حمل المصحف وورد وبي دي اف.

 حمل المصحف وورد وPDF.
القرآن الكريم وورد word doc icon||| تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

الجمعة، 23 سبتمبر 2022

ج53.وج54.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

ج53.وج54.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

ج53.وج54.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني

اولا :

ج53. كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)
قوله : { وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وهو الإسلام . { وَإِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة عَنِ الصراط } عن دين الحق « لَنَاكِبُونَ » لعادون عن هذا الطريق ، لأنَّ طريق الاستقامة واحد وما يخالفه فكثير .
قوله : « عَنِ الصِّرَاطِ » متعلق ب « نَاكِبُونَ » ولا تمنع لام الابتداء من ذلك على رأي تقدّم تحقيقه . والنُّكُوب والنَّكْبُ : العدول والميل ، ومنه : النَّكْبَاء للريح بين ريحين ، سُميت بذلك لعدولها عن المهاب ، وَنَكَبَتْ حوادثُ الدهرِ ، أي : هَبّت هبوب النَّكْبَاء .
والمَنْكِبُ : مجتمع ما بين العَضُدِ والكتف ، والأَنْكَبُ : المائل المَنْكِب ، ولفلان نِكَابَة في قومه أي : نقابة فتشبه أن تكون الكاف بدلاً من القاف ، ويقال : نَكَبَ ونَكَّبَ مخففاً ومثقلاً .
قوله : { وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ } قحط وجدب وقيل : ضرر القتال والسبي . وقيل : مضار الآخرة وعذابها .
قوله : « للجُّوا » جواب « لَوْ » ، وقد توالى فيه لاَمَان ، وفيه تضعيف لقول من قال : جوابها إذا نفي ب ( لم ) ونحوها مما صدر فيه حرف النفي بلام أنه لا يجوز دخول اللام ولو قلت : لو قام لَلَمْ يقم عمرو ، لَمْ يجز ، قال : لئّلا يتوالى لامان ، وهذا موجود في الإيجاب كهذه الآية ، ولم يمتنع ، وإلا فما الفَرْق بين النفي والإثبات في ذلك واللّجَاجُ : التمادي في العناد في تعاطي الفعل المزجور عنه ، ومنه اللَّجَّة : بالفتح : لتردد الصوت ، كقوله :
3805- في لَجَّةٍ أَمْسِكْ فُلاَناً عن فُلِ ... ولجَّة البحر لتردد أمواجه ، ولَجَّةُ الليل لتردّد ظلامه . واللَّجْلَجَةُ تردّد الكلام ، وهو تكرير لَجَّ ، ويقال : لَجَّ والتَجَّ . ومعنى الآية : لتمادوا في طغيانهم وضلالهم وهم متحيرون لم ينزعوا عنه .
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)
قوله : { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب } قال المفسرون : لما أسلم ثُمامة بن أثال الحنفي ، ولحق باليمامة ، ومنع المِيرَة عن أهل مكة ، ودَعَا النبي صلى الله عليه وسلم على قريش أن يجعل عليهم سنين كسني يوسف ، فأصابهم القحط حتى أكلوا العِلْهِز ، جاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : أنشدك الله والرحم ، ألَسْتَ تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ فقال : « بَلَى » . فقال : قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع ، فادعُ الله يكشف عنا هذا القحط ، فدعا فكشف عنهم ، فأنزل الله هذه الآية . والمعنى أخذناهم بالجوع فما أطاعوا . وقال الأصم : العذاب هو ما نالهم يوم بدر من القتل والأسر يعني أن ذلك مع شدة ما دعاهم إلى الإيمان .
وقيل : المراد من عُذِّبَ من الأمم الخالية . « فَمَا اسْتَكَانُوا » أي : مشركو العرب .
قوله : « فَمَا اسْتَكَانُوا » تقدم وزن ( استكان ) في آل عمران .
وجاء الأول ماضياً والثاني مضارعاً ، ولم يجيئا ماضيين ، ولا مضارعين ولا جاء الأول مضارعاً والثاني ماضياً ، لإفادة الماضي وجود الفعل وتحققه ، وهو بالاستكانة أليق ، بخلاف التضرع فإنه أخبر عنهم بنفي ذلك في الاستقبال وأما الاستكانة فقد توجد منهم .
وقال الزمخشري : فإن قلت : هَلاَّ قيل : وما تَضرّعوا ( أو ) فما يستكينون .
قلت : لأنّ المعنى محنّاهم فما وجدت منهم عقيب المحنة استكانة ، وما مِنْ عادة هؤلاء أن يستكينوا ويتضرعوا حتى يفتح عليهم باب العذاب الشديد .
فظاهر هذا أنَّ ( حَتَّى ) غاية لنفي الاستكانة والتضرّع . ومعنى الاستكانة طلب السكون ، أي : ما خضعوا وما ذلوا إلى ربهم ، وما تضرعوا بل مضوا على تمرّدهم .
قوله : { حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ } . قرئ « فَتَّحنَا » بالتشديد .
قال ابن عباس ومجاهد : يعني القتل يوم بدر . وقيل : الموت وقيل : قيام الساعة . وقيل : الجوع . { إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } آيسون من كل خير . وقرأ السلمي : « مُبْلَسُون » - بفتح اللام - من أبلسه ، أي : أدخله في الإبلاس .
قوله تعالى : { وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار } الآية .
العطف لا يحسن إلاّ مع المجانسة ، فأي مناسبة بين قوله : { وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار } وبين ما قبله؟
والجواب : كأنّه تعالى لمّا بيّن مبالغة الكفار في الإعراض عن سماع الأدلة والاعتبار ، وتأمّل الحقائق قال للمؤمنين : هو الذي أعطاكم هذه الأشياء ووفّقكم لها تنبيهاً على أنَّ من لم يُعمل هذه الأعضاء فيما خلقت له فهو بمنزلة عادمها ، لقوله : { فَمَآ أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ } [ الأحقاف : 26 ] وأفرد السمع والمراد الأسماع ثم قال : { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } .
قال أبو مسلم : وليس المراد أنَّ لهم شكراً وإن قَلّ ، لكنه كما يقال للكفور والجاحد للنعمة : ما أقلّ شكر فلان .
ثم قال : { وَهُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض } أي : خلقكم ، قال أبو مسلم : ويحتمل بسطكم فيها ذرية بعضكم من بعض حتى كثرتم كقوله : { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } [ الإسراء : 3 ] أي : هو الذي جعلكم في الأرض متناسلين ، ويحشركم يوم القيامة إلى دار لا حاكم فيها سواه ، فجعل حشرهم إلى ذلك الموضع حشراً إليه لا بمعنى المكان . ثم قال : { وَهُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي : نعمة الحياة وإن كانت من أعظم النعم فهي منقطعة وأنّه سبحانه - وإن أنعم بها ، فالمقصود منها الانتقال إلى دار الثواب . ثم قال : { وَلَهُ اختلاف الليل والنهار } أي : تدبير الليل والنهار في الزيادة والنقصان ، ووجه النعمة بذلك معلوم . قال الفراء : جعلهما مختلفين يتعاقبان ويختلفان في السواد والبياض . ثم قال : « أَفَلاَ تَعْقِلُونَ » قرأ أبو عمرو في رواية يعقوب : بياء الغيبة على الالتفات والمعنى : أفلا تعقلون ما ترون صُنْعَهُ فَتعْتبرونَ .
بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
قوله تعالى : { بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأولون } أي : كذبوا كما كذب الأولون { قالوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } لمحشورون ، قالوا ذلك منكرين متعجبين .
واعلم أنه - سبحانه - لما أوضح دلائل التوحيد عقّبه بذكر المعاد ، فذكر إنكارهم البعث مع وضوح أدلته ، وذكر أن إنكارهم ذلك تقليد للأولين ، وذلك يدل على فساد القول بالتقليد ثم حكى قولهم : { لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هذا مِن قَبْلُ } كأنهم قالوا إنّ هذا الوعد كما وقع منه - عليه السلام - فقد وقع قديماً من سائر الأنبياء ثم لم يوجد مع طول العهد ، وظنُّوا أنّ الإعادة تكون في الدنيا ، ثم قالوا : لمّا لم يكن ذلك فهو من أساطير الأولين . والأساطير جمع أسْطار ، وهي جمع سَطْر ، أي : ما كتبه الأولون مما لا حقيقة له ، أو جمع أُسْطُورَة .
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)
قوله تعالى : { قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ } الآية . اعلم أنه يمكن أن يكون المقصود من هذه الآيات الرد على منكري الإعادة ، وأن يكون المقصود الرد على عبدة الأوثان ، لأنّ القوم كانوا مُقرين بالله ، وقالوا : نعبد الأصنام لتقربنا إلى الله زلفى ، فقال تعالى : قل يا محمد مُجيباً لَهُم يعني يا أهل مكة { لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ } من الخلق { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } خالقها ومالكها « سَيَقُولُونَ لِلَّهِ » فَلا بُدّ لهم من ذلك ، لأنهم يقرون أنها مخلوقة ، فقل لهم إذا أقَرُّوا بذلك : « أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ » فتعلمون أنّ من قدر على خلق الأرض ومن فيها ابتداء يقدر على إحيائهم بعد الموت . وفي قوله : { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } سؤال يأتي في قوله : { وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } ووجه الاستدلال به على نفي عبادة الأوثان من حيث أن عبادة من خلقهم ، وخلق الأرض وكل من فيها هي الواجبة دون عبادة ما لا يضر ولا ينفع .
وقوله : { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } معناه الترغيب في التدبّر ليعلموا بطلان ما هم عليه .
قوله : { قُلْ مَن رَّبُّ السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } ووجه الاستدلال بها على الأمرين كما تقدّم . وإنما قال : « أَفَلاَ تَتَقُّونَ » أي : تحذرون ، تنبيهاً على أنَّ اتقاء عذاب الله لا يحصل إلاَّ بترك عبادة الأوثان ، والاعتراف بجواز الإعادة .
قوله : { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } قرأ أبو عمرو « سَيُقُولونَ اللَّهُ » في الأخيرتين من غير لام جر ، ورفع الجلالة جواباً على اللفظ لقوله « مَنْ » قوله : { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ } ، لأنّ المسؤول به مرفوع المحل وهو « مَنْ » فجاء جوابه مرفوعاً مطابقاً له لفظاً ، وكذلك رُسِم الموضعان في مصاحف البصرة بالألف .
والباقون : « لِلَّهِ » في الموضعين باللام وهو جواب على المعنى؛ لأنه لا فرق بين قوله : { مَن رَّبُّ السماوات } وبين قوله : لِمَن السَّمَوات ، ولا بين قوله : « مَنْ بِيَدِهِ » ولا لمن له الإحسان ، وهذا كقولك : مَنْ رَبّ هذه الدار؟ فيقال : زيدٌ ، وإن شئت لزيدٍ ، لأنّ قولك : من ربُّه؟ ولمن هو؟ في معنى واحد ، لأنّ السؤال لا فرق فيه بين أن يقال : لمن هذه الدار؟ ومن ربُّها؟ واللام مرسومة في مصاحفهم فوافق كل مصحفه .
ولم يختلف في الأول أنه « لِلَّهِ » ، لأنه مرسوم باللام وجاء الجواب باللام كما في السؤال ولو حذفت من الجواب لجاز ، لأنه لا فرق بين : « لِمَنِ الأَرْضُ » ومَنْ رَبّ الأرض ، إلا أنه لم يقرأ به أحد .
قوله : { قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } ( لمّا ذكر الأرض أولاً والسماء ثانياً ، عمَّم الحكم هاهنا بقوله : { قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } ) ويدخل في الملكوت المِلْك والمُلْك والتاء فيه على سبيل المبالغة .
« وَهُوَ يُجِيرُ » أي : يؤمن من يشاء ، { وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ } أي : لا يؤمن من أخافه الله ، يقال : أجرت فلاناً على فلان إذا منعته منه .
قوله : { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } فيه سؤال : وهو كيف قال : { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } ثم حكى عنهم « سَيَقُولُونَ اللَّهُ » وفيه تناقض؟ والجواب : لا تناقض ، لأنّ قوله : { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } لا ينفي علمهم بذلك وقد يُقال مثل ذلك في الحِجَاج على وجه التأكيد لعلمهم والبعث على اعترافهم بما يورد من ذلك .
وقوله : { فأنى تُسْحَرُونَ } أي : تصرفون عن توحيده وطاعته ، والمعنى كيف يحتمل لكم الحق باطلاً . { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بالحق } بالصدق ، « وإنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ » فيما يدعون من الشرك والولد ، وقرئ هنا ببعض ما قرئ به في نظيره . فقرأ ابن إسحاق : « أَتَيْتُهُمْ » بتاء الخطاب ، وغيره بتاء المتكلم .
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)
قوله تعالى : { مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ } الآية . وهذه الآية كالتنبيه على الردّ على الكفار الذين يقولون : الملائكة بنات الله . وقوله : { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ } ردّ على اتخاذهم الأصنام آلهة ، ويحتمل أن يريد به إبطال قول النصارى والثنوية .
ثم إنه تعالى ذكر الدليل بقوله : { إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } أي : لانفرد كل واحد من الآلهة بما خلقه ، ولم يرض أن يضاف خلقه إلى غيره ، ومنع الإله الآخر عن الاستيلاء على ما خلق { وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } أي : طلب بعضهم مغالبة بعض كفعل ملوك الدنيا فيما بينهم ، وحين لم تروا ذلك فاعلموا أنه إله واحد .
قوله : « إذاً » جواب وجزاء ، قال الزمخشري : فإن قلت : « إذاً » لا تدخل إلاَّ على كلام هو جواب وجزاء ، فكيف وقع قوله : « لَذَهَبَ » جواباً وجزاءً ولم يتقدّم شرط ولا سؤال سائل قُلْتُ : الشرط محذوف تقديره : لَوَ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ ، حذف لدلالة { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ } .
وهذا رأي الفراء ، وقد تقدّم في الإسراء في قوله : { وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } [ الإسراء : 73 ] ثم إنه تعالى نَزّه نفسه فقال : { سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ } من إثبات الولد والشريك .
قرئ : « تَصِفُونَ » بتاء الخطاب وهو التفات .
قوله : « عَالِمُ الغَيْبِ » قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم : بالجر على البدل من الجلالة . وقال الزمخشري : صفة لله . كأنه محض الإضافة فتعرف المضاف .
والباقون : بالرفع على القطع خبر مبتدأ محذوف .
ومعنى الآية : أنه مختص بعلم الغيب والشهادة ، فغيره وإن علم الشهادة لكن لم يعلم الغيب ، لأن الشهادة لا يتكامل بها النفع إلا مع العلم بالغيب وذلك كالوعيد لهم فلذلك قال : ( « فَتَعَالَى اللَّهُ ) عَمَّا يُشْرِكُونَ » .
قوله : « فَتَعَالَى » عطف على معنى ما تقدم ، كأنّه قال علم الغيب فتَعَالَى كقولك : زيد شجاع فعظمت منزلته أي : شجع فعظمت . أو يكون على إضمار القول ، أي : أقول فتعالى الله . قوله : { قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ } أي : ما أوعدتهم من العذاب قرأ العامة « تُرِيَنِّي » بصريح الياء . والضحاك : « تُرِئَنِّي » بالهمز عوض الياء ، وهذا كقراءة : « فَإِمَّا تَرِئَنَّ » « لتَرؤُنَّ » بالهمز ، وهو بدل شاذ .
قوله : { رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي } جواب الشرط ، و « رَبِّ » نداء معترض بين الشرط وجزائه ، وذكر الربّ مرتين مرة قبل الشرط ومرة قبل الجزاء مبالغة في التضرع .
فإن قيل : كيف يجوز أن يجعل الله نبيه مع الظالمين حتى يطلب أن لا يجعله معهم؟
فالجواب : يجوز أن يسأل العبد ربه ما علم أنه يفعله ، وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله إظهاراً للعبودية وتواضعاً لربه .
قوله : { وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ } هذا الجار متعلق ب « لَقَادِرُونَ » أو بمحذوف على خلاف سبق في أن هذه اللام تمنع ما بعدها أن يعمل فيما قبلها . والمعنى : أنهم كانوا ينكرون الوعد بالعذاب ، فقيل لهم : إن الله قادر على إنجاز ما وعد في الدنيا . وقيل : المراد عذاب الآخرة .
قوله : { ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة } وهو الصفح والإعراض والصبر على أذاهم .
قال الزمخشري : قوله : { ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة } أبلغ من أن يقال : بالحسنة السيئة لما فيه من التفضيل ، ( كأنه قال ادفع بالحُسنى السيئة ) والمعنى الصفح عن إساءتهم ، ومقابلتها بما أمكن من الإحسان ، حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان ، وبذل الاستطاعة فيه كانت حسنة مضاعفة بإزاء سيئة . . .
قيلك هذه الآية نُسخت بآية السيف ، وقيل : محكمة ، لأن المداراة محثوث عليها ما لم تؤد إلى نقصان دينٍ أو مروءة . ثم قال : { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ } أي : يقولون من الشرك .
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
قوله تعالى : { وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين } الآية لما أدَّب رسوله بقوله : { ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ المؤمنون : 96 ] أتبعه بما يقوي على ذلك وهو الاستعاذة بالله من أمرين :
أحدهما : من همزات الشياطين . والهَمَزَاتُ جمع همزَة ، وهي النخسة والدفع بيدٍ وغيرها ، وهي كالهزِّ والأزّ ، ومنه مِهْمَازُ الرائض ، والمِهْمَاز مفْعَالٌ من ذلك كالمِحْرَاث من الحَرْث والهَمَّازُ الذي يصيب الناس ، كأنه يدفع بلسانه وينخس به .
فصل
معنى « أعُوذُ بِكَ » أمتنع وأعتصم بك { مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين } نزعاتهم وقال الحسن : وساوسهم . وقال مجاهد : نفخهم ونفثهم . وقال أهل المعاني : دفعهم بالإغواء إلى المعاصي . قال الحسن : كان عليه السلام يقول بعد استفتاح الصلاة : « لا إله إلاّ الله ثلاثاً ، الله أكبر ثلاثاً ، اللهم إني أعوذ بك من هَمَزَاتِ الشياطين هَمْزِهِ ونَفْثِه ونَفْخِه » .
فقيل : يا رسول الله ما همزه؟ قال : « الموتة التي تأخذ ابن آدم » أي : الجنون . قيل : فَمَا نَفْثه؟ قال : « الشعْر » قيل : فما نفخُه؟ قيل : « الكِبْر » .
والثاني : قوله : { وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ } أي : في شيء من أموري ، وإنما ذكر الحضور ، لأن الشيطان إذا حَضَر وسوس .
قوله تعالى : { حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت } الآية في ( حَتَّى ) هذه أوجه :
أحدها : أنها غاية لقوله : « بِمَا يَصِفُونَ » .
والثاني : أنها غاية « لِكَاذِبُونَ » .
ويبين هذين الوجهين قول الزمخشري : « حَتَّى » يتعلق ب « يَصِفُونَ » أي : لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت ، والآية فاصلة بينهما على وجه الاعتراض والتأكيد . ثم قال : أو على قوله : « وإنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ » . قال شهاب الدين : قوله : ( أو على قوله كذا ) كلام محمول على المعنى ، إذ التقدير : « حَتَّى » معلقة على « يَصِفُونَ » أو على قوله : « لَكَاذِبُونَ » وفي الجملة فعبارته مشكلة .
الثالث : قال ابن عطية : « حَتَّى » في هذا الموضع حرف ابتداء ، ويحتمل أن تكون غاية مجردة بتقدير كلام محذوف ، والأوَّل أبْيَن ، لأنّ ما بعدها هو المعنيّ به المقصود ( ذكره ) .
قال أبو حيان : فتوهم ابن عطية أن « حَتَّى » إذا كانت حرف ابتداء لا تكون غاية ، وهي وإن كانت حرف ابتداء فالغاية معنى لا يفارقها ، ولم يبيّن الكلام المحذوف المقدر .
وقال أبو البقاء : ( حَتَّى ) غاية في معنى العطف . قال أبو حيّان : والذي يظهر لي أن قبلها جملة محذوفة تكون « حَتَّى » غاية لها يدل عليها ما قبلها ، التقدير : فلا أكون كالكفار الذين تهزمهم الشياطين ويحضرونهم حتى إذا جَاءَ ، ونظير حذفها قول الشاعر :
3806- فَيَا عَجَبا حَتَّى كُليْبٌ تسُبُّني ... أي : يسبني الناس كُلهم حتى كليب إلاَّ أن في البيت دلّ ما بعدها عليها بخلاف الآية الكريمة .
قوله : { رَبِّ ارجعون } . في قوله : « ارْجِعُونِ » بخطاب الجمع ثلاثة أوجه :
أجودها : أنه على سبيل التعظيم كقوله :
3807- فَإِنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ ... وَإِنْ شِئْتُ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخاً وَلاَ بَرْدَا
وقال الآخر :
3808- أَلاَ فَارْحَمُونِي يَا إلهَ مُحَمَّدٍ ... وقد يؤخذ من هذا البيت ما يرّد على ابن مالك حيث قال : إنه لم نعلم أحداً أجاز للداعي أن يقول : يَا رَحْيَمُون قال : لئّلا يُوهم خلاف التوحيد ، وقد أخبر تعالى عن نفسه بهذه الصفة وشبهها للتعظيم في مواضع من كتابه الكريم كقوله : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] .
الثاني : أنه نادى ربه ثم خاطب ملائكة ربه بقوله : « ارْجِعُونِ » . ويجوز على هذا الوجه أن يكون على حذف مضاف ، أي : ملائكة ربي ، فحذف المضاف ثم التف إليه في عود الضمير كقوله : { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } [ الأعراف : 4 ] . ثم قال : { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] التفاتاً ل « أهل » المحذوف .
الثالث : أنّ ذلك يدل على تكرير الفعل كأنه قال : ارْجعنِي ارجعنِي نقله أبو البقاء وهو يشبه ما قالوه في قوله : { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ } [ ق : 24 ] أنه بمعنى : أَلْقِ أَلْقِ ثنّى الفعل للدلالة على ذلك ، وأنشدوا :
3809- قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِل ... أي : قف قف .
فصل
اعلم أنّه تعالى أخبر أنَّ هؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث يسألون الرجعة إلى الدنيا عند معاينة الموت فقال : { حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت ( قَالَ رَبِّ ارجعون } ) ولم يقل : ارجعني ، وهو يسأل الله وحده الرجعة لما تقدّم في الإعراب . وقال الضحّاك : كنت جالساً عند ابن عباس فقال : مَنْ لَمْ يُزَكِّ ولم يَحُج سأل الرجعة عند الموت ، فقال رجل : إنما يسأل ذلك الكفار . فقال ابن عباس : أنا أقرأ عليك به قرآناً { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبِّ لولاا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ } [ المنافقون : 10 ] .
وقال عليه السلام : « إذا حضر الإنسان الموت جمع كل شيء كان يمنعه من حقه بين يديه فعنده يقول : { رَبِّ ارجعون لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ } » .
واختلفوا في وقت مسألة الرجعة ، فالأكثرون على أنه يسأل حال المعاينة وقيل : بل عند معاينة النار في الآخرة ، وهذا القائل إنَّما ترك ظاهر هذه الآية لمَّا أخبر الله - تعالى - عن أهل النار في الآخرة أنهم يسألون الرجعة .
قوله : { لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ } أي : ضيّعتُ . أي : أقول لا إله إلاَّ الله .
وقيل : أعمل بطاعة الله تعالى . وقيل : أعمل صالحاً فيما قصّرتُ ، فيدخل فيه العبادات البدنية والمالية ، وهذا أقرب ، لأنهم تمنوا الرجعة ليصلحوا ما أفسدوه . فإن قيل : قوله تعالى : { لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً } كيف يجوز أن يسأل الرجعة مع الشك .
فالجواب : ليس المراد ب « لَعَّلَ » الشك فإِنَّه في هذا الوقت باذل للجهد في العزم على الطاعة إن أعطي ما سأل ، فهو مِثْل من قَصّر في حق نفسه ، وعرف سوء عاقبة ذلك التقصير ، فيقول : مكنُونِي من التدارك لعلى أتدارك فيقول هذه الكلمة مع كونه جازماً بأنه سيتدارك .
ويحتمل أيضاً أنَّ الأمر المستقبل إذا لم يعرفوه أوردُوا الكلام الموضوع للترجي والظن دون اليقين فقد قال تعالى : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [ الأنعام : 28 ] .
قوله : « كَلاَّ » كلمة ردع وزجر أي : لا ترجع . معناه المنع طلبوا ، كما يقال لطالب الأمر المُسْتبعد : هَيْهَات . ويحتمل أن يكون ذلك إخباراً بأنهم يقولون ذلك ، وأنّ هذا الخبر حق ، فكأنّه تعالى قال : حقاً إنّها كلمة هو قائلها . والأول أقرب .
قوله : « إِنَّهَا كَلِمةٌ » من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل كقوله : « أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد » يعني قوله :
3810- أَلاَ كُلُّ شَيءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ بَاطِل ... وقد تقدم طرف من هذا في آل عمران . و « هُوَ قَائِلُهَا » صفة ل « كَلِمَة » .
والمراد بالكلمة : سؤاله الرجعة : كلمة هو قائلها ولا ينالها ، وقيل : معناه لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة عليه .
قوله : « وَمِنْ وَرَائِهِمْ » أي : أمامهم وبين أيديهم . « بَرْزَخٌ » البرزخ : الحاجز بين المسافتين وقيل : الحجاب بين الشيئين أن يصل أحدهما إلى الآخر ، وهو بمعنى الأوّل .
وقال الراغب : أصلة برْزَة بالهاء فعُرّب ، وهو في القيامة الحائل بين الإنسان وبين المنازل الرفيعة والبرزخ قبل البعث المنع بين الإنسان وبين الرجعة التي يتمناها .
قال مجاهد : حجاب بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا . ( وقال قتادة : بقيّة الدنيا ) .
قال الضحاك : البرزخ ما بين الموت إلى البعث . وقيل : القبر وهم فيه إلى يوم يبعثون .
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)
قوله : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور } الآية لمَّا قال : { وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ المؤمنون : 100 ] ذكر أحوال ذلك اليوم فقال : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور } وقرأ العامة بضم الصاد وسكون الواو ، وهو آلة إذا نُفِخ فيها ظهر صوت عظيم جعله الله علامة لخراب الدنيا ولإعادة الأموات ، قال عليه السلام : « إِنَّه قَرْنٌ يُنفخُ فِيه » وقرأ ابن عباس والحسن : بفتح الواو جمع صُورة . والمعنى : فإذا نُفخ في الصور أَرْوَاحها وقرأ أبو رزين : بكسر الصاد وفتح الواو ، وهو شاذ . هذا عكس ( لُحَى ) بضم اللام جمع ( لِحْية ) بكسرها . وقيل : إنّ النفخ في الصور استعارة ، والمراد منه البعث والحشر .
قوله : « فَلا أَنْسَابَ » الأنساب جمع نَسَب ، وهو القرابة من جهة الولادة ، ويُعبّر به عن التواصل ، وهو في الأصل مصدر قال :
3811- لاَ نَسَبَ اليَوْمَ وَلاَ خُلَّةً ... اتسعَ الخَرْقُ عَلَى الرَّاقِعِ
قوله : « بَيْنَهُم » يجوز تعلقه بنفس « أَنْسَابَ » ، وكذلك « يَوْمَئِذٍ » ، أي : فلا قربة بينهم في ذلك اليوم . ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنّه صفة ل « أَنْسَابَ » ، والتنوين في « يَوْمَئِذٍ » عوض عن جملة تقديره : يومئذ نفخ في الصور .
فصل
من المعلوم أنَّه تعالى إذا أَعادهم فالأنساب ثابتة ، لأنّ المعاد هو الولد والوالد ، فلا يجوز أن يكونَ المراد نفي النسب حقيقة بل المراد نفي حكمه وذلك من وجوه :
أحدها : أنّ من حق النسب أنْ يقع به التعاطف والتراحم كما يُقال في الدنيا : أسألك باللَّه والرحم أن تفعل كذا ، فنفى سبحانه ذلك من حيث أنَّ كل أحد من أهل النار يكون مشغولاً بنفسه ، وذلك يمنعه من الالتفات إلى النسب كما أنَّ الإنسان في الدنيا إذا كان في آلام عظيمة ينسى ولده ووالده .
وثانيها : أنَّ من حق النسب أنْ يحصل به التفاخر في الدنيا ، وأنْ يسأل البعض عن أحوال البعض ، وفي الآخرة لا يَتَفَرغونَ لذلك .
وثالثها : أنّ ذلك عبارة عن الخوف الشديد ، فكل امرئٍ مشغول بنفسه عن نسبه وأخيه وفصيلته التي تؤويه . قال ابن مسعود : يؤخذ العبد والأمة يوم القيامة على رؤوس الخلائق ينادي منادٍ ألا إنّ هذا فلان فمن له عليه حق فليأت إلى حقه ، فيفرح المرء يومئذ أن يثبت له الحق على أمه أو أخيه أو أبيه ثم قرأ ابن مسعود { فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } وروى عطاء عن ابن عباس : أنّها النفخة الثانية .
{ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ } أي : لا يتفاخرون في الدنيا ولا يتساءلون سؤال تواصل كما كانوا يتساءلون في الدنيا مَنْ أنت؟ ومن أي قبيلة أنت؟ ولم يرد أنّ الأنساب تنقطع .
فإن قيل : أليس قد جاء في الحديث :
« كل سَبَبٍ ونسب ينقطع إلا سَبَبِي ونَسَبِي » قيل معناه : لا ينفع يوم القيامة سبب ولا نسب إلاّ سببه ونسبه ، وهو الإيمان والقرآن .
فإن قيل : قد قال ههنا « وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ » وقال : { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } [ المعارج : 10 ] . وقال { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } [ الصافات : 27 ] .
فالجواب : رُوي عن ابن عباس أنّ للقيامة أحوالاً ومواطن ، ففي موطن يشتد عليهم الخوف فيشغلهم عِظَم الأمر عن التساؤل فلا يتساءلون ، وفي موطن يفيقون إفاقة يتساءلون . وقيل : إذا نفخ في الصور نفخة واحدة شُغلوا بأنفسهم عن التساؤل ، فإذا نفخ فيه أخرى أقبل بعضهم على بعض وقالوا : { ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } [ يس : 52 ] . وقيل : المراد لا يتساءلون بحقوق النسب . وقيل : « لاَ يَتَسَاءَلُونَ » صفة للكفار لشدة خوفهم ، وأمّا قوله : { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } [ الصافات : 27 ] فهو صفة أهل الجنة إذا دخلوها . وعن الشعبي قالت عائشة : « يا رسول الله أما نتعارف يوم القيامة أسمع الله يقول : { فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } فقال عليه السلام » ثلاثة مواطن تذهل فيها كُلُّ مرضعةٍ عما أرضعت عند رؤية القيامة وعند الموازين وعلى جسر جهنم « .
قوله : { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون } لمَّا ذكر القيامة شرح أحوال السعداء والأشقياء . قيل المراد بالموازين الأعمال فمن أُتِيَ بِمَا لَهُ قدر وخطر فهو الفائز المفلح ، ومن أتي بِمَا لاَ وزن له ولا قدر فهو الخاسر . وقال ابن عباس : الموازين جمع موزون وهي الموزونات من الأعمال الصالحة التي لها وزن وقدر عند الله من قوله : { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } [ الكهف : 105 ] أي : قدراً وقيل : ميزان له لسان وكفتان يوزن به الحسنات في أحسن صورة ، والسيّئات في أقبح صورة . وتقدّم ذلك في سورة الأنبياء .
قوله : { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولئك الذين خسروا أَنفُسَهُمْ } قال ابن عباس : غبنوها بأن صارت منازلهم للمؤمنين . وقيل : امتنع انتفاعهم بأنفسهم لكونهم في العذاب .
قوله : { فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } يجوز أن يكون » خَالِدُونَ « خبراً ثانياً ل ( أُولَئِكَ ) ، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي : هم خالدون . وقال الزمخشري : { فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } بدل من » خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ « ، ولا محل للبدل والمبدل منه ، لأنّ الصلة لا محل لها .
قال أبو حيان : جعل » فِي جَهَنَّمَ « بدلاً من ( خَسِرُوا ) ، وهذا بدل غريب ، وحقيقته أن يكون البدل الفعل الذي تعلق به » فِي جَهَنَّمَ « أي : استقروا في جهنم وهو بدل شيء من شيء لأنّ من خسر نفسه استقر في جهنم . قال شهاب الدين : فجعل الشيخ الجار والمجرور البدل دون » خالدون « ، والزمخشري جعل جميع ذلك بدلاً ، بدليل قوله بعد ذلك : أو خبراً بعد خبر ، ل » أُولَئِكَ « أو خبر مبتدأ محذوف . وهذان إنّما يليقان ب » خَالِدُونَ « ، وأما » فِي جهنَّم « فمتعلق به ، فيحتاج كلام الزمخشري إلى جواب ، وأيضاً فيصير » خَالِدُونَ « معلقاً .
وجوَّز أبو البقاء أن يكون الموصول نعتاً لاسم الإشارة ، وفيه نظر ، إذ الظاهر كونه خبراً له .
قوله : « تَلْفَحُ » يجوز استئنافه ، ويجوز حَالِيته ، ويجوز كونه خبراً ل « أُولَئِك » . واللَّفْحُ إصابة النار الشيء بِوَهجها وإحراقها له ، وهو أشدُّ من النفح ، وقد تقدّم النفح في الأنبياء . قوله : { وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } الكُلُوح تشمير الشفة العليا ، واسترخاء السفلى .
قال عليه السلام في قوله : { وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } قال : « تَشْويه النَّارُ فَتَقْلِصُ شَفَتُه العُلْيَا حَتّى تَبْلغ وَسَطَ رَأْسِه ، وتَسْترخِي شَفَتُهُ السُفْلَى حَتّى تَبْلغَ سُرَّتَهُ » وقال أبو هريرة : يعظم الكافر في النار مسيرة سبع ليال ضرسه مثل أحد ، وشفاههم عند سررهم سود زرق خنق مقبوحون . ومنه كُلُوح الأسد أي : تكشيره عن أنيابه ، ودهرٌ كالح ( وبرد كالح ) أي : شديد وقيل الكُلُوح : تقطيب الوجه وتسوره ، وكَلَحَ الرجلُ يَكْلَحُ كُلُوحاً ( وكُلاَحاً ) .
قوله : { أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ } يعني القرآن تخوفون بها { فكنتم بها تكذبون } قالت المعتزلة دلّت الآية على أنهم إنّما عُذِّبُوا بسوء أفعالهم ، ولو كان فعل العبد بخلق الله لما صحّ ذلك .
والجواب : أن القادر على الطاعة والمعصية إنْ صدرت المعصية عنه لا لِمُرجح ألبتّة كان صدورها عنه اتفاقيّاً لا اختيارياً فوجب أن لا يستحق العقاب ، وإن كان لمرجح فذلك المرجح ليس من فعله وإلاّ لزم التسلسل فحينئذ يكون صدور تلك الطاعة عنه اضطرارياً لا اختيارياً فوجب أن لا يستحق الثواب .
قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)
قوله تعالى : { قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } الآية . لمّا قال سبحانه { أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } [ المؤمنون : 105 ] ذكر ما يجري مجرى الجواب عنه وهو من وجهين الأول قولهم : { رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } قرأ الأخوان : « شقاوتنا » بفتح الشين وألف بعد القاف . والباقون بكسر الشين وسكون القاف . وهما مصدران بمعنى واحد فالشقاوة كالقساوة ، وهي لغة فاشية ، والشقوة كالفطنة والنعمة ، وأنشد الفراء :
3812- كُلِّفَ مِنْ عَنَائِهِ وشِقْوَتِهْ ... بِنْتَ ثَمَانِي عَشْرَةٍ مِنْ حِجَّتِهْ
وهي لغة الحجاز .
قال أبو مسلم : « الشقْوَة من الشقَاء كجِرْيَة الماء ، والمصدر الجَرْي ، وقد يجيء لفظ فِعْلَة ، والمراد به الهيئة والحال فيقول : جِلْسَة حَسنة ورِكْبَة وقِعْدَة ، وذلك من الهيئة ، وتقول : عاش فلان عِيشَةً طيبة ، ومات مِيتَةً كريمة ، وهذا هو الحال والهيئة ، فَعَلَى هذا المراد من الشقْوَة حال الشقاء . وقرأ قتادة والحسن في رواية كالأخوين إلاّ أنهما كسرا الشين ، وشبل في اختياره كالباقين إلاّ أنّه فتح الشين .
قال الزمخشري : » غَلَبَتْ عَلَيْنَا « ملكتنا من قولك غَلَبَنِي فلان على كذا إذا أخذه منك ( وامتلكه ) والشَّقاوة سوء العاقبة .
فصل
قال الجبائي : المراد أن طلبنا اللذّات المحرّمة ، وخروجنا عن العمل الحسن ساقنا إلى هذه الشقاوة ، فأطلق اسم المُسبب على السبب ، وليس هذا باعتذار فيه ، لأن علمهم بأن لا عُذر لهم فيه ثابت عندهم ، ولكنه اعتراف بقيام الحجة عليهم في سوء صنيعهم .
وأجيب : بأنك حملت الشقاوة على طلب تلك اللذّات المحرّمة ، وطلب تلك اللذّات حاصل باختيارهم أو لا باختيارهم ، فإن حصل باختيارهم فذلك الاختيار محدث فإن استغنى عن المؤثر ، فَلِم لا يجوز في كل الحوادث ذلك؟ وحينئذ يَنْسد عليك باب إثبات الصانع ، وإن افتقر إلى مُحدث فمحدثه إمَّا العبد أو الله ، فإن كان هو العبد فذلك باطل لوجوه :
أحدها : أنَّ قدرة العبد صالحة للفعل والترك ، فإن توقَّف صدور تلك الإرادة عنه إلى مرجح آخر ، عاد الكلام فيه ، ولزم التسلسل ، وإن لم يتوقف على المرجّح ، فقد جوزتَ رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجّح ، وذلك يسد باب إثبات الصانع .
وثانيها : أنَّ العبد لا يعلم كمية تلك الأفعال ، ولا كيفيّتها ، والجاهل بالشيء لا يكون محدثاً له ، وإلاّ لبطلت دلالة الأحكام ، ولا يقال علم العلم .
وثالثها : أَنَّ أحداً في الدنيا لا يرضى بأن يختار الجهل ، بل لا يقصد إلا ( ما قصد إيقاعه لكنه لم يقصد إلاّ ) تحصيل العلم فكيف حصل الجهل فثبت أن الموجد للداعي والبواعث هو الله ، ثم إنَّ الداعية إِذا كانت سائقة إلى الخير كانت سعادة ، وإن كانت سائقة إلى الشرّ كانت شقاوة .
وقال القاضي ، قولهم { رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } دليل على أنه لا عذر لهم لاعترافهم ، فلو كان كفرهم من خلقه وإرادته ، وعَلِمُوا ذلك ، لكان ذكرهم ذلك أولى وأقرب إلى العذر .
والجواب : قد بيّنا أنّ الذي ذكروه ليس إلاّ ذلك ، ولكنهم مُقرّون أن لا عذر لهم فلا جرم قيل : « اخْسَئُوا فِيهَا » .
والوجه الثاني لهم في الجواب : قولهم : { وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ } أي : عن الهدى ، وهذا الضلال الذي جعلوه كالعِلّة في إقدامهم على التكذيب إن كان هو نفس التكذيب لزم تعليل الشيء بنفسه ، وهو باطل ، فلم يبق إلاّ أن يكون ذلك الضلال ( عبارة عن شيء آخر ترتب عليه فعلهم ، وما ذلك إلاّ خلق الداعي إلى الضلال ) . ثم إنّ القوم لما اعتذرُوا بهذين العُذرين ، قالوا : { رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا } أي : من النار « فَإِنْ عُدْنَا » لما أنكرنا « فَإِنَّا ظَالِمُونَ » فعند ذلك أجابهم الله تعالى فقال : { اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } .
فإن قيل : كيف يجوز أن يطلبوا الخروج وقد علموا أنَّ عقابهم دائم؟ قلنا : يجوز أن يلحقهم السهو عن ذلك في أحوال شدة العذاب فيسألون الرجعة . ويحتمل أن يكون مع علمهم بذلك يسألون على وجه الغوث والاسترواح .
قوله : « اخْسَئُوا فِيهَا » أقيموا فيها ، كما يقال للكلب إذا طُرد اخسأ؛ أي : انزجر كما تنزجر الكلاب إذا زُجرت ، يقال : خسأ الكلب وخَسَأَ بِنَفْسِه . « وَلاَ تُكَلمون » في رفع العذاب فإِنّي لا أرفعه عنكم ، وليس هذا نهياً ، لأنّه لا تكليف في الآخرة .
قال الحسن : هو آخر كلام يتكلم به أهل النار ، ثم لا يتكلّمون بعده إلا الشهيق والزفير . ويصير لهم عواء كعواء الكلب لا يَفْهَمُون ولا يُفْهمُون .
قوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي } الآية . العامة على كسر همزة ( إِنَّهُ ) استئنافاً . وأُبّي والعتكي : بفتحها أي : لأنه والهاء ضمير الشأن . قال البغوي : الهاء في إنه عماد ، وتسمى المجهولة أيضاً .
قوله : « فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرياً » قرأ الأخوان ونافع هنا وفي ص بكسر السين . والباقون : بضمها في المَوْضعين .
و ( سِخْريًّا ) مفعول ثان للاتخاذ . واختلف في معناها فقال الخليل وسيبويه والكسائي وأبو زيد : هما بمعنى واحد نحو دُريّ ودِريّ ، وبَحْر لُجِّي ولِجِّي بضم اللام وكسرها . وقال يونس : إن أريد الخدمة والسخرة فالضم لا غير ، وإن أريد الهزء فالضم والكسر ورَجّح أبو عليّ وتَبعه مكي قراءة الكسر ، قالا : لأنّ ما بعدها أَلْيَق لها لقوله : { وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } . ولا حجة فيه ، لأنّهم جمعوا بين الأمرين سَخروهم في العمل ، وسَخِرُوا منهم استهزاءً . والسُّخْرَة بالتاء الاستخدام وسُخْرِيًّا بالضم منها ، والسُّخْر بدونها الهُزء والمكسور منه ، قال الأعشى :
3813- إِنِّي أَتَانِي حَدِيثٌ لاَ أُسَرُّ بِهِ ... مِنْ علْو لاَ كذبٌ فِيهِ ولاَ سَخَرُ
ولم يختلف السبعة في ضم ما في الزخرف ، لأنّ المراد الاستخدام ، وهو يُقوِّي قول من فرّق بينهما ، إلاَّ أنَّ ابن محيصن وابن مسلم وأصحاب عبد الله كَسَرُوه أيضاً ، وهي مُقَوية لقول من جعلهما بمعنى والياء في سُخْريًّا وسِخْريًّا للنسب زيدت للدلالة على قوة الفعل ، فالسُّخْريّ أقوى من السُّخْر ، كما قيل في الخصوص خُصُوصيّة دلالة على قوة ذلك .
قال معناه الزمخشري .
فصل
اعلم أنّه تعالى قرعهم بأمر يتصل بالمؤمنين قال مقاتل : إن رؤوس قريش مثل أبي جهل ، وعقبة وأبيّ بن خلف ، كانوا يستهزؤون بأصحاب محمدٍ ، ويضحكون بالفقراء منهم ، كبلال ، وخباب ، وعمّار ، وصهيب ، والمَعْنى : اتخذتموهم هزواً « حَتَّى أَنْسَوْكُمْ » بتشاغلكم بهم على تلك الصفة { ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } ونظيره : { إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ } [ المطففين : 29 ] ثم إنّه تعالى ذكر ما يوجب أسفهم وخسرانهم بأَنْ وصف ما جازى به أولئك فقال : { جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صبروا } أي : جزيتهم اليوم الجزاء الوافر .
قوله : { أَنَّهُمْ هُمُ الفآئزون } قرأ الأخوان بكسر الهمزة ، استئنافاً .
والباقون بالفتح ، وفيه وجهان :
أظهرهما : أنَّه تعليل فيكون نصباً بإضمار الخافض أي : لأنهم هم الفائزون ، وهي موافقة للأُولى فإنّ الاستئناف يعلل به أيضاً .
والثاني : قاله الزمخشري ، ولم يذكر غيره ، أنه مفعول ثان ل « جَزَيْتُهُمْ » أي : بأنهم أي : فوزهم وعلى الأَوّل يكون المفعول الثاني محذوفاً .
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
قوله تعالى : { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ } قرأ الأخوان : { قُلْ كَمْ لَبِثْتُمْ } { قُلْ إِنْ لَبِثْتُمْ } بالأمر في الموضعين وابن كثير كالأخوين في الأوَّل فقط . والباقون : « قَالَ » في الموضعَين على الإخبار عن الله أو الملك . والفعلان مرسومان بغير ألف في مصاحف الكوفة ، وبألف في مصاحف مكة والمدينة والشام والبصرة . فحمزة والكسائي وَافَقَا مصاحف الكوفة ، وخالفها عاصم أو وافقها على تقدير حذف الألف من الرسم وإرادتها . وابن كثير وافق في الثاني مصاحف مكة ، وفي الأَوّل غيرها ، أو إيّاها على تقدير حذف الألف وإرادتها . وأمّا الباقون فوافقُوا مصاحفهم في الأوّل والثاني . فَعَلَى الأمر معنى الآية : قُولُوا أَيُّها الكَافِرُونَ ، فأخرج الكلام مخرج الواحد ، والمراد منه الجماعة إذ كان معناه مفهوماً . ويجوز أن يكون الخطاب لكل واحد منهم ، أي : قل أيها الكافرون . وأمّا على الخبر أي قال الله - عزَّ وجلَّ - للكفار يوم البعث { كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض } أي : في الدنيا أو في القبور . و ( كَمْ ) في موضع نصب على ظرف الزمان ، أي : كم سنة ، و « عَدَد » بدل من « كَمْ » قاله أبو البقاء ، وقال غيره : « عَدَدَ سَنِينَ » تمييز ل « كَمْ » وهذا هو الصحيح . وقرأ الأعمش والمفضّل عن عاصم : « عَدَداً » منوناً ، وفيه أوجه :
أحدها : أن يكون عدداً مصدراً أقيم مقام الاسم فهو نعت مقدّم على المنعوت قاله صاحب اللوامح . يعني : أنَّ الأصل سنين عدداً . أي : معدودة ، لكنّه يلزم تقديم النعت على المنعوت ، فصوابُه أن يقول فانتُصب حالاً هذا مذهب البصريين .
والثاني : أن « لَبِثْتُم » بمعنى : عددتم ، فيكون نصب « عَدَداً » على المصدر و « سَنِينَ » بدل منه . قاله صاحب اللوامح أيضاً . وفيه بُعْد لعدم دلالة اللبث على العدد .
والثالث : أنَّ « عَدَداً » تمييز ل « كَمْ » و « سِنِينَ » بدل منه .
فصل
الغرض من هذا السؤال التبكيت والتوبيخ ، لأنّهم كانُوا ينكرون لبثاً في الآخرة أصلاً ، ولا يُعدون اللبث إلاّ في دار الدنيا ، ويظنون أنَّ بعد الموت يدوم الفناء ولا إعادة . فلمّا حصلوا في النار ، وأيقنوا دوامها ، وخلودهم فيها سألهم { كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض } مُنبِّهاً لهم على ما ظَنُّوه دائماً طويلاً ، وهو يسير بالإضافة إلى ما أنكروه ، فحينئذٍ تحصل لهم الحسرة على ما كانوا يعتقدونه في الدنيا ، حيث تيقّنوا خلافه ، وهذا هو الغرض من السؤال فإنْ قيل : فكيف يصح أن يقولوا في جوابهم : { لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } ولا يقع الكذب من أهل النار؟ فالجواب : لعلّهم نسوا لكثرة ما هم فيه من الأهوال ، وقد اعترفوا بهذا النسيان وقالوا : « فَاسْأَلِ العَادِّينَ » . قال ابن عباس : أنساهم ما كانُوا فيه من العذاب بين النفختين .
وقيل : مرادهم بقولهم : { لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } تصغير لبثهم وتحقيره بالإضافة إلى ما وقعوا فيه من العذاب . وقيل : أرادوا أن لبثهم في الدنيا يوماً أو بعض يوم من أيام الآخرة ، لأن يوم القيامة مقداره خمسين ألف سنة .
فصل
اختلفوا في أنّ السؤال عن أيّ لبث؟ فقيل عن لبثهم أحياء في الدنيا ، فأجابوا بأَنّ قدر لبثهم كان يسيراً بناء على أنّ الله أعلمهم أنَّ الدنيا متاع قليل وأن الآخرة هي دار القرار .
وقيل : المراد اللبث في حال الموت ، لأنَّ قوله : « فِي الأَرْضِ » يفيد الكَوْن في الأَرض أي : في القبر ، والحيّ إِنّما يقال فيه أنّه على الأرض . وهذا ضعيف لقوله : { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض } [ الأعراف : 56 ] ، واستدلوا أيضاً بقوله : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ } [ الروم : 55 ] ثم قالوا : « فَاسْأَلِ العَادِّينَ » أي : الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم ويُحْصُونها عليهم ، وهذا قول عكرمة . وقيل الملائكة الذين يعدّون أيام الدنيا . وقيل : المعنى سَلْ من يعرف عدد ذلك فإنّا نسيناه . وقُرئ « العَادِينَ » بالتخفيف ، وهي قراءة الحسن والكسائي في رواية جمع ( عَادِي ) اسم فاعل من ( عَدَا ) أي : الظلمة فإنّهم يقولون مثل ما قلنا .
وقيل : العَادين : القدماء المعمرين ، فإنّهم سيقصرونها . قال أبو البقاء : كقولك : هذا بئر عَاديَة ، أي؛ سل من تقدّمنا ، وحذف إحدى ياءي النسب كما قَالُوا : الأشعرون ، وحُذفت الأخرى لالتقاء الساكنين . قال شهاب الدين : المحذوف أَوّلاً الياء الثانية؛ لأنّها المتحركة وبحذفها يلتقي ساكنان . ويؤيد ما ذكره أبو البقاء ما نقله الزمخشري قال : وقُرئ ( العَادِيين أي : القدماء المعمرين ، فإنهم يستقصرُونَها ، فكيف بِمَن دُونهم؟ قال ابن خالويه : ولغة أخرى العَادِيّين يعني : بياء مشددة جمع عَادِيّة بمعنى القدماء ) .
فصل
احتجّ من أنكر عذاب القبر بهذه الآية فقال : قوله : { كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض } يتناول زمان كونهم أحياء فوق الأرض ، وزمان كونهم أمواتاً في بطن الأرض ، فلو كانُوا معذبين في القبر لعلموا أنَّ مدة مكثهم في الأرض طويلة ، فلم يقولوا : { لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } .
والجواب من وجهين :
الأول : أنّ الجواب لا بُدّ وأن يكون بحسب السؤال ، وإنّما سألوا عن موتٍ لا حياةَ بعده إلاّ في الآخرة ، وذلك لا يكون إلاّ بعد عذاب القبر .
والثاني : يحتمل أن يكونُوا سألوا عن قدر اللبث الذي اجتمعوا فيه ، فلا مدخل في تقدّم موت بعضهم على بعض فيصح أن يكون جوابهم { لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } عند أنفسنا .
قوله : « إِنْ لَبِثْتُم » أي : ما لبثتم « إِلاَّ قَلِيلاً » ، وكأنه قيل لهم : صدقتم ما لبثتم فيها إِلاّ قليلاً ، لأنها في مقابلة أيام الآخرة .
قوله : « لَوْ أَنَّكُمْ » جوابها محذوف تقديره : لو كنتم تعلمون مقدار لبثكم من الطول لمَا أجبتم بهذه المدة .
وانتصب « قليلاً » ( على النعت ) لزمن محذوف ( أو لمصدر محذوف ) أي : إلاّ زمناً قليلاً ، أو إِلاّ لُبْثاً قليلاً .
قوله تعالى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً } الآية في نصب ( عَبَثاً ) وجهان :
أحدهما : أنّه مصدر واقع موقع الحال أي : عابثين .
والثاني : أنه مفعول من أجله أي : لأجل العبث . والعَبَث : اللعب ، وما لا فائدة فيه ، أي : لتعبثوا وتلعبوا ، كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب ، وكل ما ليس له غرض صحيح . يقال : عَبَثَ يَعْبِثُ عَبثاً إذا خلط عليه بلعب ، وأصله من قولهم عبثت الأَقِط ، أي : خلطته ، والعَبِيث : طعام مخلوط بشيء ، ومنه العَوْبَثَانِي لتمر وسُوَيْق وسمن مختلط . قوله : « وَأَنَّكُمْ » يجوز أن يكون معطوفاً على ( أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ ) لكون الحسبان منسحباً عليه وأن يكون معطوفاً على ( عَبَثاً ) إذا كان مفعولاً من أجله .
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون معطوفاً على ( عَبَثاً ) أي : للعبث ولترككم غير مرجوعين وقُدّم « إِلَيْنَا » على ( تُرْجَعُونَ ) لأجل الفواصل .
قوله : « لاَ تُرْجَعُونَ » هو خبر « أَنَّكُمْ » ، وقرأ الأخوان « تَرْجِعُونَ » مبنياً للفاعل ، والباقون مبنياً للمفعول . وقد تقدّم أن ( رجع ) يكون لازماً ومتعدياً . وقيل : لا يكون إلا متعدّياً ، والمفعول محذوف .
فصل
لما شرح صفات القيامة استدل على وجودها بأنّه لولا القيامة لما تميّز المُطيع عن العاصي ، والصديق عن الزنديق ، وحينئذ يكون هذا العالم عَبَثاً ، وهو كقوله : { أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى } [ القيامة : 36 ] . والمعنى : أَنَّما خلقتم للعبادة وإقامة أوامر الله عزَّ وجلَّ .
« رُوي أن رجلاً مُصاباً مُرَّ به على ابن مسعود فَرَقَاهُ في أذنيه { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } حتى ختمها ، فَبَرأ ، ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بماذا رقيته في أذنه فأخبره ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » والذي نفسي بيده لو أنّ رجلاً موقناً قرأها على جبل لَزَال « ثم نَزّه نفسه عما يصفه به المشركون فقال : { فَتَعَالَى الله الملك الحق } ، والمَلِكُ : هو المالك للأشياء الذي لا يزول ملكه وقدرته ، والحَقّ : هو الذي يحق له الملك ، لأنّ كل شيء منه وإليه ، والثابت الذي لا يزول ملكه .
{ لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم } قرأ العامة » الكريم « مجروراً نعتاً للعرش ، وُصف بذلك لتنزُّل الخيرات منه والبركات والرحمة . أو لِنسْبته إلى أكرم الأكرمين ، كما يُقال : بَيْتٌ كَريم إذا كان ساكنوه كراماً . وقرأ أبو جعفر وابن محيصن وإسماعيل عن ابن كثير وأبان بن تغلب بالرفع وفيه وجهان :
أحدهما : أنّه نعت للعرش أيضاً ، ولكنه قطع عن إعرابه لأجل المدح على خبر مبتدأ مضمر . وهذا جيّد لتوافق القراءتين في المعنى .
والثاني : أنه نعت ل ( رَبّ ) .
فصل
قال المفسرون : العرش السرير الحسن . وقيل : المرتفع . وقال أبو مسلم : العرش هنا السموات بما فيها من العرش الذي تطوف به الملائكة ، ويجوز أن يُراد به الملك العظيم .
والأكثرون : على أنّه العرش حقيقة .
قوله : « وَمَنْ يَدْعُ » شرط ، وفي جوابه وجهان :
أحدهما : أنه قوله : « فَإِنَّما حِسَابُهُ » وعلى هذا ففي الجملة المنفية وهي قوله : { لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } وجهان :
أحدهما : أنها صفة ، ل « إِلهاً » وهي صفة لازمة ، أي : لا يكون الإله المَدْعو من دون الله إلاّ كذا ، فليس لها مفهوم لفساد المعنى . ومثله { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] لا يفهم أنّ ثمَّ إِلهاً آخر مَدْعُوًّا من دون الله له برهان ، وأن ثمَّ طَائِراً يطيرُ بغير جناحيه .
والثاني : أنها جملة اعتراض بين الشرط وجوابه ، وإلى الوجهين أشار الزمخشري بقوله وهي صفة لازمة كقوله : « يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ » جِيءَ بها للتوكيد لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان ، ويجوز أن يكون اعتراضاً بين الشرط والجزاء كقولك : مَنْ أَحْسَن إلى زيدٍ لا أحد أَحقُّ بالإحسان منه فاللَّهُ مثيبه .
والثاني من الوجهين الأَولين : أن جواب الشرط قوله : { لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } كأنه فرَّ من مفهوم الصفة لِمَا يلزم من فساده ، فوقع في شيء لا يجوز إِلاّ في ضرورة شعر ، وهو حذف فاء الجزاء من الجملة الاسمية كقوله :
3814- مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرهَا ... والشَّرُّ بِالشَّر عِنْدَ اللَّهِ سِيَّانِ
وقد تقدّم تخريج كون { لاَ بُرْهَانَ لَهُ } على الصفة ، ولا إشكال ، لأنها صفة لازمة ، أو على أنها جملة اعتراض .
فصل
لمّا بيَّن أنَّه { الملك الحق لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ } أتبعهُ بأن من ادّعى إلهاً آخر فقد ادّعى باطلاً ، لأنه { لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } لا حجّة ولا بيّنة ، لأنه لا حجّة في دعوى الشرك ، وهذا يدل على صحة النظر وفساد التقليد . ثم قال : « فَإِنَّما حِسَابُهُ » أي : جزاؤه عند ربه يجازيه بعمله كما قال : { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } [ الغاشية : 26 ] كأنّه قال : إن عقابه بلغ إلى حيث لا يقدر أحد على حسابه إلاّ الله .
قوله : { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون } فشتّان ما بين فاتحة السورة وخاتمتها . قرأ الجمهور بكسر همزة ( إنّه ) على الاستئناف المفيد للعلة . وقرأ الحسن وقتادة « أَنَّه » بالفتح ، وخرّجه الزمخشري على أن يكون خبر « حِسَابُه » قال : ومعناه حسابه عدم الفلاح ، والأصل حساب أنّه لا يفلح هو ، فوضع الكافرون في موضع الضمير ، لأن « مَنْ يَدْعُ » في موضع الجمع ، وكذلك حسابه أنّه لا يفلح في معنى حسابهم أنهم لا يفلحون . انتهى .
ويجوز أن يكون ذلك على حذف حرف العلة أي : لأنّه لا يفلح . وقرأ الحسن : « لاَ يَفْلحُ » مضارع ( فَلح ) بمعنى ( أَفْلَح ) ( فَعَل ) و ( أَفْعَل ) فيه بمعنى ، والله أعلم .
فصل
المعنى لا يسعد من جحَد وكذّب ، وأمر الرسول بأن يقول : { رَّبِّ اغفر وارحم } ويثني عليه بأن « خَيْرُ الرَّاحِمِينَ » ، وقد تقدّم بيان كون « أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ » .
فإن قيل : كيف اتصال هذه الخاتمة بما قبلها؟
فالجواب : أنّه سبحانه لما شرح أحوال الكفار في جهلهم في الدنيا وعذابهم في الآخرة أمر بالانقطاع إلى الله والالتجاء إلى غفرانه ورحمته ، فإنهما العاصمان عن كل الآفات والمخافات .
رُوي أنَّ أَوَّل سورة ( قد أفلح ) وآخرها من كنوز العرش من عَمِل بثلاثِ آياتٍ من أولها ، واتعظ بأربع من آخرها فقد نَجَا وأفلح . وروَى الثعلبي في تفسيره عن أُبي بن كعب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من قرأ سورة المؤمنون بشرته الملائكة بالرَّوْحِ والرَّيْحَانِ ، وما تقرّ بِهِ عَيْنُه عند نزول ملك الموت » .
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
( قوله تعالى ) : { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا } الآية .
قرأ العامة « سُورَةٌ » بالرفع ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن تكون مبتدأ ، والجملة بعدها صفة لها ، وذلك هو المُسَوِّغ للابتداء بالنكرة ، وفي الخبر وجهان :
أحدهما : أنه الجملة من قوله : « الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي » .
( وإلى هذا نحا ابن عطية فإنه قال : ويجوز أن تكون مبتدأ ، والخبر « الزَّانِيَةُ والزّانِي » ) وما بعد ذلك . والمعنى : السورةُ المُنَزَّلةُ والمفروضة كذا وكذا ، إذ السورة عبارة عن آيات مَسْرُودَة لها بدْءٌ وخَتْمٌ .
والثاني : أن الخبر محذوف ، أي : فيما يُتْلَى عليكم سورةٌ ، أو فيما أنزلنا سورة .
والوجه الثاني من الوجهين الأولين : أن تكون خبراً لمبتدأ مضمر ، أي : هذه ( سورة ) .
وقال أبو البقاء : ( سورة ) بالرفع على تقدير : هذه سورةٌ ، أو فيما يتلى عليك سورة ، فلا تكون ( سورة ) مبتدأ ، لأنها نكرة .
وهذه عبارة مشكلةٌ على ظاهرها ، كيف يقول : « لا تكون مبتدأ » مع تقديره : فيما يُتلى عليك سورةُ؟ وكيف يُعَلِّلُ المنعَ بأنها نكرة مع تقديره لخبرها جاراً مقدماً عليها ، وهو مسوغ للابتداء بالنكرة؟ وقرأ عمر بن عبد العزيز وعيسى الثقفي وعيسى الكوفي ومجاهد وأبو حيوة وطلحة بن مصرف « سُورَةً » بالنصب ، وفيها أوجه :
أحدها : أنها منصوبة بفعل مُقَدَّر غير مُفَسَّرٍ بما بعده ، تقديره : « اتْلُ سُورَةً » أو « اقرأ سورة » .
والثاني : أنها منصوبة بفعل مضمر يفسره ما بعده ، والمسألة من الاشتغال ، تقديره : « أنزلنا سورةً ( أنزلناها » ) .
والفرق بين الوجهين : أنَّ الجملة بعد « سُورَةً » في محل نصب على الأول ، ولا محل لها على الثاني .
الثالث : أنها منصوبة على الإغراء ، أي : دونك سورةً ، قاله الزمخشري . ورده أبو حيان بأنه لا يجوز حذف أداة الإغراء . واستشكل أبو حيان أيضاً على وجه الاشتغال جواز الابتداء بالنكرة من غير مسوغ ، ومعنى ذلك أنه ما مِنْ موضع يجوز ( فيه ) النصب على الاشتغال إلاَّ ويجوز أن يُرْفَعَ على الابتداء ، وهنا لو رفعت « سُورَةً » بالابتداء لم يَجُزْ ، إذ لا مسوغ ، فلا يقال : « رجلاً ضربتُه » لامتناع « رجل ضربتُه » ، ثم أجاب بأنه إن اعْتُقِدَ حذف وصفٍ جاز ، أي : « سُورة مُعَظَّمةً أو مُوَضّحَةً أنزلناها » فيجوز ذلك .
الرابع : أنها منصوبة على الحال من « ها » في « أَنْزَلْنَاهَا » ، والحال من المكنيّ يجوز أن يتقدم عليه ، قاله الفراء .
وعلى هذا فالضمير في « أَنْزَلْنَاهَا » ليس عائداً على « سُورَةً » بل على الأحكام ، كأنه قيل : أنزلنا الأحكام سورةً من سُوَر القرآن ، فهذه الأحكام ثابتةٌ بالقرآن بخلاف غيرها فإنه قد ثبت بالسُّنّة ، وتقدم معنى الإنزال .
قوله : « وفرضناها » قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتشديد . والباقون بالتخفيف .
فالتشديد إمَّا للمبالغة في الإيجاب وتوكيد ، وإمَّا المَفْرُوض عليهم ، وإمَّا لتكثير الشيء المفروض . والتخفيف بمعنى : أَوْجَبْنَاهَا وجعلناها مقطوعاً بها . وقيل : ألزمناكم العمل بها وقيل : قدرنا ما فيها من الحدود .
والفرض : التقدير ، قال الله ( تعالى ) : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [ البقرة : 237 ] أي : قدرتم ، { إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن } [ القصص : 85 ] . ثم إنَّ السورة لا يمكن فرضها لأنها قد دخلت في الوجود ، وتحصيل الحاصل محال ، فوجب أن يكون المراد : فرضنا ما بيِّن فيها من الأحكام ، ثم قال : { وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } واضحات . « لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » تتعظون ، وأراد ب « الآيَات » ما ذكر في السورة من الأحكام والحدود ودلائل التوحيد .
وقرئ « تَذَكَّرُونَ » بتشديد الذال وتخفيفها . وتقدم معنى « لَعَلَّ » في سورة البقرة .
قال القاضي : « لَعَلّ » بمعنى « كَيْ » .
فإن قيل : الإنزال يكون من صعود إلى نزول ، وهذا يدل على أنه تعالى في جهة؟
فالجواب : أن جبريل كان يحفظها من اللوح ثم ينزلها على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقيل : « أنْزَلْنَاهَا » توسعاً .
وقيل : إن الله تعالى أنزلها من أم الكتاب إلى السماء الدنيا دفعة واحدة ، ثم أنزلها بعد ذلك على لسان جبريل - عليه السلام - .
وقيل : معنى « أنزلناها » : أعطيناها الرسول ، كما يقول العبد إذا كلم سيّده : رفعت إليه حاجتي ، كذلك يكون من السيد إلى العبد الإنزال ، قال الله تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب } [ فاطر : 10 ] .
قوله تعالى : { الزانية والزاني } في رفعهما وجهان :
مذهب سيبويه : أنه مبتدأ ، وخبره محذوف ، أي : فيما يُتْلَى عَلَيْكُمْ حُكْم الزَّانِيَةِ ، ثم بَيَّنَ ذلك بقوله : « فَاجْلِدُوا » . . . إلى آخره .
والثاني وهو مذهب الأخفش وغيره : أنه مبتدأ ، والخبر جملة الأمر ، ودَخَلَتِ الفاءُ لشبه المبتدأ بالشرط ، ولكون الألف واللام بمعنى الذي ، تقديره : مَنْ زنا فاجلده ، أو التي زنت والذي زنا فاجلدوهما ، وتقدم الكلام على هذه المسألة في قوله : { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا } [ النساء : 16 ] وعند قوله : « والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ » فأغْنَى عن إعادته .
وقرأ عيسى الثقفي ويحيى بن يعمر وعمرو بن فائد وأبو جعفر وأبو شيبة ورُوَيْس بالنصب على الاشتغال .
قال الزمخشري : « وهو أحسن من ( سورةً أنزلناها ) لأجل الأمر » .
وقرئ : « والزَّان » بلا ياء .
ومعنى « فاجلدوا » : فاضربوا { كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } ، يقال : جَلَدَه : إذا ضرب جِلْدَهُ ، كما يقال : رأسَه وبطنه : إذا ضرب رأسه وبطْنه ، وذكر بلفظ الجلد لئلا يبرح ، ولا يضرب بحيث يبلغ اللحم .
قوله ( تعالى ) : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ } : رحمة ورقة .
قرأ العامة هنا وفي الحديد بسكون همزة « رَأْفَة » . وابن كثير بفتحها .
وقرأ ابن جريج وتروى أيضاً عن ابن كثير وعاصم « رَآفَة » بألف بعد الهمزة بِزِنَةِ « سَحَابَةٍ » .
وكلها مصادر ل « رَأَفَ بِهِ يَرْؤُف » ، وتقدم معناه ، وأشهر المصادر الأول ، ونقل أبو البقاء فيها لغة رابعة ، وهي إبدال الهمزة ألفاً ، وهذا ظاهر .
وقرأ العام « تَأْخُذْكُمْ » بتاء التأنيث مُرَاعاةً للفظ .
وعليُّ بن أبي طالب والسُّلميُّ ومجاهد بالياء من تحت ، لأنَّ التأنيث مجازيّ ، وللفصل بالمفعول والجار .
و « بِهِمَا » يتعلق ب « تَأْخُذْكُمْ » ، أو بمحذوف على سبيل البيان ، ولا يتعلق ب « رَأْفَة » لأن المصدر لا يتقدم عليه معمولاً ، و « دِينِ اللَّهِ » مُتعلِّقٌ بالفعل قبله أيضاً .
وهذه الجملة دالة على جواب الشرط بعدها ، أو هي الجواب عند بعضهم .
فصل
الزنا حرام ، وهو من الكبائر ، لأن الله تعالى قرنه بالشرك وقتل النفس في قوله : « وَلاَ يَزْنُونَ » ، وقال { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى } [ الإسراء : 32 ] ، وقال عليه السلام : « يَا مَعْشَرَ الناس اتقوا الزِّنَا فإنَّ فيه ست خصال : ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة ، أما التي في الدنيا : فيُذْهِبُ البهاء ، ويورث الفقر ، وينقص العمر . وأما اللاتي في الآخرة : فسُخْطُ الله ، وسوء الحساب ، وعذاب ( النار ) » .
قال بعض العلماء في حدّ الزنا : إنه عبارة عن إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعاً محرم قطعاً .
واختلف العلماء في اللواط ، هل يسمى زنا أم لا؟
فقيل : نعم لقوله - عليه السلام - : « إذا أتى الرجلُ الرجلَ فهما زانيان » ، ولدخوله في حدّ الزنا المتقدم . وقيل : لا يسمى زنا ، لأنه في العرف لا يسمى زانياً ، ولو حلف لا يزني فلاط لم يحنث ، ولأن الصحابة اختلفوا في حكم اللواط وكانوا عالمين باللغة .
وأما الحديث فمحمول على الإثم ( بدليل قوله - عليه السلام - ) : « إذَا أَتَتِ المَرْأةُ المرأةَ فَهُمَا زَانِيتَان » ، وقوله عليه السلام : « اليَدَان تَزْنِيَان ، والعَيْنَان تَزْنِيَان » وأما دخوله في مسمى الفرج لما فيه من الانفراج فبعيد ، لأن العين والفم منفرجان ولا يسميان فرجاً ، وسمي النجم نجماً لظهوره ، وما سموا كل ظاهر نجماً ، وسموا الجنين جنيناً لاستتاره ، وما سمّوا كل مستتر جنيناً .
واختلفوا في حدّ اللوطي :
فقيل : حدّ الزنا ، إن كان محصناً رجم ، وإن كان غير محصن جلد وغرب .
وقيل : يقتل الفاعل والمفعول مطلقاً .
واختلفوا في كيفية قتله :
فقيل : تضرب رقبتُه كالمرتد لقوله عليه السلام : « مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوه » .
وقيل : يرجم بالحجارة .
وقيل : يهدم عليه جدار .
وقيل : يرمي من شاهق ، لأن الله تعالى عذب قوم لوط بكل ذلك .
وقيل : يعزّر الفاعل ، وأما المفعول فعليه القتل إن قلنا يقتل الفاعل ، وإن قلنا على الفاعل حدّ الزنا فعلى المفعول جلد مائة وتغريب عام محصناً كان أو غير محصن .
وقيل : إن كانت امرة محصنة فعليها الرجم .
فصل
وأجمعت الأمة على حرمة إتيان البهيمة ، واختلفوا في حدّه :
فقيل : حدّ الزنا .
وقيل : يقتل مطلقاً لقوله عليه السلام : « مَنْ أَتَى بَهِيمةً فَاقْتُلوهُ واقْتُلُوهَا مَعَهُ » .
وقيل : التعزير ، وهو الصحيح .
وأما السحق وإتيان الميتة والاستمناء باليد فلا يشرع فيه إلا التعزير .
فصل
تقدم الكلام في حدّ الزنا في سورة النساء ، وأما إثباته فلا يحصل إلا بالإقرار أو بالبينة . أما الإقرار ، فقال الشافعي : يثبت بالإقرار مرة واحدة لقصة العسيف .
وقال أبو حنيفة وأحمد : لا بد من الإقرار أربع مرات لقصة ماعز ، ولقوله عليه السلام : « إنَّكَ شَهدتَ على نفسِكَ أربعَ مرات » ولو كانت المرة الواحدة مثل الأربع في إيجاب الحدّ لكان هذا الكلام لغواً ، ولقول أبي بكر - رضي الله عنه - لماعز بعد إقراره الثالثة : لو أقررت الرابعة لرجمك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقال بريدة الأسلمي : كنا معشر أصحاب محمد نقول : لو لم يقر ماعز ( أربع مرات ) ما رجمه رسول الله .
وأيضاً فكما لا يقبل في الشهادة على الزنا إلاّ أربع شهادات ، فكذا في الإقرار . وكما أن الزنا لا ينتفي إلاّ بأربع شهادات في اللعان ، فلا يثبت إلا بالإقرار أربع مرات .
وأما البينة فأجمعوا على أنه لا بُدّ من أربع شهادات لقوله تعالى : { فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ } [ النساء : 15 ] .
فصل
قال بعض العلماء : لا خلاف أنه يجب على القاضي أن يمتنع عن القضاء بعلم نفسه ، كما إذا ادعى رجل على آخر حقاً وأقام عليه بينة ، والقاضي يعلم أنه قد أبرأه ، أو ادعى أنه قتل أباه وقت كذا وقد رآه القاضي حيًّا بعد ذلك ، أو ادعى نكاح امرأة وقد سمعه القاضي طلقها ، لا يجوز أن يقضي به ولو أقام عليه شهوداً وهل يجوز له أن يقضي بعلم نفسه مثل إن ادعى عليه ألفاً وقد رآه القاضي أقرضه ، أو سمع المدعى عليه يقرّ به؟
فقال أبو يوسف ومحمد والمزني : يجوز له أن يقضي بعلمه ، لأنه لما جاز له أن يحكم بشهادة الشهود ، وهي إنما تفيد الظن ، فلأن يجوز ( له ) بما هو منه على علم أولى .
قال الشافعي : أقْضِي بعلمي ، وهو أقوى من شاهدين ، أو شاهد وامرأتين ، وهو أقوى من شاهد ويمين ، ( وبشاهد ويمين ) وهو أقوى من ( النكول ) وردّ اليمين « وقيل : لا يحكم بعلمه لأن انتفاء التهمة شرط في القضاء ، ولم يوجد هذا في الأموال فأما العقوبات ، فإن كانت العقوبة من حقوق العباد كالقصاص وحدّ القذف فهو مثل المال ، إن قلنا لا يقضي فهاهنا أولى ، وإلا فقولان .
والفرق بينهما أن حقوق الله تعالى مبنية على المساهلة والمسامحة ، ولا فرق على القولين أن يحصل العلم للقاضي في بلد ولايته ( وزمان ولايته ) أو في غيره . وقال أبو حنيفة : إن حصل له العلم في بلد ولايته ( وفي زمان ولايته ) له أن يقضي بعلمه وإلا فلا .
فصل
لا يقيم الحد إلا الإمام أو نائبه وللسيد أن يقيم الحد على رقيقه لقوله عليه السلام : « إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدكم فَلْيَجلِدْها » وقيل : بل يرفعه إلى الإمام .
ويُجلد المحصن مع ثيابه ولا يجرد ، ولكن ينبغي أن تكون بحيث يصل ألم الضرب إليه ، وأما المرأة فلا يجوز تجريدها ، بل تربط عليها ثيابها حتى لا تنكشف ، ويلي ذلك منها امرأة . ويضرب بسوط لا جديد يجرح ولا خلق لا يؤلم ، ولا يمد ، ولا يربط ، بل يترك حتى يتقي بيديه ويضرب الرجل قائماً والمرأة جالسة ، وتفرق السياط على أعضائه ولا يجمعها في موضع واحد ويتقى المهالك كالوجه والبطن والفرج .
قال الشافعي : يضرب على الرأس .
وقال أبو حنيفة : لا يضرب على الرأس .
فصل
ولا يقام الحدّ على الحامل حتى تضع ولدها ، ويستغنى عنها لحديث الجهنية ، وأما المريض فإن كان يرجى زوال مرضه أخّر حتى يبرأ ( إن كان الحد جلداً ، وإن كان رجماً أقيم عليه الحدُّ ، لأن المقصود قتله ) ، وإن كان مرضه لا يرجى زواله لم يضرب بالسياط ، بل يضرب بضغث فيه عيدان بعدد ما يجب عليه لقصة أيوب ( - عليه السلام - ) وأدلة جميع ما تقدم مذكورة في كتب الفقه .
فصل
لو فرق السياط تفريقاً لا يحصل به التنكيل مثل أن ضرب كل يوم سوطاً أو سوطين لم يحسب ، وإن ضرب كل يوم عشرين وأكثر حسب .
فصل
ويقام الحد في وقت اعتدال الهواء ، فإن كان في وقت شدة حرّ أو برد نظرنا : إن كان الحدّ رجماً أقيم عليه كما يقام في المرض ، لأن المقصود قتله .
وقيل : إن كان الرجم ثبت بإقراره أخّر إلى اعتدال الهواء وزوال المرض ( إنْ كان يرجى زوال ، لأنه ربما رجع عن إقراره في خلال الرجم ) وقد أثر الرجم في جسمه فيعين شدة الحر والبرد والمرض على إهلاكه .
وإن ثبت بالبينة لا يؤخر ، لأنه لا يسقط .
وإن كان الحد جلداً لم يجز إقامته في شدة الحر والبرد كما لا يقام في المرض .
فصل
معنى قوله : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ } .
قال مجاهد وعكرمة وعطاء وسعيد بن جبير والنخعي والشعبي : لا تأخذكم بهما رأفة فتعطلوا الحدود ولا تقيموها .
وقيل : ولا تأخذكم رأفة فتخففوا ، ولكن أوجعوهما ضرباً . وهو قول سعيد بن المسيب والحسن .
قال الزهري : يجتهد في حدّ الزنا والغربة ، ويخفف في حدّ الشرب .
وقال قتادة : يخفف في الشرب والغربة ، ويجتهد في الزنا .
ومعنى { فِي دِينِ الله } : أي : في حكم الله ، روي أن عبد الله بن عمر جلد جارية له زنت فقال للجلاد : « اضْرُبْ ظَهْرَهَا ورِجْلَيْهَا » فقال له ابنه : « ولا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةً في دِينِ اللَّهِ » فقال : « يا بنيّ إن الله لم يأمرني بقتلها ، وقد ضربت فأوجعت » .
فصل
إذا ثبت الزنا بإقراره فمتى رجع ترك ، وقع به بعض الحد أو لم يقع ( به ) ، لأنّ ماعزاً لما مسته الحجارة هرب ، فقال عليه السلام : « هَلاَّ تركتموه » .
وقيل : لا يقبل رجوعه .
ويحفر للمرأة إلى صدرها ، ولا يحفر للرجل ، وإذا مات في الحدّ غُسِّل وكُفِّن وصُلِّيَ عليه ودفِن في مقابر المسلمين .
قوله : { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } معناه : أن المؤمن لا تأخذه الرأفة إذا جاء أمر الله .
قوله : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا } أي : وليحضر « عَذَابَهُمَا » : حدهما إذا أقيم عليهما « طَائِفَةٌ » نفر من المؤمنين . قال النخعي ومجاهد : أقله رجل واحد ، لقوله تعالى : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] . وقال عطاء وعكرمة : اثنان ، لقوله تعالى : { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ } [ التوبة : 122 ] وكل ثلاثة فرقة ، والخارج عن الثلاثة واحد أو اثنان ، والاحتياط يوجب الأخذ بالأكثر . وقال الزهري وقتادة : ثلاثة فصاعداً ، لأن الطائفة هي الفرقة التي تكون حافة حول الشيء ، وهذه الصورة أقل ما لا بد في حصولها الثلاثة .
وقال ابن عباس : « إنَّها أربعة ، عدد شهود الزنا » ، وهو قول مالك وابن زيد .
وقال الحسن البصري : عشرة ، لأنها العدد الكامل .
واعلم أن قوله : « وَلْيَشْهَد » أمر ، وظاهره للوجوب ، لكن الفقهاء قالوا : يستحب حضور الجمع ، والمقصود منه : إعلان إقامة الحد لما فيه من الردع ودفع التهمة .
وقال الشافعي ومالك : يجوز للإمام أن يحضر رجمه وأن لا يحضر ، وكذا الشهود لا يلزمهم الحضور . وقال أبو حنيفة : « إن ثبت بالبينة وجب على الشهود أن يبدؤوا بالرمي ، ثم الإمام ، ثم الناس ، وإن ثبت بالإقرار بدأ الإمام ثم الناس » .
واحتج الشافعي بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعزاً والغامدية ولم يحضر رجمهما وأما تسميته عذاباً فإنه يدل على أنه عقوبة ، ويجوز أن يسمى عذاباً لأنه يمنع المعاودة ، كما يسمى نكالاً لذلك .
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
قرأ أبو البرهسيم « وَحَرَّم » مبنياً للفاعل مشدداً . وزيد بن علي « حَرُم » بزنة كَرم . واختلفوا في معنى الآية وحكمها :
فقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح وقتادة والزهري والشعبي ، ورواية العوفي عن ابن عباس : « قَدِمَ المهاجرون المدينة وفيهم فقراء لا مال لهم ولا عشائر ، وبالمدينة نساء بغايا يكرين أنفسهن ، وهُنَّ يومئذ أخصب أهل المدينة ، فرغب ناس من فقراء المسلمين في نكاحهن لينفقن عليهم ، فاستأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية » وحرم على المؤمنين أن يتزوجوا تلك البغايا ، لأنهنَّ كنَّ مشركات .
وقال عكرمة : نزلت في نساء بمكة والمدينة ، منهن تسع لهن رايات البيطار يعرفن بها منزلهن : أم مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي ، وكان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية يتخذها مأكلة ، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الجهة ، فاستأذن رجل من المسلمين نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في نكاح « أمِّ مهزول » واشترطت له أن تنفق عليه ، فأنزل الله هذه الآية .
فإن قيل : قوله تعالى : { الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ } ظاهره خبر وليس الأمر كذلك ، لأن الزاني قد ينكح المؤمنة العفيفة ، والزانية قد ينكحها المؤمن العفيف ، وأيضاً فقوله : { وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين } ليس كذلك ، فإن المؤمن يحل له التزويج بالمرأة الزانية .
فالجواب من وجوه :
أحدها - وهو أحسنها - : ما قاله القفال : إن اللفظ وإن كان عاماً لكن المراد منه الأعم الأغلب ، لأن الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا لا يرغب في نكاح المرأة الصالحة ، وإنما يرغب في فاسقة مثله أو في مشركة ، والفاسقة لا ترغب في نكاح الرجل الصالح ، بل تنفر عنه ، وإنما ترغب فيمن هو من جنسها من الفسقة والمشركين ، فهذا على الأعم الأغلب ، كما يقال « لا يفعَل الخيرَ إلاّ الرجلُ التقيُّ » وقد يفعل الخيرَ من ليس بتقي ، فكذا هاهنا .
وأما قوله : { وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين } فالجواب من وجهين :
الأول : أن نكاح المؤمن الممدوح عند الله الزانية ورغبته فيها فحرم عليه لما فيه من التشبه بالفساق ، وحضور موقع التهمة ، والتسبب لسوء المقالة فيه ، والغيبة ، ومجالسة الخطائين فيها التعرض لاقتراف الآثام ، فكيف بمزاوجة الزواني والفجار .
وثانيها : أن صرف الرغبة بالكلية إلى الزواني وترك الرغبة في الصالحات محرم على المؤمنين ، لأن قوله : { الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً } معناه : أنَّ الزاني لا يرغب إلا في زانية ، فهذا محرم على المؤمنين ، ولا يلزم من حرمة هذا الحصر حرمة التزويج بالزانية ، فهذا هو المعتمد في تفسير الآية .
الوجه الثاني : أن الألف واللام في قوله : « الزَّاني » وفي قوله : « المُؤْمِنينَ » وإن كان للعموم ظاهراً لكنه مخصوص بالأقوام الذين نزلت فيهم كما قدمناه آنفاً .
الوجه الثالث : أن قوله : { الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً } وإن كان خبراً في الظاهر لكن المراد منه النهي ، والمعنى : كل من كان زانياً فلا ينبغي أن ينكح إلا زانية ، { وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين } هكذا كان الحكم في ابتداء الإسلام .
وعلى هذا الوجه ذكروا قولين :
أحدهما : أن ذلك الحكم باق إلى الآن حتى يحرم على الزاني والزانية التزويج بالعفيفة والعفيف وبالعكس ، وهذا مذهب أبي بكر وعمر وعليّ وابن مسعود .
ثم في هؤلاء من يسوّي بين الابتداء والدوام فيقول : كما لا يحل للمؤمن أن يتزوج بالزانية فكذلك لا يحل له إذا زنت تحته أن يقيم عليها .
ومنهم من يفصل لأن في جملة ما يمنع من التزويج ما لا يمنع من دوام النكاح كالإحرام والعدة .
والقول الثاني : أن هذا الحكم صار منسوخاً . واختلفوا في ناسخه : فقال الجبائي : إن ناسخه هو الإجماع وعن سعيد بن المسيب أنه منسوخ بعموم قوله تعالى : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] ، { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ } [ النور : 32 ] .
قال المحققون : هذان الوجهان ضعيفان ، أما قول الجبائي فلأنه ثبت في أصول الفقه أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به ، وأيضاً فالإجماع الحاصل عقيب الخلاف لا يكون حجة ، والإجماع في هذه المسألة مسبوق بمخالفة أبي بكر وعمر وعلي ، فكيف يصح؟
وأما قوله : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] فلا يصلح أن يكون ناسخاً ، لأنه لا بد من أن يشترط فيه ألا يكون هناك مانع من النكاح من سبب أو نسب أو غيرهما .
ولقائل أن يقول : لا يدخل فيه تزويج الزانية من المؤمنين ، كما لا يدخل فيه تزويجها من الأخ وابن الأخ ، وأن للزنا تأثيراً في الفرقة ما ليس لغيره ، ألا ترى أنه إذا قذفها يتبعها بالفرقة على بعض الوجوه؟ ولا يجب مثل ذلك في سائر ما يوجب الحد ، ولأن الزنا يورث العار ، ويؤثر في الفراش ، ففارق غيره .
واحتج من ادعى النسخ بأن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : « يا رسول الله إن امرأتي لا تردّ يد لامس » ، قال : « طَلِّقْهَا » . قال : « إني أحبها ، وهي جميلة » ، قال : « استمتع بها » وفي رواية : « فأمسكها إذن » .
وروي أن عمر بن الخطاب ضرب رجلاً وامرأة في زنا وحرص أن يجمع بينهما ، فأبى الغلام . وبأن ابن عباس سُئِل عن رجل زنا بامرأة فهل له أن يتزوجها؟ فأجازه ابن عباس ، وشبهه بمن سرق ثمر شجرة ثم اشتراه .
وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سُئِل عن ذلك فقال : « أَوَّلُهُ سِفَاحٌ وآخِرُهُ نِكاح ، والحرامُ لا يُحَرِّمُ الحلال » .
الوجه الرابع : أن يحمل النكاح على الوطء ، والمعنى : أن الزاني لا يطأ حين يزني إلا زانية أو مشركة ، وكذا الزانية { وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين } أي : وحرم الزنا على المؤمنين ، وهذا تأويل أبي مسلم ، وهو قول سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم ، ورواية الوالبي عن ابن عباس .
قال الزجاج : « وهذا التأويل فاسد من وجهين :
الأول : أنه ما ورد النكاح في كتاب الله إلا بمعنى التزوج ، ولم يرد البتة بمعنى الوطء .
الثاني : أن ذلك يخرج الكلام عن الفائدة ، لأنا لو قلنا : المراد أن الزاني لا يطأ إلا الزانية فالإشكال عائد ، لأنا نرى الزاني قد يطأ العفيفة حين يتزوج بها ، ولو قلنا : المراد أن الزاني لا يطأ إلا الزانية حين يكون وطؤه زنا ، فهذا كلام لا فائدة فيه » .
فإن قيل : أي فرق بين قوله : { الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً } وبين قوله : { الزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ } ؟
فالجواب أن الكلام الأول يدل على أن الزاني لا يرغب إلا في نكاح الزانية ، بخلاف الزانية فقد ترغب في نكاح غير الزاني ، فلا جرم بيَّن ذلك بالكلام الثاني .
فإن قيل : لم قدم الزانية على الزاني في أول السورة وهاهنا بالعكس؟
فالجواب : سبقت تلك الآية على عقوبتها لخيانتها ، فالمرأة هي المادة في الزنا ، وأما هاهنا فمسوقة لذكر النكاح ، والرجال أصل فيه ، لأنه هو الراغب الطالب .
