هذه الآية إضمار ، تقديره : إنَّه يبدأ الخلق؛ ليأمرهم بالعبادة ، ثم يُميتُهُم ثم يعيدهم ، كقوله في البقرة : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [ البقرة : 28 ] .
إلاَّ أنَّه - تعالى - حذف ذكر الأمر بالعبادة ههنا؛ لأنَّه - تعالى - قال من قبله { ذلكم الله رَبُّكُمْ فاعبدوه } وحذف ذكر الإماتة ، لأنَّ ذكر الإعادة يدلُّ عليها . وهذه الآية تدلُّ على أنَّه تعالى يعيد جميع المخلوقات ، وإعادتها لا يمكن إلاَّ بعد إعدامها ، وإلا لزم إيجاد الموجود وهو محالٌ ، ونظيره قوله تعالى : { يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } [ الأنبياء : 104 ] فحكم بأنَّ الإعادة تكون مثل الابتداء .
قوله : « ليَجْزِي » متعلِّق بقوله « ثُمَّ يُعِيدُهُ » ، و « بالقِسْطِ » متعلقٌ ب « يَجْزِيَ » ويجوز أن يكون حالاً : إمَّا من الفاعل أو المفعول ، أي : يَجْزيهُم مُلْتَبِساً بالقِسْطِ أو ملتبسين به ، والقِسْطُ : العدل .
فصل
قال الكعبيُّ : « اللاَّم في قوله » ليَجْزِيَ الذينَ آمَنُوا « تدل على أنَّه تعالى خلق العباد للثواب والرحمة ، وأيضاً فإنَّه أدخل » لام « التعليل على الثواب ، ولم يدخلها على العقاب ، بل قال : { والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ } فدل على أنَّه خلق الخلق للرَّحمةِ لا للعقاب ، وذلك يدلُّ على أنَّه - تعالى - ما أراد منهم الكفر ، ولم يخلق الكفر فيهم » .
والجواب : أنَّ لامَ التعليل في أفعال الله - تعالى - محالٌ؛ لأنه - تعالى - لو فعل فعلاً لعلَّةٍ لكانت تلك العِلَّة ، إن كانت قديمة لزم قدم الفعل ، وإن كانت حادثة فيلزم التسلسل ، وهو محال .
فصل
في تفسير « القِسْط » وجهان :
الأول : أنَّه العدل ، كما تقدم؛ والعدلُ هو الذي يكون لا زائداً ولا ناقصاً ، وذلك يدلُّ على أنَّه تعالى لا يزيدهُم على ما يستحقونه بأعمالهم ، ولا يتفضَّل عليهم بشيء .
فالجواب : أنَّ الثواب أيضاً محضُ التَّفضُّل ، وأيضاً فبتقدير أن يساعد على حصول الاستحقاق إلا أنَّ لفظ « القِسْطِ » يدلُّ على توفية الأجْرِ ، فأمَّا المنع من الزِّيادة فلفظ « القِسْط » لا يدلُّ عليه ، فإن قيل : لِمَ خصَّ المؤمنين بالقسطِ مع أنَّه - تعالى - يجازي الكافرين أيضاً بالقسطِ؟
فالجواب : أنَّ تخصيصَ المؤمنين يدلُّ على مزيد العناية في حقِّهم ، وعلى كونهم مخصوصين بمزيد الإحسان .
الوجه الثاني - في تفسير القِسْطِ - : أن المعنى : ليجزي الذين آمنُوا بقسطهم ، وبما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا أنفسهم حين آمنُوا وعملو الصَّالحات ، لأنَّ الشِّركَ ظلمٌ ، قال تعالى { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] ، والعصاة أيضاً قد ظلموا أنفسهم ، قال تعالى : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } [ فاطر : 32 ] وهذا أقوى؛ لأنه في مقابلة قوله : { بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } .
قوله : { والذين كَفَرُواْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون مرفوعاً بالابتداءِ ، والجملة بعده خبره .
والثاني : أن يكون منصوباً عطفاً على الموصول قبله ، وتكونُ الجملةُ بعده مُبَيِّنَة لجزائهم . و « شَرابٌ » يجُوزُ أن يكون فاعلاً ، وأن يكون مبتدأن والأولُ أولَى .
قوله : « بِمَا كَانُوا » الظَّاهرُ تعلُّقه بالاستقرار المضمر في الجارِّ الواقع خبراً ، والتقدير : استقرَّ لهم شرابٌ من حميم وعذاب أليمٌ بما كانُوا . وجوَّز أبو البقاء فيه وجهين ولم يذكر غيرهما :
الأول : أن يكون صفة أخرى ل « عَذاب » .
والثاني : أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، وهذا لا معنى له ، ولا حاجة إلى العدول عن الأوَّل . قال الواحدي : الحَميمُ : الذي أسخنَ بالنَّار حتى انتهى حرُّه ، يقال : حَمَمْتُ الماءَ ، أي : أسْخَنْتُهُ ، أحْمِيهِ ، فهو حميمٌ ، ومنه الحَمَّام .
فصل
دلَّت الآية على أنَّه لا واسطة بين أن يكون المكلَّف مُؤمناً ، وبين أن يكون كافراً ، لأنَّه اقتصر في الآية على ذكر هذين القسمين .
وأجاب القاضي : بأنَّ ذكر هذين القسمين لا ينفي القسم الثالث؛ لأنَّ قوله تعالى : { والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ }
[ النور : 45 ] ولم يدلَّ على نفي القسم الرابع ، بل ربما ذكر المقصود أو الأكثر ، وترك ما عداه ، إذا كان قد بيِّن في موضع آخر ، وقد بيَّن الله حال القسم الثالث في سائر الآيات .
وجوابه : إنَّما يترك القسمُ الذي يجري مجرى النَّادر ، ومعلوم أنَّ الفسَّاق أكثر من أهل الطَّاعةِ ، فكيف يجُوز ترك ذكرهم في هذا الباب؟ وأما قوله تعالى { والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ } [ النور : 45 ] فإنَّما ترك ذكر القسم الرابع ، لأنَّ أقسام دواب الأرض كثيرة ، فكان ذكرها بأسرها يوجبُ الإطناب ، بخلاف مسألتنا ، فإنه ليس هنا إلاَّ القسم الثَّالث ، وهو الفاسقُ الذي يزعم الخصمُ أنَّه لا مؤمنٌ ولا كافرٌ ، فظهر الفرق .
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
قوله تعالى : { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً } الآية .
لمَّا ذكر الدلائل الدَّالة على الإلهيَّة ، وهي التَّمسُّك بخلق السموات والأرض ، ثم فرع عليها صحَّة القول بالحشر والنشر ، عاد إلى ذكر الدَّلائل الدَّالة على الإلهيَّة ، وهي التمسُّك بأحوال الشمس والقمر ، وهو إشارةٌ إلى توكيد الدَّليل على الحشر والنشر؛ لأنَّه - تعالى - أثبت القول بالحشر والنشر بناءً على أنَّه لا بد من إيصالِ الثَّواب إلى أهل الطَّاعة ، والعقاب إلى الكُفَّار ، وأنَّه يجب تمييزُ المُحْسن عن المُسِيء .
ثم ذكر في هذه الآية أنَّه جعل الشمس ضياءً والقمر نُوراً وقدَّرَهُ منازل ، ليتوصَّل المُكلَّف بذلك إلى معرفة السنين والحساب ، فيُرتِّب مهمات معاشه وزراعته وحراثته ، ويُعدَّ مهمات الشِّتاء والصَّيف ، فكأنَّه تعالى يقول : تمييز المحسن على المسيء ، أوجب وأوْلَى من تعليم أحوال السِّنين والشُّهُور ، فلمَّا اقتضت الحكمة بخلق الشمس والقمر لهذا المهمِّ الذي لا نفع له فبأن تقتضي الحكمة والرَّحمة تمييز المحسن عن المسيء بعد الموت ، مع أنَّه يقتضي النفع الأبَدِيّ والسعادة السَّرمديَّة كان أولى ، فلمَّا كان الاستدلال بأحوال الشَّمس والقمر من الوجه المذكور في هذه الآية ممَّا يدلُّ على التَّوحيد من وجهٍ ، وعلى صحَّة القول بالمعاد من الوجه الذي ذكرناه ، لا جرم ذكر الله تعالى هذا الدَّليل بعد ذكر الدَّليل على صحَّة المعاد .
قوله : « ضِيَاءً » : إمَّا مفعولٌ ثانٍ على أنَّ الجعل للتصيير ، وإمَّا حالٌ على أنَّه بمعنى الإنشاءِ ، والجمهُور على « ضِيَاءً » بصريح اليَاءِ قبل الألف ، وأصلها واو؛ لأنَّه من الضَّوْء . وقرأ قُنْبُل عن ابن كثيرٍ هنا وفي الأنبياء والقصص « ضِئَاء » بقلب الياء همزة ، فتصير ألفٌ بين همزتين . وأوِّلت على أنه مقلوبٌ قدِّمت لامُه وأخِّرت عينه ، فوقعت الياءُ طرفاً بعد ألف زائدة فقلبت همزة على حدِّ « رِدَاء » وأرْدِية ، وإن شئت قلت : لمَّا قلبت الكلمة صارت « ضِيَاواً » بالواو ، عادت العين إلى أصلها من الواو لعدم موجب قلبها ياء وهو الكسر لسابقها ، ثم أبدلت الواو همزة على حدِّ « كِسَاء » . وقال أبو البقاء : « إنَّها قُلبتْ ألفاً ، ثُمَّ قُلِبت الألفُ همزة ، لئلاَّ تجتمع ألفان » ، واستُبْعِدت هذه القراءة من حيث إنَّ اللغة مَبْنِيَّة على تسهيل الهمزِ فكيف يتخيَّلُون في قلب الحرفِ الخفيف إلى أثقل منه؟ لا غرو في ذلك ، فقد قلبُوا حروف العلَّة الألف والواو والياء همزةً في مواضع لا تُحْصرُ إلا بعُسْرٍ ، إلاَّ أنه هنا ثقيلٌ؛ لاجتماع همزتين .
وأكثر النَّاس على تغليط هذه القراءة؛ لأنَّ ياء « ضِيَاء » منقلبة عن واو ، مثل : ياء قيام ، وصيام ، فلا وجه للهمزة فيها ، قال أبو شامة : « وهذه قراءةٌ ضعيفةٌ ، فإنَّ قياس اللُّغةِ الفرارُ من اجتماع همزتين إلى تخفيفِ إحداهُمَا ، فكيف يُتَخيَّل بتقديمٍ وتأخيرٍ يُؤدِّي إلى اجتماع همزتين لم يكونا في الأصل؟ هذا خلافُ حكم اللُّغة » .
وقال أبو بكر بن مُجاهد - وهو ممَّنْ قرأ على قنبل - : « قرأ ابن كثير وحده » ضِئَاء « بهمزتين في كل القرآن الهمزة الأولى قبل الألف ، والثانية بعدها ، كذلك قرأتُ على قنبل وهو غلط ، وكان أصحاب البزّي ، وابن فليح يُنكرُونَ هذا ويقْرؤُون » ضِيَاء « مثل الناس » .
قال شهابُ الدِّين : « كثيراً ما يَتَجَرَّأ أبو بكر على شيخه ويُغَلِّطه ، وسيمرُّ بكَ مواضع من ذلك ، وهذا لا ينبغي أن يكون ، فإنَّ قُنْبُلاً بالمكان الذي يمنع أن يتكلَّم فيه أحد » .
وقوله في جانب الشمس : « ضِيَاءً » ؛ لأنَّ الضوءَ أقوى من النُّور ، وقد تقدم ذلك أوَّل البقرة و « ضِيَاء ونُوراً » يحتمل أن يكونا مصدرين ، وجُعِلا نفسَ الكوكبين مبالغة ، كما يقال للكريم : إنه كرم وجود ، أو على حذف مضافٍ أي : ذاتِ ضياء وذا نُورٍ ، و « ضِيَاء » يحتمل أن يكون جمع « ضَوْء » كسَوْط وسِيَاط ، وحَوْض وحِيَاض .
