حمل المصحف وورد وبي دي اف.

 حمل المصحف وورد وPDF.
القرآن الكريم وورد word doc icon||| تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

الجمعة، 23 سبتمبر 2022

ج49.وج50.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب

 

ج49.وج50.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
وتقدَّم الكلامُ على نصب « فَيَكُونَ » .

 

ج49.وج50.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
وتقدَّم الكلامُ على نصب « فَيَكُونَ » .

اولا :

ج49. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
وتقدَّم الكلامُ على نصب « فَيَكُونَ » .
فصل فيما تشير إليه « ذلك »
« ذَلِكَ » إشارةٌ إلى ما تقدَّم .
قال الزَّجَّّاج - رحمه الله- ، أي : ذلك الذي قال : { إِنِّي عَبْدُ الله } [ مريم : 30 ] عيسى ابن مريم إشارةٌ إلى أنَّه ولدُ هذه المرأة ، لا أنَّه ابنُ الله [ كما زعمت النصارى ] .
وقوله : { الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ } ، أي : يختلفوُن ، وأما امتراؤهُم في عيسى ، فقائلٌ يقُولُ : هو ابنُ الله ، وقائلٌ يقولُ : هو الله ، وقائل يقُولُ : هو ساحرٌ كاذبٌ ، وتقدَّم الكلامُ على ذلك في آل عمران .
ورُوِيَ أن عيسى - صلوات الله عليه- لمَّا رفع ، حضر أربعةٌ من [ أكابر ] علمائهم ، فقيل للأوَّل : ما تُقولُ في عيسى؟ قال : هو الله هبط إلى الأرض ، خلق ، وأحيى ، ثم صعد إلى السَّماء ، فتبعهُ على ذلك خلقٌ ، وهم اليَعْقُوبيَّةُ ، وقيل للثاني : ما تقوُلُ؟ قال : هو ابنُ الله ، فتابعهُ على ذلك ناسٌ ، وهم النسطورية ، [ وقيل للثالث : ما تقول؟ قال : هو غله ، والله إله ، فتابعه على ذلك أناس ، وهم الاسرائيلية ] ، وقيل للرابع : ما تقولُ . فقال : عبدُ الله ورسولهُ ، وهو المؤمنُ المُسْلم ، وقال : أما تعلمُونَ أنَّ عيسى كان يطعمُ ، ونيام ، وأنَّ الله تعالى لا يجُوزُ ذلك عليه ، فخصمهم .
قوله تعالى : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } نفى عن نفسه الولد ، أي : ما كان من نعته اتخاذ الولد .
والمعنى : أن ثبوت الولد له محالٌ ، فقوله : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } كقولنا : ما كان للهِ أن يكون له ثانٍ وشريكٌ ، أي : لا يصحُّ ذلك ، ولا ينبغي ، بل يستحيلُ؛ فلا يكونُ نفياً على الحقيقةِ ، وإن كان بصُورة النَّفِي .
وقيل : اللاَّم منقولةٌ ، أي : ما كان من ولدٍ ، والمرادُ : ما كان الله أن يقُول لأحدٍ ، إنَّه ولدي؛ لأنَّ مثل [ هذا ] الخبر كذبٌ ، والكذبُ لا يليقُ بحكمةِ الله تعالى وكماله ، فقوله : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } كقولنا : ما كان لله أن يظلم ، أي : لا يلِيقُ بحكمته ، وكمالِ إلهِيَّتِهِ .
قوله تعالى : { إِذَا قضى أَمْراً } إذا أراد أن يحدث أمْراً ، { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } ، وهذا كالحُجَّة على تَنْزيهه عن الولدِ ، وبيانهُ : أن الَّذي يجعلُ للهِ ولداً ، إما أن يكون الولدُ قديماً أزليَّا ، فهو محالٌ؛ لأنَّه [ لو كان واجباً لذاته ، لكان واجبُ الوجودِ أكثر من واحدٍ ، ] ولو كان [ مُمْكِناً ] لذاته ، لافتقر في وجوده إلى الواجب لذاته؛ لأنَّ الواجب لذاته غنيٌّ لذاته ، فلو كان مفتقراً في وجودِهِ إلى الواجِبِ لذاتِه ، كان ممكناً لذاته ، والممكنُ لذاته محتاجٌ لذاته ، فيكُون عبداً له؛ لأنَّهُ لا معنى للعبُوديَّة إلاَّ ذلك .
وإن كان الولدُ مُحْدَثاً ، فيكون وجوده بعد عدمه بخلق ذلك القديم ، وإيجاده ، وهو المرادُ من قوله تعالى : { إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } .
فيكونُ عَبْداً ، لا ولداً؛ فثبت أنه يستحيلُ أن يكون لله ولدٌ .
فصل في قدم كلام الله تعالى
دلَّت هذه الآية على قدم كلام الله تعالى؛ لأنَّه إذا أراد إحداث شيءٍ ، قال له : { كُن فَيَكُونُ } فلو كان بقوله : « كُنْ » مُحْدَثاً ، لافتقر حدوثُه إلى قولٍ آخر ، ولزمَ التَّسَلْسُل؛ وهو محال؛ فثبت أنَّ قول الله تعالى ، قديمٌ ، لا مُحْدَث .
واحتج المعتزلةُ بالآية على حُدُوثِ كلامِ الله تعالى من وجوه :
أحدها : أنه تعالى أدخل كلمة « إذَا » وهي دالَّة على الاستقبال؛ فوجب ألاَّ يحصُلَ ذلك القولُ إلاَّ في الاستقبال .
ثانيها : أنَّ « الفاء » للتعقيب ، و « الفاءُ » في قوله : « فإنَّمَا يَقُولُ » يدلُّ على تأخير ذلك القول عن ذلك القضاء والمتأخِّر عن غيره مُحدثٌ .
وثالثها : « الفاءُ » في قوله « فَيَكُونُ » يدلُّ على حصول ذلك الشيء عقيب ذلك القول من غير فصلٍ ، فيكون قولُ اللهِ تعالى متقدِّمَّاً على حُدُوث الحادث تقديماً بلا فَصْلٍ ، والمتقدم على المحدثِ تقديماً بلا فصل يكونُ مُحْدَثاً ، فقولُ الله محدثٌ .
قال ابنُ الخطيبِ - رحمه الله- واستدلالُ الفريقين ضعيفٌ .
أمَّا الأوَّل؛ فلأنَّه يقتضي أن يكون قوله « كُنْ » قديماً ، وذلك باطلٌ بالاتِّفاق .
وأمَّا الاستدلالُ المعتزلة؛ فلأنَّه يقتضي أن يكون قولُ الله تعالى الذي هو مركَّبٌ من الحروف ، والأصوات مُحْدَثاً؛ وذلك لا نزاع فيه ، [ لأن ] المدَّعى قدمُه شيءٌ آخرُ .
فصل في أقوال الناس في قوله « كُنْ »
من النَّاس من أجْرَى الآيةَ على ظاهرها ، وزعم أنَّه تعالى ، إذا أحدث شيئاً ، قال له : كُنْ ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّه إما أن يقُول له : كُنْ قبل حدوثه ، أو حلب حُدُثه ، فإن كان الأوَّل ، كان خطاباً مع المعدُوم ، وهو عبثٌ ، وإن كان حال حدوثه ، فقد وُجِدَ بالقُدْرَة ، والإرادة ، لا بقوله « كُنْ » ومن النَّاس من زعم أنَّ المراد من قوله : « كُنْ » هو التخليقُ والتكوينُ؛ لأنَّ القُدْرَة على الشَّيء غير ، وتكوين الشيء غيرٌ فإنَّ الله تعالى قادرٌ في الأزل ، وغير مُكَوِّن في الأول؛ ولأنَّه الآن قادرٌ على عالم سوى هذا العالم ، وغير مكوِّن له ، فالقادريَّة غير المكنونيَّة ، والتكوينُ ليس هو نفس المكوَّن؛ لأنَّ المكوَّن إنما حدث؛ لأنَّ الله تعالى كونه ، وأوجده ، فلو كان التَّكوين نفس المكوَّن؛ لكان قولنا : « المُكَوَّن إنَّما وجد بتكوين الله » بمنزلةِ قولنا : « المُكَوَّنُ إنَّما وجد بنَفْسِه » وذلك محالٌ؛ فثبت أنَّ التكوين غير المُكَوَّن ، فقوله « كُنْ » إشارةٌ إلى الصفة [ المسمَّاة ] بالتكوين .
وقال آخرون : قوله سبحانه وتعالى : « كُنْ » عبارةٌ عن نفاذ قُدرة الله تعالى ومشيئته في المُمْكِنَات؛ فإنَّ وقوعها بتلك القُدْرة والإرادة من غير امتناع واندفاع يجري مُجْرَى العَبْد المُطِيع المُنْقَاد لأوامر الله تعالى ، فعبر الله تعالى عن ذلك المعنى بهذه العبرةِ على سبيلِ الاستعارة .
قوله : { وَإِنَّ الله } : قرأ ابن عامرٍ ، والكوفيُّون « وإنَّ » بكسر « الهمزة » على الاستئناف ، ويؤيِّدها قراءةُ أبيِّ « إن الله » بالكسر ، دون واو ، وقرأ الباقون بفتحها ، وفيها أوجهٌ :
أحدها : أنها على حذف حرف الجرِّ متعلقاً بما بعده ، والتقدير : وأنَّ الله ربِّي وربُّكم فاعبُدُوه؛ كقوله تعالى : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً } [ الجن : 18 ] والمعنى : لوحدانيَّته أطيعوه ، وإليه ذهب الزمخشريُّ تابعاً للخيل وسيبويه - رحمة الله عليهم- .
الثاني : أنها عطفٌ على « الصلاةِ » والتقديرُ : وأوصاني بالصلاةِ ، وبأنَّ الله ، وإليه ذهب الفراء ، ولم يذكر مكِّي غيره؛ ويريِّده ما في مصحف أبيِّ « وبأنَّ الله ربِّي » بإظهاره الباءِ الجارَّة ، وقد استُبْعِد هذا القولُ؛ لكثرةِ الفواصل بين المتعاطفين ، وأمَّا ظهورُ الباءِ في مصحفِ أبيٍّ؛ فلا يُرجِّحُ هذا؛ لأنها باءُ السببيةِ ، والمعنى : بسببِ أنَّ اله ربِّي وربُّكم فاعبدُوهُ ، فهي كاللاَّم .
الثالث : أن تكون « أنَّ » وما بعدها نسقاً على « أمْراً » المنصُوب ب « قَضَى » والتقديرُ : وإذا قضى أمراً ، وقضى أنَّ الله ربِّي وربُّكم ، ذلك أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاءِ ، واستبعد الناسُ صحَّة هذا النقلِ عن أبي عمرو؛ لأنَّه من الجلالةِ في العلم والمعرفة بمنزلٍ يمنعهُ من هذا القولِ؛ وذلك لأنَّه إذا عطف على « أمْراً » لزم أن يكون داخلاً في حيِّز الشرطِ ب « إذَا » وكونهُ تبارك وتعالى ربنا لا يتقيَّد بشرطٍ ألبتَّة ، بل هو ربُّنا على الإطلاق ، ونسبوا هذا الوهم أبي عبيدة؛ لأنَّه كان ضعيفاً في النَّحو ، وعدُّوا له غلطاتٍ ، ولعلَّ ذلك منها .
الرابع : أن يكون في محلِّ رفع خبر ابتداءٍ مضمرٍ ، تقديره : والأمرُ أنَّ الله ربِّي وربُّكم ، ذكر ذلك عن الكسائيِّ ، ولا حاجة إلى هذا الإضمارِ .
الخامس : أن يكون في محلِّ نصبٍ نسقاً على « الكتاب » في قوله « قال إني عبدُ الله آتاني الكتابَ » على أن يكونَ المخاطبُ بذلك مُعاصِري عيسى - عله صلوات الله- والقائلُ لهم ذلك عيسى ، وعن وهبٍ ، عهد إليهم عيسى : أنَّ الله ربي وربُّكم ، قال هذا القائل : ومن كسر الهمزة يكون قد عطف « إنَّ الله » على قوله « إنِّي عبد الله » فهو داخلٌ في حيِّز القولِ ، وتكون الجملُ من قوله « ذلك عيسى ابْنُ مريمَ » إلى آخرها جمل اعتراضٍ .
وهذا من البعد بمكان كأنَّه قال : إنَّي عبد الله ، والله ربِّي وربُّكم ، فاعبدوه ، وهذا قول أبي مسلمٍ ، الأصفهانيِّ ، وهو بعيدٌ .
فصل في دلالة الآية
قوله : { وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ } يدلُّ على أنَّ مدبِّر العالمِ ، ومصلح أمورهم هو الله سبحانه وتعالى [ على ] خلافِ قول المُنَجَّمين : أنَّ المدبِّر للنَّاسِ ، ومُصلحَ أمورهم في السَّعادةِ والشَّقاوةِ هي الكواكبُ ، ويدلُّ أيضاً على أنَّ الإله واحدٌ؛ لأنَّ لفظ « الله » اسمٌ علمٌ له سبحانه ، لا إله إلا هو ، فلمَّا قال : { وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ } ، أي : لا ربِّ للمخلوقاتِ سوى الله؛ وذلك يدلُّ على التَّوحيد .
وقوله « فاعْبُدُوهُ » قد ثبت في أصُول الفقهِ أنَّ ترتيب الحكم على الوصف المناسب مُشْعِرٌ بالعليَّة ، فها هنا وقه الأمر بالعبادة مُرتبَّا على ذكر وصف الربوبيَّة ، فدلَّ على أنَّه إنَّما يلزمنا عبادته سبحانه؛ لكونه ربَّا لنا؛ وذلك يدلُّ على أنه تعالى إنَّما تجبُ عيادتهُ لكونُهُ منعماً على الخلائق بأنواع النِّعم؛ ولذلك فإنَّ إبراهيم- صلوات الله عليه وسلامه- لمَّا منع أباه من عبادة الأوثان ، قال : { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } [ مريم : 42 ] أي : إنَّها لما لم تكن منعمة على العبادِ ، لم تجزِ عيادتها ، وبيّن ها هنا أنَّه لما ثبت أن الله تعالى لمَّا كلن ربَّا ومُربَّياً ، وجبتْ عبادتهُ ، فقد ثبت طرداً وعكساً تعلُّق العبادة والصاحبة صراط مُنْعِماً ، ثم قال : { هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [ يعني القول بالتوحيد ونفي الولد والصاحبة صراط مستقيم ، وسمي هذا القول صراطاً مستقيماً ] تشبيهاً بالطَّريق؛ لأنَّه المؤدِّي إلى الجنة .
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
قوله تعالى : { فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ } .
قيل : المرادُ النَّصارى ، سُمُّوا أحزاباً؛ لأنهم تحزَّبُوا ثلاث فرق في أمر عيسى : النَّسْطُوريَّة ، والملكانيَّة [ واليعقوبيَّة ] وقيل : المراد بالأحزاب الكفَّار بحيثُ يدخلُ فيهم اليهودُ ، والنصارى ، والكفَّار الذين كانوا في زمان محمَّد- صلوات الله وسلامه عليه- وهذا هو الظاهرُ؛ لأنَّه تخصيصٌ فيه ، ويريِّدهُ قوله تعالى : { فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } .
قوله : { مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } : « مَشْهَد » مفعل : إمَّا من الشَّهادة ، وإمَّا من الشُّهود ، وهو الحضورُ ، و « مَشْهَدا » هنا : يجوز أن يراد به الزمانُ ، أو المكان ، أو المصدر : فإذا كان من الشهادة ، والمرادُ به الزمانُ ، فتقديرهُ : من وقتٍ شهادة ، وإن أريد به المكانُ ، فتقديره : من مكانِ شهادةِ يومٍ ، وإن أريد المصدرُ ، فتقديره : من شهادة ذلك اليومِ ، وأن تشهد عليهم ألسنتهم ، وأيديهم ، وأرجلهم ، والملائكة ُ ، والأنبياءُ ، وإذا كان من الشهود فيه ، وهو الموقفُ ، أو من وقت الشُّهود ، وإذا كان مصدراً بحاليته المتقدمتين ، فتكونُ إضافتهُ إلى الظرف من باب الاتِّساع؛ كقوله { مالك يَوْمِ الدين } [ الفاتحة : 4 ] .
ويجوز أن يكون المصدر مضافاً لفاعله على أن يجعل اليوم شاهداً عليهم : إمَّا حقيقة ، وإمَّا مجازاً .
ووصف ذلك المشهد بأنَّه عظيمٌ؛ لأنَّه لا شيء أعظم ممَّا يشاهدُ ذلك اليوم من أهواله .
قوله : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ } : هذا لفظ أمرٍ ، ومعناه : التعجُّب ، وأصحُّ الأعاريب فيه ، كما تقرَّر في علم النَّحو : أنَّ فاعله هو المجرور بالباءِ ، والباءُ زائدة ، وزيادتها لازمةٌ؛ إصلاحاً للفظ؛ لأنَّ « أفْعِلْ » أمراً لا يكون إلاَّ ضميراً مستتراً ، ولا يجوز حذفُ الباءِ إلاَّ مع أنْ وأنَّ؛ كقوله : [ الطويل ]
3606- تَرَدَّدَ فيها ضَوْؤُهَا وشُعَاعُهَا ... فأحْصِنْ وأزْيِنْ لامرئٍ أنْ تَسَرْبَلا
أي : بأنْ تسربل ، فالمجرورُ مرفوعُ المحلِّ ، ولا ضمير في « أفْعِلْ » ولنا قولٌ ثانٍ : أن الفاعل مضمرٌ ، والمراد به المتكلِّمُ؛ كأنَّ المتكلم يأمر نفسه بذلك ، والمجرورُ بعده في محلِّ نصبٍ ، ويعزى هذا للزَّجَّاجِ .
ولنا قولٌ ثالثٌ : أن الفاعل ضمير المصدرِ ، والمجرور منصوبُ المحلِّ أيضاً ، والتقدير : أحسن ، يا حُسْنُ ، بزيدٍ ، ولشبه هذا الفاعل عند الجمهور بالفضلة لفظاً ، جاز حذفه للدَّلالةِ عليه كهذه الآية ، فإنَّ تقديره : وأبْصِرْ بهم ، وفيه أبحاثٌ موضوعها كتبُ النَّحْو .
فصل في التعجب
قالوا : التعجُّب استعظام الشيء ، مع الجهل؛ بسبب عظمه ، ثم يجوز استعمالُ لفظ التعجُّب عند مجرَّد الاستعظام من غير خفاءِ السَّبب ، أو من غير أن تكون العظمةُ سبب حصوله .
قال الفرَّاء : قال سفيانُ : قرأتُ عن شريحٍ : { بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخُرُونَ } [ الصافات : 12 ] فقال : إنَّ الله لا يعجبُ من شيء ، إنما يعجبُ من لا يعلم ، قال : فذكرتُ ذلك لإبراهيم النخعيِّ -رضي الله عنه- فقال : إنَّ شريحاً شاعر يعجبه علمهن وعبد الله أعلمُ بذلك منه قرأها { بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخُرُونَ } .
ومعناه : أنَّه صدر من الله تعالى فعلٌ ، لو صدر مثله عن الخلق ، لدلَّ على حصول التعجُّب في قلوبهم ، وبهذا التأويل يضافُ المكرُ والاستهزاءُ إلى الله تعالى ، وإذا عرفت هذا ، فللتعجُّب صيغتان :
إحداهما : ما أفعلهُ ، والثانيةُ أفعل به .
كقوله تعالى : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ } والنحويُّون ذكروا له تأويلان :
الأول : قالوا : أكْرِمْ بزيدٍ ، أصل « أكرم زيدٌ » أيك صار ذا كرمٍ ، ك « أغَدَّ البَعِيرُ » أي : صار ذا غُدَّة ، إلاَّ أنه خرج على لفظ الأمْر ، ومعناه الخبرُ ، كما أخرج على لفظ الأمر ما معناه الخبر ، كما أخرج لفظ الخبر ما معناه الأمر؛ كقوله سبحانه وتعالى : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } [ البقرة : 228 ] ، { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [ البقرة : 233 ] ، { قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً } [ مريم : 75 ] أي : يمُدُّ له الرحمنُ ، والباء زائدةٌ .
الثاني : أن يقال : إنَّه أمرٌ لكُلِّ أحدٍ بأن يجعل زيداً كريماً ، أي : بأن يصفه بالكرمِ ، والباء زائدةٌ؛ كما في قوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } [ البقرة : 195 ] .
قال ابن الخطيبِ : وسمعتُ لبعضِ الأدباء فيه تأويلاً ثالثاً؛ وهو أن قولك : أكرم بزيدٍ ، يفيدُ أنَّ زيداً بلغ في الكرمِ إلى حيثُ كأنَّه في ذاته صار كرماً؛ حتَّى لو أردتَّ جعل غيره كريماً ، فهو الذي يلصقك بمقصودك ويحصِّلُ بك غرضك .
فصل في معنى الآية
المشهورُ أنَّ معنى قوله : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ } « ما أسمعهُمْ ، وما أبْصَرهُم » والتعجُّب على الله تعالى محالٌ ، وإنَّما المرادُ أنَّ أسماعهم وأبصارهُم يومئذٍ جديرةٌ بأن يتعجَّب منها بعدما كانُوا صُمًّا عُمياً في الدُّنيا .
وقيل : معناه التَّهديدُ مما يسمعُون وسيبصرُون ما يَسُوءهُمْ ، ويصدعُ قلوبهم .
وقال القاضي : ويحتملُ أن يكون المرادُ : أسمع هؤلاء وأبصرهم ، أيك عرِّفهم حال القوم الذين يأتوننا؛ ليعتبروا وينزجروا .
وقال الجُبَّائيُّ : ويجوز : أسمع النَّاسَ بهؤلاء ، ليعرفُوا أمرهُم ، وسُوء عاقبتهم ، فينزجروا عن الإتيان بمثل فعلهم .
قوله تعالى : { يَوْمَ يَأْتُونَنَا } معمولٌ ل « أبْصِرْ » . [ ولا يجوز أن يكون معمولاً ل « أسْمِعْ » لأنه لا يفصلُ بين فعلِ التعجُّب ، ومعموله؛ ولذلك كان الصحيح أنه ] لا يجوز أن تكون المسألةُ من التنازع ، وقد جوَّزه بعضهم ملتزماً إعمال الثاني ، وهو خلافُ قاعدةِ الإعمال ، وقيل : بل هو أمرٌ حقيقة ، والمأمورُ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والمعنى : أسمعِ النَّاس ، وأبصرهم بهم وبحديثهم ماذا يصنعُ بهم من العذاب؟ وهو منقولٌ عن أبي العالية .
قوله تعالى : { لكن الظالمون اليوم } .
نصب « اليَوْمَ » بما تضمَّنه الجار من قوله « في ضلالٍ مُبينٍ » أي : لكن الظالمُون استقرُّوا في ضلالٍ مبينٍ اليوم ، ولا يجوز أن يكون هذا الظرفُ هو الخبرَ ، والجارُّ لغوٌ؛ لئلا يخبر عن الجثة [ بالزَّمان؛ بخلاف ] قولك : القتالُ اليوم في دارِ زيدٍ؛ فإنه يجوز الاعتباران .
فصل في معنى الآية
المعنى : { لكن الظالمون اليوم فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي : خطأ بيِّنٍ ، وفي الآخرةِ يعرفُون الحقَّ .
وقيل : لكن الظَّالمُون اليوم في الآخرة في ضلال عن الجنَّة؛ بخلاف المؤمنين .
وقوله { لكن الظالمون } من إيقاع الظَّاهر موقع المضمر .
قوله : { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة } هذا أمرٌ لمحمَّد -صلوات الله عليه وسلم- بأن ينذر من في زمانه ، والإنذار : التخويفُ من العذاب ، لكي يحذروا ترك عبادةِ الله تعالى ، ويوم الحسرة : هو يوم القيامة؛ لأنَّه يكثر التحسُّر من أهل النَّار .
وقيل : يتحسَّر أيضاً في الجنَّة ، إذا لم يكن من السابقين إلى الدَّرجات العالية؛ لقول رسول الله -صلوات الله عليه وسلامه- : « مَا مِنْ أحدٍ يمُوتُ إلاَّ ندمَ ، قالوا : فَما ندمهُ يا رسُول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال صلى الله عليه وسلم : إنَّ كان مُحْسناً ، ندم ألاَّ يكون ازداد ، وإن كان مسيئاً ندم ألاَّ يكون نزَعَ » والأول أصحُّ؛ لأن الحسرة [ هَمٌّ ] ، ولا تليقُ بأهْل الجنَّة .
قوله : { إِذْ قُضِيَ الأمر } : يجوز أن يكون منصوباً بالحسرةِ ، والمصدرُ المعرَّفُ ب « ألْ » يعملُ في المفعولِ الصَّريح عند بعضهم ، فكيف بالظَّرف؟ ويجوز أن يكون بدلاً من « يَوْم » فيكون معمولاً ل « أنْذِرْ » كذا قال أبو البقاء ، والزمخشريُّ وتبعهما أبو حيان ، ولم يذكر غير البدل ، وهذا لا يجوز إن كان الظَّرف باقياً على حقيقته؛ إذ يستحيلُ أن يعمل المستقبلُ في الماضي ، فإن جعلت « اليوم » مفعولاً به ، أي : خوِّفهُم نفس اليوم ، أي : إنَّهُم يخافُون اليوم نفسهُ ، صحَّ ذلك لخُرُوجِ الظَّرف إلى حيِّز المفاعيل الصريحة .
فصل في قوله تعالى { إِذْ قُضِيَ الأمر }
في قوله تعالى : { إِذْ قُضِيَ الأمر } وجوه :
أحدها : قُضِيَ الأمرُ ببيان الدَّلائل ، وشرح أمر الثَّواب والعقاب .
وثانيها : [ إذ قضي الأمرُ يوم الحسرة بفناء الدُّنيا ، وزوالِ التَّكليف ، والأول أقرب؛ لقوله : { وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } .
وثالثها : ] « إذْ قُضِيَ الأمْرُ » فُرِغَ من الحساب ، وأدخل أهل الجنَّة الجنَّة ، وأهلُ النَّار النَّار ، وذُبح الموتُ؛ كما روي أنَّه سُئل النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن قوله : { إِذْ قُضِيَ الأمر } فقال : « حِينَ يَجاءُ بالموتِ على صُورة كبشٍ أمْلَحَ ، فيذبحُ ، والفريقان ينظران؛ فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحٍ ، وأهلُ النَّار غمَّا إلى غمِّ » .
قوله تعالى : { وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } جملتان حاليتان ، وفيهما قولان :
أحدهما : أنهما حالان من مفعول « أنذِرْهُم » [ أي : أنذرهُم على هذه الحالِ ، وما بعدها ، وعلى الأول يكون قوله « وأنْذِرْهُم » ] اعتراضاً .
والمعنى : وهم في غفلةٍ عمَّا يفعلُ بهم في الآخرة { وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } ولا يصدقون بذلك اليومِ .
قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا } أي : نُميتُ سُكَّان الأرض ، ونُهلِكُهم جميعاً ، ويبقى الرَّبُّ وحده ، فيرثُهُم { وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } ، فنجزيهم بأعمالهم .
[ وقرأ العامَّةُ « يُرْجَعُون » بالياء من تحت مبنيًّا للمفعول ، والسُّلمي ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى مبنيًّا للفاعل ، والأعرج بالتاء من فوقُ مبنيًّا للمفعول على الخطاب ، ويجوز أن يكون التفاتاً ، وألا يكون ] .
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
قوله تعالى : { واذكر فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ } اعلم أنَّ منكرِي التوحيد الذين اثْبَتُوا معبُوداً سوى الله تعالى فريقان :
منهم : من أثبت معبُوداً غير الله تعالى حيًّا ، عاقلاً ، فاهماً ، وهم النصارى .
ومنهم : من أثبت معبُوداً غير الله ، جماداً ليس بحيّ ولا عاقلٍ ، وهم عبدةُ الأوثان .
والفريقان ، وإن اشتركا في الضَّلال ، إلاَّ أنَّ ضلال عبدة الأوثان أعظم ، فلمّا بيَّن الله تعالى ضلال الفريق الأوَّل ، تكلَّم في ضلال الفريق الثاني ، وهم عبدةُ الأوثان؛ فقال : { واذكر فِي الكتاب } والواو في قوله : { واذكر } عطف على قوله { ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ } [ مريم : 2 ] كأنَّه لمَّا انتهت قصَّةُ زكريَّا ويحيى ، وعيسى -صلوات الله عليهم- قال : قد ذكرتُ حال زكريَّا ، فتذكر حال إبراهيم -صلواتُ الله عليه- وإنَّما أمره بالذِّكر لأنَّه -صلوات الله عليه- ما كان هُو ، ولا قومُه ، ولا أهل بلده مشتغلين بالتَّعليم ، ومطالعةِ الكتب ، فإذا أخبر عن هذه القصَّة ، كما كانت من غير زيادةٍ ، ولا نقصانٍ ، كان ذلك إخباراً عن الغَيْب ، ومُعْجِزاً [ قاهراً ] دالاَّ على نُبُوَّته ، وإنَّما ذكر الاعتبار بقصَّة إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- لوجوه :
الأول : أنَّ إبراهيم -صلوات الله عليه وسلامه- كان أبا العرب ، وكانُوا مقرّين بعُلُوِّ شانه ، وطهارةِ دينه على ما قال تعالى { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } [ الحج : 78 ] ، وقال تعالى : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 130 ] فكأنه تعالى قال للعرب : إنَّ كنتم مقلِّدين لآبائكم على قولكم { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ } [ الزخرف : 23 ] فأشرفُ آبائكم وأعلاهُم قدراً هو إبراهيم -صلوات الله عليه- فقلِّدوه في ترك عبادةِ الأوثان ، وإن كُنتم [ مستدلين ] ، فانظروا في هذه الدَّلائل التي ذكرها إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- لتعرفُوا فساد عبادةِ الأوثان ، وبالجملةُ : فاتَّبِعُوا إبراهيم ، إمَّا تقليداً ، أو استدلالاً .
الثاني : أنَّ كثيراً من الكُفَّار في زمان رسُول الله -صلوات الله عليه وسلامه- كانوا يقولون : نتركُ دين آبائنا ، وأجدادنا؟ فذكر الله تعالى قصَّة إبراهيم -صلوات الله عليه وسلامه- و [ بيَّن ] أنه ترك دين أبيه ، وأبطل قوله بالدليل ، ورجَّح متابعة الدَّليل على متابعة أبيه .
الثالث : أنَّ كثيراً من الكُفَّار كانُوا يتمسَّكُون بالتقليد ، [ وينكِرُون ] الاستدلال؛ كما حكى الله تعالى عنهم { قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ } [ الأنبياء : 53 ] فحكى الله عن إبراهيم التَّمَسُّكَ بطريقة الاستدلال؛ تنبيهاً للكُفَّار على سُقُوط طريقتهم ، ثُمَّ قال تعالى في صفة الصِّدق ، القائم عليه ، يقال : رجلٌ خميرٌ ، وسكِّيرٌ للمولعِ بهذه الأفعال .
وقيل : هو الذي يكون كثير التصديق بالحقِّ؛ حتَّى يصير مشهُوراً به ، والأول أولى؛ لأنَِّ المصدِّق بالشيء لا يوصفُ بكونه صديقاً إلاَّ إذا كان صادقاً في ذلك التَّصديق ، فيعودُ الأمْرُ إلى الأوّل .
فإن قيل : أليس قد قال الله تعالى { والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أولئك هُمُ الصديقون } [ الحديد : 19 ] فالجوابُ : المؤمنون بالله [ ورسله ] صادقُون في ذلك التَّصديق .
واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون صادقاً في كُلِّ ما أخبر؛ لأنَّ الله تعالى صدَّقه ، ومُصدَّق الله صادقٌ؛ فلزم من هذا كونُ الرَّسُول صادقاً فيما يقوله ، ولأنَّ الرُّسُل شهداءُ الله على النَّاسِ؛ لقوله تعالى : { وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً } [ النساء : 41 ] والشَّهيد : إنَّما يقبلُ قوله ، إذا لم يكن كاذباً؛ فإن قيل : فما قولكم في قول إبراهيم { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ } [ الأنبياء : 63 ] و { إِنِّي سَقِيمٌ } [ الصافات : 89 ] .
فالجوابُ مشروحٌ في هذه الآياتِ ، وبينَّا أن شيئاً من ذلك ليس بكذبٍ ، ولمَّا ثبت أنَّ كُلَّ نبيٍّ يجب أن يكون صديقاً ، ولا يجبُ في كلِّ صدِّيقٍ أن يكون نبيًّا؛ ظهر بهذا قربُ مرتبة الصِّدِّيق من مرتبة النبيِّ ، فلهذا انتقل من ذكر كونه صديقاً إلى ذكر كونه نبيًّا .
وأما النبيُّ : فمعناه : كونهُ رفيع القدر عند الله ، وعند النَّاس ، وأيُّ رفعةٍ أعلى من رفعةِ من جعله الله واسطةً بينه ، وبين عباده ، وقوله : { كَانَ صِدِّيقاً } معناه : صار ، وقيل : وجد صدِّيقاً نبيًّا ، أي : كان من أوَّل وجوده إلى انتهائه موصوفاً بالصدق والصِّيانة .
قوله تعالى : { إِذْ قَالَ لاًّبِيهِ } : يجوز أن يكون بدلاً من « إبْراهيمَ » بدل اشتمال؛ كما تقدَّم في { إِذِ انتبذت } [ الآية : 16 ] وعلى هذا ، فقد فصل بين البدل ، والمبدل منه؛ بقوله : { إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً } نحو : « رأيتُ زيْداً -ونِعْمَ الرَّجُل أخَاكَ » وقال الزمخشريُّ : ويجوز أن تتعلق « إذْ » ب « كَانَ » أو ب « صدِّيقاً نبيًّا » ، أي : كان جامعاً لخصائص الصديقين ، والأنبياء ، حين خاطب أباه بتلك المخاطبات ولذلك جوَّز أبُو البقاء أن يعمل فيه « صدِّيقاً نبيًّا » أو معناه .
قال أبو حيان : « الإعرابُ الأوَّلُ -يعني البدلية- يقتضي تصرُّف » إذْ « وهي لا تتصرَّفُ ، والثاني فيه إعمالُ » كان « في الظرف ، وفيه خلافٌ ، والثالث لا يكون العامل مركَّباً من مجموعِ لفظين ، بل يكون العملُ منسوباً للفظٍ واحدٍ ، ولا جائز أن يكون معمولاً ل » صدِّيقاً « لأنَّه قد وصف ، إلا عند الكوفيِّين ، ويبعدُ أن يكون معمولاً ل » نبيَّا « لأنه يقتضي أنَّ التَّنْبِئَة كانت في وقتِ هذه المقالة » .
قال شهاب الدين : العاملُ فيه ما لخَّصَهُ أبو القاسم ، ونضَّدهُ بحسن صناعته من مجموع اللفظين في قوله : « أي : كان جامعاً لخصائص الصِّدِّيقين والأنبياء حين خاطب أباه » .
وقد تقدَّمت قراءةُ ابن عامرٍ « يَا أبَتَ » وفي مصحف عبد الله « وا أبتِ » ب « وا » التي للندبة .
والتاءُ عوضٌ من ياءِ الإضافةِ ، ولا يقال : يا أبتي ، لئلاَّ يجمع بين العوض ، والمعوَّض منه ، وقد يقال : يا أبتا لكون الألف بدلاً من الياء .
قوله تعالى : { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } وصف الأوثان بصفاتٍ ثلاثٍ ، كُلّ واحدةٍ منها فادحةٌ في الإلهيَّة وبيانُ ذلك من وجوه :
أحدها : أن العبادة غايةُ التَّعظيم ، فلا يستحقُّها إلاَّ من له غايةُ الإنعام ، وهو الإله الذي منه أصُولُ النِّعَم ، وفروعها على [ ما تقدم ] في تفسير قوله تعالى :
{ إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ } [ آل عمران : 51 ] ، وقوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } [ البقرة : 28 ] ، وكما أنَّه لا يجوز الاشتغالُ بشكرها ، لمَّا لم يكُن مُنْعِمَة ، وجب ألاَّ يجوز الاشتغالُ بعبادتها .
وثانيها : أنَّها إذا لم تسمع ، ولم تُبْصر ، ولم تُمَيِّز من يطيعها عمَّن يعصيها ، فأيُّ فائدةٍ في عبادتها ، وهذا تنبيهٌ على أن الإله يجبُ أن يكون عالماً بكُلِّ المعلومات .
وثالثها : أنَّ الدُّعاء مُخُّ العبادةِ ، فإذا لم يسمع الوثنُ دعاءَ الدَّاعي ، فأيُّ منفعةٍ في عبادته؟ وإذا لم يبصرْ تقرُّبَ من يتقرَّب إليه ، فأيُّ منفعةٍ في ذلك التَّقَرُّب؟ .
ورابعها : أنَّ السَّامع المُبصر الضَّار النَّافع أفضلُ ممن كان عَارِياً عن كُلِّ ذلك ، والإنسان موصوفٌ بهذه الصِّفات؛ فيكون أفضل ، وأكمل من الوثنِ ، فكيف يليقُ بالأفضل عبوديَّةُ الأخسِّ؟ .
وخامسها : إذا كانت لا تنفعُ ، ولا تضرُّ ، فلا يرجى منها منفعةٌ ، ولا يخافُ من ضررها ، فأيُّ فائدةٍ في عبادتها؟! .
وسادسها : إذا كانت لا تحفظ نفسها من الكسر والإفساد ، حين جعلها إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- جُذاذاً ، فأيُّ رجاءٍ فيها للغير؟َ ، فكأنَّه -صلوات الله وسلامه عليه- قال : ليست الإلهيَّة إلاَّ لربِّ يسمعُ ويبصر ، ويجيبُ دعوة الدَّاعي ، إذا دعاه .
فإن قيل : إمَّا أن يقال : إنَّ أبا إبراهيم -صلوات الله عليه- كان يعتقدُ في تلك الأوثان أنَّها آلهةٌ قادرةٌ ، مختارةٌ ، خالقة .
أو يقال : إنَّه ما كان يعتقدُ ذلك؛ بل كان يعتقدُ أنَّها تماثيلُ للكواكب ، والكواكبُ هي الآلهة المدبِّرة للعالم؛ فتعظيم تماثيل الكواكب يوجب تعظيم الكواكب .
أو كان يعتقدُ أن تلك الأوثان تماثيلُ أشخاصٍ معظَّمة عند الله من البشر ، فتعظيمُها يقتضي كون أولئك الأشخاص شُفعاء لهم عند الله .
أو كان يعتقدُ أن تلك الأوثان طلَّسْمَاتٌ ركَّبَتْ بحسب اتِّصالاتٍ مخصُوصةٍ للكواكب ، قلَّما يتَّفِقُ مثلها ، أو لغير ذلك .
فإن كان أبو إبراهيم من القسم الأوَّل ، كان في نهاية الجُنُونِ؛ لأنَّ العلم بأنَّ هذا الخشب المنحُوت في هذه السَّاعة ليس خالقاً للسَّموات والأرض من أجلى العلوم الضروريَّة ، فالشَّاكُّ فيه يكونهُ مجنوناً ، والمجنونُ لا يناظرُ ، ولا يُوردُ عليه الحُجَّة ، وإن كان من القسم الثاني ، فهذه الدلائلُ لا تقدحُ في شيءٍ من ذلك؛ لأنَّ ذلك المذهب إنما يبطلُ بإقامةِ الدَّلائل على أنَّ الكواكبَ ليست أحياء ، ولا قادرة ، والدليلُ المذكور هنا لا يفيدُ ذلك . فالجوابُ : لا نزاع في أنَّه لا يخفى على العاقلِ : أنَّ الخشب المنحوت لا يصلح لخلق العالمِ ، وإنَّما مذهبهم هذا على الوجه الثاني ، وإنَّما أورد إبراهيمُ -صلوات الله وسلامه عليه- هذه [ الدلائل ] عليهم؛ لأنَّهم كانوا يعتقدُون أنَّ عبادتها تفيدُ نفعاً؛ إما على سبيل الخاصِّيَّة الحاصلةِ من الطَّلَّمسات ، أو على سبيل أن الكواكب تنفع ، وتضُرُّ ، فبيَّن إبراهيم -صلواتُ الله عليه وسلامه- أنه لا منفعة في طاعتها ، ولا مضرَّة في الإعراض عنها؛ فوجب أن تجتنب عبادتها .
قوله : { ياأبت إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ العلم } بالله ، والمعرفة { مَا لَمْ يَأْتِكَ فاتبعني } على ديني { أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً } مستقيماً . { ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان } أي : لا تطعهُ فيما يزيِّن لك من الكُفر والشِّرك؛ لأنَّهم ما كانُوا يعبدُون الشيطان؛ فوجب حملُه على الطَّاعة { لشَّيْطَانَ إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً } أي : عاصياً ، و « كَانَ » بمعنى الحالِ ، أي : هو كذلك .
فإن قيل : إثباتُ الصَّانع .
وثانيها : إثباتُ الشيطان .
وثالثها : أن الشيطان عاصٍ [ لله ] .
ورابعها : أنَّه لما كان عاصياً ، لم تَجُزْ طاعتهُ في شيءٍ من الأشياء .
وخامسها : أن الاعتقاد الذي كان عليه آزرُ مُستفادٌ من طاعة الشيطان ، ومن شأنِ الدَّلالة التي تُورَدُ على الخصم : أن تكون مركبة من مقدِّمات معلومةٍ ، يسلِمها الخصمُ ، ولعلَّ أبا إبراهيم كان منازعاً في كُلِّ هذه المقدِّمات ، وكيف ، والمحكيُّ عنه : أنه ما كان يُثْبِتُ إلهاً سوى نُمْرُوذَ؛ فكيف يسلِّم وجود الرَّحمن؟
وإذا لم يسلِّم وجوده ، فكيف يسلَّم أنَّ الشيطان عاص في الرحمن؟ وبتقدير تسليم ذلك؛ فكيف يسلِّم الخصمُ بمجرَّد هذا الكلامِ أنَّ مذهبهُ مقتبسٌ من الشيطان ، بل لعلَّه يقلب ذلك على خصمه .
فالجوابُ :
أنَّ الحجَّة المعوِّل عليها في إبطالِ مذهب « آزَرَ » هو قوله : { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } وهذا الكلامُ يجري مَجْرَى التَّخويف والتَّحذير الذي يحمله على النظر في تلك الدَّلالة ، فسقط السُّؤال .
قوله تعالى : { ياأبت إني أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ } .
قال الفرَّاء- رحمه الله- : أخافُ : أعلمُ ، والأكثرون على أنَّه محمول على ظاهره ، والقول الأوَّل إنَّما يصحُّ ، لو كان إبراهيمُ - صلواتُ الله وسلامه عليه- عالماً بأنَّ أباه سيموتُ على الكفر ، وذلك لم يثبتْ؛ فوجب إجراؤه على ظاهره؛ فإنَّه كان يجوزُ أن يؤمنَ؛ فيصير من أهْلِ الثَّواب ، ويجوز أن يدُوم على الكفر؛ فيكون من أهل العقاب ، ومن كان كذلك ، كان خائفاً لا قاطعاً ، والأوَّلُون فسَّروا الآية ، فقالوا : أخافُ ، بمعنى أعلمُ ب « أن يسمِّك عذابٌ » يصيبك عذابٌ من الرحمن ، إن أقمت على الكفر ، « فتكُون للشيطانِ وليَّا » قريناً؛ لأنَّ الولاية سببُ المعيَّة ، فأطلق اسم السَّبب على المُسبب مجازاً .
وقيل : المرادُ بالعذابِ هنا : الخِذْلانُ ، والتقدير : إنَّي أخاف أن يمسِّك خذلانٌ من الله ، فتصير موالياً للشيطان ، ويتبرأ الله منك .
فصل في نظم الآية
أعلمْ أنَّ إبراهيم- صلوات الله وسلامه عليه- رتِّب هذا الكلام في غاية الحسن؛ لأنَّه ذكر أولاً ما يدلُّ على المنع من عبادة الأوثان ، ثُمَّ أمره باتَّباعه في النَّظر ، والاستدلال ، وترك التقليد ، ثُمَّ ذكر أن طاعة الشَّيطان غير جائزة في العُقُول ، ثم ختم الكلام بالوعيد الزَّاجر عن الإقدام على ما ينبغي ، ثم إنَّه - صلوات الله عليه- أورد هذا الكلام الحسن مقروناً باللُّطف والرِّفق؛ فإن قوله في مقدِّمة كل كلامه : « يا أبت » دليلٌ على شدَّة الحبِّ ، والرغبة في صونه عن العقاب ، وإرشاده إلى الصَّواب ، وختم الكلام بقوله : { ياأبت إني أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ } وذلك يدلُّ على شدَّة تعلُّق فيه بمصالحِه ، وإنَّما فعل ذلك لوجوهٍ :
الأول : لقضاءِ حقِّا لأبُوَّة على ما قال سبحانه وتعالى :
{ وبالوالدين إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] والإرشادُ إلى الدِّين من أعظم أنواع الإحسان ، فإذا انضم إليه رعايةُ الأدب والرِّفق ، كان نُوراً على نُور .
والثاني : أنَّ الهادي إلى الحقِّ لا بُدَّ وأن يكون رفيقاً لطيفاً لا يُورِدُ الكلام على سبيل العُنْفِ؛ لأنَّ إيرادهُ على سبيل العُنْفِ يصيرُ كالسَّبب في أعراض المُستمع؛ فيكون ذلك في الحقيقةِ سَعْياً في الإغواء .
وثالثها : - ما روى أبو هريرة- رضي الله عنه- قال : قال صلوات الله عليه وسلامه- : « أوْحَى اللهُ- تبارك وتعالى- إلى إبراهيمَ أنَّك خليلي فحسِّنْ خُلقكَ ولو مع الكُفَّار تدخُلْ مداخلَ الأبْرارِ؛ فإن كلمتي سبقت لمن حسَّن خلقهُ ، أنْ أظلَّهُ تحت عرشي ، وأسْكِنهُ حظيرةَ القُدْسِ ، وأدينه من جواري » .
قوله : { أَرَاغِبٌ أَنتَ } : يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون « راغبٌ » مبتدأ؛ لاعتماده على همزةِ الاستفهام ، و « أنْتَ » فاعلٌ سدَّ مسدَّ الخبر .
والثاني : أنه خبر مقدمٌ ، و « أنْتَ » مبتدأ مؤخَّر ، ورُجِّح الأول بوجهين :
أحدهما : أنه ليس فيه تقديمٌ ، ولا تأخير؛ إذ رتبهُ الفاعل التأخير عن رافعه .
والثاني : أنه لا يلزمُ منه الفصلُ بين العامل ومعموله بما ليس معمولاً للعامل؛ وذلك أنَّ « عَنْ آلهتي » متعلقٌ ب « رَاغِبٌ » فإذا جعل « أنْتَ » فاعلاً قد فُصِل بما هو كالجزء من العامل؛ بخلاف جعله خبراً؛ فإنه أجنبيٌّ؛ إذ ليس معمولاً ل « راغبٌ » .
فصل فيما قابل به آزر دعوة إبراهيم
اعلم أنَّ إبراهيم- صلوات الله عليه- لمَّا دعا أباهُ إلى التوحيد ، وذكر الدَّلالة على فساد عبادة الأوثان ، وأردف ذلك بالوعظ البليغِ ، مقروناً باللُّطف والرِّفْق قابله أبُوه بجواب [ مضاد ] لذلك ، فقابل حُجَّته بالتَّقليد بقوله : { أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي } فأصرَّ على ادعاء إلهيتها جهلاً وتقليداً ، وقابل وعظهُ بالسَّفاهة؛ حيثُ هدَّده بالضَّرْب والشَّتْم ، وقابل رفقه في قوله « يا أبَتِ » بالعنف ، فلم يَقُلْ له : يا بنيَّ ، بل قال له : يا إبراهيمُ ، وإنَّما حكى الله تبارك وتعالى ذلك لمحمَّدٍ- صلواتُ الله وسلامه عليه- تخفيفاً على قلبه ما كان يصلُ إليه من أذى المشركين ، ويعلمُ أنَّ الجُهَّال منذُ كانوا على هذه السِّيرة المذمومة ، ثم قال : { لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ } .
قال الكلبيُّ : ومقاتلٌ ، والضحاكُ ، لأشتنمَّك ، ولأبعدنَّك عنِّي بالقول القبيح ، ومنه قوله سبحانه وتعالى :
{ والذين يَرْمُونَ المحصنات } [ النور : 4 ] ؛ أي : بالشَّتْم ، ومنه : الرَّجيمُ ، أي : المرميُّ باللَّعْن .
قال مجاهدٌ : كلُّ رجمٍ في القرآن بمعنى الشَّتم ، وهذا ينتقضُ بقوله تعالى : { رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ } [ الملك : 5 ] .
وقال ابنُ عبَّاسٍ- رضي الله عنه- : لأضربنَّك .
وقال الحسنُ : لأرجمنَّك بالحجارة وهو قولُ أبي مسلم؛ لأنَّ أصله الرمي بالرِّجام ، فحمله عليه أولى .
وقال المروِّج : « أقْتُلَنَّكَ » بلغة قريش ، وممَّا يدلُّ على أنه أراد الطَّرْد ، والإبْعاد قوله : { واهجرني مَلِيّاً } .
قوله تعالى : « مَلِيَّاً » في نصبه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنه منصوبٌ على الظرفِ الزمانيِّ ، أي : زمناً طويلاً ، ومنه « الملوانِ » للَّيلِ والنهار ، وملاوةُ الدَّهر ، بتثليث الميم قال : [ الطويل ]
3607- فَعُسْنَا بِهَا مِنَ الشَّبابِ ملاوةً ... فَلَلْحَجَّ آيَاتُ الرَّسُولِ المُحَبِّبِ
وأنشد السدى على ذلك لمهَلْهَلٍ قال : [ الكامل ]
3608- فَتَصَدَّعَتْ صُمُّ الجبالِ لمَوْتِهِ ... وبَكَتْ عليْه المُرْمِلاتُ مَلِيَّا
أي : أبداً .
والثاني : أنه منصوبٌ على الحال ، معناه : سالماً سويَّا ، قال ابن عباس : [ اعتزلني سالماً؛ لا يصيبك مني معرة ] فهو حالٌ من فاعل « اهْجُرْنِي » وكذلك فسَّره ابن عطيَّة؛ قال : « معناه : مستبدَّا ، أي : غنيَّا عني من قولهم : هو مليٌّ بكذا وكذا » قال الزمخشريُّ : « أي : مُطِيقاً » .
والمعنى : مليَّا بالذِّهَابِ عنِّي ، والهجران ، قيل : أن أثخنك بالضَّربِ؛ حتى لا تقدر أن تبرح .
والثالث : أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : هجراً مليَّا ، يعني : واسعاً متطاولاً؛ كتطاول الزمان الممتدِّ .
قال الكلبيُّ - رحمه الله- اجتنبني طويلاً .
والمراد بقوله : واهجرني ، أي : بالمفارقة من الدَّار والبلدِ ، وهي كهجرة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، أي : تباعد عنِّي؛ لكي لا أراك .
وقيل : اهجرني [ بالقول ، وعطف « واهجرني » على معطوف عليه محذوف عليه محذوف يدل عليه : « لأرجمنك » أي : فاحذرني ، واهجرني ] ؛ لئلا أرجمنك ، فلما سمع إبراهيمُ- صلوات الله وسلامه عليه- كلام أبيه ، أجاب بأمرين :
أحدهما : أنه وعدُه بالتَّباعُد منه؛ موافقة وانقياداً لأمْرِ أبيه .
والثاني : قوله : { سَلاَمٌ عَلَيْكَ } توديعٌ ، ومتاركةٌ ، أي : سلمتَ منِّي لا أصيبُك بمكروهٍ ، وذلك لأنَّه لم يؤمر بقتاله على كفره؛ كقوله تعالى : { لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين } [ القصص : 55 ] ، { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [ الفرقان : 63 ] .
وهذا يدلُّ على جواز متاركة المنصُوح ، إذا ظهر منه اللَّجاج ، وعلى أنَّه تحسُن مقابلةُ الإساءةِ بالإحسان ، ويجوزُ أن يكون دعا لهُ بالسَّلامة؛ استمالة له .
ألا ترى أنَّه وعدُه بالاستغفار؛ فيكون سلام برٍّ ولطفٍ ، وهو جوابُ الحليمِ للسَّفيه؟
كقوله سبحانه : { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [ الفرقان : 63 ] .
وقرأ أبو البرهسم « سلاماً » بالنصب ، [ وتوجيهها ] واضحٌ ممَّا تقدَّم .
قوله : { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي } ، أي : لمَّا أعياه أمرُه ، وعدهُ أن يراجع الله فيه ، فيسألهُ أن يرزقه التَّوحيد ، ويغفر له ، والمعنى : سأسأل الله لك توبةٌ تنالُ بها المغفرة : { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } برَّا لطيفاً .
واحتجَّ بهذه الآية من طعن في عصمة الأنبياءِ- صلوات الله عليهم- وذلك أنَّ إبراهيم- صلوات الله عليه وسلامه- استغفر لأبيه ، وأبُوه كافراً ، والاستغفارُ للكُفَّار غيرُ جائزٍ؛ فثبت أنَّ إبراهيم- صلوات الله عليه- فعل ما لا يجوزُ .
أما استغفارهُ أبيه؛ فلقوله : { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي } وقوله : { واغفر لأبي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضآلين } [ الشعراء : 86 ]
وأما كون أبيه كافراً؛ فبالإجماع ، ونصِّ القرآن .
وأمَّا أن الاستغفار [ للكافر ] لا يجوزُ؛ فلقوله تعالى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى } [ التوبة : 113 ] ولقوله- عزَّ و جلَّ- في سورة الممتحنة { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ } إلى قوله : { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } [ الممتحنة : 4 ] .
والجوابُ : أن الآية تدلُّ على أنَّه لا يجوزُ لنا التأَّسِّي به في ذلك؛ لكنَّ المنع من التَّأسِّي به في ذلك لا يدلُّ على أنَّ ذلك كان معصيةٌ؛ فإن كثيراً من الأشياء هي من خواصِّ رسُول الله- صلوات الله عليه وسلامه- ولا يجُوزُ لنا التَّأسِّي به فيها ، مع أنَّها كانت مباحةٌ له .
وأيضاً : لعلَّ هذا الاستغفار كان من باب ترك الأولى ، وحسناتُ الأبْرارِ سيِّئاتُ المقرَّبينَ .
قوله : { اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } .
قال مقاتلٌ- رحمه الله- : كان اعتزالُه إيَّاهُمْ أنَّه فارقهُم من « كوثى » ، فهاجر منها إلى الأرض المقدسة ، والاعتزالُ عن الشيء هو التَّباعدُ عنه ، « وأدعُو ربِّي » أعبد ربي الذي يَضُرُّ وينفعُ ، والذي خلقني ، وأنعم عليَّ { رَبِّي عسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّا } ، أي : عسى ألاَّ أشْقَى بدُعائه وعبادته؛ كما تشقون أنتمُ بعبادةِ الأصنام ، ذكر ذلك على سبيل التواضُع؛ كقوله تعالى : { والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين } [ الشعراء : 82 ] .
وقوله : « شَقِيَّا » فيه تعريضٌ لشقاوتهم في دعاء آلهِتْهمْ .
وقيل : عسى أن يجيبني ، إن دعوتُه .
قوله تعالى : { فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } .
ذهب مهاجراً إلى ربِّه ، فعوَّضه أولاداً أنبياء بعد هجرته ، ولا حالة في الدِّين والدُّنيا للبشر أرفعُ من أن يجعله الله رسولاً إلى خلقه ، ويُلزم الخلق طاعتهُ ، والانقياد لهُ مع ما يحصلُ له من عظيم المنزلةِ في الآخرةِ .
قوله تعالى : { وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً } : « كُلاَّ » مفعولٌ مقدَّم هو الأول ، و « نبيَّا » هو الثاني .
ثم إنَّه مع ذلك وهب لهم من رحمته ، قال الكلبيُّ : المال والولد ، وهو قول الأكثرين ، قالوا : هو ما بسط لهم في الدَّنيا من سعة الرِّزق .
وقيل : الكتاب والنبوَّة . { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً } :
يعني : ثناءٌ حسناً رفيعاً في كُلِّ أهل الأديان ، وعبَّر باللسان عما يُوجد باللِّسان ، منا عُبِّر باليد عمَّا يوجدُ باليدِ ، وهو العطيَّة ، فاستجاب الله دعوته في قوله : { واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين } [ الشعراء : 84 ] ، فصيَّره قُدوةً ، حتى ادَّعاه أعلُ الأديان كلهم . فقال سبحانه وتعالى : { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } [ الحج : 78 ] .
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
قوله تعالى : { واذكر فِي الكتاب موسى } قرأ أهلُ الكوفة مخلصاً ، بفتح اللام ، أي : مختاراً اختاره الله تعالى ، واصطفاه .
وقيل : أخلصه الله من الدَّنس .
والباقون بالكسر ، ومعناه : أخلص التَّوحيد لله والعبادة ، ومتى ورد القرآنُ بقراءتين ، فكلٌّ منهما ثابتٌ مقطوعٌ به ، فجعل الله تعالى من صفة موسى - صلوات الله عليه- كلا الأمرين .
ثم قال عزَّ وجلَّ : { وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً } وهذان وصفان مختلفان ، لكنَّ المعتزلة زعمُوا كونهما متلازمين؛ فكلُّ رسول نبيٌّ ، وكلُّ نبيٍّ رسولٌ ، ومن الناس من أمرك ذلك ، ويأتي الكلامُ عليه - إن شاء الله تعالى- في سورة الحج عند قوله تعالى { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ } [ الحج : 52 ] ثم قال : { وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور } يعني : يمين موسى ، والظاهر أنَّ الأيمن صفة للجانب؛ بدليل أنه تبعه في قوله تعالى : { وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطور الأيمن } [ طه : 80 ] وقيل : إنه صفة للطُّور ، إذا اشتقاقهُ من اليُمْن والبركة ، والطُّور : جبلٌ بين مصر ومدين ، ويقالُ : إنَّ اسمه الزُّبير ، وذلك حين أبل من مدين ، ورأى النَّار ، فنودي { ياموسى إني أَنَا الله رَبُّ العالمين } [ القصص : 30 ]
قوله تعالى : { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } ، أي : مناجياً ، والنجيُّ : المناجي؛ كما يقالُ : جليسٌ ونديمٌ ، و « نجيَّا » حالٌ من مفعول « قرَّبناهُ » وأصله « نجيوا » لأنه من نجل يَنْجُو
قال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنه- معناهُ : قرَّبه وكلَّمه .
وقيل : أنجيناه من أعدائه ، ومعنى التقريب : إسماعه كلامهُ .
وقيل : رفعه على الحُجُب؛ حتَّى سمع صرير القلم؛ حيث تكتبُ التوراةُ في الألواح ، وهو قولُ أبي العالية .
قال القاضي : المرادُ بالقرب : أنَّه رفع قدره ، وشرَّفه بالمُنَاجاة؛ لأنَّ استعمال القُرْب في الله ، قد صار في التعارف لا يرادُ به إلا المنزلةُ؛ كما يقالُ في العبادة : تقرُّب ، وفي الملائكة - عليهم السلام- : إنَّهم مقرَّبُون .
قوله تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ } : في « مِنْ » هذه وجهان :
أحدهما : أنها تعليليةٌ ، أي : من أجل رحمتنا ، و « أخَاهُ » على هذا مفعولٌ به ، و « هارُون » بدلٌ ، أو عطف بيانٍ ، أو منصوبٌ بإضمار أعني ، و « نبيًّا » حالٌ .
والثاني : أنها تبعيضيةٌ ، أي : بعض رحمتنا ، قال الزمخشريُّ : « وأخاه » على هذا بدلٌ ، و « هَارُون » عطف بيان . قال أبو حيان : « الظاهرُ أنَّ » أخَاهُ « مفعولُ » وَهَبْنَا « ولا ترادفُ » مِنْ « فتبدل » أخاه « منها » .
فصل في نبوة هارون
قال ابن عبَّاس رضي الله عنه : كان هارونُ أكبر من موسى -صلوات الله عليه- وإنما وهب الله تعالى له نُبُوَّته ، لا شخصه وأخُوّته ، وذلك إجابة لدعائه في قوله : { واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشدد بِهِ أَزْرِي }
[ طه : 29- 31 ] فاجابه الله تعالى بقوله : { قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى } [ طه : 36 ] وقوله : { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ } [ القصص : 35 ] .
قوله تعالى : { واذكر فِي الكتاب إِسْمَاعِيلَ } .
وهو إسماعيلُ بن إبراهيم جدِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم { إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد } .
قال مجاهدٌ لم يعد شيئاً إلاَّ وفَّى به .
ورُوِيَ عن ابن عبَّاسٍ أنه [ واعد ] صاحباً له أن ينتظره في مكانٍ ، فانتظره سنة . وأيضاً : وعد من نفسه الصَّبْرَ على الذَّبْح ، فوفَّى حيث قال : { ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين } [ الصافات : 102 ] ويُروى أنَّ عيسى -صلوات الله عليه- قال له رجلٌ : انتظرني؛ حتى آتيك ، فقال عيسى : نعم ، وانطلق الرجلُ ، ونَسِيَ الميعاد ، فجاء إلى حاجته إلى ذلك المكان ، وعيسى -صلوات الله عليه- هناك للميعاد .
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ واعد رجُلاً ، و [ ونَسِيَ ذلك الرَّجلُ ] ، فانتزهرٌ من الضُّحى إلى قريبٍ [ مِنْ ] غروب الشمس ، وسُئِلَ الشعبيُّ عن الرجل يعدُ ميعاداً : إلى أيِّ وقتٍ ينتظر؟ قال : إن واعدهُ نهاراً ، فكُلَّ النَّهارِ ، وإن واعدهُ ليلاً ، فكُلَّ اللَّيْلِ .
وسُئِلَ إبراهيمُ بنُ زيدٍ عن ذلك ، فقال : إذا وعدتهُ في وقتِ الصَّلاةِ ، فانتنظرهُ إلى وقت صلاةِ أخرى ، ثم قال : { وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً } وقد مرَّ تفسيرهُ ، { وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكاة } ، والمرادُ بالأهل : قومهُ .
وقيل : أهله جميع أمَّتِهِ .
قال المفسِّرون : إنه كان رسولاً إلى « جُرْهُم » .
والمراد بالصلاة هناك [ قال ] ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- : يريد التي افترضها الله عليهم ، وهي الحنيفية التي افترضها علينا .
قيل : كان يبدأ بأهله في الأمر للعبادة ، ليجعلهم قٌدوة لمن سواهُم؛ كما قال تعالى : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } [ الشعراء : 214 ] { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة } [ طه : 132 ] { قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ } [ التحريم : 6 ] ، أمَّا الزكاةُ ، فعن ابن عبَّاس -رضي الله عنه- أنَّها طاعةُ الله ، والإخلاصُ؛ فكأنَّه تأوَّله على ما يزكُو به الفاعلُ عند ربِّه ، والظاهرُ : أنَّه إذا قُرنتِ الصَّلاة بالزَّكاة : أن يُرَاد بها [ الصدقات ] الواجبةُ .
قوله تعالى : { وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً } قائماً بطاعته .
وقيل : رضيه لنبوته ورسالته .
والعامَّةُ على قراءته كذلك معتلاًّ وأصله مَرْضُووٌ ، بواوين : الأولى زائدةٌ؛ كهي في مضروبٍ : والثانية : لام الكلمة؛ لأنه من الرِّضوان ، فأعلَّ بقلب الواو [ ياءً ، وأدغمت ] الأخيرةُ ياءً ، واجتمعت الياءُ والواوُ ياءً ، وأدغمت ، ويجوز النطقُ بالإصلِ ، وقد تقدَّم تحريرُ هذا .
وقرأ ابن أبي عبلة بهذا الأصل ، وهوالأكثرُ؛ ومن الإعلالِ قوله : [ الطويل ]
3609- لقَدْ عَلِمَتْ عرسِي مُلَيْكَةُ أنَّنِي ... أنَا المرءُ مَعْدِيًّا عليْهِ وعَاديَا
وقالوا : أرضٌ مسنيَّةٌ ، ومسنُوَّةٌ ، أي : مسقاة بالسَّانيةِ .
قوله تعالى : { واذكر فِي الكتاب إِدْرِيسَ } الآية إدريسُ هو جدُّ أبي نوحٍ -صلوات الله عيله وسلامه- وهو نوحُ بنُ لمك بن متوشلخ بن أخنوخ ، وهو إدريس -عليه السلام- .
قيل : سُمِّي « إدريسَ » لكثرة دراسة الكُتُب ، وكان خيَّاطاً ، وهو أوَّلُ من خطَّ بالقلم ، وخاط الثِّياب ، ولبس المخيطَ ، وكان قبلهُ يلبسُون الجُلُود ، وأوَّل من اتَّخذ السِّلاح ، وقاتل الكُفَّار ، وأوَّلُ من نظر في علم الحساب { إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيَّاً } .
{ وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } .
قيل : يعني في الجنَّةِ ، وقيل : هي الرِّفعة بعُلُوِّ الرُّتْبَة في الدُّنيا؛ كقوبه تعالى { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } [ الشرح : 4 ] وقيل : إنَّه رفع إلى السماءِ؛ روى أنسُ بن مالكٍ -رضي الله عنه- عن مالك بن صعصعة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه رأى إدريسَ -صلوات الله عليه- في السماءِ الرَّابعةِ ، ليلة المعراج وكان سببُ رفع إدريس على ما قاله « كَعْبٌ » وغيره -أنَّهُ [ سَارَ ] ذات يومٍ في حاجةٍ ، فأصابه وهج الشمس؛ فقال : يا ربِّ ، أنا مشيتُ يوماً فيها؛ فأصابني المشقةُ الشديدة من وهج الشمس ، وأضرَّني حرُّها ضرراً بليغاً -فكيف يحملُها مسيرة خمسمائةِ عامٍ في يومٍ واحدٍ؟! اللَّهُمَّ ، خفِّف عنه من ثقلها ، وحرِّها ، فلمَّا أصبح الملكُ ، وجد من خفَّة الشَّمس ، وحرها ما لا يعرف؛ فقال : يا ربِّ ، ما الذي قضيت فيه؟ قال : إنَّ عبدي إدريس سألني أنَّ أخفِّفق عنك حملها ، وحرِّها؛ فأجبته ، فقال : ربِّ ، اجعل بيني وبينه خُلَّة ، فأذن له؛ حتى أتى إدريسَ ، فكان يسألُه إدريسُ ، فقال له : إنِّي أخبرتُ أنَّك أكرمُ الملائكةِ ، وأمكنُهم عن ملكِ الموتِ؛ فاسشفعْ لي إليه؛ ليُؤخِّر أجلِي؛ فأزداد شكراً وعبادة ، فقال الملكُ : يؤخِّرُ الله نفساً ، إذا جاء أجلهان وأنا مُكَلِّمُهُ ، فرقعهُ إلى السَّماءِ ، ووضعهُ عند مطلع الشَّمس ، ثُمَّ أتى ملك الموتِ ، فقال : حاجةٌ لي إليك؛ صديقٌ لي مِنْ بني آدم ، تشفَّع بي إليك؛ تُؤخِّر أجله ، قال : ليس ذلك إليّ ، ولكت إن أحببت ، أعلمته أجله؛ فيتقدَّمُ في نفسه ، قال : نَعَم ، فنظر في ديوانه ، فقال : إنَّك كلَّمتني في إنسانٍ ، ما أراه أن يموت أبداً ، قال : وكيف؟ قال : لا أجده يموتُ إلا عند مطلع الشَّمس ، قال : فإني أتَيْتُكَ ، وتركته هناك : قال : انطللقْ ، فلا أرَاكَ تجده إلاَّ وقد مات؛ فواللهِ ، ما بقي من أجلِ إدريسَ شيءٌ؛ فرجع الملكُ ، فوجده ميتاً .
واحتلفُوا في أنَّه حيٌّ في السماء ، أم ميِّتٌ؛ فقيل : هو ميتٌ ، وقيل : حيٌّ ، وقيل : أربعةٌ من الأنبياء أحياءٌ ، اثنان في الأرض؛ « الخَضِرُ ، وإلياسُ » واثنان في السماءِ « إدريسُ ، وعيسَى » صلواتُ الله عليهم .
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
قوله تعالى : { أولئك الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين } الآية .
« مِنْ » الأولى؛ للبيان؛ لأنَّ كلَّ الأنبياء منَعَّمٌ عليهم ، فالتبعيضُ محالٌ؛ والثانيةُ للتبعيض؛ فمجرورها بدلٌ مما قبله بإعادة العاملِ ، بدلُ بعضٍ من كلٍّ .
وقوله : « وإسرائيلَ » عطفٌ على [ « إبْراهيمَ » .
قوله : « وممَّنْ هديْنَا » يحتملُ أن يكون عطفاً على « مِنَ النبييِّينَ » وأنْ يكون عطفاً على ] « مِنْ ذرَّية آدمَ » .
فصل
اعلم أنَّه تعالى أثنى على كل واحدٍ ممَّن تقدم ذكرهُ [ من الأنبياء ] ، بما يخُصُّه من الثناء ، ثمَّ جمعهم آخراً؛ فقال تعالى : { أولئك الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم } أي : بالنبوَّةِ ، وغيرها ، و « أولئِكَ » إشارةٌ إلى المذكورين في هذه السورة من « زكريَّا » إلى « إدريس » -صلوات الله عليهم- ثمَّ جمعهُم في كونهم من ذرية آدم .
ثُمَّ خصَّ بعضهم بأنهم من ذريَّةِ آدمَ ، ممَّن حمله مع نُوحِ ، ومنهم من هو من ذرية آدم ، دثون من حمله مع نوحٍ؛ وهو إدريسُ -عليه السلام- فقد كان سابقاً على نُوحٍ .
والذين هم من ذُريَّة من حمل مع نوحٍ ، وهو « إبراهيمُ » ؛ لأنَّه [ ولدُ ] سام بن نُوح ، وإسماعيلُ ، وإسحاقُ ، ويعقوبُ من ذريةِ إبراهيم .
ثم خصَّ بعضهم أنه من ولد إسرائيل ، أي : يعقوب ، وهم : مُوسَى ، وهارونُ ، وزكريَّا ، ويحيى ، وعيسى؛ من قبل الأمِّ .
فرتَّب الله تعالى أحوال الأنبياء الذين ذكرهم على هذا الترتيب؛ منبهاً بذلك على أنَّهم كما فُضِّلُوا بأعمالهم ، فلهم منزلةٌ في الفضل بولادتهم من هؤلاء الأنبياء .
ثُمَّ بيَّن أنَّهم ممَّن هدينا ، واجتبينا؛ منبِّهاً بذلك على أنَّهُم خُصُّوا بهذه المنازِلِ؛ لهداية الله تعالى لهمُ ، ولأنَّهم اختارهم للرسالةِ .
قوله : « إذا تُتْلى » جملةٌ شرطيةٌ فيها قولان :
أظهرهما : أنها لا محلَّ لها؛ لاستئنافها .
والثاني : أنها خبرُ « أولئكَ » والموصولُ قبلها صفةٌ لاسم الإشارة ، وعلى الأول؛ يكونُ الموصول نفس الخبر .
وقرأ العامَّةُ « تُتْلَى » بتاءين من فوق ، وقرأ عبدُ الله ، وشيبةُ ، وأبو جعفرٍ ، وابنُ كثير ، وابن عامرٍ ، وورشٌ عن نافعٍ في رواياتٍ شاذةٍ : بالياء أوَّلاً من تحت ، والتأنيثُ مجازيٌّ؛ فلذلك جاز في الفعل الوجهان .
قوله تعالى : « سُجَّداً » حالٌ مقدرةٌ؛ قال الزجاج : « لأنهم وقت الخُرُورِ ليسُوا سُجَّداً » .
و « بُكِيًّا » فيها وجهان «
أظهرهما : أنه جمعُ باكٍ ، وليس بقياس ، بل قياسُ جمعه على فعلة؛ كقاضٍ وقُضاة ، ولم يسمع فيه هذا الأصلُ ، وقد تقدَّم أنَّ الأخوين يكسران فاءهُ على الإتباع .
والثاني : أنه مصدرٌ على فعولٍ؛ نحو : جلس جُلُوساً ، وقَعَد قُعُوداً؛ والصلُ فيه على كلا القولين » بكُويٌ « بواو وياء ، فأعلَّ الإعلال المشهور في مثله ، وقال ابن عطيَّة : » وبكيًّا بكسر الباء ، وهون مصدرٌ لا يحتمل غير ذلك « قال أبو حيَّان : » وليس بسديدٍ ، بل الإتباعُ جائزٌ فيه « وهو جمعٌ؛ كقولهم : عُصِيٌّ ودُلِيٌّ ، جمع عصا ودلو ، وعلى هذا؛ فيكون » بكيًّا « : إمَّا مصدراً مؤكِّداً لفعل محذوفٍ ، أي : وبكَوا بُكِيًّا ، أي : بكاء ، وإمَّا مصدراً واقعاً موقع الحال ، أي باكينَ ، أو ذوي بكاء ، أو جعلُوا نفس البكاءِ مبالغةً .
قال الزجاج : « بُكِيًّا » جمع باكٍ؛ مثل شاهدٍ وشُهوجٍ ، وقاعدٍ وقُعُودٍ ، ثمَّ قال : الإنسانُ في حال خُرُوره لا يكن ساجداً ، والمرادُ : خرُّوا مقدِّمين للسُّجُودِ ، ومن قال في « بُكِيًّا » : إنَّه مصدرٌ ، فقد أخطأ؛ لأنَّ سُجَّداً جمع ساجدٍ ، وبكياً معطوف عليه .
فصل
قال المفسِّرون : إنَّ الأنبياء -عليهم السلام- كانُوا إذا سمعُوا آيات الله؛ والمرادُ : الآياتُ التي تتضمنُ الوعد والوعيد ، والتَّرغيبَ والتَّرهيب خروا سُجداً جمع ساجدٍ ، وبكيًّا : جمع باكٍ خشُوعاً وخُضُوعاً ، وحذراً وخوفاً .
قال بعضهم : المراد بالسُّجود : الصَّلاة .
وقال بعضهم : المراد : سجودُ التِّلاوة .
وقل : المرادُ بالسُّجود : الخضوعُ والخشُوع عند التِّلاوة .
قال -صلوات الله وسلامه عليه- : « اتلُوا القُرآنَ ، وابْكُوا ، فإنْ لَمْ تَبْكُوا ، فَتَبَاكَوْا » .
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)
قوله تعالى : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } الآية .
لما وصف الأنبياء بالمدح ترغيباً لنا في التأسي بهم ذرك بعدهم من بالضد منهم ، فقال : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ } أي من بعد هؤلاء الأنبياء « خَلْفٌ » من أولادهم ، يقال : خلفه إذا عقبه خلف سوء -بإسكان اللام- والخَلَف- بفتح اللام -الصالح ، كما قالوا : وعد في ضمان الخير ، ووعيد في ضمان الشر ، وفي الحديث : « في الله خلفٌ من كل هالك » وفي الشعر :
3610- ذَهَبَ الذِينَ يُعَاشُ في أكْنَافِهِمْ ... وبَقيتُ في خَلْفٍ كَجِلْدِ الأجْرَبِ
قال السديُّ : أراد بهم اليهود ومن لحق بهم . وقال مجاهد وقتادة : هم في هذه الأمة . « أضاعُوا الصَّلاة » تركوا الصلاة المفروضة . وقال ابن مسعود وإبراهيم : أخروها عن وقتها . وقال سعيد بن المسيب : هو أن لا يصلي الظهر حتى يأتي العصر ، ولا يصلي العصر حتى تغرب الشمس . « واتَّبعُوا الشَّهواتِ » قال ابن عباس : هم اليهود تركوا الصلاة وشربوا الخمور ، واستحلوا نكاح الأخت من الأب . وقال مجاهد : هؤلاء قوم يظهرون في آخر الزمان ينزو بعضهم على بعض في الأسواق والأزقة . « فَسَوْفَ يقَوْنَ غيًّا » قال وهب وابن عباس وعطاء وكعب : هو وادٍ في جهنم بعيد قعره .
وقال أبو أمامة : مجازاة الآثام . وقال الضحاك : « غَيًّا » : خسراناً . وقيل : هلاكاً وقيل : عذاباً ، ونقل الأخفش أنه قرئ « يُلَقَّوْنَ » بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف من لقَّاه مضاعفاً . وقوله : « يَلْقَوْنَ » ليس معناه « يرون » فقط بل معناه الاجتماع والملابسة مع الرؤية . قوله : « إلاَّ من تَابَ » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه استثناء متصل . وقال الزجاج : هو منقطع . وهذا بناء منه على أن المضيع للصلاة من الكفار .
وقرأ عبد الله والحسن والضحاك وجماعة « الصلوات » جمعاً .
وقرأ الحسن هنا وجميع ما في القرآن « يُدْخَلُونَ » مبنيًّا للمفعول .
فصل
« احتجوا » بقوله : { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } على أن الإيمان غير العمل ، لأنه عطف العمل على الإيمان ، والمعطوف غير المعطوف عليه .
أجاب الكعبي : بأنه تعالى فرق بين التوبة والإيمان ، والتوبة من الإيمان فكذلك العمل الصالح يكون من الإيمان وإن فرق بينهما .
وهذا الجواب ضعيف ، لأن عطف الإيمان على التوبة يقتضي المغايرة بينهما ، لأن التوبة عزم على الترك ، والإيمان إقرار بالله ، وهما متغايران ، فكذلك في هذه الصورة .
ولما بيَّن وعيد من لم يتب بيَّن أن من تاب وآمن وعمل صالحاً فلهم الجنة ولا يلحقهم ظلم .
وهنا سؤالان :
السؤال الأول : الاستثناء دل على أنه لا بُدَّ من التوبة والإيمان والعمل الصالح ، وليس الأمر كذلك ، لأن من تاب عن الكفر ولم يدخل وقت الصلاة أو كانت المرأة حائضاً فإن الصلاة لا تجب عليه ، وكذلك الصوم والزكاة فلو مات في ذلك الوقت كان من أهل النجاة مع أنه لم يصدر عنه عمل ، فلم يجز توقف الأجر على العمل الصالح .
والجواب : ان هذه الصورة نادرة ، والأحكام إنما تناط بالأعم الأغلب .
السؤال الثاني : قوله : { وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً } يدل على أن الثواب مستحق بالعمل لا بالتفضّل ، لأنه لو كان بالتفضل ، لاستحال حصول الظلم ، لكن من مذهبكم أنه لا استحقاق للعبد بعمله إلا بالوعد .
وأجيب بأنه لما أشبهه أجري على حكمه .
قوله : { جَنَّاتِ عَدْنٍ } العامة على كسر التاء نصباً على أنها بدل من « الجنة » . وعلى هذه القراءة يكون قوله : { وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً } فيه وجهان :
أحدهما : أنه اعتراض بين البدل والمبدل منه .
والثاني : أنه حال . كذا قال أبو حيان .
وفيه نظرٌ من حيث إن المضارع المنفي ب « لا » كالمثبت في أنه لا تباشره واو الحال .
وقرأ أبو حيوة ، وعيسى بن عمر ، والحسن ، والأعمش : « جنَّات » بالرفع وفيه وجهان :
أحدهما : أنه خبر مبتدأ مضمر ، تقديره : تلك أو هي جنات عدن .
والثاني : وبه قال الزمخشري : أنها مبتدأ ، يعني ويكون خبرها « الَّتي وَعدَ » .
وقرأ الحسن بن حيّ ، وعلي بن صالح ، والأعمش في رواية « جنَّة عدنٍ » نصباً مفرداً . واليماني ، والحسن ، والأزرق عن حمزة ، « جَنَّةُ » رفعاً « مفرداً » . وتخريجها واضح مما تقدم .
قال الزمخشري : لما كانت مشتملة على جنات عدن أبدلت منها ، كقولك أبصرت دارك القاعة والعلالي ، و « عَدْن » معرفة بمعنى العدن ، وهو الإقامة كما جعلوا فينة ، وسحر ، وأمس فيمن لم يصرفه أعلاماً لمعاني الفينة والسحر والأمس ، فجرى مجرى العجن لذلك ، أو هو أعلم لأرض الجنة ، لكونها دار إقامة ، ولولا ذلك لما ساغ الإبدال ، لأنَّ النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة ، ولما ساغ وصفها ب « التي » .
قال أبو حيان : وما ذكره متعقب ، أما دعواه : إن عدناً علم لمعنى العدن . فيحتاج إلى توقيف وسماع من العرب ، وكذا دعواه العلمية الشخصية فيه ، وأما قوله : ولولا ذلك ، إلى قوله : موصوفة؛ فليس مذهب البصريين ، لأن مذهبهم جواز إبدال النكرة من المعرفة إن لم تكن موصوفة ، وإنما ذلك شيء قاله البغداديون ، وهم محجوجون بالسماع على ما بيناه ، وملازمته فاسدة . وأما قوله : ولما ساغ وصفها ب « التي » ، فلا يتعين كون « التي » صفة ، وقد ذكرنا أنه يجوز إعرابه بدلاً .
قال شهاب الدين : إن « التي » صفة ، والتمسك بهذا الظاهر كافٍ وأيضاً : فإن الموصول في قوة المشتقات ، وقد نصوا على أن البدل بالمشتق ، ضعيف ، فكذلك ما في معناه .
قوله : « بالغَيْبِ » فيه وجهان :
أحدهما : ان الباء حالية ، وفي صاحب الحال احتمالان :
أحدهما : ضمير الجنة ، وهو عائد الموصول ، أي : وعدها وهي غائبة عنهم لا يشاهدونها .
والثاني : أن يكون هو « عِبَادَهُ » ، أي : وهم غائبون عنها لا يرونها ، إنما آمنوا بها بمجرد الإخبار عنه .
والوجه الثاني : أن الباء سببية ، أي : بسبب تصديقه الغيب ، وبسبب الإيمان « به » .
قوله : « إنَّهُ كَانَ » . يجوز في هذا الضمير وجهان :
أحدهما : أنه ضمير الباري تعالى يعود على « الرحمن » أي : إن الرحمن كان وعده مأتياً .
والثاني : أنه ضمير الأمر والشأن ، لأن مقام تعظيم وتفخيم .
وعلى الأول يجوز أن يكون في « كان » ضمير هو اسمها يعود على الله -تعالى- و « وَعْدُهُ » بدل من ذلك الضمير بدل اشتمال ، و « مَأتِيًّا » خبرها .
ويجوز أن لا يكون فيها ضمير ، بل هي رافعة ل « وعده » و « مأتياً » الخبر أيضاً .
وهو نظير : إن زيداً كان أبوه منطلقاً .
و « مأتيًّا » فيه وجهان :
أحدهما : أنه مفعول على بابه ، والمراد بالوعد : الجنة ، أطلق عليها المصدر ، أي : موعود ، نحو درهم ضرب الأمير .
وقيل : الوعد مصدر على بابه ، و « مأتيا » مفعول بمعنى فاعل . ولم يرتضه الزمخشري فإنه قال : قيل في « مأتيا » مفعول بمعنى فاعل ، والوجه أن الوعد هو الجنة ، وهم يأتونها ، أوهو من قولك : أتى إليه إحساناً ، أي : كان وعده مفعولاً منجزاً .
وقال الزجاج : كل ما وصل إليك فقد وصلت إليه ، وما أتاك فقد أتيته .
والمقصود من قوله : { إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } بيان أن وعده تعالى -وإن كان بأمر غائب- فهو كأنه مشاهد حاصل ، والمراد تقرير ذلك في القلوب .
قوله : { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً } . اللغو من الكلام : ما يلقى ويطرح ، وهو المنكر من القول كقوله : { لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً } [ الغاشية : 11 ] . وقال مقاتل : هي اليمين الكاذبة وفيه دلالة على وجوب اجتناب اللغو ، لأن الله -تعالى- نزه عنه الدار التي لا تكليف فيها ، ولقوله : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } [ الفرقان : 72 ] ، وقوله : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ } [ القصص : 55 ] الآية .
أبدى الزمخشري فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون معناه : إن كان تسليم بعضهم على بعض ، أو تسليم الملائكة عليهم لغواً ، فلا يسمعون لغواً إلا ذلك ، فهو من وادي قوله :
3611- وَلا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فلولٌ مِنْ قِراعِ الكَتائِبِ
الثاني : أنهم لا يسمعون فيها إلا قولاً يسلمون فيه من العيب والنقصان على الاستثناء المنقطع .
الثالث : أن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة ، ودار السلامة هي دار السلامة ، وأهلها أغنياء عن الدعاء بالسلامة ، فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث ، لولا ما فيه من فائدة الإكرام .
وظاهر هذا أن الاستثناء على الأول والأخير متصل ، فإنه صرح بالمنقطع في الثاني وأما اتصال الثالث فواضح ، لأنه أطلق اللغو على السلام بالاعتبار الذي ذكره .
وأما الاتصال في الأول فعسر ، إذ لا يعدُّ ذلك عيباً ، فليس من جنس الأول وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله -تعالى- عند قوله : { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى } [ الدخان : 56 ] .
قوله : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } فيه سؤالان :
السؤال الأول : أن المقصود من هذه الآيات وصف الجنة بآيات مستعظمة ووصول الرزق إليهم بكرة وعشياً ليس من الأمور المستعظمة .
والجواب من وجهين :
الأول : قال الحسن : أراد تعالى أن يرغب كل قوم بما أحبوه في الدنيا ، فلذلك ذكر أساور الذهب والفضة ، ولبس الحرير التي كانت عادة العجم ، والأرائك التي هي الحجال المضروبة على الأسرَّة ، وكانت عادة أشراف اليمن ، ولا شيء كان أحب إلى العرب من الغداء والعشاء فوعدهم بذلك .
الثاني : المراد دوام الرزق ، تقول : أنا عند فلان صباحاً ومساء ، تريد الدوام ، ولا تقصد الوقتين المعلومين .
السؤال الثاني : قال تعالى : { لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً } وقال عليه السلام : « لا صباح عند ربك ولا مساء بل هم في نور أبداً » .
والبكرة والعشيّ لا يوجدان إلا عند وجود الصباح والمساء .
والجواب : أنهم يأكلون على مقدار الغداة والعشي ، لا أن في الجنة غدوة ولا عشياً ، إذ لا ليل فيها .
وقيل : إنهم يغرقون النهار برفع الحجب ، ووقت الليل بإرخاء الحجب .
وقيل : المراد رفاهية العيش ، وسعة الرزق ، أي : لهم رزقهم متى شاءوا .
قوله : { تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ } صحت الإشارة ب « تِلْكَ » إلى « الجَنَّة » لأنها غائبة .
وقرأ الأعمش : « نورثها » بإبراز عائد الموصول .
وقرأ الحسن ، والأعرج ، وقتادة : « نُوَرِّثُ » بفتح الواو وتشديد الراء من ورَّث مضعفاً ، وقوله : « نُورث » استعارة ، أي : نبقي عيله الجنة كما نبقي على الوارث مال الموروث ، وقيل : معناه : ننقل تلك المنازل ممن لو أطاع لكانت له إلى عبادنا الذين اتقوا ربهم ، فجعل هذا النقل إرثاً ، قاله الحسن .
المتقي : هو من اتقى المعاصي؛ واتقى ترك الواجبات .
قال القاضي : هذه الآية دالة على أن الجنة يدخلها من كان تقياً ، والفاسق المرتكب للكبائر لم يوصف بذلك .
وأجيب بأن هذه الآية تدل على أن المتقي يدخلها ، وليس فيها دلالة على أن غير المتقي لا يدخلها؛ وأيضاً : فصاحب الكبيرة متقٍ عن الكفر ، ومن صدق عليه أنه متقٍ ( عن الكفر ، فقد صدق عليه أنه متق ) ، لأن المتقي جزء مفهوم قولنا : المتقي عن الكفر ، وإذا كان صاحب الكبيرة ( يصدق عليه أنه متقٍ ، وجب أنه ) يدخل الجنة ، ( فالآية بأن تدل على أن صاحب الكبيرة يدخل الجنة ) أولى من أن تدل على أنه لا يدخلها .
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
قوله تعالى : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } الآية . قال ابن عطية : الواو عاطفة جملة كلام على أخرى ، واصلة بين القولين ، وإن لم يكن معناهما واحداً .
وقد أغرب النقاش في حكاية قول : وهو أن قوله : « وما نَتَنَزَّلُ » متصل بقوله : { قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ } [ مريم : 19 ] .
وقال أبو البقاء : « وما نَتَنَزَّلُ » أي : وتقول الملائكة . فجعله معمولاً لقول مضمر .
وقيل : هو من كلام أهل الجنة . وهو أقرب مما قبله . و « نَتَنَزَّلُ » مطاوع نزَّل -بالتشديد- ويقتضي العمل في مهلة وقد لا يقتضيها . قال الزمخشري : التنزل على معنيين : معنى النزول على مهل ، ومعنى النزول على الإطلاق ، كقوله :
3612- فَلَسْتُ لإنْسِيّ ولكن لملأكٍ ... تَنَزَّلَ من جَوِّ السَّمَاءِ يصُوبُ
لأنه مطاوع نزل ، ونزل يكون بمعنى أنزل ، ويكون بمعنى التدرج ، واللائق بهذا الموضع هو النزول على مهل ، والمراد : أن نزولنا في الأحايين وقتاً بعد وقت .
ثال شهاب الدين : وقد تقدم أنه يفرق بين نزَّل وأنزل في أول هذا الموضوع .
وقرأ العامة « نَتَنَزَّلُ » بنون الجمع . وقرأ الأعرج « يتنزَّلُ » بياء الغيبة ، وفي الفاعل حينئذ قولان :
أحدهما : أنه ضمير جبريل -عليه السلام- .
قال ابن عطية : ويرده قوله : { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا } ، لأنه لا يطرد معه ، وإنما يتجه أن يكون خبراً عن جبريل أي : القرآن لا يتنزل إلا بأمر الله في الأوقات التي يقدرها . وقد يجاب ابن عطية بأنه على إضمار القول ، أي : قائلاً ما بين أيدينا .
والثاني : أنه يعود على الوحي ، وكذا قال الزمخشري على الحكاية عن جبريل ، والضمير للوحي . ولا بد من إضمار هذا القول أيضاً .
قوله : { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا } . استدل بعض النحاة على أن الأزمنة ثلاثة : ماض ، وحاضر ، ومستقبل بهذه الآية وهو كقول زهير :
3613- واعْلَمُ عِلْمَ اليَوْمِ والأمْسِ قَبْلَهُ ... ولكِنَّنِي عن عِلْمِ ما فِي غدٍ عَمِ
فصل
روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يا جبريل ما منعك أن تزورنا » فنزلت { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } الآية . وقال عكرمة والضحاك وقتادة ومقاتل ، والكلبي : « احتبس جبريل -عليه السلام- عن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأل قومه عن أصحاب الكهف ، وذي القرنين ، والروح فقال : » أخبركم غداً « ، ولم يقل : إن شاء الله حتى شق على النبي صلى الله عليه وسلم فقال المشركون ودَّعهُ ربه وقلاه ، ثم نزل بعد أيام ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم » أبطأت علي حتى ساء ظني ، واشتقت إليك « فقال له جبريل -عليه السلام- إني كنت إليك أشوق ، ولكنني عبد مأمور ، إذا بعثت نزلت ، وإذا حبست احتبست »
فنزل قوله : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } ، وقوله : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ } [ الكهف : 23 ، 24 ] وسورة الضحى وفي هذه الآية سؤال : وهو أن قوله : { تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً } [ مريم : 63 ] كلام الله ، وقوله : { وَمَا نَتَنَزَّلُ } كلام غير الله ، فكيف جاز هذا على ما قبله من غير فصل؟ .
وأجيب : بأنه إذا كانت القرينة لم يقبح كقوله -تعالى- : { إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ مريم : 35 ] ، ( وهذا كلام الله تعالى ، ثم عطف عليه ) { وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه } [ مريم : 36 ] . واعلم أنَّ ظاهر قوله : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } خطاب جماعة لواحد ، وذلك لا يليق بالذين ينزلون على الرسول ، فلذلك ذكروا في سبب النزول ما تقدم . ثم قال : { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا } أي : علم ما بين أيدينا قال سعيد بن جبير وقتادة ، ومقاتل : « ما بَيْنَ » أيدِينَا « من أمر الآخرة ، والثواب والعقاب ، » ومَا خَلْفَنَا « من أمر الدنيا ، » ومَا بَيْنَ ذلِكَ « ما يكون في هذا الوقت إلى قيام الساعة . وقيل : » مَا بَيْنَ أيْدِينَا « من أمر الآخرة ، » ومَا خَلْفَنَا « من أمر الدنيا ، » ومَا بَيْنَ ذلِكَ « أي : بين النفختين ، وبينهما أربعون سنة .
وقيل : » مَا بَيْنَ أدينَا « ما بقي من أمر الدنيا ، » ومَا خَلْفَنَا « ما مضى منها ، » ومَا بَيْنَ ذَلِكَ « هذه حياتنا . وقيل : : مَا بَيْنَ أيْدِينَا » بعد أن نموت ، « ومَا بَيْن ذلكَ » مدة الحياة . وقيل : « مَا بَيْنَ أيدِينَا » الأرض إذا أردنا النزول إليها ، « ومَا خَلْفَنَا » السماء وما أنزل منها ، « ومَا بَيْنَ ذلِكَ » الهواء ، يريد أن ذلك كله لله -عز وجل- فلا يقدر على شيء إلاَّ بأمره . ثم قال : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } أي : ناسياً ، أي : ما نسيك ربك بمعنى تركك ، والناسي التارك ، كقوله : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى } [ الضحى : 3 ] أي : ما كان امتناع النزول لترك الله لك وتوديعه إياك .
قوله : { رَّبُّ السماوات } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه بدل من « ربُّكَ » .
الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هُو ربُّ .
الثالث : كونه مبتدأ والخبر الجملة الأمرية بعده . وهذا ماشٍ رأي الأخفش ، إذ يجوِّز زيادة الفاء في خبر المبتدأ مطلقاً .
قوله : « لِعبادَتِهِ » متعلق ب « اصْطَبَرْ » فإن قيل : لِمَ لَمْ يقُلْ : واصطبر على عبادته ، لأنها صلته ، فكان حقه تعديه ب « على » ؟ .