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
قوله تعالى : { والذين يَرْمُونَ المحصنات . . } الآية هي كقوله : { الزانية والزاني فاجلدوا } [ النور : 2 ] فيعود فيه ما تقدم بحاله ، وقوله : « المُحْصَنَات » فيه وجهان :
أحدهما : أن المراد به النساء فقط ، وإنما خَصَّهُنَّ بالذكر لأن قَذْفَهُنَّ أشْنَعُ .
والثاني : أن المراد بهن النساء والرجال ، وعلى هذا فيقال : كيف غلَّب المؤنث على المذكر؟
والجواب أنه صفةٌ لشيء محذوف يَعمُّ الرجال والنساء ، أي : الأنْفُسَ المحصنات ، وهو بعيد أو تقول : ثمَّ معطوف محذوف لفهم المعنى ، وللإجماع على أن حُكْمَهُمْ حُكْمهُنَّ أي : والمُحْصَنين .
قوله : { بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } العامة على إضافة اسم العدد للمعدود ، وقرأ أبو زرعة وعبد الله بن مسلم بالتنوين في العدد ، واستَفْصَحَ الناس هذه القراءة حتى تجاوز بعضهم الحد كابن جني ففضّلها على قراءة العامة ، قال : لأنَّ المعدودَ متى كان صفةً فالأجود الإتباع دون الإضافة ، تقول : « عندي ثلاثةٌ ضاربون » ، ويَضعف « ثلاثةُ ضاربين » وهذا غلط ، لأن الصفة التي جَرَتْ مُجْرَى الأسماء تُعْطَى حُكْمَهَا ، فَيُضَافُ إليها العددُ ، و « شُهَدَاء » من ذلك ، فإنه كَثُرَ حذف موصوفه ، قال تعالى : { مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ } [ النساء : 41 ] . و « اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَينِ » ، وتقول : عندي ثلاثةُ أعبد ، وكل ذلك صفةٌ في الأصل .
ونقل ابن عطية عن سيبويه أنه لا يُجيزُ تنوين العدد إلاّ في شعر .
وليس كما نقله عنه ، إنما قال سيبويه ذلك في الأسماء نحو « ثلاثةُ رجالٍ » وأما الصفات ففيها التفصيل المتقدم .
وفي « شُهَدَاءَ » على هذه القراءة ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه تمييزٌ ، وهذا فاسد ، لأنَّ من ثلاثة إلى عشرة يضاف لمُمَيِّزه ليس إلا ، وغير ذلك ضرورة .
الثاني : أنه حالٌ ، وهو ضعيف أيضاً لمجيئها من النكرة من غير مخصِّصٍ .
الثالث : أنها مجرورة نعتاً ل « أربعة » ، ولم تنصرف لألف التأنيث .
فصل
ظاهر الآية لا يدل على الشيء الذي رموا به المحصنات ، وذكر الرمي لا يدل على الزنا ، إذ قد يرميها بسرقة أو شرب خمر ، بل لا بد من قرينة دالة على التعيين .
واتفق العلماء على أن المراد الرمي بالزنا ، وفي دلالة الآية عليه وجوه :
الأول : تقدم ذكر الزنا .
الثاني : أنه تعالى ذكر المحصنات وهن العفائف ، فدل ذلك على أن المراد رميها بعدم العفاف .
الثالث : قوله : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } يعني : على صحة ما رموا به ، وكون الشهود أربعة من شروط الزنا .
الرابع : الإجماع على أنه لا يجب الحد بالرمي بغير الزنا ، فوجب أن يكون المراد هو الرمي بالزنا .
فصل
شروط الإحصان خمسة :
الإسلام ، والعقل ، والبلوغ ، والحرية ، والعفة من الزنا ، حتى أن من زنا مرة أول بلوغه ثم تاب وحسنت حالته منذ عمره ، فقذفه قاذف لا حدّ عليه ، فإن أقر المقذوف على نفسه بالزنا ، أو أقام القاذف أربعة من الشهود على زناه سقط الحد عن القاذف ، لأن الحد وجب للفرية ، وقد ثبت صدقه .
فصل
وألفاظ القذف : صريح ، وكناية ، وتعريض .
فالصريح : أن يقول : يا زانية ، أو زنيت ، أو زنا قُبُلُكِ أو دُبُرُكِ ، فإن قال : زنا يدك ، فقيل : كناية ، لأن حقيقة الزنا من الفرج ، والصحيح أنه صريح ، لأن الفعل يصدر بكل البدن ، والفرج آلة .
والكناية : أن يقول : يا فاسقة ، يا فاجرة ، يا خبيثة ، يا مؤاجرة ، يا ابنة الحرام ، أو لا ترد يد لامس ، فلا يكون قذفاً إلا بالنية ، وكذا لو قال لعربي : يا نبطي ، أو بالعكس ، فإن أراد القذف فهو قذف لأم المقول له ، وإلا فلا .
فإن قال : عنيت نبطي الدار أو اللسان ، وادعت أم المقول له إرادة القذف فالقول قوله مع يمينه . والتعريض ليس بقذف وإن نواه ، كقوله : يا ابن الحلال أما أنا فما زنيت وليست أمي بزانية ، لأن الأصل براءة الذمة ، فلا يجب بالشك ، والحد يُدْرَأ بالشبهات .
وقال مالك : يجب فيه الحد .
وقال أحمد وإسحاق : هو قذف في حال الغضب دون الرضا .
فصل
إذا قذف شخصاً واحداً مراراً ، فإن أراد بالكل زنية واحدة وجب حدّ واحد ، ( فإن قال الثاني بعدما حد للأول عزر للثاني .
وإن قذفه بزناءين مختلفين كقوله : زنيت بزيد ، ثم قال : زنيتِ بعمرو ، فقيل : يتعدد اعتباراً باللفظ ، ولأنه حقّ آدمي فلا يتداخل كالديون .
والصحيح أنه يتداخل لأنهما حدان من جنس واحد ، فتداخل كحدود الزنا .
ولو قذف زوجته مراراً فالصحيح أنه يكفي بلعان واحد سواء قلنا بتعدد الحد أو لا .
وإن قذف جماعة بكلمة واحدة ، فقيل : حدّ واحد ) ، لأن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء ، فقال عليه السلام : « البينةُ أو حَدٌّ في ظهرك » ، فلم يوجب على هلال إلا حداً واحداً مع أنه قذف زوجته بشريك .
وقيل : لكل واحد حدٌّ .
وإن كان بكلمات فلكل واحد حدّ .
فصل
إذا قذف الصبي أو المجنون أو أجنبية فلا حد عليه ولا لعان ، لا في الحال ولا بعد البلوغ ، لقول عليه السلام : « رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاث » ولكن يعزّران للتأديب إن كان لهما تمييز .
والأخرس إن فهمت إشارته أو كتابته وقذف بالإشارة أو بالكتابة لزمه الحد ، ولذلك يصح لعانه بالإشارة والكتابة .
وأما العبد إذا قذف الحر ، فقيل : يلزمه نصفُ الحد . وقيل : الحد كله .
وأما الكافر إذا قذف المسلم فعليه الحد لدخوله في عموم الآية .
وإن كان المقذوف غير محصَن لم يجب الحد ، بل يوجب التعزير إلا أن يكون المقذوف معروفاً بما قذف به فلا حدّ هناك ولا تعزير .
قوله : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } أي : يشهدون على زناهن { فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وأولئك هُمُ الفاسقون } قوله : { وأولئك هُمُ الفاسقون } يجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة ، وهو الأظهر ، وجوَّز أبو البقاء فيها أن تكون حالاً .
وقوله { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } اعلم أن في هذا الاستثناء خلافاً ، هل يعود لما تقدَّمه من الجمل أم إلى الجملة الأخيرة فقط؟
وتكلم عليها من النحاة ابن مالك والمَهَابَاذِيُّ ، فاختار ابن مالكٍ عوده إلى الجمل المتقدمة والمَهَابَاذِي إلى الأخيرة .
وقال الزمخشري : رد شَهَادَةِ القاذفِ معَلَّقٌ عند أبي حنيفة - رحمه الله - باستيفاء الحدِّ ، فإذا شهد قبل الحدِّ أو قبل تمام استيفائِهِ قُبِلَتْ شهادته ، فإذا استوفي لم تُقْبَلْ شهادته أبداً وإن تابَ وكان من الأبرار الأتقياء .
وعند الشافعي - رحمه الله - يتعلَّقُ ردُّ شهادِتِه بنفس القَذْفِ ، فإذا تاب عن القذف بأن رجع عنه عاد مقبول الشهادة ، وكلاهما مُتَمَسِّكٌ بالآية ، فأبو حنيفة - رحمه الله - جعل جزاء الشرط الذي هو الرميُ : الجلدَ وردَّ الشهادة عُقَيْبَ الجلد على التأبيد ، وكانوا مَرْدُودِي الشهادة عنده في أبدهم ، وهو مدَّة حياتهم ، وجعل قوله : { وأولئك هُمُ الفاسقون } كلاماً مستأنفاً غير داخلٍ في حيز جزاء الشرط ، كأنه حكاية حال الرامين عند الله بعد انقضاء الجملة الشرطية ، و { إِلاَّ الذين تَابُواْ } استثناء من « الفَاسِقِينَ » ، ويدلُّ عليه قوله : { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . والشافعيُّ - رحمه الله - جعل جزاء الشرط الجملتين أيضاً غير أنه صَرَفَ الأبد إلى مدة كونه قاذفاً ، وهي تنتهي بالتوبة ( والرجوع ) عن القذف ، وجعل الاستثناء متعلِّقاً بالجملة الثانية . انتهى .
واعلم أن الإعراب متوقفٌ على ذكر الحكم ، ومحلُّ المستثنى فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه منصوب على أصل الاستثناء .
والثاني : أنه مجرور بدلاً من الضمير في « لَهُمْ » .
وقد أوضح الزمخشري ذلك بقوله : وحق المستثنى عنده - أي : الشافعي - أن يكون مجروراً بَدَلاً من « هُمْ » في « لَهُمْ » ، وحقه عند أبي حنيفة أن يكون منصوباً ، لأنه عن موجب والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاثة بمجموعهن جزاء الشرط ، كأنه قيل : وَمَنْ قَذَفَ المُحْصَنَاتِ فَاجْلِدُوهُمْ ، وَرُدّوا شَهَادَتَهُمْ ، وفسِّقوهم ، أي : فاجمعوا لهم الجلد والردَّ والتفسيق ، إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ، يغفر لهم فينقلبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسَّقين .
قال أبو حيان : وليس ظاهر الآية يقتضي عود الاستثناء إلى الجمل الثلاث ، بل الظاهر هو ما يعضده كلام العرب ، وهو الرجوع إلى الجملة التي تليها .
والوجه الثالث : أنه مرفوع بالابتداء ، وخبره الجملة من قوله : { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
واعترض بخلوّها من رابطٍ .
وأُجيبَ بأنه محذوف ، أي : غفور لهم .
واختلفوا أيضاً في هذا الاستثناء ، هل هو مُتَّصِلٌ أم مُنْقَطِعٌ؟ والثاني ضَعيفٌ جداً .
فصل
الإقرار بالزنا يثبت بشهادة رجلين بخلاف فعل الزنا ، لأن الفعل يعسر الاطلاع عليه وقيل : لا يثبت إلا بأربعة كفعل الزنا .
فصل
إذا شهدوا على فعل الزنا يجب أن يذكروا الزاني والمزني به ، لأنه قد يراه على جارية ابنه فيظن أنه زنا .
ويجب أن يشهدوا أنا رأينا ذكره يدخل في فرجها دخول الميل في المُكْحُلة ، فلو شهدوا مطلقاً أنه زنا لم يثبت ، بخلاف ما لو قذف إنساناً وقال : « زنيتَ » يجب الحد ولا يستفسر ، ولو أقر على نفسه بالزنا ، فقيل : يجب أن يستفسر كالشهود ، وقيل : لا يجب كما في القذف .
فصل
لا فرق بين أن يجيء الشهود مجتمعين أو متفرقين .
وقال أبو حنيفة : إذا شهدوا متفرقين لا يثبت ، وعليهم حد القذف .
وحجة الأول : أن الإتيان بأربعة شهداء قدر مشترك بين الإتيان بهم مجتمعين ومتفرقين . وأيضاً فكل حكم ثبت بشهادة الشهود إذا جاءوا مجتمعين ثبت إذا جاءوا متفرقين كسائر الأحكام ، بل هذا أولى ، لأن مجيئهم متفرقين أبعد من التهمة وعن تلقن بعضهم من بعض ، ولذلك إذا وقعت ريبة للقاضي في شهادة الشهود فرقهم ، وأيضاً فإنه لا يشترط أن يشهدوا معاً في حالة واحدة ، بل إذا اجتمعوا عند القاضي قدَّم واحداً بعد واحد ويشهد ، وكذا إذا اجتمعوا على بابه يدخل واحد بعد واحد .
واحتج أبو حنيفة بأن الشاهد الواحد لما شهد فقد قذفه ولم يأت بأربعة من الشهداء فيجب عليه الحد للآية ، أقصى ما في الباب أنهم عبروا عن القذف بلفظ الشهادة ، وذلك لا عبرة به ، لأنه يؤدي إلى إسقاط حدّ القذف رأساً ، لأن كل قاذف يمكن أن يقذف بلفظ الشهادة ويتوسل بذلك إلى إسقاط الحد عن نفسه ويحصل مقصوده .
وأيضاً فإن المغيرة بن شعبة شهد عليه بالزنا أربعة عند عمر بن الخطاب : أبو بكرة ، وشبل بن معبد ، ونافع ، ونفيع ، قال زياد : وقال رابعهم : رأيت استاً تنبو ، ونفساً يعلو ، ورجلاها على عاتقه كأذني حمار ، ولا أدري ما وراء ذلك ، فجلد عمر الثلاثة ، ولم يسأل : هل معهم شاهد آخر؟ فلو قبل بعد ذلك شهادة غيرهم لتوقف أداء الحد عليه .
فصل
لو شهد على الزنا أقل من أربعة لم يثبت ، وهل يجب حد القذف على الشهود؟ فقيل : يجب عليهم حد القذف لما تقدم آنفاً .
وقيل : لا يجب لأنهم جاءوا مجيء الشهود ، ولأنا لو حَدَدْنَا لانسد باب الشهادة على الزنا ، لأن كل واحد لا يأمن أن يوافقه صاحبه فيلزمه الحد .
فصل
لو أتى القاذف بأربعة فساق فشهدوا على المقذوف بالزنا :
قال أبو حنيفة : يسقط الحد عن القاذف ، ويجب الحد على الشهود .
وقال الشافعي في أحد قوليه : يُحَدُّون .
واحتج أبو حنيفة بأنه أتى بأربعة شهداء ، فلا يلزمه الحد ، والفاسق من أهل الشهادة ، فقد وجدت شرائط الشهادة إلا أنه لم يقبل شهادتهم للتهمة .
واحتج الشافعي بأنهم ليسوا من أهل الشهادة .
قوله : { فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً } وهذا خطاب للإمام ، أو للمالك ، أو لرجل صالح إذا فُقِد الإمام . ويخص من هذا العموم صور :
الأولى : الوالد إذا قذف ولده ( أو ولد ولده ) وإن سفل لا يجب عليه الحد ، كما لا يجب عليه القصاص بقتله .
الثانية : القاذف إذا كان عبداً فالواجب جلده أربعين ، وكذا المكاتب ، وأم الولد ، ومن بعضه حر ، فقيل : كالرقيق . وقيل : بالحساب .
الثالثة : من قذف رقيقه ، أو من زنت قديماً ثم تابت فهي محصنة ولا يجب الحد بقذفها .
فصل
قالوا : أشد الضرب في الحدود ضرب حد الزنا ، ثم ضرب حدّ الخمر ، ثم ضرب القاذف ، لأن سبب عقوبته محتمل للصدق والكذب ، إلا أنه عوقب صيانة للأعراض .
فصل
قال مالك والشافعي : حدّ القذف يورث ، وكذلك إذا كان الواجب بقذفه التعزير يورث عنه .
وقيل : لا يورث إلا أن يطالب المقذوف قبل موته ، فإن قذف بعد موته ثبت لوارثه طلب الحد . وعند أبي حنيفة : الحد لا يورث ، ويسقط بالموت .
حجة الشافعي : أنه حق آدمي يسقط بعفوه ، ولا يستوفى إلا بطلبه ، ويحلف فيه المدعى عليه إذا أنكر ، وإذا كان حق آدمي وجب أن يورث لقوله عليه السلام : « مَنْ مَاتَ عَنْ حَقٍّ فَلورثَتِهِ » .
وحجة أبي حنيفة : لو كان موروثاً لورثة الزوج والزوجة : ولأنه حق ليس فيه معنى المال فلا يورث كالوكالة والمضاربة .
وأجيب بأنا لا نسلم أن الزوج والزوجة لا يرثان ، وإن سلم فالفرق بينهما أن الزوجية تنقطع بالموت ، ولأن المقصود من الحدّ دفع العار عن النسب ، وذلك لا يلحق الزوج والزوجة .
فصل
إذا قذف إنساناً بين يدي الحاكم ، أو قذف امرأته برجل بعينه ، والرجل غائب فعلى الحاكم أن يبعث إلى المقذوف ويخبره بأن فلاناً قذفك ، وثبت لك حدّ القذف عليه ، كما لو ثبت له مال على آخر وهو لا يعلم ، يجب عليه إعلامه ، ولهذا بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أنيساً ليخبرها أن فلاناً قذفها بابنه ، ولم يبعثه ليتفحص عن زناها وليس للإمام إذا رمي رجل بزنا أن يبعث إليه يسأله عن ذلك .
قوله : { ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً } .
قال أكثر الصحابة والتابعين : إذا تاب قُبِلَتْ شهادته وهو قول الشافعي .
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح : لا تقبل شهادة المحدود في القذف إذا تاب . وأدلة المذهبين مذكورة في كتب الفقه ، وهاهنا مبنية على أن الاستثناء هل يرجع إلى الجملة الأخيرة أو إلى الجمل المتقدمة؟ فلذلك اختلف العلماء في قبول شهادته بنفس القذف ، وإذا تاب وندم على ما قال وحسنت حالته قبلت شهادته ، سواء تاب بعد إقامة الحد أو قبله لقوله تعالى : { إِلاَّ الذين تَابُواْ } .
وقالوا : الاستثناء راجع إلى الشهادة وإلى الفسق ، فبعد التوبة تقبل شهادته ويزول عنه اسم الفسق ، يروى ذلك عن عمر وابن عباس ، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وطاوس وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والشعبي وعكرمة وعمر بن عبد العزيز والزهري ، وبه قال مالك والشافعي .
وذهب قوم إلى أن شهادة المحدود في القذف لا تقبل أبداً وإن تاب ، وقالوا : الاستثناء يرجع إلى قوله : { وأولئك هُمُ الفاسقون } وهو قول النخعي وشريح وأصحاب الرأي .
وقالوا : بنفس القذف ترد شهادته ما لم يحد .
قال الشافعي : هو قبل أن يحد شر منه حين يحد لأن الحدود كفارات ، فكيف تردون شهادته في أحسن حالته وتقبلونها في شر حالته .
وذهب الشعبي إلى أن حد القذف يسقط بالتوبة .
وقالوا : الاستثناء يرجع إلى الكل .
وعامة العلماء على أنه لا يسقط بالتوبة إلا أن يعفو عنه المقذوف فيسقط كالقصاص يسقط بالعفو ولا يسقط بالتوبة .
فإن قيل : إذا قبلتم شهادته بعد التوبة فما معنى قوله : « أبَداً » ؟
قيل : معناه : لا تقبل شهادته أبداً ما دام مصرًّا على قذفه ، لأن أبد كل إنسان على ما يليق بحاله ، كما يقال : لا تقبل شهادة الكافر أبداً ، يراد : ما دام كافراً .
فصل
اختلفوا في كيفية التوبة بعد القذف .
فقيل : التوبة منه إكذابه نفسه بأن يقول : كذبت فلا أعود إلى مثله .
وقيل : لا يقول كذبت ، لأنه ربما يكون صادقاً ، فيكون قوله : « كذبت » كذباً ، والكذب معصية ، وإتيان المعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى ، بل يقول : القذف باطل ، ندمت على ما قلت ورجعت عنه ولا أعود إليه . ولا بد من مضي مدة عليه بعد التوبة يحسن حاله فيها حتى تقبل شهادته ، وقدر تلك المدة سنة حتى يمر عليه الفصول الأربعة التي تتغير فيها الأحوال والطباع كأجل العنِّين ، وقد علق الشرع أحكاماً بالنسبة من الزكاة والجزية وغيرهما ، وهذا معنى قوله : « وَأَصْلَحُوا » ، ثم قال : { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي يقبل التوبة .
لما ذكر أحكام قذف الأجنبيات عقبه بأحكام قذف الزوجات .
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
قال ابن عباس : لما نزل قوله : { والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } [ النور : 4 ] قال عاصم بن عدي الأنصاري : « إنْ دخل رجلٌ منا بيته فرأى رجلاً على بطن امرأته فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك فقد قضى الرجل حاجته وخرج ، وإن قتله قتل به ، وإن قال : وجدت فلاناً مع تلك المرأة ضرب ، وإن سكت سكت عن غيظ ، اللهم افتح . وكان لعاصم هذا ابن عم يقال له : عُوَيْمِر ، وله امرأة يقال لها : خولة بنت قيس ، فأتى عويمر عاصماً فقال : لقد رأيت شريك بن سَحماء على بطن امرأتي خولة ، فاسترجع عاصم وأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، ما أسرع ما ابتليت بهذا في أهل بيتي ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » وما ذاك « ؟ فقال : أخبرني عويمر ابن عمي أنه رأى شريك بن سحماء على بطن امرأته خوله ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم جميعاً ، فقال لعويمر : » اتقِ اللَّهَ في زوجتكِ وابنة عمك ، ولا تقذفها « فقال : يا رسول الله ، تالله لقد رأيت شريكاً على بطنها ، وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر ، وإنها حبلى من غَيري . فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - » اتّقي اللَّهَ ولا تخبرِي إلا بما صنعتِ « فقالت : يا رسول الله ، إن عويمر رجلٌ غيور ، وإنه رأى شريكاً يطيل النظر ويتحدث ، فحملته الغيرة على ما قال ، فأنزل الله هذه الآية ، فأمر رسولُ الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يؤذَّن : الصلاة جامعة ، فصلى العصر ثم قال لعُوَيْمِر : قم وقل : أشهد بالله إنّ خولة لزانية وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الثانية : أشهد أني رأيت شريكاً على بطنها وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الثالثة : أشهد بالله أنها حبلى من غيري وإني لمنَ الصادقين ، ثم قال في الرابعة قل أشهد بالله أنها زانية وأني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الخامسة : لعنة الله على عُوَيْمِر ( يعني : نفسه ) إن كان من الكاذبين . ثم قال : اقعد ، وقال لخولة : قومي ، فقامت وقالت : أشهد بالله ما أنا بزانية وإن زوجي لمن الكاذبين ، وقالت في الثانية : أشهد بالله ما رأى شريكاً على بطني وإنه لمن الكاذبين ، وقالت في الثالثة : أشهد بالله ما أنا حُبْلى منه وإنه لمن الكاذبين ، وقالت في الرابعة : اشهد بالله أنه ما رآني على فاحشة قط وإنه من الكاذبين ، وقالت في الخامسة : غضب الله على خولة إن كان عُوَيْمر من الصادقين في قوله ، ففرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما » .
وفي رواية عكرمة عن ابن عباس « أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بشريك بن سحماء ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : » البينة وإلا حدٌّ في ظهرك « . فقال : يا رسول الله ، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة ، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : » البينَةُ وإلاَّ حَدٌّ في ظهْرِك « . فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد ، فنزيل جبريل - عليه السلام - وأنزل عليه : { والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } فقرأ حتى بلغ { إِن كَانَ مِنَ الصادقين } فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسل إليهما ، فجاء هلال فشهد ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : » إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ « ؟ . ثم قامت فشهدت ، فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا : إنها موجبة .
قال ابن عباس : فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم ، فمضت ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أبصروها ، فإن جاءت به أكحل العينين ، سابغ الأليتين ، حدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء . فجاءت به كذلك ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : » لَوْلاَ مَا مَضَى من كتابِ الله - عزَّ وجلَّ - لكانَ لِي ولَهَا شَأْن « .
وفي رواية عكرمة عن ابن عباس قال : » لما نزلت { والذين يَرْمُونَ المحصنات . . . } [ النور : 4 ] الآية قال سعد بن عبادة : لو أتيت لَكَاع وقد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء ، فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ويذهب ، وإن قلت ما رأيت إن في ظهري لثمانين جلدة - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ ، أَلاَ تَسْمَعُونَ مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ » .
قالوا : لا تلمه فإنه رجل غيور ، ما تزوج امرأة قط إلا بكراً ، ولا طلق امرأة له واجترأ رجل منا أن يتزوجها . قال سعد : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، والله إني لأعرف أنها من الله وأنها حق ، ولكن عجبت من ذلك ، فقال عليه السلام : « فَإِنَّ اللَّهَ يَأْبَى إِلاَّ ذلك » . فقال : صدق الله ورسوله ، قال : فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى جاء ابن عم له يقال له : هلال بن أمية ( من حديقة له ) ، وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم ، فرأى رجلاً مع امرأته يزني بها ، فأمسك حتى أصبح ، فلما أصبح غدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس مع أصحابه ، فقال : يا رسول الله ، إني جئت أهلي عشاءً فوجدتُ رجلاً مع امرأتي ، رأيت بعيني وسمعت بأذني ، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جاء به وثقل عليه حتى عرف ذلك في وجهه ، فقال هلال : والله يا رسول الله إني لأرى الكراهة في وجهك مما أتيتك به ، والله يعلم إني لصادق ، وما قلت إلا حقاً ، وإني لأرجو أن يجعل الله لي فرجاً ، فهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضربه ، قال : واجتمعت الأنصار فقالوا : ابتلينا بما قال سعد ، يُجْلَد هلال وتبطل شهادته ، فإنهم لكذلك ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يأمر بضربه إذ أنزل عليه الوحي ، فأمسك أصحابه عن كلامه حين عرفوا أن الوحي قد نزل حتى فرغ ، فأنزل الله : { والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ . . . إلى آخر الآيات } . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أبشر يا هلال ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَكَ فَرجاً » . فقال : كنت أرجو ذلك من الله - عزَّ وجلَّ - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أرسلوا إلَيْها » فجاءت فكذبت هلال . فقال عليه السلام : « اللَّه يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُما كَاذِبٌ ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ » ؟ وأمر بالملاعنة ، وشهد هلال أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، فقال عليه السلام له عند الخامسة : « اتَّقِ اللَّهَ يَا هلالُ ، فإنَّ عذابَ الدنيا أهونُ من عذاب الآخرة » . فقال : والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها رسول الله ، وشهد الخامسة : أنَّ لعنةَ الله إِنْ كَانَ مِنَ الكاذِبين ، ثم قال لها عند الخامسة ووقفها : « اتقي الله فإنها الخامسة الموجبة ، وإن عذاب الله أشد من عذاب الناس » . فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف ثم قالت : والله لا أفضح قومي ، فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كانَ من الصَّادقين . ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما ، وقضى أن الولد لها ، ولا يدعى لأب ، ولا يرمى ولدها ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِزَوْجِهَا ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِلَّذِي قِيلَ فِيهِ » . فجاءت به غلاماً كأنه جمل أورق ، على التشبيه المكروه ، وكان بعد أميراً بمصر ولا يدرى من أبوه « .
فصل
إذا رمى الرجل امرأته بالزنا يجب عليه الحد إن كانت محصنة ، والتعزير إن لم تكن محصنة ، كما في رمي الأجنبي ، إلا أن قذف الأجنبي لا يسقط الحد عن القاذف إلا بإقرار المقذوف ، أو ببينة أربعة شهداء على الزنا .
وفي قذف الزوجة يسقط الحد عنه بأحد هذين الأمرين وباللعان .
وإنما اعتبر الشارع اللعان في الزوجات دون الأجنبيات ، لأنه لا معيرة عليه في زنا الأجنبية ، والأولى له سترة .
وأما في الزوجة فيلحقه العار والنسب الفاسد ، فلا يمكنه الصبر عليه .
فصل
إذا قذف زوجته ونكل عن اللعان لزمه حد القذف ، فإذا لاَعَن ونكلت عن اللعان لزمها حد الزنا . وقال أبو حنيفة : يجلس الناكل منهما حتى يلاعن .
حجة القول الأول : قوله تعالى : { والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً } [ النور : 4 ] ثم عطف عليه حكم الأزواج فقال : { والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ . . . } الآية؛ فكما أن مقتضى قذف الأجنبيات الإتيان بالشهود أو الجلد ، فكذا موجب قذف الزوجات الإتيان باللعان أو الحد .
وأيضاً قوله : { وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ } والألف واللام في « العَذَاب » للمعهود السابق وهو الحدّ ، وليس للعموم ، لأنه لم يجب عليها جميع أنواع العذاب . ومما يدل على بطلان الحبس في حق المرأة أن تقول : إن كان الرجل صادقاً فحدُّوني ، وإن كان كاذباً فخلوني . وليس حبس في كتاب الله وسنة رسوله ولا الإجماع ولا القياس . واحتج أبو حنيفة بأن المرأة ما فعلت سوى أنها تركت اللعان وهذا الترك ليس بينة على الزنا ولا إقراراً منها به ، فوجب ألا يجوز رجمها لقوله عليه السلام : « لا يَحلُّ دَمُ امرئٍ مُسْلِمٍ » الحديث . وإذا لم يجب الرجم إذا كانت محصنة لم يجب الجلد في غير المحصن ، لأن لا قائل بالفرق . وأيضاً فالنكول بصريح الإقرار ، فلم يجز إثبات الحد به كاللفظ المحتمل للزنا وغيره .
فصل
من صح يمينه صح لعانه ، فيجري اللعان بين الرقيقين والذميين والمحدودين ، وكذا إذا كان أحدهما رقيقاً ، أو كان الزوج مسلماً والمرأة ذمية .
فإن قيل : اللعان شهادة ، فوجب ألا يصح إلا من أهل الشهادة . وإنما قلنا : اللعان شهادة ، لقوله تعالى : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ } فسمى اللعان شهادة كقوله : « واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ » ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهما باللعان بلفظ الشهادة ولم يقتصر على لفظ اليمين ، وإذا ثبت أن اللعان شهادة وجب ألا تقبل من المحدودين في القذف لقوله : { وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً } [ النور : 4 ] ، وإذا ثبت ذلك في المحدود ثبت في العبد والكافر ، إما للإجماع على أنهما ليسا من أهل الشهادة ، أو لأنه لا قائل بالفرق .
فالجواب : أن اللعان ليس شهادة في الحقيقة ، بل هو يمين مخصوصة ، لأنه لا يجوز أن يشهد الإنسان لنفسه ولأنه لو كان شهادة لكانت المرأة تأتي بثمان شهادات لأنها على النصف من الرجل ، ولأنه يصح من الأعمى والفاسق ولا تجوز شهادتهما فإن قيل : الفاسق والفاسقة قد يتوبان . قلنا : وكذلك العبد قد يعتق فتجوز شهادته .
فصل
قال عثمان البتي : إذا تَلاَعَنَ الزوجان لم تقع الفرقة ، لأن اللعان ليس بصريح ولا كناية عن الفرقة ، فلا يفيد الفرقة كسائر الأقوال التي لا إشعار لها بالفرقة ، ولأن أكثر ما فيه أن يكون الزوج صادقاً في قوله ، وهذا لا يوجب تحريماً ، ( ألا ترى أنه لو قامت البينة عليها لم يوجب ذلك تحريماً ) ، فإذا كان كاذباً والمرأة صادقة فأولى ألا يوجب تحريماً .
وأيضاً لو تلاعنا فيما بينهما لم يوجب الفرقة ، فكذا عند الحاكم . وأيضاً فاللعان إسقاط الحد ( فكذا اللعان لا تأثير له إلا إسقاط الحد ) .
وأيضاً فلو أكذب الزوج نفسه في قذفة إياها ثم حُدَّ لم يوجب ذلك الفرقة ، فكذا إذا لاَعَن ، لأن اللعان قائم مقام درء الحد .
وأما تفريق النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة العجلاني ، وكان قد طلقها ثلاثاً بعد اللعان فلذلك فرق بينهما .
وقال أصحاب الرأي : لا تقع الفرقة بفراغهما من اللعان حتى يفرق الحاكم بينهما ، لما روى سهل بن سعد في قصة العجلاني مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ، ولأن في قصة عويمر أنهما لما فرغا قال : كذبتُ عليْهَا يا رسول الله إن أمسكتها ، هي طالق ثلاثاً ، ( فطلقها ثلاثاً ) قبل أن يأمرهما ، ولو وقعت الفرقة باللعان لبطل قوله : كذبت عليها إن أمسكتُها ، لأن إمساكها غير ممكن ، ولأن اللعان شهادة لا يثبت حكمه إلا عند الحاكم ، فوجب ألا يوجب الفرقة إلا بحكم الحاكم ، كما لا يثبت المشهود به إلا بحكم الحاكم وقال مالك والليث وزفر : ( إذا فرغا ) من اللعان وقعت الفرقة وإن لم يفرق الحاكم بينهما ، لأنه لو تراضيا على البقاء على النكاح لم يخليا ، بل فرق بينهما ، فدل على أن اللعان قد أوجب الفرقة .
وقال الشافعي : إذا أكمل الزوج الشهادة فقد زال فراش امرأته ، ولا يحل له أبداً لقوله تعالى : { وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب . . . الآية } ، فدل هذا على أنه لا تأثير للعان المرأة إلا في دفع العذاب عن نفسها ، وأن كل ما يجب باللعان من الأحكام فقد وقع بلعان الزوج ، ولأن لعان الزوج مستقلّ بنفي الولد ، فوجب أن يكون الاعتبار بقوله في الإلحاق لا بقولها .
فصل
في كيفية اللعان
وهو مذكور في الآية صريحاً . قال العلماء : يقام الرجل حتى يشهد والمرأة قاعدة ، وتقام المرأة حتى تشهد والرجل قاعد ، ويأمر الإمام من يضع يده على فيه عند الانتهاء إلى اللعنة والغضب ويقول له : إني أخاف إن لم تكن صادقاً . ويكون اللعان عند الحاكم ، فإن كان بمكة كان بين المقام والركن ، وإن كان بالمدينة عند المنبر ، وبيت المقدس في مسجده ، وفي المواضع المعظمة . ولعان المشرك في الكنيسة وأما في الزمان فيوم الجمعة بعد العصر ، ولا بد من حضور جماعة ، وأقلهم أربعة . وهذا التغليظ قيل : واجب . وقيل : مستحب .
فصل
معنى الآية : { والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } أي : يقذفون نساءهم { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ } يشهدون على صحة ما قالوا « إلاَّ أَنْفُسُهُمْ » أي : غير أنفسهم { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ لَمِنَ الصادقين } .
قوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ } . في رفع « أنفسهم » وجهان :
أحدهما : أنه بدل من « شُهَدَاءُ » ، ولم يذكر الزمخشري في غضون كلامه ( غيره ) .
والثاني : أنه نعت له على أن « إلا » بمعنى : غير .
قال أبو البقاء : ولو قرئ بالنصب لجاز على أن يكون خبر « كانَ » ، أو منصوباً على الاستثناء ، وإنما كان الرفع هنا أقوى لأن « إلا » هنا صفة للنكرة كما ذكرنا في سورة الأنبياء .
قال شهاب الدين : وعلى قراءة الرفع يحتمل أن تكون « كان » ناقصة ، وخبرها الجار ، وأن تكون تامة ، أي : ولم يوجد لهم شهداء .
وقرأ العامة « يَكُنْ » بالياء من تحت ، وهو الفصيح ، لأنه إذا أسند الفعل لما بعد « إلا » على سبيل التفريغ وجب عند بعضهم التذكير في الفعل نحو « ما قام إلا هند » ولا يجوز « ما قامت » إلا في ضرورة كقوله :
3815- وَمَا بَقِيَتْ إِلاَّ الضُّلُوعُ الجَرَاشِعُ ... أو في شذوذ ، كقراءة الحسن : { لاَ تُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } .
وقرئ : « وَلَمْ تَكُنْ » بالتاء من فوق ، وقد عرف ما فيه .
قوله : « فَشَهَادةُ أَحَدِهِمْ » في رفعها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون مبتدأ ، وخبره مقدر التقديم ، أي : فعليهم شَهَادة ، أو مؤخر أي : فشهادة أحدهم كافية أو واجبة .
الثاني : أن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي : فالواجب شهادة أحدهم .
الثالث : أن يكون فاعلاً بفعل مقدر ، أي : فيكفي ، والمصدر هنا مضاف للفاعل .
وقرأ العامة : « أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ » بالنصب على المصدر ، والعامل فيه « شَهَادة » . فالناصب للمصدر مصدر مثله كما تقدم في قوله : { فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً } [ الإسراء : 63 ] . وقرأ الأخوان وحفص برفع « أَرْبَعُ » على أنها خبر المبتدأ ، وهو قوله : « فَشَهادةُ » . ويتخرج على القراءتين تعلق الجار في قوله : « بِاللَّهِ » .
فعلى قراءة النصب يجوز فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يتعلق ب « شَهَادَاتٍ » لأنه أقرب إليه .
والثاني : أنه متعلق بقوله : « فَشَهَادَةُ » أي : فشهادة أحدهم بالله ، ولا يضر الفصل ب « أَرْبَعُ » لأنها معمولة للمصدر فليست أجنبية .
الثالث : أن المسألة من باب التنازع ، فإن كلاًّ من « شَهَادَةُ » أو « شَهَادَاتٍ » يطلبه من حيث المعنى ، وتكون المسألة من إعمال الثاني للحذف من الأول ، وهو مختار البصريين وعلى قراءة الرفع يتعين تعلقه ب « شَهَادَاتٍ » إذ لو علقت ب « شَهَادةُ » لزم الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر ، ولا يجوز أنه أجنبي .
ولم يختلف في « أَرْبَعَ » الثانية ، وهي قوله : { أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ } أنها منصوبة ، للتصريح بالعامل فيها وهو الفعل .
قوله : « والخَامِسَةُ » اتفق السبعة على رفع « الخَامِسَةُ » الأولى ، واختلفوا في الثانية : فنصبها حفص . ونصبهما معاً الحسن والسلمي وطلحة والأعمش .
فالرفع على الابتداء ، وما بعده من « أَنَّ » وما في حيزها الخبر .
وأما نصب الأولى فعلى قراءة من نصب « أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ » يكون النصب للعطف على المنصوب قبلها . وعلى قراءة من رفع يكون النصب بفعل مقدر ، أي : وتشهد الخامسة .
وأما نصب الثانية فعطف على ما قبلها من المنصوب وهو « أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ » ، والنصب هنا أقوى منه في الأولى لقوة النصب فيما قبلها كما تقدم تقريره ، ولذلك لم يختلف فيه .
وأما « أَنَّ » وما في حيزها فعلى قراءة الرفع يكون في محل رفع خبراً للمبتدأ كما تقدم ، وعلى قراءة النصب يكون على إسقاط الخافض ويتعلق الخافض بذلك الناصب ل « الخامسة » أي : ويشهد الخامسة بأنَّ لعنة الله ، وبأن غضب الله وجوَّز أبو البقاء أن يكون بدلاً من « الخَامِسَة » .
قوله : { أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ } .
قرأ العامة بتشديد « أنَّ » في الموضعين .
وقرأ نافع بتخفيفها في الموضعين ، إلا أنه يقرأ « غَضِبَ اللَّهُ » يجعل « غَضِبَ » فعلاً ماضياً ، والجلالة فاعله ، كذا نقل أبو حيان عنه التخفيف في الأولى أيضاً ، ولم ينقله غيره . فعلى قراءته يكون اسم « أَن » ضمير الشأن في الموضعين ، و « لَعنةُ اللَّهِ » مبتدأ و « عَلَيْهِ » خبرها ، والجملة خبر « أَنْ » ، وفي الثانية يكون « غَضِبَ اللَّهُ » جملة فعلية في محل خبر « أَنْ » أيضاً . ولكنه يقال : يلزمكم أحد أمرين : وهو إمَّا عدم الفصل بين المخففة والفعل الواقع خبراً ، وإما وقوع الطلب خبراً في هذا الباب ، وهو ممتنع .
تقرير ذلك : أن خبر ( أنْ ) المخففة متى كان فِعْلاً متصرفاً غير مقرون ب « قَدْ » وجب الفصل بينهما بما تقدم في سورة المائدة .
فإن أجيب بأنه دعاء ، اعترض بأن الدعاء طلب ، وقد نصوا على أن الجمل الطلبية لا تقع خبراً ل « أَنَّ » ، حتى تأولوا قوله :
3816- إِنَّ الرِّياضَةَ لا تُنْصِبْكَ للشِّيْبِ ... وقوله :
3817- إِنَّ الَّذِينَ قَتَلْتُمْ أَمْسِ سَيِّدَهُمْ ... لاَ تَحْسَبُوا لَيْلَهُمْ عَنْ لَيْلِكُمْ نَامَا
على إضمار القول .
ومثله : { أَن بُورِكَ مَن فِي النار } [ النمل : 8 ] .
وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة والسُّلَمي وعيسى بتخفيف « أن » و « غَضَبُ الله » بالرفع على الابتداء ، والجار بعده خبره ، والجملة خبر « أَنْ » .
وقال ابن عطية : و ( أَنْ ) الخفيفة على قراءة ( نافع ) في قوله : ( أَنْ غَضِب ) قد وليها الفعل . قال أبو علي : وأهل العربية يستقبحون أن يَلِيهَا الفعل ، إِلاَّ أن يُفْصل بينها وبينه بشيء ، نحو قوله :
{ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ } [ المزمل : 20 ] ، { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ } [ طه : 89 ] ، فأما قوله : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ } [ النجم : 39 ] فذلك لقلة تمكن ( ليس ) في الأفعال ، وأما قوله : { أَن بُورِكَ مَن فِي النار } [ النمل : 8 ] و ( بُورِكَ ) في معنى الدعاء ، فلم يجئ دخول الفاعل لئلا يفسد المعنى ، فظاهر هذا أن ( غَضِب ) ليس دعاء ، بل هو خبر عن { غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْها } . والظاهر أنه دعاء كما أن ( بُورِكَ ) كذلك ، وليس المعنى على الإخبار فيهما فاعتراض أبي علي وأبي محمد ليس بمرضي .
قوله : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله } .
جواب : « لَوْلاَ » محذوف أي : لهلكتم أو لعاجلكم بالعقوبة ، ولكنه ستر عليكم ورفع عنكم الحد باللعان ، { وَأَنَّ الله تَوَّابٌ } يعود على من يرجع عن المعاصي بالرحمة « حَكِيمٌ » فيما فرض من الحدود .
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
قوله تعالى : { إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ } الآية .
في خبر « إِنَّ » وجهان :
أحدهما : أنه عصبةٌ و « مِنْكُمْ » صفته . قال أبو البقاء : « وبه أفاد الخبر » .
والثاني : أن الخبر الجملة من قوله : « لاَ تَحْسَبُوهُ » ، ويكون « عُصْبَةٌ » ، بدلاً من فاعل « جَاءوا » . قال ابن عطية : التقدير : إنَّ فعل الذين ، وهذا أنسق في المعنى وأكثر فائدة من أن يكون « عُصْبَةٌ » خبر ( إِنَّ ) . كذا أورده عنه أبو حيان غير معترض عليه؛ والاعتراض عليه واضح من حيث أنه أوقع خبر « إِنَّ » جملة طلبية ، وقد تقدم أنه لا يجوز وإن ورد منه شيء في الشعر أُوِّلَ كالبيتين المتقدمين . وتقدير ابن عطية ذلك المضاف قبل الموصول ليصحّ به التركيب الكلامي ، إذ لو لم يقدر لكان التركيب « لاَ تَحْسَبُوهُمْ » .
ولا يعود الضمير في « لا تَحْسَبُوهُ » على قول ابن عطية على الإفك لئلا تخلو الجملة من رابط يربطها بالمبتدأ .
وفي قول غيره يجوز أن يعود على الإفك ، أو على القذف ، أو على المصدر المفهوم من « جَاءُوا » ، أو على ما نال المسلمين من الغم .
فصل
سبب نزول هذه الآية ما روى الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن أبي وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود كلهم رووا عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ، قالت : فأقرع بيننا في غزوة غزاها قبل بني المصطلق فخرج بها سهمي ، فخرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول آية الحجاب ، فحملت في هودج فسِرْنَا حتى إذا فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوته تلك وقفل دنونا من المدينة قافلين نزل منزلاً ثم آذَنَ بالرحيل ، فقمت حين آذنوا ومشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظَفَار وقد انقطع ، فرجعت والتمست عقدي ، فحبسني ابتغاؤه ، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي ، وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يُهْبَّلْنَ ولم يغشهن اللحم ، إنما يأكلن العُلْقَة من الطعام ، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه ، وكنت جارية حديثة السن فظنوا أني في الهودج ، وذهبوا بالبعير ، ووجدت عقدي بعدما اسْتَمَرَّت الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب فتيممت منزلي الذي كنت فيه ، وظننت أنهم سيفقدوني ويعودون في طلبي ، فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش يتبع أمتعة الناس يحمله إلى المنزل الآخر لئلا يذهب شيء ، فلما رآني عرفني ، وكان يراني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخمرت وجهي بجلبابي ووالله ما تكلمنا بكلمة ، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، وهوى حتى أناخ راحتله فوطئ على يديها ، فقمت إليها فركبتها ، وانطلق يقود بي حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول ، وافتقدني الناس حين نزلوا ، وماج الناس في ذكري ، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم ، فتكلم القوم وخاضوا في حديثي .
قالت : فَهَلَك مَنْ هلك ، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أُبيّ ابن سَلولٍ . قال عروة : لم يسلم من الإفك إلا حسان بن ثابت ، ومسطح بن أُثاثة ، وحمنة بنت جحش . في أناس آخرين لا علم بهم غير أنهم عصبة كما قال عزَّ وجلَّ . قال عروة : وكانت عائشة تكره أن يُسَب عندها حسان وتقول : إنه هو الذي قال :
3818- فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضي لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ
قالت عائشة : وقدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة ، ولم أر فيه - عليه السلام - ما عهدته من اللطف الذي كنت أعرف منه ، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك ، فاشتكيت حتى قدمت شهراً ، وهو يريبني في وجعي أنَّي لا أرى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي إنما يدخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسلم ثم يقول : « كيف تيكُمْ » ؟ ثم ينصرف ، فذلك يَريبُني ، ولا أشعر بالشر ، حتى خرجت حين نقهت ، فخرجت مع أم مِسْطَح قِبَلَ المناصع وكان متبرَّزنا ، وكنا لا نخرج إلا ليلاً إلى الليل ، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا قالت : فانطلقت أنا وأم مِسْطَح ، وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف . وأمها ابنة صخر بن عامر ، خالة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وابنُها مِسْطَح بن أُثَاثة بن عباد بن المطلب ، فأقبلت أنا وأم مِسْطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مِسْطَح في مرطها ، فقالت : تعس مِسْطَح . فقلت لها : بئس ما قلت ، أَتَسُبِّين رجلاً شهد بدراً؟ فقالت : أي هنتاه ، أو لم تسمعي ما قال؟ فقلت : وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك ، وقالت : أشهد بالله إنك من المؤمنات الغافلات . فازددتُ مرضاً على مرضي ، فلما رجعت إلى بيتي دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال : « كيف تِيكُمْ » ؟ فقلت له أتأذن لي أن آتي أَبَوَيّ؟ قالت : وأريد أن أستيقن الخبر من قبلهما ، قالت : فأذن لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت لأمي : يا أماه ، ماذا يتحدث الناس؟ قالت : يا بنية ، هَوِّني عليك ، فوالله لقلَّما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضراء إلا كَثَّرنَ عليها .
فقلت : سبحان الله ، أو لقد تحدث الناس بها؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يَرْقَأُ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، فدخل عليَّ أبي وأنا أبكي ، فقال لأمي : ما يبكيها؟ قالت : لم تكن علمت ما قيل فيها ، فأقبل يبكي . قالت : ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله ، فقال أسامة : يا رسول الله ، هم أهلك ، ولا نعلم إلا خيراً . وأما عليّ فقال : لم يضيِّق الله عليك ، والنساء سواها كثير ، وسل الجارية تَصْدُقكَ ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم بَرِيرَة ، فقال : « هَلْ رأيتِ من شيء يُريبُك » ؟ قالت له بريرة : والذي بعثك بالحق نبياً ما رأيت عليها أمراً قط أغضه أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله . قالت : فقام نبي الله خطيباً على المنبر فقال : يا معشر المسلمين من يعذرُني من رجل قد بلغ أذاه في أهلي - يعني : عبد الله بن أُبيّ - فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً ، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ أخو بني الأشهل فقال : أنا يا رسول الله أعْذِرُك فإن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج فما أمرتنا فعلناه فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج ، وكان رجلاً صالحاً ، ولكن أخذته الحمية ، وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه ، فقال لسعد بن معاذ : كذبت ، لعمر الله لا تقدر على قتله . فقام أسيد بن حُضَير ، وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة : كذبت ، لعمر الله لنقتله ، وإنك لمنافق تجادل عن المنافقين ، فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر ، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا . قالت : فبكيتُ يَوْمِي ذلك كله وليلتي لا يَرْقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، فأصبح أبواي عندي ، وقد بكيت ليلتين ويوماً حتى أني لأظنّ أن البكاء فالق كبدي ، فبينما أبواي جالسان عندي وأنا أبكي ، فاستأذنت عليّ امرأة من الأنصار ، فأذنت لها ، فجلست تبكي معي ، فبينما نحن على ذلك إذ دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علينا فسلم ثم جلس ، قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل فِيَّ ما قيل ، وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء ، فتشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين جلس ثم قال : أمَّا بعد يا عائشة ، فإنه بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنبٍ فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه قالت : فلمَّا قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته قلص دمعي حتى ما أحسُّ منه قطرة ، ( فقلت ) لأبي : أجب عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قال .
فقال : والله ما أردي ما أقول لرسول الله . فقلت لأمي : أجيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت أمي : والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت وأنا جارية حديثة السِّن لا أقرأ من القرآن كثيراً : إني والله لقد علمت أنكم قد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به ، فلئن قلت لكم : إني بريئة لا تصدقوني ، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقونني ، فوالله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف حين قال : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ } [ يوسف : 18 ] ثم تحولت واضطجعت على فراشي والله يعلم وأنا أعلم أني حينئذ بريئة ، وأن الله مبرئي ببراءتي ، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحياً يُتلى ، ولَشَأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأَمْرٍ ، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رؤيا يبرئني الله بها ، فوالله ما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله على نبيه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدر فيه العرق مثل الجمان في اليوم الشات من ثقل القول الذي أنزل عليه . قالت : فسري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يضحك ، وكان أول كلمة تكلم بها أن قال : « يا عائشة ، أما الله قد برأك » قالت : فقالت لي أمي : قومي إليه . فقلت : فوالله لا أقوم إليه ، فإني لا أحمد إلا الله . قالت : وأنزل الله { إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ . . } العشر آيات . فقال أبو بكر : والله لا أنفق على مِسْطَح بعدها ، وكان ينفق عليه لقرابته منه وفقره ، فأنزل الله : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة . . } [ النور : 22 ] إلى قوله : « غَفُورٌ رَحِيمٌ » . فلما سمع أبو بكر قوله تعالى : { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ } [ النور : 22 ] قال أبو بكر : والله إني لأحب أن يغفر الله لي . فرجع إلى النفقة على مِسْطح وقال : والله لا أنزعها منه أبداً .
قال : فلما نزل عُذْري قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك وتلا القرآن ، فلما نزل ضرب عبد الله بن أُبيِّ ومِسْطَح وحسَّان وحَمنَة الحد .
فصل
الإفك : أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء ، وهو أسوأ الكذب . وسمي إفكاً لكونه مصروفاً عن الحق من قولهم : أفك الشيء : إذا قلبه عن وجهه . قيل : هو البهتان وأجمع المسلمون على أن المراد : ما أفك به على عائشة .
وإنما وصف الله ذلك الكذب بكونه إفكاً لكون المعروف من حال عائشة خلافه ، وذلك من وجوه :
الأول : أن كونها زوجة المعصوم يمنع من ذلك ، لأن الأنبياء مبعوثون إلى الكفار ليدعونهم ويستعطفونهم ، فيجب ألا يكون معهم ما ينفر عنهم ، وكون زوجة الإنسان مسافحة من أعظم المنفرات .
فإن قيل : كيف جاز أن تكون امرأة الرسول كافرة كامرأة نوح ولوط ، ولم يجز أن تكون فاجرة؟ وأيضاً فلو لم يجز لكان الرسول أعرف الناس بامتناعه ولو عرف ذلك لما خاف ولما سأل عائشة عن كيفية الواقعة؟
فالجواب عن الأول : أن الكفر ليس من المنفرات بخلاف الفجوز فإنه من المنفرات .
والجواب عن الثاني : أنه عليه السلام كثيراً ما يكون يضيق قلبه من أقوال الكفار مع علمه بفساد ذلك ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ } [ الحجر : 97 ] فهذا من ذاك الباب .
الثاني : أن المعروف من عائشة قبل تلك الواقعة إنما هو الصون والبعد عن مقدمات الفجور ، ومن كان كذلك كان اللائق إحسان الظن به .
الثالث : أن القاذفين كانوا من المنافقين وأتباعهم ، وكلام المفتري ضرب من الهذيان . فلمجموع هذه كان ذلك القول معلوم الفساد قبل نزول الوحي .
فصل
العُصْبَةُ : قيل : الجماعة من العشرة إلى الأربعين ، وكذلك العِصَابَة ، وهم عبد الله بن أُبيّ رأس المنافقين ، وزيد بن رفاعة ، وحسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم .
قوله : « كِبْرَهُ » العامة على كسر الكاف .
وضمّها في قراءته الحسن والزهري وأبو رجاء وأبو البرهسم وابن أبي عبلة ومجاهد وعَمْرة بنت عبد الرحمن . ورويت أيضاً عن أبي عمرو والكسائي .
فقيل : هما لغتان في مصدر : كبر الشيء ، أي : عظم ، لكن غلب في الاستعمال أن المضموم في السن والمكانة ، يقال : هو كُبر القوم بالضم ، أي : أكبرهم سناً أو مكانة ، وفي الحديث قصة مُحَيْصَة وحويصة : « الكُبْرَ الكُبْرَ » .
وقيل : بالضم : معظم الإفك . وبالكسر : البداءة . وقيل : بالكسر : الإثم .
قوله : « مِنْكُم » معناه : إن الذين أتوا بالكذب في أمر عائشة جماعة منكم أيها المؤمنون ، لأن عبد الله كان من جملة من حكم له بالإيمان ظاهراً .
قوله : { لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } هذا شرح حال المقذوف وليس خطاب مع القاذفين .
فإن قيل : هذا مشكل من وجهين :
أحدهما : أنه لم يتقدم ذكرهم .
والثاني : أن المقذوفين هم عائشة وصفوان ، فكيف يحمل عليهما صيغة الجمع في قوله : { لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ } ؟
فالجواب عن الأول : أنه تقدم ذكرهم في قوله : « مِنْكُمْ » .
وعن الثاني : أن المراد من لفظ الجمع : كل من تأذّى بذلك الكذب ، ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - تأذّى بذلك وكذلك أبو بكر ومن يتصل به .
فإن قيل : فمن أي جهة يصير خيراً لهم مع أنه مَضَرّة؟
فالجواب : لوجوه :
أحدها : أنهم صبروا على ذلك الغم طلباً لمرضاة الله فاستوجبوا به الثواب وهذه طريقة المؤمنين .
وثانيها : لولا إظهار الإفك كان يجوز أن يبقى الهَمُّ كامِنٌ في صدور البعض ، وعند الإظهار انكشف كذب القوم .
وثالثها : صار خيراً لهم لما فيه من شرفهم وبيان فضلهم من حيث نزلت ثماني عشرة آية ، كل واحدة منها مستقلة ببراءة عائشة ، وشهد الله بكذب القاذفين ، ونسبهم إلى الإفك ، وأوجب عليهم اللعن والذم ، وهذا غاية الشرف والفضل .
ورابعها : صيرورتها بحال تعلق الكفر بقذفها ، فإن الله لما نص على كون تلك الواقعة إفكاً وبالغ في شرحه ، فكل من شك فيه كان كافراً قطعاً ، وهذه درجة عالية .
وقال بعضهم : قوله تعالى : { لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ } خطاب مع القاذفين وجعل الله خيراً لهم من حيث كان هذا الذكر عقوبة معجلة كالكفارة ، ومن حيث تاب بعضهم عنده . وهذا القول ضعيف ، لأنه تعالى خاطبهم بالكاف ، ولما وصف أهل الإفك خاطبهم بالهاء بقوله : { لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم } ، ومعلوم أن نفس ما اكتسبوه لا يكون عقوبة ، فالمراد : لهم جزاء ما اكتسبوه من العقاب في الآخرة والمذمة في الدنيا ، والمعنى : أن قدر العقاب يكون مثل قدر الخوض .
قوله : { والذي تولى كِبْرَهُ } . أي : الذي قام بإشاعة هذا الحديث وهو عبد الله بن ( أبيّ ابن ) سلول . والعذاب العظيم هو النار في الآخرة .
روي عن عائشة في حديث الإفك قالت : ثم ركبت وأخذ صفوان بالزمام فمررنا بملأ من المنافقين ، وكان عادتهم أن ينزلوا منتبذين من الناس ، فقال عبد الله بن أبي رئيسهم : من هذه؟ قالوا : عائشة . قال : والله ما نجت منه ولا نجا منها ، وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ، ثم جاء يقودها . وشرع في ذلك أيضاً حسان بن ثابت ، ومِسْطَح ، وحمنة بنت جحش زوجة طلحة بن عبيد الله ، فهم الذين تولوا كِبْرَه . والأقرب أنه عبد الله بن أُبيّ ، فإنه كان منافقاً يطلب ما يقدح في ( الرسول ) .
قال مسروق : دخلتُ على عائشة وعندها حسان بن ثابت ينشد شعراً يشبب بأبيات له وقال :
3819- حَصَانٌ رَزَانٌ ما تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبحُ غَرْثَى مِنْ لحُومِ ( الغَوَافِلِ )
فقالت له عائشة : « لكنك لست كذلك » .
قال مسروق : فقلت لها : لم تأذنين له أن يدخل عليك وقد قال الله : « { والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ؟ قالت : » وأيُّ عذابٍ أشد من العمى « .
وروي أن عائشة ذكرت حسان وقالت : « أَرْجُو لَهُ الجنةَ » . فقيل : أليس هو الذي تولى كبره؟ فقالت : « إذا سَمِعْتُ شِعْرَهُ في مدحِ الرسولِ رَجَوْتُ لَهُ الجَنَّةَ » وقال عليه السلام : « إِنَّ الله يؤيد حسان بروح القدس في شعره » .
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالذين رموا عائشة فجلدوا الحد جميعاً .
فصل
المراد من إضافة الكبر إليه أنه كان مبتدئاَ بذلك القول ، فلا جرم حصل له من العقاب ما حصل لكل من قال ذلك ، لقوله عليه السلام : « من سنَّ سُنّة سيئةً فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة » .
وقال أبو مسلم : « سبب تلك الإضافة شدة الرغبة في إشاعة تلك الفاحشة » .
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)
قوله تعالى : { لولاا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ } « لَوْلاَ » هذه تحضيضية ، أي : هَلاَّ ، وذلك كثير في اللغة إذا كانت تلي الفعل كقوله : « لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي » وقوله : « فَلَوْلاَ كَانَتْ » .
فأما إذا ولي الاسم فليس كذلك كقوله : { لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } [ سبأ : 31 ] ، { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } [ النور : 21 ] . و « إذْ » منصوب ب « ظَنَّ » والتقدير : لولا ظَنَّ المؤمنون بأنفسهم إذ سَمِعْتُمُوه . وفي هذا الكلام التفات . قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل : لولا إذ سمعتموه ، ظننتم بأنفسكم خيراً وقلتم ، ولِمَ عَدَل عن الخطاب إلى الغيبة وعن الضمير إلى الظاهر؟ قلت : ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات ، وليصرح بلفظ الإيمان دلالة على أن الاشتراك فيه مقتض ألا يصدق ( أحد قالةً في أخيه ، وألا يظن بالمسلمين إلا خيراً ) .
وقوله : « وَلِمَ عدل عن الخطاب » ؟ يعني في قوله : « وَقَالُوا » فإنه كان الأصل : « وقلتم » ، فعدل عن هذا الخطاب إلى الغيبة في « وَقَالُوا » .
وقوله : « وعن الضمير » يعني أن الأصل كان « ظَنَنْتُمْ » فعدل عن ضمير الخطاب إلى لفظ المؤمنين .
فصل
المعنى : هلاَّ { إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنْفُسِهِمْ } بإخوانهم « خَيْراً » .
وقال الحسن : بأهل دينهم ، لأن المؤمنين كنفس واحدة ، كقوله : { وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] { فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ } [ النور : 61 ] المعنى : بأمثالكم من المؤمنين .
وقيل : جعل المؤمنين كالنفس الواحدة فيما يجري عليها من الأمور ، فإذا جرى على أحدهم مكروه فكأنه جرى على جميعهم ، كما قال عليه السلام « مَثَلُ المُسْلِمينَ في تَوَاصُلِهِمْ وتراحُمِهِمْ كمثل الجَسَد إذا وجع بعضه وجع كله بالسَّهر والحُمَّى » ، وقال عليه السلام : « المؤمنُون كالبُنْيَانِ يشدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً » .
وقوله : { هاذآ إِفْكٌ مُّبِينٌ } أي : كذب بين .
لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)
قوله : « لَوْلاَ جَاءُوا » : هَلاَّ جاءوا { عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } أي : على ما زعموا يشهدون على معاينتهم ما رَمَوْها به { فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ } ولم يقيموا بينةً على ما قالوه { فأولئك عِندَ الله } أي : في حكمه « هُمُ الكَاذِبُون » .
فإن قيل : كيف يصيرون عند الله كاذبين إذا لم يأتوا بالشهداء ومن كذب فهو عند الله كاذب سواء أتى بالشهداء أو لم يأت؟
فالجواب : معناه : كذبوهم بأمر الله .
وقيل : هذا في حق عائشة خاصة ، فإنهم كانوا عند الله كاذبين .
وقيل : المعنى : في حكم الكاذبين ، فإن الكاذب يجب زجره عن الكذب ، والقاذف إذا لم يأت بالشهود فإنه يجب زجره ، فلما ( كان ) شأنه ( شأن ) الكاذب في الزجر أطلق عليه أنه كاذب مجازاً .
قوله : { فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ } . « إذْ » منصوب ب « الكَاذِبُونَ » في قوله : { فأولئك عِندَ الله هُمُ الكاذبون } ، وهذا كلام في قوة شرط وجزاء .
قوله : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدنيا والآخرة لَمَسَّكُمْ فِي مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ } من الإفك { عَذَابٌ عَظِيمٌ } . ( وهذا زجر ) و « لَوْلاَ » هاهنا لامتناع الشيء لوجود غيره ويقال : أفاض في الحديث : اندفع وخاض . والمعنى : ولو أني قضيت أن أتفضل عليكم في الدنيا بالنعم التي من جملتها الإمهال ، وأتَرَحَّم عليكم في الآخرة بالعفو ، لعاجلتُكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك .
وقيل : المعنى : وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ لمَسَّكُم العَذَابُ في الدُّنْيَا والآخرة معاً ، فيكون فيه تقديم وتأخير . وهذا الفضل هو حكم الله لمن تاب .
وقال ابن عباس : المراد بالعذاب العظيم أي : عذاب لا انقطاع له . أي : في الآخرة لأنه ذكر عذاب الدنيا من قبل فقال : { والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النور : 11 ] وقد أصابه ، فإنه جلد وحدّ .
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
قوله : « إذْ تَلَقَّوْنَهُ » . « إذْ » منصوب ب « مَسَّكُمْ » أو ب « أَفَضْتُمْ » .
وقرأ العامة : « تَلَقَّوْنَهُ » والأصل : تَتَلَقَّوْنَهُ ، فحُذِفَ إحدى التاءين ك « تَنَزَّل » ونحوه ، ومعناه : يَتَلَقَّاهُ بعضكُمْ من بعضٍ .
قال الكلبي : وذلك أن الرجل منهم يلقى الرجل فيقول : بلغني كذا وكذا ، يتلقونه تلقياً .
قال الزجاج : يلقيه بعضهم إلى بعض .
والبَزِّي على أصله في أنه يُشَدِّدُ التَّاءَ وَصْلاً ، وتقدم تحقيقه في البقرة نحو « ولا تَيَمَّمُوا » وهو هناك سهل ، لأن ما قبله حرف لين بخلافه هنا .
وأبو عمرو والكسائي وحمزة على أصولهم في إدغام الذال في التاء .
وقرأ أُبيّ : « تَتَلَقَّوْنَهُ » بتاءين ، وتقدم أنها الأصل . وقرأ ابن السميفع في رواية عنه : « تُلْقُونه » بضم التاء وسكون اللام وضم القاف مضارع : ألقى إلقاء .
وقرأ هو في رواية أخرى : « تَلْقَونه » بفتح التاء وسكون اللام وفتح القاف مضارع : لقي . وقرأ ابن عباس وعائشة وعيسى وابن يعمر وزيد بن علي بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف من ولق الرجل : إذا كذب . قال ابن سيدة : جاءوا بالمتعدي شاهداً على غير المتعدي ، وعندي أنه أراد : تلقون فيه ، فحذف الحرف ، ووصل الفعل للضمير ، يعني : أنهم جاءوا ب « تَلَقَّوْنَهُ » وهو متعد مفسراً ب « تكذبون » وهو غير متعد ، ثم حمله على ما ذكر . وقال الطبري وغيره : إن هذه اللفظة مأخوذة من الوَلَق وهو الإسراع بالشيء بعد الشيء ، كعَدْوٍ في إثْر عدو ، وكلامٍ في إثر كلامٍ ، يقال : ولق في سيره أي : أسرع ، وأنشد :
3820- جَاءَتْ بِهِ عِيسٌ مِنَ الشَّامِ تَلِقْ ... وقال أبو البقاء : أي : يُسْرِعُون فيه ، وأصله من « الولق » وهو الجنون .
وقرأ زيد بن أسلم وأبو جعفر : « تَأْلِقُونَهُ » بفتح التاء وهمزة ساكنة ولام مكسورة وقاف مضمومة من « الأَلَق » وهو الكَذِبُ . وقرأ يعقوب : « تِيلَقُونه » بكسر التاء من فوق ، بعدها ياء ساكنة ولام مفتوحة وقاف مضمومة ، وهو مضارع « وَلِق » بكسر اللام ، كما قالوا : « تيجل » مضارع « وَجِل » . وقوله : « بِأَفْوَاهِكمْ » كقوله : « يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ » وقد تقدم .
فصل
اعلم أن الله تعالى وصفهم بارتكاب ثلاثة آثام ، وعلق مس العذاب العظيم بها .
أحدها : تلقي الإفك بألسنتهم ، وذلك أن الرجل كان يلقى الرجل يقول له : ما وراءك؟ فيحدثه بحديث الإفك حتى شاع واشتهر ، ولم يبق بيت ولا ناد إلا طار فيه . فكأنهم سعوا في إشاعة الفاحشة ، وذلك من العظائم .
وثانيها : أنهم كانوا يتكلمون بما لا علم لهم به ، وذلك يدل على أنه لا يجوز الإخبار إلا مع العلم ، ونظيره :
{ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [ الإسراء : 36 ] .
وثالثها : أنهم كانوا يستصغرون ذلك ، وهو عظيمة من العظائم .
وتدل الآية على أن القذف من الكبائر لقوله : { وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ } ، وتدل على أن الواجب على المكلف في كل محرم أن يستعظم الإقدام عليه .
ونبه بقوله : « وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً » على أن عمل المعصية لا يختلف بظن فاعله وحسبانه ، بل ربما كان ذلك مؤكداً لعظمه .
فإن قيل : ما معنى قوله : « بِأَفوَاهِكُمْ » والقول لا يكون إلاّ بالفم؟
فالجواب : معناه : أن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب ، فيترجم عنه باللسان ، وهذا الإفك ليس إلا قولاً يجري على ألسنتكم من غير أن يحصل في القلب علم به كقوله : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } [ آل عمران : 167 ] .
وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)
قوله : { ولولاا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ } كقوله : { لولاا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ } [ النور : 12 ] ولكن الالتفات فيه قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز الفصل بين ( لولا ) و ( قلتم ) بالظرف؟ قلت : للظروف شأن ليس لغيرها ، لأنها لا ينفك عنها ما يقع فيها ، فلذلك اتسع فيها .
قال أبو حيان : « وهذا يوهم اختصاص ذلك بالظروف ، وهو جائز في المفعول به ، تقول : لولا زيداً ضربتُ ، ولولا عَمْراً قتلتُ » .
وقال الزمخشري أيضاً : فإن قلت : أي فائدة في تقديم الظرف حتى أوقِعَ فاصلاً؟ قلت : الفائدة فيه : بيان أنه كان الواجب عليهم أن يحترزوا أول ما سمعوا بالإفك عن التكلم به ، فلما كان ذكر الوقت أهم وجب تقديمه . فإن قلت : ما معنى « يكون » والكلام بدون مُتْلَئِب لو قيل : ما لنا أن نتكلم بهذا؟ قلت : معناه : ينبغي ويصح ، أي : ما ينبغي وما يصح كقوله : { مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ } [ المائدة : 116 ] .
فصل
قوله : { ولولاا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا سُبْحَانَكَ } هذا اللفظ هنا معناه التعجب { هذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } أي : كذب عظيم يبهت ويتحير من عظمته .
روي أن أم أيوب قالت لأبي أيوب الأنصاري : أما بلغك ما يقول الناس في عائشة؟ فقال أبو أيوب : « سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ » فنزلت الآية على وفق قوله .
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)
قوله تعالى : { يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ . . . } الآية وهذا من باب الزواجر ، أي : يعظكم الله بهذه المواعظ التي بها تعرفون عظم هذا الذنب ، ولأن فيه الحد والنكال في الدنيا والعذاب في الآخرة ، لكي لا تعودوا إلى مثل هذا الفعل أبداً .
قوله : « أَنْ تَعُودُوا » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مفعول من أجله ، أي : يعظكم كراهة أن تعودوا .
الثاني : أنه على حذف « في » أي : في أن تعودوا ، نحو : وعطف فلاناً في كذا ، فتركه .
الثالث : أنه ضمن معنى فعل يتعدى ب « عَنْ » ثم حذفت ، أي : يَزْجُرُكُمْ بالوعظ عن العود .
وعلى هذين القولين يجيء القولان في محل « أنْ » بعد نزع الخافض .
قال ابن عباس : « يحرم الله عليكم » .
وقال مجاهد : « يَنْهَاكم اللَّهَ أنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أبداً إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُم الآيَات » في الأمر والنهي « وَاللَّهُ عَلِيمٌ » بأمر عائشة وصفوان « حَكِيمٌ » ببراءتهما .
واعلم أن العليم الحكيم هو الذي لا يأمر إلا بما ينبغي ، ولا يهمل جزاء المستحقين فلهذا ذكر هاتين الصفتين وخصهما بالذكر .
فصل
استدلت المعتزلة بقوله : { إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } على أن ترك القذف من الإيمان ، لأن المعلق على الشرط يعدم عند عدم الشرط .
وأجيبوا بأن هذا معارض بقوله : { إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ } [ النور : 11 ] أي : منكم أيها المؤمنون ، فدل ذلك على أن القذف لا يوجب الخروج عن الإيمان ، وإذا ثبت التعارض حملنا هذه الآية على التهيج في الاتعاظ والانزجار .
فصل
قالت المعتزلة : دلت هذه الآية على أنه تعالى أراد مَنْ جميع من وعظه مجانبة ذلك في المستقبل وإن كان فيهم من لا يطيع ، فمن هذا الوجه يدل على أنه يريد منهم كلهم الطاعة وإن عصوا ، ولأن قوله : { يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ } ، أي : لكي لا تعودوا لمثله ، وذلك يدل على الإرادة ، وتقدم الجواب عنه مراراً .
فإن قيل : هل يجوز أن يسمى الله واعظاً لقوله : « يَعِظُكُم اللَّهُ » ؟ فالأظهر أنه لا يجوز ، كما لا يجوز أن يسمى الله معلماً لقوله : { الرحمن عَلَّمَ القرآن } [ الرحمن : 1 - 2 ] .
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)
قوله تعالى : { إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة } الآية .
لمَّا بين ما على الإفك وعلى مَنْ سُمِع مِنْهُ وما ينبغي أن يتمسكوا به من آداب الدين أتبعه بقوله : { إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة } ليعلم أن من أحب ذلك فقد شارك في هذا كما شارك فيه من فعله .
والإشاعة : الانتشار ، يقال : في هذا العقار سهم شائع : إذا كان في الجميع ولم يكن منفصلاً . وشاع الحديث : إذا ظهر في الجميع ولم يكن منفصلاً . وشاع الحديث : إذا ظهر في العامة . والمعنى : { إِنَّ الذين يُحِبُّونَ } أن يظهر ويذيع الزنا { فِي الذين آمَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدنيا والآخرة } يعني : عبد الله بن أبي وأصحابه المنافقين والعذاب في الدنيا : الحد . وفي الآخرة : النار .
وظاهر الآية يتناول كل من كان بهذه الصفة .
والآية إنما نزلت في قَذَفَةِ عائشة إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ثم قال : { والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } وهذا حسن الموقع في هذا الموضع ، لأن محبة القلب كافية ونحن لا نعلمها إلا بالإبانة ، وأما الله - سبحانه - فإنه لا يخفى عليه ، وهذا نهاية في الزجر ، لأن من أحبّ إشاعة الفاحشة وإن بالغ في إخفاء تلك المحبة فهو يعلم أن الله يعلم ذلك منه ، ويعلم قدر الجزاء عليه .
وهذه الآية تدل على أن العزم على الذنب العظيم ذنب ، وأن إرادة الفسق فسق ، لأنه تعالى علق الوعيد بمحبّة إشاعة الفاحشة .
فصل
قالت المعتزلة : إن الله بالغ في ذم من أحب إشاعة الفاحشة ، فلو كان تعالى هو الخالق لأفعال العباد لما كان مشيع الفاحشة إلا هو ، فكان يجب ألا يستحق الذم على إشاعة الفاحشة إلا هو ، لأنه هو الذي فعل تلك الإشاعة ، وغيره لم يفعل شيئاً ، وتقدم الكلام على ( نظيره ) .
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
قوله تعالى : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } جواب « لولا » محذوف ، أي : لعاجلكم بالعقوبة .
قال ابن عباس : يريد مسطحاً وحسان وحَمْنة . ويجوز أن يكون الخطاب عاماً .
وقيل : جوابه في قوله : { مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ } .
وقيل : جوابه : لكانت الفاحشة تشيع فتعظم المضرة ، وهو قول أبي مسلم . والأقرب أن جوابه محذوف ، لأن قوله من بعد : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ } كالمنفصل من الأول ، فلا يكون جواباً للأول خصوصاً ( وقد ) وقع بين الكلامين كلام آخر .
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان } الآية قرئ « خُطُوَاتِ » بضم الطاء وسكونها . والخُطُوات : جمع خُطْوة وهو من خَطَا الرجلُ يَخْطُوا خَطْواً فإذا أردت الواحدة قلت : خَطْوَة مفتوحة الأول ، والمراد بذلك : السيرة .
والمعنى : لا تتبعوا آثار الشيطان ولا تسلكوا مسالكه في إشاعة الفاحشة ، والله تعالى وإن خص بذلك المؤمنين ، فهو نهي لكل المكلفين ، لأن قوله : { وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشيطان فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بالفحشآء } منع لكل المكلفين من ذلك والفحشاء : ما أفْرَط قُبْحُهُ . والمُنْكَر : ما تنكره النفوس ، فتنفر عنه ولا ترتضيه .
قوله : « فإنه يأمر » في هذه الهاء ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها ضمير الشأن ، وبه بدأ أبو البقاء .
والثاني : أنها ضمير الشيطان .
وهذان الوجهان إنما يجوزان على رأي من لا يشترط عود الضمير على اسم الشرط من جملة الجزاء .
والثالث : أنه عائد على « مَنْ » الشرطية .
قوله : « مَا زَكَى » . العامة على تخفيف الكاف ، يقال : زَكَا يَزْكُو ، وفي ألفه الإمالة وعدمها . وقرأ الأعمش وابن محيصن وأبو جعفر بتشديدها . وكتبت ألفه ياء ، وهو شاذ ، لأنه من ذوات الواو كغزا ، وإنما حمل على لغة من أمال ، أو على كتابة المشدد .
فعلى قراءة التخفيف يكون « مِنْ أحَدٍ » فاعلاً . وعلى قراءة التشديد يكون مفعولاً ، و « مِنْ » مزيدة على كلا التقديرين ، والفاعل هو الله تعالى .
فصل
قال مقاتل : ما زَكَا : ما صلح .
وقال ابن قتيبة : ما ( ظهر ) .
وقيل : من بلغ في الطاعة لله مبلغ الرضا ، ( يقال : زكا الزرع ) ، فإذا بلغ المؤمن في الصلاح في الدين ما يرضاه ( تعالى ) سمي زكياً ، فلا يقال : زكى إلا إذا وجد زاكياً ، كما لا يقال لمن ترك الهدى : هداه الله مطلقاً ، بل يقال : هداه الله فلم يهتد . ودلت الآية على أن الله تعالى هو الخالق لأفعال العباد ، لأن التزكية كالتسويد والتحمير ، فكما أن التسويد يحصل السواد ، فكذا التزكية تحصل الزكاء في المحل .
والمعتزلة حملوها هنا على فعل الإلطاف ، أو على الحكم بكون العبد زكياً ، وهو خلاف الظاهر ، ولأن الله تعالى قال : { ولكن الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ } علق التزكية على الفضل والرحمة ، وخلق الإلطاف واجباً فلا يكون معلقاً بالفضل والرحمة ، وأما الحكم بكونه زكياً فذلك واجب ، لأنه لولا الحكم له لكان كذباً ( و ) الكذب على الله محال ، فكيف يجوز تعليقه بالمشيئة؟ .
فصل
قال ابن عباس في رواية عطاء : هذا خطاب للذين خاضوا في الإفك ، ومعناه : ما ظهر من هذا الذنب ولا صلح أمره بعد الذي فعل ، أي : ما قبل منكم توبة أحد أبداً ، { ولكن الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ } يطهر « مَنْ يَشَاءُ » من الذنب بالرحمة والمغفرة { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : يسمع أقوالكم في القذف ، وأقوالكم في البراءة و « عَلِيمٌ » بما في قلوبهم من محبة إشاعة الفاحشة أو من كراهتها ، وإذا كان كذلك وجب الاحتراز عن معصيته .
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
قوله تعالى : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ } الآية .
يجوز أن يكون « يَأْتَلِ » : « يفتعل » ، من الألية ، وهي الحلف ، كقوله :
3821- وَآلَتْ حَلْفَةً لَمْ تَحَلَّلِ ... ونصر الزمخشري هذا بقراءة الحسن « ولا يَتَأَلَّ » من الأليَّة ، كقوله : « مَنْ يَتَأَلَّ عَلَى اللَّهِ يُكَذبْهُ » .
ويجوز أن يكون « يفتعل » من أَلَوْت ، أي : قَصَّرْتُ ، كقوله تعالى : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } [ آل عمران : 118 ] قال :
3822- وَمَا المَرْءُ مَا دَامَتْ حُشَاشَة نَفْسِهِ ... بمُدْرِكِ أَطْرَافِ الخُطُوبِ وَلاَ آلِ
وقال أبو البقاء : وقرئ : « وَلاَ يَتَأَلَّ » على « يَتفعل » وهو من الألية أيضاً ، ومنه :
3823- تَألَّى ابنُ أَوْسٍ حَلْفَةً لَيَرُدُّنِي ... إلى نِسْوَةٍ كَأَنَّهُنَّ مَفَائِدُ
قوله : « أَنْ يُؤْتُوا » هو على إسقاط الجار ، وتقديره على القول الأول : ولا يأتل أولو الفضل على أن لا يحسنوا . وعلى الثاني : ولا يقصر أولو الفضل في أن يحسنوا .
وقرأ أبو حيوة وأبو البرهسيم وابن قطيب : « تؤتوا » بتاء الخطاب ، وهو التفات موافق لقوله : « أَلاَ تُحِبُّون » . وقرأ الحسن وسفيان بن الحسين « ولتعفوا ولتصفحوا » بالخطاب وهو موافق لما بعده .
فصل
المشهور أن معنى الآية : لا يحلف أولو الفضل ، فيكون « افتعال » من الألية .
قال أبو مسلم : وهذا ضعيف لوجهين :
أحدهما : أن ظاهر الآية على هذا التأويل يقتضي المنع عن الحلف على الإعطاء ، وهم أرادوا المنع على ترك الإعطاء ، فهذا المتأول قد أقام النفي مكان الإيجاب ، وجعل المنهي عنه مأموراً به .
الثاني : أنه قلما يوجد في الكلام « أَفتعَلت » مكان « أفعلت » ( وإنما وجد مكان « فعلت » ) وهنا آليْتُ من الأليّة : « افْتَعَلْتُ » فلا يقال : أفعلت ، كما لا يقال من ألزمت التزمت ، ومن أعطيت اعتطيت . ثم قال في « يأتل » : إن أصله « يأتلي » ذهبت الباء للجزم لأنه نهي ، وهو من قولك : مَا ألوتُ فلاناً نصحاً ، ولم آل في أمري جُهْداً ، أي : ما قصرت . ولا يأل ولا يأتل ولم يأل والمراد : لا تقصروا في أن تحسنوا إليهم ، ويوجد كثيراً « افْتَعَلْتُ » مكان « فَعَلْت » ، تقول : كسبتُ واكتسبت ، وصنعتُ واصطنعتُ ، وهذا التأويل مروي عن أبي عبيدة . قال ابن الخطيب : « وهذا هو الصحيح دون الأول » .
وأجاب الزجاج عن الأول بأن « لا » تحذف في اليمين كثيراً ، قال الله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ } [ البقرة : 224 ] يعني : أن لا تبروا ، وقال امرؤ القيس :
3824- فَقُلْتُ يَمِين اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِداً ... أي : لا أبرح .
وأجابوا عن السؤال الثاني أن جميع المفسرين الذين كانوا قبل أبي مسلم فسروا اللفظ باليمين ، وقول واحد منهم حجة في اللغة ، فكيف الكل؟ ويعضده قراءة الحسن : « ولا يَتَأَلَّ » .
فصل
قال المفسرون معناه : ولا يحلف { أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة } أي : أولوا الغنى ، يعني : أبا بكر الصديق { أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله } يعني : مِسْطَحاً ، وكان مسكيناً مهاجراً بدرياً ابن خالة أبي بكر حلف أبو بكر لا ينفق عليه « وَلْيَعْفُوا وليصْفَحُوا » عنهم خوضهم في أمر عائشة « أَلاَ تُحِبُّونَ » يخاطب أبا بكر { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله ( لَكُمْ ) والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فلما قرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي بكر قال : « بلى إنما أحب أن يغفر الله لي » ورجع إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه ، وقال : « والله لا أنزعها منه أبداً » .
وقال ابن عباس والصحابة أقسم ناس من الصحابة فيهم أبو بكر ألا يتصدقوا على رجل تكلم بشيء من الإفك ولا ينفعوهم فأنزل الله هذه الآية .
فصل
أجمع المفسرون على أن المراد من قوله : « أولُوا الفَضْل » أبو بكر ، وهذا يدل على أنه كان أفضل الناس بعد الرسول ، لأن الفضل المذكور في الآية إما في الدنيا وإما في الدين ، والأول باطل ، لأنه تعالى ذكره في معرض المدح له ، والمدح من الله بالدنيا غير جائز ، ولأنه لو جاز ذلك لكان قوله : « والسَّعَة » تكريراً ، فتعين أن يكون المراد منه الفضل في الدين ، فلو كان غيره مساوياً له في الدرجة في الدين لم يكن هو صاحب الفضل ، لأن المساوي لا يكون فاضلاً ، فلما أثبت الله له الفضل غير مقيد بشخص دون شخص وجب أن يكون أفضل الخلق تُرك العمل به في حق الرسول - عليه السلام - فيبقى معمولاً به في حق الغير .
وأجمعت الأمة على أن الأفضل إما أبو بكر أو عليّ ، فإذا تبين أنه ليس المراد عليًّا تعينت الآية في أبي بكر .
وإنما قلنا : ليس المراد عليًّا ، لأن ما قبل الآية وما بعدها يتعلق بابنة أبي بكر ، ولأنه تعالى وصفه بأنه من أولي السعة ، وأن عليًّا - رضي الله عنه - لم يكن من أولي السَّعة في الدنيا في ذلك الوقت ، فثبت أن المراد منه أبو بكر قطعاً .
فصل
أجمعوا على أن مِسْطَحاً كان من البدريين ، وصح عنه عليه السلام أنه قال : « لَعَلَّ الله نظرَ إلى أهل بدر فقال : اعمَلُوا ما شِئْتُم ، فقد غفرت لكم » فكيف صدرت الكبيرة منه بعد أن كان بدريًّا؟
والجواب : أنه لا يجوز أن يكون المراد منه : افعلوا ما شئتم من المعاصي ، فيأمر بها ، لأنا نعلم بالضرورة أن التكليف كان باقياً عليهم ، ولو حملناه على ذلك لأفضى إلى زوال التكليف عنهم ، ولو كان كذلك لما جاز أن يحدّ مِسْطح على ما فعل ، فوجب حمله على أحد أمرين :
الأول : أنه تعالى علم توبة أهل بدر فقال : افعلوا ما شئتم من النوافل من قليل أو كثير ، فقد غفرت لكم وأعطيتكم الدرجات العالية في الجنة .
والثاني : أن يكون المراد أنهم يوافون بالطاعة ، فكأنه تعالى قال : قد غفرتُ لكم لعلمي بأنَّكم تموتون على التوبة والإنابة ، فذكر حالهم في الوقت وأراد العاقبة .
فصل
دلت الآية على أن ( الأيمان على ) الامتناع من الخير غير جائز ، وإنما يجوز إذا حصلت داعية صارفة عنه .
فصل
مذهب الجمهور أنَّ من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها ، أنه ينبغي له أن يأتي الذي هو خير ثم يكفر عن يمينه .
وقال بعضهم : إنه يأتي بالذي هو خير ، وذلك هو كفارته ، لأن الله تعالى أمر أبا بكر بالحنث ولم يوجب عليه كفارة . ولقوله عليه السلام : « مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فرأى غيرها خيراً مِنْهَا فليأتِ الذي هو خير ، وذلك كفارته » .
واحتج الجمهور بقوله تعالى : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان فَكَفَّارَتُهُ } [ المائدة : 89 ] ، وقوله : { ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } [ المائدة : 89 ] ، وقوله لأيوب - عليه السلام - : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ } [ ص : 44 ] وقد علمنا أن الحنث كان خيراً من تركه ، ولو كان الحنث فيها كفارتها لما أمر بضربها ، بل كان يحنث بلا كفارة ، وقال عليه السلام : « مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمينٍ فرَأَى غيرَها خيراً منْهَا فليأتِ الَّذِي هو خيرٌ وليكفِّرْ عن يمينه » .
وأما قولهم : إنَّ الله تعالى لم يذكر الكفارة في قصة أبي بكر ، فإن حكمها كان معلوماً عندهم . وأما قوله عليه السلام : « وليأت الذي هو خير ، وذلك كفارته » فمعناه : تكفير الذنب لا أنه الكفارة المذكورة في الكتاب .
فصل
روي عن عائشة أنها قالت : « فَضِلْتُ على أزواج النبي بعشر خصال :
تزوج رسول الله بي بكراً دون غيري ، وأبواي مهاجران ، وجاء جبريل بصورتي وأمره أن يتزوج بي ، وكنت أغتسل معه في إنائه ، وجبريل ينزل عليه وأنا معه في لحاف ، وتزوج في شوال ، وبنى بي في ذلك الشهر وقبض بين سحري ونحري ، وأنزل الله عذري من السماء ، ودفن في بيتي ، وكل ذلك لم يساوني فيه غيري » .