قوله : « مَنَازِلَ » نُصب على ظرف المكان ، وجعله الزمخشريُّ على حذفِ مضافٍ : إمَّا من الأول أي : قدَّر مسيره ، وإمَّا من الثاني أي : قدَّرهُ ذا منازل ، فعلى التقدير الأول يكون « مَنازِلَ » ظرفاً كما مَرّ ، وعلى الثاني يكون مفعولاً ثانياً على تضمين « قدَّرَ » معنى صيَّره ذا منازل بالتقدير ، وقال أبو حيَّان - بعد أن ذكر التقديرين ، ولم يعزُهما للزمخشري : أو قَدَّر له منازل ، فحذف وأوصل الفعل إليه ، فانتصب بحسب هذه التَّقادير على الظَّرف أو الحال أو المفعول ، كقوله : { والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ } [ يس : 39 ] وقد سبقهُ إلى ذلك أبُو البقاء .
والضمير في « قدَّرهُ » يعود على القمر وحده ، لأنَّه هو عُمدةُ العرب في تواريحهم .
وقال ابنُ عطيَّة : « ويحتمل أن يريدهما معاً بحسبِ أنهم يتصرَّفان في معرفة عدد السِّنين والحساب لكنَّه اجتزىء بذكر أحدهما ، كقوله تعالى { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] ؛ وكما قال الشاعر : [ الطويل ]
2877- رَمَانِي بأمْرٍ كُنْتُ مِنْهث ووَالدِي ... بَرِيئاً ومنْ أجْلِ الطَّوِيِّ رمَانِي
قوله : » لِتَعْلَمُواْ « : متعلِّق ب » قدَّرَهُ « ، وسُئل أبو عمرو عن الحساب : أتَنْصبُه أم تَجُرُّه؟ فقال : ومن يدري ما عدد الحساب؟ يعني أنه سئل : هل تعطفه على » عَدَدَ « فتنصبه أم على » السِّنين « فتجرَّه؟ فكأنَّه قال : لا يمكن جرُّه ، إذ يقتضي ذلك أن يعلم عدد الحسابِ ولا يقدر أحدٌ أن يعلم عدده .
فصل
معنى الآية : { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً } بالنهار ، { والقمر نُوراً } بالليل . وقيل : جعل الشمس ذات ضياء ، والقمر ذا نُورٍ ، { وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ } أي : قدَّر له ، يعنى : هَيَّأ له منازل لا يجاوزها ولا يقصُر دونها ، ولم يقل قدرهما .
قيل تقدير المنازل منصرفٌ اليهما ، واكتفى بذكر أحدهما لما قدَّمنا . وقيل : ينصرف إلى القمر خاصة ، لأن بالقمر خاصة يعرف انقضاء الشُّهور والسِّنين ، لا بالشمس . ومنازل القمر هي : المنازل المشهورة ، وهي الثمانية والعشرون منزلاً ، وهذه المنازل مقسومة على البُروجِ الاثني عشر ، لكل برج منزلتان واحدة إن كان الشهر تسعاً وعشرين ، فيكون انقضاء الشهر مع نزوله تلك المنازل ، ويكون مقام الشهر في كل منزلة ثلاثة عشر يوماً ، فيكون انقضاء السنة مع انقضائها .
واعلم : أنَّ الشمس سلطان النهار وأنَّ القمر سلطان الليل ، وبحركة الشمس تنفصل السنة إلى الفصول الأربعة ، وبالفصول الأربعة تنتظمُ مصالحُ هذا العالم ، وبحركة القمر تحصُل الشهور ، وباختلاف حاله في زيادة ضوئه ونقصانه تختلف أحوال رطوبات هذا العالم ، وبسبب الحركة اليومية يحصل النهار والليل ، فالنهار زمان التَّكسُّبِ والطلب ، والليل زمان للرَّاحة ، وهذا يدلُّ على كثرة رحمة الله - تعالى - للخلق وعظم عنايته لهم .
قال حكماء الإسلام : هذا يدلُّ على أنه - تعالى - أودع في أجرام الأفلاك والكواكب خواصَّ معينة ، وقوى مخصوصة باعتبارها تنتظم مصالح هذا العالم السُّفلي ، إذ لَوْ لَمْ يكُنْ لها آثارٌ وفوائد في هذا العالم ، لكان خلقها عبثاً وباطلاً بغير فائدة ، وهذه النُّصوص تُنافي ذلك .
قوله : { مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق } « ذلك » إشارةٌ إلى الخلق ، والتقدير : ما خلق الله ذلك المذكور إلا ملتبساً بالحقِّ ، فيكون حالاً : إمَّا من الفاعل وإمَّا من المفعول . وقيل : الباء بمعنى اللاَّم أي : للحقِّ ، ولا حاجة إليه ، والمعنى : لم يخلقه باطلاً ، بل إظهاراً لصنعته ، ودلالة على قدرته .
قوله : « يُفَصِّلُ » قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر ، ويعقوب « يُفصِّل » بياء الغيبة جرياً على اسم الله - تعالى - ، والباقون : بنون العظمة ، التفاتاً من الغيبة إلى التَّكلُّم للتَّعظيم .
ومعنى التَّفصيل : هو ذكر هذه الدلائل الباهرة ، واحدة عقب الأخرى مع الشَّرح والبيان ، ثم قال « لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ » قيل : المراد منه : العقل الذي يعمُّ الكل . وقيل : المراد منه تفكر وعلم فوائد مخلوقاته ، وآثار إحسانه ، لأنَّ العلماء هم المنتفعون بهذه الدلائل ، كقوله { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } [ النازعات : 45 ] مع أنه - عليه الصلاة والسلام - كان منذراً للكُلِّ .
قوله تعالى : { نَّ فِي اختلاف الليل والنهار } الآية .
اعلم أنَّه تعالى استدلَّ على التوحيد والإلهية .
أولاً : بتخليق السموات والأرض .
وثانياً : بأحوال الشمس والقمر .
وثالثاً : في هذه الآية بالمنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار ، وقد تقدم تفسيره في سورة البقرة عند قوله : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض } [ البقرة : 164 ] .
واعلم أنَّ الحوادث الحادثة في هذا العالم أربعة أقسام :
أحدها : الأحوالُ الحادثة في العناصر الأربعة ، ويدخل فيها أحوال الرَّعد والبَرْق والسَّحاب والأمطار والثُّلُوج ، ويدخل فيها أحوال البحار ، وأحوال المَدِّ والجزْرِ ، وأحوال الصَّواعق والزَّلازل والخَسْفِ .
وثانيها : أحوال المعادن وهي عجيبةٌ كثيرةٌ .
وثالثها : اختلاف أحوال النَّبات .
ورابعها : اختلاف أحوال الحيوانات ، وكلُّها داخلةٌ في قوله : { وَمَا خَلَقَ الله فِي السماوات والأرض } .
ثم قال : { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ } خصَّها بالمتَّقين؛ لأنَّهم يحذرون العاقبة .
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)
قوله تعالى : { إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } الآية .
لمَّا ذكر الدَّلائل القاهرة على إثبات الإلهيَّة ، وعلى صحَّة القول بالمعاد ، والحَشْرِ ، والنَّشْرِ ، شرح بعده أحوال من يكفُر بها ، ومن يؤمن بها؛ فأما شرح أحوال الكُفَّار ، فهو المذكور في هذه الآية ، وصفهم فيها بأربع صفاتٍ :
الأولى : قوله : { إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } .
قال ابن عبَّاس ، ومقاتل ، والكلبي : معناه : لا يخافون البعث؛ لأنَّهم لا يؤمنون به ، والرَّجاء : الخوف؛ لقوله : { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } [ النازعات : 45 ] ، وقوله : { وَهُمْ مِّنَ الساعة مُشْفِقُونَ } [ الأنبياء : 49 ] ، وقوله : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } [ نوح : 13 ] ؛ وقال الهذليُّ : [ الطويل ]
2878- إذَا لسَعَتْهُ النَّحْلُ لمْ يَرْجُ لسْعَهَا ... وخَالفَهَا في بَيْتِ نُوبٍ عَوَاسِلِ
وقال الزَّجَّاج : الطَّمع؛ والمعنى : لا يطمعُون في ثوابنا ، واعلم أنَّ اللِّقاء : هو الوصول إلى الشيء ، وهذا في حقِّ الله - تعالى - محالٌ؛ لأنه مُنَزَّهٌ عن الحدِّ؛ فوجب أن يكون مجازاً عن الرُّؤية؛ فإنه يقال : لقيتُ فُلاناً ، إذَا رأيْتَهُ .
الصفة الثانية : قوله : { وَرَضُواْ بالحياة الدنيا } ، وهذه إشارة إلى استغراقهم في طلب اللَّذاتِ الجسمانيَّة .
والصفة الثالثة : قوله : « واطمأنوا بِهَا » يجوز أن يكون عطفاً على الصِّلة ، وهو الظاهرُ ، وأن تكون الواو للحال ، والتقدير : وقد اطمأنُّوا . وهذه صفةُ الأشقياء ، وهي أن تحصل لهم الطُّمأنينة في حُبّش الدُّنْيا والاشتغال بلذَّاتها ، فيزول عن قُلُوبهم الوجلُ ، فإذا سمعُوا الإنذارَ والتَّخويفَ لم توجل قلوبهم وصارت كالميتة عند ذكر الله - تعالى - ، وهذا بخلاف صفة السُّعداء ، فإنَّهم يحصُلُ لهم الوجل عند ذكر الله - تعالى - ، كما قال : { إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } [ الأنفال : 2 ] ، ثُمَّ إذا قويت هذه الحالةُ اطمأنُّوا بذكر الله ، كما قال : { وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب } [ الرعد : 28 ] .
ومقتضى اللُّغة أن يقال : واطمأنُّوا إليها ، إلاَّ أنَّ حروف الجرِّ يحسن إقامة بعضها مقام البعض .
الصفة الرابعة : قوله : { والذين هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ } . يحتمل أن يكون من باب عطف الصفات ، بمعنى أنَّهم جامعُون بين عدم رجاء لقاءِ الله وبين الغفلة عن الآياتِ ، والمراد بالغفلة الإعراض ، وأن يكون هذا الموصولُ غير الأولِ ، فيكون عطفاً على اسم « إنَّ » ، أي : إنَّ الذين لا يَرْجُون ، وإنَّ الذين هُمْ .
و « أولئك » مبتدأ ، و « مَأواهُمُ » مبتدأ ثانٍ ، و « النَّار » خبر هذا المبتدأ الثاني ، والثاني وخبره خبر « أولئك » ، و « أولئك » وخبره خبر « إنَّ الذينَ » ، و « بِمَا كَانُوا » متعلِّقٌ بما تضمَّنتهُ الجملةُ من قوله : « مَأواهُمُ النَّارُ » والباءُ سببيَّةٌ ، و « ما » مصدريةٌ ، وجيء بالفعل بعدها مضارعاً دلالةً على استمرار ذلك في كلِّ زمان . وقال أبو البقاء : « إن الباء تتعلَّق بمحذوفٍ ، أي : جُوزُوا بما كانُوا » .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
قوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } الآية .
لمَّا شرح أحوال المشركين ذكر أحوال المؤمنين ، قال القفال : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } أي : صدقُوا بقُلوبهم ، ثم حَقَّقُوا التَّصديقَ بالعملش الصَّالحِ الذي جاءت به الأنبياء من عند الله .
ثم ذكر بعد ذلك درجات كراماتهم فقال : { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } فقيل : يهديهم إلى الجنَّة ثواباً على إيمانهم وأعمالهم الصَّالحة ، ويدلُّ عليه قوله - تعالى - : { يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم } [ الحديد : 12 ] ، وما روي أنَّهُ - عليه الصلاة والسلام - قال : « إنَّ المُؤمِنَ إذا خرج مِنْ قَبْرِهِ صوِّرَ لَهُ عملهُ في صُورةٍ حسنةٍ ، فيقول لهُ : أنا عملك ، فيكون له نُوراً وقائداً إلى الجنَّةِ ، والكافر إذا خرج من قبرهِ صُوِّر لهُ عملهُ في صُورةٍ سيِّئةٍ ، فيقول له : أنا عملُكَ ، فينطلقُ به حتَّى يدخله النَّار » ، وقال مجاهد : المؤمنُ يكون له نُورٌ يَمْشِي به إلى الجنَّة . قال ابن الأنباري : إيمانهم يهديهم إلى خصائص المعرفة ، ولوامع من النُّور تشرقُ بها قُلوبُهم ، وتزول بواسطتها الشُّكُوك والشُّبهات ، كقوله - تعالى - : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 17 ] وهذه الفوائدُ يجوزُ حصولها في الدُّنيا قبل الموت ، ويجوز حصولها في الآخرة بعد الموت؛ قال القفال : وإذا حملنا الآية على هذا الوجه؛ كان المعنى : يهديهم ربُّهم بإيمانهم ، وتجري من تحتهم الأنهار ، إلاَّ أنَّه حذف الواو ، وقيل : « تَجْرِي من تَحْتِهمْ » مُستأنفاص مُنقطعاً عمَّا قبله ، ويجوز أن يكون حالاً من مفعول « يهديهم » .
