ج27.وج28.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
ج27 كتاب
: تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي
الدمشقي النعماني
والألفُ في « ذَوَا » علامةُ الرفع؛ لأنه مثنى ، وقد
تقدَّم الكلامُ في اشتقاق هذه اللفظةِ وتصاريفها [ الآية 177 البقرة ] ، وقرأ
الجمهورُ : « ذَوَا » بالألف ، وقرأ محمد بن جعفر الصادق : « ذُو » بلفظِ الإفراد ،
قالوا : ولا يريدُ بذلك الوَحْدة ، بل يريدُ : يحكُمُ به مَنْ هو مِنْ أهْلِ العدل
، وقال الزمخشريُّ : « وقيل : أراد الإمام » فعلى هذا تكونُ الوحْدَةُ مقصودةً ، و
« مِنْكُمْ » في محلِّ رفع صفةً ل « ذَوَا » ، أي : إنهما يكونان من جنْسِكُمْ في
الدِّين ، ولا يجوزُ أن تكونَ صفةً ل « عَدْل » ؛ لأنه مصدرٌ قاله أبو البقاء ،
يعني : أن المصدرَ ليس مِنْ جنْسِهِمْ ، فكيف يُوصَفُ بكونه منهم؟
فصل
المعنى يَحْكُمُ للجِزْاءِ رَجُلان عَدْلان قال ابنُ
عبَّاسٍ : يريد يَحُكم به في جَزَاءِ الصَّيْدِ رجُلانِ صالِحَان مِنْكُم ، مِنْ
أهلِ قِبْلَتِكُم ودينِكُمْ ، فَقيهان عدْلان ، فَيَنْظُرَان إلى أشْبَه
الأشْيَاءِ من النَّعَم ، فَيَحْكُمَان به ، ومِمَّن ذَهَبَ إلى إيجَابِ المِثْلِ
من النَّعَمِ : عُمَرُ ، وعُثمَانُ ، وعَلِيٌّ ، وعَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ عَوْف ،
وابنُ عُمَرَ ، وابنُ عبَّاسٍ ، وغَيْرِهِمْ من الصَّحَابَة حَكَمُوا في بُلْدَان
مخْتَلِفَة ، وأزْمان شَتَّى بالمِثْل من النَّعَمِ ، فحكمَ حَاكِمُهُم في
النَّعَامةِ بِبدَنَة ، وهي لا تُسَاوي بَقَرَةً ، وفي الضَّبعِ كَبْشٌ وهو لا
يساوي كَبْشاً ، فدلَّ على أنهم نَظَرُوا إلى ما يَقْرُب من الصَّيْد شَبَهاً من
حَيْث الخِلْقَة .
ورُوِي عن عُمرَ ، وعُثْمَان ، وابن عباس : أنَّهم
قَضَوْا في حَمَامِ مَكَّةَ بِشَاةٍ
.
ورَوَى جَابِر بنُ عبد اللَّه : أنَّ عُمَرَ بن
الخَطَّابِ قَضَى في الضَّبعِ بكَبْشٍ ، وفي الغَزَالِ بِعَنْزٍ ، وفي الأرْنَبِ
بِعنَاقٍ ، وفي اليَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ
.
وقال مَيْمُونُ بن مَهْرَان : جاءَ أعْرَابيٌّ إلى أبِي
بَكْرٍ الصِّدِّيق - رضي الله تعالى عنه - فقال : إنِّي أصيْتُ من الصَّيْد كَذَا
وكَذَا ، فسَألَ أبُو بكرٍ أبَيَّ بن كَعْبٍ ، فقال الأعْرَابِيُّ : أتَيْتُكَ
أسْألُكَ ، وأنْتَ تَسألُ غَيْرَك ، فقال أبُو بَكْرٍ : وما أنكَرْت من ذلك؟ قال
تعالى : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } فشاوَرْتُ صَاحِبي ، فإذا
اتَّفَقْنَا على شَيءٍ أمَرْناكَ بِهِ
.
وعن قُبَيْصَة بن جَابِرٍ؛ أنه كان مُحْرِماً ، فضرب
ظْبياً فماتَ ، فسأل عُمَرَ بن الخَطَّابِ ، وكان إلى جَنْبِهِ عَبْدُ الرَّحْمَن بنُ
عَوْف ، فقال عُمَرُ لِعَبْدِ الرَّحْمَن : ما ترى ، قال : عليه شاةٌ ، قال : وأنا
أرى ذَلِكَ ، قال اذْهَبْ فأهْدِ شاةً ، قال قُبَيْصَةُ : فَخَرَجْتُ إلى صَاحِبِي ، وقُلْتُ :
إنَّ أمير المُؤمنين لم يَدْرِ ما يقُولُ ، حتى سألَ غَيْرَهُ .
قال فَفَجَأنِي عُمَرُ ، وعلانِي بالدرَّة ، وقال :
أتَقْتُلُ في الحَرَمِ وتُسَفِّهُ الحُكْمَ؟ قال تعالى : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ
} فأنا عُمَرُ ، وهذا عَبْدُ الرحمن بنُ عوف . واحْتَجَّ أبُو حنيفَة في إيجَابِ
القيمة بأنَّ التَّقْوِيمَ هو المُحْتَاجُ إلى النَّظَرِ والاجتِهَادِ ، وأما
الخِلْقَةُ والصُّورةُ فَظَاهِرةٌ لا يُحْتَاجُ فيها إلى الاجتهاد .
وأجيبُ : بأنَّ المُشَابَهَة بَيْنَ الصَّيْد وبين
النَّعَمِ مخْتَلِفَةُ وكَثِيرة ، فلا بد من الاجْتِهَادِ في تَمْييزِ الأقْوَى عن
الأضْعَفِ .
فصل
الذي له مِثْل ضربان : فما حكمت فيه الصَّحَابَةُ
بِحُكْمٍ ، لا يُعْدَلُ إلى غَيْرِه؛ لأنَّهم شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ وحَضرُوا
التَّأويل ، وما لَمْ يَحْكُمْ فيه الصحابة ، يُرْجَعُ إلى اجْتِهَادِ عَدْلَيْن .
وقال مَالِكٌ : يجب التَّحكيمُ فيما حَكَمَتْ به الصحابة
- رضي الله عنهم - ، وفيما لم تَحْكُمْ فِيهِ .
فصل
يجُوزُ أنَّ القَاتِلَ أحَدُ العَدْلَيْن ، إن كان
أخْطَأ فيه ، فإنْ تَعمَّدَ فلا يجُوزُ؛ لأنه يُفَسَّقُ به .
وقال مالكٌ : لا يجُوزُ في تَقْويم المُتْلَفَاتِ ،
وأجيب : بأن اللَّه تعالى أوْجَبَ أن يَحْكُمَ به ذَوَا عدلٍ ، وإذا صدرَ عَنْهُ
القَتْلُ خَطَأ كان عدْلاً ، فإذا حكمَ هُوَ وغَيْرُهُ ، فَقَدْ حكمَ به ذوا عَدْل .
وقد رُوِيَ أنَّ بعضَ الصَّحابة - رضي الله عنهم -
أوْطَأ فرسهُ ظَبْياً ، فسأل عُمَرَ عَنْهُ ، فقال عُمَرُ : احْكُمْ ، فقال :
أنْتَ أعْدَلُ يا أمِيرَ المُؤمنين ، فاحْكُمْ ، فقال عُمَرُ - رضي الله عنه -
إنَّما أمرتُكَ أنْ تَحْكُمَ ، وما أمَرْتُكَ أن تُزَكِّيني ، فقال : أرى فيه
جَدْياً جمع الماء والشَّجَر ، فقال : افْعَل ما تَرَى .
فصل
لو حكم عَدْلان بِمِثْلٍ ، وحكم عدلان آخران بِمِثْلٍ
آخر ففيه وجهان :
أحدهما : يَتَخَيَّرُ .
والثاني : يأخُذُ بالأغْلَظِ .
فصل
استدلَّ بهذه الآيَةِ بَعْضُ مُثْبِتِي القِيَاس ، قالوا
: لأنَّه تعالى فرضَ تَعْيِين المِثْل إلى اجْتِهَاد النَّاسِ وظنهم ، وهذا
ضَعِيفٌ؛ لأن الشَّارع تَعَبَّدنا بالعملِ بالظَّنِّ في صُورٍ كثيرة : منها
الاجْتِهادُ في القِبْلَةِ ، والعَمَلُ بِتَقْويمِ المُقَوِّمِين في قِيم
المُتْلَفَاتِ ، وأرُوشِ الجِنايَاتِ ، والعملُ بِحُكْمِ الحَاكِمِين في مِثْلِ
جَزَاءِ الصَّيْد ، وعَمَلُ القَاضِي بالفَتْوى ، والعملُ بِمُقْتَضَى الظَّنِّ في
مصالحِ الدُّنْيَا ، إلاَّ أنَّا نَقُولُ : إذا دُعِيتُم إلى تَشْبيهِ صورةٍ
بصُورةٍ شرعيَّةٍ في الحُكْمِ الشَّرْعِيِّ ، وهو عينُ هذه المسائِلِ الَّتي
عدَدْنَاهَا ، فذلك باطلٌ في بَديهَةِ العَقْل ، فإذا سَلَّمْتُمُ المُغَايَرة ،
ولمْ يلزم من كَوْنِ الظَّنِّ حُجَّةً في تلك الصُّوَر؛ كونهُ حُجَّةً في مَسْألةِ
القياسِ ، إلاَّ إذا قِسْنَا هذه المسألة على تِلْكَ المسائِل ، وذلك يقتضي
إثْبَات القياس بالقياس ، وهو باطلٌ ، وأيضاً فالفَرْقُ ظَاهِرٌ بين البَابَيْنِ؛
لأنَّ في جميع الصُّور المَذْكُورة الحُكْمُ إنَّما ثبت في حقِّ شَخْصٍ واحدٍ ، في
زمان واحدٍ ، في واقِعَةٍ واحِدة
.
وأمَّا الحُكْمُ الثَّابِتُ بالقياسِ ، فإنه شَرْعٌ
عامٌّ في جَمِيع المُكَلَّفين ، باقٍ على وجْهِ الدَّهْر ، والتَّنْصِيصُ على أحْكَامِ
الأشخاص الجُزْئيَّةِ مُتَعذرٌ
.
أمَّا التَّنْصِيصُ على الأحْكام الكُلِّيَّةِ العامَّةِ
، البَاقِيَةِ إلى آخر الدَّهْر غير مُتعذّر ، فظهر الفَرْقُ .
قوله : « هَدْياً » فيه ستةُ أوجهٍ :
أظهرُها :
أنه حالٌ من الضمير في « به » قال الزجاج : « هو منصوبٌ
على الحالِ ، المعنى : يحكم به مقدَّراً أن يُهْدَى » يعني أنه حال مقدَّرةٌ ، لا مقارنةٌ
، وكذا قال الفارسيُّ كقولك : « مَعَهُ صَقْرٌ صَائِداً به غداً » ، أي مُقَدَّراً الصَّيْدَ .
الثاني : أنه حالٌ من « جَزَاء » سواءٌ قُرئَ مرفوعاً أم
منصوباً ، منوناً أم مضافاً ، وقال الزمخشريُّ : « هدْياً » حالٌ من « جزَاء » فيمَنْ وصفه ب «
مِثل » ؛ لأنَّ الصفةَ خَصَّصَتْه ، فقرُبَ من المعرفة ، وكذا خصَّصه أبو حيان ،
وهذا غير واضحٍ ، بل الحاليةُ جائزةٌ مطلقاً؛ كما تقدَّم .
الثالث : أنه منصوبٌ على المصدْرِ ، أي : يُهْدِيهِ
هَدْياً ، ذكره مكي وأبو البقاء
.
الرابع :
أنه منصوبٌ على التَّمْييزِ ، قال أبو البقاء ومكيٌّ ،
إلا أنَّ مَكِّياً ، قال : « على البيانِ » ، وهو التمييزُ في المعنى ، وكأنهما ظَنَّا
أنه تمييزٌ لِما أبْهِمَ في المِثْلية؛ إذ ليس هنا شيءٌ يَصْلُحُ للتمييزِ غيرَها
، وفيه نظرٌ؛ من حيث إنَّ التمييزَ إنما يَرْفَع الإبهامَ عن الذَّواتِ ، لا عن
الصفاتِ ، وهذا كما رأيْتَ إنما رفع إبهاماً عن صفة؛ لأنَّ الهدي صفةٌ في المعنى؛
إذ المرادُ به مُهْدى .
الخامس : أنه منصوبٌ على محلِّ « مِثْل » فيمَنْ خَفَضه؛
لأنَّ محلَّه النصبُ بعملِ المصدرِ فيه تقديراً؛ كما تقدَّم تحريرُه .
السادس :
أنه بدلٌ من « جَزَاء » فيمن نصبه . و « بَالِغَ
الكَعْبَةِ » صفةٌ ل « هَدْياً » ، ولم يتعرَّفْ بالإضافة؛ لأنه عاملٌ في الكعبة
النصبَ تقديراً ، ومثله : { هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } [ الأحقاف : 24 ] وقولُ
الآخَرِ : [ البسيط ]
2025- يَا رُبَّ غَابِطِنَا لَوْ كانَ يَطْلُبُكُمْ ...
لاقَى مُبَاعَدَةً مِنْكُمْ وحِرْمَانَا
في أنَّ الإضافة فيها غيرُ مَحْضَةٍ ، وقرأ الأعْرج : «
هَدِيًّا » بكسر الدال وتشديد الياء
.
فصل
المعنى :
يَحْكُمَانِ بِهِ هَدْياً يُسَاقُ إلى الكَعْبَة ،
فَيُنْحَرُ هُنَاك ، وهذا يُؤيِّد قول من أوْجَبَ المِثْلَ من طريق الخِلْقَةِ؛
لأنه تعالى لَمْ يَقُلْ : يَحْكُمَان به شَيْئاً يُشْتَرى به هَدْيٌ ، وإنَّما قال : يَحْكُمان به
هَدْياً ، وهذا صَرِيحٌ في أنَّهما يَحْكُمَان به شَيْئاً يُشْتَرى به هَدْيٌ ،
وإنَّما قال : يَحْكُمَان به شيئاً يُشْتَرى به ما يَكُونُ هَدْياً وهذا بعيد عن
الظَّاهِر .
وسمِّيت الكَعْبَةُ كَعْبَةً لارتفاعها ، والعَرَبُ
تُسَمِّي كل بَيْتٍ مرتفعٍ كَعْبَةً ، والكَعْبَةُ هنا إنَّما أُريدَ بها كلُّ
الحَرَم؛ لأنَّ الذبْحَ والنَّحْر لا يُفعَلان في الكَعْبَة ، ولا عندها ملاصِقاً
لها ، ونَظِيرُهُ قوله تعالى : { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق } [ الحج : 33
] ، والمُرَادُ بِبُلُوغِهِ للكَعْبة : أنْ يَذْبَح بالحرم ، ويتصدَّق باللَّحْمِ
على مساكينِ الحَرَمِ .
وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : له أنْ يتصدَّق به
حيث شاءَ ، كما أنَّ لَهُ أن يصُومَ حيْثُ شاء ، وحجَّةُ القولِ الأوَّل : أنَّ
الذَبْحَ إيلامٌ ، فلا يجُوزُ أن يكُون قُرْبَةً ، بل القُرْبَةُ إيصَالُ اللَّحْم
إلى الفقَراءِ .
قوله : « أو كَفَّارةٌ » عطفٌ على قوله : « فَجَزَاءٌ » ، و « أوْ » هنا للتخيير ، ونُقِل عن ابن عباس؛ أنها
ليسَتْ للتخيير ، بل للترتيب ، وهذا على قراءةِ مَنْ رفع « فَجَزَاءٌ » ، وأمَّا
مَنْ نصبه ، فقال الزمخشريُّ : جعلها خَبَرَ مبتدأ محذوفٍ؛ كأنه قيل : أو الواجبُ
عليه كفَّارةٌ ، ويجوزُ أن تُقَدَّرَ : فعليه أن يجْزِي جزاءً ، أو كفارةً ، فتعطفَ
« كَفَّارة » على « أنْ يَجْزِيَ » ، يعني أنَّ « عليه » يكونُ خبراً مقدَّماً ، و
« أن يَجْزِيَ » مبتدأ مؤخَّراً ، فعطفت « الكفَّارة » على هذا المبتدأ ، وقرأ نافع وابنُ
عامرٍ بإضافة « كَفَّارة » لما بعدها ، والباقون بتنوينها ، ورفع ما بعدها .
فأمَّا قراءةُ الجماعةِ ، فواضحةٌ ، ورفعُ « طَعَامُ »
على أحد ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه بدل من « كَفَّارةٌ » ؛ إذ هي من جنسه .
الثاني :
أنه بيانٌ لها؛ كما تقدَّم ، قاله الفارسيُّ . وردَّه
أبو حيان؛ بأنَّ مذهبَ البصريِّين اختصاصُ عطفِ البيانِ بالمعارفِ دون النكرات ،
قال شهاب الدين : أبو عَلِيٍّ يُخالِفُ في ذلك ، ويستدلُّ بأدلَّة ، منها قوله
تعالى : { شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ } [ النور : 35 ] ، ف « زَيْتُونَةٍ »
عنده عطفُ بيان ل « شَجَرَة » ، وكذا قوله تعالى : { مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ } [
إبراهيم : 16 ] ، ف « صَدِيد » عنده بدلٌ من « مَاءٍ » ،
والبدلُ فيهما محتملٌ؛ فلا حُجَّةَ له ، والبدل قد يجيء للبيان .
الثالث : أنه خبر مبتدأ محذوفٍ ، أي : هي طعام ، أي :
تلك الكفارة .
وأمَّا قراءة نافع وابن عامرٍ ، فوجهها : أنَّ الكفارة ،
لمَّا تنوَّعَتْ إلى تكفير الطعام ، وتكفير بالجزاء المماثل ، وتكفير بالصيام ،
حسُنَ إضافتها لأحَدِ أنواعها تبييناً لذلك ، والإضافةُ تكون بأدْنَى ملابسة؛
كقوله : [ الطويل ]
2053- إذَا كَوْكَبُ الخَرْقَاءِ لاحَ بِسُحْرةٍ ...
سُهَيْلٌ أذَاعَتْ غَزْلَهَا فِي القَرَائِبِ
أضاف الكوكبَ إليها؛ لقيامها عند طلوعه؛ فهذا أولى ،
ووجَّهَها الزمخشريُّ فقال : « وهذه الإضافةُ مبيِّنةٌ ، كأنه قيل : أو كفارةٌ من طعامِ
مساكين؛ كقولك : » خَاتَمُ فِضَّةٍ « بمعنى مِنْ فِضَّةٍ » ، قال أبو حيان : « أمَّا ما زعمه
، فليْسَ من هذا الباب؛ لأنَّ » خَاتَم فِضَّةٍ « من باب إضافة الشيء إلى جنْسه ،
والطعامُ ليس جنساً للكفارةِ ، إلا بتجَّوزٍ بعيدٍ جدًّا » . انتهى ، قال شهاب
الدين : كان مِنْ حَقِّه أن يقول
: والكفَّارةُ ليستْ جنْساً للطَّعامِ؛ لأنَّ الكفارةَ
في التركيب نظيرُ « خَاتَم » في أنَّ كلاًّ منهما هو المضافُ إلى ما بعده ، فكما
أن « خَاتَماً » هو المضافُ إلى جنسه ينبغي أن يُقالَ : الكفَّارةُ ليستْ
جنْساً للطعام؛ لأجل المقابلةِ ، لكنْ لا يمكنُ أن يُقال ذلك ، فإنَّ الكفارةَ كما
تقدَّم جنسٌ للطعامِ ، والجزاءِ ، والصَّومِ ، فالطريقُ في الردِّ على الزمخشريِّ أن
يُقال : شرطُ الإضافةِ بمعنى « مِنْ » : أن يُضاف جزءٌ إلى كلٍّ بشرطِ صدقِ اسم
الكلِّ على الجزءِ؛ نحو : « خَاتَمُ فِضَّةٍ » ، و « كَفَّارةُ طعَامٍ » ليس كذلك
، بل هي إضافة « كُلّ » إلى جزء ، وقد استشكل جماعةٌ هذه القراءة؛ من حَيْثُ إنَّ
الكفارةَ ليست للطعامِ ، إنما هي لقتلِ الصيدِ ، كذا قاله أبو عليٍّ الفارسيُّ
وغيره ، وجوابُه ما تقدَّم .
ولم يختلف السبعةُ في جمع « مَسَاكِينَ » هنا ، وإن
اختلفوا في البقرة ، قالوا : والفرقُ بينهما أنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ لا يُجْزئُ فيه إطعامُ
مِسْكِينٍ واحدٍ ، على أنه قد قرأ عيسى بْنُ عُمَرَ والأعْرَجُ بتنوين « كَفَّارة » ، ورفع « طَعَامُ مسْكِينٍ » بالتوحيد ، قالوا :
ومرادُهما بيانُ الجِنْسِ ، لا التوحيدُ .
قوله : « أوْعَدْلُ » نسقٌ على « فَجَزاءٌ » ، والجمهورُ
على فتحِ العين ، وقرأ ابن عباس وطلحة بن مُصَرِّف والجَحْدَرِي بكَسْرِهِا .
قال الفرَّاءُ : « العِدْل » بالكسر : ما عادَل الشَّيْء
من جِنْسِهِ ، والعدل : المِثْلُ ، تقول : عندي عِدلُ غُلامِكَ أو شَاتِكَ إذا كان
غلامٌ بِعِدْل غُلامه ، أو شاةٌ تَعْدِلُ شَاتَهُ ، أمَّا إذا أرَدْتَ قِيمَتَهُ
من غير جِنْسِه نَصَبْتَ العَيْن ، فقُلْت : عَدْل .
وقال أبو الهَيْثَم : العدل : المِثْل ، والعِدْل :
القِيمَةُ ، والعَدْلُ : اسم مَعْدُولٌ بحمل آخر مُسَوى به ، والعَدْل : تَقْوِيمُك
الشَّيْء بالشيء من غير جِنْسِهِ
.
وقال الزَّجَّاج ، وابنُ الأعْرَابِيّ : العَدل والعِدْل
سواءٌ ، وقد تقدَّم الكلام عَلَيْه في البَقَرة : عند قوله : { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } [
الآية : 48 ] .
قوله : « صِيَاماً » نصْبٌ على التميز كقولك : « عندي
رَطلان عَسَلاً » لأنَّ المعنى : أو قَدْرُ ذلك صِياماً ، والأصْلُ فيه إدْخَالُ
حَرْفَيْنِ تقُولُ : رطلانِ من العَسَلِ ، وعَدْلُ ذلك من الصِّيَام . [ وأصل «
صِياماً » : « صِوَاماً » فأعِلَّ كما تقدَّم مراراً ] .
فصل
معنى الآية : أنَّه في جَزَاءِ الصَّيْد مُخَيَّرٌ بَيْن
أن يَذْبَح المِثْلَ من النَّعَمِ ، فيتَصدَّق باللَّحْم على مَساكِينِ الحَرَم ،
وبيْنَ أنْ يُقَوِّم المِثْلَ بِدَرَاهِم ويَشْتَرِي بالدَّرَاهِم طَعَاماً ،
فيتصدَّق بالطَّعَام على مساكينِ الحَرَمِ ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ من طعام ، أو
يَصُوم عن كُلِّ مُدٍّ يَوْماً ، وله أنْ يَصُومَ حَيْث شَاءَ؛ لأنَّه لا نَفْعَ
فيه لِلْمَسَاكِين .
وقال مَالِكٌ : إنْ لم يخْرِجِ المثلَ يُقَوَّمُ
الصَّيدُ ، ثمَّ تُجْعَلُ القِيمَةُ طَعَاماً ، فيتصَدَّقُ به أوْ يَصُوم .
وقال أبُو حَنِيفَةَ : لا يَجِبُ المِثْلُ مِنَ النَّعَم
، بل يُقَوَّمُ الصَّيْدُ ، فإن شاء صَرَفَ تلك القِيمَةَ إلى شَيء مِنَ النَّعَمِ
، وإن شَاءَ إلى الطَّعَام فيتَصَدَّق بِهِ ، وإنْ شَاءَ صَامَ عَنْ كلِّ نِصْفِ صَاعٍ
من بُرٍّ أو صَاعٍ من غَيْرِه يَوْماً
.
وقال الشَّعْبِي ، والنَّخْعِي : جَزَاءُ الصَّيْدِ على
التَّرْتِيب ، والجُمْهُور على التَّخْيير ، وأنَّ قاتلَ الصَّيْدِ مُخَيَّرٌ في
تَعْيين أحَدِ هذه الثلاثة ، وقال مُحَمَّد بن الحسن : التَّخْيِير إلى
الحَكَمَيْن ، لقوله تعالى : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً } أي
: كَذَا ، أوْ كَذَا .
وجوابُه : أن اللَّه أوْجَبَ على قَاتِلِ الصَّيْدِ
أحَدَ هذه الثلاثة على التَّخْييرِ ، فوجَبَ أنْ يكونَ قَاتِلُ الصَّيْدِ مُخيَّراً
بَيْن أيِّها شاء ، وأمَّا الذي يَحْكُمُ بِه ذوا العَدْل ، فهو تَعْيينُ المِثْلِ
الخِلْقَة أو القِيمَة .
قوله : « لِيَذُوقَ » فيه ستةُ أوجهٍ :
أحدها :
أنه متعلقٌ ب « جزاء » قاله الزمخشريُّ ، وقال أبو حيان
: إنما يتأتَّى ذلك حيثُ يضاف إلى « مِثْل » ، أو يُنَوَّن « جَزَاء » ، ويُنْصَبُ
« مِثْل » ، وعَلَّلَ ذلك بأنه إذا رَفَعَ مثلاً ،
كان صفةً للمصْدَرِ ، وإذا وُصِفَ المصدرُ ، لم يعمل إلا أن يتقدَّم المعمولُ على
وصْفِه؛ نحو : « يُعْجِبُنِي الضَّرْبُ زَيْداً الشَّديدُ » ، فيجوز : قال شهاب
الدين : وكذا لو جعله بدلاً أيضاً أو خبراً؛ لما تقدَّم من أنه يلزمُ أن يُتْبَعَ الموصولُ
أو يُخْبَر عنه قبل تمامِ صلته ، وهو ممنوعٌ ، وقد أفْهَمَ كلامُ الشيخِ بصريحِهِ؛
أنه على قراءةِ إضافة الجزاءِ إلى « مِثْل » يجوزُ ما قاله الزمخشري ، وأنا أقول :
لا يجوزُ ذلك أيضاً؛ لأنَّ « لِيَذُوقَ » مِنْ تمامِ صلةِ المصدرِ ، وقد عُطِفَ
عليه قولُه « أوْ كفَّارَةٌ أو عَدْلٌ » ؛ فليزمُ أنْ يُعْطَفَ على الموصُولِ قبل
تمام صلته؛ وذلك لا يجوزُ لو قلْتَ :
« جَاءَ الذي ضربَ وعَمرٌو زَيْداً » لم يَجُزْ للفصْلِ
بين الصِّلَة - أو أبعاضِهَا - والموصوُلِ بأجنبيٍّ ، فتأمَّلْه .
الثاني : أنه متعلِّقٌ بفعلٍ محذوفٍ يَدُلُّ عليه
قُوَّةُ الكلامِ؛ كأنه قيل : جُوزيَ بذلِكَ لِيَذُوقَ .
الثالث : أنه متعلِّقٌ بالاستقرارِ المقدَّرِ قبل قوله :
« فَجَزَاء » ؛ إذ التقديرُ : فعليهِ جزاءٌ لِيَذُوقَ .
الرابع : أنه متعلِّقٌ ب « صِيَام » ، أي : صَوْمُهُ
لِيَذُوقَ .
الخامس :
أنه متعلِّقٌ ب « طَعَام » ، أي : طعام لِيَذُوقَ ، ذكر
هذه الأوجه الثلاثة أبو البقاء ، وهي ضعيفةٌ جدًّا ، وأجودُها الأولُ .
السادس : أنها تتعلَّقُ ب « عَدْلُ ذَلِكَ » ، نقله أبو
حيان عن بعضِ المُعْرِبين ، قال : « غَلَطٌ » .
والوَبَالُ :
سوءُ العاقبةِ وما يُخاف ضَرَرُهُ ، قال الراغبُ :
والوَابِلُ : المطرُ الثقيلُ القَطْرِ ، ولمراعاة الثِّقَلِ ، قيل للأمرِ الذي
يُخاف ضَرَرُه : وَبَال ، قال تعالى : ف { ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ } [
الحشر : 15 ] ، ويقال : « طَعَام وَبِيلٌ » ، و «
كَلأٌ وَبِيلٌ » يُخافُ وبالُه؛ قال تعالى : { فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً } [
المزمل : 16 ] ، وقال غيره : « والوبَالُ في اللغةِ؛ ثِقَلُ الشيءِ في المْكُروهِ ، يقال : »
مَرْعى وبَيلٌ « ، إذا كان يُسْتَوْخَمُ ، و » مَاءٌ وَبِيلٌ « إذا كان لا يُسْتَمْرَأ
، واسْتَوْبَلْتُ الأرضَ : كرهتُها خَوْفاً من وبالِها » . والذَّوْقُ هنا استعارةٌ بليغةٌ .
وإنَّما سمَّى اللَّهُ تعالى ذلك وبالاً؛ لأنَّه خيَّره
بين ثلاثةِ أشياء ، اثْنَانِ منها تُوجبُ تَنْقيصَ المالِ ، وهو ثَقِيلُ على
الطَّبْعِ ، وهما الجَزَاءُ بالمِثْلِ والإطْعَام ، والثَّالِثُ يُوجِبُ إيلامَ
البَدَنِ وهو الصَّوْم ، وذَلِك أيْضاً يَثْقُلُ على الطَّبْع ، وذلك حتَّى
يَحْتَرِز عَنْ قَتْل الصَّيْد في الحَرَمِ ، وفي حَالِ الإحْرَام .
قوله : { عَفَا الله عَمَّا سَلَف } يَعْنِي : قَبْلَ التَّحْرِيم ،
ونُزُولِ الآيَة وقال السدِّيُّ : عَمَا سَلَفَ في الجاهِليَّةِ .
وقيل : هذا إبْدَال على قَوْلِ من لا يُوجِبُ الجزاءَ ،
إلاَّ في المرَّةِ الأولَى ، أمَّا في المرَّةِ الثَّانِية : فإنه لا يُوجِبُ الجَزَاءَ عليْه ،
ويقول : إنَّه أعْظمُ من أنْ يُكَفِّره التَّصَدُّق بالجَزَاءِ ، فعلى هذا المُراد
عَفَا اللَّهُ عما سَلَفَ في المرَّة الأولى بِسبَبِ أداءِ الجَزَاءِ ، ومن عادَ
إليه مرَّةً ثَانِية ، فلا كفَّارة لجُرْمِهِ ، بل اللَّهُ يَنْتَقِمُ منه ،
وحُجَّةُ هذا القول : أنَّ « الفاءَ » في قوله : { فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } فاءُ
الجزَاءِ ، والجَزَاء هو الكَافِي ، فهذا يَقْتَضِي أنَّ هذا الانْتِقَامَ كما في
هذا الذَّنْبِ ، وكونهُ كَافِياً يَمْنَع من وجوبِ شَيْءٍ آخَر ، فلا يَجِبُ عليه
الجَزَاءُ .
قوله تعالى : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } « منْ » يجوز أن
تكون شرطيةً ، فالفاءُ جوابُها ، و « يَنْتَقِمْ » خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ ، أي : فهو
يَنْتَقِمُ ، ولا يجوز الجزمُ مع الفاءِ ألبتة ، قال : سيبويه : « الفَاءُ » في
قوله : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } ، وفي قوله : { وَمَن كَفَرَ
فَأُمَتِّعُهُ } [ البقرة : 126 ] ، و {
فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً } [ الجن
: 13 ] إنَّ في هذه الآيات إضْمَاراً مُقَدَّراً ، والتَّقدير : ومَنْ عادَ فهو
ينتَقِمُ اللَّه منه ومن كفر فأنا أمتِّعُهُ ، ومن يُؤمِن بربه فهو لا يَخَافُ ، وبالجُمْلَةِ
فلا بد من إضْمَارِ مبتدأ يكونُ ذَلِكَ الفِعْلُ خَبَراً عنه؛ لانَّ الفِعْلَ
يَصِيرُ بِنَفْسِهِ جزاءً ، فلا حاجَةَ إلى إدْخَال حَرْفِ الجزاءِ عليه ،
فيَصِيرُ إدْخال حَرْفِ « الفَاءِ » على الفِعْلِ لَغْواً ، أما إذَا أضْمَرْنا
المُبْتَدَأ ، احْتَجْنَا إلى إدخال « الفَاءِ » عليه؛ ليَرْتَبِطَ بالشَّرْط فلا
تَصِير « الفَاء » لَغْواً .
ويجُوزُ أن تكون « مَنْ » موصولةً ، ودخلتِ الفاءُ في
خبر المبتدأ ، لَمَّا أشبه الشرطَ ، فالفاءُ زائدةٌ ، والجملةُ بعدها خبرٌ ، ولا
حاجَةَ إلى إضمارِ مبتدأ بعد الفاء؛ بخلافِ ما تقدَّمَ . قال أبو البقاء : «
حَسَّنَ دُخُولَ الفاءِ كونُ فِعْلِ الشرطِ مَاضِياً لَفْظاً » .
فصل
معنى الآية : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ }
: في الآخِرَة { والله عَزِيزٌ ذُو انتقام } .
واعلمْ : أنَّه إذا تَكرَّرَ من المُحْرِمِ قَتْلُ
الصَّيْدِ ، فيتكرر عليْه الجزاء عند عامَّةِ أهْلِ العِلْمِ .
قال ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - : إذا قتلَ
المُحْرِمُ صَيْداً مُتَعَمِّداً ، يُسألُ هل قَتَلْتَ قَبْلَها شَيْئاً من
الصَّيْد؟ فإنْ قال : نَعْم ، لم يُحْكَمْ عليه ، ويقالُ : اذْهَبْ فينتقم اللَّهُ
مِنْك .
وإنْ قال : لم أقْتُل قَبْلَهُ شَيْئاً حُكِمَ عليه [
فإن عاد بعد ذلك ، لم يُحْكَمْ عليه ] ، ولكن يُمْلأ ظَهْرُهُ وصدْرُه ضَرْباً
وجيعاً ، وكذلك حكم رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم في صيد « وَجٍّ » - وهو وادٍ
بالطَّائف - ، واخْتَلَفُوا في المُحْرِمِ ، هل يُجُوزُ لَهُ أَكْلُ لَحْمِ الصَّيْدِ؟
فذهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّه لا يَحِلُّ لَهُ بِحَالٍ ،
يُرْوَى ذَلِكَ عن ابنِ عبَّاسٍ ، وهو قولُ طاوُس ، وبه قال سُفْيَانُ الثَّوْرِي
، لما روى عبدُ الله بن عبَّاس عن الصَّعْب بن جُثَامَة اللَّيْثِيِّ : « أنَّهُ أهْدَى
لرسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم حِمَاراً وحْشيّاً ، وهُوَ في الأبْوَاءِ أو
بودان ، فردَّه رسُولُ صلى الله عليه وسلم ، قال : فلَمَّا رَأى رسُولُ الله صلى الله
عليه وسلم ، مَا في وَجْهِي ، قال
: » إنَّا لم نَرُدَّهُ عَلَيْك إلاَّ أنَّا حُرم « .
لأكْثَرُون إلى أنَّهُ يجُوزُ لِلْمُجْرِم أكْلُهُ ، إذا
لَمْ يَصْطَدْ بِنْفِسه ، ولا صِيدَ لأجْلِه أو بإشَارَتِه ، وهو قولُ عُمَرَ ،
وعُثَمَان ، وأبِي هُرَيْرَةَ ، وبه قالَ عَطَاء ، ومُجَاهِد ، وسعيدُ بنُ جُبَيْر
، وهو مذهَبُ مالكٍ ، والشَّافِعيِّ ، وأحْمَد ، وإسْحاق ، وأصحاب الرَّأي ،
وإنَّما رَدَّ النبي صلى الله عليه وسلم على الصَّعبِ بن جُثَامة؛ لأنَّه ظَنَّ
أنَّه صِيد من أجْله .
ويدلُّ على الجوازِ ، ما روى نَافِعٌ - مولى أبِي قتادة
بن ربْعِيٍّ الأنْصَارِي : « أنَّه كان مع رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، حتَّى
إذا كان بِبَعْضِ طريقِ مَكَّةَ ، تَخلَّف مع أصْحَابٍ لَهُ مُحْرِمِين - وهو غير
مُحْرِم - ، فرأى حِمَاراً وحْشياً ، فاسْتَوى على فرسهِ ، فسأل أصْحَابَهُ أنْ
يُنَاوِلُوهُ سَوْطاً فَأبَوْا ، فَسَألَهُمْ رُمْحَهُ فأبَوا ، فأخَذه ، ثُمَّ
شَدَّ على الحِمَار فَقَتَلَهُ ، فأكل مِنْهُ بَعْضُ أصحابِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم ، وأبَى بعضُهُمْ ، فلمَّا أدْرَكوا رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم
فسألُوه عن ذلك فقال : إنَّما هي طُعْمَةٌ أطْعَمَكُمُوها اللَّهُ » وروى جَابِرُ بن
عَبْدِ اللَّهِ : أنَّ رسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال : « لَحمُ الصَّيْدِ لَكُمْ
فِي الإحْرَامِ حلالٌ ، مَا لم تَصِيدُوه أو يُصَاد لَكُمْ » .
فصل
وإذَا أتْلَفَ المُحْرِمُ شَيْئاً من الصَّيْدِ لا
مِثْلَ لهُ مِن النَّعَمِ ، مثل بَيْضٍ أو طَائرٍ دُون الحمامِ ، ففيه قيمَتُهُ
يَصرفُهَا إلى الطَّعامِ ، فيتصَدَّق به ، أو يَصُوم عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْماً ، واخْتَلَفُوا
في الجَرَادِ : فَرَخَّصَ فيه بَعْضُهُمْ ، وقال : هُو صَيْد البَحْرِ ، والأكثرون
على تَحْرِيمهِ ، وإنْ أصابَهَا فَعَليْهِ صَدَقَةٌ ، قال عُمَرُ : في الجَرَادَةِ
تَمْرَةٌ .
ورُوِيَ عنه ، وعن ابْنِ عَبَّاس : قَبْضَة من طَعَامٍ .
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا
لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ
حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
والمرادُ بالبَحْر : جَمِيعُ المِيَاهِ ، قال عُمَرٌ :
صَيْدُه ما اصْطِيدَ ، وجَميعُ ما يُصْطَادُ من البَحْرِ ثلاثةُ أجْنَاسٍ :
الحِيتَانُ وجَمِيعُ أنْوَاعِها حلالٌ ، والضَّفَادِعُ وجميع أنواعها حَرَامٌ ،
واختلَفُوا فيما سِوَى هَذَيْنِ
.
فقال أبو حنيفة : إنَّه حَرَامٌ ، وقال الأكثرُون :
إنَّه حلالٌ لِعُمُومِ هذه الآيَة
.
قوله :
« وطعَامُهُ » : نسقٌ على « صَيْدُ » ، أي : أحِلَّ لكمُ
الصيدُ وطعامُهُ ، فالصَّيْدُ الاصْطِيَادُ ، والطَّعامُ بمعنى الإطعامِ ، أي : إنه اسمُ مصدرٍ
، ويُقَدَّرُ المفعولُ حينئذٍ محذوفاً ، أي : إطعامُكُمْ إياه أنفسكُمْ ، ويجوز أن
يكون الصَّيْدُ بمعنى المَصِيد ، والهاءُ في « طَعَامُهُ » تعودُ على البَحْر على
هذا أي : أُحِلَّ لكُمْ مَصِيدُ البَحْرِ وطعامُ البَحْر؛ فالطعامُ على هذا غَيْرُ
الصَّيْدِ وعلى هذا ففيهِ وجوهٌ
:
أحسنها ما ذكرهُ أبو بَكْر الصِّدِّيق ، وعُمَرُ - رضي الله
عنهما - : أنَّ الصَّيدَ ما صِيدَ بالْحِيلَةِ حال حِيَاتِهِ - والطَّعَامُ ما رَمَى بِهِ البَحْرُ ،
أو نضبَ عَنْهُ المَاءُ مِنْ غَيْرِ مُعَالَجَةٍ .
وقال سعيدُ بنُ جُبَيْر ، وسعيدُ بنُ المُسَيِّب ، ومُقَاتِلُ
، والنَّخْعِي ، وعِكْرِمَةُ ، وقتادَةُ : صَيْدُ البَحْرِ هو الطَّرِيُّ ،
وطعامَهُ هُو المُمَلَّحُ مِنْهُ ، وهو ضَعِيفٌ؛ لأنَّ المملَّحُ كان طَرِيّاً
وصَيْداً في أوَّلِ الأمْرِ فَيَلْزَمُ التكْرَارُ .
وأيضاً :
فإنَّ الاصْطِيَادَ قد يَكُون للأكْل ، وقد يَكُون
لِغَيْرِه كاصْطِيَادِ الصَّدف لأجْلِ اللُّؤلُؤِ ، واصْطِيَاد بَعْضِ الحيواناتِ البَحرِيَّة
لأجل عِظَامِها وأسْنَانِهَا ، فَحَصَل التَّغَايُر بين الاصْطِيَاد من البَحْرِ ،
وبين الأكْل مِنْ طعامِ البَحْر
.
رُوِيَ عن ابن عبَّاس - وابن عُمَرَ ، وأبي هُرَيْرَة :
طَعَامُهُ ما قَذَفَهُ المَاءُ إلى السَّاحِل مَيْتاً ، ويجوزُ أن تعود الهاءُ على
هذا الوجهِ أيضاً على الصيْدِ بمعنى المصيدِ ، ويجوز أن يكون « طعام » بمعنى
مَطْعُوم ، ويَدُلُّ على ذلك قراءة ابن عبَّاس وعبد الله بن الحارث : « وطَعْمُهُ » بضم الميم وسكون
العين .
قوله تعالى : « متاعاً لَكُمْ » في نصبه وجهان :
أحدهما :
أنه منصوبٌ على المصدر ، وإليه ذهب مكي وابن عطيَّة وأبو
البقاء وغيرهم ، والتقدير : مَتَّعَكُمْ به متاعاً تَنْتَفِعُونَ وتَأتَدِمُونَ به
، وقال مكيٌّ : لأنَّ قوله : « أُحِلَّ لَكُمْ » بمعنى أمْتَعْتُكُمْ به إمْتَاعاً؛
كقوله : { كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ } [ النساء : 24 ] .
والثاني :
أنه مفعول من أجله ، قال الزمخشري : « أي : أحلَّ لكُمْ
تمتيعاً لكم ، وهو في المفعول له بمنزلة قوله تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ
إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [ الأنبياء : 72 ] في باب الحال؛ لأنَّ قوله » مَتَاعاً لكُمْ
« مفعولٌ له مختصٌّ بالطعام؛ كما أنَّ » نَافِلَةً « حالٌ مختصٌّ بيعقوب ، يعني
أُحِلَّ لكم طعامُه تمتيعاً لتَنَائِكُمْ تأكلونه طَرِيًّا ولسيَّارَتِكُمْ
يتزوَّدونه قديداً » . انتهى ، فقد خصَّصَ الزمخشريّ كونه مفعولاً له بكون الفعْلِ
، وهو « أُحِلَّ » مسنداً لقوله
: « طَعَامهُ » ، وليس علَّةً لحِلِّ الصيدِ ، وإنما هو
علَّةٌ لحِلِّ الطعام فقط ، وإنما حملهُ على ذلك مذهبُهُ - وهو مذهبُ أبي حنيفةَ
-؛ من أنَّ صيدَ البَحْرِ مُنْقَسِمٌ إلى ما يُؤكَلُ ، وإلى ما لا يُؤكَلُ ، وأن
طعامه هو المأكُولُ منه ، وأنه لا يقع التمثيلُ إلا بالمأكُول منه طريًّا
وقَدِيداً ، وقوله « نَافِلَةً » ، يعني أنَّ هذه الحالَ مختصةٌ بيعقوبَ؛ لأنه
ولدُ ولدٍ؛ بخلافِ إسحاقَ ، فإنه ولدُه لصُلْبه ، والنافلةُ إنما تُطْلَقُ على ولد
الولدِ ، دونَ الولد ، فكذا « متاعاً » ، إلاَّ أنَّ هذا يؤدِّي إلى أنَّ الفعل
الواحدَ يُسْنَدُ لفاعلين متعاطفَيْن [ يكونُ ] في إسناده إلى أحدهما معلَّلاً
وإلى الآخر ليْسَ كذلك ، فإذا قلت : « قَامَ زَيْدٌ وعَمْرٌو إجلالاَ لَكَ » ،
فيجوز أن يكون « قِيَامُ زيدٍ » هو المختصَّ بالإجلال ، أو بالعكْسِ ، وهذا فيه
إلباسٌ ، وأمَّا ما أورده من الحالِ في الآية الكريمة ، فَثمَّ قرينةٌ أوْجَبَتْ
صرْفَ الحالِ إلى أحدهما ، دون ما نحْنُ فيه من الآية الكريمة ، وأمَّا غيرُ
مذهبه؛ فإنه يكونُ مفعولاً له غير مختص بأحدِ المتعاطفيْنِ وهو ظاهرٌ جَلِيٌّ ، و
« لَكُمْ » إنْ قلنا : « مَتَاعاً » مصدرٌ ، فيجوز أن يكونَ صفةً له ، ويكونُ مصدراً
مبيِّناً لكونه وُصِفَ ، وإن قلنا : إنه مفعولٌ له ، فيتعلَّقُ بفعلٍ محذوفٍ ، أي : أعني التقديرُ :
لأنْ أمَتِّعَكُمْ ، ولأنْ أمَتِّعَكُمْ ، ولأنْ أجلَّكَ ، وهكذا ما جاء من نظائره .
فصل
معنى « مَتَاعاً لَكُمْ » أي : منْفَعَةً لكم ، وللسَّيَّارة يعني :
المَارَّة ، وجُمْلَةُ حيواناتِ الماءِ على قسْمَيْن : سمك ، وغيره ، أمَّا
السَّمَكُ فَمَيْتَتُهُ حلالٌ مع اخْتِلاَف أنْوَاعِهَا ، لقوله - عليه الصلاة
والسلام - : « أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ السَّمَكُ والجَرَادُ » ، ولا فرق بين
أنْ يَمُوتَ بِسَبَبٍ أو بِغَيْرِ سَبَبٍ .
وعِنْدَ أبي حنيفةَ : لا يحلُّ إلا أن يمُوت بِسبَبٍ من
وُقوع على حَجَرٍ ، أو انحِسَارِ المَاءِ عَنْهُ ، ونحو ذلك .
وأمَّا غير السَّمكِ فَقِسْمَان :
قِسْمٌ يَعيشُ في البَرِّ ، كالضفْدَعِ والسَّرطان ، فلا
يحل أكْلُهُ .
وقال مالِكٌ ، وأبو مجلز ، وعطاء ، وسعيدُ بن جُبَيْر ،
وغَيْرهم : كُلُّ ما يعيشُ في البَرِّ ، وله فيه حَيَاةٌ ، فهو صَيْدُ البَرِّ إنْ
قتلهُ المُحْرِمُ ودَاهُ ، وزادَ أبو مجْلَز في ذَلِكَ الضفْدعَ ، والسَّلاحِفَ ، والسَّرَطَان .
وقسم يعيشُ في المَاءِ ، ولا يَعِيشُ في البَرِّ إلاَّ عَيْشَ
المَذْبُوح ، فاخْتُلِفَ فيه ، فقيل : لا يَحِلُّ شيءٌ منْهُ إلاَّ السَّمَك ، وهو
قولُ أبِي حَنِيفَة .
وقيل : إنَّ مَيْتَ المَاءِ كُلّها حَلالٌ ، لأنَّ
كُلَّهَا سَمَكٌ ، وإن اخْتَلَفَتْ صورَتُهَا كالجرِيثِ ، يُقَال : إنَّه حَيَّةُ
المَاء ، وهو على شَكْلِ الحَيَّةِ ، وأكْلُهُ مُبَاح بالاتِّفَاقِ ، وهو قولُ أبي
بَكْرٍ ، وعُمَر ، وابنِ عبَّاسٍ ، وزَيْدِ بن ثَابِت ، وأبِي هُرَيْرَة ، وبه قال
شُرَيْحٌ ، والحسنُ وعطاء ، وهو قولُ مالكٍ ، وظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافعي .
وذهبَ قومٌ إلى أنَّ ما لَهُ نظير في البرِّ يُؤكَل ،
فَمَيْتَتُهُ من حيوانَاتِ البَحْرِ حلالٌ ، مثل بقر الماءِ ونحْوِه ، وما لا
يُؤكلُ نَظِيرُهُ في البرِّ لا تَحِلُّ ميْتَتُهُ من حيواناتِ البَحْر ، مثل
كَلْبِ المَاءِ والخِنْزِيرِ والحِمَارِ ونحْوهَا .
وقال الأوزَاعِيُّ : كلُّ شَيْءٍ عَيْشُهُ في المَاءِ
فَهُوَ حلالٌ قيل : والتِّمْسَاحُ؟ قال نَعَمْ .
وقال الشِّعْبِي : لَوْ أنَّ أهْلِي أكَلُوا
الضَّفَادِعَ لأطعمتهم .
وقال سُفْيانُ الثَّوْرِي : أرجو ألاَّ يَكُونَ
بالسَّرَطَان بَأسٌ ، وظاهِرُ الآيَةِ حُجَّةٌ لِمَنْ أبَاحَ جَمِيعَ حَيَوانَاتِ
البَحْرِ ، وكذلك الحَدِيثُ ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم « هُوَ الطَّهُورُ
ماؤهُ والحِلُّ مَيْتَتُهُ » .
وقوله : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ
حُرُماً } ذكر تعالى تَحْرِيم الصَّيْدِ على المُحْرِم في ثلاثة مواضع من هذه
السُّورة ، وهي قوله : { غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } [ المائدة : 1
] إلى قوله : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا } [ المائدة : 2 ] ، وقوله : { لاَ
تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ
} [ المائدة : 95 ] ، وقوله : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ
صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً } ، واتَّفَقَ المُسْلِمُون على تَحْرِيم
الصَّيْدِ على المُحْرِم ، وهو الحيوان الوَحْشِيُّ الذي يَحِلُّ أكلُهُ ، فأمَّا
ما لا يَحِلُّ أكْلُهُ ، فلا يَحْرُم بالإحْرَامِ ، ويَحْرُمُ أخْذُه وقَتلُهُ ،
ولا جَزَاء على من قَتَلَه ، لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « خَمْسٌ من الدَّوَابِّ
لَيْسَ على المُحْرِمِ في قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ : الغُرَابُ ، والحدَأةُ ،
والعَقْرَبُ ، والفَأرَةُ ، والكَلْبُ العَقُورُ » .
وقال - عليه السلام - : « يَقْتُلُ المُحْرِمُ السَّبُعَ
العادِي » .
وقال سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَة : الكَلْبُ العَقُورُ :
كلُّ سَبُع يعْقر ومِثْلُه عن مَالِكٍ ، وذهبَ أصْحَابُ الرَّأي إلى وُجُوبِ الجَزَاءِ
في قَتْلِ ما لا يُؤكَل لَحْمُهُ ، كالفَهْدِ ، والنمرِ ، والخِنْزِيرِ ، ونحوها
إلاَّ الأعيان المَذكُورة في الخَبَرِ ، وقَاسُوا عليْهَا : الذِّئْبَ ، ولَمْ يوجِبُوا فيه
الكَفَّارَة .
فأمَّا المُتَولِّد من المأكُولِ وغيره ، فَيَحْرُمُ
أكْلُهُ ، ويَجِبُّ فيه الجَزَاءُ؛ لأنَّ فيه جَزَاءً من الصَّيْدِ ، واختَلَفُوا
في الصَّيْدِ الذي يَصِيدُه الحلالُ هل يُحَرَّمُ على المُحْرِمِ؟
فقال عليٌّ ، وابنُ عباسٍ ، وابنُ مَسْعُود ، وسعيدُ بنُ
جُبَيْرٍ ، وطاوُسٌ : إنَّه حرامٌ على المُحْرِم بكُلِّ حالٍ ، وهو قولُ الثَّوْرِي
وإسْحَاق ، لظاهِرِ الآية .
ورُويَ
: أنَّ الحَارِثَ كان خَليفَة عُثْمَان على الطَّائِفِ ،
فَصَنَعَ لِعُثْمَان طَعاماً وصنع فيه الحَجَلَ : واليَعَاقِيبَ ، ولُحُومَ الوُحُوشِ
، فبعَثَ إلى عليٍّ بن أبي طالبٍ ، فجاءه الرَّسُولُ فقال عَلِيٌّ : أطعمُونا قُوتاً
حلالاً [ فإنا حُرُم ] ، ثم قال علي : أنْشِدُ اللَّهَ من كان هَا هُنَا مِنْ
أشْجَع ، أتعلَمُون أنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم أهْدَى إليه رجلٌ حِمَاراً
وَحْشياً ، وهو مُحْرِمٌ فأبَى أن يأكُلَهُ ، فَقَالُوا : نعم .
وقال الشَّافِعِيُّ : لَحْمُ الصَّيدِ حَلاَلٌ
لِلْمُحْرِم بِشَرْط ألاَّ يَصْطَادَهُ المُحْرِم ، ولا يُصْطَادُ لَهُ ، كقوله -
عليه السلام - : « صَيْدُ البَرِّ لَكُم حلالٌ مَا لَمْ تصيدُوهُ أوْ يُصَاد لَكُم » .
وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : « إذا صِيْدَ
للمُحْرِمِ بغير إعانتهِ وإشارته حَلَّ له؛ لأنَّ أبا قتادةَ اصْطَاد حِمَاراً
وحشيّاً ، وهو حَلاَلٌ في أصحابِ مُحْرِمينَ ، فَسَألُوا رسُول اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم فقال : فيكم أحَدٌ أَمَر أن يحْمِل عَلَيْهَا أو أشَارَ إلَيْهَا ،
قالوا : لا . قال : فَكُلُوا ما بَقِي مِنْ لَحْمِهَا » .
وفي رِوَايَةٍ : « هَلْ بَقِي مَعَكُم منه شَيءٌ؟ » قالوا : نَعَمْ
، فَنَاولْتُهُ العَضُدَ فأكَلَهَا « ، وهذا يَدُلُّ على تَخْصِيصِ القُرْآنِ
بِخَبَرِ الواحِدِ .
قوله : { مَا دُمْتُمْ حُرُماً } » ما « مصدريةٌ ، و » دمتم « صلتها وهي
مصدريةٌ ظرفيةٌ أي : حُرِّم عليكم صيدُ البر مدةَ دوامِكم مُحْرمين . والجمهور على
ضمِّ دال » دمتم « من لغة من قال : دام يدوم . وقرأ يحيى : » دِمتم « بكسرها من
لغة من يقول : دام يدام كخاف يخاف ، وهما كاللغتين في مات يموتُ ويمات ، وقد
تقدَّم [ الآية 57 آل عمران ] . والجمهورُ على » وحُرِّم « مبنياً للمفعول ، » صيدُ « رفعاً على قيامه
مقام الفاعل ، وقرئ : » وحَرَّم « مبنياً للفاعل ، » صيدَ « نصباً على المفعول به . والجمهورُ
أيضاً على » حُرُماً « بضم الحاء والراء جمعُ » حَرام « بمعنى مُحْرِم ك » قَذَال
« و » قُذُل « . وقرأ ابن عباس » حَرَماً « بفتحهما ، أي : ذوي حَرَم أي إحرام ،
وقيل : جعلهم بمنزلة المكان الممنوع منه ، والأحسنُ أن يكون من باب » رجل عدل «
جعلهم نفسَ المصدرِ فإنَّ » حَرَما « بمعنى إحرام ، وتقدم أن المصدر يقع للواحدِ
فما فوقُ بلفظٍ واحد . والبَرُّ معروفٌ ، قال الليث : » ويستعمل نكرة يقال : جلست بَرَّا ،
وخرجْتُ برًّا « . قال الأزهري : » وهو من كلام المولدين « وفيه نظر لقول سلمان الفارسي : » إنَّ
لكلِّ امرئ جَوَّانِيًّا وبَرَّانياً «
أي باطنٌ وظاهرٌ ، وهو من تغيير النسب ، وقد تقدم
استيفاء هذه المادة في البقرة [ الآية 44 ] ثمَّ قال : { واتقوا الله الذي
إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } والمقصُودُ مِنْهُ التَّهْديدُ ، ليكون المَرْءُ موَاظِباً على
الطَّاعَة مُحْتَرِزاً عن المَعْصِيَة وقدَّم » إليه « على » تُحْشرون « للاختصاص
أي : تُحشرون
إليه لا إلى غيره ، أو لتناسُبِ رؤوس الآي .
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ
قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ
لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي
الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا
اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
لمَّا حرَّم الله تعالى الاصْطِيَاد على المُحْرِمين ،
وبيَّن أنَّ الإحْرَام سَبَب لأمْنِ الوَحْشِ والطَّيْر ، بيَّن هاهُنَا أنَّ
ذلِكَ التَّحْرِيم الذي حَرَّمَهُ الإحرام؛ إنَّما سببُه حُرْمَة هذا البيت
الحرامِ ، فكما أنَّه سَبَبٌ لأمْنِ الوَحْشِ والطَّيْر ، فكذلك هُوَ سَبَبٌ لأمْن
النَّاسِ عن الآفات والمخافات .
قوله : « جَعَلَ اللَّهُ » : فيها وجهان :
أحدهما : أنها بمعنى « صَيَّرَ » فتتعدَّى لاثنين ،
أولهما « الكَعْبَة » والثاني « قِيَاماً » .
والثاني :
أن تكون بمعنى « خَلَقَ » ، فتتعدَّى لواحد ، وهو «
الكَعْبَة » ، و « قِياماً » نصبٌ على الحال ، وقال بعضُهُمْ : إنَّ « جَعَلَ »
هنا بمعنى « بَيَّنَ » و « حَكَمَ » ، وهذا ينبغي أن يُحْمَلَ على تَفْسير المعنى لا تفسير
اللغة؛ إذ لم ينقل أهلُ العربية؛ أنها تكونُ بمعنى « بَيَّنَ » ولا « حَكَمَ » ، ولكن
يلزمُ من الجَعْلِ البيانُ ، وأمَّا « البَيْتَ » ،
فانتصابُه على أحد وجهين : إما البدلِ ، وإما عطفِ البيان ، وفائدةُ ذلك : أن بعض
الجاهليَّة - وهم خَثْعَم - سَمَّوْا بيتاً الكعبة اليمانية ، فجيء بهذا البدلِ ،
أو البيانِ ، تبييناً له من غيره ، وقال الزمخشريُّ : « البَيْتَ الحَرَامَ » عطف بيانٍ على
جهة المدحِ ، لا على جهة التوضيحِ؛ كما تجيء الصفةُ كذلك « ، واعترض عليه أبو حيان
بأن شرط البيانِ الجمودُ ، والجمودُ لا يُشْعِرُ بمَدْحٍ ، وإنما يُشْعِرُ به
المشتقُّ ، ثم قال : » إلاَّ أنْ يُريد أنه لَمَّا وُصِفَ البيْتُ بالحرامِ اقْتَضَى
المجموعُ ذلك فيمكنُ « .
والكَعْبَةُ لغةً : كلُّ بيْتٍ مربَّعٍ ، وسُمِّيَت
الكعبةُ كَعْبَةً لذلك ، وأصل اشتقاق ذلك من الكعبِ الذي هو أحَدُ أعضاءِ الآدميِّ
، قال الراغب : » كَعْبُ الرَّجُلِ « العَظْم الذي عند مُلْتَقى الساق والقَدَم ،
والكَعْبةُ كُلُّ بَيْتٍ على هَيْئَتِهَا في التَّرْبِيع ، والعربُ تُسَمِّي كلَّ
بَيْت مُرَبَّع كَعْبةً؛ لانفرادها من البِنَاءِ .
وقيل :
سُمِّيَت كَعْبَةً لارتفَاعِهَا من الأرْض ، وأصْلُها من
الخُرُوج والارتِفَاع ، وسُمِّيَ الكعبُ لِنُتُوئِهِ ، وخُرُوجه من جَانِبي القَدم
، ومنه قِيلَ لِلْجَارية إذا قاربتِ البُلُوغَ وخَرَجَ ثَدْياهَا تكعَّبَتْ والكعبة
لمَّا ارتفع ذِكْرُها سُمِّيَتْ بهذا الاسْم ، ويقولون لِمَنْ عَظُمَ أمْرُه »
فلانٌ عَلاَ كَعْبُهُ « وذُو الكعبات : بيتٌ كان في الجاهلية لبني ربيعة ، وتقدَّم
الكلام في هذه المادةِ أول السورة [ آية 6 ] .
فصل
قَالُوا : بُنِيَتِ الكَعْبةُ الكَريمَةُ خَمْسَ
مَرَّاتٍ :
الأولى : بناءُ الملائِكَة قبلَ آدَمَ - عليه السلام - .
والثانية : بِنَاءُ إبراهيم - عليه السلام - .
والثالثة : بناءُ قُرَيْشٍ في الجاهليَّة ، وحضر رسول
الله صلى الله عليه وسلم هذا البِنَاء
.
والرابعة : بناءُ ابنُ الزُّبَيْرِ - رضي الله عنه - .
والخامسة :
بناءُ الحَجَّاج وهو البِنَاءُ الموجُودُ اليَوْمَ ،
وهكذا كانَتْ في زمَنِ الرَّسُولِ - عليه السلام - قال المارودي في » الأحْكَام السُّلطَانِيَّة
« : كانت الكَعْبَةُ بَعْدَ إبراهيم - عليه السلام - مع » جُرْهُم « والعمَالِقَة إلى أن
انْقَرَضُوا ، وخلفتهم فيها قريشُ بعد استيلائِهِم على الحَرَمِ لِكَثْرتِهِم بعد
القِلَّةِ ، وعِزهِم بَعْدَ الذِّلَّةِ ، فكان أوَّلُ من جَدَّدَ بِنَاءَ
الكَعْبَةِ بعد إبْراهيمَ - عليه السلام - قُصَيّ بن كِلاَب ، وسَقَّفَها بخَشَبِ الدومِ
وجريد النَّخْل ، ثُمَّ بَنَتْهَا قُرَيْشٌ بَعْدَهُ ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم
ابنُ خمْسٍ وعشرين سَنَةً ، وشَهِدَ بِنَاءَهَا ، وكان بابُها بالأرْض ، فقال أبُو
حُذَيْفَة بنُ المُغِيرة : يا قَوْمُ ، ارفعُوا باب الكَعْبَةِ حتَّى لا يَدْخُلَ
[ أحدٌ ] إلاَّ بسُلَّمِ ، فإنَّه لا يدخلها حينئذٍ الآنَ إلاَّ ما أَرَدْتُمْ ،
فإن جاء أحَدٌ ممن تَكْرَهُون ، رَمَيْتُم به فَسَقَطَ ، وصار نكالاً لمن يَرَاهُ
، ففعلت قُرَيْشُ ذلك ، وكان سببُ بِنَائها أنَّ الكَعْبَة استُهْدِمَتْ وكانَتْ
فَوْقَ القَامَةِ ، فأرَادُوا تَعْلِيَتَهَا .
قوله : « قِياماً » [ قراءة الجمهورُ بألفٍ بعد الياء ،
وابنُ عامرٍ : « قِيَماً » دون ألف بزنة « عِنَبٍ » ، والقيامُ هنا يحتملُ أن يكون
مصدراً ل « قَامَ - يَقُومُ » ، والمعنى : أنَّ اللَّهَ جَعَلَ الكعبةَ سَبَباً
لقيام النَّاسِ إليها ، أي : لزيارتها والحجِّ إليها ، أو لأنَّها يَصْلُح عندها
أمرُ دينهِمْ ودُنْيَاهُمْ ، فيها يَقُومُونَ ، ويجوزُ أنْ يكونَ القيامُ بمعنى
القوامِ ، فقُلِبَتِ الواوُ ياءً؛ لانكسارِ ما قبلها ، كذا قال الواحديُّ ، وفيه
نظرٌ؛ إذ لا موجبَ لإعلاله؛ إذ هو : « السِّوَاكِ » ، فينبغي أن يقال : إنَّ
القيامَ والقوامَ بمعنًى واحدٍ؛ قال : [ الرجز ]
2054- قِوَامُ دُنْيَا وقِوَامُ دِينِ ... فأمَّا إذا
دخلها تاءُ التأنيث ، لَزِمَتِ الياءُ؛ نحو : « القِيَامَة » ، وأمَّا قراءةُ ابن
عامر ، فاستشكلها بعضُهم بأنه لا يَخْلُو : إمَّا أنْ يكون مصدراً على فعلٍ ، وإما
أن يكون على فعالٍ ، فإن كان الأوَّل ، فينبغي أن تصِحُّ الواوُ ك « حِوَلٍ » و «
عوَرٍ » ، وإن كان الثاني ، فالقصر لا يأتي إلا في شِعْرٍ ، وقرأ الجَحْدَرِيُّ :
« قَيِّماً » بتشديد الياء ، وهو اسمٌ دالٌّ على ثبوت الصفة ، وقد تقدَّم تحقيقُه أوَّلَ
النساء [ الآية 5 ] ] .
فصل في معنى الآية
معنى كونه قِيَاماً للنَّاسِ أي : سَبَبٌ لقوَامِ مصالِح
النَّاسِ في أمر دينهم ودُنيَاهم أمَّا الدِّين؛ فلأنَّ به يقوم الحَجُّ
والمَنَاسِكُ ، وأمَّا الدُّنْيَا
: فبما يُجْبَى إليه من الثَّمَرَات ، وكانوا يَأمَنُونُ
فيه من النَّهْبِ والغَارَةِ ، فلا يتعرَّضُ لهم أحَدٌ من الحرمِ ، فكأنَّ أهلَ
الحرمِ آمِنين على أنْفُسِهِم وأمْوَالِهِم ، حتَّى لو لَقِيَ الرَّجُلُ قَاتِل أبيه
وابنِهِ لم يتعرَّضْ لَهُ ، ولو جَنَى الرَّجُلُ أعظم الجِنَايَاتِ ثُمَّ التَجَأ
إلى الحَرَمِ ، لُمْ يُتعَرَّضْ له ، قال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا
جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] .
والمرادُ بقوله : « قِيَاماً للنَّاس » أي : لِبَعْضِ
النَّاسِ وهم العرب ، وإنَّما حَسُنَ هذا المجازُ؛ لأنَّ أهْلَ كلِّ بَلَدٍ إذا
قالُوا : النَّاسُ فَعَلُوا [ وصنعُوا ] كذا « ،
فهُم لا يُرِيدُون إلاَّ أهْلَ بلدِهمْ ، فلهَذَا السَّبَب خُوطِبُوا بهذا الخطاب
على وفقِ عادَتِهِم .