وقال بعضهم : « لقد برَّأ الله أربعة بأربعة : بَرأ يوسف { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ } [ يوسف : 26 ] ، وبرأ موسى من قول اليهود بالحجر الذي ذهب بثوبه ، وبرأ مريم بإنطاق ولدها ، وبرأ عائشة بهذه الآيات في كتابه المتلو على وجه الدهر » .
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
قوله : { إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات } العفائف « الغَافِلاَت » عن الفواحش « المُؤْمِنَاتِ » والغافلة عن الفاحشة أي : لا تقع في مثلها ، وكانت عائشة كذلك ، فقال بعضهم : الصيغة عامة ، فيدخل فيه قَذَفَةُ عائشة وغيرها .
وقيل : المراد قذفة عائشة .
قالت عائشة : رميت وأنا غافلة ، وإنما بلغني بعد ذلك ، فبينا رسول الله عندي إذ أوحى إليه ، قال : « أبشري » وقرأ : { إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات } .
وقيل : المراد جُملة أزواج رسول الله ، وأنهن لشرفهن خصصن بأن من قذفهن فهذا الوعيد لاحقٌ به . واحتج هؤلاء بأمور :
الأول : أن قاذف سائر المحصنات تقبل توبته لقوله في أول السورة : { والذين يَرْمُونَ المحصنات } [ النور : 4 ] إلى قوله : { إِلاَّ الذين تَابُواْ . . . } [ النور : 5 ] .
وأما القاذف في هذه الآية فإنه لا تقبل توبته لقوله تعالى : { لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة } ولم يذكر استثناء .
وأيضاً فهذه صفة المنافقين في قوله : { مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثقفوا } [ الأحزاب : 61 ] .
الثاني : أن قاذف سائر المحصنات لا يكفر ، والقاذف في هذه الآية كافر ، لقوله : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ . . . } وذلك صفة الكفار والمنافقين لقوله : { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ الله إِلَى النار . . . } [ فصلت : 19 ] الآيات .
الثالث : أنه قال : { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } والعذاب العظيم هو عذاب الكفر ، ( فدلّ على أن عذاب هذا القاذف عقاب الكفر ) . وعقاب قذف سائر المحصنات لا يكون عقاب الكفر .
وروي أن ابن عياش كان بالبصرة يوم عرفة ، وكان يسأل عن تفسير هذه الآية ، فقال : « من أذنب ثم تاب قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة » .
وأجاب الأولون بأن الوعيد المذكور في هذه الآية لا بد وأن يكون مشروطاً بعدم التوبة ، لأن الذنب سواء كان كفراً أو فسقاً ، فإذا تاب عنه صار مغفوراً .
وقيل : هذه الآية نزلت في مشركي مكة حين كان بينهم وبين رسول الله عهد ، فكانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة وقالوا : « إنها خرجت لتفجر » فنزلت فيهم .
قوله : « يَوْمَ تَشْهَدُ » ، ناصبه الاستقرار الذي تعلق به « لَهُمْ » .
وقيل : بل ناصبه « عَذَابٌ » . ورد بأنه مصدر موصوف .
وأجيب بأن الظرف يُتَّسَعُ فيه ما لا يُتَّسَع في غيره .
وقرأ الأخوان : « يَشْهَدُ » بالياء من تحت ، لأن التأنيث مجازي ، وقد وقع الفصل والباقون : بالتاء مراعاة للفظ .
قوله : « يَوْمَئِذٍ » : التنوين في « إذْ » عِوَضٌ من الجملة تقديره : يَوْمئذ تَشْهَدُ ، وقد تقدم خلاف الأخفش فيه .
وقرأ زيد بن علي « يُوفِيهِمْ » مخففاً من « أَوْفَى » .
وقرأ العامة بنصب « الحَقِّ » نعتاً ل « دِينَهُمْ » .
وأبو حَيْوَة وأبو رَوْق ومجاهد - وهي قراءة ابن مسعود - برفعه نعتاً لله تعالى .
فصل
قوله { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ } .
قال المفسرون : هذا قبل أن يختم على أفواههم وأيديهم وأرجلهم .
يروى أنه يختم على الأفواه فتتكلم الأيدي والأرجل بما عملت في الدنيا .
{ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق } جزاءهم الواجب . وقيل : حسابهم العدل ، { وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين } يبين لهم حقيقة ما كان يعدهم في الدنيا .
وإنما سُمِّيَ الله ب « الحق » لأن عبادته هي الحق دون عبادة غيره .
وقيل : سُمِّيَ ب « الحق » ومعناه : الموجود ، لأن نقيضه الباطل وهو المعدوم ، ومعنى « المُبين » : المظهر .
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
قوله تعالى : « الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ » الآية .
قال أكثر المفسرين : « الخَبِيثَاتُ » من القول والكلام « لِلْخَبِيثِينَ » من الناس ، « والخَبِيثُونَ » من الناس « لِلْخَبِيثَات » من القول ، « والطيبات » من القول « للطَّيِّبِينَ » من الناس ، « والطَّيِّبُونَ » من الناس « لِلطَّيِّبَاتِ » من القول .
والمعنى : أنَّ الخبيث من القول لا يليق إلا بالخبيث من الناس ، والطيِّب لا يليق إلا بالطيِّب فعائشة - رضي الله عنها - لا يليق بها الخبيثات من القول ، لأنها طيبة ، فيضاف إليها طيبات الكلام من الثناء الحسن وما يليق بها .
وقال الزجاج : معناه : لا يتكلم بالخبيثات إلا الخبيث من الرجال والنساء ، ولا يتكلم بالطيبات إلا الطيب من الرجال والنساء وهذا ذم للذين قذفوا عائشة ، ومدح للذين برّأوها بالطهار .
قال ابن زيد : معناه : الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال ، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء ، أمثال عبد الله بن أبيّ والشاكين في الدين ، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال ، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء ، يريد : عائشة طيبها الله لرسوله الطيب - صلى الله عليه وسلم - « مُبَرءُونَ » يعني : عائشة وصفوان ، ذكرهما بلفظ الجمع كقوله : { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } [ النساء : 11 ] أي : أخوان .
وقيل : « أولئك مُبَرَّؤُونَ » يعني : الطيبين والطيبات منزهون مما يقولون .
وقيل : الرَّمْيُ تعلق بالنبي - عليه الصلاة والسلام - وبعائشة وصفوان ، فبرأ الله كل واحد منهم .
وقيل : المراد كل أزواج الرسول برأهن الله تعالى من هذا الإفك ، ثم قال : « لَهُمْ مَغْفِرَةٌ » يعني : براءة من الله . وقيل : العفو عن الذنوب . والرزق الكريم : الجنة .
قوله : « لَهُمْ مَغْفِرَةٌ » يجوز أن تكون جملة مستأنفة ، وأن تكون في محل رفع خبراً ثانياً .
ويجوز أن يكون « لَهُمْ » خبر « أولئك » ( و ) « مَغْفِرَةٌ » فاعله .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ } الآية .
لما ذكر حكم الرمي والقذف ذكر ما يليق به ، لأن أهل الإفك ( إنما توصلوا ) إلى بهتانهم لوجود الخلوة ، فصارت كأنها طريق التهمة ، فأوجب الله تعالى ألا يدخل المرء بيت غيره إلا بعد الاستئذان والسلام ، لأن الدخول على غير هذا الوجه يوقع التهمة ، وفي ذلك من المضرة ما لا خفاء به .
قوله : « تَسْتَأنِسُوا » يجوز أن يكون من الاستئناس ، لأنَّ الطارق يستوحش من أنه هل يؤذن له أو لا؟ فزال استيحاشه ، وهو رديف الاستئذان فوضع موضعه .
وقيل : من الإيناس ، وهو الإبصار ، أي : حتى تستكشفوا الحال .
وفسره ابنُ عباس : « حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا » وليست قراءة ، وما ينقل عنه أنه قال : « تَسْتَأنِسُوا » خطأ من الكاتب ، إنما هو ( تَسْتَأْذِنُوا ) فشيء مفترى عليه .
وضعفه بعضهم بأن هذا يقتضي الطعن في القرآن الذي نقل بالتواتر ، ويقتضي صحة القرآن الذي لم ينقل بالتواتر ، وفتح هذين البابين يطرق الشك إلى كل القرآن وإنه باطل .
وروي عن الحسن البصري أنه قال : « إن في الكلام تقديماً وتاخيراً ، فالمعنى : حتى تسلموا على أهلها وتستأنسوا » . وهذا أيضاً خلاف الظاهر .
وفي قراءة عبد الله : { حَتَّى تُسَلِّمُوا وَتَسْتَأْذِنُوا } وهو أيضاً خلاف الظاهر .
واعلم أن هذا نظير ما تقدم في الرعد : ( في ) { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا } [ الرعد : 31 ] وتقدم القول فيه . والاستئناس : الاستعلام ( والاستكشاف ، من أنس الشيء : إذا أبصره ، كقوله : { إني آنَسْتُ نَاراً } [ طه : 10 ] ، والمعنى : حتى تستعلموا الحال ، هل يراد دخولكم؟ ) قال :
3825- كَأَنَّ رَحْلِيَ وَقَدْ زَالَ النَّهَارُ بِنَا ... يَوْمَ الجَلِيلِ على مُسْتَأْنِسٍ وَحَدِ
وقيل : هو من « الإنْس » بكسر الهمزة ، أي : يَتَعرَّف هل فيها إنْسٌ أم لا؟
وحكى الطبري أنه بمعنى : « وَتُؤْنِسُوا أَنْفُسَكُمْ » .
قال ابن عطية : وتصريف الفعل يَأْبَى أن يكونَ مِنْ « أَنَس » .
فصل
قال الخليل : الاستئناس : الاستبصار من ( أنس الشيء إذا أبصره ) كقوله : « آنسْتُ نَاراً » أي : أبصرت .
وقيل : هو أن يتكلم بتسبيحة أو تكبيرة أو بتنحنح يؤذن أهل البيت . وجملة حكم الآية أنه لا يدخل بيت الغير إلا بعد السلام والاستئذان .
واختلفوا : هل يقدم الاستئذان أو السلام؟
فقيل : يقدم الاستئذان ، فيقول : أأدخل؟ سلام عليكم ، لقوله : « حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا » أي : تستأذنوا { وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا } . والأكثرون على أنه يقدم السلام فيقول : سلام عليكم ، أأدخل؟ ( « لما روي أن رجلاً دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسلم ولم يستأذن ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : » ارجع فقُل : السلام عليكم ، أأدخل « ) وروى ابن عمر أن رجلاً استأذن عليه فقال : أأدخل؟ فقال ابن عمر : لا ، فأمر بعضهم الرجل أن يسلم ، فسلَّم ، فأذِنَ له .
وقيل إن وقع بصره على إنسان قدم السلام ، وإلاّ قدم الاستئذان ثم يسلم . والحكمة في إيجاب تقديم الاستئذان ألاَّ يهجم على ما لا يحل له أن ينظر إليه من عورة ، أو على ما لا يحب القوم أن يعرفه من الأحوال .
فصل
عدد الاستئذان ثلاثاً لما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « الاستئذان ثلاثٌ ، الأولى يستضيئون ، والثانية يستصلحون ، والثالثة يأذنون أو يردون » وعن أبي سعيد الخدري قال : « كُنت جالساً في مجلس الأنصار ، فجاء أبو موسى فزعاً ، فقلنا له : ما أفزعك؟ فقال : أخبرني عمر أن آتيه فأتيته ، فاستأذنت ثلاثاً ، فلم يؤذن لي ، فرجعت ، فقال : ما منعك أن تأتيني؟ فقلت : قد جئت فاستأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي ، وقد قال عليه السلام - : » إذا استأذنَ أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع « . فقال : لتأتيني ( على هذا ) بالبينة ، أو لأعاقبنك ، فقال أبو سعيد : لا يقوم معك إلا صغير القوم ، قال : فقام أبو سعيد ، فشهد له » .
وفي بعض الروايات أن عمر قال لأبي موسى : لم أتهمك ، ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله .
وعن قتادة : « الاستئذانُ ثلاثةٌ : الأول ليسمع الحي ، والثاني ليتهيأ ، والثالث إن شاء أذن وإن شاء ردّ » .
وهذا من محاسن الآداب ، لأنه في أول كرَّة ربما منعهم بعض الأشغال من الإذن ، وفي الثانية ربما كان هناك ما يمنع ، فإذا لم يجب في الثالثة يستدل بعدم الإذن على مانع . ويجب أن يكون بين كل واحدة والأخرى وقت ما .
فأما قرع الباب بعنف ، والصياح بصاحب الدار فذاك حرام ، لأنه إيذاء ، وكذا قصة بني أسد وما نزل فيها من قوله : { إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ الحجرات : 4 ] .
فصل
في كيفية الوقوف على الباب
روى أبو سعيد قال : استأذن رجلٌ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مستقبل الباب ، فقال عليه السلام : « لا تستأذِنْ وأنت مستقبلُ البابِ » .
« وروي أنه عليه السلام كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ، فيقول : » السلامُ عليكُمْ « وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور .
فصل
كلمة » حَتَّى « للغاية ، والحكم بعد الغاية يكون بخلاف ما قبلها ، فقوله : { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ } يقتضي جواز الدخول بعد الاستئذان وإن لم يكن من صاحب البيت إذن .
والجواب أن الله تعالى جعل الغاية الاستئناس ، ولا يحصل إلا بعد الإذن .
وأيضاً فإنّا علمنا بالنص أن الحكمة في الاستئذان ألا يدخل الإنسان على غيره بغير إذنه ، فإنّ ذلك مما يسوؤه ، وهذا المقصود لا يحصل إلا بعد الإذن .
وأيضاً قوله : { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا ( حتى يُؤْذَنَ لَكُمُ } ) فمنع الدخول إلا مع الإذن ، فدل على أن الإذن شرط في إباحة الدخول في الآية الأولى .
وإذا ثبت هذا فنقول : لا بد من الإذن أو ما يقوم مقامه ، لقوله عليه السلام « إذا دُعِيَ أحدُكُم فجاء مع الرسول فإنَّ ذلك له إذن » .
وقال بعضهم : إن من جرت العادة بإباحة الدخول فهو غير محتاج إلى الاستئذان . واعلم أن ظاهر الآية يقتضي قبول الإذن مطلقاً سواء كان الآذن صبياً أو امرأة أو عبداً أو ذمياً ، فإنه لا يعتبر في هذا الإذن صفات الشهادة ، وكذلك قبول إحضار هؤلاء في الهدايا ونحوها .
فصل
ويستأذن على المحارم ، « لما روي أن رجلاً سأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال : » أأستأذن على أختي؟ « فقال عليه السلام : » نَعَمْ ، أتحب أن تراها عريانة؟ « وسأل رجل حذيفة : » أأستأذن على أختي؟ « فقال : » إن لم تستأذن عليها رأيت ما يسوؤك « . ولعموم قوله : { وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ } [ النور : 59 ] إلا أنَّ ترك الاستئذان على المحارم وإن كان غير جائز أيسر لجواز النظر إلى شعرها وصدرها وساقها ونحوه .
فصل
إذا اطلع إنسان في دار إنسان بغير إذنه ففقأ عينه فهي هدر ، لقوله عليه السلام : » مَن اطَّلع في دار قوم بغير إذنهم ففقأوا عينه فقد هدرت عينه « .
وقال أبو بكر الرازي : هذا الخبر ورد على خلاف قياس الأصول ، فإنه لا خلاف أنه لو دخل داره بغير إذنه ففقأ عينه كان ضامناً ، وكان عليه القصاص إن كان عامداً ، والأرش إن كان مخطئاً ، والداخل قد اطَّلع وزاد على الاطلاع ، فظاهر الحديث مخالف لما حصل عليه الاتفاق ، فإن صحَّ فمعناه : من اطلع في دار قوم ونظر إلى حرمهم فمنع فلم يمتنع فذهب عينه في حال الممانعة فهي هدر ، فأما إذا لم يكن إلا النظر ولم يقع فيه ممانعة ولا نهي ثم جاء إنسان ففقأ عينه فهذا جان يلزمه حكم جنايته لظاهر قوله تعالى : » العَيْن بِالعَيْنِ « إلى قوله : » والجُرُوحَ قِصَاصٌ « .
وأجيب بأن التمسك بقوله : » العَيْنُ بِالعَيْنِ « ضعيف ، لأنا أجمعنا على أن هذا النص مشروط بما إذا لم تكن العين مستحقة ، فإنه لو كانت مستحقة القصاص ، فلم قلت : إن من اطَّلع في دار إنسان لم تكن عينه مستحقة؟
وأما قوله : إنه لو دخل لم يجز فقء عينه ، فكذا إذا نظر .
والفرق بينهما أنه إذا دخل ، علم القوم بدخوله عليهم ، فاحترزوا عنه وتستروا ، فأما إذا نظر فقد لا يكونون عالمين بذلك فيطلع منهم على ما لا يجوز الاطلاع عليه ، فلا يبعد في حُكْم الشرع أن يبالغ هنا في الزجر حسماً لهذه المفسدة .
وأيضاً فردّ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا القدر من الكلام ليس جائزاً .
فصل
إذا عرض أمر في دار من حريق أو هجوم سارق ، أو ظهور منكر فهل يجب الاستئذان؟ فقيل : كل ذلك مستثنى بالدليل .
فأما السلام فهو من سنة المسلمين التي أمروا بها ، وهو تحية أهل الجنة ، ومجلبة للمودة ، ونافٍ للحقد والضغائن .
قال عليه السلام : « لمَّا خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال : الحمد لله ، فحمد الله بإذن الله ، فقال له الله : يرحمك ربك يا آدم ، اذهب إلى هؤلاء الملائكة ( وهم ) ملأ منهم جلوس فقل : السلام عليكم ، فلما فعل ذلك رجع إلى ربه فقال : هذه تحيتك وتحية ذريتك » وعن عليّ بن أبي طالب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « حق المسلم على المسلم ست : يسلِّم عليه إذا لقيه ، ويجيبه إذا دعاه ، وينصح له بالغيب ، ويشمِّته إذا عطس ، ويعوده إذا مرض ، ويشهد جنازته إذا مات » .
وعن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « إن سرَّكم أن يسل الغل من صدروكم فأفشوا السلام بينكم » .
قوله : { ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ } .
أي : إن فعل ذلك خير لكم وأولى بكم من الهجوم بغير إذن « لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » أي : لتذكروا هذا التأديب فتتمسكوا به { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ } أي : فإن لم تجدوا في البيوت « أَحَداً » يأذن لكم في دخولها { فَلاَ تَدْخُلُوهَا حتى يُؤْذَنَ لَكُمُ } لجواز أن يكون هناك أحوال مكتومة ، { وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا } وذلك أنه كما يكون الدخول قد يكرهه صاحب الدار ، فكذلك الوقوف على الباب قد يكرهه ، فلا جرم كان الأولى له أن يرجع { هُوَ أزكى لَكُمْ } أي : الرجوع هو أطهر وأصلح لكم .
قال قتادة : إذا لم يؤذن له فلا يقعد على الباب ، فإنَّ للناس حاجات ، وإذا حضر فلم يستأذن وقعد على الباب منتظراً جاز .
كان ابن عباس يأتي الأنصار لطلب الحديث فيقعد على الباب ( حتى يخرج ) ولا يستأذن ، فيخرج الرجل ويقول : « يا ابنَ عم رسول الله لو أخبرتني » فيقول : هكذا أمرنا أن نطلب العلم . وإذا وقف فلا ينظر من شق الباب إذا كان الباب مردوداً « لما روي أن رجلاً اطلع على النبي - صلى الله عليه وسلم - من ستر الحجرة ، وفي يد النبي - صلى الله عليه وسلم - مدراء ، فقال : » لو علمتُ أن هذا ينظرني حتى آتيه لَطَعْنتُ بالمدراء في عينه ، وهل جعل الاستئذان إلا من أجل البصر «
قوله : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } أي : من الدخول بالإذن وغير الإذن .
ولما ذكر الله تعالى حكم الدور المسكونة ذكر بعده حكم الدور التي هي غير مسكونة فقال : { لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ } .
قال المفسرون : لما نزلت آية الاستئذان قالوا : كيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام وعلى ظهر الطريق ليس فيها ساكن؟ فأنزل الله عزَّ وجلَّ { لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ } . أي : بغير استئذان { فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ } أي : منفعة لكم .
قال محمد ابن الحنفية : إنها الخانات والرباطات وحوانيت البياعين .
وقال ابن زيد : هي بيوت التجار وحوانيتهم التي بالأسواق يدخلها للبيع والشراء ، وهو المنفعة قال إبراهيم النخعي : ليس على حوانيت السوق إذن .
وكان ابن سيرين إذا جاء إلى حانوت السوق يقول : السلام عليكم ، أأدخل؟ ثم يلج .
وقال عطاء : هي البيوت الخربة ، و « المَتَاعُ » هو قضاء الحاجة فيها من البول والغائط . وقيل : هي جميع البيوت التي لا ساكن لها .
وقيل : هي الحمامات .
وروي أن أبا بكر قال : يا رسولَ الله ، إن الله قد أنزلَ عليكَ آيةً في الاستئذان ، وإنا نختلف في تجارتنا فننزل هذه الخانات ، أفلا ندخلها إلا بإذن؟ فنزلت هذه الآية .
والأصح أنه لا يمتنع دخول الجميع تحت الآية ، لأن الاستئذان إنما جاء لئلا يطلع على عورة ، فإن لم يخف ذلك فله الدخول ، لأنه مأذون فيها عرفاً .
{ والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } وهذا وعيد للذين يدخلون الخربات والدور الخالية من أهل الريبة .
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
قوله تعالى : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ } الآية . الغض : إطباق الجفن بحيث يمنع الرؤية . قال :
3826- فَغُضَّ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ ... فَلاَ كَعْباً بَلَغْتَ وَلاَ كِلاَبا
وفي « مِنْ » أربعة أوجه :
أحدها : أنها للتبعيض ، لأنه يُعْفَى عن الناظر أول نظرة تقع من غير قصد .
والثاني : لبيان الجنس ، قاله أبو البقاء . وفيه نظر من حيث إنَّه لم يَتَقَدَّم مُبهمٌ يكونُ مُفَسَّراً ب « مِنْ » .
الثالث : أنها لابتداء الغاية ، قاله ابن عطية .
الرابع : قال الأخفش : إنها مزيدة .
فصل
قال الأكثرون : المراد غض البص عما يحرم والاقتصار به على ما يحل .
فإن قيل : كيف دخلت « مِنْ » في غض البصر دون حفظ الفرج؟
فالجواب : أن ذلك دليل على أن أمر النظر أوسع ، ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن ، وكذا الجواري المستعرضات ، وأما أمر الفروج فمضيق .
وقيل : معنى { يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ } أي : ينقصوا من نظرهم بالبصر إذا لم يكن من عمله فهو مغضوض .
وعلى هذا « مِنْ » ليست زائدة ، ولا هي للتبعيض ، بل هي صلة للغض ، يقال : غضضت من فلان : إذا نقصت منه .
فصل
العورات تنقسم أربعة أقسام :
عورة الرجل مع الرجل .
وعورة المرأة مع المرأة .
وعورة المرأة مع الرجل .
وعورة الرجل مع المرأة .
أما الرجل مع الرجل ، فيجوز له أن ينظر إلى جميع بدنه إلا العورة ، وهي ما بين السرة والركبة ، والسرة والركبة ليسا بعورة .
وعند أبي حنيفة : الركبة عورة .
وقال مالك : « الفخذ ليس بعورة » .
وهو مردود بقوله عليه السلام : « غَطِّ فَخَذَكَ فإنَّهَا مِنَ العَوْرَةِ » .
وقوله لعلي : « لا تُبْرِزْ فَخذَكَ ، وَلاَ تَنْظُر إلى فَخِذِ حَيٍّ وَلاَ مَيِّتٍ » .
فإن كان أمر ولم يحل النظر إلى وجهه ، ولا إلى شيء من سائر بدنه بشهوة ، ولا يجوز للرجل مضاجعة الرجل وإن كان كل واحد منهما في جانب من الفراش لقوله عليه السلام : « لا يُفضي الرجل إلى الرجل في فراش واحد ، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد » وتكره معانقة الرجل للرجل وتقبيله إلا لولده شفقة لما روي عن أنس قال : « قال رجل : يا رسول الله ، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال : لا . قال : أيلزمه ويقبله؟ قال : لا . قال : أفيأخذ يده فيصافحه؟ قال : نعم » .
ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المكاعمة والمكامعة ، وهي : معانقة الرجل للرجل وتقبيله .
وأما عورة المرأة مع المرأة ، فهي كالرجل مع الرجل فيما ذكرنا سواء .
والذمية هل يجوز لها النظر إلى بدن المسلمة؟ فقيل : هي كالمسلمة مع المسلمين .
والصحيح أنه لا يجوز لها ( النظر ) لأنها أجنبية في الدين لقوله تعالى : « أَوْ نِسَائِهِنَّ » وليست الذمية من نسائنا .
وأما عورة المرأة مع الرجل ، فإما أن تكون ( أجنبية ، أو ذات محرم ، أو مستمتعة . فإن كانت أجنبية فإما أن تكون حرة أو أمة . فإن كانت ) حرة فجميع بدنها عورة إلا الوجه والكفين ، لأنها تحتاج إلى إبراز الوجه للبيع والشراء وإلى إخراج الكف للأخذ والعطاء ، والمراد : الكف إلى الكوع . واعلم أن النظر إلى وجهها ينقسم ثلاثة أقسام :
إما ألاّ يكون فيه غرض ولا فتنة ، وإما أن يكون فيه غرض ولا فتنة ، وإما أن يكون لشهوة . فإن كان لغير غرض فلا يجوز النظر إلى وجهها ، فإن وقع بصره عليها بغتة غض بصره لقوله تعالى : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ } . وقيل : يجوز مرة واحدة إذا لم تكن فتنة ، وبه قال أبو حنيفة . ولا يجوز تكرار النظر لقوله عليه السلام : « لا تُتْبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة » .
وقال جابر : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظر الفجاءة ، فأمرني أن أصرف بصري . فإن كان فيه غرض ولا فتنة ، وهو أمور :
أحدها : أن يريد نكاح امرأة فينظر إلى وجهها وكفيْها لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي سأله أنْ يتزوج امرأة من الأنصار : « انظُرْ إليْهَا ، فإنَّ في أعين الأنصار شيئاً » وقال عليه السلام : « إذا خطب أحدُكُم المرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا كان ينظر إليها للخطبة » .
وقال المغيرة بن شعبة : « خطبت امرأة ، فقال عليه السلام : نظرت إليها؟ فقلت : لا . قال : فانظر فإنه أحْرى أن يؤدم ( بينكما ) » .
وذلك يدل على جواز النظر بشهوة إلى الوجه والكفين إذا أراد أن يتزوجها ولقوله تعالى : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } [ الأحزاب : 52 ] ولا يعجبه حسنهن إلا بعد رؤية وجوههن .
وثانيها : أنه إذا أراد شراء جارية فله أن ينظر منها إلى ما ليس بعورة .
وثالثها : عند المبايعة ينظر إلى وجهها متأملاً حتى يعرفها عند الحاجة .
ورابعها : ينظر إليها عند تحمل الشهادة ، ولا ينظر إلى غير الوجه . فإن كان النظر لشهوة فهو محرم لقوله عليه السلام : « العينان تزنيان » .
وأما النظر إلى بدن الأجنبية فلا يجوز إلا في صور :
أحدها : يجوز للطبيب الأمين أن ينظر للمعالجة والختان ، ينظر إلى فرج المختون للضرورة .
وثانيها : أن يتعمد النظر إلى فرج الزانيين ليشهد على الزنا ، وكذلك ينظر إلى فرجها ليشهد على الولادة ، وإلى ثدي المرضعة ليشهد على الرضاع .
وقال بعض العلماء لا يجوز للرجل أن يقصد النظر في هذه المواضع ، لأن الزنا مندوب إلى ستره ، وفي الولادة والرضاع تقبل شهادة النساء ، فلا حاجة إلى نظر الرجال .
وثالثها : لو وقعت في غرق أو حرق له أن ينظر إلى بدنها لتخليصها . فإن كانت الأجنبية أمة قيل : عورتها ما بين السرة والركبة .
وقيل : عورتها ما لا يبين في المهنة ، فخرج منه عنقها وساعدها ونحرها ولا يجوز لمسها ولا لها لمسه بحال إلا لحاجة ، لأن اللمس أقوى من النظر ، لأن الإنزال باللمس يفطر الصائم وبالنظر لا يفطره .
فصل
فإن كانت المرأة ذات محرم بنسب أو رضاع فعورتها مع الرجل المحرم كعورة الرجل مع الرجل . وقيل : عورتها ما لا يبدو عند المهنة ، وهو قول أبي حنيفة . وستأتي بقية التفاصيل - إن شاء الله تعالى - في تفسير الآية .
فصل
فإن كانت المرأة مستمتعة كالزوجة والأمة التي يحل وطؤها فيجوز للزوج والسيد أن ينظر إلى جميع بدنها حتى الفرج ، إلا أنه يكره النظر إلى الفرج وكذا إلى فرج نفسه ، لأنه يروى أنه يورث الطمس .
وقيل : لا يجوز ( النظر ) إلى فرجها ، ولا فرق فيه بين أن تكون الأمة قِنّ أو مدبرة أو أم ولد أو مرهونة .
فإن كانت مجوسية ، أو مرتدة ، أو وثنية ، أو مشتركة بينه وبين غيره ، أو مزوجة ، أو مكاتبة فهي كالأجنبية لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : « إذا زوَّج أحدُكُم جاريتَه عبدَه أو أجيره فعورته معها ما بين السرة والركبة » .
فصل
فأما عورة الرجل مع المرأة فلا يجوز لها قصد النظر عند خوف الفتنة ، ولا تكرير النظر إلى وجهه « لما روت أم سلمة أنَّها كانت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وميمونة ، إذ أقبل ابن أم مكتوم ، فقال : » احتجبَا عنه « فقالت : يا رسول الله ، أليس هو أعمى لا يبصرُنا؟ فقال عليه السلام : » أَفعمياوان أنْتُمَا؟ ألستما تبصرانه « ؟ . وإن كان محرماً لها فعورته ما بين السرة والركبة .
وإن كان زوجها أو سيدها الذي له وطؤها فلها أن تنظر إلى جميع بدنه ، غير أنه يكره النظر إلى الفرج كهو معها .
فصل
ولا يجوز للرجل أن يجلس عارياً في بيت خالٍ وله ما يستر عورته ، لأنه عليه السلام سئل عنه فقال : » الله أحق أن يُسْتَحيَى منه « وقال عليه السلام : » إيَّاكُمْ والتَّعَرِّي ، فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلى أهله « .
قوله : » وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ « أي : عما لا يحل .
وقال أبو العالية : كلُّ ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا والحرام إلا في هذا الموضع فإنه أراد به الاستتار حتى لا يقع بصر الغير عليه .
وهذا ضعيف ، لأنه تخصيص من غير دليل ، والذي يقتضيه الظاهر حفظ الفروج عن سائر ما حرم عليهما من الزنا واللمس والنظر .
قوله : { ذلك أزكى لَهُمْ } .
أي : غض البصر وحفظ الفرج أزكى لهم ، أي : خير لهم وأطهر { إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } عليمٌ بما يفعلون .
قوله : { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } الكلام فيه كما تقدم وقدم غض البصر على حفظ الفرج لأن النظر بريد الزنا ، والبلوى فيه أشد وأكثر ، ولا يكاد يقدر على الاحتراز منه .
قوله : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } أي : لا يظهرن زينتهن لغير محرم ، والمراد بالزينة : الخفية ، وهما زينتان : خفية وظاهرة . فالخفية : مثل الخلخال والخضاب في الرِّجْل ، والسوار في المعصم ، والقرط والقلائد ، فلا يجوز لها إظهارها ، ولا للأجنبي النظر إليها . والمراد بالزينة : موضع الزينة .
وقيل : المراد بالزينة : محاسن الخَلْق التي خلقها الله ، وما تزين به الإنسان من فضل لباس ، لأن كثيراً من النساء ينفردن بخَلْقِهِنَّ من سائر ما يُعَدُّ زينة ، فإذا حملناه على الخِلْقَة وفينا العموم حقه ، ولا يمنع دخول ما عدا الخِلْقة فيه ، ولأنَّ قوله : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ } يدل على أن المراد من الزينة ما يعم الخِلْقة وغيرها ، فكأنها تعالى منعهن من إظهار محاسن خلقهن ، موجباً سترها بالخمار .
قوله : { إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } . أما الذين حملوا الزينة على الخلقة فقال القفال : معنى الآية : إلا ما يظهره الإنسان في العادة ، وذلك من النساء : الوجه والكفان ، ومن الرجال : الوجه واليدان والرجلان ، فرخص لهم في كشف ما اعتيد كشفه ، وأدت الضرورة إلى إظهاره ، وأمرهم بستر ما لا ضرورة في كشفه . ولما كان ظهور الوجه والكفين ضرورة لا جرم اتفقوا على أنهما ليسا بعورة .
وأما القدم فليس ظهوره ضرورياً فلا جرم اختلفوا فيه هل هو من العورة أم لا؟ والصحيح أنه عورة . وفي صوتها وجهان :
أصحهما ليس بعورة ، لأن نساء النبي - عليه السلام - كن يروين الأخبار للرجال .
وأما الذين حملوا الزينة على ما عد الخلقة ، قالوا : إنه تعالى إنما ذكر الزينة لأنه لا خلاف في أنه يحل النظر إليها حال ( انفصالها عن أعضاء المرأة ، فلما حرم الله النظر إليها حال ) اتصالها ببدن المرأة كان ذلك مبالغة في حرمة النظر إلى أعضاء المرأة . وعلى هذا القول يحل النظر إلى زينة وجهها من الوَشمَة والغُمْرَة ، وزينة بدنها من الخضاب والخواتيم والثياب ، لأن سترها فيه حرج ، لأن المرأة لا بد لها من مزاولة الأشياء بيديها ، والحاجة إلى كشف وجهها للشهادة والمحاكمة والنكاح .
قال سعيد بن جبير والضحاك والأوزاعي : « الزينة الظاهرة التي استثنى الله الوجهُ والكفان » .
وقال ابن مسعود : هي الثياب ، لقوله تعالى : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [ الأعراف : 31 ] .
وقال الحسن : الوجه والثياب .
وقال ابن عباس : الكحْل والخاتم والخضاب في الكف . فما كان من الزينة الظاهرة يجوز للرجل الأجنبي النظر إليها إذا لم يخف فتنة وشهوة ، فإن خاف شيئاً منها غض البصر .
فصل
واتفقوا على تخصيص قوله : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } بالحرائر دون الإماء والمعنى فيه ظاهر ، لأن الأمة مالٌ ، فلا بد من الاحتياط في بيعها وشرائها ، وذلك لا يمكن إلا بالنظر إليها على الاستقصاء .
قوله : « وَلْيَضْرِبْنَ » . ضمن « يضْرِبْنَ » معنى « يُلْقِينَ » فلذلك عداه ب « على » . وقرأ أبو عمرو في رواية بكسر لام الأمر .
وقرأ طلحة : « بِخُمْرهنَّ » بسكون الميم . وتسكين « فَعْل » في الجمع أولى من تسكين المفرد . وكسر الجيم من « جِيُوبِهِنَّ » ابن كثير والأخوان وابن ذكوان .
والخُمُر : جمع خمار ، وفي القلة يجمع على أخْمِرة . قال امرؤ القيس :
3827- وَتَرَى الشَّجْراءَ فِي رِيِّقِهِ ... كَرُؤُوسٍ قُطِعَتْ فِيهَا الخُمُرْ
والجيب : ما في طوق القميص يبدو منه بعض الجسد .
فصل
قال المفسرون : إنَّ نساء الجاهلية كنَّ يُسْدِلْنَ خُمُرهن من خلفهن ، وإن جيوبهن كانت من قدام ، وكانت تنكشف نحورهن وقلائدهن ، فأمرن أن يضربن مقانعهن على الجيوب لتغطي بذلك أعناقهن ونحورهن .
قالت عائشة : رحم الله نساءَ المهاجرات الأُوَل ، لما أنزل الله : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ } شققن مروطهن فاختمرن بها .
قوله : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } يعني الزينة الخفية التي لم يبح لهنَّ كشفها في الصلاة ولا للأجانب ، وهو ما عد الوجه والكفين « إِلاَّ لِبُعولَتهنَّ » قال ابن عباس ومقاتل : يعني لا يضعن الجلباب والخمار إلا لأزواجهن { أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بني إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ } فيجوز لهؤلاء أن ينظروا إلى الزينة الباطنة ، ولا ينظروا إلى ما بين السرة والركبة إلا الزوج فإنه يجوز له أن ينظر على ما تقدم ، وهؤلاء محارم .
فإن قيل : أيحل لذي المحرم في المملوكة والكافرة ما لا يحل في المؤمنة؟
فالجواب : إذا ملك المرأة من محارمه فله أن ينظر منها إلى بطنها وظهرها لا على وجه الشهوة فإن قيل : فما القول في العم والخال؟
فالجواب : أن الظاهر أنهما كسائر المحارم في جواز النظر ، وهو قول الحسن البصري قال : لأن الآية لم يذكر فيها الرضاع ، وهو كالنسب ، وقال في سورة الأحزاب { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ في آبَآئِهِنَّ } الآية [ الأحزاب : 55 ] ولم يذكر فيها البعولة ، وقد ذكره هنا .
وقال الشعبي : إنما لم يذكرهما الله لئلا يصفها العم عند ابنه ، والخال كذلك .
والمعنى : أن سائر القرابات تشترك مع الأب والابن في المحرمية إلا العم والخال وابناهما ، وإذا رآها الأب وصفها لابنه وليس بمحرم ، وهذا من الدلالات البليغة في وجوب الاحتياط عليهن في النسب .
فصل
والسبب في إباحة نظر هؤلاء إلى زينة المرأة هو الحاجة إلى مداخلتهن ومخالطتهن واحتياج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار في النزول والركوب .
قوله : « أَوْ نِسَائِهِنَّ » .
قال أكثر المفسرين : المراد اللاَّئِي على دينهن .
قال ابن عباس : ليس للمسلمة أن تتجرد بين نساء أهل الذمة ، ولا تبدي للكافرة إلا ما تبدي للأجانب إلا أن تكون أمة لها .
وكتب عُمَر إلى أبي عبيدة أن تمنع نساء أهل الكتاب من دخول الحمام مع المؤمنات . وقيل : المراد ب « نِسَائِهِنَّ » جميع النساء .
وهذا هو الأولى ، وقول السلف محمول على الاستحباب .
قوله : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } . وهذا يشمل العبيد والإماء ، واختلفوا في ذلك : فقال قوم : عبد المرأة مَحْرَم لها يجوز له الدخول عليها إذا كان عفيفاً ، وأن ينظر إلى بدن مولاته إلا ما بين السرة والركبة كالمحارم ، وهو ظاهر القرآن ، وهو مروي عن عائشة وأم سلمة . « وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها ، وعلى فاطمة ثوب إذا قَنعْت به رأسها لم يبلغ رجليها ، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها ، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تلقى قال : » إنه ليس عليك بأس ، إنما هو أبوك وغُلامك « وعن مجاهد : » كنَّ أمهات المؤمنين لا يحتجبن عن مكاتبهن ما بقي عليه درهم « . وكانت عائشة تمتشط والعبد ينظر إليها .
وقال ابن مسعود والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب : لا ينظر العبد إلى شعر مولاته . وهو قول أبي حنيفة .
وقال ابن جريج : المراد من الآية : الإماء دون العبيد ، وأن قوله : { أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } أنه لا يحل لامرأةٍ مسلمة أن تتجرد بين امرأة مشركة إلا أن تكون تلك المشركة أمةً لها .
قوله : { أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال } .
قرأ ابن عامر وأبو بكر : » غَيْرَ « نصباً ، وفيها وجهان :
أحدهما : أنه استثناء .
وقيل : على القطع ، لأن » التَّابِعِينَ « معرفة و » غَيْر « نكرة .
والثاني : أنه حال . والباقون : » غيرِ « بالجر نعتاً ، أو بدلاً ، أو بياناً .
والإِرْبَةُ : الحاجةُ . وتقدم اشتقاقها في » طه « .
( قوله : » مِنَ الرِّجَالِ « حال من » أُولِي « ) .
فصل
المراد ب { التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة } .
قال مجاهد وعكرمة والشعبي : هم الذين يتبعون القوم ليصيبوا من فضل طعامهم ، لا همة لهم إلا ذلك ، ولا حاجة لهم في النساء .
وعن ابن عباس : أنه الأحمق العنين .
وقال الحسن : » هو الذي لا ينتشر ولا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن « .
وقال سعيد بن جبير : المعتوه . وقال عكرمة : المجبوب . وقيل : هو المخنّث . وقال مقاتل : هو الشيخ الهم والعنِّين والخَصِيّ والمجبوب ونحوه .
واعلم أن الخَصِيّ والمجبوب ومن يشاكلهما قد لا يكون له إربة في نفس الجماع ، ويكون له إربة فيما عداه من التمتع ، وذلك يمنع من أن يكون هو المراد ، فيجب أن يحمل المراد على من لا إربة له في سائر وجوه التمتع لما روت عائشة قالت :
« كانَ رجلٌ مخنَّثٌ يدخل على أزواج - النبي صلى الله عليه وسلم - فكانوا يَعدُّونه من غير أولي الإربة ، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً وهو عند بعض نسائه ، وهو ينعت امرأة فقال : إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع ، وإذا أدبرت أدبرت بثمانٍ . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : » أَلاَ أرى هذا يعلم ما هَهُنا ، لا يَدْخُلَنَّ هَذا « فحجبوه » .
وفي رواية عن زينب بنت أم سلمة « أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخلَ عليها وعندها مخنَّث ، فأقبل على أخي أم سلمة ، فقال : » يا عبد الله ، إن فتح الله غداً لكم الطائف دللتك على بنت غيلان ، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان « . فقال عليه السلام : » لا يدخُلَنَّ عليكم هذا « فأباح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخول المخنث عليهن ، فلما علم أنه يعرف أحوال النساء وأوصافهنَّ علم أنه من أولي الإربة ، فحجبه .
وفي الخَصِيّ والمجبوب ثلاثة أوجه :
أحدها : استباحة الزينة الباطنة .
والثاني : تحريمها .
( والثالث : تحريمها ) على المَخْصِيّ دون المجبوب .
قوله : { أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء } .
تقدم في الحج أن الطفل يطلق على المثنى والمجموع ، فلذلك وصف بالجمع .
وقيل : لما قصد به الجنس روعي فيه الجمع كقولهم : » أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَار الحمْر والدِّرْهَمُ البِيضُ « . و » عَورَاتِ « جمع عَوْرَةٍ ، وهو ما يريد الإنسان ستره من بدنه ، وغلب في السَّوأَتَيْن . والعامة على » عوْرات « بسكون الواو ، وهي لغة عامة العرب ، سكنوها تخفيفاً لحرف العلة . وقرأ ابن عامر في رواية » عَوَرَاتِ « بفتح الواو .
ونقل ابن خالويه أنها قراءة ابن أبي إسحاق والأعمش ، وهي لغة هذيل بن مدركة . قال الفراء : وأنشد في بعضهم :
3828- أَخُو بَيَضَاتٍ رائِحٌ مُتَأوِّبٌ ... رَفِيقٌ بمَسْحِ المَنْكبَيْنِ سَبوح
وجعلها ابنُ مجاهد لحناً وخطأ ، يعني : من طريق الرواة ، وإلا فهي لغة ثانية .
( فصل )
الظهور على الشيء يكون بمعنى العلم به ، كقوله تعالى : { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ } [ الكهف : 20 ] أي : يشعروا بكم . ويكون بمعنى الغلبة عليه ، كقوله : » فَأَصْبَحُوا ظَاهِرينَ « .
فلهذا قال مجاهد وابن قتيبة : معناه : لم يطلعوا على عورات النساء ، ولم يعرفوا العورة من غيرها من الصغر .
وقال الفراء والزجاج : لم يبلغوا أن يطيقوا إتيان النساء .
وقيل : لم يبلغوا حدّ الشهوة .
فصل
فأما المراهق فيلزم المرأة أن تستُر منه ما بين سرتها وركبتها ، وفي لزوم ستر ما عداه وجهان :
الأول : لا يلزم ، لأن القلم غير جار عليه .
والثاني : يلزم كالرجل ، لأنه مشتهى ، والمرأة قد تشتهيه ، واسم الطفل شامل له إلى أن يحتلم وأما الشيخ فإن بقيت له شهوة فهو كالشاب ، وإن لم تبق له شهوة ففيه وجهان :
أحدهما : أن الزينة الباطنة معه مباحة ، والعورة معه ما بين السرة والركبة .
والثاني : أن جميع البدن معه عورة إلا الزينة الظاهرة .
وههنا آخر الصور التي استثناها الله تعالى ، ( والرضاع كالنسب ) .
قوله : { وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ } .
قال ابن عباس وقتادة : كانت المرأة تمر بالناس وتضرب برجليها ليسمع قعقعة خلخالها ، فنُهِينَ عن ذلك؛ لأن الذي تغلب عليه شهوة النساء إذا سمع صوت الخلخال يصير ذلك داعية له زائدة إلى مشاهدتهن ، وعلل تعالى ذلك بقوله : { لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ } وفي الآية فوائد :
الأولى : لما نهي عن استماع الصوت الدال على وجود الزينة ، فلأن يدل على المنع من إظهار الزينة أولى .
الثانية : أن المرأة منهية عن رفع صوتها بالكلام بحيث يسمع ذلك الأجانب ، إذ كان صوتها أقرب إلى الفتنة ( من صوت خلخالها ، ولذلك كرهوا أذان النساء لأنه يحتاج فيه إلى رفع الصوت ، والمرأة منهية عنه .
الثالثة : تدل على تحريم النظر إلى وجهها بشهوة ، لأن ذلك أقرب إلى الفتنة ) .
قوله تعالى : { وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَا المؤمنون } . قال ابن عابس : توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة . وقيل : تُوبُوا من التقصير الواقع منكم في أمره ونهيه . وقيل : راجعوا طاعة الله فيما أمركم ونهاكم من الآداب المذكورة في هذه السورة .
قوله : « أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ » . العامة على فتح الهاء وإثبات ألف بعد الهاء ، وهي « ها » التي للتنبيه . وقرأ ابن عامر هنا وفي الزخرف « يأَيُّهُ السَّاحِر » وفي الرحمن « أَيُّهُ الثقلان » بضم الهاء وصلاً ، فإذا وقف سكن .
ووجهها : أنه لما حذفت الألف لالتقاء الساكنين استحقت الفتحة على حرف خفي ، فضمت الهاء إتباعاً . وقد رُسِمَتْ هذه المواضع الثلاثة دون ألف ، فوقف أبو عمرو والكسائي بألف والباقون بدونها اتباعاً للرسمِ ، ولموافقة الخط للفظ . وثبتت في غير هذه المواضع حَمْلاً لها على الأصل نحو : « يَأَيُّهَا النَّاسُ » ، « يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » وبالجملة فالرسم سنة متبعة .
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
قوله تعالى : { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ } .
لما أمر تعالى بغض الأبصار وحفظ الفروج بيَّن بعده أن الذي أمر به إنما هو فيما لا يحل ، ثم ذكر بعد ذلك طريق الحِلّ فقال : { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ } . الأيامى : جمع أيِّم ب « زنة » : « فَيْعل » ، يقال منه : آم يَئيم كباع يبيع ، قال الشاعر :
3829- كُلُّ امْرِئٍ سَتَئيم مِن ... هُ العِرْسُ أَوْ مِنْهَا يَئِيمُ
وقياس جمعه : أَيائِم ، كسيِّد وسَيَائِد . و « أَيامى » فيه وجهان :
أظهرهما من كلام سيبويه أنه جمع على « فَعَالَى » غير مقلوب ، وكذلك « يَتَامَى » .
وقيل : إن الأصل « أَيَايم » و « يَتَايم » و « يَتِيم » ( فقلبا ) .
والأَيِّم : ( من لا زوج له ) ذكراً كان أو أنثى . قال النضر بن شميل : الأَيِّمُ في كلام العرب : كل ذكر لا أنثى معه ، وكل أنثى لا ذكر معها . وهو قول ابن عباس في رواية الضحاك ، يقول : زوجوا أياماكم بعضكم من بعض . وخصَّه أبو بكر الخفَّاف بمن فقدت زوجها ، فإطلاقه على البِكْر مجاز . وقال الزمخشري : « تأيَّما إذا لم يتزوجا بِكرين كانا أو ثيّبين » ، وأنشد :
3830- فَإِنْ تَنْكِحي أَنْكِح وإِنْ تَتَأَيَّمِي ... وَإِنْ كُنْتُ أَفْتَى مِنْكُم أَتَأَيَّمُ
وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « اللَّهم إني أعوذ بك من العَيْمَة والغَيْمَة والأَيْمَة والكَرم والقَرَم » العَيْمة - بالمهملة : شدة شهوة اللبن . وبالمعجمة : شدة العطش . والأَيْمَة : طول العزبة . والكَرَم : شدة شهوة الأكل والقَرَم : شدة شهوة اللحم و « منكم » حال . وكذا « مِنْ عِبادكُمْ » .
فصل
قوله : « وَأَنكحوا » أمر ، وظاهر الأمر للوجوب ، فدلّ على أن الولي يجب عليه تزويج موليته ، ( وإذا ثبت هذا وجب ألا يكون النكاح إلا بولي ، لأن كل ما وجب على الولي حكم بأنه لا يصح من المولية ) ، ولأن المولية لو فعلت ذلك لفوَّتتْ على الولي تمكنه من أداء هذا الواجب ، وأنه غير جائز ، ولم تطابق قوله عليه السلام : « إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضوْنَ دِينَهُ وخُلُقَهُ فَزوِّجُوهُ ، إلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَة فِي الأَرْضِ » قال أبو بكر الرازي : هذه الآية وإن اقتضت الإيجاب ، إلا أنه أجمع السلف على أنه لا يراد الإيجاب ، ويدل عليه أمور :
أحدها : أنه لو كان ذلك واجباً لنقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن السلف مستفيضاً ، لعموم الحاجة إليه ، فلما علمنا أن سائر الأعصار كانت فيهم أيامى من الرجال والنساء ولم ينكروا ذلك ، ثبت أنه لم يرد الإيجاب .
وثانيها : أجمعنا على أن الأَيِّم الثيّب لو أبت التزويج لم يكن للولي إجبارها عليه .
وثالثها : اتفاق الكل على أنه لا يجب على السيد تزويج أمته وعبده ، وهو معطوف على الأيامى ، فدل على أنه غير واجب في الجميع ، بل ندب في الجميع .
ورابعها : أن اسم الأَيَامَى يشمل الرجال والنساء ، وهو في الرجال ما أريد به الأولياء دون غيرهم ، كذلك في النساء .
والجواب : أن جميع ما ذكرته تخصيصات تطرقت إلى الآية ، والعام بعد التخصيص حجة ، فوجب إذا التمست المرأة الأيم من الولي التزويج وجب ، وحينئذ ينتظم الكلام .
فصل
الناس في النكاح قسمان :
الأول : من تتوقُ نفسُه للنكاح ، فيستحب له أن ينكح إن وجد أهبته سواء كان مقبلاً على العبادة أو لم يكن ، ولكن لا يجب ، وإن لم يجد أهبته يكسر شهوته بالصوم لقوله عليه السلام : « يَا مَعْشَرَ الشَّبابِ ، مَن اسْتَطَاعَ مِنْكُم البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأحْصَنُ للفَرْجِ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيَصُمْ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ » .
الثاني : من لا تتوق نفسه للنكاح ، فإن كان لعلة من كِبَر أو مرض أو عجز فيكره له ، لأنه يلتزم ما لا يمكنه القيام به ، وكذلك إذا كان لا يقدر على النفقة .
وإن لم يكن به عجز وكان قادراً على القيام بحقه لم يكره له النكاح ، لكن الأفضل أن يتخلّى للعبادة ، لأن الله تعالى مدح يَحْيَى بكونه « حَصُوراً » ، والحَصُور : الذي لا يأتي النساء مع القدرة عليهنّ ، ولا يقال : هو الذي لا يأتي النساء مع العجز؛ لأن مدح الإنسان بما يكون عيباً غير جائز ، وإذا كان مدحاً في حق يحيى وجب أن يشرع في حقنا ، لقوله تعالى : « فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ » ، ولا يحمل الهدى على الأصول ، لأن التقليد فيها غير جائز ، فوجب حَمْلُه على الفروع . وقال عليه السلام : « اعْلمُوا أَن خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلاَةَ » وقال عليه السلام : « أَفْضَلُ أَعْمَالِ أُمَّتِي قرَاءَةُ القُرْآنِ » وقال أبو حنيفة : النكاح أفضل لقوله عليه السلام : « أحبُّ المباحات إلى الله النكاح » لأن النكاح يتضمن صون النفس عن الزنا ، فيكون دفعاً للضرر عن النفس . والنافلة : جلب نفع . ودفع الضرر أولى من جلب النفع . وأجيب بأن يحمل الأحب على الأصلح في الدنيا ، لئلا يقع التناقض بين كونه أحبّ وبين كونه مباحاً . والمباح : ما يستوي طرفاه في الثواب والعقاب .
والمندوب : ما ترجّح وجوده على عدمه ، فتكون العبادة أفضل . وبقية المباحث مذكورة في كتب الفقه .
قوله : « مِنْكُم » أي : زوجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من أحرار رجالكم ونسائكم .
وقيل : أراد الحرية والإسلام .
وقوله : { والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ } ظاهره يقتضي الأمر بتزويج هذين الفريقين إذا كانوا صالحين . وخصَّ الصالحين بالذكر ليحصن دينهم ويحفظ عليهم صلاحهم ، ولأن الصالحين منهم هم الذين مواليهم يشفقون عليهم وينزلونهم منزلة الأولاد في المودَّة ، فكانوا مظنة للتوصية والاهتمام بهم . ومن ليس بصالح فحاله على العكس من ذلك .
وقيل : أراد الصلاح لأمر النكاح حتى يقوم العبد بما يلزم لها ، وتقوم الأمة بما يلزم للزوج . وقيل : أراد بالصلاح ألا تكون صغيرة لا تحتاج إلى النكاح .
فصل
ظاهر الآية يدل على أنّ العبد لا يتزوج نفسه ، وإنما يتولى تزويجه مولاه ، لكن ثبت بالدليل أنه إذا أمره بأن يتزوج جاز أن يتولى تزويج نفسه ، فيكون توليه بإذنه بمنزلة تولي السيد . فأما الإماء فإنَّ المولى يتولى تزويجهنَّ خصوصاً على قول من لا يجوِّز النكاح إلا بوليّ .
فصل
الولي شرط في صحة النكاح لقوله عليه السلام : « لاَ نِكَاحَ إلاَّ بِوَليّ » .
وقال عليه السلام : « أيُّمَا امرأةٌ نكحَتْ بغير إذن وليِّها فنكاحُها باطلٌ » ، فإن أصابها فلها المهر بما استحلَّ من فرجها ، فإن اشتجروا فالسلطان وليُّ ( من لا وليّ له ) . قوله : { إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ } الأصح أن هذا ليس وعداً بإغناء من يتزوج ، بل المعنى : لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم ، أو فقر من تريدون تزويجها ، ففي فضل الله ما يغنيهم ، والمال غادٍ ورائح ، وليس في الفقر ما يمنع من الرغبة في النكاح ، فهذا معنى صحيح ، وليس فيه أن الكلام قصد به وعد الغنى حتى لا يجوز أن يقع فيه خلف . وروي عن قدماء الصحابة ما يدلّ على أن ذلك وعد ، فروي عن أبي بكر قال : « أطيعُوا اللَّهَ فيما أمركُم به من النكاح ينجز لكم ما وَعَدكُم من الغِنَى » . وعن عمر وابن عباس مثله . وشكى رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحاجة ، فقال : « عليك بالباءة » ، ويزيد الله في مروءتكم . فإن قيل : فنحن نرى من كان غنياً فتزوج فيصير فقيراً؟ فالجواب من وجوه :
أحدها : أن هذا الوعد مشروط بالمشيئة في قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ } [ التوبة : 28 ] والمطلق يحمل على المقيد .
وثانيها : أن اللفظ وإن كان عامّاً إلا أنه يخصّ بعض المذكورين دون البعض ، وهو في الأيامى الأحرار الذين يملكون فيستغنون بما يملكون .
وثالثها : المراد بالغنى : العفاف ، فيكون الغنى هنا معناه : الاستغناء بالنكاح عن الوقوع في الزنا .
فصل
استدل بعضهم بهذه الآية على أن العبد والأمة يملكان ، لأن ذلك راجع إلى كل من تقدم ، فاقتضى أن العبد قد يكون فقيراً وغنياً ، وذلك دل على الملك ، فثبت أنهما يملكان . والمفسرون تأولوه على الأحرار خاصة ، فقالوا : هو راجع إلى الأيامى ، وإن فسرنا الغنى بالعفاف سقط استدلالهم .
وقوله : { والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أي يوسع عليهم من أفضاله ، « عَلِيمٌ » بمقادير ما يصلحهم من الإفضال والرزق .
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
قوله : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً } الآية .
لما ذكر تزويج الحرائر والإماء ذكر حال من يعجز عن ذلك فقال : « وَلْيَسْتَعْفِفِ » أي : وليجتهد في العفة ، كأن المستعفف طالب من نفسه العفاف .
وقوله : { لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً } أي : لا يتمكنون من الوصول إليه ، يقال : لا يجد المرء الشيء إذا لم يتمكن منه ، قال تعالى : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ } [ النساء : 92 ] ويقال : هو غير واجد للماء ، وإن كان موجوداً ، إذا لم يمكنه أن يشتريه . ويجوز أن يراد بالنكاح : ما ينكح به من المال ، فبين تعالى أن من لا يتمكن من ذلك فليطلب التعفف ولينتظر أن يغنيه الله من فضله ثم يصل إلى بغيته من النكاح . فإن قيل : أفليس ملك اليمين يقوم مقام نفس النكاح؟
قلنا : لكن من لم يجد المهر والنفقة فبأن لا يجد ثمن الجارية أولى .
قوله تعالى : { والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ . . . } الآية لما بعث السيد على تزويج الصالحين من العبيد والإماء مع الرق رغبهم في أن يكاتبوهم إذا طلبوا ذلك ليصيروا أحراراً فيتصرفون في أنفسهم كالأحرار ، فقال : { والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ } . يجوز في الذين الرفع على الابتداء ، والخبر الجملة المقترنة بالفاء لما تضمنه المبتدأ من معنى الشرط .
ويجوز نصبه بفعل مقدر على الاشتغال ، كقولك : « زيداً فاضربه » وهو أرجح لمكان الأمر . والكتاب والكتابة كالعتاب والعتابة ، وفي اشتقاق لفظ الكتابة وجوه :
أحدها : أن أصل الكلمة من الكتب ، وهو الضم والجمع ، ومنه سميت الكتابة لأنها تضم النجوم بعضها إلى بعض ، وتضم ماله إلى ماله .
وثانيها : مأخوذ من الكتاب ، ومعناه : كتبت لك على نفسي ( أن تعتق إذا وفيت بمالي وكتبت لي على نفسي ) أن تفي لي بذلك ، أو كتبت عليك الوفاء بالمال ، وكتبت عليَّ العتق ، قاله الأزهري .
وثالثها : سمي بذلك لما يقع فيه من التأجيل بالمال المعقود عليه ، لأنه لا يجوز أن يقع على مال هو في يد العبد حين يكاتب ، لأن ذلك مال لسيده اكتسبه في حال ما كانت يد السيد غير مقبوضة عن كسبه ، فلا يجوز لهذا المعنى أن يقع هذا العقد حالاً ، بل يقع مؤجلاً ، ليكون متمكناً من الاكتساب . ثم من آداب الشريعة أن يكتب على من عليه المال المؤجل كتاب ، فلهذا المعنى سمي هذا العقد كتاباً لما فيه من الأجل ، قال تعالى : { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } [ الرعد : 28 ] .
فصل
قال بعض العلماء : الكتابة أن يقول لمملوكه : كاتبتك على كذا ، ويسمي مالاً معلوماً ، يؤديه في نجمين أو أكثر ، ويبين عدد النجوم ، وما يؤدي في كل نجم ، ويقول : إذا أديت ذلك المال فأنت حر ، أو ينوي ذلك بقلبه ، ويقول العبد : قبلت .
فإذا لم يقل بلسانه ، أو لم ينو بقلبه : إذا أديت ذلك فأنت حر ، لم يعتق .
وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه : لا حاجة إلى ذلك ، لأن قوله تعالى : « فَكَاتِبُوهُمْ » ليس فيه شرط ، فتصح الكتابة بدون هذا الشرط ، وإذا صحت الكتابة وجب أن يعتق بالأداء للإجماع . واحتج الأولون بأن الكتابة ليست عقد معاوضة محضة ، لأن ما في يد العبد ملك للسيّد ، والإنسان لا يبيع ملكه بملكه ، بل قوله : « كاتبتك » كناية في العتق ، فلا بد من لفظ التعليق أو نيته .
فصل
لا تجوز الكتابة الحالّة ، لأن العبد ليس له ملك يؤديه في الحال ، وإذا عقدت حالّة توجهت المطالبة عليه في الحال ، فإذا عجز عن الأداء لم يحصل العقد ، كما لو أسلم في شيء لا يوجد عند المحل لا يصح ، بخلاف ما لو أسلم إلى معسر فإنه يجوز لأنه يتصور أن يكون له ملك في الباطن ، فالعجز لا يتحقق . وقال أبو حنيفة : تجوز لقوله تعالى « فكاتبوهم » ، وهو مطلق يتناول الكتابة الحالة والمؤجلة . وأيضاً فمال الكتابة بدل عن الرقبة ، فهو بمنزلة أثمان السلع المبيعة ، فتجوز حالة . وأيضاً فأجمعوا على جواز العتق مطلقاً على مال حال ، فالكتابة مثله لأنه بدل عن العتق في الحالين ، إلا أن في أحدهما العتق معلق على شرط العبادة وفي الآخر معجل ، فوجب أن لا يختلف حكمهما .
فصل
لا تجوز الكتابة على أقل من نجمين ، لأنه يروى عن عليّ وعثمان وابن عمر ، روي أن عثمان غضب على عبده فقال : « لأضيقن عليك ، ولأكاتبنك على نجمين » ولو جاز على أقل من ذلك لكاتبه على الأقل ، لأن التضييق فيه أشد ، وإنما شرطنا التنجيم ، لأنه عقد إرفاق ، ومن شرط الإرفاق : التنجيم ليتيسر عليهم الأداء .
وقال أبو حنيفة : تجوز الكتابة على نجم واحد ، لأن ظاهر قوله : « كاتبوهم » ليس فيه تقييد .
فصل
يشترط أن يكون المكاتب بالغاً عاقلاً . فإن كان صبياً أو مجنوناً لم تصح كتابته لقوله تعالى : { والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ } والابتغاء لا يتصور من الصبي والمجنون .
وقال أبو حنيفة : تجوز كتابة الصبي ، ويقبل عنه ( المولى ) .
فصل
ويشترط أن يكون السيد مكلفاً مطلقاً . فإن كان صبياً أو محجوراً عليه لسفه لم تصح كتابته ، كما لا يصح بيعه ، لأن قوله : « فَكَاتِبُوهُمْ » خطاب ، فلا يتناول غير المكلف .
وقال أبو حنيفة : تصحّ كتابة الصبيّ بإذن الوليّ .
فصل
اختلفوا في قوله تعالى : « فكاتبوهم » هل هو أمر إيجاب أو ندب؟ فقيل : أمر إيجاب ، فيجب على السيد أن يكاتب مملوكه إذا سأله ذلك بقيمته أو أكثر إذا علم فيه خيراً ، فإن سأله بدون قيمته لم يلزمه ، وهذا قول ابن دينار وعطاء ، وإليه ذهب داود بن عليّ ومحمد بن جرير لظاهر الآية ، وأيضاً فلأن سبب نزولها إنما نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزى يقال له : « صبيح » سأل مولاه أن يكاتبه ، فأبى عليه ، فنزلت الآية ، فكاتبه على مائة دينار ووهب له منها عشرين ديناراً وروي أن عمر أمر أنساً بأن يكاتب سيرين ( أبا محمد بن سيرين ) فأبى ، فرفع عليه الدِّرَّة وضربه ، وقال : « فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهمْ خَيْراً » وحلف عليه ليكاتبنه ، ولو لم يكن واجباً لكان ضربه بالدرة ظلماً ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ، فجرى ذلك مجرى الإجماع .
وقال أكثر الفقهاء : إنه أمر استحباب ، وهو ظاهر قول ابن عباس والحسن والشعبي ، وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد لقوله عليه السلام : « لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه » ولأنه لا فرق بين أن يطلب الكتابة أو يطلب بيعه ممن يعتقه في الكفارة ، فكما لا يجب ذلك فكذا الكتابة فإن قيل : كيف يصح أن يبيع ماله بماله؟
فالجواب : إذا ورد الشرع به جاز ، كما إذا علق عتقه على مال يكسبه فيؤديه أو يؤدى عنه صار سبباً لعتقه .
فإن قيل : هل يستفيد العبد بعقد الكتابة ما لا يملكه لولا الكتابة؟
فالجواب : نعم ، لأنه لو دفع إليه الزكاة قبل الكتابة لم يحل له أخذها ، وإذا صار مكاتباً حل له أخذها سواء أدى فعتق ، أو عجز فعاد إلى الرق . واستفاد أيضاً أن الكتابة تبعثه على الاجتهاد في الكسب ، ولولاها لم يكن ليفعل ذلك . ويستفيد المولى الثواب ، لأنه إذا باعه فلا ثواب ، وإذا كاتبه فالولاء له ، فورد الشرع بجواز الكتابة لهذه الفوائد .
قوله : { إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } قال عليه السلام : « إن علمتم لهم حرفة ، ولا تدعوهم كلاًّ على الناس » وقال ابن عمر : قوة على الكسب ، وهو قول مالك والثوري .
قال عطاء والحسن ومجاهد والضحاك : الخير : المال ، لقوله تعالى : { إِن تَرَكَ خَيْراً } [ البقرة : 180 ] أي : مالاً . قال عطاء : بلغني ذلك عن ابن عباس . ويروى أن عبداً لسلمان الفارسي قال له : كاتبني . قال : لك مال؟ قال : لا . قال : تريد أن تطعمني أوساخ الناس ولم يكاتبه . قال الزجاج : لو أراد به المال لقال : إنْ عَلِمْتُم لهم خيراً .
وأيضاً فلأن العبد لا مال له ، بل المال لسيده . وقال إبراهيم النخعي وبن زيد وعبيدة : صدقاً وأمانة . وقال طاوس وعمرو بن دينار : مالاً وأمانة .
وقال الحسن : صلاحاً في الدين . قال الشافعي : وأظهر معاني الخير في العبيد : الاكتساب مع الأمانة ، وأجاب ألا يمتنع من الكتابة إذا كان هكذا ، لأن مقصود الكتابة قلما يحصل إلا بهما ، فإنه ينبغي أن يكون كسوباً يحصل المال ، ويكون أميناً يصرفه في نجومه ولا يضيعه .
قوله : { وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ } . قيل : هذا خطاب للموالي ، يجب على المولى أن يحط عن مكاتبه من مال الكتابة شيئاً ، وهو قول عثمان وعليّ والزبير وجماعة ، وبه قال الشافعي وهؤلاء اختلفوا في قدره : فقيل : يحط عنه ربع مال الكتابة ، وهو قول عليّ ، ورواه بعضهم عن عليّ مرفوعاً .
وعن ابن عباس : يحط الثلث . وقيل : ليس له حد ، بل يختلف بكثرة المال وقلته ، وهو قول الشافعي ، لأن ابن عمر كاتب غلاماً له على خمسة وثلاثين ألف درهم ، فوضع من آخر كتابته خمسة آلاف درهم .
وقيل : يحط عنه قدراً يحصل الاستغناء به . قال سعيد بن جبير : كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئاً من أول نجومه ، مخافة أن يعجز فيرجع إليه صدقته ، ووضع من آخر كتابته ما أحب . وكاتب عمر عبداً ، فجاءه بنجمه ، فقال : اذهب فاستغن على أداء مال الكتابة ، فقال المكاتب : لو تركته إلى آخر نجم فقال : إني أخاف ألا أدرك ذلك .
وقيل : هو أمر استحباب ، لقوله عليه السلام : « المكاتب عبد ما بقي عليه درهم » وقوله عليه السلام : « أيما عبد كاتب على مائة فأداها إلا عشرة فهو عبد » ولو كان الحط واجباً سقط عنه بقدره ، وأيضاً فلو كان الإيتاء واجباً لكان وجوبه معلقاً بالعقد ، فيكون العقد موجباً له ومسقطاً له ، وذلك محال لتنافي الإسقاط والإيجاب .
وأيضاً فلو كان الحط واجباً لما احتاج أن يضع عنه ، بل كان يسقط القدر المستحق ، كمن له على إنسان دين ، ثم لذلك الآخر على الأول مثله فإنه يصير قابضاً له . وأيضاً فلو كان واجباً لكان قدر الإيتاء إما أن يكون معلوماً أو مجهولاً ، فإن كان معلوماً وجب ألا تكون الكتابة بثلاثة أرباع المال على قول من يجعله الربع ، فيعتق إذا أدى ثلاثة آلاف إذا كان العقد على أربعة آلاف ، وذلك باطل ، لأن أداء جميعها شرط ، فلا يعتق بأداء البعض لقوله عليه السلام : « المكاتب عبد ما بقي عليه درهم » وإن كان مجهولاً صارت الكتابة مجهولة ، لأن الباقي بعد الحط مجهول ، فلا يصح ، كما لو كاتب عبده على ألف درهم إلا شيء .
وقال قوم : المراد بقوله : « وآتُوهُم » أي سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات المفروضات بقوله : « وَفِي الرّقَابِ » وهو قول الحسن وزيد بن أسلم ، ورواية عطاء عن ابن عباس . وعلى هذا الخطاب لغير السادة ، لأنهم أجمعوا على أنه لا يجوز للسيد أن يدفع زكاته إلى مكاتبه . وقال الكلبي وعكرمة وإبراهيم : هو خطاب لجميع الناس ، وحث على معونة المكاتب ، لقوله عليه السلام : « من أعان مكاتباً في فك رقبته أطلقه الله في ظل عرشه » .
فصل
إذا مات المكاتب قبل أداء النجوم . فقيل : يموت رقيقاً ، وترتفع الكتابة سواء ترك مالاً أو لم يترك ، كما لو تلف المبيع قبل القبض يرتفع البيع . وهو قول عمر وابن عمر وزيد بن ثابت ، وبه قال عمر بن عبد العزيز والزهري وقتادة ، وإليه ذهب الشافعي وأحمد .
وقيل : إن ترك وفاء لما بقي عليه من الكتابة كان حراً ، وإن كان فيه فضل فالزيادة لأولاده الأحرار ، وهو قول عطاء وطاوس والنخعي والحسن ، وبه قال مالك والثوري وأصحاب الرأي .
فصل
ولو كاتب عبده كتابة فاسدة يعتق بأداء المال ، لأن عتقه معلق بالأداء ، وقد وجد ، ويتبعه الأولاد والأكساب كما في الكتابة الصحيحة . ويفترقان في بعض الأحكام ، وهي أن الكتابة الصحيحة لا يملك المولى فسخها ما لم يعجز المكاتب عن أداء النجوم ، ولا تبطل بموت المولى ، ويعتق بالإبراء من النجوم . والكتابة الفاسدة يملك المولى فسخها قبل أداء المال ، حتى لو أدى المال بعد الفسخ لا يعتق ، وتبطل بموت المولى ، ولا يعتق بالإبراء من النجوم . وإذا عتق المكاتب بأداء المال لا يثبت التراجع في الكتابة الصحيحة ويثبت في الكتابة الفاسدة ، فيرجع المولى عليه بقيمة رقبته ، وهو يرجع على المولى بما دفع إليه إن كان مالاً .
قوله تعالى : { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء . . . } الآية لما بين ما يلزم من تزويج العبيد والإماء وكتابتهم أتبع ذلك بالمنع من إكراه الإماء على الفجور .
واعلم أن العرب تقول للمملوك : فتى ، وللمملوكة : فتاة ، قال تعالى : { فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ } [ الكهف : 62 ] وقال : « تُرَاوِدُ فَتَاهَا » وقال : { فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ } [ النساء : 25 ] .
وقال عليه السلام : « ليقل أحدكم : فَتَاي وفَتَاتي ، ولا يقل : عَبْدِي وأَمَتِي » .
والبِغَاء : الزنا ، مصدر : بَغَتِ المَرْأَة تَبْغي بِغَاءً ، أي : زَنَتْ ، وهو مختص بزنا النساء .
فصل
قال المفسرون : نزلت في عبد الله بن أبيّ المنافق ، كان له ست جوار مُعَاذة ، ومُسَيْكة ، وأُمَيْمة ، وعَمْرَة ، وأَرْوَى ، وقتيلة ، يكرههن على البغاء ، وضرب عليهن ضرائب يأخذها ، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية يؤاجرون إماءهم ، فلما جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة : إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين : فإن يكن خيراً فقد استكثرنا منه ، وإن كان شراً فقد آن لنا أن ندعه فشكيا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت الآية . وروي أنه جاءت إحدى الجاريتين يوماً ببرد ، وجاءت الأخرى بدينار ، فقال لهما : « ارجعا فازنيا » فقالتا : « والله لا نفعل وقد جاء الإسلام وحرم الزنا » فأتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشكيا إليه ، فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - هذه الآية . وروي أن عبد الله بن أبيّ أسر رجلاً ، فأراد الأسير جارية عبد الله ، وكانت الجارية مسلمة ، فامتنعت الجارية لإسلامها ، فأكرهها سيدها على ذلك رجاء أن تحمل من الأسير فيطلب فداء ولده ، فنزلت الآية . وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : « جاء عبد الله بن أبيّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه جارية من أجمل النساء تسمى : معاذة ، وقال : يا رسول الله ، هذه لأيتام فلان ، أفلا نأمرها بالزنا فيصيبون من منافعها . فقال عليه السلام : لا . فأعاد الكلام ، فنزلت الآية » .
فصل
الإكراه إنما يحصل بالتخويف بما يقتضي تلف النفس .
ومعنى قوله : { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } أي : إذا أرَدْنَ ، وليس معناه الشرط ، لأنه لا يجوز إكراههن على الزنا إن لم يردْن تحصناً ، كقوله عزَّ وجلَّ : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 139 ] أي : إذ كنتم مؤمنين . وقيل : إنما شرط إرادة التحصن ، لأن الإكراه إنما يكون عند إرادة التحصن ، فإن لم تُرِد التحصن بغت طوعاً ، لأنه متى لم توجد إرادة التحصن لم تكن كارهة للزنا ، وكونها غير كارهة للزنا يمنع إكراهها ، فامتنع الإكراه لامتناعه في نفسه . وقيل : هذا الشرط لا مفهوم له ، لأنه خرج مخرج الغالب ، لأن الغالب أن الإكراه لا يحصل إلا عند إرادة التحصن ، كما أن الخلع يجوز في غير حالة الشقاق ، ولكن لما كان الغالب وقوع الخلع في حالة الشقاق لا جرم لم يكن لقوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ } [ البقرة : 229 ] ( مفهوم ) ومنه قوله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا } [ النساء : 101 ] والقصر لا يختص بحال الخوف ، ولكنه أخرجه على الغالب ، فكذا ههنا . وقال بعض العلماء : في الآية تقديم وتأخير ، تقديره : وأنكحوا الأيامى منكم إن أردن تحصناً ولا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُم على البِغَاءِ لتبتغوا عرض الحياةِ الدُّنيا ، أي : لتطلبوا من أموال الدنيا ، يريد : من كسبهن وبيع أولادهن . والتحصن : التعفف .
قوله : { وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . أي : غفور رحيم للمكرهات ، والوزر على المُكْرِه ، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال : ( لهنَّ والله ) .
وقال ابن الخطيب : فيه وجهان :
أحدهما : غَفُوراً لَهُنَّ ، لأنّ الإكراه ( يُزِيلُ الإثم ) والعقوبة عن المكره فيما فعل .
والثاني : ( فإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم ) بالمكره بشرط التوبة . وهذا ضعيف لأنه يحتاج إلى الإضمار ، والأول لا يحتاج إليه . وفي هذا نظر ، لأنه لا بد من ضمير يعود على اسم الشرط عند الجمهور كما تقدم تحقيقه ( في البقرة ) .
قوله : « فإن الله » جملة وقعت جواباً للشرط ، والعائد على اسم الشرط محذوف ، تقديره : غَفُور لهم . وقدره الزمخشري في أحد تقديراته وابن عطية وأبو البقاء : فإن الله غفور لَهُنَّ ، أي : لِلْمُكرهات ، فعرِيَتْ جملة الجزاء عن رابط يربطها باسم الشرط ، ولا يقال : إن الرابط هو الضمير المقدر الذي هو فاعل المصدر؛ إذ التقدير : من بعد إكراههم لهُنّ ، فَلْيُكْتَفَ بهذا الرابط المقدر ، لأنهم لم يعدوا ذلك من الروابط ، تقول : هند عجبت من ضربها زيداً فهذا جائز ، ولو قُلْتَ : هند عجبت من ضربِ زيدٍ : أي : من ضربها ، لَمْ يَجُز ، لخلوها من الرابط وإن كان مقدراً . ولما قدر الزمخشري « لهن » أورد سؤالاً فقال : فإن قلت : لا حاجة إلى تعليق المغفرة بهن ، لأن المُكرهة على الزنا بخلاف المُكره غير آثمة . قلت : لَعَلَّ الإكراه غير ما اعتبرته الشريعة من إكراه بقتل ، أو بما يُخَاف منه التلف ، أو فوات عضو حتى يسلم من الإثم ، وربما قصرت عن الحد الذي تُعذَرُ فيه فتكون آثمة .
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ } الآية .
لما ذكر الأحكام وصف القرآن بصفات ثلاث :
أحدها : قوله : { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ } أي : مفصلات . وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر : « مبيِّنات » بكسر الياء ، أي : أنها تبين للناس الحلال والحرام ، كقوله تعالى : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } [ الشعراء : 195 ] وتقدم الكلام في « مُبَيّنَاتٍ » كسراً وفتحاً .
وثانيها : قوله : { وَمَثَلاً مِّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ } . قال الضحاك : « يريد بالمثل ما في التوراة والإنجيل من إقامة الحدود ، فأنزل في القرآن مثله » وقال مقاتل : « قوله : » وَمَثَلاً « أي : شبهاً من حالهم بحالكم في تكذيب الرسل » يعني : بينا لكم ما أحللنا بهم من العقاب لتمردهم على الله ، فجعلنا ذلك مثلاً لكم ، وهذا تخويف لهم ، فقوله : « ومثلاً » عطف على « آيات » أي : وأنزلنا مثلاً من أمثال الذين من قبلكم .
وثالثها : قوله : « وَمَوْعِظَة لِلْمُتقينَ » أي : الوعيد والتحذير ، ولا شك أنه موعظة للكل ، وخصَّ المتقين بالذكر لما تقدم في قوله : « هُدًى لِلْمتقينَ » .
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
قوله تعالى : { الله نُورُ السماوات والأرض } الآية . هذه جملة من مبتدأ وخبر ، إما على حذف مضاف ، أي : ذو نور السموات والمراد بالنور : عَدْلُهُ ، ويؤيد هذا قوله : « مَثَلُ نُورِهِ » وأضاف النور لهذين الظرفين إما دلالة على سَعَةِ إِشْرَاقِهِ ، وَفشُوّ إضاءته حتى تضيء له السمواتُ والأرضُ ، وإمَّا لإرادة أهل السموات والأرض ، وأنهم يَسْتَضِيئُونَ به . ويجوز أن يُبَالَغَ في العبادة على سبيل المدح كقولهم : فلان شَمْسُ البلادِ وقمرُها قال النابغة :
3831- فإِنَّك شَمْسٌسٌ والمُلُوكُ كَوَاكِبٌ ... إذَا ظَهَرتْ لم يَبْدُ مِنْهُنَّ كَوْكَبُ
وقال ( آخر ) :
3832- قَمَرُ القَبَائِلِ خَالِدُ بن يزيد ... ويجوز أن يكون المصدر واقعاً اسم الفاعل ، أي : مُنَوِّرُ السَّمواتِ . ويؤيد هذا الوجهَ قراءة أمير المؤمنين وزيد بن علي وأبي جعفر وعبد العزيز المكي : « نَوَّر » فعلاً ماضياً ، وفاعله ضمير الباري تعالى ، « السموات » مفعوله ، وكَسْرُهُ نَصْبٌ ، و « الأَرْضُ » بالنصب نَسَقٌ عليه . وفَسَّرَهُ الحسنُ فقال : « اللَّهُ مُنوِّرُ السَّمواتِ » .
فصل
قال ابن عباس : هادي أهل السموات والأرض ، فهم بنوره إلى الحق يهتدون ، وبهداه من حيرة الضلالة ينجون . وقال الضحاك : منوِّر السموات والأرض ، يقال : نوّر الله السماء بالملائكة ونوّر الأرض بالأنبياء . وقال مجاهد : مدبر الأمور في السموات والأرض .
وقال أبي بن كعب والحسن وأبو العالية : مزَيّن السموات والأرض ، زين السماء بالشمس والقمر والنجوم ، وزين الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين . وقيل : بالنبات والأشجار . وقيل : معناه : الأنوار كلها منه ، كما يقال : فلان رحمة ، أي : منه الرحمة . وقد يذكر هذا اللفظ على طريق المدح ، كقول القائل :
3833- إذا سارَ عبدُ اللَّهِ من مَرْوَ لَيْلَةً ... فقد سارَ منها نورُها وجمالُها
قوله : { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ } مبتدأ وخبر ، وهذه الجملة إيضاحٌ وتفسيرٌ لِمَا قبلها ، فلا محلَّ لها ، وثمَّ مُضَاف محذوف ، أي : كَمَثَلِ مِشْكَاةٍ . قال الزمخشري : أي : صفةُ نُورِهِ العجيبةُ الشأنِ في الإضاءة « كَمِشْكَاةٍ » أي : كصفة ( مشكاة ) . واختلفوا في الضمير في « نُورِهِ » : فقيل : هو الله تعالى ، أي : مثل نور الله - عزَّ وجلَّ - في قلب المؤمن ، وهو النور الذي يهتدى به ، كما قال : { فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } [ الزمر : 22 ] . وكان ابن مسعود يقرأ « مَثَلُ نُورِهِ فِي قَلْبِ المُؤْمِن » وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : « مثل نوره الذي أعطى المؤمن » وعلى هذا المراد بالنور : الإيمان ، والآيات البيّنات .
وقيل : يعود على المؤمنين أو المؤمن ، أو من آمن به ، أي مثل نور قلب المؤمن . وكان أبيّ يقرأ بهذه الألفاظ كلها ، وأعاد الضمير على ما قرأ به . والمراد بالنور : الإيمان والقرآن لقوله تعالى : { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } [ المائدة : 15 ] يعني : القرآن .
وقال سعيد بن جبير والضحاك : الضمير يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يتقدم لهذه الأشياء ذِكْر .
وأما عوده على المؤمنين في قراءة أبيّ ، ففيه إشكال من حيث الإفراد . قال مكّيٌّ : يُوقَف على الأرض في هذه الأقوال الثلاثة .
وقيل : أراد ب « النور » الطاعة ، سمى طاعة الله نوراً ، وأضاف هذه الأنوار إلى نفسه تفضيلاً .
فصل
واختلفوا في هذا التشبيه :
( هل هو ) تشبيه مركب ، أي : أنه قصد تشبيه جملة بجملة من غير نظر إلى مقابلة جزء بجزء ، بل قصد تشبيه هُدَاهُ وإتْقَانهُ صُنْعَتَهُ في كل مخلوق على الجملة بهذه الجملة من النور الذي يتخذونه ، وهو أبلغ صفات النور عندكم أو تشبيه غير مركب ، أي : قصد مقابلة جزء بجزء . ويترتب الكلام فيه بحسب الأقوال في الضمير في « نورِهِ » . و « المِشْكَاةُ » : الكُوَّةُ غير النَّافِذة . وهل هي عربية أم حبشيّة مُعَرَّبَةٌ؟ خلاف .
قال مجاهد : « هي القنديل » . وقيل : هي الحديدةُ أو الرَّصاصةُ التي يُوضع فيها الذُّبالُ ، وهو الفتيل ، ويكون في جوف الزجاجة .
وقيل : هي العمود الذي يوضع على رأسه المصباح . وقيل : ما يعلق منه القنديل من الحديدة . وأمال « المِشْكَاة » الدُّوري عن الكسائي لِتقدُّم الكسر وإن وُجِدَ فاصل ورُسِمَتْ بالواو ك « الزكوة » و « الصلواة » . والمصباح : السِّراج الضَّخم ، وأصله من الضوء ومنه الصبح . والزّجاجة : واحدة الزّجاج ، وهو جوهَر معروف ، وفيه ثلاث لغات : فالضم : لغة الحجاز ، وبها قرأ العامة . والكسر والفتح : لغة قيس . وبالفتح قرأ ابن أبي عبلة ونصر بن عاصم في رواية ابن مجاهد . وبالكسر قرأ نصر بن عاصم في رواية عنه ، وأبو رجاء . وكذلك الخلاف في قوله : « الزُّجَاجَةُ » . والجملة من قوله : « فِيهَا مِصْبَاح » صفة ل « مشكاة » ، ويجوز أن يكون الجار وحده هو الوصف ، و « مِصْبَاح » مرتفع به فاعلاً .
قوله : « دُرِّي » . قرأ أبو عمرو والكسائي بكسر الدال ، وياء بعدها همزة . وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بضم الدال وياء بعدها همزة . والباقون بضم الدال وتشديد الياء من غير همز . وهذه الثلاثة في السبع . وقرأ زيد بن عليّ والضحاك وقتادة بفتح الدال وتشديد الياء . وقرأ الزهري بكسرها وتشديد الياء .
وقرأ أبان بن عثمان وابن المسيب وأبو رجاء وقتادة أيضاً « دَرِّيءٌ » فتح الدال وياء بعدها همزة فأما الأولى فقراءة واضحة ، لأنه بِنَاءً كثيرٌ ، يوجد في الأسماء نحو : « سِكِّين » وفي الصفات نحو « سِكِّير » . وأما القراءة الثانية فهي من « الدرء » بمعنى : الدفع ، أي : يدفع بعضها بعضاً ، أو يدفع ضوؤها خفاءها .
قيل : ولم يوجد شيء وزنه « فُعِّيل » إلا « مُرِّيقاً » للعُصْفر ، و « سُرِّيّة » على قولنا : إنها من السّرور ، وأنه أبدل من إحدى المُضَعَّفَات ياء ، وأُدْغِمت فيها ياء « فُعِّيل » ، و « مُرِّيخاً » للذي في داخل القرن اليابس ، ويقال بكسر الميم أيضاً ، و « عُلِّية » و « دُرِّيءٌ » في هذه القراءة ، و « دُرِّيَّة » أيضاً في قولٍ ، وقال بعضهم : وزن « دريء » في هذه القراءة « فُعُّول » كسُبُّوح قُدُّوس فاستثقل توالي الضم فنُقِل إلى الكسر ، وهذا منقول أيضاً في « سُرِّيّة » و « دُرِّيّة » .
وأما القراءة الثالثة فتحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون أصلها الهمز كقراءة حمزة إلا أنه أُبدل من الهمز ياءً ، وأُدغِم ، فيتحد معنى القراءتين . ويحتمل أن تكون نسبة إلى الدُّرِّ لصفائها ، وظهور ( إشراقها ) .
وأما قراءة تشديد الياء مع فتح الدال وكسرها ، فالذي يظهر أنه منسوب إلى الدُّرّ . والفتح والكسر في الدال من باب تغييرات النسب . وأما فتح الدال مع المد والهمز ففيها إشكال .
قال أبو الفتح : وهو بناءٌ عزيز لم يُحْفَظ منه إلاّ السَّكِّينة بفتح الفاء وتشديد العين .