فالجواب : أنَّه ضمن معنى الثبات ، لأنَّ العبادة ذات تكاليف قل من يصبر لها ، فكأنَّه قيل : واثبت لها مصطبرا . واستدلوا بهذه الآية على أنَّ فعل العبد خلق لله -تعالى- ، لأنَّ فعل العبدِ حاصل بين السموات والأرض ، وهو رب لكل شيء حاصل بينهما .
قوله : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } أدغم الأخوان ، وهشام ، وجماع لام « هَلْ » في « التاء » .
وأنشدوا على ذلك بيت مُزَاحِم العُقيليّ :
3614- فَذَرْ ذَا ولكِن هَتُّعِينُ مُتَيَّماً ... عَلى ضَوْءِ برْقِ آخِرِ اللَّيْلِ نَاصِبِ
فصل
دلَّ ظاهر الآية على أنَّه- تعالى- رتب الأمر بالعبادة والأمر بالمصابرة عليها أنه لا سميّ له ، والأقرب أنه ذكر الاسم وأراد هل تعلم له نظيراً فيما يقتضي العبادة والتي يقتضيها كونه منعماً بأصول ( النعم وفروعها ، وهي خلق الأجسام ، والحياة والعقل ، وغيرها ، فإنه لا يقدر على ذلك ) أحد سواه -سبحانه وتعالى- وإذا كان قد أنعم عليك بغاية الإنعام ، وجب أن تعظمه بغاية التعظيم ، وهي العبادة .
قال ابن عباس : هل تعلم له مثلاً .
وقال الكلبي : ليس له شريك في اسمه . وذلك لأنهم وإن كانوا يطلقون لفظ الإله على الوثن فما أطلقوا لفظ الله -تعالى- على شيء . قال ابن عباس : لا يسمة بالرحمن غيره . وأيضاً : هل تعلم من سمي باسمه على الحق دون الباطل ، لأنَّ التسمية على الباطل كلا تسمية ، لأنها غير معتد بها ، والقول الأول أقرب .
قوله تعالى : { وَيَقُولُ الإنسان أَإِذَا مَا مِتُّ } الآية . « إذَا » منصوب بفعل مقدر مدلول عليه بقوله تعالى : { لَسَوْفَ أُخْرَجُ } ، تقديره : إذا مت أبعث أو أحياً ، ولا يجوز أن يكون العامل فيه « أخْرَجُ » لانَّ ما بعد لام الابتداء لا يعمل ما قبلها قال أبو البقاء : لأن ما بعد اللام وسوف لا يعمل فيما قبلها ك « إنَّ » قال شعاب الدين : قد جعل المانع مجموع الحرفين ، أما اللام فمسلم وأما حرف التنفيس فلا مدخل له في المنع ، لأن حرف التنفيس يعمل كا بعده فيما قبله ، تقول : زَيْداً سأضَرِبُ وسوف أضرب ، ولكن فيه خلاف ضعيف ، والصحيح الجواز ، وأنشدوا عليه :
3615- فَلَمَّا رَأتْهُ آمَناً هَانَ وجْدُهَا ... وقَالَتْ أبُونَا سَوْفَ يَفْعَلُ
ف « هَكَذَا » منصوب ب « يَفْعَلُ » بعد ( حرف التنفيس ) ، ( وقال ابن عطية ) : واللام في قوله : « لَسَوْفَ » مجلوبة على الحكاية لكلام تقدم بهذا المعنى ، كأن قائلاً قال للكافر : ( إذا متُّ ) يا فلان لسوف تخرج حيًّا ، فقرر الكلام على الكلام على جهة الاستبعاد ، وكرر اللام حكاية للقول الأول . قال أبو حيان : ولا يحتاج إلى هذا التقدير ، ولا أن هذا حكاية للقول الأول . قال أبو حيان : ولا يحتاج إلى هذا التقدير ، ولا أن هذا حكاية لكلام تقدم بل هو من كلام الكافر ، وهو استفهام فيه معنى الجحد والاستبعاد . وقال الزمخشري : فإن قيل : لام الابتداء الداخلة على المضارع تعطي معنى الحال ، فكيف جامعت حرف الاستقبال؟ قلتُ : لم تجامعها إلاَّ مخلصة للتوكيد كما أخلصت الهمزة في يا الله للتعويض ، واضْمَحَلَّ عنها معنى التعريف .
قال أبو حيان : وما ذكر من أن اللام تعطي « معنى » الحال مخالف فيه ، فعلى مذهب من لا يرى ذلك يسقط السؤال ، وأما قوله : كما أخلصت الهمزة .
فليس ذلك إلاَّ على مذهب من يزعم أن أصله : إله ، وأما من يزعم أن أصله : لاه . فلا تكون الهمزة فيه للتعويض « إذْ لم يحذف منه شيء ، ولو قلنا : إنَّ أصله إله ، وحذفت فاء الكلمة لم يتعين أن الهمزة فيه في النداء للتعويض » ، إذ لو كانت عوضاً من المحذوف لثبتت دائماً في النداء وغيره ، ولما جاز حذفها في النداء ، قالوا : يا الله بحذفها ، وقد نصوا على أن « قطع » همزة الوصل في النداء شاذ .
وقرأ الجمهور : « أءِذَا » بالاستفهام ، وهو استبعاد كما تقدم . وقرأ أبو ذكوان بخلاف عنه ، وجماعة « إذَا » بهمزة واحدة على الخبر أو الاستفهام وحذف أداته للعلم بها ، ولدلالة القراءة الأخرى عليها .
وقرأ طلحة بن مصرِّف « لسَأخرجُ » بالسين دون سوف . هذا نقل الزمخشري عنه . وغيره نقل « سَأخْرَجُ » دون لام الابتداء ، وعلى هذه القراءة يكون العامل في الظرف نفس « أخْرَجُ » ، ولا يمنع حرف التنفيس على الصحيح .
وقرأ العامة « أخْرَجُ » مبنياً للمفعول . والحسن ، وأبو حيوة « أخْرُجُ » مبنياً للفاعل . و « حيًّا » حال مؤكدة ، لأنَّ من لازم خروجه أن يكون حيًّا ، وهو كقوله : { أُبْعَثُ حَيّاً } [ مريم : 33 ] .
فصل
لما أمر بالعبادة والمصابرة عليها ، فكأنَّ سائلاً سأل وقال : هذه العبادات لا منفعة فيها في الدنيا ، وأمَّا في الاخرة فقد أنكرها قوم ، فلا بُدَّ من ذكر الدلالة على القول بالحشر حتى تظهر فائدة الاشتغال بالعيادة ، فلهذا حكى الله -تعالى- قول منكري الحشر ، فقال : { وَيَقُولُ الإنسان } الآية : قالوا ذلك على سبيل افنكار والاستبعاد وذكروا في الإنسان وجهين :
أحدها : أن يكون المراد الجنس كقوله : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان } [ الإنسان : 1 ] .
فإن قيل : كلهم غير قائلين بذلك ، فكيف يصح هذا القول؟ .
فالجواب من وجهين : الأول : أنَّ هذه المقولة لمَّا كانت موجودة في جنسهم صحَّ اسنادها إلى جميعهم ، كما يقال : بنو فلان قتلوا فلاناًَ ، وإنما القاتل رجل منهم .
الثاني : أنَّ هذا الاستبعاد موجود ابتداء في طبع كل أحد إلاَّ أنَّ بعضهم تركه للدلالة القاطعة على صحة القول به .
القول الثاني : أنَّ المراد بالإنسان شخص معين ، فقيل : أبيُّ بن خلف الجمحي .
وقيل : أبو جهل . وقيل : المراد جنس الكفار القائلين بعدم البعث .
ثم إن الله -تعالى- أقام للدلالة على صحة البعث فقال : { أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَانُ } الآية قرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، وجماعة : « يَذْكُرُ » مضارع ذكر .
والباقون بالتشديد مضارع تذكَّر . والأصل : يتذكر ، فأدغمت التاء في الذال . وقد قرأ بهذا الأصل وهو « يتذكَّر » أبيٌّ .
والهمزة في قوله : « أو لا يذكُرُ مؤخرة على حرف العطف تقديراً كما هو قول الجمهور وقد رجع الزمخشري إلى قول الجمهور هنا فقال : الواو عطفت » لا يذكُرُ « على » يَقُولُ « ووسطت همزة الإنكار بين المعطوف » عليه « وحرف العطف .
ومذهبه : أن يقدر بين حرف العطف وهمزة الاستفهام جملة يعطف عليها ما بعدها .
وقد فعل هذا أعني الرجوع إلى قول الجمهور في سورة الأعراف كما نبَّه عليه في موضعه .
قوله : « مِنْ قَبْلُ » أي : من قبل بعضه ، وقدره الزمخشري : من قبل الحالة التي هو فيها ، « وهي حالة » بقائه .
فصل
قال بعض العلماء : لو اجتمع كل الخلائق على إيراد حجة في البعث على هذا الاختصار ما قدروا عليه ، إذ لا شك أنَّ اعادة ثانياً أهون من الإيجاد أولاً ، ونظيره قوله تعالى { قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ يس : 79 ] ، وقوله : { وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] واحتجوا بهذه الآية على أنَّ المعدوم ليس بشيء ، وهو ضعيف؛ لأن الإنسان عبارة عن مجموع جواهر متألفة قامت بها أعراض ، وهذا المجموع ما كان شيئاً ، ولكن لم قلت : إن كل واحد من تلك الأجزاء ما كان شيئاً قبل كونه موجوداً فإن قيل : كيف أمر الله -تعالى- الإنسان بالتذكر مع أنَّ التذكر هو العلم بما علمه من قبل ثم تخللهما سهو؟ .
فالجواب : المراد أو لا يتفكر فيعلم خصوصاً إذا قرئ « أو لا يذَّكَّرُ » مشدداً ، أما إذا قرئ « أو لا يذكُرُ » مخففاً ، فالمراد أو لا يعلم ذلك من حال نفسه لأنَّ كل أحد يعلم أنه لم يكن حيًّا في الدنيا ثم صار حيًّا .
ثم إنه تعالى لما قرر المطلوب بالدليل أردفه بالتشديد فقال { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشياطين } أي : لنجمعنهم في المعاد ، يعني المشركين المنكرين للبعث مع الشياطين ، وذلك أنه يحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة .
وفائدة القسم أمران : أحدهما : أنَّ العادة جارية بتأكيد الخبر باليمين .
والثاني : أنَّ في قسام الله -تعالى- باسمه مضافاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفعاً منه لشأنه كما رفع من شأن السماء والأرض في قوله : { فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ } [ الذاريات : 23 ] . والواو في « والشَّياطين » يجوز أن تكون للعطف ، وبمعنى « مع » وهي بمعنى « مع » أوقع . والمعنى ، أنهم يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغروهم . { ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ } أي : نحضرهم على أذل صورة لقوله : « جِثِيًّا » لأنَّ البارك على ركبتيه صورته الذليل ، أو صورة العاجز .
فإن قيل : هذا المعنى حاصل للكل لقوله : { وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } [ الجاثية : 28 ] ، ولأنَّ العادة جارية بأنَّ الناس في مواقف مطالبات الملوك يتجاثون على ركبهم لما في ذلك من القلق ، أة لما يدهمهم من شدة الأمر التي لا يطيقون معه القيام على أرجلهم وإذا كان حاصلاً للكل ، فكيف يدل على مزيد ذل الكفار .
فالجواب : لعل المراد أنهم يكونون من وقت الحشر إلى وقت الحضور في الموقف على هذه الحال ، وذلك يوجب مزيد ذلهم .
قوله : « جِثِيًّا » حال مقدرة من مفعول « لنُحْضرنَّهُمْ » . و « جِثِيًّا » جمع جاثٍ جمع على فعول ، نحو قَاعد وقُعُود ، وجَالس وجُلوس ، وفي لامه لغتان :
أحدهما : الواو .
والأخرى : الياء .
يقال : جَثَا يَجْثُو جُثُوًّا ، وجَثَا يَجْثِي جِثِيًّا .
فعلى التقدير الأول : يكون أصله جُثُوو . بواوين الأولى زائدة علامة للجمع والثانية لام الكلمة ، ثم أعلت إعلال عِصِيّ ودليّ ، وتقدم تحقيقه في « عِتيًّا » .
وعلى الثاني يكون الأصل : جُثُوياً ، فأعل إعلال هيِّن وميِّت .
وعن ابن عباس : أنه بمعنى جماعات جماعات ، جمع جثْوة ، وهوالمجموع من التراب والحجارة ، وفي صحته عنه نظر من حيث إنَّ فعلهُ لا يجمع على فعول . ويجوز في « جِثِيًّا » أن يكون مصدراً على فعول ، وأصله كما تقدم في حال كونه جمعاً ، إمَّا جُثُوو ، وإمَّا جُثُوي .
وقد تقدم أنَّ الأخوين يكسران فاءه ، والباقون يضمونها .
والجثوّ : القعود على الركب .
قوله : { ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ } أي : ليخرجن من كل أمة وأهل دين من الكفار والشيعة فعلة كفرقة : ومنه الطائفة التي شاعت ، أي : تبعت غاوياً من الغواة .
قال تعالى : { إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً } [ الأنعام : 159 ] . والمعنى : أنه -تعالى- يحضرهم أولاً حول جهنم ، ثم يميز البعض من البعض ، فمن كان منهم أشد تمرداً في كفره خص بعذاب عظيم ، لأنَّ عذاب الضال المضل يجب أن يكون فوق عذاب من يضل تبعاً لغيره ، وليس عذاب من يتمرد ويتجبر كعذاب المقلد ، ومعنى الآية : أنه ينزع من كل فرقة من كان أشد عتياًّ وتمرداً ليعلم أنَّ عذابه أشد وفائدة هذا التمييز التخصيص « بشدة العذاب لا التخصيص » بأصل العذاب ، فلذلك قال في جميعهم : { ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً } ولا يقال : « أوْلَى » إلا مع اشتراكهم في العذاب .
قوله : { أَيُّهُمْ أَشَدُّ } فيه أقوال كثيرة ، أظهرها عند جمهور المعربين ، وهو مذهب سيبويه : أنَّ « أيُّهُمْ » موصولة بمعنى « الذي » ، وأنَّ حركتها حركة بناء ، بنيت عند سيبويه لخروجها عن النظائر .
و « أشَدُّ » خبر مبتدأ مضمر ، والجملة صلة ل « أيُّهُمْ » ، و « أيُّّهُمْ » وصلتها في محل نصب مفعولاً بها بقوله : « لنَنْزِعَنَّ » .
و ل « أيّ » أحوال الأربعة : إحداها تبني فيها ، وهي كما في هذه الآية أن تضاف ويحذف صدر صلتها ، ومثله قول الآخر :
3616- إذَا ما أتَيْتَ بَنِي مَالِكٍ ... فَسَلِّمْ عَلَى أيُّهثمْ أفْضَلُ
بضم « أيُّهُمْ » . وتفاصيلها مقررة في كتب النحو .
وزعم الخليل -رحمه الله- أنَّ « أيُّهُمْ » هنا مبتدأ ، و « أشدُّ » خبره ، وهس استفهامية ، والجملة محكية بالقول مقدراً ، والتقدير : لنَنْزِعَنَّ من كُل شيعةٍ المقول فيهم أيُّهُم .
وقوى الخليل تخريجه بقول الشاعر :
3617- ولقَدْ أبِيتُ مِنَ الفتاةِ بِمَنْزِلٍ ... فأبِيتُ لا حَرِجٌ ولا مَحْرُوم
قال : فأبيتُ يقالُ فيَّ : لا حرجٌ ولا محْرُوم .
وذهب يونس إلى أنَّها استفهامية مبتدأ ، وما بعدها خبرها كقول الخليل إلاَّ أنَّه زعم أنها متعلقة ل « نَنْزِعَنَّ » ، فهي في محل نصب ، لأنَّه يجوز التعليق في سائر الفعال ، ولا يخصه « بأفعال القلوب كما يخصه » بها الجمهور .
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون النزع واقعاً على { مِن كُلِّ شِيعَةٍ } كقوله : { وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا } [ مريم : 50 ] ، أي : لننزعنَّ بعض كل شيعة ، فكأنَّ قائلاً قال : مَنْ هُمْ؟ فقيل : أيهم أشدّ عِتِيًّا .
فجعل « أيُّهُمْ » موصولة أيضاً ، ولكن هي في قوله خبر مبتدأ محذوف أي : هم الذين هم أشد . قال أبو حيان : وهذا تكلف ما لا حاجة إليه ، وادعاء إضمار غير محتاج إليه ، وجعل ما ظاهره أنه جملة واحدة جملتين . وحكى أبو البقاء عن الأخفش والكسائي أن مفعول « نَنْزعنَّ » : « مِنْ كُلِّ شيعةٍ » و « مِنْ » مزيدة ، قال : وهما يجيزان زيادة « مِنْ » « في الواجب » ، و « أيُّهُم » استفهام أي : لنَنْزِعَنَّ كُلَّ شيعةٍ .
وهذا مخالف في المعنى تخريج الجمهور ، فإنَّ تخريجهم يؤدي إلى التبعيض ، وهذا يؤدي إلى العموم ، إلاَّ أن يجعل « مِنْ » لابتداء الغاية لا للتبعيض فيتفق التخريجان ، وذهب الكسائي إلى أنَّ معنى « لنَنْزِعَنَّ » لنُنَادِينَّ ، فعومل معاملته ، فلم يعمل في « أيّ » . قال المهدوي : « ونادى » يعلق إذا كان بعده جملة نصب ، فيعمل في المعنى ولا يعمل في اللفظ . وقال المبرد : « أيُّهُمْ » متعلق ب « شيعةٍ » فلذلك ارتفع ، والمعنى من الذين تسايعوا أيهم أشد ، كأنهم يتبادرون إلى هذا . « ويلزمه على هذا » أن يقدر مفعولاً ل « ننزعنَّ » محذوفاً وقدر بعضهم في قول المبرد : من الذين تعاونوا فنظروا أيهم .
قال النحاس وهذا قول حسن . وقد حكى الكسائي تشايعوا بمعنى تعاونوا قال شهاب الدين : وفي هذه العبارة المنسوبة للمبرد قلق ، ولا بيَّن الناقل عنه وجه الرفع عن ماذا يكون ، وبيَّنه أبو البقاء ، لكن جعل « أيهم » فاعلاً لما تضمنه « شِيعَةٍ » « من معنى الفعل ، قال : التقدير : لننزعن من كل » فريق يشيع أيهم . وهي على هذا بمعنى « الذي » ونقل الكوفيون أنَّ « أيُّهُم » في الآية بمعنى الشرط ، والتقدير : إن اشتدَّ عتوهم أو لم يشتد ، كما تقول : ضرب القوم أيهم غضب .
المعنى : إن غضبوا أو لم يغضبوا . وقرأ طلحة بن مصرِّف « ومعاذ بن مسلم الهراء أستاذ الفراء ، وزائدة » عن الأعمش « أيُّهُمْ » نصباً .
فعلى هذه القراءة والتي قبلها ينبغي أن يكون مذهب سيبويه جواز إعرابها وبنائها ، وهو المشهور عند النقلة عنه ، « وقد نقل عنه » أنَّه يحتم بناءها .
قال النحاس : ما علمتُ أحداً من النحويين إلاَّ وقد خطَّأ سيبويه ، « قال : وسمعت أبا إسحاق الزجاج يقول : ما يبين لي أنَّ سيبويه » غلط في كتابه إلاَّ في موضعين هذا أحدهما . قال : وقد أعرب سيبويه « أيًّا » وهي مفردة ، لأنَّها تضاف فكيف يبينها مضافة . وقال الجرميّ : خرجت من البصرة فلم أسمع منذ فارقت الخندق إلى مكة أحداً يقول : لأضربن أيهم قائم ، بالضم بل ينصب .
قوله : « على الرَّحمنِ » متعلق ب « أشَدُّ » ، و « عِتِيًّا » منصوب على التمييز وهو محول عن المبتدأ ، « إذ التقدير » : أيُّهُم هو عتوه أشد . ولا بدَّ من محذوف يتم به الكلام ، التقدير : فيلقيه في العذاب ، أو فنبدأ بعذابه . قال الزمخشري : فإن قلت : بم يتعلق « عَلَى » ، و « البَاء » ، فإن تعلقهما بالمصدرين لا سبيل إليه .
قلتُ : هما للبيان لا للصلة ، أو يتعلقان بأفعل ، أي : عتوهم أشد على الرحمن ، وصليهم أولى بالنار ، كقولهم : هو أشد على خصمه ، وهو أولى بكذا .
يعني ب « عَلَى » قوله : : على الرَّحمنِ « ، وب » الباء « قوله : » بالَّذِينَ هُمْ « وقوله : بالمصدرين . يعني بهما » عتِيًّا « و » صِلِيًّا « .
» وأما كونه لا سبيل إليه « ، فلأن المصدر في نية الموصول ، ولا يتقدم معمول الموصول عليه » وجوَّز بعضهم « أن يكون » عِتِيًّا « ، و » صليًّا « في هذه الآية مصدرين كما تقدم وجوَّز أن يكون جمع عاتٍ وصالٍ فانتصابهما على هذا الحال . وعلى هذا يجوز أن يتعلق » عَلَى « و » الباء « بهما لزوال المحذوف المذكور .
قال المفسرون : معنى قوله : { ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً } أي أحق بدخول النار . يقال : صَلِيَ يَصْلَى صُليًّا مثل لَقِيَ يَلْقَى لُقْيًّا ، وصَلَى يَصْلِي صُليًّا مثل مَضَى يَمْضِي مُضيًّا ، إذا دخل النار ، وقَاسَى حرَّها .
قوله تعالى : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } الآية . الواو في » وإنْ « فيها وجهان :
أحدهما : أنها عاطفة لهذه الجملة على ما قبلها . وقال ابن عطية : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } قسم ، والواو تقتضيه ، ويفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم » من مات له ثلاث من الولد لم تمسه النار إلا تحله القسم « وأراد بالقسم قوله تعالى : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } . قال أبو حيان : » وذهل عن « قول النحويين : إنه لا يستغنى عن القسم بالجواب لدلالة المعنى إلا إذا كان الجواب باللام أو ب » إنَّ « ، والجواب هنا على زعمه ب » إنْ « النافية ، فلا يجوز حذف القسم على ما نصوا .
وقوله : والواو تقتضيه . يدلُّ على أنها عنده واو القسم ، ولا يذهب نَحْوِي إلى أنَّ مثل هذه الواو واو القسم ، لأنَّهُ يلزم عن ذلك حذف المجرور وإبقاء الجاء ، ولا يجوز بذلك إلا أن وقع في شعر أو نادر كلام بشرط أن تقوم صفة المحذوف مقامه ، كما أولوا في قولهم : نِعْمَ السًّيْرُ على بِئْسَ العيرُ . أي : على عير بئس العير ، وقول الشاعر :
3618- واللهِ مَا لَيْلِي بِنَامَ صَاحِبُهْ ... أي : بِلَيْل نام صاحبه ، وهذه الآية ليست من هذا الضرب ، إذ لم يحذف المقسم « به » وقامت صفته مقامه . و « إنْ » حرف نفي ، « و » مِنْكُم « صفة لمحذوف تقديره : وإن أحد منكم » ويجوز أن يكون التقدير : وإن منكم إلاَّ من هو واردها وقد تقدم لذلك نظائر . والخطاب في قوله : : مِنْكُمْ « يحتمل الالتفات وعدمه .
قال الزمخشري : التفات إلى الإنسان ، ويعضده قراءة ابن مسعود وعكرمة ، » وإنْ مِنْهُمْ « أو خطاب للناس من غير التفات إلى المذكور .
والحَتْمُ : القضاءُ ، والوجوب حَتْم ، أي : أوجبه حتماص ، ثم يطلق الحتم على الأمر المحتوم كقوله تعالى : { هذا خَلْقُ الله } [ لقمان : 11 ] ، وهذا درهمٌ ضرب الأمير . و » على ربِّك « متعلق ب » حَتْم « ، لأنَّه في معنى اسم المفعول ولذلك وصفه ب » مَقْضِيًّا « .
فصل
المعنى : وما منكم إلا واردها ، والورود هو موافاة المكان . وقيل القسم فيه مضمر ، أي : والله ما منكم من أحد إلا واردها . واختلفوا في معنى الورود هنا فقال ابن عباس والأكثرون : الورود ههنا هو الدخول ، والكناية راجعة إلى النار ، وقالوا : يدخلها البر والفاجر ، ثم ينجي الله المتقين فيخرجهم منها ، ويدلُّ على أنَّ الورود هو الدخول قوله تعالى : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار } [ هود : 98 ] .
روى ابن عيينة عن عمرو بن دينار أنَّ نافع بن الأزرق مارى ابن عباس في الورود فقال ابن عباس : هو الدخول . وقال نافع : ليس الورود الدخول ، فتلى ابن عباس { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } أدخلها هؤلاء أم لا؟ ثم قال : يا نافع أما والله أنا وأنت سنردها ، وأنا أرجو أن يخرجني الله ، وما أرى أن يخرجك منها بتكذيبك .
ويدلُّ عليه أيضاً قوله تعالى » ثُمَّ نُنَجِّي الذينَ اتَّقَوْا « ، أي : ننجي من الواردين من اتقى ، ولا يجوز أن يقول » ثُمَّ نُنجي الذين اتقول ونذر الظالمين فيها جثياً « إلاَّ والكل واردون . والأخبار المروية دل على هذا القول ، وهو ما
« روي عن عبد الله بن رواحة قال : أخبر الله تعالى عن الورود ولم يخبر بالصد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم » يا ابن رواحة « اقرأ ما بعدها » ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا « فدلَّ على أنَّ ابن رواحة فهم من الورود الدخول ، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وعن جابر أنَّه سُئِلَ عن هذه الآية ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » الورودُ الدخولُ ، ولا يبقى بردٌّ ولا فاجرٌ إلا دخلها ، فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً ، حتى إن للنار ضجيجاً من بردها « .
وقيل : المراد من تقدم ذكره من الكفار ، فكنى عنهم أولاً كناية الغيبة ثم خاطب خطاب المشافهة . قالوا : ولا يجوز أن يدخل الناء مؤمن أبداً لقوله تعالى : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا } والمبعد عنها لا يوصف بأنه واردها ، ولو وردوا جهنم لسمعوا حسيسها .
وقوله : { وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ } [ النمل : 89 ] . والمراد في قوله : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } الحضور والرؤية لا الدخول ، كقوله : { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ } [ القصص : 23 ] أراد به الحضور . وقال عكرمة : الآية في الكفار يدخلونها ولا يخرجون منها .
وقال ابن مسعود : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } يعني القيامة والكناية راجعة إليها .
وقال البغوي : والأول أصح ، وعليه أهل السنة أنهم جميعاً يدخلون النار ، ثم يخرج الله منها أهل الإيمان ، لقوله تعالى : { ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا } أي : الشرك ، وهم المؤمنون ، والنجاة إنما تكون مما دخلت فيه .
قوله : { كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً } أي : كان ورودكم جهنم حتماً لازماً مقضياً قضاه الله عليكم .
قوله : » ثُمَّ نُنَجِّي « . قرأ العامة : ثُمَّ نُنَجِّي » بضم « ثُمَّ » على أنَّها العاطفة .
وقرأ علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وابن مسعود ، وابن عباس ، وأبي ، والجحدري ويعقوب « ثَمَّ » بفتحها على أنَّها الظرفية ، ويكون منصوباً بما بعده ، أي : هُناك نُنَجِّي الذين اتََّقَوا .
وقرأ الجمهور « نُنَجِّي » بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد الجيم من نجَّى مضعفاً . وقرأ الكسائي والأعمش وابن محيصن « نُنَجِي » من أنْجَى .
والفعل على هاتين القراءتين مضارع .
وقرأت فرقة « نُجِّي » بنون واحدة مضمومة وجيم مشددة ، وهو على هذه القراءة ماض مبني للمفعول ، وكان من حق قارئها أن يفتح الياء ، ولكنه سكنه تخفيفاً .
وتحتمل هذه القراءة توجيهاً آخر سيأتي في قراءة متواترة في آخر سورة الأنبياء .
وقرأ علي بن أبي طالب -أيضاً- « نُنَحِّي » بحاء مهملة من التنحية .
ومفعول « اتَّقَوْا » محذوف مراد للعلم به ، أي : اتقوا الشرك والظلم .
قوله : « جِثِيًّا » إمَّا مفعول ثان إن كان « نَذَرُ » يتعدى لاثنين بمعنى أن « نترك ونصير » .
وإمَّا حال إن جعلت « نَذَرُ » بمعنى نخليهم . و « جَثِيًّا » على ما تقدم .
و « فيها » يجوز أن يتعلق ب « نَذَرُ » ، وأن يتعلق ب « جِثِيًّا » إن كان حالاً ولا يجوز ذلك فيه إن كان مصدراً ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من « جِثِيًّا » ، لأنه في الأصل صفة لنكرة قدم عليها فنصب حالاً .
فصل
اختلفوا في أنَّه كيف يندفع عن المتقين ضرر النار إذا ورودها بأنَّ القول هو الدخول . فقيل : « البقعة بجهنم لا يمتنع أن يكون في خلالها ما لا نار فيه ، وإذا كان كذلك لا يمتنع » أن يدخل الكل في جهنم ، ويكون المؤمنون في تلك المواضع الخالية عن النار والكفار في وسط النار ، وعن جابر أنَِّ رسول الله صلى الله عيله وسلم قال « إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول بعضهم لبعض : أليس ربنا أن نرد النار؟ فيقال لهم : قد دخلتموها وهي خامدة » .
وقيل : إنَّ الله -تعالى- يخمد النار فيعبرها المؤمنون ، وتنهار بالكافرين . قال ابن عباس : يردونها كأنَّها إهالة . وقيل : إنَّ الله -تعالى- يجعل النار الملاصقة لأبدان المؤمنين برداً وسلاماً كما جاء في الحديث المتقدم ، وكما في حق إبراهيم -عليه السلام- ، وكما في حق الكوز الواحد من الماء يشربه القبطي فيكون دماً ، ويشربه الإسرائيلي فيكون ماء عذباً ، وفي الحديث : « تقول النار للمؤمن جُزْ يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي » وعن مجاهد في قوله تعالى « { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } قال : من حُمَّ من المسلمين فقد وردها . وفي الخبر » الحمى كنز من جهنم ، وهي حظ المؤمن من النار « واعلم أنه لا بُدَّ من أحد هذه الوجوه في الملائكة الموكلين بالعذاب حتى يكونوا في النار مع المعاقبين . فإن قيل : إذا لم يكن على المؤمنين عذاب في دخولهم فما الفائدة في ذلك الدخول؟ فالجواب : أنَّ ذلك مما يزيدهم سروراً إذا علموا الخلاص منه . وأيضاً : فيه مزيد غم على أهل النار حيث تظهر فضيحتهم عند من كان يخوفهم من النار فما كانوا يلتفتون إيله وأيضاً : إن المؤمنين إذا كانوا معهم في النار يبكتونهم فيزداد غم الكفار وسرور المؤمنين . وأيضاً : فإن المؤمنين كانوا يخوفونهم بالحشر والنشر ، ويستدلون على ذلك ، فما كانوا يقبلون تلك الدلائل ، فإذا دخلوا جهنم معهم أظهروا لهم أنهم كانوا صادقين فيما قالوه ، وأنَّ المكذِّبين بالحشر والنشر كانوا كاذبين . وأيضاً : إنهم إذا شاهدوا ذلك العذاب صار سبباً لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة على ما قيل : وبضدها تتبين الأشياء .
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
قوله تعالى : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بِيِّنَاتٍ } الآية .
لما أقام الحجة ، على مشركي قريش المنكرين للبعض ، وأتبعه بالوعيد حكى عنهم أنهم عارضوا حجة الله بكلام ، فقالوا : لو كنتم انتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أحسن من حالنا ، لأنَّ الحكيمَ لا يليق به أن يوقع أولياءه المخلصين في الذل وأعداءه المعرضين عن خدمته في العز والراحة ، وإنما كان الأمر بالعكس ، فإنَّ الكفار في النعمة والراحة والاستعلاء ، والمؤمنين كانوا في ذلك الوقت في الخوف والقلة ، فدل على أنَّ الحق ليس من المؤمنين ، هذا حاصل شبهتهم .
وقوله : { آيَاتُنَا بِيِّنَاتٍ } أي : واضحات ، وقيل : مرتلات ، وقيل : ظاهرات الإعجاز .
{ قَالَ الذين كَفَرُواْ } يعني النضر بن الحارث وذويه من قريش { لِلَّذِينَ آمنوا } يعني فقراء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت فيهم قشافة ، وفي عيشهم خشونةٌ ، وفي ثيابهم رثاثةٌ ، وكان المشركون يرجلون شعورهم ، ويلبسون خير ثيابهم ، فقالوا للمؤمنين { أَيُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً } منزلاً ومسكناً ، وهو موضع الإقامة ، « وأحْسَنُ نديًّا » أي : مجلساً ، ومثله النادي .
قوله : « مَقَاماً » . قرأ ابن كثير « مُقَاماً » بالضم .
ورُوِيَتْ عن أبي عمرو ، وهي قراءة ابن محيصن وهو موضع الإقامة والمنزل .
والباقون بالفتح وفي كلتا القراءتين يحتمل أن يكون اسم مكان « أو اسم مصدر من قَامَ ثلاثياً ، أو من أقَامَ أي : خير مكان » قياماً أو إقاَمَة .
فصل
قالوا : زيْدٌ خيرٌ من عمروٍ ، وشرٌّ من بكر ، ولم يقولوا : أخير منه ، ولا أشرّ منه ، لأنَّ هاتين اللفظتين كثر استعمالهما فحذفت همزتاهما ، ولم يثبتا إلا في فعل التعجب ، « فقالوا : أخير بزيدٍ وأشرر بعمرو ، وما أخْيَر زيْداً ومَا أشرَّ عَمْراً .
والعلة في إثباتها في فعلي التعجب أنَّ » استعمال هاتين اللفظتين اسماً أكثرُ من استعمالهما فعلاً ، فحذفت الهمزةُ في موضع « الكثرة ، وبقيتْ على أصلها في موضع » القلة ثابتة . والنَّديّ فعيل ، أصله : نَدِيو ، لأنَّ لامه واو ، يقال : ندوتُهُمْ أندوهم ، أي : أتَيْتُ نَاديَهُمْ والنَّادِي ، مثله ، ومنه : { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ } أي : أهل ناديه . والنَّدِيِّ والنَّادي مجلس القوم ومحدثهم .
وقيل : هو مشتق من النَّدى ، وهو الكرم ، لأنَّ الكرماء يجتمعون فيه . وانْتَديْتُ المكان والمنتدى كذلك ، « وقال حاتم » :
3619- ودُعِيتُ في أولَى النَّديِّ ولَمْ ... يُنْظَر « إليّ بأ » عْيُنٍ خُرْزِ
والمصدر النَّدو . و « مَقَاماً » و « نَدِيًّا » منصوبان على التمييز من أفعل .
وقرأ أبو حيوة والأعرج وابن محيصن « يُتْلَى » بالياء من تحت ، والباقون بالتاء من فوق . واللام في « اللَّذينَ » يحتمل أن تكون للتبليغ ، وهو الظاهر ، وأن تكون للتعليل .
قوله : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا } . « كَم » مفعول مقدم ، واجب التقديم ، لأنَّ له مصدر الكلام ، لأنها إمَّا استفهامية أو خبرية ، وهي محمولة على الاستفهامية .
و « أهْلَكْنَا » متسلط على « كَمْ » ، أي : كثير من القرون أهلكنا .
و « مِنْ قَرْنٍ » تمييز ل « كَمْ » مبين لها .
قوله : « هُمْ أحْسَنُ » في هذه الجملة وجهان :
أحدهما : وإليه ذهب الزمخشري وأبو البقاء : أنَّه في محل نصب صفة ل « كَمْ » قال الزمخشري : ألا ترى أنك لو أسقطت « هُمْ » لم يكن بُدّ من نصب « أحْسَنُ » على الوصفية .
وفي هذا نظرٌ ، لأنَّ النحويين نصوا على أنَّ « كَمْ » الاستفهامية والخبرية لا تُوصف ولا يُوصف بها .
الثاني : أنها في محل جرّ صفة ل « قَرْن » ، ولا محذور في هذا . وإنما جمع في قوله : « هُمْ » ، لأنَّ « قَرْنٍ » وإنْ كَانَ لَفظهُ « مفرداً فمعناه جمع ، ف » قَرْن « كلفظ » جَمِيع « ، و » جَمِيع « يجوز مراعاة لفظه تارة فيفرد كقوله تعالى { نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } [ القمر : 44 ] ، ومراعاة معناه أخرى فيجمع كقوله : { لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [ يس : 32 ] .
فصل
لمَّا ذكروا شبهتهم أجاب الله عنها بقوله : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً } أي : متاعاً وأموالاً .
قوله : » ورئيا « الجمهور على » رِئْياً « بهمزة ساكنة بعدها ياء صريحة وصلاً ووقفاً . وحمزة إذا وقف يبدل هذه الهمزة ياء على أصله في تخفيف الهمز ، ثم له بعد ذلك وجهان : الإظهار اعتباراً بالأصل ، والإدغام اعتباراً باللفظ .
وفي الإظهار صعوبة لا تَخْفَى ، وفي الإدغام إيهام أنَّها مادة أخرى ، وهو الريُّ الذي هو بمعنى الامتلاء والنضارة ، ولذلك ترك أبو عمرو وأصله في تخفيف الهمزة .
وقرأ قالون عن نافع ، وابن ذكوان عن ابن عامر » ورِيًّا « بياء مشددة بعد الراء .
فقيل : هي مهموزة الأصل ، ثم أبدلتِ الهمزةُ ياء ، وأدغمتْ . والرِّئْيُ بالهمز وقيل : من رؤية العين ، وفعلٌ فيه معنى مفعول أي : مَرْئِيٌّ . وقيل : من الرواء وحسن المنظر . وقيل : بل هو من الريّ ضد العطش ، وليس مهموز الأصل ، والمعنى : أحسن منظراً ، لأنَّ الريّ والامتلاء أحسن من ضديهما ، ومعناه الارتواء من النعمة ، فإنَّ المُنْعم يظهر فيه ارتواء النعمة ، والفقير يظهر عليه ذبول الفقر . وقرأ حميد وأبو بكر عن عاصم في رواية الأعمش : وَرِيْئَا » بياء ساكنة بعدها همزة وهو مقلوب من « رِئْياً » في قراءة العامة ، ووزنه « فِلْع » ، وهو من وراءه يراؤه كقول الشاعر :
3620- وكُلُّ خليلٍ رَاءَنِي فَهُوَ قَائِلٌ ... من أجْلِكِ هذا هامةُ اليَوْمِ أوْ غَدِ
وفي القلب من القلب ما فيه . وروى اليزيدي قراءة « ورَيَاء » بياء بعدها ألف « بعدها همزة » ، وهي المراءاة ، أي : يرى بعضهم حسن بعض ، ثم خفف الهمزة الأولى بقلبها ياء ، وهو تخفيف قياسي .
« وقرأ ابنُ عباس أيضاً في رواية طلحة » وَرِياً « بياء فقط مخففة ، ولها وجهان :
أحدهما : أن يكون » أصلها كقراءة قالون ، ثم خففت الكلمة بحذف إحدى الياءين ، وهي الثانية ، لأنَّ بها حصل الثقل ، ولأنها لام الكلمة ، والأواخر أحرى بالتغيير .
والثاني : أن يكون أصلها كقراءة حميد « وَرَيْئاً » بالقلب ، ثم نقل حركة الهمزة إلى الياء قبلها ، وحذف الهمزة على قاعدة تخفيف الهمزة بالنقل ، فصار « وَرِياً » كما ترى . وتجاسر بعضهم فجعل هذه القراءة لحناً ، وليس اللاحن غيره ، لخفاء توجيهها عليه . وقرأ ابن عباس -أيضاً- وابن جبير وجماعة « وَزِياً » بزاي وياء مشددة .
والزِّيّ : البِزَّةُ الحسنة والآلات المجتمعة ، لأنه من زَوَى كذا يَزْوِيهِ ، أي : يجمعه ، والمتزين يجمع الأشياء التي تزينه وتظهر زيَّه .
قوله : { مَن كَانَ فِي الضلالة } . « مَنْ » يجوز أن تكون شرطية ، وهو الظاهر ، وأن تكون موصولة ، ودخلت الفاء في الخبر ، لما تضمنه الموصول من معنى الشرط .
وقوله « : فَلْيَمْدُدْ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه طلب على بابه ، ومعناه الدعاء .
والثاني : لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر . قال الزمخشري : أي : مدَّ له الرحمن بمعنى أمهلهُ « وأمْلَى له في العمر » فأخرج على لفظ الأمر إيذاناً بوجوب ذلك . . . أو فيمد له في معنى الدعاء بأن يمهله الله وينفس في مدة حياته .
قوله : « حتَّى إذَا » في « حتَّى » هذه ما تقدم في نظائرها من كونها حرف جر أو حرف ابتداء ، وإنَّما الشأن فيما هي غاية له في كلا القولين .
فقال الزمخشري : وفي هذه الآية وجهان :
الأول : أن تكون متصلة بالآية التي هي رابعتها ، والآيتان اعتراض بينهما ، أي : قالوا : « أي الفَريقِيْنِ خيرٌ مقَاماً وأحْسَنُ نديًّا » ، « حتَّى إذَا رَأوْا ما يُوعَدُون » ، أي : لا يبرحون يقولون هذا القول ، ويتولعون به لا يتكافون عنه إلى أن يشاهدوا الموعد رأي العين .
فقوله : { فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً } مذكور في مقابلة قوله « خَيْرٌ مَقَاماً » ، وأضْعَفُ جُنْداً « في مقابلة قولهم : » وأحْسَنُ نَدِيًّا « . فبين تعالى أنَّهم عن ظنوا في الحال أنَّ مَنزلتهم أفضل من حيث فضلهم الله بالمقام والندي ، فسيعلمون من بعد أنَّ المر بالضد من ذلك وأنَّهم شر مكاناً ، فإنَّه لا مكان شر من النار والمناقشة في الحساب ، » وأضْعَفُ جُنْداً « فقد كانوا يظنون وهم في الدنيا أنَّ اجتماعهم ينفع ، فإذا رأوا أن لا ناصر لهم في الآخرة عرفوا عند ذلك أنهم كانوا في الدنيا مبطلين فيما ادعوه .
» ثم قال : « والثاني : أن تتصل بما يليها ، والمعنى أنَّ الذين في الضلالة ممدود لهم ، ثم ذكر كلاماً كثيراً ، ثم قال : إلى أن يعاينوا نصرة الله المؤمنين ، أو يشاهدوا الساعة ومقدماتها ، فإن قلت : » حتَّى « هذه ما هي؟ قلتُ : هي التي تُحْكى بعدها الجمل ، ألا ترى أنَّ الجملة الشرطية واقعة بعدها ، وهي » إذَا رَأوْا ما يُوعَدُون فَسَيَعْلمُونَ « قال أبو حيان : مستبعداً الوجه الأول ، وهو في غاية البعد ، لطول الفصل بين قوله : : أيُّ الفَرِيقَيْنِ » وبين الغاية ، وفيه الفصل بجملتي اعتراض ، ولا يجيزه أبو علي .
وهذا الاستبعاد قريب .
وقال أبو البقاء : « حتَّى » تَحكي ما بعدها ههنا ، وليست متعلقة بفعل .
قوله : { إِمَّا العذاب وَإِمَّا الساعة } تقدم الكلام في « إمَّا » من كونها حرف عطف أو لا ، ولا خلاف أنَّ أحد معانيها التفصيل كما في الآية الكريمة .
و « العَذَابَ » و « السَّاعَةَ » بدلاً من قوله : « مَا يُوعَدُون » المنصوبة ب « رَأوا » ، و « فَسَيعْلَمُونِ » جواب الشرط . « مَنْ هُو شرٌّ مكاناً » يجوز أن تكون « مَنْ » موصولة بمعنى « الَّذي » ، ويكون مفعولاً ل « يَعْلَمُونَ » ويجوز أن تكون استفهامية في محل رفع بالابتداء ، و « هُوَ » مبتدأ ثان ، و « شرٌّ » خبره ، والمبتدأ والخبر خبر الأول ، ويجوز أن تكون الجملة معلقة لفعل الرؤية ، فالجملة في محل نصب على التعليق .
فصل
قال المفسرون : مَدَّ له الرحمن ، أي : أمهله ، وأملى له في الأمر ، فأخرج على لفظ الأمر ومعناه الخبر ، أي : يدعه في طغيانه ، ويمهله في كفره { حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العذاب } وهو الأسر ، والقتل في الدنيا ، و « إمَّا السَّاعةَ » يعني القيامة ، فيدخلون النار .
وقوله : « وإمَّا السَّاعة » يدلُّ على أنَّ المراد بالعذاب عذاب يحصل قبل يوم القيامة ، فيحتمل أن يكون المراد به الأسر والقتل كما تقدم ، ويحتمل أن يكون عذاب القبر ، ويمكن أن يكون تغير أحوالهم من العز إلى الذُّل ، ومن الغنى إلى الفقر ، ومن الصحة إلى المرض ، ومن الأمن إلى الخوف . « فَسَيَعْلمُونَ » عند ذلك « مَنْ هُو شرٌّ مكاناً » منزلاً ، « وأضْعَفُ جُنْداً » أقل ناصراً ، لأنَّهم في النار والمؤمنون في الجنة ، وهذا ردٌّ عليهم في قولهم : « أيُّ الفريقَيْن خيرٌ مَقَاماً وأحْسَنُ نَدِيًّا » .
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)
قوله تعالى : { أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا } الآية .
« أفَرَأيْتَ » عطف بالفاء إيذاناً بإفادة التعقيب ، كأنه قيل : أخبر أيضاً بقصة هذا الكافر عقيب أولئك . وأرأيت بمعنى : أخبرني كما تقدم ، والموصول هو المفعول الأول ، والثاني هو الجملة الاستفهامية من قوله : « أطَّلع الغَيْبَ » .
و « لأوتَينَّ » جواب قسمٍ مضمر ، والجملة القسمية كلها في محل نصب بالقول .
وقوله هنا « وولداً » ، وفي آخر السورة : { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً } [ مريم : 88 ] موضعان وفي الزخرف { إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ } [ الآية : 81 ] ، وفي نوح { مَالُهُ وَوَلَدُهُ } [ الآية : 21 ] .
وقرأ الأخوان الأربعة بضم الواو وسكون اللام ، ووافقهما ابن كثير وأبو عمرو على الذي في نوح دون السورتين ، والباقون وهم نافع وابن عامر وعاصم قرأوا ذلك كلَّه بفتح اللام والواو . فأمَّا القراءةُ بفتحتين فواضحة ، وهو اسم مفرد قائم مقام الجمع .
وأما قراءة الضم والإسكان ، فقيل : هي كالتي قبلها في المعنى ، يقال : وَلَدٌ ووُلْدٌ كما يقال : عَربٌ وعُرْبٌ ، وعدمٌ وعُدْمَ .
وقيل : بل هي جمع ل « ولد » نحو أسَدٌ وأسْدٌ ، « وأنشدوا على ذلك :
3621- ولقَد رَأيْتُ مَعَاشِراً ... قَدْ ثَمَّرُوا مالاً ووُلدا »
وأنشدوا شاهداً على أن الوَلَد والوُلْدَ مترادفان قول الآخر :
3622- فَلَيْتَ فُلاناً كان في بَطْنِ أمِّهِ ... وليْتَ فُلاناً كانَ وُلْدَ حمارِ
وقرأ عبد الله ويحيى بن يعمر « ووِلْدا » بكسر الواو ، وهي لغة الولد ، ولا يبعد أن يكون هذا من باب الذبح والرئي ، فيكون ولد بمعنى مولود ، وكذلك في الذي بفتحتين نحو القبض بمعنى المقبوض . قوله : « اطَّلَعَ » هذه همزة استفهام سقط من أجلها همزة وصل ، وقد قُرئ بسقوطها درجاً ، وكسرها ابتداء على أن همزة الاستفهام قد حذفت لدلالة « أمْ » عليها ، كقوله :
3623- لَعمركَ مَا أدْرِي وإنْ كُنْتَ دَارياً ... بسَبْعٍ رمَيْنَ الجَمْرَ أمْ « بِثَمَانِ »
و « أطَّلعَ » من قولهم : اطلع فلان الجبل ، أي : ارتقى أعلاه .
3624- لاقَيْتَ مُطَّلِعَ الجِبَالِ « وعُوراً » ... و « الغَيْبَ » مفعول به ، لا على إسقاط حرف الجر ، أي : على الغيب ، كما زعم بعضهم .
فصل
لمَّا استدل على صحة البعث ، وأورد شبهة المنكرين ، وأجاب عنها ذكر عنهم ما قالوه استهزاء طعناً بالقول في الحشر فقال : { أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا } . قال الحسن : نزلت في الوليد بن المغيرة والمشهور أنها نزلت في العاص بن وائل ، قال خباب بن الأرت : كان لي عليه دين ، فأتيت أتقاضاه ، فقال : لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد . فقلت : لا والله لا أكفر بمحمدٍ حيًّا ولا ميتاً . وفي رواية : حتى تموت ثم تبعث . فقال : وإنّي لميتٌ ثم مبعوثٌ؟ قلت : نعم . قال : إنكم تزعمون أنكم تبعثون ، وأن في الجنة ذهباً وفضة وحريراً فأنا أقضيك ثمَّ ، فإنه سيكون لي مالٌ وولد .
ثم قال تعالى : { أَطَّلَعَ الغيب } . « قال ابن عباس : أنظر في اللوح المحفوظ » .
وقال مجاهد : أعلمَ علن الغيب حتى يعلم افي الجنة هو أم لا؟ .
والمعنى : أنَّ الذي ادعى حصوله لا يتوصل إلاَّ بأحد هذين الطريقين : إمَّا علم الغيب ، وإمَّا عهدٌ من عالم الغيب ، فبأيهما توصل إليه .
قيل : العهد كلمة الشهادة . وقال قتادة : عملاً صالحاً قدَّمه ، فهو يرجو بذلك ما يقول . وقال الكلبي : عهد إليه أن يدخله الجنة .
« كَلاَّ » للنحويين في هذه اللفظة ستة مذاهب :
أحدها : وهو مذهب جمهور البصريين كالخليل وسيبويه وأبي الحسن الأخفش وأبي العباس أنها حرف ردع وزجر .
وهذا معنى لائق بها حيث وقعت في القرآن ، وما أحسن ما جاءت في هذه الآية حيث زجرت وردعت ذلك القائل .
والثاني : وهو مذهب النضر بن شميل أنها حرف تصديق بمعنى نعم ، فيكون جواباً ، ولا بد حينئذ من أن يتقدمها شيء لفظاً أو تقديراً ، وقد تستعمل في القسم .
والثالث : وهو مذهب الكسائي ، وأبي بكر بن الأنباري ، « ونصر بن يوسف » وابن واصل أنها بمعنى حقًّا .
والرابع : وهو مذهب أبي عبد الله محمد بن الباهلي أنها رد لما قبلها . وهذا قريب من معنى الردع .
الخامس : أنها صلة في الكلام بمعنى « إي » كذا قيل . وفيه نظر ، فإن « إي » حرف جواب ، ولكنه مختص بالقسم .
السادس : أنها حرف استفتاح ، وهو قول « أبي حاتم ولتقرير هذه المذاهب موضع يليق به .
وقد قرئ هنا بالفتح والتنوين في كَلاَّ » هذه ، وتروى عن ابن نهيك وحكى الزمخشري هذه القراءة ، وعزاها لابن نهيك في قوله : { كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ } كما سيأتي ويحكى أيضاً قراءةٌ بضم الكاف والتنوين ، ويعزيها لابن نهيك أيضاً « .
فأما قولهم : ابن نهيك ، فليس لهم ابن نهيك ، إنما لهم أبو نهبك بالكنية .
وفي قراءة الفتح » والتنوين أربعة أوجه :
أحدها : أنَّه منصوبٌ على المصدر بفعل مقدر من لفظها تقديره « : كَلُّوا كَلاًّ ، أي : أعيُوا عن الحقِّ إعياء ، أو كلُّوا عن عبادة الله ، لتهاونهم بها من قول العرب : كَلَّ السَّيْفُ ، إذا نبا عن الضرب ، وكلَّ زيدٌ ، أي تعِبَ . وقيل : المعنى : كلُّوا في دعواهم وانقطعوا .
والثاني : أنه مفعولٌ به بفعل مقدر من معنى الكلام ، تقديره : حُمِّلُوا كلاًّ . والكلُّ أيضاً : الثقل : تقول : فلان كلٌّ على الناس ، ومنه قوله تعالى : { وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ } [ النحل : 76 ] .
والثالث : أن » التنوين بدل من ألف « » كلاَّ « ، وهي التي يراد بها الردع والزجر ، فتكون حرفاً أيضاً .
قال الزمخشري : ولقائل أن يقول : غن صحت هذه الرواية ، فهي » كلاَّ « التي للردع » قلب الواقف عليها ألفها نوناً كما في قوله : « قوارِيرا » .
قال أبو حيان : وهذا ليس بجيد ، لأنه قال : التي للردع ، « والتي للردع » حرف ، وجه لقلب ألفها نوناً ، وتشبيهه ب « قَوَارِيراً » ليس بجيد ، لنَّ « قَوَارِيرَ » اسم يرجع به إلى أصله ، فالنون ليس بدلاً من ألف بل هو تنوين الصرف ، وهذا اجمع مختلف فيه أيتحتَّمُ منع صرفه أم يجوز؟ قولان .
ومنقول أيضاً : أن بعض لغة العرب يصرفون ما لا ينصرف ، فهذا القول ، إما على قول من لا يرى بالتحتم ، أو على تلك اللغة .
والرابع : أنه نعتٌ ل « آلهة » ، قاله ابن عطية . وفيه نظر ، إذ ليس المعنى على ذلك ، وقد يظهر له وجه ، « أن يكون وصف » الآلهة بالكلِّ الذي هو المصدر بمعنى الإعياء والعجز ، كأنه قيل : آلهةٌ كالِّين ، أي : عاجزين منقطعين . ولمَّا وصفهم وصفهم بالمصدر وحده . وروى ابن عطية والداني وغيره عن أبي نهيك أنه قرأ « كُلاًّ » بضم الكاف والتنوين ، وفيها تأويلان :
أحدهما : أن ينتصب على الحال ، أي : سيكفرون جميعاً؛ كذا قدره أبو البقاء ، واستبعده .
والثاني : أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدر ، يرفضون ، أي : يجحدون ، أو يتركون كلاًّ ، قاله ابن عطية . وحكى ابن جرير أن أبنا نهيك قرأ « كُلُّ » بضم الكاف ورفع اللام منونة على أنه مبتدأ والجملة الفعلية بعده خبره .
وظاهر عبارة هؤلاء أنه لم يقرأ بذلك إلا في « كلاًّ » الثانية . وقرأ عليُّ بنُ أبي طالب « ونُمِدُّ » من أمدَّ ، وقد تقدم القول في مدَّهُ وأمدَّهُ .
قوله : : ونَرثهُ ما يقُولُ « . يجوز في » مَا « وجهان :
أحدهما : أن يكون مفعولاً بها ، والضمير في » نَرِثُهُ « منصوب على إسقاط الخافض تقديره : ونرثُ منه » ما يقوله « .
والثاني : أن يكون بدلاً من الضمير في » نَرِثُهُ « بدل اشتمال . وقدَّر بعضهم مضافاً قبل الموصول ، أي : نرثه معنى ما يقول : أو مسمَّى ما يقول ، وهو المال والولد ، لأن نفس القول لا يورث . » و « فَرْداً » حال إمَّا مقدرة نحو { فادخلوها خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] ، أو مقارنة ، وذلك مبنيٌّ على اختلاف معنى الآية « .
قوله تعالى : » سَنَكْتبُ « سنحفظ » ما يقُولُ « فنُجازيه في الآخرة .
وقيل : نأمر الملائكة حتى يكتبوا ما يقول . { وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً } أي : نزيده عذاباً فوق العذاب ، وقيل : نطيل عذابه . و » نَرِثهُ ما يقُولُ « » أي : ما عنده من المال والولد بإهلاكنا إياه وإبطال قوله ، وقوله « مَا يَقُولُ » ، لأنه زعم أنَّ له مالاً وولداً ، أي : لا نعطيه ونعطي غيره ، فيكون الإرث راجعاً إلى ما تحت القول لا إلى نفس القول . وقيل : معنى قوله « ونَرِثهُ ما يقُولُ » أي : نحفظ ما يقول حتى نجازيه به « ويَأتِينَا فَرْداً » يوم القيامة بلا مالٍ ولا ولد « .
قوله تعالى : { واتخذوا مِن دُونِ الله } الآية . لمَّا تكلَّم في مسألة الحشر والنشر تكلَّم الآن في الرد على عُبَّاد الأصنام فقال : { واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً } يعني كفار قريش اتخذوا الأصنام آلهة يعبدونها « ليكُونُوا لَهُمْ عِزًّا » أي منعة بحيث يكونون لهم شفعاء وأنصاراً ينقذونهم من الهلاك . ثم أجاب الله -تعالى- بقوله : « كَلاَّ » ليس الأمر كما زعموا { سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ } أي : « كُلُّهم سيكفُرُون بعبادِة » هذه الأوثان .
قوله : « سَيَكْفرُونَ » يجوز أن يعود الضمير على الالهة ، لأنه أقرب مذكور ، ولأن الضمير في « يَكونُونَ » أيضاً عائد عليهم فقط ، ومثله { وَإِذَا رَأى الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ } [ النحل : 86 ] ثم قال { فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ } [ النحل : 86 ] .
قيل : أراد بذلك الملائكة ، لأنهم يكفرون بعبادتهم « ويتبرءون منهم » ويخاصمونهم وهو المراد بقوله : { أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } [ سبأ : 40 ] .
وقيل : إن الله -تعالى- يحيي الأصنام يوم القيامة حتى يوبِّخوا عبَّادها ويتبرءوا منهم فيكون ذلك أعظم لحسرتهم .
وقيل : الضمير يعود على المشركين ، ومثله قوله : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } إلا أنَّ فيه عدم توافق الضمائر ، إذ الضمير في « يَكُونُونَ » عائد إلى الآلهة .
و « بِعبَادتهِمْ » مصدر مضاف إلى فاعله ، إن عاد الضمير في عبادتهم على المشركين العابدين ، وإلى المفعول إن عاد على الالهة .
قوله : « ضِدًّا » إنما وحَّده وإن كان خبراً عن جمع لأحد وجهين : إما لأنه مصدر في الأصل ، « والمصادر موحَّدة مذكَّرة ، وإمَّا لأنه مفرد في معنى الجمع .
قال الزمخشري » : والضِّدُّ : العَوْن ، وحِّد توحيد قوله عليه السلام : « وهُم يَدٌ على مِنْ سِوَاهُم » لاتفاق كلمتهم ، وأنَّهم كشيء واحد لفرط تضامنهم وتوافقهم . والضَّدُّ : العونُ والمعاونة ، ويقال : من أضدادكم ، أي : أعوانكم .
قيل : سمي العونُ ضدًّا ، لأنه يضاد من يعاديك وينافيه بإعانته لك عليه .
وفي التفسير : إنَّ الضِّدَّ هنا الأعداء . وقل : القرن . وقيل : البلاء . وهذه تناسب معنى الآية .
قيل : ذكر ذلك في مقابلة قولهم « عِزًّا » ، والمراد ضد العِزّ ، وهو الذُّلُّ والهوان ، أي : يكونون عليهم ضِدًّا لما قصدوا وأرادوه . كأنه قيل : ويكون عليهم ذلاًّ لهُم .
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا } الآية .
لمَّا ذكر حال هؤلاء الكفار مع الأصنام في الآخرة ذكر بعده حالهم مع الشياطين في الدنيا ، وأنهم يتولونهم وينقادون لهم ، فقال : { أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين } احتج أهل السنة بهذه الآية على أنَّ الله -تعالى- سلَّطهم عليهم لإرادة أن يستولوا عليهم ، ويتأكد هذا بقوله « تؤزُّهُم أزًّا » فإن معناه لتؤزُّهُم أزاً ، ويتأكد بقوله : { واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } [ الإسراء : 64 ] .
قال القاضي : حقيقة اللفظ توجب أنه تعالى أرسل الشياطين إلى الكفار كما أرسل الأنبياء ، بأن حملهم رسالة يؤدونها إليهم ، ولا يجوز في تلك الرسالة إلا ما أرسل عيله الشياطين من الإغواء ، فكان يجب في الكفار أن يكونوا بقبولهم من الشياطين مطيعين ، وذلك كفر من قائله ، ولأن من العجب تعلق المجبرة بذلك ، لأن عندهم أن ضلالهم من قبله -تعلاى- خلق فيهم الكفر وقدر الكفر ، فلا تأثير لما لا يكون من الشياطين . وإذا بطل حمل اللفظ على ظاهره فلا بد من التأويل ، فنحمله على أنه -تعالى- خلَّى بين الشياطين وبين الكفار ، وما منعهم من إغوائهم ، وهذه التخلية تسمى إرسالاً في سعة اللغة ، كما إذا لم يمنع الرجل كلبه من دخول بيت جيرانه يقال : أرسل كلبه علينا ، وإن لم يرد أذى الناس .
وهذه التخلية وإن لم يكن فيها تشديد للمحنة عليهم فهم متمكنون بأن لا يقبوا منهم ، ويكون ثوابهم على ترك القبول أعظم ، والدليل عليه قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ } قال ابن الخطيب : وهذا لا يمكن حمله على ظاهره ، فإنَّ قوله : الشياطين لو أرسلهم الله -تعالى- إلى الكفار « لكان الكفار مطيعين له بقبول قول الشياطين .
قلنا : الله -تعالى- ما أرسل الشياطين إلى الكفار » بل أرسلهم عليهم ، والإرسال عليهم هو التسليط لإرادة أن يصير مستولياً عليه ، فأين هذا من الإرسال إليهم .
وقوله : ضلال الكافر من قبل الله -تعالى- ، فأي تأثير للشياطين فيه .
قلنا : لِمَ لا يجوز أن سماع الشياطين إياه تلك الوسوسة بوجب في قلبه الضلال بشرط سلامة فهم السامع ، لأن كلام الشياطين « من خلق الله -تعالى- فيكون ذلك الضلال الحاصل في قلب الكافر منتسباً إلى الشيطان ، وإلى الله -تعالى- من هذين الوجهين . وقوله : لِمَ لا يجوز أن يكن الإرسال التخلية .
قلنا : كما خلَّى بين الشياطين والكفرة » فقد خلَّى بينهم وبين الأنبياء ، ثم إنه -تعالى- خص الكافر بأنه أرسل الشياطين عليه ، فلا بد من فائدة زائدة ههنا .
ولأن قوله « تؤزُّهُمْ أزًّا » أي : تحركهم تحريكاً شديداً ، فالغرض من ذلك الإرسال موجب أن يكون ذلك الأزُّ مراداً لله -تعالى- إذ يحصل المقصود منه .
قوله : « أزًّا » مصدر مؤكد . والأزُّ ، والأزيزُ ، والاستفزاز . قال الزمخشري : أخوات وهو التهيج وشدة الإزعاج ، أي : تغريهم على المعاصي ، وتهيجهم لها بالوساوس .
قال ابن عباس : « تَؤزُّهُمْ أزًّا » أي : تزعجهم في المعاصي إزعاجاً من الطاعة إلى المعصية .
والأزُّ أيضاً : شدة الصوت ، ومنه : أزَّ المِرْجَلُ أزًّا وأزيزاً ، أي : غلا واشتد غليانه حتى سمع له صوت ، وفي الحديث « فكَان له أزيزٌ » أي للجذع حين فارقه النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله : { فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ } أي : لا تعجل بطلب عقوبتهم ، يقال : عجلت عيله بكذا إذا استعجلت منه « إنَّا نعدُّ لهُمْ عدًّا » .
قال الكلبي : يعني الليالي والأيام والشهور والأعوام .
وقيل : الأنفاس التي يتنفّسون بها في الدنيا إلى الأجل الذي أجِّل لعذابهم .
وقيل : نَعُدُّ أنفاسهم وأعمالهم فنجازيهم على قليلها وكثيرها .
وقيل : نَعُدُّ الأوقات ، أي : الوقت الأجل المعين « لكل أحد » الذي لا يتطرق إليه الزيادة والنقصان .
قوله : « يَوْمَ نَحشُرُ » منصوب ب « سَيَكْفُرون » ، أو ب « يَكونُونَ » عليْهِمْ ضدًّا « أو ب » نَعُد « لأن » نَعُدُّ « تضمن معنى المجازاة ، أو بقوله : » لا يَمْلِكُونَ « الذي بعده ، أو بمضمر وهو » اذكُرْ « أو » احْذَرْ « .
وقيل : هو معمول لجواب سؤال مقدر كأنه قيل : » متى يكون ذلك؟ فقيل « : يكون يوم نحشر .
وقيل : تقديره : يوم نحشر ونسوق : نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف .
قوله : » وفداً « نصب على الحال ، وكذا » ورْداً « .
والوَفْدُ : الجماعة الوافدون ، يقال : وَفَدَ يَفِدُ وَفْداً ووفوداً وفَادَةً ، أي : قدم على سبيل التكرمة ، فهو في الأصل مصدر ثم أطلق على الأشخاص كالضيف .
وقال أبو البقاء : وفد جمع وافد مثل راكب ورَكْب ، وصاحب وصَحْب .
وهذا الذي قاله ليس مذهب سيبويه ، لأن فاعلاً لا يجمع على فعل عند سيبويه . وأجازه الأخفش .
فأمَّا رَكْب وصَحْب فاسما جمع لا جمع بدليل تصغيرها على ألفاظها ، قال :
3625- أخْْشَى رجَيْلاً وَرُكَيْباً عَاديَا ... فإن قيل : لعل أبا البقاء أراد الجمع اللغوي .
فالجواب : أنه قال بعد قوله هذا : والوِرْد اسم لجمع وارد . فدل على أنه قصد الجمع صناعة المقابل لاسم الجمع . والوِرْد اسم للجماعة العطاش الواردين للماء ، وهو أيضاً في الأصل مصدر أطلق على الأشخاص ، يقال : وَرَد الماء يردُه وِرْداً وورُوداً ، قال الشاعر :
3626- رِدِي رِدِي وِرْدَ قَطَاةٍ صَمًّا ... كَدريَّةٍ أعْجَبْهَا بَرْدَ الْمَا
وقال أبو البقاء : هو اسم لجمع وارد ، » وقيل : هو بمعنى وارد « وقيل : هو محذوف من وراد ، وهو بعيد . يعني أنه يجوز أن يكون صفة على فَعْل . وقرأ الحسن والجحدري » يُحْشَرُ المتَّقُونَ « » ويُسَاقُُ المُجْرِمُون « على ما لم يسم فاعله .
فصل
قال المفسرون : اذكر لهم يا محمد اليوم الذي يجمع فيه من اتقى الله في الدنيا بطاعته إلى الرحمن إلى جنته وفْداً ، أي جماعات ، جمع وافد مثل راكب ورَكْب وصاحب وصَحْب . وقال ابن عباس : رُكْبَاناً : وقال أبو هريرة : على الإبل .
وقال علي بن أبي طالب- « رضي الله عنه » - : ما يُحْشَرون والله على أرجلهم ، ولكن على نوق رجالها الذهب ، ونجائب سروجها ياقوت إن هموا بها سارت وإنْ همُّوا طارت . { وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً } أي : مُشاة ، وقيل : عطاشاً قد تقطعت أعناقهم من العطش .
وقوله « ونَسُوق المجرمينَ » يدل على أنهم يساقون إلى النار بإهانة واستخفاف كأنهم عطاش تساق إلى الماء ، والوِرْدُ للعطاش وحقيقة الوِرْد الميسرُ إلى الماء ، فسمي به « الواردون » .
فصل
طعن الملاحدة في قوله : { يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن } فقالوا : هذا إنما يستقيم أن لو كان الحشر عند غير الرحمن ، أما إذا كان الحشر عند الرحمن ، فهذا الكلام لا ينتظم . وأجاب المسلمون : بأنَّ التقدير : يوم نحشرُ المتقِّين إلى محلِّ كرامةِ الرحمن .
قوله : « لا يَمْلِكُون » في هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنها مستأنفة سيقت للإخبار بذلك .
والثاني : أنَّها في محل نصب على الحال مما تقدم .
وفي هذه الواو قولان :
أحدهما : أنها علامة للجمع ليست ضميراً ألبتة ، وإنما هي علامة ، كهي في لغة أكلُوني البراغيثُ والفاعل « من اتَّخَذَ » لأنه في معنى الجمع قاله الزمخشري وفيه بعدٌ ، وكأنه قيل : لا يملكُون الشفاعةَ إلاَّ المتَّخِذُون عَهْداً .
قال أبو حيَّان : ولا ينبغي حملُ القرآن على هذه اللغة القليلة ، مع وضوح جعل الواو ضميراً . وقد قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور : إنَّها لغةٌ ضعيفة .
قال شهابُ الدين : قد قالوا ذلك في قوله : { عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } [ المائدة : 71 ] { وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ } [ الأنبياء : 3 ] فلهذا الموضع بهما أسوة . ثم قال أبو حيان : وأيضاً فالألف ، والواو ، والنون التي تكون علامات لا ضمائر لا يحفظ ما يجيء بعدها فاعلاً إلا بصريح الجمع ، وصريح التثنية ، « أو العطف » ، أما أن يأتي بلفظ مفرد ويطلق على جمع أو مثنى ، فيحتاج في إثبات مثل ذلك إلى نقل ، وأما عودُ الضمائر مثناة أو مجموعة على مفرد في اللفظ يراد به المثنى والمجموع فمسموع معروف في لسان العرب ، على أنه يمكن قياس هذه العلامات على تلك الضمائر ولكن الأحوط أن لا يقال إلا بسماع .
والثاني : أن الواو ضميرٌ ، وفيما يعود عليه حينئذ أربعة أوجه :
أحدها : أنها تعود على الخلق جميعهم ، لدلالة ذكر الفريقين المتقين والمجرمين عليهم ، إذ هما قسماه .
والثاني : أنه يعود على المتقين والمجرمين ، وهذا لا يظهر مخالفته للأول أصلاً . لأن هذين القسمين الخلقُ كلُّه .
والثالث : أنَّه يعوج على المتقين فقط ، أو المجرمين فقط ، وهو تحكُّم .
قوله : « إلاَّ من اتَّخَذَ » هذا الاستثناء يترتب على عود الواو على ماذا؟ فإن قيل بأنها تعود على الخلق ، أو على الفريقين المذكورين « أو على المتقين فقط » .
فالاستثناء حينئذ متصل ، وفي محل المستثنى الوجهان المشهوران إما الرفع على البدا ، وإما النصب على أصل الاستثناء . وإن قيل : إنه يعود على المجرمين فقط كان استثناء منقطعاً ، وفيه حينئذ اللغتان المشهورتان : لغةُ الحجاز التزام النصب ، ولغةُ تميم جوازه مع جواز البدل « كالمتصل » . وجعل الزمخشري هذا الاستثناء من الشفاعة على وجهي البدل وأصل الاستثناء نحو : ما رأيت أحداً إلا زَيْداً .
وقال بعضهم : إن المستثنى منه محذوف ، والتقدير : لا يملكون الشفاعة لأحدٍ إلاَّ اتَّخذ عن الرحمن عهداً ، فحذف المستثنى « منه للعلم » به ، فهو كقول الأخرِ :
3627- نَجَا سَالِمٌ والنَّفْسُ مِنْهُ بِشدقهِ ... ولَمْ يَنْجُ إلاَّ جَفْنَ سَيْفِ ومِئزَرا
أي : ولَمْ يَنْجُ بشيءٍ .
وجعل ابنُ عطية الاستثناء متصلاً ، وإن عاد الضمير في « لا يَمْلِكُون » على المجرمين فقط على أن يراد بالمجرمين الكفرة والعصاة من المسلمين . قال أبو حيان : وحمل المجرمين على الكفار والعصاة بعيد . قال شهاب الدين : ولا بعد فيه ، وكما استبعد إطلاق المجرمين على العصاة كذلك يستبعد غيره إطلاق المتقين على العصاة ، بل إطلاق المجرم على العاصي أشهر من إطلاق المتقي عليه .
فصل
قال بعضهم : لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم كما يملك المؤمنون .
وقال آخرون : لا يملك غيرهم أن يشفع لهم . وهذا أولى ، أن الأول يجري مجرى إيضاح الواضح . وإذا ثبت ذلك دلت الآية على حصول الشفاعة أهل الكبائر . لأنه قال عقيبه « إلاَّ من اتَّخذَ عندَ الرَّحمن عَهْداً » ، والتقدير : لا يشفع الشافعون إلا لمن اتَّخذَ عند الرَّحمن عهداً ، يعني للمؤمنين « ، كقوله : { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى } [ الأنبياء : 28 ] فكل من اتخذ عند الرحمن عهداً وجب دخوله فيه ، وصاحب الكبيرة اتخذ عند الرحمن عهداً ، وهو التوحيد ، فوجب دخوله تحته ، ويؤكده ما روى ابن مسعود أنه - عليه السلام- » قال لأأصحابه يوماً : « أيَعْجَزُ أحدكُمْ أن يتَّخذ عندَ كُلِّ صباح ومساء » عند الرَّحمن عهداً « قالوا : وكيف ذلك؟ قال : » يقُولُ عِنْدَ كُلِّ صباحٍ ومساء « : اللَّهُمَّ فاطرَ السَّمواتِ والأرضِ عالمِ الغَيْبِ والشَّهادة إنِّي أعْهَدُ إليكَ بأنِّي أشْهَدُ أنَّ لا إله إلاَّ أنتَ وحْدَكَ لا شرِيكَ لَكَ ، وأنَّ مُحَدَّداً عبدُكَ ورسُولَك ، فإنَّك إنْ تكلني إلى نفسي تُقرَّبِنْي من الشَّر ، وتُباعدني من الخَيْرِ ، وإنَّي لا أثقُ إلاَّ برحمتكَ ، فاجْعَل لي عهداً تُوفنيه يَوْمَ القيامة إنَّك لا تُخْلِفُ الميعَاد . فإذا قال ذلِكَ طُبِعَ عليه بطابع وَوُضع تحت العرش ، فإذا كان يومُ القيامةِ نادَى مُنَادٍ : أيْنَ الذين لهُم عِندَ الرَّحمن عهد؟ فيَدْخُلونَ الجنَّة » .
فظهر أن المراد من العد كلمة الشهادة ، وظهر وجه الدلالة على ثبوت الشفاعة أهل الكبائر .
قوله تعالى : { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً } تقدم خلافُ القراء في قوله « ولداً » بفتح اللام وسكونها ، وأنهما لغتان مثل العَرَبِ والعُرْبِ والعَجَم والعُجْم .
واعلم أنَّه لمَّا ردَّ على عبدة الأوثان عاد إلى الرَّد على من أثبت له ولداً .
فقالت اليهود : عزيزٌ ابنُ الله ، وقالت النصارى : المسيحُ ابن الله ، وقالت العرب : الملائكة بناتُ الله . وههنا الرد على الذين قالوا : الملائكة بنات الله ، وهم العرب الذين يعبدون الأوثان ، لأن الرد على النصارى تقدم أول السورة .
قوله : { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً } . العامة على كسر الهمزة من « إدَّا » ، وهو الأمر العظيم المنكر المتعجب منه . قاله ابن عباس . « وقال مجاهد : عظيماً » وقرأ أمير المؤمنين والسلمي بفتحها . وخرَّجوه على حذف مضاف ، أي شيئاً أدَّ « لأنَّ الأدَّ - بالفتح- يقال : أدَّ الأمر وأدَّني يؤدِّنِي أدَّا . أي : أثقلني .
وكان أبو حيان ذكر : أنَّ الأدَّ والإد- بفتح الهمزة وكسرها- هو العجب ، وقيل : » هو العظيم المنكر ، والإدَّة : الشدَّة . وعلى قوله : إنَّ الأدّ والإدّ بمعنى واحد ينبغي أن لا يحتاج إلى حذف مضاف « إلا أن يريد أنَّه أراد بكونهما بمعنى العجب في المعنى لا في المصدرية وعدمها ، والإدَد في كلام العرب الدواهي .
قوله : » تَكَادُ « . قرأ نافع والكسائي بالياء من تحت . والباقون بالتاء من فوق وهما واضحتان ، إذ التأنيث مجازي . وكذا في سورة الشورى .
وقرأ أبو عمرو : وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ، وحمزة » يَنْفَطْرن « مضارع انفطرَ ، لقوله تعالى : { إِذَا السمآء انفطرت } والباقون : » يتفَطّرْن « » مضارع تفطَّر « بالتشديد في هذه السورة ، وأما التي في الشورى فقرأها حمزة وابن عامر بالياء والتاء وتشديد الطاء . والباقون على أصولهم في هذه السورة . فتلخص من ذلك أن أبا بكر وأبا عمرو يقرآن بالياء والنون في السورتين . وأن نافعاً وابن كثير والكسائي وحفصاً عن عاصم يقرءون بالياء والتاء وتشديد الطاء فيهما ، وأن حمزة وابن عامر في هذه السورة بالياء والنون ، وفي الشورى بالياء وتشديد الطاء » فالانفطار من فطرهُ إذا شقه ، « والتفطُّر إذا شقَّقهُ » ، وكرر فيه الفعل .
قال أبو البقاء : وهو هنا أشبه بالمعنى ، أي : التشديد .
و « يَتَفَطَّرْنَ » في محل نصب « خبراً ل » كَانَ « وزعم الأخفش أنها هنا بمعنى الإرادة ، وأنشد :
3628- كَادَتْ وكِدْتُ وتِلْكَ خَيْرُ إرَادةٍ ... لَوْ عَادَ مِنْ زمنٍ الصِّبابةِ مَا مَضَى
فصل
يقال : انفطر الشيء وتفطَّر أي تشقَّق . وقرأ ابن مسعود » يتصَدَّعْنَ « .
و » تَنْشَقُّ الأرْضُ « أي تخسفُ بهم ، والانفطار في السماء ، أي : تسقط عليهم .
» وتخُرُّ الجِبَالُ هدَّاً « أي : تُهَدُّ هَداً ، بمعنى » تنطبق عليهم .
فإن قيل من أين يؤثر القول بإثبات الولد لله في انفطار السموات وانشقاق الأرض وخرور الجبال؟ فالجوابُ من وجوه :
« الأول : أنَّ الله - تعالى- يقول : كدت أفعل هذا بالسموات والأرض والجبال عند وجود » هذه الكلمة غضباً منِّي على من تفوَّه بها ، لولا حلمي ، وإني لا أعجِّل بالعقوبة ، كقوله- تعالى- : { إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } [ فاطر : 41 ] .
الثاني : أن يكون استعظاماً للكلمة ، وتهويلاً من فظاعتها ، وهدمها لأركان الدين وقواعده .
الثالث : أنَّ السمواتِ والأرضِ والجبال تكاد أن تفعل ذلك لو كانت تعقل من غلظ هذا القول ، وهذا تأويل أبي مسلم .
الرابع : أنَّ السموات والأرض والجبال كانت سليمة من كل العيوب ، فلما تكلم بنو آدم بهذا القول ظهرت العيوب فيها .
قوله : « هدَّا » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّه مصدر وفي مضع الحال ، أبي : مهدودة ، وذلك على أن يكون هذا المصدر من هدَّ زيدٌ الحائط يهدُّه هدَّا ، أي : « هدمهُ » .
والثاني : وهو قول أبي جعفر : أنه مصدر على غير المصدر لما كان في معناه ، لأن الخرور : السقوطُ والهدمُ ، وهذا على أن يكون من هدَّ الحائطُ يَهِدُّ - بالكسر- انهدم ، فيكون لازماً .
الثالث : أن يكون مفعولاً من أجله ، قال الزمخشري : أي : لأنها تهد .
قوله : « أنْ دَعَواْ » في محله همسة أوجه :
أحدها : أنه في محل نصب على المفعول من أجله ، قاله أبو البقاء ، والحوفي ، ولم يُبيِّنَا ما العامل فيه ، ويجوز أن يكون العامل « تَكَادُ » ، أو « تَخُرُّ » ، أو « هَدَّا » ، أي : تَهُدُّ لأن دعوا ، ولكن شرطُ النصب هنا مفقود ، وهو اتحاد « الفاعل في المفعول له والعامل فيه ، فإن عنيا على أنه على إسقاط اللام مطرد في » أنْ « فقريب » . وقال الزمخشري : وأن يكون منصوباً بتقدير سقوط اللام « وإفضاء الفعل ، أي هدَّا أن دعوا » ، علل الخرور بالهدِّ ، والهدُّ بدعاء الولد للرحمن .
فهذا تصريح منه على أنه بإسقاط الخافض . « وليس مفعولاً له صريحاً » .
الوجه الثاني : أن يكون مجروراً بعد إسقاط الخافض « كما هو مذهب الخليل والكسائي .
والثالث : أنه بدل من الضمير في » مِنْهُ « كقوله :
3629- عَلَى حَالةٍ لوْ أنَّ في القَوْمِ حَاتِماً ... عَلى جُودهِ لضن بالمَاءِ حاتمِ
» بجر « حاتم » الأخير بدلاً من الهاء في « جوده » .
قال أبو حيان : وهو بعيد لكثرة الفصل بين البدل والمبدل منه بجملتين .
الوجه الرابع : أن يكون مرفوعاً ب « هَدَّا » . قال الزمخشري : أي هدَّهَا دعاءُ الولدِ للرحمن . قال أبو حيان : وفيه بعدٌ ، لأن الظاهر في « هَدَّا » أن يكون مصدراً توكيدياً ، والمصدر التوكيدي لا يعمل ، ولو فرضناه غير توكيدي لم يعمل بقياس إلا إذا كان أمراً ، أو مستفهماً عنه نحو ضرباً زيداً ، وأضربا زيداً؟ على خلاف فيه ، وأما إن كان خبراً كما قدَّره الزمخشري ، أي : هدَّها دعاء الولد للرحمن .
فلا ينقاس ، بل ما جاء من ذلك هو نادر كقول امرئ القيس :
3630- وقُوفاً بِهَا صَحْبِي عَليَّ مَطِيُّهُمْ ... يقُولونَ لا تَهْلَكْ أسّى وتجمَّلِ
أي : وقَفَ صَحْبِي .
الخامس : أنَّه خبر مبتدأ محذوفٍ ، تقديره : الموجب لذلك دعاؤهم . كذا قدره أبو البقاء . و « دَعَا » يجوز أن يكون بمعنى سمَّى ، فيتعدى لاثنين ، ويجوز جر ثانيهما بالباء ، قال الشاعر :
3631- دَعَتْنِي أخَاهَا أمُّ عَمْرٍو ولمْ أكُنْ ... أخَاهَا ولَمْ أرْضَعْ لهَا بِلبَانِ
دَعَتْنِي أخَاهَا « بَعْدَمَا كَانَ بَيْنَنَا ... مِنَ الفِعْلِ ما لا يفعلُ الأخوانِ »
وقول الآخر :
3632- ألا رُبَّ مَنْ يُدْعَى نَصِيحاً وإن تَغِبْ ... تَجِدْهُ بِغَيْبٍِ مِنْكَ غَيْرَ نَصِيحِ
وأولهما في الآية محذوف ، قال الزمخشري : طلباً للعموم والإحاطة بكل ما يدعى له ولد ، ويجوز أن يكون من « دَعَا » بمعنى نسب الذي مطاوعه ما في قوله- عليه السلام- : « مَنِ ادَّعى إلى غَيْرِ موالِيهِ » ، وقول الشاعر :
3633- إنَّا بَنِي نَهْشَلٍ لا نَدَّعِي لأب ... عَنْهُ ولا هُوَ بالأبْنَاءِ يَشْرِينَا
لأي : لا ننتَسِبُ إليه .
« يَنْبَغِي » مضارع انْبَغَى ، وانْبَغَى مطاوعٌ لبغى ، أي : طلب ، و « أنْ يتَّخِذَ » فاعله . وقد عد ابن مالك « يَنْبَغِي » في الأفعال التي لا تتصرف .
وهو مردودٌ عليه ، لأنه قد سُمِعَ فيه الماضي قالوا : انْبَغَى . وكرَّر لفظ « الرَّحْمَنِ » تنبيهاً على أنه - تعالى- هو الرحمنُ وحدهُ ، لأن أصول النعم وفروعها ليست إلا منه .
فصل
قال ابن عباس وكعب : فَزِعَت السَّمواتُ والأرضُ والجبالُ وجميعُ الخلائق إلا الثقلين ، وكادت أن تزول ، وغضبت الملائكةُ ، واستعرت جهنم حين قالوا : لله ولدٌ ، ثم نفى الله- تعالى- عن نفسه فقال : « وما يَنْبَغِي للرَّحمنِ أن يتَّخذَ ولداً » أي : ما يليق به « اتِّخاذُ الولد » ، لأنة ذلك محال؛ أما الولادة المعروفة فلا مقالة في امتناعها ، وأما التبني ، فلأن الولد لا بد وأن يكون شبيهاً بالوالد ، ولا شبيه لله - تعالى- ، ولأن اتخاذ الولد إنَّما يكون لأغراض إما لسرور ، أو استعانةٍ ، أو ذكرٍ جميلٍ ، وكلُّ ذلك لا يصح في الله - تعالى- .
قوله : { إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض } . يجوز في « مَنْ » أن تكون نكرة موصوفة ، وصفتها الجار بعدها ، ولم يذكر أبو البقاء غير ذلك ، وكذا الزمخشري إلا أن ظاهر عبارته تقتضي أنه لا يجوز غير ذلك ، فإنه قال : « مَنْ » موصوفة فإنها وقعت بعد « كُل » « نكرة أشبهت وقوعها بعد » رُبَّ « في قوله :
3634- ربَّ مَنْ أنْضِجَتْ غَيْظاً صَدْرَهُ ... انتهى « .
ويجوز أن تكون موصولة . قال أبو حيان : ما كُل الذي في السموات ، و » كلُّ « تدخل على الذي ، لأنها تأتي للجنس كقوله- تعالى- : { والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ } [ الزمر : 33 ] ونحوه :
3635- » وكُلُّ الذي « حَمَّلْتَنِي أتحَمَّلُ ... يعني أنه لا بد » من تأويل « الموصول بالعموم حتى تصح إضافة » كُل « إليه ، ومتى أريد به معهود بعينه لشخص استحال إضافة » كُلّ « إليه .
و » آتِ الرَّحْمَنِ « خبر » كل « جعل مفرداً حملاً على لفظها ، ولو جمع لجاز ، وقد تقدم أول الكتاب : أنها متى أضيفت لمعرفة جاز الوجهان . وقد تكلم السهيلي في ذلك فقال : » كُلُّ « إذا ابتدئت وكانت مضافة لفظاً يعني لمعرفة فلا يحسن إلا أفراد الخبر حملاً على المعنى ، تقول : كُلكم ذاهب ، أي : كل واحد » منكم ذاهب ، هكذا هذه المسألة في القرآن والحديث والكلام الفصيح . فإن قلت في قوله : { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ } : إنما هو حمل على اللفظ ، لأنه اسم مفرد . قلنا : بل هو اسم للجمع ، واسم الجمع لا يخبر عنه بإفراد ، تقول : القوم ذاهبُون ، ولا تقول : ذاهب ، وإن كان لفظ « القَوْم » لفظ المفرد ، وإنما حسن « كُلكُم ذاهِبٌ » لأنهم يقولون : كل واحد منكم ذاهب ، فكان الإفراد مراعاة لهذا المعنى .
قال أبو حيان : ويحتاج « كُلكُم ذاهِبُون » ونحوه إلى سماع ونقل عن العرب .
قال شهاب الدين : وتسمية الإفراد حملاً على المعنى غير الاصطلاح بل ذلك حمل على اللفظ والجمع هو الحمل على المعنى .
وقال أبو البقاء : ووحد « آتِي » حملاً على لفظ « كُل » ، وقد جمع في موضع آخر حملاً على معناها .
قال شهاب الدين : قوله : في موضع آخر . إن عني في القرآن فلم يأت الجمع إلا و « كُل » مقطوعة عن الإضافة نحو { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ الأنبياء : 33 ] { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } [ النمل : 87 ] ، وإن عني في فيحتاج إلى سماع عن العرب كما تقدم .
والجمهور على إضافة « آتي » إلى « الرَّحمَن » .
وقرأ عبد الله بن الزبير وأبو حيوة وطلحة وجماعة بتنويه ونصب « الرَّحْمَن » وانتصب « عَبْداً » و « فَرْداً » على الحال .
فصل
المعنى : أن كل معبود من الملائكة في السموات وفي الأرض من الناس إلا ياتي الرحمن يلتجئ إلى ربوبيته عبداً منقاداً مطيعاً ذليلاً خاضعاً كما يفعل العبيد . ومنهم من حمله على يوم القيامة خاصة .
والأول أولى ، لأنه لا تخصيص فيه .
{ لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً } أي : عدَّ أنفاسهم وأيامهم وآثارهم ، فكلهم تحت تدبيره وقهره محيط بهم لا يخفى عليه شيء من أمورهم ، { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ } أي : كل واحد منهم يأتيه { يَوْمَ القيامة فَرْداً } وحيداً ليس معه من الدنيا شيء « ويبرأ المشركون منهم » .
قوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } إلى آخر السورة .
لمَّا ردَّ على الكفرة ، وشرح أقوالهم في الدنيا والآخرة ختم السورة بذكر أحوال المؤمنين . قوله : « وُدَّا » العامة على ضم الواو . وقرأ أبو الحارث الحنفي بفتحها ، وجناح بن حبيش بكسرها . فيحتمل أن يكون المفتوح مصدراً ، والمكسور والمضموم اسمين .
قال المفسرون : سَيَجْعَلُ لهُم الرَّحمنُ محبةً ، قال مجاهد : يحبهم الله ويحببهم إلى عباده المؤمنين . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذَا أحبَّ اللهُ العبد قال لجبريل - عليه السلام- : » قَدْ أحبَّ فلاناً فأحبُّوه ، فيحبه أهلُ السَّماء ، ثُمَّ يوضعُ لهُ القبُولُ في الأرضِ ، وإذا أبغضَ العبد « قال مالك : لا أحسبه إلا قال في البغض مثل ذلك . والسِّين في » سَيَجِعَلُ « إما لأن السورة مكية ، وكان المؤمنون حينئذ ممقوتين بين الكفرة ، فوعدهم الله ذلك إذا جاء الإسلام .
والمعنى : سَيُحْدِثُ لهم في القلوب مودة . وإمَّا أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم إلى خلقه بما يظهر من حسناتهم . روي عن كعب قال : مكتوب في التوراة لا محبَّة في الأرض حتى يكون ابتداؤها من الله - تعالى- ينزلها على أهل السماء ، ثم على أهل الأرض . وتصديق ذلك في القرآن قوله : { سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً } . وقال أبو مسلم : معناه يهبُ لهم ما يحبون . والوُدُّ والمحبَّةُ سواء ، يقال : آتيتُ فلاناً محبته ، وجعلت له ودَّه ، ومن كلامهم : يَوَدُّ لو كان كذا ، » وودتُ أن لو كان كذا أي أحببتُ « ، فالمعنى : سيعطيهم الرحمن ودَّهم ، أي : محبوبهم في الجنة .
والقول الأول أولى ، لتفسير الرسول - عليه السلام- ، ولأن حمل المحبة على المحبوب مجاز ، » ولأن رسول الله قرأ هذه الآية وفسَّرها بذلك فكانت أولى « .
قال أبو مسلم : القول الثاني أولى لوجوه :
أحدها : كيف يصح القول الأول مع علمنا بأن المسلم التقي يبغضه الكفار ، وقد يبغضه كثير من المسلمين .
وثانيها : أنَّ مثل هذه المحبة قد تحصل للكفار والفساق أكثر ، فكيف يمكن جعله إنعاماً في حق المؤمنين؟
وثالثها : أن محبتهم في قلوبهم من فعلهم لا أنَّ الله - تعالى- فعله ، فكان حمل الآية على إعطاء المنافع الأخروية أولى .
وأجيب عن الأول : بأن المراد يجعل له محبة عند الملائكة والأنبياء .
وعن الثاني : ما روي عنه- عليه السلام- : أنه حكى عن ربه- سبحانه وتعالى- أنه قال : » وإذا ذكرني عَبْدي في نفسه ذكرتُهُ « في نَفْسِي ، وإنْ ذَكَرنِي ) في ملأ ذكرتهُ في ملأ أطيب منهم وأفضل » والكافر والفاسق ليسا كذلك .
وعن الثالث : أنه محمول على فعل الألطاف ، وخلق داعية إكرامه في قلوبهم .
قوله : « بِلِسَانِكَ » يجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال ، واللسان هنا اللغة ، أي : أنزلناه كائناً بلسانِكَ .
وقيل : هي بمعنى « على » ، وهذا لا حاجة إليه ، بل لا يظهر له معنى ، « و لُدَّا » جمع « ألَدَّ » ، وهو الشديد الخصومة كالحُمْر جمع أحْمَرٍ .
قال أهل اللغة : اللُّدُّ جمع الألَدّ ، وهو المعوج في المناظرة الرواغ من الحق الميال عنه ، وفي الحديث « إنَّ أبغضَ الرِّجال إلى الله الخَصْمُ الألَدُّ » أي المعوج « قوله : » يَسَرْنَاهُ « سهلناهُ يعني القرآن » بِلِسَانِكَ « يا محمد » لِنُبَشِّر به المتَّقِين « يعني المؤمنين ، وهذا كلام مستأنف » بيَّن به عظيم « موقع هذه السورة لما فيها من ذكر التوحيد والنبوة والحشر ، والرد على فرق المبطلين ، فبين - تعالى- أنَّه يسَّر ذلك بلسانه ، ليبشر وينذر ، ولولا أنه - تعالى- نقل قصصهم إلى اللغة العربية لما تيسَّر لك على الرسول . وكما ذكر أنه يبشر به المتقين ذكر في مقابلته من هو في مخالفة التقوى أبلغ ، وهو الألد الذي يتمسك بالباطل ويجادل فيه فقال : » ويُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدَّا « ، وهو جمع الألد ، » وهو الشديد الخصومة . وقال مجاهد : هو الظالم الذي لا يستقيم . وقال أبو عبيدة الألد « الذي لا يقبل الحقَّ ويدَّعي الباطل . وق الحسن : الألد الأصم عن الحق .