قوله تعالى : { تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار } المراد : أن يكونوا جالسين على سُرُرٍ مرفوعة في البساتين ، والأنهار تجري من بين أيديهم ، كقوله : { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } [ مريم : 24 ] ، وهي ما كانت قاعدة عليه بل المعنى : بين يديك ، وكذا قوله : { وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتيا } [ الزخرف : 51 ] أي : بين يدي ، وقيل : { تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ } أي : بأمرهم .
قوله : « فِي جَنَّاتِ » يجوز أن يتعلَّق ب « تَجْري » ، وأن يكون حالاً من « الأَنْهَار » ، وأن يكون خبراً بعد خبر ل « إنَّ » ، وأن يكون متعلِّقا ب « يَهْدِي » .
قوله : « دَعْوَاهُمْ » مبتدأ ، و « سُبْحانَكَ » معمول لفعل مقدَّر لا يجوز إظهاره هو الخبر ، والخبرُ هنا هو نفسُ المبتدأ ، والمعنى : أن دعاؤهم هذا اللفظ ، ف « دَعْوَى » يجوزُ أن يكون بمعنى الدعاء ، ويدلُّ عليه « اللَّهُمَّ » ؛ لأنَّه نداء في معنى يا الله ، يقال : « دَعَا يَدْعُو دُعَاء ودَعْوَى » ، كما يقال : « شكى يَشْكُو شِكَايةً وشَكْوى » ، ويجوز أن يكون الدُّعاء هنا بمعنى العبادة ، نظيره قوله تعالى : { وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } [ مريم : 48 ] أي : وما تعبدون ، ف « دَعْوَى » : مصدرٌ مضاف للفاعل ، ثم إن شئتَ أن تجعل هذا من باب الإسناد اللفظي ، أي : دعاؤهُم في الجنَّة هذا اللفظُ بعينه ، فيكون نفسُ « سُبْحانَكَ » هو الخبر ، وجاء به مَحْكيّاً على نصبه بذلك الفعل ، وإن شئتَ جعلتهُ من باب الإسناد المعنوي؛ فلا يلزمُ أن يقولوا هذا اللفظ فقط ، بل يقولونه وما يؤدِّي معناه من جَميع صفات التنزيه والتَّقديس ، وقد تقدَّم نظير هذا عند قوله تعالى :
{ وَقُولُواْ حِطَّةٌ } [ البقرة : 58 ] .
وقيل : المراد من الدَّعْوَى : نفس الدَّعوى التي تكون للخَصْمِ على خَصْمِه .
والمعنى : أنَّ أهل الجنَّة يعون في الدُّنيا وفي اآخرة تنزيه الله عن كل المعايب ، والإقرار له بالإلهيَّة .
قال القفال : وأصل ذلك من الدُّعاء ، لأن الخصم يدعُو خصمهُ إلى من يحكم بينهما .
قال أبو مسلم : « دَعْوَاهُمْ » أي : فعلهم وإقرارهم ، ونداؤهُم هو قولهم « سُبْحَانَكَ اللهم » قال القاضي : « دَعْواهُمْ » أي : طريقتهم في تمجيد الله وتقديسه وشأنهم وسنَّتهم؛ لأنَّ قوله « سُبْحَانَكَ اللهم » ليس بدعاءٍ ولا بدعوى ، إلاَّ أنَّ المُدَّعي للشيء يكون مواظباً على ذكره ، لا جرم جعل لفظ « الدَّعْوى » كناية عن تلك المواظبة والملازمة . فأهلُ الجنَّة لمَّا كانُوا مواظبين على هذا الذكر ، أطلق لفظ « الدَّعْوَى » عليهم ، وقال القفال : قيل في قوله : { وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ } [ يس : 57 ] أي : ما يتمنونهُ ، والعرب تقول : ادع ما شئت عليّ أي : تمنّ ما شِئْتَ .
وقال ابن جريج : أخبرت أن قوله { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم } : هو أنَّه إذا مرَّ بهم طيرٌ يشتهونه ، قالوا : سبحانك اللَّهُمَّ ، فيأتيهم الملك بذلك المشتهى . قال ابن الخطيب : « وفيه وجه آخر : وهو أن يكون المعنى : أنَّ تمنيهم في الجنَّة أن يسبحوا الله - تعالى - ، أي : تمنيهم لما يتمنَّونهُ ، ليس إلاَّ في تسبيح الله ، وتقديسه ، وتنزيهه » .
قوله : « سُبْحَانَكَ اللهم » قال بعض المفسِّرين : إنَّ أهل الجنَّة جعلوا هذا الذِّكر علامة على طلب المشتهيات فيؤتَوْنَ بذلك المشتهى فإذا نالوا من شهرتهم ، قالوا : { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } ، وضعف ابن الخطيبِ هذا من وجوهٍ :
أحدها : أنَّ حاصل هذا الكلام يرجع إلى أنَّ أهل الجنَّة جعلوا هذا الذِّكر العالي المُقدَّس علامة على طلب المأكول والمنكوح ، وهذا في غاية الخساسة .
وثانيها : أنَّه - تعالى - قال في صفة أهل الجنة { وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } [ النحل : 57 ] ، فإذا اشتهوا أكل ذلك الطَّيْر ، فلا حاجة بهم إلى الطَّلب ، فسقط هذا الكلام .
وثالثها : أنَّ هذا صرف للكلام عن ظاهره الشريف العالي ، إلى محل خسيس لا إشعار للفظ به . وإنما المرادُ : أنَّ اشتغالَ أهل الجنَّة بتقديس الله - سبحانه - ، وتحميده ، والثناء عليه؛ لأنَّ سعادتهم ، وابتهاجهم ، وسرورهم بهذا الذِّكر .
قال القاضي : إنَّه - تعالى - لمَّا وعد المتَّقين بالثَّواب العظيم ، في قوله أوَّل السورة :
{ لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط } [ يونس : 4 ] ، فإذا دخل أهلُ الجنَّة الجنَّة ، ووجدوا تلك النعم العظيمة ، عرفوا أن الله - تعالى - كان صادقاً في وعده إياهم بتلك النعم ، فعند هذا قالوا : « سُبْحَانَكَ اللهم » أي : سبحانك من الخلف في الوعد ، والكذب في القول .
قوله : « وَتَحِيَّتُهُمْ » مبتدأ ، و « سَلاَمٌ » خبره ، وهو كالذي قبله ، والمصدر هنا يحتمل أن يكون مضافاً لفاعله ، أي : تحيَّتهم التي يُحيُّون بها بعضهم سلامٌ .
ويحتمل أن يكون مضافاً لمفعوله ، أي : تحيَّتهُم التي تُحَيِّيهم بها الملائكةُ سلامٌ؛ ويدلُّ له قوله : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23 ، 24 ] ، و « فيهَا » في الموضعين متعلقٌ بالمصدر قبله . وقيل : يجوز أن يكون حالاً ممَّا بعده ، فيتعلَّق بمحذوفٍ ، وليس بذاك ، وقال بعضهم : يُحَيِّي بعضهم بعضاً ، ويكون كقوله - تعالى - : { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } [ الأنبياء : 78 ] ، حيث أضافهُ ل « داود وسليمان » ، وهما الحاكما ، وإلى المحكوم عليه ، وهذا مبنيٌّ على مسألة أخرى ، وهي أنَّه : هل يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز أم لا؟ .
فإن قلنا : نعم ، جاز ذلك ، لأنَّ إضافة المصدر لفاعله حقيقةٌ ، ولمفعوله مجاز ، ومنْ منعَ ذلك ، أجاب : بأنَّ أقلَّ الجمع اثنان ، فلذلك قال : « لِحُكْمِهِمْ » .
قوله : « وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ » مبتدأ ، و « أنْ » : هي المخففة من الثَّقيلة ، واسمها ضمير الأمر والشَّأن حذف ، والجملةُ الاسمية بعدها في محلِّ الرفع خبراً لها؛ كقول الشَّاعر : [ البسيط ]
2879- فِي فِتْيَةٍ كسُيُوفِ الهِنْدِ قَدْ علمُوا ... أنْ هالكٌ كُلٌّ منْ يَحْفَى وينْتَعِلُ
و « أن » واسمها وخبرها في محلِّ رفع خبراً للمبتدأ الأول ، وزعم الجرجانيُّ : أن « أنْ » هنا زائدةٌ ، والتقدير : وآخرُ دعواهم الحمدُ الله ، وهي دعوى لا دليل عليها ، مخالفةٌ لنص سيبويه والنحويِّين ، وزعم المبرِّد أيضاً : أنَّ « أنْ » المخففة يجُوز إعمالها مخففة ، كهي مشدَّدةً ، وقد تقدَّم ذلك .
وتخفيفُ « أنْ » ، ورفع « الحَمْدُ » هي قراءةُ العامة ، وقرأ عكرمة ، وأبو مجلز ، وأبو حيوة ، وقتادة ، ومجاهد ، وابن يعمر ، وبلال بن أبي بردة ، وابن محيصن ويعقوب بتشديدها ، ونصب « الحَمْد » على أنَّهُ اسمها؛ وهذه تُؤيِّدُ أنَّها المخففةُ في قراءة العامَّة ، وتردُّ على الجُرجاني ، ومعنى الآية : أنَّ أهل الجنَّة يفتتحُون كلامهم بالتَّسبيحِ ، ويختمُونَهُ بالتَّحْميدِ .
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)
قوله تعالى : { وَلَوْ يُعَجِّلُ الله . . . } الآية .
هذا الامتناعُ نفيٌ في المعنى ، تقديره : لا يُعَجِّلُ الله لهم الشَّر ، قال الزمخشري : « فإن قلت : كيف اتَّصل به قوله : { فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } ، وما معناها؟ قلت : قوله » وَلَوْ يُعَجِّلْ « متضمِّن معنى نفي التَّعجيلِ ، كأنَّه قيل : ولا نُعَجِّل لهم بالشَّرِّ ، ولا نقضي إليهم أجلهم » .
قوله « استعجالهم » فيه أوجهٌ :
أحدها : أنَّه منصوبٌ على المصدر التَّشبيهيِّ ، تقديره : استعجالاً مثل استعجالهم ، ثُمَّ حذف الموصوف ، وهو « اسْتِعْجَال » ، وأقام صفته مقامه ، وهي « مِثل » ، فبقي : ولو يعجِّل الله مثل استعجالهم ، ثم حذف المضاف ، وأقام المضاف إليه مقامه ، قال مكِّي : « وهذا مذهبُ سيبويه » ، وقد تقدَّم مراراً أنَّ مذهب سيبويه في هذا ، أنَّه منصوبٌ على الحالِ من ذلك المصدرِ المُقدَّرِ ، وإن كان مشهورُ أقوالِ المُعْربين غيره ، ففي نسبةِ ما ذكرناه أولاً لسيبويه نظرٌ .
والثاني : أن تقديره : تعجيلاً مثل استعجالهم ، ثم فعل به ما تقدَّم قبله ، وهذا تقديرُ أبي البقاء ، فقدَّر المحذوف مطابقاً للفعل الذي قبلهُ؛ فإنَّ « تَعْجِيلاً » مصدر ل « عَجّلَ » ، وما ذكره مكِّي موافقٌ للمصدر الذي بعده .