قال شهاب الدين : وقد حكى الأخفش فعلية السَّكِّينَة والوَقَار ، وكَوْكَبٌ دَرِّيءٌ من ( دَرَأْتُه ) . قوله : « تُوقَدُ » قرأ ابن كثير وأبو عمرو « تَوَقَّدَ » بزنة « تَفَعَّلَ » فعلاً ماضياً فيه ضمير فاعله يعود على « المِصْبَاح » ، ولا يعود على « كَوْكَبٍ » لفساد المعنى . والأخوان وأبو بكر : « تُوقَدُ » بضم التاء من فوق وفتح القاف مضارع « أَوقَدَ » ، وهو مبني للمفعول ، والقائم مقام الفاعل ضمير يعود على « زُجَاجَة » فاستتر في الفعل . وباقي السبعة كذلك إلا أنه بالياء من تحت ، والضمير المستتر يعود « المِصْبَاح » . وقرأ الحسن والسُّلمي وابن مُحيصن ورُويَتْ عن عاصم من طريق المُفضَّل كذلك إلا أنه ضمَّ الدَّال ، جعله مضارع « تَوَقَّدَ » ، والأصل « تَتَوَقَّد » بتاءين فحذف إحداهما ك « تَتَذَكّر » ، والضمير أيضاً للزجاجة .
وقرأ عبد الله « وُقِّدَ » فعلاً ماضياً بزنة « قُتِّلَ » مشدداً ، أي : « المصْبَاحُ » وقرأ الحسن وسلام أيضاً « يَوَقَّدُ » بالياء من تحت وضم الدال مضارع « توقد » ، والأصل « يتوقد » بياء من تحت وتاء من فوق ، فحذف التاء من فوق ( و ) هذا شاذٌ ، إذ لم يَتَوال مِثلان ، ولم يَبْقَ في اللفظ ما يدل على المحذوف ، بخلاف « تَنَزَّلُ » و « تَذَكَّرُ » وبابه ، فإن فيه تاءين ، والباقي يدل على ما فُقِدَ . وقد يُتَمَحَّلُ لصحته وجه من القياس ، وهو أنهم قد حملوا « أَعِدُ » و « تَعِدُ » و « نَعِدُ » على « يَعِدُ » في حذف الواو لوقوعها بين ياء وكسرة ، فكذلك حملوا « يَتَوَقّدُ » بالياء والتاء على « تَتَوَقَّدُ » بتاءين وإن لم يكن الاستثقال موجوداً في الياء والتاء .
قوله : « مِنْ شَجَرَةٍ » مِنْ لابتداء الغاية ، وثمَّ مضافٌ محذوفٌ ، أي : من زيت ( شَجَرَةٍ ) . و « زَيْتُونَةٍ » فيها قولان : أشهرهما : أنها بدل من « شَجَرَةٍ » .
الثاني : أنها عطف بيانٍ ، وهذا مذهب الكوفيين ، وتبعهم أبو علي . وتقدم هذا في قوله : { مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ } [ إبراهيم : 16 ] .
قوله : « لاَ شَرْقِيَّةٍ » صفة ل « شجرةٍ » ودخلت « لاَ » لتفيد النفي . وقرأ الضَّحَّاكُ بالرفع على إضمار مبتدأ ، أي : لاَ هِيَ شَرْقِيةٌ ، والجملة أيضاً في محل جر نعتاً ل « شَجَرَةٍ » . ( قوله : « يَكَادُ » هذه الجملة أيضاً نعت ل « شَجَرَةٍ » ) .
قوله : { وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } جوابها محذوف ، أي : لأضاءت ، لدلالة ما تقدم عليه ، والجملة حالية . وتقدم تحرير هذا في قولهم : أعطوا السائل وَلَوْ جاء على فَرَسٍ . وأنها لاستقصاء الأحوال حتى في هذه الحالة . وقرأ ابن عباس والحسن : « يَمْسَسْهُ » بالياء ، لأن التأنيث مجازي ، ولأنه قد فصل بالمفعول أيضاً .
فصل في كيفية هذا التمثيل
قال جمهور المتكلمين : معناه : أن هداية الله قد بلغت في الظهور والجلاء إلى أقصى الغايات ، وصار ذلك بمنزلة المشكاة التي يكون فيها زجاجة صافية ، وفي الزجاجة مصباح ( يتّقد بزيت ) بلغ النهاية في الصفاء . فإن قيل : لم شبهه بذلك مع أن ضوء الشمس أعظم منه؟
فالجواب : أنه تعالى أراد أن يصف الضوء الكامل الذي يلوح وسط الظلمة ، لأن الغالب على أوهام الخلق وخيالاتهم إنما هو الشبهات التي هي كالظلمات ( وهداية الله تعالى فيما بينها كالضوء الكامل الذي يظهر فيما بين الظلمات ) وهذا المقصود لا يحصل من ضوء الشمس ، لأن ضوءها إذا ظهر امتلأ العالم من النور الخالص ، وإذا غاب امتلأ العالم من الظلمة الخالصة ، فلا جرم كان هذا المثل أليق وأوفق .
فصل
اعلم أن الأمور التي اعتبرها الله تعالى في هذه المثل توجب كمال الضوء .
فأولها : أن المصباح إذا لم يكن في المشكاة تفرقت أشعته ، أما إذا وضع في المشكاة اجتمعت أشعته فكانت أشد إنارة ، ويحقق ذلك أن المصباح ينعكس شعاعه من بعض جوانب الزجاجة إلى البعض ، لما في الزجاجة من الصفاء والشفافة ، فيزداد بسبب ذلك الضوء والنور ، والذي يحقق ذلك أن شعاع الشمس إذا وقع على الزجاجة الصافية تضاعف النور الظاهر ، حتى إنه يظهر فيما يقابله مثل ذلك الضوء ، فإذا انعكست تلك الأشعة من كل جانب من جوانب الزجاجة إلى الجانب الآخر كثرت الأنوار والأضواء وبلغت النهاية .
وثانيها : أن ضوء المصباح يختلف بحسب اختلاف ما يتقد فيه ، فإذا كان الدهن صافياً خالصاً كانت حاله بخلاف حاله إذا كان كدراً ، وليس في الأدهان التي توقد ما يظهر فيه من الصفاء مثل الذي يظهر في الزيت ، فربما بلغ في الصفاء والرقة مبلغ الماء مع زيادة بياض فيه وشعاع يتردد في أجزائه .
وثالثها : أن الزيت يختلف باختلاف شجرته ، فإذا كانت لا شرقية ولا غربية بمعنى أنها كانت بارزة للشمس ( في كل حالاتها يكون زيتونها أشد نضجاً ، فكان زيته أكثر صفاءً ، لأن زيادة تأثير الشمس ) تؤثر في ذلك ، فإذا اجتمعت هذه الأمور وتعاونت صار ذلك الضوء خالصاً كاملاً ، فيصلح أن يجعل مثلاً لهداية الله تعالى .
فصل
قال بعضهم : « هذه الآية من المقلوب والتقدير : مثل نوره كمصباح في مشكاة ، لأن المشبه به هو الذي يكون معدناً للنور ومنبعاً له ، وذلك هو المصباح لا المشكاة » .
فصل
قال مجاهد : « المِشْكَاة » : القنديل ، والمعنى : كمصباح في مشكاة . المصباح في زجاجة ، يعني : « القنديل » قال الزجاج : إنما ذكر الزجاجة لأن النور وضوء النار فيها أبين في كل شيء ، وضوؤه يزيد في الزجاج . ثم وصف الزجاجة فقال : { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } . والدَّرُّ : الدفع ، لأن الكواكب تدفعُ الشياطينَ من السماء . وشبيه حالة الدفع ، لأنه يكون في تلك الحالة أضوأ وأنور . وقيل : « دري » أي : طالع ، يقال : درى النجم : إذا طلع وارتفع ، ويقال : هو من درأ الكوكب : إذا اندفع منْقضاً فيضاعف ضوؤه في ذلك الوقت ) ( ويقال : درأ علينا فلان ، أي : طلع وظهر . وقيل : الدري أي ضخم مضى ، ودراري النجوم : عظامها . وقيل : الكوكب الدري واحد من الكواكب الخمسة العظام ، وهي : زحل ، والمريخ والمشتري ، والزهرة وعطارد . وقيل : الكواكب المضيئة كالزهرة والمشتري والثوابت التي في المعظم الأول . فإن قيل : لم شبهه بالكوكب ولم يشبهه بالشمس والقمر؟ .
فالجواب لأن الشمس والقمر يلحقها الخسوف ، والكواكب لا يلحقها الخسوف . « توقّد » يعني : المصباح ، أي : اتَّقَدَ . ويقال : توقدت النار ، أي : اتقدت ، يعني : نار الزجاجة ، لأن الزجاجة لا توقد . هذا على قراءة من ضم التاء وفتح القاف .
وأما على قراءة الآخرين ف « توقد » يعني المصباح { مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ } أي : من زيت شجرة مباركة ، فحذف المضاف بدليل قوله : { يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء } . وأراد بالشجرة المباركة : الزيتون وهي كثيرة البركة والنفع : لأن الزيت يسرج به وهو أضوأ وأصفى الأدهان ، وهو إدام وفاكهة ، ولا يحتاج في استخراجه إلى عصار ، بل كل أحد يستخرجه . وقيل : أول شجرة نبتت بعد الطوفان ، وبارك فيها سبعون نبياً منهم الخليل . وجاء في الحديث أنه مصحة من الباسور ، وهي شجرة تورق من أعلاها إلى أسفلها . وقال عليه السلام : « كُلُوا الزَّيْتَ وادهنُوا بِهِ فإِنَّهُ من شَجَرة مُبَارَكةٍ » .
وقيل : المراد زيتون الشام ، لأنه في الأرض المباركة فلهذا جعل الله هذه الشجرة بأنها { لا شرقية ولا غربية } واستدلوا على ذلك بوجوه :
أحدها : أن الشام وسط الدنيا ، فلا توصف شجرتها بأنها شرقية أو غربية .
وهذا ضعيف ، لأن من قال : « الأرض كرة » لم يثبت للمشرق والمغرب موضعين معينين ، بل لكل بلد مشرق ومغرب على حدة ، لأن المثل مضروب لكل من ( يعرف ، الزيت ) وقد ) يوجد في غير الشام كوجوده فيه .
وثانيها : قال الحسن : « لأنها من شجر الجنة ، إذ لو كانت من شجر الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية » . وهذا أيضاً ضعيف ، لأنه تعالى إنما ضرب المثل بما شاهدوه ، وهم ما شاهدوا شجر الجنة .
وثالثها : أنها شجرة يلتف بها ورقها التفافاً شديداً ، ولا تصل الشمس إليها سواء كانت الشمس شرقية أو غربية ، وليس في الشجر ما يورق غصنه من أوله إلى آخره مثل الزيتون والرمان . وهذا أيضاً ضعيف ، لأن الغرض صفاء الزيت ، وذلك لا يحصل إلا بكمال نضج الزيتون ، وذلك إنما يحصل في العادة بوصول أثر الشمس إليه لا بعدم وصوله .
ورابعها : قال ابن عباس : « المراد الشجرة التي تبرز على جبل عال ، أو صحراء واسعة ، فتطلع الشمس عليها حالتي الطلوع والغروب » . وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة .
وقال الفراء والزجاج : « لا شرقية وحدها ولا غربية وحدها ، ولكنها شرقية غربية ، كما يقال : فلان لا مسافر ولا مقيم ، إذا كان يسافر ويقيم ، أي : تصيبها الشمس عند طلوعها وعند غروبها ، فتكون شرقية غربية تأخذ حظها من الأمرين ، فيكون زيتها أضوأ ، كما يقال : فلان ليس بأسود ولا أبيض ، يريد : ليس بأسود خالص ولا بأبيض خالص ، بل اجتمع فيه الأمران ، وهذا الرمان ليس بحلو ولا حامض ، أي : اجتمع فيه الحلاوة والحموضة » .
وهذا هو المختار ، لأن الشجرة إذا كانت كذلك كان زيتها في نهاية الصفاء ، وحينئذ يكون مقصود التمثيل أتم . وقيل : المراد ب « المِشْكَاة » صدر محمد ، ( و « الزجاجة » قلب محمد ) و « المصباح » ما في قلب محمد من الدين ، { يوقد من شجرة } يعني : { واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } [ النساء : 125 ] والشجرة : إبراهيم ، ثم وصف إبراهيم بقوله : { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } أي : لا يصلي قبل المشرق ولا قبل المغرب كاليهود والنصارى ، بل كان عليه السلام يصلي إلى الكعبة ، ثم قال : { يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } لأن الزيت إذا كان خالصاً ثم رئي من بعيد يرى كأن له شعاعاً ، فإذا مسته النار ازْدَاد ضَوءاً على ضوئه كذلك .
قال ابن عباس : « يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم ، فإذا جاءه العلم ازداد نوراً على نور ، وهدى على هدى » . وقال الضحاك : « يكاد محمد يتكلم بالحكمة قبل الوحي » . قال عبد الله بن رواحة :
3834- لَوْ لَمْ تَكُنْ فيه آياتٌ مبينةٌ ... كانتْ بديهتُه تُنْبِيكَ بالخَبر
وقال محمد بن كعب القرظي : المشكاة : إبراهيم ، والزجاجة : إسماعيل والمصباح محمد - صلى الله عليه وسلم - سماه الله مصباحاً كما سماه سراجاً فقال « وسراجاً منيراً » { يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ } وهي إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وسماه مباركاً ، لأن أكثر الأنبياء من صلبه { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } أي لم يكن إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ، ولكن كان حنيفاً ، لأن اليهود تصلي قبل المغرب والنصارى قبل المشرق { يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } يكاد محاسن محمد - صلى الله عليه وسلم - تظهر للناس من قبل أن يوحى إليه ، { نُّورٌ على نُورٍ } نبي من نسل نبي ( نور محمد على نور إبراهيم ) .
قوله : { نُّورٌ على نُورٍ } خبر مبتدأ مضمر أي : ذلك نور ، و « عَلَى نُورٍ » صفة ل « نُورٌ » . والمعنى : أن القرآن نور من الله - عزَّ وجلَّ - لخلقه مع ما أقام لهم من الدلائل والأعلام قبل نزول القرآن ، فازدادوا بذلك نوراً على نور . { يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } .
قال ابن عباس : « لدين الإسلام ، وهو نور البصيرة » . وقيل : القرآن . ( قال إن المؤمن يتقلب في خمسة أنوار : قوله نور ، وعمله نور ، ومدخله نور ، ومخرجه نور ، ومصير إلى نور ) . واستدل أهل السنة بهذه الآية على صحة مذهبهم فقالوا : « إنه تعالى بعد أن بين أن هذه الدلائل التي بلغت في الظهور والوضوح إلى هذا الحد الذي لا يمكن الزيادة عليه ، قال : » يَهْدِي اللَّهُ « بإيضاح هذه الأدلة { لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } أي : وضوح هذه الدلائل لا يكفي ولا ينفع ما لم يخلق الله الإيمان » .
قوله : { وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ } يبين الله الأشباه للناس ، أي : للمكلفين ، تقريباً لأفهامهم ، وتسهيلاً لنيل الإدراك .
{ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ } وهذا كالوعيد لمن لا يعتبر ولا يتفكر في أمثاله ، ولا ينظر في أدلته فيعرف وضوحها وبعدها عن الشبهات . قالت المعتزلة : قوله تعالى { وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ } ذكره في معرض النعمة ، وإنما يكون نعمة عظيمة لو أمكنكم الانتفاع به وتقدم جوابه .
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
قوله تعالى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ } الآية .
واعلم أن قوله : « فِي بُيُوتٍ » يقتضي محذوفاً يكون فيها ، وذكروا فيه ستّة أوجه :
أحدها : أن قوله : « في بُيُوتٍ » صفة ل « مِشْكَاةٍ » أي كَمِشْكَاةَ في بُيُوتٍ ، أي : في بيتٍ من بُيُوت الله .
( الثاني : أنه صفة ل « مصباح » ) وهذا اختيار أكثر المحققين .
واعترض عليه أبو مسلم بن بحر الأصفهاني من وجهين :
الأول : أن المقصود من ذكر « المصباح » المثل ، وكون المصباح في بيت أذن الله لا يزيد في هذا المقصود ، لأن ذلك لا يزيد المصباح إنارة وإضاءة .
والثاني : أن الذي تقدم ذكره في وجوه يقتضي كونه واحداً ، كقوله : « كَمشْكَاةٍ » وقوله : « فيهَا مِصْبَاحٌ » وقوله : « فِي زُجَاجَةٍ » وقوله : { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } [ النور : 35 ] ، ولفظ « البُيُوت » جمع ، ولا يصح كون هذا الواحد في كل البيوت .
وأجيب عن الأول : أن المصباح الموضوع في الزجاجة الصافية إذا كان في المساجد كان أعظم وأضخم ، فكان أضوأ ، فكان التمثيل به أتم وأكمل .
وعن الثاني : أنه لما كان القصد بالمثل هذا الذي له هذا الوصف فيدخل تحته كل مشكاة فيها مصباح في زجاجة يتوقد من الزيت ، فتكون الفائدة في ذلك أن ضوءه يظهر في هذه البيوت بالليالي عند الحاجة إلى عبادة الله تعالى ، كقوله : « الذي يصلح لخدمتي رجل يرجع إلى علم وقناعة يلزم بيته » لكان وإن ذكر بلفظ الواحد ، فالمراد النوع ، فكذا ههنا .
الثالث : أنه صفة ل « زجاجة » . .
الرابع : أنه يتعلق ب « يُوقَدُ » أي : يُوقَد في بيوت ، والبيوت هي المساجد قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : المساجد بيوت الله في الأرض ، وهي تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض . وعلى هذه الأقوال الأربعة لا يوقف على « عَلِيمٌ » .
الوجه الخامس : أنه متعلق بمحذوف كقوله : { فِي تِسْعِ آيَاتٍ } [ النمل : 12 ] أي : سبحوه في بيوت .
السادس : أنه متعلق ب « يُسَبِّحُ » أي : يسبح رجال في بيوت ، و « فيهَا » تكرير للتوكيد كقوله : { فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا } [ هود : 108 ] وعلى هذين القولين فيوقف على « عَلِيمٌ » .
قوله : « أَذِنَ اللَّهُ » في محل جر صفة ل « بُيُوت » ، و « أَنْ تُرْفَع » على حذف الجار ، أي : في أن ترفع . ولا يجوز تعلق « فِي بُيُوتٍ » بقوله : « وَيُذْكرَ » لأنه عُطِفَ على ما في حيز « أَنْ » وما بعد « أن » لا يتقدم عليها .
فصل
قال أكثر المفسرين : المراد ب « البيوت » ههنا : المساجد .
وقال عكرمة : هي البيوت كلها . والأول أولى ، لأن في البيوت ما لا يوصف بأن الله أذن أن ترفع ، وأيضاً فإن الله تعالى وصفها بالذكر والتسبيح والصلاة ، وذلك لا يليق إلا بالمساجد . ثم القائلون بأنها المساجد قال بعضهم : بأنها أربعة مساجد لم يبنها إلا نبي : الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل فجعلاها قبلة . وبيت المقدس بناه داود وسليمان - عليهما السلام - ومسجد المدينة بناه النبي - عليه السلام - ومسجد قباء أسس على التقوى بناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاله ابن بريدة . وعن الحسن أن ذلك بيت المقدس يسرج فيه عشرة آلاف قنديل . وهذا تخصيص بغير دليل .
وقال ابن عباس : المراد جميع المساجد كما تقدم .
قوله : « أَنْ تُرفَعَ » . قال مجاهد : تبنى كقوله : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت } [ البقرة : 127 ] ، وهو مرويّ عن ابن عباس . وقال الحسن والزجاج : تُعَظَّم وتُطَهَّر عن الأنجاس ولغو الأفعال . وقيل : مجموع الأمرين { وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه } .
قال ابن عباس : يتلى فيها كتابه . وقيل : عام في كل ذكر { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا } .
قرأ ابن عامر وأبو بكر بفتح الباء مبنياً للمفعول ، والقائم مقام الفاعل أحد المجرورات الثَّلاث ، والأَوْلَى منها بذلك الأَوَّل ، لاحتياج العامل إلى مرفوعه ، فالذي يليه أولى ، و « رِجَالٌ » على هذه القراءة مرفوع على أحد وجهين : إمَّا بفعل مُقدَّر لتعذّر إسناد الفعل إليه ، وكأنَّه جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ ، كأنه قيل : « مَنْ يُسَبِّحُهُ » ؟ فقيل : « يُسَبِّحُهُ رجالٌ » ، وعليه في أحد الوجهين قول الشاعر :
3835- ليُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لخُصُومةٍ ... وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطيح الطَّوَائِح
كأنه قيل : من يَبْكيه؟ فقيل : يَبْكيه ضارعٌ ، إلاَّ أَنَّ في اقتباس هذا خلافاً : منهم من ( جَوَّزهُ وقاس ) عليه : « ضُرِبَتْ هندٌ زيدٌ » أي : ضَرَبَهَا زيدٌ . ومنهم من مَنَعهُ .
والوجه الثاني في البيت أن « يَزِيدُ » منادى حذف منه حرفُ النِّداء ، أي : ما يزيد وهو ضعيفٌ جداً .
الثاني : أن « رِجَالٌ » خبر مبتدأ محذوف ، أي : المُسَبِّحةٌ رجالٌ .
وعلى هذه القراءة يوقف على « الآصالِ » . وباقي السبعة بكسر الباء مبنياً للفاعل ، والفاعلُ « رِجَالٌ » فلا يوقف على « الآصَالِ » . وقرأ ابن وثَّاب وأبو حَيْوَة « تُسَبِّحُ » بالتاء من فوق ، وكسر الباء ، لأن جمع التكسير يُعَامَل معاملة المؤنث في بعض الأحكام ، وهذا منها . وقرأ أبو جعفر كذلك إلاَّ أنه فتح ( الباء ) . وخرَّجَها الزمخشري على إسناد الفعل إلى « الغُدُوّ والآصَالِ » على زيادة الباء ، كقولهم : « صيد عليه يومان » ( والمراد : وحشهما ) . وخرَّجها غيره على أن القائم مقام الفاعل ضمير التَّسبيحة ، أي : تُسَبِّح التَّسبيحَةُ على المجاز المُسَوّغ لإسناده إلى الوقتين ، كما خرجوا قراءة أبي جعفر أيضاً : « لِيُجْزَى قَوْماً » أي : « لِيُجْزَى الجَزَاء قَوْماً » ، بل هذا أولى من آية الجاثية ، إذ ليس هنا مفعول صريح .
فصل
اختلفوا في هذا التسبيح . فالأكثرون حملوه على الصلاة المفروضة ، وهؤلاء منهم من حمله على صلاة الصبح والعصر ، فقال : كانتا واجبتين في بدء الحال ثم زيد فيهما ، وقال عليه السلام : « من صلى صلاة البردين دخل الجنة » وقيل : أراد الصلوات المفروضة ، فالتي تؤدى بالغداة صلاة الفجر ، والتي تؤدى بالآصال صلاة الظهر والعصر والعشائين لأن اسم الأصيل يجمعهما ، و « الآصال » جمع أَصيل ، وهو العشي .
وإنما وحد « الغدو » لأنه مصدر في الأصل لا يجمع ، و « الأَصيل » اسم فجمع .
قال الزمخشري : « بالغدو ، أي بأوقات الغد ، أي بالغدوات » .
وقيل : صلاة الضحى ، قال عليه السلام : « من مشى إلى صلاة مكتوبة وهو متطهِّر ، فأجره كأجر الحاجِّ المُحْرم ، ومن مشى إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المُعْتَمِر ، وصلاةٌ على إثر صلاة لا لَغْوَ بينهما كتاب في عِلِّيِّين » وقال ابن عباس : « إنّ صلاة الضحى لفي كتاب الله ( مذكورة ) ( وتلا هذه ) الآية . وقيل : المراد منه تنزيه الله تعالى عما لا يليق به في ذاته وفعله؛ لأنه قد عطف على ذلك الصلاة والزكاة فقال : { عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصلاة وَإِيتَآءِ الزكاة } . وهذا الوجه أظهر .
وقرئ : » بالغدو والإيصَالِ « وهو الدخول في الأصل .
قوله : » لا تُلْهِيهِمْ « في محل رفع صفة ل » رِجَالٌ « . ( و ) خص الرجال بالذكر في هذه المساجد ، لأنه ليس على النساء جمعة ولا جماعة في المسجد . » لاَ تُلْهِيهِمْ « : تشغلهم ، » تِجَارَةٌ « قيل : خص التجارة بالذكر ، لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان عن الصلاة والطاعات .
قال الحسن : أما والله إنهم كانوا يتجرون ، ولكن إذا جاءتهم فرائض الله لم يلههم عنها شيء ، فقاموا بالصلاة والزكاة . فإن قيل : البيع داخل في التجارة ، فلم أعاد البيع؟ فالجواب من وجوه :
الأول : أن التجارة جنس يدخل تحته أنواع الشراء والبيع ، وإنما خص البيع بالذكر لأن الالتهاء به أعظم ، لكون الربح الحاصل من البيع معين ناجز ، والربح الحاصل من الشراء مشكوك مستقبل .
الثاني : أن البيع تبديل العرض بالنقدين ، والشراء بالعكس ، والرغبة في تبديل النقد أكثر من العكس .
الثالث : قال الفراء : التجارة لأهل الجَلْب ، يقال : تجر فلان في كذا : إذا جلب من غير بلده ، والبيع ما باعه على يديه .
الرابع : أراد بالتجارة الشراء وإن كان اسم التجارة يقع على البيع والشراء جميعاً ، لأنه ذكر البيع بعده كقوله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً } [ الجمعة : 11 ] يعني : الشراء .
قوله : { عَن ذِكْرِ الله } عن حضور المساجد لإقامة الصلاة . فإن قيل : فما معنى قوله : » وَإقَامِ الصَّلاَةِ؟ « فالجواب قال ابن عباس : المراد بإقامة الصلاة : إقامتها لمواقيتها ، لأن من أخر الصلاة عن وقتها لا يكون من مقيمي الصلاة .
ويجوز أن يكون قوله : « الصَّلاَة » تفسيراً لذكر الله ، فهم يذكرون قبل الصلاة .
قال الزجاج : وإنما حذفت الهاء ، لأنه يقال : أقمت الصلاة إقامة ، وكان الأصل : إقواماً ، ولكن قُلِبَت الواو ألفاً ، فاجتمعت ألفان ، فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين فبقي : أقَمْتُ الصلاة إقاماً ، فأدخلت الهاء عوضاً عن المحذوف ، وقامت الإضافة هاهنا في التعويض مقام الهاء المحذوفة وهذا إجماع من النحويين .
فصل
المراد : الصلوات المفروضة لما روى سالم ( عن ) ابن عمر أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة ، فقام الناس وأغلقوا حوانيتهم ، فدخلوا المسجد ، فقال ابن عمر : فيهم نزلت هذه الآية : { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصلاة } .
وقوله : « وإِيتَاءِ الزَّكَاةِ » يريد : المفروضة . قال ابن عباس : إذا حضر وقت أداء الزكاة لم يحبسوها . وروي عن ابن عباس أيضاً : المراد من الزكاة : طاعة الله والإخلاص . وهذا ضعيف لأنه تعالى علق الزكاة بالإيتاء ، وهذا لا يحتمل إلا ما يعطى من حقوق المال . قوله : « يخَافُونَ يَوْماً » يجوز أن يكون نعتاً ثانياً ل « رِجَالٌ » ، وأن يكون حالاً من مفعول « تُلْهِيهِمْ » و « يَوْماً » مفعول به لا ظرف على الأظهر ، و « تَتَقَلَّبُ » صفة ل « يَوْماً » .
قوله : { تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار } : تتقلب القلوب عما كانت عليه في الدنيا من الشرك والكفر وتنفتح الأبصار من الأغطية بعد أن كانت مطبوعة عليها لا تبصر ، وكلهم انقلبوا من الشك إلى اليقين ، كقوله : { وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ } [ الزمر : 47 ] وقوله : { لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ } [ ق : 22 ] . وقيل : تتقلب القلوب تطمع في النجاة وتخشى الهلاك ، وتتقلب الأبصار من أي ناحية يؤخذ أمن ناحية اليمين أم من ناحية الشمال؟ ومن أي ناحية يعطون كتابهم ، أمن قبل اليمين أم من قبل الشمال؟
والمعتزلة لا يرضون بهذا التأويل ، لأنهم قالوا : إن أهل الثواب لا خوف عليهم البتة ، وأهل العقاب لا يرجون العفو . وقيل : إن القلوب تزول من أماكنها فتبلغ الحناجر ، والأبصار تصير زرقاً . وقيل : تقلب البصر : شخوصه من هول الأمر وشدته .
( وقال الجبائي : تقلب القلوب والأبصار ) : تغير هيئاتها بسبب ما ينالها من العذاب . قال : ويجوز أن يريد به تقليبها على جمر جهنم كقوله : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الأنعام : 110 ] .
قوله : « لِيَجْزِيَهُمْ » . يجوز تعلقه ب « يُسَبِّحُ » أي : يُسَبِّحون لأجل الجزاء .
ويجوز تعلقه بمحذوف ، أي : فعلوا ذلك ليجزيهم . وظاهر كلام الزمخشري أنه من باب الإعمال ، فإنه قال : والمعنى : يُسبِّحونَ وَيَخَافُونَ ( لِيَجْزيهمْ « ) . ويكون على إعمال الثاني للحذف من الأول .
وقوله : { أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } أي : ثواب أحسن ، أو أحسن جزاء ما عملوا ، و « ما » مصدرية ، أو بمعنى الذي ، أو نكرة .
فصل
المراد بالأحسن : الحسنات أجمع ، وهي الطاعات فرضها ونفلها . قال مقاتل : إنما ذكر الأحسن لأنه لا يجازيهم على مساوئ أعمالهم ، بل يغفرها لهم .
وقيل : يجزيهم جزاء أحسن ما عملوا على الواحد عشر إلى سبعمائة . ثم قال : { وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ } أي : ما لم يستحقوه بأعمالهم . فإن قيل : هذا يدل على أن لفعل الطاعة أثر في استحقاق الثواب ، لأنه تعالى ميز الجزاء عن الفضل ، وأنتم لا تقولون بذلك ، فإن عندكم العبد لا يستحق على ربه شيئاً؟ قلنا : نحن نثبت الاستحقاق بالوعد ، فذلك القدر هو الذي يستحق ، والزائد عليه هو الفضل . ثم قال : { والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } وذلك تنبيه على كمال قدرته ، وكمال جوده ، وسعة إحسانه ، فكأنه تعالى لما وصفهم بالجد والاجتهاد في الطاعة ، وهم مع ذلك في نهاية الخوف ، فالحق سبحانه يعطيهم الثواب العظيم على طاعاتهم ويزيدهم الفضل الذي لا حد له في مقابلة خوفهم .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
قوله تعالى : { والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } الآية .
لما بيَّن حال المؤمن أنه في الدنيا يكون في النور ، وبسببه يكون متمسكاً بالعمل الصالح ثم بين أنه يكون في الآخرة فائزاً بالنعيم المقيم والثواب العظيم ، أتبع ذلك ببيان أن الكافر يكون في الآخرة في أشد الخسران ، وفي الدنيا في أعظم أنواع الظلمات ، وضرب لكل واحد منهما مثلاً ، أما المثل الدال على حسرته في الآخرة فقوله : { والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } .
قال الأزهري : « السَّرَابُ : ما يتراءى للعين وقت الضحى في الفلوات شبيهاً بالماء الجاري وليس بماء ، ولكن الذي ينظر إليه من بعيد يظنه ماء جارياً ، يقال : سَرَبَ الماءُ يَسْرُبُ سُرُوباً : إذَا جرى ، فهو سَارِبٌ » . وقيل : السَّرَابُ : مَا يَتَرَاءَى للإنْسَانِ في القَفْرِ في شِدَّةِ الحَرِّ مِمَّا يُشْبهُ المَاءَ . وقيل : مَا يَتَكَاثَفُ مِنْ قُعُورِ القيعَانِ . قال الشاعر :
3836- فَلَمَّا كَفَفْت الحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُهم ... كَلَمْع سَرَابٍ في الفَلاَ مُتَألِّقِ
يضرب به المَثَلُ لمن يَظُنُّ بشيءٍ خيراً فَيُخْلَفُ ظَنُّهُ . وقيل : هو الشُّعَاعُ الذي يُرَى نِصْفَ النَّهَارِ في شدة الحَرِّ في البراري ، يُخَيَّلُ للناظر أنه الماء السَّارِبُ ، أي : الجاري ، فإذا قرب منه لم ير شيئاً . والآل : ما ارتفع من الأرض وهو شعاع يرى بين السماء والأرض بالغدوات شبه المَلاَة يرفع الشخوص ، يرى فيها الصغير كبيراً ، والقصير طويلاً .
والرَّقْرَاقُ : يكون بالعشايا . وهو ما ترقرق من السراب ، أي : جاء وذهب .
قوله : « بِقِيعَةٍ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلِّق بمحذوف على أنه صفة ل « سَرَابٍ » .
والثاني : أنه ظرف ، والعامل فيه الاستقرار العامل في كاف التشبيه .
والقيعة : بمعنى القاع ، قاله الزمخشري ، وهو المُنْبَسِطُ من الأرض ، وتقدم في « طه » .
وقيل : بل هي جمعه ك « جَارٍ وَجيرَة » قاله الفراء . وقرأ مسلمة بن محارب بتاء ( ممطوطة ) ، وروي عنه بتاء شَكل الهاء ، ويقف عليها بالهاء ، وفيها أوجه :
أحدها : أن يكون بمعنى « قيعة » كالعامة ، وإنَّما أشبع الفتحة فتولَّد منها ألف كقوله : مُخرنبقٌ لينباع . قاله صاحب اللوامح .
والثاني : أنه جمع : « قيعة » وإنَّما وقف عليها بالهاء ذهاباً به مذهب لغة طيئ في قولهم : « الإخْوَه والأخَوَاه » و « دَفْنُ البَنَاه من المَكْرُماه » أي : والأخوات ، والبنات ، والمكرمات . وهذه القراءة تؤيد أن « قيعة » جمع قاع .
قال الزمخشري : وقد جعل بعضهم « بِقِيعَاة » بتاء مدوَّرة ك « رجل عِزْهَاةٍ » .
فظاهر هذا أنه جعل هذا بناء مستقلاً ليس جمعاً ولا إشباعاً .
قوله : « يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ » جملة في محل الجر صفة ل « سَرَابٍ » أيضاً ، وحَسُنَ ذلك لتقدم الجار على الجملة ، هذا إن جعلنا الجارَّ صفةً والضمائر المرفوعة في « جَاءَهُ » ، وفي « لَمْ يَجِدْهُ » وفي « وَجَدَ » ، والضمائر في « عِنْدَهُ » وفي « وَفَّاهُ » وفي « حِسَابَهُ » كلها ترجع إلى « الظَّمْآن » لأن المراد به الكافر المذكور أولاً ، وهذا قول الزمخشري وهو حسن .
وقيل : بل الضميران في « جَاءَهُ » و « وَجَدَ » عائدان على « الظَّمْآن » ، والباقية عائدة على الكافر . وإنما أفرد الضمير على هذا وإن تقدمه جمع ، وهو قوله : « وَالَّذِينَ كَفَرُوا » حَمْلاً على المعنى؛ إذ المعنى : كلُّ واحدٍ من الكفار .
والأول أولى لاتِّساق الضمائر . وقرأ أبو جعفر ، ورُويَتْ عن نافع : « الظَّمَانُ » بإلقاء حركة الهمزة على الميم .
فصل
قال الزجاج : « ( الظَّمْآن ) قد تخفف همزته ، وهو الشديد العطش ، ثم وجه التشبيه أن الذي يأتي به الكافر إن كان من أفعال البر فهو لا يستحق عليه ثواباً مع أنه يعتقد أن له ثواباً عليه ، وإن كان من أفعال الإثم فهو يستحق عليه العقاب مع أنه يعتقد أنه ثواباً ، فكيف كان فهو يعتقد أن له ثواباً عند الله تعالى ، فإذا وافى عرصة القيامة ولم يجد الثواب ، بل وجد العقاب العظيم عظمت حسرته وتناهى غمه ، فيشبه حاله حال الظمآن الذي تشتد حاجته إلى الشراب ويتعلق قلبه به ، ويرجو به النجاة ، فإذا جاءه وأيس مما كان يرجوه عظم ذلك عليه » . قال مجاهد : « السراب : عمل الكافر وإتيانه إياه موته ومفارقة الدنيا » .
فإن قيل : قوله : { حتى إِذَا جَآءَهُ } يدل على كونه شيئاً ، وقوله : { لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } مناقض له؟
فالجواب من وجوه :
الأول : معناه : لم يجد شيئاً نافعاً ، كما يقال : فلان ما عمل شيئاً ، وإن كان قد اجتهد .
الثاني : « إذا جَاءَهُ » أي : جاء موضع السراب لم يجد السراب ، لأن السراب يرى من بعيد بسبب الكثافة كأنه ضباب وهباء ، فإذا قرب منه رق وانتشر وصار كالهواء .
قوله : { وَوَجَدَ الله عِندَهُ } أي : وجد عقاب الله عنده الذي توعد به الكافر .
وقيل : وجد الله عنده ، أي : عند عمله ، أي وجد الله بالمرصاد .
وقيل : قدم على الله « فَوَفَّاهُ حِسَابه » أي : جزاء عمله . قيل : نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان قد تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام .
قوله : { والله سَرِيعُ الحساب } لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات ، فلا يشق عليه الحساب .
وقال بعض المتكلمين : « معناه : لا تشغله محاسبة أحد عن آخر كنحن ، ولو كان يتكلم بآلة كما تقول مشبهة لما صح ذلك » .
قوله تعالى : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ } هذا مثل آخر ضربة الله تعالى لأعمال الكفار ، وفي هذا العطف أوجه :
أحدها : أنه نسقٌ على « كَسَرَابٍ » على حذف مضاف واحد ، تقديره : أو كَذِي ظُلُمَاتٍ ، ودل على هذا المضاف قوله : { إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف .
وهو قول أبي علي .
الثاني : أنه على حذف مضافين ، تقديره : أو كَأَعْمَالٍ ذِي ظُلُمَاتٍ فَيُقَدَّر « ذي » ليصح عود الضمير إليه في قوله : { إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ } ويقدر « أَعْمَال » ليصح تشبيه أعمال الكفار بأعمال صاحب الظلمة ، إذ لا معنى لتشبيه العمل بصاحب الظلمة .
الثالث : أنه لا حاجة إلى حذف البتَّة ، والمعنى : أنه شَبَّهَ أعمالَ الكُفَّارِ في حَيْلُولَتِهَا بين القلب وما يهتدي به بالظلمة .
وأما الضميران في « أَخْرَجَ يَدَهُ » فيعودان على محذوف دلَّ عليه المعنى ، أي : إذا أخرج يده من فيها و « أَوْ » هنا للتنويع لا للشك . وقيل : بل هي للتخيير ، أي : « شَبهُوا أعمالهم بهذا أو بهذا . وقرأ سفيان بن حسين : » أوَ كَظُلُمَاتٍ « بفتح الواو ، جعلها عاطفة دخلت عليها همزة الاستفهام التي معناها التقرير ، وقد تقدم ذلك في قوله : { أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى } [ الأعراف : 98 ] . قوله : { فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ } : » في بَحْر « صفة ل » ظُلُمَاتٍ « فيتعلق بمحذوف . واللُّجِيُّ : منسوبٌ إلى » اللُّجِّ « وهو مُعْظَمُ البحر قاله الزمخشري .
وقال غيره : منسوب إلى اللُّجَّةِ بالتاء ، وهي أيضاً معظمه . فاللُّجّيّ : هو العميق الكثير الماء ، وفيه لغتان : كسر اللام ، وضمها .
قوله : » يَغْشَاه موجٌ « صفة أخرى ل » بَحْرٍ « هذا إذا أعدنا الضمير في » يَغْشَاهُ « على » بَحْرٍ « وهو الظاهر . وإن قدَّرنا مضافاً محذوفاً ، أي : » أَو كَذِي ظُلُمَاتٍ « كما فعل بعضهم كان الضمير في » يَغْشَاهُ « عائداً عليه ، وكانت الجملة حالاً منه لتخصيصه بالإضافة ، أو صفة له . قوله : { مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ } يجوز أن تكون هذه جملة من مبتدأ وخبر صفة ل » مَوْجٍ « الأول ويجوز أن يجعل الوصف الجار والمجرور فقط ، و » مَوْجٌ « فاعل به ، لاعتماده على الموصوف ، قوله : { مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ } فيه الوجهان المذكوران قبله من كون الجملة صفة ل » مَوْجٍ « الثاني ، أو الجار فقط .
قوله : » ظُلُمَاتٌ « . قرأ العامة بالرفع ، وفيه وجهان :
أجودهما : أن يكون خبر مبتدأ مضمر تقديره : هذه أو تلك ظلمات .
الثاني : أن يكون » ظُلُمَاتٌ « مبتدأ ، والجملة من قوله : { بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } خبره ، ذكره الحوفي وفيه نظر ، لأنه لا مسوغ للابتداء بهذه النكرة ، اللهم إلا أن يقال : إنها موصوفة تقديراً ، أي : ظلمات كثيرة متكاثفة ، كقولهم : » السمن منوان بِدِرْهم « .
وقرأ ابن كثير : » ظُلُمَاتٍ « بالجر ، إلا أنَّ البزِّي روى عنه حينئذ حذف التنوين من » سَحَابُ « فقرأ البَزِّيُّ عنه : » سَحَابُ ظُلُمَاتٍ « بإضافة » سَحَابُ « ل » ظُلُمَاتٍ « .
وقرأ قُنْبُل عه التنوين في « سَحَابٌ » كالجماعة مع جره ل « ظُلُمَاتٍ » . فأما رواية البزِّي فقال أبو البقاء : جَعَلَ المَوْجَ المُتَرَاكم بمنزلة السحاب . وأما رواية قنبل فإنه جعل « ظُلُمَاتٍ » بدلاً من « ظُلُمَاتٍ » الأولى .
قوله : { بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } جملة من مبتدأ وخبر في موضع رفع أو جر على حسب القراءتين في « ظُلُمَاتٍ » قبلها لأنها صفة لها . وجوَّز الحوفي على قراءة رفع « ظُلُمَاتٍ » في « بَعْضُها » أن تكون بدلاً من « ظُلُمَاتٌ » ورد عليه من حيث المعنى ، ( إذ المعنى ) على الإخبار بأنها ظلمات ، وأن بعض تلك الظلمات فوق بعض وصفاً لها بالتَّراكم ، لا أنَّ المعنى أنَّ بعض تلك الظلمات فوق بعض من غير إخبار بأن تلك الظلمات السابقة ظلماتٌ متراكمة .
وفيه نظرٌ ، إذ لا فرق بين قولك : بعض الظلمات فوق بعضٍ ، وبين قولك : الظلماتُ بعضُهَا فوق بعض ، وإن تُخُيِّل ذلك في بادئ الرأي .
قوله : { إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } . تقدم الكلام في « كاد » وأنَّ بعضهم زعم أنَّ نَفْيَهَا إثباتٌ وإثباتها نفيٌ ، وتقدمت أدلة ذلك في البقرة عند قوله : { وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } [ البقرة : 71 ] .
وقال الزمخشري هنا : { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } مبالغة في ( لَمْ يَرَهَا ) أي : لم يَقْرُب أن يَرَاهَا فَضلاً ( عن ) أن يراها ، ومنه قوله ذي الرمة :
3837- إذَا غَيَّرَ النَّأْيُ المُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ ... رَسِيسُ الهَوَى مِنَ حُبِّ مَيَّة يَبْرَحُ
أي : لم يَقْرُبْ مِنَ البِرَاحِ فَمَا بَالُهُ يَبْرحُ . وقال أبو البقاء : اختلف الناس في تأويل هذا الكلام ، ومنشأ الاختلاف فيه أنَّ موضوع « كَادَ » إذا نفيت وقوع الفعل ، وأكثر المفسرين على أن المعنى : أنه لا يرى يَدَهُ ، فعلى هذا في التقدير ثلاثة أوجه :
أحدها : أن التقدير : لَمْ يَرَهَا وَلَمْ يَكَدْ ، ذكره جماعةٌ من النحويين ، وهذا خطأ لأن قوله : « لَمْ يَرَهَا » جَزْمٌ بنفي الرؤية ، وقوله : « لَمْ يَكَدْ » إذا أخرجها على مقتضى الباب كان التقدير : وَلَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ، كما هو مُصَرَّحٌ به في الآية ، فإن أراد هذا القائل أنه لم يكد يراها وأنه يراها بعد جَهْدٍ ، تناقض ، لأنه نفى الرؤية ثم أثبتها .
وإن كان معنى { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } لم يَرَها البتَّة على خلاف الأكثر في هذا الباب فينبغي أن يحمل عليه من غير أن يقدِّر « لَمْ يَرَهَا » .
الوجه الثاني : قال الفراء : إن ( كَادَ ) زائدة . وهو بعيد .
الثالث : أن « كَادَ » خرِّجت هاهنا على معنى « قَارَبَ » والمعنى : لم يُقَارِب رؤيتها ، وإذا لم يُقَارِبها بَاعَدَها ، وعليه جاء قول ذي الرمة في البيت المتقدم ، أي : لم يقارب البراح ، ومن هنا حكي عن ذي الرُّمة أنه لما روجع في هذا البيت قال : ( لم أجِد ) بدل ( لَمْ يَكَدْ ) .
والمعنى الثاني : أنه رآها بعد جَهد ، والتشبيه على هذا صحيح ، لأنه مع شدة الظلمة إذا أحدَّ نظره إلى يده وقرَّبها من عينه رآها انتهى .
أما الوجه الأول وهو ما ذكره أن قول الأكثرين ( إنه يكون نَفْيُها إثباتاً ، فقد تقدم أنه غير صحيح ، وليس هو قول الأكثر ) وإنما غرّهم في ذلك آية البقرة ، وما أنشد بعضهم :
3838- أَنَحْوِيَّ هَذَا العَصْرِ مَا هِيَ لَفْظَةٌ ... البيتين .
وأما ما ذكره من زيادة « كاد » فهو قول أبي بكر وغيره ، ولكنه مردود عندهم .
وأما ما ذكره من المعنى الثاني ، وهو أنه رآها بعد جهد ، فهو مذهب الفراء والمبرد . والعجب كيف يعدل عن المعنى الذي أشار إليه الزمخشري ، وهو المبالغة في نفي الرؤية .
وقال ابن عطية ما معناه : إذا كان الفعل بعد « كاد » منفيًّا دلَّ على ثبوته ، نحو : « كاد زيد لا يقوم » ، أو مثبتاً دلَّ على نفيه ، نحو : « كاد زيد يقوم » وتقول : « كَادَ النَّعام يَطِير » فهذا يقتضي نفي الطيران عنه ، فإذا قلت : « كاد النعام ألا يطير » وجب الطيران له ، وإذا تقدم النفي على « كاد » احتمل أن يكون موجباً وأن يكون منفياً ، تقول : « المفْلُوجُ لا يكاد يَسْكُنُ » فهذا يتضمَّن نفي السكون ، وتقول : « رجل مُنْصَرِفٌ لا يكاد يَسْكُنُ » فهذا تضمن إيجاب السكون بعد جَهْدٍ .
فصل
اعلم أن الله تعالى بين أنَّ أعمال الكفار إن كانت حسنةً فمثلها السراب ، وإن كانت قبيحةً فهي الظلمات ، وفيه وجه آخر ، وهو أن أعمالهم إما كسراب بقيعة وذلك في الآخرة ، وإما كظلمات في بحر وذلك في الدنيا . وقيل : إن الآية الأولى في ذكر أعمالهم ، وأنهم لا يَحْصلون منها على شيء ، والآية الثانية في ذكر عقائدهم ، فإنها تشبه الظلمات ، كما قال : ( { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور } ) [ البقرة : 257 ] أي : من الكفر إلى الإيمان ، يدل عليه قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } .
فصل
وأما تقرير المثل فهو أن البحر اللجي يكون قعره مظلماً جداً بسبب غور الماء ، فإذا ترادفت عليه الأمواج ازدادت الظلمة ، فإذا كانت فوق الأمواج سحاب بلغت الظلمة النهاية القصوى ، فالواقع في قعر هذا البحر اللُّجِّيّ في نهاية شدة الظلمة . ولما كانت العادة في اليد أنها من أقرب ما يراها ، وأبعد ما يظن أنه لا يراها ، فقال تعالى : { إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } فبين سبحانه بهذا بلوغ تلك الظلمة التي هي أقصى النهايات ، ثم شبه الكافر في اعتقاده ، وهو ضد المؤمن في قوله تعالى : { نُّورٌ على نُورٍ } [ النور : 35 ] وفي قوله : { يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم }
[ الحديد : 12 ] . ولهذا قال أبي بن كعب : الكافر يتقلب في خمس من الظلم : كلامه ظلمة ، وعمله ظلمة ، ومدخله ظلمة ، ومخرجه ظلمة ، ومصيره إلى الظلمات إلى النار .
وفي كيفية هذا التشبيه وجوه :
الأول : قال الحسن : « إن الله تعالى ذكر ثلاثة أنواع من الظلمات ظلمة البحر ، وظلمة الأمواج ، وظلمة السحاب ، كذا الكافر له ظلمات ثلاث : ظلمة الاعتقاد ، وظلمة القول ، وظلمة العمل » .
الثاني : قال ابن عباس : « شبه قلبه وسمعه وبصره بهذه الظلمات الثلاث » .
الثالث : أن الكافر لا يدري ، ولا يدري أنه لا يدري ، ويعتقد أنه يدري ، فهذه المراتب الثلاثة تشبه تلك الظلمات الثلاث .
الرابع : قلب مظلم في صدر مظلم في جسد مظلم .
الخامس : أن هذه الظلمات متراكمة ، فكذا الكافر لشدة إصراره على كفره قد تراكمت عليه الضلالات حتى لو ذكر عنده أظهر الدلائل لم يفهمه .
قوله : { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } .
قال ابن عباس : من لم يجعل الله له ديناً وإيماناً فلا دين له . وقيل : من لم يهده الله ( فلا إيمان له ) ولا يهديه أحد . قال أهل السنة : إنه تعالى لما وصف هداية المؤمن بأنها في نهاية الجلاء والظهور عقبها بأن قال : { يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } [ النور : 35 ] ، ولما وصف ضلالة الكافر بأنها في نهاية الظلمة عقبه بقوله : { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } . والمراد من ذلك أن يعرف الإنسان أن ظهور الدلائل لا يفيد الإيمان ، وظلمة الطريق لا تمنع منه ، فإن الكل مربوط بخلق الله وهدايته وتكوينه .
قال القاضي : قوله : { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً } يعني في الدنيا بالإلطاف { فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } أي : لا يهتدي فيتحير ، وتقدم الكلام عليه .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السماوات والأرض } الآية .
لما وصف أنوار قلوب المؤمنين وظلمات قلوب الجاهلين أتبع ذلك بدلائل التوحيد .
والمعنى : ألم تعلم ، لأن التسبيح لا يرى بالبصر بل يعلم بالقلب ، وهذا استفهام والمراد به : التقرير والبيان . قال ابن الخطيب : « إما أن يكون المراد من هذا التسبيح دلالته بخلق هذه الأشياء على كونه تعالى منزهاً عن النقائص ، موصوفاً بنعوت الجلال ، أو يكون المراد منه في حق البعض الدلالة على التنزيه وفي حق الباقين النطق باللسان .
والأول أقرب ، لأن القسم الثاني متعذر ، لأن في الأرض من لا يكون مكلفاً لا يسبح بهذا المعنى والمكلفون منهم فمن لا يسبح أيضاً بهذا المعنى كالكفار .
وأما القسم الثاني وهو أن يقال : إن من في السموات وهم الملائكة يسبحون باللسان وأما الذين في الأرض فمنهم من يسبح على سبيل الدلالة ، فهذا يقتضي استعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز معاً ، وهو غير جائز ، فلم يبق إلا القسم الأول ، وهو أن هذه الأشياء مشتركة في أن أجسامها وصفاتها دالة على تنزيه الله تعالى وقدرته وإلاهيته وتوحيده وعدله ، فسمى ذلك تنزيهاً توسعاً . فإن قيل فالتسبيح بهذا المعنى حاصل بجميع المخلوقات فما وجه تخصيصه هاهنا بالعقلاء؟ قلنا : لأن خلقة العقلاء أشد دلالة على وجود الصانع سبحانه ، لأن العجائب والغرائب في خلقهم أكثر ، وهي العقل والنطق والفهم » .
قوله : « والطَّيرُ » . قرأ العامة : « والطّيْر » رفعاً ، « صَافَّاتٍ » نصباً . فالرفع عطف على « مَنْ » والنصب على الحال . وقرأ الأعرج : « والطَّيْرَ » نصباً على المفعول معه على الابتداء والخبر ، ومفعول « صَافَّات » محذوف ، أي : أجنحتها .
قوله : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ } في هذه الضمائر أقوال :
أحدها : أنَّها كلَّها عائدةٌ على « كُلٌّ » ، أي : كلٌّ قد عَلِمَ هُوَ صَلاَةَ نَفْسِهِ وتَسْبِيحَهَا ، وهذا أولى لتوافق الضمائر .
الثاني : أن الضمير في « عَلِمَ » عائد إلى الله تعالى ، وفي « صَلاَتَهُ وتَسْبِيحَهُ » عائد على « كُلٌّ » ، ويدل عليه قوله تعالى : { والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } .
الثالث : بالعكس ، أي : عَلِمَ كلٌّ صلاةَ اللَّه وتَسْبِيحَه ، أي : اللذين أمَرَ بهما وبأن يُفْعَلاَ ، كإضافة الخلق إلى الخالق ، وعلى هذا فقوله : « واللَّه علِيمٌ » استئناف .
ورَجَّحَ أبو البقاء ألاَّ يكون الفاعل ضمير « كُلٌّ » قال : « لأنَّ القراءة برفع » كُلٌّ « على الابتداء فيرجع ضمير الفاعل إليه ، ولو كان فيه ضمير الله لكان الأولى نصب ( كُلّ ) لأن الفعل الذي بعدها قد نصب ما هو من سببها فيصير كقولك : ( زَيْداً ضَرَبَ عَمْرٌو وغُلاَمه ) فتنصب ( زيداً ) بفعل دلَّ عليه ما بعده ، وهو أقوى من الرفع ، والآخر جائز » .
قال شهاب الدين : وليس كما ذكر من ترجيح النصب على الرفع في هذه الصُّورة ولا في هذه السورة ، بل نصَّ النحويون على أنَّ مثل هذه الصورة يرجَّح رفعها بالابتداء على نصبها على الاشتغال ، لأنه لم يكن ثمَّ قرينة من القرائن التي جعلوها مرجحةً للنصب ، والنصب يحوجُ إلى إضمار ، والرفع لا يحوج إليه ، فكان أرجح . وقرأت فرقة : { عُلِمَ صَلاَتُهُ وتَسْبِيحُهُ } بالرفع وبناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله . ذكرها أبو حاتم .
فصل
وجه اتصال هذا بما قبله أنه تعالى لما ذكر أن أهل السموات والأرض يسبحون ، ذكر المستقرين في الهواء الذي هو بين السماء والأرض ، وهم الطير يسبحون ، وذلك أن إعطاء الجرم الثقيل القوة التي بها يقوى على الوقوف في جو السماء صافة باسطة أجنحتها بما فيها من القبض والبسط من أعظم الدلائل على قدرة الصانع المدبر سبحانه ، وجعل طيرانها سجوداً منها له سبحانه ، وذلك يؤيد أن المراد من التسبيح دلالة هذه الأمور على التنزيه ( لا النطق ) اللساني . وقال أبو ثابت : « كنت جالساً عند أبي جعفر الباقر فقال لي : أتدري ما تقول هذه العصافير عند طلوع الشمس وبعد طلوعها؟ ( قال : لا ) قال : فإنهن يقدسن ربهن ويسألنه قوت يومهن » . واستبعد المتكلمون ذلك فقالوا : الطير لو كانت عارفة بالله لكانت كالعقلاء الذين يفهمون كلامنا وإشارتنا ، لكنها ليست كذلك ، فإنا نعلم بالضرورة بأنها أشد نقصاناً من الصبي الذي لا يعرف هذه الأمور ، فبأن يمتنع ذلك فيها أولى ، وإذا ثبت أنها لا تعرف الله استحال كونها مسبحة له بالنطق ، فثبت أنها لا تسبح الله إلا بلسان الحال كما تقدم . قال بعض العلماء : إنا نشاهد من الطيور وسائر الحيوانات أعمالاً لطيفة يعجز عنها أكثر العقلاء ، وإذا كان كذلك ( فلِمَ لا ) يجوز أن يلهمها معرفته ودعاءه وتسبيحه؟ وبيان أنه سبحانه ألهمها الأعمال اللطيفة من وجوه :
أحدها : أن الدب يرمي بالحجارة ويأخذ العصا ويرمي الإنسان حتى يتوهم أنه مات فيتركه ، وربما عاود يشمه ويتحسس نفسه ويصعد الشجر أخف صعود ويهشم الجوز بين كفيه تعريضاً بالواحد وصدمة بالأخرى ، ثم ينفخ فيه فيدرأ قشره ويتغذى به ، ويحكى عن الفأر في سرقته أمور عجيبة .
وثانيها : أمر النحل وما لها من الرياسة والبيوت المسدسة التي لا يتمكن من بنائها أفاضل المهندسين .
وثالثها : انتقال الكَرَاكِيّ من طرف من أطراف العالم إلى الطرف الآخر طلباً لما يوافقها من الأهوية ، ويقال : من خواص الخيل أن كل واحد يعرف صوت الفرس الذي قابله وقتاً ما ، والفهد إذا سقي أو شرب من الدواء المعروف بخانق الفهد عمد إلى زبل الإنسان ليأكله ، والتماسيح تفتح أفواهها لطائر يقع عليها يقال له : القطقاط وينظف ما بين أسنانها ، وعلى رأس ذلك الطائر كالشوكة ، فإذا هم التمساح بالتقام ذلك الطير تأذى من تلك الشوكة ، فيفتح فاه ، فيخرج ذلك الطائر ، والسلحفاة تتناول بعد أكل الحية صعتراً جبلياً ثم تعود من ذلك .
وحكى بعض الثقاة المجربين للصيد أنه شاهد الحبارى تقاتل الأفعى وتنهزم عنه إلى بقلة تتناول منها ثم تعود ، ولا تزال كذلك ، وكان ذلك الشخص قاعداً في كن ، وكانت البقلة قريبة من مسكنه ، فلما اشتغل الحبارى قلع البقلة ، فعاد الحبارى إلى منبتها فلم يجدها ، وأخذ يدور حول منبتها دوراناً متتابعاً حتى خَرَّ ميتاً ، فعلم الشخص أنه يعالج بأكلها من اللسعة ، وتلك البقلة هي الجرجير البري .
وابنُ عِرْس يستظهر في الحية أكل السّذَاب ، فإن النكهة السذابية تنفر عنها الأفعى .
والكلاب إذا دودت بطونها أكلت سنبل القمح . وإذا جرحت اللقالق بعضها بعضاً داوت الجراحة بالصعتر الجبلي . والقنافذ تحس بالشمال والجنوب قبل الهبوب فتغير المدخل إلى جحرها ، وكان رجل بالقسطنطينية قد أثرى بسبب أنه ينذر بالرياح قبل هبوبها ، وينتفع الناس بإنذاره ، وكان السبب فيه قنفذ في داره يفعل الصنيع المذكور ، فيستدل به .
والخُطَّاف صانع في اتخاذ العش من الطين وقطع الخشب فإن أعوزه الطين ابتل وتمرغ في التراب لتحمل جناحاه قدراً من الطين ، وإذا فرَّخ بالغ في تعهد الفراخ ، وتأخذ ذرقها بمنقارها وترميها عن العش ، وإذا دنا الصائد من مكان فراخ القبجة ظهرت له القبحة وقربت مطمعة له ليتبعها ثم تذهب إلى جانب آخر سوى جانب الفراخ . وناقر الخشب قلما يقع على الأرض ، بل على الشجر ينقر الموضع يعلم أن فيه دوداً . والغرانيق تصعد في الجو عند الطيران ، فإن حجب بعضها عن بعض سحاب أو ضباب أحدثت عن أجنحتها حفيفاً مسموعاً يتبع به بعضهم بعضاً ، فإذا باتت على جبل فإنها تضع رؤوسها تحت أجنحتها إلاّ القائد فإنه ينام مكشوف الرأس فيسرع انتباهه ، وإذا سمع جرساً صاح . وحال النمل في الذهاب إلى مواضعها على خط مستقيم يحفظ بعضها بعضاً أمر عجيب ، وإذا كشف عن بيوتهم الساتر الذي كان يستره وكان تحته بيض لهم ، فإن كلّ نملة تأخذ بيضة في فمها وتذهب في أسرع وقت .
والاستقصاء في هذا الباب مذكور في كتاب « طبائع الحيوان » . والمقصود من ذلك أن الفضلاء من العقلاء يعجزون عن أمثال هذه الحيل ، وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يقال : إنها تسبح الله وتثني عليه وإن كانت غير عارفة بسائر الأمور التي يعرفها الناس ، ويؤيد هذا قوله تعالى : { ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإسراء : 44 ] . ثم قال : { والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } .
قرأ الجمهور بالياء من تحت على المبالغة في وصف قدرة الله تعالى وعلمه بخلقه .
وقرأ عيسى والحسن بالتاء من فوق ، ففيه المعنى المذكور وزيادة الوعيد والتخويف من الله تعالى وفي مصحف أبيّ وابن مسعود : « والله بصير بما تفعلون » .
قوله تعالى : { وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض } تنبيه على أن الكل منه ، لأن كل ما سواه ممكن ومحدث ، والممكن والمحدث لا يوجد إلا عند الانتهاء إلى القديم الواجب ، ويدخل في هذا جميع الأجرام والأعراض ، وأفعال العباد وأحوالهم وخواطرهم .
وقوله : { وإلى الله المصير } وهذا دليل على المعاد ، وأنه لا بُدَّ من مصير الكل إليه .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)
وهذه الرؤية بصرية . والإزْجَاءُ : السوق قليلاً قليلاً ، ومنه البضاعة المزجاة التي يزجيها كل أحد ، وإزجاء السير في الإبل : الرفق بها حتى تسير شيئاً شيئاً .
قوله : « بَيْنَهُ » إنما دخلت « بَيْنَ » على مفرد ، وهي إنَّما تدخل على مثنى فما فوقه ، لأنَّه إما أن يُرَاد بالسحاب : الجنس ، فعاد الضمير عليه على حكمه ، وإما أن يراد حذف مضافه أي : بَيْنَ قطعِهِ ، فإن كل قطعة سحابة . قال ابن عطية : بين مُفترق السحاب ، لأن مفهوم السحاب يقتضي أن بينه فروجاً . وورش عن نافع لا يهمز « يُؤَلِّفُ » . وقالون عن نافع والباقون يهمزون « يُؤَلِّفُ » .
قوله : { ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً } أي : متراكماً يركب بعضها على البعض ويتكاثف ، والعرب تقول : إن الله تعالى إذا جعل السحاب ركاماً بالريح عصر بعضه بعضاً فخرج الودق منه ، ومن ذلك قوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَآءً ثَجَّاجاً } [ النبأ : 14 ] ، ومن ذلك قول حسان بن ثابت :
3839- كِلْتَاهُمَا حَلَبُ العَصِيرِ فَعَاطِنِي ... بِزُجَاجَة أرْ خَاهُمَا لِلمَفْصَلِ
وروي : « لِلْمِفْصَلِ » بكسر الميم وفتح الصاد . فالمَفْصَلُ : واحد المفاصل . والمِفْصَل : اللسان . وروي بالقاف . أراد حسان الخمر والماء الذي مزجت ، أي : من عصير العنب ، وهذه من عصير السحاب ، نقله ابن عطية . وقال أهل الطبائع : إن تكوين السحاب والمطر والثلج والبرد والطل والصقيع في أكثر الأمر يكون من تكاثف البخار ، وفي الأقل من تكاثف الهواء .
أما الأول فالبخار الصاعد إن كان قليلاً وكان في الهواء من الحرارة ما يحلل ذلك البخار فحينئذ ينحل وينقلب هواء ، وإن كان البخار كثيراً ولم يكن في الهواء من الحرارة ما يحلله فتلك الأبخرة المتصاعدة إمّا أن تبلغ في صعودها إلى الطبقة الباردة من الهواء أو لا تبلغ .
فإن بلغت فإما أن يكون البرد قوياً أو لا يكون . فإن لم يكن البرد هنا قوياً تكاثف ذلك البخار بذلك القدر من البرد واجتمع وتقاطر ، فالبخار المجتمع هو السحاب ، والمتقاطر هو المطر ، والديمة والوابل إنما يكون من أمثال هذه الغيوم . وإن كان البرد شديداً فلا يخلو إما أن يصل البرد إلى الإجزاء البخارية قبل اجتماعها وانحلالها حبات كبار أو بعد صيرورتها كذلك . فإن كان على الوجه الأول نزل ثلجاً . وإن كان على الوجه الثاني نزل برداً فإن لم تبلغ الأبخرة إلى الطبقة الباردة فإما أن تكون كثيرة أو قليلة . فإن كانت كثيرة فقد تنعقد سحاباً ماطراً ، وقد لا تنعقد . أما الأول فلأسباب خمسة :
أحدها : إذا منع هبوب الرياح عن تصاعد تلك الأبخرة .
وثانيها : أن تكون الرياح ( ضاغطة ) إياها إلى الاجتماع بسبب وقوف جبال قدام الريح .
وثالثها : أن تكون هناك رياح متقابلة متصادمة فتعود الأبخرة حينئذ .
ورابعها : أن يعرض للبخار المتقدم وقوف لثقله وبطء حركته يلتص به سائر الأجزاء الكثيرة المدد .
وخامسها : لشدة برد الهواء القريب من الأرض ، وقد نشاهد البخار يصعد في بعض الجبال صعوداً يسيراً حتى كأنه مكبة موضوعة على وَهْدَة ، ويكون الناظر إليها فوق تلك الغمامة ، والذين يكونون تحت الغمامة يمطرون ، والذين يكونون فوقها يكونون في الشمس .
فإن كانت الأبخرة القليلة الارتفاع قليلة لطيفة ، فإذا مر بها برد الليل وكثفها ، فإنها تصير ماءً محبوساً ينزل أولاً متفرقاً لا يحس به إلا عند اجتماع شيء يعتد به ، فإن لم يجمد كان طلاًّ ، وإن جمد كان صقيعاً ، ونسبة الصقيع إلى الطل نسبة الثلج إلى المطر .
والجواب ( أنَّا دللنا على ) حدوث الأجسام وتوسلنا بذلك إلى كونه قادراً مختاراً يمكنه إيجاد الأجسام ، فلا نقطع بما ذكرتموه ( لاحتمال أنه سبحانه خلق أجزاء السحاب دفعة لا بالطريق الذي ذكرتموه ) وأيضاً فهب أن الأمر كما ذكرتم ، ولكن الأجسام بالاتفاق ممكنة في ذواتها فلا بد لها من مؤثر ، ثم إنها متماثلة ، فاختصاص كل واحد منها بصفته المعينة من الصعود والهبوط واللطافة والكثافة والحرارة والبرودة لا بد له من مخصص ، فإذا كان هو سبحانه خالقاً لتلك الطبائع ، فتلك الطبائع في هذه الأحوال لا بد لها من سبب ، وخالق السبب خالق المسبب ، فكان سبحانه هو الذي يُزْجي سحاباً ، لأنه هو الذي خلق تلك الطبائع المحركة لتلك الأبخرة من باطن الأرض إلى جو الهواء ، ثم تلك الأبخرة ترادفت في صعودها والتصق بعضها بالبعض ، فهو سبحانه هو الذي جعلها ركاماً ، فعلى جميع التقديرات توجه الاستدلال بهذه الأشياء على القدرة والحكمة .
قوله : { فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } . تقدم الخلاف في « خِلاَلِ » هل هو مفرد كحجاب أم جمع كجِبَال جمع « جبل » ؟ ويؤيد الأول قراءة ابن مسعود والضحاك - وتُرْوَى عن أبي عمرو أيضاً - « مِنْ خَلَلِهِ » بالإفراد وقرأ عاصم والأعرج : « يُنَزِّل » على المبالغة .
والجمهور على التخفيف . والوَدْق : قيل : هو المطر ضعيفاً كان أو شديداً ، قال :
3840- فَلاَ مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا ... وَلاَ أَرْضَ أَبْقَلَ إبْقَالَهَا
وقيل : هو البرق ، وأنشد :
3841- أَثَرْنَ عَجَاجَةً وَخَرَجْنَ مِنْهَا ... خُرُوجَ الوَدْقِ مِنْ خَلَلِ السَّحَابِ
والوَدْقُ في الأصل مصدر ، يقال : « وَدَقَ السحاب يَدِقُ وَدْقاً » و « يخرُج » حال ، لأن الرؤية بصرية .
قوله : { مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } . « مِنْ » الأولى لابتداء الغاية اتفاقاً ، لأن ابتداء الإنزال من السماء . وأما الثانية ففيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها لابتداء الغاية أيضاً فهي ومجرورها بدلٌ من الأولى بإعادة العامل ، والتقدير : ويُنَزِّلُ من جبال السماء ، أي : من جبال فيها ، فهو بدل اشتمال .
الثاني : أنها للتبعيض ، قاله الزمخشري وابن عطية ، لأن جنس تلك الجبال من جنس البرد ، فعلى هذا هي ومجرورها في موضع مفعول الإنزال ، كأنه قال : وينزل بعض جبال .
الثالث : أنها زائدة ، أي : ينزل من السماء جبالاً .
وقال الحوفي : ( من جبال ) بدل من الأولى ، ثم قال : « وهي للتبعيض » .
ورده أبو حيان بأنه لا تستقيم البدلية إلا بتوافقهما معنى ، لو قلت : خرجت من بغداد من الكَرْخ ، لم تكن الأولى والثانية إلا لابتداء الغاية .
وأما الثالثة ففيها أربعة أوجه :
الثلاثة المتقدمة ، والرابع : أنها لبيان الجنس ، قاله الحوفي والزمخشري . فيكون التقدير على قولهما ويُنَزِّل من السماء بعض جبال التي هي البَرَدُ ، فالمُنَزَّلُ بَردٌ ، لأنَّ بعض البَرَدِ بَرَدٌ ، ومفعول « يُنَزِّلُ » : هو مِنْ جِبَالٍ كما تقدم تقريره .
وقال الزمخشري : « أَو الأولَيَان للابتداء ، والثالثة للتبعيض » يعني : أنَّ الثانية بدلٌ من الأولى كما تقدم تقريره ، وحينئذ يكون مفعول « يُنَزِّلُ » هو الثالثة مع مجرورها ، التقدير : ويُنَزِّلُ بعض بردٍ من السماء من جِبَالِها . وإذا قيل بأن الثانية والثالثة زائدتان ، فهل مجرورهما في محل نصب والثاني بدلٌ من الأول ، والتقدير : ويُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ جِبالاً برداً ، فيكون بدل كل من كل أو بعض من كل ، أو الثاني في محل نصب مفعولاً ل « يُنَزِّل » ، والثالث في محل رفع على الابتداء وخبره الجار قبله؟ خلافٌ ، الأول قول الأخفش ، والثاني قول الفراء ، وتكون الجملة على قول الفراء صفة ل « جِبَال » ، فيحكم على موضعها بالجر اعتباراً باللفظ ، أو بالنصب اعتباراً بالمحل . ويجوز أن يكون « فِيهَا » وحده هو الوَصْفُ ، ويكون « مِنْ بَرَدٍ » فاعلاً به لاعتماده ، أي استقر فيها بردٌ . وقال الزجاج : « معناه : ويُنَزِّلُ من السماءِ من جبالٍ بَرَدٍ فيها ، كما تقول : هذا خاتم في يدي من حديد ، أي : خاتم حديد في يدي ، وإنما جِئْتَ في هذا وفي الآية ب » مِنْ « لما فَرَّقْتَ ، ولأنك إذا قلت : هذا خاتمٌ من حديدٍ ، وخاتم حديدٍ ، كان المعنى واحداً » انتهى .
فيكون « مِنْ بَرَدِ » في موضع جرٍّ صفة ل « جِبَالٍ » كما كان « مِنْ حَدِيدٍ » صفة ل « خَاتم » ، ويكون مفعول : « يُنَزِّلُ » : « مِنْ جِبَالٍ » ، ويلزم من كون الجبال بَرَداً أن يكون المُنَزَّلُ بَرَداً .
وقال أبو البقاء : والوجه الثاني : أن التقدير : شيئاً من جبال ، فحذف الموصوف واكتفى بالصفة . وهذا الوجه هو الصحيح ، لأن قوله : { فِيهَا مِن بَرَدٍ } يُحوجك إلى مفعول يعود الضمير إليه ، فيكون تقديره : ويُنَزِّلُ مِنْ جِبَال السماء جبالاً فيها بَرَدٌ ، وفي ذلك زيادة حَذْفٍ وتقدير مستغنًى عنه . وفي كلامه نَظَرٌ ، لأن الضمير له شيءٌ يعود عليه وهو « السَّمَاء » ، فلا حاجة إلى تقدير شيء آخر ، لأنه مستغنى عنه ، وليس ثَمَّ مانعٌ يمنع من عوده على « السَّمَاء » .
وقوله آخراً : وتقدير يستغنى عنه ينافي قوله : وهذا الوجه هو الصحيح . والضمير في « به » يجوز أن يعود على البَرَدِ وهو الظاهر ، ويجوز أن يعود على الوَدْق والبَرَد معاً جرياً بالضمير مُجْرَى اسم الإشارة ، كأنه قيل : فيصيب بذلك ، وقد تقدم نظيره .
فصل
قال ابن عباس : أخبر الله أن في السماء جبالاً من برد ، ثم ينزل منها ما شاء وهو قول أكثر المفسرين . وقيل : المراد بالسماء هو الغيم المرتفع ، سمي بذلك لسموه وارتفاعه ، وأنه تعالى أنزل من الغيم الذي هو سماء البرد . وأراد بقوله : « مِنْ جِبَالٍ » : السحاب العظام ، لأنها إذا عظمت شبهت بالجبال كما يقال : فلان يملك جبالاً من مال ، ووصف بذلك توسعاً .
وذهبوا إلى أن البرد ماء جامد خلقه الله في السحاب ، ثم أنزل إلى الأرض . وقال بعضهم : إنما سمي ذلك الغيم جبالاً لأنه سبحانه خلقها من البرد ، وكل جسم متحجر فهو من الجبال ، ومنه قوله تعالى : { خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين } [ الشعراء : 184 ] . قال المفسرون : والأول أولى ، لأنَّ السماء اسم لهذا الجسم المخصوص ، فتسمية السحاب سماء بالاشتقاق مجاز ، وكما يصح أن يجعل الماء في السحاب ثم ينزله برداً ، فقد يصح في القدرة جعل هذين الأمرين في السماء ، فلا وجه لترك الظاهر .
قوله : { فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ } أي : بالبرد من يشاء فيهلك زرعه وأمواله { وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ } أي : يصرف ضرره عمن يشاء بأن لا يسقطه عليه .
قوله : { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ } . العامة على قصر « سَنَا » وهو الضوء ، وهو من ذوات الواو ، يقال : سَنَا يَسْنُو سَناً ، أي أضاء يُضِيء ، قال امرؤ القيس :
3842- يُضِيءُ سَنَاهُ أَوْ مَصَابِيحُ رَاهِبِ ... والسناءُ - بالمد - : الرفعة ، قال :
3843- ( وسِنٍّ كسُنَّيْقٍ سَنَاءً وسُنَّما ) ... وقرأ ابن وثاب : « سَنَاءُ بُرَقِهِ » بالمد ، وبضم الباء من « بَرْقِهِ » وفتح الراء وروي عنه ضم الراء أيضاً . فأما قراءة المد فإنه شبه المحسوس من البرق لارتفاعه في الهواء بغير المحسوس من الإنسان . فأما « بُرَقِهِ » فجمع « بُرْقَةٍ » ، وهي المقدار من البرق ، ك « غُرْفَة وغُرَف » ، و « لُقْمَة ولُقَم » . وأما ضم الراء فإتباع ، ك « ظُلُمَات » بضم اللام إتباعاً لضم الظاء ، وإن كان أصلها السكون . وقرأ العامة أيضاً « يَذْهَبُ » بفتح الياء والهاء .
وأبو جعفر بضم الياء وكسر الهاء من « أَذْهَبَ » .
وقد خَطَّأ هذه القراءة الأخفش وأبو حاتم ، قالا : « لأنَّ الباءَ تُعَاقِبُ الهمزة » .
وليس ردُّهما بصوابٍ ، لأنَّها تَتَخرّجُ على ما خُرِّجَ ما قُرِئَ به في المتواتر : « تُنْبِتُ بالدُّهْنِ » من أنَّ الباء مزيدةٌ ، أو أنَّ المفعول محذوف والباء بمعنى « مِنْ » تقديره : يَذهب النور من الأبصار ، كقوله :
3844- شُرْبَ النَّزِيفِ بِبَرْدِ مَاءِ الحَشْرَجِ ... فصل
المعنى : يكاد ضوء برق السحاب يذهب بالأبصار من شدة ضوئه . واعلم أنّ البرق الذي صفته كذلك لا بد وأن يكون ناراً عظيمة خالصة ، والنار ضد الماء والبرد ، فظهوره يقتضي ظهور الضد من الضد ، وذلك لا يمكن إلا بقدرة قادر حكيم ، ثم قال : { يُقَلِّبُ الله الليل والنهار } يصرفهما في اختلافهما ، ويعاقبهما : يأتي بالليل ويذهب بالنهار ، ويأتي بالنهار ويذهب بالليل قال عليه السلام : « قال الله تعالى : يُؤْذيني ابن آدم ، يَسُبُّ الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر ، أُقَلِّبُ الليلَ والنهارَ » وقيل : المراد ولوج أحدهما في الآخر .
وقيل : المراد تغير أحوالهما في الحر والبرد وغيرهما . { إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار } أي : إن في الذي ذكرت من هذه الأشياء { لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار } البصائر ، أي : دلالة لأهل العقول على قدرة الله وتوحيده .
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
قوله تعالى : { والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ } الآية .
لما استدل أولاً بأحوال السماء والأرض ، وثانياً بالآثار العلوية استدل ثالثاً بأحوال الحيوانات . قال ابن عطية : قرأ حمزة والكسائي : { واللَّهُ خَالِقُ كُلِّ دَابَّةٍ } على الإضافة ، فإن قيل : لم قال : { والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ } مع أن كثيراً من الحيوانات لم يُخْلَقْ من الماء ، كالملائكة خلقوا من النور ، وهم أعظم الحيوانات عدداً ، وكذلك الجن وهم مخلوقون من النار ، وخلق آدم من التراب لقوله : { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] وخلق عيسى من الريح لقوله : { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [ التحريم : 12 ] ونرى كثيراً من الحيوانات يتولد لا عن نطفة؟ فالجواب من وجوه :
أحسنها : ما قال القفال : إنَّ « مَاءٍ » صلة « كُلَّ دَابَّةٍ » وليس هو من صلة « خَلَق » والمعنى : أنَّ كلَّ دَابَّةٍ متولدة من الماء فهي مخلوقة لله تعالى .
وثانيها : أنَّ أصل جميع المخلوقات الماء على ما روي : « أول ما خلق الله جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء ، ثم من ذلك الماء خلق النار والهواء والنور » . والمقصود من هذه الآية : بيان أصل الخلقة ، وكان أصل الخلقة الماء ، فلهذا ذكره الله تعالى .
وثالثها : المراد من « الدَّابَّة » : التي تدب على وجه الأرض ، ومسكنهم هنالك ، فيخرج الملائكة والجن ، ولما كان الغالب من هذه الحيوانات كونهم مخلوقين من الماء ، إما لأنها متولدة من النطفة ، وإما لأنها لا تعيش إلا بالماء ، لا جرم أطلق عليه لفظ الكل تنزيلاً للغالب منزلة الكل .
وقيل : الجار في قوله : « مِنْ مَاء » متعلق ب « خَلَقَ » أي : خَلَقَ مِنْ ماءٍ كُلَّ دَابَّةٍ ، و « مِنْ » لابتداء الغاية . ويرد على هذا السؤال المتقدم .
فإن قيل : لم نكر الماء في قوله : « مِنْ مَاءٍ » وعرفه في قوله : { مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [ الأنبياء : 30 ] ؟
فالجواب : جاء هاهنا منكراً لأنّ المعنى : خلق كلّ دابة من نوع من الماء مختصاً بتلك الدابة ، وعرفه في قوله : { مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [ الأنبياء : 30 ] لأنّ المقصود هناك : كونهم مخلوقين من هذا الجنس ، وهاهنا بيان أنّ ذلك الجنس ينقسم إلى أنواع كثيرة .
قوله : { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي } . إنما أطلق « مَنْ » على غير العاقل لاختلاطه بالعاقل في المُفَضَّل ب « مِن » وهو « كُلَّ دَابَّةٍ » . وكان التعبير ب « مَنْ » أولى ليوافق اللفظ .
وقيل : لَمَّا وَصَفَهُمْ بِما يُوصف به العقلاء وهو المشيُ أطلق عليها « منْ » وفيه نظرٌ ، لأن هذه الصفة ليست خاصةً بالعقلاء ، بخلاف قوله تعالى : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } [ النحل : 17 ] ، وقوله :
3845- أَسِرْبَ القَطَا هَلْ مَنْ يُعِيرُ جَنَاحَهُ ..
البيت .
وقد تقدَّم خلاف القرَّاء في { خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ } في سورة « إبراهيم » .
واستعير المشي للزَّحف على البطن ، كما استعير المشفر للشفة وبالعكس ، كما قالوا في الأمر المستمر : قد مشى هذا الأمر ، ويقال : فلان ما يمشي له أمر . فإن قيل : لم حصر القسمة في هذه الثلاثة أنواع من المشي ، وقد تجد من يمشي على أكثر من أربع كالعناكب والعقارب والرتيلات والحيوان الذي أربعة وأربعون رجلاً؟
فالجواب : هذا القسم الذي لم يذكر كالنادر ، فكان ملحقاً بالعدم . وأيضاً قال النقاش : إنه اكتفى بذكر ما يمشي على أربع عن ذكر ما يمشي على أكثر ، لأنّ جميع الحيوان إنما اعتماده على أربع ، وهي قوام مشيه ، وكثرة الأرجل لبعض الحيوان زيادة في الخِلْقَة ، لا يحتاج ذلك الحيوان في مشيه إلى جميعها . قال ابن عطية : والظاهر أن تلك الأرجل الكثيرة ليست باطلاً ، بل هي محتاج إليها في نقل الحيوان ، وهي كلها تتحرك في تصرفه .
وجواب آخر وهو أن قوله تعالى : { يَخْلُقُ الله مَا يَشَآءُ } كالتنبيه على سائر الأقسام .
وفي مصحف أبيّ بن كعب : « وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَكْثَر » فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان ، ولكنه قرآن لم يثبت بالإجماع .
قوله : { يَخْلُقُ الله مَا يَشَآءُ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } لأنه هو القادر على الكل ، والعالم بالكل ، فهو المطلع على أحوال هذه الحيوانات ، فأي عقل يقف عليها؟ وأي خاطر يصل إلى ذَرَّة من أسرارها؟ بل هو الذي يخلق ما يشاء كما يشاء ، ولا يمنعه منه مانع .
قوله : { لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ } . الأولى حمله على كل الأدلة . وقيل : المراد القرآن ، لأن كالمشتمل على كل الأدلة والعبر . { والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وتقدم الكلام في نظائر هذه الآية بين أهل السنة والمعتزلة .
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
قوله تعالى : { وَيِقُولُونَ آمَنَّا بالله وبالرسول وَأَطَعْنَا } الآية .
لما ذكر دلائل التوحيد أتبعه بذم قوم اعترفوا بالذنب بألسنتهم ولكنهم لم يقبلوه بقلوبهم .
قال مقاتل : نزلت هذه الآية في بشر المنافق وكان قد خاصم يهودياً في أرض ، فقال اليهودي : نتحاكم إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وقال المنافق : نتحاكم إلى كعب بن الأشرف ، فإن محمداً يحيف علينا ، فأنزل الله هذه الآية . وقد مضت قصتها في سورة « النساء » .
وقال الضحاك : نزلت في المغيرة بن وائل ، كان بينه وبين علي بن أبي طالب أرض تقاسماها ، فوقع إلى عليّ ما لا يصيبه الماء إلا بمشقة ، فقال المغيرة : بعني أرضك . فباعها إياه ، وتقابضا . فقيل للمغيرة : أخذت سبخة لا ينالها الماء فقال لعلي : اقبض أرضك ، فإنما اشتريتها إن رضيتها ، ولم أرضها . فقال علي : بل اشتريتها ورضيتها وقبضتها وعرفت حالها ، لا أقبلها منك ، ودعاه إلى أن يخاصمه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال المغيرة : أما محمد فلا آتيه ولا أحاكم إليه ، فإنه يبغضني ، وأنا خاف أن يحيف علي ، فنزلت الآية .
وقال الحسن : نزلت هذه في المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان ويسرون الكفر .
فصل
المعنى : { وَيِقُولُونَ آمَنَّا بالله وبالرسول وَأَطَعْنَا } يعني : المنافقين يقولونه ، « ثُمَّ يَتَوَلَّى » يعرض عن طاعة الله ورسوله { فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذلك } أي من بعد قولهم : آمَنَّا ، ويدعو إلى غير حكم الله ، ثم قال : { وَمَآ أولئك بالمؤمنين } .
فإن قيل : إنه تعالى حكى عن كلهم أنهم يقولون : « آمَنَّا » ثم حكى عن فريق منهم التولي ، فكيف يصح أن يقول في جميعهم : { وَمَآ أولئك بالمؤمنين } مع أن المتولي فريق منهم؟
فالجواب : أن قوله : { وَمَآ أولئك بالمؤمنين } راجع إلى الذين تولوا لا إلى الجملة الأولى ، وأيضاً فلو رجع إلى الأولى لصح ، ويكون معنى قوله : { ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ } أي : يرجع هذا الفريق إلى الباقين فيظهر بضهم لبعض الرجوع ، كما أظهروه ، ثم بين تعالى أنهم إذا دُعُوا إلى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُم بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرضُونَ ، وهذا ترك للرضا بحكم الرسول لقوله تعالى : { وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق يأتوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ } منقادين لحكمه ، أي : إذا كان الحق لهم على غيرهم أسرعوا إلى حكمه لتيقنهم أنه كما يحكم عليهم بالحق يحكم لهم أيضاً بالحق ، وهذا يدل على أنهم إنما يعرضون متى عرفوا الحق لغيرهم أو شكوا . فأما إذا عرفوه لأنفسهم عدلوا عن الإعراض وسارعوا إلى الحكم وأذعنوا ( ببذل الرضا ) .
قوله : « ليَحْكُم » أفرد الضمير وقد تقدَّمه اسمان وهما : « اللَّهُ ورَسُولُهُ » فهو كقوله : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] لأنَّ حكم رَسُولِهِ هو حُكْمُهُ .
قال الزمخشري : كقولك : أَعْجَبَنِي زَيْدٌ وَكَرَمُهُ ، أي : كَرَمُ زَيْدٍ ، ومنه :
3846- وَمَنْهَلٍ مِنَ الفَيَافِي أَوْسَطُهْ ... غَلَّسْتُهُ قَبْلَ القَطَا وفَرَطُهْ
أي : قبل فَرطِ ( القطا ) يعني : قبل تقدَّم القطا . وقرأ أبو جعفر والجحدري وخالد بن إلياس والحسن : « ليُحْكَمَ بَيْنَهُمْ » هنا ، والتي بعدها مبنياً للمفعول ، والظرف قائم مقام الفاعل .
قوله : « إذا فَرِيقٌ » « إذَا » هي الفجائية ، وهي جواب « إذَا » الشرطية أولاً وهذا أحد الأدلة على منع أن يعمل في « إذا » الشرطية جوابها ، فإن ما بعد الفجائية لا يعمل فيما قبلها ، كذا ذكره أبو حيان ، وتقدم تحرير هذا وجواب الجمهور عنه .