ثم ختم السورة بموعظةٍ بليغة فقال : » وكمْ أهْلَكٍنَا قبلهُمْ مِنْ قرنٍ « لأنهم إذا تأملوا وعلموا أنه لا بد من زوال الدنيا ، وأنه لا بد فيها من الموت خافوا سوء العاقبة في الآخرة فكانوا إلى الحذر من المعاصي أقرب ، ثم أكد تعالى ذلك فقال : { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ } . قرأ الناس بضم التاء وكسر الحاء من أحسَّ .
وقرأ أبو حيوة ، وأبو جعفر ، وابن أبي عبلة » نَحُسُّ « » بفتح التاء وضم الحاء « وقرأ بعضهم : » تَحِس « بالفتح والكسر ، من حسَّه : أي شعر به ، ومنه الحواس الخمس . و » مِنْهُم « حال من » أحَد « ، إذ هو في الأصل صفة له . و » مِنْ أحَد « مفعول زيدت فيه » مِنْ . وقرأ حنظلة « تُسْمَعُ » بضم التاء وفتح الميم مبنياً للمفعول . و « رِكْزاً » مفعول على كلتا القارءتين ، إلا أنه مفعول ثان في القراءة « الشاذة » . والرَِّكْزُ : الصوت الخفي دون نطق بحروف ولا فم ، « ومنه ركز الرمح أي غيب طرفه في الأرض وأخفاه ، ومنه الرِّكاز ، وهو المال المدفون لخفائه واستتاره ، وأنشدوا :
3636- فَتَوجَّسَتْ رَكْزَ الأنيسِ فَراعَها ... عَنْ ظَهْرِ غَيْبٍ ، والأنيسُ سَقامُهَا
فصل
قال المفسرون : » هّلْ تُحِسُّ « ، وقيل : هل تجد .
» مِنْهُم مِنْ أحَدٍ « ، لأنَّ الرسول - عليه السلام- إذا لم يحسّ منهم أحداً برؤية وإدراك ووجدان ، ولا يسمع لهم ركزاً ، أي : صوتاً خفياً دلَّ ذلك على انقراضهم وفنائهم بالكلية .
قال الحسن : بادوا جميعاً ، يبق عين ولا أثر .
روى الثعلبي عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم » من قرأ سورة مريم أعطي من الأجر بعدد من صدق بزكريا ، ويحيى ، وعيسى ، وموسى ، وهارون ، وإبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، وإسماعيل عشر حسنات ، وبعدد من دعا لله ولداً ، وبعدد من لم يدع له ولداً « .
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَتِ الرَّحِيمِ ) . قوله تعالى : « طَهَ » قرأ أبو عرمو بفتح الطاء وكسر الهاء ، وكسرهما جميعاً حمزة والكسائي وأبو بكر والباقون بفتحهما . قال الزجاج : وتقرأ « طَهْ » بفتح الطاء وسكون الهاء ، وكلها لغات . قال الزجاج : من فتح الطاء والهاء ، فأن ما قبل الألف مفتوح . ومن كسر الطاء والهاء أمال إلى الكسر ، لأن الحرف مقصور ، والمقصور يغلب عليه الإمالة إلى الكسر .
فصل
قد تقدم الكلام في الحروف المقطعة أول الكتاب ، وفي هذه ، وفي هنا قولان ، الصحيح أنها من ذلك .
وقيل : إنه مفيد . فقال الثعلبي : « طَا » شجرة طوبى « والهاء » الهاوية . فكأنه أقسم بالجنة والنار . وقال سعيد بن جبير : هو افتتاح اسمه الطيب الطاهر الهادي . وقيل : يا مطمع الشفاعة للأمة ، ويا هادي الخلق إلى الملة .
وقيل : ( الطاء ) تسعة في الحساب ، و ( الهاء ) خمسة يكون أربعة عشر ، ومعناه يا أيها البدر ، وقيل غير ذلك .
فصل
قيل : كعنى ( طَهَ ) يا رَجُل ، وهو مرويّ عن ابن عباس والحسن ومجاهد وسعيد ابن جبير ، وقتادة ، وعكرمة ، والكلبي ، ثم قال سعيد بن جبير : بالنبطية ، وقال قتادة : بالسريانية ، ( وقال عكرمة ) : بالحبشية ، وقال الكلبي : بلغة عك ، وقيل : عُكْلٌ ، وهي لغة يمانية .
وقال الكلبي : إنك لو قلت في عَك ، يا رَجُل لم تجب حتى تقول : طَهَ .
وقال الطَّبَري : طَهَ في عك بمعنى يا رجل ، وأنشد قولَ شاعرهم :
3637- دَعَوْتُ بِطَهَ في القِتَالِ فَلَمْ يُجِبْ ... فَخِفْتُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَوَائِلاَ
وقول الآخر :
3638- إنَّ السَّفَاهَةَ طَهَ فِي خَلائِقِكُمْ ... لاَ قَدَّسَ اللهُ أرْوَاحَ المَلاَعِينِ
قال الزمخشري : وأثر الصنعة ظاهر في البيت المستشهد به .
وقال السُّدِّي : معناه يا فلان . وقال الزمخشري أيضاً : ولعل عكَّا تصرفوا في « يَا هَذَا » كأنهم في لغتهم قالبون الياء طاء ، فقالوا في ( يَا هَذَا ) : طَا هَذَا ، واختصروا ( هذا ) ( فاقْتَصَرُوا عَلَى هَا ) .
فكأنَّه قيل في الآية الكريمة : يَا هَذَا ، وفيه بُعْدٌ كبير . واعترض عليه بعضهم فقال : لو كان كذلك لوجب أن يكتب أربعة أحرف طَاهَا .
قال أبُو حيَّان : ثم تخرص وحرز على عَكَّ ما لم يقله نحوي ، وهو أنهم يقلبون « ياء » التي للنداء ( طاء ) ، ويحذفون اسم الإشارة ويقتصرون منه على ( ها ) التي للتنبيه وقيل : ( طَهَ ) أصله : طأها بهمزة ، ( طَأْ ) أمر ، من وطئ يطأ ، و ( ها ) ضمير مفعول يعوج على الرض ، ثم أبدل الهمزة لسكونها ألفاً ولم يحذفها في الأمر نظراً إلى أصلها ، أي : طأ الأرض بقدميْكَ ، وقد جاء في الحديث : « أنَّهُ قَامَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاه » وقرأ الحسن ، وعكرمة ، وأبو حنيفة ، وورش في اختياره « طه » بإسقاط الألف بعد الطاء ، و ( هاء ) ساكنة وفيها وجهان :
أحدهما : أن الأصل ( طأ ) بالهمزة ، أمراً أيضاً من وَطِئ يَطَأ ، ثم أبدلت الهمزة هاء كإبدالهم لها في : هرقت ، وهرحت ، وهنرت ، والأصل : أرقت ، وأرحت ، وأنرت .
والثاني : أنه أبدل الهمزة ألفاً ، كأنه أخذه من وطئ يطأ بالبدل كقوله :
3639- . . .. . . . لاَ هَنَاكِ المَرْتَعُ
ثم حذف الألف حملاً للأمر على المجزوم ، وتناسباً لأصل الهمز ثم ألحق هاء السكت ، وأجرى الوصل مجرى الوقف وقد تقدم في أول يونس الكلام على إمالة « طا » و « ها » . قوله : « أنْزَلْنَا » هذه قراءة العامة .
وقرأ طلحة : « مَا نُزِّلَ » مبنياً للمفعول « القُرْآن » رفع لقيامه مقام فاعله .
وهذه الجملة يجوز أن تكون مستأنفة إن جعلت « طَهَ » تعديداً لأسماء الحروف . ويجوز أن تكون خبراً ل ( طَهَ ) إن جعلتها اسماً للسورة ، ويكون القرآن ظاهراً واقعاً موقع المضمر؛ لأنَّ ( طه ) قرآن أيضاً ، ويجوز أن تكون ( جواب قسم ) إنْ جعلت ( طَهَ ) مقسماً به . وقد تقدَّم تفصيل ذلك .
فصل
قال الكلبي : لمَّا أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بمكة اجتهد في العبادة حتى كان بين قدميه في الصلاة لطول قيامه ، وكان يصلي الليل كله ، فأنزل الله هذه الآية ، وأمره أن يخفف على نفسه فقال : { مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى } [ طه : 2 ] .
وقيل : لما رأى المشركون اجتهاده في العبادة قالوا : إنَّك لتشقى حين تركت دين آبائك أي : لتتعنَّى وتَتْعَب وما أنزل عليك القرآن يا محمد لشقائك ، فنزلت : « مَا أنْزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى » . وأصلُ الشقاء في اللغة العناء .
وقيل المعنى : إنَّك لاَ ترم على كفر قومك كقوله : « لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ » وقوله { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } [ الأنعام : 106 ] ، أي : إنك لا تؤاخذ بذنبهم .
وقيل : إنَّ هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة ، وكان عليه السلام في ذلك الوقت مقهوراً تحت ذل الأعداء ، فكأنه تعالى قال : لا تظن أنَّك تبقى أبداً على هذه الحالة ، بل يعلو أمرك ويظهر قدرك فإنا ما أنزلنا عليك مثل هذا القرآن لتبقى شقيًّا فيما بينهم بل لتصير معظماً مكرماً .
قوله : « إِلاَّ تَذْكِرَةً » في نصبه أوجه :
أحدها : أن يكون مفعولاً من أجله ، والعامل فيه فعل الإنزال ، وكذلك « لِتَشْقَى » علة له أيضاً ، ووجب مجيئ الأول مع اللام ، لأنه ليس لفاعل الفعل المعلل ففاته شريطة الانتصاب على الفمعولية .
والثاني : جاز قطع اللام عنه ونصبه ، لاستجماعه الشرائط هذا كلام الزمخشري ، ثم قال : فإن قلت : هل يجوز أن تقول : « مَا أنْزَلْنَا أنْ تَشْقَى » ، كقوله : « أنْ تَحْبَطَ أعْمَالُكُم » قلت : بلى ولكنها نصبة طارئة كالنصبة في « وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَه » ، وأما النصبةُ في « تَذْكِرَةً » فهي كالتي في ضربت زيداً ، لأنه أحد المفاعيل الخمسة التي هي أصول وقوانين لغيرها .
قال شهاب الدين : قد منع أبو البقاء أن يكون « تَذْكِرَةً » ، مفعولاً له ل « أنْزَلْنَا » المذكورة لأنها قد تعدت إلى مفعول له وهو « لِتَشْقَى » فلا تتعدى إلى آخر من جنسه .
وهذا المنع ليس بشيء ، لأنه يجوز أن يعلل الفعل بعلتين فأكثر ، وإنما هذا بناءً منه على أنه لا يقتضي العامل من هذه الفضلات إلا شيئاً واحداً إلا بالبدلية أو العطف .
الثاني : أن تكون « تَذْكِرَةٌ » بدلاً من محل « لِتَشْقَى » وهو رأي الزجاج ، وتبعه ابن عطية ، واستبعده أبو جعفر ، ورده الفارسي ، بأن التذكرة ليست بشقاء وهو رد واضح . وقد أوضح الزمخشري هذا فقال : فإن قلت هل يجوز أن تكون « تَذْكِرَةً » بدلاً من محل « لِتَشْقَى » ؟ قلت : لا لاختلاف الجنسين ولكنها نصب على الاستثناء المنقطع الذي ( إلاَّ ) إلا بمعنى ( لكن ) .
قال أبو حيان : يعني باختلاف الجنسين أن نصبه « تَذْكِرَةُ » نصبة صحيحة ليست بعارضة ، والنصبة التي تكون في « لِتَشْقَى » بعد نزع الخافض نصبة عارضة ، والذي نقول إنه ليس له محل ألبتة فيتوهم البدل منه .
قال شهاب الدين : ليس مراد الزمخشري باختلاف الجنسين إلا ما نقل عن الفارسي رداً على الزجاج ، وأي أثر لاختلاف النصبتين في ذلك .
الثالث : أن يكون نصباً على الاستثناء المنقطع أي : لَكِنْ أَنْزَلْنَا تَذْكِرَةً .
الرابع : أنه مصدر مؤكد لفاعل مقدر ، أي : لكن ذكرنا ، أو تذكرتَه أنت تذكرةً .
وقيل التقدير : مَا أنْزَلْنَا عَلَيكَ القرآن لتحملَ متاعب التبليغ إلا ليكون تذكرة ، كما يقال : ( مَا شَافَهْنَاكَ بِهَذَا الكلامَ لِتَتَأَذَّى إِلاَّ ليَعْتَبِر بكَ غَيْركَ ) .
الخامس : أنه مصدر في موضع الحال ، أي إلا مُذَكِّراً .
السادس : أنه بدل من القرآن ، ويكون القرآن هو التذكرة . قاله الحوفي .
السابع : أنه مفعول له أيضاً ، ولكن العامل فيه « لِتَشْقَى » ، ويكون المعنى كما قال الزمخشري : إنَّا أنْزَلْنَا عَلَيْكَ القرآنَ لِتتحمَّلَ متاعب التبليغ ، ومقاومة العتاة من أعداء الإسلام ومقابلتهم ، وغير ذلك من أنواع المشاق ، وتكاليف النبوة وما أنزلنا هذا الْمُتْعِب الشاق إلاَّ ليكون تَذْكِرَةً . وعلى هذا الوجه يجوز أن تكون تَذْكِرَةً حالاً ومفعولاً له . انتهى .
فإن قيل : من أين أخذت أنه لمَّا جعله حالاً ومفعولاً له أن العامل فيه « لِتَشْقَى » ، وما المانع أن يريد بالعامل فيه فعل الإنزال؟
فالجواب : أن هذا الوجه قد تقدَّم له في قوله : وكل واحد من « لِتَشْقَى » ، و « تَذْكِرَةً » علة للفعل ، وأيضاً فإن تفسيره للمعنى المذكور منصَبٌّ على تسلط « لِتَشْقَى » على « تَذْكِرَةً » إلا أنَّ أبا البقاء لما لم يظهر له هذا المعنى الذي ظهر للزمخشري منع من عمل « لِتَشْقَى » في « تَذْكِرَةً » ، فقال : ولا يصح أن يعمل فيها « لِتَشْقَى » لفساد المعنى وجوابه : ما تقدَّم .
( ولا غرو في تسمية التعب شقاءً ) ، قال الزمخشري : والشقاء يجيء في معنى التعب ، ومنه المثل : أتْعَبُ مِنْ رَائِضِ مُهْرٍ ، وأشْقَى من رائضِ مُهْرٍ .
و « لِمَنْ يَخْشَى » متصل ب « تَذْكِرَةًُ » وزيدت اللام في المفعول ، تقوية للعامل لكونه فعلاً . ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه صفة ل « تَذْكِرة » . وخصَّ مَنْ يَخْشَى بالتذكر ، لأنهم المنتفعون بها ، كقوله : « هُدًى لِلْمُتَّقين » .
قوله : « تَنْزِيلاً » في نصبه أوجه :
أحدها : أن يكون بدلاً من « تَذْكِرَةً » إذا جعل حالاً لا إذا كان مفعولاً ، لأن الشيء لا يعلِّلُ بنفسه ، لأنه يصير التقدير : مَا أنْزَلْنَا القرآنَ إِلاَّ لِلتَّنْزِيل .
الثاني : أن ينتصب ب « نزل » مضمراً .
الثالث : أن ينتصب ب « أنْزَلْنَا » ، لأن معنى ما أنْزَلْنَا إلاَّ تذكرة : أنْزَلْنَاهُ تَذْكِرَةً .
الرابع : أن ينتصب على المدح والاختصاص .
الخامس : أن ينتصب ب « يَخْشَى » مفعولاً به ، أي أنزلناه للتذكرة لِمَنْ يَخْشَى تنزيلَ الله ، وهو معنى حسن وإعراب بيِّن . قال أبو حيان : والأحسن ما قدَّمناه أولاً من أنَّه منصوب ب « نَزَل » مضمرةً ، وما ذكره الزمخشري من نصبه على غيره فمتكلف : أما الأول ففيه جعل « تَذْكِرَةً » و « تَنْزِيلاً » حالين وهما مصدران ، وجعل المصدر حالاً لا ينقاس . وأيضاً فمدلول « تَذْكِرَةً » ليس مدلولاً « تَنْزِيلاً » ، ولا « تَنْزِيلاً » بعض « تّذْكِرَةً » فإن كان بدلاً فيكون بدلَ اشتمال على مذهب من يرى أن الثاني مشتمل على الأول؛ لأن التنزيل مشتمل على التذكرة ، وغيرها . وأما قوله : لأن معنى ما أنزلناه إلا تذكرةً أنْزَلناهُ تَذْكِرَةً ، فليس كذلك ، لأن معنى الحصر يفوت في قوله : « أنزلناه تذكرةً . وأما نصبه على المدح فبعيد .
وأمَّا نصبه على » يَخشَى « ففي غاية البُعد ، لأن » يَخْشَى « رأس آية وفاصلة فلا يناسب أن يكون » تَنْزِيلاً « منصوباً ب » يَخْشَى « ، وقوله : وهو معنى حسن وإعراب بيِّن عجمة وبُعْدٌ عن إدراك الفصاحة . قال شهاب الدين : ويكفيه رد الشيء الواضح من غير دليل ونسبة هذا الرجل إلى عدم الفصاحة ووجود العجمة .
قوله : » مِمَّنْ خَلَقَ « . يجوز في ( مِنْ ) أن يتعلق ب » تَنْزِيلاً « ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل » تَنْزِيلاً « .
وفي » خَلَقَ « ( التفات ) من تكلُّم في قوله : » مَا أنْزَلْنَا « إلى الغيبة وجوز الزمخشري أن يكون » مَا أنْزَلْنَا « حكاية لكلام جبريل عليه السلام وبعض الملائكة فلا التفات على هذا .
قوله : » العُلَى « جمع عُلْيَا ، نحو دُنْيَا ودُنًى ، ونظيره في الصحيح كُبْرَى وَكُبَر ، وفُضْلَى وفُضَل ، يقال سماء عُلْيَا وسموات عُلَى .
ومعنى الآية : « تَنْزِيلاً مَمَّنْ خَلَقَ » أي : ( مِنَ الله الذي خلق الأرضَ والسَّمَواتِ العُلَى ) يعني العالية الرفيعة .
وفائدة وصف السَّوات بالعُلَى : الدلالة على عظم قدرة من يخلق مثلها في علوها ( وبعد مرتقاها ) .
قوله : « الرَّحْمنُ » العامة على رفعه ، وفيه أوجه :
أحدها : أنه بدل من الضمير المستكن في « خَلَقَ » ذكره ابن عطية ، ورده أبو حيان بأن البدل يحل محل المبدل منه ، ولو حل محله لم يجز لخلو الجملة الموصولة بها من رابط يربطها .
الثاني : أن يرتفع على الابتداء مشاراً إلى « مَنْ خَلَقَ » والجملة بعده خبر . وقرأ جناح بن حُبَيش : « الرَّحْمنِ » مجروراً ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه بدل من الموصول . لا يقال : إنه يؤدي إلى البدل بالمشتق وهو قليل ، لأن ( الرحمن ) يجري مجرى الجوامد لكثرة إيلائه العوامل .
والثاني : أن يكون صفة للموصول أيضاً .
قال أبو حيان : ومذهب الكوفيين أن الأسماء النواقص ك « مَنْ » و « مَا » لا يوصف منها إلاَّ الذي وحده ، فعلى مذهبهم لا يجوز أن يكون صفة . قال ذلك كالراد على الزمخشري .
والجملة في قوله : « عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى » خَبَر لقوله « الرَّحْمنُ » على القول : بأنه مبتدأ ، أو خبر مبتدأ مضمر ، إن قيل : إنه مرفوع على خبر مبتدأ مضمر ، وكذلك في قراءة مَنْ جرَّه . وفاعل « اسْتَوَى » ضمير يعود على « الرَّحْمنُ » .
وقيل : بل فاعله « مَا » الموصولة بعده ، أي : استوى الذي له ما في السموات قال أبو البقاء : وقال بعضُ الغلاةِ : « مَا » فاعل « اسْتَوَى » ، وهذا بعيد ، ثم هو غير نافع له في التأويل ، إذ يبقى قوله : « الرَّحْمنُ عَلَى العَرشِ اسْتَوَى » كلاماً تامّاً ومنه هرب .
قال شهابُ الدين : هذا يُروى عن ابن عبَّاس ، وأنَّه كان يقفُ على لفظ « العَرْشِ » ثم يبتدئ ب « اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَواتِ » ، وهذا لا يصح عنه .
قوله : الثَّرَى : هو التراب النَّدِي ، ولامه ياء بدليل تثنيته على ثَرَيَيْن وقولهم : ثَرِيَتْ الرضُ تَثْرَى ثَرًى . والثَّرَى في انقطاع المودة ، قال جرير :
3640- فَلاَ تَنْبِشُوا بَيْنِي وَبَيْنَكُمُ الثَّرَى ... فَإنَّ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمُ مُثْرِي
والثَّراء بِالمَد : كثرة المال ، قال :
3641- أَمَاوِيَّ مَا يُغْنِي الثَّراءُ عَنِ الفَتَى ... إذَا حَشْرجَتْ يَوْماً وضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ
وَما أَحسن قولَ ابن دُرَيد في قصيدته التي جمع فيها بن الممدود والمقصور باختلاف معنى .
فصل
قال المفسرون : معنى « لَهُ مَا فِي السَّمواتِ وَمَا فِي الأرْضِ » لما شرح ملكه بقوله : « الرَّحْمنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى » ، والملك لا ينتظم إلا بالقدوة والعلم لا جرم عقبه بالقدرة ثم بالعلم .
أما القدرة فهي هذه الآية ، والمعنى : أنه تعالى مالك لهذه الأقسام الأربعة فهو مالك لما في السموات من مَلَكٍ ونَجْم وغيرهما ، ومالك لما في الأرض من المعادن والفلزات ، ومالك لما بينهما من الهواء ، ومالك لما تحت الثرى . قال الضحاك : يعني ما روى الثرى من شيء .
وقال ابن عباس : إن الأَرضينَ على ظهر النون ، والنون على بحر ورأسه وذنبه يلتقيان تحت العرش ، والبحر على صخرة خضراء اخضرت السموات منها . وهي الصخرة التي ذكر الله تعالى في قصة لقمان « فَتَطُنْ فِي صَخْرَةٍ » ، والصخرة على قرن ثور ، والثور على الثرى ، و « مَا تَحْتَ الثَّرَى » لا يعلمه إلا الله تعالى . وذلك الثور فاتح فاه ، فإذا جعل الله البحار بحراً واحداً سالت في جوف الثور فإذا وقعت في جوفه يبست .
وأما العلم فقوله : « وَإنْ تَجْهَرْ بِالقَوْلِ فَإنَّهُ يَعْلَمُ الشِّرَّ وَأَخْفَى » قال الحسن السر : ما أسر الرجل إلى غيره ، وأخفى من ذلك ما أسر في نفسه . وعن ابن عباس وسعيد بن جبير : السر ما تسر في نفسك ، وأخفى من السر : ما يلقيه الله في قلبك من بعد ، ولا تعلم أنك ستحدث به نفسَك لأنك تعلم ما تسر اليوم ولا تعلم اليوم ولا تعلم ما تسر إذا ، والله يعلم ما أسررت اليوم وما تسر غدا .
وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : السِّرُّ ما أٍر ابن آدم في نفسه ، وأخفى : ما خفي عليه مما هو فاعله قبل أن يعلمه .
وقل مجاهد : السِّرُّ العمل الذي يُسِرُّ من الناس وأخفى : الوسوسة وقيل : السِّرُّ هو العزيمة ( وأخفى : ما يخطر على القلب ولم يعزم عليه . وقال زيد بن أسلم : « يَعْلَمُ السِّرَّ » وأخْفَى « أي : يعلم أسرار العباد ، وأخفى سره من عباده فلا يعلمه أحد .
قوله : » وَأخْفَى « جوزوا فيه وجهين :
أحدهما : أنه أفعل تفضيل ، أي : وأخفى من السر .
والثاني : أنه فعل ماض ، أي : وأخفى عن عباده غيبه كقوله : » وَلاَ يُحيطُونَ بِهِ عِلْماً « .
قوله : » اللهُ لاَ إلهَ إِلاَّ هُوَ « الجلالة إما مبتدأ والجملة المنفية خبرها ، وإما خبر لمبتدأ محذوف ، أي هو الله . والحسنى تأنيثُ الحسنِ ، وقد تقدم أن جمع التكسير في غير العقلاء يعامل معاملة المؤنثة الواحدة .
ولما ذكر صفاته وحَّدَ نَفْسَه فقال : » اللهُ لاَ إلهَ إلاَّ هوَ لَهُ الأسْمَاءُ الحُسْنَى « .
فصل
قالوا : كلمة » لا « ههنا دخلت على الماهية ، فانتفت الماهية ، وإذا انتفت الماهية تنتفي كل أفرادها . وإنما » اللهُ « اسم علم للذات المعينة ، إذ لو كان كان اسم معنى لكان كلها محتملاً للكثرة فلم تكن هذه الكلمة مفيدة للتوحيد .
وقالوا : » لاَ « استحقت عمل » إِنَّ « لمشابهتها لها من وجهين :
الأول : ملازمة الأسماء .
والآخر : تناقضهما . فإن أحدهما لتأكيد الثبوت ، والآخر لتأكيد النفي ، ومن عادتهم تشبيه أحد الضدين بالآخر في الحكم ، وإذا كان كذلك ، فنقول : لمَّا قالوا : إنَّ زيداً ذاهبٌ كان يجب أن يقولوا : ( لا رجلاً ذاهب ) إلاَّ أنهم بنوا « لا » مع ما دخل عليه من الاسم مفرداً واحداً فلأنهم قصدوا البناء على الحركة المستحقة توقيفاً بين الدليل الموجب للإعراب ، والدليل الموجب للبناء . وخبره محذوف تقديره : لاَ إِله في الوجود ، ولا حول ولا قوةَ لنا ، وهذا يدل على أن الوجود زائدة على الماهية . فإن قيل : تصور الثبوت مقدم على تصور السلب ، فإنَّ السلب ما لم يضف إلى الثبوت لا يمكن تصوره ، فكيف قدم هنا السلب على الثبوت؟
فالجواب : لما كان هذا السلب من مؤكدات الثبوت لا جرم قدم عليه .
فصل
ينبغي لأهل لاَ إله إلاَّ الله أنْ يحصلوا أربعة أشياء حتى يكونوا من أهل لا إلهَ إلا الله : التصديق ، والتعظيم والحلاوة والحرية ، فمن ليس له التصديق فهو منافق ، ومَن ليس له التعظيم فهو مبتدع ، ومَن ليس له الحلاوة فهو من مراء ومَنْ ليس له الحرية فهو فاجر .
فصل
( قال بعضهم ) قوله تعالى : « ألَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ » أنَّه لا إله إلاَّ الله . « إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ » لا إله إلاَّ الله « وَتَواصُّوْا بالحَقِّ » لا إله إلاَّ الله . « قُلْ إنَّمَا أعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ » بلا إله إلاَّ الله . « وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسْئولُون » عن قول لا إله إلاَّ الله . « بَلْ جَاءَ بالحَقِّ وَصَدَّقَ المُرْسَلِين » هو لا إله إلاَّ الله . « يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بالقَوْلِ الثَّابِتِ فشي الحَيَاةِ الدُّنْيَا » هو لاَ إله إلاَّ الله . « وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمينَ » عن قول : لا إله إلاَّ الله .
فصل
قال عليه السلام : « أفضل الذكر لاَ إله إلاَّ الله ، وأفضل الدعاء أستغفر الله » ، ثمّ تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فاعْلَم أنَّه لا إلهُ إلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤمِنينَ والمُؤْمِنَاتِ » وقال عليه السلام : « إنَّ الله تَعَالَى خَلَقَ مَلَكاً من الملائكة قبل أن خلق السموات والأرض وهو يقول : أشهد أن لا إله إلاَّ الله مادًّا بها صوته لا يقطعها ، ولا يتنفس فيها ، ولا يتمها ، فإذَا أتمَّها أمر إسرافيل بالنفخ في الصور وقامت القيامة تعظيماً لله تعالى » .
وعن أنس قال عليه السلام : « ما زلت أشفع إلى ربي ويشفعني ، وأشفع إليه ويشفعني ، حتى قلت : يا رب فيمن قال : لا إله إلا الله . قال : يا محمد هذه ليست لك ولا لأحد وعزتي وجلالي ، لا أدع أحداً في النار قال لا إله إلا الله »
وقال سفيان الثوري : سألت جعفر بن محمد عن « حم عسق » فقال : الحاء حُكمه ، والميم ملكه ، والعين عظمته ، والسين سناؤُه والقاف قدرتُه ، يقول الله عز وجل : بحكمي وملكي وعظمتي وسنائي ولا قدرتي لا أعذب بالنار من قال : لاَ إله إلاَّ الله محمد رسول الله .
وعن ابن عرم قال عليه السلام : « من قال في الشوق : لا إله إلا الله وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ لهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ يُحْيي ويُميتُ وَهُوَ حيٌّ لا يَمُوتُ بيدِهِ الخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيءٍ قدِير ، كَتَبَ الله لهُ أَلفَ حَسَنةٍ ومَحَا عَنْهُ ألفَ سيئةٍ وبَنَى لَهُ بَيْتاً في الجَنَّةِ »
وروي عن موسى بن عمران عليه السلام قال : يا رب علمني شيئاً أذكرك به قال : قل : لا إله إلاَّ الله ، قال : كل عبادك يقول : لا إله إلاَّ الله . فقال : قل : لا إله إلاَّ الله . قال : إنما أردت شيئاً تخصني به . قال يا موسى : لو أن السموات السبع ومن فوقهن في كفة ولا إله إلاَّ الله في كفة لماتْ بهِنَّ لاَ إله إلاَّ الله .
فصل
قيل : إنَّ الله تعالى أربعة آلاف اسم لا يعلمها إلا الله والأنبياء أما الألف الرابعة فإن المؤمنين يعلمونها ، فثلثمائة في التوراة ، وثلثمائة في الإنجيل ، وثلثمائة في الزبور ومائة في القرآنه تسعة وتسعون ظاهرة وواحد مكنون فمن أحصاها دخل الجنة .
واعلم أن الأسماء الواردة في القرآن منها ما ليس بانفراده ثناءً ومدحاً ، كقوله : جاعل ، وفالق ، وصانع . فإذا قيل : « فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَناً » صار مدحاً وأما الاسم الذي يكون مدحاً فمنه ما إذا قُرِنَ بغيره أبلغ نحو قولنا : حيّ ، فإذا قيل : الحَيُّ القَيُّومُ ، أو الحَيُّ الَّذِي لا يَمُوتُ . كان أبلغ . وأيضاً بديع . فإذن قلت : بَديعُ السَّمواتِ والأرضِ ، ازداد المدح .
ومن هذا الباب ما كان اسم مدح ولكن لا يجوز إفراده ، كقولنا : دَلِيلٌ ، وكَاشِفٌ ، فإذا قيل : يا دليلَ المتحيرين ، يا كاشفَ الضُرِّ والبلوى جاز .
ومنه ما يكون اسم مدح مفرداً ومقروناً كقولنا : الرَّحيم الكريمُ ( ومن الأسماء ما يكون تقارنُها أحسنَ كقولك : الأول الآخر ، المبدئ المعيد ، الظاهر الباطن ، العزيز الحكيم ) .
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11)
قوله تعالى : { وَهَلْ أتَاكَ حَديثُ مُوسَى : إذْ رَأَى نَاراً } . . . الآية : لما عظم حال القرآن ، وحال الرسول عليه السلام بما كلَّفه أتبع ذلك بما يقوي قلبَ رسوله من ذكر أحوال الأنبياء تقوية لقلبه في الإبلاغ ، كقوله تعالى : { وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } [ هود : 120 ] . وبدأ بموسى لأن فتنته كانت أعظم « ليتسلَّى قلبُ الرسول عليه السلام بذلك ، ويصبر على تحمل المكاره . قوله : » وَهَلْ أتَاكَ « يحتمل أن يكون هذا أول ما أخبر به من أمر موسى فقال : » وَهَلْ أتَاكَ « أي لم يأتك إلى الآن ) وقد أتاك الآن فتنبه له ، وهذا قول الكلبي . ويحتمل أن يكون قد أتاه ذلك في الزمان المتقدم فكأنه قال : أليس قد أتاك ، وهذا قول مقاتل والضحاك عن ابن عباس ، وهذا وإن كان على لفظ الاستفهام الذي لا يجوز على الله على لكن المقصود منه تقرير الخبر في قلبه ، وهذه الصورة أبلغ في ذلك كقولك لصاحبك : هَلْ بلغكَ عني كذا؟ فيتطلع السامع إلى معرفة ما يرمي إليه ، ولو كان المقصود هو الاستفهام لكان الجواب يصدر من قِبَل موسى لا من قِبَل الله ( تعالى ) .
قوله : » إذْ رَأَى « يجوز أن يكون منصوباً بالحديث وهو الظاهر ويجوز أن ينتصب ب ( اذكر ) مقدراً قاله أبو البقاء . أو بمحذوف بعده ، أي إذا رأى ناراً كان كيت وكيت كما قاله الزمخشري . و » هَلْ « على بابها من كونها استفهام تقرير . وقيل : بمعنى قد . وقيل : بمعنى النفي . وقرأ » لإِهْلِهُ امْكُثُوا « بضم الهاء حمزة ، وقد تقدم أنه الأصل وهو لغة الحجاز .
وقاله أبو البقاء : إن الضم ( للإتباع ) .
قوله : » آنَسْتُ « أي أبصرت ، والإيناس : الإبصار والتبيُّن ومنه إنسان العين ، لأنه يبصر به الأشياء ، والإنس لظهورهم كما قيل : الجن لاستتارهم . وقيل : هو الوجدان . وقيل : هو الإحساس فهو أعم من الإبصار . وأنشدوا للحارث بن حلزة :
3642- آنَسْتُ نَبْأَةً وَأَفْزَعَهَا القُن ... نَاصُ عَصْراً وَقَدْ دَنَا الإمْسَاءُ
والقَبَس : الجَذْوَةُ من النار ، وهي الشعلة في رأس عود أو قصبة و نحوها وهو فعلٌ بمعنى مفعول كالقَبَض والنَّفَض بمعنى المقبوض والمنفوض . ويقال : إن فعل وأَفْعَل يقالان في المعنيين فيقال : قَبَسْتُه ناراً وعِلماً وأَقْبَستُهُ أيضاً ( ناراً وعلماً ) وقوله : » مِنْهَا « يجوز أن يتعلق ( ب » آتِيكُمْ « أو ) بمحذوف على أنه حال من » قَبَس « وأما بعضهم ألف » هُدًى « وقفاً ، والجيد أن لا تُمال ، لأن الأشهر أنها بدل من التنوين .
فصل
قال المفسرون : استأذن موسى شعيباً في الرجوع من مَدْيَنَ إلى مصر لزيارة والدته وأخته ، فأذن له ، فخرج بأهله ، وأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام .
فولدت امرأته في ليلة شاتية ، وكانت ليلة الجمعة فألجأه السير إلى جانب الطور الغربي الأيمن ، فقدح زنده فلم يورِهِ ، فبينما هو في مزاولة ذلك إذ أبصر ناراً من بعيد على يسار الطريق من جانب الطور .
قال السُّدي : فظن أنها نارٌ من نيران الرعاة .
وقال آخرون : إنه عليه السلام رآها في شجرة وليس في القرآن ما يدل على ذلك . وقال بعضهم : الذي رآه لم يكن ناراً ( بل تخيله ناراً ) والصحيح أنه رأى ناراً ليكون صادقاً في خبره ، إذا الكذب لا يجوز على الأنبياء . قيل : النار أربعة أقسام :
نارٌ تأكل ولا تشرب ، وهي نار الدنيا . ونارٌ تشرب ولا تأكل وهي نار الشجر لقوله تعالى : { جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشجر الأخضر نَاراً } [ يس : 80 ] .
ونار تأكل وتشرب وهي نار المعدة . ونارٌ لا تأكل ولا تشرب ، وهي نار موسى عليه السلام .
وقيل أيضاً : النار أربعة : أحدها : نارٌ لها نور بلا حرقة ، وهي نار موسى عليه السلام .
ونارٌ لها حرقة بلا نور ، وهي نار جهنم . ونارٌ لها حرقة ونور ، وهي نار الدنيا . ونار لا حرقة لها ولا نور وهي نار الأشجار . فلما أبصر النار « قَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا » يجوز أن يكون هذا الخطاب للمرأة وولدها والخادم .
ويجوز أن يكون للمرأة وحدها خرج على ظاهر لفظ الأهل فإن الأهل يقع على الجمع وأيضاً فقد يخاطب الواحد بلفظ الجمع تفخيماً ، أي : أقيموا في مكانكم . « إنِّي آنَسْتُ نَاراً » . أي أبصرتُ ناراً ، والإيناس : الإبصار وقيل : إبصار ما يُؤنَسُ بِهِ ولما وجد الإيناس -وكان منتفياً- حقيقة لهم أتى بكلمة « إنِّي » ليوطن أنفسهم . ولما كان الإتيان بالقَبَس ووجود الهدى مترقبين متوقعين بنى الأمر فيهما على الرجاء والطمع ، فقال : « لَعَلِّي » ولم يقطع فيقول : إنِّي آتيكُمْ ، لئلا يعد ما لم يتيقن الوفاء به ، والنكتة فيه أن قوماً قالوا : كَذَبَ إبراهيمُ للمصلحة وهو محال ، لأن موسى عليه السلام قبل نبوته احترز فلم يقل : إِنِّي آتِيكُمْ ، بل قال « لَعَلِّي آتِيكُمْ » . والقَبَسُ : النارُ المقتبسةُ في رأس عودٍ أو فتيلةٍ أو غيرهما . « أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى » أي ما يهتدي به وهو اسم مصدر ، فكأنه قال : أجِدُ على النار ما أهتدي به من دليل أو علامة .
ومعنى الاستعلاء على النار « ( أنَّ أهلَ النارِ ) يستعلون المكان القريب منها ، ولأن المصطلين بها إذا أحاطوا مشرفين عليها ، فكأنه قال : أُجِدُ على النارِ مَنْ يَدُلُّنِي . » فَلَمَّا أتَاهَا « أي النار ، قال ابن عباس : رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها أطافت بها نار بيضاء تتّقد كأضوأ ما يكون فوقف متعجباً من شدة ضوء تلك النار وشدة خضرة تلك الشجرة ، فلا النار تغير خضرتها ، ولا كثرة ماء الشجرة تغير ضوء النار .
قال ابن مسعود : كانت الشجرة سمرة خضراء .
وقال قتادة ومقاتل والكلبي : كانت من العَوْسَج .
وقال وهب : كانت من العُلِّيْق . وقيل : كانت من العِنَّاب .
قال أكثر المفسرين : إنَّ الذي رآه موسى لم يكن ناراً بل كان نورَ الربِّ ( تبارك وَتَعالى ) ذُكِرَ بلفظ النار ، لأن موسى عليه السلام حسبه ناراً فلما دَنَا مِنْهَا سمع تسبيح الملائكة ورأى نوراً عظيماً .
قال وهب : ظن موسى أنها نار أوقدت ، فأخذ من دقاق الحطب وهو الحشيش اليابس ليقتبس من لهبها فمالت إليه كأنها تريده ، فتأخر عنها وهابَها ، ثم لم تزل تطعمه ، ويطمع فيها ، ثم لم يكن بأسرع من خمودها كأنها لم تكن ثم رمى موسى ببصره إلى فروعها ، فإذا خضرتها ساطعة في السماء ، وإذا نور بين السماء والأرض له شعاع تكل عنه الأبصار ، فلما رأى موسى ذلك وضع يديه على عينيه ، فنودي يا موسى .
قال القاضي : الذي يروى من أن الزند ما كان يروى فجائز ، وما رُوِي من أن النار كانت تتأخر عنه ، فإن كانت النبوة قد تقدمت له جاز ذلك وإلا فهو ممنوع إلاَّ أن يكون معجزة لغيره من الأنبياء ، لأن قوله : « وَأنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى » دليل على أنه إنما أوحي إليه في هذه الحالة ، وجعله نبيًّا . وعلى هذا يبعدُ ما ذكروه من تأخر النار عنه وبيَّنَ فسادَ ذلك ، قوله تعالى : « فَلَمَّا أتَاهَا نُودِيَ » ولو كانت تتأخر عنه حالاً بعد حالٍ لَمَا صحَّ ذلك ، ولَمَا بقي لفاء التعقيب .
قوله : « نودي : القائم مقام الفاعل ضمير موسى .
وقيل : ضميرُ المصدر ، أي نُودِي النداء ، وهو ضعيف . ومنعُوا أنْ يكون القائم مقامه الجملة من » يا مُوسَى « ، لأن الجملَةَ لا تكونُ فاعلاً .
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)
قوله : « إِنِّي » قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالفتح على تقدير الباء أي : بأِنِّي ، لأن النداء يوصل بها . تقول : ناديتُه بكذا ، وأنشد الفارسيُّ قول الشاعر :
3643- نَادَيْتُ باسْمِ رَبيعَةَ بنِ مُكْدَّمٍ ... إنَّ المُنَوَّه باسْمِهِ المَوْثُوقُ
وجوز ابن عطية أن تكون بمعنى : لأجل ، وليس بظاهر . والباقون بالكسر إمَّا على إضمار القول عند الكوفيين . وقوله : « أَنَّا » يجوز أن يكون مبتدأ وما بعده خبر والجملة خبر ( إنَّ ) ويجوز أن يكون توكيداً للضمير المنصوب . ويجوز أن يكون ( فصلاً ) .
فصل
قال المفسرون : لمَّا نُودِي يَا مُوسَى أجاب سريعاً ما يدري من دعاه ، فقال : إنِّي أسمع صوتك ولا أرَى مكانَك ، فأين أنت؟ فقال : أنا فوقَكَ ، وَعَكَ ، وأمَامَكَ ، وخلفَكَ ، وأقربُ إليكَ منْ نفسِك . فعلم أن ذلك لا ينبغي إلا الله عزّ وجلّ فأيقن به . « فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ » روى ابن مسعود مرفوعاً في قوله : « اخْلَعْ نَعْلَيْكَ » قيل : كانَتَا من جلد حمار ميت . ويروى غير مدبوغ .
وقال عكرمة ومجاهد : ليباشر بقَدَمَيْه تراب الأرض المقدسة ، فيناله بركتها ، لأنه قُدِّسَتْ مرتين ، فخلعهما وأَلقاهُما من وراء الوادي .
قيل : إنه عرف أن المنادي هو الله تعالى ، لأنه رأى النار في الشجرة الخضراء بحيث أن الخُضْرة ما كانت تطفئ تلك النار ، وتلك النار ما كانت تنضر بتلك الخُضْرة ، وهذا لا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى .
قوله : « طُوَى » قرأ الكوفيون وابنُ عامر « طُوًى » بضم الطاء والتنوين .
وقرأ الباقون : بضمها من غير تنوين .
وقرأ الأعمش والحسن وأبو حيوة وابن محيصن بكسر الطاء منوناً ، وأبو زيد عن أبي عمرو بكسرها غير منون .
فمن ضمَّ ونوَّنَ فإنه صرف : لأنَّه أوَّله بالمكان . ومن منعه فيحتمل أوجهاً :
أحدها : أنه منعه للتأنيث باعتبار والعلمية .
الثاني : أنَّه منعه للعدل إلى فُعَل ، وإن لم يعرف اللفظ المعدول عنه وجعله كُعَمر وزُفَر .
الثالث : أنه اسم أعجميٌّ فمَنْعُهُ للعلمية والعجمة . ومن كَسَر ولم يُنوّن فباعتبار البقعة أيضاً . فإن كان اسماً فهو نظير عِنَب ، وإن كان صفة فهو نظير عِدَى وسِوَى . ومن نَوَّنه فباعتبار المكان .
وعن الحسن البصري : أنه بمعنى الثناء بالكسر والقصر ، والثناء المتكرر مرتين فيكون معنى هذه القراءة : أنه طهر مرتين ، فيكن مصدراً منصوباً بلفظ ( المقدس ) ، لأنه بمعناه ، كأنه قيل : المقدس مرتين من التقديس .
وقرأ عيسى بن عمر والضَّحَّاك « طَاوِيْ اذْهِب » . وطُوَى : إما بدل من الوادي أو عطف بيان له . أو مرفوع على إضمار مبتدأ ، أو منصوب على إضمار أعْنِي .
فصل
استدلت المعتزلة بقوله : « اخْلَعْ نَعْلَيْكَ » على أن كلام الله تعالى ليس بقديم ، إذ لو كان قديماً لكان الله قائلاً قبل وجود موسى : اخْلَعْ نَعْلَيْكَ يَا مُوسَى ، ومعلوم أن ذلك سفه ، فإن الرجل في الدار الخالية إذا قال يا يزيد افعل ، ويا عمرو لا تفعل مع أن زيداً وعمراً لا يكونان حاضرين يعد ذلك جنوناً وسفهاُ .
فكيف يليق ذلك بالإله سبحانه وتعالى؟ وأجيب عن ذلك بوجهين :
الأول : أن كلامه تعالى وإن كان قديماً إلا أنه في الأزل لم يكن أمراً ولا نهياً .
الثاني : أنه كان أمراً بمعنى أنه وجد في الأزل شيء لما استمر إلى ما يزال صار الشخص به مأموراً من غير وقوع التغير في ذلك الشيء ، كما أن القدرة تقتضي صحة الفعل ، ثم إنها كانت موجودة في الأزل من غير هذه الصحة ، فلما استمرت إلى ما لا يزال حصلت الصحة ، فكذا ههنا ، وهذا كلام فيه غموض وبحث دقيق .
فصل
قال بعضهم : في الآية دلالة على كراهة الصلاة والطواف في النعل ، والصحيح عدم الكراهة ، لأنا عللنا الأمر بخلع النعلين لتعظيم الوادي ، وتعظيم كلام الله تعالى كان الأمر مقصوراً على تلك الصورة .
وإن عللناه بأن النعليْن كانتا من جلد حمار ميِّت ، فجائز أن يكون محظوراً لبس جلد الحمار الميت ، وإن كان مدبوغاً ، فإنْ كان ذلك فهو منسوخ بقوله عليه السلام : « أَيُّمَا إِهَابٍ دُبغَ طَهُرَ » « وقد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في نعليْه ثم خلعهما في الصلاة ، فخلع الناس نعالهم فلما سلم قال : ما لكم خلعتم نعالكم؟ قالوا : خلعتَ فخلعنا قال : » فإنَّ جِبريلَ عليه السَّلامُ أخبرَنِي أنَّ فيهِمَا قذراً « فلم يكره النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في النعل ، وأنكر على الخالعين خلعها ، وأخبرهم أنه إنما خلعهما لما فيهما من القذر .
فصل
قال عكرمة وابن زيد : طُوَى : اسم للوادي .
قال الضَّحاك : طُوَى : واد مستدير عميق الطويّ في استدارته .
وقيل : طُوَى معناه مرتين نحو ثنى . أي : قدِّس الوادي مرتين أي : نُودِيَ موسَى نِدَاءَيْن يقال : ناديته طُوًى أي : مثنى . وقيل : طُوى أي؛ طيًّا . قال ابن عباس : إنه مرَّ بذلك الوادي ليلاً فطواه ، فكان المعنى بالوادي الذي طويته طيًّا أي : قطعته حتى ارتفعت إلى أعلاه ، ومن ذهب إلى هذا قال : طُوًى مصدر أخرج عن لفظه كأنه قال : طويتُه أطوِي طُوًى كما يقال : هدى يهدي هُدًى .
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
قوله تعالى : « وَأنَا اخْتَرْتُكَ » أي للرسالة والكلام .
قرأ حمزة « وَ » أنَّا اخْتَرْنَاكَ « بفتح الهمزة فضمير المتكلم المعظم نفسه .
وقرأ السلمي والأعمش وابن هرمز كذلك إلا أنهم كسروا الهمزة .
والباقون : » وَأنَا اخْتَرْتُكَ « بضمير المتكلم وحده . وقرئ » أَنِّي اخْتَرْتُكَ « بفتح الهمزة .
فأما قراءة حمزة فعطف على قوله » أنِّي رَبُّكَ أَنَا رَبُّكَ « وذلك أنه يفتح الهمزة هناك ففعل ذلك لما عطف غيرها عليها . وجوز أبو البقاء أن يكون الفتح على تقدير : وَلأنّا اخْتَرْنَاكَ فَاسْتَمِعْ ، فعلقه باسْتَمِعْ . والأول أولى .
ومن كسرها فلأنه يقرأ » إنِّي أنَا رَبُّكَ « بالكسر . وقراءة أُبي كقراءة حمزة بالنسبة للعطف . ومفعول » اخْتَرْتُكَ « الثاني محذوف ، أي اخترتك من قومك .
قوله : » لِمَا يُوحَى « الظاهر تعلقه ب » اسْتَمِع « ويجوز أن تكونَ اللام مزيدة في المفعول على حد قوله تعالى » رَدِفَ لَكُمْ « وجوَّز الزمخشري وغيره أن تكون المسألة من باب التنازع بين » اخْتَرْتُكَ « وبين » اسْتَمِعْ « كأنه قيل : » اخْتَرْتُكَ لِمَا يُوحَى فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى « . قال الزمخشري : فعلق اللام باسْتَمِعْ أو باخْتَرْتُكَ وقد رد أبو حيان هذا بأن قال : ولا يجوز التعليق باخْتَرْتُكَ لأنه من باب الإعمال فكان يجب أو يختار إعادة الضمير مع الثاني ، فكان يكون : فاسْتَمِعْ لَهُ لِمَا يُوحَى ، فدل على أنه من باب إعمال الثاني .
قال شهاب الدين : والزمخشري عنى التعليق المعنوي من حيث الصلاحية وأما تقدير الصناعة فلم يَعْنِهِ .
( و » ما « ) يجوز أن تكون مصدرية وبمعنى الذي ، أي فاسْتَمِعْ للوحي أو للذي يوحى ) .
فصل
هذهالآية تدل على النبوة لا تحصل بالاستحقاق ، لأن قوله : » وَأَنَا اخْتَرْتُكَ « يدل على أن ذلك المنصب العالي إنما حَصَل لأنه تعالى اختاره له ابتداء لا أنه يستحقه على الله تعالى .
وقوله : » فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى « أي : إليك فيه نهاية الهيبة والجلالة كأنه قال : لَقَدْ جَاءَك أمْرٌ فتأهَّبْ له ، واجعَلْ كلَّ عقلك وخاطرِك مصروفاً إليه .
ثم قال : » إنَّنِي أَنَا لاَ إلَه إلاَ أَنَأ فَأعْبُدْنِي « ولا تعبد غيري ، وهذا يدل على أن علم الأصول مقدم على علم الفروع : لأن التوحيد من علم الأصول والعبادة من علم الفروع .
وأيضاً فالفاء في قوله : » فَاعْبُدْنِي « تدل على أن عبادته إنما لزمت لإلهِيَّتِهِ .
فصل
احتجُّوا بهذه الآية على أنه يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة من وجهين :
الأولك أنه تعالى بعد أن أمره بالتوحيد أمره بالعبادة ، ولم يذكر كيفية العبادة فثبت أنه يجوز ورود المجمل منفكاً عن البيان .
الثاني : أنه قال : » أَقِم الصَّلاَةَ لِذِكْرِي « ولم يبين كيفية الصلاة .
قال القاضي : لا يمتنع أن موسى عليه السلام -قد عرف الصلاة إلى تعبُّدَ الله تعالى -بها شُعَيْباً- عليه السلام- وغيره من الأنبياء ، فتوجه الخطاب إلى ذلك ، ويحتمل أنه تعالى بيَّن له في الحال ، وإن كان المنقول في القرآن لم يذكر فه إلا هذا القول .
وأجيب عن الأول : بأنه لا يتوجه في قوله تعالى : « فَاعْبُدْنِي » وأيضاً فحَمْلُ مثل هذا الخطاب العظيم على فائدة جديدة أولى من حمله على أمر معلوم ، لأن موسى -عليه السلام- ما كان يشك في وجوب الصلاة التي جاء بها شعيب -عليه السلام- ، فلو حملنا قوله : « وَأَقِمْ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي » على ذلك لم يحصل من هذا الخطاب العظيم فائدة زائدة ، أما لو حملناه على صلاة أخرى لحصلت فائدة زائدة . وقوله : لعلَّ اللهَ بيَّنه في ذلك الموضع ، وإن لم يحكه في القرآن قلنا : لا شك أن البيان ( أكثر فائدة ) من المجمل ، فلو كان مذكوراً لكان أولى بالحكاية .
قوله : « لِذِكْرِي » يجوز أن يكون المصدرُ مضافاً لفاعله ، أي : لأنِّي ذكرتُها في الكتب ، أو لأني أذكرك . ( ويجوز أن يكون مضافاً لمفعوله ، أي : لأنْ تَذْكُرْنِي ) وقل : معناه ذكر الصَّلاة بعد نسيانها ، لقوله -عليه السلام- : « مَنْ أقَامَ عَنْ صَلاَةٍ أوْ نَسِيَهَا فَلْيُصلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا » .
قال الزمخشري : وكان حق العبارة لِذِكْرِهَا ثم قال : ومَنْ يَتمحّل له أن يقول إذا ذكر الصلاة فقد ذكر الله أو على حذف مضاف أي لِذِكِر صلاتي ، أو لأن الذكر والنسيان من الله تعالى في الحقيقة وقرأ أبو رجاء والسلمي « لِلْذِكْرَى » بلام التعريف وألف التأنيث . وبعضهم : « لِذِكْرِي » منكَّرة وبعضهم : « لِلْذِّكْرِ » بالتعريف والتذكير .
فصل
ذكرُوا في قوله تعالى : « لِذِكْرِي » وجوهاً :
أحدها : لِذِكْرِي بمعنى لِتَذْكُرَنِي ، فإنَّ ذِكْرِي أنْ أُعْبَدَ ويُصَلَّى لِي .
والثاني : لتَذْكُرني منها لاشتمال الصلاة على الأذكار؛ وعن مجاهد .
وثالثها : لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها .
ورابعها : لأن أَذْكُرَك بالمدح والثناء .
وخامسها : لِذِكْرِي خاصة لا يشوبه ذكرُ غيري .
وسادسها : لتكون لي ذاكراً غير ناس فعل المخلصين ، كقوله : { لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله } [ النور : 37 ] .
وسابعها : لأوقات ذِكْرِي ، وهي مواقيت الصلاة ، لقوله : { إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً } [ النساء : 103 ] .
وثامنها : أقِم الصَّلاة حين تذكرها أي : إنَّكَ إذَا نسيتَ صلاةً فاقْضها إذا ذكرتَها ، قال عليه السلام : « مَنْ نَسِيَ صَلاَةَ فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا ولاَ كَفَّارَةَ لهَا إلاَّ ذلِك » ثم قرأ « أقِم الصَّلاَةَ ( لِذِكْرِي ) . قال الخطَّابي هذا الحديث يحتمل وجهين :
أحدهما : لا يكفرها غير قضائها .
والآخر : أنه لا يلزمه فغي نسيانها غرامة ، ولا كفارة ، كما تلزم الكفارة في ترك صوم رمضان من غير عذر ، وكما يلزم المحرم إذا ترك شيئاً فدية من دم أو طعام إنما يصلّي ما ترك فقط .
فإن قيل : حق العبادة أن يقول : صَلِّ الصَّلاةَ لذكرِها ، كما قال عليه السلام : « إذَا ذَكَرَهَا »
فالجواب : قوله : « لِذِكْرِي » معناه : للذِّكْر الحاصل بِخَلْقِي . أو بتقدير حذف مضاف أي : لذكر صلاتي .
( فصل )
لو فاتته صلاة يستحب أن يقضيها على ترتيب الأداء ، فلو ترك الترتيب في قضائها جاز عند الشافعي -رحمه الله- ، ولو دخل عليه وقت فريضة وتذكر فائتة ، فإن كان في الوقت سعة استحب أن يبدأ بالفائتة ، ولو بدأ بصلاة الوقت جاز ، وأن ضاق الوقت بحيث لو بدأ بالفائتة فاتت صلاة الوقت فيجب البداءة بصلاة الوقت لئلا تفوت الأخرى . ولو تذكر الفائتة بعد ما شرع في صلاة الوقت أتمّها ثم قضى الفائتة . ويستحبّ أن يعيد صلاة الوقت بعدها ، ولا يجب . وقال أبو حنيفة رحمه الله : يجب الترتيب في قضاء الفوائت ما لم تزد على صلاة يوم الجمعة حتى قال : ولو تذكر في صلاة الوقت فائتة تركها اليوم يبطل فرض الوقت ، فيقضي الفائتى ، ثم يعيد صلاة الوقت إلا أن يكون الوقت ضيِّقاً فلا يبطل ، واستدل بالآية والخبر والقياس والأثر . أما الآية فقوله تعالى : { أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس } [ الإسراء : 78 ] أي عند دلوك الشمس ، فالمعنى : أَقِم الصَّلاَةَ عِنْدَ تَذْكرها ، وذلك يقتضي وجوب الترتيب . وأما الخبر فقوله عليه السلام : « مَنْ نَسِيَ صَلاَةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَها » والفاء للتعقيب . وروي في الصحيحين « أنَّ عُمَرَ بن الخطاب جاء إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ الخندق فجعَلَ يَسُبُّ كفارَ قريش ويقول : والله يا رسول الله ما صلَّيْتُ العصرَ حتَّى كادت الشَّمْسُ تغربَ . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » وَأنَا والله ما صلَّيْتُهَا بعد « قال : فنزل إلى بُطْحَان فَصلى العصرَ ( بَعْدَ ما غَرَبَت الشمسُ ) ثم صلى بعدها المغرب » والاستدلال به من وجهين :
أحدهما : أنه قال : « صَلُّوا كَمَا رَأيْتُمُونِي أُصَلِّي » وقد صلى الفوائت على الولاء فيجب علينا اتباعه .
والثاني : أن فعلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج مخرج البيان للمجمل كان حجة ، وهذا الفعل خرج بياناً لمجمل قوله : « أَقِيمُوا الصَّلاةَ » ولهذا قالوا : إن الفوائت إذا كانت قليلة يجب مراعاة الترتيب فيها ، فإذا كثرت سقط الترتيب للمشقة . وأما الأثر : فرُوِي عن ابن عمر أنه قال : « مَنْ فاتَهُ صلاةٌ فَلَمْ يَذْكُرْهَا إلا في صَلاةِ الإمام فليمض في صلاته ، فإذَا قَضَى صلاتَه مع الإمَام يُصَلِّي ما فاته ، ثم ليعُد التي صلاها مع الإمام » وروي ذلك مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
وأما القياس : فإنهما صلاتا فرض جمعهما وقت واحد في اليوم والليلة ، فأشبهتا صلاتي عرفةٍ والمزدلفة ، فلما لم يجب إسقاط الترتيب فيهما ، وجي أن يكون حكم الفوائت فيما دون اليوم والليلة كذلك .
واحتج الشافعي رحمه الله بما روى أبو قتادة : « أنَّهُمْ لَمَّا نَامُوا عَنْ صَلاَةِ الفَجْرِ ثُمَّ انْتَبَهُوا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يقُودُوا رَوَاحِلَهُم ثُمَّ صَلاَّهَا » ولو كان وقت التذكير معيناً للصلاة لما جاز ذلك ، فعلمنا أن ذلك الوقت وقت لتقرر الوجوب عليه ، لكن لا على سبيل التضييق بل على سبيل التوسع ، وإذا ثبت هذا فنقول : إيجاب قضاء الفوائت ، وإيجاب أداء فرض الوقت الحاضر يجري مجرى التخيير بين الواجبين ، فوجب أن يكون المكلف مخيراً في تقديم أيهما شاء ، ولأنه لو كان الترتيب واجباً في الفوائت لما سقط بالنسيان ، ألا ترى أنه إذا صلى الظهر والعصر بعرفة في يوم غيْم ، ثم تبين أنه صلى الظهر قبل الزوال ( والعصر بعد الزوال ) فإنه يعيدهما جميعاً ، ولم يسقط الترتيب بالنسيان لما كان شرطاً فيهما ، فها هنا أيضاً لو كلن الترتيب شرطاً فيهما لما كان يسقط بالنسيان .
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
قوله تعالى : { إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا } .
( لمَّا خاطب موسى عليه السلام بقوله : « فَاعْبُدْنِي وَأَقِم الصَّلاَةَ لِذِكْرِي » أتبعُه بقوله : « إنَّ السَّاعَة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيَها » ، وما أليق هذا بتأويل من تأوّل قوله : « لِذِكْرِي » أي لأذكرك بالإثابة والكرامة فقال عقيب ذلك « إنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ » لأنها وقت الإثابة ووقت المجازاة ، ثم قال : « أَكَادُ أُخْفِيَهَا » . العامة على ضم الهمزة من « أَخْفِيَها » .
وفيها تأويلات :
أحدها : أن الهمزة في « أُخْفِيهَا » للسلب والإزالة ، أي : أزيل خفاءها نحو : أَعْجَمْتُ الكتابَ أي : أزلت عجمتَه ، وأشكيتُه أي أزلت شكواه ، ثم في ذلك معينان :
أحدهما : أن الخفاءَ بمعنى ( الستر ) ، ومتى أزال سترها فقد أظهرها ، والمعنى : أنها لتحقّق وقوعها وقربها أكاد أظهرها لولا ما تقتضيه الحكمة من التأخير .
والثاني : أن الخفاءَ هو الظهور كما سيأتي ، والمعنى : أزيل ظهورها ، وإذا أزال ظهورها فقد استترت ، والمعنى : أن لشدّة إبهامها أكادُ أخفيهَا فلا أظهرها ألبتة وإن كان لا بد من إظهارها ، ولذلك يوجد في بعض المصاحف كمصحف أُبَيّ : « أَكَادُ أُخْفِيَهَا من نفسي فكيف أظهركم عليها » وهو على عادة العرب في المبالغة في الإخفاء ، قال الشاعر :
3644- أَيَّامَ تَصْحَبُنِي هِنْدٌ وَأُخْبِرُهَا ... مَا كِدْتُ أَكْتُمُهُ عَنِّي مِنَ الخَبَرِ
وكيف يتصوّر كتمانه من نفسه؟ قال القاضي : هذا بعيد ، لأن الإخفاء إنما يصح ممن يصح له الإظهار ، وذلك مستحيل عليه تعالى ، لأن كلَّ معلومٍ له ، فالإظهار والإسرار فيه مستحيل . ويمكن أن يُجاب بأن ذلك واقع على التقدير ، بمعنى لو صح مني إخفاؤه عن نفس أخفيته عني ، والإخفاء وإن كان محالاً في نفسه إلا أنه يمتنع أن يذكر على هذا التقدير ، مبالغة في عدم إطلاع الغير عليه .
والتأويل الثاني : أن ( كَادَ ) زائدة قاله ابن جبير ، وأنشد غيره شاهداً عليه قول زيد الخيل :
3645- سَريعٌ إلَى الهَيْجَاءِ شَاكٍ سِلاَحَهُ ... فَمَا إنْ يَكَادُ قِرْنُهُ يَتَنَفَّسُ
وقول الآخر :
3646- وَأَنْ لا أَلُومُ النَّفْسَ مِمَّا أَصَابَنِي ... وَأَنْ لاَ أَكَادُ بالَّذِي نِلْتُ أنْجَحُ
ولا حجة في شيء منه .
والتأويل الثالث : أنَّ الكيدَ ورد بمعنى الإرادة ، قاله الأخفش وجماعة ، وهو قول إبِي مسلم ، فهو كقوله : « كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ » ومن أمثالهم المتداولة « لا أفْعَلُ ذَلِكَ وَلا أَكَادُ .
أي : لا أُريد أَنْ أفعله ، وهذا ) لا ينفع فيما قصدوه .
التأويل الرابع : أنَّ خبرها محذوف ، تقديره : أكادُ آتِي بها لقُرْبِها ، وأنشدوا قول ضابئ البرجمي :
3647- هَمسْتُ وَلَمْ أفْعَلْ وكِدْتُ وَلَيْتَنِي ... تَرَكْتُ عَلى عُثْمَانَ تَبْكِي حَلاَئِلُهُ
أي : وكدت أفعل . فالوقف على » أَكَادُ « والابتداء ب » أُخْفِيَها « ، واستحسنه أبو جعفر .
وذكر ابن الخطيب هنا سؤالاً : فقال : إنَّ ( كادَ ) نفيه إثبات وإثباته نفي ، قال تعالى : » وَمَا كَادُوا يَفْعَلُون « ، أي : ففعلوا ذلك ، فقوله : » أكَادَ أُخْفِيَها « يقتضي أنه ما أخفاها .
وذلك باطل لوجهين :
أحدهما : لقوله تعالى : { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } [ لقمان : 34 ]
الثاني : إنَّ قوله : { لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى } إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار . ثم أجاب بوجوه : الأول : أنَّ « كَادَ » موضوع للمقاربة فقط من غير بيان النفي والإثبات ، فقوله : « أَكَادُ أُخْفِيها » معناه : قرب الأمر فيه من الإخفاء . وأمَّا أنَّه هل حصل ذلك أو ما حصل فهو غير مستفاد من اللفظ بل بقرينة قوله : { لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى } فإن ذلك إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار .
الثاني : أنَّ « كَادَ » من الله : وجب ، فمعنى قوله : أَكَادُ أُخْفِيَها « أي : أنا أُخْفِيها عن الخلق ، كقوله : { عسى أَن يَكُونَ قَرِيباً } [ الإسراء : 51 ] أي هو قريبٌ قاله الحسن . وذكر باقي التأويلات المتقدمة .
وقرأ أبُو الدرداء وابن جبير والحسن ومجاهد وحميد : » أَخْفِيَها « بفتح الهمزة والمعنى : أظهرها بالتأويل المتقدم ، يقال : خَفَيْتُ الشيء : أظهرتُه وأخفيتُه سترتُه هذا هو المشهور وقد نقل عن أبي الخطاب أنَّ خَفَيْتُ وأَخْفَيْتُ بمعنى . وحكى عن أبي عبيد أَنَّ أخْفَى من الأضداد يكون بمعنى أظْهَرَ وبمعنى سَتَرَ . وعلى هذا تتخذ ( القراءتان ) . ومن مجِئ خَفَيْتُ بمعنى أظهرت قول امرئ القيس :
3648- خَفَاهُنَّ مِنْ أَنْفَاقِهِنَّ كَأَنَّمَا ... خَفَاهُنَّ وَدْقٌ مِنْ عِشِيٍّ مُجْلِّبِ
( وقول الآخر :
3649- فَإنْ تَدْفِنُوا الدَّاءَ لاَ نُخْفِهِ ... وَإنْ تُوقِدُوا الحَرْبَ لا نَقْعُدِ )
قال الزجاج : وهذه القراءة أبْيَنُ ، لأن معناها : أكادُ أَظْهِرُها ( فيفيد أنه قد أخفاها ) . والحكمة في إخفاء الساعة وإخفاء وقت الموت : أنَّ الله تعالى وعد قبلها التوبة عند قربهما ، فلو عرف وقت الموت لاشتغل بالمعصية إلى وقت قرب ذلك الوقت ثم يتوب فيتخلص من عقاب المعصية ، فتعريف وقت الموت كالإغراء بفعل معصية وهو لا يجوز . قوله : » لِتُجْزَى « هذه لام كي ، وليست بمعنى القسم أي : لِتُجْزَيَّن كما نقله أبو البقاء عن بعضهم ، وتتعلق هذه اللامِ بأُخْفِيها . وجعلها بعضهم متعلقة ب ( آتِيَةٌ ) ، وهذا لا يتم إلا إذا قدرت أن » أكَادُ أُخْفِيِهَا « معترضة بين المتعلق والمتعلق به ، أما إذا جعلتها صفة ( آتِيَةٌ ) فلا يتم على مذهب البصريين ، لأن اسم الفاعل متى وصف لم يعمل فإن عمل ثم وصف جاز .
وقال أبو البقاء : وقيل : ب ( آتِيَةٌ ) ، ولذلك وقف بعضهم على ذلك وقفة يسيرة إيذاناً بانفصالها عن ( أخفيها ) .
قوله : » بِمَا تَسْعَى « متعلق ب » لِتُجْزَى « . و » مَا « يجوز أن تكون مصدرية أو موصولة اسمية ، ولا بد من مضاف ، أي : لِتُجْزَى بعقاب سعيها ، أو : بعقاب ما سعته .
فصل
لمَّا حكم بمجيء الساعة ذكرَ الدليلَ عليه ، وهو أنه لولا القيامة لما تميز المطيع من العاصي ، وهو المعنيُّ بقوله :
{ أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار } [ ص : 28 ] .
واحتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الثواب مستحق على العمل ، لأن ( الباءَ ) للإلصاق ، فقوله : « بِمَا تَسْعَى » يدل على أن المؤثر في ذلك الجزاء هو ذلك السعي واحتجوا بها أيضاً على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى ، لأن الآية صريحة في إثبات سعي العبد ، ولو كان الفعل مخلوقاً لله تعالى لم يكن للعبد سعي ألبتة « .
قوله : » فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا « من لا يؤمن هو المنهي صورة ، والمراد غيره ، فهو من باب : لا أريَنَّك هَهُنَا . وقيل : إن صدَّ الكافرِين عن التصديق بها سبب للتكذيب ، فذكر السبب ليدل على المسبب . والضميران في » عَنْهَا « و » بِهَا « للسَّاعة قاله ابن عباس : وذلك أنه يجب عود الضمير إلى أقرب مذكور وهو هنا الساعة . وقيل : للصلاة .
وقال أبو مسلم : الضمير في ( عَنْهَا ) للصَّلاة ، وفي ( بِهَا ) للسَّاعة ، قال : وهذا جائز في اللغة ، فالعرب تلف الخبرين ثم ترمي بجوابهما جملة ليرد السامع إلى كل خبر حقه .
وأجيب بأنَّ هذا إنما يصار إليه عند الضرورة ولا ضرورة ( ههنا ) .
قوله : » فَتَرْدَى « يجوز فيه أن ينتصب في جواب النهي بإضمار » أَنْ ) وأن يرتفع على خبر ابتداء مضمر تقديره : فَأَنْتَ تَرْدَى .
وقرأ يحيى : « تَرْدَى » بكسر التاء ، وقد تقدم أنها لغة والرَّدَى الهلاك يقال : رَدِيَ يَرْدَى رَدّى ، قال دُرَيْد ( بن الصمة ) :
3650- تَنَادَوْا فَقَالُوا أَرْدَتِ الخَيْلُ فَارِسَاً ... فَقُلْتُ أَعْبُدَ اللهِ ذَلِكُمُ الرَّدِي
فصل
الخطابُ في قوله : « فَلاَ يَصُدَّنَّكَ » يحتمل أن يكون مع موسى ، وأن يكون مع محمد - عليهما السلام- . والأقرب أنه مع موسى - عليه السلام- ، لأنَّ جميع الكلام خطاب له . وعلى كلا الوجهين فلا معنى لقول الزجاج : إنَّه ليس بمراد وإنما أريد به غيره ، وذلك لأنه ظن أن النبيَّ - عليه السلام- لما لم يجز عليه مع النُّبَوَّة أن يصده أحد عن الإيمان بالساعة لم يجز أن يكون مخاطباً بذلك ، وليس الأمر كما ظن ، لأنه إذا كانَ مكلَّفاً بأنْ لا يقبلَ الكفر بالساعة من أحد وكان قادراً على ذلك جاز أن يخاطب به ، ( ويكون المراد ) هو وغيره . ويحتمل أيضاً أن يكون المراد بقوله : « فَلا يَصُدنَّكَ عَنْهَا » النهي عن الميل إليهم ومقاربتهم .
فصل
المقصودُ نَهْيُ موسى - عليه السلام- عن التكذيب بالبعث ، ولكن الظاهر اللفظ يقتضي نهيَ منْ لم يؤمن عن صدِّ موسَى- عليه السلام- وفيه وجهان :
أحدهما : أن صدَّ الكافر عن التصديق بها سببٌ للتكذيب ، فذكر السبب ليدل على المسبب . ( ذلك أن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرَّجُل في الدِّين ، فذكر المسبب ليدل حمله على السبب ) كقولهم : لاَ أضرَيَنَّكَ هَهُنَا .
المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته فهكذا ههنا ، كأنه قيل : لا تكن رخواً بل كن في الدين شهيداً .
فصل
دلَّت الآية على وجوب تعلم علم الأصول ، لأن قوله : « فَلاَ يَصُدَّنَّكَ » يرجع معناه إلى صلابته في الدين ، وتلك الصلابة إن كان المراد بها التقليد لم يتميز المبطل فيه عن المحق ، فلا بد وأن يكون المراد بهذه الصلابة كونه قوياً في تقرير الدلائل ، وإزالة الشبهات حتى لا يتمكن الخصم من إزالته عن الدين بل يكون هو متمكناً من إزالة المبطل عن بطلانِهِ .
( فصل )
قوله : « فَلاَ يَصُدَّنَّكَ » يدل على أن العبادَ هُمُ الذين يصدون ، ولو كان تعالى هو الخالق لأفعالهم لكان هو الصَّاد دونهم ، فدل ذلك على بطلان القول بالجبر . وأجيب بالمعارضة بمسألة العلم ( والداعي ) . ثم قال تعالى : « واتَّبَعَ هَوَاهُ » والمعنى أن منكر البعث إنَّما أنكره اتباعاً للهوى لا للدليل ، وهذا من أعظم الدلائل على فساد التقليد ، لأن المقلّد متبعٌ للهوى ( لا للحجة ) ثم قال : « فَتَرْدَى » أي : فتهلك .
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)
قوله تعالى : { واذكر فِي الكتاب } الآية . ( مَا ) مبتدأة استفهامية و « تِلْكَ ) خبره ، و » بِيَمِينِكَ « متعلق بمحذوف ، لأنه حال كقوله : » وَهَذَا بَعْلِي شَيْخَاً « ، والعامل في الحال المقدرة معنى الإشارةَ وجوَّز الزمخشري أن تكون ( تِلْكَ ) موصولة بمعنى ( التي ) و ( بِيَمِينِكَ ) صلتها . ولم يذكر ابنُ عطية غيره . وهذا ليس مذهب البصريين أنهم لم يجعلوا ( من أسماء ) الإشارة موصولاً ( إذَا ) بشروط تقدمت . وأما الكوفيون فيجيزون ذلك جميعها ، ومنه هذه الآية عندهم أي : وَمَا التي بيمينك وأنشدوا :
3651- نَجَوْتَ وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ ... أي والذي تحملين .
وقال الفراء معناه : وَمَا هذِهِ التي فِي يمينِكَ .
فصل
السؤال إنما يكون لطلب العلم ، وهو على الله تعالى محال . فما فائدة قوله : » وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ « ؟
والجواب فيه فوائد ، الأولَى : حكمةُ هذا السؤال تنبيهُهُ وتَوْقيفُه على أنها عصا ، حتى إذا قلبها حية عَلِمَ أنها معجزةٌ عظيمةٌ ، وهذا على عادة العرب يقول الرجل لغيره : هَلْ تَعْرِف هَذَا؟ وهو لا يشك أنه يعرفه ، ويريد أن ينضم إقراره بلسانه إلى معرفته بقلبه .
الثانية : أن يقرِّرُ عنده أنها خشبة حتى إذا قلبها ثعباناً لا يخافُها .
الثالثة : أنه تعالى لمَّا أراه الأنوار المتصاعدة من الشجرة إلى السماء ، وأسْمَعَهُ كلام نفسه ، ثم أورد عليه التكليف الشاق ، وذكر له المعاد ، وختم ذلك بالتهديد العظيم ، فتحيَّر موسى - عليه السلام- ودُهِشَ ، ( فقيل له : » وَمَا تِلْكَ بِيَمِينكَ « ، وتكلم معه بكلام البشر إزالةٌ لتلك الدهشة والحيرة ) .
فصل هذا خطاب من الله مع موسى بلا واسطة ، ولم يحصل ذلك لمحمد عليه السلام فيلزم أن يكون موسى أفضَل من محمد عليهما السلام .
فالجوابُ : أنَّه تعالى كما خاطبَ موسَى فقد خاطب محمداً في قوله : » فَأَوْحَى إلَى عِبْدِهِ مَا أَ وْحَى « إلا أن الفرق أنَّ الذي ذكره مع محمد كان سراً لم يستأهل له أحداً من الخلق . وأيضاً إن كان موسى تكلم معه فأمةُ محمد يخاطبون الله تعالى في كل يوم مرات على ما قاله عليه السلام : » المُصَلَّى يُنَاجَي رَبَّهُ « والرَّبُ يتكلم مع آحاد أمة محمد يوم القيامة بالتسليم والتكريم لقوله : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } قوله : » هِيَ عَصَايَ « هِيَ يعودُ على المستفهم عنه .
وقرأ العامة » عَصَايَ « بفتح الياء . والجَعْفَرِيّ وابنُ أبي إسحاق » عَصِيَّ « بالقلب والإدغام . وقد تقدَّم توجيه ذلك أوّل البقرة ، ولِمَنْ تنسب هذه اللغة والشعر المروي في ذلك .
وروي عن أبي عمرو ابن أبي إسحاق أيضاً ( والحسن » عِصَاي « بكسر الياء لالتقاء الساكنين ، وعن أبي إسحاق ) » عِصَايْ « بسكونها وصلاً وقد فعل ذلك نافع مثل ذلك في » مَحْيَايَ « فجمع بين ساكنين وصلاً ، وقد تقدم الكلام هناك .
قوله : « أَتَوَكَّأُ » يجوز أن يكون خبراً ثانياً ل « هِيَ » ويجوز أنْ يكونَ حالاً إمَّا مِنْ « عَصَايَ » وإمَّا مِنْ « الياء » وفيه بُعدٌ ، لأن مجيء الحال من المضاف إليه قليل ، وله مع ذلك شروط ليس فيه شيء منها هنا .
ويجوز أن تكون مستأنفة . وجوَّز أبو البقاء نقلاً عن غيره : أن يكون « عَصَايَ » منصوبة بفعل مقدر ، و « أَتَوَكَّأُ » هو الخبر . ولا ينبغي أن يقال ذلك .
والتَّوكّؤُ : التحامُلُ على الشيء ، وهو بمعنى الاتِّكاء ، وقد تقدم تفسيره في يوسف فهما من مادة واحدة ، وذكر هنا ، لاختلاف وزنيها .
والهَشُّ بالمعجمية : الخَبْطُ ، يقال : هَشَشْتُ الوَرَقَ أَهُشُّهُ أي : خبطته ليسقط ، والمعنى : أَخْبِطُ بِهَا وَاَضْرِبُ أغصانَ الشجر ليسقط ورقُهَا على غنمي لتأكله وأما هَشَّ يَهِشُّ- بكسر العين في المضارع ، فبمعنى البشاشة وقد قرأ النخعي بذلك ، فقيل : هو بمعنى : أَهُشُّ- بالضم- والمفعول محذوف في القراءتين أي : أهُشُّ الورقَ أو الشجرَ وقيل : هو في هذه القراءة من هَشَّ هشاشةً إذا مال . وقرأ وقرأ الحسن وعكرمة : « وأَهُسُّ » بضم الهاء والسين المهملة وهو السُّوْقُ ، ومنه الهَسُّ ( والهَسَّاسُ ) وعلى هذا فكان ينبغي أن يتعدى بنفسه ، ولكنه ضمَّن معنى ما يتعدى بعلى وهو أقوم ( وَأَهْوَنُ ) .
ونقل ابن خالوية عن النخعي أنه قرأ « وأُهِسُّ » بضم الهمزة وكسر الهاء من ( أَهَسَّ ) رباعياً بالمهملة . ونقلها عنه الزمخشري بالمعجمة ، فيكون عنه قراءتان ونقل صاحب اللوائحِ عن مجاهد وعكرمة « وأهُشُ » بضم الهاء وتخفيف الشين ، قال ولا أعرف لها وجهاً إلا أن يكون قد استثقل التضعيف مع تفشي الشين فخفف ، وهي بمعنى قراءة العامة .
وقرأ بعضهم : « غَنَمِي » ( بسكون النون ) ، وقرئ « عَلَيَّ » بتشديد الياء والمْآرِبُ : جمع مَأْرُبَة ، وهي الحاجة وكذلك الإرْبَة أيضاً . وفي ( راء ) المَأرُبَة الحركات الثلاث .
وإنما قال : « مَآرِب » في معنى جماعة ، فكأنه قال جماعة من الحاجات أخرى ، ولم يقل أخر لرؤوس الآي ( و « أُخْرَى » ) كقوله : « الأسْمَاءُ الحُسْنَى » وقد تقدَّم قريباً .
قال أبو البقاء : ولو قال : أخر لكان على اللفظ . يعني أُخَر كقوله : « فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَر » بضم الهمزة وفتح الخاء واللفظ لفظ الجمع . ونقل الأهوازيّ عن شيبة والزهري : مَارِبُ « قال : بغير همز كذا أطلق والمراد بغير همز محقق بل مسهل بَيْنَ بَيْن وإلا فالحذف بالكلية شاذ .
فصل
قيل : كما قال : » هِيَ عَصَايَ « فقد تم الجواب إلا أنه عليه السلام ذكر الوجوه الآخر ، لأنه كان يجب المكالمة مع ربه تعالى ، فجعل ذلك كوسيلة إلى تحصيل هذا الغرض .
» أتَوكَّأُ عَلَيْهَا « التوَكُّؤْ والاتِّكَاءُ واحد كالتوقي والاتقاء ، أي أعتمد عليها إذا عييت ، أو وقفت على رأس القطيع » وأهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي « أي : أضرب أغصان الشجر ليسقط ورقها على الغنم ( فتأكله ) .
« وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرَى » أي حوائج ومنافع ، وإنما أجمل في المآرب رجاء أن يسأله ربه عن تلك المآرب ، فيسمع كلام الله مرة أخرى ، ويطول أمر المكالمة بسبب ( ذلك ) .
قال وهب : كانت ذا شعبتين ( ومحجن ، فإذا طلبَ ثمرَ الشجرة جناه بالمحجن ، فإذا حاول كسره لواه بالشعبتين ) . فإذا سارَ وضعهَا على عاتقه يعلق عليها أداته من القوس والكنانة والثياب ، وإذا كان في البرية ركزها وألقى عليها كساء فكان ظلاً .
وقيل : كانَ فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطولُ طولَ البئر ، وتصير شعبتاها دلواً ، ويصيران شمعتين في الليل وإذا ظهر عدو حاربت عنه ، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت ، وكان يحمل عليها زاده وماءه وكانت يابسة ويركزها فينبع الماء ، وإذا رفعها نضب ، وكان تقيه الهوام قال مقاتل : كان اسمها نبعة .
وروي عن ابن عبَّاس : أنها كانت تماشيه وتحدثه .
قال الله تعالى : « ألْقِهَا يَا مُوسَى » أي انبذها .
قال وهب ظن موسى أنه يقول أرفُضْهَا « فَألْقَاهَا » على وجه الأرض ثم ينظر إليها « فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى » صفراء أعظم ما تكون من الحيات تمشي بسرعة لها عرف كعرف الفرَس ، وكان بين لحييها أربعون ذراعاً ، صارت شدقين لها والمِحجن عنقاً يهتز ، وعيناها متقدان كالنار ، وتمر بالصخرة العظيمة مثل الخلفة من الإبل فتلتقمها ، وتقصف الشجرة العظيمة بأنيابها ، ويسمع لأسنانها ( صريف عظيم ) .
وهذا خارق عظيم وبرهان قاطع على أن الذي يكلمه هو الذي يقول للشيء كُنْ فيكون .
فصل
والحكمة في قلب العصا حيَّةً في ذلك الوقت من وجوه :
أحدها : لتكون معجزةً لموسى -عليه السلام- يعرف بها نبوة نفسه ، لأنه عليه السلام -إلى هذا الوقت ما سمع إلا النداء . والنداء وإن كان مخالفاً للعادات إلا انه لم يكن معجزاً ، لاحتمال أن يكون ذلك من عادات الملائكة أو الجن ، فقلب العصا حيَّةً ليكون دليلاً قاهِراً على الممعجزة .
الثاني : أنه تعالى عرضَها عليه ليشاهدوها أولاً ، فإذا شاهدها عند فرعون لا يخافها .
وثالثها : أنه كان راعياً فقيراً ثم نُصِّب للمِنْصبِ العظيمِ فلعله بقي يتعجب من ذلك ، فقلب العصا حيَّةً تنبيًّا على أني لما قدرت على ذلك ، فكيف يستبعد مني نصرة مثلك في إظهار الدين .
فإنْ قيل : كيف قال ههنا « حَيَّة » وفي موضع آخر « جَان » وهو الحية الخفية الصغيرة ، وقال في موضع « ثُعْبَانٌ » وهو أكبر ما يكون من الحيات؟
فالجواب : أن الحيَّة اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير وأما الجَانَّ فقيل : عبارة عن ابتداء حالها فإنها كانت حيَّةً على قدر العصا ثم تورمت وتزايدت وانتفخت حتى صارت ثعباناً .
وقيل : كانت في عظم الثعبان وسرعة الجانِّ لقوله تعالى : { فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ } [ النمل : 10 ، القصص : 31 ] .
( و « تسعى » ) يجوز أن تكون خبراً ثانياً عند من يجوز ذلك ويجوز أن تكون صفة ل « حَيَّةً » فلما عاين موسى ذلك « وَلَّى مُدْبِراً » ، وهرب ثم ذكر ربه فوقف استحياءً فنودي : « خُذْهَا فَلاَ تَخَفْ سُنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا » ( وهيبتها ) « الأُولَى » أي نردها عصا كما كانت . قوله : « سِيرَتَهَا » في نصبها أوجه :
أحدها : أن تكون منصوبةً على الظرف ، أي في سيرتها أي : طريقتها .
الثاني : أن تكونَ منصوبة على البدل من « ها » « سَنُعِيدُهَا » بدل اشتمال لأن السيرة الصفة ، أي سنعيدها صفتها وشكلها .
الثالث : أنها منصوبةٌ على إسقاط الخافض أي : إلى سيرتها .
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون مفعولاً من عَادَ أي عادَ إليه ، فيتعدى لمفعولين ، ومنه بيت زهير :
3652- وَعَادَكَ أَنْ تُلاَقِيهَا عَدَاءُ ... وهذا هو ( معنى قول من قال : إنه على إسقاط ( إلى ) و ) كان قد جوَّز أن يكون ظرفاً كما تقدَّم ، إلا أن أبا حيَّان ردَّه بأنّه ظرف مختص فلا يصل إليه الفعل إلا بواسطة ( في ) إلا فيما ( شذ . والسيرَةُ ) فِعْلَة تدل على الهيئة من السَّيْر كالركبة من الرُّكُوب ، ثم اتسع فعبر بها عن المذهب والطريقة ، قال خالد الهذلي :
3653- فَلاَ تغْضَبَنْ مِنْ سِيرَةٍِ أَنْتَ سِرْتَهَا ... فَأوَّلَ رَاضٍ سِيرَةً مَنْ يَسِيرُهَا
وجوَّز أيضاً أن ينتصب بفعل مضمر ، أي : يسير سيرتها الأولى ، وتكون هذه الجملة المقدرة في محل نصب على الحال؛ أي : سَنُعيدُهات سائرةً سيرتَهَا .
فإن قيل : لمَّا نوديَ يا موسَى ، وخصَّ بتلك الكرامات العظيمة وعلم أنه مبعوث من عند الله تعالى فلماذا خاف؟ فالجواب من وجوه :
أحدها : أن ذلك الخوف كان من نفرة الطبع لأنه -عليه السلام- ما شاهد مثل ذلك قط ، وهذا معلوم بدلائل العقول . قال أبو القاسم الأنصاري : وذلك الخوف من أقوى الدلائل على صدقه في النبوة ، لأن الساحر يعلم أن الذي أتى به تمويه فلا يخافه البتة .
وثانيها : خاف لأنه عليه السلام عرف ما لقي آدم منها .
وثالثها : أن مجرد قوله « وَلاَ تَخَفْ » لا يدل على حصول الخوف كقوله : { وَلاَ تُطِعِ الكافرين } [ الأحزاب : 1 ، 48 ] لا يدل على وجود تلك الطاعة ، لكن قوله : { فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً } [ النمل : 10 ، القصص : 31 ] يدل عليه .
فصل
قال المفسرون : كانَ علَى موسى مَدْرَعة من صوف قد خللها بعيدان . فلما قال له : « خُذْهَا » لف طرف المَدْرَعَةِ على يده ، فأمره الله أن يكشف يده ، فكشف . وقيل : إن مَلَكاً قال : أرأيت لو أذن الله بما تحاذره أكانت المدْرعة تغني عنك شيئاً؟ فقال : لا ولكني ضعيف ، ومِنْ ضَعْفٍ خُلِقَتُ ، فكشف يده ، ثم وضعهَا في فم الحية فإذا هي عصا كما كانت ، ويده في شعبتيها في الموضع الذي يضعها إذا تَوَكَّأَ . واعلم أن إدخاله يده في فم الحية من غير ضرر معجزة وانقلابها خشباً معجز آخر ، وانقلاب العصا حيَّة معجز آخر ، ففيها توالي معجزات المآرب التي تقدمت .
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)
قوله : { واضمم يَدَكَ إلى جناحكواضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ } لا بد هنا من حذف والتقدير : واضمم يَدَك تنضم وأخرجها تخرج ، فحذف من الأول والثاني وأبقى مقابلهما ليدلان على ذلك إيجازاً واختصاراً وإنما احتيج إلى هذا ، لأنه لا يترتب على مجرد الضم الخروج . وقوله : « بَيْضَاءَ » حال من فاعل تخرج .
قوله : « مِنْ غَيْرِ سُوءٍ » يجوز أن يكون متعلقاً ب « تَخْرُج » وأن يكون متعلقاً ب « بَيْضَاءَ » لما فيها من معنى الفعل حو ابيضت من غير سوء . ( ويجوز ) أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من الضمير في « بَيْضَاء » .
وقوله : : مِنْ غَيْرِ سُوءٍ « يسمى عند أهل البيان الاحتراس ، وهو أن يؤتى بشيء يرفع توهم مَنْ يتوهم غير المراد ، وذلك أن البياض قد يراد به البَرَص والبَهَق فأتى بقوله : » مِنْ غَيْرِ سُوءٍ « نفياً لذلك .
قوله : » آيَةً « فيها أوجه :
أحدها : أن يكون حالاً ، أعني أنها بدل من ب » بَيْضَاءَ « الواقعة حالاً .
الثاني : أنها حالٌ من الضمير في » بَيْضَاء « .
الثالث : أنها حالٌ من ( الضمير في ) الجار والمجرور .
والرابع : أنها منصوبة بفعل محذوف ، فقدره أبو البقاء : جعلنَاهَا آيَةً ، ( أو آتيناك ) آيةً . وقدره الزمخشري : خُذْ آيَةً ، وقدر أيضاً : دونك آية . ورد أبو حيان هذا ، لأن ذلك من باب الإغراء ، ولا يجوز إضمار الظروف في الإغراء . قال : لأن العامل حُذِف وناب هذا مكانه ، فلا يجوز أن يحذف النائب أيضاً ، وأيضاً فإن أحكامها تخالف العامل الصريح ، فلا يجوز إضمارها وإن جاز إضمارها وإن جاز إضمار الأفعال .
فصل
يقال لكل ناحيتين ، جَنَاحان كجناحي العسكر لطرفيه ، وجناحا الإنسان جانباه والصل المستعار منه جناحا الطائر ، لأنه يجنحها عند الطيران .
وجناحا الإنسان عَضُدَاه أي : اضمم يدّك إلى إبْطِكَ تخرج بيضاء نيرة مشرقة من غير سوء وعن ابن عباس : » إلى جَنَاحِكَ « أي إلى صدرك .
والأول أولى ، لأن يدي الإنسان يشبهان جناحي الطائر ، ولأنه قال : » تَخْرُج بَيْضَاءَ « ولو كان المراد بالجناح الصدر لم يكن لقوله » تَخْرُج « معنى . ومعنى ضم اليد إلى الجناح ما قاله في آية أخرى » وَأدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ « ، لأنه إذا أدخل يده في جيبه كان كأنه قد ضم يده إلى حناحه .
والسوءُ : الرداءة والقبح في كل شيء ، وكنّى عن البَرَص كما كنّى عن العورة بالسَّوْأَة ، والبرَرَص أبغضُ شيء إلى العرب ، فكان جديراً بأن يُكْنَى عنه بالسُّوء ، وكان عليه السلام شديد الأدمة فكان إذا أدخل يده اليمنى في جيبه ، وأدخلها تحت إبطه الأيسر وأخرجها فكانت تبرق مثل البرق ، وقيل : مثل الشمس ، من غير برص ، ثم إذا ردَّها عادت إلى لونها الأول .
« آيَةً أُخْرَى » دلالة على صدقك سوى العصا .
قوله : « لِنُريََكَ » متعلق بما دلَّت عليه « آيَةً » أي : دللنا بها لُنِرِيَكَ ، أو ب ( جَعَلْنَاهَا ) ، أو ب ( أتَيْنَاكَ ) المقدر . وقدره الزمخشري : لِنُرِيَكَ فِعْلَنا ذلك ، وجوَّز الحوفي أن يتعلق ب « اضْمُمْ » . وجوَّز غيرُه أن يتعلق ( بتَخْرُج ) . ولا يجوز أن يتعلق بلفظ آية ، لأنها قد وصفت . وقدره الزمخشري أيضاتً : لِنُرِيَكَ خُذْ هذه الآيةَ أيضاً .
قوله : « مِنْ آيَاتِنَا الكُبْرَى » .
يجوز أن يتعلق « مِنْ آيَاتِنَا » بمحذوف على أنه حال من « الكُبْرَى » حال كونها من آياتنا ، على هاذ مفعولاً ثانياً « لُنِريَكَ » والتقدير : « لُنِريَكَ المُبْرَى » حال كونها من آياتنا ، أي : بعض آياتنا ويجوز أن يكون المفعول الثاني نفس « مِنْ آيَاتِنَا » فيتعلق بمحذوف أيضاً ، و « الكُبْرَى » على هذه صفة ل « آيَاتِنَا » ووصف الجمع المؤنث غير العاقل وصف الواحد على حد « مَآربَ أُخْرَى » و « الأَسْمَاءُ الحُسْنَى » .
