حمل المصحف وورد وبي دي اف.

 حمل المصحف وورد وPDF.
القرآن الكريم وورد word doc icon||| تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

الخميس، 22 سبتمبر 2022

ج17. ج18. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

 

ج17. ج18. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

 

ج17. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
{ إِلاَّ الذين تَابُواْ } [ البقرة : 160 ] .
الثاني : رُوِيَ - أيضاً - عن ابن عباسٍ أنها نزلت في يهود قُرَيْظَةَ والنضير ، ومن دان بدينهم ، كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا مؤمنين به قبل بَعْثه ، وكانوا يشهدون له بالنبوةِ ، فلما بُعثَ ، وجاءهم بالبينات والمعجزات كفروا بَغياً وَحَسَداً .
الثالث : نزلت في الحرث بن سُوَيْد الأنصاري حين ندم على رِدَّته ، فأرسل إلى قومه أن سَلُوا : هل لي من توبة؟ فأرسل إليه اخوه بالآية ، فأقبل إلى المدينة ، وتاب ، وقبل الرسولُ صلى الله عليه وسلم توبته . قال القفال : للناس في هذه الآية قولان :
منهم من قال : إنَّ قوله تعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينا } [ آل عمران : 85 ] وما بعده إلى قوله { وأولئك هُمُ الضآلون } [ آل عمران : 90 ] نزل جميعه في قصة واحدة ، ومنهم من قال : ابتداء القصة من قوله « إلا الذين تابوا » إلى « إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار » على التقديرين ففيها - أيضاً - قولان :
أحدهما : أنها في أهل الكتاب .
والثاني : أنها في قوم مرتدين عن الإسلام ، آمنوا ثم ارتدوا .
فصل
قالت المعتزلةُ : أصولنا تشهد بأن الله هدى جميعَ الخلقِ إلى الدِّينِ؛ بمعنى : التعريف ووضع الدلائل وفعل الألطاف ، فلو لم يَعُمّ الكُلَّ بهذه الأشياء لصار الكافرُ والضالُّ معذوراً ، ثم إنه تعالى - حكم بأنه لم يَهْدِ هؤلاء الكفارَ ، فلا بد من تفسير هذه الهدايةِ بشيء آخرَ سوى نَصْب الدلائل ، ثم ذكروا فيه وجوهاً :
الأول : أن المراد من هذه الهداية منع الألطاف التي يؤتيها المؤمنين؛ ثواباً لهم على إيمانهم ، كقوله : { والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] وقوله : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى } [ محمد : 17 ] وقوله : { يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَه } [ المائدة : 16 ] فهذه الآيات تدل على أن المهتدي قد يزيده الله هدًى .
الثاني : أن المراد أنه - تعالى - لا يهديهم إلى الجنة ، قال تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّم } [ النساء : 168-169 ] وقال : { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار } [ يونس : 9 ] .
والثالث : أنه لا يمكن أن يكون المرادُ من الهداية خلق المعرفة فيه؛ لأنه - على هذا التّقْدِيرِ - يلزم أن يكون الكفر - أيضاً - من الله؛ لأنه - تعالى - إذا خلق المعرفةَ فيه كان مؤمناً مهتدياً ، وإذا لم يخلقها كان كافراً ضَالاً ، وإذا كان الكفر من الله - تعالى - لم يَصِحّ أن يذُمَّهم الله - تعالى - على الكفر ، ولم يَصِحّ أن يُضاف الكفرُ إليهم ، لكن الآية ناطقة بأنهم مذمومون بسبب الكفر ، وكونهم فاعلين للكفر ، فإنه قال : { كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } ؟ فأضاف الكفر إليهم ، وذمَّهم عليه .
وقال أهل السنة : المرادُ من الهداية خلق المعرفة ، وقد جَرَت سُنَّة اللهِ في دار التكليفِ أن كلِّ فِعْلٍ يقصد العبد إلى تحصيله ، فإن الله - تعالى - يخلقه عقيب القصد من العبد ، فكأنه - تعالى - قال : كيف يخلق الله فيهم المعرفةَ والهدايةَ وهم قصدوا تحصيلَ الكفر وأرادوه؟
فإن قيل : قال - في أول الآية- : { كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ } وقوله في آخرها : « والله لا يهدي القوم الظالمين » يقتضي التكرار .
فالجواب : أن الأولَ مخصوص بالمرتد ، والثاني عمّ ذلك الحكم في المرتد والكافر الأصلي ، وسمي الكافر ظالماً؛ لقوله : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] والسبب فيه أن الكافر أوْرد نفسَه مواردَ البلاء والعقاب؛ بسبب ذلك الكفر ، فكان ظالماً لنفسه .
قال القرطبي : « فإن قيل : ظاهر الآية يقتضي أن مَنْ كفر بعد إسلامه لا يهديه اللهُ ، ومن كان ظالماً لا يهديه الله ، وقد رأينا كثيراً من المرتدين أسلموا وهداهم اللهُ ، وكثيراً من الظالمين تابوا عن الظُّلْم .
فالجواب : أن معناه لا يهديهم الله ما داموا مقيمين على طُفْرِهم وظُلْمهم ولا يُقبِلون على الإسلام ، فأما مَنْ أسلموا وتابوا فقد وَفَّقَهُمُ اللهُ لذلك » .
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
وفي قوله : { جَزَآؤُهُمْ } وجهان :
أحدهما : أن يكون مبتدأ ثانياً ، و { أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله } في محل رفع؛ خبراً ل « جَزَاؤُهُمْ » والجملة خبر ل « أولئك » .
والثاني : أن يكون « جَزَاؤُهُمْ » بدلاً من « أولَئِكَ » بدل اشتمال ، و { أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله } خبر « أولئك » .
وقال هنا : { جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله } وقال - هناك- : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله } [ البقرة : 161 ] دون « جزاؤهم » قيل : لأن هناك وقع الإخْبار عمن توفِّيَ على الكُفْر ، فمن ثَمَّ حتم الله عليه اللعنة ، بخلافه هنا ، فإن سبب النزول في قوم ارتدوا ثم رجعوا للإسلام ، ومعنى : « جَزَاؤُهُمْ » أي : جزاء كفرهم وارتدادهم ، وتقدم القول في قراءة الحسن « النَّاس أجمعون » وتخريجها .
قوله : « خالدين » حال من المضير في « عَلَيْهِمْ » والعامل فيها الاستقرار؛ أو الجارّ؛ لقيامه مقام الفعلِ ، والضمير في « فِيهَا » للَّعنة ، ومعنى الخلود في اللعن فيه وجهان :
الأول : أنهم يوم القيامة لا تزال تلعنهم الملائكةُ والمؤمنون ، ومَنْ معهم في النار ، ولا يخلو حالٌ من أحوالهم من اللعنة .
الثاني : أن اللَّعْنَ يوجب العقابَ ، فعبَّر عن خلود أثر اللعن بخلود اللعنِ ، ونظيره قوله : { مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ } [ طه : 100-101 ] وقال ابن عباس : قوله : « خالدين فيها » أي في « جهنم » ، فعلى هذا الكناية عن غير مذكور . و { لاَ يُخَفَّفُ } جملة حالية أو مستأنفة ، و { إِلاَّ الذين } استثناء متصل .
فصل
اعلم أن لعنة الله مخالفة للعنة الملائكة؛ لأن لعنته بالإبعاد من الجنة ، وإنزال العذاب ، واللعنة من الملائكة ، ومن الناس هي بالقول ، وكل ذلك مستحق لهم بسبب ظلمهم وكفرهم .
فإن قيل : لم عَمَّ جَمِيع النَّاس ، ومَنْ يُوافِقهُ لا يَلْعَنُهُ؟ فَالجوابُ مِن وُجوهٍ :
أحدها : قال أبو مُسْلِمٍ : لَهُ ان يَلْعَنَهُ ، وَإن كَانَ لاَ يَلْعَنُهُ .
الثاني : أنَّهُم فِي الآخرةِ يَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً ، لِقَوْلِهِ تَعالَى : { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَ } [ الأعراف : 38 ] وقال : { ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضا } [ العنكبوت : 25 ] وعلى هَذا فَقَدْ حَصَلَ اللَّعْنُ للكفارِ ومن يوافقهم .
الثالث : كأن الناسَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ ، والْكُفَّار لَيْسُوا مِن النَّاس .
الرابع : وهو الأصح - أنَّ جميعَ الْخَلقِ يَلْعَنُونَ المُبْطِلَ والكَافِرَ ، وَلَكِنَّهُ يَعْتَقِدُ فِي نَفْسِهِ أنَّهُ لَيْسَ بمُبْطِلٍ وَلا بكافرٍ فَإذا لَعَن الكافِرَ - وَكَانَ هُو فِي عِلم اللهِ كَافراً - فَقَدْ لَعَنَ نَفْسَه ، وَهُوَ لا يَعْلَم ذَلكَ .
قوله : « لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون » مَعْنَى الإنْظَار : التَّأخِيْرُ ، قَالَ تَعالى : { فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَة } [ البقرة : 280 ] والمَعْنَى : لاَ يُخَفَّفُ ، وَلا يُؤخَّر من وَعتٍ إلى وَقْتٍ ، ثُم قَال : { إِلاَّ الذين تَابُواْ } ثمَ بَيَّن أن التوبة وحدَها لا تَكْفِي ، حَتَّى يُضافَ إليها العملُ الصالحُ ، فَقالَ : { وَأَصْلَحُواْ } أي : أصلحوا باطنهم مع الحق بِالمُراقَباتِ ، وَمَعَ الْخَلْقِ بالعِبَادَاتِ ، وَذَلِكَ أنَّ الحَارثَ بن سُويد لَمَّا لَحِق بالكُفَّار نَدِم ، وأرسل إلى قومه أن سَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَفَعَلُوا فَأنْزَلَ اللهُ { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فَحَمَلَهَا إليه رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ ، وَقَرأها عَلَيهِ ، فَقَالَ الْحَارثُ : إنك واللهِ ما عَلِمْتُ - لَصَدُوقٌ ، وَإنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأصدقُ منك؛ وإنَّ اللهَ - عَزَّ وجل - لأصْدَقُ الثلاثة ، فرجع الحارثُ إلى المَدِينَةِ ، وَأسْلَمَ ، وحسن إسلامه .
وفي قوله : { غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وجهان :
الأول : أن الله غفور لقبائحهم في الدنيا بالستر ، رحيم في الآخرة بالعفو .
الثاني : غفور بإزالة العقاب ، رحيم بإعطاء الثواب ، ونظيره قوله : { قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَف } [ الأنفال : 38 ] . ودخلت الفاء في قوله : « فإن الله » لشبه الجزاء؛ إذ الكلام قد تضمَّن معنى : إن تابوا فإن الله يغفر لهم .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
قوله : « كفراً » تمييز منقول من الفاعلية ، والأصل : ثم ازداد كفرُهم ، والدال الأولى بدل من تاء الافتعال؛ لوقوعها بعد الزاي ، كذا أعربه أبو حيان ، وفيه نظر؛ إذ المعنى على أنه مفعول به ، وهي أن الفعل المتعدي لاثنين إذا جُعِل مطاوعاص نقص مفعولاً ، وهذا من ذاك؛ لأن الأصل : زدت زيداً خيراً فازداده ، وكذلك أصل الآيةِ الكريمةِ : زادهم الله كُفراً فازدادوه ، فلم يؤت هنا بالفاء داخلةً على « لَنْ » وأتي بها في « لَنْ » الثانية ، لأن الفاءَ مُؤذِنَةً بالاستحقاق بالوصف السابق - لأنه قد صَرَّحَ بقَيْد مَوْتِهِم على الكُفْر ، بخلاف « لَنِ » الأولى ، فإنه لم يُصَرِّحْ ممعها به فلذلك لم يُؤتَ بالفاء .
قال ابن الخطيب : دخول الفاء يدل على أن الكلام مبني على الشرط والجزاء ، وعند « عدم » الفاء لم يفهم من الكلام كونه شرطاً وجزاء ، تقول : الذي جاءني له درهم ، فهذا لا يُفيد أن الدرهم حصل له بسبب المجيء ، وذكر التاء يدل على أن عدم قبول الفدية معلل بالموت على الكفر .
وقرأ عكرمة « لن نَقْبَلَ » بنون العظمة ، ونصب « توبَتَهم » وكذلك قرأ « فلن نقبل من أحدهم ملء » بالنصب .
فصل
قال القرطبي : قال قتادة والحسن : نزلت هذه الآية في اليهود ، كفروا بعيسى عليه السلام ، والإنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم ، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن .
وقال أبو العالية : نزلت في اليهود والنصارى ، كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم لما رأوه بعد إيمانهم بنعته وصفته في كتبهم ، ثم ازدادوا كفراً يعني : ذنوباً ، يعني : في حال كفرهم .
وقال مجاهد : نزلت في جميع الكفار؛ أشركوا بعد إقرارهم بأن الله تعالى خالقُهم ، ثم ازدادوا كُفْراً ، أي : أقاموا على كُفْرهم حتى هلكوا عليه .
وقيل : ازدادوا كُفْراً كلما نزلت آية كفروا بها ، فازدادوا كُفْراً .
وقيل : ازدادوا بقولهم : نتربص بمحمد ريب النون .
وقال الكلبي : نزلت في الأحد عشر أصحاب الحَرْث بن سُوَيْد ، لما رجع إلى الإسلام ، أقاموا هم على الكفر بمكة ، وقالوا : نقيم على الكفر ما بدا لنا ، فمتى أردنا الرجعة ينزل فينا ما نزل في الحَرْث ، فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكةَ ، فمن دخل منهم في الإسلام قُبِلَت توبته ، ونزلت فيمن مات منهم كافراً : { إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّار } [ البقرة : 161 ] الآية .
فإن قيل : قد وعد اللهُ بقبول توبة مَنْ تاب ، فما معنى قوله : « فلن تقبل توبتهم » ؟
قيل : لن تقبل توبتُهم إذا وقعوا في الحشرجة ، كما قال : { وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن }
[ النساء : 18 ] قاله الحسنُ وقتادة وعطاء .
وقيل : هذا مخصوص بأصحاب الحرث بن سُويد حين أمسكوا عن الإسلام ، وقالوا : نتربَّص بمحمد ، فإن ساعده الزمان نرجع إلى دينه ، لن يقبل ذلك منهم .
وقال القاضي والقفال وابنُ الأنباري : إنه - تعالى - لما قدَّم ذِكْر مَنْ كفر بعد الإيمان ، وبيَّن أنه أهل اللعنة إلا أن يتوب ، ذكر في هذه أنه لو كفر مرةً أخْرَى بعد تلك التوبة الأولى ، فإن تلك التوبة الأولى تعتبر غير مقبولة ، وتصير كأنها لم تكن .
قال : وهذا الوجه أليق بالآية من سائر الوجوه ، لأن تقدير الآية : إلا الَّذين تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ، فإن كانوا كذلك ، ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم .
وقال الزمخشري : قوله : « لن تقبل توبتهم » كناية عن الموت على الكفر؛ لأن الذي لا تُقْبَل توبتُه من الكفار هو الذي يموت على الكفر ، كأنه قيل : إن اليهود والمرتدين الذين فعلوا ما فعلوا ، ميتون على الكفر داخلون في جملة من لا تُقْبَل توبتهم .
وقيل : لعلّ المراد ما إذا تابوا عن تلك الزيادة ، ولا تصير مقبولة ما لم تحصل التوبة عن الأصل .
قال ابن الخطيب : « وهذه الجوابات إنما تتمشى على ما إذا حملنا قوله : » إن الذين كفروا ثم ازدادوا كفراً « على المعهود السابق ، لا على الاستغراق ، وإلا فكم من مرتد تابَ عن ارتداده توبةً صحيحةً ، مقرونة بالإخلاص في زمان التكليف ، فأما جواب القفال والقاضي ، فهو جواب مطرد ، سواء حملنا اللفظ على المعهود السابق ، أو على الاستغراق » .
قوله : « وأولئك هم الضالون » في هذه الجملة ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون في محل رفع؛ عَطْفاً على خبر « إنَّ » ، أي : إن الذين كفروا لن تُقْبَلَ توبتُهم ، وإنهم أولئك هم الضَّالُّون .
الثاني : أن تُجعل معطوفةً على الجملة المؤكَّدة ب « إنَّ » ، وحينئذ فلا محل لها من الإعراب ، لعَطْفِها على ما لا محل له .
الثالث : هو إعرابها بأن تكون الواو للحال ، فالجملة بعدها في محل نصب على الحال ، والمعنى : لن تقبل توبتهم من الذنوب ، والحال أنهم ضالُّون ، فالتوبة والضلال متنافيان ، لا يجتمعان ، قاله الراغب .
وهو بعيد في التركيب ، وإن كان قريب المعنى .
قال أبو حيان : « وينبو عن هذا المعنى هذا التركيب إذْ لو أريد هذا المعنى لم يُؤتَ باسم الإشارة » .
فإن قيل : قوله : « وأولئك هم الضالون » ظاهره ينفي عدم كون غيرهم ضالاً ، وليس الأمر كذلك؛ بل كل كافر ضال ، سواء كفر بعد الإيمان ، أو كان كافراً في الأصل ، فالجواب : هذا محمول على أنهم هم الضالون على سبيل الكمال .
فإن قيل : إنه وصفهم - أولاً - بالكفر والغُلُوِّ فيه ، ثم وصفهم - ثانياً - بالضلال ، والكفر أقبح أنواع الضلالة ، والوصف إنما يراد للمبالغة ، والمبالغة إنما تحصل بوصف الشيء بما هو أقوى منه حالاً ، لا بما هو أضعف حالاً منه .
فالجواب : قد ذكرنا أن المراد منه : أنهم هم الضالُّون على سبيل الكمال ، وحينئذ تحصل المبالغة .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)
اعلم أن الكافر على ثلاثة أقسام :
الأول : الذي يتوب عن الكفر توبةً صحيحةً مقبولةً ، وهو المراد بقوله : « إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا » .
الثاني : الذي يتوب عن الكفر توبةً فاسدةً ، وهو المذكور في الآيةِ المتقدمةِ ، وقال : { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُم } .
الثالث : الذي يموت على الكفر من غير توبةٍ ، وهو المذكور في هذه الآية ، وقد أخبر عن هؤلاء بثلاثة أشياء :
أحدها : قوله : « فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً » قد تقدم أن عكرمة يقرأ : « نقبل ملء » بالنون مفعولاً به
وقرأ بعضهم « فلن يقبل » - بالياء من تحت مبنيًّا للفاعل وهو الله تعالى ، « مِلْءَ » بالنصب كما تقدم .
وقرأ ابو جعفر وأبو السَّمَّال « مل الأرض » بطرح همزة « ملء » ، نقل حركتها إلى الساكن قبلها .
وبعضهم يدغم نحو هذا - أي لام « ملء » في لام « الأرضِ » - بعروض التقائهما .
والملء : مقدار ما يُمْلأ الوعاء ، والمَلْء - بفتح الميم - هو المصدر ، يقال : ملأت القدر ، أملؤها ، مَلأ ، والملاءة بضم الميم والمد : الملحَفة .
و « ذهباً » العامة على نصبه ، تمييزاً .
وقال الكسائي : على إسقاط الخافض ، وهذا كالأول؛ لأن التمييز مقدر ب « من » واحتاجت « ملء » إلى تفسير؛ لأنها دالة على مقدار - كالقفيز والصّاع- .
وقرأ الأعمش : « ذهب » - بالرفع - .
قال الزمخشريُّ : ردًّا على « مِلْءُ » كما يقال : عندي عشرون نَفْساً رجال ، يعني الردّ البدل ، ويكون بدل نكرة من معرفة . قال أبو حيان : ولذلك ضبط الحذّاق قوله : « لك الحمد ملء السموات » بالرفع ، على أنه نعت لِ « الْحَمْد » . واستضعفوا نصبه على الحال ، لكونه معرفة .
قال شهاب الدين : « يتعين نصبه على الحال ، حتى يلزم ما ذكره من الضعف ، بل هو منصوب على الظرف ، أي : إن الحمد يقع مِلْئاً للسموات والأرض » .
فإن قيل : من المعلوم أن الكافر لا يملك يوم القيامة نقيراً ولا قطميراً ، وبتقدير أن يملك الذهب فلا نَفْعَ فيه ، فما فائدة ذكره؟
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أنهم إذا ماتوا على الكُفْر ، فلو أنهم كانوا قد أنفقوا في الدنيا - مع الكفر _ أموالاً ، فإنها لا تكون مقبولة .
الثاني : أن هذا على سبيل الفرْض والتقدير ، فالذهب كناية عن أعز الأشياء ، والتقدير : لو أن الكافر يوم القيامة قدر على أعز الأشياء ، ثم قدر على بَذْله في غاية الكثرة ، فعجز أن يتوسل بذلك إلى تخليص نفسه من العذاب ، والمقصود أنهم آيسون من تخليص النفس من العقاب .
روى أنس - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
« يَقُولُ اللهُ - لأهْوَن أهْلِ النَّارِ عَذَاباً يَومَ القِيَامَةِ - لَوْ أنَّ لَكَ مَا فِي الأرْضِ مِنْ شَيءٍ ، أكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ ، فَيَقُولُ : أرَدتُّ مِنْك أهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلبِ آدَمَ : أنْ لا تُشْرِكَ بِي شَيْئاً ، فأبَيْتَ إلاَّ أنْ تُشْرِكَ بِي »
قوله : « ولو افتدى به » الجمهور على ثبوت الواو ، وهي واو الحال .
قال الزمخشريّ : فإن قلت : كيف موقع قوله : « ولو افتدى به » ؟
قلت : هو كلام محمول على المعنى ، كأنه قيل : فلن يقبل من أحدهم فدية ، ولو افتدى بملء الأرض ذهباً . انتهى .
والذي ينبغي أن يُحْمَل عليه : أن الله - تعالى - أخبر أن مَن ْ مات كافراً لا يُقْبَل منه ما يملأ الأرض من ذهب على كل حال يقصدُها ، ولو في حال افتدائه من العذاب ، وذلك أن حالة الافتداء حالة لا يميز فيها المفتدي عن المفتدى منه؛ إذ هي حالة قهر من المفتدى منه للمفتدي .
قال أبو حيان : وقد قررنا - في نحو هذا التركيب - أن « لَوْ » تأتي منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء ، وما بعدها جاء تنصيصاً على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها ، كقوله صلى الله عليه وسلم : « أعْطُوا السَّائِلَ ولو جاء عَلَى فَرَسٍ » وقوله : « رُدُّوا السَّائِلَ ولَو بِظِلْف محرق » كأن هذه الأشياء مما ينبغي أن يؤتى بها؛ لأن كون السائل على فرس يُشْعر بغناه ، فلا يناسب أن يُعْطَى ، وكذلك الظلف المحرق ، لا غناء فيه ، فكان يناسب أن لا يُرَدَّ به السائل .
قيل : الواو - هنا - زائدة ، وقد يتأيد هذا بقراءة ابن أب يعبلة طلو افتدى به « - دون واو - معناه أنه جعل الافتداء شرطاً في عدم القبول ، فلم يتعمم النفي وجود القبول .
و » لو « قيل : هي - هنا - شرطية؛ بمعنى » إن « لا التي معناها لما كان سيقع لوقوع غيره؛ لأنها متعلقة بمستقبل ، وهو قوله : » فلن تقبل « ، وتلك متعلّقة بالماضي .
قال الزجاج : إنها للعطف ، والتقدير : لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهباً لن يقبل منه ، ولو افتدى به لم تقبل منه ، وهذا اختيار ابن الأنباري ، قال : وهذا آكد في التغليظ؛ لأنه تصريح بنفي القبول من وجوه . وقيل : دخلت الواو لبيان التفصيل بعد الإجمال؛ لأن قوله : { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً } يحتمل الوجوه الكثيرة ، فنص على نفي القبول بجهة الفدية .
وقال ابن الخطيب : إن مَنْ غضب على بعض عبيده ، فإذا أتحفه ذلك العبد بتُحفَةٍ وهدية لم يقبلْها البتة ، إلا أنه قد يُقْبَل منه الفدية ، فأما إذا لم تُقْبَل منه الفدية - أيضاً - كان ذلك غاية الغضب ، والمبالغة إنما تحصل بذكر ما هو الغاية ، فحكمه - تعالى - بأنه لا يقبل منهم ملءَ الأرض ذهباً ، ولو كان واقعاً على سبيل الفداء تنبيه على أنه إذا لم يكن مقبولاً لا بالفدية فبأن لا يقبل منهم بسائر الطرق أولى .
وافتدى افتعل - من لفظ الفدية - وهو متعدٍّ لواحد؛ لأنه بمعنى فدى ، فيكون افتعل فيه وفعل بمعنى ، نحو : شَوَى ، واشْتَوَى ، ومفعوله محذوف ، تقديره : افْتدَى نفسه . والهاء في « به » - فيها أقوال :
أحدها : - وهو الأظهر - عودها على « ملء » ؛ لأنه مقدار يملأها ، أي : ولو افتدى بملء الأرض .
الثاني : أن يعوج على « ذَهَباً » ، قاله أبو البقاء .
قال أبو حيان : ويوجد في بعض التفاسير أنها تعود على الملء ، أو على الذهب ، فقوله : « أو على الذهب » غلط .
قال شهاب الدين : « كأن وجه الغلط فيه أنه ليس محدَّثاً عنه ، إنما جيء به بياناً وتفسيراً لغيره ، فضلة » .
الثالث : أن يعود على « مِثْل » محذوف .
قال الزمخشريُّ : « ويجوز أن يُراد : ولو افتدى بمثله ، كقوله : { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَه } [ الرعد : 18 ] ، والمثل يحذف في كلامهم كثيراً ، كقولك : ضربت ضرب زيد - تريد : مثل ضربه - وقولك : أبو يوسف أبو حنيفة - أي : مثله- .
وقوله : [ الرجز ]
1537- لا هَيْثَمَ اللَّيْلَةَ لِلْمَطِيِّ ... وَلاَ فَتَى إلاَّ ابْنُ خَيْبَرِيّ
و » قضية ولا أبا حسن لها « يريد : لا مثل هيثم ، ولا مثل أبي حسن ، كما أنه يزاد قولهم : مثلك لا يفعل كذا ، يريدون : أنت لا تفعل كذا ، وذلك أن المثلين يسد أحدهما مسد الآخر ، فكانا في حكم شيء واحد » .
قال أبو حيان : « ولا حاجةَ إلى تقدير » مثل « في قوله : » ولو افتدى به « ، وكأن الزمخشريَّ تخيَّل انَّ قدّر أن يُقْبَل لا يُمكن أن يُفْتَدَى به ، فاحتاج إلى إضمار : » مثل « حتى يغاير ما نُفِي قبولُه وبين ما يفتدى به ، وليس كذلك؛ لأن ذلك - ما ذكرناه - على سبيل الفرض والتقدير؛ إذ لا يمكن - عادةً - أن أحداً يملك مِلْءَ الأرض ذهباً ، بحيث أنه لو بَذَلَهُ - على أيِّ جهةٍ بذله - لم يُقْبَل منه ، بل لو كان ذلك ممكناً لم يَحْتَج إلى تقدير » مثل « ؛ لأنه نفى قبوله - حتى في حالة الافتداء - وليس ما قدر في الآية نظير ما مثل به ، لأن هذا التقدير لا يحتاج إليه ، ولا معنى له ، ولا في اللفظ ، ولا في المعنى ما يدل عليه ، فلا يقدر .
وأما ما مثل به - من نحو : ضربت ضربَ زيدٍ ، وأبو يوسف أبو حنيفةَ - فبضرورة العقل يُعْلَم أنه لا بد من تقدير مثل إذ ضربك يستحيل أن يكون ضربَ زيد ، وذات أبي يوسف ، يستحيل أن تكون ذاتَ أبي حنيفة .
وأما « لا هيثم الليلة للمطي » ، فدل على حذف « مثل » ما تقرر في اللغة العربية أن « لا » التي لنفي الجنس ، لا تدخل على الأعلام ، فتؤثر فيها ، فاحتيج إلى إضمار : « مثل » لتبقى على ما تقرر فيها؛ إذ تقرر أنها لا تعمل إلا في الجنس؛ لأن العلمية تنافي عمومَ الجنس .
وأما قوله : كما يزاد في : مثلك لا يفعل - تريد : أنت - فهذا قول قد قيل ، ولكن المختار عند حُذَّاق النحويين أن الأسماء لا تزاد « .
قال شهاب الدين : وهذا الاعتراض - على طوله - جوابه ما قاله أبو القاسم - في خطبة كشافه - واللغوي وإن علك اللغة بلحييه والنحوي - وإن كان أنحَى من سيبويه - [ لا يتصدى أحد لسلوك تلك الطرائقِ ، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائقِ ، إلا رجل قد برع في علمين مختصَّين بالقرآن المعاني والبديع - وتمهَّل في ارتيادهما آونةً ، وتعب في التنقير عنهما أزمنةً ] .
قوله : » أولئك لم عذاب أليم « هذا هو النوع الثاني من وعيده الذي توعَّدَهم به . ويجوز أن يكون » لهم « : خبراً لاسم الإشارة ، و » عَذَابٌ « فاعل به ، وعمل لاعتماده على ذي خبره ، أي : أولئك استقر لهم عذاب . وأن يكون » لَهُمْ « خبراً مقدَّماًن و » عَذَابٌ « مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر عن اسم الإشارة ، والأول أحسن؛ لأن الإخبار بالمفرد أقرب من الإخبار بالجملة ، والأول من قبيل الإخبار بالمفرد .
قوله : { وما لهم من ناصرين } هذا هو النوع الثالث من الوعيد ، ويجوز في إعرابه وجهان :
أحدهما : أن يكون { مِّن نَّاصِرِينَ } : فاعلاً ، وجاز عمل الجارّ؛ لاعتماده على حرف النفي ، أي : وما استقر لهم من ناصرين .
والثاني : أنه خبر مقدَّم ، و { مِّن نَّاصِرِينَ } : مبتدأ مؤخر ، و » مِنْ « مزيدة على الإعرابَيْن؛ لوجود الشرطين في زيادتها .
وأتى ب » ناصرين « جمعاً؛ لتوافق الفواصل .
واحتجوا بهذه الآية على إثبات الشفاعة؛ لأنه - تعالى - ختم وعيد الكفار بعدم النصرة والشفاعة ، فلو حصل هذا المعنى في حق غير الكافر بطل تخصيص هذا الوعيد بالكفر .
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
النيل : إدراك الشيء ولحوقه .
وقيل : هو العطية .
وقيل : هو تناول الشيء باليد ، يقال : نِلْتُه ، أناله ، نَيْلاً ، قال تعالى : { وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلا } [ التوبة : 120 ] .
وأما النول - بالواو - فمعناه التناول ، يقال : نِلتُه ، أنوله ، أي تناولته ، وأنلْته زيداً ، وأنوله إياه ، أي ناولته إياه ، كقولك : عطوته ، أعطوه ، بمعنى : تناولته ، وأعطيته إياه - إذا ناولته إياه .
قوله : « حتى تنفقوا » بمعنى إلى أن ، و « مِن » في « مما تحبون » تبعيضية يدل عليه قراءة عبد الله : بعض ما تحبون .
قال شهاب الدين : « وهذه - عندي - ليست قراءة ، بل تفسير معنى » .
وقال آخرون : « إنها للتبيين » .
[ وجوز أبو البقاء ذلك فقال : « أو نكرة موصوفة ولا تكون مصدرية؛ لأن المحبة لا تتفق ، فإن جعلت المحبة بمعنى : المفعول ، جاز على رأي أبي علي » يعني يَبْقى التقدير : من الشيء المحبوب ، وهذان الوجهان ضعيفان والأول أضعف ] .
فصل
لما بيَّن أن نفقتهم لا تنفع ذكَر - هنا - ما ينفع ، فإن من أنفق مما يُحِبُّ كان من جملة الأبرار المذكورين في قوله : { إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ } [ الانفطار : 13 ] ، وغيرها .
قال ابن الخطيب : « وفي هذا لطيفة ، وهي أنه - تعالى - قال في سورة البقرة- : { ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر } [ البقرة : 177 ] وقال - هنا - { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } والمعنى : لو فعلتم ذلك المتقدم كله ، لا تفوزون بالبر حتى تُنْفقوا مما تُحِبُّون ، وذلك يدل على أن النفقة من أفضل الطاعات .
فإن قيل : » حتى « لانتهاء الغاية ، فتقتضي الآية أن من أنفق مما يحب ، صار من جملة الأبرار ، ونال البر وإن لم يأت بسائر الطاعات .
فالجواب : أن المحبوب إنما يُنفق إذا طمع المنفِق فيما هو أشرف منه ، فلا ينفق المرءُ في الدنيا إلا إذا أيقن سعادة الآخرة ، وذلك يستلزم الإقرار بالصانع ، وأنه يجب عليه الانقيادُ لأوامره وتكاليفه ، وذلك يعتمد تحصيل جميع الخصال المحمودة في الدين » .
فصل
قال ابنُ عَبَّاسٍ وابنُ مَسْعُودٍ ومُجَاهِدٌ : البرّ : الجنة .
وقال مقاتل بن حيان : البرّ التقوى .
كقوله : { ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر } [ البقرة : 177 ] إلى قوله : { وأولئك هُمُ المتقون } [ البقرة : 177 ] .
وقيل : البر « الطاعة .
فالذين قالوا : إن البر هو الجنة قال بعضهم : معناه لن تنالوا ثواب البر .
ومنهم من قال : المراد بر الله أولياءه ، وإكرامه إياهم ، وتفضله عليهم ، من قولهم : بَرَّني فلان بكذا أو بِرُّ فلان لا ينقطع عني .
وقوله : » مما تحبون « قال بعضهم : إنه نفس المال .
وقال آخرون : أن تكون الهبة رفيعة جيدة لقوله تعالى : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُون } [ البقرة : 267 ] .
وقال آخرون : ما يكون محتاجاً إليه القوم؛ قال تعالى : { وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّه } [ الإنسان : 8 ] - في أحد تفاسير الحُبِّ - وقوله : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة } [ الحشر : 9 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : « أفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَصَدَّقْتَ بِهِ وَأنْتَ صَحِيحٌ ، شَحِيحٌ ، تَأمُلُ الغِنَى وتَخْشَى الْفَقْرَ » .
روى الضحاك عن ابن عباس : أن المراد به : الزكاة .
قال ابْنُ الخَطِيبِ : لو خصصنا الآية بغير الزكاة لكان أوْلَى؛ لأن الآية مخصوصة بإيتاء الأحَبّ ، والزكاة الواجبة لا يجب على المزكِّي أن يُخرج أشرف أموال ، أو أكرمها ، بل الصحيح أن هذه الآية مخصوصة بإيتاء المال على سبيل النَّدْب .
ونقل الواحدي عن مجاهد والكلبي ، أن هذه الآية منسوخة بإيتاء الزكاة ، وهذا في غاية البُعْد؛ لأن إيجاب الزكاة كيف ينافي الترغيب في بَذْل المحبوب لوجه الله .
قوله : { وما تنفقوا من شيء } تقدم نظيره في البقرة .
فإن قيل : لِمَ قيل : { فإن الله به عليم } على جهة جواب الشرط ، مع أن الله يعلمه على كل حال؟
فالجواب م نوجهين :
الأول : أن فيه معنى الجزاء ، تقديره : وما تُنْفِقُوا من شيء فإن الله مجازيكم به - قَلَّ أم كَثر- ، لأنه عليم به ، لا يَخْفَى عليه شيء منه ، فجعل كونه عالماً بذلك الإنفاق كناية عن إعطاء الثواب ، والتعريض - في مثل هذا الموضع - يكون أبلغ من التصريح .
الثاني : أنه - تعالى - يعلم الوجه الذي لأجله تفعلونه ، ويعلم أن الداعي إليه هو الإخلاص أم الرياء ، ويعلم أنكم تنفقون الأحب الأجود أم الأخسّ الأرذل ، ونظيره قوله تعالى : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله } [ البقرة : 197 ] ، وقوله : { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ الله يَعْلَمُه } [ البقرة : 270 ] أي : يبينه ويجازيكم على قدره .
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)
الحِلّ بمعنى : الحَلالَ ، وهو - في الأصل - مصدر لِ « حَلَّ يَحِلُّ » ، كقولك : عز يعز عزًّا ، ثم يطلق على الأشخاص ، مبالغة ، ولذلك يَسْتَوي فيه الواحدُ والمثنَّى والمجموعُ ، والمذكَّرُ والمؤنثُ ، كقوله تعالى : { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } [ الممتحنة : 10 ] ، وفي الحديث عن عائشة : « كُنْتُ أطيِّبُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لِحِلِّه ولِحَرَمِهِ » ، أي لإحلاله ولإحرامه ، وهو كالحرم واللبس - بمعنى : الحرام واللباس - وقال ابن عباس - في زمزم - : هي حِلٌّ وبِلٌّ . رواه سفيان بن عُيَيْنَة ، فسئل سفيان ، ما حِلّ؟ فقال : محَلَّل . و « لِبَني » : متعلق ب « حِلاًّ » .
قوله : { إِلاَّ مَا حَرَّمَ } مستثنى من اسم « كَانَ » .
وجوَّز أبو البقاء أن يكون مستثنًى من ضمير مستتر في « حِلاًّ » فقال لأنه استثناء من اسم « كَانَ » والعامل فيه : « كان » ، ويجوز أن يعمل فيه « حِلاًّ » ، ويكون فيه ضمير يكون الاستثناء منه؛ لأن حِلاًّ وحلالاً في موضع اسم الفاعل بمعنى الجائز والمباح .
وفي هذا الاستثناء قولان :
أحدهما : أنه متَّصل ، والتقدير : إلا ما حرَّم إسرائيل على نفسه ، فحرم عليهم في التوراة ، فليس فيها ما زادوه من محرمات ، وادَّعَوْا صحةَ ذلك .
والثاني : أنه مُنْقَطِع ، والتقدير : لكن حرم إسرائيلُ على نفسه خاصَّةً ، ولم يحرمه عليهم ، والأول هو الصحيح .
قوله : { مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة } فيه وجهان :
أحدهما : انه متعلق ب « حَرَّم » أي : إلا ما حرَّم من قبل ، قاله أبو البقاء .
قال أبو حيان : « ويبعد ذلك؛ إذ هو من الإخبار بالواضح؛ لأنه معلوم أن الذي حَرَّم إسرائيل على نفسه ، هو من قبل إنزال التوراة ضرورةً؛ لتباعد ما بين وجود إسرائيل وإنزال التوراة » .
والثاني : أنه يتعلق بقوله : { كَانَ حِلاًّ } .
قال أبو حيان : « ويظهر أنه متعلّق بقوله : { كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ } ، أي : من قبل أن تُنَزًّل التوراة ، وفصل بالاستثناء؛ إذْ هو فَصْل جائز ، وذلك على مذهب الكسائي وأبي الحسن ، في جواز أن يعمل ما قبل » إلا « فيما بعدها إذا كان ظرفاً أو مجروراً أو حالاً - نحو ما جلس إلا زيد عندك ، ما أوَى إلا عمرو إليك ، وما جاء إلا زيد ضاحكاً .
وأجاز الكسائي ذلك في المنصوب مطلقاً ، نحو ما ضرب إلا زيدٌ عمراً؛ وأجاز ذلك هو وابن الأنباري في المرفوع ، نحو ما ضرب إلا زيداً عمرو ، وأما تخريجه على غير مذهب الكسائي وأبي الحسن ، فَيُقدَّر له عامل من جنس ما قبله ، تقديره - هنا - جل من قبل أن ينزل أي تنزل التوراة » .
وقرئ : { تُنَزَّلَ التوراة } بتخفيف الزاي وتشديدها ، وكلاهما بمعنى واحد ، وهذا يرد قولَ من قال بأن « تنَزَّل » - بالتشديد - يدل على أنه نزل مُنَجَّماً؛ لأن التوراة إنَّما نزلت دُفْعَةً واحدة بإجماع المفسرين .
فصل
لما تقدمت الآيات الدالة ُ على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، والإلزامات الواردة على أهل الكتاب ، بين في هذه الآية الجوابَ عن شُبُهاتهم ، وهي تحتمل وجوهاً :
روي أن اليهود كانوا يُعَوِّلُونَ في إنكار شرع محمد صلى الله عليه وسلم على إنكار النسخ ، فأبطل الله - تعالى - عليهم ذلك بأن كل الطعام كان حِلاًّ لبني إسرائيل ، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه ، فذلك الذي حرمه على نفسه كان حلالاً ، ثم صار حراماً عليه وعلى أولاده ، فحصل النسخُ ، وبطل قولكم : النسخ غير جائز ، فلما توجَّه على اليهود هذا السؤالُ أنكروا أن تكون حرمةُ ذلك الطعام الذي حُرِّم بسبب أن إسرائيلَ حرَّمه على نفسه ، بل زعموا أن ذلك كان حراماً من زمان آدم إلى زمانهم ، فعند هذا طلب الرسول صلى الله عليه وسلم منهم أن يُحْضِروا التوراةَ؛ فإن التوراةَ ناطقة بأن بعض أنواع الطعام إنما حُرِّم بسبب أن إسرائيلَ حرَّمه على نفسه ، فخافوا من الفضيحة ، وامتنعوا من إحضار التوراة ، فحصل عند ذلك أمور كثيرة تُقَوِّي القولَ بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
منها : أن النسخ قد ثبت لا محيصَ عنه ، وهم يُنْكِرُونه .
ومنها : ظهور كذبهم للناس ، فيما نسبوه إلى التوراة .
ومنها : أنه صلى الله عليه وسلم كان أمِّيًّا ، لا يقرأ ولا يكتب ، فدل على أنه لم يعرفُ هذه المسألةَ الغامضةَ إلا بوحي من الله تعالى .
الوجه الثاني : أن اليهود قالوا له : إنك تدَّعي أنك على ملة إبراهيم ، فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانَها مع أن ذلك كان حراماً في دين إبراهيم ، فلست أنت على ملة إبراهيم ، فجعلوا ذلك شبهةً طاعِنةً في صحة دعواه ، فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الشبهة وقال : إن ذلك كان حلالاً لإبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاق ويعقوبَ ، إلا أن يعقوبَ حرَّمه على نفسه ، لسبب من الأسباب ، وبقيت تلك الحُرْمَةُ في أولاده ، فأنكر اليهودُ ذلك ، وقالوا : ما نحرمه اليوم كان حراماً على نوح وإبراهيمَ حتى انتهى إلينا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإحضار التوراةِ ، وطالَبَهُمْ بأن يستخرجوا منها آيةً تدل على أن لحومَ الإبل وألبانَها كانت محرمةً على إبراهيم ، فعجزوا عن ذلك ، وافتضحوا ، فظهر كذبُهم .
الوجه الثالث : أنه - تعالى - لما أنزل قوله : { وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } [ الأنعام : 146 ] ، قال تعالى : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [ النساء : 160 ] فدل ذلك على أنه إنما حرم على اليهود هذه الأشياء - جزاءً لهم على بَغيهم - وأنه لم يكن شيء من الطعام حراماً ، غير الذي حرا إسرائيل على نفسه ، فشقَّ ذلك على اليهود من وجهين :
أحدهما : أن ذلك يدل على تحريم هذه الأشياءِ بعد الإباحة ، وذلك يقتضي النسخ ، وهم ينكرونه .
والثاني : أن ذلك يدل على أنهم كانوا موصوفين بقبائح الأفعال ، فلما شَقَّ ذلك عليهم من هذين الوجهين ، أنكروا كَوْنَ حُرْمَةِ هذه الأشياء متجدِّدَةً ، وزعموا أنها كانت مُحَرَّمَةً أبداً ، فطالبهم النبيُّ بآية من التوراة تدل على صِحَّةِ قولِهم فعجزوا وافتضحوا فهذا وجه النظم وسبب النزول .
فصل
قال الزمخشري : « كُلُّ الطَّعَامِ » كل المطعومات ، أو كل أنواع الطعام .
واختلف الناس في اللفظ المفرد المحلَّى بالألف واللام ، هل يفيد العموم أم لا؟
فذهب قوم إلى أنه يفيده لوجوه :
الأول : أنه - تعالى - أدْخل لفظ « كُلّ » على لفظ « الطَّعَامِ » فلولا أن لفظ الطَّعَامِ « قائم مقام المطعومات ، وإلا لما جاز ذلك .
والثاني : أنه استثنى ما حرم إسرائيلُ على نفسه ، والاستثناء يُخْرِج من الكلام ما لولاه لدخل فلولا دخول كل الأقسام تحت لفظ : » الطَّعَام « ، وإلا لم يَصِحْ الاستثناء ويؤيده قوله تعالى : { والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ } [ العصر : 1-3 ] .
الثالث : أنه - تعالى - وصف هذا اللفظ المفرد بما يُوصف به لفظ الجمع ، فقال { والنخل بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ } [ ق : 10 ] ، فعلى هذا لا يحتاج إلى الإضمار الذي ذكره الزمخشريُّ .
ومن قال : إنه لا يفيد العمومَ ، يحتاج إلى الإضمار .
فصل
الطعام : اسم لكل ما يُؤكَل ويُطْعَم .
وزعم بعض الحنفيَّة : أنه اسم للبُرِّ خاصَّةً ، وهذه الآية حُجَّة عليهم؛ لأنه استثنى من لفظ » الطَّعَامِ « : ما حرم إسرائيل على نفسه ، وأجمع المفسرون على أن ذلك الذي حرَّمه على نفسه كان غير الحنطة وما يُتَّخَذ منها ، ويؤكد ذلك قوله - في صفة الماء- : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني } [ البقرة : 249 ] ، وقوله : { وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } [ المائدة : 5 ] ، وأراد الذبائح ، وقالت عائشة : » مَا لَنَا طَعَامٌ إلاَّ الأسودان « والمراد : التمر والماء .
فصل في المراد بالذي حرم إسرائيل على نفسه
اختلفوا في الذي حرَّمه إسرائيل على نفسه وفي سببه :
قال أبو العالية وعطاء ومقاتل والكلبيُّ : روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » إنَّ يعقوبَ مَرِضَ مَرَضاً شديداً ، فَنَذَرَ لَئِنْ عَافَاهُ اللهُ ليُحَرِّمَنَّ أحَبَّ الطعامِ والشَّرَابِ إلَيْهِ ، وَكَانَ ذَلِكَ لُحْمَانَ الإبلِ وألبانها « .
قال ابن عباس ومجاهد وقتادةُ والسُّدِّيُّ والضَّحَّاكُ : هي العروق ، وكان السبب فيه ، أنه اشتكى عرق النسا ، وكان أصل وجعه - فيما روى جويبر ومقاتلٌ عن الضحاك - أن يعقوب كان قد نذر إن وهبه الله اثْنَي عشر وَلداً ، وأتَى بيتَ لمقدس صحيحاً ، أن يذبح آخرَهم ، فتلقاه ملَكٌ من الملائكة ، فقال : يا يعقوبُ ، إنك رجل قويٌّ ، فهل لك في الصِّراع؟ فصارعه فلم يصرع واحدٌ منهما صاحبه ، فغمزه الملك غمزةً ، فعرض له عرق النسا من ذلك ، ثم قال له الملك : أما إني لو شئتُ أن أصرعك لفعلت ، ولكن غمزتك هذه الغمزة؛ [ لأنك كنتَ نذرتَ إن أتيتَ بيتَ المقدس صحيحاً أن تذبح آخر ولدِك ، فجعل الله له بهذه الغمزة ] مخرجاً ، فلما قدم يعقوب بيت المقدسِ أراد ذَبْحَ ولده ، ونَسِي قولَ المَلَك ، فأتاه الملك ، وقال : إنما غمزتم للمخرج ، وقد وفى نذرك ، فلا سبيل لك إلى ولدِك .
وقال عباسٍ ومُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ والسُّدِّيُّ : أقبل يعقوب من : « حَرَّان » يريد بيت المقدس ، حين هرب من أخيه عيصو ، وكان رجلاً بطيشاً ، قويًّا ، فلقيه ملك ، فظنَّ يعقوب أنه لِصّ ، فعالجه ليصرعه فلم يصرع واحد منهما صاحبه ، فغمز الملك فَخْذَ يعقوب ، ثم صعد إلى السماء ، ويعقوب ينظر إليه ، فهاج به عرق النسا ، ولقي من ذلك بلاءً وشِدَّةً ، وكان لا ينام الليل من الوجع ويبيت وله زقاء : أي صياح ، فحلف لئن شفاه الله أن لا يأكل عِرْقاً ولا طعاماً فيه عِرْق ، فحرَّمه على نفسه ، فكان بنوه - بعد ذلك - يَتَّبعون العروق ، ويخرجونها من اللحم .
وروى جبير عن الضحاك عن ابن عباس : لما أصاب يعقوبَ عرقُ النسا ، وصف له الأطباء أن يجتنب لُحْمانَ الإبل ، فحرَّمها يعقوب على نفسه .
وقال الحسن : حرَّم يعقوب على نفسه لحم الجزور ، تعبُّداً لله تعالى ، فسأل ربه أن يُجِيز له ذلك ، ومنعها الله على وَلَدِهِ .
فإن قيل : التحريم والتحليل إنما يثبت بخطاب الله - تعالى - وظاهر الآية يدل على أن إسرائيلَ حرم ذلك على نفسه ، فكيف صار ذلك سَبَباً لحصول الحُرْمَة؟
فالجواب من وجوه :
الأول : أنه لا يبعد أن الإنسانَ إذا حرَّم شيئاً على نفسه ، فإن الله يُحَرِّمُه عليه كما أن الإنسانَ يحرم امرأته بالطلاق ، ويحرم جاريته بالعِتْق ، فكذلك يجوز أن يقول الله تعالى : إن حرَّمْتَ شيئاً على نفسك فأنا - أيضاً - أحَرِّمُه عليك .
الثاني : أنه صلى الله عليه وسلم ربما اجتهد ، فأدَّى اجتهاده إلى التحريم ، فقال بتحريمه ، والاجتهاد جائز من الأنبياء؛ لعموم قوله : { فاعتبروا ياأولي الأبصار } [ الحشر : 2 ] ، ولقوله : { لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ } [ النساء : 83 ] ، ولقوله - لمحمد صلى الله عليه وسلم - : { عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] ، فدل على أنه كان بالاجتهاد .
وقوله تعالى : { إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ } يدل على أنه إنما حرَّمه على نفسه بالاجتهاد؛ إذْ لو كان بالنصِّ لقال : إلاَّ ما حرَّمه الله على إسرائيل .
الثالث : يُحْتَمَل أن التحريم في شرعه كالنذر في شرعنا ، فكما يجب علينا الوفاةُ بالنذر - وهو بإيجاب العبد على نفسه - كان يجب في شرعه الوفاءُ بالتحريم .
الرابع : قال الأصم : لعل نفسه كانت مائلةً إلى تلك الانواع كُلِّها ، فامتنع من أكلها؛ قَهْراً للنَّفْس ، وطَلَباً لمرضاة الله ، كما يفعله كثير من الزُّهَّادِ .
فصل
ترجم ابنُ ماجه في سننه « دواء عرقِ النساء » وروى بسنده عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « شِفاءُ عِرْقِ النِّسَا ألْيَةُ شَاةٍ ، [ أعرابية ] تُذابُ ، ثُمَّ تُجَزَّأ ثَلاثَةَ أجْزَاءٍ ، ثُمَّ تُشْرَبُ عَلَى الرِّيق في كُلِّ يَوْمٍ جُزْءًا » .
وفي رواية عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - في عرق النسا - : « تُؤخَذُ ألْيَةُ كَبْشٍ عَرَبِيٍّ - لا صَغِيرٍ وَلاَ كَبِيرٍ - فَتُقَطَّع صِغَاراً ، فتُخْرَجُ إهَالتُه ، فتقسَّم ثلاثة أقسام ، قِسْمٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ عَلَى الرِّيقِ » قال أنس : فوصفته لأكثر من مائة ، فبرئوا - بإذن الله عز وجل - ، وروى شعبة قال : حدثني شيخ - في زمن الحجَّاج بن يوسف - في عرق النسا ، يمسح على ذلك الموضع ، ويقول أقسم لك بالله الأعلى ، لئن لم تَنْتَهِ لأكوَينَّك بنارٍ ، أو لأحْلِقَنَّكَ بمُوسى .
قال شعبة : قد جرَّبته ، لقوله : وتمسح على ذلك الموضع .
فصل
دلّت هذه الآية على جواز الاجتهاد للأنبياء؛ ولأنه إذا شُرع الاجتهاد لغيرهم ، فهم أولى؛ لأنهم أكمل من غيرهم ، ومنع بعضُهم ذلك؛ لأنهم متمكنون من الوحي ، وقال تعالى : { ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ } [ التحريم : 1 ] .
فصل
ظاهر الآية يدل على أنَّ الذي حرمه إسرائيل على نفسه ، قد حرَّمه الله على بني إسرائيلَ؛ لقوله تعالى : { كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ } ، فحكم بحلِّ كل أنواع المطعومات لبني إسرائيلَ ، ثم استثنى منها ما حرمه إسرائيلُ على نفسه ، فوجب - بحكم الاستثناء - أن يكون ذلك حراماً عليهمز
فصل
ومعنى قوله : { مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة } أي : قبل نزول التوراة كان حلاًّ لبني إسرائيل كلُّ المطعومات سوى ما حرمه إسرائيلُ على نفسه ، أما بعد نزول التوراة ، فلم يَبْقَ كذلك بل حرم الله - تعالى - عليهم أنواعاً كثيرة .
وقال السدي : حرم الله عليهم في التوراة ما كانوا يُحَرِّمونه قبل نزولها .
قال ابن عطية : إنما كان مُحَرَّماً عليهم بتحريم إسرائيل؛ فإنه كان قد قال : إن عافاني الله لا يأكله لي ولد ، ولم يكن محرَّماً عليهم في التوراة .
وقال الكلبي : لم يُحَرِّمه الله عليهم في التوراة ، وإنما حُرِّم عليهم بعد التوراة بظُلْمهم ، كما قال تعالى : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [ النساء : 160 ] ، وقال : { وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } [ الأنعام : 146 ] روي أن بني إسرائيل كانوا إذا أتوا بذنب عظيم ، حرَّم الله عليهم نوعاً من أنواع الطعام ، أو سلط عليهم سبباً لهلاك أو مَضَرَّةٍ .
وقال الضحاكُ : لم يكن شيئاً من ذلك مُحَرَّماً عليهم ، ولا حَرَّمه الله في التوراة ، وإنما حرموه على أنفسهم؛ اتباعاً لأبيهم ، ثم أضافوا تحريمه إلى الله - عز وجل - فكذبهم الله ، فقال : « قُلْ » : يا محمد { فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها } حتى يتبين أنه كما قلتم { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ، فلم يأتوا بها ، فقال - الله عز وجل- : { فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب } ، « مَنْ » يجوز أن تكون شرطيَّةً ، أو موصولة ، وحمل على لفظها في قوله : « افْتَرَى » فوحَّد الضمير ، وعلى معناها فجمع في قوله : { فأولئك هُمُ الظالمون } ، والافتراء مأخوذ من الفَرْي ، وهو القطع ، والظالم هو الذي يضع الشيء في غير مَوْضِعِه .
وقوله : { مِن بَعْدِ ذَلِكَ } أي : من بعد ظهور الحجة ، { فأولئك هُمُ الظالمون } المستحقون لعذاب الله .
قوله : { مِنْ بَعْدِ } فيه وجهان :
أحدهما : - وهو الظاهر- : أن يتعلق ب « افْتَرَى » .
الثاني : قال أبو البقاء : يجوز أن يتعلق بالكذب ، يعني : الكذب الواقع من بعد ذلك .
وفي المشار إليه ثلاثة أوجه :
أحدها : استقرار التحريم المذكور في التوراةِ عليهم؛ إذ المعنى : إلا ما حرم إسرائيلُ على نفسه ، ثم حرم في التوراة؛ عقوبةً لهم .
الثاني : التلاوة ، وجاز تذكير اسم الإشارة؛ لأن المراد بها بيان مذهبهم .
الثالث : الحال بعد تحريم إسرائيل على نفسه ، وهذه الجملة - أعني : قوله : { فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب } - يجوز أن تكون استئنافيةً ، فلا محل لها من الإعراب ، ويجوز أن تكون منصوبة المحل؛ نسقاً على قوله : { فَأْتُواْ بالتوراة } ، فتندرج في المقول .
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
أي قل لهم .
والعامة على إظهار لام « قُلْ » مع الصاد .
وقرأ ابنُ بن تغلب بإدغامها فيها ، وكذلك أدغم اللام في السين في قوله : { قُلْ سِيرُواْ } [ الأنعام : 11 ] وسيأتي أن حمزةَ والكسائيِّ وهشاماً أدْغموا اللام في السين في قوله : { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ } [ يوسف : 18 ] .
قال أبو الفتح : « عِلَّةُ ذلك فُشُوُّ هذين الحرفَيْن في الضم ، وانتشار الصوت المُنْبَثّ عنهما ، فقاربتا بذلك مخرج اللام ، فجاز إدغامها فيهما » ، وهو مأخوذ من كلام سيبويه ، فإن سيبويه قال : « والإدغام ، يعني : إدغام اللام مع الصاد والطاء وأخواتهما ، جائز ، وليس ككثرته مع الراء؛ لأن هذه الحروفَ تراخين عنها ، وهن من الثنايا؛ قال : وجواز الإدغام أنّ ىخر مخرج اللام قريب من مخرجها » . انتهى .
قال أبو البقاء عبارة تُوَضِّحُ ما تقدم ، وهي : « لأن الصاد فيها انبساط ، وفي اللام انبساط ، بحيث يتلاقى طرفاهما ، فصارا متقاربين » . وقد تقدم إعراب قوله : ملة إبراهيم حنيفاً .
فصل
{ قُلْ صَدَقَ الله } يحتمل وجوهاً :
أحدها : قل : صدق اللهُ في أن ذلك النوعَ من الطعام ، صار حراماً على بني إسرائيلَ ، وأولادِه بعد أن كان حلالاً لهم ، فصحَّ القولُ بالنسخ ، وبطلت شُبْهَةُ اليهود .
وثانيها : قل : صدق اللهُ في أن لحوم الإبل ، وألبانها كانت مُحَلَّلَةً لإبراهيمَ ، وإنما حُرِّمَتْ على بني إسرائيلَ؛ لأن إسرائيلَ حَرَّمها على نفسه ، فثبت أن محمداً لما أفتى بِحلِّ لحوم الإبل ، وألبانِها ، فقد أفتى بملة إبراهيمَ .
وثالثها : صدق الله في أن سائرَ الأطعمة ، كانت مُحَلَّلَةً لبني إسرائيلَ ، وإنما حُرِّمَتْ على اليهود؛ جزاءً على قبائح أفعالهم .
وقوله : { فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } أي : اتبعوا ما يدعوكم إليه محمد صلى الله عليه وسلم من ملة إبراهيمَ .
وسواء قال : { مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } أو قال : « ملة إبراهيم الحنيف » ؛ لأن الحال والصفة في المعنى سواء .
وقوله : { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } أي : لم يدْعُ مع الله إلهاً آخرَ ، كما فعله العرب من عبادة الأوثان ، أو كما فعله اليهودُ من أن عُزَيراً ابن الله ، أو كما فعله النصارى من ادِّعاء أن المسيح ابن الله .
والمعنى : إن إبراهيم - عليه السلام - لم يكنْ من الطائفة المشركةِ في وقت من الأوقاتِ ، والغرض منه بيان أن محمداً صلى الله عليه وسلم على دين إبراهيم في الفروع والأصول؛ لأن مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم لا يدعو إلا إلى التوحيدِ ، والبراءة عن كل معبودٍ سوى اللهِ تعالى .
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه :
الأول : أن المرادَ منه : الجواب عن شبهةٍ أخْرَى من شُبَهِ اليهود في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لمَّا حُوِّل إلى الكعبةِ ، طَعَنَ اليهودُ في نبوَّتِهِ ، وقالوا : إنَّ بيتَ المقدس أفضل من الكعبة وأحق بالاستقبال؛ لأنه وُضِع قبل الكعبة ، وهو أرضُ المحشَر ، وقبلةُ جُملة الأنبياء ، وإذا كان كذلك فتحويل القبلةِ منه إلى الكعبة باطل ، وأجابهم الله بقوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } هو الكعبة ، فكان جَعْلُه قِبْلَةً أوْلَى .
الثاني : أن المقصود من الآيةِ المتقدمةِ بيان النسخ ، هل يجوز أم لا؟ واستدلَّ - عليه السلام - على جوازه ، بأن الأطعمة كانت مُباحةً لبني إسرائيلَ ، ثم إن الله تعالى حرَّم بعضَها ، والقوم نازعوه فيه ، وأعظم الأمور التي أظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم نسخه هو القبلة ، فذكر الله - في هذه الآيات - بيان ما لأجله حُوِّلَت القبلة إلى الكعبة ، وهو كَوْنُ الكعبة أفضلَ من غيرها .
الثالث : أنه - تعالى - لما قال في الآية المتقدمةِ : { فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } [ آل عمران : 95 ] ، وكان من أعظم شعائر ملة إبراهيمَ الحَجُّ - ذكر في هذه الآية فضل البيت؛ ليُفَرِّعَ عليه إيجابَ الحَجِّ .
الرابع : أنه لما تقدَّم مناظرة اليهود والنصارى ، وزعموا أنهم على ملة إبراهيم ، فبيّن الله كذبهم في هذه الآية من حيث إن حَجَّ الكعبةِ كان ملةَ إبراهيمَ ، وهم لا يَحُجُّون ، فدل ذلك على كذِبهم .
قوله : { وُضِعَ لِلنَّاسِ } هذه الجملة في موضع خفض؛ صفة ل « بَيْتٍ » .
وقرأ العامة « وُضِعَ » مبنيًّا للمفعول . وعكرمة وابن السميفع « وضَعَ » مبنيًّا للفاعل .
وفي فاعله قولان :
أحدهما : - وهو الأظهر - أنه ضمير إبراهيم؛ لتقدُّم ذِكْرِه؛ ولأنه مشهور بعمارته .
والثاني : أنه ضمير الباري تعالى ، و « لِلنَّاسٍ » متعلق بالفعل قبله ، واللام فيه للعلة .
و « للذي » بِبَكَّة « خبر » إنَّ « وأخبر - هنا - بالمعرفة - وهو الموصول - عن النكرة - وهو » أول بَيْتٍ « - لتخصيص النكرة بشيئين : الإضافة ، والوصف بالجملة بعده ، وهو جائز في باب » إن « ، ومن عبارة سيبويه : إن قريباً منك زيدٌ ، لما تخصص » قريباً « بوصفه بالجار بعده ساغ ما ذكرناه ، وزاده حُسْناً - هنا - كونه اسماً ل » إنَّ « ، وقد جاءت النكرة اسماً ل » إنَّ « - وإن لم يكن تخصيص - كقوله : [ الطويل ]
1538- وَإنَّ حَرَاماً أن أسُبَّ مُجَاشِعاً ... بِآبَائِيَ الشُّمِّ الْكِرَامِ الخَضَارِمِ
وببكة صلة ، و الباء فيه ظرفية ، أي : في مكة .
وبكة فيها اربعة أوجه :
أحدها : أنها مرادفة ل » مكة « فأبدلت ميمها باءً ، قالوا : والعرب تُعَاقِب بين الباء والميم في مواضع ، قالوا : هذا على ضربة لازم ، ولازب ، وهذا أمر راتب ، وراتم ، والنبيط والنميط وسبد رأسه وسمَدَها ، وأغبطت الحمى ، وأغمطت .
وقيل : إنها اسم لبطن مكة ، ومكة اسم لكل البلد .
وقيل : إنها اسم لمكان البيت .
وقيل : إنها اسم للمسجد نفسه ، وأيدوا هذا بأن التباكّ وهو : الازدحام إنما يحصل عند الطواف ، يقال : تباكَّ الناسُ - أي : ازْدَحموا ، ويُفْسِد هذا القولَ أن يكون الشيء ظرفاً لنفسه ، كذا قال بعضهم ، وهو فاسد ، لأن البيت في المسجد حقيقةً .
وقال الأكثرون : بكة : اسم للمسجد والمطاف ، ومكة : اسم البلد ، لقوله تعالى : { لَلَّذِي بِبَكَّةَ } فدل على أن البيت مظروف في بكة ، فلو كان بكة اسماً للبيت لبطل كون بكةَ ظرفاً له .
وسميت بكة؛ لازدحام الناس ، قاله مجاهد وقتادة ، وهو قول محمد بن علي الباقر .
وقال بعضهم : رأيت محمد بن علي الباقر يصلي ، فمرت امرأة بين يديه ، فذهبت أدْفَعها ، فقال : دعها ، فإنها سُمِّيَتْ بكةَ ، لأنه يبكُّ بعضُهم بعضاً ، تمر المرأة بين يدي الرجل وهو يصلي ، والرجل بين يدي المرأة وهي تصلي ، ولا بأس بذلك هنا .
وقيل : لأنها تبكُّ أعناق الجبابرة - أي : تدقها .
قال قطرب : تقول العرب : بَكَكْتهُ ، أبُكُّهُ ، بَكًّا ، إذا وضعت منه .
وسميت مكة - من قولهم : مَكَكْتُ المخ من العظم ، إذا تستقصيته ولم تترك فيه شيئاً .
ومنه : مَكَّ الفصيل ما في ضَرْعِ أمِّه - إذا لم يترك فيه لبناً ، ورُويَ أنه قال : « لا تُمَكِّكُوا عَلَى غُرَمَائِكُمْ » .
وقيل : لأنها تَمُكُّ الذنوبَ ، أي : تُزيلها كلَّها .
قال ابن الأنباري : وسُمِّيَتْ مكة لِقلَّةِ مائِها وزرعها ، وقلة خِصْبها ، فهي مأخوذة من مكَكْت العَظْم ، إذا لم تترك فيه شيئاً .
وقيل : لأن مَنْ ظَلَم فيها مَكَّهُ اللهُ ، أي : استقصاه بالهلاك .
وقيل : سُمِّيت بذلك؛ لاجتلابها الناسَ من كل جانب من الأرض ، كما يقال : امتكّ الفصيلُ - إذا استقصى ما في الضَّرْع .
وقال الخليل : لأنها وسط الأرض كالمخ وسط العظم .
وقيل : لأن العيونَ والمياه تنبع من تحت مكة ، فالأرض كلها تمك من ماء مكة ، والمكوك : كأس يشرب به ، ويُكال به - ك « الصُّوَاع » .
قال القفال : لها أسماء كثيرة ، مكة ، وبكة ، وأمّ رُحْم ، - بضم الراء وإسكان الحاء - قال مجاهد : لأن الناس يتراحمون فيها ، ويتوادَعُون - والباسَّة؛ قال الماوَرْدِي : لأنها تبس من الْحَد فيها ، أي : تُحَطِّمه وتُهْلكه ، قال تعالى : { وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً } [ الواقعة : 5 ] .
ويروى : الناسَّة - بالنون - قال صاحبُ المطالع : ويقال : الناسَّة - بالنون- . قال الماوَرْدِيُّ : لأنها تنس من ألحد فيها - أي : تطرده وتَنْفِيه .
ونقل الجوهري - عن الأصمعي- : النَّسّ : اليبس ، يُقال : جاءنا بخُبْزَة ناسَّة ، ومنه قيل لمكةَ : الناسَّة؛ لقلة مائها .
والرأس ، والعرش ، والقادس ، و المقدَّسة - من التقديس - وصَلاَحِ - بفتح الصاد وكسر الحاء - مبنيًّا على الكسر كقَطَامِ وحَذَامِ ، والبلد ، والحاطمة؛ لأنها تحطم من استخَفَّ بها ، وأم القرى؛ لأنها أصل كل بلدة ، ومنها دحيت الأرض ، ولهذا المعنى تُزَار من جميع نواحي الأرض .
فصل
الأوَّلُ : هو الفرد السابق ، فإذا قال : أوَّلُ عبد أشتريه فهو حُرّ ، فلو اشترى عبدَيْن في المرة الأولى لم يُعْتَقْ واحدٌ منهما؛ لأن الأول هو الفرد ، ثم لو اشترى بعد ذلك ما شاء لم يعتق؛ لأن شرط الأوَّليَّة قد عُدِمَ .
إذا عُرِفَ هذا ، فقوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } لا يدل على أنه أوَّلُ بَيْتٍ خلقه الله تعالى ، ولا أنه أول بيت ظهر في الأرض ، بل يدل على أنه أول بيت وُضِعَ للناس ، فكونه موضوعاً للناس يقتضي كونه مشتركاً فيه بين جميع الناس ، وكونه مشتركاً فيه بين كل الناس ، لا يحصل إلا إذا كان البيت موضعاً للطاعات ، وقِبْلَةً للخلق ، فدلَّت الآية على أن هذا البيت وَضَعه الله - تعالى - للطاعات والعبادات ، فيدخل فيه كونه قِبْلَةً للصلوات ، وموضِعاً للحجِّ .
فإن قيل : كونه أولاً في هذا الوَصْف يقتضي أن يكون له ثانٍ ، فهذا يقتضي أن يكون بيتُ المقدس يشاركه في هذا الصفات ، التي منها وجوبُ حَجِّه ، ومعلوم أنه ليس كذلك .
فالجواب من وجهين :
الأول : أن لفظ « الأوًّل » - في اللغة - اسم للشيء الذي يُوجَد ابتداءً ، سواء حصل بعده شيء آخرُ ، أو لم يحصل ، يقال : هذا أول قدومي مكة ، وهذا أول مال أصَبْتُه ، ولو قال : أول عبدٍ أملكه فهو حُرٌّ ، فملك عبداً عُتِق - وإن لم يملك بعده آخر - فكذا هنا .
الثاني : أن المراد منه : أول بيت وُضِع لطاعات الناس وعباداتهم ، وبيت المقدس يُشاركه في كونه موضوعاً للطاعاتِ والعباداتِ ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلاَّ لِثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ : المَسْجِد الْحَرَامِ ، والمسْجِدِ الأقْصَى ، ومَسْجِدِي هَذَا » ، وهذا القدر يكفي في صدق كَوْنِ الكعبةِ أول بيتٍ وضع للناس ، فأما أن يكون بيتُ المقدسِ مشاركاً له في جميع الأمور ، حتى في وجوبِ الحَجِّ ، فهذا غير لازم .
فصل
قوله تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ } يحتمل أن يكون المراد : أنه أول في الموضع والبناء ، وأن يكون أولاً في كونه مباركاً وهُدًى ، وفيه قولان للمفسرين .
فعلى الأول فيه أقوال :
أحدها : روى الواحدي في البسيط عن مجاهد أنه قال : خلق الله البيت قبل أن يخلقَ شيئاً من الأرضين .
وفي رواية : « خَلَقَ اللهُ مَوْضِعَ هَذَا البَيْتِ قَبْلَ أنْ يَخْلُق شَيْئاً مِنَ الأرضِينَ بِألْفي سَنَةٍ ، وَإنَّ قَوَاعِدَه لَفِي الأرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى » .
وروى النووي - في مناسكه - عن الأزْرَقِي - في كتاب مكة - عن مجاهد قال : إن هذا البيتَ أحد أربعة عشر بيتاً ، في كل سماء بيتٌ ، وفي كل أرض بيت ، بعضهن مقابل بعض .
وروى أيضاً عن علي بن الحُسَيْن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - عن النبي صلى الله عليه وسلم - عن الله - تعالى - قال : « إنَّ اللهَ بَعَثَ مَلاَئكةً ، فَقَالَ : ابْنُوا لِي فِي الأرْضِ بَيْتاً عَلَى مِثَالِ البَيْتِ المَعْمُورِ ، فبنوا له بيتاً على مثالِه ، واسْمُه الضُّرَاح ، وَأمَرَ اللهُ مَنْ فِي الأرْضِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ - الَّذِينَ هُمْ سُكَّانُ الأرْضِ - أنْ يَطُوفُوا بِهِ كَمَا يَطُوفُ أهْلُ السَّمَاءِ بِالْبَيْتِ المَعْمُورِ وَهَذَا كَانَ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ بِألفَيْ عَامٍ وَكَانُوا يَحُجُّونَهُ ، فَلَمَّا حَجَّه آدَمُ ، قَالَتِ المَلاَئِكَةُ : بَرَّ حَجُّك ، حَجَجْنَا هَذَا البَيْتَ قَبْلَكَ بِألْفَي عَامٍ » ورُوِي عن عبد الله بن عمر ومجاهد و السُّدِّيّ : أنه أول بيت وُضِعَ على وجه الماء ، عند خلق الأرض والسماء ، وقد خلقه الله قبل خلق الأرض بألفي عام ، وكان زَبَدَةً بيضاء على الماء ، ثم دُحِيَت الأرض من تحته .
قال القفال في تفسيره : روى حَبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس ، قال ، وُجِدَ في كتاب - في المقام ، أو تحت المقام - أنا الله ، ذو بكَّةَ ، وضعتُها يومَ وضعتُ الشمسَ والقمرَ ، وحرَّمْتُها يوم وَضَعْتُ هذين الحجرَيْن وحفَفْتُها بسبعة أملاك حُنَفَاء .
روي : أن آدم لما أهْبِط إلى الأرض شكا الوحشةَ ، فأمره الله - تعالى - ببناء الكعبةِ ، وطاف بها وبقي ذلك إلى زمان نوح صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أرسلَ اللهُ الطوفانَ ، رفع البيت إلى السماء السابعة - حيال الكعبة - تتعبد عنده الملائكة ، يدخله كلَّ يوم سبعون ألف مَلَك ، سوى مَنْ دخل قبلُ فيه ، ثم بعد الطوفان اندرس موضعُ الكعبةِ ، وبقي مُخْتَفِياً إلى أن بعث الله جبريلَ إلى إبراهيم ، ودلَّه على مكان البيت ، وأمره بعمارته .
قال القاضي : القول بأنه رُفِع - زمانَ الطوفان - إلى السماء بعيد؛ لأن موضِعَ التشريف هو تلك الجهة المعينة ، والجهة لا يمكن رفعها إلى السماء ، ألا ترى أن الكعبة لو انهدمت - والعياذ بالله - ونُقِلت الحجارة بعد الانهدام ، ويجب على كل مسلم أن يُصَلِّيَ إلى تلك الجهةِ بعينها ، وإذا كان كذلك ، فلا فائدة في رفع تلك الجدرانِ إلى السماء .
انتهى .
فدلت هذه الأقوال المتقدمة على أن الكعبة ، كانت موجودةً في زمان آدم - عليه السلام - ويؤيده أن الصلوات كانت لازمةً في جميع أديان الأنبياء ، لقوله : { أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين مِن ذُرِّيَّةِ ءادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا واجتبينآ إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرحمن خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً } [ مريم : 58 ] .
ولما كانوا يسجدون لله ، فالسجود لا بد له من قِبْلَةٍ ، فلو كانت قبلة شيث وإدريس ونوح موضعاً آخر سوى القبلة لبطل قوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ } ، فدلَّ ذلك على أن قبلةَ أولئك الأنبياء هي الكعبةُ .
القول الثاني : أنَّ المرادَ بالأوليَّةِ : كونه مباركاً وهدًى ، قالوا : لأنه رُوِي أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن أول مسجد وُضِعَ للنَّاس ، فقال : « المَسْجِدُ الحَرَامُ ، ثُمَّ بَيْتُ المَقْدسِ ، فَقِيلَ : كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قال : أرْبَعُونَ سَنَةً ، وأينما أدْرَكَتْك الصلاةُ فَصَلِّ فهو مسجدٌ » .
وعن علي : أن رجلاً قال له : هو أول بيتٍ؟ قال : لا ، كان قبلَه بيوتٌ ، أول بيت وُضِعَ للناس ، مباركاً ، فيه الهُدَى والرحمةُ والبركةُ ، أول مَنْ بناه إبراهيم ، ثم بتاه قوم من العرب من جُرْهُم ، ثم هُدِم ، فبنته العمالقةُ ، وهم ملوك من أولاد عمليق بن سام بن نوح ، ثم هدم فبناه قريش . ودلالة الآية على الأولية في الشرف أمر لا بد منه؛ لأن المقصود الأصلي من هذه الأولية ترجيحه على بيت المقدس ، وهذا إنما يتم بالأوليةِ في الفضيلةِ والشرفِ ، ولا تأثيرَ للأوليَّة في البناء في هذا المقصودِ ، إلا أن ثبوتَ الأوليةِ بسبب الفضيلةِ لا ينافي ثبوتَ الأولية في البناء .
فصل في بيان فضيلته
اتفقتِ الأمَمُ على أن باني هذا البيت هو الخليل - عليه السلام - وباني بيت المقدس سليمان - عليه السلام - فمن هذا الوجه ، تكون الكعبة أشرف ، فكان الآمر بالعمارة هو الله ، والمبلغُ والمهندسُ جبريل ، والبانِي هو الخليلَ ، والتلميذُ المُعِينُ هو إسماعيل؛ فلهذا قيل : ليس في العالم بِنَاءٌ أشرف من الكعبة .
وأيضاً مقام إبراهيم ، وهو الحَجَر الذي وَضَع إبراهيمُ قدمه عليه ، فجعل الله ما تحت قدم إبراهيم من ذلك الحجر - دون سائر أجزائه - كالطين ، حتى غاصَ فيه قدمُ إبراهيم من ذلك الحَجَر ، وهذا مما لا يقدر عليه إلا الله ، ولا يُظْهِره إلا على الأنبياء ، ثم لمَّا رفع إبراهيمُ قدمه عنه ، خلق اللهُ فيه الصلابة الحجريَّةَ مرةً أخرى ، ثم إنه أبْقَى ذلك الحجرَ على سبيل الاستمرار والدوام ، فهذه أنواع من الآيات العجيبة ، والمعجزات الباهرةِ .
وأيضاً قلّة ما يجتمع من حَصَى الجمار فيه ، فإنه منذ آلاف السنين ، وقد يبلغ من يرمي في كل سنة خمسمائة ألف إنسان كل واحد منهم سبعين حصاةً ، ثم لا يُرَى هناك إلا ما لو اجتمع في سنةٍ واحدةٍ لكان غير كثير ، وليس الموضع الذي تُرْمَى إليه الجمرات مَسِيل ماء ، ولا مَهَبَّ رِياحٍ شديدةٍ ، وقد جاء في الأثر : أن مَنْ قُبِلَتْ حَجَّتُهُ رُفِعَتْ جَمَرَاتُهُ إلى السَّمَاءِ .
وأيضاً فإن الطيور لا تمر فوقَ الكعبةِ عند طيرانها في الهواء بل تنحرف عنه إذا وصلت إلى ما فوقه .
وأيضاً فالوحوش إذا اجتمعت عنده لا يُؤذي بعضُهم بعضاً - كالكلاب والظباء - ولا يصطاد فيه الظباءَ الكلاب والوحوشُ ، وتلك خاصِّيَّةٌ عظيمةٌ ، ومن سكن مكة أمِن من النهب والغارة ، بدعاء إبراهيمَ وقوله :
{ رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً } [ إبراهيم : 35 ] ، وقال : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] ، وقال : { رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [ قريش : 3-4 ] .
وأيضاً فالأشرم - صاحب الفيل - لما قاد الجيوش والفيل إلى الكعبة ، وعجز قريش عن مقاومته ، وفارقوا مكةَ وتركوا له الكعبة ، فأرسلَ الله - تعالى - عليهم طيراً أبابيلَ ، ترميهم بحجاةٍ ، والأبابيل : هم الجماعة من الطير بعد الجماعة ، وكانت صِغَاراً ، تحمل أحجاراً ترميهم بها ، فهلك الملك والعسكر بتلك الأحجار - مع أنها كانت في غاية الصغَر - وهذه آيةٌ باهرةٌ دالةٌ على شرف الكعبة .
فإن قيل : ما الحكمة في أن الله - تعالى - وَضَعَها بوادٍ غيرِ ذِي زرع؟
فالجواب من وجوه :
أحدها : أنه - تعالى - قطع بذلك رجاءَ أهل حَرَمه وسَدَنَةِ بيته عَمَّنْ سواه ، حتى لا يتكلوا إلا على الله تعالى .
وثانيها : أنه لا يسكنها أحد من الجبابرة والأكاسرة ، فإنهم يُحبُّونَ طيبات الدنيا ، فإذا لم يجدوها هناك تركوا ذلك الموضِعَ ، والمقصود تنزيه ذلك الموضع عن لوث وجود أهل الدنيا .
وثالثها : أنه فعل ذلك؛ لئلا يقصدها أحدٌ للتجارة ، بل يكون ذلك لمحض العبادة والزيارة .
ورابعها : أن الله - تعالى - أظهر بذلك شَرَف الفَقْر ، حيث وَضَعَ أشرف البيوت ، في أقل المواضع نصيباً من الدنيا ، فكأنه قال : جعلت أهل الفقر في الدنيا أهل البلد الأمينَ ، فكذلك أجعلهم في الآخرة أهل المقام الأمين ، لهم في الدنيا بيتُ الأمْن ، وفي الآخرة دارُ الأمْن .
فسل
للكعبة أسماء كثيرة :
أحدها : الكعبة ، قال تعالى : { جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لِّلنَّاسِ } [ المائدة : 97 ] ، وهذا الاسم يدل على الإشراف والارتفاع ، وسمي الكعب كعباً؛ لإشرافه على الرسغ ، وسميت المرأة الناهدة الثديين كاعباً لارتفاع ثدييها ، فلما كان هذا البيت أشرف بيوت الأرض ، وأقدمها زماناً ، سُمي بهذا الاسم .
وثانيها : البيت العتيق ، قال تعالى : { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق } [ الحج : 33 ] وسُمي العتيقَ؛ لأنه أقدم بيوت الأرض .
وقيل : لأنه خُلِق قبل الأرض والسماء؛ وقيل : لأن الله - تعالى - أعْتَقَه من الغَرَق .
وقيل : لأن كُلَّ من قَصَد تخريبه أهلكه الله - مأخوذ من قولهم : عتق الطائر - إذا قَوِي في وَكْرِه .
وقيل : لأن كل من زَارَه أعتقه اللهُ من النار .
وثالثها : المسجد الحرام ، قال تعالى : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } [ الإسراء : 1 ] وسُمِّيَ بذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته - يوم فتح مكة - : « ألاَ إنَّ اللهَ حرَّم مكّة يَوْمَ خَلَقَ السَّمواتِ والأرْضَ ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ ، لا يُعْضَد شَجَرُها ولا يختلى خلاؤها ، ولا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إلا لمُنْشِدها » .
فإن قيل : كيف الجمع بين قوله : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ } [ الحج : 26 ] ، وقوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 96 ] فهناك أضافه إلى نفسه ، وهنا أسندَه إلى الناس؟
فالجواب : كأنه قال : البيت لي ، ولكن وضعته ليكون قبلة للناس .
قوله : { مُبَارَكاً وَهُدًى } حالان ، إما من الضمير في « وُضِعَ » كذا أعربه أبو البقاء وغيره ، وفيه نظر؛ من حيث إنه يلزم الفصل بين الال بأجنبيّ - وهو خبر « إنَّ » - وذلك غير جائز؛ لأن الخبر معمول ل « إنَّ » فإن أضمرت عاملاً بعد الخبر أمكن أن يعمل في الحال ، وكان تقديره : أول بيت وُضِعَ للناس للذي ببكة وُضِعَ مباركاً ، والذي حمل على ذلك ما يُعْطيه تفسير أمير المؤمنين من أنه وُضِعَ أولاً بقيد هذه الحال .
وإما أن يكون العاملُ في الحال هو العامل في « بِبَكَّةَ » أي استقر ببكة في حال بركته ، وهو وجه ظاهر الجواز . والظاهر أن قوله : « وَهُدًى » معطوف على « مُبَارَكاً » والمعطوف على الحال حال .
وجوز بعضهم أن يكونَ مرفوعاً ، على أنه خبر مبتدأ محذوف - أي : وهو هدى - ولا حاجة إلى تكلف هذا الإضمار .
والبركة : الزيادة ، يقال : بارك الله لك ، أي : زادك خيراً ، وهو مُتَعَدٍّ ، ويدل عليه قوله تعالى : { أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا } [ النمل : 8 ] و « تبارك » لا يتَصَرف ، ولا يُستعمل إلا مُسْنداً لله تعالى ، ومعناه - في حقه تعالى- : تزايد خيرُه وإحسانه .
وقيل : البركة ثبوت الخير ، مأخوذ من مَبْرَك البعير .
وإما من الضمير المستكن في الجار وهو « ببكة » لوقوعه صلة ، والعامل فيها الجار وبما تضمنه من الاستقرار أو العامل في الجار ويجوز أن ينصب على إضمار فعل المدح أو على الاختصاص ، ولا يضر كونه نكرة وقد تقدم دلائل ذلك . و « للعالمين » كقوله : « للمتقين » أول البقرة .
فصل
البركة لها معنيان .
أحدهما : النمو والتزايُد .
والثاني : البقاء والدوام ، يقال : تبارك الله؛ لثبوته ولم يزل ولا يزال .
والبركة : شبه الحوض؛ لثبوت الماء فيها ، وبَرَكَ البعير إذا وضع صَدْرَه على الأرض وثَبت واستقرَّ ، فإن فسرنا البركة بالنمو والتزايد ، فهذا البيت مبارَك فيه من وجوه :
أحدها : أن الطاعات يزداد ثوابُها فيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « فَضْلُ المَسْجِدِ الحَرَامِ عَلَى مَسْجِدِي فَضْلُ مَسْجِدِي عَلَى سَائِرِ المَسَاجِدِ » ، ثُمَّ قال : « صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أفْضَلُ مِنْ ألْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ » هذا في الصلاة ، وأمَّا في الحج فقد قال صلى الله عليه وسلم : « مَنْ حَجَّ هَذَا البَيْتَ ، ولَمْ يَرْفُثْ ، ولم يَفْسُق ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِِ كَيَوْم وَلَدَتْهُ أمُّهُ » ، وفي حديث آخر : « الحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلاَّ الجَنَّةَ » ، ومعلوم أنه لا أكثر بركةً مما يجلب المغفرة والرحمة .
ثانيها : قال القَفَّالُ : ويجوز أن يكون بركته ، ما ذكر في قوله تعالى :
{ يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً } [ القصص : 57 ] فيكون كقوله : { إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [ الإسراء : 1 ] .
وثالثها : أن العاقل يجب أن يستحضرَ في ذهنه أنَّ الكعبةَ كالنقطة ، وليتصور أن صفوف المتوجهين في الصلوات كالدوائر المحيطة بالمركز ، وليتأمل كم عدد الصفوف المحيطة بهذه الدائرة حال اشتغالهم بالصلاة ، ولا شكَّ أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم عُلْويَّة ، وقلوبهم قدسية ، وأسرارهم نورانية ، وضمائرهم ربانية ، ثم إن تلك الأرواح الصافية إذا توجهت إلى كعبة المعرفة ، وأجسادهم توجَّهت إلى هذه الكعبة الحسية ، فمن كان في الكعبة يتصل أنوار أرواح أولئك المتوجهين بنور روحه ، فتزداد الأنوار الإلهية في قلبه ، ويَعْظُم لمعان الأضواء الروحانية في سِرِّه ، وهذا بَحْرٌ عظيم ، ومقام شريف ، وهو ينبهك على معنى كونه مباركاً . وإن فسرنا البركةَ بالدوام فالكعبة لا تنفك من الطائفين والراكعين والساجدين والعاكفين . وأيضاً فالأرض كرة ، وإذا كان كذلك فكل زمان يُفْرَض فهو صُبْح لقوم ، وظهر لآخرين ، وعَصر لثالث ، ومغرب لرابع ، وعشاء لخامس ، وإذا كان الأمر كذلك ، لم تنفك الكعبةُ عن توجُّه قوم إليها من طرَفٍ من أطراف العالم؛ لأداء فرض الصلاة ، فكان الدوام حاصلاً من هذه الجهة ، وأيضاً بقاء الكعبة على هذه الحالة ألُوفاً من السنين دوام - أيضاً - .
وأما كونه هدًى للعالمين ، فقيل : لأنه قبلة يهتدون به إلى جهة صلاتهم .
وقيل : هُدًى ، أي : دلالة على وجود الصانع المختار ، وصدق محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة ، بما فيه من الآيات والعجائب التي ذكرناها .
وقيل : هُدًى للعالمين إلى الجنة؛ لأن من أقام الصلاة إليه استوجب الجنة .
قوله : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } يجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال ، إما من ضمير « وُضِعَ » وفيه ما تقدم من الإشكال .
وأمَّا من الضمير في « بِبَكَّةَ » وهذا على رأي مَنْ يُجِيز تعدد الحال الذي حالٍ واحدٍ .
وإما من الضمير في « للعالمِينَ » ، وإما من « هُدًى » ، وجاز ذلك لتخصُّصِه بالوَصْف ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في « مُبَارَكاً » .
ويجود أن تكون الجملة في محل نصب؛ نعتاً لِ « هُدًى » بعد نعته بالجار قبله . ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفةً ، لا محل لها من الإعراب ، وإنما جِيء بها بياناً وتفسيراً لبركته وهُداه ، ويجوز أن يكون الحال أو الوصف على ما مر تفصيله هو الجار والمجرور فقط ، و « آياتٌ » مرفوع بها على سبيل الفاعلية لأن الجار متى اعتمد على أشياء تقدمت أول الكتاب رفع الفاعل ، وهذا أرجح مِنْ جَعْلِها جملةً من مبتدأ وخبر؛ لأن الحالَ والنعتَ والخبرَ أصلها : أن تكون مفردة ، فما قَرُب منها كان أولى ، والجار قريب من المفرد ، ولذلك تقدَّكم المفردُ ، ثم الظرفُ ، ثم الجملة فيما ذكرنا ، وعلى ذلك جاء قوله تعالى :
{ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ } [ غافر : 28 ] ، فقدم الوصف بالمفرد « مُؤمِنٌ » ، وثَنَّى بما قَرُبَ منه وهو { مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } [ البقرة : 49 ] ، وثلَّث بالجملة وهي { يَكْتُمُ إِيمَانَهُ } وقد جاء في الظاهر عكس هذا ، وسيأتي الكلام عليه - إن شاء الله - عند قوله : { بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ } [ المائدة : 45 ] .
قوله : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } فيه أوْجُه :
أحدها : أن « مَقَام » : بدل من « آيَاتٌ » وعلى هذا يقال : إن النحويين نَصُّوا على أنه متى ذكر جَمع لا يُبْدَل منه إلا ما يُوَفِّي بالجمع ، فتقول : مررت برجال زيد وعمرو وبكر؛ لأن أقل الجمع - على الصحيح - ثلاثة ، فإن لم يُوَفِّ ، قالوا : وجب القطع عن البدلية ، إما إلى النصب بإضمار فِعْل ، وإما إلى الرفع ، على مبتدأ محذوف الخبر ، كما تقول - في المثال المتقدم - زيداً وعمراً ، أي : أعني زيداً وعمراً ، أو زيد وعمرو ، أي : منهم زيد وعمرو .
ولذلك أعربوا قول النابغة الذبياني : [ الطويل ]
1539- تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا ... لِسِتَّةِ أعْوَامٍ وَذَا العَامُ سَابِعُ
رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لأْياً أبينُهُ ... وَنُؤيٌ كَجِذْمِ الْحَوْضِ أثْلَمُ خَاشِعُ
على القطع المتقدم ، أي : فمنها رمادٌ ونؤي ، وكذا قوله تعالى : { هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الجنود فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ } [ البروج : 17-18 ] أي : أعني فرعون وثمود ، أو أذُمّ فرعونَ وثمودَ ، على أنه قد يُقال : إن المراد بفرعون وثمودَ؛ هما ومَنْ تبعهما من قومهما ، فذكرهما وافٍ بالجمعيَّةِ .
وفي الآية الكريمة - هنا - لم يُذْكَر بعد الآيات إلا شيئان : المقام ، وأمن داخله ، فكيف يكون بَدَلاً؟
وهذا الإشكال - أيضاً - وارد على قول مَنْ جعلَه خبرَ مبتدأ محذوفٍ ، أي : هي مقام إبراهيم ، فكيف يُخْبِر عن الجمع باثنين؟
وفيه أجوبة :
أحدها : أن أقلَّ الجمع اثنان - كما ذهب إليه بعضهم .
قال الزمخشري : ويجوز أن يُراد : فيه آيات مقام إبراهيم ، وأمن من دخله؛ لأن الاثنين نَوْعٌ من الجَمْع ، كالثلاثة والأربعة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « الاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ » .
قال الزجَّاج : ولفظ الجمع قد يُستعمل في الاثنين ، قال تعالى : { إِن تَتُوبَآ إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] .
وقال بعضهم : تمام الثلاة قوله : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } وتقدير الكلام : مقام إبراهيم ، وأن من دخله كان آمناً ، وأن لله على الناس حَجَّ البيت ، ثم حذف « أن » اختصاراً ، كما في قوله : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بالقسط } [ الأعراف : 29 ] أي : أمر ربي أن اقسطوا .
الثاني : أن { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } وإن كان مفرداً لفظاً إلا أنه يشتمل على آياتٍ كثيرةٍ ، بمعنيين :
أحدهما : أن أثر القدمين في الصخرة الصَّمَّاء آية ، وغَوصَهما فيها إلى الكعبين آية أخْرَى؛ وبعض الصخرة دون بعض آيةٌ ، وإبقاؤه على مر الزمان ، وحفظه من الأعداء الكثيرة آية ، واستمراره دون آيات سائر الأنبياء خلا نبينا صلى الله عليه وعلى سائرهم آية ، قال معناه الزمخشري .
وثانيهما : أن { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } بمنزلة آيات كثيرة؛ لأن كل ما كان معجزةً لنبيٍ فهو دليل على وجود الصانع وعلمه وقدرته وإرادته وحياته ، وكونه غنيًّا مُنَزَّهاً ، مقدَّساً عن مشابهة المحدثات ، فمقام إبراهيم وإن كان شيئاً واحداً إلا أنه لما حصل فيه هذه الوجوه الكثيرة كان بمنزلة الآيات ، كقوله تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً } [ النحل : 120 ] ، قاله ابنُ الخطيب .
الثالث : أن يكون هذا من باب الطَّيّ ، وهو أن يُذْكَرَ جَمْعٌ ، ثم يُؤتَى ببعضه ، ويُسْكَت عن ذِكْر باقيه لغرض للمتكلم ، ويُسَمَّى طَيًّا .
وأنشد الزمخشري عليه قول جرير : [ البسيط ]
1540- كَانَتْ حَنِيفَةُ أثْلاَثاً فَثُلْثُهُمُ ... مِنَ الْعَبِيدِ ، وَثُلْثٌ مِنْ مَوَالِيهَا
وأورد منه قوله صلى الله عليه وسلم : « حُبِّبَ إليّ مِنْ دُنْيَاكُم ثَلاثٌ : الطيبُ والنِّسَاءُ ، وجُعِلَت قُرَّةُ عَينِي فِي الصلاة » ذكر اثنين - وهما الطيب والنساء - وطَوَى ذِكْر الثالثة .
لا يقال إن الثالثة قوله صلى الله عليه وسلم : « جعلت قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ » لأنها ليست من دنياهم ، إنما هي من الأمور الأخروية .
وفائدة الطَّيّ - عندهم - تكثير ذلك الشيء ، كأنه تعالى لما ذكر من جملة الآيات هاتين الآيتين قال : وكثير سواهما .
وقال ابنُ عطية : « والأرجح - عندي - أن الماقم ، وأمن الداخل ، جُعِلاَ مثالاً مما في حرم الله - تعالى - من الآيات ، وخُصَّا بالذِّكْر؛ لِعِظَمِهِمَا ، وأنهما تقوم بهما الحُجَّةُ على الكفَّار؛ إذْ هم مدركون لهاتين الآيتين بِحَوَاسِّهم » .