قوله : « إلَيْهِ » يجوز تعلقه ب « يَأْتوا » ، لأنَّ « أَتَى » و « جَاءَ » قد جاءا مُعَدَّيَيْن ب « إلى » ، ويجوز أن يتعلق ب « مُذْعِنِينَ » لأنه بمعنى : مسرعين في الطاعة . وصححه الزمخشري ، قال : لتقدُّم صلته ، ولدلالته على الاختصاص ، و « مُذْعِنِينَ » حال والإذعان : الانقياد ، يقال : أَذْعَنَ فلانٌ لفلان ، انقَادَ لَهُ . وقال الزجاج : « الإذْعَانُ : الإسراع مع الطاعة » .
قوله : { أَمِ ارتابوا أَمْ يَخَافُونَ } . « أَمْ » فيهما منقطعة ، فتقدر عند الجمهور بحرف الإضراب وهمزة الاستفهام ، تقديره : بل أَرْتَابُوا بل أَيَخَافُونَ ، ومعنى الاستفهام هنا : التقرير والتوقيف ، ويبالغ فيه تارة في الذم كقوله :
3847- أَلَسْتَ مِنَ القَوْم الَّذِينَ تَعَاهَدُوا ... عَلَى اللُّؤمِ وَالفَحْشَاءِ في سَالِفِ الدَّهْرِ
وتارة في المدح كقوله جرير :
3848- أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايا ... وَأَنْدَى العَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
و « أَنْ يَحِيفَ » مفعول الخوف والحوف : الميل والجور في القضاء ، يقال : حاف في قضائه ، أي : ( مال ) .
فصل
قوله { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } نفاق « أَم ارْتَابُوا » شكوا ، وهو استفهام ذم وتوبيخ ، أي هم كذلك ، { أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ } أي : يظلم { بَلْ أولئك هُمُ الظالمون } ، لأنفسهم بإعراضهم عن الحق .
قال الحسن بن أبي الحسن : من دعا خصمه إلى حكم من أحكام المسلمين فلم يجب ، فهو ظالم فإن قيل : إذا خافوا أن يحيف الله عليهم ورسوله فقد ارتابوا في الدين ، وإذا ارتابوا ففي قلوبهم مرض ، فالكل واحد ، فأي فائدة في التعديد؟
فالجواب : قوله : { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } إشارة إلى النفاق ، وقوله : « أَم ارْتَابُوا » إشارة إلى أنهم بلغوا في حب الدنيا إلى حيث يتركون الدين بسببه . فإن قيل : هذه الثلاثة متغايرة ولكنها متلازمة ، فكيف أدخل عليها كلمة « أم » ؟
فالجواب الأقرب أنه تعالى أنبههم على كل واحدة من هذه الأوصاف ، فكان في قلوبهم مرض وهو النفاق ، وكان فيها شك وارتياب ، وكانوا يخافون الحيف من الرسول ، وكل واحد من ذلك كفر ونفاق ، ثم بين تعالى بقوله : { بَلْ أولئك هُمُ الظالمون } بطلان ما هم عليه ، لأن الظلم يتناول كل معصية ، كما قال تعالى : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] .
=========================
ج54.
ج54.كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)
قوله تعالى : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين } . العامة على نصب « قَوْلَ » خبراً ل « كَانَ » ، والاسم « أنْ » المصدرية وما بعدها . وقرأ أمير المؤمنين والحسن وابن أبي إسحاق برفعه على أنه الاسم ، و « أَنْ » وما في حَيِّزها الخبر ، وهي عندهم مرجُوحَةٌ ، لأنه متى اجتمع مَعْرِفَتَان فالأولى جعل الأعرف الاسم ، وإن كان سيبويه خيَّر في ذلك بين كل معرفتين ، ولم يفرِّق هذه التفرقة ، وتقدم تحقيق هذا في « آل عمران » .
فصل
قوله : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين إِذَا دعوا إِلَى الله } أي : إلى كتاب الله { وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } وهذا ليس على طريق الخبر ، ولكنه تعليم أدب الشرع ، بمعنى أن المؤمنين ينبغي أن يكونوا هكذا ، { أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } أي : سمعنا الدعاء وأطعنا بالإجابة ، { وأولئك هُمُ المفلحون وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ } قال ابن عباس : فيما ساءه وسره « وَيخْشَى اللَّهَ » فيما صدر عنه من الذنوب في الماضي « وَيَتَّقِه » فيما بقي من عمره { فأولئك هُمُ الفآئزون } الناجون .
قوله : « وَيَتَّقِهِ » . القراء فيه بالنسبة إلى القاف على مرتبتين :
الأولى : تسكينُ القاف ، ولم يقرأ بها إلاّ حفص . والباقون بكسرها .
وأما بالنسبة إلى هاء الكناية فإنهم فيها على خمس مراتب :
الأولى : تحريكُهَا مَفْصُولةً قولاً واحداً ، وبها قرأ ورشٌ وابن ذَكْوَانَ وخَلَفٌ وابن كثير والكسائيّ .
الثانية : تسكينها قولاً واحداً ، وبها قرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم .
الثالثة : إسكان الهاء أو وصلها بياء ، وبها قرأ خلاَّد .
الرابعة : تحريكها من غير صلة ، وبها قرأ قالون وحفص .
الخامسة : تحريكها موصولة أو مقصورة ، وبها قرأ هشام .
فأمَّا إسكان الهاء وقصرها وإشباعها فقد مرَّ تحقيقه مستوفًى . وأما تسكين القاف فإنهم حملوا المنفصل على المتَّصل ، وذلك أنهم يُسَكِّنُون عين « فَعل » فيقولون : كَبْد ، وكتف ، وصبر في كَبِد وكَتِف وصبِر ، لأنها كلمة واحدة ، ثم أجري ما أشبه ذلك من المنفصل مُجْرَى المتصل ، فإن « يَتَّقِه » صار منه « تَقِه » بمنزلة « كَتِف » فسكن كما يسكن ، ومنه :
3849- قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا سَوِيقَا ... بسكون الراء كما سكن الآخر :
3850- فَبَاتَ مُنْتَصباً وَمَا تَكَرْدَسَا ... وقول الآخر :
3851- عَجِبْتُ لمَوْلُودٍ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ ... وَذِي وَلَدٍ لَمْ يَلْدَهُ أَبَوَانِ
يريد : « مُنْتَصِباً » ، و « لَمْ يَلِدْهُ » .
وتقدم في أول البقرة تحرير هذا الضابط في قوله : « فهي كالحجارة » و « هي » و « هو » ونحوها :
وقال مكيٌّ : كان يجب على من سَكَّنَ القاف أن يضُمَّ الهاء ، لأنَّ هاء الكناية إذا سُكِّن ما قبلها ولم يكن الساكن ياءً ضُمَّتْ نحو « مِنْهُ » و « عَنْهُ » ، ولكن لما كان سكون القاف عارضاً لم يعتدَّ به ، وأبقى الهاء على كسرتها التي كانت عليها مع كسر القاف ، ولم يصلها بياء ، لأنَّ الياء المحذوفة قبل الهاء مُقَدَّرَةٌ مَنْويَّةٌ ، ( فبقي الحذف الذي في الياء قبل الهاء على أصله ) .
وقال الفارسيُّ : الكسرة في الهاء لالتقاء الساكنين ، وليست الكسرة التي قبل الصلة ، وذلك أنَّ هاء الكناية ساكنةٌ في قراءته ، ولما أَجْرَى « تَقِهِ » مجرى كَتِفٍ ، وسكَّن القاف التقى ساكنان ، ولمَّا التقيا اضطر إلى تحريك أحدهما ، فإمَّا أن يحرِّك الأول أو الثاني ، ( و ) لا سبيل إلى تحريك الأول ، لأنه يعود إلى ما فرَّ منه ، وهو ثقل « فَعِل » فحرَّك ثانيهما ( على غير ) أصل التقاء الساكنين ، فلذلك كسر الهاء ، ويؤيده قوله :
3852- .. . . . لَمْ يَلْدَه أبَوَانِ
وذلك أن أصله : لم « يَلِدْه » بكسر اللام وسكون الدال للجزم ، ثم لما سكن اللام التقى ساكنان ، فلو حرك الأول لعاد إلى ما فرَّ منه ، فحرك ثانيهما وهو الدال ، وحركها بالفتح وإن كان على خلاف أصل التقاء الساكنين مراعاة لفتحة الياء . وقد ردَّ أبو القاسم بن فيره قول الفارسي وقال : لا يصحُّ قوله : إنه كسر الهاء لالتقاء الساكنين ، لأن حفصاً لم يسكِّن الهاء في قراءته قطُّ وقد رد أبو عبد الله شارح قصيدته هذا الردَّ ، وقال : وعجبت من نفْيِهِ الإسكان عَنْهُ مع ثُبُوتِهِ عَنْهُ في « أَرْجِهْ » و « فَأَلْقِهْ » ، وإذا قَرَأَهُ في « أَرْجِهْ » و « فَأَلْقِهْ » احتمل أن يكون « يَتَّقِهْ » عنده قبل سكون القاف كذلك ، وربما يرجَّحَ ذلك بما ثبت عن عاصم من قراءته إيَّاه بسكون الهاء مع كسر القاف . قال شهاب الدين : لم يَعْنِ الشاطبيُّ بأنَّه لم يسكن الهاء قطّ ، الهاء من حيث هي هي ، وإنما ( عَنَى هَاء ) « يَتَّقِهْ » خاصة ، وكان الشاطبيّ أيضاً يعترض التوجيه الذي تقدم عن مكيّ ، ويقول : تعليله حذف الصلة بأن الياء المحذوفة قبل الهاء مقدَّرةٌ منويَّةٌ ، فبقي في حذف الصلة بعد الهاء على أصله غير مستقيم من قبل أنَّه قرأ « يُؤَدِّهِي » وشبَّهه بالصلة ، ولو كان يعتبر ما قاله من تقدير الياء قبل الهاء لم يصلها .
قال أبو عبد الله : هو وإن قرأ « يُؤَدِّ هِي » وشبَّهَهُ بالصلة فإنه قرأ : « يَرْضَهُ » بغير صلةٍ ، فَألحق مكيّ « يَتَّقِه » ب « يَرْضَهْ » ، وجعله مما خرج فيه عن نظائره لاتّباع الأثر ، والجمع بين اللغتين ، ويرجح ذلك عنده لأنّ اللفظ عليه ، ولما كانت القاف في حكم المكسورة بدليل كسر الهاء بعدها صار كأنه « يَتَّقِهِ » بكسر القاف والهاء من غير صلةٍ ، كقراءة قالون وهشام في أحد وجهيه ، فعلَّله بما يُعَلَّل به قراءتهما ، والشاطبيُّ يرجح عنده حمله على الأكثر مما قرأ به ، لا على ما قلَّ وندر ، فاقتضى تعليله بما ذكر .
قوله تعالى : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } . في « جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ » وجهان :
أحدهما : أنه منصوب على المصدر بدلاً من اللفظ بفعله ، إذ أصل : أقسم بالله جهد اليمين : أقسم بجهد اليمين جهداً ، فحذف الفعل وقدَّم المصدر موضوعاً موضعه ، مضافاً إلى المفعول ك « ضَرْبَ الرِّقَابِ » ، قاله الزمخشري .
والثاني : أنه حال ، تقديره : مُجتهدين في أيمانهم ، كقولهم : افعل ذلك جهدك وطاقتك . وقد خلط الزمخشريّ الوجهين فجعلهما وجهاً واحداً فقال بعد ما تقدَّم عنه : وحكم هذا المنصوب حكم الحال ، كأنه قيل : جاهدين أيمانهم وتقدم الكلام على « جَهْد أيْمَانِهِم » في المائدة .
فصل
قال مقاتل : من حلف بالله فقد أجهد في اليمين ، وذلك أن المنافقين كانوا يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أينما كنت نكن معك ، لئن خرجت خرجنا ، وإن أقمت أقمنا ، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا » فقال الله تعالى : « قُلْ » لهم « لاَ تُقْسَمُوا » لا تحلفوا ، وهاهنا تم الكلام .
ولو كان قسمهم لما يجب لم يجز النهي عنه ، لأنّ من حلف على القيام بالبر والواجب لا يجوز أن ينهى عنه ، فثبت أنّ قسمهم كان لنفاقهم ، وكان باطنهم بخلاف ظاهرهم ، ومن نوى الغدر لا الوفاء فقسمه قبيح .
قوله : « طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ » . في رفعها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره : « أَمْرُنَا طَاعَةٌ » ، أو « المطلوب طَاعَةٌ » .
والثاني : أنها مبتدأ والخبر محذوفٌ ، أي : ( أَمْثَل أَوْ أَوْلَى ) .
وقد تقدَّم أَنَّ الخبر متى كان في الأصل مصدراً بدلاً من اللفظ بفعل وجب حذف مبتدأه ، كقوله : « صَبْرٌ جَمِيلٌ » ، ولا يبرز إلاّ اضطراراً ، كقوله :
3853- فَقَالَتْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ أَمرُكَ طَاعَةٌ ... وإنْ كُنْتُ قَدْ كُلِّفْتُ مَا لَمْ أُعَوَّدِ
على خلاف في ذلك .
والثالث : أن يكون فاعله بفعل محذوف ، أي : ولتكن طاعة ، ولتوجد طاعة .
واستضعف ذلك بأنَّ الفعل لا يحذف إلاَّ ( إذا ) تقدَّم مشعر به ، كقوله : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال } [ النور : 36 ] في قراءة من بناه للمفعول ، أي : يُسَبِّحُهُ رِجَالٌ . أو يجاب به نفيٌ ، كقولك : بلى زيدٌ لمن قال : « لم يقم أحدٌ » . أو استفهام كقوله :
3854- أَلاَ هَلْ أَتَى أُمَّ الحُوَيْرِثِ مُرْسَل ... بَلَى خَالِدٌ إنْ لَمْ تَعُقْه العَوَائِق
وقرأ زيد بن علي واليزيديّ : « طاعةً » بنصبها بفعل مضمر ، وهو الأصل . قال أبو البقاء :
ولو قرئ بالنصب لكان جائزاً في العربية ، وذلك على المصدر ، أي : أطيعوا طاعةً وقولوا قولاً ، وقد دلَّ عليه قوله بعدها : { قُلْ أَطِيعُواْ الله } قال شهاب الدين : ( قوله : ( ولو قرئ بالنصب لكان جائزاً ) قد تقدم النقل لقراءته ) .
وأما قوله : ( وقولوا قولاً ) فكأنه سبق لسانه إلى آية القتال ، وهي : { فأولى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } [ محمد : 20 - 21 ] ولكن النصب هناك ممتنع أو بعيد .
فصل
المعنى : هذه طاعة بالقول باللسان دون الاعتقاد ، وهي معروفة ، أي : أمر عرف منكم أنكم تكذبون وتقولون ما لا تفعلون ، قاله مجاهد . وقيل : طاعة معروفة بنية خالصة أفضل وأمثل من يمين باللسان لا يوافقها الفعل . وقال مقاتل بن سليمان : لتكن منكم طاعة معروفة . هذا على قراءة الرفع . وأما على قراءة النصب فالمعنى : أطيعوا الله طاعةً و { الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي : لا يخفى عليه شيء من سرائركم ، فإنه فاضحكم لا محالة ، ومجازيكم على نفاقكم ، ثم قال : { قُلْ أَطِيعُواْ الله ( وَأَطِيعُواْ ) الرسول فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي : عن طاعة الله ورسوله « فَإِنَّمَا عَلَيْه » أي : على الرسول « مَا حُمِّلَ » كلِّف وأمر به من تبليغ الرسالة { وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ } من الإجابة والطاعة . وقرأ نافع في رواية : { فَإنَّمَا عَلَيْهِ مَا حَمل } بفتح الحاء والتخفيف أي : فعليه إثم ما حمل من المعصية .
{ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ } أي : تصيبوا الحق ، وإن عصيتموه ، ف { مَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين } ، و « البَلاَغُ » بمعنى : التبليغ . و « المُبِينُ » : الواضح .
قوله : « فَإِنْ تَوَلَّوا » يجوز أن يكون ماضياً ، وتكون الواو ضمير الغائبين ويكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة ، وحسَّن الالتفات هنا كونه لم يواجههم بالتولِّي والإعراض ، وأن يكون مضارعاً حذفت إحدى تاءيه ، والأصل : « تَتَوَلَّوا » ، ويُرَجّح هذا قراءة البزِّيِّ : بتشديد ( التاء « فَإنْ ) تَّولَّوا » . وإن كان بعضهم يستضعفها للجمع بين ساكنين على غير حدِّهما .
ويرجّحه أيضاً الخطاب في قوله : { وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ } ، ودعوى الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ثانياً بعيد .
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
قوله تعالى : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات } الآية .
تقدير النظم : بلِّغ أيها الرسول وأطيعوا أيها المؤمنون فقد { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ } أي : الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح أن يستخلفهم في الأرض فيجعلهم الخلفاء والغالبين والمالكين ، كما استخلف عليها من قبلهم في زمن داود وسليمان عليهما السلام - وغيرهما ، وأنه يمكن لهم دينهم ، وتمكينه ذلك بأن يؤيدهم بالنصر والإعزاز ، ويبدلهم من بعد خوفهم من العدوّ أمناً ، بأن ينصرهم عليهم فيقتلوهم ، ويأمنوا بذلك شرهم .
قال أبو العالية : مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الوحي بمكة عشر سنين مع أصحابه ، وأمروا بالصبر على أذى الكفار ، فكانوا يصبحون ويمسون خائفين ، ثم أمروا بالهجرة إلى المدينة ، وأمروا بالقتال ، وهم على خوفهم لا يفارق أحد منهم سلاحه ، فقال رجل منهم : ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ، ونضع السلاح فأنزل الله هذه الآية : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ } أدخل اللام لجواب اليمين المضمرة ، يعني : والله ليستخلفنهم في الأرض ليورثنهم أرض الكفار من العرب والعجم فيجعلهم ملوكها وسكانها { كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ } .
( قال قتادة : داود وسليمان وغيرهما من الأنبياء .
وقيل ) : { كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ } يعني : بني إسرائيل ، حيث أهلك الجبابرة بمصر والشام ، وأورثهم أرضهم وديارهم . روى عدي بن حاتم قال : « أتينا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أتى إليه رجل فشكى إليه الفاقة ، ثم أتاه آخر فشكى إليه قطع النسل ، فقال : » يا عدي هل رأيت الحيرة؟ « قلت : لم أرها وقد أتيت فيها : قال : » فإن طالت بك حياة فلترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله « قلت فيما بيني وبين نفسي : فأين قد سعوا البلاد ، » وإن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى « . قلت : كسرى بن هرمز ، » ولئن طالت بك حياة لترين الرجل من مكة يخرج ملأ كفه من ذهب ، أو ذهب يطلب من يقبله منه فلا يجد أحداً يقبله ، وليلقين الله أحدكم يوم القيامة وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له ، وليقولن : « ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك؟ فيقول : بلى ، فيقول : ألم أعطك مالاً وأتفضل عليك » فيقول : بلى ، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا الجنة ، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم « قال عدي : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » اتقوا النار ولو بشقّ تمرة ، فمن لم يجد تمراً فبكلمة طيبة « - قال عدي فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله تعالى وكنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز ، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -
« يخرج ( الرجل ملأ كفه ) » .
قوله : « لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ » فيه وجهان :
أحدهما : هو جواب قسم مضمر ، أي : أقسم ليستخلفنهم ، ويكون مفعول الوَعْدِ محذوفاً تقديره : وَعَدَهُم الاسْتِخْلاَف ، لدلالة قوله : « لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ » عليه .
والثاني : أن يُجْرَى « وَعَدَ » مجرى القسم لتحقُّقه ، فلذلك أجيب بما يجاب به القسم .
قوله : « كَمَا اسْتَخْلَفَ » أي : اسْتِخْلاَفاً كَاسْتِخْلاَفِهِمْ . والعامة على بناء اسْتَخْلَفَ للفاعل .
وأبو بكر بناه للمفعول . فالموصول منصوب على الأول ومرفوع على الثاني .
قوله : « ولَيُبَدِّلَنَّهُمْ » . قرأ ابن كثير وأبو بكر : « وَليُبْدلَنَّهُمْ » بسكون الباء وتخفيف الدال من أبدل وتقدم توجيهها في الكهف في قوله : { أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا } [ الكهف : 81 ] .
قوله : « يَعْبُدُونَنِي » فيه سبعة أوجه :
أحدها : أنه مستأنف ، أي : جواب لسؤالٍ مقدر ، كأنه قيل : ما بالهم يُسْتَخْلَفُونَ ويؤمنون؟
فقيل : « يَعْبُدُونَنِي » .
والثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هم يَعْبُدُونَنِي ، والجملة أيضاً استئنافية تقتضي المدح .
الثالث : أنه حال من مفعول « وَعَدَ اللَّهُ » .
الرابع : أنه حال من مفعول « لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ » .
الخامس : أن يكون حالاً من فاعله .
السادس : أن يكون حالاً من مفعول « لَيُبَدِّلَنَّهُمْ » .
السابع : أن يكون حالاً من فاعله .
قوله : « لاَ يُشْرِكُونَ » . يجوز أن يكون مستأنفاً ، وأن يكون حالاً من فاعل « يَعْبُدُونَنِي » أي : يعبدونني موحدين ، وأن يكون بدلاً من الجملة التي قبله الواقعة حالاً ، وتقدم ما فيها .
فصل
دلّ قوله : « وَعَدَ اللَّهُ » على أنه متكلم ، لأن الوعد نوع من أنواع الكلام ، والموصوف بالنوع موصوف بالجنس ، ولأنه تعالى ملك مطاع ، والملك المطاع لا بُدّ وأن يكون بحيث يمكنه وعد أوليائه ووعيد أعدائه ، فثبت أنه سبحانه متكلم .
فصل
ودلت الآية على أنه سبحانه يعلم الأشياء قبل وقوعها خلافاً لهشام بن الحكم ، فإنه قال : لا يعلمها قبل وقوعها . ووجه الاستدلال أنه تعالى أخبر عن وقوع شيء في المستقبل إخباراً على التفصيل . وقد وقع المخبر مطابقاً للخبر ، ومثل هذا الخبر لا يصح إلا مع العلم .
فصل
ودلت الآية على أنه تعالى حي قادر على جميع الممكنات لقوله : « لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأَرْضِ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً » وقد فعل كل ذلك ، وصدور هذه الأشياء لا يصح إلا من القادر على كل الممكنات المقدورات .
فصل
ودلت الآية على أنه سبحانه هو المستحق للعبادة ، لأن قال : « يَعْبُدُونَنِي » .
وقالت المعتزلة : الآية تدل على أن فعل الله تعالى معلل بالغرض ، لأنَّ المعنى : لكي يعبدونني . وقالوا أيضاً : الآية تدل على أنه سبحانه يريد العبادة من الكل ، لأنّ من فعل فعلاً لغرض ، فلا بدَّ وأن يكون مريداً لذلك الغرض .
فصل
ودلت الآية على أنه سبحانه منزه عن الشريك ، لقوله : { لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً } وذلك يدل على نفي الإله الثاني ، وعلى أنه لا يجوز عبادة غير الله سبحانه .
فصل
ودلت الآية على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه أخبر عن الغيب بقوله : { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض } { وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً } وقد وجد هذا المخبر موافقاً للخبر ، ومثل هذا الخبر معجز ، والمعجز دليل الصدق ، فدل على صدق محمد عليه السلام .
فصل
دلت الآية على أنّ العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان ، خلافاً للمعتزلة ، لأنه عطف العمل الصالح على الإيمان ، والمعطوف خارج عن المعطوف عليه .
فصل
دلت الآية على إمامة الأئمة الأربعة ، لأنه تعالى وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الحاضرين في زمان محمد - عليه السلام - بقوله : « مِنْكُمْ » بأنه يستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ، وأن يمكن لهم دينهم المرضي ، وأن يبدلهم بعد الخوف أمناً ، ومعلوم أن المراد بهذا الوعد بعد الرسول هؤلاء ، لأن استخلاف غيره لا يكون إلا بعده ، ومعلوم ألا نبيّ بعده ، لأنه خاتم الأنبياء ، فإذن المراد بهذا الاستخلاف طريقة الإمامة ، ومعلوم أن بعد الرسول لا يحصل هذا الاستخلاف إلاّ في أيام أبي بكر وعمر وعثمان ، لأنّ في أيامهم كان الفتوح العظيم ، وحصل التمكن ، وظهر الدين والأمن ، ولم يحصل ذلك في أيام عليّ - كرم الله وجهه - لأنه لم يتفرغ لجهاد الكفار ، لاشتغاله بمحاربة من خالفه من أهل الصلاة ، فثبت بهذا دلالة الآية على صحة خلافة هؤلاء . فإن قيل : الآية متروكة الظاهر ، لأنها تقتضي حصول الخلافة لكل من آمن وعمل صالحاً ، ولم يكن الأمر كذلك ، نزلنا عنه ، ولكن لم لا يجوز أن يكون المراد من قوله : « لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ » هو أنه تعالى أسكنهم في الأرض ، ومكنهم من التصرف ، لأنّ المراد خلافة الله ، ويدل عليه قوله : { كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ } واستخلاف من كان قبلهم لم يكن بطريق الأمانة ، فوجب أن يكون الأمن في حقهم أيضاً ، كذلك نزلنا عنه ، لكن هاهنا ما يدل على أنه لا يجوز حمله على خلافة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن من مذهبكم أنه - عليه السلام - لم يستخلف أحداً ، وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : « أنزلتكم كما نزلت نبي الله » فعبر عنه بلفظ الجمع على سبيل التعظيم كقوله تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] ، وقال في حق علي - رضي الله عنه - : { الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَهُمْ رَاكِعُونَ } [ المائدة : 55 ] ، نزلنا عنه ، ولكن محمله على الأئمة الاثني عشر؟
والجواب عن الأول : أن كلمة « مِنْ » للتبعيض ، فقوله : « مِنْكُمْ » يدل على أنَّ المراد من هذا الخطاب بعضهم .
وعن الثاني : أن الاستخلاف بالمعنى الذي ذكرتموه حاصل لجميع الخلق ، والمذكور هاهنا في معرض البشارة ، فلا بدَّ وأن يكون مغايراً له .
وأما قوله تعالى : { كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ } فالذين كانوا قبلهم قد كانوا خلفاء تارة بسبب النبوة وتارة بسبب الملك ، فالخلافة حاصلة في الصورتين .
وعن الثالث : أنه وإن كان مذهبنا أنه عليه السلام لم يستخلف أحداً بالتعيين ، ولكن قد استخلف بذكر الوصف والأمر والإخبار ، فلا يمتنع في هؤلاء أنه تعالى استخلفهم ، وأن الرسول استخلفهم ، وعلى هذا الوجه قالوا في أبي بكر - رضي الله عنه - خليفة رسول الله ، والذي قيل : إنه عليه السلام لم يستخلف أريد به على وجه التعيين ، وإذا قيل : استخلف فالمراد على طريق الوصف والأمر .
وعن الرابع : أن حمل لفظ الجمع على الواحد مجاز ، وهو خلاف الأصل .
وعن الخامس : أنه باطل لوجهين :
أحدهما : قوله تعالى : « مِنْكُمْ » يدل على أنّ الخطاب كان مع الحاضرين ، وهؤلاء الأئمة ما كانوا حاضرين .
الثاني : أنه تعالى وعدهم القوة والشوكة والبقاء في العالم ، ولم يوجد ذلك فيهم . فثبت بهذا صحة إمامة الأئمة الأربعة ، وبطل قول الرافضة الطاعنين على أبي بكر وعمر وعثمان ، وعلى بطلان قول الخوارج ، الطاعنين على عثمان وعلي .
قوله : { وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك } أراد كفر النعمة ، ولم يرد الكفر بالله تعالى ، { فأولئك هُمُ الفاسقون } العاصون لله عز وجل . قال المفسرون : أول من كفر بهذه النعمة وجحد حقها الذين قتلوا عثمان ، فلما قتلوه غير الله ما بهم وأدخل عليهم الخوف حتى صاروا يقتتلون بعد أن كانوا إخواناً . روى حميد بن هلال قال : قال عبد الله بن سلام في عثمان : إن الملائكة لم تزل محيطة بمدينتكم هذه منذ قدمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى اليوم ، فوالله لئن قتلتموه لتذهبون ثم لا تعودون أبداً ، فوالله لا يقتله رجل منكم إلا لقي الله أجذم لا يد له ، وإن سيف الله لم يزل مغموداً عنكم ، والله لئن قتلتموه ليسللنه الله - عز وجل - ثم لا يغمده عنكم إما قال أبداً ، وإما قال إلى يوم القيامة ، فما قتل نبي قط إلا قتل به سبعون ألفاً ، ولا خليفة إلا قتل به خمسة وثلاثون ألفاً .
وروى علي بن الجعد قال : أخبرني حماد - وهو ابن سلمة - عن ابن دينار عن سعيد بن جهمان عن سَفِينَة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « الخلافة ثلاثون سنة ، ثم تكون ملكاً ، ثم قال : أمسك خلافة أبي بكر سنتين ، وخلافة عمر عشر ، وعثمان اثني عشر ، وعلي ست » قال علي : « قلت لحماد : سفينة القائل لسعيد : أمسك؟ قال : نعم » .
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
قوله تعالى : { وَأَقِيمُواْ الصلاة } فيه وجهان :
أحدهما : أنه معطوف على { أَطِيعُواْ الله ( وَأَطِيعُواْ ) الرسول } [ النور : 54 ] وليس ببعيدٍ أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه فاصل ، وإن طال ، لأنّ حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه ، قاله الزمخشري . قال شهاب الدين : وقوله : ( لأن حقَّ المعطوف . . . إلى آخره ) لا يظهر عِلَّةً للحكم الذي ادَّعاه .
والثاني : أَنَّ قوله : « وَأَقِيمُوا » من باب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، وحسنه الخطاب في قوله قبل ذلك : « مِنْكُمْ » ثم قال : { وَأَطِيعُواْ الرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي : افعلوها على رجاء الرحمة .
قوله : « لاَ تَحْسَبَّن » . قرأ العامة : « لاَ تَحْسَبَّنَ » بتاء الخطاب ، والفاعل ضمير المخاطب ، أي : لا تحسبن أَيُّها المخاطب ، ويمتنع أو يبعد جعله للرسول - عليه السلام - لأنَّ مثل هذا الحُسبان لا يُتصوَّرُ منه حتى يُنْهى عنهُ . وقرأ حمزة وابن عامر : « لاَ يَحْسَبَّن » بياء الغيبة ، وهي قراءة حسنةٌ واضحةٌ ، فإنَّ الفاعل فيها مضمرٌ ، يعودُ على ما دلَّ السياق عليه ، أي : « لاَ يَحْسَبَّن حاسِبٌ واحدٌ » . وإما على الرسول لتقدُّمِ ذكره ، ولكنه ضعيف للمعنى المتقدم ، خلافاً لمن لَحَّنَ قارئ هذه القراءة كأبي حاتم وأبي جعفر والفراء . قال النحاس : ما عَلِمْت أحداً من أهل العربية بصرياً ولا كوفياً إلا وهو يُلَحِّنُ قراءة حمزة ، فمنهم من يقول : هي لحنٌ ، لأنه لم يأت إلا مفعولُ واحدٌ ل « يَحْسَبن » . وقال الفراء : هو ضعيفٌ ، وأجازه على حذف المفعول الثاني والتقدير : « لاَ يَحْسَبن الذين كفروا أنفسهم معجزين » قال شهاب الدين : وسبب تلحينهم هذه القراءة : أنهم اعتقدوا أنَّ « الَّذِينَ » فاعل ، ولم يكن في اللفظ إلا مفعولٌ واحدٌ ، وهو « مُعْجِزِينَ » فلذلك قالوا ما قالوا .
والجواب عن ذلك من وجوهٍ :
أحدها : أنَّ الفاعل مضمر يعود على ما تقدم ، أو على ما يفهم من السياق ، كما سبق تحريره .
الثاني : أنَّ المفعول الأول محذوف تقديره : ولاَ يَحْسَبن الَّذِين كفروا أنفسهم معجزين ، إلاّ أن حذف أحد المفعولين ضعيف عند البصريين ، ومنه قول عنترة :
3855- وَلَقَدْ نَزَلْتِ فَلاَ تَظُنِّي غَيْرَهُ ... مِنِّي بِمَنْزِلَةِ المُحَبِّ المُكْرَمِ
أي : تظني غيره واقعاً . ولما نحا الزمخشريُّ إلى هذا الوجه قال : وأن يكون الأصل : لا يحسبنهم الذين كفروا معجزين . ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول ، وكان الذي سوّغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت لشيء واحد اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث . فقدّر المفعول الأول ضميراً متصلاً . قال أبو حيان : وقد رَدَدْنَا هذا التخريج في أواخر « آل عمران » في قوله : { لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ } [ آل عمران : 188 ] في قراءة من قرأ بالغيبة ، وجعل الفاعل : « الَّذِين يَفْرَحُونَ » ، وملخصه : أنَّ هذا ليس من الضمائر التي يُفَسِّرها ما بعدها ، فلا يتقدَّر « لاَ يَحْسَبَنَّهُمْ » إذ لا يجوز ظنَّهُ زيدٌ قائماً ، على رفع ( زيدٌ ) ب ( ظنه ) .
وقد تقدم هذا الرد في الموضع المذكور .
الثالث : أن المفعولين هما قوله : { مُعْجِزِينَ فِي الأرض } قاله الكوفيون . ولما نحا إليه الزمخشري قال : والمعنى : لا يحسبن الذين كفروا أحداً يُعْجِزُ الله في الأرض يطمعوهم في مثل ذلك ، وهذا معنى قويٌّ جَيِّدٌ . قال شهاب الدين : قيل : هو خطأ ، لأنَّ الظاهر تعلق « فِي الأَرْض » ب « مُعْجِزينَ » فجعلهُ مفعولاً ثانياً كالتهيئة للعمل والقطع عنه ، وهو نظير : « ظَنَنْتُ قَائِماً فِي الدَّارِ » .
قوله : « وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن هذه الجملة عطفٌ على الجملة التي قبلها من غير تأويل ولا إضمار ، وهو مذهب سيبويه ، أعني : عطف الجمل بعضها على بعض وإن اختلفت أنواعها خبراً وطلباً وإنشاءً . وقد تقدم تحقيقه في أول الكتاب .
الثاني أنها معطوفة عليها ، ولكن بتأويل جملة النهي بجملة خبرية ، والتقدير : الذين كفروا لا يَفُوتُونَ اللَّهَ ومأواهم النارُ . قاله الزمخشري ، كأنه يرى تناسب الجمل شرطاً في ( صحة ) العطف ، هذا ظاهر حاله .
الثالث : أنها معطوفة على جملة مقدرة .
قال الجرحاني : لا يحتمل أن يكون « وَمَأْوَاهُم » متصلاً بقوله : « لاَ يَحْسَبن » ذلك نهيٌ وهذا إيجابٌ ، فهو إذن معطوف بالواو على مضمر قبله ، تقديره : « لاَ يَحْسَبن الَّذين كفروا مُعْجزين في الأرض بل هم مَقْهُورُونَ ومَأْوَاهُمُ النَّارُ » .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
قوله تعالى : { ياأيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم } الآية .
قال ابن عباس : وجَّه رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غلاماً من الأنصار يقال له : « مُدْلج بن عمرو » إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه ، فدخل ، فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته ذلك ، فأنزل الله هذه الآية . وقال مقاتل : نزلت في أسماء بنت مَرْثَد ، كان لها غلام كبير ، فدخل عليها في وقت كرهته ، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إنّ خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها ، فأنزل الله { ياأيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ } اللام للأمر « مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ » يعني : العبيد والإماء .
قال القاضي : هذا الخطاب وإن كان ظاهره للرجال ، فالمراد به الرجال والنساء ، لأنّ التذكير يغلب على التأنيث . قال ابن الخطيب : والأولى عندي أنّ الحكم ثابت في النساء بقياس جليّ ، لأنّ النساء في باب ( حفظ ) العورة أشد حالاً من الرجال ، فهو كتحريم الضرب بالقياس على حرمة التأفيف . وقال ابن عباس : هي في الرجال والنساء يستأذنون على كل حال في الليل والنهار . واختلف العلماء في هذا الندب : فقيل للأمر . وقيل : للوجوب ، وهو الأظهر . قوله : { والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ } أي : من الأحرار ، وليس المراد : الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء ، بل الذين عرفوا أمر النساء ، ولكن لم يبلغوا .
واتفق الفقهاء على أنّ الاحتلام بلوغ . واختلفوا في بلوغ خمس عشرة سنة إذا لم يوجد احتلام : قال أبو حنيفة : لا يكون بالغاً حتى يبلغ ثماني عشرة سنة ، ويستكملها الغلام والجارية تستكمل سبع عشرة . وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد : في الغلام والجارية خمس عشرة سنة إذا لم يحتلم ، لما روى ابن عمر أنه عرض على النبي يوم أحد ، وهو ابن أربع عشرة سنة ، فلم يجزه ، وعرض عليه يوم الخندق وله خمس عشرة سنة ، فأجازه . قال أبو بكر الرازي : هذا الخبر مضطرب ، لأنّ أُحُداً كان في سنة ثلاث ، والخندق كان في سنة خمس ، فكيف يكون بينهما سنة؟ ثم مع ذلك فإن الإجازة في القتال لا تعلق لها بالبلوغ ، فقد لا يؤذن للبالغ لضعفه ، ويؤذن لغير البالغ لقوته ولطاقته لحمل السلاح ، ولذلك لم يسأله النبي - عليه السلام - عن الاحتلام والسن . واختلفوا في الإنبات : هل يكون بلوغاً؟ فأصحاب الرأي لم يجعلوه بلوغاً ، لقوله - عليه السلام - : « وعن الصبي حتى يحتلم » وقال الشافعي : هو بلوغ ، لأنّ النبي - عليه السلام - : أمر بقتل من أنبت من بني قريظة . قال الرازي : الإنبات يدل على القوة البدنية ، فالأمر بالقتل لذلك لا للبلوغ .
فصل
قال أبو بكر الرازي : دلَّت هذه الآية على أن من لم يبلغ وقد عقل يؤمر بفعل الشرائع ، وينهى عن ارتكاب القبائح ، فإن الله تعالى أمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات .
وقال عليه السلام : « مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع ، واضربوهم على تركها وهم أبناء عشر » .
وقال ابن عمر : يعلم الصبي الصلاة إذا عرف يمينه من شماله . وقال ابن مسعود : إذا بلغ الصبي عشر سنين كتبت له حسناته ، ولا تكتب عليه سيئاته حتى يحتلم . واعلم أنه إنما يؤمر بذلك تمريناً ليعتاده ويسهل عليه بعد البلوغ .
فصل
قال الأخفش : الحلم : من حلم الرجل بفتح اللام ، ومن الحلم : حلم بضم اللام يحلم بكسر اللام .
قوله : « ثَلاَثَ مَرَّاتٍ » فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه منصوب على الظرف الزماني ، أي : ثلاثة أوقات ، ثم فسَّر تلك الأوقات بقوله : { مِّن قَبْلِ صلاة الفجر وَحِينَ تَضَعُونَ ( ثيابكم مِّنَ الظهيرة ) وَمِن بَعْدِ صلاة العشآء } .
والثاني : أنه منصوب على المصدرية ، أي ثلاثة استئذانات .
ورجح أبو حيان هذا فقال : والظاهر من قوله : ثَلاثَ مرَّاتٍ : ثلاثة استئذاناتٍ ، لأنك إذا قلت : ضربتُ ثَلاثَ مراتٍ ، لا يفهم منه إلاّ ثلاث ضرباتٍ ، ويؤيده قوله عليه السلام : « الاستئذانُ ثَلاَثٌ » قال شهاب الدين : مسلَّم أنّ الظاهر كذا ، ولكن الظاهر هنا متروك للقرينة المذكورة ، وهي التفسير بثلاثة الأوقات المذكورة .
وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية : « الحُلْم » بسكون العين ، وهي تميمية .
قوله : { مِّن قَبْلِ صلاة الفجر } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه بدلٌ من قوله : « ثَلاَثَ » فيكون في محل نصب .
الثاني : أنه بدلٌ من « مَرَّاتٍ » فيكون في محل جرّ .
الثالث : أنه خبرُ مبتدأ مضمر ، أي : هي من قَبْلُ ، أي : تلكَ المرات ، فيكون في محل رفع .
وقوله : « وَحِينَ تَضَعُونَ » عطف على محل { مِّن قَبْلِ صلاة الفجر } .
قوله : « من الظَّهِيرةِ » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّ « مِنْ » لبيان الجنس ، أي : حين ذلك الذي هو الظهيرة .
الثاني : أنها بمعنى « في » أي : تضعونها في الظهيرة .
الثالث : أنها بمعنى اللام ، ( أي ) : من أجل حرّ الظهيرة .
وقوله : { وَمِن بَعْدِ صلاة العشآء } : عطف على ما قبله . والظَّهيرةُ شِدّةُ الحرِّ ، وهو انتصاف النهار .
قوله : « ثلاث عورات » . قرأ الأخوان وأبو بكر : « ثَلاَثَ » نصباً . والباقون رفعاً . فالأولى تحتمل ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنها بدلٌ من قوله : « ثَلاَثَ مَرَّاتٍ » .
قال ابن عطية : إنما يصح البدلُ بتقدير : أوقاتُ ثلاث عوراتٍ ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . وكذا قدره الحوفي والزمخشري وأبو البقاء ، ويحتمل أنه جعل نفس ثلاث المرات نفس ثلاث العورات مبالغة فلا يحتاج إلى حذف مضاف ، وعلى هذا الوجه - أعني : وجه البدل - لا يجوز الوقف على ما قبل « ثَلاَثَ عَوْرَاتٍ » لأنه بدل منه وتابع له ، ولا يوقف على المتبوع دون تابعه .
الثاني : أنَّ « ثَلاَثَ عَوْراتٍ » بدل من الأوقات المذكورة ، قاله أبو البقاء . يعني قوله : { مِّن قَبْلِ صلاة الفجر } وما عُطِفَ عليه ، ويكون بدلاً على المحل ، فلذلك نصب .
الثالث : أن ينْتصب بإضمار فعل .
فقدره أبو البقاء : « أعني » وأحسن من هذا التقدير : اتقوا ، أو احذروا ثلاث .
فأمّا الثانية : ف « ثَلاَثُ » خبر مبتدأ محذوف تقديره : « هُنَّ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ » .
وقدره أبو البقاء مع حذف مضاف ، فقال : أي : هي أوقات ثلاث عورات ، فحذف المبتدأ والمضاف . قال شهاب الدين : وقد لا يحتاجُ إليه على جعلِ العَوْرات نَفْسَ الأوقاتِ مبالغةً ، وهو المفهوم من كلام الزمخشري ، وإن كان قد قدَّر مضافاً ، كما تقدم عنه .
قال الزمخشري : ويسمى كل واحد من هذه الأحوال عَوْرةً ، لأنَّ الناس يختل تسترهم وتحفظُهم فيها . والعَوْرةُ : الخللُ ، ومنه أعور الفارسُ ، وأعور المكانُ . والأعور : المختل العين . فهذا منه يؤذن بعدم تقدير « أوقاتٍ » مضاف ل « عوراتٍ » بخلاف كلامه أولاً فيؤخذ من مجموع كلاميه وجهان .
وعلى قراءة الرفع وعلى الوجهين قبلها في تخريج قراءة النصب يوقف على ما قبل « ثَلاَثَ عوراتٍ » لأنها ليست تابعة لما قبلها . وقرأ الأعمش : « عَورَاتٍ » بفتح الواو ، وهي لغة هذيل وبني تميم ، يفتحون عين « فَعْلاء » واواً أو ياءً ، وأنشد :
3856- أَخُو بَيَضَاتٍ رَائِحٌ مُتَأَوِّبٌ ... رَفِيقٌ بِمَسْحِ المِنْكَبَيْنِ سَبُوحُ
فصل
المعنى : يستأذنوا في ثلاثة أوقات : من قبل صلاة الفجر ، ووقت القيلولة ، ومن بعد صلاة العشاء . وخصَّ هذه الأوقات لأنها ساعات الخلوة ووضع الثياب ، فربما يبدو من الإنسان ما لا يحب أن يراه أحد من العبيد والصبيان ، فأمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات ، فأما غيرهم فيستأذنون في جميع الأوقات . وسميت هذه الأوقات عورات لأن الإنسان يضع فيها ثيابه فتبدو عورته .
فصل
قال بعضهم : إن قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا } [ النور : 27 ] يدل على أنّ الاستئذان واجب في كل حال ، فنسخ بهذه الآية في غير هذه الأحوال الثلاثة . قال ابن عباس : لم يكن للقوم ستور ولا حجاب ، وكان الخدم والولائد يدخلون ، فربما يرون منهم ما لا يحبون ، فأمروا بالاستئذان ، وقد بسط الله الرزق ، واتخذ الناس الستور ، فرأى أن ذلك أغنى عن الاستئذان .
وقال آخرون : الآية الأولى أريد بها المكلف ، لأنه خطاب لمن آمن ، والمراد بهذه الآية غير المكلف ، لا يدخل في بعض الأحوال إلاّ بإذن ، وفي بعضها بغير إذن ، ولا وجه للنسخ . فإن قيل : قوله : { الذين مَلَكَتْ أيمانكم } يدخل فيه من بلغ ، فالنسخ لازم؟
فالجواب أن قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ } [ النور : 27 ] لا يدخل تحته العبيد والإماء ، فلا يجب النسخ .
قال أبو عبيد : لم يصر أحد من العلماء إلى أن الأمر بالاستئذان منسوخ . وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال : ثلاث آيات من كتاب الله تركهن الناس لا أرى أحداً يعمل بهن ، قال عطاء : حفظت آيتين ونسيت واحدة ، وقرأ هذه الآية ، وقوله { ياأيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى } [ الحجرات : 13 ] ذكر سعيد بن جبير أن الآية الثالثة : { وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى . . . } [ النساء : 8 ] الآية .
قوله : « لَيْسَ عَلَيْكُمْ » هذه الجملة يجوز أن يكون لها محل من الإعراب ، وهو الرفع نعتاً ل « ثَلاَثُ عَوْرَات » في قراءة من رفعها ، كأنه قيل : هُنَّ ثَلاَثُ عَوْراتٍ مخصوصةٌ بالاستئذان ، وأَلاَّ يكون لها محل ، بل هي كلام مقرر للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة ، وذلك في قراءة من نصب « ثَلاَثَ عَوْرَاتٍ » .
قوله : « بعدهن » . قال أبو البقاء : التقدير : بعد استئذانهم فيهن ، ثم حذف حرف الجر والفاعل فبقي « بعد استئذانهم » ثم حذف المصدر .
يعني بالفاعل : الضمير المضاف إليه الاستئذان ، فإنه فاعل معنوي بالمصدر ، وهذا غير ظاهر ، بل الذي يظهر أن المعنى : ليس عليكم جناح ولا عليهم أي : العبيدُ والإماءُ والصبيانُ « جُنَاحٌ » في عدم الاستئذان بعد هذه الأوقات المذكورة ، ولا حاجة إلى التقدير الذي ذكره .
قوله : « طَوَّافُونَ » خبر مبتدأ مضمر تقديره : « هُمْ طَوَّافُونَ » ، و « عَلَيْكُم » متعلق به .
قوله : { بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ } . في « بَعْضُكُم » ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مبتدأ ، و « عَلَى بَعْضٍ » الخبر ، فقدره أبو البقاء : « يَطُوفُ على بعض » وتكون هذه الجملة بدلاً مما قبلها ، ويجوز أن تكون مؤكدة مبينة ، يعني : أنها أفادت إفادة الجملة التي قبلها ، فكانت بدلاً أو مؤكدة . وردّ أبو حيان هذا بأنه كونٌ مخصوص ، فلا يجوز حذفه .
والجواب عنه : أن الممتنع الحذف إذا لم يدل عليه دليل ، وقُصِدَ إقامةُ الجار والمجرور مقامه . وهنا عليه دليل ولم يُقْصَد إقامة الجار مقامه . ولذلك قال الزمخشري : خبره « عَلَى بَعْضٍ » على معنى : طائف على بعض ، وحذف لدلالة « طوافون » عليه .
الثاني : أن يرتفع بدلاً من « طَوَّافُونَ » قاله ابن عطية قال أبو حيان : ولا يصحُّ إن قدَّر الضميرَ ضمير غيبةٍ لتقدير المبتدأ « هم » لأنه يصير التقدير : هُمْ يطوفُ بعضكُم على بعضٍ وهو لا يصح ، فإن جعلت التقدير : أنتم يطوف بعضكم على بعض ، فَيَدْفَعهُ أنَّ قوله : « عَليْكُم » يدل على أنهم هم المطوفُ عليهم ، و « أنتُمْ طَوَّافُونَ » يدل على أنهم طائفون ، فتعارضا . قال شهاب الدين : الذي نختار أن التقدير : أنتم ، ولا يلزمُ محذور ، وقوله : فيدفعه إلى آخره ، لا تعارض فيه ، لأن المعنى : كل منكم ومن عبيدكم طائف على صاحبه ، وإن كان طوافُ أحد النوعين غير طواف الآخر ، لأنَّ المراد الظهور على أحوال الشخص ، ويكون « بعضكم » بدلاً من « طَوَّافُونَ » و « على بعض » بدلاً من عليكم بإعادة العامل ، فأبدلت مرفوعاً من مرفوع ومجروراً من مجرور ، ونظيره قوله :
3857- فَلَمَّا قَرَعْنَا النَّبْعَ بالنَّبْعِ بَعْضَهُ ... بِبَعْضٍ أَبَتْ عيدَانُه أَنْ تَكَسَّرَا
ف « بعضه » بدل من « النَّبع » المنصوب ، و « ببعض » بدل من المجرور بالياء .
الثالث : أنه مرفوعٌ بفعل مقدر ، أي : يطوفُ بعضُكُم على بعض ، لدلالة « طَوَّافُونَ » عليه ، قاله الزمخشري . وقرأ ابن أبي عبلة : « طَوَّافينَ » بالنصب على الحال من ضمير « عَلَيْهِمْ » .
فصل
المعنى « ليس عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهم » يعني : العبيد والإماء والصبيان « جُنَاحٌ » في الدخول عليكم بغير استئذان « بَعْدَهُنَّ » أي : بعد هذه الأوقات الثلاثة ، « طَوَّافُونَ علَيْكُمْ » أي : العبيد والخدم يطوفون عليكم : يترددون ويدخلون ويخرجون في أشغالهم بغير إذن { بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ } . فإن قيل : هل يقتضي ذلك إباحة كشف العورة ( لهم؟ فالجواب ، لا ، وإنما أباح تعالى ذلك من حيث كانت العادة لا تكشف العورة ) في غير تلك الأوقات ، فمتى كشفت المرأة عورتها مع ظن دخول الخدم فذلك يحرم عليها . فإن كان الخادم مكلفاً حرم عليه الدخول إن ظن أن هناك كشف عورة .
فإن قيل : أليس في الناس من جوَّز للبالغ من المماليك أن ينظر إلى شعر مولاته؟
فالجواب : من جوَّز ذلك فالشعر عنده ليس بعورة في حق المماليك كما هو في حق الرحم ، إذ العورة تنقسم أقساماً وتختلف بالإضافات .
فصل
هذه الإباحة مقصورة على الخدم دون غيرهم .
وقوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ } هذا الحكم مختص بالصغار دون البالغين ، لقوله بعد ذلك : { وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ } .
قوله : { وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم } أي : الاحتلام ، يريد : الأحرار الذين بلغوا « فَلْيَسْتَأْذِنُوا » أي : يستأذنون في جميع الأوقات في الدخول عليكم { كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ } من الأحرار ( الكبار ) . وقيل يعني الذين كانوا مع إبراهيم وموسى وعيسى ( عليهم السلام ) { كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ } دلالاته . وقيل : أحكامه « واللَّهُ عَلِيمٌ » بأمور خلقه « حَكِيمٌ » بما دبر لهم . قال سعيد بن المسيب : يستأذن الرجل على أمه ، فإنما أنزلت الآية في ذلك وسئل حذيفة : أيستأذن الرجل على والدته؟ قال : « نعم وإن لم تفعل رأيت منها ما تكره » .
قوله : { والقواعد مِنَ النسآء } . القواعدُ : من غير تاء تأنيث ، ومعناه : القواعدُ عن النكاح ، أو عن الحيض ، أو عن الاستمتاع ، أو عن الحبل ، أو عن الجميع ولولا تخصيصهُنَّ بذلك لوجبت التاء نحو ضاربة وقاعدة من القعود المعروف .
وقوله : « مِنَ النِّسَاءِ » وما بعده بيان لهن . و « القَوَاعِدُ » مبتدأ ، و « مِنَ النِّسَاءِ » حال ، و « اللاَّتِي » صفة القواعد لا للنساء ، وقوله : « فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ » ، الجملة خبر المبتدأ ، وإنما دخلت الفاء لأن المبتدأ موصوف بموصول ، لو كان ذلك الموصول مبتدأ لجاز دخولها في خبره ، ولذلك منعت أن تكون « اللاتي » صفة للنساء ، إذ لا يبقى مسوغ لدخول الفاء في خبر المبتدأ .
وقال أبو البقاء : ودخلت الفاءُ لما في المبتدأ من معنى الشرط ، لأن الألف واللام بمعنى الذي وهذا مذهب الأخفش ، وتقدم تحقيقه في المائدة ، ولكن هنا ما يُغني عن ذلك ، وهو وصف المبتدأ بالموصول المذكور ، و « غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ » حال من « عليهن » . ( والتَّبرُّجُ الظهور من البُرْج ) وهو البناء الظاهر ، والتبرج : سعة العين يرى بياضها محيطاً بسوادها كله ، لا يغيب منه شيء والتبرج : إظهار ما يجب إخفاؤه بأن تكشف المرأة للرجال ( بإبداء ) زينتها وإظهار محاسنها . و « بزينة » متعلق به . قوله : « وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ » مبتدأ بتأويل : « اسْتِعْفَافُهُنَّ » ، و « خَيْرٌ » خبره .
فصل
قال المفسرون : القواعد : هن اللواتي قعدن عن الحيض والولد من الكبر ، ولا مطمع لهن في الأزواج .
والأولى ألا يعتبر قعودهن عن الحيض ، لأن ذلك ينقطع ، والرغبة فيهن باقية ، والمراد : قعودهن عن الأزواج ، ولا يكون ذلك إلا عند بلوغهن إلى حيث لا يرغب فيهن الرجال لكبرهن قال ابن قتيبة : سميت المرأة قاعداً إذا كبرت ، لأنها تكثر القعود وقال ربيعة : هنَّ العجز اللواتي إذا رآهنَّ الرجل استقذرهن ، فأما من كانت فيها بقية من جمال ، وهي محل الشهوة ، فلا تدخل في هذه الآية . { فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ } عند الرجال ، يعني : يضعن بعض ثيابهن ، وهي الجلباب ، والرداء الذي فوق الثياب ، والقناع الذي فوق الخمار ، فأما الخمار فلا يجوز وضعه لما فيه من كشف العورة .
وقرأ عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب : { أن يضعن من ثيابهن } . وروي عن ابن عباس أنه قرأ : { أن يضعن جلابيبهن } . وعن السدي عن شيوخه : أن يضعن خمرهن عن رؤوسهن وإنما خصهن الله بذلك لأن التهم مرتفعة عنهن ، وقد بلغن هذا المبلغ ، فلو غلب على ظنهن خلاف ذلك لم يحل لهنّ وضع الثياب ، ولذلك قال : { وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ } وإنما جعل ذلك أفضل لأنه أبعد عن الظنة ، فعند الظنة يلزمهن ألا يضعن ذلك كما يلزم الشابة ، والله سميع عليم .
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
قوله تعالى : { لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ } الآية .
قال ابن عباس : لما أنزل الله - عزَّ وجلَّ - { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل } [ النساء : 29 ] تحرج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزمنى والعُمْي والعرج وقالوا : الطعام أفضل الأموال ، وقد نهانا الله - عزَّ وجلَّ - عن أكل المال بالباطل ، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب ، والأعرج لا يتمكن من الجلوس ، ولا يستطيع المزاحمة على الطعام ، والمريض يضعف عن التناول ، فلا يستوفي الطعام ، فأنزل الله هذه الآية . وعلى هذا التأويل تكون « على » بمعنى « في » أي : ليس في الأعمى ، أي : ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى والأعرج والمريض حرج . وقال سعيد بن جبير والضحاك وغيرهما : « كان العرجان والعميان والمرضى يتنزهون عن مؤاكلة الأصحاء ، لأن الناس يتقذرون منهم ويكرهون مؤاكلتهم ، ويقول الأعمى : ربما أكل أكثر ، ويقول الأعرج : ربما أخذ مكان اثنين ، فنزلت هذه الآية » .
وقال مجاهد : نزلت هذه الآية ( ترخيصاً لهؤلاء في الأكل من بيوت من سمى الله بهذه الآية ) لأن هؤلاء كانوا يدخلون على الرجل لطلب العلم ، فإذا لم يكن عنده ما يطعمهم ذهب بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم ، أو بعض من سمى الله - عزَّ وجلَّ - في هذه الآية ، فكان أهل الزمانة يتحرجون من ذلك الطعام ويقولون : ذهب بنا إلى بيت غيره ، فأنزل الله هذه الآية وقال سعيد بن المسيب : كان المسلمون إذا غزوا اختلفوا منازلهم ويدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ، ويقولون : قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا ، فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون : لا ندخلها وهم غيب ، فأنزل الله هذه الآية رخصة لهم . وقال الحسن : نزلت الآية رخصة لهؤلاء في التخلف عن الجهاد ، وقال : تم الكلام عند قوله : { وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ } وقوله تعالى : « وَعَلى أَنْفسكُمْ » كلام منقطع عما قبله .
وقيل : لما نزل قوله : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل } [ البقرة : 188 ] قالوا : لا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد ، فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - : { وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } ، أي : لا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم ، نسب بيوت الأولاد إلى الآباء كقوله عليه السلام : « أنت ومالك لأبيك » .
فصل
دلَّت هذه الآية بظاهرها على إباحة الأكل من هذه المواضع بغير استئذان ، وهو منقول عن قتادة ، وأنكره الجمهور ، ثم اختلفوا : فقيل : كان ذلك في صدر الإسلام ، فنسخ بقوله عليه السلام : « لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه » ويدل على هذا النسخ قوله تعالى { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ }
[ الأحزاب : 53 ] وكان في أزواج الرسول من لهنَّ الآباء والأخوات ، فعم بالنهي عن دخول بيوتهن إلا بالإذن في الأكل . فإن قيل : إنما أذن الله تعالى في هذه الآية ، لأن المسلمين لم يكونوا يمنعون قراباتهم هؤلاء من أن يأكلوا في بيوتهم ، حضروا أو غابوا ، فجاز أن يرخص في ذلك؟
فالجواب : لو كان الأمر كذلك لم يكن لتخصيص هؤلاء الأقارب بالذكر معنى ، لأن غيرهم كهم في ذلك . وقال أبو مسلم : المراد من هؤلاء الأقارب إذا لم يكونوا مؤمنين ، لأنه تعالى نهى من قبل عن مخالطتهم بقوله : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ } [ المجادلة : 22 ] ثم إنه تعالى أباح في هذه الآية ما حظره هناك ، قال : ويدل عليه أن في هذه السورة ( أمر بالتسليم على أهل البيوت فقال : { حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا } [ النور : 27 ] وفي بيوت هؤلاء المذكورين لم يأمر بذلك ، بل ) أمر أن يسلموا على أنفسهم ، فالمقصود من هذه الآية إثبات الإباحة في الجملة لا إثبات الإباحة في جميع الأوقات .
وقيل : لما علم بالعادة أن هؤلاء القوم تطيب نفوسهم بأكل من يدخل عليهم ، والعادة كالإذن ، فيجوز أن يقال : خصهم الله بالذكر لأن هذه العادة في الأصل توجد منهم ، ولذلك ضم إليهم الصديق ، ولما علمنا أن هذه الإباحة إنما حصلت لأجل حصول الرضا فيها ، فلا حاجة إلى النسخ .
قوله : { أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ } .
قال ابن عباس : عنى بذلك وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته ، لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ويشرب من لبن ماشيته ، ولا يحمل ولا يدخر ، وملك المفتاح : كونه في يده وحفظه قال المفضل : « المفاتح » واحدها « مَفْتَح » بفتح الميم ، وواحد المفاتيح : مِفْتح ( بكسر الميم ) . وقال الضحاك : يعني : من بيوت عبيدكم ومماليككم ، لأن السيد يملك منزل عبده والمفاتيح : الخزائن ، لقوله : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب } [ الأنعام : 59 ] ، ويجوز أن يكون الذي يفتح به . وقال عكرمة : « إذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن ، فلا بأس أن يطعم الشيء اليسير » .
وقال السُّديّ : الرجل يولي طعامه غيره يقوم عليه ، فلا بأس أن يأكل منه . وقيل : { أو ما ملكتم مفاتحه } : ما خزنتموه عندكم . قال مجاهد وقتادة : من بيوت أنفسكم مما أحرزتم وملكتم .
قوله : { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ } العامة على فتح الميم واللام مخففة . وابن جُبير : « مُلِّكْتُم » ، بضم الميم وكسر اللام مشدّدة؛ أي : « مَلَّكَكُمْ غَيْرُكُمْ » . والعامة على « مَفَاتِحَه » دون ياء ، جمع « مَفْتَح » . وابن جُبَير « مَفَاتِيحَهُ » بالياء بعد التاء ، جمع « مِفْتَاح » .
وجوَّز أبو البقاء أن يكون جمع « مِفْتَح » بالكسر ، وهو الآلة ، وأن يكون جمع « مَفتح » بالفتح ، وهو المصدر بمعنى الفتح . والأول أقيس . وقرأ أبو عمرو في رواية هارون عنه : « مِفْتَاحَهُ » بالإفراد ، وهي قراءة قتادة .
قوله : « أَوْ صَدِيقكُمْ » . العامة على فتح الصاد . وحُمَيد الجزَّارُ روى كسرها إتباعاً لكسرة الدّال والصديق : يقع للواحد والجمع كالخليط والفطين وشبههما .
فصل
الصديق : الذي صدقك في المودة . قال ابن عباس : نزلت في الحارث بن عمرو خرج غازياً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلف مالك بن زيد على أهله ، فلما رجع وجده مجهوداً ، فسأله عن حاله فقال : تحرجت من أكل طعامك بغير إذنك ، فأنزل الله هذه الآية وكان الحسن وقتادة يريان دخول الرجل بيت صديقه والتحرم بطعامه من غير استئذان منه في الأكل بهذه الآية . والمعنى : ليس عليكم جناح أن تأكلوا من منازل هؤلاء إذا دخلتموها وإن لم يحضروا من غير أن تتزودوا وتحملوا . يحكى أن الحسن دخل داره وإذا حلقة من أصدقائه وقد أخرجوا سلالاً من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة مكبون عليها يأكلون ، فتهلل أسارير وجهه سروراً وضحك ، وقال : « هكذا وجدناهم » يعني : كبراء الصحابة . وعن ابن عباس : الصديق أكبر من الوالدين ، لأن أهل جهنم لمّا استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات ، بل قالوا : { مَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ } [ الشعراء : 100 - 101 ] .
وحكي أن أخا الربيع بن خيثم دخل منزله في حال غيبته فانبسط إلى جاريته حتى قدمت إليه ما أكل ، فلما قدم أخبرته بذلك ، فانسر لذلك وقال : إن صدقت فأنت حرة .
فصل
احتج أبو حنيفة بهذه الآية على أن من سرق من ذي رحم محرم أنه لا يقطع ، لأن الله تعالى أباح لهم الأكل من بيوتهم ، ودخولها بغير أذنهم ، فلا يكون ماله محرزاً منهم . فإن قيل : فيلزم ألا يقطع إذا سرق من مال صديقه؟
فالجواب : من أراد سرقة ماله لا يكون صديقاً له .
قوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } قال الأكثرون : نزلت في بني ليث بن عمرو حي من كنانة ، كان الرجل منهم لا يأكل وحده ، ويمكث يومه حتى يجد ضيفاً يأكل معه ، فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئاً ، وربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح إلى الرواح ، وربما كانت معه الإبل الحفل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه ، فإذا أمسى ولم يجد أحداً أكل . هذا قول قتادة والضحاك وابن جريج . وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس : كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه ، فيقول : والله إني لأحتج ، أي : أتحرج أن آكل معك ، وأنا غني وأنت فقير ، فنزلت هذه الآية وقال عكرمة وأبو صالح : « نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلاّ مع ضيفهم ، فرخص لهم في أن يأكلوا كيف شاءوا جميعاً مجتمعين ، أو اشتاتاً متفرقين » .
وقال الكلبي : « كانوا إذا اجتمعوا ليأكلوا طعاماً عزلوا للأعمى طعاماً على حدة ، وكذلك المزمن والمريض ، فبيّن الله لهم أن ذلك غير واجب » . قوله : « جَمِيعاً » حال من فاعل « تَأْكُلُوا » ، و « أَشْتَاتاً » عطف عليه ، وهو جمع « شَتّ » و « شَتَّى » جمع « شَتيت » . و « شَتَّانَ » تثنية « شت » . قال المفضل : وقيل : الشت : مصدر بمعنى : التفرق ، ثم يوصف به ويجمع .
قوله : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ } . أي : ليسلم بعضكم على بعض ، جعل أنفس المسلمين كالنفس الواحدة ، كقوله تعالى : { وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] . قال ابن عباس : « فإن لم يكن أحد فعلى نفسه يسلم ، ليقل : السلام علينا من قبل ربنا » .
قال جابر وطاوس والزهري وقتادة والضحاك وعمرو بن دينار : « إذا دخل الرجل بيت نفسه يسلم على أهله ومن في بيته » . وقال قتادة : « إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك ، فهم أحق من سلمت عليهم ، وإذا دخلت بيتاً لا أحد فيه فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، حدثنا أن الملائكة ترد عليه » وعن ابن عباس في قوله : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ } قال : « إذا دخلت المسجد فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين » . قال القفال : « وإن كان في البيت أهل الذمة فليقل : السلام على من اتبع الهدى » .
قوله : « تَحيَّةً » منصوب على المصدر من معنى « فَسَلِّمُوا » فهو من باب : قَعَدْتُ جُلُوساً ، كأنه قال : فحيوا تحية ، وتقدم وزن « التحية » . و { مِّنْ عِندِ الله } يجوز أن يتعلق بنفس « تَحية » أي : التحية صادرة من جهة الله ، و « مِنْ » لابتداء الغاية مجازاً إلا أنه يعكر على الوصف تأخر الصفة الصريحة عن المؤولة ، وتقدم ما فيه .
فصل
{ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله } أي : مما أمركم الله به . قال ابن عباس : من قال : السلام عليكم ، ( معناه : اسم الله عليكم « مُبَارَكَةً طَيِّبَةً » . قال ابن عباس ) : « حسنة جميلة » وقال الضحاك : « معنى البركة فيه تضعيف الثواب » { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات } أي : يفصل الله شرائعه « لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ » عن الله أمره ونهيه . قال أنس : « وقفت على رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - أصب الماء على يديه ، فرفع رأسه وقال : » ألا أعلمك ثلاث خصال تنتفع بها « ؟ فقلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، بلى . قال : » من لقيت من أمتي فسلم عليهم يطل عمرك ، وإذا دخلت بيتاً فسلم عليهم يكثر خير بيتك ، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأوابين « .
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
قوله تعالى : { إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ } أي : مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { على أَمْرٍ جَامِعٍ } يجمعهم من حرب حضرت ، أو صلاة جمعة ، أو عيد ، أو جماعة ، أو تشاور في أمر نزل . فقوله « أَمْرٍ جَامِع » من الإسناد المجازي ( لأنه لما كان سبباً في جمعهم نسب الفعل ) إليه مجازاً .
وقرأ اليماني : { عَلَى أَمْرٍ جَميعٍ } فيحتمل أن يكون صيغة مبالغة بمعنى « مُجمع » وألا يكون . والجملة الشرطية من قوله : « وَإِذَا كَانُوا » وجوابها عطف على الصلة من قوله : « آمَنُوا » .
والأمر الجامع : هو الذي يعم ضرره أو نفعه ، والمراد به : الخطب الجليل الذي لا بُدَّ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أرباب التجارب ( والآراء ) ليستعين بتجاربهم ، فمفارقة أحدهم في هذه الحالة مما يَشُق على قلبه .
فصل
قال الكلبي : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعَرِّضُ في خطبته بالمنافقين ويعيبهم ، فينظر المنافقون يميناً وشمالاً ، فإذا لم يرهم أحد انسلوا وخرجوا ولم يصلوا ، وإن أبصرهم أحد ثبتوا وصلوا خوفاً ، فنزلت الآية ، فكان المؤمن بعد نزول هذه الآية لا يخرج لحاجته حتى يستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان المنافقون يخرجون بغير إذن .
فصل
قال العلماء : كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلاّ بإذن ، وهذا إذا لم يكن سبب يمنعه من المقام ، ( فإن حدث سبب يمنعه من المقام ) بأن يكونوا في المسجد فتحيض منهم امرأة ، أو يجنب رجل ، أو يعرض له مرض فلا يحتاج إلى الاستئذان .
فصل
قال الجبائي : دلَّت الآية على أن استئذانهم الرسول من إيمانهم ، ولولا ذلك لجاز أن يكونوا كاملي الإيمان .
والجواب : هذا بناء على أن كلمة « إنما » للحصر ، وأيضاً فالمنافقون إنما تركوا الاستئذان استخفافاً ، وذلك كفر .
قوله : { إِنَّ الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ } تعظيماً لك ورعاية للأدب { أولئك الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ } أي : يعملون بموجب الإيمان ومقتضاه . قال الضحاك ومقاتل : المراد : عمر بن الخطاب ، وذلك أنه استأذن في غزوة تبوك في الرجوع إلى أهله ، فأذن له ، وقال : « انطلق ، فوالله ما أنت بمنافق » يريد أن يُسْمِع المنافقين ذلك الكلام ، فلما سمعوا ذلك قالوا ما بال محمد إذا استأذنه أصحابه أذن لهم ، وإذا استأذناه أبى ، فوالله ما نراه يعدل .
قال ابن عباس : « إن عمر استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العمرة ، فأذن له ، ثم قال : » يا أبا حفص لا تنسنا في صالح دعائك « .
قوله : » لِبَعْض شَأْنِهِمْ « تعليل ، أي : لأجل بعض حاجتهم .
وأظهر العامةُ الضادَ عند الشين . وأدغمها أبو عمرو فيها ، لما بينهما من التقارب ، لأن الضاد من أقصَى حافة اللسان والشين من وسطه . وقد استضعف جماعة من النحويين هذه الرواية واستبعدوها عن أبي عمرو - رأس الصناعة - من حيث إن الضادَ أقوى من الشين ، ولا يدغم الأقوى في الأضعف وأساء الزمخشري على راويها السوسيّ . وقد أجاب الناس عنه ، فقيل : وجه الإدغام أن الشين أشد استطالة من الضاد ، وفيها تَفَشِّي ليس في الضاد ، فقد صارت الضاد أَنْقَصَ منها ، وإدغام الأنقص في الأزْيَدِ جائز ، قال : ويُؤَيّد هذا أن سيبويه حكى عن بعض العرب « اطَّجَع » في « اضْطَجع » ، وإذا جاز إدغامها في الطاء فإدغامها في الشين أولى .
والخصم لا يسلم جميع ما ذكر ، ومستند المنع واضح .
فصل
{ فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ } أمرهم { فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ } بالانصراف ، أي : إن شئت فأذن وإن شئت فلا تأذن ، { واستغفر لَهُمُ الله } وهذا تنبيه على أن الأولى ألا يستأذنوا وإن أذن ، لأن الاستغفار يكون عن ذنب . ويحتمل أن يكون أمره بالاستغفار لهم مقابلة على تمسكهم بإذن الله تعالى في الاستئذان .
فصل
قال مجاهد : قوله : فأذن لمن شئت منهم نسخت هذه الآية . وقال قتادة : نسخت هذه الآية بقوله : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] . والآية تدل على أنه تعالى فوض إلى رسول الله بعض أمر الدين ليجتهد فيه رأيه .
قوله : { لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً } . قال سعيد بن جبير وجماعة كثيرة : لا تنادونه باسمه فتقولون : يا محمد ، ولا بكنيته فتقولون : يا أبا القاسم ، بل نادوه وخاطبوه بالتوقير : يا رسول الله ، يا نبي الله . وعلى هذا يكون المصدر مضافاً لمفعوله . وقال المبرد والقفال : لا تجعلوا دعاءه إياكم كدعاء بعضكم لبعض فتتباطؤون كما يتباطأ بعضكم عن بعض إذا دعاه لأمر ، بل يجب عليكم المبادرة لأمره ، ويؤيده قوله : { فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } . وعلى هذا يكون المصدر مضافاً للفاعل .
وقال ابن عباس : « احذروا دعاء الرسول عليكم إذا أسخطتموه ، فإن دعاءه موجب لنزول البلاء بكم ليس كدعاء غيره » . وروي عنه أيضاً : « لا ترفعوا أصواتكم في دعائه » . وهو المراد من قوله : { إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله } [ الحجرات : 3 ] وقول المبرد أقرب إلى نظم الآية . وقرأ الحسن : « نبيكم » بتقديم النون على الباء المكسورة ، بعدها ياء مشددة مخفوضة مكان « بينكم » الظرف في قراءة العامة ، وفيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه بدل من الرسول .
الثاني : أنه عطف بيان له ، لأَنَّ النبيَّ بإضافته إلى المخاطبين صار أشهر من الرسول .
الثالث : أنه نعتٌ .
لا يقال : إنه لا يجوز لأن هذا كما قَرَّرتم أعرف ، والنعت لا يكون أعرف من المنعوت بل إمَّا أقلُّ أو مساوٍ ، لأنَّ الرَّسول صار علماً بالغلبة على محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد تساويا تعريفاً .
قوله : { قَدْ يَعْلَمُ الله } . « قد » تدل على التقليل مع المضارع إلاّ في أفعال الله فتدل على التحقيق كهذه الآية . وقد ردَّها بعضهم إلى التقليل ، لكن إلى متعلَّق العلم ، يعني : أن الفاعلين لذلك قليل ، فالتقليل ليس في العلم بل في متعلِّقه .
قوله : لِوَاذاً فيه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب على المصدر من معنى الفعل الأول ، إذ التقدير : يتسلّلون منكم تَسَلُّلاً ، أو يُلاَذُون لواذاً .
والثاني : أنه مصدر في موضع الحال ، أي : مُلاَوِذين .
واللِّواذُ : مصدر لاَوذَ ، وإنما صحَّت الواو وإن انكسر ما قبلها ولم تُقلب ياءً كما قُلبَتْ في « قِيَام » و « صِيَام » ، لأنه صحَّت في الفعل نحو « لاَوَذَ » ، فلو أُعِلَّتْ في الفعل أُعِلَّتْ في المصدر نحو « القيام » و « الصِّيَام » لقلبها ألفاً في « قام » و « صام » . وأما مصدر : « لاَذَ بكذا يَلُوذُ به » فمعتل نحو : « لاَذَ لِيَاذاً » مثل : « صَامَ صِياماً ، وقام قِياماً » . واللِّوَاذُ والمُلاَوَذَةُ : التَّستُّر ، يقال : لاَوَذَ فلانٌ بكذا : إذا استتر بِهِ . واللَّوذُ : ما يُطيفُ بالجبل . وقيل : اللِّوَاذُ : الرَوَغَان من شيءٍ إلى شيءٍ في خفيةٍ ، ووجه المفاعلة أَنَّ كُلاًّ منهم يلُوذُ بصاحبه ، فالمشاركة موجودة .
وقرأ يزيد بن قطيب : « لَوَاذاً » بفتح اللام ، وهي محتملة لوجهين :
أحدهما : أن يكون مصدر « لاذ » ثلاثياً ، فيكون مثل « طاف طوافاً » .
والثاني : أن يكون مصدر « لاَوَذَ » إلاّ أنه فتحت الفاء إتباعاً لفتحة العين . وهو تعليل ضعيف يصلح لمثل هذه القراءة .
فصل
المعنى : قال المفسرون : إن المنافقين كانوا يخرجون مستترين بالناس من غير استئذان حتى لا يروا . قال ابن عباس : كان المنافقون يثقل عليهم المقام في المسجد يوم الجمعة واستماع خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانوا يلوذون ببعض أصحابه فيخرجون من المسجد في استتار وقال مجاهد : يتسللون من الصف في القتال . وقيل : كان هذا في حفر الخندق ينصرفون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مختفين . وقيل : يعرضون عن الله وعن كتابه وعن ذكره وعن نبيه .
قوله : « فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ » فيه وجهان :
أشهرهما ، وهو الذي لا يعرف النحاة غيره : أن الموصول هو الفاعل و « أن تصيبهم » مفعوله ، أي : فليحذر المخالفون عن أمره إصابتهم فتنة .
والثاني : أن فاعل « فَلْيَحْذَر » ضمير مستتر ، والموصول مفعول به . وردَّ هذا بوجوهٍ :
منها : أن الإضمار خلاف الاصل . وفيه نظر ، لأنَّ هذا الإضمار في قوة المنطوق به ، فلا يقال : هو خلاف الأصل ، ألا ترى أن نحو : « قُمْ » و « ليقُمْ » فاعله مضمر ، ولا يقال في شيء منه هو خلاف الأصل ، وإنما الإضمار خلاف الأصل فيما كان حذفاً نحو : « وَاسْأَلِ القَرْيَةَ » .
ومنها : أنَّ هذا الضمير لا مرجع له ، أي : ليس له شيء يعود عليه ، فبطل أن يكون الفاعل ضميراً مستتراً . وأجيب بأن الذي يعود عليه الضمير هو الموصولُ الأول ، أي : فَلْيَحْذَر المُتَسَلِّلُونَ المخالفين عن أمره ، فيكونون قد أمروا بالحذر منهم ، أي : أُمرُوا باجتنابهم ، كما يُؤْمَرُ باجتناب الفُسَّاقِ . وردُّوا هذا بوجهين :
أحدهما : أنَّ الضمير مفرد ، والذي يعود عليه جمع ، ففاتت المطابقةُ التي هي شرطٌ في تفسير الضمائر .
الثاني : أن المُتَسلِّلينَ هم المُخالِفُون ، فلو أمروا بالحذر عن الذين يخالفون لكانوا قد أُمِرُوا بالحذر عن أنفسهم ، وهو لا يجوز ، لأنه لا يمكن أن يُؤْمَرُوا بالحذر عن أنفسهم . ويمكن أن يُجاب عن الأول بأن الضمير وإن كان مفرداً فإنما عاد على جمع باعتبار أن المعنى : فليحذر هو ، أي من ذكر قبل ذلك ، وحكى سيبويه : « ضَرَبَني وضربت قومك » أي : ضَرَبَني من ثمَّ ومن ذكر ، وهي مسألة معروفة في النحو . أو يكون التقدير : فَلْيَحْذَر كلُّ واحد من المتسللين .
وعن الثاني : بأنه يجوز أن يُؤْمَر الإنسانُ بالحذر عن نفسه مجازاً ، يعني : أنه لا يطاوعها على شهواتها ، وما تُسوِّلُه له من السوء ، وكأنه قيل : فليحذر المخالفون أنفسهم فلا يطيعوها فيما تأمرهم به ، ولهذا يقال : أمَرَ نفسهُ ونَهَاهَا ، وأَمرتهُ نفسهُ باعتبار المجاز .
ومنها : أنه يصير قوله : { أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } مفلَّتاً ضائعاً ، لأنَّ « يحذر » يتعدى لواحد ، وقد أخذه على زعمكم ، وهو الذين يخالفون ولا يتعدى إلى اثنين حتى يقولوا : إن { أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } في محل مفعوله الثاني ، فيبقى ضائعاً . وفيه نظرٌ ، لأنَّا لا نُسلِّم ضياعهُ ، لأنه مفعول من أجله . واعترض على هذا بأنه لا يستكمل شروط النصب لاختلاف الفاعل ، لأن فاعل الحذر غير فاعل الإصابة .
وهو ضعيف ، لأن حذف حرف الجر يطرد مع « أَنَّ » و « أَنْ » منقول مسلمٌ : شروط النصب غير موجودةٍ ، وهو مجرور باللام تقديراً ، وإنما حُذفت مع أَنْ لطولها بالصلة . و « يُخَالِفُونَ » يتعدى بنفسه نحو : خَالَفْتُ أَمْر زيدٍ ، وب « إِلَى » نحو : خالفتُ إلى كذا ، فكيف تعدَّى هذا بحرفِ المجاورة؟ وفيه أوجه :
أحدها : أنه ضُمِّنَ معنى « صَدَّ » و « أَعْرَضَ » أي : صدَّ عن أمره ، وأَعْرَضَ عنه مُخَالِفاً له .
الثاني : قال ابن عطية : معناه : يقعُ خلافُهُمْ بعدَ أَمْرِه ، كما تقول : كان المطر عَنْ ريح كذا ، و « عن » لِمَا عدا الشي .
الثالث : أنها مزيدة ، أي : يخالفون أمره ، وإليه نحا الأخفش وأبو عبيدة . والزيادة خلافُ الأصل . وقُرِئ : « يُخَلِّفُونَ » بالتشديد ، ومفعوله محذوف ، أي : يُخَلِّفُونَ أَنْفُسَهُمْ .
فصل
المعنى : { فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ } أي : يعرضون « عَنْ أَمْرِهِ » ، أو يخالفون أمره وينصرفون عنه بغير إذنه { أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } أي : لئلا تصيبهم فتنة .
قال مجاهد : بلاء في الدنيا . { أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وجيع في الآخرة . والضمير في « أمره » يرجع إلى « الرسول » . وقال أبو بكر الرازي : الأظهر أنه لله تعالى لأنه يليه .
فصل
الآية تدل على أن الأمر للوجوب ، لأن تارك المأمور مخالف للأمر ، ومخالف الأمر يستحق العقاب ، ولا معنى للوجوب إلا ذلك .
قوله تعالى : { ألاا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض } أي : ملكاً وعبيداً ، وهذا تنبيه على كمال قدرته تعالى عليهما ، وعلى ما بينهما وفيهما .
قوله : { قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ } . قال الزمخشري : أدخل « قد » ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين والنفاق ، ويرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد ، وذلك أن « قد » إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى « رُبَّما » فوافقت « ربما » في خروجها إلى معنى التكثير في نحو قوله :
3858- فَإِنْ يُمْسي مَهْجُورَ الفَنَاءِ فَرُبَّمَا ... أقام به بَعْدَ الوُفُودِ وُفُودُ
ونحو من ذلك قول زهير :
3859- أَخِي ثِقَةٍ لاَ تُهْلِكُ الخَمْرُ مَالَهُ ... وَلكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ المَالَ نَائِلُه
قال أبو حيان : وكونُ « قَدْ » إذا دخلت على المضارع أفادت التكثير قولٌ لبعض النحاة ، وليس بصحيح ، وإنما التكثير مفهوم من السياق . والصحيح أن رُبَّ لتقليل الشيء أو لتقليل نظيره ، وإن فُهِمَ تكثير فمن السياق لا منها .
قوله : « وَيَوْمَ يُرجَعُونَ » ، في « يَوْمَ » وجهان :
أحدهما : أنه مفعول به لا ظرف ، لعطفه على قوله : { مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ } ، أي : يعلم الذي أنتم عليه من جميع أحوالكم ، ويعلم يوم يرجعون ، كقوله { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } [ لقمان : 34 ] .
وقوله : { لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ } [ الأعراف : 187 ] .
والثاني : أنه ظرف لشيء محذوف . قال ابن عطية : ويجوز أن يكون التقدير : والعلم الظاهر لكم أو نحو : هذا يومَ ، فيكون النصب على الظرف . انتهى .
وقرأ العامة « يُرْجَعُونَ » مبنياً للمفعول ، وأبو عمرو في آخرين مبنيًّا للفاعل ، وعلى كلتا القراءتين فيجوز وجهان :
أحدهما : أن يكون في الكلام التفات من الخطاب في قوله : { مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ } إلى الغيبة في قوله « يرجعون » .
والثاني : أنَّ { مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ } خطاب عام لكل أحد ، والضمير في « يرجعون » للمنافقين خاصة ، فلا التفات حينئذ .
فصل
المعنى : { يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ } من الإيمان والنفاق و « قَدْ » صلة { وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ } يعني يوم البعث ، { فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ } من الخير والشر ، { والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ } .
روي عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لا تنزلوا النساء الغرف ، ولا تعلموهن الكتابة ، وعلموهن الغَزْلَ وسورة النور » .
وروى الثعلبي عن أبي أُمامة عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « من قرأ سورة النور أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل مؤمن فيما مضى وفيما بقي » .
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)
قوله تعالى : { تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ } الآية . اعلم أنه تعالى تكلم في هذه السورة في التوحيد والنبوة وأحوال القيامة ثم ختمها بذكر العباد المخلصين المؤمنين . قال الزجاج : « تبارك » تفاعل من البركة . والبركة كثرة الخيرة وزيادته ، وفيه معنيان :
أحدهما : تزايد خيره وتكاثره . قال ابن عباس : معناه : جاء بكل بركة ، قال تعالى : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] .
والثاني : قال الضحاك : تعظّم الذي نزل الفرقان ، أي : القرآن على عبده . وقيل : الكلمة تدل على البقاء ، وهو مأخوذ من بروك البعير ، ومن بروك الطير على الماء . وسميت البركة بركة ، لثبوت الماء فيها ، والمعنى : أنه سبحانه باق في ذاته أزلاً وأبداً ممتنع التغير ، وباق في صفاته ممتنع التبدل .
فإن قيل : كلمة « الذي » موضوعة في اللغة للإشارة إلى الشيء عند محاولة تعريفه بقضية معلومة ، وإذا كان كذلك فالقوم ما كانوا عالمين بأنه - سبحانه - الذي نزل الفرقان . فالجواب : أنه لما ظهر الدليل على كونه من عند الله ، فلقوة الدليل وظهوره أجراه مجرى المعلوم .
فصل
وصف القرآن بالفرقان ، لأنه فرق بين الحق والباطل في نبوة محمد - عليه السلام - وبين الحلال والحرام ، أو لأنه فرق في النزول كقوله : { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ } [ الإسراء : 106 ] ، وهذا أقرب ، لأنه قال : { نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ } ولفظة « نزل » تدل على التفريق ، ولفظة « أنزل » تدل على الجمع ، ولهذا قال في سورة آل عمران : { نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق ( مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) } [ آل عمران : 3 ] { وَأَنْزَلَ التوراة والإنجيل } [ آل عمران : 3 ] . والمراد بالعبد ههنا محمد - صلى الله عليه وسلم - .
قوله : « ليكون » . اللام متعلقة ب « نزَّل » ، وفي اسم « يكون » ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه ضمير يعود على « الَّذِي نزّل » ، أي : ليكون الذي نزل الفرقان نذيراً .
الثاني : أنه يعود على « الفرقان » وهو القرآن ، أي : ليكون الفرقان نذيراً ( أضاف الإنذار إليه كما أضاف الهداية إليه في قوله : { إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي } [ الإسراء : 9 ] وهذا بعيد؛ لأن المنذر والنذير من صفات الفاعل للتخويف ، ووصف القرآن به مجاز ، وحمل الكلام على الحقيقة أولى ) .
الثالث : أنه يعود على « عبده » ، أي : ليكون عبده محمد - صلى الله عليه وسلم - نذيراً . وهذا أحسن الوجوه معنى وصناعة لقربه مما يعود عليه الضمير على أقرب مذكور . و « لِلعَالَمِين » متعلق ب « نَذِيراً » ، وإنما قدم لأجل الفواصل ، ودعوى إفادة الاختصاص بعيدة ، لعدم تأتيها هنا ، ورجح أبو حيان عوده على « الذي » ، قال : لأنه العمدة المسند إليه الفعل ، وهو من وصفه تعالى كقوله :
{ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } [ الدخان : 3 ] ، و « نذيراً » الظاهر فيه أنه بمعنى منذر ، وجوَّزوا أن يكون مصدراً بمعنى الإنذار كالنكير بمعنى الإنكار ، ومنه { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } [ القمر : 16 ] فإن قوله : « تبارك » يدل على كثرة الخير والبركة ، فالمذكور عقيبه لا بد وأن يكون سبباً لكثرة الخير والمنافع ، والإنذار يوجب الغم والخوف ، فكيف يليق ذكره بهذا الموضع؟ فالجواب : أن الإنذار يجري مجرى تأديب الولد ، كما أنه كلما كانت المبالغة في تأديب الولد أكثر ( كان الإحسان إليه أكثر ، لما أن ذلك يؤدي في المستقبل إلى المنافع العظيمة ، فكذا ههنا كلما كان الإنذار كثيراً ) كان رجوع الخلق إلى الله أكثر ، وكانت السعادة الأخروية أتم وكثر ، وهذا كالتنبيه على أنه لا التفات إلى المنافع العاجلة؛ لأنه تعالى لما وصف نفسه بأنه معطي الخيرات الكثيرة لم يذكر إلا منافع الدين ، ولم يذكر منافع الدنيا البتّة .