قوله : { والشهر الحرام والهدي والقلائد } عطف على «
الكَعْبَة » ، والمفعول الثاني أو الحال محذوفٌ ، لفهم المعنى ، أي : جعل الله
أيضاً الشَّهْرَ والهَدْيَ والقلائِدَ قِيَاماً .
واعلم
: أنَّه تعالى جعل هذه الأرْبَعَةَ أشْيَاء أسْبَاباً
لِقِيام النَّاسِ وقوامِهِم ، فأحَدُهَا : الكَعْبَةُ كما تقدَّم بيَانُهُ .
وثانيها : الشَّهْرُ الحرامُ ، ومعنى كونه سَبَباً لِقيامِ النَّاسِ : هو أنَّ العرب
كان يَقْتُلُ بعضهم بعضاً ، ويُغِير بعضُهُمْ على بعضٍ في سائرِ الأشْهُرِ ، فإذا
دخلَ الشَّهْرُ الحرامُ زال الخَوْفُ ، وسافَرُوا للتِّجاراتِ ، وأمِنُوا على
أنْفُسِهِمْ وأمْوَالِهِم ، وحَصَّلوا في الشَّهْرِ الحرامِ قُوتَهُمْ طُول
السَّنةِ ، فلولا الشَّهْرُ الحرام لفَنَوْا وهَلَكُوا من الجُوعِ والشِّدَّةِ ،
فكان الشَّهْرُ الحَرَامُ سَبَباً لِقوَامِ مَعيشَتِهِمْ .
والمُرادُ بالشَّهْرِ الحرامِ : الأشْهُرُ الحُرُمُ وهي
: ذُو القعْدَةِ وذُو الحِجَّة ورَجَب
.
وثالثها :
الهَدْيُ ، ومعنى كونه سَبَباً لقيام النَّاس : لأنَّ
الهدْيَ ما يُهْدَى إلى البيتِ ، ويُذْبَحُ هُناكَ ويُفَرَّقُ لَحْمُهُ على
الفُقَراءِ فيكُونُ ذلِكَ نُسُكاً للمهدي ، وقواماً لمعيشَة الفُقراء .
ورابعها
: القلائِدُ ، ومعنى كونها قواماً للناس : أنَّ من قصدَ
البَيْتَ في الشَّهْرِ الحرامِ أوْ فِي غيرِ الشَّهْرِ الحرامِ ، معه هديٌ قد
قلَّدَه ، وقلَّدَ نَفْسَهُ من لِحَاءِ شَجَرِ الحرمِ ، لم يتعرَّضْ لَهُ أحَدٌ ، حتَّى
إنَّ أحَداً من العرب يلقَى الهديَ مُقلَّداً ، وهو يموتُ من الجُوعِ فلا يتعرَّضُ
له ألْبتَّةَ ، ولم يتعرَّضْ لها صاحِبُها أيضاً ، وكلُّ ذلِكَ إنَّما كان؛ لأنَّ
اللَّهَ تعالى أوْقَعَ في قُلُوبِهم تَعْظيمَ البيْتِ الحَرَامِ .
فصل
قال القُرْطُبِي : ذكر العُلمَاءُ في جعل اللَّه تعالى
هذه الأشياء قِيَاماً للناس ، أنَّ اللَّه تعالى خلق الخَلْقَ على سَليقَةِ
الآدَميِّين ، من التَّحَاسُدِ ، والتَّنَافُرِ ، والتَّقَاطُعِ ، والتدابر ،
والسَّلْبِ ، والغَارَةِ ، والقَتْل ، والثَّأرِ ، فلم يكن بُدٌّ في الحِكْمَة
الإلهيَّة أنْ يكُونَ مع الحالِ وازعٌ يُحْمَد معهُ المآلُ ، فقال تعالى : {
إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً } [ البقرة : 30 ] فأمرهُم الله تعالى
بالخلافَةِ ، وجعل أمُورهُمْ إلى واحدٍ يَمْنَعُهُم من التَّنَاوشِ ، ويَحْملُهُم على
التَّآلُف من التَّقَاطُعِ ، وردِّ المظالِمِ عن المَظْلُومِ ، ويقَرِّر كلَّ يدٍ
على ما تَسْتَوْلي عليه .
واعلم : أنَّ جوْرَ السُّلطان عام واحِدٌ أقَلُّ أذاه
كونُ النَّاسِ فَوْضَى لحظَةً واحدة ، فأنْشَأ اللَّهُ تعالى الخَليقَةَ لهذه
الفَائِدَة ، لتجرِيَ على رأيه الأمُور ، ويَكُف اللَّهُ تعالى به عاديَة الأمُورِ
فعظَّم اللَّهُ تعالى في قُلُوبِهِم البَيْتَ الحرامَ ، [ وأوقع في قُلُوبهم
هَيْبَتَه ] وعظَّم بينهم حُرْمَتَهُ ، فكان من لجأ إليه مَعْصُوماً قال تعالى : {
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ
حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67
] .
قوله « ذَلِكَ » فيه ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، أي : الحُكْمُ الذي
حكمْنَاهُ ذلك لا غيرُه .
والثاني : أنه مبتدأ ، وخبره محذوف ، أي ذلك الحكمُ هو
الحقُّ لا غيره .
الثالث :
أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ يدُلُّ عليه السِّياقُ ، أي :
شَرَعَ اللَّهُ ذلك ، وهذا أقواها؛ لتعلُّقِ لام العلَّة به ، و « تَعْلَموا »
منصوبٌ بإضمار « أنْ » بعد لام كَيْ ، لا بها ، و « أنَّ اللَّه » وما في حَيِّزها
سادَّةٌ مَسَدَّ المفعولينِ أو أحدهما على حسبِ الخلافِ المتقدِّم ، و { وَأَنَّ الله
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } نسقٌ على « أنَّ » قبلها .
فإن قيل : أيُّ اتِّصَالٍ لهذا الكلامِ بمَا قَبْلَهُ .
قيل :
لمَّا عَلِمَ في الأزَل أنَّ مُقْتَضَى طِبَاعِ العَرَب الحرص
الشَّديد على القَتْلِ والغارَةِ ، وعلمَ أنَّ هذه الحالة لو دَامَتْ بهم ، لَعَجَزُوا
عن تَحْصيلِ ما يَحْتَاجُونَ إليه ، وأدَّى ذلك إلى فَنَائِهِم وانْقِطَاعِهِم
بالكُلِّيَّة ، دَبَّرَ في ذلك تَدْبِيراً لَطِيفاً ، وهو أنَّه تعالى ألْقى في
قُلُوبِهمْ تَعْظيمَ البَيْتِ الحَرَامِ وتَعْظِيمَ مَنَاسِكهِ ، فصار ذلك سبباً
لحصُول الأمْن في البلدِ الحرامِ وفي الشَّهْر الحرام ، فلمَّا حصل الأمْنُ في هذا
المكانِ ، وفي هذا الزَّمَانِ ، قَدَروا على تَحْصِيلِ ما يَحْتَاجُون إليه في هذا
المكانِ ، فاسْتَقَامَتْ مصالح مَعَايِشهم ، وهذا التَّدْبِيرُ لا يُمكن إلاَّ إذا
كان في الأزَلِ عالماً بِجَمِيع المعلُومَاتِ من الكُلِّيَّاتِ والجُزْئِيَّاتِ ،
وأنَّهُ بِكُلِّ شَيء عليم .
وقيل في الجوابِ : أنَّ الله جعل الكَعْبَة قياماً للنَّاسِ
، لأنَّه يَعْلَمُ صلاح العِبَاد ، كما يَعْلَمُ ما في السَّماءِ وما في الأرْضِ .
وقال الزَّجَّاج : وقد سبق في هذ السُّورةِ الإخْبَارُ عن
الغُيُوبِ ، والكَشْف عن الأسْرَارِ ، مثل قوله تعالى : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ
سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ } [ المائدة : 41 ] ، ومثلُ إخبارِهِ بِتَحْرِيفِهم
الكُتُبَ فقوله ذلك ليَعْلَمُوا أنَّ اللَّه يعلمُ ما في السَّموات وما في الأرْض
راجِعٌ إليه .
وقوله تعالى : { اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب
وَأَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، لمَّا ذكر تعالى أنواع رَحْمَتِه لعبادِه ، ذكر
بَعْدَهُ شِدَّة العقابِ؛ لأنَّ الإيمان لا يَتِمٌُّ إلا بالرَّجَاء والخَوْفِ .
قال - عليه السلام - : « لو وُزِنَ المُؤمِنِ ورَجَاؤُهُ
لاعتدَلاَ » ، ثُمَّ ذكر بعدهُ ما يَدُلُّ على الرَّحْمَةِ ، وهو كونُهُ غَفُوراً
رَحِيماً ، وهذا يَدُلُّ على أنَّ جانبَ الرَّحْمَةِ أغْلَبُ؛ لأنَّهُ تعالى ذكر
فيما قَبْلُ أنْواع رَحْمَتِهِ وكرمِهِ ، ثُمَّ ذكرَ أنَّه شَدِيدُ العِقَابِ ،
ثُمَّ ذكر عَقِيبَهُ وصْفَيْنِ من أوْصَافِ الرحمةِ ، وهُوَ كَوْنُهُ غَفُوراً
رحيماً ، وهذا يَدُلُّ على تَغْلِيبِ جانبِ الرَّحمَةِ على جَانِب العذابِ .
قوله تعالى : { مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ } لما
قدَّم التَّرْغيبَ والتَّرْهيبَ بقوله : { أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب وَأَنَّ الله
غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، أتبعه بذِكْرِ التَّكْليفِ ، فقال تعالى : { مَّا عَلَى الرسول
إِلاَّ البلاغ } يَعْنِي : أنَّهُ مُكَلَّفٌ بالتَّبليغِ ، فلما بلَّغ خرجَ عن
العُهْدَةِ ، وبَقِيَ الأمْرُ من جانِبِنَا ، وإذا عَلِمَ بما تُبْدُونَ وما
تَكْتُمُونَ فإن خَالَفْتُمْ ، فاعلموا أنَّ اللَّهَ شديدُ العقاب ، وإنْ
أطَعْتُمْ فاعلمُوا أنَّ اللَّه غفورٌ رحيمٌ .
قوله : « إلاَّ البلاغُ » : في رفعه وجهان :
أحدهما : أنه فاعلٌ بالجارِّ قبله؛ لاعتماده على النفي ،
أي : ما استقرَّ على الرَّسُول إلا البلاغُ .
والثاني : أنه مبتدأ ، وخبره الجارُّ قبله ، وعلى
التقديرين ، فالاستثناء مفرَّغٌ
.
والبلاغُ يُحْتَمَلُ أن يكون مصدراً [ ل « بَلَّغَ »
مشدَّداً ، أي : ما عليه إلا التبليغُ ، فجاء على حذفِ الزوائدِ ، ك « نَبَات »
بعد « أنْبَتَ » ، ويحتمل أن يكون مصدراً ] ل « بَلَغَ »
مُخَفَّفاً بمعنى البُلُوغ ، ويكون المعنى : ما عليه إلا البُلُوغُ بتبليغه ،
فالبلوغُ مُسْتلزمٌ للتبليغِ ، فعبَّر باللاَّزمِ عن الملزوم .
قوله تعالى : { لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب } لمَّا
رغَّب - سبحانه وتعالى - في الطَّاعةِ ، والتَّنَزُّهِ عن المَعْصِيَةِ بقوله : {
اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب وَأَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، ثمَّ
أتْبَعَهُ بالتَّكليفِ بقوله تعالى : { مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ } { والله
يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } ، أتْبَعَهُ بِنَوْعٍ آخَر من
التَّرْغيبِ في الطَّاعَةِ وتَرْكِ المعْصِيَةِ ، فقال : { قُل لاَّ يَسْتَوِي
الخبيث والطيب } .
قال المُفَسِّرُون : أي : الحَلالُ والحرَامُ .
وقال السدِّيُّ : المُؤمِنُ والكَافِرُ ، وقيل :
المُطِيع والعَاصِي ، وقيل : الرَّدِيءُ والجيِّد .
قال القرطبي : وهذا على ضَرْبِ المثال ، والصَّحِيحُ
أنَّهُ عَامٌّ ، فيتَصَوَّر في المكاسبِ ، والأعمالِ ، والنَّاس ، والمعارف من
العُلُومِ وغيْرِها ، فالخَبِيثُ [ من هذا كُله لا يُفلح ولا يُنجِبُ ، ولا تَحْسن
له عَاقِبةٌ ] وإنْ كثُرَ ، والطَّيِّبُ وإنْ قَلَّ نافعٌ .
[ قوله تعالى ] : { وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث } .
نزلت في شُرَيْج بن ضُبَيْعَة البَكْري ، وحجَّاجِ بن
بكرِ بن وائل ، « فاتَّقُوا اللَّه » ولا تتعرَّضُوا للحجَّاج وإنْ كانُوا
مُشرِكِين ، وقد مَضَتِ القِصَّةُ أوَّلَ السُّورَة { ياأولي الألباب لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
} وجواب { وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ } : محذوفٌ ، أي : ولو أعْجبكَ كَثْرةُ
الخبيثِ ، لَما استوى مع الطَّيِّبِ ، أو : لما أجْدَى شيئاً في المساواة .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ
أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ
يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ
حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا
كَافِرِينَ (102)
في اتِّصال [ هذه الآية ] بما قَبْلَها وجوه :
أحدها :
أنَّه تعالى لمَّا قال { مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ
البلاغ } [ المائدة : 99 ] كأنَّه قال : ما بلَّغَهُ الرَّسُول إلَيْكُم ، فَخُذُوهُ
وكونوا مُنْقَادِين لَهُ ، وما لم يُبَلِّغْهُ إليكم ، فلا تسْألوا عنه ، ولا تخُوضُوا
فيه ، فإنَّكُم إن خضتم فيما لا تكليف فيه عَلَيْكم ، فربَّما جَاءَكُمْ بسبب ذلك
الخَوْضِ من التَّكْلِيف ما يَثْقُل عليْكم ويَشُقُّ .
وثانيها :
أنَّه تعالى لما قال { مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ
} [ المائدة : 99 ] وهذا ادعَاءٌ منهُ للرِّسالةِ ، ثُمَّ الكُفَّار كانوا
يُطالِبُونَهُ بعدَ ظُهُورِ المُعْجِزاتِ بمُعْجِزاتٍ أُخَر على سبيلِ
التَّعَنُّتِ ، كما حَكَى عَنْهُم قولهمُ : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ
لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] ، إلى قوله : { قُلْ سُبْحَانَ
رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً } [ الإسراء : 93 ] ، والمعنى : أنِّي رسولٌ
أمِرْتُ بتبْليغِ الشَّرائِعِ والأحْكَام إلَيْكُم ، واللَّه تعالى قد أقامَ
الدلالة على صِحَّةِ دعْوَى الرِّسالة بإظْهَارِ أنواعٍ كثيرةٍ من المُعْجِزَات ،
وطلبُ الزِّيادة بَعْدَ ذلك من بابِ التَّعَنُّتِ ، وذلك لَيْس في وُسْعِي ،
ولعلَّ إظْهَارَها يوجبُ ما يَسُوؤكُم ، مثل أنَّها لو ظَهَرَتْ فكُلُّ من خالفَ
بعد ذلك ، اسْتَوْجَبَ العِقَابَ في الدُّنيا ، ثُمَّ إنَّ المُسْلِمِينَ لمَّا
سَمِعُوا مُطالبَةَ الكُفَّار للرَّسُولِ بهذه المُعْجِزَات ، وقع في قُلوبِهِم
مَيْلٌ إلى ظُهُورها ، فَعَرفُوا في هذه الآية أنَّهم لا يَنْبَغِي أن يُطالِبُوا
ذلك ، فربما كان ظُهُورها يُوجبُ ما يَسُوؤهُم .
وثالثها : أنَّ هذا مُتَّصِلٌ بقوله : { والله
يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } [ المائدة : 99 ] ،
فاتركُوا الأمُورَ على ظَوَاهِرِهَا ، ولا تَسْألُوا عن أحْوال مُخِيفَةٍ إنْ
تُبْدَ لَكُم تَسُؤكُمْ .
قوله تعالى : « عَنْ أشْيَاءَ » : متعلق ب « تَسْألُوا »
. واختلف النحويُّون في « أشْيَاء » على خمسة مذاهب :
أحدها -
وهو رأي الخليل وسيبويه والمازنيِّ وجمهور البصريين - :
أنها اسمُ جمعٍ من لفظ « شَيْء » ، فهي مفردةٌ لفظاً جمعٌ معنًى؛ ك « طَرْفَاء » ،
و « قَصْبَاء
» ، وأصلها : « شَيْئاًء » بهمزتين بينهما ألفٌ ، ووزنها فعلاء؛ ك « طَرْفَاء » ،
فاستثقلوا اجتماع همزتين بينهما ألفٌ ، لا سيما وقد سبقها حرفُ علَّة ، وهي الياءُ
، وكَثُر دورُ هذه اللفظةِ في لسانهم ، فقلبوا الكلمةَ بأنْ قَدَّمُوا لامَها ،
وهي الهمزةُ الأولى على فائها ، وهي الشين؛ فقالوا « أشْيَاء » فصارَ وزنُها «
لَفْعَاء » ، ومُنِعَتْ من الصرف؛ لألف التأنيث الممدودة ، ورُجِّح هذا المذهبُ
بأنه لم يلزمْ منه شيءٌ غيرُ القَلْب ، والقلبُ في لسانهم كثيرٌ ك « الجَاهِ ،
والحَادِي ، والقسيِّ ، وناءَ ، وآدُرٍ ، وآرَامٍ ، وضِئَاء في قراءة قُنْبُل ،
وأيِسَ » ، والأصل : « وَجهٌ ، وواحِدٌ ، وقُووسٌ
، ونَأى ، وأدْوُرٌ ، وأرَامٌ ، وضِيَاء ، ويَئِسَ » ، واعترضَ بعضُهم على هذا بأن
القلْبَ على خلافِ الأصْلِ ، وأنه لم يَرِدْ إلا ضرورةً ، أو في قليلٍ من الكلام ،
وهذا مردودٌ بما قدَّمْتُه من الأمثلةِ ، ونحن لا نُنْكِرُ أنَّ القلبَ غير مُطَّردٍ؛
وأما الشاذُّ القليلُ ، فنحو قولهم : « رَعَمْلِي » في « لَعَمْرِي » ، و « شَوَاعِي » في «
شَوَائع » ؛ قال : [ الكامل ]
2055- وكَأنَّ أوْلاَهَا كِعَابُ مُقَامِرٍ ... ضُرِبَتْ
على شُزُنٍ فَهُنَّ شَوَاعِي
[ يريد شَوَائِع ] .
وأمَّا المذاهبُ الآتية ، فإنه يَرِدُ عليها إشكالاتٌ ،
هذا المذهبُ سالمٌ منها؛ فلذلك اعتبره الجُمْهُور دون غيره .
وقال ابنُ الخطيبِ : منعَ الصَّرْفُ لثلاثة أوجهٍ :
أحدها :
ما تقدَّم ، وهو أنَّ هذه الكلمةَ لمَّا كانَتْ في
الأصْلِ على وزن « فَعْلاء » مثل « حَمْرَاء » ، فلم يتَصَرَّفْ كَحَمْرَاء .
وثانيها : لمَّا كانَتْ في الأصْل « شيآء » ، ثُمَّ
جُعِلَت أشْيَاء مَنَعَ ذَلِكَ الصَّرْف .
وثالثها :
أنَّا لمَّا قَطَعْنَا الحَرْفَ الأخِيرَ منهُ ،
وجَعَلْنَاهُ أوَّلَه ، والكَلِمَةُ إذا قُطِع منها الحرْفُ الأخيرُ صارت كنصْفِ
كَلِمَة ، ونِصْفُ الكلمةِ لا تَقْبَلُ الإعراب ، ومن حيث إنَّ ذلك الحَرْفَ الذي قَطَعْنَاهُ
، لم نحذِفْهُ بالكُلِّيَّة ، بل ألصَقْنَاهُ بأوَّلِ الكَلِمَةِ ، فَكَأنَّها
بَاقِيَةٌ بِتَمامِهَا ، فلا جرم مَنْعْنَاهُ في بَعْضِ وُجُوه الإعراب دون
البَعْض .
الثاني - وبه قال الفراء - : أن « أشْيَاء » جمع ل « شَيْء » ، والأصل
في « شَيْء » : « شَيِّئ » على
« فَيْعِلٍ » ك « لَيِّن » ، ثم خُفِّفَ إلى « شَيْء » ؛
كما خففوا لَيناً ، وهَيِّناً ، وميِّتاً إلى لَيْنٍ ، وهيْنٍ ، وميْتٍ ، ثم جمعه
بعد تخفيفه ، وأصله « أشْيِئَاء » بهمزتين بينهما ألفٌ بعد ياءٍ بزنة « أفْعِلاء » ، فاجتمع همزتان : لامُ الكلمة والتي للتأنيث ،
والألف تشبهُ الهمزة والجَمْعُ ثقيلٌ ، فخَفَّفُوا الكلمة؛ بأن قلبوا الهمزة
الأولى ياءً؛ لانكسار ما قبلها ، فيجتمع ياءان ، أولاهما مكسورةٌ ، فحذفوا الياء
التي هي عينُ الكلمة تخفيفاً ، فصارت « أشْيَاء » ، ووزنها الآن بعد الحذف « أفْلاء »
فمَنْعُ الصرف؛ لأجْلِ ألفِ التأنيثِ ، وهذه طريقةُ بعضهم في تَصْريف هذا المذهب؛
كمكي بن ابي طالب ، وقال بعضهم كأبي البقاء : لمَّا صارت إلى أشْيِئَاء ، حُذِفَتِ
الهمزة الثانيةُ التي هي لام الكلمة؛ لأنَّها بها حصل الثِّقَلُ ، وفُتِحَتِ
الياءُ المكسورةُ؛ لتسلمَ ألف الجَمْعِ ، فصار وزنُها : أفْعَاء .
المذهب الثالث - وبه قال الأخفش - : أنَّ أشْياء جمعُ « شَيْءٍ » [ بزنة
فَلْسٍ ، أي : ليس مخفَّفاً من
« شَيِّئ » ، كما يقوله الفرَّاء ، بل جمع « شَيْء » ] ،
وقال : إنَّ فَعْلاً يجمعُ على أفْعِلاَء ، فصار أشْيِئَاء بهمزتَيْنِ بينهما ألفٌ
بعد ياء ، ثم عُمِلَ فيه ما عُمِلَ في مذْهَب الفرَّاء ، والطريقانِ المذْكُوران
عن مَكِّيٍّ وأبي البقاء في تصريف هذا المذهب جاريان هنا ، وأكثر المصنِّفين يذكرون
مذهب الفرَّاء عنه وعن الأخفش ، قال مكي : « وقال الفرَّاء والأخفش؛ والزياديُّ :
» أشْيَاء « وزنها » أفْعِلاء « ، وأصلها » أشْيِئَاء « ؛ ك » هَيِّنٍ وأهْوِنَاء « ، لكنه خُفِّفَ » .
ثم ذكر تصريفَ الكلمةِ إلى آخره ، وقال أبو البقاء : «
وقال الأخفشُ والفراء : أصلُ الكلمةِ » شَيِّئ « مثل » هَيِّنٍ « ، ثم خُفِّف بالحذف »
، وذكر التصريف إلى آخره ، فهؤلاء نقلوا مذهبهما شيئاً واحداً ، والحقُّ ما ذكرته
عنهُما؛ ويدلُّ على ما قلته ما قاله الواحديُّ؛ فإنه قال : « وذهبَ الفرَّاء في هذ
الحرف مذهب الأخفش » ، غير أنه خلطَ حين
ادَّعى أنها كهَيْنٍ وليْنٍ حين جمعا على أهْوِنَاء وألْيِنَاء ، وهَيْنٍ تخفيف «
هَيِّن » ؛ فلذلك جاز معه على أفْعِلاء ، وشَيْء ليس مخفَّفاً من « شَيِّئ » حتى
يُجْمَعَ على أفْعِلاء ، وهذان المذهَبَان - أعني مذهب الفراء والأخفشِ - وإن
سَلِمَا من منع الصَّرْف بغير علَّة ، فقد ردَّهُمَا الناس ، قال الزجَّاج : «
وهذا القَوْلُ غَلَطٌ؛ لأنَّ » شَيئاً « فعلٌ ، وفعلٌ لا يجمعُ على أفْعِلاء ،
فأما هَيِّنٌ وليِّنٌ ، فأصلُه : هَيِينٌ ولَيِينٌ ، فجُمِعَ على أفعلاء ، كما يُجْمَعُ
فَعِيلٌ على أفعلاء؛ مثل : نَصِيب وأنْصِبَاء » قال شهاب الدين : وهذا غريبٌ
جدًّا ، أعني كونه جعل أنَّ أصلَ « هيِّن » « هَيِين » بزنة فعيلٍ ، وكذا ليِّنٌ
ولَيِينٌ ، ولذلك صرح بتشبيههما بنصيبٍ ، والناسُ يقولون : إنَّ هَيِّناً أصله
هَيْونٌ ، كميِّتٍ أصله مَيْوتٌ ، ثم أعِلَّ الإعلال المعروف ، وأصل ليِّنٍ :
لَيْينٌ بياءين ، الأولى ساكنة والثانية مكسورةٌ ، فأدغمتِ الأولى ، والاشتقاقُ
يساعدُهم؛ فإن الهيِّنَ من هانَ يَهُونُ ، ولأنَّهم حين جمعوه على أفعلاء
أظْهَرُوا الواو ، فقالوا : أهْوِنَاء . وقال الزجَّاج : « إنَّ المازنيَّ ناظر الأخفش في
هذه المسألة ، فقال له : كيف تُصَغِّرُ أشْيَاء؟ قال : أقول فيها أُشيَّاء . فقال المازنيُّ
: لو كانت أفعالاً ، لرُدَّتْ في التصغير إلى واحدهَا ، وقيل : شُيَيْئَات ، مثل شُعَيْعات ، وإجماعُ
البصريِّين أن تصغير » أصدقَاء « إن كان لمؤنث » صُدَيِّقَات « ، وإن كان لمذكر :
» صُدَيقُونَ « فانقطع الأخْفَشُ » ، وبَسْطُ هذا أنَّ الجمع المُكَسَّرَ ، إذا
صُغِّرَ : فإمَّا أن يكون من جموع القلَّة ، وهي أربعٌ على الصحيح : أفْعِلَةٌ
وأفْعُل وأفْعَالٌ وفِعْلَةٌ ، فيُصَغَّرُ على لفظه ، وإن كان من جموع الكثرة فلا يُصغَّر
على لفظه على الصحيح ، وإنْ وردَ منه شيءٌ ، عُدَّ شَاذًّا ك « أصَيْلان » تصغير « أصْلاَن » جمع «
أصيل » ، بل يُرَدُّ إلى واحده؛ فإن كان من غير العقلاء ، صُغِّرَ وجُمِعَ بالألف
والتاء ، فتقول في تصغير حُمُرٍ جمع حِمارٍ : « حُمَيْرات » ، وإن كان من العقلاء
صُغِّرَ وجمع بالواو والنون ، فتقول في تصغير « رِجَال » : « رُجَيْلُونَ » ، وإن
كان اسم جمعٍ ك « قَوْم » و « رَهْط » أو اسم جنسٍ ، ك « قَمَر » و « شَجَر » صُغِّر على لفظه
كسائر المفردات ، رجعنا إلى « أشْيَاء » ، فتصغيرُهم لها على لفظها يَدُلُّ على
أنها اسمُ جمع؛ لأنَّ اسم الجمع يُصَغَّر على لفظه ، نحو : « رُهَيْط » و «
قُوَيْم » ، وليس بجمعِ تكسيرٍ؛ إذ هي من جموعِ الكثرة ، ولم تُرَدَّ إلى واحدها ،
وهذا لازمٌ للأخفشِ؛ لأنه بصريٌّ ، والبصريُّ لا بدَّ وأن يفعل ذلك ، وأصَيْلان
عنده شاذٌ ، فلا يقاسُ عليه ، وفي عبارة مَكِّيٍّ قال : « وأيضاً فإنه يلزمُهُم أن
يُصَغِّروا » أشْيَاء « على » شُوَيَّات « ، أو على » شُيَيْئَات « ، وذلك لم يَقُلْه
أحد » .
قال شهاب الدين : قوله « شُوَيَّات » ليس بجيِّد؛ فإن
هذا ليس موضع قلب الياء واواً ، ألا ترى أنك إذا صغَّرْتَ بيتاً ، قلت : بُيَيْتاً
لا بُوَيْتاً ، إلاَّ أنّ الكوفيِّين يُجيزُونَ ذلك ، فيمكنُ أن يُرَى رأيهم ، وقد
ردَّ مكيٌّ أيضاً مذهب الفراء والأخفش بشيئين :
أحدهما : أنه يلزمُ منه عدمُ النظير؛ إذ لم يقع «
أفْعِلاء » جمعاً ل « فَيْعِل » فيكون هذا نظيرهُ ، وهَيِّن وأهْوِنَاء شاذٌّ لا
يقاس عليه .
والثاني : أن حذفه واعتلاله مُجْرى على غير قياسٍ ، فهذا
القولُ خارجٌ في جمعه واعتلاله عن القياس والسَّماع .
المذهب الرابع - وهو قول الكسائي وأبي حاتم - : أنها
جمعُ شيءٍ على أفعالٍ ك « بَيْتٍ » و « أبْيَاتٍ » و « ضَيْفٍ » و « أضْيَافٍ » ، واعترض
الناس هذا القول؛ بأنه يلزم منه منعُ الصرفِ بغير علته؛ إذ لو كان على « أفْعَال » ، لانصرفَ كأبْيَاتٍ ، قال الزجَّاج « أجمع
البصريُّون وأكثر الكوفيِّين على أن قول الكسائيِّ خطأ ، وألزموه ألاَّ يصرفَ
أنْبَاء وأسْمَاء » . قال شهاب الدين : والكسائيُّ قد استشعر بهذا الردِّ ، فاعتذر
عنه ، ولكن بما لا يُقْبَلُ ، قال الكسائيُّ - رحمه الله - : « هي - أي أشياء -
على وزن أفعالٍ ، ولكنها كَثُرَتْ في الكلام ، فأشبهَتْ فعلاء ، فلم تُصْرَف كما
لم يُصْرَفْ حَمْرَاء » ، قال : « وجَمَعُوهَا أشَاوَى ، كما جمعوا عذرَاء وعَذارَى
، وصَحْرَاء وصَحَارى ، وأشْيَاوَات كما قيل حَمْرَاوَات » ، يعني أنهم عاملوا «
أشْيَاء » ، وإن كانت على أفعالٍ معاملةَ حَمْرَاء وعَذْرَاء في جمعي التكسير
والتصحيح ، إلا أن الفرَّاء والزجَّاج اعترضا على هذا الاعتذار ، فقال الفرَّاء :
« لو كان كما قال ، لكان أملكَ الوجهين أنْ تُجْرَى؛ لأن الحرْفَ إذا كَثُرَ في
الكلام ، خَفَّ وجاز أن يُجْرَى كما كَثُرَتِ التسميةُ ب » يَزِيدَ « ، وأجروه في
النَّكرة ، وفيه ياءٌ زائدةٌ تَمْنَعُ من الإجراء » . والمراد بالإجراء الصرْفُ ،
وقال الزجَّاج : « أجمع البصريون وأكثر الكوفيِّين » وقد تقدَّم آنفاً ، وقال مكي
: « وقال الكسائيُّ وأبو عُبَيْد : لم تَنْصَرِفْ - أي أشياء -؛ لأنها أشبهت » حَمْرَاء « ؛
لأن العرب تقول : » أشْيَاوَات « كما تقول : » حَمْرَاوَات « قال : » ويلزمُهما ألاَّ يَصْرِفَا في
الجمْعِ أسْمَاء وأبْنَاء لقول العرب فيهما : أسْمَاوَات وأبْنَاوَات « ، وقد تقدَّم
شرح هذا ، ثم إنَّ مَكِّيًّا - رحمه الله - بعد أن ذكر عن الكسائيِّ ما تقدَّم ،
ونقل مذهب الأخفشِ والفرَّاء ، قال : » قال أبو حاتم : أشياء أفعال جمع شَيءٍ
كأبياتٍ « فهذا يُوهِمُ أن مذهب الكسائيِّ المتقدِّمَ غيرُ هذا المذهب ، وليس كذلك ،
بل هو هو ، وقد أجاب بعضهم عن الكسائيِّ بأن النحويِّين قد اعتبروا في باب ما لا
يَنصرِفُ الشبه اللفظيَّ ، دون المعنويَّ ، يَدُلُّ على ذلك مسألةُ » سَراويلَ «
في لغةِ مَنْ يمنعُه؛ فإنَّ فيه تأويليْن : أحدهما : أنه مفردٌ أعجميٌّ ، حُمِلَ على
مُوازنِهِ في العربيَّة ، أي صيغة مصابيح مثلاً؛ ويدُلُّ له أيضاً أنهم أجروا ألف
الإلحاقِ المقْصُورة مُجْرَى ألف التأنيث المقْصُورة ، ولكن مع العلميَّة ،
فاعتبروا مُجَرَّدَ الصُّورة .
المذهب الخامس : أنَّ وزنها « أفْعِلاء » أيضاً جَمْعاً
ل « شَييءٍ » بزنة « ظَرِيفٍ » ، وفعيلٌ يجمع على أفْعِلاء ، ك « نَصِيبٍ
وأنْصِبَاء » ، و « صَديقٍ وأصْدِقَاء » ، ثم حُذِفت الهمزة الأولى التي هي لامُ
الكلمة ، وفُتحتِ الياءُ؛ لتسلمَ ألفُ الجمع؛ فصارت أشياء ، ووزنُها بعد الحذف أفْعَاء
، وجعله مَكِّيٌّ في التصريف كتصريف [ مذهب ] الأخفشِ؛ من حيث إنه تُبْدَلُ الهمزة
ياءً ، ثم تُحْذفُ إحدى الياءين ، قال - رحمه الله - : « وحَسَّنَ الحذفَ في الجمع
حَذْفُها في الواحد ، وإنما حُذِفَتْ من الواحد؛ تخفيفاً لكثرة الاستعمال؛ إذ »
شَيْء « يقعُ على كل مُسَمًّى من عرضٍ ، أو جوهرٍ ، أو جسمٍ ، فلم ينصرفْ لهمزةِ
التأنيثِ في الجمع » ، قال : « وهذا قولٌ حسنٌ جارٍ في الجَمْعِ ، وتُرِكَ الصرفُ
على القياس ، لولا أنَّ التصغير يعترضُهُ ، كما اعترض الأخْفَش » . قال شهاب الدين
: قوله « هذا قول حسن » ، فيه نظر؛ لكثرة ما يَرِدُ عليه ، وهو ظاهر ممَّا تقدَّم
، ولمَّا ذكر أبو حيان هذا المذهب ، قال في تصريفه : « ثمَّ حذفتِ الهمزة الأولى ،
وفتحت ياءُ المدِّ؛ لكون ما بعدها ألفاً » ، قال : « وَزْنُهَا في هذا القولِ إلى
» أفْيَاء « ، وفي القول قبله إلى » أفْلاء « ، كذا رأيته » أفْيَاء « ، بالياء ، وهذا غلطٌ فاحشٌ
، ثم إنِّي جوَّزتُ أن يكون هذا غلطاً عليه من الكاتبِ ، وإنما كانت » أفْعَاء «
بالعين ، فصحَّفها الكاتب إلى » أفْيَاء « ، وقد ردَّ الناس هذا القول : بأنَّ أصل
شَيْء : » شَيِيءٌ « بزنة » صديقٍ « دعوى من غير دليل ، وبأنه كان ينبغي ألاَّ
يُصَغَّر على لفظه ، بل يُرَدُّ إلى مفرده؛ كما تقدم تحريره .
وقد تلخص القول في « أشْيَاء » : أنها هَلْ هي اسمُ جمعٍ ،
وأصلها « شَيْئَاء » ؛ كطَرْفَاء ، ثم قُلِبت لامُها قبل فائِها ، فصار وزنُها «
لَفْعَاء » أو جمعٌ صريحٌ؟ وإذا قيل بأنها جمعٌ صريحٌ ، فهل أصلها « أفْعِلاء » ثم
تحذفُ ، فتصير إلى « أفْعَاء » أو « أفْلاَء » ، أو أنَّ وزنها « أفْعَال » ؛
كأبْيَات .
قوله تعالى : « إنْ تُبْدَ » شرط ، وجوابه « تَسُؤكُمْ »
، وهذه الجملة الشرطية في محلِّ جرِّ صفةً ل « أشْيَاء » ، وكذا الشرطيَّة
المعطوفة أيضاً ، وقرأ ابن عبَّاس : « إنَّ تَبْدُ لَكُمْ تَسُؤكُمْ » ببناء
الفعليْنِ للفاعلِ ، مع كون حرف المضارعةِ تاءً مثنَّاةً من فوقُ ، والفاعل ضميرُ
« أشْياء » ، وقرأ الشعبي - فيما نقله عنه أبو
محمَّد بن عطيَّة : « إنْ يَبْدُ » بفتح الياء من تحتُ ، وضم الدال ، « يَسُؤكُمْ
» بفتح الياء من تحتُ ، والفاعل ضميرٌ عائدٌ على ما يليق تقديره بالمعنى ، أي :
إنْ يَبْدُ لكُمْ جوابُ سؤالكُمْ أو سُؤلُكُمْ ، يَسُؤكُمْ ، ولا جائزٌ أن تعود
على « أشْيَاء » ؛ لأنه جارٍ مجرَى المؤنَّث المجازيِّ ، ومتى أسند فعلٌ إلى ضمير
مؤنَّثٍ مطلقاً ، وجبَ لَحَاقُ العلامة على الصحيح ، ولا يُلتفتُ لضرورة الشعر ، ونقل
غيره عن الشعبيِّ؛ أنه قرأ : « يُبْدَ لَكُمْ يَسُؤكُمْ » بالياء من تحت فيهما ،
إلا أنه ضمَّ الياء الأولى وفتح الثانية ، والمعنى : إن يُبْدَ - أي يُظْهَر -
السؤالُ عَنْهَا ، يَسُؤكُمْ ذلك السُّؤالُ ، أي : جوابُهُ ، أو هُوَ؛ لأنه سببٌ
في ذلك والمُبْدِيه هو اللَّهُ تعالى ، والضميرُ في « عَنْهَا » يحتمل أن يعود على نوعِ
الأشياءِ المنهِيِّ عنها ، لا عليها أنفسها ، قاله ابن عطيَّة ، ونقله الواحديُّ
عن صاحب « النَّظمِ » ، ونظَّرهُ بقوله
تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12
] يعني آدم ، « ثُمَّ جعلْنَاهُ » قال « يعني ابنَ آدَمَ » فعاد الضميرُ على ما
دلَّ عليه الأول ، ويحتملُ أن يعود عليها أنْفُسِها ، قاله الزمخشريُّ بمعناه .
قوله : { حِينَ يُنَزَّلُ القرآن } في هذا الظرفِ
احتمالان :
أظهرهما :
أنه منصوبٌ ب « تسْألُوا » ، قال الزمخشريُّ : « وإنْ
تَسْألُوا عنها : عن هذه التكاليفِ الصعبةِ ، حين يُنَزَّلُ القرآنُ : في زمانِ
الوحي ، وهو ما دام الرسولُ بين أظْهُرِكُمْ يُوحَى إليه تَبْدُ لكم تلك التكاليفُ
التي تَسُؤكُمْ وتُؤمَرُوا بتحمُّلِها ، فَتُعَرِّضُوا أنفسكُمْ لِغَضَبِ اللَّهِ؛
لتفريطكم فيها » ، ومن هنا قلنا : إنَّ الضمير في « عَنْهَا » عائدٌ على الأشياءِ الأولِ ، لا على
نوعها .
والثاني : أنَّ الظرف منصوبٌ ب « تُبْدَ لَكُمْ » ، أي :
تَظْهَرْ لكم تلك الأشياءُ حين نُزُولِ القرآنِ ، قال بعضهم : « في الكلامِ تقديمٌ
وتأخيرٌ؛ لأنَّ التقدير : عن أشياءَ ، إنْ تُسْألوا عَنْهَا ، تُبْدَ لكم حين
نُزولِ القرآنِ ، وإن تُبْدَ لَكُمْ ، تَسُؤكُمْ » ، ولا شك أن المعنى على هذا
الترتيب ، لا أنه لا يقالُ في ذلك تقديمٌ وتأخيرٌ ، فإنَّ الواو لا تقتضي ترتيباً
، فلا فرق ، ولكن إنما قُدِّم هذا أولاً على قوله : « وإنْ تَسْألُوا » ؛ لفائدةٍ
، وهي الزجرُ عن السؤالِ؛ فإنه قدَّم لهم أنَّ سؤالهم عن أشياء متى ظهرتْ ، أساءتهم
قبل أن يُخْبِرَهم بأنهم إنْ سألُوا عنها ، بدتْ لهم لينزجرُوا ، وهو معنًى لائقٌ .
قوله : { عَفَا الله عَنْهَا } فيه وجهان :
أحدهما :
أنه في محلِّ جرٍّ؛ لأنه صفةٌ أخرى ل « أشياء » ، ولا
حاجة إلى ادِّعاء التقديم والتأخيرِ في هذا؛ كما قاله بعضهم ، قال : « تقديرُه :
لا تَسْألُوا عن أشْيَاءَ عفا الله عَنْهَا إنْ تُبْدً لَكُمْ إلى آخر الآية » ؛ لأنَّ كلاًّ من الجملتين الشرطيَتَيْنِ وهذه
الجملة صفةٌ ل « أشْيَاء » ، فمِنْ أين أنَّ
هذه الجملةَ مستحقةٌ للتقديمِ على ما قبلها؟ وكأنَّ هذا القائل إنَّما قدَّرَها
متقدِّمةً؛ ليتضحَ أنها صفةٌ لا مستأنفةٌ .
والثاني :
أنها لا محلَّ لها؛ لاستئنافها ، والضميرُ في « عَنْهَا
» على هذا يعودُ على المسألةِ المدُلولِ عليها ب « لا تَسألُوا » ، ويجوزُ أنْ
تعودَ على « أشْيَاء » ، وإنْ كان في الوجه الأولِ يتعيَّن هذا؛ لضرورةِ الربطِ بين الصفةِ
والموصوف .
فصل في سبب نزول الآية
في سببِ نزولِ الآية : ما روى [ قتادة ] عن أنسْ : «
سألوا رسُول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى أحفوه بالمسْئَلَةِ ، فغضِبَ فصَعَد
المِنْبَر ، قال : » لا تَسْألُونِي اليَوْمَ عن شَيْءٍ إلاَّ بَيَّنْتُهُ لكم « ،
فجعلتُ أنظر يميناً وشمالاً ، فإذا كلّ رَجُل لاف رأسَهُ في ثوبِه يَبكِي ، فإذا [
رَجُلٌ ] كان [ إذا ] لاقى الرِّجالَ يُدْعَى لغير أبيه ، فقال : يا رسُول اللَّهِ ،
من أبِي؟ قال : » حُذافَةُ « ، ثم أنشأ عُمر - رضي الله عنه - فقال : رضينا
باللَّه رَبًّا وبالإسْلام ديناً ، وبمُحَمَّدٍ رسُولاً ، نعوذُ باللَّه من الفِتَنِ
، فقال رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : » ما رأيتُ في الخَيْرِ والشَّرِّ
كاليَوْمِ قَطّ ، إنه صُوِّرتْ لي الجنَّةُ والنَّارُ حتَّى رَأيْتُهُمَا ورَاءَ
الحَائِطِ « وكان قتادةُ يَذْكُر عِنْدَ هذا الحديثِ هذه الآية .
وقال يونُسُ عن [ ابن ] شهابٍ : أخْبَرَنِي عُبَيْد الله
بن عبد الله قال : قالتْ أمُّ عبد الله بن حُذافةَ لعبد الله بن حُذافَة : ما سمعت
بابْن قَطُّ أعقَّ منك أأمنت أن تكُونَ أمُّكَ قد فارقت بعْضَ ما يُفارق نساء
الجاهليَّةِ ، فتَفْضَحَهَا على أعْيُنِ النَّاسِ؟ قال عبد الله بن حُذَافة : »
واللَّهِ لَوْ ألْحَقَنِي بعبْدٍ أسْوَد [ لَلَحِقْتُه ] « .
ورُوِيَ أنَّ عُمَر قال : « يا رسُول الله ، أنا حَدِيثُ
عُهْدٍ [ بجاهلية ] ، فاعفُ عنَّا يَعْفُ اللَّهُ عَنْكَ ، فسكَنَ غَضَبُهُ » .
وروى ابْنُ عبَّاسٍ قال : كان قومٌ يَسْألُون رسُول الله
صلى الله عليه وسلم استهْزَاءً ، فيقول الرجل مَنْ أبِي؟ ويقولُ الرَّجُلُ تَضِلُّ
نَاقَتُهُ أين نَاقَتِي؟ فأنْزَلَ اللَّهُ تعالى هذه الآية .
ورُوِيَ عن عَلِيٍّ بن أبِي طالبٍ - رضي الله عنه - قال
: لمَّا نزلت { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } [ آل عمران : 97 ] ، قال
سُرَاقَةُ بن مالكٍ : - « ويروى عكاشَةُ بن محصن - يا رسُول اللَّهِ أفي كُلِّ عامٍ؟
فأعْرَضَ عنهُ ، فعاد مَرَّتَيْنِ أوْ ثلاثاً ، فقال رَسُول الله صلى الله عليه
وسلم » مَا يُؤمنكَ أنْ أقُولَ : نَعَمْ ، واللَّهِ لو قُلْتُ : نَعَمْ لوَجَبَتْ
، وَلَو وَجَبَتْ ما استطعْتُم ، فاتْركُونِي ما تَرَكْتُكُمْ ، فإنَّمَا هَلَكَ
مَنْ كان قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤالِهِم ، واخْتِلافِهِم على أنْبِيَائِهم ،
فإذا أمَرْتُكُمْ بأمْرٍ فأتُوا مِنْهُ ما اسْتَطعْتُمْ ، وإذا نَهَيْتُكُم عَنْ
شيءٍ فَاجْتَنِبُوهُ « فأنْزَل اللَّهُ هذه الآية .
فإنَّ من سألَ عن الحَجِّ لَمْ يَأمَنْ أنْ يُؤمَرَ به
في كُلِّ عامٍ فَيَسُوؤه ، ومن سألَ عن نَسَبِهِ لمْ يَأمَنْ أن يُلْحِقَه
بِغيرِهِ ، فَيَفْتَضِحَ .
وقال مُجَاهِد : نزلت حين سَألُوا رسُول اللَّهَ إنْ
أحَلَّ أحِلُّوا ، وإن حرَّمَ اجْتَنِبُوا ، ولو تَرَكَ بين ذلك أشياءَ لم
يُحَلِّلْهَا ولمْ يُحَرِّمها ، فذلك عَفْوٌ من اللَّهِ ، ثمَّ يَتْلُو هذه الآية .
وقال أبُو ثَعْلَبَة الخشني : إنَّ اللَّه إنْ أحَلَّ
تعالى بيَّنَ في الآية الأولى فرضَ فرائِضَ فلا تُضَيِّعُوهَا ، ونَهَى عن أشياء
فلا تَنْتَهِكُوهَا ، وحَدَّ حُدُوداً فلا تَعْتَدُوها ، وعَفَا عن أشْيَاءَ من
غير نِسْيَانٍ فلا تَبْحَثُوا عنها ، ثم إنَّ تلك الأشياء التي سألُوا عنها ظهر
لهم ما يسوؤهم .
وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : » إن من أعْظَمِ
المُسْلِمين في المُسْلِمين جُرْماً ، من سألَ عن شَيْءٍ لَمْ يُحرَّم فَحُرِّم من
أجْلِ مَسْألَتِهِ « .
وقوله
: { وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرآن
تُبْدَ لَكُمْ } معناه : إن صَبَرْتُمْ حتَّى [ ينزل ] القرآنُ بحكم من فرضٍ أو
نهيٍ ، وليسَ في ظاهرهِ شَرْح ما بكم فيه حَاجَةٌ ، ومَسَّتْ حَاجَتُكُمْ إليه ، فإذَا
سَألْتُم عَنْهَا حينئذْ تُبْدَ لَكُم { عَفَا الله عَنْهَا والله غَفُورٌ حَلِيمٌ } .
واعلم أنَّ السُّؤالَ على قسمَيْن :
أحدهما
: السُّوالُ عن شَيْءٍ لَمْ يَجْرِ ذكْرُه في الكتابِ
والسُّنَّة بوجه من الوُجُوه ، فهذا السُّؤالُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لهذه الآية .
والقسم الثاني : السُّؤال عن شيء نزل به القُرآنُ ،
لكنَّ السَّامِع لَمْ يَفْهَمْهُ كما يَنْبَغِي ، فَههُنَا يَجِبُ السُّؤالُ عنه ،
وهُوَ مَعْنَى قوله : { وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرآن تُبْدَ
لَكُمْ } .
والفائِدَةُ في ذِكْرِ هذا القسْمِ؛ أنَّه لما منعَ في
الآيَةِ الأولَى من السُّؤالِ ، أوْهَمَ أنَّ جَمِيع أنْوَاع السُّؤال مَمْنُوع
منه ، فذكرَ ذلك تَمْيِيزاً لهذا القِسْمِ عن ذَلِكَ .
فإن قيل : قوله : { وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا } ، هذا
الضَّمِيرُ عائدٌ إلى الأشياء المذكُورَة في قوله : { لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ
أَشْيَآءَ } ، فكيف يُعقلُ في » أشْياء
« بأعْيَانِهَا أن يكون السُّؤال عنهَا مَمْنُوعاً
وجَائِزاً معاً؟ .
فالجوابُ من وَجْهَيْن :
الأول : جاز أن يكون السُّؤالُ عنها مَمْنُوعاً قَبْلَ
نُزُولِ القُرْآنِ بِهَا ، ومأمُوراً بها بَعْدَ نُزُولِ القُرْآنِ بها .
الثاني :
أنَّهُمَا وإن كانا نَوْعَيْن مُخْتلِفَين ، إلاَّ
أنَّهُمَا في كوْنِ كلٍّ منهما واحدٌ مَسْؤولٌ عنه شَيْءٌ واحِدٌ ، فلهذا الوجه
حَسُنَ اتِّحَاد الضَّمِير ، وإن كان في الحَقيقَةِ نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْن .
فإن قيل : ما ذكر من كراهةِ السُّؤالِ والنَّهْي عنْهُ
يُعَارِضُهُ قوله تعالى : { فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [
الأنبياء : 7 ] فالجواب : هذا الذي أمَرّ اللَّهُ به عِبَادَهُ ، هو ما
تَقرَّرَ وثَبَتَ وُجُوبُهُ ، مِمَّا يَجِبُ عليهم العملُ به ، والَّذِي نَهَى عنه
هو ما لَمْ يَقْصِد اللَّهُ به عِبَاده ، ولم يَذْكُرْهُ في كِتَابِهِ .
قوله
: « قَدْ سَألَهَا » : الضميرُ في « سَألَهَا » ظاهرُه
يعود على « أشْيَاء » ، لكن قال الزمخشري
: « فإن قلتَ : كيف قال : لا تَسْألُوا عنْ أشْيَاء ، ثم قال : » قَدْ سَألَهَا «
ولم يقل سأل عنها؟ قلت : ليس يعودُ على أشياء؛ حتى يتعدَّى إليها ب » عَنْ « ،
وإنما يعودُ على المسألةِ المدلولِ عليها بقوله : » لا تَسْألُوا « ، أي : قد سأل
المَسْألَةَ قومٌ ، ثم أصبحُوا بها -
أي بمَرْجُوعِهَا - كافِرِين » ، ونحا ابن عطية منْحَاهُ
، قال أبو حيان : « ولا يتَّجِه قولُهما إلا على حذفِ مضافٍ ، وقد صَرَّحَ به بعضُ
المفسِّرين ، أي : قد سأل أمثالها ، أي : أمثالَ هذه المسألةِ ، أو أمثال هذه
السؤالاتِ » ، وقال الحُوفِيُّ في « سَألَهَا » : « الظاهرُ عَوْدُ الضَّميرِ على
» أشْيَاء « ولا يتّجه حَمْلُه على ظاهره ، لا من جهة اللفظ العربيِّ ، ولا من
جهةِ المعنى ، أمَّا من جهة اللفظ : فلأنه كان ينبغي أن يُعَدَّى ب » عَنْ « كما
عُدِّيَ في الأوَّل ، وأمَّا من جهة المعنى ، فلأنَّ المسئُول عنه مختلفٌ
قَطْعَاً؛ فإنَّ سؤالهم غيرُ سؤالِ من قبلهم؛ فإنَّ سؤال هؤلاء مثلُ من سَألَ :
أيْنَ نَاقَتِي ، وما فِي بَطْنِ نَاقَتِي ، وأيْنَ أبِي ، وأيْنَ مَدْخَلِي؟
وسؤالُ أولئك غيرُ هذا؛ نَحْو :
{ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً } [ المائدة : 114 ] {
أَرِنَا الله جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] { اجعل لَّنَآ إلها } [ الأعراف : 138 ]
وسؤال ثمود الناقة ، ونحوه » . وقال الواحديُّ - ناقلاً عن الجرجانيِّ - : وهذا السؤالُ
في هذه الآيات يخالفُ معنى السؤال في قوله : { لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ } {
وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا } ؛ ألا ترى أنَّ السؤال في الآية الأولى قد عُدِّيَ
بالجارِّ ، وها هنا لم يُعَدَّ بالجارِّ؛ لأن السؤالَ ها هنا طلبٌ لعينِ الشيء؛
نحو : « سَألْتُكَ دِرْهَماً » أي طلبته منْكَ ، والسؤالُ في الآية الأولى سؤالٌ
عن حالِ الشيء وكيفيَّتِهِ ، وإنما عطف بقوله { قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ } على ما
قبلَها وليستْ بمثلِها في التأويل؛ لأنه إنما نهاهم عن تكليف ما لم يُكَلَّفُوا ،
وهو مرفوعٌ عنْهم فهُمَا يَشْتَرِكَانِ في وصفٍ واحدٍ ، وهو أنَّه خوضٌ في
الفُضُولِ ، وفيما لا حَاجَةَ إلَيْه
.
وقيل : يجوز أن يعود على « أشْيَاء » لفظاً لا معنًى؛
كما قال النحويُّون في مسألة : « عِنْدِي دِرْهَمٌ ونِصْفُهُ » ، أي : ونِصْفُ دِرْهَمٍ
آخَرَ ، ومنه : [ الطويل ]
2056- وَكُلُّ أُناسٍ قَارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ...
ونَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَهُ فَهُوَ سَارِبُ
فصل
وقرأ النَّخَعِيُّ : « سَالَهَا » بالإمالة من غير همزٍ
وهما لغتان ، ومنه يتساولان فإمالتُه ل « سَألَ » كإمالة حمزة « خَافَ » ، وقد
تقدَّم تحقيقُ ذلك في البقرةِ عند قوله { فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } [
البقرة : 61 ] و { سَلْ بني إِسْرَائِيلَ } [ البقرة : 211 ] .
قال المُفَسِّرُون : يَعْنِي قوْمَ صَالِح ، سَألُوا
النَّاقَةَ ثُمَّ عَقَرُوهَا ، وقومَ مُوسى ، قالوا : أرنَا اللَّهَ جَهْرةً ،
فصارَ ذلِكَ وَبَالاً عليهم ، وبَنُوا إسْرَائيل قالوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ : { ابعث
لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ
عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي
سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ
عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } [ البقرة : 246 ] وقالوا : { أنى
يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ } [ البقرة : 247 ]
فسَألُوا ثمَّ كَفَرُوا ، فكأنَّه تعالى يَقُول : أولَئِكَ سَألُوا ، فلما أعْطُوا
سُؤلَهُم ساءَهُم ذلك ، فلا تَسْألوا شيئاً فَلَعَلُّكم إنْ أعطيتُمْ سُؤلكم ،
ساءكم ذلك .
قوله :
« مِنْ قَبْلِكُمْ » متعلق بقوله : « سَألَهَا » ، فإنْ
قيل : هَلْ يجوزُ أن يكون صفةً ل « قوم » ؟ فالجواب : منعَ من ذلك جماعة معتلِّين بأنَّ
ظَرْفَ الزمان لا يقعُ خبراً ، ولا صفةً ، ولا حالاً عن الجُثَّة ، وقد تقدَّم
نحوُ هذا في أوَّلِ البقرة عند قوله : { والذين مِن قَبْلِكُمْ } [ البقرة : 21 ]
، فإنَّ الصلةَ كالصفة ، و « بِهَا » متعلِّق ب « كَافرينَ » ، وإنما قُدِّم لأجْلِ
الفواصل .
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ
وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى
اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
لمَّا منع النَّاسَ من البَحْثِ عن أمُورٍ لَمْ يُكَلَّفُوا
بالبَحْثِ عنها ، كذلك مَنعَهُم من التزامِ أمُورٍ لَمْ يُكَلَّفُوا بالتِزَامِهَا
، ولمَّا كان الكُفَّار يحرِّمُون على أنْفُسِهِم الانْتِفَاعَ بهَذِهِ الحيوانات
، وإنْ كَانُوا في غاية الحَاجَة إلى الانْتِفَاع بها ، بيَّنَ اللَّهُ - تعالى -
أنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ .
« جَعَلَ » يجوز أن يكون بمعنى « سَمَّى » ويتعدَّى لمفعولَيْن
، أحدهما محذوف ، والتقدير : ما جَعَلَ - أي ما سَمَّى - اللَّهُ حيواناً [ بَحِيرَةً ] .
قاله أبو البقاء . وقال ابن عطيَّة والزمخشريُّ وأبو
البقاء : « إنَّها تكونُ بمعنى شرَعَ ووضَعَ ، أي : ما شَرَعَ اللَّهُ ولا أمَرَ »
، وقال الواحديُّ - بعد كلامٍ طويلٍ - « فمعنى ما جعل اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ : ما
أوْجَبَهَا ولا أمَرَ بِهَا » ، وقال ابنُ عطيَّة : « وجَعَلَ في هذه الآيةِ لا
تكُونُ بمعنى » خَلَقَ « ؛ لأنَّ الله خَلَقَ هذه الأشياء كلَّها ، ولا بمعنى »
صَيَّرَ « ؛ لأن التصْييرَ لا بُدَّ له من مفعولٍ ثانٍ ، فمعناه : ما سَنَّ الله
ولا شَرَعَ » . ومنع أبو حيان هذه النقولاتِ كلَّها بأنَّ « جَعَلَ » لم يَعُدُّ
اللغويُّون من معانيها « شَرَعَ » ، وخرَّجَ الآية على التَّصْييرِ ، ويكونُ
المفعولُ الثاني محذوفاً ، أي : ما صيَّّر الله بَحِيرَة مَشْرُوعَةً ، وفي قوله
لم يَعُدَّ اللغويُّون في معانيها « شَرَعَ » نظرٌ؛ لأن الآية المتقدمة تدل على
ذلك وهي قوله : { جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لِّلنَّاسِ } [ المائدة : 97 ] .
والبَحِيرَة : فعيلَةٌ بمعنى مفعُولَة ، فدخولُ تاءِ
التأنيثِ عليها لا ينقاس ، ولكن لَمَّا جَرَتْ مَجْرَى الأسماءِ الجَوَامِد
أُنِّثَتْ ، وقد تقدم إيضاح هذا في قوله { والنطيحة } [ المائدة : 3 ] ، واشتقاقُها من البَحْرِ ، والبَحْرُ :
السَّعَةُ ، ومنه « بَحْرُ المَاءِ » لِسَعَتِه وَهِيَ النَاقَةُ المَشْقُوقَةُ
الأُذُنِ ، يُقَالُ : بَحَرتُ أذن النَّاقَة إذَا شَقَقْتهَا شقّاً واسعاً ،
والنَّاقَةُ بَحِيرةٌ ومَبْحُورَةٌ
.
واختلف أهلُ اللغة في البحيرةِ عند العرب ما هي اختلافاً
كثيراً ، فقال أبو عُبَيْدٍ : « هي الناقةُ التي تُنْتَجُ خمسةَ أبطنٍ في آخِرِهَا
ذكرٌ ، فتُشَقٌّ أذُنُهَا ، وتُتْرَكُ فلا تُرْكَبُ ولا تُحْلَبُ ولا تُطْرَدُ عن
مَرْعىً ولا ماءٍ ، وإذا لَقِيَهَا المُعْيي لم يركبْهَا » ورُوِيَ ذلك عن ابن
عبَّاس ، إلا أنه لم يذكُرْ في آخرها ذَكَراً ، وقال بعضُهُمْ : « إذَا أُنْتِجَتِ
الناقَةُ خَمْسَةَ أبْطُنٍ ، نُظِر في الخامس : فإن كان ذَكَراً ، ذبحوه وأكَلُوه
، وإن كان أنثى ، شَقُّوا أذنها وتركُوها تَرْعَى وتَرِدُ ولا تُرْكَبُ ولا
تُحْلَبُ فهذه هي البَحِيرَةُ » ، ورُوِيَ هذا عن قتادة ، وقال بعضهم : «
البحيرَةُ : الأنثى الَّتِي تكونُ خَامِسَ بطنٍ؛ كما تقدَّم بيانُه ، إلاَّ أنها لا يَحِلُّ
للنساءِ لَحْمُها ولا لَبَنُها ، فإن ماتَتْ حَلَّتْ لهن » ، وقال بعضُهُم : «
البَحِيرَةَ : بِنْتُ السَّائبة » ، وسيأتي تفسيرُ « السَّائِبَة » ، فإذا ولدَتِ السائبةُ
أنْثَى شقُّوا أذنها وتركُوها مع أمِّها ترعى وتَرِدُ ولا تُحْلَبُ ولا تُرْكَبُ
حتَّى لِلْمُعْيِي ، وهذا قولُ مجاهدٍ ، وابنِ جُبَيْر ، وقال بعضُهُمْ : « هِيَ
التي مُنِعَ دَرُّهَا - أي لَبَنُهَا - لأجْلِ الطَّواغِيتِ ، فلا يَحْلِبُهَا
أحَدٌ » وقال بهذا سَعِيدُ بنُ المُسَيِّبِ ، وقيل : هي التي تُتْرَكُ في
المَرْعَى بلا راعٍ ، قاله ابنُ سيدة ، وقيل : إذا ولدَتْ خَمْسَ إنَاثٍ شَقُّوا أذُنَهَا
وتَرَكُوهَا .
نَقَلَ القُرْطِبِي عن الشَّافِعِيِّ رحمه الله ، أنَّهُ
قال : إذا أنْتَجَتِ النَّاقَةُ خَمْسَةُ أبْطُنٍ إناثٍ بُحِرَتْ أذُنُهَا ،
فحَرُمَتْ ، قال : محرمة لا يَطْعمُ النَّاسُ لَحْمَها وقال بعضُهُمْ - ويُعْزَى
لِمَسْرُوقٍ - : « إنَّهَا إذا وَلَدَتْ خَمْساً ، أو سَبْعاً ، شَقُّوا أذُنَهَا
» ، وقيل : « هي الناقةُ تَلِدُ عَشرةَ أبْطُنٍ ، فَتُشَقُّ أذنُها طُولاً
بنصْفَيْن ، وتُتْرَك؛ فلا تُرْكَبُ ولا تُحْلَبُ ولا تُطْرَدُ عن مرعى ولا ماءٍ ،
وإذا ماتَتْ ، حَلَّ لحمها للرجالِ دون النساء » ،
نقله ابن عطية ، وكذا قاله أبو القاسم الرَّاغب ، وقيل : البَحِيرَةُ السَّقْبُ ،
إذا وُلِدَ ، نَحَرُوا أذنه ، وقالُوا
: اللَّهُمَّ ، إنْ عاشَ ، فَقَنِيٌّ ، وإن مات ،
فَذَكِيٌّ ، فإذا مات ، أكلُوه ، ووجه الجمع بين هذه الأقوالِ الكثيرة : أنَّ
العربَ كانت تختلفُ أفعالُها في البحيرة .
والسائبةُ قيل : كان الرَّجُل إذا قَدِمَ من سفرٍ أو
شُكْرِ نعمةٍ ، سَيَّبَ بعيراً فلم يُرْكَبْ ويفعل به ما تقدَّم في البحيرَة ،
وهذا قول أبي عُبَيْد ، وقيل : هي الناقة تُنْتَجُ عَشْرَة إناثٍ ، قال القرطبيُّ
: ليْس بينهن ذكرٌ؛ فلا تُرْكبُ ولا يَشْرَب لبنهَا إلا ضَيْفٌ أو ولدٌ ، قاله
الفراء ، وقيل : ما تُرِكَ لآلهتهم ، فكان الرجُلُ يجيء بماشيتهِ إلى السَّدنة
فيتركه عندهم ويسيل لبنه ، وقيل : هي الناقَةُ تُتْرَكُ ليُحَجَّ عليها حَجَّة ،
ونُقِلَ ذلك عن الشافعيِّ ، وقيل : هو العبدُ يُعْتَقُ على ألاَّ يَكُونَ عليه
ولاءٌ ، ولا عَقْلٌ ولا ميراثٌ قاله عَلقَمَةُ .
والسَّائِبَةُ هنا : فيها قولان :
أحدهما
: أنها اسمُ فاعلٍ على بابه ، من سَابَ يَسِيبُ ، أي
يَسْرَحُ ، كسَيَّبَ المَاءَ ، وهو مطاوعُ سَيَّبْتُهُ ، يقال : سَيَّبْتُهُ
فَسَابَ وانْسَابَ .
والثاني :
أنه بمعنى مفعُول؛ نحو : « عِيشَة رَاضِيَة » ، ومجيءُ
فاعل بمعنى مفعول قليلٌ جدًّا؛ نحو : « ماء دافق » ، والذي ينبغي أن يُقال : إنه
فاعلٌ بمعنى ذي كذا ، أي : بمعنى النَّسَب ، نحو قولهم : لابنٌ ، أي : صَاحِبُ لبنِ
، ومنه في أحدِ القولَيْن : « عِيشَةٌ رَاضِيَةٌ ، ومَاءٌ دَافِقٌ » ، أي : ذاتُ رِضاً ، وذو دَفْقٍ ، وكذا هذا ، أي :
ذَاتُ سَيْبٍ .