وهذان الوجهان قد نقلهما الزمخشري والحوفي ( وأبو البقاء ) واختار أبو حيَّان الثاني قال : لأنه يلزم من ذلك أن تكون آياته كلها هي الكبرى ، لأن ما كان بعض الآيات الكُبَر صدق عليه آية الكبرى ، لأنها هي المتصفة بأفْعَل التفضيل ، وأيضاً إذا جُعِلت « الكبرى » مفعولاً فلا يمكن أن يكون صفة للعصا واليد معاً ، إذ كان يلزم التثنية ، ولا جائز أن يخصَّ أحدهما بالوصف جون الأخرى ، لأن التفضيل في كل منهما .
فصل
قال المفسرون : قال : « لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكُبْرَى » ولم يقل : الكُبَر لرؤوس الآي . وقيل : فيه إضمار معناه : لُنِرِيَكَ من آياتنا الآية الكبرى ويدل عليه قول ابن عباس : كانت يد موسى أكبر آياته وهو قول الحسن قال : اليد أعظم في الإعجاز من العصا ، فإنه جعل « الكُبْرَى » مفعولاً ثانياً لنريك وجعل ذلك ( راجعاً للآية القريبة ، وقد ) ضُعِّفَ ذلك بأنه ليس في اليد إلا تغير اللون ، ( وأما العصا ففيها تغير اللون ) وخلق الزيادة في الجسم وخلق الحياة والقدرة والإعضاء المختلفة ، وابتلاع الشجر والحجر ، ثم عاجت عصا بعد ذلك ، فقد وقع التغير مرة أخرى في كل هذه الأمور فكانت العصا أعظم .
وأما قوله : « لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكُبْرَى » فقد ثبت أنه عائد إلى الكلام ، وأنه غير مختص باليد .
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)
قوله تعالى : { اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى } لما أظهر له الآيات عقبها بأنْ أرمه بالذهاب إلى فرعون ، وبيَّن العلة في ذلك ، وهو أنه طغى ، وإنما خص فرعون بالذكر مع أنه بُعِثَ موسى إلى الكل لأنه ادعى الإلهية وتكبًّر ، وكان متبوعاً فكان ذكره أولى . ومعنى « طَغَى » جاوز الحد في العصيان والتمرد ، فبلِّغْهُ رسالتي وادْعُهُ إلى عبادتي وحذِّرْهُ نِقْمتي .
قال موسى : « رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي » وسّعه للحق .
( قال ابن عباس ) : يريد حتى لا أخاف غيرك . والسبب في هذا السؤال ما حكى الله تعالى عنه في موضع آخر { وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي } [ الشعراء : 13 ] وذلك أن موسى كان يخاف فرعون خوفاً شديداً ، لشدة شوكته وكثرة جنوده ، وكان يضيق صدراً ( بما كُلِّفَ ) من مقاومة فرعون فسأل الله تعالى أن يوسع قلبه حتى يعلم أن أحداً لا يقدر على مضرته إلا بإذن الله تعالى ، وإذا علم ذلك لم يَخَفْ فرعون وشدة شوكته وكثرة جنوده .
( قوله : « لي ) صَدْرِي » متعلق ب « اشْرَحْ » ، قال الزمخشري : فإن قلت : ( لي ) في قوله : « اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي » ما جدواه والأمر مستتب بدونه . قلت : قد أبهم الكلام أولاً فقال : « اشْرَحْ لِي » « وَيَسِّرْ لِي » فعلم أن ثَمَّ مشروحاً وميسراً ، ثم بين ورفه الإبهام بذكرهما ، فكان ىكد لطلب الشرح لصده ، والتيسير لأمره .
ويقال : يَسَّرْتُهُ لكذا ، ومنه « فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى » ويسرت له كذا ، ومنه هذه الآية .
قوله : « وَيَسِّرْ لِي أمْرِي » أي سَهِّل عليَّ ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون . وذلك لأن كل ما يصدر من العبد من الأفعال ، والأقوال والحركات ، والسكنات فما لم يصر العبد مريداً له استحال أن يصير فاعلاً له ، فهذه الإرادة صفة محدثة ، ولا بد لها من فاعل ، وفاعلها إن كان هو العبد افتقر في تحصيل تلك الإرادة إلى إرادة أخرى ولزم التسلسل بل لا بد من الانتهاء إلى إرادة يخلقها مدبر العالم ففي الحقيقة هو الميسر للأمور .
قوله : « واحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي » ، وذلك أن موسى كان في حجر فرعون ذات يوم في صغره ، فلطم فرعون لطمةً ، وأخذ بلحيته ، فقال فرعون لآسية امرأته : إن هذا عدوِّي وأراد أن يقتلهن فقالت آسية : إنه صبي لا يَعْقِل ولا يميز جَرِّبْه إن شئت ، فجاء بطشتين في أحدهما جمر ، والآخر جوهر ، فوضعهما بين يدي موسى ، فأراد أن يأخذ الجوهر ، فأخذ جبريل عيله السلام يد موسى فوضعها على النار ، فأخذ جمرة فوضعها في فيه ، فاحترق لسانه ، ( وصارت عليه عقدة ) .
وقيل : قرَّبا إليه ثمرةً وجمرة ، فأخذ الجمرة فوضعها في فيه فاحترق لسانه .
[ قالوا ] : ولم تحترق اليد ، لأنها آلة أخذ العصا .
وقيل : كان ذلك التعقد خلقة فسأل الله تعالى إزالته . واختلفوا في أنه لِمَ طلب حل العقدة؟ فقيل : لئلا يقع في خلل في أداء الوحي . وقيل : لئلا يستخف بكلامه فينفروا عنه ولا يلتفتوا إليه . وقيل : لإظهار المعجزة كما أن حبس لسان زكريا عن الكلام كان معجزاً في حقه ، فكذا إطلاق لسان موسى -عليه السلام- معجز في حقه .
فصل
قال الحسن : إن تلك العقدة زالت بالكلية ، لقوله تعالى : « قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى » ، وقيل : هذا ضعيف ، لأنه عليه السلام لم يقل : واحْلُلْ العقدة من لساني بل قال : « واحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي » ، فإذا حل عقدة واحدة فقد آتاه الله سؤله ، والحق أنه انحل أكثر العقد وبقي منها شيء لقوله حكاية عن فرعون « أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِين » مع بقاء قدر من الانعقاد في لسانه وأجيب عنه بوجهين :
أحدهما : أن المراد بقوله : « وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ » أي لا يأتي ببيان وحجة .
والثاني : أن ( كَادَ ) بمعنى قَرُبَ . فلو كَانَ المراد هو البيان اللساني ، لكان معناه : أنه لا يقارب البيان ، فكان فيه نفي البيان بالكلية ، وذلك باطل ، لأنه خاطب فرعون وقومه ، وكانوا يفهموزن ، فكيف يمكن نفي البيان ، بل إنما قالوا ذلك تمويهاً ليصرفوا الوجوه عنه . واعلم أن النطق فضيلة عظيمة ، ويدل عليه وجوه :
الأول : قوله تعالى : { خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان } [ الرحمن : 3 ، 4 ] ، ولهذا قيل للإنسان : هو الحيوان الناطق .
الثاني : اتفاق العقلاء على تعظيم أمر اللسان قال زهير :
3654- لِسَانُ الفَتَى نِصْفَ وَنصْفٌ فؤاده ... فَلَمْ يَبْقَ إلاَّ صُورَةُ اللَّّحْمِ وَالدَّمِ
وقالوا : ما الإنسان لولا اللسان إلا بهيمة مرسلة . أي لو ذهب النطق اللساني لم يبق من الإنسان إلا القدر الحاصل في البهائم .
وقالوا : المَرْءُ بأصغريه أي قلبِه ولسانِه .
وقالوا : « المَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ » .
الثالث : أن في مناظرة آدم -عليه السلام- مع الملائكة ما ظهرت الفضيلة إلا بالنطق حيث قال : { يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض } [ البقرة : 33 ] .
قوله : « مِنْ لِسَانِي » يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل « عُقْدَة » أي : من عقد لساني ، ولم يذكر الزمخشري غيره . ويجوز أن يتعلق بنفس « احلُلْ » ، والأول أولى . قوله : « واجْعَلْ لِي وَزِيراً » يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً مقدِّماً و « وَزِيراً » ويجوز أن يكون متعلقاً بالجعل ، و « هَارونَ » بدل من « وَزِيراً » وجوَّز أبو البقاء أن يكون « هَارُونَ » عطف بيان ل « وَزيراَ » . ولم يذكر الزمخشري غيره . ولما حكى أبو حيان هذا لم يعقبه بتنكير ، وهو عجب منه فإنَّ عطفَ البيان يُشترط فيه التوافق تعريفاً وتنكيراً ، وقد عرفت أن وزيراً نكرة ، وهارون معرفة .
والزمخشري قد تقدَّم له مثل ذلك في قوله تعالى : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } [ آل عمران : 97 ] ، وتقدم الكلام معه هناك ، وهو عائد هنا .
ويجوز أن يكون « هارون » منصوباً بفعل محذوف كأنه قال : « أخصُّ من بينهم هارون من بين أهلي ويجوز أن يكون » وَزيراً « مفعولاً ثانياً و » هارُونَ « هو الأول ، وقدم الثاني عليه اعتناء بأمر الوزارة . وعلى هذا فقوله : » لِي « يجوز أن يتعلق بنفس الجعل ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من » وَزِيراً « مفعولاً أول ، و » مِنْ أهْلِي « هو الثاني . وقوله : » لِي « مثل قوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] يعنون أنه به يتم المعنى . ذكر ذلك أبو البقاء .
ولما حكاه أبو حيان لم يعقبه بنكير ، وهو عجب ، لأن شرط المفعولين في باب النواسخ صحة انعقاد الجملة الاسمية ، وأنت لو ابتدأت بوزيرٍ وأخبرت عنه ب ( مِنْ أَهْلِي ) لم يجز ، إذ لا مسوِّغ للابتداء به . و » أَخشي « بدل أو عطف بيان ل » هَارُونَ « .
وقال الزمخشري : وإن جعل عطف بيان آخر جازِ وحَسُن .
قال أبو حيَّان : ويبعُدُ فيه عطفُ البيان ، لأن عطف البيانِ الأكثر فيه أن يكون الأول دونه في الشهرة ، وهذا بالعكس .
قال شهاب الدين : لم يُرِد الزمخشري أنَّ » أَخِيط عطفُ بيان ل « هَارُونَ » حتى يقول الشيخ : إن الأول وهو « هَاروُنَ » أشهر من الثاني وهو « أخِي » ، إنما عنى الزمخشري أنه عطفٌ بيان أيضاً ل « وزيراً » ، ولذلك قال : آخر ، ولا بد من الإتيان بلفظه ليعرف أنه لم يرد إلا ما ذكرته .
قال : « وَزيراً » و هَارُونَ « مفعولاً قوله : : اجْعَلْ » ، أوْ « لي وَزِيراً : معفولاه ، و » هَارونَ « عطفُ بيان للوزير ، و » أخِي « في الوجهين بدل من » هَاروُنَ « ، وإن جعل عطف بيان آخر جازَ وحَسُنَ فقوله : ( آخر ) يُعَينُ أن يكون عطفَ بيان لما جُعِل عنه عطف بيان قبل ذلك .
وجوَّز الزمخشري ( في » أَخِي « ) أن يرتفع بالابتداء ، ويكون خبره الجملة من قوله : » اشْدُدْ بِهِ « ، وذلك على قراءة الجمهور له بصيغة الدعاء ، وعلى هذا فالوقف على » هَارُونَ « . وقرأ ابن عامر » أَشْدُد « للمضارعة ، وجزم الفعل جواباً للأمر ، » وَأُشْرِكْهُ « بضم الهمزة للمضارعة ، وجزم الفعل نسقاً على ما قبله حكاية عن موسى : أنا أفعل ذلك . وقرأ الباقون بحذف همزة الوصل من الأول ، وفتح همزة القطع في الثاني على أنهما دعاء من موسى لربه بذلك ، وعلى هذه الجملة قد ترك فيها العطف خاصة دون ما تقدمها من جمل الدعاء وقرأ الحسن » أَشْدُدْ « مضارع شدد بالتشديد .
والوزير : قيل : مشتق من الوِزْر ، وهو الحبل الذي يحتضن به وهو الملجأ لقوله تعالى : « كَلاَّ لاَ وِزْرَاً » قال :
3655- مِنَ السِّبَاعِ الضَّوَارِي دُونَهَا وَزَرٌ ... وَالنَّاسُ شَرُّهُمُ مَا دُونَهُ وَزَرُ
كَمْ مَعْشَرٍ سَلِمُوا لَمْ يُؤذِهِمْ سَبْعٌ ... وَلاَ تَرَى بَشَراً لَمْ يُؤْذِهِم بَشَرُ
وقيل : من المُؤَازَرَةِ ، وهي المعاونة ، نقله الزمخشري عن الأصمعي قال : وكان القياس أَزيراً يعني بالهمزة ، لأن المادة كذلك ، قال الزمخشري : ( فقلبت ) : الهمزة إلى الواو ، ووجع قبلها إليها أنَّ فَعِيلاً جاء بمعنى مُفَاعِل مجيئا صالحاً كقولهم : عَشِيرِ ، وجَلِيسِ ، وخَلِيط وصَدِيق ، وخَلِيل ، ونَدِيم فلما قلبت في أخيه وإلى المؤازرة . يعني أن وزيراً بمعنى مُؤَازر ، ومُؤازر تقلب فيه الهمزة واواً قليلة قياساً ، لأنها همزة مفتوحة بعد ضمة فهو نظير مُؤَجَّل ويُؤاخذكم وشبهه ، فَحُمِلَ أَزير عليه في القلب ، وإنْ لم يكن فيه سبب القلب . والمُؤازرة مأخوذةٌ من إزار الرجل ، وهو الموضع الذي يشده الرجل إذا استعد لعمل متعب .
فصل
اعلم أن طلبَ الوزير إما أنه خاف على نفسه العجزَ عن القيام بذلك الأمر فطلب المُعين ، أو لآنه رأى أنَّ التعاونَ على الدين والتظاهرَ عليه مع مخالصة الود وزوال التهمة قربةٌ عظيمة في الدعاء إلى الله تعالى ، ولذلك قال عيسى ابن مريم : { مَنْ أنصاري إِلَى الله قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله } [ آل عمران : 52 ] ، وقال لمحمد عليه السلام { ياأيها النبي حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين } [ الأنفال : 64 ] وقال عليه السلام : « إنَّ لِي في السَّمَاءِ وَزِيرَيْنِ ، وَفِي الأَرْضِ وَزِيرَيْن فاللَّذانَ فِي السَّماءِ جِبْريلُ وميكائيلُ ( عليهما السلام ) وّاللَّذانِ في الأرض أبو بكرٍ وَعمَرُ ( رضي الله عنهما » ) « .
وقال عليه السلام : » إذَا أَرَادَ اللهُ بِمَلِكٍ خيراً قَيَّضَ اللهُ لَُ وَزِيراً صَالِحاً إنْ نَسِيَ ذكَّره ، وإنْ نَوَى خَيْراً أعانَه ، وإنْ أَرَادَ شَرَّاً كَفَّهُ « وقال أنوشروان : لاَ يَسْتَغْنِي أجودُ السيوف عن الصقي ، ولا أكرمُ الدوابَّ عن السَّوْط ( ولا أعلمُ الملوك عن الوزير ) . وأراد موسى - عليه السلام- أن يكون ذلك الوزير من أهله أي من أقاربه ، وأن يكون أخاه هارون ، والسببُ فيه إما لأن التعاونَ على الدين منفعة عظيمة فأراد أن لا تحصل هذه الدرجة إلا بأهله ، أو لأن كل واحد منهما كان في غاية المحبة لصاحبه .
وكان هارونُ أكبرَ سناً من موسى بأربع سنين ، وكان أفصحَ منه لساناً ، وأجملَ وأوسمَ أبيض اللون ، وكان موسى آدم اللون أقْنَى جَعْداً .
و » اشْدُدْ بِهِ ( أزري ) قَوِّ ) ظَهْري ، « وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي » في النبوة . والأَزْرُ القوة ، وَآزَرَهُ : قَوَّاه . وقال أبو عبيدة : أَزْرِي : ظَهْرِي . وفي كتاب الخليل : الأَزْرُ الظَّهرُ .
ثم إنه تعالى حكى عنه ما لأجله دعا بهذا الدعاء فقال : « كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثيراًط قال الكلبي : نُصَلِّي لكَ كثيراً ، ونحمدكُ ، ونثني عليك .
والتَّسبيحُ : تنزيهُ اللهِ تعالى في ذاته وصفاته عمَّا لا يليق به . » وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً « أي : نصفُك بصفاتِ الجَلالِ والكِبْرِيَاء .
قوله : » كَثِيراً « نعت لمصدر محذوف ، أو حال من ضمير المصدر كما هو رأي سيبويه .
وجوَّز أبو البقاء : أن يكون نعتاً لزمان محذوف ، أي : زماناً كثيراً .
قوله : » إنَّك كُنْتَ بِنَا بَصيراً « أي عالِماً بأنَّا لا نريد بهذه الطاعات إلا وجهَك ورضاك ، أو بصيراً بأنَّ الاستعانةَ بهذه الأشياء لأجل حاجتي في النبوة إليه ، أو بصيراً بوجوه مصالحنا فأَعْطِنَا ما هو أصلح لنا .
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
قوله تعالى : { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى } فُعْل بمعنى مَفْعُول كقولك : خُبْزٌ بمعنى مَخْبُوز وأُكْلٌ بمعنى مَأْكُول ، ولا ينقاس و « مَرَّةً » مصدر ، و « أُخْرَى » تأنيث آخر بمعنى : غير ، وزعم بعضهم أنها بمعنى آخرة فتكون مقابلة للأولى ، وتخيَّلَ لذلك بأن قال سمَّها أخرَى وهي أولَى ، لأنها أخرى في الذكر .
فصل
إن موسى عليه السلام لما سأل ربه تلك الأمور الثمانية ، وكان في المعلوم أن قيامه بما كلفه ( لا يتم إلا بإجابته إليها ، لا جرم أجابه الله تعالى إليها ليكون أقدر على إبلاغ ما كلف به ) فقال : { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى } فنبه بذلك على أمور :
أحدها : كأنه تعالى قال : إني رَاعَيْتُ مَصْلَحَتَكَ قبل سؤالك فكيف لا أُعطيك مرادك بعد السؤال .
وثانيها : إني كنت ربيتُك فلو منعتك الآن كان ذلك رداً بعد القبول وإساءة بعد الإحسان ، فكيف يليق بكرمي .
وثالثها : إنا أعطيناك في الأزمنةِ السالفةِ كلَّ ما احتجتَ إليه ، ورقَّيْنَاكَ إلى الدرجة العالية ، وهي درجة النبوة ، فكيف يليق بمثل هذه الرتبة المنع عن المطلوب . ومعنى « مَنَنَّا عَلَيْكَ » أَنْعَمْنَا عَلَيْكَ « مَرَّةً أُخْرَى » فإن قيل : لِمَ ذكر تلك النِّعَم بلفظ المنّة مع أن هذه اللفظة مؤذية والمقامُ مقامُ التلطف؟
فالجواب : إنما ذكر ذلك ليعرف موسى عليه السلام أن هذه النعم التي وصل إليها ما كان مستحقاً لشيء منها ، بل إنما خصَّه الله بها لمحض التفضل والإحسان .
فإن قيل : لم ثال : « مَرَّةٌ أُخْرَى » مع أنه تعالى ذكر « مِنَنَاً » كثيرة؟
فالجواب : لَمْ يُعْنِ ب « مَرَّةٌ أُخْرَى » مرة واحدة من المنن ، لأن ذلك قد يقال في القليل والكثير .
قوله : « إذْ أَوْحَيْنَا » العامل في « إذِ مَنَنا » أي مننا عليك في وقت إيحائنا إلى أمك ، وأبهَمَ في قوله : « مَا يُوحَى » للتعظيم كقوله تعالى : { فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ } [ طه : 78 ] وهذا وحي إلهام ، لأن الأكثرين على أن أم موسى - عليه السلام- ما كانت من الأنبياء ، وذلك لأن المرأة لا تصلح للقضاء والإمامة ، ولا تمكن عند أكثر العلماء من تزويج نفسها ، ويدل على ذلك قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ } [ الأنبياء : 7 ] .
والوحي قد جاء في القرآن لا بمعنى النبوة قال تعالى : { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل } [ النحل : 68 ] { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين } [ المائدة : 11 ] ثم اختلفوا في المراد بهذا الوحي على وجوه :
الأول : أنه رؤيا رأتها أم موسى ، وكان تأويلها وضع موسى عليه السلام في التابوت ، وقذفه في البحر ، وأن الله تعالى يرده إليها .
الثاني : أنه عزيمة جازمة وقعت في قلبها دفعة واحدة .
الثالث : المراد منه خطور البال وغلبته على القلب .
فإن قيل : الإلقاء في البحر قريب من الإهلاك ، وهو مساوٍ للخوف الحاصل من القتل المعتاد من فرعونَ ، فكيف يجوز الإقدام على أحدهما لأجل الصيانَة عن الثاني؟ فالجواب لعلَّها عرفت بالاستقراء صدقَ رؤياها ، فكان الإلقاء في البحر إلى السلامة أغلب على ظنها من وقع الولد في يد فرعون ، أو لعله أوْحَى إلى بعض الأنبياء في ذلك الزمان كشُعَيْب أو غيره ، ثم أن ذلك النبي عرفها إمّا مشافهة ، أو مراسلة .
واعترض عليه بأن الأمر لو كان كذلك لما لحجقها الخوف . وأجيب : ذلك الخوف كان من لوازم البشرية ، كما أن موسى - عليه السلام- كان يخاف من فرعون مع أن الله - تعالى- كان أمره بالذهاب إليه مروراً .
الرابع من الأوجه : لعل بعض الأنبياء المتقدمين كإبراهيم وإسحاق ويعقوب - عليهم السلام- أخبروا بذلك الخبر ، وانتهى ذلك الخبر إلى أمه . أو لعل الله بَعَثَ إليها مَلَكَاً لا على وجه النبوة كما بعث إلى مريم في قوله : { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } [ مريم : 17 ] .
وأما قوله : « مَا يُوحى » معناه : أوحينا إلى أمِّكَ ما يجب أن يُوحى ، وإنما وجب ذلك الوحي ، لأن الواقعة عظيمة ، ولا سبيل إلى معرفة المصلحة فيها إلا بالوحي ، فكان الوحي فيها واجباً .
قوله : « أَن اقْذِفِيهِ » يجوز أن تكون « أَنْ » مفسِّرة ، لأن الوحي بمعنى القول ، ولم يذكر الزمخشري غيره . وجوز غيره أن تكون مصدرية ، ومحلها حينئذ النصب بدلاً من « مَا يُوحَى » والضمائر في ( قوله : « أن ) اقْذِفِيه إلى آخِرِهَا عائدة على موسى - عليه السلام- لأنه المحدِّث عنه .
وجوَّز بعضهم أن يعود الضمير في قوله : { فاقذفيه فِي اليم } للتابوت ، وما بعده وما قبله لموسى - عليه السلام- وعَابَه الزمخشري وجعله تنافراً ومُخْرِجَاً للقرآن عن إعجازه فإنه قال : والضمائر كلها راجعة إلى موسى ، ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت فيه هجنة لما يؤدي إليه من تنافر النظم ، فإن قلت : المقذُوفُ في البحر هو التابوتُ ، وكذلك الملقى إلى الساحل قلت : ما ضرك لو جعلت المقذوف والملقى إلى الساحل قلت : ما ضرك لو جعلت المقذوف والملقى إلى الساحل هو موسى في جوف التابوت حتى لا تفرق الضمائر ، فيتنافر عليك النظم الذي هو أم إعجاز القرآن ، والقانون الذي وقع عليه التحدي ، ومراعاته أهم ما يجب على المفسِّر .
قال أبو حيَّان : ولقائلٍ أن يقول : إن الضمير إذا كانَ صالحاً لأن يعود على الأقرب وعلى الأبعد ، كان عوده على الأقرب راجحاً ، وقد نص النحويون على هذا ، فعوده على التابوت في قوله : { فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم } راجح ، والجواب : أن أحدهما إذا كان محدِّثاً عنه والآخر فضلة كان عوده على المحدِّث عنه أرجح ، ولا يلتفت إلى القرب ولهذا رددنا على أبي محمد بن جزم في دعواه أن الضمير في قوله تعالى : » فَإنَّه رِجْسٌ « عائد على ( خِنْزِير ) لا على ( لَحْم ) ، لكونه أقرب مذكور ، فيحرم بذلك شحمه ، وغضروفه وعظمه وجلده ، فإن المحدِّث عنه هو لحم خنزير لا خنزير .
وقد تقدمت هذه المسألة في الأنعام .
قوله : « فَلْيُلْقِهِ اليَمُّ » هذا أمر معناه الخبر ، ولكونه أمراً لفظاً جُزم جوابُه في قوله « يَأْخُذُه » ، وإنما خرج بصيغة الأمر مبالغة إذ الأمر أقطعُ الأفعال ولآكدها ، قال الزمخشري : لما كانت مشيئةُ الله وإرادته أن يجري ماءُ اليَمِّ ، ويلقى بذلك التابوت إلى الساحل سلك في ذلك سبيل المجاز ، وجعل اليَمَّ كأنَّه ذو تمييزٍ أمر بلك ليطيع الأمر ، ويتمثل رسمه فقيل : { فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل } . و « بالسَّاحِلِ » يحتمل أن يتعلق بمحذوف على أن الباء للحال . أي : ملتبساً بالسَّاحل . وأن يتعلق ينفس الفعل على أن الباء ظرفية بمعنى ( في ) والقذفُ يستعمل بمعنى الإلقاء والوضع ، ومنه قوله : { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب } [ الأحزاب : 26 ] واليَمُّ البحر ، والمراد به ههنا نيلُ مصرَ ( في قول الجميع ) واليَمُّ : اسم يقع على النهر والبحر العظيم .
قال الكسائي : والسَّاحِلُ فاعل بمعنى مَفْعُول ، سمي بذلك لأن الماءَ يسحله أي : يغمره إلى أعره « .
فصل
روي أنها اتخذت تابوتاً .
قال مقاتل : إن الذي صنع التابوت حُزَيْقِيل مؤمن آل فرعون وجَعَلت في التابوت قطناً ملحوجاً ، ووضعت فيه موسى ، وقيرت رأسه وشقوقه بالقير ، ثم ألقته في النيل ، وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون ، فبينما فرعون جالس على رأس البركة مع امرأته آسيةَ إذا بتابوت يجيء به الماء ، فأمر الغلمان والجواري بإخراجه ، فأخرجوه ، وفتحوا رأسَه ، فإذا صبيٌّ من أصبح الناس وجهاً ، فلما رآه فرعون أحبه بحيث لم يتمالك ، فذلك قوله : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي } قال ابن عباس : أَحّبَّه وحبَّبَهُ إلى خَلْقِه .
وقال عكرمة : ما رآه أحد إلا أحبه .
فإن قيل : قوله : { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ } ولم يكن موسى في ذلك الوقت معادياً له .
فالجواب : من وجهين :
الأول : كونُه كافراً عدواً لله ، وكونه عدواً لموسى - عليه السلام- ، فإنه بحيث أو ظهر له على حاله لقتله .
والثاني : عدواً بحيث يؤول أمره إلى عداوته .
قوله : » مِنِّي « فيه وجهان : قال الزمخشري : » مِنِّي « لا يخلو إما أن يتعلق ب » أَلْقَيْتُ « فيكون المعنى : على أني أحببتك ، ومن أحبه الله أحبته القلوب .
وإما أن يتعلق بمحذوف هو صفة ل » مَحَبَّةٌ « أي : محبة حاصلة وواقعة مِني قد ركزتها أنا في القلوب ، وزرعتها فيها ، فلذلك أحبتك امرأة فرعون حتى قالت : { قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ } [ القصص : 9 ] . روي أنه كان على وجهه مسحة جمال ، وفي عينيه ملاحة ، لا يكاد يصبر عنه من رآه ، وهو كقوله - تعالى- :
{ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً } [ مريم : 96 ] قال القاضي : هذا الوجه أقرب ، لأنه حال صغره لا يكاد يوصف بمحبة الله تعالى التي ظاهرها من جهة الدين؛ لأن ذلك إنما حال صغره لا يكاد يوصف بمحبة الله تعالى التي ظاهرها من جهة الدين؛ لأن ذلك إنما يستعمل في المكلف من حيث استحقاق الثواب .
فالمراد أول ما ذكر في كيفيته في الخلقة يستحلى ويغتبط به ، وكذلك كانت حاله مع فرعون وامرأته . ( ويمكن أن يقال ) بل الاحتمال الأول أرجح لأن الاحتمال الثاني يحوج إلى الإضمار ، وهو أن يقال : وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةٌ حاصلةٌ مِنِّي وواقعة بتخليقي ، وعلى الأول لا حاجة إلى الإضمار .
وأما قوله : إنه حال صباه لا يحصل له محبة الله . فممنوع ، لأن معنى الله هو اتصال النفع إلى عباده ، وهذا المعنى كان حاصلاً ي حقه في زمان صباه ، وعلم الله أن ذلك يستمر إلى آخر عمره ، فلا جرم أطلق عليه لفظ المحبة . قوله : « وَلِتُصْنَع » قرأ العامة بكسر اللام وضم التاء وفتح النون على البناء للمفعول ، ونصب الفعل بإضمار ( أنْ ) بعد لام ( كي ) ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن هذه العلة معطوفة على علة مقدرة قبلها .
والتقدير : ليتلطف بك ولتصنع ، ( أو ليعطف عليك ) . وترأم ولتصنع ، وتلك العلة المقدرة متعلقة بقوله : « وَأَلْقِيْتُ » أي : ألقيت عليك المحبة ( ليعطف عليك ولتصنع ، ففي الحقيقة هو متعلق بما قبله من إلقاء المَحَبَّةِ ) .
والثاني : أن هذه اللام تتعلق بمضمر بعدها ، تقديره : ولتصنع على عيني فعلت ذلك ، أي : ألقيت عليكَ محبةً مِنِّي ، أو كان كيت وكيت .
ومعنى « وَلِتُصْنَعَ » أي لِتُرَبِّى ويُحْسِن إلَيْكَ ، وأنا مراعيك ، ومراقبك كما يراعى الإنسان الشيء بعينه إذا اعتنى به . قال الزمخشري .
ومجاز هذا أنَّ مَنْ صنعَ للإنسانِ شيئاً وهو حاضر ينظر إليه صنعه كما يُحِبُّ ، ولا يمكنه أن يخالف غرضه فكذا هنا . وفي كيفية المجاز قولان :
الأول : المراد من العَيْنِ العلم ، أي تُرَبَّى على علم مِنِّي ، ولما كان العالم بالشيء يحرسه عن الآفات أطلق لفظ العَيْن على العلم ( لاشتباههما ) من هذا الوجه .
الثاني : المراد من العَيْنِ الحراسة ، لأن الناظر إلى الشيء يحرسه عما لا يريده ، فالعين كأنها سبب الحراسة ، فأطلق اسم السبب على المسبب مجازاً وهو كقوله تعالى : { إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى } [ طه : 46 ] . ويقال : عَيْنُ الله عليك ، إذا دعا له بالحفظ ( والحياطة ) .
وقرأ الحسن وأبو نهيك : « وَلِتصْنَعَ » بفتح التاء .
( قال ثعلب ) : معناه لتكون حركتك وتصرفك على عينٍ مني .
وقال قريباً منه الزمخشري .
وقال أبو البقاء : أي : لتفعل ما آمرك بمرأى مني . وقرأ أبو جعفر وشيبة « وَلْتُصْنَعْ » بسكون اللام والعين وضم التاء ، ( وهو أمر معناه : لتُربِّ وليُحْسَن إليك ) . وروي عن أبي جعفر في هذه القراءة كسر لام الأمر .
ويحتمل مع كسر اللام أو سكونها حال تسكين العين أن تكون لام كي ، وإنما سكنت تشبيهاً بكَتْف وكَبد ، والفعل منصوب ، والتسكين في العين لأجل الإدغام لأنه لا يقرأ في الوصل إلا بإدغام فقط .
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
قوله : « إذ تَمْشِي » ( في عامل هذا الظرف أوجه :
أحدها : أنَّ العامل فيه « أَلْقِيَتُ » ، أي : ألقيتُ عليكَ محبَّةٌ منِّي وقت مشي أختِك .
الثاني : أنه منصوب بقوله : « وَلِتُصْنَع » ، أي : لتربَّى ويُحسنَ إليك في هذا الوقت : قال الزمخشري : والعامل في « إذ تَمْشِي » « أَلْقَيْتُ » أو « لِتُصْنَعَ » وقال أبو البقاء : « إذْ تَمْشِي » يجوز أن يتعلق بأحد الفعلين . يعني بالفعلين ما تقدم من « أَلْقِيْتُ » أو « لِتُصْنَعَ » ) . وعلى هذا فيجوز أن تكون المسألة من باب التنازع لأن كلاًّ من هذين العاملين يطلب هذا الظرف من حيث المعنى ، ويكون من إعمال الثاني للحذف من الأول ، وهذا إنما يتجه كل الاتجاه إذا جعلت « وَلِتُصْنَعَ » معطوفاً على علة محذوفة متعلقة ب « أُلْقِيْتُ » .
أما إذا جعلته متعلقاً بفعلٍ مضمرٍ بعده فيبعد ذلك ، أو يمتنع لكون الثاني صار من جملة أخرى .
الثالث : أن يكون « إذْ تَمْشِي » بدلاً من « إذْ أَوْحَيْنَا » .
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف يصح البدل والوقتان مختلفان متباعدان؟ قلت : كما يصح وإن اتسع الوقت وتباعد طرفاه أن يقول لك الرجل : لَقيتُ فَلاناً سَنَةَ كذا ، فتقول : وَأَنَا لَقيتهُ إذْ ذاك ، وربما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها . قال أبو حيان : وليس كما ذكره ، لأن السنة تقبل الاتساع ، فإذا وقع لقيهما فيها بخلاف هذين الطرفين ، فإن كل واحد منهما ضيق ليس بمتسع لتخصيصهما بما أضيفا إليه ، فلا يمكن أن يقع الثاني في الطرف الذي وقع فيه الأول ، إذ الأول ليس متسعاً لوقوع الوحي فيه ووقع مشي الأخت ، فليس وقت وقوع الوحي مشتملاً على أجزاء وقع في بعضها المشي بخلاف السنة .
قال شهاب الدين : وهذا تحامل منه عليه ، فإن زمن اللقاء أيضاً ضيق لا يسع فعليهما ، وإنما ذلك مبني على التساهل ، إذ المراد أن الزمان مشتملٌ على فعليهما .
وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون بدلاً من ( إذ ) الأولى : لأنَّ مشيْ أختِه كان مِنَّةً عليه .
يعني أن قوله : « إذْ أَوْحَيْنَا » منصوب بقوله : ( « مَنَنَّ » ) فإذا جُعِلَ « إذْ تَمْشِي » بدلاً منه كان أيضاً ممتناً به عليه .
الرابع : أن يكون العامل فيه مضمراً تقديره : اذكر إذ تَمْشِي ، وهو على هذا مفعول به ( لفساد المعنى على الظرفية ) .
قوله : { إِذْ تمشي أُخْتُكَ } ( اسمها مريم ) .
يروي أنه فشا الخبر بمصر أن آل فرعون أخذوا غلاماً في النيل ، وكان لا يرتضع من ثدي كل امرأة يؤتى بها ، لأن الله - تعالى- حرَّم عليه المراضع غير أمه واضطروا إلى تتبع النساء فخرجت أخته متعرفة خبره ، فجاءت إليهم متنكرة فقالت : { هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ } أي على امرأة ترضعه؟ قالوا نعم : فجاءت الأم ، فَقَِبِلَ ثديها ، فذلك قوله : { فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها } بلقائك .
قوله : { كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها } . قرأ العامة « تَقَرَّ » بفتح التاء والقاف وقرأت فرقة : « تَقِرَّ » بكسر القاف ، وقد تقدم في سورة مريم أنهما لغتان .
وقرأ جناح بن حبيش « تُقَرَّ » بضم التاء وفتح القاف على البناء للمفعول « عَيْنُها » رفعاً لما لم يسم فاعله .
فإن قيل : ( لو قال ) : كي لا تحزن وتقرَّ عينُها كان الكلام مفيداً لأنه لا يلزم من عدم حصول الحزن حصول السرور لها ، فلما قال أولاً { كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها } كان قوله « وَلاَ تَحزَن » فضلاً ، لأنه متى حصل السرور وجب زوالُ الغمِّ لا محالة .
فالجواب : المراد تقرَّ عينُها بسبب وصولك إليها ، ويزول عنها الحزن بسبب عدم وصول لبن غيرها إلى باطنك . قوله : { وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغم } ، وهذه المنّة الخامسة . قال ابن عباس : هو الرجل القبطي الذي قتله خطأ بأن ( وكزه ) حيث استغاثه الإسرائيلي إليه ، فحصل له الغم من وجهين :
الأول : من عقاب الدنيا ، وهو اقتصاص فرعون منه على ما حكى الله تعالى عنه { فَأَصْبَحَ فِي المدينة خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ } [ القصص : 18 ] .
والثاني : من عقاب الله حيث قتله لا بأمر الله . فنجاه الله- تعالى- من الغمين ، أما من فرعون فوفق له المهاجرة إلى مدين ، وأما من عقاب الآخرة ( فلأن الله تعالى غفر له ذلك ) . ( قال كعب الأحبار : كان عمره إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة ) .
قوله : « فُتُوناً » فيه وجهان :
أحدهما : أنه مصدر على فُعُول كالقُعُود والجُلُوس ، إلا أنَّ فُعُولاً قليل في المتعدي ومنه الشُّكُور والكُفُور والثُّبُور واللُّزُوم قال تعالى : { لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } [ الفرقان : 62 ] وهذا على مذهبهم في تأكيد الأخبار بالمصادر ، كقوله تعالى : { وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً } [ النساء : 164 ] .
والثاني : أنه جمع فِتْن أو فِتْنَة على ترك الاعتداء بتاء التأنيث كحُجُوزٍ وبُدُورٍ في حُجْرَةٍ وبَدْرَة ، أي : فَتناكَ ضروباً من الفتن . عن ابن عباس أنه ولُِدَ في عام يُقْتَل فيه الولدان ، وألقته أنه في البحر ، وقَتَل البطيَّ ، وأجَّرَ نفسه عشر سنين ، وضلَّ عن الطريق وتفرقت غنمه في ليلة مظلمة . ولما سأل سعيد بن جبير عن ذلك أجاب بما تقدم ، وصار يقول عند كل واحدة : فهذه فتنة يا ابن جبير ، قال معناه الزمخشري .
وقال غيره : بفُتُونٍ من الفِتَن أي المِحَن مختبر بها .
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الفتون وقوعه في محنة خلصه الله منها ، أولها أنَّ أمه حملت في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال ، ثم إلقاؤه في البحر في التابوت ، ثم مَنْعُه من الرضاع إلا من ثدي أمه ، ثم أَخَذُه بحليةٍ فرعونَ حتى همَّ بقتلهِ ، ثمو تناولت الجملة بدل الجوهرة ثم قَتْلُه القبطيَّ ، وخروجه إلى مدين خائفاً .
فعلى هذا معنى : فتناك أخلصناك من تلك المِحَن كما يُفْتَن الذهب بالنار فيتخلص من كل خبث فيه .
فإن قيل : إنه تعالى عدَّد أنواع مِنَنِهِ على موسى في هذا المقام ، فكيف يليق بهذا قوله : « وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً » ؟
فالجواب من وجهين :
الأول : ما تقدم من أنَّ « فَتَنَّاكَ » بمعنى خلصناك تخليصاً .
والثاني : أن الفتنة تشديد المحنة يقال : فُتِن فلانٌ عن دينه إذا اشتدت عليه المحنة حتى رجع عن دينه . قال تعالى : { فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله } [ العنكبوت : 10 ] ، وقال : { أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 2 ] وقال : { وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين } [ العنكبوت : 3 ] ، ولما كان التشديد في المحنة مما يوجب كثرة الثواب عدَّه الله من جملة النِّعَم .
فإن قيل : هل يَصلح إطلاق الفَتَّان عليه سبحانه اشتقاقاً من قوله : « وفَتَنَّاكَ فُتُوناً » ؟
فالجواب : لا لأنه صفة ذمٍّ في العرب ، وأسماء الله تعالى توقيفية لا سيما فيما يوهم ما لا ينبغي .
قوله : { فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أَهْلِ مَدْيَنَ } والتقدير : « وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً » فخرجت خائفاً إلى أهل مدين فلبثت سنين فيهم وهي إمَّا عشراً وَثَمان لقوله تعالى : { على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ } [ القصص : 27 ] وقال وهب : لَبِثَ مُوسَى عند شعيب عليهما السلام ثمانياً وعشرين سنة منها عشر سنين مهر امرأته .
ويرده قوله تعالى : { فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل ( وَسَارَ بِأَهْلِهِ } [ القصص : 29 ] الأجل المشروط عيله في تزويجه .
ومَدْيَن : بَلْدَةُ شُعَيْبٍ على ثَمَان مراحل من مصر .
قوله : { ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى } هذا الجار متعلق بمحذوف على أنه حال من فاعل « جِئْتَ » أي جئت موافقاً لما قُدِّر لك ، كذا قدره أبو البقاء ، وهو تفسير معنى ، والتفسير الصناعي : ثم جئت مستقراً أو كائناً على مقدار معين ، كقول الآخر :
3656- نَالَ الخِلاَفَةَ أَوْ جَاءَتْ عَلَى قَدَرٍ ... كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرٍ
ولا بد من حذف في الكلام ، أي : على قدر أمر من الأمور .
وقال محمد بن كعب : جئتَ على القدر الذي قدرت أنك تجيء فيه وقال مقاتل : كان موعداً ( في تقدير الله .
وقال عبد الرحمن بن كيسان : كان على رأس أربعين سنة ، وهو القدر الذي ) يوحي فيه إلى الأنبياء . وهذا قول أكثر المفسرين ، أي على الوعد الذي وعده الله وقدَّر أنه يوحي إليه بالرسالة ، وهو أربعون سنة .
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)
قوله : { واصطنعتك لِنَفْسِي } ( أي اخترتُك واصطفيتُك افتعال من الصنع لوحيي ورسالتي . وأبدلت التاء طاء ) ، لأجل حرف الاستعلاء .
وهذا مجازٌ عن قرب منزلته ، ودنوه من ربه ، لأن أحداً لا يصطنع إلا من يختاره .
قال القفال : واصطنعتُكَ أصله من قولهم : اصطنع فلانٌ فلاناً إذا أحسن إليه حتى يضاف إليه فيقال : هذا صنيعُ فلانٍ وجريحُ فلانٍ . وقوله : « لِنَفْسِي » أي : لأصرفك في أوامري لئلا تشتغل إلا بما أمرتك به ، وهو إقامة حجتي وتبليغ رسالتي ، وأن تكون في حركاتك وسكناتك لي لا لنفسك ولا لغيرك .
وقال الزجاج : اخترُكَ لأمري ، وجعلتك القائم بحجتي ، والمخاطب بيني وبين خلقي : كأني الذي أقمت عليهم الحجة وخاطبتهم .
قوله : { اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا } لما قال : { واصطنعتك لِنَفْسِي } عقبه بذكر ما له اصطنعته ، وهو الإبلاغ والأداء ، و « الياء » في « بِآيَاتِي » بمعنى ( مع ) ، لأنهما لو ذهبا إليه بدون آيةٍ معهما لم يلزمه الإيمان ، وذلك من أقوى الدلائل على فساد التقليد .
قال ابن عباس : يعني الآيات التسع التي بعث الله بها موسى . وقيل : إنها العصا واليد ، لأنهما اللذان جرى دكرهما في هذا الموضع ، ولم يذكر أنه -عليه السلام- أوتي قبل مجيئه إلى فرعون ، لا بعد مجيئه حتى لقي فرعون فالتمس منه آية غير هاتين الآيتين ، قال تعالى حكاية عن فرعون { إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } [ الأعراف : 106- 108 ] ، وقال : { فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } [ القصص : 32 ] .
فإن قيل : كيف يطلق لفظ الجمع على الاثنين؟
فالجواب من وجوه :
أحدها : أن العصا كانت آيات ، انقلابُها حيواناً ، ثم إنها كانت في أول الأمر صغيرة ، لقوله تعالى : { تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ } [ النمل : 10 ، القصص : 31 ] ثم كانت تعظم وهذه آية أخرى ، ثم إنه كان عليه السلام يدخل في يده في فمها قلم تضره وهذه آية أخرى ، ثم كانت تنقلب عصا وهذه آية أخرى ، وكذلك اليد فإن بياضها آية ، وشُعَاعَها آية أخرى ، ثم زوالهما بعد ذلك آية أخرى ، فدل ذلك على أنهما كانتا آيات كثيرة .
وثانيها : هَبْ أن العصا أمرٌ واحدٌ ولكن فيها آيات ، لأن انقلابها حيةً يدل على وجود إله قادر على الكل عالم بالكل حكيم ، ويدل على نبوة موسى ، ويدل على جواز الحشر حيث انقلب الجماد حيواناً ، فهذه آيات كثيرة ، ولذلك قال : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ } [ آل عمران : 96 ] . . . إلى قوله . . . { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [ آل عمران : 97 ] فهاهنا أولى .
وثالثها : قال بعضهم : أقل الجمع اثنان .
وقيل : معنى قوله : « بِآيَاتِي » أمُدكُّما بآياتي ، وأظهر على أيديكما من الآيات ما تزاح به العلل من فرعون وقومه ، والمعنى : فإن آياتي معكما كما يقال : اذهب فإن جندي معك أي : إنِّي أمدك بهم من احتجت .
وقيل : الآيات : العصا ، واليد ، وحل العقدة من لسانه ، وذلك أيضاً معجزة .
قوله : « وَلاَ تَنِيَا » يقال : « وَنَى يَنِيَ وَنْيَاً كَوَعَد يَعِدُ وَعْداً ، إذا فَتَرَ .
والوَنْيُ الفُتُور ، ومنه : امرَأةٌ أَنَاةٌ ، وصفوها بفتور القيام كناية عن ضخامتها . قال زهير :
3657- مَنَّا الأَنَاةُ وَبَعْضُ القَوْمِ يَحْسَبُنَا ... أَنَّا بِطَاءٌ وفي إبْطَائِنَا سِرْعُ
بكسر السين وفتح الراء مصدر ( سَرُع ) بفتح السين وضم الراء .
تقول : سَرُعَ سِرَعاً كصَغُرَ صِغَراً .
والأصل : ونَاةٌ ، فأبدلوا الهمزة من الواو كأحَد وليس بالقياس ، وفي الحديث : » إنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ الحِلْمُ والأَنَاةُ « .
والوَانِي : المقصِّر في أمره ، قال الشاعر :
3658- فَمَا اَنَا بالوَانِي وَلاَ الضَّرْع الغُمْرِ ... ووَنَى فعلٌ لازم يتَعَدى وزعم بعضهم أنه يكون من أخوات ( زال وانفك ) فيعمل بشرط النفي أو شبهه عمل ( كان ) ، فيقال : » مَا وَنِيَ زيدٌ قائماً ، وأنشد ابن مالك شاهداً على ذلك قوله :
3659- لاَ يَنشي الحُبُّ شِيمَةَ الحُبِّ مَا دَا ... مَ فَلاَ يَحْسَبَنَّهُ ذَا ارْعِوَاءِ
أي : لا يزال الحُبُّ بضم الحاء شيمةَ الحِبِّ أي : بكسرها وهو المحب . ومن منع ذلك يتأول البيت على حذف حرف الجر ، لأنَّ هذا الفعل يتعدى تارة ب ( عَنْ ) وتارة ب ( في ) يقال : ما ونَيْتُ عن حاجتك ، أو : في حاجتك فالتقدير : لا يفتر الحب في شيمة المحب ، وفيه مجاز بليغ وقد عدي في الآية الكريمة ب ( في ) .
قرأ يحيى بن وثَّاب « وَلاَ تِنِيَا » بكسر التاء إتباعاً لحركة النون ، وسكن الياء في « ذِكْرِي » .
وقرأ أهل الحجاز وأبو عمرو « لِنَفْسِيَ اذْهَبْ » ذِكْرِي اذْهَبَا « و { إِنَّ قَوْمِيَ اتخذوا } و { مِن بَعْدِيَ اسمه } بفتح الياء فيهن وافقهم أبو بكر في { مِن بَعْدِيَ اسمه } .
وقرأ الآخرون بإسكانها .
والمراد بالذكر تبليغ الرسالة . وقيل : لا تفترا عن ذكر الله . ( والحكمة فيه ) أنَّ مَنْ ذكر جلالَ الله استخف غيره ، فلا يخاف أحداً ، ويقوى روحه بذلك الذكر فلا يضعف في مقصوده ، ومن ذكر الله فلا بد وأن يكون ذاكراً إحسانه ( وذاكرُ إحسانه ) لا يفتر في أداء أوامره .
وقيل : لاَ تَنِيَا في ذِكْرِي عند فرعون ، وكيفية الذكر أن يذكرا لفرعون وقومه أنَّ الله تعالى لا يرضى منهم الكفر ، ويذكرا لهم أمر الثواب والعقاب ، والترغيب والترهيب .
اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
قوله : { اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى } ذكر المذهوب إليه في قوله : { اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ } وحذفه في الأول في قوله : { اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ } [ طه : 42 ] اختصاراً في الكلام .
وقال القفال : فيه وجهان :
أحدهما : أن قوله : { اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ } [ طه : 42 ] يحتمل أن يكون كل واحد منهما مأموراً بالذهاب على الانفراد ، فقيل مرة أخرى : « اذْهَبَا » ليعرفا أن المراد منه أن يشتغلا بذلك جميعاً لا أن ينفرد به أحدهما دون الآخر .
والثاني : أن قوله : { اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي } [ طه : 42 ] أمر بالذهاب إلى كل الناس من بني إسرائيل وقوم فرعون ، ثم قوله : { اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ } أمر بالذهاب إلى فرعون وحده .
قيل : وهذا فيه بُعْدٌ ، بل الذهابان متوجهان لشيء واحد وهو فرعون ، وقد حذف من كل الذهابين ما أثبته في الآخر ، وذلك أنه حذف المذهوب إليه من الأول وأثبته في الثاني ، وحذف المذهوب به ، وهو « بِآيَاتِي » من الثاني وأثبته في الأول .
فإن قيل : قوله : { اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ } خطاب من موسى وهارون ، ( وهارون عليه السلام ) لم يكن حاضراً هناك ، وكذا في قوله تعالى : { قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يطغى } [ طه : 45 ] وأجاب القفال بوجوه :
أحدها : أن الكلام كام مع موسى إلا انه كان متبوع هارون ، فجعل الخطاب معه خطاباً مع هارون ، ( وكلام هارون ) على سبيل التقدير بالخطاب في تلك الحالة ، وإن كان مع موسى -عليه السلام- وحده ، إلا أنه تعالى أضافه إليهما كما في قوله تعالى : { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فادارأتم فِيهَا } [ البقرة : 72 ] وقوله : { لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل } [ المنافقون : 8 ] روي أن القائل هو عبد الله ابن أُبَيِّ وحده .
وثانيها : يحتمل أن الله تعالى لمَّا قال : { قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى } [ طه : 36 ] سكت حتى لقي أخاه ، ثم إن الله -تعالى- خاطبهما بقوله : { اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ } .
وثالثها : حكي في مصحف ابن مسعود « قال رَبَّنَا إنَّنَا نَخَافُُ » أي أنَا وأخي .
قوله : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً } قرأ أبو معاذ « قَوْلاً لَيْناً » وهو تخفيف من لَيِّن كَمَيْت في ميِّت .
وقوله : « لَعَلَّهُ » فيه أوجه :
أحدها : أن « لَعَلَّ » على بابها للترجي ، وذلك بالنسبة إلى المرسل وهو موسى وهارون ، أي اذهبا على رجائكماوطمعكما في إيمانه أي اذهبا مترجَيْن طامعَيْن ، وهذا معنى قول الزمخشري ولا يستفقيم أن يرد ذلك في حق الله تعالى ، إذ هو عالم بعواقب الأمور . وعن سيبويه : كل ما ورد في القرآن من ( لَعَلَّ ، وَعَسَى ) فهو من عند الله واجب . يعني أنه يستحيل بقاء معناه في حق الله تعالى .
والثاني : أنَّ « لَعَلَّ » بمعنى ( كَيْ ) فتفيد العلية ، وهذا قول الفراء قال : كما تقول : اعْمَلْ لَعَلَّكَ تأخذُ أجرَكَ ، أي : كي تأخذَ .
والثالث : أنها استفهامية ، أي : هل يتذكر أو يخشى؟
وهذا قول ساقط ، وذلك أنه يستحيل الاستفهام في حق الله تعالى كما يستحيل الترجي ، فإذا كان لا بد من التأويل فجَعْلُ اللفظ على مدلوله باقياً أولى من إخراجه عنه .
فإن قيل : لِمَ أمر الله تعالى باللين مع الكافر الجاحد؟ فالجواب من وجهين :
أحدهما : أنه قد ربَّى موسى -عليه السلام- فأمره أن يخاطبه بالرفق رعاية لتلك الحقوق ، وهاذ تنبيه على نهاية تعظيم حق الأبوين .
والثاني : أنَّ من عادة الجبابرة إذا غُلِّظ لهم في الوعظ أن يزدادوا عتواً وتكبُّراً .
والمقصود من البعثة حصول النفع لا حصول زيادة الضرر ، فلهذا أمر الله تعالى بالرفق .
قوله : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } أي يتعظ ويخاف .
فصل
اختلفوا في ذلك القول اللين ، فقال ابن عباس : لا تعنِّفا في قولكما .
وقال السُّدِّي وعكرمة : كَنَّياه ، فقولا : يا أبا العباس . وقيل : يا أبا الوليد .
وقال مقاتل : القول الليِّن : { هَل لَّكَ إلى أَن تزكى وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ فتخشى } [ النازعات : 18- 19 ] ، وقولهما : { فقولاا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ } [ طه : 47 ] إلى قوله : { والسلام على مَنِ اتبع الهدى } [ طه : 47 ] .
وقال السدي : القول اللِّين ان موسى اتاه ووعده على قبول الإيمان شباباً لا يهرم ، ومُلْكاً لا ينزعُ منه إلا بالموت ، وتبقى عليه لذة المطعم ، والمشرب ، والمنكح إلى حين موته ، وإذا مات دخل الجنة . فأعجبه ذلك ، وكان لا يقطع أمراً دون هامان ، وكان غائباً ، فلما قَدِم أخبره بالذي دعاه إليه موسى ، قال : أردتُ أنْ أقبل مِنْه . فقال له هامان : كنت أرى عقلاً ورأياً ، أنت ربٌّ تريد أن تكون مربوباً ، وأنت تُعْبَدُ تريدُ أن تَعْبُدَ ، فقلبه عن رأيه .
فصل
قال ابن الخطيب : هذا التكليف لا يعلم سره إلا الله تعالى لما علم أنه لا يؤمن قط كان إيمانه ضداً لذلك العلم الذي يمتنع زواله ، فيكون سبحانه عالماً بامتناع ذلك الإيمان ، وإذا كان عالماً بذلك ، فكيف أمر موسى بذلك الرفق ، وكيف بالغ في الأمر بتلطف دعوته إلى الله -تعالى- مع علمه باستحالة حصول ذلك منه؟ ثم هَبْ أن المعتزلة ينازعون في هذا الانتناع من غير أن يذكروا شبهة قادحة في هذا السؤال ، ولكنهم سلموا أنه كان عالماً بأن لا يحصل ذلك الإيمان ، وسلموا أن فرعون لا يستفيد ببعثة موسى -عليه السلام- إلا استحقاق العذاب ، والرحيم الكريم كيف يليق به أن يدفع سكيناً من عَلِمَ قَطعاً أنه يمزق به بطن نفسه ، ثم يقول : إني ما أردت بدفع السكين إليه إلا الإحسان إليه؟ يا أخي : العقولُ قاصرةٌ عن معرفة هذه الأسرار ، ولا سبيل فيها إلا التسليم ، وترك الاعتراض والسكوت بالقلب واللسان ، ويروى عن كعب أنه قال : والذي يحلف به كعب إنه لمكتوب في التوراة « فَقُولاَ لَهُ قََوْلاً لَيِّناً وسَأقْسي قلبَه فلا يؤمن » .
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)
قوله : { قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يطغى } قد تقدم أن هارون لم يكن حاضراً هناك ، فكيف قال : { قَالاَ رَبَّنَآ } وتقدم جوابه .
فإن قيل : إن موسى -عليه السلام- قال : { قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي } [ طه : 25 ] وأجابه ( الله تعالى ) بقوله : { قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى } [ طه : 36 ] وهذا يدل أنه شرح صدره ، ويسر ، وعيّن له ذلك الأمر ، فكيف قال بعده : « إنَّنَا نَخَافُ » ، فإن حصول الخوف يمنع من حصول شرح الصدر ، فالجواب : أن شرح الصدر عبارة عن قوته على ضبط تلك الأوامر والنواهي وحفظ تلك الشرائع على وجه لا يتطرق إليها السَّهو تلك والتحريف ، وذلك شيء آخر غير زوال الخوف . فإن قيل : أما علم موسى وهارون -عليهما السلام- وقد حمَّلهما الله تعالى الرسالة أنه تعالى يؤمنهما من القتل .
فالجواب قد أمِنا ذلك وإن جوزا أن ينالهما من قبل الأداء أو بعده ، وأيضاً فإنهما استظهرا بأن سألا ربهما ما يزيد في ثبات قلبهما على دعائه ، وذلك بأن ينضاف الدليل النقلي إلى العقلي زيادة في الطمأنينة كما في قوله تعالى : { وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ البقرة : 260 ] .
فإن قيل : لمَّا تكرر الأمر من الله -تعالى- بالذهاب ، فعدم الذهاب والتعلل بالخوف هل يدل على المعصية؟
فالجواب : إن اقتضى الأمر الفور كان كذلك من أقوى الدلائل على المعصية ، لا سيما وقد أكثر الله -تعالى- من أنواع التشريف ، وتقوية القلب ، وإزالة الغم ، ولكن الأمر ليس على الفور ، فزال السؤال ، وهذا من أقوى الدلائل على أن الأمر لا يقتضي الفور إذا ضممت إليه ما يدل على أن المعصية غير جائزة على الرسل .
قوله : « أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ » مفعول « يَخَافُ » ، ويقال : فَرَطَ يَفْرُط سبق وتقدم ، ومنه الفارط وهو الذي يتقدم الواردة إلى الماء ، وفرس فرط تسبق الخيل ، أي : نَخَاف أن يعجل علينا بالعقوبة ويبادرنا بها . قاله الزمخشري . ومن ورود الفارط بمعنى المتقدم على الواردة قول الشاعر :
3660- وَاسْتَعْجَلُونَا وَكَانُوا مِنْ صَحَابَتِنَا ... كمَا تَقَدَّم فُرَّاطٌ لِوُرَّادِ
وفي الحديث : « أنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الحَوْضِ » أي سابقكم ومتقدمكم .
وقرأ يحيى بن وثاب وابن محيصن وأبو نوفل « يُفْرَط » بضم حرف المضارعة وفتح الراء على البناء للمفعول ، والمعنى : خافَا أن يسبق في العقوبة أي يحمله حامل عليها وعلى المعاجلة بها إما قومه وإما الشيطان وإما حبه الرياسة ، وإما ادعاؤه الإلهية .
وقرأ ابن محيصن في رواية الزعفراني : « أن يُفْرِط » بضم المضارعة وكسر الراء من أفرط .
قال الزمخشري : من افرَطَهُ غيره ، إذا حمله على العجلة خَافَا ان يحمله حامل على المعاجلة بالعقاب .
وقال كعب بن زهير :
3661- تَنْفِي الرِّيَاحُ القَذَى عضنْهُ وَأفْرَطَهُ ... مِنْ صَوْبِ سَارِيَةٍ بِيضٌ يَعَالِيلُ
أي سبقت هذه البيض لتملاه .
وفاعل يفرط ضمير فرعون ، وهذا هو الظاهر الذي ينبغي أن لا يعدل عنه ، وجعله أبو البقاء مضمراً لدلالة الكلام عليهن فقال : فيجوز أن يكون التقدير : أن يَفْرُط علينا منه قولٌ فأضمر القول لدلالة الحال عليه كما تقول : فَرَط منِّي قول ، وأن يكون الفاعل ضمير فرعون كما كان في « يَطْغَى » .
فصل
قال ابن عباس : « يَفْرُطَ عَلَيْنَآ » يعجل علينا بالقتل والعقوبة . يقال : فَرَطَ عَلَيْنَا فلان إذا عجل بمكروه ، وفَرَط منه أي بدر وسبق { أَوْ أَن يطغى } يجاوز الحد بالتخطي إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي لجرأته عليك . واعلم أن من أمر بشيء فحاول دفعه لأعذار يذكرها فلا بد أن يختم كلامه بما هو الأقوى ، كما أن الهُدْهُدَ ختم عذره بقوله : { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله } [ النمل : 24 ] ، فكذا هاهنا بدأ موسى بقوله { أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ } ، وختم بقوله { أَوْ أَن يطغى } لما كان طغيانه في حق الله -تعالى- أعظم من إفراطه في حق موسى وهارون .
قوله : { قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى } لا تخافا مما عرض في قلبكما من الإفراط والطغيان ، لأن ذلك هو المفهوم من الكلام ، لأنه -تعالى- لم يؤمنهما من الرد ، ولا من التكذيب بالآيات ومعارضة السحرة وقوله : « إِنَّنِي مَعَكُمَآ » أي : بالحراسة والحفظ وقوله : « أَسْمَعُ وأرى » قال ابن عباس : اسمع دعاءكما فأجيبه ، وأرى ما يراد بكما فأمنع لست بغافل عنكما فلا تهتما .
وقال القفال : ( قوله : أَسْمَعُ وَأَرَى ) قال ابن عباس : اسمع دعاءكما فأجيبه ، وأرى ما يراد بكما فأمنع لست بغافل عنكما فلا تهتما .
وقال القفال : ( قوله : « أسْمَعُ وَأرَى » يحتمل أن يكون مقابلاً لقوله { يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يطغى } { أَوْ أَن يطغى } بأن لا يسمع منّا « يَفْرُطَ عَلَيْنَآ » بأن يقتلنا ، فقال الله تعالى : { إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ } كلامكما فأسخّره للاستماع منكما ، « وَأَرَى » أفعاله فلا أتركه حتى يفعل بكما ما تكرهانه واعلم أن مفعول ) ( أسْمَعُ وَأَرَى ) محذوف ، فقيل : تقديره : أسمع أقوالكما وأرى أفعالكما .
وعن ابن عباس : أسمع جوابه لكما ( وَأَرَى مَا يُفْعَل بِكُمَا ) .
أو يكون من حذف الاقتصار ، نحو « يحيي ويُميت » .
فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
قوله : « فَأتِيَاهُ » أعاد التكليف المتقدم فقال : { فأتِيَاهُ فَقُولاَ لَهُ } وذلك أنه تعالى قال أولاًَ { اذهب إلى فِرْعَوْنَ } [ طه : 24 ] وثانياً قال : { اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ } [ طه : 42 ] وقال ثالثاً : { اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ } [ طه : 43 ] . ورابعاً ( قال هاهنا « فَأتِيَاهُ » ) .
فإن قيل : إنه تعالى أمرهما بأن يقولا له « قَوْلاً لَيِّناً » ، وهاهنا أمرهما بأن يقولا { فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ } وفي هذا تغليظ من وجوه :
الأول : « إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ » ) وهذا يقتضي انقياده لهما والتزامه لطاعتهما ، وذلك يعظم على الملك المتبوع .
والثاني : قوله : { فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ } فيه إدخال النقص على ملكه ، لأنه كان محتاجاً إليهم فيما يريده من الأعمال وأيضا : أمرهم بالإرسال يقتضي وجوب الطاعة والانقياد فيصير تحت أمرهم .
والثالث : نهيهم له بقولهم : « وَلاَ تُعَذِّبهُمْ » .
والرابع : قوله : { قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ } .
فما الفائدة في القول اللين أولاً والتغليظ ثانياً؟
فالجواب : أن الإنسان إذا أظهر اللجاجة فلا بد له من التغليظ .
فإن قيل : أليس أن الأولى أن يقولا إنا رَسُولاَ رَبِّكَ قَدْ جئنَاكَ بآيةٍ فأرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إسرائيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُم ، فإن ذكر المعجز مقروناً بادعاء الرسالة أولى من تأخيره عنه؟
فالجواب : بل هذا أولى ، لأنهم ذكروا مجموع الدعاوى ثم استدلوا على ذلك المجموع بالمعجز .
قوله : { قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ } قال الزمخشري : هذه الجملة جارية من الجملة الأولى وهي { إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ } مجرى البيان والتفسير ، لأن دعوى الرسالة لا تثبت إلا بينتهما التي هي مجيء الآية .
فإن قيل : إن الله تعالى أعطاه آيتين ، وهما العصا واليد ثم قال : { اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي } [ طه : 42 ] ، وذلك يدل على ثلاث آيات وقال هاهنا { قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ } ، وذلك يدل على أنها كانت واحدة ( فكيف الجمع ) ؟
أجال القفال : بأن معنى الآية هاهنا الإشارة إلى جنس الآيات كأنه قال : جئْنَاك ببيان من عند الله . ثم يجوز أن يكون ذلك حجة واحدة أو حججاً كثيرة .
وقال غيره : المراد في هذا الموضوع تثبيت الدعوى ببرهانها فكأنه قال :
قد جئناك بمعجزة وبرهان وحجة على ما ادعينا من الرسالة كقوله : { قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [ الأعراف : 105 ] ، وقوله : { فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } [ الأعراف : 106 ] وقوله : { أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ } [ الشعراء : 30 ] .
وتقدم الجواب عن التثنية والجمع ، وأن في العصا واليد آيات .
قوله : { والسلام على مَنِ اتبع الهدى } يحتمل أن يكون تسليماً منهما ولم يؤمرا به ، فتكون الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب قال بعضهم : إنَّ ( عَلَى ) بمعنى ( اللام ) أي والسلام لمن اتبع الهدى كقوله تعالى : { لَهُمُ اللعنة وَلَهُمْ سواء الدار } [ الرعد : 25 ] أي : عليهم اللعنة ، وقال تعالى : { مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } [ فصلت : 46 ] وقال :
{ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الإسراء : 7 ] .
وهذا وعد منهما لمن آمن وصدق بالسلامة له من عقوبات الدنيا والآخرة والسلام والسلام بمعنى السلامة ، كما يقال : رضاع ورضاعة .
وقيل : هذا من كلام الله تعالى كأنه قال : « فَقُولاَ إنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ وَقُولاَ لَهُ والسَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى » ، وليس المراد منه التحية إنما معناه سَلِم من عذاب الله من أسلم .
قوله : « أرسِلْ مَعَنَا بَنِي إسْرَائيلَ » خلِّ عنهم وأطلقهم عن أعمالك « وَلاَ تُعَذِّبهُم » لا تتعبهم في العمل ، وكان فرعون يستعملهم في الأعمال الشاقة .
قوله تعالى : { لْعَذَابَ على مَن كَذَّبَ وتولى } هذه الآية من أقوى الدلائل على أن عقاب المؤمن لا يدوم ، لأن الألف واللام للاستغراق ، أو الإفادة ( الماهية ، وعلى ) التقديرين يقتضي انحصار هذا الجنس في « من كذب وتولى ) فوجب أن لا تحصل لغير المكذب المتولي .
وظاهر هذه الآية يقتضي بأنه لا يعاقب أحداً من المؤمنين بترك العمل به في بعض الأوقات ، فجب أن يبقى على أصله في نفي الدوام ، ولأن العقاب المتناهي إذا حصل بعد السلامة مدة غير متناهية صار ذلك العقاب كأنه لا عقاب فلذلك يجسن مع حصول ذلك القجر أن يقال : إنه لا عقاب .
وأيضاً فقوله : { والسلام على مَنِ اتبع الهدى } يقتضي حصول السلامة لكل من اتبع الهدى ، إذا فسَّرنا السلام بالسلامة . والعارف بالله قد اتبع الهدى ، فوجب أن يكون صاحب السلامة . ومعنى الآية : إنما يعذب الله من كذب بما جئنا به وأعرض عنه .
قوله : » أنَّ العَذَابَ « » أنَّ « وما في خبرها في محل رفع لقيامه الفاعل الذي حذف في » أُوْحِيَ إِلَيْنَا « بنائه للمفعول ( خوفاً أن يبدر من فرعون بادرة لمن أوحي لو سمياه فطويا ذكره تعظيماً له واستهانة بالمخاطب ) .
قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)
قوله : { قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى } وحده بعد مخاطبته لهما معاً إمَّا لأنَّ موسى هو الأصل في الرسالة وهارون تبع وردء ووزير وإما لأن فرعون كان لخبثه يعلم الرُّتَّة التي في لسان موسى ، ويعلم فصاحة هارون بدليل قوله : { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً } [ القصص : 34 ] وقوله : { وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } [ الزخرف : 52 ] فأراد استنطاقه دون أخيه .
وإما لأنه حذف المعطوف للعلم به أي : يا موسى وهارون وقاله أبو البقاء وبدأ به . وقد يقال : حَسَّنَ الحذف كون موسى فاصلة ، لا يقال : كان يغني في ذلك أن يقدم هارون ويؤخر موسى فيقال : يا هارون وموسى فتحصل مجانسة الفواصل من غير حذف ، لأن نداء موسى أهم فهو المبدوء به . واعلم أن في الكلام حذف ، لأنه لما قال { فَأْتِيَاهُ فقولاا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ } [ طه : 47 ] إلى قوله : { أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى } [ طه : 48 ] أمر من الله تعالى لموسى بأن يقول لفرعون ذلك الكلام والتقدير : فَذَهبا إلى فرعون فقالا له ذلك فقال مجيباً لهما من رَبُّكما؟
قوله : { أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ } في هذه الآية وجهان :
أحدهما : أن يكون « كُلُّ شَيْءٍ » مفعول أول و « خَلْقَهُ » مفعولاً ثانياً على معنى أعطى كل شيء شكله وصورتَه التي تطابق المنفعو المنوطة به كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار ، والأذن الهيئة التي تطابق الاستماع وتوافقه ، وكذلك اليد والرجل واللسان . قاله مجاهد . أو أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة حيث جعل الحصان والحَجْر زوجين ، والناقة والبعير ، والرجل والمرأة ، ولم يزاوج شيئاً منها غير جنسه ، ولا ما هو مخالف لخلقه .
( وقيل : المعنى أَعْطَى كلَّ شيءٍ مخلوقٍ خلقهُ ، أي هو الذي ابتدعه ) .
وقيل : المعنى أعطى كُلَّ شيءٍ مما خلق خلقته وصورته على ما يناسبه من الإتقان ، لم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم ، ولا بالعكس ، بل خلق كلَّ شيءٍ فقدَّره تقديراً .
الثاني : أن يكون « كُلَّ شَيْءٍ » مفعولاً ثانياً و « خَلْقَه » هو الأول فقدَّم الثاني عليه ، والمعنى : أعطى خليقَتَه كلَّ شيء يحتاجُون إليه ويرتفقون به .
وقرأ عبد الله والحسن والأعمش وأبو نُهَيْك وابن أبي إسحاق ونصرٌ عن الكسائيِّ وجماعةٌ من أصحاب رسول الله « خَلَقَهُ » بفتح اللام فعلاً ماضياً ، وهذه الجملة في هذه القراءة تحتمل أن تكون منصوبة المحلِّ لكلِّ أو في محل جرّ صفة لشيء . وهذا معنى قول الزمخشري : صفة المضاف يعني « كُلّ » ( أو للمضاف إليه يعني « شَيْء » ) ، والمفعول الثاني على هذه القراءة محذوف ، فيحتمل أن يكون حذفه حذف اختصار للدلالة عليه . أي : أعطى كل شيء خلقه ما يحتاج إليه ويصلحه أو كماله ، ويحتمل أن يكون حذفه حذف اقتصار ) ، والمعنى أنَّ كلَّ شيءٍ خلقه الله تعالى لم يُخْلِهِ من إنعامه وعطائه .
فصل
اعلم أن فرعون كان شديد القوة عظيم الغلبة كثير العسكر ، ثم إن موسى لما دعاه إلى ربه لم يبطش به ، ولم يؤذه ، فاستنكف من ذلك وشرع في المناظرة ، وذلك يدل على السفاهة من غير حجة شيء لم يرضه فرعون مع كمال جهله وكفره فكيف يليق ذلك بمن يدعي الإسلام والعلم؟ ثم إن فرعون لما سأل موسى -عليه السلام- عن ذلك قبل موسى ذلك السؤال ، واشتغل بإقامة الدلالة على وجود الصانع ، وذلك يدل على فساد التقليد ، ويدل أيضاً على قول التعليمية الذين يقولون : نستفيد معرفة الإله من قول الرسول ، لأن موسى -عليه السلام- اعترف هاهنا بأن معرفة الله تجب أن تكون مقدمة على معرفة الرسول . ودلت الآية أيضاً على أنه يجوز حكاية كلام المبطِل ، لأنه تعالى حكى كلام فرعون في إنكاره الإله ، وحكى شبهات منكري النبوة ، وشبهات منكري الحشر إلا أنه يجب أن يذكر الجواب مقروناً بالسؤال ( كما فعل الله تعالى في هذه المواضع لئلا يبقى الشك ) .
ودلت الآية على ان المحق يجب عليه استماع كلام المبطِل عنه من غير إيذاء ولا إيحاش ، كما فعل موسى عليه السلام بفرعون هاهنا ، ولقوله تعالى : { ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة } [ النحل : 125 ] ، وقال : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله } [ التوبة : 6 ] .
فصل
قال بعضهم : إنَّ فرعون كان عارفاً بالله تعالى إلا أنه كانَ يُظْهِرُ الإنكار تكبراً وتجبراً ، لقوله تعالى : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلاَّ رَبُّ السماوات والأرض } [ الإسراء : 102 ] فيمن نصب التاء في « عَلِمْتَ » كان ذلك خطاباً لموسى -عليه السلام- مع فرعون ، وذلك يدل على أن فرعون كان عالماً بذلك ، وقوله : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [ النمل : 14 ] . ولأنه لو لم يكن عاقلاً لم يجز تكليفه ، والعاقل بعلم بالضرورة أنه وجد بعد العدم ، ويعلم أن من كان كذلك افتقر إلى مدبَِّر ، وهذان العلمان الضروريان يستلزمان العلم بوجود المدبِّر ، ولأن قول موسى -عليه السلام- { رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } يقتضي ذلك ، لأن كلمة « الَّذِي » تقتضي وصف المعرفة بجملةٍ معلومةٍ عند المخاطب . وأيضاً فإن مُلْك فرعون لم يتجاوز القبطَ ، ولم يبلغ الشام ، ولما هرب موسى إلى مَدْيَنَ قال له شعيبٌ : { لاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمنين } [ القصص : 31 ] ، فمع هذا يعتقد أنَّه إله العالم؟
وقال آخرون : إنَّه كانَ جاهلاً بربِّه .
واتفقوا على أنَّ العاقل لا يَجُوزُ أن يعتقد في نفسه أنه خالق هذه السموات والأرض والشمس والقمر ، وأنه خالقُ نفسه ، لأنه يعلم بالضرورة عجزه عنها ، ويعلم بالضرورة أنها كانت موجودة قبله ، فَحَصَلَ له العلم الضروري بأنه ليس موجداً لها ولا خالقاً لها .
واختلفوا في كيفية جَهْلِه بالله تعالى ، فيحتمل أنه كان دهرياً نافياً للمدبِّر ، ويحتمل أنه كان فلسفياً قائلاً بالعلة الموجبة ، وبحتمل أنه كان من عبدة الكواكب ، ويحتمل أنه كان من الحلوليَّة ، وأما ادعاؤه الربوبية لنفسه فبمعنى أنه يجب عليهم طاعته والانقياد له .
فصل
قال هاهنا : { فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى } ، وقال في سورة الشعراء : { وَمَا رَبُّ العالمين } [ 23 ] ، وهو سؤال عن الماهية ، فهما سؤالان مختلفان ، والواقعة واحدة ، والأقرب أن يقال : سؤال « مَنْ » كان مقدماً على سؤال « مَا » ، لأنه كان يقول : أنا اللهُ والرَّبُّ ، فقال : « فَمَنْ رَبُّكُما » ، فلما أقام موسى الدلالة على الوجود ، وعرف أنه لا يمكنه أن يقاومه في هذا المقام ، لظهوره وجلائه ، عدل إلى طلب الماهية ، وهذا ينبه على أنه كان عالماً بالله ، لأنه ترك المنازعة في هذا المقام لعلمه بغاية ظهوره؛ وشرع في المقام الصعب ، لأن العلم بماهية الله تعالى غير حاصل للبشر .
قوله : « قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا » ولم يقل : « فَمَن إلَهُكُمَا » لأنه أثبت نفسه رباً في قوله : { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً } [ الشعراء : 18 ] ، فذكر ذلك على سبيل التعجب كأنه قال : أنَا رَبُّكَ فَلِمَ تدعي رَبًّا آخر ، وهذا يشبه كلام نمروذ حين قال له إبراهيم { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] قال نمروذ : { أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] ولم يكن الإحياء والإماتة التي ذكرها إبراهيم هي التي عارضه نمروذ بها إلا في اللفظ ، فكذا هاهنا لما ادعى موسى -عليه السلام- ربوبية الله تعالى ذكر فرعون هذا الكلام ، أي : أنا الرَّبُّ الذي ربيتك ، ومعلوم أن الربوبية التي ادعاها موسى لله تعالى غير هذه الربوبية في المعنى وأنه لا مشاركة بينهما إلا في اللفظ .
فصل
استدل موسى عليه السلام- على إثبات الصانع بأحوال المخلوقات ، وهو قوله : { رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } ، وهذه الدلالة هي التي ذكرها الله تعالى لمحمد -عليه السلام- في قوله : { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى } [ الأعلى : 1 ، 2 ، 3 ] وقال إبراهيم -عليه السلام- : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 77 ، 78 ] .
واعلم أن الخلق عبارة عن تركيب القوالب والأبدان ، والهدايةُ عبارة عن إيداع القُوَى المدركة والحركة في تلك الأجسام ، فالخلق مقدم على الهداية كما قال تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] إلى أن قال : { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } [ المؤمنون : 14 ] .
واعلم أن عجائب حكمة الله تعالى في الخلق والهداية بحر لا ساحل له ولنذكر منه أمثلة :
أحدها : أنَّ الطبيعي يقول : الثقيل هابط ، والخفيف صاعد ، وأثقل الأشياء الأرض ثم الماء ، وأخفها النار ثم الهواء ، فلذلك وجب أن تكون النار أعلى العنصريات والأرض أسفلها ، ثم إنه تعالى قلب هذا في خلقة الإنسان؛ فجعل أعلى الأشياء منه العظم والشعر ، وهما أيْبَسُ ما في البدن ، وهما بمنزلة الأرض ، ثم جعل تحته الدماغ الذي هو بمنزلة الماء ، وجعل تحته النفس التي هو بمنزلة الهواء ، وجعل تحته الحرارة الغريزية التي في القلب ، وهي بمنزلة النار ، فجعل مكان الأرض من البدن الأعلى ، وجعل مكان النار من البدن الأسفل ليعلم أن ذلك بتدبير القادر الحكيم لا باقتضاء العلة والطبيعة .
وثانيها : أنَّك إذا نظرت إلى عجائب النحل في تركيب البيوت المسدسة وقسمتها ، وعجائب أحوال البق والبعوض والنمل في اهتدائها إلى مصالح أنفسها لعرفت أن ذلك لا يمكن إلا بإلهام مدبر عالم بجميع المعلومات .
وثالثها : أنه تعالى هو الذي أنعم على الخلائق بما به قوامهم من المطعوم ، والمشروب ، والملبوس ، والمنكوح ، ثم هداهم إلى كيفية الانتفاع بها فيستخرجون المعادن من الجبال ، واللآلئ من البحار ، ويركبون الأدوية والدرياقات النافعة ، ويجمعون بين الأشياء المختلفة ، ويستخرجون لذائذ الأطعمة ، فدل ذلك على أنه تعالى هو الذي خلق الأشياء ثم أعطاهم العقول التي بها يتوصلون إلى كيفية الانتفاع بها ، وليس هذا مختص بالإنسان بل عام في جميع الحيوان ، فأعطى الإنسان إنسانةً ، والحمار حمارةً ، والبعير ناقةً هداه لها ليدوم التناسل ، وهدى الأولاد لثدي الأمهات ، بل هذا غيب مختص بالحيوانات ، بل هو حاصل في أعضائها ، فخلق اليد على تركيب خاص ، وأودع فيها قوة الأخذ ، وخلق الرِّجل على تركيب خاص ، فخلق اليد على تركيب خاص ، وأودع فيه قوة الأخذ ، وخلق الرَّجل على تركيب خاص ، وأودع فيها قوَّة المشي ، وكذا العين ، والأذن ، وجميع الأعضاء ، ثم ربط البعض بالبعض على وجه يحصل من ارتباطها مجموع واحد هو الإنسان .
وإنما دلت هذه الأشياء على وجود الصانع ، لأن اتصاف كلِّ جسمٍ من هذه الأجسام بتلك الصفة أعني التركيب والقوة الهادية إما أن يكون واجباً أو جائزاً ، والأول باطل لأنا نشاهد تلك الأجسام بعد الموت منفكة عن ذلك التركيب والقوى ، فدل على أن ذلك جائز ، والجائز لا بد له من مرجِّح ، وليس ذلك المرجِّح هو الإنسان ، ولا قواه ، لأنَّ فعل ذلك يستدعي قدرةً عليه ، وعلماً بما فيه من المصالح والمفاسد ، والأمران نائيان عن الإنسان ، لأنه بعد كمال عقله يعجز عن تغيير شعرة واحدة ، وبعد البحث الشديد عن كتب التشريح لا يعرف من منافع الأعضاء ومصالحها إلا القدر القليل؛ فلا بد وأن يكون المتولي لتدبيرها وترتيبها موجوداً آخر ، وذلك الموجود لا يجوز أن يكون جسماً ، لأن الأجسام متساوية في الجسمية ، واختصاص ذلك الجسم بتلك المؤثرية لا بد وأن يكون جائزاً فيفتقر إلى سبب آخر ، والدور والتسلسل محالان ، فلا بد من الانتهاء في سلسلة الحاجة إلى مدبر ليس بجسم ولا جسماني ، ثم تأثير ذلك المؤثر إما أن يكون بالذات أو بالاختيار ، والأول محال لأن الموجب لا يميز مثلاً عن مثل ، وهذه الأجسام متساوية في الجسمية فَلِمَ اختص بعضها بالصورة الفلكية وبعضها بالصورة العنصرية وبعضها بالنباتية ، وبعضها بالحيوانية؟
فثبت أن المؤثر والمدبر قادر ، والقادر لا يمكنه مثل هذه الأفعال العجيبة إلا إذا كان عالماً ، ثم إن هذا المدبر الذي ليس بجسم ولا جسماني ولا بد وأن يكون واجب الوجود في ذاته وصفاته ، وإلا لافتقر إلى مدبر آخر ، ولزم التسلسل ، وهو محال ، وإن كان واجب الوجود في قادريته وعالميتهن والواجب لذاته لا يتخصص ببعض الممكنات دون البعض ، فوجب أن يكون عالماً بكل ما صح أن يكون معلوماً ، وقادراً على كل ما صح أن يكون مقدوراً ، فظهر بهذه الدلالة التي تمسك بها موسى وقررها احتياج العالم إلى مدبر ليس بجسم ولا جسماني ، وهو واجب الوجود في ذاته وصفاته عالم بكل المعلومات ، قادر على كل المقدورات ، وذلك هو الله سبحانه وتعالى .
قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)
قوله : { قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى } البال : الفكر ، يقال : خطر بباله كذا ، ولا يثنى ولا يجمعن وشذ جمعه على بالات ، ويقال للحال المكترث بها ، وكذلك يقال : ما بَالَيتُ بالة ، والأصل بالية كعافية فحذفت لامه تخفيفاً .
فصل
قال المفسرون : البَالُ ، الحالُ ، أي ما حال القرون الماضية والأمم الخالية كقوم نوح وعاد وثمود .
وفي ارتباط هذا الكلام بما قبله وجوه :
الأول : أنَّ موسى -عليه السلام- لمَّا قرر أمر المبدأ قال فرعون : إن كان إثبات المبدأ ظاهراً إلى هذا الحد { قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى } ما أثبتوه بل تركوه ، فكأن موسى -عليه السلام- لما استدل على إثبات الصانع بالدلالة القاطعة قَدَح فرعونُ في تلك الدلالة بقوله : إنْ كانَ الأمرُ على ما ذكرت من قوة الدلالة وجب على أهل القرون الماضية أن لا يغفلوا عنها . فعارض الحجة بالتقليد .
الثاني : أنَّ موسى -عليه السلام- لما هدده بالعذاب في قوله : { أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى } [ طه : 48 ] قال فرعون : { قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى } فإنها كذبت ولم يعذبوا؟
الثالث : وهو الأظهر ، وأن فرعون لما قال : { فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى } [ طه : 49 ] فذكر موسى -عليه السلام- دليلاً ظاهراً على صحة دعواه فقال : { رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } [ طه : 50 ] خاف فرعون أن يزيد في تلك الحجة ، فيظهر للناس صدقه ، وفساد طريق فرعون ، فأراد أن يصرفه عن ذلك الكلام ، ويشغله بالحكايات فقال : { فَمَا بَالُ القرون الأولى } فلم يلتفت موسى -عليه السلام- إلى ذلك الحديث وقال : عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ « ولا يتعلق غرضي بأحوالهم ، ولا أشتغل بها ، ثم عاد إلى تتميم كلامه الأول ، وإبراز الدلائل الظاهرة على الوحدانية فقال { الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } ، وهذا الوجه هو المعتمد في صحة النظم .
فإن قيل : العلمُ الذي عند الرب ، كيف يكون في الكتاب؟ وذلك أن علم الله صفة قائمة به ، فكون صفة الشيء حاصلة في كتاب غير معقول ، فذكروا في الجواب وجهين :
الأول : معناه : أنه تعالى أثبت تلك الأحكام في كتاب عنده ليكون ما كتبه فيه ظاهراً للملائكة ، فيكون ذلك زيادة لهم في الاستدلال على أنه تعالى عالم بكل المعلومات ينزه عن السهو والغفلة ، ولقائل أن يقول : قوله : » فِي كِتَابٍ « يوهم احتياجه سبحانه في العلم إلى ذلك الكتاب ، وهذا وإن كان غير واجب لا محالة ولكنه لا أقل من أن يوهمه في أولالأمر لا سيما للكافر ، فكيف يحسن ذكره مع معاندٍ مثل فرعون في وقت الدعوة؟
الوجه الثاني : أن يفسِّر ذلك بأن بقاء تلك المعلومات في علمه سبحانه كبقاء المكتوب في الكتاب ، فيكون الغرض من هذا الكلام تأكيد القول بأن أسرارها مغلومة لله تعالى بحيث لا يزول منها شيء عن علمه ، ويؤكد هذا التفسير قوله بعد ذلك : { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } .
وقيل : إنما ردَّ موسى علم ذلك إلى الله ، لأنه لم يعلم ذلك فإن التوراة أنزلت بعد هلاك فرعون والمراد بالكتاب : اللوحُ المحفوظ .
قوله : { عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي } في خبر هذا المبتدأ وجوه :
أحدها : أنَّه « عِندَ رَبِّي » وعلى هذا فقوله : « فِي كِتَابٍ » متعلق بما تعلق به الظرف من الاستقرار ، أو متعلق بمحذوف على أنه حال من الضمير المستتر في الظرف ، أو خبر ثان .
الثاني : أن الخبر قوله : { عِندَ رَبِّي } ، فَعَلى هذا قوله : { فِي كِتَابٍ } معمول للاستقرار الذي تعلق به « في كتاب » كما تقدم في عكسه ، أو يكون حالاً من الضمير المستتر في الجار الواقع خبراً ، وفيه خلاف أعني تقديم الحال على عاملها المعنوي ، والأخفش يجيزه ويستدل بقراءة : { والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [ الزمر : 67 ] وقوله :
3662- رَهْطُ ابْنِ كُوزٍ مُحْقِبي أَدْرَاعِهِمْ ... فِيِهِمْ وَرَهْطُ رَبِيعَةَ بن حُذَارِ
وقال بعض النحويين : إنه إذا كان العامل معنوياً والحال ظرف أو عديله حَسُنَ التقديم عندالأخفش وغيره ، وهذا منه ، أو يكون ظرفاً للعلم نفسه ، أو يكون حالاً من المضاف إليه ، وهو الضمير في « عِلْمُهَا » ولا يجوز أن يكون « فِي كِتَابٍ » متعلقاً ب « عِلْمُهَا » على قولنا : إنَّ « عِنْدَ رَبِّي » الخبر ، كما جاز تعلق « عِنْدَ » بِهِ ، لئلا يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي وقد تقدم أنه لا يخبر عن الموصول إلا بعد تمام صلته .
الثالث : أن يكون الظرف وحرف الجر معاً خبراً واحداً في المعنى فيكون بمنزلة : هذا حلوٌ حامضٌ ، قاله أبو البقاء . وفيه نظر إذ كل منهما يستقل بفائدة الخبرية بخلاف هذا حُلْوٌ حامِضٌ . والضمير في « عِلْمُهَا » فيه وجهان : أظهرهما : عوده على « القُرُونِ » والثاني : عوده على القيام لدلالة ذكر « القُرُونِ » على ذلك لأنه سأله عن بعث الأمم ، والبعث يدل على يوم القيامة .
قوله : { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي } في هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنَّها في محل جر صفة ل « كِتَاب » ، والعائد محذوف تقديره : فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّه رَبِّي ، أو لا يضل حفظَه رَبِّي ، ف « رَبِّي » ، فاعل « يَضِلُّ » على هذا التقدير .
وقيل : تقديره : لا يَضِلُّ الكتابُ رَبِّي ، فيكون في « يَضِلُّ » ضمير يعود على الكتاب ، و « رَبِّي » منصوب على التعظيم ، وكان الأصل عن ربي ، فحذف الرحف اتساعاً .
يقال : ضَلِلْتُ كذا وضَلِلْتُه بفتح اللام وكسرها لغتان مشهورتان وأشهرهما الفتح .
والثاني : أنها مستأنفة لا محل لها من الإعراب -ساقها الله- تعالى- لمجرد الإخبار بذلك حكاية عن موسى .
وقرأ الحسن وقتادة والجحدري وعيسى الثقفي وابن محيصن وحماد بن سلمة « لا يَضِلُّ » بضم الياء ، أي لا يُضِلُّ رَبِّي الكِتَابَ ، أي : لا يضيعُه ، يقال : أضْلَلْتُ الشيء أي أضعته و « رَبِّي » فاعل على هذا التقدير .
وقيل : تقديره : لا يُضِلُّ أحدٌ رَبِّي عن علمه ، أي من علم الكتاب ، فيكون الربُّ منصوباً على التعظيم . وفرِّق بعضهم بين ضَلَلْت وأَضْلَلْتُ ، فقال : ضَلَلْتُ منزلي بغير ألف ، وأضْلَلْتُ بعيري ونحوه من الحيوان بالألف ، نقل ذلك الرماني عن العرب .
وقال الفراء : يقال : ضَلَلْتُ الشيْءَ إذا أخطأت في مكانه ، وَضَلِلْتُ لغتان ، فلم تهتد له كقوله : ضلَلْتُ الطريقَ والمنزلَ ، ولا يقال : أَضْلَلْتُه إلا إذا ضاع منك كالدابة انفلتت وشبهها .
قوله : « وَلاَ يَنْسَى » في فاعل « يَنْسَى » قولان :
أحدهما : أنه عائد على « رَبِّي » أي : ولا يَنْسَى رَبِّي ما أثبته في الكتاب .
والثاني : أن الفاعل ضمير عائد على « الكِتَابِ » على سبيل المجاز كما أسند إليه الإحصاء مجازاً في قوله : « إلا أحْصَاهَا » لما كان محلاً للإحصاء .
فصل
قال مجاهد في قوله : { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } : إن معنى اللفظين واحد أي : لا يذهب عليه شيء ولا يخفى عنه . وفرق الأكثرون بينهما ، فقال القفال : لا يَضِلُّ عن الأشياء ومعرفتها ، وما عُلِم من ذلك لم ينسه ، فاللفظ الأول إشارة إلى كونه عالماً بكل المعلومات ، وقوله : « وَلاَ يَنْسَى » دليلٌ على بقاء ذلك العلم أبد الآباد ، وهو إشارة إلى نفي التغير .
وقال مقاتل : لا يخطئ ذلك الكتاب رَبِّي ، ولا يَنْسَى ما فيه .
( وقال الحسن : لا يخطئ وقت البعث ولا ينساه . وقال أبو عمرو : وأصل الضلال الغيبوبة ، والمعنى : لا يغيب عن شيء ولا يغيب عنه شيء .
وقال ابن جرير : لا يُخطئ في التدبير ، فيعتقد فيما ليس بصواب كونه صواباً ، وإذا عرفه لا ينساه ) . وكلها متقاربة ، والتحقيق هو الأول . واعلم أن فرعون لمَّا سال موسى عن الإله فقال : « فَمَنْ رَبُّكُمَا » وكان ذلك ممّا سبيله الاستدلال ، أجاب بالصواب بأوجز عبارة ، وأحسن معنى ، ولما سأله عن القُرون الأولى ، وكان ذلك مما سبيله الإخبار لم يأته خبرمن ذلك ، وكلها إلى عالم الغُيوب .
