حمل المصحف وورد وبي دي اف.

 حمل المصحف وورد وPDF.
القرآن الكريم وورد word doc icon||| تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

الجمعة، 23 سبتمبر 2022

ج67.وج68.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب

ج67.وج68.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب

اولا :

ج67. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
{ فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين } [ المائدة : 31 ] وقد صح أن الندم توبة .
وقوله تعالى : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } وصح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة ، وقوله تعالى : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى } [ النجم : 39 ] فما بال الإضعاف؟ .
فقال الحسين : يجوز ألا يكون الندم توبة في تلك الأمة ، ويكون توبة في هذه الأمة؛ لأن الله خصّ هذه الأمة بخصائص لم تشاركهم فيها الأمم .
وقيل : إن ندم « قابيل » لم يكن على قتل هابيل ، ولكن على حمله .
وأما قوله تعالى : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى } [ النجم : 39 ] ، فمعناه : ليس له إلاَّ ما سعى عدلاً ، ولي أن أجزيه بواحدة ألفاً .
وأما قوله تعالى : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } فإنها شُئُون يبديها ولا يبتديها ، فقام عبد الله بن طاهر وقَبَّلَ رأسه ، وسوغ خراجه .
قوله تعالى : { سَنَفْرُغُ } .
قرأ : « سيفرغ » - بالياء - الأخوان ، أي سيفرغ الله تعالى . والباقون من السبعة : بنون العظمة ، والرَّاء مضمومة في القراءتين ، وهي اللغة الفصحى لغة « الحجاز » .
وقرأها مفتوحة الراء مع النون الأعرج ، ويحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون من « فَرَغَ » بفتح الراء في الماضي ، وفتحت في المضارع لأجل حرف الحَلْق .
والثاني : أنه سمع فيه « فَرِغَ » - بكسر العين - فيكون هذا مضارعه ، وهذه لغة « تميم » وقرأ عيسى بن عمر وأبو السمال : « سَنِفْرَغُ » - بكسر حرف المضارعة وفتح الراء . وتوجيهها واضح مما تقدم في « الفاتحة » .
قال أبو حاتم : هذه لغة سفلى « مضر » .
والأعمش وأبو حيوة وإبراهيم : « سَيُفْرَغُ » - بضم الياء - من تحت مبنيًّا للمفعول .
وعيسى - أيضاً - بفتح نون العظمة ، وكسر الراء .
والأعرج - أيضاً - بفتح الياء ، ويروى عن أبي عمرو .
فصل في الكلام على فرغ
قال القرطبي : « يقال : فرغتُ من الشغل أفرغُ فُرُوغاً وفَرَاغاً ، وتفرَّغْتُ لكذا ، واستفرغتُ مجهودي في كذا ، أي : بذلته ، وليس لله - تعالى - شغل يفرغ منه ، وإنما المعنى : سنقصد لمجازاتكم أو محاسبتكم ، فهو وعيد لهم وتهديد قاله ابن عباس والضحاك ، كقول القائل لمن يريد تهديده : إذن أتفرغ لك ، أي : أقصد قصدك » .
وأنشد ابن الأنباري لجرير : [ الوافر ]
4640- ألانَ وقَدْ فَرَغْتُ إلى نُمَيْرٍ ... فَهَذَا حِينَ كُنْتُ لَهُمْ عَذَابَا
وأنشد الزجاج والنحاس : [ الطويل ]
4641- فَرَغْتُ إلى العَبْدِ المُقَيَّدِ في الحِجْلِ ... ويدل عليه قراءة أبيِّ رضي الله عنه : « سَنفْرُغُ إليْكُمْ » أي سنقصد إليكم .
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم « أنه لما بايع الأنصار ليلة » العقبةِ « ، صاح الشيطان : يا أهل الجباجب هذا مُذمَّمٌ يبايع بني » قيلة « على حربكم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » هذا أزَبّ العقبة ، أما والله لأتفرَّغن لك «
أي : أقصد إلى إبطال أمرك .
وهذا اختيار القتبي والكسائي وغيرهما .
قال ابن الأثير : الأزَبُّ في اللغة : الكثير الشعر ، وهو هاهنا شيطان اسمه « أزب العقبة » وهو الحيّة .
وقيل : إن الله - تعالى - وعد على التقوى ، وأوعد على الفُجُور ، ثم قال : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ } أي : مما وعدناكم ، ونوصل كلاًّ إلى ما وعدناه ، أقسم ذلك وأتفرغ منه . قاله الحسن ، ومقاتل ، وابن زيد .
قوله تعالى : { أَيُّهَ الثقلان } . تقدم الكلام في قراءة « أيُّهَا » في « النور » [ النور : 31 ] وهو منادى ، والحكمة في نداء المُبْهَم هي تنبيه كل سامع ، ثم يخصص المقصود بعد ذلك ، فيكون فيه اهتمام بالمنادى .
وأيضاً يجعل المبهم وصلة لنداء المعرف باللام ، وزيد معه هاء التي للتَّنبيه عوضاً عن الإضافة؛ لأن المبهم يضاف .
و « الثَّقلان » الجنّ والإنس ، سُمِّيَا بذلك لعظم شأنهما بالإضافة إلى ما في الأرض من غيرهما بسبب التكليف .
وقيل : سمّوا بذلك؛ لأنهما ثقلا الأرض أحياء وأمواتاً .
قال تعالى : { وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا } [ الزلزلة : 2 ] .
ومنه قولهم : أعطهِ ثقله أي وزنه .
وقال بعض أهل المعاني : كل شيء له قَدْر ووزن ينافس فيه فهو ثقل ، ومنه قيل لبيض النعام : ثقل ، لأن واجده وصائده يفرح به إذا ظفر به .
وقال جعفر الصادق : سميا ثقلين؛ لأنهم مثقلان بالذنوب .
وقيل : الثَّقَل الإنس لشرفهم ، وسمّي الجن بذلك مجازاً للمجاورة والتغليب كالعَمريْن والقَمريْن والثَّقَل : العظيم الشريف .
قال عليه الصلاة والسلام : « إنِّي تاركٌ فيكم ثقلينِ : كتاب اللَّهِ وعترتِي » .
فصل في سبب التثنية بعد الجمع
جمع في قوله تعالى : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ } ثم قال : { أَيُّهَ الثقلان } ؛ لأنهما فريقان ، وكل فريق جمع ، وهذا كقوله تعالى : { يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم } ، ولم يقل « إن استطعتما »؛ لأنهما فريقان في حال الجمع ، كقوله تعالى : { فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ } [ النمل : 45 ] .
وقوله تعالى : { هذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ } [ الحج : 19 ] ، ولو قال : سنفرغ لكما ، أو قال : استطعتما ، لجاز .
وقرأ أهل « الشَّام » : « أيُّهُ الثَّقلانِ » بضم الهاء ، والباقون : بفتحها .
فصل في أن الجن مكلفون
هذه الآيات التي في « الأحقاف » ، و { قُلْ أُوحِيَ } [ الجن : 1 ] دليل على أن الجن مخاطبون مكلفون مأمورون منهيّون مثابون معاقبون كالإنس سواء ، مؤمنهم كمؤمنهم ، وكافرهم ككافرهم .
قوله تعالى : { يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا } [ الرحمن : 33 ] الآية . لما بين أن الله تعالى لا يشغله شأن عن شأن ، كأن قائلاً قال : فلم أخر عذابهم؟ .
فأجيب : بأن الجميع في قبضته ، وأن الذي يستعجل إنما يخاف الفوت ، والجميع في قبضة الله - تعالى - فلا يفوتونه .
و « المعشر » : الجماعة العظيمة؛ لأن المعشر هو العدد الكامل الكثير الذي لا عدد بعده إلاَّ بابتداء فيه حيث يعيد الآحاد ، تقول : أحد عشر ، واثنا عشر وعشرون ، وثلاثون ، أي ثلاث عشرات ، فالمعشر كأنه في محل العشر الذي هو الكثرة الكاملة .
فإن قيل : ما الحكمة في تقديم الجنّ على الإنس هاهنا ، وتقديم الإنس على الجن في قوله تعالى : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن } [ الإسراء : 88 ] ؟ .
فالجواب : أن النفوذ من أقطار السموات والأرض بالجن أليق إن أمكن ، والإتيان بمثل هذا القرآن بالإنس أليق إن أمكن الإتيان ، فقدم في كل موضع ما يليق به .
فصل في المراد بالآية
معنى الآية : إن استطعتم أن تنفذوا : تجوزوا وتخرجوا بسرعة .
والنفوذ : الخروج وقد تقدم في أول « البقرة » أن ما فاؤه نون وعينه فاء يدل على الخروج كنفق ونفر ، قال تعالى : { يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا } فاهربوا واخرجوا منها ، وهذا أمر تعجيز ، والمعنى : حيث ما كنتم أدرككم الموت ، كما قال تعالى : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت } [ النساء : 78 ] وهو قول الضحاك .
وروى جويبر عن الضحاك أيضاً قال : يقال لهم هذا يوم القيامة ، يعني : إن استطعتم أن تجوزوا أقطار السموات والأرض ، فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم ، فجوزوا يعني لا مهرب لكم ولا خروج لكم عن ملك الله سبحانه وتعالى ، وأينما تولوا فثمَّ ملك الله .
وقال ابن عباس إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات وما في الأرض فاعلموه ولن تعلموه إلا بسلطان أي يبينه من الله عز وجل وعنه أيضاً لا تنفذون إلا بسلطان لا تخرجون من سلطاني وقدرتي عليكم وقال قتادة : لا تنفذون إلا بملك وليس لكم ملك وقيل : الباء بمعنى إلى أي إلا إلى سلطان كقوله تعالى وقد أحسن بي أي إليّ .
وقيل معناه : لا تنفذوا إلا ومعكم سلطان الله وقيل معناه : لا تتخلصون من عذاب الله إلا بسلطان يجيركم وإلا فلا مجير لكم .
قوله تعالى : { إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } . حال أو متعلق بالفعل قبله .
والسلطان : القوة التي يتسلّط بها على الأمر والملك والقدرة والحجة كلها سلطان ، يريد : حيث ما توجهتم كنتم في ملكي .
قوله تعالى : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ } .
قرأ ابن كثير : بكسر الشين والباقون : بضمها ، وهما لغتان بمعنى واحد مثل : « صِوَار » من البقر ، و « صُوَار » وهو القطيع من البقر .
و « الشُّواظ » : قيل : اللَّهب معه دخان .
وقال ابن عباس وغيره : هو اللهب الخالص الذي لا دُخان له .
وقيل : اللَّهب الأحمر .
وقيل : هو الدخان الخارج من اللهب .
وقال رؤبة رحمه الله : [ الرجز ]
4642- . ... ونَارَ حَرْبٍ تُسْعِرُ الشُّواظَا
وقال حسَّان رضي الله عنه : [ الوافر ]
4643- هَجَوْتُكَ فاختضَعْتَ لَهَا بِذُلٍّ ... بِقَافِيةٍ تأجَّجُ كالشُّوَاظِ
وقال مجاهد : « الشُّواظ » : اللَّهب الأخضر المنقطع من النَّار .
وقال الضحاك : هو الدخان الذي يخرج من دخان اللَّهب ليس بدخان الحطب .
وقاله سعيد بن جبير .
وقيل : « الشُّواظ » : النَّار والدخان جميعاً . قاله ابن عمر ، وحكاه الأخفش عن بعض العرب .
و « يُرْسَل » مبني للمفعول وهي قراءة العامة ، وزيد بن علي « نرسل » بالنون شُواظاً ونحاساً بالنصب ، و « من نار » صفة ل « شواظ » أو متعلق ب « يرسل » .
قوله : « ونُحَاس » .
قرأ ابن كثير وأبو عمرو : بجره عطفاً على « نار » .
والباقون : برفعه عطفاً على « شُواظ » .
و « النُّحَاس » : قيل : هو الصفر المعروف يذيبه الله - تعالى - ويعذبهم به .
وقيل : الدخان الذي لا لهب معه .
قال الخليل : وهو معروف في كلام العرب .
وأنشد للأعشى : [ المتقارب ]
4644- يُضِيءُ كَضَوْءِ السِّرَاجِ السَّلِي ... طِ لَمْ يَجْعَل اللَّهُ فيهِ نُحَاسَا
قال المهدوي : من قال : إن الشواظ النار والدخان جميعاً ، فالجر في « نُحَاس » على هذا بين .
فأما الجر على قول من قال : إن الشواظ اللَّهب الذي لا دخان فيه فبعيد لا يسوغ إلا على تقدير حذف موصوف كأنه قال : « يرسل عليكما شواظ من نار ، وشيء من نحاس » ف « شيء » معطوف على شواظ ، و « من نحاس » جملة هي صفة لشيء ، وحذف « شيء » وحذفت « من » لتقدم ذكرها في « من نار » كما حذفت « على » من قولهم : على من تنزل أنزل أي : وعليه ، فيكون « نُحَاس » على هذا مجروراً ب « من » المحذوفة ، وتضم نونه وتكسر ، وبالكسر قرأ مجاهد ، وطلحة والكلبي ، ونقله القرطبي عن حميد أيضاً ، وعكرمة ، وأبي العالية .
وقرأ ابن جندب : « ونَحْسٌ » ، كقوله تعالى : { فِي يَوْمِ نَحْسٍ } [ القمر : 19 ] وابن أبي بكرة ، وابن أبي إسحاق : « ونَحُسُّ » بضم الحاء والسين مشددة من قوله تعالى : { إِذْ تَحُسُّونَهُم } [ آل عمران : 152 ] أي : ونقتل بالعذاب ، وقرأ ابن أبي إسحاق أيضاً : « ونَحس » بضم الحاء وفتحها وكسرها وجر السين ، والحسن والقاضي : « ونُحُسٍ » بضمتين وجر السين .
وتقدمت قرأة زيد : « ونُحَاساً » بالنَّصْب لعطفه على « شُواظاً » في قراءته .
و « النِّحاس » أيضاً بالكسر : الطبيعة والأصل .
يقال : فلان كريم النحاس و « النُّحاس » أيضاً بالضم ، أي : كريم النِّجار .
قال ابن مسعود : النحاس : المهل وقال الضحاك : هو دُرْديّ الزَّيت المغلي .
وقال الكسائي : هو النار التي لها ريح شديدة .
قوله تعالى : { فَلاَ تَنتَصِرَانِ } أي : لا ينصر بعضكم بعضاً ، يعني الجن والإنس .
وثنّى الضمير في « عَلَيْكُمَا »؛ لأن المراد النوعان ، وجمع في قوله : « إن اسْتَطعْتُمْ »؛ لأنه خطاب للمعشر ، وكذا قوله تعالى : { فَلاَ تَنتَصِرَانِ } خطاب للحاضرين ، وهم نوعان .
قوله تعالى : { فَإِذَا انشقت السمآء } جوابه مقدر ، أي : رأيت هولاً عظيماً ، أو كان ما كان .
وقوله : « فَكَانَت ورْدَةً » أي : مثل وردة .
فقيل : هي الزهرة المعروفة التي تشمّ شبهها بها في الحمرة .
وأنشد قول الشاعر : [ الطويل ]
4645- فَلَوْ كُنْتُ وَرْداً لونُهُ لَعشِقْتَنِي ... ولكِنَّ ربِّي شَانَنِي بِسَوَادِيَا
وقيل : هي من لون الفَرَس الورد يكون في الربيع إلى الصُّفرة ، وفي الشتاء إلى الحُمْرة ، وفي شدة البرد إلى الغبرة ، فشبه تلوّن السماء بتلون الوردة من الخَيل .
وقرأ عمرو بن عبيد : « وَرْدَةٌ » بالرفع .
قال الزمخشري : فحصلت سماء وردة ، وهو من الكلام الذي يسمى التَّجريد؛ كقوله : [ الكامل ]
4646- فَلَئِنْ بَقِيتُ لأرحلنَّ بِغَزْوَةٍ ... تَحْوِي الغَنائمَ أو يَمُوتَ كَرِيمُ
قوله : « كالدِّهان » يجوز أن يكون خبراً ثانياً ، وأن يكون نعتاً ل « وَرْدَة » ، وأن يكون حالاً من اسم « كانت » .
وفي « الدِّهَان » قولان :
أنه جمع « دُهْن » نحو : قُرْط وقِرَاط ، ورُمْح ورِمَاح ، وهو في معنى قوله تعالى : { تَكُونُ السمآء كالمهل } [ المعارج : 8 ] وهو : دردي الزيت .
والثاني : أنه اسم مفرد .
فقال الزمخشري : « اسم ما يدهن به كالحزام والإدام »؛ وأنشد : [ الطويل ]
4647- كأنَّهُمَا مَزادَتَا مُتَعَجِّلٍ ... فريَّان لمَّا تُدهَنَا بدِهَانِ
وقال غيره : هو الأديم الأحمر؛ وأنشد للأعشى : [ الوافر ]
4648- وأجْرَدَ مِنْ كِرامِ النَّخْلِ طَرْفٍ ... كأنَّ على شَواكِلِه دِهَانَا
أي : أديماً أحمر ، وهذا يحتمل أن يكون جمعاً ، ويؤيده ما أنشده منذر بن سعيد : [ الطويل ]
4649- تَبِعْنَ الدِّهَانَ الحُمْرَ كُلَّ عَشِيَّةٍ ... بمَوْسمِ بَدْرٍ أو بِسُوقِ عُكَاظِ
فقوله : « الحمر » يحتمل أن يكون جمعاً ، وقد يقال : هو كقولهم : أهلك الناس الدينار الحمر والدرهم البيض ، إلاَّ أنه خلاف الأصل .
وقيل : شبهت بالدهان وهو الزيت لذوبها ودورانها .
وقيل : لبريقها .
فصل في معنى الآية
قال المفسرون : قوله تعالى : { فَإِذَا انشقت السمآء } انصدعت يوم القيامة ، { فَكَانَتْ وَرْدَةً كالدهان } .
قال مجاهد والضحاك ، وغيرهما : « الدهان » : الدهن ، والمعنى : صارت في صفاء الدّهن ، والدهان على هذا جمع دهن .
وقال سعيد بن جبير وقتادة : المعنى تصير في حُمْرة الورد ، وجريان الدهن ، أي : تذوب مع جريان الدهن حتى تصير حمراء من حرارة نار جهنم ، وتصير مثل الدهن لرقّتها وذوبانها .
وقيل : الدهان : الجلد الأحمر الصرف . ذكره أبو عبيدة والفراء . أي : تصير السماء كالأديم لشدّة حر نار جهنم .
وعن ابن عباس : المعنى : فكانت كالفرس الورد في الربيع كميت أصفر ، وفي الشتاء كميت أحمر ، فإذا اشتد الشتاء كان كميتاً أغْبر .
وقال الفراء : أراد الفرس الوردة ، تكون في الربيع وردة إلى الصُّفرة ، فإذا اشتد البرد كانت وردة؛ فإذا كان بعد ذلك كانت وردةً إلى الغبرة ، فشبه تلوّن السماء بتلوّن الورد من الخيل .
وقال الحسن : « كالدِّهان » أي : كصبّ الدهن ، فإنك إذا صببته ترى فيه ألواناً .
وقال زيد بن أسلم : المعنى : أنها تصير كعكر الزيت .
وقيل : المعنى أنها تمر وتجيء .
قال الزجاج : أصل الواو والراء والدال للمجيء والإتيان .
وهذا قريب مما تقدم من أن الفرس الوردة تتغير ألوانها ، والورد أيضاً : يطلق على الأسد .
وقال قتادة : إنها اليوم خضراء ، وسيكون لها لون أحمر . حكاه الثعلبي .
قال المارودي : وزعم المتقدمون أن أصل لون السَّماء الحمرة ، وأنها لكثرة الحوائل وبعد المسافة يرى لونها أزرق ، وشبهوا ذلك بعروق البدن ، وهي حمراء حمرة الدم ، وترى بالحائل زرقاء ، فإن كان هذا صحيحاً ، فإنَّ السماء لقربها من النَّواظر يوم القيامة ، وارتفاع الحواجز ترى حمراء؛ لأنها أصل لونها . والله أعلم .
قوله تعالى : { فَيَوْمَئِذٍ } التنوين عوض من الجملة ، أي : فيومئذ انشقَّت السَّماء ، والفاء في « فيومئذٍ » جواب الشرط .
وقيل : هو محذوف ، أي : فإذا انشقت السَّماء رأيت أمراً مهولاً ونحو ذلك .
والهاء في « ذنبه » تعود على أحد المذكورين ، وضمير الآخر مقدر ، أي : ولا يسأل عن ذنبه جانّ أيضاً؛ وناصب الظرف « لا يسأل » و « لا » غير مانعة .
وقد تقدم الخلاف فيها في الفاتحة وتقدمت قراءة « جأنٌّ » بالهمزة فيها أيضاً .
فصل في الكلام على هذه الآية
قال المفسرون : هذه الآية مثل قوله تعالى : { وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون } [ القصص : 78 ] .
وأن القيامة مواطن لطول ذلك اليوم ، فيسأل في بعض ، ولا يسأل في بعض . وهذا قول عكرمة .
وقيل : المعنى لا يسألون إذا استقرُّوا في النَّار . وقال الحسن وقتادة : لا يسألون عن ذنوبهم؛ لأن الله - تعالى - حفظها عليهم ، وكتبتها الملائكة . رواه العوفي عن ابن عباس .
وعن الحسن ومجاهد أيضاً : لا تسأل الملائكة عنهم؛ لأنهم يعرفونهم بسيماهم .
دليله قوله تعالى : { يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ } ، رواه مجاهد عنه أيضاً في قوله تعالى : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 92 ] ، وهو قوله تعالى : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } .
قال : لا يسألهم ليعرف ذلك منهم ، ولكنهم يسألهم لم عملتموها؟ سؤال توبيخ .
وقال أبو العالية : لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم .
وقال قتادة : يسألون قبل الختم على أفواههم ، ثم يختم على أفواههم ، وتتكلم جوارحهم شاهدة عليهم .
قوله تعالى : { يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ } .
قرأ حماد بن أبي سليمان : « بِسِيمائِهِمْ » بالمد .
قوله تعالى : { فَيُؤْخَذُ بالنواصي } الآية .
« يُؤخذ » متعدّ ، ومع ذلك تعدى بالباء؛ لأنه ضمن معنى « يسحب » . قاله أبو حيان .
و « يسحب » إنما يتعدى ب « على » ، قال تعالى : { يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ } [ القمر : 48 ] فكان ينبغي أن يقول : ضمن معنى يتعدى « يدعون أو يدفعون » .
وقال مكّي : « إنما يقال : أخذت الناصية ، وأخذت بالناصية ، ولو قلت : أخذت الدَّابة بالناصية ، لم يجز .
وحكي عن العرب : أخذت الخِطَام ، وأخذت بالخِطَام .
بمعنى .
وقد قيل : إن تقديره : فيؤخذ كل واحد بالنَّواصي ، وليس بصواب؛ لأنه لا يتعدى إلى مفعولين أحدهما : بالباء ، لما ذكرنا ، وقد يجوز أن يتعدى إلى مفعولين : أحدهما بحرف جر غير الباء ، نحو : أخذت ثوباً من زيد ، فهذا المعنى غير الأول ، فلا يحسن مع الباء مفعول آخر إلاَّ أن تجعلها بمعنى « من أجل » ، فيجوز أن تقول : « أخذت زيداً ثوباً بعمرو » أي : من أجله وبذنبه « . انتهى .
وفيما قاله نظر ، لأنك تقول : » أخذت الثوب بدرهم « فقد تعدّى بغير » من « أيضاً بغير المعنى الذي ذكره .
وقال ابن الخطيب : فإن قيل : كيف عدي الأخذ بالباء وهو متعد بنفسه قال تعالى : { لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ } [ الحديد : 15 ] وقال : { خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ } [ طه : 21 ] ؟ .
فالجواب أن الأخذ تعدى بنفسه كما تقدم ، وبالباء كقوله تعالى : { لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } [ طه : 94 ] لكن التدقيق فيه أن المأخوذ إن كان مقصوداً فكأنه ليس هو المأخوذ ، فكأن الفعل لم يتعد إليه بنفسه ، فيذكر الخوف ويدل على هذا استعمال القرآن ، فقال تعالى : { خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ } [ طه : 21 ] ، وقال تعالى { وليأخذوا أَسْلِحَتَهُمْ } [ النساء : 102 ] وأخذ الألواح إلى غير ذلك مما هو المقصود بالأخذ غيره ، وأسند الأخذ إلى النواصي دون ضمير المجرمين إشارة إلى استيلاء الآخذين على المأخوذين وكثرتهم وكيفية الأخذ .
و » أل « في » النَّواصي والأقْدَام « ليست عوضاً من ضمير عند البصريين ، فالتقدير : بالنواصي منهم ، وهي عند الكوفيين عوض .
والنَّاصية : مقدم الرأس ، وقد تقدم هذا مستوفى في » هود « وفي حديث عائشة رضي الله عنها : » مَا لَكُم لا تَنُصُّونَ مَيَّتَكُمْ « أي : لا تمدُّون ناصيته .
و » النَّصيّ « : مرعى طيب ، فقولهم : فلان ناصية القوم ، يحتمل أن يكون من هذا ، يعنون أنه طيب منتفع ، أو مثل قولهم : هو رأسُ القَوْمِ انتهى .
فصل في سيما المجرمين
قال الحسن : { يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ } أي بسواد الأوجه ، وزرقة الأعين قال تعالى : { وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمَئِذٍ زُرْقاً } [ طه : 102 ] .
وقال تعالى : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [ آل عمران : 106 ] .
فقوله : { فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام } أي : يأخذ الملائكة بنواصيهم ، أي : بشعور مقدم رءوسهم وأقدامهم فيقذفونهم في النار .
و » النَّواصي « : جمع ناصية .
وقال الضحاك : يجمع بين ناصيته وقدمه في سلسلة من وراء ظهره حتى يندقَّ ظهره ، ثم يلقى في النّار .
وقيل : يفعل به ذلك ليكون أشد لعذابه ، وأكثر لتشويهه .
وقيل : تسحبهم الملائكة إلى النَّار ، تارةً تأخذ بناصيته ، وتجرّه على وجهه ، وتارةً تأخذ بقدميه وتسحبه على وجهه .
فإن قيل : ما وجه إفراد » يُؤخَذ « مع أن المجرمين جمع ، وهم المأخوذون؟ .
فالجواب من وجهين : الأول : أن قوله : » يُؤخَذُ « متعلق » بالنواصي « ، كقولك : ذهب يزيد .
والثاني : أن يتعلق بما يدلّ عليه » يؤخذ « ، فكأنه قال : يؤخذ المأخوذون بالنواصي .
قوله تعالى : { هذه جَهَنَّمُ التي يُكَذِّبُ بِهَا المجرمون } أي يقال لهم : هذه جهنّم .
قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يقال : معناه هذه صفة جهنم ، فأقيم المضاف إليه مقام المضاف ، وقد يكون المشار إليه هو ما تقدم .
قال : والأقوى أن يقال : الكلام تم عند قوله تعالى : { بالنواصي والأقدام } ، وقوله تعالى : { هذه جَهَنَّمُ } لقربها ، كما يقال : هذا زيد قد وصل إذا قرب مكانه ، فكأنه قال : جهنم التي يكذب بها المجرمون هذه قريبة غير بعيدة عنهم ، ويؤيده قوله : « يُكَذِّبُ »؛ لأن الكلام لو كان بإضمار يقال ، لقال تعالى لهم : ( هذه جهنم التي كذب بها المجرمون ) ؛ لأن في ذلك اليوم لا يبقى تكذيب .
قوله تعالى : « يَطُوفُونَ » .
قراءة العامة : « يَطُوفون » من « طاف » ، وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وأبو عبد الرحمن : « يُطَافُونَ » مبنيًّا للمفعول ، من أطافهم غيرهم .
والأعمش وطلحة وابن مقسم : « يُطَوِّفُون » بضم الياء وفتح الطاء وكسر الواو مشددة ، أي يطوفون أنفسهم .
وقرأت فرقة : « يَطَّوَّفُونَ » بتشديد الطَّاء والواو ، والأصل : « يتطوّفون » .
قوله تعالى : { حَمِيمٍ آنٍ } أي : حَارّ متناهٍ في الحرارة ، وهو منقوص ك « قاض » يقال : « أتَى يَأتِي فهو آتٍ » ك « قَضَى يَقْضِي فهو قَاضٍ » . وقد تقدم في « الأحزاب » .
قال قتادة : يطوفون مرة بين الحميم ، ومرة بين الحميم والجحيم .
و « الحميم » : الشّراب . وفي قوله تعالى : « آنٍ » ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الذي انتهى حرّه وحميمه . قاله ابن عبَّاس ، وسعيد بن جبير ، والسدي ، ومنه قول النابغة الذبياني : [ الوافر ]
4650- وتُخْضَبُ لِحْيَةٌ غَدَرَتْ وخَانَتْ ... بأحْمَرَ مِنْ نَجِيعِ الجَوْفِ آنِ
وقال قتادة : « آن » طبخ منذ خلق الله السموات والأرض ، يقول : إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم ذلك .
وعن كعب : أنه الحاضر ، وعنه أيضاً : « آن » اسم واد من أودية جهنّم .
وقال مجاهد : إنه الذي قد آنَ شربه ، وبلغ غايته .
ثم قال : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
فإن قيل : هذه الأمور ليست نعمة ، فكيف قال : بأي آلاء؟ .
فالجواب من وجهين .
أحدهما : أن ما وصف من هَوْلِ القيامة ، وعقاب المجرمين فيه زَجْر عن المعاصي ، وترغيب في الطَّاعات وهذا من أعظم النعم .
« روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على شاب في الليل يقرأ : { فَإِذَا انشقت السمآء فَكَانَتْ وَرْدَةً كالدهان } فوقف الشَّاب ، وخنقته العبرة ، وجعل يقول : ويحي من يوم تنشقُّ فيه السماء وَيْحِي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » ويحك يا فتى ، يأتيني مثلها ، فوالذي نَفْسِي بيدهِ لقَدْ بَكَتْ ملائكةُ السَّماءِ منْ بُكائِكَ « » .
الثاني : أن المعنى كذبتم بالنعم المتقدمة ما استحقيتم هذه العقوبات ، وهي دالة على الإيمان بالغيب ، وهو من أعظم النعم .
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)
قوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } .
يجوز أن يكون « مَقَام » مصدراً ، وأن يكون مكاناً .
فإن كان مصدراً ، فيحتمل أن يكون مضافاً لفاعله ، أي : قيام ربه عليه ، وحفظه لأعماله من قوله تعالى : { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [ الرعد : 33 ] . ويروى عن مجاهد ، قال مجاهد وإبراهيم النَّخعي : هو الرجل يهمّ بالمعصية ، فيذكر الله فيدعها من خوفه .
وأن يكون مضافاً لمفعوله ، والمعنى : القيام بحقوق الله فلا يضيعها .
وإن كان مكاناً ، فالإضافة بأدنى ملابسة لما كان النَّاس يقومون بين يدي الله للحساب في عرصات القيامة .
قيل : فيه مقام الله ، والمعنى : خاف مقامه بين يدي ربه للحساب ، فنزلت المعصية ، ف « مقام » : مصدر بمعنى القيام .
فصل فيمن علق طلاق زوجته على دخوله الجنة
قال القرطبي : هذه الآية دليل على أن من قال لزوجته : إن لم أكُن من أهل الجنة فأنت طالق ، أنه لا يحنث إن كان هم بالمعصية وتركها خوفاً من الله وحياء منه . وقاله سفيان الثوري وأفتى به .
فصل في المراد بالجنتين
الظاهر أن الجنتين لخائف واحد .
قال محمد بن علي الترمذي : جنّة لخوفه من ربه ، وجنّة لتركه شهوته .
قال ابن عباس : من خاف مقام ربه بعد أداء الفرائض .
قال القرطبي : ويجوز أن يكون المقام للعبد ، ثم يضاف إلى الله ، وهو كالأجل في قوله تعالى : { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ } [ الأعراف : 34 ] وقوله في موضع آخر : { إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ } [ نوح : 4 ] .
وقوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ } أي : كل خائف له جنتان على حدة .
وقيل : جنتان لجميع الخائفين . والأول أظهر .
وقيل : جنة لخائف الإنس ، وأخرى لخائف الجن ، فيكون من باب التوزيع . وقيل : « مقام » هنا مُقحم ، والتقدير : « ولمن خاف ربه »؛ وأنشد : [ الوافر ]
4651- . . . ونَفَيْتُ عَنْهُ ... مَقَامَ الذِّئْبِ كالرَّجُلِ اللَّعينِ
أي : نفيت الذئب وليس بجيد ، لأنَّ زيادة الاسم ليست بالسهلة .
وقيل : المراد ب « الجنتين » : جنّة للجزاء ، وأخرى زيادة على الجزاء .
وقيل : إن الجنتين : جنته التي خلقت له ، وجنة ورثها .
وقيل : إحدى الجنتين منزله ، والأخرى منزل أزواجه كما يفعله رؤساء الدنيا .
وقيل : إحدى الجنتين مسكنه ، والأخرى بستانه .
وقيل : إن إحدى الجنتين أسافل القصور ، والأخرى أعاليها .
وقال مقاتل : هما جنة عدن وجنة النعيم .
وقال الفرَّاء : إنها جنة واحدة ، وإنما ثنّى مراعاة لرءوس الآي .
وقيل : جنة واحدة ، وإنما ثنّى تأكيداً كقوله تعالى : { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ } [ ق : 24 ] .
وأنكر القتبي هذا ، وقال : لا يجوز أن يقال : خزنة النار عشرون ، وإنما { تِسْعَةَ عَشَرَ } [ المدثر : 30 ] مراعاة لرءوس الآي .
وأيضاً قال : { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } .
وقال عطاء وابن شوذب : نزلت هذه الآية في أبي بكر - رضي الله عنه - حين ذكر ذات يوم الجنّة حين أزلفت ، والنَّار حين برزت .
وقال الضحاك : بل شرب ذات يوم لبناً على ظمأ ، فأعجبه فسأل عنه ، فأخبر أنه من غير حلٍّ فاستقاءه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ، فقال : « رحمكَ اللَّهُ لقَدْ أنْزِلَتْ فِيْكَ آيَةٌ » ، وتلا عليه هذه الآية .
قوله تعالى : « ذَوَاتَا » . صفة ل « جَنَّتان » ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : « هما ذواتا » .
وفي تثنية « ذات » لغتان :
الرد إلى الأصل ، فإن أصلها « ذوية » ، فالعين واو ، واللام ياء؛ لأنها مؤنثة « ذو » .
الثانية : التثنية على اللفظ . فيقال : « ذواتا » .
و « الأفنان » : فيه وجهان .
أحدهما : أنه جمع « فَنَن » ك « طلل » ، وهو الغصن .
قال النابغة الذبياني : [ الوافر ]
4652- بُكَاءُ حَمَامَةٍ تَدْعُو هَدِيلاً ... مُفَجَّعَةٍ على فَنَنٍ تُغَني
وقال آخر : [ الرمل ]
4653- رُبَّ وَرْقَاءَ هَتُوفٍ بالضُّحَى ... ذَاتِ شَجْوٍ صَدَحَتْ في فَنَنِ
وقال آخر : [ الطويل ]
4654- . . ... عَلَى كُلِّ أفْنَانِ العِضَاهِ تَرُوقُ
و « الفَنَن » : جمعه أفنان ثم الأفانين .
قال الشاعر يصف رحى : [ الرجز ]
4655- لَهَا زِمَامٌ مِنْ أفَانِينِ الشَّجَرْ ... وشجرة فناء : أي ذات أفنان ، وفنواء أيضاً على غير قياس .
وفي الحديث : « أنَّ أهْلَ الجنَّةِ مُردٌ مُكَحَّلُون أولُو أفَانِيْن » .
وهو جمع أفنان ، وأفنان : جمع « فَنَن » من الشعر ، شبه بالغصن . ذكره الهروي .
وقيل : « ذواتا أفنان » أي : ذواتا سعة وفضل على ما سواهما . قاله قتادة .
وعن مجاهد أيضاً وعكرمة : أن الأفنان ظل الأغصان على الحِيْطان .
وقال مجاهد : الفنن : هو الغصن المستقيم طولاً .
الوجه الثاني : أنه جمع « فنّ » ك « دنّ » ، وإليه أشار ابن عبَّاس .
والمعنى : ذواتا أنواع وأشكال؛ وأنشدوا : [ الطويل ]
4656- ومِنْ كُلِّ أفْنَانِ اللذَاذَةِ والصِّبَا ... لَهَوْتُ بِهِ والعَيْشُ أخضرُ نَاضِرُ
قال سعيد بن جبير والضحاك : ألوان من الفاكهة ، واحدها : « فنّ » ، من قولهم : « افتنّ فلان في حديثه » إذا أخذ في فنون منه وضروب ، إلا أن الكثير في « فنّ » أن يجمع على « فنون » ، وجمع عطاء بين القولين فقال : في كل غصن فنون من الفاكهة .
قوله تعالى : { فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } أي : في كل واحدة منهما عينٌ جارية ، كما قال تعالى : { فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ } [ الغاشية : 12 ] تجريان ماء بالزيادة ، والكرامة من الله - تعالى - على أهل الجنَّة .
وعن ابن عباس أيضاً والحسن : تجريان بالماء الزلال ، إحدى العينين : التسنيم؛ والأخرى السلسبيل .
وقال ابن عطية : إحداهما من ماء غير آسن ، والأخرى من خمر لذّة للشَّاربين .
وقيل : تجريان من جبل من مسك .
وقال أبو بكر الوراق : فيهما عينانِ تجريانِ ، لمن كانت عيناه في الدنيا تجريان من مخافة الله عز وجل .
قوله تعالى : { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } ، أي : صنفان ونوعان .
قيل : معناه : أن فيهما من كل ما يتفكه به ضربين رطباً ويابساً .
وقال ابن عبَّاس : ما في الدنيا ثمرة حُلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحَنْظل إلاّ أنه حلو .
فإن قيل : قوله تعالى : { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } ، و { فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } ، و { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } . أوصاف للجنتين المذكورتين ، فهو كالكلام الواحد ، تقديره : « جنتان ذواتا أفنان ، وفيهما عَيْنَان تجريان ، وفيهما من كل فاكهة زوجان » فما الفائدة في فصل بعضها عن بعض بقوله : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ؟ مع أنه لم يفصل حين ذكر العذاب بين الصفات ، بل قال : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ } [ الرحمن : 35 ] مع أن إرسال النُّحاس غير إرسال الشُّواظ . وقوله : « يَطُوفُون » كلام آخر؟ .
فالجواب : أنه جمع العذاب جملة ، وفصل آيات الثواب ترجيحاً لجانب الرحمة على جانب العذاب ، وتطييباً للقلب ، وتهييجاً للسَّامع؛ فإن إعادة ذكر المحبوب محبوب ، وتطويل الكلام في اللذات مستحسن .
فإن قيل : ما وجه توسيط آية العينين بين ذكر الأفنان ، وآية الفاكهة والفاكهة إنما تكون على الأغصان ، فالمناسبة ألاّ يفصل بين آية الأغصان والفاكهة؟ .
فالجواب : أنه على عادة المتنعمين إذا خرجوا يتفرجون في البستان ، فأول قصدهم الفرجة بالخضرة والماء ، ثم يكون الأكل تبعاً .
قوله : « متّكِئين » يجوز أن يكون حالاً من « منْ » في قوله { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } وإنما جمع حملاً على معنى « مَنْ » بعد الإفراد حملاً على لفظها .
وقيل : حال عاملها محذوف ، أي : يتنعمون متكئين .
وقيل : منصوب على الاختصاص .
والعامة على : « فُرُش » بضمتين ، وأبو حيوة : بضمة وسكون ، وهي تخفيف منها .
قوله تعالى : { بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } هذه الجملة يجوز أن تكون مستأنفة والظاهر أنها صفة ل « فُرش » . وتقدم الكلام في « الاستبرق » في سورة الكهف .
وقال أبو البقاء : أصل الكلمة فعل على « اسْتَفْعَلَ » ، فلما سمي به قطعت همزته .
وقيل : هو أعجمي ، وقرىء بحذف الهمزة ، وكسر النون ، وهو سهو؛ لأن ذلك لا يكون في الأسماء ، بل في المصادر والأفعال . انتهى . أما قوله : وهو سهو؛ لأن ذلك لا يكون إلا في الأسماء . . . الخ .
يعني أن حذف الهمزة في الدَّرج لا يكون إلا في الأفعال والمصادر .
وأما الأسماء فلا تحذف همزاتها؛ لأنها همزات قطع .
قال شهاب الدين : « وهذا الكلام أحق بأن يكون سهواً؛ لأنا أولاً لا نسلم أن هذه القراءة من حذف همزة القطع إجراءً لها مجرى همزة الوصل ، وإنما ذلك من باب نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها ، وحركة الهمزة كانت كسرة ، فحركة النون حركة نقل لا حركة التقاء الساكنين » .
ثم قوله : « إلا في الأفعال والمصادر » ليس هذا الحَصْر بصحيح اتفاقاً لوجود ذلك في أسماء عشرة ليست بمصادر تقدم ذكرها في أول الكتاب .
قال ابن الخطيب : قوله : « عَلى فُرُشٍ » متعلق بما في « مُتَّكئينَ » ، كأنه يقول : يتَّكئون على فرش ، كما يقال : فلان اتكَّأ على عصاه ، أو على فخذيه ، وهذا لأن الفراش لا يتكأ عليه ، وإن كان متعلقاً بغيره فما هو؟ .
فنقول : تقديره : يتفكّه الكائنون على فرش متكئين ، من غير بيان ما يتكئون عليه .
فصل في تحرير معنى الاستبرق
« الإسْتَبْرَقُ » : ما غلظ من الدِّيباج .
قال ابن مسعود ، وأبو هريرة : إذا كانت البطانة التي تلي الأرض هكذا فما ظنك بالظهارة؟ .
وقيل لسعيد بن جبير : البطائن من إستبرق فما الظواهر؟ .
قال : هذا مما قال الله : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [ السجدة : 17 ] .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إنما وصف لكم بطائنها لتهتدي إليه قلوبكم ، فأما الظواهر فلا يعلمها إلا الله .
قال القرطبي : وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ظَواهِرُهَا نُورٌ يتلألأُ » وعن الحسن : البطائن هي الظَّواهر ، وهو قول الفراء .
روي عن قتادة : والعرب تقول للبطن : ظهراً ، فيقولون : هذا بطن السماء ، وظهر الأرض .
وقال الفرَّاء : قد تكون البطانة : الظهارة ، والظهارة : البطانة؛ لأنَّ كل واحد منهما يكون وجهاً ، والعرب تقول : هذا ظهر السماء ، وهذا بطن السماء لظاهرها الذي تراه .
وأنكر ابن قتيبة وغيره هذا ، وقالوا : لا يكون هذا إلاَّ في الوجهين المتساويين إذا ولي كل واحد منهما قوماً كالحائط بينك وبين قوم ، وعلى ذلك أمر السماء .
وقال ابن عباس : وصف البطائن وترك الظواهر؛ لأنه ليس في الأرض أحد يعرف ما الظَّواهر .
فصل في أن الإستبرق معرب
قال ابن الخطيب : الإستبرق معرب ، وهو الدِّيْبَاج الثخين ، وكما أن الديباج معرب بسبب أن العرب لم يكن عندهم ذلك إلا من العجم تصرفوا فيه ، وهو أن أصله بالفارسية « ستبرك » بمعنى : ثخين ، فزادوا في أوله همزة ، وبدلوا الكاف قافاً ، أما الهمزة فلأن حركات أوائل الكلم في لسان العجم غير مبنية في كثير من المواضع ، فصارت كالسكون ، فأثبتوا فيه همزة كما يجلبون همزة الوصل عند سكون أول الكلمة ، ثم إنَّ البعض جعلوها همزة وصل ، وقالوا : « مِن اسْتَبْرَقٍ » . والأكثرون جعلوها همزة قطع؛ لأن أول الكلمة في الأصل متحرك ، لكن بحركة فاسدة ، فأتوا بهمزة تسقط عنهم الحركة الفاسدة ، وتمكنهم من تسكين الأول؛ لأن عند تساوي الحركة العود إلى السُّكون أقرب ، وأواخر الكلمات عند الوقف تسكن ، ولا تبدل حركة بحركة .
وأما القافُ فلأنهم أرادوا إظهار كونها فارسية أو أعجمية ، فأسقطوا منها الكاف التي هي حرف تشبيه ، وعلى لسان العرب في أواخر الكلم للخطاب لو تركت الكاف لاشتبه « ستبرك » ب « مسجدك » ، إذا لحقت كاف الخطاب بهما ، فلو تركت الكاف قافاً أولاً ، ثم ألحقت الهمزة بأولها ، وهذا ومثله لا يخرج القرآن عن كونه عربيًّا؛ لأن العربي ما نطقت به العرب وضعاً واستعمالاً من لغة غيرها ، وذلك كله سهلٌ عليهم ، وبه يحصل الإعجاز ، بخلاف ما لم يستعملوه من كلام العجم لصعوبته عليهم ، وذكر الاتكاء؛ لأنه حال الصَّحيح الفارغ القلب المتنعم ، بخلاف المريض والمهموم .
قوله تعالى : { وَجَنَى الجنتين دَانٍ } مبتدأ وخبر ، وأصله : « دان » مثل « غاز » فأعل كإعلاله .
وقرأ عيسى بن عمر : « وجَنِي » بكسر النون .
وتوجيهها : أن يكون أمال الفتحة لأجل الألف ، ثم حذف لالتقاء الساكنين ، وأبقى إمالة النون نحو الكسرة وقرىء : « وجِنَى » بكسر الجيم ، وهي لغة .
والجنى : ما يقطف من الثِّمار ، وهو « فَعْلٌ » بمعنى « مفعول » كالقَبْضِ والقنص .
فصل في المراد بالجنى
قال القرطبي : « الجنى » : ما يُجْتنى من الشجر ، تقول : أتانا الشجر بجناة طيبة لكل ما يجتنى ، وثمرة جنيٌّ على « فَعِيل » حين جُني .
قوله : « دانٍ » أي : قريب .
قال ابن عبَّاس : تدنو الشجرة حين يجتنيها ولي الله إن شاء قائماً ، وإن شاء قاعداً ، وإن شاء مضطجعاً .
وقال قتادة : لا يرد يده بعد ، ولا شوك .
قال ابن الخطيب : جنة الآخرة مخالفة لجنّة الدنيا من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الثمرة على رءوس الشجر في الدنيا بعيدة على الإنسان المتّكىء ، وفي الجنة هو متكىء ، والثمرة تتدلى إليه .
ثانيها : أن الإنسان في الدنيا يسعى إلى الثمرة ، ويتحرك إليها ، وفي الآخرة هي تدنُو إليهم ، وتدور عليهم .
وثالثها : أنَّ الإنسان في الدنيا إذا قرب من ثمر شجرة بعد عن غيرها ، وثمار الجنة كلها تدنو إليهم في وقت واحد ، ومكان واحد .
قوله تعالى : { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطرف } .
اختلف في هذا الضمير .
فقيل : يعود على الجنات .
فإن قيل : كيف تقدّم تثنيته في قوله : { فِيهِمَا عَيْنَانِ } ، و { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ } ثم أتى بضمير جمع؟ .
فالجواب : أن أقلّ الجمع اثنان على قول ، وله شواهد تقدم أكثرها ، أو يقال : عائد إلى الجنَّات المدلول عليها بالجنتين .
أو يقول : كل فرد فرد له جنتان فصح أنها جنان كثيرة ، وإما أن الجنة تشتمل على مجالس وقصور ومنازل ، فأطلق على كل واحد منها جنة .
وقيل : يعود على الفرش .
قال الزمخشري : « فِيهِنَّ » أي : في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين ، والفاكهة والفرش والجنى .
قال أبو حيان : « وفيه بُعْد » وكأنه قد استحسن الوجه الأول وفيه نظر؛ لأن الاستعمال أن يقال : على الفراش كذا ، ولا يقال : في الفراش كذا إلا بتكلّف .
فلذلك جمع الزمخشري مع الفرش غيرها حتى صح له أن يقول : « فيهن » بحرف الظرفية؛ ولأن الحقيقة أن يكون الإنسان على الفرش لأنه مستعمل عليها .
وأما كونها فيها فلا يقال إلا مجازاً .
وقال الفراء : كل موضع في الجنة ، فلذلك صح أن يقال : « فيهن » .
والقاصرات : الحابسات الطَّرف : أي يحبسن أعينهن عن غير أزواجهن .
ومعناه : قصرن ألحاظهن على أزواجهن .
قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
4657- مِنَ القَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مِحْوَلٌ ... مِنَ الذّرِّ فوقَ الإتبِ مِنْهَا لأثَّرَا
و « قاصرات الطّرف » من إضافة اسم الفاعل لمنصوبه تخفيفاً ، إذ يقال : قصر طرفه على كذا ، وحذف متعلق القصر للعلم به ، أي : على أزواجهن .
وقيل : معناه : قاصرات طرف غيرهن عليهن إذا رآهن أحد لم يتجاوز طرفه إلى غيرهن .
ووحد الطرف مع الإضافة إلى الجمع؛ لأنه في معنى المصدر ، من طرفت عيناه تطرف طرفاً ، يقال : ما فيها عين تطرف ، ثم سميت العين بذلك ، فأدى عن الواحد والجمع ، كقولهم : « قَومٌ عَدْل ، وصَوْم » . قاله القرطبي .
واعلم أن هذا الترتيب في غاية الحسن؛ لأنه بيَّن أولاً المَسْكن وهو الجنة ، ثم بين ما يتنزّه به وهو البستان ، والأعين الجارية ، ثم ذكر المأكول ، فقال : { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } ، ثم ذكر موضع الرَّاحة بعد الأكل وهو الفرش ، ثم ذكر ما يكون في الفراش معه .
قال ابن الخطيب : وقوله : { قَاصِرَاتُ الطرف } .
أي : نساء أو أزواج ، فحذف الموصوف لنكتة وهو أنه - تعالى - لم يذكرهُنّ باسم الجنس ، وهو النساء بل بالصفات ، فقال : { وَحُورٌ عِينٌ } [ الواقعة : 22 ] ، { وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً } [ النبأ : 33 ] { قَاصِرَاتُ الطرف } ، { حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ } [ الرحمن : 72 ] ولم يقل : نساء عُرباً ، ولا نساء قاصرات ، لوجهين :
إما على عادة العظماء كبنات الملوك إنما يذكر بأوصافهنّ ، وإما لأنهن لما كملن كأنهن خرجن من جنسهن .
وقوله تعالى : { قَاصِرَاتُ الطرف } يدل على عفّتهن ، وعلى حسن المؤمنين في أعينهن ، فيحببن أزواجهن حبًّا يشغلهنَّ عن النَّظر إلى غيرهم ، ويدل أيضاً على الحياء؛ لأن الطرف حركة الجفن ، والحييَّةُ لا تحرك جفنها ، ولا ترفع رأسها .
قوله تعالى : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ } .
هذه الجملة يجوز أن تكون نعتاً ل « قاصرات » ، لأن إضافتها لفظية ، كقوله تعالى : { هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } [ الأحقاف : 24 ] .
وقوله : [ البسيط ]
4658- يَا رُبَّ غَابِطِنَا لَوْ كَانَ يَطْلُبُكُمْ ..
وأن يكون حالاً لتخصيص النكرة بالإضافة .
واختلف في هذ الحرف والذي بعده عن الكسائي ، فنقل عنه أنه يجيء في ضم أيهما شاء .
ونقل عنه الدوري ضم الأول فقط .
ونقل عنه أبو الحارث : ضم الثاني فقط ، وهما لغتان .
يقال : طَمَثَها يَطْمِثها ويَطْمُثها إذا جامعها ، لما روى أبو إسحاق السبيعي قال : كنت أصلي خلف أصحاب عليٍّ فأسمعهم يقولون : « لم أطْمِثْهُنّ » بالرفع ، وكنت أصلي خلف أصحاب عبد الله فأسمعهم يقولون : بكسر الميم ، وكان الكسائي يضم إحداهما ، ويكسر الأخرى لئلاّ يخرج عن هذين الأثرين .
وأصل « الطَّمْث » : الجماع المؤدّي إلى خروج دم البكر ، ثم أطلق على كل جماع طمث ، وإن لم يكن معه دم .
وقيل : « الطّمث » : دم الحيض ودم الجماع ، فيكون أصله من الدم .
ومنه قيل للحائض : طامث ، كأنه قيل : لم يدمهن بالجماع إنس قبلهم ولا جانّ .
وقيل الطمث : المسّ الخالص .
وقال الجحدري ، وطلحة بن مصرف : « يطمثهن » بفتح الميم في الحرفين ، وهو شاذ ، إذ ليس عينه ولا لامه حرف حلق .
والضمير في « قبلهم » عائد على الأزواج الدال عليهم قوله : { قَاصِرَاتُ الطرف } ، أو الدَّال عليه « متكئين » .
فصل في تحرير معنى الطمث
قال القرطبي : « لم يطمثهن » أي : لم يصبهن بالجماع قبل أزواجهن أحد .
قال الفراء : والطَّمْث : الافتضاض والنكاح بالتدمية ، طَمَثَها يَطْمِثُها طَمْثاً إذا افتضها .
ومنه قيل : امرأة طامث أي : حائض .
وغير الفراء يخالفه في هذا ويقول : طمثها بمعنى وطىء على أيّ الوجوه كان ، إلا أن الفراء أعرف وأشهر .
قال الفرزدق : [ الوافر ]
4659- وقَعْنَ إليَّ لَمْ يُطْمَثْنَ قَبْلِي ... وهُنَّ أصحُّ مِنْ بَيْضِ النَّعَامِ
وقال أبو عمرو : الطَّمث والمس ، وذلك في كل شيء يمسّ ، ويقال للمرتع : ما طمث ذلك المرتع قبله أحد ، وما طمث هذه النَّاقة حبل أي ما مسها عقال وقال المبرد : لم يذللهن إنس ولا جان ، والطمث : التذليل .
وقرأ الحسن : « جأن » بالهمزة .
فصل في أن الجن يجامعون ويدخلون الجنة كالإنس
دلّت هذه الآية على أن الجن تغشى كالإنس ، وتدخل الجنة ، ويكون لهم فيها جنيّات .
قال ضَمْرَة : للمؤمنين منهم أزواج من الحُور ، فالإنسيَّات للإنس ، والجنّيات للجن .
وقيل : معناه : لم يطمث ما وهب الله للمؤمنين من الجنّ في الجنَّة من الحور العين من الإنسيّات إنس ، وذلك لأن الجن لا تطأ بنات آدم في الدنيا . ذكره القشيري .
قال القرطبي : قد مضى القول في سورة « النمل » وفي « سبحان » وأنه جائز أن تطأ بنات بني آدم .
وقد قال مجاهد : إنه إذا جامع الرجل ، ولم يسم انطوى الجانّ على إحليله فجامع معه ، فذلك قوله : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } يعلمك أن نساء الدنيا لم يطمثهن الجان . والحور العين قد برئن من ذلك العيب .
قال مقاتل قوله : { لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان } ؛ لأنهن خلقن في الجنة ، فعلى قوله يكونون من حور الجنة .
وقال الشعبي : من نساء الدنيا لم يَمْسَسْهن منذ أنشئن خلقٌ ، وهو قول الكلبي ، أي لم يجامعهن في الخلق الذي فيه إنس ولا جان .
قوله تعالى : { كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان } .
هذه الجملة يجوز أن تكون نعتاً ل « قَاصِرَات » ، وأن تكون حالاً منها . ولم يذكر مكي غيره .
و « الياقُوت » : جوهر نفيس ، يقال : إن النار لم تؤثر فيه .
ولذلك قال الحريري : [ البسيط ]
4660- وطَالَمَا أصلي اليَاقوتُ جَمْر غَضَى ... ثُمَّ انْطفَى الجَمْرُ والياقوتُ يَاقوتُ
أي حاله لم يؤثر بها ، وجه التشبيه كما قال الحسن في صفاء الياقوت ، وبياض المرجان ، وهذا على القول بأنه أبيض .
وقيل : الوجه في الصفة بهما لنفاستهما لا للونهما ، ولذلك سموا بمرجانة ودُرَّة وشبه ذلك .
قوله تعالى : { هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان } .
قرأ ابن أبي إسحاق : « إلا الحسان » أي : الحور الحسان .
قال القرطبي : هَلْ في الكلام على أربعة أوجه : تكون بمعنى « قد » ، كقوله تعالى : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان } [ الإنسان : 1 ] ، { وَهَلْ أَتَاكَ } [ طه : 9 ] ، وبمعنى الاستفهام كقوله : { فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً } [ الأعراف : 44 ] .
وبمعنى الأمر كقوله تعالى : { فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] .
وبمعنى « ما » في الجَحْد كقوله تعالى : { فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ المبين } [ النحل : 35 ] ، و { هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان } .
قال ابن الخطيب : في هذه الآية وجوهٌ كثيرة حتى قيل : إنَّ في القرآن ثلاث آيات في كل واحدة منها مائة قول :
أحدها : قوله تعالى : { فاذكرونيا أَذْكُرْكُمْ } [ البقرة : 152 ] .
ثانيها : { وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا } [ الإسراء : 8 ] .
ثالثها : { هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان } والمشهور منها أقوال :
أحدها : قال عكرمة : أي : هل جزاء من قال : لا إله إلاَّ الله ، وعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا الجنة .
وقيل : هل جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة . قاله ابن زيد .
« وروى أنس - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ { هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان } ثم قال : هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قال : هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة » .
« وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ، فقال : » يقول الله تعالى : هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي وتوحيدي إلاّ أنْ أُسكنه جنَّتي وحظيرة قدسي برحمتي « » .
وقال الصادق : هل جزاء من أحسنت إليه في الأزل إلا حفظ الإحسان إليه في الأبد .
قال ابن الخطيب : والأقرب أنه عام ، فجزاء كل من أحسن إلى غيره أن يحسن هو أيضاً .
وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
قوله تعالى : { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } .
أي : من دون تلك الجنتين المتقدمتين جنَّتان في المنزلة وحسن المنظر ، وهذا على الظاهر من أن الأوليين أفضل من الأخريين ، وقيل : بالعكس ، ورجحه الزمخشري .
وقال : قوله : { مُدْهَآمَّتَانِ } مع قوله في الأوليين : { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } [ الرحمن : 48 ] يدل على أن مرتبة هاتين دونهما ، وكذلك قوله في الأوليين : { فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } [ الرحمن : 50 ] مع قوله في هاتين : { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } ؛ لأن النضخ دون الجري ، وقوله في الأوليين : { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ } [ الرحمن : 52 ] مع قوله في هاتين : { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ } ، وقوله في الأوليين : { فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } [ الرحمن : 54 ] حيث ترك ذكر الظهائر لعلوها ورفعتها ، وعدم إدراك العقول إياها ، مع قوله في هاتين : « رفرفٍ خُضرٍ » دليل عليه .
وقال القرطبي : لما وصف الجنتين أشار إلى الفرق بينهما ، فقال في الأوليين : { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ } [ الرحمن : 52 ] وفي الأخريين : { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } ولم يقل : من كل فاكهة .
وقال في الأوليين : { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } [ الرحمن : 54 ] وهو الدِّيباج .
وفي الأخريين : { مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ } [ الرحمن : 76 ] و « العَبْقَرِي » : الوشْي ، والديباج أعلى من الوشي .
والرفرف : كسرُ الخباء ، والفرش المعدة للاتِّكاء عليها أفضل من كسر الخباء .
وقال في الأوليين في صفة الحور : { كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان } [ الرحمن : 58 ] .
وفي الأخريين : { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ } ، وليس كل حسن كحسن الياقوت والمرجان .
وقال في الأوليين : { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } [ الرحمن : 48 ] .
وفي الأخريين : { مُدْهَآمَّتَانِ } أي : خضراوان كأنهما من شدة خضرتهما سوداوان ، وفي هذا كله بيان لتفاوت ما بينهما .
قال ابن الخطيب : ويمكن أن يجاب الزمخشري بأن الجنتين اللتين من دونهما لذريتهم التي ألحقهم الله - تعالى - بهم ولأتباعهم لا لهم ، وإنما جعلها لهم إنعاماً عليهم ، أي : هاتان الأخريان لكم ، أسكنوا فيهما من تريدون .
وقيل : إن المراد بقوله : { وَمِن دُونِهِمَا } أي : دونهما في المكان ، كأنهم في جنتين ، ويطلعون من فوق على جنتين أخريين ، بدليل قوله تعال : { لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } [ الزمر : 20 ] .
وقال ابن عباس : ومن دونهما في الدّرج .
وقال ابن زيد : ومن دونهما في الفضل .
وقال ابن عباس : والجنات لمن خاف مقام ربه ، فيكون في الأوليين : النخل والشجر وفي الأخريين : الزرع والنبات .
وقيل : المراد من قوله : { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } لأتباعه لقصور منزلتهم عن منزلة أحدهما للحور العين ، والأخرى للولدان المخلدون ليتميز بها الذكور من الإناث .
وقال ابن جريج : هي أربع جناتٍ منها للسابقين المقربين فيها من كل فاكهة زوجان ، وعينان تجريان ، وجنات لأصحاب اليمين فيها فاكهة ونخل ورمان .
وقال أبو موسى الأشعري : جنتان منها للسَّابقين ، وجنتان من فضَّة للتابعين .
وقال عليه الصلاة والسلام : « جَنَّتانِ من فضَّةٍ ، آنيتُهمَا وما فيهمَا ، وجنَّتانِ مِنْ ذهبٍ آنيتُهُمَا وما فِيهَما ، وما بَيْنَ القَوْمِ وبيْنَ أن يَنْظرُوا إلى ربِّهِمْ إلاَّ رِدَاءُ الكِبرياءِ على وجْهِهِ في جنَّة عدْنٍ » .
وقال الكسائي : { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } أي : أمامهما وقبلهما .
قال البغوي : « يدلّ عليه قول الضحاك : الجَنَّتان الأوليان من ذهب وفضّة ، والأخريان من ياقُوت وزمرّد ، وهما أفضل من الأوليين » .
وإلى هذا القول ذهب أبو عبد الله الترمذي الحكيم في « نوادر الأصول » ، وقال : « ومعنى { ومن دونهما جنتان } أي : دون هذا إلى العرش ، أي : أقرب وأدنى إلى العرش » .
وقال مقاتل : الجنَّتان الأوليان : جنة عدن وجنة النعيم ، والأخريان : جنة الفردوس ، وجنة المأوى .
قوله تعالى : { مُدْهَآمَّتَانِ } أي : خضراوان . قاله ابن عبَّاس وغيره .
وقال مجاهد : مسودتان .
والإدْهَام في اللغة : السواد وشدة الخضرة ، جُعلتا مدهامتان لشدة ريِّهما ، وهذا مشاهد بالنظر ، ولذلك قالوا : سواد « العراق » لكثرة شجره وزرعه .
ويقال : فرس أدهم وبعير أدهم ، وناقة دهماء ، أي اشتدت زرقته حتى ذهب البياض الذي فيه ، فإن زاد على ذلك واشتد السواد فهو جَوْن ، وادهمَّ الفرس ادهماماً أي صار أدهم .
وادْهَامَّ الشيء ادهيماماً : أي : اسوداداً ، والأرض إذا اخضرت غاية الخضرة تضرب إلى السواد ، ويقال للأرض المعمورة : سواد يقال : سواد البلد .
وقال عليه الصلاة والسلام : « عَليْكُمْ بالسَّوادِ الأعظَمِ ، ومن كَثَّرَ سوادَ قَوْمٍ فهُو مِنْهُمْ » .
قال ابن الخطيب : والتحقيق فيه أن ابتداء الألوان هو البياض وانتهاؤها هو السَّواد ، فإنَّ الأبيض يقبل كل لون ، والأسود لا يقبل شيئاً من الألوان .
قوله تعالى : { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } .
قال ابن عباس : فوَّارتان بالماء والنَّضْخُ - بالخاء المعجمة - أكثر من النَّضْحِ - بالحاء المهملة - لأن النَّضْح بالمهملة : الرَّشُّ والرشحُ ، وبالمعجمة : فورانُ الماء .
وقال ابن عباس والحسن ومجاهد : المعنى نضَّاختان بالخير والبركة .
وعن ابن مسعود وابن عباس أيضاً وأنس : تنضخ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور في دور أهل الجنة كما ينضخ رشّ المطر .
وقال سعيد بن جبير : بأنواع الفواكه والماء .
قوله تعالى : { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } .
قال بعض العلماء : ليس الرمان والنخل من الفاكهة؛ لأن الشيء لا يعطف على نفسه إنما يعطف على غيره؛ لأن العطف يقتضي المغايرة ، وهذا ظاهر الكلام ، فلو حلف لا يأكل فاكهة لم يحنث بأكلهما .
وقال الجمهور : هما من الفاكهة ، وإنما أعاد ذكر النَّخل والرمان لفضلهما على الفاكهة ، فهو من باب ذكر الخاص بعد العام تفضيلاً له كقوله تعالى : { مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] .
وقوله تعالى : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى } [ البقرة : 238 ] .
قال شهاب الدين : وهذا يجوز؛ لأن « فاكهة » عامًّا؛ لأنه نكرة في سياق الإثبات ، وإنما هو مطلق ، ولكن لما كان صادقاً على النخل والرمان قيل فيه ذلك .
وقال القرطبي : إنما كررهما؛ لأن النخل والرمان كانا عندهم في ذلك الوقت بمنزلة البُرِّ عندنا؛ لأن النخل عامةُ قوتهم ، والرُّمان كالتمرات ، فكان يكثر غرسها عندهم لحاجتهم إليه ، وكانت الفواكه عندهم من ألوان الثِّمار التي يعجبون بها ، فإنما ذكر الفاكهة ، ثم ذكر النخل والرمان لعمومهما ، وكثرتهما عندهم في « المدينة » إلى « مكّة » إلى ما والاها من أرض « اليمن » ، فأخرجهما في الذكر من الفواكه ، وأفرد الفواكه على حدتها .
وقيل : أفردا بالذكر؛ لأن النخل ثمرة : فاكهة وطعام .
والرُّمان : فاكهة ودواء ، فلم يخلصا للتفكّه .
ومنه قال أبو حنيفة رحمه الله : من حلف ألا يأكل فاكهة فأكل رماناً ، أو رطباً لم يحنث .
فصل في مناسبة هذه الآية لما قبلها
قال ابن الخطيب : قوله : { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } كقوله تعالى : { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } [ الرحمن : 52 ] ؛ لأن الفاكهة أرضية وشجرية ، والأرضية كالبطِّيخ وغيره من الأرضيات المزروعة ، والشجرية كالنَّخْل والرمان وغيرهما من الشجريات ، فقال : { مُدْهَآمَّتَانِ } بأنواع الخضر التي منها الفواكه الأرضية والفواكه الشجرية ، وذكر منها نوعين وهما الرمان والرطب؛ لأنهما متقابلان .
أحدهما : حلو ، والآخر : حامض .
وأحدهما : حار ، والآخر : بارد .
وأحدهما : فاكهة وغذاء ، والآخر : فاكهة ودواء .
وأحدهما : من فواكه البلاد الباردة ، والآخر : من فواكه البلاد الحارة .
وأحدهما : أشجار في غاية الطول والكبر ، والآخر : أشجاره بالضّد .
وأحدهما : ما يؤكل منه بارز ، وما لا يؤكل كامن ، فهما كالضدين ، والإشارة إلى الطرفين تتناول الإشارة إلى ما بينهما كقوله تعالى : { رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين } [ الرحمن : 17 ] .
فصل في الكلام على نخل ورمان الجنة
قال ابن عباس : الرمانة في الجنة ملء جلد البعير المُقَتَّب .
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : نخل الجَنة : جذوعها زمرد أخضر ، وكرمُها ذهب أحمر ، وسعفُها كسوة لأهل الجنة ، فيها ( مقطعاتهم ) وحللهم ، وثمرها أمثال القلال والدِّلاء ، أشد بياضاً من اللبن ، وأحلى من العسل ، وألين من الزُّبد ، ليس له عجم .
وفي رواية : كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى ، وإن ماءها ليجري في غير أخدود ، والعنقود : اثنا عشر ذراعاً .
قوله تعالى : { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } .
في « خيرات » وجهان :
أحدهما : أنه جمع « خَيْرة » من الخير ، بزنة « فعْلة » - بسكون العين - يقال : « امرأة خَيْرة وأخرى شَرّة » .
والثاني : أنه جمع « خيرة » المخفف من « خَيِّرة » ، ويدل على ذلك قراءة ابن مقسم والنهدي ، وبكر بن حبيب : « خيّرات » بتشديد الياء .
قال القرطبي : « وهي قراءة قتادة ، وابن السميفع ، وأبي رجاء العطاردي » .
وقرأ أبو عمرو : « خَيَرَات » بفتح الياء ، جمع « خَيَرة » ، وهي شاذة؛ لأن العين معلة ، إلا أن بني « هُذَيل » تعامله معاملة الصحيح ، فيقولون : « حورات وبيضات » .
وأنشد : [ الطويل ]
4661- أخُو بَيَضَاتٍ رَائِحٌ مُتَأوِّبٌ ... رَفِيقٌ بِمَسْحِ المَنْكِبَيْنِ سَبُوحُ
فصل في تفسير الآية
قال المفسرون : « الخيرات الحسان » يعني النِّساء ، الواحدة « خيرة » على معنى « ذوات خير » .
وقيل : « خيرات » بمعنى « خيِّرات » ، فخفف ك « هَيِّن وليِّن » .
روى الحسن عن أمّه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : « قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أخبرني عن قوله : » خَيْراتٌ حِسَان « قال : » خَيراتُ الأخلاقِ حسانُ الوُجوهِ « » .
وقال أبو صالح : لأنَّهُنَّ عَذَارى أبْكَارٌ .
وقال الحكيم الترمذي : ف « الخيرات » ، ما اختارهنّ الله فأبدع خلقهنّ باختياره ، فاختيار الله لا يشبه اختيار الآدميين ، ثم قال : « حِسَانٌ » فوصفهن بالحسن؛ فإذا وصف الله خالق الحسن شباباً بالحسن ، فانظر ما هناك .
وقال ابن الخطيب : « في باطنهن الخير ، وفي ظاهرهنّ الحسن » .
قوله تعالى : { حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام } .
معنى « مقصورات » : أي : محبوسات ومنه القصر؛ لأنه يحبس من فيه .
ومنه قول النحاة : « المقصور » ، لأنه حبس عن المد ، وحبس عن الإعراب أو حبس الإعراب فيه ، والنساء تمدح بملازمتهن البيوت كما قال قيس بن الأسلت : [ الطويل ]
4662- وتَكْسَلُ عَنْ جِيرَانِهَا فَيَزُرنهَا ... وتغْفُلُ عَنْ أبْيَاتِهِنَّ فتُعْذَرُ
ويقال : امرأة مقصورة وقصيرة ، وقصورة بمعنى واحد .
قال كثير عزة فيه : [ الطويل ]
4663- وأنْتِ الَّتِي حبَّبْتِ كُلَّ قصيرةٍ ... إليَّ ، ولَمْ تَعْلَمْ بذاكَ القَصَائِرُ
عَنَيْتُ قِصاراتِ الحِجَالِ ولمْ أردْ ... قِصَارَ الخُطَا ، شرُّ النِّساءِ البَحاتِرُ
و « الخيام » : جمع « خَيْمة » ، وهي تكون من ثُمام وسائر الحشيش ، فإن كانت من شعر ، فلا يقال لها : خيمة ، بل بيت .
قال جرير : [ الوافر ]
4664- مَتَى كَانَ الخِيَامُ بِذِي طُلُوحٍ ... سُقيتِ الغَيْثَ أيَّتُهَا الخِيَامُ
فصل في أن جمال الحور يفوق الآدميات
اختلفوا أيهما أكثر حسناً وأتم جمالاً الحور أو الآدميات .
فقيل : الحور لما ذكر من صفتهن في القرآن والسُّنة ، « ولقوله صلى الله عليه وسلم في دعائه في صلاة الجنائز : » وأبْدِلْ لَهُ دَاراً خَيْراً مِنْ داره ، وأبْدِلْ لَهُ زَوْجاً خَيْراً من زَوْجِه « » .
وقيل : الآدميات أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف ، روي ذلك مرفوعاً .
وقيل : إن الحور العين المذكورات في القرآن هن المؤمنات من أزواج النَّبيِّين والمؤمنين يخلقن في الآخرة على أحسن صورة . قاله الحسن البصري .
والمشهور أن الحور العين لسن من نساء أهل الدنيا ، إنما هن مخلوقات في الجنة؛ لأن الله تعالى قال : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } وأكثر نساء أهل الدنيا مطموثات .
فصل في جمال الحور العين
« الحور » : جمع حوراء وهي الشديدة بياض العين مع سوادها .
و « المقصورات » : المحبوسات المستورات في الخيام ، وهي الحجال ، لسن بالطَّوافات في الطرق ، قاله ابن عباس .
وقال عمر رضي الله عنه : « الخيمة » : درّة مجوفة . وقاله ابن عباس .
وقال : وهي فرسخ في فرسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب .
قال أبو عبد الله الحكيم الترمذي في قوله تعالى : { حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام } : بلغنا في الرواية أن سحابة أمطرت من العرش ، فخلقن من قطرات الرحمة ، ثم ضرب على كل واحدة خيمة على شاطىء الأنهار سعتها أربعون ميلاً وليس لها باب ، حتى إذا دخل وليّ الله الجنة انصدعت الخيمة عن باب ليعلم ولي الله أن أبصار المخلوقين من الملائكة والخدم لم تأخذها ، فهي مقصُورة قد قصر بها عن أبصار المخلوقين .
وقال مجاهد : قصرن أطرافهن وأنفسهن على أزواجهن فلا يبتغين بدلاً .
وقال عليه الصلاة والسلام : « لوْ أنَّ امْرأةً مِنْ نساءِ أهْلِ الجنَّة اطَّلعَتْ على أهْلِ الأرْضِ لأضاءَتْ ما بينَهُما ، ولمَلأتْ ما بَيْنهُمَا ريحاً » .
وتقدَّم الكلام على قوله تعالى : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } .
قوله تعالى : { مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ } .
« الرفرف » : جمع رفرفة فهو اسم جنس .
وقيل : بل هو اسم جمع . نقله مكي ، وهو ما تدلى من الأسرة من عالي الثياب وقال الجوهري : « والرفرف » : ثياب خضر تتخذ منها المحابس ، الواحدة : رَفرفة .
واشتقاقه : من رف الطائر إذا ارتفع في الهواء ، ورفرف بجناحيه إذا نشرهما للطَّيران ، ورفرف السحاب هبوبه .
ويدلّ على كونه جمعاً وصفه بالجمع .
وقال الراغب : رفيف الشجر : انتشار أغصانه ، ورفيف الطائر نشر جناحيه ، رَفَّ يَرِفُّ - بالكسر - ورفَّ فرخه يرُفُّه - بالضم - يفقده ، ثم استعير للفقدِ ، ومنه : « ما له حاف ولا رافّ » ، أي : من يحفه ويتفقده ، والرفرف : المنتشر من الأوراق .
وقوله : { على رَفْرَفٍ خُضْرٍ } ضرب من الثياب مشبه بالرياض .
وقيل : الرفرف طرف الفُسْطاط والخباء الواقع على الأرض دون الأطناب والأوتاد .
وذكر الحسن : أنه البُسُط .
وقال ابن جبير ، وابن عباس أيضاً : رياض الجنة من رفّ النبت إذا نعم وحسن .
وقال ابن عيينة : هي الزَّرابي .
وقال ابن كيسان : هي المرافق .
وقال أبو عبيدة : هي حاشية الثوب .
وقيل : الفرش المرتفعة .
وقيل : كل ثوب عريض عند العرب ، فهو رفرف .
قال القرطبي : « وفي الخبر في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم : فرُفِعَ الرَّفْرَفُ فَرأيْنَا وَجْهَهُ كأنَّهُ ورقَةٌ تُخَشْخِشُ » .
أي : رفع طرف الفسطاط .
وقيل : أصل الرفرف من رف النبت يرف إذا صار غضًّا نضيراً .
قال القتبي : يقال للشيء إذا كثر ماؤه من النعمة والغضاضة حتى يكاد يهتز : رفّ يرفّ رفيفاً . حكاه الهروي . وقد قيل : إن الرَّفرف شيء إذا استوى عليه صاحبه رفرف به ، وأهوى به كالمرجاح يميناً وشمالاً ورفعاً وخفضاً يتلذّذ به مع أنيسه ، قاله الحكيم الترمذي في « نوادر الأصول » .
قال : فالرفرف أعظم خطراً من الفرش ، فذكر في الأوليين
{ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } [ الرحمن : 54 ] .
وقال هنا : { مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ } .
فالرفرف هو مستقر الولي على شيء إذا استوى عليه الوليّ رفرف به ، أي طار به حيثما يريد كالمرجاح .
ويروى في حديث المعراج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ سدرة المنتهى ، جاء الرفرف فتناوله من جبريل ، وطار به إلى سند العرش ، فذكر أنه طار بي يخفضني ويرفعني حتى وقف بي على ربّي ، ثم لما كان الانصراف تناوله ، فطار به خفضاً ورفعاً يهوي به حتى آواه إلى جبريل - عليه السلام - .
ف « الرفرف » : خادم من الخدم بين يدي الله - تعالى - له خواصّ الأمور في محل الدنو والقرب كما أن البراق دابة تركبها الأنبياء مخصوصة بذلك في أرضه ، فهذا الرفرف الذي سخره لأهل الجنتين الدَّانيتين هو مُتَّكأهما وفرشهما ، يرفرف بالولي على حافات تلك الأنهار وشطوطها حيث شاء إلى خيام أزواجه .
فصل في الكلام على قوله : خضر
قوله تعالى : « خُضْرٍ » . نعت هنا ب « خضر »؛ لأن اسم الجنس ينعت بالجمع كقوله : { والنخل بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ } [ ق : 10 ] وحسن جمعه هنا جمع « حِسَان » .
وقرأ العامة : « رفرف » وقرأ عثمان بن عفان ونصر بن عاصم والجحدري والفرقبي وغيرهم : « رفَارِفَ خُضْرٍ » بالجمع وسكون الضاد .
وعنهم أيضاً « خُضُر » بضم الضاد ، وهي إتباع للخاء .
وقيل : هي لغة في جمع « أفْعَل » الصفة .
قال القرطبي : وروى أبو بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : { متَّكئين على رفارف خضر وعباقر حسان } . ذكره الثعلبي ، وضم الضاد من « خُضُر » قليل .
وأنشد ل « طرفة » : [ الرمل ]
4665- أيُّهَا الفِتْيانُ في مَجْلِسنَا ... جَرِّدُوا مِنهَا وِرَاداً وشُقُرْ
وقال آخر : [ البسيط ]
4666- ومَا انتميْتُ إلى خُورٍ ولا كُشُفٍ ... ولا لِئَامٍ غَداةَ الرَّوْعِ أوْزاعِ
وقرءوا : « وعَباقِريَّ » - بكسر القاف وتشديد الياء - مفتوحة على منع الصرف ، وهي مشكلة .
إذ لا مانع من تنوين ياء النَّسب ، وكأن هذا القارىء توهم كونها في « مفاعل » تمنع من الصرف .
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم « عباقريّ » منوناً ابن خالويه .
وروي عن عاصم : « رَفَارِف » بالصَّرف .
وقد يقال في من منع « عَبَاقِري » : إنه لما جاور « رَفارِف » الممتنع امتنع مشاكلة .
وفي من صرف « رَفارف » : إنه لما جاور « عباقِريًّا » المنصرف صرفه للتناسب ، كقوله : { سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً } [ الإنسان : 4 ] . كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
وقرأ أبو محمد المروزي وكان نحويًّا : « خُضَّار » ك « ضُرَّاب » بالتشديد ، و « أفْعَل ، وفُعَّال » لا يعرب .
قوله : « وعَبْقريّ حِسَان » .
الجمهور على أن « عبقري » منسوب إلى عبقر ، تزعم العرب أنها بلد الجن .
قال ابن الأنباري : الأصل فيه أن « عَبْقَرَ » قرية تسكنها الجن ينسب إليها كل فائق جليل .
وقال الخليل : كل منافس فاضل فاخر من الرجال والنساء وغيرهم عند العرب عبقري .
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمر - رضي الله عنه - : « فَلَمْ أرَ عَبْقريًّا من النَّاسِ يَفْرِي فرْيَه » .
وقال أبو عمرو بن العلاء ، وقد سئل عن قوله صلى الله عليه وسلم : « فَلَمْ أرَ عَبْقريًّا من النَّاسِ يَفْرِي فرْيَه » ؛ فقال : رئيس قوم وجليلهم .
وقال زهير : [ الطويل ]
4667- بِخَيْلٍ عليْهَا جنَّةٌ عبْقريَّةٌ ... جَدِيرُونَ يوماً أن ينَالُوا فَيستعْلُوا
وقال الجوهري : « العَبْقَري » موضع تزعم العرب أنه من أرض الجن؛ قال لبيد : [ الطويل ]
4668- . . ... كُهُولٌ وشُبَّانٌ كَجِنَّةِ عَبْقَرِ
ثم نسبوا إليها كل شيء تعجبوا من حذقه وجودة صنعته وقوته ، فقالوا : « عبقري » وهو واحد وجمع .
وفي الحديث : « أنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ على عَبْقَرِيّ » وهو البُسُط التي فيها الأصباغ ، والنقوش ، والمراد به في الآية : قيل : البسط التي فيها الصّور والتماثيل وقيل : الزَّرابي .
وقيل : الطَّنافس .
وقيل : الدِّيباج الثَّخين .
« عَبْقَرِي » جمع عبقرية ، فيكون اسم جنس كما تقدم في « رفرف » .
وقيل : هو واحد دالّ على الجمع ، ولذلك وصف ب « حِسَان » .
قال القرطبي : وقرأ بعضهم : « عَباقِريٌّ حِسَان » وهو خطأ؛ لأن المنسوب لا يجمع على نسبته .
وقال قطرب : ليس بمنسوب ، وهو مثل : « كُرسيِّ وكَراسِيّ ، وبُختيِّ وبخاتِي » .
قوله : { تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ ذِي الجلال والإكرام } .
قرأ ابن عامر : « ذُو الجلالِ » بالواو ، جعله تابعاً للاسم ، وكذا هي مرسومة في مصاحف الشَّاميين .
قال القرطبي : « وذلك يقوي كون الاسم هو المسمّى » .
والباقون : بالياء ، صفة للربّ ، فإنه هو الموصوف بذلك ، وأجمعوا على أن الواو في الأولى إلا من استثنى فيما تقدم .
فصل في تحرير معنى تبارك
« تبارك » تفاعل من « البركة » .
قال ابن الخطيب : وأصل التَّبارك من التَّبرك ، وهو الدوام والثبات ، ومنه برك البعير وبركة الماء ، فإن الماء يكون فيها دائماً .
والمعنى : دام اسمه وثبت ، أو دام الخير عنده؛ لأن البركة وإن كانت من الثبات ، لكنها تستعمل في الخير ، أو يكون معناه : علا وارتفع شأنه .
فصل في مناسبة هذه الآية لما قبلها
قال القرطبي : كأنه يريد به الاسم الذي افتتح به السُّورة ، فقال : « الرحمن » فافتتح بهذا الاسم ، فوصف خلق الإنسان والجن ، وخلق السموات والأرض وصنعه ، وأنه { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [ الرحمن : 29 ] ووصف تدبيره فيهم ، ثم وصف يوم القيامة وأهوالها وصفة النار ، ثم ختمها بصفة الجنان ، ثم قال في آخر السورة : { تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ ذِي الجلال والإكرام } أي : هذا الاسم الذي افتتح به هذه السورة ، كأنه يعلمهم أن هذا كله فرج لكم من رحمتي ، فمن رحمتي خلقتكم ، وخلقت لكم السماء والأرض ، والخليقة ، والخلق ، والجنة والنَّار ، فهذا كله لكم من اسم الرحمن ، فمدح اسمه فقال : { تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ } ، ثم قال : { ذِي الجلال والإكرام } أي : جليل في ذاته كريم في أفعاله .
روى الثعلبي عن علي - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لِكُلِّ شَيءٍ عروسٌ ، وعرُوسُ القرآنِ سُورةُ الرَّحمنِ ، جل ذكرهُ » .
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ سُورة الرَّحْمَنِ رحِمَ الله ضعفهُ ، وأدَّى شُكْرَ مَا أنْعَمَ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - عليه » .
والله - سبحانه وتعالى - الموفق الهادي إلى الخيرات ، اللهم ارحمنا برحمتك .
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)
قوله تعالى : { إِذَا وَقَعَتِ الواقعة لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } .
في « إذا » أوجه :
أحدها : أنها ظرف محض ليس فيها معنى الشَّرط ، والعامل فيها « ليس » .
الثاني : أن العامل فيها « اذْكر » مقدراً .
قال الزمخشري : فإن قلت : بم انتصب « إذا »؟ .
قلت : ب « ليس » ، كقولك : يوم الجمعة ليس لي شغل .
ثم قال : أو بإضمار « اذكر » .
قال أبو حيان : « ولا يقول هذا نحوي » .
قال : لأن « ليس » مثل « ما » النافية فلا حدث فيها ، فكيف تعمل في الظرف من غير حدث ، وتسميتها فعلاً مجازاً ، فإن حدَّ الفعل غير منطبق عليها .
ثم قال : وأمَّا المثال الذي نظر به ، فالظرف ليس معمولاً ل « ليس » بل للخبر ، وتقدم معمول خبرها عليها ، وهي مسألة خلاف . انتهى .
قال شهاب الدين : الظروف تعمل فيها روائح الأفعال ، ومعنى كلام الزمخشري أن النفي المفهوم من « ليس » هو العامل في « إذا » كأنه قيل : ينتفي كذب وقوعها إذا وقعت ، ويدل على هذا قول أبي البقاء رحمه الله .
والثاني : ظرف لما دل عليه { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } ، أي : إذا وقعت لم تكذب ، فإن قيل : فليجر ذلك في « ما » النافية؟ .
فالجواب : أن الفعل أقرب إلى الدلالة على الحدث من الحرف .
الثالث : أنها شرطية ، وجوابها مقدر ، أي : « إذا وقعت كان كيت وكيت » ، وهو العامل فيها .
الرابع : أنها شرطية ، والعامل فيها الفعل الذي بعدها ويليها ، وهو اختيار أبي حيان ، وتبع في ذلك مكيًّا .
قال مكي : « والعامل فيه » وقعت «؛ لأنها قد يجازى بها ، فعمل فيها الفعل الذي بعدها كما يعمل في » مَا « ، و » مَنْ « اللتين للشرط في قولك : ما تَفْعَلْ أفْعَلْ ، ومن تُكْرِمْ أكْرِمْ » ، ثم ذكر كلاماً كثيراً .
الخامس : أنها مبتدأ ، و « إذَا رُجَّتْ » خبرها ، وهذا على قولنا : « إنها تتصرف » وقد مضى تحريره إلا أن هذا الوجه إنما جوزه ابن مالك ، وابن جني ، وأبو الفضل الرازي على قراءة من نصب « خافِضَةً رافِعَةً » على الحال ، وحكاه بعضهم عن الأخفش .
قال شهاب الدين : « ولا أدري اختصاص ذلك بوجه النَّصب » .
السادس : أنه ظرف ل « خافضة » ، أو « رافعة » . قاله أبو البقاء . أي إذا وقعت خفضت ورفعت .
السابع : أن تكون ظرفاً ل « رُجَّتْ » ، و « إذَا » الثانية على هذا إما بدل من الأولى ، أو تكرير لها .
الثامن : أن العامل فيه ما دلّ عليه قوله :
{ فَأَصْحَابُ الميمنة } [ الواقعة : 8 ] أي : إذا وقعت بانت أحوال الناس فيها .