الوجه الثاني : أن يكون { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } عطف بيان ، قاله الزمخشري .
ورَدَّ عليه أبو حيان هذا من جهة تخالفهما تعريفاً وتنكيراً ، فقال : وقوله مخالف لإجماع البصريين والكوفيين ، فلا يلتفت إليه ، وحُكْم عطف البيان عند الكوفيين حكم النعت ، فيُتْبعون النكرة نكرة ، و المعرفة معرفة ، ويتبعهم في ذلك أبو علي الفارسي . وأما البصريون ، فلا يجوز - عندهم - إلا أن يكونا معرفتين ، ولا يجوز أن يكونا نكرتين ، وكل شيء أورده الكوفيون مما يُوهِم جوازَ كونه عطفَ بيان جعله البصريون بَدَلاً ، ولم يَقُمْ دليل للكوفيين؛ وستأتي هذه المسألة إن شاء الله - عند قوله : { مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ } [ إبراهيم : 16 ] وقوله : { مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ } [ النور : 35 ] ، ولما أوّل الزمخشريُّ مقام إبراهيم وأمن داخله - بالتأويل المذكور - اعترض على نفسه بما ذكرناه من إبدال غير الجمع من الجمع - وأجاب بما تقدم ، واعترض - أيضاً - على نفسه بأنه كيف تكون الجملة عطف بيان للأسماء المفردةِ؟ فقال : « فإن قلتَ : كيف أجَزْت أن يكون مقام إبراهيم والأمن عطف بيان للآيات . وقوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } جملة مستأنفة ، إما ابتدائية وإما شرطية؟
قلت : أجَزْت ذلك من حيث المعنى؛ لأن قوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } دل على أمْن مَنْ دخله ، وكأنه قيل : فيه ىيات بيِّنات مقام إبراهيم وأمن من دخله ، ألا ترى أنك لو قلت : فيه آية بينة ، مَنْ دخله كان آمناً صَحَّ؛ لأن المعنى : فيه آية بينة أمن مَنْ دخله » .
قال أبو حيان : « وليس بواضح؛ لأن تقديره - وأمنَ الداخل - هو مرفوع ، عطفاً على » مَقَام إبراهيم « وفسر بهما الآيات ، والجملة من قوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } لا موضع لها من الإعراب ، فتدافعا ، إلا إن اعتقد أن ذلك معطوف على محذوف ، يدل عليه ما بعده ، فيمكن التوجيه ، فلا يجعل قوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } في معنى : وأمن داخله ، إلا من حيث تفسير المعنى ، لا تفسير الإعراب » .
قال شهاب الدين : « وهي مُشَاحَّةٌ لا طائلَ تحتَها ، ولا تدافع فيما ذكر؛ لأن الجملة متى كانت في تأويل المفرد صح عطفُها عليه » .
الوجه الثالث : قال المبرد : « مَقَامُ » مصدر ، فلم يُجْمَع ، كما قال : { خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ } [ البقرة : 7 ] والمراد : مقامات إبراهيم ، وهي ما أقامه إبراهيم من أمور الحج ، وأعمال المناسك ، ولا شك أنها كثيرة ، وعلى هذا ، فالمراد بالآيات : شعائر الحج ، كما قال تعالى : { وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله } [ الحج : 32 ] .
الوجه الرابع : أن قوله : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } خبر مبتدأ مضمر ، تقديره : أحدها ، أي : أحد تلك الآيات البينات مقام إبراهيم ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : منها ، أي : من الآيات البيِّنات « مقام إبراهيم » .
وقال بعضهم : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } لا تعلُّقَ له بقوله : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } ، فكأنه - تعالى - قال : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } ومع ذلك فهو { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } ومَقَرُّه ، والموضع الذي اختاره ، وعَبَدَ الله فيه؛ لأن كل ذلك من الخِلال التي بها تَشَرَّف وتَعَظَّم .
وقرأ أبَيّ وعُمَر وابنُ عباس ومُجَاهِدٌ وأبو جعفر المديني - في رواية قتيبة - آية بيِّنة - بالتوحيد ، وتخريج « مَقَامُ » - على الأوجه المتقدِّمة - سَهْل ، من كونه بدلاً ، أو بياناً - عند الزمخشري - أو خبر مبتدأ محذوف وهذا البدل متفق عليه؛ لأن البصريين يُبْدِلون من النكرة مطلقاً ، والكوفيون لا يبدلون منها إلا بشرط وَصْفها ، وقد وُصِفَتْ .
فصل
قال المفسرون : الآيات منها مقام إبراهيم ، وهو الحَجَر الذي وضعه إبراهيم تحت قدميه ، لمَّا ارتفع بنيان الكعبة ، وضَعُفَ إبراهيم عن رَفْع الحجارة ، قام على هذا الحجر ، فغاصت فيه قدماه .
وقيل : إنه جاء زائراً من الشام إلى مكة وكان قَدْ حلف لامرأته أن لا ينزلَ بمكة حتى يرجع ، فَلَمَّا رجع إلى مكة قالت له أم إسماعيل : انزل حتى تغسل رأسك ، فلم ينزل ، فجاءته بهذا الحجر ، فوضعته على الجانب الأيمن ، فوضع قدمه عليه حتى غسلت أحد جانبي رأسه ، ثم حولته إلى الجانب الأيسر ، حتى غسلت الجانبَ الآخرَ ، فبقي أثرُ قدميه عليه ، فاندرس من كَثْرَةِ المَسْحِ بالأيدي .
وقيل : هو الحجر الذي قام عليه إبراهيم - عليه السلام - عند الأذان بالحج .
قال القفّال : « ويجوز أن يكون إبراهيم قام على ذلك الحجر في هذه المواضع كلِّها » .
وقيل : مقام إبراهيم؛ هو جميع الحرم ، كما تقدم عن المبرد .
ومن الآيات - أيضاً - الحجر الأسود ، وزمزم ، والحطيم ، والمشاعر كلها .
ومن الآيات ما تقدم ذكره من أمر الطير والصيد ، وأنه بلد صدر إليها الأنبياء والمرسلون ، والأولياء والأبرار ، وأن الطاعة والصدقة فيه ، يُضاعف ثوابُها بمائة ألف .
والمقام هو في المسجد الحرام ، قُبالَة باب البيت .
وروي عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص أنهما قالا : الحجر الأسود ، والمقام من الجنة .
قال الأزرقي : ذرع المقام ذراع ، وسعة أهلاه أربعة عشر إصْبَعاً في أربعة عشر إصبعاً ، ومن أسفله مثل ذلك ، وفي طرفيه - من أعلاه وأسفله - طوقان من ذهب ، وما بين الطوقين من الحجر من المقام بارز ، لا ذهب عليه ، طوله من نواحيه كلها تِسعة أصابع ، وعرضه عشر أصابع في عشر أصابع طولاً ، وعرض حجر المقام من نواحيه ، إحدى وعشرون إصبعاً ، ووسطه مربع ، والقدمان داخلتان في الحجر سبع أصابع ، ودخولهما منحرفتان ، وبين القدمين من الحجر أصبعان ، ووسطه قد استدق من التمسُّح به ، والمقام في حوض من ساج مربع ، حوله رصاص ، وعلى الحوض صفائح رصاص ليس بها ، وعلى المقام صندوق ساج مسقف ، ومن وراء المقام ملبن ساج في الأرض ، في ظهره سلسلتان يدخلان في أسفل الصندوق ، فيقفل عليهما قفلان ، وهذا الموضع فيه المقام اليوم ، وهو الموضع الذي كان فيه في زمن الجاهلية ، ثم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده ، ولم يُغَيَّر موضعه ، إلا أنه جاء سَيْل في زمن عمر بن الخطاب - يقال له : سيل أم نهشل؛ لأنه ذهب بأمِّ نَهْشَلٍ بِنْتِ عُبَيْدَةَ بْنِ أبِي رُجَيْحَة ، فماتت ، فاحتمل ذلك السيل المقام من موضعه هذا ، فذهب به إلى أسفل مكة فأتي به ، فربطوه في أستار الكعبة - في وجهها - وكتبوا بذلك إلى عمر ، فأقبل عمر من المدينة فزعاً ، فدخل بعمرة في شهر رمضان ، وقد غُبِّيَ موضعُه ، وعفاه السيل ، فجمع عمر الناس ، وسألهم عن موضعه ، وتشاوروا عليه حتى اتفقوا على موضعه الذي كان فيه ، فجعله فيه ، وعمل عمر الردم ، لمنع السيل ، فلم يعله سيل بعد ذلك إلى الآن .
ثم بعث أمير المؤمنين المهدي ألف دينار ليضبّبوا بها المقام - وكان قد انثلم - ثم أمَرَ المتوكل أن يجعل عليه ذهب فوق ذلك الذهب - أحْسِنْ بذلك العمل - فعمل في مصدر الحاج سنة ست وثلاثين ومائتين ، فهو الذهب الذي عليه اليوم ، وهو فوق الذي عمله المهدي .
فصل
قوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } .
قال الحسن وقتادة : كانت العرب - في الجاهلية - يقتل بعضهم بعضاً ، ويُغير بعضهم على بعض ، ومن دخل الحرم أمِنَ مِن القتل والغارة ، وهذا قول أكثر المفسرين ، لقوله تعالى { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] .
وقيل : أراد به أن مَنْ دخله عام عمرة القضاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان آمِناً ، كما قال تعالى : { لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ } [ الفتح : 27 ] .
وقال الضَّحَّاكُ : من حَجَّه كان آمناً من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك .
وقيل : معناه من دَخَلَه مُعَظِّماً له ، متقرِّباً إلى الله - عز وجل - كان آمناً يوم القيامة من العذاب .
وقيل : هو خبر بمعنى الأمر ، تقديره : ومن دخله فأمِّنوه ، كقوله تعالى : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج } [ البقرة : 197 ] ، أي : لا ترفثوا ، ولا تفسقوا ، ولا تجادلوا .
فصل
قال أبو بكر الرازي : لما كانت الآيات المذكورة عقيب قوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } موجودة في جميع الحرم ، ثم قال : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } ، وجب أن يكون مراده جميع الحرم ، وأجمعوا على أنه لو قَتَل في الحرم ، فإنه يُسْتَوْفَى القصاص منه في الحرم ، وأجمعوا على أن الحرَم لا يفيد الأمان فيما سوى النفس ، إنما الخلاف فيما إذا وجب القصاص عليه خارج الحرم ، فالتجأ إلى الحرم ، فهل يُستوفى منه القصاص في الحرم؟
فقال الشافعي : يستوفى .
وقال أبو حنيفة : لا يستوفى ، بل يمنع منه الطعام ، والشراب ، والبيع والشراء ، والكلام حتى يخرج ، ثم يستوفى منه القصاصُ ، واحتج بهذه الآية فقال : ظاهر الآية الإخبار عن كونه آمِناً ، ولا يُمكن حمله على الخبر؛ إذْ قد لا يصير آمِناً في حق مَنْ أتى بالجناية في الحَرَم ، وفي القصاص فيما دون النفس ، فوجب حمله على الأمر ، وتركنا العمل به في الجناية التي دون النفس؛ لأن الضرر فيها أخف من ضرر القتل ، وفي القصاص بالجناية في الحرم؛ لأنه هو الذي هتك حُرْمة الحَرَم ، فيبقى في محل الخلاف على مقتضى ظاهر الآية .
وأجي ببأنَّ قوله : { كَانَ آمِناً } إثبات لمُسَمَّى الآية ، ويكفي في العمل به ، في إثبات الأمن من بعض الوجوه ، ونحن نقول به ، وبيانه من وجوه :
الأول : أن من دخله للنُّسُكِ ، تقرُّباً إلى الله تعالى ، كان آمِناً من النار يوم القيامة ، قال صلى الله عليه وسلم « مَنْ صَبَرَ عَلَى حَرِّ مكةَ سَاعةً من نَهَارِ تَبَاعَدَتْ عَنْهُ النَّارُ مَسِيرَةَ مِائَتَيْ عَامٍ » ، وقال صلى الله عليه وسلم « مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يفْسقْ خَرَجَ من ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أمُّه » .
الثاني : يحتمل أن يكونَ المراد : ما أودعه الله في قلوب الخَلْق من الشفقة على كل من التجأ إليه ، ودفع المكروه عنه ، ولما كان المر واقعاً على هذا الوجه - في الأكثر - أخبر بوقوعه على هذا الوجه مطلقاً ، وهذا أولى مما قالوه ، لوجهين :
الأول : أنا - على هذا التقدير - لا نجعل الخبر قائماً مقامَ الأمر ، وهم جعلوه قائماً مقامَ الأمر .
الثاني : أنه - تعالى - إنما ذكر هذا ، لبيان فضيلةِ البيتِ ، وذلك إنما يحصل بشيءٍ كان معلوماً للقوم حتى يصيرَ ذلك حجةً على فضيلة البيت ، فأما الحكم الذي بينه الله في شرع محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنه لا يصير ذلك حجةً على اليهود والنصارى في إثبات فضيلة الكعبة .
الوجه الثالث : قد تقدم أن هذا إنما ورد في عمرة القضاء .
الرابع : ما تقدم - ايضاً - عن الضَّحَّاكِ أنه يكون آمِناً من الذنوب التي اكتسبها .
وملخّص الجواب : أنه حكم بثبوت الأمن ، ويكفي في العمل به إثبات الأمن من وَجْهٍ وَاحدٍ ، وفي صورة واحدة ، فإذا حملناه على بعض هذه الوجوه فقد عملنا بمقتضى هذا النَّصّ ، فلا يبقى في النص دلالة على قولهم ، ويتأكد هذا بأن حمل النَّصِّ على هذا الوجه ، لا يفضي إلى تخصيص النصوص الدالة على وجوب القصاص ، وحمله على ما قالوه يُفْضِي إلى ذلك ، فكان قولُنا أوْلَى .
قوله : « ولله على الناس حج البيت » لمَّا ذكر فضائلَ البيت ومناقبه ، أردفه بذكر إيجاب الحج إليه .
وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم : « حِجّ البيت » - بكسر الحاء في هذا الحرف خاصة ، وتقدم في البقرة في الشاذ بكسر الحاء - وتقدم هنا اشتقاق المادة - والباقون بفتحها - وهي لغة أهل الحجاز والعالية والكسر لغة نجد؛ وهما جائزان مطلقاً في اللغة مثل رَطل ورِطل ، وبَذْر وبِذْر ، وهما لغتان فصيحتان بمعنى واحدٍ .
وقيل : المكسور اسم للعمل ، والمفتوح المصدر .
وقال سيبويه : يجوز أن تكون المكسورة - أيضاً - مصدراً كالذِّكر والعِلْم .
فصل
الحج أحد أركان الإسلام؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بُنِيَ الإسلامُ عَلَى خَمْسٍ : شَهَادَة أنْ لاَ إله إلاَّ اللهُ ، وأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ ، وإقَامِ الصَّلاةِ ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَصَوْمِ رمضانَ ، وحَجَّ البيتِ لمن اسْتَطَاعَ إليه سبيلاً » .
ويشترط لوجوبه خمسة شروط : الإسلام ، والبلوغ ، والعقل ، والحُرِّيَّة ، والاستطاعة .
فصل
احتجوا بهذه الآية على أن الكُفَّارَ مخطبون بفروع الإسلام؛ لأن ظاهر قوله تعالى { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } يعم المؤمنَ والكافرَ ، وعدم الإيمان لا يصلح معارضاً ، ومخصِّصاً ، لهذا العموم؛ لأن الدهريّ مكلَّف بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم مع أن الإيمان بالله الذي هو شرط لصحة الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، غير حاصل ، والمُحْدِث مكلَّف بالصلاة ، مع أن الوضوء الذي هو شرط لصحة الصلاة ، غير حصل ، لم يكن عدم الشرط مانعاً من كونه مكلَّفاً بالمشروط .
فكذا هاهنا .
فصل
قال القرطُبي : دلَّ الكتاب والسنة على أن الحَجَّ على التراخي ، وهو أحد قولي مالك ، والشافعي ، ومحمد بن الحسن ، وأبي يوسف في رواية عنه ، وذهب بعض المتأخرين من المالكية إلى أنه على الفَوْر ، وهو قول داود ، والصحيح الأول؛ لأنَّ الله تعالى قال في سورة الحج- : { وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالاً } [ الحج : 27 ] ، وسورة الحج مكيّة ، وقال هاهنا : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } وهذه السورة نزلت عام أحد بالمدينة ، سنة ثلاثٍ من الهجرة ، ولم يحجّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى سنة عشر ، وأجمع العلماء على ترك تفسيق القادر على الحج ، إذا أخَّرَهُ عامداً .
فصل
روي أنه لما نزلت هذه الآيةُ قيل : يا رسولَ اللهِ ، أكتبَ علينا الحَدُّ في كل عام؟ ذكروا ذلك ثلاثاً ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال في الرابعة : « لَوْ قُلتُ : نَعَمْ لَوَجَبَتْ ، وَلَوْ وَجَبَتْ مَا قُمتمُ بها ، وَلَو لَمْ تَقُومُوا بِهَا لَكَفَرْتُمْ ، ألا فَوَادِعونِي ما وَادَعْتُكم وَإذَا أمَرْتُكُمْ بِأمْرٍ فَأتُوا مِنْهُ ما اسْتَطَعْتُمْ ، وَإذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ أمْرٍ فَانْتَهُوا عَنْهُ ، فَإنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ مَسَائِلِهِمْ ، وَاخْتِلاَفِهِمْ على أنْبِيَائِهِمْ » .
فصل
احتج العلماء بهذا الخبر ، على أن الأمر لا يفيد التكرار من وجهين :
الأول : أن الأمر ورد بالحج ، ولم يُفِد التكرار .
والثاني : أن الصحابة استفهموا ، هل يوجب التكرار أم لا؟ ولو كانت هذه الصيغة تفيد التكرار لما استفهموا مع علمهم باللغة .
قوله : { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } فيه ستة أوجُه :
أحدها : أن « مَنْ » بدل من « النَّاس » بدل بعض من كل ، وبدل البعض وبدل الاشتمال لا بد في كل منهما من ضميرٍ يعود على المُبْدَل منه ، نحو : أكَلْتُ الرَّغِيفَ ثُلُثَه ، وسُلِب زيدٌ ثوبُه ، وهنا ليس من ضمير . فقيل : هو محذوف تقديره من استطاع منهم .
الثاني : أنه بدلُ كُلٍّ من كُلٍّ ، إذ المراد بالناس المذكورين : خاصٌّ ، والفرق بين هذا الوجه ، والذي قبله ، أن الذي قبله يقال فيه : عام مخصوص ، وهذا يقال فيه : عامٌّ أريد به الخاص ، وهو فرق واضح وهاتان العبارتان للشافعي .
الثالث : أنها خبر مبتدأ مُضْمَر ، تقديره : هم من استطاع .
الرابع : أنها منصوبة بإضمار فعل ، أي : أعني من استطاع . وهذان الوجهان - في الحقيقة - مأخوذان من وجه البدل؛ فإنَّ كل ما جاز إبداله مما قبله ، جاز قطعه إلى الرفع ، أو إلى النصب المذكورين آنفاً . الخامس : أن « مَنْ » فاعل بالمصدر وهو « حَدُّ » ، والمصدر مضاف لمفعوله ، والتقدير : ولله على الناس أن يحج من استطاع منهم سبيلاً البيت .
وهذا الوجه قد رَدَّه جماعةٌ من حيث الصناعة ، ومن حيث المعنى؛ أما من حيث الصناعة؛ فلأنه إذا اجتمع فاعل ومفعول مع المصدر العامل فيهما ، فإنما يُضَاف المصدر لمرفوعه - دون منصوبة - فيقال : يعجبني ضَرْبُ زيدٍ عمراً ، ولو قلتَ : ضَرْبُ عمرٍو زيدٌ ، لم يجزْ إلا في ضرورة ، كقوله : [ البسيط ]
1541- أفْتَى تِلاَدِي وَمَا جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ ... قَرْعُ الْقَوَاقِيزِ أفْوَاهُ الأبَارِيقِ
يروى بنصب « أفواه » على إضافة المصدر - وهو « قَرْع » - إلى فاعله ، وبالرفع على إضافته إلى مفعوله . وقد جوَّزَ ، بعضُهم في الكلام على ضَعْفٍ ، والقرآن لا يُحْمَل على ما في الضرورة ، ولا على ما فيه ضعف ، أمَّا من حيث المعنى؛ فلأنه يؤدي إلى تكليف الناس جميعهم - مستطيعهم وغير مستطيعهم - بأن يحج مستطيعهم ، فيلزم من ذلك تكليف غير المُسْتَطِيعِ بأن يَحُجَّ ، وهو غير جائز - وقد التزم بعضُهم هذا ، وقال : نعم ، نقول بموجبه ، وأن الله - تعالى - كلَّف الناسَ ذلك ، حتى لو لم يحج المستطيعون لزم غير المستطيعين أن يأمروهم بالحج حسب الإمكان؛ لأن إحجاج الناس إلى الكعبة وعرفة فرضٌ واجب . و « مَنْ » - على هذه الأوجه الخمسة - موصولة بمعنى : الذي .
السادس : أنها شرطية ، والجزاء محذوف ، يدل عليه ما تقدم ، أو هو نفس المتقدم - على رأي - ولا بد من ضمير يعود من جملة الشرط على « النَّاسِ » ، تقديره : من استطاع منهم إليه سبيلاً فلله عليه .
ويترجح هذا بمقابلته بالشرط بعده ، وهو قوله : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين } .
وقوله : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } جملة من مبتدأ - وهو { حِجُّ البيت } - وخبر - وهو قوله : « لله » - و « عَلَى النَّاسِ » متعلق بما تعلق به الخبر ، أو متعلق بمحذوف؛ على أنه حال من الضمير المستكن في الجار ، والعامل فيه - أيضاً - ذلك الاستقرار المحذوف ، ويجوز أن يكون على الناس هو الخبر ، و « للهِ » متعلق بما تعلق به الخبر ، ويمتنع فيه أن يكون حالاً من الضمير في « عَلَى النَّاسِ » وَإنْ كان العكس جائزاً - كما تقدم- .
والفرق أنه يلزم هنا تقديم الحال على العامل المعنوي ، والحال لا يتقدم على العامل المعنوي - بخلاف الظرف وحرف الجر ، فإنهما يتقدمان على عاملهما المعنوي؛ للاتساع فيهما ، وقد تقدم أن الشيخ جمال الدين بن مالك ، يجوز تقديمها على العامل المعنوي - إذا كانت هي ظرفاً ، أو حرف جر ، والعامل كذلك ، ومسألتنا في الآية الكريمة من هذا القبيل . وقد جيء في هذه الآيات بمبالغاتٍ كثيرة .
منها قوله : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } يعني : أنه حق واجب عليهم لله في رقابهم ، لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عُهدته .
ومنها : أنه ذكر « النَّاسَ » ، ثم أبدل منهم { مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } ، وفيه ضربان من التأكيد .
أحدهما : أن الإبدال تثنية المراد وتكرير له .
والثاني : أن التفصيل بعد الإجمال ، والإيضاح بعد الإبهام ، إيراد له في صورتين مختلفتين ، قاله الزمخشري ، على عادة فصاحته ، وتلخيصه المعنى بأقرب لفظ ، والألف واللام في « البَيْتِ » للعهد؛ لتقدم ذكره ، وهو أعلم بالغلبة كالثريا والصعيد . فإذا قيل : زار البيتَ ، لم يَتَبَادر الذهن إلا إلى الكعبة شرفها الله .
وقال الشاعر : [ الطويل ]
1542- لَعَمْرِي لأنْتَ الْبَيْتُ أكْرِمُ أهْلَهُ ... وَأقْعُدُ فِي أفْيَائِهِ بِالأصَائِلِ
أنشد هذا البيت أبو حيان في هذا المعرض .
قال شهابُ الدين : « وفيه نظر ، إذْ ليس في الظاهر الكعبة » .
الضمير في : « إلَيْهِ » الظاهر عوده على الحَجِّ؛ لأنه محدَّث عنه .
قال الفراء : إن نويت الاستئناف ب « مَنْ » كانت شرطاً ، وأسقط الْجَزاء لدلالة ما قبله عليه ، والتقدير : من استطاع إلى الحج سبيلاً ، فللَّه عليه حجُّ البيت .
وقيل : يعود على « الْبَيْتِ » ، و « إلَيْهِ » متعلق ب « اسْتَطَاعَ » ، و « سَبِيلاً » مفعول به؛ لأن استطاع متعدٍّ ، ومنه قوله تعالى : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ } [ الأعراف : 197 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
فصل
قال أبو العباس المقرئ : ورد لفظ الاستطاعة بإزاء معنيين في القرآن :
الأول : سَعَةِ المال ، قال تعالى : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } [ آل عمران : 97 ] أي : سعة في المال ومنه قوله تعالى : { لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } [ التوبة : 42 ] أي : لو وجدنا سعة في المال .
الثاني : بمعنى الإطاقة ، قال تعالى : { وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء } [ النساء : 129 ] ، وقال : { فاتقوا الله مَا استطعتم } [ التغابن : 16 ] .
فصل
استطاعة السبيل إلى الشيء : عبارة عن إمكان الوصول إليه ، قال تعالى : { فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ } [ غافر : 1 ] ، وقال : { هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ } [ الشورى : 44 ] .
قال عبد الله بن عمر : سأل رجلٌ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ما يُوجب الحَجَّ؟ فقال : « الزاد والراحلة ، قال : يا رسول الله ، فما الحاجّ؟ قال : الشعث ، التَّفِل .
فقام آخر فقال : يا رسول الله ، أيُّ الحج أفضل؟ فقال : الحج والثج ، فقام آخر فقال : يا رسول ما السبيلُ؟ فقال : » زادٌ ورَاحِلةٌ « .
ويعتبر في حصول هذا الإمكان صحة البدن ، وزوال خَوف التلف من سبع ، أو عدو ، أو فُقْدان الطعام والشراب ، والقدرة على المال الذي يشتري به الزاد ، والراحلة ، ويقضي جميع الديون التي عليه ، ويَرُدّ ما عنده من الودائع ، ويضع عند مَنْ تجب عليه نفقته من المال ، ما يكفيه لذهابه ومجيئه ، هذا قول الأكثرين .
وروى القفال : عن جُوَيْبِر عن الضحاك أنه قال : إذا كان شاباً صحيحاً ليس له مال ، فعليه أن يؤاجر نفسه حتى يقضي حجه ، فقال له قائل : أكلَّف الله الناس أن يمشوا إلى البيت؟ فقال : لو كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه؟ قال : لا ، بل ينطلق إليه ولو حبواً ، قال : فكذلك يجب عليه حجّ البيت .
وعن عكرمة - أيضاً - أنه قال : الاستطاعة هي : صحة البدن ، وإمكان المشي إذا لم يجد ما يركبه؛ لأن الصحيح البدن ، القادر على المشي إذا لم يجد ما يركبه يصدق عليه أنه مستطيع لذلك الفعل ، فتخصيص الاستطاعة بالزاد والراحلة تَرْك لظاهر الآية ، فلا بد من دليل منفصل ، والأخبار المروية أخبار آحاد ، فلا يُتْرَك لها ظاهرُ الكتاب ، ولا سيما وقد طُعِنَ فيها من وجوه :
الأول : من جهة السند .
الثاني : أن حصول الزاد والراحلة قد لا يكفي ، فلا بد من اعتبار صحة البدن ، وعدم الخوف ، وهذا ليس في الأخبار ، فظاهرها يقتضي أن لا يكون شيء من ذلك مُعْتبراً .
الوجه الثالث : اعتبار وفاء الدين ، ونفقة عياله ، ورد الودائع .
وأجيبوا بأنه يُفْضِي إلى معارضة قوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] وقوله : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } [ البقرة : 185 ] . فصل
احتج جمهورُ المعتزلةِ بهذه الآيةِ على أن الاستطاعة قبلَ الفعل ، فقالوا : لأنه لو كانت الاستطاعة مع الفعل لكان من لم يحج لم يكن مستطيعاً للحج ومن لم يكن مستطيعاً لا يتناوله التكليف المذكور في هذه الآية ، فيلزم منه أن كل من لم يحج لا يصير مأموراً بالحَجِّ بهذه الآية ، وذلك باطل .
وأجيبوا بأن هذا - أيضاً - يلزمهم؛ لأن القادر إما أن يصير مأموراً بالفعل قبل حصول الداعي إلى الفعل ، أو بعد حصولِه ، أما قبل حصول الداعي ، فمحال؛ لأن قبلَ حصولِ الداعي يمتنع حصول الفعل ، فيكون التكليف به تكليفاً بما لا يُطاقُ ، وأما بعد حصولِ الداعي ، فالفعل يصيرُ واجب الحصول ، فلا يكون في التكليف به فائدةٌ ، وإذا كانت الاستطاعةُ منفيةً في الحالتين ، وجب ألا يتوجه التكليفُ المذكورُ في هذه الآيةِ على أحدٍ .
فصل
إذا كان عاجزاً بنفسه؛ لكونه زَمِناً ، أو مريضاً لا يُرْجَى بُرْؤه - وله مال يُمْكِن أن يستأجر مَنْ يَحُجُّ عنه - وجب عليه أن يستأجر ، لما روى عبد الله بن عباس ، قال : كان الفضل بن عباس ردف النبي صلى الله عليه وسلم فجاءته امرأة من خثعم ، تستفتيه ، فجعل الفضلُ ينظر إليها ، وتنظر إليه ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وَجْهَ الفضل إلى الشق الآخرِ ، فقالت : يا رسول الله ، إن فريضة الله على عباده في الحجِّ أدركَتْ أبي شيخاً كبيراً ، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ، أفأحجُّ عنه؟ قال : نَعَم .
وقال مالك : لا يجب عليه ، وهذا هو المعضوب ، والعَضْب : القطع ، وبه سُمِّيَ السيف عَضْباً ، فكأن من انتهى إلى ألا يقدر أن يستمسك على الراحلة ، ولا يثبت عليها بمنزلة من قطعت أعضاؤه ، أو لا يقدر على شيء .
وإن لم يكن له مال لكن بذل له ولدُه ، أو أجنبي ، الطاعةَ في أن يحج عنه ، فهل يلزمه [ أن يأمره ] إذا كان يعتمد صدقه؟
وفي المسألة خلاف ، فالقائل بالوجوب قال : لأن وجوب الحج معلق بالاستطاعة ، وهذا مستطيع ، لأنه يقال - في العُرْف- : فلان مستطيع لبناء دارٍ ، وإن كان لا يفعله بنفسه ، وإنما يفعله بماله ، وبأعوانه- .
وقال أبو حنيفة : لا يجب ببذل الطاعة ، قال : وحديث الخثعميَّة يدل على أنه من باب التطوّعات؛ وإيصال البر للأموات ، ألا ترى أنه شَبَّه فعل الحج بالدَّيْن؟ وبالإحماع لو مات ميِّت وعليه دين لم يجب على وليِّه قضاؤه من ماله ، فإن تطوع بذلك تأدَّى عنه الدين ، ويدل على أن الحج في حديث الخثعمية ما كان واجباً لوقُها : إن أبي لا يستطيع - ومن لا يستطيع لا يجب عليه ، وهذا تصريح بنفي الوجوب .
وقوله : { وَمَن كَفَرَ } يجوز أن تكون الشرطية - وهو الظاهر - ويجوز أن تكون الموصولة ، ودخلت الفاء؛ شبهاً للموصول باسم الشرط كما تقدم ، ولا يخفى حال الجملتين بعدها بالاعتبارين المذكورين ، ولا بد من رابط بين الشرط وجزائه ، أو المبتدأ وخبره ، ومن جوَّز إقامة الظاهر مقام المضمر اكتفى بذلك في قوله : { غَنِيٌّ عَنِ العالمين } كأنه قال : غني عنهم .
فصل
في هذا الوعيد قولان :
الأول : قال مجاهد : هلا كلام مستقلٌّ بنفسه ، ووعيد عام في حَقِّ مَنْ كَفَر بالله ولا تعلُّق له بما قبلَه .
الثاني : قال ابْنُ عباس والحَسَنُ وعَطَاء : مَنْ جَحَد فرض الحَج .
وقال آخرون : من ترك الحج ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ مَات ولم يَحُجَّ حَجَّة الإسْلامِ فَلْيَمُتْ إن شاء يَهُودِيًّا وإن شاء نَصْرَانِيًّا » وقوله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ مَات ولم يَحُجَّ حَجَّة الإسْلامِ - وَلَمنْ تَمْنَعْهُ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ أوْ مَرَضٌ حَابِسٌ ، أو سُلْطَانٌ جائر - فَلْيَمُتْ على أي حالةٍ شاء - يَهُودِيًّا أو نَصْرَانِيًّا » .
وقال سعيد بن جبير : إن مات جارٌ لي لم يحج - وله ميسرة - لم أصَلِّ عليه .
فإن قيل : كيف يجوز الحكم عليه بالكفر بسبب تَرْك الحج؟
فالجواب قال القفال المراد منه التغليظ ، أي : قد قارب الكُفْر ، وعمل ما يعمله مَنْ كفر بالحج كقوله : { وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر } [ الأحزاب : 10 ] أي : كادت تبلغ .
وكقوله عليه السلام- : « مَنْ تَرَك الصلاة متعمِّداً فقد كَفَر » وقوله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ أتَى حَائِضاً أو امرأة في دبرها فقد كَفَر » .
وأما الأكثرون فهم الذين حَمَلُوا هذا الوعيدَ على تارك اعتقاد الحج .
قال الضحاك : لما نزلت آية « الحج » ، جمع الرسولُ صلى الله عليه وسلم أهلَ الأديان الستة : المسلمين ، والنصارى ، واليهود ، والصابئين ، والمجوس ، والمشركين ، فخاطبهم ، وقال : « إن الله كتب عليكم الحج فحجوا » فآمن به المسلمون ، وكفرت به الملل الخمس ، وقالوا : لا نؤمن به ، ولا نصلي إليه ، ولا نحجه ، فأنزل الله تعالى : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين } .
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
في كيفية النظم وجهان : الأول : أنه - تعالى - لما أوْرَد الدلائلَ على نبوَّةِ محمد صلى الله عليه وسلم ، مما ورد في التوراة ، والإنجيل ، عقَّب ذلك بشبهات القوم من إنكار النَّسْخ ، واستقبال الكعبة في الصلاة ، ووجوب حَجِّها ، وأجاب عن هاتين الشُّبْهَتَيْن بقوله { كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ } [ آل عمران : 93 ] وبقوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ } [ آل عمران : 96 ] فلما تَمَّ الاستدلال خاطبهم - بعد ذلك - بالكلام اللَّيِّن ، وقال : « لم تكفرون بآيات الله » بعد ظهور البينات؟
الثاني : أنه - تعالى - لما بيَّن فضائلَ الكعبة ووجوبَ الحَجِّ - والقوم كانوا عالمين بأن هذا هو الدين الحق - قال لهم : { لم تكفرون بآيات الله } بعد أن علمتم كونها حَقًّا صحيحةً؟
واعلم : أن المُبْطل قد يكون ضَالاً مفلاًّ فقط ، وقد يكون ضالاً مضلاً ، والقوم كانوا موصوفين بالأمرين جميعاً ، فبدأ - تعالى - بالإنكار على أهل الصفة الأولَى - على سبيل الرفق - فقال : { يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله } ؟
قال الحسن : هم العلماء من أهل الكتاب ، الذين علموا صحة نبوته؛ لقوله : « وأنتم شهداء » .
وقال آخرون : المراد : أهل الكتاب كلهم .
فإن قيل : لماذا خَصَّ أهْل الكتاب دون سائر الكفار؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أنا بَيَّنَّا أنه - تعالى - أورد الدليلَ عليهم من التوراة والإنجيل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم أجاب عن شُبْهتهم في ذلك ، فلمَّا تمَّ ذلك خاطبهم ، فقال : « يا أهل الكتاب » .
والثاني : أن معرفتهم بآيات الله أقْوَى؛ لتقدُّم اعترافهم بالتوحيد ، وأصل النبوة ، ولمعرفتهم بما في كُتُبِهم من الشهادة بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ، والبشارة بنبوته .
والمراد بآيات الله : الآيات التي نصبها الله - تعالى - على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، والمراد بكُفْرهم بها كفرهم بدلالتها على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
فصل
قالت المعتزلة : هذه الآية تدل على أن الكُفْرَ من قِبَلِهِم - حتى يَصِحْ هذا التوبيخُ ، ولذلك لا يصح توبيخهم على طولهم ، وصِحَّتِهم ، ومَرَضِهم .
وأجيبوا بالمعارضة بالعلم والداعي .
قوله : { والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ } الواو للحال ، والمعنى : لِمَ تكفرون بآيات الله التي دلَّتكم على صحة صدق محمد ، والحال أن الله شهيد على أعمالكم ، ومجازيكم عليها؟ ثم لما أنكر [ عليهم في ضلالهم ذكر ذلك الإنكار ] عليهم في إضلالهم لضَعَفَةِ المسلمين ، فقال : { قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن } ؟
« لم » : متعلق بالفعل بعده ، و « من آمن » مفعوله والعامة على « تُصِدُّون » - بفتح التاء - من صَدَّ يَصُدُّ - ثلاثياً - ويُستَعْمَل لازماً ومتعدياً .
وقرأ الحسن « تُصِدُّونَ » - بضم التاء - من أصَدَّ - مثل أعد - ووجهه أن يكون عدى « صَدَّ » اللازم بالهمزة كقول ذي الرمة : [ الطويل ]
1543- أناسٌ أصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُمْ .. .
قال الفراء : يقال : صَدَدتُه ، أصُدُّه ، صَدًّا . وأصْدَدتهُ ، إصْداداً .
وكان صدهم عن سبيل الله بإلقاءِ الشُّبَه في قلوب الضَّعفَة من المسلمين ، وكانوا يُنْكِرون كَوْنَ صفته في كتابهم .
قوله : { تَبْغُونَهَا } يجوز أن تكون جملةً مستأنفةً ، أخبر عنهم بذلك - وأن تكون في محل نَصْب على الحال ، وهو أظهر من الأول؛ لأن الجملةَ الاستفهاميةَ السابقة جِيء بعدَها بجملة حالية - أيضاً - وهي قوله : { والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ } . { وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } [ البقرة : 84 ] .
فتتفق الجملتان في انتصاب الحال عن كل منهما ، ثم إذا قُلْنا بأنها حال ، ففي صاحبها احتمالان :
أحدهما : أنه فاعل « تَصُدُّونَ » .
والثاني : أنه { سَبِيلِ الله } .
وإن جاز الوجهان لأن الجملة - اشتملت على ضمير كل منهما .
والضمير في { تَبْغُونَهَا } يعود على { سَبِيلِ } فالسبيل يذَكَّر ويؤنث كما تقدم ومن التأنيث هذه الآية ، وقوله : { قُلْ هذه سبيلي } [ يوسف : 108 ] .
وقول الشاعر : [ الوافر ]
1544- فَلاَ تَبَْدْ فَكُلُّ فَتَى أنَاسٍ ... سَيُصْبحُ سَالِكاً تِلْكَ السَّبِيلا
قوله ( عوجاً ) فيه وجهان :
أحدهما : أنه مفعول به ، وذلك أن يُراد ب « تَبْغُونَ » تطلبون .
قال الزجَّاج والطبريّ : تطلبون لها اعوجاجاً .
تقول العرب : ابْغِني كذا - بوصل الألف - أي : أطْلُبه لي ، وأبْغِني كذا - بقطع ، الألف - أي : أعِنِّي على طلبه .
قال ابنُ الأنباري : البغي يقتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام ، كقولك : بغيت المال والأجر والثواب .
وههنا أريد يبغون لها عوجاً ، فلما سقطت اللام عمل الفعل فيما بعدَها ، كما قالوا وهبتك درهماً ، يريدون وهبت لك ، ومثله : صِدْتُك ظبياً ، أي : صدت لك .
قال الشاعر : [ الخفيف ]
1545- فَتَوَلَّى غُلاَمُُهُمْ ثُمَّ نَادَى ... أظِليماً أصِيدُكُمْ أمْ حِمَارا
يريد : أصيد لكم ظليماً؟
ومثله : « جنيتك كمأة وجنيتك طِبًّا » ، والأصل جنيت لك ، فحذف ونصب « .
والثاني : أنه حال من فاعل » تَبْغُونََهَا « وذلك أن يُراد ب » تبغون « معنى تتعدّون ، والبغي : التَّعَدِّي .
والمعنى : تبغون عليها ، أو فيها .
قال الزجاج : كأنه قال تبغونها ضالين ، والعوج بالكسر ، والعوج بالفتح - المَيْل ، ولكن العرب فرَّقوا بينهما ، فخَصُّوا المكسور بالمعاني ، والمفتوح بالأعيان تقول : في دينه وفي كلامه عِوَج - بالكسر ، وفي الجدار والقناة والشجر عَوَجٌ - بالفتح .
قال أبو عبيدة : العِوَج - بالكسر . المَيْل في الدِّين والكلامِ والعملِ ، وبالفتح في الحائط والجِذْع .
وقال أبو إسحاق : الكسر فيما لا تَرَى له شَخْصاً ، وبالفتح فيما له شَخْصٌ .
وقال صاحب المُجْمَل : بالفتح في كل منتصب كالحائط ، والعوَج - يعني : بالكسر - ما كان في بساط ، أو دين ، أو أرض ، أو معاش ، فجعل الفرق بينهما بغير ما تقدم .
وقال الراغب : العِوَجُ : العطف من حال الانتصاب ، يقال : عُجْتُ البعير بزمامه ، وفلان ما يعوج به - أي : يرجع ، والعَوَج - يعني : بالفتح - يقال فيما يُدْرَك بالبصر كالخشب المتصِب ، ونحوه ، و العِوَجُ يقال فيما يُدْرَك بفِكْر وبصيرة ، كما يكون في أرض بسيطة عوج ، فيُعْرَف تفاوتُه بالبصيرة ، وكالدين والمعاش ، وهذا قريب من قول ابن فارس؛ لأنه كثيراً ما يأخذ منه .
وقد سأل الزمخشريُّ في سورة طه قوله تعالى : { لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولاا أَمْتاً } [ طه : 107 ] - سؤالاً ، حاصله : أنه كيف قيل : عوج - بالكسر - في الأعيان ، وإنما يقال في المعاني؟
وأجاب هناك بجواب حَسَنٍ - يأتي إن شاء الله .
والسؤال إنما يَجيء على قول أبي عبيدة والزجَّاج المتقدم ، وأما على قول ابن فارس والراغب فلا يرد ، ومن مجيء العِوَج بمعنى الميل من حيث الجملة قول الشاعر : [ الوافر ]
1546- تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْ تَعُوجُوا ... كَلاَمُكُمُ عَلَيَّ إذَنْ حَرَامُ
وقول امرئ القيس : [ الكامل ]
1547- عُوجَا عَلَى الطَّلَلِ الْمُحِيلِ لأنَّنَا ... نَبْكِي الدِّيَارَ كَمَا بَكَى ابْنُ حِذَامِ
أي : ولم تميلوا ، ومِيلاَ .
وأما قولهم : ما يَعوج زيد بالدواء - أي : ما ينتفع به - فمن مادة أخرى ومعنى آخر .
والعاجُ : العَظْم ، ألفه مجهولة لا يُعْلم منقلبة عن واوٍ أو عن ياءٍ؟ وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لثوبان : « اشْتَرِ لِفَاطِمَةَ سِوَاراً مِنْ عَاج » .
قال القتيبي : العاجُ الذَّبْل؛ وقال أبو خراش الهذليّ في امرأة : [ الطويل ]
1548- فَجَاءَتْ كَخَاصِي الْعِيرِ لَمْتَحْلَ عَاجَةً ... وَلاَ جَاجَةً مِنْهَا تَلُوحُ عَلَى وَشْمِ
قال الأصْمَعِيّ : العاجة : الذبلة ، والجاجة - بجيمين - خَرَزةَ ما تساوي فلساً .
وقوله : كَخَاصِي العير ، هذا مَثَل تقوله العرب لمن جاء مُسْتَحياً مِنْ أمْرٍ ، فيقال : جاء كخاصي العير .
والعير : الحمار ، يعنون جاء مستحياً . ويقال : عاج بالمكان ، وعوَّج به - أي : أقام وقَطَن ، وفي حديث إسماعيلَ - على نبينا وعليه السلام- : « ها أنتم عائجون » أي مقيمون .
وأنشدوا للفرزدق : [ الوافر ]
1549- هَلَ أنْتُمْ عَائِجُونَ بِنَا لَعَنَّا ... نَرَى الْعَرَصَاتِ أوْ أثَرَ الْخِيَامِ؟
كذا أنشد هذا البيت الهرويُّ ، مستشهداً به على الإقامة - وليس بظاهر - بل المراد ب « عائجون » في البيت : سائلون ومُلْتفتون .
وفي الحديث : « ثم عاج رأسه إليها » أي : التفت إليها .
والرجل الأعوج : السيّئ الخُلُق ، وهو بَيِّن العَوَج . والعوج من الخيل التي في رجلها تَجْنيب . والأعوج من الخيل منسوبة إلى فرس كان في الجاهلية سابقاً ، ويقال : فرس مُجَنَّب إذا كان بعيد ما بين الساقين غير فَحَجٍ ، وهو مَدْح ويقال : الحنبة : اعوجاج .
قوله : { وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ } حال ، إما من فاعل « تَصُدُّونَ » ، وإما من فاعل « تَبْغُونهَا » ، وإما مستأنف وليس بظاهر و « شهداء » جمع شهيد أو شاهد كما تقدم .
فصل
ومعنى الآية أنهم يقصدون الزيغَ والتحريفَ لسبيله بالشُّبَهِ التي يُوردونها على الضَّعَفَة كقولهم : النسخ يدل على البداء ، وقولهم : إن في التوراة : أن شريعةَ موسى باقيةٌ إلى الأبد .
وقيل كانوا يَدَّعون أنهم على دينِ الله وسبيله ، وهذا على أنَّ « عِوَجاً » في موضع الحال والمعنى : يبغونها ضَالينَ .
قوله : { وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ } قال ابن عباس : أي : شهداء أن في التوراة : أن دينَ الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام . وقيل : وأنتم تشهدون ظهورَ المعجزاتِ على نبوته صلى الله عليه وسلم .
وقيل : وأنتم تشهدون أنه لا يجوز الصَّدُّ عن سبيلِ اللهِ .
وقيل : { وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ } عُدول بين أهل دينكم ، يثقون بأقوالكم ، ويُعوّلون على شهادتكم في عظائم المور ومَنْ كان كذلك ، فكيف يليق به الإصرار على الباطلِ والكذبِ ، والضلالِ والإضلالِ؟
ثم قال : { وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } والمراد منه : التهديد ، وختم الآية الأولى بقوله : { والله شَهِيدٌ } ؛ لأنهم كانوا يُظهرون إلقاء الشُّبَه في قلوب المسلمين ، ويحتالون في ذلك بوجوه الحِيَل - فلا جرم - قال فيما أظهره : { والله شَهِيدٌ } ، وختم هذه الآيةَ بقوله : { وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } ؛ لأن ذلك فيما أضمروه من الإضلال للغير .
وكرر في الآيتين قوله : { قل يا أهل الكتاب } ؛ لأن المقصودَ التوبيخُ على ألْطَف الوجوه ، وهذا الخطاب أقرب إلى التلطف في صَرْفهم عن طريقتهم .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
لمَّا حذَّر أهْلَ الكتاب عن الإغواء والإضلال ، حذَّرَ الْمُؤمنين في هذه الآية عن إغوائهم وإضلالهم ، ومنعهم عن الالتفات إلى قولهم .
رُوِي أن شأسَ بن قيس اليهوديّ كان عظيمَ الكُفْر ، شديد الطعن على المسلمين ، شديد الحَسَد ، فاتفق أنه مرَّ على نفر من الأوس والخزرج - وهم في مجلسٍ جَمَعَهم يتحدثون ، وكان قد زال ما بينهم من الشحناء والتباغُض ، فغاظه ما رأى من ألْفتهِمْ ، وصلاح ذاتِ بينهم في الإسلام بعد الذي كان بينهم في الجاهليةِ ، فقال : قد اجتمع مَلأ بني قيلة بهذه البلاد ، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا بها - من قرارٍ ، فأمر شابًّا من اليهود - كان معه - فقال : اعمد إليهم ، فاجلس معهم ، ثم ذكرهم يوم بُعاث وما كان قبله ، وأنشدهم بعضَ ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار ، وكان بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس مع الخزرج ، وكان الظَّفَرُ فيه للأوس على الخَزْرَج - ففعل : فتكلم القوم عند ذلك ، وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثَبَ رجلان من الحَيَّيْنِ على الرُّكَب - أوس بن قيظي ، أحد بني حارثة ، من الأوس وجبار بن صَخْر ، أحد بني سلمة من الخزرج - فتقاولا ، ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم والله رددتها الآن جَذَعة ، فغضب الفريقان جميعاً ، وقالا : قد فعلنا ، السلاحَ السلاحَ ، موعدكم الظاهرة - وهي حَرَّة - فخرجوا إليها ، وانضمَّت الأوس والخزرج بعضُها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهليةِ ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم - فيمن معه من المهاجرين - حتى جاءهم فقال : « يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ ، أبدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ وَأنَا بَيْنَ أظْهُرِكم بَعْدَ إذْ أكْرَمَكُمُ اللهُ بالإسْلاَمِ وقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ أمْرَ الجَاهِلِيَّةِ ، وَألَّفَ بَيْنَكُمْ ، فَتَرْجِعُونَ إلَى مَا كُنْتُمْ كُفَّاراً؟ اللهَ الله » فعرف القومُ أنها نزغة من شيطان ، وكيدٌ من عدوِّهم ، فألْقَوا السلاحَ من أيديهم ، وبَكَوْا ، وعانق بعضهم بعضاً ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين ، فأنزل الله هذه الآية ، فما كان يوم أقبح أولاً وأحسن آخراً من ذلك اليوم .
واعلم أن هذه الآية يحتمل أن يكون المراد بها : جميع ما يحاولونه من أنواع الضلالة ، فبيَّن - تعالى - أن المؤمنين إذا قَبِلوا منهم قولَهم أدَّى ذلك - حالاً بعد حال - إلى أن يعودوا كفاراً ، واكلفر يوجب الهلاك في الدُّنْيَا بالعداوة والمحاربة ، وسفك الدماء ، وفي الآخرة بالعذاب الأليم الدائم .
قوله : { يَرُدُّوكُم } رَدَّ ، يجوز أن يُضَمَّن معنى : « صَيَّر » فينصب مفعولَيْن .
ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
1550- رَمَى الحَدَثَانُ نِسْوَةَ سَعْدٍ ... بِمِقْدَارٍ سَمَدْنَ لَهُ سُمُوداً
فَرَدَّ شُعُورَهُنَّ السُّودَ بِيضاً ... وَرَدَّ وُجُوهَهُنَّ البِيضَ سُودَا
ويجوز ألا يتضمن ، فيكون المنصوبُ الثاني حالاً .
قوله : { بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } يجوز أن يكون منصوباً ب « يَرُدُّوكُمْ » ، وأن يتعلق ب « كَافِرِينَ » ، ويصير المعنى كالمعنى في قوله : { كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } [ آل عمران : 86 ] .
قوله : { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ } « كَيْفَ » كلمة تعجُّب ، وهو على الله - تعالى - محال ، والمراد منه التغليظ والمنع؛ لأن تلاوة آيات الله عليهم ، حالاً بعد حال - مع كون الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم - تُزيل الشُّبَه ، وتُقَرِّر الحُجج ، كالمانع من وقوعهم في الكُفْر ، فكان صدور الكفر عن هؤلاءِ الحاضرين للتلاوة والرسول معهم أبعد من هذا الوجه .
قال زيد من أرقم : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خطيباً ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : « أمَّا بَعْدُ ، أيُّهَا النَّاسِ ، إنَّمَا أنَا بَشَرٌ ، يُوشِكُ أن يَأتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي فأجِيبَه ، وإنِّي تَارِكٌ فيكُمُ الثَّقَلَيْنِ : أوَّلُهُمَا كتَابُ اللهِ ، فِيهِ الهُدَى والنُّور ، فَتَمسَّكُوا بِكِتَابِ اللهِ ، وَخّذُوا بِهِ ورغب فيه ثم قال : وَاهْل بَيْتِي ، أذكِّرُكُمُ اللهَ فِي أهْلِ بَيتِي » .
قوله : { وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله } جملة حالية ، من فاعل : « تَكْفُرُونَ » .
وكذلك قوله : { وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } أي : كيف يُوجَد منكم الكفرُ مع وجود هاتين الحالتين؟
والاعتصام : الامتناع ، يقال : اعْتَصَمَ واسْتَعْصَمَ بمعنًى واحدٍ ، واعْتَصَمَ زَيْدٌ عَمْراً ، أي : هيَّأ له ما يَعْتصِمُ به .
وقيل : الاعتصام : الاستمساك ، واستعصم بكذا ، أي : استمسك به .
ومعنى الآية : ومن يتمسك بدينِ الله وطاعته فقد هُدِي وأرْشِد إلى صراطٍ مستقيمٍ . وقيل : ومن يؤمن بالله . وقيل : ومن يتمسك بحبل الله وهو القرآن .
والعِصام : ما يُشدُّ به القربة ، وبه يسمَّى الأشخاص ، والعِصْمة مستعملة بالمعنيَيْن؛ لأنها مانعةٌ من الخطيئة وصاحبها متمسك بالحق - والعصمة - أيضاً - شِبْه السوار ، والمِعْصَم : موضع العِصْمَة ، ويُسَمَّى البياض الذي في الرسغ - عُصْمَة؛ تشبيهاً بها ، وكأنهم جعلوا ضمةَ العينِ فارقةً ، وأصل العُصْمة : البياض يكون في أيدي الخيل والظباء والوعول ، والأعْصَم من الوعول : ما في معاصمها بياضٌ ، وهي أشدُّها عَدْواً .
قال : [ الكامل ]
1551- لَوْ أنَّ عُصْمَ عَمَامَتَيْن وَيَذْبُلٍ ... سمعَا حَدِيثَكَ أنْزَلاَ الأوْعَالا
وعصمه الطعام : منع الجوع منه ، تقول العرب : عَصَمَ فلاناً الطعامُ ، أي : منعه من الجوع .
وقال أحمد بن يحيى : العرب تُسَمِّي الخبز عاصِماً ، وجابراً .
قال : [ الرجز ]
1552- فَلاَ تَلُومِينِي وَلُومِي جَابِرا ... فَجَابِرٌ كَلَّفَنِي الْهَوَاجِرَا
ويسمونه عامراً ، وأنشد : [ الطويل ]
1553- أبُو مَالِكٍ يَعْتَادُنِي بِالظَّهَائِر ... يِجِيءُ فَيُلْقِي رَحْلَهُ عِنْدَ عَامِرِ
وأبو مالك كنية الجوع .
وفي الحديث - في النساء : « لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْهُنَّ إلاَّ كَالْغُرَابِ الأعْصَمِ » وهو الأبيض الرجلين .
وقيل : الأبيض الجناحَين .
قال صلى الله عليه وسلم : « المَرْأةُ الصَّالِحَةُ فِي النِّسَاءِ كَالْغُرَابِ الأعْصَمِ في الغِرْبَانِ » .
قيل : يا رسولَ الله ، وما الغراب الأعصم؟ قال « الَّذِي فِي أحدِ جَنَاحَيْه بَيَاضٌ » .
وفي الحديث : كنا مع عمرو بن العاص ، فدخلنا شِعْباً ، فإذا نحن بغربان ، وفيهن غُرابٌ أحمرُ المنقار أحمر الرِّجلين ، فقال عَمرو : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ بِقَدْرِ هَذَا مِنَ الغِرْبَانِ » والمراد منه : التقليل .
قوله : « فقد هدي » جواب الشرط ، وجيء ف يالجواب ب « قد » دلالةً على التوقُّع؛ لأن المعتصم متوقع الهداية .
والمعنى : ومن يمتنع بدينِ الله ، ويتمسك بدينه ، وطاعتهِ ، فقد هُدِي إلى صراطِ مستقيم واضح . وفسره ابن جرير ومن يعتصم بالله أي : يؤمن بالله .
فصل
احتجوا بهذه الآية على أن فعل العبدِ مخلوق لله تعالى؛ لأنه جعل اعتصامهم هداية من الله تعالى ، والمعتزلة ذكروا فيه وجوهاً :
أحدها : أن المرادَ بهذه الهداية الزيادة في الألطاف المرتبة على أداء الطاعات ، كقوله تعالى : { يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السلام } [ المائدة : 16 ] وهذا اختيار القفال .
الثاني : أن التقدير : ومن يعتصم بالله فنعم ما فعل؛ فإنه إنما هُدِي إلى الصراط المستقيم ، ليفعل ذلك .
الثالث : أن التقدير : ومن يعتصم بالله فقد هُدِيَ إلى طريقِ الجنة .
الرابع : قال الزَّمَخْشَرِيُّ : « فقد هدي » أي : فقد حصل له الهدى - لا محالة - كما تقول : إذا جئتَ فلاناً فقد أفلحتَ ، كأن الهدى قد حصل ، فهو يخبر عنه حاصِلاً؛ لأن المعتصم بالله متوقّع للهدى ، كما أن قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)
لما حذر المؤمنين من إضْلال الكفَّارِ ، أمرهم في هذه الآياتِ بمجامع الطاعات ، فأمرهم - أولاً - بتقوى الله ، وثانياً - بالاعتصاب بحبل الله ، وثالثاً - بالاجتماع والتأليف ، ورابعاً - بالترغيب بقوله : { واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } .
والسبب في هذا الترتيب أن فِعْلَ الإنسان ، لا بد وأن يكون مُعَلَّلاً إما بالرهبة ، وإما بالرغبة ، والرهبة مقدمة على الرغبة؛ لأن دَفْع الضرر مقدَّمٌ على جَلْب النَّفْع ، فقوله : { اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } إشارة إلى التخويف من عقاب الله ، ثم جعله سبباً للتمسك بدين الله والاعتصام بحبله ، ثم أرْدَفَه بالرغبة ، فقال : { واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } فكأنه قال : خَوْف الله يوجب ذلك ، وكثرة نعم الله توجب ذلك ، فلم تَبْقَ جهة من الجهات الموجبة للفعل إلا وهي حاصلة في وجوب انقيادكم لأمر الله تعالى ، ووجوب طاعتكم لحكمه .
فصل
قال بعض العلماء : هذه الآية منسوخة؛ لما روي عن ابن عباس أنه لمَّا نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين؛ لأن حقَّ تقاته أن يُطَاعَ فلا يُعْصَى طرفة عين ، وأن يُشْكَر فلا يُكفر ، وأن يذكر فلا ينسى - والعباد لا طاقة لهم بذلك ، فنزل : { فاتقوا الله مَا استطعتم } [ التغابن : 16 ] ، فنسخت أول هذه الآيةِ ، ولم ينسخ آخرها ، وهو قوله : { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } وقال جمهور المحقِّقين : إن القول بهذا النسخ باطلٌ؛ لما روي عن معاذ أنه صلى الله عليه وسلم قال : « أتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ ، وَمَا حَقُّ العِبَادِ على الله » ؟ فقلت : اللهُ ورسولُه أعْلَمُ . قال : « حَقُّ الله على العِبَادِ أن يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ، وحَقُّ العِبَادِ على اللهِ ألا يُعَذِّبَ مَنْ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً » قلت : يا رسول الله ، أفلا أبَشر الناسَ؟ قال : « لا تبشرهم فيتَّكلوا » وهذا لا يجوز أن يُنْسخَ؛ ولأن معنى قوله : { اتقوا الله حق تقاته } أي : كما يحق أن يتقى ، وذلك بأن تُجْتَنَبَ جميع معاصيه ، ÷ ومثل هذا لا يجوز أن يُنْسخ؛ لأنه إباحة لبعض المعاصي ، وإذا كان كذلك صار معنى هذه الآية ومعنى قوله : { فاتقوا الله ما استطعتم } واحداً؛ لأن من اتقى الله ما استطاع فقد اتقاه حق تقاته؛ ولأن حق تقاته ما استطاع من التقوى؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها والوسع دون الطاقة ، ونظير هذه الآية قوله : { وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ } [ الحج : 78 ] .
فإن قيل : أليس قد قال تعالى : { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } [ الأنعام : 91 ] ؟
فالجواب : أن هذه الآية وردت في ثلاثة مواضع في القرآن ، وكلها في صفة الكفار ، لا في صفة المسلمين ، وأما الذين قالوا : إن المراد هو أن يُطاع فلا يُعصى فهذا صحيح ، والذي يصدر عن الإنسان كان سَهْواً ، أو نِسْيَاناً فغير قادح فيه؛ لأن التكليف مرفوع عنه في هذه الأحوال ، وكذلك قوله : أن يشكر فلا يكفر؛ لأن ذلك واجب عليه عند حضور نعم الله بالبال ، فأما عند السهو فلا يجب ، وكذلك قوله : أن يذكر فلا يُنْسَى ، فإن ذلك واجب عند الدعاء والعبادة ، وكل ذلك مما يطاق ، فلا وَجْهَ للقول بالنسخ .
وقوله : { حَقَّ تُقَاتِهِ } أي : كما يجب أن يُتَّقَى ، والتقى اسم للفعل - من قولك : اتقيت - كما أن الهُدَى اسم الفعل من قولك : اهتديت .
قوله : { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } نَهْي في الصورة عن موتهم إلا على هذه الحالة ، والمراد : دوامهم على الإسلام؛ وذلك أن الموت لا بدّ منه ، فكأنه قال : دوموا على الإسلام غلى الموت ، وقريب منه ما حَكَى سيبويه : لا أرَيَنَّكَ هَهُنا ، أي : لا تكن بالحضرة ، فتقع عليك رؤيتي ، والجملة من قوله : { وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } في محل نصب على الحال ، والاستثناء مُفَرَّغ من الأحوال العامة ، أي : لا تموتن على حالة من سائر الأحوال إلا على هذه الحال الحسنةِ ، وجاء بها جملةً اسميةً؛ لأنها أبلغ وآكد؛ إذْ فيها ضمير متكرر ، ولو قيل : إلا مسلمين لم يُفِدْ هذا التأكيد وتقدم إيضاح هذا التركيب في البقرة عند قوله تعالى : { إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ } [ البقرة : 132 ] بل دل على الاقتران بالموت لا متقدِّماً ولا متأخراً .
قوله : { واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً } الحبل - في الأصل - هو : السبب ، وكل ما وصلك إلى شيء فهو حبل ، وأصله في الأجرام واستعماله في المعانِي من باب المجاز . ويجوز أن يكون - حينئذٍ - من باب الاستعارة ، ويجوز أن يكون من باب التمثيل ، ومن كلام الأنصار رضي الله عنهم : يا رسولَ الله ، إنَّ بيننا وبَيْنَ القوم حبالاً ونحن قاطعوها - يعْنُون العهود والحِلْف .
قال الأعشى : [ الكامل ]
1554- وَإذَا تُجَوِّزُهَا حِبَالُ قَبِيلَةٍ ... أخَذَتْ مِنَ الأخْرَى إلَيْكَ حِبَالَهَا
يعني العهود .
قيل : والسبب فيه أن الرجل كان إذا سافر خاف ، فيأخذ من القبيلة عَهداً إلى الأخرى ، ويُعْطَى سَهْماً وحَبْلاً ، ويكون معه كالعلامة ، فسُمِّيَ العهدُ حَبْلاً لذلك ، وهذا المعنى غير طائل ، بل سُمِّي العهد حبلاً للتوصُّل به إلى الغرض .
وقال آخر : [ الكامل ]
1555- مَا زِلْتُ مُعْتَصِماً بِحَبْلٍ مِنْكُمُ ... مَنْ حَلَّ سَاحَتَكُمْ بِأسْبَابِ نَجَا
قال القرطبي : العِصْمة : المَنَعَة ، ومنه يقال للبَذْرَقة : عصمة ، والبذرقة : الخفارة للقافلة ، وهو من يُرسَلُ معها يحميها ممن يؤذيها ، قال ابنُ خالويه : « البذرقة ليست بعربيةٍ ، وإنَّما هي كلمة فارسية عرَّبتها العرب ، يقال : بعث السلطان بَذْرَقَةً مع القافلة » . والحبل لفظ مشترك ، وأصله - في اللغة : السبب الذي يُوصل به إلى البغية والحاجة ، والحبل : المستطيل من الرمل ، ومنه الحديث : « واللهَ مَا تَرَكَتُ مِنْ حَبْلٍ إلاَّ وَقَفْتُ عَلَيْه ، فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ » ؟ والحبل : الرَّسَن ، والحبل : الداهية .
قال كثير : [ الطويل ]
1556- فَلاَ تَعْجَلِي يَا عَزَّ أنْ تتفهمي ... بنُصْحٍ أتَى الوَاشُونَ أمْ بِحُبُولٍ
والحبالة : حبالة الصائد ، وكلها ليس مراداً في الآية إلا الذي بمعنى العَهْد .
والمراد بالحبل - هنا - : القرآن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم - في الحديث الطويل- : « هو حَبْلُ الله المتين » .
وقال ابن عباس : هو العهد المذكور في قوله : { وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [ البقرة : 40 ] لقوله تعالى : { إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس } [ آل عمران : 112 ] أي : بعهد ، وسُمِّيَ العَهْدُ حبلاً لما تقدم من إزالة الخوف .
وقيل : دين الله .
وقيل : طاعة الله ، وقيل : هو الإخلاص .
وقيل : الجماعة؛ لأنه عقبه بقوله : { وَلاَ تَفَرَّقُوا } .
وتحقيقه : أن النازل في البئر لما كان يعتصم بالحبل ، تحرُّزاً من السقوط فيها ، وكان كتاب الله وعهده ودينه وطاعته ، وموافقة جماعة المؤمنين حِرزاً لصاحبه من السقوط في جهنم - جعل ذلك حبلاً لله ، وأمروا بالاعتصام به .
وقوله : { جَمِيعًا } أي : مجتمعين عليه ، فهو حال من الفاعل .
قوله : { وَلاَ تَفَرَّقُوا } قراءة البَزِّيِّ بتشديد التاء وصلاً وقد تقدم توجيهه في البقرة عند قوله « ولا تيمموا » والباقون بتخفيفها على الحذف .
فصل
في التأويل وجوه :
الأول : أنه نَهْي عن الاختلاف في الدين؛ لأن الحق لا يكون إلا واحداً ، وما عداه جهلٌ وضلال ، قال تعالى : { فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال } [ يونس : 32 ] .
الثاني : أنه نَهْي عن المعاداةِ والمخاصمةِ؛ فإنهم كانوا في الجاهلية مواظبين على ذلك ، فنهوا عنه .
الثالث : أنه نَهْي عما يوجب الفُرقة ، ويزيل الألفة ، قال صلى الله عليه وسلم « سَتَفْتَرِقُ أمَّتِي عَلَى نَيِّفٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً الناجِي مِنْهُمْ وَاحِدَةٌ » قيل : ومن هي يا رسول الله؟ قال : « الجَمَاعَةَ » .
وروي : « السواد الأعظم » .
ويروى : « مَا أنَا عَلَيْهِ وَأصْحَابِي » .
واعلم أن النهْيَ عن الاختلاف ، والأمر بالاتفاق ، يدل على أن الحق لا يكون إلا واحداً .
فصل
استدلت نفاة القياس بهذه الآية ، فقالوا : الأحكام الشرعية إما أن يقال : إن الله سبحانه - نصب عليها دلائل يقينية ، أو ظنية ، فإن كانت يقينية فلا يكتفى فيها بالقياس الذي يفيد الظن؛ لأن الدليل لا يكتفى به في موضع اليقين ، وإن كانت ظنيّة أدى الرجوع إليها إلى الاختلاف والنزاع وقد نهى الله عنه بقوله : { وَلاَ تَفَرَّقُوا } [ آل عمران : 103 ] وقوله : { وَلاَ تَنَازَعُواْ } [ الأنفال : 46 ] .
والجواب بأن هذا العموم مخصوص بالأدلة الدالة على العمل بالقياس .
قال القرطبي : وليس في الآية دليل على تحريم الاختلاف في الفروع؛ فإن ذلك ليس اختلافاً؛ إذ الاختلاف يتعذر معه الائتلاف والجمع ، وأما حكم مسائل الاجتهاد ، فإن الاختلاف فيها بسبب اتسخراج الفرائض ودقائق معاني الشرع ، وما زالت الصحابة مختلفين في أحكام الحوادث ، وهم - مع ذلك - متآلفون وقال صلى الله عليه وسلم : « اخْتِلاَفُ أمَّتِي رَحْمَةٌ »
وإنما منع الله الاختلاف الذي هو سبب الفساد ، قال صلى الله عليه وسلم : « تَفَرَّقَت اليَهُودُ عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً - أوْ اثنتين وَسَبْعِينَ فِرْقَةً - وَالنَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ ، وَتَفْتَرِقُ أمَّتِي ثلاثاً وسبعين فرْقَةً » .
قوله : { واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } .
{ نِعْمَةَ الله } مصدر مضاف لفاعله؛ إذ هو المُنْعِم ، { عَلَيْكُمْ } ، ويجوز أن يكون متعلقاً بنفس { نِعْمَتَ } ؛ لأن هذه المادةَ تتعدى ب « على » قال تعالى : { وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 37 ] .
ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من « نِعْمَةَ » ، فيتعلق بمحذوف ، أي : مستقرة ، وكائنة عليكم .
قوله : { إِذْ كُنْتُمْ } « إذْ » منصوبة - ب « نِعْمَةَ » ظرفاً لها ويجوز أن يكون متعلِّقاً بالاستقرار الذي تضمنه { عَلَيْكُمْ } إذا قلنا : إن « عَلَيْكُمْ » حال من النعمة ، وأما إذا علقنا « عَلَيْكُمْ » ب « نِعْمَةَ » تعيَّن الوجه الأول .
وجوز الحوفي أن يكون منصوباً ب « اذْكُروا » يعني : مفعولاً به ، لا أنه ظرف له؛ لفساد المعنى؛ إذْ « اذْكُرُوا » مستقبل ، و « إذْ » ماضٍ .
فصل
{ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } .
قال محمد بن إسحاق وغيره من أهل الأخبار : كان الوس والخزرج أخوين لأب وأمٍّ ، فوقعت بينهما عداوةٌ - بسبب قتيل - فتطاولت تلك العداوة والحرب بينهم مائة وعشرين سنة ، إلى أن أطفأ الله تعالى ، ذلك بالإسلام ، وألَّف بينهم برسوله - عليه السلام - وكان سبب ألفتهِمْ أن سويدَ بن الصامت - أخا بني عمرو بن عوف - كان شريفاً ، تُسمِّيه قومه : الكامل ، لجلده ونسبه ، قدم « مكة » حاجًّا أو معتمراً ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بُعِثَ وأمِرَ بالدعوة ، فتصدَّى له حين سمع به ، فدعاه إلى الله وإلى الإسلام ، فقال له سُوَيْدٌ : فلعلَّ الذي معك مثل الذي معي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « وَمَا الَّذِي مَعَكَ؟ قال : حِكْمَةُ لقمان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أعْرِضْهَا عَلِيَّ « فعرضها عليه ، فقال : إنَّ هذا الكلام حَسَنٌ معي أفْضَلُ مِنْ هَذَا - قُرْآنٌ أنْزَلَهُ اللهُ عَلَيَّ نُوراً وهُدًى ، فَتَلاَ عليهِ القرآنَ ، وَدَعَاهُ إلَى الإسْلام ، فَلَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ ، وقال : إنَّ هَذَا القولَ أحْسَنُ ، ثُمَّ انْصرَفَ إلى المدينةِ ، فَلَمْ يَلْبَثْ أنْ قَتَلَهُ الخَزْرَجُ يَوْمَ بُعَاث » فإن قومه يقولون : قد قتل وهو مسلم ، ثم قدم أبو الجيسر أنس بن رافع معه فتية من بني الأشهل - فيهم إياس بن معاذ - يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزر ، فلما سمع بهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أاهم ، فجلس إليهم ، فقال : « هَلْ لَكُمْ إلَى خير مما جِئْتُمْ لَهُ؟ قالوا : ومَا ذَاكَ؟ قال : أنَا رَسُولُ اللهِ بَعَثَنِيَ اللهُ إلى العِبَادِ ، أدْعُوهُمْ إلى ألاَّ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ، وأنْزَلَ عَليَّ الكِتَابَ ، ثُمَّ ذكر لهم الإسلام »
، وتلا عليهم القرآن ، فقال إياس بن معاذ وكان غلاماً حدثاً : أي قوم ، هذا والله خير مما جئتم له ، فأخذ أبو الجيسر حَفنَةً من البطحاء ، فضرب بها وجه إياس ، وقال : دَعْنا منك؛ فلعمري لقد جئنا لغير هذا ، فصمت إياس ، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ثم انصرفوا إلى « المدينة » ، فكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج ، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك فلما أراد الله - عز وجل - إظْهارَ دينهِ ، وإعزازَ نبيه ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار ، يعرض نفسه على قبائل العرب - كما كان يصنع في كل موسم - فلقي عند العقبة رَهْطاً من الخزرج - أراد الله بهم خيراً - وهم أسعد بن زرارة ، وعوف ابن الحارث - وهو ابن عفراء - ورافع بن مالك العجلاني وقطبة بن عامر بن خريدة ، وعقبة بن عامر ، وجابر بن عبد الله ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم « مَنْ أنْتُمْ؟ قالوا : نفر من الخزرج فقال : أمِنْ مَوَالِي يَهُود؟ قالوا : نعم ، قال أفَلاَ تَجْلُسوا حَتَّى أكلِّمَكُمْ » ؟ قالوا : بلى ، فجلسوا معه ، فدعاهم إلى الله ، وعرض عليهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن ، وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام أنّ يهود كانوا معهم ببلادهم ، وكانوا أهل كتاب وعِلْم ، وهم كانوا أهل أوثان وشِرْك ، وكانوا - إذا كان بينهم شيء - يقولون : إن نبيًّا الآن مبعوثاً قد أظَلَّ زمانه نتبعه ، ونقتلكم معه قتل عاد وإرمَ ، فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ، ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض : يا قوم ، تعلمون - والله - أنه النبي الذي توعَّدَكم به اليهود ، فلا تسبقنكم إليه ، فأجابوه وصدقوه ، وأسلموا ، وقالوا : إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العَدَاوةِ والشر ما بينهم ، وعسى الله أن يجمعهم بك ، وسنقدم عليهم ، وندعوهم إلى أمرك ، فإن يجمعهم الله عليك فلا رَجُلَ أعزُّ منك ، ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم - قد آمنوا - فلما قَدِمُوا « المدينة » ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فَشَا فيهم ، فلم تَبْقَ دار من الأنصار إلا وفيها ذِكْرٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كان العام المقبل وافَى الموسم من الأنصار اثنا عشر رَجُلاً : أسعد بن زرارة ، وعوف ومعاذ - ابنا عفراء ، ورافع بن مالك بن العجلاني ، وذكوان بن عبد القيس ، وعبادة بن الصامت ، ويزيد بن ثعلبة ، وعباس بن عبادة ، وعقبة بن عامر ، وقُطْبَةُ بن عامر - وهؤلاء خزرجيُّون - وأبو الهيثم بن التَّيِّهَانِ ، وعويم بن ساعدة - من الأوس - فلَقَوْه في « العقبة » - وهي العقبة الأولى - فبايعوا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء ، على ألا يُشْركوا بالله شيئاً ، ولا يسرقوا ولا يزنوا . .
إلى آخر الآية ، فإن وفَّيْتُم فلكم الجنة ، وإن غشيتم شيئاً من ذلك ، فَأخِذتم بِحدِّهِ في الدنيا فهو كَفَّارة له ، وإن سَتَرهُ الله عليكم فأمركم إلى الله إن شاء عذبكم ، وإن شاء غفر لكم ، قال : وذلك قبل أن يفرض عليهم الحرب ، قال : فلما انصرف القوم بعث معهم رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف وأمره أن يُقْرئهم القرآن ، ويعلمهم الإسلام ، ويُفقههم في الدين ، فنزل مصعب على أسعد بن زرارة ، ثم إن أسعد بن زرارة خرج بمصعب ، فدخل به حائطاً من حوائط بني ظفر ، فجلسا في الحَائِطِ ، واجتمع إليهما رجال من أسلم ، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير : انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دَارَنَا - لِيُسَفِّهَا ضعفاءنا - فازجرهما وانْهَهما عن أن يأتيا دارَنا ، فإن أسعد ابن خالتي ، ولولا ذلك لكفيتك ، وكان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير سَيِّدَي قومهما من بني عبد الأشهل وهما مشركان ، فأخذ أسيد بن حضير حَرْبَتَهُ ، ثم أقبل إلى مصعب وأسعد - وهما جالسان في الحائط - فلما رآه أسعد بن زرارَةَ قال لمصعب : هذا سيد قومه قد جاءك ، فاصدق الله فيه .
قال مصعب : إن يجلس أكَلِّمْهُ ، فوقف عليهما متشتماً ، فقال : ما جاء بكما إلينا ، تسفِّهان ضعفاءَنا؟ اعتزلا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة .
فقال مصعب : أو تجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمرا قبلته ، وإن كرهته كفّ عنك ما كرهت .
قال : أنصفت ، ثم ركز حريته وجلس إليهما ، فكلَّمه مصعب بالإسلام ، وقرأ عليه القرآن ، فقالا : والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن نتكلم في إشراق وجهه وتسهُّهله ، ثم قال : ما أحسن هذا وأجمله ، كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟
قال : تغتسل ، وتُطهِّر ثوبك ، ثم تشهد شهادةَ الحق ، ثم تصلي ركعتين .
فقالم واغتسل ، وغسل ثوبه ، وتشهد شهادة الحق ، وصلى ركعتين ، ثم قال لهما : إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه ، وسأرسله إليكما الآن ، ثم أخَذَ حَرْبَتَهُ ، وانصرف إلى سعد وقومه ، وهم جلوس في ناديهم - فلما نظر إليه بن معاذ مُقْبِلاً قال : أحلف بالله لقد جاءكم أسَيْدٌ بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم ، فلما وقف على النَّادي قال له سعد : ما فعلت؟
قال : كلمت الرجلين ، فوالله ما رأيت بهما بأساً ، وقد نهيتهما ، فقالا : تفعل ما أحببت ، وقد حدثت أن من بني حارثة أناساً خرجوا إلى أسعد بن زرارة ، ليقتلوه ، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ، ليخفروك .
فقام سعد مُغْضَباً مبادراً تخوُّفاً للذي ذُكِرَ له من بني حارثة ، فأخذ الحربة ، ثم قال : والله ما أراك أغنيت شيئاً ، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيداً إنما أراد أن يَسْمَعَ منهما ، فوقف عليهما متشتماً ، فقال لأسعد بن زرارة : والله لولا ما بيني وبينك من القَرَابة ، ما رمت هذا مني ، أتغشانا في دارنا بما نَكْرَهُ؟
فقال أسعد بن زرارة لمصعب بن عمير : أي مصعب ، جاءك - والله - سيد مَنْ وراءَه من قومه ، إن يتبعك لم يتخلف عنك منهم أحد .
فقال له مصعب : أفتقعد وتسمع؟ فإن رضيت أمراً ، ورغبت فيه ، قبلته ، وإن كرهته ، عَزَلْنَا عنك ما تكره .
قال سعد : أنْصَفْتَ ، ثم ركز الحَرْبَةَ ، فجلس ، فعرض عليه الإسلام ، وقرأ عليه القرآن .
قالا : فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يَتَكَلَّمَ به ، ثم قال : كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟
قالا : تغتسل وتطهر ثوبك ، ثم تشهد شهادة الحق ، ثم تصلي ركعتين ، فقام واغتسل وطهر ثوبه وتشهد شهادة الحق وركع ركعتين ، ثم أخذ حربته ، فأقبل عامداً إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير .
فلما رآه قومه مُقْبِلاً ، قالوا : نحلف بالله لقد رَجَعَ سعد إليكم ، بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم .
فلما وقف عليهم قال : يا بني عبد الأشهل ، كيف تعلمون أمري فيكم؟
قالوا : سيدنا وأفضلنا رأياً ، وأيمننا نقيبة .
قال : فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرامٌ ، حتى تؤمنوا بالله ورسوله .
قال : فما أمسى في دار عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلم أو مسلمة ، ورجع أسعد بن زرارة ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة ، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام ، حتى لم تَبْقَ دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون ، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد ، وخطمة ، ووائل ، وواقف؛ وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت الشاعر ، وكانوا يسمعونه ويطيعونه ، فوقف بهم عن الإسلام ، حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى « المدينة » ومضى بدر وأحد والخندق . قال : ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى « مكة » وخرج معه من الأنصار سبعون رجلاً مع حُجَّاج قومهم من أهل الشرك ، حتى قدموا « مطة » ، فواعدوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق ، وهي بيعة العقبة الثانية .
قال كَعْبُ بْنُ مَالِك : فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر أخبرناه ، وكنا نكتم على مَنْ معنا من المشركين أمرنا - وكلمناه ، وقلنا له ، يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا ، شريف من أشرافنا ، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حَطَباً للنار غداً ، ودعوناه إلى الإسلام ، فأسلم ، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد معنا العَقَبَة - وكان نقيباً فيها - فَبِتْنَا تلك الليلة مع قومنا في رِحَالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نَتَسَلَّلُ مُسْتَخْفِين تَسَلُّلَ القَطَا ، حتى إذا اجتمعنا في الشِّعْب عند « العقبة » ، ونحن سبعون رجلاً ومعنا امرأتان من نسائنا ، نسيبة بنت كعب ، أم عمارة إحدى نساء بني النجَّار ، وأسماء بنت عمرو بن عَدِيِّ ، أم منيع ، إحدى نساء بني سلمة ، فاجتمعنا في الشِّعْب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه عمه العَبَّاسُ بن عبد المطلب ، وهو يومئذ على دين قومه ، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ، ويتوثّق له ، فلما جلسنا كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب .
فقال : يا معشر الخزرج - وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من أنصار خزرجها وأوسها - إن محمداً منا حيث قد علمتم ، وقد منعناه من قومنا ، ممن هو على مثل رأينا فيه ، وهو في عِزٍّ من قومه ، ومَنَعَةٍ في بلده ، وإنه قد أبَى إلا الانحياز إليكم ، واللحوق بكم فإن كنتم ترون أنكم وَافُونَ له بما دَعوْتُمُوهُ إليهِ ، ومَانِعُوهُ ممن خالفه ، فأنتم وما تَحَمَّلْتم من ذلك ، وإن كنتم ترون أنكم مُسْلِموه ، وخاذلوه - بعد الخروج إليكم - فمن الآن فَدَعُوهُ؛ فإنه في عِزٍّ ومَنَعةٍ .
قال : فقلنا : قد سمعنا ما قلتَ ، فَتَكَلَّمْ يا رسولَ الله ، وخُذْ لنفسك ولربك ما شِئْتَ .
قال : فتكلَّم رسولُ الله ، فتلا القرآن ودعانا إلى الله - عز وجل - ورَغَّبَ في الإسلام ، ثم قال : أبايِعُكُمْ عَلَى أنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَآبْنَاءَكُمْ- .
فأخذ البراء بن مَعْرُورٍ بيده ، ثم قال : والذي بعثك بالحق نبيًّا ، لنمنعنَّك مما نمنع منه أَزْرَنا ، فبايِعْنا يا رسول الله ، فنحن أهل الحرب ، وأهل الحلقة ، ورثناها كابراً عن كابرٍ ، قال : فاعترض القول - والبراء يُكَلِّم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم - أبو الهيثم بن التَّيْهان .
فقال : يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالاً - يعني العهود - وإنا قاطعوها ، فهل عسيت إن فعلنا ذلك ، ثم أظهرك الله ، أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟
فتبسَّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : « لا ، بل الأبدَ الأبدَ ، الدَّمَ الدَّمَ ، الهدمَ الهدمَ ، أنْتُمْ مِنِّي وَأنَا مِنْكُمْ ، أحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمُ ، وأسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمُ » ثم قال صلى الله عليه وسلم : « أخْرِجُوا إليَّ منكم اثني عَشَرَ نَقِيْباً ، كُفلاء على قومهم بما فيهم ككفالة الحَوَاريينَ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، فأخرجوا تسعة من الخزرج ، وثلاثة من الأوس » .
قال عاصم بن عمرو بن قتادة : إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاريّ : يا معشرَ الخزرج ، فهل تدرون عَلاَمَ تبايعون هذا الرجل إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود ، فإن كنتم تَرَونَ أنكم إذا أنْهِكَتْ أموالكم مصيبةً ، وأشرافكم قتلى أسلمتموه فمن الآن ، فهو والله خِزْيٌ في الدنيا والآخرةِ ، وإن كنتم تَرَوْنَ أنكم وافون له بما دَعوتُمُوه إليه على تهلكة الأموال ، وقَتْلِ الأشْراف فخُذوه ، فهو - والله - خير الدنيا والآخرة .
قالوا : فإنا نأخذه على مصيبة الأموال ، وَقَتْل الأشراف ، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وَفَّيْنَا؟
قال : « الجَنَّةُ » .
قالوا : ابْسُطْ يدك ، فبسط يده ، فبايعوه ، وأول مَنْ ضَرَبَ على يده : البَرَاءُ بن معرور ، ثم بايع القومُ .
قال : فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشَّيْطان من أعلى رأس العَقَبة بأنفذ صوت ما سمعته قط : يا أهل الجباجب ، هل لكم في مُذَمَّم والصُّبَاة معه ، قد اجتمعوا على حَرْبكم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « هَذَا عَدُوُّ اللهِ ، أزَبُّ العَقَبَة ، اسمعْ أيْ عَدُوَّ اللهِ - أمَا وَاللهِ لأفْرُغَنَّ لَكَ . ثم قال صلى الله عليه وسلم : ارْفَضُّوا إلَى رِحَالِكُمْ » .
فقال العباس بن عبادة بن نَضْلة : والذي بعثك بالحق ، لئن شئتَ لنميلن غداً على أهل مِنًى بأسيافنا ، فقال صلى الله عليه وسلم : « لَمْ نُؤْمَرْ بذلك ، وَلِكِنْ ارْجِعُوا إلَى رِحَالِكُمْ » فرجعنا إلى مضاجعنا ، فنمنا عليها ، حتى أصبحنا ، فلما أصبحنا ، غدت علينا جُلَّةُ قريش ، حتى جاءونا في منازلنا ، فقالوا : يا معشرَ الخزرج ، بلغنا أنكم جئتم صاحبنا هذا ، تستخرجونه من بين أظْهُرنا ، وتبايعونه على حَرْبِنَا ، وإنه - والله - ما حي من العرب أبغض إلينا ، أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم .
قال : فانبعث مَنْ هناك من مشركي قَوْمِنَا ، يحلفون لهم بالله ، ما كان من هذا شيء وما علمناه - وصَدَقُوا ، لم يعلموا - وبعضنا ينظر إلى بَعْضٍ ، وقام القوم ، وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزوميّ - وعليه نَعْلاَن جديدان - فقُلت له كلمة - كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا - يا أبا جابر ، أما تستطيع أن تتخذ - وأنت سيد من سادتنا - مثل نَعْلَيْ هذا الفتى من قُرَيش؟ قال فسمعها الحارثُ ، فخلعهما من رِجْلَيْه ، ثم رمى بهما إليَّ ، وقال : والله لتنتعلنّهما .
قال : فقال أبو جابر : مَهْ والله لقد أحفظت الفتى ، فاردد إليه نعليه ، قال : والله لا أردُّهما ، قال : والله يا أبا صالحٍ ، لئن صَدَق الفال لأسلبنَّه .
قال : ثم انصرف الأنصار إلى « المدينة » - وقد شدوا العَقْد - فلما قدموها أظهر الله الإسلام بهم وبلغ ذلك قريشاً ، فآذوا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه :
« إن الله قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون فيها » ، فأمرهم بالهجرة إلى « المدينة » ، واللحوق بإخوانهم من الأنصار ، فأول من هاجر إلى « المدينة » : أبو سلمة بن عبد الأسد المخزوميّ ، ثم عامر بن ربيعة ، ثُم عبد الله بن جحش ، ثم تابع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرْسَالاً إلى « المدينة » ، فجمع الله أهْلَ « المدينة » - أوْسَهَا وخَزْرَجَها - بالإسلام ، وأصلح الله ذات بينهم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا معنى قوله تعالى : { واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً } [ آل عمران : 103 ] يا معشر الأنصار قبل الإسلام { فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } بالإسلام { فَأَصْبَحْتُمْ } أي : فصرتم . و « أصبح » من أخوات « كان » فإذا كانت ناقصة ، كانت مثل « كان » في رفع الاسم ونَصْب الخبر ، وإذا كانت تامة رفعت فاعلاً ، واستغنت به ، فإن وجد منصوب بعدها فهي حال ، وتكون تامة إذا كانت بمعنى دخل في الصباح ، تقول : أصبح زيد ، أي دخل في الصباح ، ومثلها - في ذلك - « أمسى » قال تعالى { فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [ الروم : 17 ] وقال : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ } [ الصافات : 137 ] .
وفي أمثالهم : « إذا سمعت بسرى القين فاعلم أنه مصبح » ؛ لأن القين - وهو الحداد - ربما قلَّت صناعته في أحياء العرب ، فيقول : أنا غداً مسافر ، فيأتيه الناس بحوائجهم ، ويقيم ، ويترك السفر ، فأخرجوه مثلاً لمن يقول قولاً ويخالفه . والمعنى : فاعلم أنه مقيم في الصباح . ويكون بمعنى « صار » عملاً ومعنًى . كقوله : [ الخفيف ]
1557- فَأصْبَحُوا كَأنَّهُمْ وَرَقٌ جَفْ ... فَ فَألْوَتْ بِهِ الصَّبَا وَالدَّبُورُ
أي : صاروا .
و « إخواناً » خبرها ، وجوَّزوا فيها - هنا - أن تكون على بابها - من دلالتها على اتصاف الموصوف بالصفة في وقت الصباح ، وتكون بمعنى : « صار » - وأن تكون تامة ، أي : دخلتم في الصباح ، فإذا كانت ناقصة على بابها - فالأظهر أن يكون « إخْناناً » خبرها ، و « بنعمته » متعلق به لما فيه من معنى الفعل ، أي : تآخيتم بنعمته ، والباء للسببية .
وجوَّز أبو حيان أن تتعلق ب « أصْبَحْتم » ، وقد عُرف ما فيه من خلاف . وجوّز غيره أن تتعلق بمحذوف على أنه حال من فاعل « أصْبَحْتُمْ » ، أي : فأصبحتم إخواناً ملتبسين بنعمته ، أو حال من « إخواناً » ؛ لأنه في الأصل - صفة له .
وجوَّزوا أن تكون « بِنِعْمَتِهِ » هو الخبر ، و « إخواناً » حال والباء بمعنى الظرفية ، وإذا كانت بمعنى : « صار » جرى فيها ما تقدم من جميع هذه الأوجه ، وإذا كانت تامة ، فإخواناً حال ، و « بِنِعْمَتِهِ » فيه ما تقدم من الأوجه خلا الخبرية .
قال ابن عطية : « فأصْبَحْتُمْ » عبارة عن الاستمرار - وإن كانت اللفظة مخصوصة بوقت - وإنما خُصَّت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث مبدأ النهار ، وفيه مبدأ الأعمال ، فالحال التي يحبها المرء من نفسه فيها هي التي يستمر عليها يومَه في الأغلب .
ومنه قول الربيع بن ضَبع : [ المنسرح ]
1558- أصْبَحْتُ لاَ أحْمِلُ السِّلاَحَ وَلاَ ... أمْلُِ رَأسَ البَعِيرِ إنْ نَفَرَا
قال أبو حيان : وهذا الذي ذكره - من أن « أصبح » للاستمرار وعلله بما ذكره - لم أر أحداً من النحويين ذهب إليه ، إنما ذكروا أنها تُسْتَعْمَل بالوجهين اللذين ذكرناهما .
قال شهاب الدين : وهذا - الذي ذكره ابن عطية - معنى حَسَنٌ ، وإذا لم يَنُصّ عليه النحويون لا يُدْفَع؛ لأن النحاة - غالباً - إنما يتحدثون بما يتعلق بالألفاظ ، وأما المعاني المفهومة من فَحْوى الكلام ، فلا حاجة إلى الكلام عليها غالباً .
والإخوان : جمع أخ ، وإخوة اسم جمع عند سيبويه ، وعند غيره هي جمع .
وقال بعضهم : إن الأخ في النسب - يُجْمَع على : « إخوة » ، وفي الدين يُجْمَع على : « إخوان » ، هذا أغلب استعمالهم ، وقال تعالى : { إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ } [ الحجرات : 10 ] ونفس هذه الآية تَرُدُّ ما قاله؛ لأن المراد - هنا - ليس أخُوَّة النسب إنما المراد أخوة الدين والصداقة .
قال أبو حاتم : قال أهل البصرة : الإخوة في النسب ، والإخوان في الصداقة ، قال : وهذا غلط؛ يقال للأصدقاء والأنسباء : إخوة ، وإخوان ، قال تعالى : { إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ } [ الحجرات : 10 ] ولم يَعْنِ النسب ، وقال تعالى : { أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ } [ النور : 61 ] وهذا في النسب .
وهذا الرد من أبي حاتم إنما يتّجِه على هذا النقل المُطْلق ، ولا يرد على النقل الأول؛ لأنهم قيدوه بالأغلب في الاستعمال .
قال الزجاج : أصل الأخ - في اللغة - من التوخي - وهو الطلب؛ فإن الأخ مقصده مقصد أخيه ، والصديق مأخوذ من أن يصدق كل واحد من الصديقين ما في قلبه ، ولا يُخْفِي عنه شيئاً .
قوله : { وَكُنْتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ } شَفَا الشيء : طرفه وحرفه ، وهو مقصور من ذوات الواو ، ويُثَنَّى بالواو نحو : شَفَوَيْن ويكتب بالألف ، ويُجْمَع على أشفاء ، ويُسْتَعْمَل مضافاً إلى أعلى الشيء وإلى أسفله ، فمن الأول : { شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } [ التوبة : 109 ] ومن الثاني : هذه الآية .
وأشْفَى على كذا : قاربه ، ومنه : أشفى المريض على الموت . قال يعقوب : يقال للرجل عند موته ، وللقمر عند محاقه ، وللشمس عند غروبها : ما بقي منه ، أو منها ، إلا شَفاً ، أي : إلا قليل . وقال بعضهم : يقال لما بين الليل والنهار ، وعند غروب الشمس إذا غاب بعضها : شَفاً .
وأنشد : [ الرجز ]
1559- أدْرَكْتُهُ بِلاَ شَفاً ، أوْ بِشَفَا ... وَالشَّمْسُ قَدْ كَادَتْ تكونُ دَنفَا
قوله بلا بشفا : أي : غابت الشمسُ ، وقوله : أو بشفا ، أي : بقيت منه بقية .
قال الراغب : والشفاء من المرض : موافاة شفا السلامة ، وصار اسماً للبُرْء والشفاء .
قال البخاري : قال النحاس : « الأصل في شفا - شَفَوٌ ، ولهذا يُكْتَب بالألف ، ولا يمال » .
وقال الأخفش : « لما لم تَجُز فيه الإمالة عُرِفَ أنه من الواو » ؛ لأن الإمالةَ من الياء .