قوله : { الذي لَهُ مُلْكُ } يجوز في « الّذِي » الرفع نعتاً للذي الأول ، أو بياناً ، أو بدلاً ، أو خبراً لمبتدأ محذوف ، أو النصب على المدح .
وما بعد بدل من تمام الصلة فليس أجنبياً ، فلا يضر الفصل به بين الموصول الأول والثاني إذا جعلنا الثاني تابعاً له .
فصل
{ الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض } إشارة إلى احتياج هذه المخلوقات إليه سبحانه حال حدوثها ، وأنه سبحانه هو المتصرف فيها كيف يشاء .
{ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً } أي : هو الفرد أبداً ، ولا يصح أن يكون غيره معبوداً ووارثاً للملك عنه ، وهذا رد على النصارى . { ولم يكن له شريك في الملك } أي : هو المنفرد بالإلهية ، وإذا عرف العبد ذلك انقطع رجاؤه عن كل ما سواه ، ولم يشتغل قلبه إلا برحمته وإحسانه ، وفيه رد على الثنوية ، والقائلين بعبادة النجوم والأوثان .
قوله : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ } الخلق هنا عبارة عن الإحداث والتهيئة لما يصلح له ، لا خلل فيه ولا تفاوت حتى يجيء قوله : « فقدره تقديراً » مفيداً إذ لو حملنا { خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ } على معناه الأصلي من التقدير لصار الكلام : وقدر كل شيء فقدره .
فصل
قوله : { خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ } يدل على أنه تعالى خلق الأعمال من وجهين :
الأول : أن قوله : « كل شيء » يتناول جميع الأشياء ، ومن جملتها أفعال العباد .
والثاني : أنه تعالى نفى الشريك ، فكأن قائلاً قال : ههنا أقوام معترفون بنفي الشريك والأنداد ومع ذلك يقولون بخلق أفعال أنفسهم ، فذكر الله تعالى هذه الآية رداً عليهم . قال القاضي : الآية تدل عليه لوجوه :
أحدها : أنه تعالى صرح بكون العبد خالقاً فقال : { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير } [ المائدة : 110 ] ، وقال : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] وتمدح بأنه قدره تقديراً ، ولا يجوز أن يريد به إلا الحسن والحكمة دون غيره . فظاهر الآية لا يدل إلا على التقدير ، لأن الخلق عبارة عن التقدير ، فلا يتناول إلا ما يظهر فيه التقدير وهو الأجسام لا الأعراض . والجواب : أن قوله : « إِذْ تَخْلُقُ » ، وقوله : « أَحْسَنُ الخَالِقِينَ » معارض بقوله : { الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [ الزمر : 62 ] وبقوله : { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله } [ فاطر : 3 ] وقولهم : لا يجوز التمدح بخلق الفساد ، فالجواب : لم لا يجوز أن يتمدح به من حيث نفاذ القدرة .
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)
قوله تعالى : { واتخذوا } يجوز أن يعود الضمير على الكفار الذين تضمنهم لفظ العالمين ، وأن يعود على من ادَّعى لله شريكاً وولداً ، لدلالة قوله : { وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ } [ الفرقان : 2 ] وأن يعود على المنذرين ، لدلالة « نذيراً » عليهم .
قوله : « لا يَخْلُقُونَ » صفة ل « آلهة » ، وغلب العقلاء على غيرهم؛ لأن الكفار كانوا يعبدون العقلاء كعزير والمسيح والملائكة وغيرهم كالكواكب والأصنام . ومعنى « لا يخلقون » لا يقدرون على التقدير ، والخلق يوصف به العباد قال زهير :
3860- ولأنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْت وبع ... ضُ القَوم يخلُق ثم لا يَفْرِي
ويقال : خلقت الأديم : أي : قدرته ، وهذا إذا أريد بالخلق التقدير ، فإن أريد به الإيجاد فلا يوصف به غير الباري - تعالى - وقد تقدم .
وقيل : بمعنى يختلقون كقوله : « وتَخْلُقُون إفْكاً » .
فصل
لما وصف نفسه بصفات الجلال والعزة والعلو أردفه بتزييف مذهب عبدة الأوثان من وجوه : منها : أنها ليست خالقة للأشياء ، والإله يجب أن يكون قادراً على الخلق والإيجاد ومنها : أنها مخلوقة ، والمخلوق محتاج ، والإله يجب أن يكون غنياً . ومنها : أنها لا تملك لأنفسها ضراً ولا نفعاً ، ومن كان كذلك لا يملك موتاً ولا حياةً ولا نُشُوراً . أي : لا يقدر على الإحياء والإماتة لا في زمن التكليف ، ولا في زمن المجازاة ، ومن كان كذلك كيف يسمى إلهاً ، وكيف يستحق العبادة؟ .
فصل
احتج أهل السنة بقوله : « ولا يَخْلُقُونَ شَيْئاً » على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى لأنه عاب هؤلاء الكفار من حيث عبدوا ما لا يَخْلُق شيئاً ، وذلك يدل على أن من خلق يستحق أن يعبد ، فلو كان العبد خالقاً لكان معبوداً إلهاً . وأجاب الكعبي بأنا لا نطلق اسم الخالق إلا على الله تعالى ، ( وقال بعض أصحابنا في الخلق : إنه الإحداث لا بعلاج وفكر وتعب ولا يكون ذلك إلا لله تعالى .
ثم قال : قد قال الله تعالى ) : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ } [ الأعراف : 195 ] في وصف الأصنام ، أفيدل ذلك على أن كل من له رجل يستحق أن يعبد . فإذا قالوا : لا . قيل : فكذلك ما ذكرتم ، وقد قال الله تعالى : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] هذا كله كلام الكعبي .
والجواب : قوله : لا نطلق اسم الخالق على العبد . قلنا : بل يجب ذلك ، لأن الخلق في اللغة هو التقدير ، والتقدير يرجع إلى الظن والحسبان ، فوجب أن يكون اسم الخالق حقيقة في العبد مجازاً في الله ، فكيف يمكنهم منع إطلاق لفظ الخالق على العبد؟ . وأما قوله تعالى : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ } [ الأعراف : 195 ] فالعيب إنما وقع عليهم ، فلا جرم أن من تحقق العجز في حقه من بعض الوجوه لم يحسن عبادته . وأما قوله : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] فتقدم الكلام عليه . واعلم أن في استدلال أهل السنة بالآية نظر ، لاحتمال أن الغيب إنما حصل بمجموع الأمرين ، وهو كونهم ليسوا بخالقين ، وكونهم مخلوقون ، والعبد وإن كان خالقاً إلا أنه مخلوق ، فلا يلزم أن يكون العبد إلهاً معبوداً .
فصل
دلَّت الآية على البعث ، لأنه تعالى ذكر النشور ، ومعناه : أن المعبود يجب أن يكون قادراً على إيصال الثواب إلى المطيعين ، والعقاب إلى العصاة ، فمن لا يكون كذلك يجب أن لا يصلح للإلهية .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)
قوله تعالى : { وَقَالَ الذين كفروا إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه } الآية . لما تكلم أولاً في التوحيد وثانياً في الرد على عبدة الأوثان ، تكلم ههنا في مسألة النبوة ، وحكى شبه الكفار في إنكار نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - . فالشبهة الأولى : قوله : { وَقَالَ الذين كفروا إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ } .
قال الكلبي ومقاتل : نزلت في النضر بن الحارث هو الذي قال هذا القول { وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ } يعني : عامر مولى حويطب بن عبد العزى ، ويسار غلام عامر بن الحضرمي ، وجبير مولى عامر ، هؤلاء الثلاثة كانوا من أهل الكتاب ، وكانوا يقرؤون التوراة ، فلما أسلموا ، وكان النبي يتعهدهم ، فمن أجل ذلك قال النضر ما قال . وقال الحسن : عبيد بن الحصر الحبشيّ الكاهر . وقيل : جبر ويسار وعداء عبيد كانوا بمكة من أهل الكتاب ، فزعم المشركون أن محمداً يأخذ منهم .
قوله : « افتراه » الهاء تعود على « إفك » وقال أبو البقاء : الهاء تعود على « عبده » في أول السورة . قال شهاب الدين : ولا أظنه إلا غلطاً وكأنه أراد أن يقول الضمير المرفوع في « افتراه » فغلط .
قوله « ظلماً » فيه أوجه :
أحدها : أنه مفعول به ، لأن جاء يتعدى بنفسه ( وكذلك أتى ) .
والثاني : أنه على إسقاط الخافض ، أي : جاءوا بظلم . قاله الزجاج .
الثالث : أنه في موضع الحال ، فيجيء فيه ما في قولك : جاء زيد عدلاً .
قال الزمخشري : { فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً } أي : أتوا ظلماً وكذباً كقوله : { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً } [ مريم : 89 ] فانتصب بوقوع المجيء . أما كونه « ظلماً » فلأنهم نسبوا هذا الفعل القبيح إلى من كان مبرأ عنه ، فقد وضعوا الشيء في غير موضعه ، وذلك هو الظلم . وأما كونه « زوراً » فلأنهم كذبوا ، قال أبو مسلم : الظلم تكذيبهم الرسول .
الشبهة الثانية : قوله تعالى : { وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين . اكتتبها } الآية . يجوز في « اكْتَتَبَهَا » ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون حالاً من « أساطير » ، والعامل فيها معنى التنبيه أو الإشارة المقدرة ، فإن « أَسَاطِير » خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هذه أساطير الأولين مكتتبة .
الثاني : أن يكون في موضع خبر ثان ل « هذه » .
الثالث : أن يكون « أساطير » مبتدأ و « اكْتَتَبَها » خبره . و « اكْتَتَبَها » الافتعال هنا يجوز أن يكون بمعنى : أمر بكتابتها كافتصد واحتجم إذا أمر بذلك ويجوز أن يكون بمعنى كتبها ، وهو من جملة افترائهم عليه ، لأنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب ، ويكون كقولهم : ( استكبه واصطبه ، أي : سكبه وصبه ) ، والافتعال مشعر بالتكليف . ويجوز أن يكون من كتب بمعنى جمع من الكتب ، وهو الجمع لا من الكتابة بالقلم .
وقرأ طلحة « اكتُتِبهَا » مبنياً للمفعول .
قال الزمخشري : والمعنى : اكتتبها له كاتب ، لأنه كان أمياً لا يكتب بيده ، ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى الضمير ، فصار اكتُتِبها إياه كاتب ، كقوله : { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] ، ثم بنى الفعل للضمير الذي هُوَ إيَّاه فانقلب مرفوعاً مستتراً بعد أن كان منصوباً بارزاً ، وبقي ضمير الأساطير على حاله ، فصار « اكتُتِبَها » كما ترى . قال أبو حيان : ولا يصح ذلك على مذهب جمهور البصريين ، لأن « اكتَتَبها » له كاتب ، وصل الفعل فيه المفعولين : أحدهما : مسرح ، وهو ضمير الأساطير والآخر مقيّد ، وهو ضميره عليه السلام - ثم اتسع في الفعل ، فحذف حرف الجر ، فصار « اكْتَتَبَها إياه كاتبٌ » ، فإذا بني هذا للمفعول إنما ينوب عن الفاعل المفعول المسرح لفظاً وتقديراً ، لا المسرح لفظاً المقيد تقديراً ، فعلى هذا كان يكون التركيب ( اكتَتَبه ) لا ( اكتَتَبها ) ، وعلى هذا الذي قلناه جاء السماع ، قال الفرزدق :
3861- ومنَّا الَّذِي اختير الرجال سماحةً ... وجوداً إذا هبَّ الرياحُ الزّعازعُ
ولو جاء على ما قدره الزمخشري لجاء التركيب : ومنَّا الذي اختيره الرجال . لأن ( اختير ) تعدى إلى الرجال بإسقاط حرف الجر؛ إذ تقديره : اختير من الرجال . وهو اعتراض حسن بالنسبة إلى مذهب الجمهور ، ولكن الزمخشري قد لا يلتزمه ، ويوافق الأخفش والكوفيين ، وإذا كان الأخفش وهم يتركون المسرح لفظاً وتقديراً ، ويقيمون المجرور بالحرف مع وجوده ، فهذا أولى .
والظاهر أن الجملة من قوله { اكتتبها فهي تملى } من تتمة قول الكفار .
وعن الحسن أنها من كلام الباري تعالى ، وكان حق الكلام على هذا أن يقرأ « أَكْتَتَبَها » بهمزة مقطوعة مفتوحة للاستفهام كقوله : { أفترى عَلَى الله كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ } [ سبأ : 8 ] . ويمكن أن يعتذر عنه أنه حذف الهمزة للعلم بها كقوله تعالى : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ } [ الشعراء : 22 ] . وقول الآخر :
3862- أفْرَحُ أَنْ أُرزأَ الكرام وأن ... أُورَثَ ذَوْداً شَصَائِصاً نَبلاَ
يريد : أو تلك ، أو أأفرح ، فحذف لدلالة الحال ، وحقه أن يقف على « الأولين » قال الزمخشري : كيف قيل : { اكتَتَبها فهي تملى عليه } وإنما يقال : أمليت عليه فهو يكتبها . قلت فيه وجهان :
أحدهما : اراد اكتِتَابها وطلبه ، فهي تملى عليه ، أو كتبت له ، وهو أمر فهي تملى عليه ، أي : تلقى عليه من كتاب يتحفظها ، لأن صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب .
وقرأ عيسى وطلحة « تُتْلَى » بتاءين من [ فوق من التلاوة . و « بُكْرَةً وأَصِيلاً » ظرفا زمان للإملاء ، والياء في « تُمْلَى » بدل من ] اللام ، كقوله : « فَلْيُمْلِلِ » وقد تقدم .
فصل
المعنى : أن هذا القرآن ليس من الله ، إنما هو مما سطره الأولون كأحاديث رستم واسفنديار ، جمع أسطار وأسطورة كأحدوثة استنسخها محمد من أهل الكتاب { فَهِيَ تملى عَلَيْهِ } أي : تقرأ عليه ليحفظها لا ليكتبها « بُكْرَةً وأَصِيلاً » غدوة وعشيًّا .
قوله : { قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر } الآية . وهذا جواب عن شبههم ، وذلك أنه - عليه السلام - تحداهم بالمعارضة وأظهر عجزهم عنها ، ولو كان عليه السلام أتى بالقرآن من عند نفسه ، أو استعان بأحد لكان من الواجب عليهم أيضاً أن يستعينوا بأحد ، فيأتوا بمثل هذا القرآن ، فلما عجزوا عنه ثبت أنه وحي الله وكلامه ، فلهذا قال : « قُلْ أَنْزَلَهُ » يعني : القرآن { الذي يَعْلَمُ السر } أي : الغيب { فِي السماوات والأرض } ؛ لأن القادر على تركيب ألفاظ القرآن لا بد وأن يكون عالماً بكل المعلومات ظاهرها وخفيها ، { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } [ النساء : 82 ] ثم قال : { إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } ، فذكر الغفور في هذا الموضع لوجهين :
أحدهما : قال أبو مسلم : إنه لما أنزله لأجل الإنذار وجب أن يكون غفوراً رحيماً ، غير مستعجل بالعقوبة .
الثاني : أنهم استوجبوا بمكابرتهم هذه أن يصب عليهم العقاب صبًّا ، ولكن صرف عنهم كونه غفوراً رحيماً ، يمهل ولا يعاجل .
الشبهة الثالثة : قوله تعالى : { وَقَالُواْ مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام } . الآية . « ما » استفهامية مبتدأة ، والجار بعدها خبر ، و « يأكل » جملة حالية ، وبها تتم فائدة الإخبار ، كقوله : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] وقد تقدم في النساء أن لام الجر كتبت مفصولة من مجرورها ، وهو خارج عن قياس الخط . والعامل في الحال الاستقرار العامل في الجر ، أو نفس الجر ذكره أبو البقاء .
قوله : « فَيَكُونَ » . العامة على نصبه ، وفيه وجهان :
أحدهما : نصبه على جواب التحضيض .
والثاني : قال أبو البقاء : « فَيَكُونَ » منصوب على جواب الاستفهام . وفيه نظر ، لأن ما بعد الفاء لا يترتب على هذا الاستفهام ، وشرط النصب أن ينعقد منهما شرط وجزاء . وقرئ « فَيَكُونُ » بالرفع وهو معطوف على « أُنْزِلَ » ، وجاز عطفه على الماضي؛ لأن المراد بالماضي المستقبل إذ التقدير : لولا ينزل .
قوله : « أَوْ يُلقَى . . . أَوْ تَكُون » معطوفان على « أنزل » لما تقدم من كونه بمعنى ينزل ، ولا يجوز أن يُعطفا على « فَيَكُون » المنصوب في الجواب؛ لأنهما مندرجان في التحضيض في حكم الواقع بعد « لولا » ، وليس المعنى على أنهما جواب للتحضيض ، فَيُعْطَفا على جوابه . وقرأ الأعمش وقتادة { أَوْ يَكُونُ لَهُ } بالياء من تحت؛ لأن تأنيث الجنة مجازي .
قوله : « يَأْكُلُ مِنْهَا » الجملة في موضع الرفع صفة ل « جَنّة » . وقرأ الأخوان « نَأْكُلُ » بنون الجمع ، والباقون بالياء من تحت أي : الرسول .
قوله : « وَقَالَ الظَّالِمُون » وضع الظاهر موضع المضمر؛ إذ الأصل « وَقَالُوا » .
قال الزمخشري : وأراد بالظالمين إياهم بأعيانهم .
قال أبو حيان : وقوله ليس تركيباً سائغاً بل التركيب العربي أن يقول أرادهم بأعيانهم .
فصل
وهذه الشبهة التي ذكروها في نهاية الرذالة ، فقالوا : { مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق } يلتمس المعاش كما نلتمس فمن أين له الفضل علينا؟ وكيف يمتاز عنّا بالنبوة ، وهو مثلنا في هذه الأمور .
وقالوا : { لولاا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ } هلاّ أنزل إليه ملك { فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } يصدقه ويشهد له ، ويرد على من خالفه . { أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ } من السماء ، فينفعه ولا يحتاج إلى تردد لطلب المعاش ، وكانوا يقولون له : لستَ أنتَ بملك ، لأنك تأكل والملك لا يأكل ، ولست بملك؛ لأن الملك لا يتسوق ، وأنت تتسوق وتتبذل . وما قالوه فاسد؛ لأن أكله الطعام لكونه آدمياً ، ومشيه في الأسواق لتواضعه ، وكان ذلك صفة له . وقالوا : { أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا } ، والمعنى : إن لم يكن له كنز فلا أقلّ أن يكون كواحد من الدهاقين ، فيكون له بستان يأكل منه { وَقَالَ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } مخدوعاً ، وقيل : مصروفاً عن الحق . وتقدمت هذه القصة في آخرِ بني إسرائيل . ثم أجابهم الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله : { انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال } يعني الأشباه فضلوا عن الحق { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً } إلى الهدى ومخرجاً عن الضلالة .
وبيان وجه الجواب كأنه تعالى قال : انظر كيف اشتغل القوم بضرب هذه الأمثال التي لا فائدة فيها : لأجل أنهم لما ضلوا وأرادوا القدح في نبوَّتِك لم يجدوا إلى القدح فيه سبيلاً البتّة ، إذ الطعن عليه إنما يكون بما يقدح في المعجزات التي ادعاها لا بهذا الجنس من القول .
تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)
قوله تعالى : { تَبَارَكَ الذي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذلك } الآية وهذا هو الجواب الثاني عن تلك الشبهة ، أي : تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ الذي قالوا ، وأفضل من الكنز والبستان الذي ذكروا ، أي : أنه قادر على أن يعطي الرسول كل ما ذكروه ، ولكنه تعالى يعطي عباده بحسب المصالح ، أو على وفق المشيئة ، ولا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله .
قال ابن عباس : { خَيْراً مِّن ذلك } أي : مما عيَّروك بفقد الجنة الواحدة ، وهو سبحانه قادر على أن يعطيك جنات كثيرة . وقال في رواية عكرمة : { خَيْراً مِّن ذلك } أي : من المشي في الأسواق وابتغاء المعاش .
وقوله : « إِنْ شَاءَ » معناه : أنه تعالى قادرٌ على ذلك لا أنه شاكٌّ ، لأن الشك لا يجوز على الله تعالى . وقيل : « إِنْ » ههنا بمعنى ( قَدْ ) ، أي : قد جعلنا لك في الآخرة جنات ومساكن ، وإنما أدخل ( إن ) تنبيهاً للعبادة على أنه لا ينال ذلك إلا برحمته ، وأنه معلق على محض مشيئته ، وليس لأحد من العباد حق على الله لا في الدنيا ولا في الآخرة .
قوله : « جَنَّاتٍ » . يجوز أن يكون بدلاً من « خَيْراً » وأن يكون عطف بيان لذلك الخير عند من يجوزه في النكرات ، وأن يكون منصوباً بإضمار أعني . و { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } صفة .
قوله : « وَيَجْعَل لَكَ » قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر برفع « يَجْعَلُ » ، والباقون بإدغام لام « يَجْعَل » في لام « لك » وأما الرفع ففيه وجهان :
أحدهما : أنه مستأنف .
والثاني : أنه معطوف على جواب الشرط . قال الزمخشري : لأن الشرط إذا وقع ماضياً جاز في جوابه الجزم والرفع ، كقوله :
3863- وَإِنْ أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْأَلَةٍ ... يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرِمُ
قال الزمخشري : وليس هذا مذهب سيبويه بل مذهبه أن الجواب محذوف ، وأن هذا المضارع مَنْوِيٌّ به التقديم ، ومذهب المبرد والكوفيين أنه جواب على حذف الفاء ، ومذهب آخرين أنه جواب لا على حذفها بل لما كان الشرط ماضياً ضعف تأثير ( إن ) فارتفع . فالزمخشري بنى قوله على هذين المذهبين . ثم قال أبو حيان : وهذا التركيب جائز فصيح ، وزعم بعض أصحابنا أنه لا يجيء إلا في ضرورة . وأما القراءة الثانية فتحتمل وجهين :
أحدهما : أن سكون اللام للجزم عطفاً على محل ( جعل ) ؛ لأنه جواب الشرط .
والثاني : أنه مرفوع ، وإنما سكن لأجل الإدغام . قاله الزمخشري وغيره . وفيه نظر من حيث إن من جملة من قرأ بذلك وهو نافع والأخوان وحفص ليس من أصولهم الإدغام حتى يدعى لهم في هذا المكان . نعم أبو عمرو أصله الإدغام وهو يقر هنا بسكون اللام فيحتمل ذلك على قراءته ، وهذا من محاسن علم النحو والقراءات معاً وقال الواحدي : وبين القراءتين فرق في المعنى ، فمن جزم فالمعنى : إن شاء يجعل لك قصوراً في الدنيا ، ولا يحسن الوقف على « الأَنْهَارُ » ومن رفع حسن الوقف ( على « الأَنْهَار » ) واستأنف { وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً } في الآخرة .
وقرأ ابن سليمان وطلحة بن سليمان « وَيَجْعَلَ » بالنصب ، وذلك بإضمار أن على جواب الشرط ، واستضعفها ابن جنيّ ، ومثل هذه القراءة قوله :
3864- فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ ... رَبيعُ النَّاسِ والبَلَدُ الحَرَامُ
وَنَأْخُذ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عَيْشٍ ... أَجَبَّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ
بالتثليث في ( نأخذ ) .
فصل
القصور جماعة القصر ، وهو المسكن الرفيع . قال المفسرون : القصور هي البيوت المشيدة ، والعرب تسمي كل بيت مشيد قصراً . ويحتمل أن يكون لكل جنة قصر فيكون مسكناً ومنتزهاً ، ويجوز أن يكون القصور مجموعة والجنات مجموعة .
وقال مجاهد : « إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ جَنَّاتٍ » في الآخرة وقصوراً في الدنيا .
روي أنه - عليه السلام - قال : « عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكة ذَهَباً ، فقلتُ : لا يَا رَبِّ ، وَلكِنْ أَشْبَعُ يَوْماً وأَجُوعُ يَوْماً - أَوْ قال ثَلاثاً ، أَوْ نَحْوَ هَذَا - فإِذا جعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَدَعَوْتُكَ ، وإذا شَبِعْت حَمِدْتُك وشَكَرْتُكَ » وروت عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لو شئتُ لسارت معي جبالُ الذهب جاءني ملكٌ فقال : إنَّ ربك يقرأ عليك السلام ويقول إِنْ شِئْتَ كنت نبياً عبداً ، وإن شئْتَ نبياً مَلكاً ، فنظرت إلى جبريل - عليه السلام - فأشار إليَّ أَنْ ضَعْ نَفْسَكَ ، فقلت : نبياً عبداً قالت : وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك لا يأكل متكئاً ، ويقول : آكل كما يَأْكُلُ العبدُ وأجلس كما يجلس العبد وعن ابن عباس قال : بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس وجبريل - عليه السلام - معه فقال جبريل : » هذا مَلَكٌ قَدْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ استأْذَنَ رَبَّهُ فِي زِيَارَتك « فلم يلبث إلا قليلاً حتى جاءَ المَلَكُ وسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : » إِنَّ اللَّهَ يُخيركَ أَنْ يُعْطِيكَ مفاتيحَ كلِّ شيءٍ لَمْ يُعْطَ أحد قبلك ولا يعطيه أحداً بعدك من غير أن ينقصك مما أداك شيئاً « فقال عليه السلام : بل يجمعهما لي جميعاً في الآخرة » فنزل { تَبَارَكَ الذي إِن شَآءَ } الآية . قوله تعالى : { بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة } أي : بالقيامة ، فلا يرجون ثواباً ولا عقاباً فلا يتكلفون النظر والفكر ولهذا لا ينتفعون بما يورد عليهم من الدلائل . { وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً } . قال أبو مسلم : « أَعْتَدْنَا » أي : جعلناها عتيداً ومعدة لهم ، والسعير : النار الشديدة الاستعار ، وعن الحسن : أنه اسم جهنم .
فصل
احتج أهل السنة على أن الجنة مخلوقة بقوله تعالى : { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 133 ] وعلى أن النار التي هي دار العقاب مخلوقة بهذه الآية .
قال الجبائي : يحتمل في قوله : « وَاَعْتَدْنَا » أن المراد منه نار الدنيا ، وبها نعذب الكفار والفساق في قبورهم ، ويحتمل نار الآخرة ، ويكون المعنى : « وأَعْتَدْنَا » أي : سنعدّها ، كقوله تعالى : { ونادى أَصْحَابُ الجنة أَصْحَابَ النار } [ الأعراف : 44 ] . وهذا جواب ساقط ، لأن المراد من السعير إما نار الدنيا ، أو نار الآخرة ، فإن كان الأول فإما أن يكون المراد أنه تعالى يعذبهم في الدنيا بنار الدنيا ، والثاني - أيضاً - باطل؛ لأنه لم يقل أحد من الأمة إنه تعالى يعذب الكفرة في الآخرة بنيران الدنيا . فثبت أن المراد نار الآخرة وأنها معدة .
وأما حمل الآية على أن الله تعالى سيجعلها معدة فترك للظاهر من غير دليل . قوله : « إِذَا رَأَتْهُمْ » هذه الجملة الشرطية في موضع نصب صفة ل « سَعِيراً » ، لأنه مؤنث بمعنى النار .
قوله : { سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } فإن قيل : التَّغَيُّظُ لا يُسمع . فالجواب من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه على حذف مضاف ، أي : صوت تغيظها .
والثاني : أنه على حذف تقديره : سمعوا ورأوا تغيظاً وزفيراً ، فيرجع كل واحد إلى ما يليق به ، أي : رأوا تغيظاً وسمعوا زفيراً .
والثالث : أن يضمن « سَمِعُوا » معنى يشمل الشيئين ، أي : أدركوا لها تغيظاً وزفيراً .
وهذان الوجهان الأخيران منقولان من قوله :
3865- وَرَأَيْتُ زَوْجَكِ في الوَغَى ... مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحَا
ومن قوله :
3866- عَلَفْتُها تِبْناً وَمَاءً بَارداً ... أي : ومعتقلاً رمحاً ، وسقيتها ماء ، أو يُضَمَّن ( مُتَقَلِّداً ) معنى متسلحاً ، و ( علفتها ) معنى أطعمتها تبناً وماءً بارداً .
فصل
معنى { إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } . قال الكلبي والسديّ من مسيرة عام . وقيل : من مسيرة مائة سنة . روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « مَنْ كَذَب علَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأ بَيْنَ عَيْنَي جهنمَ مَقْعَدا » قالوا : وهل لها من عينين؟ قال : نعم ألم تسمع قول الله - عزَّ وجلَّ - { إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } « .
وقيل : إذا رأتهم زبانيتها . قال الجبائي : إن الله تعالى ذكر النار وأراد الخزنة الموكلين بتعذيب أهل النار ، لأن الرؤية تصح منهم ولا تصح من النار ، فهو كقوله » وَاسْأَلِ القَرْيَةَ « وأراد أهلها .
قوله : { وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً } . » مَكَاناً « منصوب على الظرف ، و » منها « في محل نصب على الحال من » مكاناً « . لأنه في الأصل صفة له . و » مُقَرَّنينَ « حال من مفعول » أُلْقُوا « ، و » ثُبُوراً « مفعول به ، فيقولون : واثبوراه ، ويجوز أن يكون مصدراً من معنى » دعوا « ، وقيل : منصوب بفعل من لفظه مقدر تقديره ثبرنا ثبوراً .
وقرأ معاذ بن جبل « مُقَرَّنُونَ » بالواو ، ووجهها أن تكون بدلاً من مفعول « أُلْقُوا » وقرأ عمرو بن محمد « ثَبُوراً » بفتح الثاء ، والمصادر التي على ( فعول ) بالفتح قليلة جداً ، وينبغي أن يضم هذا إليها ، وهي مذكورة في البقرة عند قوله { وَقُودُهَا الناس } [ البقرة : 24 ] .
فصل
قال ابن عباس : يُضَيق جهنم عليهم كما يضيق الزج على الرمح ، وهو منقول أيضاً عن ابن عمر . وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال : « إِنَّهُمْ يُسْتَكْرَهُونَ في النار كما يُسْتَكْرَه الوتد في الحائط » .
قال الكلبي : الأسفلون يرفعهم اللهب والأعلون يخفضهم الداخلون فيزدحمون في تلك الأبواب . قال الزمخشري : الكرب مع الضيق كما أن الفرج مع السعة ، ولذلك وصف الجنة بأن عرضها السموات والأرض .
وقوله : « مُقَرَّنِينَ » ( أي : مصفدين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال . وقيل : مقرنين ) مع الشياطين في السلاسل ، كل كافر مع شيطان ، فعندما يشاهدون هذا العذاب دعوا بالويل والثبور .
قال ابن عباس : يقولون : ويلاً . وقال الضحاك : هلاكاً . فيقولون : واثبوراه فهذا حينك وزمانك ، فيقال لهم : { لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً وَاحِداً وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً } أي : هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة فادعوا أدعية كثيرة .
قال الكلبي : نزل هذا كله في أبي جهل والكفار الذين ذكروا تلك الشبهات .
قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
قوله تعالى : { أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد } الآية . لما وصف العقاب المعد للمكذبين بالساعة أتبعه بما يؤكد الحسرة والندامة فقال : « أَذَلِكَ خَيْرٌ » .
فإن قيل : كيف يقال : العذاب خير أم جنة الخلد؟ وهل يجوز أن يقول العاقل : السكر أحلى أم الصبر؟ فالجواب : هذا يحسن في معرض التقريع كما إذا أعطى السيد عبده مالاً فتمرد وأبى واستكبر فضربه ويقول له : أهذا خير أم ذلك؟
فصل
قال أبو مسلم : جنة الخلد : هي التي لا ينقطع نعيمها ، والخلد والخلود سواء كالشكر والشكور ، قال تعالى : { لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً } [ الإنسان : 9 ] . فإن قيل : الجنة اسم لدار مخلدة ، فأي فائدة في قوله : « جَنَّةُ الخُلْدِ » ؟ فالجواب : الإضافة قد تكون للتبيين ، وقد تكون لبيان صفات الكمال ، كقوله تعالى : « الخَالِقُ البَارِئ » وهذا من هذا الباب .
فصل
احتج المعتزلة بهذه الآية على إثبات الاستحقاق من وجهين :
الأول : اسم الجزاء لا يتناول إلا المستحق ، فأما الموعود بمحض التفضيل فلا يسمى جزاء .
والثاني : لو كان المراد بالجزاء ما صرتُم إليه بمجرد الوعد فلا يبقى بين قوله : « جَزَاءً » وبين قوله : « مَصِيراً » تفاوت ، فيصير ذلك تكريراً من غير فائدة .
والجواب : أنه لا نزاع في كونه جزاء إنما النزاع في أن كونه جزاء ثبت بالوعد أو بالاستحقاق ، وليس في الآية ما يدل على التعيين .
فإن قيل : إن الجنة ستصير للمتقين جزاء ومصيراً لكنها بعد ما صارت كذلك ، فلم قال الله { كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً } ؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أن ما وعده فهو في تحققه كأنه قد كان؛ ولأنه قد كان مكتوباً في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم الله بأزمنة متطاولة أن الجنة جزاؤهم ( ومصيراً ) .
قوله : { لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ } هو نظير قوله : { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تشتهي أَنفُسُكُمْ } [ فصلت : 31 ] ، { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس } [ الزخرف : 71 ] . فإن قيل : أهل الدرجات النازلة إذا شاهدوا الدرجات العالية لا بد وأن يريدوها ، فإذا سألوها ربهم ، فإن أعطاها لم يبق بين الناقص والكامل تفاوت في الدرجة ، وإن لم يعطها قدح ذلك في قوله { لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ } ، وأيضاً فالأب إذا كان ولده في دركات النيران وأشد العذاب فلو اشتهى أن يخلصه الله تعالى من ذلك العذاب ، ( فلا بد وأن يسأل ربه أن يخلصه منه ) ، فإن فعل قدح ذلك في أن عذاب الكافر مخلد ، وإن لم يفعل قدح ذلك في قوله : { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تشتهي أَنفُسُكُمْ } [ فصلت : 31 ] ، وفي قوله : ( { لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ } ) .
والجواب أن الله تعالى يزيل هذا الخاطر عن قلوب أهل الجنة ويشتغلون بما هم فيه من اللذات عن الالتفات إلى حال غيرهم .
قوله : « خَالِدينَ » منصوب على الحال ، إما من فاعل « يَشَاءونَ » وإما من فاعل « لَهُمْ » ، لوقوعه خبراً ، والعائد على « ما » محذوف ، أي : لهم فيها الذي يشاءونه حال كونهم خالدين .
قوله : { كَانَ على رَبِّكَ } في اسم « كَانَ » وجهان :
أحدهما : أنه ضمير « ما يشاءون » ذكره أبو البقاء .
والثاني : أن يعود على الوعد المفهوم من قوله « وُعِدَ المُتَّقُونَ » . و « مَسْؤولاً » على المجاز ، يسأل هل وفى لك أم لا ، أو يسأله من وعد به .
فصل
قوله : { كَانَ على رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً } يدل على أن الجنة حصلت بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق كما تقدم . وقوله : « مَسْؤولاً » أي : مطلوباً ، قيل : إن المتقين سألوا ربهم في الدنيا فقالوا : { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ } [ آل عمران : 194 ] وقال محمد بن كعب القرظي : الملائكة سألوا ربهم للمؤمنين بقولهم : { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ } [ غافر : 8 ] .
وقيل : إن المكلفين سألوه بلسان الحال؛ لأنهم لما تحملوا المشقة الشديدة في طاعة الله كان ذلك قائماً مقام السؤال ، قال المتنبي :
3867- وَفِي النَّفْسِ حَاجَاتٌ وَفِيكَ فَطَانَةٌ ... سُكُوتِي كَلاَمٌ عَنْدَهَا وَخِطَابُ
وقيل : « وَعْداً مَسؤولاً » أي : واجباً وإن لم يسأل . قاله الفراء وقيل : « مَسْؤولاً » أي : من حقه أن يكون مسؤولاً ، لأنه حق واجب إما بحكم الاستحقاق على قول المعتزلة ، أو بحكم الوعد على قول أهل السنة .
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
قوله تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } الآية قرأ ابن عامر « نَحْشَرُهُمْ . . . فَنَقُولُ » بالنون فيهما ، وابن كثير وحفص بالياء من تحت فيهما ، والباقون بالنون في الأوّل وبالياء في الثاني . وهُنّ واضحات .
وقرأ الأعرج « نَحْشِرهُمْ » بكسر الشين في جميع القرآن .
قال ابن عطية : هي قليلة في الاستعمال قوية في القياس ، لأن يفعل بكسر العين في المتعدي أقيس من يفعُل بضم العين . وقال أبو الفضل الرازي : وهو القياس في الأفعال الثلاثية المتعدية؛ لأن يفعل بضم العين قد يكون من اللازم الذي هو فَعُل بضمها في الماضي . قال أبو حيان : وليس كما ذكرا بل فعل المُتعدي الصحيح جميع حروفه إذا لم يكن للمبالغة ، ولا حلقي عين ولا لام فإنه جاء على يفعِل ويفعُل كثيراً ، فإن شُهِرَ أحد الاستعمالين اتُّبع وإلا فالخيار حتى إن بعض أصحابنا خيَّر فيهما سُمِعَا للكلمة أم لم يُسْمَعَا .
قال شهاب الدين : الذي خيَّر في ذلك ابن عصفور ، فيجيز أن يقول : زيد يفعِل بكسر العين ، ويَضْرِب بكسر الراء مع سماع الضم في الأول والكسر في الثاني وسبقه إلى ذلك ابن درستويه ( إلا أن ) النحاة على خلافه .
قوله : « وَمَا يَعْبُدُونَ » عطف على مفعول « يَحْشُرُهُمْ » ، ويضعف نصبه على المعية ، وغلب غير العاقل عليه فأتي ب « ما » دون « من » .
فصل
ظاهر قوله : « وَمَا يَعْبُدُونَ » أنها الأصنام ، لأن ( ما ) لما لا يعقل . وظاهر قوله : { فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ } أنه من عبد من الأحياء كالملائكة والمسيح وعزير وغيرهم؛ لأن الإضلال وجد بهم فلهذا اختلفوا .
فقال مجاهد : أراد الملائكة والجن والمسيح وعزير . وقال عكرمة والضحاك والكلبي : يعني الأصنام . فقيل لهم : كيف يخاطب الله تعالى الجماد فأجابوا بوجهين :
أحدهما : أنه تعالى يخلق الحياة فيها ويخاطبها .
والثاني : أن يكون ذلك بالكلام النفساني لا بالقول اللساني بل بلسان الحال كما ذكر بعضهم في تسبيح الموات ، وكلام الأيدي والأرجل ، وكما قيل سل الأرض من شق أنهارك ، وغرس أشجارك؟ فإن لم يحصل جواباً أجابتك اعتباراً .
وقال الأكثرون : المراد الملائكة وعيسى وعزير - عليهم السلام - قالوا : ويتأكد هذا القول بقوله تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } [ سبأ : 40 ] فإن قيل : لفظة « ما » لا تستعمل في العقلاء . فالجواب من وجهين :
الأول : لا نسلم أن كلمة « ما » لا تستعمل لمن لا يعقل؛ لأنهم قالوا : « مَنْ » لمن لا يعقل في قوله تعالى : { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ } [ النور : 45 ] .
الثاني : أنه أريد به الوصف كأنه قيل : ومعبودهم .
وقال تعالى : { والسمآء وَمَا بَنَاهَا } [ الشمس : 5 ] ، { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } [ الكافرون : 3 ] وهذا لا يستقيم إلا على أحد هذين الوجهين .
فصل
قالت المعتزلة : ( وفيه كسر بيّن لقول من يقول إن ) الله يضل عباده في الحقيقة لأنه لو كان الأمر كذلك لكان الجواب الصحيح أن يقول : إلهنا ههنا قسم ثالث غيرهما هو الحق ، وهو أنّك أضللتهم فلما لم يقولوا ذلك بل نسبوا ضلالهم إلى أنفسهم ، علمنا أنه تعالى لا يضل أحداً من عباده ، فإن قيل : لا نسلم أن المعبودين ما تعرضوا لهذا القسم بل ذكروه ، وقالوا : { ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حتى نَسُواْ الذكر } ، وهذا تصريح بأن ضلالهم إنما حصل لأجل ما فعل الله بهم ، وهو أنه تعالى متَّعهم وآباءهم بنعيم الدنيا . قلنا : لو كان الأمر كذلك لكان يلزم أن يصير الله محجوجاً في يد أولئك المعبودين ، ومعلوم أنه ليس الغرض ذلك بل الغرض أن يصير الكافر محجوجاً مفحماً ملوماً .
وأجاب أهل السنة بأن القدرة على الضلالة إن لم تصلح للاهتداء فالإضلال من الله ، وإن صلحت له لم يترجح اقتدارها للضلال على اقتدارها على الاهتداء إلا لمرجح من الله تعالى ، وعند ذلك يزول السؤال .
وأما ظاهر الآية وإن كان لهم لكنه معارض بسائر الظوهر المطابقة لقولنا .
قوله : « هؤلاء » يجوز أن يكون نعتاً ل « عِبَادي » أو بدلاً أو بياناً .
قوله : « ضلّوا السَّبِيلَ » على حذف حرف الجر وهو « عن » كما صرح به في قوله { يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 117 ] ثم اتُّسع فيه فحُذِف نحو هَدَى ، فإنَّه يتعدَّى ب ( إلى ) وقد يُحْذَف اتساعاً . و « ضلَّ » مطاوع ( أَضَلَّ ) . فإن قيل : إِنَّهُ تعالى كان عالماً في الأزل بحال المسؤول عنه فما فائدة هذا السؤال؟
فالجواب : هذا سؤال تقريع للمشركين كما قيل لعيسى { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله } [ المائدة : 116 ] . فإن قيل : فما فائدة « أَنْتُمْ » ، وهلاَّ قيل : أَأَضْلَلْتُمْ عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل؟
فالجواب : هذا سؤال عن الفاعل فلا بدَّ من ذكره حتى يعلم أنه المسؤول عنه .
وقوله : « أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ . . . أَمْ هُمْ ضَلُّوا » ( إنما قدم الاسم على الفعل ) كما تقدم في قوله : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } [ المائدة : 116 ] .
قوله : « يَنْبَغِي » العامة على بنائه للفاعل ، وأبو عيسى الأسود القارئ « يُنْبَغَى » مبنيًّا للمفعول . قال ابن خالويه : زعم سيبويه أنَّ « يُنْبَغَى » لغة .
قوله : « أَنْ نَتَّخِذَ » فاعل « يَنْبَغِي » ، أو مفعول قائم مقام الفاعل في قراءة الأسود وقرأ العامة « نَتَّخِذَ » مبنيًّا للفاعل ، و « مِنْ أَوْلِيَاء » مفعوله وزيدت فيه ( مِنْ ) ويجوز أن يكون مفعولاً أوَّلَ على أن ( اتَّخَذَ ) متعدياً لاثنين .
ويجوز أن لا تكون المتعدية لاثنين بل لواحد ، فعلى هذا « مِنْ دُونِكَ » متعلق بالاتخاذ ، أو بمحذوف على أنه حال من « أَوْلِيَاء » .
وقرأ أبو الدرداء ، وزيد بن ثابت ، وأبو رجاء ، والحسن ، وأبو جعفر في آخرين : « نُتَّخَذَ » مبنيًّا للمفعول . وفيه أوجه :
أحدها : أنها المتعدية لاثنين ، فالأول : « هُمْ » ضمير الاثنين ، والثاني : قوله : « مِن أَوْلِيَاء » و « مِنْ » للتبعيض ، أي : ما كان ينبغي أن نتخذ بعض أولياء ، قاله الزمخشري .
الثاني : أنَّ « مِنْ أَوْلِيَاء » هو المفعول الثاني - ( أيضاً - إلاَّ أن « مِنْ » مزيدة في المفعول الثاني ) . وهذا مردود بأن « مِنْ » لا تزاد في المفعول الثاني إنما تزاد في الأول . قال ابن عطية : ويضعف هذه القراءة دخول « مِنْ » في قوله : « مِنْ أَوْلِيَاء » اعترض بذلك سعيد بن جبير وغيره . قال الزجاج : أخطأ من قرأ بفتح الخاء وضم النون ، لأنَّ « مِنْ » إنما تدخل في هذا الباب إذا كانت مفعولةً أولاً ولا تدخل على مفعول الحال ، تقول : ما اتخذت من أحدٍ ولياً ، ولا يجوز ما اتخذت أحداً من وليٍّ .
الثالث : أن يكون « مِنْ أَوْلِيَاء » في موضع الحال قاله ابن جني إلاَّ أنه قال : ودخلت « مِنْ » زيادة لمكان النفي المتقدم كقولك : ما اتخذت زيداً من وكيل . فظاهر هذا أنه جعل الجار والمجرور ( في موضع الحال ، وحينئذ يستحيل أن تكون « مِنْ » مزيدة ولكنه يريد أن هذا المجرور ) هو الحال نفسه و « مِنْ » مزيدة فيه إلاَّ أنه لا يحفظ زيادة « مِنْ » في الحال وإن كانت منفية وإنما حفظ زيادة الباء فيها على خلاف في ذلك . فإن قيل : هذه القراءة غير جائزة ، لأنه لا مدخل لهم في أن يتخذهم غيرهم أولياء . قلنا : المراد أنا لا نصلح لذلك ، فكيف ندعوهم إلى عبادتنا؟ وقرأ الحجاج : نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ [ أولياء ] فبلغ عاصماً فقال : مَقَّتَ المُخْدجُ ، أو ما علم أنَّ فيها « مِنْ » .
فصل
أجابوا بقولهم : « سُبْحَانَكَ » . وفيه وجوه :
أحدها : أنه تعجب منهم ، تعجبوا مما قيل لهم؛ لأنهم ملائكة ، والأنبياء معصومون فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختصٌّ بإبليس وجنوده .
وثانيها : أنهم نطقوا ب « سُبْحَانَكَ » ليدلوا على أنهم المسبحون الموسومون بذلك ، فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده .
وثالثها : قصدوا بالتسبيح تنزيهه عن الأنداد سواء كان المسبح وثناً أو نبياً أو ملكاً .
ورابعها : قصدوا تنزيهه أن يكون مقصوده من هذا السؤال استفادة علم أو إبراء من كان بريئاً من الجرم ، بل إنما سألهم تقريعاً للكفار وتوبيخاً لهم .
وقولهم : { مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ } .
معناه : إذا كنا لا نرى أن يتخذ من دونك ولياً ، فكيف ندعو غيرنا إلى ذلك ، أي ما كان لنا أن نأمرهم بعبادتنا ونحن نعبدك .
وقيل : ما كان ينبغي لنا أن نكون أمثال الشياطين . وقيل : ما كان لنا أن نتخذ من دون رضاك من أولياء ، أي : إنا علمنا أنك لا ترضى بهذا فما فعلنا ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . وقيل : قالت الملائكة : ( إنَّا وهم عبيدك ، ولا ينبغي لعبيدك أن يتخذوا من دون إذنك ولياً ولا حبيباً فضلاً عن أن يتخذ عبداً آخر إلهاً . وقيل : قالت الأصنام ) : إنا لا يصلح منا أن نكون من العابدين فكيف يمكننا ادعاؤنا من المعبودين .
قوله : « وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ » . لمَّا تضمَّن كلامهم أنَّا لم نضلهم ولم نحملهم على الضلال حسن هذا الاستدراك ، وهو أن ذكروا سببه ، أي : أنعمت عليهم وتفضلت فجعلوا ذلك ذريعةً إلى ضلالهم عكس القضية . والمعنى متعتهم وآباءهم في الدنيا بطول العمر والصحة والنعمة . { حتى نَسُواْ الذكر } تركوا الموعظة والإيمان بالقرآن . وقيل : تركوا ذكرك وغفلوا عنه .
قوله : { وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً } أي : هلكى غلب عليهم الشقاء والخذلان . و « بُوراً » يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنه جمع بائر كعائذ وعوذ .
والثاني : أنه مصدر في الأصل كالزور ، فيستوي فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث ، وهو من البوار والهلاك .
وقيل من الفساد ، وهي لغة الأزد ، يقولون : بَارَتْ بِضَاعَتَهُ أي : فسدت ، وأمرنا بائر ، أي : فاسد ، وهذا معنى قولهم : كسدت البضاعة .
وقال الحسن : هو من قولهم : أرض بورٌ ، أي : لا نبات بها . وهذا يرجع إلى معنى الهلاك والفساد .
قوله تعالى : « فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ » هذا خطاب مع المشركين ، أي : كَذَّبَكُمُ المعبودون في قولكم إنهم آلهة وإنهم أضلوكم . وقيل : خطاب للمؤمنين في الدنيا ، أي : فقد كذبوكم أيها المؤمنون الكفار بما تقولون من التوحيد في الدُّنيا ، وهو معنى قوله « بِما تَقُولُونَ » . وهذه الجملة من كلام الله تعالى اتفاقاً ، فهي على إضمار القول والالتفات . قال الزمخشري : هذه المفاجأة بالاحتجاج والإلزام حسنةٌ رائعةٌ وخاصة إذا انضمَّ إليها الالتفات وحذف القول ، ونحوها قوله : { يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ [ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ] } [ المائدة : 19 ] ، وقول القائل :
3868- قالوا خُراسَانُ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِنَا ... ثُمَّ القُفُولُ فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا
انتهى .
يريد أنَّ الأصل في الآية الكريمة فقلنا فقد كذبوكم ، وفي البيت : فقلنا قد جئنا . وقرأ أبو حيوة وقنبل في رواية ابن أبي الصلت عنه بالياء من تحت ، أي : « فَقَدْ كَذَبَكُم الآلِهَةُ بِمَا يَقُولُونَ ( سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ » إلى آخره وقيل : المعنى : فقد كذبكم أيها المؤمنون الكفار بما يقولون ) من الافتراء عليكم .
قوله : « فَمَا يَسْتَطِيعُونَ » .
قرأ حفص بتاء الخطاب ، والمراد عبَّادها ، والمعنى فما تستطيعون أنتم يا كفار صرف العذاب عنكم . وقيل : الصرف : التوبة ، وقيل : الحيلة . وقرأ الباقون باء الغيبة ، والمراد الآلهة التي كانوا يعبدونها من عاقل وغيره ، ولذلك غلب العاقل وأتى بواو الضمير ، والمعنى : فما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب وأن يحتالوا لكم .
قوله : { وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ } . قرأ العامة « نُذِقْهُ » بنون العظمة ، وقرئ بالياء ، وفي الفاعل وجهان :
أظهرهما : أنه الله تعالى لدلالة قراءة العامة على ذلك .
والثاني : أنه ضمير الظلم المفهوم من الفعل ، وفيه تجوز بإسناد إذاقة العذاب إلى سببها وهو الظلم ، والمعنى : ومن يشرك منكم نذقه عذاباً كبيراً .
فصل
تمسك المعتزلة بهذه الآية ( في القطع بوعيد أهل الكبائر ، قالوا : ثبت أن كلمة « مَنْ » في معرض الشرط للعموم ، وثبت أن الكافر ظالم لقوله { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] ، والفاسق ظالم لقوله : { وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون } [ الحجرات : 11 ] فثبت بهذه الآية ) أن الفاسق لا يعفى عنه بل يعذب لا محالة .
والجواب : أنا لا نسلم أن كلمة « مَنْ » في معرض الشرط للعموم ، والكلام فيه مذكور في أصول الفقه ، سلمنا أنه للعموم لكن قطعاً أم ظاهراً؟ ودعوى القطع ممنوعة ، فإنا نرى في العرف العام والاستعمال المشهور استعمال صيغ العموم مع إرادة الأكثر أو لأن المراد أقوام معينون ويدل عليه قوله تعالى { إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 6 ] ثم إن كثيراً من الذين كفروا قد آمنوا فلا دافع أن يقال : قولنا « الَّذِينَ كَفَرُوا » كان يفيد العموم ، لكن المراد منه إمَّا الغالب أو المراد منه أقوام مخصصون .
وعلى التقديرين ثبت أن استعمال ألفاظ العموم في الأغلب عرف ظاهر وإذا كان كذلك كانت دلالة هذه الصيغ على العموم دلالة ظاهرة لا قاطعة ، وذلك لا ينفي تجويز العفو .
سلمنا دلالته ، لكن أجمعنا على أن قوله : { وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ } مشروط بأن لا يزيل ذلك الظلم بتوبة أو بطاعة هي أعظم من ذلك الظلم ، فيرجع حاصل الأمر إلى أن قوله : « يَظْلِمْ مِنْكُمْ » مشروط بأن لا يعاجل ما يزيله وعند هذا فنقول : هذا مسلم ، لكن لم قلتم : إنه لم يوجد ما يزيله؟ فإن العفو عندنا أحد الأمور الثلاثة التي تزيله ، وذلك هو أول المسألة سلمنا دلالته على ما قال ولكنه معارض بآيات الوعد كقوله : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفردوس نُزُلاً } [ الكهف : 107 ] .
فإن قيل : آيات الوعيد أولى ، لأن السارق يُقْطع على سبيل التنكيل ، وإذا ثبت أنه مستحق للعقاب ثبت أن استحقاق الثواب محبط لما بينا أن الجمع بين الاستحقاقين محال . قلنا : لا نسلم أنَّ السارق يقطع على سبيل التنكيل ، ألا ترى أنه لو تاب فإنه ( لا ) يقطع على سبيل التنكيل ( بل على سبيل المحنة ) .
نزلنا عن هذه المقامات ، ولكن قوله تعالى : { وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ } خطاب مع قوم مخصوصين معينين ، فهب أنه لا يعفو عن غيرهم .
قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين } الآية هذا جواب عن قولهم : { مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق } [ الفرقان : 7 ] أي : هذه عادة مستمرة من الله تعالى في كل رسله فلا وجه لهذا الطعن .
قوله : { إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ } حق الكلام أن يقال : إلاَّ أنَّهُمْ . بفتح الألف ، لأنه متوسط ، والمكسورة لا تليق إلاَّ بالابتداء ، فلهذا ذكروا في هذه الجملة ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها في محل نصب صفة لمفعول محذوف ، فقدره الزجاج والزمخشري : « وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ أحَداً مِن المُرْسَلِين إلا آكِلِين وَمَاشِينَ » . وإنما حذف ، لأن في قوله : « مِنَ المُرْسَلِينَ » دليلاً عليه ، نظيره قوله تعالى : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] بمعنى : مَا مِنَّا أحدٌ . وقدره ابن عطية : رجالاً أو رسلاً . والضمير في « إنَّهم » وما بعده عائد على هذا الموصوف المحذوف .
والثاني : قال الفراء : إنها لا محل لها من الإعراب ، وإنما هي صلة لموصول محذوف هو المفعول ( ل « أَرْسَلْنَا » ) ، تقديره : إلا من أنهم . فالضمير في « إنَّهُمْ » وما بعده عائد على معنى « مَنْ » المقدرة ، واكتفي بقوله : « مِنَ المُرْسَلِينَ » عنه كقوله : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ( كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً ) } [ مريم : 71 ] ، أي : إلاَّ من يردها .
فعلى قول الزجاج الموصوف محذوف ، وعلى قول الفراء الموصول هو المحذوف ، ولا يجوز حذف الموصول وتبقية الصلة عند البصريين إلاَّ في مواضع ، تقدَّم التنبيه عليها في البقرة .
الثالث : أن الجملة محلها النصب على الحال ، وإليه ذهاب ابن الأنباري قال : التقدير : إلاَّ وإنهم ، يعني أنها حالية ، فقدَّر معها الواو بياناً للحالية ، فكسر بعد استئناف . وردَّ بكون ما بعد « إلاَّ » صفة لما قبلها ، وقدره أبو البقاء أيضاً . والعامة على كسر « إنَّ » ، لوجود اللام في خبرها ، ولكون الجملة حالاً على الراجح . قال أبو البقاء : وقيل : لَوْ لَمْ تكن اللام لكسرت أيضاً لأن الجملة حالية ، إذ المعنى : إلاَّ وَهُمْ . وقيل : المعنى : إلا قيل أنهم .
وقرئ « أنَّهُمْ » بالفتح على زيادة اللام وأن مصدرية ، والتقدير : إلاَّ لأنَّهُمْ أي : ما جعلنا رسلاً إلى الناس إلا لكونهم مثلهم .
وقرأ العامة « يَمْشُونَ » خفيفة ، وأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وعبد الله « يُمَشُّونَ » مشدداً مبنيًّا للمفعول ، أي : تُمَشِّيهِمْ حَوَائِجُهُمْ أو الناس .
وقرأ عبد الرحمن : « يَمشُّونَ » بالتشديد مبنيًّا للفاعل ، وهي بمعنى « يَمْشُونَ » قال الشاعر :
3869- وَمَشَّى بِأَعْطَانِ المِيَاهِ وابْتَغَى ... قَلاَئِصَ مِنْهَا صَعْبَةٌ وَرَكُوبُ
قال الزمخشري : ولو قرئ « يَمَشُّونَ » لكان أوجه لولا الرواية . يعني بالتشديد .
قال شهاب الدين : قد قرأ بها السُّلَمِيّ ولله الحمد .
فصل
روى الضحاك عن ابن عباس قال : لمَّا عيَّر المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : { مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق } [ الفرقان : 7 ] أنزل الله هذه الآية . يعني : ما أنا إلا رسول ، وما كنت بدعاً من الرسل ، وهم كانوا يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق ، كما قال في موضع آخر : { مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } [ فصلت : 43 ] . { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } أي : بلية ، فالغني فتنة للفقير ، ( ويقول الفقير ) : ما لي لم أكن مثله؟ والصحيح فتنة للمريض ، والشريف فتنة للوضيع . قال ابن عباس : أي : جعلت بعضكم بلاء لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم ، وترون من خلافهم وتتبعون الهدى .
وقال الكلبي والزجاج والفراء : نزلت في رؤساء المشركين وفقراء الصحابة فإذا رأى الشريف الوضيع قد أسلم قبله أَنِفَ أن يسلم ، وأقام على كفره لئلا يكون للوضيع السابقة والفضل عليه ، ويدل عليه قوله تعالى : { لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] وقيل : هذا عام في جميع الناس ، روى أبو الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « ويل للعالم من الجاهل ، وويل للسلطان من الرعية ، ( وويل للرعية من السلطان ) ، وويل للمالك من المملوك ، وويل للشديد من الضعيف ، وللضعيف من الشديد بعضهم لبعض فتنة » وقرأ هذه الآية .
وروي عن ابن عباس والحسن هذا في أصحاب البلاء والعافية ( هذا يقول لِمَ لَمْ أجعل مثله ) في الخلق ، والخلق ، وفي العقل ، وفي العلم ، وفي الرزق ، وفي الأجل .
وقيل : هذا احتجاج عليهم في تخصيص محمد بالرسالة مع مساواته لهم في البشريّة وصفاتها ، فالمرسلون يتأذون من المرسل إليهم بأنواع الأذى على ما قال : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً } [ آل عمران : 186 ] ، والمرسل إليهم يتأذون أيضاً ( من الرسل ) بحسب الحسد ، وصيرورته مكلفاً بالخدمة وبذل النفس والمال بعد أن كان رئيساً مخدوماً .
والأولى حمل الآية على الكل ، لأن بين الجميع قدراً مشتركاً .
قال عليه السلام : « إذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ في المَالِ والجَسدِ فَلْيَنْظُرْ إلَى مَنْ دُونَهُ في المالِ والجَسَدِ » .
قوله : { أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } . « أَتَصْبِرُونَ » المعادل محذوف ، أي : أم لا تصبرون وهذه الجملة استفهام ، والمراد منه : التقرير بأن موقعه بعد الفتنة موقع أيّكم بعد الابتلاء في قوله : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ هود : 7 ] بمعنى : أنها معلِّقة لما فيها من معنى فعل القلب ، فتكون منصوبة المحل على إسقاط الخافض والمعنى : « أَتَصْبِرُونَ » على البلاء ، فقد علمتم ما وعد الصابرون ، { وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } أي : عالم بمن يصبر ، وبمن لا يصبر فيجازي كلاً منهم بما يستحقه من ثواب وعقاب .
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
قوله تعالى : { وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } الآية . هذه هي الشبهة الرابعة لمنكري نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وحاصلها : لم ( لم ) تنزَّل الملائكة حتى يشهدوا أن محمداً محق في دعواه ، { أَوْ نرى رَبَّنَا } حتى يخبرنا بأنه أرسله إلينا؟
فصل
قال الفراء : قوله تعالى : { وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } أي : لا يخافون لقاءنا ، فوضع الرجال موضع الخوف لغة تهاميّة إذا كان معه جحدٌ ، ومنه قوله تعالى : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } [ نوح : 13 ] أي : لا تخافون لله عظمةً
قال القاضي : لا وجه لذلك ، لأن الكلام متى أمكن حمله على الحقيقة لم يجز حمله على المجاز ، والمعلوم من حال عبّاد الأصنام أنهم كانوا لا يخافون العقاب ، لتكذيبهم ( بالمعاد ) ، فكذلك لا يرجون الثواب لمثل ذلك ، فقوله : { لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } محمول على الحقيقة ، وهو أنهم لا يرجون لقاء ما وعدنا على الطاعة من الثواب والجنة ، ومعلوم أن من لا يرجو ذلك لا يخاف العقاب أيضاً ، فالخوف تابع ( للرجاء ) .
فصل
دلَّ ظاهر الآية على جواز الرؤية ، لأن اللقاء جنس تحته أنواع ، أحد أنواعه الرؤية ، والآخر الاتصال والمماسّة . وهما باطلان ، فدلَّ على جواز الرؤية ، لأن الرائي يصل برؤيته إلى حقيقة المرئي فسمي الرؤية لقاء . وقالت المعتزلة : تفسير اللقاء برؤية البصر جهل باللغة ، لأنه يقال في الدعاء : لقاك الله الخير . ويقول القائل : لم أَلْقَ الأمير . وإن رآه من بعد إذا حجب عنه ، ويقال في الضرير : لقي الأمير إذا أذن له ولم يحجب ، وقد يلقاه في الليلة الظلماء ولا يراه ، بل المراد من اللقاء هنا المصير إلى حكمه حيث لا حكم لغيره في يوم { لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً } [ الانفطار : 19 ] لا أنه رؤية البصر . قال ابن الخطيب وهذا كلام ضعيف ، لأنَّ اللفظ الموضوع لمعنى مشترك بين معان كثيرة ينطلق على كل واحد من تلك المعاني ، فيصح قوله : لقاك الخير ، ويصح قول الأعمى : لقيت الأمير ، ويصح قول البصير : لقيته ( بمعنى رأيته ، وما لقيته ) بمعنى ما وصلت إليه ، وإذا ثبت هذا فنقول : قوله تعالى : { وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } مذكور في معرض الذم لهم ، فوجب أن يكون رجاء اللقاء حاصلاً ، ومسمى اللقاء مشترك بين الوصول المكاني وبين الوصول بالرؤية ، وقد بطل الأول فتعيّن الثاني .
وقولهم : المراد من اللقاء الوصول إلى حكمه . صرف للفظ عن ظاهره بغير دليل ، فثبت دلالة الآية على صحة الرؤية بل على وجوبها ، بل على أنّ إنكار الرؤية ليس إلا من دين ( الكفار ) .
قوله : « لَوْلاَ أُنْزِلَ » : هلاّ أنزل « عَلَيْنَا المَلاَئِكَةُ » فيخبرونا أن محمداً صادق { أَوْ نرى رَبَّنَا } فيخبرنا بذلك { لَقَدِ استكبروا في أَنفُسِهِمْ } ( أي : تعظموا في أنفسهم ) بهذه المقالة .
قال الكلبي ومقاتل : نزلت الآية في أبي جهل والوليد وأصحابهما المنكرين للنبوة والبعث .
قوله : « عُتُواً » مصدر وقد صحَّ هنا وهو الأكثر وأُعِلَّ في مريم في « عِتِيًّا » ، لمناسبة ذكرت هناك ، وهي تواخي رؤوس الفواصل .
فصل
قال مجاهد : « عُتُوًّا » طغواً . وقال مقاتل : « عتوًّا » غلوًّا في القول .
والعتو : أشد الكفر وأفحش الظلم ، وعتوهم طلبهم رؤية الله حتى يؤمنوا به .
وقوله : « فِي أَنْفُسِهِمْ » ، لأنهم أضمروا الاستكبار في قلوبهم واعتقدوه ، كما قال : { إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم ( بِبَالِغِيهِ ) } [ غافر : 56 ] . وعتوا : تجاوزوا الحد في الظلم .
فصل
وهذا جواب عن شبهتهم وبيانه من وجوه :
أحدها : أن القرآن لما ظهر كونه معجزاً فقد تمت نبوة محمد - عليه السلام - فبعد ذلك يكون اقتراح أمثال هذه الآيات لا يكون إلا محض التعنت والاستكبار .
وثانيها : أنَّ نزول الملائكة لو حصل لكان أيضاً من جملة المعجزات ، فل يدل على الصدق لخصوص كونه نزول الملك بل لعموم كونه معجزاً فيكون قبول ذلك المعجز وردّ المعجز الآخر ترجيحاً لأحد المثلين على الآخر من غير مزيد فائدة ومرجِّح ، وهو محض الاستكبار والتعنت .
وثالثها : أنهم بتقدير أن يروا الرب ، ويسألوه عن صدق محمد - عليه السلام - وهو سبحانه يقول : نعم هو رسولي ، فذلك لا يزيد في التصديق على إظهار المعجز على يد محمد - عليه السلام - لأنَّا بيَّنَّا أن المعجزة تقوم مقام التصديق بالقول ، إذ لا فرق وقد ادعى النبوة بين أن يقول : اللهم إن كنت صادقاً فأحْيِ هذا الميت ، فيحييه الله تعالى ، ( والعادة لم تجر بمثله ) ، وبين أن يقول له : صدقت . وإذا كان التصديق بالقول والتصديق الحاصل بالمعجز ( سيّين ) في كونه تصديقاً للمدعى ، كان تعيين أحدهما محض استكبار وتعنت .
ورابعها : يمكن أن يكون المراد أنَّ الله تعالى قال : لو علمت أنهم ما ذكروا هذا السؤال لأجل الاستكبار والعتو الشديد لأعطيتهم مقترحهم ، ولكني علمت أنهم ذكروا هذا الاقتراح لأجل الاستكبار والتعنت ، فلو أعطيتهم مقترحهم لما انتفعوا به ، فلا جرم لا أعطيهم ذلك .
وخامسها : لعلهم سمعوا من أهل الكتاب أن الله لا يُرَى ، وأنه تعالى لا ينزل الملائكة في الدنيا على عوام الخلق ، ثم إنهم علقوا إيمانهم على ذلك على سبيل الاستهزاء .
فصل
استدل المعتزلة بهذه الآية على عدم الرؤية ، لأنّ رؤيته لو كانت جائزة لما كان سؤالها عتواً . قالوا : فقوله : { لَقَدِ استكبروا في أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً } ليس إلا لأجل سؤال الرؤية ، واستعظم في آية أخرى قولهم : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة } [ البقرة : 55 ] . فثبت أن الاستكبار والعتو هاهنا إنما حصل لأجل سؤال الرؤية ، وتقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة . ونقول هاهنا : إنّا بينا أن قوله : { وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } يدل على الرؤية ، وأمّا الاستكبار والعتو فلا يدل ذلك على أن الرؤية مستحيلة ، لأنَّ من طلب شيئاً محالاً لا يقال : إنه عَتَا واستكبر ، ألا ترى قولهم :
{ اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف : 138 ] لم يثبت لهم بطلب هذا المحال عتوًّا واستكباراً بل قال : { إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [ الأعراف : 138 ] .
ومما يدل على ذلك أن موسى - عليه السلام - لما قال : { رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 143 ] ما وصفه الله بالاستكبار والعتوّ ، لأنه - عليه السلام - طلب الرؤية شوقاً ، وهؤلاء لمَّا طلبوها امتحاناً وتعنتاً لا جرم وصفهم بذلك .
قوله : « يَوْمَ يَرَونَ » فيه أوجه :
أحدها : أنه منصوب بإضمار فعل يدل عليه قوله : « لاَ بُشْرَى » أي : يُمْنَعُونَ البُشْرَى يَوْمَ يَرَونَ .
الثاني : أنه منصوب ب ( اذكر ) ، فيكون مفعولاً به .
الثالث : أنَّه منصوب ب ( يعذبون مقدراً .
ولا يجوز أن يعمل فيه نفس « البُشْرَى » لوجهين :
أحدهما : أنها مصدر والمصدر لا يعمل فيما قبله .
والثاني : أنَّها منفية ب ( لا ) ، ( وما بعد ( لا ) ) لا يعمل فيما قبلها .
قوله : « لاَ بُشْرَى » هذه الجملة معمولة لقول مضمر ، أي : يَرَون الملائكة يقولون لا بُشْرَى ، فالقول حال من « المَلاَئِكَة » ، وهو نظير التقدير في قوله : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ } [ الرعد : 23 ] إلى قوله : { سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 24 ] .
قال أبو حيان : واحتمل « بُشْرَى » أن يكون مبنيًّا مع « لاَ » ، واحتمل أن يكون في نية التنوين منصوب اللفظ ، ومنع من الصرف للتأنيث اللازم فإنه كان مبنيًّا مع « لا » احتمل أن يكون « يَوْمَئِذٍ » خبراً و « لِلْمُجْرِمِينَ » خبراً بعد خبر ، أو نعتاً ل « بُشْرَى » ، أو متعلقاً بما تعلَّق به الخبر ، وأن يكون « يَوْمَئِذٍ » صفة ل « بُشْرَى » والخبر « لِلْمُجْرِمِينَ » ، ويجيء خلاف سيبويه والأخفش هل الخبر لنفس « لاَ » أو الخبر للمبتدأ الذي هو مجموع « لاَ » وما بني معها .
وإن كان في نية التنوين وهو معرب ، ( جاز أن يكون « يَوْمَئِذٍ » ، و « لِلْمُجْرِمِينَ » خبرين ، و ) جاز أن يكون « يَوْمَئِذٍ » خبراً و « لِلْمُجْرِمِينَ » صفة ، والخبر إذا كان الاسم ليس مبنياً لنفس « لاَ » بإجماع . قال شهاب الدين : قوله : واحتمل أن يكون في نية التنوين إلى آخره لا يتأتَّى إلاَّ على قول أبي إسحاق ، وهو أنه يرى أنَّ اسم ( لاَ ) النافية للجنس معربٌ ، ويعتذر عن حذف التنوين بكثرة الاستعمال ويستدل عليه بالرجوع إليه في الضرورة ، وينشد :
3870- أَلاَ رَجُلاً جَزَاهُ اللَّهُ خَيْراً ... ويتأوله البصريون على إضمار : ألا ترونني رجلاً ، وكان يمكن الشيخ أن يجعله معرباً كما ادّعى بطريق أخرى ، وهو : أن يجعل « بُشْرَى » عاملة في « يَوْمَئِذٍ » أو في « لِلْمُجْرِمِينَ » ، فيصير من قُبَيْل المطوَّل ، والمطوَّل معربٌ ، لكنه لم يلم بذلك ، وسيأتي شيء من هذا في كلام أبي البقاء رحمه الله .
ويجوز أن يكون « بُشْرَى » معرباً منصوباً بطريق أخرى ، وهي أن تكون منصوبة بفعل مقدَّر ، أي : لا يُبَشَّرُونَ بُشْرَى ، كقوله تعالى : { لاَ مَرْحَباً ( بِهِمْ ) } [ ص : 59 ] ، ( و ) لا أهلاً ولا سهلاً ، إلاَّ أن كلام الشيخ لا يمكن تنزيله على هذا لقوله : جاز أن يكون « يَوْمَئِذٍ » و « لِلْمُجْرِمِينَ » خبرين ، فقد حكم أن لها خبراً ، وإذا جُعِلَت منصوبة بفعل مقدر لا يكون [ ل ( لا ) ] حينئذ خبر ، لأنها داخلة على ذلك الفعل المقدر ، وهذا موضع حسنٌ .
قوله : « يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ » قد تقدَّم في « يَوْمَئِذٍ » أوجه : وجوَّز أبو البقاء أن يكون منصوباً ب « بُشْرَى » ، قال : إذا قدَّرت أنها منونة غير مبنيَّة مع ( لا ) ، ويكون الخبر « لِلْمُجْرِمِينَ » . وجوَّز - أيضاً - هو والزمخشري أن يكون « يَوْمَئِذٍ » تكريراً ل « يَوْم ) يَرَوْنَ » وردَّه أبو حيان سواء أريد بالتكرير التوكيد اللفظيّ أم أريد به البدل قال : لأنَّ « يَوْمَ » منصوب بما تقدم ذكره من ( اذكر ) ( أو من ) ( يَعْدَمُونَ ) البشرى ، وما بعد ( لاَ ) العاملة في الاسم لا يعمل فيه ما قبلها ، وعلى تقدير ما ذكراه يكون العامل فيه ما قبل ( لاَ ) . وما ردَّه ليس بظاهر ، لأنَّ الجملة المنفية معمولةٌ للقول المضمر الواقع حالاً من « المَلاَئِكَةِ » ، و « الملائكة » معمولةٌ ل « يَرَوْنَ » ، و « يَرَوْنَ » معمول ل « يَوْمَ » خُصِّصَا بالإضافة ، ف ( لا ) وما في حيزها من تتمة الظرف الأول من حيث إنها معمولة لبعض ما في حيزه ، فليست بأجنبية ولا مانعةٍ من أن يعمل ما قبلها فيما بعدها .
والعجب له كيف تخيل هذا وغفل عما تقدم فإنه واضح مع التأمل . و « لِلْمُجْرِمِينَ » من وضع الظاهر موضع المضمر شهادةً عليهم بذلك . والضمير في « يقُولُونَ » يجوز عوده للكفار ( أو للملائكة ) . و « حِجْراً » من المصادر الملتزم إضمار ناصبها ، ولا يتصرَّف فيه نحو معاذ الله ، وقعدك ، وعمرك ، وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدوٍّ وهجوم نازلة ، ونحو ذلك يضعونها موضع الاستعاذة ، قال سيبويه : ويقول الرجل للرجل : أتفعل كذا فيقول : حِجْراً وهي من حجره : إذا منعه ، لأنَّ المستعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه ولا يلحقه ، وكان المعنى : أسأل الله أن يمنعه منعاً ويحجره حجراً . والعامة على كسر الحاء ، والضحاك ، والحسن ، وأبو رجاء على ضمِّها وهو لغة فيه .
قال الزمخشري : ومجئيه على فِعْل أو فُعْل في قراءة الحسن تصرُّفٌ فيه لاختصاصه بموضع واحد كما كان قعدك وعمرك كذلك وأنشد لبعض الرجاز :
3871- قَالَتْ وَفِيهَا حَيْدَةٌ وذُعْرُ ... عَوْذٌ بِرَبِّي مِنْكُم وَحُجْرُ ... وهذا الذي أنشده الزمخشري يقتضي تصرُّف « حِجْراً » . وقد تقدم نص سيبويه على أنه يلتزم النصب . وحكى أبو البقاء فيه لغةً ثالثةً وهي الفتح ، قال : وقد قرئ بها . فعلى هذا كمل فيه ثلاثة لغاتٍ مقروء بهنَّ .
و « مَحْجُوراً » صفة مؤكدة للمعنى كقولهم : ذيل ذائل ، والذيل : الهوان ، ومَوْتٌ مَائِتٌ ، والحِجْرُ : العقل ، لأنه يمنع صاحبه .
فصل
قوله : { يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة } عند الموت . قاله ابن عباس ، وقال الباقون : يريد يوم القيامة { لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ } للكافرين . قالت المعتزلة : الآية تدلّ على القطع بوعيد الفساق وعدم العفو ، قوله : « لاَ بُشْرَى . . . لِلْمُجْرِمِينَ » نكرة في سياق النفي فتعمّ جميع أنواع البشر في جميع الأوقات ، بدليل أن من أراد تكذيب هذه القضية قال : بل له بُشْرَى في الوقت الفلاني ، فلما كان ثبوت البشرى في وقت من الأوقات يذكر لتكذيب هذه القضية ، علمنا أن قوله : « لاَ بُشْرَى » يقتضي نفي جميع البشرى في كل الأوقات ، وشفاعة الرسول لهم من أعظم البشرى فوجب أن لا يثبت ذلك لأحد من المجرمين ، والكلام على التمسك بصيغ العموم ، وقد تقدم مراراً .
فصل
اختلفوا في القائلين « حِجْراً مَحْجُوراً » : فقال ابن جريج : كانت العرب إذا نزلت بهم شدة ، ورأوا ما يكرهون ، قالوا : « حِجْراً مَحْجُوراً » ، فهم يقولونه إذا عاينوا الملائكة .
قال مجاهد : يعني : عوذاً مَعَاذاً ، فيستعيذون به من الملائكة .
وقال ابن عباس : تقول الملائكة : حراماً محرماً أن يدخل الجنة إلا من قال : لا إله إلا الله . قال مقاتل : إذا خرج الكفار من قبورهم قالت لهم الملائكة « حِجْراً مَحْجُوراً » أي : حرام محرم عليكم أن تكون لكم البشرى .
قوله : { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ } أي : وعمدنا إلى عملهم .
قوله : { فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } . الهَبَاءُ والهَبْوَةُ : التراب الدقيق . قاله ابن عرفة .
قال الجوهري : يقال فيه : هَبَا يَهْبُو : إذا ارتفع ، وأَهْبَبْتُهُ أَنَا إِهْبَاءً .
وقال الخليل والزجاج : هو مثل الغبار الداخل في الكوَّة يتراءى مع ضوء الشمس فلا يمس بالأيدي ولا يرى في الظل . وهو قول الحسن وعكرمة ومجاهد .
وقيل : الهَبَاءُ ما تطاير من شرر النَّار إذا أُضْرِمَتْ ، والواحدة هباءة على حد تَمْر وتَمْرَة . و « مَنْثُوراً » أي : مفرَّقاً ، نثرت الشيء فرَّقته . والنَّثْرَةُ لنجوم متفرقة . والنَّثْرُ : الكلام غير المنظوم على المقابلة بالشعر .
قال ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير : هو ما تسفيه الرياح ، وتذريه من التراب ، ( وحطام الشجر ) .
وقال مقاتل : هو ما يسطع من حوافر الدواب عند السير .
وفائدة الوصف به أنَّ الهَبَاءَ تراه منتظماً مع الضوء ، فإذا حرّكته تفرَّق ، فجيء بهذه الصفة لتفيد ذلك .
وقال الزمخشري : أو مفعول ثالث ل « جَعَلْنَاهُ » أي : فَجَعَلْنَاهُ جامعاً لحقارة الهَبَاء والتناثر ، كقوله : « كُونُوا » { قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [ الأعراف : 66 ] أي : جامعين للمسخ والخسأ .
قال أبو حيان : وخالف ابن درستويه ، فخالف النحويين في منعه أن يكون ل ( كان ) خبران وأزيد ، وقياس قوله في ( جعل ) أن يمنع أن يكون لها خبر ثالث .
قال شهاب الدين : مقصوده أن كلام الزمخشري مردودٌ قياساً على ما منعه ابن درستويه من تعديد خبر ( كَانَ ) .
قوله : { أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } أي : من هؤلاء المشركين المستكبرين . « وَأَحْسَن مَقِيلاً » موضع قائلة . وفي ( أَفْعَل ) هاهنا قولان :
أحدهما : أنها على بابها من التفضيل ، والمعنى : أن المؤمنين خير في الآخرة مُسْتَقَراً من مُسْتَقَرِّ الكفار « وَأَحْسَنُ مَقِيلاً » من مقيلهم ، لو فرض أن يكون لهم .
والثاني : أن يكون لمجرَّد الوصف من غير مفاضلةٍ .
فصل
قال المفسرون : يعني أن أهل الجنة لا يمرّ بهم يوم إلا قدر النهار من أوله إلى قدر القائلة حتى يسكنوا مساكنهم من الجنة .
قال ابن مسعود : لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار ، وقرأ : « ثُمَّ إن مَقِيلَهُمْ لإلى الجَحِيمِ » وهكذا كان يقرأ .
وقال ابن عباس في هذه الآية : الحساب ذلك اليوم في أوله . وقال قوم : حين قالوا في منازلهم .
قال الأزهري : القيلولة والمقيل : الاستراحة نصف النهار وإن لم يكن مع ذلك نوم ، لأن الله قال : « وَأَحْسَنُ مَقِيلاً » والجنة لا نوم فيها .
وروي « أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس » .
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)
قوله : « وَيَوْمَ تَشَقَّقُ » العامل في « يَوْمَ » إمّا ( اذكر ) ، وإمّا ينفرد الله بالمُلْكِ يَوْمَ تشقق ، لدلالة قوله : { الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن } عليه . وقرأ الكوفيون وأبو عمرو [ هنا وفي ( ق ) « تَشَقَّقُ » بالتخفيف ، والباقون بالتشديد ، وهما واضحتان ، حذف الأولون ] تاء المضارعة أو تاء التفعل على خلاف في ذلك ، والباقون أدغموا تاء التفعل في الشين لما بينهما من المقاربة ، وهما ك « تَظَاهَرُونَ » و « تَظَّاهَرُونَ » حذفاً وإدغاماً ، وقد مضى في البقرة . قوله : « بِالغَمَامِ » في هذه الباء ثلاثة أوجه :
أحدها : على السببية ، أي : بسبب الغمام ، يعني بسبب طلوعها منها ، ونحوه السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } [ المزمل : 18 ] كأنه الذي يتشقق به السماء .
الثاني : أنها للحال ، أي : مُلتَبِسَةً بالغمام .
الثالث : أنها بمعنى ( عَنْ ) ، أي : عن الغَمَام كقوله : { ( يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرض عَنْهُمْ ) } [ ق : 44 ] ، [ والباء وعن يتعاقبان ، تقول : رميت عن القوس وبالقوس ] .
قوله : « وَنُزِّلَ المَلاَئِكَةُ » فيها اثنتا عشرة قراءة ثنتان في المتواتر ، وعشر في الشاذ . فقرأ ابن كثير من السبعة « وَنُنْزِلُ » بنون مضمومة ثم أخرى ساكنة وزاي خفيفة مكسورة مضارع ( أَنْزَلَ ) ، و « المَلاَئِكَةَ » بالنصب مفعول به ، وكان من حق المصدر أن يجيء بعد هذه القراءة على ( إِنْزَال ) . قال أبو علي : لما كان ( أَنْزَلَ ) و ( نَزَّلَ ) يجريان مجرى واحداً أجزأ مصدر أحدهما عن مصدر الآخر ، وأنشد :
3872- وَقَدْ تَطَوَّيْتُ انْطِوَاءَ الحِضْبِ ... لأنَّ تَطَوَّيْتُ وانْطَويْتُ بمعنى ، ومثله : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [ المزمل : 8 ] [ أي : تَبَتُّلاً ] وقرأ الباقون من السبعة « وَنُزِّلَ » بضم النون وكسر الزاي المشددة وفتح اللام ماضياً مبنيًّا للمفعول ، « المَلاَئِكَةُ » بالرفع لقيامه مقام الفاعل ، وهي موافقةٌ لمصدرها .
وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء « وَنَزَّلَ » بالتشديد ماضياً مبنيًّا للفاعل ، وهو الله تعالى ، « المَلاَئِكَةَ » مفعول به . وعنه - أيضاً - « وَأَنْزَلَ » مبنيًّا للفاعل عداه بالتضعيف مرة ، وبالهمزة أخرى ، والاعتذار عن مجيء مصدره على التفعيل كالاعتذار عن ابن كثير . وعنه - أيضاً - « وَأُنْزِلَ » مبنيًّا للمفعول .
وقرأ هارون عن أبي عمرو « وَتُنَزِّلُ المَلاَئِكَةُ » بالتاء من فوق وتشديد الزاي ورفع اللام مضارعاً مبنيًّا للفاعل ، « المَلاَئِكَةُ » بالرفعِ مضارع « نَزَّلَ » بالتشديد ، وعلى هذه القراءة ، فالمفعول محذوف ، أي : وتُنَزِّلُ المَلاَئِكَةُ ما أُمِرَتْ أن تُنَزِّله .
وقرأ الخفَّاف عنه ، وجناح بن حبيش « وَنَزَلَ » مخففاً مبنيًّا للفاعل ، « المَلاَئِكَةُ » بالرفع . وخارحة عن أبي عمرو - أيضاً - وأبو معاذ « ونُزِّلَ » بضم النون وتشديد الزاي ، ونصب « المَلاَئِكَةَ » ، والأصل : ونُنْزِلُ بنونين حذفت ( إحداهما ) وقرأ أبو عمرو وابن كثير في رواية عنهما بهذا الأصل « ونُنَزِّلَ » بنونين وتشديد الزاي .
وقرأ أُبيّ « وَنُزِّلَتْ » بالتشديد مبنيًّا للمفعول ، « وَتُنُزِّلَتْ » بزيادة تاء في أوله ، وتاء التأنيث ( فيهما ) .
وقرأ أبو عمرو في طريقة الخفاف عنه « وَنُزِلَ » بضم النون وكسر الزاي خفيفة مبنيًّا للمفعول . قال صاحب اللوامح : فإن صحت هذه القراءة فإنه حذف منها المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، تقديره : ونُزِلَ نُزُول الملائكة ، فحذف النزول ونقل إعرابه إلى « المَلاَئِكَة » بمعنى : نَزَلَ نَازِلُ الملائكة ، لأنَّ المصدر يجيء بمعنى الاسم ، وهذا مما يجيء على مذهب سيبويه ترتيب بناء اللازم للمفعول به ، لأنَّ الفعل يدل على مصدره . قال شهاب الدين : وهذا تمحُّلٌ كثير دعت إليه ضرورة الصناعة . وقال ابن جني : وهذا غير معروف ، لأنَّ ( نَزَلَ ) لا يتعدى إلى مفعول فيبنى هنا للملائكة ، ووجهه أن يكون مثل زكم الرَّجُلُ وجنَّ ، فإنه لا يقال إلا أزكمه ، وأجنّه الله ، وهذا باب سماع لا قياس . ونظير هذه القراءة ما تقدم في سورة الكهف في قراءة من قرأ { فَلاَ يَقُومُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْناً } بنصب الوزن من حيث تعدية القاصر ، وتقدم ما فيها .
فصل
الغَمَامُ : هو الأبيض الرقيق مثل الضباب ، ولم يكن إلاَّ لبني إسرائيل في تيههم . والألف واللام في « الغمام » ليس للعموم بل للمعهود ، وهو ما ذكره في قوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام } [ البقرة : 210 ] قال ابن عباس : تتشقق سماء الدنيا فينزل أهلها ، وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس ، [ ثم تشقق السماء ثانية ، فينزل أهلها وهم أكثر ممن في السماء الدنيا ومن الجن والإنس ] ثم كذلك حتى تشقق السماء السابعة وأهل كل سماء يزيدون على أهل السماء التي قبلها ، ثم ينزل الكَرُوبِيُّون ، ثم حملة العرش .
فإن قيل : ثبت بالقياس أن نسبة الأرض إلى سماء الدنيا كحلقة في فلاة ، فكيف بالقياس إلى الكرسي والعرش ، فملائكة هذه المواضع ( بأسرها ، فكيف تتسع الأرض لكل هؤلاء ) ؟
فالجواب : قال بعض المفسرين : الملائكة يكونون في الغمام ، والغمام يكون ) مقرّ الملائكة .