والوصِيلَةُ هنا فعليةٌ بمعنى فاعلةٍ على ما سيأتي
تفسيرُهُ ، فدخولُ التاءِ قياسٌ ، واختلف أهلُ اللغةِ فيها ، هَلْ هي من جنْسِ
الغَنَم ، أو من جنْسِ الإبلِ؟ ثم اختلَفُوا بعد ذلك أيضاً ، فقال الفرَّاء : « هي
الشَّاةُ تُنْتَجُ سبعةَ ابطُنٍ عَناقَيْنِ عَناقَيْنِ ، فإذا ولدتْ في آخرِهَا
عَنَاقاً وجَدْياً ، قيل : وصلتْ أخَاهَا ، فجَرَتْ مَجْرَى السَّائبة » ، وقال الزجَّاج
: « هي الشَّاة إذا ولدتْ ذكراً ، كان لآلهتهمْ ، وإذا ولدتْ أنثى ، كانت لهم » ،
وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنه - : « هِيَ الشَّاةُ تُنْتَجُ سبْعَةَ أبْطُنٍ ،
فإذا كان السابعُ أنْثَى ، لم تنتفعِ النساء منها بشَيْء ، إلا أنْ تموتَ
فيأكُلَهَا الرجَالُ والنِّسَاء ، وإنْ كانَتْ ذَكَراً ذبحُوه وأكلُوه جميعاً ،
وإنْ كان ذكراً وأنثى ، قالوا : وصلتْ أخَاهَا ، فيتركُونَها معهُ لا تُذْبَحُ ولا
ينتفعُ بها إلا الرجالُ ، دون النِّساء ، فإن ماتتِ ، اشتركْنَ مع الرجالِ فيها »
، وقال ابن قُتَيْبَةَ : إن كان السابعُ ذَكَراً ، ذُبِحَ وأكله الرجال ، دون النساء ،
وقالوا :
{ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا
} [ الأنعام : 139 ] وإنْ كانَتْ أنثى ، تُرِكَتْ في الغنمِ ، وإن كان ذَكَرَاً وأنْثَى
فكقَوْلِ ابن عبَّاس ، وقيل : « هي الشَّاةُ تنتجُ عشْرَ إناثٍ متوالياتٍ في
خَمْسة أبطنٍ ، ثم ما ولدتْ [ بعد ذلك ، فللذكورِ دون الإناث » وبهذا قال أبو
إسحاق ، وأبو عُبَيْدَة ، إلا أن أبا عُبَيْدَة قال : « وإذَا وَلَدَتْ ] ذكراً
وأنثى معاً ، قالوا : وَصَلَتْ أخَاهَا ، فلم يذبَحُوه لمكانِهَا » ، وقيل : هي
الشَّاة تُنْتَجُ خَمْسَةَ أبطنٍ أو ثلاثةً ، فإن كان جَدْياً ذَبَحُوه ، وإن كان
أنثى أبْقَوْهَا ، وإن كان ذَكراً وأنثى ، قالوا : وصلَتْ أخاها ، هذا كلُّه عند
من يَخُصُّها بجنْسِ الغَنَمِ ، وأما من قال : إنها من الإبل فقال : « هي
النَّاقَةُ تبتكرُ ، فتلدُ أنثى ، ثم تُثَنِّي بولادةِ أنثى أخرى ، ليس بينهما
ذكَرٌ ، فيتركونها لآلهتهم ، ويقولون : قد وصلتْ أنثى بأنثى ، ليس بينهما ذكرٌ » .
والحَامِي : اسمُ فاعلٍ من حَمَى يَحْمِي أي : مَنَعَ ،
واختلف فيه أهلُ اللغة ، فعن الفرَّاء : « هو الفحْلُ يُولَدُ لولدِ ولدِه ،
فيقولون : قد حَمَى ظهرَه ، فلا يُرْكبُ ولا يُستعملُ ولا يُطْرَدُ عن ماءٍ ولا
شجرٍ » ، وقال بعضهم : « هو الفحْلُ يُنْتجُ من بَيْن أولاده ذكُورَها وإناثَهَا عشْر
إنَاثٍ » ، روى ذلك ابن عطيَّة . وقال بعضهم : هو
الفحْلُ يُولَدُ مِنْ صُلْبهِ عَشَرَةُ أبْطُنٍ ، فيقولون قد حَمَى ظهرَهُ ،
فيتركونَهُ كالسائبةِ فيما تقدَّم ، وهذا قول ابن عبَّاس وابنِ مسْعُود ، وإليه
مال أبو عُبَيْدَة والزجَّاج ، ورُوِيَ عن الشافعيِّ : أنه الفَحْلُ يَضْرِبُ في
مال صاحبِهِ عَشْرَ سنينَ ، وقال ابن زَيْدٍ : هو الفحلُ يُنْتَجُ له سَبْعُ إناثٍ
متوالياتٍ ، فيَحْمِي ظهره ، فيُفْعَلُ به ما تقدَّم ، فهذا منشأ خلاف أهْلِ اللغة
في هذه الأشياءِ؛ أنه باعتبار اختلافِ مذاهب العرب وآرائهم الفاسِدَة فيها ، وقد
أنشد أهل اللغة في كلِّ واحدٍ من هذه الألفاظ معنًى يخُصُّه؛ فأنْشَدُوا في
البحيرةِ قوله : [ الطويل ]
2057- مُحَرَّمَةٌ لا يَطْعَمُ النَّاسُ لَحْمَهَا ...
ولا نَحْنُ فِي شيءٍ كَذاكَ البَحَائِرُ
وأنشدوا في السَّائبةِ قوله : [ الطويل ]
2058- وَسَائِبَةٍ لله مالِي تَشَكُّراً ... إن اللَُّ
عَافَى عَامِراً أوْ مُجَاشِعَا
ونشدوا في الوصيلةِ لتَأبَّطَ شَرًّا : [ الطويل ]
2059- أجِدَّكَ أمَّا كُنْتَ فِي النَّاسِ نَاعِقاً ...
تُرَاعِي بأعْلَى ذِي المَجَازِ الوَصَايلا
وأنشدوا في الحَامِي قوله : [ الطويل ]
2060- حَمَاهَا أبُو قَابُوسَ فِي عِزِّ مُلْكِهِ ... كَمَا
قَدْ حَمَى أوْلادَ أولادِهِ الفَحْلُ
فصل
قال سعيدُ بن المُسَيِّبِ : البَحِيرَةُ الَّتِي دَرُّها
للطَّواغِيتِ ، فلا يَحْلِبُها أحدٌ من النَّاسِ ، والسَّائِبَةُ كانوا يسيبّونها
لآلهتهم لا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شيء
.
قال أبو هُرَيْرَة - رضي الله عنه - ، قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : « رَأيْتُ عَمْرو بن عَامرٍ الخُزَاعِي يجر قُصْبَهُ في النَّار؛
وكان أوَّل من سَيَّبَ السَّوَائِبِ
» .
وروى أبو هريرة قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
لأكثم بن الجون الخُزَاعِي « يَا أكثَمُ ، رَأيْتُ عَمْرو بن لحي بن قمعة بن خِنْدف يَجُرُّ
قصبَهُ في النَّار؛ فما رَأيْتُ من رَجُلٍ أشْبَه من رَجُلٍ مِنْكَ به ، ولا بِه مِنْكَ؛
وذلك لأنَّه أوَّل من غَيَّر دينَ إسْمَاعيل ، ونَصَبَ الأوْثَانِ ، وبَحَر
البَحَائِر ، وسَيَّبَ السَّائِبَة ، ووصلَ الوصِيلَةَ ، وحمى الحَامِي ، ولقد
رَأيْتُه في النَّار يؤذِي أهْلَ النَّار بريح قصبِهِ » فقال أكْثَم أيَضُرُّنِي شَبَهُهُ يا
رسُول اللَّهِ؟ قال : « لا . إنَّك مُؤمِنٌ وهو كَافِرٌ » .
فإن قيل : إذا جَاز إعْتَاقُ العَبيدِ والإماء ، فَلِمَ
لا يجوزُ إعْتَاقُ هذه البهائِمِ من الذَّبْحِ والإيلامِ؟ فالجوابُ من وجهين :
الأوَّل : إنَّ الإنسانَ مَخْلُوقٌ لِخِدْمة اللَّه وعُبُودِيَّتِهِ
، فإذا تمرَّد عن الطَّاعَةِ ، عُوقِبَ بضَرْب الرِّقِّ عَلَيْه ، فإذا أُزِيلَ
الرِّقُ عنه تَفَرَّغَ لعِبَادة اللَّهِ تعالى ، وكان ذَلِكَ عِبَادَة
مُسْتَحْسَنَة ، وأمَّا هذه الحيوانَات ، فإنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِمَنَافعِ
المُكَلَّفين ، فَتَرْكُهَا وإهمالُها يَقْتَضِي فوات مَنْفَعَةٍ على مَالِكَها ،
مِنْ غير أنْ يَحْصُلَ في مُقَابلَتِهَا فَائِدة .
والثاني : أنَّ الإنْسَان إذا أُعْتِق ، قدَر على
تَحْصِيل مَصَالِح نَفْسِه ، والبَهِيمَةُ إذا عُتِقَتْ وتُرِكَت ، لم تَقْدِرْ
على تَحْصِيل مَصَالِحِ نَفْسِها ، بل تَقَعُ في أنْواعٍ من المِحْنَة أشَدّ وأشَقّ
مما كانت فيها حَالَ ما كانَتْ مَمْلوكةً ، فافْتَرقَا .
فصل
قال القرطبي : تَعَلَّقَ أبُو حنيفَةَ في منعه الأحْبَاس
وردِّ الأوْقَافِ ، بأنَّ اللَّه تعالى عَابَ على العَرَبِ أفْعَالَهُم في تَسييب
البَهَائِم وحِمَايتهَا ، وحَبْس أنْفسها عَنْهَا ، وقاسَ ذَلِكَ على البَحِيرَةِ والسَّائِبَةِ .
قال القُرْطُبِيُّ : والفرْقُ بَيِّنٌ ، قال عَلْقَمَةُ لمن
سألَهُ عن هَذِه الأشْيَاء ، ما تُريدُ إلى شَيْء كان من عَمَلِ الجاهلية؟! وقد
ذهب جُمْهُور العُلَمَاءِ على جَوَازِ الأحْبَاسِ والأوْقَاف ، لما رَوَى نَافِعٌ
، عن ابن عُمَر : « أنَّه اسْتَأذَنَ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، بأن
يَتَصَدَّق بسَهْمِه بِخَيْبَر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » احْبِسِ
الأصْل أو سبل الثَّمَرَة « .
ثم قال تعالى { ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على
الله الكذب } .
قال ابنُ عبَّاس : يريدُ عَمْرو بن لُحَيّ وأعوانه ، {
يَفْتَرُونَ على الله } هذه الأكَاذِيب ، ويقولون : أمرْنا بِهَا ، قالُوا : وساءَ ما
يَفْتَرُون على اللَّهِ الكذب ، والأتْبَاعُ والعوام أكَثرهُمُ لا يَعْقِلُون .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا
أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
قوله
{ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول }
أي ] في تحليل الحَرْثِ والأنعامِ ، وبيان الشرائع والأحكام ، قالُوا : حَسْبُنَا
ما وجدنَا عليه آباءَنَا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون وهذا رد على
أصحاب التقليد .
قوله تعالى : { حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ
} « حَسْبُنَا » مبتدأ ، وقد تقدَّم أنه في الأصلِ مصدرٌ ، والمرادُ به اسمُ
الفاعل ، أي : كَافِينَا ، وتفسيرُ ابن عطية له ب « كَفَانَا » تفسيرُ معنًى ، لا إعراب ،
و « مَا وَجَدْنَا » هو الخبر ، و
« مَا » ظاهرُها أنها موصولة اسميةٌ ، ويجوز أن تكون
نكرةً موصوفةً ، أي : كَافِينَا الذي وجدنا ، و « وَجَد » يجوز أن يكون بمعنى
المُصَادفة ، ف « عَلَيْهِ » يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلق ب « وَجَدْنَا » وأنه متعدٍّ لواحد .
والثاني :
أنه حال من « آباءَنَا » ، أي : وجدناهم مُسْتَقِرينَ
عليه ، ويجوز أن يكون بمعنى العلْمِ ، فيتعدَّى لاثنين ثانيهما « عَلَيْهِ » .
وقوله
: { أَوَلَوْ كَانَ } قد تقدَّم إعراب هذا في البقرة [
الآية 170 ] ، وأنَّ « لَوْ » هنا معناها الشرط ، وأنَّ الواوَ للحال ، وتقدَّم تفسيرُ
ذلك كلِّه؛ فأغنى عن إعادته ، إلاَّ أنَّ ابن عطيَّة قال هنا : « ألِفُ التوقيفَ دخلَتْ
على واو العَطْف » قال شهاب الدين : تسميةُ هذه الهَمْزةِ للتوقيفِ فيه غرابةٌ في
الاصطلاحِ ، وجعلَ الزمخشريُّ هذه الواو للحالِ ، وابنُ عطيَّة جعلها عاطفةً ،
وتقدَّم الجمعُ بين كلامهما في البقرة ، واختلافُ الألفاظِ في هاتين الآيتينِ -
أعْنِي آيةَ البقرةِ ، وآية المائِدَة - مِنْ نَحْو قوله هناك : « اتَّبِعُوا »
وهنا « تَعَالَوْا » وهناك « ألْفَيْنَا » وهنا « وَجَدْنَا » من باب التفنُّن في
البلاغة .
واعلم : أنَّ الاقْتِدَاء إنَّما يَجُوزُ بالعالِمِ
المُهْتَدِي ، وهو الذي قولُهُ مَبْنِيٌّ على الحُجَّةِ والدَّليل ، فإن لمْ يكُنْ
كذلِكَ لم يَكُنْ عالماً مهتدياً ، فلا يَجُوزُ الاقْتِدَاءُ به .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ
لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ
جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
لمَّا بين أنَّ هؤلاء الجُهَّالِ لم ينتَفِعُوا بِشَيءٍ
ممَّا تقدَّم من التَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ ، بل بَقُوا مُصِرِّين على جَهْلهم
وضَلالِهم ، قال : فَلا تُبَالوا أيّها المُؤمِنُون بجهالاتِهِم ، بل كُونُوا
مُنْقَادِين لتَكَالِيفِ اللَّهِ تعالى ، فلا يضُّرُّكم ضلالَتُهُم .
قوله : « عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ » : الجمهورُ على نَصْب « أنْفُسَكُمْ »
وهو منصوب على الإغْرَاء ب « عَلَيْكُمْ » ؛ لأنَّ « عَلَيْكُمْ » هنا اسمُ فعلٍ؛ إذ
التقديرُ : الزمُوا أنْفُسَكُمْ ، أي : هَدايَتَهَا وحِفْظَهَا مِمَّا يُؤذِيَها ،
ف « عَلَيْكُمْ
» هنا يرفعُ فاعلاً ، تقديره : عَلَيْكُمْ أنْتُمْ؛ ولذلك يجوز أن يُعْطَفَ عليه
مرفوعٌ؛ نحو : « عَلَيْكُمْ أنْتُمْ وزَيْدٌ الخَيْرَ » ؛ كأنك قُلْتَ : الزَمُوا
أنتم وزَيْدٌ الخَيْرَ ، واختلف النحاةُ في الضميرِ المتصلِ بها وبأخواتها؛ نحو :
إلَيْكَ ولدَيْكَ ومَكَانَكَ ، فالصحيحُ أنه في موضع جرٍّ؛ كما كان قبلَ أن
تُنْقَلَ الكلمةُ إلى الإغراء ، وهذا مذهب سيبويه ، واستدلَّ له الأخفشُ بما حكى
عن العرب « عَلَى عَبْدِ الله » بجرِّ « عَبْدِ الله » وهو نصٌّ في المسألة ، وذهب
الكسائيُّ إلى أنه منصوبُ المحلِّ ، وفيه بُعْدٌ؛ لنصبِ ما بعدهما ، أعني « عَلَى
» وما بعدها كهذه الآية ، وذهب الفرَّاء إلى أنه مرفوعُه .
وقال أبو البقاء - بعد أن جعل « كُمْ » في موضع جرّ ب «
عَلَى » بخلافِ « رُوَيْدَكُمْ
» - : « فإن الكاف هناك للخطَابِ ، ولا موضع لها ، فإن »
رُوَيْد « قد استُعملتْ للأمر المواجه من غير كافِ الخطابِ ، وكذا قوله تعالى : {
مَكَانَكُمْ } [ يونس : 28 ] » كُمْ « في محل جَرٍّ » ، وفي هذه المسألة كلامٌ
طويلٌ ، صحيحُه أنَّ « رُوَيْد » تارةً يكون ما بعدها مَجْرُورَ المحلّ وتارةً منصوبَهُ
، وقد تقدَّمَ في سورةِ النساءِ الخلافُ في جواز تقديمِ معمُولِ هذا البابِ عليه .
قال ابنُ الخطيب : قال النَّحْوِيُّونَ : « عَلَيْك ، وعِنْدَك
، ودُونَك » من جُمْلة أسْماءِ الأفْعَال ، فَيُعدُّونَهَا إلى المَفْعُول ،
ويُقِيمُونَهَا مقامَ الفِعْلِ ، وينصِبُون بِهَا ، فإذا قال : « عَلَيْك [ زيداً ] » كأنه قال :
خُذْ زيْداً [ فقد عَلاَك ، أي أشْرَفَ عليْك ] ، وعِنْدَك زَيْداً ، أي : حَضَرَك
فَخُذْهُ ، و « دُونَك » أي : قَرُبَ مِنْكَ فَخُذْهُ ، فهذه الأحرف الثلاثَةُ لا خِلاَف
بَيْن النُّحَاة في جوازِ النَّصْب بِهَا .
وقرأ نافعُ بن أبي نُعَيْمٍ : « أنْفُسُكُمْ » رفعاً فيما حكاه
عنه صاحبُ « الكشَّاف » ، وهي مُشْكَلِةٌ ، وتخريجُها على أحد وجهين : إمَّا
الابتداء ، و « عَلَيْكُمْ » خبره مقدَّم عليه ، والمعنى على الإغْراء أيضاً؛
فإنَّ الاغراء قد جاء بالجملة الابتدائيَّة ، ومنه قراءةُ بعضهم { نَاقَةَ الله
وَسُقْيَاهَا } [ الشمس : 13 ] ، وهذا تحذيرٌ نظيرُ الإغراء .
والثاني من الوجهين : أن تكون توكيداً للضميرِ المُستترِ
في « عَلَيْكُمْ » ؛ لأنه كما تقدَّم تقديره قائمٌ مقام الفعْلِ ، إلا أنه شَذَّ
توكيدُه بالنفس من غير تأكيدٍ بضمير منفصلٍ ، والمفعولُ على هذا محذوفٌ ، تقديرُه
: عَلَيْكُمْ أنْتُمْ أنْفُسُكُمْ صَلاحَ حالِكُمْ وهدايَتَكُمْ .
قوله : « لا يَضُرُّكُمْ » قرأ الجمهور بضمِّ الراء مشددة
، وقرأ الحسن البصريُّ : « لا يَضُرْكُمْ » بضم الضادِ وسكُونِ الراء ، وقرأ
إبراهيمُ النَّخَعِيُّ : « لا يَضِرْكُمْ » بكسر الضادِ وسكون الراءِ ، وقرأ ابو
حيوة : « لا يَضْرُرُكُمْ » بسكون الضاد وضم الراء الأولى والثانية .
فأمَّا قراءةُ الجمهور : فتحتمل وجهين :
أحدهما
: أن يكون الفعلُ فيها مَجْزُوماً على جوابِ الأمر في «
عَلَيْكُمْ » ، وإنما ضُمَّتِ الراءُ إتباعاً لضمَّةِ الضَّادِ ، وضمةُ الضادِ هي
حركةُ الراء الأولى ، نُقِلَتْ للضَّادِ [ لأجلِ ] إدغامها في الراء بعدها ،
والأصْلُ : « لا يَضْرُرْكُمْ » ، ويجوز أن يكون الجزمُ لا على وجه الجواب للأمرِ ، بل
على وجهِ أنه نهي مستأنفٌ ، والعملُ فيه ما تقدَّم؛ وينصُرُ جواز الجزمِ هنا على
المعنيين المذكورينِ من الجواب والنهْيِ : قراءةُ الحسنِ والنخَعِيِّ؛ فإنهما
نَصٌّ في الجزْمِ ، ولكنهما محتملتان للجَزْمِ على الجوابِ أو النهي .
والوجه الثاني : أن يكون الفعلُ مرفوعاً ، وليس جواباً
ولا نهياً ، بل هو مستأنفٌ سِيقَ للإخبار بذلك ، وينصرُه قراءةُ أبي حَيْوَةَ
المتقدِّمةُ .
وأمَّا قراءةُ الحسن : فَمِنْ « ضَارَهُ يَضُورُهُ »
كصَانَهُ يَصُونُهُ ، وأما قراءة النخَعِيِّ فمِنْ « ضَارَهُ يَضِيرُهُ »
كَبَاعَهُ يبيعُهُ ، والجزم فيهما على ما تقدَّم في قراءة العامة من الوجهين ،
وحكى أبو البقاء : « لا يَضُرَّكُمْ » بفتح الراء ، ووجهها على الجزم ، وأن الفتح
للتخفيفِ ، وهو واضح ، والجزم على ما تقدَّم أيضاً من الوجهين ، وهذه كلُّها لغاتٌ
قد تقدَّم التنبيهُ عليها في آل عمران [ الآية 144 ] .
و « مَنْ ضَلَّ » فاعلٌ ، و « إذَا » ظرفٌ محضٌ ناصبه «
يَضُرُّكُمْ » ، أي : لا يَضُرُّكُمُ الذي ضَلَّ وقتَ اهْتِدَائِكُمْ ، ويجوز أن
تكون شرطية ، وجوابُها محذوفٌ؛ لدلالةِ الكلام عليه ، وقال أبو البقاء : « ويبعُدُ
أن تكون ظرفاً ل » ضَلَّ « ؛ لأنَّ المعنى لا يَصِحُّ معه » ، قال شهاب الدين :
لأنه يصير المعنى على نفي الضرر الحاصل مِمَّنْ يضلُّ وقْتَ اهتدائهم ، فقد
يُتَوَهَّم أنه لا ينتفي عنهم ضَرَرُ من ضلَّ في غيرِ وقْتِ اهتدائِهِمْ ، ولكنَّ
هذا لا ينفي صِحَّة المعنى بالكليةِ كما ذكره .
فصل في سبب نزول الآية
في سببِ نُزُولِ الآيَةِ وُجُوهٌ :
أحدها :
رَوَى الكَلْبِيُّ عن أبِي صالح عن ابْنِ عبَّاسٍ : أنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لما قَبِلَ من أهْلِ الكِتَابِ الجِزْيَة ، من
بَعْضِ الكُفَّار دُون بَعْض ، نزلتْ هذه الآية ، والمعنى : لا يَضُركُم ملامة اللاَّئِمِين
إذا كُنْتُم على الهُدى .
وثانيها : أنَّ المُؤمنين كان يشْتَدُّ عليهم بَقَاءُ
الكُفَّارِ على كُفْرِهمْ وضَلاَلتِهِم ، فقيل لَهُم : عَلَيْكُم أنْفسكُم
بإصلاحِهَا ، والمَشْي بها في طريقِ الهُدَى ، لا يَضُرُّكُم ضلال الضَّالِّين ،
ولا جَهْلُ الجَاهِلِين .
وثالثها : أنَّهُم كانوا يَغْتَمُّونَ لِعَشَائِرِهمْ
لمَّا مَاتُوا على الكُفْرِ ، فَنُهُوا عن ذلك .
قال ابن الخَطيبِ : والأقربُ عِنْدِي ، أنَّه تعالى لما
حَكَى عَنْ بَعْضِهم أنَّه إذا قِيلَ لَهُمْ : { تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ الله
وَإِلَى الرسول قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ } [ المائدة : 104 ] بيَّن
تعالى بهذه الآية ، أنَّه لا يَنْبَغِي للمُؤمِنِينَ أنْ يَتَشَبَّهُوا بِهِمْ في
هذه الطَّريقَةِ الفَاسِدَةِ ، بل يَنْبَغِي أنْ يَصْبِروا على دينهِم ، وأنْ
يَعْلَمُوا أنَّه لا يَضُرُّهُمْ جَهْلُ أولَئِك .
فصل
رُوِي عن أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيق - رضي الله عنه - أنَّه قال : يا
أيُّهَا النَّاسُ ، إنَّكُمُ تَقْرَؤُون هذه الآية { ياأيها الذين آمَنُواْ
عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم } فإنِّي
سَمِعْتُ رسُول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إنَّ النَّاس إذا رَأوا
مُنْكَراً فَلَمْ يُغيّروه ، يُوشِكُ أن يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابِه » .
وفي رواية : « لَتَأمُرُنَّ بالمعرُوفِ ، ولتنْهَوُنَّ
عَنِ المُنْكَرِ ، أو لَيُسَلِّطَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ
فليَسُومُونكمْ سُوءَ العذابِ ، ثُمَّ ليَدْعون اللَّه خيارُكُمْ فَلاَ
يُسْتَجَابُ لَكُمْ » .
قال أبُو عُبَيْدة : خاف الصِّدِّيق أن يتأوَّل النَّاسُ
الآية غير مُتَأوّلها ، فيَدْعُوهم إلى تَرْكِ الأمْرِ بالمعرُوف ، فأعْلَمَهُم
أنَّها لَيْسَتْ كذلك ، وأنَّ الذي أذِنَ في الإمْسَاكِ عن تَغْييرِه من المُنْكر
، هو الشِّرْكُ الذي يَنْطِقُ به المُعَاهدُون من أجل أنَّهُم يَتَديَّنُون به ،
وقد صُولِحُوا عليه ، فأمَّا الفُسُوق والعِصْيَان والذَّنْبُ من أهْل الإسلام ،
فلا يَدْخُلُ فيه .
وعن ابن مسعودٍ قال في هذه الآية : مُرُوا بالمعْرُوف وانْهَوْا
عن المُنْكَرِ ما قُبِلَ مِنْكُم ، فإن رُدَّ عَلَيْكم فَعَليْكُم أنْفُسَكُمْ .
ثُمَّ قال : إنَّ القُرآنَ نزلَ مِنْهُ آيٌ قد مضى
تَأويلهُنَّ قَبْلَ أن يَنْزِلْن ، ومِنْهُ آي : وقعَ تَأويلُهُنَّ على عَهْد
رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، ومِنْهُ آيٌ : وقعَ تَاوِيلُهُنَّ بَعْدَ رسول
الله صلى الله عليه وسلم بِيَسِيرٍ ، ومنه آي : وقعَ تأويلهن في آخِرِ الزَّمَانِ ،
ومنه آي : وقعَ تَأويلُهُنَّ يوم القيامة ، وهو ما ذُكِرَ من الحِسَابِ والجَنَّةِ
والنَّارِ ، فما دَامَتْ قلوبُكُمْ وأهْوَاؤكُمْ وَاحِدَةٌ ، ولم تلْبسُوا شِيَعاً
، ولم يَذُقْ بَعْضُكم بأسَ بَعْض ، فأمُرُوا وانْهَوْا ، فإن اخْتَلَفت القُلُوبُ
والأهْوَاء وألْبِسْتُم شيعاً ، وذاقَ بَعْضُكم بأسَ بعض ، فامرؤ ونفسهُ ، فعِنْدَ
ذَلِكَ جَاءَنَا تَأوِيلُ هذه الآيَة
.
قال ابنُ الخَطيبِ : وهذا التَّأويلُ عندي ضَعِيفٌ؛ لأنَّ
الآيَةَ خِطَابٌ عامٌّ لِلْحَاضِرِ والغَائِبِ ، فكيف يُخرجُ الحَاضِر ، ويُخَصُّ
الغَائِب . ورَوى أبُو أمَيَّة الشَّعبانِيِّ قال : « أتَيْتُ أبا ثَعْلَبَة ،
فقُلْتُ : كيف نَصْنَعُ في هذه الآية؟ فقال : أيُّ آيةٍ؟ قلت : قَوْلُ الله - عزَّ
وجلَّ - : { عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ }
، فقال : أمَا واللَّهِ لَقَدْ سألْتَ عنها خَبِيراً ، سألتُ عَنْهَا رسُول الله
صلى الله عليه وسلم فقال : بَلْ ائتَمِرُوا بالمَعْرُوفِ وتَنَاهوا عن المُنْكَر ،
حتَّى إذَا رَأيْتَ شُحَّاً مُطَاعاً وهَوًى مُتَّبَعاً ، ودُنْيا مُؤثرة ،
وإعْجَاب كُلِّ ذِي رأيٍ برأيِهِ ، ورَأيتَ أمْراً لا بُدَّ لَكَ مِنْهُ ،
فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ ودَعْ أمْرَ العَوَامِّ ، وإنَّ وراءَكُم أيام الصَّبر ،
فَمَنْ صَبَرَ فيْهنَّ قبض على الجَمْر للعامل فيهنَّ مِثْلُ أجر خَمْسِين رجلاً
يعملون مثله »
، قال ابن
المبارك : وزادني غيره ، قالوا : يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال : أجرُ خمسين
منكم .
فإن قيل : ظَاهِرُ الآيةِ يُوهِمُ أنَّ الأمر
بالمَعْرُوفِ ، والنَّهْي عن المُنْكَرِ غَيْرُ وَاجِبٍ .
فالجَوَابُ من وُجُوهٍ :
أحدها :
أنَّ الآيَةَ لا تَدُلُّ على ذلك ، بل تَدلُّ على أنَّ
المُطِيعَ لا يُؤاخَذُ بِذُنُوبِ العَاصِي ، وأمَّا وُجُوب الأمْرِ بالمَعْرُوفِ ،
فَثَبت بما تقدَّم من الدَّلائلِ وغَيْرِها .
وثانيها : أنَّ الآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بالكُفَّار
المُصرِّين على الكُفْرِ ، ولا يَتْرُكُون الكُفْر بسببِ الأمْر بالمَعْرُوفِ ،
فَهَهُنَا يَجِبُ على الإنْسَانِ مُخَالَفَةُ الأمْرِ بالمَعْرُوفِ .
وثالثها : أنَّ الآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بِمَا إذا خَافَ الإنْسَانُ
عند الأمْرِ بالمَعْرُوفِ ، والنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ على نَفْسِهِ وعِرضه وماله .
ورابعها : المعنى : لا يَضُرُّكُمْ إذا اهْتَدَيْتُم ،
فأمَرْتُمْ بالمَعْرُوف ونَهَيْتُم عَنِ المُنْكَر ضلالُ مَنْ ضَلَّ ، فَلَمْ
يقبَل ذَلِكَ .
وخامسها : أنَّه تعالى قال لرسوله عليه الصلاة والسلام :
{ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ } [ النساء : 84 ] ،
وذَلِكَ لم يَدُلَّ على سُقُوطِ الأمْرِ بالمَعْرُوف عن الرَّسُولِ ، فَكَذَا
هَاهُنَا .
ثم قال تعالى : { إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } ،
أي : الضَّال والمُهْتَدِي { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي يُجَازيكُمْ
بأعمالِكُمْ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ
إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ
مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ
مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ
بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى
وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ
عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا
مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا
أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ
الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا
أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
لَمَّا أمَر اللَّه تعالى بِحِفْظِ النَّفْسِ في قوله «
عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ » ، أمر بِحفْظِ المالِ في هذه الآية .
قال القُرْطُبِي : وردَ لَفْظُ الشَّهَادة في القُرآنَ
على أنْوَاع مُخْتَلِفَةٍ :
الأول : بِمَعْنَى الحُضُور ، قال تعالى : { فَمَن شَهِدَ
مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [ البقرة : 185 ] .
الثاني : بمعنى قَضَى ، أي : أعلم قال تعالى : { شَهِدَ
الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } [ آل عمران : 18 ] .
قال أبو عُبَيْدَة : الثالث : بمعنى أقرَّ ، قال تعالى :
{ والملاائكة يَشْهَدُونَ } [ النساء : 166 ] .
الرابع : شَهِدَ بمعنى حَكَم ، قال تعالى : { وَشَهِدَ
شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ } [ يوسف : 26
] .
الخامس : شَهِدَ بمعنى حَلَف ، قال تعالى { فَشَهَادَةُ
أَحَدِهِمْ } [ النور : 6 ] أي : أنْ يَشْهَدَ أرْبَع شَهَادَاتٍ باللَّهِ .
السادس :
شَهِدَ بمعنى وصَّى ، قال تعالى : { يِا أَيُّهَا الذين
آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت } ، وقيل مَعْنَاهَا
هنا الحُضُور للوصيَّة ، يقال : « شَهِدْتُ وصيَّةَ فلانٍ » أي : حَضَرْتُ ، وذهَب
الطَّبَري إلى أنَّ الشَّهَادةَ بِمَعْنَى اليمين ، فيكُونُ المَعْنَى : يَمِينُ
مَا بَيْنَكُم أنْ يَحْلِفَ اثْنَان ، ويَدُلُّ على ذَلِك ، أنَّهُ يُعْلَمُ للَّه
حُكْم يَجِبُ فيه على الشَّاهِدِ يَمِينٌ ، وهذا القَوْلُ اخْتَارَهُ القَفَّال ،
وسُمِّيتِ اليَمِينُ شَهَادَة؛ لأنَّها يثبت بِهَا الحُكْمُ بِمَا يَثْبُتُ بالشَّهَادَةِ
، واخْتَارَ ابْنُ عَطِيَّة هُنَا أنَّهَا الشَّهَادة التي تُحْفَظُ فَتُؤدَّى .
فصل في سبب نزول الآية
وسبَبُ نُزُولِها مَا رُوِي : أنَّ تَمِيمَ بن أوْسٍ
الدَّارِيِّ وعَدِيّ بن زَيْدٍ كَانَا نَصْرانيينِ ، خرجا من المدينةِ إلى
الشَّامِ للتِّجَارَة ، ومَعهُمَا بديل مَوْلَى عَمْرو بن العَاص ، وكان مُسْلِماً
مُهَاجراً ، فلمَّا قَدِمُوا إلى الشَّام مَرِضَ بَدِيل ، فكَتَبَ كِتَاباً فيه
جَمِيعُ ما مَعَهُ من المَتَاعِ ، وألْقَاهُ في جَوَالِق ، ولم يُخبِر صَاحِبَيْه بِذلِك
، فلمَّا اشْتَدّ مَرَضُهُ ، أوْصَى إلى تَميم وعَدِيّ ، وأَمَرَهُمَا أن
يَدْفَعَا مَتَاعهُ إذا رجعا إلى أهْلِهِ ، ومات « بَدِيل » فَفَتَّشَا متَاعَهُ ، وأخَذَا مِنْهُ
إناء فضَّةٍ مَنْقُوشاً بالذَّهَبِ ، فيه ثلاثمائَةِ مِثْقَالٍ من فِضَّةٍ
فغيَّبَاه ، ثم قَضَيَا حَاجَتَهُمَا وانْصَرَفا إلى المدينةِ ، فَدَفَعا المتاع
إلى أهْلِ البَيْتِ ، فَفَتَّشُوا وأصَابُوا الصَّحِيفَة ، فيها تَسْمِيَةُ ما كان
مَعَهُ ، فَجَاءوا تَمِيماً وعَدِيًّا ، فقالُوا : هل باع صَاحِبُنَا شَيْئاً من مَتَاعِهِ؟
قالاَ : لاَ ، قالوا : فهل اتَّجَرَ تِجَارَةً؟ قَالاَ : لاَ ، قالُوا : فَهَلْ
طَالَ مَرَضُهُ فأنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ؟ قالاَ : لاَ ، فقالُوا : إنَّا وَجَدْنَا
في متاعِهِ صَحِيفَةً فيها تَسْمِيَةُ ما مَعَهُ ، وإنَّا قَدْ فَقَدْنَا منها
إنَاءً من فِضَّةٍ مُمَوَّهاً بالذَّهِبِ ، فيه ثلاثمائَةِ مِثْقَالٍ فِضَّة فقالا
: ما نَدْري ، إنَّما أوْصَى لنا بِشَيْء ، وأمَرَنَا أن نَدْفعه إلَيْكم
فَدَفَعْنَاه ، وما لنا عِلْمٌ بالإنَاء ، فاخْتَصَمُوا إلى النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم فأصَرَّا على الإنْكَار ، وحَلَفَا فأنْزَلَ اللَّهُ هذه الآية .
قوله تعالى
: { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } : هذه الآية وما بعدها من
أشْكَلِ القُرآنِ حُكْماً وإعْراباً وتَفْسيراً ، ولم يَزَلِ العلماءُ
يستشكلُونَها حتى قال مكيُّ بنُ أبي طالبٍ في كتابه المسمَّى ب « الكشف » : « هذه
الآيةُ في قراءاتها وإعرابها وتفسيرها ومعانيها وأحكامها من أصْعَب آي في القُرْآن
وأشْكلِها ، قال : ويحتملُ أن يُبْسَطَ ما فيها من العلوم في ثلاثينَ ورقةً أو
أكثر » ؛ قال : « وقد ذكرنَاهَا مشروحةً في كتاب مفردٍ » ، وقال ابن عطية : « وهذا
كلامُ من لم يَقَعْ له الثَّلَجُ في تَفْسيرها ، وذلك بَيِّنٌ من كتابه » ، وقال السَّخَاوِيُّ : « لم أر أحداً من العلماء
تَخَلَّصَ كلامُه فيها من أولها إلى آخرها » ، وقال الواحديُّ : « وهذه الآية وما
بعدها من أعوص ما في القرآن معنًى وإعراباً وتفسيراً » قال شهاب الدين : وأنا
أستعينُ الله تعالى في توجيه إعرابها واشتقاق مفرداتها وتصريف كلماتها وقراءاتها
ومعرفةِ تأليفها مِمَّا يختصُّ بهذا الموضوع ، وبالله الحول والقوة .
قرأ الجمهورُ « شَهَادَة بَيْنِكُمْ » برفع « شَهَادةُ »
مضافةً ل « بَيْنِكُمْ » ، وقرأ الحسنُ
والأعرجُ والشَّعْبِيُّ برفعها منوَّنةً « بَيْنَكُمْ » نصباً ، والسُّلَميُّ والحسنُ
والأعرجُ - في رواية عنهما - : « شَهَادَةً » منونَّةً منصوبة ، « بَيْنَكُمْ »
نصباً ، فأمَّا قراءة الجمهور ، ففي تخريجها خمسةُ أوجه :
أحدها : أنها مرفوعةٌ بالابتداءِ ، وخبرُها « اثْنَانِ » ،
ولا بدَّ على هذا الوجه من حذفِ مضافٍ : إمَّا من الأوَّل ، وإمَّا من الثاني ،
فتقديرُه من الأول : ذَوَا شَهَادَةِ بَيْنكُمُ اثنانِ ، أي صَاحِبَا شهادةِ بينكم
اثنانِ ، وتقديرُه من الثاني : شهادةُ بينكم شهادةُ اثنين ، وإنما اضطررْنا إلى حذفٍ من الأول
أو الثاني ليتصادقَ المبتدأ والخبرُ على شيءٍ واحدٍ؛ لأنَّ الشهادة معنًى ،
والاثنان جُثَّتَانِ ، ولا يجيء التقديران المذكورانِ في نحو : « زَيْدٌ عَدْلٌ » وهما جعله نفس
المصدرِ مبالغةً أو وقوعُه موقع اسم الفاعل؛ لأنَّ المعنى يَأبَاهُمَا هنا ، إلا
أنَّ الواحديَّ نقل عن صاحب « النَّظْم » ؛ أنه قال : « شَهَادَة » مصدرٌ وُضِع مَوْضِعَ
الأسْمَاء . يريدُ بالشهادة الشهود؛ كما يقال : رَجُلٌ عَدْلٌ ورِضاً ، ورجالٌ
عَدْلٌ ورِضاً وزَوْر ، وإذا قَدَّرْتها بمعنى الشُّهُود ، كان على حذف المضاف ،
ويكون المعنى : عدَّة شهودٍ بينكم اثنانِ ، واستشهد بقوله : { الحج أَشْهُرٌ } [
البقرة : 197 ] ، أي : وقتَ الحجِّ ، ولولا ذلك لنصب
أشهراً على تأويل : « الحَجُّ في أشْهُرٍ » ، فعلى ظاهر هذا أنه جعل المصدر نفس
الشهود مبالغةً ، ولذلك مثله ب « رِجَال عَدْل » ، وفيه نظر .
الثاني : أن ترتفع على أنها مبتدأ أيضاً ، وخبرها محذوفٌ
يَدُلُّ عليه سياقُ الكلام ، و « اثْنَان » على هذا مرتفعان بالمصدر الذي هو «
شهادة » ، والتقدير : فيما فَرَضَ عليْكُمْ أن يشهد اثْنَانِ ، كذا قدَّره
الزمخشريُّ وهو أحد قولي الزَّجَّاج ، وهو ظاهرٌ جدًّا ، و « إذَا » على هذين
الوجهين ظرف ل « شَهَادَةُ » ، أي ليُشْهَد وقتُ الموت - أي أسبابه - و « حِينَ
الوصيَّةِ » على هذه الأوجه؛ فيه ثلاثة أوجه :
أوجهها : أنه بدلٌ من « إذَا » ، ولم يذكر الزمخشريُّ
غيره ، قال : « وفي إبداله منه دليلٌ على وجوب الوصية » .
الثاني :
أنه منصوبٌ بنَفْسِ الموت ، أي : يقع المَوْتُ وقْتَ
الوصية ، ولا بُدَّ من تأويله بأسباب الموت؛ لأنَّ وقتَ الموتِ الحقيقيِّ لا وصيةَ
فيه .
الثالث : أنه منصوبٌ ب « حَضَرَ » ، أي : حَضَر أسباب
الموتِ حين الوصيَّة .
الثالث :
أنَّ « شَهَادَةُ » مبتدأ ، وخبره : « إذَا حضَر » ، أي
: وقوعُ الشهادة في وقتِ حضُورِ الموتِ ، و « حِينَ » على ما تقدَّم فيه من الأوجه
الثلاثة آنفاً ، ولا يجوزُ فيه ، والحالةُ هذه : أن يكون ظرفاً للشهادة؛ لئلا يلزمَ
الإخبارُ عن الموصول قبل تمامِ صلته ، وهو لا يجوزُ؛ لما مرَّ ، ولمَّا ذكر أبو
حيَّان هذا الوجه ، لم يستدركْ هذا ، وهو عجيبٌ منه .
الرابع :
أنَّ « شَهَادَةُ » مبتدأ ، وخبرُها « حِين الوصيَّةِ »
، و « إذَا » على هذا منصوبٌ بالشَّهَادَةِ ، ولا يجوز أن ينتصب ب « الوصيَّة » ، وإن كان
المعنى عليه؛ لأنَّ المصدر المؤوَّلَ لا يَسْبقه معمولُه عند البصريِّين ، ولو كان
ظرفاً ، وأيضاً : فإنه يلزمُ منه تقديمُ المضافِ إليه على المضافِ؛ لأن تقديم
المعمول يُؤذِنُ بتقديمِ العامل ، والعاملُ لا يتقدَّم ، فكذا معمولُه ، ولم
يجوِّزوا تقديم معمُولِ المضافِ إلَيْه على المضاف إلا في مسألة واحدة ، وهي : إذا
كان المضافُ لفظةَ « غَيْر » ؛ وأنشدوا : [ البسيط ]
2061- إنَّ امْرَأ خَصَّنِي عَمْداً مَوَدَّتَهُ ...
عَلَى التَّنَائِي لِعِنْدِي غَيْرُ مَكْفُورِ
ف « عِنْدِي » منصوبٌ ب « مَكفُور » ؛ قالوا : لأنَّ « غَيْر »
بمنزلة « لاَ » ، و « لاَ » يجوزُ تقديمُ معمولِ ما
بعدها عليها ، وقد ذكر الزمخشريُّ ذلك آخرَ الفاتحةِ ، وذكر أنه يجوزُ « أنَا زَيْداً
غَيْرُ ضَارِبٍ » دون « أنَا زَيْداً مِثْلُ ضَارِبٍ » ، و « اثنان » على هذين الوجهين
الأخيرين يرتفعان على أحد وجهين : إمَّا الفاعلية أي : « يَشْهَدُ اثْنَانِ » يدل عليه
لفظ « شَهَادة » ، وإمَّا على خبر مبتدأ محذوف مدلولٍ عليه ب « شهادة » أيضاً أي : الشاهدان
اثنان .
الخامس : أنَّ « شهَادَةُ » مُبْتدأ ، و « اثْنَانِ »
فاعلٌ سدَّ مَسدَّ الخبَر ، ذكره أبُو البقاء وغيره ، وهو مذهبُ الفرَّاء ، إلا
أنَّ الفرَّاء قدَّر الشَّهادةَ واقِعةً موقعَ فِعْلِ الأمْر؛ كأنه قال : «
لِيَشْهَدِ اثْنَانِ » ، فجعلُه من باب نِيَابةِ المصْدَرِ عن فِعْل الطَّلَبِ ،
وهو مثل « الحَمْدُ لله » و { قَالَ سَلاَمٌ } [ هود : 69 ] ؛ من حيث المعنى ،
وهذا مذهبٌ ضعيفٌ ردَّه النَّحْوِيُّون ، ويخصُّون ذلك بالوصْفِ المعتمد على
نَفْيٍ أو استفهامٍ؛ نحو : « أقَائِمٌ أبَواكَ » وعلى هذا المذهب ف « إذَا » و «
حِينَ » ظرفان مَنْصُوبان على ما تقرَّر فيهمَا في غير هذا الوجه؛ وقد تَحَصَّلْنا
فيما تقدَّم أنَّ رفع « شَهَادَةُ » من وجْهِ واحدٍ؛ وهو الابتداءُ ، وفي خبرها خَمْسَة
أوجه تقدَّم ذكرُها مُفَصَّلَةً ، وأنَّ رفع « اثْنَان » من خَمْسة أوْجُه :
الأول : كونه خَبَراً ل « شَهَادَةُ » بالتَّأويل
المذكُور .
الثاني : أنه فاعلٌ ب « شَهَادَةُ » .
الثالث : أنه فاعلٌ ب « يَشْهَدُ » مقدَّراً .
الرابع : أنه خبر مُبْتدأ ، أي : الشَّاهدان اثْنَانِ .
الخامس :
أنه فاعلٌ سَدَّ مسدَّ الخبر ، وأنَّ في « إذَا » وجهين
: إمَّا النَّصْبَ على الظرفيَّة ، وإمَّا الرفع على الخَبَرِيَّة ل « شَهَادَةُ » ، وكل هذا بَيِّنٌ مما لَخَّصْتُه قبلُ ، وقراءةُ
الحسن برفعها منونةً تتوجه بما تقدَّم في قراءة الجُمْهور من غير فَرْقٍ .
وأمَّا قراءةُ النصبِ ، ففيها ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها -
وإليه ذهب ابن جنِّي - : أنها منصوبةٌ بفعل مضمرٍ ، و «
اثْنَان » مرفوعٌ بذلك الفعل ، والتقدير : ليُقِمْ شهادةَ بَيْنكُمُ اثْنَانِ ،
وتبعه الزمخشريُّ . وقد ردَّ أبو حيان هذا؛ بأن حذف الفعل وإبقاء فاعله ، لم يُجِزْهُ
النحويون ، إلا أن يُشْعِرَ به ما قبله؛ كقوله تعالى : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو
والآصال رِجَالٌ } [ النور : 36 - 37 ] في قراءة ابن عامر وأبي بَكْرٍ ، أي :
يُسَبِّحُهُ رجال؛ ومثله : [ الطويل
]
2062- لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ ...
ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوائِحُ
وفيه خلافٌ : هل يَنْقاسَ أو لا؟ أو يُجَابَ به نَفْيٌ؛
كقوله : [ الطويل ]
2063- تَجَلَّدْتَ حَتَّى قِيلَ : لَمْ يَعْرُ قَلْبَهُ
... مِنَ الوَجْدِ شَيْءٌ قُلْتُ : بَلْ أعْظَمُ الوَجْدِ
أي : بَلْ عراه أعظمُ الوجْدِ ، وما نحْنُ فيه ليس من
الأشياء الثلاثة .
الثاني :
أن « شَهَادَةً » بدل من اللفظ بفعل ، أي : إنها مصدر
ناب مناب الفعلِ ، فيعملُ عملَه ، والتقدير : لِيَشْهد اثْنَانِ ، ف « اثْنَانِ »
فاعل بالمصدر ، لنيابته منابَ الفعلِ ، أو بذلك الفعلِ المحذوفِ ، على حسبِ الخلاف
في أصل المسألة ، وإنما قدَّرْتُه « لِيَشْهَدِ اثْنَانِ » ، فأتيتُ به فعلاً
مضارعاً مقروناً بلام الأمر ، ولم أقدِّرْهُ فِعْلَ أمر بصيغة « افْعَلْ » ؛ كما
يُقَدِّرُه النحويُّون في نحو : « ضَرْباً زَيْداً » ، أي : « اضْرِبْ » لأنَّ هذا قد رفع ظاهراً
وهو « اثنانِ » ، وصيغةُ « افْعَلْ
» لا ترفع إلا ضميراً مستتراً إن كان المأمور واحداً؛
ومثلُه قوله : [ الطويل ]
2065- ... فَنَدْلاً زُرَيْقُ المَالَ نَدْلَ
الثَّعَالِبِ
ف « زُرَيْقُ » يجوز أن يكون منادًى ، أي : يا زُرَيْقُ ، والثاني
: أنه مرفوع ب « نَدْلاً » على أنه واقعٌ « لِيَنْدَلْ » ، وإنما حُذِف تنوينه؛ لالتقاء
الساكنين؛ على حَدِّ قوله : [ الطويل
]
2066- ... وَلاَ ذَاكِرَ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلا
الثالث :
أنَّ « شَهَادَةً » بدل من اللفظ بفعلٍ أيضاً ، إلا أنَّ
هذا الفعل خبريٌّ ، وإن كان أقلَّ من الطلبيِّ ، نحو : « حَمْداً وشُكْراً لا
كُفْراً » ، و « اثْنَانِ » أيضاً فاعلٌ به ،
تقديرُه : يَشْهَدُ شَهَادَةً اثنانِ ، وهذا أحسنُ التخاريجِ المذكُورة في قولِ
امرئ القيس : [ الطويل ]
2067- وُقُوفاً بِهَا صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ .. .
« وُقُوفاً » مصدرٌ بدلٌ من فعلٍ خبريٍّ رفع « صَحْبِي »
ونصب « مَطِيَّهُمْ » تقديره : وقف صَحْبِي ، وقد تقدَّم أنَّ الفرَّاء في قراءة
الرفع قدَّرَ أن « شَهَادَة » واقعةٌ موقع فعلٍ ، وارتفع « اثْنَان » بها ، وقد
تقدم أنَّ ذلك يجوز أن يكون مِمَّا سَدَّ فيه الفاعل مسدَّ الخبر ، و « بَيْنَكُمْ » في
قراءةِ مَنْ نوَّن « شَهَادَة » نصبٌ على الظرف ، وهي واضحةٌ .
وأمَّا قراءةُ الجرِّ فيها ، فَمِنْ باب الاتِّساعِ في الظُّروفِ
، أي : بجعل الظرفِ كأنه مفعولٌ لذلك الفعلِ ، ومثله : { هذا فِرَاقُ بَيْنِي
وَبَيْنِكَ } [ الكهف : 78 ] وكقوله تعالى : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [
الأنعام : 94 ] فيمن رفع ، قال أبو حيان : « وقال الماتُرِيديُّ - وتبعه
الرازيُّ - : إنَّ الأصلَ » مَا بَيْنَكُمْ « فحذف » مَا « ، قال الرازيُّ : و »
بَيْنَكُمْ « كنايةٌ عن التنازُعِ؛ لأنه إنما يُحْتَاجُ إلى الشهود عند التنازع ،
وحَذْفُ » مَا « جائزٌ عند ظهوره؛ ونظيرُه كقوله تعالى : { لَقَد تَّقَطَّعَ
بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] في قراءة مَنْ نصب » قال أبو حيان : « وحَذفُ » مَا «
الموصولةِ غيرُ جائز عند البصريِّين ، ومع الإضافة لا يَصِحُّ تقديرُ » مَا «
ألبتة ، وليس قوله { هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } [ الكهف : 78 ] نظيرَ { لَقَد
تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] لأن هذا مضافٌ ، وذلك باقٍ على ظرفيته
فيُتَخَيَّلُ فيه حَذْفُ » مَا « ؛ بخلاف { هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } [
الكهف : 78 ] و » شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ « ؛ فإنه لا يُتَخَيَّلُ فيه تقديرُ » مَا
« ؛ لأنَّ الإضافة أخْرَجَتْهُ عن الظرفيَّة وصَيَّرَتْهُ مفعولاً به على السَّعَة
» ، قال شهاب الدين : هذا الذي نقله الشيخ عنهما قاله أبو عليٍّ الجُرْجَانِيُّ
بعينه ، قال - رحمه الله تعالى -
: { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } ، أي : ما بَيْنكُمْ ، و «
مَا بَيْنَكُمْ » كنايةٌ عن التنازُع والتشاجر ، ثم أضافَ الشهادة إلى التنازعِ؛
لأن الشهودَ إنَّما يُحْتَاجُ إليهم في التنازُعِ الواقعِ فيما بين القوم ، والعربُ
تُضيفُ الشيْءَ إلى الشيءِ ، إذا كان منه بسبب؛ كقوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } [
الرحمن : 46 ] ، أي : مقامه بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ ، والعربُ تَحْذِفُ كثيراً ذكر
« مَا » و « مَنْ » في الموضِعِ الذي يُحْتَاجُ إليهما فيه؛ كقوله : { وَإِذَا
رَأَيْتَ } [ الإنسان : 20 ] أي : ما ثَمَّ ، وكقوله : { هذا فِرَاقُ بَيْنِي
وَبَيْنِكَ } [ الكهف : 78 ] و { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام :
94 ] أي ما بَيْنِي ، ومَا بَيْنَكُمْ ، وقول أبي حَيَّان « لا يُتَخَيَّل فيه تقديرُ
» مَا « إلى آخره » ممنوعٌ؛ لانَّ حالة الإضافة لا تَجْعَلُها صلةً للموصول
المحذوف ، ولا يَلْزمُ من ذلك : أنْ تُقَدِّرَها من حيث المعنى ، لا من حيث
الإعرابُ؛ نظراً إلى الأصْلِ ، وأمَّا حَذْفُ الموصُولِ ، فقد تقدَّم تحقيقُه .
فصل
واخْتَلَفُوا في هَاتَيْن الآيتين ، فقالَ قَوْمٌ : هما
الشَّاهِدِانِ يَشْهَدَان على وِصيَّةٍ
.
وقال غَيْرُهُم : هُمَا الوصيَّان؛ لأنَّ الآيَة
نَزَلَتْ فيهما؛ ولأنَّه قال :
{ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة فَيُقْسِمَانِ } ،
ولا يَلْزَمُ الشَّاهِدُ يَمِين ، وجَعَلَ الوَصِيَّ اثْنَيْن تَأكيداً ، فعلى هذا
تكُونُ الشَّهَادَةُ بِمَعْنَى : الحُضُور ، كقولك : « شَهِدْتُ وصيَّة فُلانٍ » ،
بِمَعْنَى : حَضَرتُ وشَهِدْتُ العَيْن ، وقوله تعالى : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا
طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين } [ النور : 2 ] يُريدُ الحُضُور .
فصل
وقوله : « ذَوا » صفةٌ لاثنين ، أي : صاحِبَا عدْلٍ ،
وكذلك قوله « مِنْكُمْ » صفة أيضاً لاثنين ، وقوله : « أوْ آخَرَانِ » نسقٌ على
اثنين ، و « مِنْ غَيْرِكُمْ » صفةٌ لآخَرَيْنِ ، والمراد ب « مِنْكُمْ » من
قرابتكم وعترَتِكُم ، ومن غيركم من المسلمين الأجانب ، وقيل : « مِنْكُمْ » من أهل
دينكم ، و « مِنْ غَيْرِكُمْ » من أهل الذمة ، ورجَّح النحَّاسُ الأولَ ، فقال : «
هذا يَنْبَنِي على معنًى غامضٍ في العربية ، وذلك أنَّ معنى » آخَرَ « في العربية
من جنْسِ الأوَّلِ تقولُ : » مَرَرْتُ بِكَرِيمٍ وكَرِيمٍ آخَرَ « ولا يجوز »
وخَسِيسٍ آخَرَ « ولا : » مَرَرْتُ بِحِمَارٍ ورَجُلٍ آخَرَ « ، فكذا هاهنا يجب
أن يكون » أو آخَرَانِ « : أو عَدْلاَن آخَرَان ، والكفارُ لا يكونونَ عُدُولاً » وردَّ أبو حيان
ذلك؛ فقال : « أمَّا ما ذكرَهُ من المُثُلِ ، فصحيحٌ؛ لأنه مثَّل بتأخير » آخَرَ «
، وجعله صفةً لغير جنسِ الأوَّل ، وأمَّا الآيةُ ، فمن قبيل ما يُقدَّم فيه » آخَر
« على الوصف ، واندرج » آخَر « في الجنْس الذي قبله ، ولا يُعْتَبَرُ وصْفُ جنس
الأول ، تقول : » مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ وآخَرَ كَافِرٍ ، واشْتَرَيْتُ
فَرَساً سَابِقاً ، وآخَرَ بَطِيئاً « ، ولو أخَّرْتَ » آخَرَ « في هذين المثالين
، فقلت : » مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ كَافِرٍ آخَرَ « ، لم يَجُزْ ، وليس الآيةُ
من هذا؛ لأن تركيبها { اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ
غَيْرِكُمْ } ف » آخَرَانِ « من جنسِ قوله » اثْنَانِ « ، ولا سيما إذا
قَدَّرْته : » رَجُلانِ اثْنَانِ « ف » آخَرَانِ « هما من جنْس قوله »
رَجُلانِ اثْنَانِ « ، ولا يُعْتَبَرُ
وصف قوله : { ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } ، وإن كان مغايراً لقوله » مِنْ غَيْركُمْ
« ، كما لا يُعتبر وصفُ الجنْسِ في قولك : » عِنْدِي رَجُلانِ اثْنَانِ
مُسْلِمَانِ وآخَرَانِ كَافِرَانِ « ؛ إذ ليس من شرطِ » آخَرَ « إذا تقدَّم أن
يكون من جنْس الأول بقيدِ وصفه ، وعلى ما ذكرته جاء لسانُ العربِ؛ قال الشاعر : [
البسيط ]
2068- كَانُوا فَرِيقَيْنِ يُصْفُونَ الزِّجَاجَ عَلَى
... قُعْسِ الكَوَاهِلِ في أشْدَاقِهَا ضَخَمُ
وآخرِينَ تَرَى المَاذِيَّ فَوْقَهُمُ ... مِنْ نَسْجِ
دَاوُدَ أوْ مَا أوْرَثَتْ إرَمُ
التقديرُ :
كانوا فريقين : فريقاً - أو ناساً - يُصْفُونَ الزجاج ،
ثم قال : « وآخرين تَرَى الماذِيَّ ، ف » آخَرِينَ « من جنْس قولك » فَرِيقاً « ، ولم
يعتبره بوصفه بقوله » يُصْفُونَ الزِّجاج « ؛ لأنه قَسَّم من ذكر إلى قسمين متباينين
بالوصف متحدين بالجنْسِ » ، قال : « وهذا الفرقُ قَلَّ مَنْ يَفْهَمُهُ؛ فَضْلاً
عَمَّنْ يَعْرفُهُ » .
وقوله : « أو » الظاهرُ أنها للتخْيير ، وهو واضحٌ على
القول بأن معنى « مِنْ غَيْرِكُمْ » : مِنْ غير أقارِبكُمْ من المسلمين ، يعني :
المُوصِي مُخَيَّرٌ بيْنَ أنْ يُشْهِدَ اثنَيْنِ من أقاربه ، أو من الاجانب
المسلمين وقيل : « أوْ » للترتيب : أي
: لا يُعْدَلُ عن شاهدين منْكُمْ إلا عِنْدَ فَقْدِهِمَا
، وهذا لا يجيءُ إلا إذا قلنا : « مِنْ غَيْرِكُمْ » : من غير أهْلِ مِلَّتِكُمْ .
قوله
: « إن أنْتُمْ » « أنْتُمْ » مرفوعٌ بمحذوفٍ يفسِّره ما
بعده ، وهي مسألة الاشتغالِ ، والتقديرُ : إنْ ضَرَبْتمْ ، فلما حُذِفَ الفعلُ ،
انفصلَ الضميرُ ، وهذا مذهبُ جمهور البصريِّين ، وذهب الأخْفَشُ منهم والكوفيُّون إلى
جواز وقوعِ المبتدأ بعد « إن » الشرطيَّةِ؛ كما أجازوه بعد « إذَا » أيضاً ، ف «
ضَرَبْتُمْ » لا محلَّ له عند الجمهور؛ لكونه مفسِّراً ، ومحلُّه الرفعُ عند
الكوفيين والأخفش؛ لكونه خبراً؛ ونحوه : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك }
[ التوبة : 6 ] ، { إِذَا الشمس كُوِّرَتْ } [ التكوير : 1 ] . وجوابُ الشرط محذوفٌ
يدلُّ عليه قوله تعالى : { اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ } ، ولكنَّ
تقدير هذا الجوابِ يتوقَّف على خلافٍ في هذا الشرط : هل هو قيدٌ في أصْلِ الشهادة
، أو قيدٌ في { آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } فقط؟ بمعنى : أنه لا يجوزُ العدولُ في الشهادة
على الوصيَّة إلى أهلِ الذمةِ ، إلا بشَرْطِ الضرب في الأرض ، وهو السفر ، فإن قيل
: هو شرطٌ في أصْلِ الشهادةِ ، فتقديرُ الجواب : إنْ ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ ،
فليشهد اثنانِ منْكُمْ أو من غَيْرِكُمْ ، وإنْ كان شرطاً في العدُولِ إلى
آخَرَيْنِ من غير الملَّة ، فالتقدير
: فأشْهِدُوا آخَرَيْنِ من غَيْركم ، أو فالشاهِدُ
آخَرَانِ من غَيْرِكُمْ ، فقد ظهر أنَّ الدَّالَّ على جوابِ الشرط : إمَّا مجموعُ
قوله : « اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ . . . إلى آخره » على القولِ الأوَّل ، وإمَّا {
أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } فقط على القولِ الثاني .
والفاء في « فَأصَابتكم » عاطفةٌ هذه الجملة على نَفْسِ
الشرط ، وقوله تعالى : { تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة } فيه وجهان :
أحدهما :
أنها في محلِّ رفع صفة ل « آخَرَانِ » ؛ وعلى هذا :
فالجملةُ الشرطيةُ وما عُطِفَ عليها معترضةٌ بين الصفةِ وموصوفها؛ فإنَّ قوله « تَحْبسُونَهُمَا
» صفةٌ لقوله « آخَرَانِ » ، وإلى هذا ذهب الفارسيُّ ، ومكِّي بنُ أبِي طالبٍ ،
والحُوفيُّ ، وأبو البقاء ، وابن عطيَّة ، وقد أوضحَ الفارسيُّ ذلك بعبارةٍ
خاصَّةٍ ، فقال : « تَحْبِسُونَهُمَا » صفة ل « آخَرَانِ » واعترض بقوله : { إِنْ
أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض } ، وأفاد الاعتراضُ : أنَّ العُدولَ إلى آخرين من
غير المِلَّة ، أو القرابة حَسَبَ اختلافِ العُلَمَاء فيه؛ إنما يكون مع ضرورة
السَّفَر ، وحلول المَوْت فيه ، واستغني عن جواب « إنْ » ؛ لِما تقدَّم في قوله {
آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } ، فقد ظهر من كلامه : أنه يجعلُ الشرط قيداً في {
آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } فقط لا قيداً في أصْلِ الشهادة ، فتقديرُ الجوابِ على رأيه؛
كما تقدَّم : « فاسْتَشْهِدُوا آخَرَيْن مِنْ غَيْرِكُمْ » أو « فالشَّاهِدَانِ
آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ » .
والثاني : أنه لا محلَّ له؛ لاستئنافهِ ، وإليه ذهب
الزمخشريُّ؛ قال : « فإنْ قلت : ما موقعُ قوله : » تَحْبِسُونَهُمَا « ؟ قلتُ : هو
استئنافُ كلام ، كأنه قيل بعد اشتراطِ العدالةِ فيهما : فكيفَ نَعْمَلُ ، إن
ارتَبْنَا فيهمَا؟ فقيل : تَحْبِسُونَهُمَا » ، وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ أوفقُ
للصناعة؛ لأنه يلزمُ في الأوَّل الفصْلُ بكلام طويلٍ بين الصفة وموصوفها ، وقال :
« بعد اشتراط العدالة » ؛ بناءً على مختاره في قوله : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ
غَيْرِكُمْ } ، أي : أو عَدْلانِ آخرانِ من الأجانب .
قال أبو حيان : « في قوله : » إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُْ « إلى آخره
التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب ، إذ لو جرى على لفظ { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ
الموت } ، لكان التركيب : إنْ هو ضَرَبَ في الأرْضِ ، فأصابته ، وإنما جاء
الالتفاتُ جمعاً؛ لأنَّ » أحَدَكُمْ « معناه : إذا حضَرَ كُلَّ واحدٍ منكم المَوْتُ » ،
وفيه نظرٌ؛ لأن الخطاب جارٍ على أسلوب الخطابِ الأوَّل من قوله : { يِا أَيُّهَا
الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } إلى آخره ، وقال ابن عبَّاس : « في الكلام
حذفٌ ، تقديرُه : فأصابتْكُمْ مصيبةُ الموتِ ، وقد أشهدتُموهُمَا على الإيصاء » ،
وعن سعيد بن جُبير : تقديره « وقد أُوصيتُم » ، قال بعضُهُم : « هذا أوْلَى؛ لأنَّ
الوَصِيَّ يَحْلِفُ ، والشَّاهدَ لا يَحْلِفُ » . والخطابُ في « تَحْبِسُونَهُمَا
» لولاةِ الأمور لا لِمَنْ خُوطِبَ بإصابته المَوْتَ؛ لأنه يتعذَّر ذلك فيه ، و «
مِنْ بَعْدِ » متعلِّق ب « تَحْبِسُونَهُمَا » ، ومعنى الحَبْسِ : المنعُ ،
يقال : حَبَسْتُ وأحْبَسْتُ فَرَسِي في سبيلِ الله ، فَهُوَ مُحْبَسٌ وحَبِيسٌ ، ويقال
لمصْنَعِ الماءِ : « حَبْسٌ » ؛ لأنه يمنعه ، ويقال : « حَبَّسْتُ » بالتشديد أيضاً
بمعنى وقَفْتُ وسَبَلْتُ؛ وقد يكون التشديدُ للتكثير في الفعل؛ نحو : « حَبَّسْتُ
الرِّجَالَ » ، والألف واللام في « الصَّلاة » فيها قولان :
أحدهما : أنها للجنْس ، أي : بعد أيِّ صلاة كانت .
والثاني - وهو الظاهر - أنها للعَهْد كما سيأتي - إن شاء
الله تعالى - .
فصل
معنى الآية : أنَّ الإنْسَان إذا حَضَرَهُ المْوتُ ، أنْ
يُشهِدَ اثنين ذَوَيْ عدلٍ أي : أمَانةٍ وعَقْلٍ .