قال المهدويّ : « وهذا تمثيل يُراد به خروجُهم من الكفر إلى الإيمان » .
قوله : { فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا } في عَود هذا الضمير وجوه :
أحدها : أنه عائد على « حُفْرَةٍ » .
والثاني : أنه عائد على « النَّارِ » .
قال الطبريّ : إن بعض الناس يُعيده على الشفا ، وأنث من حيث كان الشفا مضافاً إلى مؤنث ، كما قال جرير : [ الوافر ]
1560- أرَى مَرَّ السِّنِينَ أخَذْنَ مِنِّي ... كَمَا أخَذَ السِّرَارُ مِنَ الْهِلاَلِ
قال ابن عطية : « وليس الأمر كما ذكروا؛ لأنه لا يُحتاج - في الآية - إلى مثل هذه الصناعة ، إلا لو لم يجد للضمير مُعَاداً إلا الشفا ، أما ومعنا لفظ مؤنث يعود الضميرُ عليه ، ويُعَذِّده المعنى المتكلَّم فيه ، فلا يحتاج إلى تلك الصناعة » .
قال أبو حيان : « وأقول : لا يحسن عَوْدُه إلا على الشفا؛ لأن كينونتهم على الشفا هو أحد جزأي الإسناد ، فالضمير لا يعود إلا عليه ، وأما ذِكْرُ الحفرة ، فإنما جاءت على سبيل الإضافة إليها ، ألا ترى أنك إذا قلت : كان زَيْدٌ غلامَ جَعْفَر ، لم يكن جعفر محدِّثاً عنه ، وليس أحد جُزْأي الإسناد ، وكذا لو قلتَ : زيد ضرب غلامَ هند ، لم تُحَدِّث عن هند بشيء ، وإنما ذكرت جعفراً وهنداً؛ تخصيصاً للمحدَّث عنه ، وأما ذكر : » النَّارِ « فإنما ذُكِرَ لتخصيص الحُفْرة ، وليست - أيضاً - أحد جزأي الإسناد ، وليست أيضاً محدَّثاً عنها ، فالإنقاذ من الشفا أبلغ من الإنقاذ من الحفرة من النار؛ لأن الإنقاذ منه يستلزم من الحُفْرة ومن النار ، والإنقاذ منهما لا يستلزم الإنقاذ من الشفا ، فعَوْدُه على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى » .
قال الزجَّاج : « وقوله : » مِنْهَأ « الكناية راجعة إلى النار ، لا إلى الشَّفَا؛ لأنَّ القصد الإنجاء من النار لا من شفا الحفرة » .
وقال غيره : « الضمير عائد إلى الحُفْرَةِ؛ ولما أنقذهم من الحُفْرَةِ فقد أنقذهم من شَفَا الحفرة؛ لأن شفاها منها » .
قال الواحديّ : على أنه يجوز أن يذكر المضاف إليه ، ثم تعود الكناية إلى المضاف إليه - دون المضاف ، كقول جرير : [ الوافر ]
1561- أرَى مَرَّ السِّنِينَ أخَذْنَ مِنِّي ... كَمَا أخَذَ السِّرَارُ مِنَ الْهِلاَلِ
كذلك قول العجاج : [ الرجز ]
1562- طُولُ اللَّيَالِي أسْرَعَتْ فِي نَقْضِي ... طَوَيْنَ طُولِي وَطَوَيْنَ عَرضِي
قال : وهذا إذا كان المضاف من جنس المضاف إليه ، فإن مَرَّ السنين هو المسنون ، وكذلك شفا الحُفْرة من الحفرة ، فذكَّر الشَّفَا ، وعادت الكناية إلى الحفرة .
وهذان القولان نَصٌّ في رَدِّ ما قاله أبو حيان ، إلا أن المعنى الذي ذكره أولَى؛ لأنه إذا أنقذهم من طَرف الحفرة فهو أبلغ من إنقاذهم من الحفرة ، وما ذكره - أيضاً - من الصناعة واضح .
قال بعضهم : « شَفَا الحُفْرة ، وشفتها : طرفها ، فجاز أن يخبر عنها بالتذكير والتأنيث » .
والإنقاذ : التخليص والتنحِية .
قال الأزهَريُّ : « يقال : أنقذته ، ونقذته ، واستنقذته ، وتنقَّذْتُه بمعنًى ويقال : فرس نقيذ ، إذا كان مأخوذاً من قوم آخرين؛ لأنه استُنْقِذَ منهم » .
والحفرة : فُعْلَة بمعنى : مفعولة ، كغُرْفة بمعنى : مغروفة .
فصل
قيل معناه : إنكم كنتم مُشْرِفين على جهنمَ بكُفْركم؛ لأن جهنم مشبهة بالحُفْرة التي فيها النار ، فجعل استحقاقهم النار بكفرهم ، كالإشراف منهم على النار ، والمصير منهم إلى حَرْفها ، فبيَّن - تعالى - أنه أنقذهم من هذه الحُفرة ، بعد أن قربوا من الوقوع فيها .
قالت المعتزلة : ومعنى ذلك أن الله - تعالى - لطف بهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وسائر ألطافه حتى آمنوا .
وقال أهل السنة : جميع الألطاف مشترك بين المؤمن والكافر ، فلو كان فاعل الإيمان وموجده هو العبد لكان العبد هو الذي أنقذ نفسه من النار ، والله - تعالى - حكم بأنه هو الذي أنقذهم من النار ، فدل هذا على أنه خالق أفعال العباد .
قوله تعالى : { كذلك يُبَيِّنُ الله } نعت لمصدر محذوف ، أو حال من ضميره ، أي : يبين الله لكم تَبْييناً مثل تبيينه لكم الآيات الواضحة ، لكي تهتدوا بها .
قال الجبائي : « الآية تدل على أنه - تعالى - يُريد منهم الاهتداء » .
قال الواحدي : إن المعنى : لتكونوا على رَجاء هدايته . وهذا فيه ضَعْفٌ؛ لأن على هذا التقدير يلزم أن يريد الله منهم ذلك الرجاء ، وعلى مذهبنا قد لا يريده .
وأجاب غيره بأن كلمة « لَعَلَّ » للترجي ، والمعنى : أنا فعلنا فعلاً يشبه فعل من يترجى ذلك .
قوله : { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير } اعلم أنه - تعالى - لما عاب على أهل الكتاب كفرهم وسعيهم في تكفير الغير خاطب المؤمنين بتقوى الله والإيمان به ، فقال : { اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ واعتصموا بِحَبْلِ الله } ثم أمرهم بالسعي في إلقاء الغير في الإيمان والطاعة ، فقال : { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ } يجوز أن تكون التامة ، أي : ولتوجد منكم أمة ، فتكون « أمَّةٌ » : فاعلاً ، و « يَدْعُونَ » : جملة في محل رفع صفة ل « أمة » ، و « مِنْكُمْ » متعلق ب « تكن » على أنها تبعيضية .
ويجوز أن يكون : « مِنْكُمْ » متعلِّقاً بمحذوف على أنه حال من « أمَّةٌ » إذْ كان يجوز جعله صفةً لها لو تأخر عنها . ويجوز أن تكون « مِنْ » للبيان؛ لأن المبيَّن - وإن تأخر لفظاً - فهو متقدم رتبة .
ويجوز أن تكون الناقصة ، ف « أمةٌ » اسمها ، و « يَدْعُونَ » خبرها ، و « مِنْكُمْ » متعلق إمَّا بالكون ، وإمَّا بمحذوف على الحال من « أمةٌ » .
ويجوز أن يكون « مِنْكُمْ » هو الخبر ، و « يَدْعُونَ » صفة ل « أمة » ، وفيه بُعد .
وقرأ العامة : « وَلْتَكُنْ » بسكون اللام .
وقرأ الحسن والزهريّ والسلميّ بكسرها ، وهو الأصل .
وقوله : { وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } من باب ذكر الخاص بعد العام؛ اعتناء به - كقوله : { وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] -؛ لأن اسم « الْخَيْر » يقع عليهما ، بل هما أعظم الخيور .
فصل
قال بعض العلماء : « مِنْ » - هنا - ليست للتبعيض ، لوجهين :
الأول : أنه أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل الأمة .
الثاني : أنه يجب على كل مكلَّف الأمر بالمعروف والنَّهْي عن المنكر - إما بيده ، أو لسانه ، أو بقلبه - فيكون معنى الآية : كونوا أمةً دُعاةً إلى الخير ، آمرين بالمعروف ، ناهين عن المنكر .
وكلمة : « مِنْ » : إنما هي للتبيين ، كقوله : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] ويقال : لفلان من أولاده جند ، وللأمير من غِلْمانه عَسْكَر ، والمراد : جميع الأولاد والغلمان لا بعضهم - فكذا هنا . ثم إذا قلنا بأنه يجب على الكُلِّ ، فيسقط بفعل البعض ، كقوله تعالى : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } [ التوبة : 41 ] ، وقوله : { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ التوبة : 39 ] فالأمر عامٌّ ، ثم إذا قام به مَنْ يكفي ، سقط التكليف عن الباقين والقائلون بالتبعيض اختلفوا على قولين :
أحدهما : أن في القوم مَنْ لا يقدر على الدعوة ، والأمر بالمعروف ، والنَّهْي عن المنكر - كالمرضى والعاجزين .
الثاني : أن هذا التكليف مختصّ بالعلماء؛ لأن الدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف ، والنَّهي عن المنكر مشروطة بالعلم بهم ، ونظيره قوله تعالى : { الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة } [ الحج : 41 ] وليس كل الناس يُمَكنون .
وقوله : { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ } [ التوبة : 122 ] ، وأيضاً الإجماع على أن ذلك واجب على الكفاية ، وإذا كان كذلك كان المعنى : ليقُمْ بذلك بعضُكم .
وقال الضَّحَّاك : المراد بهذه الآية : أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم كاوا يتعلمون من الرسول صلى الله عليه وسلم ويعلّمون الناس .
قال القُرْطُبِيُّ : « وقرأ ابنُ الزبير : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم » .
قال ابن الأنباري : « هذه الزيادة تفسير من ابن الزبير ، وكلام من كلامه ، غلط فيه بعض الناقلين ، فألحقه بألفاظ القرآن ، يدل على ذلك أن عثمان بن عفان قرأ : ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم .
فما يشك عاقل في أن عثمان لا يعتد هذه الزيادة من القرآن؛ إذْ لم يكتبها في مصحفه الذي هو إمام المسلمين « .
فصل
قال المفسرون : الدعوة إلى الخير - أي : إلا الإسلام - والأمر بالمعروف ، وهو الترغيب في فعل ما ينبغي ، والنهي عن المنكر هو الترغيب في تَرْك ما لا ينبغي ، { وأولئك هُمُ المفلحون } أي : العاملون بهذه الأعمال هم المفلحون الفائزون ، وقد تقدم تفسيره .
قال - عليه السلام- : » مَنْ أمَرَ بالْمَعْرُوفِ ، وَنَهَى عَنِ المُنْكَرِ ، كَانَ خَلِيفَةَ اللهِ ، وَخلِيفَةَ رَسُولِهِ ، وَخَلِيْفَةَ كِتَابِهِ « وقال - أيضاً - : » وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَتَأمُرنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، ولتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ ، أوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ لَتدْعُنَّهُ فَلاَ يُسْتَجَابَ لَكُمْ « .
قوله : { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ البينات } .
قال أكثر المفسرين : هم اليهود والنصارى ، وقال بعضهم : هم المُبْتَدِعَةُ من هذه الأمة .
وقال أبو أمامةُ : هم الحرورية بالشام .
وقال عبد الله بن شداد : وقف أبو أمامة - وأنا معه - على رؤوس الحرورية بالشام فقال : كلاب النار كانوا مؤمنين ، فكفروا بعد إيمانهم ، ثُمَّ قرأ : { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا } الآية .
وروى عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » مَنْ سرَّه بَحْبُوحَةُ الجَنَّةِ فَعَلَيْهِ بِالْجَمَاعَةِ؛ فإنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الواحِدِ ، وَهُوَ مِنَ الاثْنينِ أبْعَدُ « .
وذكر الفعلَ في قوله : { وجَآءَهُمُ البينات } للفصل ولكونه غيرَ حقيقيِّ؛ لأنه بمعنى الدلائل .
وقيل : لجواز حذف علامة التأنيث من الفعل - إذا كان فعل المؤنث متقدِّماً .
والتفرق والافتراق واحد ، ملا رَوَى أبو برزة - في حديث بيع الفرس- ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم » البَيْعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا ، وَإنِّي لأرَاكُما قَدِ افْتَرَقْتُمَا « فجعل التفرُّقَ والافتراقَ بمعنًى واحدٍ ، وهو أعلم بلغة الصحابة ، وبكلام النبيّ صلى الله عليه وسلم .
قال القرطبي : وأهل اللغة فرَّقوا بين فَرَقْت - مخففاً - وفرَّقت مشدداً ، فجعلوه - بالتخفيف - في الكلام ، وبالتثقيل في الأبدان » .
قال ثعلب : « أخبَرَني ابن الأعرابيّ ، قال : يقال : فرَقْتُ بين الكلامين - مخففاً - فافترقا ، وفرَّقْت بين الاثنين بالتشديد فتفرقا » . فجعل الافتراق في القول ، والتفرق في الأبدان ، وكلام أبي برزة يرد هذا .
وقال بعضهم : { تَفَرَّقُواْ واختلفوا } معناهما مختلف .
فقيل : تفرقوا بالعداوة ، واختلفوا في الدين .
وقيل : تفرقوا بسبب استخراج التأويلاتِ الفاسدةِ لتلك النصوصِ ، واختلفوا في أن حاول كلُّ واحدٍ منهم نُصْرَةَ مَذْهَبِهِ .
وقيل : تفرقوا بأبدانهم - بأن صار كل واحد من أولئك الأخيار رئيساً في بلدٍ .
قوله : { وأولئك لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } يعني : بسبب تفرُّقهم .
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)
في ناصب « يَوْمَ » أوجه :
أحدها : أنه الاستقرار الذي تضمنه « لَهُمْ » والتقدير : وأولئك استقر لهم عذاب يوم تبيضُّ وجوه .
وقيل : إن العامل فيه مضمر ، تدل عليه الجملة السابقة ، والتقدير : يُعَذَّبُونَ يوم تبيض وجوه .
وقيل : اعاملَ فيه « عَظِيمٌ » وضُعِّفَ هذا بأنه يلزم تقييد عِظَمِهِ بهذا اليوم .
وهذا التضعيف ضعيف؛ لأنه إذا عظم في هذا اليوم ففي غيره أوْلَى .
قال شهابُ الدين : « وهذا غير لازم » ، قال : « وأيضاً فإنه مسكوت عنه فيما عدا هذا اليوم » .
وقيل : إن العامل « عَذَابٌ » . وهذا ممتنع؛ لأن المصدر الموصوف لا يعمل بعد وصفه .
وقيل : إنه منصوب بإضمار « اذكر » .
وقرأ يحيى بن وثاب ، وأبو نُهَيك ، وأبو رُزَيْن العقيليّ : « تِبْيَضُّ » و « تِسْوَدُّ » - بكسر التاء - وهي لغة تميم .
وقرأ الحسن والزهري وابن مُحَيْصِن ، وأبُو الجَوْزَاءِ : تِبياضّ وتسوادّ - بألف فيهما - وهي أبلغ؛ فإن البياض أدلُّ على اتصاف الشيء بالبياض من ابيضَّ ، ويجوز كسر حرف المضارعة - أيضاً - مع الألف ، إلا أنه لم ينقل قراءةً لأحدٍ .
فصل
نظير هذه الآية قوله تعالى : { وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } [ الزمر : 60 ] ، وقوله : { وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ } [ يونس : 26 ] ، وقوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } [ القيامة : 22-25 ] ، وإذا عرفت هذا ، ففي هذا البياض والسواد وجهان :
الأول : قال أبو مسلم : إن البياض عبارة عن الاستبشار ، و السواد عبارة عن الغم ، وهذا مجاز مستعمل قال تعالى : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً } [ النحل : 58 ] . ويقال : لفلان عندي يَدٌ بيضاء .
وقال بعضهم في الشيب : [ الخفيف ]
1563- يَا بَيَاضَ الْقُرُونِ سَوَّدْتَ وَجْهِي ... عِنْدَ بِيضِ الْوُجُوهِ سُودِ الْقُرُون
فَلَعَمْرِي لأخْفِيَنَّكَ جَهْدِي ... عَنْ عَيَانِي ، وعَنْ عَيَانِ الْعُيُونِ
بِسَوَادِ فِيهِ بَيَاضٌ لِوَجْهِي ... وَسَوَادٌ لِوَجْهِكَ المَلْعُونِ
وتقول العرب - لمن نال بغيته ، وفاز بمطلوبه- : ابيضَّ وجهه ، ومعناه : الاستبشار والتهلل ، ويقال - لمن وصل إليه مكروه- : ارْبَدَّ وجهه ، واغبرَّ لونُه ، وتغيرت صورته ، فعلى هذا معنى الآية : إن المؤمن مستبشر بحسناته ، وبنعيم الله ، والكافر على ضد ذلك .
الثاني : أن البياض والسواد يحصلان حقيقة؛ لأن اللفظ حقيقة فيهما ، ولا دليل يصرفه ، فوجب المصير إليه ، ولأبي مسلم أن يقول : بل معنا دليل يصرفه ، وهو قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } [ عبس : 38-41 ] ، فجعل الغَبَرةَ والقَتَرَة في مقابلة الضحك والاستبشار فلو لم يكن المراد ما ذكرنا من المجاز لما صح جعله مقابلاً له .
فصل
احتجوا بهذه الآية على أن المكلَّف إما مؤمن ، وإما كافر ، وليس - هنا - قسم ثالث كما قاله المعتزلة - فلو كان ثَمَّ ثالث لذكره ، قالوا : ويؤيده قوله تعالى :
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أولئك هُمُ الكفرة الفجرة } [ عبس : 38-42 ] .
وأجاب القاضي : بأن ترك القسم الثالث لا يدل على عدمه؛ لأنه تعالى قال : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } ، فذكرهما منكرين ، وذلك لا يفيد العموم ، وأيضاً فالمذكور في الآية هم المؤمنون والذين كفروا بعد إيمانهم ، ومعلوم أن الكافر الأصليَّ من أهل النار ، مع أنه لم يدخل في هذا التقسيم ، فكذلك الفساق . وأجيب بوجهين :
الأول : أن المراد منه كل مَنْ أسلم وقت استخراج الذريَّة من صُلْب آدم ، رواه الواحدي في البسيط بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل الكل فيه .
الثاني : أنه قال : { فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } ، فجعل موجب العذاب هو الكفر ، سواء كفر بعد الإيمان أو كان كافراً أصليًّا .
قال الزمخشري : هم المنافقون ، آمنوا بألسنتهم ، وأنكروا بقلوبهم .
وقال عكرمة : هم أهل الكتاب ، آمنوا بأنبيائهم وبمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يُبْعَث ، فلما بُعِثَ كفروا به .
قوله : { أكَفَرْتُمْ } هذه الجملة في مَحَلِّ نصب بقول مُضْمَرٍ ، وذلك القول المضمر - مع فاء مضمرة - أيضاً - هو جواب « أما » ، وحذف الفاء مع القول مطرد ، وذلك أن القول يُضْمَر كثيراً ، كقوله تعالى : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23-24 ] .
وقوله : { والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ } [ الزمر : 3 ] ، وقوله : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ } [ البقرة : 127 ] ، وأما حذفها دون إضمار القول فلا يجوز إلا في ضرورة .
كقوله : [ الطويل ]
1564- فأمَّا الْقِتَالُ لا قَتالَ لَديْكُمُ ... وَلِكِنَّ سَيْراً في عِرَاضِ الْمَوَاكِبِ
أي : فلا قتال .
وقال صاحب « أسرار التنزيل » : إنّ النحاة اعترض عليهم - في قولهم : لما حذف يقال : حُذِفت الفاء؛ بقوله تعالى : { وَأَمَّا الذين كفروا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ } [ الجاثية : 31 ] ، فحذف يقال ، ولم يحذف الفاء ، فلما بطل هذا تعيَّن أن يكون الجواب في قوله : { فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } ، فوقع ذلك جواباً له ، ولقوله : { أَكَفَرْتُم } ومن نظم العرب - إذا ذكروا حرفاً يقتضي جواباً له - أن يكتفوا عن جوابه حتى يذكروا حرفاً آخر يقتضي جواباً ، ثم يجعلون له جواباً واحداً ، كما في قوله : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 38 ] ، فقوله : { فلا خوف عليهم } جواب للشرطين معاً ، وليس « أفلم تكن آياتي » جواب « إما » بل الفاء عاطفة على مقدَّر ، والتقدير : أأهملتكم ، فلم أتل عليكم آياتي؟
قال أبو حيان : وهو كلام أديب لا كلام نحويّ ، أما قوله : قد اعترض على النحاة ، فيكفي في بُطْلان هذا الاعتراض أنه اعتراض على جميع النحاة؛ لأنه ما من نحويٍّ إلا خرَّج الآيةَ على إضمار : فيُقال لهم : أكفرتم ، وقالوا : هذا هو فَحْوَى الخطابِ ، وهو أن يكون في الكلام شيء مقدَّر لا يستغني المعنى عنه ، فالقول بخلافه مخالف للإجماع ، فلا التفات إليه .
وأما ما اعترض به من قوله : { وَأَمَّا الذين كفروا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي } [ الجاثية : 31 ] وأنهم قدروه : فيقال لهم : أفلم تكن آياتي ، فحذف فيقال ولم تحذف الفاء ، فدل على بطلان هذا التقدير - فليس بصحيح ، بل هذه الفاء التي بعد الهمزة في « أفَلَمْ » ليست فاء « فيقال » التي هي جواب « أما » - حتى يقال : حذف « يقال » وبقيت الفاء ، بل الفاء التي هي جواب « أما » و « يقال » بعدها - محذوف ، وفاء « أفلم » يحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون زائدة .
وقد أنشد النحويون على زيادة الفاء قول الشاعر : [ الطويل ]
1565- يَمُوتُ أناسٌ أوْ يَشِيبُ فَتَاهُمُ ... وَيَحْدُثُ نَاسٌ ، والصَّغِيرُ فِيَكْبُرُ
أي : صغير يكبر ، وقول الآخر : [ الكامل ]
1566- لَمَّا اتَّقَى بِيَدٍ عَظِيمٍ جِزمُهَا ... فَتَرَكْتُ ضَاحِيَ جِلْدِهَا يَتَذَبْضَبُ
أي : تركت ، وقول زُهير : [ الطويل ]
1567- أرَانِي إذَا ما بِتُّ بِتُّ عَلَى هَوًى ... فَثُمَّ إذَا أصْبَحْتُ أصْبَحْتُ غَادِيَا
يريد ثم إذا .
وقال الأخفش : « وزعموا أنهم يقولون : أخوك فوجد ، يريدون : أخوك وجد » .
والوجه الثاني : أن تكون الفاء تفسيرية ، والتقدير : فيقال لهم ما يسوؤهم ، « أفلم » تكن آياتي ، ثم اعتني بحرف الاستفهام ، فتقدمت على الفاء التفسيرية ، كما تتقدم على الفاء التي للتعقيب في قوله : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض } [ يوسف : 109 ] وهذا على رَأي من يثبت أن الفاء تفسيرية ، نحو توضأ زيد فغسل وجهه ويديه . . إلى آخر أفعال الوضوء ، فالفاء - هنا - ليت مرتِّبة ، وإنما هي مفسِّرة للوضوء ، كذلك تكون في { أفلم تكن آياتي تتلى عليكم } مفسرة للقول الذي يسوؤهم .
وقوله : فلما بطل هذا تعين أن يكون الجواب : « تذوقوا » ، أي : تعيَّن بطلان حذف ما قدَّره النحويون ، من قوله : « فيقال لهم » ؛ لوجود هذه الفاء في « أفلم تكن » ، وقد بيَّنَّا أن ذلك التقدير لم يبطل؛ وأنه سواء في الآيتين ، وإذا كان كذلك فجواب : « أما » هو فيقال - في الموضعين - ومعنى الكلام عليه ، وأما تقديره : أأهملتكم فلم تكن آياتي تتلى عليكم؟ فهذه نزعة زمخشرية ، وذلك أن الزمخشريَّ يقدِّر بين همزة الاستفهام وبين الفاء فِعْلاً يصح عطف ما بعدها عليه ، ولا يعتقد أن الفاء والواو ، و « ثم » إذا دخلت عليها الهمزة - أصلهن التقديم على الهمزة ، لكن اعتني بالاستفهام ، فقدم على حرف العطف - كما ذهب إليه سيبويه وغيره من النحويين - وقد رجع الزمخشريّ إلى مذهب الجماعة في ذلك ، وبطلان قول الأول مذكور في النحو وقد تقدم - في هذا الكتاب - حكاية مذهب الجماعة في ذلك ، وعلى تقدير قول هذا الرجل - أأهملتكم فلم تكن آياتي ، لا بدّ من إذمار القول ، وتقديره : فيقال : أاهملتكم؛ لأن هذا المقدَّر هو خبر المبتدأ ، والفاء جواب « أما » ، وهو الذي يدل عليه الكلام ، ويقتضيه ضرورة .
وقول هذا الرجل : فوعق ذلك جواباً له ولقوله : « أكفرتم » يعني : أن « فذوقوا العذاب » جواب ل « أما » ولقوله : « أكفرتم » والاستفهام - هنا - لا جواب له إنما هو استفهام على طريق التوبيخ والإرذال بهم .
وأما قول هذا الرجل : ومن نظم العرب إلى آخره ، فليس كلام العرب على ما زعم ، بل يُجْعَل لكُلٍّ جوابٌ ، إن لا يكن ظاهراً فمقدَّر ، ولا يجعلون لهما جواباً واحداً .
وأما دعواه ذلك في قوله تعالى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } [ البقرة : 38 ] وزعمه أن قوله تعالى : { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 38 ] . انتهى .
والهمزة في « أكَفَرْتُمْ » للإنكار عليهم ، والتوبيخ لهم ، والتعجُّب من حالهم .
وفي قوله : « أكَفَرْتُمْ » نوع من الالتفات ، وهو المُسَمَّى عند علماء البيان بتلوين الخطاب ، وذلك أن قوله : { فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ } في حكم الغيبة ، وقوله - بعد ذلك « أكَفَرْتُمْ » خطاب مواجهة .
قوله : { فَذُوقُوا } من باب الاستعارة ، جعل العذاب شيئاً يُدْرَك بحاسَّةِ الأكْل ، والذوق؛ تصويراً له بصورة ما يُذَاق .
وقوله : { بِمَا كُنْتُمْ } الباء سببية ، و « ما » مصدرية ، ولا تكون بمعنى : الذي؛ لاحتياجها إلى العائد ، وتقديره غير جائز ، لعدم الشروط المجوِّزة لحَذْفِه .
فإن قيل : إنه - تعالى - قدَّم الذين ابيضَّت وجوهُهُمْ - في التقسيم - على الذين اسودَّت وجوهُهُم وكان حق الترتيب أن يقدِّمَهم في البيان .
فالجواب : أن الواو للجمع لا للترتيب ، وأيضاً فالمقصود إيصال الرحمة ، لا ابتداء العذاب ، فابتدأ بذكر أهل الثواب ، لأنهم أشرف ، ثم ختم بذكرهم ، تنبيهاً على أن إرادة الرحمة أكثر من إرادة الغضب ، كما قال : { سبقت رحمتي غضبي } ، وأيضاً فالفصحاء والشعراء قالوا : يجب أن يكون مطلع الكلام ومقطعه شيئاً يسر الطبع ، ويشرح الصدر - وذكر رحمة الله تعالى كذلك - فلا جرم ابتدأ بذكر أهل الثواب ، وختم بذكرهم . قوله : { وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ الله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
قال ابنُ عباس : هي الجنة .
قال المحققون : هذا إشارة إلى أن العبد - وإن كثرة طاعاتُه - لا يدخل الجنة إلا برحمة الله؛ وذلك لأن العبد ما دامت داعيته إلى الفعل ، والترك سواء ، يمتنع منه الفعل ، فإذا لم يحصل رُجْحان داعية الطاعة ، لم تحصل منه الطاعة ، وذلك الرُّجْحان لا يكون إلا بخلق الله - تعالى - فإذن صدور تلك الطاعة من العبد نعمة من الله تعالى في حق العبد ، فكيف يصير ذلك موجباً على الله شيئاً كما تقوله المعتزلة؟ فثبت أن دخول الجنة لا يكون إلا بفضل الله - تعالى - وبرحمته ، وبكرمه ، لا باستحقاقنا .
قرأ أبو الجزاء ، وابنُ يَعْمُرَ : اسْوَادَّتْ ، وابياضَّتْ - بألف - وقد تقدمت قراءتهما : تبياض ، وتسوادُّ ، وهذا قياسها ، وأصْل « افْعَلَّ » هذا أن يكون دالاً على عَيْبٍ حِسِّيٍّ - ك « اعورَّ واسود واحْمَرَّ » - وأن لا يكون من مضعف كأجَمَّ ، ولا معتل اللام كألْمَى ، وأن يكون للمطاوعة ، وندر نحو انقضَّ الحائط ، وابْهَارَّ الليل ، واشعارَّ الرجل - تفرَّق شَعْرُه - إذْ لا دلالةَ فيه على عَيْبٍ ، ولا لون ، وندر - أيضاً - ارْعَوَى ، فإنه معتل اللام ، مطاوع لرعوته - بمعنى ، كففته - وليس دالاًّ على عيب ، ولا لون ، وأما دخول الألف في « افْعَلَّ » هذا - فدالٌّ على عُرُوضِ ذلك المعنى ، وعدمها دالٌّ على ثبوته واستقراره ، فإذا قلتَ : اسوادَّ وجْهُه ، دلَّ على اتصافه بالسواد من غير عُروض فيه ، وإذا قلت : اسوادَّ ، دل على حدوثه ، هذا هو الغالب ، وقد يُعْكَس ، قال تعالى : { مُدْهَامَّتَانِ } [ الرحمن : 64 ] - فالقصد الدلالة على لزوم الوصف بذلك للجنتين - وقال : { تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ } [ الكهف : 17 ] القصد به العروض لازورار الشمس ، لا الثبوت والاستقرار - كذا قيل - وفيه نظر؛ لأن المقصود وَصْف الشمس بهذه الصفة الثابتة بالنسبة إلى هؤلاء القوم خاصَّة .
فصل
قال بعض المفسرين : بياض الوجوه وسوادها ، إنما يحصل عند قيامهم من قبورهم للبعث ، فتكون وجوه المؤمنين مبيضة ، ووجوه الكافرين مسودة .
وقيل : عند الميزان ، إذا رجحت حسناته ابْيَضَّ وجهه ، وإذا رجحت سيئاته اسوَدَّ وجهه .
قيل : إن ذلك عند قراءة الكتاب ، إذ قرأ المؤمن كتابه ، فرأى حسناته استبشر ، ابيضَّ وجْهُه ، وإذا قرأ الكافر كتابَه ، فرأى سيئاته اسوَدَّ وجهه .
وقيل : إن ذلك عند قوله تعالى : { وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون } [ يس : 59 ] .
قيل : يُؤمَرُ كلُّ فريق بأن يجتمع إلى معبوده ، فإذا انتهَوا إليه حزنوا واسودَّتْ وجوهُهُمْ .
قوله : { فَفِي رَحْمَةِ الله } فيها وجهان :
أحدهما : أن الجارَّ متعلق ب « خالِدُونَ » ، و « فِيهَا » تأكيد لفظي للحرف ، و التقدير : فهم خالدون في رحمة الله فيها . وقد تقرر أنه لا يؤكد الحرف تأكيداً لفظياً ، إلا بإعادة ما دخل عليه ، أو بإعادة ضميره - كهذه الآية - ولا يجوز أن يعود - وحْدَه - إلا في ضرورةٍ .
كقوله : [ الرجز ]
1568- حَتَّى تَرَاهَا وكَأنَّ وكأنْ ... أعْنَاقَهَا مُشَدَّدَاتٌ بِقَرَنْ
كذا ينشدون هذا البيت .
وأصرح منه في الباب - قول الشاعر : [ الوافر ]
1569- فَلاَ وَاللهِ لا يُلْقَى لِمَا بِي ... وَلاَ لِلِمَا بِهِمْ أبَداً دَوَاءُ
ويحسن ذلك إذا اختلف لفظهما .
كقوله : [ الطويل ]
1570- فَأصْبَحْنَ لا يَسْألْنني عَنْ بِمَا بِهِ ... أصَعَّدَ في عُلُوِ الْهَوَى أمْ تَصَوَّيَا
للهم إلا أن يكون ذلك الحرفُ قائماً مقام جملة ، فيُكَرَّر - وحده - كحروف الجواب ، مثل : نَعَمْ نَعَمْ ، وبلى بلى ، ولا لا .
والثاني : أن قوله : { فَفِي رَحْمَةِ الله } : خبر لمبتدأ مُضْمَر ، والجملة - بأسْرها - جواب : « أما » والتقدير : فهم مستقرون في رحمة الله ، وتكون الجملة - بعده - من قوله : { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } جملة مستقلة من مبتدأ وخبر ، دلت على أن الاستقرار في الرحمة على سبيل الخلود ، فلا تعلُّق لها بالجملة قبلها من حيث الإعراب .
قال الزمخشريُّ : فإن قلتَ : كيف موقع قوله : { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } بعد قوله : { فَفِي رَحْمَةِ الله } ؟
قلت : موقع الاستئناف ، كأنه قيل : كيف يكونون فيها؟ فقيل : هم فيها خالدون ، لا يظنعون عها ، ولا يموتون .
فإن قيل : الكُفَّار مخلَّدون في النار ، كما أن المؤمنين مخلَّدون في الجنة ، فما الحكمة في ذكر خلود المؤمنين ولم يذكر خلود الكافرين؟
فالجواب : أن ذلك يُشْعِر بأنَّ جانبَ الرحمةِ أغْلَب؛ لأنه ابتدأ بذكر أهل الرحمة ، وختم بهم ، لمَّا ذكر العذابَ لم يُضِفْه إلى نفسه ، بل قال : { فَذُوقُواْ العذاب } ، وأضاف ذكر الرحمة إلى نفسه ، فقال : { فَفِي رَحْمَةِ الله } ، ولما ذكر العذاب ما نصَّ على الخلود ، ونصَّ عليه في جانب الرحمة ، ولما ذكر العذاب علله بفعلهم ، فقال : { فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } ولما ذكر الثواب علَّلَه برحمته ، فقال : { فَفِي رَحْمَةِ الله } ثم قال - في آخر الآية- : { وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 108 ] ، وكل ذلك يُشْعِر بأن جانبَ الرحمة مُغَلَّب .
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
قوله : « تلْكَ » مبتدأ ، { آيَاتُ الله } خبره ، و « نَْلُوهَا » جملة حالية .
وقيل : { آيَاتُ الله } بدل من « تِلْكَ » ، و « نَتْلُوها » جملة واقعة خبر المتبدأ ، و « بِالحَقِّ » حال من فاعل « نتلُوهَا » ، أو مفعولة ، وهي حال مؤكدة؛ لأنه - تعالى - لا ينزلها إلا على هذه الصفة .
وقال الزَّجَّاج : « في الكلام حذف ، تقديره : تلك آيات القرآن حُجَجُ الله ودلائله » .
قال أبو حيان : فعلى هذا الذي قدَّره يكون خبر المبتدأ محذوفاً؛ لأنه عنده بهذا التقدير يتم معنى الآية ، وهذا التقدير لا حاجة إليه؛ [ إذ الكلام مُسْتَغْنٍ عنه ، تامٌّ بنفسه ] .
والإشارة ب « تِلْكَ » إلى الآيات المتقدمة المتضمنة تعذيب الكفار ، وتنعيم الأبرار ، وإنما جاز إقامة « تلك » مقام هذه؛ لأن هذه الآيات المذكورة قد انقضت بعد الذكر ، فصارت كأنها بعدت ، فقيل فيها : « تلك » .
وقيل : لأن الله - تعالى - وعده أن يُنزل عليه كتاباً مشتملاً على ما لا بدّ منه في الدين ، فلما أنزل هذه الآيات قال : تلك الآيات الموعودة هي التي نتلوها عليك .
وقرأ العامة « نَتْلُوها » - بنون العظمة - وفيه التفات من الغيبة إلى التكلَّم .
وقرأ أبو نُهَيْك : « يتلوها » بالياء - من تحت - وفيه احتمالان :
أحدهما : أن يكون الفاعل ضمير الباري - تعالى - لتقدُّم ذكره في قوله : { آيَاتُ الله } ولا التفات في هذا التقدير ، بخلاف قراءة العامة .
الثاني : أن يكون الفاعل ضمير جبريل .
قوله : { بالحق } فيه وجهان :
لأول : ملتبسة بالحق والعدل من جزاء المحسن والمسيء بما يستوجبانه .
الثاني : بالحق ، أي : بالمعنى الحق؛ لأن معنى المتلُوِّ حَقّ .
قوله : { وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } اللام - في « لِلْعَالَمِينَ » - زائدة - لا تعلُّق لها بشيء ، زيدت في مفعول المصدر وهو ظلم والفاعل محذوف ، وهو - في التقدير - ضمير الباري ، و التقدير : وما الله يريد أن يظلم العالمين ، فزيدت اللام ، تقوية للعامل؛ لكونه فرعاً ، كقوله : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ البروج : 16 ] .
فصل
وقيل : معنى الكلام : وما الله يريد ظلم العالمين بعضهم لبعض ، ورُدَّ هذا بأنه لو كان المراد هذا لكان التركيب ب « من » أولى منه باللام ، فكان يقال : ظلماً من العالمين ، فهذا معنى ينبو عنه اللفظ . ونكر « ظلماً » ؛ لأنه في سياق النفي ، فهو يعم كل أنواع الظلم ، وحسن ذكر الظلم - هنا- ، لأنه تقدم ذكر العقوبة الشديدة ، وهو تعالى أكرم الأكرمين ، فكأنه - تعالى يعتذر عن ذلك ، فقال : إنهم إنما وقعوا في هذا العذاب بسبب أفعالهم .
فصل
قال الجبائي : هذه الآية تدل على أنه - تعالى - لا يريد شيئاً من القبائح ، لا من أفعاله ، ولا من أفعال عباده ولا يفعل شيئاً من ذلك ، لأن الظلم إما أن يُفْرَض صدوره من الله - تعالى - أو من العبد ، وصدوره من العبد إما أن يظلم العبد نفسه بعصيانه - أو يظلم غيره ، فهذه الأقسام الثلاثة هي أقسام الظلم ، وقوله : { وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } نكرة في سياق النفي ، فوجب ألا يريد شيئاً يكون ظلماً ، سواء كان منه أو من غيره ، وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يفعل الظلم أصلاً - ويلزم منه أن يكون فاعلاً لأعمال العباد؛ لأن من جملة أعمالهم ظلمهم لأنفسهم ، وظلم بعضهم لبعض ، فثبت بهذه الآية أنه - تعالى - غير فاعل للظلم ، وغير فاعل لأعمال العباد ، وغير مريد للقبائح من أفعال العباد ، قالوا : ويؤيده قوله - بعد ذلك- : { وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } [ آل عمران : 109 ] وإنما ذكر هذه الآية - عقيب ما تقدم - لوجهين :
الأول : نه لما ذكر أنه لا يريد الظلم والقبائح ، استدل عليه بأن فاعل القبيح ، إنما يفعل القبيح إما للجهل ، أو للعجز ، أو للحاجة ، وكل ذلك - على الله - محال؛ لأنه مالك لكل ما في السموات وما في الأرض وهذه المالكية تنافي العَجْزَ والجَهْلَ والحاجة ، فامتنع كونه فاعلاً للقبيح .
الثاني : أنه لما ذكر أنه لا يريد الظلم بوجهٍ من الوجوه ، كان لقائل أن يقولَ : إنا نشاهد وجودَ الظلم في العالم ، فإذا لم يكن وقوعه بإرادة الله - تعالى - ك ان على خلاف إرادته ، فيلزم منه كونه ضعيفاً عاجزاً مغلوباً ، وذلك محال .
فأجاب الله - تعالى - بقوله : { وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } أي : أنه تعالى قادر على أن يمنع الظلم عن الظالم - على سبيل الإلجاء والقَهْر - وإذا كان قادراً على ذلك لا يكون عاجزاً ، ضعيفاً؛ إلا أنه - تعالى - أراد منهم ترك المعصية - اختياراً - ليستحقوا الثواب ، فلو قهرهم على الترك لبطلت هذه الفائدة .
وأجيب بأن المراد من الآية أنه - تعالى - لا يريد أن يظلم أحداً من عباده .
وقوله : { وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } يدل على كونه خالقاً لأفعالِ العبادِ؛ لأن أفعالَ العبادِ من جملة ما في السموات وما في الأرض .
وأجاب الجبائي : بأن قوله : « ولله » إضافة ملك ، لا إضافة فعل ، ألا ترى أنه يقال : هذا البناء لفلان . ويريدون أنه مملوكه ، لا أنه مفعوله ، وأيضاً فالمقصود من الآية تعظيم الله - تعالى - لنفسه ، وتَمدُّحه لإلهية نفسه ، ولا يجوز أن يتمدح بأن ينسب غلى نفسه الأفعال القبيحة ، وأيضاً فقوله : { مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } ، إنما يتناول ما كان مظروفاً في السموات والأرض ، وذلك من صفات الأجسام ، لا مِنْ صفات الأفعال التي هي أعراض .
وأجيب بأن هذه إضافة الفعل؛ لأن القادر على الحَسَن والقبيح ، لا يرجح الحَسَن على القبيح إذا حصل في قلبه ما يدعوه إلى الفعل الحَسَن ، وتلك الداعية حاصلة بتخليق الله - تعالى - دَفْعاً للتسلسل ، ولمَّا كان المؤثِّر في حصول فعل العبد هي مجموع القدرة والداعية بخلق الله - تعالى - ثبت أن فعل العبد مخلوق لله تعالى .
وقوله : { وإلى الله تُرْجَعُ الأمور } المراد منه رجوع الخلق إلى حُكمه وقضائه ، لا لحكم غيره .
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
في « كان » هذه - ستة أقوال :
أحدها : أنها ناقصة على بابها - وإذا كانت كذلك ، فلا دلالة لها على مُضِيٍّ وانقطاع ، بل تصلح للانقطاع نحو : كان زيدٌ قائماً ، وتصلح للدوام ، كقوله : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 96 ] ، وقوله : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } [ الإسراء : 32 ] ، فهي - هنا - بمنزلة : لم يزل ، وهذا بحسب القرائن .
وقال الزمخشري : « كان عبارة عن وجود الشيء في زمنٍ ماضٍ ، على سبيل الإبهام ، وليس فيه دليل على عدم سابق ، ولا على انقطاع طارئ ، ومنه قوله تعالى : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } ، وقوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] . كأنه قيل : وُجِدتم خيرَ أمة » .
قال أبو حيان : قوله : « لم يدل على عدم سابق » ، هذا إذا لم يكن بمعنى : « صار » ، فإذا كان بمعنى : « صار » دلت على عدم سابق ، فإذا قلتَ : كان زيدٌ عالماً - بمعنى : صار زيدٌ عالماً - دل على أنه نقل من حالة الجَهْل إلى حالة العلم .
وقوله : ؛ « ولا على انقطاع طارئ » ، قد ذكرنا - قبل - أن الصحيح أنها كسائر الأفعال ، يدل لفظ المُضِيّ منها على الانقطاع ، ثم قد يستعمل حيث لا انقطاع ، وفرق بين الدلالة والاستعمال؛ ألا ترى أنك تقول : « هذا اللفظ يدل على العموم » ثم قد يستعمل حيث لا يراد العموم ، بل يراد الخصوص .
وقوله : كأنه قيل : « وجتم خير أمة » ، هذا يعارض قوله : إنها مثل قوله : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } ؛ لأن تقديره : وجدتم خير أمة يدل على أنها التامة ، وأن { خَيْرَ أُمَّةٍ } حال ، وقوله : { وكان الله غفوراً رحيماً } لا شك أنها - هنا - الناقصة ، فتعارضا .
قال شهابُ الدين : « لا تعرُضَ؛ لأن هذا تفسير معنًى ، لا إعراب » .
الثاني : أنها بمعنى : « صرتم » ، و « كان » تأتي بمعنى : « صار » كثيراً .
كقوله : [ الطويل ]
1571- بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ وَالْمَطِيُّ كأنَّهَا ... قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُهَا
أي : صارت فراخاً .
الثالث : أنها تامة ، بمعنى : « وجدتم » ، و { خَيْرَ أُمَّةٍ } - على هذا منصوب على الحال ، أي : وجدتم على هذه الحال .
الرابع : ؛ أنها زائدة ، والتقدير : أنتم خير أمة ، وهذا قول مرجوح ، أو غلط ، لوجهين :
أحدهما : أنها لا تزاد أولاً ، وقد نقل ابنُ مالك الاتفاق على ذلك .
الثاني : أنها لا تعمل في « خير » مع زيادتها .
وفي الثاني نظر ، إذ الزيادة لا تنافي العمل ، لما تقدم عند قوله : « وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله » ؟
الخامس : أنها على بابها ، و المراد : كنتم في علم الله ، أو في اللوح المحفوظ ، أو في الأمم السالفة ، مذكورين بأنكم خير أمة .
السادس : أن هذه الجملة متصلة بقوله : « ففي رحمة الله » ، أي : فيقال لهم يوم القيامة : « كنتم خير أمة » ، وهو بعيد جِدًّا .
قوله : { أُخْرِجَتْ } يجوز في هذه الجملة أن تكون في مَحَلِّ جَرٍّ؛ نعتاً ل « أمةٍ » - وهو الظاهر - وأن تكون في محل نصب؛ نعتاً ل « خَيْر » ، وحينئذ يكون قد روعي لفظ الاسم الظاهر بعد وروده بعد ضمير الخطاب ، ولو روعي ضمير الخطاب لكان جائزاً - أيضاً - وذلك أنه إذا تقدم ضميرُ حاضرٍ - متكلِّماً كان أو غائباً أو ماطباً - ثم جاء بعده خبره اسماً ظاهراً ، ثم جاء بعد ذلك الاسم الظاهر ما يصلح أن يكون وصفاً له كان للعرب فيه طريقان :
أحدهما : مراعاة ذلك الضمير السابق ، فيطابقه بما في تلك الجملة الواقعة صفة للاسم الظاهر .
الثانية : مراعاة ذلك الاسم الظاهر ، فيبعد الضمير عليه منها غائباً ، وذلك كقولك : أنت رجل يأمر بالمعروف ، بالخطاب ، مراعاة ل « أنت » ، وبالغيبة ، مراعاة للفظ « رجل » ، وأنا امرؤ أقول الحق - بالمتكلم؛ مراعاة ل « أنا » ويقول الحقّ ، مراعاة لمرئٍ ، وبالغيبة مراعة للفظ امرئ ، ومن مراعاة الضمير قوله تعالى : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [ النمل : 55 ] ، وقوله : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } [ النمل : 47 ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : « إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ » .
وقول الشاعر : [ الطويل ]
1572- وَأنْتَ امْرُؤٌ قَدْ كَثَّأتْ لَكَ لِحْيَةٌ ... كَأنَّكَ مِنْهَا قَاعِدٌ في جُوَالِقِ
ولو قيل : - في الآية الكريمة- : أخْرِجْتُمْ؛ مراعاة ل « كُنْتُمْ » لكان جائزاً - من حيث اللفظ - ولكن لا يجوز أن يُقْرأ به؛ لأن القراءةَ سنَّة مُتَّبَعَةٌ ، فالأولَى أن تُجْعَل الجملة صفة ل « أمَّةٍ » ، لا ل « خَيْرَ » ن لتناسب الخطاب في قوله : { تَاْمُرُونَ } .
قوله : { لِلنَّاسِ } فيه أوجه :
أحدها : أن تتعلق ب { أُخْرِجَتْ } ومعناه : ما أخرج الله أمة خيراً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي الحديث : « ألا وَإنَّ هَذِه الأمة تُوفِّي سبعين أمة ، أنتم خَيْرُهَا وَأكْرَمُهَا عَلَى اللهِ تَعَالَى » .
الثاني : أنه متعلق ب « خَيْرَ » أي : أنتم خير الناس للناس .
قال أبو هريرة : معناه : ؛ كنتم خير الناس للناس؛ تجيئون بهم في السلاسل ، فتُدْخلونهم في الإسلام .
وقال قتادة : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم يؤمر نبيٌّ قبله بالقتال ، فهم يقاتلون الكفار ، فيُدْخلونهم في الإسلام ، فهم خير أمةٍ للناس .
والفرق بينهما - من حيث المعنى - أنه لا يلزم أن يكونوا أفضلَ الأمم - في الوجه الثاني - من هذا اللفظ بل من موضع آخرَ .
الثالث : أنه متعلِّق - من حيث المعنى ، لا من حيث الإعراب ، ب « تَأمُرُونَ » على أن مجرورَها مفعول به ، فلما تقدم ضَعُفَ العامل ، فَقُوِّيَ بزيادة اللام ، كقوله : { إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] أي : إن كنتم تعبرون الرؤيا .
قوله : { تَأْمُرُونَ } في هذه الجملة أوجُهٌ :
الأول : أنها خبر ثان لِ « كُنْتُمْ » ، ويكون قد راعى الضمير المتقدم - في « كُنْتُمْ » ، ولو راعى الخبر لقال : يأمرون - بالغيبة ، وقد تقدم تحقيقه .
الثاني : أنها في محل نصب على الحال ، قاله الراغب وابن عطية .
الثالث : أنها في محل نصب؛ نعتاً لِ { خَيْرَ أُمَّةٍ } ، وأتى بالخطاب لما تقدم ، قاله الحوفي .
الرابع : أنها مستأنفة ، بيَّن بها كونهم خير أمة ، كأنه قيل : السبب في كونكم خير الأمم هذه الخصال الحميدة ، والمقصود بيان علة تلك الخيرية - كقولك : زيد كريم؛ يُطعِم الناسَ ويكسوهم - لأن ذِكْرَ الحكم مقروناً بالوصف المناسِب له يُشْعِر بالعلِّيَّةِ ، فها هنا لما ذكر - عقيب الخيرية - أمْرَهم بالمعروف ، ونَهْيَهُم عن المنكر ، أوجب أن تكون تلك الخيرية لهذا السبب ، وهذا أغرب الأوجه .
فصل
في كيفية النظم وجهان :
أحدهما : أنه لما حذَّر المؤمنين من أن يكونوا مثل أهل الكتاب - في التفرُّق والاختلاف ، وذكر ثواب المطيعين ، وعقاب الكافرين ، وكان الغرض من ذلك حَمْلَ المؤمنين على الانقياد والطاعة ، أرْدَفه بطريق آخر يقتضي الحمل على الانقياد والطاعة ، فقال : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } ، فاللائق بكم ألا تُبْطِلوا على أنفسكم هذه الفضيلة المحمودة ، وإن كنتم منقادين للطاعات .
الثاني : أنه - تعالى - لما ذكر وعيدَ الأشقياء ، وتسويد وجوههم - ونبَّه على السبب بقوله : { وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 108 ] يعني : أنهم إنما استحقُّوا ذلك بأفعالهم القبيحةِ؛ نبَّه في هذه الآية على سبب وعد السعداء بقوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } يعني : أن تلك السعدات التي فازوا بها في الآخرة؛ لأنهم كانوا خير أمةٍ أخْرِجَتْ للناس .
قال عكرمة ، ومُقَاتِلٌ : نزلت في ابن مسعود ، وأبَي بن كعب ، ومُعَاذِ بن جبلٍ ، وسالم مولي أبي حذيفة ، وذلك أن مالك بن الصيف ، ووهب بن يهوذا اليهوديَّيْن قالا لهم : نحن أفضل منكم ، وديننا خير مما تدعوننا إليه . [ فأنزل الله هذه الآية ] .
وروى الترمذيُّ - عن بَهْز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده - أنه سمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول - في قوله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } قال : « أنْتُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أمَّةً ، أنْتُمْ خَيْرُهَا وَأكْرَمُهَا عَلَى اللهِ تَعَالَى » قال : هذا حديث حسن . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } قال : هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة .
وقال جويبر - عن الضَّحَّاك- : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصَّة الدعاة والرواة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم .
وروي عن عمر بن الخطاب ، قال : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } تكون لأولنا ، ولا تكون لآخرنا .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « خَيْرُكم قَرْنِي ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ- قال عمران بن حصين : لا أدري ، أذَكَر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد قرنه قرنين أم ثلاثة؟ - ثم إن بعدكم قوماً يخونون ولا يُؤتَمَنُون ، ويَشهدون ولا يُستشهَدون ، ويَنْذِرون ولا يُوفون ، ويظهر فيهم السمن » .
فصل
قال القفال : أصل الأمة : الطائفة المجتمعة على الشيء الواحد ، فأمة نبينا صلى الله عليه وسلم ، هم الجماعة الموصوفون بالإيمان به ، والإقرار بنبوته ، وقد يُقال - لكل من جمعته الدعوة - إنهم أمته ، إلا أن لفظ : « الأمة » إذا أطْلِقَت وَحْدَها ، وقع على الأول ، إلا أنه إذا قيل : أجمعت الأمة على كذا ، فهم منه الأول ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : « أمَّتِي لا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلالَةٍ » وروي أنه صلى الله عليه وسلم يقول - يوم القيامة- : « أمتي ، أمَّتِي » ، فلفظ « الأمة » في هذه المواضع وأشباهها - يُفْهَم منه المُقِرُّون بنبوته ، فأما أهل دعوته فإنهم إنما يُقال لهم : أمَّة الدعوة ، ولا يطلق عليهم لفظ « الأمة » إلا بهذا الشرط .
فصل
احتج بعض العلماء بهذه الآية على أن إجماعَ الأمة حجة من وجهين :
الأول : أنه - تعالى - قال : { وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ الأعراف : 159 ] ثم قال - في هذه الآية : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } ، فوجب أن تكون - بحكم هذه الآية - هذه الأمة أفضل من تلك الأمة ، الذين يهدون بالحق من قوم موسى ، وإذا كان كذلك وجب أن تكون هذه الأمة لا تحكم إلا بالحق ، إذْ لو جاز - في هذه الأمة - أن تحكم بما ليس بحَقٍّ ، لامتنع كونهم أفضل من الأمة التي تهدي بالحق؛ لأن المبطل لا يكون خيراً من الحَقِّ ، وإذا ثبت أن هذه الأمة لا تحكم إلا بالحق كان إجماعهم حجة .
الثاني : أن الألف واللام في لفظ : « املعروف » ، و « المنكر » ، يفيدان الاستقرار ، وهذا يقتضي كونهم آمرين بكل معروف ، وناهين عن كل منكرٍ ، ومتى كانوا كذلك كان إجماعهم حقًّا ، وصدقاً - لا محالة - فكان حُجَّةً .
فإن قيل : الأمر بالمعروف ، و النهي عن المنكر ، والإيمان بالله ، هذه الصفات الثلاث كانت حاصلة في سائر الأمم ، فمن أي وَجْهٍ كانت هذه الأمة خير الأمم؟
والجواب : قال القفال : إن تفضيلهم على سائر الأمم الذين كانوا قبلهم إنما حصل لأجل أنهم يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر بآكد الوجوه - وهو القتال- : لأن الأمر بالمعروف قد يكون بالقلب وباللسان ، واليد ، وأقواها القتال؛ لأنه إلقاء للنفس في خطر القتل ، وأعرف المعروفات الدين الحق ، والإيمان بالتوحيد والنبوة ، وأنكر المنكرات الكفر بالله ، فلما كان الجهاد في الدين تحملاً لأعظم المضارّ؛ لغرض إيصال الغير إلى أعظم المنافع ، وتخليصه من أعظم المضار ، وجب أن يكون الجهاد أعظم العبادات ، وهو في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع - فلا جرم - صار ذلك موجباً لفَضْل العبادات ، وهو في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع - فلا جرم - صار ذلك موجباً لفَضْل هذه الأمة على سائر الأمم .
وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ، ويُقِرُّوا بما أنزل الله ، وتقاتلونهم عليه ، و « لا إله إلا الله » أعظم المعروف ، والتكذيب هو أنكر المنكر .
ثم قال القفال : فائدة : القتال على الدين لا يُنكره مُنْصف ، لأن أكثر الناس يحبون أديانهم بسبب الإلف والعادة ، ولا يتأملون في الدلائل الواردة عليهم ، فإذا أكره - بالتخويف بالقتل - على الدخول في الدين ، دخل فيه ، ثم لا يزال يَضْعُف في قلبه ما كان من حب الباطل ، ويقوى حُبُّ الدين الحقِّ في قلبه إلى أن ينتقل من الباطل إلى الحقّ ، ومن استحقاق العذاب الأليم إلى استحقاقِ الثوابِ الدائم ، والنعيم المقيم .
فإن قيل : لم قدم الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر على الإيمان بالله ، في الذكر - مع أن الإيمان بالله - لا بد وأن يكون مُقَدَّماً على كل الطاعات .
فالجواب : أن الإيمان بالله مشترك فيه بين جميع الأمم المُحِقَّةِ ، ثم إنه - تعالى - ذكر أن فَضْل هذه الأمَّة أقوى حالاً - في الأمر بالمعروف ، والنَّهْيِ عن المنكر - من سائر الأمم ، فالمؤثر - إذَنْ - في هذه الخيرية هو الأمر بالمعروف ، و النهي عن المنكر ، وأما الإيمان بالله فهو شرط لتأثير هذا المؤثر في هذا الحكم؛ لأنه ما لم يوجد الإيمان لم يصر شيء من الطاعات وصْفاً من صفات الخيرية .
فإن قيل : لم اكتفى بذكر الإيمان بالله ، ولم يذكر الإيمان بالنبوة ، مع أنه لا بُدَّ منه؟
فالجواب : أنّ الإيمان بالله يستلزم الإيمان بالنبوة ، لأن الإيمان بالله لا يحصل إلا إذا حصل الإيمان بكونه صادقاً ، والإيمان بكونه صادقاً لا يحصل إلا إذا كان الذي أظهر المعجزة ، على وفق دعواه صادقاً؛ لأن المعجز قائم مقام التصديق بالقول ، فلما شاهد ظهور المعجز على وفق دعوى محمد صلى الله عليه وسلم كان من ضرورة الإيمان بالله الإيمان بنبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم فكان الاقتصار على ذِكْر الإيمان بالله تنبيهاً على هذه الدقيقة .
قوله : { وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : لو آمن أهل الكتاب بهذا الذي حصلت به صفة الخيريَّةِ لأتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، لحصلت هذه الخيرية - أيضاً - لهم .
الثاني : أن أه لالكتاب إنما آثروا دينهم ، حُبًّا للرياسة ، واستتباع العوام ، ولو آمنوا لحصلت لهم الرياسة في الدنيا مع الثواب العظيم في الآخرة ، فكان ذلك خيراً مما قَنِعُوا به .
قوله : { لَكَانَ خَيْرًا } اسم « كان » ضمير يعود على المصدر المدلول عليه بفعله ، والتقدير لكان الإيمان خيراً لهم كقولهم : « من كذب كان شراً له » أي : كان الكذب شراً له ، كقوله تعالى : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } [ المائدة : 8 ] .
وقول الشاعر : [ الوافر ]
1573- إذَا نُهِيَ السَّفِيةُ جَرَى إلَيْهِ ... وَخَالفَ ، وَالسَّفِيةُ إلى خِلاَفِ
أي : جرى إليه السفه .
والمفضل عليه محذوف ، أي : خيراً لهم من كُفْرهم ، وبقائهم على جَهْلهم .
وقال ابن عطية : ولفظة « خير » صيغة تفضيل ، ولا مشاركة بين كُفْرهم وإيمانهم في الخير ، وإنما جاز ذلك لما في لفظه « خير » من الشياع وتشعب الوجوه ، وكذلك هي لفظة « أفضل » ، و « أحب » وما جرى مجراها .
قال أبو حيان : « وإبقاؤها على موضوعها الأصلي أوْلَى - إذا أمكن ذلك - وقد أمكن ذلك؛ إذ الخيرية مطلقة ، فتحصل بأدْنى مشاركة » .
قوله : { مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون } جملة مستأنفة ، سِيقت للإخبار بذلك .
قال الزمخشريّ : « هما كلامان واردان على طريق الاستطراد ، عند إجراء ذِكْر أهل الكتاب ، كما يقول القائل - إذا ذكر فلاناً - من شأنه كيت وكيت - ولذلك جاء من غير عاطف » .
الألف واللام في قوله : { الْمُؤْمِنُونَ } للعهد ، لا للاستغراق ، والمراد عبد الله بن سلام ورهطه من « الليهود » ، والنجاشي ورَهْطه من « النصارى » .
فإن قيل : الوصْف إنما يُذْكَر للمبالغة ، فأي مبالغة تحصل في وصف الكافر بأنه فاسق؟
فالجواب : أن الكافر قد يكون عَدْلاً في دينه ، وفاسقاً في دينه ، فالفاسق في دينه يكون مردوداً عند جميع الطوائف؛ لأن المسلمين لا يقبلونه لكفْره ، والكفّار لا يقبلونه لفِسْقِه عندهم ، فكأنه قيل : أهل الكتاب فريقان : منهم مَنْ آمن ، والذين لم يؤمنوا فهم فاسقون في أديانهم ، فليسوا ممن يُقْتَدَى بهم ألبتة عند أحدٍ من العقلاء .
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
لمَّا رغَّب المسلمين في تَرْك الالتفات إلى أقوال الكُفَّار وأفعالهم بقوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } [ آل عمران : 110 ] ، رغَّبهم - أيضاً - من وَجْه آخر ، وهو أنه لا قُدْرَةَ لهم على إضرار المسلمين ، إلا بالقليل من القول الذي لا عبرة به ، ولو أنهم قاتلوا المسلمين لانهزمت الكفار ، فلذلك لا يلتفت إلى أقوالهم وأفعالهم .
قال مقاتل : إن رؤوس اليهود عمدوا إلى مَنْ آمن منهم - عبد الله بن سلام وأصحابه - فآذَوْهم ، فنزلت هذه الآية .
قوله : { إِلاَّ أَذًى } فيه وجهان :
أحدهما : أنه متصل ، وهو استثناء مفرَّغ من المصدر العام ، كأنه قيل : لن يضروكم ضرراً ألبتة إلا ضرر أذى لا يبالى به - من كلمة سوء ونحوها - إمَّا بالطعن في محمد وعيسى - عليهما السلام - وَإمَّا بإظهار كلمة الكفر - كقولهم : عيسى ابنُ الله ، وعُزَيْر ابن الله ، وإن الله ثالث ثلاثة ، وإما بتحريف نصوص التوراة والإنجيل ، وإما بتخويف ضعفةِ المسلمين .
الثاني : أنه منقطع ، أي : لن يضروكم بقتال وغَلَبَة ، لكن بكلمة أذًى ونحوها .
قال بعض العلماء : وهذا بعيد ، لأن الوجوه المذكورة توجب وقوع الغَمِّ في قلوب المسلمين ، والغم ضرر . فالتقدير : لا يضروكم إلا الضرر الذي هو الأذى ، فهو استثناء صحيح ، والمعنى : لا يضروكم إلا ضَرَراً يَسِيراً .
قوله : { وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدبار } هذا إخْبار بأنهم لو قاتلوا المسلمين لانهزموا ، وخُذلوا ، { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } أي : إنهم بعد صيرورتهم منهزمين لا يحصل لهم شوكة ، ولا قوة - ألبتة- ، ونظيره قوله تعالى : { وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدبار } [ الحشر : 12 ] ، وقوله : { قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد } [ آل عمران : 12 ] ، وقوله : { نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 44-45 ] ، وكل ذلك وَعْد بالفتح ، والنصر ، والظفر ، وهذه الآية اشتملت على الإخبار عن غيوب كثيرة .
منها : أن المؤمنين آمنون من ضررهم .
ومنها : أنهم لو قاتلوا المؤمنين لانهزموا .
ومنها : أنه لا يحصل لهم شوكة بعد الانهزام .
وكل هذه الأخبار وقعت كما أخبر الله عنها ، فإن اليهود لم يقاتلوا إلا انهزموا ، وما أقدموا على محاربة ، وطلب رئاسة إلا خُذِلوا ، وكل ذلك إخبار عن الغيب ، فيكون معجزاً .
فإن قيل : هَبْ أن اليهودَ كذلك ، لكن النصارى ليسوا كذلك ، وهذا يقدح في صحة هذه الآيات .
فالجواب : أنها مخصوصة باليهود ، لما رُوِيَ في سبب النزول .
وقوله : { ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ } كلام مستأنف .
فإن قيل : لِمَ كان قوله : { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } مستأنفاً ، ولم يُجْزَم ، عطفاً على جواب الشرط؟
فالجواب : أنه لو جُزِم لتغيَّر المعنى؛ لأن الله - تعالى - أخبرهم بعدم نُصْرَتهم - مطلقاً - فلو عطفناه على جواب الشرط لزم تقييده بمقاتلتهم لنا ، بينما هم غير منصورين مطلقاً - قاتلوا ، أو لم يقاتلوا .
وزعم بعضهم أن المعطوف على جواب الشرط ب « ثم » لا يجوز جزمه ألبتة ، قال : لأن المعطوف على الجواب جواب ، وجواب الشرط يقع بعده وعقيبه ، و « ثم » يقتضي التراخي ، فكيف يتصور وقوعه عقيب الشرط؟ فلذلك لم يُجْزَم مع « ثم » .
وهذا فاسد جدًّا؛ لقوله تعالى : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم } [ محمد : 38 ] ، ف « لا يكونوا » مجزوم نسقاً على « يستبدل » الواقع جواباً للشرط ، والعاطف « ثُمَّ » .
و « الأدبار » مفعول ثان لِ « يُوَلُّوكُمْ » ؛ لأنه تعدَّى بالتضعيف إلى مفعولٍ آخَرَ .
فإن قيل : ما الذي عطف عليه قوله : { لاَ يُنصَرُونَ } ؟
فالجواب : هو جملة الشرط والجزاء ، كأنه قيل : أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا ، ثم أخبركم أنهم لا يُنصرون . وإنما ذكر لفظ « ثُمَّ » ، لإفادة معنى التراخي في المرتبة ، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار .
قوله : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ } يعني : أن الذلة جُعِلَتْ ملصَقَة ، بهم ، كالشيء الذي يُضرب على الشيء فيلصق به ، ومنه قولهم : ما هذا عليَّ بضربة لازب ومنه تسمية الخراج ضريبة . والذلة : هي الذل ، وفي المراد بها أقوال .
فقيل : إنها الجزية؛ وذلك؛ لأن ضَرْب الجزية عليهم يوجب الذلة والصَّغَار .
وقيل : أن يُحارَبُوا ، ويقْتَلوا ، وتقسَّم أموالُهم ، وتُسْبَى ذَراريهم ، وتُملك أراضيهم - كقوله : { واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم } [ البقرة : 191 ] ، ثم قال تعالى : { إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ الله } والمراد : إلاَّ بعهد من الله ، وعِصْمة ، وذمام من الله ومن المؤمنين؛ لأن عند ذلك تزول هذه الأحكام .
وقيل : إن المراد بها أنك لا ترى فيهم ملكاً قاهراً ولا رئيساً معتبراً ، بل هم مُسْتَخْفُون في جميع البلاد ، ذليلون ، مهينون .
قوله : { أَيْنَ مَا ثُقِفُوا } ، « أيْنَمَا » اسم شرط ، وهي ظرف مكان ، و « ما » مزيدة فيها ، ف « ثُقِفُوا » في محل جزم بها ، وجواب الشرط إما محذوف - أي : أينما ثُقِفُوا غلبوا وذُلّوا ، دلَّ عليه قوله : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ } ، وإما نفس « ضُرِبَتْ » ، عند مَنْ يُجيز تقديم جواب الشرط عليه ، ف { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ } لا محل له - على الأول ، ومحله جزم على الثاني .
قوله : { إلاَّ بِحَبْلٍ } هذا الجار في محل نَصْب على الحال ، وهو استثناء مفرَّغ من الأحوال العامة .
قال الزمخشري : « وهو استثناء من أعَمِّ عامّة الأحوال ، والمعنى : ضُرِبَتْ عليهم الذلة في عامة الأحوال ، إلا في حال اعتصامهم بحبل الله ، وحبل الناس ، فهو استثناء متصل » .
قال الزجّاج والفرَّاء : هو استثناء منقطع ، فقدره الفراء : إلا أن يعتصموا بحبل من الله ، فحذف ما يتعلق به الجار .
كقول حميد بن ثور الهلالي : [ الطويل ]
1574- رَأتْنِي بِحَبْلَيْهَا ، فَصَدَّتْ مَخَافَةً ... وَفِي الْحَبْلِ رَوْعَاءُ الْفُؤَادِ ، فَرُوقُ
أراد : أقبلت بحبليها ، فحذف الفعل؛ للدلالة عليه .
ونظَّره ابنُ عطية بقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً } [ النساء : 92 ] قال : « لأن بادئ الرأي يعطي أن له أن يقتل خطأ ، وأن الحبل من الله ومن الناس يزيل ضرب الذلة ، وليس الأمر كذلك ، وإنَّما في الكلام محذوف ، يدركه فَهْمُ السامع الناظر في الأمر ، وتقديره : - في أمتنا - فلا نجاة من الموت إلا بحبل » .
قال أبو حيان : « وعلى ما قدره لا يكون استثناءً منقطعاً؛ لأنه مستثنًى من جملة مقدَّرة ، وهي : فلا نجاة من الموت ، وهو متصل على هذا التقدير ، فلا يكون استثناء المنقطع - كما قرره النحاة - على قسمين : منه ما يمكن أن يتسلط عليه العامل ، ومنه لا يمكن فيه ذلك - ومنه هذه الآية - على تقدير الانقطاع - إذ التقدير : لكن اعتصامهم بحبل من الله وحَبْل من الناس يُنَجيهم من القتل ، والأسر ، وسَبي الذراري ، واستئصال أموالهم؛ ويدل على أنه منقطع الإخبار بذلك في قوله تعالى - في سورة البقرة- : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله } [ البقرة : 61 ] ، فلم يستثنِ هناك » .
قال محمد بن جرير الطبري : « قد ضُرِبَت الذلة على اليهود ، سواء كانوا على عهد من الله أو لم يكونوا ، ولا يخرجون بهذا الاستثناء من الذلة إلى العزة ، فقوله : { إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ الله } تقديره : لكن يعتصمون بحبل من الله وحبل من الناس » .
قال ابن الخطيب : « وهذا ضعيف؛ لأن حَمْلَ لفظ » إلاَّ « على » لكن « خلاف الظاهر ، وأيضاً : إذا حملنا الكلام على أن المراد : لكن قد يعتصمون بحبل من الله ، وحبل من الناس ، لم يتم هذا القدر إلا بإضمار الشيء الذي يعتصمون بهذه الأشياء لأجل الحذر عنه ، والإشمار خلاف الأصل ، فلا يُصار إلى هذه الأشياء إلا عند الضرورة ، فإذا كان لا ضرورةَ - هاهنا - إلى ذلك ، كان المصير إليه غير جائز ، بل هاهنا وجه آخر ، وهو أن تُحْمَل الذِّلَّةُ على كل هذه الأشياء - أعني : القتل ، والأسْر ، وسَبْي الذراري ، وأخذ المال ، وإلحاق الصغار ، والمهانة ، ويكون فائدة الاستثناء هو أنه لا يبقى مجموع هذه الأحكام ، وذلك لا ينافي بقاء بعض هذه الأحكام ، وهو أخذ القليل من أموالهم - المُسَمَّى بالجزية - وبقاء المهانة والصغار فيهم » .
وقال بعضهم الباء - في قوله : « بحبل » - بمعنى : « مع » ، كقولك : اخرج بنا نفعل كذا - أي : معنا ، والتقدير : إلا مع حبل من الله .
فصل
تقدم الكلام في أن المراد بالحبل : العهد .
فإن قيل : إنه عطف على حبل الله حبلاً من الناس ، وذلك يقتضي المغيرة .
فالجواب : قال بعضهم : حبل الله هو الإسلام ، وحبل الناس هو العهد والذمة ، وهذا بعيد؛ لأنه لو كان المراد ذلك ، لكان ينبغي أن يقال : أو حبل من الناس .
وقال آخرون : المراد بكلا الحبلين : العهد والذمة والأمان ، وإنما ذكر - تعالى - الحَبْلَيْن؛ لأن الأمان المأخوذ من المؤمنين ، هو الأمان المأخوذ بإذن الله تعالى .
قال ابن الخطيب : وهذا عندي - أيضاً - شعيف ، والذي عندي فيه أن الأمان للذميّ قسمان :
أحدهما : الذي نصَّ الله عليه ، وهو أخْذ الجزية .
الثاني : الذي فُوض إلى رَأي الإمام ، فيزيد فيه تارة ، وينقص بحسب الاجتهاد ، فالأول : هو المُسَمَّى بحبل الله ، والثاني : هو المسمى بحبل المؤمنين .
قوله : { وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله } تقدم أن معناه : مَكَثُوا ، ولبثوا ، وداموا في غضب الله ، مأخوذ من البوء - وهو المكان ومنه : تبوأ فلان منزل كذا - ومنه قوله تعالى : { والذين تَبَوَّءُوا الدار } [ الحشر : 9 ] .
قوله : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ } .
قال الحسن ، وأكثر المفسرين : المسكنة : الجزية؛ لأنه لم يستثنها ، فدلَّ ذلك على بقائها عليهم ، والباقي عليهم ليس إلا الجزية .
وقال آخرون : المسكنة : هي أن اليهودي يُظهر من نفسه الفقر ، وإن كان موسراً .
وقال آخرون : هذا إخبار من الله بأنه جعل أموال اليهود رزقاً للمسلمين ، فيصيروا مساكين .
قوله : { ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ } بيَّن العلة في إلصاق هذه الأمور المكروهة بهم ، وتقدم الكلام على مثل ذلك في سورة البقرة .
فإن قيل : فما الحكمة في قوله : { ذلك بِمَا عَصَوْاْ } ، ولا يجوز أنْ يكونَ هذا التكرير للتأكيد؛ لأن التأكيد يجب أن يكون بشيء أقْوَى من المؤكد - والعصيان أقل حالاً من الكفر - فلا يُؤكَّد الكفر بالعصيان؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أن علة الذلة ، والغضب ، والمسكنة ، هي : الكُفر ، وقتل الأنبياء ، وعلة الكُفْر وقتل الأنبياء هي : المعصية؛ لأنهم لما توغَّلوا في المعاصي والذنوب ، وتزايدت ظلمات المعاصي - حالاً فحالاً ، ضعف نور الإيمان حالاً فحالاً - إلى أن بطل نور الإيمان ، وحصلت ظلمة الكُفْر ، وإليه أشار بقوله : { كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ المطففين : 14 ] ، فقوله : { ذلك بِمَا عَصَوْاْ } إشارة إلى العلة .
ولهذا المعنى قال الإمام أحمد - وقد سُئل عن تارك السنن ، هل تُقْبَل شهادته؟ - قال : ذلك رجل سوء؛ لأنه إذا وقع في ترك السنن أدَّى ذلك إلى تَرْك الفرائض ، وإذ وقع في تَرْك الفرائض ، وقع في استحقار الشريعة ، ومن ابتلي بذلك وقع في الكُفْر .
الثاني : أن يُحْمَل قوله : { كانوا يكفرون بآيات الله } على أسلافهم ، وقوله : { ذلك بِمَا عَصَوْاْ } في الحاضرين في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلا يلزم التكرار ، فكأنه - تعالى - بيَّن عقوبة مَنْ تقدَّم ، ثم بيَّن أن المتأخر - لما تبع من تقدم - صار لأجل معصيته ، وعداوته متسوجِباً لمثل عقوبتهم ، حتى يظهر للخلق ما أنزل الله بالفريقين .
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
الظاهر في هذه أنّ الوقف على « سَوَاءٌ » تام؛ فإن الواو اسم « ليس » و « سواء » خبر ، والواو تعود على أهل الكتاب المتقدم ذكرهم .
ولامعنى : أنهم منقسمون إلى مؤمن وكافر؛ لقوله : { مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون } [ آل عمران : 110 ] ، فانتفى استواؤهم .
و « سواء » - في الأصل - مصدر ، ولذلك وُحِّدَ ، وقد تقدم تحقيقه أول البقرة .
قال أبو عبيدة : الواو في « لَيْسُوا » علامة جمع ، وليست ضميراً ، واسم « ليس » - على هذا - « أمة » و « قَائِمَةٌ » صفتها ، وكذا « يَتْلُونَ » ، وهذا على لغة « أكلوني البراغيث » .
كقول الآخر : [ المتقارب ]
1575- يَلُومَونَنِي فِي اشْتِرَاءِ النَّخِي ... لِ أهْلِي ، فَكُلُّهُمْ بعَذْلِ أَلُومُ
قالوا : وهي لغة ضعيفة ، ونازع السُّهَيْلِيّ النحويين في كونها ضعيفةً ، ونسبها بعضُهم إلى شنوءة ، وكثيراً ما جاء عليها الحديث ، وفي القرآن مثلُها . وسيأتي تحقيقها في المائدة .
قال ابنُ عطية : وما قاله أبو أبو عبيدةَ خطأٌ مردودٌ ، ولم يبيِّن وَجْهَ الخطأ ، وكأنه توهم أن اسم « ليس » هو { أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ } فقط ، وأنه لا محذوفَ ثَمَّ؛ إذ ليس الغرض تفاوت الأمة القائمة التالية ، فإذا قُدِّر - ثَمَّ - محذوف لم يكن قول أبي عبيدةَ خطأً مردوداً إلا أن بعضهم رد قوله بأنها لغة ضعيفة وقد تقدم ما فيها . والتقدير الذي يصح به المعنى : أي : ليس سواء من أهل الكتاب أمة قائمة ، موصوفة بما ذُكِرَ ، وأمة كافرة ، فبهذا التقدير يصح به المعنى الذي نحا إليه أبو عُبَيْدَةَ .
وقال الفرَّاءُ : إن الوقفَ لا يتم على « سَوَاءً » فجعل الواو اسم « ليس » ، و « سَوَاءً » خبرها - كما قال الجمهور - و « أمَّةٌ » مرتفعة ب « سَوَاءً » ارتفاع الفاعل ، أي : ليس أهل الكتاب مستوياً ، من أهل الكتاب أمة قائمة ، موصوفة بما ذُكِر ، وأمة كافرة ، فبهذا التقدير يصح به المعنى الذي نحا إليه أبو عُبَيْدَةَ .
وقال الفرَّاءُ : إن الوقفَ لا يتم على « سَوَاءً » فجعل الواو اسم « ليس » ، و « سَوَاءً » خبرها - كما قال الجمهور - و « أمَّةٌ » مرتفعة ب « سَوَاءً » ارتفاع الفاعل ، أي : ليس أهل الكتاب مستوياً ، من أهل الكتاب أمة قائمة ، موصوفة بما ذُكِر ، وأمة كافرة ، فحُذِفَت هذه الجملةُ المعادلة؛ لدلالة القسم الأول عليها؛ فإن مذهب العرب إذا ذُكِرَ أحد الضدين ، أغْنَى عن ذِكر الضِّدِّ الآخَر .
قال أبو ذُؤيب : [ الطويل ]
1576- دَعَانِي إلَيْهَا الْقَلْبُ إنِّي لأمْرِهَا ... سَمِيعٌ ، فَمَا أدْرِي أرُشْدٌ طِلاَبُها؟
والتقدير : أم غي ، فحذف الغَيّ؛ لدلالة ضِدِّه عليه .
ومثله قول الآخر : [ الطويل ]
1577- أرَاكَ ، فَمَا أدْرِي أهَمٌّ هَمَمْتُهُ ... وَذُو الْهَمِّ قِدْماً خَاشِعٌ مُتَضَائِلُ
أي أهم هممته أم غيره؟ فحذف؛ للدلالة ، وهو كثير .
قال الفراء : « لأن المساواة تقتضي شيئين » ، كقوله : { سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد } [ الحج : 25 ] ، وقوله : { سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } [ الجاثية : 21 ] .
وقد ضُعِّفَ قَوْلُ الفراء من حيث الحذف ، ومن حيث وَضع الظاهر مَوْضِعَ المُضْمَر؛ إذ الأصل : منهم أمة قائمة ، فوضع أهل الكتاب موضع المضمر .
والوجه أن يكون { لَيْسُواْ سَوَآءً } جملة تامة ، وقوله : { مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ } جملة برأسها ، وقوله : { يَتْلُونَ } جملة أخرى ، مبينة لعدم استوائهم - كما جاءت الجملة من قوله : { تَأْمُرُونَ بالمعروف } [ آل عمران : 110 ] مبيِّنة للخيريَّةِ .
ويجوز أن يكون { يَتْلُونَ } في محل رفع ، صفة ل « أمَّةٌ » .
ويجوز أن يكون حالاً من « أمَّةٌ » ؛ لتخصُّصِها بالنعت .
ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في « قَائِمة » ، وعلى كونها حالاً من « أمَّةٌ » يكون العامل فيها الاستقرار الذي تضمنه الجار .
ويجوز أن يكون حالاً من الضميرِ المستكن في هذا الجار ، لوقوعه خبراً ل « أمَّة » .
فصل
قال جمهور العلماء : المراد بأهل الكتاب : مَنْ آمَنَ بموسى وعيسى عليهما السلام . اليهود : ما آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا شِرارُنا ، ولولا ذلك ما تركوا دينَ آبائِهم ، لقد كفروا ، وخسروا ، فأنزل الله هذه الآية؛ لبيان فضلهم .
وقيل : لما وَصَفَ أهلَ الكتاب - في الآيات المتقدمةِ - بالصفات المذمومة ، ذَكَر - في هذه الآية - أن كل أهل الكتاب ليسوا كذلك ، بل فيهم مَنْ يكون موصوفاً بالصفات المحمودة المرضية .
قال الثوريّ : بلغني أنها نزلت في قوم كانوا يُصلون بين المغرب والعشاء .
وعن عطاء ، أنها نزلت في أربعين رجلاً من أهل نجرانَ ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، وثلاثة من الروم ، كانوا على دين عيسى ، وصدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وكان من الأنصار فيهم عدة - قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم ، منهم أسعد بن زرارة ، والبراء بن معرور ، ومحمد بن مسلمة ، وأبو قيس صِرْمة بن أنس ، كانوا موحِّدين ، يغتسلون من الجنابة ، ويقومون بما عرفوا من شرائع الحنيفية ، حتى بعث الله لهم النبي صلى الله عليه وسلم فصدَّقوه ، ونصروه .
وقال آخرون : المراد بأهل الكتاب : كل من أوتي الكتابَ من أهل الأدْيان - والمسلمون من جُمْلتهم - قال تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا } [ فاطر : 32 ] ، ويؤيِّد هذا ما رَوَى ابنُ مسعود : أن النبي صلى الله عليه وسلم أخَّر صلاة العشاء ، ثم خرج إلى المسجد ، فإذا الناس ينتظرون الصلاة ، فقال : « أما إنه ليس أحَدٌ مِنْ أهْلِ الأدْيَانِ يَذْكُرُ اللهَ - تَعَالَى - هَذِهِ السَّاعةِ غَيْركُمْ » وقرأ هذه الآية .
قال القفال : ولا يبعد أن يقال : أولئك الحاضرون كانوا نفراً من مؤمني أهل الكتاب الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فأقاموا صلاة العتمة في الساعة التي ينام فيها غيرُهم من أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا .
ولا يبعد - أيضاً - أن يقال : المراد : كلّ مَنْ آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فسمَّاهم الله بأهل الكتاب ، كأنه قيل : أولئك الذين سموا أنفسهم بأهل الكتاب حالهم وصفتهم تلك الخصال الذميمة ، والمسلمون الذين سماهم الله بأهل الكتاب حالهم وصفتهم هكذا ، فكيف يستويان؟ فيكون الغرض - من هذه الآية - تقرير فضيلة أهل الإسلام ، تأكيداً لما تقدم من قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] ونظيره قوله : { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ } [ السجدة : 18 ] ، منهم { أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله } قيل : قائمة في الصلاة يتلون آياتِ الله ، فعبَّر بذلك عن تهجُّدِهم .
وقال ابن عباس : مهتدية ، قائمة على أمر الله - تعالى - لم يضيِّعوه ، ولم يتركوه .
قال الحسن : ثابتة على التمسُّك بالدين الحق ، ملازمة له ، غير مضطربة ، كقوله تعالى : { إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } [ آل عمران : 75 ] .
قال مجاهد : « قَائِمَةٌ » أي : مستقيمة ، عادلة - من قولك : أقمت العود - فقام بمعنى : استقام .
وقيل : الأمَّة : الطريقة ، ومعنى الآية : { مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ } أي : ذو أمة ، ومعناه : ذو طريقة مستقيمة ، والمراد ب { آيَاتِ الله } : القرآن ، وقد يُراد بها أصناف مخلوقاته الدالة على ذاته ، وصفاته ، والمراد هاهنا : الأول .
قوله : { آنَآءَ الليل } ظرف ل « يتلون » ، والآناء : الساعات ، واحده : أنَى - بفتح الهمزة والنون ، بزنة عصا -أو إنَى بكسر الهمزة ، وفتح النون ، بزنة مِعًى ، أو أنْي - بالفتح والسكون بزنة ظَبْي ، أو إنْي - بالكسر والسكون ، بزنة نِحْي - أو إنْو - بالكسر والسكون مع الواو ، بزنة جرو - فالهمزة في « آناء » منقلبة عن ياء ، على الأقوال الأربعة - كرداء - وعن واو على القول الأخير ، نحو كساء .
قال القفال : كأن التأنِّيَ مأخوذ منه ، لأنه انتظار الساعات والأوقات ، وفي الحديث أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي أخر المجيء إلى الجمعة- : « آذيت وآنيت » أي : دافعت الأوقات . وستأتي بقية هذه المادة في مواضعها .
ولا يجوز أن يكون « آناء الليل » ظرفاً لِ « قَائِمَةٌ » .
قال أبو القباءِ : « لأن » قَائِمَةٌ « قد وُصِفَتْ ، فلا يجوز أن تعمل فيما بعد الصفة » ، وهذا على تقدير أن يكون « يَتْلُونَ » وَصْفاً لِ « قائمة » ، وفيه نظر؛ لأن المعنَى ليس على جَعْل هذه الجملةِ صفة لما قبلها ، بل على الاستئناف للبيان المتقدم ، وعلى تقدير جَعْلها صفة لما قبلها ، فهي صفة ل « أمَّةٌ » ، لا لِ « قَائِمَةٌ » ؛ لأن الصفة لا توصَف إلا أن يكون معنى الصفة الثانية لائقاً بما قبلها ، نحو : مررت برجل ناطقٍ فصيح ، ففصيح صفة لناطق؛ لأن معناه لائق به ، وبعضهم يجعله وَصْفاً لرجل .
وإنما المانع من تعلُّق هذا الظرف ب « قَائِمَةٌ » ما ذكرناه من استئناف جملته .
قوله : { وَهُمْ يَسْجُدُونَ } يجوز أن يكون حالاً من فاعل « يَتْلُونَ » أي : يَتْلُونَ القرآن ، وهم ساجدون ، وهذا قد يكون في شريعتهم - مشروعية التلاوة في السجود - بخلاف شرعنا ، قال عليه السلام « ألاَ إنِّي نُهِيتُ أن أقرأ القُرآنَ رَاكِعاً ، أو سَاجِداً » ، وبهذا يرجح قول من يقول إنهم غير أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في « قَائِمَةٌ » قاله أبو البقاء .
وفيه ضعف؛ للاستئناف المذكور .
وقيل : المراد بقوله : { وَهُمْ يَسْجُدُونَ } : أنهم يصلون ، والصلاة تسمى سجوداً ، وركوعاً ، وتسبيحاً ، قال تعالى : { واركعي مَعَ الراكعين } [ آل عمران : 43 ] ، وقال : { فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [ الروم : 17 ] ، والمراد : الصلاة .
وقيل : { يَسْجُدُونَ } أي : يخضعون لله؛ لأن العرب تسمِّي الخضوعَ سجوداً ، قال تعالى : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } [ النحل : 49 ] .
ويجوز أن تكون مستأنفة ، والمعنى : أنهم يقومون تارةً ، ويسجدون تارةً ، يبتغون الفضل والرحمة بأنواع ما يكون في الصلاة من الخضوع لله ، ونظيره قوله : { وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } [ الفرقان : 64 ] .
قوله : { يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } إمَّا استئناف ، وإما أحوال ، وجيء بالجملة الأولى اسميةً؛ دلالةً على الاستقرار ، وصُدِّرَتْ بضميرٍ ، وثَنَّى عليه جملة فعلية ، ليتكرر الضمير ، فيزداد بتكراره توكيداً .
وجيء بالخبر مضارعاً؛ دلالةً على تجدُّدِ السجود في كل وقت ، وكذلك جيء بالجُمَل التي بعدها أفعالاً مضارعة .
ويحتمل أن يكون { يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } خبراً ثانياً ، لقوله : « هُمْ » ، ولذلك ترك العاطف ولو ذكره لكان جائزاً .
فصل
اعلم أن اليهود كانوا يقومون في الليل للتهجُّد ، وقراءة التوراة ، فلما مدح المؤمنين بالتهجد وقراءة القرآن أردف ذلك بقوله : { يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } ، وقد تقدَّم أن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بجميع أنبيائه ورُسُلِهِ ، والإيمان باليومِ الآخرِ يستلزم الحذرَ من المعاصي ، وهؤلاء اليهود كانوا ينكرون أنبياء الله ، ولا يحترزون عن معاصي الله ، لم يحصل لهم الإيمان بالمبدأ أو المعاد .
قوله : { وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } .
قال ابن عباس : يؤمنون بتوحيد الله ، ونبوة صلى الله عليه وسلم ، وينهون عن الكفر .
وقيل : يأمرون بما ينبغي ، وينهون عَمَّا لا ينبغي .
وقوله : { وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات } فيه وجهان :
أحدهما : يتبادرون إليها خوف الفَوْتِ بالمَوْتِ .
فإن قيل : أليس أن العجلة مذمومةٌ لقوله صلى الله عليه وسلم : « الْعَجَلَةُ من الشَّيْطَانِ ، والتأنِّي من الرَّحْمَنِ » فما الفرق بين السرعة والعَجَلَة؟
فالجواب : أن السرعة مخصوصة بأن يقدم ما ينبغي تقديمه ، والعجلة مخصوصة بأن يقدم ما لا ينبغي تقديمه فالمسارعة مخصوصة بفرط الرغبة فيما يتعلق بالدين ، لأن من رغب في الآخرة آثر الفَوْزَ على التراخي ، قال تعالى :
{ وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [ آل عمران : 133 ] ، والعجلة - أيضاً - ليست مذمومة على الاطلاق؛ لقوله تعالى : { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى } [ طه : 84 ] .
الوجه الثاني : يعملونها غَيْرَ متثاقلين .
قوله : { وأولئك مِنَ الصالحين } أي : الموصوفون بهذه الصفات من جملة الصالحين ، الذين صلحت أحوالهم عند الله ورضيهم ، وهذا غاية المدح من وجهين :
الأول : أن الله مدح بهذه الصفة أكابر الأنبياء ، فقال - بعد ذكر إسماعيل ، وإدريس ، وذي الكفل وغيرهم : { وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِّنَ الصالحين } [ الأنبياء : 86 ] ، وقال : { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } [ التحريم : 4 ] .
الثاني : أن الصلاح ضِدُّ الفساد ، فكل ما لا ينبغي أن يكون فهو فساد ، سواء كان ذلك في العقائد ، أو في الأعمال - وإذا كان كذلك كان كل ما ينبغي أن يكون صلاحاً ، فكان الصَّلاحُ دالاًّ على أكمل الدرجات .
قوله : { مِنَ الصالحين } يجوز في « من » أن تكون للتبعيض - وهو الظاهر- .
وجعلها ابن عطية لبيان الجنس ، وفيه نظر؛ إذْ لم يتقدم مُبْهَمٌ ، فتبينه هذه .
قوله : { وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ } .
قرأ الأخوان وحَفْص : « يَفْعَلُوا » و « يُكْفروهُ » - بالغيبة- .
والباقون بالخطاب .
الغيب مراعاة لقوله : { مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ } ، فجرى على لفظ الغيبة ، أخبرنا - تعالى - أن ما يفعلونه من خير يبقى لهم غير مكفور؛ وقراءة الباقين بالتاء الرجوع إلى الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } .
ويجوز أن يكون التفاتاً من الغيبة في قوله : { أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ } إلى آخره؛ إلى خطابهم ، وذلك أنه آنسهم بهذا الخطاب ، ويؤيد ذلك أنه اقتصر على ذكر الخير دون الشر؛ ليزيد في التأنيس . ويدل على ذلك قراءة الأخوين؛ فإنها كالنص في أن المراد قوله : { أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ } .
فصل
اعلم أن اليهودَ لما قالوا لعبد الله بن سلام وأصحابه : إنكم خسرتم بسبب إيمانكم ، قال الله تعالى : بل فازوا بالدرجات العُظْمَى ، فالمقصود تعظيمهم؛ ليزول عن قلبهم أثر كلام أولئك الجهال ، وهذا وإن كان لفظه - على قراءة الغيبة - لمؤمني أهل الكتاب ، فسائر الخلق يدخلون فيه نظراً إلى العلّة .
أما على قراءة المخاطبة فهذا ابتداء خطاب لجميع المؤمنين - ونظيره قوله : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله } [ البقرة : 197 ] ، وقوله : { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } [ البقرة : 272 ] ، وقوله : { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله } [ المزمل : 20 ] ، ونقل عن أبي عمرو : أنه كان يقرأها بالقراءتين .
وسُمِّيَ منع الجزاء كفراً لوجهين :
الأول : أنه - تعالى - سَمَّى إيصال الجزاء شُكْراً ، فقال : { فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 158 ] ، وسمى منعه كفراً .
الثاني : أن الكفر - في اللغة- : الستر . فسمي منع الجزاء كُفْراً؛ لأنه بمنزلة الجَحْدِ والستر .
فإن قيل : « شكر » و « كفر » لا يتعديان إلا إلى واحد ، يقال : شكر النعمة ، وكفرها - فكيف تعدّى - هنا - لاثنين أولهما قام مقام الفاعل ، والثاني : الهاء في « يكفروه » ؟ .
فقيل : إنه ضُمِّن معنى فعل يتعدى لاثنين - كحرم ومنع ، فكأنه قيل : فلن يُحْرَموه ، ولن يُمْنَعُوا جزاءه .
ثم قال : { والله عَلِيمٌ بالمتقين } واسم « الله » يدل على عدم العجز ، والبخل ، والحاجة؛ لأنه إله جميع المحدثات ، وقوله : « عَلِيمٌ » يدل على عدم الجَهْل ، وإذا انتفت هذه الصفاتُ ، امتنع المنع من الجزاء؛ لأن منعَ الحق لا بد وأن يكون لأحد هذه الأمور .
وقوله : { بِالمُتَّقِينَ } - مع أنه عالم بالكلِّ - بشارة للمتقين بجزيل الثواب .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)
لمَّا وصف المؤمنين بالصفاتِ الحَسَنة ، أتبعه بوعيد الكُفَّار ، ليجمع بين الوعدُ والْوَعيد ، والترغيب والترهيب .
قال ابْنُ عَبَّاسٍ : يريد قريظة والنضير؛ لأن معاندتهم كانت لأجل المال ، لقوله تعالى : في سورة البقرة { تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } [ البقرة : 41 ] .