قوله : { الذي جَعَلَ لَكُمُ } في هذا الموصول وجهان :
أحدهما : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أو منصوب بإضمار أمدح ، وهو على هذين التقديرين من كلام الله تعالى لا من كلام موسى ، وإنما احتجنا إلى ذلك ، لأن قوله : « فَأَخْرَجْنَا بِهِ » وقوله : { كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُمْ } وقوله : « مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ » إلى قوله : { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ } لا يتأتى أن يكون من كلام موسى يعني : أنه وصف ربَّه تعالى بذلك ، ثم التفت إلى الإخبار عن الله -تعالى- بلفظ التكلم؟
قيل : إنما جعلناه التفاتاً في الوجه الأول ، لأت المتكلم واحد بخلاف هذا فإنه لا يتأتى فيه الالفتات المذكور وأخواته من كلام الله .
والثاني : أن « الَّذِي » صفة ل « رَبِّي » ، فيكون في محل رفع أو نصب على حسب ما تقدم من إعراب « رَبِّي » . وفيه ما تقدم من الإشكال في نظم الكلام من قوله : « فَأخْرَجْنَا » وأخواته من عدم جواز الالتفات ، وإن كان قد قال بذلك الزمخشريي والحوفي . وقال ابن عطية : إن كلام موسى تم عند قوله : { وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً } وأن قوله : « فَأخْرَجْنَا » إلى آخره من كلام الله تعالى . وفيه وقرأ الكوفيون « مَهْداً » بفتح الميم وسكون الهاء من غير ألف . والباقون : « مَهَاداً » بكسر الميم وفتح الحاء وألف بعدها . وفيه وجهان :
أحدهما : ثال المفضل : إنَّهما مصدران بمعنى واحد يقال : مَهَّدْتُهُ مَهْدًا ومِهَاداً .
والثاني : أنهما مخلفان ، فالمِهَادُ هو الاسم ، والمَهْد هو الفعل كالفرش والفراش ، فالفَرْش المصدر ، والفراش اسم لما يُفْرَش . أو أن مِهَاداً جمع مَهْد نحو فَرْخ وفرَاخ وكَعْب وكِعَاب . ووصف الأرض بالمَهْد إما مبالغة ، وإما على حذف مضاف أي ذات مَهْدِ .
قال أبو عبيد : الذي اختاره مِهَاداً وهو اسم والمَهْد الفعل .
وقال غيره : المَهْد الاسم والمِهَادُ الجمع كالفَرْش والفِرَاشِ .
أجاب أبو عبيد : بأن الفَرْشَ والفِرَاشَ فعل .
قوله : « شَتَّى » فَعْلَى ، وألفه للتأنيث ، وهو جمع الشَّتيت نحو مَرْضَى في جميع مَرِيض ، وجَرْحَى في جمع جَرِيح ، وقتلى في جمع قتيل .
يقال : شَتَّ الأمرُ يَشِتُّ شَتًّا وَشَتَاتاً فهو شَتٌّ أي تفرق ، وشَتَّان اسم فعل ماض بمعنى : افْتَرَقَ ، ولذلك لا يكتفي بواحد . وفي « شَتَّى » أوجه :
أحدها : أنَّها منصوبةٌ نعتاً لأزواج ، أي أزواجاً متفرقة ، بمعنى مختلفة الألوان ( والطعوم ) .
والثاني : أنَّها منصوبةٌ على الحال من أزواج ، وجاز مجيء الحال من النكرة لتخصصها بالصفة ، وهي « مِنْ نَبَاتٍ » .
الثالث : أن تنتصب على الحال أيضاً من فاعل الجار ، لأنه لما وقع وصفاً وقع ضميراً فاعلاً .
الرابع : أنه في محل جر نعتاً لنبات ، قال الزمخشري : يجوز أن يكون صفة لنبات ، ونبات مصدر سمي به النبات كما سمي بالنبت ، واستوى فيه الواحد والجمع ، يعني : أنها شَتَّى مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة والشكل ، بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم ووافقه أبو البقاء أيضاً ، والظاهر الأول .
قوله : « كُلُوا » منصوب بقول محذوف ، وذلك القول منصوب على الحال من فاعل « أخْرَجْنَا » تقديره : فأخرَجْنَا كَذَا قائلينَ كُلُوا .
وترك مفعول الأكل على حد تركه في قوله تعالى : « وَكُلُوا واشْرَبُوا » « وارْعُوا » ( رعى ) يكون لازماً ومتعدياً ، يقال : رَعَى دابَّته رعياً فهو راع ، ورعى الدابة تَرْعَى رعياً فهي راعية ، وَجَاء في الآية متعدياً ، و « النُّهَى » فيه قولان : أحدهما أنه جمع نُهْيَة كغُرَف جمع غرفة .
والثاني : أنَّها اسمٌ مفرد ، وهو مصدر كالهُدَى والسُّرى ، قاله أبو عليّ وقد تقدم أول الكتاب أنهم قالوا لم يأت مصدر على « فُعَلٍ » من المعتل اللام إلا سُرَى وهُدَى وبُكَى ، وأن بعضهم زاد لُقَى ، وأنشد عليه بيتاً .
وهذا لفظ فيكون خامساً . والنُّهَى : العقل سُمِّي لعقل به ، لأنه صاحبه عن ارتكاب القبائح .
فصل
لما ذكر موسى -عليه السلام- الدلالة الأولى ، وهي ( دِلاَلَةٌ عامَّة « تتناول جميع المخلوقات من الحيوان والنبات والجماد ذكر بعده دلائل خاصة فقال : » الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأرضَ مِهَاداً « أي جعلها بحيث يتصرف العباد ، وغيرهم عليها من النوم ، والقُعُود ، والقِيَام ، والزراعة ، وجميع المنافع المذكورة في تفسير قوله تعالى : { الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً } [ البقرة : 22 ] .
{ وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } السَّلْكُ : إدخال الشيء في الشيء ، أي : أدْخَلَ فِي الأرْضِ لأجلكم طُرُقاً تسلكونها .
قال ابن عباس : سَهَّل لكم فيها طرقاً . { وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً } تقدم الكلام فيه في البقرة » فَأخْرَجْنَا بِهِ أزْوَاجَاً « تقدَّم أنّ هذا من كلام موسى تقديره : يقول ربِّي الذي دعل كذا وكذا » فأخْرَجْنَا « نحن معاشر عباده بذلك الماء بالحراسة » أزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ « .
وتقدم أنَّ الصحيح أنه من كلام الله تعالى ، لأنَّ ما بعده لا يليق بموسى -عليه السلام- ، ولأن أكثر ما في قدرته صرف المياه إلا سَقْي الأراضي والحراسة ، فأما إخراج لنبات على أصناف طبائعه وألوانه وأشكاله فليس من موسى عليه السلام ، فثبت أنه كلام الله تعالى .
وقوله : » أزْوَاجاً « أي أصنافاً سميت بذلك ، لأنها مزدوجة مقترنة بعضها ببعض . » شَتَّى « مختلفة الألوان والطعوم والمنافع بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم .
» كُلُوا « أمر إباحة . » وَارْعَوْا أنْعَامَكُمْ « تقول العرب : رَعَيْتُ الغنمِ فَرَعَت أي أسِيموا أنْعَامَكُمْ تَرْعَى . » إنَّ في ذَلِكَ « أي فيما أنزلت لكم من هذه النعم » لآيَاتٍ « لعبرة ودلالات . » لأُولِي النُّهَى « لذوي العقول .
( قال الضحَّاك ) » لأُولِي النُّهَى « الذي ينتهون عما حرم الله عليهم .
وقال قتادة : لذَوِي الورع .
قوله تعالى : » مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ « الآية ، لما ذكر منافع الأرض السماء بيَّن أنَّها غير مخلوقة لذواتها ، بل بكونها وسائل إلى منافع الآخرة ، فقال : » مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ « أي من الأرض .
فإن قيل : إنَّما خَلَقَنَا من النُّطْفَةِ على ما بَيَّنَ في سائر الآيات .
فالجواب من وجوه :
الأول : أنَّه لمَّا خَلَق أصلنا وهو آدم -عليه السلام- من تُرابٍ كما قال تعالى : { كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] حسن إطلاق ذلك علينا .
الثاني : أنَّ تَوَلُّدَ الإنسان إنَّما هو من النطفة ودم الطمث ، وهما يتولدَّان من الأغذية ، والغذاء إما حيواني أو نباتي ، والحيواني ينتهي إلى النباتي ، والنبات إنما يحدث من المتزاج الماء والتراب ، فصح أنه سبحانه خَلَقَنا مِنْهَا ، وذلك لا ينافي كوننا مخلوقين من النطفة .
الثالث : روى ابن مسعود أن مَلَكَ الأرحام يأتي إلى الرَّحيم حين يكتب أجل المولود ورزقَه ، والأرض التي يُدْفَن فيها ، وأنه يأخذ من تراب تلك البقعة وينثره على النطفة ، ثم يدخلها في الرحم . ثم قال : { وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } أي عند الموت ، { وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى }
ج50.
ج50. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا } الآية . هذه الرؤية بصرية فلما دخلت همزة النقل تعدت بها إلى اثنين أولهما الهاء والثاني « آيَاتِنَا » . والمعنى : أبْصَرْنَاه ، والإضافة هنا قائمة مقام التعريف العهدي ، أي : الآيات المعروفة كالعصا واليد ونحوهما . وإلا فَلَم يُرِ الله تعالى فرعون جميع آياته .
وجوَّز الزمخشري أن يراد بها الآيات على العموم ، بمعنى أن موسى -عليه السلام- أراه الآية التي بعث بها وعدد عليه الآيات التي جاءت بها الرسل قبله عليهم السلام وهو نبيٌّ صادق لا فرق بين ما يخبر عنه وبين ما يشاهد به .
قال أبو حيان : وفيه بُعد ، لأن الإخبار بالشيء لا يسمَّى رؤية له إلا بمجاز بعيد وقيل : بل الرؤية هنا قلبية ، فالمعنى : أعْلَمْنَاهُ ، وأيَّد ذلك أنه لم يُرِه إلا العصا واليد فقط .
ومن جوَّز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، أو إعمال المشترك في معنييه يجيز أن يراد المعنيان جميعاً .
وتأكيد الآيات ب « كُلَّها » يدل على إرادة العموم ، لأنهم قالوا : فائدة التوكيد بكلٍّ واخواتها رفع توهم وضع الأخص موضع الأعم فلا يُدَّعى أنه أراد بالآيات آيات مخصوصة ، وهذا يتمشى على أن الرؤية قلبية .
ويراد بالآيات ما يدل على وحدانية الله تعالى وصدق المبلِّغ ، فأما الآيات الدالة على الوحدانية فقوله : { الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } [ طه : 50 ] ، وقوله : { الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً } [ طه : 53 ] إلى آخره . وما ذكره في سورة الشعراء : { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين قَالَ رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ } [ الشعراء : 23- 24 ] الآيات . وأما الآيات الدالة على صدق المبلِّغ فهي الآيات التسع المختصة بموسى -عليه السلام- ، وهي العَصَا ، واليَد ، وفلقُ البرح ، والحجرُ ، والجرَادُ ، والقملُ ، والضَّفَادِع ، والدَّم ، ونَتْقُ الجَبَلِ . ومعنى « أَرَيْنَاهُ » عرَّفنا صحتها ، وأوضحنا له وجه الدلالة فيها . وإنا أضاف نفخَ الروح إلى نفسه فقال : { فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا } [ الأنبياء : 91 ] مع أن النفخَ كان من جبريل ( عليه السلام ) -ولم يذكر مفعول التكذيب والإباء تعظيماً له ، وهو معلوم .
قوله : { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا } يعني الآيات التسع « فَكَذَّب » بها وزعم أنها سِحْرٌ « وَأبَى » أن يسلم .
فإن قيل : قوله : « كُلَّهَا » يفيد العموم ، والله -تعالى- ما أراه جميع الآيات ، لأن من جملة الآيات ما أظهرها على أيدي الأنبياء قبل موسى -عليه السلام وبعده .
فالجواب : لفظ الكُلِّ وإنْ كانَ للعموم لكن قج يستعمل في الخصوص مع القرينة ، كما يقال : دَخَلْتُ السوق فاشتريت كلَّ شيء ، أو يقال إن موسى -عليه السلام- أراه آياته ، وعدد عليه آيات غيره من الأنبياء ، فكذَّب فرعونُ بالكُلِّ ، أو يقالأ : تكذيب بعض المعجزات يقتضي تكذيب الكل ، فحكى الله -تعالى- ذلك على الوجه الذي يلزم .
قال القاضي : الإباء الامتناع ، وإنه لا يوصف به إلا من كَذَّبَ بتمكنٍ من الفعل والترك ، ولأنه تعالى ذمَّه بأنه كذَّب ، وبأنه أبَى ، وإن لم يقدر على ما هو فيه لم يصح . وهذا السؤال وجوابه تقدم ذمَّه بأنه كذَّب ، وبأنه أبَى ، وإن لم يقدر على ما هو فيه لم يصح . وهذا السؤال وجوابه تقدم في سورة البقرة في { إِبْلِيسَ أبى واستكبر } [ 34 ] .
قوله : { أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا } يعني مصر { بِسِحْرِكَ ياموسى } وتركيب هذه الشبهة عجيب ، وذلك لأنه ألقى في مسامعهم ما يصيرون مبغضين له جداً بقوله : { أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا } ، لأن هذا مما يشق على الإنسان في النهاية ، ولذلك جعله الله تعالى مساوياً للقتل في قوله { اقتلوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخرجوا مِن دِيَارِكُمْ } [ النساء : 66 ] ، ثم لما صاروا في نهاية البغض له أورد الشبهة الطاعنة في نبوته -عليه السلام- وهي أنَّ ما جئتنا به سِحْرٌ لا معجز ، ولمَّا علم أنَّ المعجز إنما يتميز عن السحر ، لكون المعجز مما يتعذر بمعارضته قال : { فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ } .
قوله : « فَلَنَأتِيَنََّكَ » جواب قسم محذوف تقديره : والله لنأتينَّكَ . وقوله « بِسِحْرٍ » يجوز أن يتعلق بالإتيان وهذا هو الظاهر . ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنَّه حال من فاعل الإتيان أي ملتبسين بسحرٍ .
قوله : « مَوْعِداً » يجوز أن يكون زماناً كقوله : { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح } [ هود : 81 ] ويرجحه قوله : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة } ، ( والمعنى : عَيَّن لنا وَقْتَ اجتماعنا ، ولذبك أجابهم بقوله : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة } وضعَّفوا هذا بأنه ينبو عنه قوله : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة } .
وبقوله : « لاَ نُخْلِفُه » . وأجاب عن قوله : « لاَ نُخْلِفُهُ » بأن المعنى : لا نخلف الوقت في الإجماع فيه . ويجوز أن يكون مكاناً . والمعنى : بَيِّنْ لنا مكاناً معلوماً نعرفه نحن وأنت فنأتيه ، ويؤيد بقوله : « مَكَاناً سُوًى » . قال فهذا يدل على أنه مكان ، وهذا يَنْبُو عنه قوله : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة } ، ويجوز أن يكون مصدراً أي اجعل بيننا وبينك وعداً لا نخلِفه ، ويؤيد هذا قوله : { لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ } ، لأن الموعد هو الذي يصح وصفه بالخلف وعدمه ، وإلى هذا نحا جماعة مختارين له ويُرَدُّ عليهم بقوله : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة } ( فإنه لا يطابقه ) .
وقال الزمخشري : إن جعلته زماناً نظراً في أن قوله : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة } مطابق له ، لزمك شيئان : أن تجعل الزمان مخلفاً ، وأن يعضل عليك ناصب مكاناً ، ( وإن جعلته مكاناً ) لقوله : « مَكَاناً سُوى » لزمك أيضاً أن توقع الإخلاف على المكان ، وأن لا يطابق قوله : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة } ، وقراءة الحسن غير مطابقة له زماناً ومكاناً جميعاً ، لأنه قرأ « يَوْمَ الزِّينَةِ » بالنصب ، فقي أن يُجْعَل مصدراً يعني الوعد ، ويقدِّر مضاف محذوف أي : مكان الوعد ، ويجعل الضمير في « تُخْلِفُه » للموعد ، و « مكاناً » بدل من المكان المحذوف .
فإن قلت : فكيف طابقه قوله : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة } ولا بد من أن تجعله زماناً والسؤال واقع عن المكان لا عن الزمان؟ قلت : هو مطابق معنى وإن لم يطابقه لفظاً ، لأنهم لا بدَّ لهم أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان بعينه مشتهر باجتماعهم فيه في ذلك الزمان ، فبذكر الزمان علم المكان وأما قراءة الحسن فالموعد فيها مصدر لا غير ، والمعنى : إنجاز وَعْدِكم يوم الزينة ، وطابق هذا أيضاً من طريق المعنى ، ويجوز أن لا يقدر مضاف محذوف ويكون المعنى : اجْعَلْ بينَنَا وبينَك وَعْداً لا نُخْلِفُه .
وقال أبو البقاء : هو هنا مصدر لقوله : { لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ } والجعل هنا بمعنى التصير و « مَوْعِداً » مفعول أول ، والظرف هو الثاني ، والجملة من قوله : « لاَ نُخْلِفُهُ » صفة لموعد ، و « نَحْنُ » توكيدٌ مصحِّحٌ للعطف على الضمير المرفوع المستتر في « نُخْلِفُه » و « مكاناً » بدل من المكان المحذوف كما قدره الزمخشري . وجوز أبو علي الفارسي وأبو البقاء أن ينتصب « مَكَاناً » على المفعول الثاني ل « اجْعَلْ » قال : و « مَوْعِداً » على هذا مكان أيضاً ، ولا ينتصب بموعد لأنه مصدر قد وصف .
يعني أنه يصح « نصبه مفعولاً ثانياً ، ولكن بشرط أن يكون الموعد بمعنى المكان ليطابق المبتدأ الخبر ) في الأصل . وقوله : ولا ينتصب بالمصدر يعني أنه لا يجوز أن يدعي انتصاب » مَكَاناً « بموعد ، والمراد بالموعد المصدر ، وإن كان جائزاً من جهة المعنى ، لأن الصناعة تأباه ( وهو وصف المصدر . والمصدر شرط إعماله : عدم وصفه قبل العمل عند الجمهور ) .
وهذا الذي منعه الفارسي وأبو البقاء جوزه الزمخشري وبدأ به فقال : فإن قلت : فيم ينتصب » مكاناً « ؟ قلت » بالمصدر أو بما يدل عليه المصدر . فإن قلت : كيف يطابقه ( فالجواب ) : فقلت : أما على قراءة الحسن فظاهر ، وأما على قراءة العامة فعلى تقدير : ( وَعْدَكم وَعْدَ يوم زينة .
قال أبو حيان : وقوله : إنَّ « مكاناً » ينتصب بالمصدر ) ليس بجائز ، لأنه قد وصف قبل العمل بقوله : « لاَ نُخْلِفُه » ، وهو موصول ، والمصدر إذا وصف قبل العمل لم يجز أن يعمل عندهم . قال شهاب الدين : الظروف والمجرورات يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها ، وفي المسألة خلاف مشهور . وأبو القاسم نحا إلى جواز ذلك .
وجعل الحوفيُّ انتصاب « مكاناً » على الظرف زانتصابه ب « اجْعَل » فتحصل في نصب « مكاناً » خمسة أوجه :
أحدها : أنه بدلٌ من ( مكاناً ) المحذوف .
الثاني : أنَّه مفعول ثانٍ للجَعْل .
الثالث : أنّضهُ نُصبَ بإضمار فعل .
الرابع : أنَّه منصوبٌ بنفس المصدر .
الخامس : أنَّه منصوبٌ على الظرف بنفس « اجْعِلْ » .
وقرأ أبو جعفر وشيبة : « لا نُخْلِفْه » بالجزم على جواب الأمر والعامى بالرفع على الصفة لموعدكم كما تقدم .
وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم والحسن : « سُوًى » بضم السين منوناً وصلاً .
والباقون : بكسرها . وهما لغتان مثل : عِدًى وعُدًى وطِوًى وطُوًى ، فالكسر والضم على أنها صفة بمعنى مكان عدلٍ إلاَّ أنَّ الصفة على فُعَل كثيرة نحو لُبَد وحُطَم ( وقليلة على فِعَل .
ولم ينوِّن الحسن « سُوَى » أجرى الوصل مجرى الوقف ولا جائز أن يكون منع صرفه للعدل وعلى فُعَل كعُمَر ، لأن ذلك في الأعلام ، وأما فُعَل في الصفات فمصروفة نحو حُطَم ، ولُبد ) .
وقرأ عيسى بن عمر « سِوَى » بالكسر من غير تنوين وهي كقراءة الحسن في التأويل . ( وسوى معناه : عدلاً ونصفة . قال الفارسي : كأنه قال قربهُ منكُم قِرْبَةً منَّا .
قال الأخفش ) : « سوى » مقصور إن كسرت سينه أو ضممت ، وممدود إن فتحتها ، ثلاث لغات ، ويكون فيها جميعاً بمعنى غَيْر ، وبمعنى عدل ووسط بين الفريقين ، قال الشاعر :
3663- وَإنَّ أبَانَا كَانَ حَلَّ بِبَلْدَةٍ ... سِوًى بَيْنَ قَيْسٍ قَيْسِ عَيْلاَنَ والفِزَرْ
قال : وتقول : مررتُ برجل سِواك وسُواك وسَوائِك أي غيرك ، ويكون للجميع وأعلى هذه اللغات الكسر . قاله النحاس .
وزعم بعض أهل اللغة والتفسير أنَّ معنى : « مَكَاناً سوًى » مستوٍ من الأرض ولا وعر فيه ولا جبل .
فصل
قال مقاتل وقتادة : مكاناً وعدلاً بيننا وبينك . وعن ابن عباس نصفاً أي : يستوى مسافة الفريقين إليه . وقال مجاهد : منصفاً بيننا . قال الكلبي : مكاناً سوى هذا المكان الذي نحن فيه .
وقال ابن زيد : مستوٍ لا يحجب العين ما فيه من الارتفاع والانخفاض حتى يشاهد كل الحاضرين كل ما يجري .
وقيل : « سِوَى » أي يستوي حالنا في الرضا به .
قوله : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة } العامة على رفع « يَوْمُ الزينة » خبراً ل « مَوْعِدِكُمْ » ، فإن جعلت « مَوْعِدُكُم » زماناً لم يحتج إلى حذف مضاف ، إذى التقدير : زمانُ الوعدِ يَوْمَ الزينة . ( وإنْ جعلتَه مصدراً احتجت إلى حذف مضاف تقديره : وَعْدُكُمْ وَعْدَ يومِ الزينة ) .
وقرأ الحسن والعمش وعيسى وعاصم في بعض طرقه وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقتادة والجحدري ( وهبيرة ) « يَوْمَ » بالنصب ، وفيه أوجه :
أحدها : أن يكون خبراً لمَوْعِدُكم أن المراد بالموعد المصدر ، أي وَعْدُكُم كائنٌ في يوم الزِّينَةِ كقولك : القتال يوم كذا والسفر غداً .
الثاني : أن يكون « مَوْعِدُكم » مبتدأ ، والمراد به الزمان ، و « ضُحى » خبره على نية التعريف فيه ، لأنه ضحى ذلك اليوم بعينه . قاله الزمخشري ولم يبين ما الناصب ل « يَوْمَ الزِّيِنَةِ » ولا يجوز أن يكون منصوباً ب « مَوْعِدُكم » على هذا التقدير ، لأن مَفْعِلاً مراداً به الزمان أو المكان لا يعمل وإن كان مشتقاً ، فيكون الناصب له فعلاً مقدراً .
وواخذه أبو حسان في قوله : على نية التعريف . قال : لأنه وإن كان ضُحَى ذلك اليوم بعينه فليس على نية التعريف بل هو نكرة ، وإن كان من يوم بعينه ، لأنه ليس معدولاً عن الألف واللام كسَحَر ، ولا هو معف بالإضافة ، ولو قلت : جئت يوم الجمعة بَكراً ، لم ندع أن بكراً كعرفة وإن كنت تعلم أنه من يوم بعينه .
الثالث : أن يكون « مَوْعِدُكُم » مبتدأ ، والمراد به المصدر ، و « يَوْمَ الزِّينَةِ » ( ظرف له ، و « ضُحَى » منصوب على الظرف خبراً للموعد كما أخبر عنه في الوجه الأول ب « يَوْمَ الزِّينَةِ » ) نحو : القتال يوم كذا .
قوله : « وَأنْ يُحْشَرَ النَّاسُ » في محله وجهان :
أحدهما : البحر نسقاً ( على الزينة أي : مَوْعِدُكُم يومَ الزّينةِ ويوم أن يُحْشَرَ ويومَ حَشْر النَّاس ) .
والثاني : الرفع نسقاً على « يوم » . التقدير : موعدكم يوم كذا وموعدكم أن يُحْشَرَ الناس أي حشرهم .
وقرأ ابن مسعود والجحدري وأو نهيك وعمرو بن فائد « وَأنْ تَحْش الناس » بتاء الخطاب في « تَحْشرَ » وروي عنهم « يَحشر بياء الغيبة ، و » الناسَ « نصب في كلتا القراءتين ( على المفعولية ) والضمير في القراءتين لفرعون أي وأن تَحْشرَ أنتَ يا فرعونُ ( أوْ وأنْ يَحْشُرَ فرعون ) .
وجوز بعضهم أن يكون الفاعل ضمير اليوم في قراءة الغيبة ، وذلك مجاز لما كان الحشر واقعاً فيه نشب إليه نحو : نهاره صائم ، وليله قائم .
و » ضُحَى « نصب على الظرف العامل فيه » يُحْشَر « ويذكر ويؤنث » والضَّحاء « بالمد وفتح الضاد فوق الضحى ، لأن الضُّحى ارتفاع النهار والضَّحاءُ بعد ذلك ، وهو مذكر لا غير .
فصل
قال مجاهد وقتادة والسدي : » يَوْمُ الزِّينَةِ « كان يوم عيد لهم يتزيَّنُون فيه ، ويجتمعون في كل سنة . وقيل : هو يوم النيروز ، قاله مقاتل .
وقال ابن عباس وسعيد بن جبير : يوم عاشوراء .
واختلفوا في القائل { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة } فقيل : هو فرعون بيِّن الوقت . قال : القاضي : لأن المطالب بالاجتماع هو فرعون .
والظاهر أنه من كلام موسى لأن جواب لقول فرعون { فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً } وأيضاً : إن تعيين يوم الزينة يقتضي اطلاع الكل على ما سيقع فيه ، فتعيينه إنما يليق بالمحق الذي يعرف أن اليد له لا بالمبطل الذي يعرف أنه لس معه إلا التلبيس .
وأيضاً : فقوله : » مَوْعِدُكُمْ « خطاب للجميع ، فلو جعلناه من فرعون لموسى وهارون لزم إما حمله على التعظيم وذلك لا يليق بحال فرعون معهما ، أو على أن أقل الجمع اثنان وهو غير جائز ، أما لو جعلناه من موسى إلى فرعون وقومه استقام الكلام .
وإنما أوعدهم ذلك اليوم ، ليكون علو كلمة الله ، وظهور دينه وكبت الكافرين ، وزهوق الباطل على رؤوس الأشهاد في المجمع العام ليكثر المحدث بذلك الأمر العجيب في كل بدو وحضر ، ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر . قال القاضي : إنه عين اليوم بقوله » يَوْمَ الزِّينَةِ « ، ثم عين من اليوم وقتاً معيناً بقوله : { وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى } أي : وقت الضحوة نهاراً جهاراً .
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62)
قوله : { فتولى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أتى } التَّولِّي : قد يكون إعراضاً وقد يكون انصرافاً ، والظاهر أنه هنا بمعنى الانصراف ، وهو مفارقة موسى عن الحق « فَجَمَعَ كَيْدَهُ » مكره ، وقومه ، وحيله ، وسحرتهن وآلاته « ثُمَّ أتَى » الموضع بما جمعه .
قال ابن عباس : كانوا اثنين وسبعين ساحراً مع كل واحد منهم حبل وعصا .
وقيل : كانوا أربعمائة . وقال كعب : اثني عشر ألفاً . وقيل : أكثر من ذلك . ثم ضربت لفرعون قبة فجلس فيها ينظر إليها ، وكان طول القبة سبعون ذراعاً . فقال لهم موسى عند ذلك يعني للسحرة الذين جمعهم فرعون { وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } أي : لا تزعموا أن الذي جئت به ليس بحق ، وأنه سحر ، وأنكم متمكنون من معارضتي ، فَيُسْحِتَكم الله بعذاب أي : فيهلككم ، قاله مقاتل والكلبي .
وقال قتادة : فيستأصلكم { وَقَدْ خَابَ مَنِ افترى } .
الخيبة : الحرمان والخسران .
قوله : « وَيْلَكُمْ » قال الزجاج : يجوز في انتصاب « وَيْلَكُمْ » أن يكون المعنى ألزمهم الله وَيْلاً إن افتروا على الله ، ويجوز على النداء كقوله : { ياويلتا أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ } [ هود : 72 ] { قَالُواْ ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } [ يس : 52 ] .
قوله : « فَيُسْحِتَكُمْ » قرأ الأخوان وحفص عن ( عاصم « فَيُسْحِتَكُم » بضم الياء وكسر الحاء . والباقون بفتحهما .
فقراءة الأخوين من أسْحَتَ رباعياً وهي لغة نجد وتميم .
قال ) الفرزدق التميمي :
3664- وعَضَّ زَمَانٍ يَا ابْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ ... مَنَ المَالِ إلاَّ مُسْحَتاً أوْ مُجَلِّفُ
وقراءة الباقين من سحته ثلاثياً وهي لغة الحجاز ، وأصل هذه المادة لدلالة على الاستقصاء والنفاد ، ومنه سحت الحالق الشعر الذي استقصاه ، فلم يترك منه شيئاً ، ويستعمل في الإهلاك والإذهاب ، ونصبه بإضمار أن في جواب النهي .
ولمَّا أنشد الزمخخشري قول الفرزدق :
.. . . . ( إلاَّ مُسْحَتاً أوْ مُجَلَّفُ )
قال بعد ذلك : في بيت لم تزل الرُّكَبُ تصطك في تسوية إعرابه .
قال شهاب الدين : يعني : أن هذا البيتَ صعبُ الإعراب ، وإذ قد ذكر ذلك فلنذكر ما ورد في هذا البيت من الروايات ، وما قاله الناس في ذلك على حسب ما يليق بهذا الموضوع ، فأقول وبالله الحول : روي هذا البيت بثلاث روايات كل واحدة لا تخلو من ضرورة . الأولى : ( لَمْ يَدَع ) بفتح الياء والدال ، ونصب مُسْحَت وفي هذه خمسة أوجه :
الأول : أن معنى ( لَمْ يَدْعُ مِنَ المَالِ مُسْحَتاً ) لم يبق إلا مُسْحَتٌ ، فلما كان هذا في قوة الفاعل عطف عليه قوله : ( أو مُجَلَّفُ ) ( بالرفع ) ، وبهذا البيت استشهد الزمخشري على قراءة أبَيّ والأعمش { فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } [ البقرة : 249 ] ( برفع قليل ) وقد تقدم .
الثاني : أنه مرفوع بفعل مقدر دل عليه ( لَمْ يَدَع ) والتقدير : أو بقي مُجَلَّف .
الثالث : أن ( مُجَلَّف ) مبتدأ وخبره مضمر ، تقديره : أو مُجَلَّفٌ كذلك وهو تخريج الفراء .
الرابع : أنه معطوف على الضمير المستتر في « مُسْحَتاً » وكان من حق هذا أن يفصل بينهما بتأكيد ما إلا أنَّ القائل بذلك وهو الكسائي لا يشترط ، وأيضاً « فهو جائز ( في الضرورة ) عند الكل .
الخامس : أن يكون ( مُجَلَّفُ ) مصدراً بزنة اسم المفعول ، كقوله تعالى : { كُلَّ مُمَزَّقٍ } [ سبأ : 7 ] أي تجليف وتمزيق ، وعلى هذا فهو نسق على » عَضُّ زَمَانٍ « إذ التقدير : رَمَتْ بِنَا هُمُومُ المُنَى وعَضَّ زَمَانٍ أو تجليفٍ فهو فاعل لعطفه على الفاعل ، وهو قول الفارسي ، وهو أحسنها .
الرواية الثانية : فتح الياء وكسر الدال ورفع مُسْحَت ، وتخريجها واضح ، وهو أن يكون من ودع في بيته يدع فهو وادع بمعنى بقي يبقى فهو باق ، فيرتفع » مُسْحَت ، وتخريجها واضح ، وهو أن يكون من ودع في بيته يدع فهو وادع بمعنى بقي يبقى فهو باق ، فيرتفع « مُسْحَتٌ » بالفاعلية ، ويرفع ( مُجَلَّفٌ ) بالعطف عليه ولا بد حينئذ من ضمير محذوف تقديره : من أجله أو بسببه ليرتبط الكلام .
الرواية الثالثة : ( يُدَع ) بضم الياء وفتح الدال على ما يسمَّ فاعله و ( مُسْحضتٌ ) بالرفع لقيامه مقام الفاعل و ( مُجَلَّف ) عطف عليه ، وكان من حق الواو أن لا تحذف بل تثبت ، لأنها لم تقع بين ياء وكسرة ، وإنما حذفت حملاً للمبني للمفعول على المبني للفاعل .
وفي البيت كلام أطول من هذا تركته اختصاراً ، وهذا لبُّه ، وقد ذكرته في البقرة ، وفسرت معناه ولغته ، وصلته بما قبله فعليك بالالتفات إليه .
قوله : { فتنازعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ } أي : تفاوَضُوا وتشاوَرُوا واستقروا على شيء واحد .
وقال مقاتل : اختلفوا فيما بينهم .
قال محمد بن إسحاق ووهب : لما قال لهم موسى { لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً } قال بعضهم لبعض : ما هذا بقول ساحر .
قال بعض المفسرين إن فرعون وقومه دخلوا مع السحرة وحدهم ، أي تناظروا وتشاوروا في أمر موسى سرًّا من فرعون .
قال الكلبي : قالوا سرًّا إن غَلَبَنَا موسى اتبعناه . وهو قول ابن عباس .
قوله : { وَأَسَرُّواْ النجوى } أي المناجاة يكون مصدراً واسماً ، أي : أسروا النحوى من فرعون .
قال ابن عباس : إنَّ نجواهُم إن غلبنا موسى اتبعناه .
وقال قتادة : إنْ كانَ ساحراً فسنغلبه وإن كان من السماء وإن كان من السماء فله أمر .
وقال السدي : نجواهم هو قولهم : { قالوا إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ } [ طه : 63 ] .
قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63)
قوله : « إنْ هَذَانِ » اختلف القراء في هذه الآية فقرأ بن كثير وحده : « إنْ هَذَانِ » بتخفيف « إنْ » والألف وتشديد النون . وحفص كذلك إلا أنه خفف نون « هذانِ » وقرأ أبو عمر « إنَّ » بالتشديد « هَذَيْنِ » بالياء وتخفيف النون . والباقون كذلك إلا أنهم قرءوا « هذانِ » بالألف .
فأما القراءة الأولى ، وهي قراءة ابن كثير وحفص فأوضح القراءات معنًى ولفظاً وخطاً ، وذلك أنهما جعلا ( إن ) المخففة من الثقيلة فأهملت ، ولما أهملت كما هو الأفصح من وجهها خيف التباسها بالنافية فجيء باللام فارقةً في الخبر ، ف « هَذَانِ » مبتدأ ، و « لَسَاحِرَانِ » خبره ، ووافقت خط المصحف ، فإن الرسم « هَذَانِ » مبتدأ ، و « لَسَاحِرَانِ » خبره ، ووافقت خط المصحف ، فإن الرسم « هَذَانِ » دون ألف ولا ياء ( وسيأتي بيان ذلك ) .
وأما تشديد نون « هَذَانِّ » فعلى ما تقدم في سورة النساء متقناً ، وأما الكوفيون فيزعمون أنَّ « أنْ » نافية ( بمعنى ( ما ) ) واللام ( إلآ ) وهو خلاف مشهور ، وقد وافق تخريجهم هنا قراءة بعضهم { مَا هَذَانِ إلاَّ ساَحِرَانِ } .
وأما قراءة أبي عمرو فواضحة من حيث الإعراب والمعنى ، أما الإعراب ف « هَذَيْنِ » اسم « إنَّ » وعلامة نصبه الياء ، و « لَسَاحِرَانِ » خبرها ، ودخلت اللام توكيداً ، وأما من حيث المعنى فإنهم أثبتوا لهما السحر بطريق تأكيدي من طرفيه ، ولكنهم استشكلوها من حيث خط المصحف ، وذلك أنه رسم « هَذَانِ » بدون ألف ولا ياء ، فَأتيانه بالياء زيادة على خط المصحف .
قال أبو إسحاق : لا أجيز قراءة أبي عمرو لأنها خلاف المصحف .
وقال أبو عبيد : رأيتها في الإمام مصحف عثمان « هَذَانِ » ليس فيها ألف وهكذا رأيت رفع الاثنين في ذلك المصحف بإسقاط الألف ، وإذا كتبوا النصب والخفض كتبوه بالياء ولا يسقطونها .
قال شهاب الدين : وهذا لا ينبغي أن يرد به على أبي عمرو ، وكم جاء في الرسم أشياء خارجة عن القياس ، وقد نَصُّوا على أنه لا يجوز القراءة بها ، فليكن هذا منها أعين : مما خرج عن القياس ، فإن قلت ما نقلته عن أبي عبيد مشترك الإلزام بين أبي عمرو وغيره ، فإنهم كما اعترضوا عليه بزيادة الياء يعترض عليهم بزيادة الألف ، فإن الألف ثابتة في قراءتهم ساقطة من خط المصحف .
فالجواب ما تقدم من قول أبي عبيد أنه رآهم يسقطون الألف من رفع الاثنين فإذا كتبوا النصب والخفض كتبوه بالياء ، وذهب جماعة منهم عائشة -رضي الله عنها- وأبو عمرو إلى هذا مما لَحَن فيه الكاتب وأفهم بالصواب يعنون أنه كان من حقه أن يكتبه بالياء فلم يفعل ، فلم يقرأه الناس إلا بالياء على الصواب .
وأما قراءة الباقين ففيها أوجه :
أحدها : أنَّ « إنَّ » بمعنى نَعَمْ ، و « هَذَانِ » مبتدأ ، و « لَسَاحِرَانِ » خبره ، وكن ورود « إنَّ » بمعنى نَعَم قوله :
3665- بَكَرَ العَوَاذِلُ في المَشي ... بِ يَلُمْنَنِي وَألُومُهُنَّهْ
وَيَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلاَ ... كَ وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إنَّهْ
أي فقلت : نعم ، والهاء للسكت ، وقال رجل لابن الزبير : لعن الله ناقةً حَمَلَتْنِي إليك . إنَّ صاحِبَها . أي نَعَم ولعَنَ صاحبَها .
وهذا رأي المبرد وعلي بن سليمان .
وهو مردود من وجهين :
أحدهما : عدم ثبوت « إنَّ » بمعنى « نَعَمْ » وما أوردوه يؤول ، أما البيت فإن الهاء اسمها ، والخبر محذوف لفهم المعنى تقديره : إنَّه كذلك ، وأما قول ابن الزبير فذاك من حذف المعطوف عليه وإبقاء المعطوف ، وحذف خبر « إنَّ » للدلالة عليه تقديره : إنها وصاحبها ملعونان وفيه تكلف لا يخفى .
والثاني : دخول اللام على خبر المبتدأ دون المؤكد بأنَّ المكسورة ، لأن مثله لا يقع إلا ضرورة ، كقوله :
3666- أُمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوزٌ شَهْرَبَهْ ... تَرْضَى مِنَ اللَّحْمِ بِعَظْمِ الرَّقَبَهْ
وقد يجاب عنه بأنَّ « لَسَاحِرَانِ » يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف دخلت عليه هذه اللام تقديره لَهُمَا ساحران ، وقد فعل ذلك الزجاج كما سيأتي حكايته عنه .
الثاني : أنَّ اسمها ضمير القصة وهو « ها » التي قبل « ذَان » ِ ، وليست ب « ها » التي للتنبيه الداخلة على أسماء الإشارة ، والتقدير : إنها القصة ذَانِ لسَاحِرَانِ .
وقد ردوا هذا من وجهين :
أحدهما : من جهة الخط ( وهو أنه ) لو كان كذلك لكان ينبغي أن يكتب إنها ، فيصلوا الضمير بالحرف قبله كقوله تعالى : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار } [ الحج : 46 ] فكتبهم إياها مفصولة من « إنَّ » متصلة باسم الإشارة يمنع كونها ضميراً وهو أوضح .
الثاني : أنه يؤدي إلى دخول لام الابتداء في الخبر غير المنسوخ وقد يجاب عنه بما تقدم .
الثالث : أن اسمها ضمير الشأن محذوف والجملة من المبتدأ والخبر بعده في محل رفع خبر لأن التقدير : إنه أي : الأمر والشأن . وقد ضعف هذا بوجهين :
أحدهما : حذف اسم « إنَّ » وهو غير جائز إلا في شعرٍ بشرط أن لا تباشر « إنَّ » فعلاً ، كقوله :
3667- إنَّ مَنْ يَدْخُل الكَنِيسَةَ يَوْماً ... يَلْقَ فِيهَا جَآذِراً وَظِبَاءا
والثاني : دخول اللام في الخبر ، وقد أجاب الزجاج بأنها داخلة على مبتدأ محذوف تقديره : لَهُمَا سَاحِرَانِ ، وهذا قد استحسنه شيخه المبرد أعني جوابه بذلك .
الرابع : أنَّ « هَذَانِ » اسمها و « لَسَاحِرَانِ » خبرها .
وقد رد هذا بأنه كان ينبغي أن يكون « هَذَيْنِ » بالياء كقراءة أبي عمرو ، وقد أجيب عن ذلك بأنه على لغة بني الحرث وبني الصَّخم وبني العنبر وزبيد وعذرة وسراة وخثعم وكِنَانَة ، وحكى هذه اللغة الأئمة الكبار كأبي الخطاب وأبي زيد الأنصاري ( والكسائي ) .
قال أبو زيد : سمعت من العرب من ينقلب كل ياء ينفتح ما قبلها ألفاً ، يجعلون المثنى كالمقصور ، فيثبتون ألفاً في جميع أحواله ، ويقدرون إعرابه بالحركات ، وأنشدوا قوله :
3668- فَأَطْرَقَ إطْرَاقَ الشُّجَاعِ وَلَوْ يَرَى ... مَسَاغاً لِنَابَاهُ الشُّجَاعُ لَصَمَّمَا
أي لنابيْه .
وقوله :
3669- إنَّ أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا ... قَدْ بَلَغَا في المَجْدِ غَايَتَاهَا
أي غايتيها .
قال الفراء : وحكى بعض بني أسد قال : هذا خطُّ يدَا خطُّ أخي أعرفه وقال قطرب : هؤلاء يقولون : رأيتُ رجلاَنِ ، واشتريت ثوبَانِ قال : وقال رجل من بني ضبة جاهليّ :
3671- ( أعْرِفُ مِنْهَا الأنْفَ وَالعَيْنَانَا ... وَمَنْخِرَيْنِ أَشْبَهَا ظَبْيَانَا )
وقال آخر :
3671- كَأنَّ صَرِيفَ نَابَاهُ إذَا مَا ... أَمَرَّهُمَا قَدِيمَ الخَطْبَانِ
( الخطبان : ذكر الصِّرْدَان ) .
وروى ابن جني عن قطرب :
3672- هِيَّاكَ أنْ تَبْكِي بِشَعْشَعَانِ ... خَبِّ الفُؤَادِ مَائِلِ اليَدَانِ
قال الفراء : وذلك -وإن كان قليلاً- أقيس . لأن ما قبل حرف التثنية مفتوح فينبغي أن يكون ما بعده ألفاً لانفتاح ما قبلها وذكر قطرب أنهم يفعلون ذلك فراراً إلى الألف التي هي أخف حروف المد ويقولون : كسرتُ يداه ، وركبتُ علاه ، يعني يديه وعليه ، وقال شاعرهم :
3673- تَزَوَّدَ مِنَّا بَيْنَ أذْنَاهُ ضَرْبَةً ... دَعَتْهُ إلى هَابِي التُّرَابِ عَقِيم
إلى غير ذلك من الشواهد .
واستدل لقراءة أبي عمرو بأنها قراءة عثمان وعائشة وابن الزبير وسعيد بن جبير ، روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنها- أنها سئلت عن قوله تعالى : { إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ } وعن قوله : { والصابئون والنصارى } ( في المائدة : 69 ) ، وعن قوله : { لكن الراسخون فِي العلم مِنْهُمْ } [ النساء : 162 ] إلى قوله : { والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة } [ النساء : 162 ] ، فقالت : يا ابن أخي هذا خطأ من الكاتب . وروي عن عثمان أنه نظر في المصحف ، فقال : أرى فيه لحناً وستقيمه العرب بألسنتها .
وعن ابن عمرو أنه قال : إنِّي لأَسْتَحي أن أقرأ { أنْ هذان لَسَاحِرَانِ } .
وقرأ ابن مسعود : « وَأسَرُّوا النَّجْوَى أنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ » بفتح « أن » وإسقاط اللام على أنها وما في خبرها بدل من « النَّجْوَى » كذا قاله الزمخشري ، وتبعه أبو حيان ولم ينكره ، وفيه نظر ، لأن الاعتراض بالجملة القولية مفسرة للنجوى في قراءة العامة . وكذا قاله الزمخشري أولاً فكيف يصح أن يجعل { أنْ هذان لَسَاحِرَانِ } بدلاً من النجوى؟
وقرأ حفص عن عاصم بتخخفيف النونين .
وعن الأخفش : { إنْ هذان لَسَاحِرَانِ } خفيفة بمعنى ثقيلة وهي لغة لقوم يرفعون بها ويدخلون اللام ليفرقوا بينها وبين التني تكون في معنى ( ما ) .
وروي عن ابن أبي كعب { ما هذان إلاَّ لَسَاحِرَانِ } ، وروي عنه أيضاً { إنْ هذان إلاَّ لَسَاحِرَانِ } ، وعن الخليل بمثل ذلك .
وعنة أُبَيِّ أيضاً : { إنْ ذَانِ لَسَاحِرَانِ } .
فصل
قال المحققون : هذه القراءات لا يجوز صحيحها ، لأنها منقولة بطريق الآحاد ، والقرآن يجب أن يكون منقولاً بالتواتر ، ولو جوزنا إثبات زيادة في القرآن بطريق الآحاد لما أمكننا القطع بأن هذا الذي هو عندنا كل القرآن ، لأنه لما جاز في هذه القراءات أنها من القرآن مع كونها ما نقلت بالتواتر ، ولو جوزنا إثبات زيادة في القرآن بطريق الآحاد لما أمكننا القطع بأن هذا الذي هو عندا كل القرآن ، لأنه لما اجاز في هذه القراءات أنها من القرآن مع كونها ما نقلت بالتواتر جاز في غيرها ذلك .
فثبت أن تجويز كون هذه القراءات من القرآت يطرق جواز الزيادة والنقصان والتغيير في القرآن ، وذلك يُخرج القرآن عن كونه حجة ، ولما كان ذلك باطلاً فكذلك ما قرئ .
واما الطعن في القراءة المشهورة فلو حكمنا ببطلانها جاز مثله في جميع القرآن ، وذلك يُفضِي إلى القدح في التواتر ، وإلى القدح في كل القرآن ، وهو باطل ، وإذا ثبت ذلك امتنع صيرورته معارضاً بخبر الواحد المنقول عن بعض الصحابة .
وأيضاً : فإن المسلمين أجمعوا على أنَّ ما بين الدفتين كرمُ الله ، وكلام الله لا يجوز أن يكون لحناً وغلطاً ولذلك ذكر النحويون وجه تصحيح القراءة المشهورة كما تقدم .
فصل
اعلم أنه تعالى لما ذكر ما أسروه من النجوى حكى عنهم ما أظهروه بما يدل على التنفير عن متابعة موسى ، وهو أمور :
أحدها : قولهم « إنَّ هَذَيْنِ لَسَاحِرَانِ » وهذا طعن منهم في معجزات موسى ومبالغة في التنفير عنه ، لأن كل طبع سليم ينفر عن السحر وعن رؤية الساحر لأنَّ الإنسان يعلم أن السِّحْر لا بقاء له ، فإذا اعتقدوا فيه السحر قالوا : كيف نتبعه ، وهو لا بقاء له ولا لدينه؟
وثانيها : قوله : { يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ } وهذا نهاية التنفير ، لأن مفارقة الوطن والمنشأ شديدة على القلب . وهذا كقول فرعون : تُرِيدُ أنْ تُخْرِجَنَا مِنْ أرْضِنَا يا مُوسَى ، فكأنَّ السحرة تلقفوا هذه الشبهة من فرعون ثم أعادوها .
وثالثها : قوله : { وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى } ، وهذا أيضاً له تأثير شديد في القلب ، فإن العدو إذا استولى على جميع المناصب والأشياء التي يرغب فيها كذلك يكون في نهاية المشقة على القلب . قال ابن عباس : يَعْني براءة قومِكم وأشْرَافِهم يقال : هؤلاء طريقة قومهم أي : أشْرَافُهُمْ .
والمُثْلَى تأنيثُ الأمْثَلِ ( وهو الأفضل . وسمي بالأفضل بالأمثل ) ، لأن الأمثل هو الأشبه بالحق وقيل : الأَمْثَلُ : الأوضح الأظهر وحدث الشعبي عن عليٍّ قال : يصرفان وجوه الناس إليهما .
وقال قتادة : « طَرِيقَتُكُمْ المثْلَى » يومئذ بنو إسرائيل ، كانوا أكثر القوم عدداً ( وأموالاً ) ، فقال عدو الله يريد أن يذهبا بهم لأنفسهم .
وقيل : بطريقتكم أي بسنتكم ودينكم الذي أنتم عليه . والمُثْلَى : نعت الطريقة ، تقول العرب : فلان على الطريقة المُثْلَى يعني على الهدى المستقيم .
وقيل : الطريقة المُثْلى الجاه والمنصب والرياسة .
قوله : « بِطَرِيقَتِكُمْ » الياء مُعَدِّية كالهمزة ، والمعنى بأهل طريقتكم . قال الزجاج : هذا من باب حذف المضاف . وإذا كانت الطريقة عبارة عن العادة فلا حذف .
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)
قوله : « فَأجْمِعُوا » قرأ أبو عمرو « فاجْمَعوا » بوصف الألف وفتح الميم . والباقون : بقطعها مفتوحة وكسر الميم ، وقد تقدم تحقيق ذلك في سورة يونس .
و « كَيْدَكُم » مفعول به ، وقيل : هو على إسقاط الخافض أي : على كَيْدِكم وليس بشيء . فأما قراءة أبي عمرو في من الجمع أي لا تدعوا شيئاً من كَيْدِكُمْ إلا جئتم به بدليل قوله : « فَجَمَعَ كَيْدَهُ » .
ومعنى القراءة الباقين قيل : معناه الجمع أيضاً تقول العرب : أجمعت الشيء وجمعته بمعنى واحد .
والصحيح أن معناه العزم والإحكام قال الفراء : الإجماع الإحكام والعزيمة على الشيء . أي أجمعُوا كُلكم على كيده مجتمعين له ولا تختلفوا فيختل أمركم .
{ ثُمَّ ائتوا صَفّاً } أي : جميعاً ، قاله مقاتل والكلبي .
وقيل : أي : مُصْطَفِّين مجتمعين ، ليكون أنظم لأمركم وأشد لهيبتكم .
وقال أبو عبيدة ، والزجاج : الصَّف موضع الجمع ، ويسمى المصلى صفاً ، أي : ائتوا المكانَ الموعودَ الذي تجتمعون فيه ليعيدكم .
قوله : « صَفًّا » يجوز أن يكون حالاً من فاعل « ائْتُوا » أي ائْتُوا مصطفين أي ذوي صَفٍّ فهو مصدر في الأصل .
وقيل : هو مفعول به أي : ائْتُوا قوماً صفًّا ، وفيه التسمية بالمصدر . أو هو على حذف مضاف أي ذوي صف .
قوله : « وَقَدْ أفْلَحَ » قال الزمخشري : اعتراض بمعنى : وقد فاز من غلب .
يعني بالاعتراض : أنه جيء بهذه الجملة ( أجنبية من كلامهم ومقولتهم ، لأن من جملة قولهم :
{ قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ } [ طه : 65 ] ، وهذه الجملة ) أعني : قوله : « وَقَدْْ أَفْلَحَ » من كلام الله تعالى ، فهي اعتراض بهذا الاعتبار . وفيه نظر . لأن الظاهر أنها من ( مقولاتهم قالوا هذا تحريضاً لقومهم على القتال وحينئذ فلا اعتراض .
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)
قوله : { قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ } الآية : وهنا حذف والتقدير : فحضروا الموضع قالوا السحرة يا موسى .
قوله : { إِمَّآ أَن تُلْقِيَ } فيه أوجه :
أحدها أنه منصوب بإضمار فعل تقديره : اختر أحد الأمرين . كذا قدره الزمخشري .
قال أبو حيان : هذا تفسير معنى لا تفسير إعراب ، وتفسير الإعراب إما أن تختار الإلقاء .
والثاني : أنه مرفوع على خبر ميتدأ محذوف تقديره : الأمر إما إلقاؤك أو إلقاؤنا . كذا قدره الزمخشري .
الثالث : أن يكون مبتدأ وخبره محذوف ، تقديره : إلقاؤك أول ، ويدل عليه قوله : { وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى } ، واختار أبو حيان ، وقال : فتحسن المقابلة من حيث المعنى ، وإن لم تحسن المقابلة من حيث التركيب اللفظي . قال : وفي تقدير الزمخشري الأمر إلقاؤك فيه . وتقدم نظير هذا في الأعراف .
فصل
معنى الكلام : إما أن تلقي ما معك قَبْلنا ( وإما أنْ نلقي ما معنا قبلك ) وهذا التخيير مع تقديمه في الذكر حسن أدب منهم وتواضع ، فلا جرم رزقهم الله الإيمان ببركته ، ثم إن موسى -عليه السلام- قابل أدبهم بأدب فقال : « بَلْ أَلْقُوا » .
فإن قيل : كيف يجوز أن يقول موسى « بَلْ أَلْقُوا » فيأمرهم بما هو سحر وكفر لأنهم إذا قصدوا بذلك تكذيب موسى -عليه السلام- كان كفراً؟
فالجواب من وجوه :
الأول : لا نسلم أن نفس الإلقاء كفر ، لأنهم إذا ألقوا وكان غرضهم أن يظهروا ، الفرق بين ذلك الإلقاء وبين معجزة موسى -عليه السلام- ( كان ذلك الإلقاء إيماناً إنما الكفر هو القصد إلى تكذيب مويى -عليه السلام- ، وهو عليه السلام ) إنما أمر بالإلقاء لا بالقصد إلى التكذيب فزال السؤال .
والثاني : ذلك الأمر كان مشروطاً ، والتقدير : ألقوا ما أنتم ملقون إن كنتم محقين ، كقوله تعالى : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } [ البقرة : 23 ] ( أي : إن كنتم قادرين ) .
الثالث : أنه لما تعيَّن ذلك طريقاً إلى كشف الشبهة صار ذلك جائزاً ، وهذا كالمحقق إذا علم في أن قلب واحد شبهو ، وأنه لو لم يطالبه وتقريرها بأقصى ما يقدر عليه لبقيت تلك الشبهة في قلبه ويخرج بسببها عن الدين ، فإن للمحق أن يطالبه بتقريرها على أقصى الوجوهن ويكون غرضه من ذلك أن يجيب عنها ، ويزيل أثرها عن قلبه ، فمطالبته بذكر الشبهة لهذا الغرض جائز فكذا ههنا .
الرابع : أن لا يكون ذلك أمراً بل معناه : إنكم إن أردتم فعله فلا مانع منه حسًّا لكي ينكشف الحق .
الخامس : أن موسى -عليه السلام- لا شك أنه كان كارهاً لذلك ولا شك أنه نهاكم عن ذلك بقوله : { وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } [ طه : 61 ] وإن كان كذلك استحال أن يأمرهم بذلك ، لأن الجمع بين كونه ناهياً آمراً بالفعل الواحد محال ، فعلمنا أن أمره غير محمول على ظاهره ، وحينئذ يزول الإشكال .
فإن قيل : لم قدمهم في الألقاء على نفسه مع أن تقديم إسماع الشبهة على إسماع الحجة غير جائز ، فكذا تقديم إرائة الشبهة على إرائة الحجة يجب أن لا يجوز ، لاحتمال أنه ربما أدرك الشبهة ثم لا يتفرغ لإدراك الحجة بعده ، فيبقى حينئذ في الكفر والضلال ، وليس لأحد أن يقول : إن ذلك كان بسبب أنهم لما قدموه على أنفسهم فهو -عليه السلام- قابل ذلك بأن قدمهم ، لأن أمثال ذلك إنما يحسن فيما يرجع إلى حظ النفس فأما ما يرجع إلى الدليل والشبهة فغير جائز .
فالجواب أنه -عليه السلام- كان قد أظهر المعجزة مرةً واحدةً فما كان به حاجة إلى إظهارها مرة أخرى ، والقوم إنما جاءوا لمعارضته ، فقال -عليه السلام- لو أظهرت المعجزة أولاًلكنت كالسبب في إقدامهم على إظهار السحر وقصد إبطال المعجزة وهولا يجوز ، ولكنني أفوض المر إليهم باختيارهم على إظهار السحر وقصد إبطال المعجزة وهو لا يجوز ، ولكنني أفوض الأمر باختيارهم يظهرون ذلك السحر ، ثم أظهر أنا ذلك المعجز الذي يبطل سحرهم ، فيكون هذا التقديم سبباً لدفع الشبهة فكان أولى .
قوله : « فَإِذَا حِبَالُهُمْ » هذه الفاء عاطفة على ( جملة محذوفة دل عليها السياق ، والتقدير : فَألْقُوا فَإذَا ، وإذا هي التي للمفاجأة وفيها ثلاثة أقوال تقدمت :
أحدها : أنها باقية على ظرفية الزمان .
الثاني : أنها ظرف مكان .
الثالث : أنها حرف .
قال الزمخشري : والتحقيق فيها أنها الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصباً لها ، وجملة تضاف إليها ، خصت في بعض المواضع بأن يكون الناصب لها فعلاً مخصوصاً ، وهو فعل المفاجأة ، والجملة ابتدائية لا غير ، فتقدير قوله : { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ } ففَجأ موسى وقتَ تخييل سَعْي حِبَالهم وعصيّهم ، وهذا تمثيل ، والمعنى : على مفاجأته حبالهم وعصيّهم مخيِّلةً إليه السعي .
قال أبو حيان : قوله : إنها زمانية قول مرجوح ، وهو مذهب الرياشي .
وقوله : الطالبة ناصباً لها صحيح . وقوله : وجملة تضاف إليها ليس صحيحاً عند بعض أصحابنا ، لأنها إما أن تكون معمولة لخبر المبتدأ ، وإذا كان كذلك استحال أن تضاف إلى الجملة ، لأنها إما أن تكون بعض الجملة أو معمولة لبعضها ، فلا يمكن الإضافة .
وقوله : خصت في بعض المواضع إلى آخره . قد بيَّنا الناصبَ لها . وقوله : والجملة بعدها ابتدائية لا غير هذا الحصر ليس بصحيح ، بل جوَّز الأخفش على أن الجملة الفعلية المقترنة بقد تقع بعدها نحو خرجت فإذا قد ضرب زيد عمراً وبنى على ذلك مسألة الاشتغال نحو : خرجتُ فإذا زيدٌ قد ضربه عمرو ، برفع زيد ونصبه على الاشتغال .
وقوله : والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيَّلةً إليه السعي ، فهذا عكس ما قدر بل المعنى على مفاجأة حبالهم وعصيِّهم إياه . فإذا قلت : خرجت فإذا السبع ، فالمعنى : أنه فاجأني وهجم ظهوره .
انتهى .
قال شهاب الدين : وما ردَّ به غير لازم له ، لأنه ردَّ عليه بقول بعض النحاة ، وهو يلزم ذلك القول حتى يرد به عليه لا سيما إذا كان المشهور غيره ومقصوده تفسير المعنى . وقال أبو البقاء : الفاء جواب ما حذف وتقديره : فألقوا فإذا ، ف « إذا » في هذا ظرف مكان العامل فيه « ألْقُوا » . وفي هذا نظر . ، لأن « أَلْقُوا » هذا المقدر لا يطلب جواباً حتى يقول : الفاء جوابه ، بل كان ينبغي أن يقول : الفاء عاطفة هذه الجملة الفجائية على جمبة أخرى مقدرة ، وقوله : ظرف مكان هذا مذهب المبرد ، وظاهر قول سيبويه أيضاً وإن كان المشهور بقاؤها على الزمان وقوله : إن العامل فيها « فَألْقُوا » لا يجوز لأن الفاء تمنع من ذلك . هذا كلام أبي حيان . ثم قال بعده : ولأن « إذا » هذه إنما هي معمولة لخبر المبتدأ الذي هو حبالهم وعصيهم إن لم يجعلها هي في موضع الحال ، وهذا نظير : خرجت فإن الأسد رابضٌ ورابضاً ، وإذا رفعت رابضاً كانت إذا معمولة له والتقدير : فبالحضرة الأسد رابض ، أو في المكان ، وإذا نصبت كات « إذا » خبراً ، ولذلك يكتفى بها وبالمرفوع بعدها كلاماً نحو خرجت فإذا الأسد .
قوله : « يُخَيَّل إلَيْهِ » قرأ العامة « يُخَيَّل » بضم الياء الأولى وفتح الثانية مبنيًّا للمفعول ، و « أنَّهَا تَسْعَى » مرفىع بالفعل قبله لقيامه مقام الفاعل تقديره : يُخَيَّل إليه سعيُهَا .
وجوز أبو البقاء فيه وجهين :
أحدهما : ( أن يكون القائم مقام الفاعل ضمير الجِبضاِ والعِصِيّ وإنما ذكَّر ولم يقل « تُخَيَّلُ » بالتاء من فوق ، لأن تأنيث الحبال غير حقيقي .
الثاني : أن القائم مقام الفاعل ضمير يعود على الملقي ، فلذلك ذكر . وعلى الوجهين : ففي قوله : « أنَّهَا تَسْعَى » وجهان أحدهما ) : أنه بدل اشتمال من ذلك الضمير المستتر أيضاً ، والمعنى : يُخَيَّل إليه هي أنها ذات سعي . ولا حاجة إلى هذا ، وأيضاً فقد نصوا على أن المصدر المؤول لا يقع موقع الحال ، لو قلت : جاء زيد أن رَكَض ، تريد ركضاً بمعنى ذا ركض لم يجز .
وقرأ ابن ذكوان : « تُخَيَّلُ » بالتاء من فوق ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الفعل مسند لضمير الجِبَال والعِصِيّ ، أي : تُخَيَّل الحبال ( والعصي ، و ) « أنَّهَا تَسْعَى » بدل اشتمال من ذلك الضمير .
الثاني : كذلك إلا « أنَّهَا تَسْعَى » حال ، أي : ذات سَعْي كما تقدم تقريره قبل ذلك .
الثالث : أن الفعل مسند لقوله : « أنَّهَا تَسْعَى » كقراءة العامة في أحد الأوجه وإنما أنَّثَ الفعل لاكتساب المرفوع التأنيث بالإضافة ، إذ التقدير : تُخَيَّلُ إلَيْهِ سَعْيُهَا ، فهو كقوله :
3674- شَرِقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّمِ ... ( « فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا » ) .
وقرأ أبو السمال : « تَخَيَّلُ » بفتح التاء والياء مبنياً للفاعل ، والأصل : تَتَخَيَّلُ ، فحذف إحدى التاءين نحو « تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ » ، و « أَنَّهَا تَسْعَى » بدل اشتمال أيضاً من ذلك الضمير .
وجوَّز ابن عطية أيضاً أنه مفعول من أجله . ونقل ابن جبارة الهذلي : قراءة أبي السمال : « تُخَيِّل » بضم التاء من فوق وكسر الياء ، فالفعل مسند لضمير الحبال ، و « أنَّهَا تَسْعَى » مفعول ، أي : تُخَيَّل الحبال سعيها .
ونسب ابن عطية هذه القراءة للحسن وعيسى الثقفي .
وقرأ أبو حيوة : « نُخَيِّل » بنون العظمة ، و « أنَّهَا تَسْعَى » مفعول به أيضاً على هذه القراءة .
وقرأ الحسن والثقفي « عُصيِّهم » بضم العين حيث وقع ، وهو الأصل ، وإنما كسرت العين إتباعاً ( للصاد ، وكسرت الصاد إتباعاً ) للياء نحو دَلْو ودِلِيّ ، وقوس وقِسّيِ ، والأصل : عُصُوو ، بواوين فأًُعِلَّ كما ترى بقلب الواوين ياءين استثقالاً لهما ، فكسرت الصاد لتصح الياء ، وكسرت العين إتباعاً .
ونقل صاحب اللوامح : أنَّ قراءة الحسن « عُصِيُهُمْ » بضم العين وسكون الصاد وتخفيف الياء مع الرفع ، وهو أيضاً جمع كالعامة إلا أنه على فُعْل ، والأول على فُعُول كفُلُوس .
والجملة من « تَخَيَّل » يحتمل أن تكون في محل رفع خبراً لهي على أن « إذا » الفجائية فضلة . وأن تكون في محل نصب على الحال على أن « إذا » الفجائية هي الخبر والضمير في « إِلَيْهِ » الظاهر عوده على موسى . وقيل يعود على ( فِرْعَون ) ( ويدل للأول ) قوله تعالى : { } فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى .
وفيه إضمار أي : فألقوا فإذا حبالُهُم وعِصِيُّهم ، جمع حبل وعصا .
فصل
قال ابن عباس : أَلْقَوا حِبَالَهُمْ وَعِصيَّهُم وأخذوا أعين الناس فرأى موسى والقوم كأن الأرض امتلأت حيَّات وكانت أخذت مَيْلاً من كل جانب ، وأنها تسعى فخاف ، و { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً } وأوجَسَ : أضمر في نفسه خوفاً . ( وقيل : وجد في نفسه خيفة ) .
فإن قيل : كيف استشعر الخوف وقد عرض عليه المعجزات الباهرة كالعصا واليد ، فجعل العصا حيَّة عظيمة ، ثم إنه تعالى أعادها لما كانت ، ثم أعطاه الاقتراحات الثمانية ، وذكر ما أعطاه قبل ذلك من المنن وقال له بعد ذلك كله : { إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى } [ طه : 46 ] ، فمع هذه المقدمات الكثيرة كيف وقع الخوف في قلبه؟
فالجواب من وجوه : أحدها : قال الحسن : « إن ذلك الخوف إنما كان لطبع البشرية من ضعف القلب وإن كان قد علم موسى أنهم لا يصلون إليه وأن الله ناصره .
والثاني : قال مقاتل : خاف على القوم أن يلتبس عليهم الأمر فيشكوا في أمره ، فيظنون أنهم قد ساووا موسى - عليه السلام- ويؤكده قوله تعالى : { لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى } .
الثالث : خاف حيث بدأوا وتأخر إلقاؤه أن ينصرف بعض القوم قبل مشاهدة ما يلقيه ، فيدوموا على اعتقاد باطل .
الرابع : لعلَّه - عليه السلام- كان مأموراً بأن لا يفعل شيئاً إلا بالوحي ، فلما تأخر نزول الوحي في ذلك الجمع بقي في الخجل .
الخامس : لعل - عليه السلام- خاف من أنه لو أبطل سحرهم ، فلعلَّ فرعون قد أعد أقواماً آخرين فيحتاج مرة أخرى إلى إبطال سحرهم وهلم جرَّا ، فلا يظهر له مقطع وحينئذ لا يتم الأمر ولا يحصل المقصود .
فصل
اختلفوا في عدد السحرة ، فقال الكلبي : كانوا اثنين وسبعين ساحراً ، اثنان من القبط ، وسبعون من بني إسرائيل ، أكرههم فرعون على ذلك مع كل واحد منهم عصا وحبل .
وقال ابن جريج : تسعمائة ، ثلاثمائة من الفرس ، وثلاثمائة من الروم ، وثلاثمائة من الإسكندرية . وقال وهب : خمسة عشر ألفاً . وقال السدي : بضعة وثلاثون ألفاً .
وقال القاسم بن سلام : سبعون ألفاً . وظاهر القرآن لا يدل على شيء من هذه الأقوال . ثم إنه تعالى أزال ذلك الخوف بقوله : { لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى } أي الغالب : يعني : لك الغلبة والظفر ، وذلك يدل على أن خوفه كان لأمر يرجع إلى أنَّ أمره لا يظهر للقوم ، فآمنه الله بقوله : { إِنَّكَ أَنتَ الأعلى } ، وفيه أنوع من المبالغة : أحدها : ذكر كلمة التأكيد وهي ( إنَّ ) . وثانيها تكرير الضمير . وثالثها : لام التعريف . ورابعها : لفظ العلو ، وهو الغلبة الظاهرة .
قوله : { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ } وها هنا سؤال ، وهو أنه لم لم يقل وألق عصاك؟
والجواب : جاز أن يكون تصغيراً لهما ، أي : لا تبالِ بكثرة حِبالِهِمْ وعِصِيهم ، وألق العُوَيد الفرد الصغير الجرم الذي بيمينك ، فإنَّه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها ، وصغره وعظمها .
وجاز أن يكون تعظيماً لها أي لا تُخيفك هذه الأجرام الكثيرة فإن في يمينك شيئاً أعظم منها كلها ، وهذه على كثرتها أقل شيء عندها ، فألقه يتلقفها بإذن الله ويمحقها . قوله : « تَلْقَفْ » أي : تَلْقَمْ وتبتلع « مَا صَنَعُوا » بسرعة .
قرأ العامة بفتح اللام وتشديد القاف وجزم الفاء على جواب الأمر ، وقد تقدم أن حفصاً يقرأ « تَلْقَفْ » بسكون اللام وتخفيف القاف ، وقرأ ابن ذكوان هنا « تَلَقَّفُ » بالرفع إما على الحال ، وإما على الاستئناف ، وأنّث الفعل في « تَلْقَفْ » حملاً على معنى « ما » لأن معناها العصا ، ولو ذكَّر ذهاباً إلى لفظها لجاز ولم يقرأ به .
وقال أبو البقاء : إنه يجوز أن يكون فاعل « تَلْقَفْ » ضمير موسى فعلى هذا يجوز أن يكون « تَلْقَفْ » في قراء الرفع حالاً من موسى ، وفيه بُعْد . و ( « صَنَعُوا » ههنا : اختلفوا وزّوَرُوا ) والعرب تقول في الكذب : هو كلام مصنوع . قوله : { إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ } العامة على رفع « كَيْد » على أنه خبر « إنَّ » و « مَا » موصولة ، و « صَنَعُوا » صلتها ، والعائد محذوف ، والموصول هو الاسم ، والتقدير : إنَّ الذي صنعوه كَيْدَ سَاحِرٍ .
ويجوز أن تكون « مَا » مصدرية فلا حاجة إلى العائد ، والإعراب بحاله والتقدير : ( إنَّ صُنْعَهُمْ ) كيدُ ساحر .
( وقرأ مجاهد وحميد وزيد بن عليّ « كَيْدَ » بالنصب على أنه مفعول به و « مَا » مزيدة مهيئة . وقرأ الأخوان : « كَيْدَ سِحْرٍ » على أن ) المعنى : كَيْدُ ذُوِي سِحْرٍ ، ( أو جعلوا نفس السحر مبالغةً وتبييناً للكيد ، أي حيلةَ سحر ، لأنه يكون سحراً وغير سحر ) كما تميز سائر الأعداد بما يفسره نحو مائة درهم ، وألف دينار ، ومثله علم فقهٍ وعلمُ نحوٍ . وقال أبو البقاء : « كَيْدُ سَاحِرٍ » إضافة المصدر إلى الفاعل ، و « كَيْدُ سِحْرٍ » إضافة الجنس من النوع . والباقون : ( « سَاحِرٍ » ) .
وأفرد ساحِراً وإن كان المراد به جماعة ، قال الزمخشري : لأن القصد في هذا الكلام إلى معنى الجنسية لا إلى معنى العدد ( فلو جمع لَخُيِّلَ أنَّ المقصود هو العدد ) . وقرئ « سَاحِرَاً » بالنصب على أن « مَا » كافة . ثم قال : { وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى } من الأرض . قال ابن عباس : لا يسعد حيث كان . وقيل معناه : حيث احتال .
قوله : { فَأُلْقِيَ السحرة سُجَّداً } لما ألْقَى ما في يمينه ، وصار حيَّةً ، وتلقف ما صنعوا ، وظهر الأمر ، خروا عند ذلك سجداً ، لأنهم كانوا في أعلى طبقات السحر ، فلما رأوا ما فعل موسى - عليه السلام- خارجاً عن صناعتهم عرفوا أنه ليس من السحر ألبتّة ، روي أن رئيسهم قال : كُنَّا نغلِبُ الناسَ بالسحر ، وكانت ( الآلات ) تبقى علينا ، فلو كان هذا سحراً فأيْنَ ما ألقيناه؟ فاستدل بتغير أحوال الأجسام على الصانع القادر العالم ، وبظهوره على يد موسى - عليه السلام- على كونه رسولاً صادقاً من عند الله فلا جرم تابوا وآمنوا وأتوا بما هو النهاية في الخضوع وهو السجود . قال الأخفش : إنهم في سرعة ما سجدوا كأنهم خروا . قال الزمخشري : ما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم للكفر والحجود ، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود ، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين . روي أنهم لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة ، والنار ، ورأوا ثواب أهلها ، وعن عكرمة : لما خروا سُجَّداً أراهم الله في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة .
قال القاضي : هذا بعيد ، لأنهم لو أراهم عياناً لصاروا ملجئين ، وذلك لا يليق به قولهم : { إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا } [ طه : 73 ] .
وأجيب : أنه لما جاز لإبراهيم مع قطعه بكونه مغفوراً له أن يقول : { والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي } [ الشعراء : 82 ] فلم لا يجوز في حق السحرة؟
قوله : { آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وموسى } احتج التعليمية بهذه الآية وقالوا : إنَّهم آمَنُوا بالله الذي عرفوه من قِبَل هارون وموسى ، وفي الآية فائدتان :
الفائدة الأولى : أنَّ فرعون ادَّعى الربوبية في قوله : « أَنَا رَبُّكُمْ » . والإلهية في قوله : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي } [ القصص : 38 ] فلو قالوا : آمَنَّا بربِّ العالمين ، لكان فرعون يقول : إنهم آمنوا بي لا بغيري ، فلقطع هذه التهمة اختاروا هذه العبارة ، ويدل عليه تقديمهم ذكر هارون على مُوسى ، لأن فرعون كان يدعي ربوبية موسى ( بناء على أنه ربَّاه ) ، وقال : { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً } [ الشعراء : 18 ] فالقوم لما احترزوا على إيهامات ( فرعون قدموا ذكر هارون على موسى قطعاً لهذا الخيال .
الفائدة الثالثة : هي أنهم لما شاهدوا ) ما خصهما الله تعالى به من المعجزات العظيمة والدرجات الشريفة قالوا : { رَبِّ هَارُونَ وموسى } .
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)
( فصل )
قوله : { آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر } اعلم أن فرعون لما شاهد منهم السجود والإقرار خاف أنْ يصير ذلك سبباً لاقتداء سائر الناس بهم في الإيمان بالله وبرسوله ففي الحال ألقى هذه الشبهة في النبي ، وهي مشتملة على التنفير من وجهين :
الأول : أن الاعتماد على أول خاطر لا يجوز بل لا بد فيه من البحث ، والمناظرة ، والاستعانة بخواطر الغير ، فلمَّا لم تفعلوا شيئاً من ذلك بل في الحال « آمَنْتُمْ لَهُ » دَلَّ ذلك على أن إيمانكم ليس عن بصيرة بل لسبب آخر .
والثاني : قوله : { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر } يعني : أنكم تلامذته في السحر ، فاصطلحتم على أن تظهروا العجز من أنفسكم ترويجاً لأمره وتفخيماً لشأنه . ثم بعد إيراد هذه الشبهة اشتغل بالتهديد تنفيراً لهم عن الإيمان ، وتنفيراً لغيرهم عن الاقتداء بهم ، فقال : { فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ } .
قوله : « لأُقَطِّعَنَّ » تقدم نحوه ، و « مِنْ خِلاَفٍ » حال أي مختلفة و « مِنْ » لابتداء الغاية ، وتقدم تحرير هذا ، وما قرئ به وقوله : « فِي جُذُوعِ النَّخْلِ » يحتمل أن يكون حقيقة ، ففي التفسير أنه نَقَّر جذوع النخل حتى جوَّفَها ووضعَهُم فيها فماتوا جوعاً وعطشاً وأن يكون مجازاً ، وله وجهان :
أحدهما : أنه وضع ( في ) مكان ( عَلَى ) ، والأصل : على جذوع النخل ، كقول الآخر :
3675- بَطَلٌ كَأَنَّ ثِيَابَهُ فِي سَرْحَةٍ ... يُحْذَى نِعَالَ السَّبْتِ لَيْسَ ( بتَوْأَمِ )
والثاني : أنه شبه تمكنهم بتمكن مَنْ حواء الجذع واشتمل عليه ، شبه تمكن المصلوب في الجِذْعِ بتمكُّن الشيء الموعَى في وعائه ، فلذلك قيل « فِي جُذُوعِ النَّخْلِ » . ومِنْ تَعدِّي ( صَلَبَ ) ب ( فِي ) قوله :
3676- وَقَدْ صَلَبُوا العَبْدِيَّ فِي جِذْعِ نَخْلَةٍ ... فَلاَ عَطَسَتْ شَيْبَانُ إلاَّ بِأَجْدَعَا
قوله : « أيُّنَا أَشَدُّ » مبتدأ وخبر ، وهذه الجملة سادة مسد المفعولين إنْ كانت ( علم ) على بابها ، ومسد واحد إنْ كانت عِرفَانِيَّة . وبجوز على جعلها عِرْفَانِية أن تكون « أيْنَا » موصولة بمعنى ( الذي ) وينبت لأنها قد أضيفت وحذف صدر صلتها و « أَشَدُّ » خبر مبتدأ محذوف ، والجملة من ذلك المبتدأ وهذا الخبر صلة ل « أَيّ » ، و « أَيُّ » وما في خبرها في محل نصب مفعولاً به كقوله تعالى : { ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن } [ مريم : 69 ] في أحد وجهيه كما تقدم . و « أَشَدُّ عذاباً » أي : أَنَّا عَلى إيمانُكم بهِ أو رَبّ موسى على تلاك الإيمان به ، « وَأَبْقَى » أي : أَدْوَمْ .
فإن قيل : إنَّ فرعون مع قرب عهده بمشاهدة انقلاب العصا حيَّة عظيمة ، وذكر أنها قصدت ابتلاع قصر فرعون ، وآلَ الأمرُ إلى أنْ استغاثَ بموسى من شر ذلك الثعبان ، فمع قرب عهده بذلك ، وعجزه عن دفعه كيف يعقل أن يهدد السحرة ، ويبالغ في وعيدهم إلى هذا الحد ، ويستهزئ بموسى ، ويقول : « أيّنا أَشَدُّ عذاباً » ؟
فالجواب : يجوز أن يقال : إنَّه كان في أشد الخوف في قلبه إلا أنَّه كان يظهر الجلادة والوقاحة تمشيةٌ لِنَامُوسِهِ ، وترويجاً لأمره .
ومن استقرى أحوال أهل العالم علم أنَّ العاجز قد يفعل أمثال هذه الأشياء ، ويدل على صحة ذلك أن كل عاقل يعلم بالضرورة أن عذابَ الله أشدُّ من عذاب البشر ، ثم إنه أنكر ذلك .
وأيضاً : فقد كان عالماً بكذبه في قوله : { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر } لأنه علم أنْ موسى ما خالطهم البتة ، وما لقيهم ، وكان يعرف من سحرته ويعرف أستاذ كل واحد من هو ، وكيف حصَّلَ ذلك العلم ، ثم إنه مع ذلك قال هذا الكلام ، فثبت أن سبيله في ذلك ما ذكرناه ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : كانوا في النهار سحرة ، وفي آخره شهداء .
قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)
قوله : { قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ على مَا جَآءَنَا مِنَ البينات } أي لن نختارك على ما جاءنا من الدلالات . لمَّا هددهم فرعون أجابوه بما يدل على حصول اليقين التام والبصيرة الكاملة في أصول الدين ، فقالوا : « لَنْ نُؤْثِرَكَ » ، وهذا يدل على أن فرعون طلب منهم الرجوع عن الإيمان وإلاَّ فَعَل بهم وما وعدهم ، ( فأجابوه بقولهم ) : « لَنْ نُؤْثِرَكَ » ، وبيَّنوا العلة ، وهي أنَّ الذي جاءهم ببينِّات وأدلة ، والذي يذكره فرعون محض الدنيا .
وقيل : كان استدلالهم أنهم قالوا : لو كان هذا سحراً فأين حبالُنا وعصيُّنا .
قوله : « والَّذِي فَطَرَنَا » فيه وجهان :
أحدهما : أن الواوَ عاطفة عطفت ( هذا الموصول ) على « مَا جَاءَنَا » أي : لن نؤثرك على الذي جاءَنا وَلاَ عَلَى الذي فَطَرَنَا ، أي على طاعة الذي فطرنا وعلى عبادته ، وإنما أخروا ذكر الباري تعالى لأنَّه من باب الترقي من الأدْنَى إلى الأعلى .
والثاني : أنَّه واو قسم ، والموصول مقسم به ، وجواب القسم محذوف ، أي وحق الذي فطرنا لن نؤثرك على الحق ، ولا يجوز أن يكونَ الجواب « لَنْ نُؤَثِرًكَ » عند من يجوز تقديم الجواب ، لأنه لا يجاب القسم ب « لَنْ » إلا في شذوذ من الكلام .
قوله : { فَطَرَنَا فاقض مَآ أَنتَ قَاضٍ } يجوز في « مَا » وجهان :
أظهرهما : أنها موصولة بمعنى الذي ، و « أَنْتَ قَاضٍ » صلتها والعائد محذوف ، أي قاضية ، وجاز حذفه وإن كان مخفوضاً ، لأنه منصوب المحل ، أي فاقضِ الذي أنت قاضيه .
والثاني : أنها مصدرية ظرفية ، والتقدير : فاقْضِ أمرَك مدة ما أنتَ قاضٍ .
ذكر ذلك أبو البقاء . ومنع بعضهم جعلّها مصدرية ، قال : لأنَّ « مَا » المصدرية لا توصل بالجمل الاسمية . وهذا المنع ليس مجمعاً عليه بل جوَّز ذلك جماعة كثيرة ، ونقل ابن مالك أن ذلك إذا دلَّت ( ما ) على الظرفية وأنشد :
3677- وَاصِلْ خَلِيلَكَ مَا التَّوَاصُلُ مُمْكِنٌ ... فَلاَنْتَ أَوْ هُوَ عَنْ قَلِيلٍ ذَاهِبُ
ويقل إن كانت غيره ظرفية وأنشد :
3678- أَحْلاَمُكُمْ لِسَقَامِ الجَهْلِ شَافِيَةٌ ... كَمَا دِمَاؤُكُمُ تَشْفِي مَنَ الكَلَبِ
قوله : { إِنَّمَا تَقْضِي هذه الحياة الدنيآ } يجوز في « ما » هذه وجهان :
أحدهما : أن تكون المهيئة لدخول « إنْ » على الفعل ، و « الحَيَاةِ الدُّنْيَا » ظرف ل « تَقْضِي » ، ومفعوله محذوف ، أي : يقضي غرضك وأمرك . ويجوز أن تكون الحياة مفعولاً به على الاتساع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به كقولك صُمْتُ يومَ الجمعة ، ويدل لذلك قراءة أبي حَيْوَة : « تُقْضَى هَذِهِ الحَيَاة » ببناء الفعل للمفعول ، ورفع « الحَيَاةُ » لقيامها مقام الفاعل ، وذلك أنه اتسع فيه فقام مقام الفاعل فرفع .
والثاني : أنْ تكون « مَا » مصدرية هي اسم « إنَّ » ، والخبر الظرف والتقدير : إنَّ قَضَاءَك في هذه الحياة الدنيا ، يعني : إن لَكَ الدنيا فقط ، ولنا الآخرة .
وقال أبو البقاء : فإنْ كانَ قد قُرِئَ بالرفع فهو خبر « إن » يعني لو قرئ برفع « الحَيَاةُ » لكان خبراً ل « إنَّ » ، ويكون اسمها حينئذ « مَا » وهي موصولة بمعنى الذي ، وعائدُها محذوف تقديره : إن الذي تقضيه هذه الحياة الدنيا لا غيرها .
قوله : « وَمَا أَكْرَهْتَنَا » يجوز في « مَا » هذه وجهان :
أحدهما : أنها موصولة بمعنى « الَّذِي » ، وفي محلها احتمالان :
أحدهما : أنَّها منصوبة المحل نسقاً على « خَطَايَانَا » أي ليغفرَ لنا أيضاً الذي أكرهتنا . والاحتمال الثاني : أنَّها مرفوعة المحل على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره : والذي أكرهتَنا عليه من السحر محطوط عنا ، أو لا يؤاخذ به ( ونحوه )
والوجه الثاني : أنَّها نافية ، قال أبو البقاء : وفي الكلام تقديم تقديره : ليغفر لنا خَطَايَانَا من السحر ولم تكرهنا عليه . وهذا بعيد عن المعنى ، والظاهر هو الأول . و « مِنَ السِّحْرِ » يجوز أن يكون حالاً من الهاء في « عَلَيْه » أو من الموصول . ويجوز ان تكون لبيان الجنس .
فصل
قال المفسِّرون : لَمَّا علم السحرة أنهم متى أصرُّوا على الإيمان أوقع بهم فرعون ما أوعدهم به فقالوا : « اقْضِ مَا أْنْتَ قَاضٍ » لا على وجه الأمر ، لكن أظهروا أنَّ ذلك الوعيد لا يزيلهم عن إيمانهم البتة ، ثم بيَّنُوا ما لأجله يسهل عليهم احتمال ذلك ، فقالوا : { إِنَّمَا تَقْضِي هذه الحياة الدنيآ } أي قضاؤك وحكمك أن يكون في هذه الحياة ( الدنيا ) . وهي نافية تزول عن قريب ، ومطلوبنا سعادة الآخرة ، وهي باقية . والعقل يقتضي تحمل الضَّرَر الفاني للتوصل إلى السعادة الباقية . ثم قالوا : { إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا } ، ولمَّا كان أقرب خطاياهم عهداً ما أظهروه من السحر قالوا : { وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر } ، وفي ذلك الإكراه وجوه :
الأول : قال ابن عباس - رضي الله عنهما- : إنَّ ملوك ذلك الزمان كانوا يأخذون بعض رعيتهم ويكلفونهم تعلم السحر ، فإذا شاخ أحدهم بعثوا إليه أحداثاً ليعلمهم ليكون في كل وقتٍ مَنْ يُحسنه ، فقالوا ذلك أي : كُنَّا في التعلم الأول والتعليم ثانياً تكرهُنَا ، وهو قول الحسن . وقال مقاتل : كانت السَّحَرةُ اثنين وسبعين اثنان من القبط وسبعون من بني إسرائيل كان فرعون أكرههم على تعليم السحر . وقال عبد العزيز بن أبان : قالت السحرة لفرعون أَرِنَا مُوسَى إذا نام ، فأراهم نائماً ، فوجدوه تحرسه عصان ، فقالوا لفرعون : إن هذا ليس بسحر ، إن الساحر إذا نام بطل سحره فأبى عليهم إلا أن يعارضوه .
وقال الحسن : إن السحرةَ جَرُوا من المدائن ليعارضوا موسى فأحْضَرُوا بالحشر وكانوا مكرهين في الحضور لقوله : { وابعث فِي المدآئن حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ } [ الشعراء : 36 ، 37 ]
وقال عمرو بن عبيد : دعوة السلطان إكراه . وهذا ضعيف ، لأن دعوة السلطان إذا لم يكن معها خوف لم تكن إكراهاً . ثم قالوا : { والله خَيْرٌ وأبقى } قال محمد بن إسحاق : خَيْرٌ منكَ ثواباً ، وأبقَى عقاباً لمن عصاه .
وقال محمد بن كعب : خيرٌ منكَ إن أطيع وأبْقَى عذاباً منك إن عُصِي .
( وهذا جواب لقوله : { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى } ) .
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
قوله : { إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً } قيل : هذا ابتداء كلام من الله تعالى وقيل : من تمام قول السحرة ختموا كلامهم بشرح أحوال المجرمين وأحوال المؤمنين في عرصة القيامة . والهاء في « إنَّه » ضمير الشأن ، والجملة الشرطية خبرها ، و « مُجْرِماً » حال من فاعل « يأت » . وقوله : « لاَ يَمُوتُ » يجوز أن يكون حالاً من الهاء في « لَهُ » وأن يكون حالاً من جهنم ، لأنَّ في الجملة ضمير كل منهما . والمراد بالمجرم المشرك الذي مات على الشرك { فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا } فيستريح « وَلاَ يَحْيَى » حياة ينتفع بها . فَإنْ قيلَ : الجسم الحيُّ لا بد وأن يبقى حيَّاً أو ميتاً فخلوه عن الوصفين محال . فالجواب : أنَّ المعنى يكون في جهنم بأسوأ حال لا يموت موتة مريحة ولا يَحْيَى حياة ( ممتعة ) .
وقال بعضهم : إن لنا حالاً ثالثة ، وهي كحالة المذبوح قبل أنْ يهدى فلا هو حَيٌّ ، أنه قد ذبح ذبحاً لا يبقى الحياة معه ، ولا هو ميت ، لأن الروح لم تفارقه بعد فهي حالة ثانية .
فصل
استدلت المعتزلة بهذه الآية في القطع على وعيد أصحاب الكبائر : قالوا : صاحب الكبيرة مجرم ، وكل مجرم فإنَّ له جَهَنَّم لقوله : { مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً } وكلمةُ ( مَنْ ) في معرض الشرط تفيد العموم بدليل أنه يجوز استثناء كل واحد منها ، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل .
وأجيبت بأنه لا نَسَلَّم أن صاحب الكبيرة مجرم ، لأنه تعالى جعل المجرم في مقابلة المؤمن لقوله : { وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً } ، وقال : { إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ } [ المطففين : 29 ] ، وأيضاً : فإنه لا يليق بصاحب الكبيرة أن يقال في حقّه ، فَإنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَكُونُ بهذا الوصف ، وفي الخبر الصحيح « يَخْرُجُ من النَّار مَنْ كانَ في قلبه مثقال ذرة من الإيمان » . قال ابنُ الخطيب : وهذه اعتراضات ضعيفة أما قوله :
إنَّ الله تعالى جعل المجرم في مقابلة المؤمن فمسلم لكن هذا إنما ينفع لو ثبت أن صاحب الكبيرة مؤمن ، ومذهب المعتزلة أنه ليس بمؤمن ، فهذا المعترض كأنه بنى هذا الاعتراض على مذهب نفسه وذلك ساقط . وقوله ثانياً : إنه لا يليق بصاحب الكبيرة ( أن يقال في حقه ) : إِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى . قلنا : لا نسلم فإنَّ عذاب جهنَّم في غاية الشدة قال تعالى : { رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } [ آل عمران : 192 ] وأما الحديث فقالوا : القرآن بخبر الواحد ، ويمكن أن يقال : ثبت في أصول الفقه أنه يجوز تخصيص القرآن بخبر الواحد ، وللخصم أن يجيب بأن ذلك يفيد الظن فيجوز الرجوع إليه في العمليات ، وهذه المسألة ليست من العمليات بل من الاعتقادات ، فلا يجوز الرجوع إليها ههنا .
واعترض آخر فقال : أجمعنا على أن هذه المسألة مشروطة بنفي التوبة وبأن لا يكون عقابه محبطاً بثواب طاعته ، والقدر المشترك بين الصورتين هو أن لا يوجد ما يحبط ذلك العقاب ، لكن عندنا العفو مُحْبِطٌ للعقاب ، وعندنا أنَّ المجرم الذي لا يوجد في حقه العفو لا بد وأن يدخل جهنم .
قال ابن الخطيب : وهذا الاعتراض أيضاً ضعيف . أمَّا شَرْطُ نفي التوبة فلا حاجة إليه ، لأنه قال : { مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً } ، لأن المجرم اسم ذم ، فلا يجوز إطلاقه على صاحب الصغيرة ، بل الاعتراض الصحيح أن يقول : عموم هذا الوعيد معارض بما جاء بعده من عموم الوعد ، وهو قوله تعالى : { وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصالحات فأولئك لَهُمُ الدرجات العلى } ، وكلامنا فيمن أتى بالإيمان ( والأعمال الصالحة ) ثم أتى بعد ذلك ببعض الكبائر .
فإن قيل : عقاب المعصية يحبط ثواب الطاعة . قلنا : لِمَ لا يجوز أنْ يقال : ثواب الإيمان يدفع عقابَ المعصية؟ فإن قالوا : فلو كان كذلك لوجب أن لا يجوز إقامة الحد عليه . قلنا : أما اللعن فغير جائز عندنا ، وأما إقامة الحد فقد يكون على سبيل المحنة كما في حق التائب ، وقد يكون على سبيل التنكيل . قالت المعتزلة : قوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله } [ المائدة : 38 ] فالله تعالى نصَّ على أنَّه يجب عليه إقامة الحد على سبيل التنكيل ، وكل من كان كذلك استحال أن يكون مستحقاً للمدح والتعظيم ، وإذَا لم يبق ذلك لم يبق الثواب على قولنا : إن عذاب الكبيرة أولى بإزالة ثواب الطاعة المتقدمة من الطاعات بدفع عقاب الكبيرة الطارئة . فقد انتهى كلامهم في مسألة الوعيد .
قلنا : حاصل الكلام يرجع إلى أنَّ هذا النص الدال على إقامة الحد عليه على سبيل التنكيل معارضاً للنصوص الدالة على كونه مستحقاً للثواب ، فلم كان ترجيح أحدهما على الآخر أولى من العكس ، وذلك أن المؤمن كما ينقسم إلى السَّارق وإلى غير السَّارق ، فالسَّارق ينقسم إلى المؤمن وغير المؤمن ، فلم يكن لأحدهما مزية على الآخر في العموم والخصوص ، وإذا تعارضا تساقطا . ثم نقول : لا نُسَلمُ أنَّ كلمة « مَنْ » في إفادة العموم قطيعة بل ظنية ( ومسألتنا قطعيَّة ) فلا يجوز التعويل على ما ذكرتموه .