التاسع : أن جواب الشرط ، قوله : { فَأَصْحَابُ الميمنة } [ الواقعة : 8 ] إلى آخره ، و « لِوقعَتِهَا » خبر مقدم ، و « كاذبة » اسم مؤخر .
و « كاذبة » يجوز أن تكون اسم فاعل ، وهو الظَّاهر ، وهو صفة لمحذوف ، فقدر الزمخشري : « نفس كاذبة » .
أي : أن ذلك اليوم لا يكذب على الله أحد ، ولا يكذِّب بيوم القيامة أحد .
ثم قال : « و » اللام « مثلها في قوله : { قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } [ الفجر : 24 ] ، أو ليس نفس تكذبها ، وتقول لها : لم تكوني كما لها اليوم نفوس كثيرة يكذبنها اليوم ، يقلن لها : لن تكوني ، أو هي من قولهم : كَذَبَتْ فُلاناً نفسُه في الخَطْبِ العظيم إذا شجعته على مباشرته ، وقالت له : إنك تطيقه وما فوقه ، فتعرض له ولا تبال به ، على معنى أنها وقعة لا تُطاق شدة وفظاعة ، وأن لا نفس حينئذ تحت صاحبها بما تحدثه به عند عظائم الأمور وتزين له احتمالها وإطاقتها؛ لأنهم يومئذ أضعف من ذلك وأذلّ ، ألا ترى إلى قوله { كالفراش المبثوث } [ القارعة : 4 ] ، والفراش مثل في الضعف » .
وقدره ابن عطية : « حال كاذبة » .
قال : ويحتمل الكلام على هذا معنيين :
أحدهما : كاذبة أي : مكذوبة فيما أخبر به عنها ، فسماها كاذبة لهذا ، كما تقول : هذه قصّة كاذبة ، أي : مكذوب فيها .
والثاني : حال كاذبة أي : لا يمضي وقوعها ، كقولك : فلان إذا حمل لم يكذب .
والثالث : « كاذبة » مصدر بمعنى التَّكذيب . نحو { خَآئِنَةَ الأعين } [ غافر : 19 ] .
قال الزمخشري : وقيل : « كاذبة » مصدر ك « العاقبة » بمعنى التكذيب من قولك : حمل فلان على قرنه فما كذب ، أي فما جبن ولا تثبَّط ، وحقيقته فما كذب نفسه فيما حدثته به من إطاقته له وإقدامه عليه وأنشد ل « زهير » : [ البسيط ]
4669- . . . إذَا ... مَا اللَّيْثُ كَذَّبَ عَنْ أقْرانِهِ صَدَقَا
أي : إذا وقعت لم يكن لها رجعة ولا ارتداد انتهى .
وهو كلام حسن جدًّا .
ثم لك في هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنها لا محلّ لها من الإعراب ، إما لأنها ابتدائية ، ولا سيما على رأي الزمخشري ، حيث جعل الظرف متعلقاً بها .
وإما لأنها اعتراضية بين الشرط وجوابه المحذوف .
الثاني : أن محلّها النصب على الحال . قاله ابن عطية .
ولم يبين صاحب الحال ، ماذا؟ .
وهو واضح إذ لم يكن هنا إلاَّ الواقعة ، وقد صرَّح أبو الفضل بذلك .
وقرأ العامة : برفع « خَافِضَةٌ ورافِعَةٌ » على أنها خبر ابتداء مضمر ، أي : هي خافضة قوماً إلى النَّار ، ورافعة آخرين إلى الجنة ، فالمفعول محذوف لفهم المعنى .
أو يكون المعنى أنها ذات خفض ورفع ، كقوله : { يُحْيِي وَيُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] ، { وَكُلُواْ واشربوا } [ البقرة : 187 ] .
وقرأ زيد بن علي وعيسى والحسن ، وأبو حيوة ، وابن مقسم واليزيدي : بنصبهما على الحال .
ويروى عن الكسائي أنه قال : « لولا أن اليزيدي سبقني إليه لقرأت به » انتهى .
قال شهاب الدين : « ولا أظن مثل هذا يصح عن مثل هذا » .
واختلف في ذي الحال :
فقال أبو البقاء : من الضمير في « كاذبة » ، أو في « وقعت » .
وإصلاحه أن نقول : أو فاعل « وقعت »؛ إذ لا ضمير في « وقعتْ » .
وقال ابن عطية وأبو الفضل : من « الواقعة » .
ثم قرّرا مجيء الحال متعددة من ذي حال واحدة ، كما تجيء الأخبار متعددة . وقد تقدم بيانه .
وقال أبو الفضل : « وإذا جعلت هذه كلها أحوالاً ، كان العامل في » إذا وقعت « محذوفاً يدل عليه الفحوى ، أي : إذا وقعت يحاسبون » .
فصل في معنى الآية
قال المفسرون : { إذا وقعت الواقعة } أي : إذا قامت القيامة ، والمراد : النَّفخة الأخيرة ، وسميت الواقعة لأنها تقعُ عن قرب .
وقيل : لكثرة ما يقع فيها من الشَّدائد .
قال الجرجاني : « إذا » صلة ، أي : وقعت الواقعة ، كقوله : { اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] وهو كما يقال : جاء الصوم ، أي : دنا واقترب .
وقال القرطبي : فيه إضمار ، أي : اذكر إذا وقعت ، وعلى هذا « إذا » للتَّوقيت ، والجواب قوله : { فَأَصْحَابُ الميمنة } [ الواقعة : 8 ] .
وقال ابن الخطيب : أو يكون التقدير : إذا وقعت الزلزلة الواقعة يعترف بها كل أحد ، ولا يتمكّن أحد من إنكارها .
و { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } .
« الكاذبة » : مصدر بمعنى الكذب ، والعرب قد تضع الفاعل والمفعول موضع المصدر كقوله تعالى : { لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً } [ الغاشية : 11 ] أي : لغو ، والمعنى : ليس لها كذب .
قاله الكسائي .
ومنه قول العامة : عائذاً بالله ، أي : معاذ الله ، وقُمْ قائماً ، أي : قم قياماً .
وقيل : الكاذبة : صفة ، والموصوف محذوف ، أي : ليس لوقعتها حال كاذبة أو نفس كاذبة ، أي كل من يخبر عن وقعتها صادق .
وقال الزجاج : { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } أي : لا يردها شيء . ونحوه قول الحسن وقتادة .
وقال الثوري : ليس لوقعتها أحد يكذب بها .
وقيل : إن قيامها جدّ لا هزل فيه .
وقوله : { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } .
قال عكرمة ومقاتل والسدي : خفضت الصوت فأسمعت من دنا ، ورفعت من نأى ، يعنى أسمعت القريب والبعيد .
وعن السّدي : خفضت المتكبرين ورفعت المستضعفين .
وقال قتادة : خفضت أقواماً في عذاب الله ، ورفعت أقواماً إلى طاعة الله .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : خفضت أعداء الله في النار ، ورفعت أولياء الله إلى الجنة .
وقال ابن عطاء : خفضت أقواماً بالعدل ، ورفعت أقواماً بالفضل .
والرفع والخفض يستعملان عند العرب في المكان والمكانة والعزّ والمهانة ، ونسب سبحانه وتعالى الرفع والخفض إلى القيامة توسعاً ومجازاً على عادة العرب في إضافتها الفعل إلى المحل والزمان وغيرهما مما لم يمكن منه الفعل ، يقولون : ليلٌ قائم ، ونهار صائم .
وفي التنزيل : { بَلْ مَكْرُ الليل والنهار } [ سبأ : 33 ] .
والرافع والخافض في الحقيقة هو الله تعالى .
و « اللام » في قوله « لوقعتها » إما للتعليل ، أي لا تكذب نفس في ذلك اليوم لشدة وقعتها .
وإما للتعدية ، كقولك : « ليْسَ لزيد ضارب » فيكون التقدير : إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها امرؤ يوجد لها كاذب يكذب إذا أخبر عنه .
قال ابن الخطيب : وعلى هذا لا يكون « ليس » عاملاً في « إذا » وهو بمعنى « ليس » لها كاذب .
إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)
قوله : { إِذَا رُجَّتِ الأرض } .
يجوز أن يكون بدلاً من « إذا » الأولى ، أو تأكيداً لها ، أو خبراً لها على أنها مبتدأ . كما تقدم تحريره .
وأن يكون شرطاً ، والعامل فيه إما مقدر ، وإما فعلها الذي يليها ، كما تقدّم في نظيرتها .
وقال الزمخشري : « ويجوز أن ينتصب ب » خافضة رافعة « أي تخفض وترفع وقت رجِّ الأرض وبس الجبال؛ لأنه عند ذلك يخفض ما هو مرتفع ، ويرفع ما هو منخفض » .
قال أبو حيَّان : « ولا يجوز أن ينتصب بهما معاً ، بل بأحدهما ، لأنه لا يجوز أن يجتمع مؤثران على أثر واحد » .
قال شهاب الدِّين : معنى كلامه أن كلاًّ منهما متسلّط عليه من جهة المعنى ، وتكون المسألة من باب التنازع ، وحينئذ تكون العبارةُ صحيحة ، إذ يصدق أن كلاًّ منهما عامل فيه ، وإن كان على التَّعاقُب .
والرَّج : التحريك الشديد بمعنى زلزلت .
قال مجاهد وغيره : يقال : رجَّه يرُجُّه رجًّا ، أي : حرّكه وزلزله .
وناقة رجاء : أي عظيمة السّنام .
والرَّجْرجَة : الاضطراب .
وارتجّ البحر وغيره : اضطرب .
وفي الحديث : « مَنْ ركِبَ البَحْرَ حينَ يَرتجُّ فلا ذمَّة لهُ » .
يعني : إذا اضطربت أمواجه .
قال الكلبي : وذلك أن الله - تعالى - إذا أوحى إليها اضطربت فرقاً من الله تعالى .
قال المفسرون : ترتج كما يرتجّ الصبي في المهد حتى ينهدم ما عليها ، وينكسر كل شيء عليها من الجبال وغيرها .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الرَّجَّة : الحركة الشديدة يسمع لها صوت .
قوله : { وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً } .
أي : سيرت ، من قولهم : بسَّ الغنم ، أي : ساقها .
وأبْسَسْتُ الإبل أبُسُّهَا بَسَّاً ، وأبْسَسْتُ وبَسِسْتُ لغتان إذا زجرتها وقلت : بَسْ بَسْ . قاله أبو زيد .
أو بمعنى « فُتّت » ، كقوله : { يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } [ طه : 105 ] ، ويدل عليه : { فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً } .
قال ابن عباس ومجاهد : كما يبسّ الدقيق ، أي : يُلتّ .
والبَسِيْسَةُ : السَّويقُ أو الدقيق يُلَتُّ بالسَّمن أو الزيت ، ثم يؤكل ولا يطبخ ، وقد يتخذ زاداً .
قال الراجز : [ الرجز ]
4670- لا تَخْبِزَا خُبْزاً وبُسَّا بَسَّا ... ولا تُطِيْلا بِمُنَاخٍ حَبْسَا
وقال الحسن : « وبسّت » قلعتْ من أصلها فذهبت ، ونظيرها : يَنْسِفُهَا ربِّي نسفاً وقال عطية : بُسِطَتْ كالرَّمل والتراب .
وقال مجاهد : سالت سيلاً .
وقال عكرمة : هدّت .
وقرأ زيد بن علي : « رجَّت » ، و « بَسَّت » مبنيين للفاعل .
على أن « رَجَّ » و « بَسَّ » يكونان لازمين ومتعديين ، أي : ارتجت وذهبت .
قوله : { فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً } .
قرأ النَّخعي ومسروق وأبو حيوة : « منبتًّا » بنقطتين من فوق ، أي : منقطعاً من البَتِّ .
ومعنى الآية لا ينبو عنه .
قال علي رضي الله عنه : الهباء المُنْبَثّ : الرَّهجُ الذي يسطع من حوافر الخيل ثم يذهب ، فجعل الله تعالى أعمالهم كذلك .
وقال مجاهد : « الهَبَاء » : الشعاع الذي يكون في الكُوة كهيئة الغُبَار ، وروي نحوه عن ابن عباس .
وعنه أيضاً : أنه ما تطاير من النَّار إذا اضطربت يطير منها شرر فإذا وقع لم يكن شيئاً .
وقال عطية : « المنبث » : المتفرق ، قال تعالى : { وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } [ البقرة : 164 ] أي : فرق ونشر .
قوله : { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً } .
أي : أصنافاً ثلاثة ، كل صنف يشاكل كل ما هو منه كما يشاكل الزوج الزوجة ، ثم بين من هم ، فقال : { فَأَصْحَابُ الميمنة } ، { وَأَصْحَابُ المشأمة } ، { والسابقون } .
قوله : { فَأَصْحَابُ الميمنة مَآ أَصْحَابُ الميمنة } .
« أصحاب » الأول مبتدأ ، و « ما » استفهامية - فيه تعظيم - مبتدأ ثاني ، و « أصحاب » الثاني خبره ، والجملة خبر الأول ، وتكرار المبتدأ الأول هنا بلفظه مغنٍ عن الضمير ، ومثله : { الحاقة مَا الحآقة } [ الحاقة : 1 ، 2 ] ، { القارعة مَا القارعة } [ القارعة : 1 ، 2 ] ولا يكون ذلك إلا في مواضع التَّعظيم .
فإن قيل : إن « ما » نكرة وما بعدها معرفة ، فكان ينبغي أن يقال : « ما » خبر مقدم ، و « أصحاب » الثاني وشبهه مبتدأ؛ لأن المعرفة أحق بالابتداء من النكرة؟ وهذا السؤال واردٌ على سيبويه في مثل هذا .
وفي قولك : « كَمْ مالك ، ومرَرْتُ بِرَجُلٍ خَيْرٍ منهُ أبُوه » فإنه يعرب « ما » الاستفهامية ، و « كم » و « أفعل » مبتدأ وما بعدها خبرها .
والجواب : أنه كثر وقوع النكرة خبراً عن هذه الأشياء كثرة متزايدة ، فاطَّرد الباب ، ليجري على سنن واحدة ، هكذا أجابوا .
وهذا لا ينهض مانعاً من جواز أن يكون « ما » و « كَمْ » و « أفْعَل » خبراً مقدماً ولو قيل به لم يكن خطأ ، بل أقرب إلى الصَّواب .
و « الميمنة » « مَفْعَلَة » من لفظ اليمين ، وكذلك « المشأمة » من اليد الشؤمى وهي الشمال لتشاؤم العرب بها ، أو من الشُّؤم .
فصل في تحرير معنى الآية
قال السدي : « أصحاب الميمنةِ » هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة ، و « أصحاب المَشْأمة » هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النَّار .
و « المَشْأمة » : الميسرة ، وكذلك الشَّأمة ، يقال : قعد فلان شأمة .
ويقال : شائم بأصحابك أي : خذ بهم شأمة أي : ذات الشمال والعرب تقول لليد الشمال : الشؤمى ، وللجانب الشمال : الأشأم .
وكذلك يقال لما جاء عن اليمين : اليمن ، ولما جاء عن الشمال : الشُّؤم .
قال البغوي : « ومنه سمي » الشَّام واليمن «؛ لأن » اليمن « عن يمين الكعبة ، و » الشام « عن شمالها » .
قال ابن عباس والسدي : « أصْحَابُ المَيْمَنَةِ » هم الذين كانوا عن يمين آدم حين أخرجت الذُّرية من صلبه ، فقال الله لهم : هؤلاء في الجنة ولا أبالي .
وقال زيد بن أسلم : هم الذين أخذوا من شق آدم الأيمن يومئذ ، وأصحاب المشأمة الذين أخذوا من شق آدم الأيسر .
وقال عطاء ومحمد بن كعب : « أصْحَابُ الميمنةِ من أوتي كتابه بيمينه ، وأصحاب المشأمة من أوتي كتابه بشماله » .
وقال ابن جريج : « أصحاب الميمنة » هم أصحاب الحسنات ، وأصحاب المشأمة؛ هم أهل السيئات .
وقال الحسن والربيع : « أصحاب الميمنة » الميامين على أنفسهم بالأعمال الصالحة ، وأصحاب المشأمة : المشائيم على أنفهسم بالأعمال السيئة .
وفي صحيح مسلم من حديث « الإسراء » عن أبي ذرٍّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « فَلمَّا عَلوْنَا السَّماء الدُّنيا ، فإذَا رجلٌ عن يَمينهِ أسْودةٌ ، وعنْ يَسارِهِ أسودةٌ ، قال فإذَا نظر قبل يَمينِه ضَحِكَ ، وإذَا نَظَرَ قبلَ شمالِهِ بكَى ، قال : فقال : مَرْحَباً بالنبيِّ الصَّالحِ والابْنِ الصَّالح ، قال : فقُلْتُ : يا جِبْريلُ منْ هذَا؟ .
قال : هذا آدمُ - عليه الصلاة والسلام - وهذه الأسودةُ عن يمينه وعن شمالهِ بَنُوه فأهْلُ اليَمِينِ أهْلُ الجنَّةِ ، والأسودةُ الَّتي عن شمالهِ أهْلُ النَّارِ » وذكر الحديث .
وقال المبردُ : « أصحاب الميمنة » أصحاب التقدم ، وأصحاب المشأمة أصحاب التأخُّر والعرب تقول : اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك أي : اجعلني من المتقدمين ولا تجعلني من المتأخرين .
ثم عجب نبيه صلى الله عليه وسلم فقال : { مَآ أَصْحَابُ الميمنة } وهذا كما يقال : « زَيْدٌ مَا زَيْدٌ » ، يريد « زيد شديد » فالتكرير في { مَآ أَصْحَابُ الميمنة } ، و { مَآ أَصْحَابُ المشأمة } للتَّفخيم والتعجُّب ، كقوله : { الحاقة مَا الحآقة } [ الحاقة : 1 ، 2 ] ، و { القارعة مَا القارعة } [ القارعة : 1 ، 2 ] كما يقال : « زَيْدٌ ما زيدٌ » .
وفي حديث أم زرع رضي الله عنها : « مالك ، وما مالك؟ » .
والمقصود : تكثير ما لأصحاب الميمنة في الثواب ، وأصحاب المشأمة من العقاب .
والفاء في قوله : « فأصْحَاب » تدل على التقسيم ، وبيان ما ورد عليه التقسيم ، كأنه قال : أزواجاً ثلاثة : أصحاب الميمنة ، وأصحاب المشأمة ، والسابقون ، وبين حال كل قسم فقال : { مَآ أَصْحَابُ الميمنة } وترك التقسيم أولاً ، واكتفى بما يدل عليه بأن تُذكر الأقسام الثلاثة مع أحوالها .
فإن قيل : ما الحكمة في اختيار لفظ « المشأمة » في مقابلة « الميمنة » مع أنه قال في بيان أحوالهم { وَأَصْحَابُ الشمال مَآ أَصْحَابُ الشمال } ؟ [ الواقعة : 41 ] .
فالجواب : أنَّ اليمين وضع للجانب المعروف ، واستعملوا منها ألفاظاً في مواضع فقالوا : « هذا ميمون » تيمناً به ، ووضعوا مقابلة اليمين اليسار من الشيء اليسير إشارة إلى ضعفه ، ولفظ الشمال في مقابلته ، واستعملوا منه ألفاظاً تشاؤماً به ، فذكر « المشأمة » [ في ] مقابلة [ « الميمنة » ] [ وذكر الشمال في مقابلة اليمين ] فاستعمل كل لفظ مع ما يقابله .
قوله : { والسابقون السابقون } . فيه أوجه :
أحدها : أنها مبتدأ وخبر ، وفي ذلك تأويلان :
أحدهما : أنه بمعنى : السابقون هم الذين اشتهرت حالتهم بذلك .
كقولهم : « أنت أنت ، والناس الناس » .
وقوله : [ الرجز ]
4671- أنَا أبُو النَّجْمِ وشِعْرِي شِعْرِي ... وهذا يقال في تعظيم الأمر وتفخيمه ، وهو مذهب سيبويه .
التأويل الثاني : أن متعلق السابقين مختلف؛ إذ التقدير : والسَّابقون إلى الإيمان السابقون إلى الجنة ، أو السابقون إلى طاعة الله السَّابقون إلى رحمته ، أو السابقون إلى الخير السابقون إلى الجنَّة .
الوجه الثاني : أن يكون السَّابقون الثاني تأكيداً للأول تأكيداً لفظيًّا ، و « أولئك المُقرَّبُون » جملة ابتدائية في موضع خبر الأول ، والرابط : اسم الإشارة ، كقوله تعالى : { وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ } [ الأعراف : 26 ] ، في قراءة برفع « لِبَاس » في أحد الأوجه .
الثالث : أن يكون « السابقون » الثاني نعتاً للأول ، والخبر الجملة المذكورة .
وهذا ينبغي ألا يعرج عليه ، كيف يوصف الشيء بلفظه ، وأي فائدة في ذلك؟ .
قال شهاب الدين : والأقرب عندي إن وردت هذه العبارة ممن يعتبر أن يكون سمى التَّأكيد صفة ، وقد فعل سيبويه قريباً من هذا .
الرابع : أن يكون الوقف [ على قوله ] « والسَّابقون » ، ويكون قوله { السَّابقون ، أولئك المقربون } ابتداء وخبراً .
وهذا يقتضي أن يعطف « والسَّابقون » على ما قبله ، لكن لا يليق عطفه على ما قبله ، وإنما يليق عطفه على أصحاب الميمنة ، كأنه قيل : وأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة والسابقون ، أي : وما السابقون؟ تعظيماً لهم ، فيكونون شركاء أصحاب الميمنة في التعظيم ، ويكون قوله على هذا : { وأصحاب المَشْأمة ما أصحاب المشأمة } اعتراضاً بين المتعاطفين ، وفي هذا الوجه تكلف كثير جداً .
فصل في المراد بالسابقين
قال عليه الصلاة والسلام : « السَّابقُون الَّذينَ إذَا أعْطُوا الحقَّ قبلوهُ ، وإذا سُئِلُوه بذلُوهُ ، وحَكمُوا للنَّاسِ كحُكْمِهِمْ لأنفُسِهِمْ » .
ذكره المهدوي .
وقال محمد بن كعب القرظي : هم الأنبياء .
وقال الحسن وقتادة : هم السابقون إلى الإيمان من كل أمة .
وقال محمد بن سيرين : هم الذين صلّوا إلى القبلتين ، قال تعالى : { والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار } [ التوبة : 100 ] .
وقال مجاهد والضحاك : هم السَّابقون إلى الجهاد ، وأول الناس رواحاً إلى صلاة الفرائض في الجماعة وقال علي رضي الله عنه : هم السابقون إلى الصَّلوات الخمس .
وقال سعيد بن جبير : إلى التوبة ، وأعمال البر ، قال تعالى : { وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض } [ آل عمران : 133 ] ثم أثنى عليهم فقال : { أولئك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } [ المؤمنون : 61 ] .
وقيل : إنهم أربعة : منهم سابق أمة موسى ، وهو حزقيل مؤمن آل فرعون ، وسابق أمة عيسى ، وهو حبيب النَّجَّار صاحب « أنْطَاكية » ، وسابقان في أمّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهما أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - قاله ابن عباس .
حكاه الماوردي .
وقال شميط بن العجلان : النَّاس ثلاثة : فرجل ابتكر للخير في حداثة سنه ، ثم داوم عليه حتى خرج من الدنيا ، فهذا هو السَّابق المقرب ثم طول الغفلة ثم رجع بتوبته حتى ختم له بها ، فهذا من أصحاب اليمين ، ورجل ابتكر عمره بالذنوب ، ثم لم يزل عليها حتى ختم له بها ، فهذا من أصحاب الشمال .
وروي عن كعب قال : هم أهل القرآن المتوجون يوم القيامة .
وقيل : هم أول الناس رواحاً إلى المسجد ، وأولهم خروجاً في سبيل الله { أولئك المقربون في جنات النعيم } .
قوله : { فِي جَنَّاتِ النعيم } .
يجوز أن يكون خبراً ثانياً ، وأن يكون حالاً من الضمير في « المُقَرَّبُون » ، وأن يكون متعلقاً به ، أي : قربوا إلى رحمة الله في جنات النعيم .
ويبعد أن تكون « في » بمعنى « إلى » .
وقرأ طلحة : « في جنَّةٍ » بالإفراد .
وإضافة الجنة إلى النعيم من إضافة المكان إلى ما يكون فيه ، كما يقال : « دار الضِّيافة ، ودار الدَّعوة ، ودار العدل » .
وذكر النعيم هنا معرفاً ، وفي آخر السورة منكراً؛ لأن السَّابقين معلومون ، فعرفهم باللام المستغرقة لجنسهم ، وأما هنا فإنهم غير معروفين لقوله : { إِن كَانَ مِنَ المقربين } [ الواقعة : 88 ] فجعل موضعه غير معروف ، أو يقال : إن المذكور هنا جميع السَّابقين ، ومنزلتهم أعلى المنازل ، فهي معروفة ، لأنها لا حدّ فوقها .
وأما باقي المقربين فلكل واحد مرتبة ودرجة ، فمنازلهم متفاوتة ، فهم في جنات متباينة في المنزلة ، لا يجمعها صفة ، فلم يعرفها .
قوله : { ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين } .
« ثلّة » خبر مبتدأ مضمر ، أي « هم » .
ويجوز أن يكون مبتدأ خبره مضمر ، أي منهم ثلّة .
أي : من السابقين ، يعني أن التقسيم وقع [ بينهم ] .
وأن يكون مبتدأ خبره { فِي جَنَّاتِ النعيم } .
أو قوله : { على سُرُرٍ } .
فهذه أربعة أوجه .
و « الثُلّة » : الجماعة من الناس ، وقيدها الزمخشري بالكثيرة .
وأنشد : [ الطويل ]
4672- وجَاءَتْ إليْهِمْ ثُلَّةٌ خِندفيَّةٌ ... بِجَيْشٍ كتيَّارٍ من البَحْرِ مُزْبدِ
ولم يقيدها غيره ، بل صرح بأنها الجماعة قلّت أو كثرت .
وقال الرَّاغب : الثلّة : قطعة مجتمعة من الصُّوف؛ ولذلك قيل للمقيم : « ثَلَّة » يعني بفتح الثَّاء .
ومنه قوله : [ الرجز ]
4673- أمْرَعَتِ الأرْضُ لَوْ انّ مالا ... لوْ أنَّ نُوقاً لَكَ أو جِمَالا
أوْ ثلَّةً مِنْ غَنَمٍ إمَّا لا ... انتهى .
ثم قال : « ولاعتبار الاجتماع ، قيل : { ثلّة من الأولين ، وثلّة من الآخرين } أي جماعة ، وثللت كذا : تناولت ثلّة منه ، وثلَّ عرشُه : أسقط ثلّة منه والثّلل : قصر الأسنان لسقوط ثلَّة منها ، وأثل فمُه : سقطت ، وتَثَلَّلَتِ الرُّكبَة : تَهَدَّمت » انتهى .
فقد أطلق أنها الجماعة من غير قيد بقلّة ولا بكثرة . والكثرة التي فهمها الزمخشري قد تكون من السياق .
وقال الزجاج : الثلّة : الفرقة .
و « مِنَ الأوَّلِينَ » صفة ل « ثُلَّة » ، وكذلك « من الآخرين » صفة ل « قَلِيل » .
فصل في المراد بقوله : ثلّة من الأوّلين
قوله تعالى : { ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين } . أي جماعة من الأمم الماضية .
{ وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين } أي : ممن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم قال الحسن : « ثُلَّةٌ » ممن قد مضى قبل هذه الأمة ، « وقليلٌ » من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم اللهم اجعلنا منهم بكرمك .
وسموا قليلاً بالإضافة إلى من كان قبلهم؛ لأن الأنبياء المتقدمين كثروا ، فكثر السابقون إلى الإيمان بهم ، فزادوا على عدد من سبق إلى التصديق من أمتنا .
( قيل : لما نزلت هذه الآية شقَّ على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ) فنزلت { ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين } فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « إنِّي لأرجُو أن تكُونُوا رُبْعَ أهْلِ الجنَّةِ ، بَلْ نِصْف أهلِ الجنَّة ، وتُقاسِمُونهُم في النِّصْفِ الثانِي » رواه أبو هريرة ذكره الماوردي وغيره ، ومعناه ثابت في « صحيح مسلم » ، من حديث عبد الله بن مسعود ، وكأنه أراد أنها منسوخة .
قال ابن الخطيب : وهذا في غاية الضعف من وجوه :
أحدها : أن عدد أمة محمد صلى الله عليه وسلم كان في ذلك الزمان ، بل إلى آخر الزمان بالنسبة إلى ما مضى في غاية القلة ، فالمراد بالأولين : الأنبياء وكبار أصحابهم ، وهم إذا جمعوا أكثر من السَّابقين من هذه الأمة .
الثاني : أن هذا خبر ، والخبر لا ينسخ .
الثالث : أن هذه الآية في السَّابقين ، والتي بعدها في أصحاب اليمين .
الرابع : أنه إذا جعل قليل منهم مع الأنبياء والرسل المتقدمين كانوا في درجة واحدة ، وذلك يوجب الفرح؛ لأنه إنعام عظيم ، ولعلّ الإشارة إليه بقوله عليه الصلاة والسلام : « عُلَمَاءُ أمَّتِي كأنْبِيَاءِ بَنِي إسْرائِيْلَ » .
قال القرطبي : « والأشبه أنها محكمة؛ لأنها خبر ، والخبر لا ينسخ؛ لأن ذلك في جماعتين مختلفتين » .
قال الحسن : سابقو من مضى أكثر من سابقينا ، فلذلك قال : { وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين } ، وقال في أصحاب اليمين ، وهم سوى السابقين : { ثلّة من الأولين وثلّة من الآخرين } .
ولذلك [ قال عليه الصلاة والسلام : « إنِّي لأرجُو أن تكُونَ أمَّتِي شطْرَ أهْلِ الجنَّةِ » ، ثم تلا : { ثلة من الأولين ، وثلة من الآخرين } ] .
وقال أبو بكر رضي الله عنه : كلا الثُّلتين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فمنهم من هو في أول أمته ، ومنهم من هو في آخرها .
وهو مثل قوله تعالى : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله } [ فاطر : 32 ] .
وقيل : المراد { ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين } هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، فإن أكثرهم لهم الدَّرجة العليا ، كما قال تعالى : { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ } [ الحديد : 10 ] .
{ وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين } لحقوهم ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : « خَيْرُكُمْ قرني ثم الذينَ يَلُونَهُم »
ثم سوى في أصحاب اليمين بين الأولين والآخرين .
قال ابن الخطيب : وعلى هذا فقوله : { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً } يكون خطاباً مع الموجودين وقت التنزيل ، ولا يكون فيه بيان الأولين الذين كانوا قبل نبينا - عليه الصلاة والسلام - وهذا ظاهر؛ لأن الخطاب لا يتعلق إلاَّ بالموجودين من حيث اللفظ ، ويدخل فيه غيره بالدليل .
ووجه آخر : أن المراد بالأولين الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وبالآخرين ، أي : ذرياتهم الملحقون بهم في قوله تعالى : { واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } [ الطور : 21 ] .
وقال الزَّجَّاج : الذين عاينوا جميع النبيين من لدُن آدم وصدقوهم أكثر مما عاين النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { على سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ } .
أي : السَّابقون في الجنة على سرر ، أي : مجالسهم على سُرر ، جمع سرير .
وقرأ زيد بن علي ، وأبو السمال : « سُرَر » بفتح الراء الأولى وقد تقدم أنها لغة لبعض بني « كلب » و « تميم » .
و « المَوضُونَة » : قال ابن عباس : منسوجة بالذهب .
وقال عكرمة : مشبكة بالدُّر والياقوت .
وعن ابن عباس أيضاً : « مَوضُونةٌ » أي : مصفوفة ، لقوله تعالى في موضع : { على سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ } [ الطور : 20 ] .
وعنه ، وعن مجاهد أيضاً : مرمُولة بالذهب .
وقيل : « مَوضُونة » : منسوجة بقضبان الذهب مُشَبَّكةٌ بالدّر والياقوت .
و « الموضونة » : المنسوجة ، وأصله من وضَنْتُ الشَّيء ، أي ركبته بعضه على بعض .
ومنه قيل للدِّرع : « موضونة »؛ لتراكب حلقها .
قال الأعشى : المتقارب ]
4674- ومِنْ نَسْجِ دَاوُدَ موضُونَةً ... تَسِيرُ مَعَ الحَيِّ عِيراً فَعِيرَا
وعنه أيضاً : وضِينُ الناقة ، وهو حِزامُهَا لتراكُب طاقاته؛ قال : [ الرجز ]
4675- إلَيْكَ تَعْدُو قَلِقاً وضينُهَا ... مُعْتَرِضاً فِي بَطْنِهَا جَنينُهَا
مُخَالِفاً دينَ النَّصارَى دِينُهَا ... وقال الرَّاغب : « الوَضْن : نسْج الدِّرع ، ويستعار لكلّ نسج محكم » .
فجعله أصلاً في نسيج الدروع .
وقال الآخر : [ الوافر ]
4676- أقُولُ وقَدْ دَرَأتُ لَهَا وَضِيني ... أهَذَا دِينُهُ أبداً وَدِينِي؟
أي حزامي .
و « الوضينُ » : هو الحَبْل العريض الذي يكون منه الحَزْم لقوّة سداه ولُحْمته ، والسرير الموضون الذي سطحه بمنزلة المنسوج .
قال القرطبي « ومنه الوضين بطانٌ من سُيُور ينسج ، فيدخل بعضه في بعض » .
قوله : { مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ } .
حالان من الضمير في « عَلى سُرُرٍ » .
ويجوز أن تكون حالاً متداخلة ، فيكون « متقابلين » حالاً من ضمير « مُتَّكئِينَ » .
فصل في معنى الآية
« مُتَّكِئينَ » على السّرر ، « مُتَقَابلينَ » لا يرى بعضهم قفا بعض ، بل تدور بهم الأسرَّة .
والمعنى : أنهم كائنون على سُرر متكئين على غيرها كحال من يكون على كرسي ، فيوضع تحته شيء آخر للاتِّكاء عليه .
قال مجاهد وغيره : هذا في المؤمن وزوجته وأهله ، أي : يتكئون متقابلين .
قال الكلبي : طول كل سرير ثلاثمائة ذراع ، فإذا أراد العبد أن يجلس عليها تواضعت ، فإذا جلس عليها ارتفعت .
قوله : { يَطُوفُ } .
يجوز أن يكون حالاً ، وأن يكون استئنافاً .
{ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } أي : غلمان لا يموتون . قاله مجاهد .
والمعنى : لا موت لهم ولا فناء ، أو بمعنى لا يتغير حالهم ، ويبقون صغاراً دائماً .
وقال الحسن والكلبي : لا يهرمُون ولا يتغيرون .
ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]
4677- وهَلْ يَنْعَمَنْ إلاَّ سَعِيدٌ مُخَلَّدٌ ... قَلِيلُ الهُمُومِ ما يَبِيتُ بأوْجَالِ
وقال سعيد بن جبير : « مخلّدون » مُقَرَّطُون .
يقال للقُرْط : الخَلَدة ، ولجماعة الحُلِيّ : الخِلدة .
وقيل : مسوَّرون ، ونحوه عن الفراء .
قال الشاعر : [ الكامل ]
4678- ومُخَلَّداتٍ باللُّجَيْنِ كأنَّمَا ... أعْجَازُهُنَّ أقَاوِزُ الكُثْبَانِ
وقيل : مقرطون ، يعني : مُمَنْطَقُون من المناطق .
وقال عكرمة : « مخلّدون » منعمون .
وقيل : على سنٍّ واحدة ، أنشأهم الله لأهل الجنة يطوفون عليهم ، كما شاء من غير ولادة؛ لأن الجنة لا ولادة فيها .
وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - والحسن البصري : « الوِلْدَان » هاهنا ولدان المسلمين الذين يموتون صغاراً ، ولا حسنة لهم ولا سيّئة .
وقال سلمان الفارسي : أطفال المشركين هم خدم أهل الجنة .
قال الحسن : لم يكن لهم حسنات يجازون بها ، ولا سيئات يعاقبون عليها ، فوضعوا هذا الموضع ، والمقصود أن أهل الجنة على أتم السرور والنعمة .
قوله : « بِأكْوَابٍ » متعلق ب « يَطُوفُ » .
و « الأكواب » : جمع كوب ، وهي الآنيةُ التي لا عُرَى لها ولا خراطيم ، وقد مضت في « الزخرف » و « الأباريق » : جمع إبريق ، وهي التي لها عُرَى وخراطيم ، واحدها : إبريق ، وهو من آنِيَة الخَمْر ، سُمِّيَ بذلك لبريق لونه من صفائه .
قال الشاعر : [ البسيط ]
4679- أفْنَى تِلادِي ومَا جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ ... قَرْعُ القَوارِيرِ أفْواهُ الأبَارِيقِ
وقال عديُّ بن زيد : [ الخفيف ]
4680- وتَدَاعَوْا إلى الصَّبُوح فَقَامَتْ ... قَيْنَةٌ فِي يَمينهَا إبْرِيقُ
وقال آخر : [ البسيط ]
4681- كَأنَّ إبْرِيقَهُمْ ظَبْيٌ على شَرَفٍ ... مُقَدَّمٌ بِسَبَا الكتَّانِ مَلْثُومُ
ووزنه « إفْعِيل » لاشتقاقه من البريق .
قوله : { وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } تقدم في « الصافات » .
و « المعين » : الجاري من ماء أو خمر ، غير أن المراد هنا الخمر الجارية من العيون .
وقيل : الظاهرة ، فيكون « مَعِين » مفعول من المعاينة .
وقيل : هو « فَعِيل » من المَعْنِ ، وهو الكثرة .
قال ابن الخطيب : هو مأخوذ من مَعن الماء إذا جرى .
وقيل : بمعنى « مَفْعُول » ، فيكون من « عانه » إذا شخصه بعينه وميزه .
قال : والأول أظهر؛ لأن المعيون يوهم بأنه معيوب .
يقال : ضربني بعينه أي : أصابني بعينه؛ ولأن الوصف [ بالمفعول ] لا فائدة فيه .
وأما الجريان في المشروب فإن كان في الماء فهو صفة مدح ، وإن كان في غيره ، فهو أمر عجيب لا يوجد في الدنيا ، فيكون كقوله تعالى : { وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ }
[ محمد : 15 ] وبين أنها ليست كخمر الدُّنيا يستخرج بتكلف ومعالجة .
فإن قيل : كيف جمع الأكواب والأباريق ، وأفرد الكأس؟ .
فالجواب : أن ذلك على عادة أهل الشرب فإنهم يعدون الخمر في أوان كبيرة ، ويشربون بكأس واحدةٍ ، وفيها مباهاتهم لأهل الدنيا من حيث إنهم يطوفون بالأكواب والأباريق ، ولا ينتقل عليهم ، بخلاف الدنيا ، أو يقال : إنما أفردت الكأس لأنها إنما تُسَمَّى كأساً إذا كانت مملوءة ، فالمراد اتخاذ المشروب الذي فيها ، وأخر الكأس مناسبة لاتصاله بالشُّرب .
قوله : { لاَّ يُصَدَّعُونَ } .
يجوز أن تكون مستأنفة ، أخبر عنهم بذلك .
وأن تكون حالاً من الضمير في « عليهم » .
ومعنى { لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا } أي : بسببها .
قال الزمخشري : وحقيقته لا يصدر صداعهم عنها .
والصُّدَاع؛ هو الداء المعروف الذي يلحق الإنسان في رأسه ، والخمر تؤثر فيه .
قال علقمةُ بن عبدة في وصف الخمر : [ البسيط ]
4682- تَشْفِي الصُّدَاعَ ولا يُؤذيكَ حَالبُهَا ... ولا يُخالِطُهَا في الرَّأسِ تدويمُ
قال أبو حيان : هذه صفة خمر أهل الجنة ، كذا قال الشيخ أبو جعفر بن الزبير لما قرأت هذا الدِّيوان عليه .
والمعنى لا يتصدع رءوسهم من شربها ، أي : أنها لذة بلا أذى ، بخلاف شراب الدنيا .
وقيل : « لا يُصدَّعون » لا يتفرَّقُون كما يتفرق الشرب من الشراب للعوارض الدنيوية ، ومن مجيء « تصدع » بمعنى : تفرق ، قوله : فتصدع السحاب عن المدينة ، أي : تفرق .
ويرجحه قراءة مجاهد : « لا يَصَّدعون » بفتح الياء وتشديد الصاد .
والأصل : « لا يتصدعون » أي : لا يتفرقون ، كقوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } [ الروم : 43 ] .
وحكى الزمخشري قراءة ، وهي : « لا يُصدِّعُون » بضم الياء ، وتخفيف الصَّاد ، وكسر الدَّال مشددة .
قال : « أي لا يصدع بعضهم بعضاً ، لا يفرقونهم » .
قوله : { وَلاَ يُنزِفُونَ } .
تقدم الخلاف بين السبعة في « يُنْزِفُون » ، وتفسيره في « والصّافات » .
وقرأ ابن إسحاق : بفتح الياء وكسر الزاي من نزف البئر ، إذا استقى ما فيها .
والمعنى لا ينفدُ خمرهم .
ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
4683- لَعَمْرِي لَئِنْ أنْزَفْتُمُ أو صَحَوْتُمُ ... لَبِئْسَ النَّدامَى كُنْتُم آل أبْجَرَا
وقال أبو حيان : « وابن أبي إسحاق وعبد الله والجحدري والأعمش وطلحة وعيسى : بضم الياء وكسر الزاي ، أي : لا يقيء شرابهم » .
قال شهاب الدين : وهذا عجيب منه فإنه قد تقدم في « الصَّافات » أنَّ الكوفيين يقرءون في « الواقعة » بكسر الزاي ، وقد نقل هو هذه القراءة في قصيدته .
وروى الضحاك عن ابن عباس قال : في الخمر أربع خصال : السُّكر ، والصُّداع ، والقَيء ، والبَوْل ، وقد نزّه الله - تعالى - خمر الجنة عن هذه الخصال .
قوله : { وَفَاكِهَةٍ } .
العامة على جر « فَاكِهَةٍ ولحْمٍ » عطفاً على « أكْوابٍ » .
أي : يطوفون عليهم بهذه الأشياء المأكول والمشروب والمتفكه به ، وهذا كقوله : { عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ }
[ الحاقة : 21 ] .
فإن قيل : الفاكهة لا يطوف بها الولدان ، والعطف يقتضي ذلك؟ .
فالجواب : أن الفاكهة واللحم في الدنيا يطلبان في حال الشرب فجاز أن يطوف بهما الولدان [ هنا ] فيناولونهم الفواكه الغريبة ، واللحوم العجيبة لا للأكل ، بل للإكرام ، كما يصنع المكرم للضيف أنواع الفواكه بيده ، أو يكون معطوفاً على المعنى في قوله : { جَنَّاتِ النعيم } أي : مقربون في جنَّات ، وفاكهة ، ولحم ، وحور ، أي : في هذه النِّعم يتقلَّبون [ عليهم بهذه الأشياء : المأكول ، والمشروب ، والمتفكه ] .
وقرأ زيد بن علي ، وأبو عبد الرحمن - رضي الله عنهم - ، برفعهما على الابتداء ، والخبر مقدر ، أي : ولهم كذا .
والمعنى يتخيّرون ما شاءوا من الفواكه لكثرتها .
وقيل : المعنى : وفاكهة متخيرة مرضية ، والتخير : الاختيار .
وقوله : { وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } .
قال ابن عبَّاس : يخطر على قلبه لحم الطَّير ، فيصير ممتثلاً بين يديه على ما اشتهى ، ثم يطير فيذهب .
قوله : { وَحُورٌ عِينٌ } .
قرأ الأخوان : بجرّ « حُورٍ عينٍ » .
والباقون : برفعهما .
والنخعي : « وحيرٍ عينٍ » بقلب الواو ياء وجرهما .
وأبيّ وعبد الله قال القرطبي والأشهب العقيلي وعيسى بن عمر الثقفي ، وهو كذلك في مصحف أبيّ : « وحُوراً عيناً » بنصبهما .
فأما الجر فمن أوجه :
أحدها : أنه عطف على « جنَّات النَّعيم » كأنه قيل : هم في جنات وفاكهة ولحم وحور؛ قاله الزمخشري .
قال أبو حيان : « وهذا فيه بعد وتفكيك كلام مرتبط بعضه ببعض ، وهو فهم أعجمي » .
قال شهاب الدين : « والذي ذهب إليه الزمخشري معنى حسن جدًّا ، وهو على حذف مضاف أي : وفي مقارنة حور ، وهو الذي عناه الزمخشري ، وقد صرح غيره بتقدير هذا المضاف » .
وقال الفرَّاء : الجر على الإتباع في اللفظ ، وإن اختلفا في المعنى؛ لأن الحور لا يُطاف بهنّ .
قال الشاعر : [ الوافر ]
4684- إذَا مَا الغَانِيَاتُ بَرَزْنَ يَوْماً ... وزَجَّجْنَ الحَواجِبَ والعُيُونَا
والعين لا تُزَجَّجُ ، وإنَّما تُكَحَّل .
وقال آخر : [ مجزوء الكامل ]
4685- ورَأيْتُ زَوْجَكِ في الوَغَى ... مُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحَا
الثاني : أنه معطوف على « بِأكْوَابٍ » ، وذلك بتجوّز في قوله : « يَطُوفُ »؛ إذ معناه ينعمون فيها بأكواب ، وبكذا ، وبحور . قاله الزمخشري .
الثالث : أنه معطوف عليه حقيقة ، وأن الولدان يطوفون عليهم بالحور أيضاً فإن فيه لذة لهم إذا طافوا عليهم بالمأكول؛ والمشروب ، والمتفكه به ، والمنكوح ، وإلى هذا ذهب أبو عمرو بن العلاء وقطرب .
ولا التفات إلى قول أبي البقاء : عطفاً على « أكْوَاب » في اللَّفظ دون المعنى؛ لأن الحور لا يُطافُ بها .
وأما الرَّفْع فمن أوجه :
أحدها : عطفاً على « ولْدَان » .
أي : أن الحور يطفن عليهم بذلك كالولائد في الدُّنيا .
وقال أبو البقاء : « أي يَطُفْن عليهم للتَّنعيم لا للخِدْمَة » .
قال شهاب الدين : « وهو للخدمة أبلغ؛ لأنهم إذا خدمهم مثل أولئك ، فما الظَّن بالمَوطُوءَات » .
الثاني : أن يعطف على الضمير المستكنّ في « متكئين » ، وسوغ ذلك الفصل بما بينهما .
الثالث : أن يعطف على مبتدأ وخبر حذفا معاً ، تقديره : « لهم هذا كله وحور عين » قاله أبو حيَّان .
وفيه نظر؛ لأنه إنما يعطف على المبتدأ وحده ، وذلك الخبر له ، ولما عطف هو عليه .
الرابع : أن يكون مبتدأ خبره مضمر ، تقديره : ولهم ، أو فيها ، أو ثمَّ حور .
وقال الزمخشري : « عطف على وفيها حور عين ، كبيت الكتاب » .
يريد : كتاب سيبويه ، والمرادُ بالبيت قولهُ : [ الكامل ]
4686- بَادَتْ وغَيَّرَ آيَهُنَّ مَعَ البِلَى ... إلاَّ رَواكِدَ جَمْرُهُنَّ هَبَاء
ومُشَجَّجٌ أمَّا سواءُ قَذالِهِ ... فَبَدا وغيَّر سارهُ المَعْزاءُ
عطف « مشجج » وهو مرفوع على « رواكد » ، وهو منصوب .
الخامس : أن يكون خبراً لمبتدأ مضمر ، أي : نساؤهم حور . قاله أبو البقاء .
قال الكسائي : ومن قال : « وحُورٌ عينٌ » بالرَّفع ، وعلل بأنه لا يطاف بهن يلزمه ذلك في « فَاكِهَةٍ ولحْمٍ »؛ لأن ذلك لا يطاف به ، وليس يطاف إلاَّ بالخمر وحدها .
وأما النصب ففيه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب بإضمار فعل ، أي : يعطون ، أو يؤتون حوراً .
والثاني : أن يكون محمولاً على معنى « يطُوفُ عَليْهِمْ »؛ لأن معناه : يعطون كذا وكذا ، فعطف هذا عليه .
وقال مكي : « ويجوز النَّصب على أن يحمل أيضاً على المعنى؛ لأن معنى » يطوف عليهم ولدان « بكذا وكذا ، أي : يعطون كذا وكذا ، ثم عطف » حوراً « على معناه » ، فكأنه لم يطلع [ على أنها ] قراءة .
وأمَّا قراءة : « وحِيرٍ » فلمُجاورتها « عِين » ، ولأن الياء أخف من الواو ، ونظيره في التَّعبير للمجاورة قولهم : « أخذه ما قدُم وما حدُث » - بضم دال - « حدُث » لأجل « قَدُم » ، وإذا أفرد منه فتحت داله فقط .
وقوله عليه الصلاة والسلام : « ورَبَّ السَّمواتِ وما أظْلَلْنَ ، وربَّ الشَّياطين ومنْ أضْلَلْن » .
[ وقوله : « أيَّتُكُنَّ صاحبةُ الجملِ الأدْبَبِ ، يَنْبَحُها كلاب الحوْأب » ، فكَّ الأدبب لأجل الحَوأبِ ] .
وقرأ قتادة : « وحورُ عِينٍ » بالرفع والإضافة ل « عين » .
وابن مقسم : بالنَّصب والإضافة .
وقد تقدم توجيه الرفع والنَّصْب .
وأما بالإضافة : فمن إضافة الموصوف لصفته مؤولاً .
وقرأ عكرمة : [ « وحَوْرَاء عَيْنَاء » بإفرادهما على إرادة الجنس ] .
وهذه القراءة تحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون نصباً كقراءة عبد الله وأبيٍّ .
وأن يكون جرًّا كقراءة الأخوين؛ لأن هذين الاسمين لا يتصرَّفان ، فهما محتملان للوجهين .
وتقدم الكلام في اشتقاق العين .
« كأمْثَال » : صفة ، أو حال .
و « جزاءً » : مفعول من أجله ، أو مصدر ، أي : يحزون جزاء .
فصل في تفسير الآية
قال المفسرون : « حورٌ » بيض ، « عينٌ » ضخام الأعين ، { كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون } أي المخزون في الصدف لم تمسّه الأيدي ، ولم يقع عليه الغبار ، فهو أشدّ ما يكون صفاء .
وقوله : { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
قالت المعتزلة : هذا يدلُّ على أن يقال : الثواب واجب على الله - تعالى - لأن الجزاء لا يجوز الإخلال به .
وأجيبوا بأنه لو صح ما ذكروا لما كان في الوعد بهذه الأشياء فائدة؛ لأن العقل إذا حكم بأن ترك الجزاء قبيح ، وعلم بالعقل أن القبيح من الله تعالى لا يوجد ، علم أن الله تعالى يعطي هذه الأشياء ، لأنها أجزية ، وإيصال الثَّواب واجب ، وأيضاً فكان لا يصح التمدّح به .
قوله : { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً } .
قال ابن عبَّاس : باطلاً وكذباً .
و « اللَّغْو » : ما يلغى من الكلام .
و « التأثيم » : مصدر أثمته ، أي : قلت له : أثمت .
قال محمد بن كعب : « ولا تأثيماً » ، أي : لا يؤثم بعضهم بعضاً .
وقال مجاهد : { لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً } : شتماً ولا مأثماً .
قوله : « إلاَّ قيلاً » ، فيه قولان :
أحدهما : أنه استثناء منقطع ، وهذا واضح؛ لأنه لم يندرج تحت اللغو والتأثيم .
والثاني : أنه متصل .
وفيه بعد ، وكأن هذا رأى أن الأصل : لا يسمعون فيها كلاماً ، فاندرج عنده فيه .
وقال مكّي : وقيل : منصوب ب « يَسْمَعُون » . وكأنه أراد هذا القول .
قوله : { سَلاَماً سَلاَماً } . فيه أوجه :
أحدها : أنه بدل من « قيلاً » أي : لا يسمعون فيها إلا سلاماً سلاماً .
الثاني : أنه نعت ل « قيلاً » .
الثالث : أنه منصوب بنفس « قيلاً » ، أي : إلاَّ أن يقولوا : سلاماً سلاماً ، وهو قول الزَّجَّاج .
الرابع : أن يكون منصوباً بفعل مقدّر ، ذلك الفعل محكيّ ب « قيلاً » تقديره : إلا قيلاً سلموا سلاماً .
وقرىء : « سلامٌ » بالرفع .
قال الزمخشري : « على الحِكايَةِ » .
قال مكي : « ويجوز أن يكون في الكلام الرفع على معنى » سلام عليكم « ابتداء وخبر » وكأنه لم يعرفها قراءة .
فصل في معنى الآية
معنى « قيلاً سلاماً » أي : قولاً سلاماً .
وقال عطاء : يُحَيِّي بعضهم بعضاً بالسَّلام .
قال القرطبي : « والسَّلام الثاني بدل من الأول ، والمعنى : إلا قيلاً يسلم فيه من اللغو ، وقيل : تحييهم الملائكة ، أو يحييهم ربهم عزَّ وجلَّ » .
وكرَّر السَّلام إشارة إلى كثرة السلام عليهم ، ولهذا لم يكرر قوله : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ يس : 58 ] .
و « القيل » مصدر كالقول .
قال ابن الخطيب : فيكون « قيلاً » مصدراً ، لكن لا نظير له في « باب » فعل يفعل من الأجوف .
وقيل : إنه اسم ، والقول مصدر .
وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
قوله تعالى : { وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين } .
رجع إلى ذكر أصحاب الميمنة ، والتكرير لتعظيم شأن النَّعيم .
فإن قيل : ما الحكمة في ذكرهم بلفظ « أصحاب الميمنة » عند تقسيم الأزواج الثلاثة؟ فلفظ « أصحاب الميمنة » « مَفْعَلَة » إمَّا بمعنى موضع اليمين [ كالحكمة موضع الحكم ، أي : الأرض التي فيها « اليمن » ، وإمَّا بمعنى موضع اليمين ] كالمنارة موضع النار ، والمِجْمَرة موضع الجمرة ، وكيفما كان ، فالميمنة فيها دلالة على الموضع ، لكن الأزواج الثلاثة في أول الأمر يتميزون بعضهم عن بعض ويتفرَّقون ، لقوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [ الروم : 14 ] ، وقال : { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } [ الروم : 43 ] فيتفرقون بالمكان ، فأشار إليهم في الأول بلفظ يدلّ على المكان ، ثم عند الثواب وقع تفريقهم بأمر منهم لا بأمر هم فيه وهو المكان ، فقال : « وأصْحَابُ اليَمِينِ » أي الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم .
وقيل : أصحاب القوة .
وقيل : أصحاب النور .
قوله : { فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ } .
قال ابن عبَّاس وغيره : { فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ } أي : في نَبْق قد خُضِدَ شَوْكُه .
وذكر ابن المبارك قال : أخبرنا صفوان عن سليم بن عامر عن أبي أمامة ، قال : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون : إنه لينفعنا الأعراب ومسائلهم ، قال : « أقبل أعرابي يوماً ، فقال : يا رسول الله : لقد ذكر الله شجرة في القرآن مُؤذية ، وما كنت أرى في الجنة شجرة تؤذي صاحبها؟ .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ومَا هِيَ؟ .
قال : السِّدْر ، فإن له شوكاً مؤذياً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أو لَيْسَ يقولُ : « سِدْرٌ مخْضُودٌ » خضد الله شوكه ، فجعل مكان كل شوكة ثمرة ، فإنها تنبت ثمراً ، يفتق الثمر منها عن اثنين وسبعين لوناً من الطعام ، ما فيه لون يشبه الآخر « » .
وقال أبو العالية والضحاك : نظر المسلمون إلى « وجٍّ » - وهو واد ب « الطائف » مخصب - فأعجبهم سدره ، فقالوا : يا ليت لنا مثل هذه ، فنزلت .
قال أمية بن أبي الصَّلت رضي الله عنه يصف الجنَّة : [ الكامل ]
4687- إنَّ الحَدَائِقَ في الجِنَانِ ظَليلَةٌ ... فِيهَا الكَواعِبُ سِدْرُهَا مَخْضُودُ
وقال الضحاك ومجاهد ومقاتل بن حيان : « في سدر مخضود » هو الموقر حملاً .
وقال سعيد بن جبير : ثمرها أعظم من القلال .
قوله : { وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ } .
و « الطَّلْحُ » : جمع الطَّلحة . قال علي وابن عباس وأكثر المفسرين : الطَّلْح : شجر الموز ، واحده طلحة .
وقال الحسن : ليس موزاً ، ولكنه شجر له ظل بارد رطب .
وقال الفرَّاء وأبو عبيدة : شجر عظام له شوك .
قال الجعديُّ : [ الرجز ]
4688- بَشَّرها دليلُها وقَالاَ ... غَداً تَريْنَ الطَّلْحَ والحِبَالا
ف « الطَّلْح » : كل شجر عظيم كثير الشوك .
وقال الزجاج : هو شجر أم غيلان .
وقال مجاهد : ولكن ثمرها أحلى من العسل .
وقال الزجاج : لها نور طيب جدًّا فخوطبوا ووعدوا بما يحبون مثله إلاَّ أن فضله على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنة على ما في الدنيا .
وقال السُّدي : طلح الجنة يشبه طلح الدنيا ، لكن له ثمر أحلى من العسل .
وقوله : « مَنْضُودٍ » . أي متراكب .
قال المفسرون : موقور من الحمل حتى لا يبين ساقه من كثرة ثمره ، وتثني أغصانه .
وقرأ علي - رضي الله عنه - وعبد الله ، وجعفر بن محمد : « وطَلْعٍ » بالعين ، لقوله تعالى : { طَلْعُهَا هَضِيمٌ } [ الشعراء : 148 ] .
ولما قرأ عليٌّ - رضي الله عنه - قال : « وما شأن الطَّلْح » واستدل بقوله { لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ } [ ق : 10 ] ، فقيل : أنحولها؟ فقال : لا ينبغي أن يُهَاج القرآن اليوم ولا يحوَّل .
فقد اختار هذه القراءة ، ويروى عن ابن عباس مثله .
قال القرطبي : « فلم ير إثباتها في المصحف لمخالفة ما رسمه مجمع عليه ، قاله القشيري وأسنده أبو بكر بن الأنباري بسنده إلى عليٍّ رضي الله عنه » .
فصل في المراد بالآية
قال ابن الخطيب : المخضود : المأخوذ الشوك .
وقيل : المتعطف إلى أسفل ، فإن رءوس أغصان السِّدر في الدنيا تميل إلى فوق لعدم ما يثقله بخلاف أشجار الجنة فإن رءوسها تتدلَّى .
والظاهر : أن الطَّلح شجر الموز ، وذكر طرفين ليندرج ما بينهما ، فإن ورق السِّدْر صغير ، وورق الطلح وهو الموز كبير ، وبينهما أنواع من الأوراق متوسطة كما ذكر في النخل والرمان ، كقولهم : فلان يرضي الصغير والكبير ، فيدخل ما بينهما .
و « المَنْضُود » : المتراكب الذي قد نضد أوله وآخره بالحمل ، ليست له سوقٌ بارزة ، بل هو مرصوص .
و « النّضد » : هو الرَّص ، و « المنضود » : المرصوص .
قال مسروق : أشجار الجنة من عروقها إلى أفنانها نضيدة ، ثمر كله كلما أكلت ثمرة عاد مكانها أحسن منها .
قوله : { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } .
أي : دائم باقٍ لا يزول ، ولا تنسخه الشمس ، كقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل } [ الفرقان : 45 ] .
وذلك بالغداةِ ، وهي ما بين الإسفار إلى طلوع الشمس ، والجنة كلها ظل لا شمس معه .
قال ابن الخطيب : إنَّ الشمس إذا كانت تحت الأرض يقع ظلها في الجو ، فيتراكم الظل فيسودّ وجه الأرض ، وإذا كانت الشمس في أحد جانبي الأرض من الأفق ، فينبسط الظل على وجه الأرض ، فيضيء الجو ولا يسود وجه الأرض ، فيكون في غاية الطيبة ، فقوله : { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } أي : كالظل بالليل ، وعلى هذا فالظل ليس ظل الأشجار ، بل ظل يخلقه الله تعالى .
وقال الربيع بن أنس : يعني ظل العرش .
وقال عمرو بن ميمون : مسيرة سبعين ألف سنة .
وقال أبو عبيدة : تقول العرب للدهر الطويل [ والعمر الطويل ] والشيء الذي لا ينقطع : ممدود .
قال الشاعر : [ الكامل ]
4689- غَلَبَ العَزَاءُ وكُنْتُ غَيْرَ مُغَلَّبٍ ... دَهْرٌ طويلٌ دائمٌ مَمْدُودُ
وفي « صحيح الترمذي » وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « في الجَنَّة شَجَرةٌ يسيرُ الرَّاكِبُ في ظلِّها مائة عامٍ ، لا يَقْطَعُهَا ، اقرءوا إن شِئْتُم : { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } » .
وهذا الحديث يرد قول ابن الخطيب من أنه ليس ظل الأشجار .
قوله : { وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ } .
أي : مصبوب بكثرة .
وقيل : جارٍ لا ينقطع .
وأصل السَّكْب : الصَّب ، يقال : سَكَبَهُ سَكْباً ، والسكوب : انصبابه ، يقال : سَكَبَ سُكُوباً .
وانصب انسكب انسكاباً .
ومعنى الآية : وماء مصبوب يجري في غير أخدود لا ينقطع عنهم .
قال ابن الخطيب : معناه : مسكوب من فوق؛ لأن أكثر ماء العرب من الآبار والبرك فلا ينسكب .
وقيل : جارٍ في غير أخدود [ بأبحر ] الهواء .
وكانت العرب أصحاب بادية ، [ وبلادها ] حارة ، وكانت الأنهار في بلادهم عزيزة لا يصلون إلى الماء إلا بالدَّلو والرِّشاء ، فوعدوا في الجنة خلاف ذلك .
قوله : { وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ } .
قرىء : برفع « فاكِهَةٌ » .
أي : وهناك ، أو ولهم ، أو فيها ، أو وثمَّ فاكهة .
قال ابن الخطيب : لما ذكر الأشجار التي يطلب منها ورقها ، وذكر بعدها الأشجار التي يقصد بها ثمرها ، ذكر الفاكهة بعد ذكر الأشجار انتقالاً من نعمة إلى نعمة ، ووصفت بالكثرة دون الطيب واللذة؛ لأن الفاكهة تدل عليها .
قوله : « لا مقطوعةٍ » . فيه وجهان :
أظهرهما : أنه نعت ل « فاكهة » ، و « لا » للنَّفي ، كقولك : « مررت برجل لا طويل ولا قصير » ولذلك لزم تكرارها .
والثاني : هو معطوف على « فاكهة » ، و « لا » عاطفة . قاله أبو البقاء .
وحينئذ لا بد من حذف موصوف ، أي : لا فاكهة مقطوعة ، لئلاَّ تعطف الصفة على موصوفها .
والمعنى : ليست كفواكه الدُّنيا تنقطع في أوقات كثيرة ، وفي كثير من المواضع ، « ولا ممنوعة » أي : لا تمنع من الناس لغلوّ أثمانها .
وقيل : لا يحظر عليها كثمار الدنيا .
وقيل : لا تمنع من أرادها بشوك ، ولا بُعد ولا حائط ، بل إذا اشتهاها العبد دنت منه حتى يأخذها ، قال تعالى : { وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً } [ الإنسان : 14 ] .
قوله : { وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ } .
العامة : على ضم الراء ، جمع : « فِرَاش » .
وأبو حيوة : بسكونها ، وهي مخففة من المشهورة .
و « الفُرُش » : قيل : هي الفراش المعهُودة ، مرفوعة على الأسرة .
وقيل : هي كناية عن النساء كما كنى عنهن باللِّباس ، أي : ونساء مرتفعات الأقدار في حسنهن وكمالهن ، والعرب تسمي المرأة فراشاً ولباساً وإزاراً ، قاله أبو عبيدة وغيره .
قالوا : ولذلك أعاد الضمير عليهن [ في قوله ] : « إنَّا أنْشَأناهُنّ » .
وأجاب غيرهم بأنه عائد على النساء الدَّال عليهن الفراش .
وقيل : يعود على الحور المتقدمة .
وعن الأخفش : « هُنّ » ضمير لمن لم يجر له ذكر ، بل يدل عليه السياق .
وقيل : مرفوعة القدر ، يقال : ثوب رفيع أي : [ عزيز ] مرتفع القدر والثمن ، بدليل قوله تعالى : { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } [ الرحمن : 54 ] فكيف ظهائرها؟ وقيل : مرفوعة بعضها فوق بعض .
« وروى التِّرمذي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ } قال : » ارْتفَاعُهَا كما بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ مَسِيرةَ خَمْسمائة عامٍ « قال : حديث غريب » .
قوله : { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ } .
قيل : الضَّمير يعود ( على ) الحُور العين ، أي : خلقناهن من غير ولادة .
وقيل : المراد نساء بني آدم خلقناهنَّ خلقاً جديداً ، وهو الإعادة ، أي أعدناهنّ إلى حال الشَّباب ، وكمال الجمال ، ويرجحه قوله : { فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً } لأن المخلوقة ابتداء معلوم أنها بكر .
والمعنى أنشأنا العجوز والصَّبية إنشاء ، وأخرن ، ولم يتقدم ذكرهنّ؛ لأنَّهن قد دخلن في أصحاب اليمين ، ولأن الفُرش كناية عن النساء كما تقدم .
« وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً } قال : » مِنهُنَّ البِكرُ والثَّيِّبُ « » .
« وروى النحاس بإسناده عن أم سلمة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى : { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً } ، فقال : » يا أمَّ سلمة ، هُنَّ اللَّواتِي قُبِضْنَ في الدُّنيا عَجَائِزَ ، شُمْطاً ، عُمْشاً ، رُمْصاً ، جعلهُنَّ اللَّهُ بعد الكبر أتْرَاباً على ميلادٍ واحدٍ في الاستواءِ « » .
وروى أنس بن مالك ، يرفعه في قوله : { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً } قال : « هُنَّ العجائزُ العُمْشُ ، الرُّمص ، كُنَّ في الدُّنيا عُمْشاً رُمْصاً » .
وعن المسيب بن شريك : « قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً } ، قال : » هُنَّ عجائزُ الدُّنيا ، أنشَأهُنَّ الله تعالى خلقاً جديداً ، كُلَّما أتَاهُنَّ أزواجهُنَّ وجدُوهُنَّ أبْكاراً « فلما سمعت عائشة بذلك قالت : واوجعاه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » لَيْسَ هُناكَ وجعٌ « » .
وعن الحسن قال : « أتت عجوز النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ادعُ الله أن يدخلني الجنة ، فقال : » يَا أم فُلانٍ ، الجنَّةُ لا يدخُلهَا عَجُوزٌ « ، قال : فولَّت تبكي ، فقال : أخْبرُوهَا أنَّهَا لا تدخُلهَا وهيَ عجُوزٌ ، إنَّ الله تعالى يقُولُ : { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً } » .
قوله : « عُرُباً » .
جمع « عَرُوب » ك « صَبُور ، وصُبُر » ، والعَرُوب : المحببة إلى بعلها ، واشتقاقه من « أعرب » إذا بين .
فالعروب : تبين محبتها لزوجها بشكل وغُنْج وحسن كلام . قاله عكرمة وقتادة .
وقيل : الحسناء .
وقيل : المحسِّنة لكلامها .
وقرأ حمزة ، وأبو بكر : بسكون الراء . وهذا ك « رُسُل ورُسْل ، وفُرُش وفُرْش » . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هنّ العواشق .
وأنشد للبيد : [ البسيط ]
4690- وفِي الخُدُورِ عرُوبٌ غَيْرُ فَاحِشَةٍ ... رَيَّا الرَّوادفِ يَغْشَى دُونهَا البَصَرُ
ويروى : [ البسيط ]
4691- وفِي الجِنَانِ عَرُوبٌ غَيْرُ فَاحِشَةٍ ... ريَّا الرَّوادفِ يَغْشَى ضَوؤهَا البَصَرَا
وعن ابن عباس ومجاهد وغيرهما : العُرُب ، العواشق لأزواجهن .
وعن عكرمة : العَرُوبة : الغَنِجَة .
قال ابن زيدٍ : بلغة أهل « المدينة » ، وأنشد بيت لبيد ، وهي الشَّكِلة بلغة أهل « مكّة » .
« وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جدّه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : » عُرُباً « قال : » كلامُهنَّ عَربيٌّ « » .
وعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما : « العَرُوب » الملقة .
قوله : « أتْرَاباً » جمع « تِرْب » ، وهو المساوي لك في سنّك لأنه يمسّ جلدها التراب في وقتٍ واحد ، وهو آكد في الائتلاف ، وهو من الأسماء التي لا تتعرف بالإضافة؛ لأنه في معنى الصفة؛ إذ معناه « مساويك » ، ومثله : « خِدنُك » لأنه في معنى صاحبك .
قال القرطبي : « سنّ واحد ، وهو ثلاث وثلاثون سنة ، يقال في النساء : أتْرَاب ، وفي الرجال : أقْرَان ، وكانت العرب تميل إلى من جاوزت حدّ الصِّبا من النساء ، وانحطَّت عن الكبر » .
وقال مجاهد : الأتْراب : الأمثال والأشكال .
وقال السُّدي : أتراب في الأخلاق لا تباغض بينهن ولا تحاسُد .
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يَدْخلُ أهْلُ الجنَّةِ الجنَّة جُرْداً مُرْداً ، جعَاداً ، مكحَّلينَ ، أبْناءَ ثلاثِينَ على خَلْقِ آدَمَ طُولهُ سِتُّونَ ذِرَاعاً في سبعةِ أذْرُعٍ » .
وعنه - عليه الصلاة والسلام - قال : « مَنْ مَاتَ مِنْ أهْلِ الجنَّةِ من صغيرٍ وكبيرٍ دُون بَنِي ثلاثِيْن سنةً في الجنَّةِ ، لا يزيدُون عليْهَا أبداً ، وكذلكَ أهْلُ النَّارِ » .
قوله : { لأَصْحَابِ اليمين } .
في هذه « اللام » وجهان :
أحدهما : أنها متعلقة ب « أنْشَأْنَاهُنَّ » أي لأجل أصحاب اليمين .
والثاني : أنها متعلقة ب « أتْرَاباً » كقولك : هذا تربٌ لهذا ، أي : مُسَاو له .
وقيل : الحور العين : للسَّابقين ، والأتْرَاب العُرُب : لأصحاب اليمين .
قوله : { ثلة من الأولين ، وثلة من الآخرين } .
رجع الكلام إلى قوله تعالى : { وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين } [ الواقعة : 27 ] أي هم ثلة من الأولين ، وثلة من الآخرين ، وقد مضى الكلام في معناه .
وقال أبو العالية ، ومجاهد ، وعطاء بن أبي رباح والضحاك : { ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين } يعني : من سابقي هذه الأمة ، { وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين } من هذه الأمة من آخرها .
بدليل ما « روي عن ابن عباس في هذه الآية : { ثلة من الأولين ، وثلة من الآخرين } ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » جَمِيعاً مِنْ أمَّتِي « » .
وقال الواحدي : « أصحاب الجنة نصفان : نصف من الأمم الماضية ، ونصف من هذه الأمة » . ويرد هذا ما روى ابن ماجه في « سننه » والترمذي في « جامعه » عن بريدة بن الحصيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أهْلُ الجنَّةِ عِشْرُونَ ومائة صنف ، ثمانُون منْهَا من هذهِ الأمَّةِ ، وأربعُونَ من سَائِرِ الأمَمِ » .
قال الترمذي : هذا حديث حسن .
و « ثُلَّةٌ » رفع على الابتداء ، أو على حذف خبر حرف الصفة ، ومجازه : لأصحاب اليمين ثلَّتان : ثلّة من هؤلاء ، وثلّة من هؤلاء .
فالأوَّلُون : الأمم الماضية ، والآخرون : هذه الأمة على قول الواحدي .
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
قوله : { وَأَصْحَابُ الشمال مَآ أَصْحَابُ الشمال } .
لما ذكر منازل أهل الجنة وسمَّاهم أصحاب اليمين ، ذكر منازل أهل النَّار ، وسمَّاهم أصحاب الشمال؛ لأنهم يأخذون كتبهم بشمائلهم ، ثم عظم ذكرهم في البلاء والعذاب ، فقال : { مَآ أَصْحَابُ الشمال فِي سَمُومٍ } وهي الريح الحارة التي تدخل في مسام البدن ، والمراد بها حر النار ولهيبها .
وقيل : ريح حارة تهب فتمرض أو تقتل ، وأصله من السم كسمّ الحية والعقرب وغيرهما .
قال ابن الخطيب : « ويحتمل أن يكون هو السّم ، والسّم يقال في خرم الإبرة ، قال تعالى : { حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط } [ الأعراف : 40 ] ؛ لأن سم الأفعى ينفذ في مسام البدن » .
وقيل : السموم يختص بما يهبّ ليلاً ، وعلى هذا فقوله : « سَمُومٍ » إشارة إلى ظلمة ما هم فيه .
و « الحَمِيم » : هو الماء الحارّ الذي قد انتهى حره ، فهو « فَعِيل » بمعنى « فاعل » من حَمِمَ الماء ، أو بمعنى « مفعول » من حم الماء إذا سخنه .
وقوله : { وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ } .
« اليَحْمُوم » وزنه « يَفْعُول » .
قال أبو البقاء : « من الحمم ، أو الحميم » .
قال القرطبي : « هو » يَفْعُول ، من الحم ، وهو الشحم المسود باحتراق النار ، وقيل : مأخوذ من الحُمَم وهو الفحم .
و « اليَحْمُوم » : قيل : هو الدُّخان الأسود البهيم .
وقيل : هو وادٍ في جهنم .
وقيل : اسم من أسمائها . والأول أظهر .
وقيل : إنه الظُّلمة ، وأصله من الحمم ، وهو الفَحْم ، فكأنه لسواده فحم ، فسمي باسم مشتق منه ، وزيادة الحرف فيه لزيادة ذلك المعنى فيه ، وربما تكون الزيادة فيه جامعة بين الزيادة في سواده ، والزيادة في حرارته .
قال ابن الخطيب : وفي الأمور الثلاثة إشارة إلى كونهم في العذاب دائماً؛ لأنهم إن تعرَّضوا لمهبّ الهواء أصابهم السَّمُوم ، وإن استكنُّوا كما يفعله الذي يدفع عن نفسه السموم بالاستكنان في الكِنِّ يكون في ظل من يحموم ، وإن أراد التبرُّد بالماء من حرّ السموم يكون الماء من حميم ، فلا انفكاك له من العذاب ، أو يقال : إنَّ السموم يعذبه فيعطش ، وتلتهب نار السَّموم في أحشائه ، فيشرب الماء ، فيقطع أمعاءهُ ، فيريد الاستظلال بظلّ ، فيكون ذلك الظلّ ظل اليَحْمُوم .
وذكر السموم دون الحميم دون النَّار تنبيهاً بالأدنى على الأعلى ، كأنه قيل : أبرد الأشياء في الدنيا حارّ عندهم فكيف أحرها .
قال الضَّحاك : النار سوداء ، وأهلها سُود ، وكل ما فيها أسود .
قوله : { لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ } صفتان للظلّ ، كقوله : « مِنْ يَحْمُومٍ » .
وفيه أنه قدم غير الصريحة على الصريحة ، فالأولى أن تجعل صفة ل « يحموم » ، وإن كان السياق يرشد إلى الأول .
وقرأ ابن أبي عبلة : { لا بَارِدٌ ولا كريمٌ } برفعهما : أي : « هُوَ لا بَارِدٌ » .
كقوله : [ الكامل ]
4692- .. فَأبِيتُ لا حَرجٌ ولا مَحْرُومُ
قال الضَّحاك : « لا بَارِدٍ » بل حار؛ لأنه من دخان سعير جهنم ، « ولا كَرِيم » عذب .
وقال سعيد بن المسيّب : ولا حسن منظره ، وكل ما لا خير فيه ، فليس بكريم .
وقيل : { وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ } أي : من النَّار يعذبون بها كقوله تعالى : { لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } [ الزمر : 16 ] .
قال الزمخشري : « كرم الظل نفع الملهوف ، ودفع أذى الحرّ عنه » .
قال ابن الخطيب : ولو كان كذلك لكان البارد والكريم بمعنى واحد ، والأقوى أن يقال : فائدة الظل أمران :
أحدهما : دفع الحر .
والآخر : كون الإنسان فيه مكرماً؛ لأن الإنسان في البرد يقصد الشمس ليدفأ بحرّها إذا كان قليل الثِّياب ، وفي الحرّ يطلب الظِّل لبرده ، فإذا كان من المكرمين يكون أبداً في مكان يدفع الحر والبرد عن نفسه ، فيحتمل أن يكون المراد هذا .
ويحتمل أن يقال : الظل يطلب لأمر حسّي ، وهو يرده ، ولأمر عقلي وهو التّكرمة ، وهذا معنى ما نقله الواحدي عن الفرَّاء بنفي كل شيء مستحسن ، فيقولون : « الدار لا واسعة ولا كريمة » .
قوله : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ } .
أي : إنما استحسنوا هذه العقوبة؛ لأنهم كانوا في الدنيا متنعّمين بالحرام .
و « المُتْرَف » : المنعم .
قاله ابن عباس وغيره .
وقال السُّدي : « مُتْرَفينَ » أي : مشركين .
قوله : { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم } .
الحِنْثُ في أصل كلامهم : العدل الثقيل ، وسمي به الذنب والإثم لثقلهما ، قاله الخطابي .
وفلان حَنِثَ في يمينه ، أي لم يَفِ به؛ لأنه يأثم غالباً ، ويعبر بالحِنْثِ عن البُلُوغ ، ومنه قوله : « لَمْ يَبْلغوا الحِنْثَ » .
وإنما قيل ذلك؛ لأن الإنسان عند بلوغه إيَّاه يؤاخذ بالحنث ، أي : بالذنب ، وتَحَنَّثَ فلان ، أي جانب الحِنْث .
وفي الحديث : « كَانَ يَتَحَنَّثُ بِغَارِ حِرَاءَ » ، أي : يتعبّد لمُجانبته الإثم ، نحو : « تَحَرَّجَ » فتفعَّل في هذه كلِّها للسَّلْب .
فصل في تفسير الآية
قال الحسن ، والضحاك ، وابن زيد : { يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم } أي : يقيمون على الشرك .
وقال قتادة ومجاهد : الذَّنْب العظيم الذي لا يتوبون منه .
وقال الشَّعبي : هو اليمين الغَمُوس ، وهي من الكبائر ، يقال : حنث في يمينه ، أي : لم يبرّها ورجع فيها ، وكانوا يقسمون أن لا بعث ، وأن الأصنام أنْداد الله فذلك حنثهم .
فصل في الحكمة من ذكر عذاب هذه الطائفة
قال ابن الخطيب : والحكمة في ذكره سبب عذابهم ، ولم يذكر في أصحاب اليمين سبب ثوابهم ، فلم يقل : إنهم كانوا قبل ذلك شاكرين مذعنين ، وذلك تنبيه على أن ذلك الثواب منه فضل ، والعقاب منه عدل ، والفضل سواء ذكر سببه ، أو لم يذكره لا يتوهّم بالمتفضل نقص وظلم .
وأمَّا العدل إن لم يعلم سبب العقاب ، يظن أن هناك ظلماً ، ويدلّ على أنه تعالى لم يقل في أصحاب اليمين : { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الواقعة : 24 ] كما قاله في السَّابقين؛ لأن أصحاب اليمين نجوا بالفضل العظيم لا بالعمل ، بخلاف من كثرت حسناته يحسن إطلاق الجزاء في حقه .
واعلم أن المترف هو المنعم ، وذلك لا يوجب ذمًّا ، وإنما حصل لهم الذم بقوله : { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم } ، فإن صدور المعاصي ممن كثرت النِّعم عليه [ من ] أقبح القبائح ، فقال : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ } ، ولم يشكروا نعم الله ، بل أصروا على الذنب العظيم .
وفي الآية مبالغة؛ لأن قوله : { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ } يقتضي أن ذلك عادتهم ، والإصرار على مُدَاومةِ المعصية والحنث أبلغ من الذنب؛ لأن الذنب يطلق على الصغيرة ، ويدل على ذلك قولهم : « بَلَغَ الحِنْثَ » أي : بلغ مبلغاً تلحقه فيه الكبيرة .
وأما الصغيرة فتلحقُ الصغير ، فإن وليَّهُ يعاقبه على إسَاءَة الأدب ، وترك الصلاة ، ولأن وصفه بالعظيم مبالغة . قاله ابن الخطيب .
قوله تعالى : { وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا } الآية .
هذا استبعاد منهم للبعث وتكذيب له ، وقد تقدّم الكلام على ذلك في « والصَّافات » ، وتقدم الكلام على الاستفهامين في سورة « الرَّعْد » .
فإن قيل : كيف أتى ب « اللام » المؤكدة في قوله تعالى : { لَمَبْعُوثُونَ } ، مع أن المراد هو النفي ، وفي النفي لا تدخل « اللام » في خبر « إنَّ » ، تقول : « إنَّ زيداً ليجيء ، وإنَّ زيداً لا يجيء » فلا تذكر « اللام » ، ومرادهم بالاستفهام : الإنكار ، بمعنى إنا لا نبعث؟ .
فالجواب من وجهين :
أحدهما : عند التصريح بالنفي وصيغته ، يجب التصريح بالنفي وصيغته .
والثاني : أنهم أرادوا تكذيب من يخبر عن البعث ، فذكروا أن المخبر عنه يبالغ في الإخبار ، ونحن ننكر مبالغته وتأكيده ، فحكوا كلام المخبر على طريقة الاستفهام والإنكار ، ثم إنهم أشاروا في الإنكار إلى أمور اعتقدوها مقررة لصحة إنكارهم ، فقالوا : « أئِذَا مِتْنَا » ثم لم يقتصروا عليه ، بل قالوا بعده : { وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً } أي : وطال عهدنا بعد كوننا أمواتاً حتى صارت اللحوم تراباً ، والعظامُ رفاتاً ثم زادوا وقالوا : مع هذا يقال لنا : إنكم لمبعوثون بطريق التأكيد من ثلاثة أوجه :
أحدها : استعمال « إنَّ » .
ثانيها : إثبات « اللام » في خبرها .
ثالثها : ترك صيغة الاستقبال ، والإتيان بالمفعول كأنه كائن ، ثم زادوا وقالوا : { أَوَ آبَآؤُنَا الأولون } فقال الله تعالى لهم : « قُلْ » يا محمد { إِنَّ الأولين } من آبائكم ، و { والآخرين } منكم { لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } يعني : يوم القيامة .
ومعنى الكلام : القسم ودخول « اللام » في قوله تعالى : { لَمَجْمُوعُونَ } هو دليل القسم في المعنى ، أي : إنكم لمجمُوعون قسماً حقًّا ، بخلاف قسمكم الباطل .
قوله : { ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضآلون } عن الهدى { المكذبون } بالبعث { لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ } ، وهو شجر كريه المَنْظَر كريه الطعم ، وهو المذكور في سورة « والصَّافَّات » .
وهذا الخطاب عامّ ، وقيل : لأهل « مكة » ، وهو من تمام كلام النبي صلى الله عليه وسلم وقدم هنا الضَّالين على المكذبين في آخر السورة ، قال : { وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين } [ الواقعة : 92 ] ، فقدم المكذبين على الضَّالين؛ لأنهم هنا أصرُّوا على الحنث العظيم فضلوا عن السبيل ، ثم كذبوا الرسول ، وقالوا : « أئذا مِتْنَا » .
وفي آخر السورة قدم المكذبين بالحشر على الضالين عن طريق الخلاص ، أو يقال : إنَّ الكلام هنا مع الكُفَّار وهم ضلوا أولاً ، وكذبوا ثانياً ، وفي آخر السورة الكلام مع النبي صلى الله عليه وسلم فقدم التكذيب به إظهاراً للعناية به صلى الله عليه وسلم .
قوله : { مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ } . فيه أوجه :
أحدها : أن تكون « من » الأولى لابتداء الغاية ، والثانية للبيان ، أي : مبتدئون الأكل من شجر هو زقوم .
الثاني : أن تكون « من » الثَّانية صفة ل « شجر » فيتعلق بمحذوف أي : مستقر .
الثالث : أن تكون الأولى مزيدة ، أي : لآكلون شجراً ، و « من » الثانية على ما تقدم من الوجهين .
الرابع : عكس هذا ، وهو أن تكون الثانية مزيدة ، أي : لآكلون زقُّوماً ، و « من » الأولى للابتداء في محل نصب على الحال من « زقّوم » أي : كائناً من شجر ، ولو تأخَّر لكان صفة .
الخامس : أن « من شجر » صفة لمفعول محذوف ، أي : لآكلون شيئاً من شجر و « مِنْ زقُّومٍ » على هذا نعت ل « شجر » أو لشيءٍ محذوف .
السادس : أن الأولى للتبعيض ، والثانية بدل منها .
قوله : { فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون } .
الضمير في « منها » عائد على الشجر ، وفي « عليه » للشجر أيضاً .
وأنه يجوز تذكير اسم الجنس وتأنيثه ، وأنهما لغتان .
وقيل : الضمير في « عليه » عائد على « الزَّقُّوم » .
وقال أبو البقاء : للمأكول .
وقال ابن عطية : « للمأكول أو الأكل » انتهى .
وفي قوله : « الأكْل » بُعْد .
وقال الزمخشري : « وأنّث ضمير الشجر على المعنى ، وذكره على اللفظ في » منها « و » عليه « ، ومن قرأ : { مِن شَجَرَةٍ مِّن زَقُّومٍ } فقد جعل الضميرين للشجرة ، وإنما ذكر الثاني على تأويل الزقوم؛ لأنه تفسيرها » .
فصل في تحرير معنى الزقوم
قال ابن الخطيب : « اختلفت أقوال الناس في » الزقوم « ، وحاصل الأقوال يرجع إلى كون ذلك في الطَّعم مرًّا ، وفي اللمس حارًّا ، وفي الرائحة منتناً ، وفي المنظر أسود لا يكاد آكله يَسيغهُ .
والتحقيق اللغوي فيه أن الزَّقوم لغة عربية ، ودلنا تركيبه على قبحه؛ لأن » ز ق م « لم يجتمع إلا في مهمل ، أو في مكروه .
يقال منه : مَزَقَ يَمْزقُ ، ومنه : زَمَقَ شعره إذا نتفه ، ومنه « القَزْمُ » للدَّناءة واللؤم .
وأقوى من هذا أن « القاف » مع كل حرف من الحرفين الباقيين يدل في أكثر الأمر على مكروه ، فالقاف مع « الميم » ك « القمامة والتَّقَمْقُم والقُمْقُمة » ، وبالعكس « المقامق » لتغليظ الصوت ، و « المَقْمَقَة » هو الشق .
وأما القاف مع الزاي ف « الزق » رمي الطائر بذرقه ، والزَّقْزقة : للخفة ، وبالعكس - القزنوب - فينفر الطَّبع من تركيب الكلمة من حروف اجتماعها دليل الكراهة والقُبْح ، ثم قرن بالأكل ، فدلَّ على أنه طعام ذو غُصَّة .
وأما ما يقال : بأن العرب تقول : « زَقَمْتَنِي » بمعنى : أطعمتني الزّبد والعسل واللَّبن ، فذلك للمجانة ، كما يقال : ارشقني بثوب حسن ، وارجمني بكيس من ذهب « .
وقد تقدم الكلام على الزَّقُوم في » والصَّافات « .
وقوله : { فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون } .
بيان لزيادة العذاب ، أي : لا يكتفى منكم بنفس الأكل ، كما يكتفى ممن يأكل الشَّيء لتحلّة القسم ، بل يلزمون منها بأن يملئوا منها البطون .