وقيل : نزلت في مشركي قريش؛ فإن أبا جهل كان كثير الافتخار بماله .
وقيل : نزلت في أبي سفيان؛ فإنه أنفق مالاً كثيراً على المشركين يوم بَدر وأحد .
وقيل : إنها عامة في جميع الكفار؛ لأنهم كانوا يتعززون بكثرة الأموال ، ويعيرُون الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه بالفقر ، ويقولون : لو كان محمد على الحق ، لما تركه ربه في الفقر والشدة .
فالأولون قالوا : إن الآية مخصوصة ، وهؤلاء قالوا : إن اللفظ عام ، ولا دليلَ يوجب التخصيص ، وخص الأولاد ، لأنهم أقرب أنساباً إليهم .
واحتجَّ أهلُ السنة بقوله : { وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } عَلَى أن فُسَّاق أهل الصلاة لا يَبقون في النار أبداً؛ لأن هذه الكلمة تفيد الحصر ، فيقال : أولئك أصحاب زيد ، لا غيرهم ، ولما أفادت معنى : « الحصر » ثبت أن الخلودَ في النار ليس إلاَّ ل « الكفار » .
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
لمَّا بيَّن أن أموالهم لا تغني عنهم شيئاً ، فربما أنفقوها في وجوه الخير ، فيخطر ببالهم أنهم يبتغون بذلك وجه الله ، فأزال الله تعالى - بهذه الآية - ذلك الخاطر ، وبَيَّن أنهم لا ينتفعون بشيء من تلك النفقات .
والمثل : الشبه الذي يصير كالعلم؛ لكثرة استعماله فيما يشبه به . و « ما » يجوز أن تكون موصولة اسمية وما بعدها محذوف لاستكمال الشروط أي « ينفقونه » . وحاصل الكلام أن كفرهم يبطل ثواب نفقتهم ، كما أن الريح الباردة تهلك الزرع .
قوله : { كَمَثَلِ رِيحٍ } خبر المبتدأ ، وعلى هذا الظاهر - أعني : تشبيه الشيء المنفق بالريح - استشكل التشبيه؛ لأن المعنى على تشبيهه بالحرث - أي : الزرع - لا بالريح ، وقد أجيب عن ذلك بوجوه :
أحدها : أنه من باب التشبيه المركب ، بمعنى أنه تقابل الهيئة المجتمعة بالهيئة المجتمعة ، وليس تقابل الأفراد بالأفراد كما مر في أول سورة البقرة عند قوله تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ } وهذا اختيار الزمخشري .
ثانيها : أنه من باب التشبيه بين شيئين بشيئين ، فذكر أحد المشبَّهين ، وترك ذكر الآخر وذكر أحد المشبهين به ، فقد حذف من كل اثنين ما يدل عليه نظيره ، كما مر في قوله تعالى : { وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ } [ البقرة : 171 ] ، وهو اختيار ابن عطية ، قال : « وهذا غاية البلاغة والإعجاز » .
وثالثها : أنه على حذف مضاف ، إمَّا من الأول ، تقديره : مثل مهلك ما ينفقونه ، وإما من الثاني ، تقديره : كمثل مهلك ريح ، وهذا الثاني أظهر؛ لأنه يؤدِّي - في الأول - إلى تشبيه الشيء المُنْفَق - المُهْلَك - بالريح ، وليس المعنى عليه ، ففيه عَوْدٌ لما فُرَّ منه .
وذكر أبو حيان التقدير المشار إليه ، ولم ينبه عليه اللهم إلا أن يريد ب « مهلك » اسم مصدر ، أي : مثل إهلاك ما ينفقون ، ولكن يحتاج إلى تقدير مثل هذا المضاف - أيضاً - قبل « رِيح » تقديره : مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح .
وقيل : التقدير : مثل الكفر - في إهلاك ما ينفقون - كمثل الريح المهلكة للحرث .
وقال ابن الخطيب : « لعل الإشارة في قوله : { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ } إلى ما أنفقوا في إنذار رسول الله صلى الله عليه وسلم في جَمْع العساكر عليه ، فكان هذا الإنفاق مهلكاً لجميع ما أتَوْا به من أعمال البر والخير ، حينئذ يستقيم التشبيه من غير حاجة إلى إضمار ، وتقديم وتأخير ، والتقدير : مثل ما ينفقون في كونه مبطلاً لما أتوا به - قبل ذلك - من أعمال البر كمثل ريح فيها صر في كونها مبطلة للحرث » .
وهذا فيه نظر؛ لأن الكفار لا يثبت لهم عملُ برٍّ ، حتى تحبطه النفقة المذكورة ، قالتعالى :
{ وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] .
وقد يمكن أن يجاب عنه بأنه إن كان المراد بالذين كفروا : أهل الكتاب ، فقد كانت لهم أعمال بر قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم .
وإن كان المراد : المشركين ، فلا يُحْكَم عليهم إلا بعد البعثة ، قال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] .
ويجوز في « ما » أن تكون موصولة اسمية ، وعائدها محذوف - أي : مثل ما ينفقونه - وأن تكون ما مصدرية ، وحينئذ يكون قد شبه إنفاقهم - في عدم نفعه - بالريح الموصوفة بهذه الصفة ، وهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس .
فصل
اختلفوا في هذا الإنفاق - هاهنا - فقيل : هو جميع أعمالهم التي يرجون الانتفاع بها في الآخرة ، قال تعالى : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [ آل عمران : 92 ] والمراد به : جميع أعمال الخير .
وقيل : المراد به : إنفاق الأموال ، للآية المتقدمة .
فصل
وقيل : المراد به : إنفاق الأموال ، للآية المتقدمة .
فصل
اختلفوا هل المراد - بهذه الآية - جميع الكفار ، أو بعضهم؟ .
فقيل : جميع الكفار؛ وذلك لأن إنفاقهم إن كان لمنافع الدنيا ، لم يبق له أثر في الآخرة في حق المسلم فضلاً عن الكافر ، وإن كان لمنافع الآخرة - كبناء الرباطات ، والقناطر ، والإحسان إلى الضعفاء والأيتام والأرامل ، ووجوه البر - يرجو بذلك الإنفاق خيراً ، لم ينتفع به في الآخرة؛ لأن كفره يبطله ، فكان كمن زرع زرعاً ، وتوقع منه تقطعاً كثيراً ، فأصابته الريح ، فأحرقته ، فلا يبقى معه غير الأسف والحزن ، قال تعالى : { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] .
وقيل : المراد : بعض الكفار .
فقيل : أراد نفقات أبي سفيان ، وأصحابه يوم بدر وأحُد - على عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم .
وقال مقاتل : أراد نفقات اليهود على علمائهم؛ لأجل التحريف .
وقيل : إن المنافقين كانوا يُنفقون أموالَهم في سبيلِ الله ، لكن على سبيل التَّقِيَّة ، والخوف من المسلمين ، مداراةً لهم .
قوله : { فِيهَا صِرٌّ } في محل جر ، نعتاً ل « ريح » ، ويجوز أن يكون { فِيهَا صِرٌّ } : جملة من مبتدأ وخبر ، ويجوز أن يكون « فيها » - وحده - هو الصفة ، و « صِرٌّ » فاعل له - وجاز ذلك؛ لاعتماد الجار على الموصوف - وهذا أحسن؛ لأن الأصل في الأوصاف : الإفراد ، وهذا قريب منه .
والصِّرّ : قال ابْنُ عبَّاسٍ ، وقَتَادَةُ ، والسُّدِّيُّ ، وابْنُ زَيْدٍ ، وأكثر أهل اللغة : إنه البرد الشديد ، المحْرِق .
قال الشاعر : [ البسيط ]
1578- لا تَعْدِلِينَ أتَاوِيِّينَ تَضْربُهُمْ ... نَكْبَاءُ صِرٌّ بِأصْحَابِ الْمُحِلاَّتِ
وقيل : الصِّرُّ بمعنى : الصرصر - وهو البرد- .
قالت ليلى الأخيلية : [ الطويل ]
1579- وَلَمْ يَغْلِبِ الْخَصْمَ الألَدَّ وَيَمْلأ الْ ... جِفَانَ سَرِيعاً يَوْمَ نَكْبَاءَ صَرْصَرِ
مأخوذ من الشد والتعقيد ، ومنه الصُّرَّة - للعُقْدة - وأصَرَّ على كذا : لَزِمَه .
وقال أبُو بَكْرٍ الأصَمُّ ، وابْنُ الأنْبَارِي : هي السَّمُومُ الحَارَّة .
وقال الزجاج : الصَّرْصَر : صوت لهيب النار - في الريح - من صَرَّ الشيءُ ، يَصِرُّ ، صَريراً - أي : صَوَّت بهذا الحِسِّ المعروف ، ومنه صرير الباب ، والصرة : الصيحة ، قال تعالى : { فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ } [ الذاريات : 29 ] .
وروى ابْنُ الأنْبَارِيِّ - بإسناده - عن ابْنِ عَبَّاسٍ ، في قوله : { فِيهَا صِرٌّ } قال : فيها نار . وعلى القولين ، فالمقصود من التشبيه حاصل؛ لأنه - سواء كان بَرْداً مُهْلِكاً ، أو حَرًّا مُحْرِقاً - يبطل الحرث والزرع ، وإذا عُرِف هذا ، فإن قلنا : الصِّرّ : البَرْد الشديد ، أو هو صوت النار ، أو هو صوت الريح ، فَظَرْفِيَّة الريح له واضحة ، وإن كان الصِّرُّ صفة الريح - كالصرصر - فالمعنى : فيها قِرَّة صر - كما تقول : برد بارد - وحُذِفَ الوصوف ، وقامت الصفة مقامه ، أو تكون الظرفية مجازاً جعل الموصوف ظرفاً للصفة .
كقوله : [ الوافر ]
1580- .. وَفِي الرَّحْمَنِ لِلضُّعَفَاءِ كَافِي
ومنه قوله : إن ضيعني فلان ، ففي الله كافٍ ، المعنى : الرحمن كافٍ ، الله كافٍ ، وهذا فيه بُعْد .
قوله : « أصَابَتْ » هذه الجملة في محل جَرّ - أيضاً - صفة ل « رِيح » .
ولا يجوز أن يكون صفة ل « صر » ؛ لأنه مذكَّر ، وبدأ أولاً بالوَصْف بالجار؛ لأنه قريب من المفرد ، ثم بالجملة ، هذا إن أعربنا « فِيهَا » - وحده - صفة ، ورفعنا به « صِرٌّ » ، أما إذا أعربناه خبراً مقدماً ، أو « صِرٌّ » مبتدأ ، فهما جملة - أيضاً- .
قوله : { ظَلَمُوا } صفة ل « قوم » ، والضمير في { ظَلَمَهُمُ } يعود على القوم ذوي الحرث ، أي : ما ظلمهم الله بإهلاك حرثهم ، ولكنهم ظلموا أنفسهم بارتكابهم المعاصي التي كانت سبباً في إهلاكهم؛ أو لأنهم زرعوا في غير موضع الزرع ، أو في غير وقته؛ لأن الظلم : وضع الشيء في غير موضعه ، وبهذا يتأكد وَجْه الشبه؛ لأن الزرع - لا في موضعه ، ولا في وقته - يضيع ، ثم أصابته الريح الباردة ، فكان أولى بالضياع ، وكذا - هاهنا - الكفار لما أتَوْا بالإنفاق لا في موضعه ولا في وقته ثم أصابه شؤمُ كُفْرِهم ، فصار ضائعاً ، والله أعلم .
وجوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ وغيره : أن يعود الضمير على المنفقين ، وإليه نَحَا ابْنُ عَطِيَّةَ ، ورجحه بأن أصحاب الحرث لم يُذْكَروا للرد عليهم ، ولا لتبيين ظلمهم ، بل لمجرد التشبيه .
وقوله : { ولكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } العامَّة على تخفيف « لكن » ، وهي استدراكية ، و « أنْفُسَهُمْ » مفعول مقدَّم ، قُدِّم للاختصاص ، أي : لم يقع وبالُ ظلمهم إلاَّ بأنفسهم خاصَّة ، لا يتخطاهم ، ولأجل الفواصل - أيضاً - .
وقرأها بعضُهم مشدَّدة ، ووجهها أن تكون « أنْفُسَهُمْ » اسمها ، و « يَظْلِمُونَ » الخبر ، والعائد من الجملة الخبريَّة على الاسم محذوف ، تقديره : ولكن أنفسهم يظلمونها ، فحذف ، وحسَّنَ حذفَه كَوْنُ الفعلِ فاصلة ، فلو ذكر مفعوله ، لفات هذا الغرض .
وقد خرجه بعضهم على أن يكون اسمها ضمير الأمر والقصة - حُذِفَ للعلم به ، و « أنْفُسَهُمْ » مفعول مقدم ل « يَظْلِمُونَ » كما تقدم والجملة خبر لها .
وقد رُدَّ هذا بأن حذف اسم هذه الحروف لا يجوز إلا ضرورة .
كقوله : [ الخفيف ]
1581- إنَّ مَنْ يَدْخُلِ الْكَنِيسَةَ يَوْماً ... يَلْقَ فِيهَا جَآذِراً وَظِبَاءَ
على أن بعضهم لا يُقصره على الضرورة ، مستشهداً بقوله - عليه السلام- : « إنَّ مِنْ أشَدِّ النَّاسِ عَذَاباً يَوْمَ القِيَامَةِ المُصَوِّرون » .
قال : تقديره : إنه ، ويعزى هذا للكسائي .
وقد ردَّه بعضُهم ، وخرَّج الحديثَ على زيادة « من » والتقدير : إن أشد الناس .
والبصريون لا يُجِيزون زيادة « من » في مثل هذا التركيب لما تقدم وإنما يُجيزها الأخفش .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)
لما شرح أحوالَ المؤمنين والكافرين ، شرع في تحذير المؤمنين عن مخالطة الكافرين ، وأكد الزجر عن الركون إلى الكُفار ، وهو مُتَّصل بما سبق من قوله : { إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } [ آل عمران : 100 ] .
قوله : { مِّن دُونِكُمْ } يجوز أن يكون صفةً ل « بِطَانَةً » ، فيتعلق بمحذوف ، أي : كائنة من غيركم .
وقدره الزمخشريّ : من غير أبناء جنسكم وهم المسلمون .
ويجوز أن يتعلق بفعل النهي ، وجوَّز بعضُهم أن تكون « من » زائدة ، والمعنى : دونكم في العمل والإيمان .
وبطانة الرجل : خاصَّته الذين يُبَاطنهم في الأمور ، ولا يُظْهِر غيرَهم عليها ، مشتقة من البطن ، والباطن دون الظاهر ، وهذا كما استعاروا الشعارَ والدِّثار في ذلك ، قال صلى الله عليه وسلم : « النَّاسُ دثار ، والأنْصَارُ شِعَار » .
والشعَارُ : ما يلي الجسد من الثياب . ويقال : بَطَنَ فلانٌ بفلانٍ ، بُطُوناً ، وبِطَانة .
قال الشاعر : [ الطويل ] .
1582- أولَئِكَ خُلْصَانِي ، نَعَمْ وَبِطَانَتِي ... وَهُمْ عَيْبَتِي مِنْ دُونِ كُلِّ قَرِيبِ
فالبطانة مصدر يُسمَّى به الواحد والجمع ، وأصله من البطن ، ومنه : بطانة الثوب غير ظهارته .
فإن قيل : قوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً } نكرة في سياق النفي ، فيقتضي العموم في النهي عن مصاحبة الكفار ، وقد قال تعالى : { لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ } [ الممتحنة : 8 ] فكيف الجمع فيهما .
فالجواب : أن الخاص مقدَّم على العام .
قوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ } لما منع المؤمنين من أن يتخذوا بطانة من الكافرين ذَكَر علَّة النهي ، وهي أمور :
أحدها : قوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } يقال : ألا في الأمر ، يَألُو فيه ، أي : قصَّر - نحو غزا يغزو - فأصله أن يتعدى بحرف الجر كما ترى . واختلف في نصب « خَبَالاً » على وجوه :
أحدها : أنه مفعول ثانٍ ، وإنما تعدَّى لاثنين؛ للتضمين .
قال الزمخشري : يقال : ألا في الأمر ، يألو فيه - أي : قصَّر - ثم استُعْمِل مُعَدًّى إلى مفعولين في قولهم : لا آلوك نُصْحاً ، ولا آلوك جُهْداً ، على التضمين ، والمعنى : لا أمنعك نُصْحاً ولا أنقُصُكَهُ .
الثاني : أنه منصوب على إسقاط الخافض ، والأصل : لا يألونكم في خبال ، أو في تخبيلكم ، أو بالخبال ، كما يقال : أوجعته ضرباً ، وهذا غير منقاسٍ ، بخلاف التضمين؛ فإنه ينقاس ، وإن كان فيه خلافٌ واهٍ .
الثالث : أن ينتصب على التمييز ، وهو - حينئذ - تمييز منقول من المفعولية ، والأصل : لا يألون خبالكم ، أي : في خبالكم ، ثم جعل الضمير - المضاف إليه - مفعولاً بعد إسقاط الخافض فنُصِبَ الخبال - الذي كان مضافاً - تمييزاً ، ومثله قوله : { وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً } [ القمر : 12 ] على أن « عُيُوناً » بدل بعض من كل ، وفيه حذف العائد ، أي : عيوناً منها ، وعلى هذا التخريج ، يجوز أن يكون « خَبَالاً » يدل اشتمال من « كم » والضمي ر أيضاً محذوف أي : « خبالاً منكم » وهذا وَجْه رابع .
الخامس : أنه مصدر في موضع الحال ، أي : متخبلين .
السادس : قال ابْنُ عَطِيَّةَ : معناه : لا يقصرون لكم فيما فيه الفساد عليكم .
فعلى هذا - الذي قدره - يكون المضمر ، و « خَبَالاً » منصوبين على إسقاط الخافض ، وهو اللام ، وهذه الجملة فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها جُمْلة استئنافية ، لا محل لها من الإعراب ، وإنما جِيءَ بها ، وبالجُمَل التي بعدها ، لبيان حال الطائفة الكافرة ، حتى ينفروا منها ، فلا يتخذوها بطانة ، وهو وجه حسن .
الثاني : أنها جملة في موضع نصب؛ حال من الضمير المستكن في « دُونِكُمْ » على أن الجار صفة لبطانة .
الثالث : أنها في محل نصب؛ نعتاً ل « بِطَانةً » - أيضاً- .
والألْو - بزنة الغزو - التقصير - كما تقدم- .
قال زهير : [ الطويل ]
1583- سَعَى بَعْدَهُمْ قَوْمِي لِكَيْ يُدْرِكُوهُمُ ... فَلَمْ يَفْعَلُوا ، وَلَم يُليمُوا ، وَلَمْ يَأْلُوا
وقال امرؤ القيس : [ الطويل ]
1584- وَمَا المَرْءُ مَا دَامَتْ حُشَاشَةُ نَفْسِهِ ... بِمُذْرِكِ أطْرَافِ الخُطُوبِ وَلاَ آلِي
يقال : آلَى ، يُولِي - بزنة أكرم ، فأبدِلَت الهمزةُ الثانية ألفاً .
وأنشدوا : [ الوافر ]
1585- .. فَمَا آلَى بَنِيَّ وَلاَ أسَاءُوا
ويقال : ائتلَى ، يأتلي - بزنة اكتسب يكتسب- .
قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
1586- ألاَ رُبَّ خَصْمٍ فِيَكِ ألْوَى رَدَدْتُهُ ... نَصِيحٍ عَلَى تَعْذَالِهِ غَيْرِ مُؤْتَلِي
فيتحد لفظ آلى بمعنى قصَّر ، وآلى بمعنى حَلفَ - وإن كان الفرق بينهما ثابتاً من حيث المادة؛ لأن لامه من معنى الحلف ياء ، ومن معنى التقصير واو .
قال الراغب : وألَوْتُ فلاناً ، أي : أوْليته تقصيراً - نحو كسبته ، أي : أوْليته كَسْباً - وما ألوته جهداً ، أي : ما أوليته تقصيراً بحسب الجهد ، فقولك : جهداً ، تمييز .
وقوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } [ آل عمران : 118 ] أي : لا يُقَصِّرون في طلب الخبال ، ولا يدعون جهدهم في مضرتكم ، قال تعالى : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ } [ النور : 22 ] .
قيل : هو « يفتعل » من ألوت .
وقيل : هو من آليت ، أي : حلفت .
والخبال : الفساد ، وأصله ما يلحق الحيوان من مَرَض ، وفتور ، فيورثه فساداً واضطراباً ، يقال منه : خبله وخَبَّله - بالتخفيف والتشديد ، فهو خابل ، ومُخَبَّل ، ومخبول ، والمخبل : الناقص العقل ، قال تعالى : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } [ التوبة : 47 ] ، ويقال : خَبْل ، وخَبَل ، وخَبَال وفي الحديث : « مَنْ شَرِبَ الَْمْرَ ثَلاَثاً كَانَ حَقًّا على اللهِ أن يَسقيه مِنْ طِينَةِ الخَبَالِ » .
وقال زهير بن أبي سُلْمى : [ الطويل ]
1587- هُنَالِكَ إنْ يُسْتَخْبَلُوا الْمَالَ يُخْبِلُوا ... وَإنْ يُسْألُوا يُعْطُوا ، وَإن يُيْسِرُوا يُغْلُوا
والمعنى في هذا البيت : أنهم إذا طُلِب منهم إفساد شيء من إبلهم أفسدوه ، وهذا كناية عن كرمهم .
فصل
قال ابنُ عبَّاسٍ : كان رِجَالٌ من المُسْلِمِينَ يُوَاصِلُونَ اليَهُودَ؛ لما بينهم من القَرَابةِ ، والصداقة ، والحِلْف ، والجوار ، والرضاع ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ينهاهم فيها عن مباطنتهم .
قال مجاهد : نزلت في قوم من المؤمنين ، كانوا يواصلون المنافقين ، فنهاهم الله عن ذلك ، ويؤيِّد هذا القولَ ما ذكره بعد في قوله : { وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ } [ آل عمران : 119 ] وهذه صفة المنافقين .
وقيل : أراد جميع الكفار .
والعنت : شدة الضرر والمشقة ، قال تعالى : { وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ } [ البقرة : 220 ] ، وقد تقدم اشتقاقه .
قوله : { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } هذه العلة الثانية ، وفي هذه الجملة ثلاثة أوجه :
أحدها : وهو الأظهر - أن تكون مستأنفة ، لا محل لها من الإعراب - كما هو الظاهر في التي قبلها .
والثاني : أنها نعت ل « بِطَانَةً » فمحلُّها نصب .
قال الواحدي : « ولا يصح هذا؛ لأن البطانة قد وُصِفَت بقوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } ، ولو كان هذا صفة - أيضاً- ، لوجب إدخال حرف العطف بينهما » .
والثالث : أنها حال من الضمير في « يَألونَكُمْ » ، و « ما » مصدرية ، و « عَنِتُّمْ » صلتها ، وهي وصلتها مفعول الودادة ، أي : عنتكم ، أي : مقتكم .
وقال الراغب : « المعاندة ، والمعانتة ، يتقاربان ، لكن المعاندة هي الممانعة ، والمعانتة : أن يتحرى مع الممانعة المشقة » .
والفرق بين قوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } ، وقوله : { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } ، في المعنى من وجوه :
الأول : لا يقصرون في إفساد دينكم ، فإن عجزوا عنه ، ودُّوا إلقاءكم في أشد أنواع الضرر .
الثاني : لا يقصرون عن إفساد أموركم ، فإن لم يفعلوا ذلك؛ لمانعٍ ، فحُبّه في قلوبهم .
الثالث : لا يقصرون في إفساد أموركم في الدنيا ، فإن عجزوا عنه لمانع لم يزل عن قلوبهم حب إعناتكم .
قال القُرْطُبِيُّ : « وقد انقلبت هذه الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كَتَبَةً وأمَنَاءَ ، وتسوَّدوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء » .
وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبِيٍّ ، وَلاَ اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيْفَةٍ إِلاَّ كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ : بِطَانَةٌ تَأمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ ، وتَحُضُّهُ عَلَيهِ ، وبِطَانَةٌ تَأمُرُهُ بِالشَّرِ ، وَتَحُضُّهُ عَلَيهِ ، فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللهُ تعالى » .
وروى أنس بن مالك قال : قال صلى الله عليه وسلم : « لاَ تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ المُشْرِكِينَ ، وَلاَ تَنْقُشُوا فِي خَواتِيمكُمْ غريباً » .
وفسره الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ ، فقال : أراد صلى الله عليه وسلم لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم ، ولا تنقشوا في خواتيمكم محمداً .
قال الحَسَنُ : وتصديق ذلك في كتاب الله - عز وجل- : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ } الآية .
العلة الثالثة : قوله : { قَدْ بَدَتِ البغضآء } هذه الجملة كالتي قبلها ، وقرأ عبد الله « بَدَا » - من غير تاء - لأن الفاعل مؤنَّث مجازيّ؛ ولأنها في معنى البغض ، والبغضاء : مصدر - كالسراء والضراء - يقال منه : بَغُضَ الرجل ، فهو بغيض ، كظَرُفَ فهو ظَرِيفٌ .
قوله : { مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } متعلق ب « بَدَتْ » و « مِنْ » لابتداء الغاية ، وجوَّز ابو البقاء أن يكون حالاً ، أي : خارجة من أفواههم ، والأفواه : جمع فَم ، وأصله فوه ، فلامه هاء ، يدل على ذلك جمعه على أفواه ، وتصغيره على « فُوَيْه » ، والنسب إليه على فوهي ، وهل وزنه فَعْل - بسكون العين- أو « فَعَل » - بفتح العين-؟ خلاف للنحويين ، ثم حذفوا لامه تخفيفاً ، فبقي آخرهُ حرف علة ، فأبدلوه ميماً؛ لقُرْبهِ منها؛ لأنهما من الشفة ، وفي الميم هُوِيٌّ في الفم يضارع المد الذي في الواو .
وهذا كله إذا أفردوه عن الإضافة ، فإن أضافوه لَمْ يُبْدلوا حرفَ العلة .
كقوله : [ البسيط ]
1588- فَوهٌ كَشقِّ الْعَصَا لأْياً تُبَيِّنُهُ ... أسَكُّ مَا يَسْمَعُ الأصْوَاَ مَضلُومُ
عكس الأمر في الطرفين ، فأتى بالميم في حال الإضافة ، وبحرف العلة في القطع عنها . فمن الأول قوله : [ الرجز ]
1589- يُصْبِحُ ظَمْآنَ وَفِي الْبَحْرِ فَمُهُ ... وخصَّه الفارسيُّ وجماعة بالضرورة ، وغيرهم جوَّزه سعة ، وجعل منه قوله : « لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك » .
ومن الثاني قوله : [ الرجز ]
1590- خَالَطَ مِنْ سَلْمَى خَيَاشِيمَ وَفَا ... أي : وفاها ، وإنما جاز ذلك؛ لأن الإضافة كالمنطوق بها .
وقالت العرب : رجل مفوَّه - إذا كان يجيد القولَ - وأَفْوَه : إذا كان واسعَ الفم .
قال لبيد : [ الوافر ]
1591- . . ... وَمَا فَاهُوا بِهِ أبَداً مُقِيمُ
وفي الفم تسع لغات ، وله أربع مواد : ف م ه . ف م و . ف م ي . ف م م؛ بدليل أفواه ، وفموين ، وفميين ، وأفمام .
فصل
{ قَدْ بَدَتِ البغضآء } أي : ظهرت علامة العداوة من أفواههم .
فإن حملناه على المنافقين ، فمعناه أن يجري في كلامه ما يدل على نفاقه ، وعدم الود والنصيحة ، كقوله : { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول } [ محمد : 30 ] ، أو بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين ، والكفَّار ، لإطلاع بعضهم بعضاً على ذلك .
وإن حملناه على اليهود فمعناه : أنهم يُظهرون تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم والكتاب ، وينسبونه إلى الجهل . وإن حَمَلْناه على الكُفَّار ، فمعنى البغضاء الشتيمة و الوقيعة في المسلمين .
فصل
قال القُرْطُبِيُّ : « وفي هذه الآية دليل على أن شهادةَ العدو على عدوِّه لا تجوز ، وبذلك قال أهل المدينة وأهل الحجاز ، ورُوِيَ عن أبي حنيفةَ جوازُ ذلك .
وحكى ابن بطّال عن ابن شعبان أنه قال : أجمع العلماء على أنه لا تجوز شهادة العدو على عدوه في شيء ، وإن كان عَدْلاً - والعداوة تُزيل العدالة ، فكيف بعداوة الكافر » .
قوله : { وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } يجوز أن تكون « ما » بمعنى : الذي ، والعائد محذوف - أي : تخفيه فحذف - وأن تكون مصدرية - أي : وإخفاء صدورهم - وعلى كلا التقديرين ، ف « ما » مبتدأ و « أكبر » خبره ، والمفضَّل عليه محذوف ، أي : أكبر من الذي أبدَوْهُ بأفواههم .
قوله : { إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } شرط ، حذف جوابه ، لدلالة ما تقدم عليه ، أو هو ما تقدم - عند من يرى جوازه- .
والمعنى : إن كنتم من أهل العقل ، والفهم ، والدراية .
وقيل : إن كنتم تعقلون الفَصْل بين ما يستحقه الولِيّ والعدُوّ ، والمقصود منه : استعمال العقل في تأمل هذه الآيات ، وتدبُّر هذه البينات .
قوله تعالى : { هَآأَنْتُمْ أولااء تُحِبُّونَهُمْ } قد تقدم نظيره .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : « ها » للتنبيه ، و « أنْتُمْ » مبتدأ و « أولاءِ » خبره ، و « تُحِبُّونَهُمْ » في موضع نصب على الحال من اسم الإشارة .
ويجوز أن يكون « أولاء » بمعنى : الذي ، و « تُحِبُّونَهُمْ » صلة له ، والموصول مع الصلة خبر .
قال الفرَّاء : « أولاَءِ » خبر ، و « يحبونهم » خبر بعد خبر .
ويجوز أن يكون « أولاء » في موضع نصب بفعل محذوف ، فتكون المسالة من باب الاشتغال ، نحو : أنا زيداً ضربته .
قوله : { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } يحتمل أن يكون استئناف إخبار ، وأن يكون جملة حالية .
فصل
قال المُفَضَّل : « تحبّونهم » تريدون لهم الإسلام ، وهو خير الأشياء ، و { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } ، فإنهم يريدون بقاءكم على الكفر ، وهو يوجب الهلاك .
وقيل : { يُحِبُّونَهُمْ } بسبب ما بينكم وبينهم من القرابة ، والرضاع ، و المصاهرة ، { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } لأجل الإسلام .
وقيل : { تُحِبُّونَهُمْ } بسبب إظهارهم لكم الإسلام { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } بسبب أن الكفر مستغرق في قلوبهم .
وقال أبُو العَالِيَةِ ، ومُقَاتِلٌ : المحبة - هاهنا - بمعنى : المصافاة ، أي : أنتم - أيها المؤمنون - تصافونهم ، ولا يصافونكم؛ لنفاقهم .
وقال الأصمّ : { تُحِبُّونَهُمْ } بمعنى : أنكم لا تريدون إلقاءهم في الآفات ، والمحن ، { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } بمعنى : أنهم يريدون إلقاءكم في الآفات والمِحَن ، ويتربصون بكم الدوائر .
وقيل : { تُحِبُّونَهُمْ } بسبب أنهم يُظهرون لكم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يبغضون الرسول ، ومحب المبغوض مبغوض .
وقيل : { تُحِبُّونَهُمْ } أي : تخالطونهم ، وتُفشون إليهم أسرارَكم في أمور دينكم { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } أي : لا يفعلون ذلك بكم .
قوله : { وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ } يجوز أن تكون الألف واللام - في الكتاب - للجنس ، والمعنى : بالكتب كلها ، فاكتفى بالواحد .
وقيل : أفرد الكتاب؛ لأنه مصدر ، فيجوز أن يُسَمَّى به الجمع .
وقيل : إن المصدر لا يُجْمَع إلا على التأويل ، فلهذا لم يَقُل : الكتب - بدلاً من الكتاب- ، وإن كان لو قاله لجاز ، توسعاً .
ويجوز أن يكون للعهد ، والمراد به : كتاب مخصوص .
وهنا جملة محذوفة ، يدل عليها السياق ، والتقدير : { وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ } ، وهم لا يؤمنون بكتابكم ، وحَسُنَ العطفُ ، لما تقدم من أن ذكر أحد الضدين يُغْني عن ذِكْر الآخر ، وتقدير الكلام : أنكم تؤمنون بكتبهم كلها ، وهم - ممع ذلك - يبغضونكم ، فما بالكم - مع ذلك - تحبونهم ، وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم؟ .
وفيه تنبيخ شديد بأنهم - في باطلهم - أصلب منكم في حقكم .
قوله : { وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ } ومعناه : إذا خَلاَ بعضهم ببعض أظهروا شدة العداوة ، وشدة الغيظ على المؤمنين ، حتى تبلغ الشدة إلى عَضِّ الأنامل ، كما يفعل الإنسان - إذا اشتد غيظه ، وعَظُم حُزنه - على فَوْت مطلوبه ، ولمَّا كَثُر هذا الفعلُ من الغضبان صار ذلك كناية عن الغضب ، وإن لم يكن هناك عض .
قوله : { عَلَيْكُمْ } متعلق ب « عَضُّوا » ، وكذلك { مِنَ الغيظ } و « مِنْ » فيه لابتداء الغاية ، ويجوز أن يكون بمعنى اللام ، فيفيد العِلِّيَّةَ - اي : من أجل الغيظ- .
وجوز أبو البقاء - في « عَلَيْكُمْ » ، وفي { مِنَ الغيظ } - أن يكونا حالين ، فقال : « ويجوز أن يكون حالاً ، أي : حنقين عليكم من الغيظ . { و مِنَ الغيظ } متعلق ب » عَضُّوا « أيضاً ، و » مِنْ « لابتداء الغاية ، أي : من أجل الغيظ ، ويجوز أن يكون حالاً ، أي : مغتاظين » . انتهى .
وقوله : و « من » لابتداء الغاية - أي : من أجل الغيظ كلام متنافر؛ لأن التي للابتداء لا تفسَّر بمعنى : « من أجل » ، فإنه معنى العلة ، والعلة والابتداء متغايران ، وعلى الجملة ، فالحالية - فيهما - لا يظهر معناها ، وتقديره الحال ليس تقديراً صناعيًّا؛ لأن التقدير الصناعي إنما يكون بالأكوان المطلقة .
والعَضّ : الأزم بالأسنان ، وهو تحامُل الأسنان بعضها على بعض ، يقال : عَضِضْتُ قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
1592- . ... كَفَحْلِ الْهِجَانِ يَنْتَحِي لِلْعَضِيضِ
جعل الباء زائدة في المفعول؛ إذ الأصل : يعضون خلفنا الأنامل .
وقال آخر : [ المتقارب ]
1594- قَدَ افْنَى أنَامِلَهُ أزْمُهُ ... فَأضْحَى يَعَضُّ عَلَيَّ الْوَظِيفَا
وقال الحارث بن ظالم المري : [ الطويل ]
1595- وَأقْتُلُ أقْوَاماً لِئاماً أذِلَّةً ... يَعُذُّونَ مِنْ غَيْظٍ رُءُوسَ الأبَاهِمِ
وقال آخر : [ البسيط ]
1596- إذَا رَأوْنِي - أطَالَ اللهُ غَيْظَهُمُ ... عَضُّوا مِنَ الْغَيظِ أطْرَافَ الأبَاهِيمِ
والعَضّ كله بالضاد ، إلا في قولهم : عَظَّ الزمان - أي : اشتد - وعظت الحرب ، فإنهما بالظاء - أخت الطاء- .
قال الشاعر : [ الطويل ]
1597- وَعَظُّ زَمَانٍ - يَا بْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ ... مِنَ الْمَالِ إلاَّ مُسْحَتاً أوْ مُجَلَّفُ
قال شهاب الدين : « وقد رأيته بخط جماعة من الفضلاء : وعضُّ زمان - بالضاد » .
والعُضُّ - بضم الفاء - عَلَف من نوًى مرضوض وغيره ، ومنه : بَعير عُضَاضِيّ - أي : سمين - كأنه منسوب إليه ، وأعَضَّ القومُ - إذا أكلت إبلُهم ذلك ، والعِضّ - بكسر الفاء - الرجل الداهية ، كأنهم تصوروا عَضَّه وشدته .
وزمن عضوض - أي : جدب ، والتَّعْضوض : نوع من التمر ، سُمِّيَ بذلك لشدة مضغه وصعوبته .
والأنامل : جمع أنملة - وهي رؤوس الأصابع .
قال الرُّماني : واشتقاقها من النمل - هذا الحيوان المعروف - شبهت به لدقتها ، وسرعة تصرفها وحركتها ، ومنه قالوا للنمام : « نمل ومنمل » لذلك .
قال الشاعر : [ المتقارب ]
1598- وَلَسْتُ بِذِي نَيْرَبٍ فِيهِمُ ... وَلاَ مُنْمِشٍ فيهِمُ مُنْمِلِ
وفي ميمها الضم والفتح .
والغيظ : مصدر غاظه ، يغيظه- أي : أغضبه - . وفسره الراغب بأنه أشد الغضب ، قال : وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من ثوران دَمِ قلبه . وإذا وصف به الله تعالى ، فإنما يراد به الانتقام . والتغيظ : إظهار الغيظ ، وقد يكون مع ذلك صوت ، قال تعالى : { سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } [ الفرقان : 12 ] ، والجملة من قوله : { وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ } معطوفة على { تُحِبُّونَهُمْ } ، ففيها ما فيها من الأوجه المعروفة .
قال الزمخشري : والواو في { وَتُؤْمِنُونَ } للحال ، وانتصابها من { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } أي : لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابكم كله ، وهم - مع ذلك - يبغضونكم ، فما بالكم تحبونهم ، وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم .
قال أبو حيان : « وهو حسن ، إلا أن فيه من الصناعة النحوية ما يخدشه ، وهو أنه جعل الواو في { وَتُؤْمِنُونَ } للحال ، وانتصابها من { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } والمضارع المثبت - إذا وقع حالاً - لا تدخل عليه واو الحال ، تقول : جاء زيد يضحك ، ولا يجوز : ويضحك ، فأما قولهم : قمت وأصُكُّ عينه ، ففي غاية الشذوذ ، وقد أوِّل على إضمار مبتدأ ، أي : وأنا أصُكّ عينه ، فتصير الجملة اسمية ، ويحتمل هذا التأويل هنا : ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتاب كله ، لكنَّ الأولَى ما ذكرنا من كونها للعطف » .
يعني : فإنه لا يُحْوِج إلى حَذْف ، بخلاف تقديره مبتدأ ، فإنه على خلاف الأصل .
قوله : { قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ } يجوز أن تكون الباء للحال ، أي : موتوا ملتبسين بغيظكم لا يزايلكم ، وهو كناية عن كثرة افسلام وفُشوِّه؛ لأنه كلما ازداد الإيمان ازداد غيظهم ، ويجوز أن تكون للسببية أي : بسبب غَيْظكم ، وليس بالقويّ .
وقوله : { مُوتُواْ } صورته أمر ومعناه الدعاء ، فيكون دُعَاءً عليهم بأن يزداد غَيْظُهم ، حتى يهلكوا به ، والمراد من ازدياد الغيظ : ازدياد ما يوجب لهم ذلك الغيظ من قوة الإسلام ، وعِزِّ أهْلِه ، وما لهم في ذلك من الذُّلِّ ، والخِزْي ، والعار .
وقيل : معناه الخبر ، أي : أن الأمر كذلك .
وقد قال بعضهم : إنه لا يجوز أن يكون بمعنى : الدعاء؛ لأنه لو كان أمره بأن يدعو عليهم بذلك لماتوا جميعاً على هذه الصفة؛ فإنَّ دعوته لا ترد ، وقد آمن منهم كثيرون بعد هذه الآيةِ ، [ وليس بخبر ] ؛ لأنه لو كان خبراً لوقع على حكم ما أخبره ، ولم يؤمن أحدٌ بعدُ ، وإذا انتفى هذان المعنيان فلم يَبْقَ إلا أن يكون معناه التوبيخ ، والتهديد ، كقوله تعالى : { اعملوا مَا شِئْتُمْ } [ فصلت : 40 ] و « إذَا لَمْ تَسءتَحْي فاصْنَعْ مَا شِئْتَ » .
وهذا - الذي قاله - ليس بشيء؛ لأن مَنْ آمن منهم لم يدخل تحت الدعاء - إن قُصِد به الدعاء - ولا تحت الخبر ، إن قُصِد به الإخبار .
قوله : { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة ، أخبر - تعالى - بذلك؛ لأنهم كانوا يُخفون غيظَهم ما أمكنهم ، فذكر ذلك لهم على سبيل الوعيد ، ويحتمل أن يكون من جملة المقول ، أي : قُلْ لهم : كذا ، وكذا ، فيكون في محل نصب بالقول ، ومعنى قوله : { بِذَاتِ } أي : باملُضْمَرات ، ذوات الصدور ، ف « ذَات » - هنا - تأنيث « ذي » بمعنى صاحب؛ فحُذِف الموصوف ، وأقيمت صفته مقامه ، أي : عَلِيمٌ بالمضمرات صاحبة الصدُور ، و « ذو » جعلت صاحبة للصدور لملازمتها لها ، وعدم انفكاكها عنها ، نحو أصحاب النار ، وأصحاب الجنة .
والمراد بذات الصدور : الخواطر القائمة بالقلب من الدواعهي ، و الصوارف الموجودة فيه .
واختلفوا ف يالوقف على هذه اللفظة ، هل يوقف عليها بالتاء ، أو بالهاء؟ .
فقال الأخفش ، والفَرَّاءُ ، وابن كيسان : الوقف عليها بالتاء اتباعاً لرسم المصحف .
وقال الكسائي ، والجَرْمِيّ : يوقف عليها بالهاء ، لأنها تاء تأنيث ، كهي في صاحبة ، وموافقة الرسم أوْلَى؛ فإنَّهُ قد ثبت لنا الوقف على تاء التأنيث الصريحة بالتاء ، فإذا وقفنا - هنا - بالتاء ، وافقنا تلك اللغة ، والرسم ، بخلاف عكسه .
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
قرأ العامة { تَسُؤْهُمْ } ، بالتأنيث؛ مراعاةً للفظ « حَسَنَةٌ » .
وقرأ أبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بالياء من تحت؛ لأنّ تأنيثها مجازيّ ، وقياسه أن يقرأ « وَإن يصبكم سَيئةٌ » بالتذكير - أيضاً - لكن لم يبلغنا عنه في ذلك شيء .
والمس : أصله باليد ، ثم يُسَمَّى كل ما يصل غلى الشيء ماسًّا ، على سبيل التشبيه ، يقال : فلان مسَّه العصب والنصب ، قال تعالى : { وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } [ ق : 38 ] .
وقال الزمخشري : المسّ مستعار هاهنا بمعنى : الإصابة ، قال تعالى : { إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ } [ التوبة : 50 ] .
وقال : { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [ النساء : 79 ] .
والمراد بالحسنة - هنا : منفعة الدنيا ، من صحة البدن ، وحصول الخِصْب والغنيمة ، والاستيلاء على الأعداء ، وحصول الألْفَة والمحبة بين المؤمنين .
والمراد بالسيِّئَة : اضدادها ، والسيئة : من ساء الشيء يَسيءُ - فهو سيِّءٌ ، والأنْثَى سيئة - أي : قبح ، ومنه قوله تعالى { سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ } [ المائدة : 66 ] ، و السوء ضد الحسن ، وهذه الآية من تمام وَصْف المنافقين .
فصل
قال ابو العباس : وردت الحسنةُ على خمسةِ أوجُه :
الأول : بمعنى : النصر والظفَر ، قال تعالى : { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ } [ آل عمران : 120 ] أي : نَصْر وَظفَر .
الثاني : بمعنى : التوحيد ، قال تعالى : { مَن جَآءَ بالحسنة } [ الأنعام : 160 ] أي : بالتوحيد .
الثالث : الرَّخَاء : قال تعالى : { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله } [ النساء : 78 ] أي : رخاء .
الرابع : بمعنى : العاقبة ، قال تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة } [ الرعد : 6 ] أي بالعذاب قبل العاقبةِ .
الخامس : القول بالمعروف ، قال تعالى : { وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة } [ الرعد : 22 ] أي : بالقول المعروف .
فصل
والسيئة - أيضاً - على خمسة أوجه :
الأول : بمعنى : الهزيمة - كما تقدم - كقوله : { وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا } [ آل عمران : 120 ] أي : هزيمة .
الثاني : الشرك ، قال تعالى : { وَمَن جَآءَ بالسيئة } [ الأنعام : 160 ] أي : بالشرك .
الثالث : القحط ، قال تعالى : { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ } [ النساء : 78 ] أي : قحط ، ومثله قوله : { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ } [ الأعراف : 131 ] .
الرابع : العذاب ، قال تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة } [ الرعد : 6 ] .
الخامس : القول الرديء ، قال تعالى : { وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة } [ الرعد : 22 ] .
قوله : { وَإِن تَصْبِرُواْ } أي : على طاعة الله ، وعلى ما ينالكم فيها من شدة ، وغَمٍّ ، { وَتَتَّقُواْ } كلَّ ما نهاكم عنه ، { لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ } .
قرأ نافع وابنُ كثير وأبو عمرو : « يَضُرْكُمْ » بكسر الضاد ، وجزم الراء في جواب الشرط ، من ضاره يضيره ويقال - أيضاً - : ضاره يضوره ، ففي العين لغتان ، ويقال ضاره يضيره ضَيْراً ، فهو ضائر ، وهو مضير ، نحو : قلته أقوله ، فأنا قائل ، وهو مقول .
وقرأ الباقون : { يَضُرُّكُمْ } بضم الضاد ، وتشديد الراء مرفوعة ، وفي هذه القراءة أوجه :
الأول : أن الفعل مرتفع ، وليس بجواب للشرط ، وإنما هو دالٌّ على جواب الشرط ، وذلك أنه على نية التقديم؛ إذ التقدير : لا يضركم إن تصبروا وتتقوا ، فلا يضركم ، فحذف فلا يضركم الذي هو الجواب ، لدلالة ما تقدم عليه ، ثم أخر ما هو دليل على الجواب ، وهذا تخريج سيبويه وأتباعه ، إنما احتاجوا إلى ارتكاب ذلك ، لما رأوا من عدم الجزم في فعل مضارع لا مانع من إعمال الجزم ، ومثله قول الراجز :
1599- يا أقْرَعُ بْنَ حَابسٍ يَا أقْرَعُ ... إنَّكَ إنْ يُصْرَع أخُوكَ تُصْرَعُ
برفع « تصرع » الأخير- .
وكذلك قوله : [ البسيط ]
1600- وَإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألَةٍ ... يَقُولُ : لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرِمُ
برفع « يقول » - إلاَّ أن هذا النوع مطّرد ، بخلاف ما قبله - أعني : كون فعل الشرط والجزاء مضارعين - فإن المنقول عن سيبويه ، وأتباعه وجوب الجزم ، إلا في ضرورة .
كقوله : [ الرجز ]
1601- .. إنَّك إنْ يُصْرَعْ أخُوكَ تُصْرَعُ
وتخريجه هذه الآية على ما تقدم عنه يدل على أن ذلك لا يُخَصُّ بالضرورةز
الوجه الثاني : أن الفعل ارتفع لوقوعه بعد فاء مقدَّرة ، وهي وما بعدها الجواب في الحقيقة ، والفعل متى وقع بعد الفاء رُفِع ليس إلاَّ كقوله تعالى : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } [ المائدة : 95 ] .
والتقدير : فلا يضركم ، والفاء حذفت في غير محل النزاع .
كقوله : [ البسيط ]
1602- مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا ... وَالشَّرُّ بِالشَّرِّ عِنْدَ اللهِ مِثْلانِ
أي : فالله يشكرها ، وهذا الوجه نقله بعضهم عن المبرد ، وفيه نظر؛ من حيث إنهم ، لما أنشدوا البيت المذكور ، نقلوا عن المبرد أنه لا يُجَوَّز حَذْفَ هذه الفاء - ألبتة - لا ضرورة ، ولا غيرها - وينقلون عنه أنه يقول : إنما الرواية في هذا البيت : [ البسيط ]
1603- مَنْ يَفْعَلِ الْخَيْرَ فَالرَّحْمنُ يَشْكُرُهُ ... وردوا عليه بأنه إذا صحَّت روايةٌ ، فلا يقدح فيها غيرُها ، ونقله بعضُهم عن الفراء والكسائي ، وهذا أقرب .
الوجه الثالث : أن الحركة حركة إتباع؛ وذلك أن الأصل : « لاَ يَضْرُرْكُمْ » . بالفك وسكون الثاني جَزْماً ، وسيأتي أنه إذا التقى مِثْلان في آخر فعل سكن ثانيهما - جَزْماً ، أو وَقْفاً - فللعرب فيه مذهبان :
الجزم : وهو لغة تميم .
والفك : وهو لغة الحجاز .
لكن لا سبيل إلى الإدغام إلا في متحرك ، فاضطررنا إلى تحريك المِثْل الثاني ، فحَرَّكْناه بأقرب الحركات إليه ، وهي الضمة التي على الحرف قبله ، فحرَّكناه بها ، وأدْغمنا ما قبله فيه ، فهو مجزوم تقديراً ، وهذه الحركة - في الحقيقة - حركة إتباع ، لا حركة إعراب ، بخلافها في الوجهين السابقين ، فإنها حركة إعراب .
واعلم أنه متى أدغم هذا النوع ، فإما أن تكون فاؤُه مضمومةً ، أو مفتوحةً ، أو مكسورةً ، فإن كانت مضمومة - كالآية الكريمة .
وقولهم : مُدَّ - ففيه ثلاثة أوجه حالة الإدغام :
الضم للإتباع ، والفتح للتخفيف ، والكسر على أصل التقاء الساكنين ، فتقول : مُدَّ ومُدُّ ومُدِّ .
وينشدون على ذلك قول الشاعر : [ الوافر ]
1604- فغُضّ الطَّرْفَ إنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ ... فَلاَ كَعْباً بَلَغْتَ وَلاَ كِلاَبَا
بضم الضاد ، وفتحها ، وكسرها - على ما تقرر - وسيأتي أن الآية قُرِئَ فيها بالأوُجه الثلاثةِ .
وإن كانت فاؤه مفتوحةً ، نحو عَضَّ ، أو مكسورة ، نحو فِرَّ ، كان في اللام وجهان : الفتح ، والكسر؛ إذ لا وَجْهَ للضمِّ ، لكن لك في نحو فِرَّ أن تقول : الكسر من وجهين : إما الإتباع ، وإما التقاء الساكنين ، وكذلك لك في الفتح - نحو عَضَّ - وجهان - أيضاً- : إما الإتباع ، وإمَّا التخفيف .
هذا كله إذا لم يتصل بالفعل ضمير غائب ، فأما إذا اتصل به ضمير الغائب - نحو رُدَّهُ - ففيه تفصيل ولغات ليس هذا موضعها .
وقرأ عاصم - فيما رواه المفضَّل- : بضم الضاد ، وتشديد الراء مفتوحة - على ما تقدم من التخفيف - وهي عندهم أوجه من ضم الراء .
وقرأ الضحاك بن مزاحم : « لا يَضُرِّكُمْ » بضم الضاد ، وتشديد الراء المكسورة - على ما تقدم من التقاء الساكنين . وكأن ابْنُ عَطِيَّةَ لم يحفظها قراءةً؛ فإنه قال : فأما الكسر فلا أعرفه قراءةً .
وعبارة الزجَّاج في ذلك متجوَّز فيها؛ إذْ يظهر من روح كلامه أنها قراءة وقد بينا أنها قراءة .
وقرأ أبيّ : « لا يَضْرُرْكُمْ » بالفكّ ، وهي لغة الحجاز .
والكيد : المكر والاحتيال .
وقال الراغب : هو نوع من الاحتيال ، وقد يكون ممدوحاً ، وقد يكون مذموماً ، وإن كان استعماله في المذموم أكثر .
قال ابْنُ قُتَيْبَةَ : وأصله من المشقة ، من قولهم : فلان يكيد بنفسه ، أي : يجود بها في غمرات الموت ، ومشقاته .
ويقال : كِدْتُ فلاناً ، أكيده - كبعته أبيعُه .
قال الشاعر : [ الخفيف ]
1605- مَنْ يَكِدْنِي بسَيِّءٍ كُنْتُ مِنْهُ ... كَالشَّجَى بَيْنَ حَلْقِهِ وَالْوَرِيدِ
و « شَيْئاً » منصوب نصب المصادر ، أي : شيئاً من الضرر ، وقد تقدم نظيره .
ومعنى الآية : أن كل من صبر على أداء أوامر الله تعالى ، واتقى عما نهى الله عنه ، كان في حِفْظ الله ، فلا يضره كيد الكائدين ، ولا حِيَلُ المحتالين .
قوله : { إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } قراءة العامة { يَعْمَلُونَ } - بالغيبة ، وهي واضحة .
وقرأ الحسن بالخطاب ، إما على الالتفات ، والتقدير : إنه عالم ، محيط بما تعملونه من الصبر والتقوى ، فيفعل بكم ما أنتم أهله ، وإما على إضمار : قُل لهم يا محمد .
وإنما قال : { إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } ولم يقل : إنَّ اللهَ محيط بما يعملونَ؛ لأنهم يُقدِّمون الأهم ، والذي هُمْ بشأنه أعْنَى ، وليس المقصود - هنا - بيان كونه تعالى عالماً ، بل بيان أن جميع أعمالهم معلومة لله تعالى ، ومجازيهم عليها ، فلا جرم قدّم ذكر العمل .
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)
العامل في « إذْ » مضمَر ، تقديره : واذكر إذْ غدوت ، فينتصب المفعول به لا على الظرف ، وجوَّز أبو مسلم أن يكون معطوفاً على { فِئَتَيْنِ } في قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ } [ آل عمران : 13 ] أي : قد كان لكم آية في فئتين ، وفي إذْ غَدَوْتَ ، وهذا لا ينبغي أن يعرَّج عليه .
وقال بعضهم : العامل في « إذْ » « محيط » تقديره : بما يعملون محيط إذْ غَدَوْتَ .
قال بعضهم : وهذا لا يَصحّ؛ لأن الواو في ( وَإِذْ ) يمنع في عمل ( مُحِيطٌ ) فيها .
والغُدوّ : الخروج أول النهار ، يقال : غدا يغدو ، أي : خرج غدوة ، وفي هذا دليل على جواز صلاة الجمعة قبل الزوال؛ لأن المفسِّرين أجمعوا على أنه إنما خرج بعد أن صَلَّى الجمعة .
ويُسْتَعْمَل بمعنى : « صار » عند بعضهم ، فيكون ناقصاً ، يرفع الاسم ، وينصب الخبر ، وعليه قوله صلى الله عليه وسلم : « لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللهِ حَقَّ توكُّلِهِ لَرَزَقكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ ، تَغْدُو خِمَاصاً ، وتَرُوحُ بِطَاناً » .
قوله : « من أهلك » متعلق ب « غَدَوْتَ » ، وفي « مِنْ » وجهان :
أحدهما : أنها لابتداء الغاية ، أي : من بين أهلك .
قال أبو البقاء : « وموضعه نصب ، تقديره فارقت أهلَك » .
قال شهابُ الدِّيْنِ : « وهذا الذي قاله ليس تفسير إعراب ، ولا تفسير معنى؛ فإن المعنى على غير ما ذكر » .
الثاني : أنها بمعنى : « مع » أي : مع أهْلك ، وهذا لا يساعده لفظ ، ولا معنى .
قوله : « تبوئ » يجوز أن تكون الجملة حالاً من فاعل : « غَدَوْتَ » ، وهي حال مقدرة ، أي : قاصداً تَبْوئةَ المؤمنين؛ لأن وقت الغدو ليس وقتاً للتبوئة ، ويُحْتَمَل أن تكون حالاً مقارنة؛ لأن الزمان متسع .
و « تبوئ » أي تُنزل ، فهو يتعدى لمفعولين ، إلى أحدهما بنفسه ، وإلى الآخر بحرف الجر ، وقد يُحْذَف - كهذه الآية - ومن عدم الحذف قوله تعالى : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت } [ الحج : 26 ] وأصله من المباءة - وهي المرجع- .
قال الشاعر : [ الطويل ]
1606- وَمَا بَوَّأ الرَّحْمَنُ بَيْتَكَ مُنْزِلاً ... بِشَرْقيٍّ أجْيَادِ الصَّفَا وَالْمُحَرَّمِ
وقال آخر : [ مجزوء الكامل ]
1607- كَمْ صَاحِبٍ لِيَ صَالِحٍ ... بَوَّأتُهُ بِيَدَيَّ لَحْدَا
وقد تقدم اشتقاقه .
وقيل : اللام في قوله « لإبراهيم » مزيدة ، فعلى هذا يكون متعدياً لاثنين بنفسه .
و « مقَاعِدَ » جمع مَقْعَد ، والمراد به - هنا - مكان القعود ، و « قعد » قد يكون بمعنى : « صار » في المثل خاصة .
قال الزمخشري : « وقد اتُّسِعَ في قَامَ ، وقَعَدَ ، حتى أجْرِيَا مُجْرَى صار » .
قال أبو حيان : أما إجراء قَعَدَ مُجْرَى صار ، فقال بعض أصحابنا : إنما جاء ذلك في لفظة واحدة شاذة في المثل قولهم : شَحَذَ شَفْرَتَه حتَّى قَعَدَتْ كأنَّهَا حَرْبَةٌ ، ولذلك نُقِد على الزمخشري تخريجُه قوله تعالى :
{ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً } [ الإسراء : 22 ] بمعنى تصير؛ لأنه لا يَطَّرِد إجراء قَعَدَ مُجْرَى صار .
قال شهابُ الدين : « وهذا - الذي ذكره الزمخشري - صحيح ، من كون قَعَد بمعنى : صار في غير ما أشار إليه هذا القائل؛ حكى أبو عمر الزاهد - عن ابن الأعرابي - أن العرب تقول : قعد فلان أميراً بعد أن كان مأموراً ، أي : صار » .
ثم قال أبو حيان : وأما إجراء قام مُجْرَى صار ، فلا أعلم أحداً عدَّها في أخَوَاتِ « كان » ، ولا جعلها بمعنى « صار » إلا ابن هشام الخَضْراوي ، فإنه ذكر - في قول الشاعر : [ الوافر ]
1608- عَلَى مَا قَامَ يَشْتِمُنِي لَئِيمٌ ... كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ
أنها من أفعال المقاربة .
قال شهابُ الدين : « وغيرُه من النحويين من يجعلها زائدةً ، وهو شاذٌّ ، أيضاً » .
وقرأ العامة : « تبوّئ » بعدَّوْه بالتضعيف ، وقرأ عبد الله : « تُبْوِئ » ، بسكون الباء فعدَّاه بالهمزة ، فهو مضارع أبْوَأ - كأكرم .
وقرأ يحيى بن وثَّاب « تُبْوِي » كقراءة عبد الله ، إلا أنه سَهَّل بإبدالها ياءً ، فصار لفظه كلفظ : يُحيي .
وقرأ عبد الله : للمؤمنين - بلام الجر - كقوله : « وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت » وقد تقدم أن في هذه اللام قولين ، والظاهر أنها معدية؛ لأنه قبل التضعيف ، والهمزة غيرُ متعدٍّ بنفسه . ويحتمل أن يكون قد ضمَّنه - هنا - تهيِّئ ، وترتِّب .
وقرأ الأشهب « مقاعد القتال » - بإضافتها للقتال - واللام في « لِلْقِتَالِ » - في قراءة الجمهور - فيها وجهان :
أوّلهما : - وهو أظهر - : أنها متعلقة ب « تبوئ » على أنها لام العلة .
والثاني : أنها متعلقة بمحذوف؛ لأنها صفة لِ « مَقَاعِدَ » أي : مقاعد كائنة ، ومُهَيَّأة للقتال ، ولا يجوز تعلقها ب « مقاعد » ، وإن كانت مشتقة؛ لأنها مكان ، والأمكنة لا تعمل .
فصل
كيفية النظم أنه - تعالى - لما قال : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } [ آل عمران : 120 ] أتبعه ببيان أن الصبر يؤدي إلى النُّصْرة ، والمعونة ، ودَفْع ضرر العدو ، وأن عدم الصبر يؤدي إلى خلاف ذلك ، فقال : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ } يعني : يوم أُحُد ، كانوا كثيرين ، مستعدِّين للقتال ، فلما خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم انهزموا ، ويوم بدر كانوا قليلين ، غير مستعدين للقتال ، فلما أطاعوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم غَلَبُوا .
وفيه وجه آخر ، وهو أنه لما نهى عن اتخاذ المنافقين بطانة ، بيَّن - هنا - العلة في ذلك ، وهي أن انكسارَكم يوم أحُد ، إنما حصل بسبب تخلُّف عبد الله بن أبَيِّ ابْن سَلُول ، المنافق .
فصل
اختلفوا في هذا اليوم .
فقال ابن عباس ، والسُّدِّيّ ، وابنُ إسْحَاقَ ، والرَّبِيعُ ، والأصم ، وأبو مسلم ، وأكثر المفسرين : إنه يوم أُحُد .
وقال الحسنُ : هو يوم بدر .
وقال مجاهد ومقاتل : هو يوم الأحزاب ، واحتج الأولون بوجوه :
الأول : أن أكثر العلماء بالمغازي ذكروا أن هذه الآية نزلت في واقعة أحُد .
والثاني : أنه - تعالى - قال بعد هذه الآية : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ } [ آل عمران : 123 ] ، والظاهر أنه معطوف على ما تقدم ، وحقُّ المعطوف أن يغاير المعطوفَ عليه ، وأما يوم الأحزاب فالقوم إنما خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحُد ، لا يوم الأحزاب ، فكانت قصة أحُد ألْيَقَ بهذا الكلام ، لأن المقصود من ذكر هذه القصة تقرير قوله : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ } [ آل عمران : 120 ] .
الثالث : أن الانكسار كان في يوم أُحُد أكثر منه في يوم الأحزاب ، لأن في يوم أُحُد قَتَلُا جَمْعاً كثيراً من أكابر الصحابة ، ولم يتفق ذلك في يوم الأحزاب ، فكان حمل الآية على يوم أحُد أوْلَى .
الرابع : أن ما بعده إلى قريب من آخر السورة متعلق بحرب أحد .
فصل
قال مُجَاهِدٌ ، والكَلْبِيُّ ، والوَاقِدِي : غَدَا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل عائشة ، فمشى على رجليه إلى أحد ، يَصُفُّ أصحابَه للقتال ، كما يقوم القداح ، وروي أن المشركين نزلوا بأحُد يوم الأربعاء ، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنزولهم ، استشار أصحابه ، ودعا عبدَ الله ابْن أبيّ ابْنَ سلول - ولم يدعه قط قبلها- ، فاستشاره ، فقال عبد الله بن أبَيّ ، وأكثر الأنصار : يا رسول الله أقم بالمدينة ، لا تخرج إليهم ، فوالله ما خرجنا عنها إلى عدو قط إلا أصاب منا ، ولا دخل عدو علينا إلا أصبْنَا منه ، فدعهم ، فإن أقاموا أقاموا بِشَرِّ موضع ، وإن دخلوا قاتلهم الرجالُ في وجوههم ، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم ، وإن رجعوا رجعوا خائبين ، فأعْجَبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الرأيُ .
وقال آخرون : اخرج بنا إلى هؤلاء الأكْلُب؛ لئلا يظنّوا أنا قد خفناهم وضعفنا ، فقال صلى الله عليه وسلم : « إنِّي رَأيْتُ فِي مَنَامِي بَقَرَةً تُذْبَحُ حَوْلِي ، فأوَّلْتُها خَيْراً ، وَرَأيْتُ فِي ذُبَابَةِ سَيْفِي ثَلْماً ، فَأوَّلْتُه هَزِيمَةً ورايت كأنِّي أدْخَلْتُ يَدِي فِي دِرْع حَصِينَة ، فأوَّلْتُها المَدِينَةَ ، فَإنْ رَأيْتُمْ أن تُقِيمُوا بِالْمَدِينَةِ ، وتدعوهُمْ - وَكَانَ يُعْجِبُهُ أنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ ، فِيُقَاتَلُوا في الأزقَّة - فَقَالَ رِجالٌ مِنَ المُسْلمين فَاتَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ ، وأكْرَمَهُمُ اللهُ بِالشَّهَادَةِ يَوْمَ أحُدٍ : اخْرُجْ بِنَا إلَى أعْدائِنَا ، فَلَمْ يَزَالُوا برسول اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى دَخَلَ ، فَلَبَس لأمَتهُ ، فَلَمَّا رَأوْهُ قَدْ لَبِسَ السِّلاَحَ نَدِمُوا ، وَقَالُوا : بِئْسَ ما صنعنا ، نُشِيرُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم والوَحْيُ يَأتِيهِ!!! فَقُامُوا ، واعْتَذَرُوا إلَيْهِ ، وَقَالُوا : اصْنَعْ ما رأيت ، فَقَالَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أنْ يَلْبَسَ لأمَتَهُ ، فَيَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ - وَكَانَ قَدْ أقَامَ المُشرِكُون بأحُدٍ يَوْمَ الأرْبِعَاءِ ، وَيَوْمَ الخَمِيسِ - فَرَاحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الجُمُعَةِ بَعْدَمَا صَلى بِأصْحَابِهِ الجمعة ، وقد مَاتَ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ خَرَجَ إلَيْهِمْ ، فَأصْبَحَ بالشِّعْب من أحُد يوم السَّبْتِ للنصف من شَوَّال سنة ثلاثٍ من الهجرة ، فَمَشَى عَلَى رجْلَيْهِ ، وَجَعَلَ يصُفُّ أصحابَه لِلْقِتَالِ كَمَا تُقَوَّمُ القِدَاحُ ، إنْ رَأى صدْراً بَارِزاً تأخَّر ، وكان نزوله في جانب الوادي ، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد ، وأمَّرَ عبد الله بن جبير على الرُّماة ، وقال : ادفعوا عنا بالنبل حتى لا يأتونا من ورائنا ، وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه : اثْبُتُوا فِي هَذَا المَقَامِ ، فَإذَا عاينوكم وَلَّوْكم الأدبار ، فلا تطلبوا المدبرين ، ولا تخرجوا من هذا المقام » .
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خالف رأي عبد الله بن أبي شق ذلك عليه ، وقال : أطاع الولدان وعصاني ، ثم قال لأصحابه : إن محمداً إنما يظفر بعدوه بكم ، وقد واعد أصحابه أن أعداءهم إذا عاينوهم انهزموا ، فإذا رأيتم أعداءه فانهزموا ، فيتبعوكم ، فيصير الأمر على خلاف ما قاله محمد صلى الله عليه وسلم ، فلما التقى الفريقان انهزم عدو الله بالمنافقين ، وكان جملة عسكر المسلمين ألفاً ، فانهزم عبد الله بن أبي بثلاثمائة ، وبقيت سبعمائة ، فذلك قوله تعالى : « إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ » [ آل عمران : 122 ] .
أي : أن تضعفا ، وتجبُنا ، وتتخلفا .
والطائفتان : بنو سلمة من الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس ، وكانا جناحي العسكر ، وكان عليه السلام قد خرج في ألف رجل ، فانخزل عبد الله بن أبي بثلث الجيش ، وقال : نقتل أنفسنا وأولادنا! فتبعهم أبو جابر السُّلمِي ، وقال : أنشدكم الله في نبيكم ، وفي أنفسكم ، فقال عبد الله بن أبَيّ : { لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } [ آل عمران : 167 ] ، وهمت بنو سلمة وبنو حارثة بالانصراف مع عبد الله بن أبيّ ، فعصمهم الله ، فلم ينصرفوا ، فذكرهم الله عظيم نعمته . فقال - عز وجل - { إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ والله وَلِيُّهُمَا } [ آل عمران : 122 ] ناصرهما ، وحافظهما ، ثم قواهم الله ، حتى هزموا المشركين ، فلما رأى المؤمنون انهزام القوم ، طلبوا المدبرين ، فأراد الله أن يعظهم عن هذا الفعل؛ لئلا يقدموا على مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، وليعلموا أن نصرهم غنما حصل ببركة طاعتهم لله ولرسوله ، ومتى تركهم الله مع عدوهم لم يقوموا لهم ، فنزع الله الرُّعب من قلوب المشركين ، فكَرَّ عليهم المشركون ، وتفرق العسكر ن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى : { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ } [ آل عمران : 153 ] ، وشُجَّ وَجْه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكُس~رَت رَبَاعِيَتهُ ، وشَلَّتْ يد طلحة دونه ، ولم يَبْقَ معه إلا أبو بكر ، وعليّ ، والعباسُ ، وطلحة وسعد ، ووقعت الصيحة في العسكر بأن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قُتِل ، ثم نودي على الأنصار بأن هذا رسول الله ، فرجع إليه المهاجرون والأنصار ، وكان قد قُتِل منهم سبعون ، وأكْثر فيهم الجراح ، فقال صلى الله عليه وسلم :
« رحم الله رجلاً ذَبَّ عن إخوانه ، وشدَّ على المشركين بمن معه حتى كشفهم عن القتلى والجرحى » ، وكان الكفار ثلاثة آلاف ، والمسلمون ألفاً - أو أقل - رجع عبد الله بن أبي في ثلاثمائة ، وبقي مع الرسول صلى الله عليه وسلم سبعمائة ، وأعانهم الله حتى هزموا الكفارَ ، ثم لمَّا خالفوا أمرَ الرسول صلى الله عليه وسلم ، واشتغلوا بطلب الغنائم انقلب الأمر عليهم ، وانهزموا .
قوله : { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : سميع لأقوالكم ، « عليم » بضمائركم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما شاور أصحابه في تلك الحرب ، فقال بعضهم : أقم بالمدينة ، وقال آخرون : اخرج إليهم ، فكان لكل أحد غرض في نفسه ، فمن موافق ومن منافق ، فقال تعالى : { أنا سميع لما تقولون عليم بما تسرون } .
إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
قوله : { إِذْ هَمَّتْ } في هذا الظرف أوجه :
أحدها : أنه ظَرْف ل { غَدَوْتَ } .
الثاني : أنه بدل من { وَإِذْ غَدَوْتَ } ، فالعامل ، فيه هو العامل في المُبْدَل منه .
الثالث : أنه ظرف ل { تُبَوِّىءُ } .
وهذه الأوجه تحتاج إلى نقل تاريخي في اتحاد الزمانين .
الرابع : أن الناصب له « عَليمٌ » وحده - ذكره أبو البقاء .
الخامس : أن العامل فيه إما « سَمِيعٌ » ، وإما « عَلِيمٌ » على سبيل التنازع ، وتكون المسألة - حينئذ - من إعمال الثاني ، إذ لو أعمل الأول ، لأضمر في الثاني .
قال الزمخشري : أو عمل فيه معنى : { سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
قال أبو حيان : « وهذا غير محرَّر؛ لأن العامل لا يكون مركباً من وصفين ، فتحريره أن يقال : عمل فيه معنى سميع ، أو عليم ، وتكون المسألة من التنازع » .
قال شهاب الدين : « لم يرد الزمخشري بذلك إلا ما ذكرناه من إرادة التنازع ، ويصدق أن يقول : عمل فيه هذا وهذا بالمعنى المذكور؛ لا أنهما عملا فيه معاً ، على أنه لو قيل به لم يكن مبتدعاً قولاً؛ إذ الفراء يرى ذلك ، ويقول - في نحو : ضربتُ وأكرمتُ زيداً : إن زيداً منصوب بهما ، وإنهما سُلِّطَا عليه معاً » .
فإن قيل : إذا كان الهمُّ العزم فظاهر الآية يدل على أن الطائفتين عزمتا على الفشل ، والترك - وذلك معصية - فكيف يليق أن يقال : { والله وَلِيُّهُمَا } ؟
فالجواب : أن الهَمَّ قد يُرادُ به الكفر ، وقد يراد به : حديث النفس ، وقد يراد به : ما يظهر من القول الدالِّ على قوة العدو وكثرة عدده ، وأيُّ شيء ظهر من هذا الجنس صح أن يوصف صاحبه بأنه هَمَّ أن يفشل ، من حيث ظهر منه ما يوجب ضَعْف القلب ، وإذا كان كذلك ، فلا يدل على أن المعصية وقعت منهما ، وبتقدير أن يقال ذلك ، فيكون من باب الصغائر؛ لقوله : { والله وَلِيُّهُمَا } .
وقيل : الهَمّ دون العزّم ، وذلك أن أول ما يمر بقلب الإنسان يُسَمَّى : خاطراً ، فإذا قويَ سُمِّيَ : حديث نفسٍ ، فإذا قَوِيَ سُمِّيَ : هَمًّا ، فإذا قَوِيَ سُمِّيَ : عزماً ، ثم بعده إما قول ، أو فعل .
وبعضهم يُعَبِّر بالهَم عن الإرادة ، تقول العرب : هممت بكذا ، أهُمَ به - بضم الهاء - ويقال : همت - بميم واحدة - حذفوا إحدى الميمين تخفيفاً ، كما قالوا : مِسْت وظلت ، وحست - في مَسِسْتُ وظَلِلْتُ وحَسِنْتُ - وهو غير مقيس .
والهم - أيضاً- : الحُزْن الذي يُذِيب صاحبه ، وهو مأخوذ من قولهم : همت الشحم - أي : أذبته ، والهم الذي في النفس قريب منه ، لأنه قد يؤثر في نفس الإنسان ، كما يؤثر الحُزْن .
ولذلك قال الشاعر : [ الطويل ]
1609- وَهَمُّكَ مَا لَمْ تُمْضِهِ لَكَ مُنْصِبٌ ...
أي : إنك إذا هممت بشيء ، ولم تفعله ، وجال في نفسك ، فأنت في تعب منه حتى تقضيَه .
قوله : { أن تَفْشَلاَ } متعلق ب « هَمَّتْ » ؛ لأنه يتعدى بالباء ، والأصل : بأن تفشلا ، فيجري في محل « أن » الوجهان المشهوران .
والفشل : الجبن والخَوَر .
وقال بعضهم : الفشل في الرأي : العجز ، وفي البدن : الإعياء ، وعدم النهوض ، وفي الحرب الجُبْن والخَوَر ، والفعل منه فَشِل - بكسر العين - وتفاشل الماء - إذا سال - .
وقرأ عبد الله : والله وليهم ، كقوله : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] .
قوله : { وَعَلى الله } متعلق بقوله : { فَلْيَتَوَكَّلِ } ، قدم للاختصاص ، ولتناسب رؤوس الآي . وتقدم القول في نحو هذه الفاء .
قال أبو البقاء : « دخلت الفاء فمعنى الشرط ، والمعنى : إن فشلوا فتوكلوا أنتم ، أو إنْ صعب الأمر فتوكلوا » .
قال جابر : نزلت هذه الآية - { إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ } - فينا - بني سلمة ، وبني حارثة وما أحب أنها لم تنزل ، والله يقول : { والله وَلِيُّهُمَا } .
قال ابنُ الخَطِيبِ : « ومعنى ذلك فرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله تعالى ، وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية ، وأن تلك الهمَّة ، ما أخرجتهم عن ولاية الله تعالى » .
والتوكُّل : تفعُّل ، إمَّا من الوكالة - وهي : تفويض الأمر إلى من يوثق بحُسْن تدبيره ، ومعرفته في التصرُّف - وإمَّا من وكل أمره إلى فلان ، إذا عجز عنه .
قال ابنُ فارس : « هو إظهار العَجْز ، والاعتماد على غيرك » ، يقال : فلان وكله يَكِلُه ، أي : عاجز يكلُ أمره إلى غيره ، والتاء في تُكَلَة بدل من الواو ، كتخمة وتجاه وتراث .
فصل
اختلف العلماء في حقيقة التوكل ، فسئل عنه سَهْل بن عبد الله ، فقال : قالت فرقة : هو الرضا بالضمان وقطع الطمع من المخلوقين .
وقال قوم : التَّوكُّل : ترك الأسباب ، والركون إلى مُسَبِّب الأسباب ، فإذا شغله السبب عن المسبب ، زال عنه اسم التوكُّل .
قال سهل : من قال : التوكل يكون بتَرك السبب ، فقد طعن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله يقول : { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبا } [ الأنفال : 69 ] ، والغنيمة اكتساب ، وقال صلى الله عليه وسلم : « إنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُحْتَرِفَ » .
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)
في كيفية النظم وجهان :
أحدهما : أنه - تعالى - لمَّا ذكر قصةَ أحُد أتبعها بقصة بدر؛ لأن المشركين كانوا في غاية القوة ، ثم سلط المسلمين عليهم ، فصار ذلك دليلاً على أن العاقل يجب أن لا يتوسل إلى غرضه إلا بالتوكل على الله ، ويكون ذلك تأكيداً لقوله : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا } [ آل عمران : 120 ] ، وقوله : { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } [ آل عمران : 122 ] .
الثاني : أنه - تعالى - حكى عن الطائفتين أنهما همتا بالفشل ، ثم قال : { والله وَلِيُّهُمَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } [ آل عمران : 122 ] .
ثعني : من كان الله ناصراً له ومعيناً له فكيف يليق به الفشل؟ ثم أكَّد ذلك بقصة بدر؛ فإن المسلمين كانوا في غاية الضعف ، ولكن لمَّا كان الله تعالى ناصراً لهم ، فازوا بمطلوبهم ، وقهروا خصومهم ، فهذا وجه النظم . والنصر : العون ، نصرهم الله يوم بدر ، وقتل فيه صناديد المشركين ، وعلى ذلك اليوم ابتني الإسلام ، وكان أول قتال قاتله النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله : { بِبَدْرٍ } متعلق ب { نَصَرَكُمُ } ، وفي الباء - حينئذ - قولان :
أحدهما : - وهو الأظهر - : أنها ظرفية ، أي : في بدر ، كقولك : زيد بمكة ، أي : في مكة .
الثاني : أن تتعلق بمحذوف على أنها باء المصاحبة ، فمحلُّها النصب على الحال ، أي : مصاحبين لبدر ، و « بدر » : اسم لماء بين مكة والميدنة ، سُمِّي بذلك لصفائه كالبدر .
وقيل : لاستدارته وقيل : اسم بئر لرجل يقال له : بدر ، وهو بدر بن كلدة ، قاله الشعبي ، وأنكر عليه بذكر الله - تعالى - مِنَّتَه عليهم بالنُّصْرَةِ يوم بدر وقيل : إنه اسم للبئر كما يسمى البلد باسم من غير أن ينقل إليه اسم صاحبه . قاله الواقدي وشيوخه .
وقيل : اسم وادٍن وكان يوم بدر السابع عشر من رمضان وكان يوم الجمعة ، لثمانية وعشرين شهراً من الهجرة .
قوله : { وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ } في محل نصب على الحال من مفعول : { نَصَرَكُمُ } و { أَذِلَّةٌ } جمع ذليل وهو جمع قلة؛ إشعاراً بقلتهم مع هذه الصفة ، و « فعيل » الوصف - قياس جمعه على فعلاء ، كظريف وظرفاء ، وشريف وشرفاء ، غلا أنه تُرِك في المضعَّف؛ تخفيفاً ألا ترى إلى ما يؤدي إليه جمع ذليل وخليل على ذُللاء وخُللاء من الثقل؟
فإن قيل : قال الله تعالى : { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِين } [ المنافقون : 8 ] فما معنى قوله : { وَأنْتُمْ أَذِلَّةٌ } ؟ فالجواب من وجوه :
الأول : أنه بمعنى : القلة وضعف الحال ، وقلة السلاح والمال ، وعدم القدرة على مقاومة العدو ، وأن نقيضه العِز ، وهو القوة والغلبة .
رُوِيَ أن المسلمين كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ، ولم يكن فيهم إلا فرس واحد ، وأكثرهم رَجَّالة ، وربما كان الجمع منهم يركبون جَمَلاً واحداً ، والكفار كانوا قريبين من ألف مقاتل ، ومعهم مائة فرس ، مع الأسلحة الكثيرة ، والعُدَّة الكاملة .
قال القرطبيُّ : واسم الذل في هذا الموضع مستعار ، ولم يكونوا في أنفسهم إلا أعزَّة ، لكن نسبتهم إلى عدوهم ، وإلى جميع الكفار في أقطار الأرض ، تقتضي عند التأمل ذِلّتَهُمْ ، وأنهم يغلبون .
الثاني : لعل المراد : أنهم كانوا أذلة في زَعْم المشركين ، واعتقادهم؛ لأجل قلة عددهم ، وسلاحهم وهو مثل ما حكى الله - تعالى - عن الكفار قولهم : { لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل } [ المنافقون : 8 ] .
الثالث : أن الصحابة كانوا قد شاهدوا الكفار بمكة في قوتهم ، وثروتهم ، وثروتهم ، إلى ذلك الوقت ، ولم يَبْقَ للصحابة عليهم استيلاء ، فكانت هيبتهم باقية في قلوبهم ، فلهذا السبب كانوا يهابونهم ويخافونهم .
ثم قال : { فاتقوا الله } أي : في الثَّباتِ مع رسوله .
{ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } بتقواكم ما أنعم الله به عليكم ممن نصرته ، أو لعل الله ينعم عليكم نعمة أخرى تشكرونها ، فوضع الشكر موضع الإنعام؛ لأنه سبب له .
قوله : { إذْ تَقُولُ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه منصوب بإضمار اذكر .
الثاني : إن قلنا : إن هذا الوعد حصل يوم بَدْر ، فالعامل في « إذْ » قوله : { نَصَرَكُمُ الله } والتقدير : إذ نصركم الله ببدر ، وأنتم أذلة إذ تقول للمؤمنين .
وإن قلنا : إن هذا الوعد حصل يوم أُحُد ، فيكون بَدَلاً من قوله : { إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ } [ آل عمران : 122 ] ، فهذه ثلاثة أوجه .
فصل
رُوِي عن ابن عبَّاسٍ والكَلْبِيِّ والواقِدِيِّ ومُقَاتِلٍ ومُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ : أنه يوم أُحُد ، لوجوه :
أحدها : أن يوم بدر إنما أمِدَّ الرسولُ صلى الله عليه وسلم بألف من الملائكة لقوله : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملاائكة } [ الأنفال : 9 ] ، فكيف يليق به ما ذكر فيه ثلاثة آلاف ، وخمسة آلاف؟
وثانيها : أن الكفارَ كانوا يوم بدر ألفاً ، وما يقرب منه ، والمسلمون كانوا على الثلث منهم؛ لأنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ، فأنزل الله تعالى يوم بدر ألفاً من الملائكة ، فصار عدد الكُفَّار مقابلاً بعدد الملائكة مع زيادة عدد المسلمين ، فلا جرم ، وقعة الهزيمة على الكفار ، فكذلك يوم اُحُد ، كان عدد المسلمين ألفاً ، وعدد الكفار ثلاثة آلاف ، فكان عدد المسلمين على الثلث من عدد الكفار في هذا اليوم ، فوعدهم الله في هذا اليوم أن ينزل ثلاثة آلاف من الملائكة؛ ليصير عدد الكفار مقابلاً لعدد الملائكةِ ، مع زيادة عدد المسلمين ، فيصير ذلك دليلاً على أن المسلمين يهزمونهم ، كما هزموهم يوم بدر ، ثم جعل الثلاثة آلاف خمسة آلاف لتزداد قوة المسلمين في هذا اليوم ويزول الخوف عن قلوبهم .
وثالثها : أنه قال في هذه الآية : { وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلااف مِّنَ الملاائكة مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 125 ] .
والمراد : ويأتيكم أعداؤكم من فورهم ، ويوم أحُد هذا اليوم الذي كان يأتيهم الأعداء ، فأما يوم بدر ، فإنهم لم يأتوهم ، بل هم ذهبوا إلى الأعداء .
فإن قيل : إنه صلى الله عليه وسلم وعدهم بخمسة آلاف يوم أُحُد ، فحصول الإمداد بثلاثة آلاف يلزم منه الخلف في الوعد؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أن إنزال الآلاف الخمسة ، كان مشروطاً بأن يصبروا ، ويتَّقوا في المغانم ، فَخَالَفُوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فلما فات الشرط ، فات المشروط ، وأمَّا إنزال الآلاف الثلاثة ، فقد وَعَدَ المؤمنين بها حين بوَّأهُم مقاعدَ القتال .
الثاني : أنا لا نسلم أنَّ الملائكة ما نزلت .
روى الواقدي عن مجاهد قال : حضرت الملائكة يومَ أُحُد ، ولكنهم لم يقاتلوا ، ورُوِيَ أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى اللواءَ مُصْعَبَ بن عُمَيْر ، فقُتِل مُصْعَبٌ ، فأخذه ملك في صورة مُصْعَب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تقدم يا مصعب » ، فقال الملك : لستُ بمُصعَب ، فعرف الرسول صلى الله عليه وسلم أنه مَلَك أمِدَّ به .
وعن سعد بن أبي وقاص أنه قال : كنت أرمي السهمَ يومئذٍ ، فيرد علي رجل أبيض ، حسن الوجه ، وما كنت أعرفه ، وظننت أنه مَلَك .
فعلى هذا القول يكون قوله تعالى : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ } مُعْتَرِضاً بين الكلامين .
وقال قتادة : أمدَّهم الله يوم بدر بألفٍ من الملائكة ، على ما قال : { فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملاائكة } [ الأنفال : 9 ] ، ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا خمسةَ آلاف ، كما قال هاهنا : { بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلااف } [ آل عمران : 125 ] ، فصبروا يوم بدر واتقوا ، فأمدم الله بخمسة آلاف كما وعد ، ويدل على ذلك أنَّ قلة العَدَد والعُدَد كانت يومَ بدر أكثر ، فكان الاحتياج إلى المَدَد يقوي القلب - في ذلك اليوم - أكثرَ ، فصَرْف الكلام إليه أوْلَى؛ ولأن الوعدَ بإنزال ثلاثة آلاف من الملائكة كان مطلقاً ، غير مشورط بشرطٍ ، فوجب أن يحصل ، وإنَّما حصل يوم بدر ، لا يوم أُحُد ، وليس لأحد أن يقول : إنهم نزلوا ، لكن ما قاتلوا؛ لأنهم وُعِدوا بالإمداد ، وبمجرد الإنزال لا يحصل الإمداد ، بل لا بدّ من الإعانة ، والإعانة حصلت يوم بدر ، لا يوم أُحُد .
وأما الجواب عن أدلة الأولين ، فأما قولهم - في الحُجَّة الأولى - إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما أمِدَّ يَوْمَ بدر بألف ، فالجواب من وجهين :
الأول : أنه - تعالى - أمد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بألف ، ثم زاد فيهم ألفين ، فصاروا ثلاثةَ آلاف ، ثم زاد ألفين آخرين ، فصاروا خمسةَ آلاف فكأنه صلى الله عليه وسلم قال لهم : « ألن يكفيكم أن يُمِدَّكُم رَبُّكم بثلاثة آلاف؟ فقالوا : بلى فقال لهم : إن تصبروا وتتقوا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بخمسة آلافٍ » .
الثاني : أن أهل بدر إنَّما أمِدُّوا بألْف - على ما ذكر في سورة اطلأنفال ثم بلغهم أن بعض المشركين يريد إمداد قُرَيْش بعدد كثير ، فخافوا ، وشَقَّ عليهم ذلك ، لقِلَّة عددهم ، فوعدهم الله بأن الكفار إن جاءَهم مدد ، فأنا أمِدُّكم بخمسة آلاف من الملائكة ، ثم إنه لم يأتِ قريشاً ذلك المدد بل انصرفوا حين بلغهم هزيمة قُرَيشٍ ، فاصتغنى إمداد المسلمين عن الزيادة على الألف .
==============
ج18.
ج18. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
وأما قولهم : إن الكفارَ كانوا - يوم بَدْرٍ - ألْفاً ، فأنزل الله تعالى ألفاً من الملائكة ، ويوم أُحُد كانوا ثلاثة آلاف فأنزل الله ثلاثةَ آلاف ، فهذا لا يوجب أن يكون الأمر كذلك ، بل يفعل الله ما يشاء من زيادةٍ ونَقْصٍ بحسب ما يريد ، وأما التمسك بقوله : { وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ } فالجواب : أن المشركين لمّا سمعوا أن الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه قد تعرَّضوا للعير ثار الغضب في قلوبهم ، واجتمعوا ، وقصدوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، ثم إن الصحابةَ لما سمعوا ذلك ، خافوا فأخبر الله تعالى أنهم إن يأتوكم من فَوْرِهم يُمْدِدكم بخمسةِ آلاف من الملائكة .
فصل
قال القرطبيُّ : « نزول الملائكة سبب من أسباب النصر ، لا يحتاج إليه الرَّبُّ تعالى ، وإنما يحتاج إليه المخلوق ، فلْيَعْلَق القلبُ بالله ، ولْيَثِقْ به ، فهو الناصر بسبب وبغير سبب { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُون } [ يس : 82 ] ، لكن أخبر بذلك ليمتثل الخَلْقُ ما أمرهم به من الأسباب التي قد خلت من قبل { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلا } [ الأحزاب : 62 ] ، ولا يقدح ذلك في التوكُّل ، وهو رَدٌّ على مَنْ قال : إن الأسبابَ إنما سُنَّتْ في حَقِّ الضعفاء ، لا الأقوياء؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا أقوياءَ ، وغيرهم هم الضعفاء ، وهذا واضح » .
فصل في اختلافهم في عدد الملائكة
اختلفوا في عدد الملائكة ، فمن الناس مَنْ ضَمَّ العدد الناقص إلى العدد الزائد؛ فقالوا : الوعد بإمداد الثلاثة لا شرط فيه ، والوعد بإمداد الخمسة مشروط بالصبر والتَّقْوَى ، ومجيء الكفار من فورهم ، فلا بد من التغاير ، وهذا القول ضعيف ، لأنه لا يلزم من كون الخمسة مشروطة ، أن تكون الثلاثة التي هي جزؤها مشروطة بذلك الشرط .
ومنهم من أدخل العدد الناقص في العدد الزائد .
فعلى القول الأول إن حَمَلْنا الآية على قصة بدر ، كان عدد الملائكة تسعة آلاف؛ لأنه تعالى ذكر الألف وذكر ثلاثة آلاف ، وذكر خمسة آلاف ، فالمجموع تسعة آلاف .
وإن حملناها على قِصَّة أُحُدٍ ، فإنما فيها ذكر الثلاثة والخمسة ، فيكون المجموع ثمانية آلاف .
وعلى القول الثاني : وهو إدخال الناقص في الزائد ، فإن حملنا الآية على قصة بدر ، فقالوا : عدد الملائكة : خمسة آلاف؛ لأنهم وُعِدوا بالألف ، ثم ضُمَّ إليه الألفان ، فصاروا ثلاثةً ، ثم ضُمَّ إليه ألفان ، فلا جرم ، وعدوا بخمسة آلاف .
وقد رُوِيَ أن أهْلَ بَدْر أمِدُّوا بألْف ، فقيل : إن كُرْز بن جابر المحاربيّ يريد ان يُمِدَّ المشركين ، فشَقَّ ذلك على المسلمين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم :
« ألَنْ يَكْفِيَكُمْ » يعني بتقدير أن يجيء المشركين مَدَدٌ ، فالله - تعالى - يمدكم - أيضاً - بثلاثة آلاف وخمسة آلاف ، ثم إن المشركين ما جاءهم المَدَدُ « .
وإن حملناها على قصة أُحُد ، فيكون عدد الملائكة ثلاثة آلاف؛ لأن الخمسةَ ، وعدوا بها بشرط أن يَصْبروا ويتقوا ، ويأتوهم من الفور .
فصل
أجمع المفسرون وأهلُ السِّير على أن الله - تعالى - أنزل الملائكةَ يوم بدر ، وأنهم قاتلوا الكفارَ .
قال ابن عباس ومجاهد : لم تقاتل الملائكة في المعركة إلا يوم بدرٍ ، وفيما سوى ذلك يشهدون القتال ، ولا يقاتلون ، إنما يكونون عدداً ومدداً وهذا قول الأكثرين .
وقال الحسن : هؤلاء الخمسة آلافٍ ردء المؤمنين إلى يوم القيامة في المعركة .
وأنكر ابو بكر الأصم ذلك أشد الإنكار ، واحْتَجَّ عليه بوجوه :
الأول : أن الملك الواحد يكفي في إهلاك أهل الأرض؛ فإنَّ المشهور أنَّ جبريل - عليه السلام - أدخل جناحه تحت المدائن السبع لقوم لوط ، وبلغ جناحُه إلى الأرض السابعة ، ثم رفعها إلى السماء ، فجعل عاليها سافلَها ، فإذا حضر هو يوم بدر ، فأيُّ حاجة إلى مقاتلةِ الناسِ مع الكفار؟ ثم بتقدير حضوره ، فأي فائدة في إرسال سائر الملائكة؟
الثاني : أن أكابر الكفار كانوا مشهورين ، وكل واحد منهم مقابله من الصحابة معلوم ، وإذا كان كذلك امتنع إسناد قتله إلى الملائكة .
الثالث : أن الملائكة لو قاتلوا لكانوا إما أن يصيروا بحيث يراهم الناس ، أوْ لا ، فإن رآهم الناس ، فإما أن يروهم في صورة الناس ، أو في صورة غيرهم ، فإنْ رَأوْهُمْ في صورة الناس ، صار المشاهَد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف أو أكثر ، ولم يَقُلْ بذلك أحدٌ؛ لأنه مخالف لقوله تعالى : { وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِم } [ الأنفال : 44 ] وإن شاهدوهم في صور غير صور الناس ، لزم وقوع الرُّعْب الشديد في قلوب الخلق؛ لأن من شاهد الجن ، لا شك أنه يشتد فَزَعُه - ولم ينقل ذلك ألبتة - وإن لم يَرَوْهُم ، فعلى هذا التقدير إذا حاربوا ، وحزوا الرؤوس ، وشقُّوا البطون ، وأسقطوا الكفار عن الأفراس ، فحينئذ إذا شاهد الكفار هذه الأفعال مع أنهم لم يشاهدوا أحَداً من الفاعلين ، وهذا يكون من أعظم المعجزات ، فيجب أن لا يبقى منهم كافر ولا متمرد ، ولما لم يوجد شيء من ذلك عُرفَ فسادُه .
الرابع : أن الملائكة الذين نزلوا ، إما أن يكونوا أجساماً لطيفةً أو كثيفة ، فإن كانت كثيفةً وجب أن يراهم الكل كرؤية غيرهم ، ومعلوم أن الأمر ما ان كذلك ، وإن كانت لطيفةً مثل الهواء - لم يكن فيهم صلابة وقوة ، ويمتنع كونهم راكبين على الخيول .
والجواب : أن نص القرآن ناطق بِها ، وقد وردت في الأخبار قريب من التواتر قال عبد الله بن عُمَيْر لما رجعت قريش من أحد ، جعلوا يتحدثون في أنْدِيَتِهم بما ظفروا ، ويقولون : لم نَرَ الخيل البُلْق ، ولا الرجالَ البيضَ الذين كُنَّا نراهم يومَ بدر .
وقال سعدُ بن أبي وقاص : رأيتُ عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بِيضٌ ، ما رأيتهما قبل ، ولا بعد .
قال سعدُ بن إبراهيمَ : يعني : جبريل وميكائيل .
وهذه الشبهة إنما تليق بمن يُنكر القرآن والنبوة ، فأما من يُقِرُّ بهما ، فلا يليق به شيءٌ من هذا ، وهذه الشبهة إذا قابلناها بكمال قدرة الله - تعالى - زالت؛ فإنه - تعالى - يفعل ما يشاء؛ لأنه قادر على جميع الممكنات .