ومعنى قوله : « مِنْكُم » أي : أهْل دِينكُمْ يا مَعْشَر
المُؤمنين ، { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } ، من غَيْر دِينكُمْ قول أكثر
المُفَسِّرين ، قاله ابْنُ عبَّاس ، وأبُو مُوسى الأشْعَرِي ، وهو قَوْلُ سعيد بن المُسَيِّبِ
، وإبراهيمِ النَّخْعِي ، وسعيد بنِ جُبَيْرٍ [ وشريح ] ،
ومُجَاهِد ، وعُبَيْدة ، ثُمَّ اختلفَ هؤلاءِ في حُكْمِ الآيَةِ .
فقال النَّخْعي ، وجماعةٌ : هي منسوخَةٌ ، وكانَتْ
شَهَادةُ أهْلِ الذَمَّةِ مَقْبُولَةً في الابْتِدَاء ، ثُمَّ نُسِخَتْ ، وذَهَبَ
قَوْمٌ إلى أنَّهَا ثَابِتَة ، وقالُوا : إذا لم يَجِدْ مُسْلمَيْنِ يُشهِدُ
كَافِريْنِ قَالَ شُرَيْح : مَنْ كان بِأرْض غُرْبَةٍ ، ولم يَجِدْ مُسْلِماً
يَشْهدُ على وصِيَّتِهِ ، فأشْهَدَ كَافِرَيْنِ على أيِّ دينٍ كَانَا من أهْلِ
الكتابِ ، أوْ عَبَدَةِ الأوْثان ، فَشَهَادَتُهُم جَائِزةٌ ، ولا تَجُوزُ
شَهَادَةُ كافرٍ على مُسْلمٍ إلاَّ على وَصِيَّةٍ في سَفَرٍ .
وعن الشَّعْبِيِّ : أنَّ رَجُلاً من المُسْلِمين
حَضَرَتُهُ الوَفَاةُ بدقوقا ، ولم يَجِدْ مُسْلِماً يُشْهِدُه على وصِيَّتِهِ ،
فأشْهَدَ رجُلَيْنِ من أهْلِ الكِتَابِ ، فقدِمَا الكوفَةَ بتَرِكَتهِ وأتَيا أبَا
مُوسَى الأشْعَرِي .
فقال الأشْعَرِيُّ : هذا أمْرٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الذي
كان على عَهْد رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، فأحْلَفَهُمَا باللَّه ما خَانَا
ولا كَذبَا ، ولا بَدَّلا ، ولا غيَّرا ، وأنَّها لوصيَّة الرَّجُل وتركتِهِ ،
وأمْضَى شَهَادتَهُمَا وقال آخرُون : قوله : { ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } أي : من حَيّ
المُوصِي ، { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } ، أي : من غَيْرِ حَيِّكُمْ
وعَشِيرَتِكُمْ ، وهو قول الحَسَن والزُّهرِي وعِكْرِمَة [ وجُمْهُور الفُقَهَاء ] ، وقالوا : لا
يجوز شَهَادةُ كَافِرٍ في شَيْءٍ من الأحْكَامِ .
وقوله تعالى : { إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض } ،
أي : إنْ
وَقَعَ المَوْتُ في السَّفَرِ ، ولم يَكُنْ مَعَكَمْ أحَدٌ من المُسْلِمِين ، أوْ
من أقَارِبُكُمْ ، فاسْتَشْهِدُوا أجْنَبِيَّيْن على الوصيَّة ، إمَّا من مِلتِكُم
، أو من غَيْرِ مِلَّتِكُمْ على الخِلاف .
واحتَجَّ من قال : المُرَادُ بقوله : « مِنْ غَيْرِكُم »
: الكُفَّار؛ بأنَّه تعالى قال في أوَّل الآيةِ : { يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ }
فعمَّ بهذا الخِطَابِ جَمِيعَ المُؤمنينَ ، فلما قال بعده « مِنْ غَيْرِكُم » كان المُرادُ
غَيْرَ المُؤمنين .
وأيضاً كما شَرَطَ هذا الاسْتِشْهَاد بحَالَة السَّفَرِ
عَلِمْنَا أن المُراد بالآية : الكُفَّار؛ لأنَّ جواز الاسْتِشْهَادِ بالمُسْلِمِ
غير مَشْرُوطٍ بالسَّفْر .
وأيضاً فالآية تَدُلُّ على وُجُوبِ تَحْلِيف الشَّاهدين
بَعْد الصلاة ، والإجْمَاع على أنَّ الشَّّاهِد المُسْلِم ، لا يَجِبُ عَلَيْه
الْحَلْفُ ، فعَلِمْنَا أنَّ هذَيْن الشَّاهدَيْنِ ليسا من المُسْلِمين وأيضاً
بسَببِ النُّزُول ، ما ذكرنا من شَهَادَةِ النَّصْرَانِيَّيْن ، وقِصَّة أبِي
مُوسى الأشْعَرِي ، إذ قَضَى بِشَهَادَةِ اليَهُوديَّيْن ، ولَمْ يُنْكِرْ عليه
أحَدٌ من الصَّحَابَة ، فكان إجْماعاً ، فهذه حالةُ ضَرُورَةٍ ، والضَّرُورَاتُ قد
تُبِيحُ المَحْظُورات ، كَجَوازِ التَّيَمُّمِ ، والقَصْرِ ، والفِطْرِ في رمضان ،
وأكلِ المَيْتَةِ في حالِ الضَّرُورَة ، والمُسْلِمُ إذا حَضَرَهُ المَوْتُ في
السَّفرِ ، ولم يجِدْ مُسْلِماً يُشْهِدُه على وصِيَّتهِ ، ولم تكنْ شَهَادةُ
الكافِرِين مَقْبُولَةٌ ، فإنَّه يُضَيِّع أكثر مُهِمَّاتِه ، ورُبَّما كان
عِنْدَهُ ودَائِع ودُيُونٌ في ذِمَّتِهِ .
كما تُجُوزُ شَهادَةُ النِّساء فيما يتعلَّقُ
بأحْوَالِهِنَّ ، كالحَيْضِ والحَبَلِ والولادَةِ والاستِهْلاَلِ؛ لِعَدَم
إمْكَانِ وقُوفِ الرِّجَال على هذه الأحْوَال ، فاكتُفي بِشَهادةَ النِّسَاء فيها
للضَّرُورة ، فكَذَا هَاهُنَا ، والقَوْلُ بأنَّ هذا الحُكْمَ صَارَ مَنْسُوخاً
بَعِيدٌ؛ لاتِّفَاقِ أكْثَرِ الأمَّةِ على أنَّ سُورة المَائِدَةِ من آخر ما نزل
من القُرْآنِ ، ولَيْسَ فيها مَنْسُوخٌ ، واحْتَجَّ الآخَرون بقوله تعالى : { وَأَشْهِدُواْ
ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ } [ الطلاق : 2 ] ، والكَافِرُ لا يكون عَدْلاً .
وأُجِيبَ بأنَّه لم لا يجُوز أنْ يكون المرادُ بالعَدْلِ
مَنْ كَانَ عدْلاً في الاحْتَرازِ عَنِ الكذبِ ، لا مَنْ كان عَدْلاً في الدِّين
والاعتقاد؛ لإجْماعِنَا على قُبُول شَهَادِةِ أهْلِ الأهْوَاء والبِدَعِ ، مع
أنَّهم لَيْسُوا عُدُولاً في مَذَاهِبِهم عِنْدَنا لِكُفْرِهِم ، [ ولكنهم ] لمَّا
كانُوا عُدُولاً في الاحْتِرازِ عَنِ الكَذِبِ ، قَبِلْنَا شَهَادَتَهُمْ ، فكذا
هَاهُنَا . سلَّمْنَا أنَّ الكَافِرَ لَيْسَ بعْدلٍ ، إلاَّ أن قوله : { ذَوَا
عَدْلٍ مِّنْكُمْ } عامٌّ ، وقوله : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ
ضَرَبْتُمْ فِي الأرض } خَاصٌّ؛ فإنَّه أوْجَبَ شهادَة العَدْلِ منَّا في الحَضَرِ
، واكْتَفَى بِشَهَادَةِ مَنْ لا يَكُونُ منَّا في السَّفَرِ ، فَهَذِه الآيَةُ
خَاصَّةٌ ، والآيةُ التي ذكرُوهَا عامَّةٌ ، والخاصُّ مُقدَّم على العامِّ ، لا
سِيَّما إذا كان الخَاصُّ مُتَأخِّراً في النُزُولِ ، والمائِدَةُ مُتَأخِرَّةٌ ،
فكان تَقْدِيمُ هذه الآيَةِ الخَاصَّةِ وَاجِبٌ بالاتِّفَاقِ .
وقوله : « تَحْبِسُونَهُمَا » أي : تستوقفونهما مِنْ بعد
صلاةِ أهْلِ دينهمَا .
وقال عامَّةُ المُفَسِّرين : من بعدِ صلاة العَصْرِ ،
قالَهُ الشَّعْبِي ، والنَّخْعِي ، وسعيدُ بن جُبير ، وقَتادَةُ وغَيْرِهم؛ لأنَّ
جَمِيعَ أهْلِ الأدْيَان يُعَظِّمُونَ ذلك الوَقْت ، ويَجْتَنِبُون فيه الحَلْفَ الكَاذِبَ .
وقال الحَسَنُ : مِنْ بعد صلاة الظُّهْر .
واحتَجَّ الجُمْهُور بما تقدَّم ، وبأنَّه رُوِي أنَّهُ
لمَّا نَزلَتِ هذه الآيَةِ ، صلَّى رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم صلاة العَصْر ،
ودَعَا ب « عَدِيِّ » و « تَمِيمٍ » فأسْتَحلفَهُمَا عِنْد المِنْبَر .
وقال بعضهم : بَعْدَ أداءِ أيِّ صلاةٍ كانتْ؛ لأنَّ
الصَّلاة تَنْهَى عن الفَحْشَاءِ والمُنْكَر .
قال بَعْضُ العلماء : الأيمانُ تُغَلَّظ في الدِّماءِ ،
والطَّلاقِ ، والعِتَاقِ ، والمال إذا بلغ مائَتَيْ دِرْهم بالزَّمَانِ والمكَان ،
فَيُحْلَفُ بعد صلاة العَصْرِ بِمَكَّةَ بين الرُّكْنِ والمقام ، وفي المدينَة عند
المِنْبَر ، وفي بَيْتِ المقْدِسِ عند الصَّخْرَةِ ، وفي سَائِر البُلْدَانِ في
أشْرَف المَسَاجِد .
وقال أبو حنيفة : لا يَخْتَصُّ الحَلفُ بِزَمَان ولا
مكان .
قوله : « فَيُقْسِمَانِ » في هذه الفاء وجهان :
أظهرهما :
أنها عاطفةٌ هذه الجملة على جملة قوله : « تَحْبِسُونَهُمَا
» ، فتكون في محلِّ رفع ، أو لا محلَّ لها حَسْبَمَا تقدَّم من الخلاف .
والثاني
: أنها فاءُ الجزاءِ ، أي : جوابُ شرطٍ مقدَّرٍ ، وقال
الفارسيُّ : « وإنْ شئت ، لَمْ تَجْعَلِ الفاء؛ لعطف جملة ، بل تجعلُه جزاءً؛ كقول
ذي الرُّمَّة : [ الطويل ]
2069- وإنْسَانُ عَيْنِي يَحْسِرُ المَاءُ تَارَةً ...
فَيَبْدُو ، وتَارَاتٍ يَجُمُّ فَيَغْرَقُ
تقديرُه عندهم : إذا حَسَرَ بَدَا ، وكذا في الآية : إذا
حَبَسْتُمُوهُمَا أقْسَمَا » . [ وقال مكيٌّ نحوه؛ فإنه قال : « ويجوزُ أنْ تكونَ
الفاءُ جواب جزاءٍ؛ لأن » تَحْبِسُونَهُمَا « معناه الأمْرُ بذلك ، وهو جوابُ الأمْر
الذي دَلَّ عليه الكلامُ؛ كأنه قيل : إذا حَبَسْتُمُوهُمَا أقْسَمَا » ] قال شهاب الدين
: ولا حاجةَ داعيةً إلى شيء من تقدير شرطٍ محذوفٍ ، وأيضاً : فإنه يُحْوجُ إلى
حذفِ مبتدأ قبل قوله « فَيُقْسِمَان » ، أي : فهما يُقْسِمَانِ ، وأيضاً ف « إنْ
تَحْبِسُوهُمَا » تقدَّم أنها صفةٌ ، فكيف يَجْعَلُها بمعنى الأمر ، والطَّلَبُ لا
يقع وصفاً؟ وأمَّا البيتُ الذي أنشده أبو عليٍّ ، فَخَرَّجَه النحويُّون على أنَّ
« يَحْسِرُ الماءُ تَارَةً » جملةٌ خبرية ، وهي وإن لم يكنْ فيها رابطٌ ، فقد
عُطِفَ عليها جملةٌ فيها رابطٌ بالفاء السَّببية ، وفاءُ السببية جَعَلَتِ
الجملتَيْنِ شيئاً واحداً .
و « بالله » متعلِّقٌ بفعل القسم ، وقد تقدَّم أنه لا يجوز
إظهارُ فعلِ القسمِ إلا معها؛ لأنها أمُّ الباب ، وقوله : { لاَ نَشْتَرِي بِهِ }
جوابُ القسم المضمرِ في « يُقْسِمَانِ » ، فتُلُقِّي بما يُتَلَقَّى به ، وقوله :
« إن ارْتَبْتُمْ » شرطٌ ، وجوابه محذوفٌ ، تقديرُه : إن ارتبتُمْ فيهما ،
فحلِّفُوهُمَا ، وهذا الشرط وجوابه المقدَّرُ معترضٌ بين القسم وجوابه .
والمعنى : إن ارْتَبْتُمْ في شَأنِهِمَا فَحَلِّفُوهُمَا
، وهذا الشَّرطُ حُجَّةُ من يقول : الآيةُ نَازِلةٌ في إشْهَادِ الكُفَّارِ؛ لأنَّ
تَحْلِيفَ الشَّاهِدِ المُسْلِم غير مَشْرُوعٍ .
ومن قال : الآيةُ نازلةٌ في المُسْلِمِ قال : إنها
مَنْسُوخَةٌ .
وعن عَلِيٍّ - رضي الله عنه - : أنَّهُ كان يُحَلِّفُ الشَّاهِدَ
والرَّاوي عند التُّهْمَةِ . وليس هذه الآيةُ مِمَّا اجتمع فيه شرطٌ وقسمٌ ،
فأُجيب سابقُهما ، وحُذِفَ جوابُ الآخرِ؛ لدلالةِ جوابه عليه؛ لأنَّ تلك المسألةَ شرطُها
أن يكون جوابُ القسمِ صالحاً لأنْ يكون جواب الشرط؛ حتَّى يَسُدَّ مسدَّ جوابه؛
نحو : « والله إنْ تَقُمْ لأكْرِمَنَّكَ » ، لأنك لو قَدَّرْتَ « إن تَقُمْ
أكْرَمْتُكَ » ، صَحَّ ، وهنا لا يُقَدَّر جوابُ الشرط ما هو جوابٌ للقسَم ، بل
يُقَدَّر جوابُه قِسْماً برأسِه؛ ألا ترى أنَّ تقديره هنا : « إن ارْتَبْتُمْ ،
حَلِّفُوهُمَا » ولو قَدَّرْتَهُ
: إن ارتبتُمْ ، فلا نشتَرِي ، لم يَصِحَّ ، فقد اتفقَ
هنا أنه اجتمع شرطٌ وقسمٌ ، وقد أجيب سابقهما ، وحُذفَ جوابُ الآخَرِ ، وليس من
تيكَ القاعدةِ ، وقال الجُرْجَانِيُّ : « إنَّ ثَمَّ قولاً محذوفاً ، تقديرُه : يُقْسِمَانِ
بالله ويقولانِ هذا القَوْلَ في أيْمَانِهمَا ، والعربُ تُضْمِرُ القولَ كثيراً؛
كقوله تعالى : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ
} [ الرعد : 23 - 24 ] أي : يقولُونَ سلامٌ عَلَيْكُمْ » ، قال شهاب الدين : ولا
أدْرِي ما حمله على إضمارِ هذا القَوْلِ؟ .
قوله : « بِهِ » في هذه الهاءِ ثلاثةُ أقوالٍ :
أحدها : أنها تعودُ على الله تعالى .
الثاني : أنها تعودُ على القسم .
الثالث :
وهو قول أبي عليٍّ - : أنها تعودُ على تحريفِ الشهادةِ ،
وهذا قوي من حيث المعنى ، وقال أبو البقاء : « تعودُ على اللَّهِ ، أو القَسَمِ ،
أو الحَلْفِ ، أو اليمينِ ، أو تحريفِ الشهادةِ ، أو على الشهادة؛ لأنها قولٌ » ، قال شهاب الدين : قوله « أو الحَلْفِ أو اليمينِ »
لا فائدةَ فيه؛ إذ هما شيءٌ واحدٌ ، وكذلك قولُ من قال : إنها تعودُ على الله
تعالى ، لا بد أن يقدِّر مضافاً محذوفاً ، أي : لا نَشْتَري بيمَينِ الله أوْ
قسَمِه ونَحْوه؛ لأنَّ الذاتَ المقدَّسة لا يُقالُ فيها ذلك ، وقال مكي : « وقيل : الهاءُ تعودُ
على الشَّهادة ، لكن ذُكِّرَتْ؛ لأنها قولٌ كما قال تعالى :
{ فارزقوهم مِّنْهُ } [ النساء : 8 ] فردَّ الهاءَ على
المقْسُومِ؛ لدلالة القسمة على ذلك « ، والاشتراءُ هنا ، هَلْ هو باقٍ على حقيقته
، أو يُرَاد به البيع؟ قولان ، أظهرهما الأول ، وبيانُ ذلك مبنيٌّ على نصْب »
ثَمَناً « ، وهو منصوبٌ على المفعوليَّة ، قال
الفارسيُّ : » وتقديره : لا نَشْتَرِي به ذا ثَمَنٍ؛ ألا ترى أنَّ الثمن لا
يُشْتَرى ، وإنما يُشْتَرَى ذو الثمنِ « ، قال : » وليس الاشتراءُ هنا بمعنى البيع
، وإنْ جاء لغةً ، لأنَّ البيع إبعادٌ عن البائع ، وليس المعنى عليه ، إنما معناه
التمسُّكُ به والإيثارُ له على الحقِّ « ، وقد نقل أبو حيان هذا الكلام بعينه ولم يعْزُه
لأبِي عَلِيٍّ .
وقال مكيٌّ : » معناه ذا ثَمَنٍ ، لأنَّ الثمن لا
يُشْتَرَى ، إنما يُشْتَرى ذو الثمنِ ، وهو كقوله : { اشتروا بِآيَاتِ الله
ثَمَناً } [ التوبة : 9 ] ، أي ذا ثَمَنٍ « ، وقال غيرُه : » إنه لا يَحْتاجُ إلى
حذف مضاف « ، قال أبو البقاء : » ولا حَذْفَ فيه؛ لأنَّ الثمنَ يُشْتَرَى كما
يُشْتَرَى به ، وقيل : التقديرُ : ذا ثَمَنٍ « ، وقال بعضهم : » لا نَشْتَرِي : لا
نبيعُ بعَهْدِ الله بغَرَضٍ نَأخُذُه؛ كقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً } [ آل عمران : 77 ]
، فمعنى الآية : لا نَأخُذُ بعهد الله ثَمَناً؛ بأن نبيعَه بعَرَضٍ من الدنيا «
قال الواحديُّ : » ويُسْتَغْنَى بهذا عن كثيرٍ من تكلُّفِ أبي عَلِيٍّ ، وهذا
معنى قول القُتَيْبِيِّ والجُرْجَانِيِّ « .
قوله تعالى : { وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } الواوُ هنا
كالتي سَبَقَتْ في قوله : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ البقرة
: 170 ] من أنها يحتمل أن يقال عاطفةٌ ، أو حاليةٌ ، وأنَّ جملة الامتناعِ حالٌ
معطوفةٌ على حالٍ مقدَّرةٍ؛ كقوله
: » أعْطُوا السَّائِلَ ، ولوْ عَلَى فرسٍ « ، فكذا هنا
تقديرُه : لا نشتري به ثمناً في كلِّ حال ، ولو كان الحالُ كذا ، واسمُ » كَانَ «
مضمرٌ فيها يعودُ على المشهُودِ له ، أي : ولو كان المشهُودُ له ذَا قَرَابَةٍ .
قوله : { وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله } الجمهورُ على
رَفْعِ ميمِ » نَكْتُمُ « على أنَّ » لا « نافية ، والجملةُ تحتمل وجهين :
أحدهما - وهو الظاهرُ - : كونُها نسقاً على جواب القسمِ
، فتكونُ أيضاً مقسماً عليها .
والثاني :
أنه إخبارٌ من أنفسهم بأنهم لا يكتمُون الشهادة؛
ويتأيَّدُ بقراءة الحسن والشَّعْبيِّ : » وَلاَ نَكْتُمْ « على النهْي ، وهذه
القراءةُ جاءتْ على القليل؛ من حيث إنَّ دخولَ » لاَ « الناهيةِ على فعلِ
المتكلِّم قليلٌ؛ ومنه : [ الطويل
]
2070- إذا مَا خرَجْنَا مِنْ دمشْقَ فَلاَ نَعُدْ ...
بِهَا أبَداً ما دَامَ فِيهَا الجَرَاضِمُ
والجمهورُ على « شهادةَ الله » بالإضافة ، وهي مفعولٌ
بها ، وأضيفَتْ إليه تعالى؛ لأنه هو الآمرُ بها وبحفظها ، وألاَّ تُكْتَمَ ، ولا
تُضَيَّعَ ، وقرأ عَلِيٌّ رضي الله عنه ونعيمُ بْنُ مَيْسَرَة والشَّعْبِيُّ في
رواية : « شهادةً الله » بتنوين شهادة ، ونصبها ، ونصب الجلالة ، وهي واضحةٌ ، ف « شَهَادَةً »
مفعول ثان ، والجلالةُ نصبٌ على التعظيم وهي الأوَّل ، والأصلُ : ولا نَكْتُمُ
اللَّهَ شهادةً؛ وهو كقوله : { وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } [ النساء : 42 ]
وإنما قُدِّمَتْ هنا للاهتمامِ بها؛ فإنها المحدَّثُ عنها ، وفيها وجهُ ثانٍ -
نقله الزهراويُّ - وهو : أن تكون الجلالةُ نَصْباً على إسقاطِ حرفِ القسم ،
والتقديرُ : ولا نَكْتُمُ شهادةً واللَّهِ ، فلمَّا حُذِف حرفُ الجر ، نُصِب
المُقْسَمُ به ، ولا حاجةَ إليه؛ لأنه يَسْتَدْعِي حذف المفعولِ الأوَّل للكتمان ،
أي : ولا نَكْتُمُ أحداً شهادةً والله ، وفيه تكلُّفٌ وإليه ذهب أبو البقاء أيضاً
قال : « على أنه منصوبٌ بفعْلِ القسم محذوفاً » .
ويُروَى عن أبِي جَعْفَر « شَهادةً » مُنَونةً « أَللَّهِ »
بِقَطْعِ الألف وكسَرْ الهَاءِ ، من غير اسْتِفْهَام على ابْتِدَاء اليَمينِ ، أي
: واللَّهِ { إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين } ، أي : إنْ كَتَمْنَاها نَكُونُ من
الآثمين .
وقرأ عليٌّ - رضي الله عنه - والسُّلمِيُّ والحسن
البصريُّ : « شَهَادَةً » بالتنوين والنصب ، « آلله » بمدِّ الألفِ التي للاستفهام ،
دَخَلَتْ للتقرير ، وتوقيف نفوسِ الخَلْق الحالفين ، وهي عوضٌ عن حَرْفِ القسمِ المقدَّرِ
ثمّ . وهل الجرُّ بها أم بالحَرْفِ المحذوفِ؟ خلافٌ . وقرأ الشعبيُّ في رواية
وغيره : « شَهَادَهْ » بالهاء ويقف عليها ، ثم يَبْتدئ « آللَّهِ » بقطع همزة الوصل وبمدِّ
الهمزة على أنها للاستفهام بالمعنى المتقدِّم ، وجَرِّ الجلالة ، وهمزةُ القطعِ
تكون عوضاً من حرف القسم في هذا الاسم الشريف خاصة ، تقول : يا زَيْدُ ، أللَّهِ ،
لأفْعلَنَّ ، والذي يُعَوَّض من حرف القسم في هذا الاسم الشريف خاصَّة ثلاثةٌ :
ألفُ الاستفهام ، وقطعُ همزة الوصلِ ، وها التي للتنبيه؛ نحو : « ها اللَّهِ » ،
ويجوزُ مع « هَا » قطعُ همزةِ الجلالة ووصلُها ، وهل الجرُّ بالحرف المقدَّر ، أو بالعوض؟
تقدَّم أنَّ فيه خلافاً ، ولو قال قائلٌ : إن قولهم « الله ، لأفْعَلَنَّ »
بالجرِّ وقطع الهمزة؛ بأنها همزة استفهام لم يُرَدَّ قوله ، فإن قيل : همزةُ
الاستفهام ، إذا دخلَتْ على همزة الوصْلِ التي مع لام التعريف ، أو ايْمُن في
القَسَم ، وجب ثبوتُ همزة الوصل ، وحينئذ إمَّا : أنْ تُسَهَّلَ ، وإمَّا أنْ تُبْدَلَ
ألفاً ، وهذه لم تَثْبُتْ بعدها همزةُ وصل ، فتعيَّن أن تكونَ همزة وصْلٍ قُطِعَتْ
عوضاً عن حرف القسم ، فالجواب :
أنهم إنما أبْدلوا ألفَ الوصْلِ أو سَهَّلوها بعد همزةِ
الاستفهام؛ فرقاً بين الاستفهام والخبر ، وهنا اللَّبْسُ مأمونٌ فإنَّ الجرَّ في الجلالة
يؤذِنُ بذلك؛ فلا حاجة إلى بقاءِ همزةِ الوصلِ مُبْدلةً أو مُسَهَّلةً ، فعلى هذا
قراءة : ألله ، وآلله بالقصْر والمدِّ تحتمل الاستفهام ، وهو تخريجٌ حسن ، قال ابن
جني في هذه القراءة : « الوقفُ على
» شهَاده « بسكون الهاء ، واستئنافُ القسم - حسنٌ؛ لأنَّ
استئنافه في أولِ الكلامِ أوْجَهُ له وأشدُّ هيبةً مِنْ أنْ يدخُلَ في عرضِ
القَوْل » ، ورُوِيَتْ هذه القراءةُ - أعني : «
ألله » بقطع الألف من غير مدٍّ وجرِّ الجلالة - عن أبي بكرٍ عن عاصمٍ وتقدَّم
أيضاً أنها رويتْ عن أبي جعفرٍ ، وقرئ : « شَهَادَةً اللَّهِ » بنصب الشهادة منونة
، وجرِ الجلالة موصولة الهمزة ، على أن الجرَّ بحرفِ القسمِ المقدَّرِ من غير عوضٍ
منه بقَطْعِ ، ولا همزةِ استفهام ، وهو مختصٌّ بذلك .
وقوله تعالى : { إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين } هذه
الجملةُ لا محلَّ لها؛ لأنها استئنافيةٌ ، أخبروا عن أنفسهم بأنهم من الآثمين ،
إنْ كتموا الشهادة؛ ولذلك أتوا ب « إذَنِ » المُؤذِنَةِ بالجزاء والجواب ، وقرأ
الجمهور : « لَمِنَ الآثمينَ » من غير نقل ، ولا إدغام ، وقرأ ابن مُحَيصنٍ
والأعمش : « لَمِلآّثمين » بإدغام نون «
مِنْ » في لام التعريف ، بَعْد أن نقل إليها حركة الهمزة
في « آثمينَ » ، فاعتدَّ بحركة النقل فأدغَمَ ، وهي
نظيرُ قراءةِ مَنْ قرأ : { عَاداً لُّولَى } [ النجم : 50 ] بالإدغام ، على ما
سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى
.
فصل في معنى الآية
ومعنى الآية : إنكم إذا سَافَرْتُم في الأرْض ،
فأصَابَتْكُم مُصِيبَةُ الموت ، فأوصَيْتم إلَيْهما ، ودَفَعْتُم إليهمَا مالك ،
فاتَّهَمَهُمَا بعضُ الورثة ، وادَّعَوْا عليهما خِيَانَة فما الحُكْمُ فيه؟
« أن تَحبِسُونَهُمَا » أي : تَسْتَوقِفُونَهُمَا بَعْدَ
الصَّلاة .
قال السُّدي : بعد صلاةِ أهْلِ دينهمَا؛ لأنَّهُمَا لا
يُبَالِيَان بِصلاةِ العَصْرِ ، ولا صلاةِ الظُّهْرِ على ما تقدَّم ، فيَحْلِفَان
{ بالله إِنِ ارتبتم } أي : شَكَكْتُم وَوقَعتْ لَكُم الرِّيبَةُ في قولِ
الشَّاهدين وصدقهمَا ، إذا كانا مِنْ غَيْرِ دينكُم ، فإن كانا مُسْلِمَيْن فلا يَمِينَ
عليهما { لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً } ، أي : لا نَحْلِفُ باللَّه كَاذِبين على
عِوضٍ نأخُذُه ، أو حَقٍّ نَجْحَدُهُ { وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } ، ولو كان
المَشْهُودُ لَهُ ذَا قَرابَةٍ مِنَّا
.
وقيل : لَوْ كان ذلك الشَّيْءُ حبوة في قُرْبى { وَلاَ
نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله } وأضَافَ الشَّهادَةَ إلى اللَّهِ تعالى؛ لأنه أمَرَ
بإقَامَتِها ونَهَى عن كِتْمَانها { إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين } ، إن
كَتَمْنَا الشَّهَادَة .
رُوِي لما نَزَلت هذه الآيَةُ ، صلَّى رسولُ الله صلى
الله عليه وسلم صلاةَ العَصْرِ ، ودعا تميماً وعِدياً ، فاسْتَحْلَفَهُمَا عِنْدَ
المِنْبَر باللَّه الذي لا إله إلاَّ هُو ، أنَّهُمَا لم يَخْتَانَا شَيْئاً مما
دُفع إليْهما ، فَحَلَفا على ذَلِكَ ، وخلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم سَبِيلَهُمَا .
قوله تعالى : « فإنْ عُثِرَ » : مبنيٌّ للمفعول ، والقائمُ
مقامَ فاعله الجارُّ بعده ، أي : فإن اطُّلِعَ على اسْتِحْقَاقِهِمَا الإثْم يقالُ
: عَثَرَ الرَّجُلُ يَعْثُرُ عُثُوراً
: إذا هَجَمَ على شيءٍ ، لم يَطَّلِعْ عليه غَيْرُهُ ،
وأعْثَرْتُهُ على كذا أطلعتُه عليه؛ ومنه قوله تعالى : { أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ }
[ الكهف : 21 ] ، قال أهلُ اللغة : وأصلُه من « عَثْرَةِ
الرجْلِ » وهي الوقوعُ ، وذلك أن العاثِرَ إنما يَعْثُرُ بِشَيْء كان لا يَرَاهُ ،
فإن عثر به ، اطُّلَعَ عليه ، ونظر ما هو ، فقيل لكلِّ أمْرٍ كان خَفِيًّا ، ثم
اطُّلِعَ عليه : « عُثِرَ عَلَيْه » ، وقال الليْثُ : « عَثَرَ يَعْثُرُ عُثُوراً
هَجَمَ على أمرٍ لم يهجُمْ عليه غيرُه ، وعَثَر يَعْثُرُ عثْرةً وقع على شيء » ففرَّقَ بين
الفعلَيْنِ بمصدَرَيْهما ، وفرَّق أبو البقاء بينهما بغير ذلك؛ فقال : « عَثَرَ
مصْدرُه العُثُور ، ومعناه اطَّلَعَ ، فأمَّا » عَثَرَ « في مَشْيهِ ، ومنْطِقِهِ ، ورأيه ،
فالعِثَارُ » ، والراغب جعَلَ المصدَرَيْنِ على حدٍّ سواء؛ فإنه قال : « عَثَر
الرَّجل بالشيءِ يَعْثُرُ عُثُوراً وعِثَاراً : إذا سقطَ عليه ، ويُتَجَوَّزُ به
فيمَنْ يطَّلِعُ على أمرٍ من غيرِ طلبه ، يقال : » عَثَرْتُ على كذا « ، وقوله : {
وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } [ الكهف : 21 ] ، أي : وَقَّفْنَاهُمْ عليهم من غَيْرِ
أنْ طَلَبُوا » .
قوله تعالى : « فآخَرَانِ » فيه أربعةُ أوجه :
الأول :
أن يرتفع على أنه خبر مبتدأ مضمرٍ ، تقديره :
فالشَّاهدانِ آخرانِ ، والفاء جوابُ الشرط ، دخلت على الجملة الاسمية ، والجملةُ
من قوله : « يَقُومَانِ » في محلِّ رفعٍ صفةً ل « آخَرَانِ » .
الثاني : أنه مرفوعٌ بفعلٍ مضمرٍ ، تقديرُه :
فَلْيَشْهَدْ آخَرَانِ ، ذكره مكيٌّ وأبو البقاء ، وقد تقدَّم أن الفعل لا
يُحْذَفُ وحْدَهُ إلاَّ في مواضعَ ذكَرْتُها عند قوله : { حِينَ الوصية اثنان } [
المائدة : 106 ] .
الثالث : أن خبرٌ مقدَّم ، و « الأوْلَيَانِ » مبتدأٌ
مؤخَّرٌ ، والتقديرُ : فالأوْليانِ بأمْرِ الميِّتِ آخَرَانِ يَقُومَانِ
مَقَامَهُمَا ، ذكر ذلك أبو عَلِيٍّ ، قال : « ويكُونُ كقولك : تَمِيميٌّ أنَا » .
الرابع : أنه مبتدأٌ ، وفي الخبر حينئذ احتمالاتٌ :
أحدها : قوله : { مِنَ الذين استحق } ، وجاز الابتداءُ
به؛ لتخصُّصِه بالوصْفِ ، وهو الجملة من « يَقُومَانِ » .
والثاني :
أنَّ الخبر « يَقُومَانِ » و { مِنَ الذين استحق } صفةُ
المبتدأ ، ولا يََضُرُّ الفصْلُ بالخبر بين الصفة وموصوفها ، والمسوِّغُ أيضاً
للابتداء به : اعتمادُه على فاءِ الجزاء ، وقال أبو البقاء ، لمَّا حَكَى رفعه بالابتداء
: « وجازَ الابتداءُ هنا بالنَّكِرَة؛ لحصولِ الفائدةِ » ، فإن عنى أنَّ المسوِّغَ
مجرَّدُ الفائدةِ من غير اعتبار مسوِّغٍ من المُسَوِّغات التي ذكرتُها ، فغيرُ
مُسَلَّم .
الثالث : أنَّ الخبرَ قوله : « الأوْلَيَانِ » نقله أبو
البقاء ، وقوله « يَقُومَانِ » و { مِنَ الذين استحق } كلاهما في محلِّ رفعٍ صفةً
ل « آخَرَانِ » ، ويجوزُ أن يكون أحدُهما صفةً ، والآخرُ حالاً ، وجاءتِ الحالُ من
النكرةِ؛ لتخصُّصِهَا بالوصفِ ، وفي هذا الوجهِ ضَعْفٌ؛ من حيث إنه إذا اجتمع
معرفةٌ ونكرةٌ ، جَعَلْتَ المعرفةَ محدَّثاً عنها ، والنكرةَ حديثاً ، وعكسُ ذلك
قليلٌ جدًّا أو ضرورةٌ؛ كقوله : [ الوافر ]
2071- ... يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ ومَاءُ
وكقوله : [ الطويل ]
2072- وَإنَّ حَرَاماً أنَّ أسُبَّ مُجَاشِعاً ...
بَآبَائِيَ الشُّمِّ الكِرَام الْخََضَارِمِ
وقد فُهِمَ مِمَّا تقدَّم أنَّ الجملة من قوله «
يَقُومَانِ » والجارَّ من قوله : « مِنَ الَّذِينَ » : إمَّا مرفوعُ المحلِّ صفةً
ل « آخَرَانِ » أو خبرٌ عنه ، وإمَّا منصوبُهُ على الحالِ : إمَّا من نَفْسِ «
آخَرَانِ » ، أو مِنَ الضَّمِير المستكنِّ في «
آخَرَانِ » ، ويجوزُ في قوله « مِنَ الَّذِين » أنْ يكون حالاً من فاعلِ «
يَقُومَانِ » .
قوله : « استحقّ » قرأ الجمهور « استُحِقَّ » مبنيًّا
للمفعول ، « الأولَيَانِ » رفعاً ، وقرأ حفص عن عاصم : « اسْتَحَقَّ » مبنيًّا
للفاعل ، « الأوليَانِ » كالجماعة ، وهي قراءة عبد الله بن عبَّاس وأمير المؤمنين عليٍّ
- رضي الله عنهم - ورُوِيَتْ عن ابن كثيرٍ أيضاً ، وحمزة وأبو بكرٍ عن عاصمٍ : « استُحِقَّ »
مبنيًّا للمفعول كالجماعة ، « الأوَّلِينَ » جمع « أوَّل » جمع المذكر السَّالِم ،
والحسن البصريّ : « اسْتَحَقَّ » مبنيًّا للفاعل ، و « الأوَّلانِ » مرفوعاً تثنية « أوَّل »
، وابن سيرين كالجماعة ، إلا أنه نَصَبَ الأوْلَيْينِ تثنية « أوْلَى » ، وقرئ : «
الأوْلَيْنَ » بسكون الواو وفتح اللام ، وو جمع « أوْلَى » كالأعْلَيْنَ في جمعِ «
أعْلََى » ، ولما وصل أبو إسحاق الزجاج إلى هذا
الموضوع ، قال : « هذا موضعٌ من أصْعَبِ ما في القرآن إعراباً » . قال شهاب الدين
: ولعَمْرِي ، إنَّ القولَ ما قالَتْ حَذَامِ؛ فإن الناس قد دارَتْ رؤوسُهم في
فَكِّ هذا التركيب ، وقد اجتهدْتُ - بحمد الله تعالى - فلخَّصْتُ الكلام فيها أحسن
تَلْخِيصٍ ، ولا بدَّ من ذِكْرِ شَيْءٍ من معاني الآية؛ لنستعين به على الإعْراب؛
فإنه خادمٌ لها .
فأمَّا قراءةُ الجُمهورِ ، فرفعُ « الأوْلَيَان » فيها
أوجه :
أحدها : أنه مبتدأ ، وخبره « آخرَانِ » ، تقديره :
فالأوْلَيَانِ بأمر الميِّت آخَرَانِ ، وتقدَّم شرحُ هذا .
الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمرٍ ، أي : هما الأوْليانِ؛
كأنَّ سائلاً يسأل فقال : « من الآخَرَانِ » ؟ فقيل : هما الأوْلَيَانِ .
الثالث :
أنه بدلٌ من « آخَرَان » ، وهو بدلٌ في معنى البيان
للمبدلِ منه؛ نحو : « جَاءَ زَيْدٌ أخُوكَ » وهذا عندهم ضعيفٌ؛ لأنَّ الإبدالَ
بالمشتقَّاتِ قليلٌ .
الرابع : أنه عطفُ بيان ل « آخَرَانِ » بيَّن
الآخَرَيْنِ بالأوْلَيَيْنِ ، فإن قلت : شرطُ عطفِ البيانِ : أن يكون التابعُ
والمتبوعُ متفقينِ في التعريفِ والتنكيرِ ، على أنَّ الجمهور على عدم جريانه في النكرةِ؛
خلافاً لأبي عَليّ ، و « آخَرَانِ » نكرةٌ ، و « الأوْلَيَانِ » معرفةٌ ، قُلْتُ
: هذا سؤالٌ صحيحٌ ، ولكنْ يَلْزَمُ الأخفشَ ، ويلزمُ الزمخشريَّ جوازُه : أمَّا
الأخفشُ فإنه يُجيزُ أنْ يكون « الأوْلَيَانِ » صفةً ل « آخَرَانِ » بما سأقرره عنه
عند تعرُّضِي لهذا الوجهِ ، والنعتُ والمنعوتُ يُشترط فيهما التوافُقُ ، فإذا جاز
في النعْتِ ، جاز فيما هو شبيهٌ به؛ إذْ لا فرق بينهما إلا اشتراطُ الاشتقاقِ في
النعت ، وأمَّا الزمخشريُّ ، فإنه لا يشترطُ ذلك - أعني التوافُقَ - وقد نَصَّ
عليه هو في سورة آل عمران على أن قوله تعالى :
{ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } [ آل عمران : 97 ] عطفُ بيان؛
لقوله { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } [ آل عمران : 97 ] ، و « آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ » نكرةٌ؛ لكنها لَمَّا تخصَّصَتْ بالوصفِ
، قَرُبَتْ من المعرفة ، كما تقدَّم عنه في موضعه ، وكذا « آخَرَانِ » قد وُصِفَ
بصفَتيْنِ ، فقُرْبُه من المعرفة أشدُّ من « آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ » ؛ من حيثُ
وُصِفَتْ بصفةٍ واحدة .
الخامس : أنه بدلٌ من فاعلِ « يَقُومَانِ » .
السادس :
أنه صفةٌ ل « آخَرَانِ » ، أجازَ ذلك الأخفشُ ، وقال أبو
عَلِيٍّ : « وأجازَ أبو الحسنِ فيها شيئاً آخَرَ ، وهو أن يكُون » الأوْلَيَانِ « صفةً
ل » آخَرَانِ
« ؛ لأنَّه لمَّا وُصِفَ ، تخصَّصَ ، فَمِنْ أجلِ وصفه وتخصيصه ، وُصِفَ بوصف
المعارف » ، قال أبو حيان : « وهذا ضعيفٌ؛ لاستلزامِه هَدْم ما كَادُوا أن
يُجْمعوا عليه؛ من أنَّ النكرة لا تُوصفُ بالمعرفةِ ، ولا العَكْس » ، قلتُ : لا
شكَّ أن تَخَالُفَهُمَا في التعريفِ والتنْكيرِ ضعيفٌ ، وقد ارتكَبُوا ذلك في
مواضعَ ، فمنها ما حكاه الخليلُ : « مَرَرْتُ بالرَّجُلِ خَيْرٍ مِنْكَ » في أحدِ
الأوجه في هذه المسألةِ ، ومنها
{ غَيْرِ المغضوب } [ الفاتحة : 7 ] على القولِ بأنَّ «
غَيْر » صفةُ { الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } [ الفاتحة : 7 ] ، وقوله : [ الكامل ]
2073- وَلَقَدْ أمُرُّ على اللَّئِيم يَسُبُّنِي ...
فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لا يَعْنِينِي
وقوله تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ
النهار } [ يس : 73 ] ، على أنَّ «
يَسُبُّنِي » و « نَسْلَخُ » صفتان لما قبلهما؛ فإنَّ الجمل نكراتٌ ، وهذه
المُثُلُ التي أوردتها عكسُ ما نحن فيه ، فإنها تُؤوَّلُ فيها المعرفةُ بالنكرة ،
وما نحن فيه جعلنا النكرة فيه كالمعرفةِ؛ إلاَّ أنَّ الجامعَ بينهما التخالفُ ،
ويجوز أن يكون ما نحْنُ فيه من هذه المُثُلِ؛ فاعتبار أنَّ « الأوْلَيَيْنِ »
لمَّا لم يُقْصَدْ بهما شخصان معينان ، قَرُبَا من النكرةِ ، فوقعا صفةً لها مع
تخصُّصِها هي؛ فصار في ذلك مسوِّغان : قُرْبُ النكرةِ من المعرفة بالتخصيصِ ،
وقُرْبُ المعرفةِ من النكرة بالإبهام؛ ويدلُّ لِما قلته ما قال أبو البقاء : «
والخَامِسُ أن يكون صفة ل » آخَرَانِ « ؛ لأنه وإنْ كان نكرةً ، فقد وُصِفَ ،
والأوْليانِ لم يَقْصِدْ بهما قَصْدَ اثنينِ بأعيانِهما » .
السابع : أنه مرفوعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعله ب «
اسْتُحِقَّ » ، إلاَّ أنَّ كلَّ مَنْ أعربه كذا ، قَدَّر قبله مضافاً محذوفاً ،
واختلفتْ تقديراتُ المُعْرِبينَ ، فقال مكي : « تقديرُه : استُحِقَّ عليهمْ إثْمُ
الأوْلَيَيْنِ » ، وكذا أبو البقاء وقد سَبقَهما إلى هذا التقدير ابنُ جريرٍ
الطَّبَرِيُّ ، وقدَّره الزَمَخْشَرِيُّ فقال : « مِنَ الَّذِينَ استُحِقَّ
علَيْهِمُ انتدَابُ الأوْلَيَيْنِ منْهُمْ للشَّهادَةِ لاطِّلاعِهِمْ عَلَى حقيقةِ
الحَالِ » ، ومِمَّن ذهب إلى ارتفاعِ «
الأوْلَيَانِ » ب « اسْتُحِقَّ » أبو عليٍّ الفارسِيُّ ، ثم منعه؛ قال : « لأنَّ
المُسْتَحَقَّ إنَّمَا يكُونُ الوصيَّة أو شيئاً منها ، وأمَّا الأوليَانِ
بالمَيِّتِ ، فلا يجوزُ أن يُسْتَحَقَّا ، فيُسْنَدَ استُحِقَّ إليهما » ، قلتُ :
إنما منع أبو عليٍّ ذلك على ظاهرِ اللفظِ؛ فإنَّ الأوْلَيَيْنِ لَمْ يستحقَّهما
أحدٌ كما ذَكَر ، ولكن يجوز أن يُسْنَدَ « اسْتُحِقَّ » إليهما؛ بتأويلِ حذف
المضافِ المتقدِّم ، وهذا [ الذي ] منعه الفارسيُّ ظاهراً هو الذي حمل النَّاس على
إضمار ذلك المُضافِ ، وتقديرُ الزمخشريِّ ب « انْتِدَاب الأوْلَيَيْنِ » أحسنُ من تقدير
غيره؛ فإنَّ المعنى يُسَاعِدُهُ ، وأمَّا إضمارُ « الإثْم » فلا يَظْهر إلا بتأويل بعيدٍ .
وأجازَ ابن عطيَّة أن يرتفعَ « الأوْلَيَانِ » ب « استُحِقَّ » أيضاً
، ولكن ظاهرُ عبارته؛ أنه لم يُقَدَّر مضافاً؛ فإنه استشعر بإستشكالِ الفارسيِّ
المتقدِّم ، فاحتالَ في الجواب عنه ، وهذا نَصُّه ، قال ما ملخَّصُه : إنَّه «
حُمِلَ » اسْتُحِقَّ « هنا على الاستعارةِ؛ فإنه ليس استحقاقاً حقيقةً؛ لقوله : »
اسْتَحَقَّا إثْماً « ، وإنما معناه أنَّهم غَلَبُوا على المالِ بحُكْمِ انفرادِ
هذا المَيِّت وعدمه؛ لقرابته أو أهل دينه؛ فجعل تسوُّرَهُمْ عليه استحقاقاً - مجازَاً ،
والمعنى : من الجماعة التي غابت ، وكان منْ حَقِّها أنْ تُحْضِرَ وليَّها ، فلمَّا
غابَتْ وانفرد هذا الموصِي ، استحقَّت هذه الحالَ ، وهذان الشاهدانِ من غير أهْل
الدِّين والولاية ، وأمْرِ الأوْلَيَيْنِ على هذه الجماعة ، فبُنِيَ الفعلُ
للمفعولِ على هذا المعنى إيجازاً ، ويُقَوِّي هذا الفرضَ تعديِّي الفعلِ ب » عَلَى
« لمَّا كان باقتدارٍ وحَمْلٍ ، هَيَّأتْهُ الحالُ ، ولا يُقال : اسْتَحَقَّ منه
أو فيه إلاَّ في الاسْتِحْقَاقِ الحقيقيِّ على وجههِ ، وأمَّا » اسْتَحَقَّ عليْهِ « فالبحَمْلِ
والغلبةِ والاستحقاقِ المُسْتَعَارِ » . انتهى ، فقد أسند « اسْتَحَقَّ » إلى « الأوليان » من غير
تقدير مضافٍ متأوِّلاً له بما ذكر ، واحتملتُ طول عبارته؛ لتتَّضِحَ .
واعلم أنَّ مرفوع « اسْتُحِقَّ » في الأوجهِ المتقدِّمة
- أعني غيرَ هذا الوجهِ ، وهو إسنادُه إلى « الأوْليانِ » - ضميرٌ يعودُ على ما تقدَّم لفظاً أو
سياقاً ، واختلفت عباراتُهم فيه ، فقال الفارسيُّ ، والحُوفيُّ ، وأبو البقاء
والزمخشريُّ : إنه ضميرُ الإثْمِ ، والإثمُ قد تقدَّمَ في قوله : « اسْتَحَقَّا
إثْماً » ، وقال الفارسيُّ والحُوفِيُّ أيضاً : « اسْتُحِقَّ هو الإيصاءُ أو
الوصيَّةُ » قال شهاب الدين : إضمارُ الوصيَّة مُشْكِلٌ؛ لأنه إذا أُسْنِدَ الفعلُ إلى
ضمير المؤنَّثِ مطلقاً ، وَجَبَتِ التاءُ إلاَّ في ضرورة ، ويُونُسُ لا يَخُصُّه
بها ، ولا جائزٌ أن يقال أضْمَرَا لفظ الوصيَّة؛ لأنَّ ذلك حُذِفَ ، والفاعلُ
عندهما لا يُحْذَفُ ، وقال النحَّاس مستحْسِناً لإضمارِ الإيصَاءِ : « وهذا أحسنُ
ما قِيلَ فيه؛ لأنَّه لم يُجْعَلْ حرفٌ بدلاً من حرفٍ » ، يعني أنه لا يقُول :
إنَّ « عَلَى » بمعنى « فِي » ، ولا بمعنى « مِنْ » كما قيل بهما ، وسيأتي ذلك -
إن شاء الله تعالى - .
وقد جمع الزمخشريُّ غالبَ ما قُلْتُه وحَكَيْتُه من
الإعْرَابِ والمعنى بأوجز عبارةٍ ، فقال : « ف » آخَرَانِ « ، أي : فشَاهِدَانِ
آخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الذينَ اسْتُحِقَّ عليهِم ، أي : استُحِقَّ
عليْهِمُ الإثمُ ، ومعناه : مِنَ الذين جُنِيَ عليهمْ ، وهم أهلُ الميِّتِ
وعشيرتُهُ والأوليانِ الأحقَّانِ بالشَّهادةِ لقَرَابَتهِمَا ومَعْرِفَتِهِمَا ، وارتفاعُهُمَا
على : » هُمَا الأوْلَيَانِ « ؛ كأنه قيل : ومَنْ هُمَا؟ فقيل : الأوْلَيَانِ ،
وقيل : هما بدلٌ من الضَّمير في » يَقُومَانِ « أو من » آخَرَانِ « ، ويجوزُ أنْ
يرتفِعَا ب » اسْتُحِقَّ « ، أي : من الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عليْهِمُ انتدابُ
الأوْلَيَيْنِ مِنْهُمْ للشهادة؛ لاطِّلاعهم على حقيقة الحَالِ » .
وقوله « عَلَيْهِم » : في « عَلَى » ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها :
أنها على بابها ، قال أبو البقاء : « كقولك : وَجَبَ
عليهم الإثْمُ » ، وقد تقدَّم عن النحَّاس؛ أنه لمَّا
أضْمَرَ الإيصاءَ ، بَقَّاها على بابها ، واستحْسَنَ ذلك .
والثاني : أنها بمعنى « فِي » أي : استُحِقَّ فيهم الإثمُ
، فوقَعَتْ « عَلَى » موقع « فِي » كما تقعُ « فِي » موقعها؛ كقوله تعالى : {
وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] أي : على جُذُوعِ ، وكقوله :
[ الكامل ]
2074- بَطَلٌ كَأنَّ ثِيَابَهُ فِي سَرْحَةٍ ... يُحْذَى
نِعَالَ السِّبْتِ لَيْسَ بِتَوْءَمِ
أي : على سَرْحةٍ ، وقدَّره أبو البقاء فقال : « أي :
استُحِقَّ فيهم الوصيَّةُ » .
والثالث :
أنها بمعنى « مِنْ » أي : استُحِقَّ مِنْهُمُ الإثْمُ؛
ومثلُه قولُه تعالى : { إِذَا اكتالوا عَلَى الناس } [ المطففين : 2 ] أي : مِنَ
الناس ، وقدَّره أبو البقاء فقال : « أي : استُحِقَّ منهم الأوْليَانِ » فحينَ جعلها
بمعنى « فِي » قدَّر « اسْتُحِقَّ » مُسْنَداً للوصية؛ وحين جعلها بمعنى « مِنْ »
، قدَّره مُسْنِداً ل « الأوْلَيَانِ » ، وكان لَمَّا ذكر القائمَ مقامَ الفاعلِ ،
لم يذكر إلا ضميرَ الإثم و « الأوْلَيَانِ » ،
وأجاز بعضهم أنْ يُسْنَدَ « اسْتُحِقَّ » إلى ضمير المالِ ، أي : اسْتُحِقَّ
عليْهِمُ المالُ المَوْرُوثُ ، وهو قريبٌ .
فقد تقرَّر أنَّ في مرفوعِ « اسْتُحِقَّ » خمسة أوجه :
أحدُها : « الأوْلَيَانِ » .
والثاني : ضميرُ الإيصاء .
والثالث : ضميرُ الوصية ، وهو في المعنى كالذي قبله
وتقدَّم إشكالُه .
والرابع : أنه ضميرُ الإثْمِ .
والخامس :
أنه ضميرُ المالِ ، ولم أرَهُمْ أجازوا أن يكون «
عَلَيْهِم » هو القائمَ مقامَ الفاعلِ؛ نحو : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } [
الفاتحة : 7 ] كأنهم لم يَرَوْا فيه فائدةً .
وأمَّا قراءةُ حَفْص ف « الأوْلَيَانِ » مرفوعٌ ب «
اسْتَحَقَّ » ومفعولُه محذوفٌ ، قدَّره بعضهم « وصِيَّتَهُمَا » ، وقدَّره الزمخشريُّ ب « أن يجرِّدُوهُمَا للقيامِ
بالشَّهَادة » ؛ فإنه قال : « معناهُ من الورثةِ الذين استَحَقَّ عليْهِمُ
الأوْلَيَانِ من بينهم بالشهادة : أن يجرِّدُوهُمَا للقيامِ بالشَّهَادة ،
ويُظْهِرُوا بها كذب الكاذبينَ » ، وقال ابنُ عطيَّة : « الأوْلَيَانِ » رفعٌ ب «
اسْتَحَقَّ » ، وذلك أن يكون المعنى : مِنَ الَّذِينَ
استحَقَّ عليْهِمْ مالَهُمْ وتركَتَهُمْ شَاهِدَا الزُّورِ ، فَسُمِّيَا
أوْلَيَيْنِ ، أي : صَيَّرَهُمَا عَدَمُ الناس أوْلَيَيْنِ بالمَيِّت وتَرِكَتِهِ
، فَخَانَا ، وجَارَا فيها ، أو يكونُ المعنى : من الذينَ حَقَّ عليهم أنْ يكون الأوليانِ
منهم ، فاستَحَقَّ بمعنى : حَقَّ ، كاسْتَعْجَبَ وعَجِبَ ، أو يكون استحقَّ بمعنى
: سَعَى واستوجب ، فالمعنى : من القوم الذين حَضَرَ أوْلَيَانِ مِنْهُمْ ، فاستَحَقَّا
عليهم ، أي : استحقَّا لهُمْ وسعيا فيه ، واستوجََبَاهُ بأيْمَانِهِمَا
وقُرْبَانِهِمَا « ، قال أبو حيان - بعد أنْ حكَى عن الزمخشريِّ ، وأبي محمَّدٍ ما
قدَّمْتُه عنهما - : » وقال بعضُهم
: المفعولُ محذوفٌ ، تقديرُه : الذين استحقَّ عليهمُ
الأوليانِ وصيَّتَهُمَا « ، قال شهاب الدين :
وكذا هو محذوفٌ أيضاً في قولي الزمخشريِّ وابن عطيَّة ، وقد بَيِّنْتُهما ما هما ،
فهو عند الزمخشريِّ قوله : » أنْ يُجَرِّدُوهما للقيامِ بالشَّهادة « ، وعند ابن
عطيَّة هو قوله : » مالَهُمْ وتَركَتَهُمْ « ، فقوله : » وقال بعضهم : المفعولُ
محذوفٌ « يُوهِمُ أنه لم يَدْرِ أنَّه محذوفٌ فيما تقدَّم أيضاً ، وممن ذهبَ إلى أن » اسْتَحَقَّ «
بمعنى » حَقَّ « المجرَّدِ - الواحديُّ فإنه قال : » واسْتَحَقَّ هنا بمعنى حَقَّ ، أي :
وَجَبَ ، والمعنى : فآخَرَانِ مِنَ الذين وجب عليهمُ الإيصَاءُ بتوصيتِهِ بينهم ،
وهم وَرَثَتُه « وهذا التفسيرُ الذي ذكره الواحديُّ أوضحُ من المعنى الذي ذكره أبو
محمَّد على هذا الوجه ، وهو ظاهرٌ
.
وأمَّا قراءةُ حمزة وأبي بَكْرٍ ، فمرفوع » استُحِقَّ «
ضميرُ الإيصَاءِ ، أو الوصيةِ ، أو المالِ ، أو الإثمِ ، حَسْبما تقدَّم ، وأمَّا
» الأوَّلَيْنِ « فجمعُ » أوَّل « المقابل ل » آخِر « ، وفيه أربعةُ أوجه :
أحدها : أنه مجرورٌ صفةً ل » الَّذين « .
الثاني : أنه بدلٌ منه ، وهو قليلٌ؛ لكونه مشتقًّا .
الثالث :
أنه بدلٌ من الضميرِ في » عَلَيهم « ، وحسَّنَه هنا ،
وإن كان مشتقًّا عدمُ صلاحَيةِ ما قبله للوصف ، نقل هذَيْن الوجهَيْن الأخيرَيْنِ
مكيٌّ .
الرابع :
أنه منصوبٌ على المَدْح ، ذكره الزمخشريُّ ، قال : »
ومعنى الأوَّلِيَّةِ التقدُّمُ على الأجَانب في الشَّهَادة؛ لكونهم أحَقَّ بها « ، وإنما فَسَّر الأوَّلِيَّةَ بالتقدُّمِ على
الأجَانِب؛ جَرْياً على ما مَرَّ في تفسيره : أو آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ
أنَّهُمَا من الأجانب لا من الكُفَّارِ
وقال الواحديُّ : » وتقديرُه من الأوَّلينَ الَّذينَ اسْتُحِقَّ
عليْهِمُ الإيصَاءُ أو الإثْمُ ، وإنما قيل لهم « الأوَّلِينَ » من حيث كانوا
أوَّلِينَ في الذِّكْرِ؛ ألا ترى أنه قد تقدَّم : { يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ
شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } وكذلك { اثنان ذَوَا عَدْلٍ } ذُكِرَا في اللفظ قبل قوله :
{ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ
} ، وكان
ابنُ عباسٍ يختارُ هذه القراءة ، ويقول : « أرأيتَ إنْ كان الأوْليانِ صغيريْنِ ،
كيف يَقُومَانِ مقامهما » ؟ أراد : أنهما إذا كانا صغيريْنِ لم يقُومَا في اليمين
مقامَ الحانِثَيْنِ ، ونحا ابن عطية هذا المنحَى قال : « معناه : من القوْمِ الذين
استُحِقَّ عليهم أمرُهُمْ ، أي
: غُلِبُوا عليه ، ثم وصفَهم بأنهم أوَّلون ، أي : في
الذكْرِ في هذه الآية » .
وأمَّا قراءةُ الحَسَن فالأوَّلانِ مرفُوعَانِ ب «
استَحَقَّ » فإنه يقرؤهُ مبنيًّا للفاعل ، قال الزمخشريُّ : « ويَحْتَجُّ به مَنْ
يَرَى ردَّ اليمينِ على المُدَّعِي » ، ولم يبيِّن مَنْ هما الأوَّلاَنِ ،
والمرادُ بهما الاثْنَانِ المتقدِّمَانِ في الذكْرِ؛ وهذه القراءةًُ كقراءةِ
حَفْصٍ ، فيُقَدَّرُ فيها ما ذُكِرَ ، ثم مما يليقُ من تقديرِ المفْعُولِ .
وأما قراءة ابن سيرينَ ، فانتصابُها على المَدْحِ ، ولا
يجوزُ فيها الجَرُّ؛ لأنه : إمَّا على البدل ، وإمَّا على الوصْف بجَمْعٍ ، والأوْلَيَيْنِ
في قراءته مثنًّى ، فتعذر فيها ذلك ، وأمَّا قراءة « الأوْلَيْنَ » كالأعلَيْنَ ،
فحكاها أبو البقاء قراءةً شاذَّة لم يَعْزُها ، قال : « ويُقْرَأ » الأوْلَيْنَ « جمع
الأوْلَى ، وإعرابه كإعراب الأوَّلينَ » يعني في قراءة حمزة ، وقد تقدَّم أن فيها
أربعةُ أوجه ، وهي جارية هنا .
قوله :
« فَيُقْسِمَانِ » نسقٌ على « يَقُومَانِ » والسببيَّةُ
ظاهرٌة ، و « لشَهَادَتُنَا أحَقُّ » : هذه الجملة جوابُ القسمِ في قوله : « فَيُقْسِمَانِ » .
فصل في معنى الآية
ومعنى الآية : فإن حصل العُثُور ، والوقوف على أنَّهُمَا
أتيا بِخِيَانة ، استَحَقَّا الإثم بسبَبِ اليَمِينَ الكَاذِبَة ، أو خِيَانَة في
المَالِ ، قام في اليَمِين مقَامَهُما رَجُلانِ من قرَابَة الميت ، فَيَحْلِفَان
باللَّهِ لقد ظَهَرْنا على خَبرِ الذِّمِّيَّين ، وكذبهما وتَبْدِيلهما ، وما اعْتَدَيَنْا
في ذلك وما كَذبْنَا ، وهو المُراد بقوله : { فآخران يقومان مقامهما من الذين
استحق عليهم } ، والمُرَادُ به موالِي الميِّتِ ، قال ابنُ الخطيب : وقد أكثر
النَّاسُ في أنَّهُ لِمَ وصف موالِي الميِّتِ بهذا الوَصْفِ؟ والأصَحُّ عندي فيه
وَجْهٌ : وهو أنَّهُمْ إنَّما وُصِفُوا بذلك؛ لأنَّهُ لمَّا أخَذَ منهم مَالَهُمْ
، فَقَدْ استَحَقَّ عليهم مَالَهُمْ ، فإن أخَذَ مال غيره ، فقد حاولَ أن يكون
تَعَلُّقُهُ بذلك المَالِ مُسْتَعْلِياً على تَعَلُّق مالكه به ، فصحَّ أن يوصف
المَالِكُ بأنَّه قد استَحَقَّ عليه ذلك المال ، وإنما وَصَفهُمَا بأنَّهُما
أولَيَان لِوَجْهَيْن :
الأول : معنى الأوليان : الأقْرَبان إلى الميِّت .
الثاني :
يَجُوزُ أن يكُون المَعْنَى الأوليان باليَمينِ؛ لأن
الوصِيَّيْن قد ادّعَيَا أنَّ الميِّت قد باعَ الإنَاء الفِضَّة ، فانْتَقَلَتِ
اليَمِينُ إلى موالي الميِّت؛ لأنَّ الوَصِيَّيْن قد ادّعَيَا أنَّ مُورثَهُمَا
باعَ الإنَاء ، وهما أنْكَرَا ذلك ، فكان اليَمِينُ حقًّا لهما؛ لأنَّ الوَصِيَّ إن
أخَذَ شيئاً من مال الميِّت ، وقال : إنه أوْصَى لِي به حَلَف لِلْوَارِثِ إذا
أنْكَرَ ذلك ، وكذا لو ادّعَى رجُلٌ سِلْعَةً في يدِ رجلٍ فاعْتَرَفَ ، ثمَّ
ادَّعى أنَّهُ اشْتَراها من المدَّعِي ، حلف المُدَّعِي أنَّه لم يَبِعْها منه ،
وهذا كما لو أنَّ إنْسَاناً أقَرَّ لآخر بِدَيْنٍ ، ثم ادّعى أنه قَضَاهُ ، حُكِمَ
بِرَدّ اليمينِ إلى الذي ادّعى الدَّيْن أوَّلاً؛ لأنَّه صارَ مُدَّعىً عليه أنه
قد اسْتَوْفَاه .
فصل
اختلفوا في كَيْفِيَّة ظُهُور الإنَاء ، فَرَوَى سَعِيدُ
بن جُبَيْرٍ عن ابن عبَّاسٍ : أنه وُجِدَ بمَكَّةَ ، فقالوا : إنَّا اشْتَرَيْنَاه
من تَمِيمٍ وعَدِيٍّ ، وقيل : لما طَالَتِ المُدَّةُ أظهرُوهُ ، فبلغ ذلك بني
سَهْمٍ فَطَلَبُوهُمَا ، فقالا : إنَّا كنا قد اشْتَرَيْنَاه منه ، فقالُوا : ألم نَقُل
لكم هَلْ بَاعَ صَاحِبُنَا شيئاً من مَتاعِهِ ، فَقُلْتُمَا : لا ، قالا : لم
يَكُنْ عندنا بيِّنةٌ ، فكرهنا أن نُقِرَّ لَكُم بِهِ ، فكَتَمْنَا لذلك ،
فرفَعُوهُمَا إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - :
{ فَإِنْ عُثِرَ على أَنَّهُمَا استحقآ إِثْماً فَآخَرَانِ يِقُومَانُ
مَقَامَهُمَا } الآية ، فقام عَمْرُو بنُ العَاصِ والمطَّلِبُ بن أبي وَداعة
السَّهْمِيَّان ، فحلفا باللَّهِ بعد العَصْرِ ، فَرَفَع رسولُ الله صلى الله عليه
وسلم الإنَاءَ لَهُما ، وإلى أوْلِيَاء الميِّتِ ، فكان تَمِيمٌ الداري يقول بعدما
أسْلَمَ : صدقَ اللَّهُ ورسُولُه أنا أخَذْتُ فأنَا أتُوبُ إلى اللَّه تعالى .
وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أنَّهُ بقيت تلك
الوَاقِعَةُ مَخْفِيَّةً إلى أن أسْلَمَ تَمِيمٌ الدَّاري ، فلما أسْلَمَ أخْبَرَ
بذلك ، فقال : حَلَفْتُ كاذباً أنا وصَاحِبِي ، بعْنَا الإنَاءَ بألفٍ وقَسَّمْنَا
الثَّمنَ ، ثمَّ دَفَعَ خمسمائة دِرْهَم من نفسه ، ونزعَ من صاحبه خمسمائةً أخرى ،
ودفع الألْفَ إلى مَوَالِي الميِّت ، فكذلك قوله : { ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ
بالشهادة على وَجْهِهَآ } ، أي : ذلك الذي حَكَمْنَا به من رَدِّ اليَمينِ ، أجدر وأحْرَى
أن يَأتِي الوَصِيَّان بالشَّهَادَة على وجهها ، وأدْنَى معناه : أقْرَبُ إلى
الإتيان بالشَّهَادَة على ما كانت { أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ
أَيْمَانِهِمْ } أي : أقْرَبُ إلى أن يَخَافُوا رَدَّ اليمينِ بعد يَمينهمْ على
المُدَّعِي ، فيحلفوا على خِيَانَتِهِم وكذبهم ، فَيَفْتَضِحُوا ويغرمُوا ، فلا
يَحْلِفُون كَاذِبين إذا خَافُوا هذا الحُكْمَ ، « واتَّقُوا اللَّهَ » : أنْ
تَحْلِفُوا أيْماناً كَاذِبَةً ، أو تَخُونُوا أمَانَةً ، « واسْمَعُوا » :
الموعظة ، { والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } ، وهذا تَهْديدٌ ووعيدٌ لِمنْ
يُخَالِفُ حُكْم اللَّهِ وأوَامِرِهِ
.
روى الواحدي - رحمه الله - في « البَسِيطِ » ، عن عُمَر بن
الخطَّابِ - رضي الله عنه - أنَّهُ قال : هذه الآية أعْضَلُ ما في هذه السُّورَةِ
من الأحْكَامِ . ولنَرْجِع إلى إعرابِ بقيَّة الآيَة .
قوله
« ذلك أدْنَى » لا محلَّ لهذه الجملةِ؛ لاستئنافِها ،
والمشارُ إليه الحكمُ السابقُ بتفصيله ، أي : ما تقدَّم ذكرُه من الأحْكَامِ أقربُ
إلى حصولِ إقامةِ الشَّهادة على ما ينبغي ، وقيل : المشارُ إليه الحَبْسُ بعد
الصلاة ، وقيل : تحليفُ الشاهدين ، و « أنْ يَأتُوا » أصلُه : « إلى أنْ يأتُوا » ، وقدَّره أبو البقاء ب « مِنْ » أيضاً ، أي :
أدْنَى من أن يأتُوا ، وقدَّره مكيٌّ بالباء ، أي : بِأنْ يَأتُوا ، قال شهاب
الدين : وليْسَا بواضحَيْنِ ، ثم حذفَ حرفَ الجر ، فَنَشَأ الخلافُ المشهور ، و «
عَلَى وَجْهِهَا » متعلِّقٌ ب « يَأتُوا » ، وقيل : في محلِّ نَصْبٍ على الحال منها
، وقدَّره أبو البقاء ب « محققة وصَحِيحَة » ، وهو تفسيرُ معنًى؛ لما عرفْتَ غير
مرة من أنَّ الأكوانَ المقيَّدة لا تُقَدَّر في مثله .
قوله : « أوْ يَخَافُوا » في نصبه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب؛ عطفاً على « يَأتُوا » ، وفي « أوْ
» على هذا تأويلان :
أحدهما :
أنها على بابها من كونها لأحدِ الشيئين ، والمعنى : ذلك
الحكمُ أقربُ إلى حصول الشهادة على ما ينبغي ، أو خوفِ رَدِّ الأيمانِ إلى غيرهم ،
فتسقطُ أيمانهم ، والتأويلُ الآخر : [ أن ] تكون بمعنى الواو ، أي : ذلك الحُكْمُ
كله أقربُ إلى أنْ يَأتُوا ، وأقربُ إلى أن يَخَافُوا ، وهذا مفهومٌ من قول ابن
عبَّاسٍ .
الثاني من وجهي النصب : أنه منصوبٌ بإضمار « أنْ » بعد « أوْ
» ، ومعناها هنا « إلاَّ » ؛ كقولهم : « لألْزَمَنَّكَ أوْ تَقْضِيَني حَقِّي » ،
تقديره : إلاَّ أنْ تَقْضِيني ، ف « أوْ » حرفُ عطفٍ على بابها ، والفعلُ بعدها
منصوبٌ بإضمار « أنْ » وجوباً ، و « أنْ » وما في حيِّزها مُؤوَّلةٌ بمصْدرٍ ،
ذلك المصدرُ معطوفٌ على مصدر متوهَّم من الفعلِ قبله ، فمعنى : « لألْزَمَنَّكَ
أوْ تَقْضِيَنِي حَقِّي » : لَيَكُونَنَّ منِّي لُزُومٌ لك أو قَضَاؤُكَ لِحَقِّي ، وكذا
المعنى هنا أي : ذلك أدنى بأن يأتوا بالشهادةِ على وجهها؛ وإلاَّ خَافُوا رَدَّ
الإيمانِ ، كذا قدَّره ابن عطية بواوٍ قبل « إلاَّ » ، وهو خلافُ تقدير النحاة؛ فإنَّهمْ
لا يقدِّرون « أوْ » إلا بلفظ « ألاَّ » وحدها دون واو ، وكأن « إلاَّ » في
عبارته على ما فهمه أبو حيان ليسَتْ « إلاَّ » الاستئنائيةَ ، بل أصلُها « إنْ »
شرطيةً دخلتْ على « لاَ » النافيةِ فأدْغِمَتْ فيها ، فإنه قال : « أو تكون » أو «
بمعنى » إلاّ إنْ « ، وهي التي عبَّر عنها ابن عطيَّة بتلك العبارةِ من تقديرها
بشرطٍ - محذوفٍ فعلُه - وجزاءٍ » . انتهى ، وفيه نظرٌ من وجهَيْن :
أحدهما : أنه لم يَقُلْ بذلك أحدٌ ، أعني كون « أوْ » بمعنى
الشرط .
والثاني : أنه بعد أنْ حَكَمَ عليْهَا بأنها بمعنى «
إلاَّ إنْ » جعلها بمعنى شرطٍ حُذِفَ فعلُه .
و « أنْ تُرَدَّ » في محلِّ نَصْبٍ على المفعُولِ به ، أي : أو
يَخَافُوا رَدَّ أيمانهم . و « بَعْدَ أيْمَانِهِمْ » : إمَّا ظرفٌ ل « تُرَدَّ » ، أو متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ على أنها صفةٌ ل « أيْمَان »
، وجُمِعَ الضميرُ في قوله « يَأتُوا » وما بعده ، وإنْ كان عائداً في المعنى على
مثنى ، وهو الشاهدان ، فقيل : هو عائدٌ على صنفي الشاهدين ، وقيل : بل عائدٌ على الشهودِ
من الناسِ كُلِّهِمْ ، معناه : ذلك أولى وأجدرُ أنْ يحذرَ الناسُ الخيانةَ ،
فيَتَحَرَّوْا في شهادتهم؛ خَوْفَ الشناعةِ عليهم والفَضِيحةِ في رَدِّ اليمينِ
على المُدَّعِي ، وقوله : « واتَّقُوا الله » لم يذكر متعلَّق التقوى : إمَّا
للعلْمِ به ، أي : واتقوا اللَّهَ في شهادِتكُمْ وفي الموصينَ عليهم بأن لا تَخْتَلِسُوا
لهم شيئاً؛ لأن القصَّةَ كانت بهذا السَّببِ ، وإمَّا قَصْداً لإيقاع التقوى ،
فيتناولُ كلَّ ما يُتَّقَى منه ، وكذا مفعولُ « اسْمَعُوا » إنْ شئتَ حذفته
اقتصاراً أو اختصاراً ، أي : اسْمَعُوا أوامِرَهُ من نَوَاهِيه من الأحكام المتقدِّمة ، وما
أفْصَحَ ما جيء بهاتَيْن الجملتَيْن الأمريتَيْن ، فتباركَ اللَّهُ أصْدَقُ
القائلِينَ .
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا
أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
اعلم :
أنَّ عادةَ اللَّهِ تعالى في هذا الكِتَابِ الكَرِيم ،
أنَّه إذا ذَكَرَ أنْوَاعاً من الشَّرَائع والتَّكَالِيفِ والأحْكَام ، أتْبَعها
إمَّا بالإلهِيَّات ، وإمَّا بشَرْح أحوَال الأنْبِيَاء ، وإمَّا بِشَرْح أحوَال القِيامَةِ
، ليصير ذلك مُؤكداً لما ذكَرَهُ من التَّكَاليفِ والشَّرائع ، فلا جَرَمَ ذكر هنا
بعد ما تقدَّم من الشَّرائع أحْوالَ القِيامَةِ ، ثمَّ ذكر أحْوالَ عيسى - عليه
السلام - .
فأمَّا أحْوالُ القِيَامَةِ ، فَهُو قَوْلُه : { يَوْمَ
يَجْمَعُ الله الرسل } : في نصب « يَوْمَ » أحدَ عشرَ وجهاً :
أحدها :
أنه منصوبٌ ب « اتَّقُوا » ، أي : اتَّقُوا اللَّهَ في
يومِ جمعِهِ الرُّسُلَ ، قاله الحُوفِيُّ ، وهذا ينبغي ألاَّ يجوزَ؛ لأنَّ أمرهم بالتقوى
في يوم القيامةِ لا يكون؛ إذ ليس بيومِ تَكْليفٍ وابتلاءٍ ، ولذلك قال الواحديُّ :
ولم يُنْصَبِ اليومُ على الظرْفِ للاتِّقاء؛ لأنَّهم لم يُؤمَرُوا بالتقوَى في ذلك
اليوم ، ولكنْ على المفعول به؛ كقوله : { واتقوا يَوْماً } [ البقرة : 48 ] .
الثاني : أنه منصوب ب « اتَّقُوا » مضْمَراً يدلُّ عليه « واتَّقُوا الله
» ، قال الزَّجَّاج : « وهو محمولٌ على قوله : » واتَّقُوا الله « ، ثم قال : »
يَوْمَ يَجْمَعُ « ، أي : واتقوا ذلك اليومَ » ، فدلَّ ذِكْرُ الاتقاءِ في الأوَّل على
الاتقاء في هذه الآية ، ولا يكونُ منصوباً على الظَّرْف للاتقاء؛ لأنهم لم
يُؤمَرُوا بالاتقاء في ذلك اليَوْم ، ولكنْ على المفعول به؛ كقوله تعالى : {
واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً } [ البقرة : 48 ] .
الثالث : أنه منصوب بإضمار « اذْكُرُوا » .
الرابع : بإضمار « احْذَرُوا » .
الخامس :
أنه بدلُ اشتمالٍ من الجلالة ، قال الزمخشريُّ : «
يَوْمَ يَجْمَعُ » بدلٌ من المنصوب في « واتَّقُوا الله » ، وهو من بدلِ الاشتمال
، كأنه قيل : « واتقُوا الله يَوْمَ جَمْعِهِ » . انتهى ، ولا بد من حذفِ
مضافٍ على هذا الوجهِ؛ حتى تَصِحَّ له هذه العبارةُ التي ظاهرها ليْسَ بجيدٍ؛
لأنَّ الاشتمالَ لا يُوصَفُ به الباري تعالى على أيِّ مذهبٍ فَسَّرنَاهُ من مذاهب النحويين
في الاشتمالِ ، والتقديرُ : واتقوا - عقاب الله - يَوْمَ يَجْمَعُ رُسُلَهُ ،
فإنَّ العقابَ مشتملٌ على زمانِه ، أو زمانُه مشتملٌ عليه ، أو عامِلُهُمَا مشتملٌ
عليهما على حسب الخلاف في تفسير البدلِ الاشتماليِّ ، فقد تبيَّن لك امتناعُ هذه
العباراتِ بالنسبةِ إلى الجلالةِ الشريفة ، واستبعد أبو حيان هذا الوجه بطُولِ
الفصْلِ بجملتين ، ولا بُعْدَ؛ فإنَّ هاتين الجملتَيْنِ من تمامِ معنى الجملة
الأولى .
السادسُ :
أنه منصوبٌ ب « لا يَهْدِي » قاله الزمخشريُّ وأبو
البقاء؛ قال الزمخشريُّ : « أي : لا يهديهمْ طريقَ الجنَّة يومئذٍ كما يُفْعَلُ بغَيْرهِمْ
» ، وقال أبو البقاء : « أي : لا يهدِيِهمْ في ذلك اليَوْمِ إلى حُجَّةٍ ، أو إلى
طريقِ الجنَّة » .
السابع : أنه مفعولٌ به ، وناصبُه « اسْمَعُوا » ، ولا بد من حذف مضاف
حينئذٍ ، لأنَّ الزمان لا يُسْمَعُ ، فقدَّره أبو البقاء : « واسمعوا خَبَرَ
يَوْمِ يُجْمَعُ » ، ولم يذكر أبو البقاء غير هذين الوجهَيْن ، وبدأ بأولهما ، وفي
نصبه ب « لا يَهْدِي » نظرٌ؛ من حيث إنه لا يهديهم مطلقاً ، لا في ذلك اليوم ولا في
الدنيا ، أعني المحْكُوم عليهم بالفسْقِ ، وفي تقدير الزمخشريِّ « لا يَهْدِيهِمْ
إلى طريقِ الجنَّة » نُحُوٌّ إلى مذهبه من أنَّ نَفْي الهداية المطلقة لا يجوزُ على
الله تعالى؛ ولذلك خَصَّصَ المُهْدَى إليه ، ولم يذكر غيره ، والذي سَهَّلَ ذلك
عنده أيضاً كونُه في يومٍ لا تَكْلِيفَ فيه ، وأما في دار التكليفِ فلا يُجيزُ
المعتزليُّ أن يُنْسَبَ إلى الله تعالى نَفْيُ الهدايةِ مطلقاً ألبتة .
الثامن : أنه منصوبٌ ب « اسْمَعُوا » قاله الحُوفِيُّ ،
وفيه نظرٌ؛ لأنهم ليسوا مكلَّفين بالسَّماعِ في ذلك اليومِ؛ إذ المُرادُ بالسماعِ
السماعُ التكليفيُّ .
التاسع : أنه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ متأخِّرٍ ، أي : يوم
يَجْمَعُ اللَّهُ الرسلَ كان كيتَ وكَيْتَ ، قاله الزمخشريُّ .
العاشر :
قال شهاب الدين : يجوز أن تكونَ المسألة من باب
الإعْمَال؛ فإنَّ كُلاًّ من هذه العوامِلِ الثلاثةِ المتقدِّمة يَصِحُّ تسلُّطُه
عليه؛ بدليل أنَّ العلماء جَوَّزوا فيه ذلك ، وتكون المسألةُ مِمَّا تنازع فيها ثلاثةُ
عوامل ، وهي « اتَّقُوا » ، و « اسْمَعُوا » ، و « لا يَهْدِي » ، ويكونُ من إعمال
الأخير؛ لأنه قد حُذِفَ من الأوَّلِينَ ولا مانعَ يمنع من الصناعة ، وأمَّا المعنى
فقد قَدَّمْتُ أنه لا يظهرُ نصْبُ « يَوْمَ » بشيء [ من الثلاثة ] ؛ لأنَّ المعنى
يأباه ، وإنما أجَزْتُ ذلك؛ جَرْياً على ما قالوه وجَوَّزوه ، وكذا الحُوفِيُّ
جَوَّز أن ينتصب ب « اتَّقُوا » وب
« اسْمَعُوا » أو ب « لاَ يَهْدِي » ، وكذا الحُوفِيُّ
جَوَّز أن ينتصب ب « اتَّقُوا » وب « اسْمَعُوا » .
الحادي عشر : أنه منصوبٌ ب « قَالُوا : لا عِلْمَ لَنَا
» أي : قال الرسُلُ يوم جمْعِهِمْ ، وقول الله لهم ماذ أجِبْتُمْ ، واختاره أبو
حيان على جميع ما تقدَّم ، قال : وهو نظيرُ ما قلناه في قوله تعالى : { وَإِذْ
قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ
أَتَجْعَلُ } [ البقرة : 30 ] ، وهو وجه حسنٌ .
قوله : « مَاذَا أجِبْتُمْ » فيه أربعةُ أقوال :
أحدها
: أنَّ « مَاذَا » بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ ، فغلب فيه جانبُ
الاستفهام ، ومحلُّه النصبُ على المصدرِ بما بعده ، والتقديرُ : أيَّ إجابةٍ
أجِبْتُم [ قال الزمخشريُّ : « مَاذَا أجِبْتُمْ » منتصبٌ انتصابَ مصدره على معنى
: أيَّ إجابةٍ أجِبْتُمْ ] ، ولو أُريدَ الجوابُ ، لقيل : بمَاذا أُجِبْتُمْ « ، أي : لو أُريدَ الكلامُ المجابُ ، لقيل : بماذا ،
ومِنْ مجيء » مَاذَا « كلِّه مصدراً قوله : [ البسيط ]
2075- مَاذَا يَغِيرُ ابنَتَيْ رَبْعٍ عَوِيلُهُمَا ...
لاتَرْقُدانِ وَلاَ بُؤسَى لِمَنْ رَقَدَا
الثاني :
أن « مَا » استفهاميةٌ في محلِّ رفع بالابتداء ، و « ذَا
» خبره ، وهي موصولةٌ بمعنى « الَّذي » ؛ لاستكمال الشرطَيْن المذكورَيْن ، و « أُجِبْتُمْ »
صلتُها ، والعائدُ محذوفٌ ، أي : ما الَّذي أجِبْتُمْ به ، فحذفَ العائد ، قاله
الحُوفِيُّ ، وهذا لا يجوزُ؛ لأنه لا يجوزُ حذفُ العائدِ المجرورِ ، إلا إذا جُرَّ
الموصولُ بحرف مثلِ ذلك الحرفِ الجارِّ للعائد ، وأنْ يَتَّحِدَ متعلَّقاهُمَا؛
نحو : « مَرَرْتُ بالَّذي مَرَرْتَ »
، أي : به :
وهذا الموصولُ غير مَجْرُورٍ ، لو قلتَ : « رَأيْتُ الذي مَرَرْتَ » ، أي : مررتَ
به ، لم يجُزْ ، اللهم إلا أنْ يُدَّعى حَذْفُهُ على التدريج أن يُحْذَفَ حرفُ
الجرِّ ، فيصلَ الفعلُ إلى الضمير ، فيحذفَ؛ كقوله : { وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا } [
التوبة : 69 ] ، أي : في أحدِ أوجهه ، وقوله : { فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } [ الحجر :
94 ] في أحد وجهيه ، وعلى الجملةِ فهو ضيعف .
الثالث : أنَّ « مَا » مجرورةٌ بحرفِ جَرٍّ مقدَّرٍ ، لمَّا
حُذِفَ بقيتْ في محلِّ نصبٍ ، ذكره أبو البقاء وضعَّف الوجه الذي قبله - أي كون ذا
موصولةً - فإنه قال : « مَاذَا في موضعِ نصْبٍ ب » أُجبْتُمْ « ، وحرفُ الجرِّ محذوفٌ ،
و » مَا « و » ذَا « هنا بمنزلةِ اسْمٍ واحدٍ ، ويَضْعُفُ أنْ تُجْعَلَ » مَا «
بمعنى » الَّذِي « ؛ لأنه لا عائد هنا ، وحذفُ العائدِ مع حرفِ الجَرِّ ضعيفٌ » .
قال شهاب الدين أمَّا جَعْلُه حذفَ العائدِ المجرورِ ضعيفاً ، فصحيحٌ تقدَّم شرحُه
والتنبيهُ عليه ، وأمَّا حذفُ حرفِ الجر وانتصابُ مجرورِه ، فهو ضيعفٌ أيضاً ، لا يجوزُ
إلاَّ في ضرورةٍ؛ كقوله : [ الطويل
]
2076- فَبِتُّ كَأنَّ العَائِدَاتِ فَرَشْنَنِي .. . . .
وقوله : [ الطويل ]
2077- . . ... وأُخْفِي الَّذِي لَوْلاَ الأسَى
لَقَضَانِي
وقوله : [ الوافر ]
2078- تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْ تَعُوجُوا .. . . .
وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك ، واستثناءُ المطَّرِد منه ، فقد
فرَّ من ضعيفٍ ، ووقع في أضْعَفَ منه
.
الرابع :
قال ابن عطيَّة - رحمه الله - : « معناه : ماذا أجابَتْ
به الأممُ » ، فجعل « مَاذَا » كنايةً عن المُجَابِ
به ، لا المصدرِ ، وبعد ذلك ، فهذا الكلامُ منه محتملٌ أنْ يكونَ مثل ما تقدَّمَ
حكايتُهُ عن الحُوفِيِّ في جعله « مَا » مبتدأ استفهاميةً ، و « ذَا » خبره؛ على
أنها موصولةٌ ، وقد تقدَّم التنبيهُ على ضعفه ، ويُحْتملُ أن يكون « مَاذَا »
كلُّه بمنزلةِ اسمِ استفهامٍ في محلِّ رفع بالابتداء ، و « أُجِبْتُمْ » خبرُه ،
والعائدُ محذوفٌ؛ كما قدَّره هو ، وهو أيضاً ضعيفٌ؛ لأنه لا يُحْذَفُ عائدُ
المبتدأ ، وهو مجرورٌ إلا في مواضعَ ليس هذا منها ، لو قلت : « زَيْدٌ مَرَرْتُ » لم يَجُزْ ،
وإذا تبيَّن ضعفُ هذه الأوجهِ ، رُجِّح الأول .
والجمهورُ على « أُجِبْتُمْ » مبنيًّا للمفعول ، وفي
حذفِ الفاعل هنا ما لا يُبْلَغُ كُنهُهُ من الفصاحة والبلاغة؛ حيث اقتصرَ على خطاب
رسله غيرَ مذكورٍ معَهُم غيرُهم؛ رفْعاً من شأنهم وتشريفاً واختصاصاً ، وقرأ ابن
عبَّاس وأبو حيوة « أجَبْتُمْ » مبنيًّا للفاعل ، والمفعول محذوف ، أي : ماذا
أجَبْتُمْ أمَمَكُمْ حين كَذَّبُوكُمْ وآذَوْكُمْ ، وفيه توبيخٌ للأمَمِ ، وليستْ
في البلاغةِ كالأولى .
فإن قيل : أيُّ فائِدَةٍ في هذا السُّؤال ، فالجوابُ : توبيخُ قَوْلِهم
كقوله : { وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } [ التكوير : 8 ، 9
] ، المَقْصُودُ مِنْهُ تَوْبِيخُ من فعل ذَلِك الفِعْلَ .
وقوله تعالى : { إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب } ، كقوله : { إِنَّكَ أَنْتَ العليم الحكيم } في
البقرة [ 32 ] . والجمهورُ على رفع « عَلاَّمُ الغُيُوبِ » ، وقرئ بنصبه ، وفيه
أوجهٌ ذكرها الزمخشريُّ وهي : الاختصاصُ ، والنداءُ ، وصفةٌ لاسم « إنَّ » ؛ قال : « وقُرئ بالنصْب
على أنَّ الكلامَ قد تَمَّ عند قوله » إنَّكَ أنْتَ « ، أي : إنَّكَ الموصوفُ بأوصَافِكَ المعرُوفة
من العلمِ وغيره ، ثم انتصَبَ »
علاَّمَ الغُيُوبِ « على الاختصاصِ ، أو على النداء ، أو
هو صفةٌ لاسْمِ » إنَّ « ، قال أبو حيان : » وهو على حذفِ الخبر لفهم المعنى ،
فَتَمَّ الكلامُ بالمقدَّرِ في قوله « إنَّك أنْتَ » ، أي : إنَّك الموصوفُ بأوصافِكَ
المعروفةِ من العلمِ وغيره « ، ثم قال : » قال الزمخشريُّ : ثم انتصبَ ، فذكره إلى
آخره « فزعمَ أنَّ الزمخشريَّ قدَّر ل » إنَّكَ « خبراً محذوفاً ، والزمخشريُّ لا
يريد ذلك ألبتة ولا يَرْتضيه ، وإنما يريدُ أنَّ هذا الضمير بكونه لله تعالى هو
الدالُّ على تلك الصفات المذكورة ، لا انفكاكَ لها عنه ، وهذا المعنى هو الذي
تقتضيه البلاغةُ ، والذي غاصَ [
عليه ] الزمخشريُّ - رحمه الله - لا ما قدَّره أبو حيان
مُوهِماً أنه أتى به من عنده ، ويعني بالاختصاص النَّصْبَ على المدْحِ ، لا
الاختصاصَ الذي هو شبيه بالنداء؛ فإنَّ شرطه أن يكون حَشْواً ، ولكنَّ أبا حيَّان
قد ردَّ على أبي القاسمِ قوله » إنه يجوزُ أن يكون صفةً لاسم إنَّ « بأنَّ اسمها هنا
ضميرُ مخاطبٍ ، والضمير لا يوصفُ مطلقاً عند البصريِّين ، ولا يوصَف منه عند
الكسائيِّ إلا ضميرُ الغائبِ؛ لإبهامه في قولهم » مَرَرْتُ بِهِ المِسْكِينِ « ،
مع إمكان تأويله بالبدلِ ، وهو ردٌّ واضحٌ ، على أنه يمكن أن يقال : أراد بالصفةِ
البدل ، وهي عبارةُ سيبويه ، [ يُطْلِقُ الصفةَ ويريد البدل ، فله أسْوَةٌ بإمامه
، واللازمُ مشترك ، فما كان جواباً عن سيبويه ] ، كان جواباً له ، لكن يَبْقَى فيه
البدلُ بالمشتقِّ ، وهو أسهلُ من الأول ، ولم أرَهُمْ خرَّجُوها على لغةِ مَنْ
ينصِبُ الجزأيْنِ ب » إنَّ « وأخواتِها؛ كقوله في ذلك : [ الرجز ]
2079- إنَّ الْعَجُوزَ خَبَّةً جَرُوزَا ... وقوله : [
الطويل ]
2080- . . .. . . . إنَّ حُرَّاسَنَا أُسْدَا
وقوله : [ الكامل ]
2081- لَيْتَ الشَّبَابَ هُوَ الرَّجِيعَ عَلَى الْفَتَى .. . . .
وقول الآخر : [ الرجز ]
2082- كَأنَّ أُذْنَيْه إذَا تَشَوَّفَا ... قَادمَةً
أوْ قَلَماً مُحَرَّفَا
ولو قيل به لكان صواباً .
و « علاَّمُ » مثالُ مبالغة ، فهو ناصب لما بعده تقديراً ، وبهذا
أيضاً يُرَدُّ على الزمخشريِّ على تقدير تسليم صحَّة وصف الضمير من حيث إنه نكرةٌ؛
لأن إضافته غيرُ محضَةٍ وموصوفهُ مَعْرفةٌ . والجمهورُ على ضمِّ العينِ من «
الغُيُوب » وهو الأصلُ ، وقرأ حمزة وأبو بكر بكسرها ، والخلافُ جارٍ في ألفاظٍ
أُخَرَ نحو : « البُيُوت والجُيُوب والعُيُون والشُّيُوخ » وقد تقدَّم تحرير هذا كله في البقرة
عند ذكر { البيوت } [ البقرة : 189
] ، وستأتي
كلُّ لفظةٍ من هذه الألفاظِ مَعْزُوَّةً لقارئِها في سُورِهَا - إن شاء الله تعالى
- وجُمِعَ الغيبُ هنا ، وإنْ كان مصدراً لاختلافِ أنواعه ، وإن اريدَ به الشيءُ
الغائب ، أو قلنا : إنه مخفَّفٌ من فَيْعِل؛ كما تقدم تحقيقه في البقرة [ الآية 3
] ، فواضح .
فصل في معنى الآية
مَعْنَى الآية الكَرِيمة : { يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل
} ، وهو يَوْمُ القِيَامَةِ { فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ } أممكم ، وما الذي
رَدَّ عليكم قومكم حين دَعوْتُمُوهم إلى تَوْحِيدِي وطَاعَتِي؟ فَيَقُولُون : {
لاَ عِلْمَ لَنَآ } بوجْهٍ من الحِكْمَةِ عن سُؤالِكَ إيَّانَا عن أمْرٍ أنْتَ أعْلَمُ
بِهِ مِنَّا .
قال ابنُ جُرَيْج - رحمه الله - : « لا عِلْمَ لنا
بِعَاقِبَةِ أمْرِهِمْ ، وبما أحدثوا من بعد يدلُّ عليه قولهم : { إِنَّكَ أَنتَ
عَلاَّمُ الغيوب } أيْ : أنْتَ الذي تَعْلَمُ ما غَابَ ، ونحن لا نَعْلَمُ ما غابَ
إلاَّ ما نُشَاهِدُ .
فإن قيل : ظَاهِرُ قولهم : { لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ
عَلاَّمُ الغيوب } يَدُلُّ على أنَّ الأنْبِيَاء لا يَشْهَدُون لأمَمِهِمْ ،
والجمعُ بَيْن هذا وبين قوله تعالى {
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ
وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً } [ النساء : 41 ] مشكل ، وأيضاً قوله تعالى :
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ
الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [ البقرة : 143 ] ، فإذا كانت أمَّتُنَا تَشْهَدُ
لسَائِر الأمَمِ ، فالأنْبِيَاءُ أوْلَى بأنْ يَشْهَدُوا لأمَمِهِم .
فالجواب من وجوه :
أحدها : قال ابنُ عباسٍ ، والحسن ، ومُجَاهد ، والسدِّيُّ
: إنَّ القِيَامَة زَلاَزِل وأهوالٌ ، بحيث تَزُولُ القُلُوبُ عن مواضِعِهَا عند
مُشاهَدَتِهَا ، والأنْبِيَاءُ
- عليهم الصلاة والسلام - عند مُشَاهَدَةِ تلك الأهوال
يَنْسُون أكْثَرَ الأمُور ، فَهُنَالِكَ يَقُولُون : لا عِلْمَ لَنَا ، فإن عادَتْ
قلوبُهُمْ إلِيْهِم ، فعند ذلك يَشْهَدُون للأمَمِ .
قال ابنُ الخَطِيبِ : وهذا الجوابُ وإن ذَهَبَ إليه
جَمْعٌ عَظِيمٌ من الأكَابِرِ فهو عندي ضعيف؛ لأنه تبارك وتعالى قال في صِفَةِ
أهْلِ الثَّوَاب : { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر } [ الأنبياء : 103 ] ، وقال :
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ } [ عبس : 38 ، 39 ]
، بل إنَّه تبارك وتعالى قال : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والنصارى
والصابئين مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 62 ] ، فكيف يَكُون حَالُ الأنْبِيَاء والرُّسُل أقَلّ من
ذلك ، ومَعْلُومٌ أنَّهُم لو خَافُوا لكَانُوا أقَلَّ من مَنْزِلَةِ هؤلاءِ
الَّذِين أخْبَرَ اللَّهُ عنْهُم أنَّهُم لا يَخَافُون ألْبَتَّةَ .
وثانيها : أنَّ المُرَاد مِنْه المُبَالغة في تَحِقيقِ
فَضِيحَتِهِمْ ، كمنْ يقول لِغَيْرِه : ما تقولُ في فُلانٍ؟ فَيَقُولُ : أنْتَ
أعْلَمُ به مِنِّي ، كأنَّه قيل : لا يَحْتَاجُ فيه إلى الشَّهادَة لِظُهُوره ،
وهذا أيضاً ليس بِقَوِيٍّ؛ لأنَّ السُّؤال إنَّما وقَع على كُلِّ الأمَّةِ ،
وكُلُّ الأمَّة ما كانوا كَافِرِين حتَّى يريدَ الرَّسُول بالنفي تَبْكِيتَهُمْ وفَضِيحَتهُم .
وثالثها : وهو الأصَحُّ ، وهو اخْتِيَارُ ابن عبَّاسٍ : أنَّهم إنَّما
قَالُوا : لا عِلْمَ لَنَا؛ لأنَّك تَعْلَمُ ما أظْهَرُوا وما أضْمَرُوا ، ونحنُ
لا نَعْلَمُ إلاَّ ما أظْهَرُوا ، فَعِلْمُك فيهم أقْوَى من عِلْمِنَا؛ فلهذا
المَعْنَى نَفوا العِلْمَ عن أنْفُسِهِم؛ لأنَّ عِلْمهم عند الله تعالى كلا عِلْمٍ
، وهذا يُرْوَى عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم .
ورابعها : ما تقدَّم أنَّ قولَهُم : لا عِلْمَ لنا إلا أنَّا
عَلِمْنَا جوابهم لَنَا وَقْتَ حَيَاتِنَا ، ولا نَعْلَم ما كان منهم بَعْدَ
وَفَاتِنَا .
وخامسها : قال ابن الخطيب : ثَبَتَ في عِلْمٍ الأصُول
أنَّ العِلْمَ غير ، والظَّنَّ غَيْر ، فالحَاصِلُ أنَّ عِنْدَ كُلِّ أحَدٍ من
حالِ الغَيْرِ إنَّما هو الظَّنُّ لا العِلْم ، وكذلك قال - عليه الصلاة والسلام - : « إنَّكُمْ
تَخْتَصِمُونَ إليَّ ، ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ ألْحَنُ بِحُجَّتِهِ ، فَمَنْ حَكَمْتُ
لَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ فَكأنَّمَا قَطَعْتُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ » ، والأنْبِيَاءُ - عليهم الصلاة
والسلام - قالُوا : لا عِلْمَ لَنَا ألْبَتَّة بأحْوالِهِم ، إنَّما الحاصِلُ
عِنْدَنا من أحوالهم هو الظَّنُّ ، والظَّنُّ كانَ مُعْتَبراً في الدُّنيا لا في
الآخِرَةِ ، لأنَّ الأحْكَام في الدُّنْيَا كانت مَبْنِيَّةً على الظَّنِّ ، أمَّا
فِي الآخِرَة فلا التِفاتَ فيها إلى الظَّنِّ؛ لأنَّ الأحْكَام في الآخِرَة
مَبْنِيَّةٌ على حَقائِقِ الأشْيَاء وَبَواطِنِ الأمُورِ ، فلهذا السَّبَب قالوا :
{ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ } [ البقرة : 32 ] ولم يَذْكُرُوا
ألْبَتَّة ما عندهم من الظَّنِّ؛ لأنَّ الظَّنَّ لا عِبْرَة به في القِيَامَةِ .
وسادسها :
أنهم لمَّا عَلِمُوا أنَّهُ تعالى عالمٌ لا يَجْهَل ،
حكيمٌ لا يَسْفَهُ ، عَادِلٌ لا يَظْلِم ، عَلِمُوا أنَّ قولهم لا يفيد خَيْراً
ولا يدفعُ شراً ، فرأوْا أنَّ الأدَبَ في السكوت ، وفي تَفْويضِ الأمْرِ إلى
العَدْل الحَي الذي لا يَمُوتُ
.
وسابعها : معناه : لا عِلْمَ لنا إلاَّ ما عَلَّمْتَنَا
فحذف ، وهذا مَرْويٌّ عن ابن عبَّاسٍ ، ومُجَاهد .
دَلَّت الآيَةُ الكَرِيمَةُ على جوازِ إطلاقِ لفظ
العلاَّم عليه ، كما جاز إطلاقُ لفظ الخلاَّقِ عليْه ، وأمَّا العلاَّمة بالتاء
فإنهم أجْمَعُوا على أنَّهُ لا يجوز إطلاقُها في حَقِّهِ ، ولعلَّ السَّبَب ما فيه
من لفظ التَّأنِيثِ .
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي
عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ
فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ
الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ
الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ
كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
قوله تعالى : { إِذْ قَالَ الله } فيها أوجه :
أحدها :
أنه بدل من « يَوْمَ يَجْمَعُ » قال الزمخشريُّ : «
والمعنى : أنه يوبِّخ الكافرين يومئذ بسؤال الرسُلِ عن إجابَتِهِمْ ، وبتعديدِ ما
أظْهَرَ على أيديهم من الآياتِ العظامِ ، فكذَّبهم بعضُهم وسمَّوْهُم سحَرةً ، وتجاوزَ
بعضُهُمُ الحَدَّ ، فجعله وأمَّهُ إلَهَيْنِ » ، ولمَّا ذكَر أبو البقاء هذا الوجه
، تأوَّلَ فيه « قَالَ » ب « يَقُولُ » ، وأنَّ « إذْ » ،
وإنْ كانت للماضي ، فإنما وقعتْ هنا [ على ] حكاية الحال .
يقولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِه : « كَأنَّكَ بِنَا وقد
دخَلْنَا بلْدة كذا ، وصَنَعْنَا فيه كذا » ، قال - تبارك وتعالى : { وَلَوْ ترى
إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ } [ سبأ : 51 ] ، وقال غيْرُهُ : معناه الدَّلالة على
قُرْبِ القِيَامَةِ كأنَّها قَدْ قَامَتْ ، وكُلُّ ما هو آتٍ آتٍ ، كما يُقالُ : الجَيْشُ قد
أتَى ، إذا قَرُبَ إتْيَانهم قال - تبارك وتعالى - : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل
: 1 ] .
الثاني : أنه منصوبٌ ب « اذْكُرْ » مقدَّراً ، قال أبو البقاء - رحمه
الله تعالى - : « ويجوزُ أن يكون التقديرُ : اذْكُرْ إذْ يَقُولُ » ، يعني أنه لا
بد من تأويلِ الماضي بالمستقبلِ ، وهذا كما تقرَّر له في الوجْهِ قبله ، وكذا ابنُ
عطيَّة تأوَّله ب « يَقُولُ » ؛ فإنه قال : « تقديرُه : اذْكُرْ يا محمَّد إذْ » ، و « قَالَ » هنا بمعنى « يَقُولُ » ؛ لأنَّ ظاهر
هذا القولِ ، إنما هو في يوم القيامة؛ لقوله بعده { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } [
المائدة : 116 ] .
الثالث :
أنه في محلِّ رفع خبراً لمبتدأ مضمرٍ ، أي : ذلك إذْ
قَالَ ، ذكره الواحديُّ ، وهذا ضعيفٌ؛ لأن « إذْ » لا يُتَصِرَّفُ فيها ، وكذلك
القولُ بأنها مفعولٌ بها بإضمار « اذْكُرْ » ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك ، اللهم إلا أنْ
يريد الواحديُّ بكون خبراً؛ أنه ظرفٌ قائمٌ مقام خبرٍ ، نحو : « زَيْدٌ عِنْدَكَ »
فيجوز .
قوله : { ياعيسى ابن مَرْيَمَ } تقدَّم الكلامُ في اشتقاق
هذه المفردات ومعانيها ، و « ابْنَ مَرْيَمَ » صفة ل « عِيسَى » نُصِب؛ لأنه
مضاف ، وهذه قاعدةٌ كلية مفيدة ، وذلك أنَّ المنادى المفردَ المعرفةَ الظاهرَ
الضَّمَّةِ ، إذا وُصِفَ ب « ابْن » أو « ابْنَة » ، ووقع الابنُ أو الابنةُ بين
علمَيْنِ أو اسمَيْنِ متفقَيْنِ في اللفظِ ، ولم يُفْصَل بين الابْنِ وبيْنَ
موصوفه بشيء ، تثبت له أحكامٌ منها : أنه يجوزُ إتْبَاعُ المنادى المضمومِ لحركةِ
نُونِ « ابْن » ؛ فيُفتح؛ نحو : « يَا زَيْدَ [ يا زَيْدُ ] ابْنَ عَمْرٍو ، ويَا
هِنْدَ [ يا هِنْدُ ] ابْنَةَ بَكْرٍ » بفتح الدال من « زَيْد » و « هِنْد »
وضمِّها ، فلو كانت الضمةُ مقدَّرةً نحو ما نحن فيه ، فإنَّ الضمة مقدَّرة على
ألفِ « عيسَى » فهل يُقَدَّر بناؤُه على الفتْحِ إتباعاً كما في الضمَّة الظاهرة؟
فيه خلاف : الجمهورُ على عدمِ جوازه؛ إذْ لا فائدة في ذلك ، فإنه إنما كان للإتباع ، وهذا
المعنى مفقودٌ في الضمَّة المقدرة ، وأجاز الفراء ذلك؛ إجراءً للمقدَّر مُجْرَى
الظاهرِ ، وتبعه أبو البقاء؛ فإنه قال : « يَجُوزُ أن يكون على الألِفِ من » عيسَى
« فتحةٌ؛ لأنه قد وُصِفَ ب » ابْن « وهو بين عَلَمَيْنِ ، وأن يكونَ عليها ضمَّةٌ
، وهو مثلُ قولك : » يَا زَيْدَ [ يا زَيْدُ ] بْنَ عَمْرٍو « بفتح الدال وضمِّها
» ، وهذا الدي قالاه غيرُ بعيدِ ، ويَشْهَدُ له مسألةٌ عند الجميع : وهو ما إذا
كان المنادَى مبنيًّا على الكسرِ مثلاً؛ نحو : « يَا هَؤلاءِ » ، فإنهم أجازوا في
صفته الوجهيْن : الرفع والنصب ، فيقولون : « يا هَؤلاءِ العُقلاَءِ والعُقَلاءُ
» بنصب العقلاء ورفعها ، قالوا : والرفعُ مراعاةً لتلك الضمة المقدَّرة في الإتباع
، وإنْ كان ذلك فائتاً في اللفظ ، وقد يُفَرَّقُ بأنَّ « هؤلاءِ » نحن مضطُّرون
فيه إلى تقدير تلْكَ الحركةِ؛ لأنه مفرد معرفةٌ ، فكأنها ملفوظٌ بها بخلافِ تقديرِ
الفتحة هنا .
وقال الواحديُّ في « يَا عيسَى » ويجوزُ أن [ يكونَ ] في
محلِّ النصب؛ لأنه في نية الإضافة ، ثم جعل الابن توكيداً له ، وكل ما كان مثل
هذا؛ جَازَ فيه الوجهانِ؛ نحو : « يَا زَيْدَ [ يا زَيْدُ ] بْنَ عَمْرٍو » ؛
وأنشد : [ الرجز ]
2083- يَا حَكَمَ ُ بنَ المُنْذِرِ بْنِ الجَارُودْ ...
أنْتَ الجَوادُ ابْنُ الجَوَادِ ابْنُ الْجُودْ
سُرَادِقُ المَجْدِ عَلَيْكَ مَمْدُودْ ... بنصب الأول
ورفعه على ما بَيَّنَّا ، وقال التبريزيُّ : الأظهرُ عندي أنَّ موضع « عِيسَى »
نصب؛ لأنك تجعلُ الاسم مع نعتِه إذا أضفته إلى العلمِ كالشيء الواحد المضافِ ،
وهذا الذي قالاه لا يُشْبِهُ كلام النحاة أصلاً ، بل يقولون : الفتحةُ للإتباعِ ،
ولم يُعْتَدَّ بالساكنِ؛ لأنه حاجزٌ غيرُ حَصِينٍ ، كذا قال أبو حيان : قال شهاب
الدين : الذي قد قاله الزمخشريُّ - وكونه ليس من النحاة مُكَابَرَةٌ في
الضَّرُوريَّاتِ - عند قوله : { إِذْ قَالَ الحواريون : ياعيسى ابن مَرْيَمَ } [
المائدة : 112 ] : « عِيسَى في محل النصب على إتباع حركته حركة الابْنِ؛ كقولك : »
يَا زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو « ، وهي اللغة الفاشيةُ ، ويجوزُ أن يكون مضموماً؛ كقولك
» يَا زَيْدُ بْنَ عَمْرٍو « ، والدليل عليه قوله : [ المتقارب ]
2084- أحَارُ بنَ عَمْرٍو كأنِّي خَمِرْ .. .
لأنَّ الترخيم لا يكونُ إلا في المضموم » . انتهى ،
فاحتاج إلى الاعتذار عن تقديرِ الضمة ، واستشهد لها بالبيتِ؛ لمخالفتِها اللغة
الشهيرة .
وقولنا :
« المُفْرَد » تحرُّزٌ من المُطَوَّل ، وقولنا «
المَعْرِفَة » تحرُّز من النكرة؛ نحو : [ « يا رَجُلاً ابْنَ رَجُلٍ » إذا لم
تَقْصِدْ به واحداً بعينه ، وقولنا : « الظاهر الضَّمَّةِ » تحرُّزٌ من نحو : ] «
يَا مُوسَى بْنَ فُلانٍ » ، وكالآية الكريمة ، وقولنا ب « ابْن » تحرُّزٌ من الوصف
بغيره؛ نحو : « يا زَيْدُ صَاحِبَنَا » ، وقولنا : « بين عَلَميْنِ أو اسمَيْن
متفقين لفظاً » تحرُّزٌ من نحو : « يَا زَيْدُ [ بْنَ أخِينَا » ] ، وقولنا : « غيرَ مَفْصُولٍ » تحرُّزٌ من نحو : «
يَا زَيْدُ العَاقِلُ ابْنَ عَمْرٍو » ؛ فإنه لا يجوز في جميع ذلك إلا الضَّمُّ ،
وقولنا [ « وَصْفٌ » ] تحرُّزٌ من أن يكون الابْنُ خبراً ، لا صفة؛ نحو : « زَيْدٌ ابْنُ
عَمْرٍو » ، وهل يجوزُ إتباعُ « ابن » له فيُضمُّ نحو : « يا زيد بنُ عمرو » بضم «
ابن » ؟ فيه خلافٌ .
وقولنا : « أحْكَام » ، وقد تقدَّم منها ما ذكرنَاه من
جوازِ فتحهِ إتباعاً ، ومنها : حَذْفُ ألفه خَطًّا ، ومنها : حَذْفُ تنوينه في غير
النداء؛ لأنَّ المنادى لا تنوينَ فيه وفي قوله : « ابْنَ مريمَ » ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أنه صفةٌ؛ كما تقدَّم ، والثاني : أنه بدلٌ ،
والثالث : أنه بيانٌ؛ وعلى الوجهين الأخيرَيْن : لا يجوزُ تقديرُ الفتحة إتباعاً؛
إجماعاً ، لأنَّ الابنَ لم يَقَعْ صفةً ، وقد تقدَّم أنَّ ذلك شرطٌ .
وأرَادَ بالنِّعْمَة : الجَمْع كقوله : { وَإِن تَعُدُّواْ
نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ } [ النحل : 18 ] ، وإنَّمَا جاز ذلك؛ لأنَّهُ مضافٌ
يَصْلُح للجِنْسِ .
فصل
قال القُرْطُبِي : إنما ذَكَّرَ الله - تبارك وتعالى -
عيسَى - عليه الصلاة والسلام - نَعْمَته عليه وعلى وَالِدَتِهِ ، وإن كان لَهُمَا
ذاكراً لأمرين :
أحدهما : ليتلو على الأمَمِ بما خَصَّصَهَا به من
الكرامةِ ، ومَيَّزها به من عُلُوِّ المَنْزِلَة .
والثاني : ليُؤكِّد به حُجَّتَه ، ويردّ به جَاحِدَهُ ،
وفَسَّرَ نِعْمَتَهُ عليه بأمور
:
أوَّلُها : قوله تعالى : { إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ
القدس } في « إذْ » أربعةُ أوجه
:
أحدها : أنه منصوبٌ ب « نِعْمَتِي » ؛ كأنه قيل : اذكُرْ
إذْ أنعمْتُ عليْكَ وعلى أمِّكَ في وقت تأييدي لك .
والثاني : أنه بدلٌ من « نِعْمَتِي » بدلُ اشتمال ،
وكأنه في المعنى يفسِّر النعمة
.
والثالث : أنه حالٌ من « نِعْمَتِي » ، قاله أبو البقاء .
والرابع :
أن يكون مفعولاً به على السَّعَة ، قاله أبو البقاء -
رحمه الله تعالى - أيضاً قال شهاب الدين : هذا هو الوجهُ الثاني - أعني البدليةَ
- ، وقرأ الجمهور « أيَّدتُّكَ » بتشديد الياء ، وغيرهم « آيدتُّكَ » وقد تقدَّم الكلامُ
على ذلك في سورة البقرة مُشْبَعاً ، ومعنى الآية الكريمة : أي : قَوْمَك بِمَا
يَجُوزُ من الأَيْدِ ، وهو القُوَّة
.
فصل
المرادُ بِرُوحِ القُدُسِ : جبريل - عليه الصلاة والسلام
- ، والقُدُس : هو اللَّهُ تعالى ، كأنَّه أضافَهُ إلى نَفْسِهِ تَعْظِيماً ، وقيل
: إنَّ الأرْوَاحَ مُخْتَلِفَةٌ بالماهِيَّةِ : فمنها طَاهِرَةٌ نُورَانيَّةٌ ،
ومنها خَبِيثة ظُلْمانيَّة ، ومنها : مُشْرِقَة ومنها كَدِرة ، ومنها خَيِّرَةٌ ومنها
نَذِلَةٌ؛ ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام - :
« الأرْواح جُنُودُ مُجَنَّدةٌ » ، فاللَّهُ تعالى خصَّ
عيسى - عليه الصلاة والسلام - بالرُّوح الطَّاهِرة
النُّورَانِيَّة المُشْرقَة العُلويَّة الخيِّرةِ ، ولقائل أن يقول : لما دلَّت
هذه الآيَةُ على أنَّ تأييد عيسى إنَّما حَصَلَ من جِبْرِيل ، أو بسبَبِ رُوحِهِ
المُخْتَصَّةِ ، وهذا يَقْدَحُ في دلالةِ المُعْجِزَات على صِدْقِ الرُّسُلِ - عليهم
الصلاة والسلام - ، ولم تُعْرفُ عِصْمَة الرُّسُل - عليهم السلام - قَبْلَ
العِلْمِ بعصْمَةِ جبريل - عليه الصلاة والسلام - فيلزم الدَّوْر .
فالجواب : قال ابن الخطيب : ثبت من أصْلِنَا أنَّ
الخَالِقَ ليْسَ إلاَّ اللَّهُ ، وبه يَنْدَفِعُ السُّؤال .
قوله : { تُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً } معناه :
يُكَلِّمُ النَّاس في المَهْدِ صَبِيًّا ، وكَهْلاً نبياً .
قال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - : أرسلهُ اللَّهُ
وهو ابنُ ثلاثينَ فَمَكَث في رسالته ثلاثين شَهْراً ، ثُمَّ إنَّ الله رَفَعَهُ
إلَيْهِ .
قال المُفَسِّرُون : يُكَلِّم النَّاسَ في المَهْد
وكَهْلاً ، في مَوْضِع الحال ، والمعنى : يُكلِّمُ النَّاسَ طِفْلاً وكَهْلاً من
غير أن يتفاوت كلامُهُ في هذين الوقْتَيْن ، وهذه خَاصَّةٌ شَرِيفَةٌ لم تَحْصُلْ
لأحدٍ من الأنْبِيَاء ، وقد تقدَّم الكلام في [ الآية 46 ] آل عمران ، ما فائدة قوله
: { فِي المهد وَكَهْلاً } .
قوله : { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب والحكمة والتوراة
والإنجيل } قيل : الكِتَابُ ، الشَّريعةُ ، وقيل : الخَطُّ ، وأمَّا الكَلِمَةُ فقيل :
هي العِلْمُ والفَهْمُ ، وذكر التَّوْراة والإنجيلَ بعد الكِتَاب على سَبيلِ التَّشْرِيف
، كقوله - تبارك وتعالى - : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ
وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } [ الأحزاب : 7 ] ، وقوله : { وملاائكته وَرُسُلِهِ
وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] ، فإنَّما ذكر التَّوراة والإنجيلَ بعد ذِكْرِ
الكتابِ؛ لأنَّ الاطِّلاع على أسْرَار الكُتُبِ الإلهِيَّة لا يحصلُ إلاَّ لمن
كانَ ثَابِتاً في أصْنَافِ العُلُوم الشَّرْعِيَّةِ والفِعْلِيَّة .
فقوله : « التَّوْراة والإنْجِيلَ » : إشارةٌ إلى
الأسْرَار التي لا يطَّلِعُ عليْهَا أحدٌ إلاَّ الأكَابِرَ من الأنْبِيَاء .
قوله تعالى : { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ
الطير بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي } .
قرأ ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : « فَتَنْفُخُهَا »
بحذف حرف الجر اتساعاً وقرأ الجمهور : « فتكونُ » بالتاء منقوطةً فوقُ ، وأبو جعفر
منقوطةً تحتُ ، أي : فيكونُ المنفوخُ فيه ، والضمير في « فِيهَا » قال ابن عطيَّة
- رحمه الله - : « اضطربَتْ فيه أقوال المفسِّرين » ؛ قال مكيٌّ : « هو في آل عمران
[ الآية 49 ] عائدٌ على الطَّيْر ، ولا على الطين ، ولا على الهيئة؛ لأنَّ الطير
أو الطائر الذي يَجِيء الطِّين على هيئته ، لا يُنْفَخُ فيه ألبتة ، وكذلك لا نفخَ
في هيئته الخاصَّة به ، وكذلك الطينُ إنَّما هو الطينُ العامُّ ، ولا نفخَ في ذلك
» ، وقال الزمخشريُّ رحمه الله : « ولا يرجِعُ الضميرُ إلى الهيئةِ المضافِ إليها؛
لأنها ليست من خَلْقِه ، ولا مِنْ نفخه في شيء ، وكذلك الضميرُ في فَتَكُون » ، ثم
قال ابنُ عطيَّة - رحمه الله - : « والوجهُ عودُ ضميرِ المؤنَّث على ما تقتضيه
الآيةُ ضرورةً ، أي : صُوَراً ، أو أشكالاً ، أو أجْساماً ، وعودُ الضمير المذكَّر
على المخلوقِ المدلولِ عليه ب » تَخْلُقُ « ، ثم قال : » ولَكَ أن تعيدَهُ على ما
تَدُلُّ عليه الكافُ من معنى المثل؛ لأنَّ المعنى : وإذ تَخْلُقُ من الطِّينِ مثل
هيئته ، ولك أن تعيده على الكاف نَفْسِهَا ، فتكون اسماً في غيرِ الشِّعْر « .
انتهى ، وهذا القولُ هو عينُ ما قبله ، فإنَّ الكافَ
أيضاً بمعنى مثل ، وكونُها اسماً في غير الشعرِ ، لم يَقُلْ به غيرُ الأخْفَشِ .
واستشكل الناسُ قولَ مكيٍّ المتقدِّمَ؛ كما قدَّمْتُ
حكايته عن ابن عطية رضي الله عنه . ويمكنُ أن يُجابَ عنه بأنَّ قوله « عائدٌ على
الطَّائِرِ » لا يريدُ به الطائِرَ الذي أُضيفَتْ إليه الهيئةُ ، بل الطائرُ
المُصَوَّرُ ، والتقدير : وإذ تخلُقُ من الطِّينِ طائراً صورةَ الطائرِ الحقيقيِّ
، فتنفخُ فيه ، فيكونُ طائراً حقيقيًّا ، وأنَّ قوله « عائدٌ على الهيئة » لا يريدُ
الهيئةَ المجرورةَ بالكاف ، بل الموصوفة بالكاف ، والتقدير : وإذ تخلُقُ من
الطِّينِ هيئةً مِثْلَ هيئةِ الطَّائر ، فتنفخُ فيها ، أي : في الموصُوفَة بالكاف
الَّتِي نُسِبَ خَلْقُهَا إلى عيسى - عليه السلام - وأمَّا كونُه كيف يعودُ ضميرٌ مذكَّر
على هيئةٍ ، وضميرٌ مؤنثٌ على الطائرِ [
لأنَّ قوله : « ويجُوزُ عكْسُ هذا » يؤدي إلى ذلك؟
فجوابُه أنه جازَ بالتأويل؛ لأنه تُؤوَّلُ الهيئةُ بالشكْل ، ويُؤوَّل الطائرُ ]
بالهيئةِ؛ فاستقام ، وهو موضعُ تَأمُّلٍ ، وقال هنا « بإذْنِي » أربعَ مراتٍ
عَقِيبَ أربع جمل ، وفي آل عمران « بإذْنِ الله » مرتَيْن؛ لأنَّ هناك موضعَ
إخبارٍ ، فناسَبَ الإيجازَ ، وهنا مقامُ تذكيرٍ بالنعمةِ والامتنانِ ، فناسبَ الإسهابَ؛
وقوله « بإذْنِي » حالٌ : إمَّا من الفاعلِ ، أو من المفعول .
قوله : { وَتُبْرِىءُ الأكمه والأبرص بِإِذْنِي } قال
الخَلِيلِيُّ : من وُلِدَ أعْمَى ، ومَنْ وُلِدَ بصيراً ثُمَّ أعْمِي .
قوله تعالى : { وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى } : من
قُبُورِهِم أحْيَاء « بإذْنِي »
، أي :
بفِعْلي ذلك عند دُعائِك ، أي : عند قولِكَ للميِّت : اخْرُجْ بإذْنِ اللَّهِ ،
وذلك الإذْنُ في هذه الأفاعِيلِ ، إنَّما هُو على مَعْنَى إضافَةِ حَقيقَةِ
الفِعْلِ إلى الله - تبارك وتعالى - كقوله : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ
إِلاَّ بِإِذْنِ الله } [ آل عمران : 145 ] أي : إلاَّ بِخَلْقِ اللَّهِ الموْتَ فيها .
قوله تعالى : { وَإِذْ كَفَفْتُ بني إِسْرَائِيلَ عَنكَ
إِذْ جِئْتَهُمْ بالبينات } يعني
: الوَاضِحَة والمُعْجِزَات الظَّاهِرَة ، وقيل :
المُرادُ بالبَيِّنات الظَّاهِرَةِ هذه البَيِّناتُ التي تقدَّم ذكرُها ، فيكون
الألفُ واللاَّمُ لِلْمَعْهُود
.
رُوِي أنَّهُ - عليه الصلاة والسلام - لمَّا أظْهَرَ هذه
المُعْجِزات العَجِيبَة ، قَصَدَ اليهُود قَتْلَه ، فخلَّصَهُ اللَّهُ تعالى
مِنْهم ، حَيْثُ رفَعَهُ إلى السَّمَاء
.
قوله : { فَقَالَ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هذا
إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } .
قرأ الأخوانِ هنا وفي هودٍ [ الآية 7 ] وفي الصَّف [
الآية 6 ] « إلاَّ سَاحِرٌ » اسم فاعل ، والباقون : « إلاَّ سِحْرٌ » مصدراً في
الجميع ، والرسمُ يحتمل القراءتَيْنِ ، فأمَّا قراءةُ الجماعةِ ، فتحتملُ أن تكون الإشارةُ
إلى ما جاءَ به من البيِّنات ، أي : ما هذا الذي جاء به من الآيات الخوارِق إلا
سِحْرٌ ، ويُحْتمل أن تكون الإشارةُ إلى عيسى - عليه الصلاة والسلام - جَعَلُوه
نفس السحْر مبالغةً؛ نحو : « رَجُلٌ عَدْلٌ » ، أو على حذفِ مضافٍ ، أي : إلاَّ
ذُو سِحْرٍ ، وخَصَّ مكي - رحمه الله تعالى - هذا الوجه بكون المرادِ بالمشار إليه
محمداً صلى الله عليه وسلم فقال
: « ويجوزُ أن تكونَ إشارةً إلى النبيِّ محمد صلى الله
عليه وسلم على تقدير حَذْفِ مضافٍ ، أي : إنْ هذا إلاَّ ذُو سِحْرٍ » . قال شهاب
الدين : وهذا غَيْرُ جائزٍ ، والمرادُ بالمشار إليه عيسى عليه السلام ، وكيف يكونُ
المرادُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو لَمْ يكن في زَمَنِ عيسى - عليه الصلاة
والسلام - والحواريِّين؛ حتى يشيروا إليه إلا بتأويلٍ بعيدٍ؟ وأمَّا قراءةُ الأخوَيْن
، فتحتمل أن يكون « سَاحِرٌ » اسم فاعلٍ ، والمشارُ إليه « عيسى » ، ويُحتمل أن يكونَ المرادُ به
المصدرَ؛ كقولهم : عَائِذاً بِكَ وعَائِذاً بالله مِنْ شَرِّهَا ، والمشارُ إليه
ما جاء به عيسَى من البيِّنات والإنجيلِ ، ذكر ذلك مَكي ، وتبعَهُ أبو البقاء ،
إلا أنَّ الواحديَّ مَنَعَ مِنْ ذلك؛ فقال - بعد أنْ حَكَى القراءتَيْنِ - : وكلاهُمَا
حَسَنٌ؛ لاستواءِ كلِّ واحدٍ منهما في أنَّ ذِكْرَهُ قد تقدَّم ، غير أنَّ
الاختيار « سِحْر » ؛ لجوازِ وقوعه على الحَدَثِ والشَّخْص ، أمَّا وقُوعه على
الحدث ، فسهلٌ كثير ، ووقُوعه على الشخْصِ يريدُ ذُو سحْرٍ؛ كقوله تعالى : { ولكن
البر مَنْ آمَنَ } [ البقرة : 177 ] ، وقالوا : « إنما أنت سيرٌ » و « ما أنت إلا
سيرٌ » ، و [ البسيط ]
2085- . ... فَإنَّما هِيَ إقْبَالٌ وإدْبَارُ
قلتُ :
وهذا يرجِّحُ ما قدَّمْتُه من أنه أطْلَقَ المصْدر على
الشخص؛ مبالغةً؛ نحو : « رَجُلٌ عَدْلٌ » ، ثم قال : « ولا يجوزُ أنْ يُرادَ
بساحرٍ السِّحْرُ ، وقد جاء فاعل يراد به المصدرُ في حروفٍ ليست بالكثير ، نحو : » عَائِذاً
بالله من شَرِّهِ « ، أي : عِيَاذاً ، ونحو » العافية « ولم تَصِرْ هذه الحروفُ من
الكثرة بحيثُ يسوغُ القياس عليها
» .
وإن قيل
: إنَّهُ - تعالى - عدَّدَ هُنَا نِعمَ اللَّه تعالى على
عيسى - عليه السلام - ، وقولُ الكُفَّار
في حقه { إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } ، ليس من النِّعَمِ ، فكيف ذكره هنا؟ .
فالجوابُ إنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ ، فَطَعْن
الكُفَّار في عيسى - عليه السلام - بهذ الكلام ، يَدُلُّ على أنّ نِعْمَةِ الله
كانت في حقِّه عَظِيمَة ، فَحَسُنَ ذِكْرُه عند تعديد النِّعم من هذا الوجه .
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا
بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)
من قال : إنهم كانُوا أنْبِيَاء ، قال : المُرَادُ هذا
الوَحْيُ الذي يُوحَى إلى الأنبياء ، ومن قال : إنَّهُمْ ما كانوا أنْبِيَاء ، قال
: المُرَادُ بذلك : الوَحْيُ والإلْهَام ، كقوله : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى } [ القصص : 7 ]
وقوله : { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل } [ النحل : 68 ] ، وإنما ذُكِرَ هذا في
مَعْرضِ تَعْدِيدِ النِّعَمِ؛ لأنَّ صَيْرُورة الإنْسَان مقبُولَ القَوْل عِنْدَ
النَّاسِ ، محبوباً في قُلوبِهِم من أعْظَمِ نِعَمِ اللَّه - تبارك وتعالى - على الإنسان ،
وذكر - تبارك وتعالى - إنَّما ألْقَى ذلك الوحي في قلوبهم فآمَنُوا وأسْلَمُوا ،
وإنَّما قدَّم ذِكْرَ الإيمان على الإسْلام؛ لأنَّ الإيمان صِفَةُ القَلْبِ
والإسلام عبارةٌ عن الانْقِيادِ والخُضُوع في الظَّاهِرِ ، يعني : آمَنُوا
بِقُلُوبِهِم وانْقَادُوا بِظَواهِرِهِم .
فإن قيل : إنَّه تعالى ذكر في الآية : { اذكر
نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعلى وَالِدَتِكَ } [ المائدة : 110 ] أنَّ جميعَ ما ذكر
اللَّهُ - تعالى - من النِّعَمِ مُخْتَصٌّ بعيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - ،
وليس لأمِّهِ بشيء منها تَعَلُّقٌ
.
فالجوابُ : كُلّ ما حَصَلَ لِلْوَلَدِ من النِّعَمِ
الجَلِيلَةِ ، والدَّرَجَات العالِيةَ ، فهو حَاصِلٌ للأمِّ على سبيلِ التضمّنِ
والتَّبع ، قال - تبارك وتعالى
- : { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } [
المؤمنون : 50 ] ، فجعلهما معاً آيَةً واحِدَةً؛ لشِدَّةِ اتِّصَال كُلِّ واحدٍ
مِنْهُما بالآخر .
رُوِي أنَّهُ - تعالى - لمَّا قال لعيسى : { اذكر
نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعلى وَالِدَتِكَ } [ المائدة : 110 ] من لِبْسِ الشَّعْرِ
وأكْلِ الشَّجَرِ ، لم يَدَّخِرْ شَيْئاً لِغَد ، ويقول مع كل يومٍ رِزْقُهُ ، ولم
يَكُنْ له بَيْتٌ فَيُخَرَّب ، ولا وَلدٌ فَيَمُوت ، أيْنَمَا أمْسَى باتَ .
قوله تعالى : { أَنْ آمِنُواْ بِي } : في « أنْ » وجهان :
أظهرهما : أنها تفسيرية؛ لأنها وردت بعد ما هو بمعنى
القولِ ، لا حروفه .
والثاني :
أنها مصدريَّةٌ بتأويلٍ متكلَّف ، أي : أوْجبْتُ إليهم
الأمر بالإيمان ، وهنا قالوا « آمَنَّا » ولم يُذْكَر المُؤمنُ به ، وهناك {
آمَنَّا بالله } [ آل عمران : 52 ] فذكره ، والفرق أنَّ هناك تقدَّم ذكرُ الله
تعالى فقط ، فأُعيدَ المؤمَنُ به ، فقيل : « بالله » وهنا ذُكِرَ شيئان قبل ذلك ،
وهما : { أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي } ، فلم يُذْكَر؛ ليشمل المذكورين ، وفيه
نظرٌ ، وهنا قال « بأنَّنَا » وهناك قال « بِأنَّا » بحذف « نَا » ، وقد تقدَّم غيره مرة : أنَّ هذا هو الأصل ، وإنما
جِيءَ هنا بالأصل؛ لأنَّ المُؤمنَ به متعدِّدٌ ، فناسَبَه التأكيد . _@_
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ
قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)
في « إذ » وجهان :
أحدهما : أوحيتُ إلى الحواريِّين ، إذ قال الحَوَارِيُّونَ .
الثاني : اذكر إذْ قال الحوارِيُّون .
قرأ الجمهورُ « يَسْتَطِيعُ » بياء الغيبة « رَبُّكَ »
مرفوعاً بالفاعلية ، والكسائيُّ : « تَسْتَطِيعُ » بتاء الخطاب لعيسى ، و «
رَبَّكَ » بالنصب على التعظيم ، وقاعدتُه أنه يُدْغِمُ لام « هلْ » [ في أحرف منها
هذا المكان ، وبقراءة الكسائيِّ قرأتْ عائشةُ ، وكانت تقول : « الحواريُّونَ أعْرَفُ
بالله ] مِنْ أن يقولوا : هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبُّكَ » وإنما قالوا : هَلْ تستطيعُ أن
تَسْأل رَبَّكَ؛ كأنها - رضي الله عنها - نَزهَتْهُمْ عن هذه المقالةِ الشنيعة أنْ
تُنْسَبَ إليهم ، وبها قرأ معاذٌ أيضاً وعليٌّ وابن عبَّاس وسعيدُ بنُ جُبَيْر قال
معاذ رضي الله تعالى عنه : أقرأنِي رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم « هل
تَسْتَطِيعُ رَبكَ » بالتَّاء .