قوله : « المُلْكُ يَوْمَئذٍ » فيها أوجه :
أحدها : أن يكون « المُلْكُ » مبتدأ والخبر « الحَقُّ » و « يَوْمَئِذٍ » متعلق ب « الملك » ، و « للرَّحْمَنِ » متعلق ب « الحَقّ » ، أو بمحذوف على التبيين ، أو بمحذوف على أنه صفة للحق .
الثاني : أنَّ الخبر « يَوْمَئِذٍ » ، و « الحَقُّ » نعت للملك ، [ و « للرحمن » على ما تقدم ] .
[ الثالث : أنَّ الخبر « للرَّحْمَن » و « يَوْمَئِذٍ » متعلق ب « الملك » ، و « الحَقُّ » نعت للملك ] .
قيل : ويجوز نصب الحق بإضمار ( أَعْنِي ) .
فصل
المعنى : أَنَّ الملك الذي هو الملك حقاً ملك الرحمن يوم القيامة .
قال ابن عباس : يريد أَنَّ يوم القيامة لا ملك يقضي غيره . ومعنى وصفه بكونه حقاً : أنه لا يزول ولا يتغير . فإن قيل : مثل هذا الملك لم يكن قط إلا للرحمن ، فما الفائدة في قوله : « يَوْمَئِذٍ » ؟ . فالجواب لأَنّ في ذلك اليوم لا مالك له سواه لا في الصورة ، ولا في المعنى ، فتخضع له الملوك وتعنو له الوجوه ، وتذل له الجبابرة بخلاف سائر الأيام . { وَكَانَ يَوْماً عَلَى الكافرين عَسِيراً } أي : شديداً ، وهذا الخطاب يدلُّ على أنه لا يكون على المؤمنين عسيراً؛ جاء في الحديث « أنه يهوّن يوم القيامة على المؤمن حتى يكون أَخَفَّ عليه من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا » قوله : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم } يَوْمَ معمول لمحذوف ، أو معطوف على « يَوْمَ تَشَقَّقُ » . و « يَعضُّ » مضارع عَضَّ ، ووزنه فَعِل بكسر العين بدليل قولهم : عَضِضْتُ أَعَضُّ . وحكى الكسائي فتحها في الماضي ، فعلى هذا يقال : أَعِضُّ بالكسر في المضارع . والعَضُّ هنا كناية عن شدة الندم ، ومثله : حَرَقَ نَابَهُ ، قال :
3873- أَبى الضَّيْم والنُّعْمَان يَحْرِقُ نَابَهُ ... عَلَيْهِ فَأَفْضَى والسّيُوفُ مَعَاقِلُه
وهذه الكناية أبلغ من تصريح المكني عنه .
فصل
( أل ) في « الظَّالم » تحتمل العهد والجنس على خلاف في ذلك . فالقائلون بالعهد اختلفوا على قولين :
الأول : قال ابن عباس : « أراد بالظالم : عقبة بن أبي معيط بن أمية بن عبد شمس ، كان لا يقدم من سفر إلا صنع طعاماً ، ودعا إليه جيرته وأشراف قومه ، وكان يكثر مجالسة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعجبه حديثه ، فقدم ذات يوم من سفر ، فصنع طعاماً ، ودعا الناس ، ودعا الرسول ، فلما قرب الطعام قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - » ما أنا بآكل طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله « فقال عقبة : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أَنّ محمداً رسول الله ، فأكل الرسول من طعامه ، وكان عقبة صديقاً لأبيّ بن خلف ، فلما أتى أُبي بن خلف قال له : يا عقبة صبأت ، قال : لا والله ما صبأت ، ولكن دخل عليّ فأبَى أن يأكل طعامي إلا أن أشهد له ، فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم فشهدت له ، فطعم . فقال : ما أنا بالذي أرضى منك أبداً إلا أن تأتيه وتبزق في وجهه ، وتطأ على عنقه ، ففعل ذلك عقبة ، فقال عليه السلام : لا ألقاك خارجاً من مكة إلا علوتك بالسيف » ، فقتل عقبة يوم بدر صبراً ، وأما أبيّ بن خلف فقتله النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده يوم أحد .
قال الضحاك : لما بزق عقبةُ في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد بزاقه في وجهه ، فاحترق خداه ، فكان أثر ذلك فيه حتى الموت .
وقال الشعبي : كان عقبة بن أبي معيط خليل أمية بن خلف فأسلم عقبة فقال أمية : وجهي من وجهك حرام إن بايعت محمداً ، فكفر وارتد ، فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ } يعني : عُقبة ، يقول : { ياليتني اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلاً } ، أي : ليتني اتبعت محمداً فاتخذت معه سبيلاً إلى الهدى . وقرأ أبو عمرو { يَا لَيَتَنِي اتَّخَذْتُ } بفتح الياء ، والآخرون بإسكانها .
الثاني : قالت الرافضة : الظالم هو رجل بعينه ، وإن المسلمين عرفوا اسمه وكتموه ، وجعلوا فُلاناً بدلاً من اسمه ، وذكروا فاضلين من أصحاب الرسول .
ومن حمل الألف واللام على العموم ، لأنها إذا دخلت على الاسم المفرد أفادت العموم بالقرينة ، وهي أنَّ ترتيب الحكم على الوصف مشعر بعلية الوصف ، فدلّ على أنَّ المؤثر في العض على اليدين كونه ظالماً ، فيعم الحكم لعموم علته .
وهذا القول أولى من التخصيص بصورة واحدة ، ونزوله في واقعة خاصة ( لا ينافي العموم ) ، بل تدخل فيه تلك الصورة وغيرها . والمقصود من الآية زجر الكل عن الظلم ، وذلك لا يحصل إلا بالعموم .
فصل
قال الضحاك : يأكل يديه إلى المرفق ثم تنبت ، ولا يزال هكذا كلما أكلها نبتت وقال المحققون : هذه اللفظة للتحسر والغم ، يقال : عَضَّ أنامله ، وعضَّ على يديه .
قوله : « يَقُولُ » هذه الجملة حال من فاعل « يَعَضُّ » وجملة التمني بعد القول محكيةٌ به ، وتقدم الكلام في مباشرة ( يَا ) ل « لَيْتَ » في النساء .
قوله : « يَا وَيْلَتَى » . قرأ الحسن « يَا وَيْلَتِي » بكسر التاء وياء صريحة بعدها ، وهي الأصل . وقرأ الدَّوْرِيُّ بالإمالة .
قال أبو علي : وترك الإمالة أحسن ، لأن أصل هذه اللفظة الياء فبدلت الكسرة فتحة والياء ألفاً فراراً من الياء ، فَمَنْ أَمَالَ رجع إلى الذي منه فَرَّ أولاً . وهذا منقوض بنحو ( بَاعَ ) فإن أصله الياء ، ومع ذلك أمالوا ، وقد أمالوا { ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ } [ الزمر : 56 ] و « يَا أَسَفَى » وهما ك ( ياء ) « وَيْلَتِي » في كون ألفهما عن ياء المتكلم . و « فُلاَن » كناية عن عَلَمِ من يعقل ، وهو متصرف . و « فُلُ » كناية عن نكرة مَنْ يعقل من الذكور ، و « فُلَةُ » عن مَنْ يعقل من الإناث . والفُلاَنُ والفُلاَنةُ بالألف عن غير العاقل ، ويختص ( فُلُ ) ، و ( فُلَةُ ) بالنداء إلاَّ في ضرورة كقوله :
3874- فِي لَجَّةٍ أَمْسِكْ فُلاَناً عَنْ فُلِ ... وليس ( فُلُ ) مرخماً من ( فلان ) خلافاً للفراء . وزعم أبو حيان أنَّ ابن عصفور وابن مالك ، وابن العلج وهموا في جعلهم ( فُلُ ) كناية عن عَلَمِ مَنْ يعقل ( فلان ) . ولام ( فُلُ ) و ( فُلاَنُ ) فيها وجهان :
أحدهما : أنها واو .
والثاني : أنها ياء .
فصل
تقدم الكلام في « يَا وَيْلَتَى » في هود . { لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً } يعني أبيّ بن خلف { لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذكر } عن الإيمان والقرآن ، { بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي } يعني الذكر مع الرسول « وَكَانَ الشَّيْطَانُ » وهو كل متمرد عاتٍ من الجن والإنس ، وكل من صدَّ عن سبيل الله فهو شيطان . وقييل : أشار إلى خليله . وقيل : أراد إبليس ، فإنه الذي حمله على أن صار خليلاً لذلك المُضِل ، ومخالفة الرسول ، ثم خذله ، وهو معنى قوله : « للإنْسَانِ خَذُولاً » أي : تاركاً يتركه ويتبرأ منه عند نزول البلاء والعذاب .
وقوله : « وَكَانَ الشَّيْطَانُ » يحتمل أَنْ تكون هذه الجملة من مقول الظالم فتكون منصوبة المحل بالقول . وأن تكون من مقول الباري تعالى فلا محل لها ، لاستئنافها .
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)
قوله تعالى : { وَقَالَ الرسول يارب إِنَّ قَوْمِي اتخذوا هذا القرآن } .
قال أكثر المفسرين : إنَّ هذا القول وقع مع الرسول . وقال أبو مسلم : بل المراد أنَّ الرسول يقوله في الآخرة كقوله : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً } [ النساء : 41 ] . والأول أولى ، لأنَّ قوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين } تسلية للرسول ، ولا يليق ذلك إلا إذا وقع القول منه . و « مَهْجُوراً » مفعول ثان ل « اتَّخَذُوا » ، أو حال . وهو مفعول من الهجر - بفتح الهاء - وهو التَّرْكُ والبُعْدُ . أي : جعلوه متروكاً بعيداً ، لم يؤمنوا به ، ولم يقبلوه ، وأعرضوا عن استماعه . وقيل : هو من الهُجر - بالضم - أي : مهجوراً فيه . ثم حذف الجار بدليل قوله : { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ } [ المؤمنون : 67 ] . وهجرهُم فيه : قولهم فيه : إنه شعر ، وسحر ، وأساطير الأولين ، وكذب وهُجْر ، أي : هذيان .
قال عليه السلام : « من تعلم القرآن وعلق مصحفاً ، ولم يتعاهده ، ولم ينظر فيه ، جاء يوم القيامة متعلقاً به ، يقول : يا رب العالمين عبدك هذا اتخذني مهجوراً اقض بيني وبينه » وجعل الزمخشري « مَهْجُوراً » هنا مصدراً بمعنى الهجر قال كالمَجْلُود والمعقول . قال شهاب الدين : وهو غير مقيسٍ ، ضَبَطَهُ أهل اللغة في أُلَيْفاظ فلا يُتعدى إِلاَّ بنقل .
قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً } الآية . جعل ذكر ذلك تسلية للرسول ، وأن له أسوة بسائرة الرسل ، فليصبر على ما يلقاه من قومه كما صبر أولُو العزم من الرسل . { وكفى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً } .
قال المفسرون : الباء زائدة بمعنى كفى ربك « هَادِياً ونَصِيراً » منصوبان على الحال ، وقيل : على التمييز « هَادِياً » إلى مصالح الدين والدنيا ، « ونَصِيراً » على الأعداء .
فصل
احتج أهل السنة بهذه الآية على أنه تعالى خلق الخير والشر ، لأنَّ قوله : { جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً } يدل على أن تلك العداوة من جعل الله تعالى ، وتلك العداوة كفر . قال الجبائي : المراد من الجعل التبيين ، لأنه تعالى لمَّا بيّن أنهم أعداؤه ، فقد جعل أنهم أعداء ، كما إذا بيَّن الرجل أَنَّ فلاناً لص ، فقد جعله لصاً ، وكما يقال في الحاكم : إنه عدّل فلاناً ، وفسّق فلاناً ، وجرّحه .
وقال الكعبي : إنه تعالى لما أمر ( الأنبياء ) بعداوة الكفار ، وعداوتهم للكفار تقتضي ( عداوة الكفار ) لهم ، فلهذا جاز أن يقول : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين } ، لأنه - سبحانه - هو الذي حمله ودعاه إلى ما استعقب تلك العداوة .
وقال أبو مسلم : يحتمل في العدو أنه البعيد الغريب ، إذ المعاداة المباعدة ، كما أن النصرة قرب من المظاهرة ، وقد باعد الله بين المؤمنين والكافرين . والجواب عن الأول : أنَّ التبيين لا يسمى التيه جعلاً ، لأن من بين لغيره وجود الصانع وقدمه لا يقال : إنه جعل الصانع وجعل قدمه .
والجواب عن الثاني : أنَّ الذي أمره الله تعالى ( بِهِ ) هل له تأثير في وقوع العداوة في قلوبهم ، أو ليس له فيه تأثير؟ .
فإن كان الأول فقد تم الكلام ، لأنّ عداوتهم للرسول كفر ، فإذا أمر الله الرسول بما له أثر في تلك العداوة ، فقد أمر بما له أثر في وقوع الكفر ، وإِنْ لم يكن له فيه تأثير ألبتة كان منقطعاً عنه بالكلية ، فيمتنع إسناده إليه ، وهذا هو الجواب عن أبي مسلم . فإن قيل : قوله - عليه السلام - : ( « يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُوراً » في المعنى كقول نوح - عليه السلام ) - { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً } [ نوح : 5 - 6 ] فكما أن المقصود من هذا إنزال العذاب فكذا هنا ، فكيف يليق هذا بمن وصفه الله بالرحمة في قوله { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] .
فالجواب : أن نوحاً - عليه السلام - لما ذكر ذلك دعا عليهم وأما محمد - عليه السلام - لما ذكر هذا ما دعا عليهم بل انتظر ، فلما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً } ( من المجرمين ) كان ذلك كالأمر له بالصبر على ذلك وترك الدعاء عليهم ( فافترقا ) . فإن قيل : قوله : « جعلنا » صيغة تعظيم ، والعظيم إذا ذكر نفسه في معرض التعظيم ، وذكر أنه يعطي ، فلا بد وأن تكون العطية عظيمة كقوله : ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم وقوله : « إنا أعْطَيْنَاكَ » ، فكيف يليق بهذه الصيغة أن تكون تلك العطية هي العداوة التي هي منشأ الضرر في الدين والدنيا؟
فالجواب : خلق العدو تسبب لازدياد المشقة التي هي موجبة لمزيد الثواب .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
قوله تعالى : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن } الآية .
هذه شبهة خامسة لمنكري النبوة؛ فإن أهل مكة قالوا : تزعم أنك رسول من عند الله ، فهلا تأتينا بالقرآن جملة ( واحدة ) ، كما أتي موسى بالتوراة جملة ، وكما أتي عيسى بالإنجيل جملة ، وداود بالزبور . قال ابن جريج : من أوله إلى آخره في ثنتين أو ثلاث وعشرين سنة . و « جملة » حال من « القرآن » ؛ إذ هي في معنى مجتمعاً .
قوله : « كذلك » الكاف إما مرفوعة المحل ، أي : الأمر كذلك ، و « لِنُثَبِّتَ » علة لمحذوف ، أي : لنثبت فعلنا ذلك . وإما منصوبته على الحال ، أي : أنزل مثل ذلك ، أو على النعت لمصدر محذوف ، و « لنثبت » متعلقة بذلك الفعل المحذوف وقال أبو حاتم : هي جواب قسم . وهذا قول مرجوح نحا إليه الأخفش ، وجعل منه « ولتصغى » ، وقد تقدم في الأنعام . وقرأ عبد الله « ليثبت » بالياء أي الله تعالى .
فصل
هذا جواب عن شبهتهم ، وبيانه من وجوه :
أحدها : أنه - عليه السلام - لم يكن من أهل الكتابة والقراءة ، فلو نزل ذلك عليه جملة واحدة كان لا يضبطه وجاز عليه فيه الخطأ والغلط .
وثانيها : أن من كان الكتاب عنده ، فربما اعتمد على الكتاب وتساهل في الحفظ ، فالله تعالى ما أعطاه الكتاب جملة واحدة بل كان ينزل عليه وظيفة ، ليكون حفظه له أكمل ، فيكون أبعد عن المساهمة وقلة التحصيل .
وثالثها : أنه تعالى لو أنزل الكتاب جملة واحدة لنزلت الشرائع بأسرها دفعة على الخلق ، فكان يثقل عليهم ذلك فلما نزل مفرقاً منجماً نزلت التكاليف قليلاً قليلاً ، فكان تحملها أسهل .
ورابعها : أنه إذا شاهد جبريل حالاً بعد حال يقوى قلبه بمشاهدته على أداء ما حمل ، وعلى الصبر على عوارض النبوة ، وعلى احتمال الأذى وعلى التكاليف الشاقة .
وخامسها : أنه لما تم شرط الإعجاز فيه مع كونه منجماً ثبت كونه معجزاً؛ فإنه لو كان ذلك مقدوراً للبشر لوجب أن يأتوا بمثله منجماً مفرقاً ، ولما عجزوا عن معارضة نجومه المفرقة ، فعن معارضة الكل أولى .
وسادسها : كان القرآن ينزل بحسب أسئلتهم ووقائعهم ، فكانوا يزدادون بصيرة ، وكان ينضم إلى الفصاحة الإخبار عن الغيوب .
وسابعها : أن السفارة بين الله وبين أنبيائه ، وتبليغ كلامه إلى الخلق منصب عظيم ، فيحتمل أن يقال : إنه تعالى لو أنزل القرآن على محمد دفعة واحدة لبطل المنصب على جبريل - عليه السلام - فلما أنزله مفرقاً منجماً بقي ذلك المنصب العالي عليه ، فلذلك جعلة الله تعالى منجماً .
فصل
قوله : « كذلك » يحتمل أن يكون من تمام كلام المشركين ، أي : جملة واحدة كذلك أي كالتوراة والإنجيل .
ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى ذكره جواباً لهم ، أي : كذلك أنزلناه ، مفرقاً . فإن قيل : « كذلك » إشارة إلى شيء تقدمه ، والذي تقدمه هو إنزالة جملة ، ( فكيف فسره ب « كَذلِكَ أَنْزَلْنَاهُ » ) مفرقاً؟
فالجواب : أن الإشارة ( إلى الإنزال مفرقاً لا إلى جملة . قوله : « ورتلناه ترتيلاً » الترتيل : التفريق ومجيء الكلمة بعد الأخرى بسكوت ) يسير دون قطع النفس ، ومنه ثغر رَتِلٌ ومُرتل ، أي : مفلج الأسنان بين أسنانه فرج يسيرة . قال الزمخشري : ونزل هنا بمعنى أنزل لا غير كخبر بمعنى أخبر وإلا تدافعا . يعني أن نزل بالتشديد يقتضي بالأصالة التنجيم والتفريق ، فلو لم يجعل بمعنى أنزل الذي لا يقتضي ذلك ، لتدافع مع قوله « جُمْلَةً » لأن الجملة تنافي التفريق ، وهذا بناء منه على معتقده ، وهو أن التضعيف يدل على التفريق ، وقد نص على كذلك في مواضع من الكشاف في سورة البقرة ، وأول آل عمران ، وآخر الإسراء ، وحكى هناك عن ابن عباس ما يقوي ظاهره صحة قوله .
فصل
« وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً » قال ابن عباس : بيناه بياناً . والترتيل التبيين في ترسل وتثبيت . وقال السديّ : فصلناه تفصيلا . وقال مجاهد : بعضه في أثر بعض . وقال النخعي والحسن وقتادة : فرقناه تفريقاً آية بعد آية . قوله : « ولا يَأْتُونَك » يعني المشركين « بمثل » يَضربونه في إبطال أمرك { إلا جئناك بالحق } الذي يدفع ما جاءوا به من المثل ويبطله كقوله { بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } [ الأنبياء : 18 ] في ما يريدون من الشبه ( مثلاً ، وسمى ما يدفع به الشُّبَه ) حقاً .
قوله : { إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق } هذا الاستثناء مفرغ ، والجملة في محل نصب على الحال ، أي : لا يأتونك بمثل إلا في حال إيتائنا إياك كذا ، والمعنى : ولا يأتونك بسؤال عجيب إلا جئناك بالأمر الحق ، « وأحْسَنَ تَفْسِيراً » أي : بياناً وتفضيلاً ، و « تفسيراً » تمييز . والمفضّل عليه محذوف : تفسيراً من مثلهم .
والتفسير : تفعيل من الفَسْرِ ، وهو كشف ما قد غطي .
ثم ذكر مآل المشركين فقال : { الذين يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ } بساقون ويجرُّون إلى جهنم ، روي أنهم يمشون في الآخرة مقلوبين وجوههم على القفا ، وأرجلهم إلى فوق ، وقال عليه السلام : « إنّ الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم » والأولى أولى ، لأنه ورد أيضاً .
قوله : « الّذِينَ يُحْشَرُونَ » يجوز رفعه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم الذين ويجوز نصبه على الذم ، ويجوز أن يرتفع بالابتداء وخبره الجملة من قوله { أولئك شَرٌّ مَّكَاناً } ، ويجوز أن يكون « أُولَئِكَ » بدلاً أو بياناً للموصول ، و « شَرٌّ مَكَاناً » خبر الموصول .
قوله : { أولئك شَرٌّ مَّكَاناً } منزلاً ومصيراً من أهل الجنة « وأضل سبيلاً » وأخطأ طريقاً وههنا سؤال كما تقدم في قوله : { أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } [ الفرقان : 24 ] .
ولما تكلم في التوحيد ، ونفي الأنداد وإثبات النبوة وأحوال القيامة شرع في ذكر القصص على الطريقة المعلومة .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب } الآية . لما قال : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين } [ الفرقان : 31 ] وذكر ذلك في معرض التسلية له ، ذكر جماعة من الأنبياء ، وعرفه تكذيب أممهم ، والمعنى : لست يا محمد بأول من أرسلنا فكذب ( وآتيناه الآيات فرُدّ ) : فقد آتينا موسى الكتاب ، وقوينا عضده بأخيه هارون ( ومع ذلك فقد رُدّ ) . فإن قيل : كون هارون وزيراً كالمنافي لكونه شريكاً ، بل يجب أن يقال : إنه لما صار ( شريكاً ) خرج عن كونه وزيراً . فالجواب : لا منافاة بين الصنفين ، لأنه لا يمنع أن يشركه في النبوة ويكون وزيراً ، وظهيراً ، ومعيناً له . ولا وجه لقول من قال في قوله : « فَقُلْنَا اذْهَبا » إنه خطاب لموسى عليه السلام وحده بل يجري مجرى قوله : { اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى } [ طه : 43 ] .
قوله : « هَارونَ » بدل ، أو بيان ، أو منصوب على القطع و « وَزِيراً » مفعول ثان ، وقيل : حال ، والمفعول الثاني قوله « معه » . قال الزجاج : الوزير في اللغة الذي يرجع إليه ويعمل برأيه ، والوزر ما يعتصم به ، ومنه : { كَلاَّ لاَ وَزَرَ } [ القيامة : 11 ] أي : لا منجى ولا ملجأ . قال القاضي : ولذلك لا يوصف تعالى بأن له وزيراً .
قوله : { فَقُلْنَا اذهبآ إِلَى القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } يعني القبط .
قوله : « فَدمَّرْنَاهُمْ » . العامة على « فَدَمَّرْنَا » فعلاً ماضياً معطوفاً على محذوف ، أي : فذهب فكذبوهما « فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْميراً » أهلكناهم إهلاكاً . وقرأ عليّ - كرم الله وجهه - « فدمِّراهم » أمر لموسى وهارون ، وعنه أيضاً : « فَدَمِّرَانِّهِمْ » كذلك أيضاً ، ولكنه مؤكد بالنون الشديدة ، وعنه أيضاً : « فدمِّرا بِهِم » بزيادة باء الجر بعد فعل الأمر ، وهي تشبه القراءة قبلها في الخط ، ونقل عنه الزمخشري « فَدَمَّرْتُهم » بتاء المتكلم . فإن قيل : الفاء للتعقيب ، والإهلاك لم يحصل عقيب بعث موسى وهارون إليهم بل بعد مدة مديدة .
فالجواب : فاء التعقيب محمولة هنا على الحكم بالإهلاك لا على الوقوع . وقيل : إنه تعالى أراد اختصار القصة فذكر المقصود منها أولها وآخرها ، والمراد إلزام الحجة ببعثة الرسل ، واستحقاق التدمير بتكذيبهم . واعلم أن قوله : « كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا » إن حملنا تكذيب الآيات على تكذيب الآيات الإلهية فلا إشكال ، وإن حملناه على تكذيب آيات النبوة ، فاللفظ وإن كان للماضي فالمراد به المستقبل .
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)
قوله تعالى : { وَقَوْمَ نُوحٍ } الآية . يجوز أن يكون « قَوْمَ » منصوباً عطفاً على مفعول « دَمَّرْنَاهم » ، ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مضمر قوله : « أَغْرَقْنَاهُمْ » وترجح هذا بتقديم جملة فعلية قبله . هذا إذا قلنا : إن « لما » ظرف زمان ، وأما إذا قلنا إنها حرف وجوب لوجوب فلا يتأتى ذلك ، لأن « أَغْرَقْنَاهُمْ » حينئذ جواب « لما » ، وجوابها لا يفسر ، ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مقدر لا على سبيل الاشتغال ، أي : اذكر قوم نوح .
فصل
إنما قال : « كذبوا الرسل » إما لأنهم كانوا من البراهمة المنكرين لكل الرسل ، أو لأن تكذيبهم لواحد تكذيب للجميع ، لأن من كذب رسولاً واحداً فقد كذب جميع الرسل .
وقوله « أَغْرَقْنَاهُمْ » . قال الكلبي : أمطرنا عليهم السماء أربعين يوماً ، وأخرج ماء الأرض أيضاً في تلك الأربعين ، فصارت الأرض بحراً واحداً . « وَجَعَلْنَاهُمْ » أي : جعلنا إغراقهم وقصتهم « للناس آية » للظالمين أي : لكل من سلك سبيلهم ، « وأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمينَ » في الآخرة « عَذَاباً أَلِيماً » .
قوله تعالى : { وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرس } الآية ، « وعَادَاً » فيه ثلاثة أوجه :
أن يكون معطوفاً على « قَوْمِ نُوح » ، وأن يكون معطوفاً على مفعول « جَعَلْنَاهُمْ » وأن يكون معطوفاً على محل « لِلظَّالِمِينَ » لأنه في قوة وعدنا الظالمين بعذاب . قوله : « وأَصْحَابَ الرَّسِّ » فيه وجهان :
أحدهما : ( أنه ) من عطف المغاير ، وهو الظاهر .
والثاني : أنه من عطف بعض الصفات على بعض .
والمراد ب « أَصْحَابَ الرَّسِّ » ثمود ، لأن الرّسّ البئر التي لم تطو عن أبي عبيدة ، وثمود أصحاب آبار . وقيل : « الرَّسُّ » نهر بالمشرق ( وكانت قرى أصحاب الرس على شاطئ فبعث الله إليهم نبياً من أولاد يهودا بن يعقوب فكذبوه ، فلبثت فيهم زماناً يشتكي إلى الله منهم ، فحفروا بئراً ورسوه فيها ، وقالوا : نرجو أن يرضى عنا إلهنا ، وكانوا عامة يومهم يسمعون أنين نبيهم وهو يقول : إلهي ترى ضيق مكاني ، وشدة كربي ، وضعف قلبي ، وقلة صلتي فجعل قبض روحي حتى مات ، فأرسل الله ريحاً عاصفة شديدة الحر ، وصارت الأرض من تحتهم كبريتاً متوقداً ، وأظلتهم سحابة سوداء ، فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص ) ويقال : إنهم أناس عبدة أصنام قتلوا نبيهم ورسوه في بئر أي؛ دسوه فيها وقال قتادة والكلبي : الرس بئر بفلج اليمامة قتلوا نبيهم وهو حنظلة بن صفوان وقيل : هم بقية ثمود قوم صالح ، وهم أصحاب البئر التي ذكر الله تعالى في قوله : { وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ } [ الحج : 45 ] . وقال كعب ومقاتل والسدي : الرس بأنطاكية قتلوا فيها حبيب النجار ، ورسوه في بئر ، وهم الذين ذكرهم الله تعالى في سورة يس .
وقيل : هم أصحاب الأخدود ، والرس هو الأخدود الذي حفروه .
وقال عكرمة : هم قوم رسوا نبيهم في بئر . وقيل : الرس المعدن ، وجمعه رساس وروي عن علي - رضي الله عنه - : أنهم قوم كانوا يعبدون شجرة الصَّنَوْبَر وسموا أصحاب الرس؛ لأنهم رسوا نبيهم في الأرض . وروى ابن جرير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - « أن الله بعث نبياً إلى أهل قرية ، فلم يؤمن به من أهل القرية أحد إلا عبد أسود ، ثم إنهم حفروا للرسول بئراً وألقوه فيها ، ثم طبقوا عليها حجراً ضخماً ، وكان ذلك الرجل الأسود يحتطب ويشتري له طعاماً وشراباً ، ويرفع الصخرة ويدليه إليه ، فكان ذلك ما شاء الله فاحتطب يوماً ، فلما أراد أن يحملها وجد نوماً ، فاضطجع ، وضرب الله على أذنه تسع سنين ، ثم هَبّ واحتمل حزمته واشترى طعاماً وشراباً ، وذهب إلى الحفرة فلم يجد أحداً ، وكان قومه قد استخرجوه فآمنوا به ، وصدقوه ، وكان ذلك النبي يسألهم عن الأسود ، ويقول لهم إنه أول من يدخل الجنة » .
قوله : ( « وقُروناً » ) أي : وأهلكنا قروناً كثيرة بين عاد وأصحاب الرس والقرون : جمع قرن ، قال عليّ - رضي الله عنه - : القرن أربعون سنة ، وهو قول النخعي . وقيل : مائة وعشرون سنة . وقيل غير ذلك . وتقدم الكلام عليه في سورة سبحان عند قوله : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون مِن بَعْدِ نُوحٍ } [ الإسراء : 17 ] .
قوله : « بَيْنَ ذَلك » « ذلك » إشارة إلى من تقدم ذكره ، وهم جماعات ، فلذلك حسن دخول « بَيْنَ » عليه . وقد يذكر الذاكر بحوثاً ثم يشير إليها بذلك ، ويحسب الحاسب أعداداً متكاثرة ، ثم يقول : فذلك كيت وكيت ، أي ذلك المحسوب أو المعدود .
قوله : « وكُلاً » يجوز نصبه بفعل يفسره ما بعده ، أي : وحذرنا أو ذكرنا ، لأنها في معنى ضربنا له الأمثال .
ويجوز أن يكون معطوفاً على ما تقدم ، و « ضَرَبْنَا » بيان لسبب إهلاكهم . وأما « كُلاًّ » الثانية فمفعول مقدم .
قوله : { ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال } أي : الأشباه في إقامة الحجة عليهم فلم نهلكهم إلا بعد الإنذار . وقيل : بيَّنَّا لهم وأزحنا عللهم فلما كذبوا « تَبَّرْنَاهُمْ تَتْبِيرا » أي : أهلكناهم إهلاكاً . وقال الأخفش : كسرنا تكسيرا .
قال الزجاج : كل شيء كسرته وفتَّتَّه فقد تَبَّرته .
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40) وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى القرية التي أُمْطِرَتْ ( مَطَرَ السوء ) } الآية . أراد بالقرية قريات لوط ، وكانت خمس قرى ، فأهلك الله منها أربعاً ونجت واحدة ، وهي ( صقر ) كان أهلها لا يعملون العمل الخبيث . يعني أن قريشاً مَرُّوا مُرُوراً كثيراً إلى الشام على تلك القرى ، { التي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السوء } أي : أهلكت بالحجارة من السماء ، { أفلم يكونوا يرونها } في مرورهم وينظروا إلى آثار عذاب الله ونكاله فيعتبروا ويتذكروا .
قوله : « مَطَرَ السَّوْءِ » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مصدر على حذف الزوائد أي : أمطار السوء .
الثاني : أنه مفعول ثان؛ إذ المعنى : أعطيتها وأوليتها مطر السوء .
الثالث : أنه نعت مصدر محذوف ، أي : أمطاراً مثل مطر السوء وقرأ زيد بن عليّ « مُطِرَتْ » ثلاثياً مبنياً ( للمفعول ) ، ومطر متعد قال :
3875- كَمَنْ بِوَادِيهِ بَعْدَ المَحْلِ مَمْطُورُ ... وقرأ أبو السمال « مطر السُّوء » بضم السين ، وتقدم الكلام على السوء والسوء في براءة . وقوله : { أَتَوْا عَلَى القرية } إنما عُدِّي ( أتى ) ب ( على ) ، لأنه ضُمِّن معنى مرَّ .
قوله : { بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً } في هذا الرجاء ثلاثة أوجه :
أقواها ما قاله القاضي : وهو أنه محمول على حقيقة الرجاء؛ لأن الإنسان لا يحتمل متاعب التكليف إلا رجاء ثواب الآخرة ، فإذا لم يؤمن بالآخرة لم يَرْجُ ثوابها فلا يتحمل تلك المشاق .
وثانيها : معناه لا يتوقعون نشورا ، فوضع الرجاء موضع التوقُّع؛ لأنه إنما يتوقع العاقبة من يؤمن .
وثالثها : معناه : ( لا يخافون ) على اللغة التهامية . وهو ضعيف .
قوله : « وإذَا رَأَوْكَ » الآية . لما بين مبالغة المشركين في إنكار نبوته بإيراد الشبهات بين بعد ذلك أنهم إذا رأوا الرسول اتخذوه هزواً ، ولم يقتصروا على ترك الإيمان به بل زادوا عليه بالاستهزاء والاستحقار ، ويقول بعضهم لبعض : { أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً } .
قوله : « إِنْ يَتَّخِذُونَكَ » « إنْ » الأولى نافية ، والثانية مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينهما ، و « هُزُوًّا مفعول ثان ، ويحتمل أن يكون التقدير : موضع هُزْءٍ وأن يكون مهزوءاً بك . وهذه الجملة المنفية تحتمل وجهين :
أحدهما : أنها جواب ( إذا ) الشرطية ، واختصت ( إذا ) بأن جوابها متى كان منفياً ب ( ما ) أو ( إن ) أو ( لا ) لا تحتاج إلى الفاء بخلاف غيرها من أدوات الشرط فعلى هذا يكون قوله : » أَهَذَا الَّذي « في محل نصب بالقول المضمر ، وذلك القول المضمر في محل نصب على الحال ، أي : إن يتخذونك قائلين ذلك .
والثاني : أنها جملة معترضة بين ( إذا ) وجوابها . وجوابُها هو ذلك القول المضمر المحكي به » أهذا الذي « والتقدير : وإذا رأوك قالوا أهذا الذي بعث ، فاعترض بجملة النفي ، ومفعول » بعث « محذوف هو عائد الموصول ، أي : بعثه .
و « رسولاً » على بابه من كونه صفة فينتصب على الحال ، وقيل : هو مصدر بمعنى رسالة ، فيكون على حذف مضاف ، أي ذا رسول بمعنى رسالة ، أو يجعل نفس المصدر مبالغة ، أو بمعنى : مرسل . وهو تكلف .
قوله : { إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا } تقدم نظيره في سبحان .
قوله : { لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا } جوابها محذوف ، أي : لضللنا عن آلهتنا . قال الزمخشري : و « لولا » في مثل هذا الكلام جار من حيث المعنى لا من حيث الصيغة مجرى التقيد للحكم ( المطلق ) .
فصل
قال المفسرون : إن أبا جهل كان إذا مر بأصحابه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال مستهزءاً : « أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً » « إنْ كَادَ » قد كاد « لَيُضِلُّنَا » أي : قد قارب أن يضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها أي : ( أي لو لم نصبر عليها ) انصرافا عنها ، { وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذاب مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً } من أخطأ طريقاً . ( واعلم أن الله تعالى أخبر عن المشركين أنهم متى رأوا الرسول - عليه الصلاة والسلام - أتوا بنوعين من الأفعال . أحدهما : الاستهزاء ، فيقولون : { أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً } وذلك جهل عظيم ، لأن الاستهزاء إما أن يكون بصورته أو بصفته والأول باطل ، لأنه - عليه الصلاة والسلام - كان أحسن منها صورة وخلقة ) ، وبتقدير أنه لم يكن كذلك ، لكنه - عليه الصلاة والسلام - ما كان يدعي التميز عنهم بالصورة بل بالحجة . والثاني باطل ، لأنه - عليه الصلاة والسلام - ادَّعى التميز عليهم بظهور المعجز عليه دونهم ، وأنهم ما قدروا على القدح في حجته ، ففي الحقيقة هم الذين يستحقون أن يهزأ بهم ، ثم إنهم لوقاحتهم قلبوا القضية ، واستهزءوا بالرسول ، وذلك يدل على ( أنه ليس للمبطل في كل الأوقات ) إلا السفاهة والوقاحة .
والنوع الثاني : قولهم : { إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا } فَسَمُّوا ذلك ضلالاً ، وذلك يدل على أنهم كانوا مبالغين في تعظيم آلهتهم ، ويدل على جده واجتهاده في صرفهم عن عبادة الأوثان فلهذا قالوا : { إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا } ، وذلك يدل على أنهم كانوا مقهورين بالحجة ، ولم يكن في أيديهم إلا مجرد ( الوقاحة ) .
قوله : « من أضل » جملة استفهامية معلقة ب « يَعْلَمُون » فهي سادَّةٌ مسدّ مفعوليها إن كان على بابها ، ومسدّ واحد إن كانت بمعنى ( عرف ) . ويجوز في « من » أن تكون موصولة ، و « أَضَلَّ » خبر مبتدأ مضمر هو العائد على « من » تقديره : من هو أضل ، وإنما حذف للاستطالة بالتمييز ، كقولهم : ما أنا بالذي قائل لك سوءاً . وهذا ظاهر إن كانت متعدية لواحد ، وإن كانت متعدية لاثنين فيحتاج إلى تقدير ثان ولا حاجة إليه .
فصل
لما وصفوه بالإضلال في قولهم : { إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا } بين تعالى أنه سيظهر لهم من المضل ومن الضال عند مشاهدة العذاب الذي لا مخلص لهم منه ، فقال : { وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذاب مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً } ، وهذا وعيد شديد على التعامي والإعراض عن الاستدلال والنظر .
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
قوله تعالى : { أَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ } الآية . « أَرَأَيْتَ » كلمة تصلح للإعلان والسؤال ، وههنا تعجب ممن هذا وصفه ونعته .
وقوله : { مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ } مفعولا الاتخاذ من غير تقديم ولا تأخير ، لاستوائهما في التعريف . وقال الزمخشري : فإن قلت : لم أخر « هَوَاهُ » والأصل قولك : اتخذ الهوى إلهاً . قلت : ما هو إلا تقديم المفعول الثاني على الأول للعناية ( به ) كما تقول : علمت منطلقاً زيداً لفضل عنايتك بالمنطلق .
قال أبو حيان : وادعاء القلب ، يعني : أن التقديم ليس بجيد ، لأنه من ضرائر الأشعار . قال شهاب الدين : قد تقدم فيه ثلاثة مذاهب ، على أن هذا ليس من القلب المذكور في شيء إنما هو تقديم وتأخير فقط .
وقرأ ابنُ هُرمز « إِلاَهَةً هَوَاهُ » على وزن فعالة ، والإِلهة بمعنى المَأْلُوه ، والهاء للمبالغة ك « عَلاَّمَة وَنسَّابة ) . و » إِلاَهَةً « مفعول ثاني قدم لكونه نكرة ولذلك صرف . وقيل : إلاهة هي الشمس ، ورد هذا بأنه كان ينبغي أن يمتنع من الصرف للعلمية والتأنيث . وأجيب بأنها يدخل عليها ( أل ) كثيراً فلما نزعت منها صارت نكرة جارية مجرى الأوصاف . ويقال : أُلاهة بضم الهمزة للشمس وقرأ بعض المَدَنيِّين » آلِهَةً هَوَاهُ « جمعُ إله ، وهو أيضاً مفعول مقدم وجمع باعتبار الأنواع ، فقد كان الرجل يعبد آلهة شتى . ومفعول » أَرَأَيْتَ « الأول » مَنْ « والثاني الجملة الاستفهامية .
فصل
قال ابن عباس : الهوى إله يعبد . وقال سعيد بن جبير : كان الرجل من المشركين يعبد الحجر ، فإذا رأى حجراً أحسن منه طرح الأول وأخذ الآخر وعبده . { أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً } أي : حافظاً تحفظه من اتباع هواه ، أي لست كذلك ، ونظيره : { لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ } [ الغاشية : 22 ] { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } [ ق : 45 ] { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } [ البقرة : 256 ] ، قال الكلبي : نسختها آية القتال . { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون } يسمعون ما تقول سماع طالب الإفهام ، أو يعقلون ما يعاينون من الحجج والأعلام . و » أم « هنا منقطعة بعنى : بل . { إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام } في عدم انتفاعهم بالكلام ، وعدم تدبرهم ، وتفكرهم ، بل هم أضل سبيلاً لأن البهائم تهتدي لمراعيها ومشاربها ، وتَنْقَاد لأربابها التي تتعهدها ، ( وتطلب ما ينفعها ، وتجتنب ما يضرها ، وقلوب الأنعام خالية عن العلم ، وعن الاعتقاد الفاسد ، وهؤلاء قلوبهم خالية عن العلم ومليئة من الاعتقاد والباطل ، وعدم علم الأنعام لا يضر بأحد ، وجهل هؤلاء منشأ للضرر العظيم ، لأنهم يصدون الناس عن سبيل الله ، والبهائم لا تستحق عقاباً على عدم العلم ، وهؤلاء يستحقون على عدم العلم أعظم العقاب ) ، وهؤلاء الكفار لا يعرفون طريق الحق ولا يطيعون ربهم الذي خلقهم ورزقهم ، ولأن الأنعام تسجد وتسبح الله ، وهؤلاء الكفار لا يفعلون فإن قيل : لم قال : { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ } فحكم بذلك على الأكثر دون الكل؟ فالجواب : لأنه كان فيهم من يعرف الله ويعقل الحق إلا أنه ترك الإسلام لحبّ الرياسة لا للجهل . فإن قيل : إنه تعالى لما نفى عنهم السمع والعقل فكيف ذمهم على الإعراض عن الدين ، وكيف بعث الرسول إليهم ، فإن من شرط التكليف العقل؟ فالجواب : ليس المراد أنهم لا يعقلون بل المراد أنهم لم ينتفعوا بذلك العقل ، فهو كقول الرجل لغيره إذا لم يفهم : إنما أنت أعمى وأصم .
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل } الآية . لما بين جهل المعرضين عن دلائل التوحيد ، وبين فساد طريقهم ذكر أنواعاً من الدلائل الدالة على وجود الصانع ، فأولها الاستدلال بحال الظل في زيادته ونقصانه ، وتغير أحواله قوله : « ألم تر » فيه وجهان :
أحدهما : أنه من رؤية العين .
والثاني : أنه من رؤية القلب ، يعني : العلم ، فإن حملناه على رؤية العين ، فالمعنى : أَلَمْ تَرَ إلى الظل كيف مده ربُّك ، وإن حملناه على العلم وهو اختيار الزجاج ، فالمعنى : ألم تعلم ، وهذا أولى ، لأن الظل إذا جعلناه من المبصرات فتأثير قدرة الله في تمديده غير مرئي بالاتفاق ولكنه معلوم من حيث أن كل مبصر فله مؤثر ، فحمل هذا اللفظ على رؤية القلب أولى من هذا الوجه . وهذا الخطاب وإن كان ظاهره للرسول فهو عام في المعنى ، لأن المقصود بيان نعم الله تعالى بالظل ، وجميع المكلفين مشتركون في تنبيههم لهذه النعمة و « كَيْفَ » منصوبة ب « مَدَّ » ، وهي معلقة ل « تَرَ » فهي في موضع نصب ، وقد تقدم القول في « أَلَمْ تَرَ » .
فصل
الظل عبارة عن عدم الضوء مما شأنه أن يضيء ، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، جعله ممدوداً ، لأنه ظل لا شمس معه ، كما قال في ظل الجنة { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } [ الواقعة : 30 ] إذ لم يكن معه شمس ، { وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً } دائماً ثابتاً لا يزول ولا تذهبه الشمس .
وقال أبو عبيدة : الظل ما نسخته الشمس وهو بالغداة ، والفيء ما نسخ الشمس . سمي فيئاً ، لأنه فاء من جانب المغرب إلى جانب المشرق ، { ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلاً } ، أي : على الظل دليلاً ، ومعنى دلالتها عليه أنه لو لم تكن الشمس لما عرفت الظل ، ولولا النور ما عرف الظلمة ، والأشياء تُعْرَفُ بأضدادها .
قال الزمخشري : فإن قُلتَ : « ثم » في هذين الموضعين كيف موقعها قلت موقعها لبيان تفاضل الأمور الثلاث ، كأن الثاني أعظم من الأول ، والثالث أعظم منهما تشبيهاً لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بينهما في الوقت .
قوله : « ثُمَّ قَبَضْنَاهُ » يعني : الظل { إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً } بالشمس التي تأتي عليه ، والقبض جمع المنبسط من الشيء ، معناه : أن الظل يعم جميع الأرض قبل طلوع الشمس ، فإذا طلعت الشمس قبض الله الظل جزءاً فجزءاً « قَبْضاً يَسِيراً » أي : خفياً ، وقيل : المراد من قبضها يسيراً قبضها عند قيام الساعة ، وذلك قبض أسبابها ، وهي الأجرام التي تلقي الظلال . وقوله : « يَسِيراً » كقوله : { حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } [ ق : 44 ] قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِبَاساً } الآية . هذا هو النوع الثاني شبه الليل من حيث يستر الكل ويغطي باللباس الساتر للبدن ، ونبه على ( ما لنا فيه ) من النفع بقوله : « والنَّوْمَ سُباتاً » والسبات : هو الراحة ، أي : راحة لأبدانكم ، وقطعاً لعملكم ، وأصل السبت : القطع ، والنائم مسبوت ، لأنه انقطع عمله وحركته .
قال أبو مسلم : السبات : الراحة ، ومنه يوم السبت ، لما جرت به العادة من الاستراحة فيه ، ويقال للعليل إذا استراح من تعب العلة مسبوت .
وقال الزمخشري : السبات : الموت ، والمسبوت الميت ، لأنه مقطوع الحياة ، قال : وهذا كقوله : { وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل } [ الأنعام : 60 ] . وإنما قلنا إن تفسيره بالموت أولى من تفسيره بالراحة ، لأن النشور في مقابلته . { وَجَعَلَ النهار نُشُوراً } قال أبو مسلم : هو بمعنى الانتشار والحركة ، كما سمى تعالى نوم الإنسان وفاة فقال : { يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } [ الزمر : 42 ] كذلك وفق بين القيام من النوم والقيام من الموت في التسمية بالنشور .
قوله تعالى : { وَهُوَ الذي أَرْسَلَ الرياح بُشْرَا } الآية . هذا هو النوع الثالث ، وقد تقدم الكلام على نظيرتها في الأعراف . { بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } يعني : المطر ، { وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً طَهُوراً } قال الزمخشري : فإن قلت : إنزال الماء موصوفاً بالطهارة وتعليله بالإحياء والسقي يؤذن بأن الطهارة شرط في صحة ذلك كما تقول : حملني الأمير على فرس جواد لأصيد عليه الوحش . قلت : لما كان سقي الأناسي من جملة ما أنزل له الماء وصف بالطهارة إكراماً لهم ، وتتميماً للمنّة عليهم .
وطهور : يجوز أن يكون صفة مبالغة منقولاً من ظاهر ، كقوله تعالى : « شَرَاباً طَهُوراً » ، وقال :
3876- إلى رُجَّحِ الأَكْفَالِ غِيدٌ مِنَ الصِّبَا ... عِذَابُ الثَّنَايَا رِيقُهُنَّ طَهُورُ
وأن يكون اسم ما يتطهر به كالسحور لما يتسحَّر به ، والفطور لما يتفطَّر به ، قال عليه السلام في البحر : « هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ » أراد به المطهر ، فالماء مطهر ، لأنه يطهر الإنسان من الحدث والنجاسة ، كما قال في آية أخرى { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } [ الأنفال : 11 ] فثبت أن التطهير مختص بالماء .
( وذهب أصحاب الرأي إلى أن الطهور هو الطاهر حتى جوزوا إزالة النجاسة بالمائعات الطاهرة كالخل وماء الورد ، والمرق ، ولو جاز إزالة النجاسة بها لجاز رفع الحدث بها . وقال عليه السلام : « التّراب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج » ولو كان معنى الطهور هو الطاهر لكان معناه التراب طاهر للمسلم ، وحينئذ لا ينتظم الكلام ، وكذا قوله عليه الصلاة والسلام : « طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه أن يغسل سبعاً » ولو كان الطهور هو الطاهر لكان معناه : طاهر إناء أحدكم ، وحينئذ لا ينتظم الكلام ) .
ويجوز أن يكون مصدراً ك ( القبول والولوع ) .
وقوله : « لِنُحْيِيَ بِهِ » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه متعلق بالإنزال . والثاني : وهو صعب أنه متعلق ب ( طهور ) .
ووصف « بَلْدَةً » ب « مَيِّت » وهي صفة للمذكر ، لأنها بمعنى البلد .
قوله : « وَنُسْقِيَهُ » العامة على ضمّ النون ، وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية عنهما وأبو حيوة وابن أبي عبلة بفتحها ، وقد تقدم أنه قرئ بذلك في النحل والمؤمنون وتقدم الكلام ( على ذلك ) .
قوله : « مِمَّا خَلَقْنَا » يجوز أن يتعلق « مِنْ » ب « نُسْقِيَهُ » ، وهي لابتداء الغاية ، ويجوز أن تتعلق بمحذوف على أنها حال من « أَنْعَاماً » ، ونكرت الأنعام والأناسي ، ( قال الزمخشري ) : لأن علية الناس وجلهم مجتمعون بالأودية والأنهار ، فيهم غنية عن سقي الماء وأعقابهم وهم كثير منهم لا يعيشهم إلا ما ينزل الله من رحمته وسقيا ( سمائه ) .
قوله : « وَأَنَاسِيَّ » فيه وجهان :
أحدهما : وهو مذهب سيبويه أنه جمع إنسان ، والأصل إنسان ، وأناسين ، فأبدلت النون ياء ، وأدغمت فيها الياء قبلها نحو ظربان وظرابي .
والثاني : وهو قول الفراء والمبرد والزجاج أنه جمع إنسي . وفيه نظر ، لأن فعالي إنما يكون جمعاً لما فيه ياء مشددة لا تدل على نسب نحو كرسي وكراسي ، فلو أريد ب ( كرسي ) النسب لم يجز جمعه على كراسي ، ويبعد أن يقال : إن الياء في إنْسِيّ ليست للنسب ، وكان حقه أن يجمع على ( أناسية ) نحو مهالبة في المهلبي ، وأزارقة في الأزرقي . وقرأ يحيى بن الحارث الذماري والكسائي في رواية « وأناسِيَ » بتخفيف الياء . قال الزمخشري : بحذف ياء أفاعيل ، كقولك ( أناعم في أناعيم ) . قال الزمخشري : فإن قلت : لم قدم إحياء الأرض وسقي الأنعام على سقي الأناسي . قلت : لأن حياة الأناسي بحياة أرضهم وحياة أنعامهم ، فقدم ما هو سبب حياتهم ، ولأنهم إذا ظفروا بسقيا أرضهم ، وسقي أنعامهم لم يعدموا سقياهم فإن قيل : لم خص الإنسان والأنعام هاهنا بالذكر دون الطير والوحش مع انتفاع الكل بالماء؟ فالجواب : لأن الطير والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام ، لأن حوائج الأناسي ومنافعهم متعلقة بها فكان الإنعام عليهم ( بسقي أنعامهم كالإنعام عليهم ) بسقيهم . وقال : « أَنَاسِيَّ كَثيراً » ولم يقل : كثيرين ، لأنه قد جاء فعيل مفرداً ويراد به الكثرة كقوله : { وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً } [ الفرقان : 38 ] { وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً } [ النساء : 69 ] .
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)
قوله تعالى : « وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ » في هذه الهاء ثلاثة أوجه :
أحدها : قال الجمهور : إنها ترجع إلى المطر ، ثم هؤلاء قال بعضهم : ( المعنى صرفنا نزول الماء من وابل ، وطل وجود وطشّ ، ورذاذ ، وغير ذلك .
وقال بعضهم ) : « صَرَّفْنَاهُ » أي : أجريناه في الأنهار حتى انتفعوا بالشرب وبالزراعات وأنواع المعاش به . وقال آخرون : معناه : أنه تعالى ينزله في مكان ( دون مكان ) في عام ثم في العام الثاني يقع بخلاف ما وقع في العام الأول ، قال ابن عباس : ما عام بأكثر من عام ، ولكن الله يصرفه في الأرض . ثم قرأ هذه الآية .
وروى ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « ما من عام بأمطر من عام ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعاً صرف الله ذلك إلى الفيافي » .
الثاني : قال أبو مسلم : الضمير راجع إلى المطر والسحاب والإظلال وسائر ما ذكره الله من الأدلة .
الثالث : أي هذا القول صرفناه بين الناس في القرآن وفي سائر الكتب والصحف التي أنزلت على الرسل ، وهو ذكر إنشاء السحاب ، وإنزال المطر ليتفكروا ويستدلوا به على الصانع .
وقرأ عكرمة : « صَرَفْنَاهُ » بتخفيف الراء . وقيل : التصريف راجع إلى الريح .
« ليذكروا » ويتفكروا في قدرة الله تعالى { فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً } جحوداً ، وكفرانهم هو أنهم إذا أمطروا قالوا : أُمْطرنا بنوء كذا ، روى زيد بن خالد الجهني قال : « صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل ، فلما انصرف أقبل على الناس فقال : » هل تدرون ما قال ربكم « قالوا : الله ورسوله أعلم » قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي فأما من قال : مُطِرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي وكافر بالكواكب ، وأما من قال : مُطِرْنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكواكب « .
فصل
قال الجبائي : قوله : » لِيَذَّكَّرُوا « يدل على أنه تعالى يريد من الكل أن يذكروا ويشكرو ، ولو أراد أن يكفروا أو يعرضوا لما صح ذلك ، وذلك يبطل قول من قال : إن الله مريد لكفر من يكفر قال : ودلَّ قوله : { فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً } على قدرتهم على فعل هذا التذكر؛ إذ لو لم يقدروا لما جاز أن يقال : أبوا أن يفعلوه ، كما لا يقال في الزمن أبى أن يسعى .
وقال الكعبي : قوله : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ } ( حجة على من زعم أن القرآن وبال على الكافرين ، وأنه لم يرد بإنزاله أن يؤمنوا ، لأن قوله : » ليذَّكَّروا « ) عامّ في الكل ، وقوله تعالى : { أَكْثَرُ الناس } يقتضي أن يكون هذا الأكثر داخلاً في ذلك العام ، لأنه لا يجوز أن يقال أنزلناه على قريش ليؤمنوا فأبى أكثر بني تميم إلا كفوراً .
والجواب قد تقدم مراراً .
قوله تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً } رسولاً ينذرهم ، والمراد من ذلك تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه :
أحدها : أنه تعالى بين أنه مع القدرة على بعثه نذيراً ورسولاً في كل قرية خصه بالرسالة وفضّله بها على الكل ، ولذلك أتبعه بقوله : { فَلاَ تُطِعِ الكافرين } أي : لا توافقهم .
وثانيها : المراد : ولو شئنا لخففنا عنك أعباء الرسالة إلى كل العالمين و { لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً } ولكنا قصرنا الأمر عليك وأجللناك وفضلناك على سائر الرسل ، فقابل هذا الإجلال بالتشدُّد في الدين .
وثالثها : أن الآية تقتضي مزج اللطف بالعنف ، لأنها تدل على القدرة على أن يبعث في كل قرية نذيراً مثل محمد ، وأنه لا حاجة بالحضرة الإلهية إلى محمد البتة .
وقوله : « ولَوْ شِئْنَا » يدل على أنه تعالى لا يفعل ذلك . والمعنى : ولكن بعثناك إلى القُرَى كلها وحمَّلناك ثقل نذارة جميعها لتستوجب بصبرك عليه ما أعتدنا لك من الكرامة والدرجة الرفيعة . { فَلاَ تُطِعِ الكافرين } فيما يدعونك إليه من موافقتهم وهذا يدل على أن النهي عن الشيء لا يقتضي كون المنهي عنه مشتغلاً به .
قوله : « وَجَاهِدْهُمْ بِهِ » أي : بالقرآن ، أو بترك الطاعة المدلول عليه بقوله : « فَلاَ تُطِع » ، أو بما دل عليه { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً } من كونه نذير كافة القرى ، أو بالسيف .
والأقرب الأول؛ لأن السورة مكية ، والأمر بالقتال ورد بعد الهجرة بزمان ، فالمراد بذل الجهد في الدعاء جهاداً كبيراً شديداً .
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)
قوله تعالى : { وَهُوَ الذي مَرَجَ البحرين } الآية . هذا النوع الرابع . في « مَرَجَ » قولان :
أحدهما : بمعنى خلط ومرج ، ومنه مرج الأمر أي : اختلط قاله ابن عرفة .
وقيل : « مرج » أجرى ، وأمرج لغة فيه .
( و ) قيل : مرج لغة الحجاز ، وأمْرَجَ لغة نجد ، وفي كلام بعض الفصحاء : بحران أحدهما بالآخر مَمْرُوج ، وماء العذب منهما بالأجاج ممزوج . وقيل : أرسلهما في مجاريهما وخلاَّهما كما ترسل الخيل في المرج قاله ابن عباس .
وأصل المرج الخلط والإرسال يقال : مرجت الدابة وأمرجتها إذا أرسلتها في المرعى وخليتها تذهب حيث تشاء .
قوله { هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ } هذه الجملة لا محل لها ، لأنها مستأنفة جواب لسؤال مقدر كأن قائلاً قال : كيف مرجهما؟ قيل : هذا عذب وهذا ملح .
ويجوز على ضعف أن تكون حالية . والفرات : المبالغ في الحلاوة ، والتاء فيه أصلية لام الكلمة ، ووزنه فعال . وبعض العرب يقف عليها هاء ، وهذا كما تقدم في التابوت . ويقال : سمي الماء الحلو فراتاً ، لأنه يفرت العطش أي : يشقه ويقطعه والأُجاج : المبالغ في الملوحة ، وقيل : في الحرارة ، وقيل في المرارة . وهذا من أحسن المقابلة ، حيث قال تعالى : { عَذْبٌ فُرَاتٌ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ } وأنشد بعضهم :
3877- فَلاَ واللَّهِ لاَ أَنْفَكُّ أَبكي ... ( إلى أَنْ نَلْتَقِي شُعْثاً عُراتَا )
أَأُلْحَى إنْ نَزَحْتُ أُجَاجَ عَيْنِي ... عَلَى جَدَثٍ حَوَى العَذْبَ الفُرَاتَا
ما أحسن ما كنى عن دمعه بالأجاج ، وعن المبكي عليه بالعذب الفرات وكان سبب إنشاد هذين البيتين أن بعضهم لحن قائلهما في قوله : عراتا . كيف يقف على تاء التأنيث المنونة بالألف؟ فقيل له : إنها لغة مستفيضة يجعلون التاء كغيرها فيبدلون تنوينها بعد الفتح ألفاً ، حكي عن العرب أكلت تمرتاً نحو أكلت زيتاً . وقرأ طلحة وقتيبة عن الكسائي « مَلِح » بفتح الميم وكسر اللام ، وكذا في سورة فاطر ، وهو مقصور من ( مالح ) كقولهم : برد في بارد ، قال :
3878- وَصِلْيانا بَرِدا ... وماء مالح لغة شاذة . وقال أبو حاتم : هذه قراءة منكرة .
قوله : « بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً » يجوز أن يكون الظرف متعلقاً بالجعل ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من « بَرْزَخاً » .
والأول أظهر . ومعنى « بَرْزَخاً » أي : حاجزاً بقدرته لئلا يختلط أحدهما بالآخر .
قوله : « وَحِجْراً مَحْجُوراً » الظاهر عطفه على « برزخاً » .
وقال الزمخشري : ( فإن قلت : « حِجْراً مَحْجُوراً » ) ما معناه؟ قلت هي الكلمة التي يقولها المتعوّذ ، وقد فسرناها ، وهي هنا واقعة على سبيل المجاز ، كأن واحداً من البحرين يقول لصاحبه : حجراً محجوراً كأنه يتعوذ من صاحبه ويقول له : حجراً محجوراً . كما قال : « لا يبغيان » . وهي من أحسن الاستعارات .
فعلى ما قاله يكون منصوباً بقول مضمر .
فإن قيل : لا وجود للبحر العذب ، فكيف ذكره الله تعالى هنا؟ لا يقال : هذا مدفوع من وجهين :
أحدهما : أن المراد منه الأودية العظام كالنيل وجيحون .
الثاني : لعله حصل في البحار موضع يكون أحد جانبيه عذباً والآخر ملحاً ، لأنا نقول : أما الأول فضعيف ، لأن هذه الأودية ليس فيها ماء ملح ، والبحار ليس فيها ماء عذب ، فلم يحصل البتة موضع التعجب وأما الثاني فضعيف؛ لأن موضع الاستدلال لا بد وأن يكون معلوماً ، وأما بمحض التجويز فلا يحسن الاستدلال .
فالجواب : أنا نقول : المراد من البحر العذب هذه الأودية ومن البحر الأجاج البحار الكبار . { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً } أي : حائلاً من الأرض ، ووجه الاستدلال هاهنا أن العذوبة والملوحة إن كانت بسبب طبيعة الأرض والماء ، فلا بد من الاستواء ، وإن لم يكن كذلك فلا بد من قادر حكيم يخص كل واحد من الأجسام بصفة خاصة . ويمكن الجواب بطريق آخر ، وهو أنا رأينا نيل مصر داخلاً في بحر ملح أبيض لونه مغاير للون بحر الملح ، ولا يختلط به ويؤخذ منه ويشرب .
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)
قوله تعالى : { وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ المآء بَشَراً } الآية .
هذا نوع خامس ، وفي هذا الماء قولان :
أحدهما : أنه النطفة ، والثاني : أنه الماء الذي تسقى به الأرض فيتولد منه الأغذية ، ويتولد من الأغذية النطفة ، كما تقدم في قوله : { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [ الأنبياء : 30 ] .
قوله : « مِنَ المَاءِ » يجوز أن يكون متعلقاً ب « خَلَقَ » وأن يتعلق بمحذوف حالاً من ماء ، و « مِنْ » لابتداء الغاية ، أو للتبعيض .
قوله : { فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً } أي : جعله ذا نسب وصهر قال الخليل : لا يقال لأهل بيت المرأة إلا الأصهار ، ولا لأهل بيت الرجل إلا أختان . قال : ومن العرب من يطلق الأصهار على الجميع . وهذا هو الغالب .
وقيل : النسب ما لا يحل نكاحه ، والصهر ما يحل نكاحه ، والنسب ما يوجب الحرمة ، والصهر ما لا يوجبها . والصحيح أن النسب من القرابة والصهر الخلطة التي تشبه القرابة وهو النسب المحرم للنكاح ، وقد تقدم أن الله تعالى حرم بالنسب سبعاً وبالسبب سبعاً في قوله عز وجل : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } [ النساء : 23 ] { وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً } حيث خلق من النطفة نوعين من البشر الذكر والأنثى .
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)
قوله تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } الآية . لما ذكر دلائل التوحيد عاد إلى تهجين سيرتهم فقال « وَيَعْبُدُونَ » أي : هؤلاء المشركون { مَا لاَ يَنفَعُهُمْ } إن عبدوه « وَلاَ يَضرُّهُمْ » إن تركوه ، { وَكَانَ الكافر على رَبِّهِ ظَهِيراً } أي : معيناً للشيطان على ربه بالمعاصي . قال الزجاج : يعاون الشيطان على معصية الله ، لأن عبادتهم الأصنام معاونة للشيطان . فإن قيل كيف يصح في الكافر أن يكون معاوناً للشيطان على ربه بالعداوة . فالجواب أنه تعالى ذكر نفسه وأراد رسوله فقال : { إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله } [ الأحزاب : 57 ] . وقيل : معناه : وكان الكافر على ربه هيناً ذليلاً ، كما يقول الرجل لمن يستهين به : جعلني بظهر ، أي : جعلني هيناً ، ويقال : ظهرت به : إذا جعلته خلف ظهرك ، كقوله : { واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً } [ هود : 92 ] .
قال أبو مسلم : وقياس العربية أن يقال : مظهوراً ، أي : مستخف به متروك وراء الظهر ، فقيل فيه : ظهير بمعنى مظهور ، ومعناه : هين على الله أن يكفر الكافر ، وهو تعالى مستهين بكفره .
والمراد بالكافر قيل : أبو جهل ، لأن الآية نزلت فيه . والأولى حمله على العموم لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ . قيل : ويجوز أن يريد بالظهير الجماعة كقوله : { وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } [ التحريم : 4 ] كالصديق والخليط ، فعلى هذا يكون المراد بالكافر الجنس ، وأن بعضهم مظاهر لبعض على إطفاء نور الله قال تعالى : { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي } [ الأعراف : 202 ] .
قوله : « عَلَى رَبِّهِ » يجوز أن يتعلق ب « ظَهِيراً » ، وهو الظاهر ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه خبر « كان » و « ظهيراً » حال ، والظهير المعاون .
قوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً } أي : منذراً ، ووجه تعلقه بما تقدم أن الكفار يطلبون العون على الله ورسوله والله تعالى بعث رسوله لنفعهم ، لأنه بعثه ليبشرهم على الطاعة وينذرهم على المعصية ، فيستحقوا الثواب ، ويحترزوا عن العقاب فلا جهل أعظم من جهل من استفرغ جهده في إيذاء شخص استفرع جهده في إصلاح مهماته ديناً ودنياً ، ولا يسألهم على ذلك ألبتة أجراً .
قوله : { إِلاَّ مَن شَآءَ } فيه وجهان :
أحدهما : وهو منقطع ، أي : لكن من يشاء { أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً } فليفعل .
والثاني : أنه متصل على حذف مضاف ، يعني : إلا أجر من ، أي : الأجر الحاصل على دعائه إلى الإيمان وقبوله ، لأنه تعالى يأجرني على ذلك . حكاه أبو حيان وفيه نظر ، لأنه لم يسند السؤال المنفي في الظاهر إلى الله تعالى إنما أسنده إلى المخاطبين فكيف يصح هذا التقدير .
فصل
المعنى : ما أسألكم على تبليغ الوحي من أجر ، فتقولوا إنما يطلب محمد أموالنا بما يدعونا إليه فلا نتبعه .
وقوله : { إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً } استثناء منقطع معناه : لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً بإنفاق ماله في سبيله فعل ذلك .
والمعنى : لا أسألكم لنفسي أجراً ، ولكن لا أمنع من إنفاق المال في طلب مرضاة الله واتخاذ السبيل إلى جنته .
قوله : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ } الآية . لما تبين أن الكفار يتظاهرون على إيذائه ، وأمره أن لا يطلب منهم أجراً ، أمره بأن يتوكل عليه في دفع جميع المضار ، وفي جلب جميع المنافع ، وإنما قال : { عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ } ، لأن من توكل على الحي الذي يموت فإذا مات المتوكَّل عليه صار المتوكِّل ضائعاً ، وأما الله تعالى فهو حي لا يموت فلا يضيع المتوكِّل عليه .
« وَسَبِّحْ بَحَمْدِهِ » قيل : المراد بالتسبيح الصلاة . وقيل : قل سبحان الله والحمد لله . { وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً } عالماً ، وهذه كلها يراد بها المبالغة ، يقال كفى بالعلم جمالاً ، وكفى بالأدب مالاً وهو بمعنى حسبك ، أي لا يحتاج معه إلى غيره ، لأنه خبير بأحوالهم قادرٌ على مكافأتهم وهذا وعيد شديد .
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)
قوله تعالى : { الذي خَلَقَ السماوات والأرض } الآية . لما أمر الرسول بأن يتوكل عليه وصف نفسه بأمور منها : أنه حي لا يموت ، وأنه عالم بجميع المعلومات بقوله { وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 58 ] ومنها أنه قادر على كل الممكنات ، وهو قوله : { الذي خَلَقَ السماوات والأرض } وهذا متصل بقوله : { الحي الذي لاَ يَمُوتُ } [ الفرقان : 58 ] لأنه سبحانه لما كان خالقاً للسموات والأرض ولكل ما بينهما ثبت أنه القادر على جميع المنافع ودفع المضار ، وأن النعم كلها من جهته فحينئذ لا يجوز التوكل إلا عليه . و « الَّذِي خَلَقَ » يجوز أن يكون مبتدأ ، و « الرَّحْمَنُ » خبره ، وأن يكون خبر مبتدأ مقدر ، أي : هو الذي خلق ، وأن يكون منصوباً بفعل مضمر ، وأن يكون صفة للحي الذي لا يموت ، أو بدلاً ، أو بياناً هذا على قراءة « الرَّحْمَنُ » بالرفع ومن قرأه بالجر فيتعين أن يكون « الَّذِي خَلَقَ » صفة للحي فقط .
قوله : { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } فيه سؤال ، وهو أن الأيام عبارة عن حركة الشمس في السموات فقيل السموات لاً أيام ، فكيف قال : خلقها في ستة أيام؟
والجواب : في مدة مقدارها ( هذه المدة ) ، لا يقال : الشيء الذي يتقدر بمقدار محدود ويقبل الزيادة والنقصان والتجزئة لا يكون عدماً محضاً بل لا بد وأن يكون موجوداً فيلزم من وجوده وجود مدة قبل وجود العالم وذلك يقتضي قدم الزمان ، لأنا نقول : هذا معارض بنفس الزمان ، لأن المدة المتوهمة المحتملة لعشرة أيام لا تحتمل بخمسة أيام والمدة المتوهمة المحتملة لخمسة أيام لا تحتمل عشرة أيام فيلزم أن يكون للمدة مدة أخرى ، فلما لم يلزم من هذا قدم الزمان لم يلزم ما قلتموه ، وعلى هذا نقول لعل الله سبحانه خلق المدة أولاً ثم خلق السموات والأرض فيها بمقدار ستة أيام . وقيل : في ستة أيام من أيام الآخرة كل يوم مقداره ألف سنة . وهو بعيد ، لأن التعريف لا بد وأن يكون بأمر معلوم لا بأمر مجهول . فإن قيل : لم قدر الخلق والإيجاد بهذا المقدار؟
فالجواب على قول أهل السنة المشيئة والقدرة كافية للتخصيص ، وقالت المعتزلة : لا بد وأن يكون من حكمة وهو أن التخصيص بهذا المقدار أصلح ، وهذا بعيد لوجهين :
الأول : أن حصول تلك الحكمة إما أن يكون واجباً لذاته أو جائزاً ، فإن كان واجباً وجب أن لا يتغير فيكون حاصلاً في كل الأزمنة فلا يصلح أن يكون سبباً لزمان معين ، وإن كان جائزاً افتقر حصول تلك الحكمة في ذلك الوقت إلى مخصص آخر ، ولزم التسلسل .
والثاني : أن التفاوت بين كل واحد مما لا يصل إليه خاطر المكلف وعقله فحصول ذلك التفاوت لما لم يكن مشعوراً به كيف يقدح في حصول المصالح .
واعلم أنه يجب على المكلف سواء كان على قولنا أو على قول المعتزلة أن يقطع الطمع عن أمثال هذه الأسئلة ، فإنه بحر لا ساحل له ، كتقدير ملائكة النار بتسعة عشر ، وحملة العرش بثمانية ، والسموات بالسبع ، وعدد الصلوات ، ومقادير النصب في الزكوات ، وكذا في الحدود ، والكفارات ، فالإقرار بكل ما قال الله حق هو الدين ، والواجب ترك البحث عن هذه الأشياء ، وقد نص الله على ذلك في قوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب وَيَزْدَادَ الذين آمنوا إِيمَاناً وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُواْ الكتاب والمؤمنون وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والكافرون مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } [ المدثر : 31 ] ثم قال : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [ المدثر : 31 ] ، وهو الجواب أيضاً في أنه لِمَ لَمْ يخلقها في لحظة وهو قادر على ذلك . وعن سعيد بن جبير : إنما خلقها في ستة أيام وهو يقدر أن يخلقها في لحظة تعليماً لخلقه الرفق والتثبت . وقيل : ثم خلقها في يوم الجمعة فجعله الله عيداً للمسلمين .
قوله : { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } لا يجوز حمله على الاستيلاء والقدرة؛ لأن أوصاف الله لم تزل ، فلا يصح دخول « ثُمَّ » فيه . ولا على الاستقرار ، لأنه يقتضي التغيير الذي هو دليل الحدوث ، ويقتضي التركيب ، وكل ذلك على الله محال ، بل المراد أنه خلق العرش ورفعه .
فإن قيل : يلزم أن يكون خلق العرش بعد خلق السموات وليس كذلك لقوله تعالى : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء } [ هود : 7 ] .
فالجواب : كلمة « ثُمَّ » ما دخلت على خلق العرش بل على رفعه على السموات .
قوله : « الرَّحْمَنُ » قرأ العامة بالرفع ، وفيه أوجه :
أحدها : أنه خبر « الَّذِي » ، أو خبر مبتدأ مضمر ، أي : الرحمن ، ولهذا أجاز الزجاج وغيره الوقف على العرش ثم يبدأ الرحمن ، أي : هو الرحمن الذي لا ينبغي السجود والتعظيم إلا له ، أو يكون بدلاً من الضمير في « استوى » أو يكون مبتدأ وخبره الجملة من قوله « فَاسْأَلْ » على رأي الأخفش كقوله :
3879- وَقَائِلَةٍ خوْلاَنُ فَانْكِحْ فَتَاتَهُمْ ... أو يكون صفة الذي خلق ، إذا قلنا : إنه مرفوع .
وقرأ زيد بن علي « الرَّحْمَنِ » بالجر فيتعين أن يكون نعتاً للذي خلق و « الَّذِي خَلَقَ » صفة للحي فقط ، لئلا يفصل بين النعت ومنعوته بأجنبي .
قوله : « فَاسْأَلْ بِهِ » في الباء قولان : أحدهما : هي على بابها ، وهي متعلقة بالسؤال ، والمراد ب « الخَبِير » الله تعالى ، ويكون من التجريد ، كقولك : لقيت به أسداً والمعنى فاسأل الله الخبير بالأشياء .
قال الزمخشري : أو فاسأل بسؤاله خبيراً كقولك : رأيت به أسداً ، أي برؤيته انتهى . قال الكلبي : فاسأل خبيراً به ، فقوله : « به » يعود إلى ما ذكر من خلق السموات والاستواء على العرش ، والباء من صلة الخبير ، وذلك الخبير هو الله تعالى؛ لأنه لا دليل في العقل على كيفية خلق السموات والأرض ، ولا يعلمها أحد إلا الله تعالى ، ف « خَبِيراً » مفعول « اسْأَل » على هذا ، أو منصوب على الحال المؤكدة ، واستضعفه أبو البقاء .
قال : ويضعف أن يكون « خَبِيراً » حالاً من فاعل « اسْأَلْ » ؛ لأن « الخبير » لا يسأل إلا على جهة التوكيد كقوله : { وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً } [ البقرة : 91 ] . ثم قال : ويجوز أن يكون حالاً من « الرَّحْمَنُ » إذا رفعته ب « اسْتَوَى » . والثاني : أن تكون الباء بمعنى « عن » إما مطلقاً وإما مع السؤال خاصة كهذه الآية الكريمة ، وكقول علقمة بن عبدة :
3880- فإنْ تَسَْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإنَّنِي ... خَبِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ
والضمير في « به » لله تعالى ، و « خَبِيراً » من صفات الملك وهو جبريل قال ابن عباس : إن ذلك الخبير هو جبريل - عليه السلام - وإنما قدم لرؤوس الآي وحسن النظم وهو قول الزجاج والأخفش . ويجوز على هذا أي : كون « خَبِيراً » من صفات جبريل ، أن تكون الباء على بابها ، وهي متعلقة ب « خبير » كما تقدم ، أي : فاسأل الخبراء به .
وقال ابن جرير : الباء في « بِهِ » صلة ، والمعنى : فاسأله خبيراً و « خَبِيراً » نصب على الحال . وقيل : قوله : « بِهِ » يجري مجرى القسم كقوله : { واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ } [ النساء : 1 ] .
قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن } الآية . قال أكثر المفسرين : الرحمن اسم من أسماء الله مكتوب في الكتب المتقدمة والعرب ما عرفوه .
قال مقاتل : « إن أبا جهل قال : إن الذي يقول محمد شعر ، فقال عليه السلام : » الشعر غير هذا إن هذا إلا كلام الرحمن « ، فقال أبو جهل : بخ بخ لعمري والله إنه لكلام الرحمن الذي باليمامة هو يعلمك ، فقال عليه السلام : » الرحمن الذي في السماء ومن عنده يأتيني الوحي « ، فقال : يا أبا غالب من يعذرني من محمد يزعم أن الله واحد وهو يقول : الله يعلمني والرحمن ، ألستم تعلمون أنهما إلهان » قال القاضي : والأقرب أن مرادهم إنكار الله لا الاسم ، لأن هذه اللفظة عربية وهم كانوا يعلمون أنها تفيد المبالغة في الإنعام ، ثم إن قلنا : إنهم كانوا منكرين ( لله كان قولهم ) : « وَمَا الرَّحْمَن » سؤال عن الحقيقة كقول فرعون : { وَمَا رَبُّ العالمين } [ الشعراء : 23 ] ، وإن قلنا : إنهم كانوا مقرين بالله لكنهم جهلوا كونه تعالى مسمى بهذا الاسم كان قولهم « وَمَا الرَّحْمَن » سؤال عن هذا الاسم .
قوله : { أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا } قرأ الأخوان بياء الغيبة ، يعنون محمداً كأن بعضهم قال لبعض : أنسجد لما يأمرنا محمدٌ أو يأمرنا المسمى بالرحمن ولا نعرف ما هو .
والباقون بالخطاب ، يعني لما تأمرنا أنت يا محمد .
و « ما » يجوز أن يكون بمعنى ( الذي ) ، والعائد محذوف لأنه متصل؛ لأن ( أمر ) يتعدى إلى الثاني بإسقاط الحرف ، ولا حاجة إلى التدرج الذي ذكره أبو البقاء وهو أن الأصل : لما تأمرنا بالسجود له ، ثم بسجوده ، ثم تأمرناه ، ثم تأمرنا ، كذا قدره ، ثم قال : هذا على مذهب أبي الحسن وأما على مذهب سيبويه فحذف ذلك من غير تدريج . قال شهاب الدين : وهذا ليس مذهب سيبويه . ويجوز أن تكون موصوفة ، والكلام في شهاب الدين : وهذا ليس مذهب سيبويه . ويجوز أن تكون موصوفة ، والكلام في عائدها موصوفة كهي موصولة ويجوز أن تكون مصدرية ، وتكون اللام للعلة ، أي : أنسجد من أجل أمرك وعلى هذا يكون المسجود له محذوفاً ، أي : أنسجد للرحمن لما تأمرنا ، وعلى هذا لا تكون « ما » واقعة على العالم ، وفي الوجهين الأوليين يحتمل ذلك وهو المتبادر للفهم .
قوله : « وَزَادَهُمْ نُفُوراً » قول القائل لهم اسجدوا للرحمن . نفوراً عن الدين والإيمان . ومن حقه أن يكون باعثاً على الفعل والقبول ، قال الضحاك : سجد الرسول وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعثمان بن مظعون وعمرو بن عنبسة ، ولما رآهم المشركون يسجدون تباعدوا في ناحية المسجد مستهزئين من هذا ، وهو المراد من قوله « وَزَادَهُمْ نُفُوراً » أي : فزادهم سجودهم نفوراً .
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
قوله تعالى : { تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء بُرُوجاً } الآية .
لما حكى مزيد نفور الكفار عن السجود ، وذكر ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود والعبادة للرحمن فقال : { تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء بُرُوجاً } تقدم القول في « تَبَارَكَ » ، قال الحسن ومجاهد وقتادة ورواية عن ابن عباس البروج هي النجوم الكبار سميت بروجاً لظهورها ، لأن اشتقاق البرج من التبرج وهو الظهور .
وقال عطية العوفي : البروج هي القصور العالية ، لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها ، وهذا أولى لقوله تعالى : { وَجَعَلَ فِيهَا } أي : في البروج فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون قوله « فيها » راجعاً إلى السماء دون البروج؟
فالجواب : لأن البروج أقرب ، فعود الضمير إليها أولى .
وروى عطاء عن ابن عباس : هي البروج الاثنا عشر .
قوله : { وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً } . قرأ الجمهور بالإفراد ، والمراد به الشمس لقوله تعالى : { وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً } [ نوح : 16 ] ، ويؤيده أيضاً ذكر القمر بعده . والأخوان « سُرُجاً » بضمتين جمعاً نحو حُمُر في حِمَار ، وجمع باعتبار الكواكب النيرات ، وإنما ذكر القمر تشريفاً له كقوله : { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] بعد انتظامهما في الملائكة . وقرأ الأعمش والنخعي وعاصم في رواية عصمة « وقُمْراً » بضمة وسكون وهو جمع قَمْراء كحُمْر في حَمْرَاء ، والمعنى : وذا ليال قمر منيراً ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، ثم التفت إلى المضاف بعد حذفه فوصفه تمييزاً ، ولو لم يعتبره لقال : منيرة ، ونظير مراعاته بعد حذفه قول حسان :
3881- يَسْقُونَ مَنْ وَرَدَ البَرِيصَ عَلَيْهِمْ ... بَرَدَى يُصَفَّقُ بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ
الأصل : ماء بردى ، فحذفه ثم راعاه في قوله : ( يصفق ) بالياء من تحت ولو لم يكن ذلك لقال : تصفق بالتاء من فوق على أن بيت حسان يحتمل أن يكون كقوله :
3882- وَلاَ أَرْضَ أَبْقَلَ إبْقَالَها ... مع أن ابن كيسان يجيزه سعة .
وقال بعضهم : لا يبعد أن يكون القُمْر بمعنى القَمَر كالرُّشد والرَّشد .
قوله تعالى : { وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً } الآية .
في « خِلْفَةً » وجهان : أحدهما : أنه مفعول ثان . والثاني : أنه حال بحسب القولين في « جعل » . و « خلفة » يجوز أن تكون مصدراً من خلفه يخلفه إذا جاء مكانه ، وأن يكون اسم هيئة منه كالرّكبة ، وأن يكون من الاختلاف .
كقوله :
3883- وَلَهَا بِالمَاطِرُونِ إذَا ... أَكَلَ النَّمْلُ الَّذِي جَمَعَا
خِلْفَةً حَتَّى إذَا ارْتَبَعتْ ... سَكَنَتْ مِنْ جِلَّقٍ بِيَعَا
في بُيُوتٍ وَسْطَ دَسْكرةٍ ... حَوْلَهَا الزَّيْتُونُ قَدْ يَنَعَا
ومثله قوله زهير :
3884- بِهَا العِيْنُ والآرامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً ... وأفرد « خِلْفَةً » قال أبو البقاء : لأن المعنى يخلف أحدهما الآخر ، فلا يتحقق هذا إلا منهما .
قال ابن عباس : جعل كل واحد منهما يخلف صاحبه فيما يحتاج أن يعمل فيه ، فمن فرط في عمل في أحدهما قضاه في الآخر ، جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال فاتتني الصلاة الليلة فقال : أدرك ما فاتتك من ليلتك في نهارك فإن الله عز وجل جعل الليل والنهار خلفة .
وقال مجاهد وقتادة والكسائي : يقال لكل شيئين اختلفا : هما خلفان ، فقوله : « خلفة » أي مختلفين ، هذا أسود ، وهذا أبيض ، وهذا طويل ، وهذا قصير . والأول أقرب .
{ لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ } قراءة العامة بالتشديد ، وقرأ حمزة بالتخفيف ، وعن أبيّ بن كعب « يتذكر » . والمعنى : لينظر الناظر في اختلافهما ، فيعلم أنه لا بد في انتقالهما من حال إلى حال ، من ناقل ومغير فيتعظ .
{ أو أراد شكوراً } قال مجاهد : أي شكر نعمة ربه عليه فيها . والشُّكُور بالضم مصدر شَكَرَ شُكُوراً بمعنى الشُّكر ، وبالفتح صيغة مبالغة .
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)
قوله تعالى : { وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ } { عِبَادُ الرحمن } رفع بالابتداء ، وفي خبره وجهان :
أحدهما : الجملة الأخيرة في آخر السورة « أُولَئِكَ يُجْزَونَ » ، وبه بدأ الزمخشري و « الَّذِينَ يَمْشُونَ » وما بعده صفات للمبتدأ .
والثاني : أن الخبر « يَمْشُونَ » . والعامة على « عِبَادِ » ، [ واليمانيّ بضم العين وتشديد الباء جمع عابد ، والحسن « عُبُد » بضمتين .
والعامة « يَمْشُون » بالتخفيف مبنياً للفاعل ] ، واليماني والسلمي بالتشديد مبنياً للمفعول .
فصل
هذه الإضافة للتخصيص والتفضيل وإلا فالخلق كلهم عباد الله .
قوله : « هَوْناً » إما نعت مصدر ، أي : مشياً هوناً ، وأما حال أي : هَيِّنينَ ، والهون : اللين والرفق ، أي يمشون بالسكينة والوقار متواضعين ، ولا يضربون بأقدامهم أشراً وبطراً ولا يتبخترون خيلاء . وقال الحسن : علماء حكماء .
وقال محمد ابن الحنفية : أصحاب وقار وعفّة لا يسفهون وإن سفه عليهم حلموا { وإذا خاطبهم الجاهلون } يعني السفهاء بما يكرهونه « قَالُوا سَلاَماً » . قال مقاتل : قولاً يسلمون فيه من الإثم . وقيل : المعنى : لا نجاهلكم . وقيل : المراد حلمهم في مقابلة الجهل . وقال الأصم : « قَالُوا سَلاَماً » أي : سلام توديع لا محبة ، كقول إبراهيم - عليه السلام - لأبيه : « سَلاَمٌ عَلَيْكَ » .
قال الكلبي وأبو العالية : نسختها آية القتال .
قوله : « سَلاَماً » يجوز أن ينتصب على المصدر بفعل مقدر أي : نسلم سلاماً أو نسلم تسليماً منكم لا نجاهلكم فأقيم السلام مقام التسليم ، ويجوز أن ينتصب على المفعول به ، أي : قالوا هذا اللفظ ، قال الزمخشري : أي قالوا سداداً من القول يسلمون فيه من الأذى ، والمراد سلامتهم من السفه ، كقوله :
3885- أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَا
ورجح سيبويه أن المراد بالسلام السلامة لا التسليم ، لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالتسليم على الكفرة ، وإنما أمروا بالمسالمة ، ثم نسخ ذلك ، ولم يذكر سيبويه نسخاً إلا في هذه الآية .
قوله : { وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } . لما ذكر وصفهم بالنهار من وجهين :
أحدهما : ترك الإيذاء بقوله : { يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً } .
والثاني : تحمل الإيذاء بقوله : { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } شرح صفتهم في الليل . قال الزجاج : كل من أدركه الليل قيل : بات وإن لم ينم كما يقال : بات فلان قلقاً . والمعنى يبيتون لربهم سجداً على وجوههم ، وقياماً على أقدامهم قال ابن عباس : من صلى بعد العشاء ركعتين فقد بات ساجداً وقائماً . وروى عثمان بن عفان قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة ، ومن صلى الفجر في جماعة كان كقيام ليلة » .
قوله : « سُجَّداً » خبر « يَبِيتُون » ، ويضعف أن تكون تامة .
أي : دخلوا في البيات ، و « سُجَّداً » حال و « لِرَبِّهِمْ » متعلق ب « سُجَّداً » . وقدم السجود على القيام وإن كان بعده في الفعل ، لاتفاق الفواصل . و « سُجَّداً » جمع ساجد كضُرَّاب في ضارب .
وقرأ أبو البرهسيم « سُجُوداً » بزنة قعود ، ويبيت هي اللغة الفاشية ، وأزد السَّراة وبجيلة يقولون : يبات ، وهي لغة العوام اليوم .
قوله : { والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ } . قال ابن عباس : يقولون في سجودهم وقيامهم هذا القول .