فصل
اختلفوا في كيفية نُصْرة الملائكة .
فقال بعضهم : بالقتال مع المؤمنين .
وقال بعضهم : بل بتقوية نفوسهم ، وإشعارهم بأن النُّصْرة لهم ، وإلقاء الرعب في قلوب الكفار .
وقال أكثر المفسرين : إنهم لم يقاتلوا في غير بدر .
قوله : { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ } معنى الكفاية : هو سَدُّ الخلة ، والقيام بالأمر .
يقال : كَفَاهُ أمر كذا ، أي : سَدَّ خلته .
والإمداد : إعانة الجيش بالجيش ، وهو في الأصل إعطا ءالشيء حالاً بعد حال .
قال المفضَّل : ما كان على جهة القوة والإعانة ، قيل فيه : أمَدَّه يُمِدُّه ، وما كان على جهة الزيادة ، قيل فيه : مَدَّه يَمُدُّه مَدًّا ومنه : { والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر } [ لقمان : 27 ] .
وقيل : المَدُّ في الشر ، والإمداد في الخير؛ لقوله تعالى : { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ البقرة : 15 ] وقوله : { وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً } [ مريم : 79 ] وقال في الخير : { أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْف } [ الأنفال : 9 ] وقال : { وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِين } [ الإسراء : 6 ] .
قوله : { أَن يُمِدَّكُمْ } فاعل ، { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ } أي : ألن يكفيكم إمدادُ ربكم ، والهمزة لما دخلت على النفي قررته على سبيل الإنكار ، وجيء ب « لن » دون « لا » ؛ لأنها أبلغ في النفي ، وفي مصحف أبيّ « الا » بدون « لن » وكأنه قصد تفسير المعنى .
و « بثلاثة » متعلق ب { يُمِدَّكُمْ } .
وقرأ الحسن البصريّ « ثلاثة آلافٍ » - بهاء - ساكنة في الوصل - وكذلك « بخمسة آلافٍ » كأنه أجْرَى الوصل مُجْرَى الوقف ، وهي ضعيفة؛ لأنها في متضايفين تقتضيان الاتصال .
قال ابن عطية : ووجْه هذه القراءة ضعيف؛ لأن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد يقتضيان الاتصال إذْ هما كالاسم الواحد ، وإنما الثاني كمال الأول ، والهاء إنما هي أمارة وقف ، فيتعلق الوقف في موضع إنما هو للاتصال ، لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضعَ ، من ذلك ما حكاه الفرَّاء من قولهم : أكلت لحما شاةٍ - يريدون لحم شاة - فَمَطلُوا الفتحةَ ، حتى نشأت عنها ألِفٌ ، كما قالوا في الوقف قالا - يريدون قال - ثم مَطَلُوا الفتحة في القوافي ، ونحوها من مواضع الرؤية والتثبيت .
ومن ذلك في الشعر قوله : [ الكامل ]
1610- يَنْبَاعُ مِنْ ذِفْرَى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ ... زَيَّافَةٍ مِثْلِ الْفَنِيقِ المُكْدَمِ
يريد : « ينبع » ، فمطل ومثله قول الآخر : [ الرجز ]
1611- أقُولُ إذْ خَرَّتْ عَلَى الْكَلْكَالِ ... يَا نَاقَتَا مَا جُلْتُ مِنْ مَجَالِ
يريد : « الكلكل » ، فمطل ومثله قول الشاعر : [ الوافر ]
1612- فَأنْتَ مِنَ الْغَوَائِلِ حِينَ تُرْمَى ... وَمَنْ ذَمِّ الرِّجَالِ بِمُنْتَزَاحِ
يريد : بمنتزح .
قال أبو الفتح : « فإذا جاز أن يعترض هذا [ الفتور ] والتمادي بين أثناء الكلمة الواحدة ، جاز التمادي بين المضاف والمضاف إليه ، إذ هما اثنان » .
قال أبو حيان - بعد نقل كلام ابن عطية- : « وهو تكثير وتنظير بغير ما يناسب ، والذي يناسب توجيه هذه القراءة الشاذة أنها من إجراء الوَصْل مُجْرَى الوَقْف ، وإجراء الوَقْف مُجْرَى الوصل والوصل مجرى الوقف موجود في كلامهم وأما قوله : لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع ، وجميع ما ذكر إنما هو من باب إشباع الحركة ، وإشباع الحركة ليس نحو إبدال التاء هاء في الوَصْل ، وإنما نظير هذا قولهم : ثلاثة اربعة ، أبدل التاء هاء ، ثم نقل حركة همزة أربعة إليها ، وحذف الهمزة ، فأجْرَى الوصل مُجْرَى الوقف في الإبدال ، ولأجل الوصل نقل فأجرى الوصل مُجْرى الوقف؛ إذْ لا يكون هذا النقل إلا في الوَصْل » .
وقرئ شاذًّا - أيضاً - : بثلاثةْ آلاف - بتاء ساكنة ، وهي أيضاً من إجراء الوصل مجرى الوقف من حيث السكون واختلفوا في هذه التاء الموقوف عليها الآن ، أهي تاء التأنيث التي كانت ، فسكنت فقط ، أو هي بدل من هاء التأنيث المبدلة من التاء؟ ولا طائل تحته .
قوله : { مِّنَ الملاائكة } يجوز أن تكون « مِنْ » للبيان ، وأن تكون « مِنْ » ومجرورها في موضع الجر صفة ل « لَثَلاثَةِ » أو لِ « آلافٍ » .
قوله : { مُنْزَلِينَ } صفة ل « ثلاثة آلاف » ، ويجوز أن يكون حالاً من « الْمَلاَئِكَةِ » والأول أظهر . وقرأ ابن عامر « مُنزَّلين » - بالتضعيف - وكذلك شدد قوله في سورة العنكبوت : { إِنَّا مُنزِلُونَ على أَهْلِ هذه القرية رِجْزاً مِّنَ السمآء } [ العنكبوت : 34 ] إلا أنه هنا - اسم مفعول ، وهناك اسم فاعل .
والباقون خفَّفوها وقرأها ابن أبي عَبْلَة - هنا - مُنَزَّلين - بالتشديد مكسور الزاي ، مبنياً للفاعل .
وبعضهم قرأه كذلك ، إلا أنه خفف الزاي ، جعله من أنزل - كأكرم - والتضعيف والهمزة كلاهما للتعدية ، ففعَّل وأفْعل بمعنًى ، وقد تقدم أن الزمخشري جعل التشديد دالاًّ على التنجيم وتقدم البحث معه في ذلك وفي القراءتنين الأخيرتين يون المفعول محذوفاً ، أي : منزلين النصر على المؤمنين ، والعذاب على الكافرين .
قوله : { بلى } حرف جواب ، وهو إيجاب للنفي في قوله : { أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ } وقد تقدم الكلام عليه وجواب الشرط قوله : { يُمْدِدْكُمْ } .
والفوز : العجلة والسرعة ، ومنه : فارت القِدْرُ ، إذا اشتد غلبانها وسارع ما فيها إلى الخروج ، و الفوز مصدر ، يقال : فَار يفُورُ فَوْراً ، قال تعالى :
{ حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور } [ هود : 40 ] ، ثم جعلوا هذه اللفظة استعارة في السرعة ، يقال : جاء فلان من فوره وفيه قول الأصوليين الأمر للفور ويعبّر به عن الغضب والحِدة؛ لأن الغضبان يسارع إلى البطش بمن يغضب عليه ، فالفَوْز - في الأصل - : مصدر ، ثم يُعَبَّر به عن الحالة التي لا ريث فيها ولا تعريج على شيء سواها وقال ابن عباس والحسن وقتادة وأكثر المفسرين : معنى « مِنْ فَورِهم هَذَا » : من وجههم هذا .
وقال مجاهد والضَّحَّاكُ : من غضبهم هذا؛ لأنهم إنَّما رجعوا للحرب يوم أُحُد من غَضَبِهم ليوم بدر .
قوله : { مُسَوِّمِينَ } كقوله : { مُنزَلِينَ } ، وقرأ ابْنُ كَثيرٍ وأبُو عَمْروٍ وعَاصِمٌ بكسر الواو ، على اسم الفاعل ، والباقون بفتحها على اسم المفعول ، فأما القراءة الأولى ، فيحتمل أن تكون من السوم - وهو ترك الماشية ترعى - والمعنى : أنهم سَوَّموا خَيْلَهم ، أي أعطوها سَوْمَها من الجَرْي والجَوَلان ، وتركوها كذلك ، كما يفعل من يسيم ماشيته في المرعى .
ويحتمل أن تكون من السومة - وهي العلامة - على معنى أنهم سوموا أنفسهم ، أو خيلهم .
روي أنهم كانوا على خَيْلٍ بُلْقٍ ، قال عروة بن الزبير : كانت الملائكة على خَيْل بُلْقٍ ، عليهم عمائمُ بِيضٌ ، قد أرسلوها بين أكتافهم .
وقال هشام بن عروة : عمائم صفر .
وروي أنهم كانوا بعمائم بيضٍ ، إلا جبريل فبعمامة صفراء ، على مثال الزبير بن العوام .
قال قتادةُ والضَّحَّاكُ : كانوا قد علموا بالعهن في نواصي الخيل وأذنابها .
ورُوِيَ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر : « تسوموا ، فإنَّ الملائكة قد تسومت بالصوف الأبيض في قلانسهم ومغافرهم » وأما القراءة الثانية ، فواضحة بالمعنيين المذكورين ، فمعنى السوم فيها : أن الله أرسلهم ، إذ الملائكة كانوا مرسلين من عند الله لنُصْرة نبيه والمؤمنين .
قال أبو زيد : سوم الرجل خَيْلَه ، أي أرسلها .
وحكى بعضهم : سومت غلامي ، أي : أرسلته ، ولهذا قال الأخفش : معنى « مُسَوَّمِينَ » مُرْسَلِين .
ومعنى السومة فيها : أن الله - تعالى - سومهم ، أي جعل عليهم علامة ، وهي العمائم ، أو أن الملائكة جعلوا خيلهم نوعاً خاصاً - وهي البلق - فقد سوموا خيلهم .
فصل
قال القُرْطُبِيُّ : « وفي الآية دلالة على اتخاذ الشارة ، والعلامة للقبائل ، والكتائب ، يجعلها السلطان لهم؛ لتتميز كل قبيلة وكتيبة من غيرها عند الحرب ، وعلى فضل الخيل البُلْق؛ لنزول الملائكة عليها » .
قال القرطبي : « ولعلها نزلت على البلق موافقة لفرس المقداد؛ فإنه كان أبلق ، ولم يكن له فرس غيره ، فنزلت الملائكة على الخيل البُلْق ، إكراماً للمقداد ، كما نزل جبريل معتماً بعمامة صفراء على مثال الزبير » .
قوله : { وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى } الكناية في « جَعَلَهُ » عائدة على المصدر ، أي : ما جعل الإمداد إلا بشرى لكم بأنكم تُنصرون ، وهذا الاستثناء فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مفعول من أجله ، وهو استثناء مفرغ؛ إذ التقدير : وما جعله لشيء من الأشياء إلا للبُشْرَى ، وشروط نصبه موجودة ، وهي اتحاد الفاعل ، والزمان ، وكونه مصدراً سبق للعلة .
والثاني : أنه مفعول ثانٍ لِ « جَعَل » على أنها تصييرية .
والثالث : أنه بدل من الهاء في « جَعَلَهُ » قاله الحوفيّ وجعل الهاء عائدةً على الوعد بالمدد .
والبشرى : مصدر على « فُعْلَى » كالرُّجْعَى .
وقيل : اسم من الإبشار ، وتقدَّم الكلام في معنى البُشْرَى في قوله تعالى : { وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } [ البقرة : 25 ] .
قوله : { وَلِتَطْمَئِنَّ } فيه وجهان :
أحدهما : أنًّه معطوف على « بُشْرَى » هذا إذا جعلناها مفعولاً من أجله ، وإنما جُرَّ باللام؛ لاختلال شرط من شروط النصب - وهو عدم اتحاد الفاعل - فإن فاعل الجَعْل هو الله - تعالى - وفاعل الاطمئنان القلوب ، فلذلك نصب المعطوف عليه لاستكمال الشروط ، وجر المعطوف باللام لاختلال شرطه ، وقد تقدم ، والتقدير : وما جعله إلا للبشرى وللطمأنينة .
والثاني : أنها متعلقة بمحذوف ، أي : ولتطمئن قلوبكم ، فعلى ذلك ، أو كان كيت وكيت .
وقال أبو حيان : و « تطمئن » منصوب بإضمار « أن » بعد لام « كي » ، فهو من عطف الاسم على توهم موضع اسم آخر .
ثم نقل عن ابن عطية أنه قال : « اللام في { وَلِتَطْمَئِنَّ } متعلقة بفعل مضمر يدل عليه » جَعَلَهُ « ومعنى الآية : وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به ، ولتطمئن به قلوبكم .
قال أبو حيان : » وكأنه رأى أنه لا يمكن - عنده - أن يُعطف { وَلِتَطْمَئِنَّ } على { بشرى } ، على الموضع؛ لأن من شرط العطف على الموضع - عند أصحابنا - أن يكون ثَمَّ مُحْرِز للموضع ، ولا محرز هنا؛ لأن عامل الجَرِّ مفقود ، ومَنْ لم يشترط المحرز ، فيجوز ذلك على مذهبه وسيكون من باب العطف على التوهُّم « .
قال شهاب الدين : » وقد جعل بعضهم الواو في { وَلِتَطْمَئِنَّ } زائدة ، وهو لائق بمذهب الأخفش ، وعلى هذا فتتعلق اللام بالبشرى ، أي : أن البشرى عِلَّة للجَعْل ، والطمأنينة علة للبُشْرَى ، فهي علة العلة « .
قال ابْنُ الخَطِيبِ : في ذكر الإمداد مطلوبان وأحدهما أقوى في المطلوبية من الآخر :
فأحدهما : إدخال السرور في قلوبهم ، وهو المراد بقوله : إلاًَّ بشرى } .
الثاني : حصول الطمأنينة بالنصر ، فلا يجنبون ، وهذا هو المقصود الأصلي ، ففرق بين هاتين العبارتين تنبيهاً على حصول التفاوت بين الأمرين في المطلوبية ، فعطف الفعل على الاسم ، ولما كان الأقوى حصول الطمأنينة ، أدخل حرف التعليل على فعل الطمأنينة ، فقال : { وَلِتَطْمَئِنَّ } ونظيره قوله : { والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } [ النحل : 8 ] لما كان المقصود الأصلي هو الركوب ، أدخَل عليه حرف التعليل ، فكذا هاهنا .
قال أبو حيان : » ويناقش في قوله : عطف الفعل على الاسم؛ إذْ ليس من عطف الفعل على الاسم وفي قوله : أدخل حرف التعليل ، وليس ذلك كما ذكره « .
انتهى .
قال شهَابُ الدِّينِ : « إن عنى الشيخ أنه لم يدخل حرف التعليل ألبتة ، فهذا لا يمكن إنكاره ألبتة ، وإن عنى أنه لم يدخله بالمعنى الذي قصده الإمام فسَهْل » .
وقال الجُرْجَانِيُّ في نظمه : « هذا على تأويل : وما جعله الله إلا ليبشركم ولتطمئن ، ومن أجاز إقحام الواو - وهو مذهب الكوفيين - جعلها مقحمة في { وَلِتَطْمَئِنَّ } فيكون التقدير : وما جعله الله إلا بشرى لكم؛ لتطمئنَّ قلوبكم به » .
والضميران في قوله { وَمَا جَعَلَهُ } ، و « بِهِ » يعودان على الإمداد المفهومِ من الفعل المتقدم ، وهو قوله : « يمددكم » .
وقيل : يعودان على النصر .
وقيل : على التسويم .
وقيل : على التنزيل .
وقيل : على المدد .
وقيل : على الوعد .
فصل
قال في هذه الآية : « لَكُمْ » وتركها في سورة الأنفال؛ لأن تيك مختصر هذه ، فكان الإطناب - هنا- أوْلَى؛ لأن القصة مكملة هنا ، فناسب إيناسهم بالخطاب المواجه ، وأخر - هنا - « به » وقدمه في سورة الأنفال؛ لأن الخطاب - هنا - موجود في « لَكُمْ » فأتبع الخطاب الخطاب ، وهنا جاء بالصفتين تابعتين في قوله : { العزيز الحكيم } وجاء بهما في جملة مستأنفة في سورة الأنفال ، في قوله : { إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ الأنفال : 10 ] ؛ لأنه لما خاطبهم - هنا - حسن تعجيل بشارتهم بأنه عزيز حكيم ، أي : لا يغالب ، وأن أفعاله كلها متقنة حكمة وصواب ، فالنصر من عند÷ فاستعينوا به ، وتوكلوا عليه؛ لأن العز والحُكْم له .
قوله : { لِيَقْطَعَ } في متعلق هذه اللام سبعة أوجه :
أحدها : أنها متعلقة بقوله : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله } قاله الحوفيّ ، وفيه بُعْدٌ؛ لطول الفَصْل .
الثاني : أنها متعلقة بالنصر في قوله : { وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله } والمعنى : أن المقصود من نصركم ، هو أن تقطعوا طرفاً من الذين كفروا ، أي : تملكوا طائفة منهم ، وتقتلوا قطعة منهم ، وفي هذا نظر من حيث إنه قد فصل بين المصدر ومتعلقه بأجنبيّ ، وهو الخبر .
الثالث : أنها متعلقة بما تعلَّق به الخبر ، وهو قوله : { مِنْ عِندِ الله } ، والتقدير : وما النصر إلا كائن ، أو إلا مستقر من عند الله ليقطع .
والرابع : أنها متعلقة بمحذوف ، تقديره : أمَدَّكُم ، أو نَصَرَكُم ، ليقطَعَ .
الخامس : أنها معطوفة على قوله : « ولتطمئن » حذف حرف لعطف لفهم المعنى؛ لأنه إذا كان البعض قريباً من البعض جاز حذف العاطف ، كقوله : { ثلاثة رابعهم كلبهم } وقول السيد لعبده : أكرمتك لتخدمني ، لتعينني ، لتقوم بخدمتي ، فحذف العاطف لقُرْب البعض من البعض ، فكذا هنا وعلى هذا فتكون الجملة في قوله : { وما النصر إلا من عند الله } اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه ، وهو ساقط الاعتبار .
السادس : أنها متعلقة بالجَعْل قاله ابن عطية .
السابع : أنها متعلقة بقوله : { يُمْدِدْكُمْ } وفيه بُعْدٌ؛ للفواصل بينهما .
والطرف : المراد به : جماعة ، وطائفة ، وإنما حَسَُ ذِكْر الطرف - هنا- ولم يحسن ذكر الوسط؛ لأنه لا وصول إلى الوَسَطِ إلا بعد الأخذ من الطرف ، وهذا يوافق قوله تعالى : { قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ } [ التوبة : 123 ] وقوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } [ الرعد : 41 ] .
قوله : { مِّنَ الذين } يجوز أن يكون متعلِّقاً بالقَطْع ، فتكون « مِنْ » لابتداء الغاية ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف ، على أنه صفة ل « طَرَفاً » وتكون « مِنْ » للتبعيض .
قوله : { أَوْ يَكْبِتَهُمْ } عطف على « لِيَقْطَعَ » .
و « أو » ؛ قيل : على بابها من التفصيل ، أي : ليقطع طرفاً من البعض ، ويكبت بعضاً آخرين .
وقيل : بل هي بمعنى الواو ، أي : يجمع عليهم الشيئين .
والكبت : الإصابة بمكروه .
وقيل : هو الصَّرع للوجْه واليدين ، وعلى هذين فالتاء أصلية ، ليست بدلاً من شيء ، بل هي مادة مستقلة .
وقيل : أصله من كبده ، إذا أصابه بمكروه أثر في كبده وَجَعاً ، كقولك : رأسته ، أي : أصبت رأسه ، ويدل على ذلك قراءة لاحق بن حُمَيد : أو يكبدَهم - بالدال - والعرب تُبْدِل التاء من الدال ، قالوا : هَرَتَ الثوبَ ، وهردَه ، وسَبَتَ رأسَه ، وسَبَدَه - إذا حَلَقَه- .
وقد قيل : إنّ قراءة لاحق أصلها التاء ، وإنما أُبدِلت دالاً ، كقولهم : سبد رأسه ، وهرد الثوب ، والأصل فيهما التاء .
فصل
معنى قوله : { لِيَقْطَعَ طَرَفًا } أي : ليُهْلِكَ طائفة .
وقال السُّدِّيُّ : لِيَهْدِمَ رُكْناً من أركان الشرك بالقتل والأسر ، فقُتِل من قادتهم وسادتهم يوم بدر - سبعون ، وأُسِر سبعون ، ومَنْ حَمَل الآيةَ على أحُد ، فقد قُتِل منهم يومئذ ستة عشر ، وكانت النُّصرة للمسلمين ، حتى خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانقلبت عليهم .
{ أَوْ يَكْبِتَهُمْ } .
قال الكلبي : يهزمهم .
وقال السُّدي : يلعنهم .
وقال أبو عبيدة : يُهْلِكهم ويصرعهم على وجوههم .
وقيل : يُخْزِيهم والمكبوت الحزين .
وقيل : يَغِيظهم .
وقيل : يُذلهم .
قوله : { فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ } لن ينالوا خيراً مما كانوا يرجون من الظفر بكم .
والخيبة لا تكون إلا بعد التوقُّع ، وأما اليأس فإنه يكون بعد التوقُّع وقبلَه ، فنقيض اليأس الرجاء ، ونقيض الخيبة : الظفر يقال : خَابَ يَخِيبُ خَيْبَةً .
و { خَآئِبِينَ } نُصِبَ على الحال .
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)
اختلفوا في سبب النزول .
فقيل : نزلت في قصة أُحُد ، وهؤلاء اختلفوا على ثلاثة أقوالٍ :
أحدها : أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يدعُوَ على الكفار ، فنزلت هذه الآيةُ ، وهؤلاء ذكروا أقوالاً :
أحدها : أن عُتْبَةَ بن أبي وقاص شجَّه ، وكسر رَبَاعِيَتَهُ ، فجعل يمسحُ الدمَ عن وجهه ، وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم ، وهو يقول : كيف يُفْلِح قومٌ خضَّبوا وَجْه نبيهم بالدم ، وهو يدعوهم إلى ربهم؟ ثم أراد أن يدعُوَ عليهم ، فنزلت هذه الآية .
وروى سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لَعَنَ أقوماً ، فقال : « اللهم العن أبا سفيان ، الهم العن الحارثَ بن هشام ، اللهم العن صفوانَ بن أمَيَّة » ، فنزلت هذه الآية .
{ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } فتابَ على هؤلاءِ ، وحَسُنَ إسلامهم .
وقيل : نزلت في حَمْزَةَ بن عبد المطلب لما رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم ما فعلوا به من المُثْلَة ، قال : لأمَثِّلَنَّ بهم كما مثّلوا به . فنزلت هذه الآية .
{ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } فتابَ على هؤلاءِ ، وحَسُنَ إسلامِهم .
وقيل : نزلت في حَمْزَةَ بن عبد المطلب لما رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم ما فعلوا به من المُثْلَة ، قال : لأمَثِّلَنَّ بهم كما مثّلوا به . فنزلت هذه الآية .
قال القفال : وكل هذه الأشياء حصلت يومُ أُحُد ، فنزلت الآيةُ عند الكل ، فلا يمنع حملها على الكل .
الثاني : أنها نزلت بسبب أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يلعنَ المسلمين الذين خالفوا أمره والذين انهزموا ، فمنعه الله من ذلك قاله ابنُ عباس .
الثالث : أنه صلى الله عليه وسلم أراد أنْ يستغفرَ للمسلمين الذين انهزموا ، وخالفوا أمره ، ويدعوَ لهم ، فنزلت الآية .
القول الثاني : أنها نزلت في واقعةٍ أخرى ، وهي أنه صلى الله عليه وسلم بعث جَمْعاً من خيار أصْحَابه - وهم سبعون رجلاً من القُرَّاء إلى بِئْر معونة ، في صفر سنة أربع من الهجرة ، على رأس أربعة أشهر من أحد ، ليُعَلِّموا الناسَ القرآن والعلم ، أميرهم المنذر بن عمرو ، فذهب إليهم عامر بن الطفيل مع عسكره فقتلهم ، فوَجِدَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وَجْداً شديداً ، وقَنَتَ شهراً في الصلوات كلِّها يدعو على جماعة من تلك القبائلِ باللعن والسنين ، فنزلت الآية ، قاله مقاتل وأكثر العلماء متفقون على أنها في قصة أحد .
فإن قيل : ظاهر هذه الآية يدل على أنها وردت للمنع من أمرٍ كان صلى الله عليه وسلم يريد أن يفعلَه ، وذلك الفعل إن كان بأمر الله ، فكيف يمنعه منه؟ وإن كان بغير أمر الله ، فكيف يصح هذا مع قوله تعالى :
{ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى } [ النجم : 3 ] ؟ وأيضاً فالآية دالة على عصمة الأنبياء ، فالأمر الممنوع منه في هذه الآية ، إن كان حَسَناً فلِمَ منعه اللهُ؟ وإن كان قبيحاً ، فكيف يكون فاعله معصوماً؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أن المنعَ من الفعل لا يدل على أن الممنوع كان مُشْتَغَلاً به؛ فإنه تعالى - قال للنبي صلى الله عليه وسلم { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] ، وإنه صلى الله عليه وسلم لم يُشْرِك قط ، وقال : « يا أيها النبي اتق الله » وهذا لا يدل على أنه ما كان يتقي الله ، ثم قال : { وَلاَ تُطِعِ الكافرين } [ الأحزاب : 1 ] ، وهذا لا يدل على أنه أطاعهم ، والفائدة في هذا المنع أنه لما حصل ما يوجب الغَمَّ الشديد ، والغضب العظيم ، وهو قَتْل عمه حمزةَ ، وقتل المسلمين . والظاهر أن هذا الغضب يَحْمِل الإنسان على ما لا ينبغي من القول والفعل ، فنصَّ الله على المنع؛ تقويةً لِعصْمَته ، وتأكيداً لطهارته .
والثاني : لعله صلى الله عليه وسلم همَّ أن يفعلَ ، لكنه كان ذلك من باب تَرْك الأفضل ، والأوْلَى ، فلا جرم ، أرشده الله تعالى إلى اختيار الأوْلَى ، ونظيره قوله تعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله } [ النحل : 126-127 ] فكأنه - تعالى - قال : إن كان لا بد أن تعاقب ذلك الظالمَ فاكتفِ بالمثل ، ثم قال ثانياً : وإن تركته كان ذلك أوْلَى ، ثم أمره أمراً جازِماً بتَرْكِه ، فقال : { واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله } [ النحل : 127 ] .
ووجه ثالث : وهو أنه صلى الله عليه وسلم لما مال قلبه إلى اللعنة عليهم ، استأذن ربه فيه ، فنزلت الآية بالنص على المنع . وعلى هذا التقدير ، فلا يدل هذا النهي على القدح في العِصْمة .
فصل
في معنى الآية قولان :
الأول : ليس لك من مصالح عبادي شيء إلا ما أُوحِي إليك .
وثانيها : ليس لك في أن يتوبَ الله عليهم ، ولا في أن يعذبَهم شيء غلا إذا كان على وفق أمري ، وهو كقوله : { أَلاَ لَهُ الحكم } [ الأنعام : 62 ] ، واختلفوا في هذا المنع من اللعن ، لأي معنًى كان؟
فقيل : الحكمة فيه أنه - تعالى - ربما علم من حال بعض الكفار أنه يتوب ، وأنه سيولد له وَلَدٌ ، يكون مسلماً ، بَرًّا ، تقيًّا ، فإذا حصل دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم بالهلاك ، فإن قُبلت دعوتُه فات هذا المقصود ، وإنْ لم تُقْبَلْ دعوتُه كان ذلك كالاستخفاف بالرسول صلى الله عليه وسلم ، فلأجل هذا المعنى منعه الله تعالى - من اللَّعْن ، وأمره بأن يُفَوِّضَ الكل إلى علم الله سبحانه وتعالى .
وقيل المقصود منه إظهار عجز العبودية وألا يخوض العبد في أسرار الله تعالى .
قوله : { أَوْ يَتُوبَ } في نصبه أوجهٌ :
أحدها : أنه معطوف على الأفعال المنصوبة قبلَه ، تقديره : لِيقطَعَ ، أو يتوبَ عليهم ، أو يكبتهم ، أو يعذبهم .
وعلى هذا فيكون قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } جملة معترضة بين المتعاطِفَيْن ، والمعنى : إن الله تعالى هو المالك لأمرهم ، فإن شاء قطع طرفاً منهم ، أو هزمهم ، أو يتوب عليهم إن أسلموا ورجعوا ، أو يعذبهم إن تمادَوْا على كُفْرهم ، وإلى هذا التخريج ذهب جماعة من النحاة كالفراء ، والزجاج .
الثاني : أن « أو » هنا بمعنى « إلا أن » كقولهم : لألزمنك أو تقضين حقي أي : إلا أن تقتضينه .
الثالث : « أوْ » بمعنى : « حتى » ، أي : ليس لك من الأمر شيء حتى يتوب وعلى هذين القولين فالكلام متصل بقوله : { ليس لك من الأمر شيء } ، والمعنى : ليس لك من الأمر شيء إلا أن يتوب عليهم بالإسلام ، فيحصل لك سرور بهدايتهم إليه ، أو يعذبهم بقتل ، أو نار في الآخرة ، فتشقى بهم ، وممن ذهب إلى ذلك الفراء ، وأبو بكر بن الأنباري ، قال الفراء : ومثل هذا من الكلام : لألزمنك أو تعطيني ، على معنى إلا أن تُعطيني وحتى تعطيني وأنشدوا في ذلك قول امرئ القيس : [ الطويل ]
1613- فَقُلْتُ لَهُ : لاَ تَبْكِ عَيْنُكَ إنَّمَا ... تُحَاوِلُ مُلْكاً ، أوْ تَمُوتَ ، فَُعْذَرَا
أراد : حتى تموت ، أو : إلا أن تموت .
قال شهاب الدين : « وفي تقدير بيت امرئ القيس ب » حتى « نظر؛ إذ ليس المعنى عليه؛ لأنه لم يفعل ذلك لأجل هذه الغاية ، والنحويون لم يقدروه إلا بمعنى : إلا أنْ » .
الثالث : منصوب بإضمار : « أنْ » عطفاً على قوله : « الأمر » ، كأنه قيل : ليس لك من الأمر أو من توبته عليهم ، أو تعذيبهم شيء ، فلما كان في تأويل الاسم عُطِفَ على الاسم قبلَه ، فهو من باب قوله : [ الطويل ]
1614- فَلَوْلاَ رِجَالٌ مِنْ رِزَامٍ أعِزَّةٌ ... وَآلُ سُبَيْعٍ ، أوْ أسُوءَكَ عَلْقَمَا
وقوله : [ الوافر ]
1615- لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ ، وَتَقَرَّ عَيْنِي ... أحَبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ
الرابع : أنه معطوف - بالتأويل المذكور - على « شَيءٌ » ، والتقدير : ليس لك من الأمر شيء ، أو توبة الله عليهم ، أو تعذيبهم ، أي : ليس لك - أيضاً - توبتهم ولا تعذيبهم ، إنما ذلك راجع إلى الله عز وجل .
وقرأ أبَيّ : أو يتوبُ ، أو يعذبهم ، برفعهما على الاستئناف في جملة اسمية ، أضْمِر مبتدؤُها ، أي : هو يتوبُ ، ويعذبُهم .
فصل
يحتمل أن يكون المراد من هذا العذاب : هو عذاب الدنيا - بالقَتْل والأسْر - وأن يكون عذابَ الآخرة ، وعلى التقديرين فعِلْمُ ذلك مُفَوَّضٌ إلى الله تعالى .
قوله : { فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } جملة مستقلة ، والمقصود من ذكرها : تعليل حسن والتعذيب ، والمعنى : إن يعذبهم فبظلمهم .
واعلم أنه إذا كان الغرض من الآية منعه من الدعاء على الكفار صَحَّ ذلك ، وسمَّاهم ظالمين؛ لأن الشرك ظلم ، بل هو أعظم الظلم؛ لأن الله تعالى قال : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] .
وإن كان الغرضُ منها منعه من الدعاء على المسلمين الذين خالفوا أمره ، صح الكلام - أيضاً -؛ لأن من عصى الله ، فقد ظلم نفسه .
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
والمقصود منه : تأكيد ما ذكره أولاً من قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } [ آل عمران : 128 ] ، والمعنى : إنما يكون ذلك لمن له الملك ، وليس هو لأحد إلا الله .
وقال : { مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } ولم يقل : مَنْ؛ لأن الإشارة إلى الحقائق والماهيات ، فدخل الكُلُّ فيه .
قوله : { يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } احتجوا بذلك على أنه سبحانه - له أن يُدْخِلَ الجنة - بحُكْم إلهيته - جميعَ الكُفَّار ، وله أن يُدْخِلَ النارَ - بحكم إلهيته - جميع المقربين ، ولا اعتراض عليه؛ لأن فعلَ العبد متوقف على الإرادة ، وتلك الإرادة مخلوقة لله - تعالى - فإذا خلق الله تلك الإرادة أطاع ، وإذا خلق النوع الآخر من الإرادة عصى ، فطاعة العبد من الله ، ومعصيته - أيضاً - من الله - وفعل الله لا يوجب على الله شيئاً - ألبتة - ، فلا الطاعة توجب الثواب ، ولا المعصية توجب العقاب ، بل الكل من الله - بحكم إلهيته وقهره وقدرته - فصح ما ادعيناه .
فإن قيل : أليس ثبت أنه لا يُغْفَرُ لِلْكُفَّارِ ، ولا يُعَذَّبُ المَلاَئِكَةُ والأنْبِيَاءُ - عليهم السلام .
قلنا : مدلول الآية أنه لو أراد فعل ، ولا اعتراض عليه ، وهذا القدر لا يقتضي أنه يفعل ، أو لا يفعل .
ثم قال : « والله غفور رحيم » والمقصود منه أنه وإن حَسُنَ كل ذلك منه إلا أن جانب الرحمة والمغفرة غالب ، لا على سبيل الوجوب ، بل على سبيل الفضل والإحسان .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)
قال بعضهم : إنه تعالى لما شرح عظيم نعمه على المؤمنين ، فيما يتعلق بإرشادهم إلى الأصلح في أمر الدين والجهاد ، اتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي ، والترغيب والتحذير ، وعلى هذا التقدير ، فيكون ابتداء كلام ، لا تعلُّق له بما قبله .
وقال القفال : يُحتمل أن يكون متصلاً بما قبله من أن المشركين إنما أنفقوا على تلك العساكر أموالاً جمعوها بسبب الربا ، فلعل ذلك يصير داعياً للمسلمين على الإقدام على الربا ، فيجمعوا المالَ ، ويُنْفِقُوه على العساكر ، فيتمكنون من الانتقام منهم ، فنهاهم الله عن ذلك .
قوله : { أَضْعَافاً } جمع ضعف ، ولما كان جمع قلة - والمقصود : الكثرة - أتبعه بما يدل على الكثرة وهو الوصف بقوله : { مُّضَاعَفَةً } .
وقال أبو البقاء : { أَضْعَافاً } مصدر في موضع الحال من « الرِّبا » ، تقديره : مضاعفاً ، وتقدم الكلام على { أَضْعَافاً } ومفرده في البقرة .
وقرأ ابنُ كثير وابنُ عامر : « مضعَّفة » - مشددة العين ، دون ألف .
والباقون بالألف والتخفيف ، وتقدم الكلام على ذلك في البقرة .
فصل
لما كان الرجل في الجاهلية ، إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل ، ولم يكن المديون واجداً لذلك المال فقال : زدني في المال حَتَّى أزيدَك في الأجَلِ ، فربما جعله مائتين ، ثم إذا حَلَّ الأجَلُ الثاني ، فعل مثل ذلك ، ثم إلى آجالٍ كثيرةٍ ، فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها ، فهذا هو المراد بقوله : { أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً } .
قوله : { واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فإن اتقاء الله واجب ، والفلاح يقف عليه ، وهذا يدل على أن الربا من الكبائر ، وقد تقدم الكلام على الربا في « البقرة » .
قوله تعالى : { واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } في هذه الآية سؤالان .
الأول : أن النار التي أعدت للكافرين تكون بقدر كفرهم؛ وذلك أزيد مما يستحقه المسلم بفسقه ، فكيف قال : { واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } ؟
والجواب : أن التقدير : اتقوا أن تجحدوا تحريمَ الربا ، فتصيروا كافرين .
السؤال الثاني : أن ظاهر قوله : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } يقتضي أنها ما أعدت لغيرهم ، وهذا يقتضي القطع بأن أحداً من المؤمنين لا يدخل النار ، وهو خلاف سائر الآيات .
والجواب عليه من وجوه :
أحدها : أنه لا يبعد أن يكون في النار دركات ، أعِدَّ بعضُها للكفار ، وبعضها للفُسَّاق ، فتكون هذه الآية إشارة إلى الدركات المخصوصة بالكفار ، وهذا لا يَمْنَعُ ثبوت دركات أخْرَى أعِدَّت لغير الكفار .
وثانيها : أن تكون النار مُعَدَّة للكافرين ، ولا يمنع دخول المؤمنين فيها؛ لأن أكثر أهل النار الكفار ، فذكر الأغلب ، كما أن الرجل يقول : هذه الدابة أعددتَها لِلِقَاءِ المُشْرِكِينَ ، ولا يمنع من ركوبها لحوائجه ، ويكون صادقاً في ذلك .
وثالثها : أن القرآن كالسورة الواحِدَةِ ، فهذه الآية دلت على أن النار معدة للكافرين ، وباقي الآيات دلَّت أيضاً على أنها معدة لمن سرق ، وقتل ، وزنى ، وقذف ، ومثله قوله تعالى :
{ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } [ الملك : 8 ] ، وليس جميع الكفار قال ذلك ، وقوله : { فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ والغاوون } [ الشعراء : 94 ] إلى قوله : { إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العالمين } [ الشعراء : 98 ] ، وليس هذا صفة جميعهم ، لما كانت هذه الصفات مذكورة في سائر السور كانت كالمذكورة - هاهنا- .
الرابع : أن قوله : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } إثبات كونها معدة لهم ، ولا يدل على الحصر ، كقوله - في الجنة : { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 133 ] ، ولا يدل ذلك على أنه لا يدخلها سواهم من الصبيان والمجانين ، والحور العين .
وخامسها : أنَّ المقصود مِنْ وَصْفها - بكونها { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } : تعظيم الزَّجْرِ؛ لأن المؤمنين مخاطبين باتقاء المعاصي ، إذا علموا بأنهم متى فارقوا التقوى ، دخلوا النار المعدة للكافرين ، وقد تقرَّر في عقولهم عظم عقوبة الكافرين ، انزجروا عن المعاصي أتَمَّ الانزجار ، كما يُخوفُ الوالدُ ولدَه بأنك إن عصيتني أدخلتك دارَ السباع ، ولا يدل ذلك على أن تلك الدارَ لا يدخلها غيرهم .
وهذه الآية تدل على أن النار مخلوقة في الأزل؛ لأن قوله : « أعِدَّتْ » إخبار عن الماضي ، فلا بد وأن يكون ذلك الشيء دخل في الوجود .
قوله تعالى : { وَأَطِيعُواْ الله والرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } لما ذكر الوعيد ذكر بعده الوعد - على عادته المستمرَّة في القرآن .
قال محمدُ بن إسحاق بن يسار : هذه الآية معاتبة للذين عَصَوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، حين أمرهم بما أمرهم يوم أُحُدٍ .
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
قرأ نافعُ ، وابْنُ عَامِرٍ : سارعوا - بدون واو - وكذلك هي في مصاحف المدينة والشام .
والباقون بواو العطف ، وكذلك هي في مصاحف مكةَ والعراقِ ومصحف عثمانَ .
فمن أسقطها استأنف الأمر بذلك ، أو أراد العطف ، لكنه حذف العاطفَ؛ لقُرْب كل واحد منهما من الآخر في المعنى - كقوله تعالى : { ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] ، فإن قوله : { وسارعوا } ، وقوله : { وأطيعوا } كالشيء الواحد ، وقد تقدم ضعف هذا المذهب .
ومن أثبت الواو عطف جملة أمريةً على مثلها ، وبعد إتباع الأثر في التلاوة ، أتبع كل رسم مصحفه .
ورَوَى الكِسَائِيُّ : الإمالة في { وسارعوا } ، و { أولئك يُسَارِعُونَ } [ المؤمنون : 61 ] ، و { نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات } [ المؤمنون : 56 ] وذلك لمكان الراء المكسورة .
قوله : { مِّن رَّبِّكُمْ } صفة لِ « مَغْفِرَةٍ » ، و « مِنْ » للابتداء مجازاً .
فصل
قال بعضهم : في الكلام حذف ، والتقدير : وسارعوا إلى ما يوجب مغفرة من ربكم .
وفيه نظر؛ لأن الموجب للمغفرة ، ليس إلا افعال المأمورات ، وترك المنهيات ، فكان هذا أمراً بالمسارعة إلى فعل المأمورات ، وترك المنهيات .
وتمسك كثيرٌ من الأصوليين بهذه الآية ، في أن ظاهر الأمرِ يوجب الفور؛ لأنه ذكر المغفرة على سبيل التنكير ، والمراد منه : المغفرة العظيمة المتناهية في العِظَم ، وذلك هو المغفرة الحاصلة بسبب الإسلام .
فصل
قال ابْنُ عَبَّاسٍ : إلى الإسلام .
ورُوِيَ عنه إلى التوبة - وهو قول عكرمة - والمعنى : وبادروا ، وسابقوا .
وقال عَلِيُّ بْنُ أبِي طَالِب : إلى أداء الفرائض؛ لأن الأمر مُطْلَق ، فيعم كل المفروضات .
وقال عثمان بن عفان : إنه الإخلاص؛ لأنه المقصود من جميع العبادات؛ لقوله تعالى : { وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } [ البينة : 5 ] .
وقال أبو العالية : إلى الهجرة .
وقال الضحاك ومحمد بن إسحاق : إلى الجهاد؛ لأن من قوله : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ } [ آل عمران : 121 ] إلى تمام ستين آية نزل في يوم أُحُد ، فكان كل هذه الأوامر والنواهي مختصَّة بما يتعلق بالجهاد .
وقال سعيد بن جبير : إلى التكبيرة الأولى ، وهو مروي عن أنس . وقال يمان : إنه الصلوات .
وقال عِكْرمَةُ ومُقَاتِل : إنه جميع الطاعة؛ لأن اللفظ عام ، فيتناول الكُلَّ .
وقال الأصَمُّ : { وسارعوا } بادروا إلى التوبة من الربا والذنوب؛ لأنه - تعالى - نهى أوَّلاً عن الربا ، ثم قال : { وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } وهذا يدل على أن المراد منه : المسارعة في تَرْك ما تقدم النَّهْيُ عنه .
قال ابنُ الخَطِيبِ : « والأوْلَى ما تقدم من وجوب حَمْله على أداء الواجبات ، والتوبة عن جميع المحظورات ، لأن اللفظ عامّ ، فلا وَجْهَ لتخصيصه ، ثم إنه - تعالى - بَيَّن أنه كما تجب المسارعةُ والمغفرة ، فكذلك تجب المسارعة إلى الجنة ، وإنما فصل بينهما؛ لأن الغُفْران معناه إزالة العقاب ، والجنة معناها حصول الثواب ، فجمع بينهما؛ للإشعار بأنه ، لا بُدَّ للمكلف من تحصيل الأمرين » .
قوله : { عَرْضُهَا السماوات والأرض } [ لا بد فيه من حَذْف؛ لأن نفس السموات ] لا تكون عرضاً للجنة ، فالتقدير : عرضها مثل عرض السموات والأرض ، يدل على ذلك قوله : « كعرض » ، والجملة في محل جر صفة لِ « جَنَّةٍ » .
فصل
في معنى قوله : { عَرْضُهَا السماوات والأرض } وجوه :
أحدها : أن المراد : لو جُعِلَت السمواتُ والأرضُ طبقاتٍ طبقاتٍ ، بحيث تكون كل واحدةٍ من تلك الطبقات خَطاً مؤلفاً من أجزاء لا تُجَزَّأ ، ثم وُصِل البعض بالبعض طبقاً واحداً ، لكان مثل عرض الجنة .
وثانيها : أن الجنة التي يكون عرضُها كعرض السموات والأرض ، إنَّما تكون للرجل الواحد؛ لأن الإنسان إنما يرغب فيما يصير ملْكاً له .
وثالثها : قال أبو مسلم : إن الجنة لو عُرِضت بالسموات والأرض على سبيل البيع ، لكانت ثمناً للجنة ، يقول : إذا بعت الشيء بالشيء : عرضته عليه وعارضته به فصار العرض يوضع موضع المساواة بين الشيئين في القدر ، وكذلك - أيضاً - في معنى : القيمة؛ لأنها مأخوذة من مقاومة الشيء للشيء حتى يكون كلُّ واحدٍ منهما مِثْلاً للآخر .
ورابعها : أن المقصود المبالغة في وَصْف سعة الجنة؛ لأنه ليس شيء عنده أعرض منها ، ونظيره قوله : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض } [ هود : 107-108 ] فإن أطْول الأشياء بقاءً - عندنا - هو السموات والأرض فخوطبنا على قَدْر ما عرفناه .
فإن قيل : لِمَ خُصَّ العَرْضُ بالذكْر .
فالجواب من وجهين :
الأول : أنه لما كان الغرض تعظيم سعتها ، فإذا كان عَرْضُها بهذا العِظَم ، فالظاهر أن الطول يكون أعظم ، ونظيره قوله : { بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } [ الرحمن : 54 ] ، فذكر البطائن؛ لأن الظاهرَ أنَّها أقل من الظِّهارة ، فإذا كانت البطائن هكذا ، فكيف الظهارة .
الثاني : قال القفّال : ليس المراد بالعَرض - هاهنا - المخالف للطول ، بل هو عبارة عن السعة ، كما تقول العرب : بلاد عريضة ، ويقال : هذه دعوى عريضة ، واسعة عظيمة .
قال الشاعر : [ الطويل ]
1616- كَأنَّ بِلاَدَ اللهِ - وَهْيَ عَرِيضَةٌ- ... عَلَى الْخَائِفِ الْمَطْلُوبِ كِفَّةُ حَابِلِ
والأصل فيه أن ما اتسع عَرْضُه لم يَضِقْ وما ضاق عرضه دَقَّ ، فجعل العَرْضَ كنايةً عن السعة .
فصل
رُوِيَ أن يهوديًّا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : إنك تدعو إلى جنة عرضُها السموات والأرض أعدت للمتقين ، فأين النار .
فقال صلى الله عليه وسلم : « سبحان الله!! فأين الليلُ إذا جاءَ النهار » .
ورُوِيَ عن طارق بن شهاب أن ناساً من اليهود سألوا عمر بن الخطاب - وعنده أصحابه - فقالوا : أرأيتم قولكم : وجنة عرضها السموات والأرض؟ فأين النار .
قال عُمَرُ : أرأيتم إذا جاء النهار ، أين يكون الليل؟ وإذا جاء الليل ، أين يكون النهار .
قال عُمَرُ : أرأيتم إذا جاء النهار ، أين يكون الليل؟ وإذا جاء الليل ، أين يكون النهار .
فقالوا له : إنه لمثلها في التوراة ، ومعناه حيث شاء الله .
سُئِلَ أنس بن مالك عن الجنة ، أفي السماء ، أم في الأرض .
فقال : وأي أرض وسماء تسع الجنة .
قيل : فأين هي .
فقال : فوق السماوات السبع ، تحت العرش .
وقال قتادة : كانوا يَرَوْنَ أن الجنة فوقَ السموات السبع ، وأن جهنَّمَ تحت الأرضين السبع .
فإن قيل : قال الله تعالى : { وَفِي السمآء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [ الذاريات : 22 ] ، وأراد بالذي وُعِدنا الجنة ، وإذا كانت الجنة في السماء ، فكيف يكون عَرْضُها السمواتُ والأرض .
فالجواب : أن باب الجنة في السماء ، وعرضها كما أخبر .
وقيل : إن الجنة والنار تُخْلقان بعد قيام الساعة ، فعلى هذا لا يبعد أن تُخْلَق الجنة في مكان السموات ، و النار في مكان الأرض .
قوله : { أُعِدَّتْ } يجوز أن يكون محلها الجَرّ ، صفة ثانية لِ « جَنَّةٍ » ، ويجوز أن يكون محلها النصب على الحال من « جَنَّةٍ » ؛ لأنها لما وُصِفَتْ تخصَّصت ، فقَرُبَت من المعارف .
قال أبو حيان : « ويجوز أن يكون مستأنفاً ، ولا يجوز أن يكون حالاً من المضاف إليه؛ لثلاثة أشياء :
أحدها : أنه لا عامل ، وما جاء من ذلك متأوَّل على ضَعْفه .
والثاني : أن العرض - هنا - لا يراد به : المصدر الحقيقي ، بل يراد به : المسافة .
الثالث : أن ذلك يلزم منه الفصل بين الحال ، وصاحبه بالخبر » .
يعني بالخبر : قوله : { السماوات } ، وهو رَدٌّ صحيح .
وظاهر الآية يدل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن ، وهو نص حديث الإسراء في الصحيحين وغيرهما .
وقالت المعتزلة : إن الجنة والنار غير مخلوقتين في وقتنا هذا ، وإن الله تعالى إذا طوى السماوات والأرض ابتدأ خلق الجنة والنار حيث شاء؛ لأنهما دار جزاء بالثواب والعقاب ، فخُلِقتا في وقت الجزاء؛ لأنه لا يجتمع دار التكليف ، ودار الجزاء في الدنيا ، كما لم يجتمعا في الآخرة .
وقال ابن فورك : « الجنة في السماء ، ويزاد فيها يوم القيامة » .
قوله : { الذين يُنفِقُونَ } يجوز في محله الألقاب الثلاثة ، فالجر على النعت ، أو البدل ، أو البيان ، والنصب والرفع على القطع المشعر بالمدح ، ولما أخبر بأن الجنة مُعَدَّة للمتقين وصفهم بصفات ثلاث ، حتى يُقْتَدَى بهم في تلك الصفات .
فاصفة الأولى : قوله : { الذين يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ والضرآء } .
فقيل : معناه : في العُسْر واليُسْر .
وقيل : سواء كانوا في سرور ، أو حُزْن ، أو في عُسْر ، أو في يُسْر .
وقيل : سواء سرهم ذلك الإنفاق - بأن كان على وفق طبعهم - أو ساءهم - بأن كان على خلاف طبعهم - فإنهم لا يتركونه .
روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنَ اللهِ ، قَرِيبٌ مِنَ الجَنَّةِ ، قَرِيبٌ مِنَ النَّاسِ ، بَعِيدٌ مِنَ النَّارِ ، وَالبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنَ اللهِ ، بَعِيدٌ مِنَ الجَنَّةِ ، بَعِيدٌ مِنَ النَّاسِ ، قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ ، ولجاهل سخِيٌّ أحبُّ إلَى اللهِ مِنَ عابد بخيل » .
ورُوي أنَّ عَائِشَةَ تصدَّقَتْ بحَبَّة عِنَبٍ .
الصفة الثانية : قوله : { والكاظمين الغيظ } يجوز فيه الجر والنَّصب على ما تقدم قبله .
والكَظْم : الحبس ، يقال : كظم غيظه ، أي : حبسه ، وكَظَم القربة والسقاء كذلك ، والكظم - في الأصل - مخرج النفَس ، يقال : أخذ بكظمه ، أي : أخذ بمجرى نفسه .
والكُظوم : احتباس النفس ، ويُعَبَّر به عن السكوت ، قال المبرد : تأويله أنه كتمه على امتلاء به منه ، يقال : كَظَمْتُ السِّقَاءَ ، إذا ملأته وسددت عليه ، وكل ما سددت من مجرى ماء ، أو باب ، أو طريق ، فهو كَظْم ، والذي يُسَدّ به يقال له : الكظامة والسدادة ، ويقال للقناة التي تجري في بطن الأرض : كظامة ، لامتلائها بالماء كامتلاء القربة المكظومة ، والمَكْظُوم : الممتلئ غيظاً ، وكأنه - لغيظه لا يستطيع أن يتكلم ، ولا يُخرج نفسه ، والكظيم : الممتلئ أسَفاً .
قال أبو طالب : [ الكامل ]
1617- فَحَضَضْتُ قَوْمِي ، وَاحْتَسَبْتُ قِتَالَهُمْ ... وَالْقَوْمُ مِنْ خَوْفِ المَنَايَا كُظَّزُ
وكظم البعيرُ جِرَّتَه ، إذا رَدَّها في جَوْفه ، وترك الاجترار .
ومنه قول الراعي : [ الكامل ]
1618- فَأفَضْنَ بَعْدَ كُظُومِهِنَّ بِجِرَّةِ ... مِنْ ذِي الأبَاطِحِ إذْ رَعَيْنَ حَقِيلا
الحقيل ، قيل : نبت .
وقيل : موضع ، فعلى الأول هو مفعول به ، وعلى الثاني هو ظرف ، ويكون قد شذ جره ب « في » ؛ لأنه ظرف مكان مختص ، ويكون المفعول محذوفاً ، أي : إذْ رعين الكلأ في حقيل ، ولا تقطع الإبلُ جِرَّتَها إلا عند الجهد والفزع فلا تجترّ .
ومنه قول أعشى باهلة يصف رجلاً يكثر نحر الإبل : [ البسيط ]
1619- قَدْ تَكْظِمُ البُزْلُ مِنْهُ حِينَ تُبْصِرُهُ ... حَتَّى تَقَطَّعَ فِي أجْوَافِهَا الْجِرَرُ
والجرر جمع جِرَّة . والكظامة : حلقة من حديد تكون في طرف الميزان تجمع فيها خيوطه ، وهي - أيضاً - السير الذي يُوصَل بوتر القَوْس .
والكظائم : خروق بين البئرين يجري منها الماء إلى الأخرى ، كل ذلك تشبيه بمجرى النفَس وتردّده فيه .
فصل
قال صلى الله عليه وسلم : « مَنْ كَظَمَ غَيْظاً - وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى إنْفاذِهِ - مَلأ اللهُ قَلْبَه أمناً وَإيمَاناً » ، وقال صلى الله عليه وسلم : « مَنْ كَظَمَ غَيْظاً - وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أن ينفذه - دَعَاهُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رُؤوسِ الخَلائِقِ ، حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أيِّ الحُورِ شَاءَ » .
{ والكاظمين الغيظ } : الذين يَكُفُّونَ عيظهم عن الإمضاء ، ونظيره قوله : { وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ } [ الشورى : 37 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : « لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ ، لَكِنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ » .
الصفة الثالثة : قوله : { والعافين عَنِ الناس } .
قال القفال : يُحْتَمَلُ أن يكون هذا راجعاً إلى ما ذم من فعل المشركين في أكل الربا ، فنهي المؤمنين عن ذلك ، ونُدبوا إلى العفو عن المُعْسرين ، فإنه تعال قال - عقب قصة الربا والتداين- : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } [ البقرة : 280 ] وقال
{ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 280 ] .
ويُحْتَمَلُ أنْ يكون هذا بسبب غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين مَثَّلُوا بعَمِّه حمزة ، وقال : لأمَثلنَّ بِهِمْ فندب إلى كَظْم هذا الغيظ .
وقال الكلبي : العافين عن المملوكين سوءَ الأدب .
وقال زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ وَمُقَاتِلٌ : عمن ظلمهم وأساء إليهم ، قال صلى الله عليه وسلم : « لاَ يَكُونُ العَبْدُ ذَا فضْل حَتَّى يَصِلَ مَنْ قَطَعَهُ ، ويَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَهُ ويُعْطَِ مَنْ حَرَمَهُ » .
ورُوِي عن عيسى ابن مريم أنه قال : « لَيْسَ الإحْسَانُ أنْ تُحْسِنَ إلى مَنْ أحْسَنَ إلَيْكَ ، ذَاكَ مُكَافَأةٌ ، إنَّما الإحْسَانُ أنْ تُحسِنَ إلى مَنْ أسَاءَ إلَيْكَ » .
ثم قال : { والله يُحِبُّ المحسنين } هذه اللام يحتمل أن تكون للجنس ، فيدخل كل مُحْسن ، وأن تكون للعهد ، فتكون إشارة إلى هؤلاء .
وهذه الآية من أقْوَى الدلائل على أن الله - تعالى - يعفو عن العُصَاة ، لأنه قد مدح الفاعلين لهذه الخصال ، وأحَبَّهم ، وهو أكرم الأكرمين ، والعفو والغفور الحليم ، والآمر بالإحسان ، فكيف يمدح بهذه الأفعال ، ويندب إليها ، ولا يفعلها؟ إن ذلك لممتنع في العقول .
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)
يجوز أن يكون معطوفاً على الموصول قبله ، ففيه ما فيه من الأوجه السابقة ، وتكون الجملةُ من قوله : { والله يُحِبُّ المحسنين } [ آل عمران : 134 ] جملة اعتراض بين المتعاطفين .
ويجوز أن يكون « والذين » مرفوعاً بالابتداء ، و « أولَئِكَ » مبتدأ ثانٍ ، و « جَزَاؤهُمْ » مبتدأ ثالث ، و « مَغْفِرَةٌ » خبر الثالث ، والثالث وخبره خبر الثاني ، والثاني وخبره خبر الأول .
وقوله : { إِذَا فَعَلُواْ } شرط ، وجوابه : { ذَكَرُواْ } .
قوله : { فاستغفروا } عطف على الجواب ، والجملة الشرطية وجوابها صلة الموصول ، والمفعول الأول ل « اسْتَغْفَرُوا » محذوف ، أي : استغفروا الله لذنوبهم ، وقد تقدم الكلام على « استغفر » ، وأنه تعدى لاثنين ، ثانيهما بحرف الجر ، وليس هو هذه اللام ، بل « من » وقد يُحْذَف .
فصل في سبب النزول
قال ابن مسعود : قال المؤمنون : يا رسولَ الله ، كانت بو إسرائيل اكرمَ على الله مِنَّا؛ كان أحدهم إذا أذنب اصبحت كفارةُ ذَنْبِه مكتوبةً على عتبة بابه ، اجدع أنفك ، افعل كذا ، فأنزل الله هذه الآية .
قال عطاء : نزلت في نبهان التمار - وكُنيته أبو مقبل - أتته امرأة حسناء ، تبتاعُ منه تَمْراً ، فقال لها : إن هذا التمر ليس بجيِّد ، وإن في البيت أجودَ منه ، فذهب بها إلى بيته ، فضمها إلى نفسه ، وقَبَّلها ، فقالت له : أتَّقِ الله ، فتركها ، وندم على ذلك ، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له ذلك فنزلت هذه الآية .
وقال مُقَاتِلٌ والكَلْبِيُّ : آخى رسولُ الله بين رجلين ، أحدهما من الأنصار ، والآخر من ثقيفٍ ، فخرج الثقفيُّ في غزاةٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقُرْعة في السفر ، وخلف الأنصاريّ على أهله ، يَتَعَاهَدُهُم ، واشترى لهم اللحمَ ذات يوم ، فلما أرادت المرأةُ أن تأخذ منه ، دخل على أثرها ، وقَبَّل يَدَهَا ، فوضعت كَفَّهَا على وَجْهها ، ثم ندم الرجل وانصرف ، ووضع الترابَ على رأسه ، وهام على وجهه ، ولما رجع الثقفيُّ لم يستقبله الأنصاريُّ ، فسأل امرأته عن حاله ، فقالت : لا أكثر اللهُ في الإخوان مثله ، ووصفت له الحال ، والأنصاري يسيح في الجبال تائباً مستغفراً ، فطلب الأنصاريَّ الثقفيُّ حتى وجده ، فأتى به أبا بكر؛ رجاء أن يجد\َ عنده راحةً وفرجاً ، وقال الأنصاريُّ : هلكت ، وذكر القصة ، فقال أبو بكر : ويحك! أما علمت أن الله يغار للغازي ما لا يغار للمقيم؟ ثم لقيا عُمَرَ ، فقال له مثل ذلك ، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لهما مثل مقالتهما ، فأنزل الله هذه الآية .
الفاحشة - هنا - نعت محذوف ، تقديره : فعلوا فِعْلَةً فاحشةً .
وأصل الفُحْش : القُبْح الخارج عن الحد ، فقوله : { فَاحِشَةً } يعني : قبيحة ، خارجة عما أذن الله فيه .
قال جَابِر : الفاحشة : الزنا؛ لقوله تعالى : { واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ }
[ النساء : 15 ] ، وقوله : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } [ الإسراء : 32 ] .
قوله : { أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ } .
قال الزمخشري : « الفاحشة : ما كان فعله كاملاً في القُبْح ، وظُلْمُ النفس هو أي ذَنْب كان ، مما يؤاخذُ الإنسانُ به » .
وقيل : الفاحشة : هي الكبيرة ، وظلم النفس هو الصغيرة .
وقيل : الفاحشة ، هي الزنا ، وظلم النفس : هو القُبْلة واللَّمْسَة والنظرة .
وقال مُقاتِلٌ والكَلْبِيُّ : الفاحشة ما دون الزنا من قُبْلَة أو لَمْسَةٍ ، أو نظرة ، فيما لا يحل .
وقيل : فعلوا فاحشة فِعْلاً ، أو ظلموا أنفسهم قولاً .
قوله : رذَكَرُواْ الله } أي : ذكروا وعيدَ الله وعقابه ، فيكون من باب حذف المضاف .
قال الضحاك : ذكروا العرض الأكبر على الله .
وقال مُقاتِلٌ والوَاقِدِيُّ : تفكروا أن الله سائلهم .
وقيل : المراد بهذا الذكر : ذكر الله بالثناء والتعظيم والإجلال؛ لأن من أراد أن يسأل الله تعالى مسالةً ، فالواجب أن يقدم على تلك المسألة الثناء على الله تعالى ، فهاهنا لما كان المراد منه : الاستغفار من الذنوب قدَّموا عليه الثناء ، ثم اشتغلوا بالاستغفار ، { فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ } أي : ندموا على فِعْل ما مضَى مع العزم على تَرْك مثله في المستقبل ، وهذا حقيقة التوبة ، فأما الاستغفار باللسان ، فلا أثر له في إزالة الذنب ، بل يجب إظهار هذا الاستغفار ، لإزالة التهمة .
وقوله : { لِذُنُوبِهِمْ } أي : لأجل ذنوبهم .
قوله : { وَمَنْ يَغْفِرُ } استفهام بمعنى : النفي ، ولذلك وقع بعده الاستثناء .
قوله : { إلاَّ الله } بدل من الضمير المستكن في « يَغْفِرُ » ، والتقدير : لا يغفر أحد الذنوب إلا الله تعالى ، والمختار - هنا - الرفع على البدل ، لكَوْن الكلام غيرَ إيجاب . وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 130 ] .
وقال أبو البقاء « مَنْ » مبتدأ ، « يَغْفِرُ » خبره ، و { إلاَّ الله } فاعل « يَغْفِرُ » ، أو بدل من المضمر فيه ، وهو الوجه؛ لأنك إذا جعلت « اللهُ » فاعلاً ، احتجْتَ إلى تقدير ضمير ، أي : ومَنْ يغفر الذنوب له غير الله .
قال شهَابُ الدين : « وهذا الذي قاله - أعني : جعله الجلالة فاعلاً - يقرب من الغلط؛ فإن الاستفهام - هنا - لا يُراد به حقيقته ، إنما يرادُ » النفي « ، والوجه ما تقدم من كون الجلالة بدلاً من ذلك الضمير المستتر ، والعائد على » من « الاستفهامية » ز
ومعنى الكلام أن المغفرة لا تُطْلب إلا من الله؛ لأنه القادر على عقاب العبد في الدنيا والآخرة ، فكان هو القادر على إزالة العقاب عنه .
قوله : { وَلَمْ يُصِرُّواْ } يجوز أن تكون جملة حالية من فاعل { فاستغفروا } أي : ترتب على فعلهم الفاحش ذكر الله تعالى ، والاستغفار لذنوبهم ، وعدم إصرارهم عليها ، وتكون الجملة من قوله : { وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله } - على هذين الوجهين معترضة بين المتعاطفين على الوجه الثاني ، وبين الحال وذي الحال على الوجه الأول .
فصل
وأصْل الإصرار : الثبات على الشيء .
قال الحسن : إتيان العبد ذَنْباً عَمْداً إصرار ، حتى يتوب .
وقال السُّدِّي : الإصرار : السكوت وتَرْك الاستغفار .
وعن أبي نُصيرة قال : لقيت مولّى لأبي بكر ، فقلتُ له : أسَمِعْتَ من أبي بكر شيئاً؟
قال : نعم ، سمعته يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَا أصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ ، وَإنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبِعِين مَرَّةً » . وقيل : الإصرار : المداومة على الشيء ، وتَرْك الإقلاع عنه ، وتأكيد العزم على ألا يتركه ، من قولهم : صر الدنانير ، إذا ربط عليها ، ومنه : صُرَّة الدراهم - لما يربط منها- .
قال الحُطََيْئة : يصف خيلاً : [ الطويل ]
1620- عَوَابِسُ بِالشُّعْثِ الْكُمَاةِ إذَا ابْتَغَوْا ... عُلاَلَتَها بِالْخُحْصَدَاتِ أصَرَّتِ
أي : ثبتت ، وأقامت ، مداغومة على ما حملت عليه .
وقال الشاعر : [ البسيط ]
1621- يُصِرُّ بِاللَّيْلِ مَا تُخْفِي شَوِاكِلُهُ ... يَا وَيْحَ كُلِّ مُصِرِّ القَلْبِ خَتَّارِ
و « ما » في قوله : { على مَا فَعَلُواْ } يجوز أن تكون اسمية بمعنى : الذي ، ويجوز أن تكون مصدرية .
قوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } يجوز أن يكون حالاً ثانية من فاعل { فاستغفروا } ، وأن يكون حالاً من فاعل { يُصِرُّوا } ، والتقدير : ولم يُصِرُّوا على ما فعلوا من الذنوب بحال ما كانوا عالمين بكونها محرمة؛ لأنه قد يُعْذَر مَنْ لا يعلم حرمة الفعل ، أما العالم بالحرمة ، فإنه لا يعذر .
ومفعول { يَعْلَمُونَ } محذوف للعلم به .
فقيل : تقديره : يعلمون أن الله يتوب على مَنْ تاب ، قاله مجاهد .
وقيل : يعلمون أن تَرْكه أوْلَى ، قاله ابنُ عباس والحسن .
وقيل : يعلمون المؤاخذة بها ، أو عفو الله عنها .
وقال ابْنُ عَبَّاسِ ، ومُقَاتِلٍ ، والحَسَنُ ، والكَلْبِيُّ : وهم يعلمون أنها معصية .
وقيل : وهم يعلمون أن الإصرارَ ضار .
وقال الضَّحَّاكُ : وهم يعلمون أن الله يملك مغفرةَ الذنوب ، وقال الحسن بن الفضل : وهم يعلمون أن لهم رباً يغفر الذنوب .
وقيل : وهم يعلمون أن الله تعالى ، لا يتعاظمه الْعَفْو عن الذنوب - وإن كثرت- .
وقيل : وهم يعلمون أنهم إن استغفروا غُفِرَ لهم .
قوله : { أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ } ، والمعنى : أن المطلوب بالتوبة أمران :
الأول : الأمن من العقاب ، وإليه الإشارة بقوله : { مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ } .
والثاني : إيصال الثواب إليه ، وهو المراد بقوله : { وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا } .
قوله : { مِن رَّبِّهِمْ } في محل رفع؛ نعتاً لِ « مَغْفِرَةٌ » ، و « مِنْ » للتبعيض ، أي : من مغفرات ربهم .
قوله : { خَالِدِينَ فِيهَا } حال من الضمير في { جَزَآؤُهُمْ } ؛ لأنه مفعول به في المعنى؛ لأن المعنى : يجزيهم الله جنات في حال خلودهم ويكون حالاً مقدراً ، ولا يجوز أن تكون حالاً من « جَنَّاتٌ » في اللفظ ، وهي لأصحابها في المعنى؛ إذْ لو كان ذلك لبرز الضمير ، لجَرَيان الصفة على غير مَنْ هي له ، والجملة من قوله : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } في محل رفع؛ نعتاً لِ « جَنَّاتٌ » . وتقدم إعراب نظير هذه الجمل .
قوله : { وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين } المخصوص بالمدح محذوف ، تقديره : ونِعْمَ أجر العاملين الجنة .
فصل
دلَّتْ هذه الآية على أن الغفران والجنات يكون أجراً لعملهم ، وجزاءً عليه .
قال القَاضِي : وهذا يُبْطِل قولَ مَنْ قال : إن الثواب تفضُّل من الله ، وليس بجزاءٍ على عملهم .
قال ثابت البُنَانِي : بلغني أن إبليسَ بكَى حين نزلت هذه الآية { والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله } الآية .
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)
لما وعد على الطاعة والتوبة بالمغفرة والجنة ، أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل الطاعةِ والتوبةِ ، وهو تأمل أحوال القرونِ الخوالي ، وهذا تَسْلِيَة من الله تعالى للمؤمنين .
قال الواحدي : أصل الخلُوّ - في اللغة - الانفراد ، والمكان الخالي هو المنفرد عمن يسكن فيه ، ويُستعمل - أيضاً - في الزمان بمعنى : المُضِيّ؛ لأن ما مضى انفرد عن الوجود ، وخلا عنه ، وكذا الأمم الخالية .
قوله : { مِن قَبْلِكُمْ } يجوز أن يتعلق ب « خَلَتْ » ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من { سُنَنٌ } ؛ لأنه - في الأصل - يجوز أن يكون وَصْفاً ، فلما قُدِّمَ نُصبَ حالاً .
والسُّنَن : جمع سُنَّة ، وهي الطريقة التي يكون عليها الإنسان ويلازمها ، ومنه سُنَّة الأنبياء .
قال خالد الهُذَلِي لخاله أبي ذُؤيب : [ الطويل ]
1622- فَلاَ تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةِ أنْتَ سِرْتَهَا ... فَأوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا
وقال آخر : [ الطويل ]
1623- وَإنَّ الأُلَى بِالطَّفِّ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... تَأسَّوْا ، فَسَنُّوا لِلْكِرَامِ التَّآسِيَا
وقال لبيد : [ الكامل ]
1624- مِنْ أمَّةٍ سَنَّتْ لَهُمْ آبَاؤُهُمْ ... وَلِكُلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وَإمامُهَا
وقال المفضَّل : السُّنَّة : الأمة ، وأنشد : [ البسيط ]
1625- مَا عَايَنَ النَّاسُ مِنْ فَضْلٍ كَفَضْلِكُمُ ... وَلاَ رَأوْا مِثْلَكم فِي سَالِفِ السُّنَنِ
ولا دليل فيه؛ لاحتمال أن يكون معناه : أهل السنن .
وقال الخليل : سَنَّ الشيء بمعنى : صوره ، ومنه : { مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 28 ] أي : مُصَوَّر وقيل : سن الماء والدرع إذا صبهما ، وقوله : { مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } يجوز أن يكون منه ، ولكن نسبة الصب إلى الطين بعيدة .
وقيل : مسنون ، أي : متغير .
وقال بعض أهل اللغة : هي فُعْلة من سَنَّ الماء ، يسنه ، إذا والى صَبَّه ، والسَّنُّ : صَبُّ الماء والعرق نحوهما .
وأنشد لزهير : [ الوافر ]
1626- نُعَوِّدُهَا الطراد كُلَّ يَوْمٍ ... تُسَنُّ عَلَى سَنَابِكِهَا الْقُرُونُ
أي : يُصب عليها من العرق ، شبَّه الطريقة بالماء المصبوب ، فإنه يتوالى جرْيُ الماء فيه على نَهْج واحد ، فالسُّنَّة بمعنى : مفعول ، كالغُرْفَةِ .
وقيل : اشتقاقها من سننت النَّصْل ، أسنّه ، سنًّا ، إذا حددته [ على المِسَن ] ، والمعنى : أن الطريقةَ الحسنةَ ، يُعْتَنَى بها ، كما يُعْتَنَى بالنَّصْل ونحوه .
وقيل : من سَنَّ الإبل ، إذا أحسن رعايتها ، والمعنى : أن صاحب السنة يقوم على أصحابه ، كما يقوم الراعي على إبله ، والفعل الذي سَنَّه النبي سُمِّيَ سُنَّةً بمعنى : أنه صلى الله عليه وسلم أحسن رعايته وإدامته . وقد مضى من ذلك جملة صالحة في البقرة .
فصل
قال [ أكثر المفسرين ] : المراد : سنن الهلاك؛ لقوله تعالى : { فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين } [ الزخرف : 25 ] ؛ لأنهم لما خالفوا الرُّسُلَ؛ لحرصهم على الدنيا ، ثم انقرضوا ، ولم يَبْقَ من دنياهم أثر وبقي اللعن في الدنيا ، والعقاب في الآخرة عليهم ، فرغَّب الله تعالى أمَّةَ محمد صلى الله عليه وسلم في الإيمان بالتداخل في أحوال هؤلاء الماضين ، ليصير ذلك داعياً لهم إلى الإيمان بالله ورُسُله ، والإعراض عن الرياسة في طلب الدنيا والحياة .
قال الزجاج : المعنى : أهل سنن ، فحذف المضاف .
قال مجاهد : بل المراد ، سنة الله تعالى في الكافرين والمؤمنين ، فإن الدنيا لم تَبْقَ ، لا مع المؤمن ، ولا مع الكافر ، ولكن المؤمن يبقى له بعد موته الثناءُ الجميل في الدنيا ، والثواب الجزيل في العُقْبَى ، والكافر يبقى اللعن عليه في الدنيا والعقاب في الآخرة .
قوله : { فَسِيرُواْ } جملة معطوفة على ما قبلها ، و التسبُّب في هذه الفاء ظاهر ، أي : سبب الأمر بالسير لتنظروا - نَظَرَ اعتبار - خُلُوَّ مَنْ قبلكم من الأمم وطرائقهم .
وقال أبو البقاء : « ودخلت الفاء في » فَسِيرُوا « ؛ لأن المعنى على الشرط ، أي : إن شككتم فسيروا » .
وقوله : { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين } « كيف » خبر مقدم ، واجب التقديم ، لتضمُّنه معنى « الاستفهام » ، وهو معلق ل « انْظُرُوا » قبله ، فالجملة في محل نصب بعد إسقاط الخافض؛ إذ الأصل : انظروا في كذا .
فصل
والغرض من هذا الكلام : زَجْر الكفار عن الكفر بتأمل أحوال المكذبين ، ونظيره قوله تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 171-173 ] ، وقوله : { والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } [ القصص : 83 ] ، وقوله : { أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون } [ الأنبياء : 105 ] وليس المراد منه الأمر بالسير - لا محالة - بل المقصود : تعرف أحوالهم ، فإن حصلت المعرفة بغير السير حصل المقصود ، ويحتمل أن يقال - أيضاً- : إنَّ مشاهدة آثار المتقدمين لها ، أثر أقوى من أثر المساع .
قال الشاعر : [ الخفيف ]
1627- إنَّ آثَارَنَا تَدُلُّ عَلَيْنَا ... فَانْظُرُوا بَعْدَنَا إلَى الآثَارِ
فصل
قال المفسرون : وهذا في حرب أحد ، يقول : فأنا أمهلهم ، وأسْتدرجهم ، حتى يبلغ أجلي الذي أجَلألْتُ في نُصْرَة النبي صلى الله عليه وسلم وأوليائه وهلاك أعدائه .
قوله تعالى : { هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ } أي : القرآن .
وقيل : ما تقدم من قوله : { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } .
وقيل : ما تقدم من أمره ونهيه ووعده ووعيده .
والموعظة : الوعظ وقد تقدم .
قوله : « للناس » يجوز أن يتعلقَ بالمصدر قبلَه ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه وَصْف له .
قوله : { لِّلْمُتَّقِينَ } يجوز أن يكون وَصْفاً - أيضاً - ويجوز أن يتعلق بما قبله ، وهو محتمل لأن يكونَ من التنازع ، وهو على إعمال الثاني للمحذوف من الأول .
فصل
في الفرق بين الإبانة وبين الهُدَى ، وبين الموعظة؛ لأن العطْفَ يقتضي المغايرة ، وذكروا فيه وجهين :
الأول : أن البيان هو الدلالة التي تزيل الشبهة ، والهُدَى بيان الطريق الرشيد؛ ليُسْلَك دون طريق الغَيّ ، والموعظة هي الكلام الذي يُفِيد الزَّجْر عما لا ينبغي في الدين .
الثاني : أن البيانَ هو الدلالة ، وأما الهدى فهي الدلالة بشرط إفْضَائها إلى الاهتداء .
وخصَّ المتقين؛ لأنهم المنتفعون به ، وتقدَّم الكلام في ذلك في قوله : « هدى للمتقين » .
وقيل : إن قوله { هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ } عَامّ ، ثم قوله : { وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } مخصوص بالمتقين؛ لأن الهُدَى اسم للدلالة الموصِّلة إلى الاهتداء ، وهذا لا يحصُل إلا في حقِّ المتقين .
وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
الأصل : تُوْهِنوا ، فحُذِفت الواو؛ لوقوعها بين تاء وكسرة في الأصل ، ثم أجْريت حروف المضارعة مُجْراها في ذلك ، ويقال : وَهَنَ - بالفتح في الماضي - يَهِنُ - بالكسر في المضارع .
ونُقِلَ أنه يُقال : وَهُن ، ووَهِنَ - بضم الهاء وكسر في الماضي - و « وَهَنَ » يُستعمل لازماً ومتعدياً ، تقول : وَهَنَ زيدٌ ، أي : ضَعُفَ ، قال تعالى : { وَهَنَ العظم مِنِّي } [ مريم : 4 ] ، ووَهَنْتُه وأضعفته ، ومنه الحديث : « وَهَنْتُهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ » ، والمصدر على الوهَن - بفتح الهاء وسكونها .
وقال زهير : [ البسيط ]
1628- ... فَأصْبَحَ الْحَبْلُ مِنْهَا وَاهِناً خَلَقَا
أي : ضعيفاً .
قوله : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ } جملة حالية من فاعل { تَهِنُوا } ، أو { تَحْزَنُوا } ، والاستئناف فيها غير ظاهر ، و { الأَعْلَوْنَ } جمع أعْلَى ، والأصل : أعْلَيَوْنَ ، فتحرَّكت الياء ، وانفتح ما قبلها ، فقُلبَت ألفاً فحُذِفت لالتقاء الساكنين ، وبقيَت الفتحةُ لتدلَّ عليها .
وإن شئت قُلْتَ : استثقلت الضمةُ على الياء ، فحُذِفت ، فالتقى ساكنان أيضاً - الياء والواو - فحُذِفتَ الياء؛ لالتقاء الساكنين ، وإنَّما احتجنا إلى ذلك؛ لأن واو الجمع لا يكون ما قبلها إلا مضموماً ، لفظاً ، أو تقديراً . وهذا من مثال التقدير .
فصل
اعلم أن الآياتِ المتقدمة ، كالمقدمة لهذه الآية ، كأنه قال : إن بحثتم عن أحوال القرون الماضية ، علمتم أن أهل الباطل ، وإن اتفقت لهم [ الصَّولة ] ، فمآل أمْرهم إلى الضَّعْف ، ومآل أهل الحق إلى العُلُو والقوة ، فلا ينبغي أن تصير صَولَةُ الكفَّار عليكم يوم أحد سبباً لضعف قلوبكم ، وهذا حَثٌّ لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على الجهاد على ما أصابهم من القتل ، والجراح يوم أُحُد ، يقول : { وَلاَ تَهِنُوا } أي : لا تضعُفوا ولا تجبنُوا عن جهاد أعدائكم بما نالكم من القتل والجرح ، { وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ } أي : تكون لكم العاقبة بالنصر والظَّفَر ، وهذا مناسب لما قبله ، لأن القومَ انكسرت قلوبُهم بذلك الوَهْن ، فكانوا محتاجين إلى ما يُقَوِّي قلوبهم .
وقيل : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ } أي : أن حالكم أعلى من حالهم في القتل ، لأنكم أصَبْتُم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أُحُد ، وهو كقوله : { أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا } [ آل عمران : 165 ] أو لأن قتالكم لله تعالى ، وقتالهم للشيطان؛ أو لأن قتالكم للدين الحق ، وقتالهم للدين الباطل ، فكل ذلك يُوجِب أن تكونوا أعْلَى حالاً منهم .
وقيل : « وأنتم الأعلون بالحجة » .
قوله : { إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } جوابه محذوف .
فقيل : تقديره : فلا تَهِنُوا ولا تحزنوا .
وقيل : تقديره : إن كنتم مؤمنين علمتم أن هذه الموقعةَ لا تَبْقَى بحالها ، وأن الدولة تصير للمسلمين .
فصل
معنى : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } أي : بقيتم على إيمانكم .
وقيل : وأنتم الأعلون فكونوا مصدِّقين بما يَعِدُكم الله ، ويُبَشِّركم به من الغَلَبَة .
وقيل : إن كنتم مؤمنين ، معناه : إذا كنتم مؤمنين ، أي : لأنكم مؤمنون .
وقال ابنُ عباس : انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب ، فأقبل خالدُ بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يَعْلُوَ عليهم الجبلَ ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : « اللهم لا يَعْلُونَّ عَلَيْنَا ، اللهُمَّ لا قُوَّةَ إلاَّ بِكَ » ، وثاب نَفَرٌ من المسلمين ، رُماة ، فصعدوا الجبل ورموا خَيْلَ المشركين ، حتى هزموهم ، فذلك قوله : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ } .
وقال الكلبيُّ : نَزَلَتْ هذه الآية بعد يوم أُحُد ، حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بطلب القوم - مع ما أصابهم من الجراح - فاشتدَّ ذلك على المسلمين ، فأنزل الله هذه الآية؛ دليله قوله تعالى : { وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم } [ النساء : 104 ] .
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)
قرأ الأخوان ، وأبو بكر : قُرْح - بضم القاف - وكذلك « القُرْحُ » معرَّفاً .
والباقون بالفتح فيهما .
فقيل : هما بمعنى واحد ، ثم اختلف القائلون بهذا .
فقال بعضهم : المراد بهما : الجُرْح نفسه ، وقال بعضهم- منهم الأخفش - المراد بهما المصدر ، يقال : قَرِحَ الجُرح ، يَقْرحُ ، قَرْحاً ، وقُرْحاً .
قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
1629- وَبُدِّلْتُ قَرْحاً دَامِياً بَعْدَ صِحَّةٍ ... لَعَلَّ مَنَايَانَا تَحَوَّلْنَ أبْؤُسَا
والفتح لغة الحجاز ، والضم لغة تميم ، فهما كالضَّعْف والضُّعْف ، والكَرْه والكُرْه ، والوَجْد والوُجْد .
وقال بعضهم : المفتوح : الجُرْح ، والمضموم : ألَمُه ، وهو قول الفراء .
وقرأ ابن السميفع بفتح القاف والراء ، كالطرْد والطرَد .
وقال أبو البقاءِ : « وهو مصدر قَرِحَ يَقْرح ، إذا صار له قُرْحَة ، وهو بمعنى : دَمِيَ » .
وقُرِئَ قُرُح - بضمهما- .
قيل : وذلك على الإتباع كاليُسْر واليُسُر ، والطُّنْب والطُّنُب .
وقرأ الأعمش : « إن تمسسكم قروح » - بالتاء من فوق ، [ وصيغة الجمع في الفاعل ] ، وأصل المادة : الدلالة على الخُلُوص ، ومنه الماء القَرَاح ، الذي لا كُدُورةَ فيه .
قال الشاعر : [ الوافر ]
1630- فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ ، وَكُنْتُ قَبْلاً ... أكَادُ أغَصُّ بِالْمَاءِ الْقَرَاح
وأرض قرحة - اي : خالصة الطين - ومنه قريحة الرجل - اي : خالص طَبْعه- .
وقال الراغب : « القَرْح الأثر من الجراحة من شيء يُصيبه من خارج ، والقُرْح - يعني : بالضم - أثرها من شيء داخل - كالبشرة ونحوها- يقال : قَرَحْته ، نحو جَرَحْته .
قال الشاعر : [ البسيط ]
1631- لا يُسْلِمُونَ قَرِيحاً حَلَّ وَسَطَهُمُ ... يَوْمَ اللِّقَاءِ ، ولا يُشْوُونَ مَنْ قَرَحُوا
أي : جرحوا . وقرح : خرج به قرح .
ويقال : قَرَحَ قلبُه ، وأقرحه الله - يعني : فَعَل وأفْعَل فيه بمعنًى - والاقتراح : الابتداع والابتكار ومنه : اقترح عليَّ فلانٌ كذا ، واقترحْتُ بِئراً : استخرجت منها ماءً قَرَاحاً . والقريحة - في الأصل - المكان الذي يجمتع فيه الماء المستنبط - ومنه استُعِيرت قريحةُ الإنسان - وفرس قارح ، إذا أصابه أثَرٌ من ظُهور نَابِهِ ، والأنْثَى قارحة ، وروضة قرحاء ، إذا كان في وسطها نَوْر؛ وذلك لتشبيهها بالفرس القرحاء » .
قوله : { فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ } للنحويين - في مثل هذا - تأويل ، وهو أن يُقَدِّرُوا شيئاً مستقبلاً؛ لأنه لا يكون التعليق إلا في المستقبل - وقوله : { فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِثْلُهُ } ماضٍ مُحَقَّق - وذلك التأويل هو التبيين ، أي : فقد تَبَيَّن مَسُّ القرح للقوم وسيأتي له نظائر ، نحو : { إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ } [ يوسف : 26 ] و { وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ } [ يوسف : 27 ] .
وقال بعضهم : جواب الشرط محذوف ، تقديره : فتأسَّوا ، ونحو ذلك .
وقال أبو حيان : « ومَنْ زعم أن جواب الشرط هو » فَقَدْ مَسَّ « ، فهو ذاهل » .
قال شهابُ الدين : « غالب النحويين جعلوه جواباً ، متأولين له بما ذكرت » .
فصل
هذا خطاب للمسلمين حين انصرفوا من أحُد مع الكآبة ، يقول : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ } يوم أحد فقد مَسَّهُمْ قَرْحٌ مِثْلُهُ يوْمَ بَدْرٍ ، وهو كقوله تعالى : { أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا } [ آل عمران : 165 ] .
وقيل : إن الكفار قد نالهم يوم أُحُد مثل ما نالكم من الجُرح ، والقتل؛ لأنه قُتِل منهم نيفٌ وعشرون رجلاً ، وقتل صاحبُ لوائهم ، والجراحات كَثُرَتْ فيهم ، وعُقِرَ عامةُ خَيْلهم بالنبل ، وكانت الهزيمة عليهم في أول النهار .
فإن قيل : كيف قال : { قَرْحٌ مِّثْلُهُ } ، وما كان قَرءحُهم يومَ أُحُد مثل قَرْح المشركين .
فالجواب : أن تفسير القرح - في هذا التأويل - بمجرد الانهزام ، لا بكَثْرة القَتْلَى .
قوله : { وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس } يجوز في « الأيَّامُ » أن تكون خبراً لِ « تِلْكَ » و « نُدَاوِلُهَا » جملة حالية ، العامل فيها معنى اسم الإشارة ، أي : إشيرُ إليها حال كونها مداوَلةً ، ويجوز أن تكون « الأيَّامُ » بدلاً ، أو عَطْفَ بيان ، أو نَعْتاً لاسم الإشارة ، والخبر هو الجملة من قوله : { نُدَاوِلُهَا } وقد مر نحوه في قوله : { تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا } [ أل عمران : 108 ] إلا أن هناك لا يجيء القول بالنعت؛ لما عرفت أنَّ اسم الإشارة لا ينعت إلا بذي أل و « بَيْنَ » متعلق ب « نُدَاوِلُهَا » ، وجَوَّزَ أبُو البقاءِ أن يكون حالاً من مفعول « نُدَاوِلُهَا » ولَيْسَ بِشَيءٍ .
والمداوَلة : المناوَبة على الشيء ، والمُعَاودة ، وتعهَّده مرةَ بعد أخْرَى ، يقال : دَاوَلْتُ بينهم الشيء فتداولوه ، كأن « فَاعَل » بمعنى : « فَعَل » .
قال الشاعر : [ الكامل ]
1632- تَرِدُ الْمِيَاهَ ، فَلاَ تَزَالُ تَدَاوُلاً ... في النَّاسِ بَيْنَ تَمَثُّل وَسَمَاعِ
وأدال فلانٌ فلاناً : جعل له دولة .
وقال الفقَّال : المداولة : نَقْل الشيء من واحد إلى آخر ، يقال : تداولته الأيدي - إذا تناولته ومنه قوله تعالى : { كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنيآء مِنكُمْ } [ الحشر : 7 ] أي : تتداولونها ، ولا تجعلون للفقراء منها نصيباً ، ويقال : الدُّنيا دول ، أي : تنتقل من قوم إلى آخرين .
ويقال دال له الدهرُ بكذا - إذا انتقل إليه .
ويقال : دُولة ، ودَوْلة - بفتح الفاء وضمها - وقد قُرِئَ بهما في سورة الحشر كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
واختلفوا ، هل اللفظتان بمعنًى ، أو بينهما فَرْقٌ .
فقال الراغب : « إنهما سِيَّانِ ، فيكون في المصدر لغتان » .
وفرَّق بعضُهم بينهما ، واختلف هؤلاء في الفرق .
فقال بعضُهم : الدَّوْلَة - بالفتح - في الحرب والجاه ، وبالضم : في المال ، وهذا تردُّه القراءتان في سورة الحشر .
وقيل : بالضم اسم الشيء المتداوَل ، وبالفتح نفس المصدر ، وهذا قريب .
وقيل : بالضم هي المصدر ، وبالفتح الفَعْلة الواحدة ، فلذلك يقال : في دَوْلة فلان؛ لأنها مرة في الدهر .
والدَّوْر والدَّوْل متقاربان في المعنى ، ولكن بينهما عموم وخصوص؛ فإن الدولة لا تقال إلا في الحظ الدنيويّ .
والدَّؤلُولُ : الداهية ، والجمع الدآليل والدُّؤلات .
وقرئ شاذًّا : « يُدَاوِلَهَا » - بياء الغيبة - وهو موافق لما قبله ، ولما بعده .
وقرأ العامةُ على الالتفات المفيد للتعظيم .
فصل
ومعنى مداولة الأيام بين الناس أن مسارَّها لا تدوم ، وكذلك مضارُّها ، فيوم يكون السرور لإنسان والغمّ لعدوه ، ويوم آخر بالعكس ، وليس المراد من هذه المداولة أن الله تعالى تارةً ينصر المؤمنين ، وأخْرَى ينصر الكافرين؛ لأن نَصْر الله مَنْصِب شريف عظيم ، فلا يليق بالكافر ، بل المراد من هذه المداولة : أنه تارة يُشَدَّد المحنة على الكفار ، وتارة على المؤمنين ، وتشديد المحنة على المؤمن أدَبٌ له في الدنيا ، وتشديد المِحْنةِ على الكافر غضب من الله تعالى عليه .
ورُوِيَ أن أبا سفيان صعد الجَبَل يوم أُحُد ، قال : أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر : هَذَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهذا أبو بكر ، وهذا أنا عمر ، فقال أبو سفيان : يوم بيوم والأيام دُوَلٌ والحرب سجال ، فقال عمر : لا سواء؛ قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار ، فقال أبو سفيان : إن كان كما تزعمون فقد خِبنا - إذَنْ وخَسِرْنا .
وروى البراء بن عازب قال : جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرُّماة يوم أحد - وكانوا خمسين رجلاً - عبدَ الله بن جبير ، فقال صلى الله عليه وسلم : « إن رأيتمونا تَخَطَّفُنَا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرْسِل إليكم ، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أُرْسِل إليكم ، وكان على يمنة المشركين خالد ابن الوليد ، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل ، ومعهم النساء يضربْنَ بالدفوف ، ويقُلْنَ الأشعارَ ، فقاتلوا حتى حميت الحربُ ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفاً ، فقال : مَنْ يأخذ هذا السيف بحقه ، ويَضْرب به العدو حتى ينحني؟ فأخذه أبو دُجانة سماك بن خَرْشَة الأنصاري ، فلما أخذه اعتَمَّ بعمامة حمراء ، وجعل يتبختر ، - فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : إنَّها لمِشْيَة يبغضُهَا اللهُ ورسولُه إلا فِي هَذَا المَوْضِعِ » فَفلَقَ به هَامَ المشركين ، وحمل النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابهُ على المشركين ، فهزموهم ، قال : فأنا - والله - رأيتُ النساء يشتدّون - قد بدت خلاخِلُهن وأسْوُقُهن رافعات ثيابهن ، فقال أصحاب عبد الله : الغنيمةَ ، أي قوم الغنيمة ، ظهر أصحابكم ، فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جُبَيْر : أنسيتم ما قال لكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا : والله لنأتِيَنَّ الناسَ فلنصيبن من الغنيمة ، فلما أتَوْهُم صُرِفَتْ وُجوهُهم ، فأقْبَلُوا منهزمين ، فذاك إذْ تدعوهم ، والرسول في أخراهم ، فلم يَبْقَ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم غيرُ اثني عَشَرَ رَجُلاً ، فأصابوا مِنَّا سَبْعِينَ ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يومَ بدر أربعين ومائة - سبعين أسيراً ، وسبعين قتيلاً - فقال أبو سفيان ثلاثَ مرات : أفي القوم محمدٌ؟ فنهاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُجيبوه ، فقال : أفي القوم ابن أبي قُحَافَةَ ثلاث مرات؟ أفي القوم عُمَر ثلاث مرات؟ فرجع إلى أصْحَابه ، فقال : أما هؤلاء فقد قُتِلوا ، فما مَلَكَ عمرُ نفسه؛ فقال : كذبتَ - والله - يا عدوّ الله؛ إن الذين عددت لأحياء كلهم ، وقد بقي لك ما يسوؤك ، قال : يوم بيوم بدر ، والحرب سِجَال ، إنكم ستجدون في القوم مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بها ولم تَسُؤنِي ، ثم جعل يزمجر : اعْلُ هُبَلُ ، اعْلُ هُبَلُ ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
« أجِيبُوهُ ، قالوا يا رسول الله ما نقول؟ قال : قُولُوا : اللهُ أعْلَى وأجَلُّ » ، قال : إنَّ لَنَا العُزَّى ولا عُزَّى لَكُمْ ، فقال صلى الله عليه وسلم : « أجِيبُوه ، قالوا ما نقول؟ قال : قُولُوا : اللهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ » وروي هذا المعنى عن ابن عباس .
قوله : « وليعلم الله » ذكر أبو بكر بن الأنباري في تعلُّق هذه اللام وجهين :
أحدهما : أن اللام صلة لفعل مُضْمَر ، يدل عليه أول الكلم ، تقديره : وليعلم الله الذين آمنوا نُدَاوِلها .
الثاني : أن العامل فيها ( نُدَاوِلُهَا ) المذكور ، بتقدير : نداولها بين الناس ليظهر أمرهم ، ولنبين أعمالهم ، وليعلم الله الذين آمنوا ، فلما ظهر معنى اللام المضمر في « ليظهر » ، و « لتتبين » جرت مجرى الظاهرة ، فجاز العطف عليها .