وقوله : » البُطُون « إما مقابلة الجمع بالجمع ، أي : يملأ كل واحد منكم بطنه .
وإما أن يكون لكل واحد بطون ، ويكون المراد منه ما في بطن الإنسان ، وهم سبعة أمعاء فيملئون بطون الأمعاء ، والأول أظهر ، والثاني أدخل في التعذيب .
قوله : { فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ } أي : على الأكل ، أو على الزَّقوم لأجل مرارته وحرارته يحتاجون إلى شرب الماء فيشربون من الماء الحار .
قوله : { فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم } .
وهذا أيضاً بيان لزيادة العذاب ، أي : لا يكون شربكم كمن شرب ماء حارًّا مُنْتِناً ، فيمسك عنه ، بل يلزمون أن يشربوا منه مثل ما يشرب الأهْيم ، وهو الجمل العطشان ، فيشرب ولا يروى .
وقرأ نافع وعاصم وحمزة : بضم الشين من » شُرْب « .
وباقي السبعة بفتحها .
ومجاهد وأبو عثمان النهدي : بكسرها .
فقيل : الثلاث لغات في مصدر » شرِبَ « ، والمقيس منها إنما هو المفتوح ، والمضموم والمكسور اسمان لما يشرب ك » الرَّعْي « و » الطَّحْن « .
قال القرطبي : » تقول العرب : « شَرِبْتُ شُرْباً وشَرْباً وشِرْباً وشُرُباً » بضمتين « .
قال أبو زيد : سمعت العرب تقول : بضم الشِّين وفتحها وكسرها .
والفتح هو المصدر الصحيح؛ لأن كل مصدر من ذوات الثلاثة فأصله » فَعْل «؛ ألا ترى أنك تردّه إلى المرة الواحدة ، فتقول : » فَعْلَة « نحو » شَرْبة « .
وقال الكسائي يقال : » شربت شُرْباً وشَرْباً « .
ويروى قول جعفر : » أيَّامُ مِنى أيَّام أكْلٍ وشَرْب « .
ويقال : بفتح الشين ، والشرب في غير هذا اسم للجماعة الشَّاربين .
قال : [ البسيط ]
4693- كأنَّهُ خَارِجاً مِنْ جَنْبِ صَفْحَتِهِ ... سَفُّودُ شَرْبٍ نَسُوهُ عندَ مُفتأدِ
و « الهِيْم » فيه أوجه :
أحدها : أنه جمع « أهْيَم أوْ هَيْمَاء » ، وهو الجمل والنَّاقة التي أصابها الهيام ، وهو داء معطش تشرب الإبل منه إلى أن تموت ، أو تسقم سقماً شديداً . والأصل : « هُيْم » - بضم « الهاء » - ك « أحْمر وحُمْر ، وحَمرَاء وحُمْر » فقلبت الضمة كسرة لتصح « الياء » ، وذلك نحو « بِيض » في « أبْيَض » .
وأنشد لذي الرّمة : [ الطويل ]
4694- فأصْبَحْتُ كالهَيْمَاءِ ، لا المَاءُ مُبْرِدٌ ... صَداهَا ، ولا يَقْضِي عليْهَا هُيَامُهَا
الثاني : أنَّه جمع « هَائِم وهَائمة » من « الهيام » أيضاً ، إلا أن جمع « فَاعِل وفاعِلَة » على « فُعل » قليل ، نحو : « نَازِل ونُزُل ، وعائذ وعُوذ » .
ومنه : [ الطويل ]
4695- .. عُوذٍ مَطَافِلِ
وقوله : « العوذ المطافيل » .
وقيل : هو من « الهيَام » وهو الذهاب؛ لأن الجمل إذا أصابه ذلك هَامَ على وجهه .
الثالث : أنه جمع « هَيَام » بفتح الهاء ، وهو الرمل غير المتماسك الذي لا يروى من الماء أصلاً ، فيكون مثل « سَحَاب وسُحُب » - بضمتين - ثم خفف بإسكان عينه ثم كسرت فاؤه لتصحّ « الياء » كما فُعِلَ بالذي قبله .
[ الرابع : أنه جمع « هُيَام » - بضم الهاء - وهو الرمل المتماسك ، مبالغة في « الهيام » بالفتح . حكاها ثعلب .
إلا أن المشهور الفتح ، ثم جمع على « فُعُل » نحو : « قَرَاد وقُرُد » ، ثم خفف وكسرت فاؤه ] [ لتصح « الياء » ] .
وفي « الصحاح » : « والهُيَام - بالضَّم - أشدّ العطش ، و » الهيام « كالجنون من العشق ، و » الهَيْمَاء « أيضاً : المفازة لا ماء بها ، و » الهِيَام « - بالكسر - العطاش » .
والمعنى : أنَّهم يصيبهم من الجُوع ما يلجئهم إلى أكل الزَّقُّوم ، ومن العطش ما يضطرهم إلى شُرْب الهيم .
وقال الزمخشري : « فإن قلت : كيف صح عطف الشاربين على الشاربين ، وهما لذوات واحدة ، وصفتان متفقتان ، فكان عطفاً للشيء على نفسه؟ .
قلت : ليستا متفقتين من حيث إن كونهم شاربين على ما هو عليه من تناهِي الحرارة وقطع الأمعاء أمر عجيب ، وشربهم له على ذلك كما تشرب الماء أمر عجيب أيضاً ، فكانتا صفتين مختلفتين » . انتهى .
يعني قوله : { فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الحميم فَشَارِبُونَ } .
وهو سؤال حسن ، وجوابه مثله .
وأجاب بعضهم عنه بجواب آخر ، وهو أن قوله : { فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم } تفسير للشرب قبله .
ألا ترى أنَّ ما قبله يصلح أن يكون [ مثل ] شرب الهيم ، ومثل شرب غيرها ، ففسره بأنه مثل شرب هؤلاء البهائم أو الرمال ، وفي ذلك فائدتان :
إحداهما : التنبيه على كثرة شربهم منه .
والثانية : عدم جَدْوى الشرب ، وأن المشروب لا ينجع فيهم كما لا ينجع في الهِيْمِ على التفسيرين .
وقال أبو حيَّان : « » والفاء « تقتضي التعقيب في الشربين ، وأنهم أولاً لما عطشوا شربُوا من الحميم ظنًّا منهم أنه ليسكن عطشهم ، فازدادوا عطشاً بحرارة الحميم ، فشربوا بعده شرباً لا يقع بعده ريٌّ أبداً ، وهو مثل شرب الهيم ، فهما شربان من الحميم لا شرب واحد اختلفت صفتاه فعطف ، والمقصود : الصفة ، والمشروب منه في { فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم } محذوف لفهم المعنى ، تقديره : فشاربون منه » انتهى .
قال شهاب الدين : « والظَّاهر أنه شرب واحد ، بل الذي يعتقد هذا فقط ، وكيف يناسب أن يكون زيادتهم العطش بشربة مقتضية لشربهم منه ثانياً » .
قوله : { اذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدين } .
قرأ العامة : « نُزُلُهُمْ » بضمتين .
وروي عن أبي عمرو من طرق .
وعن نافع وابن محيصن : بضمة وسكون ، وهو تخفيف .
و « النُّزُل » : ما يعدّ للضيف .
وقيل : هو أول ما يأكله ، فسمي به هذا تهكّماً بمن أعد له .
وهو في المعنى كقول أبي الشعر الضَّبي : [ الطويل ]
4696- وكُنَّا إذا الجَبَّارُ أنْزَلَ جَيْشَهُ ... جعلنَا القَنَا والمُرهفاتِ لَهُ نُزْلا
ومعنى الآية : هذا أول ما يلقونه من العذاب يوم القيامة كالنُّزل الذي يعد للأضياف تكرمة لهم ، [ وفيه ] تهكم ، كقوله تعالى : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ التوبة : 34 ] .
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)
قوله : { نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ } .
تحضيض ، أي : فهلا تصدقون بالبعث؛ لأن الإعادة كالابتداء . وقيل : المعنى نحن خلقنا رزقكم ، فهلا تصدقون أن هذا طعامكم إن لم تؤمنوا ، أو متعلق التصديق محذوف ، تقديره : فلولا تصدقون بخلقنا .
قوله : « أفرأيتُم » .
[ هي ] بمعنى : « أخبروني » ومفعولها الأول « ما تمنون » .
والثاني الجملة الاستفهامية . وقد تقدم تقريره .
والمعنى : ما تصبُّونه من المنِيّ في أرْحَام النِّساء .
وقرأ العامَّة : « تُمْنُونَ » بضم التَّاء ، من « أمْنى يمني » .
وابن عبَّاس وأبو السِّمال : بفتحها من « مَنَى يَمْنِي » .
قال الزمخشري : يقال : أمْنى النُّطفة ومناها ، قال الله تعالى : { مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى } [ النجم : 46 ] .
فظاهر هذا أنه استشهاد للثلاثي ، وليس فيه دليل له ، إذ يقال من الرباعي أيضاً : تمني ، كقولك : « أنت تكرم » وهو من « أكرم » .
وقال القرطبي : ويحتمل أن يختلف معناهما عندي ، فيكون « أمْنَى » إذا أنزل عند جماع ، و « مَنَى » إذا أنزل عند احتلام ، وفي تسمية المنيِّ منيًّا وجهان :
أحدهما : لإمنائه ، وهو إراقته .
الثاني : لتقديره ، وهو المَنّ الذي يوزن به؛ لأنه مقدار لذلك ، فكذلك المَنِيّ مقدار صحيح لتصوير الخِلْقَة .
قوله : { أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ } . يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنه فاعل فعل مقدر ، أي : « أتَخْلُقُونهُ » فلما حذف الفعل لدلالة ما بعده عليه انفصل الضَّمير ، وهذا من باب الاشتغال .
والثاني : أن « أنْتُم » مبتدأ ، والجملة بعده خبر .
والأول أرجح لأجل أداةِ الاستفهام .
وقوله : « أمْ » يجوز فيها وجهان :
أحدهما : أنها منقطعة؛ لأنَّ ما بعدها جملة ، وهي إنما تعطف المفردات .
والثاني : أنها متَّصلة .
وأجابوا عن وُقوع الجملة بعدها بأن مجيء الخبر بعد « نحن » أتي به على سبيل التَّوكيد؛ إذ لو قال : « أمْ نَحْنُ » لاكتفي به دون الخبر ، ونظير ذلك جواب من قال : « مَنْ في الدَّار »؟ زيد في الدار ، « أو زيد فيها » ، ولو اقتصر على « زيد » لكان كافياً .
ويؤيد كونها متصلة أن الكلام يقتضي تأويله ، أي : الأمرين واقع ، وإذا صلح كانت متصلة ، إذ الجملة بتأويل المفرد .
ومفعول « الخَالِقُون » محذوف لفهم المعنى أي : « الخالقوه » .
فصل في تحرير معنى الآية
والمعنى : أنتم تصورون منه الإنسان { أم نحن الخالقون } المقدّرون المصورون ، وهذا احتجاج عليهم ، وبيان للآية الأولى ، أي : إذا أقررتم بأنا خالقوه لا غير ، فاعترفوا بالبعث .
قال مقاتل : نحن خلقناكم ولم تكونوا شيئاً ، وأنتم تعلمون ذلك ، فهلاَّ تصدقون بالبعث .
قوله : { نَحْنُ قَدَّرْنَا } .
قرأ ابن كثير : « قَدَرْنَا » بتخفيف الدال .
والباقون : بتشديدها .
وهما لغتان بمعنى واحد في التقدير الذي هو القضاء ، وهذا أيضاً احتجاج ، أي : الذي يقدر على الإماتة يقدر على الخَلْق وإذا قدر على الخَلْق قدر على البعث .
قال الضحاك : معناه أي : سوَّينا بين أهل السماء وأهل الأرض .
وقيل : قضينا .
وقيل : كتبنا .
قال مقاتل : فمنكم من يبلغ الهَرَم ، ومنكم من يموت صبيًّا وشابًّا .
{ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } أي : مغلوبين عاجزين .
قوله : { على أَن نُّبَدِّلَ } .
يجوز أن يتعلق { بِمَسْبُوقِينَ } ، وهو الظَّاهر ، أي : لم يسبقنا أحد على تبديلنا أمثالكم ، أي : يعجزنا ، يقال : سبقه إلى كذا ، أي : أعجزه عنه ، وغلبه عليه .
الثاني : أنه متعلق بقوله : « قَدَّرْنا » أي : قدرنا بينكم الموت ، { على أن نُبدِّل } أي : تموت طائفة ، وتخلفها طائفة أخرى . قال معناه الطبري .
وعلى هذا يكون قوله : { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } معترضاً ، وهو اعتراض حسن .
ويجوز في « أمْثَالكُمْ » وجهان :
أحدهما : أنه جمع « مِثْل » - بكسر الميم وسكون الثاء - أي : نحن قادرون على أن نعدمكم ، ونخلق قوماً آخرين أمثالكم ، ويؤيده : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ } [ النساء : 133 ] .
والثاني : أنه جمع « مَثَل » - بفتحتين - وهو الصفة ، أي : نغير صفاتكم التي أنتم عليها خَلْقاً وخُلُقاً ، و « ننشئكم » في صفات غيرها .
وتقدم قراءتا النَّشأة في « العنكبوت » .
فصل في تفسير معنى الآية
قال الطبري : معنى الآية : نحن قدّرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم بعد موتكم بآخرين من جنسكم ، { وما نحن بمسبوقين } في آجالكم ، أي : لا يتقدم متأخر ، ولا يتأخّر متقدم ، { وننشئكم فيما لا تعلمون } من الصُّور والهيئاتِ .
قال الحسن : أي : نجعلكم قِردةً وخنازير كما فعلنا بأقوام قبلكم .
وقيل : المعنى ننشئكم في البعث على غير صوركم في الدنيا ، فيجمّل المؤمن ببياض وجهه ، ويقبح الكافر بسواد وجهه .
وقال سعيد بن المسيب : قوله : { فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ } يعني في حواصل طير سُودٍ تكون ببرهوت كأنها الخَطَاطِيْف ، و « برهوت » : وادٍ في « اليمن » .
وقال مجاهد : { فيما لا تعلمون } أي : في أي خلق شئنا .
وقيل : ننشئكم في عالم فيما لا تعلمون ، وفي مكان لا تعلمون .
قال ها هنا : { قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت } .
وقال في سورة « الملك » : { خَلَقَ الموت والحياة } [ الملك : 2 ] بلفظ الخلق؛ لأن المراد هناك بيان كون الموت والحياة مخلوقين ، وهاهنا ذكر حياتهم ومماتهم .
قوله : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى } .
أي : إذ خلقتم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة ، ولم تكونوا شيئاً . قاله مجاهد وغيره .
وهذا تقرير للنشأة الثَّانية .
وقال قتادة والضحاك : يعني خلق آدم عليه الصلاة والسلام .
{ فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } . أي : فهلا تذكرون .
قرأ طلحة : « تَذْكُرون » بسكون « الذال » ، وضم « الكاف » .
وفي الخبر : « عَجَباً كُل العَجبِ للمُكذِّبِ بالنَّشأة الآخرةِ ، وهُو يَرَى النَّشْأة الأولى ، وعَجَباً للمُصدِّقِ بالنَّشأةِ الآخرةِ ، وهُوَ يَسْعَى لدارِ الغرُورِ » .
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)
قوله : { أَفَرَأَيْتُم } وما بعده تقدم نظيره ، وهذه حجة أخرى ، أي : أخبروني عما تحرثون من أرضكم ، فتطرحون فيها البَذْر ، أأنتُم تُنشئُونه ، وتجعلونه زرعاً ، فيكون فيه السُّنبل والحب ، أم نحن نفعل ذلك وإنما منكم البِذْر وشقُّ الأرض؟ فإذا أقررتم بأن إخراج السُّنبلة من الحبَّة ليس إليكم ، فكيف تنكرون إخراج الأموات من الأرض وإعادتهم؟ .
وأضاف الحَرْث إليهم ، والزَّرع إليه تعالى؛ لأنَّ الحرث فعلهم ، ويجري على اختيارهم ، والزرع من فعل الله - تعالى - وينبت على اختياره لا على اختيارهم .
وكذلك ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا يَقُولنَّ أحدُكمْ : زَرعتُ ، وليقُلْ حرثتُ ، فإنَّ الزَّارعَ هُوَ اللَّهُ » .
قال أبو هريرة : ألم تسمعوا قول الله تعالى : { أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون } .
قال القرطبي : « والمستحبّ لكل من زرع أن يقرأ بعد الاستعاذة : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ } الآية ، ثم تقول : بل الله هو الزارع ، والمنبت والمبلغ ، اللهم صل على محمد ، وارزقنا ثمره ، وجَنِّبْنا ضرره ، واجعلنا لأنعمك من الشَّاكرين ، ويقال : إنَّ هذا القول أمان لذلك الزَّرع من جميع الآفات : الدُّود والجراد وغير ذلك ، سمعناه من ثقة وجرَّبناه فوجدناه كذلك » .
فإن قيل : إذا كان الزَّارع هو الله ، فكيف قال تعالى : { يُعْجِبُ الزراع } [ الفتح : 29 ] .
وقال عليه الصلاة والسلام : « الزَّرْعُ للزُّراع »
فالجواب : أن الحرث أوائل الزَّرع ، والزرع أواخر الحرث ، فيجوز إطلاق أحدهما على الآخر لاتِّصاله به .
ومعنى : « أأنْتُمْ تزرَعُونَهُ » ، تجعلونه ، وقد يقال : فلان زَرَّاع كما يقال : حرَّاث أي : يفعل ما يؤول إلى أن يصير زَرْعاً ، وقد يطلق لفظ الزَّرْع على بَذْر الأرض وتكريبها تجوزاً .
قال القرطبي : « وهذا نهي إرشاد وأدب ، لا حظر وإيجاب » .
ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : « لا يَقُولنَّ أحدُكم : عَبْدِي وأمَتِي ، وليقُلْ : غُلامِي وجَاريَتِي وفَتَايَ وفَتَاتِي » .
قوله : { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } .
أتى هنا بجواب « لو » مقروناً ب « اللام » ، وهو الأكثر؛ لأنه مثبت ، وحذف في قوله : { جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } [ الواقعة : 70 ] ؛ لأن المنّة بالمأكول أعظم منها بالمشروب . قاله الزمخشري .
وهذا منقوض بقوله : { وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا } [ يس : 66 ] و { وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ } [ يس : 67 ] ، وذلك أن أمر الطَّمس أهون من أمر المسخ ، وأدخل فيهما « اللام » .
وأجاب الزمخشري بجواب آخر فقال : { ولو نشاء لجعلناه حطاماً } كان أقرب الذكر ، فاستغنى باللام فيه عن ذكرها ثانياً .
قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف؛ لأن قوله تعالى : { وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ } [ يس : 66 ] مع قوله : { وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ } [ يس : 67 ] أقرب من قوله : { لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } ، و { جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } [ الواقعة : 70 ] اللَّهُم إلاَّ أن تقول هناك : أحدهما قريب من الآخر ذكراً لا معنى؛ لأن الطَّمْس لا يلزمه المَسْخ ولا بالعكس ، وأما المأكول يكون معه المشرُوب في الدهر فالأمران متقاربان لفظاً ومعنى .
فصل في الكلام على هذه الآية
قال الماوردي : هذه الآية تتضمن أمرين :
أحدهما : الامتنان عليهم بأن أنبت زرعهم حتى عاشوا به ليشكروه على نعمته عليهم .
الثاني : البرهان الموجب للاعتبار؛ لأنه لما أنبت زرعهم بعد تلاشي بذره ، وانتقاله إلى استواء حاله من العفنِ والتَّتريب حتى صار زرعاً أخضر ، ثم قوي مشتدًّا أضعاف ما كان عليه ، فهو بإعادة من أمات أحق عليه وأقدر ، وفي هذا البرهان مقنع لذوي الفطر السَّليمة ، ثم قال : { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } أي : متكسِّراً ، يعني : الزَّرع والحُطَام الهشيم الهالك الذي لا ينتفع به في مطعم ولا غذاء ، فنبَّه بذلك على أمرين :
أحدهما : ما أولاهم به من النعم في زرعهم إذ لم يجعله حطاماً ليشكروه .
الثاني : ليعتبروا بذلك في أنفسهم كما أنه يجعل الزَّرع حُطاماً إذا شاء ، وكذلك يهلكهم إذا شاء ليتَّعظوا فينزجروا .
قوله : { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } .
قرأ العامة : بفتح الظَّاء ، بلام واحدة وقد تقدم الكلام عليها مستوفى في « طه » .
وأبو حيوة وأبو بكر في رواية : بكسر الظاء .
وعبد الله الجحدري : « فظَلِلتُمْ » على الأصل بلامين ، أولاهما مكسورة .
وروي عن الجحدري : فتحها ، وهي لغة أيضاً .
والعامة : « تَفَكَّهُونَ » بالهاء .
ومعناه : تَنْدَمُون ، وحقيقته : تلقون الفكاهة من أنفسكم ، ( ولا تلقى ) الفكاهة إلاَّ من الحزن ، فهو من باب « تحَرَّج وتأثّم وتحوب » .
وقيل : « تفكّهون » . تتعجبون بذهابها ما نزل بكم في زرعكم . قاله عطاء والكلبي ومقاتل .
وقيل : تتندمون مما حلّ بكم . قاله الحسن وقتادة وغيرهما .
وقيل : تلاومُون .
وقيل : تتفجَّعون ، وهذا تفسير باللازم .
وقرأ أبو حزام العكلي : « تَفَكَّنُونَ » بالنون ، أي : تندَّمون .
قال ابن خالويه : « تَفَكَّه » تعجَّب ، و « تَفَكَّن » تندَّم .
وفي الحديث : « مثلُ العالم كمثل الحمَّة ، يأتيها البُعدَاءُ ويترُكُهَا القُربَاءُ ، فَبَيْنَا هُم إذ غَارَ ماؤهَا فانتفع به قومٌ ، وبَقِي قومٌ يتفكَّنُون » ، أي : يتندَّمُون .
قال الفرَّاء : والنون ، لغة عكل .
وفي الصحاح : « التَّفَكُّن » التندُّم على ما فات .
وقيل : التفكُّه : التكلُّم فيما لا يعنيك .
ومنه قيل للمزاح : فُكاهة بالضَّم .
فأما الفَكَاهة - بالفتح - فمصدر « فَكِهَ الرَّجل » بالكسر ، فهو فَكِهٌ إذا كان طيّب النفس مزَّاحاً .
قوله : « إنا لمغرمون » .
قرأ أبو بكر : « أئِنَّا » بالاستفهام ، وهو على أصله في تحقيق الهمزتين ، وعدم إدخال ألف بينهما .
والباقون : بهمزة واحدة على الخبر .
وقيل : هذه الجملة قول مقدر على كلتا القراءتين ، وذلك في محل نصب على الحال ، تقديره : فظلتم تفكهون قائلين ، أو تقولون : إنا لمغرمون؛ أي : لمُلزمُون غرامة ما أنفقنا ، أو مُهلكُونَ لهلاك رزقنا من الغرام وهو الهلاك . قاله الزمخشري .
ومن مجيء الغرام بمعنى الهلاك قوله : [ الخفيف ]
4697- إنْ يُعَذِّبْ يَكُنْ غَرَاماً وإن يُعْ ... طِ جَزيلاً فإنَّهُ لا يُبَالِي
قال ابن عبَّاس وقتادة : الغرام : العذاب .
ومنه قول ابن المُحلَّم : [ الطويل ]
4698- وثِقْتُ بأنَّ الحِلْمَ منِّي سَجيَّةٌ ... وأنَّ فُؤادِي مُبْتَلٌ بك مُغْرمُ
وقال مجاهد وعكرمة : لمولع بنا .
يقال : أغرم فلان بفلانة أي أولع بها ، ومنه الغرام ، وهو الشر اللازم .
وقال مجاهد أيضاً : لملقون شرًّا .
وقال النحاس : « لمُغْرمُون » مأخوذون من الغرام ، وهو الهلاك .
وقال الضحاك وابن كيسان : هو من الغرم .
و « المُغْرَم » : الذي ذهب ماله بغير عوضٍ ، أي : غرمنا الحبَّ الذي بذرناه .
وقال مرة الهمداني : مُحَاسَبُون .
قوله : { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } .
أي : حرمنا ما طلبنا من الريع ، والمحروم المحدود الممنوع من الرِّزق ، والمحروم ضد المرزوق . قاله قتادة .
وعن أنس « أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بأرض الأنصار ، فقال : » ما يمنَعُكمُ الحَرْث «؟ قالوا : الجُدوبة ، فقال : » لا تَفْعَلُوا ، فإنَّ الله - تعالى - يقولُ : أنَا الزَّارعُ ، إن شِئْتُ زرعْتُ بالماءِ ، وإن شِئْتُ زرعْتُ بالرِّيحِ ، وإن شِئْتُ زرعتْ بالبَذْرِ « ، ثم تلا : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ ، أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون } » .
قال القرطبي : « وفي هذا الحديث والذي قبله ما يصحح قول من أدخل الزَّارع في أسماء الله - تعالى - » وأباه جمهور العلماء .
أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)
قوله : { أَفَرَأَيْتُمُ المآء الذي تَشْرَبُونَ } .
لتحيوا به أنفسكم ، وتسكنوا به عطشكم .
{ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن } .
أي : السحاب ، وهو اسم جنس ، واحدهُ : مزنة .
قال : [ المتقارب ]
4699- فَلاَ مُزْنَةٌ ودَقَتْ ودقَهَا ... ولا أرْضَ أبْقَلَ إبْقالَهَا
وعن ابن عباس ومجاهد وغيرهما أيضاً والثوري : المُزْن : السَّماء والسَّحاب .
وقال أبو زيد : المُزنة : السحابة البيضاء ، والجمع مزن .
والمُزْنة : المطرة .
قال : [ الطويل ]
4700- ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ أنْزَلَ مُزْنَةً ... وعُفْرُ الظِّباءِ في الكناسِ تَقَمَّعُ
وقوله : { أَمْ نَحْنُ المنزلون } .
أي : إذا عرفتم بأني أنزلته فلم لا تشكروني بإخلاص العبادة لي ، ولم تنكروا قُدرتي على الإعادة؟ .
وقوله : { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } .
وقد تقدم عدم دخول « اللام » في جواب « لو » هذه .
وقال الزمخشري : « فإن قلت : لم دخلت » اللام « في جواب » لو « في قوله : » لجعلناه حطاماً « ، ونزعت منه هاهنا؟ .
قلت : إن » لو « لما كانت داخلة على جملتين معلقة ثانيتهما بالأولى تعلق الجزاء بالشَّرط ، ولم تكن مخلصة للشرط ك » إن « و » لا « عاملة مثلها ، وإنما سرى فيها معنى الشرط اتفاقاً من حيث إفادتها في مضمون جملتين أن الثَّاني امتنع لامتناع الأول افتقرت في جوابها إلى ما ينصب علماً على هذا التعلق فزيدت هذه » اللام « لتكون علماً على ذلك ، فإذا حذفت بعد ما صارت علماً مشهوراً مكانه ، فلأن الشيء إذا علم وشهر موقعه ، وصار مألوفاً ومأنوساً به لم يبال بإسقاطه عن اللفظ استغناء بمعرفة السَّامع .
ألا ترى ما يحكى عن رؤبة ، أنَّه كان يقول : خيرٍ ، لمن قال له : كيف أصبحت؟
فحذف الجار لعلم كل أحد بمكانه ، وتساوي حال إثباته وحذفه لشهرة أمره ، وناهيك بقول أوس : [ السريع ]
4701- حَتَّى إذا الكَلاَّبُ قال لَهَا ... كاليَوْمِ مَطْلُوباً ولا طَلَبَا
وحذفه : » لَمْ أرَ « فإذاً حذفها اختصار لفظي ، وهي ثابتة في المعنى ، فاستوى الموضعان بلا فرق بينهما ، على أن تقدم ذكرها والمسافة قصيرة ، مُغْنٍ عن ذكرها ثانياً ، ويجوز أن يقال : إن هذه » اللام « مفيدة معنى التَّوكيد لا محالة ، فأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب للدلالة على أنّ أمر المطعوم مقدم على أمر المشروب ، وأنَّ الوعيد بفقده أشد وأصعب من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعاً للمَطْعُوم .
ألا ترى أنك إنما تسقي ضيفك بعدما تطعمه ، ولو عكست قعدت تحت قول أبي العلاء : [ الوافر ]
4702- إذا سُقِيَتْ ضُيُوفُ النَّاسِ مَحْضاً ... سَقَوْا أضْيافَهُمْ شَبَماً زلالا
وسقي بعض العرب فقال : أنا لا أشرب إلا على ثميلة ولهذا قدمت آية المطعوم على آية المشروب » . انتهى .
وقد تقدم جواب ابن الخطيب له عن ذلك .
فصل في تفسير الآية
قال ابن عبَّاس : « الأجاج » : المالح الشديد الملوحة .
وقال الحسن : مُرًّا لا تنتفعون به في شرب ولا زرع ولا غيرهما .
« فلولا » أي : فهلا « تشكرون » الذي صنع ذلك بكم .
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
قوله : { أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ } .
أي : أخبروني عن النَّارِ التي تظهرونها بالقَدْحِ من الشجر الرطب .
و « تُوُرون » : من أوريت الزند ، أي : قدحته فاستخرجت ناره ، وورى الزند يري أي : خرجت ناره ، وأصل « تُورُون » توريون .
والشَّجرة التي يكون منها الزناد هي المَرْخُ والعفار .
ومنه قولهم : « فِي كُلِّ شجرٍ نارٌ ، واستَمْجدَ المَرْخُ والعَفَارُ » .
أي : استكثروا منها ، كأنهما أخذا من النَّار ما حسبهما .
وقيل : إنهما يسرعان الوَرْي .
قوله تعالى : { أَمْ نَحْنُ المنشئون } .
أي : المخترعون الخالقون ، أي : فإذا عرفتم قُدرتي ، فاشكروني ولا تنكروا قدرتي على البعث .
قوله : { نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً } .
يعني : نار الدنيا موعظة للنار الكبرى . قاله قتادة .
وقال مجاهد : تبصرة للناس من الظَّلام .
قال عليه الصلاة والسلام : « » إنَّ نَاركُمْ هذه الَّتي توقدونها يا بني آدَمَ جزءٌ من سَبْعينَ جُزْءاً من نَارِ جهنَّم « ، فقالوا : يا رسول الله إن كانت لكافية ، قال : » فإنَّهَا فُضِّلتْ عليْها بِتسْعَةٍ وسِتينَ جُزْءاً ، كُلُّهن مثلُ حرِّها « » .
قوله : { وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ } .
يقال : أقوى الرَّجل إذا حلَّ في الأرض القواء ، وهي القفر ، ك « أصحر » : دخل في الصحراء ، وأقوت الدَّار : خلت من ذلك؛ لأنها تصير قَفْراً .
قال النابغة : [ البسيط ]
4703- يَا دَارَ مَيَّةَ بالعَلْيَاءِ فالسَّندِ ... أقْوَتْ ، فطال عليْهَا سالفُ الأمَدِ
قال الضحاك : « متاعاً للمقوين » أي منفعة للمسافرين ، سموا بذلك لنزولهم القوى ، وهي القفر التي لا شيء فيها ، وكذلك القوى والقواء - بالمد والقصر - .
ومنزل قواء : لا أنيس به ، يقال : أقوت الدار ، وقويت أيضاً ، أي خلت من سكانها . قال : [ الكامل ]
4704- حُيِّيتَ مِنْ طَلَلٍ تقَادمَ عَهْدُهُ ... أقْوَى وأقْفَرَ بَعْدَ أمِّ الهَيْثَمِ
وقال مجاهد : « للمقوين » أي المنتفعين بها من الناس أجمعين في الطبخ والخبز والاصطلاء والاستضاءة ، ويتذكر بها نار جهنم فيستجار بالله منها .
وقال ابن زيد : للجائعين في إصلاح طعامهم .
يقال : أقويت منذ كذا وكذا ، أي ما أكلت شيئاً ، وبات فلان القواء وبات القَفْرَ ، إذا بات جائعاً على غير طعم .
قال الشاعر : [ الطويل ]
4705- وإنِّي لأخْتَارُ القَوَى ، طاويَ الحَشَا ... مُحافَظَةً مِنْ أن يُقالَ : لَئِيمُ
وقال قطرب : المقوي من الأضداد ، يكون بمعنى الفقير ، ويكون بمعنى الغني .
يقال : أقوى الرجل إذا لم يكن معه زادٌ ، ويقال للفقير : مُقْوٍ إذا لم [ يكن ] معه مالٌ .
وتقول العربُ : أقويت منذ كذا ، أي : ما أكلت شيئاً ، وأقوى : إذا قويت دوابه ، وكثر ماله ليقويه على ما يريد .
وقال المهدوي : والآية تصلح للجميع؛ لأن النَّار يحتاج إليها المسافر والمقيم والغني والفقير .
وقال القشيري : وخصّ المسافر بالانتفاع بها؛ لأنَّ انتفاعه أكثر من انتفاع المقيم؛ لأنَّ أهل البادية لا بُدَّ لهم من النَّار يوقدونها ليلاً لتهرب منهم السِّباع ، وفي كثير من حوائجهم .
قوله : { فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم } .
أي : فنزه الله عما أضافه إليه المشركون من الأنداد والعجز عن البعث .
قال ابن الخطيب : والمشهور أن الاسم مقحم ، والأحسن أنه من باب الأولى ، وأنَّ تعظيم المسمى آكد ، وقد تقدم أن تعلُّق الفعل إن كان ظاهراً استغنى عن الحرف ك « ضرب » ، وإن كان خفيًّا قوي بالحرف ك « ذهب » ، وإن كان بينهما جاز الوجهان ك « شَكَر ونَصَحَ » .
و « سَبِّحْ » متعد بنفسه إلاَّ أنه لما دخل على الاسم - والمراد الذَّات - خفي التعليق من هذا الوجه ، فأتي بالحرف .
وأما قوله { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ } [ من سورة الأعلى : 1 ] . فيحتمل أن ذلك لأنهم كانوا يعترفون بالله ، ويقولون : « نحن لا نشرك » في المعنى ، وإنما سمي الأصنام آلهة باللفظ ، فقيل لهم : نزّهوا الاسم كما نزهتم الحقيقة ، وعلى هذا فالخطاب ليس للنبي صلى الله عليه وسلم بل هو كقول الواعظ : يا مسكين ، أفنيت عمرك وما أصلحت عملك ، ويريد السَّامع .
والمعنى مع الباء : فسبّح مبتدئاً باسم ربك ، فلا تكون « الباء » زائدة .
ومعنى العظيم : القريب من الكل ، فإن الصَّغير إذا قرب من شيء بعد عن غيره .
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)
قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ } .
قرأ العامة : « فَلاَ » لام ألف .
وفيه أوجه :
أحدها : أنها حرف نفي ، وأنَّ النفي بها محذوف ، وهو كلام الكافر الجاحد ، تقديره : فلا حجة لما يقول الكُفَّار ، ثم ذكر ابتداء قسماً بما ذكر .
وإليه ذهب كثير من المفسِّرين والنحويين .
قال الفرَّاء : « هي نفي ، والمعنى : ليس الأمر كما تقولون ، ثم استأنف [ القسم ] ، كما تقول : » لا والله ما كان كذا « ولا يريد به نفي اليمين ، بل يريد به نفي كلام تقدم ، أي : ليس الأمر كما ذكر ، بل هو كذا » .
وضعِّف هذا بأن فيه حذف اسم « لا » وخبرها .
قال أبو حيَّان : « ولا يجوز ولا ينبغي ، فإنَّ القائل بذلك مثل سعيد بن جبير تلميذ خبر القرآن وبحره عبد الله بن عباس .
ويبعد أن يقوله إلا بتوقيفٍ » .
الثاني : أنَّها زائدة للتأكيد . والمعنى : فأقسم ، بدليل قوله : وإنه لقسم ، ومثله في قوله تعالى : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ } [ الحديد : 29 ] ، والتقدير : ليعلم .
وكقوله : [ الطويل ]
4706- فَلاَ وأبِي أعْدائِهَا لا أخُونُهَا ... الثالث : أنها لام الابتداء ، والأصل : فلأقسم ، فأشبعت الفتحة ، فتولّد منها ألف .
كقوله : [ الرجز ]
4707- أعُوذُ باللَّهِ مِنَ العَقْرَابِ ... قاله أبو حيَّان .
واستشهد بقراءة هشام : « أفئيدة » .
قال شهاب الدين : « وهذا ضعيف جدًّا » .
واستند أيضاً لقراءة الحسن وعيسى : « فلأقسم » بلام واحدة .
وفي هذه القراءة تخريجان :
أحدهما : أن « اللام » لام الابتداء ، وبعدها مبتدأ محذوف ، والفعل خبره ، فلما حذف المبتدأ اتصلت « اللام » بخبره ، وتقديره : « فلأنا أقسم » نحو : « لزيد منطلق » .
قاله الزمخشري وابن جني .
والثاني : أنها لام القسم دخلت على الفعل الحالي ، ويجوز أن يكون القسم جواباً للقسم ، كقوله : { وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَآ } [ التوبة : 107 ] ، وهو جواب لقسم مقدر ويجوز أن يكون القسم كذلك وهذا هو قول الكوفيين ، يجيزون أن يقسم على فعل الحال . والبصريون يأبونه ، ويخرجون ما يوهم ذلك على إضمار مبتدأ ، فيعود القسم على جملة اسمية .
ومنع الزمخشري أن تكون لام القسم .
قال : لأمرين :
أحدهما : أن حقها أن تقرن بالنون المؤكدة ، والإخلال بها ضعيف قبيحٌ .
والثاني : أن « لأفعلن » في جواب القسم للاستقبال ، وفعل القسم يجب أن يكون للحال .
يعني أن فعل القسم إنشاء ، والإنشاء حال .
وأمَّا قوله : « إنَّ حقَّها أن تقرن بها النون » ، هذا مذهب البصريين أيضاً . وأمَّا الكوفيون فيجيزون التَّعاقب بين اللام والنون ، نحو : « والله لأضرب زيداً » كقوله : [ الطويل ]
4708- لَئِنْ تَكُ قَدْ ضَاقَتْ عَليْكُم بُيُوتكُمْ ... ليَعْلَمُ ربِّي أنَّ بَيْتِيَ واسِعُ
و « الله اضربن زيداً » .
كقوله : [ الكامل ]
4709- وقَتِيلِ مُرَّة أثأَرَنَّ . .
وقد تقدم قريب من هذه الآية في قوله تعالى :
{ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ } [ النساء : 65 ] ، ولكن هناك ما لا يمكن القول به هنا ، كما أن هنا ما لا يمكن القول به هناك ، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - قريب منه في « القيامة » في قراءة ابن كثير : { لأُقْسِمُ بِيَومِ القِيامَةِ } [ القيامة : 1 ] .
قال القرطبي : وقيل : « لا » بمعنى « ألاَ » للتنبيه ، كقوله : [ الطويل ]
4710- ألا عِمْ صَبَاحاً أيُّهَا الطَّلَلُ البَالِي ..
ونبَّه بهذا على فضيلة القرآن ليتدبروه ، فإنه ليس بشعر ، ولا سحر ، ولا كهانة كما زعموا .
وقرأ العامة : « بمواقع » جمعاً .
والأخوان : « بموقع » مفرداً بمعنى الجمع؛ لأنه مصدر فوحَّد .
ومواقعها : مساقطها ومغاربها . قاله قتادة وغيره .
وقال الحسن : انكدارها وانتثارها يوم القيامة .
وقيل : المراد نجوم القرآن . قاله ابن عباس والسدي ، ويؤيده : « وإنه لقسم » و « إنَّه لقُرآن كريم » .
وقال عطاء بن أبي رباح : منازلها .
وقال الضحاك : هي الأنواء التي كانت أهل الجاهلية ، تقول إذا مطروا : مطرنا بنوء كذا .
وقال الماوردي : ويكون قوله تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ } مستعملاً على الحقيقة من نفي القسم .
وقال القشيري : هو قسم ، ولله أن يقسم بما يريد ، وليس لنا أن نقسم بغير الله - تعالى - وصفاته القديمة .
قال القرطبي : « ويدلُّ على هذا قراءة الحسن : فلأقسم » .
قوله : « وإنه قسم - لو تعلمون - عظيم » .
الضمير عائد على القسم الذي تضمنه قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ } ؛ لأن « أقسم » يتضمن ذكر المصدر ، ولهذا توصف المصادر التي لم تظهر بعد الفعل فيقال : « ضربته قويًّا » .
فإن قيل : جواب « لو تعْلَمُونَ » ماذا؟ .
قال ابن الخطيب : ربما يقول بعض من لا يعلم بأن جوابه ما تقدم ، وهو فاسد في جميع المواضع؛ لأن جواب الشرط لا يتقدم؛ لأن عمل الحروف في معمولاتها لا يكون قبل وجودها ، فلا يقال : زيداً إن قام .
فالجواب يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يقال : الجواب محذوف بالكلية بحيث لا يقصد لذلك جواب ، وإنما يراد نفي ما دخلت « لو » فكأنه قال : وإنه لقسمٌ عظيم لو تعلمون .
وتحقيقه : أن « لو » تذكر لامتناع الشيء لامتناع غيره ، فلا بُدَّ فيه من انتفاء الأول ، فإدخال « لو » على « تعلمون » أفاد أن علمهم منتفٍ ، سواء علمنا الجزاء أم لم نعلم .
وهذا كقولهم في الفعل المتعدِّي : فلان يعطي ويمنع ، حيث لا يقصد منه مفعولاً ، وإنما يراد إثبات القدرة .
الثاني : أنَّ جوابه مقدر ، تقديره : لو تعلمون لعظَّمتموه ، لكنكم ما عظَّمتموه ، فعلم أنكم لا تعلمون ، إذ لو تعلمون لعظم في أعينكم ، ولا تعظيم فلا تعلمون .
قوله : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } .
هذا هو القسم عليه ، وعلى هذا فيكون في هذا الكلام اعتراضان :
أحدهما : الاعتراض بقوله : « وإنه لقسم » بين القسم والمقسم عليه .
والثاني : الاعتراض بقوله : « لو تعلمون » بين الصفة والموصوف .
ومنع ابن عطية أن يجعل قوله : « وإنه لقسمٌ » اعتراضاً .
فقال : « وإنه لقسم » تأكيد للأمر ، وتنبيه من المقسم به ، وليس هذا باعتراض بين الكلامين ، بل هذا معنى قصد التهكُّم به ، وإنما الاعتراض قوله : { لَّوْ تَعْلَمُونَ } .
قال شهاب الدين : « وكونه تأكيداً ومنبّهاً على تعظيم المقسم به لا ينافي الاعتراض ، بل هذا معنى الاعتراض وفائدته » .
« والهاء » في « إنه لقرآن » تعود على القرآن ، أي : إن القرآن لقسم عظيم .
قاله ابن عبَّاس وغيره .
وقيل : أي ما أقسم الله به عظيم { إنه لقرآن كريم } ذكر المقسم عليه ، أي : أقسم بمواقع النجوم أن هذا القرآن قرآن ليس بسحرٍ ولا كهانة ولا بمفترى ، بل هو قرآن كريم ، محمود جعله الله معجزة نبيه ، وهو كريم على المؤمنين؛ لأنَّه كلام ربهم وشفاء صدورهم ، كريم على أهل السماء والأرض؛ لأنه تنزيل ربهم ووحيه .
وقيل : « كريم » أي : غير مخلوق .
وقيل : « كريم » لما فيه من كرم الأخلاق ، ومعالي الأمور .
وقيل : لأنه يكرم حافظه ، ويعظم قدره .
فصل في تحرير معنى الآية
قال ابن الخطيب : « كريم » أي : لا يهون بكثرة التلاوة؛ لأن الكلام متى أعيد وكرر استهين به ، والقرآن يكون إلى آخر الدهر ، ولا يزداد إلاَّ عزاً . والقرآن إما ك « الغُفْرَان » ، والمراد به المفعول ، وهو المقروء كقوله : [ هَذَا خلقُ اللَّه ] وإما اسم لما يقرأ ك « القُرْبَان » لما يتقرب به ، والحُلْوان لما يحلى به فم الكاهن ، وعلى هذا يظهر فساد قول من رد على الفقهاء قولهم في باب الزَّكاة : يعطي شيئاً أعلى مما وجب ويأخذ الجبران أو شيئاً دونه ، ويعطي الجبران لأن الجبران مصدر لا يؤخذ ولا يعطى ، فيقال له : هو كالقرآن بمعنى المقرُوء .
فمعنى « كريم » أي : مقروء ، قرىء : ويقرأ بالفتح ، فإن معنى « كريم » أي : لا يهون بكثرة التلاوة ، ويبقى أبد الدَّهر كالكلام الغضِّ ، والحديث الطَّري .
وهو هنا يقع في وصف القرآن بالحديث ، مع أنه قديم يستمد من هذا مدداً ، فهو قديم يسمعه السَّامعون كأنه كلام [ الساعة ] .
فصل
قوله : { فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ } . مصون عند الله .
وقيل : « مَكْنُون » محفوظ عن الباطل ، والكتاب هنا : كتاب في السَّماء .
قاله ابن عبَّاس .
وقال جابر بن زيد وابن عباس أيضاً : هو اللوح المحفوظ .
وقال عكرمة : التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن .
وقال السدي : الزَّبُور .
وقال قتادة ومجاهد : هو المصحف الذي في أيدينا .
فصل في تفسير معنى الآية
قال ابن الخطيب : قوله تعالى : { فِي كِتَابٍ } يستدعي شيئاً مظروفاً للكتاب وفيه وجهان :
أحدهما : أنه القرآن ، أي : هو قرآن في كتاب ، كقولك : « فلان رجلٌ كريم في نفسه » لا يشك السامع بأن المراد منه أن في الدَّار قاعد ، وأنه لا يريد به أنه رجل إذا كان في الدَّار غير رجل إذا كان خارجاً ، ولا يشك أيضاً أنه لا يريد أنه كريم وهو في البيت ، فكذلك هاهنا معناه : أنه كريم في كتاب .
فإذا قيل : « فلان رجل كريم في نفسه » يعلم كل أحد أن القائل لم يجعله رجلاً مظروفاً ، وأن القائل لم يرد أنه رجل في نفسه قاعد أو قائم ، وإنما أراد أن كرمه في نفسه ، وكذا قوله : « قرآن كريم ، في لوح » أي : أنه لم يكن كريماً عند الكُفَّار .
الثاني : أن المظروف هو مجموع قوله تعالى : { لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } أي : هو كذا في كتاب كقوله تعالى { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ } [ المطففين : 19 ] ، كتاب أي : في كتاب الله تعالى .
والمعنى : أن في اللوح المحفوظ مكتوب : إنه قرآن كريم .
فصل في معنى الكتاب
قال ابن الخطيب : فإن قيل : كيف سمي الكتاب كتاباً ، والكتاب « فِعَال » وهو إما مصدر كالحِساب والقِيام ونحوهما ، أو لما يكتب كاللِّباس ونحوه ، وكيفما كان ، فالقرآن لا يكون في القِرْطَاس؛ لأنه بمعنى المصدر ، ولا يكون في مكتوب ، وإنما يكون مكتوباً في لوح ، أو ورق ، فالمكتوب لا يكون في الكتاب ، وإنما يكون في القرطاس؟ .
وأجاب بأن اللوح لما لم يكن إلاَّ لأن يكتب فيه صح تسميته كتاباً .
وقوله : { فِي كِتَابٍ } إما خبر بعد خبر ، وإما صفة ل « كريم » ، وإما معمول ل « كريم » .
والأصح أنَّ الكتاب المكنون هو اللوحُ المحفوظ ، لقوله تعالى : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } [ البروج : 21 ، 22 ] .
قوله : { لاَّ يَمَسُّهُ } .
في « لا » هذه وجهان :
أحدهما : أنها نافية ، فالضمة في « لا يمسُّه » ضمة إعراب .
وعلى هذا القول ففي الجملة وجهان :
أحدهما : أن محلها الجر صفة ل « كتاب » ، والمراد به : إما اللوح المحفوظ ، و « المُطَهَّرون » حينئذ : الملائكة ، أو المراد به المصاحف ، والمراد ب « المطهرين » : المكلفون كلهم .
والثاني : أن محلها الرفع صفة ل « قرآن » . والمراد ب « المطهرين » : الملائكة فقط ، أي : لا يطلع عليه ، أو لا يمسّ لوحه ، لا بد من هذين التجوزين؛ لأن نسبة المسّ إلى المعاني حقيقة متعذّر .
ويؤيد كون هذه نفياً قراءة عبد الله : « ما يمسّه » ب « ما » النافية .
الوجه الثاني : أنها ناهية ، والفعل بعدها مجزوم؛ لأنه لو فكّ عن الإدغام لظهر ذلك فيه ، كقوله تعالى : { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء } [ آل عمران : 174 ] ولكنه أدغم ، ولما أدغم حرك آخره بالضم لأجل هاء ضمير المذكر الغائب .
ولم يحفظ سيبويه في نحو هذا إلا الضم .
وفي الحديث : « إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عليك إلاَّ أنَّنَا حرمٌ » .
وإن كان القياس يقتضي جواز فتحه تخفيفاً ، وبهذا يظهر فساد من ردّ بأن هذا لو كان نهياً لكان يقال : « لا يمسّه » بالفتح؛ لأنه خفي عليه جواز ضم ما قبل « الهاء » في هذا النحو ، لا سيما على رأي سيبويه ، فإنه لا يجيز غيره .
وقد ضعف ابن عطيَّة كونها نهياً بأنه إذا كان خبراً فهو في موضع الصفة ، وقوله بعد ذلك : « تَنْزِيل » صفة ، فإذا جعلناه نهياً كان أجنبيًّا معترضاً بين الصِّفات ، وذلك لا يحسن في وصف الكلام فتدبره ، وفي حرف ابن مسعود : « ما يمسه » . انتهى .
وليس فيما ذكره ما يقتضي تضعيف هذا القول؛ لأنا لا نسلّم أن « تنزيل » صفة ، بل هو خبر مبتدأ محذوف ، أي : « هو تنزيل » فلا يلزم ما ذكره من الاعتراض .
ولئن سلّمنا أنه صفة ف « لا يمسّه » صفة أيضاً ، فإن اعترض علينا بأنه طلب فيجاب بأنه على إضمار القول ، أي : نقول فيه : « لا يمسّه » كما قالوا ذلك في قوله : { فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ } [ الأنفال : 25 ] على أن « لا تُصِيبن » نهي .
وهو كقوله : [ مشطور الرجز ]
4711- جَاءُوا بمَذْقٍ هَلْ رأيْت الذِّئْبَ قَط؟ ... وقد تقدم تحقيقه في « الأنفال » .
وهذه الآية يتعلق بها خلاف العلماء في مس المُحْدث المصحف ، وهو مبني على هذا .
وقرأ العامة : « المُطَهَّرُونَ » بتخفيف الطَّاء ، وتشديد الهاء مفتوحة اسم مفعول .
وعن سلمان الفارسي كذلك إلا أنه يكسر الهاء ، اسم فاعل ، أي : المطهرون أنفسهم ، فحذف مفعوله .
ونافع وأبو عمرو في رواية عنهما ، وعيسى بسكون الطاء ، وفتح الهاء خفيفة اسم مفعول من « أطْهَر زيد » .
والحسن وعبد الله بن عوف وسلمان أيضاً : « المطَّهِّرون » بتشديد الطَّاء والهاء المكسورة ، وأصله : « المُتطهرون » فأدغم .
وقد قرىء بهذا على الأصل أيضاً .
فصل في تحرير المسّ المذكور في الآية
اختلفوا في المسّ المذكور في الآية ، هل هو حقيقة في المس بالجارحة أو معنى؟ وكذلك اختلفوا في المطهرون مَنْ هم؟ .
فقال أنس وسعيد بن جبير : لا يمسّ ذلك إلاَّ المطهرون من الذنوب وهم الملائكة .
وقال أبو العالية وابن زيد : هم الذين طهروا من الذنوب كالرّسل من الملائكة ، والرسل من بني آدم .
وقال الكلبي : هم السَّفرة ، الكِرَام البررة ، وهذا كله قول واحد ، وهو اختيار مالك .
وقال الحسن : هم الملائكة الموصوفون في سورة « عبس » في قوله تعالى : { فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ } [ عبس : 13 - 16 ] .
وقيل : معنى « لا يمسّه » لا ينزل به إلا المطهرون ، يعني : الرسل من الملائكة على الرسل من الأنبياء ، ولا يمس اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب المكنون إلاَّ الملائكة المطهرون .
ولو كان المراد طهر الحدث لقال : المتطهرون أو المطهرون بتشديد « الطاء » .
والصحيح أن المراد بالكتاب : المصحف الذي بأيدينا؛ لما روى مالك وغيره : أن في كتاب عمرو بن حزم : « لا يمسّ القرآنَ إلاَّ طاهرٌ » .
وقال ابن عمر : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا تمسَّ القُرآنَ إلاَّ وأنْتَ طاهرٌ » .
وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه ، وقد دخل عليها ودعا بالصحيفة : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } فقام واغتسل ، وأسلم .
وعلى هذا قال قتادة وغيره : معناه : لا يمسه إلا المطهّرون من الأحداث والأنجاس .
وقال الكلبي : من الشِّرْك .
وقال الربيع بن أنس : من الذنوب والخطايا .
وقال محمد بن فضيل وعبدة : لا يقرؤه إلا المطهرون ، أي : إلاَّ الموحدون .
قال عكرمة : وكان ابن عباس ينهى أن يمكن اليهود والنصارى من قراءته .
وقال الفراء : لا يجد نفعه وطعمه وبركته إلا المطهرون ، أي : المؤمنون بالقرآن ، وقال الحسين بن الفضل : معناه : لا يعرف تفسيره وتأويله إلاَّ من طهَّره الله من الشِّرْك والنفاق .
وقال أبو بكر الورَّاقُ : لا يوفق للعمل به إلا السُّعداء .
وروى معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المعنى : لا يمسّ ثوابه إلا المؤمنون .
فصل في مس المصحف لغير المتوضىء
اختلف العلماء في مسِّ المصحف على غير وضوء .
فالجمهور على المَنْع من مسِّه على غير طهارة لحديث عمرو بن حزم ، وهو مذهب علي ، وابن مسعود ، وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد ، وعطاء ، والزهري ، والنخعي والحكم وحماد ، وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشَّافعي .
واختلفت الرواية عن أبي حنيفة .
فروي عنه أنه يمسّه المحدث ، وهذا مروي عن ابن عباس والشعبي وغيرهما ، وروي عنه أنه يمس ظاهره وحواشيه ، وما ليس بمكتوب .
وأمَّا [ الكتاب ] فلا يمسّه إلاَّ طاهر .
قال ابن العربي : وهذا يقوي الحجة عليه؛ لأن جِرْمَ الممنوع ممنوع ، وكتاب عمرو بن حزم أقوى دليل عليه .
وقال مالك : لا يحمله غير طاهر بعلامة ، ولا على وسادة .
وقال أبو حنيفة : لا بأس بذلك .
وروي عن الحكم وحماد وداود بن علي : أنه لا بأس بحمله ومسّه للمسلم والكافر طاهراً أو محدثاً ، إلاَّ أن داود قال : لا يجوز للمشرك حمله ، واحتجوا في إباحة ذلك بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى « قيصر » ، ولا حجة فيه لأنه موضع ضرورة .
والمراد بالقرآن : المصحف ، سمي قرآناً لقرب الجوار على الاتِّساع ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو . أراد به المصحف .
قوله : { تَنزِيلٌ } .
قرأ العامة : بالرفع .
وقرأ بعضهم : « تنزيلاً » بالنصب ، على أنه حال من النكرة ، وجاز ذلك لتخصصها بالصفة .
وأن يكون مصدراً لعامل مقدر ، أي : نزل تنزيلاً .
وغلب التنزيل على القرآن .
وقوله : « من ربّ » يجوز أن يتعلق به على الأول لا الثاني؛ لأن المؤكد لا يعمل ، فيتعلق بمحذوف؛ لأنه صفة له .
وأما على قراءة « تَنزِيلٌ » بالرفع ، فيجوز الوجهان .
قال القرطبي : « تنزيل » أي : منزل ، كقولهم : « ضَرْب الأمير ، ونَسْج اليمن » .
وقيل : « تنزيل » صفة لقوله تعالى : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } .
وقيل : خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو « تنزيل » .
قال ابن الخطيب : قوله « تنزيل » مصدر ، والقرآن الذي في كتاب ليس بتنزيل ، إنما هو منزل لقوله تعالى : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } [ الشعراء : 193 ] ، فنقول : ذكر المصدر ، وإرادة المفعول كثير ، كقوله تعالى : { هذا خَلْقُ الله } [ لقمان : 11 ] وأوثر المصدر؛ لأن تعلق المصدر بالفاعل أكثر .
قوله : { أفبهذا الحديث } متعلق بالخبر ، وجاز تقديمه على المبتدأ؛ لأن عامله يجوز فيه ذلك ، والأصل : أفأنتم مدهنون بهذا الحديث ، وهو القرآن .
ومعنى « مُدْهِنُون » أي : متهاونون كمن يدهن في الأمر ، أي : يلين جانبه ، ولا يتصلب فيه تهاوناً به ، يقال : أدهن فلان ، أي : لاين وهاود فيما لا يجمل عنه المدهن .
قال أبو قيس بن الأسلت : [ السريع ]
4712- الحَزْمُ والقُوَّةُ خَيْرٌ من الْ ... إدْهَانِ والفَهَّةِ والهَاعِ
وقال الراغب : والإدهان في الأصل مثل التدهين ، لكن جعل عبارة عن المداراة والملاينة وترك الجدّ ، كما جعل التَّقريد وهو نزع القراد عبارة عن ذلك .
قال القرطبي : « وأدهن وداهن واحد ، وقال قوم : داهنت بمعنى واريت ، وأدهنت بمعنى غششت » .
قال ابن عبَّاس : « مُدْهِنُون » أي : مكذبون . وهو قول عطاء وغيره .
والمدهن : الذي ظاهره خلاف باطنه ، كأنه شبّه بالدهن في سهولة ظاهره .
وقال مقاتل بن سليمان وقتادة : « مدهنون » كافرون ، نظيره : { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } [ القلم : 9 ] .
وقال المؤرِّج : المدهن : المنافق الذي يلين جانبه ليُخفي كفره .
والإدْهَان والمُداهنَة : التكذيب والكفر والنِّفاق .
وقال الضحاك : « مُدْهنون » معرضون .
وقال مجاهد : مُمَالِئُون الكُفَّار على الكفر به .
وقال ابن كيسان : المدهن : الذي لا يعقل ما حق الله عليه ، ويدفعه بالعللِ .
وقال بعض اللغويين : « مُدْهنون » : تاركُون للجزمِ في قبول القرآن .
قوله : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ } .
فيه أوجه :
أحدها : أنه على التهكم بهم ، لأنهم وضعوا الشيء غير موضعه ، كقولك : شتمني حيث أحسنت إليه ، أي : عكس قضية الإحسان .
ومنه : [ الرجز ]
4713- كَأنَّ شُكْر القَوْمِ عندَ المِنَنِ ... كيُّ الصَّحِيحاتِ ، وفقْءُ الأعيُنِ
أي : شكر رزقكم تكذيبكم .
الثاني : أن ثمَّ مضافين محذوفين ، أي : بدل شكر رزقكم ، ليصح المعنى .
قاله ابن مالك .
وقد تقدم في قوله تعالى : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ } [ النجم : 9 ] أكثر من هذا .
الثالث : أنَّ الرزق هو الشكر في لغة « أزد شنوءة » يقولون : ما رزق فلان فلاناً ، أي : ما شكره ، فعلى هذا لا حذف ألبتة .
ويؤيده قراءة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وتلميذه عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - : « وتَجْعَلُونَ شُكْركُمْ » مكان رزقكم .
قال القرطبي : « وإنما صلح أن يوضع اسم الرزق مكان الشُّكر لأنَّ شكر الرِّزق يقتضي الزيادة فيه ، فيكون الشكر رزقاً لهذا المعنى » .
قوله : { أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } .
قرأ العامة : « تُكذِّبُونَ » من التكذيب .
وعلي - رضي الله عنه - وعاصم في رواية المفضل عنه : « تكْذبُونَ » مخففاً من الكذب .
ومعنى الآية : أنكم مكذبون بالرِّزق ، أي؛ تضعون الكذب مكان الشُّكر ، كقوله تعالى : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً } [ الأنفال : 35 ] ، أي : لم يكونوا يصلون ، ولكنهم كانوا يصفرون ويصفقون مكان الصَّلاة .
قال القرطبي : وفيه بيان أن ما أصاب العباد من خير ، فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكون أسباباً ، بل ينبغي أن يروه من قبل الله - تعالى - ثم يقابلونه بشكر إن كان نعمة ، أو صبر إن كان مكروهاً تعبداً له وتذلُّلاً .
وروى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : { وتجعلون شكركم أنكم تكذبون } خفيفة .
وعن ابن عباس أيضاً : أن المراد به الاستسقاء بالأنواء ، وهو قول العرب : مُطِرْنَا بنوءِ كذا ، رواه علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي « صحيح مسلم » عن ابن عبَّاس قال : « مطر النَّاس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » أصْبَحَ من النَّاسِ شَاكِرٌ ومنهُمْ كَافرٌ « .
فقال بعضهم : هذه رحمة الله؛ وقال بعضهم : لقد صدق نَوْء كذا وكذا ، قال : فنزلت هذه الآية : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم } حتى بلغ { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } » .
وعنه أيضاً : « أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في سفر فعطشوا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » أرأيْتُمْ إن دعوْتُ اللَّهَ لكُم فسُقيْتُمْ لعلَّكمْ تقولون : هذا المطرُ بنَوْءِ كذا « ، فقالوا : يا رسول الله ما هذا بحين الأنواء . فصلّى ركعتين ، ودعا ربه ، فهاجتْ ريح ، ثم هاجت سحابة فمطروا ، فمر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عصابةٌ من أصحابه برجل يغترف بقدح له ، وهو يقول : سقينا بنوء كذا ، ولم يقل هذا من رزق الله ، فنزلت : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } » .
أي : شكركم لله على رزقه إياكم أنكم تكذبون بالنعمة ، وتقولون : سقينا بنوء كذا ، كقولك : جعلت إحساني إليك إساءة منك إليّ ، وجعلت إنعامي إليك أن اتَّخذتني عدُوًّا .
قال الشَّافعي : لا أحب لأحدٍ أن يقول : مُطِرنَا بنوء كذا ، وإن كان النَّوْءُ عندنا الوقت المخلوق لا يضر ، ولا ينفع ، ولا يمطر ، ولا يحبس شيئاً من المطر ، والذي أحبّ أن يقول : مطرنا وقت كذا ، كما تقول : مطرنا شهر كذا ، ومن قال : مطرنا بنوءِ كذا ، وهو يريد أن النَّوء أنزل الماء كما يقول بعض أهل الشِّرك فهو كافر ، حلال دمه إن لم يَتُبْ .
وقيل : معنى قوله : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ } أي : معاشكم وتكسبكم تكذيب محمد ، كما يقال : فلان جعل قطع الطريق معاشه ، فعلى هذا التَّكذيب عام ، وعلى الأول التكذيب خاص والرزق في الأصل مصدر سمي به ما يرزق ، كما يقال للمأكول : رِزْق ، وللمقدور : قُدْرة وللمخلوق : خَلْق .
فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
قوله : { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم } .
ترتيب الآية الكريمة : فلولا ترجعونها - أي النَّفس - إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين .
و « لولا » الثانية مكررة للتوكيد قاله الزمخشري .
قال شهاب الدين : فيكون التقدير : فلولا فلولا ترجعونها من باب التوكيد اللفظي ، ويكون « إذا بلغت » ظرفاً ل « تَرْجعُونها » مقدماً عليه؛ إذ لا مانع منه ، أي فلولا ترجعون النَّفس في وقت بلوغها الحُلْقُوم .
وقوله : { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } .
جملة حالية من فاعل « بلغت » .
والتنوين في « حينئذٍ » عوض من الجملة المضاف إليها أي : إذا بلغت الحلقوم ، خلافاً للأخفش ، حيث زعم أن التنوين للصَّرف ، والكسر للإعراب . وقد مضى تحقيقه .
وقرأ العامة : بفتح نون « حينئذ » لأنه منصوب على الظرف ، ناصبه « تنظرون » وعيسى : بكسرها .
وهي مشكلة لا تبعد عن الغلط عليه ، وخرجت على الإتباع لحركة الهمزة .
ولا عرف في ذلك ، فليس بأبعد من قرأ : « الحَمْدِ لله » بكسر الدال لتلازم المتضايفين ، ولكثرة دروهما على الخصوص .
فصل في تحرير معنى الآية
قال المفسرون : معنى الآية فهلا إذا بلغت النفس ، أو الروح الحلقوم ، ولم يتقدم لها ذكر؛ لأن ذلك معروف .
قال حاتم : [ الطويل ]
4714- أمَاويُّ ما يُغْنِي الثَّرَاءُ عن الفَتَى ... إذَا حَشْرَجَتْ يَوْماً وضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ
وفي الحديث : « إنَّ مَلَكَ المَوْتِ لهُ أعْوانٌ يَقْطعُونَ العُرُوق ، ويَجْمَعُونَ الرُّوح شَيْئاً فَشَيْئاً حتَّى ينتهي بها إلى الحُلْقُومِ ، فيتوفَّاها ملكُ الموتِ » .
{ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } أمري وسلطاني .
وقيل : تنظرون إلى الميت لا تقدرون له على شيء .
قال ابن عباس : يريد من حضر من أهل الميِّت ينتظرون متى تخرج نفسه .
ثم قيل : هو رد عليهم في قولهم لإخوانهم : { لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } [ آل عمران : 156 ] ، فهلاَّ ردوا روح الواحد منهم إذا بلغت الحُلْقُوم .
وقيل : المعنى فهلاَّ إذا بلغت نفس أحدكم الحُلْقُوم عند النَّزْع ، وأنتم حضور أمسكتم روحه في جسده مع حرصكم على امتداد عمره ، وحبكم لبقائه ، وهذا رد لقولهم : { نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر } [ الجاثية : 24 ] .
قوله : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ } .
يجوز أن يكون حالاً ، أي : تنظرون في هذه الحال التي تخفى عنكم .
وأن تكون مستأنفة ، فيكون اعتراضاً ، والاستدراك ظاهر .
والبصر يجوز أن يكون من البَصِيْرَة ، والمعنى : ونحنُ أقرب إليه منكم بالقدرة والعلم والرُّؤية .
قال عامر بن عبد قيس : ما نظرت إلى شيء إلاَّ رأيت الله - تعالى - أقرب إليَّ منه .
وأن يكون من البصر ، أي لا تنظرون أعوان ملك الموت ، والمعنى : أن رسلنا الذين يتولون قبض روحه أقرب إليه منكم لكن لا ترونهم .
قوله : { فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } .
« إن كنتم » شرط ، جوابه محذوف عند البصريين لدلالة « فلولا » عليه ، أو مقدم عند من يرى ذلك كما تقدم تقريره .
والمعنى : فهلا كنتم غير محاسبين ، ولا مجزيين بأعمالكم ، ومنه قوله تعالى : { أَإِنَّا لَمَدِينُونَ } [ الصافات : 53 ] ، أي : مجزيّون أو محاسبون . وقد تقدم .
وقيل : غير مملوكين ، ولا مقهورين .
قال الفراء وغيره : دِنْتُه ، ملكته .
قال الحطيئة : [ الوافر ]
4715- لَقَدْ دُيِّنْتِ أمْرَ بَنِيكِ حَتَّى ... تَرَكْتِهِمُ أدَقَّ مِنَ الطَّحِينِ
يعني : مُلِّكْتِ .
ودانه : أي أذله واستعبده ، يقال : دنْتُه فدان .
ومنه دانت له البلاد والعباد ، وقد تقدم في « الفاتحة » عند قوله « يوم الدِّين » .
قوله : { تَرْجِعُونَهَآ } .
قال أبو البقاء : « تَرْجعُونَها » جواب « لولا » الأولى ، وأغنى ذلك عن جواب الثانية .
وقيل : بعكس ذلك .
وقال الزمخشري : « إنّ » لولا « الثانية تكرير » . انتهى .
قال شهاب الدين : وتسمية مثل هذا جواباً ليس بصحيح ألبتة؛ لأن هذه تحضيضية لا جواب لها ، إنما الجواب للامتناعية لوجود ، نحو : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ } [ النور : 21 ] .
وقال ابن عطية : وقوله : « ترجعونها » سدّ مسدّ الأجوبة والبيانات التي تقتضيها التحضيضيات ، وإذا في قوله « فَلوْلاَ إذَا » ، وإن المتكررة ، وحمل بعض القول بعضاً إيجازاً واختصاراً . انتهى .
فجعل « إذا » شرطية ، وقوله بالأجوبة يعني ل « إذا » ، ول « إن » في قوله : { إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } ، { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } .
والبيانات : يعني الأفعال التي حضض عليها ، وهي عبارة قلقة .
قال أبو حيان : « و » إذا « ليست شرطاً ، بل ظرفاً يعمل فيها » ترجعونها « المحذوف بعد » فلولا « لدلالة » ترجعونها « في التحضيض الثاني عليه ، فجاء التحضيض الأول مقيداً بوقت بلوغ الحلقوم ، وجاء التَّحضيض الثاني معلقاً على انتفاء مربوبيتهم ، وهم لا يقدرون على رجوعها ، إذ مربوبيتهم موجودة فهم مقهُورون ، لا قدرة لهم » . انتهى .
فجعل « ترجعونها » المذكور ل « لولا » الثانية ، وهو دال على محذوف بعد الأولى ، وهو أحد الأقوال التي نقلها أبو البقاء فيما تقدم .
وقوله : { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } .
شرط آخر ، وليس هذا من اعتراض الشرط على الشرط نحو : « إن ركبت إن لبست فأنت طالق » حتى يجيء فيه ما تقدم في هذه المسألة؛ لأن المراد هنا : إن وجد الشرطان كيف كانا فهل رجعتم بنفس الميت؟ .
[ وقال القرطبي : { ترجعونها إن كنتم صادقين } يرجع الروح إلى الجسد إن كنتم صادقين ، أي : ولن ترجعونها فبطل ] زعمكم أنكم غير مملوكين ، ولا محاسبين ، و « تَرْجعُونها » جواب لقوله تعالى : { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم } ، ولقوله : { فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } وأجيبا بجواب واحد . قاله الفرَّاء ، وربما أعادت العرب الحرفين ومعناهما واحد ، ومنه قوله تعالى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }
[ البقرة : 38 ] ، أجيبا بجواب واحد ، وهما شرطان .
والمعنى : إن كان الأمر كما تقولون : إنه لا بعث ، ولا حساب ، ولا إله يجازي ، فهلاَّ تردون نفس من يعزّ عليكم إذا بلغت الحلقوم؟ وإذا لم يمكنكم ذلك فاعلموا أن الأمر إلى غيركم وهو الله عز وجل . قاله البغوي .
وقيل : حذف أحدهما لدلالة الآخر عليه .
وقيل : فيها تقديم وتأخير ، مجازها : « فلولا وهلا إن كنتم غير مدينين ترجعونها تردّون نفس الميت إلى جسده إذا بلغت الحلقوم » .
ثم ذكر طبقات الخلق عند الموت وبين درجاتهم ، فقال : { فَأَمَّآ إِن كَانَ } .
قد تقدَّم الكلام في « أمَّا » أول الكتاب .
وهنا أمر زائد ، وهو وقوع شرط آخر بعدها .
واختلف النحاة في الجواب المذكور بعدها ، هل هو ل « أما » أو ل « أن » وجواب الأخرى محذوف لدلالة المنطوق عليه والجواب لهما معاً؟ ثلاثة أقوال :
الأول : لسيبويه .
والثاني : للفارسي في أحد قوليه ، وله قول آخر لسيبويه .
والثالث : للأخفش .
وهذا كما تقدم في الجواب بعد الشرطين المتواردين .
وقال مكي : « ومعنى » أما « عند أبي إسحاق الخروج من شيء إلى شيء ، أي : دع ما كُنَّا فيه ، وخذ في غيره » .
وعلى هذا فيكون الجواب ل « إن » فقط ، لأن « أما » ليست شرطاً ، ورجح بعضهم أن الجواب ل « أمَّا » لأن « إن » كثر حذف جوابها منفردة فادعاء ذلك مع شرط آخر أولى .
قوله : { فَأَمَّآ إِن كَانَ } .
الضمير في « كان » و « كان » و « كان » للمتوفى ، لدلالة « فلَوْلاَ ترجعونها » ، والمراد بالمقربين : السابقين لقوله تعالى { والسابقون السابقون أولئك المقربون } [ الواقعة : 10 ] .
قوله : { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ } .
قرأ العامة : « فَرَوْحٌ » بفتح الراء .
وقرأ ابن عباس ، وعائشة ، والحسن ، وقتادة ، ونصر بن عاصم ، والجحدري ورويس وزيد عن يعقوب وجماعة : بضم الراء .
وتروى عن النبي صلى الله عليه وسلم .
فمن قرأ بالفتح ، فمعناه : فله روح ، وهو الرَّاحة . وهو قول مجاهد .
وقال سعيد بن جبير : فرج .
وقال الضحاك : مغفرة ورحمة « وريحان » : استراحة .
وقال مجاهد وسعيد بن جبير : رزق .
قال مقاتل : [ هو الرزق بلغة ] « حِمْير » . يقال : خرجنا نطلب ريحان الله ، أي : رِزْقَه .
وقيل : هو الريحان الذي يشم .
قال أبو العالية : لا يفارق أحد من المقربين الدنيا حتى يُؤتى بغُصْنٍ من ريحان الجنة فيشمه ثم تقبض روحه .
وقال أبو بكر الورَّاق : الرَّوح : النَّجاة من النار والرَّيحان : دخول دار القرار .
وقد تقدَّم الكلام على « رَيْحَان » وكيفية تعريفه في السورة قبلها .
وقوله : « فَرَوْحٌ » مبتدأ ، خبره مقدر قبله ، أي : فله روح ، ويجوز أن يقدر بعده لاعتماده على فاء الجزاء .
قوله : { وأما إن كان من أصحاب اليمين ، فسلامٌ لك من أصحاب اليمين } .
« فسلام لك » مبتدأ وخبر .
و « من أصحاب » . قال الزمخشري : « فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين ، أي : يسلمون عليك » .
وقال ابن جرير : « فسلام لك أنت من أصحاب اليمين » .
وهذا يحتمل أن يكون كقول الزمخشري ، ويكون « أنت » تأكيداً للكاف في لك ، ويحتمل أن يكون أراد أن « أنت » مبتدأ ، و « من أصحاب » خبره ، ويؤيد هذا ما حكاه قوم من أن المعنى فيقال لهم : سلام عليكم لك إنك من أصحاب اليمين .
وأول هذه الأقوال هو الواضح البين؛ ولذلك لم يعرج أبو القاسم على غيره .
فصل في المقصود بهذا السلام
قال القرطبي : { فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين } أي : لست ترى منهم إلاَّ ما تحب من السلامة فلا تهتمّ ، فإنهم يسلمون من عذاب الله .
وقيل : المعنى : سلام لك منهم ، أي : أنت سالم من الاهتمام لهم ، والمعنى واحد .
وقيل : إن أصحاب اليمين يدعون لك يا محمد بأن يصلي الله عليك ويسلم .
وقيل : معناه : سلمت أيها العبدُ ممَّا تكره ، فإنك من أصحاب اليمين فحذف إنك .
وقيل : إنه يُحَيَّا بالسلام إكراماً .
فعلى هذا في محل السلام ثلاثة أقاويل :
أحدها : عند قبض روحه في الدنيا يسلم عليه ملك الموت . قاله الضحاك .
قال ابن مسعود : إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن ، قال : ربك يقرئك السلام .
الثاني : عند مساءلته في القبر يسلّم عليه منكر ونكير .
الثالث : عند بعثه في القيامة يسلم عليه الملك قبل وصوله إليها .
قال القرطبي : « ويحتمل أن يسلم عليه في المواطن الثلاثة ، ويكون ذلك إكراماً بعد إكرام » .
قوله : { وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المكذبين } بالبعث « الضَّالين » عن الهدى ، وطريق الحق { فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ } كما قال : { ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضآلون المكذبون لآكِلُونَ } [ الواقعة : 51 - 52 ] إلى أن قال : { ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيمٍ } [ الصافات : 67 ] .
قوله : { وَتَصْلِيَةُ } .
قرأ أبو عمرو في رواية اللؤلؤي عنه ، وأحمد بن موسى ، والمنقري : بجر التاء عطفاً على « حميم » ، أي : ونزل من تصلية جحيم .
والمعنى : إدخال في النَّار .
وقيل : إقامة في الجحيم ، ومقاساة لأنواع عذابها .
يقال : أصلاه النَّار وصلاه ، أي : جعله يصلاها .
والمصدر هنا أضيف إلى المفعول ، كما يقال : لفلان إعطاء مال ، أي : يعطي المال .
قوله : { إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين } .
أي : هذا الذي قصصناه محضُ اليقين وخالصه .
وجاز إضافة الحق إلى اليقين ، وهما واحد لاختلاف لفظهما ، وذلك من باب إضافة المترادفين على سبيل المبالغةِ .
قال المبرد : هو كقولك : عين اليقين وحق اليقين .
فهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه عند الكوفيين ، وإن كانوا فعلوا ذلك في اللفظ الواحد ، فقالوا : صواب الصواب ، ونفس النفس مبالغة ، فلأن يفعلوا عند اختلاف اللفظ أولى .
وعند البصريين بمعنى : حق الأمر اليقين ، أو الخبر اليقين .
وقيل : هو توكيد ، كقولك : حق الحق ، وصواب الصواب . قاله ابن عطية .
وقيل : أصل اليقين أن يكون نعتاً للحق فأضيف المنعوت إلى النَّعت على الاتِّساع والمجاز ، كقوله تعالى : { وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ } [ النحل : 30 ] .
قال ابن الخطيب : « هذه الإضافة كقولك : ثوب كتان ، وباب ساجٍ بمعنى ثوب من كتان ، وباب من ساجٍ ، أي : لهو الحق من اليقين » .
ويحتمل أن يكون المعنى : أنه الحق الذي يستحقه اليقين ، كقوله عليه الصلاة والسلام : « أمِرْتُ أن أقَاتِلَ النَّاس حتَّى يقُولُوا : لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ ، فإذا قالُوهَا عَصَمُوا منِّي دمَاءَهُمْ وأمْوالهُمْ إلاَّ بحقِّهَا » .
فالضمير يرجع إلى الكلمة ، أي : إلا بحق الكلمة ، ومن حق الكلمة أداء الزكاة والصلاة ، فكذلك حق اليقين ، بالاعتراف ، أي : بحق اليقين .
والمعنى : أنه يعترف بما قال الله - تعالى - في سورة « الواقعة » ، وفي حق الأزواج الثلاثة ، وعلى هذا المعنى إن اليقين لا يحق إلاَّ إذا صدق بما قاله ، فالتصديق حق اليقين الذي يستحقه .
قوله : { فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم } .
أي : نزّه الله - تعالى - عن السُّوء .
و « الباء » يجوز أن تكون للحال ، أي : فسبِّح ملتبساً باسم ربِّك على سبيل التبرك كقوله : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } [ البقرة : 30 ] ، وأن تكون للتعدية على أن « سبح » يتعدى بنفسه تارةً ، كقوله : { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ } [ من سورة الأعلى : 1 ] وبحرف الجر تارة كهذه الآية .
وقال القرطبي : « والباء زائدة ، أي : سبح اسم ربك » .
وادعاء زيادتها خلاف الأصل .
و « العظيم » يجوز أن يكون صفة للاسم ، وأن يكون صفة ل « ربك »؛ لأن كلاًّ منهما مجرور ، وقد وصف كل منهما في قوله : { تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ ذِي الجلال والإكرام } [ الرحمن : 78 ] و « ذي الجَلالِ » .
ولتقارب المتضايفين ظهر الفرق في الوصف .
فصل في تحرير معنى الآية
قيل : معنى « فسبح » أي فصل بذكر ربك وبأمره .
وقيل : فاذكر اسم ربك العظيم وسبحه .
« وعن عقبة بن عامر قال : لمَّا نزلت : { فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم } قال النبي عليه الصلاة والسلام : » اجْعَلُوها في رُكُوعِكُمْ « . ولما نزلت : { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى } قال النبي صلى الله عليه وسلم : » اجْعَلُوها في سُجُودِكُمْ « » .
أخرجه أبو داود .
وروى أبو طيبة عن عبد الله بن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [ يقول ] : « مَنْ قَرَأ سُورَة الواقِعَة في كل ليلة لم تُصِبْهُ فاقةٌ أبَداً » وكان أبو هريرةٍ لا يدعُها أبداً .
وعن مسروق قال : « منْ أرَاد أن يتعلم نبأ الأولين والآخرين ، ونبأ أهل الجنة ، ونبأ الدنيا ، ونبأ الآخرة ، فليقرأ سورة الواقعة » .
والله تعالى أعلم .
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
قوله تعالى : { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات والأرض } .
أي : مجّد الله ونزّهه عن السوء .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : صلى لله ما في السموات من خلق من الملائكة والأرض من شيء فيه روح ، أو لا روح فيه .
وقيل : هو تسبيح الدلالة .
وأنكر الزجَّاج هذا وقال : لو كان هذا تسبيح الدلالة ، وظهور آثار الصنعة لكانت مفهومة ، فلم قال : { ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإسراء : 44 ] .
وإنما التسبيح مقال ، واستدل بقوله تعالى : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ } [ الأنبياء : 79 ] ، ولو كان هذا التسبيح تسبيح دلالة ، فأي تخصيص لداود؟ .
وقال القرطبي : هذا هو الصحيح .
فصل في الكلام على الفعل سبح
هذا الفعل عدي باللام تارة كهذه السورة ، وأخرى بنفسه كقوله تعالى : { وَسَبِّحُوهُ } [ الأحزاب : 42 ] ، وأصله التعدي بنفسه ، لأن معنى « سبحته » : بعدته عن السوء ، فاللام إما أن تكون مزيدة كهي في نصحت لزيد ، ونصحته ، وشكرته ، وشكرت له؛ إذ يقال : سبحت الله تعالى ، قال : { وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } [ الأعراف : 206 ] . وإما أن تكون للتعليل ، أي : أحدث التسبيح لأجل الله تعالى .
وجاء في بعض الفواتح « سبَّح » بلفظ الماضي ، وفي [ بعضها ] بلفظ المضارع ، وذلك إشارة إلى أن هذه الأشياء مسبحة في كل الأوقات ، لا يختص بوقت دون وقت ، بل هي مسبحة أبداً في الماضي ، وستكون مسبحة أبداً في المستقبل .
قوله : { وَهُوَ العزيز الحكيم } .
« العزيز » : الغالب القادر الذي لا ينازعه شيء ، وذلك إشارة إلى كمال القدرة .
« الحكيم » : الذي يفعل أفعاله على وفق الحكمة والصواب .
قوله تعالى : { لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض } .
جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب .
وحقيقة « المُلْك » عبارة عن نفوذ الأمر ، فهو سبحانه وتعالى المالك القادر القاهر .
وقيل : أراد خزائن المطر والنبات والرِّزق .
قوله : { يُحْيِي وَيُمِيتُ } .
يجوز في هذه الجملة ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها لا محل [ لها ] كالتي قبلها .
والثاني : أنها خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو له ملك .
الثالث : أنه الحال من الضمير في « له » فالعامل فيها الاستقرار .
ولم يذكر مفعول الإحياء والإماتة؛ إذ الغرض ذكر الفعلين [ فقط ، والمعنى ليميت ] الأحياء في الدنيا ، ويحيي الأموات للبعث .
وقيل : هو يحيي النُّطف ، وهي أموات ، ويميت الأحياء .
قال ابن الخطيب : « وعندي فيه وجه ثالث ، وهو أنه ليس المراد منه تخصيص الإحياء والإماتة بزمان معين ، وبأشخاص معينين ، بل معناه : أنَّه القادر على خلق الحياة والموت ، كقوله تعالى : { الذي خَلَقَ الموت والحياة } [ الملك : 2 ] ، [ والمقصود منه ] كونه - تعالى - هو المنفرد بإيجاد هاتين الماهيتين على الإطلاق لا يمنعه عنهما مانع .
قوله : { وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } لا يعجزه شيء .
قوله تعالى : { هُوَ الأول والآخر } الآية .
قال الزمخشري : فإن قلت : [ فما معنى » الواو «؟ ] .
قلت : « الواو » الأولى معناها الدلالة على [ أنه الجامع بين الصفتين الأولية ] ، والآخرية .
والثالثة على الجامع بين الظُّهور والخفاء .
وأما الوسطى فعلى أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ، ومجموع الصفتين الأخريين .
فصل في تفسير الآية
قال القرطبي رحمه الله : اختلف في معاني هذه الأسماء وقد شرحها رسول الله صلى الله عليه وسلم شرحاً يغني عن قول كل قائل .
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اللَّهُمَّ أنْتَ الأوَّلُ فليسَ قَبلكَ شيءٌ ، وأنْتَ الآخرُ فليْسَ بعدكَ شيءٌ ، وأنْتَ الظَّاهرُ فليس فوقكَ شيءٌ ، وأنْتَ الباطنُ فليْسَ دُونَك شيءٌ ، اقْضِ عنَّا الدَّينَ ، وأغْنِنَا من الفَقْرِ » ، عنى بالظاهر الغالب ، وبالباطن العالم ، والله أعلم .
قوله : { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
مما كان أو يكون لا يخفى عليه شيء ، وهذا معنى قول ابن عباس .
قال ابن الخطيب : الظَّاهر بحسب الدلائل ، والباطن بحسب الحواس .
والقول بأن الباطن هو العالم ضعيف؛ لأنه يلزم منه التكرار في قوله : « وهو بكل شيء عليم بما كان أو يكون » .
فصل في إثبات وحدانية الله
قال ابن الخطيب : احتج كثير من العلماء في إثبات أنَّ الإله واحد بقوله : « هو الأول » ، قالوا : الأول هو الفرد السَّابق ، ولهذا لو قال : أول مملوك اشتريته فهو حر ، ثم اشترى عبدين لم يعتقا؛ لأن شرط كونه أولاً حصول الفردية ، وهنا لم تحصل ، فلو اشترى بعد ذلك عبداً واحداً لم يعتق؛ لأن شرط الأولية كونه سابقاً ، وهاهنا لم يحصل ، فثبت أن الشَّرط في كونه أولاً أن يكون فرداً ، فكانت الآية دالة على أنَّ صانع العالم فرد .
قوله تعالى : { هُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش } .
تقدم [ في « الأعراف » ] ، والمقصود منه دلائل القدرة .
{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض } أي : يدخل فيها من مطر وغيره .
{ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من نباتٍ وغيره .
{ وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء } من رزق ومطر وملك .
{ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } يصعد فيها من الملائكة ، وأعمال العباد { وَهُوَ مَعَكُمْ } يعني : بقدرته وسلطانه وعلمه .
{ أَيْنَ مَا كُنتُمْ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } ينظر أعمالكم ويراها ، ولا يخفى عليه شيء منها .
فصل في الكلام على الآية
قال القرطبي : وقد جمع في هذه الآية بين { استوى على العرش } وبين « وهُوَ معكُم » ، والأخذ بالظَّاهر تناقض فدل على أنه لا بد من التأويل ، والإعراض عن التأويل اعتراف بالتناقض .
وقد قال أبو المعالي : إن محمداً صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء لم يكن بأقرب إلى الله - عز وجل - من يونس بن متَّى حين كان في بطن الحوت . وقد تقدم .