فصل
تمسك المجَسَّمة بقوله : « مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ » فقالوا : الجسم إنما يأتي ربع لو كان الربّ في المكان .
وجوابه أنَّ الله تعالى جعل إتيانهم موضع الوعد إتْيَاناً إلى الله مجازاً كقول إبراهيم عليه السلام : { وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الصافات : 99 ] .
قوله : { وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً } .
قرأ أبو عمرو ساكنة الهاء ، ويختلسها أبو جعفر وقالون ويعقوب والآخرون بالإشباع . « مُؤْمِناً » مات على الإيمان « قَدَ عَمِل » أي وقد عمل الصالحات ، واعلم أن قوله : { قَدْ عَمِلَ الصالحات } يقتضي أن يكون آتياً بكل الصالحات وذلك بالاتفاق غير معتبر ولا ممكن ، فينبغي أن يحمل ذلك على أداء الواجبات ثم ذكر أنَّ مَنْ أتى بالإيمان والأعمال الصالحة كانت لهم الدرجات العلا ، ثم فسر الدرجات العلا فقال : { جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } وفي الآية تنبيه على حصول العفو لأصحاب الكبائر ، لأنه تعالى جعل الدرجات العلا من الجنة لمن أتى بالإيمان والأعمال الصالحة فسائر الدرجات التي هي غير عالية ولا بد وأن تكون لغيرهم ، وما هم إلا العصاة من أهل الإيمان .
والعلا : جميع العليا ، والعليا تأنيث الأعلى .
قوله : « جَنَّاتُ » بدل من الدَّرَجَاتُ « أو بيان ، قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون التقدير : هِي جَنَّاتُ ، لأن » خَالِدِينَ « على هذا التقدير لا يكون في الكلام ما يعمل في الثاني ، وعلى الأول يكون في الحال الاستقرار ، أو معنى الإشارة .
قوله : { وذلك جَزَآءُ مَن تزكى } قال ابن عباس : يريد من قال : لا إله إلا الله ومعنى » تَزَكَّى « تطهَّر من الذنوب ، قال عليه السلام » إنَّ أهْلَ الدَّرَجَاتِ العُلَى لَتَرَوْنَهُمْ مِنْ تَحْتِهِمْ كَمَا تَرَوْنَ الكَوْكَبَ الدُّرِّي فِي أُفقِ السَّمِاء ، وإنَّ أبَا بَكْر وَعُمَر مَنْهُم « واعلم أنَّه ليس في القرآن أنَّ فرعون فعل بأولئك القوم المؤمنين ما أوعدهم ، ولم يثبت في الأخبار .
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي } الآية . وفي هذه الآية دلالة على أنَّ موسى -عليه السلام- في تلك ( الحال كثرة مستجيبوه ) فأراد الله تعالى تمييزهم من طائفة فرعون ، فأوحى إليه أن يسري بهم ليلاً ، والسُّرَى سَيْرُ الليل ، والإسراء مثله والحكمة في السُّرَى بهم : لئلا يشاهدهم العدو فيمنعهم عن مرادهم أو ليكون ذلك عائقاً لفرعون عن طلبه ومتبعيه أو ليكون إذا تقارب العسكران لا يرى عسكرُ موسى عسكرَ فرعون فلا يهابونهم .
قوله : { فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً } في نصب « طريقاً » وجهان :
أحدهما : أنَّه مفعولٌ به ، وذلك في سبيل المجاز ، وهو أنَّ الطريقَ متسبِّبٌ عن ضرب البحر ، إذ المعنى : اضرب البحرَ لينفلق لهم فيصير طريقاً فبهذا يصح نسبة الضرب إلى الطريق . وقيل : ضرب هنا بمعنى جعل ، أي : اجعَلْ لهم طريقاً وأشرعه فيه .
والثاني : أنه منصوب على الظرف ، قال أبو البقاء : التقدير موضع طريق فهو مفعول به على الظاهر ، ونظيره قوله : أن اضْرِب بِعَصَاكَ البَحْرَ وهو مثل ضَربْتُ زيداً . وقيل : ضرب هنا بمعنى جَعَل وشَرَع مثل قولهم : ضَرَبْتُ له بسهم . انتهى . فقوله على الظَّاهر ، يعني أنه لولا التأويل لكان ظرفاً . قوله : « يَبَساً » صفة ل « طريقاً » وصف به لِما يؤول إليه ، لأنه لم يكن يَبَساً بعد إنَّما مرَّت عليه الصبا فجففته كما روي في التفسير . وقيل : في الأصل مصدر وصف به مبالغة ، ( أو على حذف مضاف أو جمع يابس كخادم وخَدَم ، وصف به الواحد مبالغة ) كقوله :
3679- . . .. . وَمِعًى جِيَاعَا
أي : كجماعة جِياع ، وصف به لفرط جوعه .
وقرأ الحسن : « يَبْساً » بالسكون ، وهو مصدر أيضاً .
وقيل : المفتوح اسم ، ( والساكن مصدر ) . وقرأ أبو حَيْوة : « يَابِساً » اسم فاعل جعله بمعنى الطريق . ومن قرأ « يَبَساً » بتحريك الباء ، فالمعنى : طريقاً ذا يبس . ومن قرأ بتسكين الباء فهو مخفف عن اليبس فالمعنى ما كان فيه وحل ولا نداوة فضلاً عن الماء ، وذلك أن الله -تعالى- أيْبَسَ لهم الطريق في البحر .
قوله : « لاَ تَخَافُ » العامة على « لاَ تَخَافُ » مرفوعاً ، وفيه أوجه :
أحدها : أنه مستأنف فلا محل له من الإعراب .
الثاني : أنه في محل نصب على الحال من فاعل « اضْرِب » غير خائف .
والثالث : أنه صفة ل « طريقاً » ، والعائد محذوف ، أي : لاَ تَخَافُ فيه وحمزة وحده من السبعة : « لاَ تَخَفْ » بالجزم ، وفيه أوجه :
أحدها : أن يكون نهياً مستأنفاً .
الثاني : أنَّه نهيٌ أيضاً في محل نصب على الحال من فاعل « اضْرِب » ، أو صفة ل « طَريقاً » كما تقدم في قراءة العامة إلا أن ذلك يحتاج إلى إضمار قول ، أي مقولاً لك ، أو طريقاً مقولاً فيه : لاَ تَخَفْ كقوله :
3680- جَاءُوا بِمَذْق هَلْ رَأيْتَ الذِّئْبَ قَطّ ... الثالث : مجزوم على جواب الأمر ، أي : إن تَضْرِبْ طريقاً يبساً لاَ تَخَفْ .
قوله : « دَرَكاً » قرأ أبو حَيْوة « دَرْكاً » بسكون الراء . والدَّركُ والدَّرْكُ اسمان من الإدراك ، أي : لا يُدْرك فرعونُ وجنودُه وتقدم الكلام عليهما في سورة النساء ، وأن الكوفيين قرءوه بالسُّكون كأبي حيوة هنا .
قوله : « وَلاَ تَخْشَى » لم يقرأ بإثبات الألف ، وكان من حق من قرأ « لاَ تَخَفْ » جزماً أن يقرأ « لاَ تَخْشَ » بحذفها كذا قال بعضهم وليس بشيء ، لأن القراءة سنة ، وفيها أوجه :
أحدها : أن تكون حالاً ، وفيه إشكال ، وهو أنَّ المضارع المنفي بلا كالمثبت في عدم مباشرة الواو له ، وتأويله على حذف مبتدأ ، أي وأنت لا تخشى ، كقوله :
3681- نَجَوْتَ وَأَرْهَنُهُمْ مَالِكَا ... والثاني : أنه مستأنف أخبره تعالى أنه لا يحصل له خوف .
والثالث : أنه مجزوم بحذف الحركة تقديراً ، كقوله :
3682- إذَا العَجُوزُ غَضِبَتْ فَطَلِّقِ ... وَلاَ تَرضَّاهَا وَلاَ تَمَلُّقِ
وقوله :
3683- كَأَنْ لَمْ تَرَى قَبْلِي أسِيراً يَمَانِيَا ... ومنه « فَلاَ تَنْسَى » في أحد القولين إجراءً لحرف العلة مجرى الحرف الصحيح ، وقد تقدم ذلك في سورة يوسف عند قوله تعالى « مَنْ يَتَّقِي » .
الرابع : أنه مجزوم أيضاً بحذف حرف العلة ، وهذه الألف ليست تلك ، أعني لام الكلمة ، إنما هي ألف إشباع أُتِيَ بها موافقة للفواصل ورؤوس الآي ، فهي كالألف في قوله : « الرَّسُولا » و « السَّبِيلا » ، و « الظُّنُونَا » .
وهذه الأوجه إنما يحتاج إليها من قراءة جزم « لاَ تَخَفْ » ، وأما من قرأه مرفوعاً فهذا معطوف عليه ، أي لا تَخَافُ إدْرَاكَ فرعون ولا تخشى الغرقَ .
قوله : { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ } قال أبُو مسلم : يزعم رواة اللغة أنَّ « أتْبَعَهُمْ وتَبعَهُمْ » واحد ، وذلك جائز ويحتمل أن تكون الباء زائدة ، أي أتبَعَهُم فرعونُ جنوده كقوله : « لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي » ( أسْرَى بِعَبْدِهِ ) .
وقال غيره : في بَاء « بجنوده » أوجه :
أحدهما : أن تكون الباء للحال ، وذلك على أن « أَتْبَعَ » متعد لاثنين حذف ثانيهما ، والتقدير : فَأتْبَعَهُمْ فرعونُ عقابَه ، وقدَّره أبو حيَّان : رُؤَسَاءَه وحشَمَهُ .
قال شهاب الدين : والأول أحسن .
والثاني : أن الباءَ زائدة في المفعول الثاني . والتقدير : فَأتْبَعَهُمْ فِرعون جنوده ، كقوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] .
3684- ( . .. لاَ يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ )
وأتبع قد جئتها متعدياً لاثنين مصرح بهما قال تعالى : وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَاتِهِمْ .
والثالث : أنها معدية على أن « أتْبَعَ » ، قد يتعدى لواحد بمعنى تَبع ويجوز على هذا الوجه أن تكون الباء للحال أيضاً ، بل هو الأظهر . وقرأ أبو عمرو في رواية والحسن « فأتْبَعَهُمْ » بالتشديد ، وكذلك قراءة الحسن في جميع القرآن إلا في قوله :
{ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } [ الصافات : 10 ] قوله : « مَا غَشِيَهُمْ » فاعل « غَشِيَهُمْ » وهذا من باب الاختصار وجوامع الكلم أي : ما يقل لفظها ويكثر معناها ، أي فَغَشِيَهُمْ مَا لا يعلم كنهه إلا الله تعالى وقراءة الأعمش « فَغَشَّاهُمْ » مضعَّفاً ، وفي الفاعل حينئذ ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه « مَا غَشَاهُمْ » كالقراءة قبله ، أي غطَّاهم من اليَمِّ ما غطَّاهُم .
والثاني : هو ضمير الباري تعالى . أي : فَغَشَّاهُم الله .
والثالث : هو ضمير فرعون ، لأنه السبب في إهلاكهم .
وعلى هذين الوجهين : ف « مَا غَشَّاهُمْ » في محل نصب مفعولاً ثانياً .
فصل
قيل : أمرَ فرعونُ جنوده أن يَتْبَعُوا موسى وقومه ، وكان هو فيهم « فَغَشِيَهُمْ » أصابهم « مِنَ اليَمِّ مَا غَشِيَهُمْ » ، وهو الغرق .
وقيل : « غَشِيَهُمْ » ، علاهم وسترهم { مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ } يريد بعض ماء اليم لا كلّه .
وقيل : غَشِيَهُم من اليَمِّ ما غشي قوم موسى فغرقوا هم ونَجَا موسى وقومه .
قوله : { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى } أي بما أرشدهم ، وهذا تكذيب لفرعون ، وتهكم به في قوله : { وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد } [ غافر : 29 ] احتج القاضي بقوله : { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى } وقال : لو كان الضلال من خلق الله لما جاز أن يقال : « وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ » بل وجب أن يقال : « اللهُ أَضَلَّهُمْ » ، لأن الله ذمَّه بذلك ، فكيف يكون خالقاً للكفر ، لأنَّ مَنْ ذمَّ غيره بشيء لا بد وأنْ يكون المذموم هو الذي فعله وإلا استحق الذم .
فصل
قال ابن عبَّاس : لمَّا أمر تعالى موسى أن يقطعَ بقومه البحر ، وكان بنو إسرائيل استعاروا من قوم فرعون الحُلِيّ والدواب لعيد يخرجون إليه ، فخرج بهم ليلاً . وكان يوسف عليه السلام عهد إليهم عند موته أن يخرجوا بعظامه معهم من مصر ، فلم يعرفوا مكانها حتى دلتهم عجوز على موضع العظم فأخذوه ، وقال موسى عليه السلام للعجوز : احتكمي . فقالت : أكون معك في الجنة . فلما خرجوا تَبِعَهُم فرعون ، فلما انتهى موسى إلى البحر ، ( قال : هنا أُمِرْتُ ، فَأوْحَى الله إليه أن اضْرِبْ بِعَصَاكِ البَحْرَ ) ، فضربه فانفلق ، فقال لهم موسى : ادخلوا فيه قالوا : كيف وهي رطبة؟ فدعا ربّه فهبت عليهم الصبا فجفت . فقالوا : نخاف الغرق في بعضنا ، فجعل بينَهُم كوًى حتى يرى بعضُهم بعضاً ، ثم دخلوا حتى جازوا ، وأقبل فرعون إلى تلك الطرق ، فقال له قومه : إنَّ موسى قد سَحَر البَحْرَ كما ترى ، وكان على فرس حصان فأقبل جبريل عليه السلام ( على فرس أنْثَى في ثَلاثَةٍ وثلاثين من الملائكة ، فصار جبريل عليه السلام بين يدي فرعون ) . فأبصر الحصانُ الفرسَ فاقتحم بفرعون على أثرها ، وصاحت الملائكة في الناس الحقُوا حتى إذا دخل آخرهم ، وكان أولهم أن يخرج التقى البحر عليهم ، فغرقوا ، فرجع بنو إسرائيل حتى ينظروا إليهم ، وقالوا : يا موسى ادْعُ اللهَ أنْ يخرجهم لنا ( حتى ننظر إليهم ) ، فلفظهم البحر إلى الساحل وأصابوا من سِلاحِهم .
قال ابن عبَّاس : إنَّ جبريل عليه السلام قال : يا محمد لو رأتني وأنا أدسّ فرعون في الماء والطين مخافة أن يتوب . فهذا معنى { فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ } قال ابن الخطيب : وفي القصة أبحاث :
الأول : قال بعض المفسرين : إن موسى لما ضربَ البحرَ انفرق اثنا عشر طريقاً يابساً ، وبقي الماء قائماً بين الطريقين طالطود العظيم وهو الجبل ، فأخذ كلُّ سبط من بني إسرائيل في طريق ، وهو معنى قوله تعالى : { فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم } [ الشعراء : 63 ] ومنهم من قال : إنَّما حصل طريق واحد لقوله : { فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِي البحر يَبَساً } ويمكن حمله على الجنس .
الثاني : أن قول بني إسرائيل بعد أن أظهر لهم الطرق وبينها تعنتوا وقالوا نريدُ أنْ يرى بعضُنا بعضاً فهذا كالبعيد ، لأن القومَ لما أبْصَروا مجيء فرعون صاروا في نهاية الدهاء فكيف اختار إلقاء نفسه في التهلكة ، فإنه كان يعلم من نفسه أن انفلاق البَحْر ليس بأمره ، وذكروا عند هذا وجهين :
أحدهما : أنَّ جبريل -عليه السلام- كان على الرَّمْكَة فتبعه فرس فرعون . ولقائلٍ أن يقول : هذا بعيد ، لأنه يبعد أن يكون خوضُ الملك في أمثال هذه المواضع مقدماً على خوض جميع العسكر . وأيضاً فلو كان الأمر على ما قالوا لكان فرعون في ذلك الدخول كالمجبور ، وذلك مما يزيده خوفاً ، ويحمله عن الإمساك على الدخول . وأيضاً : فأيُّ حاجةٍ لجبريل عليه السلام إلى هذه الحيلة ، وقد كان يمكنه أن يأخذه مع فرسه ويرميه في الماء ابتداء؟ بل الأولى أن يقال : إنه أمر مقدمة العسكر بالدخول فدخلوا وما غرقوا فغلب على ظنه السلامة ، فلما دخل أغرقهم الله .
الرابع : أن قولهم عن جبريل إنه كان يدسه في الماء والطين خوفاً من أن يؤمن فبعيد ، لأن المنع من الإيمان لا يليق بالملائكة والأنبياء .
الخامس : روي أن موسى عليه السلام كَلَّمَ البحرَ فقال انفلق لي لأعبر ، فقال البحر : لا يَمُرُّ عليَّ رجل عاص . وهذا غير ممتنع على أصول أهل السنة ، لأن عندهم البنية ليست شرطاً للحياة ، وعند المعتزلة أن ذلك على لسان الحال لا على المقال .
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
قوله تعالى : { يابني إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ } الآية .
قرأ الأخوان « قَدْ أَنْجَيْتُكُمْ » و « وَاعَدتُكُمْ » و « رَزَقْتُكُمْ » بتاء المتكلم . والباقون : « أنْجَيْنَاكُمْ » و « وَاعَدْنَاكُمْ » و « رَزَقْنَاكُمْ » بنون العظمة واتفقوا على « ونَزَّلْنَا » وتقدم خلاف أبي عمرو في « وَعَدْنَا » في البقرة .
وقرأ حميد « نَجَِّيْنَاكُم » بالتشديد . وقرئ « الأيْمَنِ » بالجر . قال الزمخشري : خفض على الجوار كقولهم : جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ .
وجعله أبو حيان : شاذاً ضعيفاً ، وخرَّجه على أنَّه نعت « الطُّورِ » .
قال : وصف به لما فيه من اليُمْنِ ، أو لكونه على يَمِينِ من يستقبل الجبل و « جَانِبَ » مفعول ثان على حذف مضاف ، أي إتيان جانب . ولا يجوز أن يكون المفعول الثاني محذوفاًً ، وجَانِبَ « ظرف للوعد ، والتقدير : وواعدناكم التوراة في هذا المكان ، لأنه ظرف مكان مختص لا يصل إليه الفعل بنفسه ، وكما لو قيل : إنه تُوُسِّع في هذا الظرف فجعل مفعولاً به : أي جعل نفس الموعود نحو : سير عليه فرسخَان وبريدان . قوله : » فَيَحِلُّ « قرأ العامة فَيَحِل بكسر الحاء واللام من » يَحْلُلْ « . والكسائي بضمهما .
وابن عيينة وافق العامة في الحاء ، والكسائي في اللام . فالعامة من حَلَّ عليه كذا ، أي : وَجَبَ ، من حَلَّ الدَّيْنُ يَحِلُّ ، أي : وجب قضاؤه ، ومنه قوله : { حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ } ، ومنه أيضاً : { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } .
وقرأ الكسائي من حَلَّ يَحُلُّ ، أي نزل ، ومنه { أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ } والمشهور أن فاعل » يَحِلُّ « في القراءتين هو » غَضَبِي « وقال صاحب اللوامح : إنه مفعول به وأن الفاعل ترك لشهرته والتقدير : فيحل عليكم طُغْيَانِكُمْ غَضَبِي ، ودل على ذلك » وَلاَ تَطْغَوْا « ولا يجوز أن يسند إلى » غَضِبِي « فيصير في موضع رفع بفعله . ثم قال : وقد يجذف المفعول للدليل عليه وهو العذاب ونحوه قال شهاب الدين : فعندَه أنَّ حَلَّ متعد بنفسه ، لأنه من الإحلال كما صرح هو به ، وإذا كان من الإحلال تعدَّى لواحدِ ، وذلك المتعدي إليه إما » غَضَبِي « ( على أن الفاعل ) ضمير عائد على الطغيان كما قدَّره ، وإما محذوفٌ والفاعل » غَضَبِي « ، وفي عبارته قلق . وقرأ طلحة » لاَ يَحِلَّنَّ عَلَيْكُمْ « بلا الناهية للطغيان فيحق عليكم غضبي ، وهو من باب لا أَرَينَّكَ هاهنا .
وقرأ زيد بن علي » وَلاَ تَطْغُوْا « بضم الغين من طغى يطغو كغَزَا يَغْزُو .
وقوله : » فَيَحِلُّ « يجوز أن يكون مجزوماً عطفاً على » لاَ تَطْغَوْا « كذا قل أبو البقاء . وفيه نظر ، إذ المعنى ليس على نهي الغضب أن يَحِلَّ بهم .
والثاني : أنه منصوب بإضمار ( أَنْ ) في جواب النهي ، وهو واضح .
فصل
اعلم أن الله تعالى لمَّا أنعم على قوم موسى -عليه السلام- بأنواع النعم ذكرهم ، ولا شك أنَّ إزالة الضرر يجب تقديمه على إيصال المنفعة ، وإيصال المنفعة الدينية أعظم من إيصال المنفعة الدنيوية ، فلهذا بدأ تعالى بإزالة الضرر بقوله : { أَنجَيْنَاكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ } ، فإن فرعون كان يُنْزِل بهم أنواع الظلم ، والإذلال ، والأعمال الشاقة . ثم ذكر المنفعة الدينية وهي قوله : { وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطور الأيمن } وذلك أنه أنزل عليهم في ذلك الوقت كتاباً فيه بيان دينهم وشريعتهم ، أو لأنهم حصل لهم شرف بسبب ذلك .
قال المفسرون : وليس للجبل يمينٌ ولا يسار بل المراد أنَّ طور سيناء عن يمين السالك من مصر إلى الشام . ثم ثلَّث بذكر المنفعة الدنيوية فقال : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى } { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } أمر إباحة .
ثم زجرهم عن العصيان فقال : { وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ } قال ابن عباس : لا يظلم بعضُكُم بعضاً فيأخذه مِنْ صَاحِبه . وقال مقاتل والضحاك : لا تظلموا فيه أنفسَكُم بأن تُجَاوِزُوا حدّ الإباحَة وقال الكلبي : لا تكفروا النعمة أي لا تستعينوا بنعمتي على مخالفتي ولا تُعْرِضوا عن الشكر ، ولا تعدِلوا عن الحلال إلى الحرام والمراد بالطَّيِّبات هاهنا اللذائذ ، لأن المن والسَّلوى من لذائذ الأطعمة . وقال الكَلْبي ومقاتل : الطَّيِّبات الحلالً ، وذلك لأن الله تعالى أنزله إليهم ، ولم يمسه يدي الآدميين . روي أنهم كانوا يُصبِحون فيجدونه بين بيوتهم فيأخذون منه قدر حاجتهم في ذلك اليوم إلى الغد ، ومن ادخر لأكثر من ذلك فسد ، ومن أخذ منه قليلاً كفاه ، أو كثيراً لم يفضل عنه ، فيصنعون منه مثل الخبز وهو في غاية البياض والحلاوة ، فإن كان آخر النهار غشيهم طيْرُ السَّلوى فينقصون منها بلا كلفة ما يكفيهم لعشائهم ، وإذات كان الصيف ظلَّل عليهم الغمام يقيهم حر الشمس . ثم قال : { فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي } أي يجب عليكم غضبي { وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هوى } أي هَلك وقيل : شَقِي . وقيل : وقع في الهاوية : هوى يهوي هوياً إذا سقط من علو إلى سُفْلٍ .
ثم قال : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ } .
واعلم أنه تعالى وصف نفسه بكونه غافراً وغفَّاراً ، وبأن له غفراناً ومغفرةَ ، وعبر عنه بلفظ الماضي والمستقبل والأمر . أما كون وصفه غافراً فقوله : وأما كونه غَفُوراً فقوله : { وَرَبُّكَ ا } [ الكهف : 58 ] ( وأما كونه غفَّاراً فقوله : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ ) لِّمَن تَابَ وَآمَنَ } [ طه : 82 ] وأما الغفران فقوله : { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا } [ البقرة : 285 ] .
وأما المغفرة فقوله : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ } [ الرعد : 6 ] .
وأما صيغة الماضي فقوله في حق داود : { فَغَفَرْنَا لَهُ } [ ص : 25 ] .
وأما صيغة المستقبل فقوله : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } النساء : [ 48 ، 116 ] وقوله : { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } [ الزمر : 13 ] وقوله : { لِّيَغْفِرَ لَكَ الله } [ الفتح : 2 ] وأما لفظ الاستغفار فقوله : { استغفروا رَبَّكُمْ } [ هود : 3 ، 52 ، 90 ، نوح : 10 ]
{ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } وهاهنا نكتة وهي أنَّ العبد له أسماء ثلاثة : الظالم ، والظَّلوم ، والظَّلاَّم إذا كثر منه الظلم ، ولله في مقابلة كل واحد من هذه الأسماء اسماً فكأنه تعالى قال : إن كنتَ ظالماً فأنا غافرٌ ، وإن كنت ظلوماً فأنا غَفوٌ ، وإن كنت ظلاَّماً فانَا غَفَّارٌ .
قال ابن عباس : « مَنْ تَابَ » عن الشرك « وَآمَنَ » وَحَّدَ الله وصدّقه « وَعَمِلَ صَالِحاً » أدَّى الفرائض « ثُمَّ اعْتَدَى » علم أنَّ ذلك توفيق من الله عز وجل . وقال قتادة وسفيان الثوري : لزم الإسلام حتى مات عليه . وقال الشعبي ومقاتل والكلبي : علم أنَّ لذلك ثواباً . وقال زيد بن أسلم : تعلَّم العلم لتهتدي كيف يعمل . وقال سعيد بن جبير : أقام على السنة والجماعة .
فصل
قال بعضهم : تجبُ التوبةُ عن الكفر أولاً ثم الإتيان ثانياً ، لهذه الآية ، فإنه قدم التوبة على الإيمان .
ودلَّت هذه الآية أيضاً على أن العمل الصالح غيرُ داخلٍ في الإيمان ، لأنه تعالى عطف العمل الصالح على الإيمان ، والمعطوف عليه .
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)
قوله : « وَمَا أعْجَلَكَ » مبتدأ وخبر . و « مَا » استفهامية عن سبب التقدم على قومه .
قال الزمخشري : فإن قلتَ : « مَا أعْجَلَكَ » سؤال عن سبب العجلة ، فكان الذي ينطبق عليه من الجواب أن يقال : طلبُ زيادة رضَاكَ ، أو الشوق إلى كلامك وتنجز موعدك . وقوله : { هُمْ أولااء على أَثَرِي } كَمَا تَرَى غير منطبق عليه .
قلت : قد تضمَّن ما واجهه به رب العزة شيئين :
أحدهما : إنكار العجلة في نفسها .
والثاني : السؤال عن سبب التقدم والحامل عليه ، فكان أهم الأمرين إلى موسى بسط العذر ، وتمهيد العلة في نفس ما أنكر عليه فاعتلَّ بأنَّه لم يوجد منِّي إلا تقدمٌ يسير مثله لا يعتد به في العادة ولا يحتفل به ، وليس بيني وبين من سبقته إلا مسافة قريبة يتقدم بمثلها الوفد رأسهم ومقدمتهم ، ثم عقبه بجواب السؤال عن السبب فقال : { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى } .
وأجاب غيره عن هذا السؤال بأنه -عليه السلام- ورد عليه من هيبة عتاب الله ما أذهله عن الجواب المنطبق المرتب على حدود الكلام .
فصل
في الآية سؤالات :
الأول : قوله : « وَمَا أعْجَلَكَ » استفهام ، وهو على الله تعالى محال .
والجواب : أنه إنكار في صيغة الاستفهام ولا امتناع فيه .
الثاني : أنَّ موسى -عليه السلام- إما أن يقال : إنَّه كان ممنوعاً عن ذلك التقدم ، أو لم يكن ممنوعاً عنه ، فإن كان ممنوعاً كان ذلك التقدم معصية فيلزم وقوع المعصية من الأنبياء ، وإن لم يَكُنْ ممنوعاً كان ذلك الإنكار غير جائز .
والجواب : لعله -عليه السلام- ما وجد نصًّا في ذلك إلا أنَّه باجتهاده تقدم فأخطأ في ذلك الاجتهاد فاستوجب العتاب .
الثالث : قوله : « وَعَجِلْتُ » والعجلة مذمومة .
والجواب : أنها ممدوحة في الدين قال الله تعالى : { وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ } [ آل عمران : 133 ] .
الرابع : قوله : « لِتَرْضَى » يدل على أنَّه -عليه السلام- إنَّما فعل ذلك ليحصل الرِّضا لله تعالى ، وذلك باطل من وجهين :
أحدهما : يلزم تجدد صفة الله .
والآخر : أنه -تعالى- قبل حصول ذلك الرضا يجب أن يقال : ( إنَّه ما ) كان راضياً عن موسى ، لأنَّ تحصيل الحاصل محال ، ولما لَمْ يكن راضياً عنه وجب أن يكون ساخطاً عليه ، وذلك لا يليق بحال الأنبياء .
والجواب المراد تحصيل دوام الرضا كقوله : « ثُمَّ اهْتَدَى » المراد دوام الاهتداء .
الخامس : قوله { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى } يدل على أنه ذهب إلى الميعاد قبل الوقت الذي عيَّنه الله له وإلا لم يكن تعجيلاً ، ثم ظن أنَّ مخالفة أمر الله سبب لتحصيل رضاه ، وذلك لا يليق بأجهل الناس فضلاً عن كليم الله .
والجواب : أن ذلك كان باجتهادٍ وأخطأ فيه .
السادس : قوله : « إلَيْكَ » يقتضي كون الله في الجهة ، لأن « إلى » لانتهاء الغاية .
والجواب : اتفقنا على أنَّ الله -تعالى- لم يكن في الجبل ، فالمراد إلى مكان وعدك .
فصل
دلت الآية على أنَّه تعالى أمره بحضور الميقات مع قوم مخصوصين فقال المفسرون : هم السَّبعُون الذين اختارهم الله من جملة بني إسرائيل ، يذهبون معه إلى الطور ليأخذوا التوراة ، فسلر بهم موسى ، ثم عجَّل موسى من بينهم شوقاً إلى ربه ، وخلق السبعين وأمرهم ان يتبعوه إلى الجبل ، فقال الله له : { وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى } قال مجيباً لربه { هُمْ أولااء على أَثَرِي } أي : بالقرب منِّي يأتون من بعدي { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى } لتزداد رِضًى .
قوله : { هُمْ أولااء على أَثَرِي } كقوله : { ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة : 85 ] و { على أَثَرِي } يجوز أن يكون خبراً ثانياً ، وأن يكون حالاً وقرأ الجمهور : « أولاَءِ » بهمزة مكسورة .
والحسن وابنُ معاذ بياء مكسورة ، وإبدال الهمزة ياءً ( تخفيفاً ) .
وابن وثاب « أُولى » بالقصر دون همزة .
وقرأت طائفة « أولاَيَ » بياء مفتوحة ، وهي قريبة من الغلط والجمهور « عَلَى أثَرِي » بفتح الهمزة والثاء .
وأبو عمرة في رواية عبد الوارث ، وزيد بن علي « إثْرِي » بكسر الهمزة وسكون الثاء وعيسى بضمها وسكون الثاء ، وحكاها الكسائي ( لغة ) .
قوله : { فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ } أي : ابتلينا الذين خَلَّفَتَهُم مع هارون ، وكانوا ستمائة ألف ، فَأُفْتِنُوا بالعجل غير اثني عشر ألفاً من بعدك انطلاقك إلى الجبل .
فصل
قالت المعتزلة : لا يجوز أن يكون المرادُ أنَّ الله -تعالى- خلقَ فيهم الكفر لوجهين :
الأول : الدلائل العقلية ( الدالة على ) أنه لا يجوز من الله -تعالى- أن يفعل ذلك .
والثاني : أنَّه قال : « وَأَضَلَّهُمُ السَّامِريّ » .
وأيضاً : فلأن موسى لمَّا طالبَهُم بذكر سبب الفتنة ، فقال : { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ } [ طه : 86 ] فلو حصل ذلك بخلق الله لكان لهم أن يقولوا السبب فيه أن الله خلقه فِينَا لا ما ذكرت ، فكان يبطل كلام موسى -عليه السلام- . وأيضاً فقوله : { أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ } [ طه : 86 ] ولو كان ذلك بخلقه لاستحال أن يغضبَ عليهم فيما هو الخالق له ، ولما بطل ذلك وجب أن يكون لقوله : « فَتَنَّا » معنًى آخر ، وذلك لأن الفتنة قد تكون بمعنى الامتحان ، يقال : فَتَنْتُ الذَّهَبَ بالنار إذا امتحنته بالنار فتميز الجيد من الرديء ، فهاهنا شدَّد الله التكليف عليهم ، لأن السَّامِرِيَّ ، لما أخرج لهم العجل صاروا مكلفين بأن يستدلوا بحدوث جملة العالم والأجسام على أنَّ له إلهاً بجسم وحينئذ يعرفون أن العجل لا يصلح للإلهية فكان هذا التعبد تشديداً في التكليف ، ( والتشديد في التكليف ) موجود .
قال تعالى : { أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ }
[ العنكبوت : 2 ] .
والجواب : ليس في ظهور صوت من عجلٍ متخذٍ من الذهب شبهة أعظم مما في الشمس والقمر ، والدليل الذي ينفي كون الشمس والقمر إلهاً أولى بأن ينفي كون العجل إلهاً ، فحينئذ لا يكون حدوث العجل تشديداً في التكليف ولا يصح حمل الآية عليه ، فوجب حمله على خلق الضلال فيهم .
وقوله : أضاف الإضلال إلى السَّامري . قلنا : أليس أن جميع المسببات العادية تضاف إلى أسباب من الظاهر وإن كان الموجد هو الله -تعالى- فكذا هاهنا . وأيضاً قرئ « وَأَضَلَّهُم السَّامِرِيّ » أي : وأشد ضلالهم السامري ، وعلى هذا لا يبقى للمعتزلة استدلال ، ثم الذي يحسم مادة الشغب مسألة الداعي . وقوله : « وَأَضَلَّهُم السَّامِرِي » العامة على أنه فعلٌ ماض مسند إلى السامري .
وقرأ أبو معاذ « وَأَضَلَّهُم » مرفوعاً بالابتداء ، وهو أفعل تفضيل ، و « السَّامِرِيُّ » خبره .
ومعنى « أَضَلَّهُمْ » أي : دَعَاهم وصَرفَهُم إلى عبادة العِجْلِ ، وأضاف الإضلال إلى السَّامِرِيُّ ، لأنهم ضلوا بسببه . قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير : كان السامري عِلْجاً من أهل كِرْمان وقع إلى مصر ، وكان من قوم يعبدون البقر ، والأكثرون على أنه كان من عظماء بني إسرائيل من قبيلة يقال لها : السَّامرة . قاله الزجاج .
وقال عطاء عن ابن عباس كان الرجلُ من القبطِ جاراً لموسى وقد آمن رُوِيَ أنهم أقاموا بعد مفارقة موسى عشرين ليلة وحسبوها أربعين مع أيَّامِها ، وقالوا قد أكملنا العدة ، ثم كان أمر العجل بعد ذلك .
فإن قيل : كيف التوفيق بين هذا وبين قوله لموسى عند مقدمه { فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ } .
فالجواب من وجهين :
الأول : أنه تعالى أخبر عن الفتنة المترقبة بلفظ الموجودة الكائنة على عادته كقوله : { اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] { ونادى أَصْحَابُ الجنة } [ الأعراف : 44 ] إلى غير ذلك .
الثاني : أنَّ السامري شرع في تدبير الأمر لما غاب موسى -عليه السلام- ثم رجع موسى إلى قومه بعد ما استوفى الأربعين ذا القعدة وعشر ذي الحجة .
فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)
قوله : « غَضْبَانَ أَسِفاً » حالان ، وقد تقدم في سورة الأعراف قيل : الأسف شدة الغضب ، فلا يلزم التكرار ، لأنَّ « غَضْبَانَ » يفيد أصل الغضب ، و « أَسِفاً » يفيد كماله . وقال الأكثرون : حُزْناً وجَزَعاً ، يقال : أسف يأسَف أسَفاً فهو أسِفٌ ، إذا حزن . وقيل : الأسف : المغتاط ، وفرق بين الاغتياط والغضب ، لأنَّ الله تعالى لا يوصف بالغيظ ويُوصَف من حيث أن الغضب إرادة الإضرار بالمغضوب عليه ، والغيط تغيُّرٌ يلحقُ المُغتاط وذلك لا يصح إلى على الأجسام كالضحك والبكاء ، ثم إن موسى -عليه السلام- عاتبهم بعد رجوعه فقال : { ياقوم أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً } قيل : المراد بالوعد الحسن إنزال التوراة . وقيل : الثواب على الطاعات .
وقال مجاهد : العهد . وهو قوله : { وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ } [ طه : 81 ] إلى قوله : { ثُمَّ اهتدى } [ طه : 82 ] ( ويدل عليه قوله بعد ذلك ) { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ } فكأنه قال أفنسيتم ذلك الذي قال الله لكم : « وَلاَ تَطْغوا » وقيل : الوعد الحسن هاهنا يحتمل أن يكون وعداً حسناً في منافع الدين وأن يكون في منافع الدنيا . أما منافع الدين : فهو الوعد بإنزال الكتاب الهادي إلى الشرائع ، والوعد بحصول الثواب العظيم في الآخرة . وأما منافع الدنيا فإن الله تعالى قد وعدهم قبل إهلاك فرعون أن يورثهم أرضَهُم ( ودِيارَهُم ) .
فإن قيل : قوله : { أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ } هذا الكلام إنما يتوجه عليهم لو كانوا معترفين بإلهٍ آخر سوى العجل ، وأمَّا لمَّا اعتقدوا أنه لا إله سواه على ما أخبر الله عنهم أنهم قالوا : { هاذآ إلهكم وإله موسى } [ طه : 88 ] كيف يتوجه عليهم هذا الكلام؟
فالجواب : أنهم كانوا معترفين بالإله لكنهم عبدوا العجل على التأويل الذي يذكره عبَّاد الأصنام .
قوله : « وَعْداً حَسَناً » يجوز أن يكون مصدراً مؤكداً ، والمفعول محذوف تقديره : وعدكم بالكتاب والهداية ، أو يترك المفعول الثاني ليعم . ويجوز أن يكون الوعد بمعنى الموعود فيكون هو المفعول الثاني .
قوله : { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد } أيْ أقصيْتُم ذلك العهد . وقيل : أفَطَالَ عليكم مدة مفارقتي إياكم . وطول العهد يحتمل أموراً :
أحدها : أفطال عليكم العهد بنعم الله من إنْجَائكُم من فرعون ، وغير ذلك من النعم المذكورة في أول سورة البقرة كقوله تعالى : { فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [ الحديد : 16 ] .
وثانيها : روي أنَّهم عرفوا أنَّ الأجل أربعون ليلةً فجعلوا كلَّ يوم بإزاء ليلة وردُّوه إلى عشرين . قال القاضي : هذا ركيك لأن ذلك لا يكاد يشتبهه على أحد .
وثالثها : أنَّ موسى -عليه السلام- وعدهُم ثلاثين ليلةً فلما زاده الله فيها عشرة أخرى طال العهد .
قوله : { أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ } هذا لا يمكن إجراؤه على ظاهره لأنَّ احداً لا يريد ذلك ، ولكن المعضية ( لما كانت ) توجب ذلك ، ومريد السبب مريد للمسبب ، أي أرَدْتُّمْ أن تفعلوا فعلاً يوجب عليكم الغضب من ربكم .
{ فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِي } ، وهذا يدل على موعد كان فيه -عليه السلام- مع القوم ، فقيل : المراد ما وعدوه من اللحاق والمجيء على أثره . وقيل : ما وعدوه من الإقامة على دينه إلى أن يرجع إليهم من الطور و « مَوْعدي » مصدر يجوز أن يكون مضافاً لفاعله بمعنى أوَجدْتُمُونِي أَخْلَفْتُكُم ما وعْدتُّكُمْْ . وأن يكون مضافاً لمفعوله بمعنى : أنهم وعدوه أن يتمسكوا بدينه وسنته .
قوله : « بِمَلْكِنَا » قرأ الأخوان بضم الميم ، ونافع وعاصم بفتحها والباقون بكسرها . فقيل : لغات بمعنى واحد كالنَّقْضِ والنُّقضِ والنِّقْضِ ، فهي مصادر ، ومعناها القدرة والتسلط . وفرق الفارسي وغيره بينهما ، فقال : المضموم معناه : لم يكن مُلْكٌ فتُخْلِفُ موعدك بسلطانه ، وإنما فعلناه بنظر واجتهاد ، فالمعنى على أن ليس له ملك كقول ذي الرُّمة :
3685- لاَ يُشْتَكَى سَقْطَةٌ مِنْهَا وَقَدْ رَقَصَتْ ... بِهَا المَفَاوِزُ حَتَّى ظَهْرُهَا حَدِبُ
أي لا يقع منها سَقْطَة فَتَشْتَكِي .
وفتح الميم مصدر من مَلَكَ أمره ، والمعنى : ما فعلناه بأنَّا ملكنا الصواب ، بل غلبتنا أنفسنا . وكسر الميم كَثُر فيما تحوزه اليد وتحويهن ولكنه يستعمل في الأمور اليت يرمها الإنسان ، ومعناها كمعنى التي قبلها .
والمصدر في هذين الوجهين مضاف لفاعله ، والمفعول محذوف أي : بِمَلْكِنَا الصوابَ . قوله : « حُمِّلْنَا » قرأ نافع وابن كثير وحفص بضم الحاء وكسر الميم المشددة وأبو جعفر كذلك إلا أنه خفف الميم . ( والباقون بفتحها خفيفة الميم ) . فالقراءة الأولى والثانية نسبوا فيهما الفعل إلى غيرهم .
وفي الثالثة نسبوه إلى أنفسهم و « أَوْزَاراً » مفعول ثان غير القراءة الثالثة . و « مِنْ زِينَةِ » يجوز أن يكون متعلقاً ب « حُمِّلْنَا » ، وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه صفة ل « أَوْزَاراً » .
وقوله : « فَكَذَلِكَ » نعت لمصدر أو حال من ضميره عند سيبويه أي : وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه صفة ل « أوْزَاراً » .
وقوله : « فَكَذَلِكَ » نعت لمصدر أو حال من ضميره عند سيبويه أي : إلقاء مثل إلقَائِنَا .
فصل
اختلفوا في القائل { مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا } على وجهين :
فقيل : القائل هم الذين لم يعبدُوا العجلَ كأنهم قالوا : ما أخلَفْنَا موعدَك بأمرٍ كُنَّا نملكه ، وقد يضيف الرجل فعل قرينه إلى نفسه ، كقوله تعالى : { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر } [ البقرة : 50 ] { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً } [ البقرة : 72 ] وإن كان القائل بذلك آباءهم ، فكأنهم قالوا : الشبهة قويت على عبدة العجل ، فلم نقدر على منعهم عنه ولم نقدر أيضاً على مفارقتهم ، لأنَّا خفنا أن نصير سبباً لوقوع الفرقة ، وزيادة الفتنة .
وقيل : هذا قول عبدة العِجل ، والمعنى أن غيرنا أوقع الشبهة في قلوبنا ، وفاعل السبب فاعل المسبب ، فمخلف الوعد هو الذي أوقع الشبهة ، فإنه كان لمالكنا لنا .
فإن قيل : كيف يُعْقَل رجوع قريب من ستمائة ألف إنسان من العقلاء المكلفين عن الدين الحق دفعة واحدة إلى عبادة عجلٍ يُعْرَف فسادُها بالضرورة ، ثم إن مثل هذا الجمع لما فارقوا الدين وأظهروا الكفر فكيف يعقل رجوعهم دفعة واحدة عن ذلك الدين بسبب رجوع موسى -عليه السلام- وحده إليهم؟
فالجواب : هذا غير ممتنع في حق البُلْهِ من الناس .
ثم إنَّ القوم فروا من العذر الحامل لهم على ذلك الفعل فقالوا { ولكنا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ القوم } فمن قرأ بالتخفيف فالمعنى حملْنَا في أنفسنا ما كنا استعرضناه من القوم . ومن قرأ بالتشديد فقيل : إن موسى -عليه السلام- أمرهم باستعاره الحُلِيّ والخروج بها فكأنه ألزمهم ذلك . والمراد بالأوزار حُليّ قوم فرعون .
وقيل : جعلنا كالضامن لها أن نؤديها إلى حيث يأمرنا الله .
وقيل : إنَّ الله تعالى حَمَّلَهُم ذلك ، أي : ألزمهم حكم المغنم .
قيل : أخذوها على وجه العارية ولم يردوها حين خرجوا من مصر استعاروها لعيدهم .
وقيل : إن الله تعالى لما أغرق فرعون نبذَ البحر حُليَّهم فأخذوها وكانت غنيمة ، ولم تكن الغنيمة حلالاً لهم في ذلك الزمان ، فسماها الله أوْزَاراً لذلك ، لأنه يجب عليهم حفظها من غير فائدة فكانت أوزاراً .
وقيل : سميت أوزاراً لكثرتها وثقلها ، والأوزار : الأثقال . وقيل المراد بالأوزار الآثام ، والمعنى حُمِّلْنَا آثاماً ، روي أن هارون -عليه - قال إنها نجسة فتطهروا منها ، وقال السَّامِريّ إنَّ موسى احتبس عقوبة بالحُلِيّ . فيجوز أن يكونوا أرادوا هذا القول ، وقد يقول الإنسان للشيء الذي يلزمه رده هذا كله إثمٌ وذنبٌ .
وقيل : إنَّ ذلك الحِليّ كان للقبط يتزينون به في مجامع لهم يجري فيها الكفر ، فلذلك وصف بكونها أوزاراً كما يقال مثله في آلات المعاصي .
وقوله : « فَقَذَفْنَاهَا » أي فَطَرَحْنَاهَا في الحفيرة ، وذلك أن هارون قال لهم : إنَّ تلكَ غنيمةٌ لا تَحِلٌُّ فاحفروا ، فحفروا حفيرة ، ثم ألقوه فيها حتى يرجع موسى فيرى فيها رأيه ، ففعلوا .
وقيل : قَذَفُوها في موضعٍ أمرهم السامريُّ بذلك .
وقيل : في موضعٍ جمع فيه النار ، ثم قالوا : وكذلك ألقى السامري ما معه من الحُلِيّ فيها .
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)
قوله : { فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ } .
قال ابن عباس : أوقد هارون ناراً وقال : اقذفوا ما معكم فيها فألقوا فيها ، ثم ألقى السامريُّ ما كان معه من تربة حافر فرس جبريل -عليه السلام- .
قال قتادة : كان ذلك الجسد حيًّا أم لا؟
فقيل : لا لأنه لا يجوز إظهار خرق العادة على يد الضال بل السامري صوًّر صورة على شكل العجل ، وجعل فيها منافذ وتخاريق بحيث تدخل فيها الرياح ، فيخرج صوت يشبه صوت العِجْل .
وقيل : إنَّه صار حياً ، وخار كما يخور العِجْل ، لقوله : { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول } [ طه : 96 ] ، ولو لم يصر حيًّا لما بقي لهذا الكلام فائدة ، ولأنه تعالى سماه عجلاً ، والعِجْل حقيقة هو الحيوان ، وسماه جسَداً وهو إنما يتناول الحي .
وأثبت له الخوار .
وأما ظهور خارق العادة على يد الضال فجائز ، لأنه لا يحصل الالتباس وهاهنا كذلك فوجب أن لا يمتنع .
وروى عكرمة عن ابن عباس أن هارون -عليه السلام- مرَّ بالسَّامريَّ وهو يصنع العجل ، فقال ما تصنع؟ فقال أصنع ما ينفع ولا يضر فادع لي فقال : اللهم أعطه ما سأل ، فلما مضى هارون ، قال السامريُّ اللهم إني اسألك أن تجعل له خواراً .
وفي رواية : فألقى التراب في فم العجل ، وقال : كُنْ عِجْلاً يخور ، فكان كذلك يدعوه هارون وعلى هذا التقدير يكون ذلك معجزاً للنبي .
قوله : { فَقَالُواْ هاذآ إلهكم وإله موسى } وهاهنا إشكال وهو أن القوم إن كانوا في الجهالة بحيث اعتقدوا أن ذلك العجل المعمول في تلك الساعة هو الخالق للسموات والأرض فهم مجانين ، وليسوا مكلفين ، ولأن هذا محال على مثل ذلك الجمع العظيم ، وإن لم يعتقدوا ذلك ، فكيف قالوا : { هاذآ إلهكم وإله موسى } ؟
وجوابه لعلهم كانوا من الحلولية : فجوزوا حلول الإله وحلول صفة من صفاته في ذلك الجسم ، وإن كان ذلك أيضاً في غاية البعد ، لأن ظهور الخوارق لا يناسب الإلهية ، ولكن لعل القوم في نهاية البلادة .
قوله : « فَنَسِيَ » قرأ العامة بكسر السين . وقرأ الأعمش بسكون السين ، وهي لغة فصيحة والضمير في « نَسِيَ » يجوز أن يعود على السَّامِريّ « ، وعلى هذا قيل : إنه من كلام الله تعالى ، كأنه أخبر عن السامري أنه نَسِيَ الاستدلال على حدوث الأجسام ، وإنَّ الإلَه لا يحل في شيء ولا يحل فيه شيء ، ثم إنه تعالى بيَّن المعنى الذي يجب الاستدلال به وهو قوله : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً } أي : لم يخطر ببالهم أن من لا يتكلم ولا ينفع ولا يضر لا يكون إلهاً ، ولا يكون للإله تعلق بالحالية ( والمحلية ) .
ويجوز أن يعود على » مُوسَى « وعلى هذا قيل : هذا قول السامري ، والكعنى أن هذا إلهكم وإله موسى ، فنسي موسى أن هذا هو الإله فذهب يطلبه في موضع آخر وهو قول الأكثرين .
وقيل : فنسي وقت الموعد في الرجوع .
قوله : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً } أي : أن العجل لا يكلمهم ، لا يجيبهم إذا دعوه ، { وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } . وهذا استدلال على عدم أنه إله بأنه لا يتكلم ولا ينفع ولا يضر . وهذا يدل على أن الإله لا بد وأن يكون موصوفاً بهذه الصفات ، وهو كقوله تعالى في قصة إبراهيم -عليه السلام- { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ } [ مريم : 42 ] وأن موسى -عليه السلام- في الأكثر لا يعول إلى على دلائل إبراهيم ( عليه السلام ) .
قوله : { أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ } العامة على رفع « يَرْجِعُ » لأنها المخففة من الثقيلة ، ويدل على ذلك وقوع أصلها وهو المشددة في قوله : { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ } [ الأعراف : 148 ] .
قال الزجاج : الاختيار الرفع بمعنى : أنه لا يرجع كقوله : { وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } [ المائدة : 71 ] بمعنى : أنه لا تكون .
وقرأ أبو حيوة والشافعي ( رضي الله عنه ) وأبان بنصبه ، جعلوها الناصبة .
والرؤية على الأولى يقينية ، وعلى الثانية بصرية ، وقد تقدم تحقيق هذين القولين ( في المائدة ) .
والسَّامريُّ : منسوب لقبيلة يقال لها سامرة .
فصل
دلَّت الآية على وجوب النظر في معرفة الله تعالى ، وقال في آية أخرى { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً } [ الأعراف : 148 ] ، وهو قريب من قوله في ذم عبدة الأصنام { فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } [ الأنبياء : 63 ] ، أي لو كان يكلمهم لكان إلهاً ، والشيء يجوز أن يكون مشروطاً بشروط كثيرة ، وفوات منها يقتضي فوات المشروط ، وحصول الواحد منها لا يقتضي حصول المشروط .
قال بعض اليهود لعليٍّ -رضي الله عنه- ما دَفَنْتُمْ نَبيَّكُمْ حتَّى اختلفتم .
فقال : اختلفنا عنه وما اختلفنا فيه ، وأنتم ما جفَّت أقدامكم من ماء البحر حتى قلتم لنبيكم اجعَلْ لَنَا إلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَة .
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)
قوله : { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ } إنما قال ذلك شفقة منه على نفسه وعلى الخلق ، أما شفقته على نفسه ، فلأنه كان مأموراً من عند الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكان مأموراً من عند أخيه موسى -عليه السلام- { اخلفني فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين } [ الأعراف : 142 ] ، فلو كان يشتغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عنى المنكر كان مخالفاً لأمر الله ولأمر موسى وذلك لا يجوز . وأما الشفقة على الخلق فلأن الإنسان يجب أن يكون مشفقاً على خلق الله خصوصاً على أبناء جنسه ، وأي شفقة أعظم من أن يرى جَمعاً يتهافتون على النار فيمنعهم منها . ولمَّا ثبت أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والشفقة على المسلمين واجب ، ثم إن هارون -عليه السلام- رأى القوم متهافتين على النار فيمنعهم منها . ولمَّا ثبت أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والشفقة على المسلمين واجب ، ثم إن هارون -عليه السلام- رأى القوم متهافتين على النار فلم يبال بكثرتهم بل صرح بالحق فقال : { ياقوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ } .
( واعلم أن هارون عليه السلام سَلَكَ في هذا الوعط أحسن الوجوه ، لأنه زجرهم عن الباطل أولاً بقوله : { إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ } ، ثم دعاهم إلى معرفة الله ثانياً بقوله : { وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن } ) ثم دعا إلى ثالثاً إلى النبوة بقوله : « فَاتَّبِعُونِي » ثم دعاهم رابعاً بقوله « وَأَطِيعُوا أَمْرِي » .
وهذا هو الترتيب الجيد ، لأنه لا بد قبل كل شيء من إماطة الأذى عن الطريق ، وهو إزالة الشبهات ، ثم معرفة الله تعالى ، فإنها هي الأصل ، ثم النبوة ، ثم الشريعة ، فثبت أن هذا الترتيب أحسن الوجوه . وإنما قال : { وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن } فخص هذا الموضع باسم الرحمن ، تنبيهاً على أنهم متى تابوا قَبِلَ الله توبتهم ، لأنه هو الرحمن ، ومن رحمته أن خلصهم من آفات فرعون ، ثم إنهم لجهلهم قابلوا هذا الترتيب الحسن في الاستدلال بالتقليد فقالوا : { لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى } كأنهم قالوا : لا نقبل حجتك ولكن نقبل قول موسى ، وهذه عادة المقَلِّدِ .
قوله : { إِنَّمَا فُتِنتُمْ } .
قرأ العامة : { إِنَّمَا فُتِنتُمْ } بالكسر فيهما ، لأنها بعد القول لا بمعنى الظن وقرأت فرقة بفتحهما ، وخُرِّجت على لغة سُلَيْم ، وهي أنهم يفتحون « أنَّ » بعد القول مطلقاً .
وقرأ أبو عمرو في رواية الحسن وعيسى بن عمر بفتح « أنَّ ربَّكُمْ » فقط ، وخرجت على وجهين :
أحدهما : أنها وما بعدها في تأويل مصدر في محل رفع خبراً لمبتدأ محذوف تقديره : واللأمر أنَّ رَبَّكُم الرَّحْمنُ ، فهو من عطف الجمل لا من عطف المفردات .
والثاني : أنها مجرورة مقدر ، أي : لأنَّ رَبَّكُم الرَّحْمنُ .
« فَاتَّبِعُونِي » وقد تقدم القول في نظير ذلك بالنسبة إلى هذه الفاء .
فصل
لمَّا قالوا لهارون { لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ } أي : مقيمين على عبادة العجل { حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى } اعتزلهم هارون في اثني عشر ألفاً الذين لم يعبدوا العجل ، فلما رجع موسى وسمع الصياح والجلبة ، وكانوا يؤقصون حول العِجْل قال للسبعين الذين معه : هذا صوت الفتنة ، فلما رأى هارون أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله . وقال له : { مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا } أشركوا .
قوله : « إذْ » منصوب ب « مَنَعَكَ » ، أي : أي شيء منعك وقت ضلالهم .
و « لاَ » فيها قولان :
أحدهما : أنَّها مزيدة ، أي ما منعك من أن تتبعني .
والثاني : أنَّها دخلت حملاً على المعنى ، إذ المعنى ما حملك على أن لا تتبعني ، وما دَعَاك إلى أن لا تتبعني ، ذكره عَلِيُّ بن عِيسَى .
وقد تقدم تحقيق هذين القولين في ( سورة الأعراف ، والقراءة في ) ، « يَبْنَؤُمَّ » .
فصل
ومعنى تَتَّبِعني تتَّبع أمري ووصيَّتٍي ، يعني هلاَّ قاتلتهم ، وقد علمت أنِّي لو كنت فيهم لقاتلتهم على كفرهم ، وقيل : { أَلاَّ تَتَّبِعَنِ } أي : ما منعك من اللحوق بي وإخباري بضلالهم فتكون مفارقتك إياهُم زَجْراً لهم عما أتوا { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } .
فصل
تمسك الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية من وجوه :
أحدها : أنَّ موسى -عليه السلام- إما أن يكون قد أمر هارون باتباعه أو موسى لهارون معصيةً وذنباً ، لأن ملامة غير المجرم معصية .
وإن لم يتبعه كان هارون تاركاً للواجب فكان فاعلاً للمعصية ، وإن قلنا : إن موسى ما أمره باتباعه كانت ملامته إيَّاه بترك الاتباع معصية ، وعلى جميع التقديرات يلزم إسناد المعصية إما إلى موسى أو إلى هارون .
وثانيها : قول موسى { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } استفهام على سبيل الإنكار ، فوجب أن يكون هارون قد عصاه ، وأن يكون ذلك العصيان منكراً ، وإلا كان موسى كاذباً ، وهو معصية ، وإذا فعل هارون لك فقد فعل المعصية .
ثالثها : قوله : { ياابنأم لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } [ طه : 94 ] وهذا معصية ، لأن هارون -عليه السلام- قد فعل ما قدر عليه ، فكان الأخذ بلحيته وبرأسه معصية ، وإن فعل ذلك قبل تعرف الحال كان ذلك معصية .
ورابعها : أن هارون قال : { لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } [ طه : 94 ] ، فإن كان الأخذ بلحيته ورأسه جائزاً كان قول هارون « لاَ تَأْخُذْ » منعاً له أن يفعله ، فيكون ذلك القول معصية . وإن لم يكن ذلك الأخذ جائزاً كان موسى -عليه السلام- فاعلاً للمعصية .
والجواب عن الكل : أنَّ حاصَ هذه الوجوه تمسكٌ بظواهر قابلة للتأويل ، ومعارضة ما يبعد عن التأويل بما يتسارع إليه التأويل غير جائز . وإذا ثبتت هذه المقدمة ففي الجواب وجوه :
أحدهما : أنَّا وإن اختلفنا في جواز عصمة الأنبياء لكن اتفقنا على جواز ترك الأولى عليهم . وإذا كان كذلك فالفعل الذي يفعله أحدهما ويمنع منه الآخر ، أعني : موسى وهارون -عليهما السلام- لعله كان أحدهما أولى ، والآخر كان ترك الأولى ، فلذلك فعله أحدهما وتركه الآخر .
فإن قيل : هذا التأويل غير جائز ، لأن كل واحد منهما كان جازماً فيما يأتي به فعلاً كان أو تركاً ، وفعل المندوب وتركه لا يجزمونه قلنا : تقييد المطلق بالدليل غير ممتنع ، فيحمل الجزم في الفعل والترك على أن المراد افعل ذلك أو اتركه إن كنت تريد الأصلح ، وقد يترك ذلك الشرط إذا كان تواطؤهما على رعايته معلوماً متقرراً .
وثانيهما : أن موسى -عليه السلام- أقبل وهو غضبان على قومه فأخذ برأس أخيه وجرّه إليه كما يفعل الإنسان بنفسه مثل ذلك الغضب ، فإن الغضبان المتفكر قد يعض على شفتيه وأصابعه ويفتل لحيته ، فأجرى موسى أخاه هارون مجرى نفسه ، لأنه كان أخاه وشريكه ، فصنع به ما يصنع الرجل بنفسه في حال الفكر والغضب ، وأما قوله : { لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } [ طه : 94 ] فلا يمتنع أنه معاون له ، ثم أخذ في شرح القصة فقال : { إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ } [ طه : 94 ] .
وثالثها : أنَّ نبي إسرائيل كانوا على نهاية سوء الظن بموسى ، حتى إن هارون غاب عنهم غيبة فقالوا لموسى : أنت قتلته ، فلما وعد الله موسى ، وكتب له في الألواح من كل شيء ، ثم رجع فرأى من قومه ما رأى ، أخذ برأس أخيه ليدنيه فيتفحص عن كيفية الواقعة فخاف هارون أن يَسْبِق إلى قلوبهم ما لا أصل له ، فقال إشفاقاً على موسى : { لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } [ طه : 94 ] ، لئلا يظن القوم ما لا يليق بك .
ورابعها : قال الزمخشري : كان موسى -عليه السلام- رجلاً حديداً مجبولاً على الحدة ، والخشونة ، والتصلب في كل شيء ، شديد الغضب لله ولدينه فلم يتمالك حين رأى قومه يعبدون عجلاً من دون الله بعد ما رأوا من الآيات العظام أن ألقى الواح التوراة لما غلب عليه من الدهشة العظيمة غضباً لله وحميّة ، وعنَّف بأخيه وخليفته على قومه ، فأقبل عليه إقبال العدو .
قال ابن الخطيب : وهذا الجواب ساقط ، لأنه يقال : هَبْ أنه كان شديد الغضب ، ولكن مع ذلك الغضب الشديد هل كان يبقى عاقلاً مكلفاً أم لا؟
فإن بقي عاقلاً فالأسئلة باقية بتمامها ، أكثر ما في الباب أنك ذكرت أنه يغضب شديداً وذلك من جملة المعاصي . فإن قلتم : إنه في ذلك الغضب لم يبق عاقلاً ولا مكلفاً فهذا مما لا يرتضيه مسلم البتة ، فهذه أجوبة من لم يجوِّز الصغائر ، وأما من جوزها فالسؤال ساقط .
وجواب آخر : وهو أنَّ موسى -عليه السلام- لمَّا رجع إلى بني إسرائيل كان عالماً بانهم قد فُتِنُوا ، وأن السامري قد أضلهم ، والدليل عليه قوله تعالى لموسى ( « إِنَّا قَدْ فَتَنَّا ) قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ » وإذا كان كذلك فموسى -عليه السلام- إنما جاء وهو عالم بحالهم ، فإنكاره على هارون لعلمه بحالهم قبل مجيئه إليهم لا لما أثبتوه في سؤالهم .
وقوله : { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } يدل على أن تارك المأمور به عاص ، والعاصي مستحق للعقاب ، لقوله : « وَمَنْ يَعْص اللهَ ( وَرَسُولَه فَإنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّم » ) فمجموع الآيتين يدل على أن الأمر للوجوب .
قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
قوله : « يا بْنَ أُمِّ » قيل : إنما خاطبه بذلك ليدفعه عنه ، ويتركه .
وقيل : كان أخاه لأمه .
واعلم أنه ليس في القرآن دلالة على أنَّه فَعَلَ ذلك ، فإن النهي عن الشيء لا يدل على كون المنهي فاعلاً للمنهي عنه لقوله تعالى : { وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين } [ الأحزاب : 1 ، 48 ] وإنما في القرآن أنه أخذ برأس أخيه يجره إليه . ، وهذا القدر لا يدل على الاستحقاق بل قد يفعل لسائر الأغراض على ما بيناه .
قوله : { لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } الجمهور على كسر اللام من اللحية ، وهي الفصحى . وفيها الفتح وبه قرأ عيسى بن سليمان الحجازي ، والفتح لغة الحجاز ويجمع على لِحّى كقِرَب . ونقل فيها الضم كما قالوا : صِوَرَ بالكسر وحقها بالضم .
والباء في « بِلِحْيَتِي » ليست زائدة إما لأنَّ المعنى لا يكن منك أخذ وإما لأن المفعول محذوف أي لا تأخُذْنِي . ومن زعم زيادتها كهي في { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } [ البقرة : 195 ] فقد تعسف .
فصل
معنى قوله : « بِرَأْسِي » أي بِشَعْر رأسي ، وكان قد أخذ بذوابته « إنِّي خَشِيتُ » لو أنكرت عليهم لصاروا حريين بقتل بعضهم بعضاً ، فتقول أنت { فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } ولم تحفظ وصيتي حين قلت لك : { اخلفني فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ } [ الأعراف : 142 ] لأي ارفق بهم .
قوله : { وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } هذه الجملة محلها النصب نسقاً على { فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ } أي أن تقول : فرقت بينهم وأن تقول : { وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } .
وقرأ أبو جعفر « تُرقب » بضم حرف المضارعة من أرقب . فإن قيل : إن قوله موسى - عليه السلام- « وما منعك أن لا تتبع أفعَصَيْتَ أمْرِي » يدل على أنه أمره بشيء ، فكيف يحسن في جوابه أن يقال : إنما لم أمتثل قولك خوفاً من أن تقول « وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي » ، وهل يجوز مثل هذا الكلام على العاقل؟
فالجواب : لعلَّ موسى - عليه السلام - إنما أمره بالذهاب إليه بشرط أن لا يؤدي ذلك إلى فساد القوم ، فلما قال موسى « مَا مَنَعَكَ أَْنْ لاَ تَتَّبِعنِي » قال لأنك إنما أمرتني باتباعك إذا لم يحصل الفساد ، فلو جئتك مع حصول الفساد ما كنت مراقباً لك .
قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)
قوله : { قَالَ فَمَا خَطْبُكَ ياسامري } . « مَا خَطْبُكَ » مبتدأ وخبر ، وتقدم الكلام على الخَطب في يوسف ، ومعناه هنا : ما أمرك وشأنُك ، أي ما حملك على ما صنعت .
وقال ابن عطيَّة هنا : إنه يقتضي إشهاراً ، كأنه قال : ما نَحْسُكَ وما شُؤْمُك .
ورد عليه أبو حيَّان بقوله : { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون } [ الحجر : 57 ، الذاريات : 31 ] .
قوله : « بَصُرْتُ » يقال : بَصُر الشيء ، أي : علمه ، وأبصره أي : نظر إليه كذا قال الزجاج .
وقال غيره : بصر بالشيء وأبصره بمعنى : علمه . والعامة علم ضم الصاد في الماضي ومضارعه وقرأ الأعمش وأبو السمال « بَصِرتُ » بالكسر « يَبْصَرُوا » بالفتح وهي لغة .
وعمرو بن عبيد بالبناء للمفعول في الفعلين ، أي أُعْلِمْتُ بما لم يعلموا به ، وقرأ الأخوان « تَبْصَرُوا » خطاباً لموسى وقومه أو تعظيماً له كقوله : { إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء }
3686- حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ ... والباقون بالغيبة من قومه والعامة على فتح القاف من « قَبْضَة » وهي المرة من القبض .
قال الزمخشري : وأما القبضة فالمرة من القبض ، وإطلاقها على المقبوض من تسمية المفعول بالمصدر .
قال شهاب الدين : والنحاة يقولون : إن المصدر الواقع كذلك لا يؤنث بالتاء تقول : هذه حلةٌ نسجُ اليمن ، ولا تقول : نسجة اليمن ، ويعترضوون بهذه الآية ، ثم يجيبون بأن الممنوع إنما هو التاء الدالّة على التحديد لا على مجرد التأنيث ، وهذه التاء دالة على مجرد التأنيث ، وكذلك قوله : { والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ } [ الزمر : 67 ] .
وقرأ الحسن « قُبْضَةٌ » بضم القاف وهي كالغُرْفَة والمُضْغَة في معنى المغروف والمقبوض . وروي عنه « قُبْصَة » بالصاد المهملة . والقَبْض بالمعجمة بجمع الكف ، وبالمهملة بأطراف الأصابع ، وله نظائر كالخضم وهو الكل بجميع الفم والقضم بمقدمه ، والقضم قطع بانفصال والفصم بالفاء باتصال ، وقد تقدَّم شيء من ذلك في البقرة . وأدغم ابن محيصن الضاد المعجمة في تاء المتكلم مع إبقائه الإطباق . وأدغم الأخوان وأبو عمرو الذال في التاء من « فَنَبَذْتُهَا » .
فصل
لما أجاب هارون أخاه موسى بالجواب المتقدم أقبل موسى على السامريّ وقال له : « مَا خَطْبُكَ » أي : ما حملَكَ على ما فعلتَ؟ فقال : { بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ } أي : رأيت ما لم يروا بنو إسرائيل وعرفت ما لم يعرفوا .
قال ابن عباس : علمتُ ما لم يعلموا ، ومنه قولهم : رجل بصيرٌ ، أي : عالم قاله أبو عبيدة وأراد أنه رأى جبريل عليه السلام فأخذ من موضع حافر دابته قبضةٌ من تراب ، فقال : { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول } .
وقرأ ابن مسعود : « مِنْ أَثَرِ فَرَسِ الرَّسُولِ » والمراد بالرسول جبريل - عليه السلام - ( عند عامَّة المفسرين ، وأراد بأثره التراب الذي ) أخذه من موضع حافر دابته لما رآه يوم فلق البحر .
وعن عليٍّ - رضي الله عنه- أنَّ جبريل - عليه السلام - لمَّا نزل ليذهب موسى إلى الطور أبصره السَّامريّ من بين الناس .
واختلفُوا في أنه كيف اختص السامريُّ برؤية جبريل ومعرفته بين الناس؟
فقال ابن عبَّاس في رواية الكلبي : إنَّما عرفه ، لأنه رآه في صغره ، وحفظه من القتل حين أمر فرعون بذبح أولاد بني إسرائيل ، فكانت المرأة إذا ولجتْ طرحتْ ولدَها حيث لا يشعر به آل فرعون ، فيأخذ الملائكة الولدان ويربونَهم حتى يترعرعوا ويختلطوا بالناس ، فكان السامريُّ ممن أخذه جبريل - عليه السلام- ، وجعل كفَّ نفسه في فيه وارتضع منه اللبن والعسل ليربيه- فلما قضي على يديه من الفتنة فلم يزل يختلف إليه حتى عرفه .
قال ابن جريج : فعل هذا قوله : { بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ } يعني رأيت ما لم يروه . ومَنْ فسّر الإبصار بالعلم فهو صحيح ، ويكون المعنى علمتُ أن تراب فرس جبريل - عليه السلام- له خاصة الإحياء ، وذلك أنه كان كلما رفع الفرس يديه أو رجليه في مشيه على الطريق اليبس يخرج تحته النبات في الحال .
وقال أبُو مسلم : ليس في القرآن تصريح بما ذكره المفسرون فهنا وجه آخر ، وهو أن يكون المرادُ بالرسول موسى - عليه السلام- ، وبأثره سنته ورسمه الذي أمر به فقد يقول الرجل : إنَّ فلاناً يقفُوا أثرَ فلان يقتص أثرَه إذا كان يمتثل رسمه ، والتقدير أنَّ موسى - عليه السلام- لمَّا أقبل على السامريِّ باللوم والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في العَجْل فقال : { بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ } أي عرفت أن الذي أنتم عليه ( ليس بحق ) ، وقد كنت قبضتُ قبضةٌ من أثرك أيُّها الرسولُ أي : شيئاً من دينك ، فنبذته أي : طرحته ، فعند ذلك أعلمه موسى - عليه السلام - بما له من العذاب في الدُّنيا والآخرة ، وإنما أورد بلفظ الإخبار عن غائب كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له : ما يقولُ الأميرُ في كذا ، أو بماذا يأمرُ الأمير . وأما ادِّعاؤُه أنَّ موسى - عليه السلام- رسول مع جحده وكفره فعلى مذهب من حكى الله عنه قوله : { ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } وإن لم يؤمنوا بالإنزال .
قال ابن الخطيب : وهذا الذي ذكره أبو مسلم ( ليس فيه إلاَّ أنَّه مخالف للمفسرين ، ولكنه أقرب إلى التحقيق لوجوه :
أحدها : أن جبريل - عليه السلام - ليس معهوداً باسم الرسول ، ولم يجز له فيما تقدم ذكر حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه ، فإطلاق لفظ الرسول لإرادة جبريل كأنه تكليف بعلم الغيب .
وثانيها : أنه لا بد فيه من الإضمار وهو قبضة من أثر حافر دابة الرسول والإضمار خلاف الأصل .
وثالثها : أنه لا بد من التعسف في بيان أنَّ السامريّ كيف اختصَّ من بين جميع الناس برؤية جبريل ومعرفته ، ثم كيف عرف أن تراب حافر دابته يؤثر هذا الأثر ، والذي ذكروه من أن جبريل - عليه السلام- هو الذي ربَّاه فبعيد ، لأن الاسمريِّ إن عرف أنه جبريل حال كمال عقله عرف قطعاً أنَّ موسى - عليه السلام- نبيٌّ صادقٌ ، فكيف يحاول الإضلال ، وإن كان ما عرفه حال البلوغ فأنَّى ينفعه كون جبريل - عليه السلام - ( مربيّاً له ) حال الطفولية في حصول تلك المعرفة .
ورابعها : أنه لو جاز إطلاع بعض الكفرة على ترابٍ هذا شأنه لكان لقائل أن يقول : فلعل أطلع أيضاً على شيء آخر يشبه ذلك ، فلأجله أتى بالمعجزات ، فرجع حاصله إلى سؤال من يطعن في المعجزات ويقول : لِمَ لا يجوز أن يقال : إنَّهم أتوا بهذه المعجزات لاختصاصهم بمعرفة بعض الأدوية التي لها خاصية أن يفيد حصول تلك المعجزة ، وحينئذ يسند باب المعجزات بالكلية .
ثم قال : { وكذلك سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي } أي زينت ، والمعنى : فعلتُ ما دعتني إليه نفسي ، وسولت مأخوذة من السؤال .
قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
قوله : { فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ } قرأ العامة بكسر الميم وفتح السين ، وهو مصدر لفاعل كالقِتَال من قَاتَلَ ، فهو يقتضي المشاركة ، وفي التفسير : لا تَمسَّنِي ولا أمسك وإن مَنْ مَسَّه أصابته الحمَّى . وقرأ الحسن وأبُو حيوة وابن أبي عبلة ( وقعنب ) بفتح الميم وكسر السين ، هكذا عبّر أبُو حيَّان ، وتبع فيه أبا البقاء . ومتى أخذنا بظاهر هذه العبارة لزم أن يقرأ « مَسِيس » بقلب الألف ياء لانكسار ما قبلها ، ولكن لم يُرْوَ ذلك فينبغي أن يكونوا أرادوا بالكسر الإمالة ، ويدل على ذلك ما قاله الزمخشري : وقُرئ « لاَ مَساس » بوزن ( فَجَارِ ) . ونحوه قولهم في الظباء : إنْ وَرَدَتِ المَاءَ فَلاَ عَبَابِ وإنْ فَقَدَتْهُ فَلاَ أَبَابِ ( فهي أعلام للمسَّةِ والعبَّة والأبَّةِ وهي المرة من الأبّ وهو ) الطلب . ويدل عليه أيضاً قولُ صاحب اللوامح : هو على صورة ( نَزَالِ ، ونَظَارِ ) من أسماء الأفعال بمعنى ( انزل ، وانظر ) . فهذا أيضاً تصريح بإقرار الألف على حالها . ثم قال صاحب اللوامح : فهذه الأسماء التي بهذه الصيغة معارف ، ولا تدخل عليها ( لا ) النافية التي تنصب النكرات نحو : لاَ مَالَ لَكَ . لكنه فيه نفي الفعل ، فتقديره : لا يكون منك مَسَاسٌ ، ومعناه النهي ، أي : لا تمسَّني وقال ابن عطيَّة : « لا مَسَاسِ » وهو معدول عن المصدر كفجَارِ ونحوه ، وشبهه أبو عبيدة وغيره بنزَالِ ودَرَاكِ ونحوه ، والشبه صحيح من حيث هي معدولات ، وفارقه من حيث أن هذه عدلت عن الأمر و « مَسَاسِ » وفَجَارِ عدلت عن المصدر ، ومن هذا قول الشاعر :
3687- تَمِيمٌ كَرَهْطِ السَّامِرِيِّ وَقَوْلِهِ ... أَلاَ لاَ يُرِيدُ السَّامرِيُّ مَسَاسِ
فكلام الزمخشري وابن عطية يعطي أن « مَسَاسِ » على هذه القراءة معدول عن المصدر كفجار عن الفَجَرة . وكلام صاحب اللوامح يقتضي أنَّها معدولة عن فعل الأمر إلا ( أن يكون مراده ) أنها معدولة كما أنَّ اسم الفعل معدول كما تقدم توجيه ابن عطيَّة لكلام أبي عبيدة .
فصل
معنى الكلام أنَّك ما دُمتَ حيَّا أن تقول : « لاَ مَسَاسَ » أي لا تخالط أحداً ولا يخالط أحد .
أو أمرِ موسى بني إسرائيل أن لا يخالطوه ولا يقاربوه ، قال ابن عباس لا مَسَاسَ لَكَ ولِوَلَدِكَ . والمَسَاس من المماسّة معناه لا يَمَسُّ بعضُنا بعضاً ، فصار السامري يهيم في الأرض مع الوحوش والسباع لا يمس أحداً . ولا يمسه أحد ، لا تقربني ولا تَمَسَّنِي . وقيل : كان إذا مَسَّ أحداً أو مسَّه أحدٌ حُمَّا جميعاً ، حتى إنَّ بقاياهم اليوم يقولون ذلك . وإذَا مسَّ أحدٌ من غيرهم أحداً منهم حُمَّا جميعاً في الوقت . وقال أبو مسلم يجوز أن يريد مسَّ النساء ، فيكون من تعذيب الله إياه انقطاع نسله فلا يكون له من يؤنسه ، فيخليه الله من زينة الدنيا ( التي ذكرها ) في قوله تعالى
{ المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا } [ الكهف : 46 ] .
قوله : { وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ } . وقرأ ابنُ كثير وأبو عمرو « تُخْلِفَهُ » بكسر اللام على البناء للفاعل ، أي تجيء إليه ولن تغيب عنه . والباقون بفتحها على البناء للمفعول وقرأ أبُو نُهَيْك فيما حكاه عنه ( ابن خالويه ) بفتح التاء من فوق وضم اللام ، وحكى عنه صاحب اللوامح كذلك إلا أنه بالياء من تحت ، وابن مسعود والحسن بضم نون العظمة وكسر اللام فأما القراءة الأولى فمعناها : لن تَجِدَهُ مخلفاً كقولك : أحْمَدته وأحببته أي وجدته محموداً وحبَّاباً . وقيل المعنى : سيصل إليك ولن تستطيع الروغان ولا الحيدة عنه ، قال الزمخشري : وهذا من أخلفت الموعد إذا وجدته مخلفاً . قال الأعشى :
3688- أثْوَى وَقصَّر لَيْلَهُ لِيُزَوَّدَا ... فَمَضَى وَأَخْلَفَ مِنْ قُتَيْلَةَ مَوْعِدَا
ومعنى الثانية لَنْ يَخْلِفَ الله موعده الَّذِي وَعَدَك . وفتحُ اللام اختيار أبي عبيد ، كأنَّه قال موعداً حقاً لا خُلْفَ فيه ، ولن يُخلِفَ الله ، والمعنى أن الله يكافئك على فعلك ولا تفر منه . وأما قراءتا أبي نُهَيْك فهما من خلفهُ يخلفُهُ إذا جاء بعده أي الموعد الذي لك لا يدفع قولَك الذي تقوله ، وهي مشكلة ، قال أبو حاتم : لا نعرف لقراءة أبي نُهَيْك مذهباً . وأما قراءة ابن مسعود فأسند الفعل فيها إلى الله تعالى ، والمفعول الأول محذوف ، أي لن ( يخلفكه ) .
قوله : « ظَلْتَ » العامَّة على فتح الظاء وبعدها لام ساكنة . وابن مسعود وقتادة والأعشى بخلاف عنه وأبو حَيْوَة وابن أبي عبلة ويحيى بن يعمر كسر الظَّاء ، وروي عن ابن يَعْمَر ضمها أيضاً . وأبيّ والأعمش في الرواية الأخرى « ظَلِلْتَ » بلامين أولهما مكسورة فأمَّا قراءة العامة ففيها حذف أحد المِثلين وإبقاء الظاء على حالها من حركتها ، وإنما حذف تخفيفاً ، وعده سيبويه في الشاذ ، يعني شذوذ قياس لا شذوذ استعمال ، وعدَّ معه ألفاظاً أُخَر نحو مَسْتُ وَأَحَسْتُ . كقوله :
3689- أَحَسْنَ بِهِ ( فَهُنَّ إِلَيْكَ شُوسُ ) ... وعد ( ابن الأنباري ) هَمْتُ في هَمَمْتُ ، ولا يكون هذا الحذف منقاس في كل مضاعف العين واللام سكنت لمه وذلك في لغة سليم .
قال شهاب الدين : والذي أقوله إنه متى التقى التضعيف المذكور والكسرة نحو ظَلِلْتُ ومَسِسْتُ انقاس الحذف . وهل يجري الضم مجرى الكسر في ذلك؟ فالظاهر أنه يجري بل بطريق الأولى ، لأن الضم أثقل من الكسر نحو غُصْنَ يا نسوة أي اغضُضْنَ أبصاركنّ ذكره ابن مالك .
وأما الفتح فالحذف فيه ضعيف نحو قَرْن في المنزل ، ومنه أحد توجيهي قراءة « وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ » كما سيلأتي إن شاء الله تعالى . وأما الكسر فوجهه أنه نقل كسرة اللام إلى الفاء بعد سلبها حركتها ليدل عليها .
وأما الضمُّ فيحتمل أن يكون جاء في لغة على فَعَل يَفْعَلُ بقتح العين في الماضي وضمها في المضارع ثم نقلت كما تقدم ذلك في الكسر .
وأما « ظَلِلْتُ » بلامين فهذه هي الأصل ، وهي منبهة على غيرها . و « عَاكِفاً » خبر « ظَلَّ؟ .
قوله : » لَنُحَرِّقَنَّهُ « جواب قسم محذوف ، أي : والله لنحرُقَنَّهُ ، والعامة على ضم النون وكسر الراء مشددو من حرَّقَهُ يحرَّقه بالتشديد . وفيها تأويلان :
أحدهما : أنها من حرقه بالنار .
والثاني : أنه من حرق ناب البعير إذا وقع عضُّ أنيابه على بعض ، والصوت المسموع منه يقال له الصَّريف ، والمعنى لَنَبْرُدُنَّه بالمِبْرَدِ بَرداً يسحقه به كما يفعل البعير بأنيابه بعضها على بعض . وقرأ الحسنُ وقتادة وأبو جعفر » لَنَحْرُقَنَّهُ « بضم النون وسكون الحاء وكسر الراء من أحرق رباعياً . وقرأ ابن عباس وحميد وعيسى وأبو جعفر » لَنُحْرِقَنَّهُ « كذلك إلا أنه بضم الراء ، فيجوز أن يكون من حرَّقَ وأحْرَقَ بمعنى كأنزل ونزَّل . وأما القراءة الأخيرة فبمعنى لَنَبرُدَنَّهُ بالمِبْرَدِ .
قوله : » لَنَنْسِفَنَّهُ « العامة على فتح النون الأولى وسكون الثانية وكسر السين خفيفة . وقرأ عيسى بضم ( السين ) . وقرأ ابن مقسّم بضم النون الولى وفتح الثانية وكسر السين مشدّدة . والنَّسف التفرقة والتذرية ، وقيل : قَلْع الشيء من أصله ، يقال : نَسَفَهُ ينسِفُه بكسر السين وضمها في المضارع ، وعليه القراءتان والتشديد للتكثير .
فصل
معنى إحراقه على قراءة التشديد قال السُّدِّي : أمر موسى بذبح العجل فذبح وسال منه الدم ، ثم أُحرق ونُسِفَ رماده . وهذا يدل على أنه صار لحماً ودماً ، لأن الذهب لا يمكن إحراقه بالنار . وفي حرف ابن مسعود : » لَنَذْبَحَنَّهُ ولَنَحْرِقنَّهُ « . وعلى قراءة التخفيف أي لَنَبْرُدَنَّه بالمِبْرَد ، وهذه القراءة تدل على أنه لم ينقلب لحماً ودماً ، فإن ذلك لا يُبْرَدُ بالمِبْرَدِ ، ومنه قيل للمبرد : المحرق .
وقال السَّدي : أخذ موسى العجل ، ثم ذبحه ثم حرقه ، ثم بُرِدت عظامه بالمِبرد ، ثم ذرَّاهُ في اليَمِّ . ثم لما فرغ من إبطال ما ذهب إليه السامريُّ عاد إلى بيان الدين الحق فقال : » إنَّما إلهُكُمْ « أي المستحق للعبادة { الله الذي لاا إله إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } قال مقاتل : يعلم من يعبده ( ومن لا يعبده ) قوله : { وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } العامة على كسر السين خفيفة و » عِلْماً « على هذه القراءة تمييز منقول من الفاعل ، إذ الأصل وسع كُلَّ شيءٍ علمُهُ . وقرأ مجاهد وقتادة بفتح السين مشددة . وفي انتصاب » عِلماً « أوجه :
أحدها : أنه مفعول به ، قال الزمخشري : ووجهه أن » وَسع « متعد إلى مفعول واحد ( وهو كُلُّ شيءٍ ) وأما » عِلماً « فانتصابه على التمييز فاعلاً في المعنى ، فلما ثقل نقل إلى التعدية إلى مفعولين فنصبهما معاً على المفعولية ، لأن المميز فاعل في المعنى كما تقول في خاف زيدٌ عمراً . خَوَّفْتُ زيداً عمراً : فترُدُّ بالنقل ما كان فاعلاً مفعولاً . وقال أبو البقاء : والمعنى : أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ علماً فضمنه معنى ( أَعْطَى ) . وما قاله الزمخشري أولى .
والوجه الثاني : أنه تميز أيضاً كما هو في قراءة التخفيف ، قال أبو البقاء وفيه وجه آخر ، وهو ان يكون بمعنى عظَّم خلقَ كُلِّ شيءٍ كالأرض والسماء ، وهو بمعنى بسط فيكون » عِلْماً « تمييزاً وقال ابن عطية : وسع خَلْقَ الأشياءِ وكثرها بالاختراع .
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)
قوله تعالى : « كَذَلِكَ نَقُصُّ » الكاف إما نعت لمصدر محذوف ، أو حال من ضمير ذلك المصدر المقدر ، والتقدير : كقصّنا هذا النبأ الغريب نقص ، و « مِن أنْبَاءِ » صفة لمحذوف هو مفعول « نَقُصُّ » أي : نقص نبأ من أنباء .
فصل
لمَّا ذكر قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون ثم مع السامري قال : { كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ } من أخبار سائر الأمم وأحوالهم تكثيراً لشأنك وزيادةً في معجزاتك { وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً } يعني القرآن ( لقوله تعالى ) : { وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ } [ الأنبياء : 50 ] { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ } [ الزخرف : 44 ] { والقرآن ذِي الذكر } [ ص : 1 ] { ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر } [ الحجر : 4 ] . وفي تسمية القرآن بالذكر وجوه :
أحدها : أنه كتاب فيه ذكرُ ما يحتاج إليه الناس من أمور دينهم ودنياهم .
وثانيها : أنه يذكر أنواع آلاء الله ونعمائه ، وفيه التذكير والموعظة .
وثالثها : فيه الذكر والشرف لك ولقومك كما قال : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] وسمى الله تعالى كل كتاب أنزله ذكراً فقال تعالى : { فاسألوا أَهْلَ الذكر } [ النحل : 43 ، الأنبياء : 7 ] وكما بيَّن نعمته بذلك بيَّنَ وعيده لمن أعرض عنه فقال : { مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً } أي : من أعرض عن القرآن ولم يؤمن به ولم يعمل بما فيه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً ، والوزرُ هو العقوبة الثقيلة ، سماها وزراً لثقلها على المعاقب تشبيهاً بالحمل الثقيل . وقيل : حِمْلاً ثقيلاً من الإثم . قوله : « مَنْ أَعَرَضَ » يجوز أن تكون « مَنْ » شرطية أو موصولة ، والجملة الشرطية أو الخبرية الشبيهة بها في محل نصب صفة ل « ذِكْراً » . قوله : « خَالِدينَ فِيهِ » حال من فاعل « يَحْمِلُ » . فإن قيل : كيف يكون الجمع حالاً من مفرد؟
فالجواب : أنه حمل على لفظ « مَنْ » فأفرد الضمير في قوله : « أَعْرَضَ » و « فَإِنَّهُ » و « يَحْمِلُ » ، وعلى معناها فجمع في « خَالِدِينَ » و « لَهُمْ » ، والمعنى مقيمين في عذاب الوزر . والضمير في « فِيهِ » يعود ل « وِزْراً » ، والمراد فيه العقاب المتسبب عن الوزر ، وهو الذَّنب ، فأقيم السبب مقام المسبب . وقرأ داود ( بن رفيع ) « ويُحَمَّل » مضعفاً مبنيَّا للمفعول ، والقائم مقام فاعله ضمير « مَنْ » و « وِزْراً » مفعول ثان . قوله : « وَسَاءَ » هذه ساء التي بمعنى بِئْس وفاعلها مستتر فيها يعود إلى « حِمْلاً » المنصوب على التمييز ، لأن هذا الباب يفسر الضمير فيه بما بعده ، والتقدير : وَسَاءَ الحِمْلُ حِمْلاً ، ( والمخصوص بالذم محذوف تقديره : وَسَاء الحِمْلُ حِمْلاً وِزْرَهُمْ ) . ولا يجوز أن يكون الفاعل لبئس ضمير الوِزْر ، لأن شرط الضمير في هذا الباب أن يعود على نفس التمييز .
فإن قلتَ : ما أنكرت أن يكون في « سَاءَ » ضمير الوزر . قلت : لا يصح أن يكون في « سَاءَ » وحكمه حكم بئس ضمير شيءٍ بعينه غير مبهم . ولا جائز أن يكون « سَاءَ » هنا بمعنى « أَهَمَّ وأحزَنَ ) فتكون متصرفة كسائر الأفعال .
قال الزمخشري : كفاك صادَّا عنه أن يَؤُول كلامُ الله تعالى إلى قولك وأحْزَنَ الوِزْرَ لَهُمْ يومَ القيامة حِمْلاً ، وذلك بعد أن تخرج عن عُهْدِة هذه اللام وعهدة هذا المنصوب . انتهى . واللام في » لَهُمْ « متعلقة بمحذوف على سبيل البيان كهي في » هَيْتَ لَك « والمعنى بئس ما حملوا على أنفسهم من الإثم كفراً بالقرآن . قوله : » يَوْمَ يُنْفَخُ « » يَوْمَ « بدل من » يَوْمَ القِيَامَةِ « ، أو بيان له أو منصوب بإضمار فعل ، أو خبر مبتدأ مضمر ، وبُنِيَ على الفتح على رأي الكوفيين كقراءة » هَذَا يَوْمُ يَنْفَع « وقد تقدَّم . وقرأ أبو عمرو » نَنْفُخُ « مبنيّاً للفاعل بنون العظمة كقوله : » وَنَحْشُر « أسند الفعل إلى الأمر به تعظيماً للمأمور ، وهو إسرافيل . والباقُونَ مضمومة مفتوح الفاء على البناء للمفعول ، والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور بعده . والعامة على إسكان الواو » في الصًّورِ « .
وقرأ الحسن وابن عامر بفتحها جمع صورة كغُرَف جمع غُرْفَة ، وقد تقدم القول في الصُّور في الأنعام ( وقرئ : » يَنْفُخَ ، وَيَحْشُرُ « بالياء مفتوحة مبنياً للفاعل ، وهو الله تعالى أو المَلَك ) . وقرأ الحسن وحميد » يُنْفَخُ « كالجمهور ، » ويَحْشُرُ « بالياء مفتوحة مبنياً للفاعل ، والفاعل كما تقدم ضمير الباري أو ضمير الملك . وروي عن الحسن أيضاً » ويُحْشَرُ « مبنينَّا للمفعول » المُجْرِمُونَ « رفع به و » زُرْقاً « حال من المجرمين ، والمراد زرقةُ العُيون ، وجاءت الحال هنا بصفة تشبه اللازمة ، لأن أصلها على عدم اللزوم ، ولو قلتَ في الكلام : جاءَنِي زيدٌ أزرق العينين لم يجز إلا بتأويل .
فصل
قيل : الصور قرن ينفخ فيه بدعائه الناس للحشر . وقيل : إنه جمع صورة ، والنَّفخُ نفخ الرُّوح فيه ، ويدل عليه قراءة من قرأ » الصٌّوَر « بفتح الواو .
والأول أولى لقوله تعالى : { فَإِذَا نُقِرَ فِي الناقور } [ المدثر : 8 ] والله تعالى يعرف الناس أمور الآخرة بأمثال ما شُوهِدَ في الدنيا ، ومن عادة الناس النفخُ في البوق عند الأسفار وفي العساكر . والمراد من هذا النفخ هو النفخة الثانية لقوله بعد ذلك : { وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً } فالنفخ في الصور كالسبب لحشرهم ، فهو كقوله : { يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً } [ النبأ : 18 ] . والزرقة هي الحضرة في سواد العين ، فيُحْشَرُون زرق العيون سود الوجوه . فإن قيل : أليس أنَّ الله تعالى أخبر يُحْشَرُونَ عُمْياً فكيف يكون أعمى وأزرق؟
فالجواب لعله يكون أعمى في حال : وأزرق في حال .
وقيل : « زُرْقاً » أي عُمْياً ، قال الزجاج : يخرجون زُرْقاً في أول الأمر ويُعْمَون في المحشر .
وسوادُ العين إذا ذهب تزرق . فإن قيل : كيف يكون أعمى ، وقد قال الله تعالى : { لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار } [ إبراهيم : 42 ] وشخوص البصر من الأعمى محال ، وأيضاً قد قال في حقهم : { اقرأ كَتَابَكَ } والأَعْمَى كيف يقرأ؟
فالجواب أن أحوالهم قد تختلف . وقيل : المراد بقوله : « زُرْقاً » أي زرق العيون ، والعرب تتشاءَمُ بها . وقيل يجتمع مع الزرقة سواد الوجه .