وَجَوَّز أبو البقاء أن تكون الواو زائدة ، وعلى هذا ، فاللام متعلقة ب ( نُدَاوِلُهَا ) من غير تقدير شيء ، ولكن هذا لا حاجة إليه .
ولم يَجْنَحْ إلى زيادة الواو إلا الأخفش في مواضع - ليس هذا منها - ووافقه بعض الكوفيين على ذلك .
وقدَّرَه الزَّمَخْشَرِيُّ : « فعلنا ذلك ليكون كيت وكيت ، وليعلم » . فقدر عاملاً ، وعلق به علة محذوفة ، عطف عليها هذه العلة .
قال أبو حيان : « ولم يُعَيِّن فاعل العلة المحذوفة ، إنما كَنَّى عنه ب » كيت وكيت « ، ولا يُكَنَّى عن الشيء حتى يُعْرَف ، ففي هذا الوجه حذف العلة ، وحذف عاملها ، وإبهام فاعلها ، فالوجه الأول أظهر؛ إذْ ليس فيه غير حذف العامل » . ويعني بالوجه الأول أنه قَدَّره : وليعلم الله فعلنا ذلك - وهو المداولة ، أو نَيْل الكفار منكم- .
وقال بعضهم : « اللام المتعلقة بفعل مُضْمَر ، إما بعده ، أو قبلَه ، أما الإضمار بعده فبتقدير : وليعلمَ الله الذين آمنوا فعلنا هذه المداولةَ ، وأما الإضمار قبلَه فعلى تقدير : وتلك الأيام نداولها بين الناس لأمور : منها : ليعلم الله الذين آمنوا ، ومنها : ليتخذ منكم شهداء ، ومنها : ليمحص الله الذي آمنوا ، ومنها : ليمحق الكافرين . فكل ذلك كالسبب والعِلَّةِ في تلك المداولة » . والعلم هنا - يجوز أن يتعدَّى لواحد ، قالوا : لأنه بمعنى : عَرَفَ - وهو مشكل؛ لأنه لا يجوز وَصْف الله تعالى بذلك لما تقدم أن المعرفة تستدعي جَهْلاً بالشيء - أو أنَّها متعلقة بالذات دون الأحوال .
ويجوز أن يكون متعدياً لاثنين ، فالثاني محذوف ، تقديره : وليعلم الله الذين آمنوا مميزين بالإيمان من غيرهم .
والواو في قوله : { وَلِيَعْلَمَ الله } لها نظائر كثيرة في القرآن ، كقوله : { وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين } [ الأنعام : 75 ] وقوله : { ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ } [ الأنعام : 113 ] .
فصل
تقدير الكلام : وتلك الأيام نداولها بين الناس ، ليكون كيت وكيت ، وليعلم الله ، وإنما حُذِف المعطوف عليه ، للإيذان بأن المصلحة في هذه المداولة ليست بواحدة؛ ليُسَلِّيَهم عما جرى ، ليُعَرِّفَهم تلك الواقعة ، وأن شأنهم فيها فيه من وجوه المصالح ما لو عرفوه لسرَّهم .
فإن قيل : ظاهر قوله تعالى : { وَلِيَعْلَمَ الله الذين آمَنُواْ } مُشْعِر بأنه - تعالى - إنما فعل تلك المداولة ، ليكتسِبَ هذا العلم ، وذلك في حقه تعالى محال ، ونظير هذه الآية - في الإشكال - قوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين } [ آل عمران : 142 ] وقوله : { وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين } [ العنكبوت : 3 ] . وقوله : { لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً } [ الكهف : 12 ] وقوله : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين } [ محمد : 31 ] وقوله : { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول } [ البقرة : 143 ] وقوله : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ هود : 7 ] . ولقد احتج هشام بن الحكم بظواهر هذه الآياتِ على أن الله تعالى لا يعلم حدوثَ الحوادث إلا عند وقوعها ، فقال : كل هذه الآيات دالة على أنه - تعالى - إنما صار عالماً بحدوث هذه الأشياء عند حدوثها .
وأجاب المتكلمون عنه بأن الدلائل العقليةَ دلَّتْ على أنه - تعالى - يعلم الحوادث قبل وقوعها فثبت أن التغيير في العِلْم محال ، إلا أن إطلاقَ لفظ العلم على المعلوم ، والقُدْرة على المقدور مجاز مشهور ، يقال : هذا عِلْم فلان - والمراد : معلومه - وهذه قدرة فلان - والمراد : مقدوره ، فكل آية يُشْعر ظاهرها بتجدُّد العلم ، فالمراد : تجدُّد المعلوم .
إذا عُرِفَ هذا فنقول : في هذه الآية وجوه :
أحدها : لِيَظْهَرَ الإخْلاَصُ من النفاق ، والمؤمنُ من الكافر .
وثانيها : ليَعْلَم أولياء الله ، فأضاف العلم إلى نفسه تفخيماً .
وثالثها : ليحكم بالامتياز فوُضِع العلم مكان الحكم بالامتياز؛ لأن الحُكْم لا يحصل إلا بعد العلم .
ورابعها : ليعلم ذلك واقعاً كما كان يعلم أنه سيقع؛ لأنَّ المجازاة تقع على الواقع ، دُونَ المعلوم الذي لم يُوجَد .
قوله : { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ } الظاهر ان « مِنْكُمْ » متعلِّق بالاتخاذ ، وجوزوا فيه أن يتعلق بمحذوف ، على أنه حال من « شُهَدَاءَ » ؛ لأنه - في الأصل - صفة له .
فصل
والمرادُ بقوله : { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ } أي : شهداء على النَّاس بما صدر منهم من الذنوب والمعاصي ، فإن كونهم شهداء على الناس منصب عالٍ ، ودرجة عالية .
وقيل : المراد منه : ويُكرِم قوماً بالشهادة؛ وذلك : لأن قوماً من المسلمين فاتهم يومُ بدر ، وكانوا يتمنَّوْن لقاء العدو ، وأن يكونن لهم يوم كيوم بدر؛ يقاتلون فيه العدو ، ويلتمسون فيه الشهادة ، و القرآن مملوءٌ من تعظيم حال الشهداء ، فإنه قرتهم مع النبيين في قوله : { وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء } [ الزمر : 69 ] وقوله : { فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين } [ النساء : 69 ] وهذه الآيات تدلُّ على أن جميع الحوادث بإرادة الله تعالى .
والشُّهداء : جمع شهيد كالكُرَماء ، والظُّرَفَاء .
فصل
في تسميتهم « شهداء » وجوه :
أحدها : قال النَّضْر بن شميل : الشهداء أحياء ، لقوله تعالى : { بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [ آل عمران : 169 ] فأرواحهم حية ، وقد حضرت دار السلام ، وأرواح غيرهم لا تشهدها .
الثاني : قال ابن الأنباريّ : لأن الله تعالى وملائكته شهدوا لهم بالجنة ، فالشهداء جمع شهيد ، « فعيل » بمعنى : « مفعول » .
الثالث : لأنهم يشهدون يوم القيامة مع النبيِّين والصِّدِّيقين ، فيكونون شهداءَ على الناسِ .
الرابع : سُمُّوا شهداء ، لأنهم لما ماتوا أدْخِلوا الجنة ، بدليل أنَّ الكُفَّار لما ماتوا أدخِلوا النار؛ قال تعالى : { أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } [ نوح : 25 ] .
فأما : { والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } فهذا اعتراض بين بعض التعليل وبعض .
قال ابن عباس : أي : المشركين؛ لقوله تعالى : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] .
قوله : { وَلِيُمَحِّصَ الله الذين آمَنُواْ } التمحيص : التخليص من الشيء .
وقيل : المَحْص كالفَحْص ، لكن الفَحْص يقال في إبراز الشيء من أثناء ما يختلط به وهو منفصل ، والمَحْص : يقال في إبرازه عما هو متصل به ، يقال : مَحَصْتُ الذهب ، ومحَّصته - إذا أزلْت عنه ما يشوبه من خَبَث ، ومَحَص الثوب : إذا زال عنه زئبره ومَحَصَ الحَبْل - إذا أخلق حتى ذهب عنه زئبره ، ومحص الظَّبْيُ : عدا . ف « محص » - بالتخفيف - يكون قاصراً ومتعدياً ، هكذا روى الزجاج هذه اللفظةَ - الحبل - ورواها النقاش : مَحَص الجمل - إذا ذهب وَبَرُه وامَّلَسَ - والمعنيان واضحان .
وقال الخليل : التمحيص : التخليصُ من الشيء المعيب .
وقيل : هو الابتلاء والاختبار .
قال الشاعر : [ الطويل ]
1633- رَأيْتُ فُضَيْلاً كَانَ شَيْئاً مُلَفَّفاً ... فَكَشَّفَهُ التَّمْحِيصُ حَتَّى بَدَا لِيَا
وروى الواحِديُّ عن المبرد بسند متصل : مَحَصَ الحبلُ يمحص مَحْصاً - إذا ذهب زئبره حتى يتملص ، وحبل محيص ومليص بمعنًى واحدٍ ، قال : ويستحب في الفرس أن تُمَحَّصَ قوائمُه أي : تُخَلَّص من الرَّهَل .
[ وأنشد ابن الأنباريّ على ذلك ] - يصف فرساً- : [ البسيط ]
1634- صُمُّ النُّسُورِ ، صِحَاحٌ ، غَيْرُ عَاثِرَةٍ ... رُكِّبْنَ فِي مَحِصَاتٍ مُلْتَقَى العَصَبِ
أي : في قوائم متجرِّدات من اللحم ، ليس فيها إلا العظم والجلد .
قال المبرد : ومعنى قول الناس مَحِّصْ عنا ذُنوبَنَا : أذهِب عنا ما تعلَّق من الذنوب .
قال الواحديُّ : « وهذا - الذي قاله المبردُ - تأويل المحَص - بفتح الحاء - وهو واقع ، والمَحْص - بسكون الحاء - » مصنوع « - وقال الخليل : يقال : مَحَصْت الشيء أمحصه مَحْصاً - إذا أخلصته من كل عيب » .
وفي جعله محْصاً - بتسكين الحاء - مصنوعاً نظر؛ لأن أهل اللغة نقلوه ساكنها ، وهو قياس مصدر الثلاثي . ومَحَصْت السيف والسنان : جَلَوتُهما حتى ذهب صدأهما .
قال أسامة الهذليّ : [ الطويل ]
1635- وَشَقُّوا بِمَمْحُوصِ السِّفَانِ فُؤادَهُ ... لَهُمْ قُتُرَاتٌ قَدْ بُنِيْنَ مَحَاتِد
أي : بمجلُوٍّ ، ومنه استُعِير ذلك في وَصْف الحبل بالملاسة والبريق .
قال العجاج : [ الرجز ]
1636- شَدِيدُ جَلْزِ الصُّلْبِ مَمْحُوصُ الشَّوَى ... كَالْكَرِّ ، لا شَخْتٌ وَلاَ فِيهِ لَوَى
والشوى : الظهر ، قَصَره ضرورةً ، سُمِع : فعلتُه حتى انقطع شَوَاي ، أي : ظَهْري . والمحق - في اللغة - النقصان .
وقال المفضَّل : هو أن يذهب الشيءُ كلُّه ، حتَّى لا يُرَى منه شيء ، ومنه قوله تعالى : { يَمْحَقُ الله الربا } [ البقرة : 276 ] أي : يستأصله ، وقد تقدم الكلام عليه في البقرة .
قال الزجاج : معنى الآية : أن الله تعالى جعل الأيام مداولةً بين المسلمين والكافرين ، فإن حصلت الغلبة للكافرين كان المراد : تمحيص ذنوب المؤمنين - أي : تطهيرها - وإن كانت الغلبة للمؤمنين كان المراد : مَحْق آثار الكافرين ، ومَحْوَهم ، فقابل تمحيص المؤمنين بمحق الكافرين؛ لأن تمحيص هؤلاء باهلاك ذنوبهم نظير مَحْق أولئك بإهلاك نفوسهم ، وهذه مقابلة لطيفة ، والأقرب أن المراد بالكافرين - هنا - طائفة مخصوصة منهم - وهم الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد ، لأن الله تعالى لم يَمْحَق كل الكافرين ، بل بَقِي كثير منهم على كُفره .
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
لما بيَّن في الآية الأولى الأسباب الموجبة في مداولة الأيام ، ذكر في هذه الآية ما هو السبب الأصليّ لذلك ، فقال : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة } بدون تحمُّل المشاق؟
وفي « أم » - هذه - أوجه :
أظهرها : أنها منقطعة ، مقدَّرة ب « بل » ، وهمزة الاستفهام ويكون معناه الإنكار عليهم .
وقيل : « أمْ » بمعنى الهمزة وحدها ، ومعناه كما تقدم التوبيخ والإنكار .
وقيل : هذا الاستفهام معناه النهي .
قال أبو مسلم : « إنه نهي وقع بحرف الاستفهام الذي يأتي للتبكيت ، وتلخيصه : لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ، ولم يقع منكم الجهاد ، وهو كقوله : { أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 2 ] وافتتح الكلام بذكر » أم « التي هي أكثر ما تأتي في كلامهم واقعة بين ضربين يشك في أحدهما ، لا يعينه ، يقولون : أزيد ضربت أم عمراً؟ مع تيقُّن وقوع الضرب بأحدهما ، قال : وعادة العرب أن يأتوا بهذا الجنس من الاستفهام توكيداً ، فلما قال : { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا } [ آل عمران : 139 ] كأنه قال : أفتعلمون أن ذلك كما تُؤمَرون به أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدةٍ وَصَبْر؟ » .
وقيل : هي متصلة .
قال ابنُ بَحْر : « هي عديلة همزة تقدر من معنى ما تقدم ، وذلك أن قوله : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ } [ آل عمران : 140 ] و { وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس } [ آل عمران : 140 ] إلى آخر القصة يقتضي أن نتبع ذلك أتعلمون أن التكليف يوجب ذلك أم حسبتم أن تدخلوا الجنة من غير اختبار وتحمُّل مشقة ، وأن تجاهدوا ، فيعلم الله ذلك منكم واقعاً » .
و « أحسب » - هنا - على بابها من ترجيح أحد الطرفين ، و { أَن تَدْخُلُواْ } ساد مسد المفعولين - على رأي سيبويه - ومسد الأول ، والثاني : محذوف - على رأي الأخفش .
قوله : { وَلَمَّا يَعْلَمِ الله } جملة حالية .
قال الزَّمَخْشَرِي : « و » لما « بمعنى » لم « ، إلا أنَّ فيه ضرباً من التوقُّع ، فدلَّ على نفي الجهاد فيما مضى ، وعلى توقُّعه فيما يستقبل ، وتقول : وعدتني أن تفعل كذا ولمَّا ، تريد : ولم تفعل ، وأنا أتوقَّع فِعْلَه » .
قال أبو حيان : « وهذا الذي قاله في » لما « - من أنها تدل على توقُّع الفعل المنفي بها فيما يستقبل - لا أعلم أحداً من النحويين ذكره ، بل ذكروا أنك إذا قلت : لما يخرج زيد ، دل ذلك على انتفاء الخروج فيما مضى ، متصلاً نفيه إلى وقت الاخبار ، أما أنها تدل على توقُّعه في المستقبل فلا ، لكنني وجدت في كلام الفراء شيئاً يُقارب ما قاله الزمخشري ، قال : » لما « لتعريض الوجود بخلاف » لم « .
قال شِهَابُ الدين : والنحاة إنما فرَّقوا بينهما من جهة أن المنفي ب « لَمْ » هو فعل غير مقرون ب « قد » ، والمنفي ب « لما » فعل مقرون بها ، و « قد » تدل على التوقُّع ، فيكون كلام الزمخشري صحيحاً من هذه الجهة ، ويدل على ما قلته - من كون « لم » لنفي فعل فلان ، و « لما » لنفي قد فعل - نصُّ سيبويه فمن دونه .
قال الزجاج إذا قيل فعل فلان ، فجوابه : لم يفعل ، وإذا قيل : قد فعل فلان ، فجوابه لما يفعل؛ لأنه لما أُكِّد في جانب الثبوت ب « قد » لا جرم أنه أكد في جانب النفي بكلمة « لما » ، وقد تقدم نظير هذه الآية في « البقرة » وظاهر الآية يدل على وقوع النفي على العلم ، والمراد : وقوعه على نفي المعلوم ، والتقدير : أم حسبتم أن تدخلوا الجنةَ ، ولمَّا يصدر الجهادُ عنكم؟
وتقريره : أن العلم متعلق بالمعلوم ، كما هو عليه ، فلما حَصَلَتْ هذه المطابقة - لا جرم - حَسُن إقامة كلِّ واحدٍ منهما مقامَ الآخر .
فصل
قال القرطبيّ : والمعنى : أحسبتم يا من انهزم يوم أحد أن تدخلوا الجنة ، كما دخل الذين قُتِلوا ، وصبروا على ألم الجراح والقتل ، من غير أن تسلكوا طريقهم ، وتصبروا صَبْرَهم؟ لا؛ حتَّى يعلم الله الذين جاهدوا منكم ، أي : علم شهادة ، حتى يقع عليه الجزاء ، والمعنى : ولم تجاهدوا ، فيعلم ذلك منكم ، ف « لما » بمعنى : « لم » .
قوله : « مِنْكُمْ » حال من « الَّذِينَ » .
وقرأ العامة { وَلَمَّا يَعْلَمِ الله } بكسر الميم- على أصل التقاء الساكنين .
وقرأ النخعي وابن وثاب بفتحها ، وفيها وجهان :
الأول : أن الفتحة فتحة إتباع الميم ل « اللام » قبلها .
الثاني : أنه على إرادة النون الخفيفة ، والأًصل : ولما يعلمن ، والمنفي ب « لما » قد جاء مؤكداً بها ، كقول الشاعر : [ الرجز ]
1637- يَحْسَبُهُ الْجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلَمَا ... شَيْخاً عَلَى كُرْسِيِّهِ مُعَمَّمَا
فلما حذفت النون بقي آخر الفعل مفتوحاً ، كقول الشاعر : [ الخفيف ]
1638- لا تُهِينَ الْفَقِيرَ عَلَّكَ أن تَرْ ... كَعَ يَوْماً وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ
وعليه تُخَرَّج قراءةُ : { أَلَم نَشْرَحَ } [ الشرح : 1 ] - بفتح الحاء- .
وقول الآخر : [ الرجز ]
1639- مِنْ أيِّ يَوْمَيَّ مِنَ الْمَوْتِ أفْر ... مِنْ يَوْمِ لَمْ يُقْدَرَ أوْ يَوْم قُدِرْ
قوله : « ويَعْلَمَ » العامة على فتح الميم ، وفيها تخريجان :
أحدهما : وهو الأشهر - أن الفعل منصوب ، ثم هل نصبه ب « أن » مقدَّرة بعد الواو المقتضية للجمع كهي في قولك : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، أي : لا تجمع بينهما - وهو مذهب البصريين - أو بواو الصرف - وهو مذهب الكوفيين - يعنون أنه كان من حق الفعل أن يُعْرَب بإعراب ما قبله ، فلما جاءت الواو صرفته إلى وجهٍ آخرَ من الإعراب .
الثاني : أن الفتحةَ فتحةُ التقاء الساكنين ، والفعل مجزوم ، فلما وقع بعده ساكنٌ آخر ، احتيج إلى تحريك آخرهِ ، فكانت الفتحة أوْلَى؛ لأنها أخف ، وللإتباع لحركة اللام ، كما قيل ذلك في أحد التخريجين في قراءة « وَلَمَّا يَعْلَمَ اللهُ » بفتح الميم - والأول هو الوجه .
وقرأ الحسنُ وأبو حيوةَ وابنُ يَعْمُرَ : بكسر الميم؛ عطفاً على « يَعْلَم » المجزوم ب « لَمَّا » .
وقرأ عَبْدُ الوَارِثِ - عن أبي عَمْرو بْنِ العَلاَءِ - « وَيعْلَمُ » بالرفع ، وفيها وجهان :
أظهرهما : أنه مستأنف ، أخبر - تعالى - بذلك .
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ : « على أن الواو للحال ، كأنه قيل : ولما تجاهدوا وأنتم صابرون » .
قال أبُو حَيَّانَ : « ولا يصح ما قال؛ لأن واو الحال لا تدخل على المضارع ، لا يجوز : جاء زيد ويضحك - تريد : جاء زيد يضحك ، لأن المضارع واقع موقع اسم الفاعل ، فكما لا يجوز : جاء زيد وضاحكاً ، كذلك لا يجوز : جاء زيد ويضحك فإن أولَ على أن المضارع خبر لمبتدأ محذوف ، أمكن ذلك ، التقدير : وهو يعلم الصابرين .
كما أولوا قول الشاعر : [ المتقارب ]
1640- ... نَجَوْتُ وَأرْهَنُهُمْ مَالِكا
أي : وأنا أرهنهم » .
قال شهابُ الدين : « قوله : لا تدخل على المضارع ، هذا ليس على إطلاقه ، بل ينبغي أن يقول : على المضارع المثبت ، أو المنفي ب » لا « ؛ لأنها تدخل على المضارع المنفي ب » لم ولمَّا « . وقد عُرِف ذلك مراراً » .
ومعنى الآية : أن دخول الجنة ، وترك المصابرة على الجهاد مما لا يجتمعان .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت } قرأ البزي : بتشديد تاء « تَمَنَّوْنَ » ، ولا يمكن ذلك إلا في الوصل ، وقاعدته : أنه يصل ميم الجمع بواو ، وقد تقدم تحرير هذا عند قوله تعالى : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ } [ البقرة : 267 ] .
قوله : « مِن قَبْلِ » الجمهور على كسر اللام؛ لأنها مُعْربة؛ لإضافتها إلى « أنْ » وصلتها .
وقرأ مجاهد وابنُ جبير : { مِنْ قَبْلُ } بضم اللام ، وقطعها عن الإضافة ، كقوله تعالى : { لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } [ الروم : 4 ] وعلى هذا فَ « أنْ » وَصِلَتُها بدل اشتمال من « الْمَوْتَ » في محل نصب ، أي : تَمَنَّوْنَ لقاء الموت ، كقولك : رَهِبْتُ العَجُوَّ لقاءَه ، والضمير في « تَلْقَوْهُ » فيه وجهان :
أظهرهما : عوده على « الْمَوْتَ » .
والثاني : عوده على العدو ، وإن لم يجر له ذِكْر - لدلالة الحال عليه .
وقرأ الزُّهَرِيُّ ، والنخعيّ « تُلاَقُوه » ، ومعناه معنى « تَلْقَوْه » ؛ لأن « لقي » يستدعي أن يكون بين اثنين - بمادته - وإن لم يكن على المفاعلة .
قوله : { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ } الظاهر أن الرؤية بصرية ، فيكتفى بمفعول واحد .
وجوَّزوا أن تكون علمية ، فتحتاج إلى مفعولٍ ثانٍ ، هو محذوف ، أي : فقد علمتموه حاضراً - أي : الموت- .
إلا أن حَذْف أحد المفعولين في باب « ظن » ليس بالسَّهْل ، حتى إن بعضهم يَخُصُّه بالضرورة ، كقول عنترة : [ الكامل ]
1641- وَلَقَدْ نَزَلْتِ ، فَلاَ تَظُنِّي غَيْرَهُ ... مِنِّي بِمَنْزِلَةِ الْمُحَبِّ الْمُكْرَمِ
أي : فلا تظني غيره واقعاً مني .
قوله : { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } يجوز أن تكون جملة حالية - وهي حال مؤكِّدة - رفعت ما تحتمله الرؤية من المجاز ، أو الاشتراك بينها وبين رؤية القلب ، ويجوز أن تكون مستأنفة ، بمعنى : وأنتم تنظرون في فعلكم - الآن - بعد انقضاء الحرب ، هل وَفَّيْتُمْ ، أو خالفتم؟
وقال ابنُ الأنْبَارِي : « رَأيْتُمُوهُ » ، أي : قابلتموه { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } بعيونكم ، ولهذه العلة ذكر النظر بعد الرؤية حيث اختلف معناهما؛ لأن الأول بمعنى : المقابلة والمواجهة ، والثاني بمعنى : رؤية العين .
وهذا - أعني : إطلاق الرؤية على المقابلة والمواجهة - غير معروف عند أهل اللسان ، وعلى تقدير صحته ، فتكون الجملة من قوله : { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } جملة حالية مبيِّنة - لا مؤكِّدة - لأنها أفادت معنًى زائداً على معنى عاملها .
ويجوز أن يقدَّر لِ « تَنْظُرُونَ » مفعولاً ، ويجوز أن لا يُقَدَّر؛ إذ المعنى : وأنتم من أهل النظر .
فصل
قال المفسرون : إنَّ قوماً من المسلمين تَمَنَّوا يوماً كيوم بدر؛ ليقاتلوا ، وليستشهدوا ، فأراهم الله يومَ أُحُد .
وقوله : { تَمَنَّوْنَ الموت } أي : سبب الموت - وهو الجهاد - { مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ } يعني : أسبابه ، وذكر النظر بعد الرؤية؛ تأكيداً - كما قدمناه- .
وقيل : لأن الرؤية قد تكون بمعنى : العلم ، فقال : { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } ليعلم أن المراد بالرؤية : هي البصرية .
وقيل : وأنتم تنظرون إلى محمد صلى الله عليه وسلم .
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
« ما » نافية ، ولا عمل لها هنا مطلقاً - أعني : على لغة الحجازيين والتميميِّين؛ لأن التميميين لا يعملونها - ألبتة - والحجازيين يُعْملونها بشروط ، منها : ألا يَنْتَقضَ النفي ب « إلا » إذْ يزول السبب الذي عَمِلَتْ لأجله - وهو شبهها ب « ليس » في نفي الحال - فيكون « مُحَمَّدٌ » مبتدأ ، و « رَسُولٌ » خبر .
هذا - [ أعني : إهمالها إذا نُقِضَ نفيُها ] - مذهب الجمهور ، وقد أجاز يونس إعمالها مُنْتَقَضَةَ النَّفْيِ ب « إلا » .
وأنشد : [ الطويل ]
1642- وَمَا الدَّهْرُ إلاَّ مَنْجَنُوناً بِأهْلِهِ ... وَمَا صَاحِبُ الْحَاجَاتِ إلاَّ مُعَذَّبا
فنصب « منجنوناً » ، و « مُعَذَّباً » على خبر « ما » - وهما بعد « إلا » - .
ومثله قول الآخر : [ الوافر ]
1643- وَمَا حَقُّ الَّذِي يَعْثُو نَهَاراً ... وَيَسْرِقُ لَيْلَهُ إلاَّ نَكَالا
ف « حق » اسم « ما » و « نكالا » خبرها .
وتأول الجمهورُ هذه الشواهدَ على أنَّ الخبر محذوف ، وهذا المنصوب مَعْمُولٌ لذلك الخبر المحذوفِ ، والتقدير : وما الدَّهر إلا يدور دورانَ منجنونٍ ، فحُذف الفعلُ الناصبُ لِ « دَوَرَانَ » ثم حُذِفَ المضافُ ، وأقيمَ المضافُ إليه مقامه في الإعراب ، وكذا : « إلا مُعَذَّباً » تقديره : يُعَذَّبُ تعذيباً ، فحُذِف الفعلُ ، وأقيم « معذَّباً » مقام « تَعْذِيب » ، كقوله تعالى : { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } [ سبأ : 19 ] أي : كل تمزيق . وكذا : « إلا نَكَالاً » ، وفيه من التكلُّف ما ترى .
و « مُحَمَّدٌ » هو المستغرق لجميع المحامد؛ لأن الحَمْد لا يستوجبه إلا الكامل ، و التحميد فوق الحمد ، فلا يستحقه إلا المُسْتَوْلي على الأمَد في الكمال . وأكرم الله نبيه باسمين مشتقَّيْن من اسمه - جل جلاله - وهما محمد وأحمد .
قال أهل اللغة : كل جامع لصفات الخير يُسَمَّى « محمدا » .
قوله : { قَدْ خَلَتْ } في هذه الجملة وجهان :
أظهرهما : أنها في محل رفع؛ صفة لِ « رَسُولٌ » .
الثاني : أنها في محل نصب على الحال من الضمي رالمستكن في « رَسُولٌ » ، وفيه نظر؛ لجريان هذه الصفة مجرى الجوامد ، فلا تتحمل ضميراً .
قوله : « من قبله » فيه وجهان - أيضاً - :
أظهرهما : أنه معلق ب « خلت » .
والثاني : أنه متعلق بمحذوفٍ؛ حال من « الرُّسُلُ » مقدَّماً عليها ، وهي - حينئذ - حال مؤكِّدة؛ لأن ذِكْرَ الخُلُوِّ مُشْعِرٌ بالقَبْلِيَّة .
وقرأ ابنُ عَبَّاسٍ « رُسُلٌ » - بالتنكير - .
قال ابُو الفَتْحِ : ووجها أنَّه موضع تيسير لأمر النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الحياة ومكان تسوية بينه وبين البشر في ذلك ، وكذلك يفعل في أماكن الاقتصاد ، كقوله :
{ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } [ سبأ : 13 ] .
وقوله : { وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } [ هود : 40 ] .
وقال أبُو البَقَاءِ : « وهو قريب من معنى » المعرفة . كأنه يريد أن المراد بالرسل « الجنس » ، فالنكرة قريب منه بهذه الحيثية « .
وقراءة الجمهور أولى؛ لأنها تدل على تفخيم الرسل وتعظيمهم .
قال أبو علي : والرسول جاء على ضربين :
أحدهما : أن يراد به المرسل .
والآخر : الرسالة ، وهاهنا المراد منه » المُرْسَل « ، كقوله تعالى : { إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } [ يس : 3 ] وقوله : { ياأيها الرسول بَلِّغْ } [ المائدة : 67 ] و » فعول « قد يراد به : المفعول ، كالرَّكُوب والحَلُوب لما يُرْكَب ويُحْلَب ، والرسول بمعنى الرسالة .
كقوله : [ الطويل ]
1644- لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ ما بُحتُ عِنْدَهُم ... بِسِرٍّ ، ولا أرْسَلتُهُمْ بِرَسُولِ
فصل
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وأصْحَابُ المَغَازِي : لما رأى خالد بن الوليد الرُّمَاةَ يوم أحد قد اشتغلوا بالغنيمة ، ورأى ظهورَهم خاليةً ، صاح في خَيْله من المُشْرِكِين ، ثم حمل على أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم من خلفهم- ، فهزموهم ، وقتلوهم ، ورمى عبد الله بن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحَجَر ، فكسر أنفه ورباعيته ، وشُجَّ في وجهه ، فأثقله ، وتفرق عنه أصحابُه؛ ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صَخْرَةٍ ليعلوها - وكان قد ظاهر بَيْن دِرْعَيْن - فلم يستطع ، فجلس تحته طلحة ، فنهض حتى استوى عليها فقال صلى الله عليه وسلم أوْجَبَ طَلْحَةُ ، ووقعت هند والنسوةُ معها يُمَثِّلْنَ بالقَتْلَى من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يجدعن الآذان والأنوف ، حتى اتخذت هند قلائدَ من ذلك ، وأعطتها وَحْشِيًّا ، ونقرت عن كبد حمزة ، فلاكتها ، فلم تَستسغها ، فلفظَتْها ، وأقبل عبدُ الله بن قمئة يريد قَتْلَ النبي صلى الله عليه وسلم فذَبَّ مصعب بن عمير وهو صاحب راية النبي صلى الله عليه وسلم عنه ، فقتله ابنُ قَمِئة ، وهو يرى أنه قتل النبي صلى الله عليه وسلم فرجع ، وقال : إني قتلتُ محمداً ، وصاح صارخ : ألا إن محمداً قد قُتِل - قيل : إن ذلك الصارخ كان إبليس - وانكف الناسُ ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناسَ : إليَّ عباد الله ، إليَّ عباد الله ، فاجتمع إليه ثلاثون رجلاً ، فحَمَوْه حتى كسفوا عنه المشركين ، ورمى سعدُ بن أبي وقاص حتى اندقت سِيَةُ قوسه ، ومثل له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كنانته فقال : ارْمِ فداكَ أبي وأمي ، وكان أبو طلحةَ رجلاً رامياً ، شديد النزع ، كسر يومَ أُحُد قوسين أو ثلاثة ، فكان الرجل يمر معه بجَعْبَةٍ من النَّبْلِ ، فيقول : انثرها لأبي طلحة ، وكان إذ رمى يُشْرِفُ النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى موضع نَبْلِهِ ، وأَصيبت يَدُ طلحةَ بن عبيد الله فيبست ، وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصِيبتْ عَيْنُ قتادةَ بن النعمان يومئذ ، حتى وقعت على وجنته ، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانَها ، فعادت كأحسن ما كانت ، فلما انصرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أدْرَكَهُ أبَيّ بن خلف الجُمَحِيّ ، وهو يقول : لا نجوتُ إن نَجَا ، فقال القوم : يا رسولَ الله ، ألا يعطف عليه رجل منا؟ فقال : صلى الله عليه وسلم : دَعُوه ، حتى إذا دنا منه - وكان أبَيّ كُلَّما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قَبْل ذلك ، قال له : عندي دمكة أعلفها كل يوم فَرَق ذُرة؛ أقتلك عليها ، فقال صلى الله عليه وسلم : بَلْ أنا أقْتُلُكَ إنْ شَاءَ اللهُ ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ تَنَاوَلَ رَسُولُ اللهُ صلى الله عليه وسلم الحَرْبَة من الحارث بن الصِّمَّة ، ثم استقبله فطعنه في عنقه ، وخدشه خدشة ، فتدأدأ عن فرسه - وهو يخور كما يخور الثور - وهو يقول : قتلني محمد ، وحمله أصحابه ، وقالوا : ليس بك من بأس ، فقال : أليس قال لي : أقتلك؟ فلم يلبث إلا يوماً حتى مات بموضع يقال له : سرف .
قال ابن عباس : اشتد غضب الله على مَنْ قتل نبيه ، واشتد غضب الله على من رمى وَجْهَ رسول الله قال : وفشا في الناس أن محمداً قد قُتِل فقال بعضُ المسلمين : يا ليت لنا رسولاً غلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان ، وبعض الصحابة جلسوا وألقوا بأيديهم .
وقال أناس من أهل النفاق : إن كان محمدٌ قد قُتِل فالحقوا بدينكم الأول ، فقال أنَس بن النضر - عم أنس بن مالك : يا قوم ، إن كان محمد قد قُتِل فإن ربَّ محمد لم يُقْتَل ، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله ، قوموا ، فقاتلوا على ما قاتل عليه ، وموتوا على ما مات عليه ، ثم قال : اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء - يعني : المسلمين - وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - يعني : المنافقين - ثم شد بسيفه ، فقاتل حتى قُتِلَ ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى الصخرة وهو يدعو الناس ، فأوَّل من عرف رسول الله كعب بن مالك ، وقال : عرفت عينيه تحت المِغْفر تزهران ، فناديت بأعلى صوتي : يا معشر المسلمين ، أبشروا؛ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليَّ أن أسْكُتَ ، فانْحَازَتْ إليه طائفة من أصحابه ، فلامهم النَّبيُّ على الفرار . فقالوا : يا رسولَ الله - فديناك بآبائِنَا وأمهاتنا - أتانا الخبر بأنك قُتِلْتَ فَرَعَبتْ قلوبنا ، فولَّينَا مُدْبِرِين ، فأنزل الله قوله : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل } .
قوله : { أَفإِنْ مَّاتَ } الهمزة لاستفهام الإنكار ، والفاء للعطف ، ورتبتها التقديم؛ لأنها حرف عطف ، وإنما قُدِّمت الهمزة؛ لأن لها صَدر الكلام ، وقد تقدم تحقيقه وأن الزمخشري يقدِّر بينهما فعلاً محذوفاً تعطف الفاء عليه ما بعدها .
قال ابن الخطيب كَمَالُ الدِّينِ الزَّمَلْكَانِيُّ : « الأوجه : أن يقدر محذوف بعد الهمزة ، وقبل الفاء ، تكون الفاء عاطفة عليه ، ولو صُرِّحَ به لقيل : أتؤمنون به مدة حياته فإن مات ارتددتم ، فتخالفوا سُنَنَ أتباع الأنبياء قبلكم في ثباتهم على مِلَلِ أنبيائهم بعد وفاتهم .
وهذا هو مذهب الزَّمَخْشَرِيِّ ، إلا أنَّ الزمخشريَّ - هنا - عبر بعبارة لا تقتضي مذهبه الذي هو حذف جملة بعد الهمزة؛ فإنه قال : الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة قَبْلَها على معنى « التسبيب » ، والهمزة لإنكار أن يجعلوا خُلُوَّ الرُّسُلِ قبله سبباً لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه - بموتٍ أو قَتْل - مع علمهم أن خُلُوَّ الرُّسُلِ قبله ، وبقاء دينهم متمسكاً به يجب أن يجعل سبباً للتمسُّك بدين محمد صلى الله عليه وسلم لا للانقلاب عنه « .
فظاهر هذا الكلام أن الفاء عطفت هذه الجملة المشتملة على الإنكار على ما قبلها من قوله : { قَدْ خَلَتْ } من غير تقدير جملة أخرى .
وقال أبو البقاء قريباً من هذا؛ فإنه قال : » الهمزة عند سيبويه في موضعها ، والفاء تدل على تعلُّق الشرطِ بما قبله « .
لا يقال : إنه جعل الهمزة في موضعها ، فيوهم هذا أن الفاء ليست مقدمة عليها؛ لأنه جعل هذا مقابلاً لمذهب يونس؛ فإن يونس يزعم أن هذه الهمزة - في مثل هذا التركيب - داخلة على جواب الشرط ، فهي في مذهبه في غير موضعها وسيأتي تحريره .
و » إن « شرطية ، و » مَاتَ « و » انْقَلَبْتُمْ « شرط وجزاء ، ودخول الهمزة على أداة الشرط لا يُغَيِّر سبباً من حكمها .
وزعم يونس أن الفعل الثاني - الذي هو جزاء الشرط - ليس هو جزاء للشرط ، وإنما هو المستفْهَم عنه ، وأن الهمزة داخلة عليه تقديراً ، فينوى به التقرير ، وحينئذ لا يكون جواباً ، بل الجواب محذوف ، ولا بد - إذ ذاك - من أن يكون فعل الشرط ماضياً ، إذْ لا يُحْذَف الجواب إلا والشرط ماضٍ ، ولا اعتبار بالشعر؛ فإنه ضرورة ، فلا يجوز عنده أن تقول : إن تكرمني أكرمك ولا يجزنهما ، ولا بجزم الأول ورفع الثاني ، لأن الشرط مضارع . ولا أإن أكرمتني أكرمك - بجزم أكرمك؛ لأنه ليس الجواب ، بل دال عليه ، والنية به التقديم ، فإن رفعت » أكرمك « وقلت : أإن أكرمتني أكرمك ، صح عنده .
فالتقدير عند يونس : أانقلبتم على أعقابكم إن مات محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الغرض إنكار انقلابهم على أعقابهم بعد موته ، وبقول يونس قال كثير من المفسِّرين؛ فإنهم يقولون : ألف الاستفهام دخلت في غير موضعها؛ لأن الغرض إنما هو أتنقلبون إن مات محمد؟
وقال أبو البقاء : » وقال يونس : الهمزة في مثل هذا حقها أن تدخل على جواب الشرط ، تقديره : أتنقلبون إن مات؟ لأن الغرض التنبيه ، أو التنبيخ على هذا الفعل المشروط « .
ومذهب سيبويه الحقُّ؛ لوجهَيْن :
أحدهما : أنك لو قدمتَ الدجواب ، لم يكن للفاء وجه؛ إذ لا يصح أن تقول : أتزوروني فإن زرتك . ومنه قوله : { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون } [ الأنبياء : 34 ] .
والثاني : أنَّ الهمزة لها صدر الكلام ، و « إنْ » لها صدر الكلام ، وقد وقعا في موضعهما ، والممعنى يتم بدخول الهمزة على جملة الشرط والجوابِ؛ لأنهما كالشيء الواحد .
وقد رد النحويون على يونس بقوله : { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون } ، فإنَّ الفاء في قوله : « فَهُمْ » تعين أن يكون جواباً للشرط ، وأتى - هنا - ب « إن » التي تقتضي الشك ، والموت أمر محقق ، إلاَّ أنه أورده مورد المشكوك فيه؛ للتردد بين الموت والقتل .
فإن قيل : إنه - تعالى - بَيَّن في آيات كثيرة أنه صلى الله عليه وسلم لا يُقْتَل ، قال : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] وقال : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } [ المائدة : 67 ] وقال : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } [ التوبة : 33 ] ، وإذا عُلِم أنه لا يقتل ، فلِمَ قال : ( أو قتل ) ؟
فالجواب من وجوه :
أحدها : أن صدق القضية الشرطية لا تقتضي صدق جُزْأيها؛ فإنك تقول : إن كانت الخمسة زوجاص كانت مقسمة بمتساويين ، فالشرطية صادقة ، وجزآها كاذبان ، وقال تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] فهذا حَقٌّ ، مع أنه ليس فيهما آلهة ، وليس فيهما فساد .
الثاني : أن هذا ورد على سبيل الإلزام؛ فإن موسى - عليه السلام - مات ولم ترجع أمتُه عن دينه ، والنصارى زعموا أن عيسى قُتِل ، ولم يرجعوا عن دينه ، فكذا هنا .
وثالثها : أن الموت لا يُوجب رجوع الأمة عن دينه ، فكذا القتل وجب ألا يوجب الرجوع عن دينه ، لأنه لا فارق بين الأمرين ، فلما رجع إلى هذا المعنى ، كان المقصود منه الرد على أولئك الذين شكوا في صحة الدين ، وهَمُّوا بالارتداد .
فإن قيل : قوله : { { أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ } شكٌّ ، وهو - على الله تعالى - محال .
فالجواب : أن المراد : أنه سَوَاءً وقع هذا أو ذاك ، فلا تأثير له في ضَعْف الدين ووجوب الارتداد .
فصل
قوله : { انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ } أي : صرتم كُفاراً بعد إيمانكم ، يقال لكل من عاد إلى ما كان عليه : رجع وراءه ، فانقلب على عقبه ، ونكص على عقبيه ، وذلك أن المنافقين قالوا لضَعَفَةِ المسلمين : إن كان محمد قد قُتِل فالحقوا بدينكم ، فقال بعض الأنصار إن كان محمد قد قُتِل فالحقوا بدينكم ، فقال بعض الأنصار إن كان محمد قد قُتِل ، فإن رَبَّ محمد لم يُقْتَل ، فقاتِلوا على ما قاتل عليه محمد صلى الله عليه وسلم .
فقد بيَّن - تعالى - أن قتله لا يوجب ضعفاً في دينه بدليلين :
أحدهما : القياس على موت سائر الأنبياء .
والثاني : أن الحَاجَةَ إلى الرسول إنما هي لتبليغ الدين ، وبعد ذلك لا حَاجَة إليه ، فلم يلزم من قَتْلِه فَسَادُ الدين .
قوله : { على أَعْقَابِكُمْ } فيه وجهان :
أظهرهما : أنه متعلق ب « انْقَلَبْتُمْ » .
والثاني : أنه حال من فاعل « انْقَلَبْتُمْ » ، كأنه قيل : انقلبتم راجعين .
قوله : { وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ } .
قرأ ابنُ أبي إسحاق « على عقبه » - بالإفراد ، و « شَيْئاً » نصب على المصدر أي : شيئاً من الضرر ، لا قليلاً ولا كثيراً . والمراد منه : تأكيد الوعيد ، وأن المنقلب بارتداده لا يضر الله شيئاً ، وإنما يضر نفسه .
ثم قال : { وَسَيَجْزِي الله الشاكرين } والمعنى : أن تلك الهزيمة لما أوقعَتْ شُبْهَةً في قلوب بعضهم ، ولم تقع في قلوب العلماء الأقوياء من المؤمنين ، فهم شكروا الله على ثباتهم على الإيمان وشدة تمسكهم به فمدحهم الله تعالى .
رَوَى ابنُ جرير الطَّبَرِيُّ عن علي - رضي الله عنه - أنه قال المراد بقوله تعالى : { وَسَيَجْزِي الله الشاكرين } : أبو بكر وأصحابه . وروى عنه أيضاً أنه قال : أبو بكر أمين الشاكرين ، وأمين الله تعالى .
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
{ أَنْ تَمُوتَ } في محل رفع؛ اسماً ل « كان » ، و « لِنَفْسٍ » خبر مقدَّم فيتعلق بمحذوف ، و { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } حال من الضمير في « تَمُوتَ » ، فيتعلق بمحذوف ، وهو استثناء مفرَّغ ، والتقدير : وما كان لها أن تموتَ إلا مأذوناً لها ، والباء للمصاحبة .
وقال أبُو البَقَاءِ : { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } الخبر ، واللام للتبيين ، متعلِّقة ب « كان » .
وقيل : هي متعلقة بمحذوف ، تقديره : الموت لنفس ، و « أنْ تَمُوتَ » تبيين للمحذوف ، ولا يجوز أن تتعلق اللام ب « تَمُوتَ » لما فيه من تقديم الصلة على الموصول .
وقال بعضهم : إن « كَانَ » زائدة ، فيكون « أن تموت » مبتدأ ، و « لنفس » خبره .
وقال الزجاج : اللام منقولة ، تقديره وما كانت نفس لتموتَ ثم قدمت اللام ، فجعل ما كان اسماً ل « كان » - وهو ( أن تَموتَ ) - خبراً لها ، وما كان خبراً - وهو « لِنَفْسٍ » - اسماً لها ، فهذه خمسة أقوال ، أظهرها : الأول .
أما قول أبي البقاء : واللام للتبيين ، فتتعلق بمحذوف ، ففيه نظر من وجهين :
أحدهما : أنَّ « كان » الناقصة لا تعمل في غير اسمها وخبرها ، ولئن سُلِّم ذلك ، فاللام التي للتبيين إنما تتعلق بمحذوف ، وقد نَصُّوا على ذلك في نحو : سَقْياً لك .
وقيل : إن فيه حذف المصدر وإبقاء معموله ، وهو لا يجوز .
أما مَنْ جعل « لِنَفْسٍ » متعلقة بمحذوف - تقديره : الموت لنفس ، ففاسدٌ ، لأنه ادَّعَى حذف شيء لا يجوز؛ لأنه إن جعل « كَانَ » تامة ، أو ناقصة ، امتنع حذفُ مرفوعها ، لأن الفاعل لا يُحْذَف . وكذلك قول مَنْ جعل « كان » زائدة .
أما على قول الزجاج فإنه تفسير معنًى ، لا تفسير إعراب .
فصل
في تعلُّق هذه الآية بما قبلَها وجوه :
أحدها : أن المنافقين حين قالوا : إن محمداً قُتِل ، فقال تعالى : لا تموت نفس إلا بإذن الله ، فقتله - أيضاً - مثل موته لا يحصل إلا في الوقت المقدَّر له ، فكما أن موته في داره لا يدل على فساد دينه ، كذلك إذا قُتِل لا يؤثر ذلك في فساد دينه .
والمقصود منه إبطال قول المنافقين لضَعَفَةِ المسلمين : إن كان محمدٌ قُتِل فارجعوا إلى دينكم الأول .
والثاني : أن المراد : تحريض المسلمين على الجهاد بإعلامهم أن الحذرَ لا يدفَع القدر ، وأن أحداً لا يموت قبل الأجل ، وإذا جاء الأجل لا يندفع ، فلا فائدة في الجُبْن والخوف .
والثالث : أن المراد حِفْظ الله للرسول صلى الله عليه وسلم من تلك الواقعة المخوفة؛ فإنه لم يَبْقَ سبب من أسباب الهلاك إلا وقد حصل ، ولكن لما كان الله حافِظَه وناصِرَه ما ضَرَّه شيءٌ من ذلك ، وفيه تنبيه على أن الصحابة قصَّروا في الذَّبِّ عنه .
ورابعها : أن المقصود منه الجواب عن كلام المنافقين للصحابة ، حين رجعوا وقد قتل منهم من قتل { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } [ آل عمران : 156 ] فأخبر - تعالى - أنَّ الموت والقتل لا يكونان إلا بإذن الله .
قوله : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } [ آل عمران : 145 ] ، فليس في إرجاف من أرجف بموت النبي صلى الله عليه وسلم ما يحقق ذلك فيه ، أو يعين في تقوية الكُفْر ، بل يُبْقيه الله إلى أن يَظْهَرَ على الدِّين كله .
فصل
قال القُرْطُبِي : « هذا حضٌّ على الجهاد ، وإعلام بأن الموت ، لا بد منه لكل إنسان وأن كل إنسان - مقتولاً كان أو غيرَ مقتول - مَيِّت إذا بلغ أجله المتكوبَ له؛ لأن معنى { مُّؤَجَّلاً } إلى أجل ، ومعنى { بِإِذْنِ الله } : بقضاء الله وقدره » . واختلفوا في الإذن .
قال أبو مسلم : هو الأمر ، أي أن الله - تعالى - يأمر ملك الموت بقبض الأرواح .
وقيل : المراد منه : التكوين والإيجاد ، لأنه لا يقدر على الإماتة و الإحياء إلا الله تعالى .
وقيل : الإذن : هو التخلية والإطلاق ، وتَرْك المنع بالقهر والإجبار ، كقوله تعالى : { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } [ البقرة : 102 ] أي : بتخليته بينه وبين قاتله .
وقيل : الإذن بمعنى : العلم ، والمعنى : أن نفساً لن تموتَ إلاَّ في الوقت الذي علم الله - تعالى - موتها فيه .
وقال ابْنُ عَبَّاسٍ : الإذن : هو قَضَاءُ الله وقدره؛ فإنه لا يحدث شيء إلاَّ بمشيئته وإرادته - سبحانه وتعالى- .
قوله : { كِتَاباً مُّؤَجَّلاً } في نصبه ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنه مصدر مؤكِّد لمضمون الجملة التي قبله ، فعامله مُضْمَر ، تقديره : كتب الله ذلك كتاباً ، نحو قوله تعالى : { صُنْعَ الله } [ النمل : 88 ] وقوله : { وَعَدَ الله } [ الروم : 6 ] ، وقوله : { كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ } [ النساء : 24 ] .
الثاني : أنه منصوب على التمييز ، ذكره ابنُ عطية ، وهذا غير مستقيم؛ لأن التمييز منقول وغير منقول ، وأقسامه محصورة ، وليس هذا شيئاً منها ، وأيضاً فأين الذات المُبْهَمة التي تحتاج إلى تفسير؟
والثالث : أنه منصوب على الإغراء ، والتقدير : الزموا كتاباً مؤجَّلاً ، وآمنوا بالقدر ، وليس المعنى على ذلك .
وقرأ ورش : « مُوجَّلاً » بالواو بدل الهمزة ، وهو قياس تخفيفها .
فصل
الكتاب المؤجَّل هو الكتاب المشتمل على الآجال ، ويقال : إنه اللوح المحفوظ ، أي : كتب لكل نفس أجلاً لا يقدر أحدٌ على تقديمه وتأخيره ، جاء في الحديث أنه تعالى قال للقلم : اكتب ، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة .
فصل
قال القاضِي : أما الأجل والرزق ، فهما مضافان إلى الله تعالى ، وأمَّا الكُفْرُ والفِسْقُ والإيمان والطاعة ، فكل ذلك مضاف إلى العبد ، فإذا كتب الله ذلك ، فإنما يكتب ما يعلمه من اختيار العبد وذلك لا يُخْرج العبد عن الاختيار .
وجوابه : أنه إذا علم الله من العبد الكفر ، وكتب في اللوح المحفوظ منه الكفر ، فلو أتَى بالإيمان كان ذلك جمعاً بين المتنافيين؛ لأن العلم بالكفر ، والخبر والصدق عن الكفر - مع عدم الكفر - جمع بين النقيضين ، وهو محال ، وهذا موضِعُ الإلزام .
فصل
قال المفسرون : أجل الموت هو الوقت الذي في معلوم الله - تعالى - أن روح الحيِّ تفارق جيده فيه ، ومتى قُتِل العبدُ علمنا أن ذلك أجله ، ولا يصح أن يقال : لو لم يُقْتَل لعاش ، بدليل قوله تعالى : { كِتَاباً مُّؤَجَّلاً } [ آل عمران : 145 ] ، وقوله : { إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ يونس : 49 ] وقوله : { إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ } [ نوح : 4 ] ، وقوله : { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } [ الرعد : 38 ] .
والمعتزليّ يقول : يتقدَّم الأجل ويتأخّر ، وأن مَنْ قُتِل فإنما يهلك قبل أجله ، وكذلك كل ما ذبح من الحيوان كان هلاكه قبل أجله ، لأنه يجب على القاتل الضمان والدِّيَة ، وهذه الآية رَدٌّ عليهم .
قوله : { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا } مبتدأ ، وهي شرطية . وفي خبر هذا المبتدأ الخلاف المشهور . وأدغم أبو عمرو وحمزة والكسائي وابن عامر بخلاف عنه - دال « يُرِد » في الثاء .
والباقون بالإظهار .
وقرأ أبو عمرو بالإسكان في هاء « نُؤتِهِ » في الموضعين وَصْلاً ووقفاً .
وهشام - بخلاف عنه - بالاختلاس وصلاً .
والباقون بالإشباع وَصْلاً .
فأما السكون فقالوا : إن الهاء لما حلت محلّ ذلك المحذوف أعطيت ما كان يستحقه من السكون ، وأما الاختلاس ، فلاستصحاب ما كانت عليه الهاء قبل حَذْف لام الكلمة؛ فإن الأصل : نؤتيه ، فحُذِفَت الياء للجزم ، ولم يُعْتَدّ بهذا العارض ، فبقيت الهاء على ما كانت عليه .
وأما الإشباع فنظراً إلى اللفظ؛ لأن الهاء بعد متحرِّكٍ في اللفظ ، وإن كانت في الأصل بعد ساكن - وهو الياء التي حُذِفَت للجزم - والأوْلى أنْ يقال : إنَّ الاختلاس والإسكان بعد المتحرك لغة ثابتة عن بني عقيل وبني كلاب .
حكى الكسائي : لَهْ مالٌ ، وبِهْ داء - بسكون الهاء ، واختلاس حركتها - وبهذا يَتَبَيَّن أن مَنْ قال : إسكان الهاء واختلاسها - في هذا النحو - لا يجوز إلا ضرورةً ، ليس بشيءٍ ، أمَّا غير بني عقيل ، وبني كلاب ، فنعم لا يوجد ذلك عندهم ، إلا في ضرورة .
كقوله : [ الوافر ]
1645- لَهُ زَجَلٌ كَأنَّهُ صَوْتُ حَادٍ إذَا طَلَبَ الوَسِيقَةَ أوْ زَمِيرُ
باختلاس هاء ( كأنه ) .
ومثله قول الآخر : [ البسيط ]
1646- وَأشْرَبُ الْمَاءَ مَا بِي نَحْوَهُ عَطَشٌ ... إلاَّ لأنَّ عُيُونَهْ سَيل وَادِيهَا
بسكونها . وجعل ابن عصفور الضرورة في « البيت الثاني » أحسن منها في « البيت الأول » ، قال : لأنه إذهاب للحركة وصِلَتِها ، فهي جَرْي على الضرورة [ إجراءً ] كاملاً ، وإنما ذكرنا هذه التعليلات لكثرة ورود هذه المسالة ، نحو : { يَرْضَهُ لَكُمْ } [ الزمر : 7 ] ، ونحو : { فَبِهُدَاهُمُ اقتده } [ الأنعام : 90 ] .
وقُرِئ : يُؤتِه - بياء الغيبة - والضمير لله تعالى ، وكذلك : « وسنجزي الشاكرين » بالنون والياء .
فصل
نزلت في الذين تركوا المركز يوم أُحُد؛ طلباً للغنيمة ، { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا } يعني : الغنيمة ، قوله : { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا } قيل : أراد الذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جُبَير حتى قُتِلوا ، وهذه الآية - وإن وردت في الجهاد خاصة - عامة في جميع الأعمال؛ لأن المؤثر في جلب الثواب والعقاب هو القصد والدواعي ، لا ظواهر الأعمال .
ثم قال : « وسنجزي الشاكرين » أي : المؤمنين المطيعين .
عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « مَنْ كَانَتْ نِيَّتُه طَلَبَ الآخِرَةِ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ ، وَجَمَعَ له شَمْلَهُ ، وَأتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ . وَمَنْ كَانَتْ نِيَّتُه طَلَبَ الدُّنْيَا جَعَلَ اللهُ الفَقْرَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، وَشَتَّتَ عَلَيْهِ أمْرَهُ ، وَلاَ يَأتِيهِ مِنْهَا إلاَّ مَا كُتِبَ لَهُ » وروى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنَّما الأعمالُ بالنياتِ ، وإنَّمَا لِكُلُ امرئٍ ما نَوَى ، فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَرَسُولِه فَهِجْرَتُه إلَى اللهِ وَرَسُولِه ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُه إلَى دُنْيَا يُصيبُها ، أو امْرَأة يَنْكِحُهَا ، فهِجْرَتُه إلى مَا هَاجَرَ إلَيْه » .
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
هذه اللفظة ، قيل : هي مركبة من كاف التشبيه ، ومن « أيِّ » ، وقد حدث فيهما بعد التركيب معنى التكثير ، المفهوم من « كَمْ » الخبرية ، ومثلُها في التركيب وإفهام التكثير : « كذا » في قولهم : له عندي كذا درهماً ، والأصل : كاف التشبيه و « ذا » الذي هو اسم إشارة ، فلما رُكَِّبَا حدَثَ فيهما معنى التكثير ، ف « كم » الخبرية وكأيِّن وكذا كلها بمعنًى واحد ، وقد عهدنا في التركيب إحداث معنى آخر؛ ألا ترى أن « لولا » حدث لها معنًى جديدٌ ، وكان من حقها - على هذا - أو يُوقَفَ عليها بغير نون؛ لأن التنوين يُحْذَف وقفاً ، إلا أن الصحابة كتبتها « كَأيِّنْ » - بثبوت النون- ، فمن ثم وقف عليها جمهور القراء بالنون؛ اتِّبَاعاً لرسم المصحف .
ووقف أبو عمرو وسورة بن المبارك عن الكسائي « كأي » - من غير نون - على القياس .
واعتل الفارسيُّ لوقف النون بأشياء ، منها : أن الكلمة لما رُكِّبَتْ خرجت عن نظائرها ، فجعل التنوين كأنه حرف أصلي من بنية الكلمة .
وفيها لغات خمس .
أحدها : « كَيِّنْ » - وهي الأصل - وبها قرأ الجماعة ، إلاَّ ابن كثير .
وقال الشاعر : [ الوافر ]
1647- كَأيِّنْ فِي الْمَعَاشِرِ مِنْ أنَاسٍ ... أخُوهُمْ فَوْقَهُمْ ، وَهُمُ كِرَامُ
الثانية : « كائِنْ » - بزنة كاعِن - وبها قرأ ابن كثير وجماعة ، وهي أكثر استعمالاً من « كأيِّنْ » وإن كانت تلك الأصل- .
قال الشاعر : [ الوافر ]
1648- وَكَائنْ بِالأبَاطِحِ مِنْ صَدِيقٍ ... يَرَانِي لَوْ أصِبْتُ هُوَ المُصَابَا
وقال الآخر : [ الطويل ]
1649- وَكَائِنْ رَدَدْنَا عَنْكُمُ مِنْ مُدَجَّجٍ .. .
وقال آخر : [ الطويل ]
1650 ... - وَكَائِنْ تَرَى فِي الْحَيِّ مِنْ ذِي قَرَابَةٍ
.. أنشده المفضل ممدوداً ، مهموزاً ، مخففاً .
واختلفوا في توجيه هذه القراءة ، فنُقِل عن المبرد أنها اسم فاعل من كان ، يكون ، فهو كائن ، واستبعده مكِّيّ ، قال : لإتيان « مِنْ » بعده ، ولبنائه على السكون . وكذلك أبو البقاء ، قال : « وهو بعيد الصحة؛ لأنه لو كان كذلك لكان معرباً ، ولم يكن فيه معنى التكثير » .
لا يقال : هذا تحامُل على المبرد؛ فإن هذا لازم له - أيضاً - فإن البناء ، ومعنى التكثير عارضان - أيضاً - لأن التركيب عُهِد فيه مثل ذلك - كما تقدم في « كذا » ، و « لولا » ، ونحوهما ، وأما لفظٌ مفردٌ يُنقل غلى معنى ، ويُبْنَى من غير سبب ، فلم يُوجد له نظير .
وقيل : هذه القراءة أصلها « كَأيِّنْ » - كقراءة الجماعة - إلا أن الكلمة دخلها القلب ، فصارت « كائن » مثل كاعن - واختلفوا في تصييرها بالقلب كذلك على أربعة أوجه :
أحدها : أنه قُدِّمت الياءُ المشددةُ على الهمزة ، فصار وزنها كَعَلف ، إلا أنك قدمتَ العينَ والسلام ، وهما الياء المشددة - ثم حذفت الياء الثانية لثقلها بالحركة والتضعيف ، كما قالوا في : « أيُّها » ، ثم قلبت الياء الساكنة ألفاً ، كما قلبوها في نحو آية - والأصل : أيَّة - وكما قالوا : طائِيّ - والأصل : طَيئ - فصار اللفظ « كَأيِنْ » ووزنه كَعْف ، لأن الفاء أخرت إلى موضع اللام ، واللام قد حُذفَتْ .
الوجه الثاني : أنه حذفت الياء الساكنة - التي هي عين- وقُدِّمَت المتحركة - التي هي لام - فتأخرت الهمزة - التي هي فاء - وقلبت الياء ألفاً؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فصار « كائن » ووزنه كلف .
الوجه الثالث : ويُعْزَى للخليل - أنه قُدِّمَت إحدى الياءين في موضع الهمزة ، فتحركت بحركة الهمزة - وهي الفتحة - وصارت الهمزة ساكنة في موضع الياء ، فتحركت الياءُ ، وانفتح ما قبلها ، فقُلِبَتْ ألفاً ، فالتقى الساكنان - الألف المنقلبة عن الياء ، والهمزة بعدها ساكنة - فكُسِرَت الهمزة على أصل التقاء الساكنين ، وبقيت إحدى الياءين متطرفة ، فأذهبها التنوين - بعد سلب حركتها - كياء قاضٍ وغازٍ .
الوجه الرابع : أنه قُدِّمَت الياء المتحركةُ ، فانقلبت ألفاً ، وبقيت الأخرى ساكنة ، فحذفها التنوين - مثل قاضٍ - ووزنه على هذين الوجهين أيضاً كلف؛ لما تقدم من حذف العين ، وتأخير الفاء ، وإنما الأعمال تختلف .
اللغة الثالثة : « كَأْيِنْ » - بياء خفيفة بعد الهمزة - على مثال كَعْيِن ، وبها قرأ ابنُ مُحَيْصِن ، والأشهبُ العقيلي ، ووجهها أن الأصل : « كَأيِّنْ » - كقراءة الجماعة - فحُذِفَت الياءُ الثانية ، استثقالاً ، فالتقى ساكنان - الياء والتنوين - فكُسِر الياء؛ لالتقاء الساكنين ، ثم سكنت الهمزة تخفيفاً لثقل الكلمة بالتركيب ، فصارت كالكلمة الواحدة كما سكنوا « فهو » و « فهي » .
اللغة الرابعة : « كَيْإن » بياء ساكنة ، بعدها همزة مكسورة ، وهذه مقلوب القراءة التي قبلها ، وقرأ بها بعضهم .
اللغة الخامسة : « كإنْ » - على مثال كَعٍ - ونقلها الداني قراءة عن ابن مُحَيْصِن أيضاً .
وقال الشاعر : [ الطويل ]
1651- كَئِنْ مِنْ صَدِيقٍ خِلْتُهُ صَادِقَ الإخَا ... ءِ أبَانَ اخْتِبَاري أنَّهُ لِي مُدَاهِنُ
وفيها وجهان :
أحدهما : أنه حذف الياءين دُفعَةً واحدةً لامتزاج الكلمتين بالتركيب .
والثاني : أنه حذف إحدى الياءين - على ما تقدم تقريره - ، ثم حذف الأخرى لالتقائها ساكنةً مع التنوين ووزنه - على هذا - كَفٍ؛ لحذف العين واللام منه .
واختلفوا في « أي » هل هي مصدر في الأصل ، أم لا؟
فذهب جماعة إلى أنها ليست مصدراً ، وهو قول أبي البقاء؛ فإنه قال « كَأيِّنْ » الأصل فيه : « أيٌّ » ، التي هي بعض من كل ، أدخلت عليها كافُ التشبيه .
وفي عبارته عن « أيّ » بأنها بعض من كل ، نظر لأنها ليست بمعنى : بعض من كل ، نعم إذا أضيفت إلى معرفة فحُكْمها حُكم « بعض » في مطابقة الجُزْء ، وعود الضمير ، نحو : أيُّ الرجلين قائم ولا نقول : قاما ، فليست هي التي « بعض » اصلاً .
وذهب ابنُ جني إلى أنها - في الأصل - مصدر أوَى يأوِي - إذا انضم ، واجتمع - والأصل : أوْيٌ ، نحو طَوَى يَطْوي طيًّا - فاجتمعت الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت في الياء ، وكأن ابن جنِّي ينظر إلى أن معنى المادة من الاجتماع الذي يدل عليه « أي » فإنها للعموم ، والعموم يستلزم الاجتماع .
وهل هذه الكاف الداخلة على « أي » تتعلق بغيرها من حروف الجر ، أم لا؟
والصحيح أنها لا تتعلق بشيء؛ لأنها مع « أي » صارتا بمنزلة كلمة واحدة - وهي « كم » - فلم تتعلق بشيء ، ولذلك هُجِر معناه الأصلي - وهو التشبيه- .
وزعم الحوفيّّ أنها تتعلق بعامل ، فقال : « أما العامل في الكاف ، فإن جعلناها على حكم الأصل ، فمحمول على المعنى ، والمعنى : إصابتكم كإصابة من تقدَّم من الأنبياء وأصحابهم ، وإن حملنا الحكم على الانتقال إلى معنى » كم « ، كان العامل بتقدير الابتداء ، وكانت في موضع رفع ، و » قاتل « الخبر ، و » مِنْ « متعلقة بمعنى » الاستقرار « ، والتقدير الأول أوضح؛ لحمل الكلام على اللفظ دون المعنى ، بما يجب من الخفض في » أي « ، وإذا كانت » أي « على بابها من معاملة اللفظ ، ف » من « متعلقة بما تعلقت به الكاف من الممعنى المدلول عليه » اه . وهو كلام غريب .
واختار أبو حيان أن « كأين » كلمة بسيطة - غير مركبة - وأن آخرها نون - هي من نفس الكلمة - لا تنوين؛ لأن هذه الدعاوى المتقدمة لا يقوم عليها دليل ، وهذه طريق سهلة ، والنحويون ذكروا هذه الأشياء؛ محافظةً على أصولهم ، مع ما ينضم إلى ذلك من الفوائد ، وتمرين الذهن . هذا ما يتعلق بها من حيث التركيب ، فموضعها رفع بالابتداء ، وفي خبرها أربعة أوجه :
أحدها : أنه « قاتل » فإن فيه ضميراً مرفوعاً به ، يعود على المبتدأ ، والتقدير : كثير من الأنبياء قاتل .
قال ابو البقاء : والجيد أن يعود الضمير على لفظ « كأين » ، كما تقول : مائة نبي قُتِل ، فالضمير للمائة؛ إذ هي المبتدأ .
فإن قيل : لو كان كذلك لأنثت ، فقلت : قُتِلَتْ؟
قيل : هذا محمول على المعنى؛ لأن التقدير : كثير من الرجال قُتِل .
كأنه يعني بغير الجيد عوده على لفظ « نَبِيّ » ، فعلى هذا جملة { مَعَهُ رِبِّيُّونَ } جملة في محل نصب على الحال من الضمير في « قُتِل » .
ويجوز أن يرتفع « ربيون » على الفاعلية بالظرف ، ويكون الظرف هو الواقع حالاً ، التقدير : استقر معه ربيون .
وهو أولى؛ لأنه من قبيل المفردات ، وأصل الحال والخبر والصفة أن تكون مفردة .
ويجوز أن يكون « مَعَهُ » - وحده - هو الحال ، و « رِبِّيُّونَ » فاعل به ، ولا يحتاج - هنا - إلى واو الحال؛ لأن الضمير هو الرابط - أعني : الضمير في « مَعَهُ » .
ويجوز أن يكون حالاً من « نَبِيّ » - وإن كان نكرة - لتخصيصه بالصفة حينئذ؛ ذكره مكي . وعمل الظرف - هنا - لاعتماده على ذي الحال .
قال أبو حيان : وهي حال محكية ، فلذلك ارتفع « ربيون » بالظرف - وإن كان العامل ماضياً ، لأنه حكى الحال الماضية ، كقوله : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد } [ الكهف : 18 ] ، وذلك على مذهب البصريين ، وأما الكسائي فيعمل اسم الفاعل العاري من « أل » مطلقاً .
وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم أن الظرف يتعلق باسم فاعل ، حتى يلزم عليه ما قال من تأويله اسم الفاعل بحال ماضية ، بل يدعى تعلُّقه بفعل ، تقديره : استقر معه ربيون .
الوجه الثاني : أن يكون « قَاتَلَ » جملة في محل جر؛ صفة لِ « نَبِيّ » ، و { مَعَهُ رِبِّيُّونَ } هو الخبر ، لكن الوجهان المتقدمان في جعله حالاً - أعني : إن شئت أن تجعل « مَعَهُ » خبراً مقدماً ، و « ربِّيُّونَ » مبتدأ مرخراً ، والجملة خبر « كَأيِّنْ » ، وأن تجعل « مَعَهُ » - وحده - هو الخبر ، و « ربِّيُّونَ » فاعل به؛ لاعتماد الظرف على ذي خبر .
الوجه الثالث : أن يكون الخبر محذوفاً ، تقديره : في الدنيا ، أو مضى ، أو : صابر ، وعلى هذا ، فقوله : « قَاتَلَ » في محل جر؛ صفة لِ « نَبِيٍّ » ، و « مَعَهُ ربِّيُّونَ » حال من الضمير في « قَاتَلَ » - على ما تقدم تقريره - ويجوز أن يكون « مَعَهُ ربِّيُّونَ » صفة ثانية ل « نَبِيٍّ » ، وُصِف بصفتين : بكونه قاتل ، وبكونه معه ربيون .
الوجه الرابع : أن يكون « قَاتَلَ » فارغاً من الضمير ، مسنداً إلى « رِبِّيُّونَ » وفي هذه الجملة - حينئذ - احتمالان :
أحدهما : أن تكون خبراً ل « كأيِّنْ » .
الثاني : ان تكون في محل جر ل « نَبِيٍّ » والخبر محذوف - على ما تقدم - وادِّعَاء حذف الخبر ضعيف لاستقلال الكلام بدونه .
وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون « قَاتَلَ » مسنداً لِ « رِبِّيُّونَ » ، فلا ضمير فيه على هذا ، والجملة صفة « نَبِيٍّ » .
ويجوز أن يكون خبراً ، فيصير في الخبر أربعة أوجه ، ويجوز أن يكون صفةً لِ « نَبِيٍّ » والخبر محذوف على ما ذكرنا .
وقوله : صفة ل « رَبِّيُّونَ » يعني : أن القتل من صفتهم في المعنى ، وقوله : « فيصير في الخبر أربعة أوجه » يعني : ما تقدم له من أوجه ذكرها ، وقوله : فلا ضمير فيه - على هذا - والجملة صفة « نبي » غلط؛ لأنه يبقى المبتدأ بلا خبرٍ .
فإن قلتَ : إنما يزعم هذا لأنه يقدر خبراً محذوفاً؟
قلت : قد ذكر أوجهاً أخَر؛ حيثُ قال : « ويجوز أن تكون صفة ل » نَبِيٍّ « والخبرُ محذوفٌ - على ما ذكرنا » .
ورجَّح كونَ قَاتَلَ مسنداً إلى ضمير النبي أن القصة بسبب غزوةِ أحُدٍ ، وتخاذل المؤمنين حين قيل : إن محمداً قد ماتَ مقتولاً؛ ويؤيدُ هذا الترجيح قوله : { أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ } [ آل عمران : 144 ] وإليه ذهب ابنُ عباسٍ والطبريُّ وجماعة . وعن ابن عباسٍ - في قوله : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } [ آل عمران : 161 ] - قال : النبي يُقتل فكيف لا يُخَان؟
وذهب الحسنُ وابن جُبَيرٍ وجماعة إلى أن القتلَ للرِّبِّيِّينَ ، قالوا : لأنه لم يُقْتَل نبيٌّ في حَرْب قط ونصر الزمخشري هذا بقراءة قُتِّل - بالتشديد - يعني أنّ التكثيرَ لا يتأتى في الواحد - وهو النبي - وهذا - الذي ذكره الزمخشريُّ - سبقه إليه ابنُ جني - وسيأتي تأويله- .
وقرأ ابن كثيرٍ ، ونافع ، وأبو عمرو : قُتِل - مبنياً للمفعول - وقتادة كذلك ، إلا أنه شدد التاء ، وباقي السبعة : قاتل ، وكل من هذه الأفعال يصلح أن يرفع ضمير « نَبِيّ » وأن يرفع « رِبِّيُّونَ » - كما تقدم تفصيلُهُ- .
وقال ابنُ جني : إنَّ قراءة : قُتّل - بالتَّشْديد - يتعين أن يسند الفعل فيها إلى الظاهر - أعني : « رِبِّيُّونَ » - قال : لأنَّ الواحدَ لا تكثير فيه .
قال أبو البقاء : « ولا يمتنع أنْ يكونَ فيه ضمير الأول؛ لأنه في معنى الجماعةِ » .
يعني أن « مِنْ نَبِيٍّ » المراد به الجنس ، فالتكثير بالنسبة لكثرة الأشخاص؛ لا بالنسبة إلى كل فَرْد؛ إذ القتل لا يتكثر في كلِّ فردٍ .
وهذا الجوابُ - الذي أجابَ به أبو البقاءِ- استشعر به أبو الفتحِ ، وأجاب عنه ، قَالَ : فإن قيل : فهلاَّ جاز فُعِّل؛ حَمْلاً على معنى « كَمْ » ؟
فالجواب : أن اللفظ قد مشى على جهة الإفراد في قوله : « مِنْ نَبِيٍّ } ودلَّ الضمير المفرد » مَعَهُ « على أن المراد إنما هو التمثيلُ بواحدٍ واحدٍ ، فخرج الكلامُ على معنى » كم « . قال : في هذه القراءةِ دلالةٌ على أنَّ من قرأ من السَّبْعَةِ » قُتِلَ « أو » قَاتَل مَعَهُ رِبِّيُّونَ « فإن » ربِّيُّونَ « مرفوعٌ في قراءته ب » قُتِل « أو » قَاتَل « وليس مرفوعاً بالابتداء ، ولا بالظرف ، الذي هو » مَعَه « .
قال أبو حيّان : « وليس بظاهر؛ لأن » كأين « مثل » كَمْ « وأنتَ خبيرٌ إذا قلتَ : كم من عانٍ فككته ، فأفردت ، راعيت لفظ » كم « ومعناها جمع ، فإذا قلت : فككتهم ، راعيت المعنى ، وليس معنى مراعاة اللفظ إلا أنك أفردت الضمير ، والمراد به الجمع . فلا فرق من حيثُ المعنى - بين فككته وفككتهم ، كذلك لا فرق بين قتل معه ربيون ، وقتل معهم ربيون ، وإنما جاز مراعاة اللفظ تارةً ، ومراعاة المعنى تارة؛ لأن مدلول » كم « و » كأين « كثير ، والمعنى : جمع كثير ، وإذا أخبرت عن جمع كثيرٍ فتارةً تفرد؛ مراعاةً للفظ ، وتارة تجمع؛ مراعاة للمعنى ، كما قال تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 44 و 45 ] ، فقال : » مُنْتَصِر « وقال : » وَيُوَلُّونَ « فأفرد في » مُنْتَصِرٌ « وجمع في » يُوَلُّونَ « .
ورجح بعضهم قراءة » قَاتَلَ « لقوله - بعد ذلك - : { فَمَا وَهَنُواْ } قال : وإذا قتلوا ، فكيف يوصفون بذلك؟ إنما يوصف بهذا الأحياء؟
والجوابُ : أن معناه : قتل بعضهم ، كما تقول : قُتِلَ بنو فلانٍ في وقعة كذا ، ثم انصرفوا .
وقال ابن عطية : قراءة من قَرَأ » قَاتَلَ « أعم في المدْحِ؛ لأنه يدخل فيها من قتل ومن بقي ، ويحسن عندي - على هذه القراءة - إسنادُ الفعل إلى الربيين ، وعلى قراءة : قتل - إسناده إلى » نبي « .
قال أبو حيّان : » قتل « يظهر أنها مدح ، وهي أبلغ في مقصود الخطاب؛ لأنها نَصٌّ في وقوع القتل ، ويستلزم المقاتلة . و » قَاتَل « لا تدلُّ على القتل؛ إذ لا يلزم من المقاتلة وجود القتل؛ فقد تكون مقاتلة ولا يقع قتل .
قوله : { مِّن نَّبِيٍّ } تمييز ل » كَأيِّنْ « لأنها مثل » كم « الخبرية .
وزعم بعضهم أنه يلزم جره ب » من « ولهذا لم يجئ في التنزيل إلا كذلك ، وهذا هو الأكثرُ الغالب . قال وقد جاء تمييزُها منصوباً ، قال الشاعرُ : [ الخفيف ]
1652- أطْرُدِ الْيَأسَ بِالرَّجَاءِ فَكَائِن ... آلِماً حُمَّ يُسْرُهُ بَعْدَ عُسْرِ
وقال آخر : [ الطويل ]
1653- فَكَائِنْ لَنَا فَضْلاً عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةً ... قَدِيماً ، وَلاَ تَدْرُونَ مَا مَنُّ مُنْعِمِ
وأما جره فممتنع؛ لأن آخرَها تنوين ، وهو لا يثبت مع الإضافة .
و » ربيون « : جمع رِبِّيّ ، وهو العالم ، منسوب إلى الرَّبّ ، وإنما كُسِرت راؤه؛ تغييراً في النسب ، نحو : إمْسِيّ - في النسبة إلى أمس - وقيل : كُسِر للإتباع .
وقيل : لا تغيير فيه ، وهو منسوب إلى الرُّبة - وهي الجماعة - وقرأ الجمهور بكسر الرَّاءِ ، وقرأ عليّ ، وابنُ مسعودٍ ، وابن عبّاسٍ ، والحسنُ » رُبِّيُّونَ « - بضم الراء - وهو من تغيير النسبِ ، إذا قلنا : هو منسوب إلى الربِّ ، وقيل : لا تغيير ، وهو منسوب إلى الربة ، وهي الجماعة .
قال القرطبيُّ « واحدهم ربِّيّ - بكسر الراء وضمها » .
وقرأ ابنُ عباسٍ - في رواية قتادة - رَبِّيُّونَ ، بفتحها على الأصل ، إن قلنا : منسوب إلى الرَّبِّ ، وإلا فمن تغيير النسب ، إن قلنا : إنه منسوب إلى الربة .
قال ابن جني : والفتح لغة تميم .
وقال النقاشُ : « هم المكثرون العلم » من قولهم : رَبَ الشيء يربو - إذا كَثر - وهذا سَهْوٌ منه؛ لاختلاف المادتين؛ لأن تلك من راء وياء وواو ، وهذه من راء وباء مكررة . قال ابن عبَّاسٍ ومجاهدٌ وقتادةُ : الجماعات الكثيرة وقال ابنُ مسعودٍ : والربيون : الألوف .
وقال الكلبيّ : الرِّبِّيَّة الواحدة : عشرة آلاف .
وقال الضَّحَّاك : الرَّبِّيَّة الواحدة ألف ، وقال الحسنُ : رِبِّيُّون : فُقَهاء وعُلَماء .
وقيل : هم الأتباع ، فالربانيون : الولاة ، و الربانيون : الرعية . وحكى الواحديُّ - عن الفرّاءِ - الربانيون : الألوف .
قوله : « كَثِيرٌ » صفة لِ « رِبِّيُّونَ وإن كان بلفظ الإفرادِ؛ لأن معناه الجمع .
فصل
معنى الآية - على القراءة الأولى - أن كثيراً من الأنبياء قُتِلوا ، والذين بَقُوا بعدهم ما وَهَنوا في دينهم ، بل استمرُّوا على نُصْرَة دِينهم [ وقتال ] عدوِّهم ، فينبغي أن يكون حالُكُم - يا أمة محمدٍ - هكذا .
قال القفالُ : والوقف - في هذا التأويل - على قوله : » قُتِل « وقوله { مَعَهُ رِبيُّونَ كَثِيرٌ } حال ، بمعى : قُتِل حال ما كان معه ربيون كثير . أو يكون على معنى التقديم والتأخير أي : وكأين من نبي معه ربيون كثيرٌ ، فما وهن الربيون على كثرتهم .
وقيل : المعنى : وكأين من نبي قُتِل ممن كان معه وعلى دينه ربيون كثيرٌ ، فما ضَعُفَ الباقون ، ولا استكانوا؛ لقَتْل من قُتِل من إخوانهم ، بل مضوا على جهاد عدوهم ، فقد كان ينبغي أن يكون حالكم كذلك .
وحُجَّة هذه القراءة أنّ المقصودَ من هذه الآية حكاية ما جرى لسائر الأنبياءِ؛ لتقتدي هذه الأمة بهم . والمعنى على القراءة الثانية- : وكم من نبي قاتل معه العددُ الكثيرُ من أصحابه ، فأصابهم من عدوهم قروح ، فما وَهَنُوا؛ لأن الذي أصابهم إنما هو في سبيل اللهِ وطاعته ، وإقامة دينه ، ونصرة رسوله ، فكذلك كان ينبغي أن تفعلوا مثل ذلك يا أمةَ مُحَمدٍ .
وحجة هذه القراءة : أن المراد من هذه الآية ترغيب الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في القتال ، فوجب أن يكون المذكورُ هو القتال ، وأيضاً رُوِي عن سعيد بن جبيرٍ أنه قال : ما سمعنا بنبي قُتِل في القتال . قوله : { فَمَا وَهَنُواْ } الضمير في » وَهَنُوا « يعود على الربِّيِّين بجُمْلتهم ، إن كان قُتِل مسنداً إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم وكذا في قراءة » قَاتَلَ « سواء كان مسنداً إلى ضمير النبي ، أو إلى الربِّيين ، فالضمير يعود على بعضهم وقد تقدم ذلك عند ترجيح قراءة » قاتل « .
والجمهورُ على « وَهَنُوا » - بفتح الهاء - والأعمش وأبو السَّمَّال بكسرها ، وهما لغتانِ : وَهَنَ يَهِنُ - كَوَعَدَ يَعِدُ - وَوَهَنَ يَوْهَنُ - كوَجَلَ يَوْجَلُ - وروي عن أبي السَّمَّال - أيضاً - وعِكْرمة : وهْنوا - بسكون الهاء - وهو من تخفيف فَعَل؛ لأنه حرف حلق ، نحو نعم وشَهْد - في نَعِم وشَهِد- .
قال القرطبيُّ : - عن أبي زيد - : « وَهِنَ الشيء يَهِنُ وَهْناً ، وأوْهنته أنا ووهَّنْتُه : ضعَّفته ، والواهنة : أسفل الأضلاع وقصارَاها ، والوَهْن من الإبل : الكثيف ، والوَهْن : ساعة تمضي من الليل ، وكذلك المَوْهِن ، وأوهَنَّا : صِرْنا في تلك الساعة » .
و { لِمَآ أَصَابَهُمْ } متعلق ب « وَهَنُوا » و « ما » يجوز أن تكون موصولة اسمية ، أو مصدرية ، أو نكرة موصوفة .
وقرأ الجمهور { وَمَا ضَعُفُواْ } - بضم العين - وقرئ : ضَعَفُوا - بفتحها - وحكاها الكسائي لغة .
قوله : { وَمَا استكانوا } فيه ثلاثةُ أقوالٍ :
أحدها : أنه « استفعل » من الكَوْن - والكَوْن : الذُّلّ - وأصله : استكون ، فنُقِلَتْ حركة الواو على الكافِ ، ثم قُلِبَت الواو ألفاً .
وقال الأزهريُّ وأبو علي : هو من قول العربِ : بَاتَ فُلان بكَيْنَةِ سوء - على وزن جَفْنَة - أي : بحالة سوء ، فألفه - على هذا من ياء ، والأصل : استكْيَن ، ففُعِل بالياء ما فُعِل بأختها . [ وهو القول الثاني ] .
الثالث : قال الفرّاء : وزنة « افتعل » من السكون ، وإنما أُشْبِعَت الفتحة ، فتولَّد منها ألف .
كقول الشاعر : [ الرجز ]
1654- أعُوذُ باللهِ مِنَ الْعَقْرَابِ ... الشَّائِلاَتِ عُقَدِ الأذْنَابِ
يريد : العقرب الشائلة .
ورُدَّ على الفرّاء بأن هذه الألف ثابتة في جميع تصاريف الكلمةِ ، نحو : استكان ، يستكين ، فهو مستكينٌ ومُستكان إليه استكانةً . وبأنَّ الإشباعَ لا يكون إلا في ضرورةٍ .
وكلاهما لا يلزمه؛ أما الإشباع فواقع في القراءات - السبع - كما سيأتي- .
وأما ثبوت الألف في تصاريف الكلمةِ فلا يدلُّ - أيضاً - لأن الزائدَ قد يَلْزَم؛ ألا ترى أنَّ الميم - في تَمَنْدَل وتَمَدْرَع - زائدة ، ومع ذلك ثابتة في جميع تصاريفِ الكلمة ، قالوا : تَمَنْدَلَ ، يَتَمَنْدَلُ ، تَمَنْدُلاً ، فهو مُتَمَنْدِل ، ومُتَمَنْدَل به . وكذلك تَمَدْرَع ، وهما من الندل والدرع .
وعبارة أبي البقاءِ أحسن في الرَّدِّ؛ فإنه قال : « لأن الكلمة ثبتت عينها في جميع تصاريفها تقول : استكان ، يستكين ، استكانة ، فهو مستكين ، ومُسْتكان له والإشباع لا يكون على هذا الحد » .
ولم يذكر متعلق الاستكانة والضعف - فلم يَقُلْ : فما ضَعُفُوا عن كذا ، وما استكانوا لكذا - للعلم ، أو للاقتصار على الفعلين - نحو { كُلُواْ واشربوا } [ الحاقة : 24 ] ليعم كُلَّ ما يصلح لهما .
وقال الزمخشري : ما وَهَنُوا عند قَتْل النبيّ .
وقيل : ما وَهَنُوا لقتل من قتل منهم .
فصل
المعنى : ما جَبُنُوا لما أصابهم في سبيل اللهِ ، وما ضَعُفُوا عن الجهادِ بما نالهم من الجراح ، وما استكانوا للعدو .
وقال مقاتلٌ : وما استسْلَموا ، وما خضعوا لعدوهم .
وقال السُّدِّيُّ : وما ذلوا . وهذا تعريض بما أصابهم من الْوَهَنِ ، والانكسار عند الإرجاف بقَتْل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين ، واستكانتهم للكافرين ، حتى أرادوا أن يعتضدوا بالمنافقِ عَبْدِ اللهِ بنِ أبَيٍّ؛ ليطلب لهم الأمان من أبي سفيان .
ويحتمل - أيضاً - أن يُفَسَّر الوهن باستيلاء الخوفِ عليهم ، ويُفَسَّر الضعف بأن يضعف إيمانُهم ، وتقع الشكوك والشبهات في قلوبهم ، والاستكانة : هي الانتقال من دينهم إلى دين عدوهم .
ثم قال : { والله يُحِبُّ الصابرين } أي : مَنْ صَبَر على تحمُّل الشدائدِ في طريق اللهِ ولم يُظْهِر الجزعَ والعجزَ والهلع؛ فإنَّ اللهَ يحبه . ومحبة الله - تعالى - للعبد عباة عن إرادة إكرامه وإعزازه وتعظيمه ، والحكم له بالثواب والجنة .
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
الجمهور على نصب { قَوْلِهِمْ } خبراً مقدَّماً ، والاسم « أنْ » وما في حيزها ، تقديره : وما كان قولهم [ إلا هذا الدعاء ، أي : هو دأبهم وديدنهم ] .
وقرأ ابن كثيرٍ وعاصم - في رواية عنهما - برفع « قولُهم » على أنه اسم « كان » والخبر « أن » وما في حيزها . وقراءة الجمهور أوْلَى؛ لأنه إذا اجتمع معرفتانِ فالأولى أن تَجْعَل الأعرف اسماً ، و « أن » وما في حيزها أعْر أعْرَف؛ قالوا : لأنها تُشْبِه المُضْمَر من حيثُ إنها لا تُضْمَر ، ولا تُوصَف ، ولا يُوصَف بها ، و « قولهم » مضافٌ لمُضْمَرٍ ، فَهُوَ في رُتْبَةِ العَلَمِ ، فهو أقلُّ تعريفاً .
ورَجَّحَ أبو البقاء قراءة الجمهور بوجهين :
أحدهما : هذا ، والآخر : أن ما بعد « إلاَّ » مُثبَت ، والمعنى : كان قولَهُمْ : ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا دَأبَهم في الدعاء ، وهو حَسَنٌ .
والمعنى : وما كان قولهم شيئاً من الأقوالِ إلا هذا القول الخاصّ .
فصل
معنى الآية : وما كان قولهم عند قَتْل نبيِّهم إلا أن قالوا : رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذنوبنَا ، والغرض مِنْهُ تحريضُ هذه الأمة بالاقتداء بهم .
قال القاضي : إنما قدموا طلب المغفرة للذنوب والإسراف؛ لأنه - تعالى - لما ضَمِن النُّصرةَ للمؤمنين ، فإذا لم تحصل النصرة ، وظهر أمارات استيلاء العدو ، دلَّ ذلك ظاهراً - على صدور ذنب وتقصير من المؤمنين ، فلهذا المعنى يجب عليهم تقديمَ التوبةِ والاستغفارِ على طلب النُّصْرَة ، فبيَّن - تعالى - أنهم بدءوا بالتوبة عن كل المعاصي ، فقالوا : { ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا } أي : الصغائر { وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا } أي : الكبائر؛ لأن الإسراف في كل شيء هو الإفراط فيه؛ قال تعالى : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } [ الزمر : 53 ] وقال { فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل } [ الإسراء : 33 ] وقال : { وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين } [ الأعراف : 31 ] ويقال : فلان مُسْرِف - إذا كان مكثراً في النفقة .
قوله : { في أَمْرِنَا } يَجُوز فيه وجهانِ :
الأول : أنه متعلق بالمصدر قبله ، يقال : أسرفتُ في كذا .
الثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنَّه حَالٌ منه ، أي : حال كونه مستقراً في أمرنا . والأول أوجهُ . ثم سألوا - بعد ذلك - أن يثبت أقدامهم ، وذلك بإزالة الخوفِ عن قلوبهم ، وهذا يدلُّ على أن فعل العبد مخلوقٌ للهِ ، والمعتزلة يحملونه على الألطاف . ثم سألوا أن ينصرهم على القوم الكافرين ، وهذه النصرة لا بد فيها من أمر زائدٍ على ثبات أقدامهم .
قال القاضي : وهذا تأديبٌ من الله - تعالى - في كيفية الطلب بالأدعية عند النوائب والمِحَن ، سواء كان في الجهادِ أو غيره .
قوله : « فآتاهم الله » يقتضي أن اللهَ - تَعَالَى - أعطاهم [ الأمْرَين ] أما ثوابُ الدُّنْيَا فَهُوَ : النصرة و الغنيمة ، وقهر العدو ، والثناء الجميل ، وانشراح الصدرِ بنور الإيمان ، وأما ثوابُ الآخرة فلا شك أنه ثواب الجنة .
وقرأ الجَحْدَرِيُّ فأثابهم - من لفظ الثواب - وخَصَّ - تعالى - ثواب الآخرة بالحُسْنِ؛ تنبيهاً على جلالةِ ثوابِهِم ، وذلك لأنّ ثوابَ الآخرةِ كُلَّه في غاية الحُسْنِ .
ويجوز أن يُحْمَل قوله : « فآتاهم » على أنه سيؤتيهم ، كقوله تعالى : { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } [ النحل : 1 ] أي : سيأتي أمرُ اللهِ .
قيل : ولا يمتنع أن تكون هذه الآية مختصة بالشهداءِ - وقد أخبرَ - تَعَالَى - عن بعضهم أنهم أحياءٌ ، عند ربِّهِم يرزقونَ - فيكون حالُ هؤلاء - أيضاً - كذلك .
فصل
قال فيما تقدم : { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا } [ آل عمران : 145 ] فأتى بلفظ « من » الدالة على التبعيض ، وقال هنا : { فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة } ولم يذكر كلمة « من » لأن الذين يُريدون ثوابَ الآخرةِ إنما اشتغلوا بالعبادة لطلب الثوابِ ، فكانت مرتبتهم في العبودية نازلةً عن مرتبة هؤلاء؛ لأنهم لم يذكروا من أنفسهم إلا الذنبَ والتقصيرَ ، ولم يذكروا التدبيرَ والنصرةَ والإعانة إلا من ربّهم ، فكان مقامهم في العبودية في غاية الكمالِ؛ لأنَّهم أرادوا خدمة مولاهم ، وأما أولئك فإنما أرادوا الثواب .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
لما أمر اللهُ تَعَالَى بالاقتداء بأنصار الأنبياءِ حذَّر عن طاعة الكفار - يعني مشركي العرب - وذلك أنّ الكفار لما أرجفوا بقولهم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد قُتِل ودعا المنافقونَ بعضَ ضَعَفَةِ المُسْلِمِين ، مَنَعَ المسلمين بهذه الآية عن الالتفات إلى كلام أولئك المنافقين .
وقيل : المرادُ - بالذين كفروا - عبد الله بن أبي وأتباعه في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة : ارجعوا إلى إخوانكم ، وادخلوا في دينهم ، وقالوا : لو كان محمدٌ رسولَ اللهِ ما وقعت له هذه الواقعةُ ، وإنما هو رجل كسائر الناسِ ، يَوْمٌ لَهُ ، وَيَومٌ عليه .
وقال آخرون : المراد - بالذين كفروا - اليهود الذين كانوا بالمدينة يُلْقُون الشُّبهَاتِ .
وقيل : المرادُ أبو سفيان؛ لأنه كان شجرة الفتن .
قال ابنُ الْخَطِيبِ : « والأقرب أنه يتناول كُلَّ الكفار؛ لأن اللفظ عامٌّ ، وخصوص السببِ لا يمنع من عموم اللفظِ » .
قوله : { يَرُدُّوكُم } جواب { إِن تُطِيعُواْ } وقوله : { إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ } لا يُمْكن حمله على طاعتهم في كل ما يقولونه ، بل لا بُدَّ من التخصيصِ .
وقيل : إن تطيعوهم فيما يأمرونكم به يوم أحُدٍ من ترك الإسلامِ .
وقيل : إن تطيعوهم في كل ما يأمرونكم به من الضلال .
وقيل في المشورة . وقيل في تَرْك المحاربة ، وهو قوله : { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } [ آل عمران : 156 ] ثم قال : { يَرُدُّوكُمْ على أَعْقَابِكُمْ } يعني يردوكم إلى الكُفْر بعد الإيمان؛ لأن قبولَهُم في الدعوة إلى الكفر ، ثم قال : { فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ } فلما كان اللفظ عاماً دخل فيه خُسران الدنيا وخُسْران الآخرة .