والذي يظهر؛ ما قدَّره أبو البقاء؛ لأنَّ موافقة الفعل أولى ، ويكون قد شبَّه تعجيله تعالى باستعجالهم ، بخلاف ما قدَّره مكِّ ] ، فإنَّه لا يظهر؛ إذ ليس « اسْتِعْجَال » مصدراً ل « عَجَّل » ، وقال الزمخشري : « أصله : ولو يعجِّل الله للنَّاس الشرَّ تعجيله لهم الخير ، فوضع » اسْتِعْجَالهُم بالخَيْرِ « موضع تعجيله لهم الخبرَ؛ إشعاراً بسُرعةِ إجابته لهُمْ وإسعافه بطلبهم ، كأنَّ استعجالهُم بالخير تعجيلٌ لهُم » ، قال أبو حيَّان : « ومدلُولُ » عَجَّل « غير مدلول » اسْتَعْجَل « ؛ لأنَّ » عَجَّل « يدلُّ على الوقوع ، و » اسْتَعْجَل « يدلُّ على طلب التَّعجيل ، وذلك واقعٌ من الله - تعالى - ، وهذا مضافٌ إليهم ، فلا يكون التقدير على ما قاله الزمخشري ، فيحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون التقدير : تَعْجِيلاً مثل استعجالهم بالخير ، فشبَّه التَّعجيل بالاستعجالِ؛ لأنَّ طلبهم للخَيْر ، ووقوع تعجيله مقدَّمٌ عندهم على كلِّ شيء .
والثاني : أن يكون ثمَّ محذوفٌ يدلُّ عليه المصدر تقديره : ولو يُعَجِّل اللهُ للنَّاسِ الشرَّ ، إذا استعجلوا به اسْتعْجَالهُم بالخير؛ لأنَّهم كانوا يَسْتَعْجِلُون بالشرِّ ووقوعه على سبيل التَّهكم ، كما كانُوا يَسْتعجلُون بالخير » .
الثالث : أنَّه منصوبٌ على إسقاط الخافض ، وهو كاف التَّشبيه ، والتقدير : كاستعجالهم .
قال أبُو البقاء : « وهو بعيدٌ؛ إذ لو جاز ذلك ، لجاز » زيدٌ غلام عمرو « أي : كغلام عمرو » . وبهذا ضعَّفهُ جماعةٌ ، وليس بتضعيفٍ صحيحٍ؛ إذ ليس في المثال الذي ذكر فعلٌ يتعدَّى بنفسه عند حذف الجارِّ ، وفي الآية فعلٌ يَصِحُّ فيه ذلك ، وهو قوله : « يُعَجل » ، وقال مكِّي : « ويَلزَمُ مَنْ يجُوِّز حذفَ حرفِ الجر منه ، أن يُجيز » زيدٌ الأسدُ « ، أي : كالأسد » .
قال شهابُ الدِّين : « قوله : ويَلْزَمُ . . إلى آخره » ، لا رَدَّ فيه على هذا القائل ، إذ يلتزمه ، وهو التزامٌ صحيحٌ سائغٌ؛ إذ لا يُنكِرُ أحَدٌ « زيدٌ الأسد » ، على معنى : كالأسَد ، وعلى تقدير التَّسليم ، فالفرقُ ما ذكره أبو البقاء ، أي : إنَّ الفعل يطلب مصدراً مُشَبَّهاً ، فصار مدلُولاً عليه .
وقال بعضهم : تقديره : في استعجالهم؛ نقله مكِّي ، فلمَّا حذفت « في » انتصبَ ، وهذا لا معنى له ، وقال البغوي : المعنى « ولو يُعَجِّل الله إجابة دعائهم في الشرِّ والمكروه استعجالهم بالخير ، أي : كما يحبُّون استعجالهم بالخير » .
وقال القرطبي : قال العلماء : التَّعجيلُ من الله ، والاستعجال من العبدِ ، وقال أبو عليّ : هُمَا من الله .
فصل
في كيفية النَّظم وجوه :
أحدها : قال ابن الخطيب : « إنَّه ابتدَأ السورة بذكر شُبُهَاتِ المنكرينَ للنُّبوَّة مع الجواب عنها :
فالشبهة الأولى : أنَّ القوم تعجَّبُوا من تخصيص الله محمداً بالنُّبوة ، فأزال الله ذلك التعجُّب بقوله : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ } [ يونس : 2 ] ، ثم ذكر دلائل التَّوحيد ، ودلائل صحَّة المعاد .
وحاصل الجواب أن يقول : إنِّي ما جئتُكُم إلاَّ بالتوحيد ، والإقرار بالمعاد ، وقد دَلَّلنا على صحتهما ، فلمْ يَبْقَ للتعجُّب من نبوَّتِي معنى .
والشبهة الثانية : أنَّهم كانوا يقولون : اللَّهُمَّ إن كان ما يقول محمدٌ حقاً في ادِّعاء النُّبوَّة والرٍِّسالة ، فأمطر علينا حجارة من السَّماء ، أو ائتِنَا بعذابٍ أليمٍ ، فأجاب الله - تعالى - عن هذه الشبهة بهذه الآية .
وثانيها : قال القاضي : » لمَّا بيَّن الله - تعالى - الوعْد والوعِيدَ ، أتبعهُ بما يدلُّ على أن من حقِّهما ، أن يتأخَّرا عن ههذ الحياة الدُّنيويَّة؛ لأنَّ حصولهما في الدُّنيا ، كالمانع من بقاءِ التَّكليف .
وثالثها : قال القفال : إنَّه لمَّا وصف الكفار بأنهم لا يرجون لقاء الله ، ورضوا بالحياةِ الدُّنيا ، واطمأنوا بها ، وكانُوا عن آيات الله غافلين ، بيَّن أنَّ من غفلتهم ، أنَّ الرسول - عليه الصلاة والسلام - متى أنذرهم استعجلوا العذاب جهلاً منهم وسفهاً .
فصل
أخبر - تعالى - في آيات كثيرة : أنَّ هؤلاء المشركين متى خُوفوا بنزول العذاب في الدُّنيا ، استعجلوا ذلك العذاب ، كقولهم : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] ، وقوله تعالى : { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } [ المعارج : 1 ] الآية ، ثم إنهم لما توعدوا بعذاب الآخرة في هذه الآية ، بقوله { أولئك مَأْوَاهُمُ النار بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ يونس : 8 ] ، استعجلوا ذلك العذاب ، وقالوا متى يحصل ذلك؟ كما قال - تعالى - : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا }
[ الشورى : 18 ] ، وقال بعد هذه الآية ، في هذه السورة : { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ يونس : 48 ] ؛ إلى قوله { الآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } [ يونس : 51 ] وقال - تعالى - في سورة الرعد : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات } [ الرعد : 6 ] .
فبيَّن - تعالى - أنه لا مصلحة في تعجيل إيصال الشرّ إليهم؛ لأنه - تعالى - لو أوصل ذلك إليهم لماتوا ، لأن تركيبهم في الدنيا لا يحتمل ذلك ولا صلاح في إماتتهم ، فربما آمنُوا بعد ذلك ، أو خرج من صلبهم من يؤمن ، وذلك يقتضي ألاَّ يُعَاجلهُم الله بإيصال الشرِّ إليهم .
وسمى العذاب شرّاً؛ لأنه أذى في حقِّ المعاقب ، كما سماه سيئة في قوله : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة } [ الرعد : 6 ] ، وفي قوله : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] .
والمراد من استعجالهم الخير : أنَّهم كانوا عند نزول الشدائد يدعون الله بكشفها؛ لقوله : { إِذَا مَسَّكُمُ الضر فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } [ النحل : 53 ] ، { فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا } [ الزمر : 49 ] .
قوله : « لقُضِيَ » قرأ ابنُ عامر : « لقَضَى » بفتح القاف مبنياً للفاعل ، « أجلهم » بالنصب مفعولاً ، والباقون : بالضمِّ والكسر مبنياً للمفعول ، « أجلهم » رفعاً لقيامه مقام الفاعل ، وقرأ الأعمش ، ويعقوب ، وعبد الله : « لقَضَيْنَا » مسنداً لضمير المُعَظِّم نفسه ، وهي مؤيِّدةٌ لقراءةِ ابنِ عامرِ .
فصل
معنى { لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } أي : لفرغ من هلاكهم ولماتُوا جميعاً ، وقيل : إنَّها نزلت في النَّضر بن الحارث ، حين قال : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ } [ الأنفال : 32 ] الآية . قوله : { فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّه معطوفٌ على قوله : « ولوْ يُعجل اللهُ » ، على معنى أنَّه في قُوَّة النَّفي ، وقد تقدَّم تحقيقه في سؤال الزمخشري ، وجوابه فيه ، إلاَّ أنَّ أبا البقاء ردَّ عطفه على « يُعَجِّلُ » ، فقال : « ولا يجُوزُ أن يكون معطوفاً على » يُعَجِّلُ « ؛ إذ لو كان كذلك لدخل في الامتناع الذي تقتضيه » لَوْ « ، وليس كذلك؛ لأنَّ التعجيل لم يقع ، وتركهم في طغيانهم وقع » .
قال شهاب الدِّين : « إنَّما يتمُّ هذا الرَّدُّ ، لو كان معطوفاً على » يُعَجِّلُ « فقط ، باقياً على معناه ، وقد تقدَّم أنَّ الكلام صار في قُوَّة : لا نُعجل لهم الشَّرَّ : فنذرهم ، فيكون » فَنَذَرُهُم « معطوفاً على جملة النَّفي ، لا على الفعل الممتنع وحده ، حتَّى يلزم ما قال » .
والثاني : أنَّه معطوفٌ على جملةٍ مقدَّرة : أي : ولكن نمهلهم فنذر ، قالهُ أبو البقاء .
والثالث : أن تكون جملة مستأنفة ، أي : فنحنُ نذر الذين؛ قاله الحوفي .
فصل
المعنى : { فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } : لا يخافون البعث ، والحساب { فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } .
قال أهل السنة : إنَّه - تعالى - لمَّا حكم عليهم بالطُّغيان والعمه ، امتنع أن لا يكونوا كذلك ، وإلا لزم أن يَنْقَلِبَ خبر الله تعالى الصِّدق كذباً ، وعلمهُ جهلاً ، وحكمه باطلاً ، وكلّ ذلك محالٌ .
قوله تعالى : { وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر } : الجهد والشدة { دَعَانَا لِجَنبِهِ } أي : على جنبه مضطجعاً { أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً } يريد في جميع حالاته؛ لأنَّ الإنسان لا يعدُو إحدى هذه الحالات ، وفي كيفية النظم وجهان :
الأول : أنه تعالى لمَّا بيَّن في الآية الأولى أنَّه لو أنزل العذاب على العبد في الدُّنيا ، لهلك ولقُضِيَ عليه؛ فبيَّن في هذه الآية ما يدُلُّ على ضعفه ، ونهاية عجزه؛ ليكون ذلك مؤكداً لما ذكره ، من أنَّه لو أنزل عليه العذاب لمات .
الثاني : أنه - تعالى - حكى عنهم : أنَّهُم يستعجلُون نُزُول العذاب ، فبيَّن في هذه الآية ، أنَّهم كاذبُون في ذلك الاستعجال؛ لأنَّه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يُؤذيه ، فإنَّه يتضرَّعُ في إزالته عنه ، فدلَّ على أنَّهُ ليس صادقاً في هذا الطَّلب .
قوله : « لِجَنْبِهِ » في محلِّ نصبٍ على الحال؛ ولذلك عطف الحال الصَّريحة عليه ، والتقدير : دعانا مضطجعاً لجنبه ، أو مُلْقياً لجنبه ، واللاَّمُ على بابها عند البصريين ، وزعم بعضهم : أنَّها بمعنى : « عَلَى » ، ولا حاجة إليه ، واختلف في صاحب الحال : فقيل : الإنسان والعامل فيها « مسَّ » ، قاله ابن عطية ، ونقله أبو البقاء عن غيره ، واستضعفه من وجهين :
أحدهما : أنَّ الحال على هذا واقعةٌ بعد جواب « إذا » ، وليس بالوجه ، كأنه يعني : أنَّه ينبغي ألاَّ يجاب الشَّرطُ ، إلاَّ إذا استوفى معمولاته ، وهذه الحال معمولةٌ للشرط ، وهو « مسَّ » ، وقد أجيب قبل أن يستوفي معموله .