وحينئذ فقد اختلفوا في هذه القراءة : هل تحتاجُ إلى
حَذْفِ مضافٍ أم لا؟ فجمهور المُعْربين يقدِّرونَ : هل تستطيع سُؤال رَبِّكَ ،
وقال الفارسيُّ : « وقد يُمْكِنُ أنْ يُسْتغنَى عن تقدير » سُؤالَ « على أن يكون
المعنى : هَلْ تستطيعُ أنْ يُنَزِّلَ رَبُّكَ بدُعَائِكَ ، فيردُّ المعنى - ولا بد
- إلى مقدَّر يدلُّ عليه ما ذُكِر من اللفظ » ، قال أبو حيان : « وما قاله غيرُ ظاهرٍ؛
لأنَّ فعله تعالى ، وإنْ كان مسبَّباً عن الدعاءِ ، فهو غيرُ مقدورٍ لعيسى » .
واختار أبو عُبَيْد هذه القراءةَ ، قال : « لأنَّ القراءة الأخرى تُشْبِهُ أن
يكونَ الحواريُّون شَاكِّينَ ، وهذه لا تُوهِمُ ذلك » ،
قال شهاب الدين : وهذا بناء من الناسِ على أنهم كانوا مؤمِنينَ ، وهذا هو الحَقُّ .
قال ابن الأنباري : « لا يجوزُ لأحد أن يتوَهَّم على الحواريِّين؛
أنهم شَكُّوا في قُدْرة الله تعالى » ، وبهذا يَظْهَرُ أنَّ قول الزمخشريِّ أنهم
ليسوا مؤمنينَ ليس بجيِّدٍ ، وكأنه خارقٌ للإجْماعِ ، قال ابن عطية : « ولا خلاف
أحفظُه أنَّهم كانوا مُؤمِنِينَ » ، فأمَّا القراءةُ الأولى ، فلا تَدُلُّ له؛ لأن
الناس أجابوا عن ذلك بأجوبةٍ ، منها :
أنَّ معناه : هل يَسْهُلُ عليكَ أن تَسْألَ رَبَّكَ؛
كقولك لآخر : هَلْ تستطيعُ أن تَقُومَ؟ وأنت تعلمُ استطاعته لذلك ، ومنها : أنهم
سألُوهُ سؤال مستَخْبِرٍ : هل يُنَزِّلُ أم لا ، فإن كان يُنَزِّلُ فاسأله لنا ،
ومنها : أنَّ المعنى هل يفعلُ ذلك ، وهل يقع منه إجابةٌ لذلك؟ ومنه ما قيل لعبد الله
بن زَيْدٍ ، هَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تُرِيني كيف كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
يَتَوضَّأُ؟ أي : هل تُحِبُّ ذلك؟ وقيل المعنى : هل يَطْلُب ربُّكَ الطاعةَ من
نُزُولِ المائدةِ؟ قال أبو شَامَة : « مثلُ ذلك في الإشْكال ما رواه الهَيْثَمُ -
وإن كان ضعيفاً - عن ثابتٍ عن أنس - رضي الله عنهما -
« أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عادَ أبا طالبٍ في
مرض ، فقال : يَا ابْنَ أخِي ، ادعُ رَبَّكَ الذي تَعْبُدُهُ فَيُعَافيني ، فقال : اللهُمَّ اشْفِ
عَمِّي ، فقام أبو طالبٍ ، كأنما نَشِطَ من عقالٍ ، فقال : يا ابْنَ أخِي ، إنَّ ربَّكَ الذي
تَعْبُدُ ليُطِيعُكَ ، قال : وأنْتَ يا عَمَّاه ، لو أطَعْتَهُ ، أو : لَئِنْ
أطَعْتَ اللَّهَ ، لَيُطِيعَنَّكَ »
، أي :
لَيجيبَنَّكَ إلى مقْصُودك ، قال شهاب الدين : والذي حَسَّنَ ذلك المقابلةُ منه
صلى الله عليه وسلم للفْظِ عَمِّهِ ، كقوله : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله } [ آل
عمران : 54 ] وقيل : التقدير : هَلْ يُطِيعُ؟ فالسينُ زائدة؛ كقولهم : اسْتَجَابَ
وأجَابَ ، قال : [ الطويل ]
2086- وَدَاعٍ دَعَا يا مَنْ يُجِيبُ إلَى النَّدَى ...
فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ
وبهذه الأجوبةِ يُستغنى عن قولِ من قال : « إنَّ »
يَسْتَطِيع « زائدةٌ » ، والمعنى : هل
يُنَزِّلُ رَبُّكَ؛ لأنَّه لا يُزادُ من الأفعال إلاَّ [ « كَانَ » بشرطَيْنِ ، وشَذَّ زيادةُ
غيرها في مواضعَ عَدَدْتُها في غيرِ هذا الكتاب ، على أنَّ الكوفيِّين يُجيزُون
زيادةَ بعض الأفعال ] مطلقاً ، حَكَوْا : « قَعَدَ فلانٌ يَتَهَكَّمُ بِي » ؛
وأنشدوا : [ الوافر ]
2087- عَلَى مَا قَامَ يَشْتِمُنِي لَئِيمٌ ...
كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغ فِي رَمَادِ
وحكى البصريُّون على وجْه الشُّذُوذِ : « مَا أصْبَحَ
أبْرَدَهَا ، ومَا أمْسَى أدْفَأهَا » يعنون الدُّنْيَا .
قال ابنُ الخطيبِ : وأمَّا القراءَةُ الثَّانِيَةُ ففيها
إشْكَالٌ ، وهو أنَّهُ تعالى حَكَى عنهُم أنَّهم قالُوا : « آمنَّا واشهدْ بأنَّا مُسْلمُون
» ، وبعد الإيمانِ كَيْفَ يَجُوزُ أن يقال : إنهم بقوا شاكِّين في اقتدار اللَّهِ
على ذلك؟ .
والجوابُ عنه من وُجُوهٍ :
الأول
: أنَّهُ - تبارك وتعالى - ما وَصَفَهُم بالإيمان
والإسلام بل حَكَى عنهم ادِّعَاءَهم لَهُمَا ، ثمَّ تَبعَ ذلك بقوله - حِكَايةً
عَنْهُم - { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ
السمآء } ؟ فدلَّ ذلك على أنَّهُم كَانُوا شاكِّين مُتَوقِّفِين ، فإنَّ هذا
اللَّفْظَ لا يَصْدُر مِمَّنْ كان كَامِلاً في الإيمان .
وقالوا : { وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا } [ المائدة
: 113 ] ، وهذا يَدُلُّ على مَرَضٍ في القَلْب ، وكذا قَوْلُ عيسى - عليه الصلاة
والسلام - لهم : { اتقوا الله إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ } ، يَدُلُّ على أنَّهُم
ما كانوا كامِلِين في الإيمان .
الثاني : أنَّهُم كانوا مُؤمِنين إلاَّ أنَّهُم طَلَبُوا
هذه الآية لِيحْصُلَ لهم مَزِيد الطمأنينة ، فلهذا السَّبِب قالوا : « وتَطْمئنَّ
قُلُوبنا » .
الثالث : أنَّ مُرادَهُمُ استفهام أن ذلك هل هو كافٍ في
الحِكْمةِ أم لا؟ وذلك لأنَّ أفْعَال اللَّهِ تعالى لمَّا كَانَتْ مَوْقُوفَةً على
رِعايَةِ وجُوهِ الحكمة ، فَفِي الموْضِع الَّذِي لا يَحْصُل فيه شَيْءٌ من
وُجُوهِ الحِكْمَةِ يكونُ الفِعْلُ مُمْتَنِعاً ، فإنَّ المُنَافيَ من جِهَةِ
الحكمة كالمنافي جِهَة القُدْرَةِ ، وهذا الجوابُ يَتَمَشَّى على قَوْلِ
المُعْتَزِلَة .
وأمَّا على قَوْلِنا فهو مَحْمُولٌ على أنَّه تَبارك
وتعالى هل قَضَى بذلك؟ وهل عَلِمَ وُقُوعه؟ فإن لَمْ يَقْضِ به ، ولَمْ يعلم
وُقُوعه كان ذلك محالاً غيْرَ مَقْدُورٍ؛ لأن خلافَ المَعْلُوم غَيْرُ مَقْدُورٍ .
الرابع : قال السديُّ : إن السِّين زَائِدةٌ ، على أنَّ
اسْتَطَاع بمعنى أطاعَ كما تقدَّم
.
الخامس :
لعل المُرادَ بالرَّبِّ جِبْرِيل؛ لأنَّهُ كان
يُرَبِّيهِ ويَخُصُّهُ بأنْوَاع الإعَانَةِ ، لقوله - تبارك وتعالى - في أوَّلِ
الآية { أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس } [ المائدة : 110 ] ، والمعنى : أنَّك
تَدَّعِي أنه يُرَبِّيك ، ويَخُصُّكَ بأنْوَاع الكَرَامَةِ ، فهل يقدر على
إنْزَالِ مَائِدَةٍ من السَّمَاءِ عَلَيْك؟ .
السادس : ليْسَ المَقْصُود من هذا السُّؤال كونَهُم
شاكِّين فيه ، بل المَقْصُود تَقْرِير أن ذلك في غاية الظُّهُور ، كمن يَأخُذُ
بِيَدِ ضعيفٍ ، ويقول : هل يَقْدِر السُّلْطَان على إشْبَاع هذا ، وبكون غَرَضُه
أنَّ ذلكَ أمْرق واضِحٌ لا يجُوزُ للعَاقِل أن يَشُكَّ فيه .
قوله « أن يُنَزِّلَ » في قراءةِ الجماعة في محلِّ نصب
مفعولاً به ، أي : الإنْزالَ ، وقال أبو البقاء - رحمه الله تعالى - : والتقدير :
على أن يُنَزِّلَ ، أو في أن يُنَزِّلَ ، ويجوزُ ألاَّ يحتاج إلى حرف جرٍّ على أن
يكون « يَسْتَطِيع » بمعنى « يُطِيقُ
» [ قلت : إنما احتاج إلى تقدير حَرْفي الجَرِّ في
الأول؛ لأنه حمل الاستطاعة على الإجابة ، وأمَّا قوله أخيراً : إنَّ « يَسْتَطيعُ
» بمعنى « يُطِيقُ » ] فإنما يَظْهرُ كلَّ الظهورِ على رأي الزمخشريِّ من كونهم ليسوا
بمؤمنين ، وأمَّا على قراءةِ الكسائيِّ ، فقالوا : هي في محلِّ نصْبٍ على
المفعولية بالسؤالِ المقدَّر ، أي : هلْ تستطيعُ أنت أن تسألَ ربَّكَ الإنْزالَ ، فيكون
المصدرُ المقدَّرُ مضافاً لمفعوله الأوَّل ، وهو « رَبُّكَ » ،
فلمَّا حُذِفَ المصدرُ ، انتصب ، وفيه نظرٌ؛ من أنهم أعمَلُوا المصدر مضمراً ، وهو
لا يجوزُ عند البصريِّين ، يُؤوِّلُونَ ما وردَ ظاهرُه ذلك ، ويجوز أن يكون « أنْ
يُنَزِّلَ » بدلاً من « رَبُّكَ » بدل اشتمالٍ ، والتقديرُ : هل تستطيعُ ، أي : هل
تُطِيقُ إنزال الله تعالى مائدةً بسببِ دعائِكَ؟ وهو وجهٌ حسن .
و « مَائِدَةً » مفعول « يُنَزِّلُ » ،
والمائدة : الخِوانُ عليه طعامٌ ، فإن لم يكن عليه طعامٌ فليست بمائدةٍ ، هذا هو
المشهور ، إلا أن الراغب قال : « والمائدةُ : الطبقُ الذي عليه طعامٌ ، ويقال
لكلِّ واحدٍ منها مائدةٌ » ، وهو مخالفٌ لما عليه المعظمُ ، وهذه المسألة لها
نظائرُ في اللغة ، لا يقال للخوانِ مائدةٌ إلا وعليه طعامٌ ، وإلا فهو خوانٌ ، ولا
يقال كأسٌ إلا وفيها خَمْرٌ ، وإلا فهي قدحٌ ، ولا يقال ذنُوبٌ وسَجْلٌ إلا وفيه
ماء ، وإلا فهو دَلْو ، ولا يقال جرابٌ إلا وهو مدبوعٌ وإلا فهو إهابٌ ، ولا
قَلَمٌ إلاَّ وهو مَبْريٌّ وإلا فهو أنْبُوبٌ ، واختلف اللغويون في اشتقاقها ،
فقال الزجَّاج - رحمه الله تعالى -
: « هي من مَادَ يَمِيدُ إذا تحرَّك ، ومنه قوله : {
رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ } [ الأنبياء : 31 ] ومنه : مَيْدُ البَحْرِ » ، وهو
ما يُصِيبُ راكبَه ، فكأنها تميدُ بما عليها من الطعام .
وقال أهلُ الكوفة : لأنها تميدُ بالآكِلِينَ ، قال
الزجَّاج - رحمه الله تعالى - : « وهي فاعِلةٌ على الأصلِ » ، وقال أبو عُبَيْدٍ :
« هي فَاعِلَةٌ بمعنى مفعُولَة مشتقَّةٌ من مادهُ بمعنى أعْطَاهُ ، وامتادَهُ
بمعنى اسْتَعْطَاهُ ، فهي بمعنى مَفْعُولَة » ، قال : « كَعِيشَةٍ راضيةٍ »
وأصلُها أنها ميدَ بها صاحبُها ، أي : أعْطِيَهَا ، والعربُ تقول : مَادَنِي فلانٌ
يَمِيدُنِي ، إذا أدَّى إليَّ وأعْطَانِي « وقال أبو بَكْرِ بنُ الأنباريِّ : »
سُمِّيتْ مائدةً؛ لأنها غياثٌ وعطاءٌ ، من قول العرب : مَادَ فلانٌ فُلاناً إذا أحْسَنَ
إلَيْه « وأنشد : [ السريع ]
2088- إلى أميرِ المُؤمِنِينَ المُمْتَادْ ... أي :
المُحْسنِ لرعيَّته ، وهي فاعلةٌ من المَيْدِ بمعنى مُعْطِيَةٍ ، فهو قريبٌ من
قولِ أبِي عُبَيْدٍ في الاشتقاقِ ، إلا أنَّها عنده بمعنى فاعلةٍ على بابها ،
وابنُ قتيبة وافق أبا عُبَيْدٍ في كونها بمعنى مَفْعُولَة ، قال : » لأنَّها
يُمَادُ بها الآكلُونَ أي يُعْطَوْنَهَا « ، وقيل : هي من المَيْدِ ، وهو الميلُ ،
وهذا هو معنى قول الزجَّاج . قوله تعالى : » مِنَ السَّماءِ « يجوز أنْ يتعلَّق
بالفعلِ قبله ، وأنْ يتعلَّق بمحذوف؛ على أنه صفةٌ ل » مَائِدَة « ، أي : مائدةً كَائِنَةً
من السَّماءِ ، أي : نازلةً منها
.
قوله تعالى : { اتقوا الله إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ } :
فلا تَشكُّوا في قُدْرَة الله - تعالى
- .
وقيل :
اتَّقُوا الله أن تَسْألُوه شَيْئاً لَمْ تسْأله الأمَمُ
السَّابِقَة من قَبْلِكُم ، فَنَهَاهم عن اقْتِراحِ الآيَات بَعْدَ الإيمان .
وقيل
: أمَرَهُمْ بالتَّقْوى سَبَباً لِحُصُول هذا المَطْلُوب
، كقوله - تبارك وتعالى - : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اتقوا الله وابتغوا
إِلَيهِ الوسيلة } [ المائدة : 35
] .
قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ
قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ
الشَّاهِدِينَ (113)
أي : أكْلُ تبرُّكٍ ، لا أكْلُ حَاجَةٍ ، وقال المارودِي
: لأنَّهم لما احْتَاجُوا لم يُنْهَوا عن السُّؤال ، وقيل : أرَادُوا الأكْلَ
للحَاجَةِ .
وقوله
: « وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا » أي : إنَّا وإنْ
عَلِمْنَا قُدْرةَ الله تعالى بالدَّليل ، ولكنَّا إن شاهدنا نُزُولَ هذه
المَائِدة ازداد اليقين ، وقويت الطُّمَأنِينَةُ .
وقيل : المَعْنَى إنَّا وإن عَلِمْنَا صِدْقَكَ بِسَائِر
المُعْجِزَات ، ولكن إذا شَاهَدْنَا هذه المُعْجِزَة ازدَادَ اليَقِينُ
والعِرْفَان ، وهذا مَعْنَى قوله : { وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا } : أنَّك
رَسُولُ اللَّهِ .
قيل : إنَّ عيسَى ابن مَرْيم أمَرَهُمْ أن يَصُومُوا
ثلاثين يَوْماً ، فإذا أفْطَرُوا لا يَسْألُون الله شيئاً إلاَّ أعْطَاهُمْ ،
ففعلوا وسألُوه المَائِدَةَ ، وقالوا
: { وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا } في قولك : «
إنَّا إذا صُمْنَا ثلاثين يَوْماً لا نَسْألُ الله شَيْئاً إلاَّ أعْطَانَا » .
وقيل : إنَّ جميعَ المُعْجِزَات التي أوْرَدْتَهَا كانت
مُعْجَزَات أرْضِيَّة ، وهذه سَمَاوِيَّة ، وهي أعْجَبُ وأعْظَمُ ، { وَنَكُونَ
عَلَيْهَا مِنَ الشاهدين } نَشْهَدُ عليها عِنْد الذين لم يَحْضُرُوها من بَنِي إسرائيل ،
ويَكُونُوا شَاهِدِين لله تعالى بِكَمَال القُدْرَة .
وقرأ الجمهور
: « وَنَعْلَمَ » : و « نَكُون » بنون المتكلم مبنيًّا
للفاعل ، وقرأ ابن جُبَيْر - رضي الله عنه - فيما نقله عنه ابن عطيَّة - «
وتُعْلَم » بضمِ التاء على أنه مبنيٌّ للمفعول ، والضميرُ عائدٌ على القلوب ، أي : وتُعْلَمَ
قُلُوبُنَا ، ونُقِلَ عنه « وَنُعْلَمَ » بالنون مبنيًّا للمفعول ، وقرئ : «
وَيُعْلَمَ » بالياء مبنيًّا للمفعول ، والقائمُ مقام الفاعل : { أَن قَدْ صَدَقْتَنَا } أي :
ويُعْلَمَ صِدْقُكَ لنا ، ولا يجوزُ أن يكُون الفعلُ في هذه القراءةِ مسنداً
لضميرِ القلوبِ؛ لأنه جارٍ مَجْرَى المؤنَّثِ المجازيِّ ، ولا يجوزُ تذكيرُ فِعْلِ
ضميره ، وقرأ الأعمشُ : [ « وتَعْلَمَ » ] بتاءٍ والفعلُ مبنيٌّ للفاعل ، وهو ضمير
القُلُوبِ ، ولا يجوزُ أن تكون التاءُ للخطاب؛ لفسادِ المعنى ، وروي : « وتِعْلَمَ
» بكسر حرف المضارعة ، والمعنى على ما تقدَّم ، وقُرِئ : « وتكونَ » بالتاء والضمير
للقلوب .
و « أنْ » في { أَن قَدْ صَدَقْتَنَا } مخفَّفةٌ ، واسمُها
محذوفٌ ، و « قَدْ » فاصلةٌ؛ لأنَّ الجملة الواقعةَ خبراً لها فعليةٌ متصرِّفةٌ
غيرُ دُعَاءٍ ، وقد عُرِفَ ذلك مما تقدَّم في قوله : { أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } [
المائدة : 71 ] ، و « أنْ » وما بعدها سادَّةٌ مسدَّ المفعولَيْن ، أو مَسَدَّ
الأول فقط ، والثاني محذوفٌ ، و
« عَلَيْهَا » متعلِّقٌ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه «
الشَّاهدين » ، ولا يتعلَّقُ بما بعده؛ لأن « ألْ » لا يَعْمَلُ ما بعدها فيما
قبلها عند الجمهور ، ومنْ يُجِيزُ ذلك يقول : « هو متعلِّقٌ بالشاهدينَ ، قُدِّم
للفواصِل » . وأجاز الزمخشريُّ أن تكون « عَلَيْهَا » حالاً؛ فإنه قال : « أو
نَكُونَ من الشاهدينَ لله بالوحدانيَّة ، ولك بالنبوَّةِ عاكِفِينَ عليها ، على أن » عَلَيْهَا « في
موضع الحال » فقوله « عَاكِفينَ » تفسيرُ معنًى؛ لأنه لا يُضْمَرُ في هذه الأماكن
إلا الأكوانُ المطلقة . وقرأ اليمانيُّ
: « وإنَّهُ » ب « إنَّ » المشدَّدة ، والضميرُ : إما
للعيد ، وإما للإنزال .
وبهذا لا يَرِدُ عليه ما قاله أبو حيان - رحمه الله
تعالى - فإنه غابَ عليه ذلك ، وجعله متناقِضاً؛ من حيث إنه لَمَّا عَلَّقَهُ ب «
عَاكِفِينَ » كان غيْرَ حال؛ لأنه إذا كان حالاً ، تعلَّقَ بكون مُطْلَقٍ ولا
أدْرِي ما معنى التناقُض .
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا
أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا
وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)
« اللَّهُمَّ رَبَّنَا » تقدَّم الكلامُ عليه ، قوله : «
ربَّنا » نِدَاءٌ ثاني .
قوله تعالى : { تَكُونُ لَنَا عِيداً } : [ في « تَكُونُ
» ضمير يعود على « مَائِدَة » هو اسمُها ، وفي الخبر احتمالان :
أظهرهما : أنه عيد ] ، و « لَنَا » فيه وجهان :
أحدهما : أنه حال من « عِيداً » ؛ لأنها صفة له في الأصل .
والثاني : أنها حال من ضمير « تَكُونُ » عند مَنْ
يُجَوِّزُ إعمالها في الحال .
والوجه الثاني : أنَّ « لَنَا » هو الخبر ، و « عِيداً »
حال : إمَّا من ضمير « تَكُونُ » عند مَنْ يَرَى ذلك ، وإمَّا من الضمير في « لَنَا »
، لأنه وقع خبراً فتحمَّل ضميراً ، والجملةُ في محلِّ نَصْبٍ صفةً لمائدة .
وقرأ عبدُ الله : « تَكُنْ » بالجزمِ على جوابِ الأمرِ
في قوله : « أنْزَلَ » ، قال الزمخشري -
رحمه الله - : « وهما نظيرُ » يَرِثُنِيَ [ وَيَرِثُ « ] يريد قوله تعالى : { فَهَبْ لِي مِن
لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي } [ مريم : 5
، 6 ] بالرفع صفةً ، وبالجزم جواباً ، ولكن القراءتان هناك متواترتان ، والجزمُ
هنا في الشاذ .
والعيدُ هنا مشتقٌّ من العود؛ لأنه يعود كلَّ سنة ، قاله
ثعلبٌ عن ابن الأعرابيِّ ، وقال ابن الأنباريِّ : » النحويُّون يقولون : يوم
العيدِ؛ لأنَّه يعود بالفَرَحِ والسُّرورِ فهو يَوْمُ سُرُورِ الخَلْقِ كلهم ، ألا
ترى أنَّ المَسْجُونين في ذلك اليَوْم لا يُطَالَبُونَ ولا يُعَاقَبُون ، ولا
يُصادُ الوَحْشُ ولا الطُّيُورُ ، ولا تَغْدُو الصِّبْيَان إلى المَكَاتِب « .
وقيل : هو عِيدٌ؛ لأنَّ كُلَّ إنْسَان يَعُودُ إلى قَدْرِ مَنْزِلَتهِ؛ ألا ترى
إلى اختلافِ ملابِسهم وهَيْئَاتِهِم ومآكِلِهم ، فمنهم من يُضيف ومنهم من يُضاف ،
ومنهم من يَرْحَم ومنهم من يُرْحَم
.
وقيل : سُمِّي بذلك؛ لأنَّهُ يَوْمٌ شريف ، تَشْبيهاً
بالعيدِ وهو فحلٌ كريم مشهور عند العربِ ويَنْسِبُون إليه ، فيقالُ : إبل عيدية .
قال الشاعر : [ البسيط ]
2089- .. عِيدٌ بِهَا أزْهَرَتْ فِيهَا الدَّنَانِيرُ
وقال الخليلُ : العيدُ كل يومٍ يَجْمَعُ ، كأنَّهُم
عَادُوا إلَيْه عند العرب؛ لأنه يعود بالفَرَح والحُزْن ، وكلُّ ما عاد إليك في
وقت ، فهو عيد؛ حتَّى قالوا لِلطَّيْفِ عِيدٌ؛ قال الأعشى : [ الطويل ]
2090- فَوَاكَبِدِي مِنْ لاعِجِ الحبِّ والهَوَى ...
إذَا اعْتَادَ قَلْبِي مِنْ أمَيْمَةَ عِيدُهَا
أيْ : طَيْفُهَا ، وقال تأبَّطَ شَرًّا : [ البسيط ]
2091- يَا عِيدُ مَا لَكَ مِنْ شَوْقٍ وإيرَاقِ ... وقال
أيضاً : [ الخفيف ]
2092- عَاد قَلْبِي مِنَ الطَّوِيلَةِ عِيدُ .. . .
وقال الراغبُ : والعيدُ حالةٌ تُعاوِدُ الإنسانَ ،
والعائدَة : كلُّ نفْعٍ يرجع إلى الإنسانِ بشَيْء ، ومنه » العَوْدُ « للبعيرِ
المُسِنِّ : إمَّا لمعاوَدَتِهِ السَّيْرَ والعمل فهو بمعنى فاعلٍ ، وإمَّا
لمعاوَدَةِ [ السنين ] إياه [ ومَرِّهَا ] عليه ، فهو بمعنى مفعول ، قال امْرُؤُ القَيْسِ
: [ الطويل ]
2093- عَلَى لاحِبٍْ لا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ ... إذا
سَافَهُ العَوْدُ النَّبَاطِيُّ جَرْجَرَا
وصَغَّروه على « عُيَيْدٍ » وكسَّروه على « أعْيَاد » ،
وكان القياسُ عُوَيْد وأعْوَاد؛ لزوالِ مُوجِبِ قَلْبِ الواوِ ياء؛ لأنها إنما
قُلبتْ لسكونها بعد كَسْرةٍ ، ك « مِيزَانٍ » ، وإنما فعلوا ذلك؛ قالوا : فرقاً
بينه وبَيْن عُودِ الخَشَبِ .
قوله : « لأوَّلِنَا وَآخِرِنَا » فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلِّقٌ بمحذوف؛ لأنه وقع صفةً ل « عِيداً » .
الثاني :
أنه بدلٌ من « نَا » في « لَنَا » ، قال الزمخشريُّ : «
لأوَّلِنَا وآخِرِنَا » بدلٌ من « لَنَا » بتكرير العالمِ « ، ثم قال : » وقرأ
زيدُ بنُ ثابتٍ ، وابن مُحَيْصِنٍ والجَحْدَرِيُّ : « لأولاَنَا وَأخْرَانَا » بدل « لَنَا » ،
والتأنيثُ على معنى الأمَّة « ، وخَصّص أبو البقاء كلَّ وجْه بشيء؛ وذلك أنه قال :
» فأمَّا « لأوَّلنَا وآخِرِنَا » ، فإذا جعلت « لَنَا » خبراً أو حالاً من فاعل «
تَكُونُ » فهو صفةٌ ل « عِيداً » ، وإن جعلت « لَنَا » صفة ل « عِيد » ، كان «
لأوَّلِنَا » بدلاً من الضمير المجرور بإعادة الجَارِّ « . قال شهاب الدين : إنما
فعل ذلك؛ لأنه إذا جعل » لَنَا « خبراً ، كان » عِيداً « حالاً ، وإن جعله حالاً ، كان
» عِيداً « خبراً؛ وعلى التقديرين لا يمكنُه جَعْلُ » لأوَّلِنَا « بدلاً من » لَنَا « ؛ لئلا يلزم الفصلُ بين البدلِ والمبدلِ منه : إمَّا
بالحال ، وإما بالخبر ، وهو » عِيد « ، بخلافِ ما إذا جُعِل » لَنَا « صفةً ل »
عِيد « ، [ ولكن يُقالُ : قوله : فإن جعلت » لَنَا « صفةً ل » عيداً « ] كان »
لأوَّلِنَا « بدلاً مُشْكِلٌ أيضاً؛ لأنَّ الفصل فيه موجود ، لا سيما أنَّ قوله لا يُحْمل
على ظاهره؛ لأنَّ » لَنَا « ليس صفةً بل هو حالٌ مقدمة ، ولكنه نَظَرَ إلى الأصل ،
وأنَّ التقدير : عيداً لَنَا لأوَّلِنَا؛ فكأنه لا فَصْلَ ، والظاهرُ جوازُ البدل
، والفصلُ بالخبر والحال لا يَضُرُّ؛ لأنه من تمامه ، فليس بأجنبيٍّ .
واعلم : أن البدل من ضمير الحاضر ، سواءٌ كان متكلِّماً
أم مخاطباً ، لا يجوز عند جمهور البصريِّين في بدلِ الكلِّ من الكُلِّ ، لو قلت :
» قُمْتُ زَيْدٌ « تعْني نَفْسَكَ ، و » ضَرَبْتُكَ عَمْراً « ، لم يَجُزْ ، قالوا
: لأنَّ البدل إنما يؤتى به للبيانِ غالباً ، والحاضِرُ متميِّزٌ بنفسه؛ فلا
فائدةَ في البدلِ منه ، وهذا يَقْرُبُ من تعليلهم في مَنْعِ وصفه ، وأجازَ الأخفشُ
ذلك مُطْلَقاً مستدِلاًّ بظاهر هذه الآية الكريمة؛ لقول القائل : [ الوافر ]
2094- أنَا سَيْفُ العَشِيرَةِ فَاعْرِفُونِي ...
حُمَيْداً قَدْ تَذَرَّيْتُ السَّنَامَا
ف » حُمَيْداً « بدل من ياء » اعْرِفُوني « ، وقولِ الآخر
: [ الطويل ]
2095- وَشَوْهَاءَ تَغْدُو بي إلى صَارِخ الوَغَى ...
بِمُسْتَلْئِمٍ مِثْلِ الفَنِيقِ المُدَجَّلِ
وقول الآخر : [ البسيط ]
2096- بِكُمْ قُرَيْشٍ كُفِينَا كُلَّ مُعْضِلَةٍ ...
وأمَّ نَهْجَ الهُدَى مَنْ كَانَ ضِلِّيلا
وفي الحديث : « أتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
نَفَرٌ مِنَ الأشْعَرِيين » والبصريون يُؤوِّلونَ جميعَ ذلك ، أمَّا الآية الكريمة
فعلى ما تقدَّم في الوجه الأول ، وأمَّا « حُمَيْداً » ، فمنصوبٌ على الاختصاص ، وأمَّا
« بِمُسْتَلئم » ، فمن باب التجريدِ ، وهو شيءٌ يعرفه أهلُ البيانِ ، يعني أنه
جَرَّد من نفسه ذاتاً متصفةً بكذا ، وأمَّا « قُرَيْشٍ » فالروايةُ بالرفع على أنه منادى
نُوِّنَ ضرورةً؛ كقوله : [ الوافر
]
2097- سَلاَمُ اللَّهِ يَا مَطَرٌ عَلَيْهَ ... وَلَيْسَ
عَلَيْكَ يَا مَطَرُ السَّلامُ
وأمَّا «
نفرٌ » ، فخبر مبتدأ مضمرٍ ، أي : نَحْنُ ، ومنع ذلك
بعضهم ، إلا أنْ يُفيدَ البدلُ توكيداً ، وإحاطة شمولٍ ، واستدلَّ بهذه الآيةِ ،
وبقول الآخر : [ الطويل ]
2098- فَمَا بَرِحَتْ أقْدَامُنَا فِي مُقَامِنَا ...
ثَلاَثَتِنَا حَتَّى أزيرُوا المَنَائِيَا
بجر « ثَلاَثِينَا » بدلاً من « نَا » ، ولا حُجَّة فيه؛
لأنَّ « ثَلاَثَتِنَا » توكيدٌ جارٍ مَجْرى « كُلّ » .
قال القُرْطُبِي : وقرأ زَيْدُ بن ثابتٍ : « لأولَيْنَا
وأُخْرَيْنَا » على الجَمْعِ قال ابنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - : يَأكُلُ
منهما آخرُ النَّاس كما يَأكُل أوَّلهُم .
قوله : « وآيةً » : عطف على « عيداً » ، و « منك » .
فصل
رُوِي أنَّ عيسى - عليه السلام - اغتسلَ ولبس المسْحَ ،
وصلَّى ركْعَتَيْن ، فَطَأطَأ رَأسَهُ ، وغضَّ بصرَهُ وبَكَى وقال : « اللهم ربنا
أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا » أي : عائِدَة من الله علينا
حُجَّةً وبُرْهَاناً ، والعيدُ يومُ السُّرورِ ، سُمِّي به لِلْعَوْدِ من
التَّرَحِ إلى الفَرَح ، وهو اسم لما اعتدته يَعُودُ إليك ، وقد تَقدَّم .
وقال السدي : مَعْنَاهُ يُتَّخَذُ اليومُ الذي أنْزِلَتْ
فيه عِيداً لأوَّلنا لأهلِ زماننا ، وآخرنا لمن يجيء بَعْدَنا .
وقال ابنُ عباسٍ : يأكلُ منها آخِرُ النَّاسِ كما أكَلَ
أوَّلُهُم .
قوله : « وآيةً مِنْكَ » دِلاَلَةً وحُجَّةً .
قيل :
نَزَلَتْ يوم الأحد ، فاتَّخَذَهُ النَّصَارى عِيداً .
وقوله « وارْزُقْنَا » أي : طعاماً نَأكُلُه { وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين } .
قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ
يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا
مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
قرأ نافعٌ وابنُ عامرٍ وعاصمٌ : « مُنَزِّلُهَا » :
بالتشديد ، فقيل : إنَّ أنْزَلَ ونَزَّلَ بمعنًى ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك ، وقيل : التشديدُ
للتكثير ، فإنها نزلت مرَّاتٍ متعددة
.
قوله : « بَعْدُ » : متعلِّق ب « يَكْفُرْ » ، وبُنِي؛
لقَطْعِه عن الإضافة؛ إذ الأصل : بَعْدَ الإنْزَالِ ، و « مِنْكُمْ » متعلِّقٌ
بمحذوفٍ؛ لأنه حال من فاعل « يَكْفُرْ » ، وقوله : « عَذَاباً » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه اسمُ مصدرٍ بمعنى التعذيب ، أو مصدرٌ على
حذفِ الزوائد؛ نحو : « عَطَاء ونَبَات
» ل « أعْطَى » و « أنْبَتَ » ، وانتصابُهُ على
المصدريَّة بالتقديرين المذكورين
.
والثاني - أجازه أبو البقاء - : أن يكون مفعولاً به على السَّعَة
، يعني : جَعَلَ الحَدَثَ مفعولاً به على السَّعة؛ مبالغةً ، وحينئذٍ يكون نصبه
على التشبيه بالمفعول به ، والمنصوبُ على التشبيه بالمفعول به عند النحاة ثلاثةُ
أنواعٍ : معمولُ الصفةِ المشبهة ، والمصدرُ ، والظرفُ المتَّسَعُ فيهما :
أمَّا المصدرُ ، فكما تقدَّم ، وأمَّا الظرفُ ، فنحو : «
يَوْمَ الجُمُعَةِ صُمْتُهُ » ، ومنه قوله في ذلك : [ الطويل ]
2099- وَيَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وعَامِراً ...
قَلِيلٌ سِوَى الطَّعْنِ النِّهَالِ نَوَافِلُهْ
قال الزمخشريُّ : « ولو أُريدَ بالعذاب ما يُعَذَّبُ به
، لكان لا بُدَّ من البَاءِ » قال شهاب الدين : إنما قال ذلك؛ لأنَّ إطلاقَ العذاب
على ما يُعَذَّبُ به كثيرٌ ، فخاف أن يُتوهَّمَ ذلك ، وليس لقائلٍ أن يقول : كان الأصلُ
: بِعَذَابٍ ، ثم حذفَ الحرف؛ فانتصب المجرورُ به؛ لأنَّ ذلكَ لم يَطَّرِدْ إلاَّ
مع « أنْ » و « أنَّ » بشرطِ أمْنِ اللَّبْسِ .
قوله : « لاَ أعَذِّبُهُ » الهاءُ فيها ثلاثة أوجه :
أظهرها :
أنها عائدة على « عَذَاب » الذي تقدَّم أنه بمعنى
التعْذِيب ، والتقدير : فإنِّي أعَذِّبُهُ تَعْذِيباً لا أعَذِّبُ مِثْلَ ذَلِكَ
التَّعْذيبِ أحَداً ، والجملة في محلِّ نَصْبٍ صفةً ل « عَذَاباً » ، وهذا وجه
سالمٌ من تَكَلُّفٍ ستَرَاهُ في غيره ، ولمَّا ذكر أبو البقاء هذا لوجه - أعني عودَها
على « عَذَاباً » المتقدِّم - قال : « وفيه على هذا وجهان :
أحدهما :
على حَذْفِ حرف الجر ، أي : لا أعَذِّبُ به أحداً ،
والثاني : أنه مفعولٌ به على السَّعة » . قال شهاب الدين : أمَّا قوله « حُذِفَ
الحَرْف » ، فقد عرفْتَ أنه لا يجوز إلا فيما
استثني .
الثاني - من أوجه الهاء - : أنها تعودُ على « من » المتقدِّمة
في قوله : « فَمَنْ يَكْفُرْ » ، والمعنى : لا
أعَذِّبُ مِثْلَ عَذَاب الكَافِرِ أحَداً ، ولا بُدَّ من تقدير هذين المضافَيْنِ؛
لِيَصِحَّ المعنى ، قال أبو البقاء في هذا الوجهِ : « وفي الكلامِ حَذْفٌ أي : لا أعذِّبُ
الكَافِرَ ، أي : مثل الكافرِ ، أي
: مثل عذابِ الكَافر » .
الثالث : أنها ضميرُ المصدرِ المؤكِّد؛ نحو : « ظَنَنْتُهُ
زَيْداً قَائِماً » ، ولمَّا ذكر أبو البقاء هذا الوجه ، اعترضَ على نفسه ، فقال :
« فإنْ قلْتَ : » لا أعَذِّبهُ « صفةٌ ل » عَذَاب « ،
وعلى هذا التقدير لا يعودُ من الصفة على الموصُوف شَيْءٌ ، قيل : إنَّ الثانِيَ
لما كان واقعاً موقعَ المصدر والمصدرُ جنْسٌ ، و » عَذَاباً « نكرةٌ ، كان الأوَّل داخِلاً في
الثاني ، والثاني مشتملٌ على الأوَّل ، وهو مثل : زَيْدٌ نِعْمَ الرَّجُلُ » .
انتهى ، فجعل الرابطَ العمومَ ، وهذا الذي ذكرهُ من أنَّ الربْطَ بالعمومِ ، إنما
ذكره النحويُّون في الجملةِ الواقعةِ خبراً لمبتدأ ، ولذلك نظَّره أبو البقاء ب «
زَيْدٌ نِعْمَ الرَّجُلُ » ، وهذا لا ينبغي أن يُقاسَ عليه؛ لأن الربطَ يحصُلُ في
الخبر بأشياءَ لا تجوز في الجملة الواقعةِ صفةً ، وهذا منها ، ثم هذا الاعتراضُ الذي
ذكره واردٌ عليه في الوجه الثاني؛ فإنَّ الجملة صفةٌ ل « عَذَاباً » ، وليس فيها ضميرٌ ، فإن قيل : ليست هناك بصفة ، قيل
: يَفْسُدُ المعنى بتقدير الاستئناف ، وعلى تقدير صحَّته ، فلتكنْ هنا أيضاً
مستأنفةً ، و « أحَداً » منصوبٌ على المفعُول الصريحِ ، و « مِنَ العَالمِينَ
» صفةٌ ل « أحداً » فيتعلَّق بمحْذُوف
.
فصل في معنى الآية
معنى الآية الكريمة { فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ } أي :
بَعْد إنْزَال المَائِدَة ، { فإني أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً
مِّنَ العالمين } أي : جنس عذابٍ لا أعَذِّبُهُ أحَداً من العالمين - يعني : على
زمانه - فَجَحَد القَوْمُ وكَفَرُوا بعد نُزُولِ المَائِدَة .
قال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - : مُسِخُوا
خَنَازِير ، وقيل : قِرَدَةً ، وقيل : جِنْساً من العَذَابِ ، لا يُعذَّبُ به
غَيْرُهُم .
قال الزَّجَّاج : ويجُوزُ أن يكون ذَلِكَ العذابُ
مُعَجَّلاً في الدُّنْيا ، ويجُوزُ أن يكُون مُؤخَّراً في الآخِرَةِ .
قال عَبْدُ الله بن عمرو - رضي الله عنهما - : « أنَّ
أشَدَّ النَّاسِ عَذَاباً يَوْمَ القِيَامَةِ المُنَافِقُونَ ، ومن كَفَر مِنْ
أصْحَابِ المائدةِ وآلُ فِرْعَوْن
» .
واخْتَلَف العُلَماءُ - رضي الله تعالى عنهم - هَلْ
نَزَلَتْ أمْ لا؟ .
فقال مُجَاهِد ، والحَسَن : لم تَنْزِلْ ، فإنَّ الله
تعالى لَمَّا أوْعَدَ على كُفْرِهم بَعْد نُزُولِ المائدة خافُوا أن يَكْفُر
بَعْضُهُم ، فاستعفوا وقالوا : لا نُرِيدُهَا؛ فلم تَنْزِلْ . وقوله : { إِنِّي
مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ } - يعني : إن سَألْتُم ، والصَّحِيحُ الذي عَلَيْه
الأكْثَرُون : أنَّها نَزَلَتْ لقوله تعالى : { إِنِّي مُنَزِّلُهَا
عَلَيْكُمْ } ولا خُلْفَ في خبره ، ولِتَوَاتُرِ الأخْبَارِ فيه عن رسُول الله صلى
الله عليه وسلم أنَّها نَزَلَت
.
وقيل لهم : إنَّها مُقِيمَةٌ لكم ما لم تَخُونُوا
وتخبؤوا؛ فما مضَى يومها حتَّى خَانُوا وخَبُّئوا ، فَمسخُوا قِرَدَةً وخَنَازير .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : إنَّ عيسى - عليه
السلام - قال لهم : صُومُوا ثلاثينَ يَوْماً ، ثم سَلُوا اللَّه ما شِئْتُم
يُعْطِيكُمْ ، فَصَامُوا ، فلمَّا فَرغُوا قالوا : يا عيسى : إنَّا لو عَمِلْنَا
لأحدٍ قَضَيْنَا عَمَلَهُ لأطْعَمَنَا ، وسَألُوا اللَّهَ المَائِدَة ، فأقْبَلَتِ
المَلائِكَةُ - عليهم الصَّلاة والسَّلام - بمائدةٍ يحمِلُونَهَا ، عَلَيْهَا
سَبْعَةُ أرْغِفَةٍ وسَبْعَة أخْوَان ، حتَّى وضعتْهَا بين أيْدِيهِمْ ، فأكَلَ
مِنْهَا آخِرُ النَّاسِ كما أكَلَ أوَّلُهُم .
قال كَعْبُ الأحْبار : نزلت مَنْكُوسَةً تطيرُ بها
المَلائِكَةُ بين السماء والأرض ، عليها كُلُّ الطَّعَامِ إلاَّ اللَّحْم .
وقال سَعِيدُ بن جُبَيْر - رضي الله عنهما - ، عن ابنِ
عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - : أنْزَلَ على المَائِدَة كُلَّ شيءٍ إلاَّ الخُبْزَ
واللَّحْمَ .
قال قَتَادَةُ : كان عليها ثَمَرٌ من ثِمَار الجَنَّةِ .
وقال عَطِيَّة العوفي : نَزَلَتْ من السَّمَاء سَمَكَةٌ
فيها طَعْمُ كُلِّ شَيْء .
وقال الكَلْبِيُّ : كان عَلَيْهَا خُبْزُ رُزٍّ ،
وبَقْلٌ .
وقال وَهْبُ بن مُنَبِّه : أنْزَلَ اللَّهُ - تبارك
وتعالى - قُرْصَةً من شَعِيرٍ وحِيتَاناً ، فكان قَومٌ يأكُلُون ثم يَخْرجُون ،
ثُمَّ يَجِيءُ آخَرُون فَيَأكُلُون ، حتَّى أكَل أجْمَعُهُم .
وقال الكَلْبِيُّ ومُقَاتِل : أنْزَلَ اللَّهُ سَمَكاً
وخَمْسة أرْغِفَةٍ ، فأكَلُوا ما شاء اللَّهُ ، والنَّاسُ ألْفٌ ونَيفٌ ، فلمَّا
رَجَعُوا إلى قُرَاهُم ، ونَشَرُوا الحَديث ، ضحكَ مِنْهُم مَنْ لم يَشْهَد؛
وقالُوا : ويْحَكُم ، إنَّما سَحَر أعْيُنَكُم ، فمن أرَادَ اللَّهُ به تعالى
الخَيْرَ ثَبَّتَهُ على بَصِيرتِهِ ، ومن أرادَ فِتْنَتَهُ رجَعَ إلى كُفْرِه ،
فَمُسِخُوا خَنِازِيرَ ليْسَ صَبِيٌّ ولا امْرَأةٌ ، فَمَكَثُوا كَذَلِكَ ثلاثةَ أيَّامٍ
، ثم هَلَكُوا ، ولم يَتَوالَدُوا ، ولم يَأكُلوا ، ولَمْ يَشْرَبُوا ، وكذلك
كُلُّ مَمْسُوخٍ وقال قتادةُ : كانت تَنْزِلُ عليهم بُكرةً وعَشِيًّا ، كالمَنِّ
والسَّلْوى لِبَنِي إسْرَائِيل
.
وروَى عطاءُ بنُ أبي رباحٍ ، عن سَلْمان الفَارِسِيّ :
لما سَأل الحَوَارِيُّونَ المائدة ، لَبِسَ عيسى - عليه الصلاة والسلام - صُوفاً
وبَكَى ، وقال : « اللهم أنزل علينا مائدة من السماء » ، فنزلت سُفْرَةٌ حَمْراء
بين غَمَامَتَيْنِ ، غَمَامَة من تَحْتِهَا ، وغَمَامَة من فَوْقِهَا وهُمْ يَنْظُرُون
إلَيْهَا ، وهي تَهْوي خَافِضَة ، حتَّى سَقَطَتْ بين أيديهمْ ، فَبَكَى عيسى -
عليه الصلاة والسلام - وقال : اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي من الشَّاكرين ، اللَّهُمَّ
اجْعَلْهَا رحْمَةً ولا تَجْعَلْهَا عُقُوبَةً ، واليَهُود يَنْظُرون إلى شَيْء لم
يَرَوا مِثْلَهُ قَطّ ، ولم يَجِدُوا رِيحاً أطيب من ريحهِ ، فقال عيسى - عليه
الصَّلاة والسَّلام - : لِيَقُمْ أحسَنُكُم عَمَلاً ، فيكشف عنها ، ويذكر اسم
اللَّهِ تعالى ، فقال شَمْعُون الصَّفَّار رَأسٌ من الحَواريِّين أنْتَ أوْلَى
بذلك مِنَّا ، فَقَامَ عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - فَتَوَضَأ وصلَّى وبكَى
كَثِيراً ، ثم كَشَفَ المِنْدِيل ، وقال : بِسْم الله خير الرَّازِقين ، فإذا
سَمَكةٌ مشْويَّةٌ ليس عليها فلوسها ولا شَوْك تَسِيل من دَسِمِهَا ، وعند رأسِها ملح
وعنْد ذَنَبِها خلٌّ ، وحولَهَا من أنْوَاع البُقُول مَا خَلاَ الكُرَّاث ، وإذا
خَمْسَةُ أرْغِفَةٍ على واحدٍ زَيْتُونٌ ، وعلى الثَّاني عَسَلٌ ، وعلى الثَّالِثَ
سَمْن ، وعلى الرَّابع جُبْنٌ ، وعلى الخَامس : قَدِيدٌ ، فقال شَمْعُون : يا رُوحَ
اللَّه أمن طعامِ الدُّنْيَا هذا أوْ مِنْ طعامِ الآخِرة؟ قال : لَيْسَ مِنْهُمَا
، ولكنَّهُ شَيْءٌ افْتَعَلَهُ اللَّهُ بالقُدْرَة العَالِيَة ، كلوا ما سَألْتُم
واشْكُرُوا اللَّه يُمْدِدكم ويَزِدْكُمْ من فَضْلِهِ .
فقال الحَوَارِيُّون : يا رُوحَ الله كُنْ أوَّل من
يَأكُلُ منها ، فقال : مَعَاذ الله أنْ آكُلَ منها ، ولكن يأكُلُ منها من سَألَهَا
، فَخَافُوا أن يَأكُلُوا منها ، فدَعَا أهْلَ الفَاقَةِ والمَرَضِ وأهْلَ
البَرَصِ والجُذَامِ والمُقْعَدِين وقال : كُلُوا من رِزْقِ الله - عزَّ وجلَّ -
لكم الهنَاءُ ، ولِغَيْرِكُم البَلاَءُ ، فأكَلُوا ، وصدر عنها ألْفٌ وثلثمائة
رَجُلٍ وامْرأةٌ من فَقِيرٍ ، وزمن ومريضٍ ، ومُبْتَلى كُل مِنْهُم شَبْعَان ،
وإذا السَّمَكَةُ كَهَيْئَتِهَا حين نزلت ، ثُمَّ طارتِ المائدةُ صعداً وهم يَنْظُرُون
إلَيْهَا حتَّى تَوَارَتْ ، فلم يَأكُلْ منها زمنٌ ولا مَرِيضٌ ولا مُبْتَلى إلاَّ
عُوفِي ، ولا فَقِير إلاَّ اسْتَغْنَى ، ونَدِمَ من لم يأكُلْ فلَبِثَتْ أرْبَعِين
صَبَاحاً تَنْزِلُ ضُحًى ، فإذا نَزَلَت اجْتَمَع الأغْنِيَاء والفُقَرَاء
والصِّغَارُ والكبارُ والرِّجَال والنِّساءُ ، ولا تزالُ منْصُوبةً يُؤكَلُ منها
حتَّى إذا فاء الفيءُ طارت ، وهم يَنْظُرُون في ظِلِّها حتى تَوَارَتْ عَنْهُم ،
فكانت تَنْزِلُ غِبّاً تَنْزِلُ يوماً ولا تَنْزِلُ يَوْماً كَنَاقَةِ ثَمُود ،
فأوْحى اللَّهُ - تبارك وتعالى - إلى عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - : اجعل
مَائِدَتِي ورِزْقِي للفُقَرَاءِ دُون الأغْنِيَاء ، فعظم ذلِكَ الأغْنِيَاء حتى شَكُّوا
وشَككُوا النَّاسَ فيها ، وقالُوا : تَرَوْن المائدةَ حقاً تَنْزِلُ من السَّمَاء؟
فأوْحَى الله - تبارك وتعالى - إلى عيسى : إنِّي شَرَطْتُ أنَّ من كَفَرَ بَعْد
نُزُولِها ، عَذَّبْتُهُ عَذَاباً لا أعَذِّبُهُ أحَداً من العالمِين ، فقال -
عليه السلام - : « إنْ تُعَذِّبْهُمْ فإنَّهُمْ عِبَادُكَ ، وإن تَغْفِرْ لَهُم
فإنَّك أنْتَ العَزيز الحَكِيمُ » فَمَسَخ اللَّهُ منهم ثلاثمائة وثلاثِين رجُلاً
من لَيْلَتِهِمْ على فُرُشِهِم مع نِسَائِهِم ، فأصْبَحُوا خَنَازِير يَسْعَون في
الطُّرُقَات والكنَّاسَات ، ويأكُلُون العُذْرَة في الحشُوشِ ، وعاشُوا ثلاثة
أيَّامٍ ثُمَّ هلكوا والعياذ باللَّه
.
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ
قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ
كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا
فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا
مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ
عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ
الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)
اختلَفُوا في هذا القَوْلِ ، هَلْ وقع وانْقَضَى ، أو
سيقع يوم القيامة؟ على قولين :
الأول :
قال بعضُهم : لمَّا رفعهُ إليه ، قال له ذلك ، وعلى هذا
ف « إذْ » و « قَالَ » على موضوعهما منَ المُضِيِّ ، وهو الظاهر ، وقال
بعضُهم : سيقولُه له يَوْمَ القيامة؛ لقوله - تبارك وتعالى قبله { يَوْمَ يَجْمَعُ
الله الرسل } [ المائدة : 109 ] [ الآية ] ، وقوله بعد هذا : { يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين
صِدْقُهُمْ } [ المائدة : 119 ] وعلى هذا ف « إذْ » ، و « قَالَ » بمعنى « يَقُولُ
» ، وكونُها بمعنى « إذَا » أهونُ من قول أبي عُبَيْدٍ : إنها زائدةٌ؛ لأنَّ زيادةَ الأسماء
ليْسَتْ بالسهلة .
قوله : « أأنْتَ قُلْتَ » دخلت الهمزةُ على المبتدأ؛
لفائدةٍ ذكرها أهل البيان ، وهو : أن الفعل إذا عُلِمَ وجودُهُ ، وشُكَّ في نسبته
إلى شخص ، أولِيَ الاسْمُ المشكوكُ في نسبة الفعْلِ إليه للهمْزة ، فيقال : «
أأنْتَ ضَرْبٌ زَيْداً » ، فَضَرْبُ زَيْدٍ
قد صدر في الوجود ، وإنما شُكَّ في نسبته إلى المخاطَبِ ، وإنْ شُكَّ في أصل وقوعِ
الفعلِ ، أولِيَ الفعلُ للهمزة ، فيقال
: « أضَرَبْتَ زَيْداً » ، لم تَقْطع بوقوعِ الضرب ، بل
شَكَكْتَ فيه ، والحاصلُ : أنَّ الهمزةَ يليها المشكوكُ فيه ، فالاستفهامُ في
الآية الكريمة يُراد به التقريعُ والتوبيخ لغير عيسى - عليه السلام - وهم المتَّخِذُون
له ولأمِّه إلهَيْنِ ، دخل على المبتدأ لهذا المعنى الذي ذكرناه؛ لأن الاتخاذَ قد
وقع ولا بُدَّ ، واللام في « للنَّاس » للتبليغِ فقط ، و « اتَّخِذُوني » يجوز أن
تكون بمعنى « صَيَّرَ » ، فتتعدَّى لاثنين ، ثانيهما « إلَهَيْنِ » ، وأن تكونَ
المتعدية لواحدٍ ف « إلَهَيْنِ
» حالٌ ، و { مِن دُونِ الله } فيه وجهان :
أظهرهما : أنه متعلقٌ بالاتخاذ ، وأجاز أبو البقاء -
رحمه الله تعالى - وبه بدأ - أن يكون متعلِّقاً بمحذوفٍ؛ على أنه صفةٌ ل «
إلَهَيْنِ » .
فإن قيل : كَيْفَ يَلِيقُ الاسْتِفْهَامُ بعلاَّمِ
الغُيُوب؛ وأيضاً النَّصَارَى لا يَقُولُون بإلهِيَّة عيسى [ - عليه الصلاة
والسلام - ومريم ] .
فالجوابُ عن الأول : أنَّه على سبيلِ الإنْكَارِ ، وقَصْدُ
هذا السُّؤال تَعْرِيفُهُ أنَّ قَوْمَهُ غيرُوا بعده ، وادَّعَوْا عليه مَا لَمْ
يَقُلْهُ .
والجوابُ عن الثَّانِي : أنَّ النَّصَارى يَعْتَقِدُون
أنَّ المُعْجِزَات الَّتِي ظَهَرَتْ على يَدِ عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام -
ومَرْيَم - عليها السَّلام - لم يَخْلُقْهَا الله تعالى ، بل عيسى ابن مريم -
عليهما الصَّلاة والسَّلام - فاللَّهُ ليس خَالِقُهمَا ، فصحَّ أنهُم أثْبَتُوا في
حَقِّ بَعْضِ الأشْيَاء كون عيسى - عليه السلام - ومريم إلهيْنِ من دُون الله ، [
مع أنَّ اللَّه لَيْس إلهاً لَهُ ] ، فصحَّ بهذا التَّأويلِ هذه الحِكايَةُ .
وقال القُرْطُبِي - رحمه الله - : فإن قيل : النَّصَارَى
لم يَتَّخِذُوا مَرْيَمَ إلهاً ، فكَيْفَ قال ذَلِكَ فيهم؟ .
فقيل :
لمَّا كان من قَولِهِمْ أنَّهَا لَمْ تَلِدْ بَشَراً ،
وإنَّما وَلَدَتْ إلهاً ، لَزِمَهُم أنْ يقُولُوا : إنَّها لأجْل البَعْضِيَّة
بمثابة من ولدَتْه ، فصارُوا حين لزمهُم ذلك بمثابَةِ القائِلين لهُ .
فإن قيل
: إنَّهُ - تبارك وتعالى - إن كان عَالِماً بعيسى - عليه
الصَّلاة والسَّلامُ - لم يَقُلْ ذلك ، فلم خاطَبَهُ به؟ فإن قُلْتُم : الغَرَضُ
مِنْهُ تَوْبِيخُ النَّصَارى وتَقْرِيعُهُم ، فنقُولُ : إنَّ أحَداً من النَّصَارى
لَمْ يَذْهَبْ إلى القَوْلِ بإلهيَّةِ عيسى ومريم مع القول بنَفْي إلهيَّةِ الله
تعالى ، فكيْفَ يجُوزُ أن يُنْسَبَ هذا القوْلُ إليْهِمْ ، مع أنَّ أحَداً منهم
لَمْ يَقُلْ به؟ .
فالجوابُ : أنَّ الله تعالى أرَادَ أنَّ عيسى يُقِرُّ
على نَفْسِهِ بالعُبُودِيَّةِ فَيَسْمع قَوْمُهُ ، ويَظْهَرُ كذبُهُمْ عليه أنَّه
أمَرَهُم بذلك .
قوله : « سُبْحَانَك » أي : تنزيهاً لك ، وتقدَّم الكلام
عليه في البقرة [ الآية : 32 ] ، ومتعلَّقُه
محذوفٌ ، فقدَّره الزمخشريُّ : « سُبْحانَكَ مِنْ أن يكُونَ لك شَرِيكٌ » ،
وقدَّره ابن عطية : « عَنْ أنْ يُقالَ هذا ، ويُنْطَقَ به » ورجَّحَهُ أبو حيان - رضي الله عنه -
لقوله بَعْدُ : { مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ } . قوله : « أنْ أقُولَ » في محلِّ
رفع؛ لأنه اسمُ « يكُونُ » ، والخبرُ في
الجارِّ قبله ، أي : ما يَنْبَغِي لي قولُ كذا ، و « مَا » يجوزُ أن تكون موصولةً أو نكرةً
موصوفةً ، والجملةُ بعدها صلةٌ؛ فلا محلَّ لها ، أو صفةٌ ، فمحلُّها النصبُ ،
فإنَّ « مَا » منصوبةٌ ب « أقُولَ » نصب المفعول به؛ لأنها متضمِّنةٌ لجملة ، فهو
نظيرُ « قُلْتُ كلاماً » ، وعلى هذا فلا يحتاج أن يؤوَّل « أقُولَ » بمعنى «
أدَّعِي » أو « أذْكُرَ » ، كما فعله أبو
البقاء رحمه الله وفي « لَيْسَ » ضميرٌ يعودُ على ما هو اسمها ، وفي خبرها وجهان :
أحدهما : أنه « لِي » ، أي : ما لَيْسَ مستقرّاً لي
وثابتاً ، وأمَّا « بِحَقٍّ » على هذا ، ففيه ثلاثةُ أوجه ، ذكر أبو البقاء منها
وجهين :
أحدهما : أنه حالٌ من الضمير في « لي » .
قال :
والثاني : أن يكون مفعولاً به ، تقديره : ما ليس
يَثْبُتُ لي بسببِ حقٍّ ، والباءُ متعلِّقةٌ بالفعلِ المحذُوف ، لا بنفسِ الجارِّ؛
لأنَّ المعانِيَ لا تعملُ في المفعول به . قال شهاب الدين : وهذا ليْسَ بجيِّدٍ؛
لأنه قدَّر متعلَّقَ [ الخبر كوناً مقيَّداً ، ثم حذفه ، وأبقى معموله .
الوجه الثالث : أنَّ قوله « بحَقٍّ » متعلقٌ ] بقوله : «
عَلِمْتَهُ » ، ويكون الوقْفُ على هذا على قوله « لِي » ، والمعنى : فققد
عَلِمْتَهُ بِحَقٍّ ، [ وقد رُدَّ ] هذا بأنَّ الأصْل عدمِ التقديم والتأخير ، وهذا لا
ينبغي أن يُكتفى به في ردِّ هذا ، بل الذي منه من ذلك : أنَّ معمول الشرط أو جوابه
لا يتقدَّم على أداة الشرط ، لا سيَّما والمَرْوِيُّ عن الأئمةِ القُرَّاءِ الوقفُ
على « بِحَقٍّ » ، ويَبْتَدئُونَ ب { إِن كُنتُ قُلْتُهُ } ، وهذا مَرْوِيٌّ عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجَبَ اتِّباعه .
والوجه الثاني في خبر « لَيْسَ » : أنه « بِحَقٍّ » ،
وعلى هذا ، ففي « لِي » ثلاثةُ أوجه
:
أحدها : أنه « يَتَبيَّنُ » ؛ كما في قولهم : « سُقْياً
لَهُ » ، أي : فيتعلَّقُ بمحذوف
.
والثاني :
أنه حالٌ من « بِحَقٍّ » ؛ لأنه لو تأخَّر ، لكان صفةً
له ، قال أبو البقاء : « وهذا مُخَرَّجٌ على قول من يجُوِّزُ تقديم حال المجرُورِ
عليه » [ قلتُ : قد تقدَّم لك خلافُ النَّاسِ فيه ] ، وما أوردوه من الشواهد ، وفيه
أيضاً تقديمُ الحالِ على عاملها المعنويِّ ، فإنَّ « بِحَقٍّ » هو العاملُ؛ إذ «
لَيْسَ » لا يجوز أن تعمل في شيء ، وإن قلنا : إنَّ « كان » أختها قد تعمل لأن « لَيْسَ » لا حدثَ
لها بالإجماع .
والثالث : أنه متعلِّقٌ بنفسِ « حَقّ » ؛ لأنَّ الباءَ
زائدةٌ ، و « حَقّ » بمعنى « مُسْتَحقّ » ، أي : ما لَيْسَ مستحِقًّا لي .
فصل
اعلم :
أنَّه - تبارك وتعالى - لما سَألَ عيسى - عليه السلام -
أنَّكَ هَلْ قُلتَ للنَّاسِ ذلك؟ لم يَقُلْ عيسى بأنِّي قُلْتُ ، أو : ما قُلْتُ ،
بل قال : ما يكونُ لي أنْ أقُولَ هذا الكلام ، وبدأ بالتَّسْبِيح قبل الجواب لأمرين :
أحدهما : تَنْزِيهاً لَهُ على أنْ يُضيفَ إليه .
والثاني : خُضُوعاً لِعِزَّتِه ، وخَوْفاً من سَطْوتِهِ .
ثُمَّ قال : { مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ
لِي بِحَقٍّ } أي : أن أدَّعِي لِنَفْسِي بما ليس من حقِّها يعني : أنِّي
مَرْبُوبٌ ولسْتُ بِرَبٍّ ، وعَابِدٌ ، ولسْتُ بِمَعْبُودٍ ، ولمَّا بيَّن أنَّه
ليس له أنْ يقول هذا الكلام ، شَرَعَ في بيانِ أنَّهُ هَلْ وقع منه هذا القولُ أمْ
لا؟ ولمْ يَقُلْ بأنِّي ما قُلْتُه ، بل فوَّضَه إلى علمه تعالى المحيط بالكُلِّ ،
فقال : « إن كُنْتُ قُلْتُهُ فقدْ عَلِمْتَه بعلْمِكَ » ، وهذا مُبالغَةٌ في
الأدبِ ، وفِي إظهَارِ الذِّلَةِ والمَسْكَنَةِ في حَضْرَةِ الخلاَّقِ ، وتَفْوِيض
الأمْرِ بالكُلِّيَّةِ إلى الحقِّ - سُبحانَهُ وتعالى - .
قوله : { إن كنت قلته } : « كنت » وإن كانت ماضية اللفظ
فهي مستقبلة في المعنى ، والتقدير : إن تَصِحَّ دعواي لما ذُكر ، وقدَّره الفارسي
بقوله : « إن أكن الآن قلتُه فيما مضى » لأنَّ الشرط والجزاء لا يقعان إلا في
المستقبل . وقوله : « فقد عَلِمْتَ » أي : فقد تبيَّن وظهر علمُك به كقوله : {
فَصَدَقَتْ } [ يوسف : 26 ] و { فَكَذَبَتْ } [ يوسف : 27 ] و { فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي
النار } [ النمل : 90 ] .
قوله تعالى : { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ
مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب } .
قوله :
{ تعلمُ ما في نفسي } هذه لا يجوزُ أن تكونَ عرفانيةً ،
لأنَّ العرفان كما تقدم يستدعي سَبْقَ جهل ، أو يُقْتَصَرُ به على معرفةِ الذات
دونَ أحوالها حَسْبَ ما قاله الناس ، فالمفعولُ الثاني محذوفٌ ، أي : تعلمُ ما في
نفسي كائناً موجوداً على حقيقته لا يخفى عليك منه شيءٌ ، وأمَّا : « ولا أعلم »
فهي وإن كان يجوزُ أن تكون عرفانيةً ، إلا أنها لمَّا صارت مقابلةً لما قبلها ينبغي
أن يكون مثلها ، والمرادُ بالنفس هنا ما قاله الزجاج أنها تُطْلقُ ويُراد بها
حقيقةُ الشيء ، والمعنى في قوله { تعلم ما في نفسي } إلى آخره واضحٌ .
وقال : المعنى : تعلمُ ما أخفيه من سِرِّي وغيبي ، أي : ما غابَ ولم
أظْهِرْه ، ولا أعلمُ ما تُخْفيه أنت ولا تُطْلِعُنا عليه ، فذكر النفس مقابلةً
وازدواجاً ، وهذا منتزع من قول ابن عباس ، وعليه حام الزمخشري رحمه الله فإنه قال
: « تعلمُ معلومي ولا أعلمُ معلومك » ، وأتى بقوله : { ما في نفسك } على جهةَ
المقابلةِ والتشاكلِ [ لقوله : « ما في نفسي » فهو ] كقوله : { وَمَكَرُواْ
وَمَكَرَ الله } [ آل عمران : 54
] ، وكقوله :
{ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } [ البقرة : 14 ،
15 ] .