أما خسران الدنيا فلان أشَقَّ الأشياء على العُقلاء في الدنيا الانقياد إلى العَدُوِّ ، وإظهار الحاجة إليه . وأما خُسْران الآخرة فالحرمان من الثواب المؤبَّد ، والوقوع في العقاب المخلَّد و « خَاسِرِينَ » حالٌ .
قوله : { بَلِ الله مَوْلاَكُمْ } مبتدأ وخبر ، وقرأ الحسنُ بنصب الجلالةِ؛ على إضمار فِعْل يدل عليه الشرط الأول ، والتقدير : لا تطيعوا الذين كفروا ، بل أطيعوا الله ، و « مَوْلاَكُمْ » صفة .
وقال مَكِّي : « وأجاز الفرَّاء : بل الله - بالنصب - » كأنه لم يطلع على أنها قراءة .
فصل
والمعنى : أنكم إن تطيعوا الكفار لينصروكم ويُعينوكم فهذا جَهْل ، لأنهم عاجزون متحيرون ، والعاقل يطلب النُّصْرَةَ من الله تعالى؛ لأنه هو الذي ينصركم على العَدُوِّ ، ثم بيَّن أنه خير الناصرين ، وذلك لوجوهٍ :
أولها : أنه - تعالى - هو القادرُ على نصرتك في كلِّ ما تريدُ والعالم الذي لا يَخْفَى عليه دعاؤك وتضرُّعك ، والكريم الذي لا يبخل في جوده ونصرة العبيد بعضهم لبعض بخلاف ذلك في كل هذه الوجوه .
ثانيها : أنه ينصرك في الدُّنْيَا والآخرة ، وغيره ليس كذلك .
ثالثها : أنه ينصرك قبل سُؤالك ومعرفتك بالحاجة ، كما قال :
{ قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بالليل والنهار } [ الأنبياء : 42 ] وغيره ليس كذلك .
واعلم أن ظاهر قوله : { وَهُوَ خَيْرُ الناصرين } يقتضي أن يكون من جنس سائر الناصِرِينَ ، وهو منزَّه ، عن ذلك ، وإنما ورد الكلامُ على حسب تعارفهم ، كقوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ }
قوله : { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } هذا من تمامِ ما تقدم من وجوه الترغيبِ في الجهاد وعدم المبالاةِ بالكفارِ .
قوله : { سَنُلْقِي } الجمهور بنون العظمة ، وهو التفات من الغيبة - في قوله : { وَهُوَ خَيْرُ الناصرين } وذلك للتنبيه على عظم ما يلقيه - تعالى - .
وقرأ أيوب السَّخْتِيانيّ « سَيُلْقِي » بالغيبة؛ جَرْياً على الأصل . وقدم المجرور على المفعول به؛ اهتماماً بذكر المحلّ قبل ذكر الحَال : والإلقاء - هنا - مجاز؛ لأن أصلَه في الأجرام ، فاستُعِيرَ هنا ، كقول الشَّاعر : [ الطويل ]
1655- هُمَا نَفَثَا فِي فِيء مِنْ فَمَويْهِمَا ... عَلَى النَّابِحِ الْعَاوِي أشَدَّ رِجَامِ
وقرأ ابنُ عامرٍ والكسائيُّ ، وأبو جعفرٍ ، ويعقوبُ : « الرُّعْب » و « رُعْباً » - بضم العين - والباقون بالإسكان فقيل : هما لغتان .
وقيل : الأصل الضم ، وخُفِّف ، وهذا قياس مطردٌ .
وقيل : الأصلُ السكون ، وضُمَّ إتباعاً كالصبْح والصبُح ، وهذا عكس المعهود من لغة العربِ .
والرُّعْب : الخوف ، يقال : رعيته ، فهو مرعوب ، وأصله من الامتلاء ، يقال : رَعَبْتُ الحوض ، أي : ملأته وسَيْل راعب ، أي : ملأ الوادي .
فصل
قيل : هذا الوعدُ مخصوصٌ بيوم أحُد؛ لأن الآياتِ المتقدمة إنما وردت في هذه الواقعة . والقائلون بهذا ذكروا في كيفية إلقاء الرعبِ في قلوب المشركين وجهين :
الأول : أن الكفارَ لما هزموا المسلمين أوقع اللهُ الرعب في قلوبهم ، فتركوهم ، وفرّوا منهم من غير سبب ، حتى رُوِيَ أن أبا سفيان صعد الجبل ، وقال : أين ابنُ أبي كبشةَ؟ أين ابن أبي قُحافةَ؟ أين ابن الخطابِ؟ فأجابه عمر ، ودارت بينهم كلماتٌ ، وما تجاسَر أبو سفيان على النزول من الجبل ، والذهاب إليهم .
والثاني : أن الكفار لما ذهبوا متوجهين إلى مكة - وكانوا في بعض الطريقِ - ندموا ، وقالوا : ما صنعنا شيئاً ، قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا الشديد ، ثم تركناهم ونحن قاهرون ، ارجعوا حتى نستأصلهم بالكُلية ، فلما عزموا على ذلك القى اللهُ الرُّعْبَ في قلوبهم .
وقيل : إنَّ هذا الوْعَد غير مختصٍّ بيوم أُحُد ، بل هو عام .
قال القفالُ : كأنه قيل : إنه وإن وقعت لكم هذه الواقعة في ويم أُحُدٍ ، إلا أنّ اللهَ تعالى - سَيُلْقي الرُّعب منكم بعد ذلك في قلوب الكُفَّار حتى يقهر الكفار ، ويُظْهِرَ دينكم على سائِرِ الأديان ، وقد فعل الله ذلك ، حتى صار دين الإسلام قاهراً لجميع الأديان والملل . ونظير هذه الآية قوله : « نصرت بالرعب مسيرة شهر » .
فصل
قال بعض العلماءِ : إن هذا العموم على ظاهره ، لأنه لا أحد يخالف دينَ الإسلام إلا في قلبه ضَرْب من الرُّعْب ، ولا يقتضي وقوع جميع أنواع الرُّعب في قلوب الكافرين ، إنما يقتضي وقوع هذه الحقيقة في قلوبهم من بعض الوجوهِ ، وذهب جماعة من المفسّرين إلى أن مخصوص بأوائل الكفار .
قوله : { فِي قُلُوبِهِمْ } [ آل عمران : 156 ] متعلق بالإلقاء ، وكذلك { بِمَآ أَشْرَكُواْ } ولا يضر تعلُّق الحرفين؛ لاختلاف معناهما ، فإن « في » للظرفية؛ الباء للسببية . و « ما » مصدرية ، و « ما » الثانية مفعول به لِ « أشْرَكُوا » وهي موصولة بمعنى الذي ، أو نكرة موصوفة ، والراجع : الهاء في « به » ولا يجوز أن تكون مصدرية - عند الجمهورِ - لعود الضمير عليها ، وتسلط النفي على الإنزال - لفظاً - والمقصود نفي السلطان - أي : الحجة - كأنه قيل : لا سُلطان على الإشراك فينزل .
كقول الشاعر : [ السريع ]
1656- ... وَلاَ تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ
أي لا ينجحر الضَّبُّ بها ، فيُرَى .
ومثله قول الشاعر : [ الطويل ]
1657- عَلَى لاَحِبٍ لا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ .. .
أي : لا منار فيهتدى به ، فالمعنى على نَفْي السلطان والإنزال معاً . و « سُلْطَاناً » مفعول به لِ « يُنَزِّلُ » .
قوله : { بِمَآ أَشْرَكُواْ } « ما » مصدرية ، والمعنى : بسبب إشراكهم باللهِ ، وتقريره : أن الدعاء إنما يصير في محل الإجابة عند الاضطرار ، كقوله : { أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ } [ النمل : 62 ] ومن اعتقد أن لله شريكاً لم يحصل له الاضطرار؛ لأنه يقول : إذا كان هذا المعبودُ لا ينصرني ، فالآخر ينصرني ، وإذا لم يحصل في قلبه الاضطرارُ لم تحصل له الأجابةُ ولا النصرة وإذا لم يحصل ذلك وجب أن يحصل الرعبُ والخوفُ في قلبه فثبت أن الشركَ باللهِ يوجب الرعبَ .
قوله : { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } السُّلْطَان - هنا- : الحجة والبرهان ، وفي اشتقاقه وجوهٌ :
فقيل : من سليط السراج الذي يوقَد به ، شُبِّه لإنارته ووضوحه . قاله الزجاجُ .
وقال ابن دُرَيْدٍ : من السلاطة ، وهي الحِدَّة والقَهْر .
وقال الليثُ : السلطان : القدرة؛ لأن أصل بنائه من التسليط ، فسلطان الملكِ : قوته وقدرته ، ويسمى البرهان سُلْطَاناً ، لقوته على دَفْعِ الباطِلِ .
فإن قيل : إن هذا الكلامَ يوهم أنّ فيه سلطاناً إلا أنَّ اللهَ - تعالى - ما أنزله؟
فالجوابُ : أن تقدير الكلامِ أنه لو كان لأنزل الله به سلطاناً ، فلما لم ينزل به سلطاناً وجب عدمه .
وحاصل الكلام فيه ما يقوله المتكلمون : إن هذا لا دليلَ عليه ، فلم يَجُزْ إثباتُه . وبالغ بعضهم ، فقال : لا دليلَ عليه ، فيجب نَفْيُه .
فصل
استدلوا بهذه الآية على فساد التقليد؛ لأن الآيةَ دلَّت على أنَّ الشِّركَ لا دليلَ عليه ، فوجب أن يكونَ القولُ به باطلاً ، فكذلك كل قولٍ لا دليلَ عليه .
وقوله : { وَمَأْوَاهُمُ النار } بين تعالى أنَّ أحوالَ المشركين في الدنيا هو وقوع الخوفِ في قلوبِهِم وأحوالهم في الآخرة هي أن مأواهم : مسكنهم النار .
قوله : { وَبِئْسَ مثوى الظالمين } المخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ ، أي : مثواهم ، أو النار .
المثوى : مَفْعَل ، من ثَوَيْتُ - أي : أقمت - فلامه ياء وقدم المأوى - وهو المكان الذي يأوي إليه الإنسان - على المَثْوَى - وهو مكان الإقامةِ - لأن الترتيبَ الوجوديَّ أن يأوي ، ثم يئوي ، ولا يلزم المأوى الإقامة ، بخلاف عكسه .
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
صَدَقَ يتعدى لاثنين ، أحدهما بنفسه ، والآخر بالحرفِ ، وقد يُحْذَف ، كهذه الآية .
والتقدير : صدقكم في وعده ، كقولهم : صَدقتُه في الحديث وصدقته الحديث و { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ } معمول لِ « صَدَقَكُمْ » أي : صدقكم في ذلك الوقتِ ، وهو وقتُ حَسِّهِم ، أي : قَتْلهم .
وأجاز أبو البقاء أن يكون معمولاً للوعد في قوله : « وَعْدَه » - وفيه نظرٌ؛ لأن الوعد متقدِّمٌ على هذا الوقت .
يقال : حَسَسْتُه ، أحَسُّه ، وقرأ عُبَيْد بن عُمَير : تُحِسُّونَهُم - رباعياً - أي : أذهبتم حِسَّهم بالقتل .
قال أبو عبيدةَ ، والزَّجَّاجُ : الحَسُّ : الاستئصال بالقَتْل .
قال الشاعر : [ الطويل ]
1658- حَسَنَاهُمُ بِالسَّيْفِ حَسًّا فأصْبَحَتْ ... بَقِيَّتُهُمْ قَدْ شُرِّدُوا وَتَبَدَّدُوا
وقال جرير : [ الوافر ]
1659- تَحُسُّهُمُ السُّيُوفُ كَمَا تَسَامَى ... حَرِيقُ النَّارِ فِي الأجَم الْحَصِيدِ
ويقال : جراد محسوس - إذ قتله البردُ - والبرد محسة للنبت : - أي : محرقة له ، ذاهبته . وسنة حَسُوسٌ : أي : جدبة ، تأكل كلَّ شيءٍ .
قال رؤية : [ الرجز ]
1660- إذَا شَكَوْنَا سَنَةً حَسُوسَا ... تَأكُلُ بَعْدَ الأخْضَرِ الْيَبِيسَا
وأصله من الحِسّ - الذي هو الإدراك بالحاسة- .
قال أبو عبيدٍ : الحَسُّ : الاستئصال بالقتل واشتقاقه من الحِسّ ، حَسَّه - إذا قتله - لأنه يُبْطل حِسَّه بالقتل ، كما يقال : بَطَنَهُ - إذا أصاب بطنه ، وَرَأسَهُ ، إذا أصاب رأسه .
و « بإذْنِهِ » متعلق بمحذوف؛ لأنه حالٌ من فاعل « تَحُسُّونَهُمْ » ، أي : تقتلونهم مأذوناً لكم في ذلك .
قال القرطبيُّ : « ومعنى قوله : » بإذْنه « أي : بعلمه ، أو بقضائه وأمره » .
فصل
وجه النظم : قال محمدُ بن كَعْب القُرَظيّ : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه إلى المدينة من أحدٍ - وقد أصابهم ما أصابهم - قال ناسٌ من أصحابه : من أين أصابنا هذا ، وقد وعدنا اللهُ بالنصرِ؟ فأنزلَ اللهُ هذه الآية؛ لأنَّ النصرَ كان للمسلمين في الابتداءِ .
وقيل : كان النبي صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يذبح كَبْشاً ، فَصَدَقَ اللهُ رُؤيَاهُ بِقَتْلِ طَلْحَةَ بن عثمان - صاحب لواء المشركين يوم أُحُدٍ - وقُتِل بعده تسعةُ نفر على اللواء ، فذلك قوله تعالى : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ } يريد : تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم .
وقيل : يجوز أن يكون هذا الوعد ما ذكره في قوله تعالى : { إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ } [ آل عمران : 125 ] إلا أن هذا مشروطاً بشرط الصبرِ والتقوى .
وقيل : يجوز أن يكون هذا الوعد هو قوله : { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } [ آل عمران : 151 ] .
وقيل : الوعد هو قول النبي صلى الله عليه وسلم للرُّماة : لا تبرحوا عن هذا المكانَ؛ فإنا لا نزال غالبين ما دُمْتم في هذا المكان .
قال أبو مسلم : لما وعَدهم اللهُ - تعالى - في الآية المتقدمة - بإلقاء الرعب في قلوب الكفارِ ، أكد ذلك بأن ذكرهم ما أنجزهم من الوعدِ بالصبر في واقعة أُحُدٍ ، فإنه لما وعدهم بالنصر - بشرط أن يتقوا ويصبروا فحين أتَوْا بذلك الشرطِ ، وفى الله تعالى لهم بالمشروطِ .
فصل
وقد تقدم في قصة أُحُد - أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أُحُداً خَلْفَ ظَهْره ، واستقبل المدينة ، وأقام الرماةَ عند الجبلِ ، وأمرهم أن يثبتوا هناك ، ولا يبرحوا - سواء كانت النُّصْرَة للمسلمين أو عليهم - فلما أقبل المشركونَ جعل الرُّمَاة يَرْشُقُون خيلها ، والباقون يضربونهم بالسيوفِ ، حتّى انهزموا ، والمسلمون على آثارهم يحسونهم ، أي : يقتلونهم قتلاً كثيراً .
وقوله : { حتى إِذَا فَشِلْتُمْ } في « حَتَّى » قولان :
أحدهما : أنها حرف جر بمعنى « إلى » وفي متعلقها - حينئذ - ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنها متعلقة ب « تَحسُّونَهُمْ » اي : تقتلونهم إلى هذا الوقت .
الثاني : أنها متعلقة ب « صَدَقَكُمْ » وهو ظاهر قول الزمخشريّ ، قال : « ويجوز أن يكونَ المعنى : صدقكم اللهُ وَعْدَه إلى وقت فَشَلِكم » .
الثالث : أنّها متعلقة بمحذوف ، دَلَّ عليه السياقُ .
قال أبو البقاء : « تقديره : دام لكم ذلك إلى وقتِ فَشَلِكُم » .
القول الثاني : أنَّها حرف ابتداءٍ داخلة على الجملة الشرطية ، و « إذَا » على بابها - من كونها شرطية - وفي جوابها - حينئذٍ - ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : قال الفرّاء : جوابها « وَتَنَازَعْتُمْ » وتكون الواو زائدة ، كقوله : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ } [ الصافات : 103-104 ] والمعنى ناديناه ، كذا - هنا - الفشل والتنازع صار موجباً للعصيان ، فكأنَّ التقدير : حتى إذا فَشِلْتُم ، وتنازعتم في الأمر عصيتم .
قال : ومذهب العرب إدخال الواو في جواب « حَتَّى » كقوله : { حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } { الزمر : 73 ] فإن قيل : قوله : { فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ } معصية ، فلو جعلنا الفشل والتنازُع علةً للمعصية لزم كونُ الشيء علةً لنفسه ، وذلك فاسدٌ .
فالجواب : أن المراد من العصيان - هنا - خروجهم عن ذلك المكانِ ، فلم يلزم تعليلُ الشيء بنفسه . ولم يَقْبَل البصريون هذا الجوابَ؛ لأن مذهَبهمْ أنه لا يجوزُ جَعْلَ الواو زائدة .
قوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ } و « ثم » زائدة .
قال أبو علي : ويجوز أن يكون الجواب { صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } و « ثُمَّ » زائدة ، والتقدير : حتى إذا فشلتم وتنازعتم وعصيتم صرفكم عنهم . وقد أنشد بعضُ النحويين في زيادتها قول الشاعر : [ الطويل ]
161- أرَانِي إذَا مَا بِتُّ بِتُّ عَلَى هَوًى ... فَثُمَّ إذَا أصْبَحْتُ أصْبَحْتُ غَادِيَا
وجوز الأخفشُ أن تكون زائدةً في قوله تعالى : { حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 118 ] وهذان القولان ضعيفانِ جداً .
والثالث - وهو الصحيحُ - أنه محذوف ، واختلفت عبارتهم في تقديره ، فقدَّرَه ابنُ عطيةَ : انهزمتم وقدَّره الزمخشريُّ : منعكم نصرَه .
وقدَّره ابو البقاء : بأن أمركم . ودلّ على ذلك قوله تعالى : { مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة } [ آل عمران : 152 ] .
وقدره غيره : امتحنتم .
وقيل فيه تقديمٌ وتأخيرٌ ، وتقديره : حتّى إذا تنازعتم في الأمر وعصيتم فشلتم .
وقدَّره أبو حيان : انقسمتم إلى قسمَيْن ، ويدلُّ عليه ما بعده ، وهو نظيرُ قوله : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } [ لقمان : 32 ] قال أبو حيان : لا يقال : كيف يقالُ : انقسمتم إلى مريدِ الدُّنْيَا ، وإلى مريدِ الآخرةِ فيمن فشل وتنازع وعصى؛ لأن هذه الأفعالَ لم تصدر من كُلِّهم ، بل من بعضِهِمْ .
واختلفوا في « إذا » - هذه - هل هي على بابها أم بمعنى « إذْ » ؟ والصحيح الأول ، سواء قلنا إنها شرطية أم لا .
فصل
الفشلُ : هو الضعف .
وقيل : الفشل : الجُبْن ، وليس بصحيح؛ لقوله تعالى : { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ } [ الأنفال : 46 ] أي : فتضعفوا ، ولا يليق أن يكونَ المعنى فتجبنوا .
والمراد من التنازُع اختلاف الرُّماةِ حين انهزم المشركون ، فقال بعضُهم لبعض : انهزم القومُ ، فما مقامنا؟ وأقبلوا على الغنيمة .
وقال بعضهم : لا نتجاوز أمر رسولِ اللهِ وثبت عبد الله بن جبير في نَفَرٍ يسير من أصحابه دون العَشَرة - فلما رآهم خالد بن الوليد وعكرمةُ بن أبي جهلٍ حملوا على الرُّمَاة فقتلوهم ، وأقبلوا على المسلمين ، وحالت الريحُ ، فصارت دبوراً بعد أن كانت صَباً ، وانتقضت صفوف المسلمين ، واختلطوا فجعلوا يقتتلون على غير شِعَارٍ ، يَضْرِبُ بعضهم بعضاً ما يَشْعرون من الدهش ، ونادى إبليسُ : إن محمداً قد قُتِل ، فكان ذلك سبب هزيمة المسلمينَ .
قوله : { وَعَصَيْتُمْ } يعني : أمر الرسول صلى الله عليه وسلم اي خالفتم أمره بملازمة ذلك المكان { مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } من الظفر والغنيمة .
فإن قيل : لِمَ قدم ذِكْرَ الفشل على التنازع والمعصية؟
فالجوابُ : أن القوم لما رأوا هزيمة الكفارِ ، وطمعوا في الغنيمة ، فشلوا في أنفسهم عن الثبات ، طمعاً من الغنيمةِ ، ثم تنازعوا - بطريق القولِ في أنَّا هل نذهب لطلب الغنيمة ، أم لا؟ ثم اشتغلوا بطلب الغنيمة .
فإن قيل : إنما عصى البعض بمفارقة ذلك المكانِ ، فلِمَ جاء العقابُ عاماً؟
فالجوابُ : أنَّ اللفظَ - وإن كان عاماً - قد جاء المخصِّص بعده ، وهو قوله : { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا } .
قوله : { مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } المقصودُ منه التنبيهُ على عِظَمِ المعصية؛ لأنهم لمَّا شاهدوا أن الله - تعالى - أكرمهم بإنجاز الوَعْد كان من حَقِّهم أن يمتنعوا عن المعصية . فلما أقدموا عليها ، سلبهم اللهُ ذلك الإكرام ، وأذاقهم وبالَ أمْرِهم .
قوله : { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا } يعني : الذين تركوا المركز ، وأقبلوا على النهبِ { وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة } يعني : الذين ثبتوا مع عبد الله بن جُبَيْرٍ ، حتى قُتِلوا . قال عبدُ الله بن مسعودٍ : وما شعرت أن أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا ، حتى كان يومُ أحدٍ ، ونزلت هذه الآية .
قوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ } عطفٌ على ما قبله ، والجملتان من قوله : { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة } اعتراض بين المتعاطفين ، وقال أبو البقاء : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ } معطوف على الفعل المحذوف .
يعني الذي قدره جواباً للشرط ، ولا حاجة إليه ، و « لِيَبْتَلِيَكُمْ » متعلق ب « صَرَفَكُمْ » و « أن » مضمرة بعد اللام .
فصل
اختلفوا في تفسير هذه الآية؛ وذلك لأن صَرْفَهم عن الكفار معصية ، فكيف أضافه إلى نفسه؟ فقال جمهورُ المفسّرينَ : الخيرُ والشر بإرادة اللهِ تَعَالَى وتخليقه ، ومعنى هذا الصَّرْفِ أنَّ اللهَ تعالى رَدَّ المسلمينَ عن الكفارِ وألقى الهزيمةَ عليهم ، وسلَّط الكفارَ عليهم .
وقالت المعتزلةُ : هذا التأويل غير جائز؛ للقرآن والعقل ، أم القرآنُ فقوله تعالى : { إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } [ آل عمران : 155 ] فأضاف ما كان منهم إلى فعل الشيطان فكيف يُضيفه بعد هذا إلى نفسه؟
وأما المعقولُ فإن اللهَ تعالى عاتَبَهم على ذلك الانصراف ، ولو كان ذلك بفعل اللهِ لم تَجزْ مُعَاتَبَتَهُم عليه ، كما لا يجوز معاتبتهم على طُولِهِمْ وقِسَرِهم ، ثم ذكروا وجوهاً من التأويل :
أحدها : قال الجبائيُّ : إنَّ الرُّماةَ افترقوا فِرْقَتَيْن ، فبعضهم فارق المكان لطلب الغنائم ، وبعضهم بقي هناك ، فالذين بَقُوا أحاط بهم العَدُوُّ ، فلو استمروا هناك لقتلهم العدُوُّ من غير فائدةٍ أصْلاً ، فلهذا السبب جاز لهم أن يتنحوا عن ذلك إلى موضع يتحرزون فيه عن العدو - كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين ذهب إلى الجبل في جماعة من أصحابه - ولم يكونوا عُصَاةً بذلك ، فلما كان ذلك الانصراف جائزاً أضافه إلى نفسه ، بمعنى أنه كان بأمره وإذنه ، ثم قال : { لِيَبْتَلِيَكُمْ } والمرادُ : أنه - تعالى - لما صرفهم إلى ذلك المكانِ ، وتحصَّنُوا به ، أمرهم - هناك - بالجهادِ ، والذَّبِّ عن بقية المسلمينَ ، ولا شك أن الإقدامَ على الجهادِ بعد الانهزامِ ، وبعد أن شاهدوا قَتْل أقاربهم وأحِبَّائهم من أعظم أنواع الابتلاء .
فإن قيل : فعلى هذا التأويل ، هؤلاء الذين صرفهم الله عن الكفار ما كانوا مُذْنِبِين ، فلم قال : { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } .
قلنا : الآية مشتملة على ذِكْر مَنْ كان معذوراً في الانصرافِ ، ومَنْ لم يكن معذوراً ، أو هم الذين بدءوا بالهزيمة ، فقوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } راجعٌ إلى المعذورينَ؛ لأنَّ الآية لما اشتملتْ على قسمينِ ، وعلى حُكمين ، رَجَعَ كلُّ حكم إلى القسم الذي يليق به ، ونظيره : { ثَانِيَ اثنين إِذْ هُمَا فِي الغار إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } [ التوبة : 40 ] والمرادُ الذي قال له : لا تحزن إن اللهَ مَعَنَا - وهو أبو بكر - لأنه كان خائفاً قبل هذا القولِ ، فلما سَمِعَ هذا القولَ سَكَنَ ، ثم قال : « وَأيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا » وعنى بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم دون أبي بكرٍ؛ لأنه قد جرى ذكرهما جميعاً ، هذا قول الجبائي .
الثاني : ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني : وهو أنَّ المرادَ من قوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } أنه - تعالى - أزال ما كان في قلوب الكفارِ من الرُّعْبِ من المسلمينَ؛ عقوبةً منه على عصيانهم وفَشَلِهم ، ثم قال : { لِيَبْتَلِيَكُمْ } أي : ليجعل ذلك الصَّرْف محنةً عليكم؛ لتتوبوا إلى اللهِ ، وترجعوا إليه ، وتستغفروه من مخالفة أمرِ النبي صلى الله عليه وسلم ومَيْلكم إلى الغنيمةِ ، ثم أعلمهم أنهُ - تعالى - قد عفا عَنْهُم .
الثالثُ : قال الكَعْبي : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } بأ ، لم يأمركم بمعاودتهم من فورهم { لِيَبْتَلِيَكُمْ } بكثرة الإنعام عليكم .
قوله : { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } ظاهره يقتضي تقدُّم ذَنْب منهم .
قال القاضي إنْ كان ذلك الذنبُ من الصغائر صحَّ أن يصف نفسه بأنّه عفا عنهم من غير توبة ، فإن كان من الكبائرِ ، فلا بد من إضمار توبتهم؛ [ الإقامة ] الدلالةِ على أن أصحاب الكبائر إذا لم يتوبوا لم يكونوا من أهل العفو والمغفرةِ .
وأجيب بأنَّ هذا الذنبَ لا شك أنه كان كبيرة ، لأنهم خالفوا صريحَ نَصَّ الرسول صلى الله عليه وسلم وصارت تلك المخالفة سبباً لانهزام المسلمينَ ، وقُتِلَ جَمْعٌ كبيرٌ من أكابرهم ، ومن المعلوم أن ذلك كله من باب الكبائرِ .
وأيضاً ظاهر قوله تعالى : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } [ الأنفال : 16 ] يدل على كونه كبيرة ، ويضعف قول من قال : إنه خاص في بَدْر؛ لأن اللفظَ عامٌّ ، ولا تفاوت في المقصودِ ، فكان التخصيصُ ممتنعاً ، ثم إن ظاهرَ هذه الآية يدل على أنه - تعَالَى - عفا عنهم من غير توبةٍ؛ لأنه لم يذكر التوبة ، فدلَّ على أنه - تعَالَى - قد يعفو عن أصحاب الكبائرِ ، ثم قال : { والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين } وهو راجعٌ إلى ما تَقَدَّمَ من ذكر النعم؛ فإنه نصرهم - أولاً - ثم عفا عنهم - ثانياً - وهذا يدل على أن صَاحِبَ الكبيرةِ مُؤمِنٌ .
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
العامل في « إذْ » قيل : مُضْمَر ، أي : اذكروا .
وقال الزمخشريُّ : « صَرَفَكُمْ » أوْ « لِيَبْتَلِيَكُمْ » .
وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون ظرفاً لِ « عَصَيْتُمْ » أوْ « تَنَازَعْتُمْ » أو فَشِلْتُمْ .
وقيل : هو ظرف لِ « عَفَا عَنْكُمْ » أي : عفا عنكم إذْ تُصْعِدُون هاربين .
وكل هذه الوجوهِ سائغةٌ ، وكونه ظرفاً لِ « صَرَفَكُمْ » جيدٌ من جهةِ المعنى ، ولِ « عَفَا » جيدٌ من جهة القُرْبِ ، وعلى بعض هذه الأقوالِ تكون المسألةُ من باب التنازعِ ، ويكون على إعمال الأخيرِ منها ، لعدم الإضمارِ في الأول ، ويكون التنازعُ في أكثرِ من عاملينِ .
والجمهور على { تُصْعِدُونَ } - بضم التاء وكسر العين - من : أصْعَدَ في الأرض ، إذا ذهب فيها . والهمزةُ فيه للدخول ، نحو أصبح زيدٌ ، أي : دخل في الصباح ، فالمعنى : إذ تدخلون في الصعود ، ويُبيِّن ذلك قراءة أبيٍّ « تصعدون في الوادي » .
وقرأ الحسنُ ، والسُّلمي ، وقتادةُ : « تَصْعَدُونَ » بفتح التاء والعين - من : صعد في الجبل ، أي : رقي ، والجمع بين القراءتين أنهم - أولاً - أصعدوا في الوادي ، ثم لما هزمهم العدو - صعدوا في الجبل ، وهذا على رَأى مَنْ يُفَرِّق بين صعد وأصْعد ، وقرأ أبو حَيْوَةَ : « تَصَعَّدُون » بالتشديد - وأصله : تَتَصَعَّدُونَ ، حذفت إحدى التاءين ، إما تاء المضارعة ، أو تاء « تَفَعَّل » والجمع بين قراءتِهِ وقراءة غيره كما تقدم .
والجمهورُ { تُصْعِدُونَ } بتاء الخطاب ، وابن مُحَيْصن - ويُرْوَى عن ابن كثيرٍ - بياء الغيبة ، على الالتفاتِ ، وهو حسنٌ .
ويجوز أن يعودَ الضمير على المؤمنين ، أي : { والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين إِذْ تُصْعِدُونَ } فالعاملُ في « إذْ » « فَضْلٍ » ويقال : أصْعَدَ : أبعد في الذهاب ، قال القُتَبِيُّ أصعد : إذا أبْعَد في الذهاب ، وأمعن فيه ، فكأن الإصعادَ إبعادٌ في الأرض كإبعاد الارتفاعِ .
قال الشاعرُ : [ الطويل ]
1662- ألاَ أيُّهَذَا السَّائِلِي ، أيْنَ أصْعَدَتْ؟ ... فَإنَّ لَهَا مِنْ بَطْنِ يَثْرِبَ مِوْعِدا
وقال آخرُ : [ الرجز ]
1663- قَدْ كُنْتِ تَبْكِينَ عَلَى الإضعَادِ ... فَالْيَوْمَ سُرِّحْتِ ، وَصَاحَ الْحَادِي
وقال الفرَّاءُ وأبو حاتم : الإصعاد : في ابتداء السفر والمخارج ، والصعود : مصدر صَعَدَ : رقي من سُفْلٍ إلى عُلُو ، ففرَّق هؤلاء بين صَعَد وأصْعَد .
وقال المفضَّلُك صعد وأصعد بمعنًى واحدٍ ، والصعيد : وجْهُ الأرضِ .
قال بعضُ المفسّرين : « وكلتا القراءتين صوابٌ ، فقد كان يومئذ من المهزمين مُصْعِد وصاعد » .
قوله : { وَلاَ تَلْوُونَ } الجمهور على { تَلْوُونَ } - بواوين - وقُرِئَ بإبدال الأولى همزة؛ كراهية اجتماع واوين ، وليس بقياسٍ؛ لكون الضمة عارضة ، والواو المضمومة تُبْدَل همزة بشروط تقدمت في « البقرة » .
منها : ألا تكون الضمة عارضة ، كهذه ، وأن لا تكون مزيدة ، نحو ترهوك .
وألا يمكن تخفيفها ، نحو سُور ونور - جمع سوار ونوار - لأنه يمكن تبكينُها فتقول : سور ونور ، فيخف اللفظ بها .
وألا يُدْغم فيها ، نحو تعوَّذ - مصدر تعوذ .
ومعنى { وَلاَ تَلْوُونَ } ولا ترجعون ، يقال : لَوَى به : ذهب به ، ولَوَى عليه : عطف .
قَالَ الشاعرُ : [ الطويل ]
1664- .. أخُو الْجَهْدِ لا يَلْوِي عَلَى مَنْ تَعَذَّرَا
وأصله أن المعرِّجَ على الشيءِ يلوي عليه عنقه ، أو عنان دابته ، فإذا مضى - ولم يعرِّج - قيل : لن يلوي ، ثم استعمل في ترك التعريجِ على الشيء وترك الالتفاتِ إليه ، يقال : فلانٌ لا يلوي على كذا أي : لا يلتف إليه ، وأصل { تَلْوُونَ } تلويون ، فَأعِلَّ بحذفِ اللام ، وقد تقدم في قوله : { يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ } [ آل عمران : 78 ] وقرأ الأعمشُ ، وأبو بكر بنُ عَيَّاشٍ - ورويت عن عاصم « تُلوون » بضم التاء - من ألوى وهي لغةٌ في لوى .
وقرأ الحسن « تَلُون » بضم التاء - من ألوى وهي لغةٌ في لوى .
وقرأ الحسن « تَلُون » - بواو واحدة - وخرجوها على أنه أبدل الواو همزةً ، ثم نقل حركة الهمزة على اللام ، ثم حذف الهمزة ، على القاعدة ، فلم يبق من الكلمة إلا الفاء - وهي اللام - وقال ابنُ عطيةَ : « وحذفت إحدى الواوين للساكنين ، وكان قد تقدم أن هذه القراءة هي قراءة مركبةٌ على لغة من يهمز الواوَ ، وينقل الحركة » .
وهذا عجيبٌ ، بعد أن يجعلها من باب نقل حركةِ الهمزةِ ، كيف يعودُ ويقول : حذفت إحدى الواوين للساكنين؟ ويُمكن تخريجُ هذه القراءة على وجعين آخرينِ :
أحدهما : أن يقالَ : استُثقلت الضمةُ على الواو؛ لأنها أختها ، فكأنه اجتمع ثلاثُ واواتٍ ، فنُقِلت الضمةُ إلى اللامِ ، فالتقى ساكنانِ - الواو التي هي عينُ الكلمةِ ، والواو التي هي ضميرٌ - فحُذفت الأولى؛ لالتقاء الساكنين ، ولو قال ابن عطيةَ هكذا لكان أولى .
الثاني : أن يكون « تَلُونَ » مضارع وَلِي - من الولاية - وإنما عُدِّي ب « على » لأنه ضُمِّن معنى العطف . وقرأ حُميد بن قيس : « على أُحُدٍ » - بضمتين - يريد الجَبَل ، والمعنى : ولا تلوون على مَنْ فِي جبل أُحُد ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عطية : والقراءة الشهيرة أقْوى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على الجبل إلا بعدما فَرَّ الناسُ عنه ، وهذه الحالُ - من إصعادهم - إنما كانت وهو يدعوهم .
ومعنى الآيةِ : تعرجون ، ولا يلتفت بعضٌ إلى بعضٍ .
قوله : « والرسول يدعوكم » ، مبتدأ وخبر في محل نصب على الحالِ ، العامل فيها « تلوون » .
أي : والرسول يدعوكم في أخراكم ومن ورائكم ، يقول : « إليَّ عِبَاد َالله؛ فأنا رسولُ اللهِ ، من يكر فله الجنَّةُ » .
ويحتمل أنه كان يدعوكم إلى نفسه ، حتى تجتمعوا عنده ، ولا تتفرقوا . و « أخراهم » آخر الناس كما يقال في أولهم ، ويقال : جاء فلانٌ في أخريات الناس .
قوله : { فَأَثَابَكُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه معطوف على « تصعدون » و « تلوون » ، ولا يضر كونهما مضارعين؛ لأنهما ماضيان في المعنى؛ لأن « إذ » المضافة إليهما صيرتهما ماضيين ، فكأن المعنى إذا صعدتم ، وألويتم .
الثاني : أنه معطوفٌ على « صرفكم » .
قال الزمخشريُّ { فَأَثَابَكُمْ } عطف على صرفكم ، وفيه بُعْدٌ؛ لطول الفصل وفي فاعله قولان :
أحدهما : أنه الباري تعالى .
والثاني : أنه معطوف على « صرفكم » .
قال الزمخشريُّ { فَأَثَابَكُمْ } عطف على صرفكم ، وفيه بُعْدٌ؛ لطول الفصل وفي فاعله قولان :
أحدهما : أنه الباري تعالى .
والثاني : أنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : ويجوز أن يكون الضمير في { فَأَثَابَكُمْ } للرسول أي : فآساكم من الاغتمام ، وكما غمكم ما نزل به من كسر رباعيته غمه ما نزل بكم من فوت الغنيمة .
و « غماً » مفعول ثانٍ .
وقوله : { فَأَثَابَكُمْ } هل هو حقيقة أو مجاز فقيل : مجاز كأنه جعل الغم قائماً مقام الثواب الَّذِي كان يحصل لولا الفرارُ فهو كقوله : [ الطويل ]
1665- أخَافُ زِيَاداً أنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ ... أدَاهِم سُوداً أوْ مُحَدْرَجَة سُمْرَا
وقول الآخر :
1666- تحية بينهم ضرب وجميع ... جعل القيود والسياط بمنزلة العطاء ، والضرب بمنزلة التحية .
وقال الفرّاءُ : « الإثابة - هاهنا - بمعنى المعاقبة » وهو يرجع إلى المجاز؛ لأن الإثابة أصلها في الحسنات .
قوله : { بِغَمٍّ } يجوز في الباء أوجهٌ :
أحدها : أن تكون للسببيةِ ، على معنى أن متعلِّق الغَمْ الأول الصحابة ، ومتعلق الغَمِّ الثاني قيل المشركين يوم بدرٍ .
قال الحَسَنُ : يريد غَم يوم أحدٍ للمسلمين بغمّ يوم بدرٍ للمشركينَ ، والمعنى : فأثابكم غماً بالغم الذي أوقعه على أيديكم بالكفار يوم بدرٍ .
وقيل متعلَّق الغَمِّ الرسول ، والمعنى : أذاقكم الله غمًّا بسبب الغَمِّ الذي أدخلتموه على الرسول والمؤمنين بفشلكم ومخالفتكم أمره ، أو فأثابكم الرسول غماً بسبب غفم اغتممتموه لأجله ، والمعنى أن الصحابة لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم شُجَّ وكُسِرت رَبَاعِيَتُه ، وقُتِل عَمه ، اغتممتموه لأجله ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لما رآهم قَد عَصَوْا رَبَّهُم لأجل الغنيمة - ثم بَقَوْا محرومينَ من الغنيمةِ - وقتِلَ أقاربُهم ، اغتم لأجلهم .
الثاني : أن تكون الباء للمصاحبة ، أي : غماً مصاحِباً لغم ، ويكون الغمَّان للصحابة ، بمعنى غَمًّا مع غم أو غماً على غم ، فالغم الأولُ : الهزيمة والقتل ، والثاني إشراف خالد بخيل الكفار ، أو بإرجافهم : قتل الرسول صلى الله عليه وسلم فعلى الأول تتعلق الباء ب { فَأَثَابَكُمْ } .
قال أبو البقاء وقيل : المعنى بسبب غم ، فيكون مفعولاً به .
وعلى الثاني يتعلقُ بمحذوفٍ؛ لأنه صفة لِ « غَمّ » أي : غماً مصاحباً لغم ، أو ملتبساً بغَمٍّ ، وأجاز أبو البقاء أن تكون الباءُ بمعنى « بعد » أو بمعنى « بدل » وجعلها - في هذين الوجهين - صفة ل « غماً » .
وكونها بمعنى « بعد » و « بدل » بعيدٌ ، وكأنه يريدُ تفسير المعنى ، وكذا قَالَ الزمخشريُّ غماً بَعْدَ غَمٍّ . واعلم أن الغموم هناك كانت كثيرة :
أولاً : غَمُّهم بما نالهم من العدوِّ في الأنفس والأموال .
ثانياً : غمُّهم بما لَحِق المسلمين من ذلك .
ثالثاً : غمُّهم بما وصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .
رابعاً : غمُّهم بما وقع منهم من المعصية وخوف عقابها .
خامساً : غمُّهم بسبب التوبة التي صارت واجبةً عليهم؛ لأنهم إذا تابوا عن تلك المعصية لم تتم توبتهم إلا بتركِ الهزيمةِ والعَوْدِ إلى المحاربة بعد الانهزامِ ، وذلك من أشق الأشياء؛ لأن الإنسانَ بعد انهزامه - يَضعُف قلبُه ويجبن ، فإذا أمِرَ بالمعاودةِ ، فإن فعل خاف القتلَ ، وإنْ لم يفعلُ خافَ الكُفْرَ وعِقَابَ الآخِرَةِ - وهذا الغَمُّ أعظمها .
سادسها : غمُّهم حين سمعوا أن محمداً قُتِلَ .
سابعها : غمُّهم حين أشرف خالد بن الوليد عليهم بخَيْل المشركين .
ثامنها : غمُّهم حين أشرف أبو سفيان ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق يومئذٍ يدعو الناسَ حتى انتهى إلى أصحاب الصخرةِ ، فلما رَأوْهُ وضع رجلٌ سَهْماً في قوسه ، وأراد أن يَرْمِيَه ، فقال : أنا رسولُ اللهِ ، ففرحوا حين وجدوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى مَنْ يمتنع به ، فأقبلوا على المشركين ، يذكرون الفتح وما فاتهم منه ، ويذكرون أصحابهم الذين قُتِلوا ، فأقبل أبو سفيان وأصحابه ، حتى وقفوا بباب الشِّعْب ، فلما نظر المسلمون إليهم همَّهم ذلك ، وظنوا أنهم يميلون عليهم ، فيقتلونهم ، فأنساهم هذا ما نالهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لهم أن يَعْلونا ، اللهم إن تُقْتَل هذه العصابةُ لا تُعْبَد في الأرض ، ثم بدأ أصحابه ، فرمَوْهم بالحجارة حتَّى أنزلوهم .
وإذا عرفت هذا فكلُّ واحدٍ من المفسّرين فسَّر هذين الغمين بغمين من هذه الغموم وقال القفّال : وعندنا أن الله - تعالى - ما أراد بقوله : { غُمّاً بِغَمٍّ } اثنين ، وإنما أراد مواصلة الغموم وطولها ، أي : أن اللهَ عاقبكم بغموم كثيرة ، مثل قتل إخوانكم وأقاربكم ، ونزول المشركين من فوق الجبلِ عليكم ، بحيث لم تأمنوا أن يهلك أكثركم ، ومثل إقدامكم على المعصيةِ ، فكأنه - تعالى - قال : أثابكم هذه الغمومَ المتعاقبةَ؛ ليصير ذلك زاجراً لكم عن الإقدام على المعصية ، والاشتغال بما يخالف أمرَ الله تعالى .
والغَمّ : التغطية ، يقال : يوم غَمٌّ ، وليلة غَمَّةٌ - إذا كانا مُظْلِمَيْن - ومنه : غُمَّ الهلال - إذا لَمْ يُرَ ، وغَمَّ الأمرُ ، يَغْمَى - إذا لم يُتَبَيَّنُ .
قوله : { لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ } هذه لام « كي » وهي لام جرٍّ ، والنصب - هنا - ب « كي » لئلاَّ يلزم دخول حرفِ جرٍّ على مثله ، وفي متعلَّق هذه اللام قولانِ :
أحدهما : أنه { فَأَثَابَكُمْ } وفي « لا » على هذا وجهانِ :
الأول : أنها زائدةٌ؛ لأنه لا يترتب على الاغتمام انتفاء الحُزْن ، والمعنى : أنه غمهم ليُحْزِنهم؛ عقوبةً لهم على تركهم مواقفهم ، قاله أبو البقاء .
الثاني : أنها ليست زائدة ، فقال الزمخشريُّ : معنى { لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ } لتتمرَّنوا على تجرُّع الغمومِ ، وتتضرروا باحتمال الشدائد ، فلا تحزنوا فيما بعدُ على فائتٍ من المنافع ، ولا على مُصِيبٍ من المضارّ .
وقال ابن عطية : « المعنى : لتعلَمُوا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم ، فأنتم ورَّطتم أنفسكم ، وعادة البشر أن جاني الذنب يصبر للعقوبة ، وأكثر قلق المعاقب وحزنه إذا ظن البراءة من نفسه » .
ثانيهما : أن اللام تتعلق ب « عَفَا » لأن عَفْوه يُذْهِب كُلَّ حُزْن ، وفيه بُعْدٌ؛ لطول الفَصْلِ .
ثم قال : { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي : عالم بجميع أعمالكم وقصودكم ودواعيكم ، قادرٌ على مجازاتها ، وهذا زَجْرٌ للبُعْدِ عَنِ الإقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ .
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
الأول : أنها مفعول « أنْزَلَ » .
الثاني : أها حال من « نُعَاساً » لأنها في الأصل - صفةٌ ، فلما قُدِّمَتْ نُصِبت حالاً .
الثالث : أنها مفعولٌ من أجْله ، وهو فاسدٌ؛ لاختلال شَرْطِهِ - وهو اتحادُ الفاعلِ - فإنّ فاعل « أنْزَلَ » غير فاعلِ الأمَنَةِ .
الرابع : أنه حالٌ من المخاطبين في « عَلَيْكُمْ » وفيه حينئذٍ - تأويلانِ :
إما على حَذْف مضافٍ - اي ذور أمَنَةٍ - وإما أن يكون « أمَنَةً » جمع آمن ، نحو بار وبَرَرَة ، وكافر وكَفَرَة .
وألأما « نُعَاساً » فإن أعْرَبْنا « أمَنَةً » مفعولاً به كان بدلاً ، وهو بدل اشتمالٍ؛ لأن كُلاًّ من الأمَنَةِ والنُّعَاسِ يشتملُ على الآخر ، أو عطف بيان عند غير الجمهورِ؛ فإنهم لا يشترطون جريانه في المعارِفِ ، أو مفعولاً من أجلِهِ ، وهو فاسدٌ؛ لما تقدم وإن أعربنا « أمَنَةً » حالاً ، كان « نُعَاساً » مفعولاً ب « أنزَلَ » و « أنْزَلَ » عطف على « فأثَابَكُمْ » وفاعله ضمير اللهِ تَعَالى ، و « أل » في « الْغَمِّ » للعهد؛ لتقدُّم ذِكْره ورد أبو حيان على الزمخشريِّ كون « أمَنَةً » مفعولاً به بما تقدم ، وفيه نظرٌ ، فإن الزمخشريَّ قال أو مفعولاً له بمعنى نعستم أمنة . فقدر له عاملاً يتحد فاعله مع فاعل « أمَنَةً » فكأنه استشعر السؤال ، فلذلك قدرَ عاملاً على أنه قد يُقال : إن الأمَنَةَ من اللهِ تَعَالَى ، بمعنى أنهُ أوقعها بهم ، كأنه قيل : أنزلَ عليكم النعاس ليُؤمِّنَكُمْ به .
و « أمَنَةً » كما يكون مصدراً لمن وقع به الأمن يكون مصدراً لمن أُوقِع به .
وقرأ لجمهور : أمَنَةً - بفتح الميم - إما مصدراً بمعنى الأمن ، أو جمع آمن ، على ما تقدم تفصيله . والنَّخَعِيُّ وابن محيصن - بسكون الميم وهو مصدرٌ فقط ، والأمْن والأمَنة بمعنًى واحدٍ ، وقيل الأمْنُ يكون مع زوالِ سببِ الخَوفِ ، والأمَنة مع بقاء سببِ الخوفِ .
فصل في بيان كيفية النظم
في كيفية النَّظْمِ وَجْهَانِ :
أحدهما : أنه لما وعد المؤمنين بالنصر ، فالنصر لا بدّ وأن يُسبق بإزالة الخوف عنهم؛ ليصير ذلك كالدلالة على أنه تعالى منجزٌ وَعْدَهُ في نَصْر المؤمنينَ .
الثاني : أنه - تعالى - بيَّن نَصْرَ المؤمنين - أولاً - فلما عصى بعضهم سلط عليهم الخوفَ .
ثم ذكر أنه أزال ذلك الخوف عن قلوب مَنْ كان صادقاً في إيمانه ، مستقِرًّا على دينه بحيث غلب النعاس عنه .
واعلم أن الذين كانُوا مع رسولِ الله يوم أُحُدٍ فريقانِ :
أحدهما : الجازمونَ بنبوَّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم فهؤلاء كانوا قاطعينَ بأنَّ اللهَ يَنْصُرُ هذا الدينَ ، وأن هذه الواقعةَ لا تؤدي إلى الاستئصالِ ، فلا جَرَمَ كانوا مؤمنين ، وبلغ ذلك الأمن إلى حيثُ غشيَهم النُّعَاسُ فإن النوم لا يجيء مع الخوفِ ، فقال - هاهنا - في قصة أُحُدٍ : { ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً } وقال في قصة بدرٍ :
{ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ } [ الأنفال : 11 ] .
وأما الفريقُ الثاّنِي فهم المنافقونَ ، فكانوا شاكِّين في نبوتِهِ صلى الله عليه وسلم وما حضروا إلا لطلب الغنيمةِ ، فهؤلاء اشتد جزعُهُمْ ، وعظم خوفُهُمْ .
فإن قيلك لم قدم ذكر الأمَنَة على النُّعَاسِ في قصة أُحُدٍ ، وأخرها في قصة بدرٍ؟
فالجوابُ : أنه لما وعدهم بالنصر ، فالأمن وزوال الخوف إشارةٌ ودليلٌ على إنجاز الوَعْدِ .
قوله : { يغشى } قراءة حمزة والكسائي بالتاء من فوق ، والباقون بالباء؛ ردًّا إلى النُّعَاسِ ، وخرَّجوا قراءة حمزة والكسائي على أنها صفة ل « امَنَةً » ؛ مراعاة لها ، ولا بُدّ من تفصيل ، وهو إن أعربوا « نُعَاساً » بدلاً ، أو عَطْفَ بيانٍ ، أشكل قولهم من وَجْهَيْن :
الأول : أن النُّحاة نَصُّوا على أنه إذا اجتمع الصفةُ والبدلُ أو عَطْفُ البيانِ ، قدِّمت الصفة ، وأخر غيرها ، وهنا قد قدَّموا البدلَ ، أو عطف البيانِ عليها .
الثاني : أن المعروفَ في لغة العرب أن يُحَدَّث عن البدل ، لا عن المبدَل منه ، تقول : هِنْد حُسْنُها فاتِنٌ ، ولا يجوز فاتنة - إلا قليلاً - فَجَعْلُهم « نُعَاساً » بدلاً من « أمَنَةً » يضعف لهذا .
فإن قيل : قد جاء مراعاة المبدَل منه في قول الشاعر : [ الكامل ]
1667- وَكَأنَّهُ لَهِقُ السَّرِاةِ كَأَنَّهُ ... مَا حَاجِبَيْنهِ مُعَيَّنٌ بِسَوَادِ
فقال : « مُعَيَّنٌ » ؛ مراعة للهاء في « كأنه » ولم يُرَاعِ البدل - حاجبيه - ومثله قول الآخر : [ الكامل ]
1668- إنَّ السُّيُوفَ غُدُوَّها وَرَواحَهَا ... تَرَكَتْ هَوَازِنَ مِثْلَ قَرْنِ الأعضَبِ
فقال : تركت؛ مراعاة للسيوف ، ولو راعَى البدل لقال : تركا .
فالجوابُ : أنَّ هذا - وإن كان قد قَالَ به بعضُ النحويينَ؛ مستنداً إلى هذين البيتين - مُؤوَّلٌ بأن « معين » خبر لِ « حاجبيه » لجريانهما مَجْرَى الشيء الواحدِ في كلام الْعَرَبِ ، وأنَّ نصب « غُدُوَّهَا وَرَوَاحَهَا » على الظرف ، لا على البدل . وقد تقدم شيء من هذا عند قوله : { عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } [ البقرة : 102 ] .
وإن اعربوا « نُعَاساً » مفعولاً به و « أمَنَةً » حالٌ يلزم الفصل - أيضاً - وفي جوازه نظر ، والأحسنُ - حينئذٍ - أن تكون هذه جملة استئنافية جواباً لسؤال مقدَّر ، كأنه قيل : ما حكم هذه الأمَنَة؟ فأخبر بقوله : « تغشى » .
ومن قرأ بالياء أعاد الضمير على « نُعَاساً » وتكون الجملة صفة له ، و « مِنْكُمْ » متعلق بمحذوف ، صفة لِ « طَائِفَةً » .
فصل
قال أبو طلحة : غشينا النعاس ونحن في مصافِّنا يوم أُحُدٍ ، فكان السيفُ يسقط من أحَدِنا فيأخذه ، ثم يسقط فيأخذه ، وقال ثابتٌ : عن أنسٍ عن أبي طلحةَ قال : رفعت رأسي يومَ أُحُدٍ ، فجعلت ما أرى أحداً من القوم إلا وهو يميل تحت جحفته من النُّعاس .
وقال الزبيرُ : كنت مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حين اشتدَّ الخوفُ ، فأنزلَ اللهُ علينا النومَ ، واللهِ إنِّ لأسمع قول مُعَتِّب بن قُشَيْر - ما أسمعه إلاّ كالحلم - يقول : « لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شيءٌ مَا قُتِلْنَا هَهُنَا » .
فصل
قال ابنُ مسعودٍ : النُّعَاسُ في القتال أمنة ، والنعاس في الصلاة من الشَّيْطَانِ ، وذلك أنه في القتال لا يكون إلا من الوثوق باللهِ ، والفراغ عن الدنيا ، ولا يكون في الصَّلاة إلا من غاية البعد عن اللهِ تعَالَى . واعلم أنّ ذلك النعاسَ فيه فوائدٌ :
الأولى : أنه وَقَعَ على كافة المؤمنين - لا على الحد المعتاد - فكان معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم ولا شكَّ أن المؤمنين متى شاهدوا تلك المعجزةَ الجديدة ازدادوا إيماناً مع إيمانهم ، ومتى صاروا كذلك ازداد أحدهم في محاربة العدو .
الثانية : أن الأرق والسهر يوجبان الضعف والكلال ، والنوم يفيد عود القوةِ والنشاطِ ، واشتدادَ القوةِ والقدرةِ .
الثالثة : أنَّ الكفارَ لما اشتغلوا بقَتْل المسلمين ألقى اللهُ النومَ على عين من بقي منهم؛ لئلاّ يشاهدوا قتل أعزتهم فيشتد الخوفُ والجُبْنُ في قلوبِهمْ .
الرابعةُ : أن الأعداءَ كانوا في غاية الحرصِ على قتلهم ، فبقاؤهم ف يالنوم مع السَّلامةِ في مثل تلك المعركةِ - من أدلِّ الدَّلائِلِ على أنَّ حِفْظ اللهِ وعصمته معهم ، وذلك مما يُزِيل الخوفَ عن قلوبهم ، ويورثهم مزيدَ الوثوق بوعد الله تعالى .
قوله : { وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } في هذه الواو ثلاثة أوجهٍ :
الأول : أنها واو الحالِ ، وما بعدها في محل نَصْبٍ على الحال ، والعامل فيها « يَغْشَى » .
الثاني : أنها واو الاستئناف ، وهي التي عبر عناه مَكيٌّ بواو الابتداء .
الثالث : أنها بمعنى « إذْ » ذكره مَكي ، وأبو البقاءِ ، وهو ضعيفٌ .
و « طائفة » مبتدأ ، والخبر { قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } وجاز الابتداء بالنكرة لأحدِ شيئين : إما للاعتمادِ على واو الحالِ ، وقد عده بعضهم مسوغاً - وإن كان الأكثرُ لم يذكره- .
وأنشدوا : [ الطويل ]
1669- سَرَيْنَا وَنَجْمٌ قَدْ أضَاءَ فَمُذْ بَدَا ... مُحَيَّاكِ أخْفَى ضَوْءهُ كُلَّ شَارِقِ
وإما لأن الموضعَ تفسيلٌ؛ فإن المعنى : يغشى طائفةً ، وطائفة لم يغشهم .
فهو كقوله :
1670- إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ ... بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَولِ
ولو قُرِئ بنصب « طَائِفَة » - على أن تكون المسألةُ من باب الاشتغالِ - لم يكن ممتنعاً إلا من جهة النقلِ؛ فإنه لم يُحْفظ قراءة ، وفي خبر هذا المبتدأ أربعة أوجهٍ :
أحدها : أنه { أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } كما تقدم .
الثاني : أنه « يَظُنُّونَ » والجملة قبله صفة لِ « طَائِفَة » .
الثالث : أنه محذوفٌ ، أي : ومنكم طائفة وهذا يُقَوِّي أنَّ معناه التفصيل ، والجملتان صفة لِ « طَائِفَةٌ » أو يكون « يَظُنُّونَ » حالاً من مفعول « أهَمَّتْهُمْ » أو من « طَائِفَةٌ » لتخصُّصه بالوَصْف ، أو خبراً بعد خبر إن قلنا : { قَدْ أَهَمَّتْهُمْ } خر أول . وفيه من الخلاف ما تقدم .
الرابع : أن الخبر { يَقُولُونَ } والجملتان قبله على ما تقدّم من كونهما صفتين ، أو خبرين ، أو إحداهما خبر ، والأخْرَى حالٌ .
ويجوز أن يكون { يَقُولُونَ } صفة أو حالاً - أيضاً - إن قلنا : إن الخبرَ هو الجملة التي قبله ، أو قلنا : إن الخبر مُضْمَرٌ .
قوله : { يَظُنُّونَ } له مفعولان ، فقال أبو البقاءِ : { غَيْرَ الحق } المفعولُ الأولُ ، أي أمراً غير الحق ، و « باللهِ » هو المفعول الثاني .
وقال الزمخشريُّ : { غَيْرَ الحق } في حكم المصدر ، ومعناه : يظنون باللهِ غير الظن الحق الذي يجب أي يُظَنَّ به . و { ظَنَّ الجاهلية } بدل منه .
ويجوز أن يكون المعنى : يظنون بالله ظن الجاهلية و { غَيْرَ الحق } تأكيداً لِ { يَظُنُّونَ } كقولك : هذا القول غير ما يقول .
فعلى ما قال لا يتعدى « ظن » إلى مفعولين ، بل تكون الباء ظرفية ، كقولك : ظننت بزيد ، أي : جعلته مكان ظني ، وعلى هذا المعنى حمل النحويون قولَ الشاعر : [ الطويل ]
1671- فَقُلْتُ لَهُمْ : ظُنُّوا بِألْفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهُمُ فِي الْفَارِسِيِّ الْمُسَرَّدِ
أي قلتُ لهم : اجعلوا ظنكم في الفي مُدَجَّجٍ .
ويحصل في نصب { غَيْرَ الحق } وجهان :
أحدهما : أنه مفعول أول لِ « يَظُنُّونَ » .
والثاني : أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ للجملة التي قبله بالمعنيين اللذين ذكرهما الزمخشريُّ .
وفي نصب { ظَنَّ الجاهلية } وجهان - أيضاً - : البدل من { غَيْرَ الحق } أو أنه مصدر مؤكِّد لِ { يَظُنُّونَ } .
و « بالله » إما متعلِّق بمحذوف على جَعله مفعولاً ثانياً ، وإما بفعل الظنِّ - على ما تقدم - وإضافة الظنِّ إلى الجاهلية ، قال الزمخشريُّ : « كقولك : حاتم الجود ، ورجل صدقٍ ، يريد : الظنَّ المختص بالملة الجاهلية ، ويجوز أن يراد ظن أهل الجاهلية » .
وقال غيره : المعنى : المدة الجاهلية ، أي : القديمة قبل الإسلامِ ، نحو { حَمِيَّةَ الجاهلية } [ الفتح : 26 ]
فصل
هؤلاء هم المنافقونَ - عبد الله بن أبيٍّ ، ومُعَتب بن قُشَيْرٍ ، وأصحابهما - كان همتهم خلاص أنفسهم ، يقال : همني الشيء - إذا كان من همي وقصدي - وذلك أن الإنسان إذا اشتدَّ انشغاله بالشيء صار غافلاً عما سواه ، فلما كان أحَبُّ الأشياء إلى الإنسان نفسَه ، فعند الخوفِ على النفس يصير ذاهلاً عن كل ما سواها ، فهذا هو المرادُ من قوله : { أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } ، وفي هذا الظنِّ احتمالانِ :
أحدهما - وهو الأظهرُ- : أنهم كانوا يقولون في أنفسهم : لو كان محمدٌ مُحِقًّا في دعواه لما سُلِّطَ الكفار عليه - وهذا ظنٌّ فاسدٌ ، أما على قول أهلِ السُّنَّةِ فلأنه - تعالى - يفعل ما يشاءُ ، ويحكمُ ما يريدُ ، لا اعتراض عليه .
وأما على قول من يعتبر المصالح في أفعال اللهِ وأحكامِهِ ، فلا يبعد أن يكون للهِ حكمٌ خفيَّةٌ ، وألطافٌ مَرْعِيَّةٌ في تخلية الكافر بحيثُ يقهر المسلم ، فإنَّ الدنيا دارُ امتحانٍ وابتلاء ، ووجوه المصالحِ مستورةٌ عن العقول .
قال القفال : لو كان كون المؤمنِ محقاً يوجب زوال هذه المعاني لوجب أن يضطر الناسُ إلى معرفة كون المُحِقّ مُحِقًّا ، وذلك ينافي التكليفَ ، واستحقاق الثوابِ والعقابِ ، والمُحِقُّ إنما يُعْرَف بما معه من الدَّلائل والبيِّنات ، فأمّا القَهْرُ فقد يكونُ من المُبْطِل للمحقِّ ومن المحِقِّ للمُبْطِلِ .
الاحتمالُ الثاني : أن ذلكَ الظنَّ هو أنهم كانوا يُنكِرون إلَه الْعَالَمِ ، وينكرون النبوةَ والبعثَ - فلا جَرَمَ - ما وثقوا بقول النبيِّ صلى الله عليه وسفم في أنَّ اللهَ تعَالى يُقَوِّيهم وَيَنْصُرُهُمْ .
وقيل : ظنوا أن محمداً قد قُتِل . و { ظَنَّ الجاهلية } بدل من قوله : { غَيْرَ الحق } وفائدة هذا الترتيب أنَّ غَيْرَ الحقِّ أديانٌ كثيرةٌ ، وأقبحُهَا مقالة أهل الجاهلية ، فذكر أنهم يظنون بالله غير الحق ثم بيَّن أنهم اختاروا من أقسامِ الأديانِ التي هي غيرُ حَقَّةٍ أقبحها وأكثرها بطلاناً ، وهو ظنُّ أهل الجاهلية .
قوله : { يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ } « من » - في { مِن شَيْءٍ } - زائدة في المبتدأ ، وفي الخبر وجهانِ :
أحدهما - وهو الأصحُّ- : أنه « لَنَا » فيكون { مِنَ الأمر } في محل نصبٍ على الحالِ من « شَيءٍ » لأنه نعتُ نكرة ، قدم عليها ، فنصب حالاً ، وتعلق بمحذوفٍ .
الثاني : - أجازه أبو البقاء - أن يكون { مِنَ الأمر } هو الخبر ، و « لنا » تبيين ، وبه تتم الفائدةُ كقوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] .
وهذا ليس بشيء؛ لأنه إذا جعله للتبيين فحينئذٍ يتعلق بمحذوفٍ ، وإذا كان كذلك فيصير « لَنَا » من جملة أخرى ، فتبقى الجملةُ من المبتدأ والخبر غير مستقلةٍ بالفائدةِ ، وليس نظيراً لقوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } فإن « لَهُ » فيها متعلق بنفس « كُفُواً » لا بمحذوفٍ ، وهو نظيرُ قولكَ : لم يكن أحدٌ قاتلاً لبكرٍ . ف « لبكر » متعلق بنفس الخبر . وهل هنا الاستفهام عن حقيقته ، أم لا؟ فيه وجهانِ :
أظهرهما : نَعَمْ ، ويعنون بالأمر : النصر والغلبة .
والثاني : أنه بمعنى النفي ، كأنهم قالوا : ليس لنا من الأمر - أي النصر - شيء ، وإليه ذَهَبَ قتادةُ وابنُ جُرَيْجٍ .
ولكن يضعف هذا بقوله : { قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ } فإن من نَفَى عن نفسه شيئاً لا يجاب بأنه ثبت لغيره؛ لأنه يُقِرُّ بذلك ، اللهم إلاَّ أن يقدر جملة أخرى ثبوتية مع هذه الجملة ، فكأنَّهم قالوا : ليس لنا من الأمر شيءٌ ، بَلْ لمن أكرهنا على الخروج وحَمَلَنا عليه ، فحينئذ يحْسُن الجوابُ بقوله : { قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ } لقولهم هذا ، وهذه الجملةُ الجوابيةُ اعتراض بين الجُمَل التي جاءت بعد قوله : « وطائفة » فإن قوله : { يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم } وكذا { يَقُولُونَ } - الثانية - إما خبر عن « طَائِفَةٌ » أو حال مما قبلها .
فصل
اعلم أنَّ قولَهُ : { هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ } حكايةٌ للشبهة التي تمسَّك بها المنافقون ، وهي تحتمل وجوهاً :
الأول : أنَّ عبد الله بن أبيٍّ لما شاوره النبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعةِ أشار عليه بأن لا يخرج من المدينةِ ، ثُمَّ إنَّ الصحابةَ ألَحُّوا على النبي صلى الله عليه وسلم في أن يخرج إليهم ، فغضب عبد اللهِ بنُ أبي من ذلك ، فقال : عصاني وأطاع الوِلْدان ، فلما كثر القتل في بني الخزرج ، ورجع عبدُ الله بن أبي قيل له : قُتِل بنو الخَزرج!! فقال : « هل لنا من الأمر من شيء » ؟ يعني : أن محمداً لم يقبل قولي حين أمرتُه بأن لا يخرج من « المدينة » .
والمعنى : هل لنا أمرٌ يُطاع؟ وهو استفهام على سبيل الإنكار .
الثاني : ما تقدم في الإعرابِ أنَّ معناه النفي ، أي : هل لنا من الشيء الذي كان يَعِدُنا به محمد صلى الله عليه وسلم وهو النصر والقوة - شيء؟ وهذا استفهامٌ على سبيل الإنكار .
الثالث : أن التقدير : أنطمع أن تكون لنا الغلبة على هؤلاء؟ ويكون المراد منه الطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكونَ قائلُهُ من المؤمنين ، ويكون المرادُ منه إظهار الشَّفَقَة ، أنه متى يكون الفرجُ والنُّصرة؟ وهو المرادُ - أيضاً - بقوله : هو النصر والقوة - شيء؟ وهذا استفهامٌ على سبيل الإنكار .
الثا { يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ } .
وقوله : { قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ } قرأ أبو عمرو « كُلُّهُ » - رفعاً - وفيه وجهان :
الأول : - وهو الأظهر - أنه رفع بالابتداء ، و « لله » خبره والجملة خبر « إنَّ » نحو : إن مال زيد كله عنده .
الثاني : أنه توكيد على المحل ، فإن اسمها - في الأصل - مرفوعٌ بالابتداء ، وهذا مذهبُ الزَّجَّاجِ والجَرْمي ، يُجْرُون التوابعَ كلَّها مُجْرَى عطف النسق ، فيكون « للهِ » خبراً لِ « إنَّ » أيضاً .
وقرأ الباقون بالنصب ، فيكون تأكيداً لاسم « إنَّ » وحَكَى مكي عن الأخفش أنه بدل منه - وليس بواضح - و « للهِ » خبر « إنَّ » .
وقيل على النعت؛ لأنَّ لفظة « كُلّ » للتأكيد ، فكانت كلفظة « أجمع » .
فصل
هذه الآية تدل على أن جميع المحدثات خلق لله تعالى بقضائه وقدره؛ لأن المنافقين قالوا : إن محمداً لو قبل مِنَّا رَأيَنَأ ونُصْحَنا ، ملا وقع في هذه المِحْنةِ ، فأجابهم اللهُ تَعَالَى بأن الأمرَ كُلَّه للهِ ، وهذا [ الجواب ] إنما ينتظم إذا كانت أفعالُ العبادِ بقضاء اللهِ وقدَرِهِ؛ إذ لو كانت خارجة عن مشيئته لم يكن هذا الجواب دافعاً لشبهة المنافقين .
قوله : { يُخْفُونَ } إما خبر لِ { طَآئِفَةً } وإما حال مما قبله - كما تقدم - وقوله : { يَقُولُونَ } يحتمل هذينِ الوجهينِ ، ويحتمل أن يكون تفسيراً لقوله : { يُخْفُونَ } فلا محلَّ له حينئذٍ .
قوله : { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ } كقوله : { هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ } وقد عرف الصحيح من الوجهين .
وقوله : « ما قُتِلْنا ههنا » جواب « لَوْ » وجاء على الأفصح ، فإن جوابها إذا كان منفياً ب « ما » فالأكثر عدم اللام ، وفي الإيجاب بالعكس ، وقد أعرب الزمخشريُّ هذه الجُمَلَ الواقعة بعد قوله : « وطائفة » إعراباً أفْضى إلى خروج المبتدأ بلا خبر فقال : « فإن قُلتَ : كيف مواقعُ هذه الجُمَلِ الواقعة بعد قوله : » وطائفة « .
قُلْتُ : { قَدْ أَهَمَّتْهُمْ } صفة ل { َطَآئِفَةٌ } و { يَظُنُّونَ } صفة أخرى ، أو حالٌ ، بمعنى : قد أهمتهم أنفسهم ظَانِّين ، أو استئنافٌ على وجه البيانِ للجملة قبلها و { يَقُولُونَ } بدلٌ من { يَظُنُّونَ } .
فإن قلتَ : كيف صَحَّ أن يقع ما هو مسألة عن الأمر بدلاً من الإخبار بالظنِّ؟
قلتُ : كانت مسألتهم صادرة عن الظن ، فلذلك جاز إبداله منه ، و { يُخْفُونَ } حال من { يَقُولُونَ } و { قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ } اعتراض بين الحالِ وذي الحالِ ، و { يَقُولُونَ } بدلٌ من { يُخْفُونَ } والأجود أن يكون استئنافاً » . انتهى .
وهذا من أبي القاسم بناءً على أنَّ الخبرَ محذوفٌ ، كما تقدم تقريره في قوله : { وَطَآئِفَةٌ } أي : ومنكم طائفةٌ ، فإنه موضعُ تفصيلٍ .
فإن قيل : ما الفرق بين قوله : { هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ } وبين قوله : { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ } وقد أجاب عن الأول بقوله : { قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ } وأجاب ههنا بغير ذلك؟ فالجوابُ من وجهين :
الأول : أن المنافقينَ قال بعضهم لبعض : لو كان لنا عقولٌ لم نخرج مع محمدٍ إلى قتالِ أهلِ مكةَ ، وما قُتِلْنَا هاهنا ، وهذا يدلُّ على أنَّ الأمر ليس كما قلتم من أنَّ الأمرَ كلَّه للهِ ، وهذا كالمناظرةِ الدائرةِ بين أهلِ السُّنَّةِ والمُعْتَزلَةِ؛ فإنَّ السُّنِّي يقولُ : الأمر كُلُّهُ - في الطَّاعِةِ والمعصيةِ ، والإيمانِ والكُفْرِ بيد اللهِ ، والمعتزلي يقول : ليس الأمر كذلكح فإن الإنسانَ مختارٌ ، وميتقلٌّ بالفعل ، إن شاء آمن وإن شاء كَفَر ، فَعلى هذا الوجه لا يكون هذا الكلام شبهة مستقلة بنفسها ، بل يكون الغرض منه الطعن فيما جعله الله تعالى جواباً عن الشُّبْهَةِ الأولى .
الثاني : أن المراد من قوله : { هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ } أي : هل لنا من النُّصْرَة التي وَعَدَنَا بها محمد صلى الله عليه وسلم شيء؟ ويكون المراد من قوله : « لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا » هو ما كان بقوله عبد الله بن أبي من أن محمداً لو أطاعني ما خرج عن « المدينة » ، وما قُتِلْنا ههنا .
واعلم أنه - تعالى - أجاب عن هذه [ الشُّبْهَةَ ] من ثلاثة أوجهٍ :
الأول : قوله : { قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ } ومعناه : أن الحَذَرَ لا يدفع القَدَرَ ، فالذين قَدَّر الله عليهم القَتْلَ ، لا بُدَّ وأن يُقْتَلُوا على كل تقديرٍ؛ لأنَّ اللهَ تَعَالى لما أخبره أنه يقتل ، فلو لم يُقْتَلْ ، لانْقَلَبَ علمه جهلاً .
وقال المفسِّرون : لو جلستم في بيوتكم لخرج منكم مَنْ كَتَبَ اللهُ عليهم القَتْلَ إلى مضاجعهم ومصارعهم ، حتى يُوجَدَ ما علم الله أنه يُوجد وقيل : تقديرُ الكلام : كأنه قيل للمنافقين : لو جلستم في بيوتكم ، وتَخَلَّفْتُمْ عن الجهاد ، لخرج المؤمنون الذين كُتِبَ عليهم قتال الكفار إلى مضاجعهم ، ولم يتخلَّفوا عن هذه الطاعة بسبب تخلُّفكم .
قوله : { لَبَرَزَ } جاء على الأفصح ، وهو ثُبُوتُ اللامِ في جواب « لو » مثبتاً . وقراءة الجمهور { لَبَرَزَ } مخفَّفاً مبنياً للفاعل ، وقرأ أبو حَيْوَة « لَبُرِّزَ » مشدَّداً ، مبينيًّا للمفعول ، عدَّاه بالتضعيف . وقرئ « كَتَبَ » مبنياً للفاعل ، و « القَتْلَ » مفعول به .
وقرأ الحسنُ : { كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال } رَفعاً .
الجوابُ الثاني عن هذه الشُّبْهَةِ قوله : « وليبتلي » فيه خمسة أوجُهٍ :
فقيل : إنه متعلق بفعل قبله ، وتقديره : فَرَضَ اللهُ عليكم القتَالَ ، ولم يَنْصُرْكُمْ يوم أُحُدٍ ، ليبتلي ما في صدوركم ، أي : ضمائركم .
وقيل : بفعل بعده ، أي : ليبتلي فَعَلَ هذه الأشياء .
وقيل : الواو زائدة ، واللام متعلقة بما قبلها .
وقيل : « وليبتلي » عطف على « ليبتلي » الأول وإنما كُرِّرت لطول الكلام ، فعطف عليه { وَلِيُمَحِّصَ } قاله ابنُ بحرٍ .
وقيل : هو عطف على علةٍ محذوفة تقديره : ليقضي اللهُ أمرَه وليبتلي .
الجواب الثالث عن هذه الشُّبْهَةِ قوله : { وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } فيه وَجْهَانِ :
أحدهما : أن هذه الواقعة تخرج ما في قلوبكم من الوساوس والشبهات ، وتطهرها .
الثاني : أنها تصيره كَفَّارةً لذنوبكم ، فتمحصكم عن تبعات المعاصي والسيئات .
فإن قيل : قد سبق ذِكْرُ الابتلاء في قوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } [ آل عمران : 152 ] فلم أعادَه؟
فالجواب : أنه أعادهُ؛ لطول الكلام بينهما ، ولأن الابتلاء الأول هزيمة المؤمنين ، والابتلاء الثاني سائر الأحوال .
فإن قيل : قوله : { وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ } المرادُ منه القلب؛ لقوله : { القلوب التي فِي الصدور } [ الحج : 46 ] فجعل متعلق الابتلاء ما انطوى عليه الصَّدْرُ - وهو ما في القلب من النِّيَّةِ - وجعل متعلق التمحيص ما في القلب - وهو النيات والعقائد - فلم خالف بين اللفظين في المتعلِّق؟
فالجوابُ : أنه لما اختلف المتعلَّقان حسنَ اختلافُ لفظَيْهما . ثم قال : { والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } أي : الأسرار والضمائر؛ لأنها حالَّةٌ فيها ، مصاحبة لها ، وذكر ذلك ليدل به على أن ابتلاءه لم يكن لأنه يَخْفَى عليه ما في الصدور وغيره - لأنه عالم بجميع المعلومات - وإنما ابتلاهم لمَحْض الإلهية .
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
إنما ثُنّي « الْجَمْعَان » -وإن كان اسم جمع- وقد نَصًّ النُّحَاةُ على أنه لا يُثَنَّى ولا يُجْمَع إلا شذوذاً- لأنه أريد به النوع؛ فإن المعنى جَمْع المؤمنين وجَمْع المشركين ، فلما أريد به ذلك ثُنِّي ، كقوله : [ الطويل ]
1672- وَكُلُّ رَفِيقَيْ كُلِّ رَحْلٍ وَإنْ هُمَا ... تَعَاطَى الْقَنَا قَوْماً هُمَا أخَوَانِ
فصل
{ تَوَلَّوْاْ } تنهزموا { يَوْمَ التقى الجمعان } جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أُحُدٍ ، وكان قد انهزم أكْثَرُ المسلمين ، ولم يَبْقَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا ثلاثةَ عشر رجلاً ، ستةٌ من المهاجرين : أبُو بَكْرٍ ، وأبو عُبّيْدَةَ بن الجراح وعليٌّ ، وطَلْحَة ، وعبد الرحمن بن عَوْفٍ ، وسعد بن ابي وَقَّاصٍ -وسبعة من الأنصار- حباب بن المنذر وأو دُجَانَة ، وعاصم بن ثابت ، والحارث بن الصِّمَّة ، وسهل بن حُنَيْف ، وأسَيْد بن حُضَيْر ، وسعد بن مُعّاذٍ- وقيل : أرْبَعَةَ عشَرَ؛ سبعةٌ من المهاجرين ، فذكر الزبير بن العوّام معهم ، وسبعةٌ من الأنصار .
وقيل : إن ثمانية من هؤلاء كانوا بايعوه يومئذٍ على الموت : ثلاثة من المهاجرين : طلحة ، والزبير ، وعلي ، وخمسة من الأنصار : أبو دُجَانة ، والحارث بن الصِّمَّة ، وحباب بن المُنْذِرِ ، وعاصم بن ثابتٍ ، وسهل بن حنيف ، ثم لم يقتل منهم أحد .
ورُوي أنه أصيب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ثلاثينَ ، كلهم يجيء ، ويَجْثو بين يديه ، ويقول : وجهي لوجهك الفداء ، ونفسي لنفسك الفداء ، وعليك السَّلامُ غيرَ مُودَّعٍ .
قوله : { إِنَّمَا استزلهم الشيطان } السين في { استزلهم } للطلب ، والظاهر أن استفعل ها هنا -بمعنى أفْعَل؛ لأن القصة تدلُّ عليه ، فالمعنى : حَمَلَة على الزلة ، فيكون ك « اسْتَلَّ » و « أبَلَّ » واستزلَّ بمعنى وَاحِدٍ ، قال تعالى : { فَأَزَلَّهُمَا الشيطان } [ البقرة : 36 ] .
وقال ابن قتيبةَ : { استزلهم } طلب زلَّتَهُمْ ، كما يقال : استعجلته : أي : طلبت عجلته ، واستعملته طلبت عمله .
فصل
قال الكعبيُّ : الآية تدلُّ على أن المعاصيَ لا تُنْسَب إلى الله؛ فإنه -تعالى- نسبها هنا إلى الشِّيْطَانِ ، فهو كقوله تعالى -حكاية عن موسى- : { هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان } [ القصص : 15 ] وكقوله -حكاية عن يُوسفَ- : { مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِي وَبَيْنَ إخوتي } [ يوسف : 100 ] وقوله -حكاية عن صاحب موسى- : { وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ } [ الكهف : 63 ] .
قوله : { بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } فيه وجهانِ :
الأول : أن الباء للإلصاق ، كقولك : كتبت بالقَلَم ، وقطعت بالسِّكِّين ، والمعنى : أنه قد صدرت عنهم جنايات ، فبواسطتها قدر الشَّيطان على لستزلالهم ، وعلى هذا التقدير اختلفوا :
فقال الزَّجَّاجُ : إنهم لم يتولَّوْا عناداً ، ولا فراراً من الزَّحْف ، رغبة منهم في الدنيا ، وإنما ذكَّرهم الشيطانُ ذنوباً -كانت لهم- فكرهوا البقاء إللا على حالٍ يَرْضَوْنَهَا .
وقيل : لما أذنبوا -بمفارقة المركز ، أو برغبتهم في الغنيمة ، أو بفشلهم عن الجهاد- أزلهم الشيطانُ بهذه المعصيةِ ، وأوقعهم في الهزيمة .
الثاني : أن تكونَ الباء للتبعيض ، والمعنى : أنَّ هذه الزَّلَّةَ وقعت لهم في بعض أعمالهم .
قوله : { وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ } هذه الآية تدل على أن تلك الزَّلَّة ما كانت بسبب الكُفْرِ؛ فإن العفو عن الكفر لا يجوز؛ لقوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } [ النساء : 48 ] فالعفو عن الصغائر والكبائر جائز .
قالت المعتزلة : ذلك الذنب إن كان من الصغائر ، جاء العفو عنه من غير توبةٍ ، وإن كان من الكبائر لم يَجُز العفو عنه من غيب توبةٍ ، وإن كان من الكبائر لم يَجُز العفو عنه من غير توبة -وإن كان ذلك غير مذكور في الآية .
قال القاضي : والقربُ أن ذلك الذنب كان من الصغائر ، لوجهين :
أحدهما : أنه لال يكاد -في الكبائر- يقال : [ إنها زَلَّة ] ، إنما يقال ذلك في الصغائر .
الثاني : ان القوم ظنوا أنَّ الهزيمةَ لما وقعت على المشركين ، لم يَبْقَ إلى ثباتهم في ذلك المكانِ حاجة فلا جرم -انقلبوا عنه ، وتحوَّلوا لطلب الغنيمة ، ومثل هذا لا يبعد أن يكون من باب الصغائر لأن للاجتهاد في مثله مَدْخَلاً .
قال ابنُ الخَطِيبِ : وهذه تكلُّفات لا حاجة إليها ، وقد بينَّا كونها من الكبائر ، والاجتهاد لا مدخل له مع النص الصريح بلزوم المركز ، سواء كانت الغلبة لهم ، أو عليهم .
ثم قال : { إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ } أي { غَفُورٌ } لمن تاب ، { حَلِيمٌ } لا يعجل بالعقوبة ، وهذا يدل على أن ذلك الذنب كان من الكبائر؛ لأن لو كان من الصغائر لوجب ان يعفو عنه -على قول المعتزلة- ولو كان العفو واجباً لما حَسُنَ التمدُّح به؛ لأن من يظلم إنساناً لا يحسُن ان يتمدّح بأنه عفا عنه ، وغفر له .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
وجه النظم أن المنافقين كانوا يعيّرون المؤمنين في الجهاد مع الكفار ، بقولهم : { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } ثم إنه ظهر عند بعض المؤمنين فتورٌ وفشلٌ في الجهاد ، حتى وقع يومَ أحُدٍ ما وقع ، وعفا اللهُ بفضله عنهم ، فنهاهم في هذه الآية عن القول بمثل مقالة المنافقين ، لمن يريد الخروج إلى الجهادِ ، فقال : لا تقولوا -لمن يريد الخروجَ إلى الجهاد- : لو لم تخرجوا لما متم ، وما قُتِلْتُم ، فإن الله هو المُحْيي والمميت ، فمن قُدِّر له البقاءُ لم يُقْتَل في الجهاد ، ومن قُدِّر له الموتُ مات وإن لم يجاهد ، وهو المراد بقوله : { والله يُحْيِي وَيُمِيتُ } .
وأيضاً فالذي يُقْتَل في الجهاد ، لو لم يخرج إلى الجهاد ، لكان يموت لا محالة ، فإذا كان لا بد من الموت فلأن يُقْتَلَ في الجهاد -حتى يستوجب الثوابَ العظيمَ- خيرٌ له من أي يموت من غير فائدة ، وهو المرادُ بقوله : { وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } .
واختلفوا في { الذين كَفَرُواْ } فقيل : هل هو كافر يقول هكذا .
وقيل : إنه مخصوصٌ بالمنافقين؛ لأن هذه الآيات في شرح أحوالهم .
وقيل : مختصة بعبد الله بن أبيّ ابن مسلول ومعتب بن قُشَير ، وسائر أصحابهما .
قوله : { لإِخْوَانِهِمْ } قال الزمخشريُّ : « لأجل إخوانكم » . وهذا يدل على أن أولئك الإخوان كانوا مَيِّتين عند هذا القول ويُحْتمل ان يكونَ المراد منه الأخوة في النسب ، كقوله تعالى : { وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً } [ الأعراف : 65 ] ويكون المقتولون من المسلمين كانوا من أقارب المنافقين ، فقال المنافقونَ هذا الكلام ، بعد أن قُتِلَ بعضهم في بعض الغزوات .
قوله : { إِذَا ضَرَبُواْ } « إذا » ظرف مستقبل ، فلذلك اضطربت أقوالُ المعربين -هنا- من حيثُ إن العامل فيها { قَالُواْ } -وهو ماضٍ- فقال الزمخشريُّ : « فإن قُلْتَ : كيف قيل : { إِذَا ضَرَبُواْ } مع » قالوا « ؟ قلت : هو حكاية حال ماضية ، كقولك : حين يضربون في الأرض » .
وقال أبو البقاء بعد قول قريب من قول الزمخشريِّ : « ويجوز أن يكون { كَفَرُواْ } و { قَالُواْ } ماضيين ، يُراد بهما المستقبل المحكي به الحال فعلى هذا يكون التقدير : يكفرون ، ويقولون لإخوانهم » . انتهى .
ففي كلا الوجهين حكاية حال ، لكن في الأول حكاية حال ماضية ، وفي الثاني مستقبلة ، وهو -من هذه الحيثية- كقوله تعالى : { حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ } [ البقرة : 214 ] . ويجوز أن يراد بها الاستقبال ، لا على سبيل الحكاية ، بل لوقوعه صلة لموصول ، وقد نصَّ بعضهم على أن الماضي -إذا وقع صلة لموصول- صلح للاستقبال ، كقوله : { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } [ المائدة : 34 ] . وإلى هذا نحا ابنُ عطيةَ ، وقال : « دخلت » إذا « وهي حرفُ استقبالٍ -من حيثُ » الذين « اسم فيه إبهام ، يعم مَنْ قال في الماضي ، ومَنْ يقول في الاستقبال ، ومن حيثُ هذه النازلة تتصور في مستقبل الزمان » يعني : فتكون حكاية حالٍ مستقبلة .
قال ابن الخَطِيبِ : إنما عَبَّرَ عن المستقبل بلفظ الماضي لفائدتين :
إحداهما : أن الشيء الذي يكون لازم الحصول في المستقبل ، قد يُعَبَّر عنه بأنه حَدَث ، أو هو حادث ، قال تعالى : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] وقال : { إِنَّكَ مَيِّتٌ } [ الزمر : 30 ] فهنا لو وقع التعبير عنه بلفظ المستقبل لم يكن فيه ذلك المعنى ، فلما وقع التعبير عنه بلفظ الماضي ، دلَّ على أن جِدَّهم واجتهادهم في تقرير الشبهة قد بلغ الغاية ، فصار بسبب ذلك الجد ، هذا المستقبل كالواقع .
الثانية : أنه -تعالى- لما عبر عن المستقبل بلفظ الماضي ، دلَّ ذلك على أنه ليس المقصود الإخبار عن صدور هذا الكلام ، بل المقصود الإخبار عن جِدِّهم واجتهادهم في تقرير هذه الشُّبْهَةِ « .
وقدَّر أبو حيّان : مضافاً محذوفاً وهو عامل في » إذا « تقديره : وقالوا لهلاك إخوانهم ، أي : مخافة أن يهلك إخوانهم إذا سافروا ، أو غَزَوْا ، فقدَّر العامل مصدراً مُنْحَلاًّ لِ » أن « والمضارع ، حتى يكون مستقبلاً ، قال : لكن يكون الضمير في قوله : { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا } عائداً على { لإِخْوَانِهِمْ } لفظاً ، وعلى غيرهم معنى -أي : يعود على إخوان آخرين ، وهم الذين تَقَدَّمَ موتُهم بسبب سفرٍ ، أو غزو ، وقَصْدُهُمْ بذلك تثبيطُ الباقين- وهو مثل قوله تعالى : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } [ فاطر : 11 ] وقول العربِ : عندي درهم ونِصْفُه .
وقول الشاعرِ : [ البسيط ]
1673- قَالَتْ : ألاَ لَيْتَما هَذَا الحَمَامُ لَنَا ... إلَى حَمَامَتِنَا ، أو نِصْفُهُ فَقَدِ
المعنى : من معمر آخر ، ونصف درهم آخر ، ونصف حمام آخرَ .
وقال قُطربٌ : كلة » إذْ « و » إذا « يجوز إقامة كل واحد منهما مُقَامَ الأخْرَى ، فيكون » إذا « هنا بمعنى » إذْ « .
قال بعضهم : وهذا ليس بشيء .
قال ابن الخَطِيبِ : » أقول : هذا -الذي قاله قُطْرُبٌ- كلامٌ حسنٌ ، وذلك لأنا جوَّزْنا إثبات اللغة بشعرٍ مجهولٍ ، فنقول عن قائل مجهول ، فلأنْ يُجَوَّزَ إثباتها بالقرآن العظيم كان ذلك اولى ، أقصى ما في الباب أن يقال : « إذا » حقيقة في المستقبل ، ولكن لم لا يجوز استعماله في الماضي على سبيل المجازِ ، لما بينه وبين كلمة « إذْ » من المشابهة الشديدة ، وكثيراً أرى النحويين يتحيَّرون في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن ، فإذا استشهدوا في تقريره ببيت مجهولٍ فَرِحوا به ، وأنا شديدُ التعجُّب منهم؛ فإنهم إذا جعلوا ورودَ القرآنِ به دليلاً على صحته كان أولى « .
قوله : { أَوْ كَانُواْ غُزًّى } -بالتشديد- جمع غازٍ -كالرُّكَّع والسُّجَّد- جمع راكع وساجد- وقياسه : غُزَاة كرام ورُمَاة- ولكنهم جملوا المعتل على الصحيح ، في نحو ضارب وضُرَّب ، وصائم وصُوَّم .
وقال الزَّهريُّ والحسنُ « غُزًى » -بالتخفيف- وفيها وجهانِ :
الأول : أنه خفف الزاي ، كراهية التثقيل في الجمع .
الثاني : أن أصله : غُزاة -كقُضاة ورُماة- ولكنه حذف تاء التأنيث؛ لأن نفس الصيغة دالَةٌ على الجمع فالتاء مُستغنًى عنها .
قال ابنُ عَطِيَّةَ : « وهذا الحذفُ كثيرٌ في كلامهم .
ومنه قول الشاعر يمدح الكسائِي : [ الطويل ]
1674- أبَى الذَّمَّ أخْلاَقُ الْكِسَائِيِّ ، وَانْتَحَى ... بِهِ المَجْدُ أخْلاَقَ الأبُوِّ السَّوابِقِ
يريد : الأبُوَّة -جمع أب- كما أن العمومة جمع عم ، والبُنُوَّة جمع ابن وقد قالوا : ابن ، وبنو » .
ورد عليه أبو حيّان بأن الحذف ليس بكثير ، وأن قوله : حذف التاء من عمومة ، ليس كذلك ، بل الأصل : عموم -من غير تاء- ثم أدخلوا عليها التاء لتأكيد الجمع ، فما جاء على « فعول » -من غير تاء- هو الأصل ، نحو : عموم وفحول ، وما جاء فيه التاء ، فهو الذي يحتاج إلى تأويله بالجمع ، والجمع لم يُبْنَ على هذه التاء ، حتى يُدَّعَى حَذْفُها ، وهذا بخلاف قُضَاة وبابه؛ فإنه بني عليها ، فيمكن ادعاء الحذف فيه ، وأما أبوة وبُنوة فليسا جَمْعَيْن ، بل مصدرين ، وأما أبُوّ -في البيت- فهو شاذّ عند النحاة من جهة أنه من حقِّهِ أن يُعلَّه ، فيقول : « أبَيّ » بقلب الواوين ياءين ، نحو : عُصِيّ ، ويقال غُزَّاء بالمد أيضاً ، وهو شاذ .
فتحصَّل في غازٍ ثلاثة جموع في التكسير : غُزَاة كقُضاة ، وغُزًى كصوَّم ، وغُزَّاء كصُوَّام ، وجمع رابع ، وهو جمع سلامة ، والجملة كلُّها في محل نصب بالقول .
قال القرطبيُّ : « والمغزية : المرأة التي غزا زوجها ، وأتانٌ مُغْزِية : متأخِّرةُ النِّتَاجِ ، ثم تنتج وأغْزَت الناقة إذا عسر لِقَاحُها ، والغَزْو : قصد الشيء ، والمَغْزَى : المَقْصِد ، ويقال : -في النسب إلى الغزو : غَزَوِيّ » .
قال الواحديُّ : « في الآية محذوف ، يدل عليه الكلام ، والتقدير : { إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض } فماتوا { أَوْ كَانُواْ غُزًّى } فقتلوا ، { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } فقوله : { مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } يدل على قتلهم وموتهم » .
فصل
المراد بالضَّرْبِ : السفر البعيد ، وقوله : « غُزًّى » هم الغُزَاة الخارجون للجهاد ، فكان المنافقونَ يقولون -إذا رَأوْا مَنْ مات في سفر أو غزو- : إنما ماتوا ، أو قتلوا بسبب السفر والغزو ، وقصدهم بذلك تنفير الناس .
فإن قيل : لم ذكر الغزو بعد الضرب في الأرض -وهو داخل فيه؟
فالجوابُ : أن الضرب في الأرض يرادُ به السفر البعيد ، لا القريب ، إذ الخارج من المدينة إلى جبل أحدٍ لا يوصف بأنه ضارب في الأرض ، وفي الغزو لا فرق بينه وبين قريبه وبعيده ، فلذلك أورد الغزو عن الضرب في الأرض .
قوله : { لِيَجْعَلَ الله } في هذه اللام قولان :
قيل : إنها لام « كَيْ » .
وقيل : إنها لام العاقبة والصيرورة ، فعلى القول الأول في تعلُّق هذه اللام وجهانِ :
فقيل : التقدير : أوقع ذلك -أي : القول ، أو المعتقد- ليجعله حَسْرَةً ، أو ندمَهم ، كذا قدره أبو البقاء وأجاز الزمخشريُّ أن تتعلق بجملة النفي ، وذلك على معنيين- باعتبار ما يراد باسم الإشارة .
أما الاعتبار الأول ، فإنه قال : « يعني لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده ليجعله اللهُ حَسْرةً في قلوبكم خاصَّةً ، ويصون منها قلوبكم » ، فجعل ذلك إشارة إلى القول والاعتقاد .