ثم قال : « والثاني : أن المعنى : كثرةُ دعائه في كلِّ أحواله ، لا على أن الضُّرَّ يُصيبُهُ في كل أحواله ، وعليه جاءت آياتٌ كثيرةٌ في القرآن » ، وقال أبو حيَّان : « وهذا الثاني يلزم فيه من مسِّه الضُّرَّ ، دعاؤه في هذه الأحوال؛ لأنَّه جوابُ ما ذكرت فيه هذه الأحوال ، فالقَيْدُ في الشرط قيدٌ في الجواب ، كما تقول : إذا جاءنا زيدٌ فقيراً أحْسَنَّا إليه ، فالمعنى ، أحْسَنَّا إليه في حال فَقْرِه » .
وقيل : صاحبُ الحال هو الضمير الفاعل في « دعانا » ، وهو واضحٌ ، أي : دعانا في جميع أحواله؛ لأنَّ هذه الأحوال الثلاثة لا يخلو الإنسان عن واحدةٍ منها .
فصل
قيل : المراد ب « الإنسان » هنا : الكَافِر .
وقيل : أبو حذيفة بن المغيرة ، تصيبه البأساء والشدة والجهد ، { دَعَانَا لِجَنبِهِ } أي : على جنبه مضطجعاً { أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً } وإنَّما أرادَ تسمية حالاته؛ لأنَّ الإنسانَ لا يعدُو هذه الحالات .
وقيل : وإنَّما بدأ بالمضطجع؛ لأنَّه بالضُّر أشدّ في غالب الأمْرِ ، فهو يدعُو أكثر ، والاجتهاد فيه أشدّ ، ثمَّ القاعد ثم القَائم .
وقيل : المراد بالإنسان : الجنسُ ، وهذه الأحوال بالنسبة إلى المجموع ، أي : مِنْهم من يدعُو مُسْتلقياً ، ومنهم مَنْ يدعُو قَائِماً ، أو يرادُ به شخصٌ واحدٌ ، جمع بين هذه الأحوال الثلاثة بحسب الأوقات ، فيدعو في وقت على هذه الحال ، وفي وقت على أخرى ، والصحيحُ أنَّ المراد ب « الإنسان » : الجنس ، وقال آخرون : كل موضع في القرآن ورد فيه ذكر الإنسان فالمراد به : الكافر ، وهذا باطل؛ لقوله :
{ ياأيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } [ الإنشقاق : 6 ، 7 ] لا شبهة في أنَّ المؤمنَ داخلٌ ، وكذا قوله : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر } [ الإنسان : 1 ] ، وقوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] ، { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } [ ق : 19 ] ، والحقُّ : أنَّ اللفظ المفرد ، المحلَّى بالألف واللام ، إن حصل معهودٌ سابقٌ ، صرف إليه ، وإن لم يحصل معهودٌ سابقٌ ، حمل على الاستغراق صوناً له عن الإجمال والتَّعطيل ، وقال صاحبُ النَّظْم : قوله { وَإِذَا مَسَّ الإنسان } وضعهُ للمستقبل ، وقوله : { فَلَمَّا كَشَفْنَا } للماضي ، فهذا النَّظْمُ يدلُّ على أنَّ معنى الآية يدل : على أنَّهُ كان هكذا فيما مضى ، وهكذا يكون في المستقبل ، فدل ما في الآية من الفعل المستقبل على ما فيه من المعنى المستقبل ، وما فيه من الماضي ، على الماضي « .
قوله : { كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ } قد تقدَّم الكلامُ على مثل هذا ، عند قوله : { كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ } [ النساء : 73 ] ، تقديره : كأنَّه لم يدعنا ، ثم أسقط الضمير تخفيفاً ، كقوله تعالى { كَأَن لَّمْ يلبثوا } [ يونس : 45 ] قال الزمخشري : » فحذف ضمير الشَّأن؛ كقوله : [ الهزج ]
2880- .. كأنْ ثَدْيَاهُ حُقَّانِ «
يعني : على رواية من رواه » ثَدْيَاهُ « بالألف ، ويروى : » كأن ثَدْيَيه « بالياء ، على أنها أعملت في الظَّاهر ، وهو شاذٌّ ، وهذا البيت صدره : [ الهزج ]
2881- وَوجهٍ مُشْرقِ النَّحْرِ ... كَأنْ ثدْيَاهُ حقَّانِ
وهذه الجملةُ التَّشبيهيَّةُ : في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل » مرَّ « ، أي : مضى على طريقته ، مشبهاً من لم يدعُ إلى كشف ضُرٍّ ، و » مسَّهُ « صفةً ل » ضُرّ « ، وقيل : » مَرَّ « عن موقف الابتهال والتضرُّع لا يرجع إليه ، ونسي ما كان فيه من الجهدِ والبلاء ، كأن لم يدعنا ، ولم يطلُب منَّا كشف ضُرِّه .
قوله : { كذلك زُيِّنَ } الكاف من » كذلِكَ « في موضع نصب على المصدر ، أي : مثل ذلك التَّزيين والإعراض عن الابتهال ، وفاعل » زُيِّنَ « المحذوف : إمَّا الله - تعالى - ، و إمَّا الشيطان ، و { مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } في محل رفع لقيامه مقام الفاعل ، و » مَا « يجوز أن تكون مصدريَّة ، وأن تكون بمعنى » الذي « .
فصل
قال أبو بكر الأصم : سُمّي الكافرُ مُسْرفاً؛ لأنَّه ضيَّع ماله ونفسه ، أمَّا النَّفس ، فإنه جعلها عبداً للوثن؛ وأمَّا المالُ؛ فلأنهم كانوا يُضَيِّعُون أموالهم في البحيرة ، والسَّائبة ، والوصيلة والحامِ .
وقيل : من كانت عادتُه كثرة التضرُّع والدعاء ، عند نزول البلاء ، وعند زوال البلاء بعرضُ عن ذكرِ الله وعن شكره ، يكون مُسْرِفاً في أمر دينه ، وقال ابن الخطيب : » المُسرفُ هو الذي ينفقُ المال الكثير؛ لأجل الغرضِ الخسيس ، ومعلومٌ أنَّ لذَّاتِ الدنيا وطيباتها خسيسةٌ جداً ، في مقابلة سعادات الآخرة ، والله - تعالى - أعطى الحواسَّ ، والعقل والفهم ، والقدرة ، لاكتساب السعادات العظيمة الأخرويَّة ، فمن بذل هذه الآلات العظيمة الشريفة؛ ليفوز بالسعادات الخسيسة ، كان قد أنفق أشياء عظيمة؛ ليفوز بأشياء حقيرة؛ فوجب أن يكون من المسرفين « .
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ } الآية .
لما حكى عنهم أنَّهم كانوا يقولون : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً } [ الأنفال : 32 ] الآية .
وأجاب بأن ذكر أنَّه : لا صلاح في إجابة دعائهم ، ثم بيَّن أنَّهم كانوا كاذبين في هذا الطلب؛ لأنَّه لو نزلت بهم آفةٌ ، تضرَّعُوا إلى الله تعالى في إزالتها ، بيَّن ههنا ما يجري مجرى التهديد : وهو أنَّه تعالى قد أنزل بهم عذاب الاستئصال ولا يزيله عنهم؛ ليكون ذلك رَادعاً لهم عن قولهم : { إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ } [ الأنفال : 32 ] ؛ لأنَّهم متى سمعُوا أنَّ الله قد يجيبُ دعاءهم ، وينزل بهم عذاب الاستئصال ، ثم سمعوا من اليهُود والنَّصارى ، أنَّ ذلك قد وقع مراراً كثيرة ، صار ذلك رَادِعاً عن ذكر هذا الكلام .
قوله : « مِن قَبْلِكُمْ » متعلقٌ ب « أهْلَكْنَا » ، ولا يجوز أن يكون حالاً من « القُرُون » ؛ لأنَّه ظرف زمانٍ ، فلا يقعُ حالاً عن الجثَّة ، كما لا يقع خبراً عنها ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا أوَّل البقرة [ البقرة : 21 ] ، وتقدم الكلامُ على « لمَّا » [ البقرة : 17 ] ، قال الزمخشري : « لما » ظرف ل « أهْلَكْنَا » ، و « وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم » يجوز أن يكون معطوفاً على « ظَلَمُوا » ، فلا محلَّ له عند سيبويه ، ومحلُّه الجر عند غيره؛ لأنَّه عطف على ما هو في محلِّ جرِّ بإضافة الظرف إليه ، ويجوز أن يكون في محلِّ نصب على الحال ، أي : ظلمُوا بالتَّكذيب ، وقد جاءتهُم رُسُلُهم بالحُجَجِ والشَّوَاهدِ على صدقهم . و « بالبَيِّنَاتِ » يجوز أن يتعلَّق ب « جَاءتْهُم » ، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ ، على أنَّه حالٌ من « رُسلهُمْ » ، أي : جاءُوا مُلتبسِين بالبيِّناتِ ، مُصاحبين لها .
قوله : « وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ » يجوز عطفه على « ظَلَمُوا » ، وهو الظَّاهرُ ، وجوَّز الزمخشري أن يكون اعتراضاً قال : واللامُ لتأكيد نفي إيمانهم ، ويعني بالاعتراض : كونه وقع بين الفعل ، ومصدره التشبيهي في قوله : « كذلِكَ نَجْزِي » والضميرُ في « كانُوا » عائد على « القُرُون » ، وجوَّز مقاتلٌ : أن يكون ضمير أهل مكة ، وعلى هذا يكونُ التفاتاً ، إذ فيه خُرُوجٌ من ضمير الخطابِ في قوله : « قَبْلِكُمْ » ، إلى الغيبة ، والمعنى : وما كنتم لتُؤمِنُوا .
و « كذلِكَ » نعتٌ لمصدرٍ محذوف ، أي : مثل ذلك الجزاء نجزي . وقرىء « يَجْزِي » بياء الغيبة؛ وهو التفاتٌ من التكلُّم في قوله : « أهْلَكْنَا » ، إلى الغيبةِ .
قوله : « ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ » أي : خلفاء « فِي الأرض مِن بَعْدِهِم » أي : من بعد القرون التي أهلكناهم ، وهذا خطابٌ للذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم .
قوله : « لِنَنظُرَ » متعلق بالجعل ، وقرأ يحيى الذماري بنون واحدة ، وتشديد الظَّاء ، وقال يحيى : « هكذا رأيتُه في مصحف عثمان » ، يعني : أنَّه رآها بنُون واحدة ، ولا يعني أنَّهُ رآها مشددة؛ لأنَّ هذا الشَّكل الخاصَّ إنَّما حدث بعد عثمان ، وخرجوها على إدغامِ النُّونِ الثانية في الظَّاء ، وهو رَدِيءٌ جداً ، وأحسنُ ما يقال هنا : إنَّه بالغ في إخفاءِ غُنَّة النُّون السَّاكنة ، فظنَّه السَّامع إدغاماً ، ورؤيته له بنُونٍ واحدةٍ ، لا يدلُّ على قراءته إيَّاه مشددة الظَّاءِ ، ولا مُخَفَّفها .
قال أبو حيان : « ولا يدلُّ على حذف النُّون من اللفظِ » وفيه نظرٌ؛ لأنه كيف يقرأ ما لم يكن مكتوباً في المصحف الذي رآه؟ وقوله : « كَيْفَ » منصوبٌ ب « تَعْملُون » على المصدر ، أي : أيَّ عملٍ تعملُون ، وهي معلِّقة للنَّظر .
فإن قيل : كيف جاز النَّظرُ إلى الله تعالى وفيه معنى المقابلة؟
فالجواب : أنَّه استعير لفظُ النظرِ للعلم الحقيقيِّ ، الذي لا يتطرَّقُ إليه الشَّكُّ ، وشبه هذا العلم بنظرِ النظر ، وعيان العاين .
فإن قيل : قوله : « لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ » مُشْعرٌ بأنَّ الله - تعالى - ما كان عالماً بأحوالهم قبل وجودهم .
فالجواب : أنَّه - تعالى - يعامل العباد معاملة من يطلب العلم بما يكون منهم؛ ليُجازيهُم بجنسه ، كقوله : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ هود : 7 ] ، قال - عليه الصلاة والسلام - : « إنَّ الدُّنْيَا خضرةٌ حُلوةٌ وإنَّ الله مُستخْلفُكُمْ فيهَا فنَاظِرٌ كيف تعمَلُون » ، قال الزجاج : « موضع » كيف « نصب بقوله : » تَعْمَلُون « ؛ لأنَّها حرف استفهام ، والاستفهام لا يعمل فيه ما قبله » .