قال أبو مسلم : المراد بالزرقة شخوص أبصارهم ، والأزرق شاخص فإنه لضعف بصره يكون محدِّقاً نحو الشيء ، وهذه حال الخائف المتوقع لما يكره ، وهي كقوله : { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار } وروى ثعلب عن ابن الأعرابي : « زُرْقاً » عِطَاشاً ، قال لأنهم من شدة العطش يتغير سوادُ أعينهم حتى تزرَقُّ لقوله تعالى : { وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً } [ مريم : 86 ] وحكى ثعلب عن ابن الأعرابي : « زُرْقاً » طامعين ( فيما لا يَنَالُونَه ) .
فصل
قالت المعتزلة : لفظُ المجرمين يتناول الكفار والعُصاة فيدل على عدم العفو عن العصاة . وقال ابن عباس : يريدُ بالمجرمين الذين اتخذوا مع الله إلهاً آخر وتقدم هذا البحث .
قوله : « يَتَخَافَتُونَ » يجوزُ أن يكون مستأنفاً ، وأن يكونَ حالاً ثانية من « المُجْرِمينَ » ، وأن يكونَ حالاً من الضمير المستتر في « زرقاً » فتكون حالاً متداخلة ، إذ هي حال ( من حال ) . ومعنى « يَتَخَافَتُونَ » أي : يتشاوَرُونَ فيما بينهم ، ويتكلمون خفية ، يقال : خَفَتَ يَخْفِتُ ، وخَافَتَ مُخَافَتَة ، والتَّخافُت السرار نظيره قوله تعالى : { فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً } [ طه : 108 ] ، وإنما يتخافتون ، لأنه إمتلأت صدورُهُمْ من الرعب والهول ، أو لأنهم بسبب الخوفِ صارُوا في نهاية الضعف فلا يطيقون الجهر . وقوله : « إن لَبِثْتُمْ » هو مفعول المارة ، وقوله : « إلاَّ عَشْراً » يجوز أن يراد الليالي ، وحذف التاء من العدد قياسي . وأن يراد الأيام ، فيُسْأَل لِمَ حذفت التاء؟ فقيل : إنه إذا لم يذكر المميز في عدد المذكر جازت التاء وعدمها ، سمع من كلامهم : صُمْنَا من الشهر خَمْساً ، والصَّوْمُ إنما هو الأيام ، دون اللَّيالي . وفي الحديث « مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وأتْبَعَهُ بستّ مِنْ شَوَّال » ، وحسن الحذف هنا لكونه رأس آية وفاصلة .
فصل
قال الحسن وقتادةَ والضحَّاك : أرادوا به اللبث في الدنيا ، أي فما مكثتم في الدُّنْيَا إلا عشر ليال ، واحتجُّوا بقوله تعالى : { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } [ المؤمنون : 112 ، 113 ] .
فإن قيل : إما ( أن يقال ) : إنهم قد نسَوا قدرَ لبثهم في الدنيا أو ما نَسوا ذلك والأول غير جائز ، إذ لو جاز ذلك لجاز أن يبقى الإنسان خمسين سنة في بلدة ثم يَنْسَى .
والثاني غير جائز ، لأنه كذب ، وأهل الآخرة لا يكذبون لا سيَّما وهذا الكذب لا فائدة فيه .
فالجواب من وجوه :
الأول : لعلَّهم إذا حُشِرُوا في أول الأمر وعاينوا تِلْكَ الأهوال وشدة وقعها ذهلوا عن مقدار عمرهم في الدُّنيا ، ولم يذكروا إلا القليل فقالوا : ليتَنا ما عِشْنَا إلا تلك الأيام القليلة في الدنيا حتى لا نَقَع في هذه الأهوال ، والإنسان قد يذهل عند الهول الشديد ، وتمام تقريره مذكورة في سورة الأنعام في قوله تعالى : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ 23 ] . وثانيها : أنهم عالِمون بمقدار عمرهم في الدنيا إلا أنَّهُم لمّا قَابَلُوا أَعْمَارَهُمْ في الدنيا بأعمارِ الآخرة وجدُوهَا في نهاية القلة ، فقال بعضهم : ما لبثْنَا في الدنيا إلا عشرة أيام ، وقال أعْقَلُهُمْ : ما لبثنا إلا يوماً واحداً ، أي : قدر لبثنا في الدنيا بالقياس إلى قدر لبثنا في الآخرة كعشرة أيام بل كاليوم الواحد بل كالعدم ، وإنما خصَّ العشرة والواحد بالذكر ، لأن القليل في أمثال هذه المواضع لا يعبر عنه إلا بالعشرة والواحد .
وثالثها : أنهم لما عايَنُوا الشدائد تذكَّروا أيام النعمة والسرور ، وتأسفوا عليها ، وصفوها بالقصر ، لأن أيام السرور قصار .
ورابعها : أن أيامَ الدنيا قد انقضت وأيام الآخرة مستقبلة ، والذاهب وإن طالت مدته قليل بالقياس إلى الآتي وإن قصرت مدته ، فكيف والأمر بالعكس . ولهذه الوجوه رجَّح الله تعالى قول مَنْ بالغ في التقليل فقال : { إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً } . وقيل : المراد منه اللبث في القبر ، ويؤيده قوله تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ الله إلى يَوْمِ البعث } [ الروم : 55 ، 56 ] .
( فأما من جوَّز الكذب على أهل القيامة فلا إشكال له في الآية ) ، أما من لم يجوزه قال : إن الله تعالى لما أحْيَاهم في الفترة وعذَّبهم ، ثم أماتهم ثم بعثهم يوم القيامة لم يعرفوا مقدار لبثهم في القبر كم كان؟ فخطر ببال بعضهم أنه في التقدير عشرة أيام .
وقال آخرون : إنه يوم واحد ، فلمَّا وَقَعُوا في العذاب مرة أخرى استثقلوا زمانَ الموت الذي هو زمان الخلاص لِمَا نالهم من هول العذاب .
وقيل : المراد باللبث بين النفختين ، وهو أربعون سنة ، لأن العذاب يرفع عنهم بين النفختين ، استقصروا مدة لبثهم لهول ما عاينوا . والأكثرون على أنَّ قوله : { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً } أي عشرة أيام ، فيكون قولُ مَنْ قال { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً } أقل ، وقال مقاتل : { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً } أي ساعات ، لقوله ( تعالى : { كَأَنَّهُمْ ) يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } [ النازعات : 46 ] وعلى هذا يكون اليوم أكثر .
ثم قال تعالى : { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ } أي : يَتَشَاوَرُون { إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً } أي : أوفاهم عقلاً وأعدَلُهم قولاً { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً } قصر ذلك في أعينهم في جنب ما استقبلهم من الأهوال يوم القيامة . قيل : نَسُوا مقدارَ لبثهم لشدة ما دهمهم . قوله : « إذْ يَقُولُ » منصوب ب « أَعْلَمُ » و « طريقةً » منصوب على التمييز .
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)
قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال } الآية ، ( لما وَصَفَ لهم يومَ القيامة ) حكى سؤال من لا يؤمن بالحشر . قال ابن عباس : سأل رجلٌ من ثقيف رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : كيفَ تكون الجبالُ يوم القيامة؟ فأنزل الله هذه الآية . وقال الضحاك : نزلت في مشركي مكة ، قالوا يا محمد كيف تكون الجبالُ يوم القيامة؟ على سبيل الاستهزاء .
{ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } وأجاب بفاء التعقيب ، لأن مقصودَهم من هذا السؤال الطعنُ في الحشر والنشر ، فلا جرم أمره بالجواب مقروناً بحرف التعقيب ، لأن تأخير البيان في مثل هذه المسألة الأصولية غير جائز ، وأما المسائل الفروعية فجائز فلذلك ذكر هناك بغير حرف التعقيب . والضمير في « يَنْسِفُهَا » عائد إلى الجبال ، والنسف التذريَة . وقيل : القَلْع الذي يقلعها من أصلها ويجعلها هباءً منثوراً .
قال الخليل : « يَنْسِفُهَا » يُذْهِبُهَا ويطيُّرُهَا .
قوله : « فَيَذَرُها » في هذا الضمير وجهان :
أحدهما : أنه ضمير الأرض ، أضمرت للدلالة عليها كقوله : { مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } [ فاطر : 45 ] .
والثاني : ضمير الجبال ، وذلك على حذف مضاف أي فيذر مراكزها ومقارها و « يَذَرُ » يجوز أن يكون بمعنى يُخْلِها ، فيكون « قَاعَاً » حالاً ، وأن يكون بمعنى يترك التصييرية فيتعدى لاثنين ف « قَاعاً » ثانيهما .
وفي القاع أقوال : فقيل : هو مقتنع الماء ولا يليق معناه هنا .
وقيل : إنه المنكشف من الأرض قاله مكي .
وقيل : إنه المكان المستوي ، ومنه قوله ضرار بن الخطاب :
3690- لَتَكُونَنَّ بَالبِطَاحِ قُرَيْشٌ ... بُقْعَة القَاعِ فِي أَكُفِّ الإمَاءِ
وقيل : إنه الأرض التي لا نبات فيها ولا بناء .
والصَّفْصَفُ : الأرض الملساء ، وقيل : المستوية ، فهما قريبان من المترادف وجمع القاع أقْوُعٌ وأقْوَاعٌ وقِيعَانٌ .
قوله : { لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً } يجوز في هذه الجملة أن تكون مستأنفة ، وأن تكون حالاً من الجبال ، ويجوز أن تكون صفة للحال المتقدمة وهي « قَاعاً » على أحد التأويلين ، أو صفة للمفعول الثاني على التأويل الآخر .
وتقدم الكلام على العِوَج . وقال الزمخشري هنا : فإن قلت : قد فرَّقوا بين العَوَج والعِوَج ، قالوا : العوج بالكسر في المعاني ، وبالفتح في الأعيان ، والأرض عَيْن ، فكيف صح فيها كسر العين . قلت : اختيار هذا اللفظ له موقع حسن بديع في وصف الأرض بالاستواء والملاسة ، ونفي الاعوجاج عنها على أبلغ ما يكون وذلك أنه لو عَمَدت إلى قطعةِ أرض فسويتها وبالغت في التسوية على عينيك وعيون البصراء ، واتفقتم على أنَّه لم يبقى فيها اعوجاج قط ، ثم استطلعت رأي المهندس فيها وأمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسية لعثر فيها على عوج في غير موضع لا يدرك ذلك بحاسة البصر ولكن بالقياس الهندسي ، فنفى الله تعالى ذلك العوج الذي دقَّ وَلطُفَ عن الإدراك اللهم إلا بالقياس الذي يعرفه صاحب التقدير الهندسي ، وذلك الاعوجاجُ لمَّا لم يدرك إلا بالقياس دون الإحساس أُلحق بالمعاني ، فقيل فيه عِوَجٌ بالكسر .
والأَمْتُ النتوُّ اليسير يقال : مَدَّ حَبْلَهُ حتى ما فيه أمْتٌ . وقيل : الأمت التل ، وهو قريب من الأول .
وقيل : الشُّقُوقُ في الأرض . وقيل : الإكام .
وقال الحسن : العوَج ما انخفض من الأرض ، والأمْتُ ما نشز من الرَّوابي . والمقصود من وصف الأرض بهذه الأوصَاف أنها تكون في ذلك اليوم ملساءَ خالية عن الارتفاع والانخفاض وأنواع الانحراف والاعوجاج . قوله : « يَوْمَئِذٍ » منصوب ب « يَتَّبِعُونَ » وقيل : بدل من « يَوْمَ القِيَامَةِ » قاله الزمخشري . وفيه نظر ، للفصل الكثير وأيضاً يبقى « يَتَّبِعُونَ » غير مرتبط بما قبله ، وبه يفوت المعنى والتقدير : يوم إذا نُسِفَت الجِبَالُ .
فصل
« الدَّاعِي » إسرافيل ، والدُّعَاءُ هو النفخ في الصور ، أي يتبعون صوتَ الداعي الذي يدعوهم إلى موقف القيامة . وقوله : « لاَ عِوَجَ لَهُ » أي لا يعدل عن أحد بدعائه بل يحشر الكُلُّ . وقيل : لا عوج لدعائه ، وهو من المقلوب ، أي لا عوج لهم من دعاء الدَّاعِي لا يعوجونَ عنه يميناً ولا شَمالاً .
وقيل : إنه مَلَكٌ قائِمٌ على صخرة بيت المقدس ينادي ويقول : أيَّتُهَا العِظَام النخرة ، والأوصال المتفرقة ، واللحوم المتمزقة قُومي إلى عَرْض الرَّحمن .
قوله : { وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن } أي : سَكَنَتْ وذلَّت وخضَعَتْ . وصف الأصوات بالخشوع والمرادُ أهلُهَا .
قوله : { فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً } الاستثناء مفعول به ، وهو استثناء مفرغ . والهَمْسُ : الصوت الخفي ، قيل : هو تَحْرِيكُ الشفتيْن دون النطق قال الزمخشري : وهو الذكر ، الخفي ، ومنه الحروف المهموسَة .
وقال ابن عباس والحسن وعكرمة : الهَمْسُ : وَطْءُ الأقدام أي : لا تسمع إلا خَفْقَ الأرض بأقدامهم ، ومنه هَمَست الإبل ( إذا سمع ذلك من وقع ) أخافها على الأرض ، قال :
3691- وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسَا ... قوله : « يَوْمَئِذٍ » بدلٌ مما تقدم ، أو منصوبٌ بما بعده « لاَ » عند من يجيز ذلك والتقدير : يومَ إذ يَتَّبِعُونَ لا تنفَعُ الشَّفَاعَةُ .
قوله : { إِلاَّ مَنْ أَذِنَ } فيه أوجه :
أحدها : أنه منصوب على المفعول به ، والناصب له « تَنْفَعُ » و « مَنْ » حينئذ واقعة على المَشْفُوعِ له .
الثاني : أنَّه في محل رفع بدلاً من « الشَّفاعة » ، ولا بدَّ من حذف مضاف تقديره : إلا شَفَعَةُ مَنْ أذِنَ لَه .
الثالث : أنه منصوب على الاستثناء من « الشفاعة » بتقدير المضاف المحذوف وهو استثناء متصل على هذا ، ويجوز أن يكون استثناء منقطعاً إذا لم نقدر شيئاً وحينئذ يجوز أن يكون منصوباً وهي لغة الحجاز ، أو مرفوعاً وهي لغة تميم ، وكل هذه الأوجه واضحة .
( و « لَهُ » ) في الموضعين للتعليل كقوله : { قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمنوا } [ مريم : 73 ] أي لأجله ولأجلهم .
فصل
المعنى : { لاَّ تَنفَعُ الشفاعة } أحداً من الناس { إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن } أي : إلا من أذن له الله أن يشفع له { وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } أي رضي قوله .
قال ابن عباس : يعني قَالَ : لاَ إلَهَ إلاَّ الله . وهذا يدل على أنه لا يشفع لغير المؤمنين . وقالت المعتزلة : الفاسق غير مرضيٍّ عند الله ، فوجب أن لا يشفع الرسول في حقه . وهذه الآية من أقوى الدلائل على ثبوت الشفاعة في حق الفساق ، ( لأن قوله : { وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } يكفي صدقه أن يكون الله تعالى قد رَضِيَ له قولاً واحداً من أقواله ) ، والفاسق قد ارتضى الله من قوله شهادة أنْ لاَ إلهَ إلاَّ الله . فوجب أن تكون الشفاعة نافعة له ، لأن الاستثناء من النفي إثبات فإن قيل : إنَّه تعالى استثنى من ذلك النفي بشرطين : أحدهما حصول الإذن . والثاني : أن يكون رَضِيَ له قولاً . فهب أنَّ الفاسق قد حصل فيه أحد الشرطين ، وهو أنه تعالى رضِيَ له قولاً ، فلم قلتم : إنه أذن فيه؟
فالجواب أنَّ هذا القيد كافٍ في حصول الاستثناء لقوله تعالى : { لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى } [ الأنبياء : 28 ] فاكتفى هناك بهذا القيد . ودلَّت هذه الآية على أنه لا بد من الإذن ، فظهر من مجموعهما أنه إذا رضي له قولاً يحصل الإذن في الشفاعة ، وإذا حصل القيدان حصل الاستثناء وتم المقصود .
قوله : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } الضمير في قوله : « بَيْنَ أيْدِيهِمْ » عائد إلى الذين يتبعون الداعي .
ومن قال : إن قوله : { مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن } المراد به الشافع ( قال : الضمير عائد إليه ) ، والمعنى : لا تَنْفع شفاعة الملائِكة والأنبياء إلا لِمَن أذِنَ له الرحمن في أن يشفع من الملائكة . ثم قال { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } يعني ما بين أيدي الملائكة كقوله في آية الكرسي ، قاله الكلبي ومقاتل .
وفيه تقريع لمن يعبد الملائكة ليشفَعُوا له . قال مقاتل : يعلم ما كان قبل أن يخلق الملائكة ، وما كان بعد خلقهم . ومن قال : الضمير عائد إلى الذين يتبعون الداعي قال : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } أي ما قدموا « وَمَا خَلْفَهُمْ » من أمر الدنيا قاله الكلبي . وقال مجاهد : « مَا بَيْنَ أيْدِيهِمْ » من أمر الدنيا والأعمال « وَمَا خَلْفَهُمْ » من أمر الآخرة . وقال الضحاك : يعلم ما مضى وما بقي ومتى تكون القيامة . { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } قيل : الكناية راجعة إلى « مَا » أي : هو يعلمُ ما بيْنَ أيديهم وما خلفهم ، ( ولا يعلمونه أي العباد لا يعلمون بما بين أيديهم وما خلفهم ) .
وقيل : الكناية راجعة إلى الله ، أي عباده لا يحيطُون به علماً .
قوله : وَعَنَتِ الوُجُوهُ « يقال : عَنَا يَعْنُو إذا ذلَّ وخضع وأعناه غيره أي : أذلَّهن ومنه العُنَاة جمع عانٍ وهو الأسير ، قال :
3692- فَيَا رُبَّ مَكْرُوبٍ كَرَرْتُ وَرَاءَهُ ... وَعَانٍ فَكَكْتُ الغُلَّ عظَنْهُ فَقَدْ أَبَى
وقال أمية بن أبي الصلت :
3693- مَليكٍ عَلَى عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمِنٌ ... لِعِزَّتِهِ تَعْنُو الوُجُوهُ وَتَسْجُدُ
وفي الحديث « فَإنَّهُنَّ عَوَان » . والمعنى : أنَّ ذلك اليوم تُذَلُّ الوجوه أي : المكلِّفين أنفسهم ، ذكرَ « الوجوه » وأراد أصحاب الوجوه ، لأن قوله « وَعَنَتْ » من صفات المكلفين لا من صفات الوجوه كقوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ } [ الغاشية : 8 ، 9 ] وخص الوجوه بالذكر ، لأن الخضوع بها يبين ، وفيها يظهر . وتقدم تفسير « الحَيُّ القَيُّومُ » وروى أبو أمامة الباهليّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « اطلبوا اسمَ الله الأعظم في هذه السُّور الثلاث البَقَرة وآل عمران ، وطه » قال الراوي : فوجدنا المشترك في السور الثلاث { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } [ البقرة : 255 ، آل عمران : 2 ] .
قوله : « وَقَدْ خَابَ » يجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة ، وأن تكون حالاً ، ويجوز أن يكون اعتراضاً . قال الزمخشري : « وَقَدْ خَابَ » وما بعده اعتراض كقولك خَابُوا وخَسِرُوا ، وكل من ظلم فهو خائِبٌ خَاسِر .
ومراده بالاعتراض هنا أنَّه خصَّ الوجوه بوجوه العصاة حتى تكون الجملة قد دخلت بين العُصَاة وبين { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات } فَهذَا عنده قسيم « وَعَنَتْ الوُجُوهُ » فلهذا كان اعتراضاً . وأما ابن عطية فجعل « الوُجُوهُ » عامة ، فلذلك جعل { وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } معادلاً بقوله { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات } إلى آخره .
فصل
قال ابن عباس : « خَابَ » خَسِر من أشْرَكَ بالله . والظُّلمُ : الشِّرك قال الله تعالى { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] والمراد بالخيبة : الحِرمان ، أي : حُرِم الثواب مَنْ حَمَل ظُلْماً ، أي ظلم ولم يتب . ثم قال : { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات ( وَهُوَ مُؤْمِنٌ } ) أي : ومَنْ يَعمل شيئاً مِنَ الصَّالِحَاتِ ، والمراد به الفرائض وكان عمله مقروناً بالإيمان ، نظيره قوله : { وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصالحات } [ طه : 75 ] . قوله : « وَهُوَ مُؤْمِنٌ » جملة حالية .
« فَلاَ يَخَافُ » قرأ بن كثير ( بجزمه ) على النهي ، والمعنى : أَمِنَ ، والنهي عن الخوف أمر بالأمن .
والباقون : برفعه على النفي والاستئناف ، أي : فهو لا يخاف .
والهضم : النقصُ تقول العرب : هَضَمَتْ لزيدٍ مِنْ حَقِّي أي : نقصتُ منه ، ومنه : هَضِيمُ الكَشْحَيْن أي : ضامُرُها ، ومن ذلك أيضاً ، « طَلْعُهَا هَضِيمٌ » أي : دقيق متراكب كأنَّ بعضه يظلم بعضاً فينتقصه حقه .
ورَجلٌ هضيمٌ أي مظلوم .
وهضمته واهتضمته وتَهَّضمتُه عليه بمعنى ، قال المتوكل الليثي :
3694- إنَّ الأذلَّةَ واللِّئَامَ لمِعْشَرٍ ... مَوْلاَهُم المُتَهَضَّم المَظْلُومُ
قيل : والظلم والهضم متقاربتان وفرَّق القاضي الماوردي بينهما فقال : الظلم من جميع الحق ، والهضم منع بعضه . والظلمُ هنا هو أن يعاقب لا على جريمةٍ أو يمنع من الثواب على الطاعة . والهضم هو أن ينقص من ثوابه .
وقال أبو مسلم : الظلم أن ينقص من الثواب ، والهضم أن لا يوفي حقه .
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
قوله : « وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ » نسق على « كَذَلِكَ نَقُصُّ » قال الزمخشري « ومثل ذلك الإنزال وكما أَنْزَلْنَا عليك هؤلاء الآيات أنزلنا القرآن كلَّه على هذه الوتيرة .
وقال غيره : والمَعْنَى كما قدَّرنا هذه الأمور وجعلناها حقيقة بالمرصاد للعباد كذلك حذَّرْنَا هؤلاء أمرها ، { أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } لتفهمه العرب فيقفوا على إعجازه ونظمه ، وخروفه عن الكلام البشري .
{ وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيد } أي : كرَّرْنَاهُ وفصَّلْنَاهُ .
قوله : » مِنَ الوَعِيدِ « صفة لمَفْعُولٍ محذوف ، أي : صرَّفنا في القرآن وعيداً من الوعيد ، والمراد به الجنس .
ويجوز أن تكون » مِنَ « مزيدة على رأي الأخفش في المفعول به ، والتقدير : وصرَّفنا فيه الوعيد » لَعَلَّهُمْ يَتَّقُون « أي يجتنبون الشرك . { أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } أي : يجدد لهم القرآن عبرة وعظة .
وقرأ الحسن : » أَوْ يُحْدِثْ « كالجماعة إلا أنه سكَّن لام الفعل وعبد الله والحسن أيضاً في رواية ومجاهد وأبو حيوة » نُحْدِثْ « بالنون ، وتسكين اللام أيضاً .
( وخُرِّجَ علَى ) إجراء الوصل مجرى الوقف ، أو على تسكين الفعل استثقالاً للحركة ، كقول امرئ القيس :
3695- فَاليَوْمَ أَشْرَبُ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ ... وقول جرير :
3696- أَوْ نَهْرُ تِيرَى فَلاَ تَعْرِفُكُمُ العَربُ ... وقد فعله كما تقدم أبو عمر في الراء خاصة نحو » يَنْصُرُكُم « .
وقرئ : » تُحدث « بتاء ( الخطاب ) أي : تُحدث أنتَ .
( قوله : » أَوْ يُحْدِثُ « ) فيه سؤالات :
الأول : كيف يكون محدثاً للذكر؟ والجواب : لمّا حصل الذكر عند قراءته أضيفَ إليه .
الثاني : لِمَ أضيفَ الذكر إلى القرآن ، وما أضيفت التقوى إليه؟
والجواب : أنَّ التقوى عبارة عن أن لا يفعل القبيح ، وذلك استمرار على العدم الأصلي ، فلم يجز إسناده إلى القرآن ، وأمَّا حدوث الذكر فأمر حدث بعد أن لم يكن ، فجازت إضافته إلى القرآن .
الثالث : كلمة » أو « للمنافاة بين التقوى وحدوث الذكر ، ولا يصح الاتقاء إلا مع الذكر ، فما معناه؟
والجواب : هذا كقول » جَالِس الحسن أو ابنَ سِيرين ، أي : ( لا تكن خالياً منهما ) ، فكذا ههنا .
وقيل : معنى الكلام أنا أنزلنا القرآن ليتَّقوا ، فإن لم يحصل ذلك فلا أقل من أن يحدث القرآن لهم ذكراً وشرفاً وصيتاً حسناً ، وعلى التقديرين يكون إنزاله تقوى .
قوله تعالى : { فتعالى الله الملك الحق } لما عظم أمر القرآن أردفه بأن عظم نفسه وذلك تنبيه على أنَّه يجب على خلقه تعظيمه ، وإنما وصف مُلكَه بالحَقِّ ، لأن ملكه لا يزول ولا يتغير ، وليس بمستفاد من قبل الغير ولا غيره أولى به ، ولهذا وصف بذلك . و « تَعَالَى » تفاعل من العُلُوّ ، وقد ثبت أن علوه وعظمته لا تكيّفه الأوهام ولا تقدره العقول .
ثم قال : { وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } .
قال أبو مسلم : إن من قوله : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال } [ طه : 105 ] إلى هنا يتم الكلام وينقطع ، ثم قوله : { وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن } ( خطاب مستأنف كأنه قال : { وَيَسْأَلُونَكَ ... وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن } [ طه : 105- 114 ]
وقال غيره : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أنزل عليه جبريل -عليه السلام- بالقرآن يبادر فيقرأ معه قبل أن يفرغ جبريل من التلاوة مخافة الانفلات والنسيان فنهاه الله عن ذلك ، وأمره أن يسكت حال قراءة المَلَك ، يقرأ بعد فراغه من ( القراءة ) . فكأنه تعالى ما شرح نفع القرآن للمكلفين ، وتبين أنه سبحانه متعال عن كل ما لا ينبغي ، ومن كان كذلك يجب أن يصون رسوله عن السهو والنسيان ( في أمر الوحي ، فإذا حصل الأمان عن السهو والنسيان ) فلا تعجل بالقرآن فقوله : { وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن } يحتمل أن يكون المراد لا تعجل بقراءته في نفسك . لما روى عطاء عن ابن عباس : أن يكون أخذُك القرآن على تثبيت وسكون . ويحتمل لا تعجل في تأديته إلى غيرك ، قال مجاهد وقتادة : لا تقرأ به أصحابك ولا تُمْله عليهم حتى يتبين لك معانيه . ويحتمل في اعتقاد ظاهرهن ويحتمل في تعريفه الغير ما يقتضيه ظاهرهن أي : حتى يتبين لك بالوحي تمامه أبو بيانه أو هما جميعاً ، لأنه يجب التوقف في معنى الكلام إلى أن يفرغ لجواز أن يحصل عقبيه استثناء أو شرط ، أو غيرهما من المخصصات .
فإن قيل : الاستعجال لذي نُهِي عنه إن كان فعلُه فكيف نهي عنه؟
فالجواب لعله فعل باجتهاد ، وكان الأولى تركه فلهذا نهِي عنه .
قوله : { قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } العامة على بناء « يُقْضَى » للمفعول ورفع « وَحْيُه » لقيامه مقام الفاعل .
والجحدري وأبو حيوة والحسن ، وهي قراءة عبد الله « تَقْضِي » بنون العظمة مبنيًّا للفاعل ، « وَحْيَه » مفعول به .
وقرا الأعمش كذلك إلاَّ أنَّه سكن ( لام الفعل ) ، استثقل الحركة وإن كانت خفيفة على حرف العلة ، وقد تقدم شواهد عند قراءة { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهالِيكُمْ } .
قوله : { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } أي : بالقرآن ومعانيه ، وقيل : « عِلماً » أي ما علمت . وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه قال : اللهم زدْنِي إيماناً ويقيناً .
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ } الآية . في تعليق هذه الآية بما قبلها وجوه :
الأول : أنه تعالى لما قال { كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ } [ طه : 99 ] ثم إنه عظَّم أمر القرآن ذكر القصة إنجازاً للوعد في قوله : { كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ } [ طه : 99 ] .
الثاني : أنه لما قال : { وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيد لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } [ طه : 113 ] أردفه بقصة آدم عليه السلام كأنَّه قال : إنَّ طاعة بني آدم للشياطين ، وتركهم التحفظ من الوساوِسِ أمر قديم ، فإنَّا عهدنا إلى آدم من قبل ، أي : من قبل هؤلاء الذين صرَّفنا لهم الوعيد ، ( وبالغنا في تنبيهه ) ، فقلنا له : { إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ } ، ثم إنه مع ذلك نسي وترك ذلك العهد ، فأمر البشر في ترك التحفظ أمر قديم .
الثالث : أنه لمَّا قال لِمُحمَّد { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } [ طه : 114 ] ذكر بعده قصة آدم ، فإنه عهد إليه وبالغ في تحذيره من العود ، فدل ذلك على ضعف البشرية عن التحفظ فيحتاج حينئذ إلى الاستعانة بربه في أن يوقفه لتحصيل العلم ويجنبه عن السهو والنسيان .
الرابع : أن محمداً -عليه السلام- لما قيل له : « وَلاَ تَعْجَلْ » دل على أنه كان في أمر الدين بحيث زاد على قدر الواجب فلما وصفه بالإفراط ، وصف آدم بالتفريط في ذلك ، فإنه تساهَلَ ولم يتحفظ حتى نسي ، فوصف الأول بالتفريط والآخر بالإفراط ، ليعلمه أن البشر لا ينفك عن نوع زلة .
الخامس أن محمداً لما قيل به : « وَلاَ تَعْجَلْ » ضاق قلبه ، وقال في نفسه : لولا أني أقدمت على ما لا ينبغي ، وإلا لما نهيت عنه ، فقيل له : يا محمد إن كنت فعلتَ ما نُهِيتَ عنه فإنما فعلته حرصاً منك على العبادة ، وحفظاً لأداء الوحي وإن أباك أقدم على ما لا ينبغي لتساهله ، وترك التحفظ فكان أمرك أحسن من أمره . والمراد بالعهد هنا أمر الله ، أي : أمرنا وأوصينا إليه أن لا يأكل من الشجرة من قبل هؤلاء الذين صرفنا لهم الوعيد في القرآن فتركوا الإيمان .
وقال ابن عباس : من قبل أن يأكل من الشجرة عَهِدْنَا إليه أن لا يأكل منها . وقال الحسن : من قل محمد والقرآن .
قوله : « فَنَسِيَ » قرأ اليماني بضم النون وتشديد السين بمعنى نَسَّاه الشيطان . وعلى هذه القراءة يحتمل أن يقال : أقدم على المعصية من غير تأويل ، وأن يقال : أقدم عليها مع التأويل .
وعلى القراءة المشهورة يحتمل أن يكون المراد بالنسيان نقيض الذكر ، وإنما عوقب على ترك التحفظ ، والمبالغة في الضبط حتى تولد منه النسيان ، ويحتمل أن يكون المراد بالنسيان الترك ، وأنه ترك ما عهد إليه من ترك أكل ثمرتها .
قوله : { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً }
يجوز أن تكون ( وجد ) علمية ، فتتعدى لاثنين ، وهما « لَهُ عَزْمًا » .
وأن تكون بمعنى الإصابة فتتعدى لواحد ، وهو « عَزْمًا » ( و « لَهُ » ) متعلق بالوجدان ، أو بمحذوف على أنه حال من « عَزْمًا » إذ هم في الأصل صفة له قدمت عليه .
والعازم : هو المصمم ، فقوله : { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } يحتمل : ولم نجد له عزماً على ترك المعصية ، أو على التحفظ والاحتراز عن الغفلة ، أو على الاحتياط في كيفية الاجتهاد إذا قلنا : إنه -عليه السلام- إنما أخطأ بالاجتهاد .
وقال الحسن : ولم نجدْ له صبراً عما نُهي عنه .
وقال عطية : حفظاً لما أمر به . وقال ابن قتيبة : رأياً معزوماً .
حيث أطاع عدوه إبليس الذي حسده وأبى أن يسجد لهز والعزم في اللغة : هو توطين النفس على الفعل .
قال أبو أمامة الباهليّ : لو وُزِنَ حلمُ آدم بحلم ولده لرجح عليه وقد قال الله تعالى { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } . فإن قيل : أتقولون إن آدم كان ناسياً لأمر الله حين أكل من الشجرة . قيل : يجوز أن يكون نَسِي أمره ، ولم يكن النسيان في ذلك الوقت مرفوعاً عن الإنسان بل كان مؤاخذاً به ، وإنما رفع عنا .
وقيل : نَسِيَ عقوبة الله ، وظن أنَّه نَهي تنزيه . قوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لآدَمَ } تقدَّم الكلام على ذلك مفصَّلاً في سورة البقرة .
وقوله : « أَبَى » جملة مستأنفة ، لأنها جواب سؤال مقدر ، أي : ما منعه من السجود؟ فأجيب بأنه أبَى واستكبر .
ومفعول الإباء يجوز أن يكون مراداً ، وقد صرَّح به في الآية الأخرى في قوله : { أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين } [ الحجر : 31 ] وحسن حذفه هنا كون العامل رأس فاصلة . ويجوز أن لا يراد ألبتة ، وأن المعنى : أنه من أهل الإباء والعصيان من غير نظر إلى متعلق الإباء ما هو .
قوله : { فَقُلْنَا ياآدم إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ } وسبب تلك العداوة من وجوه :
الأول : أن إبليس كان حسوداً ، فلمَّا رأة آثار نِعَم الله تعالى في حق آدم حسده فصار عدواً له . الثاني : أن آدم -عليه السلام- كان شاباً عالماً لقوله تعالى { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا } [ البقرة : 31 ] ، وإبليس كان شيخاً جاهلاً ، لأنه أثبت فضيلته بفضيلة أصله ، وذلك جهل والشيخ أبداً يكون عدواً للشَّاب العالم .
الثالث : أن إبليس مخلوق من النار وآدم من الماء والتراب ، فبين أصليهما عداوة ، فبقيت تلك العداوة .
فإن قيل : لم قال : { فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة } مع أن المخرج لهم من الجنة هو الله تعالى؟
فالجواب لما كان بوسوسته هوة الذي فعل ما ترتب عليه الخروج صح ذلك . قوله : « فَتَشْقَى » منصوب بإضمار ( أنْ ) في جواب النهي ، والنهي في الصورة لإبليس والمراد به هما ، أي لا تَتَعَاطَيَا أسباب الخروج ( فيحصل لكما الشقاء ) ، وهو الكد والتعب الدنيوي خاصة .
ويجوز أن يكون مرفوعاً على الاستئناف ، أيك فأنت تشقى ، كذا قدره أبو حيان .
وهو بعيد أو ممتنع ، إذ ليس المقصود الإخبار بأنه يشقى بل إن وقع الإخراج لهما من إبليس حصل ما ذكر . وأسند الشقاء إليه دونها ، لأن الأمور معدوقة برؤوس الرجال ، وحسن ذلك كونه رأس فاصلة ، ولأنَّه إن أريد بالشقاء التعب في طلب القوت فذلك على الرجل دون المرأة .
قوله : { إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ } خبر « إنَّ » ، و « ألاَّ تَجُوعَ » في محل نصب اسماً لها ، ( والتقدير : إنَّ لَكَ عدم الجوع والعُرْي ) و « تَعْرَى » منصوب تقديراً نسقاً على « تَجُوع » ( والعُرْيُ تجرد الجلد عن شيء يقيه ، يقال منه : عَرِيَ يَعْرَى عَرْياً ) قل الشاعر :
3697- فَإنْ يَعْرَيْنَ إنْ كُسِيَ الجَوَارِي ... فتَنْبُو العينُ عَنْ كَرَم عِجَافِ
« وأنَّكَ لاَ تَظْمَأ » قرأ نافع وأبو بكر « وإنَّك بكسر الهمزة . والباقون بفتحها .
فمن كسر يجوز أن يكون ذلك استئنافاً ، وأن يكون نسقاُ على » إنَّ « الأولى . ومن فتح فلأنه عطف مصدراً مؤولاً على اسم » إنَّ « الأولى ، والخبر » لَكَ « المتقدم . والتقدير : إنَّ لَكَ عدم الجوع ، وعدم العري ، وعدم الظمأ والضحى . وجاز أن يكون » أنَّ « بالفتح اسماً ل » إنَّ « بالكسر للفصل بينهما ، ولولا ذلك لم يجز . لو قلت : إنَّ أنَّ زيداَ حق لم يجز ، فلما وصل بينهما جاز .
وتقول : إنَّ عندِي أنَّ زيداً قائمٌ ، فعندي هو الخبر على الاسم وهو أنَّ وَمَا في تأويلها لكونه ظرفاً ، والآية من هذا القبيل إذ التقدير : فإن لك أنَّك لا تَظْمَأ وقال الزمخشري : فإن قلت : » إنَّ « لا تدخل على » أنَّ « ، فلا يقال : إنَّ أنَّ زيداً منطلقٌ ، والواو نائبة عن » إنَّ « وقائمة مقامها ، فلم دخلت عليها؟ قلت : الواو لم توضع لتكون أبداً نائبة عن » إنَّ « إنما هي نائبة عن كل عاما ، فلمَّا لم تكن حرفاً موضوعاً للتحقيق خاصة كإن لم يمتنع اجتماعهما كما اجتمع » إنَّ « و » أنَّ « وضَحِيَ يَضْحَى أي : برز للشمس ، قال عمر بن أبي ربيعة :
3698- رَأَتْ رَجُلاً أمَّا إذَا الشَّمْسَ عَارَضَتْ ... فَيَضْحَى وَأَمَّا بالعَشِيَّ فَيَخْصَرُ
وذكر الزمخشري هنا معنى حسَناً في كونه تعالى ذكر هذه الأشياء بلفظ النفي دون أن يذكر أضدادها بلفظ الإثبات ، فيقول : إنَّ لَكَ الشبع والكسوة والري والاكتنان في الظل ، فقال : وذكرها بلفظ النفي لنقائضها التي هي الجوع والعُرِي ، والظمأ ، والصّحو ليطرق سمعه بأسامي أصناف الشقوة التي حذره منها حتى يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها .
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)
قوله : « فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ » أي : أنهى إليه الوسوسة ، وأمَّا وَسوَسَ له فمعناه : لأجله قال الزمخشري : فإن قلت : كيف عدّى وَسْوَسَ باللام في قوله : { فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان } [ الأعراف : 20 ] وأخرى بإلى؟ قلت : وَسْوَسَةُ الشيطان كَوَلْوَلَةِ الثكلى ووَقْوَقَة الدجاجة في أنها حكايات الأصوات ، فحكمُها حكمُ صوت أو جرس ، ومنه : وسوسة المُبْرسَم وهو مُوَسْوس بالكسر ، والفتح لحسن ، وأنشد ابن الأعرابي :
3699- وَسْوَسَ يدعُو مُخْلصاً رَبَّ الفَلَقْ ... فإذا قلت : وسوس له فمعناه لأجله كقوله :
3700- أجْرِسْ لَهَا يَا ابْنَ أبِي كِبَاشِ ... ومعنى وسوس إليه أنهى الوسوسة كقوله : حدث إليه .
وقال أبو البقاء : عُدّي « وَسْوَسَ » ب « إلى » لأنه بمعنى أسرَّ ، وعداه في موضع آخر باللام ، لكونه بمعنى ذَكَرَ له ، أو تكون بمعنى لأجله .
قوله : { هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد } يعني على شجرة إن أكلتَ منها بَقيتَ مخلداً ، { وَمُلْكٍ لاَّ يبلى } أي مَنْ أكل هذه الشجرة دام ملكه . قال ابن الخطيب : واقعة آدم عجيبة ، وذلك لأن الله تعالى رغَّبه في دوام الراحة وانتظام المعيشة بقوله : { فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تضحى } [ طه : 117-119 ] ورغَّبه إبليس أيضاً في دوام الراحة بقوله : { هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد } وفي انتظام المعيشة بقوله : { وَمُلْكٍ لاَّ يبلى } فكان الشيء الذي رغَّب ( الله تعالى آدم ) فيه هو الذي رغبه إبليس فيه إلا أن الله تعالى وقف ذلك على الاحتراس عن تلك الشجرة ، وإبليس وقعه على الإقدام عليها ، ثم إن آدم -عليه السلام- مع كمال عقله وعلمه ( بان الله تعالى مولاه وناصره ومريبه ، وأعلمه ) بأن عدوه حيث امتنع من السجود له ، وعرض نفسه للعنة بسبب عداوته ، كيف قبل في الواقعة الواحدة والمقصود الواحد قول إبليس مع علمه بعداوته له ، وأعرض عن قول الله تعالى مع علمه بأنه هو الناصر والمولى . ومن تأمل هذا الباب طال تعجبه ، وعرف آخر الأمر أنّ هذه القصة كالتنبيه على أنه لا دافع لقضاء الله ، ولا مانع منه ، وأن الدليل وإن كان في غاية الظهور ونهاية القوة فإنه لا يحصل النفع به إلا إذا قضى الله ذلك وقدره .
روى البخاريُّ ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « احتجَّ آدمُ وموسى عند ربهما ، فحَجَّ آدمُ موسى ، قال موسى : أنت آدم الذي خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأسجد لك ملائكتك وأسكنك في جنته ، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض ، فقال آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه ، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء وقربك نجيا وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق ، قال موسى : بأربعين عاماً ، قال آدم : فهل وجدت فيها { وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى } ؟ قال نعم ، قال أفتلومني على أن عملت عملاً كتب الله عليّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحَجَّ آدمُ مُوسَى » .
وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « كَتَبَ الله مَقَادِير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، قال وعَرْشُهُ على الماء » وقال : « كل شيء خلقه بقدر حتى العَجْز والكَيْسُ » قوله : « فَأكَلاَ مِنْهَا » يعني آدم وحواء . { فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا } .
قال ابن عباس : عريا من النور الذي كان الله ألبسهما حتى بدت فروجهما . وإنما جمع « سَوْآتِهِمَا » كما قال « » صَغَتْ قُلُوبُكُمَا « .
{ وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة } قال الزمخشري : طَفِقَ بفعل كذا مثل جعل يفعَلُ وأخَذَ وأنْشَأ ، وحكمها حكم كاد في وقوع الخبر فعلاً مضارعاً وبينها وبينه مسافة قصيرة . وقرئ » يُخَصِّفان « للتكثير والتكرير من خصف النعل ، وهو أن يخرز عليها الخصاف ، أي : يلزقان الورق بسوآتهما للتستر ، وهو ورق التين . قوله : { وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ } بأكل الشجرة » فَغَوى « أي » فعل ( ما لم يكن له فعله ) . وقيل : أخطأ طريق الجنة وضلَّ حيث طلب الخلد بأكل ما نهي عن أكله فخاف ولم ينل مراده .
وقال ابن الأعرابي : أي : فسد عليه عيشه وصار من العز إلى الذل ، ومن الراحة إلى التعب . قال ابن قتيبة : يجوز أن يقال : عَصَى آدمُ ، ولا يجوز أن يقال : آدم عاصٍ ولا يقال : هو خياط ( حتى يعاوده ويعتاده ) .
قوله : « فَغَوَى » الجمهور على فتح الواو بعدها ألف وتقدم تفسيرها .
وقيل : معناه بشم من قولهم : غوي البعير بكسر الواو والياء إذا أصابه ذلك . وحكى أبو البقاء هذه قراءة وفسروها بهذا المعنى .
قال الزمخشري : زعم بعضهم « فَغَوى » فَبَشَم من كثرة الأكل ، وهذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسور ما قبلها ألفاً ، فيقول في فَنِيَ ، وبَقِيَ : فَنَا وَبَقَا ، وهم بنو طيئ تفسير خبيث .
قال شهاب الدين : كأنه لم يطلع على أنه قرئ بكسر الواو ، ولو اطلع عليها لردها ، وقد فرَّ القائل بهذه المقالة من نسبة آدم -عليه السلام- إلى الغي .
فصل
تمسك بعضهم بقوله : { وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى } في صدور الكبيرة عنه من وجهين :
أحدهما : أن العاصي اسم للذمِّ فلا يطلق إلا على صاحب الكبيرة ، ولقوله تعالى : { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ } [ الجن : 23 ] ولا معنى لصاحب الكبيرة إلا من فَعَل فِعْلاً يُعَاقَبُ عليه .
الثاني : أن الغواية والضلالة اسمان مترادفان ، والغي ضد الرشد ، ومثل هذا لا يتناول إلا الفاسق المنهمك في فسقه .
وأجيب عن الأول : بأن المعصية مخالفة الأمر ، والأمر قد يكون بالواجب وبالندب ، فإنك تقول : أمرته فعَصَاني ، وأمرته بشرب الدواء فَعَصَاني وإذا كان كذلك لم يمتنع إطلاق اسم العصيان على آدم بكونه تاركاً للمندوب فأجاب المستدل بأنا قد بيّنّا أن ظاهر القرآن يدل على أنَّ العاصي يستحق العقاب ، والعرف يدل على أنه اسم ذم ، فوجب تخصيص اسم العاصي بتارك الواجب ، ولأنه لو كان تارك المندوب عاصياً لوجب وصف الأنبياء بأسرهم بأنهم عصاة ، لأنهم لا ينفكون من ترك المندوب .
فإن قيل : وصف تارك المندوب بأنه عاص مجاز والمجاز لا يطرد .
قلنا : لما سلمت كونه مجازاً فالأصل عدمه ، وأما قوله : يقال أمرته بشرب الدواء فَعَصَاني ، قلنا : لا نُسَلِّم أن هذا الاستعمال مروي عن العرب ، ولئن سلَّمنا ذلك لكنهم إنما يطلقون ذلك إذا أجزموا عليه بالفعل . وحينئذ يكون معنى الإيجاب حاصلاً ، وإن لم يكن الوجوب حاصلاً ، وذلك يدل على أنَّ لفظ العصيان لا يجوز إطلاقه إلا عند تحقق الإيجاب ، لكنا أجمعنا على أن الإيجاب من الله تعالى يقتضي الوجوب ، فيلزم أن يكون إطلاق لفظ العصيان على آدم -عليه السلام- إنما كان لكونه تاركاً للواجب ومن الناس من سلَّم أن الآية تدل على صدور المعصية منه ، لكنه زعم أن المعصية كانت من الصغائر لا من الكبائر ، وهذا قول عامة المعتزلة . وهذا أيضاً ضعيف ، لأنا بينا أن اسم العاصي اسم للذم ، وأن ظاهره يدل على أنه يستحق العقاب ، وذلك لا يليق بالصغيرة ، وأجاب أبو مسلم : بأنه عَصَى في مصالح الدنيا لا فيما يتصل بالتكاليف ، وكذا القول في « غَوَى » .
وهذا أيضاً بعيد ، لأن مصالح الدنيا مباحة ، من تركها لا يوصف بالعصيان الذي هو اسم ذم ، ولا يقال : { فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ } [ الأعراف : 22 ] .
وأما التمسك بقوله : « فَغَوَى » فأجابوا عنه من وجوه :
أحدها : أنه خابَ من نعيم الجنة ، لأنه إنما أكل من الشجرة ليدومَ مُلْكه ، فلما أكل زال ، فلما خاب سَعْيه قيل : إنَّه غَوَى .
وتحقيقه أن الغَيَّ ضدُّ الرشد ، والرشد هو أن يتوصل بشيء إلى شيء فيصل إلى المقصود ، ومن توصل بشيء إلى شيء فحصل ضد مقصوده كان ذلك غياً .
وثانيها : قال بعضهم غَوَى أي : بَشَم من كثرة الأكل .
قال ابن الخطيب : والأولى عندي في هذا الباب أن يقال : هذه الواقعة كانت قبل النبوة ، وقد تقدم شرح ذلك في البقرة . وهاهنا بحث لا بد منه ، وهو أن ظاهر القرآن وإن دلَّ على أن آدم عصى وغوى ، ولكن ليس لأحد أن يقول : إن آدم كان عاصياً غاوياً . ويدل على صحة هذا القول أمور :
أحدها : قال العُتبي : يقال للرجل يخيط ثوبه خاط ثوبه ، ولا يقال : هو خياط حتى يعاوده ويعتاده ، ويصير معروفاً بالخياطة .
وهذه الزلة لم تصدر عن آدم أن تكون هذه الواقعة إنما وقعت قبل النبوة ، لم يجز بعد أن قبل الله توبته وشرَّفه بالرسالة والنبوة إطلاق هذا الاسم عليه كما لا يقال لمن أسلم بعد الكفر أو شرب أو زنا ثم تاب وحسنت توبته لا يقال له بعد ذلك كافر أو شارب أو زانٍ فكذا هنا .
وثالثها : أن قولنا : عاصٍ وغاوٍ يُوهِمُ كونه عاصياً في أكثر الأشياء ، ( وغاوياً عن معرفة الله تعالى ) ولم ترد هاتان اللفظتان في القرأن مطلقتين بل مقرونتين بالقصة التي عَصَى فيها ، فكأنه قال : عصى في كيت وكيت ، وذلك لا يوهم ما ذكرنا .
ورابعها : أنه يجوز من الله ما لا يجوز من غيره ، كما يجوز للسيد من ولده وعبده عند معصيته من إطلاق القول ما لا يجوز لغيره .
قوله : { ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ } أي : اختاره واصطفاه ، « فَتَابَ عَلَيْه » بالعفو وهداه إلى التوبة حين قال : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } [ الأعراف : 23 ] .
قال عليه السلام : لو جُمِع بكاء أهل الدنيا إلى بكاء داود لكان بكاؤه أكثر ولو جمع ذلك إلى نوح لكان بكاؤه أكثر ، وإنما سمي نوحاً لنوحه على نفسه . ولو جمع ذلك كله إلى بكاء آدم على خطيئته كان بكاؤه أكثر .
قال وهب : لمّا كثر بكاؤه أمره الله تعالى أن يقول : « لاَ إلَه إلاَّ أنْتَ سُبْحَانَكَ وبحمدِك عَملتُ سوءاً وظَلَمْتُ نفسي فاغفر لي فإنَّكَ خَيْرُ الغَافِرِينَ » فقالها آدم ، ثم قال : قل « سُبْحَانَكَ لاَ إلَهَ إلاَّ أنْتَ عِمِلْتُ سوءاً وظلَمْتُ نلَفْسِي فتُبْ عليَّ إنَّكَ أنْتَ التَوَّابُ » .
قال ابن عباس : هذه الكلمات التي تلقاها آدم من ربه .
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)
قوله : { قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً } هنا سؤال وهو أن قوله : « اهْبِطَا » إما أن يكون خطاباً مع شخصين أو أكثر ، فإن كان خطاباً مع شخصين فكيف قال بعده : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم } وهو خطاب الجمع؟ وإن كان خطاباً مع شخصين فكيف قال : « اهْبِطَا » ؟ وأجاب أبو مسلك : بأن الخطاب لآدم ومعه ذريته ، ولإبليس ومعه ذريته ، ولكونهما جنسين صح قوله : « اهْبِطَا » ولأجل اشتكال كل من الجنسين على الكثرة صح قوله : { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } .
وقال الزمخشري : لما كان آدم وحواء عليهما السلام أصل البشر اللذين منهما تفرعوا أنفسُهُما ، فخوطِبَا مخاطبتهم ، فقيل : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم } على لفظ الجماعة .
ومن قال : بأنَّ أقَلَّ الجمع اثنان ، أو بأنه يعبر عن الاثنين بلفظ الجمع ، كقوله : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] فلا يحتاج إلىلتأويل .
قوله : { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } تقدم تفسيره .
{ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتبع هُدَايَ } وهذا يدل على أن المراد الذرية والمراد بالهدى الرسل ، وقيل : الآيات والأدلة ، وقيل : القرآن .
« فَلاَ يَضِلُّ » في الدُّنيا ، « وَلاَ يشقى » في الآخرة ، لأنه تعالى يهديه إلى الجنة .
وقيل : لا يَضِلُّ ولا يَشْقَى في الدُّنْيَا . فإن قيل : المتبع لهدى الله قَدْ يَشْقَى في الدنيا .
فالجواب : أن المراد لا يضل في الدين ، ولا يشقى بسبب الدين ، فإن حصل بسبب آخر فلا بأس . ولما وعد الله تعالى من يتبع الهُدَى أتْبَعه بالوعيد لمن أعرض فقال : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي } والذكر يقع على القرآن وعلى سائر كتبق الله تعالى على ما تقدم .
قوله : « ضَنْكاً » صفة لمعيشة ، وأصله المصدر ، فكأنه قال : معيشة ذات ضنك ، فلذلك لم يؤنث ويقع للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد . وقرأ الجمهور « ضَنْكاً » بالتنوين وصلاً وإبداله ألفاًَ وقفاً كسائر المعربات .
وقرأت فرقة « ضنكى » بالف كسكرى . وفي هذه الألف احتمالان :
أحدهما : أنها بدل من التنوين ، وإنما أجري الوصل مجرى الوقف كما تقدم في نظائره ، وسياتي منها بقية إن شاء الله تعالى .
والثاني : أن تكون ألف التأنيث ، بُنِي المصدر على ( فَعَلَى ) نحو دَعْوَى . والضنك الضيق والشدة ، يقال منه : ضَنُكَ عيشُه يَضْنَكُ ضَنَاكَةً وَضَنْكاً ، وامرأة ضنَاكٌ كثير لحم البدن ، كأنهم تخيلوا ضيق جلدها به .
فصل
قال جماعة من المفسرين : الكافر بالله يكون حريصاً على الدنيا طالباً للزيادة فعيشه ضَنْكٌ ، وأيضاً فمن الظلمة مَنْ ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة بكفره قال تعالى : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة } [ البقرة : 61 ] وقال : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } [ المائدة : 66 ] ، وقال : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض } [ الأعراف : 96 ] وقال ابن مسعود وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري - ( رضي الله عنهم ) - : المراد بالعيشة الضنكى عذاب القبر .
وقال الحسن وقتادة والكلبي : هو الضيق في الآخرة في جهنم ، فإن طعامهم الضريع والزقوم ، وشرابُهُم الحميم والغِسْلِين ، فلا يموتون فيها ولا يَحْيُون . وقال ابن عباس : المعيشة الضنك هو ان يضيق عليه أبواب الخير فلا يهتدي لشيء منها . وعن عطاء : المعيشةُ الضَّنك هي معيشة الكافر ، لأنه غير موقِنٍ بالثواب والعقاب .
وروي عنه -عليه السلام- أنَّه قال : عقوبة المعصيةِ ثلاثة ضيقُ النعيشة والعُسْرُ في اللذة ، وأن لا يتوصل إلى قوته إلا بمعصية الله ( تعالى ) .
قوله : { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى }
قرأ العامة « وَنَحْشُرُهُ » بالنون ورفع الفعل على الاستئناف .
وقرأ أبان بن تغلب في آخرين بتسكين الراء ، وهي محتملة لوجهين :
أحدهما : أن يكون الفعل مجزوماً نسقاً على محل جزاء الشرط ، وهو الجملة من قوله : « فَإنَّ لَهٌ مَعِيشَةً » فإنَّ محلها الجزم ، فهي كقراءة : « مَنْ يُضْلِل اللهُ فَلاَ هَادِي لَهُ وَيَذَرْهُم » بتسكين الراء .
والثاني : أنْ يكون السكون سكون تخفيف ( نحو « يَأْمُرْكُم » وبابه ) .
وقرأت فرقة بياء الغيبة ، وهو الله تعالى أو الملك . وأبان بن تغلب في رواية « وَنَحْشُرُهْ » بسكون الهاء وصلاً ، وتخريجها إما على لغة بني عقيل وبني كلاب وإمَّا على إجراء الوصل مجرى الوقف . و « أعْمَى » نصب على الحال .
فصل
قال ابن عباس : أعمى البصر . وقال مجاهد والضحاك ومقاتل : أعمى عن الحجة ، وهو رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس .
قال القاضي : وهذا ضعيف ، لأن في القيامة لا بد أن يُعْلِمهم اله بطلان ما كانوا عليه حتى يتميز لهم الحق من الباطل ، ومن هذا حاله لا يوصف بذلك إلا مجازاً ، ولا يليق بهذا قوله : « وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً » ، ولم يكن كذلك في حال الدنيا . ومما يؤيد ذلك أنه تعالى علَّل ذلك العمى بأن المكلف نَسِي الدلائل فلو كان العمى الحاصل في الآخرة عين ذلك النِّسيان لم يكن للمكلف بسبب ذلك ضرر .
قوله : { لِمَ حشرتني أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } اعلم أنَّ الله -تعالى- جعل هذا العمى جزاءً على تركه اتباع الهدى .
وقوله : « وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً » جملة حالية من مفعول « حَشَرْتَنِي » . وفتح الياءَ من « حَشَرْتَنِي » قبل الهمزة نافع وابن كثير .
قوله : « كذلك أَتَتْكَ » قال أبو البقاء : « كَذَلِكَ » في موضع نصب أي : حَشَرْنَا مثل ذلك أو فَعَلْنَا مثل ذلك أو إتياناً مثل ذلك أو جزاءً مثل إعراضِك أو نسياناً وهذه الأوجه التي ذكرها تكون الكاف في بعضها نصباً ( على المصدر ، وفي بعضها نصباً ) على المفعول به .
ولم يذكر الزمخشري في غير المفعول به فقال : أي : مثل ذلك فعلتَ أنْتَ ، ثم فُسِّر بأنَّ آياتنَا أتتك واضحة مستنيرة فلم تنظر إليها بعين المعتبر ، فتركتَها وأعرضتَ عنها . { وكذلك اليوم تنسى } تُتْرَك في النار .
قوله : { وكذلك نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ } أي ومثل ذلك الجزاء نجزي « مَنْ أسْرَفَ » أي : أشرك ، { وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَدُّ وأبقى } مما يعذبهم في الدنيا ( والقبر ، « وَأبْقَى » وأدْوَمُ ) .
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
قوله : { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } في فاعل ( يَهْدِ ) أوجه :
أحدها : أنه ضمير الباري تعالى ، ومعنى ( يَهْدِي ) يُبَيِن ، ومفعول ( يَهْدِي ) محذوف تقدره : أفلم يُبَيِّن اللهُ لهم العبرَ وفعله بالأمم المكذبة .
قال أبو البقاء : وفي فاعله وجهان :
أحدهما : ضمير اسم الله تعالى وعلَّق ( بَيَّن ) هنا ، إذا كانت بمعنى أعلم كما علقه في قوله تعالى { وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ } [ إبراهيم : 45 ] .
قال أبو حيَّان : و « كَمْ » هنا خبرية ، والخبرية لا تعلِّق العامل ( عنها ) .
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون فيه ضمير الله ، أو الرسول ، ويدل عليه القرءان بالنون .
الوجه الثاني : أنَّ الفاعل مضمر يفسره ما دلَّ عليه من الكلام بعده ، قال الحوفي : « كَمْ أهْلَكْنَا » قد دَلَِّ على هلاك القرون التقدير : أَفَلَمْ نُبَيِّن لَهُمْ هَلاَكَ من أهلكنا من القرون ومَحْونا آثارَهم فيتعِظُوا بذَلِك .
وقال أبو البقاء : الفاعل ما دَلَّ عليه « اهْلَكْنا » أي إهْلاَكنا والجملة مفسرة له .
الوجه الثالث : أنَّ الفاعل نفس الجملة بعده .
قال الزمخشري : فاعل « لَمْ يَهْدِ » الجملة بعد يريد : أَلَمْ يَهْدِ لَهُم هذا بمعناه ومضمونه ، ونظيره قوله : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين } [ الصافات : 78 ، 79 ] أي : تركنا عليه هذا الكلام .
قال أبو حيَّان : وكونُ الجملة فاعل « يَهْدِ » هو مذهب كوفيّ ، وأما تشبيهه وتنظيره بقوله : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين } [ الصافات : 78 ، 79 ] فإن « تَرَكْنَا » معناه هذا القول فحكيتْ به الجملة ، فكأنه قيل : وقُلْنَا عليه ، وأطلقنا عليه هذا اللفظ ، ( والجملة تُحكَى بمعنى القول كما تُحْكَى بالقول ) .
الوجه الرابع : أنه ضمير الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنه هو المبيّن لهم بما يوحى إليه من أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية ، وهذا الوجه تقدم نقلُه عن الزمخشري .
الوجه الخامس : أنَّ الفاعلَ محذوف ، نقل ابن عطية عن بعضهم : أنَّ الفاعل مقدر تقديره : الهُدَى أو الأمرُ أو النَّظَرُ والاعتبارُ .
قال ابن عطيَّة : وهذا عندي أحسن التقادير .
قال أبو حيان : وهو قول المبرِّد ، وليس بجيد إذ فيه حذف الفاعل ، وهو لا يجوز عند البصريين ، وتحسينه أن يقال : الفاعل مضمرٌ تقديره : يَهْدِ هُوَ أي : الهُدَى قال شهاب الدين : ليسَ في هذا القول أن الفاعل محذوف بل فيه أنه مقدر ، ولفظ مقدَّر كثيراً ما يستعمل في المضمر . وأما مفعول « يَهْدِ » ففيه وجهان :
أحدهما : أنه محذوف .
والثاني : أن يكون الجملة من « كَمْ » وما في خبرها ، لأنها معلقة له ، فهي سادة مسد مفعوله .
الوجه السادس : أن الفاعل « كَمْ » -قاله الحوفي ، وأنكره على قائله لأن « كَمْ » استفهام لا يعمل فيها ما قبلها .
قال أبو حيَّان : وليست « كَمْ » هنا استفهامية بل هي خبرية .
واختار أن يكونَ الفاعل ضمير الله تعالى ، فقال : وأحسَنُ التخاريج أن يكون الفاعلُ ضميراً عائداً على الله تعالى ، كأنَّه قال أَفَلَمْ يبيَّن الله ، ومفعول يبين محذوف ، أي العبرَ بإهلاك القرون السابقة ، ثم قال : « كَمْ اهْلَكْنَا » أي : كثيراً أهلكنَا ، ف « كَمْ » مفعولة ب « أهْلَكْنَا » والجملة كأنها للمفعول المحذوف ل « يَهْدِ » .
قال القفَّال : جعل كثرة ما أهلك من القرون مبيِّناً لهم كما جعل مثل ذلك واعظاً لهم وزاجراً . وقرأ ابنُ عباس وأبو عبد الرحمن السلمي « أَفَلَمْ نَهْدِ » بالنون المؤذنة بالتعظيم . قال الزجاج : يعني أفَلَمْ نبيَِّن لهم بياناً يهتدون به لو تدبروا وتفكروا .
وقوله : « كَمْ أَهْلَكْنَا » فالمراد به المبالغة في كثرة مَنْ أهلكه الله تعالى من القرون الماضية . قوله : « مِنَ القُرونِ » في مجحل نصب ( نعت ل « كَمْ » ) لأنَّها نكرة ويضعف جعلُه حالاً من النكرة ، ولا يجوز أن يكون تمييزاً على قواعد البصريين و « مِن » داخلة عليه على حد دخولها على غيره من التمييزات لتعريفه .
قوله : « يَمْشُونَ » حال من « القُرونِ » ، أو من مفعول « أَهْلَكْنَا » والضمير على هذين عائد على القرون المهلكة ، ومعناه : إنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ وَهُمْ في حال أمنٍ وَمَشْيٍ وتقلُّب في حاجاتهم كقوله : { أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً } [ الأنعام : 44 ] ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في « لَهُمْ » ، والضمير في « يَمْشُونَ » على هذا عائد على مَنْ عادَ عليه الضمير في « لَهُمْ » وهم المشركون المعاصرون لرسول الله -صلى الله عيله وسلم- والعامل فيها « يَهْدِ » . والمعنى : إنَّكم تَمْشُون في مساكن الأمم السالفة وتتصرفون في بلادهم فينبغي أن تعتبروا لئلا يحلّ بكُم ما حلَّ بهم .
وقرأ ابن السميفع « يُمَشَّوْنَ » مبنيًّا للمفعول مضعفاً ، لأنه لما تعدَّى بالتضعيف جاز بناؤه للمفعول .
فصل
المعنى : أَو لَمْ نبيِّن القرآن أو مَا تقدم من المقادير لكفَّار مكة { كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ } ديارهم إذا سافَرُوا . والخطاب لقريش كانوا يسافرون إلى الشام ، فيروْنَ ديار المهلكين من أصحاب الحِجْر ، وثَمُود ، وقرى لوط { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى } لذوي العقول . ثم بيَّن تعالى الوجه الذي لأجله لا ينزل العذاب معجلاً على من كفر بمحمد -عليه السلام- فقال : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } ( وفيه تقديم وتأخير ) ، والتقدير : ولولا كلمةٌ سبقت من ربك وأجل مسمى لكانَ لزاماً .
والكلمة في الحكم بتأخير العذاب عنهم أي : وَلَوْلاَ حكمٌ سبقت بتأخير العذاب عنهم « وَأَجَلٌ مًسَمًّى » هو القيامة ، ( وقيل : يَوْمَ بَدْر ) . قوله : « وَأَجَلٌ مُسَمًّى » في رفعه وجهان :
أظهرهما : عطفه على « كَلِمَةٌ » ، أي : ولوْلاَ أجلٌ مُسَمًّى لكان العذاب لزاماً لهم .
والثاني : جوَّزه الزمخشري ، وهو أن يكون مرفوعاً عطفاً على الضمير المستتر ، والضمير عائد على الأخذ العاجل المدلول عليه بالسياق ، وقام الفصل بالخبر مقام التأكيد ، والتقدير : ولوْلاَ كلمة سبقت من ربك لكان الأخذ العاجل وأجل مسمى لازمين لهم كما كانا لازمين لعادٍ وثمود ، ولم ينفرد الجل المسمى دون الأخذ العاجل ، فقد جعل اسم « كَانَ » عائداً على ما دلَّ عليه السياق ، إلا أنَّه قد يشكل عليه مسألة وهي أنه قد جوَّز في ( لزاماً ) وجهين :
أحدهما : أن يكونَ مصدرَ ( لازم ) كالخصام ، ولا إشكال على هذا .
والثاني : أن يكون وصفاً على ( فِعَال ) بمعنى مُفْعِل أي : ملزم ، كأنه ىلة اللزوم ، لفرط لزومه ، كما قالوا : لِزَازٌ خَصِمٌ ، وعلى هذا فيقال : كان ينبغي أن يطابق في التثنية ، فيقال : لزامين بخلاف كونه مصدراً فإنه يفرد على كل حال . وجوَّز أبو البقاء أن يكون « لِزَاماً » جمع « لاَزِم » كقيام جمع قائِم .
فصل
والمراد انَّ أمة محمد -عليه السلام- وإن كذَّبُوا فسيؤخرون ولا يفعل بهم ما فعل بغيرهم من الاستئصال ، وذلك لأنَّه عَلِم أن فيهم من يؤمن . وقيل : علم أنَّ في نسلِهِم من يؤمن ، ولو نزل بهم العذاب لعمهم الهلاك . وقيل : المصلحة فيه خفية لا يعلمها إلا الله تعالى .
وقال أهل السنة : له بحكم المالكية أن يخص مَنْ يشاء بفضله ومَن شاء بعذابه من غير علة ، إذ لو كان فعله لعلة لكانت تلك العلة إن كانت قديمة لزم قدوم الفعل ، وإن كانت حادثة افتقرت إلى علة أخرى ولزم التسلسل .
ثم إنَّه تعالى لما أخبر نبيَّه بأنه لا يُهْلِكُ أحداً قبل استيفاء أجله أمره بالصبر فقال : { فاصبر على مَا يَقُولُونَ } أي من تكذيبهم النبوة ، وقيل : تركهم القبول .
قال الكلبي ومقاتل : هذه الآية منسوخة بآية القتال . ثم قال : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } أي : صَلِّ بأمر ربك . وقيل : صَلِّ لله بالحمْدِ له ، والثناء عليه ، ونظيره قوله تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة } [ البقرة : 45 ] .
قوله : « بِحَمْدِ رَبِّك » حال أي : وأنتَ حامدٌ لربِّك على أنه وفقك للتسبيح وأعانك عليه . واختلفوا في التسبيح على قوليْن ، فالأكثرون على أن المراد منه الصلاة وهؤلاء اختلفوا على ثلاثة أوجه :
الأول : أنَّ المراد الصلوات الخمس ، قال ابن عباس : دخلت الصلوات الخمس فيه ، ف { قَبْلَ طُلُوعِ الشمس } هو الفجر ، وقيل؛ « غروبها » الظهر والعصر ، لأنهما جميعاً قبل الغروب { وَمِنْ آنَآءِ الليل فَسَبِّحْ } يعني المغرب والعتمة ، ويكون قوله : « وَأطْرَافَ النَّهَار » كالتوكيد للصَّلاة بين الوقتين في طرفي النهار ، وهما صلاة الفجر وصلاة المغرب ، كما اختصت الوسطى بالتوكيد .
الثاني : أنَّ المرادَ الصلوات الخمس والنوافل ، لأن الزمان إما أن يكون قبل طلوع الشمس أو قبل غروبها ، فالليل والنهار داخليْن في هاتيْن العبادتين وأوقات الصلاة الواجبة دخلت فيها ، ففي قوله : { وَمِنْ آنَآءِ الليل فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النهار } للنوافل .
الثالث : أن المراد أربع صلوات ، فقوله : { قَبْلَ طُلُوعِ الشمس } للفجر « وَقَبْلَ غُرُوبِهَا » للعصر ، { وَمِنْ آنَآءِ الليل } المغرب والعتمة ، بقي الظهر خارجاً .
وعلى هذا التأويل يمكن أن يستدل بهذه الآية على أن المراد بالصَّلاة الوُسْطى صلاة الظهر ، لأن قوله : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات } [ البقرة : 238 ] المراد به هذه الأربع ، ثم أفرد الوسطى بالذكر ، والتأسيس أوْلَى من التأكيد ، والأول أولى . هذا إذا حَمَلْنَا التسبيح على الصلاة .
وقال أبو مسلم : لا يبعد حمله على التنزيه والإجلال ، والمعنى اشتغل بتنزيه الله تعالى في هذه الأوقات . فإن قيل : النهار له طرفان ، فكيف قال : « وَأَطْرَافَ النهار » ؟ بل الأولى أن يقول كما قال : { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار } [ هود : 114 ] .
فالجواب : من الناس من قال أقل الجمع اثنان فسقط السؤال ومنهم من قال : إنما جمع لأنه يكرر في كل نهار ويعود . وقوله : { مِنْ آنَآءِ الليل } متعلق ب « سَبِّحْ » الثانية . قوله : « وَأَطْرَافَ » العامة على نصبه ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه عطف على محل { وَمِنْ آنَآءِ الليل } .
والثاني : انه عطف على « قَبْل » .
وقرأ السحن وعيسى بن عمر « وأطرافِ » بالجر عطفاً على « آناءِ اللَّيل » وقوله هنا « أطْرَافَ » وفي هود « طَرَفَيْ النَّهَارِ » ، فقيل : هو من وضع الجمع موضع التثنية كقوله :
3701- ظَهْرَاهُمَا مِثْلُ ظُهُورِ التُّرْسَيْن ... وقيل : هو على حقيقته ، والمراد بالأطراف الساعات .
قوله : « تَرْضَى » قرأ الكسائي وأبو بكر عن عاصم « تُرْضَى » مبنيًّا للمفعول .
والباقون مبنيًّا للفاعل ، وعليه { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى } [ الضحى : 5 ] والمعنى : ترضى ما تنال من الشفاعة ، أو ترضى بما تنال من الثواب على ضم التاء كقوله : { وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً } [ مريم : 55 ] .
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
قوله : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ } قيل : المراد منه نظر العين ، وهؤلاء قالوا : مَدَّ النظر تطويله ، وأن لا يكاد يرده استحساناً للمنظور وإعجاباً به ، كما فعل نظارة قارون حيث قالوا : { ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [ القصص : 79 ] حتى واجههم أولو العِلْم والإيمان فقالوا : { وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } [ القصص : 80 ] وفيه أن النظر غير الممدود يعفى عنه كنظر الإنسان إلى الشيء مرةً ثم يغض . ولما كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطبائع قيل : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } أي : لا تفعل ما أنت معتاد له . ولقد شدد المتقون في وجوب غضِّ البصر عن ابنية الظلمة ، ولباس الفسقة ، ومراكبهم وغير ذلك ، لأنهم اتَّخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة ، فالناظر إليها محصل لغرضهم ، وكالمغرى لهم على اتخاذها . قال أبو مسلم : ليس المنهي عنه هنا هو النظر بل هو الأسف ، أي لا تأسف على ما فاتك مما نالوه من حظ الدنيا .
قال أبو رافع : نزل ضيفٌ بالرسول -عليه السلام- فبعثني إلى يهوديٍّ ، فقال قل له : إن رسول الله يقول : يعني كذا وكذا من الدقيق ، وأسلفني إلى هلال رجب ، فأتيته ، فقلت له ذلك ، فقال : والله لا ابيعه ولا أسلفه إلا بهن ، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بقوله فقال : « والله لَئِنْ باعَنِي و أسْلَفَنِي لقضيتُهُ ، وَإنِّي لأَمشينٌ فِي السَّمَاءِ وَآمِينٌ فِي الأَرْضِ اذْهَبْ بِدِرْعِي الحديد إليه » فنزلت هذه الآية . وقال عليه السلام : « إنَّ اللهَ لاَ يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلاَ إلَى أَمْوَالِكُمْ ولكِنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُمْ وَأعْمَالِكُمْ » .
وقال أبو الدرداء : الدنيا دارُ مَنْ لا دارَ له ، ومالُ مَنْ لا مالَ له ، ولها يجمع من لا عقلَ له . وعن الحسن : لَوْلاَ حمقُ الناس لخربت الدُّنيا .
وعن عيسى ابن مريم -عليه السلام- لا تَتَّخِذُوا داراً فتتخذكم لها عبيداً . وعن عروة بن الزبير كان إذَا رَأى ما عِنْدَ السلطان يتلو هذه الآية ، وقال : الصلاة يرحمكم الله قوله : « أزواجاً » في نصبه وجهان : أحدهما : أنَّه منصوبٌ على المفعول به . والثاني : أنَّه منصوب على الحال من الهاء في « بِهِ » .
راعى لفظ « مَا » مرده فأفرد ، ومعناها أخرى فلذلك جمع .
قال الزمخشري : ويكون الفعل واقعاً على « مِنْهُم » كأنه قال : إلى الذين متَّعْنا به وهو أصناف منهم . قال ابن عباس : أناساً منهم . قال الكلبي والزجاج : رجالاً منهم . قوله : « زَهْرَة » في نصبه تسعة أوجه :
أحدها : أنَّه مفعول ثانٍ ، لأنه ضَمَّن « مَتَّعْنَا » معنى أعطينا ، ف « أزْوَاجاً » مفعول أول ، و « زَهْرَةَ » هو الثاني .
الثاني : أن يكون بدلاً من « أزواجاً » ، وذلك إما على حذف مضاف أي ذوي زهرة ، وإمَّا على المبالغة جعلوا نفس الزهرة .
الثالث : أن يكون منصوباً بفعل مضمرٍ دلَّ عليه « مَتَّعْنَا » تقديره : جَعَلنَا لهم زهرة
الرابع : نصبه على الذم ، قال الزمخشري : وهو النصب على الاختصاص .
الخامس : أن يكون بدلاً من موضع الموصول ، قال أبو البقاء : واختاره بعضهم ، وقال آخرون : لا يجوز ، لأن قوله : لِنَفْتِنَهُمْ « من صلة » مَتَّعْنَا « فيلزم الفصل بين الصلة والموصول بالأجنبي . وهو اعتراض حسن .
السادس : أن ينتصب على البدل من محل » بِهِ « .
السابع : أن ينتصب على الحال من » مَا « الموصولة .
الثامن : أنه حالٌ من الهاء في » بِهِ « ، وهو ضمير الموصول ، فهو كالذي قبله في المعنى .
فإن قيل : كيف يقع الحال معرفة؟
فالجواب : أن تجعل » زَهْرَة « منونة نكرة ، وإنما حذف التنوين للالتقاء الساكنين نحو :
3702- وَلاَ ذَاكِرَ اللهَ إلاَّ قَلِيلا ... وعلى هذا : فبم ( جُرَّت » الحَيَاةِ « ؟ فقيل : على البدل من » مَا « الموصولة ) .
التاسع : أنه تمييز ل » مَا « أو الهاء في » بِهِ « وقد ردوه عليه بأنه معرفة والمميز لا يكون معرفة ، وهذا غير لازم ، لأنه يجوز تعريف التمييز على أصول الكوفيين .
والعاشر : أنه صفة ل » أزْوَاجاً « بالتأويلين المذكورين في نصبه حالاً وقد منعه أبو البقاء يكون الموصوف نكرة والوصف معرفة ، وهذا يجاب عنه بما أجيب في تسويغ نصبه حالاً أعني حذف التنوين للالتقاء الساكنين . والعامة على تسكين الهاء ، وقرأ الحسن وأبو البرهسم وأبو حَيْوة بفتحها ، فقيل : بمعنى كَجَهْرَة وجَهْرَة . وأجاز الزمخشري أن يكونَ جمع زاهر كفَاجِر وفَجَرة وبَارّ وبَرَرَة وروى الأصمعي عن نافع » لِنُفْتِنهُمْ « بضم النون من أقتنه إذا اوقعه في الفتنة والزَّهْرة بفتح الحاء وسكونها كَنَهر ونهْر ما يروق من النور وسراج زاهر لبريقه ورجل أزهر وامرأة زهراء من ذلك والأنجم الزهرُ هي المضيئة .
فصل
معنى » مَتَّعْنَا « ألذَذَْنَا به ، والإمتاع : الإلذاذ بما يدرك من المناظر الحسنة ويسمع من الأصوات المطربة ، ويشم من الروائح الطيبة ، وغير ذلك من الملابس والمناكح ، يقال : أَمْتَعَه ومتَّعه تمتيعاً ، والتفعيل يقتضي التكثير . ومعنى الزهرة فيمن حرَّك الزينة والبهجة ، كما جاء في الجهرة قرئ » أَرِنَا الله جَهْرَةً } . وقيل : جمع زاهر وصفاً لهم بأنهم زَهْرَة هذه الحياة الدنيا لصفاء ألوانهم وتهلُّلِ وجوههم بخلاف ما عليه الصُّلحاء من شُحُوب الألوان والتقشف في الثياب . ومعنى « نَفْتِنَهُمْ » نُعَذِّبَهُم كقوله : { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا } [ التوبة : 55 ] .
وقال ابن عباس : لنجعل ذلك فتنةً لهم بأن أزيد لهم في النعمة فيزيدوا كفراً وطغياناً . ثم قال : « وَرِزْقُ رَبِّك » في المعاد يعني في الجنة « خَيْرٌ وَأَبْقَى » أي : خير من مطلبوبهم وأبقى ، لأنه يدوم ولا ينقطع ، وليس كذلك حال ما أتوه في الدنيا .
ويحتمل أن ما أوتيته من يسير الدنيا إذا قرنته بالطاعة ، ورضيت به ، وصبرت عليه كانت عاقبته خيراً لك . ويحتمل أن يكون المراد ما أعطي من النبوة والدرجات الرفيعة . قوله : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة } أي : قَوْمك .
وقيل : مَنْ كان على دينك كقوله تعالى : { وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة } [ مريم : 55 ] وحمله بعضهم على أقاربه .
« واصْطَبِرْ عليها » أي : اصبِرْ على الصلاة وحافظ عليها فإنها تَنْهى عن الفحشاء والمنكر . وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بعدَ نزول هذه الآية يذهب إلى فاطمة وعليّ -عليهما السلام- في كلِّ صباحٍ ويقول : « الصَّلاة » . ثم بيَّن تعالى أنَّما أمرهم بذلك لنفعهم وأنه متعال عن المنافع ، فقال : { لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً } أي : لا نكلفك أن ترزق أحداً من خلقنا ، ولا أن ترزق نفسَك ، وإنما نكلفُكَ عَمَلاً فَفَرِّغْ بالَك لأمر الآخرة ، كما قال بعضهم : مَنْ كان في عمل الله كان الله في عمله . وقال أبو مسلم : معناه إنما يُريدُ منه أن يرزقه كما يريد السادة من العبيد الخراج ، ونظيره { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } [ الذاريات : 56 ، 57 ] . وقيل : المعنى إنما أمرناك بالصَّلاة لا لأنا ننتفع بصلاتك . « نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ » في الدنيا بوجود النعم ، وفي الآخرة بالثواب قال عبد الله بن سلام : كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل بأهلِهِ ضِيقٌ أو شِدَّةٌ أمرهم بالصلاة ، وتلا هذه الآية .
« وَالعَاقِبَةُ » الجميلة المحموجة « لِلتَّقْوَى » أي : لأهل التقوى . قال ابن عباس -رضي الله عنهما- : ( الذين صدَّقوك واتَّبعوك واتقون ) ، ويؤيده قوله في موضع آخر ، { والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } [ الأعراف : 128 ، القصص : 83 ] . وقرأ ابنُ وثاب : « نَرْزُقكَ » بإدغام القاف في الكاف ، والمشهور عنه أنه لا يدغم إلا إذا كانت الكاف متصلة بميم جمع نحو : خَلَقَكُمْ ، كما تقدم .
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)
قوله تعالى : { اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ } الآية .
اللام متعلّقة ب « اقْتَرَبَ » ، قال الزمخشري : هذه اللام لا تخلو إمَّا ان تكن صلة ل « اقْتَرَبَ » ، قال الزمخشري : هذه اللام لا تخلو إمّا أن تكون صلة ل « اقْتَرَبَ » ، أو تأكيداً لإضافة الحساب إليهم كقولك : أَزِفَ للحيّ رَحِيلُهُمْ ، الأصل : أَزِف رحيلُ الحيّ ، ثم أزف للحيّ الرحيلُ ، ثم أزف للحي رَحِيلُهُمْ ، ونحوه ما أورده سيبويه في باب ما يثنى فيه المستقر توكيداً ، نحو عَلَيْكَ زَيْدٌ حَرِيصٌ عضلَيكَ ، وفِيكَ زيدٌ رَاغِبٌ فِيكَ ، ومنه قولهم : لاَ أَبَا لكَ ، لأنّ اللام مؤكدة لمعنى الإضافة ، وهذا الوجه أغرب من الأول .
قال أبو حيَّان : يعني بقوله : صلة ل « اقْتَرَبَ » أي « متعلقة به ، وأما جعله اللام توكيداً لإضافة الحساب إليهم مع تقدم اللام ودخولها على الاسم الظاهر فلا نعلم أحدا يقول ذلك ، وأيضاً فيحتاج إلى ما يتعلق به ، ولا يمكن تعلقها ب » حِسَابُهُمْ « لأنَّه مصدر موصول ، ولأنه قدم معموله عليه ، وأيضاً فإنّ التوكيد يكون متأخراً عن المؤكد ، وأيضاً فلو أخر في هذا التركيب لم يصح .
وأما تشبيهه بما أورده سيبويه فالفرق واضح ، فإن ( عَلَيْكَ ) معمول ل ( حريص ) و ( عَلَيْك ) المتأخرة تاكيد وكذلك ( فِيكَ زَيْدٌ رَاغِبٌٌ فِيكَ ) يتعلق ( فِيكَ ) ب ( رَاغِب ) و ( فِيكَ ) الثانية توكيد ، وإنَّمَا غره في ذلك صحة تركيب اقترب حساب الناس ، وكذلك أزِفَ رحيلُ الحيّ ، فاعتقد إذا تقدم الظاهر مجروراً باللام وأضيف المصدر لضميره أنه من باب : فِيكَ زَيْدٌ رَاغِبٌ فِيكَ ، فليس مثله .
وأما ( لاَ أَبَا لَكَ ) ، فهي مسألة مشكلة ، وفيها خلاف ، ويكن أن يقال فيها ذلك ، لأنَّ اللام فيها جاورت الإضافة ، ولا يقاس عليها لشذوذها وخروجها عن الأقيسة . قال شهاب الدين : مسألة الزمخشري أشبه شيء بمسألة ( لاَ أَبَا لَكَ ) ، والمعنى الذي أورده صحيح ، وأما كونها مشكلة فهو إنما بناها على قول الجمهور ، والمشكل مقدر في بابه ، فلا يضرنا القياس عليه لتقريره في مكانه . قوله : { وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } يجوز أنْ يكونَ الجار متعلقاً بمحذوف على أنه حال من الضمير في » مُعْرِضُونَ « وأن يكون خبراً من الضمير ، ومعرضون خب ثان وقول أبي البقاء في هذا الجار : إنه خبر ثان . يعني في العدد وإلا فهو أول في الحقيقة . وقد يقال : لمّا كان في تأويل المفرد جعل المفرد الصيح مقدماً في الرتبة ، فهو ثان بهذا الاختيار .
وهذه الجملة في محل نصب على الحال من » للنَّاسِ « .
فصل
نزلت في منكري البعث ، والقرب لا يعقل إلا في المكان والزمان ، والقرب المكاني هما ممتنع فتعين القرب الزماني . فإن قيل : كيف وصف بالاقتراب وقد عبر هذا القول اكثر من ستمائة عام؟
والجواب من وجوه :
الأول : أنه مقترب عند الله ، لقوله تعالى :
{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } [ الحج : 47 ] .
الثاني : أنَّ كُلَّ آتٍ وإن طالت أوقات ترقبه ، وإنما البعيد هو الذي انقرض قال الشاعر :
3703- فَمَا زَالَ مَا تَهْوَاهُ أَقْرَبَ مِنْ غَدٍ ... وَلاَ زَالَ ما تَخْشَاهُ أبعدُ مِنْ أمسِ
الثالث : أنَّ المقابلة إذا كانت مؤجلة إلى سنة ثم انقضى منها شهر ، فإنه لا يقال : اقترب الأجل ، أمَّا إذا كان الماضي أكثر من الباقي فإنه يقال : اقترب الأجل . فعلى هذا الوجه قال العلماء : إن فيه دلالة على قرب القيامة ، ولهذا قال عليه السلام : « بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ » وقال عليه السلام : « ختمت النبوة » كل ذلك لأجل أنَّ الباقي من مدة التكليف أقل من الماضي واعلم أنه إنما ذكر تعالى هذا الاقتراب لما فيه من مصلحة المكلفين ليكثر تحرزهم خوفاً منها . ولم يعين الوقت ، لأنَّ كتمان وقت الموت أصلح لهم والمراد بالناس من له مدخل في الحساب وهم المكلفون دون من لا مدخل فيه .
قال ابن عبس : المراد بالناس المشركون . وهذا من إطلاق اسم الجنس على بعضه للدليل القائم ، وهو ما يتلوه من صفات المشركين .
وقوله : { وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } وصفهم بالغفلة والإعراض ، واما الغفلة فالمعنى : أنهم غافلون عن حسابهم ساهون لا يتفكرون في عاقبتهم مع اقتضاء عقولهم أنه لا بُدَّ من جزاء المحسن والمسيء ، ثم إذا انتبهوا من سِنَة الغفلة ، ورقدة الجهالة مما يتلى عليهم من الآيات أعرضوا وسدوا أسماعهم .
قوله : { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ } ذكر الله -تعالى- ذلك بياناً لكونهم معرضين ، وذلك لأنَّ الله -يجدد لهم الذكر كل وقت ، ويظهر لهم الآية بعد الآية ، والسورة بعد السورة ليكرر على أسماعهم الموعظة لعلهم يتعظون ، فما يزيدهم ذلك إلا استسخاراً .
قوله : « مُحْدِثٍ » العامة على جر « مُحْدِثٍ » نعتاً ل « ذِكْرٍ » على اللفظ .
وقوله : « مِنْ رَبِّهِمْ » فيه أوجه :
أجودها : انْ يتعلق ب « يَأتِيهِمْ » ، وتكون « مِنْ » لابتداء الغاية مجازاً .
والثاني : أنْ يتعلق بمحذوف على أنه حال من الضمير المستتر في « مُحْدِثٍ » .
الثالث : أنْ يكونَ حالاً من نفس « ذِكْرٍ » ، وإنْ كان نكرة ، لأنه قد تخصّص بالوصف ب « مُحْدَثٍ » ، وهو نظير : ما جاءني رجلٌ قائماً منطلقٌ ، ففصل بالحال بين الصفة والموصوف . وأيضاً فإنّ الكلام نفي وهو مسوغ لمجيء الحال من النكرة .
الرابع : أن يكون نعتاً ل « ذِكْرٍ » فيجوز في محله وجهان : الجر باعتبار اللفظ والرفع باعتبار المحل ، لأنه مرفوع المحل إذ « مَن » مزيده فيه ، وسيأتي .
وفي جعله نعتاً ل « ذِكْرٍ » إشكال من حيث إنه تقدم غير الصريح ، وتقدم تحريره في المائدة .
الخامس : أن يتعلق بمحذوف على سبيل البيان . وقرأ ابن عبلة « محدثٌ » رفعاً نعتاً ل « ذِكرٍ » على المحل ، لأن « مِنْ » مزيدة فيه لاستكمال الشرطين .
وقال أبو البقاء : ولو رفع على موضع « من ذكر » جاز . كأنه لم يطلع عليه قراءة وزيد بن عليّ « مُحْدَثاً » نصباً على الحال من « ذِكْرٍ » ، وسوغ ذلك وصفه ب « مِنْ رَبِّهِمْ » إن جعلناه صفة .
قوله : « إلاَّ اسْتَمَعُوهُ » هذه الجملة حال من مفعول « يأتيهم » وهو استثناء مفرغ ، و « قد » معه مضمرة عند قوم .
« وهم يلعبون » حال من فاعل « اسْتَمَعُوهُ » أي استمعوه لاعبين .
فصل
قال مقاتل : معنى « مُحْدَثٍ » يحدث الله الأمر بعد الأمر . وقيل : الذكر المحدث ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم وبينه من السنن والمواعظ سوى ما في القرآن ، وأضافه إلى الرب ، لأنه أمره بقوله إِلاَّ « اسْتَمَعُوهُ » لاعبين لا يعتبرون ولا يتعظون .
فصل
استدلت المعتزلة بهذه الآية على حدوث القرآن ، فقالوا : القرآن ذكر ، والذكر محدث ، فالقرآن محدث ، وبيان أن القرآن ذكر قوله تعالى في صفة القرآن : { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } [ يوسف : 104 ، ص : 87 ، التكوير : 27 ] { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر } [ الحجر : 9 ] { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } [ يس : 69 ] و { وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ } [ الأنبياء : 50 ] . وبيان أن الذكر محدث قوله : { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ } وقوله : { مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرحمن مُحْدَثٍ } [ الشعراء : 5 ] فالجواب من وجهين :
الأول : أن قوله تعالى : { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } [ يوسف : 104 ، ص : 87 ، التكوير : 27 ] وقوله { وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ } [ الأنبياء : 50 ] إشارة إلى المركب من الحروف والأصوات ، وذلك مما لا نزاع فيه بل حدوثه معلوم بالضرورة ، وإنما النزاع في قدر كلام الله تعالى بمعنى آخر .
الثاني : أن قوله : { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ } لا يدل على حدوث كل ما كان ذكراً ، كما أن قول القائل : لاَ يَدْخل هذه البلدة رجلٌ فاضلٌ إلا يبغضونه فإنه لا يدل على أن كل رجل يجب أن يكون فاضلاً بل على أن من الرجال من هو فاضل ، وإذا كان كذلك فالآية لا تدل إلا على أن بعض الذكر محدث ، فيصير نظم الكلام : القرآن ذكر ، وبعض الذكر محدث ، وهذا لا ينتج شيئاً ، فظهر أن الذي طنوه قاطعاً لا يفيد ظناً ضعيفاً فضلاً عن القطع .
قوله : « لاهيةً » يجوز أن تكون حالاً من فاعل « اسْتَمَعُوهُ » عند من يجيز تعدد الحال ، فيكون الحالان مترادفين .
وأن يكون حالاً من فاعل « يلعبون » فيكون الحالان متداخلين وعبر الزمخشري عن ذلك فقال : { وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ } حالان مترادفان أو متداخلتان وإذا جعلناهما حالين مترادفين ففيه تقديم الحال غير الصريحة وفيه من البحث ما في باب النعت .
( و « قلوبهم » مرفوع ب « لاَهِيَةً » ) .
وقال البغوي : « لاَهِيَة » نعت تقدم الاسم ، ومن حق النعت أن يتبع الاسم في الإعراب ، فإذا تقدم النعت الاسم فله حالتان فصل ووصل ، فحالته في الفصل النصب كقوله تعالى { خاشِعاً أَبْصَارُهُمْ } وهذه قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي و { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا } [ الإنسان : 14 ] و { لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ } ، وفي الوصل حالة ما قبله من الإعراب كقوله : { أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية الظالم أَهْلُهَا } [ النساء : 75 ] والعامة على « لاَهِيَة » ، وابن أبي عبلة على الرفع على أنها خبر ثان لقوله « وهُمْ » عند من يُجوِّز ذلك ، أو خبر مبتدأ محذوف عند من لا يجوّزه .
قوله : { وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ } يجوز في محل « الذين » ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه بدل من ( واو ) « أسَرُّوا » تنبيهاً على اتصافهم بالظلم الفاحش وعزاه ابن عطية لسيبويه ، وغيره للمبرد .
الثاني : أنه فاعل ، والواو علامة جمع دلت على جمع الفاعل كما تدل التاء على تأنيثه ، وكذلك يفعلون في التثنية فيقولون : قاما أخواك وأنشدوا :
3704- يَلُومُونَنِي فِي اشْتِرَاءِ النَّخي ... خِيلِ أَهْلِ ] وَكُلُّهُمُ أَلُوَمُ
وإليه ذهب الأخفش وأبو عبيدة ، وضعف بعضهم هذه اللغة وبعضهم حسنها فنسبها لأَزْدِ شَنُوءَة .
وتقدمت هذه المسألة في المائدة عند قوله تعالى : { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } [ المائدة : 71 ] .