فصل في تفسير المعية
ذكر ابن الخطيب عن المتكلمين أنهم قالوا : هذه المعية إما بالعلم ، وإما بالحفظ والحراسة ، وعلى التقديرين فالإجماع منعقد على أنَّه - سبحانه وتعالى - ليس معنا بالمكانِ والحيز والجهةِ ، فإذن قوله : { وَهُوَ مَعَكُمْ } لا بد فيه من التأويل ، فإذا جوَّزنا التأويل في موضع وجب تأويله في سَائر المواضع .
قوله تعالى : { لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض } .
هذا التكرير للتأكيد ، أي : هو المعبود على الحقيقة .
{ وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } أي : أمور الخلائق في الآخرة .
وقد تقدم في البقرة « : أن الأخوين وابن عامر يقرءون : » تَرْجِعُ « بفتح التاء وكسر الجيم مبنيًّا للفاعل ، والباقون : مبنيًّا للمفعول في جميع القرآن .
وقال أبو حيان هنا : وقرأ الجمهور : » تُرْجَعُ « مبنيًّا للمفعول ، والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج مبنيًّا للفاعل .
وهذا عجيب منه وقد وقع له مثل ذلك كما تقدم .
قوله : { يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل } .
أي : ما ينتقص من النهار فيزيد في الليل ، وما ينتقص من الليل فيزيد في النهار .
{ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } . أي : لا تخفى عليه الضمائر ، ومن كان بهذه الصفة ، فلا يجوز أن يعبد سواه .
قوله تعالى : { آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } .
أي : صدقوا أن الله واحد ، وأن محمداً عبده ورسوله .
» وأنفِقُوا « : تصدقوا وقيل : أنفقوا في سبيل الله .
وقيل : المراد : الزكاة المفروضة .
وقيل : غيرها من وجوه الطاعات ، وما يتقرب به .
وقوله تعالى : { مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } دليل على أن أصل الملك لله سبحانه وتعالى ، وأن العبد ليس له فيه إلاَّ التصرف الذي يرضي الله تعالى ، فيثيبه على ذلك بالجنة ، فمن أنفق منها في حقوق الله ، وهان عليه الإنفاق منها كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره ، إذا أذن له فيه ، كان له الثواب الجزيل .
وقال الحسن : » مُستخْلفِين فيه « بوراثتكم إياه عمن كان قبلكم ، وهذا يدل على أنها ليست بأموالكم في الحقيقة ، وما أنتم فيها إلا بمنزلة النُّواب والوكلاء ، فاغتنموا الفوز ، فإنها بإقامة الحق قبل أن تزال عنكم إلى من بعدكم .
{ فالذين آمنوا وعملوا الصالحات منكم ، وأنفقوا في سبيل الله لهم أجر كبير } وهو الجنة .
فصل في الكلام على الآية
قال القاضي : هذه الآية تدل على أن هذا الأجر لا يحصل بالمال وحده حتى يضاف إليه هذا الإنفاق ، فمن أخل بالواجب من زكاة وغيرها فلا أجر له .
قال ابن الخطيب : وهذا استدلال ضعيف؛ لأنه لا يلزم من نفي الأجر الكبير نفي أصل الأجر ، فلم قلتم : إنها [ تدل على أنه ] لا أجر له أصلاً؟ .
فإن قيل : قوله » آمنوا بالله « خطاب مع من عرف الله أو مع من لم يعرف الله ، فإن كان الأول كان ذلك أمراً بأن يعرف من عرفه ، وذلك أمر بتحصيل الحاصل ، وهو محال .
وإن كان الثاني كذلك كان ذلك الخطاب متوجِّهاً على من لم يكن عارفاً به ، ومن لم يكن عارفاً يستحيل أن يكون عارفاً بأمره ، فيكون الأمر متوجِّهاً على من يستحيل أن يعرف كونه مأموراً بذلك الأمر ، وهو تكليف ما لا يُطاق .
قال ابن الخطيب : والجواب من النَّاس من قال : معرفة وجود الصَّانع حاصلة للكل ، وإنما المقصود من هذا الأمر معرفة الصفات .
قوله تعالى : { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ } .
مبتدأ وخبر وحال : أي : أي شيء استقر لكم غير مؤمنين .
قال القرطبي : « هذا استفهام يراد به التوبيخ ، أي : أي عذر لكم في ألا تؤمنوا وقد أزيحت العلل » . { والرسول يَدْعُوكُمْ } .
فقوله : { والرسول يَدْعُوكُمْ } جملة حالية من ضمير « تؤمنون » .
قال الزمخشري : « فهما حالان متداخلان » .
و « لتؤمنوا » متعلق ب « يدعو » أي : يدعوكم للإيمان ، كقولك : « دعوته لكذا » .
ويجوز أن تكون « اللام » للعلة ، أي : يدعوكم إلى الجنة وغفران الله لأجل الإيمان .
وفيه بعد .
وهذه الآية تدل على أنه لا حكم قبل ورود الشرع .
قوله : { وَقَدْ أَخَذَ } . حال أيضاً .
وقرأ العامة : « أخَذ » مبنيًّا للفاعل ، وهو الله - تعالى - لتقدّم ذكره .
وقرأ أبو عمرو « أُخِذَ » مبنيًّا للمفعول ، حذف الفاعل للعلم به .
و « ميثاقكم » منصوب في قراءة العامة ، ومرفوع في قراءة أبي عمرو .
و « إن كنتم » جوابه محذوف ، تقديره : فما يمنعكم من الإيمان .
وقيل : تقديره : إن كنتم مؤمنين لموجب ما رتبه ، فهذا هو الموجب .
وقدره ابن عطية : إن كنتم مؤمنين فأنتم في رتبة شريفة .
فصل في المراد بهذا الميثاق
قال مجاهد : المراد بالميثاق هو المأخوذ عليهم حين أخرجهم من ظهر آدم ، وقال : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } [ الأعراف : 172 ] .
قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف؛ لأنه - تعالى - إنما ذكر أخذ الميثاق ليكون ذلك سبباً في أنه لم يبق لهم عُذْر في ترك الإيمان بعد ذلك ، وأخذ الميثاق وقت إخراجهم من ظهر آدم غير معلوم للقوم إلاَّ بقول الرسول .
فقبل معرفة تصديق الرسول لا يكون ذلك سبباً في وجوب تصديق الرسول بل المراد بأخذ الميثاق نصب الدلائل والبينات ، بأن ركب فيهم العقول ، وأقام عليهم الحُجج والدلائل التي تدعو إلى متابعة الرَّسُول ، وهذا معلوم لكل أحد ، فيكون سبباً لوجوب الإيمان بالرسول .
فصل في حصول الإيمان بالعبد .
قال القاضي : قوله : { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ } يدل على قدرتهم على الإيمان ، إذ لا يجوز أن يقال ذلك لمن لا يتمكن من الفعل كما لا يقال : ما لك لا تطول ولا تبيض ، فيدل هذا على أن الاستطاعة قبل الفعل ، وعلى أن القدرة صالحة للضدين ، وعلى أن الإيمان حصل بالعبد لا بخلق الله .
قوله : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي : إذْ كنتم مؤمنين .
وقيل : إن كنتم مؤمنين بالحجج والدليل .
وقيل : إن كنتم مؤمنين بحق يوماً من الأيام ، فالآن فقد صحت براهينه .
وقيل : إن كنتم مؤمنين بأن الله خلقكم كانوا يعترفون بهذا .
وقيل : هذا خطاب لقوم آمنوا ، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ميثاقهم فارتدوا .
وقوله : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي : كنتم تقرُّون بشرائط الإيمان .
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
قوله تعالى : { هُوَ الذي يُنَزِّلُ على عَبْدِهِ } .
تقدمت قراءتا « يُنْزِلُ » تخفيفاً وتشديداً في « البقرة » .
وزيد بن علي : « أنْزَلَ » ماضياً .
وقوله : { آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } يعني القرآن .
وقيل : المعجزات ، أي : لزمكم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لما معه من المعجزات والقرآن أكبرها وأعظمها .
{ لِّيُخْرِجَكُم } أي : بالقرآن .
وقيل : بالرسول .
وقيل : بالدعوة ، { مِّنَ الظلمات } ، وهو الشرك والكفر .
{ إِلَى النور } وهو الإيمان { وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } .
فصل في إرادة الله للإيمان
قال القاضي : هذه الآية تدل على إرادته للإيمان ، أكد ذلك بقوله : { وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } .
فإن قيل : أليس يدل ظاهرها على أنه يخرج من الظلمات إلى النور ، فيجب أن يكون الإيمان من فعله؟ .
قلنا : إذا كان الإيمان بخلقه لا يبقى لقوله : { هُوَ الذي يُنَزِّلُ على عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم } [ الحديد : 9 ] معنى؛ لأن ما يخلقه لا يتغير ، بل المراد أنه يلطف بهم .
قال ابن الخطيب : وهذا على حسنه معارض بالعلم؛ لأنه علم أن إيمانهم لا يوجد فقد كلفهم بما لا يوجد ، فكيف يعقل مع هذا أنه أراد منهم الخير والإحسان ، وحمل بعضهم قوله : { وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } على بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ولا وجه لهذا التخصيص .
قوله تعالى : { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ } .
الكلام فيه كالكلام في قوله : { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ } [ البقرة : 246 ] ، فالأصل : « في ألا تنفقُوا » .
فلما حذف حرف الجر جرى الخلاف المشهور ، وأبو الحسن يرى زيادتها كما تقدم تقريره في البقرة .
قوله : { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ } جملة حالية من فاعل الاستقرار أو مفعوله ، أي : وأي شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله ، والحال أن ميراث السموات والأرض له ، فهذه حال منافية .
فصل في الكلام على الإنفاق
لما أمر أولاً بالإيمان وبالإنفاق ، ثم أكَّده في الآية المتقدمة بإيجاب الإيمان بالله أتبعه في هذه الآية بتأكيد إيجاد الإنفاق ، والمعنى : أنكم ستموتون فتورثون ، فهلا قدّمتموه في الإنفاق على طاعة الله؟ .
وتحقيقه : أن المال لا بد وأن يخرج من اليد ، إما بالموت وإما بالإنفاق في سبيل الله ، فإن خرج بالموت كان أثره اللَّعنُ والمقتُ والطرد والعقاب ، وإن خرج بالإنفاق في سبيل الله كان أثره المدح والثواب وإذا كان لا بد من خروجه من اليد ، فكل عاقل يعلم أن خروجه عن اليد بحيث يستعقب المدح والثواب أولى منه مما يستعقب اللعن والعقاب ، ثم لما بين تعالى أن الإنفاق في سبيل الله فضيلة بيَّن أن المسابقة في الإنفاق تمام الفضيلة ، فقال : { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ } .
قوله : { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ } .
في فاعل « يستوي » وجهان :
أظهرهما : أنه « مَنْ أنفق » وعلى هذا فلا بد من حذف معطوف يتم به الكلام ، فقدره الزمخشري : لا يستوي منكم من أنفق قبل فتح « مكة » وقوة الإسلام ، ومن أنفق من بعد الفتح ، [ فحذف لوضوح الدلالة ] .
[ وقدره أبو البقاء : « ومن لم ينفق » .
قال : ودلّ على المحذوف قوله : { مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح } ] .
والأول أحسن؛ لأن السِّياق إنما جيء بالآية ليفرق بين النَّفقتين في زمانين .
والثاني : أن فاعله ضمير يعود على الإنفاق ، أي : لا يستوي جنس الإنفاق إذ منه ما وقع قبل الفتح ، ومنه ما وقع بعده .
فهذان النَّوعان متفاوتان ، وعلى هذا فيكون « من » مبتدأ ، و « أولئك » مبتدأ ثاني ، و « أعظم » خبره ، والجملة خبر « من » . وهذا ينبغي ألاَّ يجوز ألبتة .
وكأن هذا المعرب غفل عن قوله : « منكم » ، فلو أعرب هذا القائل « منكم » خبراً مقدماً ، و « من » مبتدأ مؤخراً ، والتقدير : منكم من أنفق من قبل الفتح ، ومنكم من لم ينفق قبله ولم يقاتل ، وحذف هذا لدلالة الكلام عليه لكان سديداً ، ولكنه سَهَا عن لفظة « منكم » .
فصل في المراد بالفتح
أكثر المفسرين على أن المراد بالفتح فتح « مكة » .
وقال الشعبي والزهري : فتح « الحديبية » .
قال قتادة : كان قتالان ، أحدهما أفضل من الآخر ، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى؛ لأن القتال والنفقة قبل فتح « مكة » أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك ، وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم ، لأن حاجة النَّاس كانت أكثر لضعف الإسلام ، وفعل ذلك كان على المنفقين حينئذ أشق ، والأجر على قدر النَّصب .
قال مالك رضي الله عنه : ينبغي أن يقدم أهل الفضل والعزم لقوله تعالى : { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ } .
قال الكلبي : نزلت في أبي بكر وفيها دليل واضح على تفضيل أبي بكر وتقديمه؛ لأنه أوَّل من أسلم ، وأول من أنفق في سبيل الله .
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : أوَّل من أظهر الإسلام بسيفه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر .
وعن ابن عمر قال : « كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر ، وعليه عباءة قد خلَّلها في صدره بخلالٍ ، فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام فقال : يا نبي الله ، ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خللها في صدره بخلال؟ قال : » أنْفَقَ مالهُ عليَّ قَبْلَ الفَتحِ « ، قال : فإن الله تعالى يقول لك : اقرأ على أبي بكر السلام ، وقل له : أنت راضٍ في فقرك أم ساخط؟ فقال أبو بكر : إني عن ربي لَراضٍ ، قال : فإن الله - تعالى - يقول لك قد رضيت عنك كما أنت عني راضٍ ، فبكى أبو بكر ، فقال جبريل : والذي بعثك يا محمد بالحق لقد تخلَّلت حملةُ العرش بالعبى منذ تخلَّل صاحبك هذا بالعباءة » .
ولهذا قدمه الصحابة على أنفسهم وأقرُّوا له بالتقدم والسبق .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : سبق النبي صلى الله عليه وسلم وثنى أبو بكر وثلث عمر ، فلا أوتى برجل فضلني على أبي بكر إلا جلدته حد [ المفتري ] ثمانين جلدة وطرح الشهادة .
فصل في التقدم والتأخر في أحكام الدين
فإن قلت : التقدم والتأخر قد يكون في أحكام الدنيا ، فأما في أحكام الدين فقالت عائشة رضي الله عنها : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل النَّاس منازلهم . وأعظم المنازل مرتبة الصلاة .
وقد قال صلى الله عليه وسلم في مرضه : « مُرُوا أبَا بَكْر فليُصَلِّ بالنَّاسِ » .
وقال : « يَؤم القَوْمَ أقرؤهُم لِكتابِ اللَّه » .
وقال : « وليؤمكما أكبركما » .
وفهم منه العلماء أنه أراد كبر المنزلة ، كما قال عليه الصلاة والسلام : « الوَلاَء للْكِبَرِ » ولم يَعْنِ كبر السن .
وقد قال مالك وغيره : إن للسن حقًّا ، وراعاهُ الشَّافعي وأبو حنيفة ، وهو أحق بالمراعاة .
وأما أحكام الدنيا فهي مرتبة على أحكام الدين ، فمن قدم في الدين قدم في الدنيا .
وفي الحديث : « ليْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوقِّر كبِيْرنَا ويرْحَمْ صَغِيْرَنا ويَعرفْ لِعَالِمنَا حقَّهُ » .
وفي الحديث أيضاً : « مَا أكْرَمَ شابٌّ شَيْخاً لسنِّهِ إلاَّ قيَّضَ اللَّهُ لهُ عِندَ سنِّهِ مَنْ يُكرمهُ » .
قوله : { وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } .
قراءة العامة : بالنَّصب على أنَّه مفعول مقدم ، وهي مرسومة في مصاحفهم « وكلاًّ » بألف .
وابن عامر : برفعه .
وفيه وجهان :
أظهرهما : أنه ارتفع على الابتداء ، والجملة بعده خبره ، والعائد محذوف أي : وعده الله .
ومثله : [ الرجز ]
4716- قَدْ أصْبَحَتْ أمُّ الخِيَارِ تَدَّعِي ... عَلَيَّ ذَنْباً كُلُّهُ لَمْ أصْنَعِ
برفع « كلُّه » أي : لم أصنعه .
والبصريون [ رحمة الله عليهم ] لا يجيزون هذا إلاَّ في شعر ، كقوله : [ السريع ]
4717- وخَالِدٌ يَحْمَدُ سَادَاتِنَا ... بالحَقِّ لا يَحْمَدُ بالبَاطِلِ
ونقل ابن مالك الإجماع من البصريين والكوفيين على جواز ذلك إن كان المبتدأ « كُلاًّ » وما أشبهها في الافتقار والعموم .
قال شهاب الدين لم أره لغيره وقد تقدم نحو من ذلك في سورة « المائدة » ، عند قوله تعالى : { أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ } [ المائدة : 50 ] ولم يرو قوله : « كله لم أصنع » إلا بالرفع مع إمكان أن تنصبه ، فتقول : « كله لم أصنع » مفعولاً مقدماً .
قال أهل البيان : لأنه قصد عموم السَّلب لا سلب العموم ، فإن الأول أبلغ ، وجعلوا من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام « كُلُّ ذلِكَ لَمْ يَكُنْ » .
ولو قال : لم يكن كل ذلك ، لكان سلباً للعموم ، والمقصود عموم السَّلب .
قال الشيخ عبد القاهر : المعنى يتفاوت بالرفع والنصب ، فمع الرفع يفيد أنه لم يفعل شيئاً من الأشياء ، ومع النَّصْب يفيد أنه يفعل المجموع ، ولا يلزم أنه لم يفعل البعض ، بل إن قلنا بدليل الخطاب دل على أنه فعل البعض .
والثاني : أن يكون « كلّ » خبر مبتدأ محذوف ، و { وعد الله الحسنى } صفة لما قبله ، والعائد محذوف ، أي : « وأولئك كل وعد الله الحسنى » .
فإن قيل : الحذف موجود أيضاً فقد عدتم لما فررتم منه؟ .
فالجواب : أن حذف العائد من الصفة كثير بخلاف حذفه من الخبر .
ومن حذفه من الصفة قوله : [ الوافر ]
4718- ومَا أدْرِي أغَيَّرَهُمْ تَنَاءٍ ... وطُولُ العَهْدِ أمْ مَالٌ أصَابُوا
أي : أصابوه ، ومثله كثير ، وهي في مصاحف « الشام » مرسومة : « وكلّ » دون ألف فقد وافق كل مصحفه ، و « الحسنى » مفعول ثان ، والأول محذوف على قراءة الرفع .
وأمَّا النصب فالأول مقدّم على عامله .
ومعنى الآية : أن المتقدمين السَّابقين والمتأخرين اللاَّحقين وعدهم الله جميعاً الجنة مع تفاوت الدرجات .
{ والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي : أنه لما وعد السَّابقين والمحسنين بالثواب فلا بد وأن يكون عالماً بالخيرات ، وبجميع المعلُومات حتى يمكنه إيصال الثَّواب إلى المستحقين ، إذ لو لم يكن عالماً بهم ، وبأفعالهم على سبيل التفصيل لما أمكن الخروج من عهدة الوعد بالتَّمام ، فلهذا السَّبب أتبع هذا الوعد بقوله : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)
قوله تعالى : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً } . وقد تقدم في « البقرة » .
ندب إلى الإنفاق في سبيل الله .
وقال ابن عطية : هنا بالرَّفع على العطف ، أو القطع والاستئناف .
وقرأ عاصم : « فيُضَاعفه » بالنصب بالفاء على جواب الاستفهام ، وفي ذلك قلقٌ .
قال أبو علي : لأن السؤال لم يقع على القرضِ ، وإنما وقع عن فاعل القَرْض ، وإنما تنصب الفاء فعلاً مردوداً على فعل مستفهم عنه ، لكن هذه الفرقة حملت ذلك على المعنى ، كأن قوله : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ } بمنزلة قوله : « أيقرض الله أحدٌ » . انتهى .
وهذا الذي قاله أبو علي ممنوع ، ألا ترى أنه ينصب بعد « الفاء » في جواب الاستفهام بالأسماء ، وإن لم يتقدم فعل نحو : أين بيتك فأزورك ومثل ذلك : من يدعوني فأستجيب له ، ومتى تسير فأرافقك ، وكيف تكون فأصحبك ، فالاستفهام إنما وقع عن ذات الدَّاعي ، وعن ظرف الزَّمان ، وعن الحال لا عن الفعل .
وقد حكى ابن كيسان عن العرب : « أين ذهب زيدٌ فنتبعه ، ومن أبوك فنكرمه » .
فصل في المقصود بالقرض
ندب الله تعالى إلى الإنفاق في سبيل الله ، والعرب تقول لكل من فعل فعلاً حسناً : « قد أقرض » .
كما قال بعضهم رحمة الله عليه : [ الرمل ]
4719- وإذَا جُوزيتَ قَرْضاً فاجزه ... إنَّما يَجزي الفَتَى لَيْسَ الجَمَلْ
وسماه قرضاً؛ لأن القرض أخرج لاسترداد البدل ، أي : من ذا الذي ينفق في سبيل الله حتى يبدله الله بالأضعاف الكثيرة .
قال الكلبي : « قرضاً » أي : صدقة .
« حسناً » أي : محتسباً من قلبه بلا منٍّ ولا أدى .
{ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } : ما بين سبع إلى سبعمائة إلى ما شاء الله من الأضعاف .
وقيل القَرْض الحسن هو أن يقول : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر .
وقال زيد بن أسلم : هو النَّفقة على الأهل .
وقال الحسن : التطوُّع بالعبادات .
وقيل : عمل الخير .
وقال القشيري : لا يكون حسناً حتى يجمع أوصافاً عشرة :
الأول : أن يكون من الحلال ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا يَقْبَلُ اللَّهُ صلاةً بِغَيْرِ طهُورٍ ، ولا صَدَقةً مِنْ غُلُولٍ » .
الثاني : أن يكون من أكرم ما يمكنه؛ ولا يخرج الرديء كقوله تعالى : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنفِقُونَ } [ البقرة : 267 ] .
الثالث : أن يتصدق به وهو يحبّه ، ويحتاج إليه لقوله تعالى : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [ آل عمران : 92 ] وقوله : { وَآتَى المال على حُبِّهِ } [ البقرة : 177 ] .
وقال عليه الصلاة والسلام « أفْضَلُ الصَّدقةِ أنْ تُعْطيَهُ وأنْتَ صَحيحٌ شَحِيحٌ تأمْلُ العَيْشَ ولا تمهلُ حتَّى إذا بلغتِ التَّراقي قُلْتَ : لفُلانٍ كذا ، ولفُلانٍ كَذَا » .
الرابع : أن تصرف صدقته إلى الأحوج فالأحوج ، ولذلك خص تعالى أقواماً بأخذها ، وهم أهل المبهمات .
الخامس : أن تخفي الصَّدقة لقوله تعالى : { وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 271 ] .
السادس : ألاَّ يتبعها منًّا ولا أذى ، لقوله تعالى : { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى } [ البقرة : 264 ] .
السابع : أن يقصد بها وجه الله تعالى ، ولا يُرائِي لقوله تعالى : { إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى } [ الليل : 20 ] .
الثامن : أن يستحقر ما يعطي وإن كثر؛ لأن الدُّنيا كلها قليلة ، قال تعالى : { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } [ المدثر : 6 ] في أحد التأويلات .
التاسع : أن يكون من أحبّ الأموال إليه ، وأن يكون كثيراً لقوله عليه الصلاة والسلام « أفْضَلُ الرِّقابِ أغْلاهَا وأنفَسُهَا عِنْدَ أهْلِهَا » .
العاشر : ألا يرى عزَّ نفسه ، وذُلّ الفقير ، بل يكون الأمر بالعكس .
{ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } يعني الجنَّة .
قوله تعالى : { يَوْمَ تَرَى المؤمنين } .
فيه أوجه :
أحدها : أنه معمول للاستقرار العامل في « له أجر » أي : استقر له أجر في ذلك اليوم .
الثاني : أنه مضمر ، أي : اذكر ، فيكون مفعولاً به .
الثالث : أنهم يُؤجَرُون « يوم ترى » فهو ظرف على أصله .
الرابع : أن العامل فيه « يسعى » أي : يسعى نور المؤمنين والمؤمنات يوم تراهم هذا أصله .
الخامس : أن العامل فيه « فيُضَاعفه » . قالهما أبو البقاء .
قوله : « يَسْعَى » حال؛ لأن الرُّؤية بصرية ، وهذا إذا لم تجعله عاملاً في « يوم » ، و « بين أيديهم » ظرف للسعي ، ويجوز أن يكون حالاً من « نورهم » .
قوله : « وبأيمانهم » ، أي : وفي جهة أيمانهم .
وهذه قراءة العامة ، أعني بفتح الهمزة جمع يمين .
وقيل : الباء بمعنى « عن » أي : عن جميع جهاتهم ، وإنما خص الأيمان لأنها أشرف الجهات .
وقرأ أبو حيوة وسهل بن شعيب : بكسرها .
وهذا المصدر معطوف على الظرف قبله ، والباء سببية ، أي : يسعى كائناً وثابتاً بسبب أيمانهم .
وقال أبو البقاء : تقديره : وبأيمانهم استحقُّوه ، أو بأيمانهم يقال لهم : بُشْرَاكُم .
فصل في المراد بهذا اليوم
المراد من هذا يوم المُحاسبة .
واختلفوا في هذا النور .
فقال الحسن : هو الضياء الذي يمرون فيه « بين أيديهم » أي : قدَّامهم .
« وبأيمانهم » ، قال الفرَّاء : « الباء » بمعنى « في » أي : في أيمانهم ، أو بمعنى : « عن أيمانهم » .
وقال الضحاك : النور هُداهم ، وبأيمانهم كتبهم ، واختاره الطبري .
أي : يسعى إيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم ، وفي أيمانهم كتب أعمالهم ، ف « الباء » على هذا بمعنى « في » ، ويجوز على هذا أن يوقف على « بين أيديهم » ولا يوقف إذا كانت بمعنى « عن » .
وعلى قراءة سهل بن شعيب وأبي حيوة : « وبإيمانهم » بكسر الألف ، أراد الإيمان الذي هو ضد الكُفر ، وعطف ما ليس بظرف على الظَّرف لأن معنى الظرف الحال ، وهو متعلق بمحذوف .
والمعنى : يسعى كائناً بين أيديهم ، وكائناً بأيمانهم .
وقيل : أراد بالنور : القرآن .
وعن ابن مسعود : « يؤتون نورهم على قدر أعمالهم ، فمنهم من يؤتى نوره كالنَّخلة ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم ، وأدناهم نوراً من نوره على إبهام رجله ، فيطفأ مرة ويوقد أخرى » .
قال الحسن : ليَسْتَضيئُوا به على الصِّراط .
وقال مقاتل : ليكون لهم دليلاً إلى الجنَّة .
قوله : { بُشْرَاكُمُ اليوم جَنَّاتٌ } .
« بُشْرَاكم » مبتدأ ، و « اليوم » ظرف ، و « جنَّات » خبره على حذف مضاف أي : دخول جنَّات وهذه الجملة في محل نصب بقول مُقدَّر ، وهو العامل في الظرف ، يقال لهم : بُشراكم اليوم دخول جنَّات .
قال القرطبي : « ولا بُدَّ من تقدير حذف المضاف؛ لأن البُشْرَى حدث ، والجنة عين ، فلا تكون هي هي » .
وقال مكي : وأجاز الفراء نصب « جنَّات » على الحال ، ويكون « اليوم » خبر « بشراكم » قال : « وكون » جنَّات « حالاً لا معنى له؛ إذ ليس فيها معنى فعل ، وأجاز أن يكون » بُشْرَاكم « في موضع نصب على » يبشرونهم بالبُشْرَى « ، وينصب » جنات « بالبشرى وكله بعيد ، لأنه يفصل بين الصلة والموصول باليوم » . انتهى .
وعجيب من الفرَّاء كيف يصدر عنه ما لا يتعقّل ، ولا يجوز صناعة ، كيف تكون جنات حالاً ، وماذا صاحب الحال؟ .
وقوله : { خَالِدِينَ فِيهَا } حال من الدخول المحذوف ، التقدير : بشراكم اليوم دخول الجنة جنات تجري من تحتها الأنهار مقدرين الخلود فيها .
قال القرطبي : « ولا تكون الحال من » بشراكم « لأن فيه فصلاً بين الصلة والموصول ، ويجوز أن تكون مما دلّ عليه البشرى كأنه قال : يبشرون خالدين فيها ، ويجوز أن يكون الظَّرف الذي هو » اليوم « خبراً عن » بشراكم « ، و » جنات « بدلاً من البشرى على تقدير حذف المضاف كما تقدم ، و » خالدين « حال حسب ما تقدم » .
فصل في العامل في قوله : « خالدين »
قال شهاب الدِّين : « خالدين » نصب على الحال ، والعامل فيها المضاف محذوف ، إذ التقدير : بُشْرَاكم دخولكم جنات خالدين فيها ، فحذف الفاعل وهو ضمير المخاطب ، [ وأضيف المصدر لمفعوله ، فصار دخول جنات ] ، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف فيه مقامه في الإعراب ، ولا يجوز أن يكون « بشراكم » هو العامل فيها؛ لأنه مصدر ، وقد أخبر عنه قبل ذكر متعلقاته ، فيلزم الفصل بأجنبي ، وظاهر كلام مكي أنه عامل في الحال ، فإنه قال : « خالدين » نصب على الحال من الكاف والميم ، والعامل في الحال هو العامل في صاحبها فيلزم أن يكون « بشراكم » هو العامل ، وفيه ما تقدم من الفصل بين المصدر ومعموله .
فصل في كون الفاسق مؤمناً أم لا
قال ابن الخطيب : تقدم في الكلام البشارة عند قوله : { وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ } [ البقرة : 25 ] . وهذه الآية تدل على أن المؤمنين لا ينالهم أهوال يوم القيامة؛ لأنه تعالى بين أن هذه صفتهم يوم القيامة من غير تخصيص .
قال الكعبي : هذه الآية تدلّ على أن الفاسق ليس بمؤمن؛ لأنه لو كان مؤمناً لدخل تحت هذه البشارة ، ولو كان كذلك لقطع بأنه من أهل الجنَّة؛ [ ولما لم يكن كذلك ثبت أنه ليس بمؤمن ] .
أجاب ابن الخطيب : [ بأنا نقطع بأن الفاسق من أهل الجنة ] ، لأنه إما أن يدخل النار ، أو أنه ممن دخلها ، لكنه سيخرج منها ، وسيدخل الجنة ، ويبقى فيها أبد الآباد ، فإذن يقطع بأنه من أهل الجنة ، فسقط الاستدلال .
قوله : « ذلك الفوز » هذه الإشارة عائدة إلى جميع ما تقدم من النور والبشرى بالجنَّات المخلدة .
قوله : { يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات } .
العامل في « يوم » « ذلك الفوز العظيم » .
وقيل : « هو بدل من اليوم الأول » .
وقال ابن الخطيب منصوب ب « اذْكر » مقدًّرا .
واعلم أنه لما شرح حال المؤمنين في موقف القيامة أتبع ذلك بشرح حال المنافقين ، فقال : يوم يقول .
قوله : { لِلَّذِينَ آمَنُواْ } . « اللام » للتبليغ .
و { انظرونا نقتبس من نوركم } قراءة العامة : « انْظُرونَا أمر من النَّظر » .
وحمزة : « أنْظِرُونا » بقطع الهمزة ، وكسر الظَّاء من الإنظار بمعنى الانتظار .
وبها قرأ الأعمش ، ويحيى بن وثَّاب ، أي : انتظرونا لنلحق بكم ، فنستضيء بنوركم .
والقراءة الأولى يجوز أن تكون بمعنى هذه ، إذ يقال : نظره بمعنى انتظره ، وذلك أنَّه يسرع بالخواص على نُجُب إلى الجنة ، فيقول المنافقون : انتظرونا لأنَّا مُشَاة لا نستطيع لحوقكم ، ويجوز أن يكون من النظر وهو الإبصار؛ لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم ، فيضيء لهم المكان ، وهذا أليق بقوله : { نقتبس من نوركم } . قال معناه الزمخشري .
إلاَّ أن أبا حيان قال : إن النَّظر بمعنى الإبصار لا يتعدى بنفسه إلا في الشِّعر ، إنما يتعدى ب « إلى » .
قوله : { نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } أي : نستضيء من نوركم .
و « القَبَس » : الشعلة من النار أو السِّراج .
قال ابن عبَّاس وأبو أمامة : يغشى الناس يوم القيامة ظلمة .
قال الماوردي : أظنّها بعد فصل القضاء ، ثم يعطون نوراً يمشون فيه .
قال المفسّرون : يعطي الله كل أحد يوم القيامة نوراً على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط ، ويعطي المنافقين [ نوراً خديعة لهم ، بدليل قوله تعالى : { وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] .
وقيل : إنما يعطون النور؛ لأن جميعهم أهل دعوة ] دون الكافر ، ثم يسلب المنافق نوره لنفاقه . قاله ابن عباس .
وقال أبو أمامة : يعطى المؤمن النور ، ويترك الكافر والمنافق بلا نور .
وقال الكلبي : بل يستضيء المنافق بنور المؤمنين ، [ فبينما هم يمشون إذ بعث الله ريحاً وظلمة فأطفأ بذلك نور المنافقين ، فذلك قول المؤمنين ] : { رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } [ التحريم : 8 ] خشية أن يسلبوه كما سلبه المنافقون ، فإذا بقي المنافقون في الظلمة ، فإنهم لا يبصرون مواضع أقدامهم ، قالوا للمؤمنين : { انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } . قيل : ارجعُوا « وراءكم » ، أي : إلى المواضع التي أخذنا منها النور ، فاطلبوا هناك نوراً لأنفسكم ، فإنكم لا تقتبسون من نورنا ، فلما رجعوا وانعزلوا في طلبِ النور « ضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ » .
وقيل : معناه هلاَّ طلبتم النور من الدنيا بأن تؤمنوا؟ .
قوله : « وراءكم » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه منصوب ب « ارجعوا » على معنى ارجعوا إلى الموقف إلى حيث أعطينا هذا النور ، فالتمسوا هناك ممن يقتبس ، أو ارجعوا إلى الدُّنيا فالتمسوا نوراً بتحصيل سببه ، وهو الإيمان ، أو يكون معناه : فارجعوا خائبين وتنحّوا عنَّا فالتمسوا نوراً آخر ، فلا سبيل لكم إلى هذا النور .
والثاني : أن « وَرَاءكُم » اسم للفعل فيه ضمير فاعل ، أي : ارجعوا « رجوعاً » قاله أبو البقاء .
ومنع أن يكون ظرفاً ل « ارجعوا » .
قال : لقلّة فائدته؛ لأن الرُّجوع لا يكون إلاَّ إلى وراء .
قال شهاب الدين : « وهذا فاسد؛ لأن الفائدة جليلة كما تقدم شرحها » .
قوله : { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ } .
العامة على بنائه للمفعول ، والقائم مقام الفاعل يجوز أن يكون « بِسُورٍ » وهو الظاهر ، وأن يكون الظرف .
وقال مكي : « الباء » مزيدة ، أي : ضرب سور . ثم قال : « والباء متعلقة بالمصدر أي : ضرباً بسور » .
وهذا متناقض ، إلاَّ أن يكون قد غلط عليه من النساخ ، والأصل : والباء متعلقة بالمصدر ، والقائم مقام الفاعل الظرف ، وعلى الجملة هو ضعيف ، والسور : البناء المحيط وتقدم اشتقاقه في أول البقرة .
قوله : « لَهُ بابٌ » . مبتدأ وخبر في موضع جرّ صفة ل « سُور » .
وقوله : { بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة } هذه الجملة يجوز أن تكون في موضع جر صفة ثانية ل « سور » ، ويجوز أن تكون في موضع رفع صفة ل « باب » ، وهو أولى لقربه ، والضمير إنما يعود إلى الأقرب إلا بقرينة .
وقرأ زيد بن علي ، وعمرو بن عبيد : « فضرب » مبنيًّا للفاعل ، وهو الله أو الملك .
فصل في المراد بالسور
« السور » : حاجز بين الجنة والنار .
قال القرطبي : « روي أن ذلك السُّور ب » بيت المقدس « عند موضع يعرف ب » وادي جهنم « فيه الرَّحْمَة يعني : ما يَلِي منه المؤمنين ، وظاهره من قبله العذاب يعني : ما يلي المنافقين » .
قال كعب الأحبار رضي الله عنه : هو الباب الذي ب « بيت المقدس » المعروف ب « باب الرحمة » .
وقال عبد الله بن عمرو : إنه سور ب « بيت المقدس » الشرقي ، باطنه فيه المسجد ، وظاهره من قبله العذاب ، يعني : جهنم ونحوه عن ابن عباس .
وقال زياد بن أبي سوادة : قام عبادة بن الصَّامت على سُور ب « بيت المقدس » الشرقي فبكى ، وقال : من هاهنا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جهنم .
وقال قتادة : هو حائط بين الجنَّة والنار ، { باطنه فيه الرحمة } يعني : الجنة ، { وظاهره من قبله العذاب } يعني : جهنم .
وقال مجاهد : إنَّه حجاب . كما في « الأعراف » وقد مضى القول فيه .
وقد قيل : إن الرحمة التي في باطنه نور المؤمنين ، والعذاب الذي هو في ظاهره ظلمة المنافقين .
وقيل : السُّور عبارة عن منع المنافقين عن طلبِ المؤمنين .
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
قوله : { يُنَادُونَهُمْ } يجوز أن يكون حالاً من الضمير في « بينهم » . قاله أبو البقاء .
وهو ضعيف لمجيء الحال من المضاف إليه في غير المواضع المستثناة .
وأن تكون مستأنفة ، وهو الظاهر .
وقوله : { أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } يجوز أن يكون تفسيراً للنداء ، وأن يكون منصوباً بقول مقدّر .
فصل في معنى الآية
والمعنى : ينادي المنافقون المؤمنين { ألم نَكُنْ معكم } يعني : في الدنيا نصلّي مثل ما تصلّون ، ونغزو مثل ما تَغْزُون ، ونفعل مثل ما تفعلون؟ .
« قالوا : بَلَى » ، أي : يقول المؤمنون : بلى ، قد كُنتم معنا في الظَّاهر ، { ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ } أي : استعملتموها في الفتنة .
وقال مجاهد : أهلَكْتمُوهَا بالنِّفاق .
وقيل : بالمعاصي . قاله أبو سنان . وقال أبو نمير الهمداني : بالشهوات واللَّذَّات .
وقوله : « وتربّصتم » أي : بالنبي صلى الله عليه وسلم الموت ، وبالمؤمنين الدَّوائر .
وقيل : تربَّصتم بالتوبة .
« وارْتَبْتُمْ » أي : شككتم في التوحيد ، أو النبوة ، أو البعث .
« وغرَّتكم الأماني » أي : الأباطيل .
وقيل : طول الأمل ، وهو ما كانوا يتمنّونه من ضعف المؤمنين ، ونزول الدَّوائر بهم .
وقال قتادة : الأماني هنا خدعُ الشيطان .
وقيل : الدنيا ، قاله عبد الله بن عباس .
وقال أبو سنان : هو قولهم : « سيغفر لنا » .
وقال بلال بن سَعْدٍ : ذكرك حسناتك ، [ ونسيانك ] سيئاتك غِرَّةً { حتَّى جاء أمر الله } يعني : الموت .
وقيل : نُصْرة نبيه صلى الله عليه وسلم .
وقال قتادة : إلقاؤهم في النَّار .
قوله : { وَغَرَّكُم بالله الغرور } .
قرأ العامة : « الغَرُور » بفتح الغين ، وهو صفة على « فعول » ، والمراد به : الشَّيْطان ، أي : خدعكم بالله الشيطان .
وقرأ أبو حيوة ، ومحمد بن السميفع ، وسماك بن حَرْب : « الغُرُور » بالضم ، وهو مصدر ، والمراد به الأباطيل .
« عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خطَّ لنا خُطُوطاً ، وخط منها خطًّا ناحية ، فقال : » أتَدْرُونَ مَا هَذَا؟ هَذَا مِثْلُ ابْنِ آدَمَ ومِثْلُ التمنِّي ، وتِلْكَ الخُطُوطُ الآمَالُ ، بَيْنَمَا يتمنَّى إذْ جَاءَهُ المَوْتُ « » .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : « خطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًّا مربَّعاً وخط في وسطه خطًّا ، وجعله خارجاً منه ، وخط عن يمينه ويساره خطوطاً صغاراً ، فقال : » هَذَا ابْنُ آدَمَ وهَذَا أجَلُهُ يُحيطُ بِهِ ، وهذا أمَلُهُ قَدْ جَاوَزَ أجَلَهُ ، وهذه الخُطُوطُ الصِّغَارُ الأعْرَاضُ فإنْ أخْطَأهُ هذا نَهَشَهُ هذا « » .
قوله : « فَاليَوْمَ » منصوب ب « يؤخذ » ، ولا يبالي ب « لا » النافية ، وهو قول الجمهور وقد تقدم آخر « الفاتحة » ثلاثة أقوال . وقرأ ابن عامر : « تؤخذ » بالتأنيث للفظ الفدية .
والباقُون : بالياء من تحت؛ لأن التأنيث مجازي .
فصل في المراد بالفدية
قوله : { فاليوم لا يؤخذ منكم فدية } أيها المنافقون ، { ولا من الذين كفروا } أي : أيأسهم من النَّجاة . والمراد بالفدية قيل : لا يقبل منكم إيمان ، ولا توبة؛ لأن التكليف قد زال وحصل الإلحاد .
وقيل : لا يقبل منكم فدية تدفعون بها العذاب عن أنفسكم كقوله تعالى : { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ } [ البقرة : 123 ] ، والفدية : ما يفتدى به ، فهو يتناول الإيمان والتوبة والمال .
قال ابن الخطيب : وهذا يدلُّ على أن قبُول التَّوبة غير واجب عقلاً على ما يقوله المعتزلة؛ لأنه - تعالى - بين أنه لا يقبل الفدية أصلاً ، والتوبة فدية ، فتكون الآية دالة على أنَّ التوبة غير مقبولة أصلاً ، وإذا كان كذلك لم تكن التوبة واجبة القبول عقلاً .
قوله : { وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ } .
عطف الكافر على المنافق ، والعطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه ، فيقتضي أن يكون المنافق كافراً؟ .
وأجيب بأن المراد منه الذين أظهروا الكفر ، وإلاَّ فالمنافق كافر .
قوله : { مَأْوَاكُمُ النار } أي : هي مصيركم .
وقوله : { هِيَ مَوْلاَكُمْ } يجوز أن يكون مصدراً أي : ولايتكم ، أي : ذات ولايتكم .
قال القرطبي : « تملك أمرهم ، بمعنى أن الله - تعالى - يركب فيها الحياة والعقل ، فهي تتميز غيظاً على الكُفَّار ، ولهذا خوطبت في قوله تعالى : { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ ق : 30 ] .
ويجوز أن يكون مكاناً ، أي : مكان ولايتكم ، وأن يكون بمعنى أولى بكم ، كقوله تعالى : { هِيَ مَوْلاَكُمْ } قاله الكلبي ، وهو قول الزجاج والفراء وأبي عبيدة » .
قال ابن الخطيب : وهذا الذي قالوه معنى ، وليس تفسيراً للفظ ، لأنه لو كان « مولى وأولى » بمعنى واحد في اللغة لصحّ استعمال كل واحد منهما مكان الآخر ، وكان يجب أن يصحّ أن يقال : هذا أولى فلان ، كما يقال : مولى فلان ، ولما بطل ذلك علمنا أن الذي قالوه معنًى ، وليس بتفسير ، وإنما نبَّهنا على هذه الدقيقة؛ لأن الشريف المرتضى لما تمسك في إمامة علي - رضي الله عنه - بقوله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فعليٌّ مَولاهُ » قال : أحد معاني « مولى » أنه أولى . واحتج في ذلك بأقوال أئمة اللغة في تفسير هذه الآية ، بأن « مولى » معناه « أولى » إذا ثبت أن اللفظ محتمل له وجب حمله عليه؛ لأن ما عداه إمَّا بَيِّنُ الثبوت ككونه ابن العم والنَّاصر ، أو بَيِّنُ الانتفاء كالمعتِق ، والمعتَق ، فيكون على التقدير الأول عبثاً ، وعلى الثاني كذباً .
قال ابن الخطيب رحمه الله : وأما نحن فقد بيَّنا بالدليل أن قول هؤلاء في هذا الموضع معنى لا تفسير ، وحينئذ يسقط الاستدلال به .
وفي الآية وجه آخر ، وهو أن معنى قوله : « هي مولاكم » أي : لا مولى لكم؛ لأن من كانت النار مولاه ، فلا مولى له ، كما يقال : ناصره الخذلان ومعينه البكاء ، أي : لا ناصر له ولا معين ، وهذا متأكد بقوله تعالى :
{ وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ } [ محمد : 11 ] ، ومنه قوله تعالى : { يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل } [ الكهف : 29 ] .
وقوله : { وَبِئْسَ المصير } أي : هي ، ومعناه : ساءت مرجعاً ومصيراً .
قوله : { أَلَمْ يَأْنِ } .
قرأ العامة : « ألم » . وقرأ الحسن وأبو السمال : « ألمَّا » .
وأصلها « ألم » زيدت عليها « ما » ، فهي نفي كقول القائل : قد كان كذا ، و « لم » نفي ، كقوله : قد كان كذا .
وقوله : { أَن تَخْشَعَ } . فاعل « يأن » ، أي : ألم يقرب خشوع قلوبهم ويحينُ؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
4720- ألَمْ يَأنِ لِي يا قَلْبُ أنْ أتْرُكَ الجَهْلاَ ... وأنْ يُحْدِثَ الشَّيْبُ المُبِيْنُ لنَا عَقْلا
وماضيه « أنى » بالقصر « يأني » .
ويقال : « آن لك - بالمد - أن تفعل كذا يَئِينُ أيْناً » أي : مثل « أنى لَكَ » وهو مقلوب منه .
وأنشد ابن السِّكِّيت : [ الطويل ]
4721- ألَمَّا يَئِنْ لِي أنْ تُجَلَّى عَمايَتِي ... وأقْصُرُ عَنْ لَيْلَى بَلَى قَدْ أنَى لِيَا
فجمع بين اللغتين .
وقرأ العامة : « يأن » مضارع « أنى » أي : حان وقرب ، مثل رمى يرمي .
والحسن : « يئن » مضارع « آن » بمعنى « حان » أيضاً ، مثل : « باع يبيع » .
و « اللام » للتبيين . قاله أبو البقاء ، فعلى هذا يتعلق بمحذوف ، أي : أعني للذين .
فصل في نزول هذه الآية
في « صحيح مسلم » ، عن ابن مسعُود قال : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق } إلا أربع سنين .
قال الخليل : العِتَاب مخاطبة الإذلال ، ومذاكرة الموجدة . تقول : عاتبت معاتبة .
« أن تخْشعَ » ، أي : تذل وتلين { قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق } .
« وروي أن المزاح والضحك كثر في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ترفهوا ب » المدينة « فنزلت الآية ، ولما نزلت هذه الآية قال عليه الصلاة والسلام : » إنَّ الله يَسْتَبْطِئكُمُ بالخُشُوعِ « فقالوا عند ذلك : خشعنا » .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إنَّ الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن .
وقيل : نزلت في المنافقين بعد الهجرة ، وذلك لما سألوا سلمان أن يحدثهم بعجائب التوراة ، فنزلت : { الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين } [ يوسف : 1 ] إلى قوله : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص } [ يوسف : 3 ] فأخبرهم أن القصص أحسن من غيره ، وأنفع لهم ، فكفُّوا عن سلمان ، ثم سألوه مثل الأول ، فنزلت : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا } [ الآية ، فعلى هذا التأويل يكون { فالذين ءَامَنُواْ } في العلانية باللسان ] .
وقال السُّدي وغيره : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا } بالظَّاهر وأسرُّوا الكفر { أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله } .
وقيل : نزلت في المؤمنين .
قال سعد : قيل : يا رسول الله ، لو قصصت علينا؟ فنزل : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص } [ يوسف : 3 ] فقالوا بعد زمان : لو حدثتنا ، فنزل قوله : { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث } [ الزمر : 23 ] فقالوا بعد مدة : لو ذكرتنا ، فأنزل الله تعالى : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله } الآية .
وقيل : هذا خطاب لمن آمن بموسى وعيسى دون محمد - عليهم الصلاة والسلام - لأنه قال عقيبه : { والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ } [ الحديد : 19 ] أي : ألم يأن للذين آمنوا بالتوراة والإنجيل أن تلين قلوبهم للقرآن ، وألاَّ يكونوا كمتقدمي قوم موسى وقوم عيسى؛ إذ طال عليهم الأمد بينهم وبين نبيهم ، فقَسَتْ قلوبهم .
قوله : { وَمَا نَزَلَ } .
قرأ نافع وحفص : « نَزَل » مخففاً مبنيًّا للفاعل .
وباقي السبعة كذلك إلاَّ أنها مشددة .
والجحدري وأبو جعفر والأعمش وأبو عمرو في رواية : « ما نزّل » مشدداً مبنيًّا للمفعول .
وعبد الله : « أنْزَل » مبنيًّا للفاعل ، وهو الله تعالى .
و « ما » في قراءة « ما نزل » مخففاً ، يتعين أن تكون اسمية ، ولا يجوز أن تكون مصدرية لئلا يخلو الفعل من الفاعل ، وما عداها يجوز أن تكون مصدرية ، وأن تكون بمعنى « الذي » .
فإن قلت : فقراءة الجحدري ومن معه ينبغي أن تكون فيها اسمية لئلاَّ يخلو الفعل من مرفوع؟ فالجواب : أن الجار وهو قوله : « من الحقّ » يقوم مقام الفاعل .
فصل في معنى الآية
قال ابن الخطيب : يحتمل أن يكون المراد بذكر الله ، وما نزل من الحق هو القرآن؛ لأنه جامع للوصفين الذِّكر والموعظة ، وأنه حق نازل من السماء ، ويحتمل أن يكون المراد هو ذكر الله مطلقاً ، و { ما نزل من الحقّ } هو القرآن ، وإنما قدم الخشوع بالذكر على الخشوع بما نزل من القرآن؛ لأن الخشوع والخوف والخشية لا تحصل إلا عند ذكر الله تعالى ، فأما حصولها عند سماع القرآن ، فذلك لأجل اشتمال القرآن على ذكر الله .
قوله : { وَلاَ يَكُونُواْ } .
قرأ العامة : بالغيبة جرياً على ما تقدم .
وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة : ب « التاء » من فوق على سبيل الالتفات .
قال القرطبي : وهي رواية رويس عن يعقوب ، وهي قراءة عيسى ، وابن إسحاق .
ثم هذا يحتمل أن يكون منصوباً عطفاً على « يخشع » كما في قراءة الغيبة ، وأن يكون نهياً ، فتكون « لا » ناهية والفعل مجزوم بها .
ويجوز أن يكون نهياً في قراءة الغيبة أيضاً ، ويكون ذلك انتقالاً إلى نهي أولئك المؤمنين عن كونهم مشبهين لمن تقدمهم نحو « لا يَقُمْ زيد » .
قوله : { فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد } .
قرأ العامة : بتخفيف الدال بمعنى الغاية ، كقولك : أمد فلان ، أي : غايته .
وقرأ ابن كثير في رواية بتشديدها؛ وهو الزمن الطَّويل .
فصل في معنى الآية
معنى الآية لا تسلكوا سبيل اليهود والنصارى أعطوا التوراة والإنجيل ، فطالت الأزمان لهم .
قال ابن مسعود رضي الله عنه : إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمدُ قست قلوبهم ، فاخترعوا كتاباً من عند أنفسهم استحلته أنفسهم ، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم حتَّى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، كأنهم لا يعلمون ، ثم اصطلحوا على أن يرسلوه إلى عالم من علمائهم ، وقالوا : إن هو تابعنا لم يخالفنا أحد ، فإن أبى قتلناه ، فلا يختلف علينا بعده أحد ، فأرسلوا إليه ، فكتب كتاب الله في ورقةٍ ، وجعلها في عنقه ، ثم لبس عليه ثياباً وأتاهم ، فعرضوا عليه كتابهم ، وقالوا : أتؤمن بهذا؟ فضرب بيده على صدره وقال : آمنت بهذا - يعني المعلق على صدره - فافترقت بنو إسرائيل على بضع وسبعين [ ملة ] ، وخير مللهم أصحاب ذي القرن؛ قال عبد الله : ومن يَعِشْ منكم فسيرى منكراً ، ويجب على أحدكم إذا رأى المنكر لا يستطيع أن يغيره أن يعلم الله من قلبه أنه له كارهٌ .
وقال مقاتل : يعني مؤمني أهل الكتاب طال عليهم الأمدُ ، واستبطئوا بعث النبي صلى الله عليه وسلم { فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } يعني : الذين ابتدعوا الرَّهبانية أصحاب الصوامع .
وقيل : من لا يعلم ما يتديّن به من الفقه ، ويخالف من يعلم .
[ وقيل : هم من لا يؤمن في علم الله تعالى ، وقال ابن عباس : مالوا إلى الدنيا ، وأعرضوا عن مواعط الله .
وقيل : ] طالت أعمارهم في الغفلة ، فحصلت القَسْوة في قلوبهم بذلك السبب .
[ وقيل غير ذلك .
وقوله : { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } أي : خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين ، ] وكأنه أشار إلى أن عدم الخشوع في أول الأمر يفضي إلى الفِسْقِ في آخر الأمر .
قوله تعالى : { اعلموا أَنَّ الله يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } .
أي : يحييها بالمطر .
وقال صالح المري : يلين القلوب بعد قسوتها .
وقال جعفر بن محمد : يحييها بالعدلِ بعد الجورِ .
وقيل : المعنى : وكذلك يحيي الكافر بالهدى إلى الإيمان بعد الكفر والضلالة .
وقيل : كذلك يحيي الموتى من الأمم ، ويميز بين الخاشع قلبه ، وبين الفاسق قلبه .
{ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي : إحياء الله الأرض بعد موتها دليل على قدرة الله ، وأنه يحيي الموتى .
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
قوله تعالى : { إِنَّ المصدقين والمصدقات } .
خفف الصاد منهما ابن كثير ، وثقلها باقي السَّبعة .
فقراءة ابن كثير من التصديق ، أي : صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به ، كقوله : { والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ } [ الزمر : 33 ] ، وقراءة الباقين من الصدقة وهو مناسب لقوله : « وأقرضوا » والأصل : المتصدّقين والمتصدّقات ، فأدغم ، وبها قرأ أبي .
وقد يرجح الأول بأن الإقْرَاض مُغنٍ عن ذكر الصدقة .
قوله : « وأقْرَضُوا » فيه ثلاثة أوجه :
[ أحدها ] : أنه معطوف على اسم الفاعل في « المصدّقين »؛ لأنه لما وقع صلة ل « ال » حل محل الفعل ، كأنه قيل : إن الذين صدقوا وأقرضوا ، وعليه جمهور المعربين ، وإليه ذهب الفارسي ، والزمخشري ، وأبو البقاء .
وهو فاسد؛ لأنه يلزم الفصل بين أبعاض الصِّلة بأجنبي ، ألا ترى أنَّ « المصدقات » عطف على « المصدقين » قبل تمام الصِّلة ، ولا يجوز أن يكون عطفاً على « المصدقات » لتغايُر الضمائر تذكيراً وتأنيثاً .
الثاني : أنه معترض بين اسم « إن » وخبرها ، وهو « يضاعف » .
قال أبو البقاء : « وإنما قيل ذلك لئلاَّ يعطف الماضي على اسم الفاعل » .
قال شهاب الدين : « ولا أدري ما هذا المانع؛ لأن اسم الفاعل متى وقع صلة ل » ال « صلح للأزمنة الثلاثة ، ولو منع بما ذكرته من الفصل بأجنبي لأصاب ، ولكن خفي عليه كما خفي على الفارسي والزمخشري » .
الثالث : أنه صلةٌ لموصول محذوف لدلالة الأول عليه ، كأنه قيل : « الذين أقرضوا »؛ كقوله : [ الوافر ]
4722- أمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّه مِنْكُمْ ... ويَنْصُرهُ ويمْدَحهُ سَوَاءُ؟
أي : ومن ينصره ، واختاره أبو حيان .
قال ابن الخطيب : وفي الآية إشكال ، وهو أن عطفه الفعل على الاسم قبيحٌ ، فما فائدة التزامه هنا؟ .
وأجاب بأن الزمخشري قال : « وأقرضوا » معطوف على معنى الفعل في التصديق؛ لأن « اللام » بمعنى « الذين » ، واسم الفاعل بمعنى « صدقوا وأقرضوا » .
قال : وهذا لا يزيل الإشكال ، فإنه ليس فيه بيان أنه لم عدل عن ذلك اللفظ [ إلى هذا اللفظ ] .
والذي عندي فيه أن الألف واللام في « المصدّقين والمصدّقات » للمعهود ، فكأنه ذكر جماعة معينين بهذ الموصف ، ثم قبل ذكر الخبر أخبر عنهم بأنهم أتوا بأحسن أنواع الصدقة ، وهو القرضُ ، ثم ذكر الخبر بعد ذلك فقال : « يُضَاعَفُ لَهُمْ » .
فقوله : « وأقرضوا »؛ كقوله : [ السريع ]
4723- إنَّ الثَّمَانينَ وبُلِّغْتَهَا ..
قوله : { يُضَاعَفُ لَهُمْ } في القائم مقام الفاعل وجهان :
أظهرهما : أنه الجار بعده .
والثاني : أنه ضمير التصديق ، ولا بد من حذف مضاف ، أي : ثواب التصديق .
وقرأ الأعمش؛ « يُضَاعِفُهُ » بكسر العين ، وزيادة هاء .
وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب : « يُضَعَّفُ » بتشديد العين وفتحها .
{ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ } يعني : الجنة .
قوله : { والذين آمَنُواْ } مبتدأ ، و « أولئك » مبتدأ ثانٍ ، و « هم » يجوز أن يكون مبتدأ ثالثاً ، و « الصديقون » خبره ، وهو مع خبره خبر الثاني ، والثاني وخبره خبر الأول ، ويجوز أن يكون « هم » فصلاً ، و « أولئك » وخبره خبر الأول .
« والصِّديق » : هو الكثير الصِّدق .
وقال مجاهد : من آمن بالله ورسوله فهو صديق ، وتلا هذه الآية .
وقال الضحاك : هم ثمانية نفر من هذه الأمة سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام : أبو بكر ، وعلي ، وزيد ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وحمزة ، وتاسعهم عمر بن الخطاب ، ألحقه بهم لما عرف من صدق نيته .
قوله : { والشهدآء } . يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنه معطوف على ما قبله ، ويكون الوقف على « الشهداء » تامًّا ، أخبر عن « الذين آمنوا » أنهم صديقون شهداء .
فإن قيل : الشهداء مخصوصون بأوصاف أخر زائدة على ذلك كالتسعة المذكورين .
أجيب : بأن تخصيصهم بالذكر لشرفهم على غيرهم لا للحصر .
والثاني : أنه مبتدأ ، وفي خبره وجهان :
أحدهما : أنه الظرف بعده .
والثاني : أنه قوله « ولهم أجرهم » ، إما الجملة ، وإما الجار وحده ، والمرفوع فاعل به ، والوقف لا يخفى على ما ذكرناه من الإعراب .
والصِّدِّيق : مثال مبالغة ، ولا يجيء إلا من ثلاثي غالباً .
قال بعضهم : وقد جاء « مِسِّيك » من « أمسك » ، وهو غلط؛ لأنه يقال : « مسك » ثلاثياً ، ف « مسّيك » منه .
فصل في المراد بالصديقين والشهداء
قال مجاهد وزيد بن أسلم : إن الشهداء والصديقين هم المؤمنون ، وأنه متصل ، وروي معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا قول ابن مسعود في تأويل الآية .
قال القشيري : قال الله تعالى : { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين } .
ف « الصديقون » هم الذين يلون الأنبياء .
و « الشهداء » هم الذين يلون الصديقين و « الصالحون » يلون الشهداء ، فيجوز أن تكون هذه الآية في جملة من صدق بالرسل .
والمعنى : والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء ، ويكون المعني بالشهداء من شهد لله بالوحدانية ، أنهم شهداء عند ربهم على العباد في أعمالهم ، والمراد أنهم عدول في الآخرة الذين تقبل شهاداتهم .
وقال الحسن : كل مؤمن فإنه شهيد كرامة .
وقال الفراء والزجاج : هم الأنبياء؛ لقوله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً } [ النساء : 41 ] .
وقال ابن جرير : « الشهداء » هم الذين استشهدوا في سبيل الله .
« وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » ما تَعُدُّون الشُّهداء فيْكُمْ «؟ قالوا : المقتول ، فقال : » إنَّ شُهَداء أمَّتِي إذاً لقَلِيلٌ « » .
وعلى هذا يكون منقطعاً عما قبله ، وتكون « الواو » في « والشهداء » واو الاستئناف ، وهذا مروي عن ابن عباس ومسروق .
وقوله : { لَهُمْ أَجْرُهُمْ } مما عملوا من العمل الصالح . و « نورهم » على الصراط .
ثم لما ذكر حال المؤمنين أتبعه بذكر حال الكافرين ، فقال : { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا ، أولئك أصحاب الجحيم } . ولما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين ذكر بعده ما يدلّ على حقارة الدنيا ، وكمال حال الآخرة ، فقال :
{ اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } .
« ما » صلة ، أي : حياة هذه الدار لعبٌ باطل لا حاصل له ، وهو فرح ثم ينقضي ، وزينة ومنظر تتزيَّنُون به .
قوله : { وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ } .
العامة على تنوين « تَفَاخُر » موصوف بالظرف ، أو عامل فيه .
والسلمي أضافه إليه ، أي : يفخر به بعضكم على بعض .
قال المفسرون : « اللّعب » : الباطل ، « واللَّهْو » : الفرح .
وقال قتادة : « لعب ولهو » : أكل وشرب .
وقال مجاهد : كل لعب لهو .
وقيل : « اللعب » : ما رغب في الدنيا ، « واللّهو » : ما ألْهى على الآخرة .
قوله : { وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال والأولاد } .
قال ابن عبَّاس : يجمع المال في سخطِ الله ، ويباهي به على أولياء الله ، ويصرفه في مساخط الله ، فهي ظلمات بعضها فوق بعض ، وكان من عادة الجاهلية أن يتكاثروا بالأموال والأولاد .
قال بعض المتأخرين : « لعب » كلعب الصبيان ، « ولهو » كلهو الفتيان « وزينة » كزينة النِّسْوان « وتفاخُر » كتفاخُر الأقران « وتَكاثُر » كتكاثُر الدُّهقان .
وقال علي - رضي الله عنه ل « عمار » : لا تحزن على الدُّنيا ، فإن الدنيا ستة أشياء : مأكول ، ومشروب ، وملبوس ، ومشموم ، ومركوب ، ومنكُوح ، فأحسن طعامها العسل ، وهو بزقةُ ذبابة ، وأكثر شرابها الماء ، ويستوي فيه جميع الحيوان ، وأفضل ملبوسها الدِّيباج وهو نسج دودة ، وأفضل المشموم المِسْك وهو دم فأرة ، وأفضل مركوبها الفرس ، وعليها يقتل الرِّجال ، وأما المنكوح فهو النساء وهو مبال في مَبال ، والله إن المرأة لتزين أحسنها يراد به أقبحها .
ثم ذكر تعالى لهذه الحياة مثلاً ، فقال : « كمثل غيثٍ » أي : مطر { أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ } .
قال ابن مسعود : المراد ب « الكُفَّار » هنا : الزُّرَّاع .
وقال الأزهري : والعرب تقول للزَّارع : كافر؛ لأنه يكفرُ البَذْر [ المبذور في الأرض ] بتراب الأرض ، أي : يغطّيه .
والمعنى : أن الحياة الدُّنيا كالزَّرع يعجب النَّاظرين إليه لخضرته بكثرة الأمطار ، ثم لا يلبث أن يصير هشيماً كأن لم يكن .
وقيل : المراد بالكُفَّار هنا هم الكُفَّار بالله ، وهم أشد إعجاباً بزينة الدنيا من المؤمنين .
وقوله : « نَبَاتُهُ » أي : ما ينبت من ذلك الغَيْث .
قوله : { كَمَثَلِ غَيْثٍ } .
يجوز أن يكون في موضع نصب حالاً من الضمير في « لعب »؛ لأنه بمعنى الوصف ، وأن يكون خبراً لمبتدأ محذوف ، أي : ذلك كمثل .
وجوز ابن عطية : أن يكون في موضع رفع صفة لما تقدم ، ولم يبينه ، وقد بينه مكي ، فقال : نعت ل « تفاخر » . وفيه نظر لتخصيصه له من بين ما تقدم ، وجوز أن يكون خبراً بعد خبر للحياة الدنيا .
وقوله : { ثُمَّ يَهِيجُ } أي : يجفّ بعد خضرته { فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً } أي : متغيراً عما كان عليه من النَّضارة .
وقرىء : « مُصْفَارًّا » من « اصْفَارّ » وهو أبلغ من « اصْفَرّ » .
قوله : « وفي الآخِرةِ » خبر مقدم ، وما بعده مبتدأ مؤخر ، أخبر بأن في الآخرة عذاباً شديداً ، ومغفرة منه ورضواناً ، وهذا معنى حسن ، وهو أنه قابل العذاب بشيئين : بالمغفرة والرضوان ، فهو من باب لن يغلب عُسْرٌ يُسرينِ .
قال القرطبي : { وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ } ، أي : للكافر ، والوقف عليه حسن ، ويبتدأ { وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرِضْوَانٌ } أي : للمؤمنين .
وقال الفراء : { وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة } تقديره : إمَّا عذاب شديد ، وإمَّا مغفرة ، فلا يوقف على « شديد » .
قوله : { وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ مَتَاعُ الغرور } .
وهذا تأكيد لما سبق ، أي : تغرّ الكافر ، فأما المؤمن فإن الدنيا له متاع بلاغ إلى الجنة .
وقيل : العمل للحياة الدنيا متاع الغرور تزهيداً في العمل للدنيا ، وترغيباً للعمل في الآخرة .
وقال سعيد بن جبير : الدُّنيا متاع الغرور إذا ألْهتك عن طلب الآخرة ، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله وطلب الآخرة ، فنعم المتاع ونعم الوسيلة .
قوله تعالى : { سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } الآية .
أي : سارعوا بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لكم من ربكم .
وقيل : سارعوا بالتَّوبةِ؛ لأنها تؤدِّي إلى المغفرة . قاله الكلبي .
وقال مكحول : هي التكبيرة الأولى مع الإمام .
وقيل : الصف الأول .
فصل فيمن استدل بالآية على أن الأمر على الفور
احتج القائلون بأن الأمر على الفور بهذه الآية؛ لأنها دلت على وجوب المسارعة ، فوجب أن يكون التراخي محظوراً .
قوله : { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض } .
{ عَرْضُهَا كَعَرْضِ } : مبتدأ وخبر ، والجملة صفة ، وكذلك « أعِدَّتْ » ، ويجوز أن تكون « أعدت » مستأنفة .
فصل في عرض الجنة
قال مقاتل : إنَّ السَّموات السَّبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح ، وألزق بعضها إلى بعض لكانت عرض جنة واحدة من الجنَّات ، والعرض أقل من الطول ، ومن عادة العرب أنها تعبر عن الشيء بعرضه دون طوله؛ قال : [ الطويل ]
4724- كَأنَّ بِلادَ اللَّهِ وهْيَ عرِيضةٌ ... على الخَائفِ المطلُوبِ كفَّةُ حَابِلِ
وقال عطاء عن ابن عباس : يريد أنَّ لكل واحد من المطيعين جنَّة بهذه الصِّفة .
وقال السُّدي : إنه - تعالى - شبّه عرض الجنة بعرض السَّموات السبع والأرضين السبع ، ولا شك أن طوله أزيد من عرضه .
وقيل : هذا تمثيل للعباد بما يعقلونه ، وأكبر ما في أنفسهم مقدار السموات والأرض .
قاله الزجاج ، وهو اختيار ابن عبَّاس .
وقال طارق بن شهاب : قال قوم من أهل « الحيرة » لعمر رضي الله عنه : أرأيت قول الله عز وجل : { عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض } فأيْنَ النَّارُ؟ قال لهم عمر : أرأيتم الليل إذا ولَّى وجاء النهار ، فأين يكون الليل؟ فقالوا : لقد نزعت بما في التوراة مثله .
قوله : { أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ } شرط الإيمان لا غير ، والمعتزلة وإن زعموا أن لفظ الإيمان يفيد جملة الطَّاعات ، لكنهم اعترفوا بأن لفظ الإيمان إذا عدي بالباء ، فإنه باقٍ على مفهومه الأصلي وهو التصديق ، فالآية حجة عليهم ، ومما يؤكّد ذلك قوله تعالى بعده : { ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } فبين أن الجنة فضل الله يؤتيها من يشاء ، سواء أطاع أم عصى .
فإن قيل : فيلزمكم أن تقطعوا بحصول الجنة لجميع العُصاة ، وأن تقطعوا بأنه لا عقاب لهم؟ فالجواب : قلنا : نقطع بحصول الجنَّة ، ولا نقطع بنفي العقاب عنهم؛ لأنهم إذا عذّبوا مدة ، ثم نقلوا إلى الجنة ، وبقوا فيها أبد الآباد ، فقد كانت الجنَّة معدة لهم .
فإن قيل : فالمرتد قد آمن بالله ، فوجب إلاّ يدخل تحت هذه الآية .
قلنا : فالجواب خص من العموم ، فبقي العموم حجة فيما عداه .
فصل في أن الجنة مخلوقة أم لا؟
احتجوا بهذه الآية على أن الجنة مخلوقة .
قالت المعتزلة : هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها لوجهين :
الأول : أن قوله تعالى { أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا } [ الرعد : 35 ] يدل على أن من صفتها بعد وجودها ألا تفتى ، لكنها لو كانت الآن موجودة لفنيت بدليل قوله تعالى { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] .
الثاني : أن المخلوقة الآن في السماء السَّابعة ، ولا يجوز إذا كانت في واحدة منها أن يكون عرضها كعرض كل السموات والأرض ، فثبت بهذين الوجهين أنه لا بُدَّ من التأويل ، وذلك من وجهين :
أحدهما : أنه - تعالى - لما كان قادراً لا يصحّ المنع عليه ، وإذا كان حكيماً لا يصحّ الخلف في وعده ، ثم إنه - تعالى - وعد على الطَّاعة بالجنة ، فكانت الجنة كالمعدّة المهيّأة لهم تشبيهاً لما سيقع قطعاً بالواقع ، كما يقول المرء لصاحبه : أعددت لك المكافأة إذا عزم عليها وإن لم يوجدها .
والثاني : أن المراد إذا كانت الآخرة أعدّها الله لهم ، كقوله : { ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة } [ الأعراف : 50 ] أي : إذا كان يوم القيامة نادى .
والجواب : أن قوله : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ } [ القصص : 88 ] عام .
وقوله : { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 133 ] مع قوله : { أُكُلُهَا دَآئِمٌ } [ الرعد : 35 ] خاص ، والخاصّ مقدّم على العام .
وأما قولهم : إنَّ الجنَّة مخلوقة في السماء السابعة كما قال - عليه الصلاة والسلام - في صفة الجنة : « سَقْفُهَا عرْشُ الرَّحْمنِ » فأي استبعاد في أن يكون المخلوق فوق الشيء أعظم منه ، أليس أن العرش أعظم المخلوقات ، مع أنه مخلوق فوق السماء السابعة .
قوله : { ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } أي : أن الجنة لا تنال إلاَّ بفضل الله ورحمته ، { والله ذُو الفضل العظيم } .
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26)
قوله : { مِن مُّصِيبَةٍ } فاعل « أصاب » ، و « من » مزيدة لوجود الشرطين ، وذكر فعلها؛ لأن التأنيث مجازي
قوله : { فِي الأرض } يجوز أن يتعلق ب « أصاب » ، وأن يتعلق بنفس « مصيبة » ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل « مصيبة » ، وعلى هذا فيصلح أن يحكم على موضعه بالجر نظراً إلى لفظ موصوفه ، وبالرفع نظراً إلى محله ، إذ هو فاعل .
والمصيبة غلبت في الشَّر .
وقيل : المراد بها جميع الحوادث من خير وشر ، وعلى الأول يقال : لم ذكرت دون الخير؟
وأجيب : بأنه إنما خصها بالذكر؛ لأنها أهمّ على البشر .
قوله : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ } حال من « مصيبة » ، وجاز ذلك وإن كانت نكرة لتخصصها إما بالعمل ، أو بالصفة ، أي : إلا مكتوبة .
قوله : « مِنْ قَبْلِ » نعت ل « كتابٍ » ، ويجوز أن يتعلق به . قاله أبو البقاء . لأنه هنا اسم للمكتوب ، وليس بمصدر .
والضمير في « نَبْرأها » الظاهر عوده على المصيبة .
وقيل : على الأنفس .
وقيل : على الأرض ، أي على جميع ذلك . قاله المهدوي ، وهو حسن .
فصل في مناسبة الآية لما قبلها
قال الزجاج : إنه - تعالى - لما قال : { سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [ الحديد : 21 ] وبين أن المؤدي إلى الجنة لا يكون إلا بقضاء الله تعالى وقدره ، فقال : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ } .
والمعنى لا توجد مصيبة من هذه المصائب إلا وهي مكتوبة عند الله ، والمصيبة في الأرض قَحْط المطر ، وقلّة النبات ، ونقص الثِّمار ، وغلاء الأسعار ، وتتابع الجوائح .
وأما المصيبة في الأنفس فقيل : هي الأمراض ، والفقر ، وذهاب الأولاد ، وإقامة الحدود عليها .
وقيل : ضيق المعاش وقيل : الخير والشَّر أجمع ، لقوله بعد ذلك : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ } .
وقوله : { إلا في كتابٍ } يعني : مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ .
وقوله : { من قبل أن نَبْرَأها } .
قال ابن عباس : من قبل أن نخلق المصيبة .
وقال سعيد بن جبير : من قبل أن نخلق الأرض والنفس .
{ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ } أي : خلق ذلك ، وحفظه على الله يسير أي : هيّن .
قال الربيع بن صالح : لما أُخذ سعيد بن جبيرٍ - رضي الله عنه - بَكَيْتُ ، قال : ما يبكيك؟ قلت : أبكي لما أرى بك ولما تذهب إليه ، قال : فلا تَبْكِ ، فإنه كان في علم الله - تعالى - أن يكون ، ألم تسمع قوله تعالى : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ } الآية .
قال ابن عباس : لما خلق الله القلم ، قال له : اكتب ، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة .
وقد ترك جماعة من السلف الدواء في أمراضهم ، فلم يستعملوه ثقةً بربهم وتوكلاً عليه ، وقالوا : قد علم الله أيام المرض وأيام الصِّحة ، فلم حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا ، قال الله تعالى : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ } الآية ، ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام :
« مَنْ عَرَفَ يُسْرَ اللَّهِ في القَدَر هَانَتْ عليْهِ المَصَائِبُ » .
فصل في اتصال الآية بسياق الآيات قبلها
قيل : إن هذه الآية نزلت متّصلة بما قبلها ، وهو أن الله - تعالى - هوَّن عليهم ما يصيبهم في الجهاد من قتل وجرح ، وبين أن ما يخلفهم عن الجهاد من المحافظة على الأموال ، وما يقع فيها من خسران ، فالكل مكتوب مقدر لا مدفع له ، وإنما على المرء امتثال الأمر ، ثم أدبهم فقال : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ } أي : حتى لا تحزنوا على ما فاتكم من الرزق ، وذلك أنهم إذا علموا أن الرزق قد فرغ منه لم ييأسوا على ما فاتهم منه .
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : « لاَ يَجِدُ أحَدكُمْ طَعْمَ الإيمانِ حتَّى يعْلمَ أنَّ ما أصابهُ لَمْ يَكُنْ ليُخْطِئَهُ ، ومَا أخطَأهُ لَمْ يَكُنْ ليُصِيبَهُ » ، ثمَّ قرأ : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ } أي من الدنيا . قاله ابن عباس رضي الله عنهما .
فصل في أن ما كان وما يكون مكتوب في اللوح المحفوظ
قال ابن الخطيب : هذه الآية تدلّ على أن جميع الحوادث الأرضية قبل دخولها في الوجود مكتوبة في اللَّوح المحفوظ .
قال المتكلمون : وإنما كتب ذلك لوجوه :
أحدها : ليستدلّ الملائكة بذلك المكتوب على كونه - تعالى - على علم بجميع الأشياء قبل وقوعها .
وثانيها : ليعرفوا حكمة الله ، فإنه - تعالى - مع علمه بأنهم يقدمون على المعاصي خلقهم ورزقهم .
وثالثها : ليحذروا من أمثال تلك المعاصي .
ورابعها : ليشكروا الله - تعالى - على توفيقه إياهم للطَّاعات ، وعصمته إياهم عن المعاصي .
فصل في كيفية حدوث الأحداث
قال ابن الخطيب : إن الحكماء قالوا : إن الملائكة الذين وصفهم الله بأنهم هم المدبِّرات أمراً ، والمقسمات أمراً ، إنما هي المبادىء لحدوث الحوادث في العالم السفلي بواسطة الحركات الفلكية ، والاتصالات الكوكبية ، وتغيراتها هي الأسباب لتلك المسببات ، وهذا هو المراد من قوله : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ سبأ : 3 ] .
فصل في مصائب الأنفس
قوله تعالى : { وَلاَ في أَنفُسِكُمْ } يتناول جميع مصائب الأنفس ، فيدخل فيها كفرهم ومعاصيهم ، فالآية دالة على أن جميع أعمالهم بتفاصيلها مكتوبةٌ في اللوح المحفوظ مثبتة في علم الله تعالى ، فكان الامتناع من تلك الأعمال محال؛ لأن علم الله بوجودها مُنَافٍ لعدمها والجمع بين المتنافيين محال ، وخصص مصائب الأرض والأنفس لتعلّقها بنا ، ولم يقل : جميع الحوادث لشمولها حركات أهل الجنة والنار؛ لأنها غير متناهية ، فإثباتها في الكتاب محال .
قال ابن الخطيب : وفي الآية دليلٌ على أن الله - تعالى - يعلم الأشياء قبل وقوعها خلافاً ل « هشام بن الحكم » .
قوله تعالى : { لِّكَيْلاَ } . هذه « اللام » متعلقة بقوله « ما أصَابَ » ، أي : أخبرناكم بذلك لكيلا يحصل لكم الحزن المقنط والمفرح المطغي فأما ما دون ذلك فالإنسان غير مؤاخذ به ، و « كي » هنا ناصبة بنفسها ، فهي مصدرية فقط لدخول لام الجر عليها .
وقرأ أبو عمرو : « بما أتاكم » مقصوراً من الإتيان ، أي : بما جاءكم .
قال أبو علي الفارسي : لأن « أتاكم » معادل لقوله « فَاتَكُم » ، فكما أنَّ الفعل للفائت في قوله : « فاتكم » ، فكذلك الفعل الثاني في قوله : « بما أتاكم » .
وقرأ باقي السبعة : « آتاكم » ممدوداً من « الإيتاء » ، أي : بما أعطاكم الله إياه .
والعائد إلى الموصول في الكلمتين في الذكر المرفوع بأنه فاعل ، و « الهاء » محذوفة من الصِّلة ، أي : بما آتاكموه .
وقرأ عبد الله : « بما أوتيتم » .
فصل في أن حزن المؤمن صبر وفرحه شكر
قال ابن عبَّاس : ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح ، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبراً وغنيمته شكراً ، والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدّى فيهما إلى ما لا يجوز .
وقال جعفر بن محمد : يا ابن آدم ما لك تأسف على مقدر لا يردّه عليك الفَوْت ، وما لك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت .
وقيل ل « بزرجمهر » : أيها الحكيم ، ما لك لا تحزن على ما فات ، ولا تفرح بما هو آتٍ؟ قال : لأن الفائت لا يتلافى بالعبرةِ ، والآتي لا يستدام بالحَبْرةِ .
وقوله : { والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } أي : متكبر بما أوتي من الدنيا .
« فخور » به على النَّاس ، قيل : الفخور الذي ينظر الناس بعين الاحتقار .
فصل فيمن قالوا بالإرادة والجبر
قال ابن الخطيب : المعتزلة وإن نازعوا في القدرة والإرادة ، فهم مسلمون في العلم والجبر ، فيلزمهم الجبر باعتبارهما .
والفلاسفة مذهبهم الجَبْر؛ لأن سبب الحوادث عندهم الاتصالات الفلكية .
والقدرية قالوا : بأن الحوادث اتفاقية ، فجميع فرق العقلاء يلزمهم الجبر ، سواء أقروا به أو أنكروه .
فصل في إرادة العبد الحزن والفرح
قالت المعتزلة : قوله : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ } يدل على أنه إنما أخبرهم بكتبها ليحترزوا عن الحزن والفرح ، ولولا قدرتهم عليه لم يكن لذلك فائدة ، ويدل على أنه لا يريد أن يقع منهم الفرح والحزن ، وهو خلاف قول المجبرة؛ لأنه قال : { والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } والمحبة هي الإرادة .
وأجيبوا بأن المحبة هي إرادة خاصة وهي إرادة الثواب ، ولا يلزم من نفيها نفي الإرادة .
قوله : { الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل } . تقدم نظيره في سورة « النساء » .
قال القرطبي : « الذين » في موضع خفض نعتاً للمختال .
وقال ابن الخطيب : بدل من قوله : « كل مُخْتَال » .
وقيل : رفع بالابتداء ، فهو كلام مستأنف لا تعلق له بما قبله .
والمعنى : الذين يبخلون فالله غني عنهم .
قيل : أراد رؤساء اليهود الذين بخلوا ببيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم لئلا يؤمن به النَّاس ، فتذهب مأكلتهم .
قاله السُّدي والكلبي .
فيكون « الذين » مبتدأ ، وخبره محذوف يدلّ عليه قوله تعالى : { وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد } .
وقال سعيد بن جبير : « الذين يَبْخَلُون » يعني بالعلم { وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل } بألاَّ يعلموا الناس شيئاً .
وقال زيد بن أسلم : إنه البُخْل بأداء حق الله تعالى .
وقال عبد الله بن عامر الأشعري : هو البخل بالصدقة والحقوق .
وقال طاوس : وهو البُخْل بما في يديه .
فصل في قراءات البخل
« بالبخل » . قرأ العامة : « بالبُخْل » بضم الباء وسكون الخاء .
وقرأ أنس وعبيد بن عمير ويحيى بن يعمر ومجاهد وابن محيصن وحمزة والكسائي « بالبَخَل » بفتحتين ، وهي لغة الأنصار .
وقرأ أبو العالية وابن السَّميفع : « بالبَخْل » بفتح الباء وإسكان الخاء .
وعن نصر بن عاصم : « البُخُل » - بضمتين - وكلها لغات مشهورة .
وقال قوم : الفرق بين البخل والسخاء من وجهين :
أحدهما : أن البخيل الذي لا يعطي عند السؤال ، والسَّخي الذي يعطي بغير سؤال .
وتقدم الفرق بين البُخْل والشُّحِّ في آخر آل عمران .
قوله : { وَمَن يَتَوَلَّ } أي : عن الإيمان { فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد } .
قرأ نافع وابن عامر : { فإن الله الغني الحميد } بإسقاط « هو » ، وهو ساقط في مصاحف « المدينة » و « الشام » ، والباقون : بإثباته ، وهو ثابت في مصاحفهم ، فقد وافق كل مصحفه .
قال أبو علي الفارسي : من أثبت « هو » يحسن أن يكون فصلاً ، ولا يحسن أن يكون ابتداء؛ لأن الابتداء لا يسوغ حذفه .
يعني أنه رجح فصليّته بحذفه في القراءة الأخرى ، إذ لو كان مبتدأ لضعف حذفه لا سيما إذا صلح ما بعده أن يكون خبراً لما قبله .
ألا ترى أنك لو قلت : إن زيداً هو القائم يحسن حذف « هو » لصلاحية « القائم » خبراً ، وهذا كما قالوا في الصلة : إنه يحذف العائد المرفوع بالابتداء بشروط :
منها : ألاَّ يكون ما بعده صالحاً للصِّلة نحو : « جاء الذي هو في الدَّار ، وهو قائم أبوه » لعدم الدلالة .
إلا أن للمنازع أن ينازع أبا عليٍّ ويقول : لا ألتزم تركيب إحدى القراءتين على الأخرى ، وكم من قراءتين تغاير معناهما ، كقراءتي : { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ }
[ آل عمران : 36 ] إلا أن توافق القراءتين في معنى واحد أولى ، هذا مما لا نزاع فيه .
ومن أثبت « هو » فعلى أن يكون فصلاً ، ويجوز أن يكون مبتدأ ، و « الغَنِيّ » خبره والجملة خبر « إن » .
قال ابن الخطيب : وقوله « الحميد » كأنه جواب من يقول : إذا كان الله عالماً بأنه يبخل ، فلم أعطاه المال؟ .
فأجاب : بأنه محمود حيث فتح أبواب الرحمة مع تقصير العبدِ في الطاعة .
قوله تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات } .
يعني المعجزات البينة ، والشرائع الظاهرة .
وقيل : الإخلاص لله - تعالى - في العبادة .
{ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب } أي الكتب التي أوحينا إليهم فيها خبر من كان قبلهم .
« والمِيزَانَ » ، قال ابن زيد : هو ما يُوزَنُ به ، ويتعامل .
روي أن جبريل - عليه السلام - نزل بالميزان فدفعه إلى نوح - عليه الصلاة والسلام - وقال : مُرْ قَوْمكَ يَزِنُوا بِهِ ليقُومَ النَّاسُ بالقِسْطِ ، أي : بالعدل في معاملاتهم .
وقيل : أراد به العدل .
قال القشيري : وإذا حملناه على الميزان المعروف ، فالمعنى أنزلنا الكتاب ووضعنا الميزان وهو من باب : [ الرجز ]
4725- عَلَفْتُهَا تِبْناً ومَاءً بَارِداً ... ويدل على هذا قوله تعالى : { والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان } [ الرحمن : 7 ] .
قوله : « مَعَهُمُ » حال مقدرة ، أي : صائراً معهم ، وإنما احتجنا إلى ذلك؛ لأن الرسل لم ينزلوا ، ومقتضى الكلام أن يصحبوا الكتاب في النزول .
وأما الزمخشري فإنه فسّر الرسل بالملائكة الذين يجيئون بالوحي إلى الأنبياء ، فالمعية متحققة .
قوله : { وَأَنزَلْنَا الحديد } .
روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إنَّ اللَّهَ تعَالَى أنْزلَ أرْبَعَ بركاتٍ مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ : الحَديْدَ والمَاءَ والنَّارَ والثَّلْجَ » .
وروى عكرمة عن ابن عباس قال : أنزل ثلاثة أشياء مع آدم - عليه الصلاة والسلام - الحَجَر الأسود وكان أشد بياضاً من الثَّلج ، وعصا موسى ، وكانت من آسِ الجنة ، طولها عشرة أذرع مع طول موسى ، والحديد أنزل معه ثلاثة أشياء : السَّنْدَان ، والكَلْبتَان ، والميْقَعَة ، وهي المِطْرقَة ذكره الماوردي .
وروى الثعلبي عن ابن عبَّاس قال : نزل آدم من الجنَّة ، ومعه من الحديد خمسة أشياء من آلة الحدادين : السَّندان ، والكلْبتَان ، والمِيْقعَة ، والمِطْرقَة والإبْرَة .
وحكاه القشيري قال : والمِيْقعَة : [ ما يحدد به ، يقال : وقعت الحديدة أقعها ، أي حددتها .