قوله تعالى : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ } الآية .
روي عن ابن عبَّاس : أن خمسة من الكفار كانوا يستهزءون بالرَّسول - عليه الصلاة والسلام - وبالقرآن : الوليدُ بن المغيرة المخزومي ، والعاص بن وائل السهمي ، والأسود بن المطلب ، والأسود بن عبد يغوث ، والحارث بن حنظلة ، فقتل الله - تعالى - كل واحدٍ منهم بطريقٍ ، كما قال : { إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين } [ الحجر : 95 ] .
وقال مقاتل : هم خمسة : عبد الله بن أميَّة المخزومي ، والوليد بن المغيرة ، ومكرز بن حفص ، وعمرو بن عبدالله بن أبي قيس العامري ، والعاص بن عامر بن هشام ، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن كنت تريد أن نؤمن بك ، فأتِ بقرآنٍ ليس فيه تركُ عبادة اللاَّتِ ، والعُزَّى ، ومناة ، وليسَ فيه عيبها ، وإنْ لَمْ يُنْزلهُ الله ، فقُلْ أنت من عند نفسك ، أو بدله ، فاجعل مكان آيةٍ عذابٍ آية رحمة ، ومكان حرامٍ حلالاً ، وحلال حراماً .
فإن قيل : إذا بدَّل هذا القرآن فقد أتى بغير هذا القرآن ، وإذا كان كذلك ، كان كلُّ واحدٍ من هذين الأمرين هو نفس الآخر ، وممَّا يدلُّ على أنَّ كلَّ واحدٍ منهما عين الآخر : أنَّه - عليه الصلاة والسلام - اقتصر على الجواب بنفي أحدهما ، فقال :
« ما يكونُ لِي أنْ أبدِّلهُ مِنْ تِلْقاءِ نفْسِي إنْ أتَّبعُ إلاَّ ما يُوحَى إليَّ » ، فيكون التَّرديد فيه والتخيير باطلاً .
فالجواب : أنَّ أحد الأمرين غيرُ الآخر ، فالإتيان بكتاب آخر ، لا على ترتيب هذا القرآن ولا على نظمه ، يكون إتياناً بقرآن آخر ، وأمَّا إذا أتى بهذا القرآن ، إلاَّ أنَّه وضع مكان ذمِّ بعض الأشياء مدحها ، ومكان آية رحمةٍ آية عذابٍ ، كان هذا تبديلاً ، أو تقول : الإتيان بقُرآن غير هذا ، هو أن يأتيهم بكتاب آخر سوى هذا الكتاب ، والتبديل : هو أن يُغيِّر هذا الكتاب ، مع بقاء هذا الكتاب .
وقوله : إنَّه اكتفى في الجواب بنفي أحد القسمين :
قلنا : إنَّ الجواب المذكُور عن أحد القسمين ، هو عينُ الجواب عن القسم الثاني ، فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر؛ لأنَّهُ - عليه الصلاة والسلام - بيَّن ، أنَّه لا يجُوز أن يُبدِّله من تلقاءِ نفسه؛ لأنَّه واردٌ من الله - تعالى - ، ولا يقدر على مثله ، كما لا يقدر على مثله سائر العرب؛ لأنَّ ذلك كان مُتقرراً عندهم ، لمَّا تحدَّاهُم بالإتيانِ بمثله .
واعلم : أنَّ التماسهُم لهذا يحتمل أن يكون سُخْريةً واستهزاءً ، ويحتمل أن يكوّن ذلك على سبيل الجدِّ ، ويكون غرضهم : أنه إن فعل ذلك ، علمُوا كذبه في قوله : إنَّ هذا القرآن منزَّلٌ عليه من عند الله ، ويحتمل أن يكون التماسهم كتاباً آخر؛ لأن هذا القرآن مشتملٌ على ذم آلهتهم ، والطَّعن في طرائقهم ، فطلبُوا كتاباً آخر ليس فيه ذلك ، أو يكونوا قد جوَّزُوا كون القرآن من عند الله ، لكنَّهُم التمسُوا منه نسخَ هذا القرآن ، وتبديله بقرآن آخر .
قوله : « تِلْقاءِ » مصدرٌ على تِفْعَال ، ولم يجيءْ مصدر بكسر التَّاء ، إلاَّ هذا والتِّبيان ، وقُرِىء شاذّاً بفتح التَّاء ، وهو قياسُ المصادر الدَّالة على التَّكرار ، كالتَّطْواف ، والتَّجوال ، وقد يستعمل التِّلقاء بمعنى قُبالتُكَ ، فينتصبُ انتصابَ الظُّرُوف المكانيَّة .
قوله : { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ } لمَّا أمرهُ أن يقول : { مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي } ، أمرهُ بأن يقُول : { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ } فيما آمركم به ، وأنهاكم عنه ، وهذا يدلُّ على أنَّه لم يحكم قط بالاجتهاد .
وتمسَّك نفاة القياس بهذه الآية؛ لأنَّها تدلَّ على أنَّه - عليه الصلاة والسلام - ، ما حكم إلاَّ بالنَّصِّ . ثم قال : { إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } قالت المعتزلة : هذا مشروطٌ بعدم التوبة .
قوله تعالى : { قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ } الآية .
لمَّا اتَّهمُوه بأنَّه أتى بهذا الكتاب من عند نفسه ، احتجَّ عليهم بهذه الآية؛ وذلك بأنَّهم كانُوا عالمين بأحواله ، وأنَّه ما طالع كتاباً ، ولا تتلمَذ لأستاذ ، ثم بعد أربعين سنة ، أتى بهذا الكتاب العظيم المُشتَمل على نفائس علم الأصُول ، ودقائق علم الأحكام ، ولطائف علم الأخلاق ، وأسرار قصص الأوَّلين ، وعجز عن معارضته العلماء ، والفُصحاء ، والبُلغاء ، فكل من له عقلٌ سليمٌ يعرف أنَّ مثل هذا ، لا يحصُل إلاَّ بالوحْي ، والإلهام من الله - تعالى - ، والمعنى : لو شاء الله ما أنزل القرآن عليَّ .
قوله : « وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ » أي ولا أعلمكم الله به ، من دَريْتُ ، أي : عَلِمْتُ .
ويقال : دَرَيْتُ بكذا وأدْرَيْتُكَ بكذا ، أي : أحطت به بطريق الدِّراية ، وكذلك في « عَلِمْتُ به » ؛ فتضمَّن العلمُ معنى الإحاطة ، فتعَدَّى تعْديتَهَا .
وقرأ ابن كثير - بخلاف عن البزِّيِّ - « ولأدْرَاكم » ، بلام داخلة على « أدْرَاكم » مُثبتاً ، والمعنى : ولأعْلِمكُم به من غير وساطتي : إمَّا بواسطة ملكٍ ، أو رسولٍ غيري من البشر ، ولكنَّه خَصَّنِي بهذه الفضيلةِ ، وقراءةُ الجمهور « لا » فيها مُؤكَّدَةٌ؛ لأنَّ المعطوف على المنفيِّ منفيٌّ ، وليست « لا » هذه هي التي يُنفى بها الفعلُ؛ لأنَّه لا يصحُّ نفي الفعل بها إذا وقع جواباً ، والمعطوفُ على الجواب جوابٌ ، ولو قلت : « ول كان كذا لا كان كذا » لم يجُزْ ، بل تقول « ما كَانَ كذا » ، وقرأ ابنُ عبَّاس ، والحسن ، وابن سيرين ، وأبو رجاء : « ولاَ أدْرَأكم » بهمزةٍ ساكنةٍ بعد الرَّاء ، وفي هذه القراءة تخريجان :
أحدهما : أنها مبدلةٌ من ألف ، والألفُ منقلبةٌ عن ياءٍ ، لانفتاحِ ما قبلها وهي لغةٌ لعقيلٍ حكاها قطرب ، يقولون في أعطيتُك : أعطأتُك .
وقال أبو حاتم : « قلب الحسنُ الياء ألفاً ، كما في لغة بني الحرث ، يقولون : علاكَ وإلاكَ ، ثمَّ همز على لغة من قال في العالم : العألم » .
وقيل : أبدلتِ الهمزة من نفس الياء ، نحو : لَبَأتُ بالحجِّ ، ورثَأتُ فلاناً ، أي : لَبَّيْتُ ورَثَيْتُ .
والثاني : أنَّ الهمزة أصليَّة ، وأنَّ اشتقاقه من الدَّرْء وهو الدَّفْع ، كقوله : { وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب } [ النور : 8 ] ، ويقال : أدْرَأته ، أي : جعلته دَارئاً ، والمعنى : ولأجعلنَّكم بتلاوته خُصماء تَدْرَؤونني بالجدال ، قال أبُو البقاء : « وقيل هو غلط؛ لأنَّ قارئها ظَنَّ أنَّها من الدَّرْءِ وهو الدَّفْعُ؛ وقيل : ليس بغلطٍ ، والمعنى : لو شاء اللهُ لدفعكم عن الإيمان به » .
وقرأ شهر بن حوشب ، والأعمش : « وَلاَأنذَرْتكُم » من الإنذار ، وكذلك هي في مصحف عبد الله . قوله : « فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً » أي : حِيناً ، وهو أربعون سنة ، « مِّن قَبْلِهِ » أي : من قبل نُزُول القرآن ، فقيل : الضَّمير في « قبلِه » يعود على النُّزول ، وقيل : على القرآن ، وقيل : على وقت النُّزُول ، و « عُمُراً » مشبَّهٌ بظرف الزَّمان ، فانتصب انتصابه ، أي : مدة متطاولة ، وقيل : هو على حذف مضافٍ ، أي : مقدار عُمُر ، وقرأ الأعمشُ : « عُمْراً » بسكون الميم ، كقولهم « عَضْد » في « عَضُد » .
ثم قال : « أَفَلاَ تَعْقِلُون » أنَّهُ ليس من قبلي ، قال المفسِّرون : لبث النبيُّ صلى الله عليه وسلم وشرَّف وكرَّم ومجدَّ وعظَّم فيهم قبل الوحْي أربعين سنة ، ثم أوحي إليه ، فأقام بمكَّة بعد الوحْي ثلاثة عشرة سنة ، ثم هاجر إلى المدينة ، فأقام بها عشر سنين ، ثم تُوفي ، وهو ابن ثلاث وستِّين سنة .
وروى أنس - رضي الله عنه - : أنه أقام بمكَّة بعد الوحي عشر سنين ، وبالمدينة عشر سنين ، وتُوُفِّي وهو ابن ستين سنة ، والأول أشهر وأظهر .
قوله تعالى : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً } الآية .
قال القرطبي : « هذا استفهامٌ بمعنى الجحد ، أي : لا أحد أظلم ممَّن افترى على الله الكذب ، وبدّل وأضاف شيئاً إليه ممَّا لم ينزل » ، والمعنى : أنَّ هذا القرآن لوْ لَمْ يكُن من عند الله ، لما كان أحدٌ في الدُّنيا أظلم على نفسه منِّي ، حيث افتريتُه على الله ، ولمَّا أقمتُ الدَّليلَ على أنَّه ليس الأمر كذلك ، بل هُو وحيٌ من الله - تعالى - ، وجب أن يقال : إنَّه ليس في الدُّنيا أحد أجهل ، ولا أظلم على نفسه منكم .
والمقصود : نَفْي الكذب عن نفسه .
وقوله : « . . . أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ » فالمراد : إلحاق الوعيد الشديد بهم؛ حيث أنكروا دلائل الله - تعالى - ، وكذَّبوا بآيات الله ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبالقرآن ، ثم قال : « إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ المجرمون » أي : لا يَنْجُو المشركُون ، وهذا تأكيدٌ لما سبق من هذين الكلامين .
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)
قوله تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ } الآية .
لمَّا طلبُوا تبديل القرآن؛ لأنَّه مشتملٌ على ذمِّ الأصنامِ التي اتَّخذُوها آلهةً ، ذكر في هذا الموضع قبح عبادة الأصنام ، ليُبيِّنَ تحقيرَها .