الثالث : أن يكون « الذين » مبتدأ « وأسَرُّوا » جملة خبرية قدمت على المبتدأ ويعزى للكسائي .
الرابع : أن يكون « الذين » مرفوعاً بفعل مقدر فقيل تقديره : يقول الذين ، واختاره النحاس ، قال : والقول كثيراً ما يضمر ، ويدل عليه قوله بعد ذلك : { هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } . وقيل : تقديره : أسرها الذين ظلموا .
الخامس : أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره : هم الذين ظلموا .
السادس : أنه مبتدأ وخبره الجملة من قوله : { هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ } ( ولا بد من إضمار القول على هذا القول تقديره : الذين ظلموا يقولون هل هذا إلا بشر ) والقول يضمر كثيراً . والنصب من وجهين :
أحدهما : الذم .
والثاني : إضمار « أعني » .
والجرّ من وجهين أيضاً :
أحدهما : النعت .
والثاني : البدل من « للناس » ، ويعزى هذا للفراء ، وفيه بعد .
قوله : « هَلْ هذَا » إلى قوله : « تُبْصِرونَ » يجوز في هاتين الجملتين الاستفهاميتين أن تكونا في محل نصب بدلاً من « النَّجْوَى » وأن تكونا في محل نصب بإضمار القول . قالهما الزمخشري .
وأن تكونا في محل نصب على أنهما محكيتان ب « النَّجْوَى » ، لأَنها في معنى القول « وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ » جملة حالية من فاعل « تَأْتُونَ » .
فصل
اعلم أن الله -تعالى- ذم الكفار بهذا الكلام ، وزجر غيرهم عن مثله ، لأنهم إذا استمعوا وهم يلعبون لم يحصلوا إلى على مجرد الاستماع الذي قد تشارك فيه البهيمة الإنسان ، ثم أكد ذمهم بقوله : « لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ » واللاهية من لهي عنه إذا ذهل وغفل . وقدم ذكر اللعب على اللهو كما في قوله تعالى : { إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } [ محمد : 36 ] تنبيهاً على أن اشتغالهم باللعب الذي معناه الذهول والغفلة والسخرية والاستهزاء مُعَلَّل باللهو الذي معناه الذهول ، فإنهم إنما أقدموا على اللعب لذهولهم عن الحق .
وقوله : « وَأسَرُّوا النَّجْوَى » فيه سؤال ، وهو أن النجوى اسم من التناجي ، وهو لا يكون إلا خفية ، فما معنى قوله : « وَأَسَرُّوا » ؟
فالجواب : أنهم بالغوا في إخفائها ، وجعلوها بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم .
فإن قيل : لِمَ قال : { وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ } ؟
فالجواب : أن إبدال « الَّذِينَ ظَلَمُوا » من « أسَرُّوا » إشعار بأنهم المسومون بالظلم الفاحش فيما أسروا به . أو جاء على لغة من قال : أكلوني البراغيث وقوله : { هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } قال الزمخشري : هذا الكلام كله في محل النصب بدلاً من « النَّجْوَى » أي : وَأسروا هذا الحديث ، وهو قولهم : { هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } . ويحتمل أن يكون التقدير : وَأَسروا النجوى وقالوا هذا الكلام وإِنما أسروا هذا الحديث لوجهين :
أحدهما : إنما كان ذلك شبه التشاور فيما بينهم ، والتحاور في طلب الطريق إلى هدم أمره ، وعادة المتشاورين أن يجتهدوا في كتمان سرهم عن أعدائهم .
الثاني : يجوز أن يسروا نجواهم بذاك ، ثم يقولوا لرسول الله والمؤمنين : إن كان ما تدعونه حقاً ( فَأخْبِرُونا بما أسررناه ) .
واعلم أنهم طعنوا في نبوته -عليه السلام- بأمرين :
أحدهما : أنه بشر مثلهم .
والثاني : أن الذي أتى به سحر .
وكلا الطعنين فاسد ، أما الأول ، فلأن النبوة تقف صحتها على المعجزات والدلائل لا على الصور ، إذ لو أرسل الملك إليهم لما علم كونه نبياً بصورته ، وإنما كان يعلم بالعلم ، فإذا أظهر ذلك على من هو بشر فيجب أن يكون نبياً ، بل الأولى أن يكون المبعوث إلى البشر بشراً ، لأن المرء إلى القبول من أشكاله أقرب ، وهو به أقيس . وأما الثاني وهو أن ما أتى به الرسول من القرآن ظاهره الوعيد لا مرية فيه ، ولا لبس ، وقد كان عليه السلام يتحداهم بالقرآن مدة من الزمان حالاً بعد حال ، وهم أرباب الفصاحة والبلاغة ، وكانوا في نهاية الحرص على إبطال أمره ، وأقوى الأمور في إبطال أمره معارضة القرآن ، فلو قدروا على المعارضة لامتنع أن لا يأتوا بها ، لأن الفعل عند توفر الدواعي وارتفاع الصارف واجب الوقوع ، فلما لم يأتوا بها ، لأن الفعل عند توفر الدواعي وارتفاع الصارف واجب الوقوع ، فلما لم يأتوا بها دلَّنا ذلك على أنه في نفسه معجز ، وأنهم عرفوا حاله فكيف يجوز أن يقال : إنه سحر والحال ما ذكرناه وكل ذلك يدل على انهم كانوا عالمين بصدقه إلا أنهم كانوا يوهمون على ضعفائهم بمثل هذا القول ، وإن كانوا فيه مكابرين . والمعنى : « أفَتَأْتُونَ » تحضرون « السِّحْرَ وَأَنْتُم » تعلمون أنه سحر .
قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
قوله : { قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القول } . قرأ الأخوان وحفص « قَالَ » على لفظ الخبر والضمير للرسول - صلى الله عليه وسلم .
والباقون : « قُلْ » على الأمر له .
قوله : « فِي السَّمَاءِ » فيه أوجه :
أحدها : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من القول .
والثاني : أنه حال من فاعل « يَعْلَمُ » وضعفه أبو البقاء ، وينبغي أن يمتنع .
والثالث : أنه متعلق ب « يَعْلَمُ » ، وهو قريب مما قبله . وحذف متعلق « السَّمْيِعُ العَلِيمُ » للعلم به . والمعنى : لا يخفى عليه شيء « وهو السميع » لأقوالهم « العليم » بأفعالهم . قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل : يعلم السر لقوله « وَأَسَرُّوا النَّجْوَى » قلت : القول عام يشمل السر والجهر ، فكان في العلم به العلم بالسر وزيادة ، فكان آكد في بيان الاطلاع على نجواهم من أن يقول : يعلم السر ، كما أن قوله : « يَعْلَمُ السَّرَّ » آكد من أن يقول : يعلم سرهم .
فإن قلت : لم ترك الآكد في سورة الفرقان في قوله : { قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات والأرض } [ الفرقان : 6 ] ؟ قلت : ليس بواجب أن يجيء بالآكد في كل موضع ولكن يجيء بالتوكيد تارة وبالآكد أخرى . ثم الفرق أنه قدم هنا أنهم أسروا النجوى ، فكأنه قال : إن ربي يعلم ما أسروه ، فوضع القول موضع ذلك للمبالغة ، وثم قصد وصفه ب { عَالِمِ الغيب لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ } [ سبأ : 3 ] وإنما قدم « السميع » على « العليم » لأنه لا بد من سماع الكلام أولاً ثم من حصول العلم بمعناه . قوله : « أَضْغَاثُ أًحْلاَم » خبر مبتدأ محذوف ، أي هو أضغاث والجملة نصب بالقول . واعلم أنه تعالى عاد إلى حكاية قولهم : { هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السحر } ثم قال { بَلْ قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ } فحكى عنهم هذه الأقوال الخمسة ، وترتيب كلامهم أن كونه بشراً مانع من كونه رسولاً لله . سلمنا أنه غير مانع ، ولكن لا نسلم أن هذا القرآن معجز ، ثم إما أن يساعد على أن فصاحة القرآن خارجة عن مقدور البشر ، قلنا : لم لا يجوز أن يكون ذلك سحراً ، وإن لم يساعد عليه فإن ادّعينا كونه في نهاية الركاكة ، قلنا : إنه أضغاث أحرم . وإن ادّعينا أنه متوسط بين الركاكة والفصاحة ، قلنا : إنه افتراه ، وإن ادّعينا أنه كلام فصيح ، قلنا : إنه من جنس فصاحة سار الشعر . وعلى جميع هذه التقديرات فإنه لا يثبت كونه معجزاً . ولما فرغوا من تقدير هذه الاحتمالات قالوا : { فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأولون } والمراد أنهم طلبوا منه حالة لا يتطرق إليها شيء من هذه الاحتمالات .
وقال المفسرون : إن المشركين اقتسموا القول فيه وفيما يقوله : فقال بعضهم « أضغاث أحرم » أي : أباطيلها وأهاويلها رآها في النوم .
وقال بعضهم : « بَلْ افْتَرَاهُ » أي : اختلقه . وقال بعضهم : بل محمد شاعر ، وما جاءكم به شعر « فَلْيَأْتِنَا » محمد « بِآيَةٍ » إن كان صادقاً { كَمَآ أُرْسِلَ الأولون } من الرسل بالآيات؟
قوله : « كَمَا أُرْسِلَ » يجوز في هذه الكاف وجهان :
أحدهما : أن يكون في محل نعتاً ل « آية » ، أي : بآية مثل آية إرسال الأولين ( ما ) مصدرية .
الثاني : أن يكون نعتاً لمصدر محذوف ، أي إتياناً مثل إرسال الأولين . فأجابهم الله تعالى بقوله : { مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ } أي : قبل مشركي مكة « مِنْ قَرْيَةٍ » أتتهم الآيات « أَهْلَكْنَاهَا » أي : أهلكناهم بالتكذيب « أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ إِن جاءتهم آية » . والمعنى : أنهم في العتو أشد من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات ، وعاهدوا أنهم يؤمنون عندها ، فلما جاءتهم نكثوا وخالفوا ، فأهلكهم الله ، فلو أعطيناهم ما يقترحون لكانوا أشد نكثاً .
قال الحسن : إنما لم يجابوا لأن حكم الله تعالى أن من كذب بعد الإجابة إلى ما اقترحه ، فلا بدّ من أن ينزل به عذاب الاستئصال ، وقد مضى حكمه في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة بخلافه فلذلك لم يجبهم . وتقدم الكلام في إعراب نظير قوله : { أَهْلَكْنَاهَآ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ } .
قوله : « نُوحِي إِلَيْهَم » . قرأ حفص « » نوحي « بنون العظمة بنياً للفاعل ، أي نوحي نحن والباقون بالياء وفتح الحاء مبنياً للمفعول ، وقد تقدم في يوسف . وهذه الجملة في محل نصب نعتاً ل » رِجَالاً « و » إِلَيْهِمْ « في القراءة الأولى منصوب المحل ، والمفعول محذوف ، أي : نوحي إليهم القرآن أو الذكر . ومرفوع المحلّ في القراؤة الثانية لقيامه مقام الفاعل .
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
اعلم أنه تعالى أجاب عن سؤالهم الأول وهو قولهم : { هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } بقوله :
{ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ } فبين أن هذه عادة الله في الرسل من قبل محمد - عليه السلام- ولم يمنع ذلك من كونهم رسلاً ، وإذا صح ذلك فيهم فقد ظهر على محمد مثل آياتهم .
« فاسئلوا أَهْلَ الذكر » يعني علماء أهل الكتاب حتى يعلموهم أن رسل الله الموحى إليهم كانوا بشراً ، ولم يكونوا ملائكة ، وإنام أحلهم على أولئك ، لأنهم كانوا يتابعون المشركين في معاداة الرسول ، وأمر المشركين بمُساءلة أهل الكتاب ، لأنهم إلى تصديق من لم يؤمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أقرب منهم إلى تصديق من آمن قال تعالى : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً } [ آل عمران : 186 ] فإن قيل : إذا لم يوثق باليهود والنصارى فكيف يجوز أن يأمرهم بأن يسألوهم عن الرسل؟
فالجواب : إذا تواتر خبرهم وبلغ حدّ الضرورة جاز ذلك ، لأنَّا نعلم بخير الكفار إذا تواتر كما نعلم بخبر المؤمنين . وقال ابن زيد : أراد بأهل الذمر المؤمنين ، وهو بعيد ، لأنهم كانوا طاعنين في القرآن وفي الرسول .
فأما تعلق كثير من الفقهاء بهذه الآية في أن للقاضي أن يرجع إلى فتيا العلماء وفي أن للمجتهد أن يأخذ بقول مجتهد آخر ، فبعيد ، لأن هذه الآية خطاب مشافهة ، وهي واردة في هذه الواقعة المخصوصة ، ومتعلقة باليهود والنصارى على التعيين .
قوله : { إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } جواب الشرط محذوف لدلالة ما تقدم عليه ، أي : « فَاسْأَلُوُهَم » ، ومفعولا العلم يجوز أن يراد ، أي : لا تعلمون أن ذلك كذلك ويجوز أن لا يراد ، أي : إن كنتم من غير ذوي العلم .
قوله : { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً } أي ما جعلنا الرسل جسداً ، ولم يقل : أجساداً ، لأنه اسم جنس . { لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام } هذا رد لقولهم : { مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام } [ الفرقان : 7 ] والمعنى : لم نجعل الرسل ملائكة بل جعلناهم بشراً يأكلون الطعام { وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ } في الدنيا : قوله : { لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام } في هذه الجملة وجهان :
أظهرهما : أنها في محل نصب نعتاً ل « جسداً » و « جسداً » مفرد يراد به الجمع ، وهو على حذف مضاف أي : ذوي أجساد غير آكلين الطعام ، و « جعل » يجوز أن تكون بمعنى ( صير ) فتتعدى لاثنين ثانيهما « جسداً » ويجوز أن تكون بمعنى ( خلق ) و ( أنشأ ) فتتعدى لواحد فيكون « جسداً » حالاً بتأويله بمشتق ، أي : متغذين ، لأن الجسد لا بد له من الغذاء .
وقال أبو البقاء : و « لا يأكلون » حال أخرى ، بعد « جسداً » إذا قلنا إن ( جعل تتعدى لواحد ) .
وفيه نظر . بل هو صفة ل « جسداً » بالاعتبارين ، لا يليق المعنى إلا به .
قوله : « صَدَقْنَاهُمْ الوَعدَ » صدق يتعدى لاثنين إلى ثانيهما بحرف الجر . وقد يحذف تقول : صَدَقْتُكَ الحديث ، وفي الحديث نحو أمر واستغفر وقد تقدم في « آل عمران » . قال الزمخشري : هو مثل قوله : { واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً } [ الأعراف : 155 ] والأصل في الوعد ، ومن قومه . والمعنى « صدقناهم الوعد » الذي وعدناهم بإهلاك أعدائهم ، { فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ } أي : أنجينا المؤمنين الذين صدقوا الرسل « وَأَهْلَكْنَا المُسْرَفِين » أي : المشركين المكذبين ، وكل مشرك مسرف على نفسه .
قوله : { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً } يا معشر قريش « فِيِهِ ذِكْرِكُمْ » أي شرفكم ، كما قال : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] وإنَّهُ شَرَفٌ لمن آمن به . وقال مجاهد : فيه حديثكم . وقال الحسن : « فِيهِ ذِكْرُكُمْ » أي ذكر ما تحتاجون إليه من أمور دينكم « أَفَلاَ تَعْقِلُونَ » وهذا كالحث على التدبر للقول لأنهم كانوا عقلاء ، لأن التدبير من لوازم العقل ، فمن لم يتدبر فكأنه خرج عن العقل .
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
قوله : « وَكَمْ قَصَمْنَا » « كَمْ » في محل نصب مفعولاً مقدماً ب « قَصَمْنَا » و « مِنْ قَرْيَةٍ » تمييز ، والظاهر أن « كَمْ » هنا خبرية ، لأنها تفيد التكثير . والقصم : القطع وهو الكسر الذي يبين تلازم الأجزاء بخلاف الفصم .
قوله : « كَانَتْ ظَالِمَةٌ » في محل جر صفة ل « قَرْيَةٍ » ، ولا بد من مضاف محذوف قبل « قَرْيَةٍ » أي : وكم قصمنا من أهل قرية بدليل عود الضمير في قوله : « فَلَمَّا أَحَسُّوا » ولا يجوز أن يعود على قوله « قوماً » لأنه لم يذكر لهم ما يقتضي ذلك .
فصل
لما حكى عنهم تلك الاعتراضات الساقطة ، لكونها في مقابلة ما ثبت إعجازه ، وهو القرآن ظهر لكل عاقل أن اعتراضهم كان لأجل حب الرياسة والدنيا .
والمراد بقوله : « قصمنا » أهلكنا . قال ابن عباس : المراد منه القتل بالسيوف ، والمراد بالقرية : حضور وسحول باليمن ينسب إليهما الثياب ، وفي الحديث : « كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثوبين سحولين » ، وروي « حضورين » بعث الله إليهما نبياً فقتلوه فسلط الله عليهم بختنصر كما سلطه على أهل بيت المقدس فاستأصلهم .
وروي « أنه لما أخذتهم السيوف ناداه مناد من السماء يا لثارات الأنبياء » فندموا واعترفوا بالخطأ ، و { قَالُواْ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } .
وقال الحسن : المراد عذب الاستئصال . وهذا أقرب ، أن إضافة ذلك إلى الله أقرب من إضافته إلى القائل ، ثم بتقدير أن يحمل ذلك على عذاب القتل فما الدليل على الحصر في القريتين اللتين ذكرهما ابن عباس .
وقوله : « كَانَتْ ظَالِمَةٌ » أي كافرة ، يعني أهلها « وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا » أي : أحدثنا بعد علاك أهلها « قَوْمَاً آخَرِينَ » . { فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ } أي : عذابنا بحاسة البصر { إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ } أي : يسرعون هاربين .
والركض ضرب الدابة بالرجل ، يقال : ركض الدابة يركضها ركضاً ، ومنه قوله تعالى : « ارْكُضْ بِرِجْلِكَ » . فيجوز أن يركبوا دوابّهم فيركضوها هاربين منهزمين من قريتهم لما أدركتهم مقدمة العذاب . ويجوز أن يشبهوا في سرعة عدوهم على أرجلهم بالراكبين الراكضين .
قوله : « إِذَا هًمْ » : « إذَا » هذه فجائية ، وتقدم الخلاف فيها .
و « هُمْ » مبتدأ ، و « يَرْكُضُونَ » خبره . وتقدم أول الكتاب أن أمثال هذه الآية دالة على أن « لمَّا » ليست ظرفية بل حرف وجوب لوجوب ، لأن الظرف لا بد له من عامل ، ولا عامل هنا ، لأن ما بعد « إذا » لا يعمل فيما قبلها . والجواب أنه عمل فيها معنى المفاجَأة المدلول عليه ب « إِذَا » .
والضمير في « مِنْهَا » يعود على « قَرْيَةٍ » ، ويجوز أن يعود على « بَْسَنَا » لأنه في معنى النقمة والبأساء ، فأنث الضمير حملاً على المعنى . و « مِنْ » على الأول لابتداء الغاية ، وللتعليل على الثاني .
قوله : « لا تَرْكُضُوا » أي : قيل لهم : لا تركضوا ، أي لا تهربوا . قال الزمخشري : القول محذوف ، فإن قلت : من القائل؟ قلت : يحتمل أن يكون بعض الملائكة ، أو من ثم من المؤمنين ، أو يكون خلقاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يقل ، أو بقوله رب العزة ويسمعه ملائكته لينفهم في دينهم . أو يلهمهم ذلك فيحدثوا به نفوسهم .
وقوله : { وارجعوا إلى مَآ أُتْرِفْتُمْ } من العيش الرافه والحال الناعمة . والإتراف انتظار النعمة ، وهي الترفه . وقوله : « لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونََ » تهكم بهم وتوبيخ .
قال ابن عباس : تسألون عن قتل نبيكم . وقال غيره : هذا التهكم يحتمل وجوهاً :
الأول : ارجعوا إلى نعمتكم ومساكنكم لعلكم تسألون عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم ، فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة .
الثاني : ارجعوا واجلسوا كما كنتم في مجالسكم حتى تسألكم عبيدكم ومن ينفذ فيه أمركم ونهيكم ، ويقولوا لكم : بم تأمرون ، وماذا ترسمون كعادة المخدومين .
الثالث : تسألكم الناس ما في أيديكم ويستشيرونكم في المهمات .
قوله : { فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ } اسم « زالت » « تلك » و « دعواهم » الخبر هذا هو الصواب . وقد قال الحوفي والزمخشري وأبو البقاء : يجوز العكس ، وهو مردود بأنه إذا أخفي الإعراب مع استوائهما في المسوغ لكون كل منهما اسماً أو خبراً ، وجب جعل المتقدم اسماً والمتأخر خبراً ، وهو من باب ضرب موسى عيسى وتقدم إيضاح هذا في أول سورة الأعراف فليلتفت إليه . و « تلك » إشارة إلى الجملة المقولة . قال الزمخشري : « تلك » إشارة إلى « يَا وَيْلَنَا » لإنها دعوى ، كأنه قيل : فما زالت تلك الدعوى دعواهم ، والدعوى بمعنى الدعوة ، قال تعالى : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } [ يونس : 10 ] .
وسميت دعوى ، لأنهم كانوا دعوا بالويل فقالوا : « يا ويلنا » . قال المفسرون : لم يزالون يكررون هذه الكلمة فلم ينفعهم ذلك كقوله : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [ غافر : 85 ] . « حتى جعلناهم حصيدا » الحصيد : الزرع المحصود ، أي جعلناهم مثل الحصيد ، شبههم في استئصالهم به ، كما تقول : جعلناهم رماداً أي : مثل الرماد قوله : « حَصِيداً » مفعول ثان ، لأن الجعل هنا تصيير . فإن قيل : كيف ينصب « جعل » ثلاثة مفاعيل؟ فالجواب أن « حصيداً » و « خامدين » يجوز أن يكون من باب حلو حامض ، كأنه قيل : جعلناهم جامعين بين الوصفين جميعاً . ويجوز أن يكون « خامدين » حالاً من الضمير في « جَعَلْنَاهُمْ » ، أو من الضمير المستكن في « حَصِيداً » فإنه في معنى محصود . ويجوز أن يكون في باب ما تعدد فيه الخبر نحو : « زيد كاتب شاعر » . وجوَّز أبو البقاء فيه أيضاً أن يكون صفة ل « حصيدا » ، وحصيد بمعنى محصود كما تقدم فلذلك لم يجمع . وقال أبو البقاء : والتقدير : مثل حصيد فلذلك لم يجمع كما لم يجمع « مثل » المقدر انتهى .
وإذا كان بمعنى محصودين فلا حاجة ، والمعنى : أنهم هلكوا بذلك العذاب حتى لم يبق حس ولا حركة ، وجفوا كما يجف الحصيد وخمدوا كما تخمد النار .
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض } الآية . اعلم أنه لما بين إهلاك القرية لأجل تكذيبهم أتبعه بما يدل على أنه فعل ذلك عدلاً منه ، ومجازاة على ما فعلوا فقال : { وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ } أي : وما سوينا هذا السقف المرفوع ، وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من العجائب والغرائب كما سوى الجبابرة سقوفهم وفرشهم للعب واللهو ، وإنما سويناهم لفوائد دينية ودنيوية . أما الدينية فليتفكر المكلفون فيها على ما قال : { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض } [ آل عمران : 191 ] . وأما الدنيوية فلما يتعلق بها من المنافع التي لا تعد ولا تحصى ، وهو كقوله : { وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً } [ ص : 27 ] وقوله : { مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بالحق } [ الدخان : 39 ] . وقيل : وجه النظم أن الغر منه تقرير نبوة محمد -عليه السلام- والرد على منكريه ، لأنه أظهر المعجز عليه ، فإن كان محمد كاذباً كان إظهار المعجز عليه من باب اللعب ، وذلك منفي عنه ، وإن كان صادقاً فهو المطلوب وحينئذ يفسد كل ما ذكروه من المطاعن و « لاعبين » حال من فاعل « خلقنا » .
فصل
قال القاضي عبد الجبار : دلَّت هذه الآية على أن اللعب ليس من قبله تعالى ، إذ لو كان كذلك لكان لاعباً ، فإن اللاعب في اللغة اسم لفاعل اللعب ، فنفي الاسم الموضوع لفعل يقتضي نفي الفعل . والجواب يبطل ذلك بمسألة الداعي ، وقد تقدم . قوله : { لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً } .
قال ابن عباس : في رواية عطاء : اللهو : المرأة ، وهو قول الحسن وقتادة وقال في رواية الكلبي : اللهو : الولد بلغة اليمن ، وهو قول السدي . وهو في المرأة أظهر ، لأن الوطأ يسمى لهواً في اللغة ، والمرأة محل الوطأ .
« لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ » أي : من عندنا من الحور العين لا من عندكم من أهل الأرض . وقيل : معناه لو كان ذلك جائزاً في صفته لم يتخذه بحدث يظهر لهم ويستر ذلك حتى لا يطلع عليه . وتأويل الآية : أن النصارى لما قالوا في المسيح وأمه ما قالوا رد الله عليهم بهذا ، وقال : « لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ » ، لأنكم تعلمون أن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده لا عند غيره .
قوله : { إِن كُنَّا فَاعِلِينَ } في « إِنْ » هذه وجهان :
أحدهما : أنها نافية ، أي : ما كنا فاعلين ، قاله قتادة ومقاتل وابن جريج .
والثاني : أنها شرطية ، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب « لو » عليه والتقدير : إن كنا فاعلين اتخذناه ولكنا لم نفعله ، لأنه لا يليق بالربوبية . قوله : { بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل } . « بَل » حرف إضراب عن اتخاذ اللهو واللعب وتنزيه لذاته كأنه قال : سبحاننا أن نتخذ اللهو واللعب بل من موجب حكمتنا أن نغلب اللعب بالجد وندحض الباطل بالحق .
والمعنى دع الذي قالوا فإنه كذب وباطل . و « نقذف » نرمي ونسلط قال تعالى : { وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً } [ الصافات : 8 ، 9 ] أي يرمون بالشهب . « بالحق » بالإيمان ، « على الباطل » على الكفر وقيل : الحق قول الله : إنه لا ولد له ، والبطل قولهم : اتخذ الله ولداً . قوله : « فَيَدْمَغُه » العامة على رفع الغين نسقاً على ما قبله . وقرأ عيسى بن عمر بنصبها قال الزمخشري : وهو في ضعف قوله :
3705- سَأَتْرُكُ مَنْزِلِي لِبَنِي تَمِيم ... وأَلْحَقُ بالحجاز فَأَسْتَرِيحَا
وقرئ شاذاً « فيدمغه » بضم الميم ، وهي محتملة لأن يكون في المضارع لأن يكون لغتان في المضارع لغتان يَفْعَل ويَفْعُل ، وأن يكون الأصل والضمة للإتباع في حرف الحلق .
و « يدمَغُه » أي يصيب دماغه من قولهم : دمغت الرجل ، أي ضربته في دماغه كقولهم : رأسه وكبده ورجله ، إذا أصاب منه هذه الأعضاء . وأصل الدمغ شج الرأس حتى يبلغ الدماغ . واستعار القذف والدمغ تصويراً لإبطاله به ، فجعله كأنه جرم صلب كالصخرة مثلاً قذف به على جرم رخو أجوف فدمغه : أهلكه وأذهبه { فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } ذاهب ، { وَلَكُمُ الويل } يعني من كذب الرسول ونسب القرآن إلى أنه سحر وأضغاث أحلام ، وغير ذلك من الأباطيل .
قوله : { مِمَّا تَصِفُونَ } فيه أوجه :
أحدهما : أنه متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر ، أي : استقر لكم الويل من أجل ما تصفون . و « مِنْ » تعليلية . وهذا وجه وجيه .
والثاني : أنه متعلق بمحذوف .
والثالث : أنه حال من الويل ، أي : الويل واقعاً مما تصفون ، كذا قدره أبو البقاء و « مَا » في « ممَّا تَصِفُونَ » يجوز أن تكون مصدرية فلا عائد عند الجمهور ، وأن تكون بمعنى الذي ، أو نكرة موصوفة ، ولا بد من العائد عند الجميع ، حذف لاستكماله الشروط . والمعنى : ممّا تصفون الله بما لا يليق به من الصاحبة والولد . وقال مجاهد : مما تكذبون .
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)
قوله : { وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض } الآية . لما نفى اللعب عن نفسه ، ونفي اللعب لا يصح إلا بنفي الحاجة ، ( ونفي الحاجة ) لا يصح إلا بالقدرة التامة عقب تلك الآية بقوله : { وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض } لدلالة ذلك على كمال الملك والقدرة . وقيل : لما حكى كلام الطاعنين في النبوات ، وأجاب عنها ، وبين أن غرضهم من تلك المطاعن التمرد ، وعدم الانقياد ، بين ههنا أنه تعالى منزه عن طاعتهم لأنه هو المالك بجميع المخلوقات ، ولأجل أن الملائكة مع جلالتهم مطيعون له خائفون منه فالبشر مع كونهم في نهاية الضعف أولى أن يطيعوه .
قوله : « وَمَنْ عِنْدَهُ » يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنه معطوف على « مَنْ » الأولى أخبر تعالى عن من في السموات والأرض وعن من عنده بأن الكل له في ملكه .
وعلى هذا فيكون من باب ذكر الخاص بعد العام تنبيهاً على شرفه ، لأن قوله : { مَن فِي السماوات } شمل « مَنْ عِنْدَهُ » وقد مرَّ نظيره في قوله : « وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ » وقوله : « لاَ يَسْتَكْبِرُونَ » على هذا فيه أوجه :
أحدها : أنه حال من « مَنْ » الأولى أو الثانية أو منهما معاً . وقال أبو البقاء حال إما من « مَنْ » الأولى على قول من رفع بالظرف .
يعني : أنه إذا جعلنا « مَنْ » في قوله : { وَلَهُ مَن فِي السماوات } مرفوعاً بالفاعلية والرافع الظرف وذلك على رأي الأخفش جاز أن يكون « لا يَسْتَكْبِرُونَ » حالاً من « مَنْ » الأولى ، وإما من « من » « يَسْتَكْبِرُون » حالاً وكأنه يرى أن الحال لا يجيء من المبتدأ ، وهو رأي لبعضهم . ويجوز أن يكون « لاَ يَسْتَكْبِرُونَ » حالاً من الضمير المستكن في ( عنده ) الواقع صلة وأن يكون حالاً من الضمير المستكن في « له » الواقع خبراً .
والوجه الثاني من وجهي « مَنْ » أن تكون مبتدأ و « لاَ يَسْتَكْبِرُونَ » خبره ، وهذه جملة معطوفة على جملة قبلها ، وهل الجملة من قوله : { وَلَهُ مَن فِي السماوات } استئنافية أو معادلة لجملة قوله : « وَلَكُمُ الويل » أي لكم الويل ولله جميع العالم علويه وسفليه والأول أظهر { وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ } أي : لا يكلون ولا يتعبون ، يقال : استحسر البعير أي : كلَّ وتَعِب قال علقمة بن عبدة :
3706- بِهَا جِيَفُ الحَسْرَى فَأَمَّا عِظَامُهَا ... فَبِيضٌ وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ
ويقال : حَسِرُ البعر وحسرته أنا ، فيكون لازماً ومتعدياً ، وأحسرته أيضاً ، فيكون فعل وأفعل بمعنى في أحد وجهي فعل .
قال الزمخشري : فإن قلت : الاستحسار مبالغة في الحسور ، فكان الأبلغ في وصفهم أن ينفي عنهم أدنى الحسور . قلت : في الاستحسار بيان أن ما هم فيه يوجب غاية الحسور وأقصاه ، وأنهم أحقاء لتلك العبادات الشاقة بأن يستحسروا فبما يفعلون .
وهو سؤال حسن وجواب مطابق . قوله : « يُسَبِّحُون » يجوز أن يكون مستأنفاً ، وأن يكون حالاً من الفاعل في الجملة قبله . و « لاَ يَفْتَرُون » يجوز في الاستئناف ، والحال من فاعل « يُسَبِّحُون » .
فصل
دلَّت هذه الآية على أن الملك أفضل من البشر من ثلاثة أوجه تقدمت في البقرة . والمراد بقوله : « وَمَنْ عِنْدَهُ » هم الملائكة بالإجماع وصفهم الله تعالى بأنهم { يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ } وهذا لا يليق بالبشر ، وهذه العندية عندية الشرف لا عندية المكان والجهة . روى عبد الله بن الحارث بن نوفل قال : قلت لكعب : أرأيت قول الله تعالى : { يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ } ثم قال : { جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً } [ فاطر : 1 ] أفلا تكون الرسالة مانعة لهم عن هذا التسبيح ، وأيضاً قال : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملاائكة } [ البقرة : 161 ] فكيف يشتغلون باللعن حال اشتغالهم بالتسبيح؟ أجاب كعب الأحبار وقال : التسبيح لهم كالتنفس لنا ، فكما أن اشتغالنا بالتنفس لا يمنعنا الكلام فكذلك اشتغالهم بالتسبيح لا يمنعهم من سائر الأعمال .
فإن قيل : هذا القياس غير صحيح ، لأن الاشتغال بالتنفس إنما لم يمنع من الكلام؛ لأن آلة التنفس غير آلة الكلام ، وأما التسبيح واللعن فهما من جنس الكلام فاجتماعهما محال . فالجواب : أي استبعاد في أن يخلق الله لهم ألسنة كثيرة ببعضها يسبح الله وببعضها يلعنون أعداء الله . أو يقال : معنى قوله : « لاَ يَفْتَرُونَ » أنهم لا يفترون عن العزم على أدائه في أوقاته اللائقة به كما يقال : إن فلاناً مواظب على الجماعة لا يفتر عنها ، لا يراد به أنه أبداً مشتغل بها ، بل يراد به أنه مواظب على العزم على أدائها في أوقاتها .
قوله تعالى : « أمِ اتَّخَذُوا » هذه « أَمْ » المنقطعة ، فتقدر ب ( بل ) التي لإضراب الانتقال وبالهمزة التي معناها الإنكار . و « اتخذ » يجوز أن يكون بمعنى ( صنع ) فيتعلق « مِنْ » به وجوَّز أبو حيَّان أن يكون بمعنى ( صَيَّر ) التي في قوله { واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } [ النساء : 125 ] ، فقال : وفيه معنى الاصطفاء والاختيار . و « مِنَ الأرْضِ » يجوز أن يتعلق بالاتخاذ كما تقدم ، وأن يتعلق بمحذوف على أنها نعت ل « ألِهَة » أي من جنس الأرض .
قوله : « هُمْ يَنْشِزُون » بضم حرف المضارعة من أنشر . وقرأ الحسن بفتحها وضم الشين يقال : أنشر الله الموتى فنشروا . ونشر لا يكون لزماً ومتعدياً . قوله : { أَمِ اتخذوا آلِهَةً } استفهام بمعنى الجحد أي لم يتخذوا من الأرض يعني : الأصنام من الأرض والحجارة ، وهما من الأرض ، والمنكر بعد اتخاذهم آلهة من الأرض ينشرون الموتى . فإن قيل : كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة تنشر ، وما كانوا يدعون ذلك لآلهتهم بل كانوا في نهاية البعد عن هذه الدعوى ، فإنهم كانوا مع إقرارهم بالله وأنه خالق السموات والأرض منكرين للبعث ، ويقولون :
{ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ } [ يس : 78 ] فكيف يدعون ذلك للجماد الذي لا يوصف بالقدرة البتة؟ فالجواب : أنهم لما اشتغلوا بعبادتها ، ولا بد للعبادة من فائدة ، وهي الثواب ، فإقدامهم على عبادتهم يوجب إقرارهم بكونهم قادرين على الحشر والنشر والثواب والعقاب ، فذكر ذلك على سبيل التهكم بهم ، والمعنى : إذا لم يكونوا قادرين على أن يُحْيوا أو يميتوا ويضروا وينفعوا فأي عقل يجوز اتخاذهم آلهة .
وقوله : « مِنَ الأرْضِ » كقولك : فلان من مكة أو من المدينة . وقوله : « هم » يفيد معنى الخصوصية كأنه قيل : أن اتخذوا آلهة لا يقدرون على الإنشار إلا هم وحدهم .
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
قوله : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } وإلا هنا صفة للنكرة قبلها بمعنى « غير » ، والإعراب فيها متعذر فجعل على ما بعدها . وللوصف بها شروط منها : تنكير الموصوف ، أو قربه من النكرة بأن يكون معرفاً ب ( أل ) الجنسية .
ومنها أن يكون جمعاً صريحاً كالآية أو ما في قوة الجمع كقوله :
3707- لَوْ كَانَ غَيْرِي سُلَيْمَى الدَّهْر غَيَّرَهُ ... وَقْعُ الحَوَادِثِ إِلا الصَّارِمُ الذَّكَرُ
ف ( إلا الصارم ) صفة ل « غيري » ، لأنه في معنى الجمع . ومنها : أن لا يحذف موصوفها عكس ( غير ) ، وأنشد سيبويه على ذلك قوله :
3708- وَكلُّ أَخٍ مَفارِقُهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلاَّ الفَرْقَدَانِ
أي : وكل أخ لك غير الفرقدين مفارقه أخوه .
وقد وقع الوصف ب « إلا » كما وقع الاستثناء ب « غير » ، والأصل في « إلا » الاستثناء وفي « غير » الصفة . ومن مُلَح الكلام الزمخشري : والعم أن ( إلا ) و ( غير ) يتقارضان . ولا يجوز أن يرتفع الجلالة على البدل . قلت لأن « لو » بمنزلة « إن » في أن الكلام معها موجب ، والبدل لا يسوغ إلا في الكلام غير الموجب كقوله تعالى { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امرأتك } [ هود : 81 ] وذلك لأن أعم العام يصح نفيه ، ولا يصح إيجابه .
فجعل المانع صناعياً مستنداً إلى ما ذكر من عدم صحّة إيجاب أعم العام . وأحسن من هذا ما ذكره أبو البقاء من جهة المعنى قال : ولا يجوز أن يكون بدلاً ، لأن المعنى يصير إلى قولك : لَوْ كَانَ فِيهِمَا الله لفسدتا ألا ترى أنك لو قلت : ما جاءني قومك إلا زيد على البدل لكان المعنى : جاءني زيد وحده .
ثم ذكر الوجه الذي رد به الزمخشري فقال : وقيل يمتنع البدل ، لأن قبلها إيجاباً . ومنع أبو البقاء النصب على الاستثناء لوجهين :
أحدهما : أنه فاسد في المعنى ، وذلك أنك إذا قلت : لو جاءني القوم إلا زيداً لقتلهم ، كان معناه أن القتل امتنع لكون زيد مع القوم ، ولو نصبت في الآية لكان المعنى : أن فساد السموات والأرض امتنع لوجود الله تعالى مع الآلهة ، وفي ذلك إثبات إله مع الله . وإذا رفعت على الوصف لا يلزم مذل ذلك ، لأن المعنى لو كان فيهما غير الله لفسدتا .
والوجه الاثني : أن « آلهة » هنا نكرة ، والجمع إذا كان نكرة لم يستثن منه عند جماعة من المحققين ، إذ لا عموم له بحيث يدخل فيه المستثنى لولا الاستثناء . وهذا الوجه الذي معناه ، أعني الزمخشري وأبا البقاء ، قد أجاز المبرد وغيره أما المبرد فإنه قال : جاز البدل ، لأن ما بعد « لو » غير موجب في المعنى والبدل في غير الموجب أحسن من الوصف .
وفي هذا نظر من جهة ما ذكره أبو البقاء من فساد المعنى :
وقال ابن الضائع تابعاً للمبرد : لا يصح المعنى عندي إلا أن تكون « إلا » في معنى ( غير ) التي يراد بها البدل ، أي : لو كان فيهما آلهة عوض واحد ، أي : بدل الواحد الذي هو الله لفسدتا ، وهذا المعنى أراد سيبويه في المسألة التي جاء بها توطئة . وقال الشلوبين في مسألة سيبويه : « لو كان معنا رَجُلٌ إلاَّ زَيْدٌ لَغُلِبْنَا » إن المعنى : لَوْ كَانَ مَعَنَا رَجُلٌ مكان زيد لغلبنا ، ف « إلا ) بمعنى ( غير ) التي بمعنى مكان . وهذا أيضاً جنوح من أبي علي إلى البدل . وما ذكره ابن الضائع من المعنى المتقدم مسوغ للبدل ، وهو جواب عنا أفسد به أبو البقاء وجه البدل إذ معناه واضح ، ولكنه قريب من تفسير المعنى لا من تفسير الإعراب .
فصل
المعنى لو كان يتولاهما ، ويدبر أمرهما شيء غير الواحد الذي فطرهما لفسدتا ولا يجوز أن تكون » إلا « بمعنى الاستثناء ، لأنها لو كانت استثناء لكان المعنى : لو كان فيهما آلهة ليس معهم الله لفسدتا ، وهذا يوجب بطريق المفهوم أنه لو كان فيهما آلهة معهم الله أن لا يحصل الفساد ، وذلك باطل ، لأنه لو كان فيهما آلهة فسواء كان الله معهم ، أو لم يكن الله معهم فالفساد لازم . ولما بطل حمله على الاستثناء ثبت ما ذكرنا . وهو أن المعنى : لو كان في السماء والأرض آلهة غير الله لفسدتا ، أي لخربتا ، وهلك من فيهما بوجود التمانع من الآلهة ، لأن كل أمر صدر عن اثنين فأكثر لم يجر على النظام . ويدل العقل على ذلك من وجوه :
الأول : أنا لو قدرنا إلهين لكان أحدهما إذا انفرد صح منه تحريك الجسم وإذا انفرد الثاني صح منه تسكينه ، فإذا اجتمعا وجب أن يبقيا على ما كان عليه حال الانفراد ، فعند الاجتماع يصح أن يحاول أحدهما التحريك والآخر التسكين فإما أن يحصل المرادان ، وهو محال ، وإما أن يمتنعا وهو أيضاً محال ، لأنه يكون كل واحد منهما عاجزاً ، وأيضاً المانع من تحصيل مراد كل واحد منهما مراد الآخر ، والمعلول لا يحصل إلا مع علته ، فلو امتنع المرادان لحصلا ، وذلك محال وإما أن يمتنع أحدهما دون الثاني ، وذلك أيضاً محال ، لأن الممنوع يكون عاجزاً ، والعاجز لا يكون إلهاً ، ولأنه لما كان كل واحد منهما مستقلاً بالإيجاد لم يكن عجز أحدهما أولى من عجز الآخر ، فثبت أن القول بوجود إلهين يوجب هذه الأقسام الفاسدة فكان القول به باطلاً .
الوجه الثاني : أن الإله يجب أن يكون قادراً على جميع الممكنات ، فلو فرضنا الإلهين لكان كل واحد منهما قادراً على جميع الممكنات ، فإذا أراد كل واحد منهما تحريك جسم فتلك الحركة إما أن تقع بهما معاً ولا تقع بواحد منهما أو تقع بواحد منهما أو تقع بأحدهما دون الثاني ، والأول محال ، لأن الأثر مع المؤثر المستقل واجب الحصول ، ووجوب حصوله به يمنع من استناده إلى الاثني ، فلو اجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان يلزم أن يستغني بكل واحد منهما عن كل واحد منهما ، فيكون محتاجاً إليهما ، وغنيَّا عنهما وهو محال ، وإما أن لا يقع بواحد منهما ألبتة ، فهذا يقتضي كونهما عاجزين ، وأيضاً فامتناع وقوه بهذا إنما يكون لأجل وقوعه بذاك وبالضد ، فلو امتنع وقوعه بهما معاً وهو محال ، وإما أن يقع بأحدهما دون الثاني فهو باطل ، لأن وقوعه بهما لوقع بهما معاً وهو محال ، وإما أن يقع بأحدهما دون الثاني فهو باطل ، لأن وقوعه بهذا يلزم فيه رجحان أحد الإلهين على الآخر من غير مرجح ، وهو محال .
الوجه الثالث : لو قدرنا إلهين فإما أن يتفقا أو يختلفا ، فإن اتفقا على الشيء الواحد فذلك الواحد مقدور لهما ومراد لهما فيلزم وقوعه بهما وهو محال ، وإن اختلفا فإما أن يقع المرادان أو لا يقع واحد منهما ، أو يقع أحدهما دون الآخر والكل محال ، فثبت أن الفساد لازم على كل التقديرات .
وذكروا وجوهاً أخر عقلية وفي هذا كفاية .
ثم إنه تعالى نزه نفسه فقال : { فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ } أي : عما يصفه به المشركون من الشرك والولد .
فإن قيل : أي فائدة لقوله تعالى : { رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ } .
فالجواب : أن هذه المناظرة وقعت مع عبدة الأصنام ، وهي أنه كيف يجوز للعاقل أن يجعل الجماد الذي لا يعقل ولا يحس شريكاً في الإلهية لخالق العرش العظيم وموجد السموات والأرضين .
قوله : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } اعلم أن أهل السنة استدلوا على أنه تعالى لا يسأل عما يفعل بأمور :
أحدها : أنه لو كان كل شيء معللاً بعلة كانت تلك العلة معللة بعلة أخرى ولزم التسلسل ، فلا بد في قطع التسلسل من الانتهاء إلى ما يكون غنياً عن العلة ، وأولى الأشياء بذلك ذات الله تعالى ، وصفاته مبرأة من الافتقار إلى المبدع المخصص ، فكذا فاعليته يجب أن يجب أن تكون مقدسة عن الاستناد إلى الموجب والمؤثر .
وثانيها : أن فاعليته لو كانت معللة بعلة لكانت تلك العلة إما أن تكون واجبة ممكنة ، فإن كانت واجبة لزم من وجوبها وجوب كونها فاعلاً ، وحينئذ يكون موجباً بالذات لا فاعلاً باختيار . وإن كانت ممكنة كانت تلك العلة فعلاً لله تعالى فيفتقر فاعليته لتلك العلة إلى علة أخرى ولزم التسلسل وهو محال .
وثالثها : أن علة فاعلية الله تعالى للعالم إن كانت قديمة لزم أن تكون فاعليته للعالم قديمة ، فيلزم قدم العالم وإن كانت محدثة افتقرت إلى علة أخرى ولزم التسلسل .
ورابعها : أنه إن فعل فعلاً لغرض فإما أن يكون متمكناً من تحصيل ذلك الغرض بدون تلك الواسطة ، أو لا يكون متمكناً منه .
فإن كان متمكناً منه كان توسط تلك الواسطة عبثاً . وإن لم يكن متمكناً منه كان عاجزاً ، والعجز على الله تعالى محال ، وأما العجز علينا فغير ممتنع ، فلذلك كانت أفعالنا معللة بالأغراض وذلك في حق الله تعالى محال .
وخامسها : لو كان فعلاً معللاً بغرض لكان ذلك الغرض إما أن يكون عائداً إلى الله تعالى أو إلى العباد ، والأول محال ، لأنه منزه عن النفع والضر ، وإذا بطل ذلك تعين أن الغرض لا بد وان يكون عائداً إلى العباد ، ولا غرض للعباد إلا حصول اللذة وعدم حصول الآلام ، والله تعالى قادر على تحصيلها ابتداء من غير واسطة ، وإذا كان كذلك استحال أن يفعل شيئاً لأجل شيء .
وسادسها : أن الموجودات ملكه ، ومن تصرف في ملك نفسه لا يقال له : لم فعلت ذلك؟
وسابعها : أن من قال لغيره : لم فعلت ذلك؟ فهذا السؤال إنما يحسن حيث يكون للسائل على المسؤول حكم على فعله ، وذلك في حق الله تعالى محال ، فإنه لو فعل أي فعل شاء فالعبد كيف يمنعه عن ذلك بأن يهدده بالعقاب؟ فذلك على الله محال ، وإن هذه باستحقاق الذم والخروج عن الحكمة والاتصاف بالسفاهة على ما يقوله المعتزلة فذلك أيضاً محال ، لأنه مستحق للمدح والاتصاف بصفات الحكمة والجلال . فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز أن يقال لله في أفعاله : لم فعلت؟ وإنّ كل شيء صنعه لا علة لصنعه . وأما المعتزلة فإنهم سلموا أنه يجوز أن يقال : الله عالم بقبح القبيح ، وعلام بكونه غنياً عنها ، ومن كان كذلك لم يجز للعبد أن يقول لله : لم فعلت هذا؟ ثم قال تعالى : « وهُمْ يُسْأَلُونَ » وهذا يدل على كون المكلفين مسؤولين عن أفعالهم . واعلم أن منكري التكليف احتجوا على قولهم بوجوه :
أحدها : قالوا : التكليف إما أن يتوجه على العبد حال استواء داعيته إلى الفعل والترك ، أو حال رجحان أحدهما على الآخر ، والأول محال ، لأن حال الاستواء يمنع الترجيح ، وحال امتنع الترجيح يكون تكليفاً بالمحال . والثاني محال ، لأن حال الرجحان يكون الراجح واجب الوقوع ، وإيقاع ما هو ممتنع الوقوع تكليف ما لا يطاق .
وثانيها : قالوا : كل ما علم الله وقوعه فهو واجب ، فيكون التكليف به عبثاً ، وكل ما علم الله عدمه كان ممتنع الوقوع ، فيكوت التكليف به تكليفاً لا يطاق .
وثالثها : قالوا : سؤال العبد إما أن يكون لفائدة أو لا لفائدة ، فإن كان لفائدة فإن عادت إلى العبد فهو محال ، لأن سؤاله لما كان سبباً للعقاب لم يكن نفعاً عائداً إلى العبد بل ضرر عائد إليه . وإن لم يكن في سؤاله فائدة كان عبثاً ، وهو غير جائز على الحكيم ، بل كان إضراراً وهو غير جائز على الرحيم .
والجواب من وجهين :
الأول : أن غرضكم من إيراد هذه الشبه النافية للتكليف أن تلزمونا نفي التكليف فكأنكم كلفتمونا بنفي التكليف ، وهذا متناقض .
والثاني : أن مدار كلامكم في هذه الشبهات على حرف واحد ، وهو أن التكاليف كلها تكليف ( بما لا يطاق ) فلا يجوز من الحكيم أن يوجهها على العباد ، فيرجح حاصل هذه الشبهات إلى أنه يقال لله تعالى : لِمَ كلفت عبادك ، إلا أنَّا قد بيَّنا أنه سبحانه { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } ، فظهر بهذا أن قوله : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } أصل لقوله : { وَهُمْ يُسْأَلُونَ } فتأمل هذه الدقائق العجيبة لتقف على طرف من أسرار علم القرآن . فإن قيل : { وَهُمْ يُسْأَلُونَ } متأكد بقوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 92 ] وبقوله : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } [ الصافات : 24 ] إلا أَنَّهُ يناقضه قوله : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } [ الرحمن : 39 ] .
فالجواب : أن يوم القيامة طويل وفيه مقامات ، فيصرف كل واحد من السلب والإيجاب إلى مقام دفعاً للتناقض .
فصل
قالت المعتزلة : ( فيه وجوه :
أحدها ) : أنه تعالى لو كان هو الخالق للحسن والقبيح لوجب أن يسأل عما يفعل ، بل كان يذم بما من حقه الذم ، كما يحمد بما من حقه الحمد .
وثانيها : أنه يجب أن يسأل عن المأمور به إذ لا فاعل سواء .
وثالثها : أنه لا يجوز أن يسألوا عن علمهم إذ لا عمل لهم .
ورابعها : أن علمهم لا يمكنهم أن يعدلوا عنه من حيث إنه خلقه وأوجده فيهم .
وخامسها : أنه تعالى صرح في كثير من المواضع أنه يقبل حجة العباد لقوله : { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل } [ النساء : 165 ] .
وهذا يقضي أن لهم عليه حجة قبل بعثة الرسل ، وقال : { وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لولاا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً } [ طه : 134 ] ونظائر هذه الآيات كثيرة ، وكلها تدل على ان حجة العبد متوجهة على الله تعالى .
والجواب هو المعارضة بمسألة الداعي ومسألة العلم ثم بالوجوه المتقدمة التي بينا فيها أنه يستحيل طلب عِلِّيَّة أفعال الله تعالى .
فصل
في تعلق هذه الآية بما قبلها ، وهو أن كل من أثبت الله تعالى شريكاً ليس عمدته إلا طلب اللمية في أفعال الله تعالى ، وذلك لأن الثنوية والمجوس وهم الذين أثبتوا الشريك لله تعالى ، قالوا : رأينا في العالم خيراً وشراً ، ولذة وألماً ، وحياة وموتاً ، وصحة وسقماً ، وغنى وفقراً ، وفاعل خير وفاعل شر ، ويستحيل أن يكون الفاعل الواحد خيراً وشرّيراً معاً ، فلا بد من فاعلين ليكون أحدهما فاعلاً ( للخير والآخر للشر ) ، فرجع حاصل هذه القسمة إلى أن مدبر العالم لو كان واحداً فلم خصَّ هذا بالحياة والصحة والغنى ، وخصَّ هذا بالموت والألم والفقر . فيرجع حاصلة إلى طلب اللمية . لا جرم أنه تعالى بعد أن ذكر الدليل على التوحيد ذكر ما هو النكتة الأصلية في الجواب عن شبهة القائلين بالشريك ، لأن الترتيب الجيد في المناظرة أن يبتدأ بذكر الدليل المثبت للمطلوب ، ثم يذكر بعده الجواب عن شبهة الخصم .
قوله تعالى : { أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً } استعظام لكفرهم ، وهو استفهام إنكار وتوبيخ . { قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } إما من جهة العقل وإما من جهة النقل ، واعلم أنه تعالى لما ذكر دليل التوحيد أولاً ، وقرر الأصل ، الذي عليه تخرج شبهات القائلين بالتثنية أخذ يطالبهم بدليل شبهتهم . قوله : { هذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ } العامة على إضافة « ذِكْرُ » إلى « مَنْ » أضاف المصدر إلى مفعوله كقوله تعالى « بِسُؤَالِ نَعْجَتِك » . وقرئ « ذِكْرٌ » بالتنوين فيهما و « مَنْ » مفتوحة الميم . نوّن المصدر ونصب به المفعول ( كقوله تعالى ) { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14 ، 15 ] . وقرأ يحيى بن يعمر « ذِكْرٌ » بتنوينهما و « مِنْ » بكسر الميم ، وفيه تأويلان :
أحدهما : أن ثم موصوفاً محذوفاً قامت صفته وهي الظرف مقامه ، والتقدير : هذا ذكر من كتاب معي ومن كتاب قبلي .
والثاني : أن « مَعِيَ » بمعنى عندي . ودخول « من » على « مع » في الجملة نادر ، لأنها ظرف لا يتصرف .
وقد ضعف أبو حاتم هذه القراءة ، ولم ير لدخول « من » على « مع » وجهاً .
ووجهه بعضهم بأنه اسم هو ظرف نحو ( قبل وبعد ) فكما تدخل ( من ) على أخواته كذلك تدخل عليه . وقرأ طلحة : « ذِكْرٌ مَعِي وذِكْرٌ قَبْلِي » بتنوينهما دون ( من ) فيهما . وقرأ طائفة « ذِكْرُ مَنْ » بالإضافة ل « من » كالعامة { وَذِكْرُ مَن قَبْلِي } بتنوينه وكسر ميم « من » ووجهها واضح مما تقدم .
فصل
قال ابن عباس « هذا ذكر من معي » أي : هو الكتاب المنزل على من معي ، « وهذا ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي » أي : الكتاب الذي نزل على من تقدمني من الأنبياء وهذه التوراة والإنجيل والزبور والصحف . وليس في شيء منها أني أذنت بأن تتخذوا إلهاً من دوني بل ليس فيها إلا أنني أنا الله لا إله إلا أنا كما قال بعد هذا : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون } . وهذا اختيار القفال والزجاجا .
وقال سعيد بن جبير وقتادة ومقاتل والسدي : معناه : القرآن ذكر من معي فيه خبر من معي على ديني ، ومن يتبعني إلى يوم القيامة بما لهم من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ، وذكر خبر من قبلي من الأمم السالفة ما فعل بهم في الدنيا وما يفعل بهم في الآخرة . وقال القفال : المعنى : قل لهم : هذا الكتاب الذي جئتكم به قد اشتمل على أحوال لمن معي من المخالفين والموافقين ، فاختاروا لأنفسكم ، فكأن الغرض منه التهديد .
ثم قال : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحق } لما طالبهم بالدلالة على ما ادعوه ، وبين أنه لا دليل لهم البتة لا من جهة العقل ولا من جهة السمع ، ذكر بعده أن وقوعهم في هذا المذهب الباطل ليس لأجل دليل ساقهم إليه بل لأن عندهم أصل الشر والفساد وهو عدم العلم والإعراض عن استماع الحق .
العامة على نصب « الحَقَّ » وفيه وجهان :
أظهرهما : أنه مفعول به بالفعل قبله .
والثاني : أنه مصدر مؤكد . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون المنصوب أيضاً على التوكيد لمضمون الجملة لسابقة كما تقول : هذا عبد الله الحق لا الباطل فأكد انتقاء العلم . وقرأ الحسن وابن محيصن وحميد برفع وحميد برفع « الحَقُّ » وفيه وجهان :
أحدهما : أنه خبر لمبتدأ مضمر .
قال لزمخشري « وقرئ » الحَقُّ « بالرفع على توسط التوكيد بين السبب والمسبب والمعنى أن إعراضهم بسبب الجهل هو الحق لا الباطل .
قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ } الآية . اعلم أن هذه الآية مقررة لما سبقها من آيات التوحيد . وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم » نُوحِي « بالنون وكسر الحاء على التعظيم لقوله » « أَرْسَلْنَا » وقرأ الآخرون بالياء وفتح الحاء على الفعل المجهول .
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
قوله : { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً } الآية .
لما بيَّن بالدلائل القاهرة كونه منزهاً عن الشريك والضد والند أردف ذلك ببراءته عن اتخاذ الولد .
قال المفسرون : نزلت في خزاعة حيث قالوا : الملائكة بنات الله ، وقالوا : إنه تعالى صاهر الجن على ما حكى الله تعالى عنهم فقال : { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً } [ الصافات : 158 ] . ثم إنه تعالى نزه نفسه عن ذلك بقوله : « سبحانه » ، لأن الولد لا بد وأن يكون شبيهاً بالوالد ، فلو كان لله ما يشبهه من بعض الوجوه فلا بد وأن يخالفه من وجه آخر ، وما به المشاركة غير ما به الممايزة فيقع التركيب في ذات الله تعالى ، وكل مركب ممكن ، فاتخذاه للولد يدل على كونه ممكناً غير واجب ، وذلك يخرجه عن حد الإلهية ويدخله في حد العبودية ، فلذلك نزه نفسه . قوله : « بَلْ عِبَادٌ » « عِبَاد » خبر مبتدأ مضمر ، أي هم عباد ، و « مُكْرَمُونَ » في قراءة العامة مخفف ، وقراءة عكرمة مشدد و « لا يَسْبِقُونَهُ » جملة في محل رفع صفة ل « عباد » والعامة على كسر الباء في « يَسْبِقُونَهُ » وقرئ بضمها وخرجت على أنه مضارع سَبَقَهُ ، أي : غلبه في السبق ، يقال : سابقه فَسَبَقَه يَسْبُقُه أي : غلبه في السبق ، ومضارع فعل في المغالبة مضموم العين مطلقاً إلا في يائيّ العين أو لامه والمراد لا يسبقونه بقوله ، فعوض الألف واللام عن الضمير عند الكوفيين ، والضمير محذوف عند البصريين أي : بالقول منه .
فصل
لما نزه تعالى نفسه أخبر عنهم بأنهم عباد ، والعبودية تنافي الولادة إلا أنهم مكرمون مفضلون على سائر العباد لا يسبق قولهم قوله ، وإن كان قولهم تابع لقوله فعملهم أيضاً مبني على أمره لا يعلمون عملاً ما لم يؤمروا به ثم إنه تعالى ذكر ما يجري مجرى السبب لهذه الطاعة فقال : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } والمعنى أنهم لما علموا كونه سبحانه عالماً بجميع المعلومات علموا كونه عالماً بظواهرهم وبواطنهم ، فكان ذلك داعياً لهم إلى نهاية الخضوع وكما لالعبودية . قال ابن عباس : يعلم ما قدموا وأخروا من أعمالهم . وقال مقاتل : بعلم ما كان قبل ان يخلقهم ، وما يكون بعد خلقهم .
وقيل : { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } الآخرة ، « وَمَا خَلْفَهُمْ » الدنيا . وقيل بالعكس ثم قال : { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى } أي لمن هو عند الله مرضي . قاله مجاهد ، وقال ابن عباس : لمن قال لا إله إلا الله . { وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ } أي : من خشيتهم منه ، فأضيف المصدر إلى مفعوله . « مُشْفقُونَ » خائفون لا يأمنون من مكره ، ونظيره قوله تعالى { لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن } [ النبأ : 38 ] .
« وروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - » أنه رأى جبريل - عليه السلام- ليلة المعراج ساقطاً كالحلس من خشية الله « .
قوله : { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ } .
قال قتادة : عنى إبليس حيث دعا إلى عبادة نفسه وأمر بطاعة نفسه فإن أحداً من الملائكة لم يقل إني إلهٌ من دون الله .
والآية لا تدل على أنهم قالوا ذلك أو ما قالوه ، وهذا قريب من قوله : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] قوله : » فذلك نجزيه « يجوز في » ذلك « وجهان :
أحدهما : أنه مرفوع بالابتداء ، وهذا وجه حسن .
والثاني : أنه منصوب بفعل مقدر يفسره هذا الظاهر ، والمسألة من باب الاشتغال ، وفي هذا الوجه إضمار عامل مع الاستغناء عنه ، فهو مرجوح .
والفاء وما في حيزها في موضع جزم جواباً للشرط .
و » كذلك « نعت لمصدر محذوف ، أو حال من ضمير المصدر أي جزاء مثل ذلك الجزاء ، أو نجزي الجزاء حال كونه مثل ذلك .
وقرأ العامة » نَجْزِيه « بفتح النون ، وأبو عبد الرحمن المقرئ بضمها ، ووجهها أنه من أجزأ بالهمز من أجزائي كذا ، أي : كفاني ، ثم خففت الهمزة فانقلبت إلى الياء .
فصل
احتجت المعتزلة بقوله : { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى } على أن الشفاعة في الآخرة لا تكون لأهل الكبائر ، لأنه لا يقال في أهل الكبائر : إن الله يرتضيهم .
والجواب : قول ابن عباس والضحاك : أن معنى { إِلاَّ لِمَنِ ارتضى } أي لمن قال : لا إله إلا اله . وهذه الآية من أقوى الدلائل في إثبات الشفاعة لأهل الكبائر ، وهو أن من قال لا إله إلا اله فقد ارتضاه الله في ذلك ، ومتى صدق عليه أنه ارتضاه الله في ذلك ( فقد صدق عليه أنه ارتضاه الله ) وإذا ثبت الله سبحانه قد ارتضاه وجب اندراجه تحت هذه الآية ، فثبت بما ذكرنا أن هذه الآية من أقوى الدلائل لنا على ما قرره ابن عباس .
فصل
دلَّت الآية على أن الملائكة مكلفون لقوله : { وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } ، وعلى أن الملائكة معصومون . قوله : { كَذَلِكَ نَجْزِي الظالمين } قال القاضي عبد الجبار : هذا يدل على أن كل ظالم يجزيه الله جهنم ، كما توعد الملائكة به ، وذلك يوجب القطع بأنه تعالى لا يغفر الكبائر في الآخرة . وأجيب بأن أقصى ما فيه أن هذا العموم مشعر بالوعيد ، وهو معارض بعمومات الوعد .
والمراد ب » الظَّالِمينَ « الواضعين الإلهية والعبادة في غير موضعها .
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا } الآيات . اعلم أنه تعالى شرع الآن في الدلائل الدالة على وجود الصانع ، وعلى كونه منزهاً عن الشريك ، وعلى التوحيد ، فتكون كالتوكيد لما تقدم ، لأنها دالة على حصول الترتيب العجيب في العالم ، ووجود إلهين يقتضي وقوع الفساد . وفيه رَدٌّ على عبدة الأوثان من حيث أن الإله القادر على مثل هذه المخلوقات العظيمة ، كيف يجوز في العقل أن يعدل عن عبادته إلى عبادة حجر لا يضر ولا ينفع؟ فهذا وجه النظم . قرأ ابن كثير « أَلَمْ يَرَ » من غير واو ، والباقون بالواو . ونظير حذف الواو وإثباتها هنا ما تقدم في البقرة وآل عمران في قوله : { قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً } [ البقرة : 116 ] { سارعوا إلى مَغْفِرَةٍ } [ آل عمران : 133 ] ، وقد تقدم حكمه ، وإدخال الواو يدل على العطف على آخر تقدمه . والرؤية هنا يجوز أن تكون قلبية ، وأن تكون بصرية . ف « أَنَّ » وخبرها سادة مسد مفعولين عند الجمهور على الأول ، ومسد واحد والثاني محذوف عند الأخفش . وسادة مسد واحد قط على الثاني . فإن قيل : إن كان المراد بالرؤية البصرية فمشكل ، لأن القوم ما رأوهم كذلك ألبتة ، ولقوله تعالى : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض } [ الكهف : 51 ] . وإن كان المراد بالرؤية العلم فمشكل ، لأن الأجسام قابلة للفتق والرتق في أنفسها فالحكم عليها بالرتق أولاً وبالفتق ثانياً لا سبيل إليه إلا بالسمع والمناظرة مع الكفار المنكرين للرسالة ، فكيف يجوز مثل هذا الاستدلال .
فالجواب : المراد من الرؤية العلم ، وما ذكروه من السؤال فدفعه من وجوه :
أحدها : أنا نثبت نبوة محمد - عليه السلام- بسائر المعجزات ، قم نستدل بقوله ، ثم نجعله دليلاً على حصول النظام في العالم ، وانتفاء الفساد عنه ، وذلك يؤكد الدلالة المذكورة في التوحيد .
وثانيها : أن يحمل الرتق والفتق على إمكان الرتق والفتق ، والعقل يدل عليه لأن الأجسام يصح عليها الاجتماع والافتراق فاختصاصها بالاجتماع دون الافتراق أو بالعكس يستدعي مخصصاً .
وثالثها : أن اليهود والنصارى كانوا عالمين بذلك ، فإنه جاء في التوراة أن الله تعالى خلق جوهرة ، ثم نظر إيها بعين إلهية ، فصارت ماء ، ثم خلق السموات والأرض منها ، وفتق بينهما ، وكان بين اليهود وعبدة الأوثان نوع صداقة بسبب الاشتراك في عداوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فاحتج الله عليهم بهذه الحجة على أنهم يقبلون قول اليهود في ذلك .
قوله : « كَانَتَا » الضمير يعود على « السَّمواتِ والأَرضَ » بلفظ التثنية والمتقدم جمع وفي ذلك أوجه :
أحدها : ما ذكره الزمخشري فقال : وإنما قال « كَانَتَا » دون كُنَّ ، لأن المراد جماعة السموات وجماعة الأرضين ، ومنه قولهم : لقاحان سوداوان ، أي : جماعتان ، فعل في المضمر ما فعل في المظهر .
الثاني : قال أبو البقاء : الضمير يعود على الجنسين .
الثالث : قال الحوفي : « كَانَتَا رَتْقَاً » ، و « السَّمواتِ » جمع ، لأنه أراد الصنفين . قال الأسود بن يعفر :
3709- إِنَّ المَنِيَّةَ وَالخَوْفَ كِلاَهُمَا ... يُوفِي المخَارِمَ يَرْقُبَان سَوَادِي
لأنه أراد الوعين . وتبعه ابن عطية في هذا فقال : وقال : « كَانَتَا » من حيث هما نوعان ونحوه قول عمرو بن شُيَيْم :
3710- أَلَمْ يَحْزُنْكَ أن حِبَالَ قَيْسٍ ... وتَغْلِبَ قَدْ تَبَايَنَتَا انْقِطَاعَاً
قال الأخفش : « السَّموات » نوع ، والأرض نوع ، ومثله : { إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ } [ فاطر : 41 ] . ومن ذلك : أصلحنا بين القومين ، ومرت بنا غنمان أسودان ، لأن هذا القطيع غنم ، و « رَتْقَاً » خبر ، ولم يثن لأنه في الأصل مصدر ، ثم لك أن تجعله قائماً مقام المفعول ، كالخلق بمعنى المخلوق أو تجعله على حذف مضاف أي : ذواتي رتق . وهذه قراءة الجمهور . وقرأ الحسن وزيد بن علي وأبو حيوة وعيسى « رَتَقاً » بفتح التاء وفيه وجهان :
أحدهما : أنه مصدر أيضاً ، ففيه الوجاهن المتقدمان في الساكن التاء .
والثاني : أنه فعل بمعنى مفعول كالقَبض والنَّفَض بمعنى المقبوض والمنقوض ، وعلى هذا فكان ينبغي أن يطابق مخبره في التثنية . وأجاب الزمخشري عن ذلك فقال : هو تقدير موصوف ، أي : كانتا شيئاً رتقاً .
وقال المفضل : لم يقل : كانتا رتقين كقوله : { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام } [ الأنبياء : 8 ] وحدّ « جسداً » كذلك ما نحن فيه كل واحد رتق .
ورجح بعضهم المصدرية بعدم المطابقة في التثنية ، وقد عرف جوابه وله أن يقول : الأصل عدم حذف الموصوف ، فلا يصار إليه دون ضرورة والرتق : الانضمام ، ارتتق حلفه أي : انضم ، وامرأة رتقاء أي : منسدة الفرج فلم يمكن جماعها من ذلك . والفتق : فصل ذلك المرتتق . وهو من أحسن البديع هنا حيث قابل الرتق بالفتق .
فصل
قال ابن عبَّاس في رواية عكرمة والحسن وقتادة وسعيد بن جبير : كانتا شيءاً واحداً ملتزمين ففصل الله بينهما ، ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض . وهذا القول يوجب أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء ، لأنه تعالى لما فصل بينهما جعل الأرض حيث هي ، وأصعد الأجزاء السماوية . قال كعب : خلق الله السموات والأرض ملتصقتين ، ثم خلق ريحاً توسطتهما ففتقتهما . وقال مجاهد والسدي : كانت السموات مرتتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبه سموات ، وكذلك الأرض مرتتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع أرضين . وقال ابن عباس في رواية عطاء وأكثر المفسرين : إن السموات كانت رتقاً مستوية صلبة لا تمطر ، والأرض رتقاً لا تنبت ، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات ، ونظيره قوله تعالى : { والسمآء ذَاتِ الرجع والأرض ذَاتِ الصدع } [ الطارق : 11 ، 12 ] ورجحوا ذلك الوجه بقوله بعد ذلك : { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } ، وذلك لا يليق إلا وللماء تعلق بما تقدم ، وهو ما ذكرنا فإن قيل : هذا الوجه مرجوح ، لأن المطر لا ينزل من السموات بل من سماء واحدة ، وهي سماء الدنيا .
فالجواب : إنما أطلق عليه لفظ الجمع ، لأن كل قطعة منها سماء ، كما يقال : ثوب أخلاق ، وبُرْمَة أَعْشَار . وعلى هذا التأويل فتحمل الرؤية على الإبصار . وقال أبو مسلم : يجوز أن يراد بالفتق الإيجاد والإظهار كقوله : { فَاطِرِ السماوات والأرض } ، وكقوله : { بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات والأرض الذي فطَرَهُنَّ } [ الأنبياء : 56 ] فأخبر عن الإيجاد بلفظ الفتق ، وعن الحال قبل الإيجاد بلفظ الرتق .
وتحقيقه أن العدم نفي محض ، فليس فيه ذوات وأعيان متباينة بل كأنه أمر واحد متصل متشابه ، فإذا وجدت الحقائق فعند الوجود والتكوين يتميز بعضها من بعض ، وينفصل بعضها عن بعض .
فبهذا الطريق يحسن جعل الرتق مجازاً عن العدم ، والفتق عن الوجود .
وقيل : إن الليل سابق النهار لقوله : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار } [ يس : 37 ] فكانت السموات والأرض مظلمة أولاً ففتقها الله بإظهار النهار المبصر . واعلم أن دلالة هذه الوجوه على إثبات الصانع ووحدانيته ظاهرة لأن أحداً لا يقدر على مثل ذلك . قوله : { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } يجوز في « جَعَلَ » هذه أن يكون بمعنى « خَلَقَ » فيتعدى لواحد ، وهو { كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } و « من الماء » متعلق بالفعل قبله ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه من « كُلَّ شَيْءٍ » لأنه في الأصل يجوز أن يكون وصفاً له فلما قدم عليه نصب على الحال . ومعنى خلقه من الماء : أحد شيئين : إما شدة احتياج كل حيوان للماء فلا يعيش بدونه ، وإما لأنه مخلوق من النطفة التي تسمى ماء . ويجوز أن يكون ( جَعَلَ ) بمعنى ( صَيَّرَ ) فيتعدى رثنين ثانيهما الجار بمعنى أنا صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا بد له منه . والعامة على خفض « حَيٍّ » صفة لشيء . وقرأ حميد بنصبه على أنه مفعول ثان ل « جعلنا » والظرف لغو ، ويبعد على هذه القراءة أن يكون « جَعَلَ » بمعنى ( خلق ) ، وأن ينتصب « حياً » على الحال .
قال الزمخشري : و « مِنْ » في هذا نحو « مِنْ » في قوله عليه السلام « ما أنا مِنْ دَدٍ وَلاَ الدَّدُ مِنَّي »
فإن قيل : كيف قال : خلقنا من الماء كل حيوان ، وقد قال : { والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم } [ الحجر : 27 ] ، وقال عليه السلام : « إن الله تعالى خلق الملائكة من النور » ، وقال في عيسى : { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأكمه والأبرص بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى بِإِذْنِيِ } [ المائدة : 110 ] ، وقال في حق آدم : { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] فالجواب : اللفظ وإن كان عاماً إلا أن القرينة المخصصة قائمة ، فإن الجليل لا بد وأن يكون مشاهداً محسوساً ليكون أقرب إلى المقصود ، وبهذا الطريق تخرج عنه الملائكة والجن وآدم وقصة عيسى لأن الكفار لم يروا شيئاً من ذلك .
فصل
قال بعض المفسرين : المراد بقوله : { كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } الحيوان فقط . وقال آخرون : بل يدخل فيه النبات ، لأنه من الماء صار نامياً ، وصار فيه الرطوبة والخضرة والنور والثمر . وهذا القول أليق بالمقصود ، لأن المعنى كأنه قال : ففتقنا السماء لإنزال المطر وجعلنا منه كل شيء في الأرض من النبات وغيره حياً . فإن قيل : النبات لا يسمى حياً . فالجواب : لا نسلم ، ويدل عليه قوله تعالى { كَيْفَ يُحْيِيِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَآ } [ الروم : 50 ] . ثم قال { أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } والمعنى أفلا يؤمنون بأن يتدبروا هذه الأدلة فيعملوا بها ويتركوا طريقة الشرك .
قوله : { وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ } الرواسي الجبال ، والراسي : هو الداخل في الأرض . قوله : « أنْ تَمِيدَ » مفعول من أجله ، أي : أن لا تميد ، فحذفت « لا » لفهم المعنى كما زيدت في { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } [ الحديد : 29 ] ، أو كراهة أن تميد وقدره أبو البقاء فقال : مخافة أن تميد وفيه نظر ، لأنا إن جعلنا المخافة مسندة إلى المخاطبين اختل شرط من شروط النصب في المفعول وهو اتحاد الفاعل . وإن جعلناها مسندة لفاعل الجعل استحال ذلك ، لأنه تعالى لا يسند إليه الخوف . وقد يقال يختار أن يسند المخافة إلى المخاطبين ، وقولكم يختل شرط من شروط النصب جوابه : أنه ليس بمنصوب بل مجرور بحرف الجر المقدر ، وحذف حرف الجر مطرد مع أنَّ وأَنْ بشرطه .
فصل
قال ابن عباس : إن الأرض بسطت على الماء فكانت تكفأ بأهلها السفينة فأرساها الله بالجبال الثقال . قوله : { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً } وجهان :
أحدهما : أنه ( مفعول به ) و « سُبُلاً » بدل منه .
والثاني : أنه منصوب على الحال من « سُبُلاً » ، لأنه في الأصل صفة له فلما قدم انتصب كقوله :
3711- لِمَيَّةَ مُوحِشاً طَلَلُ ... يَلُوحُ كَأَنَّهُ خِلَلُ
ويدل على ذلك مجيئه صفة في قوله تعالى { لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } [ نوح : 20 ] .
وقال الزمخشري : فإن قلت : في الفجاج معنى الوصف فما لها قدمت على السبل ولم تؤخر كقوله تعالى : { لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } [ نوح : 20 ] ، قلت : لم تقدم وهي صفة ، ولكن جعلت حالاً كقوله :
3712- لعزَّةَ مُوحِشاً طَلَلُ قَدِيمُ ... فإن قلت : ما الفرق بينهما من جهة المعنى؟ قُلْتُ : أحدهما : إعلام بأنه جعل فيها طرقاً واسعة ، والثاني : أنه حين خلقها على تلك الصفة فهو بيان لما أبهم ثمة . قال أبو حيان : يعني بالإبهام أن الوصف لا يلزم أن يكون الموصوف متصفاً به حالة الإخبار عنه ، وإن كان الأكثر قيامه به حالة الإخبار عنه ، ألا ترى أنه يقال : مررت بوحشيّ القاتل حمزة ، وحالة المرور لم يمن قائماً به قتل حمزة . والفَجُّ الطَّرِيقُ الوَاسِعُ ، والجمع الفِجَاج . والضمير في « فيها » يجوز أن يعود على الأرض وهو الظاهر كقوله
{ والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } [ نوح : 19 ، 20 ] . وأن يعود على الرواسي ، يعني أنه جعل في الجبال طرقاً واسعة وهو قول مقاتل والضحاك ورواية عطاء عن ابن عباس وعن ابن عمر قال : كانت الجبال منضمة فلما أغرق الله قوم نوح فرّقها فجاجاً وجعل فيها طرقاً . وقوله { لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } أي لكي يهتدوا إذ الشك لا يجوز على الله . والمعنى : ليهتدوا إلى البلاد . وقيل : ليهتدوا إلى وحدانية الله بالاستدلال قالت المعتزلة : وهذا يدل على أنه تعالى أراد من جميع المكلفين الاهتداء وقد تقدم .
وقيل : الاهتداء إلى البلاد والاهتداء إلى وحدانية الله تعالى يشتركان في أصل الاهتداء ، فيحمل اللفظ على ذلك المشترك مستعملاً في مفهوميه معاً . قوله : { وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً } سميت سقفاً ، لأنها كالسقف للبيت ، ومعنى « محفوظاً » أي : محفوظاً من الوقوع كقوله : { وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض } [ الحج : 65 ] . وقيل : محفوظاً من الشياطين .
قوله : { وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا } جملة استئنافية ، ويضعف جعلها حالاً مقدرة . وقرأ مجاهد وحميد « عَنْ آيَتِهَا » بلفظ الإفراد .
دعا الخلق آية وهي مشتملة على آيات ، أو أطلق الواحد وأراد به الجنس والمعنى : أن الكفار معرضون عما خلق في السماء من الشمس والقمر والاستيضاء بنوريهما ، والنجوم والاهتداء بها ، وحياة الأرض بأمطارها ، وعن كونها آية بينة على وجود الصانع ووحدانيته لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها . قوله : { وَهُوَ الذي خَلَقَ الليل والنهار والشمس والقمر كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } أي : كل منهما من الشمس والقمر أو منها أي من اليل والنهار والشمس والقمر . و « يَسْبَحُون » يجوز أن يكون خبر « كُلٌّ » على المعنى ، و « في فَلَكٍ » متعلق به . ويجوز أن يكون حالاً والخبر « في فَلَكٍ » . وكون المضاف إليه يجوز أن يقدر بالأربعة الأشياء المذكورة ذكره أبو البقاء ولم يذكر غيره ، إلا أن المضاف إليه ( الشَّمْس والقَمَر ) وهو الظاهر ، لأن السباحة من صفتهما دون ( اللَّيلِ والنَّهَارِ ) ، وعلى هذا فيتعذر عن الإتيان بضمير الجمع ، وعن كونه جمع من يعقل ، أما الأول فقيل : إنما جمع ، لأن ثم معطوفاً محذوفاً تقديره : والنجوم كما دلت عليه آيات أخر ، فصارت النجوم وإن لم تكن مذكورة يعود هذا الضمير إليها .
وقال الزمخشري : الضمير للشمس والقمر ، والمراد بهما جنس الطوالع مل يوم وليلة جعلوها متكاثرة لتكاثر مطالعها ، وهو السبب في جمعها بالشموس والأقمار . انتهى . والذي حسن ذلك كوته رأس آية . وقال أبو البقاء : و « يسبحون » على هذا الوجه حال ، والخبر « في فَلَكٍ » . وقيل : التقدير : وكلها ، والخبر « يَسْبَحُونَ » وأتى بضمير الجمع على معنى « كل » .
وفي هذا الكلام نظر من حيث أنه لما جوز أن يكون المضاف إليه شيئين جعل الخبر الجار و « يَسْبَحُونَ » حالاً فراراً من عدم مطابقة الخبر للمبتدأ ، فوقع في تخالف الحال وصاحبها .
وأما الثاني فلأنه لمَّا أسند إليها السباحة التي هي من أفعال العقلاء جمعها جمع العقلاء كقوله : { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] و { أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] .
قال الزمخشري : والتنوين في « كل » عوض عن المضاف إليه أي : كلهم . { فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } وهذه الجملة يجوز أن يكون محلها النصب على الحال من « الشمس والقمر » . فإن قلنا : إن السباحة تنسب إلى الليل والنهار كما نقل عن أبي البقاء في أحد الوجهين يكون حالاً من الجميع ، وإن كان لا يصح نسبتها إليهما كانت حالاً من « الشمس والقمر » وتأويل الجمع قد تقدم . قال أبو حيان : أو محلها النصب على الحال من « الشمس والقمر » لأن الليل والنهار لا يصفان بأنهما يجريان في فَلَكٍ فهو كقولك : رأيت هنداً وزيداً ( متبرجة ) . انتهى . وسبقه إلى هذا الزمخشري ، يعني أنه قد دل على أن الحال من بعض ما تقدم كما في المثال المذكور ، قال الزمخشري : فإن قُلْتَ : لكل واحد من القمرين فَلَكٌ على حدة فكيف قال : { فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } . قُلْت : هذا كقولهم : كساهم الأمير حلة وقلدهم سيفاً أي : كل واحد منهم . والسباحة العوم في الماء ، وثد يعبر عن مطلق الذهاب وقد تقدم اشتقاقه في « سُبْحَانَكَ » .
ومعنى « يُسَبِّحُونَ » يسيرون بسرعة كالسابح في الماء .
فصل
اعلم أن للكواكب حركتين الأولى : مجمع عليها وهي حركتها من المشرق إلى المغرب . والحركة الثانية : قالت الفلاسفة وأصحاب الهيئة : إن للكواكب حركة أخرى من المشرق إلى المغرب ، قالوا : وهي ظاهرة في السبعة السيارة خفية في الثابتة ، واستدلوا بأنا وجدنا الكواكب السيارة كل ما كان منها أسرع حركة إذا قارن ما هو أبطأ حركة منه تقدمه نحو المشرق . وهذا في القمر ظاهر جداً ، فإنه يظهر بعد الاجتماع بيوم أو يومين من ناحية المغرب على بعد من الشمس ، ثم يزداد كل ليلة بعداً منها إلى أن يقابلها وكل كوكب كان شرقياً منه على طريقه على ممر البروج يزداد كل ليلة قرباً منه ، ثم إذا أدركه ستره بطرفه الشرقي ، وينكشف ذلك الكوكب بطرفه الغربي . فعلمنا أن لهذه الكواكب السيارة حركة من المغرب إلى المشرق . وأجيبوا : بأن ذلك محال ، لأن الشمس مثلاً إذا كانت متحركة بذاتها من المغرب إلى المشرق حركة بطيئة ، وهي متحركة بسبب الحركة اليومية من المشرق إلى المغرب لزم كون الجرم الواحد متحركاً حركتين إلى جهتين مختلفتين دفعة واحدة ، وذلك محال ، لأن التحرك إلى جهة يقتضي حصول المتحرك في الجهة المنتقل إليها ، فلو تحرك الجسم الواحد دفعة واحدة إلى جهتين لزم حصوله دفعة واحدة في مكانين ، وهو محال .
قالوا : ما ذكرتموه ينتقض بما إذا دارت الرحى إلى جانب والنملة التي تكون عليها متحركة على خلاف ذلك الجانب . وللكلام في هذه المسألة مكان غير هذا .
فصل
والفَلَكُ مدار النجوم ، والفَلَكُ في كلام العرب كل مستدير وجمعه أَفْلاَك ، ومنه فلك المغزل . قال الضحاك : الفلك ليس بجسم ، وإنما هو مدار هذه النجوم . وقال الكلبي : الفلك استدارة السماء . وقال بعضهم : الفلك موج مكفوف تجري الشمس والقمر والنجوم فيه . وقيل : ماء مجموع تجري فيه الكواكب . واحتجوا بأن السباحة لا تكون إلا في الماء . وأجيبوا بالمنع ، فإنه يقال في الفرس الذي يمدّ يديه في الجري « سابح .
وقال الحسن : الفلك طاحونة كهيئة فلكة المغزل .
وقال جمهور الفلاسفة وأصحاب الهيئة : الأفلاك أجرام صلبة لا ثقيلة ولا خفيفة غير قابلة للخرق والالتئام والنمو والذبول . واختلف الناس في حركات الكواكب ، فقال بعضهم : الفلك ساكن والكواكب تتحرك فيه كحركة السمكة في الماء ، وقال آخرون : الفلك متحرك ، والكواكب تتحرك فيه أيضاً إما مخالفاً لجهة حركته ، أو موافقاً لجهته إما بحركة مساوية لحركة الفلك في السرعة والبطء أو مخالفة .
وقيل : الفلك متحرك والكواكب مغزورة فيه . أما الأول فقالت فذلك أيضاً يوجب الخرق ، وإن كانت حركتها إلى جهة حركة الفلك فإن كانت مخالفة لها في السرعة والبطء لزم الانخراق ، وإن استويا في الجهة والسرعة والبطء فالخرق أيضاً لازم ، لأن الكوكب يتحرك بالعرض بسبب حركة الفلك فتبقى حركته الذاتية زائدة فيلزم الخرق . فلم يبق إلا القسم الثالث ، وهو أن يكون الكوكب مغزوراً في الفلك ، والفلك يتحرك ، فيتحرك الكوكب بسبب حركة الفلك . واعلم أن مدار هذا الكلام على أن امتناع الخرق على الأفلاك باطلن بل الحق أن الأقسام الثلاثة ممكنة ، والله تعالى قادر على كل الممكنات والذي دل عليه لفظ القرآن أن الأفلاك ثابتة و الكواكب جارية كما تسبح السمكة في الماء .
فصل
احتج ابن سينا على كون الكواكب أحياء ناطقة بقوله » يَسْبَحُونَ « قال : والجمع بالواو والنون لا يكون للعقلاء ، وبقوله تعالى : { والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] .
والجواب إنما أتى بضمير العقلاء للوصف بفعلهم وهو السباحة .
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)
قوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد } الآية . لما استدل بالأشياء المذكورة ، وهي من أصول النعم الدنيوية أتبعه بما يدل على أن هذه الدنيا أمرها كذلك يبقى ولا يدوم ، وإنما خلقها سبحانه وتعالى للابتلاء والامتحان ، وليتوصل بها إلى دار الخلود فقال : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد } .
قال مقاتل : إن ناساً كانوا يقولون : إن محمداً لا يكون فنزلت هذه الآية .
وقيل : كانوا يقدرون أنه سيموت فيشمتون به في قولهم : نتربص بمحمد ريب المنون ، فنفى الله عنه الشماتة بهذه الآية فقال : { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون } قضى الله تعالى أن لا يخلد في الدنيا بشراً لا أنت ولا هم ، وفي هذا المعنى قول القائل :
3713- فَقُلْ للشَّامِتِينَ بِنَا أَفِيقُوا ... سيلقى الشَّامِتُونَ كَمَا لَقِينَا
وقيل : يحتمل أنه لما أظهر أنه عليه السلام خاتم الأنبياء ، وجاز أن يقدم مقدر أنه لا يموت إذ لو مات لتغير شرعه ، فنبه الله تعالى على أنه حاله كحال غيره من الأنبياء عليهم السلام في الموت . قوله : { أَفَإِنْ مِّتَّ } تقدم نظيره في آل عمران عند قوله : { أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ } [ آل عمران : 144 ] وفي هذه الآية دليل لمذهب سيبويه ، وهو أنه إذا اجتمع شرط واستفهام أجيب الشرط ، فتكون الآية قد دخلت فيها همزة الاستفهام على جملة الشرط ، وليست مصبًّا للاستفهام ، وزعم يونس أن الاستفهام منصب على الجملة المقترنة بالفاء ، وأن الشرط معترض بين الاستفهام وبينها ، وجوابه محذوف . وليس بشيء إذ لو كان كما قال لكان التركيب : أفإن مت هم الخالدون بغير فاء . وكان ابن عطية ينحى منحى يونس فإنه قال : وألف استفهام داخلة في المعنى على جواب الشرط .
قوله : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت } هذا العموم مخصوص فإن له تعالى نفساً لقوله تعالى : { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } [ المائدة : 116 ] مع الموت لا يجوز عليه .
قال ابن الخطيب : وكذا الجمادات لها نفوس ، وهي لا تموت ، والعام المخصوص حجة فيبقى معمولاً به فيما عدا هذه الأشياء ، وذلك يبطل قول الفلاسفة في أن الأرواح البشرية والعقول والنفوس الفلكية لا تموت . واعلم أن الذوق ها هنا لا يمكن إجراؤه على ظاهره ، لأن الموت ليس من جنس المطعوم حتى يذاق ، بل الذوق إذ ذاك خاص ، فيجوز جعله مجازاً عن اصل الإدراك .
وأما الموت فالمراد منه هنا مقدماته من الآلام العظيمة ، لأن الموت قبل دخوله في الوجود يمتنع إدراكه ، وحال وجوده يصير الشخص ميتاً ، والميت لا يدرك شيئاً والإضافة في { ذَآئِقَةُ الموت } في تقدير الانفصال ، لأنه لما يستقبل ، كقوله : { غَيْرَ مُحِلِّي الصيد } [ المائدة : 1 ] و { هَدْياً بَالِغَ الكعبة } [ المائدة : 95 ] .
قوله : { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير } « نَبْلُوكُمْ » نختبركم « بالشَّر والخَيْرِ » بالشدة والرخاء ، والصحة والسقم والغنى والفقر .
وقيل : بما تحبون وما تكرهون لكي يشكر على المنح ويصبر على المحن ، فيعظم ثوابه إذا قام بما يلزم . وإنما سمي ذلك ابتلاء وهو عالم بما يكون من أعمال العالمين قبل وجودهم لأنه في صورة الاختبار . قوله : « فِتْنَةً » في نصبه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مفعول من أجله .
الثاني : أنه مصدر في موضع الحال ، أي فاتنين .
الثالث : أنه مصدر من معنى العامل لا من لفظه ، لأن الابتلاء فتنة ، فكأنه قيل : نفتنكم فتنة . ثم قال : « وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ » أي : إلى حكمه ومحاسبته ومجازاته بيّن بذلك بطلان قولهم في نفي البعث والمعاد . وقرأ العامة « ترجعون » بتاء الخطاب مبنياً للمفعول . وغيرهم بياء الغيبة على الالتفات .
قوله : { وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً } المعنى : ما يتخذونك إلا هزواً ، وهذا رجوع إلى تهجين كفرهم . قال السدي ومقاتل : « نزلت في أبي جهل قرية النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان أبو سفيان مع أبي جهل ، لأبي سفيان : هذا نبيّ عبد مناف ، فقال أبو سفيان : وما تنكر أن يكون نبياً في بني عبد مناف . فسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولهما فقال لأبي جهل » ما أراك تنتهي حتى ينزل بك ما نزل بعمك الوليد بن المغيرة ، وأما أنت يا أبا سفيان فإنما قلت ما قلته رحمة « فنزلت هذه الآية . فوله : » إنْ يَتَّخِذونَك « » إنْ « هنا نافية ، وهي وما في حيزها جواب الشرط بإذا . و » إذا « مخالفة لأدوات الشرط في ذلك ، فإن أدوات الشرط متى أجيبت ب ( إن ) النافية أو ب ( ما ) النافية وجب الإتيان بالفاء تقول : إن أتيتني فإن أهنتك ، أو فما أهنتك ، وتقول : إذا أتيتني ما أهنتك بغير فاء يدل له قوله تعالى : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ } [ الجاثية : 25 ] و » اتخذ « هنا متعد لاثنين و » هُزُواً « هو الثاني إما على حذف مضاف ، وإما على الوصف بالمصدر مبالغة ، وإما على وقوعه موقع اسم المفعول .
وفي جواب » إذَا « قولان :
أحدهما : أنه » إِنْ « النافية وقد تقدم .
والثاني : أنه محذوف ، وهو القول الذي قد حكي به الجملة الاستفهامية في قوله { أهذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ } إذ التقدير : وإذا رآك الذين كفروا يقولون أهذا الذي ، وتكون الجملة المنفية معترضة بين الشرط وبين جوابه المقدر .
قوله : { وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كَافِرُونَ } » هُمْ « الأولى مبتدأ مخبر عنه ب » كَافِرُونَ « ، و » بِذِكْرِ « متعلق بالخبر ، والتقدير : وهم كافرون بذكر ، و » هُمْ « الثانية تأكيد للأول تأكيداً لفظياً ، فوقع الفصل بين العامل ومعموله بالمؤكد ، وبين المؤكد والمؤكد بالمعمول .

التالي بمشيئة الله ج51.وج52.

 قلت المدون التالي هو- ج51.وج52.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدجال يستغل ازمات الناس من الجوع ونقص الطعام والمياه في دعوتهم الباطلة لعبادتهم إياه والايمان به

  بياناته الشخصية     المسيح الدجال ليس خوارق إنما هو دجل وكذب قلت المدون ان الأ أزمة الاقتصادية الحادثة الان في كل دول العالم والمجاعة المت...