وفي « الصحاح » ] : « المِيْقَعَة » الموضع الذي يألفه البازي فيقع عليه ، وخشبة القصَّار التي يدقّ عليها ، والمِطْرقَة ، والمِسَنّ الطويل .
وروي أن الحديد أنزل يوم الثلاثاء .
{ فيه بأس شديدٌ } أي : لإهراق الدِّماء ، ولذلك نهي عن الفَصْد والحِجَامة يوم الثلاثاء؛ لأنه يوم جرى فيه الدَّم .
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « إنَّ فِي يَوْمِ الثلاثاءِ ساعةً لا يُرَاقُ فِيْهَا الدَّمُ » .
وقيل : « أنزلنا الحديد » أي : أنشأناه وخلقناه ، كقوله تعالى :
{ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الأنعام } [ الزمر : 6 ] وهذا قول الحسن . فيكون من الأرض غير منزل من السماء .
وقال أهل المعاني : أي أخرج الحديد من المعادن ، وعلمهم صنعته بوحيه .
وقوله : { فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } جملة حالة من « الحديد » ، والمراد بالحديد يعني : السلاج والجُنَّة .
وقيل : إن فيه من خشية القتل خوفاً شديداً .
{ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } قال مجاهد : يعني جُنَّة .
وقيل : انتفاع النَّاس بالماعون : الحديد كالسِّكين والفأس ونحوه .
قوله : { وَلِيَعْلَمَ الله } . عطف على قوله : { لِيَقُومَ الناس } ، أي : لقد أرسلنا رسلنا ، وفعلنا كيت وكيت ليقوم الناس ، وليعلم الله .
وقال أبو حيان : علّة لإنزال الكتاب والميزان والحديد .
والأول أظهر؛ لأن نصرة الله ورسوله مناسبة للإرسال .
قوله : « ورُسُلَهُ » عطف على مفعول « ينصره » ، أي : وينصر رسله .
قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون معطوفاً على « من » لئلا يفصل به بين الجار ، وهو « بالغيب » ، وبين ما يتعلق به وهو « ينصر » .
قال شهاب الدين : وجعله العلة ما ذكره من الفصل بين الجار ، وبين ما يتعلق به يوهم أن معناه صحيح لولا هذا المانع ، وليس كذلك؛ إذ يصير التقدير : وليعلم الله من ينصره بالغيب ، وليعلم رسله ، وهذا معنى لا يصح ألبتة ، فلا حاجة إلى ذكر ذلك ، و « بالغيب » حال وقد تقدم مثله أول « البقرة » .
فصل في معنى الآية
المعنى : وليعلم الله من ينصره ، أي : أنزل الحديد ليعلم من ينصره ، أو ليقوم الناس بالقسط؛ أي : أرسلنا رسلنا .
{ وأنزلنا معهم الكتاب } وهذه الأشياء ليتعامل الناس بالحق ، وليرى الله من ينصر دينه وينصر رسله بالغيب ، أي : وهم لا يرونهم .
{ إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ } قوي في أخذه عزيز أي : منيع غالب .
وقيل : بالغيب أي : بالإخلاص .
فصل في الرد على من قال بحدوث علم الله
احتج من قال بحدوث علم الله بقوله : « وليعلم الله » .
وأجيب : بأنه - تعالى - أراد بالعلم المعلوم ، فكأنه - تعالى - قال : ولتقع نُصْرة الرسول ممن ينصره .
فصل في الرد على الجبرية
قال الجبائي : قوله : { لِيَقُومَ الناس بالقسط } يدل على أنه - تعالى - أنزل الميزان والحديد ، ومراده من العباد أن يقوموا بالقسط ، وأن ينصروا رسله ، وإذا أراد هذا من الكل بطل قول المجبرة أنه أراد من بعضهم خلاف ذلك .
وأجيب : بأنه كيف يمكن أن يريد من الكُلِّ ذلك مع علمه بأن ضدّه موجود ، والجمع بين الضِّدين محال ، والمحال غير المراد .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ } الآية .
لما أجمل الرسل في قوله : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا } فصل ها هنا ما أجمل من إرسال الرسل بالكتب ، وأخبر أنه أرسل نوحاً وإبراهيم ، وجعل النبوة في نسلهما ، لقوله : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النبوة والكتاب } ، أي : جعلنا بعض ذريتهما الأنبياء ، وبعضهم أمماً يتلون الكتب المنزلة من السماء كالتوراة والإنجيل والزَّبُور والفُرقَان .
وقال ابن عبَّاس : الخَطّ بالقَلم .
قوله : { فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ } .
والضمير يجوز عودهُ على الذُّرِّية ، وهو أولى لتقدم ذكره لفظاً .
وقيل : يعود على المرسل إليهم لدلالة رسلنا والمرسلين إليهم .
والمعنى : منهم مهتد ومنهم فاسق ، والمراد بالفاسق هاهنا ، قيل : الذي ارتكب الكبيرة سواء كان كافراً أو لم يكن لإطلاق هذا الاسم ، وهو يشمل الكافر وغيره .
وقيل : المراد بالفاسق ها هنا الكافر؛ لأنه جعل الفُسَّاق ضد المهتدين .
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
قوله : { ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم } ، أي : أتبعنا على آثارهم ، أي : على آثار الذُّرية .
وقيل : على آثار نوح وإبراهيم برسلنا موسى وإلياس وداود ويونس ، وغيرهم ، { وقفّينا بعيسى ابن مريم } ، فهو من ذرية إبراهيم من جهة أمّه .
{ وَآتَيْنَاهُ الإنجيل } : وهو الكتاب المنزل عليه وقد تقدم اشتقاقه في أول آل عمران .
وقراءة الحسن : بفتح الهمزة .
قال الزمخشري : أمره أهون من أمر البَرْطِيل والسَّكينة فيمن رواها بفتح « الفاء »؛ لأن الكلمة أعجمية لا يلزم فيها حفظ أبنية العرب .
وقال ابن جنّي : قراءة الحسن - بفتح الهمزة - مثال مبالغة ، لا نظير له؛ لأنه « أفعيل » وهو عندهم من نجلت الشيء إذا استخرجته لأنه يستخرج به الأحكام .
وقال ابن الخطيب : وغالب الظن أنه ما قرأه إلا عن سماع؛ وله وجهان :
أحدهما : أنه شاذ ، كما حكي عن بعضهم في البَرْطِيل .
والثاني : أنه ظن الإنجيل أعجميًّا ، فحرف مثاله؛ تنبيهاً على كونه أعجمياً .
قوله : { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه } على دينه يعني : الحواريين وأتباعهم { رَأْفَةً وَرَحْمَةً } .
قرأ الحسن : « رَآفة » بزنة « فَعَالة » .
قال مقاتل : المراد من الرَّأفة والرحمة : المودَّة فكان يوادّ بعضهم بعضاً كما وصف الله - تعالى - أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بقوله : { رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] .
وقيل : هذا إشارة إلى أنهم أمروا في الإنجيل بالصَّفْحِ ، وترك إيذاء الناس وألان الله قلوبهم لذلك ، بخلاف اليهود الذين قستْ قلوبهم ، وحرّفوا الكلم عن مواضعه .
والرَّأفة : [ اللِّين .
والرحمة : ] الشَّفقةُ .
وقيل : الرأفة تخفيف الكُل ، والرحمة تحمل الثقل .
وقيل : الرَّأفة : أشد من الرحمة وتم الكلام .
فصل في أن أفعال العبد خلق لله تعالى
دلت هذه الآية على أن فعل العبد خلق الله تعالى؛ لأنه حكم بأن هذه مجعولة ، وحكم بأنهم ابتدعوا تلك الرهبانية .
قال القاضي : المراد بذلك أنه - تعالى - لطف بهم حتى قويت دواعيهم في الرَّهبانية التي هي تحمّل الكلفة الزائدة على ما يجب .
والجواب : أن هذا ترك للظاهر من غير دليل ، وإن سلمنا ذلك فهو يحصل مقصودنا؛ لأن الحال الاستواء بمنع حصول الرُّجحان؛ لأنَّ حصول الرجحان عند الاستواء ممتنع ، فعند المرجوحية أولى بأن يصير ممتنعاً ، وإذا امتنع المرجُوح وجب الراجح ضرورة أنه لا خروج عن طرفي النقيض .
قوله : { وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها } . في انتصابها وجهان :
أحدهما : أنها معطوفة على « رأفة ورحمة » .
و « جعل » إما بمعنى « خَلَق » ، وإما بمعنى « صيّر » ، و « ابتدعوها » على هذا صفة ل « رَهْبَانية » ، وإنما خصّت بذكر الابتداع؛ لأن الرَّأفة والرحمة في القلب أمر غريزة لا تكسُّب للإنسان فيها ، بخلاف الرهبانية ، فإنها أفعال البدن ، وللإنسان فيها تكسُّب ، إلا أن أبا البقاء منع هذا الوجه ، بأن ما جعله الله لا يبتدعونه .
وجوابه : ما تقدم من أنه لما كانت مكتسبة صح ذلك منها .
وقال أيضاً : وقيل : هو معطوف عليها ، و « ابتدعوها » نعتٌ له ، والمعنى : فرض عليهم لزوم رهبانية ابتدعوها ، ولهذا قال : { مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله } .
والوجه الثاني : أنها منصوبة بفعل مقدر يفسره الظَّاهر .
وقال أبو علي : « ابتدعوها رهبانية » ، وتكون المسألة من باب الاشتغال ، وإليه نحا الفارسي والزمخشري ، وأبو البقاء وجماعة .
إلاَّ أن هذا يقال : إنه إعراب المعتزلة ، وذلك أنهم يقولون : ما كان من فعل الإنسان فهو مخلوق له ، فالرأفة والرحمة لما كانت من فعل الله نسب خلقهما إليه ، والرهبانية لمَّا لم تكن من فعل الله - تعالى - بل من فعل العبد يستقلّ بفعلها نسب ابتداعها إليه .
ورد عليهم أبو حيَّان هذا الإعراب من حيث الصناعة ، وذلك أن من حق الاسم المشتغل عنه ألاَّ يصلح للرفع بالابتداء ، و « رَهْبَانية » نكرة لا مسوغ للابتداء بها ، فلا يصلح نصبها على الاشتغال .
قال شهاب الدين : وفيه نظر لأنا لا نسلم أولاً اشتراط ذلك ، ويدل عليه قراءة من قرأ : { سُورَةً أَنزَلْنَاهَا } [ النور : 1 ] بالنصب على الاشتغال ، كما تقدم تحقيقه ، ولئن سلمنا ذلك فثمَّ مسوغ وهو العطف ، ومن ذلك قول الشَّاعر : [ البسيط ]
4726- عِنْدِي اصْطِبَارٌ وشَكْوَى عِنْدَ قَاتلتِي ... فَهَلْ بأعْجَبَ مِنْ هَذَا امْرُؤٌ سَمِعَا؟
وقول الآخر : [ الطويل ]
4727- تَغَشَّى ونَجْمٌ قَدْ أضَاءَ فَمُذْ بَدَا ... مُحَيَّاكِ ، أخْفَى ضَوْءُهُ كُلَّ شَارِقِ
ذكر ذلك ابن مالك .
و « الرَّهْبَانية » : منسوبة إلى « الرَّهْبَان » ، وهو « فَعْلاَن » من رهب ، كقولهم : الخَشْيَان من خشي ، وقد تقدم معنى هذه المادة في سورة « المائدة » .
وقرىء بضم الراء .
قال الزمخشري : كأنها نسبة إلى « الرُّهْبَان » ، وهو جمع : راهب ، ك « راكب ، ورُكْبان » .
قال أبو حيان : والأولى أن يكون منسوباً إلى « رَهْبَان » - يعني بالفتح - وغيِّر؛ لأنَّ النَّسب باب تغيير ، ولو كان منسوباً ل « رُهْبَان » الجمع لردّ إلى مفرده إلاَّ إن قد صار كالعلم ، فإنه ينسب إليه ك « الأنصار » .
فصل في المراد بالرهبانية
والمراد من الرهبانية : ترهُّبُهم في الجبال فارِّين من الفتنة في الدين متحملين كلفاً زائدة على العبادات التي كانت واجبة عليهم من الخلوة ، واللِّباس الخَشِن ، والاعتزال عن النساء ، والتعبُّد في الغيرانِ والكهوف .
روى ابن عباس أن في أيام الفترةِ بين عيسى ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - غيَّر الملوك التوراة والإنجيل ، فراح نفرٌ ، وبقي نفر قليل ، فترهبوا وتبتلوا .
قال الضحاك : إن ملوكاً بعد عيسى - عليه الصلاة والسلام - ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة ، فأنكرها عليهم من كان بقيَ على منهاج عيسى فقتلوهم ، فقال قوم بقوا بعدهم : نحن إذا نهيناهم قتلونا ، فليس يسعُنَا المقام بينهم ، فاعتزلوا الناس واتخذوا الصَّوامع .
===================================
======================================
===========================
ج68. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
وقال قتادة : الرهبانية التي ابتدعوها رفضُ النساء ، واتخاذ الصَّوامع .
وفي خبر مرفوع : هي لحوقهم بالبرارِي والجبال .
قوله تعالى : { مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } .
صفة ل « رهبانية » ، ويجوز أن يكون استئناف إخبار بذلك .
قال ابن زيد : معناه ما فرضناها عليهم ، ولا أمرناهم بها .
وقوله : { إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله } . فيه أوجه :
أحدها : أنه استثناء متصل مما هو مفعول من أجله ، والمعنى : ما كتبناها عليهم لشيء من الأشياء إلا ابتغاء مرضات الله ، فيكون « كتب » بمعنى « قضى » ، فصار المعنى : كتبناها عليهم ابتغاء مرضات الله ، وهذا قول مجاهد .
والثاني : أنه منقطع .
قال الزمخشري ولم يذكر غيره : « أي : ولكنهم ابتدعوها » .
وإلى هذا ذهب قتادة وجماعة ، قالوا : معناه لم يفرضها عليهم ، ولكنهم ابتدعوها .
الثالث : أنه بدل من الضمير المنصوب في « كَتَبْنَاها » قاله مكي .
وهو مشكل ، كيف يكون بدلاً وليس هو الأول لا بعضه ، ولا مشتملاً عليه .
وقد يقال : إنه بدل اشتمال؛ لأن الرهبانية الخالصة المرعية حق الرعاية قد يكون فيها ابتغاء رضوان الله ، ويصير نظير قولك : الجارية ما أحببتها إلا أدبها فأدبها بدل من الضمير في « أحببتها » بدل اشتمال ، وهذا نهاية التمحُّل لصحة هذا القول .
والضمير المرفوع في « رَعَوْهَا » عائد على من تقدم .
والمعنى : أنهم لم يدوموا كلهم على رعايتها ، وإن كان قد وجد هذا في بعضهم .
وقيل : يعود على الملوك الذين حاربوهم .
وقيل على أخلافهم و « حقَّ » نصبه على المصدر .
قال القرطبي فيها : وقيل : « إلاَّ ابتغاء » استثناء منقطع ، والتقدير : « ما كتبناها عليهم ، ولكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله » .
{ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } .
أي : ما قاموا بها حقَّ القيام ، بل ضمُّوا إليها التثليث والاتحاد ، وأقام الناس منهم على دين عيسى - عليه الصلاة والسلام - حتى أدركوا نبينا محمداً - عليه الصلاة والسلام - فآمنوا به ، فهو قوله تعالى : { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ، وكثير منهم فاسقون } .
وقيل : إنّا ما كتبنا عليهم تلك الرهبانية إلاَّ ليتوسلوا بها إلى مرضاة الله تعالى ، ثم إنهم أتوا بتلك الأفعال لغير هذا الوجه ، وهو طلب الدنيا والرِّياسة والسُّمعة .
وقيل : معناه أنا كتبناها عليهم فتركوها ، فيكون ذلك ذمًّا لهم لتركهم الواجب .
وقيل : إن الذين لم يرعوها حق رعايتها هم الذين أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم ولم يؤمنوا به .
فصل فيمن أحدث بدعة
دلت هذه الآية أن كل محدثة بدعة ، فينبغي لمن ابتدع خيراً أن يدوم عليه ، ولا يعدل عنه إلى ضده فيدخل في الآية .
وعن أبي أمامة الباهلي واسمه صديُّ بن عجلان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أحْدَثْتُم قيامَ رمضانَ ولمْ يُكتَبْ عليْكمْ ، إنَّما كُتِبَ عليْكُمُ الصِّيامُ ، فدُومُوا على القِيامِ إذْ فعلتُمُوهُ ولا تَتْرُكُوهُ ، فإنَّ ناساً مِنْ بَنِي إسْرائِيلَ ابْتدَعُوا بِدَعاً ولَمْ يَكْتُبْهَا اللَّهُ عليهم ابتغَوْا بِهَا رضْوانَ اللَّهِ فَما رَعَوْهَا حَقَّ رعايتِهَا فَعَاتَبَهُم الله عليها بِترْكِهَا » ، فقال : { وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها } الآية .
فصل
دلّت الآية على العزلة عن الناس وذلك مَنْدُوبٌ إليه عند فساد الزمان ، وتغير الأحوال والإخوان .
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ } .
أي : آمنوا بموسى وعيسى { اتقوا الله وَآمِنُواْ } بمحمد صلى الله عليه وسلم { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } ، أي : مثلين من الأجْر على إيمانهم بعيسى وبمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ وهذا نظير قوله تعالى : { أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ } [ القصص : 54 ] .
و « الكِفْلُ » : الحظّ والنصيب .
وقد تقدم ، وهو في الأصل كساء يكتفلُ به الراكب يحفظه من السقوط . قاله ابن جرير .
وقال الأزهري : اشتقاقه من الكساء الذي يحويه راكب البعير على سنامه لئلا يسقط ، والمعنى : يؤتكم نَصِيبيْنِ يحفظانكم من هلكةِ المعاصي كما يحفظ الكفلُ الراكب .
وقال أبو موسى الأشعري : « كِفْلَيْن » ضِعْفَيْن ، بلسان « الحبشة » .
وقال ابن زيد : « كِفْلين » أجر الدنيا والآخرة .
وقيل : لما نزلت : { أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ } [ القصص : 54 ] افتخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية .
فإن قيل : إنه - تعالى - لما أعطاهم كِفْلَيْنِ ، وأعطى المؤمن كفلاً واحداً كان حالهم أعظم .
فالجواب : أنه لا يبعد أن يكون النَّصيب الواحد أزيد قدراً من النصيبين .
روى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ثَلاثَةٌ يُؤتَوْنَ أجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ : رجُلٌ كانَتْ لَهُ جَاريةٌ فأدَّبهَا وأحْسَنَ أدبهَا ، ثُمَّ أعتَقَهَا وتَزوَّجَهَا ، ورجُلٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ آمَنَ بِكِتَابِهِ ، وآمَنَ بمُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وعبدٌ أحْسَنَ عبادةَ اللَّهِ ونَصَحَ سَيِّدَهُ » .
قوله : { وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً } .
قال مجاهد : أي : بياناً وهدى .
وقال ابن عباس : هو القرآن .
وقيل : ضياء يمشون به في الآخرة على الصراط ، وفي القيامة إلى الجنة ، وهو النور المذكور في قوله تعالى { يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم } [ الحديد : 12 ] .
وقيل : تمشون به في الناس تدعونهم إلى الإسلام ، فتكونون رؤساء في دين الإسلام لا تزول عنكم رياسة كنتم فيها ، وذلك أنهم خافوا أن تزول رياستهم لو آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وإنما كان يفوتهم أخذ رشوة يسيرة من الضعفة بتحريف أحكام الله تعالى ، لا الرِّياسة الحقيقية في الدين ثم قال : { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } ، أي : ما أسلفتم من المعاصي ، { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
قوله تعالى : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } .
هذه « اللام » متعلقة بمعنى الجملة الطَّلبية المتضمنة لمعنى الشرط ، إذ التقدير : إن تتقوا الله ، وتؤمنوا برسوله يؤتكم كذا وكذا لئلا يعلم .
وفي الآية هذه وجهان :
أشهرهما عند النحاة والمفسرين : أنها مزيدة كهي في { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] و { أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ يس : 31 ] . على خلاف في هاتين الآيتين .
والتقدير : أعلمكم الله بذلك ليعلم أهل الكتاب عدم قدرتهم على شيء من فضلِ الله ، وثبوت أن الفضل بيد الله ، وهذا واضح بيِّن ، وليس فيه إلا زيادة ما ثبتت زيادته شائعاً ذائعاً .
والثاني : أنها غير مزيدة ، والمعنى : لئلا يعلم أهل الكتاب [ عجز المؤمنين . نقل ذلك أبو البقاء ، وهذا لفظه .
وكان قال قبل ذلك : « لا » زائدة ، والمعنى : ليعلم أهل الكتاب ] عجزهم .
وهذا غير مستقيم؛ لأن المؤمنين عاجزون أيضاً عن شيءٍ من فضل الله ، وكيف يعمل هذا القائل بقوله : { وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله } ، فإنه معطوف على مفعول العلم المنفي ، فيصير التقدير : لئلا يعلم أهل الكتاب أنَّ الفضل بيد الله ، وهذا لا يستقيم نفي العلم به ألبتة ، فلا جرم كان قولاً مطرحاً .
وقرأ العامة : « لئلاَّ » بكسر لام كي ، وبعدها همزة مفتوحة مخففة .
وورش يبدلها ياء محضة . وهو تخفيف قياسي نحو : « مِيَة وفِيَة » في « مِئَة وفِئَة » ويدل على زيادتها قراءة عبد الله ، وابن عباس ، وعكرمة ، والجحدري ، وعبد الله بن سلمة : « ليعلم » بإسقاطها .
وقراءة حطَّان بن عبد الله : « لأن يعلم » بإظهار « أن » .
والجحدري أيضاً والحسن : « ليعلم » .
وأصلها كالتي قبلها « لأن يعلم » فأبدل الهمزة ياء لانفتاحها بعد كسرة؛ وقد تقدم أنه قياسي كقراءة ورش « ليلاّ » ثم أدغم النون في الياء .
قال أبو حيان : « بغير غُنَّةٍ كقراءة خلف » أن يضرب « بغير غُنَّةٍ » . انتهى .
فصار اللفظ « ليعلم » . وقوله « بغير غنة » ، ليس عدم الغنة شرطاً في صحة هذه المسألة بل جاء على سبيل الاتفاق ، ولو أدغم بغنة لجاز ذلك فسقوطها في هذه القراءات يؤيد زيادتها في المشهورة .
وقرأ الحسن أيضاً فيما روى عنه أبو بكر بن مجاهد : « ليلا يعلم » بلام مفتوحة وياء ساكنة كاسم المرأة ، ورفع الفعل بعدها .
وتخريجها : على أن أصلها « لأن لا » على أنها لام الجر ولكن فتحت على لغة مشهورة معروفة؛ وأنشدوا :
4728- أرِيدُ لأَنْسَى ذِكْرَهَا ..
بفتح « اللام » ، وحذف الهمزة اعتباطاً ، وأدغمت النون في « اللام » فاجتمع ثلاثة أمثال فثقل النطق به ، وأبدل الوسط ياء تخفيفاً ، فصار اللفظ « ليلا » كما ترى ، ورفع الفعل؛ لأن « أنْ » هي المخففة لا النَّاصبة ، واسمها على ما تقرر ضمير الشَّأن ، وفصل بينهما وبين الفعل الذي هو خبرها بحرف النَّفْي .
وقرأ الحسن أيضاً فيما روى عنه قطرب : « ليلا » بلام مكسورة ، وياء ساكنة ، ورفع الفعل بعدها ، وهي كالَّتي قبلها في التخريج ، غاية ما في الباب أنه جاء بلام الجر كما هي في اللغة الشهيرة .
وروي عن ابن عباس : « لكي يعلم » و « كي يعلم » .
وعن عبد الله : « لكيلا » .
وهذه كلها مخالفة للسَّواد الأعظم ، ولسواد المصحف .
وقراءة العامة : { أن لا يقدرون } بثبوت النون ، على أن « أنْ » هي المخففة .
وعبد الله : بحذفها على أن « أن » هي الناصبة .
وهذا شاذّ جداً؛ لأن العلم لا يقع بعده الناصبة .
وقوله : { يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } الظاهر أنه مستأنف .
وقيل : هو خبر ثانٍ عن الفضل .
وقيل : هو الخبر وحده ، والجار قبله حال ، وهي حال لازمة؛ لأن كونه بيدِ الله لا ينتقل ألبتة .
فصل في اتصال الآية بما قبلها
نقل ابن الخطيب عن الواحدي أنه قال : هذه الآية مشكلة ، وليس للمفسرين فيها قول واضح في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها .
واعلم أن أكثر المفسرين على أن « لا » هاهنا صلة زائدة ، والتقدير : ليعلم أهل الكتاب .
وقال أبو مسلم وجماعة : على أن « لا » ليست زائدة ، ونحن نفسر الآية على القولين بعون الله وتوفيقه .
أما على القول بزيادتها ، فاعلم أنه لا بُدَّ هاهنا من تقديم مقدمة ، وهي أن أهل الكتاب كانوا يقولون : إن الوحْيَ والرسالة فينا ، والكتاب والشرع ليس إلاَّ لنا ، وإنّ الله خصَّنا بهذه الفضيلة العظيمة من بين العالمين .
إذا عرفت هذا ، فنقول : إن الله - تعالى - لما أمر أهل الكتاب بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ووعدهم الأجر العظيم في ذلك الإيمان أتبعه بهذه الآيةِ ، والغرض منها أن يزيل عن قلبهم اعتقادهم بأن النبوة مختصة بهم ، فقال : إنما بالغنا في هذا البيان ليعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيءٍ من فَضْل الله لقوم معينين ، ولا يمكنهم حصر الرسالة والنبوة في قوم مخصوصين ، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، ولا اعتراض عليه في ذلك أصلاً .
وأما القول بأن « لا » غير زائدة ، فاعلم أن الضمير في قوله : « لا يَقْدرون » عائد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه - رضي الله عنهم - والتقدير : لئلا يعلم أهل الكتاب أن النبي والمؤمنين لا يقدرون على شيء من فضل الله ، فإنهم إذا لم يعلموا أنهم لا يقدرون عليه ، فقد علموا أنَّهم يقدرون عليه ثم قال : { وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله } فيصير التقدير : إنا جعلنا كذا وكذا لئلا يعتقد أهل الكتاب أنهم يقدرون على حصر فضل الله في قوم معينين ، وليعتقدوا أن الفضل بيد الله .
واعلم أنَّ هذا القول ليس فيه إلاَّ أنا أضمرنا فيه زيادة ، فقلنا في قوله : { وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله } تقديره : وليعتقدوا أنَّ الفضل بيد الله وأما القول الأول فقد افتقرنا فيه إلى حذف شيء موجود ، ومن المعلوم أنَّ الإضمار أولى من الحذف؛ لأن الكلام إذا افتقر إلى الإضمار لم يوهم ظاهره باطلاً أصلاً .
وأما إذا افتقرنا إلى الحذف كان ظاهرهُ موهماً للباطل ، فعلمنا أن هذا القول أولى .
فصل في نزول هذه الآية
قال قتادةُ : حسد أهل الكتاب المسلمين فنزلت : لئلا يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله .
وقال مجاهد : قالت اليهود : يوشك أن يخرج منّا نبيٌّ يقطع الأيدي والأرجل ، فلما خرج من العرب كفروا فنزلت : « لئلا يعلم » ، أي : ليعلم أهل الكتاب ألا يقدرون يعني : أنهم لا يقدرون ، كقوله : { أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً } [ طه : 89 ] والمراد من فضل الله .
قيل : الإسلام وقيل : الثواب .
وقال الكلبي : من رزق الله .
وقيل : نِعَمُ الله التي لا تُحْصَى .
{ وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله } ليس بأيديهم ، فيصرفوا النُّبُوَّة عن محمد صلى الله عليه وسلم إلى من يُحِبُّون .
وقيل : إن الفضل بيد الله ، أي : بقوله : { يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } .
روى البخاري عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم على المنبر يقول : « إنَّما بَقَاؤكُمْ فِيْمَا سَلَفَ قَبْلكُمْ مِنَ الأممِ كما بَيْنَ صلاةِ العصْرِ إلى غُرُوبِ الشَّمسِ ، أعْطِيَ أهْلُ التَّوراةِ التَّوْراةَ فَعمِلُوا بِهَا حتَّى انْتَصفَ النَّهارُ ، ثُمَّ عَجَزُوا فأعْطُوا قِيْراطاً قِيْراطاً ، ثُمَّ أعطي أهْلُ الإنجيلِ الإنجيلَ فعمِلُوا بِهِ حتَّى صلاةِ العَصْرِ ، ثُمَّ عَجَزُوا فأعْطُوا قِيْراطاً قِيْراطاً ، ثُمَّ أعطيتُمُ القُرْآنَ فعَمِلْتُمْ بِهِ حتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ فأعطيتُمْ قِيْراطَيْنِ قِيْراطَيْنِ ، قال أهْلُ التَّوْرَاةِ : رَبَّنَا هؤلاءِ أقَلُّ عملاً وأكْثَرُ أجْراً ، قال : هَلْ ظُلِمْتُمْ مِنْ أجْرِكُمْ شَيْئاً؟ قَالُوا : لا ، قال : فذلِك فَضْلُ اللَّهِ أوتيهِ مَنْ أشَاءُ » .
وفي رواية : « فَغَضِبَتِ اليَهُودُ والنَّصَارى وقالُوا : رَبَّنَا » الحديث .
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)
قوله تعالى : { قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } الآية .
« قَدْ » هنا للتوقع .
قال الزمخشري : « لأنه - عليه الصلاة والسلام - والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع اللَّه مجادلتهما وشكواها ، وينزل في ذلك ما يفرج عنهما » .
وإظهار الدال عند السين قراءة الجماعة إلا أبا عمرو والأخوين .
ونقل عن الكسائي أنه قال : من بيَّن الدال عند السين فلسانه أعجمي ، وليس بعربي . وهذا غير معرج عليه .
و « في زوجها » في شأنه من ظهاره إياها .
فصل فيمن جادلت الرسول صلى الله عليه وسلم
التي اشتكت هي خولة بنت ثعلبة .
وقيل : بنت حكيمٍ .
وقيل : بنت خُويلد .
قال الماوردي : وليس هذا بمختلف؛ لأن أحدهما : أبوها ، والآخر : جدها ، فنسبت إلى كل منهما .
قيل : كانت أمة .
وقيل : هي ابنة صامت .
وقيل : أمة لعبد الله بن أبي . وهي التي أنزل الله فيها : { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } [ النور : 33 ] أي لا يكرهها على الزنا .
وقيل : هي ابنة حكيم .
قال النحاس : وهذا ليس بمُتناقض ، يجوز مرَّة أن تنسب إلى أبيها ، ومرَّة إلى أمها ، ومرَّة إلى جدِّها ، ويجوز أن تكون أمةً كانت لعبد الله بن أبي ، فقيل لها : أنصارية بالولاء؛ لأنه كان في عداد الأنصاريين وأنه كان من المنافقين . نقله القرطبي .
وقيل : اسمها جميلة ، وخولة أصح ، وزوجها أوسُ بن الصَّامت أخو عبادة بن الصَّامت .
وروي أن عمر بن الخطاب مرَّ بها في خلافته ، وهو على حمارٍ والناس معه ، فاستوقفته طويلاً ووعظته ، وقالت : يا عمرُ ، قد كنت تدعى عُمَيراً ثم قيل لك : عمر ، ثم قيل : أمير المؤمنين ، فاتَّقِ الله يا عمر ، فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت ، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب ، وهو واقف يسمع كلامها ، فقيل له : يا أمير المؤمنين أتقفُ لهذه العجوز هذا الوقوف .
فقال : والله لو حَبَسَتْنِي من أول النهار إلى آخره لا زلت إلاَّ للصَّلاة المكتوبة ، أتدرون من هذه العجوز؟ هذه خولة بنت ثعلبة ، سمع الله قولها من فوق سبع سموات ، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟! .
وقالت عائشة : تبارك الذي وسِعَ سمعهُ كُلَّ شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى عليّ بعضه ، وهي تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول : يا رسول الله أكَلَ شَبَابي ، ونَثرْتُ له بطني حتَّى إذا كبرت سنّي ، وانقطع ولدي ظاهر منِّي ، اللهم إني أشكو إليك فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآيات : { قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } الآية .
« روي أنها كانت حسنة الجِسْمِ ، فرآها زوجها ساجدةً فنظر عجيزتها ، فأعجبه أمرها ، فلما انصرفت أرادها فأبَتْ فغضب عليها ، قال عروة : وكان امرأ به لممٌ فأصابه بعض لممهِ ، فقال لها : أنْتِ عليَّ كظهْرِ أمِّي وكان الإيْلاء والظِّهار من الطلاق في الجاهلية ، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها : » حَرُمْتِ عليْهِ « ، فقالت : والله ما ذكر طلاقاً ، وإنه أبو ولدي وأحبّ الناس إليَّ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » حَرُمْتِ عَليْهِ « ، فقالت : أشكو إلى الله فَاقتِي ووحْدتِي ، فقد طالت له صُحْبتي ونفَضَتْ له بَطْني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » مَا أرَاك إلاَّ قَدْ حَرُمْتِ عليْهِ ولَمْ أومر فِي شأنِك بِشيءٍ « ، فجعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا قال لها رسول الله : » حَرُمْتِ عليْهِ « هتفت وقالت : أشكو إلى الله فاقتِي وشدة حالي ، وإن لي صبيةً صغاراً إن ضَممتُهُمْ إليَّ جاعُوا ، وإن ضَممتُهُمْ إليه ضاعُوا ، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول : اللهُم إني أشكو إليك فأنزل على لسان نبيك ، وكان هذا أول ظهارٍ في الإسلام فأنزل الله تعالى : { قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } الآية . فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زوجها ، وقال : » مَا حَمَلَكَ عَلى ما صَنَعْتَ «؟ فقال : الشيطان ، فهل من رُخْصَة؟ فقال : » نَعَمْ « ، وقرأ عليه الأربع آيات ، فقال : » هَلْ تَسْتطِيْعُ الصَّوْمَ «؟ فقال : لا والله ، فقال : » هَلْ تَسْتطيعُ العِتْقَ «؟ فقال : لا والله ، إني أن أخطأ في أن آكل في اليوم مرة أو مرتين لكلَّ بصري وظننت أني أموت ، قال : » فأطْعِمْ ستِّيْنَ مِسْكيناً « ، فقال : ما أجد إلا أن تعينني منك بعونٍ وصلةٍ ، فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسةَ عشر صاعاً ، وأخرج أوس من عنده مثله ، فتصدق به على ستين مسكيناً » .
فصل في اللمم الذي كان بأوس بن الصامت
قال أبو سليمان الخطَّابي : ليس المراد من قوله في هذا الخبر : وكان بن لَمَم الخبل والجنون ، إذ لو كان به ثُمَّ ظاهر في تلك الحال لم يكن يلزمه شيء ، بل معنى اللَّمَم هاهنا : الإلمام بالنساء وشدة الحِرْصِ والتَّوقَانِ إليهن .
فصل في الظهار
اعلم أن الظِّهار كان من أشدّ طلاق الجاهلية؛ لأنه في التحريم أوكدُ ما يمكن ، فإن كان الحكم صار مقرّراً في الشرع كانت الآية ناسخة له ، وإلا لم يفد نسخاً؛ لأن النسخ إنما يدخل في الشَّرائع لا في عادة الجاهلية ، لكن الذي روي أنه - عليه الصلاة والسلام - قال لها : « حَرُمْتِ » أوْ « مَا أَرَاكَ إلاَّ قَدْ حَرُمْتِ » كالدلالة على أنه كان شرعاً .
فأما ما روي أنه توقف في الحكم فلا يدل على ذلك .
وفي الآية دليل على أن من انقطع رجاؤه عن الخلق ولم يَبْقَ له في مهمه أحد سوى الخالق كفاه الله ذلك المُهِمّ .
فصل فيما حكاه الله عن هذه المرأة
اعلم أنَّ الله - تعالى - حكى عن هذه المرأة أمرين :
أحدهما : المجادلة وهو قوله تعالى : { تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } أي : في شأن زوجها ، وتلك المجادلة هي أنه - عليه الصلاة والسلام - كلما قال لها : « حَرُمَتْ عَليْهِ » ، قالت : والله ما ذكر طلاقاً .
والثاني : شكواها إلى الله فَاقتَهَا ووحْدتهَا ، وقولها : إن لي صبية صغاراً .
فصل في سمع الله تعالى
قال القرطبي : الأصل في السماع إدراك المسمُوعات وهو اختيار أبي الحسن ، وقال ابن فورك : الصحيح أنه إدراك المسمُوع .
وقال الحاكم أبو عبد الله : « السميع » هو المدرك للأصوات التي يدركها المخلوقون بآذانهم من غير أن يكون له أذن ، وذلك راجع إلى أن الأصوات لا تخفى عليه ، وإن كان غير موصوف بالحس المركب في الأذُن كالأصَم من النَّاس لما لم يكن له هذه الحاسة لم يكن أهلاً لإدراك الصوت ، والسمع والبصر صفتان كالعلم والقدرة ، والحياة والإرادة ، فهما من صفات الذات لم يزل الخالق سبحانه متّصفاً بهما .
وقرىء : « تُحَاوِرُكَ » أي : تراجعك الكلام .
قوله : { وتشتكي إِلَى الله } يجوز فيه وجهان :
أظهرهما : أنه عطف على « تجادلك » فهي صلة أيضاً .
والثاني : أنها في موضع نصب على الحال ، أي : تجادلك شاكيةً حالها إلى الله .
وكذا الجملة من قوله : { والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ } والحالية فيها أبعد .
و « شكا » و « اشتكى » بمعنى واحد .
و « المُحَاورة » : المراجعة في الكلام ، حار الشيء يحُور حَوْراً ، أي : رجع يرجع رجوعاً .
ومنه : « نعوذ بالله من الحور بعد الكورِ » ، وكلمته فما أحار بكلمة ، أي : فما أجاب .
{ إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ } . أي : يسمع كلام من يناديه ، ويبصر من يتضرع إليه .
قوله : { الذين يُظَاهِرُونَ } تقدم الخلاف في « تُظَاهرون » في سورة « الأحزاب » ، وكذا في { اللائي } [ الأحزاب : 4 ] .
وقرأ أبيّ هنا : « يَتَظَاهرون » .
وعنه أيضاً : « يتظهرون » .
وفي « الذين » وجهان :
أحدهما : أنه مبتدأ ، وخبره : قوله { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } .
الثاني : أنه منصوب ب « بصير » على مذهب سيبويه في جواز إعمال « فعيل » قاله مكي .
يعني : أن سيبويه يعمل « فعيلاً » من أمثلة المبالغةِ ، وهو مذهب مطعُون فيه على سيبويه؛ لأنه استدلّ على إعماله بقول الشاعر : [ البسيط ]
4729- حَتَّى شَآهَا كَلِيلٌ مَوْهِناً عَمِلٌ ... بَاتَتْ طِرَاباً وبَاتَ اللَّيْلَ لَمْ يَنَمِ
ورد عليه بأن « موهناً » ظرف زمان ، والظروف يعمل فيها روائح الأفعال ، والمعنى : يأتي « ما » قاله مكي .
وقرأ العامة : « أمَّهاتِهِمْ » بالنصب على اللغة الحجازية الفصحى ، كقوله
{ مَا هذا بَشَراً } [ يوسف : 31 ] .
وعاصم في رواية بالرفع على اللغة التميمية ، وإن كانت هي القياس لعدم اختصاص الحرف ، وقرأ عبد الله : « بأمَّهاتهم » بزيادة الباء وهي تحتمل اللغتين .
وقال الزمخشري : « وزيادة الباء في لغة من يَنْصِبُ » .
قال شهاب الدين : هذا هو مذهب أبي عليّ ، يرى أن « الباء » لا تزاد إلا إذا كانت عاملة ، فلا تزاد في التميمية ، ولا في الحجازية إذا منع من عملها مانع ، نحو : « ما إن زيد بقَائمٍ » ، وهذا مردُود بقول الفرزدق وهو تميمي : [ الطويل ]
4730- لَعَمْرُكَ ما مَعْنٌ بتَارِكِ حَقِّهِ ... ولا مُنْسِىءٌ مَعْنٌ ولا مُتَيَسِّرُ
وبقول الآخر : [ المتقارب ]
4731- لَعَمْرُكَ مَا إنْ أبُو مالكٍ ... بِوَاهٍ ولا بِضَعيفٍ قُوَاه
فزادها مع « ما » الواقع بعدها « إن » .
فصل في التعبير بلفظ الظهار
ذكر الظَّهْر كناية عن معنى الركوب ، والآدمية إنما يُرْكَب بطنُها ، ولكن كنَّى عنه بالظَّهر؛ لأن ما يركب من غير الآدميات فإنما يركب ظهره فكنَّى بالظهر على الركوب ، ويقال : نزل عن امرأته أي : طلقها كأنه نزل عن مركُوبه ، ومعنى : أنت عليَّ كظهرِ أمي ، أي : أنت عليَّ محرمة لا يحلّ لي ركوبك نقله القرطبي .
ونقل ابن الخطيب عن صاحب « النظم » : أنه ليس مأخوذاً من الظَّهر الذي هو عضو من الجسد؛ لأنه ليس الظَّهر بأولى بالذكر في هذا الوضع من سائر الأعضاء التي هي مواضع المباضعةِ والتلذُّذ ، بل الظهر هاهنا مأخوذ من العُلوّ ، ومنه قوله تعالى : { فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ } [ الكهف : 97 ] أي : يعلوه وكذلك امرأة الرجل ظهره؛ لأنه يعلوها بملك البضع وإن لم يكن ناحية الظَّهر ، فكأن امرأة الرجل مركب للرجل وظهر له .
ويدلُّ على صحة هذا المعنى ما نقل عن العرب أنهم يقولون في الطلاق : نزلت عن امرأتي ، أي : طلقتها ، وفي قولهم : أنت عليّ كظهر أمي حذف وإضمار؛ لأن تقديره : ظهرك عليّ ، أي ملكي إياك ، وعلوي عليك حرام كما عُلوي على أمي وملكها عليّ .
فصل في حقيقة الظهار
حقيقة الظهار : تشبيه ظهر بظهر ، والموجب للحكم منه تشبيه ظَهْر محلّل بظهر محرم ، ولهذا أجمع الفقهاء على أنَّ من قال لزوجته : أنت عليَّ كظهرِ أمي ، أنه مظاهر .
وقال أكثرهم ، إذا قال لها : أنت عليّ كظهرِ ابنتي ، أو أختي ، أو من تحرم عليه على التأبيد من ذوات المحارم أنه مظاهر .
فصل في ألفاظ الظهار
وألفاظ الظِّهار : صريح وكناية :
فالصريح : أنت علي كظهر أمي ، وأنت عندي ، وأنت منّي ، وأنت معي كظهر أمي ، وكذلك أنت عليَّ كبطن أمي ، أو كرأسها أو فرجها ونحوه ، وكذلك فرجك ، أو رأسك ، أو ظهرك ، أو بطنك ، أو رجلك عليَّ كظهر أمي ، فهو مظاهر مثل قوله : يدك ، أو رجلك ، أو رأسك ، أو فرجك طالق تطلق عليه ، ومتى شبهها بأمّه ، أو بإحدى جداته من قبل أبيه ، أو أمه فهو ظهار بلا خلاف ، وإن شبهها بغيرهن من ذوات المحارم التي لا تحلّ له بحال كالبنت ، والأخت ، والعمة ، والخالة كان مظاهراً عند أكثر الفقهاء .
والكناية : أن يقول : أنت عليَّ كأمي ، أو مثل أمي ، فإنه يعتبر فيه النية ، فإن أراد الظهار كان ظهاراً ، وإن لم ينو الظهار لم يكن مظاهراً على خلاف في ذلك ، فإن شبه امرأته بأجنبيّة ، فإن ذكر الظهر كان ظهاراً ، وإن لم يذكر الظهر ، فقيل : يكون ظهاراً .
وقيل : طلاقاً .
وقال : أبو حنيفة والشافعي : لا يكون شيئاً .
وقيل : وهذا فاسد؛ لأنه شبّه محللاً من المرأة بمحرم ، فأشبه الظهر . نقله القرطبي .
فإن قال : أنت عليَّ حرام كظهر أمي ، كان ظهاراً ولم يكن طلاقاً؛ لأن قوله : أنت عليَّ حرام يحتمل التحريم بالطلاق ، فيكون طلقة ، ويحتمل التحريم بالظِّهار ، فلما صرح به كان تفسيراً لأحد الاحتمالين ، فقضي به فيه .
فصل
والظِّهار لازم في كلّ زوجة مدخول بها ، أو غير مدخُول بها من كل زوج يجوز طلاقه .
وقال مالك : يجوز الظِّهار من كل من يجوز له وطؤها من إمائِهِ إذا ظاهر منهن لزمه الظِّهارُ فيهن ، وقال غيره : لا يلزم .
قال ابن العربي : وهي مسألة عسيرةٌ جدًّا؛ لأن مالكاً يقول : إذا قال لأمته : أنت عليَّ حرام لا يلزم ، فكيف يبطل فيها صريح التحريم ، وتصح كنايته .
قوله : { مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً } نعتان لمصدر محذوف أي قولاً منكراً وزوراً أي : كذباً وبهتاناً .
قاله مكي . وفيه نظر؛ إذ يصير التقدير : ليقولون قولاً منكراً من القولِ ، فيصير قوله : « مِنَ القَوْلِ » لا فائدة فيه ، والأولى أن يقال : نعتان لمفعول محذوف ، لفهم المعنى ، أي : ليقولن شيئاً منكراً من القول لتفيد الصفة غير ما أفاده الموصوف .
والمنكر من القول : ما لا يعرف في الشَّرْع ، والزور : الكذب .
{ وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } إذ جعل الكفارة عليهم مُخلصةً لهُمْ من هذا القَوْل المنكر .
وقيل : « لعفو غفور » إما من قبل التوبة لمن يشاء ، كما قال تعالى : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 116 ] .
أو بعد التوبة .
فإن قيل : المظاهر إنما قال : أنْتِ عليَّ كظهرِ أمِّي ، فشبه بأمه ، ولم يقل : إنها أمه ، فما معنى أنه جعله منكراً من القوْلِ وزوراً . والزُّور : الكذب ، وهذا ليس بكذب؟ .
فالجواب : أنَّ قوله إنْ كان خبراً فهو كذب ، وإنْ كَانَ إنشاء فكذلك؛ لأنه جعله سبباً للتَّحريم ، والشَّرْع لم يجعله سبباً لذلك .
وأيضاً فإنما وصف بذلك ، لأن الأم مؤبدة التحريم ، والزَّوْجة لا يتأبّد تحريمها بالظِّهار ، وهذا ضعيف؛ لأنَّ المشبه لا يلزم أن يساوي المشبه به من كُلِّ وجهٍ .
فإن قيل : قوله : { إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ } يقتضي أن لا أم إلا الوالدة ، وهذا مشكل لقوله تعالى : { وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ } [ النساء : 23 ] .
وقوله تعالى : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } [ الأحزاب : 6 ] .
والحمل على حرمة النكاح لا يفيد؛ إذْ لا يلزمُ مِنْ عدم كوْنِ الزَّوجة أمًّا عدمُ الحُرمةِ ، فظاهر الآية الاستدلال بعدم الأمومة على عدم الحرمة؟ .
فالجواب : أنا نقول : هذه الزَّوجة ليست بأم حتى تحصل الحرمة بسبب الأمومة ، ولم يرد الشرع بجعل هذه اللفظة سبباً للحرمةِ ، فإذن لا تحصل الحرمة هناك ألبتّة فكان وصفهم لها بالحرمة كذباً وزوراً .
وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)
قوله : { والذين يُظَاهِرُونَ } مبتدأ .
وقوله : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } مبتدأ ثان وخبره مقدم ، أي : فعليهم ، أو فاعل بفعل مقدر ، أي : فيلزمهم تحرير ، أو خبر مبتدأ مضمر ، أي : فالواجب عليهم تحرير .
فصل
ويلزم الظهار قبل النكاح إذا نكح التي ظاهر منها عند مالك ، ولا يلزم عند غيره لقوله تعالى : { مِن نِّسَآئِهِم } .
وإذا ظاهر صح ظهاره كما يصح طلاقه . وقال مالك : لا يلزم ظهاره؛ لأنه لا يصح تكفيره بالصِّيام ، وهذا منقوض بظهار العبد ، وهو لا يكفر بالعتقِ والإطعام .
فصل في عدم صحة ظهار المرأة من زوجها
لا يصح ظهار المرأة من زوجها ، وعليها كفَّارة يمين ، إنما الظهار على الرجال؛ لأن الحل والعقد في النكاح بيدِ الرجال ليس بيد المرأة منه شيء .
وقال الحسن بن زياد : هي مظاهرة .
وقال الزهري : أرى أن تكفر كفَّارة الظهار .
وقال محمد بن الحسن : لا شيء عليها .
فصل في المظاهرة حال الغضب والسكر
وإذا ظاهر حال غضبه لزمه حكم الظِّهار ، للحديث ، ويصح ظهار السكران وطلاقه ، وإذا ظاهر من نسائه بكلمة واحدة فكفَّارة واحدة ، وإن ظاهر منهنّ بكلمات فعليه لكل واحدة كفَّارة ظهار ، وإذا قال لأربع نسوة : إن تزوجتكنّ فأنتن عليَّ كظهرِ أمي ، فتزوج إحداهن لم يقربها حتى يكفِّر ، ثم قد سقط اليمين فيه في سائرهن .
وقيل : لا يَطَأُ البواقي منهن حتى يكفر فإن قال لامرأته : أنت عليَّ كظهرِ أمي ، وأنت طالق ألبتة ، لزمه الطلاق والظِّهار معاً ، ولم يكفر حتى ينكحها بعد زوج ولا يطؤها إذا نكحها حتى يكفر ، فإن قال لها : أنت طالق ألبتَّة ، وأنت عليّ كظهر أمي لزمه الطَّلاق ، ولم يلزمه الظِّهار؛ لأن المبتُوتةَ لا يلحقها طلاق ولا ظهار ، ويصح الظهار المؤقّت كما لو قال : أنت اليوم عليَّ كظهرِ أمي فإنَّه يصحّ ويبطل بمضيّ اليوم .
وقال مالك : يتأبّد .
قوله : « منكم » توبيخ للعرب ، وتهجين لعادتهم في الظِّهار؛ لأنه كان من أيمان الجاهلية خاصة ، دون سائر الأمم .
وقوله : { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } [ المجادلة : 2 ] أي : ما نساؤهم بأمهاتهم ، { إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ } [ المجادلة : 2 ] أي إلا الوالدات .
وعلى التقادير الثلاثة ، فالجملة خبر المبتدأ ، ودخلت « الفاء » لما تضمنه المبتدأ من معنى الشرط .
قوله : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } . في هذه « اللام » أوجه :
أحدها : أنها متعلقة ب « يعودون » .
وفيه معان :
أحدها : والذين من عادتهم أنهم كانوا يقولون هذا القول في الجاهلية ، ثمَّ يعودون لمثله في الإسلام .
الثاني : ثم يتداركون ما قالوا؛ لأن المتدارك للأمر عائد إليه ، ومنه : « عَادَ غَيْثٌ عَلَى ما أفْسَدَ » أي تداركه بالإصلاح ، والمعنى : أن تدارك هذا القول وتلافيه بأن يكفر حتى ترجع حالهما كما كانت قبل الظِّهار .
الثالث : أن يراد بما قالوا ما حرَّموه على أنفسهم بلفظ الظِّهار تنزيلاً للقول منزلة المقول فيه نحو ما ذكر في قوله تعالى : { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } [ مريم : 80 ] ، والمعنى : ثم يريد العود للتَّماسِّ . قاله الزمخشري .
وهذا الثالث هو معنى ما روي عن مالك ، والحسن ، والزهري : ثم يعودون للوطءِ ، أي : يعودون لما قالوا : إنهم لا يعودون إليه ، فإذا ظاهر ثُمَّ وطىء لزمتِ الكفَّارة عند هؤلاء .
الرابع : « لما قالوا » ، أي : يقولونه ثانياً ، فلو قال : أنت عليَّ كظهرِ أمي مرّة واحدة لم يلزمه كفارة؛ لأنه لم يَعُدْ لما قال ، وهذا منقول عن بكير بن عبد الله الأشجّ ، وأبي حنيفة ، وأبي العالية ، والفراء في آخرين ، وهو مذهب أهل الظَّاهر .
قال ابن العربي : وهذا القول باطل قطعاً؛ لأن قصص المتظاهرين قد رويت ، وليس في ذكر الكفارة عليهم ذكر لعود القول منهم ، والمعنى أيضاً بنقضه؛ لأن الله - تعالى - وصفه بأنه مُنْكَر من القول وزور ، فكيف يقال : إذا أعدت القول المحرّم ، والسَّبب المحظور وجبت عليك الكفَّارة ، وهذا لا يعقل ألا ترى أنَّ كل سبب يوجب الكفَّارة لا يشترط فيه الإعادة من قتلٍ ووطءٍ في صوم؟ .
الخامس : أن المعنى أن يعزم على إمساكها فلا يطلقها بعد الظِّهار حتى يمضي زمن يمكن أن يطلقها فيه ، فهذا هو العودُ لما قال ، وهو مذهب الشافعي ، ومالك ، وأبي حنيفة أيضاً .
وقال : العود هنا ليس بتكرير القول ، بل بمعنى العزم على الوطء .
قال القرطبي : وهذا ينتقض بثلاثة أمور :
أحدها : أنه قال : « ثُمَّ » وهي للتراخي .
الثاني : قوله : « ثم يعُودُون » يقتضي وجود فعل من جهته ، ومرور الزمان ليس بفعل منه .
الثالث : أن الطلاق الرَّجْعِي لا ينافي البقاء على الملك ، فلم يسقط حكم الظِّهار كالإيلاء .
وقال مكي : « واللام متعلقة ب » يَعُودُون « أي : يعودون لوطءِ المقول فيه الظهار ، وهن الأزواج ف » ما « والفعل مصدر ، أي : لقولهم ، والمصدر في موضع المفعول به ، نحو : » هذا دِرْهم ضرب الأمير « أي : مضروبه ، فيصير المعنى ، كقولهم للمقول فيه الظِّهار ، أي : لوطئه » .
وهذا معنى قول الزمخشري في الوجه الثالث الذي تقدم تقريره عن الحسن ، والزهري ، ومالك إلاَّ أن مكيًّا قيد ذلك بكون « ما » مصدرية حتى يقع المصدر المؤول موضع اسم المفعول ، وفيه نظر؛ إذ يجوز ذلك وإن كانت « ما » غير مصدرية لكونها بمعنى « الذي » ونكرة موصوفة ، بل جعلها غير مصدرية أولى؛ لأن المصدر المؤول فرع المصدر الصريح ، إذ الصريح أصل للمؤول به ، ووضع المصدر موضع اسم المفعول خلاف الأصل ، فيلزم الخروج عن الأصل بشيئين : بالمصدر المؤول ، ثم وقوعه موقع اسم المفعول ، والمحفوظ من لسانهم إنما هو وضع المصدر الصَّريح موضع المفعول لا المصدر المؤول فاعرفه .
لا يقال : إن جعلها غير مصدرية يحوجُ إلى تقدير حذف مضاف ليصحّ المعنى ، أي : يعودون لوطء الذي ظاهر منها ، أو امرأة ظاهر منها ، أو يعودون لإمساكها .
والأصل : عدم الحذف؛ لأن هذا مشترك الإلزام لنا ولكم ، فإنكم تقولون أيضاً : لا بد من تقدير مضاف ، أي : يعودون لوطء أو لإمساك المقول فيه الظهار ، ويدل على جواز كون « ما » في هذا الوجه غير مصدرية ما أشار إليه أبو البقاء ، فإنه قال : يتعلق ب « يعودون » بمعنى يعودون للقول فيه ، هذا إن جعلت « ما » مصدرية ، ويجوز أن تجعلها بمعنى « الذي » ونكرة موصوفة .
الثاني : أن « اللام » تتعلق ب « تحرير » ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : والذين يُظَاهرون من نسائهم فعليهم تحرير رقبة لما نطقوا به من الظِّهار ، ثم يعودون للوطء بعد ذلك . وهذ ما نقله مكي وغيره عن الأخفش .
قال أبو حيَّان : « وليس بشيء؛ لأنه يفسد نظم الآية » .
وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم فساد النظم مع دلالة المعنى على التقديم والتأخير ، ولكن نسلم أن ادِّعاء التقديم والتأخير لا حاجة إليه؛ لأنه خلاف الأصل .
الثالث : أن « اللام » بمعنى « إلى » ، و « اللام » و « إلى » يتعاقبان ، قال تعالى : { هَدَانَا لهذا } [ الأعراف : 43 ] ، وقال : { فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم } [ الصافات : 23 ] وقال : { بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا } [ الزلزلة : 5 ] وقال : { وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ } [ هود : 36 ] قاله الأخفش .
الرابع : أنها بمعنى « في » ، نقلها أبو البقاء ، ومع ذلك فهي متعلقة ب « يعودون » .
الخامس : أنها متعلقة ب « يقولون » .
[ قال مكي : وقال قتادة : ثم يعودون لما قالوا من التحريم فيحلونه ، فاللام على هذا تتعلق ب « يقولون » ] .
قال شهاب الدين : « ولا أدري ما هذا الذي قاله مكي ، وكيف فهم تعلقها ب » يقولون « على تفسير قتادة ، بل تفسير قتادة نص في تعلقها ب » يعودون « ، وليس لتعلقها ب » يقولون « وجه » .
ونقل القرطبي عن الفرَّاء قال : اللام بمعنى « عن » والمعنى : ثم يرجعون عما قالوا ، ويريدون الوطء .
وقال أبو مسلم : العود هو أن يحلف أولاً على ما قال من لفظ الظهار ، فلو لم يَحْلف لم تلزمه كفارة كما لو قال في المأكول : هو عليَّ حرام كَلَحْمِ الآدمي فلا كفَّارة عليه ، فإذا حلف عليه لزمته كفارة يمين .
وهذا ضعيف؛ لأن الكفَّارة قد تجب بالجماعِ في الحجّ ، وفي رمضان ، وفي قتل الخطأ ، ولا يمين هناك .
قوله : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } أي : فعلية إعتاق رقبةٍ ، يقال : حرَّرته ، أي : جعلته حرًّا ، ثم هذه الرقبة يجب أن تكون كاملة سالمة من كل عيب ، ومن كمالها إسلامها كالرَّقبة في كفَّارة القتل ، فإذا أعتق نصفي عبدين لم يجزه .
وقال الشافعي : يجزيه لأنَّ النِّصفين في معنى العبد الواحد؛ ولأن الكفَّارة في العتقِ طريقها المال ، فجاز أن يدخلها التَّبعيض كالإطعام ، ودليل الأول قوله : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } وهذا الاسم عبارة عن شخص واحد ، وبعض الرقبة ليس رقبة؛ ولأنه لو أوصى رجلين أن يحجا عنه حجة لم يجز أن يحجّ واحد منهما نصفها ، ولو أوصى أن يشتري رقبة فيعتق عنه لم يجز أن يعتق نصف عبدين ، كذا ها هنا .
وروي عن أحمد - رضي الله عنه - إن كان باقيهما حراً صح وأجزأ ، وإلاَّ فلا؛ لأن المقصود تكميل الحرية وقد كملت ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : « لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيْكٌ فإنْ أعْتِقَ مُكَاتبٌ عَنِ الكفَّارةِ لَمْ يَجْزِهِ » .
وقال أبو حنيفة : إن أعتقه قبل أن يؤدي شيئاً أجزأه ، وإن أعتق بعد أن أدى شيئاً لم يجزه ، فإن أعتق ذا رحمه المحرم عن كفارته عتق ، ولم يُجْزه عن الكفارة .
قوله : { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } ، أي : من قبل أن يجامعها ، فلا يجوز للمظاهر الوطء قبل التكفير فإن جامعها قبل التَّكفير عصى ، ولا يسقط عنه التكفير .
وحكي عن مجاهد : أنه إذا وطىء قبل أن يشرع في التكفير لزمه كفَّارة أخرى ، وعن غيره أن الكفَّارة الواجبة بالظِّهار تسقط عنه ، ولا يلزمه شيء أصلاً؛ لأن الله - تعالى - أوجب الكفَّارة ، وأمر بها قبل المسيسِ ، فإذا أخَّرها حتى مسَّ فقد فات وقتُها ، والصحيح ثبوت الكفَّارة؛ لأنه بوطئه ارتكب إثماً ، وذلك ليس بمسقط للكفَّارة ، ويأتي بها قضاء كما لو أخَّر الصلاة عن وقتها ، وسواء كانت الكفَّارة بالعِتْقِ ، أو الصوم ، أو الإطعام .
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : إن كانت بالإطعام جاز أن يطأ ثم يطعم ، فأما غير الوطء من القبلة والمباشرة والتلذُّذ فلا يحرم في قول أكثر العلماء .
فصل فيمن ظاهر من امرأته مراراً
إذا ظاهر مراراً من امرأته ولم يُكفر ، فكفَّارة واحدة إلا أن يكون قد كفَّر عن الأول ، فعليه للثاني كفَّارة .
قال : وينبغي للمرأة ألا تدعه يقربها حتى يكفِّر ، فإن تهاون بالتكفير حال الإمام بينها وبينه ، ويجبره على التكفير وإن كان بالضرب حتى يوفيها حقها من الجماع .
قال الفقهاء : ولا شيء من الكفارة يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظِّهار وحدها؛ لأن ترك التكفير إضرار بالمرأة ، وامتناع من إيفاء حقّها .
قوله تعالى : { ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ } أي : تؤمرون به .
{ والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } من التَّكفير وغيره .
قوله تعالى : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } .
وقوله تعالى : { فَإِطْعَامُ } كقوله في الأوجه الثلاثة المتقدمة من قبلُ ، متعلق بالفعل أو الاستقرار المتقدم ، أي : فيلزم تحرير ، أو صيام ، أو فعليه كذا من قبل تماسهما . والضمير في « يتماسَّا » للمظاهر والمظاهر منها لدلالة ما تقدم عليها .
فصل إذا لم يجد الرقبة
من لم يجد الرقبة ولا ثمنها ، وكان مالكاً لها إلاَّ أنه شديد الحاجة إليها لخدمته ، أو كان مالكاً لثمنها إلاَّ أنه يحتاج إليه لنفقته ، أو كان له مسكين ليس له غيره ، ولا يجد شيئاً سواه فله أن يصوم .
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا يصوم وعليه العتق ، ولو كان محتاجاً إلى ذلك .
والصيام الواجب في هذه الكفَّارة أن يصوم شهرين متتابعين ، فإن أفطر في أثنائها بغير عُذْرٍ استأنفهما وإن أفطر بعذر من سفر أو مرض ، فقال ابن المسيب والحسن وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار والشعبي : يبني على ما مضى ، وهو الصحيح من مذهب الشافعي .
فإن ابتدأ الصيام ، ثم وجد الرقبة لم يلزمه الانتقال عنه؛ لأنه أمر به حين دخل فيه .
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه يعتق قياساً على الصغيرة المعتدة بالشهور إذا رأت الدَّم قبل انقضاء عدّتها ، فإنها تستأنف الحَيْض إجماعاً ، فإن وطىء المظاهر في خلال الشهرين نهاراً بطل التتابع ، وإن وطىء ليلاً لم يبطل؛ لأنه ليس محلاًّ للصَّوم .
وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه - ومالك : يبطل بكل حال ، ويجب عليه ابتداء الكفَّارة لقوله تعالى : { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } وهذا شرط عائد إلى جملة الشهرين .
ومن طال مرضه طولاً لا يرجى بُرْؤه ، وكان بمنزلة العاجز من كبرٍ ، فيجوز له العدول عن الصيام إلى الإطعام .
فإن كان يرجى بُرْؤه ، واشتدت حاجته إلى وَطْءِ امرأته فالاختيار له أن ينتظر البُرْءَ حتى يقدر على الصيام ، فإذا كفَّر بالإطعام ، ولم ينتظر القدرة على الصيام أجزأه .
فإن ظاهر وهو موسرٌ ، ثم أعسر قبل أن يكفر صام ، وإنما ينظر إلى حاله يوم يكفر ، ولو جامعها في عدمه وعسره ، فلم يكفر حتى أيسر لزمه العِتْق .
ولو ابتدأ بالصوم ثم أيسر ، قال القرطبي رحمه الله : فإن كان مضى من صومه صدر صالح كالجمعة وشبهها تمادى ، وإن كان يوماً أو يومين ترك الصوم ، وعاد إلى العتق ، وليس ذلك بواجب عليه .
ولو ظاهر عن امرأتين له فأعتق رقبة عن إحداهما لا بعينها لم يجز له وطء واحدة منهما حتى يكفر الكفَّارة الأخرى ، ولو عين الكفَّارة عن إحداهما جاز له أن يطأها قبل أن يكفر الكفَّارة عن الأخرى .
قال القرطبي : « ولو ظاهر من أربع نسوة ، فأعتق عنهن ثلاث رقاب ، وصام شهرين لم يجزه العِتْق ولا الصيام؛ لأنه إنما صام عن كل واحدة خمسة عشر يوماً ، فإن كفر عنهن بالإطعام جاز أن يطعم عنهن مائتين مسكين ، فإن لم يقدر فرّق بخلاف العتق والصيام؛ لأن صيام الشهرين لا يفرق والإطعام يفرق » .
[ قوله تعالى : { فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً } الآية كقوله تعالى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } في الأوجه الثلاثة المتقدمة ، و « مِنْ قَبْل » متعلق بالفعل ، أو الاستقرار المتقدم ، أي : فيلزمه تحرير ، أو صيام أو فعليه كذا من قبل تماسهما ، والضمير في « يتماسّا » للمظاهر والمظاهر منها لدلالة ما تقدم ] .
فصل في الترتيب في كفَّارة الظهار
اعلم أن الله - تعالى - أمر بكفَّارة الظهار مرتبة ، فلا سبيل إلى الصيام إلا عند العجز عن الإعتاق ، وكذلك لا سبيل إلى الإطعام إلا عند عدم الاستطاعة على الصيام ، فمن لم يطق الصيام وجب عليه إطعام ستين مسكيناً لكل مسكين مد من طعام بمدِّ النبي صلى الله عليه وسلم .
قال ابن عبد البرّ : والأفضل مُدَّان بمُدِّ النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجزىء عند مالك ، والشافعي - رضي الله عنهما - أن يطعم أقل من ستين مسكيناً .
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لو أطعم مسكيناً واحداً كل يوم نصف صاعٍ حتى يكمل العدد أجزأه .
وعن أحمد - رضي الله عنه - إذا لم يجد إلاَّ مسكيناً واحداً ردد عليه بعدد الأيام .
فصل في نسخ الظهار لما كانوا عليه
حكم الظِّهار ناسخ لما كانوا عليه من كون الظِّهار طلاقاً في الجاهلية ، روي ذلك عن ابن عباس وأبي قلابة وغيرهما .
قوله : { ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ } .
قال الزَّجَّاج : « ذلك » فيه وجهان :
الأول : أنه في محل رفع ، أي : الغرض ذلك الذي وصفنا من التَّغليظ في الكفَّارة ، « لتُؤمِنُوا » أي : لتصدقوا أن الله أمر به .
الثاني : فعلنا ذلك للبيان والتعظيم للأحكام لتصدقوا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم والعمل بشرائعه ، ولا تستمروا على أحكام الجاهلية من جعل الظهار أقوى أنواع الطَّلاق .
فصل في أن الكفارة إيمان بالله تعالى
استدلّ بعض العلماء على أنَّ هذه الكفَّارة إيمان بالله تعالى؛ لأنه لما ذكرها وأوجبها ، قال جل ذكره : { لِتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } ، أي : ذلك لتكونوا مطيعين لله تعالى واقفين عند حدوده لا تتعدّوها ، فسمى التكفير إيماناً؛ لأنه طاعة ، ومراعاة للحد ، فثبت أن كل ما أشبهه فهو إيمان .
فصل في معنى الآية
معنى قوله تعالى : { ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } أي : لئلا تعودوا للظِّهار الذي هو منكر من القول وزور .
قيل له : قد يجوز أن يكون كلاهما مقصوداً ، فيكون المعنى : ذلك لئلا تعودوا ، فتقولوا المنكر والزور ، بل تدعونهما طاعة لله - سبحانه وتعالى - إذ كان قد حرمهما ، ولتجتنبوا المظاهر منها إلى أن تكفروا إذا كان الله منع من مَسِيْسهَا وتكفروا إذا كان الله - عز وجل - أمر بالكفَّارة ، وألزم إخراجها منكم ، فتكونوا بهذا كله مؤمنين بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم لأنها حدود تحفظونها وطاعات تؤدّونها ، والطَّاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم إيمان بالله ورسوله .
فصل في إدخال العمل تحت مسمى الإيمان
قال ابن الخطيب : استدل من أدخل العمل في مسمى الإيمان بهذه الآية ، فقال : إن الله - تعالى - أمرهم بها ليصيروا بعملها مؤمنين ، فدل على أن العمل من الإيمان ، ومن أنكر ذلك قال : إنه - تعالى - لم يقل : ذلك لتؤمنوا باللَّهِ بعمل هذه الأشياء ، ونحن نقول : المعنى « ذلك لتؤمنوا بالله » والإقرار بهذه الأحكام .
فصل فيمن استدل بهذه الآية على أن أفعال الله معللة بالأغراض
استدلت المعتزلة في قوله تعالى « لتؤمنوا » على أن فعل الله معلل بالغرض ، وعلى أن غرضه أن تؤمنوا ، ولا تستمروا على ما كانوا عليه من الكفر ، وهذا يدلّ على أنه - تعالى - أراد منهم الإيمان وعدم الكفر .
قوله : { وَتِلْكَ حُدُودُ الله } أي بيّن معصيته وطاعته ، فمعصيته الظِّهار ، وطاعته الكفارة .
{ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : لمن جحد هذا وكذاب به ، ولم يصدق بأحكام الله تعالى له عذاب جهنم .
قوله تعالى : { إِنَّ الذين يُحَآدُّونَ الله وَرَسُولَهُ } الآية .
قال المبرد : أصل « المحادّة » الممانعة ، ومنه يقال للبواب : حداد ، وللممنوع الرزق : محدود .
وقال أبو مسلم الأصفهاني : « المحادّة » : مفاعلة من لفظ الحديدِ ، والمراد المقاتلة بالحديد ، سواء كان ذلك في الحقيقة ، أو كان منازعة شديدة شبيهة للخصومة بالحديد .
فصل في مناسبة الآية لما قبلها
لما ذكر المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادّين المخالفين لها ، قال المفسرون : المُحادة : المُعَاداة والمخالفة في الحدود ، وهو كقوله تعالى : { ذلك بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ } [ الأنفال : 13 ] .
وقيل : يحادون الله ، أي : أولياء الله كما جاء في الخبر ، « مَنْ أهَانَ لِي وليًّا فقدْ بَارَزَني بالمُحاربةِ » .
قال الزجاج : المحادّة : أن تكون في حد يخالف حد صاحبك .
والضمير في قوله « يحادّون » يمكن أن يرجع إلى المُنافقين ، فإنهم كانوا يوادّون الكافرين ، ويظاهرونهم على النبي صلى الله عليه وسلم فأذلهم الله سبحانه وتعالى ، ويحتمل أن يرجع لجميع الكُفَّار ، فأعلم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أنهم كبتوا ، أي خذلوا .
قال المبرد رحمه الله تعالى : كبت الله فلاناً ، أي : أذلّه ، والمردود بالذل يقال له مكبوت .
وقال أبو عبيدة والأخفش : أهلكوا .
وقال قتادة : خزوا كما خزي الذين من قبلهم .
وقال ابن زيد : عذبوا .
وقال السدي : لعنوا ، وقال الفراء : غيظوا يوم الخندق .
وقيل : يوم « بدر » .
وقيل معنى كبتوا : أي سيكبتون ، وهو بشارة من الله للمؤمنين بالنصر ، وأخرج الكلام بلفظ الماضي تقريباً للمخبر عنه .
وقيل : لغة مذحج .
ويحتمل أن يكون لتحقق وقوعه ، والمراد بالذين من قبلهم أعداء الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - { وَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } فيمن حاد الله ورسوله من الذين من قبلهم فيما فعلنا بهم { وَلِلْكَافِرِينَ } بهذه الآيات { عَذَابٌ مُّهِينٌ } يذهب بعزّهم وكبرهم ، فبين تعالى أن عذاب المحاربين في الدنيا الذُّل والهوان ، وفي الآخرة العذاب الشديد .
قوله تعالى : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً } .
فيه أوجه :
أحدها : أنه منصوب ب « عذاب مهين » .
الثاني : أنه منصوب بفعل مقدر ، فقدره أبو البقاء : يهانون أو يعذبون ، أو استقر ذلك يوم يبعثهم ، وقدره الزمخشري ب « اذكر » قال : تعظيماً لليوم .
الثالث : أنه منصوب ب « لهم » . قاله الزمخشري ، أي : بالاستقرار الذي تضمنه لوقوعه خبراً .
الرابع : أنه منصوب ب « أحصاه » ، قاله أبو البقاء ، وفيه قلق؛ لأن الضمير في « أحصاه » يعود على « ما عملوا » . قوله : « جَمِيعاً » أي : الرجال والنساء ، أي : كلهم لا يترك منهم واحداً .
وقيل : مجتمعين في حال واحدة { فَيُنَبِّئُهُم } أي : يخبرهم بما عملوا في الدنيا تخجيلاً لهم وتوبيخاً .
{ أَحْصَاهُ الله } عليهم في صحائف أعمالهم « ونَسُوهُ » حتى ذكرهم به في صحائفهم ليكون أبلغ في الحجة عليهم .
{ والله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أي شاهد مطلع وناظر لا يخفى عليه شيء .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)
ثم إنه - تعالى - أكد بيان كونه عالماً بكل المعلومات ، فقال جل ذكره : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } فلا يخفى عليه سرّ ولا علانية .
قوله تعالى : { مَا يَكُونُ مِن نجوى } .
« يكون » تامة ، و « من نجوى » فاعلها ، و « من » مزيدة فيه ، و « نجوى » في الأصل مصدر ، فيجوز أن يكون باقياً على أصله ، ويكون مضافاً لفاعله ، أي : ما يوجد من تناجي ثلاثة ، ويجوز أن يكون على حذف ، أي : من ذي نَجْوَى ، ويجوز أن يكون أطلق على الأشخاص المتناجين مبالغة .
فعلى هذين الوجهين ينخفض « ثلاثة » على أحد وجهين :
إما البدل من « ذوي » المحذوفة ، وإما الوصف لها على التقدير الثاني ، وإما البدل ، أو الصفة ل « نجوى » على التقدير الثالث .
وقرأ ابن أبي عبلة : « ثلاثة » ، و « خمسة » نصباً على الحال ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : أنه محذوف مع رافعه تقديره : يتناجون ثلاثة ، وحذف لدلالة « نجوى » .
والثاني : أنه الضمير المستكن في « نجوى » إذا جعلناها بمعنى المتناجين [ قاله الزمخشري ، رحمه الله .
قال مكي : « ويجوز في الكلام رفع » ثلاثة « على البدل من موضع » نجوى «؛ لأن موضعها رفع و » من « زائدة ، ولو نصبت » ثلاثة « على الحال من الضمير المرفوع إذا جعلت » نجوى « بمعنى المتناجين جاز في الكلام » ] .
قال شهاب الدين : « ولا يقرأ به فيما علمت ، وهو جائز في غير القرآن كما قال ، وأما النصب فقد قرىء به ، وكأنه لم يطلع عليه » .
قوله : { إلا هو رابعهم } ، { إلا هو خامسهم } ، { إلا هو معهم } كل هذه الجمل بعد « إلا » في موضع نصب على الحال أي : ما يوجد شيء من هذه الأشياء إلا في حال من هذه الأحوال ، فالاستثناء مفرغ من الأحوال العامة .
وقرأ أبو جعفر : « ما تكون » بتاء التأنيث لتأنيث النجوى .
قال أبو الفضل : إلا أنَّ الأكثر في هذا الباب التذكير على ما في قراءة العامة؛ لأنه مسند إلى « من نجوى » وهو اسم جنس مذكر .
قال ابن جني : التذكير الذي عليه العامة هو الوجه؛ لوقوع الفاصل بين الفعل والفاعل ، وهو كلمة « من » ، ولأن تأنيث النجوى غير حقيقي .
قوله : « ولا أكْثرَ » .
العامة على الجر عطفاً على لفظ « نجوى » .
وقرأ الحسن ، والأعمش ، وابن أبي إسحاق ، وأبو حيوة ويعقوب : « ولا أكثر » بالرفع ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه معطوف على موضع « نجوى » لأنه مرفوع ، و « من » مزيدة ، فإن كان مصدراً كان على حذف مضاف كما تقدم ، أي : من ذوي نجوى ، وإن كان بمعنى متناجين ، فلا حاجة إلى ذلك .
الثاني : « أدنى » مبتدأ ، و { إلاَّ هو معهم } خبره ، فيكون « ولا أكثر » عطفاً على المبتدأ ، وحينئذ يكون « ولا أدنى » من باب عطف الجمل لا المفردات .
وقرأ الحسن ويعقوب أيضاً ومجاهد والخليل : « ولا أكبر » بالباء الموحدة والرفع على ما تقدم .
وزيد بن علي : « ينبيهم » - بسكون النون - من أنبأ إلاَّ أنه حذف الهمزة وكسر الهاء .
وقرىء كذلك إلا أنه بإثبات الهمزة وضم الهاء ، والعامة بالتشديد من « نبأ » .
فصل في النجوى
« النَّجْوَى » : التناجي ، وهو السرار وهو مصدر يوصف به ، يقال : قوم نجوى ، وذوو نجوى .
قال تعالى : { وَإِذْ هُمْ نجوى } [ الإسراء : 47 ] .
قال الزجاج : « النجوى » مشتقة من النجوة وهي ما ارتفع وتنجى ، فالكلام المذكور سرًّا ، لما خلا عن استماع الغير صار كالأرض المرتفعة ، فإنها لارتفاعها خلت عن اتصال الغير ، والسرار ما كان بين اثنين .
قوله : { إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } أي : يعلم ، ويسمع نجواهم بدليل افتتاح الآية بالعلم .
فإن قلت : ما الحكمة في ذكره - سبحانه وتعالى - الثلاثة والخمسة ، وأهمل الأربعة؟ .
فالجواب من وجوه :
الأول : أن ذلك إشارة إلى كمال الرحمة؛ لأن الثلاثة إذا اجتمعوا ، فإذا تناجى اثنان منهم بقي الثالث ضائعاً وحيداً ، فيضيق عليه ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إذَا كُنْتُمْ ثلاثَةً فَلا يَتَنَاجَى اثْنَان دُونَ الثَّالثِ إلاَّ بإذْنِهِ فإنَّ ذلِكَ يُحْزنهُ » .
فكأنه - تعالى - يقول : أنا جليسك وأنيسك ، وكذا الخمسة إذا اجتمعوا بقي الخامس وحيداً فريداً .
الثاني : أن العدد الفرد أشرف من الزوج؛ لأن الله - تبارك وتعالى - وتر يحب الوتر ، فخص أعداد الفرد بالذكر تنبيهاً على أنه لا بد من رعاية الأمور الإلهية في جميع الأمور .
الثالث : أن أقل ما لا بد منه في المشاورة التي يكون الغرض منها تمهيد مصلحة ثلاثة حتى يكون الاثنان كالمتنازعين في النفي والإثبات ، والثالث كالحاكم بينهما ، فحينئذ تكمل المشورة ، ويتم ذلك الغرض ، فلهذا السبب لا بد وأن يكون أرباب المشورة عددهم فرداً ، فذكر الله - تعالى - الفردين الأولين ، واكتفى بذكرهما تنبيهاً على الباقي .
الرابع : أن الآية نزلت في قوم منافقين اجتمعوا على التناجي ، وكانوا على هذين العددين .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في ربيعة ، وحبيب بن أبي عمرو ، وصفوان بن أمية كانوا يتحدّثون ، فقال أحدهم : هل يعلم الله ما نقول؟ وقال الثالث : يعلم البعض .
الخامس : أنه في مصحف عبد الله بن مسعود : { ما يكون من نجوى ثلاثة إلاَّ الله رابعهم ، ولا أربعة إلا الله خامسهم ، ولا خمسة إلا الله سادسهم ، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم إذا أخذوا في التناجي } .
قوله : { ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ القيامة } أي : يحاسب على ذلك ، ويجازي عليه .
{ إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وهذا تحذير من المعاصي ، وترغيب في الطاعات .
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى } الآية .
قيل : هم اليهود .
وقيل : هم المنافقون .
وقيل : فريق من الكفار .
وقيل : فريق من المسلمين ، لما روى أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : « كنا ذات ليلةٍ نتحدَّث إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : » مَا هَذِهِ النَّجْوَى «؟ فقلنا : تُبْنَا إلى الله يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا كُنَّا في ذكر المسيخ ، يعني : الدجال فرقاً منه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ألا أخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أخْوَفُ عِنْدِي مِنْهُ؟ « قلنا : بلى ، يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : » الشِّرْكُ الخَفِيُّ أن يَقُومَ الرَّجلُ يعْمَلُ لمكانِ رَجُل « ذكره الماوردي .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم ، وينظرون للمؤمنين ، ويتغامزون بأعينهم ، فقال المؤمنون : لعلهم بلغهم عن إخواننا وقرابتنا من المهاجرين والأنصار قتل ، أو مصيبة ، أو هزيمة؛ ويسوؤهم ذلك ، وكثرت شكواهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا ، فنزلت الآية .
وقال مقاتل : كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة ، فإذا مرَّ بهم رجل من المؤمنين تناجوا بينهم حتى يظنّ المؤمن شرًّا ، فيعرج عن طريقه فنهاهم الله - سبحانه - فلم ينتهوا فنزلت .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيسأله الحاجة ويناجيه ، والأرض يومئذ خرب فيتوهّموا أنه يناجيه في حرب أو بليَّة أو أمر فيفزعون لذلك فنزلت .
قال ابن الخطيب رحمه الله : والأولى أن تكون نزلت في اليهود؛ لأنه - عز وجل - حكى عنهم ، فقال : { وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله } وهذا إنما وقع من اليهود ، كانوا إذا سلموا على الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا : السَّامُ عليكم ، يعنون الموت .
قوله : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } أي : يرجعون إلى المُناجاة التي نهوا عنها .
قوله : » ويَتَنَاجَوْنَ « . قرأ حمزة : » وينْتَجُون « بغير ألف من » الانتجاء « من » النجوى « على وزن » يَفْتَعلُون « .
والباقون : » ويتناجون « من » التَّناجي « من » النجوى « أيضاً .
قال أبو علي : والافتعال ، والتفاعل يجريان مجرى واحداً ، ومن ثمَّ صححوا » ازْدَوجُوا واعتورُوا « لما كانا في معنى تزاوجوا وتعاوروا ، وجاء
{ حتى إِذَا اداركوا } [ الأعراف : 28 ] وادَّرَكُوا .
قال شهاب الدين : ويؤيد قراءة العامة الإجماع على تناجيهم ، و « فلا تتناجوا » و « تناجوا » ، فهذا من « التفاعل » لا غير ، إلاَّ ما روي عن عبد الله ، أنه قرأ { إذا انْتَجَيْتُم فلا تنتجوا } .
ونقل أبو حيان عن الكوفيين والأعمش : « فلا تنتجوا » كقراءة عبد الله .
وأصل : « تَنْتَجُونَ » « تَنْتَجِيونَ » و « تَنَاجَوْن » فاستثقلت الضَّمَّة على الياء ، فحذفت فالتقى ساكنان فحذفت لالتقائهما ، أو تقول : تحرك حرف العلة وانفتح ما قبله ، فقلبت ألفاً فالتقى ساكنان ، فحذف أولهما وبقيت الفتحة دالة على الألف .
قوله : { بالإثم والعدوان } .
قرأ أبو حيوة : « بالعِدْوان » بكسر العين .
والمراد « بالإثم والعدوان » : الكذب والظلم ، { وَمَعْصِيَتِ الرسول } صلى الله عليه وسلم مخالفته .
وقرأ الضَّحاك : « ومعصيات الرَّسُول » صلى الله عليه وسلم .
قوله : { وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله } .
قال القرطبي : لا خلاف بين أهل النقل أن المراد به اليهود ، وكانوا إذا سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : السَّام عليك يعنون الموت . كما روت عائشة - رضي الله عنها - « أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : السَّام عليك ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : » عَلَيْكُمْ « فقالت عائشة رضي الله عنها : السَّام عليكم ، ولعنة الله ، وغضبه عليكم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » مَهْلاً يا عَائِشَةُ ، عليْكِ بالرِّفْقِ وإيَّاكِ والعُنْفَ والفُحْشَ « ، قالت : أو لم تسمع ما قالوا يا رسول الله؟ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك » أو لَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ ورَدَدْتُ عليْهِمْ فَيُسْتجَابُ لي فيْهِمْ ولا يُسْتجابُ لهُمْ فِيْ؟ « .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك : » إذَا سَلَّمَ عَليْكُمْ أهْلُ الكتابِ ، فقُولُوا : علَيْكَ مَا قُلْتَ « ، فأنزل الله تعالى : { وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله } » .
وروى أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذَا سَلمَ علَيْكُمْ أهْلُ الكتابِ فقُولُوا : وعَليْكُمْ » بالواو .
فقال بعض العلماء رضي الله عنهم : إن الواو العاطفة تقتضي التشريك ، فيلزم منه أن يدخل معهم فيما دعوا به علينا من الموت ، أو من سآمة ديننا وهو الهلاك ، يقال : سَئِمَ يَسْأمُ سَآمةً وسَآماً .
وقال بعضهم « الواو » زائدة كما زيدت في قول الشاعر : [ الطويل ]
4732- فَلَمَّا أجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وانْتَحَى ..
أي : لما أجزنا انتحى ، فزاد « الواو » .
وقال آخرون : هي للاستئناف ، كأنه قال : والسام عليكم ، وقال آخرون : هي على بابها من العطف ولا يضرنا ذلك؛ لأنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا كما تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم ل « عائشة » رضي الله عنها .
فصل في رد السَّلام على أهل الذمة
اختلفوا في ردّ السَّلام على أهل الذِّمة ، فقال ابن عباس والشعبي وقتادة : هو واجب لظاهر الأمْرِ بذلك .
وقال مالك رضي الله عنه : ليس بواجب ، فإن رددت فقل : عليك .
وقال بعضهم : نقول في الرد : علاك السَّلام ، أي : ارتفع عنك .
وقال بعض المالكية : تقول في الرد : السلام عليك - بكسر السين - يعني الحجارة .
قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا } .
هذه الجملة التحضيضية في موضع نصب بالقول ، ومعنى الآية : أن اليهود - لعنهم الله - لما كانوا يقولون : السام عليك ، ويوهمون أنهم يسلمون ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم بقوله : « عليكم » فإذا خرجوا قالوا : « لولا يعذبنا الله » أي : هلا يعذبنا بما نقول ، أي : لو كان نبيًّا لعذبنا الله بما نقول .
وقيل : قالوا : إنه يرد علينا ، ويقول : وعليكم السَّام ، فلو كان نبيًّا لاستجيب له فينا ومتنا ، وهذا موضع تعجب منهم ، فإنهم كانوا أهل الكتاب ، وكانوا يعلمون أنَّ الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - قد يغضبون ، فلا يعاجل من يغضبهم بالعذاب .
قوله : { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ } أي : كافيهم جهنم عقاباً غداً { يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير } .
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بالإثم والعدوان } .
أي : كفعل المنافقين واليهود .
قال مقاتل : أراد بقوله : « آمنوا » المنافقين آمنوا بلسانهم .
وقال عطاء : يريد الذين آمنوا بزعمهم قال لهم : لا تتناجوا بالإثم والعدوان ، ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم .
وقيل : يا أيها الذين آمنوا بموسى صلوات الله وسلامه عليه .
قوله : { وَتَنَاجَوْاْ بالبر والتقوى } والمراد بالبر : الطاعة ، وبالتقوى : العفاف عما نهى الله عنه .
{ واتقوا الله الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [ أي ] : تجمعون في الآخرة .
إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15)
قوله تعالى : { إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان لِيَحْزُنَ الذين آمَنُواْ } . تقدم قراءتنا « ليحزن » بالضم والفتح في « آل عمران » [ آل عمران 176 ] .
وقرىء : « بفتح الياء والزاي » على أنه مسند إلى الموصول بعده ، فيكون فاعلاً .
فصل في تحرير معنى الآية
قال ابن الخطيب : الألف واللام في لفظ « النجوى » لا يمكن أن يكون للاستغراق؛ لأن في « النجوى » ما يكون من الله ولله ، بل المراد منه : المعهود السابق ، وهو النجوى بالإثم ليحزن المؤمنين إذا رأوهم متناجين .
قال المفسرون : معنى قوله تعالى : { إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان لِيَحْزُنَ الذين آمَنُواْ } وتوهموا أن المسلمين أصيبوا في السَّرايا ، أو إذا رأو اجتماعهم على مكايدة المسلمين ، وربما كانوا يناجون النبي صلى الله عليه وسلم فيظن المسلمون أنهم ينتقصونهم عند النبي صلى الله عليه وسلم { وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ } أي : التناجي { شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ الله } أي : بمشيئته .
وقيل : بعلمه .
وعن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - بأمره .
{ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } أي : يكلون أمرهم إليه ، ويفوضون [ جميع ] شئونهم إلى عونه .
فصل في النهي عن التناجي
روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذَا كَانَ ثلاثةٌ فَلا يَتَنَاجَى اثْنانِ دُونَ الواحدِ » .
وعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذَا كَانَ ثَلاثَةٌ فَلا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الآخَرِ حتَّى يَخْتلطُوا بالنَّاسِ من أجْلِ أنْ يُحْزِنَهُ » .
فبين في هذا الحديث غاية المنع ، وهو أن يجد الثالث من يتحدث معه كما فعل ابن عمر ، وذلك أنه كان يتحدث مع رجل ، فجاء آخر يريد أن يناجيه فلم يُناجِهِ حتى دعا رابعاً ، فقال له وللأول : تأخَّرا وناجى الرجل الطَّالب للمناجاة . خرجه في « الموطأ » ونبه فيه على العلة بقوله : « مِنْ أجْلِ أن يُحْزِنَهُ » أي : يقع في نفسه ما يحزن لأجله ، وذلك بأن يقدر في نفسه أن الحديث عنه بما يكره ، أو أنهم لم يروه أهلاً بأن يشركوه في حديثهم ، إلى غير ذلك من ألقيات الشيطان ، وأحاديث النفس ، ويحصل ذلك كله من بقائه وحده ، فإذا كان معه غيره أمن ذلك ، وعلى هذا يستوي في ذلك كل الأعداد ، فلا يتناجى أربعة دون واحد ، ولا عشرة ولا ألف مثلاً ، لوجود ذلك المعنى في حقه ، بل وجوده في العدد الكثير أمكن وأوقع ، فيكون بالمنع أولى ، وإنما خص الثلاثة بالذكر؛ لأنه أول عدد يتأتى ذلك فيه .
قال القرطبي : « وظاهر الحديث يعم جميع الأزمان والأحوال » .
وذهب إليه ابن عمر ومالك والجمهور وسواء كان التناجي في مندوب ، أو مباح ، أو واجب فإن الحزن يقع به .
وقد ذهب بعض الناس إلى أن ذلك في أول الإسلام؛ لأن ذلك كان حال المنافقين ، فيتناجى المنافقون دون المؤمنين ، فلما فشا الإسلام سقط ذلك .
وقال بعضهم : ذلك خاصّ بالسفر ، وفي المواضع التي لا يأمن الرجل فيها صاحبه ، فأما في الحضر وبين العمارة فلا؛ لأنه يجد من يعينه ، بخلاف السفر فإنه مظنَّة الاغتيال وعدم الغوث . والله أعلم .
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس } الآية .
وجه التعلق ، لما نهى المؤمنين عما يكون سبباً للتباغُضِ والتنافر ، أمرهم الآن بما يصير سبباً لزيادة المحبَّة والمودة .
وقال القرطبي : لما بين أنَّ اليهود يحيوه بما لم يحيّه الله ، وذمّهم على ذلك وصل به الأمر بتحسين الأدب في مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يضيقوا عليه المجلس ، وأمر المسلمين بالتَّعاطف والتَّآلف حتى يفسح بعضهم لبعض حتى يتمكّنوا من الاستماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم والنظر إليه .
فصل في نزول الآية
قال قتادة ومجاهد والضحاك رضي الله عنهم : كانوا يتنافسون في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يفسح بعضهم لبعض .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : المراد بذلك مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب .
وقال الحسن ويزيد بن أبي حبيب : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قاتل المشركين تشاح أصحابه - رضي الله عنهم - على الصف الأول فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في القتال والشهادة ، فنزلت ، فيكون كقوله تعالى : { مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } [ آل عمران : 121 ] .
وقال مقاتل : كان النبي صلى الله عليه وسلم في « الصفة » وكان في المكان ضيق ، وكان يكرم أهل « بدر » من المهاجرين والأنصار فجاءنا أناس من أهل « بدر » وقد سبقوا إلى المجلس فقاموا قبالة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم ، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام ، وشقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم لمن حوله من غير أهل « بدر » : « قُمْ يا فُلانُ » بعدد القائمين من أهل « بدر » فشقّ ذلك على من قام ، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجوههم . فقال المنافقون : والله ما عدل على هؤلاء أن قوماً أخذوا مجالسهم ، وأحبوا القرب منه ، فأقامهم وأجلس من أبْطَأ ، فنزلت الآية يوم الجمعة .
وروي عن ابن عبَّاس قال نزلت الآية في ثابت بن قيس بن شماس ، وذلك أنه دخل المسجد ، وقد أخذ القوم مجالسهم ، وكان يريد القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم للوَقْر الذي كان في أذنيه ، فوسعوا له حتى قرب من النبي صلى الله عليه وسلم ثم ضايقه بعضهم وجرى بينهم وبينه كلام ووصف الرسول صلى الله عليه وسلم محبته للقرب منه ليسمع كلامه ، وإن فلاناً لم يفسح له ، فنزلت هذه الآية .
قوله تعالى : { تَفَسَّحُواْ فِي المجالس } .
قرأ الحسن ، وداود بن أبي هند ، وعيسى ، وقتادة : « تَفَاسحُوا » ، والباقون : « تَفَسَّحوا » أي : توسعوا والفُسْحة : السَّعة ، وفسح له : أي وسع له ، ومنه قولهم : « بلد فسيحٌ » ولك في كذا فسحة ، وفسح يَفْسَحُ ، مثل : « مَنَعَ يَمْنَعُ » أي : وسع في المجلس ، و « فَسُحَ يَفْسُحُ فَسَاحَةً » مثل : « كَرُمَ يَكْرُمُ كرامة » أي : صار واسعاً ، ومنه مكان فسيح .
وقرأ عاصم : « في المجالس » جمعاً اعتباراً بأن لكلّ واحد منهم مجلساً .
والباقون : بالإفراد إذ المراد مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أحسن من كونه واحداً أريد به الجمع ، وقرىء : « في المَجْلَس » - بفتح اللام - وهو المصدر ، أي : تفسحوا في جلوسكم ، ولا تتضايقوا .
فصل في أن الآية عامة في كل مجلس خير
قال القرطبي : الصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير ، والأجر ، سواء كان مجلس حَرْب أو ذكر ، أو مجلس يوم الجمعة ، وإن كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ سَبَقَ إلى مَا سَبَقَ إليْهِ فَهُوَ أحقُّ بِهِ ولكِنْ يُوسِّعُ لأخيهِ ما لم يتأذَّى بذلكَ فيُخْرجهُ الضَّيْقُ من موضعه » .
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يُقِيمُ الرَّجلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيْه » .
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يقام الرجل من مجلسه ، ويجلس فيه آخر ، ولكن تفسّحوا وتوسّعوا .
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يكره أن يقيم الرجل من مجلسه ، ثم يجلس مكانه .
وروى أبو هريرة عن جابر - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يُقِيمنَّ أحَدُكُمْ أخَاهُ يَوْمَ الجُمعَةِ ثُمَّ يُخَالفُ إلى مَقْعَدهِ ، فَيقْعُدَ فِيْهِ ، ولكِنْ يقُولُ : أفسحوا » .
فصل
إذا قام من مكانه ، فقعد غيرهُ نظرنا ، فإن كان الموضع الذي قام إليه مثل الأول في سماع كلام الإمام ، لم يكره له ذلك ، وإن كان أبعد من الإمام كره له ذلك؛ لأن فيه تفويت حظه .
فصل
إذا أمر رجل إنساناً أن يبكر إلى الجامع ، فيأخذ له مكاناً يقعد فيه لا يكره ، فإذا جاء الآمر يقوم من الموضع؛ لأن ابن سيرينَ كان يرسل غلامه إلى مجلس له في يوم الجمعة ، فيجلس فيه ، فإذا جاء قام له منه ، وعلى هذا من أرسل بساطاً أو سجَّادة ، فيبسط له في موضع من المسجد أنه لا يزعج منه .
وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذَا قَامَ أحَدُكُمْ » - وفي حديث أبي عوانة : « مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلسهِ - ثُمَّ رَجَعَ إليْهِ فَهُوَ أحَقُّ بِهِ » ذكره القرطبي في « تفسيره » .
قوله : { يَفْسَحِ الله لَكُمْ } .
قال ابن الخطيب : هذا مطلق فيما يطلب النَّاس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر والجنة ، قال : ولا ينبغي للعاقل أن يقيد الآية بالتفسُّح في المجلس بل المراد منه إيصال الخير إلى المسلم وإدخال السرور في قلبه .
قوله : { وَإِذَا قِيلَ انشزوا فانشزوا } .
قرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو بكر بخلاف عنه بضم شين « انْشُزُوا » في الحرفين ، والباقون : بكسرهما ، وهما لغتان بمعنى واحد ، يقال : نشز أي : ارتفع ، يَنْشِزُ ويَنْشُزُ ك « عَرَشَ يَعْرِشُ ويَعْرُشُ؛ وعَكَفَ يَعْكفُ ويَعْكُفُ » وتقدم الكلام على هذا في « المائدة » .
فصل في معنى انشزوا
قال ابن عباس : معناه إذا قيل لكم : ارتفعوا فارتفعوا .
قال مجاهد والضحاك : إذا نودي للصَّلاة فقوموا إليها ، وذلك أن رجالاً تثاقلوا عن الصلاة ، فنزلت .
وقال الحسن ومجاهد أيضاً : انهضوا إلى الحرب .
وقال ابن زيد والزَّجَّاج : هذا في بيت النبي صلى الله عليه وسلم كان كل رجل منهم يحب أن يكون آخر عهده بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ انشزوا } عن النبي صلى الله عليه وسلم « فانْشُزُوا » أي ارتفعوا عنه فإن له حوائج فلا تمكثوا .
وقال قتادة : معناه : أجيبوا إذا دعيتم إلى أمر بالمعروف .
قال القرطبي : « وهذا هو الصحيح لأنه يعم ، والنَّشْز : الارتفاع ، مأخوذ من نَشْزِ الأرض ، وهو ارتفاعها » .
قوله : { يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ } بطاعاتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقيامهم في مجالسهم ، وتوسّعهم لإخوانهم .
وقوله تعالى : { والذين أُوتُواْ العلم } يجوز أن يكون معطوفاً على « الَّذين آمنوا » ، فهو من عطف الخاص على العام؛ لأن الذين أوتوا العلم بعض المؤمنين منهم ، ويجوز أن يكون « الذين أوتوا » من عَطْف الصفات ، أي : تكون الصفتان لذات واحدة ، كأنه قيل : يرفع الله المؤمنين العلماء ، و « درجات » مفعول ثان . وقد تقدم الكلام على نحو ذلك في « الأنعام » .
وقال ابن عباس رضي الله عنه : تم الكلام عند قوله تعالى : « منكم » ، وينصب « الذين أوتوا » بفعل مضمر ، أي : ويخصّ الذين أوتوا العلم بدرجات ، أو يرفعهم درجات .
فصل في تحرير معنى الآية
قال المفسرون في هذه الآية : إن الله - تعالى - رفع المؤمن على من ليس بمؤمن ، والعالم على من ليس بعالم .
قال ابن مسعود رضي الله عنه : مدح الله العلماء في هذه الآية والمعنى : أن الله - تعالى - يرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات في دينهم إذا فعلوا ما أمروا به .
وقيل : كان أهل الغنى يكرهون أن يزاحمهم من يلبس الصوف ، فيسبقون إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فالخطاب لهم .
« ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجُلاً من الأغنياء يقبض ثوبه نفوراً من بعض الفقراء أراد أن يجلس إليه ، فقال : » يا فُلاَنُ أخَشِيْتَ أنْ يتعدَّا غِناكَ إليْهِ أوْ فَقْرُه إلَيْكَ « » .
وبيّن في هذه الآية أن الرِّفعة عند الله - تعالى - بالعلم والإيمان لا بالسَّبْق إلى صدور المجالس .
وقيل : أراد بالذين أوتوا العلم الذين قرأوا القرآن .
وروى يحيى بن يحيى عن مالك - رضي الله عنه - { يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ } الصحابة ، { والذين أُوتُواْ العلم دَرَجَاتٍ } يرفع الله - تعالى - بها العالم والطالب .
قال القرطبي : ثبت في الصحيح أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يقدم عبد الله بن عباس على الصحابة فكلموه في ذلك ، فدعاهم ودعاه ، وسألهم عن تفسير : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح } [ النصر : 1 ] فسكتوا فقال ابن عباس : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله إيَّاه ، فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تعلم .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بَيْنَ العَالمِ والعَابدِ مائَةُ دَرَجَةٍ ، بَيْنَ كُلِّ دَرَجتيْنِ حَضْر الجَوادِ المُضمَّرِ سَبْعِيْنَ سَنَة » .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فَضْلُ العَالمِ عَلى العَابِدِ كَفضْلِ القَمَرِ ليْلَةَ البَدْرِ عَلى سَائِرِ الكَواكِبِ » .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يَشْفَعُ يَوْمَ القِيامَةِ ثلاثةٌ : الأنْبِيَاءُ ثُمَّ العلماءُ ثُمَّ الشُّهداءُ » .
فأعظم بمنزلة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وعن ابن عباس رضي الله عنه : « خُيِّرَ سليمان - صلوات الله وسلامه عليه - بين العلم والمال والملك ، فاختار العلم فأعطي المال والملك معه » .
« ومر النبي صلى الله عليه وسلم بمجلسين في مسجده ، أحد المجلسين يدعون الله عز وجل ويرغبون إليه ، والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » كِلاَ المَجْلِسيْنِ عَلَى خَيْرٍ ، وأحَدُهُمَا أفْضَلُ مِنْ صَاحبهِ ، أمَّا هؤلاءِ فَيَدْعُونَ اللَّهَ - عزَ وجلَّ - ويرغبُون إليه ، وأمَّا هؤلاءِ فيتعلَّمونَ الفقهَ ويُعَلِمُّونَ الجاهلَ ، فهؤلاءِ أفضلُ ، وإنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّماً « ثم جلس فيهم » .
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } الآية .
قال ابن عباس في سبب النزول : إن المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه فأنزل الله - تعالى - هذه الآية فكفَّ كثير من الناس .
وقال الحسن : إن قوماً من المسلمين كانوا يستخلون بالنبي صلى الله عليه وسلم يناجونه ، فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النَّجوى ، فشق ذلك عليهم ، فأمرهم الله - تعالى - بالصَّدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلائه .
وقال زيد بن أسلم : إن المنافقين واليهود كانوا يناجون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون : إنه أذُن يسمع كلَّ ما قيل له ، وكان لا يمنع أحداً مُناجاته ، فكان ذلك يشقّ على المسلمين؛ لأن الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم ناجوه بأن جموعاً اجتمعت لقتاله ، فأنزل الله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول } [ المجادلة : 9 ] الآية ، فلم ينتهوا فأنزل الله هذه الآية فانتهى أهل الباطل عن النجوى؛ لأنهم لم يقدموا بين يدي نجواهم صدقة ، وشقّ ذلك على أهل الإيمان ، وامتنعوا عن النجوى لضعف مقدرة كثير منهم عن الصدقة ، فخفف الله - تعالى - عنهم بما بعد الآية .
قال ابن العربي : وهذا الخبر يدل على أن الأحكام لا تترتب بحسب المصالح ، فإن الله - تعالى - قال : { ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ } ثم نسخه مع أنه كونه خيراً وأطهر ، وهذا يرد على المعتزلة في التزام المصالح .
فصل فيمن اعتبر الصدقة واجبة أو مندوبة
ظاهر الآية يدلّ على أن تقديم الصَّدقة كان واجباً؛ لأن الأمر للوجوب ، ويؤكد ذلك بعده قوله تعالى : { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وهذا لا يقال إلا فيما بفقده يزول وجوبه .
وقيل : كان مندوباً بقوله تعالى : { ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ } وهذا إنما يستعمل في التطوع لا في الواجب ، ولأنه لو كان واجباً لما أزيل وجوبه لكلام متصل به وهو قوله تعالى : { أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ } [ إلى آخر الآية ] .
وأجيب عن الأول : أن المندوب كما يوصف بأنه خير وأطهر ، فكذلك أيضاً يوصف به الواجب .
وعن الثاني : أنه لا يلزم من اتصال الآيتين في التلاوة كونهما متَّصلتين في النزول كما قيل في الآية الدَّالة على وجوب الاعتداد أربعة أشهر وعشراً أنها ناسخة للاعتداد بحول ، وإن كان الناسخ متقدماً في التلاوة على المنسوخ . انتهى .
فصل
اختلفوا في مقدار تأخُّر الناسخ عن المنسوخ في هذه الآية ، فقال الكلبي رحمه الله : ما بقي ذلك التكليف إلا ساعة من النهار ثم نسخ .
وقال مقاتل بن حيان : بقي ذلك التكليف عشرة أيام ، ثم نسخ لما روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : إنَّ في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ، ولا عمل بها أحد بعدي كان لي دينار ، فاشتريت به عشرة دراهم ، وكلما ناجيت النبي صلى الله عليه وسلم قدمت بين يدي نجواي درهماً ، ثم نسخت فلم يعمل بها .
وروي عن ابن جريج ، والكلبي ، وعطاء عن ابن عباس - رضي الله عنهم - أنَّهم نهوا عن المُناجاة حتى يتصدقوا ، فلم يُناج أحد إلاَّ عليٌّ تصدق بدينار ، ثم نزلت الرخصة .
وقال ابن عمر : لقد كانت لعلي - رضي الله عنه - ثلاثة ، لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إليَّ من حمر النعم : تزويجه فاطمة - رضي الله عنها - وإعطاؤه الرَّاية يوم « خيبر » ، وآية النجوى .
{ ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ } من إمساكها ، « وأطْهَرُ » لقلوبكم من المعاصي { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ } يعني : الفقراء { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
روى الترمذي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : « لما نزلت { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » مَا ترى دِيْنَاراً؟ « قلت : لا يطيقونه ، قال : » نِصْف دِيْنَارٍ « ، قلت : لا يطيقونه ، قال : » فَكَمْ «؟ قلت : شعيرة ، قال : » إنَّك لزَهِيدٌ « فنزلت { أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ } الآية » .
ومعنى قوله : « شعيرة » من ذهب ، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم : « إنَّك لزَهِيْدٌ » أي : لقليل المال فقدّرت على حسب حالك .
قال ابن العربي : « وهذا يدلّ على نسخ العبادة قبل فعلها ، وعلى النَّظر في المقدّرات بالقياس » .
قال القرطبي : « والظَّاهر أنَّ النسخ إنما وقع بعد فعل الصَّدقة كما تقدم » .
فصل فيمن استدل بالآية على عدم وقوع النسخ
أنكر أبو مسلم وقوع النسخ ، وقال : إنَّ المنافقين كانوا يمتنعون عن بذل الصدقات ، وإن قوماً من المنافقين تركوا النفاق وآمنوا ظاهراً وباطناً إيماناً حقيقيًّا ، فأراد الله أن يميزهم عن المنافقين ، فأمر بتقديم الصَّدقة على النَّجْوَى ليتميز هؤلاء الذين آمنوا على من بقي على نفاقه الأصلي ، فلما كان هذا التكليف لأجل هذه المصلحة المقدرة لذلك الوقت ، لا جرم يقدر هذا التكليف بذلك الوقت .
قال ابن الخطيب : وحاصل قول أبي مسلم : أن ذلك التكليف مقدر بغاية مخصوصة ، ووجب انتهاؤه عند الانتهاء إلى تلك الغاية المخصوصة ، ولا يكون هذا نسخاً ، وهذا كلام حسن ، والمشهور عند الجمهور أنه منسوخ بقوله : { أَأَشْفَقْتُمْ } .
وقيل : منسوخ بوجوب الزكاة .
قوله تعالى : { أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ } .
هذا استفهام معناه التقرير .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : « أأشفقتم » أي : أبخلتم بالصدقة .
وقيل : خفتم .
و « الإشفاق » : الخوف من المكروه ، أي : خفتم بالصدقة ، وشقّ عليكم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات .
قوله تعالى : { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ } . في « إذ » هذه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها على بابها من المعنى : أنكم تركتم ذلك فيما مضى ، فتداركوه بإقامة الصَّلاة . قاله أبو البقاء .
الثاني : أنها بمعنى « إذا » كقوله تعالى :
{ إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ } [ غافر : 71 ] وتقدم الكلام فيه .
الثالث : أنها بمعنى « إن » الشرطية ، وهو قريب مما قبله؛ إلا أن الفرق بين « إن » ، و « إذا » معروف .
فصل في معنى الآية
المعنى : فإن لم تفعلوا ما أمرتم به ، { وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ } أي : ونسخ الله ذلك الحكم ، ورخص بكم في ألاَّ تفرطوا في الصَّلاة والزكاة ، وسائر الطاعات ، وهذا خطاب لمن وجد ما يتصدق به ، وهذا يدل على جواز النسخ قبل الفعل .
قال القرطبي : وما روي عن علي - رضي الله عنه - ضعيف؛ لأن الله - تعالى - قال : { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ } وهذا يدلّ على أن أحداً لم يتصدق بشيء .
فصل في أنَّ الآية لا تدل على تقصير المؤمنين
فإن قيل : ظاهر الآية يدل على تقصير المؤمنين في ذلك التكليف ، وبيانه من وجوه :
الأول : قوله تعالى : { أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ } يدل على تقصيرهم .
الثاني : قوله تعالى : { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ } .
الثالث : قوله عز وجل : { وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ } .
فالجواب : قال ابن الخطيب : ليس الأمر كما قلتم؛ لأن القوم لم يكلفوا بأن يقدموا على الصَّدقة ، ويشتغلوا بالمناجاة ، بل أمروا أنهم لو أرادوا المناجاة ، فلا بد من تقديم الصَّدقة فمن ترك المناجاة ، فلا يمكن أن يكون مقصراً ، فأما لو قيل بأنهم ناجوا من غير تقديم الصدقة ، فهذا أيضاً غير جائز؛ لأن المناجاة لا تمكن إلا إذا مكن الرسول صلى الله عليه وسلم من المناجاة فإذا لم يمكنهم من ذلك لم يقدروا على المناجاة ، فعلمنا أن الآية لا تدل على صدور التقصير منهم .
فأما قوله تعالى : { أَأَشْفَقْتُمْ } فلا يمنع من أنه - تعالى - علم ضيق صدور كثير منهم عن إعطاء الصدقة في المستقبل لو دام الوجوب . فقال هذا القول .
وأما قوله عز وجل : { وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ } فليس في الآية أنه تاب عليهم من هذا التقصير ، بل يحتمل أنكم إن كنتم تائبين راجعين إلى الله تعالى ، وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة ، فقد [ كفاكم ] هذا التَّكليف .
قوله تعالى { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } .
روي عن أبي عمرو : { خبير بِمَا يعْملُونَ } بالياء من تحت ، والمشهور عنه كالجماعة بتاء الخطاب .
والمعنى : يحيط بأعمالكم ونيَّاتكم .
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِم } .
قال قتادة : هم المنافقون تولّوا اليهود .
وقال السدي ومقاتل : هم اليهود . { مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ } يعني : المنافقين ليسوا من المؤمنين في الدين والولاء ، ولا من اليهود والكافرين ، كما قال جل ذكره : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء } [ النساء : 143 ] .
{ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .
قال السدي ومقاتل رضي الله عنهما : « نزلت في عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، وعبد الله بن نبتل المنافقين ، كان أحدهما يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرفع حديثه إلى اليهود ، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حُجْرة من حُجَره ، إذ قال : » يَدْخُلُ الآنَ عَليْكُم رجُلٌ قلبهُ قَلْبُ جبَّارٍ ، وينْظرُ بِعَيْني شَيْطانٍ « ، فدخل عبد الله بن نبتل ، وكان أزرق ، أسمر قصيراً ، خفيف اللحية ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : » علاَمَ تَشْتُمنِي أنْتَ وأصْحَابُكَ «؟ فحلف بالله ما فعل ، وجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما شتموه ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية »
فقال عز وجل : { وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنهم كذبة .
قال ابن الخطيب رحمه الله : والمراد من هذا الكذب ، إما ادِّعاؤهم كونهم مسلمين ، وإما أنهم كانوا يسبُّون الله - تعالى - ورسوله صلى الله عليه وسلم ويكيدون المسلمين ، وإذا قيل : إنكم فعلتم ذلك خافوا على أنفسهم من القتل ، فيحلفون أنهم ما قالوا ذلك وما فعلوه ، فهذا هو الكذب الذي يحلفون عليه ، وهذه الآية تدلّ على فساد قول الجاحظ : إن الكذب هو الخبرُ المخالف لاعتقاد المخبر .
قوله : { مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ } يجوز في هذه الجملة ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها مستأنفة ، لا موضع لها من الإعراب ، أخبر عنهم بأنهم ليسوا من المؤمنين الخُلَّص ، بل كقوله تعالى : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إلى هؤلاء } [ النساء : 143 ] فالضمير في « ما هم » عائد على { الذين تَوَلَّوْاْ } ، وهم المنافقون ، وفي « مِنْهُمْ » عائد على اليهود ، وهم الكافرون الخلص .
والثاني : أنها حالٌ من فاعل « تولوا » والمعنى على ما تقدم أيضاً .
والثالث : أنها صفة ثانية ل « قوماً » فعلى هذا يكون الضمير في « ما هم » عائداً على « قوماً » وهم اليهود ، والضمير في « منهم » عائد على « الذين تولّوا » يعني اليهود ليسوا منكم أيها المؤمنون ، ولا من المنافقين ، ومع ذلك تولاَّهم المنافقون . قاله ابن عطية .
إلا أن فيه تنافر الضمائر ، فالضمير في « وَيَحْلِفُونَ » عائد على « الذين تولّوا » فعلى الوجهين الأولين تتحد الضمائر لعودها على « الَّذيْنَ تولّوا » وعلى الثالث : تختلف كما عرفت .
وقوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } جملة حالية ، أي : يعلمون أنه كذب ، فيمينهم يمين غَمُوس ولا عُذر لهم فيها .
قوله : { أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } أي : لهؤلاء المنافقين عذاباً شديداً في جهنم ، وهو الدَّرْك الأسفل من النَّار .
وقيل : عذاب القبر .
قال ابن الخطيب : لأنا إذا حملنا هذا على عذاب القَبْر ، وحملنا قوله جل ذكره : { فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [ المجادلة : 16 ] على عذاب الآخرة لا يلزم منه تكرار . { إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي : بئست الأعمال أعمالهم .
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
قوله تعالى : { اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } .
قرأ العامة : « أيْمَانَهُمْ » - بفتح الهمزة - جمع « يَمِين » .
والحسن وأبو العالية - بكسرها - مصدراً هنا ، وفي « المُنَافقين » ، أي : إقرارهم اتخذوه جُنّة يستجنُّون بها من القَتْلِ .
قال ابن جني : « هذا على حذف مضاف ، أي : اتخذوا إظهار أيمانهم جُنَّة من ظهور نفاقهم » .
وقوله تعالى : { أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } مفعولان ل « اتَّخَذُوا » .
قوله : { لهم عذاب مهين } في الدنيا بالقَتْل وفي الآخرة بالنار .
وقيل : المراد من الكل عذاب الآخرة ، كقوله عز وجل : { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب } [ النحل : 88 ] . الصّد عن سبيل الله : المنع عن الإسلام .
وقيل : إلقاء الأراجيف وتَثْبِيط المسلمين عن الجهاد .
قوله تعالى : { لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ الله شَيْئاً } تقدم الكلام عليه في آل عمران .
قال مقاتل رحمه الله : قال المنافقون : إن محمداً يزعم أنه ينصر يوم القيامة لقد شقينا إذاً ، فوالله لننصرنّ يوم القيامة بأنفسنا وأموالنا وأولادنا إن كانت قيامة ، فنزلت الآية .
قوله تعالى : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً } أي : لهم عذاب مهين يوم يبعثهم الله ، فيحلفون له كما يحلفون لكم اليوم .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : يحلفون لله - تعالى - يوم القيامة كذباً كما حلفوا لأوليائه في الدنيا ، وهو قولهم : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] ويحسبون أنهم على شيء ، بإنكارهم وحلفهم .
قال ابن زيد : ظنوا أنه ينفعهم في الآخرة .
وقيل : يحسبون في الدنيا أنهم على شيء؛ لأنهم في الآخرة يعلمون الحق باضطرار ، والأول أظهر .
والمعنى : أنهم لشدة توغلهم في النفاق ظنّوا يوم القيامة أنهم يمكنهم ترويج كذبهم بالأيمان الكاذبة على علام الغيوب ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [ الأنعام : 28 ] .
قال القاضي والجُبَّائي : إن أهل الآخرة لا يكذبون ، فالمراد من الآية أنهم يحلفون في الآخرة : إنا ما كنا كافرين عند أنفسنا ، وعلى هذا الوجه لا يكون الحلف كذباً ، وقوله تعالى : { أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون } أي : في الدنيا .
قال ابن الخطيب : « وتفسير هذه الآية على هذا الوجه يقتضي ركاكة عظيمة في النَّظْم » .
روى ابن عباس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ القِيَامَةِ : أيْنَ خُصَمَاءُ اللَّهِ تعالى؟ فَتقُومُ القدريَّةُ مُسْودَّةً وجُوهُهُمْ ، مُزْرَقَّةً أعْيُنُهُمْ ، مَائِلٌ شِدْقُهُمْ يَسِيْلُ لُعَابهُم ، فيقُولُونَ : واللَّهِ ما عَبَدْنَا مِنْ دُونِكَ شَمْساً ولا قَمَراً ولا صَنَماً ، ولا اتَّخَذْنَا مِنْ دُونِكَ إلهاً » .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : صدقوا ولله ، أتاهم الشرك من حيث لا يعلمون ، ثم تلا : { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون } ، هم والله القدرية ثلاثاً .
قوله تعالى : { استحوذ } . جاء به على الأصل ، وهو فصيح استعمالاً ، وإن شذ قياساً .
وقد أخرجه عمر - رضي الله عنه - على القياس ، فقرأ : « اسْتَحَاذَ » ك « استبان » . وتقدم هذه المادة في « النساء » في قوله تعالى : { أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } [ النساء : 141 ] .
قال الزجاج : « اسْتَحْوَذَ » في اللغة استولى ، يقال : حذت الإبل ، إذا استوليت عليها وجمعتها .
وقال المبرد : « استحوذ على الشيء : حواه وأحاط به » .
قيل : المعنى غلب عليهم الشيطان بِوسْوستِهِ في الدنيا .
وقيل : قوي عليهم فأنساهم ذكر الله ، أي : أوامره في العمل بطاعته .
وقيل : زواجره في النهي عن معصيته ، والنِّسيان قد يكون بمعنى الغَفْلة ، ويكون بمعنى الترك ، والوجهان محتملان هاهنا ، { أولئك حِزْبُ الشيطان } : طائفته ورهطُه { أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشيطان هُمُ الخَاسِرُونَ } في بيعهم؛ لأنهم باعوا الجنة بجهنم ، وباعوا الهدى بالضلالة .
فصل فيمن استدل بالآية على خلق الأعمال
احتجّ القاضي بهذه الآية في خلق الأعمال من وجهين :
الأول : أن ذلك النسيان لو حصل بخلق الله - تعالى - لكان إضافتها إلى الشيطان كذباً .
الثاني : لو حصل ذلك بخلق الله لكانوا كالمؤمنين في كونهم حزب الله لا حزب الشيطان .
قوله تعالى : { إِنَّ الذين يُحَآدُّونَ الله وَرَسُولَهُ } تقدم أول السورة .
{ أولئك فِي الأذلين } . أي : من جملة الأذلاء لا أذلّ منهم؛ لأن ذل أحد الخصمين يدلّ على عز الخصم الثاني ، فلما كانت عزة الله - تعالى - غير متناهية كانت ذلة من ينازعه غير متناهية أيضاً .
قوله تعالى : { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي } .
يجوز أن يكون « كَتَبَ » جرى مجرى القسم ، فأجيب بما يجاب به .
وقال أبو البقاء : وقيل : هي جواب « كتب »؛ لأنه بمعنى « قال » .
وهذا ليس بشيء؛ لأن « قال » لا يقتضي جواباً ، فصوابه ما تقدم .
ويجوز أن يكون « لأغلبن » جواب قسم مقدر ، وليس بظاهر .
فصل في تفسير الآية
قال المفسرون : { كتب الله لأغلبن } أي : قضى الله ذلك .
وقيل : كتب في اللوح المحفوظ قاله قتادة .
وقال الفراء : « كتب » بمعنى « قال » .
وقوله : « أنا » توكيد ، « ورسلي » من بعث منهم بالحرب ، فإن الرسول بالحرب غالب ، ومن بعث منهم بالحُجّة غالب أيضاً ، فإذا انضم إلى الغلبة بالحجة الغلبة بالحرب كان أغلب وأقوى .
قال مقاتل : قال المؤمنون : لئن فتح الله لنا « مكة » و « الطائف » و « خيبر » وما حولهن رجَوْنَا أن يظهرنا الله - تعالى - على « فارس » و « الروم » ، فقال عبد الله بن أبيّ ابن سلول : أتظنون « الروم » و « فارس » كبعض القرى التي غلبتم عليها ، والله إنهم لأكثر عدداً وأشد بطشاً من أن تظنوا فيهم ذلك ، فنزلت : { لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي } .
ونظيره : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 171 - 173 ] .
قوله : { ورسلي } .
قرأ نافع وابن عامر بفتح « الياء » .
والباقون : لا يحركون .
قال أبو علي : « التَّحريك والإسكان جميعاً حسنان » .
وقوله تعالى : { إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ } قوي على نُصْرة أنبيائه « عَزِيزٌ » غالب لا يدفعه أحد عن مُرَاده .
قوله تعالى : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ } .
« يوادُّون » هو المفعول الثاني ل « تَجِدُ » ، ويجوز أن تكون المتعدية لواحد بمعنى « صادق ولقي » ، فيكون « يوادّون » حالاً ، أو صفة ل « قوماً » .
ومعنى « يوادُّون » أي : يحبون ويوالون { مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ } . وقد تقدم الكلام على المُحَادّة .
والمعنى : أنه لا يجتمع الإيمان مع ودادةِ أعداء الله .
فصل في المراد بهذه الموادّة
فإن قيل : أجمعت الأمة على أنه تجوز مخالطتهم ومعاملتهم ومعاشرتهم فما هذه الموادة المحرمة؟ .
فالجواب أن الموادّة المحرمة هي إرادة منافعه ديناً ودُنْيا مع كونه كافراً ، فأما سوى ذلك فلا حَظْر فيه .
قوله تعالى : « ولو كانوا » هذه « واو » الحال .
وقدّم أولاً الآباء؛ لأنهم تجب طاعتهم على أبنائهم ، ثم ثنَّى بالأبناء؛ لأنهم أعلقُ بالقلوب وهم حياتها ، قال الحماسي في معنى ذلك ، رحمة الله عليه رحمة واسعة : [ السريع ]
4733- وإنَّمَا أوْلادُنَا بَيْنَنَا ... أكْبَادُنَا تَمْشِي عَلَى الأرْضِ
ثم ثلَّث بالإخوان؛ لأنهم هم الناصرون بمنزلة العضُد من الذِّراع .
قال رحمه الله : [ الطويل ]
4737- أخَاكَ أخَاكَ إنَّ مَنْ لا أخَا لَهُ ... كَسَاعٍ إلى الهَيْجَا بِغَيْرِ سِلاحِ
وإنَّ ابْنَ عَمِّ المَرْءِ - فَاعْلمْ - جَنَاحُهُ ... وهَلْ يَنْهَضُ البَازِي بِغَيْرِ جَنَاحِ
ثم ربع بالعشيرة؛ لأن بها يستعان وعليها يعتمد .
قال بعضهم ، رحمة الله عليه : [ البسيط ]
4734- لا يَسْألُونَ أخَاهُمْ حِيْنَ يَنْدُبُهُمْ ... في النَّائِبَاتِ عَلَى مَا قَالَ بُرْهَانَا
وقرأ أبو رجاء : « عَشِيْراتهم » ، بالجمع ، كما قرأها أبو بكر في « التوبة » كذلك .
فصل في مناسبة الآية
لما بالغ في المنع من هذه الموادة في الآية الأولى من حيث أن الموادة مع الإيمان لا يجتمعان ، بالغ هاهنا أيضاً من وجوه ، وهي قوله تعالى : { وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } والمعنى : أن الميل إلى هؤلاء أعظم أنواع المحبة ، ومع هذا فيجب أن يكون هذا الميل مطرحاً بسبب الدين .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في أبي عبيدة بن الجراح قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم « أحد » ، وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم « بدر » ، وأبي بكر - رضي الله عنه - قال ابن جريح :
« حدثت أن أبا قحافة سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم فصكّه أبو بكر - رضي الله عنه - صكَّة سقط منها على وجهه ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فقال : » أو فَعَلْتَهُ لا تَعُدْ إليْهِ « ، فقال : والذي بعثك بالحق نبيًّا لو كان السيف منِّي قريباً لقتلته » ، ومصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير ، وعلي بن أبي طالب وحمزة وعبيدة - رضي الله عنهم - قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يوم « بدر » أخبر أن هؤلاء لم يوادُّوا أقاربهم وعشائرهم غضباً لله تعالى ودينه .
فصل في الاستدلال بالآية على معاداة القدرية
قال القرطبي : استدل مالك - رحمه الله - بهذه الآية على معاداة القدرية ، وترك مجالستهم .
قال أشهب عن مالك : لا تجالسوا القدرية ، وعادوهم في الله ، لقول الله عز وجل : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ } .
قال القرطبي : وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظُّلم والعدوان .
وعن الثوري - رضي الله عنه - أنه قال : كانوا يرون أنها نزلت فيمن يصحب السلطان .
وعن عبد العزيز بن أبي رواد : أنه لقي المنصور في الطّواف فلما عرفه هرب منه ، وتلا هذه الآية .
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : « اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْ لفَاجِرِ عِنْدِي نِعْمَةً ، فإنِّي وجَدْتُ فِيْمَا أوْحَيْتَ إليَّ : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } » الآية
. قوله : { أولئك كَتَبَ } .
قرأ العامّة : « كَتَبَ » مبنيًّا للفاعل ، وهو الله - سبحانه وتعالى - « الإيمان » نصباً ، وأبو حيوة في رواية المفضل : « كُتِبَ » مبنيًّا للمفعول « الإيمان » رفع به .
والضمير في « منه » لله تعالى .
وقيل : يعود على « الإيمان »؛ لأنه روح يحيا به المؤمنون في الدارين . قاله السدي ، أي : أيدهم بروح من الإيمان ، يدل عليه قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] .
فصل في معنى كتب الإيمان
معنى « كتب الإيمان » أي : خلق في قلوبهم التصديق ، يعني من لم يُوالِ من حاد الله .
وقيل : « كَتَبَ » : أثبت . قاله الربيع بن أنس .
وقيل : جعل كقوله تعالى : { فاكتبنا مَعَ الشاهدين } [ آل عمران : 53 ] أي : اجعلنا ، وقوله تعالى : { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة } [ الأعراف : 156 ] .
وقيل « كتب » أي : جمع ، ومنه الكتيبة ، أي : لم يكونوا ممن يقول : نؤمن ببعض ، ونكفر ببعض .
وقيل : { كتب في قلوبهم الإيمان } أي : على قلوبهم الإيمان ، كقوله تعالى : { فِي جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] .
وخص القلوب بالذكر ، لأنها موضع الإيمان .
قوله : « وأيَّدهُمْ » ، أي : قوَّاهم ونصرهم بروح منه .
قال الحسن : بنصر منه .
قال ابن عباس : نصرهم على عدوهم ، وسمى تلك النصرة روحاً؛ لأنه به يحيا أمرهم .
وقال الربيع بن أنس رضي الله عنه : بالقرآن وحججه .
وقال ابن جريح : بنُورٍ وبُرهان وهدى .
وقيل : برحمة من الله .
وقيل : أيَّدهم بجبريل صلوات الله وسلامه عليه .
قوله : { وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ الله عَنْهُمْ } أي : قبل أعمالهم { وَرَضُواْ عَنْهُ } فرحوا بما أعطاهم { أولئك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون } .
وهذه في مقابلة قوله تعالى : { أولئك حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ } ، وهذه الآية زجر عن التودّد إلى الكُفَّار والفُسَّاق ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم بالصواب .
روى الثعلبي في تفسيره عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ سُورَةَ المُجادلةِ كُتِبَ مِنْ حِزْبِ الله - تعالى - يَوْمَ القِيَامَةِ » .
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)
قوله تعالى : { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم } تقدم نظيره .
قوله تعالى : { هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر } .
قال سعيد بن جبير : قلت لابن عباس : سورة الحشر؟ قال : قل : سورة النَّضير ، وهم رهط من اليهود من ذرية هارون - صلوات الله وسلامه عليه - نزلوا ب « المدينة » في فتن بني إسرائيل انتظاراً لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم فكان من أمرهم ما نصّ عليه .
قوله : { مِنْ أَهْلِ الكتاب } .
يجوز أن تكون « من » للبيان ، فتتعلق بمحذوف ، أي : أعني من أهل الكتاب .
والثاني : أنها حال من « الَّذين كفروا » .
وقوله تعالى : { مِن دِيَارِهِمْ } متعلق ب « أخرج » ، ومعناها : ابتداء الغاية ، وصحت إضافة الديار إليهم؛ لأنهم أنشئوها .
قوله : { لأَوَّلِ الحشر } .
هذه اللاَّم متعلقة ب « أخرج » وهي لام التوقيت ، كقوله تعالى : { لِدُلُوكِ الشمس } [ الإسراء : 78 ] أي : عند أول الحشر .
وقال الزمخشري : وهي كاللام في قوله تعالى : { ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } [ الفجر : 24 ] ، وقوله : « جئت لوقت كذا » وسيأتي الكلام على هذه « اللام » في سورة « الفجر » إن شاء الله تعالى .
فصل في الكلام على الحشر
قال القرطبي : « الحشر » : الجمع ، وهو على أربعة أضرب :
حشران في الدنيا وحشران في الآخرة .
أما اللذان في الدنيا فقوله تعالى : { هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر } .
قال الزهري : كانوا من سِبْطٍ لم يصبهم جلاء ، وكان الله - عز وجل - قد كتب عليهم الجلاء ، فلولا ذلك لعذّبهم في الدنيا ، وكان أول حشر حشروا في الدنيا إلى « الشام » .
قال ابن عباس وعكرمة : من شك أن المحشر في « الشام » فليقرأ هذه الآية .
وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : « اخْرُجُوا » قالوا : إلى أين؟ قال : « إلى أرْضِ المَحْشَرِ » .
قال قتادة رضي الله عنه : هذا أول المحشر .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : هم أول من حشر من أهل الكتاب ، وأخرج من دياره .
وقيل : إنهم أخرجوا إلى « خيبر » ، وإن معنى « لأول الحشر » : إخراجهم من حصونهم إلى « خيبر » ، وآخرهم بإخراج عمر إياهم من « خيبر » إلى « نجد » و « أذرعات » .
وقيل : « تيماء » و « أريحاء » ، وذلك بكفرهم ونقض عهدهم .
وأما الحشر الثاني : فحشرهم قرب القيامة .
قال قتادة : تأتي نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، تبيت معهم حيث باتوا ، وتقيلُ معهم حيث قالوا ، وتأكل من تخلف منهم ، وهذا ثابت في الصحيح .
وذكروا أن تلك النَّار ترى بالليل ، ولا ترى بالنهار .
قال ابن العربي : للحشر أول ووسط ، وآخر .
فالأول : إجلاء بن النَّضير .
والأوسط : إجلاء خيبر .
والآخر : حَشْر يوم القيامة .
وعن الحسن : هم بنو قريظة ، وخالفه بقية المفسرين ، وقالوا : بنو قريظة ما حشروا ، ولكنهم قتلوا حكاه الثعلبي .
فصل في نسخ مصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم
قال إلكيا الطَّبري : ومُصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير شيء لا يجوز الآن ، وإنما كان ذلك في دار الإسلام ثم نُسِخَ ، والآن فلا بد من قتالهم ، أو سبيهم ، أو ضرب الجزية عليهم .
قوله تعالى : { مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ } أي : لعظم أمر اليهود لعنهم الله ومنعتهم وقوتهم في صدور المسلمين واجتماع كلمتهم .
وقوله تعالى : { وظنوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ الله } .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن المسلمين ظنوا أنهم لعزّتهم وقوّتهم لا يحتاجون إلى أن يخرجوا من ديارهم .
قيل : المراد بالحصون : الوطيح والنَّطاة والسُّلالم والكتيبة .
قوله : { مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم } . فيه وجهان :
أحدهما : أن تكون « حُصُونهم » مبتدأ ، و « مَانِعتهم » خبر مقدم ، والجملة خبر « أنهم » . لا يقال : لم لا يقال : « مَانعَتُهُم » مبتدأ ، لأنه معرفة ، و « حصونهم » خبره ، ولا حاجة إلى تقديم ولا تأخير؟ لأن القصد الإخبار عن الحُصُون ، ولأن الإضافة غير محضة فهي نكرة .
الثاني : أن تكون « مانعتهم » خبر « أنهم » و « حصونهم » فاعل به ، نحو : إن زيداً قائم أبوه ، وإن عمراً قائمة جاريته . وجعله أبو حيان أولى؛ لأن في نحو : « قائم زيد » على أن يكون خبراً مقدماً ومبتدأ مؤخراً ، خلافاً ، الكوفيون يمنعونه ، فمحل الوفاق أولى .
قال الزمخشري : « فإن قلت : فأي فرق بين قولك : وظنوا أن حصونهم تمنعهم ، أو » مانعتهم « ، وبين النظم الذي جاء عليه؟ .
قلت : بتقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وُثُوقهم ، ومنعها إياهم ، وفي تغيير ضميرهم اسماً ل » أن « ، وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالى معها بأحد يتعرض إليهم ، وليس ذلك في قولك : حصونهم تمنعهم » . انتهى .
وهذا الذي ذكره إنَّما يتأتى على الإعراب الأول ، وقد تقدم أنه مرجوح .
وتسلط الظن هنا على « أن » المشددة ، والقاعدة أنه لا يعمل فيها ولا في المخففة منها إلا فعل « علم » وتعين إجراؤه مجرى اليقين لشدته وقوته ، وأنه بمنزلة العلم .
وقوله : { مِّنَ الله } أي : من أمره .
قوله تعالى : { فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } .
قال الزمخشري : قرىء « فأتاهم الهلاك » أي : أتاهم أمره وعذابه { من حيث لم يحتسبوا } ، أي : لم يظنوا ، وقيل : من حيث لم يعلموا .
وقال ابن جريج والسدي وأبو صالح : « من حيث لم يحتسبوا : بقتل كعب بن الأشرف ، وكانوا أهل خلعة وسلاح وقصور منيعة فلم يمنعهم شيء منها » .
وقيل : الضمير في « فأتاهم الله » يعود إلى المؤمنين ، أي : فأتاهم نصرُ الله وتقويته [ لا ] يمنعهم شيء منها .
قوله : { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب } بقتل سيدهم كعب بن الأشرف ، وكان الذي قتله محمد بن مسلمة ، وأبو نائلة سلكان بن سلامة بن وقش - وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة - وخبره مشهور في السيرة .
قال أهل اللغة : « الرُّعْبُ » : الخوف الذي يرعب الصُّدور ، أي : يملؤه ، وقذفه : إثباته فيه ، ومنه قالوا في صفة الأسد : مقذف ، كأنه قذف اللحم قذفاً لاكتنازه وتداخل أجزائه .
وهذه الآية تدلّ على أن الأمور كلها من الله تعالى ، لأن الآية دلّت على أن وقوع ذلك بالرُّعب صار سبباً في إقدامهم على بعض الأفعال ، وبالجملة فالفعل لا يحصل إلا عند حصول داعية متأكدة في القلب ، وحصول تلك الداعية لا يكون إلا من الله تعالى ، فكانت الأفعال بأسرها مستندة إلى الله - تعالى - بهذا الطريق .
قوله : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم } يجوز أن يكون مستأنفاً للإخبار به ، وأن يكون حالاً من ضمير « قلوبهم » ، وليس بذاك .
وقرأ أبو عمرو : « يُخَرِّبُونَ » بالتشديد ، وباقيهم : بالتَّخفيف .
وهما بمعنى؛ لأن « خرَّب » عدَّاه أبو عمرو بالتضعيف ، وهم بالهمزة .
وعن أبي عمرو : أنه فرق بمعنى آخر ، فقال : « خرّب » - بالتشديد - هدم وأفسد ، و « أخرب » - بالهمزة - ترك الموضع خراباً ، وذهب عنه ، وهو قول الفرَّاء .
قال المبرد : ولا أعلم لهذا وجهاً .
و « يُخْرِبُونَ » من خرب المنزل وأخربه صاحبه ، كقوله : « عَلِمَ وأعْلَمَ ، وقَامَ وأقَامَ » .
وإذا قلت : « يخربون بيوتهم » من التخريب فإنما هو تكثير؛ لأن ذكر « بيوتاً » تصلح للتقليل والتكثير .
وزعم سيبويه أنهما يتعاقبان في بعض الكلام ، فيجري كل واحد مجرى الآخر ، نحو : « فرحته وأفرحته » .
قال الأعشى : [ المتقارب ]
4736- . ... وأخْرَبْتَ مِنْ أرْضِ قَوْمٍ دِيَارا
واختار الهذلي قراءة أبي عمرو لأجل التَّكثير .
ويجوز أن يكون « يخربون » تفسيراً للرُّعب فلا محلَّ له أيضاً .
قال أبو عمرو : وإنما اخترت التشديد؛ لأن الإخراب ترك الشيء خراباً بغير ساكن ، وبنو النضير لم يتركوها خراباً ، وإنما خرَّبوها بالهدم ، ويؤيده قوله تعالى : { بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤمنين } .
فصل في تفسير الآية
قال قتادة والضحاك رحمهما الله تعالى : كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا ، واليهود يخربون من داخل ليبنوا به ما خرب من حصنهم .
وقال مقاتل : إن المنافقين أرسلوا إليهم ألا يخرجوا وتدرّبوا على الأزِقَّة ، وكان المسلمون يخربون سائر الجوانب .
وقيل : إن المسلمين كانوا إذا ظهروا على دربٍ من دروبهم خربوه ، وكان اليهود يتأخرون إلى ما وراء بيوتهم وينقِّبُونها من وراء أدبارهم .
وقيل : إن المسلمين كانوا يخربون ظواهر البلد ، واليهود لما أيقنُوا بالجلاء ، فكانوا ينظرون إلى الخشبةِ في منازلهم مما يستحسنونه ، أو الباب فيهدمون بيوتهم ، وينزعونها ، ويحملونها على الإبل .
فإن قيل : ما معنى تخريبهم لها بأيدي المؤمنين؟ .
قلت : لما عرضوهم لذلك ، وكانوا السبب فيه ، فكأنهم أمروهم به وكلفوه إياهم .
وقال الزهري : « يخربون بيوتهم » بنقض المواعدة ، « وأيدي المؤمنين » بالمقاتلة .
وقال أبو عمرو بن العلاء : « بأيديهم » في تركهم لها ، « وأيدي المؤمنين » في إجلائهم عنها .
قوله تعالى : { فاعتبروا ياأولي الأبصار } .
والاعتبار : مأخوذ هنا من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء ، وبهذا سميت العبرةُ عبرةً؛ لأنها تنتقل من العين إلى الخدِّ ، وسمي علم التعبير؛ لأن صاحبه ينتقل من المتخيّل إلى المعقول ، وسميت الألفاظ عبارات؛ لأنها تنقل المعاني عن لسان القائل إلى عقلِ المستمع .
ويقال : السعيد من اعتبر بغيره؛ لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه .
ولهذا قال المفسرون : الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها .
وقوله عز وجل : { يا أولي الأبصار } .
قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد أهل اللُّب والعقل والبصائر .
قال الفراء : أي من عاين تلك الوقائع والأبصار جمع البصر .
ومن جملة الاعتبار هنا أنهم اعتصموا بالحُصُون من الله ، فأنزلهم الله - تعالى - منها ، وسلط عليهم من كان ينصرهم ، وأنهم هدموا أموالهم بأيديهم ، ومن لم يعتبر بغيره اعتبر في نفسه .
واستدل الأصوليون بهذه الآية على وجوب العمل بالقياس .
وقوله تعالى : { وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء } .
العامة : على مده وهو الإخراج .
يقال : أجليت القوم ، وجلا هو جلاء .
وقال الماوردي : الجلاء أخصّ من الخروج؛ لأنه لا يقال إلا لجماعة ، والإخراج يكون للجماعة والواحد .
وقال غيره : الفَرْق بينهما أن الجلاء كان مع الأهل والولد ، بخلاف الإخراج فإنه لا يستلزم ذلك .
وقرأ الحسن وعلي ابنا صالح : « الجَلاَ » بألف فقط .
وطلحة : مهموزاً من غير ألف ك « النبأ » .
والمعنى : أنه لولا أنه قضى أنه سيجليهم عن ديارهم ، وأنه يبقون مدة ، فيؤمن بعضهم ويولد لهم من يؤمن { لَعَذَّبَهُمْ فِي الدنيا } أي : بالقتل كما فعل بإخوانهم « بني قريظة » ، والجلاء مفارقة الوطن يقال : جلا بنفسه جلاء ، وأجلاه غيره إجلاء .
وأما قوله : { وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابُ النار } ، فهو كلام مبتدأ غير معطوف على ما قبله ، إذ لو كان معطوفاً على ما قبله لزم ألا يوجد؛ لأن « لولا » تقتضي انتفاء الجزاء لحصول الشرط .
قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ } .
أي : عادوه وخالفوا أمره .
{ وَمَن يُشَآقِّ الله } .
قرأ طلحة بن مصرف ، ومحمد بن السميفع : بالفك ، كالمتفق عليه في الأفعال ، وأدغم الباقون .
والمقصود من الآية الزَّجْر .
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
قوله : { مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ } .
« ما » شرطية في موضع نصب ب « قطعتم » ، و « من لينة » بيان له ، و « فبإذن الله » جزاء الشرط ، فلا بد من حذف ، أي : فقطعها بإذن الله ، فيكون « بإذن الله » الخبر لذلك المبتدأ .
واللِّيْنة : فيها خلاف كبير .
قيل : هي النَّخْلة مطلقاً .
وأنشد الشاعر في ذلك : [ الطويل ]
4737- كَأنَّ قُتُودِي فوقهَا عُشُّ طَائرٍ ... عَلَى لِينَةٍ سَوْقاءَ تَهْفُو جُنُوبُهَا
وقال ذو الرمة : [ الطويل ]
4738- طِرَاقُ الخَوافِي واقِعٌ فَوْقَ لِينَةٍ ... نَدَى لَيْلهِ فِي رِيشِهِ يَتَرقْرَقُ
وقيل : هي النَّخْلة ما لم تكن عجوة . قاله الزهري ، ومالك ، وسعيد بن جبير وعكرمة ، والخليل .
وقيل : ما لم تكن عجوة ولا برنيَّة ، وهو قول أبي عبيدة .
قال جعفر بن محمد : هي العجوة خاصة ، وذكر أن العتيق والعجوة كانتا مع نوح في السفينة والعتيق : الفَحْل ، وكانت العجوة أصل الإناث كلها ، فلذلك شقّ على اليهود قطعها حكاه الماوردي .
وقيل : هي النَّخْلة الكريمة ، أي : القريبة من الأرض .
وأنشد الأخفش رحمة الله عليه : [ الخفيف ]
4739- قَدْ شَجَانِي الحمَامُ حِينَ تَغَنَّى ... بِفِراقِ الأحْبَابِ مِنْ فَوْقِ لِينَهْ
وقال سفيان بن عيينة : هي ضرب من النخل ، يقال لثمره : اللَّون . تمره أجود التَّمر ، وهو شديد الصُّفرة يرى نواه من خارجه ، ويغيب فيه الضِّرْس ، النخلة منها أحب إليهم من وصيف .
وقيل : هي الفَسِيْلة؛ لأنها ألينُ من النخلة .
وأنشد : [ الخفيف ]
4740- غَرَسُوا لِينَةً بِمَجْرَى مَعِينٍ ... ثُمَّ حَفُّوا النَّخِيلَ بالآجَامِ
وقيل : اللينة هي الأشجار كلها للينها بالحياة ، وأنشد بيت ذي الرمة المتقدم .
وقال الأصمعي : إنها الدَّقَل . قال : وأهل « المدينة » يقولون : لا تنتفخ الموائد حتى توجد الألوان يعنون الدَّقل .
قال ابن العربي : « والصَّحيح ما قاله الزهري ومالك » .
وفي عين « لينة » قولان :
أحدهما : أنها « واو »؛ لأنها من اللون ، وإنما قلبت ياء لسكونها ، وانكسار ما قبلها ك « ديمة » و « قيمة » .
الثاني : أنها « ياء »؛ لأنها من اللين .
وجمع اللينة « لين »؛ لأنه من باب اسم الجنس ك « تمرة ، وتمر » .
وقد كسر على « ليان » وهو شاذّ؛ لأن تكسير ما يفرق بتاء التأنيث شاذ ك « رطبة ورطب وأرطاب » .
وأنشد : [ المتقارب ]
4741- وسَالِفَةٍ كَسَحُوقِ اللِّيَا ... نِ أضْرَمَ فيهَا الغَويُّ الشُّعُرْ
والضمير في قوله « تَرَكْتُمُوهَا » عائد على معنى « ما » .
قوله : « قَائِمَةً » .
قرأ عبد الله والأعمش وزيد بن علي : « قُوَّماً » على وزن « ضُرَّباً » جمع « قائم » مراعاة لمعنى « ما » فإنه جمع .
وقرأ عبد الله ، { ما قطعتم من لينةٍ ولا تركتموها على أصولها } أي : لم تقطعوها .
وقرىء : « قَائِماً » مفرداً مذكراً .
وقوله : { أُصُولِهَا } .
قرىء : « أصْلها » بغير « واو » ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه جمع « أصل » نحو : « رَهْن ورُهُن » .
والثاني : أن يكون حذف الواو استثقالاً لها ، واكتفى بالضمة عن « الواو » .
فصل في نزول الآية
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بنو النضير ، وتحصنوا بحصونهم أمر بقطع نخيلهم وإحراقها فجزع أعداء الله عند ذلك ، وقالوا : يا محمد زعمت أنك تريد الصَّلاح ، أفمن الصلاح قطع الشجر وعَقْر النخل؟ وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض؟ فوجد المسلمون في أنفسهم وخشوا أن ذلك فساداً ، واختلفوا في ذلك .
فقال بعضهم : لا تقطعوا فإنها مما أفَاءَ اللَّه علينا .
وقال بعضهم : بل نُغيظهم بقطعها ، وأنزل الله هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه ، وتحليل من قطعه من الإثم .
وروي عن عمر - رضي الله عنه - قال : حرَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير وقطع وهي « البُويرة » ، فنزل : { مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله } أخبر في هذه الآية أن ما قطعوه وما تركوه « فبإذْنِ الله » أي : بأمره { وَلِيُخْزِيَ الفاسقين } .
و « اللام » في « ليخزي » متعلقة بمحذوف أي : أذن في قطعها ليسرَّ المؤمنين ويعزهم ويخزي الفاسقين .
فصل في هدم حصون الكفار
احتجُّوا بهذه الآية على أنَّ حصون الكفرة وديارهُم يجوز هدمُهَا وتحريقُهَا وتغريقها وأن ترمى بالمجانيق وكذلك أشجارهم .
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنهم قطعوا منها ما كان موضعاً للقتال .
وروي أن رجلين كانا يقطعان أحدهما العجوة والآخر اللون ، فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هذا : تركتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال الآخر : قطعتها غيظاً على الكُفَّار .
واستدلوا به على جواز الاجتهاد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم .
قال الماوردي رحمه الله : في هذه الآية دليل على أن كل مجتهد مصيب .
وقال إلكيا الطبري : وإن كان الاجتهاد يبعد في مثله مع وجود النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ، ولا شكَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ذلك وسكت ، فتلقوا الحكم من تقريره فقط .
قال ابن العربي : وهذا باطل لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معهم ، ولا اجتهاد مع حضور النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يدل على اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه أخذاً بعموم الأذية للكفار ، ودخولاً في الإذْنِ للكل فيما يقضي عليهم بالبوارِ ، وذلك قوله - عز وجل - : { وَلِيُخْزِيَ الفاسقين } .
قوله تعالى : { وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ } الآية .
قال المبرد : « يقال : أفاء يفيء ، إذا رجع ، وأفاء الله ، إذا رده » .
وقال الأزهري : « الفَيْء : ما رده الله على أهل دينه من أموالٍ بلا قتالٍ إما بأن يجلوا عن أوطانهم ويخْلُوهَا للمسلمين ، أو يصالحون على جزيةٍ يؤدّونها عن رءوسهم ، أو مال غير الجزية يفتدون به من سفكِ دمائهم ، كما فعله بنو النضير حين صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لكل ثلاثة منهم حمل بعير مما شاءوا سوى السلاح ، ويتركوا الباقي ، فهذا المال هو الفيءُ ، وهو ما أفاء الله على المسلمين ، أي : رده من الكفار على المسلمين » .
وقوله : « مِنْهُمْ » أي : من يهود بني النضير .
قوله : { فَمَآ أَوْجَفْتُمْ } .
الفاء جواب الشرط ، أو زائدة ، على أنها موصولة متضمنة معنى الشَّرط ، و « ما » نافية .
والإيْجَاف : حمل البعير على السَّير السريع ، يقال : وجف البعير والفرس إذا أسرع ، يَجِفُ وجْفاً ووَجِيفاً ووجفَاناً ، وأوجفته أنا إيجافاً ، أي : أتعبته وحركته .
قال العجاج : [ الرجز ]
4742- نَاجٍ طَوَاهُ الأيْنُ مِمَّا وجَفَا ... وقال نصيب : [ الطويل ]
4743- ألاَ رُبَّ رَكْبٍ قَدْ قطَعْتُ وجيفَهُمْ ... إلَيْكَ ولوْلاَ أنْتَ لَمْ يُوجفِ الرَّكْبُ
قوله تعالى : { مِنْ خَيْلٍ } .
« من » زائدة ، أي : خيلاً ، والرِّكاب : الإبل ، واحدها : راحلة ، ولا واحد لها من لفظها .
قال ابن الخطيب : والعرب لا يطلقون لفظ الرَّاكب إلاَّ على راكب البعير ، ويسمون راكب الفرس فارساً .
والمعنى : لم تقطعوا إليها شُقَّة ، ولا لقيتم بها حرباً ولا مشقة ، وإنما كانت من « المدينة » على ميلين قاله الفراء . فمشوا إليها مشياً ولم يركبوا خيلاً ، ولا إبلاً إلا النبي صلى الله عليه وسلم فقيل : إنه ركب جملاً .
وقيل : حماراً مخطُوماً بليفٍ ، فافتتحها صُلْحاً .
قال ابن الخطيب : إن الصحابة طلبوا من الرسول - عليه الصلاة والسلام - أن يقسم الفَيْءَ بينهم كما يقسم الغنيمة بينهم ، فذكر الله - تعالى - الفرق بين الأمرين ، وأن الغنيمة هي التي أتعبتم أنفسكم في تحصيلها ، وأما الفيءُ فلم يوجف عليه بخيل ولا ركابٍ ، فكان الأمر فيه مفوضاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم يضعه حيث يشاء .
وها هنا سؤال ، وهو أن أموال بني النَّضير أخذت بعد القتال؛ لأنهم حوصروا أياماً ، وقاتلوا وقتلوا ، ثم صالحوا على الجلاء ، فوجب أن تكون تلك الأموال من جملة الغنائم لا من جملة الفيء؟ فلهذا السؤال ذكر المفسرون ها هنا وجهين :
الأول : أن هذه الآية ما نزلت في قرى بني النضير؛ لأنهم أوجفوا عليه بالخيل والرِّكاب ، وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ، بل هي فيء « فَدَك »؛ لأن أهله انجلوا عنه ، فصارت تلك القرى والأموال التي في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير حربٍ ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ من غلَّة « فدك » نفقته ونفقة من يعوله ، ويجعل الباقي للسِّلاح والكراع ، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ادعت فاطمة - رضي الله عنها - أنه كان نحلها « فدكاً » ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : أنت أعز الناس علي فقراً ، وأحبهم إلي غنى ، لكني لا أعرف صحة قولك ، ولا يجوز لي أن أحكم بذلك ، فشهدت لها أم أيمن ومولى للرسول صلى الله عليه وسلم فطلب منها أبو بكر الشَّاهد الذي يجوز شهادته في الشرع فلم يكن فأجرى أبو بكر ذلك على ما كان يجريه الرسول صلى الله عليه وسلم ينفق منه على من كان ينفق عليه الرسول ، ويجعل ما يبقى في السلاح والكُراع .
وكذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جعله في يد علي - رضي الله عنه - يجريه على هذا المجرى ، ورد هذا في آخر عهد عمر - رضي الله عنه - وقال : إن بنا غنًى وبالمسلمين إليه حاجة .
وكان عثمان - رضي الله عنه - يجريه كذلك ، ثم عاد إلى علي - رضي الله عنه - فكان يجريه هذا المجرى ، والأئمة الأربعة - رضي الله عنهم - اتَّفقوا على ذلك .
والقول الثاني : أن هذه الآية نزلت في بني النضير وقراهم ، وليس للمسلمين يومئذ كثير خيل ولا ركاب ، ولم يقطعوا إليها مسافة كبيرة ، وإنما كانوا على ميلين من « المدينة » ، فمشوا إليها مشاة ، ولم يركب إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كانت المقاتلة قليلة ، والخيل والركاب غير حاصل أجراه الله - تعالى - مجراه ما لم يحصل فيه المقاتلة أصلاً ، فخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الأموال فروي أنه صلى الله عليه وسلم قسمها بين المهاجرين ، ولم يُعْطِ الأنصار شيئاً منها إلا ثلاثة نفرٍ كانت بهم حاجة : أبو دجانة ، وسهل بن حنيف ، والحرث بن الصمة .
قال بعض العلماء : لما ترك بنو النضير ديارهم وأموالهم طلب المسلمون أن يكون لهم منها حظ كالغنائم ، فبين الله - تعالى - أنها فيءٌ ، وكان قد جرى بعض القتال؛ لأنهم حوصروا أياماً ، وقاتلوا وقتلوا ، ثم صالحوا على الجلاء ، ولم يكن قتالٌ على التحقيق ، بل جرى مبادىء القتال ، وجرى الحصار ، فخص الله - تعالى - تلك الأموال برسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال مجاهد رضي الله عنه : علمهم الله - تعالى - وذكرهم أنه إنما نصر رسوله صلى الله عليه وسلم ونصرهم بغير كراع ولا عدة .
{ ولكن الله يسلط رسله على من يشاء من عباده } من أعدائه .
وفي هذا بيان أن تلك الأموال كانت خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم دون أصحابه - رضي الله عنهم - .
قوله تعالى : { وَمَآ أَفَآءَ الله } .
قال الزمخشري : « لم يدخل العاطف على هذه الجملة؛ لأنها بيان للأولى ، فهي منها غير أجنبية عنها » .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : هي « قريظة » و « النضير » ، وهما ب « المدينة » و « فدك » وهي على ثلاثة أميال من « المدينة » و « خيبر » ، وقرى « عرينة » و « ينبع » جعلها الله - تعالى - لرسوله صلى الله عليه وسلم وبين أن في ذلك المال الذي خصه الله - تعالى - لرسوله صلى الله عليه وسلم سُهماناً لغير الرسول صلى الله عليه وسلم تطييباً منه لعباده .
فصل في المراد بذي القربى
قال ابن الخطيب : أجمعوا على أن المراد بذي القربى بنو هاشم ، وبنو المطلب .
وقال القرطبي : وقد تكلم العلماء في هذه الآية والتي قبلها على معناهما هل معناهما واحد أو مختلف ، والآية التي في الأنفال؟ .
فقال بعضهم : إن قوله تعالى : { مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى } منسوخ بآية « الأنفال » من كون الخمس لمن سمي له ، والأخماس الأربعة لمن قاتل ، وكان في أول الإسلام تقسم الغنيمة على هذه الأصناف ، ولا يكون لمن قاتل عليها شيء ، وهذا قول يزيد بن رومان ، وقتادة وغيرهما ، ونحوه عن مالك رضي الله عنه .
وقال بعضهم : ما غنمتم بصُلْح من غير إيجاف خيل ، ولا ركاب ، فيكون لمن سمى الله تعالى فيه فيئاً ، الأول للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة إذا أخذ منه حاجته كان الباقي في مصالح المسلمين .
وقال معمر رضي الله عنه : الأولى : للنبي صلى الله عليه وسلم . والثانية : هي الجزية والخراج للأصناف المذكورة فيه . والثالثة : الغنيمة في سورة « الأنفال » للغانمين .
وقال الشافعي رضي الله عنه وبعض العلماء : إنَّ معنى الآيتين واحد ، أي : ما حصل من أموال الكفار بغير قتال قسم على خمسة أسهمٍ ، أربعة منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويقسم الخمس الباقي على خمسة أسهمٍ؛ سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً ، وسهم لذوي القُرْبى ، وهم بنو هاشم ، وبنو المطلب؛ لأنهم منعوا الصدقة ، فجعل لهم حق في الفيء . وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لأبناء السبيل .
وأما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فالذي كان من الفيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف عند الشافعي - رضي الله عنه - في قول إلى المجاهدين المترصّدين للقتال في الثُّغُور؛ لأنهم القائمون مقام الرسول صلى الله عليه وسلم .
وفي قول آخر : يصرف إلى مصالح المسلمين من سد الثُّغور ، وحفر الأنهار ، وبناء القناطر ، يقدم الأهم فالأهم ، وهذا في أربعة أخماس الفيء .
فأما السهم الذي كان له من خمس الفيء والغنيمة فهي لمصالح المسلمين بعد موته صلى الله عليه وسلم بلا خوف ، كما قال صلى الله عليه وسلم : « لَيْسَ لي مِنْ غَنائِمكُمْ إلاَّ الخمسُ ، والخمسُ مردودٌ فِيْكُم » .
وكذلك ما خلفه من المال غير موروث ، بل هو صدقة عنه يصرف في مصالح المسلمين ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنَّا لا نُورثُ ما تركناهُ صدقة » .
وقيل : كان مال الفيء لنبيه صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى : { وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ } فأضافه إليه ، غير أنه كان لا يتأثّل مالاً ، إنما كان يأخذ بقدر حاجة عياله ، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين .
قال ابن العربي رحمه الله : لا إشكال أنها ثلاثة معانٍ في ثلاث آيات :
فالآية الأولى وهي قوله تعالى : { هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر } [ الحشر : 2 ] ، ثم قال تعالى : { وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ } يعني : من أهل الكتاب معطوفاً عليهم { فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ } يريد - كما بينا - فلا حق لكم فيه ، ولذلك قال عمر : كانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعني بني النضير ، وما كان مثلها فهذه آية واحدة ، ومعنى متحد .
الآية الثانية : قوله تعالى : { مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } ، وهذا كلام مبتدأ غير الأول لمستحق غير الأول وسمى الآية الثانية آية الغنيمة ، ولا شك في أنه معنى آخر باستحقاق آخر لمستحق آخر ، بيد أن الآية الأولى والثانية مشتركتان في أن كل واحدة منهما تضمنت شيئاً أفاء الله على رسوله ، واقتضت الآية الأولى أنه حاصل بغير قتال ، واقتضت آية « الأنفال » أنه حاصل بقتال ، وعريت الآية الثالثة وهي قوله تعالى : { مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى } ، عن ذكر حصوله بقتال ، أو بغير قتال ، فمن ها هنا نشأ الخلاف .
فقالت طائفة : هي ملحقة بالأولى ، وهو مال الصُّلح كله ونحوه .
وقالت طائفة : هي ملحقة بآية « الأنفال » ، واختلفوا هل هي منسوخة كما تقدم أو محكمة؟ .
قال القرطبي : « وإلحاقها بالتي قبلها؛ لأن فيه تجديد فائدة ومعنى » .
وقد قيل : إن سورة « الحشر » نزلت بعد « الأنفال » ، ومن المُحَال أن ينسخ المتقدم المتأخر .
فصل في أموال الأئمة والولاة
الأموال التي للأئمة والولاة فيها مدخل ثلاثة أضرب :
الأول : ما أخذ من المسلمين على طريق التَّطهير لهم كالصَّدقات والزكوات .
والثاني : الغنائم ، وهو ما يحصل في أيدي المسلمين من أموال الكفار بالحرب والقهر والغلبة .
والثالث : الفيء ، وهو ما رجع للمسلمين من أموال الكفار عفواً صفواً من غير قتال ، ولا إيجاف كالصلح والجزية والخراج والعُشُور والمأخوذ من تجار الكفار .
ومثله أن يهرب المشركون ، ويتركون أموالهم ، أو يموت منهم أحد في دار الإسلام ولا وارث له .
فأما الصدقة فمصرفها الفقراء والمساكين والعاملون عليها حسب ما ذكره تعالى في سورة التوبة .
وأما الغنائم فكانت في صدر الإسلام للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع فيها ما شاء كما قال في « الأنفال » : { قُلِ الأنفال لِلَّهِ والرسول } [ الأنفال : 1 ] ثم نسخ بقوله تعالى : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ } [ الأنفال : 41 ] الآية وقد مضى وأما الفيء وقسمته وقسمة الخمس سواء .
قال القرطبي : « والأمر فيهما عند مالك إلى الإمام ، فإن رأى حبسهما لنوازِلَ تنزل بالمسلمين فعل ، وإن رأى قسمتهما ، أو قسمة أحدهما ، قسمها كلها ، أو قسم أحدهما بين الناس ، ويستوي فيه غريبهم ومولاهم ، ويبدأ بالفقراء من رجال ونساء حتى يغنوا ، ويعطي ذوي القربى من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفيءِ سهمهم على ما يراه الإمام ، وليس لهم حد معلوم » .
وهل يعطي الغني منهم؟ .
فأكثر الناس على إعطائه؛ لأنه حق لهم .
وقال مالك رضي الله عنه : لا يعطي منهم غير فقرائهم؛ لأنه جعل لهم عوضاً من الصدقة .
وقال الشافعي رضي الله عنه : إن ما حصل من أموال الكفار بغير قتال كان يقسم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على خمسة وعشرين سهماً للنبي صلى الله عليه وسلم عشرون سهماً يفعل فيها ما يشاء ، والخمس يقسم على ما يقسم عليه خمس الغنيمة .
قال أبو جعفر أحمد بن نصر الداودي : وهذا القول ما سبقه به أحد علمناه ، بل كان ذلك خالصاً له كما ثبت في الصحيح عن عمر مبيناً للآية ، ولو كان هذا لكان قوله : { خَالِصَةً يَوْمَ القيامة } [ الأعراف : 32 ] يجوز أن يشركهم فيها غيرهم .
فصل في تقسيم هذه الأموال
وتقسم هذه الأموال المتقدم ذكرها في البلد الذي جُبِيَ فيه ، ولا ينقل عن ذلك البلد الذي جبي فيه حتى يغنوا ، ثم ينقل إلى الأقرب من غيرهم ، إلاَّ أن ينزل بغير البلد الذي جبي فيه فاقة شديدة ، فينتقل إلى أهل الفاقة حيث كانوا كما فعل عمر - رضي الله عنه - في أعوام « الرَّمادة » وكانت خمسة أعوام أو ستة .
وقيل : عامين .
وقيل : عام اشتدّ فيه الطَّاعون مع الجوع ، وإن لم يكن ما وصفناه . ورأى الإمام إيقاف الفيء أوقفه لنوائب المسلمين ، ويبدأ بمن أبوه فقير ، والفيء حلال للأغنياء ، ويساوي فيه بين الناس ، إلا أنه يؤثر أهل الحاجة والفاقة ، والتفضيل فيه إنما يكون فيه على قدر الحاجة ، ويعطي منه الغرماء ما يؤدون به ديونهم ، ويعطي منه الجائزة والصِّلة إن كان ذلك أهلاً ، ويرزق القضاة والحكام ، ومن فيه مصلحة للمسلمين ، وأولاهم بتوفير الحظ منهم أعظمهم للمسلمين نفعاً ، ومن أخذ من الفيء شيئاً في الديوان كان عليه أن يغزو إذا وقع الغزو .
قوله تعالى : { كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً } .
قرأ هشام : « تكون » بالتاء والياء ، « دولة » بالرفع فقط ، والباقون : بالياء - من تحت - ونصب « دولة » فأما الرفع فعلى أن « كان » تامَّة ، وأما التذكير والتأنيث فواضحتان؛ لأنه تأنيث مجازي .
وأما النصب فعلى أنها الناقصة ، واسمها ضمير عائد على الفيء ، والتذكير واجب لتذكير المرفوع ، و « دولة » خبرها . وقيل « دولة » عائد على « ما » اعتباراً بلفظها .
وقرأ العامة : « دولة » بضم الدال .
وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - والسلمي : بفتحها .
فقيل : هما بمعنى ، وهو قول عيسى بن عمر ، ويونس ، والأصمعي ، وهو ما يدولُ للإنسان ، أي : ما يدور من الجد والغنى والغلبة .
وقال الحُذَّاق من البصريين والكسائي : « الدَّوْلة » - بالفتح - من المُلك - بضم الميم - ، وبالضم من « المِلْك » - بكسرها - أو بالضم في المال ، وبالفتح في النُّصْرة .
وهذا يرده القراءة المروية عن علي والسلمي ، فإن النصرة غير مرادة قطعاً ، و « كي لا » علة لقوله تعالى : { فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } أي : استقراره لكذا لهذه العلة .
قال المبرد : الدولة اسم للشَّيء الذي يتداوله القوم بينهم .
والدولة - بالفتح - انتقال حال سارة من قوم إلى قوم ، فالدُّولة - بالضم - اسم لما يتداول ، وبالفتح مصدر من هذا ، ويستعمل في الحالة السارّة التي تحدث للإنسان ، فيقال : هذه دولة فلان ، أي قد أقبل ، والمعنى : كي لا يكون الفيءُ الذي حقه أن يعطى للفقراء ليكون لهم بُلغةً يعيشون بها واقعاً في يد الأغنياء ودولة لهم .
والمعنى : فعلنا ذلك في هذا الفيءِ ، كي لا يقسمه الرؤساء والأغنياء والأقوياء بينهم دون الفقراء والضعفاء منها أيضاً بعد المرباع ما شاء .
وفيها يقول شاعرهم : [ الوافر ]
4744- لَكَ المِرْبَاعُ مِنْهَا والصَّفَايَا .. .
يقول : لئلا يعمل فيه كما كان يعمل في الجاهلية .
قال الكلبي : إنها نزلت في رؤساء المسلمين ، قالوا فيما ظهر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أموال المشركين : يا رسول الله ، خُذْ صفيَّك والربح ، ودعنا والباقي ، فهكذا كنا نفعل في الجاهلية؛ وأنشد : [ الوافر ]
4745- لَكَ المِرْبَاعُ مِنْهَا والصَّفَايَا ... وحُكْمُكَ والنَّشِيطَةُ والفُضُولُ
فأنزل الله - تعالى - هذه الآية .
قوله تعالى : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ } [ من الأخذ والغلول « فانتهوا » ] .
قاله الحسن وغيره .
وقال السدي : ما أعطاكم من مال الفيء فاقبلوه ، وما منعكم عنه فلا تطلبوه ، قال ابن جريج : ما آتاكم من طاعتي فافعلوه ، وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه .
فصل في أن أوامر النبي صلى الله عليه وسلم من أوامر الله تعالى
هذه الآية تدل على أن كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أمر من الله - تعالى - لأن الآية وإن كانت في الغنائم ، فجميع أوامره صلى الله عليه وسلم ونواهيه داخل فيها .
قال عبد الرحمن بن زيد : لقي ابن مسعود رجلاً محرماً وعليه ثيابه ، فقال : انزع عنك هذا .
فقال الرجل : اتقرأ عليَّ بهذه آية من كتاب الله تعالى؟ قال نعم : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } .
وقال عبد الله بن محمد بن هارون الفريابي : سمعت الشافعي - رضي الله عنه - يقول : سَلُوني عمَّا شئتم أخبركم من كتاب الله - تعالى - وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم قال : فقلت له : أصلحك الله ، ما تقول في المحرم يقتل الزُّنْبُور؟ قال : فقال : بسم الله الرحمن الرحيم ، قال الله تعالى : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } . وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن خراش عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اقْتَدُوا باللَّذيْنِ من بَعْدِي أبي بَكرٍ وعُمر رضِيَ اللَّهُ عنهُمَا » .
حدثنا سفيان بن عيينة بن مسعر بن كدام ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه أمر بقتل الزُّنْبُور .
وهذا الجواب في غاية الحسن أفتى بجواز قتل الزنبور في الإحرام ، وبيَّن أنه يقتدي فيه ب « عمر » ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاقتداء به ، وأنَّ الله - تعالى - أمر بقُبول ما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم فجواز قتله مستنبط من الكتاب والسُّنَّة .
وسئل عكرمة عن أمهات الأولاد ، فقال : هل هُنَّ أحرار؟ فقال : في سورة النساء في قوله تعالى : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنكُمْ } [ النساء : 59 ] .
وفي « صحيح مسلم » وغيره عن علقمة عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لَعَنَ اللَّهُ الواشِمَاتِ والمُسْتوشِمَاتِ والمُتنمِّصَات والمُتَفلِّجَاتِ للحُسْنِ ، المُغيِّراتِ لخَلْقِ الله » فبلغ ذلك امرأة من « بَنِي أسد » يقال لها : أم يعقوب ، فجاءت فقالت : إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت ، فقال : وما لي لا ألعَنُ من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله تعالى ، فقالت : لقد قرأت ما بين الدفتين فما وجدت فيه ما تقول ، فقال : إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه ، أما قرأت : [ { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } .
قالت : بلى ، قال : فإنه قد نهى الله عنه . الحديث .
فصل في الكلام على الآية
قوله تعالى : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ } .
وإن جاء بلفظ الإيتاء وهو المناولة ، فإن معناه الأمر بدليل قوله تعالى ] : { وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } .
فقابله بالنهي ، ولا يقابل النهي إلا بالأمر ، بدليل ما تقدم ، مع قوله صلى الله عليه وسلم « إذَا أمَرتكُمْ بشَيءٍ فأتُوا مِنْهُ ما اسْتطعْتُمْ ، وإذَا نَهيْتُكُمْ عن شَيْءٍ فانتهُوا » .
قوله : { واتقوا الله } أي : عذاب الله ، إنه شديد لمن عصاه .
وقيل : اتقوا الله في أوامره ونواهيه ، فلا تضيعوها ، { فإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } .
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
قوله تعالى : { لِلْفُقَرَآءِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه بدل من « لِذي القُربى » . قاله أبو البقاء والزمخشري .
قال أبو البقاء : « قيل : هو بدل من » لذي القُرْبى « وما بعده » .
[ وقال الزمخشري : بدل من « لذي القُرْبى » وما عطف عليه ] ، والذي منع الإبدال من « لله وللرسول » والمعطوف عليهما ، وإن كان المعنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله - عز وجل - أخرج رسوله صلى الله عليه وسلم من الفقراءِ في قوله : { وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ } وأن الله - تعالى - يترفع برسوله صلى الله عليه وسلم عن تسميته بالفقيرِ ، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عز وجل .
يعني أنه لو قيل : بأنه بدل من « الله ورسوله » صلى الله عليه وسلم وهو قبيح لفظاً ، وإن كان المعنى على خلاف هذا الظاهر كما قيل : إن معناه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما ذكر الله - عز وجل - تفخيماً ، وإلا فالله - تعالى - غني عن الفيء وغيره ، وإنما جعله بدلاً من « لذي القُربى »؛ لأنه حنفي ، والحنفية يشترطون الفقر في إعطاء ذوي القربى من الفيءِ .
الثاني : أنه بيان لقوله تعالى : { والمساكين وابن السبيل } [ الحشر : 7 ] ، وكررت لام الجر لما كانت الأولى مجرورة ب « اللام » ليبين أنَّ البدل إنما هو منها . قاله ابن عطية .
وهي عبارة قلقةٌ جداً .
الثالث : أن « للفقراء » خبر لمبتدأ محذوف ، أي : ولكن الفيء للفقراء .
وقيل : تقديره : ولكن يكون للفقراء ، وقيل : اعجبوا للفقراء .
قوله « يبتغون » يجوز أن يكون حالاً ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : للفقراء .
والثاني : « واو » أخرجوا . قالهما مكي .
فصل في معنى الآية
ومعنى الآية أن الفيء والغنائم للفقراء والمهاجرين .
وقيل : { كي لا يكون دولة بين الأغنياء } ولكن يكون « للفقراء » وهو مبني على الإعراب المتقدم ، وعلى القول بأنه بيان لذوي القربى ، « واليتامى والمساكين » أي : المال لهؤلاء؛ لأنهم فقراء ومهاجرون ، وقد أخرجوا من ديارهم فهم أحق الناس به .
وقيل : { ولكن الله يُسَلِّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَآءُ } [ الحشر : 6 ] للفقراء المهاجرين كي لا يكون المال دولة بين الأغنياء مهاجرين من بني الدنيا .
وقيل : والله شديدُ العقاب للفقراء المهاجرين ، أي : شديد العقاب للكافر بسبب الفقراء المهاجرين ومن أجلهم ، ودخل في هؤلاء الفقراء المتقدم ذكرهم في قوله تعالى : { وَلِذِي القربى واليتامى } [ الحشر : 7 ] .
قال القرطبي : « وقيل : هو عطف على ما مضى ، ولم يأت بواو العطف كقولك : هذا المال لزيد لبكر لفلان .
و » المهاجرون « : من هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حبًّا فيه ونُصرةً له » .
وقال قتادة : هؤلاء المهاجرين الذين تركوا الدِّيار والأموال والأهلين والأوطان حبًّا لله - عز وجل - ولرسوله صلى الله عليه وسلم حتَّى إن الرجل منهم كان يَعْصِبُ على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع ، وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ما له دثار غيرها .