وقيل : المعنى : تعلمُ ما عندِي ولا أعلمُ ما عندكَ .
وقيل : تعلمُ ما في الدُّنْيَا ، ولا أعلمُ ما يكونُ
مِنْكَ في الآخِرَة
.
وقيل :
تعلمُ بما أقُولُ وأفْعلُ ، ولا أعْلَمُ بما تقول وتفعل
{ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب } وهذا تأكيدٌ للجملتَيْنِ المُتقدِّمتَيْنِ .
وتمسَّكتِ المُجسِّمَةُ بقوله « بِمَا في نفْسِكَ » ،
وقالوا : النَّفْسُ إنَّما تكون في الشَّخْصِ .
وأجيبُوا :
بأنَّ النَّفْسَ عبارة عن الذاتِ ، يقال : نَفْسُ
الشَّيء وذاته بمعنى واحد ، وأيضاً المراد : تعلم معْلُومِي ولا أعلم معلُومَك ،
ولكنَّه ذكر هذا الكلامَ على طريقِ المُقابلةِ والمُشاكلةِ .
قال الزَّجاج : النَّفْسُ عبارةٌ عن جُمْلَةِ الشَّيء
وحقيقتِهِ .
قوله تعالى : { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ
أَمَرْتَنِي بِهِ } : هذا استثناءٌ مفرغ فإنَّ « ما » منصوبةٌ بالقول؛ لأنها وما
في حيِّزها في تأويلِ مقول . وقدَّر أبو البقاء القول بمعنى الذكر والتأدية . و «
ما » يجوزُ
أن تكون موصولةً أو نكرةً موصوفةً
.
قوله تعالى : « أن اعبُدوا » في « أنْ » سبعةُ أوجهٍ :
أحدها :
أنها مصدرية في محلِّ جر على البدل من الهاء في « به »
والتقديرُ : ما قلتُ إلا ما أمرتني بأن اعبدوا ، وهذا الوجه سيأتي عليه اعتراض .
الثاني : أنها في محلِّ نصبٍ بإضمار « أعني » ، أي : إنه
فسَّر ذلك المأمور به .
الثالث : أنه في محلِّ نصب على البدل من محلِّ « به » في
{ ما أمرتني به } لأن محلَّ المجرور نصب .
الرابع : أن موضعها رفعٌ على إضمار مبتدأ وهو قريبٌ في
المعنى من النصب على البدلِ .
الخامس : أنها في محل جر لأنها عطف بيان على الهاء في به .
السادس : أنها بدلٌ من « ما » نفسها أي : ما قلت لهم إلا
أن اعبدوا .
السابع :
أنَّ « أنْ » تفسيرية ، أجازه ابن عطية والحوفي ومكي .
وممن ذهب إلى جواز أنَّ « أنْ » بدلٌ مِنْ « ما » فتكونُ منصوبة المحلِّ أو من
الهاء فتكونُ مجرورته أبو إسحق الزجاج ، وأجاز أيضاً أن تكون تفسيريةً لا محلَّ لها
. وهذه الأوجهُ قد منع بعضها الزمخشري ، وأبو البقاء منع منها وجهاً واحداً وهو أن
تكون تفسيرية ، أما الزمخشري فإنه منع أن تكون تفسيرية إلا بتأويل ذكره وسيأتي ،
وبدلاً من « ما » أو من الهاء في « به » . قال - رحمه الله - : « أنْ » في قوله :
{ أن اعبدوا الله } إنْ جعلتها مفسرةً لم يكن لها بُدٌّ من مفسِّر ، والمفسِّر :
إما أن يكون فعل القول أو فعل الأمر ، وكلاهما لا وجه له؛ أما فعل القول فلأنه
يُحْكى بعده الجمل ولا يتوسَّط بينه وبين محكيِّه حرفُ تفسير ، وأما فعل الأمر
فمستندٌ إلى ضمير الله تعالى ، فلو فسَّرْتَه ب { اعبدوا الله ربي وربكم } لم
يستقم لأن الله لا يقول : اعبدوا الله ربي وربكم ، وإن جعلتها بدلاً لم يخلُ من أن
تجعلها بدلاً من « ما » في { ما أمرتني به } ، أو من الهاء في « به » ، وكلاهما غيرُ
مستقيم؛ لأنَّ البدل هو الذي يقوم مقام المبدلِ منه ، ولا يُقال : ما قلتُ لهم إلا
أن اعبدوا الله ، أي : ما قلتُ لهم إلا عبادته لأنَّ العبادة لا تقال ، وكذلك لو
جعلتها بدلاً من الهاء ، لأنك لو أقَمْتَ « أن اعبدوا » مقام الهاء [ فقلت : إلا ما أمرتني
بأن اعبدوا الله ] لبقي الموصولُ بغير راجعٍ إليه من صلته ، فإن قلت : كيف تصنع؟
قلت : يُحْمل فعلُ القول على معناه ، لأنَّ معنى { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به }
: ما أمرتُهم إلا بما أمرتني به ، حتى يستقيم تفسيره ب { أن اعبدوا الله ربي وربكم
} ، ويجوزُ أن تكون « أنْ » موصولةً عطفاً على بيانِ الهاء لا بدلاً .
وتعقَّب عليه أبو حيان كلامه فقال : « أمَّا قوله وأمَّا
فعلُ الأمر إلى آخر المنع [ وقوله : » لأنَّ الله لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم « فإنما
لم يستقمْ لأنه جعل الجملة وما بعدها مضمومةً إلى فعل الأمر ، ويستقيم أن يكون
فعلُ الأمر مفسَّراً بقوله : » اعبدوا الله « ويكون » ربي وربكم « من كلام عيسى على
إضمار » أعني « أي : » أعني ربي وربكم « ، لا على الصفة التي فهمها الزمخشري فلم
يستقم ذلك عنده ، وأمّا ] قوله : » لأن العبادة لا تُقال « فصحيحٌ ، لكن يَصِحُّ ذلك على حذفِ
مضاف أي : ما قلت لهم إلا القول الذي أمرتني به قول عبادة الله تبارك وتعالى أي :
القولَ المتضمن عبادة الله تبارك وتعالى ، وأمَّا قوله » لبقي الموصول بغير راجع
إليه من صلته « فلا يلزمُ في كل بدل أن يَحُلَّ محلَّ المبدل منه ، ألا ترى إلى
تجويز النحويين : » زيد مررت به أبي عبد الله « ولو قلت : » زيدٌ مررتُ بأبي عبد
الله « لم يجز إلا على رأي الأخفش
.
وأما قوله : « عطفاً على بيان الهاء » ففيه بُعْد ، لأن
عطفَ البيانِ أكثرُه بالجوامدِ الأعلامِ . وما اختاره الزمخشري وجوَّزه غيرُه لا
يَصِحُّ ، لأنها جاءت بعد « إلا » ، وكلُّ ما كان بعد « إلا » المستثنى بها فلا
بُدَّ أن يكون له موضعٌ من الإعراب ، و
« أن » التفسيرية لا موضعَ لها من الإعراب « . انتهى .
قال شهاب الدين : أمَّا قوله : » إن ربي وربكم من كلام
عيسى « ففي غاية ما يكون من البُعد عن الأفهام ، وكيف يفهم ذلك الزمخشري والسياق
والمعنى يقودان إلى أنَّ » ربي
« تابعٌ للجلالة؟ لا يتبادر للذهن - بل لا يُقْبل - إلا
ذلك ، وهذا أشدُّ من قولهم » يؤدي إلى تهيئتة العامل للعمل وقطعه عنه « فآل قولُ
الشيخ إلى أنَّ » اعبدوا الله « من كلام الله تعالى و » ربي وربكم « من كلام عيسى
، وكلاهما مفسِّرٌ ل » أمرتَ « المسند للباري تعالى . وأمَّا قوله » يَصِحُّ ذلك
على حذف مضاف « ففيه بعض جودة ، وأما قوله : » إنَّ حلول البدل محلَّ المبدل منه
غيرُ لازم « واستشهاده بما ذكر فغيرُ مُسَلَّم ، لأنَّ هذا معارضٌ بنصِّهم ، على
أنه لا يجوز » جاء الذي مررت به أبي عبد الله « بجرِّ » عبد الله « بدلاً من الهاء ، وعلَّلوه
بأنه يلزمُ بقاءُ الموصول بلا عائدٍ ، مع أنَّ لنا أيضاً في الربط بالظاهر في
الصلة خلافاً قدَّمْتُ التنبيه عليه ، ويكفينا كثرةُ قولهم في مسائل : » لا يجوزُ
هذا لأن البدل يَحُلُّ محل المبدل منه « فيجعلون ذلك علةً مانعةً ، يعرف ذلك من
اطلع على كلامهم ، قال شهاب الدين رحمه الله : فلولا خوفُ الإطالة لأوردْتُ منه مسائل
شتى . وأمَّا قوله : » وكلُّ ما كان بعد « إلا » المستثنى به إلى آخره « فكلامٌ
صحيح لأنها إيجابٌ بعد نفي فيستدعي تسلُّط ما قبلها على ما بعدها .
ويجوز في » أنْ « الكسرُ على أصل التقاء الساكنين والضمُّ
على الإتباع ، وقد تقدَّم تحقيقُه ونسبتُه إلى من قرأ به في قوله : » فَمَنِ اضْطُرَّ
« في البقرة [ الآية 173 ] . و » ربي « نعت أو بدل أو بيان مقطوعٌ عن الإتباع
رفعاً أو نصباً ، فهذه خمسة [ أوجهٍ ] تقدَّم إيضاحُها .
قوله :
« شهيداً » خبر « كان » ، و « عليهم » متعلق به ، و « ما
» مصدريةٌ ظرفيةٌ أي : تتقدَّر بمصدر مضاف إليه زمان ، و « دام » صلتها ، ويجوز
فيها التمامُ والنقصان ، فإن كانت تامةً كان معناها الإقامة ، ويكون « فيهم » متعلقاً بها ،
ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حال ، والمعنى : وكنتُ عليهم شهيداً مدة إقامتي
فيهم ، فلم يحتج هنا إلى منصوب ، وتكون حينئذٍ متصرفةً ، وإن كانت الناقصة لزمت
لفظ المضيِّ ولم تكتفِ بمرفوع ، فيكون
« فيهم » في محلِّ نصب خبراً لها ، والتقديرُ : مدة
دوامي مستقراً فيهم ، وقد تقدم أنه يقال : « دِمْتُ تدام » كخِفْتُ تخاف . قوله :
{ كنت أنت الرقيب عليهم } يجوز في « أنت » أن تكون فصلاً وأن تكون تأكيداً . وقرئ
« الرقيبُ » بالرفع على أنه خبر ل « أنت » والجملةُ خبرٌ ل « كان » ، كقول القائل : [ الطويل ]
2100- . ... وُكُنْتَ عَلَيْهَا بِالمَلاَ أنْتَ أقْدَرُ
وقد تقدَّم اشتقاق « الرقيب » . و « عليهم » معلَّقٌ به
. و « على كلِّ شيء » متعلِّقٌ ب « شهيد » قُدِّمَ للفاصلة .
فصل
معنى الكلام { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } أي : كنتُ
أشْهَدُ على ما يَفْعَلُون ، ما دمتُ مُقِيماً فيهم ، « فلمَّا تَوَفَّيْتَنِي »
والمرادُ منهُ : الوفاةُ بالرَّفعِ إلى السَّماءِ من قوله : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ
وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } [ آل عمران : 55
] .
و { كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } ، قال الزجاج :
الحَافِظُ عليهم بَعْد مُفارقَتِي عَنْهُم .
فالشَّهِيدُ :
المُشاهِد ، ويجُوزُ حَمْلُه على الرُّؤيَة ، ويجُوزُ
حَمْلُهُ على العِلْمِ ، ويجُوزُ حَمْلُه على الكلامِ بمعنى الشَّهَادَة ،
فالشَّهِيدُ من أسْمَاء الصِّفَاتِ الحَقِيقيَّةِ على جَمِيع التَّقْدِيرَاتِ .
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ
تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
فيه سؤالٌ : وهُو أنَّهُ كيف طلبَ المغفِرَة وهم
كُفَّارٌ ، واللَّهُ لا يغْفِرُ الشِّرْكَ؟ والجوابُ من وُجُوه :
الأول :
أنَّهُ تعالى لمَّا قال لعيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام
- : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله } [
المائدة : 116 ] ، عَلِمَ أنَّ قوماً من النَّصَارى حَكوا
هذا الكلام عَنْهُ والحَاكِي هذا الكُفر لا يكُون كَافِراً ، بل مُذْنِباً بكذبِهِ
في هذه الحكايَةِ ، وغُفْرَانُ الذَّنْبِ جَائِزٌ ، فلهذا طلبَ المَغْفِرَة .
والثاني
: أنَّهُ يجُوزُ من الله - تعالى - أنْ يدخل الكُفَّارَ
الجنَّة ، ويدخل الزُّهَّاد النَّار؛ لأنَّ المُلْكَ مُلْكُهُ ، ولا اعْتِرَاض
لأحدٍ عليه ، فكان غَرَضُ عيسى - عليه الصلاة والسلام - بهذا الكلامِ تَفْويض
الأمُور كُلّها إلى الله - تعالى ، وترك الاعْتِرَاض بالكُلِّيَّةِ ، ولذَلِك ختم الكلام
بقوله { فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } أي : القادرُ على ما تُريدُ ، الحكيم
فيما تفعل لا اعتراض لأحد عليْكَ ، وما أحسن ما قِيلَ : فإن أتَيْتُ ذَنْباً عظِيماً فأنْتَ
للعَفْوِ أهْلٌ ، فإن غَفَرْتَ ، ففضلٌ ، وإن جَزَيْتَ فعَدْلٌ .
الثالث : معناهُ : « إن تُعذِّبْهُم » بإقامَتِهِم على
كُفْرِهِمْ ، و { وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ } بعد الإيمان ، وهذا مستقيم على قَوْلِ
السديِّ [ رحمه الله ] : إنَّ هذا السُّؤالَ عند رفعِهِ إلى السَّمَاءِ قَبْلَ
يَوْمِ القِيَامَةِ؛ لأن الإيمان لا يَنْفَعُ في القِيَامةِ .
الرابع : قيل هذا في فِرْقَتَيْنِ منهم ، معناه : إن
تُعذِّب مَنْ كفرَ مِنْهُم ، وإن تغفر لِمَنْ آمَنَ منهم .
قال القُرْطُبِي - [ رحمه الله تعالى ] - في الجوابِ عن
هذا السُّؤال ، بأنَّه قال ذَلِكَ على وَجْهِ الاسْتِعْطَافِ لَهُمْ والرَّأفَة ،
كعطف السَّيِّد لِعَبْدِه ، ولهذا لم يَقُلْ : فإنْ عَصَوْكَ .
وقيل : قالهُ على وجْهِ التَّسليم لأمْرِه ،
والاسْتِجَارة من عَذَابه ، وهو يَعْلَمُ أنَّهُ لا يَغْفِرُ لِكَافِرٍ .
وأمَّا قول من قال : إنَّ عيسى - عليه السَّلام - لا
يَعْلَمُ أنَّ الكَافِرَ لا يُغْفَرُ له ، فقولُ من يَتَجَرَّأ على كتابِ الله -
تبارك وتعالى-؛ لأن الأخْبَارَ من الله - تبارك وتعالى - لا تُنْسَخُ .
وقيل : كان عند عيسى - عليه الصلاة والسلام - أنَّهم
أحْدَثُوا معَاصِي وعَمِلُوا بَعْدَهُ بما لم يأمُرْهُم به ، إلاَّ أنَّهُم على
عَمُودِ دينِهِ ، فقال : { وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ } ما أحْدَثُوا بَعْدِي من
المَعَاصِي .
قوله
: { فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } : تقدَّم نظيره [
البقرة 32 ] ، وهي في قراءةِ الناس ومصاحفهم « العزيزُ الحكيم » ، وفي مصحف ابن
مسعود - رضي الله عنه وقرأ بها جماعة : « الغفورُ الرحيم » ، وقد عبث بعض من لا
يفهم كلام العرب بهذه الآية ، وقال : « إنما كان المناسب ما في مصحف ابن مسعود » وخَفِي عليه
أنَّ المعنى متعلق بالشرطين جميعاً ، ويوضِّح هذا ما قاله أبو بكر بن الأنباري ،
فإنه نَقَلَ هذه القراءة عن بعض الطاعنين ثم قال : ومتى نُقِل إلى ما قاله هذا
الطاعن ضَعُفَ معناه ، فإنه ينفرد « الغفور الرحيم » بالشرط الثاني ولا يكون له بالشرط
الأول تعلُّقٌ ، وهو على ما أنزل الله وعلى ما أجمع على قراءته المسلمون معروف
بالشرطين كليهما : أولهما وآخرهما ، إذ تلخيصه : إنْ تعذبهم فإنك أنت العزيز
الحكيم ، وإن تغفرْ لهم فأنت العزيزُ الحكيم في الأمرين كليهما من التعذيب
والغفران ، فكأنَّ « العزيز الحكيم » أليقُ بهذا المكان لعمومه وأنه يجمع الشرطين
، ولم يصلُحْ « الغفور الرحيم » أنْ يحتمل من العموم ما احتمله « العزيز
الحكيم » .
قال شهاب الدين رحمه الله تعالى : وكلامُه فيه دقةٌ ،
وذلك أنه لا يريد بقوله « إنه معروف بالشرطين إلى آخره » أنه جوابٌ لهما صناعةً ، لأنَّ
ذلك فاسدٌ من حيث الصناعةُ العربية؛ فإنَّ الأول قد أخذ جوابه وهو « فإنهم عبادُك » وهو جوابٌ
مطابقٌ فإنَّ العبدَ قابل ليصرفه سيدُه كيف شاء ، وإنما يريد بذلك أنه متعلق بهما من
جهة المعنى .
فصل
قوله : { فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } قيل : فيه
تَقْدِيمٌ وتأخِيرٌ تقديرُهُ : وإنْ تغفِرْ لهم فإنَّهُم عبادُكَ ، وإن
تُعذِّبْهُم ، فإنَّك أنْتَ العزيزُ في المُلْكِ ، الحكيمُ في القضاءِ ، لا
يَنْقُصُ من عزِّك شَيءٌ ، ولا يَخْرجُ عَنْ حُكْمِكَ ، ويدخُلُ في حُكْمِهِ ،
وسِعَتْ رَحْمَتُهُ مَغْفِرةُ الكُفَّارِ ، ولكِنَّه أخْبَرَ أنَّه لا يَغْفِرُ
لَهُمْ ، وهُوَ لا يُخلِفُ خَبَرهُ
.
روى عَمْرُو بنُ العَاصِ : « أنَّ النبيَّ - عليه
الصَّلاة والسَّلام - تَلاَ قولَهُ تبارك وتعالى : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ
كَثِيراً مِّنَ الناس فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } [ إبراهيم : 36 ] الآية
، وقول عيسى - عليه السَّلام : » إنْ تُعَذِّبْهُم فإنَّهُمْ عِبَادُك وإنْ
تَغْفِرْ لَهُم فإنَّك أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ « ، فرفعَ يَديهِ وقال : » اللَّهُمَّ أمَّتِي
، اللَّهُمَّ أمَّتِي « فقال اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - : يا جِبْريلُ اذْهَبْ إلى مُحَمَّدٍ
- عليه الصَّلاة والسَّلام - وَرَبُّكَ أعْلَمُ ، فسله ما يُبْكِيه ، فأتَاهُ
جِبْرِيلُ فسألَه ، فأخْبَرَهُ رَسُولُ الله ، فقال اللَّهُ : يا جبريلُ اذهبْ إلى
رسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فأخْبِرْهُ وقلْ لَهُ إنَّا سَنُرْضِيكَ في
أمَّتِكَ وَلاَ نَسُوءُكَ » .
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ
لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
قرأ الجمهور
« يومُ » بالرفع تنوين ، ونافع بالنصب من غير تنوين
واختاره أبو عبيدة ونقل الزمخشري عن الأعمش « يوماً » بنصبه منوناً ، وابن عطية عن
الحسن بن عياش الشامي : « يوم » برفعه منوناً ، فهذه أربع قراءات . فأما قراءة
الجمهور فواضحةٌ على المبتدأ والخبر ، والجملةُ في محل نصب بالقول . وأمَّا قراءة نافع
ففيها أوجه ، أحدها : أنَّ « هذا » مبتدأ ، و « يوم » خبره كالقراءة الأولى ،
وإنما بُنِي الظرفُ لإضافته إلى الجملة الفعلية وإن كانت معربةً ، وهذا مذهب
الكوفيين ، واستدلُّوا عليه بهذه القراءةِ ، وأمَّا البصريون فلا يجيزون البناء
إلا إذا صُدِّرت الجملةُ المضافُ إليها بفعلٍ ماضٍ ، وعليه قولُ النابغة : [
الطويل ]
2101- عَلَى حينَ عَاتَبْتُ المشِيبَ على الصِّبَا ...
فَقُلْتُ : ألَمَّا أصْحُ والشَّيْبُ وَازعُ
وخَرَّجوا هذه القرءاة على أن « يوم » منصوبٌ على الظرف
، وهو متعلق في الحقيقة بخبر المبتدأ أي : هذا واقعٌ أو يقع في يوم ينفع ، فيستوي
هذا مع تخريج القراءة الأولى والثانية أيضاً في المعنى . ومنهم من خرَّجه على أنَّ
« هذا » منصوبٌ ب « قال » ، وأشير به إلى المصدر فنصبه على المصدر ، وقيل : بل
أشير به إلى الخبر والقِصَص المتقدمةِ فيجري في نصبه خلافٌ : هل هو منصوبٌ نصب المفعول
به أو نصبَ المصادر؟ لأنه متى وقع بعد القول ما يُفْهم كلاماً نحو : « قلت شعراً
وخطبة » جَرَى فيه هذا الخلاف ، وعلى كلِّ تقدير ف « يوم » منصوبٌ على الظرف ب « قال » أي : قال
الله هذا القولَ أو هذه الأخبارَ في وقتِ نفع الصادقين ، و « ينفع » في محلِّ خفضٍ
بالإضافة ، وقد تقدَّم ما يجوزُ إضافتُه إلى الجمل وأنه أحد ثلاثةِ أشياء . وأمَّا
قراءة التنوين فرفعه على الخبريةِ كقراءة الجماعة ، ونصبُه على الظرفِ كقراءة نافع
، إلا أنَّ الجملةَ بعده في القراءتين في محل الوصفِ لما قبلها ، والعائدُ محذوفٌ ،
وهي نظيرَُ قوله تعالى : { واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ
شَيْئاً } [ البقرة : 48 ] ، فيكونُ محلُّ هذه الجملة إما رفعاً أو نصباً .
قوله : « صِدْقُهم » مرفوع بالفاعلية ، وهذه قراءة
العامة ، وقُرِئ شاذاً بنصبه وفيه أربعة أوجه ، أحدها : أنه منصوب على المفعول من أجله
أي : ينفعهم لأجلِ صدقهم ، ذكر ذلك أبو البقاء ، وتبعه أبو حيان وهذا لا يجوزُ
لأنه فات شرطٌ من شروط النصب ، وهو اتحاد الفاعل ، فإنَّ فاعلَ النفع غيرُ فاعل
الصدقِ ، وليس لقائلٍ أن يقول : « يُنْصب بالصادقين فكأنه قيل : الذين يَصْدُقون
لأَجل صدقهم فيلزمُ اتحادُ الفاعل » لأنه يؤدي إلى أنَّ الشيء علة لنفسِه ،
وللقولِ فيه مجال . الثاني : على إسقاط حرف الجر أي : بصدقهم ، وهذا فيه ما عرف من
أن حذف الحرف لا يطَّرد .
الثالث
: أنه منصوب على المفعول به ، والناصب له اسم الفاعل في
« الصادقين » أي : الذين صدقوا صدقهم ، مبالغةً نحو : « صدقْت القتال » كأنك
وعدتَ القتالَ فلم تَكْذِبْه ، وقد يُقَوِّي هذا نصبُه على المفعول له ، والعامل
فيه اسم الفاعل قبله . الرابع : أنه مصدرٌ مؤكد كأنه قيل : الذين يَصْدُقون الصدقَ
كما تقول : « صَدَق الصدقَ » ، وعلى هذه الأوجه كلِّها ففاعلُ « ينفع » ضمير يعود على
الله تعالى .
فصل في معنى الآية
أجْمَعُوا على أنَّ المُرادَ بِهَذَا اليَوْمِ هو يَوْمُ
القِيَامةِ ، والمَعْنَى : أنَّ صِدْقَهُم في الدُّنْيَا يَنْفَعُهُم في
الآخِرَةِ؛ لأنَّ صِدْق الكُفَّار في القيامَةِ لا يَنْفَعُهُم ، ألا ترى أنَّ
إبْلِيس قال : { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ
فَأَخْلَفْتُكُمْ } [ إبراهيم : 22
] ، فَلَمْ
يَنْفَعْهُ هذا الصِّدقُ ، وهذا الكلامُ تَصْدِيقٌ من اللَّهِ تعالى لعيسى في قوله
: { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ } [ المائدة : 117 ] .
وقيل : أرَادَ بالصَّادِقِين النَّبِيِّين .
وقال الكَلْبِيُّ : يَنْفَعُ المُؤمنين إيمانُهُمْ .
وقال قَتَادةُ : مُتَكَلِّمَان يَخْطُبَانِ يَوْمَ
القيامةِ : عيسى - عليه الصلاة والسلام - ، وهو ما قَصَّ اللَّهُ عزَّ وجلَّ -
وعَدُوُّ الله إبْلِيس ، وهو قوله : { وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر } [
إبراهيم : 22 ] فَصَدَقَ عَدُوُّ الله يومئذٍ ، وكان قَبْلَ ذلك كَاذِباً ،
فلم يَنْفَعْهُ صِدْقُهُ ، فأمَّا عيسى - عليه السَّلام - فكان صَادِقاً في الدُّنْيَا
والآخِرَة فَنَفَعَهُ صِدْقُه .
وقال بَعْضُهُمْ : المرادُ صِدْقُهُمْ في العملِ للَّهِ
في يومٍ مِنْ أيَّامِ الدُّنْيَا؛ لأنَّ دَارَ الآخِرَة دارُ جَزَاءٍ لا دار
عَمَلٍ .
وقيل : المراد صِدْقُهُمْ في الآخِرَة وذلك في
الشَّهادةِ لأنْبِيَائِهِم بالبلاغِ ، وفيما شَهِدُوا به على أنْفُسِهِمْ
كالعَدَمِ من أعْمالِهِمْ ، ويكُونُ وجْهُ النَّفْع فيه أن يَكُفُّوا المُؤاخَذَة
بِتَرْكِهِم كَتم الشَّهادَة ، فيُغفَرُ لهم بإقْرَارِهِم لأنْبِيَائِهِم على
أنْفُسِهِم ، ثُمَّ بين ثَوَابَهُم ، فقال : { لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن
تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } ، فبيَّن أنَّ ذلك النَّفْع هو
الثَّوابُ ، وهو حَقِيقَةٌ خالِصَةٌ دائِمَةٌ مَقْرُونَةٌ بالتَّعْظِيم .
واعلم : أنَّه تبارك وتعالى إنَّما ذكر الثَّواب ، قال :
{ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } ، فيذْكرُ معه
لَفْظ التأبيد ، وإنَّمَا ذكر عِقَابَ الفُسَّاقِ من أهْلِ الإيمان ، فَيذْكرُ
مَعَهُ لَفْظ الخُلُودِ ، ولم يَذْكُرْ مَعَهُ لفظ التَّأبِيدِ وقوله : { رَّضِيَ
الله عَنْهُمْ } معناه الدعاءُ
.
{ وَرَضُواْ عَنْهُ ذلك الفوز العظيم } الجُمْهُور على
أنَّ قوله : { ذلك الفوز العظيم } عائِدٌ إلى جُمَلةِ ما تقدَّم من قوله : «
لَهُمْ جَنَّاتٌ » ، إلى قوله : «
ورضُوا عَنْهُ » .
قال ابنُ الخطيب : وعِنْدِي أنَّه يُحْتَمَل أنْ يكون
مُخْتَصّاً بقوله : { رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } ؛ لأنَّه ثَبَتَ
عند أربَابِ العُقُولِ ، أن جُمْلة الجنَّة بما فِيهَا بالنِّسْبَةِ إلى رضوان
الله - تبارك وتعالى - بالنِّسْبَةِ إلى الوُجُودِ ، وكيْفَ والجنَّة مَرْغُوبُ
الشَّهْوَة ، والرِّضْوَان صفةُ الحقِّ ، وأيُّ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا!
ثم قال - تبارك وتعالى - مُعَظِّماً لِنَفْسِهِ : { للَّهِ
مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
قيل : إنَّ هذا جواب عن سُؤالٍ مُقَدَّرٍ ، كأنَّهُ قيل
: من يُعْطِيهِمْ ذلك الفَوْز العَظِيم ، فقيل : الذي لَهُ مُلْك السمواتِ والأرْضِ .
قال القرطبي : جاء هذا عقب ما جرى من دعوى النصارى في
عيسى أنه إله فأخبر تعالى أن ملك السموات والأرض له دون عيسى ودون سائر المخلوقين
، ويجوز أن يكون المعنى أن الذي له ملك السموات والأرض يعطي الجنات المتقدم ذكرها
للمطيعين من عباده
واعلم : أنَّهُ - تبارك وتعالى - قال : « ومَا فِيهِنَّ
» ولم يَقُلْ : مَنْ فيهِنَّ ، فَغَلَّبَ غَيْرَ العُقَلاَءِ على العُقَلاَءِ
لفائِدَةٍ وهي : التنْبِيهُ على أنَّ كُلَّ المَخْلُوقَاتِ مُسَخَّرُون في
قَبْضَةِ قَهْرِهِ وقُدْرَتِهِ وقَضَائِهِ وقدرِه ، وهُمْ في ذلك التَّسْخِيرِ
كالجَمَادَاتِ الَّتِي لا قُدْرَةَ لَهَا ، وكالْبَهَائِمِ الَّتِي لا عَقْلَ
لَهَا ، فعلْمُ الكُلِّ بالنِّسْبَةِ إلى عِلْمِه كَلاَ عِلْم ، وقُدْرَةُ الكُلِّ
بالنِّسْبَةِ إلى قُدْرَتِهِ كَلاَ قُدْرَة .
رُوِي أنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سُورة
المائدةِ في خُطْبَتِهِ يَوْمِ حجَّة الوَدَاع ، وقال : « يا أيُّهَا النَّاسُ :
إنَّ سُورة المائدةِ من آخِرِ القُرْآنِ نُزُولاً ، فأحِلُّوا حَلاَلَهَا
وحَرِّمُوا حَرَامَهَا » .
وقال عَبْدُ الله بنُ عُمَر : أنْزِلَتْ على رسُولِ الله
صلى الله عليه وسلم سُورَةُ المَائِدةِ وهُو عَلَى راحِلَتِهِ ، فَلمْ تَسْتَطِعْ
أن تَحْمِلَهُ حَتَّى نَزَلَ عَنْهَا
.
وعن أبيِّ بن كَعْبٍ قال : قال رسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم : « مَنْ قَرأ سُورَةَ المائِدةِ أعْطِيَ مِنَ الأجْرِ بِعَدَدِ كُلِّ
يَهُوديٍّ ونَصْرَانِيٍّ يَتَنَفَّسُ في دَارِ الدُّنْيَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ ،
وَمُحِيَ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ ، ورُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ » واللَّهُ -
تبارك وتعالى - أعلمُ بالصَّوَاب
.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
قَالَ كَعْبُ الأحْبار - رضي الله عنه- : هذه الآيةُ [
الكريمة ] أوَّلُ آية في التوراة ، وآخرُ آية في التوراة قوله تعالى : { وَقُلِ
الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك
} [ الإسراء : 111 ] الآية الكريمة
.
قال ابنُ عَبَّاس - رضي الله عنهما - : فَتَحَ اللَّهُ
بالحَمْدّ ، فقال : « الحَمْدُ اللَّه الذي خلق السَّموات والأرضَ » ، وخَتَمَهُمْ بالحَمْدِ ، فقال : « وقَّضَى
بَيْنُمُ بالحقِّ » ، وقيل : { الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين } [ الرمز : 75 ] .
فقوله : « الحمدُ لِلِّهِ » فحمد اللِّهُ نَفْسَهُ
تعليماُ لعباده ، أي : احمدوا اللِّهَ الذي خَلَقَ السَّمواتِ والأرْضَ خصمها
بالذِّكر؛ لأنَّهما أعْظَمُ المَخْلُوقَات فيما يرى العِبَادُ ، وفيهما العبرةُ
والمنافعُ للعباد .
وأعلم أنَّ المَدْحَ أعَمُّ من الحَمْدِ ، والحَمْدُ
أعَمُّ من الشكرِ؛ لأنَّ المْدْحَ يَحْصُلُ للعاقل وغي العاقلِ ، فكما يُمْدَحُ
الرَّجُلُ العاقلُ بفضله ، كذلِك يُمْدَحُ اللُّؤلُؤ لحُسْنِ شَكْلِهِ ، ولَطَافَة
خِلْقَتِهِ ، ويُمْدَحُ اليَاقُوتُ لِصَفَائه وضقَالِته .
وأمَّا الحمْدُ فلا يحصلُ إلاَّ للفعال المُخْتَارِ على
ما يَصْدُرُ عنه من الإنعام ، وإنَّما كونُ الحَمْدِ أعم من الشُّكْر؛ فلأنَّ
الحّمْد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإنعام ، سواء كان ذلك الإنعام
واصلاً إليك أو إلى غيرك .
وأمَّا الشُّكْرُ فهو عِبَارةٌ عن تعظيمه لأجل إنعام وصل
إليكَ ، وإذا عُرِفَ ذلك ، فإنَّمَا لَمْ يَقُلْ : المَدْحُ لله تبارك وتعالى
لأنَّا بَيَّنَّا أنَّ المَدحَ كما يَحَصُلُ للفاعل المختار ، فقد يَحْصُلُ لغيره .
وأمَّا الحَمْدُ فلا يَحْصُلُ إلا للفاعل المختار ،
وإنَّما لم يَقُلْ : « الشُّكر لِلَّهِ » لَمَا بَيَّنَّا أنَّ الشُّكْرَ عبارة عن
تعظيم تسبب إنعام صدر منه ، فيكون المطلوب الأصلي ، وقبول النعمة إليه ، وهذه
دَرَجَةٌ حقيرةٌ .
وقوله : « الحَمْدُ لِلَّهِ » يَدُلُّ على أنَّ العَبْدَ
حَمَدَهُ لأجل كونه مستحقاً للحمدِ ، لا لخصوص كونه - تعالى - أوْصَلَ النَّعْمَةَ
إليه فَيَكُونُ الإخلاصُ .
فصل في بيان لفظ الحمد
قوله
: « الحَمْدُ » لفظٌ محلَّى بالألف واللام ، فيفيد أنَّ
هذه الماهية للَّهِ ، وذلك يَمْنَعُ من ثبوت الحَمْدِ لغير الله ، وهذا يقتضي أنَّ
جميع أقْسَام الحَمْدِ والثناء والتعظيم ليس إلاَّ للَّهِ تبارك وتعالى ، فإن قيل : إنَّ شُكْرَ المُنْعِمِ
واحب مِثلَ شُكْرِ الأسْتَاذِ على تعليمه ، وشُكرِ السلطانِ على عَدْلَه ، وشكر
المُحسِن على إحسانه ، قال عليه الصلاة والسلام : « مَنْ لم يَشْكُرِ النَّاسَ
لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ » فالواجبُ أنَّ المَحْمُودَ والمَشْكُورَ في الحقيقة هو
اللَّهُ تعالى؛ لأنَّ صدور الإحسان من [ قلب ] العَبْدِ يتوقف على حُصُول داعية
الإحسان في قلب العبد ، وحصول تلك الدَّاعية في القلب ليس من العَبْدِ ، وإلاَّ
لافْتَقَرَ في حصولها إلى داعيةِ أخْرَى ، ولَزِمَ التَّسلسُلُ ، بل حصولها ليس
إلاَّ من اللَّهِ تعالى ، فتلك الدَّاعِيةُ عند حصولها يجب الفعلِ ، وعند زوالها يَمْتَنعُ
الفِعْلُ فيكون المحسنُ في الحقيقة لَيْسَ إلاَّ اللَّه تبارك وتعالى ، فيكون
المُسْتَحِقُّ لكُلِّ حَمْدٍ في الحقيقةِ هو اللَّه تعالى .
وأيضاً فإنَّ إحْسَانَ العَبْدِ إلى الغَيْرِ لا
يَكْمُلُ إلاَّ بواسطة إحْسَانِ اللهِ تعالى؛ لأنَّه لولا أنَّ اللَّهَ - تعالى -
خَلَقَ أنواع النِّعَمِ ، وإلاَّ لم يقدر الإنسانُ على إيصالِ تلك الحِنْطَةِ
والفواكه إلى الغَيْرِ ، فظهر أنَّه لا محسن في الحقيقة إلاِّ اللَّهُ تعالى ، ولا
مُسْتَحِقَّ للحمد في الحقيقة إلا الله ، فلهذا قال : « الحمد لله » .
فصل في بيان قوله : « الحمد لله » بالألف واللام
وإنَّما قال : « الحَمْدُ للَّهِ » ولم يقل : أحْمَدُ
اللَّهَ؛ لأنَّ الحَمْدَ صفةُ القلب ، فرُبَّمَا احْتَاجَ الإنسان إلى أن يذكر هذه
الَّفْظَة حال كونه غافلاً عند اسْتِحْضَارَ معنى الحَمْدِ ، فلو قال وقت
غَفْلَتِهِ : أحْمَدُ الله [ تبارك وتعالى ] كان كَاذِباً ، واسْتَحقٌّ عليه الذَّنْب والعِقَاب
حيثُ أخبر عن وجود شيءٍ لم يُوجَدْ ، فإذا قال : الحَمْدِ لله ، فمعناه أنَّ
ماهيَّةَ الحَمْدِ مُسْتَحِقَّةٌ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ ، وهذا حقٌّ وصدقٌ ، سواء كان
معنى الحَمْدِ حَاضراً في قَلْبِه ، أو لم يَكُنْ ، وكان الكلام عِبَادَةٌ
شَرِيفةً وطاعةً ، وظَهرَ الفَرْقُ ، واللَّهُ أعلمُ .
فصل
هذه الكلمة مذكورة في أوائل خَمْسَةٍ ، أوَّلهَا سورةُ «
الفاتحة » { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } [ الفاتحة : 2 ] .
وثانيها :
هذه السورة { الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض
} [ الأنعام : 1 ] والأول أعَمُّ ، لأنَّ العالمَ عبارةُ عن كل موجود سوى اللُّه
تعالى .
وقوله :
{ الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض } لا
يَدْخُلُ فيه إلاَّ خَلْقُ السماوات والأرض ، والظُّلُمَات والنور ، ولا يدخل فيه
سَائِرُ الكائنات ، فكان هذا بَعْض الأقسام الداخلة تحت التَّحْمِيدِ المذكور في سورة
« الفاتحة » .
وثالثها : سورةُ الكَهْفِ : { الحمد لِلَّهِ الذي
أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب } [ الكهف : 1 ] .
وهذا أيضاً تحميدٌ مخصوصٌ بنوع خاصٍ من النعمة وهي نعمة
العلم والمعرفَةِ والهِدايَةِ والقرآن ، وبالجملة النعمُ الحاصلةٌ بسَبَب بَعْنَةِ
الرُّسُلِ عليهم الصلاة والسلام
.
وراربعها : « سبأ » : { الحمد للَّهِ الذي لَهُ مَا فِي
السماوات وَمَا فِي الأرض } [ الآية : 1 ] .
وهذا أيضاً تحميدُ على كَوْنِهِ مَالِكاً لِكُلِّ ما في
السَّمواتِ والأرضِ ، وهو قِسْمٌ من الأقسام الدَّاخِلَةِ في قوله : { الحمد
للَّهِ رَبِّ العالمين } [ الفاتحة : 2
] .
وخامسها : سورةُ « فاطر » { الحمد للَّهِ فَاطِرِ
السماوات والأرض } [ الآية : 1
] .
وهو أيضاً قِسْمٌ من الأقسام الدَّاخِلَةِ تحتَ قوله
تبارك وتعالى : { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } [ الفاتحة : 2 ] .
فإن قيل : ما الفرقُ بين الخالق وبين الفاطرِ والرَّبِّ
. وأيضاً لم قال هَاهُنا : « خَلَق السَّمواتِ والأرْضَ » بصيغة فعل الماضي ، وقال
في سورة « فاطر » : « الحَمْدُ للَّهش فاطر السَّمواتِ » بصيغة اسم الفاعل؟ .
فالجواب عن الأول ، أنَّ الخَلْقَ عبارة عن التَّقديرِ ،
وهو في حقِّ الله - تعالى - عبارةٌ عن علمه النَّافِذِ في جميع الكُلِّيات والجزئيات ،
وأمَّا كونُه فاطراً فهو عبارةٌ عن الإيجاد والإبداع ، فكونه تعالى خالقاً إشارة
إلى صفة العلم ، وكونه فاطراً إشارة إلى صفة القدرة ، وكونه تعالى رَبَّا ومُرَبياً
على الأمْرَيْنِ فكان ذلك أكمل
.
وأمَّا الجَوابُ عن الثَّاني ، فالحق أن الخَلْقَ عبارة
عن التَّقدير ، وهو في حقِّ الله - تعالى عبارةٌ عن علمه بالمَعْلُومَاتِ ، والعلم
بالشيء يصحُّ تقدُّمُهُ على وجود المَعْلُومِ؛ لأنه لا يمكن أن يعلم الشيء قَبَلَ
وجوده ، وأمَّا إيجادُ الشيء ، لا يَحْصُل إلاَّ حالَ وجوده .
فصل في قوله : « الحمد لله »
قوله : « الحَمْدٌ للَّهِ » فيه قولان :
الأول : المرادُ احْمَدُوا اللَّهَ ، وإنَّما جاء على
صِفَةِ الخَبَرِ لوجوده :
أحدهما : أن قوله : « الحَمْدُ للَّهِ » يفيد تَعْظِيم
اللفظ والمعنى ، ولو قال : « احمدوا » لم يحصل مجموع هاتين الفاَئدتَيْن .
وثانيهما : أنه يُفيدُ كونه - تعالى - مُسْتحقّاً
للحَمْدِ سَوَاءً حَمِدّهُ حَامدٌ أو لم يَحْمَدْهُ .
وثالثها : أنَّ المَقْصُودَ منه ذِكْرُ الحُجَّة
فّذكْرُهُ بصيغة الخَبَرِ أوْلَى
.
والقول الثاني : أن المراد منه تعليم العِبَادِ ، وهو
قولُ أكثره المفسرين .
قوله : { الذي خَلَقَ السماوات والأرض } فيه ثلاث سؤالات :
السؤال الأول : قوله : { الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ
السماوات والأرض } جار مجرى قولك : « جاءني الرَّجُلُ الفَقِيهُ » فإن هذا يدلُّ
على وجود رَجُل آخر ليس لفقيه ، وإلاَّ لم يكن لِذِكْر ذلك فَائِدةٌ ، وكذا هاهنا
قوله : { الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض } يوهم أن هناك إلهاً لم
يَخْلُق السماوات والأرض ، وإلاَّ فأيُّ فائدة في ذِكْرِ هذه الصِّفَةِ . والجواب : أنا بَيَّنَّا
أن قوله : « الله » جِارٍ مجرى اسم العلم ، فإذا ذكر الوصف لاسم العلم لم يكن
المقصود من ذكر الوَصْفش التمييز ، بل تعريف كون ذلك الُسَمَّى مَوْصُوفاُ بتلك
الصِّفَةِ . مثاله : إذا قلنا : الرِّجُلُ اسمٌ للمَاهِيَّةِ ، فيتناول الأشخاص
الكثيرين ، فكان المقصود هاهنا من ذِكر الوصفِ تَمْييز هذا الرجل عن سَائِرِ
الرجال بهذه الصفة . أمَّا إذا قلنا
: زيدٌ العالم ، فلفظُ « زيد » اسم عَلَم ، وهو لا يُفيد
إلا هذه الذَّات المُعَيَّنَة؛ لأنَّ أسماء الأعلام قائمة مَقَام الإشَارَاتِ ،
فإذا وَصَفْنَاهُ بالعلمية امتنع أنْ يكون المقصودٌ منه تَمْييز ذلك الشخص عن غيره
، بل المقصود منه تعريف كون ذلك المُسمى مَوْصُوفاً بهذه الصفة ولما كان لفظ «
الله » من باب أسماء الأعلام لا جِرَم كان الأمر على ما ذكرناه . السؤال الثاني :
لم قَدِّمَ « السَّمَاء » على « الأرضِ » مع أنَّ ظاهر التنزيل يَدُلُّ على أنَّ
خَلْقَ الأرْضِ مُقدَّمٌ على خَلْقِ السماءِ . فالجواب : أنَّ السَّمَاءَ كالدَّائرة
، والأرْض كالمركز ، وحُصُولُ الدَّائرة يوجبُ تعيين المَرْكَزِ ، ولا يَنْعَكِسُ
، فإنَّ حصول المَرْكَزِ لا يوجبُ تعيين الدَّائرةِ لإمْكَانِ أنْ يُحيطَ بالمركز الواَحِدِ
دَوَائِرُ لا نهاية لها ، فلمَّا تَقَدَّمت السماءُ على الأرضِ بهذا الاعتبارِ ،
وجب تقديم ذِكْرِ السماءِ على الأرض ، وعلى قوله من قالَ : إنَّ السمواتِ مَخْلُوقَةٌ قَبْلَ
الأرضِ ، وهو قول قتادَةَ ، فالسُّؤال زائدٌ .
السؤال الثالث لم ذكر السماء بصيغة الجَمْع ، والأرض
بصيغة الواحدِ ، مع أنِّ الأرضِينَ أيضاً كثيرةٌ لقوله : { وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ
} [ الطلاق : 12 ] ؟ . فالجوابُ : أنَّ السَّماءَ جَارِيَةٌ مجرى الفاعل ، والأرض
مجرى القابل ، فلو كانت السَّمَاءُ واحدةً لتَشَابَهَ الأمرٌ ، وذلك يخلُّ
بمصَالِح هذا العَالَمِ ، فإذا كانت كثيرةٌ اخْتَلَفَتِ الاتِّصَالاَتُ
الكَوْكَبِيَّةُ ، فحَصَلَ بسببها الفُصُولُ الأرَبعة ، وسائر الأحوال المختلفة ،
وحَصَلَ بسبب تلك الاختلافات مصالح
[ هذا ] العالم . أمَّا الأرض فهي قابلة للأثَرِ ،
والقَابِلُ الوَاحدُ كافٍ في القبول
.
قوله : { وَجَعَلَ الظلمات والنور } .
« جَعَلَ » هنا تتعدَّى لمعفول واحد؛ لأنها بمعنى «
خَلَقَ » ، هكذا عِبَارةُ النحويين ، ظاهرها أنهما مُتَرَادِفَانِ ، إلاَّ أنَّ
الزَّمخْشَرِيَّ فَرَّقَ بينهما فقال : « والفَرقُ بين الخَلْقِ والجَعْلِ أنَّ
الخَلْقَ فيه معنى التقدير ، وفي الجَعْلض معنى التَّصْييرِ كإنشاء شيء من شيء أو
تَصْييرِ شيء شيئاً ، أو نَقْلهِ فيه معنى التقدير ، وفي الجَعْلُ التَّصْييرِ
كإنشاء شيء أو تَصْييرِ شيء شيئاً ، أو نَقْلِهِ من مكان إلى مكان ، ومن ذلك {
وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ الأعراف : 189 ] ، { وَجَعَلَ الظلمات والنور } ؛ لأنَّ
الظُلمَاتِ من الأجْرَامَ المُتَكَاثِفَةِ ، والنُّور مِنَ النَّارِ » .
وقال الطَّبرِيُّ : « جَعَلَ » هنا هي التي تتصَرَّفُ في
طَرَفِ الكلام ، كما تقول : « جَعَلْتُ أفعل كذا » .
فكأنه قال : « جَعَلَ إظلامها وإنارتها » ، وهذا لا
يُشبه كلام أهل اللسان ، ولكونها عند الزمخشري لَيْست بمعنى « خَلَقَ » فسَّرها
هُنا بمعنى « أحدث » و « أنشأ »
.
وكذا الراغب جعلها بمعنى « أوْجَدَ » .
ثم إنَّ أبَا حيَّان اعْتَرَضَ عليه هنا لمَّا
اسْتَطْرَدَ ، وذكر أنها تكون بمعنى صَيَّر ومثل بقوله : { وَجَعَلُواْ الملائكة
الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً } [ الزخرف : 19 ] . فقال وما ذكر من أن جعل
بمعنى صَيَّر في قوله { وَجَعَلُواْ الملائكة } [ الزخرف : 19 ] لا يصحُّ؛ لأنهم لم
يُصَيِّروهم إناثاً وإنما بعضُ النحويين أنها هنا بمعنى « سمَّى » .
قال شهابُ الدين : ليس المُرَادُ بالتصيير بالفعل ، بل
المُراد التصيير بالقول ، وقد نصَّ الزمخشري على ذلك ، على ما سيأتي في موضعه إن
شاء الله تعالى ، وقد ظهر الفرقُ بين تخصيص السَّمواتِ والأرض بالخَلْقِ ،
والظُّلُمَاتِ والنور بالجَعْل بما ذكره الزمخشري .
فصل
قال أبو العباس المقري : ورد لفظ الجَعْل في القرآن على
خمسة أوجه :
الأول :
بمعنى « خلق » قال تعالى : { وَجَعَلُواْ الملائكة } ،
وقوله { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا } [ فصلت : 10 ] ، وقوله : {
جَعَلَ الليل والنهار } [ الفرقان : 62
] .
والثاني : بمعنى « بعث » قال تعالى : { وَجَعَلْنَا
مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرا } [ الفرقان : 62 ] .
والثالث :
بمعنى « قدره » قال تعالى { وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً
} [ الزمر : 8 ] وقوله تعالى : { وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ
الرحمن إِنَاثاَّ } [ الزخرف : 19 ] وقوله تعالى : { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ
بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً }
[ فصلت : 9 ] أي تقولون .
الرابع : بمعنى « بَيّن » قال تعالى : { إِنَّا
جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ } [ الزخرف : 3 ] أي : بَيَّنَّاه بحَلالِه
وحَرَامِهِ .
الخامس : بمعنى « صَيَّرَ » قال تعالى : { وَجَعَلْنَا على
قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة } [ الإسراء : 46
] أي : صيرنا ، وقوله { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج }
[ التوبة : 19 ] ، وقوله { وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين } [
النمل : 61 ] ، وقوله : { إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِم } [ يس : 8 ] .
فإن قيل : لِم وَحًّد النُّور ، وجمعَ الظُّلمَاتِ .
فالجواب من وجوه :
أحدهما : إنْ قُلْنَا : إنَّ الظُّلُمَاتِ هي الكُفُرُ ،
والنُّور هو الإيمان فظاهرٌ؛ لأنَّ الحقَّ واحِدٌ ، والباطِلُ كثيرٌ .
وإنْ قٌلنا : إنَّ الظُّلْمَة الكيفية المحسوسة ،
فالنُّور [ عبارة ] عن تلك الكَيْفِيَّةِ الكَامِلَةِ القَويَّةِ وكذلك الظُّلْمةُ
الكاملة القوية ، ثمَّ إنَّها التَّناقٌض [ قليلاً ] وتلك المَرَاتَبُ كثيرة ،
فلهذا عَبَّرَ عن الظُّلُمَاتِ بصيغة الجَمْع .
وثانيها : أنَّ النُّور من جِنْسٍ واحِدٍ ، وهو النار ،
والظُّلُمَاتِ كثيرة ، فإنَّ مَا مِن جرْمٍ إلاَّ وله ظِلٌّ وظُلْمَةٌ .
وثالثها :
أنَّ الصِّلَةَ التي قبلها تقدمَّ فيها جَمْعٌ ثُمَّ
مفردٌ ، فعطفت هذه عليها كذلك ، وقَدْ تقَّدمَ في « البقرة » الحِكْمَةُ في جَمْع
السماوات ، وإفراد الأرض .
فإنْ قيل : لِمَ قُدِّمت الظُّلُمات [ على النور ] في
الذكر؟ .
فالجوابُ : لأنه مُوَافِقٌ في الموجودِ؛ إذا الظُّلمة قَبْلَ
النُّور عِنْدَ الجمهور .
فصل في المراد بالظلمات والنور
قال الوَاقِدِيُّ : كُلُّ مَا في القرآنِ من
الظُّلُمَاتِ والنُّورِ هو الكُفْرُ والإيمان ، إلاَّ في هذه الآية ، فإنَّهُ
يُريُد به اللَّيْلَ والنَّهَارَ
.
وقال الحسنُ : المُرَادُ الكُفْرُ والإيمان .
وقيل : المرادُ بالظُّلمات الجَهْلُن وبالنُّور العِلْمُ .
وقال قتادة : يعني الجَنَّةَ والنَّار .
وقيل : معناها خَلْقُ السموات والأرض ، وقد دجَعَلَ
الظلمات والنُّور؛ لأنه خلقَ الظُّلْمَة والنُّور قبل السموات والأرضِ .
قال قتادة : خلق الله السَّمواتِ قَبْلَ الأرض ، وخَلَقَ
الظُّلْمَةّ قَبْلَ النُّورِ ، والجنَّة قبل النَّار .
وروى عبد الله بن عمرو بن العَاص أنَّ النبيَّ صلى الله
عليه وسلم قال : « إن الله خَلَقَ خَلْقَهُ في ظُلْمَةٍ ، ثُمَّ عَلَيُهِم مَنْ
ذّلِكَ اهْتَدَى ، ومَنْ أخْطأهُ ضَلَّ
» .
قوله تعالى : { ثْمَّ الذين كَفَرُواْ } .
« ثُمَّ » هذه ليست للتَّرْتِيبِ الزَّمَاني ، وإنِّما
هي للتَّراخي بين الرُّتبتينِ ، والمُرَادُ اسْتِبْعَادُ أنْ يَعْدِلوا به غيره مع
ما أوضحَ من الدِّلالاتِ ، وهذه عطفٌ : إمَّا على قوله : « الحمدُ لله » ، وإمَّا على
قوله : « خَلَقَ السَّمواتِ » .
قال الزمخشري : « فإن فما معنى » ثم « ؟ قلت : استبعاد أنْ يَعْدِلُوا به بعد وضوح آيَاتِ
قُدْرَتِهِ ، وكذلك » ثُمَّ أنْتُم تَمْتَرُونَ « استبعاد لأنْ يمتروا فيه بعدما
ثبتَ أنَّهث مُحْييهمْ ، ومُميتُهُمْ وباعثهم » .
وقال ابن عطية : « ثُمَّ » دَالَّةٌ على قُبْحِ فَعْلِ الذين
كَفَرُوا ، فإنَّ خلْقَهُ للسموات والأرض وغيرهما قد تَقَرَّرَ ، وآيَاتُهُ قَدْ
سَطَعَتْ ، وإنُعَامُه بذلك قد تَبيَّنَ ، ثمَّ مع هذا كُلِّهِ يَعْدِلُون به غيره .
قال أبو حيَّان : ما قَالاَهُ من أنَّها للتَّوبيخ
والاسْتِبْعَادِ ليس بصحيح؛ لأنها لم تُوضع لذلك ، والاسْتِبعَادُ والتَّوْبِيخُ
مُسْتَفَادٌ من الَسِّيَاقِ لا من « ثُمَّ » ، ولم أعلم أحداً من النحويين ذكر ذلك
، بل « ثمَّ » هنا للمُهْلَةٍ في الزَّمَانِ ، وهي عَاطِفَةٌ جملةً اسميةً [ على
جملةٍ اسميةٍ ] يعني على « الحَمْدُ للِّهِ » .
===============================ج28.
كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي
الدمشقي النعماني
ثُمَّ اعترض على الزمخشري في تَجْوِيزِه أن تكون معطوفةً
على « خَلَقَ » [ لأنَّ « خَلَقَ » ] صِلَةٌ ، فالمعطوف عليها يُعطى حكمها ، ولكن ليس ثم
رابطٌ يعودٌ [ منها ] على الموصول
.
ثُمَّ قال : « إلاَّ أنْ يكون على رَأي من يَرَى
الرَّبْطَ بالظَّاهِرِ كقولهم : » أبو سعيدٍ الذي رَوَيْتُ عن الخدري « وهو قليلٌ
جداً لا ينبغي أنْ يُحْمَلَ عليه كتابُ اللِّهِ » .
قال شهابُ الدين : إنَّ الزمخشري إنَّما يريدٌ العَطْفَ
ب « ثم » لتراخي ما بين الرتبتين ، ولا يريدُ التَّرَاخي في الزَّمَانِ كما قد
صَرَّحَ به هو ، فكيف يلزمه ما ذكر من الخُلُوِّ عن الرابط؟ .
وكيفَ يتخيل كونها لِلمُهْلَة في الزمان كما أبو حيان .
قوله : « بربِّهمْ » يجوز أن يتعلَّق ب « كَفَرُوا » ،
فيكون « يَعْدلُون » وقدِّم للفَوَاصِلِ ، وفي « الباء » حينئذٍ احتمالان :
أحدهما : أن تكون بمعنى « عن » و « يَعْدلون » مِنَ
العدول أي : يعدلون عن ربهم إلى غيره
.
والثاني :
أنها للتعدية ويعدلون من العَدْلِ وهو التسوية بين
الشَّيْئَيْنِ ، أي : ثُمَّ الذين كفروا يُسَوونَ بربَّهم غَيْرَه من المَخْلُوقِينَ
، فيكون المَفْعُولُ محذوفاً .
وقيل معنى الآية كقول الفائل « أنْعَمْتُ عليكم بكذا ،
وتَفَصَّلْتُ عليكم بكذا ، ثُم تكفرون نعمتي » .
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا
وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
أعلم أنَّ هذا الكلام يحتمل أن يكون المراد منه ذكر دليل
آخر من دلائل إثبات الصانع سبحانه وتعالى ، ويحتمل أن يكون الماد منه ذكرُ الدليل
على صحة المعاد وصحة الحَشْرِ .
أمَّا الأول فتقريره : أنَّهُ - تعالى - لمَّا اسْتَدَلَّ
بِخَلْقِهِ السَّمواتِ وتَعَاقُبِ الظُّلماتِ والنُّور على وجود الصَّانع الحكيم
أتْبَعَهُ الاسْتِدلالِ بخلقه الإنسان على إثبات هذا المَطْلُوب ، فقال : « هُو
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ » ، والمراد منه خلق آدم [ الأن آدَمَ خلق ] من
طِين ، وهو أبو البَشَرِ ، ويُحتملُ أنَّ [ يكون ] المراد كَوْنَ الإنسان
مَخْلُوقاً من المَنيَّ ، ومن دَمِ الطَّمْثِ ، وهما يَتَولدَان من الدَّم ،
والدَّمُ وإنَّما يَتَولَّدث من الأغْذِية [ والأغذية ] إمَّا حيوانية أو
نَبَاتيَّة ، فإن كانت حَيوانِيَّةَ كان الحالُ في [ كيفية ] تولُّد ذلك [ الحيوان
كالحال في كيفية تَوَلُّدِ الإنسان مخلوفاً من الأغدية النباتية ، ولا شك أنها
متولدة من الطين ، فثبت أن كل إنسان متولد من الطين .
إذا عرفت هذا فتقول : هذا الطِّينُ قد تَوَلدُّت
النُّطفة منه بهذا الطريق المذكور
.
ثم تولّد من النُّطفَة أنواع الأعضاء المختلفة في
الصِّفة ، والصورة ، واللون ، والشكل ] مثل القلب والدِّماغ والكبد ، وأنواع
الأعضاء البسيطةِ كالعظام والغَضاريفِ والرِّبَاطَاتِ والأوتار تولد الصفات
المختلفة في المادة المُتَشَابِهَةِ ، وذلك لا يمكنُ إلاَّ بتقْدير مُقدِّرِ حكيم .
وإن قلنا : المقصود من هذا الكلام تقرير أمر المعاد ،
فلأن خَلْقَ بَدَنِ الإنسان وترتيبه على هذه الصفات المختلفة إنَّما حَصَل
بقُدْرَةِ فاعل حكيم ، وتلك الحكمة والقدرة باقيةٌ بعد موت الحَيَوانِ ، فيكون
قادراً على إعَادتِهَاّ وإعَادَةِ الحياة فيها؛ لأنَّ القادِرَ على إيجادها من
العَدَم قادرٌ على إعَادَتِهَا بطريق الأوْلَى .
قوله : « مِنْ طينٍ » فيه وَجْهَان :
أظهرهما : أنه متعلّق ب « خَلَقَكُمْ » ، و « مِنْ »
لابتداء الغَايَةِ .
أظهرهما : أنه متعلّقٌ بمحذوف على أنه حَالٌ ، وهل
يحتَاج في هذا الكلام إلى حذف مضاف أم لا؟ فيه خلاف .
ذهب [ جماعة ] كالمهدويِّ ومكي ، إلى أنه لا حَدْفَ ،
وأنَّ الإنسان مَخْلُوقٌ من الطين
.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَا مِنْ
مَولُودٍ يُولَدٌ إلاَّ ويُذّرُّ على النُّطْفَةِ مِنْ تُرَابِ حٌفْرَتِهِ » .
وقيل : إنَّ النُّطْفَةَ أصْلُهَا الطِّينٌ كما تقدَّم .
وقال أكْثرٌ المُفَسِّرينَ : ثَمَّ محذوفٌ ، أي : خَلَقَ
أصْلكم أو أباكم من طينٍ ، يعنون آدم وقَصَّتُهُ مشهورة .
وقال امرؤ القيس : [ الوافر ]
2102-إلَي عِرْقِ الُّثرَى رَسَخَتْ عُرُوقِي ... وهَذَا
المَوْتُ يَسْلُبُنِي شَبَابِي
قالوا : أراد بعِرْقِ الثَّرى آدم عليه الصلاة والسلام
لأنَّه أصلُه .
فصل في بيان معنى « خلقكم من طين »
قوله : { خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ } [ يعني أباكم ] آدم
خاطبهم به ، إذ كانوا من ولدِهِ
.
قال السُّديُّ : بَعَثَ اللهُ جِبْرِيلَ إلى الأرض
لِيأتِيَهُ بطَائفةٍ منها ، فقالت الأرْضُ : إنِّي أعُوذُ باللُّهِ منك أنْ اتنقضي
مني ، فرجع جبريل ، ولم يأخذن قال يَا رَبَّ : إنَّها عَاذَتْ بِكَ ، فبعث
مِيكَائيل فاسْتَعَاذَتْ ، فرجع ، فبعث ملك الموت ، فَعَاذَتْ منه باللِّهِ ، فقال : وأنا أعوذُ
بالله أن أخالف أمره فأخذ من وجه الأرض فخلط الحمراء والسوداء والبيضاء فلذلك
اختلفت ألوان بني آدم ، ثُمَّ عَجَنَهَا بالماء العَذْبِ والمِلْح والمُرّ ، فلذلك
اختلفت أخلاقهم ، فقال اللَّهُ لِمَلكِ الموت :
« رحم جبريل وميكائيلُ الأرْضَ ، ولم ترحمهما لا جَرَمَ
أجعل أرواح من خُلِقَ من هذا الطِّين بَيَدِكَ » .
وروي عن أبي هريرة - رضي الله عنه- : « خَلَقَ اللِّهُ
آدَمَ من أرضِ يقالُ لها دَجْناء
» .
قال الحسن : « وخَلقَ حُؤجُؤهُ من ضَرِيَّة »
قال الجوهري : « ضَرِيَّة » قرية لبني كِلاب على طريق «
البصرة » ، وهي إلى « مَكَّةَ » أقربُ
.
وعن ابن مسعود قال : إنَّ الله بعث إبليس ، فأخَذَ من
أديم الأرْضِ عَذْبِها وملحها ، فخلقَ منه آدم عليه الصلاة والسلام فكلُّ شيء خلقه
من عَذْبها ، فهو صائرٌ إلى الجَنَّةِ ، وإن كان ابن كافر ، وكُلُّ شيء خَلَقَهُ
من ملحها فهو صائرٌ إلى النَّارِ وإنْ كان ابن تِقيِ؛ فَمنْ ثمَّ قال إبليسُ : { أَأَسْجُدُ
لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً } [ الإسراء : 61 ] ؛ لأنَّه جاء بالطينة؛ فسمي آدم ،
خُلِقَ من أديم الأرض .
وعن عبد الله بن سلام قال : خلق الله آدم في آخر يوم
الجمعة .
وعن عبد الله بن عباس قال : « لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ
آدَم كان رأسُه يَمَسْ السماءِ - قال - فوطده إلى الأرض حتَّى صار ستِّينَ
ذِرَاعاً في سَبْعَةِ أذْرُعٍ عَرْضاً
» .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما- في حديث فيه طول : وحَجَّ آدمُ -
عليه السلام - من « الهِنْد » أربعين حجَّةُ على رِجْلَيْهِ ، وكان آدمُ حين أُهبط
تمسح رأسه السَّمَاء فمن ثَمَّ صَلَعَ ، وأوْرثَ ولَدُهُ الصَّلعَ ، ونفَرَت من
طوله دواب الأرض ، فصارت وحشاً من يومئذٍ ، ولَمْ يَمُتْ حتىَّ بلغ ولده وولدُ
ولدِه أربعين ألفاً وتوفي على ثور الجَبَلَ الذي أنزل؛ فقال شيث لجبريل : « صَلَّ
عَلَى آدَمَ » فقال له جبريلُ : تقدَّم أنْتَ فصلِّ على أبيك كبر عليه ثلاثين
تكبيرة ، فأما خمس فهي الصلاة ، وخمس وعشرون تفضيلاً لآدم .
وقيل : وكبِّرْ عليه أربعاً ، فجعل أبو شيث آدم في
مَغَارةٍ ، وجَعَلوا عليها حافظاً لا يَقْربُهُ أحدٌ من بين قابيل ، وكان الذين
يأتونه ويَسْتَغْفِرُون له « بنو شيث » وكان عُمْرُ آدم تسعمائة سنة وستاً وثلاثين
سنة .
قوله : « ثُمَّ قَضَى » إذا كان « قَضَى » بمعنى أظهر ف
« ثُمَّ » للترتيبِ الزماني على أصلها؛ لأنَّ ذلك متأخِرٌ عن خَلْقِنا ، وهي صفة
فعل ، وإن كان بمعنى « كَتَب » و
« قَدَّر » فهي للترتيب في الذِّكرِ؛ لأنَّها صِفَةُ
ذاتٍ ، وذلك مُقدَّمّ على خَلْقِنا
.
قوله : { وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ } مبتدأ وخبر ،
وسوِّغَ الابتداء هنا شيئان :
أحدهماك وَصْفُهُ ، كقوله : { وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِن } [
البقرة : 221 ] .
والثاني : عَطْفُهُ ب « ثمَّ » والعطفُ من
المُسَوِّغَاتِ .