قوله : « غَرَاماً » أي : لازماً دائماً ، وعن الحسن : كل غريم يفارق غريمه إلاّ غريم جهنم . وأنشد بشر بن أبي خازم :
3886- وَيَومَ النِّسَار وَيَوْمَ الجِفَا ... رِ كَانَا عَذَاباً وَكَانَ غرَاما
وقول الأعشى :
3887- إن يُعَاقِبْ يَكُنْ غَرَاماً وإن يُعْ ... طِ جَزِيلاً فإنَّهُ لاَ يُبَالِي
ف ( غَرَاماً ) بمعنى شر لازم ، وقيل : خسراناً ملحّاً لازماً ، ومنه الغريم لإلحاحه وإلزامه ، ويقال : فلان مغرم بالنساء ، إذا كان مولعاً بهن ، وسأل ابن عباس نافع بن الأزرق عن الغرام فقال : هو الوجع .
قوله : { إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } . يجوز أن تكون « ساءت » بمعنى أحزنت ، فتكون متصرفة ناصبة المفعول ، وهو هنا محذوف ، أي : أنها يعني جهنم أحزنت صحابها و « مُسْتَقرًّا » يجوز أن تكون تمييزاً وأن تكون حالاً .
ويجوز أن تكون « سَاءَتْ » بمعنى بئست ، فتعطي حكمها ، ويكون المخصوص بالذم محذوفاً ، وفي « ساءت » ضمير مبهم يفسره مستقر و « مستقراً » يتعين أن يكون تمييزاً ، أي : سَاءَتْ هي ، فهي مخصوص وهو الرابط بين هذه الجملة وبين مَا وَقَعَتْ خبراً عنه ، وهو « إنَّها كذا قدَّره أبو حيان ، وقال أبو البقاء : » مُسْتَقَرًّا « تمييز ، و » سَاءَتْ « بمعنى بئْسَ . فإن قيل : يلزم من هذا إشكال ، وذلك أنه يلزم تأنيث فعل الفاعل المذكَّر من غير مسوِّغ لذلك ، فإنَّ الفاعل في » سَاءَتْ « على هذا يكون ضميراً عائداً على ما بعده ، وهو » مُسْتَقَرًّا وَمُقَاماً « ، وهما مذكران ، فن أين جاء التأنيث؟
والجواب : أن المستقرَّ عبارة عن جهنَّم فلذلك جاز تأنيث فعله ، ومثله قوله :
3888- أَوْ حُرَّةٌ عَيْطَلٌ ثَيْجَاءَ مُجْفَرَةٍ ... دَعَائِمَ الزَّوْرِ نِعْمَتْ زَوْرَقُ البَلَدِ
و » مُسْتَقرًّا وَمُقَاماً « قيل : مترادفان ، وعطف أحدهما على الآخر لاختلاف لفظيهما . وقيل : بل هما مختلفا المعنى ، فالمستقرُّ للعصاة ، فإنهم يخرجون ، والمقام للكُفَّار فإنهم مخلدون . فإن قيل : إنهم سألوا الله أن يصرف عنهم عذاب جهنم لعلتين : إحداهما : أن عذابها كان غراماً . والثانية : أنها ساءت مستقراً ومقاماً فما الفرق بين الوجهين؟
فالجواب : قال المتكلمون : عقاب الكافر يجب أن يكون مضرّة خالصة عن شوائب النفع ( دائمة ، فقوله : { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } إشارة إلى كونه مضرّة خالصة عن شوائب النفع ) وقوله : { إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } إشارة إلى كونه دائماً ، فحصلت المغايرة .
وقرأت فرقة « مَقَاماً » بفتح الميم ، أي : مكان قيام .
وقراءة العامة هي المطابقة للمعنى ، أي : مكان إقامة وثُوِيٍّ .
وقوله : { إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً } يحتمل أن يكون من كلامهم ، فتكون منصوبة المحل بالقول ، وأن يكون من كلام الله تعالى .
قوله : { والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } .
قرأ الكوفيون بفتح الياء وضم التاء من يَقْتُرُوا ، وابن كثير وأبو عمرو بالفتح والكسر ، ونافع وابن عامر بالضم والكسر من أقتر ، وعليه { وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ } [ البقرة : 236 ] وأنكر أبو حاتم أقْتَرَ ، وقال : لا يناسب هنا ، فإن أَقْتَرَ بمعنى افتقر ، ومنه { وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ } [ البقرة : 236 ] وردَّ عليه بأن الأصمعي وغيره حكوا أَقْتَرَ بمعنى ضَيَّقَ . وقرأ العلاء بن سيابة واليزيدي بضم الياء وفتح القاف وكسر التاء مشددة من قَتَّر بمعنى ضيَّق ، وكلها لغات ، والقَتْر والإقْتَار والتَّقْتير ( التضييق الذي هو نقيض ) الإسراف ، والإسراف مجاوزة الحد في النفقة .
فصل
المراد من الآية القصد بين الغلو والتقصير ، كقوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } [ الإسراء : 29 ] . وسأل ابن الورد بعض العلماء ما البناء الذي لا سَرَف فيه؟ قال : ما سترك عن الشمس ، وأكنَّك من المطر . وقال له ما الطعام الذي لا سرف فيه؟ فقال : ما سد الجوعة ، وقال له في اللباس : ما ستر عورتك وأدفأك من البرد .
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك : الإسراف في النفقة في معصية الله تعالى ، والإقتار : منع حق الله تعالى .
قال مجاهد : لو أنفق الرجل مثل ( أبي ) قبيس ذهباً في طاعة الله لم يكن مسرفاً . وأنشدوا :
3889- ذِهَابَ المَالِ في حَمْدٍ وَأَجْرٍ ... ذِهَابٌ لاَ يُقَالُ لَهُ ذِهَابُ
وقيل : السرف مجاوزة الحد في التنعم والتوسع وإن كان من حلال ، لأنه يؤدي إلى الخيلاء وكسر قلوب الفقراء .
قوله : { وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } في اسم « كان » وجهان :
أشهرهما : أنه ضمير يعود على الإنفاق المفهوم من قوله « أَنْفَقُوا » . أي : وكان إِنْفَاقهم مستوياً قصداً لا إسرافاً ولا تقتيراً ، وفي خبرها وجهان :
أحدهما : هو « قَوَاماً » و « بَيْنَ ذَلِكَ » إما معمول له ، وإما ل « كان » عند من يرى إعمالها في الظرف ، وإما المحذوف على أنه حال من « قَوَاماً » ، ويجوز أن يكون { بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } ، خبرين ل « كان » عند من يرى ذلك ، وهم الجمهور خلافاً لابن درستويه .
والثاني : أن الخبر « بَيْنَ ذَلِكَ » و « قَوَاماً » حال مؤكدة .
والثاني من الوجهين الأولين : أن يكون اسمها « بَيْنَ ذَلِكَ » وبُنِيَ لإضافته إلى غير متمكنٍ ، و « قَوَاماً » خبرها قاله الفراء . قال الزمخشري : وهو من جهة الإعراب لا بأس به ( ولكنه من جهة المعنى ) ليس بقوي؛ لأن ما بين الإسراف والتقتير قَوامٌ لا محالة فليس في الخبر الذي هو مُعْتَمَدُ الفائدة فائدةٌ .
قال شهاب الدين : وهو يشبه قولك : كان سيِّد الجارية مالكها . قال ثعلب : القوام - بالفتح - ( العدل والاستقامة ، وبالكسر ما يدوم عليه الأمر ويستقر .
وقال الزمخشري : القوام ) العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين واعتدالهما ، وبالكسر ما يقام به الشيء لا يفضل عنه ولا ينقص . وقرأ حسان بن عبد الرحمن « قِوَاماً » يكسر القاف ، فقيل : هما بمعنى ، وقيل : بالكسر اسم ما يقام به الشيء وقيل : بمعنى سداداً وملاكاً .
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)
قوله : { والذين لاَ يَدْعُونَ } الآية . قال ابن عباس : إن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا ، وزنوا فأكثروا ، فأتوا محمداً - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزلت هذه الآية ، ونزل « يَا عِبَادِيَ » { الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله } [ الزمر : 53 ] وروي « أن رجلاً قال : يا رسول الله أي الذنب أكبر عند الله؟ قال : » أن تدعو لله نداً وهو خلقك « قال : ثم أي؟ قال : » ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك « قال : ثم أي؟ قال : » أن تُزَاني حليلة جارك « فأنزل الله تصديقها هذه الآية .
فإن قيل : إن الله تعالى ذكر أن من صفات عباد الرحمن الاحتراز عن الشرك والقتل والزنا ، فلو كان الترتيب بالعكس كان أولى؟ فالجواب : أن الموصوف بتلك الصفات السالفة قد يكون متمكناً بالشرك تديناً ، ويقتل المولود تديناً ، ويزني تديناً ، فبين تعالى أن المرء لا يصير بتلك الخصال وحدها من عباد الرحمن حتى يتجنب هذه الكبائر . وأجاب الحسن فقال : المقصود من ذلك التنبيه على الفرق بين سيرة المسلمين وسيرة الكفار كأنه قال : وعباد الرحمن هم الذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ، وأنتم تدعون ، » وَلاَ يَقْتُلُونَ « وأنتم تقتلون الموءودة ، » وَلاَ يَزْنُونَ « وأنتم تزنون .
قوله : » إلاَّ بالحَقِّ « يجوز أن تتعلق الباء بنفس » يَقْتلُون « أي : لا يقتلونها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق ، وأن تتعلق بمحذوف على أنها صفة للمصدر ، أي : قَتْلاً مُلْتَبِساً بالحق ، أو على أنها حال أي : إلاَّ مُلْتَبِسِينَ بالحق .
فإن قيل : من حلَّ قتله لا يدخل في النفس المحرمة ، فكيف يصحّ هذا الاستثناء فالجواب : أن المقتضي لحرمة القتل قائم أبداً ، وجواز القتل إنما ثبت بمعارض ، فقوله : » حَرَّمَ اللَّهُ « إشارة إلى المقتضي ، وقوله : » إلاَّ بالحَقِّ « إشارة إلى المعارض والسبب المبيح للقتل هو الردة ، والزنا بعد الإحصان ، وقتل النفس المحرمة .
قوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } هذه إشارة إلى جميع ما تقدم ، لأنه بمعنى ما ذكر ( فلذلك وحِّدَ ) .
قوله : » يَلْقَ « قراءة العامة مجزوماً على جزاء الشرط بحذف الألف ، وقرأ عبد الله وأبو رجاء » يَلْقَى « بإثباتها كقوله : » فلا تَنْسَى « على أحد القولين ، وكقراءة { لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى } [ طه : 77 ] في أحد القولين أيضاً ، وذلك بأن نقدر علامة الجزم حذف الضمة المقدرة . وقرأ بعضهم » يُلَقَّ « بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف من لقاه كذا . والأثام مفعول على قراءة الجمهور ، ومفعول ثان على قراءة هؤلاء والأثام العقوبة ، قال :
3890- جَزَى اللَّهُ ابْنَ عُرْوَةَ حَيْثُ أَمْسَى ... عُقُوقاً وَالعُقُوقُ لَهُ أَثَامُ
أي عقوبةٌ .
وقيل : هو الإثم نفسه ، أي : يَلْقَ جَزَاءَ إثْمٍ . قال أبو مسلم : والأثام والإثم واحد ، والمراد هاهنا جزاء الأثام ، فأطلق اسم الشيء على جزائه .
وقال الحسن : الأثام اسم من أسماء جهنم ، وقال مجاهد : اسم وادٍ في جهنم وقيل : بئر فيها . وقرأ ابن مسعود : « أَيَّاماً » جمع يومٍ ، يعني شدائد ، والعرب تعبر عن ذلك بالأيَّام ، يقال : يوم ذو أيام لليوم الصعب .
قوله : « يُضَاعَفْ » قرأ ابن عامر وأبو بكر برفع « يُضَاعَف » و « يَخْلُدُ » على أحد وجهين : إمَّا الحال ، وإمَّا على الاستئناف . والباقون بالجزم فيهما بدلاً من « يَلْقَ » بدل اشتمال ، ومثله قوله :
3891- مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا في دِيَارِنَا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وَنَاراً تأَجَّجَا
فأبدل من الشرط كما أبدل هنا من الجزاء . وابن كثير وابن عامر على ما تقدم لهما في البقرة من القصر والتضعيف في العين . ولم يذكر أبو حيان ابن عامر مع ابن كثير وذكره مع الجماعة في قُرَّائهم . وقرأ أبو جعفر وشيبة « نُضَعِّف » بالنون مضمومة وتشديد العين ، « العذَابَ » نصباً على المفعول به . وطلحة « يضاعف » مبنياً للفاعل ، أي : الله « العذاب » نصباً ، وطلحة بن سليمان « وتَخْلُد » بتاء الخطاب على الالتفات ، وأبو حيوة « وَيُخَلَّد » مشدداً مبنياً للمفعول . وروي عن أبي عمرو كذلك إلا أنه بالتخفيف .
و « مُهَاناً » حال ، وهو اسم مفعول من أَهَانَهُ يُهِينُه ، أي : أَذَلَّه وأَذَاقَهُ الهَوَانَ .
فصل
قال القاضي : بَيّن الله تعالى ( أن ) المضاعفة والزيادة يكون حالها في الزيادة كحال الأصل ، فقوله : « وَيَخْلُد فِيهِ » أي : ويخلد في ذلك التضعيف ، وذلك إنما حصل بسبب العقاب على المعاصي ، فوجب أن يكون عقاب هذه المعاصي في حق الكافر دائماً ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون في حق المؤمن كذلك؛ لأن حاله فيما يستحق به لا يتغير سواء فعل مع غيره ، أو منفرداً .
والجواب : لم لا يجوز أن يكون للإتيان بالشيء مع غيره أثر في مزيد القبح ، ألا ترى أن الشيئين قد يكون كل واحد منهما في نفسه حسناً وإن كان الجميع قبيحاً ، وقد يكون كل واحد منهما قبيحاً ، ويكون الجمع بينهما أقبح . وسبب تضعيف العذاب أن المشرك إذا ارتكب المعاصي مع الشرك فيعذب على الشرك وعلى المعاصي ، فتضاعف العقوبة لمضاعفة المعاقب عليه ، وهذا يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الإسلام .
قوله : { إِلاَّ مَن تَابَ } فيه وجهان :
أحدهما : وهو الذي لم يعرف الناس غيره : أنه استثناء متصل؛ لأنه من الجنس .
والثاني : أنه منقطع . قال أبو حيان : ولا يظهر ، يعني الاتصال؛ لأن المستثنى منه محكوم عليه بأنه يضاعف له العذاب ( فيصير التقدير : إلاَّ مَنْ تَابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَلاَ يُضَاعَفُ لَهُ العَذَابُ ) ، ولا يلزم من انتفاء التضعيف انتفاء العذاب غير المُضَعَّف ، فالأولى عندي أن يكون استثناءً منقطعاً ، أي : لكن مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيّآتِهِمْ حَسَنَاتٍ وإذا كان كذلك فلا يلقى عذاباً ألبتة .
قال شهاب الدين : والظاهر قول الجمهور ، وأمَّا ما قاله فلا يلزم إذ المقصود الإخبار بأنَّ من فعل كذا فإنه يحلُّ به ما ذكر إلا أن يتوب ، وأمَّا إصابة أصل العذاب وعدمها فلا تعرُّض في الآية له . واعلم أن البحث الذي ذكره أبو حيان ذكره أيضاً ابن الخطيب فقال : دلت الآية على أن التوبة مقبولة ، والاستثناء لا يدل على ذلك ، لأنه أثبت أنه يضاعف له العذاب ضعفين ، فيكفي لصحة الاستثناء أن لا يضاعف للتائب ضعفين ، وإنما يدلّ عليه قوله : { فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } .
فصل
نقل عن ابن عباس أنه قال : توبة القاتل لا تقبل ، وزعم أن هذه الآية منسوخة ( بقوله تعالى ) : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً } [ النساء : 93 ] ، وقالوا : نزلت الغليظة بعد اللينة بمدة يسيرة ، وعن الضحاك ومقاتل بثمان سنين ، وتقدم في سورة النساء .
فإن قيل : العمل الصالح يدخل في التوبة والإيمان فذكرهما قبل العمل الصالح حَشْوٌ؟ فالجواب : أفردهما بالذكر لعلوّ شأنهما ولما كان لا بدَّ معهما من سائر الأعمال لا جرم ذكر عقيبهما العمل الصالح .
قوله : { فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } .
قال ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير والسدي ومجاهد وقتادة : التبديل إنما يكون في الدنيا ، فيبدل الله تعالى قبائح أعمالهم في الشرك بمحاسن الأعمال في الإسلام ، فيبدلهم بالشرك إيماناً ، وبقتل المؤمنين قتل المشركين ، وبالزنا إحصاناً وعفة . وقيل : يبدل الله سيئاتهم التي عملوها في الإسلام حسنات .
قال الزجاج : السيئة بعينها لا تصير حسنةً ، فالتأويل : أن السيئة تمحى بالتوبة وتكتب الحسنة مع التوبة ، والكافر يُحْبِطُ اللَّه عَمَلَهُ ويثبت عليه السَّيِّئَات .
قوله : « سَيِّئَاتِهِمْ » هو المفعول الثاني للتبديل ، وهو المقيد بحرف الجر ، وإنما حذف ، لفهم المعنى ، و « حسنات » هو الأول المسرح ، وهو المأخوذ ، والمجرور بالباء هو المتروك ، وقد صرح بهذا في قوله تعالى : { وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ } [ سبأ : 16 ] وقال :
3892- تَضْحَكُ مِنِّي أُخْتُ ذَاتِ النِّحْييْنِ ... أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِلَوْنِ لَوْنَيْنِ ... سَوَادَ وَجْهٍ وَبَيَاضَ عَيْنَيْنِ ... وتقدم تحقيق هذا في البقرة عند قوله : { وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله } [ البقرة : 211 ] .
قوله : { وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً } الآية . قال بعض العلماء : هذا في التوبة عن غير ما سبق ذكره في الآية الأولى من القتل والزنا ، أي : تاب من الشرك وأدى الفرائض ممن لم يقتل ولم يزن { فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى الله } يعود إليه بعد الموت « مَتَاباً » حسناً يفضل على غيره ممن قتل وزنا . فالتوبة الأولى وهي قوله : « وَمَنْ تَابَ » رجوعٌ عن الشرك ، والثاني رجوع إلى الله للجزاء والمكافأة .
وقيل : هذه التوبة أيضاً عن جميع السيئات ، ومعناه من أراد التوبة وعزم عليها فليتب لوجه الله ، فقوله : { يَتُوبُ إِلَى الله } خبر بمعنى الأمر ، أي : ليتب إلى الله ، وقيل : معناه وليعلم أن توبته ومصيره إلى الله .
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)
قوله : { والذين لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ } وجهان :
أحدهما : أنه مفعول به ، أي : لا يحضرون الزُّور ، وفسر بالصَّنم واللهو . وقال أكثر المفسرين : يعني : الشرك .
والثاني : أنه مصدر ، والمراد شهادة الزُّور ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه . قاله علي بن أبي طالب .
وقال ابن جريج : الكذب . وقال مجاهد : أعياد المشركين . وقيل : النوح . وقال قتادة : لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم . وكل هذه الوجوه محتملة .
وأصل « الزُّور » : تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته ، فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق .
قوله : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ } أي : بأهله . قال مقاتل : إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا وصفحوا كقوله : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ } [ القصص : 55 ] .
وقال الحسن والكلبي : اللغو : المعاصي كلها مما يجب أن يلغى ويتر .
« مَرُّوا كِرَاماً » مسرعين معرضين ، يقال : تكرّم فلان عما يشينه إذا تنزه وأكرم نفسه عنه .
قوله : { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } النفي متسلط على القيد ، وهو الصمم والعمى ، أي : إنَّهم يخرُّون عليها لكن لا على هاتين الصفتين .
قال الزمخشري : فقوله : { لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا } ليس بنفي للخرور ، وإنما هو إثبات له ونفي للصمم والعمى ، كما تقول : لا يلقاني زيد مسلماً . هو نفي للسلام لا للقاء ، والمعنى : أنهم إذا ذكروا بها أكبّوا عليها حرصاً على استماعها ، وأقبلوا على المذكر بها وهم في إكبابهم عليها سامعون بآذان واعية ويبصرون بعيون واعية ، لا كالذين يذكرون بها فتراهم مكبين عليها مقبلين على من يذكر بها مظهرين الحرص الشديد على استماعها ، وهم كالصُّمِّ والعميان حيث لا يفهمونها ، ولا يبصرون ما فيها ، وفيه تعريض بالمنافقين .
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)
قوله : { والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا } .
يجوز أن تكون « من » لابتداء الغاية ، أي : هب لنا من جهتهم ما تقرّ به عيوننا من طاعة وصلاح ، وأن تكون للبيان ، قاله الزمخشري وجعله من التَّجريد ، أي : هب لنا قُرَّة أعْيُنٍ من أزواجنا كقولك رأيتُ مِنْكَ أسَداً .
وقرأ أبو عمرو والأخوان وأبو بكر « ذُرِّيَّتِنَا » بالتوحيد ، والباقون بالجمع سلامة وقرأ أبو هريرة وأبو الدرداء وابن مسعود « قُرَّاتِ » بالجمع ، وقال الزمخشري : أتى هنا ب « أَعْيُنٍ » صيغة القلة دون ( عُيُونٍ ) صيغة الكثرة ، إيذاناً بأنَّ عيون المتقين قليلة بالنسبة إلى عيون غيرهم . وردَّه أبو حيان بأن أعيُناً يطلق على العشرة فما دونها ، وعيون المتقين كثيرة فوق العشرة . وهذا تحمُّلٌ عليه ، لأنَّه إنما أراد القلة بالنسبة إلى كثرة غيرهم ، ولم يُرِدْ قَدْراً مخصوصاً .
فصل
أراد قرة أعين لهم في الدين لا في الدنيا من المال والجمال ، قال الزجاج : يقال : أقرَّ الله عينك ، أي : صادف فؤادك ما يحبه وقال المفضل : في قرة العين ثلاثة أقوال :
أحدها : برد دمعتها ، وهي التي تكون مع السرور ، ودمعة الحزن حارة .
الثاني : فرحها ، لأنه يكون مع ذهاب الحزن والوجع .
الثالث : قال الأزهري : حصول الرضا .
قوله : { واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } في « إمَاماً » وجهان :
أحدهما : أنه مفرد ، وجاء به مفرداً إرادة للجنس ، وجنسه كونه رأس فاصلة . ( أو المراد : اجعل كل واحد منا إماماً . كما قال { نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } [ الحج : 5 ] .
قال الفراء : قال « إِمَاماً » ولم يقل : أئمة . كما قال للاثنين { إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين } [ الشعراء : 16 ] . وقيل : أراد أئمة كقوله : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي } [ الشعراء : 77 ] ، وإمَّا لاتحادهم واتفاق كلمتهم ، وإمَّا لأنَّه مصدرٌ في الأصل كصيام وقيام .
الثاني : أنه جمع آمٍّ كحالٍّ وحلال ، أو جمع إمامة كقلادة وقلاد .
قال القفال : وعندي أن الإمام إذا ذهب به مذهب الاسم وحد كأنه قيل : اجعلنا حجة للمتقين ، ومثله البينة يقال : هؤلاء بينة فلان .
فصل
قال الحسن : نقتدي بالمتقين ويقتدي بنا المتقون . وقال ابن عباس : اجعلنا أئمة هداة كما قال : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ } [ الأنبياء : 73 ] ولا تجعلنا أئمة ضلالة ، كقوله : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار } [ القصص : 41 ] . وقيل هذا من المقلوب ، أي : واجعل المتقين لنا إماماً واجعلنا مؤتمين مقتدين بهم قاله مجاهد .
فصل
قيل : نزلت الآية في العشرة المبشرين بالجنة .
قال بعضهم : هذه الآية تدل على وجوب طلب الرياسة في الدين والرغبة فيها ، قال إبراهيم - عليه السلام - { واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين } [ الشعراء : 84 ] واحتج أهل السنة بهذه الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى ، لأن الإمامة في الدين لا تكون إلا بالعلم والعمل ، والعلم والعمل إنما يكون بجعل الله وخلقه .
قال القاضي : المراد من هذا السؤال الألطاف التي إذا كثرت صاروا مختارين لهذه الأشياء فيصيرون أئمة .
والجواب : أن تلك الألطاف مفعولة لا محالة فيكون سؤالها عبثاً .
واعلم أنه تعالى لما بيَّن صفات المتقين المخلصين بيَّن بعده إحسانه إليهم .
أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
قوله : { أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة } أي : يثابون الغرفة ، وهي الدرجة العالية . و « الغُرْفَة » مفعول ثان ل « يُجْزَونَ » ، والغُرْفَةُ كُلُّ بِنَاء مرتفع ، والجمع غُرَفٌ .
قوله : « بِمَا صَبَرُوا » أي بِصَبْرِهم ، أي : بِسَببه أو بسبب الذي صبروه ، والأصل : صبروا عليه ، ثم حذف بالتدريج . والباء للسببية كما تقدم ، وقيل : للبدل ، كقوله :
3893- فَلَيْتَ لِي بِهِمُ قَوْماً .. ولا حاجة إلى ذلك . وذكر الصبر ولم يذكر المصبور عنه ، ليعمّ جميع أنواع المشاقّ ، ولا وجه لقول من يقول : المراد الصبر على الفقر خاصة .
قوله : « وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا » قرأ الأخوان وأبو بكر بفتح الياء وسكون اللام من لَقِيَ يَلْقَى ، والباقون بضمها ، وفتح اللام وتشديد القاف على بنائه للمفعول ، كقوله : { وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً } [ الإنسان : 11 ] . والتحيّة الدعاء بالتعمير ، أي : بقاء دائماً ، وقيل : الملك . والسلام الدعاء بالسلامة ، أو يسلم بعضهم على بعض . وهذه التحيّة والسلام يمكن أن يكون من الله كقوله { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ يس : 58 ] . ويمكن أن يكون من الملائكة لقوله : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ } [ الرعد : 23 - 24 ] . ويمكن أن يكون بعضهم على بعض .
قوله : { خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } . وصف ذلك بالدوام بقوله : « خالدين فيها » ، وقوله : { حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } أي : موضع قرار وإقامة ، وهذا في مقابلة قوله : { سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } [ الفرقان : 66 ] أي : ما أسوأ ذاك وأحسن هذا .
قوله : { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي } . قال مجاهد وابن زيد : أي : ما يصنع وما يفعل بكم . قال أبو عبيدة : يقال : ما عَبَأْت به شيئاً ، أي : لم أُبَالِهِ ، فوجوده وعدمه سواء . وقال الزجاج : معناه لا وزن لكم عندي والعبء في اللغة الثقل . وقال أبو عمرو بن العلاء : ما يبالي ربكم ، ويقال : ما عبأت بك ، أي : ما اهتممت ولا اكترثت ، ويقال : عبأت الجيش وعبأته ، أي : هيأته وأعددته . قوله : « لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ » جوابها محذوف لدلالة ما تقدم ، أي : لولا دعاؤكم ما أعبأ بكم ولا أكترث ، و « ما » يجوز أن تكون نافية ، وهو الظاهر ، وقيل : استفهام ، بمعنى النفي ، ولا حاجة إلى التجوز في شيء يصح أن يكون حقيقته بنفسه . و « دُعَاؤُكُمْ » يجوز أن يكون مضافاً للفاعل ، أي : لولا تضرّعكم إليه ، ويجوز أن يكون مضافاً للمفعول ، أي : لولا دعاؤكم إيّاهُ إلى الهدى .
فصل
ومعنى هذا الدعاء وجوه :
الأول : لولا دعاؤكم إياه في الشدائد كما قال تعالى : { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } [ العنكبوت : 65 ] .
الثاني : لولا شكركم له على إحسانه ، لقوله : { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ } [ النساء : 147 ] .
الثالث : لولا عبادتكم .
الرابع : لولا إيمانكم .
وقيل المعنى : ما خلقتكم وبي إليكم حاجة إلا أن تسألوني فأعطيكم وتستغفروني فأغفر لكم .
وقيل : المعنى : قل ما يعبأ بخلقكم ربي لولا عبادتكم وطاعتكم إياه ، يعني أنه خلقكم لعبادته كما قال : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] . قاله ابن عباس ومجاهد . وقيل : معناه ما يبالي بمغفرتكم ربي لولا دعاؤكم معه آلهة ، أو ما يفعل الله بعذابكم لولا شرككم كما قال : { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ } [ النساء : 147 ] .
قوله : « فَقَدْ كَذَّبْتُمْ » أيها الكافرون يخاطب أهل مكة ، يعني أن الله دعاكم بالرسول إلى توحيده وعبادته فقد كذبتم الرسول ولم تجيبوه . وقرئ « فقد كذب الكافرون » قوله : { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً } أي : فسوف يلزمكم أثر تكذيبكم ، وهذا عقاب الآخرة ، ونظيره أن يقول الملك لمن استعصى عليه : إن من عادتي أن أحسن إلى من يطيعني فقد عصيت فسوف ترى ما أحل بك بسبب عصيانك .
قوله : « لِزَاماً » قرئ بالفتح يعني اللزوم كالثبات والثبوت .
قال ابن عباس : موتاً . وقال أبو عبيدة : هلاكاً . وقال ابن زيد : قتالاً والمعنى : يكون التكذيب لازماً لمن كذب فلا يعطى التوبة حتى يجازى بعمله . وقال ابن جريج : عذاباً دائماً لازماً وهلاكاً مُفْنِياً يلحق بعضكم ببعض . قال ابن مسعود وأبيّ بن كعب ومجاهد ومقاتل : هو يوم بدر واتصل بهم عذاب الآخرة لازماً لهم . وقال عبد الله بن مسعود : خمس قد مضين الدخان والقمر واليوم والبطشة واللزام : { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً } . روى الثعلبي عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قرأ سورة الفرقان بعثه الله يوم القيامة وهو يؤمن أن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ، ودخل الجنة بغير حساب » .
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)
قوله تعالى : { طسم تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين } .
أظهر حمزة نُونَ « سِين » قبل الميم ، كأنا ناوٍ الوقف ، وإلاّ فإدغام مثله واجب والباقون يدغمون . وتقدم إعراب الحروف المقطعة . وفي مصحف عبد الله : « ط س م » مقطوعة من بعضها . قيل : وهي قراءة أبي جعفر ، يعنون أنه يقف على كل حرف وقفة يميز بها كل حرف ، وإلا لم يتصور أن يلفظ بها على صورتها في هذا الرسم وقرأ عيسى - وتروى عن نافع - بكسر الميم هنا وفي القصص على البناء . وأمال الطاءَ الأخوان وأبو بكر ، وقد تقدم . روى عكرمة عن ابن عباس قال : ( طسم ) عجزت العلماء عن علم تفسيرها . وروى عليّ بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس أنه قسم ، وهو من أسماء الله تعالى . وقال قتادة : اسم من أسماء القرآن . وقال مجاهد : اسم للسورة . وقال محمد بن كعب القرظي : قسمٌ بطوله وسناه وملكه . « تِلْكَ آيَاتُ » أي : هذه الآيات آيات « الكِتَابِ المُبِينِ » قوله : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ } . قرأ قتادة : « بَاخِعٌ نَفْسِكَ » على الإضافة . والمعنى قاتل نفسك { أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } أي : إن لم يؤمنوا ، وذلك حين كذبه أهل مكة فشق عليه ذلك ، وكان يحرص على إيمانهم ، فأنزل الله هذه الآية ، وهذا تسليَة للرسول ، أي : لا تبالغ في الحزن والأسف ، فصبّره وعزَّاه وعرّفه أن غمه وحزنه لا ينفع ، كما أن وجود الكتاب ووضحوه لا ينفع .
قوله : { إِنْ نَّشَأْ نُنَزِّلْ } . العامة على نون العظمة فيهما . وروي عن أبي عمرو بالياء فيهما ، أي : إِنْ يَشَأ الله يُنزِّل . و « إن » أصلها أن تدخل على المشكوك فيه أو المحقق المبهم زمانه ، والآية من هذا الثاني .
قوله : « فَظَلَّتْ » عطف على « نُنَزِّلْ » فهو في محل جزم . ويجوز أن يكون مستأنفاً غير معطوف على الجزاء . ويؤيد الأول قراءة طلحة : « فَتَظْلَل » بالمضارع مفكوكاً . قوله : « خَاضِعِينَ » . فيه وجهان :
أحدهما : أنه خبر عن « أَعْنَاقُهُمْ » . واستُشكِل جمعه جمع سلامة؛ لأنه مختص بالعقلاء . وأجيب عنه بأوجه :
أحدها : أن المراد بالأعناقِ : الرؤساء كما قيل : لهم وجوه وصدور ، قال :
3894 - فِي مَحْفِلٍ من نواصِي الخَيْلِ مَشْهُودِ ... الثاني : أنه على حذف مضاف ، أي : فظل أصحاب الأعناق ، ثم حذف وبقي الخبر على ما كان عليه قبل حذف المُخْبَرِ عنه مراعاة للمحذوف ، وتقدم ذلك قريباً عند قراءة : { وَقَمَراً مُّنِيراً } [ الفرقان : 61 ] .
الثالث : أنه لما أضيف إلى العقلاء اكتسب منهم هذا الحكم ، كما يكتسب التأنيث بالإضافة لمؤنث في قوله :
3895 - كَمَا شَرَقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّمِ ... الرابع : أن « الأعناق » جمع « عُنُقٍ » من الناس ، وهم الجماعة ، فليس المراد الجارحة البتة ، ومنه قوله :
3896 - أَنَّ العِرَاقَ وأَهْلَهُ ... عُنُقٌ إلَيْكَ فَهَيْتَ هَيْتَا
وهذا قريب من معنى الأول ، إلا أن هذا القائل يطلق « الأعناق » على جماعة الناس مطلقاً ، رؤساء كانوا أو غيرهم .
الخامس : قال الزمخشري : أصل الكلام : فظلوا لها خاضعين ، فأقحمت « الأعناق » لبيان موضع الخضوع ، وترك الكلام على أصله كقولهم : ذهَبَتْ أهل [ اليمامة ، كأن الأهل غير مذكور . قال شهاب الدين : وفي التنظير بقوله : ذهبت أهل اليمامة ] نظر ، لأن ( أهل ) ليس مقحماً البتة ، لأنه المقصود بالحكم ، وأما التأنيث فلاكتسابه التأنيث ( بالإضافة ) .
السادس : أنها عوملت معاملة العقلاء لمَّا أُسْنِدَ إليهم ما يكون فِعْل العقلاء ، كقوله : « سَاجِدِينَ » و « طَائِعِين » في يوسف وفصلت .
وقيل : إنما قال : « خاضِعِينَ » لموافقة رؤوس الآي .
والثاني : أنه منصوب على الحال من الضمير في « أَعْنَاقُهُم » قال الكسائي وضعفه أبو البقاء ، قال : لأن « خاضِعِين » يكون جارياً على غير فاعل « ظَلَّتْ » فيفتقر إلى إبراز ضمير الفاعل ، فكان يجب أن يكون : خاضعين هم .
قال شهاب الدين : ولم يجر « خاضِعِين » في اللفظ والمعنى إلا على من هُوَ له ، وهو الضمير في « أَعْنَاقُهُمْ » ، والمسألة التي قالها : هي أن يجري الوصف على غير من هو له في اللفظ دون المعنى ، فكيف يلزم ما ألزمه به ، على أنه لو كان كذلك لم يلزم ما قاله ، لأن الكسائي والكوفيين لا يوجبون إبراز الضمير في هذه المسألة إذا أمن اللبسن فهو ( لا ) يلتزم ما ألزمه به ، ولو ضعف بمجيء الحال من المضاف إليه لكان أقرب ، على أنه لا يضعف؛ لأن المضاف جزء من المضاف إليه كقوله : { مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً } [ الحجر : 47 ] .
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
قوله تعالى : { وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ } وعظ وتذكر { مِّنَ الرحمن مُحْدَثٍ } أي : محدث إنزاله فهو محدث في التنزيل . قال الكلبي : « كلما نزل من القرآن بعد شيء فهو أحدث من الأول » .
وقوله : « إلاَّ كَانُوا » جملة حالية ، وتقدم تحقيق هذا وما قبله في أول الأنبياء . ومعنى « مُعْرِضِينَ » أي : عن الإيمان به .
قوله : « فَقَدْ كَذَّبُوا » أي : بلغوا النهاية في ردّ آيات الله ، « فَسَيَأْتِيهِمْ » أي : فسوف يأيتهم « أَنْبَاءُ » : أخبار وعواقب { مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } وذلك إما عند نزول العذاب عليهم في الدنيا ، أو عند المعاينة في الآخرة كقوله تعالى : { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ } [ ص : 88 ] . قوله { أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأرض كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ } أي : صنف ، والكريم صفة لكل ما يرضى ويحمد في بابه ، يقال : « وجه كريم » إذا كان مرضياً في حسنه وجماله . و « كتاب كريم » : إذا كان مرضياً في فوائده ومعانيه . و « النبات الكريم » : هو المرضيّ في منافعه مما يأكل الناس والأنعام يقال : نخلة كريمة : [ إذا طاب حملها ، وناقة كريمة ] : إذا كثر لبنها . قال الشعبي : الناس مثل نبات الأرض ، فمن دخل الجنة فهو كريم ، ومن دخل النار فهو لئيم .
قوله : « كَمْ أَنْبَتْنَا » . « كَمْ » للتكثير ، فهي خبرية ، وهي منصوبة بما بعدها على المفعول به ، أي : كثيراً من الأزواج أنبتنا ، و { مِن كُلِّ زَوْجٍ } تمييز .
وجوَّز أبو البقاء أن تكون حالاً . ولا معنى له . قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى الجمع بين « كَمْ » و « كُلِّ » ولو قيل : أنبتنا فيه من زوج كريم . قلت : قد دل « كُلّ » على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل ، و « كَمْ » على أن هذا المحيط مُتَكَاثِرٌ مُفْرِطٌ في الكثرة .
قوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ } الذي ذكرت « لآيَةً » دلالة على لوجودي وتوحيدي وكمال قدرتي وقوله : « لِلْمؤْمِنِينَ » كقوله : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] لأنهم المنتفعون بذلك { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ } : مصدقين ، أي : سبق علمي فيهم أن أكثرهم لا يؤمنون .
وقال سيبويه : ( كان ) هنا صلة ، مجازه : وما أكثرهم مؤمنين . { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم } وإنما قدم ذكر « العزيز » على ذكر « الرَّحِيم » لأنه لو لم يقدِّمه لكان ربما قيل : إنه رحيم لعجزه عن عقوبتهم ، فأزال هذا الوهم بذكر « العزيز » وهو لاغالب القاهر ومع ذلك فإنه رحيم بعباده ، فإن الرحمة إذا كانت عن القدرة الكاملة كانت أعظم وقعاً . فإن قيل : حين ذكر الأزواج دلَّ عليها بكلمتي الكثرة والإحاطة ، وكان لا يحصيها إلا عالم الغيب ، فكيف قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } ؟ وهلا قال : لآيات؟ . فالجواب من وجهين :
أحدهما : أن يكون ذلك مشاراً به إلى مصدر « أنبتنا » فكأنه قال : إن في ذلك الإنبات لآية .
والثاني : أن يراد : إن في كل واحد من تلك الأزواج لآية .
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11)
قوله تعالى : { وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى } الآية . العامل في « إذْ نَادَى » مضمر ، فقدره الزجاج : اتْلُ . وقدره غيره : اذكر . واختلف في النداء الذي سمعه موسى - عليه السلام - من الله تعالى ، فقيل : هو الكلام القديم ، فكما أن ذاته تعالى لا تشبه سائر الذوات مع أن الدليل دل على أنها معلومة ومرتبة ، فكذا كلامه منزه عن مشابهة الحرف والصوت مع أنه مسموع وقيل : كان نداء من جنس الحروف والأصوات .
وقالت المعتزلة : كان ذلك النداء حروفاً وأصواتاً علم به موسى من قبل الله تعالى فصار معجزاً ، علم به موسى أن الله تعالى مخاطب له فلم يحتج مع ذلك إلى واسطة .
قوله : { أَنِ ائت القوم الظالمين } . يجوز أن تكون « أَنْ » مفسِّرة ، وأن تكون مصدرية ، أي : بأن . قوله : « قَوْمَ فِرْعَوْنَ » . بدل أو عطف بيان ل « القَوْمَ الظَّلِمِينَ » . وقال أبو البقاء : إنه مفعول ( تَتَّقُونَ ) على قراءة من ( تَتَّقُونَ ) بالخطاب وفتح النون ، كما سيأتي . ويجوز على هذه القراءة أن يكون ماندى . قوله : « أَلاَ يَتَّقُونَ » . العامة على الياء في « يَتَّقُونَ » وفتح النون ، والمراد قوم فرعون ، والمفعول محذوف ، أي : يتقون عقابي ، [ وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار ، وحماد ، وشقيق بن سلمة بالتاء من فوق على الالتفات ، خاطبهم بذلك توبيخاً ] والتقدير : يا قوم فرعون .
وقرأ بعضهم : « يَتَّقُونِ » بالياء من تحت ، وكسر النون ، وفيها تخريجان :
أحدهما : أن « يَتَّقُونِ » مضارع ، ومفعوله ياء المتكلم اجتزئ عنها بالكسرة .
والثاني : جوَّزه الزمخشري ، أن تكون « يا » للنداء ، و « اتَّقُونِ » فعل أمر ، كقوله : { أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ } [ النمل : 25 ] أي : يا قوم اتقون ، أو يا ناس اتقون . وسيأتي تحقيق مثل هذا في السورة تحتها . وهذا تخريج بعيد .
وفي هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنها مستأنفة لا محل لها من الإعراب .
وجوّز الزمخشري أَن تكون حالاً من الضمير في « الظَّالمِينَ » أي : يظلمون غير متَّقين اللَّهَ وعقابَه ، فأُدخلت همزةُ الإنكار على الحال . وخطأه أبو حيان من وجهين :
أحدهما : أنه يلزم عنه الفصل بين الحال وعاملها بأجنبي منهما ، فإن أعرب « قَوْمَ فِرْعَوْنَ » عطف بيان ل « القَوْمَ الظَّالمينَ » .
والثاني : أنه على تقدير تسليم ذلك لا يجوز أيضاً؛ لأن ما بعد الهمزة لا يعمل فيما قبلها ، قال : وقولك : ( جئتُ أمسرعاً ) ، إن جعلت ( مسرعاً ) معمولاً ل ( جئت ) لم يجز ، فإن أضمرت عاملاً جاز . والظاهر أن « أَلاَ » للعرض .
وقال الزمخشري : إنها ( لا ) النافية ، دخلت عليها همزة الإنكار . وقيل : هي للتنبيه .
فصل
قوله : { وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى } حين رأى الشجرة والنار { أَنِ ائت القوم الظالمين } أي : الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية ، فحكم عليهم بالظلم من وجهين :
الأول : ظلموا أنفسهم بكفرهم .
والثاني : ظلمهم بني إسرائيل باستعبادهم وسومهم سوء العذاب . « قَوْمَ فِرْعَوْنَ » عطف « قَوْمَ فِرْعَوْنَ » على « القَوْمَ الظَّالِمينَ » فهما يدلان لفظاً على معنى واحد . « أَلاَ يَتَّقُونَ » أي : يصرفون عن أنفسهم عقوبة الله بطاعته . ومن قرأ « تَتَّقُونَ » بالخطاب فعلى الالتفات إليهم وصرف وجوههم بالإنكار والغضب عليهم ، كمن يشكو من جناية والجاني حاضر ، فإذا اندفع في الشكاية ، وحمي غضبه قطع بأنه يخاطب صاحبه ، وأقبل على الجاني يوبخه ويعنفه ويقول له : ألم تتق الله؟ ألم تستحي من الناس؟ فإن قيل : فما الفائدة في هذا الالتفات والخطاب مع موسى - عليه السلام - في وقت المناجاة ، والملتفت إليهم غائبون لا يشعرون؟ . قلنا : أجري ذلك في تكليم المرسل إليهم معنى إجرائه بحضرتهم وإلقائه إلى مسامعهم ، لأنه مبلغهم ، وله فيه لطف وحث على زيادة التقوى ، وكم من آية نزلت في الكافرين وفيها أوفر نصيب للمؤمنين تدبراً بها ، واعتباراً بمواردها .
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)
قوله تعالى : { قَالَ رَبِّ إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ } لما أمر موسى - عليه السلام - بالذهاب إلى قوم فرعون طلب موسى - عليه السلام - أن يبعث معه هارون - عليه السلام - ثم ذكر الأمور الداعية إلى ذلك السؤال . فقوله : « أَنْ يُكَذِّبُونِ » مفعول « أَخَافُ » أي : أخاف تكذيبهم إياي .
قوله : { وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ } الجمهور على الرفع ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه مستأنف ، أخبر بذلك .
والثاني : أنه معطوف على خبر « إِنَّ » وقرأ زيدُ بن عليّ ، وطلحة ، وعيسى ، والأعمش بالنصب فيهما . والأعرج بنصب الأول ورفع الثاني . فالنصب عطف على صلة « أَنْ » فتكون الأفعال الثلاثة : « يُكَذَّبُونِ » وَ « يَضِيقُ » ، وَ « لاَ يَنْطَلِقُ » في حيَّز الخوف .
قال الزمخشري : « والفرق بينهما ، أي : الرفع والنصب ، أَنَّ الرفع يفيد أن فيه ثلاث عللٍ : خوفُ التكذيب ، وضيق الصدر ، وامتناع انطلاق اللسان ، والنصبُ على أنَّ خوفه متلق بهذه الثلاثة . فإن قلت : في النصب تعليق الخوف بالأمور الثلاثة ، وفي جُمْلَتِهَا نَفْيُ انطلاق اللسان ، وحقيقه الخوف إِنَّما يلحق الإنسان لأمر سيقع ، وذلك كان واقعاً ، فكيف جاز تعليق الخوف به؟ قلت : قد عَلَّقَ الخوف بتكذيبهم ، وبما يحصل له من ضيق الصدر ، والحُبْسَة في اللسان زائدة على ما كان به ، على أن تلك الحُبْسَة له من ضيق الصدر ، والحُبْسَة في اللسان زائدة على ما كان به ، على أن تلك الحُبْسَة التي كانت به زالت بدعوته . وقيل : بقيتْ منها بقيَّة يسيرة . فإن قلت : اعتذارك هذا يردّه الرفع ، لأنّ المعنى : إِنِّي خائفٌ ضيِّقُ الصدرِ غيرُ مُنْطَلِق اللسان؟ قلت : يجوز أن يكون هذا قبل الدعوة واستجابتها ويجوز أن يريد القدر اليسير الذي بقي » .
قوله : « فَأَرْسِلْ » أي : فأرسل جبريلَ أو الملكَ ، فحذف المعفول به ، أي : ليؤازرني ويظاهرني على تبليغ الرسالة . قيل : إن الله تعالى أرسل موسى .
قال السُّدِّيّ : إن موسى - عليه السلام - سار بأهله إلى مصر ، والتقى بهارون وهو لا يعرفه ، فقال : أنا موسى ، فتعارفا ، وأمره أن ينطلق معه إلى فرعون لأداء الرسالة . وقيل : أرسل جبريل إليه كما يرسل إلى الأنبياء - عليه السلام - فلما كان متعيناً لهذا الأمر حذف ذكر المرسل لكونه معلوماً .
قوله : { وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } . أي : دعوى ذنب ، وهو قتله للقبطي ، أي : لهم عليَّ ذنب في زعمهم { فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } أي : يقتلونني ، فقال الله تعالى : « كَلاَّ » أي : لن يقتلوك .
قوله : « فَاذْهَبَا » عطف على ما دل عليه حرف الردع من الفعل ، كأنه قيل : ارتدع عما تظن فاذهب أنت وأخوك { بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ } سامعون ما تقولون قال : « مَعكُمْ » بلفظ الجمع ، وهما اثنان ، أجراهما مجرى الجماعة .
وقيل : أراد معكما ومع بني إسرائيل نسمع ما يجيبكم فرعون ، { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولاا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين } إنما أفرد « رَسُول » إمَّا لأنه مصدر بمعنى : رسالة والمصدر يُوَحَّدُ ، ومن مجيء « رَسُول » بمعنى رسالة قوله :
3897 - لَقَدْ كَذَبَ الوَاشُونَ مَا فُهْتُ عِنْدَهُمْ ... بِسِرٍّ وَلاَ أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ
أي برسالة . وإما لأنهما ذَوَا شريعة واحدة فنُزِّلا منزلة رسول .
وإما لأن المعنى : كل واحد منا رسول . وإما لأنه من وضع الواحد موضع التثنية لتلازمهما ، فصارا كالشيئين المتلازمين ، كالعينين واليدين . وحيث لم يقصد هذه المعاني طابق في قوله : { أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ } [ طه : 47 ] . وقال أبو عبيد : يجوز أن يكون « الرسول » بمعنى الاثنين والجمع ، تقول العرب : هذا رسولي ووكيلي ، [ وهذان رسولي ووكيلي ] ، وهؤلاء رسولي ووكيلي ، كما قال : { وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } [ الكهف : 50 ] . قوله : « أَنْ أَرْسِلْ » . يجوز أن تكون مفسِّرة ل « رَسولُ » إذا قيل : بأنه بمعنى الرسالة ، شرحا الرسالة بهذا وبيَّناها به . ويجوز أن تكون المصدرية ، أي : رسول بكذا ، والمراد من هذا الإرسال : التخلية والإرسال : كقولك : أرسل البازي .
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
قوله تعالى : { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً } . العم أن في الكلام حذفاً ، وهو أنهما أتياه وقالا ما أمر الله به ، فعند ذلك قال فرعون ما قال . روي أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة حتى قال البواب : إن هنا إنساناً يزعم أنه رسول رب العالمين . فقال : ائذن له لعلنا نضحك منه ، فأديا إليه الرسالة ، فعرف موسى ، فعدد عليه نعمه أولاً ثم إساءة موسى إليه . أما النعم فهي قوله : { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً } والوليد : الصبي ، لقرب عهده من الولادة . وقيل : الغلام ، تسيمة له بما كان عليه . و « وَلِيداً » حال من مفعول [ نُرَبِّك ] ، وهو فعيل بمعنى مفعول . قوله { وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } قرا أبو عمرو في رواية بسكون الميم « عُمْرِكَ تخفيفاً ل » فُعُل « ، و » مِنْ عُمْرِكَ « حال من » سِنِينَ « .
قيل : لبث عندهم ثلاثين سنة ، وقيل : وكَز القبطي ، وهو ابن اثنتي عشرة سنة قوله » وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ « . قرا الشعبي : » فِعْلَتَكَ « بالكسر على الهيئة ، لأنها نوع من القتل ، وهي الوَكْزَةُ { وَأَنتَ مِنَ الكافرين } . يجوز أن يكون حالاً . قال عباس : أي : وأنت من الكافرين لنعمتي أي : وأنت إذ ذاك ممن تكفرهم الساعة ، وقد افترى عليه أو جهل أمره؛ لأنه كان يعاشرهم بالتَّقيَّة ، فإن الكفر غير جائز على الأنبياء قبل النبوة . ويجوز أن يكون مستأنفاً ، ومعناه وأنت ممن عادته كفران النعم ، ومن كانت هذه حاله لم يستبعد منه قتل خواص ولي نعمه . وقيل : » مِنَ الكَافِرينَ « بفرعون وإلاهيَّته ، أو من الذين يكفرون في دينهم ، فقد كانت لهم آلهة يعبدونها بدليل قوله : { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } [ الأعراف : 127 ] قوله : { قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين } . » إذاً « هنا حرف جواب فقط . قال الزمخشري : إنها جوابٌ وجزاءٌ معاً قال : فإِنْ قُلْتَ : ( إذاً ) حرف جواب وجزاءً معاً ، والكلام وقع جواباً لفرعون ، فكيف وقع جزاء؟ قلت : قول فرعون : » وفَعَلْتَ فَعْلتكَ « فيه معنى أنك جازيت نعمتي بما فعلت ، فقال له موسى : نعم فعلتها مجازياً لك تسليماً لقوله ، كأن نعمته كانت عنده جديرة بأن تُجَازَى بنحو ذلك الجزاء .
قال أبو حيان : وهذا مذهب سيبويه ، يعني : أنها للجزاء والجواب معاً ، قال : ولكن شراح الكتاب فهموا أنها قد تتخلف عن الجزاء ، والجواب معنى لازم لها .
فصل
واعلم أن فرعون عدد عليه نعمه من تربيته وبليغه مبلغ الرجال ، ووبخه بما جرى على يده من قتل أجناده ، وعظم ذلك بقوله : { وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي فَعَلْتَ } .
ولما ذكر فرعون التربية ذكر القتل ، وكانت تربيته معلومة ما أنكرها موسى - عليه السلام - وقد تقرر في العقول أن الرسول إلى الغير إذا كان معه معجزة وحجة لم يتغير حاله بأن يكون المرسل إليه أنعم عليه أو لم ينعم ، صار قول فرعون غير مؤثر فالإعراض عنه أولى ، ولكن أجاب عن القتل بما لا شيء أبلغ منه في الجواب ، فقال : { قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين } أي : من الجاهلين ، أي : لم يأتني من عند الله شيء ، أو من الجاهلين بأن ذلك يؤدي إلى قتله ، لأأنه وكزه تأديباً ، ومثل ذلك ربما حَسُن .
وقيل : من المخطئين ، فبين أنه فعله على وجه لا تجوز المؤاخذة به ، فيعد كافراً لنعمه .
قوله : { فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ } . العامة على تشديد ميم « لَمَّا » وهي « لَمَّا » التي هي حرف وجوب عند سيبويه . أو بمعنى « حِينَ » عند الفارسي . روي عن حمزة بكسر اللام وتخفيف الميم ، أي : لِتَخَوُّفِي مِنْكُمْ ، و « ما » مصدرية . وهذه القراءة تشبه قراءته في « آل عمران » : { لَمَآ آتَيْتُكُم } [ آل عمران : 81 ] . وقد تقدمت مستوفاة .
( قال الزمخشري : إنما جمع الضمير في « مِنْكُمْ » و « خِفْتُكُمْ » مع إفراده في « تَمُنُّهَا » و « عَبَّدْتَ » ، لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده ، ولكن منه ومن ملئه المؤتمرين بقتله لقوله : { إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ } [ القصص : 20 ] ، وأما الامتنان والتعبد فمنه وحده ) .
فصل
والمعنى : إني فعلت ذلك الفعل وأنا ذاهل عن كونه مهلكاً ، وكان مني في حكم السهو ، فلم أستحق التخويف الذي يوجب الفرار ، ومع ذلك فررت منكم لما خفتكم عن قولكم : { إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ } [ القصص : 20 ] فبين بذلك ألاّ نعمة له عليه في الفلة ، بل بأن يكون مسيئاً فيه أقرب .
فصل
وقد ورد لفظ « الفرار » على أربعة :
الأول : بمعنى الهرب ، كهذه الآية ، ومثله { لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ الموت } [ الأحزاب : 16 ] .
الثاني : بمعنى الكراهية ، قال تعالى : { قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ } [ الجمعة : 8 ] أي : تكرهونه .
الثالث : بمعنى اشتغال المرء بنفسه ، قال تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ } [ عبس : 34 - 35 ] أي : لا يلتفت إليهم ، لاشتغاله بنفسه .
الرابع : بمعنى التباعد ، قال تعالى : { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً } [ نوح : 6 ] أي : تباعداً . ثم بين نعم الله عليه بعد الفرار ، فكأنه قال : أسأتم وأحسن الله إليَّ بأن وهب لي حكماً . قرأ عيسى : « حُكُماً » بضم الكاف إتباعاً . والمراد بالحكم : العلم والفهم ، قاله مقاتل : وقيل : النبوة . والأول أقرب ، لأن المعطوف غير المعطوف عليه ، والنبوة مفهومة من قوله : { وَجَعَلَنِي مِنَ المرسلين } .
قوله : « وَتِلْكَ نِعْمَةٌ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه خبر على سبيل التهكم ، أي : إنْ كَانَ ثمَّ نعمة فليست إلاَّ أنك جعلت قومي عبيداً لك . وقيل : « ثَمَّ » حرف استفهام محذوف لفهم المعنى ، أي : « أَوَ تِلْكَ » ، وهذا مذهب الخفش ، وجعل من ذلك :
3898 - أَفْرَحُ انْ أُرْزَأَ الكِرَامَ ... وقد تقدم هذا مشبعاً في النساء عند قوله : { وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [ النساء : 79 ] وفي غيره .
قوله : « أَنْ عَبَّدْتَ » فيه أوجه :
أحدها : أنه في محل رفع عطف بيان ل « تِلْكَ » كقوله : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ } [ الحجر : 66 ] .
الثاني : أنها في محل نصب مفعولاً من أجله .
الثالث : أنها بدل من « نِعْمَة » .
الرابع : أنها بدل من هاء « تَمُنُّهَا » .
الخامس : أنها مجرورة بباء مقدرة ، أي : بأَنْ عَبَّدْتَ .
السادس : أنها خبر مبتدأ مضمر ، أي : هي أن عَبَّدْتَ .
السابع : أنها منصوبة بإضمار « أعني » والجملة من « تَمُنُّهَا » صفة ل « نِعْمَة » و « تَمُنُّ » يتعدى بالباء ، فقيل : هي محذوفة ، أي : تَمُنُّ بها .
وقيل : ضُمِّنَ « تَمُنُّ » معنى « تَذْكُرُ » . ويقال : عبّدت الرجل وأعبدته وتعبدته واستعبدته : [ إذا اتخذته عبداً ] .
فصل
اختلفوا في تأويل « أَنْ عَبَّدْتَ » : فحملها بعضهم على الإقرار ، وبعضهم على الإنكار . وعلى كلا القولين فهو جواب لقوله : { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا } [ الشعراء : 18 ] .
فمن قال : هو إقرار ، قال : عدها موسى نعمة منه عليه حيث رباه ولم يقتله كما قتل سائر غلمان بني إسرائيل ، ولم يستعبده كما استعبد بني إسرائيل ، أي : بلى و { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ } وتركتني فلم تستعبدني . ومن قال : هو إنكار قال : قوله : « وَتِلْكَ نِعْمَةٌ » هو على طريق الاستفهام ، كما تقدم في إعرابها ، يعني : أَوَ تِلْكَ نعمة ، فحذفت ألف الاستفهام ، كقوله : { فَهُمُ الخالدون } [ الأنبياء : 34 ] وقال الشاعر :
3899 - تَرُوحُ مِنَ الحَيِّ أَمْ تَبْتَكِرْ ... وَمَاذَا يَضِيرُكَ لَوْ تَنْتَظِرْ
أي : أتروح من الحي ، وقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة :
3900 - لَمْ أَنْسَ يَوْمَ الرَّحِيلِ وَقْفَتِهَا ... وَطَرْفُهَا فِي دُمُوعِهَا غَرِقُ
وَقَوْلَهَا والرِّكابُ واقِفَةٌ ... تَتْرُكُنِي هكَذَا وَتَنْطَلِقُ
أي : أتتركني . يقول : تمنّ عليَّ أن ربيتني وتنسى جنايتك على بني إسرائيل بالاستعباد والمعاملة القبيحة . أو يريد : كيف تَمُنُّ عليَّ بالتربية ، وقد استعبدت قومي؟ ومن أُهين قومه ذلّ ، فتعبّدك بني إسرائيل قد أحبط إحسانك إليّ .
وقال الحسن : إنك استعبدت بني إسرائيل ، فأخذت أموالهم وأنفقت منها عليَّ فلا نعمة لك بالتربية . وقيل : إن الذي تولى تربيتي هم الذين استعبدتهم فلا نعمة لك عليَّ ، لأن التربية كانت من قبل أمي ومن قومي ، ليس لك إلا مجرد الاسم ، وهذا ما يعدّ إنعاماً . وقيل : معناه : تَمُنَّ عليَّ بالتربية وأنت لولا استعبادك بني إسرائيل وقتلك أولادهم لما دُفِعْتُ إليك حتى ربيتني وكفلتني ، فإنه كان لي من أهلي من يربِّيني ويكفلني ، ولم يلقوني في اليمِّ ، فأيّ نعمة لك عليَّ . وقيل : معناه أنك تدَّعي أن بين إسرائيل عبيدك ، ولا مِنَّة للمولى على العبد في تربيته .
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)
قوله تعالى : { وَمَا رَبُّ العالمين } إنما أتبى ب « مَا » دون « مَنْ » لأنها يسأل بها عن طلب الماهية ، كقولك : ما العنقاء؟ ولما كان جواب هذا السؤال لا يمكن عدل موسى - عليه السلام - إلى جواب ممكن ، فأجاب بصفاته تعالى ، وخصَّ تلك الصفات لأنه لا يشاركه فيها أحد ، وفيه إبطال لدعواه أنه إله .
وقيل : جهل السؤال فأتى ب « ما » دون « مَنْ » . وليس بشيء .
وليس بشيء ، لأن أهل البيان نَصُّوا على أنها يطلب بها الماهيات ، وقد جاء ب « من » في قوله : { فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى } [ طه : 49 ] .
فصل
اعلم أن فرعون لم يقل : { وَمَا رَبُّ العالمين } إلا وقد دعاه موسى إلى طاعة رب العالمين ، ويدل على ذلك قوله تعالى : { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولاا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين } [ الشعراء : 16 ] فلا بد من أنهما قالا ذلك قين دخلا عليه ، فعند ذلك قال فرعون : { وَمَا رَبُّ العالمين } يقول : أيّ شيء رب العالمين الذي تزعم أنك رسوله إليّ يستوصفه إلاهه الذي أرسل إليه؟ وهو سؤال عن جنس الشيء ، والله منزَّه عن الجنسية . فأجابه موسى - عليه السلام - بذكر أفعاله التي يعجز الخلق عن الإتيان بمثلها ، فقال : { رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ } أنه خلقهما .
قال أهل المعاني : كما توقنون هذه الأشياء التي تعاينوها ، فأيثنوا أن إله الخلق هو الله عزَّ وجل .
قوله : « وَمَا بَيْنَهُمَا » عاد ضمير التثنية على جمعين اعتباراً بالجنسين ، كما فعل ذلك في قوله :
3901 - بَيْنَ رماحَيْ مَالِكٍ وَنَهْشَلٍ ... ولمّا ذكر موسى - عليه السلام - هذا الجواب الحق تحير فرعون في جواب موسى ، فقال لمن حوله من أشراف قومه - قال ابن عباس : كانوا خمسمائة - : « ألا تَسْتَمِعُونَ » على سيبل التعجب من جواب موسى ، يعني : أنا أطلب منه الماهية وهو يجيبني بالفاعلية . وقيل : استبعد جواب موصى وقال « أَلاَ تَسْتَمِعُونَ » لأنهم كانوا يعتقدون أن آلهتهم ملوكهم ، فزادهم موسى بياناً فقال : { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين } فعدل عن التعريف بخالقية السموات والأرض إلى التعريف بكونه تعالى خالقاً لنا ولآبائنا ، وذلك لأنه يمكن أن يعتقد أن السموات والأرضين واجبة لذواتها ، فهي غنية عن الخلق ، ولا يمكن أن يعتقد في نفسه وفي آبائه وأجداده [ كونهم واجبين لذواتهم ، لأن المشاهدة دلَّت على أنهم وجدوا ] بعد العدم ، وعدموا بعد الوجود ، وما كان كذلك استحال أن يكون واجباً لذاته ، واستحال وجوده إلا بالمؤثر ، فكان التعريف بهذا الأثر أظهر ، فلهذا عدل موسى - عليه السلام - إليه فقال فرعون : { إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } يعني : أن المقصود من سؤالنا طلب الماهية والحقيقة ، والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا يفيد البتة تلك الخصوصية فهذا الذي يدعي الرسالة مجنون لا يفهم السؤال فضلاً عن أن يجيب عنه ، فقال موسى - عليه السلام - : { رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } فعدل إلى طريق ثالث أوضح من الثاني ، وذلك أنه أراد ب « المَشْرِق » كلوع الشمس وظهور النهار ، وأراد ب « المَغْرِب » : غروب الشمس وزوالها ، والامر ظاهر؛ لأن التدبير المستمر على الوجه العجيب لا يتم إلا بتدبير مدبر ، وهذا بعينه طريقة إبراهيم - عليه السلام - مع نمروذ ، فإنه استدل أولاً بالإحياء والإماتة ، وهو الذي ذكره إبراهيم - عليه السلام - بقوله : { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين } فأجابه نمروذ :
{ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] فقال : { } وهو الذي ذكره موسى - عليه السلام - بقوله : { رَبُّ المشرق والمغرب } .
وأما قوله { إِنْ كَنْتُم تَعْقِلُونَ } فكأنه - عليه السلام - قال : إن كنت من العقلاء عرفت أنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرت ، لأنك طلبت مني تعريف حقيقته ، ولا يمكن تعريف حقيقته بنفس حقيقته ، ولا بأجزاء حقيقته ، فلم يبق إلا أن أُعرِّف حقيقته بآثار حقيقته ، وقد عرّفت حقيقته ، فمن كان عاقلاً يقطع بأنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرته . واعلم أن حقيقته غير معقولة للبشر ، فيستحيل من موسى - عليه السلام - أن يذكر ما تعرف ( به تلك ) الحقيقة ، إلا أن عدم العلم بتلك الخصوصية لا يقدح في صحة الرسالة ، فلما انقطع فرعون عن الجواب ولزمته الحجة تكبر عن الحق ، وعدل إلى التخويف ، وقال : { لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين } : المحبوسين . قال الكلبي : كان سجنه أشد من القتل ، لأنه كان يأخذ الرجل فيطرحه في مكان وحده فرداً لا يسمع ولا يبصر فيه شيئاً يهوي به في الأرض .
وقال : { لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين } ولم يقل : « لأَسْجُنَنَّكَ » وهو أخص منه؛ لأن فيه مبالغة ليست في ذاك ، أو معناه : لأجعلنك ممن عرفت حاله في سجوني فعند ذلك ذكر موسى كلاماً مجملاً ليعلق قبله به فيعدل عن وعيده ، فقال { أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ } أي : هل يحسن أن يذكر هذا مع اقتداري على أن آتيك بدليلين يدلان على وجوه الله ، وعلى أنِّي رسوله . فعند ذلك قال : { فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } وإنما قال موسى ذلك لأن من أخلاق الناس السكون إلى الإنصاف والإجابة إلى الحق بعد البيان فقال فرعون : « فَأْتِ بِهِ » فإنا لن نسجنك حينئذ { إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } فإن قيل : كيف قطع الكلام بما لا تعلق له بالأول ، وهو قوله : { أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ } أي : بآيةٍ بيِّنة ، والمعجز لا يدل على الله لدلالة سائر ما تقدم؟
فالجواب : بل يدل على ما أراد أن يظهره من انقلاب العَصَا حَيَّةً على الله ، وعلى توحيده ، وعلى أنه صادق في ادعاء الرسالة ، فالذي ختم به كلامه أقوى من كل ما تقدم . والواو في قوله : { أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ } واو الحال ، دخلت عليها همزة الاستفهام ، والمعنى : أتفعل بي ذلك ولو جئتُكَ بشيء مبين؟ أي : جائياً بالمعجزة وقال الحوفي : « هي واو العطف » . وقتدم تحرير هذا عند قوله : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ } [ 170 ] في البقرة ، وغالب الجمل هنا تقدم إعرابها .
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
قوله تعالى : { فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } . وعلم أن قوله : { أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ } الشعراء : 30 ] دل على أن الله تعالى عرفه قبل إلقاء العصا بأنها تصير ثعباناً ، فلذلك قال ما قال ، فلما ألقى موسى عصاه وصارت ثعباناً ، روي أنها لما انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل ، ثم انحطت مقبلة إلى فرعون تقول : يا موسى ، مرني بما شئت ، ويقول فرعون : ( يا موسى ) أسألك بالذي أرسلك إلا أخذتها ، فأخذها فعادت عصا . فإن قيل : كيف قال : « ثُعْبَانٌ مُبِينٌ » وفي آية أخرى : { فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى } [ طه : 20 ] وفي آية ثالثة : { كَأَنَّهَا جَآنٌّ } [ القصص : 31 ] والجانّ مائل إلى الصغر ، والثعبان إلى الكبر؟
فالجواب : أن الحية اسم الجنس ، ثم لكبرها صارت ثعباناً ، وشببها بالجانّ لخفتها ، وسرعتها ، فصح الكلامان . ويحتمل أنه شببها بالشيطان لقوله : { والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم } [ الحجر : 27 ] . ويحتمل أنها كانت صغيرة كالجانّ ثم عظمت فصارت ثعباناً ثم إن موسى - عليه السلام - لما أراه آية العصا قال فرعون : « هل غيرها » ؟ قال : نعم ، فأراه يده ، ثم أدخلها جيبه ، ثم أخرجها { فَإِذَاْ هِيَ بَيْضَاءُ } تضيء الوادي من شدة بياضها من غير برص ، لها شعاع كشعاع الشمس . فعند هذا أراد فرعون تعمية هذه الحجة على قومه فذكر أموراً :
أحدها : قال لهم : { إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } وكان زمانهم زمان السحرة ، فأوهمهم أن هذا كبير من السحرة .
وثانيها : قال : { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ } وهذا موجب للتنفير عنه لئا يقبلوا قوله ، والمعنى : يفرق جمعكم بما يلقيه من العداوة بينكم ، ومفارقة الوطن أصعب الأمور ، وهذا نهاية ما يفعله المضل المنفر عن المحق .
وثالثها : قوله : « فَمَاذَا تَأْمُرُونَ » أي : ما رأيكم فيه ، فأظهر لهم من نفسه أني متبع لرأيكم ، ومثل هذا يوجب جذب القلوب ، وانصرافها عن العدو قوله : « حَوْلَهُ » حال من « المَلأ » ، ومفعول القول قوله : { إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } وقيلك صلة « لِلْملأ » ، فإنه بمعنى « الَّذِي » . وقيل : الموصول محذوف . وهما قولان للكوفيين . قال الزمخشري : « فإِننْ قٌلْتَ : قوله تعالى : ( للْمَلأ حَوْلَهُ ) فما العامل في ( حَوْلَه ) ؟ . قلت : هو منصوب نصبين : نصب في اللفظ ، ونصب في المحل . فالعامل في النصب اللفظي ما تقدم في الظرف ، ش والعامل في النصب المحلي هو النصب على الحال » .
قوله : « أَرْجِهْ وَأَخَاهُ » . لما قال لهم فرعون تلك الكلمات اتفقوا على جواب واحد ، وهو قولهم : « أَرْجِهْ » قرىء : « أَرْجِهْ وَأَرْجِئْهُ وأَرْجِهِ » ( بالهمز والتخفيف ، وهما لغتان ، يقال : أرجأته وأرجيته ) إذا أخرته . والمعنى : أخره ومناظرته لوقت اجتماع السحرة . وقيل : « احبسه » { وابعث فِي المدآئن حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ } أشاروا عليه بإنفاذ حاشرين يجمعون السحرة ، ظنّاً منهم بأنهم إذا كثروا غلبوه وكشفوا حاله .
وعارضوا قوله : { إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } بقولهم : { بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ } فجاءوا بكلمة الإحاطة ، وبصيغة المبالغة ليطيِّبوا قبله .
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
قوله تعالى : { فَجُمِعَ السحرة لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } . اليوم المعلوم : يوم الزينة .
قال ابن عباس : وافق ذلك يوم السبت في أول يوم من السنة ، وهو يوم النيروز وميقاته : وقت الضحى ، لأنه الوقت الذي وقَّت لهم موسى - عليه السلام - من يوم الزينة في قوله : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى } [ طه : 59 ] .
قوله : { وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ } . والمعنى : أنهم بعثوا على الحضور ليشاهدوا ما يكون من الجانبين ولمن تكون الغلبة ، وكان موسى - عليه السلام - يطلب ذلك ليظهر حجته عليهم عند الخلق العظيم .
قوله : { لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة } . أي نرجو أن تكون الغلبة لهم { إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين } لموسى . وقيل : إنما قالوا ذلك على طريق الاستهزاء . وأرادوا ب « السَّحَرَة » : موسى وهارون وقومهما . { فَلَمَّا جَآءَ السحرة قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين } . [ فابتدءُوا بطلب الجزاء ، وهو إما المال وإما الجاه ، فبذلك لهم ذلك وأكّده بقوله : { وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين } ] لأنَّ نهاية مطلوبهم البذل ورفع المنزلة .
قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48)
قوله تعالى : { قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ } . اعلم أنهم لما اجتمعوا كان لا بد من ابتداء موسى أو ابتدائهم ، ثم إنهم تواضعوا فقدّموه على أنفسهم ، وقالوا له : { إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين } [ الأعراف : 115 ] فلما تواضعوا له تواضع هو أيضاً لهم فقدمهم على نفسه ، وقال : { أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مَّلْقُونَ } . فإن قيل : كيف جاز لموسى - عليه السلام - أن يأمر السحرة بإلقاء الحبال والعصيّ ، وذلك سحر وتلبيس وكفر ، والأمر بمثله لا يجوز؟ فالجواب : ليس ذلك بأمر ، لأن مراد موسى - عليه السلام - منهم أن يؤمنوا به ، ولا يقدموا على ما يجري مجرى المقاتلة ، وإذا ثبت ذلك وجب تأويل صيغة الأمر ، وفيه وجوه :
أحدها : أن ذلك الأمر كان مشورطاً ، والتقدير : ألقوا ما أنتم ملقون إن كنتم محقين ، كقوله : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } [ البقرة : 23 ] أي : إن كنتم قادرين .
وثانيها : لما تعين ذلك طريقاً إلى كشف الشبهة صار جائزاً .
وثالثها : أَنَّ هذا ليس بأمر ، بل هو تهديد ، أي : إن فعلتم ذلك أتينا بما يبطله ، كقول القائل : « لئن رميتني لأفعلن ولأصنعن » ثم يفوق له السهم فيقول له : « ارم » فيكون ذلك منه تهديداً .
ورابعها : أنهم لما تواضعوا ( له ) وقدموه على أنفسهم فقدمهم على نفسه رجاء أن يصير تواضعه سبباً لقبول الحق ، ولقد حصل ببركة ذلك التواضع ذلك المطلوب .
قوله : { فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ } . روي عن ابن عباس قال : كانت مطلية بالزئبق ، والعصي مجوفة مملوءة من الزئبق ، فلما حيمت اشتدت حركتها ، فصارت كأنها حيات تدب من كل جانب من الأرض .
قوله : « بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ » . يجوز أن يكون قَسَماً ، وجوابه : { إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون } ويجوز أن يتعلق ب « الغَالِبُونَ » لأن ما في حيز « إِنَّ » لا يتقدم عليها .
قوله : { فألقى موسى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } تقدم خلاف القراء في « تَلْقَفُ » وقال ابن عطية هنا : وقرأ البَزِّيُّ وابنُ فُلَيح بشدِّ التَّاء وفتح اللام وشدِّ القاف ويلزم على هذه القراءة إذا ابتدأ أن يَجْلِبَ همزة الوصل ، وهمزة الوصل لا تدخل على الأفعال المضارعة ، كما لا تدخل على أسماء الفاعلين . قال أبو حيان كأنه يُخَيَّلُ إليه أنه لا يمكن الابتداء بالكلمة إلا باجتلاب همزة الوصل ، [ وهذا ليس بلازم ( و ) كثيراً ما يكون الوصل ] مخالفاً للوقف ، والوقف مخالفاً للوصل ، ومن له تَمَرُّن في القراءات عرف ذلك . قال شهاب الدين : يريد قوله : { فَإِذَا هِيَ تَلَقَّفُ } فإن البَزِّيّ يشدد التاء ، إذ الأصل : « تَتَلَقَّفُ » بتاءين ، فأدغم ، فإذا وقف على « هِيَ » وابتدأ « تَتَلَقَّفُ » فحقه أن يَفُكَّ ولا يدغم لئلا يُبْتَدأ بساكن وهو غر ممكن ، وقول ابن عطية : « ويلزم على هذه القراءة . . .
إلى خره « تضعيف للقراءة لما ذكره هو من أن همزة الوصل لا تدخل على الفعل المضارع ، ولا يمكن الابتداء بساكن ، فمن ثَمَّ ضُعِّفَتْ .
وجواب الشيخ بمنع الملازمة حسن إلا أنه كان ينبغي أن يبدل لفظة الوقف بالابتداء لأنه هو الذي وقع الكلام فيه ، أعني : الابتداء بكلمة [ » تَلَقَّفُ « ] .
قوله : » فَأُلْقِيَ « قال الزمخشري : » فإن قلت : فاعل الإلقاء ما هو لو صرِّح به؟ قلت هو الله - عز وجل - ، ثم قال : ولك ألاَّ تقدِّر فاعلاً ، لأن « أَلْقَوْا » بمعنى : خَرُّوا وسقطوا « . قال أبو حيان : وهذا ليس بشيء؛ لأنه لا يبنى الفعل للمفعول إلاّ وله فاعل ينوب المفعول به عنه ، أما أنه لا يقدر له فاعل فقول ذاهبٌ عن الصواب .
فصل
تقدم الكلام على نظير هذه الآية ، واعلم أن السحرة لما شاهدوا أمراً خارجاً عن حدّ السحر لما يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين و { قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ العالمين } .
قوله : { رَبِّ موسى وَهَارُونَ } . عطف بيان ل » رَبِّ العَالَمِينَ « لأن فرعون كان يدعي الربوبية فأرادوا عزله . ومعنى إضافته إليهما في ذلك المقام : أنه الذي دعا موسى وهارون - عليهما السلام - إليه .
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
قوله : { قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ } الآيات . لما آمنوا بأجمعهم لم يأمن فرعون أن يقول قومه : إن هؤلاء السحرة على كثرتهم وبصيرتهم لم يؤمنوا إلا عن معرفة بصحة أمر موسى - عليه السلام - فيسلكون طريقهم ، فلبَّس على القوم وبالغ في التنفير عن موسى من وجوه :
أحدها : قوله : { قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ } . والمعنى : إن مسارعتكم إلى الإيمان به دالة على ميلكم إليه فتطرَّق التهمة إليهم فلعلهم قصروا في السحر حياله .
وثانيها : قوله : { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر } هذا تصريح بما رمز به أولاً ، وتعريض منه بأنهم فعلوا ذلك عن مواطأة بينهم وبين موسى ، وقصروا في السحر ليظهروا أمر موسى ، وإلا ففي قوة السحر أن يفعلوا مثل ما فعل ، وهذا شبهة قوية في تنفير من قَبِلَ .
وثالثها : قوله : « فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ » وهو وعيد وتهديد شديد .
ورابعها : قوله : { لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِين } وهذا الوعيد المفصل ، وليس في الإهلاك أقوى منه ، ثم إنهم أجابوا عن هذه الكلمات من وجهين :
الأول : قوله : { لاَ ضَيْرَ إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ } والضير والمضرّة واحد ، وليس المراد أن ذلك وقع ، وإنما عنوا بالإضافة إلى ما عفروه من دار الجزاء .
والجواب الثاني : قوله : { إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ } وهو إشارة منهم إلى الكفر والسحر وغيرهما . والطمع في هذا الموضع يحتمل اليقين ، كقول إبراهيم - عليه السلام - : « وَالَّذِي أَطْمَعُ » . ويحتمل الظن ، لأن المرء لا يعلم ما سيختاره من بعد . قوله : « أَنْ كُنَّا » . قرأ العامة بفتح « أَنْ » أي : لأن كُنَّا بينوا القول بالإيمان وقرأ أبان بن تغلب وأبو معاذ بكسر الهمزة ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنها شرطية ، والجواب محذوف لفهم المعنى ، أو متقدم عند من يجيزه .
نظيره قول القائل : « إنْ كُنْتُ عملتُ فوفِّنِي حَقِّي » مقولة لمن يؤخر جعله .
والثاني : أنها المخففة من الثقيلة ، واستغني عن اللام الفارقة لإرشاد المعنى إلى الثبوت دون النص كقوله :
3902 - وَإِنْ مَالِكٌ كَانَتْ كِرَامٌ المَعَادِنِ ... وفي الحديث : « إن كان رسول ( الله - صلى الله عليه وسلم ) - يحبُّ العسل » أي : ليحبُّه .
والمعنى على الأول : لأن كنا أول المؤمنين ، من الجماعة الذين حضروا ذلك الموقف ، أو يكون المراد : من السحرة خاصة ، أو من رعية فرعون ، أو من أهل زمانهم .
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)
قوله : { وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بعبادي } . قرىء « أَسْرِ » بقطع الهمزة ووصلها .
لما ظهر من أمر موسى - عليه السلام - ما شاهدوه أمره الله أن يخرج ببني إسرائيل ، لما كان في المعلوم من تدبير الله وتخليصه من القوم وتمليكه بلادهم وأموالهم ، ولم يأمن . وقد جرت تلك الغلبة الظاهرة أن يقع في فرعون ببني إسرائيل ما يؤدي إلى الاستئصال ، فلذلك أمره الله تعالى أن يسري ببني إسرائيل ، وهم الذين آمنوا ، وكانوا من قوم موسى - عليه السلام - . واعلم أن في الكلام حذفاً ، وهو أنه أسرى بهم كما امره الله تعالى ، ثم إن قوم موسى قالوا لقوم فرعون : « إن لنا في هذه الليلة عيدا » ، ثم استعاروا منهم حليهم بهذا السبب ، ثم خرجوا بتلك الأموال في الليل إلى جانب البحر ، فلما سمع فرعون ذلك أرسل في المدائن حاشرين يحشرون الناس ، يعني الشُّرط ليجمعوا السحرة . وقيل : ليجمعوا له الجيش روي أنه كان له ألف مدينة واثنا عشر ألف قرية . و « حَاشِرِينَ » مفعول « أَرْسَلَ » ثم إنه قوى نفسه ونفس قومه بأن وصف قوم موسى بالذم ، ووصف قوم نفسه بالمدح ، أما وصفه قوم موسى - عليه السلام - بالذم ، فقال : { إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ } [ معمول لقوم مضمر ] أي : قال : إنَّ هؤلاء ، وهذا القول يجوز أن يكون حالاً ، أي : أرسلهم قائلاً ذلك ، ويجوز أن يكون مفسراً ل « أَرْسَلَ » . والشِّرْذِمَةُ : الطائفة من الناس وقيل : كل بقية من شيء خسيس يقال لها : شرذمة . ويقال : ثوب شراذم ، أي : أخلاق ، قال :
3903 - جَاءَ الشِّتَاءُ وَقَمِيصِي أَخْلاقْ ... شَرَاذِمُ تَضْحَكُ مِنْهُ الخُلاقْ
وأنشد أبو عبيدة :
3904 - في شراذم النعال ... وجمع الشرذمة : شراذم ، فذكرهم بالاسم الدال على القلة ، ثم جعلهم قليلاً بالوصف ، ثم جمع القليل فجعل كل حزب منهم قليلاً ، واختار جمع السلامة الذي هو جمع القلة .
ويجوز أن يريد بالقلة : الذلة ، لا قلة العدو ، أي : إنهم لقلتهم لا يبالى بهم .
قال ابن عباس : كان الشرذمة الذين قللهم فرعون ستمائة ألف مقاتل لا شاب فيهم دون عشرين سنة ، ولا شيخ يوفي على الستين سوى الحشم ، وفرعون يقللهم لكثرة من معه . وهذا الوصف قد استعمل في الكثير عند الإضافة إلى ما هو أكثر منه ، فروي أن فرعون خرج على فرس أدهم حسان وفي عسكره على لون فرسه ثمانمائة ألف .
قوله : { وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ } . يقال : غَاظَهُ وَأَغَظَهُ وَغَيَّظَهُ : غذا أغضبه . والغيظ ، الغضب . والمعنى : أنهم يفعلون أفعالاً تغيظنا . واختلفوا في تلك الأفعال . فقل : أخذهم الحليّ وغيره . وقيل : خروجهم عن عبوديته . وقيل : خروجهم بغير إذنه ، وقيل : مخالفتهم له في الدين .
وقيل : لأنهم لم يتخذوا فرعون إلهاً .
وأما وصفه قومه فهو قوله : { وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ } . قرأ الكوفيون وابن ذكوان : « حاذرون » بألف . والباقون : « حذرون » بدونها . فقال أبو عبيدة والزجاج : هما بمعنى واحد ، يقال : رجل حذر وحاذر بمعنى .
وقيل : بل بينهما فرق ، فالحذر : المتيقظ . والحاذر : الخائف . وقيل : الحذر : المخلوق مجبولاً على الحذر . والحاذر : ما عرض له ذلك .
وقيل : الحذر : المتسلح الذي له شوكة سلاح ، وأنشد سيبويه في إعمال « حَذِر » على أنه مثال مبالغة محول من حاذر قوله :
3905 - حَذِرٌ أُمُوراً لاَ تَضِيرُ وَآمِنٌ ... مَا لَيْسَ مُنْجِيهِ مِنَ الأَقْدَارِ
وزعم بعضهم أن سيبويه لمَّا سأله : هل يحفظ شيئاً في إعمال « فَعِل » ؟ صنع له هذا البيت ، فعيب على سيبويه : كيف يأخذ الشواهد الموضوعة؟
وهذا غلط ، فإن هذا الشخص قد أقر على نفسه بالكذب ، فلا يقدح قوله في سيبويه . والذي ادعى انه صنع البيت هو الأخفش . و « حَذِر » يتعدى بنفسه ، قال تعالى : { يَحْذَرُ الآخرة } [ الزمر : 9 ] ، وقال العباس بن مرداس :
3906 ... - وَإِنِّي حَاذِرٌ أَنْمِي سِلاَحِي
إلَى أَوْصَالش ذَيَّالٍ مَنِيع ... وقرأ ابن السميفع وابن أبي عمار : « حَادِرُونَ » بالدال المهملة من قولهم عين حدرة ، أي : عظيمة ، كقولهم :
3907 - وَعَيْنٌ لَهَا حَدْرَةٌ بَدْرَةٌ ... والمعنى : عظيماً . وقيل : الحادر : القوي الممتلىء ، وحكي : رجل حادر ، أي : ممتلىء غيظاً ، ورجل حادر ، أي : أحمق ، كأنه ممتلىء من الحمق قال :
3908 - أُحِبُّ الغُلاَمَ السُّوءَ مِنْ أَجْلِ أُمِّه ... وَأَبْغَضُهُ مِنْ بَغْضِهَا وَهْوَ حَادِرُ
ويقال أيضاً رجل [ حَدُرٌ بزنة يقط مبالغة في ( حادر ) من هذا المعنى ، فصار يقال ] حَذِر وحَذُر وحَاذِرِ بالذال المعجمة والمهملة والمعنى مختلف .
واعلم أن الصفة إذا كانت جارية على الفعل وهو اسم الفاعل واسم المفعول كالضارب والمضروب أفادت الحديث . وإذا لم تكن كذلك وهي المشبهة [ أفادت الثبوت . فمن قرأ « حَذِرُونَ » ] ذهب إلى معنى أنا قوم من عادتنا الحذر واستعمال الحزم ومن قرأ : « حَاذِرُون » ذهب إلى معنى : إنا قوم ما عهدنا أن نحذر إلا عصرنا هذا . ومن قرأ : « حَادِرُون » بالدال المهملة ، فكأنه ذهب إلى نفي أصلاً ، لأن الحادر هو السمين ، فأراد : إنا قوم أقوياء أشداء ، أو أراد : إنا شاكون في السلاح . والغرض من هذه التقادير ألا يتوهم أهل المدائن أنه منكسر من قوم موسى ، أو خائف منهم .
قوله : « فَأَخْرَجْنَاهُمْ » . أي : خلقنا في قلوبهم داعية الخروج ، فاستلزمت الداعية الفعل ، فكان الفعل مضافاً إلى الله تعالى لا محالة .
وقوله : { مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ } أي : أخرجناهم من بساتينهم التي فيها عيون الماء وكنوز الذهب والفضة . قال مجاهد : سماها كنوزاً ، لأنه لم يعط حق الله منها ، وما لم يعط الله منه فهو كنز وإن كان ظاهراً .
قوله : « وَمَقَامٍ » .

التالي ج55.وج56. بمشيئة الله

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدجال يستغل ازمات الناس من الجوع ونقص الطعام والمياه في دعوتهم الباطلة لعبادتهم إياه والايمان به

  بياناته الشخصية     المسيح الدجال ليس خوارق إنما هو دجل وكذب قلت المدون ان الأ أزمة الاقتصادية الحادثة الان في كل دول العالم والمجاعة المت...