وأما الاعتبار الثاني فإنه قال : « ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى ما دلَّ عليه النَّهْيُّ ، أي : لا تكونوا مثلهم؛ ليجعلَ اللهُ انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم؛ لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون مما يغمُّهم ويغيظهم » .
وردّ عليه أبو حيان المعنى الأول بالمعنى الثاني الذي ذكره هو ، فقال -بعد ما حكى عنه المعنى الأول : - « وهو كلام شيخ لا تحقيق فيه؛ لأن جَعْلَ الحسرة لا يكون سبباً للنهي ، إنما يكون سبباً لحصول امتثال النهي ، وهو انتفاء المماثلة ، فحصول ذلك الانتفاء والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون ، يحصل عنه ما يغيظهم ويغمهم ، إذ لم توافقهم فيما قالوه واعتقدوه ، لا تضربوا في الأرض ولا تغزو ، فالتبسَ على الزمخشريِّ استدعاء انتفاء المماثلة لحصول الانتفاء ، وفَهْم هذا فيه خفاءٌ ودقةٌ » .
قال شهاب الدين : ولا أدري ما وجه تفنيد كلام أبي القاسم ، وكيف رد عليه على زعمه بكلامه؟
وقال أبو حَيَّانَ -أيضاً- : « وقال ابنُ عِيسَى وغيره ، اللامُ متعلِّقة بالكون ، أي : لا تكونوا كهؤلاء ، ليجعل الله ذلك حَسْرَةً في قلوبهم دونكم ، ومنه اخذ الزمخشريُّ قوله ، لكن ابن عيسى نَصَّ على ما تتعلق به اللام ، وذاك لم ينص ، وقد بينَّا فساد هذا القول » .
وقوله : وذاك لم ينص ، بل قد نَصَّ ، فإنه قال : فإن قُلْتَ : ما متعلق { لِيَجْعَلَ } ؟ قلت : { َقَالُواْ } أو { لاَ تَكُونُواْ } . وأيُّ نَصٍّ أظهرُ من هذا؟ ولا يجوز تعلق اللام -ومعناها التعليل- ب { قَالُواْ } لفساد المعنى؛ لأنهم لم يقولوه لذلك ، بل لتثبيط المؤمنين عن الجهاد .
وعلى القول الثاني -أعني : كونها للعاقبة تتعلق ب { قَالُواْ } والمعنى : أنهم قالوا ذلك لغرض من أغراضهم ، فكان عاقبة قولهم ، ومصيره إلى الحسرة ، والندامة ، كقوله تعالى : { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] وهم لم يلتقطوه لذلك ، ولكن كان مآله لذلك . ولكن كونها للصيرورة لم يعرفه أكثر النحويين ، وإنما هو شيءُ ينسبونه للأخفش ، وما ورد من ذلك يؤولونه على العكس من الكلام ، نحو : { فَبَشِّرْهُم } [ آل عمران : 21 ] وهذا رأي الزمخشري؛ فإنه شبه هذه اللام باللام في { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] ومذهبه في تلك أنها للعلة -بالتأويل المذكور والجَعْلُ -هنا- بمعنى التَّصْييرِ .
فصل
اختلفوا في المشار إليه ب « ذَلِكَ » : فعن الزَّجاجِ هو الظَّنُّ ، ظنوا أنهم لو لم يحضروا لم يُقْتَلُوا .
وقال الزمخشريُّ ما معناه : الإشارة إلى النطق والاعتقاد بالقول .
وقريب منه قول ابن عطيةَ : « الإشارة بذلك إلى هذا المعتقد الذي لهم » .
وقال ابنُ عَطِيَّة -أيضاً- : ويحتمل عندي -أن تكونَ الإشارةُ إلى النهي والانتهاء معاً ، فتأمله « .
وقيل : هو المصدر المفهوم من { قَالُواْ } ، و { حَسْرَةً } مفعول ثانٍ ، و { فِي قُلُوبِهِمْ } يجوز أن يتعلق بالجَعْل -وهو أبلغ- أو بمحذوف على أنه صفة للنكرة قبله .
فصل
ذكروا -في بيان ذلك القول حَسْرَةً في قلوبهم -وجوهاً :
الأول : أن أقارب ذلك المقتول إذا سمعوا هذا الكلام ازدادت الحسرة في قلوبهم؛ لأن أحدهم يعتقد أنه لو بالغ في مَنعه عن ذلك السفر ، او الغزو ، لبقي ، فذلك الشخص إنما مات ، أو قُتِلَ بسبب أن هذا الإنسان قَصَّر في مَنْعه ، فيعتقد السامعُ لهذا الكلام أنه هو الذي تسبب في مَوْت ذلك الشخص العزيز عليه ، أو قتله ، ومتى اعتقد في نفسه ذلك ، فلا شك أنه يزداد حسرته وتلهُّفُه ، أما المسلم المعتقد أن الحياةَ والموت بتقدير اللهِ وقضائه ، لم يحصل في قلبه شيء من هذا النوع من الحسرة البتة .
الثاني : أن المنافقين إذا القوا هذه الشبهة إلى إخوانهم ، تثبطوا ، وتخلَّفوا عن الجهاد ، فإذا اشتغل المسلمون بالجهاد ، ووصلوا بسببه إلى الغنائم العظيمة ، والاستيلاء على الأعداء ، والفوز بالأماني ، بقي المتخلف عن ذلك في الحَسَد ، والحَسرة .
الثالث : أن هذه الحسرة ، إنما تحصُل يومَ القيامةِ في قلوب المنافقين ، إذا رَأوا تخصيص الله للمجاهدين بمزيد من الكرامات وعُلُوِّ الدرجات ، وتخصيص هؤلاء المنافقين بمزيد الخِزْي واللَّعْن والعقاب .
الرابع : أن المنافقين إذا أوردوا هذه الشبهة على ضَعَفَة المسلمين ، ووجدوا منهم قبولاً لها ، فرحوا بذلك؛ لرواج كيدهم ، ومكرهم على الضَّعَفَة ، فالله -تعالى- يقول : إنه يصير ذلك حسرةً في قلوبهم إذا علموا أنهم كانوا على الباطل .
الخامس : أن اجتهادَهُمْ في تكثير الشبهاتِ ، وإلقاء الضلالات يُعْمِي قلوبهم ، فيقعون عند ذلك في الحسرة ، والخيبة ، وضيق الصدر ، وهو المراد بقوله تعالى : { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً } [ الأنعام : 125 ] .
السادس : أنهم إذا ألْقَوْا هذه الشبهةَ على الأقوياء ، لم يلتفتوا إليهم ، فيضيع سعيُهم ويبطل كيدُهم ، فتحصل الحسرة في قلوبهم .
قوله : { والله يُحْيِي وَيُمِيتُ } فيه وجهان :
الأول : أن المقصود منه بيان الجواب عن شُبْهَة المنافقين ، وتقريره : إن المحيي والمميت هو اللهُ تعالى ، ولا تاثير لشيء آخر في الحياةِ والموتِ ، وأن علمَ اللهِ لا يتغير ، وأن حُكْمَه لا ينقلب ، وأن قضاءه لا يتبدَّل ، فكيف ينفع الجلوس في البيت من الموت؟
فإن قيل : أن كان القولُ بأنّ قضاءَ اللهِ لا يتبدل يمنع من كون الجِدِّ والاجتهاد مفيداً في الحذر عن القتل والموت ، فكذا القول بأن قضاءَ اللهِ يتبدَّل ، وجب أن يمنع من كون العمل مفيداً في الاحتراز عن عقاب الآخرة ، وهذا يمنع من لزوم التكليفِ . والمقصود من الآياتِ تقرير الأمر بالجهاد والتكلف ، وإذا كان كذلك ، كان هذا الكلام يُفْضي ثبوته إلى نفيه .
فالجوابُ : أن حُسْنَ التكليف -عندنا- غير مُعَلَّل بِعِلَّة ورعاية [ مصلحة ] ، بل اللهُ يفعل ما يشاءُ ، ويحكمُ ما يريد .
الثاني : أن [ المقصود ] بقوله : { والله يُحْيِي وَيُمِيتُ } أنه يُحْيي قلوبَ أوليائه وأهل طاعته بالنور والفرقان ، ويُميتُ قلوبَ أعدائه من المنافقين بالضلال .
قوله : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي « يعملون » بالغيبة؛ رَدَّا على { الذين كَفَرُواْ } والباقون بالخطاب؛ ردَّا على قوله : و { لاَ تَكُونُواْ } وهو خطابٌ للمؤمنينَ .
فإن قيل : الصادر منهم كان قولاً مسموعاً ، لا فعلاً مَرْئِيًّا ، فلِمَ علَّقه بالبصر دون السمع؟
فالجوابُ : قال الراغبُ : لما كان ذلك القول من الكفار قصداً منهم إلى عمل يحاولونه ، خص البصر بذلك ، كقولك -لمن يقول شيئاً ، وهو يقصد فعلاً يحاوله- : أنا أرى ما تفعله .
قوله : { وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ } اللام هي الموطئة لقسم محذوف ، وجوابه قوله : { لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } وحُذِفَ جوابُ الشرط؛ لسَدِّ جواب القسم مسده؛ لكونه دالاً عليه وهذا ما عناه الزمخشريُّ بقوله : وهو ساد مسدَّ جواب الشرط . ولا يعني بذلك أنه من غير حذف .
قوله : { أَوْ مُتُّمْ } قرأ نافع وحمزة والكسائي « مِتُّمْ » -بكسر الميم- والباقون بضمها ، فالضَّمُّ مِنْ مَاتَ يَمُوتُ مُتُّ -مثل : قَالَ يَقُولُ قُلْتُ ، ومن كسر ، فهو من مَاتَ يَمَاتُ مِتُّ ، مثل : هَابَ يَهَابُ هِبْتُ ، وخَاَفَ يَخَافُ خِفْتُ . روى المبرِّدُ هذه اللغة .
قال شهابُ الدينِ : وهو الصحيحُ من قول أهل العربية ، والأصل : مَوْتَ -بكسر العين- كخَوِفَ ، فجاء مضارعه على يَفْعَل -بفتح العين- .
قال الشاعر : [ الرجز ]
1675- بُنَيَّتِي يَا أسْعَدَ الْبَنَاتِ ... عِيشي ، وَلاَ نأمَنُ انْ تَمَاتِي
فجاء بمضارعِهِ على يَفْعَل -بالفتح- فعلى هذه اللغة يلزم أن يقال في الماضي المسند إلى التاء ، أو إحدى أخواتها : مِتُّ -بالكسر ليس إلا- وهو انا نقلنا حركة الواو غلى الفاء بعد سلب حركتها ، دلالة على بنية الكلمة في الأصل ، هذا أوْلَى من قول من يقول : إن مِتُّ -بالكسر- مأخوذة من لغة من يقول يموت -بالضم في المضارع- وجعلوا ذلك شاذاً في القياس كثيراً في الاستعمال ، كالمازني وأبي علي الفارسي ، ونقله بعضُهُمْ عن سيبويه صريحاً ، وإذا ثبت ذلك لغةً ، فلا معنى إلى ادَّعاء الشذوذ فيه .
قوله : { لَمَغْفِرَةٌ } اللام لامُ الابتداءِ ، وهي ما بعدها جواب القسم -كما تقدم- وفيها وجهان :
الأول : وهو الأظهر- : انها مرفوعة بالابتداء ، والمسوِّغات -هنا- كثيرة : لام الابتداء ، والعطف عليها في قوله : { وَرَحْمَةٌ } ووصفها ، فإن قوله { مِّنَ الله } صفة لها ، ويتعلق -حينئذٍ- و « خيرٌ » خبر عنها .
والثاني : أن تكون مرفوعةً على خبر ابتداءٍ مُضْمَرٍ -إذا أُرِيدَ بالمغفرة والرحمة القتل ، أو الموت في سبيل الله؛ لأنهما مقترنان بالموت في سبيل الله- فيكون التقدير : فلذلك ، أي : الموت أو القتل في سبيل الله -مغفرة ورحمة خير ، ويكون « خيرٌ » صفة لا خبراً ، وإلى هذا نحا ابنُ عطيةَ؛ فإنه قال : وتحتمل الآية أن يكون قوله : { لَمَغْفِرَةٌ } إشارة إلى الموت ، أوالقتل في سبيل الله ، فسمى ذلك مغفرة ورحمة؛ إذ هما مقترنان به ، ويجيء التقديرُ : لذك مغفرةٌ ورحمةٌ ، وترتفع المغفرةُ على خبر الابتداء المقدر ، وقوله : « خير » صفة لا خبر ابتداء انتهى ، والأول أظهر .
و « خير » -هنا- على بابها من كونها للتفضيل وعن ابن عباسٍ : خير من طلاع الأرض ذهبة حمراء .
قال ابن الخطيبِ : « والأصوب -عندي- أن يقال : إن هذه اللام في » المغفرة « للتأكيد ، فيكون المعنى : إن وجب أن تموتوا ، أو تُقْتَلوا ، في سفركم أو غزوكم ، فكذلك وجب أن تفوزوا بالمغفرة -أيضاً- فلماذا تَحْتَرزون عنه؟ كأنه قيل : إن الموت والقتل غير لازم الحصولِ ، ثمَّ بتقدير أن يكون لازماً ، فغنه يستعقب لزوم المغفرةِ ، فكيف يليق بالعاقل ان يحترز عنه » ؟
قوله : { وَرَحْمَةٌ } أي : ورحمة من الله ، فحذف صفتها لدلالة الأولى عليها ، ولا بُدَّ من حذف آخر ، مصحِّح للمعنى ، وتقديره : لمغفرةٌ لكم من الله ، ورحمة منه لكم .
فإن قيل : المغفرة هي الرحمة ، فلِمَ كرَّرها ، ونكَّرَها؟
فالجوابُ : أما التنكير فإن ذلك إيذان بأن أدنى خير أقل شيءٍ خير من الدنيا وما فيها ، وهو المراد بقوله : « مما تجمعون » ونظيره قوله تعالى : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ } [ بالتوبة : 72 ] والتنكير قد يشعر بالتقليل ، وأما التكرير فلا نسلمه؛ لأن المغفرة مرتبة على الرحمة ، فيرحم ، ثم يغفر .
قوله : « مما يجمعون » « ما » موصولة اسمية ، والعائدُ محذوفٌ ، يوجوز أن تكون مصدرية .
وعلى هذا فالمفعول به محذوف ، أي : من جمعكم المال ونحو .
وقراءة الجماعة « تجمعون » -بالخطاب- جَرياً على قوله : « ولئن قتلتم » وحفص -بالغيبة- إما على الرجوع على الكفار المتقدمين ، وإما على الالتفات من خطاب المؤمنين .
فإن قيل : ههنا ثلاثة مواضع ، تقدم الموت على القتل في الأول والأخير ، وقدِّم القتل على الموت في المتوسط فما الحكمةُ في ذلك؟
فالجوابُ : ان الأولَ لمناسبة ما قبله ، من قوله : { إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض أَوْ كَانُواْ غُزًّى } فرجع الموت لمن ضرب في الأرض ، والقتل لمن غزا ، وأما الثاني فلأنه مَحَلَّ تحريض على الجهادِ ، فقُدِّمَ الأهمّ الأشرف ، وأما الأخير فلأن الموت أغلب .
فإن قيل : كيف تكون المغفرة موصوفة بأنها خير مما يجمعون ولا خير فيما يجمعونه أصلاً .
فالجوابُ : أنَّ الذي يجمعونه في الدُّنيا قد يكون من الحلال الذي يُعَدُّ خيراً ، وأيضاً هذا واردٌ على حسب قولهم ومُعْتَقَدهم أن تلك الأموال خيرات .
فقيل : المغفرة خير من هذه الأشياء التي تظنونها خيرات .
قوله : { وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ } هذا الترتيب في غاية الحُسْنِ؛ فإنه قال في الآية الأولى : { لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله } وهذه إشارةٌ إلى مَنْ عَبَدَه خوفاً من عقابه ، ثم قال : { وَرَحْمَةٌ } وهو إشارة إلى مَنْ عبده لطلب ثوابه ، ثم ختمها بقوله : { لإِلَى الله تُحْشَرُونَ } وهو إشارة إلى مَنْ عبده لمجردِ لمجردِ العبوديةِ والربوبيةِ ، وهذا أعلى المقاماتِ ، يروى أن عيسى -عليه السَّلامُ- مَرَّ باَقوامٍ نُحِفَتْ أبْدَانُهُمْ ، واصْفَرَّتْ وُجُوهُهُمْ ، ورأى عليهم آثارَ العبادة ، فقال : ماذا تَطْلُبُون؟ فقالوا : نخشى عذابَ اللهِ ، فقال : هو أكرمُ من أن يمنعكم رحمته .
ثم مرَّ بقوم ، فرأى آثار العبودية عليهم أكثر ، فسألهم : فقالوا : نعبده لأنه إلهُنَا ، ونحن عبيدُهُ ، لا لرغبة ولا لرهبة ، فقال : أنتم العبيد المخلصونَ ، والمتعبدون المحقون .
قوله : { لإِلَى الله } اللام جواب القسم ، فهي داخلة على { تُحْشَرُونَ } و { وَإِلَى الله } متعلقٌ به ، وإنما قُدِّم للاختصاص ، أي : إلى الله -لا إلى غيره- يكون حشركم ، أو للاهتمام به ، وحسًّنه كونُه فاصلة ، ولولا الفصل لوجب توكيد الفعل بالنون؛ لأن المضارع المثبت إذا كان مستقبلاً وجب توكيده [ بالنون ] ، مع اللام ، خلافاً للكوفيين؛ حيث يُجيزون التعاقُبَ بينهما .
كقول الشاعر : [ الكامل ]
1676- وَقَتِيلِ مُرَّةَ أثأرَنَّ . . .
فجاء بالنون دون اللام .
وقول الآخر : [ الطويل ]
1677- لَئِنْ قَدْ ضَاقََتْ عَلَيْكُمْ بُيُوتُكُمْ ... لَيَعْلَمُ رَبِّي أنَّ بَيْتِيَ وَاسِعُ
فجاء باللام دون النون ، والبصريون يجعلونه ضرورة .
فإن فُصِلَ بين اللام بالمعمول -كهذه الآية- أو بقَدْ ، نحو : والله لقد أقومُ .
وقوله : [ الطويل ]
1678- كَذَبْتِ لَقَدْ أُصْبِي عَلَى المرْءِ عِرْسَهُ ..
أو بحرف التنفيس ، كقوله تعالى : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى } [ الضحى : 5 ] فلا يجوز توكيده -حينئذ- بالنون ، قال الفارسيُّ : « الأصل دخولُ النُّونِ ، فَرْقاً بين لام اليمينِ ، ولام الابتداءِ ، ولام الابتداء لا تدخل على الفضلاتِ ، فبدخول لام اليمين على الفضلة حصل الفرقُ ، فلم يُحْتَجْ إلى النون وبدخولها على » سوف « حصل الفرق -أيضاً- فلا حاجةَ إلى النُّونِ ولام الابتداء لا تدخل على الفعل إلا إذا كان حالاً ، أما مستقبلاً فلا » .
وأتى بالفعل مبنيًّا لما لم يسم فاعله -مع أن فاعل الحشرِ هُوَ اللهُ- وإنما لم يصرح به ، تعظيماً .
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
في « ما » وجهان : أحدهما : أنها زائدة للتوكيد ، والدلالة على أن لِينَهُ لَهُمْ ما كان إلا برحمة من اللهِ ، نظيره قوله : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } [ المائدة : 13 ] وقوله : { عَمَّا قَلِيلٍ } [ المؤمنون : 40 ] وقوله : { جُندٌ مَّا هُنَالِكَ } [ ص : 11 ] وقوله : { مِّمَّا خطيائاتهم أُغْرِقُواْ } [ نوح : 25 ] . والعربُ قد تريد في الكلام -للتأكيد- ما يستغنى عنه ، قال تعالى : { فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير أَلْقَاهُ على وَجْهِهِ } [ يوسف : 96 ] فزاد « أن » للتأكيد .
وقال المحققون : دخول اللفظ المهمل الوضع في كلام أحكم الحاكمين -غيرُ جائزٍ ، بل تكون غير مزيدة ، وإنما هي نكرة ، وفيها وجهان :
الأول : أنها موصوفة ب « رَحْمَةٍ » أي : فبشيء رحمة .
الثاني : أنها غير موصوفة ، و « رَحْمَةٍ » بدل منها ، نقله مكيٌّ عن ابن كَيْسَان .
ونقل أبو البقاءِ عن الأخفش وغيره : أنها نكرة موصوفة ، « رَحْمَةٍ » بدل منها ، كأنه أبهم ، ثم بين بالإبدال .
وقال ابن الخطيب : « يجوز أن تكون » مَا « استفهاماً للتعجب ، تقديره : فبأي رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ، وذلك؛ لأن جنايتهم لما كانت عظيمة -ثم إنه ما أظهر -ألبتة- تغليظاً في القول ، ولا خشونة في الكلام -علموا أن هذا لا يتأتى إلا بتأييد ربانيٍّ وتسديدٍ إلهيٍّ فكان ذلك موضع التعجب » .
ورد عليه أبو حيّان بأنه لا يخلو إما أن يجعل « ما » مضافة إلى « رَحْمَةٍ » -وهو ظاهر تقديره- فيلزم إضافة « ما » الاستفهامية ، وقد نصوا على أنه لا يضاف من أسماء الاستفهام إلا « أي » اتفاقاً و « كم » عند الزَّجَّاج- وإما أن لا يجعلها مضافة ، فتكون « رَحْمَةٍ » بدلاً منها ، وحينئذٍ يلزم إعادة حرف الاستفهام في البدل ، كما قرره النحويون . ثم قال : « وهذا الرجلُ لاحظ المعنى ، ولم يلتفت إلى ما تقرر في علم النحو من أحكام الألفاظ ، وكان يغنيه عن هذا الارتباك ، والتسلق إلى ما لا يحسنه والتصوُّر عليه قول الزجاج -في » ما « هذه : إنها صلة ، فيها معنى التأكيدِ بإجماع النحويينَ .
وليس لقائل أن يقولَ : له أن يجعلها غير مضافةٍ ، ولا يجعل » رَحْمَةٍ « بدلاً -حالا يلزم إعادة حرف الاستفهام- بل يجعلها صفة ، لأن » ما « الاستفهامية لا توصف وكأن من يدعي فيها أنها غير مزيدة يفر من هذه العبارة في كلام الله تعالى ، وإليه ذهب أبو بكر الزبيديُّ ، فكان لا يُجَوِّزُ أن يقال -في القرآن- : هذا زائد أصلاً .
وهذا فيه نظرٌ؛ لأن القائلين يكون هذا زائداً لا يَعْنون أنه يجوز سقوطه ، ولا أنه مُهْمَلٌ لا معنى له بل يقولون : زائد للتوكيدِ ، فله أسوةٌ بشائرِ ألفاظِ التوكيدِ الواقعة في القرآن . و » ما « كما تُزاد بين الباء ومجرورها ، تزاد أيضاً بين » من « و » عَنْ « والكاف ومجرورها .
قال مكيٌّ : « ويجوز رفع » رحمة « على أن تجعل » ما « بمعنى الذي ، وتضمر » هُوَ « في الصلة وتحذفها ، كما قرئ : { تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ } [ الأنعام : 154 ] . فقوله : ويجوزُ يعني من حيث الصناعةِ ، وأما كونها قراءة ، فلا نحفظها .
فصل
الليْنُ : الرفق . ومعنى الكلام . فبرحمة من الله لنت لهم ، أي : سهلت لهم أخلاقك ، وكثر احتمالك ، ولم تسرع إليهم فيما كان منهم يوم أُحُدٍ . واحتجوا -بهذه الآية- على مسألة القضاء والقدر ، لأن اللهَ بين أن حسن الخلق إنما كان بسبب رحمة الله تعالى .
قوله : { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } الفظاظةُ : الجفوة في المعاشرة قولاً وفعلاً ، قال الشَّاعرُ : [ البسيط ]
1679- اخشَى فَظَاظَةَ عَمٍّ ، أوْ جَفَاءَ أخ ... وَكُنْتُ أخْشَى عَلَيْهَا مِنْ أذَى الْكَلم
والغلظُ : كبر الإجرام ، ثم تجوز به في عدم الشفقة ، وكثرة القسوةِ في القلب .
قال الشاعرُ : [ البسيط ]
1680- يُبْكَى عَلَيْنَا وَلاَ نَبْكِي عَلَى أحَدٍ ... ونَحْنُ أغْلَظُ أكْبَاداً مِنَ الإبِلِ
وقال الراغبُ : الفَظَّ : هو الكريه الخُلُق ، وقال الواحديُّ : الفَظُّ : الغليظُ الجانبِ ، السيِّء الخُلُق وهو مستعارٌ من الفَظِّ ، وهو ماء الكرش ، وهو مكروه شُربه إلا في ضرورة .
وقال الراغبُ : الغَلِظ : ضد الرِّقَّةِ ، ويقال : غلظ بالكسر والضم وعن الغِلْظة تنشأ الفظاظة .
فإن قيل : إذا كانت الفظاظةُ تنشأُ عن الغلظة ، فلم قُدَِّمَتْ عَلِيْهَا؟
فالجوابُ : قُدِّم ما هو ظاهر للحس على ما خافٍ في القلب؛ لأن الفظاظة : الجفوة في العِشْرَة قولاً وفعلاً -كما تقدم- والغلظة : قساوة القلب ، وهذا أحسن من قول من جعلهما بمعنى ، وجمع بينهما تأكيداً . وأما الانفضاض والغضّ فهو تفرُّق الأجزاء وانتشارها . ومنه فضَّ ختم الكتاب ، ثم استُعِير منه انفضاض الناس ، قال تعالى : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } [ الجمعة : 11 ] ومنه يقال : لا يفضض اللهُ فاك .
فصل في معنى الآية
ومعنى الكلامِ : لو كنتَ جافياً ، سَيّء الخُلُقِ ، قليل الاحتمالِ .
وقال الكلبيُّ : فظاً في القول ، غليظ القلبِ في الفعلِ ، لانفضوا من حولك تفرَّقوا عنك وذلك أن المقصود من البعثة أن يبلِّغ الرسولُ تكاليفَ اللهِ تعالى إلى الخَلْق ، وذلك لا يتم إلا بميل قلوبهم إليه ، وسكون نفوسهم لديه ، وهذا المقصودُ لا يتم إلا إذا كان رحيماً بهم ، كريماً ، يتجاوز عن ذنوبهم ، ويعفو عن سيئاتهم ، ويخصهم بالبرِّ والشفقة ، فلهذه الأسباب وجب أن يكون الرسولُ مُبَرَّءاً عن سوء الخلق ، وغِلْظة القلبِ ، ويكون كثير الميلِ إلى إعانة الضعفاء ، وكثير القيام بإعانة الفقراء .
وحمل القفَّال هذه الايةَ على واقعة أُحُد ، فقال : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ } يوم أحُد ، حين عادُوا إليك يعد الانهزام { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب } فشَافَهْتُهُمْ بالملامة على ذلك الانهزام { لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } هيبة منك وحياءً ، بسبب ما كانوا منهم من الانهزام ، فكان ذلك مما يُطْمَع العدو فيك وفيهم .
قوله : { فاعف عَنْهُمْ } جاء على أحسن النسق ، وذلك أنه -أولاً- أُمِر بالعفو عنهم فيما يتعلق بخاصَّةِ نفسه ، فإذا انتهَوْا إلى هذا المقام أمر أن يستغفرَ لهم ما بينهم وبين الله تعالى ، لتنزاح عنهم التبعاتُ ، فلما صاروا إلى هنا أُمِرَ بأن يشاوروهم في الأمرِ إذا صاروا خالصين من التبعتين ، مُصَفَّيْنَ منهما .
والأمرُ هنا -وإن كان عاماً- المراد به الخصوص . قال أبو البقاء : الأمر -هنا- جنس ، وهو عامٌّ يراد به الخاصُّ؛ لأنه لم يُؤمَر بمشاورتهم في الفرائض ، ولذلك قرأ ابن عباسٍ : في بعض الأمر وهذا تفسيرٌ لا تلاوةٌ .
فصل
ظاهر الأمر الوجوب ، و « الفاء » في قوله : { فاعف عَنْهُمْ } تدل على التعقيب ، وهذا يدل على أنه -تعالى- أوجب عليه صلى الله عليه وسلم أن يعفو عنهم في الحال ، ولما آل الأمرُ إلى الأمة لم يوجبه عليهم ، بل ندبهم إليه ، فقال : { والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين } [ آل عمران : 134 ] وقوله : { واستغفر لَهُمْ } يدل على دلالة قوية على أنه -تعالى- يعفو عن أصحاب الكبائر ، لأن الانهزام في وقت المحاربة كبيرة ، لقوله تعالى : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } [ الأنفال : 16 ] وقوله صلى الله عليه وسلم حين عد الكبائر- : « والتولي يوم الزحف » وإذا ثبت أنه كبيرة ، فالله تعالى -حضّ- في هذه الآية -على العفو عنهم ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستفغار لهم ، وإذا أمره بالاستغفار لهم لا يجوز أن لا يجيبه إليه؛ لأن ذلك لا يليق بالكريم ، وإذا دلت الآية على أنه -تعالى- شفع محمداً في أصحاب الكبائر في الدنيا فلأنه يشفعه يوم القيامة كان أولى .
قوله : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر } يقال شاورهم مشاورة وشِوَاراً وَمَشورة ، والقوم شورى ، وهي مصدر ، سمي القوم بها ، كقوله : { وَإِذْ هُمْ نجوى } [ الإسراء : 47 ] قيل : المشاورة : مأخوذة من قولهم : شُرتُ العسل ، أشورُه : إذا أخذته من موضعه واستخرجته .
وقيل : مأخوذة من قولهم : شربت الدابّة ، شوراً -إذا عرضتها والمكان الذي يعرض فيه الدوابّ يسمى مشواراً ، كأنه بالعرض- يعلم خيره وشرهن فكذلك بالمشاورة يعلم خير الأمور وشرها .
الفائدة في أمر اللهِ لرسوله بالمشاورة من وجوه :
الأول : أن مشاورة الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم توجب علو شأنهم ، ورفعة درجتهم ، وذلك يقتضي شدة محبتهم له ، فلو لم يفعل ذلك لكان ذلك إهانة بهم ، فيحصل سوء الخلقِ والفظاظة .
الثاني : أنه صلى الله عليه وسلم وإن كان أكملَ الناس عقلاً ، إلا أن [ عقول ] الخلق غير متناهية ، فقد يخطر ببال إنسانٍ من وجوه المصالح -ما لا يخطر ببال آخرَ ، لا سيما فيما يتعلق بأمور الدنيا ، قال : « أَنتم أعرف بأمور دنياكم » ولهذا السبب قال : « ما تشاور قوم قط إلا هُدُوا لأرشد أمورهم » .
الثالث : قال الحسنُ وسفيانُ بن عيينة إنما أمر بذلك ليقتدي به غيره في المشاورة ويصير ذلك سنة في أمته .
الرابع : أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم شاورهم في واقعة أُحُد ، فأشاروا عليه بالخروج ، وكان ميله إلى ألا يخرج ، فلما خرج وقع ما وقع ، فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان ذلك يدل على أنه بقي في قلبه منهم -بسبب مشاورتهم- بقية أثرٍ ، فأمره الله -تعالى- بمشاورتهم بعد تلك الواقعةِ ، ليدل على أنه لم يَبْقَ في قلبه أثرٌ من تلك الواقعة .
الخامس : أنه صلى الله عليه وسلم أمر بمشاورتهم ، لا ليستفيد منهم رأياً وعِلْماً ، بل ليعلم مقادير عقولهم ، ومحبتهم له .
وقيل : أمر بالمشاورة [ ليعلم ] مقدار عقولهم وعلمهم ، فينزلهم منازلهم على قدر عقولهم وعلمهم . وذكروا -أيضاً- وُجُوهاً أُخَرَ ، وهذا كافٍ .
فصل
اتفقوا على أنَّ كلَّ ما نزل فيه وحي من عند الله لم يجز للرسول صلى الله عليه وسلم أن يشاورَ الأمةَ فيه ، لأن النصَّ إذا جاء بطل الرأي والقياس ، أما ما لا نصَّ فيه ، فهل يجوز المشاورةُ فيه في جميع الأشياء ، أم لا؟ قال الكلبيُّ وأكثر العلماء : الأمر بالمشاورة إنما هو في الحروبِ ، قالوا : لأن الألف واللام -في لفظ « الأمر » ليسا للاستغراق؛ لما بينَّا أن الذي نزل فيه الوحي لا تجوز المشاورة فيه ، فوجب حمل الألف واللام -هنا- على المعهود السابق ، والمعهودُ السابقُ في هذه الآية ما يتعلق بالحرب ولقاء العدو ، فكان قوله : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر } مختصاً بذلك وقد أشار الحُبابُ بنُ المنذر يوم أُحُدٍ- على النبي بالنزول على الماء ، فقبل منه . وأشار عليه السعدان -سعد بنُ معاذٍ وسعد بن عبادةَ- يوم الخندق بترك مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة لينصرفوا ، فقبل منهما ، وخرق الصحيفةُ .
وقال بعضهم : اللفظ عام ، خص منه ما نزل فيه وحيٌ ، فتبقى حجته في الباقي .
قال بعضهم : هذه الآية تدل على أن القياسَ حُجَّةٌ .
فصل
روى الواحديُّ في « البسيط » عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قال : الذي أمر النبي بمشاورته في هذه الآية أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- واستشكلته ابن الخطيب ، قال : « وعندي فيه إشكالٌ؛ لأن الذين امَرَ اللهُ رسولَه بمشاورتهم في هذه الآية هم الذي أمره بأن يعفو عنهم ويستغفر لهم -وهم المنهزمون- فَهَبْ ان عمر كان من المنهزمين فدخل تحت الآيةِ إلا أن أبا بكر ما كان منهم ، فكيف يدخل تحت هذه الآية؟ » .
قوله : { فَإِذَا عَزَمْتَ } الجمهورُ على فتح التاءِ؛ خطاباً له صلى الله عليه وسلم وقرأ عكرمة وجعفر الصادق -ورُويت عن جابر بن زيد- بضَمِّها . على انها لله تعالى ، على معنى : فإذا ارشدتك إليه ، وجعلتك تقصده .
وجاء قوله : من الالتفات؛ إذ لو جاء على نسقِ هذا الكلام لقيل : فتوكل عليَّ .
فقد نُسِب العزمُ إليه تعالى في قول أم سلمة : « ثم عزم الله لي » وذلك على سبيل المجاز .
فصل
معنى الكلامِ : فإذا عزمتَ على اللهِ لا على مشاورتهم ، أي : قم بأمر اللهِ ، وثق به ، { إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين } وهذا جارٍ مجرى العلةِ الباعثةِ على التوكُّل عند الأخذ في كل الأمورِ ، وهذه الآية تدل على أنه ليس التوكُّلُ أن يُهْمِل نفسه -كقول بعض الجُهَّال- وإلا لكان الأمرُ بالمشاورة منافياً [ للأمر بالتوكل ] ، بل التوكلُ هو أن يراعيَ الإنسانُ الأسبابَ الظاهرةَ ، ولكن لا يعوِّل بقلبه عليها ، بل يعوِّل على عصمة الحقِّ .
فصل
التوكلُ : الاعتماد على الله تعالى مع إظهار العجزِ ، والاسم : التُّكْلان ، يقال منه : اتكلت عليه في أمري وأصله ، اوتَكَلْتُ ، قُلِبت الواو ياء ، لانكسار ما قبلها ، ثم أُبْدِلت منها التاء ، وأدغمت في تاء الافتعال ، ويقال : وكَّلْته بأمري توكيلاً ، والاسم : الوكَالة -بكسر الواو وفتحها- .
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
قوله : { إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } شرطٌ وجوابه ، وكذلك قوله : { وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الذي } وهذا التفات من الغيبة إلى الخطاب- كذا قوله أبو حيان . يعني من الغيبة في قوله : { لِنتَ لَهُمْ } وقوله : { لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } وقوله : { فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر } قال شهاب الدين : وفيه نظر . وجاء قوله : { فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } جواباً للشرطِ ، وهو نفيٌ صريحٌ ، وقوله : { فَمَن ذَا الذي } -وهو متضمن للنفي- جوابٌ للشرط الثاني ، تلطفاً بالمؤمنين ، حيث صرح لهم بعدم الغلبة في الأول ، ولم يصرح لهم بأنه لا ناصر لهم في الثاني بل أتى به في صورة الاستفهام -وإن كان معناه نفياً .
وقوله : { فَمَن ذَا الذي } قد تقدم مثله في البقرة .
والهاء -في قوله : { مِّنْ بَعْدِهِ } - فيها وجهان :
أحدهما -وهو الأظهر- : أنها تعود على « الله » تعالى ، وفيه احتمالانِ :
الأول : أن يكون ذلك على حذف مضاف ، أي : من بعد خذلانه .
الثاني : إنه يحتاج إلى ذلك ، ويكون معنى الكلامِ : إنكم إذا جاوزتموه إلى غيره ، -وقد خذلكم- فمن يجاوزه إليه وينصركم؟
ثانيهما : أن يعود على الخذلان المفهوم من الفعلن وهو نظيرُ قوله : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } [ المائدة : 8 ] .
قوله : { إِن يَنصُرْكُمُ الله } يعنكم ويمنعكم من عدوكم { فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } مثل يوم بدر { وَإِن يَخْذُلْكُمْ } يترككم كما أن بأُحُدٍ- لم ينصركم أحَدٌ . والخذلان : القعود عن النصرة . قراءة الجمهور { يَخْذُلْكُمْ } -بفتح الياء- من خَذَله -ثلاثياً- .
وقرا عمرو بن عبيد : « يُخْذِلْكُم » -بضم الياء- من أخْذَلَ -رباعياً- والهمزة فيه لجعل الشيء ، أي : إن يجعلكم مخذولين ، والخّذْل والخُذلان -ضد النصر- وهو ترك من يظن به النُّصرة ، وأصله من خَذَلَت الظبيةُ ولدَها -إذا تركته منفرداً- ولهذا قيل لها : خاذل ويقال للولدِ المتروك -أيضاً- : خاذل ، وهذا النَّسَبِ ، والمعنى : أنَّها مخذولة .
قال الشاعرُ : [ البسيط ]
1681- بِجِيدِ مُغْزِلَةٍ أدْمَاءَ خَاذِلَةٍ ... مِنَ الظِّبَاءِ تُرَاعِي شَادِناً خَرِقاً
ويقال له -أيضاً- : خذول ، فعول بمعنى مفعول .
قال الشاعر : [ الطويل ]
1682- خَذُولٌ تُرَاعِي رَبْرَباً بِخَمِيلَةٍ ... تَنَاوَلُ اطْرَافَ الْبريرِ وتَرْتَدِي
ومنه يقال : تخاذلَتْ رجلا فلان .
قال الأعشى : [ الرمل ]
1683- بَيْنَ مَغْلوبٍ كَريمٍ جَدُّهُ ... وخَذُولِ الرَجْلِ مِنْ غَيْرِ كَسَحْ
ثم قال : { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } فقدم الجارّ إيذاناً بالاختصاص ، أي : ليخص المؤمنون رَبَّهُم بالتوكل عليه والتفويض له؛ لعلمهم أنه لا ناصرَ لهم سواهُ . وهو معنى حَسَنٌ ، ذكره الزمخشريُّ .
فصل
احتجوا -بهذه الآية- على الإيمانَ لا يحصل إلا بإعانة الله ، والكفر لا يحصل إلا بخذلانه؛ لأن الآية دالةٌ على أن الأمر كلَّهُ للهِ .
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)
{ أَنْ يَغُلَّ } في محل رفع ، اسم كان و « لنبيّ » خبرٌ مقدَّمٌ ، أي : ما كان له غلول أو إغلال على حسب القراءتينِ .
وقرا ابنُ كثيرٍ ، وأبو عمرو ، وعاصم ، بفتح الياء وضم الغين -من غل- مبنياً للفاعل ، ومعناه : أنه لا يصح أن يقع من النبي غلول؛ لتنافيهما ، فلا يجوز أن يتوهَّمَ ذلك فيه ألبتة .
وقرأ الباقون « يُغَلَّ » مبنياً للمفعول ، وهذه القراءة فيها احتمالانِ :
أحدهما : أن يكون من « غَلَّ » ثلاثياً ، والمعنى : ما صح لنبيٍّ أن يخونه غيره ويَغُلَّهُ ، فهو نفيٌ في معنى النهي ، أي : لا يَغُلَّهُ أحدٌ .
ثانيهما : أن يكون من « أغَلَّ » رباعياً ، وفيها وجهانِ :
أحدهما : أن يكون من « أغَلَّهُ » أي : نسبه إلى الغُلُولِ ، كقولهم : أكذبته إذا نسبته إلى الكذب- وهذا في المعنى كالذي قبله ، أي : نفي في معنى النهي ، أي : لا يَنْسبه أحدٌ إلى الغلولِ .
قال ابن قتيبة : ولو كان الرمادُ هذا المعنى لقيل : يُغَلَّلُ كما يقال : يُفَسَّق ، ويُخَوَّن ، ويُفَجَّر ، والأولى أن يقال : إنه من « أغللته » أي : وجدته غالاً ، كما يقال : « أبخَلْتُهُ » .
الثاني : أن يكون من « أغلَّهُ » أي : وَجَدتهُ محموداً وبخيلاً .
والظاهر أن قراءة « يَغُلَّ » بالبناء للفاعل -لا يُقَدَّر فيها مفعول محذوف؛ لأن الغرض نفي هذه الصفةِ عن النبيِّ من غير نظر إلى تعلق بمفعول ، كقولك : وهو يُعْطِي ويمنع- تريد إثبات هاتين الصفتين ، وقدر له أبو البقاء مفعولاً ، فقال : تقديره أن يغل المال أو الغنيمة .
واختار أبو عبيدة والفارسي قراءة البناء للفاعل قالا : « لأن الفعل الوارد بعد » ما كان لكذا أن يفعل « أكثر ما يجيء منسوباً إلى الفاعل نحو : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ } [ آل عمران : 145 ] ، { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ } [ آل عمران : 179 ] و { مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بالله } [ يوسف : 38 ] { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ } [ يوسف : 76 ] { وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً } [ التوبة : 115 ] { وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب } [ آل عمران : 179 ] ويقال : ما كان ليضرب ، فوجب إلحاق هذه الآية بالأعم الأغلب ويأكده ما حكى أبو عبيدة عن يونس أنه كان يختار هذه القراءة ، وقال : ليس في الكلام ما كان لكَ أن تُقرب -بضم التاء ، وأيضاً فهذه القرءة اختيار ابن عباسٍ ، فقيل له : إن ابن مسعودٍ يقرأ : يُغل فقال ابنُ عباس : كان النبيُّ يقصدون قتله فكيف لا ينسبونه إلى الخيانة .
قال شهاب الدين ، ورجحها بعضهم بقوله : { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ } فهذا يوافق هذه القراءة ، ولا حجة في ذلك؛ لأنها موافقة للأخرى .
و » الغلول « في الأصل تدرع الخيانة وتوسطها و » الغلل « تَدْرُّع الشيء وتوسطه ، قال : [ الوافر ]
1684- تَغَلْغَلَ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْ سَرَابٌ ... وَلاَ حُزْنٌ وَلَمْ يَبْلُغْ سُرُورُ
قيل : تَغَلْغَلَ الشيء إذا تخلل بخفية .
قال : [ الوافر ]
1685- تَغَلْغَلَ حُبُّ مَيَّةَ فِي فُؤادِي ... والغلالة : الثوب الذي يلبس تحت الثياب ، والغلول الذي هو الأخذُ في خفية مأخوذةٌ من هذا المعنى .
ومنه : أغل الجازر -إذا سرق وترك في الإهاب شيئاً من اللحم . وفرَّقت العرب بين الأفعال والمصادر ، فقالوا : غَلَّ يَغَلُّ غلولاً -بالضم في المصدر والمضارع- إذا خان . وغَلَّ يَغِلُّ غِلاًّ -بالكسر فيهما- الحقد قال تعالى : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } [ الأعراف : 43 ] أي : حِقْد .
قال القرطبيُّ : « والغالّ : أرض مطمئنة ، ذات شجرٍ ، ومنابت الساج والطلح ، يقال لها : غال . والغال : -أيضاً : نبت ، والجمع : غُلاَّن- بالضم » .
فصل
اختلفوا في أسباب النزولِ : فرُوِيَ أنه صلى الله عليه وسلم غنم في بعض الغزوات ، وجمع الغنائم ، وتأخرت القسمةُ؛ لبعض الموانع ، وقالوا : ألا تقسم غنائمنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم : « لَوْ كَانَ لَكُمْ مِثْلُ أحُدِ ذَهَباً مَا حَبَسْتُ عَنْكُمْ دِرْهَماً ، أَتَحْسَبُونَ أنِّي أغُلُّكُمْ مَغْنَمَكُم » فانزل الله تعالى هذه الآية .
وقيل : الآية نزلت في أداء الوحي ، كان صلى الله يقرأ القرآن ، وفيه عَيْبُ دينهم وسَبُّ آلهتهم ، فسألوه أن يترك ذلك ، فنزلت .
وروى عكرمة وسعيد بن جبير : أن الآية نزلت في قطيفة حمراء ، فقدت يوم بدر ، فقال بعض الناس : لعل النبي صلى الله عليه وسلم أخذها ، فنزلت الآية .
ورُوِيَ -من طريق آخرَ- عن ابن عباسٍ : أن أشراف الناس طمعوا أن يخصهم النبي صلى الله عليه وسلم من الغنائم بشيء زائد ، فنزلت الآية .
ورُوِيَ أنه بعض طلائع ، فغنموا غنائم ، فقسمها ولم يُقسَّم للطلائع ، فنزلت الآيةُ .
وقال الكلبيُّ ومقاتل : نزلت هذه الآيةُ في غنائم أحدٍ ، حين ترك الرُّماة المركز؛ طلباً للغنيمة ، وقالوا : نخشى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم : مَنْ أخذ شيئاً فهو له ، وأن لا يقسم الغنائم -كما لم يقسِّمْها يوم بدرٍ- فتركوا المركز ووقعوا في الغنائم ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : « ألم أقل لكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيهم أمري؟ » قالوا : تركنا بقية إخوانِنا وقوفاً ، فقال صلى الله عليه وسلم : « بل ظننتم أن نَغُلَّ ، فلا نقسم ، » فنزلت الآية .
وقيل : إن الأقرباء ألحُّوا عليه يسألونه من المَغْنَم ، فأنزل الله تعالى : { وَمَن يَغْلُلْ } فيُعْطي قوماً ، ويمنع آخرين ، بل عليه أن يقسم بينهم بالسَّوِيَّةِ .
هذه الأقوال موافقة للقراءة الأولى .
وأما ما يوافق القراءة الثانية فرُوِيَ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقعت غنائمُ هوازن في يده يوم حُنَيْن ، غَلَّ رَجُلٌ بمخيط ، فنزلت هذه الآيةُ .
وقال قتادة : ذكر لنا أنها نزلت في طائفة غلت من أصحابه .
قوله : { وَمَن يَغْلُلْ } الظاهر أن هذه الجملة الشرطية مستأنفةٌ لا محل لها من الإعرابِ ، وإنما هي للردع عن الإغلالِ ، وزعم أبو البقاء أنها يجوز أن تكون حالاً ، ويكون التقدير : في حال علم الغالِّ بعقوبة الغلول .
وهذا -وإن كان محتملاً- بعيدٌ .
و « ما » موصولة بمعنى الذي ، فالعائد محذوف أي : غَلَّه ، ويدل على ذلك الحديث ، أنّ أحدهم يأتي بالشيء الذي أخذه على رقبته .
ويجوز أن تكون مصدرية ، ويكون على حذف مضاف ، أي : بإثم غُلوله .
فصل
قال أكثر المفسّرينَ : إن هذه الآية على ظاهرها ، قالوا : وهو نظير قوله في مانع الزكاة : { يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ } [ التوبة : 35 ] ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : « لا أُلْفِيَنَّ أحَدَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ ، أوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ ، أو شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ ، فَيُنَادِي يَا مُحَمَّدُ ، يَا مُحَمَّدُ ، فأقُولَ : لاَ امْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً ، قَدْ بَلَّغْتُكَ » .
وعن ابن عباس أنه قال : يمثِّلُ له ذلك الشيء في قَعْرِ جهنمَ ، ثم يقال له : أنزل إليه فخُذْه ، فينزل إليه ، فإذا انتهى إليه حمله على ظهره ، فلا يُقْبل منه .
قال المحققونَ : وفائدته أنه إذا جاء يوم القيامةِ ، وعلى رقبته ذلك الغلول ازدادت فضيحتُه .
وقال أبو مسلم : ليس المقصودُ من الآية ظاهرَها ، بل المقصود تشديدُ الوعيدِ على سبيل التمثيلِ ، كقوله تعالى : { إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السماوات أَوْ فِي الأرض يَأْتِ بِهَا الله } [ لقمان : 16 ] فإنه ليس المقصود نفس هذا الظاهرِ ، بل المقصود إثبات أن اللهَ لا يغرب عن علمه وعن حفظه مثقالُ ذرةٍ في الأرضِ ، ولا في السماءِ ، فكذا هنا المقصود تشديدُ الوعيد ، والمعنى : أن الله يحفظ عليه هذا الغلول ، ويعزره عليه يوم القيامة ويجازيه؛ لأنه لا تخفى عليه خافية .
وقال الكعبيُّ : المرادُ أنه يشتهر بذلك مثل اشتهار من يحمل ذلك الشيء .
قال ابن الخطيبِ : والأول أولى؛ لأنه حمل الكلام على حقيقته .
وقيل : معنى : { يَأْتِ بِمَا غَلَّ } أي : يشهد عليه يومَ القيامةِ بتلك الخيانةِ والغلولِ .
فصل
قال القرطبيُّ : دلَّتْ هذه الآية على أن الغلولَ من الغنيمة كبيرةٌ من الكبائرِ ، ويؤيده ما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم : -في مدعم- : « وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أخذَ يَوْمَ خَيْبَرِ مِنَ الْمَغَانِمِ ولم تُصِبْهَا المَقَاسِمُ- لتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَاراً » فلما سمع الناسُ ذلك جاء رجل بشراك أو شراكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : « شَرِاكٌ أو شَرِكَانِ مِنْ نَارٍ » وامتناعه من الصلاة على مَنْ غَلَّ دليلٌ على تعظيم الغلولِ ، وتعظيم الذنب فيه ، وأنه من الكبائر ، وهو من حقوق الآدميين ، ولا بُدَّ فيه من القصاص بالحسنات والسيئات ، ثم صاحبه في المشيئة وقوله صلى الله عليه وسلم : « شَرِاكٌ أو شَرِاكَانِ مِنْ نَارٍ » مثل قوله : « أدُّوا الْخِيَاطَ وَالْمَخِيطَ » وهذا يدل على أن القليلَ والكثير لا يحلّ أخذهُ في الغَزْو قبل المقاسم ، إلا ما أجمعوا عليه من أكل المطاعم في أرض الغزو والاحتطابِ والاصطيادِ .
فصل
قال القرطبيُّ : أجمع العلماءُ على أنه يجب على الغالِّ أن يرد ما غله إلى صاحب المقاسم قبل أن ينصرف الناسُ -إذا أمكنه- فذلك توبته . واختلفوا فيما يُفْعَل به إذا افترق أهلُ العسكر ولم يصل إليه ، فقال جماعة من أهل العلمِ : يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي -وكذا كل مال لا يعرف صاحبه فإنه يُتَصدق به- وقال الشاافعيُّ : ليس له الصدقة بمال غيره .
فصل
اختلفوا هل يعاقب الغلّ بإحراق متاعه؟ قال مالك والشافعيُّ وأبو حنيفة وأصحابهم والليث : لا يحرق متاعه .
وقال الشافعيُّ : إن كان عالماً بالنهي عوقب .
وقال الأوزاعيُّ : يُحْرَق متاع الغال كلُّه إلا سلاحه وثيابَه التي عليه وسرجه ، ولا يُنْزَع منه دابتُه ، ولا يُحْرَقُ الشيءُ الذي غَلَّ ، وهذا قول أحمد وإسحاق ، وقال الحسن : إلا أن يكون حيواناً أو مصحفاً .
فصل
في العقوبة بالمال ، قال مالك -في الذَّمِّيّ الذي يبيع الخمرَ من المُسْلِمِ- يراق الخمر على المُسْلِمِ ، ويُنْزَع الثمن من الذميّ؛ عقوبةً له؛ لئلا يبيعَ الخمر بين المسلمين ، وقد أراق عمر -رضي الله عنه- لبناً شِيَبَ بِماء .
فصل
من الغلول هدايا العمال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للذي أهْدِيَ إليْه ، وكان بعضه على الصدقة ، فأهْدِيَ إليه فقال : هذا لكم ، وهذا أهْدِيَ إليَّ فقال عليه السلام : « مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ ، فَيَجِيءُ ، فَيَقُولُ : هَذَا لَكُمْ ، هَذَا لَكُمْ ، وهَذَا أهْدِيَ إليَّ ، ألاَ جَلَسَ فِي بَيْتِ أُمِّهِ وَأبِيهِ ، فَيَنْظُرَ أيُهْدَى إلِيْهِ أَمْ لاَ » .
فصل
ومن الغلول -أيضاً- حَبْس الكتبِ عن أصحابها ، وما في معناها .
قال الزهريُّ : إياك وغلول الكتبِ ، فقيل له : وما غلول الكتب؟ قال حبسها عن أصحابها . وقد قيل -في تأويل قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } أي : يكتم شيئاً من الوحي؛ رغبةً ، أو رهبةً ، أو مُدَاهَنَةً .
قوله : { ثُمَّ توفى } هذه الجملة معطوفة على الجملة الشرطية ، وفيها إعلامٌ أن الغالَّ وغيره من جميع الكاسبين لا بد وأن يُجَازوا ، فيندرج الغالُّ تحت هذا العموم -أيضاً- فكأنه ذُكِرَ مرتَيْن .
قال الزمخشريُّ : فإن قلتَ : هلاَّ قِيلَ : ثم يُوَفَّى ما كسب؛ ليتصل به؟
قلت : جيء بعامٍّ دخل تحته كلُّ كاسب من الغالِّ وغيره ، فاتصل به من حيث المعنى ، وهو أثبتُ وأبلغ .
فصل
تمسك المعتزلة بهذا في إثبات كون العبد فاعلاً ، وفي إثبات وعيد الفساق .
أما الأول : فلأنه -تعالى- قال- في القاتل المتعمد- : { فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا } [ النساء : 93 ] وأثبت في هذه الآية أن كلَّ عاملٍ يصل إليه جزاؤه ، فيحصل -من مجموع الآيتين- القطع بوعيد الفساق .
والجواب عن الأول : المعارضة بالعلم ، وعن الثاني : أن هذا العموم مخصوص في صورة التوبةِ فكذلك يجب أن يكون مخصوصاً في صورة العفو ، للدلائل الدالة على العفو . ثم قال تعالى : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } .
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)
لما قال -في الآية الأولى- : { ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } أتبعه بتفصيل هذه الجملة ، فقال : { أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله } والكلام [ في ] مثله قد تقدم من أن الفاء النية بها التقديم على الهمزة ، وأن مذهب الزمخشريِّ تقدير فعل بينهما .
قال أبو حيّان : وتقديره -في هذا التركيب- متكلِّف جدًّا .
والذي يظهر من التقديرات : أجعل لكم تمييزاً بين الضالِّ والمهتدي ، فمن اتبع رضوان الله واهتدَى ليس كَمَنْ باء بسخَطِه؛ وغل؛ لأن الاستفهام هنا- للنفي .
و « مَنْ » -هنا- موصولة بمعنى الذي في محل بالابتداء ، والجار والمجرور الخبر ، قال أبو البقاء : « ولا يجوز أن يكون شَرْطاً؛ لأن » كَمَنْ « لا يصلح أن يكون جواباً » . يعني : لأنه كان يجب اقترانه بالفاء؛ لأن المعنى يأباه . و « بِسَخَطٍ » يجوز أن يتعلق بنفس الفعل ، أي : رجع بسخطه ، ويجوز أن يكون حالاً ، فيتعلق بمحذوف ، أي رجع مصاحباً لسخطه ، أو ملتبساً به ، و { مِّنَ الله } صفته .
والسَّخَط : الغضبُ الشديدُ ، ويقال : سَخَط -بفتحتين- وهو مصدر قياسي ، ويقالأ : سُخْط- بضم السين ، وسكون الخاء- وهو غير مقيس . ويقال : هو سُخْطةُ الملك -بالتاء- أي في كرهه منه له .
وقرأ عاصم -في إحدى الروايتين عنه- رُضْوان- بضم الراء- والباقون بكسرها ، وهما مصدران ، فالضم كالكُفْران ، والكسر كالحِسْبان .
فصل الهمزة فيه للإنكارِ ، والفاء ، للعطف على محذوف ، والتقدير : أفمن اتقى فابتع رضوان الله وقوله : « بَاءَ » أي : رجع ، وقد تقدم .
واختلف المفسّرون ، فقال الكلبيُّ والضحَّاك : { أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله } في ترك الغلول { كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ الله } في فِعْل الغُلول؟ .
وقيل : { أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله } بالإيمان به والعمل بطاعة { كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ الله } بالكفر به والاشتغال بمعصيته؟ وقيل : { أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله } وهم المهاجرون { كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ الله } وهم المنافقون؟ .
وقال الزَّجَّاجُ : لما حمل المشركون على المسلمين دَعَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى أن يَحْملوا على المشركين ، ففعله بعضهم ، وتركه آخرونَ ، فقوله : { أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله } وهم الذين امتثلوا أمره { كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ الله } وهم الذين لم يقبلوا قَوْلَه؟
قال القاضي : « كُلُّ وَاحِدٍ من هذه الوجوهِ صحيحٌ ، ولكن لا يجوز قصر اللفظ عليه؛ لأن اللفظ عام؛ فيجب أن يتناول الكُلُّ ، وإن كانت الآيةُ نزلت في واقعة معينة لكن عمومَ اللفظِ لا يُبْطِلُ بِخُصوصِ السبب .
وقوله : { وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ } في هذه الجملة احتمالان :
أحدهما : أن تكون مستأنفة ، أخبر أن مَنْ بَاءَ بِسَخَطه أوَى إلى جهنمَ ، وتفهم منه مقابله ، وهو أن من اتّبع الرضوانَ كان مأواه الجنة ، وإنما سكت عن هذا ، ونص على ذلك ليكون أبلغ في الزَّجْر ، ولا بد من حذف في هذه الجُمَلِ ، تقديره : أفمن أتبع ما يؤول به إلى رضا الله فباء برضاه كمن أتبع ما يؤول به إلى سخطه؟
الثاني : أنها داخلة في حَيِّز الموصول ، فتكون معطوفة على » بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ الله « فيكون قد وصل الموصول بجملتين : اسمية وفعلية ، وعلى الاحتمالين ، لا محلَّ لها من الإعراب .
قوله : { وَبِئْسَ المصير } المخصوص بالذم محذوف ، أي وبئس المصيرُ جهنمُ .
واشتملت الآية على الطباق في قوله : { يَنصُرْكُمُ } و { يَخْذُلْكُمْ } وقوله : { رِضْوَانَ الله } و » بسخطه « والتجنيس المماثل في قوله : { يَغُلَّ } و { بِمَا غَلَّ } .
هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)
{ هُمْ دَرَجَاتٌ } مبتدأ وخبر ، ولا بد من تأويل [ بالإخبار ] بالدرجات عن « هم » لأنها ليست إياهم ، فيجوز أن يكون جُعُلوا نَفْسَ الدرجات مبالغةً ، والمعنى : أنهم متفاوتون في الجزاء على كَسْبهم ، كما أن الدرجات متفاوتة والأصل على التشبيه ، أي : هم مثل الدرجات في التفاوت .
ومنه قوله : [ الوافر ]
1686- أنصْبٌ لِلْمَنِيَّةِ تَعْتَريهم ... رِجَالِي أمْ هُمُ دَرَجُ السُّيُولِ
ويجوز أن يكون على حَذْف مضاف ، أي : هم ذوو درجات ، أي : أصحاب منازل ورُتَب في الثواب والعقاب وأجاز ابنُ الخطيب أن يكون في الأصل : لهم درجاتٌ -فحُذِفت اللامُ- وعلى هذا يكون « درجات » مبتدأ ، وما قبلها الخبرُ ، وردَّه بعضهم ، وقال : هذا من جهله وجهل متبوعيه -من المفسرين- بلسان العرب ، وقَالَ : لا مساغ لحذف اللام ألبتة؛ لأنها إنما تُحَذَف في مواضع يضطر إليها ، وهنا المعنى واضحٌ ، مستقيم من غير تقدير حَذْف .
قال شهابُ الدينِ : « وادِّعاء حذف اللام خَطَأٌ ، والمخطئ معذورٌ؛ وقد نُقِلَ عن المفسرين هذا ، ونقل عن ابن عبَّاسٍ والحسنِ لكل درجات من الجنة والنار ، فإن كان هذا القائل أخذ من هذا الكلام بأن اللام محذوفة فهو مخطئ؛ لأن هؤلاء -رضي الله عنهم- يفسَِّرون المعنى لا الإعراب اللفظي » .
وقرأ النخعي « هم درجة » بالإفراد على الجنس .
قوله : { عِندَ الله } فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلق ب « درجات » فيكون في محل رفع .
فصل
« هم » عائد إلى لفظ « من » في قوله : { أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله } ولفظ « كم » معناه الجمع . ونظيره قوله تعالى : { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً } [ السجدة : 18 ] . ثم قال : « لا يستوون » بصيغة الجمع ، وهو عائد إلى « من » .
واعلم أنه لما عاد إلى المتقدم ذكره ، والذي تقدّم ذكره نوعان : من اتبع رضوان الله ، ومن باء بسخطٍ من الله -يُحتمل أن يعودَ إلى الأول ، ويحتمَل أن يعودَ إلى الثاني ، ويحتمل أن يعودَ إليهما ، فإن عاد إلى الأول صَحَّ- ويكون التقديرُ : إنّ أهلَّ الثَّواب درجات على حسب أعمالهم- لوجوه :
الأول : ان الغالب -في العُرْف- استعمال الدرجاتِ في أهل الثّوابِ والدركات في أهل العقاب .
الثاني : أن ما كان من الثّواب والرحمة فإن الله يُضيفه إلى نفسه وما كان من العقاب لا يضيفه إلى نفسه قال تعالى : { كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة } [ الأنعام : 54 ] فلما أضاف هذه الدرجات إلى نفسه -حيث قال : « عند الله » - علمنا أن المراد أهل الثواب ويؤكده هذا قوله تعالى : { انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } [ الإسراء : 21 ] .
الثالث : أنه -تعالى- وصف مَنْ باء بِسَخَطٍ من الله -وهو أن مأواهم جهنم وبئس المصيرِ- فوجب أن يكون قوله : « هم درجات » وصفاً لمَن اتبع رضوان الله .
وإن أعدنا الضمير إلى مَنْ باء بسخط فلأنه أقرب ، وهو قول الحسن ، قال : إن المراد به أن أهل النارِ متفاوتون في مراتب العذاب ، كقوله : { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ } [ الأحقاف : 19 ] وقال صلى الله عليه وسلم « إنَّ فِيهَا ضَحْضَاحاً وغَمْراً ، وأنَا أرَجْو أنْ يَكُونَ أبُو طِالِبٍ فِي ضَحْضَاحِهَا » .
وقال صلى الله عليه وسلم : « إنَّ أهْوَنَ أهْلِ النَّارِ رجُلٌ لَهُ نَعْلانِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي مِنْ حَرِّهِمَا دِمَاغُهُ » .
وإذا أعدنا الضمير إليهما فلأن درجات أهل الثواب متفاوتة ، وكذلك درجات أهل العقاب ، قال تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ، 8 ] . وقوله : « عَنْدَ اللهِ » أي : في حكم الله وعلمه ، كما يقال : هذه المسألة عند الشافعيّ كذا ، وعند أبي حنيفة كذا . ثم قال : « واللهُ بَصيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ » أي « عالم بجميع أفعال العباد على التفصيل .
فصل
ذكر محمدُ بن إسحاق -في تأويل قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } [ آل عمران : 161 ] - وجهاً آخر ، فقال : أي : ما كان لنبي ان يكتمَ الناس ما بعثه الله به إليهم ، رغبةً أو رهبةً ، ثم قال : { أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله } يعني رجَّح رضوانَ الله على رضوان الخَلْق وسَخَط الله على الخَلْق { كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ الله } فرجَّح سخَط الخلق على سخط الله ، ورضوان الخَلْق على رضوان الله؟
ووجه النَّظم -على هذا التقدير- أنه تعالى لما قال : { فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر } [ آل عمران : 159 ] بيَّن أنَّ ذلك إنما يكون معتبراً إذا كان على وفق الدين ، فأما إذا كان على خِلاف الدّينِ فإنه غيرُ جائزٍ ، فكيف يُمِنُ التسويةُ بينَ من اتبع رضوانَ الله وطاعته وبَيْنَ من اتبع رضوانَ الخلقِ؟
قال ابنُ الخَطِيبِ : » وهذا الذي ذكره مُحْتَمَل ، لأنا بيَّنَّا أنَّ الغلولَ عبارةٌ عن الخيانة على سبيل الخفية ، فأما اختصاص هذا اللفظ بالخيانة في الغنيمة ، فهو عُرْفٌ حادِثٌ « .
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
« لقد من الله » جوابٌ لقسم نحذوفٌ ، وقُرِئ : لَمِنْ مَنَّ الله -ب « من » الجارة ، و « منِّ » - بالتشديد مجرورها- وخرَّجه الزمخشريُّ على وجهينِ :
أحدهما : أن يكون هذا الجارُّ خبراً مقدماً والمبتدأ محذوفٌ ، تقديره : لمن من الله على المؤمنين مَنُّهُ ، أو بعثه إذ بَعَثَ فيهم ، فحذف لقيامِ الدَّلالةِ .
الثاني : أنه جعل المبتدأ نفس « إذ » بمعنى : وقتٍ : وخبرها الجارُّ قبلها ، وتقديره : لمن من الله على المؤمنين وقت بَعْثِهِ ، ونظره بقولهم : أخطب ما يكون الأميرُ إذا كان قائماً .
وهذان وجهانِ -في هذه القراءة- مما يدلان على رسوخ قدمِهِ في هذا العلمِ .
قال شهابُ الدينِ : إلا أن أبا حيان قد ردَّ عليه الوجه الثاني بأن « إذ » غيرُ متصرفةٍ ، لا تكون إلا ظرفاً ، أو مضافاً إليها اسم زمان أو مفعولة ب « اذكر » -على قول- ونقل قول أبي علي- فيها وفي « إذا » أنهما لم يردا في كلام العربِ إلا ظرفين ، ولا يكونان فاعلين ، ولا مفعولين ، ولا مبتدأين .
قال : ولا يحفظ من كلامهم : إذْ قام زيد طويل -يريد : وقت قيامه طويل- وبأن تنظيره القراءة بقولهم : أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائماً ، خطأ؛ من حيث أن المشبه مبتدأ ، والمشبهُ به ظرف في موضعِ الخبرِ -عند من يُعْرِب هذا الإعرابَ- ومن حيثُ إنَّ هذا الخبرَ -الذي قد أبرزه ظاهراً واجب الحذف؛ لسَدِّ الحال مَسَدَّه ، نص عليه النحويونَ الذين يعربونه هكذا ، فكيف يبرزه في اللفظ؟
قال شهابُ الدين : « وجواب هذا الردِّ واضحٌ وليت أبا القاسم لم يذكر تخريج هذه القراءة؛ لكي نسمع ما يقول هو » .
والجمهورُ على ضم الفاء -من أنفسهم- أي : من جملتهم وجنسهم ، وقرأت عائشةُ ، وفاطمةُ والضّحّاكُ ، ورواها أنس عنه صلى الله عليه وسلم بفتح الفاء ، من النَّفاسة -وهي الشرف- أي : من أشرفهم نسباً وخَلْقاً ، وخُلُقاً .
وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أنا أنفسكم نسباً ، وحسباً ، وصهراً » وهذا الجارُّ يحتمل وجهين :
الأول : أن يتعلق بنفس « بعث » .
الثاني : أن يتعلق بمحذوف ، على أنه وصف ل « رسولاً » فيكون منصوب المحل ، ويقوي هذا الوجه قراءة فتح الفاء .
فصل في المراد ب « أنفسهم »
قيل : أراد به العرب؛ لأنه ليس حَيّ من أحياء االعرب إلا وقد ولد صلى الله عليه وسلم ولد فيهم نسب ، إلا بني تغلب ، لقوله تعالى : { هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ } [ الجمعة : 2 ] .
وقال آخرون : أراد به جميع المؤمنين .
ومعنى قوله : « من أنفسهم » أي : بالإيمان والشفقة ، لا بالنسب ، كقوله تعالى : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ }
[ التوبة : 128 ] .
ووجه هذه المِنَّة : أن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى ما يُخَلِّصُهم من عقابِ الله ، ويوصلهم إلى ثواب الله ، كقوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] وأيضاً كونه من أنفسهم لأنه لو كان من غير جنسهم لم يَرْكَنوا إليه .
وخص هذه المنة بالمؤمنين لأنهم المنتفعون بها ، كقوله : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] .
فصل
قال الواحدي : المَنّ -في كلام العرب- بإزاء مَعَانٍ :
أحدها : الذي يسقط من السماء ، قال تعالى : { وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى } [ البقرة : 57 ] .
ثانيها : أن تُمَنَّ بما أعطيتَ كقوله : { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى } [ البقرة : 264 ] .
ثالثها : القَطْع ، كقوله : { لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [ الانشقاق : 25 ] وقوله : { وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } [ القلم : 3 ] .
رابعها : الإنعام والإحسان إلى مَنْ يطلب الجزاء منه ، ومنه قوله : { هذا عَطَآؤُنَا فامنن أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ ص : 39 ] . وقوله : { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } [ المدثر : 6 ] . والمنَّان -في صفة الله تعالى- : المُعْطِي ابتداً من غير طلب عِوَضٍ ، ومنه الآية : { لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين } [ آل عمران : 164 ] أي : أنعم عليهم ، وأحْسَن إليهم ببعثِهِ هذا الرسول .
قوله : { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } [ الجمعة : 2 ] في محل نصب حال ، أو مستأنف .
وقال القرطبي : « يتلو » في موضع نصب ، نعت ل « رسولاً » - وقد تقدم نظيرها في البقرة . { وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة } [ آل عمران : 164 ] معنى الآية : يبلغهم الوحي ، ويطهرهم ، ويعلمهم الكتاب- أي : معرفة الأحكام الشرعية -والحكمة- أي : أسرارها وعِلَلَها ومنافعها- ثم قال : { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } وهذا وَجْه النعمة؛ لأن ورود العلم عقيب الجهل من أعظم النعم .
قوله : { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } هي « إن » المخففة ، واللام فارقة -وقد تقدم تحقيقه- إلا أن الزمخخشري ومكيًّا -هنا- حين جعلاها مخففة قدَّرَا لها اسماً محذوفاً .
فقال الزمخشري : « وتقديره : إن الشأن ، وإن الحديث كانوا من قبل » . وقال مكي : « وأما سيبويه فإنه قال » إن « مخففة من الثقيلة ، واسمها مضمر ، والتقدير -على قوله- : وإنهم كانوا من قبل لفي ضلال مبين » وهذا ليس بجيّد؛ لأن « إن » المخففة إنما تعمل في الظاهر -على غير الأفصح- ولا عمل لها في المضمر ولا يقَدَّر لها اسمٌ محذوفٌ ألبتة ، بل تُهْمَل ، أو تعمل -على ما تقدم- مع أن الزمخشريَّ لم يُصَرِّحْ بأن اسمها محذوف ، بل قال : « إن » هي المخففة من الثَّقِيلَةِ ، واللام فارقة بينها وبين النافية ، وتقديره : وإن الشأن والحديث كانوا؛ وهذا تفسيرُ معنى لا إعراب .
وفي هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنها استئنافية ، لا محلَّ لَهَا مِنَ الأعْرَاب .
والثاني أنها محل نَصْب على الحال من المفعول به- في : « يعلمهم » وهو الأظهر .
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
الهمزة للإنكار ، وجعلها ابنُ عطية للتقرير ، والواو عاطفة ، والنية بها التقديم على الهمزة .
وقال الزمخشري : و « لما » نصب ب « قلتم » و « أصابتكم » في محل الجر ، بإضافة « لما » إليه ، وتقديره : أقلتم حين أصابتكم . و « أنى هذا » نصب؛ لأنه مقول ، والهمزة للتقرير والتقريع .
فإن قلتَ : علامَ عطفت الواو هذه الجملة؟ قلتُ : على ما مضى من قصة أحُد -من قوله : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ } - [ آل عمران : 152 ] ويجوز أن تكونَ معطوفة على محذوف ، [ كأنه قيل ] : أفعلتم كذا ، وقلتم حينئذ كذا؟ انتهى .
أمّا جعله « لما » بمعنى « حين » -أي ظرفاً- فهو مذهب الفارسيِّ وقد تقدم تقرير المذهبين وأما قوله : « عطف على قصة أحد » فهذا غير مذهبه ، لأن الجاري من مذهبه إنما هو تقديرُ جملة ، يعطف ما بعد الواو عليها -أو الفاء ، أو « ثم » - كما قرره هو في الوجه الثاني .
و « أنى هذا » « أنى » بمعنى من أين -كما تقدم في قوله : { أنى لَكِ هذا } [ آل عمران : 37 ] - ويدل عليه قوله : { مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } وقوله : { مِنْ عِنْدِ الله } قاله الزمخشري .
ورد عيله أبو حيّان بأن الظرف إذا وقع خبراً للمبتدأ لا يقدَّر داخلاً عليه حرف جر ، غير « في » . أما أن يقدر داخلاً عليه « من » فلا؛ لأنه إنما انتصب على إسقاط « في » ولذلك إذا أضمِر الظرف تعدى إليه الفعل بواسطة « في » إلا أن يتسع في الفعل فينصبه نصب التشبيه بالمفعول به ، فتقدير الزمخشريُّ غيرُ سائغٍ ، واستدلاله بقوله تعالى : { مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } وقوله : { مِنْ عِنْدِ الله } وقوف مع مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ ، وذهول عن هذه القاعدة التي ذكرناها .
واختار أبو حيان أن « أنى » بمعنى « كيف » قال : و « أنى » سؤالٌ عن الحال -هنا- ولا يناسب أن يكون -هنا- بمعنى « أين » أو « متى » لأن الاستفهام لم يقع عن المكان ، ولا عن الزمان ، إنما وقع عن الحال التي اقتضت لهم ذلك ، سألوا عنها على سبيل التعجُّب -وجاء الجواب من حيث المعنى لا من حيثُ اللفظ- في قوله : { مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } -والسؤال ب « أنى » سؤال عن تعيين كيفية حصول هذا الأمرِ ، والجواب كقوله : { مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } يتضمن تعيين الكيفية؛ لأنه بتعيين السبب تتعين الكيفيةُ من حيثُ المعنى لو قيل -على سبيل التعجُّبِ والإنكارِ- : كيف لا يحج زيد الصَّالحُ؟ وأجيب ذلك بأن يقال : لعدم استطاعته ، لحصل الجوابُ ، وانتظم من المعنى أنه لا يحج وهو غير مستطيعٍ .
قال شهابُ الدينِ : « أما قوله : لا يقدِّر الظرف بحرف جَرّ غير » في « فالزمخشريُّ لم يقدر » في « مع » أن « حتى يلزمه ما قال ، إنما جعل » أنى « بمنزلة » من أين « في المعنى . وأما عدوله عن الجواب المطابق لفظاً فالعكسُ أولى » .
قوله : { قَدْ أَصَبْتُمْ } في محل رفع؛ صفة ل « مصيبة » . و « قلتم » -على مذهب سيبوبه- جواب « لما » وعلى مذهب الفارسيّ ناصب لها على حسب ما تقدم من مذهبيهما .
قوله : { قُلْ هُوَ } هذا الضمير راجع على « المصيبة » من حيثُ المعنى ، ويجوز أن يكونَ حذفُ مضافٍ مراعى -أي : سببها- وكذلك الإشارة لقوله : { أنى هذا } لأن المراد المصيبة .
فصل
وجه النظم : أنه -تعالى- لما أخبر عن المنافقين بأنهم نسبوا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الغلول حكى عنهم شُبْهَةً أخرى في هذه الآية ، وهي قولهم : لو كان رسولاً من عند الله لما انهزم عسكرهُ من الكفار في يوم أحُدٍ ، وهو المرادُ من قولهم : أنى هذا؟
وأجاب الله تعالى عنه بقوله : { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } أي : هذا الانهزامُ إنما حصل بشؤم عصيانكم .
ومعنى : { قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا } أن المشركين قتلوا من المسلمين -يوم أحُدٍ- سبعين ، وقتل المسلمون منهم -يوم بدر- سبعين ، وأسروا سبعينَ ، والأسيرُ في حكم القتيلِ ، لأن الآسر يقتل أسيره إن أراد . { قُلْتُمْ أنى هذا } : من أين لنا هذا القتلُ والهزيمة ، ونحن مسلمونَ ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا؟ { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ }
روى عبيدة السَّلْمَاني عن علي قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، فقال : يا مُحَمَّدُ ، إن الله قد كَرِهَ ما صنع قومك -من أخذهم الفداء من الأسارى- وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يقدموا الأسارى ، فتضرب أعناقهم ، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عِدَّتهم ، فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم للنّاسِ ، فقالوا : يا رسولَ الله ، عشائرنا ، وإخواننا ، لا ، بل نأخذ منهم الفداء ، فتتقوّى به على قتال العدو ، ونرضى أن يستشهد منا عشدَّتهم ، فقُتِلَ منهم -يوم أحدٍ- سبعونَ ، عدد أسارى أهل بدر ، فهذا معنى قوله : { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } أي : بأخذ الفداء ، واختياركم القتلَ .
وقيل : إنما وقعتم في هذه المصيبة بشُؤم معصيتكم في الأمور المتقدم ذِكرها .
فصل
استدل المعتزلةُ بقوله : { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } على أن أفعال العبد غير مخلوقةٍ لله تعالى من وجوهٍ :
أحدها : أنه لو كان ذلك حاصلاً بخَلْق الله تعالى -ولا تأثير للعبد فيه- كان قوله : { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } كذباً .
ثانيها : أنهم تعجبوا كيف سلط الله الكافرَ على المؤمن؟ فأزال الله ذلك التعجب بقوله : إنما وقعتم في هذا المكروه بشُؤم فعلكم ، فلو كان خلقاً لله لم يصح الجوابُ .
ثالثها : أن القوم قالوا : { أنى هذا } أي : من أينَ هَذَا؟ وهذا طلبٌ لسبب الحدوثِ ، فلو لم يكن المحدث لها هو العبدُ لم يكن الجوابُ مطابقاً للسؤال .
وأجيبوا عن الأوليْن بالمعارضة بالآيات الدالة على كون أفعال العبدِ بإيجاد الله تعالى ، وعن الثالث بأنه لو كانوا هم الذين أوجدوا الفعل لم يحسن منهم السؤالُ عن سببه .
ثم قال : { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : قادر على نصْركم -لو صبرتم وثبتُّم- كما قدر على التخلية -إذ خالفتم وعصيتم- وهذا يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى ، قالوا : لأن فعل العبد شيء ، فيكون الله قادراً على إيجاده ، فلو أوجده0 العبد امتنع كونه -تعالى- قادراً على إيجاده؛ لأنه لما أوجده العبد امتنع من الله إيجاده ، لأن إيجادَ الموجودِ مُحَالٌ ، والمُفضِي إلى المُحَالِ مُحَالٌ .
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)
« ما » موصولة بمعنى الذي ، في محل رفع بالابتداء ، و « بإذن الله » الخبر ، وهو على إضمار مبتدأ ، تقديره : فهو بإذن الله ، ودخلت الفاء في الخبر؛ لشِبْه المبتدأ بالشرط ، نحو : الذي يأتيني فله درهم ، وهذا -على ما قرره الجمهورُ- مُشْكِل؛ وذلك أنهم قرروا أنه لا يجوز دخول هذه الفاءِ زائدةً في الخبر إلا بشروط .
منها : أن تكون الصلةُ مستقبلةً في المعنى؛ وذلك لأن الفاءَ إنما دخلت للشِّبْه بالشَّرط ، والشّرط إنما يكون في الاستقبال ، لا في الماضي ، لو قلت : الذي أتاني أمس فله درهم ، لم يصحّ ، « وأصابكم » -هنا- ماضٍ في المعنى؛ لأن القصة ماضية ، فكيف جاز دخول هذه الفاءِ زائدةً في الخبر إلا بشروط .
منها : أن تكون الصلةُ مستقبلةً في المعنى؛ وذلك لأن الفاءَ إنما دخلت للشِّبْه بالشَّرط ، والشّرط إنما يكون في الاستقبال ، لا في الماضي ، لو قلت : الذي أتاني أمس فله درهم ، لم يصحّ ، « وأصابكم » -هنا- ماضٍ في المعنى؛ لأن القصة ماضية ، فكيف جاز دخول هذه الفاء؟
أجابوا عنه بأنه يُحْمل على التبيُّن -أي : وما تبين إصابته إياكم- كما تأولوا قوله : { وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ } [ يوسف : 26 ] -أي تبين- وهذا شرطٌ صريحٌ ، وإذا صحَّ هذا التأويل فلْنَجْعَل « ما » -هنا- شرطاً صريحاً ، وتكون الفاء داخلة وجوباً؛ لكونها واقعة جواباً للشرط .
وقال ابنُ عطية : « يحسن دخولُ الفاء إذا كان سببَ الإعطاء ، وكذلك ترتيبُ هذه ، فالمعنى إنما هو : وما أذن الله فيه فهو الذي أصابكم ، لكن قدم الأهم في نفوسهم ، والأقرب إلى حسّهم . والإذن : التمكينُ من الشيء مع العلم به » .
وهذا حسنٌ من حيثُ المعنى؛ فإن الإصابة مرتبة على الإذْن من حيث المعنى ، وأشار بقوله : الأهم والأقرب ، إلى ما أصابهم يوم التقى الجَمْعَانِ .
فصل
ذكر في الآية الأولى أن الذي أصابهم كان من عند أنفسهم ، وذكر هذه الآية وجهاً آخرَ ، وهو أن يتميز المؤمنُ عن المنافقِ ، والمراد بالجمعينِ هو جمعُ المؤمنينَ ، وجمعُ المشركينَ في يوم أحُدٍ .
واختلفوا في المراد بقوله : { وَأَذَانٌ مِّنَ الله } [ التوبة : 3 ] وقوله : { آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } [ فصلت : 47 ] وقوله : { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } [ البقرة : 279 ] وطعن الواحدي في هذا بأن الآية إنما هي لتسلية المؤمنين مما أصابهم ، ولا تحصل التسلية إذا كان ذلك واقعاً بعِلة؛ لأن علمه عام في جميع المعلومات .
وقيل : فبأمر الله؛ لقوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } [ آل عمران : 152 ] والمعنى : أنه -تعالى- لما أمر بالمحاربة ، ثم أدت تلك المحاربة إلى ذلك الانهزام صح -على سبيل المجاز- أن يقال : حصل ذلك بأمره .
ونُقِل -عن ابن عباسٍ- أن المرادَ من الإذن قضاءُ الله بذلك وحكمه به .
وهذا أولى؛ لأن الآية تسلية للمؤمنين مما أصابهم ، وبهذا تحصل التسلية .
قوله : { وَلِيَعْلَمَ المؤمنين } في هذه اللام قولان :
أحدهما : أنها معطوفة على معنى قوله : { فَبِإِذْنِ الله } عطف سبب على سبب ، فتتعلق بما تتعلق به الباء .
الثاني : أنها متعلقة بمحذوف ، أي : وليعلم فعل ذلك -أي : أصابكم- والأول أولى- وقد تقدم أن معنى : وليعلم الله كذا : أي يُبَيِّن ، أو يظهر للناس ما كان في علمه ، وزعم بعضهم أن ثَمَّ مضافاً ، أي : ليعلم إيمان المؤمنين ، ونفاق المنافقين ، ولا حاجة إليه .
قوله : { وَلْيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ } قال الواحدي : « يقال : نَافَقَ الرَّجُلُ -فهو منافقٌ- إذا أظهر كلمة الإيمان ، وأضمَر خلافَها ، والنفاق اسم إسلامي ، اختلِف في اشتقاقه على وجوهٍ :
أحدها : قال أبو عبيد : من نافقاء اليربوع؛ لأن حجر اليربوع لها بابان : القاصعاء ، والنافقاء ، فإذا طلب من أيهما خرج من الآخر ، فقيل للمنافق : إنه منافق لأنه وضع لنفسه طريقين : إظهار الإسلام ، وإضمار الكُفْرِ ، فمن أيهما طُلِب خرج من الآخر .
الثاني : قال ابنُ الأنباري : المنافق من النَّفَق ، وهو السربُ ، ومعناه : أنه يتستّر بالإسْلامِ كما يتستَّر الرجُلُ في السِّرْبِ .
الثالث : أنه مأخوذٌ من النافقاء ، ولكن على غير الوجه الذي ذكره أبو عبيدٍ ، وهو أن النافقاء جثحْر يحفره اليربوعُ في داخل الأرضِ ، ثم إنه يُرقِّق ما فوقَ الجُحر ، حتى إذا رابه رَيْبٌ ، رفع التراب برأسه وخرج ، فقيل للمنافق : منافق؛ لأنه أضمر الكُفْرَ في باطنه ، فإذا فتشته رمى عنه ذلك الكفر ، وتمسَّك بالإسلام » .
قوله : { وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ } هذه الجملة تحتمل وجهين :
الأول : أنْ تكونَ استئنافية ، أخبر الله أنهم مأمورونَ إما بالقتال ، وإما بالدَّفْع ، أي : تكثير سواد المسلمين .
الثاني : أن تكون معطوفة على « نافقوا » فتكون داخلة في صلة الموصول ، أي : ليعلم الذين حصل منهم النفاقُ والقول بكذا و « تعالوا » و « قاتلوا » كلاهما قام مقام الفاعل ل « قيل » لأنه هو المقول . قال أبو البقاء : إنما لم يأتي بحرف العطف -يعني بين « تعالوا » و « قاتلوا » -لأنه أراد أن يجعل كل واحدةٍ من الجملتين مقصودة بنفسها ، ويجوز أن يقال : إن المقصودَ هو الأمر بالقتال ، و « تعالوا » ذكر ما لو سكت عنه لكان في الكلام دليل عليه .
وقيل : الأمر الثاني حال .
يعني بقوله : « تعالوا » ذكر ما لو سكت ، أن المقصود إنما أمرهم بالقتال ، لا مجيئهم وحده ، وجعله « قاتلوا » حالاً من « تعالوا » فاسد؛ لأن الجملة الحالية يُشْتَرط أن تكونَ خبرية ، وهذه طلبية .
قوله : « أو ادفعوا » « أو » -هنا- على بابها من التخيير والإباحة .
وقيل : بمعنى الواو؛ لأنه طلب منهم القتال والدفع ، والأول أصح .
فصل
اختلفوا في القائل ، فقال الصمُّ : إنه الرسول صلى الله عليه وسلم كان يَدْعُوهُمْ إلى القتال .
وقيل : إن عبد الله بن أبيّ ابن أبي سلول لما خرج بعسكره إلى أحُد قال : لم نُلْقي أنفسَنا في القتل؟ فرجعوا ، وكانوا ثلاثمائةٍ من جملة الألف الذي خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم عبد الله بن عمرو بن حرام -أبو جابر بن عبد الله الأنصاريّ- : أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند حضور العَدَوِّ .
فصل
معنى { قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا } يعني : إن كان في قلوبكم حُبُّ الدين والإسلام فقاتلوا للدين والإسلام ، وإن لم تكونوا كذلك ، فقاتلوا دفعاً عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم .
وقال السُّدَّيُّ : وابنُ جُرَيْج : ادفعوا عنا العدو بتكثير سوادنا -إن لم تقاتلوا معنا- لأن الكثرة أحد أسباب الهَيْبة .
وقوله : { قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً } إنما لم يَأتِ -في هذه الجُمْلة- بحرف عطف؛ لأنها جواب لسؤال سائل كأنه قيل : فما قالوا -لما قيل لهم ذلك-؟ فأجيب بأنهم قالوا ذلك . و « نعلم » -وإن كان مضارعاً- معناه المُضِيّ؛ لأن « لو » تخص المضارع ، إذا كانت لما سيقع لوقوع غيره ، ونكَّر « قتالاً » للتقليل ، أي : لو علمنا بعض قتال ما . وهذا جواب المنافقين حين قيل لهم : { تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا } فقال تعالى : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ } .
« هم » مبتدأ ، و « أقرب » خبره ، وهو أفعل تفضيل ، و « للكفر » متعلق به ، وكذلك « للإيمان » .
فإن قيل : لا يتعلق حرفا جر -متحدان لفظاً ومعنىً- بعامل واحد ، إلا أن يكونَ أحدهما معطوفاً على الآخر ، أو بدلاً منه ، فكيف تعلقا ب « أقرب » ؟
فالجوابُ : أن هذا خاصٌّ بأفعل التفضيل ، قالوا : لأنه في قوة عاملين ، فإنّ قوة قولك زيدٌ أفضلُ مِنْ عَمْرو ، معناه : يزيد فضله على فضل عمرو .
وقال أبو البقاء : « وجاز أن يعمل » أقرب « فيهما؛ لأنهما يشبهان الظرف ، وكما عمل » أطيب « في قولهم : هذا بسراً أطيب منه رُطباً ، في الظرفين المقدرين لأن » أفعل « يدل على معنيين -على أصل الفعلِ وزيادتهِ- فيعمل في كل واحد منهما بمعنى غير الأخر ، فتقديره : يزيد قُرْبهم إلى الكفر على قربهم إلى الإيمان » .
ولا حاجة إلى تشبيه الجارين بالظرفين؛ لأن ظاهره أن المسوغ لتعلقهما بعامل واحد تشبيههما بالظرفين وليس كذلك ، وقوله : الظرفين المقدَّرين ، يعني أن المعنى : هذا في أوانِ بُسْرَيته أطيب منه .
و « أقرب » -هنا- من القُرْب -الذي هو ضد البعدِ- ويتعدى بثلاثة حروف : اللام ، و « إلى » و « من » . تقول : قربت لك ومنك إليك ، فإذا قلت : زيد أقرب من العلم من عمرو ، ف « من » الولى المعدية لأصل معنى القرب ، والثانية هي الجارة للمفضول ، وإذا تقرر هذا فلا حاجة إلى ادعاء أن اللام بمعنى « إلى » .
و « يومئذ » متعلق ب « أقرب » ومذا « منهم » و « من » هذه هي الجارةُ للمفضول بعد « أفعل » وليست هي المعدية لأصل الفعل .
ومعنى : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ } أنهم كانوا -قبل هذا الوقت- كاتمين للنفاق ، فكانوا في الظاهر أبعد من الكفر ، فلما ظهر منهم ما كانوا يكتمونه صاروا أقرب للكفر؛ لأن رجوعهم عن معاونة المسلمين دَلَّ على أنهم ليسوا من المسلمين .
وقيل : المعنى أنهم لأهل الكفر أقرب نُصْرَةً منهم لأهل الإيمان؛ لأن تقليلَهم سوادَ المسلمين يؤدي إلى تقوية المشركين .
و « إذ » مضافةٌ لجملةٍ محذوفةٍ ، عُوِّضَ منها التنوين ، وتقدير هذه الجملة : هم للكفر يوم إذ قالوا : لو نَعْلَم قتالاً لاتبعناكم .
وقيل : المعنى على حذف مضاف ، أي : هم لأهل الكفر أقرب منهم لأهل الإيمان ، وفُضِّلُوا -هنا- على أنفسهم باعتبار حالين ووقتين ، ولولا ذلك لم يَجُزْ ، تقول : زيدٌ قاعداً أفضل منه قائماً ، أو زيد قاعداً اليوم أفضل منه قاعداً غداً . ولو قلت : زيد اليوم قاعداً أفضل منه اليوم قاعداً . لم يَجُزْ .
وحكى النقاش -عن بعض المفسّرين- أن « أقرب » -هنا- ليست من معنى القُرب -الذي هو ضد البُعْدِ -وإنما هي من القَرَب- بفتح القاف والراء- وهو طلبُ الماءِ ، ومنه قارب الماء ، وليلةُ القُرْب : ليلة الورود ، فالمعنى : هم أطلب للكفر ، وعلى هذا تتعين التعدية باللام- على حَدِّ قولك : زيد أضربُ لعمرو .
فصل
قال أكثرُ العلماءِ : هذا تنصيصٌُ من الله تعالى على أنهم كفار .
قال الحَسَنُ : إذا قال الله تعالى : « أقرب » فهو اليقين بأنهم مشركون ، وهو مثل قوله : { مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] فهذه الزيادة لا شك فيها ، وأيضاً فالمكَلَّف لا يمكن أن ينفك عن الإيمان والكُفْرِ فلما دلَّت الآية على القُرْب من الكفر لزم حصول الكفر . وقال الواحديُّ -في « البسيط » : هذه الآية دليلٌ على أن مَنْ اتى بكلمة التوحيد لم يكفر ، ولم يطلق القول بتكفيره؛ لأنه -تعالى- لم يطلق القول بتكفيرهم- مع أنهم كانوا كافرين- لإظهارهم كلمة التوحيد .
قوله : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم } في هذه الجملة وجهانِ :
أحدهما : أنها مستأنفةٌ ، لا محلَّ لها من الإعرابِ .
الثاني : أنها في محل نَصْب على الحال من الضمير في « أقرب » أي : قربوا للكفر قائلين هذه المقالة -وقوله : { بِأَفْوَاهِهِم } قيل : تأكيد ، كقوله : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] . والظاهرُ أن القولَ يُطْلق على اللساني والنفساني ، فتقييده بقوله : { بِأَفْوَاهِهِم } تقييد لأحد مُحْتَمَلَيْه ، اللهم إلا أن يُقَال : إن إطلاقه على النفسانيّ مجاز ، قال الزمخشري : « وذكر الأفواه مع القلوب؛ تصويراً لنفاقهم ، وأن إيمانهم موجود في أفواههم ، معدوم في قلوبهم » .
وبهذا -الذي قاله الزمخشريُّ- ينتفي كونُه للتأكيد؛ لتحصيله هذه الفائدة- ومعنى الاية : أن لسانهم مُخَالِفٌ لقلوبهم ، فهم وإن كانوا يُظْهرون الإيمانَ باللسانِ ، لكنهم يُضْمِرون في قلوبهم الكُفْرَ .
قوله تعالى : { والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } أي : عالم بما في ضمائرهم .
فإن قيل : المعلوم إذا علمه عالمانِ لم يكن أحدُهما أعلمَ به من الآخرِ ، فما معنى قوله : { والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } ؟
فالجواب : أنّ الله -تعالى- يعلم من تفاصيل تلك الأحوال ما لا يعلمه غيره .

قلت المدون التالي بمشيئة الله  ج19.وج20.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدجال يستغل ازمات الناس من الجوع ونقص الطعام والمياه في دعوتهم الباطلة لعبادتهم إياه والايمان به

  بياناته الشخصية     المسيح الدجال ليس خوارق إنما هو دجل وكذب قلت المدون ان الأ أزمة الاقتصادية الحادثة الان في كل دول العالم والمجاعة المت...