قال الشاعر : [ البسط ]
2103-عِنْدِي اصْطِبَارٌ وشَكْوَى عِنْدَ قَاتِلْتِي ...
فَهَلْ بأعْجَبَ مِنْ هَذَا امْرُؤّ سَمِعَا؟
والتنكير في الأجلين لإبهام ، وهنا مُسَوَّغُ آخر ، وهو
التفصيل كقوله : [ الطويل ]
2104 إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَه ...
ُ بِشِقِّ وَشِقٌ عِنْدّنَا لَمْ يُحَوَّل
ولم يَجِبْ هُنا تقديمُ إن كان المبتدأ نكرةً ، والخبرُ
ظرفاً ، قال الزمخشري :
« لأنَّه تخصَّصَ بالصفة فقاربَ المعرفة » .
قال أبو حيَّان : « وهذا الذي ذَكَر من كَوْنِهِ
مُسَوِّغاً للابتداء بالنكرة لكونها وُصِفَتْ لا تتعيَّنُ ، لجواز أنْ يكونَ
المُسَوِّغُ التفصيلَ » ثُمَّ أنشد البيت
:
- 2105 إذَا مَا بَكَى . .
قال شهابُ الدين : والمزخشري م يَقُلْ : إنَّهُ تعيَّن
ذلك حتَّى يُلْزِمَهُ به ، وإنَما ذكر أشْهَرَ المسَّوغات فإنَّ العطف والتفصيل
قَلَّ مَنْ يذكرُهما في المسوِّغات
.
قال الزمخشري : « فإنْ قٌلت : الكلامُ السَّائِرُ أن
يُقال : » عندي ثَوْبٌ جيَّدٌ ، ولي عبدٌ كَيِّسٌ « فما أوجب التقديم؟ .
قلت : أوجبه أنَّ المعنى : وأيُّ أجَلٍ مسمى عنده ،
تعظيماً لشأن الساعة ، فلمَّا جرى فيها هذا المعنى أوجب التقديم » .
قال أبو حيان : وهذا لا يجوز؛ لأنه إذا كان التقدير :
وأيُّ أجلٍ مسمى عنده كانت « أي » صفة لموصوف محذوف تقديره : وأجل مسمى عنه ولا
يجوز حذفُ الصفةِ إذا كانت « أيّا » ولا حَذْفٌ موصوفها وإبقاؤها .
لو قلت : « مررتُ بأيِّ رجل » تريدُ برجلٍ أيِّ رجل م
يَجُزْ .
قال شهاب الدين : ولم أدْرِ كيف يؤاخَدُ من فَسَّر معنّى
بلفظٍ لم يَدِّع أن ذلك اللًّفْظَ هُوَ أصْلُ كلام المفسر ، بل قال : معناه كيت
وكيت؟ فكيف يلزمه أنْ يكَون ذلك الكلام الذي فَسَّر به هو أصْل ذلك المُفَسِّر؟
على أنَّه قَدْ وَرَدَ حَذْفُ موضوف « أيّ » وإبقاؤها كقوله : [ المتقارب ]
2106-إذا حَارَبَ الحَجَّاجُ أيَّ مُنَافِقِ ... عَلاَهُ
بِسَيفٍ كُلمَّاً هَزَّ يَقْطَعُ
قوله :
« ثُمَّ » أنْتُم تَمْتَرُونَ « قد تقدَّم الكلامُ على »
ثُمَّط هذه . و « تمترون » تَفْتَعُون من المِرْيَةِ ، وتقدَّم معنها في «
البقرة » عند قوله : { مِنَ الممترين } [ البقرة : 147 ] .
وجعل أبو حيَّان هذا من باب الاتْتِفَاتِ ، أعني قوله :
« خَلَقكُمْ ثُمَّ أنْتُم تَمْتَرُون
» ، يعني
أنَّ قوله : « ثُمَّ الذين كفروا » غائبٌ ، فالْتَفَتَ عنه إلى قوله : « خَلَقكُمْ
ثُمَّ أنْتُم » ثُمَّ كأنَّه اعترض على نفسه بأنَّ خَلْقَكم وقضاءَ الأجلِ لا
يَخْتَصُّ به الكُفَّار ، بل المؤمنون مِثْلُهم في ذلك .
وأجاب بأنِّه إنَّما قَصَدَ الكُفَّار تَنْبِيهاً لهم
على خَلْقِهِ لهم وقُدرَتِهِ وقضائه لآجالهم .
قال :
« وإنِّما جَعَلْتُه من الالِتفَاتِ؛ لأن هذا الخطابَ ،
وهو » ثُمَّ أنْتُم تَمْتَرُون « لا يُمِكن أنْ يَنْدَرجَ فيه مَن اصْطَفاَهُ الله
تعالى بالنبوَّة والإيمان » وأجَلٌ مسمَّى « مُسَمَّو؛ لأنه من مادة الاسم ، وقد
تقدَّم ذلك ، فقُلبت الواوُ ياءً ، ثم الياء ألفاً » .
وتمرتون أصله « تَمْتَرِيُون » فَأعِلَّ كنَظَائِرِه .
فصل في معنى « قضى »
والقضاء قد يَرِدُ بمعنى الحكم ، والأمر قال تعالى : {
وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23 ] وبمعنى صفة الفعل
إذا تَمَّ ، قال تعالى : { وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب } [
الإسراء : 4 ] وبمعنى صفة الفعل إذا تَمَّ ، قال تعال : { فَقَضَاهُنَّ
سَبْعَ سَمَاوَات } [ فصلت : 12 ] ومنه قولهم : « قضى فلان حاجةَ فلانٍ » .
وأمَّا الأجَلُ فهو في اللُّغَةِ عبارةٌ عن الوَقْتِ
المضروب لإنقضاء المُدَّةِ ، وأجَلُ الإنسان هو المؤقت المضروب؛ لانقضاء عُمْرِهِ
. وأجَلُ الدَّيْنِ : مَحلُّهُ لانْقِضَاءِ التأخير فيه ، وأصْلُهُ من التَّأخيرِ
يُقال : أجلَ الشَّيء يَأجَلُ أجُولاً وهو آجلٌ إذا تأخَّرَ ، والآجلُ نقيض
العَاجِلِ ، وإذا عُرِفَ هذا فقوله ، « ثُمَّ قَضَى أجَلاً » معناه : أنَّهُ -
تعالى - خَصَّصَ موت كُلَّ واحَد بوقتٍ مُعَيَّنٍ ، « وأجلٌ مُسَمَّى عِنْدهُ »
قال الحَسَنُ : وقتادة ، والضحَّاكُ : الأجَلُ الأوّل من الولادَةِ إلى الموت . والأجَلُ الثاني
: مِنَ الموتِ إلى البَعْثِ ، وهو البَرْزَخُ وروي عن ابن عبَّاس ، وقال : لِكُلِّ
أحَدٍ أجلان أجل من الولادة إلى الموت أدنى البعث في أجل العُمر ، فإن كان بالعكس
قاطِعاً للرحَّمِ نُقِصَ من أجَل العُمر وزيد في أجَلِ البَعْثِ مخافة .
[ وقال مجاهد ] وسعيد بن جُبَيْرٍ : الأجَلُ الأوَّلُ
أجَلُ الدنيا ، والثَّاني أجَلُ الآخرة
.
وقال عطيةُ عن ابن عبَّاس : الأجَلُ الأوَّل : النَّوم ،
والثاني : الموتُ . وقال أبو مُسلِم : المرادُ بالأجَلِ الأوَّلٍ : آجال الماضين
من الخَلْقِ وقوله : « وأجَلٌ مُسَمَّى عِنْدَهُ » :
المرادُ منه آجَالُ الباقين ، فخضَّ هذا الأجل الثاني ،
بكونه مُسَمَّ عِندهُ؛ لأن الماضين لما ماتوا صارت آجالهُمْ معلومة ، فلهذا المعنى
قال : « وأجل مسمى عنده » وقيل
: الأجَلُ الأوَّلُ : الموت ، والأجَلُ المُسَمَّى
عِنْدَ الله تعالى هو أجَلُ القيامة لأن مُدَّة حياتهم في الآخرة ، لا آخِرَ لها
ولا انْقِضَاءَ ، ولا يَعْلَمُ أحد كيفية الحالِ في هذا الأجَلِ إلاَّ الله تعالى .
وقيل : الأجَلُ مقدار ما يُقضى من عمر كُلّ واحدٍ ،
والثاني : مقدارُ ما بَقِيَ من عمر كُلِّ أحدٍ .
وقيل : هما وَاحِدٌ - يعني « جعل لأعمارهم مُدَّة تنتهون
إليها » .
وقوله : « وأجَلٌ مُسَمَّى عنده » يعني : وهو أجلٌ
مُسَمَّى عنده لا يعلمهم غيره . قال حكماءُ الإسلام : إنَّ لكل إنسان أجَلَيْنِ :
أحدهما : الطبيعي .
والثاني :
الآجالُ الاخْتِرامِيَّةُ ، فالطَّبيعيُّ هو الذي لو
بَقِيَ ذلك المِزَاجُ مَصُوناً من العوَارض الخارجية ، لانْتَهَتْ مدّةُ بَقَائِه
إلى الأوْقَات الفلانية ، وأمَّا الآجال الاخترامية فهي التي تحصلُ بسبب من الأسباب
الخارجية كالغَرَقِ ، والحَرْقِ ، ولَدْغِ الحشرات وغيرها من الأمور المُعْضِلَةِ .
وقوله : « ثُمَّ أنْتُم تَمْتَرُونَ » أي : تشكُّون في
البَعْثِ .
وقيل : تمترون في صحة التوحيد .
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ
يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
أعلم أنَّا إذا قلنا : المراد من الآية المُتقدِّمة
إقَامَةُ الدليل على وجود الصَّانع القادر المُخْتَارِ ، فالمُرادُ من هذه الآيَةِ
إقامَةُ الدليل على كونه عَالِماً بجميع المَعْلُومَاتِ؛ لأنها تَدُلُّ على كمالِ
العلم .
وإن قلنا : المراد من الآية المُتقدِّمةِ إقامَةُ الدليل
على صِحِّة المَعَادِ ، فالمقصود من هذه الآية تكميل ذلك البيان؛ لأنَّ مُنكِري
المعاد إنَّما يُنْكِرُونَهُ لأمرين
:
أحدهما : أنَّهم يَعْتَقِدُونَ أنَّ المؤثّر في حدوث
بَدَن الإنسان هو امْتِزَاجُ الطَّبائِعِ ، وإنْ سلَّموا كون المؤثّر فيه قَادِراً
مختاراً ، فإنَّهم يَقُولُونَ : إنِّهُ [ غير ] عالم بالجزئيات ، فلا يمكنه
تَمْييزث المُطيعِ من العَاصِيِ ، ولا تمييز أجزاء بَدَنِ زيد عن أجْزاءِ بَدَن عن
أجزاء بَدَنِ عمرو .
قوله : « وهُوَ اللِّهُ في السَّمواتِ » في هذه الآية
أقْوالٌ كثيرة ، وقد لُخِصَّتْ في اثْنَيْ عشر وَجْهاً؛ وذلك أن « هو » فيه قولان :
أحدهما : هو ضمير اسم الله - تعالى - يعودُ على ما
عَادَتْ عليه الضَّمائِرُ قبله
.
الثاني : أنَّهُ ضميرُ القِصَّةِ ، قال أبو عليَّ .
قال أبو حيَّان : وإنَّما فرَّ إلى هذا؛ لأنه لو أعاد
على اللِّهِ لَصَارَ التقديرُ : اللَّهُ اللَّهُ ، فتركَّب الكلام من اسمين
مُتَّحِدَيْنِ لفظاً ومعنى لا نِسْبَةَ بينهما إسنادية .
قال شهاب الدين : الضَّميرُ إنما هو عَائِدٌ على ما
تقدَّمَ من المَوْصُوفِ بتلك الصِّفات الجلية ، وهي خَلْقُ السَّموات والأرض ،
وجعل الظُّلُماتِ والنُّور ، وخَلْق النَّاس من طين إلى آخرها ، فصَارَ في الإخبار
بذلك فَائِدَةٌ من غير شَكِّ ، فعلى قولِ الجُمْهُورِ يكون « هو » مبتدأ ، و «
اللَّهُ » خبره ، و « في السَّمَوَات » متعلقٌ بنفس الجلالة لمَّا تَضمَّنّتْهُ من
معنى العِبَادةِ ، كأنَّهُ قيل : وهو المَعْبُود في السَّموات ، وهذا قول
الزَّجَّاج ، وابن عطيَّة ، والزمخشري
.
قال الزَّمخشري : « في السَّمَوَات متعلِّقٌ بمعنى اسم
اللَّهِ ، كأنَّهُ قيل : هو المَعْبُود فيها ، ومنه : { وَهُوَ الذي فِي السمآء
إله وَفِي الأرض إله } [ لزخرف : 84 ] أو هو المعروف بالإلهية والمتوحد بالإلهيّة
فيها ، أو الذي يُقَالُ له » اللَّه « [ لا يشركه في هذا الاسم غيره ] .
وقال شهابُ الدين : إنما قال : أو هو المَعْرُوفُ ، أو
هو الذي يُقال له : اللَّهُ؛ ] لأنَّ الاسم الشَّريف تقدَّم فيه خلافٌ ، هل هو
مُشْتَقٌ أوْ لا؟ فإن كان مُشْتقاً ظَهَرَ تلُّق الجَارِّ بِهِ ، وإنْ كان لَيْسَ
بمشتقِّ ، فإمَّا أن يكون يتأوّل ذلك على كل قول من هذه الأقوال الثلاثة .
فقوله : » المَعْبُود « راجعٌ للاشتقاقِ ، وقوله : » المَعْرُوف «
راجع لكونه عَلماً مَنْقُولاً ، وقوله : » الَّذي يُقَال له : اللَّهُ « راجع إلى كونه مُرْتجلاً ،
وكأنه - رحمه الله - اسْتَشْعَرَ بالاعتراض المذكور .
والاعْتِراضُ مَنْقُولٌ عن الفَارسيَّ .
قال :
» وإذا جَعَلْتَ الظَّرْفَ متعلّقاً بام اللِّهِ جَازَ
عندي على قياس مَنْ يقول : إنَّ الله أصْلُه « الإله » ومن ذَهَبَ بهذا الاسم مذهب
الأعلام وجب ألاَّ يتعلٌّق به « عنده » إلاَّ أنْ تُقدِّر فيه ضَرْباً من معنى الفِعْلِ
« ، نقل عن أبي عليّ أنه لا يتعلَّقُ » في « باسم اللَّهِ؛ لأنَّه صار بدخول الألف
واللام ، والتغيير الذي دخله كالعلم ، ولهذا قال تعالى :
{ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّا } [ مريم : 65 ] فظاهرُ
هذا النقل أنه بمنعُ التعلُّق به وإنْ كاني في الأصْل مُشْتَقاً .
وقال الزَّجَّاج : « وهو مُتَعَلِّقٌ بما تَضَمَّنَهث
اسْمُ من المَعاَاني ، كقولك : أميرٌ المؤمنين الخَلِيفَة في المَشْرِق والمغْرِبِ » .
قال ابن عطيّة : « هذا عندي أفْضَلُ الأقوالِ ، وأكثرها
إحْرَازاً لفَصَاحَةِ اللَّفْظِ ، وجَزَالَةِ المعنى .
وإيضاحُهُ أنَّهُ أراد أنْ يَدُلَّ على خَلْقِهِ وآثَارِ
قُدْرتِهِ وإحاطتِهِ واستيلائه ، ونحو الصفات ، فجمع هذه كُلَّها في قوله : »
وَهُوَ اللَّهُ « ؛ أي : الذي له هذه كُلُّها في السَّموات ، وفي الأرضِ كأنه قال
: وهو الخالق ، والرازق ، والمحيي ، والمحيط في السموات وفي الأرض كما تقول : زيد السُّلطانُ
في » الشام « و » العراق « فلو قصدت ذات زَيْدٍ لكان مُحَالاً ، فإذا كان مَقْصِدُ
قولك [ : زيد ] الآمر النّاهي الذي يُوَلِّي ويَعْزلُ كان فَصِيحاً صَحِيحاً ،
فأقمت السَّلطَنَةَ مَقَامَ هذه الصِّفَاتِ ، كذلك في الآية الكريمة أقَمْتَ »
الله « مقام تلك الصِّفات » .
قال أبو حيَّان : ما ذكره الزَّجَّاجُ ، وأوضحه ابن
عطيَّةَ صحيحٌ من حيث المعنى ، لكنَّ صَنَاعَةَ النحو لا تُسَاعِدُ عليه؛ لأنهما
زَعَمَا أن « في السموات » متعلِّقٌ باسم الله؛ لما تَضَمَّنَهُ من تلك المعاني ، ولو
صَرَحَّ بتلك المعاني لم تَعْمَلْ فيه جَمِيعُهَا ، بل العَمَلُ من حيث اللفظُ
لواحد منها ، وإن كان « في السموات » متعلّقاً بجميعها من حيث المعنى ، بل الأولى أن
يتعلَّق بلفظ « اللّه » لما تَضَمَّنَهُ من معنى الألُوهِيَّة ، وإن كان عَلَماً؛
لأن العَلَمَ يَعْمَلُ في الظَّرْفِ لما يتضمنه من المعنى كقوله : [ الزجر ]
2107- ... أنَا أبُو المِنْهَالِ بَعْضَ الأحْيَانْ
لأنَّ « بَعْضَ » نُصَبَ بالعَلَمِ؛ لأنَّه في معنى أنا
المشهور .
عَمَلُهَا على سبيل التَّنَازُع ، مع أنه لو سَكَتَ عن
الجواب واضحاً . ولما ذكر أبو حيَّان ما قاله الزَّمخْشَريُّ قال : « فانظر كيف
قدّرَ العامِلَ فيها واحِداً لا جميعها
» .
يعني : أنَّهُ اسْتنْصَرَ به فيما ردَّ على الزَّجَّاج ،
وابن عطية .
الوجه الثاني : أن « في السَّمَوَات » متعّلق بمحذوفِ هو
صِفَةٌ لله تعالى حُذِفت لفهم المَعْنَة ، فقدَّرها بعضهم : وهو الله المعبود ،
وبعضهم : وهو اللَّهُ المُدَبِّرُ ، وحذفُ الصِّفة قليلٌ جداً لم يَرِدْ منه إلاَّ
مواضع يسيره على نَظَرٍ فيها ، فمنها { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ } [ الأنعام : 66
] أي : المعاندون ، { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } [ هود : 46 ] أي : النَّاجين ، فلا ينبغي أن
يُحْمَلَ هذا عليه .
الوجه الثالث
: قال النَّحَّاس - وهو أحْسَنُ ما قيل فيه - : إنَّ
الكلام تَمَّ عند قوله : « وَهُوَ اللِّهُ » والمَجْرُور متعلِّقٌ بمفعول « يَعْلَمُ » ،
وهو « سِرَّكم وجَهْرَكُم » أي : يَعْلَمُ سِرَّكُم ، وجَهْرَكُم فيهما .
وهذا ضعيفٌ جداً لما فيه من تَقْدِيمِ مَعْمُولِ المصجر
عليه ، وقد عرف ما فيه .
الوجه الرابع : أنَّ الكلامَ تَمَّ أيضاً عند الجلالةِ ،
وتعلِّق الظرفُ بنفس « يَعْلَمُ » وهذا ظاهِرٌ ، و « يَعْلَمُ » على هذين
الوَجْهَيْنِ مُسْتَأنَفٌ .
الوجه الخامس : أنَّ الكلامَ تَمَّ عند قوله : « في السموات
» فيتعلَّق « في السموات » باسم الله على ما تقدَّمَ ، ويتعلَّقُ « في الأرض » ب «
يعلم » وهو قول الطَّبري .
وقال أبو البقاء : « وهو ضعيفٌ؛ لأنِّ اللَّهَ - تعالى -
مَعْبودٌ في السَّمَوات وفي الأرض ، ويَعْلمُ ما في السَّموات ، وما في الأرض ،
فلا تتخصَّصُ إحْدى الصِّفَتَيْنِ بأحَدِ الظرفين » . وهخو رَدٌ جميلٌ .
الوجه السادس
: أنَّ « في السموات » متعلِّقٌ محذوفٍ على أنَّهُ حالٌ
من « سِرَّكم » ، ثُمَّ قُدِّمَتِ الحالُ على صَاحبهَا ،
وعلى عاملها .
السابع : أنه متعلّق ب « يَكْسِبُونَ » ، وهذا فَاسِدٌ
من جهة أنه يَلْزَمُ منه تقديم مَعْمُولِ الصِّلةِ على الموصول؛ لأن « ما »
مَوْصُولةٌ اسمية ، أو حرفيةٌ ، وأيضاً فالمُخَاطبُونَ كيف يكيبون في السموات؟ ولو
ذهب هذا القائلُ إلى أنَّ الكلام تَمَّ عند قوله : « في السموات » وعلّق « في
الأرض » ب « يَكْسِبونَ » لسَهُل الأمْرُ من حيث المعنى لا من حَيْثٌ الصناعيةُ .
الوجه الثامن : أنَّ « الله » خَبَرٌ أوَّلُ ، و « في
السموات » خبر ثانٍ .
قال الزمخشري : « على معنى : أنَّه الله ، وأنَّهُ في
السموات وفي الأرض ، وعلى معنى : أنَّهُ عالمٌ بما فيهما لا يَخْفَى عليه شيءٌ ،
كأنَّ ذَاتَهُ فيهما » .
قال أبو حيَّان : « وهذا ضعيفٌ؛ لأن المجرور ب » في « لا
يّدُلُّ على كونٍ مُقَيَّدٍ ، إنما يَدُلُّ على كونس مُطْلَقٍ ، وتقدَّم جوابه
مراراً » .
الوجه التاسع : أنْ يكون « هو » مبتدأ ، و « اللَّهُ »
بَدَلٌ منه ، و « يَعْلَمُ » خبره و « في السموات » على ما تقدَّم .
الوجه العاشر : أنْ يكون « اللًّهُ » بَدَلاً أيضاً ، و
« في السموات » الخبرُ بالعنى الذي قاله الزمخشري .
الحادي عشر : أنَّ « هو » ضمير الشَّأنِ في مَحَلِّ رفع
بالابتداء ، والجلالةً مبتدأ ثانٍ ، وخبرها « في السموات » بالمعنى المتقدَّمِ ،
أو « يَعْلَمُ » ، والجملة خبر الأول مفسرة له وهو الثاني
عشر .
وأمَّا « يَعْلَمُ » فقد عرفت من تَفَاصِيلٍ ما تقدَّمَ
أنَّه يَجُوزُ أن يكون مُسْتَأنَفاً ، فلا مَحَلَّ له ، أو في مَحَلِّ رفع خبراً ،
أو في مَحَلِّ نَصْبِ على الحال ، و «
سِرَّكم وجَهْرَكم » :
يجوز أن يَكُونَا على بابهما من المَصْدَرِيّة ، ويكونان
مضافين إلى الفاعل .
وأجاز أبو البَقَاء أن يكونا وَاقِعَيْنِ المفعول به ،
أي : مُسَرَّكم ومجهوركم ، واسْتَدَلَّ بقوله تعالى : { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ
وَمَا يُعْلِنُونَ } [ البقرة : 77 ] ولا دَلَيلَ فيه ، لأنه يجوز « ما » مصدرية وهو
الألْيَقُ لمُنَاسَبَةِ المصدرين قبلها ، وأن تكون بمعنى « الذي » .
فصل في معنى الآية
« وهو الله في السموات والأرض » كقوله : { وَهُوَ الذي
فِي السمآء إله وَفِي الأرض إله } [ الزخرف : 84 ] .
وقيل : هو المعبود في السَّمواتِ والأرض .
وقال محمد بن جرير : معنيان : وهو اللَّهُ يعلمُ سرّكم
وجهركم في السموات والأرض ، يعلمُ ما تَكْسِبُونَ من الخيرِ والشَّر .
فصل في شبكة إنكار الفوقية
استدلَّ القائلون بأنَّ الله في السموات بهذه الآية .
قالوا :
ولا [ يلزمنا ] أن يقال : فيلزم أن يكون في الأرض لقوله
: « في الأرض » وذلك يقتضي حُصُولهُ في مكانين مَعاً ، وهو مُحَالٌ؛ لأنَّا
نقول : أجمعنا على أنه لَيْسَ مَوْجُوداً في الأرْضِ ، ولا يَلْزمُ من ترك العَمَل
بأحد الظَّاهرين ترك العمل بالظَّاهر الآخر من غير دليلٍ ، فوجبَ أن يبقى قوله : { وَهُوَ الله
فِي السماوات } على ظاهره ولأن من القراء من وقف عند قوله : { وَهُوَ الله فِي السماوات } ، ثم
يبتدئ فيقول : « وفي السموات والأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وجَهْرَكُمْ » ، والمعنى
أنه تعالى يعلمُ سَرَائِرَكُمْ الموجودة في الأرْضِ ، فيكون قوله : « وَفي الأرْضِ
» صِلَةٌ لقوله : « سِرَّكُمْ »
.
قال بان الخطيب : والجوابُ : أنَّا نُقِيمُ الِّدلالة
أوّلاً على أنه لا يُمْكِنُ حَمْلُ هذا الكلام على ظَاهِرِهِ ، وذلك من وجوه .
أحدهما :
أنَّهُ قال في هذه السورة : { قُل لِّمَن مَّا فِي
السماوات والأرض قُل للَّهِ } [ الأنعام : 12 ] فَبَيَّن أنَّ كُلَّ ما في السموات
والأرض ، فهو مِلْكٌ لله تعالى ومملوك له فلو كان اله أحد الأشياء الموجودة في
السموات لزم كونه ملك نفسه ، وذلك مُحَالٌ وكذا قوله : في « طه » { لَهُ مَا فِي السماوات
وَمَا فِي الأرض } [ طه : 6 ] . فإن قالوا : كلمة [ « ما » ] مختصَّةٌ [ بمن لا يعقل ] فلا يدخل
فيها ذاتُ اللَّهِ .
قلنا : لا نُسَلِّمُ بدليل قوله : { والسمآء وَمَا
بَنَاهَا والأرض وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } [ الشمس : 5-7 ] .
وقوله : { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُد } [
الكافرون : 3 ] والمراد بكلمة « ما » ها هنا « هو اللَّهُ تعالى » .
وثانيها :
أنَّ قوله : « وهُوَ الله في السمواتِ » إمَّا أنْ يكون
المُرَادُ منه أنَّهُ مَوْجُودٌ في جميع السمواتِ ، أو المراد أنَّهُ مَوْجُودٌ في
سماء واحدة .
والثاني ترك للظِّاهِر ، والأوَّلُ على قسمين ، لأنَّهُ
إما أن يكون الحاصل منه - تعالى - في أحد السَّمواتِ عين ما حصل منه في سائ السَّمواتِ
أو غيره ، والأوَّل يقتضي حُصُكول المتحيّز الواحد [ في مَكَانَيْنِ ، وهو باطلٌ
ببديهَةِ العَقْلِ ] .
والثاني يقتضي كونه - تعالى مُرَكَّباً من الأجْزَاءِ
والأبْعَاضِ ، وهو مُحَالٌ .
وثالثها :
أنَّهُ لو كان مَوْجُوداً في السَّموات لكان مَحْدُوداً
متناهياً وكُلُّ ما كان كذلك كان قَبُولُهُ للزيادة والنُّقْصَانِ مُمْكناً ،
وكُلُّ ما كان كذلك فهو مُحْدَثٌ
.
ورابعها : أنَّهُ لو كان في السَّمواتِ ، فهل يَقْدرُ
على خَلْقِ عالم آخر فوق هذه السموات أو لا يَقْدِر؟ وذلك من وجهين :
والثاني يوجبُ وهو مُحَالٌ والأول يقتضي أنَّهُ - تعالى
- لو فعل ذلك لحَصلَ تَحْتَ ذلك العالم ، والقوم منكرون كونه تحت العالم .
وخامسها :
أنه تعالى قال : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ }
[ الحديد : 84 ] وقال { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد } [ ق :
16 ] .
وقال :
{ وَهُوَ الذي فِي السمآء إله وَفِي الأرض } [ الزخرف :
84 ] وقال : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله } [ البقرة : 115
] وكُلُّ ذلك يُبْدِلُ القولَ بالمَكَانِ والجهة ، وإذا ثبت بهذه الدَّلائلِ أنَّهُ
لا يمكنُ حَمْلُ هذا الكلام على ظاهره ، وجَبَ التَّأويلُ ، وهو من وجوه :
الأول :
أنَّ قوله : { وَهُوَ الله فِي السماوات وَفِي الأرض } ،
أي : في تدبير السمواتِ والأرض ، كما يقال : « فلانٌ في أمْرِ كذا » أي : في
تدبيره ، وإصْلاحِ مُهِمَّاتِهِ ، كقوله : { وَهُوَ الذي فِي السمآء إله } 84 ] .
الثاني :
أنَّ قوله : [ تَمَ ] عند قوله : « وهُوَ اللَّهُ »
ثُمَّ ابتدأ ، فقال : « في السَّمواتِ وفِي الأرْض يَعْلمُ سِرَّكم وجهْرَكُم » ، أي :
يَعْلمُ ما في السَّمواتِ الملائكة ، وفي الأرض يعلمُ سَرائِرَ البَشَرِ الإنْس والجن .
الثالث : أنْ يكون الكلامُ على التقديم والتأخير ، وهو «
اللَّهُ يَعْلَمُ ما في السموات ، وما في الأرض سِرَّكُم وجهركم » .
فصل في بيان معنى « ما تكسبون »
قوله :
« ويَعْلمُ ما تكسبون » فيه سؤال ، وهو أنَّ الأفعال
إمَّا أفعال القُلُوبِ ، وهو المُسَمَّى بالسِّرِّ ، وإمِّا أعمال الجَوَارحِ ،
وهي المُسَمَّاةُ بالجَهْرِ ، فالأفعالُ لا تخرجُ عن السِّرِّ والجهر .
فكان قوله : { وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُون } يقتضي عَطْفَ
الشيء على نفسه ، وإنَّهُ فاسدٌ
.
والجوابُ يجبُ حَمْلُ قوله : « مَا تَكْسِبُونَ » على ما
يتسحقُّهُ الإنسانُ على فِعْلِه من ثوابٍ وعقابٍ .
والحاصلُ أنَّهُ مَحْمُلٌ على ا لمُكْتَسَبِ كما يُقَالُ
: « هذا كَسْبُ فلان » ، أي :
مُكْتَسَبُهُ ، ولا يجوز حَمْلُهُ على نفس الكَسْبِ؛ لأنَّهُ يلزم منه عَطْفُ
الشيء على نفسه والآية تدل على كون الإنسان مكتسباً للفعل ، والكَسْبُ هو الفعلُ
المُفْضِي إلى اجْتِلاَبِ نَفْع ، أو دَفْع ضَرَرٍ ، ولا يوصف فعلُ اللِّهِ بأنه
كَسْبٌ لكونه - تعالى - مُنَزَّهٌ عن جَلْبِ النَّفْعِ ، ودَفْعِ الضرر .
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ
إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)
« فاعل زيدت فيه » مِنْ « لوُجُودِ الشرطين ، فلا
تَعَلُّقَ لها .
و » من آيات « صفة ل » آية « ، فهي في مَحَلِّ جرٍ على
اللَّفْظِ ، أو رفعٍ على الموضع
.
وقال الوَاحِدِيِّ : » مِنْ « في قوله : » مِنْ آية «
صفةٌ ل » آية « أي : آية لاستغراق الجنْسِ الذي يقع في النَّفيِ ، كقولك : ما
أتاني من أحدٍ » .
والثانية : في قوله : « من آياتِ رَبِّهِم » للتبعيض .
والمعنى :
وما يظهر لهم دَلِيلٌ قط من الدَّلائِل التي جيب فيها
النَّظَرُ والاعتبار ، إلاَّ كانوا عنها مُعْرِضينَ ، والمُرادُ بهم أهل « مكة » ، والمرادُ بالآيات : إنْشِقاقُ القمر وغيره .
وقال عطاء : يريد : من آيات القرآن .
قوله : « إلاَّ كَانُوا » هذه الجملة الكَوْنِيَّةُ في
مَحَلِّ نَصْبٍ على الحال ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما أنَّهُ الضميرُ في « تأتيهم » .
و « تأتيهم » يحتمل أن يكون ماضي المعنى لقوله : «
كَانُوا » ، ويحتمل أنْ يكون مُسْتّقْبَلَ المعنى؛ لقوله « تَأتيهِمْ » .
واعلم أنَّ الفعْلَ الماضي لا يَقَعُ بَعْدَ « إلاَّ »
بأحد شَرْطَيْنِ : إمَّا وقوعه بَعْدَ فِعْلٍ كهذه الآية ، أو يقترن ب « قد » نحو
: « ما زيدٌ إلاَّ قد قام » وهنا الْتِفَاتٌ من خطاه بقوله « خلقكم » إلى آخره إلى
الغيبةِ بقوله : « وَمَا تَأتِيهم
» .
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ
يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5)
« الفاء » هنا للتَعْقِيب ، يعني : أنَّ الإعْرَاض عن
الآيات أعْقَبَهُ التَّكْذِيبُ
.
وقال الزمخشري : « فَقَدْ كَذَّبوا » مردودٌ على كلام
محذوف ، كأنه قيل : إن كانوا معرضين عن الآيات ، فقد كذبوا بما هو أعظم آية
وأكبرها .
وقال أبو حيان : ولا ضرورة تدعو إلى في انتظام الكلام
وقوله : « بالحق » من إقامة الظاهر مقام المُضْمَرِ ، إذ الأصل : فقد كذبوا بها أي
: بالآية .
فصل في بيان المراد « بالحق »
والمُرَادُ بالحقِّ ها هنا القرآن .
وقيل : [ محمد صلى الله عليه وسلم وقيل : ] جميع الآيات .
فصل
واعلم أنَّهُ - تعالى - رتّبَ أمورَ هؤلاء الكُفَّارِ
على ثلاث مراتب :
أولها : كونهم معرضين عن التأمُّلِ والتَّفَكُّرِ في
الدَّلائل [ والبَيِّنَات ] .
والمرتبة الثانية : كونهم مكذّبين بها ، وهذه أزْيّدُ
مما قَبْلَهَا؛ لأنَّ المُعْرِضَ عن الشِّيء قد لا يكون مكذباً به ، بل قد يكون
غَفِلَ عنه؛ صَارَ مُكَذِّباً به ، فقد زاد على الإعْرَاضِ .
والمرتبة الثالثة : كونهم مُسْتَهْزِئينَ بها؛ [ لأن
المكذب ] بالشيء قد لا يبلغ تكذيبه به إلى حدِّ الاسْتِهْزَاءِ ، فإذا بلغ إلى هذا
الحَدَّ ، فقدْ بَلَغَ الغَايَة القُصْوَى في الإنكار ، [ ثُم ] بَيَّن - تعالى
أنَّ أولئك الكُفَّار وصلوا في هذه المراتب الثلاثة على هذا الترتيب .
قوله تعال : { فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا
كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ
} .
« الأنبياء جمع » نبأ « وهو ما يعظم وقعه من الأخبار ،
وفي الكلام حَذْفٌ ، أي : يأتيهم مَضْمونُ الأنباء ، و » به « متعلّق بخبر » كانوا « .
و » لمّا « حرف وجوب أو ظرف زمان ، والعامل فيه » كذبوا «
و » ما « يجوز أن تكون موصولةٌ اسميةً ، والضميرُ في »
به « عائد عليها ، ويجوز أن تكون مصدرية .
قال بان عطيّة : أي : أنباء كونهم مستهزئين ، وعلى هذا
فالضميرُ لا يعودُ عليها؛ لأنها حرفية؛ بل تعود على الحقِّ ، وعند الأخفش يعود
عليها؛ لأنها اسم عنده .
ومعنى الآية : وسوف يأتيهم أخبارُ اسْتِهْزَائهِمْ
وجَزَاؤهُ ، أي : سيعلمون عاقبة اسْتهْزَائِهِمْ إذا عُذِّبُوا ، فقيل : يوم » بدر « وقيل : يوم
القيامة .
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ
قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا
السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا
آخَرِينَ (6)
قوله تعالى : { َلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا } لمَّا
منعهم من الإعراض والتَّكْذيب ، والاسْتِهْزاءِ بالتهديد والوعيد ، أتْبَعَهُ بما
يجري المَوْعِظةِ ، فوعظهم بالاعْتِبَار بالقُرُونِ الماضية .
و « كم » يجوز أن تكون اسْتِفْهاميَّةً وخبَريَّةً ، وفي
كِلاَ التقديرين فهي معلقة للرؤية عن العَمَلِ ، لأنَّ الخَبَريَّةَ تجري مجرى
اسْتِفْهاميَّةِ في ذلك ، ولذلك أعطيت أحكامها من وجوب التَّصْديرِ وغيره ،
والرُّؤيَةُ هنا عِلْميَّةٌ ، ويضعف كونها بصرية ، وعلى ككلا التقديرين فهي معلّقة
عن العمل؛ لأنَّ البصرية تجر مجراها ، فإن كانت عِلْمِيَّةً ف « كم » وما في
حيَّزها سادَّة مسدَّ مفعولين ، وإن كانت بَصَريَّةً فمسدّ واحد .
و « كم » يجوز أن تكون عبارة عن الأشخاص ، فتكون مفعولاً
بها ، نَاصِبُهَا « أهْلَكْنا » أي : إهلاكاً ، و « من قرنٍ » على هذا صِفَةٌ لمفعول « أهَلكْنَا »
أي : أهلكنا قوماً ، أو فوجاً من القُرُونِ؛ لأنَّ قرناً يُرَادُ به الجَمْعُ ، و
« مِنْ » تبعيضية ، والأولى لابتداء الغاية .
وقال الحُوفي : « من » الثانية بَدَلٌ من « مِنْ » الأولى ،
وهذا لا يُعْقَلُ فهو وَهْمٌ بَيَّنٌ ، ويحوز أن تكون « كم » عبارة عن الزَّمَانِ ، فتنتصبُ على
الظرف .
قال أبو حيان : تقديره : كم أزمنةٍ أهلكنا فيها .
وجعل أبو البقاء على هذا الوجه « مِنْ قَرْن » هو
المفعول به ، و « منْ » مَزيدَةٌ فيه ، وجاز ذلك؛ لأن الكلام غير موجب ، والمجرور نكرة
، إلاَّ أنَّ أبا حيَّان مَنَعَ ذلك بأنَّهُ لا يقع إذ ذاك المفرد موقع الجمع لو قلت
: « كم أزماناً ضَرَبْت رجلاً » أو كم مرة ضربت رجلاً لم يكن مدلولُ رجلٍ رجلاً ،
لأنَّ السؤال إنما يَقَعُ عن عدد الأزمنة أو المَرَّاتٍ التي ضربت فيها ، وبأن هذا
ليس مَوْضَعَ زيادة « مِنْ » لأنَّها لا تُزَادُ في الاستفهام ، إلاَّ وهو
استفهامٌ مَحْضٌ أو يكون بمعنى النَّفي ، والاستفهام هنا لَيْسَ مَحْضاً ولا
مُرَاداً به النفي انتهى .
قال شهابُ الدِّين : وجوابه لا يسلم .
و « قَرْن » الجماعة من النَّاسِ وجمعه « قرون » .
وقيل :
القَرْنُ مُدَّة من الزمان ، يقال : ثمانون سنةً ، [
ويقال : ستُّون سَنَةً ] ويُقال : أربعون سَنَةً ، ويقال : ثلاثون سَنَةً ، ويقال
: مائة سنة؛ لما روي أنَّه - عليه السلامُ- قال لعبد الله بن بشر المازني : « تَعِيْشُ
قَرْناً » فعاش مائة سَنَةٍ ، فيكون معنى الآية على هذه الأقَاوِيلِ من أهل قرنٍ؛
لأنَّ القَرْنَ الزمان ، ولا حَاجَةَ إلى ذلك إلاَّ على [ اعتقاد ] أنه حقيقة فيه
مَجَازٌ في النَّاسِ ، وسيأتي بَقِيَّةُ الكلام عليه في الصَّفْحَةِ الثانية .
قوله : « مَكَّنَّاهُمْ في الأرْضِ » في موضع جرِّ صفة ل
« قرن » ، وعاد الضميرُ عليه جمعاً باعتبارِ معناه .
قاله أبُو البقاء - رضي الله عنه- ، والحوفي رحمه الله .
وضعَّفه أبو حيان بأن « من قرن » تمييز ل « كم » ، ف « كم » هي المُحَدَّثُ عنا
بالإهلاكِ ، فهي المُحَدَّثُ عنها بالتَّمْكينِ لا ما بَعْدَهَا؛ إذ « من قرن »
يجري مجرى التَّبْينِ ، ولم يُحَدَّث عنه .
وجوَّز أبو حيَّان - رحمه اللَّهُ تعالى- أنْ تكون هذه
الجُمْلَةُ اسْتِئْنَافاً جواباً لسؤال مُقَدَّرِ ، قال : كأنَّه قيل : ما كان من
حَالِهِمْ؟ فقيل : مَكَّنَّاهم ، وجعله هو الظَّاهر ، وفيه نظرٌ ، فإنَّ النكرة
مُفْتِقِرةٌ للصِّفَةِ فَجَعْلُهَا صفة ألْيَقُ ، والفَرْقُ بين قوله تبارك وتعالى
: { مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض } وقوله : { مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ } [ أن «
مكنة في كذا ] أثبته فيها ، ومنه { وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ } [ الأحقاف : 26
] وأما مكنَّا جعل له مكاناً ، ومنه : { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض } [ الكهف : 84 ]
{ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ } [ القصص : 57 ] .
ومثله
» أرضٌ له « أي : جعل له أرضاً ، هذا قول الزمخشري- رحمه
الله تعالى- وأما أبو حيَّان - رضي الله عنه - فإنَّهُ يَظْهَرُ من كلامه
التَّسْوِيّةُ بيهما ، فإنَّهُ قال : وتعدِّي » مَكَّن « هنا للذَّوَات بنفسه
وبحرف الجَرِّ ، والأكْثَرُ تَعْدِيَتُهُ باللام [ نحو ] { مَكَّنَّا لِيُوسُفَ } [ يوسف : 21 ] {
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ } [ الكهف : 84 ] ، { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ } [ القصص
: 57 ] .
وقال أبُو عُبَيْدَة : » مكَّنَّاهُمْ ومكَّنَّا لهم :
لغتانِ فصيحتان ، نحو : نَصَحْتُه ، ونَصَحْتُ له « وبهذا قال أبو علي والجرحانيُّ .
قوله : » ما لم نُمكِّنْ لكم « في » ما « هذه همسة أوجه :
أحدهما :
أنْ تكون مَوْصُولةَ بمعنى » الذِّي « ، وهي حينئذٍ صفةٌ
لموصوف محذوف ، [ والتقديرُ : التميكن الذين لم نُمَكِّنْ لكم ، مَحْذُوفٍ
تقديره : تمكيناً ما لم نُمَكِّنْهُ لَكُمْ .
الثاني : أنها نكرةٌ صفةٌ لمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تقديره :
ما لم نُمَكِّنْهُ لكم ، ذكرهما الحُوفِيُّ رحمه الله تعالى .
وردَّ أبو حيَّان - رحمه الله تعالى - الأوَّلَ بأنَّ »
ما « بمعنى » الذي « لا تكون صِفَةً لمعرفةٍ ، وإن كان » الذي « يقع صِفَة لها ،
لو قلت : » ضَرَبْتُ الضَّرْبَ ما ضَرَبَ زيدٌ « تريد الضربَ الذي ضربه زَيْدٌ ، لم يَجُرْ
، فإن قلت : » الضَّرْبَ الذي ضربه زيد « جاز .
وَرَدَّ الثاني بأن » ما « النكرة التي تَقعُ صِفَةً لا
يجوزُ حَذْفُ موضوفها ، لو قلت
: » قُمْتُ ما وضَربْتُ مَا « وأنت تعني : قُمْتُ قياماً
ما وضربت ضرباً ما لم يَجُزْ .
الثالث : أن تكون مَفْعُولاً بها ل » مَكَّنَ « على
المعنى ، لأنَّ معنى مكَّنَّاهُمْ : أعطيناهم ما لم نُعْطِكُمْ ، ذكره أبُو
البقاءِ - رحمه الله- .
قال أبُو حيَّان - رحمه الله- : » هذا تَضْمِينٌ ، لا
يَنْقَاسُ « .
الرابع :
أن تكون » ما « مَصْدريَّةً ، والزَّمَان محذوف ، أي :
مُدَّة ما لم نمكِّن لكم ، والمعنى : مُدَّةَ انْتِفَاءِ التمكين لكم .
الخامس : أن تكون نكرةً موصُوفَةً بالجملة المنفيَّة
بعدها ، والعائد محذوف ، أي : شيئاً لم نمكِّنه لكم ، ذكرهما أيضاً أبو البقاء قال أبو حيان
- رحمه الله تعالى - في الأخير : » وهذا أقْرَبُ إلى الصَّوابِ « .
قال شهاب الدين - رحمه الله تعالى- : ولو قدَّره أبو
البقاءِ بخاصِّ لكان أحْسَنَ من تقديرِه بلفظ « شيء » ، فكان يقول : مَكَّنَّاهُمْ
تمكيناً لم نمكّنه لكم .
والضمير في « يروا » قيل : عائدٌ على المُسْتَهْزِئين ،
والخطابُ في « الكم » راجعٌ إليهم أيضاً ، فيكون على هذا التِفَاتاً فائدتُهُ
التَّعْريض بقلَّةِ تمكُّنِ هؤلاء ، ونَقْصِ أحوالهم عن حَالِ أولئك ، ومع تمكينهم
وكثرتهم فقد حَلَّ بهم الهَلاَكُ ، فكيف وأنتم أقَلُّ منهم تمكيناً وعدداً؟ .
وقال ابن عطيَّة - رحمه الله تعالى - : « والمُخَاطَبَةُ
في » الكم « هي للمؤمنين ولجميع المُعَاصرين لهم ولسائِرِ النَّاس كافَّةً ، كأنه
قيل : لم نُمَكِّن يا أهل هذا العَصْرِ لكم ، ويحتمل أن يُقدَّر معنى القول لهؤلاء
الكَفَرَةِ ، كأنه قال : يا مُحَمَّدُ قُل لهم : » ألَمْ يَرَوا كَمْ أهْلَكْنَا «
الآية ، فإذا أخبرت أنك قُلْتَ - أو أمَرْتَ أن يُقال - فلك في فَصيح كلام العرب
أن تحكي الألْفَاظَ المَقُولَةَ بعينها ، فتجيءَ بلفظ المُخَاطبة ، ولك أن تجيء
بالمعنى في الألفاظ بالغَيْبَةِ دون الخطاب » انتهى .
ومثاله : « قُلْتُ لزيد : ما أكرمك ، أو ما أكرمه » .
و « القَرْنُ » يقع على مَعَانٍ كثيرةن فالقرن : الأمَّةُ من
النَّاس ، سُمُّوا بذلك لاقُتِرَانهِمْ في مُدَّةٍ من الزَّمانِ ، ومنه قوله -
عليه الصلاة والسلام- : « خَيِْرُ القُرونِ قَرْنِي »
وقال الشاعر [ في ذلك المعنى : ] [ الطويل ]
- ... 2108أخَبِّرُ أخْبَارَ القُرُونِ التي مَضَتْ
أدِبُّ كَأنِّي كُلَّمَا قُمْتُ رَاكِعُ ... وقال قَسُّ
بنُ سَاعِدَةَ : [ مجزوء الكامل
]
2109- ... فِي الذَّاهبينَ الأوَّلِي
نَ مِنَ القُرُونِ لَنَا بَصَائِر ... وقيل : أصله
الاتفاعُ ، ومنه قَرْنُ الثَّوْرِ وغيره ، فَسُمُّوا بذلك لارتفاع السِّنِّ .
وقيل :
لأنَّ بعضهم يُقْرَنُ ببعض ، ويُجْعَلُ مجتمعاُ معه ،
ومنه القرنُ للحَبْلِ يُجْمَعُ به بين البَعيريْنَ ، ويُطلَقُ على المُدَّة من
الزَّمان أيضاً .
وهل إطلاقُهُ على النَّاسِ والزَّمان بطريق الاشْتَرَاكِ
، أو الحقيقة والمجاز؟ يُرَجَّعُ الثَّاني؛ لأنَّ المجَازَ خيرٌ من الاشْتِرَاكِ .
وإذا قُلنا بالراجح ، فإنها الحقيقة ، الظاهر أنه
القَوْمُ؛ لأنَّ غالب ما يُطْلَقُ عليهم ، والغَلَبَةُ مُؤذِنّةٌ الأصَالَةِ
غالباً . وقال ابنُ عطيَّة - رحمه الله تعالى : - القَرْنُ أنْ يكون وفاةُ الأشيخ وولادَةُ
الأطفال ، ويَظْهَرُ ذلك من قوله تعالى : { وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً
آخَرِين } [ الأنعام : 6 ] فجعله مَعْنّى ، وليس بواضح وقيل : القَرْنُ : النَّاسُ
المجتمعون كما تقدَّم ، قلّت السِّنُون أو كثُرتْ ، واستدلُّوا بقوله عليه الصلاة
والسلام : « خَيْرُ القُرونِ قَرْنِي » وبقوله : [ مجزوء الكامل ]
2110- فِي الذَّاهبين الأوَّلي ... نَ مِنَ القُرُونِ
لَنَا بَصَائِر
وبقول القائل في ذلك : [ الطويل ]
211- إذَا ذَهَبَ القَوْمُ الَّذِي كُنْتَ فِيهِمُ ...
وَخُلِّفْتَ فِي قَرْنِ فَأنْتَ غَرِيبُ
فأطلقوه على النَّاسِ ليفيد الاجتماع .
ثم اختلفت النَّاسِ في كميةِ القَرْنِ حالة إطلاقه على
الزَّمان ، فالجمهور على أنَّهُ مائة سنة ، واستدلُّوا له بقوله عليه السلام : «
تَعيشُ قَرْناً » فعاش مائة سَنَةٍ ، وقيل : مائة وعشرون سنة ، قاله إيَاسُ
مُعَاويَةَ ، وزارة بن أبي أوفى
.
وقيل : ثمانون نقله أبو صالح عن ابن عبَّاسٍ .
وقيل : سبعون؛ قاله الفرّاء .
وقيل : ستُّون لقوله عليه السلام : « مُعْتَرَكُ
المنَايَا ما بَيْنَ السِّتِّنَ إلى السِّبعينَ »
وقيل :
أربعُون ، حكاه محمد بن سيرين ، يرفعه إلى النَّبي عليه
الصَّلاة والسَّلامُ ، وكذلك الزَّهراوي أيضاً يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم
وقيل : ثلاثون حكاهُ النَّفَّاش عن أبي عُبَيْدة ، كانوا يرون أن ما بين القرنين
ثلاثون سنة .
وقيل : عشرون سنةً ، وهو رأي الحَسَنِ البصري .
وقيل : ثمانية عشر عاماً .
وقيل :
المقدار الوَسَطُ مثل أعمار أهل ذلك الزمان ،
واسْتُحْسِنَ هذا بأنَّ أهل الزَّمَنِ القديم كانوا يعيشون أربعمائة سَنَةً ،
وثلاثمائة سنة ، وألفاً وأكثر وأقلَّ
.
ومعنى الآية : أعطيناهم ما لم نُعْطِكُمْ .
وقال ابن عبَّاسٍ : أمهلناهم في العمر مثل قوم نوح وعادٍ
وثمود .
قوله :
{ وَأَرْسَلْنَا السمآء عَلَيْهِم مَّدْرَاراً } يعني
المَطَرَ « مِنفْعَال » من الدَّرِّ و « مِدْرَاراً » حالٌ من « المساء » إنْ أُريد بها
السحاب ، فإن السحاب يوصف بكثرةِ التَّتَابُع أيضاً .
قال ابنُ عبَّاسٍ : مِدْرَاراً مُتَتَبابِعاً في أوْقاتِ
الحَاجَاتِ ، وإن أُريَد بها الماء فكذلك ، ويَدُلُّ على أنه يُرَادُ به المَاءُ
قوله في الحديث : « في أثر سماءٍ كَانَتْ من اللَّيلِ » ويقولون : ما زلنا نَطَأُ
السماء حتى أتيناكم ، ومنه : [ الوفر
]
2112- إذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بأرْضِِ قَوْم ...
رَعَيْنَاهُ وإنْ كَانُوا غِضَابا
أي : رَعَيْنَا ما نيشأ عنه ، وإن أُريدَ بها هذه المِظَلَّةُ ، فلا
بُدّ من حذف مُضافٍ حينئذٍ ، أي : مَطَر السماء ، ويكون « مِدْرّاراً » حالاً منه .
و « مِدْرَاراً » مِفعال للمُبالغةِ كامرأة مِذْكارِ
ومئناث .
قالوا : وأصله من « دَرَّ اللَّبَن » وهو كَثْرةُ ورودِه
على الحالِبِ .
ومنه : « لا دَرَّ دَرُّهُ » في الدُّعَادءِ عليه
بقلَّةِ الخير .
وفي المَثَلِ « سَبَقَتْ درَّتُه غِزَارَهُ » وهي مثلُ
قولهم : « سَبَقَ سَيْلُهُ مَطَرَه » و « استدَّرت المِعْزَى » كناية عن طلبها
الفَحْلَ .
قالوا : لأنَّها إذا طَلَبَتْهُ حَمَلَتْ فَوَلَدَتْ
فَدَرَّتْ .
قوله :
{ وَجَعَلْنَا الأنهار تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ } إن
جعلنا « جَعَلَ » تَصْييريةً كان « تجري » مفعولاً ثانياً ، وإن جعلناها
إيجادِيَّةً كان حالاً .
و « من تحتهم » يجوز فيه أوجه :
أن يكون متعلّقاً ب « تجري » ،
وهو أظهرها ، وأن كون حالاً ، إمَّا من فاعل « تجري » ، أو من « الأنهار » ، وأنْ يكون مفعولاً ثانياً « جَعَلْنَا » و « تجري
» على هذا حالٌ من الضمير في الجَازَّ ، وفيه ضَعْفٌ لتقدُّمِهَا على العامل
المَعْنَوِيّ ، ويجوز أن يكون « من تحتهم » حالاً من « الأنْهَار » كما تقدَّم ، و
« تجري حالٌ من الضمير المُسْتَكِنِّ فيه ، الضَّعْفُ المتقدّمُ .
فصل
المُرَادُ من قوله : { وَجَعَلْنَا الأنهار تَجْرِي مِن
تَحْتِهِمْ } كَثْرَةُ البَسَاتيِن ، والمعنى أنهم وَجَدُوا من مَنَافع الدُّنيا
أكثر مما وَجَدَهُ أهلُ « مكَّة » المشرفة ، ثُمَّ مع هذه الزيادة في العِزِّ ، وكثرة
العدد والبَسْطَةِ في المال والجِسْمِ لمَّا فجرى عليهم ما سمعتم من إهلاكهم ،
وهذا يوجب الاعتبار .
فإن قيل : ليس في هذا الكلام إلاَّ أن الإهلاك غي مختصّ
بهم ، بل الأنبياء والمؤمنون كلهم أيضاً قد لهكوا فكيف يحسنُ إيرادُ هذا الكلام في
مَعْرضِ الزَّجْرِ عن الكُفْرِ مع أ ، ه يشترك فيه الكَافِرُ والمؤمنُ؟ .
فالجوابُ : ليس المقصود منه الزَّجْر بمجرد المَوْتِ ،
والهلاك ، بل المُرَاد منه أنهم بَاعُوا الدَّينَ بالدنيا؛ فعوقبوا بسبب
الامْتِنَاعِ عن الإيمان ، وهذا المعنى مُشْتَرَكٍ بين الكافر والمؤمن .
فإن قيل : كيف قال : « أوْ لَمْ يَرَوْا كَمْ أهْلَكْنَا » مع أنَّ
القَوْمَ ماتوا مُقِرِّين بِصِدْقِ محمد صلى الله عليه وسلم فيما يخبر به عنه ،
وأيضاً فهم لم يُشَاهدوا وقَائِعَ الأمم السَّالفة؟
فالجواب : أنَّ [ أقَاصِيصَ المتقدمين مشهورة بين الخلق
فيبعد أن يقال إنهم ما سمعوا أخبارهم ، ومجرد سماعها يكفي في الاعتبار .
فإن قيل : أي فائدة في ذكر إنشاء قرن آخرين بعدهم؟
فالجواب :
أن ] فائدته التَّنْبِيهُ أنَّه لا يَتَعَاظَمُهُ
إهْلاكُهُمْ وإخْلاَءُ بلادهم منهم ، فإنه قَادِرٌ على إنشاء آخرين مَكَانَهُمْ
يُعِّمرُ بهم بلاده ، كقوله : { وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا } [ الشمس : 15 ] .
و « من بعدهم » متعلِّق ب « أنشأنا » .
قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون حَالاً من « قرن » ؛
لأنه ظَرفُ زمان يعني : أنه منه؛ لكنه منعن ذلك كونُهُ ظرف زمان والزَّمَانُ لا
يُخْبَرُ به عن الحَدَثَ ولا يُوصَفُ ، وقد تقدَّمَ أنه يصحُّ ذلك بتأويل في «
البقرة » عند قوله تعالى : { والذين مِن قَبْلِكُمْ } [ البقرة : 21 ] و « آخرين » صِفَةٌ ل «
قَرْن » ؛ لأنه اسم جَمْع ك « قوم » و « رهط » ، فذلك اعْتُبِر معنها ، ومن قال :
إنَّهُ قدَّرَ مُضَافَاً ، أي : أهل قرن آخرين ، وقد تقدَّمَ أنَّهُ مرْجُوحٌ ،
واللَّهُ أعلم .
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ
فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ
مُبِينٌ (7)
قال الكلبي ومقاتل : تزلت هذه الآية في النَّضْرِ بن
الحَرْثِ ، وعبد الله بن أبي أميَّةَ ، ونوفل بن خُوَيْلدٍ قالوا : يا محمد لَنْ
نُؤمِنَ لَكَ حَتَّى تأتينا بكتاب من عندِ اللَّهِ ، ومعه أربعةٌ من الملائكة
يَشْهدُونَ معه أنَّهُ من عند الله ، وأنَّك رسوله ، فأنزل الله تعالى : { وَلَوْ
نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ } مكتوباً من عنده « فَلَمَسُوه
بأيديهم » أي : عَايَنُوهُ ومَسُّوهُ بأيديهم ، وذكر اللَّمْسَ ولم يذكر
المُعَايَنَةَ ، لأن اللَّمْسَ أبْلَغُ في إيقاع العِلْمِ من الرؤية ، ولأنّ
السِّحْر يجري على المرئي ، ولا يجري على الملموس .
قوله : « فِي قِرْطَاسٍ » يجوز أن يتعلَّق بمحذوف على
أنه صِفَةٌ ل « كتاب » ، سواء أريد ب « كتاب » المصدرُ ، أم الشيْ المكتوب ، ومن
مجيء الكتاب بمعنى مكتوب قوله : [ الطويل ]
2113 . . صَحِيفَة ... ً أتَتْكَ مِنَ الحَجَّاجِ
يُتْلَى كِتَابُهَا
ومن النَّاس من جعل « كتاباً » في الآية الكريمة
مَصْدَراً؛ لأن نَفْسَ الكُتُبِ لا تُوصَفُ والقِرْطاس : الصَّحِيفة يُكتبُ فيها
تكُون من رقِّ وكَاغِدٍ ، بكسر القاف وضمها ، والفصيح الكسر ، وقرئ بالضّم شاذّاً نَقَلَهُ
أبو البقاء - رحمه الله تعالى- والقِرْطَاسُ : اسم أعْجِمِيُّ مُعَرَّبٌ ، ولا
يقال : قِرْطَاس إلاَّ إذا كان مكتوباً ، وإلاَّ فهو طِرْسٌ وكَاغِدٌ ، وقال زهير
: [ البسيط ]
2114 ... - لَهَا أخَادِيدُ مِنْ آثَارِ سَاكِنِها
كَمَا تَردَّدِ فِي قِرْطَاسِهِ القَلَم ... قوله : «
فَلَمَسُوهُ » الضمير المنصوب يجوز أن يَعُودَ على « القِرْطاس » ، وأن يعود على «
كتاب » بمعنى مَكْتُوب .
و « بأيديهم » متعلِّق ب « لَمَسَ » .
و « الباء » للاستعانة كعملت بالقَدُّوم . و « لَقَال »
جواب « لو » جاء على الأفصح من اقتران جوابها المُثْبَتِ باللام .
قوله :
« إنْ هذا » [ و ] و « إنْ » نافية ، و « هذا » و «
إلاَّ سحرٌ » خبره ، فهو استثناء مُفَرَّغٌ ، والجُمْلَة المَنْفِيَّةُ في مَحَلِّ
نصب بالقولِ ، وأوقع الظَّاهرَ مَوْقَعَ المضمر في قوله : « لَقَالَ الذين
كَفَرُوا » شَهادَةً عليهم بالكُفْرِ ، والجملة الامتنَاعِيَّةُ لا مَحَلَّ لها من الإعراب
لاستئنافها .
ومعنى الآية الكريمة : أنَّهُ لا يَنْفَعُ معهم شيءٌ لما
سبق فيهم من علمي ، واللَّهُ أعلم
.
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ
أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ
جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا
يَلْبِسُونَ (9)
وهذه شبهٌ ثالثةٌ من شُبَهِ النُّبوة ، فإنهم يقولون :
لو بَعَثَ اللَّهُ إلى الخَلْق رسولاً لوجب أن يكون ذلك الرَّسُولُ إذا أراد تحصيل
مُهِّم ، فإنما يَسْتعَعِينُ في تحصيله بمَنء هو أقْدّرُ على تحصيله ، وإذا كان
وقوع الشُّبُهَاتِ في نُبُوَّةِ الملائكة أقَلَّ وَجَبَ تعنُّتِهم وتَصَلُّبِهِم في
كُفْرهم .
قيل : ويجوز أن تكون مَعْطُوفة على جواب « لو » ، أي :
لو نزَّلْنَا عليك كتاباً لَقَالُوا كذا وكذا ، ولقالوا : لو أُنزِ عليه مَلَكٌ .
وجيء بالجواب على أحد الجائزين ، أعني حذف « اللام » من
المثبت ، وفيه بُعْد؛ لأن قولهم « لولا نُزِّلَ » ليس مُتَرَتِّباً على قوله : « لولا
نَزَّلْنَا » و « لولا » هنا تخضيضِيَّةٌ ، والضميرُ في « عَلَيْه » الظَّاهرُ
عَوْدُهُ على النبي صلى الله عليه وسلم
.
وقيل : يجوز أن يَعُودَ على الكتاب أو القِرْطَاسِ .
والمعنى :
لولا أنْزِلَ مع الكتاب مَلَكٌ يشهدُ بِصحَّتِهِ ، كما
يُرْوَى في القِصَّةِ أنه قيل له : لن نؤمن لك حتى تَعْرُج فتأتي بكتاب ، ومعه
أربعة ملائكة يشهدون ، فهذا يَظْهَرُ على رأي من يقولك إنَّ الجملة من قوله : « وقالوا : لولا
أنْزِلَ » معطوفةٌ على جواب « لواء » ، فإنَّهُ تعلّق به من حيث المعنى حينئذٍ .
فصل في دحض شبهة منكري النبوة
واعلم أنَّ الله - تبارك وتعالى - أجاب عن هذه
الشُّبْهَةِ بوجهين :
أحدهما :
قوله : { وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمر }
ومعنى القضاء : الإتمام والإلزام ، والمعنى : ولو أنزلنا ملكاً لم يؤمنوا ،
وإذا لم يؤمنوا اسْتُؤصِلُوا بالعذاب ، وهذه سُنَّةُ اللَّهِ تعالى في الكُفَّار .
والوجه الثاني : أنَّهم إذا شاهدوا الملك زَهَقَتْ
أرْوَاحُهُمْ من هَوْل ما يشاهدون؛ لأنَّ الآدمي إذا رأى الملك ، فإمَّا أنْ يراه
على صورتِهِ الأصْلِيَّةِ ، أو على صورة البَشَرِ ، فإن رآه على صورته الأصليَّةِ غُشِيَ
عليه ، وإنْ رآه على صورة البَشَرِ ، فحينئذ يكونُ المَرْئيُّ شخصاً على صورة
البشر عاينوا الملائكة في صورة البشر كأضياف إبراهيم وأضياف لوط ، وخصَّهم دَاوُد
وجبريل حيثُ تَخَيَّل لمريم بَشَراً سَوِياً .
واعلم أنَّ عدم إرسال الملك فيه مصالح :
أحدهما :
إن رؤية إنزال الملكِ على البشرِ آية قاهرةٌ فبتقدير
نزوله على الكُفَّارِ ، فرُبَّما لم يؤمنوا ، كا قال الله تبارك وتعالى { وَلَوْ أَنَّنَا
نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملاائكة } [ الأنعام : 111 ] إلى قوله : { مَّا كَانُواْ
ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } [ الأنعام : 111 ] ،
وإذا يؤمنوا وجب إهلاكهُمْ بعذاب الاسْتئِصَالِ .
وثانيها : ما ذكرناه من عَدَمِ قُدْرِتِهِمْ على رية
الملائكة .
وثالثها : إنَّ إنزال الملك معجزةٌ قاهِرةٌ جاريةٌ مجرى
الإلْجْاءِ ، وإزالة الاختيار ، وذلك يخلُّ بمصلحة التكليف .
ورابعها : أنَّ إنزال المَلكِ وإن كان يّدْفَعُ
الشُّبُهَاتِ من الوجوه المذكورة ، لكنَّهُ يُقوِّي الشُّبْهَةَ من هذه الموجوه .
والمراد من قوله تعالى : { ثُمَّ لاَ يُنظَرُون }
فالفائدة في « ثم » التنبيه على أنَّ عَدَمَ الإنظار أشدُّ مُضِيَّ الأمر؛ لأن
المُفَاجَئَةَ أشَدُّ من نفس الشدة
.
قال قتادة : { وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً } ثمَّ لم
يؤمنوا لعُجِّلَ لهم العذاب ولم يُؤخَّرْ طَرْفَةَ عَيْنِ .
وقال مجاهد : « لقضي الأمر » ، أي : لقامت القيامة .
وقال الضحَّاك : لو أتاهم ملكٌ في صورته لماتوا .
قوله :
{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً } يعني : لو أرسلناه إليهم
مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً يعني في صورة رجلٍ آدمي؛ لأنهم لا يستطيعون النَّظَرَ إلى
الملائكةِ ، كان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دِحْية
الكلبي وجاء الملكان إلى دَاوُد عليه السلام في صورةِ رَجُلّيْنِ ، ولأن الجنس إلى
الجنس أميلُ وأيضاً فإنَّ طَاعَة الملائكة قَوِيَّةٌ ، فَيَسْتحْقِرُونَ طَاعَاتِ
البَشَرِ ، ورُبَّما لا يعذرونهم بالإقدام على المعاصي .
قوله تعالى : { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُون
} في « ما » قولان :
أحدهما :
أنها مَوْصولةٌ بمعنى « الذي » ، أي :