قوله : « مَا لاَ يَضُرُّهُمْ » : « ما » موصولةٌ ، أو نكرةٌ موصوفةٌ ، وهي واقعةٌ على الأصنامِ ، ولذلك راعى لفظها ، فأفرد في قوله « مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ » ، وراعى معناها فجمع في قوله : « هؤلاء شُفَعَاؤُنَا » .
فصل
المعنى : ما لا يضُرُّهُمْ إن عصوه ، وتركُوا عبادته ، ولا ينفعهم إن عبدوه ، يعني : الأصنام { وَيَقُولُونَ هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله } ، فقيل : إنَّهم اعتقدُوا أنَّ المُتولِّي لكل إقليم ، روح معيَّن من أرواح الأفلاك ، فعيَّنُوا لذلك الرُّوح صنماً معيَّناً ، واشتغلوا بعبادة ذلك الصَّنَم ، ومقصودهم عبادةُ ذلك الرُّوح ، ثم اعتقدُوا أن ذلك الرُّوح ، يكون عبداً للإله الأعظم ، ومشتغلاً بعبوديَّته .
وقيل : إنَّهم كانُوا يعبدُون الكواكب ، فوضعُوا لها أصناماً مُعَيَّنة واشتغلوا بعبادتها ، ومقصودُهُم عبادةُ الكواكبِ ، وقيل : إنَّهم وضعُوا طلَّسْمَاتٍ معينةً على تلك الأوثان والأصنام ، ثم تقرَّبوا إليها .
وقيل : إنَّهُم وضعوا هذه الأوثان والأصنام ، على صور أنبيائهم ، وأكابرهم ، وزعمُوا أنَّهُم متى اشتغلُوا بعبادةِ هذه التماثيل ، فإنَّ أولئك الأكابر تكون شفعاء لهم عند الله .
قوله : « قُلْ أَتُنَبِّئُونَ » قرأ بعضهم : « أتُنْبِئُونَ » مخففاً من « أنْبَأ » ، يقال : أنْبَأ ونَبَّأ كأخْبرَ وخبَّرَ ، وقوله : « بِمَا لاَ يَعْلَمُ » « مَا » موصولةٌ ، أو نكرة موصوفة كالتي تقدَّمت ، وعلى كلا التقديرين : فالعائدُ محذوفٌ ، أي : يعلمُهُ ، والفاعلُ هو ضمير الباري - تعالى - ، والمعنى : أتُنَبِّئُونَ الله بالمعنى الذي لا يعلمُهُ إلاَّ الله ، وإذا لم يعلم الله شيئاً ، استحال وجودُ ذلك الشيء؛ لأنَّه - تعالى - لا يغربُ عن علمه شيءٌ ، وذلك الشيء هو الشَّفاعة ، ف « مَا » عبارة عن الشفاعة .
والمعنى : أنَّ الشَّفاعة لو كانت لعلمها الباري - تعالى - ، ومثل هذا الكلام مشهورٌ في العرف ، فإنَّ الإنسان إذا أراد نفي شيء عن نفسه ، يقول : ما علم الله هذا منِّي ، ومقصوده : أنَّ ذلكَ ما حصل أصلاً .
وقوله : { فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض } تأكيدٌ لنفيه؛ لأنَّ كلَّ موجودٍ لا يخرج عنهما . ويجوز أن تكون « مَا » عبارة عن الأصنام ، وفاعل « يَعْلَمُ » : ضميرٌ عائدٌ عليها .
والمعنى : أتُعلمون الله بالأصنامِ ، التي لا تعلم شيئاً في السموات ولا في الأرض ، وإذا ثبت أنها لا تعلم ، فكيف تشفع؟ والشافع لا بدَّ وأن يعرف الشمفوع عنده ، والمشفوع له؛ هكذا أعربه أبو حيَّان ، فجعل « مَا » عبارة عن الأصنام ، لا عن الشَّفاعة ، والأول أظهر ، و « مَا » في « عمَّا يُشْركُونَ » يحتمل أن تكون بمعنى : « الَّذي » أي : عن شركائهم الذين يشركونهم به في العبادة ، أو مصدريةٌ ، أي : عن إشراكهم به غيرهم ، وقرأ الأخوان هنا « عمَّا يُشْرِكُونَ » ، وفي النَّحْل موضعين :
الأول :
{ عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الملاائكة } [ النحل : 1 ، 2 ] .
الثاني : { بالحق تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ النحل : 3 ] .
وفي الروم : { هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ الروم : 40 ] بتاء الخطاب ، والباقون بالغيبة في الجميع ، وهما واضحتان ، وأتى هنا ب « يَشْرِكثونَ » مضارعاً دون الماضي ، تنبيهاً على استمرار حالهم كما جاءُوا يعبدون ، وتنبيهاً أيضاً على أنَّهم على الشرك في المستقبل ، كما كانوا عليه في الماضي .
قوله تعالى : { وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً } الآية .
لمَّا أقامَ الدَّلالة على فسادِ القول بعبادة الأصنام؛ بيَّن السَّبب في كيفية حدوث هذه المسألة الباطلة ، فقال : { وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي : على الدِّين الحقِّ؛ لأن المقصود من هذه الآية ، بيان كون الكفر باطلاً؛ لأنَّ قوله : { كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً } [ البقرة : 213 ] في الإسلام أو في الكفر ، ولا يجوزُ أن يكونوا أمَّةً واحدة في الكفر ، فبقي أنَّهُم كانوا أمَّة واحدة في الإسلام ، لقوله - تعالى - : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ } [ النساء : 41 ] ، وشهيدُ الله لا بدَّ وأن يكون مُؤمناً ، فثبت أنَّهُ لم تخل أمَّة من الأممِ ، إلا وفيهم مؤمنٌ .
وقد وردت الأحاديث ، بأنَّ الأرض لا تخلُو عمَّن يعبد الله - عزَّ وجلَّ - ، وعن أقوام بهم يمطرُ أهل الأرض ، فثبت أنَّهُم ما كانُوا أمَّة واحدة في الكفر ، فيكونوا أمَّة واحدة في الإيمان ، ثم اختلفوا أنهم متى كانوا كذلك؟ فقال ابن عباس ، ومجاهد - رضي الله عنهما - : كانوا على عهد آدمَ وولده صلوات الله البرِّ الرحيم والملائكة المقربين عليهما وسلامه دائماً ، واختلفوا عند قتل أحد ابنيه للآخر .
وقيل إنَّهم بقُوا على الإيمان إلى زمن نوح - عليه الصلاة والسلام - ، ثم اختلفوا على عهد نوح ، فبعث الله إليهم نُوحاً .
وقيل : كانُوا على الإيمان من زمن نُوح بعد الغرق ، إلى أن ظهر الكفر فيهم .
وقيل : كانُوا على الإسلام من عهد إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - إلى أن غيَّره عمرو بن لحيّ .
وهذا القائل قال : إنَّ المراد بالنَّاس : العرب خاصَّة ، والغرض منه : أنَّ العرب إذا علمُوا أنَّ عبادة الأصنام ما كانت أصلاً فيهم ، وإنَّما هي حادثةٌ ، لم يتأذوا من تزييفِ الطريقة ، ولم تنفُر طباعهم من إبطال هذا المذهب الفاسد .
وقال قوم : كانوا أمَّةً واحدة في الكفر ، قالوا : وفائدة هذا الكلام : أنَّه - سبحانه وتعالى - جل ذكره - بيَّن للرسول - صلوات الله وسلامه عليه - ، أنَّه لا تطمع في أن يصير كلُّ من تدعُوه إلى الدِّين مجيباً له ، فإنَّ الناس كانُوا على الكفر ، وإنَّما حدث الإسلام في بعضهم بعد ذلك ، فيكف تطمعُ في اتِّفاق الكلِّ على الإيمان؟ .
وقيل : المرادُ بكونهم أمَّةً واحدةً : أنَّهم خلقوا على فطرة الإسلام ، ثم اختلفوا في الأديان ، وإليه الإشارة بقوله - عليه الصلاة والسلام - « كلّ مولُودٍ يُولَدُ على فِطْرَةِ الإسلام ، فأبَواهُ يُهَوِّدَانهِ أو يُنَصِّرانِهِ أو يُمَجِّسَانِهِ » .
ثم قال : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ } مضت في حكمه ، أنَّه لا يقضي بينهم فيما اختلفُوا فيه بالثَّواب والعقاب دون القيامة ، « لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ » في الدنيا ، فأدخل المُؤمن الجنَّة ، والكافر النَّار ، ولكن سبق من الله الأجل ، فجعل موعدهم يوم القيامة .
وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)
قوله : « وَيَقُولُونَ » أي : كفَّار مكَّة ، « لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ » أي : على محمَّد « آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ » على ما نقترحُه ، وذلك أنَّهم قالوا : القرآن الذي جئنا به كتابٌ مشتملٌ على أنواع من الكلمات ، والكتاب لا يكون معجزاً ، كما أنَّ كتابَ موسى ، وعيسى ما كان معجزاً لهما ، بل كان لهما أنواع من المعجزات ، دلَّت على نُبُوَّتهما سوى الكتاب ، وكان في أهْل مكَّة من يدَّعي إمكان المعارضة ، كما أخبر الله - تعالى - عنهم في قوله : { لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا إِنْ هاذآ } [ الأنفال : 31 ] .
فلذلك طلبُوا منه شيئاً آخر سوى القرآن؛ ليكون معجزاً ، فأمر الله - تبارك وتعالى رسوله - صلوات الله وسلامه عليه - بأن يجيبهم بقوله : { إِنَّمَا الغيب للَّهِ فانتظروا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين } [ يونس : 20 ] .
وتقريرُ هذا الجواب : أنه أقام الدلالة القاهرة على أنَّ القرآن معجزةٌ قاهرةٌ؛ لأنَّه - صلوات الله وسلامه عليه - نشأ بينهُم ، وعلموا أنَّهُ لم يُطالِعْ كتاباً ، ولا تتلمذ لأستاذ ، مدَّة أربعين سنة مُخالطاً لهُم ، ولم يشتغل بالفِكْرِ والتَّعلم قط ، ثم إنَّه أظهر هذا القرآن العظيم ، وظهورُ مثل هذا الكتاب على مثل ذلك الإنسان ، لا يكونُ إلاَّ بالوحي ، وإذا كان كذلك ، فطلب آية أخرى سوى القرآن يكون اقتراحاً لا حاجة إليه وعناداً ، ومثل هذا يكون مُفَوَّضاً إلى مشيئة الله - تعالى - ، فإن شاء أظهر ، وإن شاء لم يظهر ، فيكون من باب الغيب ، فيجبُ على كلِّ أحدٍ أن ينتظر ، هل يفعله الله أم لا؟ ولكن سواء فعل أم لم يفعل فقد ثبت نُبُوَّتُه ، وظهر صدقُه ، وهذا المقصُود لا يختلف بحُصُول تلك الزِّيادة وعدمها .
قوله تعالى : { وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً } الآية .
وهذا جوابٌ آخر لسُؤالهم ، وطلبهم المعجزة ، وذلك من وجهين :
الأول : أنَّ عادتهُم العناد ، والمكر ، وعدم الإنصاف ، فبتقدير أن يعطوا ما سألوه ، فإنهم لا يُؤمنون ، بل يبقون على كفرهم ، وعنادهم؛ وبيانه أنَّ الله - تعالى - سلَّط القَحْط على أهل مكَّة سبع سنين ، ثمَّ رحمهم ، وأنزل المطر على أراضيهم ، ثم إنَّهم أضافُوا المنافع إلى الأنواء والكواكب .
الوجه الثاني : أنَّه لو أنزل عليهم المعجز لم يقبلُوه؛ لأنَّه ليس غرضهم من هذه الاقتراحات التَّشدد في الدِّين ، وإنما غرضُهُم الدَّفع ، والمبالغة في صون مناصبهم الدنيويَّة؛ لأنَّه - تعالى - لمَّا سلَّط البلاء عليهم ، ثم أزالهُ عنهم ، فهم مع ذلك استمرُّوا على الكُفْر .