قوله تعالى : { الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ } أي : أخرجهم كفار « مكة » ، أي : أحوجوهم إلى الخروج ، وكانوا مائة رجل « يَبْتَغُونَ » أي : يطلبون { فَضْلاً مِّنَ الله } : أي غنيمة في الدنيا « ورضْوَاناً » في الآخرة أي : مرضاة ربهم { وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ } في الجهاد { أولئك هُمُ الصادقون } في فعلهم ذلك .
وروي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خطب ب « الجابية » ، فقال : من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبيَّ بن كعب ، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت ، ومَنْ أراد أن يسأل عن الفقهِ ، فليأت معاذ بن جبل ، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني ، فإن الله - تعالى - جعلني له خازناً وقاسماً ، ألا وإنِّي بادٍ بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فمعطيهنّ ، ثم بالمهاجرين الأولين أنا وأصحابي ، أخرجنا من « مكة » من ديارنا وأموالنا .
قوله : { أولئك هُمُ الصادقون } .
يعني : أنهم لما هجروا لذَّات الدنيا ، وتحملوا شدائدها لأجل الدِّين ظهر صدقهم في دينهم .
قوله تعالى : { والذين تَبَوَّءُو الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ } .
يجوز في قوله : { والذين تبوّءوا الدار } وجهان :
أحدهما : أنه عطف على « الفقراء » فيكون مجروراً ، ويكون من عطف المفردات ، ويكون « يحبون » حالاً .
والثاني : أن يكون مبتدأ ، خبره « يُحبُّون » ويكون حينئذ من عطف الجمل .
وفي قوله : « والإيمان » . ستة أوجه :
أحدها : أنه ضمن « تَبَوَّءوا » معنى لزموا ، فيصح عطف الإيمان عليه ، إذ الإيمان لا يتبوأ .
الثاني : أنه منصوب بمقدر ، أي : واعتقدوا ، أو وألفوا ، أو وأحبوا ، أو وأخلصوا ، كقوله : [ الرجز ]
4746- عَلَفْتُهَا تِبْناً ومَاءً بَارِداً ..
وقوله : [ مجزوء الكامل ]
4747- . ... مُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحَا
الثالث : أنه يتجوّز في الإيمان ، فيجعل اختلاطه بهم وثباتهم عليه كالمكان المحيط بهم ، فكأنهم نزلوه ، وعلى هذا فيكون جمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة . وفيه خلاف مشهور .
الرابع : أن يكون الأصل : دار الهجرة ، ودار الإيمان ، فأقام « لام » التعريف في « الدار » مقام المضاف إليه ، وحذف المضاف من دار الإيمان ، ووضع المضاف إليه مقامه .
الخامس : أن يكون سمى « المدينة »؛ لأنها دار الهجرة ، ومكان ظهور الإيمان .
قال بهذين الوجهين الزمخشري .
وليس فيه إلاَّ قيام « ال » مقام المضاف إليه ، وهو محل نظر ، وإنما يعرف الخلاف ، هل يقوم « ال » مقام الضمير المضاف إليه؟ .
فالكوفيون يُجِيزُونه ، كقوله : { فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى } [ النازعات : 41 ] أي : مأواه .
[ والبصريون : يمنعونه ، ويقولون : الضمير محذوف ، أي : المأوى له ] .
وقد تقدم تحرير هذا وأما كونها عوضاً من المضاف إليه فلا نعرف فيه خلافاً .
السادس : أنه منصوب على المفعول معه أي : مع الإيمان معاً . قاله ابن عطية .
وقال : وبهذا الاقتران يصح معنى قوله « من قبلهم » فتأمله .
قال شهاب الدين : « وقد شرطوا في المفعول معه أن يجوز عطفه على ما قبله حتى جعلوا قوله تعالى : { فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ } [ يونس : 71 ] من باب إضمار الفعل؛ لأنه لا يقال : أجمعت شركائي ، إنما يقال : جمعت » .
فصل في المراد بهذا التبوء
« التَّبَوُّء » : التمكن والاستقرار ، وليس يريد أن الأنصار آمنوا قبل المهاجرين ، بل أراد آمنوا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ، ولا خلاف أن الذين تبوَّءُوا الدار هم الأنصار الذين استوطنوا « المدينة » قبل المهاجرين إليها ، والمراد بالدَّار : « المدينة » .
والتقدير : والذين تبوَّءُوا الدار من قبلهم .
فصل
قيل هذه الآية معطوفة على قوله : « للفقراء المهاجرين » وأن الآيات في « الحَشْر » كلها معطوفة بعضها على بعض .
قال القرطبي : ولو تأملوا ذلك ، وأنصفوا لوجدوه على خلاف ما ذهبوا إليه؛ لأن الله - تعالى - يقول : { هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ } [ الحشر : 2 ] - إلى قوله - « الفاسقين » فأخبر عن بني النضير وبني قينقاع ، ثم قال تعالى : { وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ ولكن الله يُسَلِّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَآءُ } [ الحشر : 6 ] فأخبر أن ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لم يوجف عليه حين خلَّوه ، وما تقدم فيهم من القتالِ ، وقطع شجرهم فقد كانوا رجعوا عنه وانقطع ذلك الأمر ، ثم قال تعالى : { مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } [ الحشر : 7 ] ، وهذا كلام غير معطوف على الأول ، وكذا { والذين تبوّءوا الدار والإيمان } ابتداء كلام في مدحِ الأنصار والثناء عليهم ، فإنهم سلموا ذلك الفيء للمهاجرين ، وكأنه قال : الفَيْء للفقراء المهاجرين ، والأنصار يحبون لهم لم يحسدوهم على ما صفا لهم من الفيء ، وكذا { والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ } [ الحشر : 10 ] ابتداء كلام ، والخبر { يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا } [ الحشر : 10 ] .
وقال إسماعيل بن إسحاق : إن قوله تعالى : { والذين تَبَوَّءُو الدار } ، { والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ } [ الحشر : 10 ] معطوف على ما قبله ، وأنهم شركاء في هذا الفيء ، أي : هذا المال للمهاجرين ، والذين تبوَّءوا الدار والإيمان .
وقال مالك بن أوس : قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه : { إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين } [ التوبة : 60 ] .
ثم قال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } [ الأنفال : 41 ] ، فقال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ :
{ وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ } [ الحشر : 6 ] حتى بلغ { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } ، { والذين تَبَوَّءُو الدار والإيمان } ، { والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ } [ الحشر : 10 ] ثم قال : لئن عشت ليأتين الراعي ب « سَرْو حمير » نصيبه منها لم يعرق جبينه .
وقيل : إنه دعا للمهاجرين والأنصار واستبشارهم بما فتح الله عليه من ذلك ، وقال لهم : تبينوا الأمر وتدبروه ثم اغدوا عليَّ ففكر في ليلته ، فتبين له أن هذه الآيات في ذلك أنزلت فلما غدوا عليه ، قال : قد مررت البارحة بالآيات التي في سورة « الحشر » وتلا : { مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى } [ الحشر : 7 ] إلى قوله تعالى : { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } فلما بلغ قوله : { أولئك هُمُ الصادقون } قال : ما هي لهؤلاء فقط ، وتلا قوله : { والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ } [ الحشر : 10 ] إلى قوله { رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ الحشر : 10 ] ثم قال : ما بقي أحد من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك .
فصل
روى مالك بن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر - رضي الله عنه - قال : لولا من يأتي من آخر النَّاس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر .
وصح عن عمر أنه أبقى سواد « العراق » و « مصر » وما ظهر عليه من الغنائم ليكون في أعطيات المقاتلة ، وأرزاق الجيش والذَّراري ، وأن الزبير وبلالاً وغير واحد من الصحابة أرادوه على قسم ما فتح عليهم ، فكره ذلك منهم .
واختلف فيما فعل من ذلك : فقيل : إنه استطاب أنفس أهل الجيش فمن رضي له بترك حظه بغير ثمن ليبقيه للمسلمين فله ، ومن أبى أعطاه ثمن حظه فمن قال : إنما أبقى الأرض بعد استطابة أنفس القوم جعل فعله كفعل النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قسم « خيبر » ، لأنّ اشتراءه إياها وترك من ترك عن طيب نفسه بمنزلة قسمها .
وقيل : إنه أبقاها بغير شيء أعطاه أهل الجيوش .
وقيل : إنه تأول في ذلك قول الله تعالى : { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } إلى قوله : { رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ الحشر : 10 ] على ما تقدم أيضاً .
فصل في اختلاف الفقهاء في قسمة العقار
اختلفوا في قسمة العقار ، فقال مالك - رضي الله عنه - للإمام أن يوقفها لمصالح المسلمين .
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : الإمام مخير بين قسمتها ، أو وقفها لمصالح المسلمين .
وقال الشافعي - رضي الله عنه - ليس للإمام حبسها عنهم بغير رضاهم ، بل يقسمها عليهم كسائر الأموال ، فمن طاب نفساً عن حقه للإمام أن يجعلها وقفاً عليهم فله ، ومن لم تطب نفسه فهو أحق بماله .
وعمر - رضي الله عنه - استطاب نفوس القائمين واشتراها منهم ، وعلى هذا يكون قوله تعالى : { والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ } [ الحشر : 10 ] مقطوعاً مما قبله ، وأنهم ندبوا بالدعاء للأولين والثناء عليهم .
فصل في فضل المدينة
قال القرطبي : « روى ابن وهب قال : سمعت مالكاً يذكر فضل » المدينة « على غيرها من الآفاق ، فقال : إن » المدينة « تُبُوئتْ بالإيمان والهجرة ، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف ، ثم قرأ : { والذين تَبَوَّءُو الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } الآية » .
قوله تعالى : { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ } . فيه وجهان :
أحدهما : أن الحاجة هنا على بابها من الاحتياج إلا أنها واقعة موقع المحتاج إليه ، والمعنى : لا يجدون طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرون من الفيءِ وغيره ، والمحتاج إليه يسمى حاجة تقول : خذ منه حاجتك ، وأعطاه من ماله حاجته . قاله الزمخشري .
فعلى هذا يكون الضمير الأول للجائين بعد المهاجرين ، وفي « أوتُوا » للمهاجرين .
والثاني : أن الحاجة هنا من الحسد .
قال الحسنُ : حسداً وحزازة مما أوتوا المهاجرين دونهم ، وأطلق لفظ الحاجة على الحسد والغيظ والحزازة؛ لأن هذه الأشياء لا تنفك عن الحاجة فأطلق اسم اللازم على الملزوم على سبيل الكناية .
والضميران على ما تقدم قبل .
وقال أبو البقاء : « الحاجة مس حاجة » . أي : أنه حذف المضاف للعلم به ، وعلى هذا ، فالضميران ل { الذين تبوّءو الدار والإيمان } .
وقال القرطبي : « يعني لا يحسدون المهاجرين على ما خُصُّوا به من مال الفيءِ وغيره ، كذلك قال الناس . وفيه تقدير حذف مضافين ، والمعنى : مس حاجة من فقد ما أوتوا ، وكل ما يجد الإنسان في صدره مما يحتاج إلى إزالته فهو حاجة » .
فصل في سبب نزول الآية
قال القرطبي : « كان المهاجرون في دور الأنصار ، فلما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير ، دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم في منازلهم وإشراكهم في الأموال ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إنْ أحْبَبْتُمْ قَسَمْتُ مَا أفَاءَ اللَّه عَلَيَّ مِن بَنِي النَّضيرِ بَيْنكُمْ وبَيْنَهُمْ ، وكَان المُهَاجرُونَ على مَا هُمْ عليْهِ مِنَ السُّكْنَى في مَسَاكنكُمْ وأمْوالكُمْ ، وإنْ أحَبَبْتُمْ أعْطَيتُهم وخَرَجُوا من دِيَارِكُمْ « ، فقال سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ وسَعْدُ بْنُ معاذٍ - رضي الله عنهما - بَلْ نَقْسِمهُ بَيْنَ المهاجرينَ ، ويُكونُونَ في دُورنا كَمَا كَانُوا ، ونادت الأنصار : رَضيْنَا وسلَّمْنَا يا رسُولَ الله ، فقال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : » اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأنصَارَ وأبْنَاءَ الأنْصَارِ « وأعطى رسول الله للمهاجرين ، ولم يعط الأنصار إلا الثلاثة الذين ذكرناهم » .
ويحتمل أن يريد به { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ } إذا كانوا قليلاً يقنعون به ، ويرضون عنه ، وقد كانوا على هذه الحال حين حياة النبي صلى الله عليه وسلم دنيا ، ثم كانوا عليه بعد موته صلى الله عليه بحكم الدنيا ، وقد أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال :
« سَتَرَونَ بَعْدِي أثَرَةً فاصْبرُوا حَتَّى تلْقَونِي على الحَوْضِ » .
قوله : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ } .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : « قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بني النضير : » إن شِئْتُم قَسمْتُمْ للمُهَاجرينَ من أمْوالكُمْ ودِيَاركُمْ وشَارَكتُمُوهُم في هذه الغنيمةِ ، وإن شِئْتُم كَانَتْ لكُم ديَارُكمْ وأموالكُمْ ولَمْ نَقْسِمْ لَكُمْ مِنَ الغَنِيمَةِ شَيْئاً « . فقالت الأنصار : بل نقسم لإخواننا من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة » ، فنزل : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ } الآية .
قال ابن الخطيب : « وذكر المفسرون أنواعاً من إيثار الأنصار للضيف بالطعام ، وتعللهم عنه حتى يشبع الضيف ، ثم ذكروا أن هذه الآية نزلت في ذلك الإيثار ، والصحيح أنها نزلت بسبب إيثارهم المهاجرين بالفيء ، ثم لا يمتنع أن يدخل فيها سائر الإيثارات .
فذكر القرطبي : أن الترمذي روى عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلاً بات به ضيف ، ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه ، فقال لامرأته : نومي الصبية ، وأطفئي السراج ، وقربي للضيف ما عندك ، فنزلت هذه الآية » .
وخرجه مسلم أيضاً : عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : « جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني مجهودٌ ، فأرسل إلى بعض نسائه ، فقالت : والذي بعثك بالحق نبيًّا ما عندي إلا ماء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » مَنْ يُضيف هذا الليلة رحمه الله؟ « فقام رجل من الأنصار ، فقال : يا رسول الله أنا ، فانطلق به إلى رحله ، فقال لامرأته : هل عندك شيء؟ قالت : لا ، إلا قوت صبياني ، قال : فعلليهم بشيء ، فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج » ، وذكر نحو الحديث الأول .
وفي رواية : فقام رجل من الأنصار يقال له : أبو طلحة ، فانطلق به إلى رحله .
وذكر المهدوي : أنها نزلت في ثابت بن قيس ، ورجل من الأنصار يقال له : أبو المتوكل ، ولم يكن عند أبي المتوكل إلا قوته .
وذكر القشيري قال : أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال : إن أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منّا ، فبعثه إليه ولم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها سبعة أبيات حتى رجعت إلى أولئك ، فنزلت : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ } الآية .
وذكر الثعلبي عن أنس ، قال : أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة ، وكان مجهوداً فوجه به إلى جار له ، فتداوله سبعة أنفس في سبعة أبيات ، ثم عاد إلى الأول ، فنزلت الآية .
فصل في معنى الإيثار
الإيثار هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية رغبة في الحظوظ الأخروية ، وذلك ينشأ عن قوة اليقين وتوكيد المحبة ، والصبر على المشقة ، يقال : آثرته بكذا ، أي : خصصته به وفضلته ، ومفعول الإيثار محذوف ، أي : يؤثرونهم على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم ، لا عَنْ غِنًى بل مع احتياجهم إليها .
فإن قيل : قد صح في الخبر النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء؟ .
فالجواب : إنما كره ذلك في حق من لا يوثق به بالصبر على الفقر ، وخاف أن يتعرّض للمسألة إذا فقد ما ينفقه ، فأما الأنصار الذين أثنى الله - تعالى - عليهم بالإيثار على أنفسهم ، فكانوا كما قال الله تعالى : { والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس } [ البقرة : 177 ] .
فكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك ، والإمساك لمن لا يصبر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار .
« كما روي أن رجلاً جاء إلى النبي بمثل البيضة من الذَّهب ، فقال هذه صدقة ، فرماه بها ، وقال : » يَأتِي أحدُكُمْ بِجميعِ مَا يَملِكُهُ فيتصدَّق بِهِ ، ثُمَّ يقعدُ فيتكفَّفُ النَّاس « انتهى .
فصل في الإيثار بالنفس
الإيثار بالنَّفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس .
ومن الأمثال : [ البسيط ]
4748- الجُودُ بالمَالِ جُودٌ ومكرمةٌ ... والجُودُ بالنَّفْسِ أقْصَى غايةِ الجُودِ
وأفضل من الجود بالنفس الجود على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ففي الصحيح : أن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم ، فيقول له أبو طلحة : لا تشرف يا رسول الله ، لا يصيبونك ، نحري دون نحرك يا رسول الله ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلتْ .
وقال حذيفة العدوي : انطلقت يوم » اليَرْموك « أطلب ابن عم لي [ ومعي شيء من الماء وأنا أقول : إن كان به رمقٌ سقيته ، فإذا أنا به ، فقلت له : أسقيك ، فأشار برأسه أن نعم ] ، فإذا أنا برجل يقول : آه آه فأشار إليّ ابن عمي أن انطلق إليه ، فجئت إليه ، فإذا هو هشام بن العاص ، فقلت : أسقيك؟ فأشار أن نعم ، فسمعت آخر يقول : آه آه فأشار هشام أن انطلق إليه ، فجئت إليه ، فإذا هو قد مات ، فرجعت إلى هشام ، فإذا هو قد مات ، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات .
وقال أبو اليزيد البسطامي رحمه الله : ما غلبني أحد سوى شاب من أهل » بلخ « قدم علينا حاجًّا ، وقال : يا أبا اليزيد ، ما حد الزهد عندكم؟ .
فقلت له : إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا .
فقال : هكذا كلاب » بلخ « عندنا .
فقلت : وما حدّ الزهد عندكم؟ .
قال : إذا فقدنا شكرنا ، وإذا وجدنا آثرنا .
وسئل ذو النون المصري : ما حدُّ الزهد؟ قال : ثلاث ، تفريق المجموع ، وترك طلب المفقود ، والإيثار عند الفوت .
وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي : أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلاً بقرية من قرى » الري « ومعهم أرغفة معدودة لا تشبح جميعهم ، فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج ، وجلسوا للطعام ، فلما فرغوا فإذا الطعام بحاله لم يأكل أحد منهم شيئاً إيثاراً لصاحبه على نفسه .
قوله تعالى : { وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } .
هذه واو الحال ، والخصاصة : الحاجة ، وأصلها من خصاص البيت ، وهي فروجه ، وحال الفقير يتخللها النقص ، فاستعير لها ذلك .
وقال القرطبي : « أصلها من الاختصاص ، وهو الانفراد بالأمر ، فالخصاصة : انفراد بالحاجة ، أي : ولو كانت بهم فاقة وحاجة » .
ومنه قول الشاعر : [ الكامل ]
4749- أمَّا الرَّبيعُ إذَا تَكُونُ خَصَاصَةٌ ... عَاشَ السَّقِيمُ بِهِ وأثْرَى المُقْتِرُ
قوله تعالى : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } .
العامة على سكون الواو ، وتخفيف القاف من الوقاية ، وابن أبي عبلة وأبو حيوة : بفتح الواو وتشديد القاف .
والعامة - بضم الشين - من « شح » ، [ وابن أبي عبلة ] وابن عمر - رضي الله عنهما - بكسرها .
قال القرطبي : الشُّحُّ والبخل سواء ، يقال : رجل شحيح بيِّن الشُّح والشَّح والشحاحة .
قال عمرو بن كلثوم : [ الوافر ]
4750- تَرَى اللَّحِزَ الشَّحِيحَ إذَا أمِرَّتْ ... عَليْهِ لِمَاله فِيهَا مُهِينَا
وجعل بعض أهل اللغة الشُّحَّ أشد من البخل .
وفي « الصحاح » : الشح : البخل مع حرصٍ ، شَحِحْتُ - بالكسر - تشحّ ، وشَحَحْتُ أيضاً تَشُحُّ وتشِحُّ ، ورجل شَحِيحٌ ، وقومٌ شحاحٌ وأشحَّة .
والمراد بالآية : الشُّح بالزكاة ، وما ليس بفرض من صلة ذوي الأرحام والضِّيافة ، وما شاكل ذلك ، فليس بشحيحٍ ولا بخيل من أنفق في ذلك وإن أمسك عن نفسه ، ومن وسّع على نفسه ولم ينفق فيما ذكرنا من الزكوات والطَّاعات فلم يُوقَ شح نفسه .
روى الأسود عن ابن مسعود رضي الله عنه : أن رجُلاً أتاه فقال : إنِّي أخاف أن أكون قد هلكت ، قال : وما ذاك؟ قال : سمعت الله يقول : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون } وأنا رجل شحيح لا أكاد أخرج من يديّ شيئاً ، فقال ابن مسعود : ليس ذلك الذي ذكر الله - تعالى - ، إنما الشُّحُّ أن تأكل مال أخيك ظُلْماً ، ولكن ذلك هو البخل ، وبئس الشيء البخل ، ففرق رضي الله عنه بين الشح والبخل .
وقال طاوس : البخل أن يبخل الإنسان بما في يده ، والشُّحُّ أن يشح بما في أيدي النَّاس ، يجب أن يكون له ما في أيديهم بالحل والحرام فلا يقنع .
قال ابن زيد : ليس الشح أن يمنع الرجل ماله ، إنما الشُّح أن تطمح عين الرجل فيما ليس له .
وقال ابن جريج : الشح : منع الزكاة وادخار الحرام .
وقال ابن عيينة : الشح : الظلم .
وقال الليث : ترك الفرائض وانتهاك المحارم .
وقال ابن عباس : من اتبع هواه ، ولم يقبل الإيمان ، فذلك هو الشحيح .
وقال ابن زيد : من لم يأخذ شيئاً نهاه الله عنه ، ولم يمنع شيئاً أمره الله بإعطائه ، فقد وقاه الله شحَّ نفسه .
وقال أنس رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم : « بَرِىء مِن الشُّحِّ مَنْ أدَّى الزَّكَاةَ وأقْرَى الضَّيْفَ ، وأعْطَى في النَّائِبَة » .
وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو
« اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ شُحِّ نَفْسِي ، وإسْرافِهَا وَسوآتِهَا » .
وقال أبو الهياج الأسدي : رأيت رجلاً في الطواف يدعو : اللهم قني شُحَّ نفسي ، لا يزيد على ذلك ، فقلت له ، فقال : إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزْنِ ولم أفعل ، فإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه .
قال القرطبي : ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم : « اتَّقُوا الظُّلْمَ فإنَّ الظُّلْمَ ظُلماتٌ يَوْمَ القِيَامةِ ، واتَّقُوا الشُّحَّ فإنَّ الشُّحَّ أهْلكَ مَن كَانَ قَبْلَكُم حَملهُمْ على أن سفَكُوا دِمَاءهُمْ واسْتَحَلُّوا مَحَارمَهُمْ » .
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ في سَبيلِ اللَّهِ ودُخَانُ جَهَنَّم في جَوْفِ عَبْدٍ أبَداً ، ولا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ والإيمَانُ في قَلْبِ عَبْدٍ أبَداً » .
وقال كسرى لأصحابه : أي شيء أضرُّ بابن آدم؟ قالوا : الفقرُ ، فقال : الشح أضر من الفقر ، لأن الفقير إذا وجد شبع ، والشحيح إذا وجد لم يشبعْ أبداً .
وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16)
قوله تعالى : { والذين جَآءُو } . يحتمل الوجهين المتقدمين في « الذين » قبله ، فإن كان معطوفاً على « المهاجرين » ، ف « يقولون » حال ل « يحبون » أي : قائلين أو مستأنف ، وإن كان مبتدأ ف « يقولون » خبره .
فصل
هذه الآيات قد استوعبت جميع المؤمنين؛ لأنهم إما المهاجرون أو الأنصار . { والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ } . قال بعض المفسرين : هذا عطف على « المُهَاجرينَ » وهم الذين هاجروا من بعد .
وقيل : التابعون لهم بإحسان ، ومن دخل في الإسلام إلى يوم القيامة .
قال ابن أبي ليلى : الناس على ثلاثة منازل : الأولى منازل المهاجرين ، والثانية هي : الذين تبوءوا الدار والإيمان ، والثالثة : والذين جاءوا من بعدهم ، فاجتهد ألاَّ تخرج من هذه المنازل .
وقال بعضهم : كن مهاجراً ، فإن قلت : لا أجد ، فكن أنصارياً ، فإن لم تجد فاعمل كأعمالهم ، فإن لم تستطع فأحبَّهم ، واستغفر لهم كما أمرك الله .
وقال مصعب بن سعد : الناس على ثلاثة منازل ، فمضت منزلتان ، وبقيت منزلة ، فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت .
وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جدِّه ، أنه جاءه رجل فقال : يا ابن بنت رسول الله ما تقول في عثمان؟ فقال له : يا ابن أخي أنت من قوم قال الله فيهم { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } ؟ [ الحشر : 8 ] الآية ، قال : لا ، قال : فأنت من قوم قال الله فيهم : { والذين تَبَوَّءُو الدار والإيمان } ؟ [ الحشر : 9 ] الآية ، قال : لا ، قال : فوالله لئن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجن من الإسلام ، وهي قوله تعالى : { والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان } .
وروي أن نفراً من أهل « العراق » جاءوا إلى محمد بن علي بن الحسين فسبُّوا أبا بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - فأكثروا ، فقال لهم : أمن المهاجرين الأولين أنتم؟ قالوا : لا ، قال : أفمن الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم؟ ، قالوا : لا ، قال : فقد تبرأتم من هذين الفريقين ، أنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله فيهم : { والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ } ، قوموا قد فعل الله بكم وفعل . ذكره النحاس .
فصل في وجوب محبة الصحابة
هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة - رضي الله عنهم - لأنه جعل لمن بعدهم حظًّا في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم ، والاستغفار لهم ، ومن أبغضهم أو واحداً منهم ، أو اعتقد فيه شرًّا أنه لا حقَّ له في الفيء .
قال مالك : من كان يبغضُ أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وكان في قلبه لهم غلّ فليس له حق في فيء المسلمين ، ثم قرأ : { والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ } .
فصل
قال القرطبي : دلت هذه الآية على أن الصحيح من أقوال العلماء قسمة المنقول وإبقاء العقار والأرض بين المسلمين أجمعين كما فعل عمر - رضي الله عنه - إلا أن يجتهد الوالي فينفذ أمراً فيمضي عمله فيه لاختلاف الناس فيه ، وإن هذه الآية قاضية بذلك ، لأن الله - تعالى - أخبر عن الفيء وجعله لثلاث طوائف : المهاجرين والأنصار - وهم معلومون - { والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان } فهي عامة في جميع التابعين والآتين من بعدهم إلى يوم [ الدين ] .
« يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة ، فقال : » السَّلامُ [ عليكم ] دارَ قَوْم مُؤمِنينَ وإنَّا إن شَاءَ اللَّهُ بكم لاحِقُونَ ودِدْتُ لَوْ رأيتُ إخواننا « قالوا : يَا رسُولَ اللَّهِ ، ألَسْنَا إخْوَانَكَ؟ فقَالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : » بَلْ أنتُمْ أصْحَابِي ، وإخْواننا الذين لَمْ يأتُوا بَعْدُ ، وأنَا فَرَطُهمْ على الحوْضِ « » .
فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن إخوانهم كلُّ من يأتي بعدهم ، لا كما قال السُّديُّ والكلبي : إنهم الذين هاجروا بعد ذلك .
وعن الحسن أيضاً : أن الذين جاءوا من بعدهم من قصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى « المدينة » بعد انقطاع الهجرة .
قوله : { يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان } .
قيل : أمروا أن يستغفروا لمن سبق هذه الأمة من مؤمني أهل الكتاب ، قالت عائشة - رضي الله عنها - : أمرهم أن يستغفروا لهم فَسبُّوهم .
وقيل : أمروا أن يستغفروا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : أمر الله سبحانه بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أنهم سيُفْتنُونَ .
وقالت عائشة - رضي الله عنها - : أمرهم بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فسبوهم ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لا تَذْهَبُ هذهِ الأمة حتَّى يلعَنَ آخِرُهَا أوَّلهَا » .
وقال ابن عمر - رضي الله عنهما - : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « إذا رأيتم الَّذين يسُبُّونَ أصْحَابِي فقُولُوا : لَعَنَ اللَّه شَرَّكُم » .
وقال العوام بن حوشب : أدركت هذه الأمة يقولون : اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تتآلف عليهم القلوب ، ولا تذكروا ما شجر بينهم فتجسروا الناس عليهم .
وقال الشعبي : تفاضلت اليهود والنَّصارى على الرافضة بخصلة ، سئلت اليهود : من خير أهل ملتكم؟ فقالوا : أصحاب موسى - صلوات الله وسلامه عليه - ، وسئلت النصارى : من خير أهل ملتكم؟ فقالوا : أصحاب عيسى - صلوات الله وسلامه عليه - ، وسئلت الرافضة ، من شرُّ أهلِ ملتكم؟ فقالوا : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم ، فالسيف عليهم مسلولٌ إلى يوم القيامة لا تقوم لهم راية ، ولا يثبت لهم قدم ، ولا تجتمع لهم كلمة ، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله بسفكِ دمائهم وإدحاض حجتهم ، أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلَّة .
{ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ } أي : حسداً وبغضاً ، { رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ } . للتبليغ فقط بخلاف قوله عز وجل : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } [ العنكبوت : 12 ] فإنها تحتمل ذلك وتحتمل العلة .
فصل
قال القرطبي رحمه الله : هذه الآية سبب التعجب من اغترار اليهود لما وعدهم المنافقون من النصر معهم مع علمهم بأنهم لا يعتقدون ديناً ولا كتاباً .
قال المقاتلان : يعني عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، وعبد الله بن نبتل ، ورفاعة بن زيد ، وقيل : رفاعة بن تابوت ، وأوس بن قيظي ، كانوا من الأنصار ولكنهم نافقوا ، ومالوا ليهود قريظة والنضير .
والإخوان : هم الإخوة ، وهي هنا تحتمل وجوهاً :
أحدها : الأخوّة في الكفر؛ لأن اليهود والمنافقين اشتركوا في عموم الكفرِ بمحمد صلى الله عليه وسلم .
وثانيها : الأخوّة بسبب المصادقة والموالاة والمعاونة .
وثالثها : الأخوّة بسبب اشتراكهم في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم .
فقالوا لليهود : { لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ } من المدينة { لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ } .
وقيل : هذا من قول بني النضير لقريظة ، وقولهم : { وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً } يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم قالوا : لا نطيعه في قتالكم .
وفيه دليل على صحة نبوّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من جهة الغيب؛ لأنهم أخرجوا فلم يخرجوا معهم ، وقوتلوا فلم ينصروهم كما قال سبحانه وتعالى : { والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } في قولهم وفعلهم .
فقولهم : { وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً } أي : في قتالكم أو في خذلانكم .
قوله تعالى : { وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ } .
أجيب القسم المقدر ، لأن قبل « إن » لام موطئة حذفت للعلم بمكانها ، فإنَّ الأكثر الإتيان بها ، ومثله قوله : { وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ } [ المائدة : 73 ] وقد تقدم .
قوله تعالى : { لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } .
أجيب القسم لسبقه ، ولذلك رفعت الأفعال ولم تجزم ، وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم عليه ، ولذلك كان فعل الشرط ماضياً .
وقال أبو البقاء رحمه الله : قوله تعالى : { لاَ يَنصُرُونَهُمْ } لما كان الشرط ماضياً ترك جزم الجواب انتهى . وهو غلط؛ لأن { لاَ يَنصُرُونَهُمْ } ليس جواباً للشرط بل جواب القسم ، وجواب الشرط محذوف كما تقدم وكأنه توهم أنه من باب قوله : [ البسيط ]
4751- وإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألةٍ ... يَقولُ : لا غَائِبٌ مَالِي ولا حَرِمُ
وقد سبق أبا البقاء ابنُ عطية إلى ما يوهم شيئاً من ذلك ، ولكنه صرح بأنه جواب القسم ، فقال : « جاءت الأفعال غير مجزومة في » لا يخرجون ولا ينصرون «؛ لأنها راجعة على حكم القسم لا على حكم الشرط ، وفي هذا نظر » .
فقوله : « وفي هذا نظر » يوهم أنه جاء على خلاف ما يقتضيه القياس وليس كذلك ، بل جاء على ما يقتضيه القياس .
وفي هذه الضمائر قولان :
أحدهما : أنها كلها للمنافقين .
والثاني : أنها مختلفة بعضها لهؤلاء ، وبعضها لهؤلاء .
فصل
اعلم أنه - تعالى - عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها ، وقد أخبر تعالى أن هؤلاء اليهود لئن أخرجوا ، فهؤلاء المنافقون لا يخرجون معهم ، وكان الأمر كذلك؛ لأن بني النضير لما خرجوا لم يخرج معهم المنافقون ، وقاتلوا أيضاً فما نصروهم ، وهذا كما يقول المعترض الطاعن في كلام الغير : لا نسلم أن الأمر كما تقول ، ولئن سلمنا أن الأمر كما تقول إلا أنه لا يفيد ذلك فائدة فكذا هاهنا ذكر تعالى أنهم لا يخرجون معهم ، وبتقدير أن ينصروهم إلا أنهم لا بد وأن يتركوا النُّصرة وينهزموا ، ويتركوا أولئك المنصورين في أيدي أعدائهم ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } [ الأنفال : 23 ] .
[ وقيل : معنى لا ينصرونهم : لا يدومون على نصرهم ، هذا على أن الضميرين متفقان على اختلاف الضميرين ، فالمعنى : لئن أخرج اليهود لا يخرج معهم المنافقون ، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم { وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ } أي : ولئن نصر اليهود المنافقين ليولُّنَّ الأدبار ] .
قوله تعالى : { لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً } .
مصدر من « رُهِبَ » المبني للمفعول ، فالرهبة واقعة من المنافقين لا من المخاطبين ، كأنه قيل : لأنتم أشد رهوبية في صدورهم من الله ، فالمخاطبون مُرْهِبُونَ وهو قول كعب بن زهير - رضي الله عنه - في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ البسيط ]
4752- فَلَهْوَ أخْوَفُ عِنْدِي إذْ أكَلِّمُهُ ... وقِيلَ إنَّكَ مَحْبُوسٌ ومَقْتُولُ
مِنْ ضَيْغَمٍ بِثَرَاءِ الأرْضِ مُخْدَرُهُ ... بِبَطْنِ عَثَّرَ غِيلٌ دُونَهُ غِيلُ
و « رَهْبَةً » تمييز .
فصل في معنى الآية
المعنى : لأنتم يا معشر المسلمين { أَشَدُّ رَهْبَةً } أي خوفاً وخشية في صدورهم من الله ، يعني صدور بني النضير .
وقيل : صدور المنافقين ، ويحتمل أن يرجع إلى الفريقين ، أي : يخافون منكم أكثر مما يخافون من ربهم ، « ذَلِكَ » إشارة إلى الخوف أي ذلك الخوف { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } قدر عظمة الله وقدرته حتى يخشوه حقَّ خشيته .
قوله تعالى : { لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً } يعني اليهود والمنافقين لا يقدرون على مقاتلتكم مجتمعين « إلاَّ » إذا كانوا { فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ } بالخنادق والدُّروب والحيطان [ يظنُّون ] أنها تمنعهم منكم ، { أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ } أي : من خلف حيطانٍ يستترون بها لجبنهم ورهبتهم .
قوله : « جَمِيعاً » حال ، و { إِلاَّ فِي قُرًى } متعلق ب « يُقَاتِلُونَكُمْ » .
وقوله : « جُدُرٍ » .
قرأ ابن كثير وأبو عمرو : « جدار » بالإفراد . وفيه أوجه :
أحدها : أنه السُّورُ ، والسُّورُ الواحد يعم الجميع من المقاتلة ويسترهم .
والثاني : أنه واحد في معنى الجمع لدلالة السياق عليه .
والثالث : أن كل فرقة منهم وراء جدار لا أنهم كلهم وراء جدار .
والباقون قرأوا : « جُدُر » - بضمتين - اعتباراً بأن كل فرقة وراء جدار ، فجمع لذلك .
وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن وثاب والأعمش ، ويروى عن ابن كثير وعاصم : بضمة وسكون؛ وهي تخفيف الأولى ، وقرأ ابن كثير - أيضاً - في رواية هارون عنه ، وهي قراءة كثير من المكيين : « جَدْر » بفتحة وسكون .
فقيل : هي لغة في الجدار .
وقال ابن عطية : معناه أصل بنيات كالسور ونحوه : قال : ويحتمل أن يكون من جَدْر النخيل أي من وراء نخيلهم . يقال : أجدر النخل إذا طلعت رءوسه أول الربيع . والجدر : نبت ، واحده جدرة .
وقرىء : « جَدَرٌ » - بفتحتين - حكاها الزمخشري .
وهي لغة في الجدار أيضاً .
وقرىء : « جُدْر » - بضم الجيم وإسكان الدَّال - جمع الجدار .
قال القرطبي : ويجوز أن تكون الألف في الواحد كألف « كتاب » وفي الجمع كألف « ظِراف » ومثله « ناقة هجان ، ونوق هجان » لأنك تقول في التثنية « هجانان » ، فصار لفظ الواحد والجمع مشتبهين في اللفظ مختلفين في المعنى .
قاله ابن جني .
قوله : { بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } .
« بَيْنَهُمْ » متعلق ب « شديد » و « جميعاً » مفعول ثانٍ ، أي : مجتمعين .
وقوله : { وَقُلُوبُهُمْ شتى } . جملة حالية ، أو مستأنفة للإخبار بذلك .
والعامة على « شتى » بلا تنوين ، لأنها ألف تأنيث .
ومن كلامهم : « شَتَّى تئوب الحلبة » أي متفرقين .
وقال آخر : [ الطويل ]
4753- إلَى اللَّهِ أشْكُو نِيَّةً شَقَّتِ العَصَا ... هِيَ اليَوْمَ شَتَّى ، وهيَ أمْسِ جَمِيعُ
وقرأ مبشر بن عبيد : « شَتًّى » منونة ، كأنه جعلها ألف الإلحاق .
وفي قراءة ابن مسعود : « وقُلُوبُهُمْ أشتُّ » يعني أشد تشتيتاً أي أشد اختلافاً .
فصل في معنى الآية
معنى { بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } أي : عداوة بعضهم لبعض . قاله ابن عباس .
وقال مجاهد : { بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } بالكلام والوعيد لنفعلن كذا .
وقال السُّدي : المراد اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحدٍ .
وقيل : { بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } إذا لم يلقوا عدوًّا نسبوا أنفسهم إلى الشدة والبأس ، وإذا لقوا العدو انهزموا .
{ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى } .
يعني اليهود والمنافقين . قاله مجاهد . وعنه أيضاً : يعني المنافقين .
وقال الثوري : هم المشركون وأهل الكتاب .
وقال قتادة : { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً } أي : مجتمعين على أمْر ورأي . { وَقُلُوبُهُمْ شتى } : أي : متفرقة فأهل الباطل مختلفة آراؤهم وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق .
وعن مجاهد أيضاً : أراد أن دين المنافقين مخالف لدين اليهود ، وهذا يقوي أنفس المؤمنين عليهم { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } أي : ذلك التشتيت والكفر بأنهم قوم لا يعقلون أمر الله .
وقيل : لا يعقلون ما فيه الحظ لهم .
وقيل : لا يعقلون أن تشتيت القلوب مما يوهن قواهم .
قوله تعالى : { كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ } .
خبر مبتدأ مضمر ، أي : مثلهم مثل هؤلاء .
و « قريباً » فيه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب بالتشبيه المتقدم ، أي : يشبهونهم في زمن قريب سيقع لا يتأخر ، ثم بين ذلك بقوله : { ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ } .
والثاني : أنه منصوب ب « ذاقوا » أي : ذاقوا في زمن قريب .
أي : ذاقوه في زمن قريب سيقع ولم يتأخّر .
وانتصابه في وجهيه على ظرف الزَّمان .
فصل في معنى الآية
يعني مثل هؤلاء اليهود كمثل الذين من قبلهم .
قال ابن عباس : يعني به بني قينقاع أمكن الله منهم قبل بني النضير .
وقال قتادة : يعني بني النضير أمكن الله منهم قبل قريظة ، وكان بينهما سنتان .
وقال مجاهد رضي الله عنه : يعني كفَّار قريش يوم بدر ، وكان ذلك قبل غزوة بني النضير قاله مجاهد .
وكانت غزوة بدر قبل غزوة بني النضير بستة أشهر ، فلذلك قال : « قَرِيباً » .
وقيل : هو عامٌّ في كل من انتقم منه على كفره قبل بني النضير من نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم .
« وَبَالَ أمرهم » أي : جزاء كفرهم . ومن قال : هم بنو قريظة جعل « وبَالَ أمْرِهِمْ » نزولهم على حكم سعد بن معاذ ، فحكم فيهم بقتل المقاتلة وسبي [ الذرية ] . وهو قول الضحاك . ومن قال : المراد بنو النضير ، قال : « وبَالَ أمْرِهِمْ » الجلاء والنفي ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الآخرة .
قوله تعالى : { كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر } .
هذا مثل ضربه الله للمنافقين واليهود في تخاذلهم وعدم الرجاء في نصرتهم ، وحذف حرف العطف ولم يقل : وكمثل الشيطان ، لأن حذف حرف العطف كثير ، كقولك : أنت عاقل ، أنت كريم ، أنت عالم .
وقوله : { كَمَثَلِ الشيطان } كالبيان لقوله { كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ } .
فصل
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن الإنسان الذي قال له الشيطان : اكفر؛ راهب ، نزلت عنده امرأة أصابها لممٌ ليدعو لها فزيّن له الشيطان فوطئها فحملت ، ثم قتلها خوفاً أن يفتضح ، فدلّ الشيطان قومها على موضعها ، فجاءوا فاستنزلوا الراهب ليقتلوه ، فجاء الشيطان فوعده إن سجد له أنجاه من هذه الورطة منهم فسجد فتبرّأ منه فأسلمه ، ذكره القاضي إسماعيل ، وعلي بن المديني ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عروة بن عامر ، عن عبيد بن رفاعة الزرقي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر خبره طويلاً .
وذكر ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : { كَمَثَلِ الشيطان } أنه كان راهب في الفترة يقال له : برصيصا ، قد تعبد في صومعته سبعين سنة لم يعص الله فيها طرفة عين حتى أعيا إبليس ، وذكر خبر برصيصا بتمامه .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : فضرب الله ذلك مثلاً للمنافقين مع اليهود ، وذلك أن الله - تعالى - أمر نبيه أن يُجلِيَ بني النضير من « المدينة » ، فدس إليهم المنافقون ألاَّ تخرجوا من دياركم ، فإن قاتلوكم قاتلنا معكم ، وإن أخرجوكم كنا معكم ، فحاربوا النبي صلى الله عليه وسلم فخذلهم المنافقون وتبرءوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا العابد .
وقيل : المعنى مثل المنافقين في غدرهم لبني النضير كمثل إبليس إذ قال لكفار قريش : { لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ } [ الأنفال : 48 ] الآية .
وقال مجاهد : المراد بالإنسان ها هنا جميع الناس في غرور الشيطان إياهم .
ومعنى قوله تعالى : { إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر } .
أي : أغواه حتى قال : إنِّي كافر ، وليس قول الشيطان : { إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين } حقيقة ، إنما هو على وجه التبرُّؤ من الإنسان ، فهو تأكيد لقوله تعالى : { إِنِّي برياء مِّنكَ } .
وفتح الياء من « إني » نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وأسكن الباقون .
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
قوله تعالى : { فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي النار } .
العامة على نصب « عَاقِبتَهُمَا » والاسم « أن » وما في حيزها ، لأن الاسم أعرف من { عاقبتهما أنهما في النار } . وقد تقدم تحرير هذا في « آل عمران » و « الأنعام » .
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابن أرقم : برفعها ، على جعلها اسماً ، و « أن » وما في حيزها خبر كقراءة : { ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ } [ الأنعام : 23 ] .
قوله : { خَالِدِينَ فِيهَا } .
العامة على نصبه ، حالاً من الضمير المستكن في الجار لوقوعه خبراً .
والتثنية ظاهرة فيمن جعل الآية مخصوصة في الراهب والشيطان ، ومن جعلها في الجنس فالمعنى فكان عاقبة الفريقين أو الصنفين .
قال مقاتل : يعني المنافقين واليهود .
ونصب « عَاقِبتَهُمَا » على أنه خبر « كان » والاسم { أَنَّهُمَا فِي النار } .
وقرأ عبد الله ، وزيد بن علي ، والأعمش ، وابن أبي عبلة : برفعه خبراً ، والظرف ملغى ، فيتعلق بالخبر ، وعلى هذا فيكون تأكيداً لفظيًّا للحرف ، وأعيد معه ضمير ما دخل عليه كقوله : { فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا } [ هود : 108 ] .
وهذا على مذهب سيبويه ، فإنه يجيز إلغاء الظرف وإن أكد .
والكوفيون يمنعونه ، وهذا حجة عليهم ، وقد يجيبون بأنا لا نسلم أن الظرف في هذه القراءة ملغى بل نجعله خبراً ل « أن » و « خالدان » خبر ثان ، وهو محتمل لما قالوا إلا أن الظاهر خلافه .
قال القرطبي : وهذه القراءة خلاف المرسوم .
وقوله : { وَذَلِكَ جَزَآءُ الظالمين } أي : المشركين ، كقوله : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] .
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله } في أوامره ونواهيه ، وأداء فرائضه واجتناب معاصيه . { وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } يعني يوم القيامة ، والعرب تكني عن المستقبل بالغد .
وقيل : ذكر الغد تنبيهاً على أن الساعة قريبة؛ كقوله : [ الطويل ]
4754- وإنَّ غَداً للنَّاظرينَ قريبُ ... وقال الحسن وقتادة : قرب الساعة حتى جعلت كغد؛ لأن كل آت قريب ، والموت لا محالة آت . ومعنى « ما قدَّمتْ » أي : من خير أو شرّ .
ونكر النفس لاستقلال النفس التي تنظر فيما قدمت للآخرة ، كأنه قال : فلتنظر نفس واحدة في ذلك ، ونكر الغد ، لتعظيمه وإبهام أمره ، كأنه قيل : الغد لا يعرف كنهه لعظمه .
وقرأ العامة بسكون لام الأمر في قوله : « ولتنظر » .
وأبو حيوة ويحيى بن الحارث بكسرها على الأصل .
والحسن : بكسرها ونصب الفعل ، جعلها لام « كي » ، ويكون المعلل مقدّراً ، أي : ولتنظر نفس حذركم وأعمالكم .
قوله تعالى : { واتقوا الله } تأكيد .
وقيل : كرر لتغاير متعلق التقويين فمتعلق الأولى : أداء الفرائض لاقترانه بالعمل ، والثانية : ترك المعاصي لاقترانه بالتهديد والوعيد ، قال معناه الزمخشري .
ثم قال : { إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } .
قال سعيد بن جبير : { بِمَا تَعْمَلُونَ } أي : بما يكون منكم .
قوله تعالى : { وَلاَ تَكُونُواْ } .
العامة : على الخطاب ، وأبو حيوة : على الغيبة ، على الالتفات .
{ نَسُواْ الله } أي : تركوه { فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ } أن يعملوا لها خيراً . قاله المقاتلان .
وقيل : نسوا حق الله ، فأنساهم حق أنفسهم . قاله سفيان .
وقيل : « نسُوا اللَّه » بترك ذكره وتعظيمه « فأنساهم أنفسَهُمْ » بالعذاب أن يذكر بعضهم بعضاً . حكاه ابن عيسى .
وقيل : قال سهل بن عبد الله : « نَسُوا اللَّهَ » عند الذنوب « فَأنسَاهُم أنفُسهُمْ » عند التوبة .
وقيل : « أنْسَاهُمْ أنفسَهُمْ » أي : أراهم يوم القيامة من الأحوال ما نسوا فيه أنفسهم ، كقوله تعالى : { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ } [ إبراهيم : 43 ] ، { وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ } [ الحج : 2 ] .
ونسب تعالى الفعل إلى نفسه في « أنسَاهُمْ » إذ كان ذلك بسبب أمره ونهيه ، كقولك : أحمدت الرجل إذا وجدته محموداً .
وقيل : « نَسُوا اللَّهَ » في الرخاء « فأنَساهُمْ أنفُسُهمْ » في الشدائد .
{ أولئك هُمُ الفاسقون } . قال ابن جبير : العاصون .
وقال ابن زيد : الكاذبون ، وأصل الفِسْق الخروج ، أي : الذين خرجوا عن طاعة الله .
قوله تعالى : { لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة } أي : في الفضل والرتبة ، لما أرشد المؤمنين إلى ما هو مصلحتهم يوم القيامة ، بقوله : { وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } وهدّد الكافرين بقوله : { كالذين نَسُواْ الله فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ } بين بهذه الآية الفرق بين الفريقين . واعلم أن الفرق بينهما معلوم بالضرورة ، وإنما ذكر الفرق في هذا الموضع للتنبيه على عظم ذلك الفرق ، ثم [ قال : { أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفآئزون } .
وهذا كالتفسير لنفي تساويهما .
و « هم » يجوز أن يكون فصلاً ، وأن يكون مبتدأ ، فعلى الأول : الإخبار بمفرد ، وعلى الثاني : بجملة .
ومعنى « الفَائِزُونَ » المقربون المكرمون .
وقيل : الناجون من النار ، ونظير هذه الآية قوله : { لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب } [ المائدة : 100 ] ، وقوله : { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ } [ السجدة : 18 ] ، وقوله : { أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار ] } [ ص : 28 ] .
فصل
احتجّت المعتزلة بهذه الآية على أن صاحب الكبيرة لا يدخل الجنة بهذه الآية ، قالوا : لأن الآية دلت على أن أصحاب النار وأصحاب الجنة لا يستويان ، [ فلو دخل صاحب الكبيرة الجنة لكان أصحاب الجنة وأصحاب النار يستويان ] ، وهو غير جائز وجوابه معلوم .
فصل في أن المسلم لا يقتل بالذمي
دلت هذه الآية على أن المسلم لا يقتلُ بالذمي كما هو مذكور في كتب الفقه . قوله تعالى : { لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله } .
وهذا حثّ على تأمل مواعظ القرآن ، وبيّن أنه لا عذر في ترك التدبر ، فإنه لو خوطب بهذا القرآن الجبالُ مع تركيب العقل فيها لانقادت لمواعظه ، ورأيتها على صلابتها ورزانتها خاشعة متصدعة ، أي : متشققة من خشية الله .
والخاشع : الذَّليل . والمتصدّع : المتشقق .
وقيل : « خاشعاً » لله بما كلفه من طاعته ، « متصدعاً » من خشية الله أن يعصيه فيعاقبه .
وقيل : هو على وجه المثل للكفار .
قوله تعالى : { وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ } .
أي : أنه لو أنزل القرآن على الجبل لخشع لوعده ، وتصدع لوعيده ، وأنتم أيها المقهورون بإعجازه لا ترغبون في وعده ، ولا ترهبون من وعيده .
والغرض من هذا الكلام التنبيه على فساد قلوب هؤلاء الكفار وغلظ طباعهم ، ونظيره قوله : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذلك فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [ البقرة : 74 ] .
وقيل : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي : لو أنزلنا هذا القرآن يا محمد على جبل لما ثبت وتصدع من نزوله عليه ، وقد أنزلناه عليك وثبتناك له ، فيكون ذلك امتناناً عليه أن ثبته لما لم يثبت عليه الجبال .
وقيل : إنه خطاب للأمة ، وأن الله - تعالى - لو أنذر بهذا القرآن الجبال لتصدّعت من خشية الله ، والإنسان أقل قوة وأكثر ثباتاً ، فهو يقوم بحقه إن أطاع ، ويقدر على ردّه إن عصى؛ لأنه موعود بالثواب ، ومزجُور بالعقاب .
قوله : « خاشعاً » حال؛ لأن الرؤية بصرية .
وقرأ طلحة : « مصّدعاً » بإدغام التاء في الصاد .
قوله تعالى : { هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ } .
لما وصف القرآن بالعظم ، ومعلوم أن عظم الصفة تابع لعظم الموصوف ، أتبع ذلك بشرح عظمة الله تعالى ، فقال : { هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغيب والشهادة هُوَ الرحمن الرحيم } .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : معناه : عالم السر والعلانية .
وقيل : ما كان وما يكون .
وقال سهل : عالم بالآخرة والدنيا .
وقيل : « الغيب » ما لم يعلمه العباد ولا عاينوه ، و « الشَّهَادة » ما علموا وشهدوا .
وقوله : { الرحمن الرحيم } . تقدم مثله .
قوله تعالى : { هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ الملك القدوس } .
قرأ أبو دينار وأبو السمال : « القَدُّوس » بفتح القاف .
[ قال الحسن : هو الذي كثرت بركاته ] .
والعامة : بضمها ، وهو المنزّه عن كل نقص ، والطَّاهر عن كل عيبٍ .
والقدَس - بالتحريك - السّطل بلغة أهل الحجاز ، لأنه يتطهر منه .
ومنه « القادوس » لواحد الأواني الذي يستخرج به الماء من البئر بالسانية .
وكان سيبويه يقول : « قَدُّوس ، وسبُّوح » بفتح أولهما .
وحكى أبو حاتم عن يعقوب أنه سمع عند الكسائي أعرابياً فصيحاً يكنى أبا الدينار يقرأ : « القَدُّوس » بفتح القاف .
قال ثعلب : كل اسم على « فَعُّول » فهو مفتوح الأول ، مثل : سَفُّود ، وكَلُّوب ، وتَنُّور ، وسَمُّور ، وشَبُّوط ، إلا السُّبُّوح والقُدُّوس ، فإنَّ الضم فيهما أكثر ، وقد يفتحان ، وكذلك : الذروح بالضم .
قوله : « السَّلامُ » . أي : ذو السلامة من النقائص .
قال ابن العربي : اتفق العلماء على أنّ قوله : « السَّلامُ » النسبة ، تقديره : ذو السلامة ، ثم اختلفوا في ترجمة النسبة .
فقيل : معناه الذي سَلِمَ من كل عيب ، وبَرِىءَ من كل نقص .
وقيل : المسلم على عباده في الجنّة ، كما قال : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ يس : 58 ] .
وقيل : معناه الذي سلم الخلق من ظلمه . وهذا قول الخطابي .
قال القرطبي : وعلى هذا والذي قبله يكون صفة فعل ، وعلى الأول يكون صفة ذات .
وقيل : معناه : المسلم لعباده .
قوله : « المُؤمِنُ » .
أي : الذي أمن أولياؤه عذابهُ ، يقال : أمنه يؤمنه فهو مؤمن .
وقيل : المصدق لرسله بإظهار معجزاته عليهم ، ومصدق المؤمنين ما وعدهم به من الثواب ، ومصدق الكافرين ما أوعدهم من العقاب .
وقال مجاهد : المؤمن الذي وحَّد نفسه بقوله : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } [ آل عمران : 18 ] .
وقرأ العامة : « المُؤمِن - بكسر الميم - اسم فاعل من آمن بمعنى أمن » .
وأبو جعفر محمد بن علي بن الحسين ، وقيل ابن القعقاع : بفتحها .
فقال الزمخشري : بمعنى المؤمن به ، على حذف حرف الجر ، كقوله : { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] المختارون .
وقال أبو حاتم : لا يجوز ذلك ، أي : هذه القراءة؛ لأنه لو كان كذلك لكان المؤمن به ، وكان جائزاً ، لكن المؤمن المطلق بلا حرف جر يكون من كان خائفاً فأمن ، فقد ردّ ما قاله الزَّمخشري .
فصل
قال ابن عباس : إذا كان يوم القيامة أخرج أهل التوحيد من النار ، وأول من يخرج من وافقه اسمه اسم نبي حتى إذا لم يبقَ فيها من يوافق اسمه اسم نبي ، قال الله تعالى لباقيهم : أنتم المسلمون وأنا السلام ، وأنتم المؤمنون وأنا المؤمن ، فيخرجهم من النار ببركة هذين الاسمين .
قوله : { المهيمن العزيز } .
قيل : معنى المهيمن « الشاهد » الذي لا يغيب عنه شيء . وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي ومقاتل .
قال الخليل وأبو عبيدة : هَيْمَنَ يُهَيْمِنُ فهو مُهَيْمِنٌ ، وقد تقدم الكلام عليه عند قوله : { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } [ المائدة : 48 ] .
وقال ابن الأنباري : « المُهَيْمِنُ » : القائم على خَلْقِه بقدرته .
وأنشد : [ الطويل ]
4755- ألاَ إنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ نَبِيِّهِ ... مُهَيْمِنُهُ التَّاليهِ في العُرْفِ والنُّكْرِ
وقيل هو في الأصل : مُؤيمن فقلبت الهمزة هاء ، كقوله : « أرَقْت وهرقت » ومعناه : المؤمن . نقله البغوي .
وتقدم الكلام على « العَزِيز » .
قوله : « الجبَّارُ » .
استدل به من يقول : إن أمثلة المبالغة تأتي من المزيد على الثلاثة ، فإنه من « أجبره على كذا » ، أي قهره .
قال الفرَّاء : ولم أسمع « فعّالاً » من « أفعل » إلا في « جبَّار ودرَّاك » من أدرك انتهى واستدرك عليه : أسأر ، فهو سَئّار .
وقيل : هو من الجبر ، وهو الإصلاح .
وقيل : هو من قولهم : نخلة جبَّارة إذا لم ينلْها الجُناة .
قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
4756- سَوَامِقَ جَبَّارٍ أثيثٍ فُرُوعُهُ ... وعَالَيْنَ قِنْوَاناً من البُسْرِ أحْمَرا
يعني النَّخْل التي فاتت اليد .
قال ابن الخطيب : فيه وجوه :
أحدها : أنه « فعّال » من جبر ، إذا أغنى الفقير وأصلح الكسير .
قال الأزهري : « هو لعمري جابرٌ لكل كسيرٍ وفقير ، وهو جابر دينه الذي ارتضاه » .
قال العجاج - رحمه الله - : [ الرجز ]
4757- قَدْ جَبَرَ الدِّينَ الإلَهُ فَجَبَرْ ... الثاني : أن يكون من جبره إذا أكرهه على ما أراده .
قال السديُّ : إنه هو الذي يقهر الناس ، ويجبرهم على ما أراده .
قال الأزهري : « هي لغة » تميم « ، وكثير من الحجازيين يقولونها » .
وكان الشافعي - رحمه الله - يقول : جبره السلطان على كذا ، بغير ألف .
الثالث : قال ابن عباس رضي الله عنهما : الجبَّار هو الملك العظيم .
وقيل : الجبار الذي لا تُطاق سطوته .
قال الواحدي : هذا الذي ذكرنا من معاني الجبار في صفة الله تعالى ، وأما معاني الجبار في صفة الخلق فلها معان :
أحدها : المُسَلَّط ، كقوله : { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ } [ ق : 45 ] .
الثاني : العظيم الجسم ، كقوله تعالى : { إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ } [ المائدة : 22 ] .
والثالث : المتمرّد عن عبادة الله كقوله : { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً } [ مريم : 32 ] .
الرابع : القتال كقوله : { بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } [ الشعراء : 130 ] وقوله : { إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض } [ القصص : 19 ] .
قوله : { المتكبر } .
قال ابن عباس : الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله .
وقيل : المتكبر عن كل سوء ، المتعظم عما لا يليق به من صفات الحدوث والذم .
وأصل الكبر والكبرياء الامتناع وقلّة الانقياد .
قال حميد بن ثور : [ الطويل ]
4758- عَفَتْ مِثْلَ مَا يَعْفُو الفَصِيلُ فأصْبَحَتْ ... بِهَا كِبْرِيَاءُ الصَّعْبِ وهي ذَلُولُ
قال الزجَّاج : وهو الذي تعظَّم عن ظلم عباده .
وقال ابن الأنباري : « المتكبر » ذو الكبرياء .
والكبرياء عند العرب الملك ، قال تعالى : { وَتَكُونَ لَكُمَا الكبريآء فِي الأرض } [ يونس : 78 ] واعلم أن المتكبر في صفات الله مدح ، وفي صفات المخلوقين ذم .
قال - عليه الصلاة والسلام - يرويه عن ربه - تبارك وتعالى - أنه قال : « الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحداً منهما قصمته ثم قذفته في النار » .
وقيل : المتكبر معناه العالي .
وقيل : الكبير ، لأنه أجل من أن يتكلف كبراً .
وقد يقال : تظلّم بمعنى ظلم ، وتشتّم بمعنى شتم ، واستقر بمعنى قرّ ، كذلك المتكبر بمعنى الكبير ، وليس كما يوصف به المخلوق إذا وصف ب « تفعل » إذا نسب إلى ما لم يكن منه ، ثم نزّه نفسه فقال : { سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
كأنه قال : إن المخلوقين قد يتكبرون ، ويدّعون مشاركة الله في هذا الوصف ، لكنه سبحانه منزَّهٌ عن التكبر الذي هو حاصل للخلق؛ لأنهم ناقصون بحسب ذواتهم ، فادعاؤهم الكبر يكون ضم نقصان الكذب إلى النقصان الذاتي ، وأما الله - سبحانه وتعالى - فله العلو والعزّ ، فإذا أظهره كان ذلك ضمَّ كمال إلى كمال ، فسبُحانَ اللَّهِ عمَّا يشركُون في إثبات صفة المتكبريَّة للخلق .
قوله : { هُوَ الله الخالق البارىء } .
« الخَالقُ » هنا المقدر ، و « البَارِىءُ » المنشىء المخترع ، وقدم ذكر الخالق على البارىء؛ لأن الإرادة مقدمة على تأثير القدرة .
قوله : « المُصَوِّرُ » .
العامة : على كسر الواو ورفع الراء ، إما صفة وإما خبر .
وقرأ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - والحسن بن السميفع ، وحاطب بن أبي بلتعة : بفتح الواو ونصب الراء . وتخريجها على أن يكون منصوباً ب « البَارِىءُ » .
و « المصوَّر » هو الإنسان إما آدم ، وإما هو وبنوه .
وعلى هذه القراءة يحرم الوقفُ على المصور ، بل يجب الوصل ليظهر النَّصب في الراء ، وإلا فقد يتوهم منه في الوقف ما لا يجوز .
وروي عن أمير المؤمنين أيضاً : فتح الواو وجرّ الراء ، وهي كالأولى في المعنى إلا أنه أضاف اسم الفاعل لمعموله مخففاً نحو : « الضارب الرجل » .
والوقف على « المصوّر » في هذه القراءة أيضاً حرام ، وقد نبَّه عليه بعضهم .
وقال مكي : « ويجوز نصبه في الكلام ، ولا بد من فتح الواو فتنصبه ب » البارىء « ، أي : هو الله الخالق المصور ، يعني : آدم - عليه الصلاة والسلام - وبنيه » . انتهى . وكأنه لم يطلع على هذه القراءة .
وقال أيضاً : « ولا يجوز نصبه مع كسر الواو ، ويروى عن علي رضي الله عنه » .
يعني أنه إذا كسرت الواو ، وكان من صفات الله تعالى ، وحينئذ لا يستقيم نصبه عنده؛ لأن نصبه باسم الفاعل قبله .
وقوله : « ويروى » أي : كسر الواو ونصب الراء ، وإذا صح هذا عن أمير المؤمنين ، فيتخرج على أنه من القطع ، كأنه قال : أمدح المصور ، كقولهم : « الحَمْدُ للَّه أهل الحمد » بنصب أهل؛ وقراءة من قرأ : { اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ } بنصب « رب » .
قال مكي : و « المصور » مُفَعِّل « من » صَوّر يُصَوّر « ، ولا يحسن أن يكون من » صار يصير « ، لأنه يلزم منه أن يقال : المصير ، بالياء » .
وقيل : هذا من الواضحات ولا يقبله المعنى أيضاً .
وقدم « البارىء » على « المصور » لأن إيجاد الذوات مقدّم على إيجاد الصفات ، فالتصوير مرتب على الخلق والبراية وتابع لهما ، ومعنى التصوير : التخطيط والتشكيل ، وخلق الله الإنسان في بطن أمه ثلاثَ خلق ، جعله علقة ثم مضغة ثم جعله صورة ، وهو التشكيل الذي يكون به ذا صورة يعرف بها ويتميز عن غيره ، فتبارك الله أحسنُ الخالقين .
قوله : { لَهُ الأسمآء الحسنى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم } تقدم نظيره .
روى أبو هريرة - رضي الله عنه - : قال :
« سألت خليلي أبا القاسم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اسم الله الأعظم ، فقال : » عليْكَ بأواخر سُورةِ الحَشْرِ ، فأكثر قراءتهَا « فأعَدْتُ عليْهِ فأعَادَ عليَّ » .
وقال جابر بن زيدٍ : إنَّ اسم الله الأعظم هو الله لمكان هذه الآية .
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « مَنَ قَرَأ سُورَة الحَشْرِ غُفِرَ الله لَهُ ما تقدَّمَ من ذَنبه ومَا تأخَّر » .
وعن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنَ قَرَأ خَواتِيمَ سُورة الحَشْرِ في لَيلٍ أو نهارٍ ، فقبضهُ اللَّهُ في تلْكَ اللَّيلةِ أو ذلِكَ اليَوْمِ فَقَدْ أوْجَبَ اللَّهُ لَهُ الجنَّة » .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ } الآية .
وجه تعلق أول هذه السورة بآخر ما قبلها ، هو أن آخر تلك السورة تشتمل على الصفات الجميلة [ اللائقة بحضرة الله - تعالى - من الوحدانية وغيرها ] ، وأول هذه السورة يشتمل على حرمة الاختلاط مع من لم يعترف بتلك الصفات .
قوله : { عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ } .
هذان مفعولا الاتخاذ .
و « العَدو » لما كان بزنةِ المصادر وقع على الواحد فما فوق .
وأضاف العدو لنفسه تغليظاً في جرمهم .
روى مسلم عن علي - رضي الله عنه - قال : « بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد ، فقال : » ائْتُوا روضة « خَاخٍ » فإنَّ بِهَا ظعينةً معها كتابٌ فخذُوهُ مِنْهَا « فانطلقنا تُعادي بنا خيلنَا ، فإذا نحن بالمرأة ، وهي امرأة عبد الرحمن بن عوف ولدت إبراهيم بن عبد الرحمن ، فقلنا : أخرجي الكتاب ، فقالت : ما معي كتاب ، فقلنا : لتُخرجنَّ الكتاب أو لنلقينَّ الثياب فأخرجته من عقاصها ، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل » مكة « يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا حاطب ما هذا؟ فقال : لا تَعْجَلْ عليَّ يا رسول الله ، إني كنت أمرأً ملصقاً في قريش - قال سفيان : يقول : كنت حليفاً - ولم أكن من أنفسها ، وكان ممن معك من المهاجرين من له قرابات يحمون أهليهم وأموالهم ، فأحببت إذ فاتني ذلك من النَّسَب أن أتخذ عندهم يداً يحمون قرابتي ، ولم أفعله كفراً ولا ارتداداً عن ديني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أمَا إنَّهُ قَدْ صَدقَكُمْ « ، فقال عمر : يا رسول الله ، دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال : إنَّهُ شهد بَدْراً ، ومَا يُدْريك لعلَّ اللَّه اطلع على مَنْ شَهِدَ بَدْراً ، فقال : اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ » ، فأنزل الله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ } إلى قوله : { سَوَآءَ السبيل } .
قيل : اسم المرأة سارة من موالي قريش ، وكان في الكتاب : « أما بعد ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل ، وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لأظفره الله بكم ، وأنجز له وعده فيكم ، فإن الله وليه وناصره » .
وقيل : « إن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت [ المدينة من مكة ورسول الله ] يتجهز لفتح مكة . قيل : كان هذا زمن الحديبية ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهاجرةً جئت يا سارة؟ قالت : لا ، قال : أمسلمة جئت؟ قالت : لا ، قال : فما جاء بك؟ قالت : كنتم الأهل والموالي والأصل والعشيرة ، وقد ذهبت الموالي - تعني قُتِلُوا يوم بدر - وقد احتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني ، فقال عليه الصلاة والسلام : فأيْنَ أنت عَن شَبابِ أهْلِ مكَّة؟ - وكانت مغنيةً نائحةً قالت : ما طلب مني شيء بعد وقعة بدرٍ ، فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وبني المطلب على إعطائها ، فكسوها وحملوها وأعطوها ، فخرجت إلى مكة ، وأتاها حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى ، وقال : أعطيك عشرة دنانير ، وبُرداً على أن تبلغي هذا الكتاب إلى أهل » مكَّة « ، وكتب في الكتاب : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم ، فخذوا حذركم ، فخرجت سارة ، ونزل جبريل عليه السلام فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فبعث عليّاً والزبير والمقداد وأبا مرثد الغنوي ، وفي رواية : عليّاً وعمار بن ياسر ، وفي رواية : عليّاً وعماراً وعمراً والزبير وطلحة والمقداد وأبا مرثد ، وكانوا كلهم فرساناً ، وقال لهم : انطلقوا حتى تأتوا روضة » خاخ « ، فإن بها ظعينة ، ومعها كتاب من حاطب إلى المشركين ، فخذوه منها وخلُّوا سبيلها ، فإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها ، فأدركوها في ذلك المكان ، فقالوا : أين الكتاب؟ فحلفت باللَّه ما معها كتاب ، ففتشوا أمتعتها فلم يجدوا معها كتاباً فهموا بالرجوع ، فقال علي : والله ما كذبنا ولا كذَّبنا وسلَّ سيفه ، وقال أخرجي الكتاب وإلا والله لأجرّدنّكِ ولأضربن عنقك ، فلما رأت الجد أخرجته من ذؤابتها قد خبأته في شعرها - وفي رواية في حُجزتِهَا - فخلُّوا سبيلها ، ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلى حاطب ، فقال : هل تعرف هذا الكتاب؟ قال : نعم ، وذكر الحديث »
فصل في النهي عن موالاة الكفار
هذه السورة أصل في النهي عن موالاة الكُفَّار ، وقد تقدم نظيره ، كقوله : { لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ } [ آل عمران : 28 ] . وقوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ } [ آل عمران : 118 ] { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ } [ المائدة : 51 ] .
روي أن حاطباً لما سمع { ياأيها الذين آمَنُواْ } غشي من الفرح بخطاب الإيمان .
قوله : « تُلقُون » . فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه تفسير لموالاتهم إياها .
الثاني : أنه استئناف إخبار بذلك ، فلا يكون للجملة على هذين الوجهين محلّ من الإعراب .
الثالث : أنها حال من فاعل « تتَّخذُوا » أي : لا تتخذوا ملقين المودّة .
الرابع : أنها صفة لأولياء .
قال الزمخشري : « فإن قلت : إذا جعلته صفة وقد جرى على غير من هو له ، فأين الضمير البارز ، وهو قولك : تلقون إليهم أنتم بالمودّة؟ .
قلت : ذاك إنما اشترطوه في الأسماء دون الأفعال ولو قيل : أولياء ملقين إليهم بالمودة على الوصف لما كان بُدّ من الضمير البارز » .
وقد تقدمت هذه المسألة مستوفاة ، وفيها كلام مكي وغيره .
إلا أن أبا حيّان اعترض على كونها صفة أو حالاً ، بأنهم نهوا عن اتخاذهم أولياء مطلقاً في قوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ } [ المائدة : 51 ] ، والتقييد بالحال والوصف يوهم جواز اتخاذهم أولياء إذا انتفى الحال أو الوصف .
قال شهاب الدين : « ولا يلزم ما قال ، لأنه معلوم من القواعد الشرعية ، فلا مفهوم لها ألبتة » .
وقال الفرَّاء : « تلقون » من صلة « أولياء » .
وهذا على أصولهم من أن النكرة توصل لغيرها من الموصولات .
قوله : « بِالمَودَّةِ » . في الباء ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الباء مزيدة في المفعول به ، كقوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] ، وقوله : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ } [ الحج : 25 ] .
والثاني : أنها غير مزيدة ، والمفعول محذوف ، ويكون معنى الباء : السببية ، كأنه قيل : تلقون إليهم أسرار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخباره بسبب المودة التي بينكم وبينهم . قاله الزجاج .
الثالث : أنها متعلقةٌ بالمصدر الدال عليه « تلقون » أي : إلقاؤهم بالمودة .
نقله الحوفي عن البصريين [ وجعل القول بزيادة الباء قول الكوفيين .
إلا أنَّ هذا الذي نقله عن البصريين ] لا يوافق أصولهم ، إذ يلزم منه حذف المصدر وإبقاء معموله ، وهو لا يجوز عندهم ، وأيضاً فإن فيه حذف الجملة برأسها ، فإن « إلقاءهم » مبتدأ ، و « بالمَودَّةِ » متعلق به ، والخبر أيضاً محذوف ، وهذا إجحاف .
فصل في الكلام على الآية
قال ابن الخطيب : في الآية مباحث .
الأول : اتخاذ العدو أولياء ، كيف يمكن ، والعداوة منافية للمحبة؟ .
والجواب : لا يبعد أن تكون العداوة بالنسبة إلى أمر آخر ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } [ الأنفال : 28 ] .
وقال عليه الصلاة والسلام : « أوْلادُنَا أكْبَادُنَا »
الثاني : لم قال : { عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ } ولم يقل بالعكس؟ .
والجواب : أنَّ العداوة بين المؤمن والكافر بسبب محبّة الله ومحبَّة رسوله - عليه الصلاة والسلام - فتكون محبة العبد من أصل الإيمان بحضرة الله تعالى لعلةٍ ، ومحبة حضرة الله - تعالى - للعبد لا لعلة ، والذي لا لعلة مقدم على الذي لعلة؛ ولأن الشيء إذا كانت له نسبة إلى الطرفين ، فالطرف الأعلى مقدم على الأدنى .
الثالث : قال : « أولياء » ، ولم يقل : ولي العدو أو العدو معرفاً؟ .
فالجواب : أن المعرف بحرف التعريف يتناول كل فرد ، فكذلك المعرف بالإضافة .
فصل
قال القرطبي : قوله : { تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة } يعني بالظَّاهر ، لأن قلب حاطب كان سليماً بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : « أمَّا صَاحبُكمْ فقدْ صَدَقَ » ، وهذا نصٌّ في سلامة فؤاده ، وخلوص اعتقاده .
فصل فيمن تطلع على عورات المسلمين
قال القرطبي : من كثر تطلّعه على عورات المسلمين ، وينبه عليهم ، ويعرف عدوهم بأخبارهم لم يكن بذلك كافراً إذا كان فعله ذلك لغرض دنيوي ، واعتقاده على ذلك سليم ، كما فعل حاطب حين قصد بذلك اتخاذ اليد ، ولم ينو الردة عن الدين .
وإذا قيل : بأنه لا يكون كافراً بذلك فهل يقتل حدًّا أم لا؟ فقال مالك وابن القاسم وأشهب : يجتهد الحاكم الإمام في ذلك .
وقال عبد الملك : إذا كانت عادته تلك قُتِلَ لأنه جاسوس ، وقد قال مالك : يقتل الجاسوس لإضراره بالمسلمين ، وسعيه بالفساد في الأرض ، ولعل ابن الماجشون إنما أخذ التكرار في هذا؛ لأن حاطباً أخذ في أول فعله ، فإن كان الجاسوس كافراً ، فقال الأوزاعي : يكون نقضاً لعهده ، وقال : الجاسوس الحربي يقتل ، والجاسوس المسلم والذمي يعاقبان إلا أن يظاهرا على الإسلام فيقتلان .
وقد روي عن عليٍّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - « أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بعين للمشركين اسمه : فُرات بن حيَّان ، فأمر به أن يقتل ، فصاح : يا معشر الأنصار ، أقتل وأنا أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله؟ فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فخلي سبيله ، ثم قال : » إنَّ مِنكُمْ من أكِلُهُ إلى إيمانِهِ ، مِنْهُمْ فُراتُ بنُ حيَّانَ «
قوله : » وقَدْ كَفرُوا « . فيه أوجه :
أحدها : الاستئناف .
الثاني : حال من فاعل » تتخذوا « .
الثالث : حال من فاعل » تلقون « ، أي : لا تتولَّوهم أو لا توادوهم وهذه حالهم .
وقرأ العامة : » بما « - بالباء - ، والجحدري وعاصم في رواية : » لما « - باللام - أي : لأجل ما جاءكم من الحق ، فعلى هذا الشيء المكفور به غير مذكور ، وتقديره : كفروا بالله ورسوله .
قوله : { يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ } .
يجوز أن يكون مستأنفاً ، وأن يكون تفسيراً لكفرهم ، فلا محلَّ لها على هذين ، وأن يكون حالاً من فاعل » كَفَرُوا « .
قوله : » وإيَّاكُمْ « . عطف على » الرَّسُول « وقدّم عليهم تشريفاً له .
وقد استدل به من يجوز انفصال الضمير مع القدرة على اتصاله ، إذ كان يجوز أن يقال : يخرجونكم والرسول ، فيجوز : يخرجون إياكم والرسول في غير القرآن .
وهو ضعيف ، لأن حالة تقديم الرسول دلالة على شرفه ، لا نسلم أنه يقدر على اتصاله .
وقد تقدم الكلام على هذه الآية عند قوله تعالى : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتقوا الله } في سورة النساء [ 131 ] .
قوله : { أَن تُؤْمِنُواْ } مفعول له ، وناصبة » يخرجون « أي : يخرجونكم لإيمانكم أو كراهة إيمانكم .
فصل
قال القرطبي : { أن تؤمنوا بالله } تعليل ل » يخرجون « والمعنى : يخرجون الرسول ، ويخرجونكم من » مكة « لأن تؤمنوا بالله ، أي : لأجل إيمانكم بالله .
قال ابن عباس : وكان حاطب ممن أخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم .
وقيل : إن الكلام فيه تقديم وتأخير ، والتقدير : لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي .
وقيل : في الكلام حذف ، والمعنى : إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي ، وابتغاء مرضاتي [ فلا تلقوا إليهم بالمودة .
وقيل : { إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وابتغآء مَرْضَاتِي } ] شرط وجوابه مقدم ، والمعنى : إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي فلا تتَّخذوا عدوي وعدوكم أولياء .
قال أبو حيان : { إِن كُنتُم خَرَجْتُمْ } جوابه محذوف عند الجمهور لتقدم « لا تتخذوا » وتقدم ، وهو « لا تتخذوا » عند الكوفيين ومن تابعهم .
قال الزمخشري : و { إن كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ } متعلق ب « لا تتخذوا » يعني : لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي ، وقول النحويين في مثله : هو جواب شرط ، جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه انتهى .
يريد : أنه متعلق به من حيث المعنى ، وأما من حيث الإعراب ، فكما قال جمهور النحويين .
قوله : { جِهَاداً فِي سَبِيلِي } { وابتغآء مَرْضَاتِي } يجوز أن ينتصبا على المفعول له ، أي : خرجتم لأجل هذين ، أو على المصدر بفعل مقدر أي : تجاهدون وتبتغون ، أو على أنهما في موضع الحال .
قوله : « تُسِرُّونَ » .
يجوز أن يكون مستأنفاً ، ولم يذكر الزمخشري غيره .
ويجوز أن يكون حالاً ثانية مما انتصب عنه « تلقون » حالاً .
ويجوز أن يكون بدلاً من « تلقون » . قاله ابن عطية .
والأشبه أن يكون بدل اشتمال ، لأن إلقاء المودة يكون سرًّا وجهراً ، فأبدل منه هذا للبيان بأيّ نوع وقع الإلقاء .
قال القرطبي : « تُسِرُّونَ » بدل من « تُلْقُونَ » ومبين عنه ، والأفعال تبدل من الأفعال كما قال تعالى : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب } [ الفرقان : 68 ، 69 ] .
وأنشد سيبويه : [ الطويل ]
4759 - مَتَى تَأتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً ونَاراً تَضرَّمَا
ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي : أنتم تسرون . قاله ابن عطية .
ولا يخرج عن معنى الاستئناف .
وقال أبو البقاء : « هو توكيد ل » تلقون « بتكرير معناه » .
قال شهاب الدين : « وفيه نظر ، لأن الإلقاء أعم من أن يكون سرًّا وجهراً » .
وتقدم الكلام على الباء في قوله : « بالمودَّة » .
قوله : { وَأَنَاْ أَعْلَمُ } .
هذه الجملة حال من فاعل « تُسِرُّونَ » ، أي : وأيُّ طائلٍ لكم في إسراركم ، وقد علمتم أن الإسرار والإعلان سيان في علمي .
و « أعْلَمُ » ، يجوز أن يكون أفعل تفضيل ، وهو الظاهر ، أي : أنا أعلم من كل أحد بما يخفون ، وما يعلنون .
وأن يكون فعلاً مضارعاً .
قاله ابن عطية ، وعُدِّي بالباء ، لأنك تقول : علمت بكذا ، وعلمت كذا فتكون زائدة .
وقيل : وأنا أعلم من كل أحد كما يقال : فلان أعلم وأفضل من غيره .
[ فإن قيل : لم قدم العلم بالإخفاء على العلم بالإعلان مع أن ذلك مستلزم لهذا من غير عكس؟ .
فالجواب هذا بالنسبة إلى علمنا ، لا بالنسبة إلى علمه - تعالى - إذ هما سيّان في علمه تعالى؛ لأن المقصود بيان ما هو الإخفاء ، وهو الكفر ، فيكون مقدماً .
فإن قيل : لم لم يقل : بما أسررتم ، ثم وما أعلنتم ، مع أنه أليق بما سبق في قوله : « تُسِرُّونَ؟ » فالجواب : أن فيه من المبالغة ما ليس في ذلك ، فإنَّ الإخفاء أبلغ من الإسرار بدليل قوله : { يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى } [ طه : 7 ] ، أي : أخفى من السِّر ] .
فصل في معاتبة حاطب
قال القرطبي : وهذا كله معاتبة لحاطب ، وهو يدل على فضله وكرامته ، ونصيحته للرسول صلى الله عليه وسلم وصدق إيمانه؛ فإن المعاتبة لا تكون إلا من محبٍّ لحبيب؛ كما قال : [ الوافر ]
4760 - إذَا ذَهَبَ العِتَابُ فليْسَ وُدٌّ ... ويَبْقَى الودُّ مَا بَقِيَ العِتَابُ
فصل في المراد بالمودة
والمراد بالمودّة في الآية النصيحة .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : وأنا أعلم بما أخفيتم في صدوركم ، وما أظهرتم بألسنتكم من الإقرار والتوحيد .
{ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ } أي : من يسر إليهم ويكاتبهم { فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل } أي : أخطأ طريق الهدى .
قوله : « ومَن يفعلهُ » . في الضمير وجهان :
أظهرهما : أنه يعود على الإسرار؛ لأنه أقرب مذكور .
والثاني : يعود على الاتِّخاذ . قاله ابن عطية .
قوله : { سَوَآءَ السبيل } .
يجوز أن يكون منصوباً على الظرف ، إن قلنا : ضلَّ قاصر .
وأن يكون مفعولاً به ، إن قلنا : هو متعد .
[ فإن قيل : ما الفائدة في قوله « مِنكُمْ » ، ومن المعلوم أن من فعل هذا ، فقد ضل سواء السبيل؟
فالجواب : إن كان المراد من قوله : « مِنْكُمْ » هم المؤمنون فظاهر ، لأن من يفعل ذلك لا يلزم أن يكون مؤمناً ] .
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)
قوله : { إِن يَثْقَفُوكُمْ } يلقونكم ويصادفونكم ، ومنه المثاقفة ، أي : طلب مصادفة [ الغرة ] في المسايفة وشبهها .
وقيل : « يثقفوكم » : يظفروا بكم ويتمكنوا منكم { يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً ويبسطوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسواء } أي : بالضَّرب والشَّتم .
قوله : { وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ } .
في « ودوا » وجهان :
أحدهما : أنه معطوفٌ على جواب الشرط ، وهو قوله : « يَكُونُوا » و « يَبْسطُوا » قاله الزمخشري .
ثم رتب عليه سؤالاً وجواباً ، فقال : « فإن قلت : كيف أورد جواب الشَّرط مضارعاً مثله ، ثم قال : » ودوا « بلفظ الماضي؟ .
قلت : الماضي وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب ، فإن فيه نكتة ، كأنه قيل : ودوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم ، يعني أنهم يريدون أن يلحقوا مضار الدنيا والآخرة جميعاً » .
والثاني : أنه معطوف على جملة الشَّرط والجزاء ، ويكون تعالى قد أخبر بخبرين بما تضمنته الجملة الشرطية ، وموادتهم كفر المؤمنين .
ورجح أبو حيان هذا ، وأسقط به سؤال الزمخشري وجوابه ، فقال : « وكأن الزمخشري فهم من قوله : » ووَدُّوا « أنه معطوف على جواب الشرط ، والذي يظهر أنه ليس معطوفاً عليه؛ لأن ودادتهم كفرهم ليست مرتبة على الظفر بهم والتسليط عليهم ، بل هم وادُّون كفرهم على كل حال سواء ظفروا بهم أم لم يظفروا » انتهى .
قال شهاب الدين : « والظَّاهر أنه عطف على الجواب ، وقوله : هم وادُّون ذلك مطلقاً مسلم ، لكن ودَادَتَهُم له عند الظَّفر والتسليط أقرب وأطمع لهم فيهم » .
وقوله : { لَوْ تَكْفُرُونَ } .
يجوز أن يكون لما سيقع لوقوع ، وأن تكون المصدرية عند من يرى ذلك .
وتقدم تحريرهما في البقرة .
فصل في معنى الآية
والمعنى : ودوا لو تكفرون بمحمد صلى الله عليه وسلم فلا تناصحوهم ، فإنهم لا يناصحونكم .
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
قوله : { لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ } .
لما اعتذر حاطب بأن له أرحاماً وأولاداً فيما بينهم بيَّن الله - تعالى - أن الأهل والأولاد لا ينفعون شيئاً يوم القيامة إن عصى من أجل ذلك .
{ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } فيدخل المؤمنين الجنة ، ويدخل الكافرين النار { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .
قوله : { يَوْمَ القيامة } يجوز فيه وجهان .
أحدهما : أن يتعلق بما قبله ، أي : لن ينفعكم يوم القيامة ، فيوقف عليه ، ويبتدأ { يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } .
والثاني : أن يتعلق بما بعده ، أي : يفصل بينكم يوم القيامة ، فيوقف على « أولادكم » ويبتدأ { يَوْمَ القيامة } .
والقراء في { يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } على أربع مراتب :
الأولى : لابن عامر : بضم الياء وفتح الفاء والصاد مثقلة .
الثانية : مثقلة إلا أنه بكسر الصاد للأخوين .
الثالثة : بفتح الياء وسكون الفاء وكسر الصاد مخففة لعاصم .
الرابعة : بضم الياء وسكون الفاء وفتح الصاد مخففة للباقين ، وهم نافع وابن كثير ، وأبو عمرو ، وهذا في السبعة .
وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة : بضم الياء وكسر الصاد مخففة وسكون الفاء مخففة من « أفْصَلَ » .
وأبو حيوة أيضاً : « نُفْصِلُ » بضم النون ، من « أفصل » .
والنخعي وطلحة : « نُفَصِّلُ » بضم النون وفتح الفاء وكسر الصَّاد مشددة .
وقرأ أيضاً وزيد بن علي : « نَفْصِلُ » بفتح النون وسكون الفاء وكسر الصاد مخففة فهذه أربع ، فصارت ثماني قراءات .