قوله : « وَإِذَآ أَذَقْنَا » شرطيَّةٌ؛ جوابها « إذا » الفُجائيَّةُ في قوله : « إذا لهُم مكرٌ » ، والعاملُ في « إذَا » الفُجائيَّة؛ الاستقرارُ الذي في « لَهُمْ » ، وقد تقدَّم الخلافُ في « إذَا » هذه ، هَلْ هِيَ حرفٌ أو ظرفُ زمان على بابها ، أو ظرفُ مكان؟ قال أبو البقاءِ : « وقيل : » إذا « الثانية زمانيَّة أيضاً ، والثانية وما بعدها جواب الأولى » ، وهذا الذي حكاهُ قولٌ ساقطٌ لا يفهم معناه .
فصل
معنى الآية : { وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس } يعني : الكفار { رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ } أي : راحة ورخاء من بعد شدة وبلاء .
وقيل : القطر بعد القحط ، « مَسَّتْهُمْ » أي : أصابتهُم .
واعلم : أنَّ رحمة الله لا تُذاق بالفَمِ ، وإنَّما تُذاق بالعقْلِ .
وقوله { إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ في آيَاتِنَا } قال مجاهد : تكذيب واستهزاء ، وسُمِّي التكذيبُ مكراً؛ لأنَّ المكر عبارةٌ عن صرف الشَّيءِ عن ظاهره بطريق الحيلة ، وهؤلاء يحتالُون لدفع آيات الله - سبحانه وتعالى - بكل ما يقدرون عليه من إلقاء الشُّبْهَة ، أو التَّخْليط في المناظرة ، أو غير ذلك من الأمور الفاسدة .
وقال مقاتل : لا يقولون هذا من رزق الله ، إنَّما يقولون سُقِينَا بِنَوء كذا ، وهو كقوله : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [ الواقعة : 82 ] .
وقوله : « في آيَاتِنَا » متعلقٌ ب « مَكْرٌ » ، جعل الآيات محلاًّ للمكر مبالغة ، ويضعف أن يكون الجارُّ صفةً ل « مَكْرٌ » .
قوله : { قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْراً } « أسرَعُ » مأخوذٌ من « سَرُعَ » ثلاثياً؛ حكاه الفارسي .
وقيل : بل مِنْ « أسْرَع » وفي بناء أفعل وفِعْلى التعجُّب من « أفعل » ثلاثةُ مذاهب :
الجواز مطلقاً .
المنع مطلقاً .
التَّفصيلُ : بين أن تكون الهمزةُ للتَّعدية فيمتنع ، أو لا فيجوز . وقال بعضهم : « أسْرَعُ » هنا ليست للتفضيل . وهذا ليس بشيءٍ ، إذ السِّياق يردُّه ، وجعله ابن عطيَّة - أعني كون أسرع للتَّفضيل - نظير قوله : « لَهِي أسودُ مِنَ »
قال أبو حيَّان : « وأما تنظيرُهُ » « أسود من القَار » ب « أسْرَع » ففاسد؛ لأنَّ « أسْوَد » ليس فعلهُ على وزن « أفْعَل » ، وإنما هو على وزن « فَعِل » نحو : سَوِد فهو أسْود ، ولم يمتنع التَّعجُّب ، ولا بناء أفعل التفضيل عند البصريين من نحو : سَوِدَ ، وحَمِرَ ، وأدِمَ ، إلاَّ لكونه لوناًن وقد أجاز ذلك بعضُ الكوفيين في الألوان مطلقاً ، وبعضهم في السَّواد والبياض فقط « .
قال شهاب الدِّين : تنظيره به ليس بفاسدٍ؛ لأنَّ مراده بناءُ أفعل ممَّا زاد على ثلاثة أحرُف ، وإن لم يكن على وزن » أفْعَل « ، و » سَوِد « وإن كان على ثلاثةٍ ، لكنه في معنى الزَّائد على ثلاثة ، إذ هو في معنى » أسْوَد « ، و » حَمِرَ « في معنى أحْمَر؛ نصَّ على ذلك النحويُّون ، وجعلوه هو العلَّة المانعة من التعجُّب في الألوان .
و » مَكْراً « نصبٌ على التَّمييز ، وهو واجبُ النَّصب؛ لأنَّكَ لو صُغْتَ من » أفْعَل « فعلاً ، وأسندته إلى تمييزه فاعلاً ، لصحَّ أن يقال : » سَرُع مَكْرُه « ، وأيضاً فإنَّ شرط جواز الخفضِ ، صِدْقُ التمييز على موصوفِ أفعل التَّفضيل ، نحو : » زيدٌ أحسنُ فقيهٍ « ، ومعنى » أسْرَعُ مَكْراً « : أعجل عُقُوبة ، وأشدُّ أخذاً ، وأقدر على الجزاء ، أي : عذابه أسرع إليكم ممَّا يأتي منكم في دفع الحقِّ .
قوله : { إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ } قرأ الحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، والأعرج ، ويعقوب ، ونافع - رضي الله عنهم - في رواية : « يَمْكُرُوْنَ » بياء الغيبة جرياً على ما سبق ، والباقون بالخطاب : مبالغة في الإعلام بمكرهم ، والتفاتاً لقوله : « قُلِ اللهُ » ؛ إذ التقدير : قُلْ لهُمْ ، فناسب الخطاب ، وقوله : « إنَّ رُسُلنَا » التفاتٌ أيضاً ، إذ لو جرى على قوله : « قُلِ اللهُ » ، لقيل : إنَّ رسله ، والمراد بالرُّسل : الحفظة .
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
قوله تعالى : { هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر } الآية .
لمَّا ذكر في الآيةِ الأولى ، مجيء الرَّحمة بعد الضرِّ ، أو الرَّخاء بعد الشدَّة ، ذكر في هذه الآية مثالاً لذلك ، وبياناً لنقل الإنسان من الضرِّ إلى الرحمة ، وذلك أنَّ الإنسان إذا ركب السَّفينة ، ووجد الرِّيح الطيبة الموافقة لمقصوده ، حصل له المسرَّة القويَّة ، والنَّفْع التَّام ، ثم قد تظهرُ علامات الهلاك؛ بأنْ تجيئهم الرِّياح العاصفة ، أو تأتيهم الأمواج العظيمة من كل جانبٍ ، أو يغلب على ظنونهم أنَّ الهلاكَ واقعٌ بالانتقال من تلك الأحوال الطيِّبة ، إلى هذه الأحوال الشديدة ، فوجب الخوفُ العظيمُ ، والإنسان في هذه الحالة ، لا يطمعُ إلا في فضْلِ الله - سبحانه وتعالى - ، ويقطع طعمهُ عن جيمع الخلق ، ويصير بجميع أجزائه مُتضرِّعاً إلى الله - تعالى - ، ثُمَّ إذا نجَّاهُ الله - تعالى - من هذه البليَّة العظيمة ، نسي النِّعمة ، ورجع إلى ما ألفهُ من العقائد الباطلةِ .
قوله : « يَنْشُركم » قراءةُ ابن عامر من النَّشْرِ ضدَّ الطيّ ، والمعنى : يُفَرِّقكم ويَبُثُّكُم ، وقرأ الحسن : « يَنْشِركُم » من « أنْشَر » ، أي : أحْيَا ، وهي قراءةُ ابن مسعودٍ أيضاً ، وقرأ بعضُ الشَّاميين : « يُنَشِّركم » بالتشديد؛ للتَّكثير من النَّشْر الذي هو مطاوع الانتشار ، وقرأ الباقون : « يُسَيِّركُم » من التَّسْييرِ ، والتَّضعيفُ فيه للتعدية ، تقول : سَارَ الرَّجُل ، وسيَّرْتُهُ أنَا .
وقال الفارسيُّ : « هو تَضْعيفُ مُبَالغةٍ لا تضعيفُ تعديةٍ؛ لأنَّ العرب تقول : سِرْتُ الرَّجُلَ وسيَّرته » .
ومنه قول الهُذليِّ : [ الطويل ]
2882- فَلا تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أنْتَ سِرْتَهَا ... فأوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا
وهذا الذي قالهُ أبو علي غير ظاهر؛ لأنَّ الأكثر في لسان العرب ، أنَّ « سار » قاصرٌ ، فجعلُ المضعف مأخوذاً من الكثير أولى .
وقال ابن عطيَّة : « وَعَلى هذا البيت اعتراضٌ ، حتَّى لا يكون شاهداً في هذا؛ وهو أن يكون الضَّمير كالظرف كما تقول : سِرْتُ الطريق » .
قال أبو حيَّان : « وأمَّا جعلُ ابن عطيَّة الضَّميرَ كالظَّرفِ كما تقول : سِرْتُ الطَّريقَ . فهذا لا يجوزُ عند الجمهور؛ لأنَّ » الطَّريق « عندهم ظرفٌ مختصٌّ كالدَّار ، فلا يصلُ إليها الفعلُ غير » دَخَلتُ « عند سيبويه ، و » انطلقتُ « و » ذَهَبْتُ « عند الفرَّاء - إلاَّ بوساطة » في « ، إلاَّ في ضرورة ، وإن كان كذلك فضميرهُ أحرى أن لا يتعدَّى إليه الفعل » .
وزعم ابنُ الطَّراوةِ أنَّ « الطَّريقَ » ظرفٌ غيرُ مختصٍّ ، فيصلُ إليه الفعلُ بنفسه ، وأباهُ النُّحَاة « .
قوله : » حتى إِذَا « » حتَّى « متعلقةٌ ب » يُسَيِّركم « ، وقد تقدَّم الكلامُ على » حتَّى « هذه الداخلة على » إذَا « [ النساء : 6 ] ، قال الزمخشري : » كيف جعل الكونَ في الفُلكِ غاية التَّسيير في البَحْر ، والتَّسييرُ في البَحْر ، إنَّما هو بالكون في الفلك؟ قلت : لَمْ يجعلِ الكون في الفلكِ غاية التَّسيير ، ولكنَّ مضمونَ الجملةِ الشرطيةِ الواقعةِ بعد « حتَّى » بما في حيِّزها ، كأنَّه قال : يُسَيِّركُم حتَّى إذا وقعت هذه الحادثةُ ، فكان كيت وكيت من مجيء الرِّيح العاصفِ ، وتراكُم الأمواج ، والظَّن للهلاك ، والدُّعاء بالإنجاء « ، وقرأ أبو الدَّرْدَاء وأمُّ الدرداء : » في الفُلْكِيّ « بياء النَّسب ، وتخريجها يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يراد به الماءُ الغَمْرُ الكثيرُ ، الذي لا يجري الفلكُ إلاَّ فيه ، كأنَّه قيل : كنتم في اللُّجِّ الفلكيِّ ، ويكون الضمير في » جَرَيْنَ « عائداً على الفلك؛ لدلالةِ » الفُلْكي « عليه لفظاً ، ولزوماً .
والثاني : أن يكون من باب النِّسبةِ ، كقولهم : « أحْمَرِيٌّ » ، كقوله : [ الرجز ]
2883- أطَرَباً وأنتَ قِنَّسْرِيُّ ... والدَّهْرُ بالإنسَانِ دَوَّارِيُّ
وكنسبتهم إلى العلم ، في قولهم : « الصَّلتَانيّ » ، كقوله : [ الطويل ]
2884- أنَا الصَّلتانِيُّ الذي قَدْ عَلِمْتُمُ .. .
فزاد ياء النَّسب في اسمه .
قوله : « وجَريْنَ » يجُوزُ أن يكون نسقاً على « كُنْتُم » ، وأن يكون حالاً على إضمار « قَدْ » ، والضمير عائدٌ على « الفُلْكِ » ، والمراد به هنا : الجمع ، وقد تقدَّم أنه تكسير ، وأنَّ تغييره تقديريٌّ [ البقرة : 164 ] ، فضمَّتُه كضمَّةِ « بُدْن » ، وأنَّهُ ليس باسم جمع كما زعم الأخفشُ .
وقوله : « بِهِمْ » فيه التفاتٌ من الخطاب إلى الغيبة .
قال الزمخشري : « فإن قلت ما فائدةُ صرف الكلامِ ، عن الخطابِ إلى الغيبةِ؟ قلت : المبالغةُ؛ كأنه يذكُرُ لغيرهم حالهُ ليُعَجِّبَهم منها ، ويستدعي منهم الإنكارَ والتَّقبيحَ » ، وقال ابنُ عطيَّة : « بِه