فمن بناه للمفعول ، فالقائم مقام الفاعل إما ضمير المصدر ، أي : يفصل الفصل ، أو الظرف ، وبني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن ، كقوله : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] في أحد الأوجه ، أو الظرف وهو باقٍ على نصبه كقولك : جُلِسَ عندك . ثم قال : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } ، وفيه سؤال ، وهو أنه لِمَ لَمْ يَقُلْ : خبير مع أنه أبلغ في العلم بالشيء؟
والجواب : أنَّ الخبير أبلغ في العلم ، والبصير أشهر منه فيه ، فإنه يجعله كالمحسُوس بحس البصر .
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
قوله تعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ } الآية .
لما نهى عن مُوالاةِ الكُفَّار ذكر قصة إبراهيم ، وأن من سيرته التَّبرؤ من الكُفَّار ، أي : فاقتدوا به إلاَّ في الاستغفار لأبيه .
والأسْوَةُ والإسوةُ ما يتأسّى به مثل القُدوة والقِدوة ، ويقال : هو أسوتك أي مثلك وأنت مثله وتقدم قراءة « أسوة » في سورة « الأحزاب » والكلام على مادتها .
قوله : { في إِبْرَاهِيمَ } . في أوجه :
أحدها : أنه متعلق ب « أسوة » ، تقول : لي أسوة في فلان ، ومنع أبو البقاء أن يتعلق بها لأنها قد وصفت .
وهذا لا يبالى به لأنه يغتفر في الظرف ما لا يغتفر في غيره .
الثاني : أنه متعلق ب « حسنة » تعلق الظرف بالعامل .
الثالث : أنه نعتٌ ثانٍ ل « أسوة » .
الرابع : أنه حال من الضمير المستتر في « حسنة » .
الخامس : أن يكون خبر « كَانَ » و « لَكُمْ » تبيين .
قوله : { والذين مَعَهُ } يعني أصحاب إبراهيم من المؤمنين .
وقال ابن زيدٍ : هم الأنبياء .
قوله : { إِذْ قَالُواْ } . فيه وجهان :
أحدهما : أنه خبر « كان » .
والثاني : أنه متعلق بخبرها .
قالهما أبو البقاء .
ومن جوز في « كان » أن تعمل في الظرف علقه بها ، والمراد بقومهم : الكفار .
قوله : { إِنَّا بُرَءآؤ } .
هذه قراءة العامة - بضم الباء وفتح الراء وألف بين همزتين - جمع « بريء » ، نحو « كرماء » في نحو « كريم » .
وعيسى أيضاً وأبو جعفر بضم الباء وهمزة بعد ألف .
وفيه أوجه :
أحدها : أنه جمع بريء أيضاً ، والأصل كسر الباء ، وإنما أبدل من الكسرة ضمَّة ك « رُخَال ، ورُبَاب » قاله الزمخشري .
الثاني : أنه جمع « بريء » أيضاً وأصله : « برآء » كالقراءة المشهورة إلاَّ أنه حذف الهمزة الأولى تخفيفاً . قاله أبو البقاء .
الثالث : أنه اسم جمع ل « بريء » نحو : « تؤام ، وظؤار » اسمي جمع ل « توأم ، وظِئْر » .
وقرأ عيسى أيضاً بفتح الباء وهمزة بعد ألف ، كالتي في « الزخرف » ، وصح ذلك لأنه مصدر ، والمصدر يقع على الجمع كوقوعه على الواحد .
قال الزمخشري : « والبراء والبراءة كالظماء والظماءة » .
وقال مكي : وأجاز أبو عمرو وعيسى بن عمر : « بِراء » - بكسر الباء - جعلاه ك « كريم وكرام » .
قال القرطبي : هو على وزن « فِعَال » مثل : « قِصَار وقصير » ، و « طِوَال وطويل » و « ظراف وظريف » ويجوز ترك الهمزة حتى تقول برآ وتنون .
وأجاز الفراء : بفتح الباء ، ثم قال : « وبراءُ » في الأصل مصدر .
كأنه لم يطلع على أنها قراءة منقولة .
فصل في الاقتداء بسيدنا إبراهيم .
قال القرطبي : « الآية نصّ في الأمر بالاقتداء بإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - في فعله ، وذلك يدلّ على أن شرع من قبلنا شرع لنا فيما أخبر الله ورسوله » .
قوله : { كَفَرْنَا بِكُمْ } ، أي بما آمنتم به من الأوثان .
وقيل : بأفعالكم وكذبناها وأنكرنا أن يكونوا على حق ، { وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء أَبَداً } أي : هذا دأبنا معكم ما دمتم على كفركم حتى تؤمنوا بالله وحده ، فحينئذ تنقلب المعاداةُ موالاة .
فإن قيل : ما الفائدة في قوله : { تُؤْمِنُواْ بالله وَحْدَهُ } ، والإيمان إنما هو باللَّهِ وبغيره كقوله : { كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] .
فالجواب : أن الإيمان بالله وحده مستلزمٌ للإيمان بالملائكة والكتب والرسل .
قوله : { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ } فيه أوجه :
أحدها : أنه استثناء متصل من قوله : « في إبراهيم » ولكن لا بد من حذف مضاف ليصح الكلام ، تقديره : في مقالات إبراهيم إلا قوله كيت وكيت .
الثاني : أنه مستثنى من { أًسْوَةٌ حَسَنَةٌ } وجاز ذلك؛ لأن القول أيضاً من جملة الأسوة؛ لأن الأسوة الاقتداء بالشخص في أقواله وأفعاله ، فكأنه قيل : لكم فيه أسوة في جميع أحواله من قول وفعل إلا قوله كذا .
وهذا واضح؛ لأنه غير مُحوجٍ إلى تقدير مضاف وغير مخرجٍ للاستثناء من الاتصال الذي هو أصله إلى الانقطاع ، ولذلك لم يذكر الزمخشري غيره .
قال : فإن قلت : ممَّ استثني قوله : { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ }
قلت : من قوله « أسْوةٌ حسَنةٌ »؛ لأنه أراد بالأسوة الحسنة قولهم الذي حق عليهم أن يتأسَّوا به ، ويتخذوه سنة يستنون بها .
فإن قلت : فإن كان قوله « لأسْتغفِرنَّ لَكَ » مستثنى من القول الذي هو « أسْوةٌ حَسَنةٌ » فما بال قوله : { وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ } وهو غير حقيق بالاستثناء ، ألا ترى إلى قوله : { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً } [ الفتح : 11 ] .
قلت : أراد استثناء جملة قوله : « لأبيهِ » والقصد إلى موعد الاستغفار له ، وما بعده مبني عليه وتابع له ، كأنه قال : أنا أستغفر لك ، وما في طاقتي إلاَّ الاستغفار .
الثالث : قال ابن عطية : « ويحتمل أن يكون الاستثناء من التَّبري والقطيعة التي ذكرت أي : لم تبق صلة إلا كذا ، والله أعلم » .
الرابع : أنه استثناء منقطع ، أي : لكن قول إبراهيم .
وهذا بناء من قائليه على أنَّ القول لم يندرج تحت قوله : « أسْوَةٌ » ، وهو ممنوع .
فصل
قال القرطبي : معنى قوله : { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } أي : فلا تتأسَّوا به في الاستغفار ، فتستغفرون للمشركين ، فإنه كان عن موعدة منه له .
قاله قتادة ومجاهد وغيرهما .
وقيل : معنى الاستثناء أن إبراهيم هجر قومه وباعدهم إلا في الاستغفار لأبيه ، ثم بين عذره في سورة « التوبة » ، وفي هذا دلالة على تفضيل نبيِّنا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء؛ لأنا حين أمرنا بالاقتداء به أمِرْنا أمراً مطلقاً في قوله :
{ وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } [ الحشر : 7 ] ، وحين أمرنا بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام استثني بعض أفعاله ، وذلك إنما جرى؛ لأنه ظن أنه أسلم ، فلما بان أنه لم يسلم تبرَّأ منه ، وعلى هذا يجوز الاستغفار لمن يظن أنه أسلم ، وأنتم لم تجدوا مثل هذا الظَّن فلم توالوهم؟ .
قوله : { وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ } هذا من قول إبراهيم لأبيه ، أي : ما أدفع عنك من عذاب الله شيئاً إن أشركت به .
قوله : { رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا } .
يجوز أن يكون من مقول إبراهيم والذين معه ، فهو من جملة الأسوة الحسنة ، وفصل بينهما بالاستثناء ، ويجوز أن يكون منقطعاً مما قبله على إضمار قول ، وهو تعليم من الله تعالى لعباده ، كأنه قال لهم : قولوا : { رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا } أي : اعتمدنا { وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا } أي : رجعنا { وَإِلَيْكَ المصير } أي : الرجوع في الآخرة .
{ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } . أي : ولا تظهر عدوَّنا علينا ، فيظنوا أنهم على حقّ . فيفتنوا بذلك وقيل : لا تسلّطهم علينا ، فيقتلوننا ويعذبوننا .
وقال مجاهد : لا تعذبنا بأيديهم ، ولا بعذاب من عندك ، فيقولوا لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ذلك .
وقيل : لا تبسط [ عليهم ] الرزق دوننا ، فإن ذلك فتنة لهم .
وقيل : { لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً } أي : عذاباً أي : سبباً يعذب به الكفرة ، وعلى هذا ليست الآية من قول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام : { واغفر لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } .
قوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ } أي : في إبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء « أسْوةٌ حَسَنةٌ » أي : في التَّبرِّي من الكُفَّار .
وقيل : كرر للتأكيد .
وقيل : نزل الثاني بعد الأول بمدة .
قال القرطبي : وما أكثر المكررات في القرآن على هذا الوجه .
قوله : { لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله } .
بدل من الضمير في « لكُمْ » بدل بعض من كل ، وقد تقدَّم مثله في « الأحزاب » .
والضمير في « فيهم » عائد على « إبراهيم » ومن معه ، وكررت « الأسوة » تأكيداً .
وفيه بيان أن هذه الأسوة لمن يخاف الله ، ويخاف عذاب الآخرة ، { وَمَن يَتَوَلَّ } أي : يعرض عن الإيمان ويتول الكُفَّار { فَإِنَّ الله هُوَ الغني } عن خلقه ، أي : لم يتعبدهم لحاجته إليهم { الحميد } إلى أوليائه وأهل طاعته .
وقيل : الحميد في نفسه وصفاته .
قوله تعالى : { عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً } .
قال المفسرون : لمَّا نزلت الآية الأولى عادى المسلمين أقرباؤهم من المشركين ، فعلم الله شدّة وجد المسلمين في ذلك فنزلت : { عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً } أي : من كفار « مكة » ، وقد فعل الله ذلك؛ لأن « عَسَى » من الله وعد ، ولا يخلف الله وعدهُ ، وهذا بأن يسلم الكافر ، وقد أسلم قوم منهم بعد فتح « مكة » ، وخالطهم المسلمون كأبي سفيان بن حرب ، والحارث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وحكيم بن حزام .
وقيل : المودة تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان فلانت عندئذ عريكة أبي سفيان .
قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما : كانت المودّة بعد الفتح تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أمَّ حبيبة بنت أبي سفيان قال ابن عباس : وكانت تحت عبد الله بن جحشٍ ، وكانت هي وزوجها من مهاجرة الحبشة ، فأما زوجها فتنصَّر ، وسألها أن تتابعه على دينه ، فأبت وصبرت على دينها ، ومات زوجها على النصرانية ، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فخطبها ، فقال النجاشي لأصحابه : من أولاكم بها؟ قالوا : خالد بن سعيد بن العاص ، قال : فزوجها من نبيكم ففعل وأمهرها النجاشي من عنده أربعمائة دينار .
وقيل : خطبها النبي صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن عفَّان ، فلما زوجه إياها بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فيها ، فساق عنه المهر ، وبعث بها إليه ، فقال أبو سفيان وهو مشرك لما بلغه تزويج النبي صلى الله عليه وسلم ابنته : وذلك الفحل لا يقدع أنفه .
قال ابن الأثير : « يقال : قدعت الفحل وهو أن يكون غير كريم ، فإذا أراد ركوب الناقة الكريمة ضرب أنفه بالرمح وغيره حتى يرتدع وينكبّ ، ويروق بالراء » .
لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)
قوله تعالى : { لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين } الآية .
هذه الآية رخصة من الله - تعالى - في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم .
قال ابن زيد : كان هذا في أول الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال ثم نسخ .
قال قتادة : نسختها : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] .
وقيل : كان هذا الحكم لعلة ، وهي الصلح فلما زال الصُّلح بفتح « مكة » نسخ الحكم ، وبقي الرسم يتلى .
وقيل : هي مخصوصة في خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم ومن بينه وبينه عهد لم ينقضه . قاله الحسن .
قال الكلبي : هم خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناف ، وهو قول أبي صالح .
وقال مجاهد : هي مخصوصة في الذين آمنوا ، ولم يهاجروا .
وقيل : يعني به النساء والصبيان؛ لأنهم ممن لا يقاتل ، فأذن الله في برهم .
وقال أكثر أهل التأويل : هي محكمة ، « واحتجُّوا بأن أسماء بن أبي بكر سألت النبي صلى الله عليه وسلم : هَلْ تَصِلُ أمَّهَا حين قدِمتْ عليْهَا مُشْرِكةً؟ قال : » نَعَمْ « » خرجه البخاري ومسلم .
وقيل : إن الآية نزلت فيها .
وروى عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه : أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - طلق امرأته قتيلة في الجاهلية ، وهي أم أسماء بنت أبي بكر ، فقدمت عليهم في المدة التي كانت فيها المهادنة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش ، فأهدت إلى أسماء بنت أبي بكر قرطاً وأشياء ، فكرهت أن تقبل منها حتى أتت رسول الله فذكرت ذلك له ، فأنزل الله تعالى : { لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين } ذكر هذا الخبر الماوردي وغيره ، وخرجه أبو داود الطَّيالسي في مسنده .
قوله : { أَن تَبَرُّوهُمْ } وقوله : { أَن تَوَلَّوْهُمْ } بدلان من الذين قبلهما بدل اشتمال ، فيكون في موضع جرّ .
والمعنى : لا ينهاكم الله عن أن تبروا هؤلاء الذين لم يقاتلوكم ، إنما ينهاكم عن تولي هؤلاء وهم خزاعة ، صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على ألاَّ يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحداً ، فأمر ببرهم والوفاء لهم إلى أجلهم . حكاه الفرَّاء .
وقوله : { وتقسطوا إِلَيْهِمْ } . أي : تعطوهم قسطاً من أموالكم على وجه الصلة ، وليس يريد به من العدل ، فإن العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل ، قاله ابن العربي .
فصل في نفقة الابن المسلم على أبيه الكافر .
نقل القرطبي عن القاضي أبي بكر في كتاب « الأحكام » له : أن بعض العلماء استدلّ بهذه الآية على وجوب نفقة الابن المسلم على أبيه الكافر ، قال : وهذه وهلة عظيمة ، إذ الإذن في الشيء ، أو ترك النهي عنه لا يدل على وجوب ، وإنما يعطي الإباحة خاصة؛ وقد بيَّنَّا أنَّ القاضي إسماعيل بن إسحاق دخل عليه ذمي فأكرمه ، فأخذ عليه الحاضرون في ذلك ، فتلا هذه الآية عليهم « .
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
قوله تعالى : { إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين قَاتَلُوكُمْ فِي الدين } أي : جاهدوكم على الدين { وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ } وهم عتاة أهل « مكة » ، { وَظَاهَرُواْ } أي : عاونوا { على إِخْرَاجِكُمْ } وهم مشركوا مكة { أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ } أي : يتخذهم أولياء وأنصاراً وأحباباً { فأولئك هُمُ الظالمون } .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ } الآية لما أمر المسلمين بترك موالاة [ المشركين ] اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام ، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة ، فبين أحكام مهاجرة النساء .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : جرى الصُّلح مع مشركي قريش عام الحديبية على أن من أتاه من أهل « مكة » رده إليهم ، فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب ، والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية بعد ، فأقبل زوجها - وكان كافراً - وهو صيفي بن راهب .
وقيل : مسافر المخزومي ، فقال : يا محمد ، اردد عليّ امرأتي فإنك شرطت ذلك ، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية .
وقيل : « جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردها .
وقيل : هربت من زوجها عمرو بن العاص ، ومعها أخواها عمارة والوليد ، فرد رسول الله إخوتها ، وحبسها فقالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم ردها علينا للشرط ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كان الشَّرط في الرجال لا في النساء » ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية .
وعن عروة قال : كان مما اشترط سهيل بن عمرو على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الحديبية ألاَّ يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ، وخليت بيننا وبينه فكرهَ المؤمنون ذلك ، وأبى سهيل إلا ذلك ، فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ، فردّ يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو ، ولم يأته أحد من الرجال إلا ردّه في تلك المدة وإن كان مسلماً ، حتى أنزل الله في المؤمنات ما أنزل ، يومىء إلى أن الشرط في رد النساء نسخ بذلك .
وقيل : إن التي جاءت أميمة بنت بشر كانت عند ثابت بن الشمراخ ، ففرت منه ، وهو يومئذ كافرٌ ، فتزوَّجها سهيل بن حنيف ، فولدت له عبد الله . قاله زيد بن حبيب ، نقله الماورديّ .
وأكثر أهل العلم أنها أم كلثوم بنت عقبة .
قوله : { المؤمنات } . تسمية للشيء بما يدلي إليه ويقاربه ويشارفه؛ أو في الظاهر .
وقرىء « مُهَاجِرَاتٌ » - بالرفع - وخرجت على البدل .
فصل في دخول النساء عقد المهادنة لفظاً أو عموماً
اختلفوا هل دخل النساء في عقد المهادنة لفظاً أو عموماً؟
فقالت طائفة : كان شرط ردهن في عقد الهُدنة صريحاً ، فنسخ الله ردّهن من العقد ومنع منه ، وبقاه في الرجال على ما كان ، وهذا يدل على أن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجتهد رأيه في الأحكام ، ولكن لا يقرّه الله على خطأ .
وقالت طائفة : لم يشترط ردّهن في العقد لفظاً ، وإنما أطلق العقد في ردِّهن أسلم ، فكان ظاهر العموم اشتماله عليهن مع الرجال ، فبين الله تعالى خروجهن عن عمومه ، وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين :
أحدهما : أنهن ذوات فروج يحرمن عليهم .
الثاني : أنهن أرقّ قلوباً ، وأسرع تقلباً منهم ، فأما المقيمة منهن على شركها فمردودة عليهم . ومن أسلمت فلا تردوها .
قوله : { فامتحنوهن } .
قيل : إنه كان من أرادت منهن إضرار زوجها ، قالت : سأهاجر إلى محمد صلى الله عليه وسلم فلذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بامتحانهن ، واختلفوا فيما كان يمتحنهن به .
فقال ابن عباس : كان يمتحنهن بأن يُسْتَخْلَفْنَ بالله أنها ما خرجت من بغض زوجها ، ولا رغبة من أرض إلى أرض ، ولا التماس دنيا ، ولا عشقاً لرجل من المسلمين ، ولا لحدث أحدثته ، وما خرجت إلا رغبة في الإسلام ، وحب الله ورسوله ، فإذا حلفت بالله الذي لا إله إلا هو على ذلك أعطى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها ، وما أنفق عليها ، ولم يردها ، فذلك قوله تعالى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } .
وروي عن ابن عباس أيضاً : أن المحنة كانت أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله .
وروى معمر عن الزهري عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحنهن إلا بالآية التي قال الله تعالى : { إِذَا جَآءَكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً } .
خرجه الترمذي . وقال حديث حسن صحيح .
فصل
قال أكثر العلماء على أن هذا ناسخ لما كان عليه الصلاة والسلام عاهد عليه قريشاً من أنه يرد عليهم من جاءه منهم مسلماً ، فنسخ من ذلك النساء . وهذا مذهب من يرى نسخ السنة بالقرآن .
فصل
قال القرطبي : ولا يجوز أن يهادن الإمام العدو على أن يرد عليهم من جاءه مسلماً؛ لأن إقامة المسلم بأرض الشرك لا تجوز ، وهذا مذهب الكوفيين ، وأجاز مالك عقد الصلح على ذلك .
واحتج الكوفيون « بأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى قوم خثعم ، فاعتصموا بالسجود فقتلهم ، فوداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم [ بنصف الدية ] وقال : » أنَا بَريءٌ مِن كُلِّ مسلمٍ أقَامَ مع مُشركٍ بدارِ الحَرْبِ لا تَراءَى نَاراهُما « قالوا : فهذا ناسخ لرد المسلمين إلى المشركين ، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد برىء ممن أقام معهم في دار الحرب . ومذهب مالك والشافعيِّ أن هذا الحكم غير منسوخ .
قال الشافعي : وليس لأحد هذا العقد إلا الخليفة أو [ رجل ] يأمره ، فمن عقد غير الخليفة هذا العقد فهو مردود .
قوله : { الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ } .
هذه الجملة فائدتها بيان أنه لا سبيل لكم إلى ما تطمئن به النفس ويثلج الصدر من الإحاطة بحقيقة إيمانهن ، فإن ذلك مما استأثر الله به .
قاله الزمخشري .
أي : هذا الامتحان لكم ، والله أعلم بإيمانهن ، لأنه متولي السرائر ، وسمَّى الظن الغالب في قوله : { عَلِمْتُمُوهُنَّ } علماً لما بينهما من القرب كما يقع الظَّن موقعه ، وتقدم ذلك في البقرة .
قوله : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } .
أي : بما يظهرن من الإيمان .
وقيل : أي : علمتموهن مؤمنات قبل الامتحان { فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ } وقوله : { وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } تأكيد للأول لتلازمهما .
وقيل : أراد استمرار الحكم بينهم فيما يستقبل كما هو في الحال ما داموا مشركين وهن مؤمنات .
فصل في معنى الآية
معنى الآية : لم يحل الله مؤمنة لكافر ، وهذا أول دليل على أنَّ الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها الكافر إسلامها لا هجرتها .
وقال أبو حنيفة : الذي فرق بينهما هو اختلاف الدَّارين .
والصحيح الأول؛ لأن الله - تعالى - بين العلّة ، وهو عدم الحل بالإسلام لا باختلاف الدار .
قوله : { وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ } .
أمر الله - تعالى - إذا أمسكت المرأة المسلمة أن يردّ على زوجها ما أنفق ، وذلك من الوفاء بالعهدِ؛ لأنه لما منع من أهله بحرمة الإسلام أمر برد المال حتى لا يقع عليهم خسران من الوجهين : الزوجة والمال .
فصل في استحقاق الغرم بالمنع
ولا غرم إلا إذا طالب الزوج الكافر ، فإذا حضر وطالب منعناها وغرمنا ، فإن كانت ماتت قبل حضور الزوج لم نغرم المهر إذ لم يتحقق المنع ، وإن كان المسمى خمراً وخنزيراً لم نغرم شيئاً؛ لانه لا قيمة له .
وللشافعي في هذه الآية قولان :
أحدهما : أن هذا منسوخ .
قال الشافعي : وإذا جاءتنا المرأة الحرة من أهل الهُدْنة مسلمة مهاجرة من الحرب إلى الإمام في دار الإسلام أو دار الحرب ، فمن طلبها من ولي سوى زوجها منع منها بلا عوض ، وإذا طلبها زوجها لنفسه أو غيره بوكالة ، ففيه [ قولان ] :
أحدهما : أن يعطى [ زوجها ] العوض لهذه الآية .
والثاني : لا يعطى الزوج المشرك الذي جاءت امرأته مسلمة العوضَ ، فإن شرط الإمام ردّ النساء كان الشرط باطلاً منسوخاً ، وليس عليه عوض ، لأنه لا عوض للباطل .
فصل
أمر الله تعالى برد مثل ما أنفقوا إلى الأزواج ، وأن المخاطب بهذا الإمام ، ينفذ من بيت المالِ الذي لا يتعين له مصرف .
وقال مقاتل : يرد المهر الذي يتزوجها من المسلمين ، وليس لزوجها الكافر شيء .
وقال قتادة : الحكم في رد الصداق إنما هو في نساء أهل العهد فأما [ من ] لا عهد بينه وبين المسلمين ، فلا يُرَدُّ عليهم الصداق .
قال القرطبي : « والأمر كما قال » .
قوله : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ } . أي : في أن تنكحوهن .
وقوله : { إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ } .
يدوز أن يكون ظرفاً محضاً ، وأن يكون شرطاً ، جوابه مقدَّر ، أي : فلا جناح عليكم .
فصل
ومعنى الآية : ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن أي : مهورهن ، فأباح الله نكاحهن للمسلمين؛ وإن كان لهن أزواج في دار الكفر؛ لأن الإسلام فرق بينهن وبين أزواجهن الكُفَّار .
قال القرطبي : أباح نكاحهنَّ إذا أسلمن ، وانقضت عدتهن لما ثبت في تحريم نكاح المشركة المعتدة ، فإن أسلمت قبل الدخول ثبت النكاح في الحال .
قوله : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } .
قرأ أبو عمرو في آخرين بضم التاء وفتح الميم وتشديد السين ، وباقي السبعة - بتخفيفها - من « مسَك ، وأمسك » بمعنى واحد .
يقال : أمسكت الحبل إمساكاً ، ومسَّكته تمسيكاً ، وفي التشديد مبالغة ، والمخفف صالح لها أيضاً .
وقرأ الحسن ، وابن أبي ليلى ، وأبو عمرو ، وابن عامر في رواية عنهما : « تَمَسَّكُوا » - بالفتح في الجميع وتشديد السين - والأصل : « تَتمسَّكُوا » - بتاءين - فحذفت إحداهما .
وعن الحسن أيضاً : « تَمْسِكُوا » مضارع « مَسَك » ثلاثياً .
والعِصَم : جمع عِصْمَة ، والعِصْمَة هاهنا : النِّكاح ، يقول : من كانت له كافرة بمكة فلا يعقد بها فقد انقطعت عصمتها .
و « الكوافر » جمع « كافرة » ، ك « ضوارب » في « ضاربة » و « صواحب » .
ويحكى عن الكرخي الفقيه المعتزلي أنه قال : « الكوافر » يشمل الرجال والنساء .
قال الفارسي : فقلت له : النحويون لا يرون هذا إلاَّ في النساء جمع كافرة .
فقال أبو علي : أليس يقال : طائفة كافرة وفرقة كافرة؟ .
قال أبو عليٍّ : فبهت ، وقلت : هذا تأييد إلهي .
قال شهاب الدين : وإنما أعجب بقوله لكونه معتزلياً ، والحق أنه لا يجوز كافرة وصفاً للرجال إلا أن يكون الموصوف مذكوراً ، نحو : هذه طائفة كافرة ، أو في قوّة المذكور ، أما أن يقال : طائفة باعتبار الطائفة غير المذكورة ، ولا في قوة المذكورة بل لمجرد الاحتمال ، ويجتمع جمع « فَاعِلَة » فهذا لا يجوز ، وقول الفارسي : « لا يَرَونَ هذا إلا في النِّساءِ » فهذ يصح ولكنه الغالب ، وقد يجمع « فاعل » وصف المذكر العاقل على « فواعل » وهو محفوظ نحو : « فوارس ونواكس » .
فصل في المراد بالآية
قال النخعي : المراد بالآية : المرأة المسلمة تلحق بدار الحرب ، فتكفر ، وكان الكفار يتزوجون المسلمات ، والمسلمون يتزوجون المشركات ، ثم نسخ ذلك بهذه الآية ، فطلق عمر بن الخطاب حينئذ امرأتين ب « مكة » مشركتين : قريبة بنت أبي أمية ، فتزوجها معاوية بن أبي سفيان ، وهما على شركهما ب « مكة » ، وأم كلثوم بنت عمرو الخزاعية أم عبد الله بن المغيرة ، فتزوجها أبو جهم بن حذافة ، وهما على شركهما ، فلما ولي عمر ، قال أبو سفيان لمعاوية : طلق قريبة ، لئلا يرى عمر صلبه في بيتك ، فأبى معاوية ، وكانت عند طلحة بن عبيد الله أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، ففرق الإسلام بينهما ، ثم تزوَّجها في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص ، وكانت ممن فرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم من نساء الكفار فحبسها ، وتزوجها خالد بن سعيد بن العاص بن أمية .
وقال الشعبيُّ : كانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، امرأة أبي العاص بن الربيع ، أسلمت ولحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وأقام أبو العاصِ ب « مكة » مشركاً ، ثم أتى « المدينة » ، فأسلم ، فردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وروى أبو داود عن عكرمة عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما : رد رسول الله ابنته زينب على أبي العاص بالنكاح الأول ، لم يحدث شيئاً .
قال محمد بن عمر في حديثه : بعد ست سنين .
وقال الحسنُ بن عليٍّ : بعد سنتين .
قال أبو عمر : فإن صح هذا ، فلا يخلو من وجهين :
إما أنها لم تحضر حتى أسلم زوجها ، وإما أن الأمر فيها منسوخ بقوله تعالى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } [ البقرة : 228 ] ، يعني عدتهن ، وهذا مما لا خلاف فيه ، إن عنى به العدة .
قال الزهريُّ في قصة زينب هذه : كانت قبل أن تنزل الفرائض .
وقال قتادةُ : كان هذا قبل أن تنزل سورة براءة ، بقطع العهود بينهم وبين المشركين .
فصل في المراد بالكوافر
المراد بالكوافر هنا : عبدة الأوثان ، ومن لا يجوز ابتداء نكاحها .
وقيل : هي عامَّة ، نسخ منها نساء أهل الكتاب ، فعلى الأول إذا أسلم وثَنِيّ ، أو مجُوسِيّ ولم تسلم امرأته فرق بينهما ، وهو قول بعض أهل العلم ، منهم مالك والحسن وطاووس ومجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة والحكم ، لقوله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } .
وقال بعضهم : ينتظر بها تمام العدة ، وهو قول الزهري والشافعي وأحمد ، واحتجوا بأن أبا سفيان بن حرب ، أسلم قبل هند بنت عتبة امرأته ، وكان إسلامه ب « مر الظهران » ، ثم رجع إلى « مكة » وهند بها كافرة مقيمة على كفرها ، فأخذت بلحيته ، وقالت : [ اقتلوا ] الشيخ الضَّال ، ثم أسلمت بعده بأيام ، فاستقر على نكاحها ، لأن عدتها لم تكن انقضت .
قالوا : ومثله حكيم بن حزام أسلم قبل امرأته ، ثم أسلمت بعده ، فكانا على نكاحها .
قال الشافعي رحمه الله : ولا حجة لمن احتج بقوله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } ؛ لأن نساء المسلمين محرمات على الكفار ، كما أن المسلمين ، لا تحل لهم الكوافر والوثنيات والمجوسيات لقوله تعالى : { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } ، ثم بينت السُّنَّة أن مراد الله من قوله هذا : أنه لا يحل بعضهم لبعض إلا أن يسلم الثاني منهما في العدة .
وقال أبو حنيفة وأصحابه في الكافر من الذميين : إذا أسلمت المرأة ، عرض على الزوج الإسلام ، فإن أسلم وإلا فرق بينهما .
قالوا : ولو كانا حربيين ، فهي امرأته ، حتى تحيض ثلاث حيض ، إذا كانا جميعاً في دار الحرب ، أو في دار الإسلام ، وإن كان أحدهما في دار الحرب ، والآخر في دار الإسلام انقطعت العصمة بينهما .
وقد تقدم أن اعتبار الدار ليس بشيء ، وهذ الخلاف إنما هو في المدخول بها .
وأما غير المدخول بها ، فلا نعلم خلافاً في انقطاع العصمة بينهما ، ولا عدة عليها ، هكذا يقول مالك رحمه الله في المرأة ترتد وزوجها مسلم : تنقطع العصمة بينهما لقوله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } ، وهو قول الحسن البصري والحسن بن صالح .
وقال الشافعي وأحمد : [ ينظر إلى تمام ] العدة .
[ فإن كان الزوجان نصرانيين فأسلمت الزوجة ، فمذهب مالك والشافعي ، وأحمد توقف إلى تمام العدة ، وهو قول مجاهد ] .
وكذلك الوثني تسلم زوجته ، إن أسلم في عدَّتها ، فهو أحق بها ، كما كان صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل أحق بزوجتيهما لما أسلما في عدتيهما ، لما ذكر مالك في « الموطأ » .
[ قال ابن شهاب : كان بين إسلام صفوان وبين إسلام امرأته نحو شهر ] .
قال ابن شهاب : ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجها كافر مقيم بدار الحرب ، إلاَّ فرقت هِجْرتُهَا بينها وبين زوجها إلى أن يقدم زوجها مهاجراً قبل أن تنقضي عدتها ، وقال بعضهم : ينفسخ النكاح بينهما ، لما روى يزيد بن علقمة قال : أسلم جدي ، ولم تسلم جدتي ، ففرق بينهما عمر - رضي الله عنه - وهو قول طاوس والحسن وعطاء وعكرمة ، قالوا : لا سبيل له عليها إلا بخطبة .
قوله : { وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ } .
قال المفسرون : كان من ذهب من المسلمات مرتدات إلى الكفار من أهل العهد ، يقال للكفار : هاتوا مهرها ، ويقال للمسلمين ، إذا جاء أحد من الكافرات معلمة مهاجرة : ردوا إلى الكفار مهرها ، وكان ذلك إنصافاً وعدلاً بين الحالتين .
قال ابن العربي رحمه الله : كان هذا حكم الله ، مخصوصاً بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة .
قال الزهريُّ : ولولا هذه الهدنة ، والعهد الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش يوم الحديبية ، لأمسك النساء ، ولم يرد الصَّداق ، وكذلك يفعل بمن جاءه من المسلمات قبل العهد ، فلما نزلت هذه الآية أُخطر المؤمنون بحكم الله عزَّ وجلَّ وأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين على نسائهم ، وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله ، فيما أمروا به من أداء نفقات المسلمين ، فأنزل الله - عز وجل - { وإن فاتكم شيء أيها المؤمنون } .
قوله : { ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } أي بما ذكر في هذه الآية ، { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
قوله : { يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } . فيه وجهان :
أحدهما : أنه مستأنف لا محلَّ له من الإعراب .
والثاني : أنه حال من : « حكم الله » ، والراجع إما مستتر أي : يحكم هو ، أي : الحكم على المبالغة ، وإما محذوف ، أي : يحكمه ، وهو الظاهر .
قوله : { مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ } .
يجوز أن يتعلق ب « فاتكم » أي : من جهة أزواجكم ، يراد بالشيء المهر الذي غرمه الزوج ، كما تقدم .
ويجوز أن يتعلق بمحذوف ، على أنه صفة ل « شيء » .
ثم يجوز في « شيء » ، أن يراد به : المهر ، ولكن على هذا ، فلا بد من حذف مضاف ، أي : من مهور أزواجكم ليتطابق الموصوف وصفته .
ويجوز أن يراد ب « شيء » [ النساء ، أي : بشيء من النساء ، أي : نوع وصف منهن ، وهو ظاهر وصفه بقوله : { مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ } .
وقد صرَّح الزمخشري بذلك ، فإنَّه قال : وإن سبقكم وانفلت منكم شيء من أزواجكم أحد منهن إلى الكُفَّار ، وفي قراء أبي مسعود : « أحد » .
فهذا تصريح بأن المراد ب « شيء » : النساء الفارات ] ، ثم قال : فإن قلت : هل لإيقاع شيء في هذا الموضع فائدة؟ قلت : نعم ، الفائدة فيه ألا يغادر شيء من هذا الجنس ، وإن قلَّ وحقر غير معوض عنه ، تغليظاً في هذا الحكم وتشديداً فيه ، ولولا نصّه على أنَّ المراد ب « شيء » : أحد ، كما تقدم ، لكان قوله : « إلا أن يغادر شيء من هذا الجنس وإن قل وحقر » ، ظاهراً في أن المراد ب « شيء » : المهر؛ لأنه يوصف بالقلة والحقارة وصفاً سائغاً وقوله : « تغليظاً » فيه نظر؛ لأن المسلمين ليس لهم تسبب في فرار النساء إلى الكفار ، حتى يغلظ عليهم الحكم بذلك .
وعدي : « فات » ب « إلى »؛ لأنه ضمن معنى الفرار والذهاب والسبق ونحو ذلك .
قوله : { فَعَاقَبْتُمْ } ، عطف على « فاتكم » .
وقرأ العامة : « عاقبتم » . وفيه وجهان :
أحدهما : أنه من العقوبة ، قال الزجاج : « فعَاقَبْتُم » فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم .
والثاني : أنَّه من العُقْبة ، وهي التوبة ، شبه ما حكم به على المسلمين ، والكافرين من أداء هؤلاء مهور النساء أولئك تارة ، وأولئك مهور نساء هؤلاء أخرى ، بأمر يتعاقبون فيه ، كما يتعاقب في الركوب وغيره ، ومعناه : فجاءت عقبتكم من أداء المهر . انتهى .
وقرأ مجاهد والأعرج والزهري وأبو حيوة وعكرمة وحميد : بتشديد القاف دون ألف .
ففسرها الزمخشري على أصله يعقبه : إذا قفاه؛ لأن كل واحد من المتعاقبين ، يقفي صاحبه ، وكذلك عقبتم - بالتخفيف - يقال : عقبه يعقبه انتهى .
والذي قرأه بالتخفيف وفتح القاف : النخعي ، وابن وثاب ، والزهري ، والأعرج أيضاً . وبالتخفيف ، وكسر القاف : مسروق ، والزهري ، والنخعي أيضاً .
وعن مجاهد : أعقبتم .
قال الزمخشري : معناه : دخلتم في العقبة .
قال البغوي : « معناه : أي : صنعتم بهم ، كما صنعوا بكم » .
وفسَّر الزجاج القراءات الباقية : فكانت العقبى : أي : كانت الغلبة لكم حتى غنمتم .
والظَّاهر أنه كما قال الزمخشريُّ : من المعاقبة بمعنى المناوبة .
يقال : عاقب الرجل صاحبه في كذا ، أي : جاء فعل كل واحد منهما يعقب فعل الآخر ، ويقال : أعقب - أيضاً . وأنشد بعضهم رحمه الله : [ الطويل ]
4761 - وحَارَدَتِ النُّكْدُ الجِلادُ ولَمْ يَكُنْ ... لِعُقبَةِ قِدْرِ المُستعيرِينَ مُعْقِبُ
قال البغوي : « وكلها لغات بمعنى واحد ، يقال : عَاقَبَ وأعقَبَ وتعقَّب وتعَاقَبَ واعتقَبَ ، إذا غنم » .
وقيل : التعقيب : غزوة بعد غزوة .
فصل
روي أن المسلمين قالوا : رضينا بما حكم الله ، وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا ، فنزل قوله تعالى : { وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ } .
روى الزُّهري عن عروة عن عائشة - رضي الله عنها وعنهم - قالت : حكم الله عز وجل بينهم ، فقال - جل ثناؤه - : { وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ } ، فكتب إليهم المسلمون : قد حكم الله - عز وجل - بيننا بأنه إذا جاءتكم امرأة منا ، أن توجهوا إلينا بصداقها ، وإن جاءتنا امرأة منكم ، وجهنا إليكم بصداقها ، فكتبوا إليهم : أما نحن ، فلا نعلم لكم عندنا شيئاً ، فإن كان لنا عندكم شيء ، فوجهوا به ، فأنزل الله تعالى : { وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ } . الآية .
وقال ابن عبَّاس رضي الله عنهما في قوله تعالى : { ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } أي : بين المسلمين والكفار من أهل العهد من أهل مكة ، يرد بعضهم على بعض .
قال الزهريُّ : ولولا العهد ، لأمسك النساء ، ولم يرد إليهم صداقاً .
وقال قتادة ومجاهدٌ : إنَّما أمروا أن يعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة ، وقالا : هي فيما بيننا وبينه عهد وليس بيننا وبينه عهد ، وقالا : ومعنى { فَعَاقَبْتُمْ } فاقتصصتم .
{ فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا } يعني : الصفات ، فهي عامة في جميع الكفار .
وقيل : فعاقبتم المرتدة بالقتل .
وقال قتادة أيضاً : وإن فاتكم شيء من أزواجكم ، إلى الكفار ، الذين ليس بينكم وبينهم عهد ، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا ، ثم نسخ هذا في سورة براءة .
وقال الزهريُّ : انقطع هذا يوم الفتح .
وقال سفيان الثوري : لا يعمل به اليوم .
وقال قوم : هو ثابت الحكم الآن أيضاً . حكاه القشيري .
فصل
قال القرطبي : الآية نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان ، ارتدت وتركت زوجها عياض بن غنم الفهري ، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها ، ثم عادت إلى الإسلام .
وقال البغويُّ : روي عن ابن عبَّاسٍ قال : لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرات ، ست نسوة : أم الحكم بنت أبي سفيان ، وكانت تحت عياض بن شداد الفهري ، وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة ، كانت تحت عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فلما أراد عمر أن يهاجر أبت وارتدت ، وبروعُ بنت عقبة ، وكانت تحت شماس بن عثمان ، وغرة بنت عبد العزيز بن نضلة ، وزوجها عمرو بن عبد ودّ ، وهند بنت أبي جهل بن هشام كانت تحت هشام بن العاص بن وائل ، وأم كلثوم بنت جرول ، وكانت تحت عمر بن الخطاب ، فلما رجعن إلى الإسلام ، أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجهن مهور نسائهم من الغنيمة .
فصل في رد مهر من أسلمت
اختلفوا في رد مهر من أسلمت من النساء إلى أزواجهن ، هل كان واجباً ، أو مندوباً؟ وأصله أن الصلح هل كان قد وقع على رد النساء؟ على قولين :
أحدهما : أنه وقع على رد الرجال ، والنساء جميعاً ، لما روي من قولهم : لا يأتيك منا أحد ، إلا رددته ، ثم صار الحكم في رد النساء منسوخاً بقوله : { فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار } ، فعلى هذا كان رد المهر واجباً .
والثاني : أن الصلح لم يقع على ردّ النساء؛ لأنه روي أنه لا يأتيك منَّا رجل ، وإن كان على دينك إلا رددته ، وذلك؛ لأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة في الرد ما يخشى على المرأة من إصابة المشرك إياها ، وأنه لا يؤمن عليها الردة إذا خوفت ، وأكرهت عليها؛ لضعف قلبها ، وقلة هدايتها إلى المخرج منه ، بإظهار كلمة الكفر مع التورية ، وإضمار الإيمان ، ولا يخشى ذلك على الرجل لقوته ، وهدايته إلى التقية ، فعلى هذا كان رد المهر مندوباً .
واختلفوا في أنه يجب به العمل اليوم في رد المال إذا اشترط في معاقدة الكفار فقال عطاء ومجاهد وقتادة : لا يجب ، وزعموا أن الآية منسوخة .
وقيل : هي غير منسوخة ، ويرد إليهم ما أنفقوا .
فصل في معنى الآية .
معنى الآية : إن لحقت امرأة مؤمنة بكفار أهل « مكة » ، وليس بينكم وبينهم عهد ، ولها زوج مسلم قبلكم ، فغنمتم فأعطوا هذا الزَّوج المسلم مهره من الغنيمة قبل أن تخمس ، [ وهو قول ابن عبَّاس رضي الله عنهما ] .
وقال الزهري : يعطى من الفيء .
وعنه : يعطى من صداق من لحق منا .
وقيل : إن امتنعوا من أن يغرموا مهر هذه المرأة التي ذهبت إليهم ، فانبذوا العهد إليهم حتى إذا ظفرتم ، فخذوا ذلك منهم { واتقوا الله } ، أي : احذروا أن تتعدوا ما أمرتم به .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
قوله تعالى : { ياأيها النبي إِذَا جَآءَكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ } الآية .
لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم « مكة » ، جاءه نساء أهل « مكة » يبايعنه ، فأمر أن يأخذ عليهن أن لا يشركن .
قالت عائشة رضي الله عنها : « والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قط إلا بما أمر الله - عز وجل - وما مست كف رسول الله صلى الله عليه وسلم كف امرأة قط ، وكان يقول إذا أخذ عليهن : » قَدْ بايعْتُكنَّ « كلاماً »
وروي أنه - عليه الصلاة والسلام - ، بايع النساء ، وبين يديه وأيديهن ثوب ، وكان يشترط عليهن .
وقيل : لما فرغ من بيعة الرجال جلس على الصفا ، ومعه عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه أسفل منه ، فجعل يشترط على النساء البيعة ، وعمر يصافحهن .
وروي أنَّه كلف امرأة وقفت على الصفا ، وكلفها أن تبايعهن ، ففعلت .
قال ابن العربي : وذلك ضعيف ، وإنما التعويل على ما في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنه المتقدم . قالت : كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحنهن بقول الله تعالى : { ياأيها النبي إِذَا جَآءَكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ } إلى آخر الآية ، قالت عائشة : « فمن أقر بهذا من المؤمنات ، فقد أقر بالمحنة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن ، قال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم : » انْطَلقْنَ فَقَدْ بَايَعْتُكُنَّ « ، لا والله ما مَسَّتُ يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط ، غير أنه بايعهن بالكلام »
وقالت أمُّ عطيَّة رضي الله عنها : « لما قدم رسول الله المدينة جمع نساء الأنصار في بيت ، ثم أرسل إلينا عمر بن الخطاب ، فقام على الباب فسلَّم فرددن عليه السلام فقال : أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن : » ألا تشركن بالله شيئاً « الآية ، فقلن : نعم ، فمد يده من خارج البيت ، ومددنا أيدينا من داخل البيت ، ثم قال : اللَّهُمَّ اشْهَدْ »
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه ، ثم أمر النساء فغمسن أيديهن فيه .
فصل
روي « أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من بيعة الرجال يوم فتح » مكة « ، وهو على الصفا ، وعمر بن الخطَّاب أسفل منه يبايع النساء بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يبلغهن عنه ، على ألاَّ يشركن بالله شيئاً ، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان منتقبة متنكرة مع النساء خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها لما صنعته بحمزة يوم أحد ، فقالت : والله إنك لتأخذ علينا أمراً ما رأيتك أخذته على الرجال ، وكان بايع الرجال يومئذ على الإسلام ، والجهاد فقط ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » ولاَ يَسْرِقْنَ « ، فقالت هند : إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصبت من ماله قوتنا ، فلا أدري أيحلّ لي أم لا؟ .
فقال أبو سفيان : ما أًصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر ، فهو لك حلال ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لها : وإنَّك لهِنْدُ بِنْتُ عتبة؟ قالت : نعم ، فاعف عني ما سلف ، فقال عَفَا اللَّهُ عنكِ ، ثم قال : { وَلاَ يَزْنِينَ } فقالت هند : أو تزنِي الحُرَّة؟ فقال : { وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ } ، أي : لا يئدن الموءودات ولا يسقطن الأجنة ، فقالت هند : ربَّيناهُمْ صغاراً وقتلتهم كباراً يوم بدر ، وأنت أعلم وهم أعلم ، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان - وهو بكرها - قتل يوم بدر ، فضحك عمر حتى استلقى ، وتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : { وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } »
قال أكثر المفسرين : معناه لا يلحقن بأزواجهن ولداً من غيرهم ، وكانت المرأة تلتقط ولداً ، فتلحقه بزوجها وتقول : هذا ولدي منك ، فكان هذا من البهتان والافتراء؛ لأن النهي عن الزنا قد تقدم .
وقال بعض المفسرين : المرأة إذا التقطت ولداً ، كأنَّما التقطت بيدها ومشت برجلها إلى أخذه ، فإذا أضافته إلى زوجها ، فقد أتت ببهتان تفتريه بين يديها ورجليها .
وقيل : يفترينه على أنفسهن حيث يقلن : هذا ولدنا ، وليس كذلك ، إذ الولد ولد الزنا .
وقيل : ما بين يديها ورجليها كناية عن الولد؛ لأن البطن التي تحمل فيه الولد بين يديها ، وفرجها الذي تلد منه بين رجليها ، وهذا عام في الإتيان بولد ، وإلحاقه بالزوج ، وإن سبق النهي عن الزنا .
وقيل : معنى « بين أيديهن » : ألسنتهن بالنميمة ، و « بين أرجلهن » : فروجهن .
وقيل : ما بين أيديهن من قبلة أو جسة ، وبين أرجلهن الجماع .
وروي أن هنداً لما سمعت ذلك قالت : والله إن البهتان لأمر قبيح ما تأمر إلا بالأرشد ، ومكارم الأخلاق ، ثم قال : { وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } أي : في كل أمر وافق طاعة الله .
قال بكر بن عبد الله المزنيُّ : في كل أمر فيه رشدهن .
وقال مجاهدٌ : لا تخلو المرأة بالرجال .
وقال سعيدُ بنُ المسيِّب والكلبيُّ وعبدُ الرحمنِ بن زيدٍ : هو النهي عن النوح ، والدعاء بالويلِ ، وتمزيق الثوب ، وحلق الشعر ، ونتفه ، وخمش الوجه ، ولا تحدِّث المرأة الرجال إلا ذا محرم ، ولا تخلو برجل غير ذي محرم ، ولا تسافر إلا مع ذي محرم .
وروت أم عطيَّة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم إن ذلك في النوح ، وهو قول ابن عباس .
وروى شهر بن حوشب عن أم سلمة « عن النبي صلى الله عليه وسلم : { ولا يَعْصِينكَ فِي مَعْرُوفٍ } ، قال : » هُوَ النَّوحُ «
وفي صحيح مسلم عن أمِّ عطيَّة : » لما نزل قوله : « يُبَايِعْنَك » ، إلى قوله : { وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } ، قالت : كان منه النياحة ، قالت : فقلت : يا رسول الله ، إلا آل بني فلان ، فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية ، فلا بد لي من أن أسعدهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إلا آل بني فلان »
قوله : « يُبَايعْنكَ » : حال ، و « شَيْئاً » : مصدر ، أي شيئاً من الإشراك .
وقرأ علي والسلمي والحسن : « يُقَتِّلْنَ » بالتشديد .
و « يفترينه » : صفة ل « بهتان » ، أو حال من فاعل : « يأتين » .
فصل
ذكر الله - عز وجل - في هذه الآية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة البيعة خصالاً شتى ، صرح فيهن بأركان النهي في الدين ، ولم يذكر أركان الأمر ، وهي ستة أيضاً : الشهادة ، والصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج ، والاغتسال من الجنابة ، وذلك لأن النهي دائم في كل الأزمان ، وكل الأحوال ، فكان التنبيه على اشتراط الدائم آكد .
وقيل : إن هذه المناهي كان في النساء كثير من يرتكبها ، ولا يحجزهن [ عنها ] شرف النسب ، فخصت بالذكر لهذا ، ونحو منه قوله - عليه الصلاة والسلام - لوفد عبد القيس : « » وأنْهَاكُم عن الدُّبَّاء والحنتمِ والنَّقيرِ والمزفَّتِ «
فنبههم على ترك المعصية في شرب الخمر دون سائر المعاصي؛ لأنها كانت شهوتهم وعادتهم ، وإذا ترك المرء شهوته من المعاصي ، هان عليه ترك سائرها مما لا شهوة له فيها .
فصل
» لما قال النبي صلى الله عليه وسلم في البيعة : « { وَلا يَسْرِقْنَ } { وَلاَ يَزْنِينَ } ، قالت هند : يا رسول الله إنَّ أبا سفيان رجل مسِّيك ، فهل عليَّ حرج إن أخذت ما يكفيني وولدي؟ فقال : » لا ، إلاَّ بالمعرُوفِ « ، فخشيت هند أن تقتصر على ما يعطيها ، فتضيع ، أو تأخذ أكثر من ذلك ، فتكون سارقة ناكثة للبيعة المذكورة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك » ، أي : لا حرج عليك فيما أخذت بالمعروف ، يعني : من غير استطالة إلى أكثر من الحاجة .
قال ابن العربي رحمه الله : « وهذا إنما هو فيما لا يخزنه عنها في حجاب ، ولا يضبط عليه بقفل ، فإنه إذا هتكته الزوجة وأخذت منه [ كانت ] سارقة تعصي بها ، وتقطع يدها » .
فصل في الكلام على الآية
فإن قيل : هلاَّ قيل : إذا جاءك المؤمنات فامتحنوهن ، كما قال في المهاجرات؟ .
فالجواب من وجهين : أحدهما : أن الامتحان حاصل بقوله تعالى : { على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ } إلى آخره .
وثانيهما : أن المهاجرات يأتين من دار الحرب فلا اطلاع للمبايع على ما في قلبها ، فلا بد من الامتحان ، وأما المؤمنات ، فهن في دار الإسلام ، وعلمن الشرائع ، فلا حاجة إلى الامتحان مع ظاهر حالها .
فإن قيل : ما الفائدة في تقديم البعض في الآية على البعض وترتيبها؟ .
فالجواب : قدم الأقبح على ما هو الأدنى منه في القبح ، ثم كذلك إلى آخره ، وقدم في الأشياء المذكورة على ما هو الأظهر فيما بينهم .
فصل
قال عبادةُ بن الصامت : « أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء : أنْ لا تُشرِكُوا باللَّه شَيْئاً ولا تَسْرقُوا ولا تزْنُوا ولا تقتلُوا أوْلادكُمْ ، ولا يعضه بعضُكُمْ بعضاً ، ولا تَعْصُوا في مَعْرُوفٍ آمُرُكمْ بِهِ » .
معنى « يعضه » : يسحر ، والعضه : السحر .
ولهذا قال ابن بحر وغيره في قوله تعالى : { وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ } إنه : السحر .
وقال الضحاكُ : هذا نهي عن البهتان ، أن لا يعضه رجل ولا امرأة « بِبُهتَانٍ » أي : بسحر ، والجمهور على أن معنى « ببهتان » : بولد ، يفترينه « بين أيديهن » : ما أخذته لقيطاً ، « وأرجلهن » : ما ولدته من زنا كما تقدم .
فصل في هذا الأمر
قال المهدويُّ : أجمع المسلمون على أنه ليس للإمام أن يشترط عليهن هذا ، والأمر بذلك ندب لا إلزام .
وقال بعض العلماء : إذا احتيج إلى المِحْنَةِ من أجل تباعد الدَّار كان على إمام المسلمين إقامة المحنة .
قوله : { فَبَايِعْهُنَّ واستغفر لَهُنَّ الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
قالت عائشة رضي الله عنها : كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية : { أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً } قالت : وما مسَّتْ يَدُ رسُول الله صلى الله عليه وسلم إلا يد امرأة يملكها .
وقالت [ أميمة ] بنت رقيقة : « بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة ، فقالت : » فِيْمَا اسْتطعْتُنَّ وأطَعْتُنَّ « ، فقلت : يا رسول الله صافحنا ، فقال : » إنِّي لا أصَافِحُ النِّساءَ ، إنَّما قَوْلِي لامرأةٍ كَقوْلِي لمِائةِ امرأة «
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ } ، وهم اليهود .
فقوله : { غضب الله عليهم } صفة ل « قوماً » ، وكذلك : « قَدْ يَئِسُوا » وقوله : { مِنَ الآخرة } .
« مِنْ » لابتداء الغاية ، أيضاً كالأولى أي : أنهم لا يوقنون [ بالآخرة ألبتة ] .
و { مِنْ أَصْحَابِ القبور } . فيه وجهان :
[ أحدهما : أنها لابتداء الغاية أيضاً كالأولى ، والمعنى : أنهم لا يوقنون ببعث الموتى ألبتة ، فيأسهم من الآخرة من موتاهم ] لاعتقادهم عدم بعثهم .
والثاني : أنها لبيان الجنس ، يعني : أن الكفار هم أصحاب القبور .
والمعنى : أنَّ هؤلاء يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار الذين هم أصحاب القبور من خير الآخرة ، فيكون متعلق « يئس » الثاني محذوفاً .
وقرأ ابن أبي الزِّناد : « الكافر » ب « الإفراد » .
فصل في نزول الآية
قال ابنُ زيدٍ : إنَّ ناساً من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود بأخبار المؤمنين ، ويواصلونهم ، فيصيبون بذلك من ثمارهم ، فنهوا عن ذلك ، { قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخرة } يعني : اليهود قد يئسوا من الآخرة بأن يكون لهم فيها ثواب وخير ، { كَمَا يَئِسَ الكفار مِنْ أَصْحَابِ القبور } أي : يئس الكفار الذين ماتوا وصاروا إلى القبور من أن يكون لهم ثواب وحظ في الآخرة .
وقال مجاهد : الكفار حين دخلوا قبورهم يئسوا من رحمة الله .
وقيل : هم المنافقون .
وقال الحسن وقتادة : هم اليهود والنصارى .
وقال ابن مسعودٍ : معناه : أنهم تركوا العمل للآخرة ، وآثروا الدنيا .
وقال الحسنُ وقتادةُ : معناه : أن الكُفَّار الذين هم أحياء ، يئسوا من الكفار ومن أصحاب القبور أن يرجعوا إليهم .
وقيل : إن الله - تعالى - ختم السورة بما بدأها من ترك موالاة الكفار ، وهي خطاب لحاطب بن أبي بلتعةَ وغيره .
قال ابن عباس : قوله : { لاَ تَتَوَلَّوْاْ } أي : لا توالوهم ، ولا تناصحوهم ، رجع تعالى بطوله وفضله على حاطب بن أبي بلتعة ، يريد أن كفار قريش يئسوا من خير الدنيا ، كما يئس الكفار المقبورون من حظ يكون لهم في الآخرة من رحمة الله تعالى .
روى الثَّعلبيُّ في تفسيره عن أبيِّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ سُورةَ المُمتحنةِ كَانَ المُؤمِنُونَ والمُؤمِنَاتُ لَهُ شُفَعَاء يَوْمَ القِيَامَةِ » والله سبحانه وتعالى أعلم .
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
قال ابن الخطيب : وجه تعلق هذه السورة بما قبلها ، هو أن في السورة التي قبلها ، بين الخروج إلى الجهاد في سبيل الله ، وابتغاء مرضاته بقوله : { إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وابتغآء مَرْضَاتِي } [ الممتحنة : 1 ] ، وفي هذه السورة بين ما يحمل المؤمن ، ويحثّه على الجهاد ، فقال : { إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ } [ الصف : 3 ] .
فإن قيل : ما الحكمة في أنه - تعالى - قال في بعض السور : « سبَّح للَّهِ » بلفظ الماضي ، وفي بعضها : « يُسَبِّحُ » بلفظ المضارع ، وفي بعضها بلفظ الأمر؟ .
فالجواب : أن الحكم في ذلك تعليم العبد ، أن تسبيح الله تعالى دائم لا ينقطع ، كما أن الماضي يدل عليه في الماضي من الزمان ، والمستقبل يدل عليه في المستقبل من الزمان والأمر يدل عليه في الحال .
و « العَزِيزُ » : هو الغالب على غيره أي شيءٍ كان ذلك الغير ، ولا يمكن أن [ يحكم ] عليه غيره ، و « الحَكِيمُ » : هو الذي يحكم على غيره ، أي شيء كان ذلك الغير .
فإن قيل : هلاَّ قيل : سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وما فيهما وهو أكثر مبالغة؟ فالجواب : إنما يكون كذلك ، إذا كان المراد التَّسبيح بلسان الحال ، أما إذا كان المراد من التسبيح المخصوص باللسان فالبعض بوصف معين ، فلا يكون كذلك .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } .
روى الدَّارميُّ في مسنده قال : أنْبَأنَا مُحمَّدُ بنُ كثيرٍ عَنِ الأوزاعيِّ عنْ يَحْيى بْنِ أبِي كثيرٍ عن أبِي سلمةَ عن عبْدِ اللَّهِ بن سلام ، قال : قَعَدنَا مع نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا؟ فأنزل الله - تعالى - : { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } حتى ختمها ، قال عبد الله : قرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها ، قال أبو سلمة : فقرأها علينا عبد الله بن سلام حتى ختمها ، قال يحيى : فقرأها علينا أبو سلمة ، فقرأها علينا يحيى ، فقرأها علينا الأوزاعي ، فقرأها علينا محمد ، فقرأها علينا الدارمي .
وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : قال عبد الله بن رواحة : لو علمنا أحب الأعمال إلى الله لعملناه ، [ فلما نزل الجهاد كرهوه ] .
[ وقال الكلبي : قال المؤمنون : يا رسول الله لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لسارعنا إليها ] ، فنزلت : { هَلْ أَدُلُّكُمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الصف : 10 ] ، فمكثوا زماناً يقولون : لو نعلمها لاشتريناها بالأموال والأنفس والأهلين؟ فدلَّهم الله عليها بقوله : { تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } [ الصف : 11 ] الآية ، فابتلوا يوم أحد ، ففروا ، فنزلت هذه الآية تعبيراً لهم بترك الوفاء .
وقال محمَّدُ بنُ كعبٍ : لما أخبر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم بثواب شهداء « بدر » ، قالت الصحابة رضي الله عنهم اللهم اشهد لئن لقينا قتالاً لنفرغنّ فيه وسعنا ففروا يوم أحد ، فعيرهم الله بذلك .
وقال قتادة والضحاك : نزلت في قوم كانوا يقولون : نحن جاهدنا وابتلينا ، ولم يفعلوا .
وقال صهيب : كان رجل قد آذى المسلمين يوم بدر ، وأنكاهم ، فقتله ، فقال رجل : يا نبي الله ، إني قتلت فلاناً ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقال عمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن عوف : يا صُهيبُ ، أما أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنك قتلت فلاناً ، فإن فلاناً انتحل قتله ، فأخبره ، فقال : أكذلك يا أبا يحيى؟ قال : نعم ، والله يا رسول الله ، فنزلت الآية في المنتحل .
وقال ابن زيد : نزلت في المنافقين ، كانوا يقولون « للنبي » صلى الله عليه وسلم وأصحابه : إن خرجتم وقاتلتم خرجنا معكم ، وقاتلنا ، فلما خرجوا نكثوا عنهم وتخلفوا .
فصل
قال القرطبي : « هذه الآية توجب على كل من ألزم نفسه عملاً فيه طاعة أن يفي بها » .
وفي صحيح مسلم عن أبي موسى : أنه بعث قراء إلى أهل « البصرة » ، فدخل عليه ثلاثمائة رجل ، قد قرأوا القرآن ، فقال أنتم خيار أهل « البصرة » وقراؤهم ، فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمدُ ، فتقسوا قلوبكم ، كما قست قلوب من قبلكم ، وإنا كنا نقرأ سورة تشبهها في الطول والشدة ب « براءة » ، فأنسيتها غير أني قد حفظت منها « لَوْ كَان لابْنِ آدَمَ وادِيَانِ مِنْ مالٍ لابْتَغَى وَادِياً ثَالثاً ، ولا يَمْلأُ جَوْفَ ابنِ آدمَ إلاَّ التُّرابُ » ، وكُنَّا نقرأُ سُورة تُشبههَا بإحْدَى المُسَبِّحاتِ ، فأنْسيتُهَا غير أنِّي قد حفظت منها : « يا أيُّها الذين آمنوا لِمَ تقُولُون ما لا تفعَلُونَ ، فتُكْتب شهادة في أعناقكم ، فتسألون عنها يوم القيامة » .
قال ابن العربي : وهذا كله ثابت في الدين ، أما قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } فثابتٌ في الدين لفظاً ومعنى في هذه السورة ، وأما قوله : شهادة في أعناقكم عنها يوم القيامة ، فمعنى ثابت في الدين ، فإن من التزم شيئاً لزمه شرعاً ، والملتزم على قسمين :
[ أحدهما : النذر ، وهو ] على قسمين :
نذر تقرب مبتدأ ، كقوله : لله عليّ صلاة أو صوم أو صدقة ، ونحوه من القرب ، فهذا يلزم الوفاء به إجماعاً .
ونذر مباح ، وهو ما علق به شرط رغبة ، كقوله : إن قدم غائبي فعلي صدقة ، أو علق بشرط رهبة ، كقوله : إن كفاني الله شر كذا فعليَّ صدقة ، ففيه خلاف : فقال مالك وأبو حنيفة : يلزم الوفاء به .
وقال الشافعي في قول : لا يلزم الوفاء به .
وعموم الآية حجة لنا؛ لأنها بمطلقها تتناول ذم من قال ما لا يفعله على أي وجه كان من مطلق ، أو مقيد بشرط .
وقد قال أصحابه : إن النذر إنَّما يكون بما يقصد منه القربة مما هو من جنس القربة ، وهذا وإن كان من جنس القربة ، لكنه لم يقصد منه القربة ، وإنما قصد منه منع نفسه عن فعل ، أو من الإقدام على فعل .
قلنا : القرب الشرعية مقتضيات وكلف وإن كانت قربات ، وهذا تكلف التزام هذه القربة بمشقة كجلب نفع أو دفع ضرر ، فلم يخرج عن سنن التكليف ، ولا زال عن قصد التقرب .
قال ابن العربي : « فإن كان المقول منه وعداً فلا يخلو أن يكون منوطاً بسبب كقوله : إن تزوجت أعنتك بدينار ، أو ابتعت جارية كذا أعطيتك ، فهذا لازم إجماعاً من الفقهاء ، وإن كان وعداً مجرداً .
فقيل : يلزم بتعلقه ، واستدلوا بسبب الآية ، فإن روي أنهم كانوا يقولون : لو نعلم أي الأعمال أفضل وأحب إلى الله لعملناه ، فأنزل الله هذه الآية ، وهو حديث لا بأس به .
وروي عن مجاهد أن عبد الله [ بن رواحة ] لما سمعها قال : » لا أزال حبيساً في الله حتى أقتل « .
والصحيح عندي أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال » .
قال القرطبي : « قال مالك : فأما العدد مثل أن يسأل الرجل الرجل أن يهب له هبة ، فيقول : نعم ، ثم يبدو له ألاَّ يفعل ، فلا أرى ذلك يلزمه » .
فصل
قال القرطبي : ثلاث آيات منعتني أن أقضي على الناس : { أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة : 44 ] { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } [ هود : 88 ] ، { ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 3 ] .
وخرج أبو نعيمٍ الحافظ من حديث مالكِ بنِ دينارٍ عَنْ ثُمامةَ عن أنس بْنِ مالكٍ ، قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أتَيْتُ لَيْلةَ أسْري بِي عَلَى قوْمٍ تُقْرَضُ شِفاهُهُمْ بِمقاريضَ مِنْ نارٍ ، كُلَّما قُرِضتْ عادتْ ، قُلْتُ : مَنْ هؤلاء يَا جِبْريْلُ؟ .
قال : هَؤلاءِ خُطَبَاءُ أمَّتِكَ الذينَ يقُولُونَ ولا يَفْعَلُون ويقرءُونَ كِتَابَ اللَّهِ ولا يعملُون بِهِ «
فصل
قوله : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } .
استفهام على جهة الإنكار والتوبيخ ، على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير ما لا يفعله ، أما في الماضي ، فيكون كذباً ، وفي المستقبل ، يكون خلفاً ، وكلاهما مفهوم .
قال الزمخشري : هي لام الإضافة ، دخلت على » ما « الاستفهامية ، كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك : » بم ، وفيم ، وعمَّ « ، وإنما حذفت الألف؛ لأن » ما « والحرف كشيء واحد ، ووقع استعمالها في كلام المستفهم » ، ولو كان كذلك لكان معنى الاستفهام واقعاً في قوله تعالى : { لِمَ تَقُولُونَ } ، والاستفهام من الله تعالى مُحَال؛ لأنه عالم بجميع الأشياء ، والجواب هذا إذا كان المراد حقيقة الاستفهام ، وأما إذا كان أراد إلزام من أعرض عن الوفاء مما وعد أو أنكر الحق وأصرَّ على الباطل فلا .
وتأول سفيانُ بنُ عيينة قوله : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } أي : لم تقولون [ ما ليس الأمر فيه ] إليكم ، فلا تدرون هل تفعلون ، أو لا تفعلون ، فعلى هذا يكون الكلام محمولاً على ظاهره في إنكار القول .
قوله : { كَبُرَ مَقْتَاً } . فيه أوجه :
أحدها : أن يكون من باب : « نعم وبئس » ، فيكون في « كَبُر » ضمير مبهم مفسر بالنكرة بعده ، و « أن تقُولُوا » هو المخصوص بالذم ، فيجيء فيه الخلاف المشهور : هل رفعه بالابتداء وخبره الجملة مقدمه عليه؟ أو خبره محذوف ، أو هو خبر مبتدأ محذوف ، كما تقدم تحريره؟ .
وهذه قاعدة مطردة : كل فعل يجوز التعجّب منه ، يجوز أن يبنى على « فَعُل » - بضم العين - ويجري مجرى « نعم وبئس » في جميع الأحكام .
والثاني : أنه من أمثلة التعجّب .
وقد عده ابن عصفور في « التعجب » المبوَّب له في النحو ، فقال : « صيغة : ما أفْعَلَهُ ، وأفْعِلْ به ، ولَفَعُل ، نحو : لرمُو الرجل » .
وإليه نحا الزمخشري فقال : هذا من أفصح كلام وأبلغه في معناه ، قصد في « كَبُر » : التعجب من غير لفظه؛ كقوله : [ الطويل ]
4762 - .. غَلَتْ نَابٌ كُلَيْبٌ بَواؤهَا
ثم قال : وأسند إلى : « أن تقولوا » ، ونصب : « مقتاً » ، على تفسيره ، دلالة على أن قوله : { مَا لاَ تَفْعَلُون } : مقت خالص لا شوب فيه .
الثالث : أنَّ « كَبُرَ » ليس للتعجب ولا للذم ، بل هو مسند إلى « أن تقولوا » و « مقتاً » : تمييز محول من الفاعلية والأصل : كبر مقتاً أن تقولوا أي : مقت قولكم .
ويجوز أن يكون الفاعل مضمراً عائداً على المصدر المفهوم من قوله : « لِمَ تَقُولُونَ » أي : « كبر أي القول مقتاً » ، و « أن تقولوا » على هذا إما بدل من ذلك الضمير ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو أن تقولوا .
قال القرطبي : و « مقتاً » نصب بالتمييز ، المعنى : كبر قولهم ما لا تفعلون مقتاً .
وقيل : هو حال ، والمقت والمقاتة : مصدران ، يقال : رجل مقيت وممقوت إذا لم يحبّه الناس .
فصل
قال القرطبيُّ : قد يحتجّ بهذه الآية في وجوب الوفاء في اللجاج والغضب على أحد قولي الشافعي .
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)
قرأ زيد بن علي : « يُقَاتَلُون » - بفتح التاء - على ما لم يسم فاعله .
وقرىء : « يُقَتَّلُونَ » بالتشديد .
و « صفًّا » : نصب على الحال ، أي : صافين أو مصفوفين .
قل القرطبي : « والمفعول مضمر ، أي : يصفون أنفسهم صفًّا » .
وقوله : « كأنَّهُمْ » يجوز أن يكون حالاً ثانية من فاعل : « يقاتلون » ، وأن يكون حالاً من الضَّمير في « صفًّا » ، فتكون حالاً متداخلة قاله الزمخشري .
وأن يكون نعتاً ل « صفًّا » ، قاله الحوفي .
وعاد الضمير على « صفًّا » ، فيكون جمعاً في المعنى ، كقوله : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] .
فصل
فإن قيل : وجه تعلق هذه الآية بما قبلها ، أن قوله تعالى : { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله } في ذم المخالفين في القتال ، وهم الذين وعدوا بالقتال ولم يقاتلوا ، وهذه الآية مدح [ للموافقين ] في القتال . واعلم أن المحبة على وجهين .
أحدهما : الرضا عن الخلق .
وثانيهما : الثَّناء عليهم .
والمرصوص ، قيل : المتلائم الأجزاء المستويها .
وقيل : المعقود بالرصاص . قاله الفراء .
وقيل : هو من التضام من تراصّ الأسنان .
وقال الراعي : [ الرجز ]
4763 - مَا لَقِيَ البِيضُ من الحُرْقًوصِ ... يَفْتَحُ بَابَ المغْلَقِ المَرْصُوصِ ... الحرقوص : دويبة تولع بالنساء الأبكار .
وقال القرطبي : والتَّراصُّ : التلاصق ، ومنه قوله : وتراصوا في الصف ، ومعنى الآية : إن الله - تعالى - يحب من يثبت في الجهاد ، وفي سبيله ، ويلزم مكانه ، كثبوت البناء .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يوضع الحجر على الحجر ، ثم يرص بأحجار صغار ، ثم يوضع اللبن عليه ، فيسمونه أهل مكة المرصوصُ .
قال ابنُ الخطيب : ويجوز أن يكون المعنى على أن يكون ثباتهم في حرب عدوهم حتى يكونوا في اجتماع الكلمة ، وموالاة بعضهم بعضاً ، كالبنيان [ المرصوص ] .
وقال سعيدُ بن جبيرٍ : هذا تعليم من الله للمؤمنين ، كيف يكونون عند قتال عدوهم .
فصل في أن قتال الراجل أفضل من الفارس
قال القرطبي : استدل بهذه الآية بعضهم على أن قتال الراجل أفضل من قتال الفارس؛ لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة .
قال المهدويُّ : وذلك غير مستقيم لما جاء في فضل الفارس من الأجر والغنيمة ، ولا يخرج الفرسان من معنى الآية؛ لأن معناه الثبات .
فصل في الخروج من الصف
لا يجوز الخروج من الصفِّ إلا لحاجة تعرض للإنسان ، أو في رسالة يرسلها الإمام ، أو منفعة تظهر في المقام ك « فرصة » تنتهز ولا خلاف فيها .
وفي الخروج عن الصف للمبارزة [ خلاف ] .
فقيل : إنه لا بأس بذلك إرهاباً للعدو ، وطلباً للشهادة ، وتحريضاً على القتال .
وقيل : لا يبرز أحد طلباً لذلك؛ لأن فيه رياء وخروجاً إلى ما نهى الله عنه من لقاء العدو ، وإنما تكون المبارزة إذا طلبها الكافر ، كما كانت في حروب النبي صلى الله عليه وسلم يوم « بدر » ، وفي غزوة « خيبر » ، وعليه درج السلف .
وقد تقدم الكلام في ذلك في سورة « البقرة » عند قوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } [ الآية : 195 ] .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)
قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ } الآية .
لما ذكر الجهاد ، بين أن موسى وعيسى أمرا بالتوحيد ، وجاهدا في سبيل الله ، وحل العقاب بمن خالفهما ، أي : واذكر لقومك يا محمد هذه القصة .
قوله : { لِمَ تُؤْذُونَنِي } .
وذلك حين رموه بالأدرة ، كما تقدم في سورة الأحزاب .
ومن الأذى : ما ذكر في قصة قارون أنه دس إلى امرأة تدَّعي على موسى الفجور ، ومن الأذى قولهم : { اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف : 138 ] ، وقولهم : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 124 ] ، وقولهم : أنت قتلت هارون .
قوله : { وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ } . جملة حالية .
قال ابن الخطيب : و « قَدْ » معناه : التوكيد ، كأنه قال : وتعلمون علماً يقيناً ، لا شبهة [ لكم ] فيه .
قوله : { أَنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ } .
والمعنى : أنَّ لرسول الله يحترم يقيناً .
قوله : { فَلَمَّا زاغوا } ، أي : مالوا عن الحق ، { أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } أي : أمالهم عن الهدى .
وقيل : { فَلَمَّا زاغوا } عن الطاعة ، { أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } عن الهداية .
وقيل : { فَلَمَّا زاغوا } عن الإيمان ، { أزاغ الله قلوبهم } عن الثواب .
وقيل : لمَّا تركُوا ما أمرُوا به من احترام الرسول - عليه الصلاة والسلام - وطاعة الرب ، « خلق » الله في قلوبهم الضلالة عقوبة لهم على فعلهم .
{ والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } .
قال الزجاجُ : « يعني من سبق في علمه أنه فاسق » .
قال ابنُ الخطيب : « وهذه الآية تدلّ على عظم إيذاء الرسول ، حتى إنه يؤدّي إلى الكفر ، وزيغ القلوب عن الهدى » .
قوله : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ } .
أي اذكر لهم هذه القصة أيضاً ، وقال : { يابني إِسْرَائِيلَ } ولم يقل : « يا قوم » كما قال موسى؛ لأنه لأنه لا نسب له فيهم ، فيكونون قومه ، وقوله : { إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم } أي : بالإنجيل .
قوله : « مُصدِّقاً » حال ، وكذلك : « مُبَشِّراً » والعامل فيه : « رسول »؛ لأنه بمعنى المرسل .
قال الزمخشري : فإن قلت : بم انتصب : « مصدقاً ، ومبشراً » أبما في الرسول من معنى الإرسال أم بإليكم؟ قلت : بمعنى : الإرسال؛ لأن « إليكم » صلة للرسول ، فلا يجوز أن تعمل شيئاً لأن حروف الجر لا تعمل بأنفسها ، ولكن بما فيها من معنى الفعل ، فإذا وقعت صلات لم تتضمن معنى فعل فمن أين تعمل؟ انتهى .
يعني بقوله : صلات ، أنها متعلقة ب « رسول » صلة له ، أي : متصل معناها به لا الصلة الصناعية .
قوله : { يأتي من بعدي } ، وقوله : « اسمه أحمد » ، جملتان في موضع جر نعتاً لرسول .
أو « اسْمهُ أحمدُ » في موضع نصب على الحال من فاعل « يأتي » .
أو تكون الأولى نعتاً ، والثانية حالاً ، وكونهما حالين ضعيف ، لإتيانهما من النكرة وإن كان سيبويه يجوزه .
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : « مِنْ بَعدِيَ » - بفتح الياء - وهي قراءة السلمي ، وزرّ بن حبيش ، وأبو بكر عن عاصم ، واختاره أبو حاتم؛ لأنه اسم ، مثل الكاف من « بعدك » ، والتاء من « قمت » .
والباقون : قرءوا بالإسكان .
وقرىء : { من بعد اسمه أحمد } ، فحذف الياء من اللفظ .
و « أحمدُ » اسم نبينا صلى الله عليه وسلم هو اسم علم .
يحتمل أن يكون من صفة ، وهي : « أفعل » التفضيل ، وهو الظَّاهر ، فمعنى « أحمد » أي : أحمدُ الحامدين لربِّه .
والأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - كلهم حمادون لله ، ونبينا « أحْمَد » أكثرهم حمداً .
قال البغويُّ : والألف في « أحْمَد » ، للمبالغة في الحمد ، وله وجهان :
أحدهما : أنه مبالغة من الفاعل ، أي : الأنبياء كلهم حمادون لله - عز وجل - ، وهو أكثر حمداً لله من غيره .
والثاني : أنه مبالغة في المفعول ، أي : الأنبياء كلهم محمودون ، لما فيهم من الخصال الحميدة ، وهو أكثر مبالغة ، وأجمع للفضائل والمحاسن التي يحمد بها ، انتهى .
وعلى كلا الوجهين ، فمنعه من الصرف للعلمية والوزن الغالب ، إلاَّ أنَّهُ على الاحتمال الأول يمتنع معرفة وينصرف نكرة . وعلى الثاني يمتنع تعريفاً وتنكيراً؛ لأنه يخلف العلمية للصفة .
وإذا أنكر بعد كونه علماً جرى فيه خلاف سيبويه والأخفش ، وهي مسألة مشهورة بين النحاة .
وأنشد حسان - رضي الله عنه - يمدحه - عليه الصلاة والسلام - ويصرفه : [ الكامل ]
4764 - صَلَّى الإلَهُ ومَنْ يَحُفُّ بِعرْشِهِ ... والطَّيِّبُونَ على المُبَارَكِ أحْمَدِ
« أحمد » : بدل أو بيان « للمُبَارك » .
وأما « مُحَمَّد » فمنقول من صفة أيضاً ، وهو في معنى « محمود » ولكن فيه معنى المبالغة والتكرار ، ف « محمّد » هو الذي حمد مرة بعد أخرى .
قال القرطبي : « كما أن المكرَّم من الكرم مرة بعد أخرى ، وكذلك المدح ونحو ذلك ، فاسم » محمد « مطابق لمعناه ، فالله - سبحانه وتعالى - سماه قبل أن يسمي به نفسه ، فهذا علم من أعلام نبوته ، إذ كان اسمه صادقاً عليه ، فهو محمود في الدنيا لما هدي إليه ، ونفع به من العلم والحكمة ، وهو محمود في الآخرة بالشفاعة ، فقد تكرر معنى الحمد ، كما يقتضي اللفظ ، ثم إنه لم يكن محمداً حتى كان : » أحمد « حمد ربه فنبأه وشرفه ، فلذلك تقدم اسم : » أحمد « على الاسم الذي هو محمد ، فذكره عيسى فقال : » اسمه أحمد « ، وذكره موسى - عليه الصلاة والسلام - حين قال له ربه : تلك أمة أحمد ، فقال : اللهم اجعلني من أمَّة محمد ، فبأحمد ذكره قبل أن يذكره بمحمد؛ لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له ، فلما وجد وبعث ، كان محمداً بالفعل ، وكذلك في الشفاعة يحمد ربه بالمحامد التي يفتحها عليه ، فيكون أحمد الناس لربه ، ثم يشفع فيحمد على شفاعته » .
رُوِيَ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : « اسْمِي في التَّوراةِ أحْيَدُ؛ لأنِّي أحِيدُ أمَّتِي عن النَّارِ ، واسمي في الزَّبُورِ : المَاحِي ، مَحَا اللَّهُ بي عبدةَ الأوثانِ ، واسْمِي في الإنجيلِ : أحْمَدُ ، وفي القُرْآنِ : مُحَمَّدٌ؛ لأنِّي محمُود فِي أهْلِ السَّماءِ والأرْضِ » .
وفي الصحيح : « لِي خَمْسَةُ أسْمَاء : أنَا مُحمَّدٌ وأحمدُ ، وأنا المَاحِي الذي يَمحُو اللَّهُ بِيَ الكُفر ، وأنا الحَاشِرُ الذي يُحْشَرُ النَّاسُ على قدمِي ، وأنَا العَاقِبُ » وقد تقدم .
قوله : { فَلَمَّا جَاءَهُم بالبينات } .
قيل : عِيْسَى .
وقيل : مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم .
{ قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ } .
قرأ حمزة والكسائي : « ساحر » نعتاً للرجل .
وروي أنها قراءة ابن مسعود .
والباقون : « سحر » نعتاً لما جاء به الرسول .
قال أبو حيان هنا : وقرأ الجمهور : « سحر » ، وعبد الله ، وطلحة والأعمش ، وابن وثاب : « ساحر » ، وترك ذكر الأخوين .
قوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله الكذب } أي : لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب .
قوله : { وَهُوَ يدعى إِلَى الإسلام } .
جملة حالية من فاعل : « افْتَرَى » ، وهذه قراءة العامة .
وقرأ طلحة : « يدَّعي » - بفتح الياء والدال مشددة - مبنياً للفاعل .
وفيها تأويلان :
أحدهما : قاله الزمخشري ، وهو أن يكون « يفتعل » بمعنى : « يفعل » نحو : « لمسه والتمسه » .
والضميران ، أعني : « هو » ، والمستتر في : « يدعى » لله تعالى ، وحينئذ تكون القراءتان بمعنى واحد ، كأنه قيل : والله يدعو إلى الإسلام .
وفي القراءة الأولى يكون الضَّميران عائدين على « من » .
والثاني : أنه من ادّعى كذا دعوى ، ولكنه لما ضمن يدّعي معنى ينتمي وينتسب عُدِّي باللام؛ وإلا فهو متعدٍّ بنفسه .
وعلى هذا الوجه فالضميران ل « من » أيضاً ، كما هما في القراءة المشهورة .
وعن طلحة : « يُدَّعى » - مشدد الدال - مبنياً للمفعول .
وخرجها الزمخشري على ما تقدم من : ادَّعاه ودعاه بمعنى : لمسه والتمسه .
والضميران عائدان على « من » عكس ما تقدم عنده في تخريج القراءة الأولى ، فإن الضميران لله ، كما تقدم تحريره .
وهذا تعجب ممن كفر بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم بعد المعجزات التي ظهرت لهما ، ثم قال : { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } أي : من كان في حكمه أن يختم له بالضلالة والغي .
قوله : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ } .
الإطفاءُ هو الإخماد ، يستعملان في النار ، وفيما يجري مجراها من الضياء والظهور ، ويفترق الإخماد والإطفاء من حيث إن الإطفاء يستعمل في القليل ، فيقال : أطفأت السراج ، ولا يقال : أخمدت السراج .
وفي هذا اللام أوجه :
أحدها : أنَّها مزيدة في مفعول الإرادة .
قال الزمخشري : أصله { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ } كما في سورة التوبة [ 32 ] ، وكأنَّ هذه اللام ، زيدت مع فعل الإرادة توكيداً له لما فيها من معنى الإرادة في قولك : جئت لإكرامك وفي قولك : « جئت لأكرمك » ، كما زيدت اللام في : « لا أبا لك » توكيداً لمعنى الإضافة في : « لا أباك » .
وقال ابن عطية : « واللام في : » ليطفئوا « لام العلة مؤكدة ، ودخلت على المفعول؛ لأن التقدير : » يريدون أن يطفئوا نور الله « ، وأكثر ما تلزم هذه اللام إذا تقدم المفعول ، تقول : لزيد ضربت ، ولرؤيتك قصدت انتهى .
وهذا ليس مذهب سيبويه ، وجمهور النَّاس ، ثم قول أبي محمد : » وأكثر ما يلزم « ليس بظاهر؛ لأنه لا قول بلزومها ألبتة ، بل هي جائزة للزيادة ، وليس الأكثر أيضاً زيادتها جوازاً ، بل الأكثر عدمها .
الثاني : أنَّها لام العلة والمفعول محذوف ، أي : يريدون إبطال القرآن ، أو دفع الإسلام ، أو هلاك الرسول صلى الله عليه وسلم ليطفئوا .
الثالث : أنَّها بمعنى : » أن « الناصبة ، وأنها ناصبة للفعل بنفسها .
قال الفرَّاء : العرب تجعل » لام كي « في موضع : » أن « ، في » أراد وأمر « ، وإليه ذهب الكسائي أيضاً .
وقد تقدم نحو من هذا في قوله : { يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } في سورة النساء : [ الآية : 26 ] .
فصل
قال ابن عباسٍ وابن زيدٍ رضي الله عنهما : المراد بنور الله - هاهنا - القرآن ، يريدون إبطاله ، وتكذيبه بالقول .
وقال السديُّ : الإسلام ، أي : يريدون دفعه بالكلام .
وقال الضحاكُ : إنَّه محمد صلى الله عليه وسلم يريدون إهلاكه بالأراجيف .
وقال ابنُ جريجٍ : حجج الله ودلائله ، يريدون إبطالها بإنكارهم وتكذيبهم ، وقيل : إنه مثل مضروب ، أي : من أراد إطفاء نور الشمس بفيه ، وجده مستحيلاً ممتنعاً ، كذلك من أراد إبطال الحق ، حكاه ابنُ عيسى .
فصل في سبب نزول هذه الآية
قال الماورديُّ : سبب نزول هذه الآية ، ما حكاه عطاء عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أبطأ عليه الوحي أربعين يوماً ، فقال كعب بن الأشرف : يا معشر اليهود ، أبشروا فقد أطفأ الله نور محمد ، فما كان ينزل عليه ، وما كان ليتم أمره ، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله هذه الآية واتصل الوحي بعدها .
قوله : { والله مُتِمُّ نُورِهِ } .
قرأ الأخوان وحفص وابن كثير : بإضافة : » متم « ، ل : » نوره « .
والباقون : بتنوينه ونصب : » نوره « .
فالإضافة تخفيف ، والتنوين هو الأصل .
وأبو حيَّان ينازع في كونه الأصل .
وقوله : » والله متم « ، جملة حالية من فاعل : » يريدون « ، أو » ليطفئوا « .

قلت المدون التالي هو ج69.وج70.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدجال يستغل ازمات الناس من الجوع ونقص الطعام والمياه في دعوتهم الباطلة لعبادتهم إياه والايمان به

  بياناته الشخصية     المسيح الدجال ليس خوارق إنما هو دجل وكذب قلت المدون ان الأ أزمة الاقتصادية الحادثة الان في كل دول العالم والمجاعة المت...